مجلة المقتبس

محمد كرد علي

تعريف بمحمد كرد علي

محمد كرد علي علاّمة الشام (¬1) 1876 ـ 1953 [جان الكسان] من الأيام المشهودة في تاريخ دمشق، يوم الخميس، الثاني من نيسان لعام ثلاثة وخمسين وتسعمائة وألف، عندما خرجت المدينة عن بكرة أبيها لتشيع وتودع علامة الشام محمد كرد علي، حيث ووري الثرى بجوار قبر معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، ليقف على القبر الأديب العالم الدكتور منير العجلاني يودعه بكلمة رثاء بليغة قال فيها: "إن ثمة إمارتين معقودتين في العالم العربي: إمارة الشعر، وكانت معقودة اللواء للمرحوم أحمد شوقي، وإمارة العلم وكانت معقودة اللواء لفقيدنا العلامة محمد كرد علي" ... كانت كلمة إنصاف للراحل الكبير إذ يندر أن نجد بين أعلام العلم والأدب والبحث والمعرفة والترجمة في الوطن العربي. في القرنين التاسع عشر والعشرين من يتميز بمثل هذا التفرد الذي كان عليه علامة الشام محمد كرد علي، وقد أغنى المكتبة العربية بنتاجه الغزير من كتب مترجمة ومعربة وموضوعة، ومن أدب المقالة، والدراسات التاريخية والأدبية، وتحقيق الكتب والمخطوطات، كما كان أول رئيس لمجمع اللغة العربية في دمشق، الذي كان بدوره أول مجمع علمي عربي (أنشئ عام 1919) في البلاد العربية حيث أطلق عليه (أبو المجامع) اعترافاً بأسبقيته من الناحية التاريخية (¬2). ¬

_ (¬1) ـ الدراسة الفائزة بالجائزة الأولى مناصفة في المسابقة التي أعلنتها "الموقف الأدبي" عام /2002/. (¬2) ـ كانت تجربة مجمع دمشق حافزاً لقيام مجامع في بقية الأقطار العربية، فأسس مجمع القاهرة عام 1932، والمجمع العراقي عام 1947، ومجمع الأردن في وقت لاحق.

تراث ضخم بجميع المقاييس

وقد شاعت سيرة محمد كرد علي في أوساط الباحثين والمثقفين ورواد المعرفة، ولكن التعريف بنتاجه الغزير ظل دون المأمول، بل ظل محصوراً بين نخبة قليلة منهم، علماً أن الكتب والمؤلفات والمجلدات التي تركها، والتي يصل عددها إلى اثنين وعشرين مؤلفاً بحاجة إلى من ينفض الغبار عن أكثرها ويعيد طرحه أمام الجيل الجديد للتعريف بهذا الجهد الخارق الذي بذله صاحب هذه المؤلفات على مدى أكثر من ستين عاماً قضاها في العطاء الفكري، منذ أن كان يافعاً في الثالثة عشرة من عمره. تراث ضخم بجميع المقاييس وفي بعض جوانب سيرة العلامة الكبير أن أحد المستشرقين وقف مرة أمام التراث المطبوع للعلامة محمد كرد علي وسأل مرافقيه: "هل حاول أحد جمع عدد الصفحات التي كتبها الرئيس الراحل؟ " ولما أجيب بالنفي، قرر هو أن يقوم بهذه المهمة، فكانت النتيجة أن مجموع صفحات كتبه المطبوعة بلغ عشرة آلاف ومئتين وأربعاً وخمسين صفحة، عدا مجلة (المقتبس) التي أصدرها في تسعة مجلدات وبلغ عدد صفحاتها ستة آلاف وأربعمائة وسبعاً وستين صفحة وكذلك جريدة (المقتبس) التي أصدرها يومية وشهرية لعدة سنوات.

موهبة واعدة ومبكرة

أمام هذا التراث لا نستطيع أن نعتمد مقاييس الكم والكيف إلا ونجد أنهما متكاملان، فما أعطى الراحل الكريم عطاءً مرتجلاً، ولا كتب في أمور لم ينقص حتى أدق خصائصها وهو في هذا يقول (¬1): "وأهم ما أولعت بمطالعته بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه، كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع وأحوال الشعوب ومدنياتهم وطالعت بالفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر، ونوليه، وتين، ورنان، وسيمون، وتدارست المجلات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية والأدبية باللغة الإفرنجية، وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب، وقلّما دونت موضوعاً لم أدرسه، في الجملة ولم تتشربه نفسي" (¬2). موهبة واعدة ومبكرة وحتى نقف على المراحل التي كونت الأبعاد الفكرية لهذه الشخصية التي تتميز بكثير من صفات التفرد، لابد من استطلاع المحطات الأساسية في السيرة الحياتية والعلمية والثقافية لها، خاصة وإن جميع الدراسات التي وضعت عنها أشارت إلى أهمية الوقوف أمام المحطة الأولى، محطة ظهور الموهبة الواعدة لدى الشاب اليافع محمد كرد علي في وقت مبكر، وبالتحديد في الثالثة عشرة من عمره ... فقد كانت ولادته في دمشق سنة ست وسبعين وثمانمائة وألف للميلاد أي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، والمنطقة العربية ترزح تحت نير الحكم العثماني حيث لا مدارس ولا معاهد ولا جامعات، بل كتاتيب صغيرة يتعلم فيها الأطفال القرآن الكريم وبعض فرائض الصلاة والصوم، باستثناء عدد محدود من المدارس ليس متيسراً لأبناء عامة الشعب (¬3). ¬

_ (¬1) ـ المذكرات ـ أربعة أجزاء. (¬2) ـ المصدر السابق. (¬3) ـ عبد الغني العطري ـ كتاب (عبقريات شامية).

بين الأدب والصحافة

كانت الموهبة المبكرة لمحمد كرد علي هي التي فرضت نفسها على الجميع، وبخاصة على الأهل، وكان لابد من السعي لإرساله إلى إحدى المدارس الحكومية، حيث تلقى تعليمه الابتدائي ومبادئ اللغة الفرنسية على يد معلم خاص، ثم دخل المدرسة العازارية وتتلمذ على يدي الشيخ طاهر الجزائري، وكان يدعى كبير معلمي العصر وعنه أخذ العلم وحب العربية وعلومها وآدابها (¬1). بين الأدب والصحافة تعلق محمد كرد علي بالصحافة، وأحبها حتى العشق، فجمع بين الأدب والصحافة، وكان في كليهما مجلياً، ففي مجال الأدب كان يقرأ ما يستطيع الحصول عليه، وهو في الثالثة عشرة. يسهر حتى الهزيع الثاني من الليل، وهو يقرأ في جريدة أو كتاب، حتى ضعف بصره، وساءت صحته، ونصح له الأهل والصحب بالاعتدال. ولكنه رفض هذا النصح، ولم يكن ليترك القراءة، إلا حين يطفئ أهله مصباح الزيت، الذي كان الناس يستضيئون به يوم ذاك. كان منظر الكتب يغريه ويفتنه، ورؤية الصحف تسكره، وتسحره، فيندفع يغبّ من ألوان المعرفة، ويعبّ من بحور العلم. كان إذا رأى عالماً أو أستاذاً، تمنى أن يصادقه، وحلم في أعماقه، أن يكون في المستقبل مثله. وشجعه أبوه ـ رغم أميته ـ على اقتناء الكتب، وقدم له المساعدة الكافية على الفوز بها، فكانت الكتب ثروته الحقيقية. وحين اشتد ساعده بالعلم واللغة، أخذ يقرأ الصحف والمجلات بالفرنسية والتركية والعربية، فزادته المطالعة تعلقاً بالصحافة، وعشقاً للمعرفة والعلم. وعندما كان يحبو نحو السادسة عشرة، كان يكتب الأخبار والمقالات، ويدفع بها إلى الصحف. ولم تقف هواياته عند هذا الحد، بل أحب الشعر العربي، والسجع المنمق، وعكف على شيوخه ـ كما يقول الدكتور سامي الدهان ـ "وأخذ ينهل من علمهم وأدبهم، وهم من مشهوري عصره في بلده، أمثال: سليم البخاري، والشيخ محمد المبارك، والشيخ طاهر الجزائري". ¬

_ (¬1) ـ عبد الغني العطري ـ حديث العبقريات - دار البشائر.

تجربة غنية في الديار المصرية

وتلاقت ثقافة القديم والجديد في نفس الفتى، فأحب الكتب الصفر القديمة، ذات الهوامش والتعليقات والشروح الكثيرة، وعشق الصحف والمجلات الأجنبية، التي تحمل أنباء العلم، على شاطئ البوسفور والسين. جمع محمد كرد علي المجد من أطرافه، فعاش في مدرسة الثانوية، ينهل من العربية على أيدي شيوخه، ودرس في "العازارية" فنون العلم ... ومن أجل ذلك قيل أن علاّمتنا العظيم سبق عصره. وفي العام 1897، كانت تصدر في دمشق جريدة تدعى "الشام" لصاحبها مصطفى الشقللي، وهو مدير مطبعة الولاية، ومدير إطفاء الحريق، فعهد إليه أمر تحريرها. ولبث يحرر "الشام" ثلاث سنوات، وأخذ بعدها يراسل مجلة "المقتطف" المصرية، فانتقلت شهرته إلى مصر بعد الشام، وذاع صيته في البلدين" (¬1). تجربة غنية في الديار المصرية ورحل محمد كرد علي إلى القاهرة، ولبث فيها شهوراً عشرة، عمل خلالها في صحافتها، وتعرف إلى علمائها، وأدبائها، ورجال الفكر فيها، فاتسع أفقه، وذاع صيته، وباتت شهرته، في مصر، لا تقل عن شهرة أدباء تلك الفترة وعلمائها الأعلام. وعاد ثانية إلى مصر، وعمل في تحرير بعض الصحف، وأصدر مجلة "المقتبس" الشهرية، ونشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية، وكان ينقل عن مجلات الغرب أحدث أنباء العلم والحضارة والاختراع والتقدم. كما ترجم عدداً من الكتب المخطوطة النادرة، فجمع بين القديم والحديث. وعاد محمد كرد علي إلى دمشق، وقد لجَّ به الشوق إلى غوطتها وقاسيونها وبرداها. عاد إليها وأصدر "المقتبس" جريدة يومية، بالتعاون مع أخيه أحمد، بعد أن أسس لها مطبعة خاصة. غير أن السلطة العثمانية ضايقته، وحاربته، ولاحقته، وأغلقت جريدته. ولا يلاحق إلا الأحرار، ولا يغلق الصحف، إلاَّ كل عدو للفكر والكلمة الحرة. فاضطر للفرار إلى فرنسا. وفي باريس زار مجمعها العلمي، ووقف في بهوه وسائل نفسه: ¬

_ (¬1) ـ عبقريات شامية ـ مصدر مذكور.

أبو المجامع

ـ "هل يكتب لنا في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع، فنعمل فرادى ومجتمعين كالغربيين، أم نظل كما نحن، لا نعمل فرادى، ولا مجتمعين؟ ". (¬1). أبو المجامع كانت رحلة باريس بداية إرهاصات موضوع تأسيس المجمع العلمي العربي في خاطر محمد كرد علي. الذي كان سبباً مهماً في أسباب بعث اليقظة العربية والتراث القومي بثوب لغوي متين وأصيل والعمل على اكتشاف كنوز اللغة العربية التي تكاد تختفي تحت غبار أربعة قرون هي مرحلة الحكم العثماني التي سيطرت فيه العجمة والجهل والجمود، حيث تكاثفت جهود رجال مرحلة التنوير العربي، لإعادة استخدام اللغة العربية في احتياجات الثقافة والعلوم والفنون، وهكذا أصبح مجمع اللغة العربية بدمشق فيما بعد واحداً من أهم معالم النهضة العلمية العربية في الوطن العربي، ولأنه أول مجمع علمي عربي فقد أطلق عليه "أبو المجامع" فبعد اندحار الحكم العثماني وقيام العهد الفيصلي الهاشمي وجد محمد كرد علي الفرصة سانحة لتحقيق الحلم الذي طالما راوده ألا وهو إنشاء مجمع علمي عربي، على غرار ما تفعله الأمم المتحضرة لحفظ تراثها وصون لغتها ونشر آدابها وعلومها. وعرض الفكرة على الحاكم العسكري رضا باشا الركابي فوافق على قلب "ديوان المعارف" برئيسه وأعضائه مجمعاً علمياً، وكان كرد علي رئيساً لهذا الديوان، وقد تم ذلك في الثامن من حزيران عام تسعة عشر وتسعمائة وألف، وظل "الأستاذ الرئيس"، رئيساً للمجمع حتى رحيله. مجمع للعرب جميعاً وكان قيام هذا المجمع حدثاً علمياً أثار اهتماماً واسعاً في الوطن العربي بدليل أنه استقطب مجموعة من أبرز المفكرين والأدباء والمثقفين العرب وانضم إليه كأعضاء مراسلين: الراحلون عباس محمود العقاد، الدكتور طه حسين، الدكتور أحمد زكي، الشاعر، أمين نخلة، محمد الطاهر، فيليب حتي ـ بن عاشور. ¬

_ (¬1) ـ المصدر السابق.

أهداف أساسية

وفي طليعة أعضائه العاملين الأوائل السادة الأعلام محمد كرد علي، خليل مردم بك، الدكتور حسني سبح، مصطفى الشهابي، الدكتور منير العجلاني، أمجد الطرابلسي. وفي عداد الأعضاء فيه الدكتور شاكر الفحام، الأستاذ راتب النفاخ، الدكتور شكري فيصل، وبين أعضائه الاوائل الشيخ طاهر الجزائري الشيخ أمين سويد وسعيد الكرمي. وعقد المجلس أولى جلساته في مقره بمبنى المدرسة العادلية في باب البريد بدمشق، وهي المدرسة التي أنشأها السلطان نور الدين بن زنكي الملقب بالشهيد في عام 586 للهجرة، ودفن فيها الملك العادل شقيق السلطان صلاح الدين الأيوبي ولا زال ضريحه قائماً في هذا المبنى الأثري الهام حتى اليوم. وفي أولى جلساته اختار المجمع أعضاء شرف من أعلام دمشق منهم: المرحومان الدكتور عبد الرحمن الشهبندر والأستاذ فارس الخوري. (¬1). أهداف أساسية أما الأهداف الأساسية للمجمع فقد حددت كما يلي: ـ خدمة اللغة العربية والنظر في أوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون عن اللغات الأوروبية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب. ـ جمع الكتب مخطوطة ومطبوعة وتأسيس دار كتب عامة. ـ جمع الآثار القديمة. ـ إصدار مجلة خاصة بالمجمع ينشر فيها أفكاره وأعماله. ¬

_ (¬1) ـ وجيه الشربجي: أضواء على تاريخ مجمع اللغة العربية بدمشق ـ مجلة (الدوحة) ـ مارس ـ آذار ـ 1982.

وكان ينشط في الجامعات ودوائر الدولة والصحف والمدارس والثقافة الشعبية، حيث كان يتقصى الخطأ ويطالب بتجنبه عن طريق وضع الكلمة العربية الفصحى مكان الكلمة الدخيلة المستعملة، وقام المجمع بتهيئة المصطلحات الإدارية عن طريق الترجمة والوضع والتعريب، وترجم بعض القوانين، وعرب أسماء الرتب والألقاب، وعمد إلى تدقيق وتصحيح لغة الكتب المدرسية، ونظم سلسلة من المحاضرات اللغوية على طلاب المدار س ودور المعلمين، وحمل الدولة والمجتمع على تبديل الكثير من المصطلحات التركية والأجنبية مثل (البوليس ـ الشرطة)، (نوبتجي ـ آذن أو بواب)، (نوم رو ـ رقم)، (رابور ـ تقريرطبي)، (بول ـ طابع) وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ولم ينفرد المجمع بالعمل في وضع المصطلحات الحديثة بل كان دائباً على الاتصال بالعلماء الاختصاصيين في الوطن العربي للتعاون معهم في هذا المجال والاستفادة من خبراتهم، وتسنى له أيضاً اجتذاب نخبة من العلماء الشرقيين والغربيين منهم الأساتذة جبرايلي (إيطاليا)، وغوفر (إسبانيا)، ويدرسن (دانيمرك) دريدرنغ (السويد)، اربدي (بريطانيا) علي أصفر حكمت (إيران) كولان (فرنسا) أبو الحسن علي الحسني الندوي (الهند). وعلى الصعيد الشعبي نشط المجمع لمكافحة العجمة، واللحن، وعمل على نشر المصطلحات العربية بين الناس لتحل محل المصطلحات الأجنبية المستخدمة، وألقيت المحاضرات لخدمة هذا الهدف، كما كانت مجلة المجمع همزة الوصل بينه وبين آلاف القراء، تنشر أعماله وتعبر عن إنتاجه وآرائه.

بين الترجمة والمقالة والدراسة والتحقيق

وقد سميت المجلة منذ صدورها باسم المجمع (مجلة المجمع العلمي العربي)، ولما أصبح اسم المجمع (مجمع اللغة العربية بدمشق) سميت (مجلة مجمع اللغة العربية) وكانت تصدر في سنتها الأولى عدداً واحداً في /32/ صفحة كل شهر، ثم أصبحت المجلة تصدر أربعة أجزاء في السنة الواحدة، إضافة إلى الأعداد الخاصة التي تتصل بمناسبات علمية، ويطبع المجمع مجلدات من أعداد المجلة التي نفدت. بين الترجمة والمقالة والدراسة والتحقيق من خلال استعراض التراث الذي خلفه العلامة الكبير، ولتسهيل عملية دراسته يمكننا أن نقسم هذا التراث إلى أربعة أقسام رئيسية هي: ـ الترجمة والتعريب. ـ أدب المقالة. ـ الدراسات الأدبية والتاريخية. ـ تحقيق الكتب والمخطوطات (¬1). أما عن المترجم والمعرب من آثاره فقد بدأ بترجمة روايات عن الفرنسية. ومن هذه الروايات (قبعة اليهودي ليفمان) التي أثارت ضجة بين النقاد عام 1894، وفي مصر ترجم (الفضيلة والرذيلة) لجورج اونيه الكاتب الفرنسي المعاصر، وكذلك رواية (المجرم البريء)، كما عرب تاريخ الحضارة لشارل سنيوبوس ... وقد كانت ترجمته لها من قبيل التمرن على الترجمة، وهي لا تعجبه، حتى أنه كتب عن الأولى يقول: (ياليتني نبذتها في زنبيل سقط المتاع) .... كما عرب الأستاذ كرد علي كتباً أخرى في الحرية عن جون سيمون، وترجم الأسماء التركية لرضا الباشا ... ورغماً عن كل الجهود التي بذلها في تعريب الآثار فإنه يهمل في حديثه ما وقع من قلمه في الترجمة، وفي هذا يقول: ( .... وليس لي يد في القصص التي نشرتها أول أمري لأنها مترجمة). (¬2). ¬

_ (¬1) ـ مجموع الكتب التي تضم هذا التراث اثنان وعشرون كتاباً. (¬2) ـ المذكرات.

وفي آداب المقالة أصدر محمد كرد علي في أدب المقالة ستة مؤلفات قيمة مختلفة، وقد فعل كما فعل كثيرون من الكتاب في مصر كالعقاد والزيات والرافعي والمازني فجمع مقالاته التي نشرها في الصحف اليومية والأسبوعية بمصر والشام، وطبعها في كتب بدأها بكتاب (غرائب الغرب). الذي نشر عام 1923 وجمع فيه وصف رحلاته الثلاثة إلى أوروبا، أما مقالاته التي نشرها في "المقتطف" و"المقتبس"، و"المؤيد" و"الظاهر" فقد جمعها في كتاب (القديم والحديث)، وهو فيها محدث عن العادات والآداب والتقاليد. وكان محمد كرد علي من المنادين بالإصلاح الخلقي .. وقد كتب في هذا مقالات عديدة جمع أهمها عام 1946 في كتاب (أقوالنا وأفعالنا) وقد انتقد الأخطاء وأعرب عن سوءات العيوب ونادى إلى سبيل قويم. ولما كانت حياة محمد كرد علي حافلة، فقد دونها في مذكرات مهمة عن تنقلاته بين الشرق والغرب، وجمع هذا كله في مؤلفه الذي سماه المذكرات (¬1)، والذي طبع بين عامي (1948 ـ 1951) ... ومذكرات كرد علي صريحة صادقة، وانقسم الناس أمامها إلى قسمين: محبذ ومستنكر، واعتبرها فريق آخر تتمة لمؤلفه الكبير (خطط الشام)، وقد ظل يكتب مذكراته حتى آخر أيامه ذلك لأنه وعد ألا ينثني عنها، ويتابع فيقول: (مادمت أتمكن من مسك القلم وأصبر على التحديق في الخطوط التي أخطها). أما كتاباه الأخيران (البعثة العلمية إلى دار الخلافة الإسلامية)، و (الرحلة الأنورية إلى الأصقاع الحجازية)، فقد أملتهما عليه بعض الظروف وهما لا يرتفعان إلى مستوى أدبه الإبداعي. ¬

_ (¬1) ـ المصدر السابق.

أما القسم الثالث، الدراسات التاريخية والأدبية فأهم ما في عطاء محمد كرد علي، وهي كتب قيمة لا تزال مرجعاً في مواضيعها. وأشهر هذه المؤلفات خطط الشام ... عمل من أجلها خمساً وعشرين سنة، وأنفق آلاف الليرات الذهبية، وقام بعشرات الأسفار وطالع أكثر من ألف ومائتي مجلد بعدة لغات ... وأصدر المؤلف في ستة أجزاء بحث فيها تاريخ الشام ونظمه الإسلامية والحضارة المتعاقبة فيه، والدول التي حكمت خلاله والحالة الأدبية والاقتصادية خلال هذه الحقب. أما الكتاب الثاني في مجال الدراسة التاريخية الأدبية فهو (الإسلام والحضارة العربية) الذي نشره عام 1934 واستوحى مواضيعه من آراء المستشرقين ومؤتمراتهم، أما في كتابه (أمراء البيان) فقد جمع دراسات واسعة عن عشرة من مشاهير أعلام الفكر العربي كعبد الحميد الكاتب وابن المقفع، وسهل بن هارون، وعمرو بن سعدة، وإبراهيم الصولي، وأحمد بن يوسف الكاتب، ومحمد بن عبد الملك الزيات، والجاحظ، والتوحيدي، وابن العميد، وما يزال هذا الكتاب أوسع ما كتب عن هؤلاء الأعلام باللغة العربية. أما في (كنوز الأجداد)، فقد تحدث عن الأعلام أيضاً، وفيهم سدنة الثقافة الإسلامية، كالأشعري، والأصبهاني، والتنوخي، والغزالي، والحريري وغيرهم، وهم يزيدون عدداً عن الخمسين ... وكان محمد كرد علي يحب غوطة دمشق كثيراً حتى أنه عاش في قرية منها اسمها (جسرين)، وقد درس أهلها، وعاداتهم، وتقاليدهم وسجل كل شيء عنها. ثم أرخ لها على منهاج لطيف في كتابه (غوطة دمشق)، الذي كتبه بعاطفة الحب وشوق الورود وإخلاص الشاعر الوفي ...

ونأتي إلى القسم الرابع والأخير ألا وهو تحقيق الكتب، وقد حقق كرد علي عدداً من نفائسها، كـ"رسائل البلغاء" و"سيرة أحمد بن طولون". و"المستجاد من فعلات الأجواد" الذي ضمنه أخبار الكرماء في الجاهلية والإسلام، ثم "تاريخ حكماء الإسلام"، وكتاب "الأشربة" لابن قتيبة الذي يجمع بين الأدب والفقه، وأخيراً كتاب (البيزرة) في الصيد وآلاته والحيوانات وإخراجها وما قيل فيها من الأدب والطرف والشعر اللطيف. وفي هذا المجال نشير إلى حكاية حول دور الأستاذ الرئيس محمد كرد علي في موضوع تحقيق رحلة "ابن فضلان" وهي من أشهر الرحلات القديمة في التاريخ العربي ويروي الحكاية محقق رسالة الرحلة الدكتور سامي الدهان الذي يقول: "من المؤسف أن المستشرقين والباحثين الأجانب بدؤوا اهتمامهم بهذه الرحلة وبرسالة صاحبها قبل الباحثين والمحققين العرب، وقد كان للعلامة محمد كرد علي "أول رئيس لأول مجمع عربي" فضل كبير في إصراره على وجوب تحقيق هذه الرسالة بعد أن اطلع في مجلة هنغارية صدرت في بودابست على مقالة لأحد المستشرقين مكتوبة باللغة الألمانية يعلق فيها على ما نشر، أو ترجم من الرحلة، يصحح ما يرى من وجوه التصحيح ويقترح روايات جديدة مشيراً في ذلك إلى نص الرحلة باللغة العربية، وقد أثبته في صور شمسية مع المقال.

ويتابع الدكتور سامي الدهان: كنت أزور الأستاذ الرئيس فاقترح علي تحقيق الرسالة لأهميتها، ولحاجة المثقفين العرب إلى قراءتها وفهمها، واستخراج العبر منها خاصة وأنها تصف بلاد الروس والبلغار والأتراك في القرن العاشر للميلاد، وهذا دليل على الاهتمام الكبير الذي كان يوليه العلامة محمد كرد علي لمثل هذه المواضيع وعلى سعة اطلاعه ومتابعته تراث الأسلاف في أكثر من مكان وأكثر من مصدر وفي جميع ما نقرأ للعلامة الكبير نجد أن محمد كرد علي كان قائداً فكرياً عظيماً بين مفكري القرن العشرين، فهو إمام في الصحافة، وحجة في التحقيق، وعلم في الكتابة والتأليف، ورئيس جليل لأكبر منظمة علمية ثقافية في البلاد. وفي جميع ما نكتب نجد أنه يبتعد عن تكلف النسج على المنوال التقليدي، وكتبه تشير إلى عزوفه عن الأسلوب المنمق وكتابة السجع، وفي هذا يقول: ( ... وعمدت إلى الكتابة المرسلة بدون تكلف الأسجاع والازدواج) .. ولأسلوبه صفات أخرى واضحة فهو رقيق من غير تفخيم، سهل من غير تكلف، يحدث صاحبه حديث الراوي والقاص، ويكتب كتابة المحدث، فلا يزاوج بين الجمل، ولا يتكلف الكتابة والاستعارة والسجع والجناس، إنما يرسل نفسه على سجيتها في جمل تطول وتقصر، على أن الصفة الغالبة على مقالات وكتابات الأستاذ كرد علي هي الاستقصاء فهو يسترسل في ذكر المصادر والكتب والمؤلفين وكأنه يستوعب في فكره كل شيء، أو كأنه يريد أن يذكر كل ما يعلم فيتدفق بفيض غزير وعلم كثير، ذلك أنه يندر أن نجد مفكراً عربياً معاصراً طالع ما طالع محمد كرد علي من تراث الأسلاف، حتى يظن الذي يدرس سيرته أن علمه نوع من الإعجاز الذي لا يستطيع أن يؤديه الإنسان العادي.

شخصية منفردة

أما أسلوبه، فهو الذي وصفوه بالسهل الممتنع ... إنه رقيق في التعبير، بليغ باللفظ، الكلمات فيه على قدر المعاني، والجمل تطول حيناً، وتقصر حيناً آخر، وهو في جميع الأحوال لا يتكلف، ولا يتصنع، بل يرسل كلماته على سجيتها، ويهدف إلى التركيز على المعنى، دون أن يعطي كبير اهتمام للمبنى، إنه نثر العالم المفكر، لا الأديب الذي تغريه الصنعة، ويسيطر عليه الأسلوب والمظهر. ويتجلى أسلوبه هذا، في جميع كتبه ومقالاته ... غير أن القلم يجمح به أحياناً، فيشتط الخيال، ويطيب له أن يعنى بالصنعة والعبارة، فيكثف جمله وعباراته، ويختصر في ألفاظه وكلماته. ومثل هذا فعله في كتابه "المذكرات" ولاسيما حين يتحدث عن الشباب، ويصف الشيخوخة، ويتوقع الرحيل، فيحاسب نفسه دون هوادة. لنستمع إليه يقول: "يا نفس لا تغضبي، ولا تعتبي، فقد عمرت طويلاً، ومتعت كثيراً، وفتنت بجمال الوجود، وجلال الطبيعة، وهمت بصنع الخالق والمخلوق، واستكثرت من الخلان والمعارف، وسعدت، إذ كنت أقرب إلى التفاؤل من التشاؤم، وإلى الرجاء أدنى من القنوط، وإلى السرور أكثر من الغم. وعشت في سلطان الرضا طيبة الطعمة، لا يد لأحد عندك". شخصية منفردة تضافرت عدة معطيات في تكوين شخصية محمد كرد علي بهذا التميز، وكان للزمان والمكان بدورهما تأثير فعال في تشكيلها على هذه الحال من التفرد، فقد جاء إلى الدنيا في فترة كانت فيها البلاد العربية، وخاصة بلاد الشام ترزح تحت نير الاحتلال العثماني الذي فُرض عليها، بحيث كان الشرق العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر غارقاً في بحر من الظلم والظلام. وكانت سياسة التتريك المفروضة على العرب، تجعل من يتقن الكتابة والقراءة باللغة العربية إنساناً ذا شأن، ومن هنا انصرف محمد كرد علي إلى القراءة والكتابة في سن مبكرة كان أولى بدايات تكوين شخصيته المتفردة ... وعن تلك المرحلة يقول:

"بدأت أقرأ في الجرائد العربية في الثالثة عشرة من عمري، وأنا في السنة الأخيرة من المدرسة الابتدائية. وبعد حين اشتركت بجريدتين. وأولعت بمطالعة "لسان الحال"، لأن فيها أخباراً طريفة مغرية عن الإنكليزية. واشتركت لما كنت في الثانية من المدرسة الثانوية بجريدة فرنسية أسبوعية تصدر في باريس اسمها "صديق الريف" فكنت أقرؤها قراءة تدبر، لا قراءة تفكه، وأطالع بعض الصحف التركية الصادرة عن الأستانة، ولاسيما المجلات الأدبية والتاريخية. وقد أقرأ بعض المقالات التي تروقني أكثر من مرة، ولاسيما مقالات كبار الكتاب والمفكرين في السياسة والاجتماع. وما بلغت السادسة عشرة، حتى أخذت أكتب أخباراً ومقالات في الجرائد" (¬1). ولم يكن ظهور مجموعة كبيرة من رجال الفكر والأدب والمعرفة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مجرد مصادفة، فقد لعب هؤلاء الرواد دوراً قيادياً في مجابهة الظلم والاحتلال، والدعوة إلى التحرر والاستقلال في مرحلة عرفت بأنها مرحلة إرهاصات لمرحلة تالية هي مرحلة التنوير، وقد كان لانتساب هؤلاء الرواد إلى مختلف الجمعيات التي كانت تعمل في السر والعلن، ما أعطى تلك الجمعيات القدرة على المجابهة على الرغم مما تعرضت له من بطش واضطهاد كانت ذروتهما في سوق المفكرين العرب الأحرار إلى المشانق في دمشق وبيروت، بالإضافة إلى قوافل أخرى سابقة تعرضت للاعتقال والتعذيب والإغراق في البوسفور. ¬

_ (¬1) ـ عبقريات شامية ـ مصدر مذكور.

وإذا كانت القرون الأربعة التي فرضها الاحتلال العثماني على المنطقة العربية قد اقترنت بمحاولات قمعية لإطفاء جذوة القومية العربية، فإن الرواد من قادة الفكر العرب كانوا يؤسسون لمرحلة الاستقلال عن النير العثماني، بإحياء أصول اللغة والتاريخ واستطلاع التراث، ولعل مساهمة محمد كرد علي كانت متميزة في هذا المجال من خلال الخطوة الجبارة التي حققها مع انتهاء الحكم العثماني، وهي إنشاء مجمع اللغة العربية الذي وقفنا على أهدافه الأساسية في هذه الدراسة عن حياة وعطاء العلامة الكبير ولم يكتفِ بتأسيس المجمع ومجلته التي كان كتابها من أبرز علماء وأدباء الوطن العربي بل تحققت في هذا المجال خطوات لاحقة مهمة منها: 1 ـ تفرغ أعضاء المجمع للبحث الأدبي والدراسات اللغوية والتاريخية. 2 ـ تأسيس دار كتب عامة في المدرسة الظاهرية، فاتخذ منها داراً للكتب، أصبحت فيما بعد ذات شهرة كبيرة نظراً لأهمية ثروتها من المخطوطات وأمهات الكتب والوثائق، وقد ظلت دار الكتب الظاهرية تؤدي رسالتها في إتاحة مجال مطالعة أهم المؤلفات. أمام كل متعطش للثقافة. وقد أنشأ الملك الظاهر بيبرس عام /820/ للهجرة هذه المدرسة لتكون مدرسة للعلم وتربة تضم رفاته، وفي عام 1927 تحولت المدرسة الظاهرية إلى مدرسة ابتدائية وظلت في عهدة دائرة الأوقاف ثم ألحقت بالمجمع. وكان فريق من علماء دمشق لاحظوا تفرق المخطوطات والكتب في المساجد وتعرضها للضياع، فقاموا بحملة لجمع ما تبقى منها، وماهو هام جداً، وثمين وأودعت في خزانة داخل قبة المدرسة الظاهرية، وكانت نواة دار الكتب الحالية. (¬1). 3 ـ حقق مجمع اللغة العربية مئات المخطوطات (وهي كتب ورسائل) من التراث ومن هذه المطبوعات: ¬

_ (¬1) ـ وجيه الشربجي: أضواء على تاريخ مجمع اللغة العربية ـ مصدر مذكور.

سيرة حافلة

"رسالة الملائكة " لأبي العلاء المعري ـ "ديوان علي بن الجهم" ـ "عثرات اللسان" للأستاذ عبد القادر المغربي ـ "كنوز الأجداد" للأستاذ محمد كرد علي ـ "تاريخ علم الفلك في العراق" ـ "الثقافة الإسلامية في الهند" ـ "تراجم الأعيان من أنباء الزمان" ـ "كتاب الأضداد لأبي الطيب اللغوي" ـ "أخطاء شائعة في ألفاظ العلوم الزراعية والنباتية" ـ "سؤال في يزيد بن معاوية لابن تيمية" ـ "معجم المصطلحات الأثرية باللغتين العربية والافرنسية" ـ "المعاصرون" ـ "ديوان الفرزدق" ـ "تاريخ حكماء الإسلام" ـ "تاريخ الخلفاء". وشرع المجمع منذ سنوات عديدة، بتحقيق "تاريخ ابن عساكر" وهو مؤلف تاريخي ضخم عن تاريخ دمشق يتألف من ثمانين مجلداً ضخماً. (¬1). سيرة حافلة يندر أن نجد بين الذين عملوا في مجال البحث والدراسة شخصية تتمتع بمثل هذا النشاط الخارق الذي كان يتمتع به العلامة محمد كرد علي ... كان دؤوباً في العمل لدرجة مذهلة، يعمل أحياناً ثماني عشرة ساعة في اليوم، كان حركة دائمة بلا ملل أو فتور، في الإدارة، وفي الكتابة والتأليف، وظل طوال حياته يتمتع بهذا النشاط ومثل هذه القدرة على العطاء فكانت حياته في هذا الميدان سيرة حافلة إذ جمع بين الصحافة والجامعة، والوزارة، والمجمع العلمي العربي، والمجمع اللغوي في مصر ... شغل محمد كرد علي عدداً من المناصب الحكومية الرفيعة فقد عين وزيراً للمعارف في وزارة جميل الألشي. وكان ذلك في السادس من أيلول 1920 لغاية الأول من كانون الأول 1920. عقب تخليه عن وزارة المعارف عام 1920 أسندت إليه مهمة مدير المعارف، واستمر في هذا المنصب لغاية 31 كانون الأول 1924. عين وزيراً للمعارف للمرة الثانية في حكومة الشيخ تاج الدين الحسيني، من 15 شباط 1928 لغاية 19 تشرين الثاني 1931. وفي عام 1933 انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ¬

_ (¬1) ـ المصدر السابق.

التنوع والتميز

ويقف محمد كرد علي في المكانة العلمية والأدبية بين أنداده الأعلام العرب أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد عبده وغيرهم ... وقد مثل سورية في مهرجان مبايعة أحمد شوقي بإمارة الشعر وكانت له مكانة متميزة في مصر. التنوع والتميز وقف الباحثون طويلاً أمام طبيعة هذا التنوع الكبير الذي اشتمل عليه نتاج العلامة محمد كرد علي والذي لم يسبقه إليه أحد من الدارسين والباحثين العرب، كما لم يعقبه أحد بهذا التميز. فمن مواضيع التراث والتاريخ، إلى الدراسات الإسلامية، إلى دراسة المدن، إلى وصف غوطة دمشق، أو عدة الصيد وآلاته، بالإضافة إلى خطط الشام وترجمة الأعلام والمذكرات. وحتى نقف على أهمية وغنى هذا التنوع في نتاج العلامة الكبير، نقف بنوع من التعريف المكثف مع كتبه الاثنين والعشرين ولعل كثيرين من الذين تغيب عنهم سير مثل هؤلاء الأعلام لا يعرفون عنها إلا النزر القليل، ولا بد من تذكير الأجيال الجديدة مثل هذه العطاءات التي توثق وتؤرخ القضايا ومراحل من تاريخ هذه الأمة، في الماضي البعيد والقريب، وكم من الذين تركبهم الحيرة في البحث عن مراجع لبعض الدراسات لا يعرفون أن ما خلفه العالم الكبير يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة في هذا المجال، خاصة وأنه بذل جهوداً كبيرة في الاستطلاع والتقصي فجاءت دراساته دقيقة وشاملة ... 1 ـ "غرائب الغرب" ـ صدر في حزيران من عام 1923 يتحدث فيها عن رحلاته إلى أوروبا، بعيداً عن نموذج الكتابات السياحية التي يضعها البعض عن مظاهر سطحية في بلاد الغرب ... فهذا الكتاب يضع أمام القارئ دراسة دقيقة عن واقع الغرب الأوروبي في تلك المرحلة المبكرة من القرن العشرين. 2 ـ "غابر الأندلس وحاضرها"، صدر عام 1923 ويوحي عنوان الكتاب بأهميته.

خطط الشام

3 ـ "خطط الشام"، في ستة أجزاء صدرت بين عامي (1925 ـ 1928)، ولعلها أهم ما كتب عن بلاد الشام بعد ما كتبه ابن عساكر عن الشام، وهي المرجع الرئيس لمن يريد الاطلاع الواسع على تفاصيل تاريخ وواقع بلاد الشام. 4 ـ "ثلاث سنوات من حكم سورية" ـ صدر عام 1931. 5 ـ "الإسلام والحضارة العربية" ـ جزءان صدر عام 1936. 6 ـ دمشق ـ مدينة السحر والشعر"ـ صدر عام 1952. 7 ـ "الإدارة الإسلامية في عز العرب" ـ صدر عام 1934. 8 ـ "أمراء البيان" ـ جزءان (1937ـ1969). 9 ـ "كنوز الأجداد" ـ 1950. 10 ـ "أقوالنا وأفعالنا" ـ 1946. 11 ـ "القديم والحديث" ـ مجموعة مقالات 1925. 12 ـ "غوطة دمشق" ـ (1949 ـ 1952). 13 ـ "رسائل البلغاء" ـ 1946. 14 ـ "سيرة أحمد بن طولون" (تحقيق) ـ 1939. 15 ـ "المستجاد من فعلات الأجواد" (تحقيق) 1946. 16 ـ "كتاب الأشربة، لابن قتيبة" (تحقيق) ـ 1947. 17 ـ "البيزرة" (في الصيد وآلاته) ـ 1953. 18 ـ "الحكومة المصرية في الشام" ـ محاضرة 1925. 19 ـ "ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية". 20 ـ "رسائل عبد الحميد بن يحيى الكاتب". 21 ـ "أبو الطيب المتنبي" ـ 1921. 22 ـ المذكرات ـ أربعة أجزاء 1250 صفحة ـ صدرت بين (1949 ـ 1951). خطط الشام وإذا كنا نقف ببعض التفاصيل مع (خطط الشام) فنظراً لأهمية هذا المؤلف الفريد والشامل عن بلاد الشام، والذي قيل عنه: "لو لم يضع محمد كرد علي غير خطط الشام، لكفاه هذا فخراً" (¬1). تقع "خطط الشام" في ستة أجزاء تضمها ثلاثة مجلدات ضخمة، بحيث يضم كل مجلد جزأين وقد طبعت عدة طبعات، وهي مهداة من المؤلف إلى العلامة أحمد تيمور، الذي اعتبره محمد كرد علي الأهم بعد الشيخ محمد عبده، والشيخ طاهر الجزائري. ¬

_ (¬1) ـ خطط الشام ـ ستة أجزاء في ثلاثة مجلدات.

وقال يخاطبه في كلمة الإهداء: "لم تفتأ تبعث همتي على العمل، وتأخذ بيد عجزي، لأقوى على إخراج هذا السفر للناس، فالآن وقد تحققت الأماني، تفضل وزد في الإحسان، واقتطع من وقتك الثمين ساعات، ترشدني فيها إلى مواطن الضعف منه، فتقلدني من منتك اللاحقة قلادة فوق قلائدك السابقة!! " في هذه الكلمة يتجلى تواضع العلماء، وخاصة من عالم جليل مثل محمد كرد علي، يتحدث عن مثل هذا السفر النفيس، وقد تحدث الباحث عن ظروف وضعه "خطط الشام" في تقديم الجزء الأول فقال: "شرعت أتصفح كل ما ظفرت به من المخطوطات، والمطبوعات باللغات العربية والتركية والفرنسية، وقصدت دور الكتب الخاصة، والعامة، في الشام ومصر والمدينة المنورة والأستانة ورومية وباريس ولندن وأكسفورد وكمبريدج وليدن وبرلين وميونيخ وبحريط والاسكوريال، وكنت كلما استكثرت من المطالعة تتجلى أمامي صورة العمل ... هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات منذ وطدت العزم على وضعه، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي، ولكن الشقاء قد يأتي بالسعادة، ورب ضر أعقب ضراً، فإن التضييق علي نشأ منه اضطراري إلى الارتحال غير مرة، فأخذت أستقري المعالم والمجاهل في هذا القطر، ونزلت على أمم كثيرة في بلاد الغرب، فاستفدت من تنقلي بعض ما عندهم من أسفارنا وآثارنا وقابلت عن أمم بين عمراننا وعمرانهم وجمودنا اليوم وحركتهم.

رحلت إلى أوروبا ثلاث رحلات أبحث في دور كتبها عن المخطوطات التي يرجى أن يكون أصحابها قد تعرضوا لحوادث هذا القطر. وزرت أصقاع الشام لأقابل بين حاضره وغابره، ولما نسجت بآخرة ما جمعت قدمت له مقدمة في بيان ما تشترك بلاد الشام عامة من المظاهر والأوضاع، وسميته (خطط الشام)، وأعني بالشام الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم، وهو القطر الممتد من سقي النيل إلى سقي الفرات، ومن سفوح طوروس إلى أقصى البادية، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين، ويراد بالخطط كل ما يتناول العمران والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه وحضارته. ولا جرم أن موضوع الخطط موضوع جليل، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ويخدمها، ويستفيد منها، وأحق الناس بمعرفة بلد أهله وجيرانه، ومن لم يرزق حظاً من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات وما أتاه أجداده من الأعمال لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في المال والمآل، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد، وكيف يحب المرء بلداً لا يعرفه ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار إلى ماصار إليه، وهل يفهم الحاضر بغية الغابر، وهل تنشأ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة".

في الجزء الأول

في الجزء الأول خصص الباحث الجزء الأول من "خطط الشام" لعدة فصول أولها، "تقويم الشام" حيث عرض فيه تعريف الشام للأقدمين، ومعنى الشام وجمعه، وجه الشام قديماً وخاصة مع مصر قبل الانتقال إلى مساحة الشام وصورته ومدخل الفاتحين إلى الشام، واستعرض مدن الشام وقراه وطبيعته وبحيراته وهواءه وماءه وخصائصه ... أما الفصل الثاني فقد خصصه لسكان الشام بجميع أجناسهم وشعوبهم، وبتركيز خاص على العرب في بلاد الشام، لينتقل في الفصل الثالث إلى لغات الشام: الآرامية والسريانية والعبرانية والفينيقية والعربية والبابلية والكنعانية والكلدانية والحثية والآرية واليونانية واللاتينية، وأعطى أهمية خاصة للغة العربية وانتشارها كلغة كاملة وفصيحة، ليصل إلى الشاميين من أمة واحدة لسانهم العربية فقط أما الفصل الأكثر أهمية في الجزء الأول فهو عن تاريخ الشام، وبدأه بمرحلة ما قبل الإسلام والغزوات التي تعرض لها الشام وخاصة من الفرس والرومان، لينتقل إلى الشام في الإسلام حتى عام 18 للهجرة والفتوحات الإسلامية لتبدأ مرحلة الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة الطولونية ثم الفاطمية والسلجوقية وصولاً إلى الحروب الصليبية. الجزء الثاني من خطط الشام يشتمل على الدولة النورية وحملات نور الدين وصلاح الدين أي الدولة الصلاحية ثم الأيوبية ودولة المماليك وظهور التتار، وصولاً إلى وقائع تيمورلنك واجتياحه المدن السورية ودخوله دمشق لينتهي عهد المماليك الأخير وتبدأ مرحلة الدولة العثمانية بجميع تفاصيلها ومراحلها.

الجزء الثالث من خطط الشام

الجزء الثالث من خطط الشام يتابع الباحث في هذا الجزء ما وصل إليه في نهاية الجزء الثاني عن تاريخ الدولة العثمانية حتى سقوط السلطان عبد الحميد الثاني وصدور الدستور معرجاً على منشأ الصهيونية في تلك المرحلة والحرب العالمية وقسط الشام من الحرب، وإعدام جمال باشا أحرار الشام والوقائع المهمة في فلسطين، وسقوط القدس، وما إليها، وسقوط بلاد الشام بأيدي الحلفاء، وتجزئة الشام بين فرنسا وإنكلترا، ومبايعة الملك فيصل ملكاً على الشام، ودخول المستعمرين الغربيين بلاد الشام، وتقسيمها إلى دويلات، ودور الصهيونية في تلك المرحلة فيهجر اليهود إلى فلسطين تحت الحماية البريطانية، وتنفيذ معاهدة سايكس بيكو وصكوك الانتداب على سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن. الجزء الرابع من خطط الشام هذا الفصل يتميز من حيث موضوعه المختار عن العلم والأدب في بلاد الشام، بالتفصيل منذ القديم حتى نهاية القرن الرابع عشر بما في ذلك الجامعات والمكتبات والصحافة والطباعة والكتب، وينتقل الباحث بعد ذلك إلى الفنون الجميلة: الموسيقى والغناء والتصوير والنقش، والبناء، والشعر، والفصاحة، والرقص، والتمثيل، وكيفية الارتقاء بهذه الفنون. وفي الفصل التالي من الجزء الرابع عرض شامل للزراعة الشامية وهو بدوره فصل غني يبدأ بالمشكلة الزراعية القائمة آنذاك من خلال قلة العناية بالأنهار، وخراب الزراعة والمزارع وعوامل هذا الخراب، وآفة الهجرة على الزراعة، لينتقل إلى خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها، وتقسيم السهول والجبال، والطرق الجديدة في الزراعة، وأصناف الزرع، والأشجار، والتربة، والحراج، والري إلى الحيوانات والدواجن والصناعات الزراعية وطرق استثمار الأراضي والضرائب الزراعية وأقراض الزراع.

الجزء الخامس من خطط الشام

أما الفصل الذي يليه فقد خصص للصناعات الشامية: الغزل والحياكة والنساجة، والدباغة وصناعات الجلود، وتربية دود الحرير أو النجارة، والقبانة، والحدادة، والنحاسة، وتصنيع الزجاج والدهان والفخار والقيشاني، والمرايا، والصباغة وصناعة الصدف والرخام والسجاد والحصير، وصولاً إلى الصناعات المحدثة. أما الفصل الأخير من هذا الجزء فكان عن التجارة، وموقع الشام من التجارة، وتجارة القدماء، ودور التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث، والورق النقدي، والحواجز الجمركية والواردات والصادرات. الجزء الخامس من خطط الشام خصص الفصل الأول عن الجيوش قديماً وحديثاً، تليه تفاصيل عن الأسطول البحري، وعن الجباية والخراج والأوقاف والحسبة والبلديات، والترع والمرافئ والطرق والمساجد والمصانع والقصور وخاصة الجامع الأموي، والحرم القدسي، والمسجد الأقصى، والقصور الشامية والقلاع، وهندسة البيوت والجسور. الجزء السادس من خطط الشام خصص للبيع والكنائس والجوامع والمدارس والمستشفيات والبيمارستانات ودور الآثار ودور الكتب والأديان والمذاهب والعادات والتقاليد التي كانت تحكم بلاد الشام على مر العصور. وهكذا نجد أن من الصعوبة تقديم دراسة تفصيلية عن هذه الأجزاء الستة الضخمة من (خطط الشام) لما تحتوي عليه من مادة غزيرة أعدها الباحث خلال ربع قرن من الزمن، ولم نكن نرغب أن يغيب التعريف بهذه الخطط عن قارئ سيرة محمد كرد علي، فآثرنا تقديم عرض مكثف لأهم العناوين التي اشتملت عليها الأجزاء الستة، فهذا يعين القارئ والباحث على استقراء كامل تاريخ بلاد الشام ويمكنه الرجوع إلى الأصل إذا أراد التوسع في الاطلاع. المصادر والمراجع: مراجع عامة ـ عبد القادر عياش ـ معجم المؤلفين السوريين. ـ خير الدين الزركلي ـ الأعلام. ـ عدنان الخطيب ـ كتيب (محمد كرد علي). ـ مصنفات مجمع اللغة العربية.

انتقادات على محمد كرد علي

انتقادات على محمد كرد علي 1 - من مشاركة (أبو مشاري) في ملتقى أهل الحديث لا زال الزمن يكشف لنا عن أقنعة، لمعظمين، لا يستحقون التعظيم، والقائمة في هؤلاء تطول، ولكن أعرض هنا، لبعض النظرات في مذكرات محمد كرد علي، رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق الشام، ووزير معارفها الأسبق، وصاحب مجلة المقتبس، والذي كنا نحسن فيه الظن، لتتلمذه على العلامة طاهر الجزائري، وامتداحه في مقالته ابن تيمية، والوهابية مع الإمام محمد بن عبد الوهاب. حيث أني قد أنهيت قبل أيام النظر في مذكراته، في مجلداتها الأربع، والتي طبعت، بإعادة التصوير من دار أضواء السلف، طمعا في الاستفادة منها، ولأضيف لعمري عمرا آخر، كما استفدنا من ذكريات العلامة الموسوعي الأديب علي الطنطاوي رحمه الله رحمة واسعة، إذ فيها كل ما لذ وطاب. ولكن تبين في مذكرات كرد علي عدة أمور، أعرض لبعضها: * قلة الفائدة، خاصة في زماننا هذا، حيث غلب على مذكراته، الناحية السياسية، وتكلم على أحداث، وتفاصيل غير مهمة في شأن الدولة العثمانية، والدولة السورية. وكنت بحثت عن اسمه في مجلة المنار لمحمد رشيد رضا رحمه الله، فرأيته يقول عنه، أنه ليس له في السياسة علم. والعجيب أن كرد علي في كتابه (المعاصرون) ذكر هذا عن محمد رشيد رضا، أي أنه لا يفهم بالسياسة!. * كتب مذكراته عند كبر سنه، فأساء الحكم على الرجال، والأزمان، كما ذكر الزركلي في أعلامه، والطنتطاوي في مذكراته، وغيرهم، وعلى حد تعبير الزركلي، أن خوفه من جمال باشا السفاح التركي، ظل يلاحقه حتى بعد سقوط الدولة العلية. * الخلل العقدي العظيم عند هذا الرجل، إذ أنه لا يكاد يؤمن، بعقيدة الولاء والبراء، فهو قومي وطني بحت، حتى إنه ليقول أنه يأنس للياباني الذي أخذ بأسباب الحضارة والمدنية وإن لم يكن مسلما أكثر من، القروي الأمي المسلم!، أضف إلى ذلك ثناءه الحار وحبه لبعض الدرز والمورون والقساوسة ... الخ فقط لأنهم عرب. * يثني في أكثر من موضع على مذهب المعتزلة، فيقول: ((لما انقرض مذهب المعتزلة تراجع أمر المسلمين عامة)) 4/ 1252. * يدعو بدعوة مضل المرأة (قاسم أمين) كما في مقاله ((الحجاب والسفور)) 4/ 1048، يبارك ما بدأ في الشام من زيادة السفور يوما بعد يوم ببركة دعاة التحرير، ويزعم أن آية الحجاب خاصة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم!. ويقول في موضع آخر ((ربما كان النساء يفضلن الحجاب على السفور حتى تستر صورخن القبيحة عمن يسارقوهن النظر متخيلين أن هناك جمالا ما وقعت على مثله عين)) 4/ 1271. * نشأ حزب الإخوان المسلمون في عهده، على يد الإمام حسن البنا رحمه الله، فاتهمهم بسرقة مال الأمة، وأن الفقهاء وأهل الدين متى ما تكلموا بالسياسة أتوا بالعجائب، فلا ينبغي لهم الكلام بالسياسة. ويقول: ((يوم فصلت الأمم النصرانية الدين عن الدنيا سارت أمورها على السداد)) 4/ 1075، ولذلك نجده في أحد مقالته يثني على علي عبد الرازق، بعد قبوله في مجمع اللغة العربية، ويعتب على من قدم له يوم دخوله ولم يذكره كتابه ((الإسلام وأصول الحكم))، والمعروف تكفير علماء الأزهر لكاتبه، وفصل من الأزهر، أيام العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله، شيخ الأزهر. فهذه بعض النظرات على عجالة من الأمر، إلا فالطوام عديدة، وكثيرة، والله المستعان وعليه التكلان. " انتهى. 2 - من مشاركة (حسين بن محمد جمعة) منتدى مركز ودود نعم للأستاذ: محمد كرد علي جهود مشكورة واهتمامات تفيد في البحث والجمع وغير ذلك من الإيجابيات. فهذه يستفاد منها؛ كما أنها تستفاد من غيره ومع ذلك نبين ونوضح أشياء أخرى قد جانب فيها الحق والصواب فمن أحبه فـ لينظر فيما أحسن وأصاب، ولا يتابعه فيما أساء فيه وأخطأ. ونحن نتفق على جعل القدوات لأجيالنا وأحفادنا من كان على الكتاب والسنة الصحيحة؛ وكل من وما يقربهم من فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على طريقة وفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم. والأستاذ محمد كرد علي؛ كغيره من أولئك اللذين قد عاشوا فترات الفتن المظلمة الداعية للتغريب والعلمنة؛ بحجة السياسة المدنية الصرفة لليد المستعلية ولو كانت كافرة، تمهيدا لاحتلال بلد المسلمين، وتثبيتا للانحرافات العقدية والعلمية الشرعية والمدنية، ومسخ الهوية الإسلامية والقدوات الصالحة. ففي تلك الفترة أعيد نشر وتعظيم تراث الاعتزال والمعتزلة ورموزها ورجالها؛ لهذا الغرض، كما أنه كانت النصرة كاملة لكل من يطعن أو يخالف الدولة العثمانية والخلافة العثمانية؛ اغترارا بمستقبل سياسي مدني أفضل، بغض النظر عن الشرع الإسلامي والحياة الإسلامية الصحيحة. ولذا تجد هؤلاء ونحوهم يمدحون شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ ولو كان المادح درزيا أو ماسونا، أو من المعتزلة الجدد ودعاة التغريب وغيرهم؛ ممن يجري مجراهم. فالسياسة عندهم - عمليا - لا دخل لها في الدين، والدين عندهم لا دخل له في السياسة. والحياة المشتركة والاجتماع إنما هي بأن نجتمع على ما نتفق عليه (أيا كان)، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. حتى جعلوا ذلك لهم عقيدة ومنهج حياة، وقاعدة ذهبية في السياسة والمدنية والاجتماع. والواجب على المسلمين أن تكون قاعدة اجتماعهم تثبيت الدين والعدل وأداء الأمانات، ونفي الكفر والظلم والعدوان. كما قال الله تعالى؛ وقوله الحق: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ". وتفاصيل هذا تجده في كتب السياسة الشرعية. وقد مهدت بهذا الاستطراد؛ لخفاء الأمر على كثير من الناس واغترارهم بأقوال لا حقيقة لها ولا اعتبار، وتاريخ ورجال؛ بلا تاريخ صحيح ولا أنصاف رجال. وانظر في ذلك كتابا مهما؛ وهو كتاب: " الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وآثارها في حياة الأمة "، رسالة ماجستير، بجامعة أم القرى، تأليف: علي بن بخيت الزهراني. وهي مطبوعة، في (1094) صفحة - دار الرسالة - مكة المكرمة.

بسم الله الرحمن الرحيم رب إليك المفزع، وفيك الرجاء، ومنك الهداية، فاحلل اللهم عقدة من لساني، وعلمني بالقلم ما لا أعلم، كما علمت عبادك المخلصين، واهدني صراطك المستقيم. وبعد فهذه نشرة تصدر على رأس كل شهر عربي تقتبس ما تتمثل فيه فائدة صالحة من كلام الثقات الأثبات من مشارقة ومغاربة ومحدثين. وقد سُميت المقتبس ولكل شيء من اسمه نصيب. وستتنكب في مسطورها مذاهب المذاهب والنحل، وتتجافى عن طرق طرق السياسات والدول، حتى تصفو مواردها من النزعات والنزغات، ولا يستهويها في جانب ما تعتقده الحق وازع ولا منازع. تتمحض للعلم المحض فلا يتحرج من تلاوتها الموافق والمخالف، ولا يتبرم بها العارف والعازف، وتنطلق في الفكر، وتتجوز في الاقتباس والنشر، وتدرج في مطاويها، ما يوافق أغراضها ومغازيها. فليتفضل من أوتوا حظاً من العلم فكان همهم نفع الإنسان من حيث هو إنسان، وخدمة المعارف لأنها مشاعة في الأمم نافعة للعمران، ويمنوا عليها من فيض قرائحهم وثمرات أبحاثهم بما تتألف منه ندوة علمية حافلة بالمطالب الممتعة الموجزة، ومجلس علم يختلف إليه العالم والمتعلم فيعود كل منهما ببغيته منه، ومعرض حكمة تعرض في أصونته ما يلائم أذواق أهل كل جيل وأفق من ضروب البضائع والأعلاق، وديوان إخوان تسوده أقلام المنوّرين والمفكرين، وتقرهم عليه طائفة العالمين والعاملين. والله المسؤول أن يربأ بهذا المقتبس عن أن يكون جعبة مشاغبة وأهواء، وصحيفة تبجح ورياء، وأن يبرئه من آفات التطويل والتكرار، ويدفع عنه عوادي المعايب والمعاير، ويجعله خير ذخر إذا الصحف نشرت، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه سبحانه وسعدانه.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة ابن حزم ولد سنة 384 وتوفي سنة 456هـ في الناس من يفادون بنفوسهم حباً بنفع يرجون أن يجنيه أهلهم وعشيرتهم ويتعزون عن ذلك بما يصيبونه من مغنم ديني أو دنيوي ومن هذه الفئة ابن حزم الأندلسي. فقد ترك وزارة المستظهر بالله اختياراً لما آنس من نفسه الغناء في العلم، وأقبل على القراءة وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينله أحد قبله بالأندلس حتى عد قريع دهره، ووحيد قطره، وألف من كتب الأدب، والدين والنسب وغيرها، ما يبلغ نحو أربعمائة مجلد أو نحو ثمانين ألف ورقة. كان أبو محمد بن حزم على كثرة علمه وعقله، شديد اللهجة، صعب الطريقة، ولعل ذلك ناتج من العلة الشديدة التي كانت أصابته كما قال عن نفسه فولدت عليه ربواً في الطحال شديداً فولد ذلك عليه من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر والنزق، أمراً جاشت نفسه فيه، إذ أنه أنكر تبدل خلقه، واشتد عجبه من مفارقته لطبعه، وصح عنده أن الطحال موضع الفرح: إذا فسد تولد ضده. قال، ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحيي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة النفع، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف. وما يشاهد إذاً في كتابه الملل والنحل من إفحاش الطعن على من خالفه قد دفعه إليه مزاجه، وكان هو السبب الذي دعا إلى تألب خصومه عليه في حياته. قال أبو مروان بن حيان مؤرخ الأندلس: كان أبو محمد حافظاً فنوناً من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. له في بعض تلك الفنون كتب كثيرة غير أنه لم يخلُ فيها من غلط وسقط، لجرأته في التسور على الفنون لاسيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زلّ هنالك، وضلّ في تلك المسالك، وخالف أرسطاطا ليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا أرتاض في كتبه. ومال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وناضل عن

مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه، حتى وُسم به، ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ، ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه، إلى أن مضى لسبيله رحمه الله. وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه على استرسال في طباعه، ومذل (إفشاء) بأسراره، واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده، ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فلم يكُ يلطف صدعه، بما عنده، بتعريض ولا يزنه بتدريج، بل يصك به معارضه صكّ الجندل، وينشقه متلقنه انتشاق الخردل، فينفر عنه القلوب، ويوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالؤوا على بغضه، وردوا أقواله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنه، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة وهو في ذلك غير مرتدع، ولا راجع إلى ما أرادوا به. يبث علمه في من ينتابه بباديته تلك من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة يحدثهم ويفقههم، ويدارسهم، ولا يدع المثابرة على (التعليم) والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعير لم يعدُ أكثرها عتبة باديته بتزهيد الفقهاء وطلاب العلم فيها، حتى حرق بعضها باشبيلية، ومزقت علانية، لا يزيد مؤلفها في ذلك إلا بصيرة في نشرها، وجدالاً للمعاند فيها، إلى أن مضي لسبيله. وأكثر معايبه زعموا عند المنصف له، جهله بسياسة العلم التي هي (أعوص) من إيعابه، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر لا يكدره الدلاء، ولا تقصر عنه الرشاء، له على كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة، وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم. . . وبعد أن ذكر ابن حيان إدلال ابن حزم بأرومته ونسبه، مع أنه من عجم لبلة، وماله من المجالس مع أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام وأورد بعض تآليفه قال: ومن شعره

يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رقّ وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري وإلا فعودوا في المكاتب بدأة ... فكم دون ما تبغون لله من سر وله: من ظلّ يبغي فروع علم ... يُدرى ولم يدر منه أصلا فكلما ازداد فيه سعياً ... زاد لعمري بذاك جهلا وقال: كأنك بالزوار لي قد تناذروا ... وقيل لهم أودى عليّ بن أحمد فيا ربّ محزون هناك وضاحك ... وكم أدمع تذرى وخد مخدد عفا الله عني يوم أرحل ظاعناً ... عن الأهل محمولاً إلى بطن ملحد واترك ما قد كنت مغتبطاً به ... وألقى الذي آنست دهراً بمرصد فوا راحتي إن كان زادي مقدماً ... ويا نصيبي إن كنت لم أتزود ويا لبدائع هذا الحبر عليّ وغرره ما أوضحها على كثرة الدافنين لها والطامسين لمحاسنها وعلى ذلك فليس ببدع فيما أضيع منه فأزهد الناس في عالم أهله. وقبله رُدي العلماء بتبريزهم على من يقصر عنهم والحسد داء لا دواء له - انتهى كلام ابن حيان في خبره. قلت أنا (ابن بسام) ولعمري ما عقه، ولا بخسه حقه، وقال ابن بشكوال: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة على توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار. وسننشر طرفاً صالحاً من جيد شعره.

الأمية والكتاتيب

الأمية والكتاتيب ليس في التاريخ ما يصح الاعتماد عليه في حال الأمية في الصدر الأول اللهم إلا بضعة سطور مبعثرة في تضاعيف الأسفار. وغاية ما استخلصته أن الكتابة والقراءة والحساب انتشرت بين أهل الإسلام على الزمن ولم يكن تعليمها الناس إلزامياً حتماً بل كان اختيارياً على نحو ما أمر الرسول عليه السلام اسارى أصحابه في إحدى الوقائع أن يفتدوا أنفسهم إذا لم يكن لهم مال بتعليم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة. والأُميّ والأُمان من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب وهو باقٍ على جبلته كما جاء في القاموس وزاد في التاج إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب أراد أنه على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى. وقال بعضهم ومجاز الأميّ على ثلاثة وجوه قولهم أميّ منسوب إلى أمة رسول الله (ص) ويقال رجل أمي إذا كان من أم القرى أي مكة والنبي الأُمي إنما أراد الذي لا يقرأ ولا يكتب والأمية في النبي فضيلة لأنها أدل على صدق ما جاء به. قال صديق حسن خان: في تفسير قوله تعالى ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي من اليهود. والأمي المنسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن قراءة المكتوب. ومن حديث إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب فكأنه قال: ومنهم أهل كتاب وقيل هم نصارى العرب وقيل هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وقيل هم المجوس حكاه المهدوي وقيل غير ذلك والراجح الأول وقيل أميون أي عوام. على أن الكتابة العربية لم تنتشر في جزيرة العرب قبل الإسلام بكثير. وأول من كتب فيها مرامرة بن مرة من أهل الأنبار. قال الأصمعي: ذكروا أن قريشاً سئلوا من أين لكم الكتابة فقالوا من الحيرة وقيل لأهل الحيرة من أين لكم الكتابة فقالوا من الأنبار. والناقل لهذه الكتابة كما في رواية بعض المؤرخين حرب بن أمية القرشي الأموي والغالب أن واضعها مرامرة المشار إليه. هكذا شاعت الكتابة قبيل الإسلام كما نقل العرب الحساب عن الهند. وكانت لحمير على ما روى ابن خلكان كتابة تسمى المسند وحروفها منفصلة غير متصلة وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم فجاءت ملة الإسلام وليس في

جميع اليمن من يقرأ ويكتب. قلت: وليس هذا شأن اليمانيين وحدهم في منع عامتهم من تعلم الكتابة والقراءة والخروج من دركات الجهل والأمية بل كانت هذه عادة الأمم القديمة إلا القليل منها يخصون العلم والتعلم بطبقة خاصة من الناس. فقد حصر قدماء المصريين والآشوريين العلم بخدمة الدين واحتكره أبناء الأشراف عند الغرناطيين والرومانيين واختصت به فئة معلومة منتخبة من الهنديين واليونانيين حتى إذا جاء الإسلام أطلق حرية التعلم وأباح تناول العلم لكل متناول وكان من أثره ما كان من الحضارة الراسخة. هذه زبدة ما يقال في معنى الأمية في الإسلام وقد تقلبت الأحوال بأهله حتى أصبح من لا يستحق منهم هذه الصفة أعزَّ من الغراب الأعصم وهبت على أهل هذا الشرق هبة من روح الارتقاء منذ نحو قرن وما برحت تختلف باختلاف الأيام حتى قام في العهد الأخير ناسٌ راغبون في إنهاض الأمة من حضيض الأمية رجاء تحسين أحوال المجتمع وانتقاء فئة من نوابغ المتعلمين ليكونوا بعد رجال العلم والقضاء والإدارة وسائر مذاهب المعاش. وما أظن مصر حتى اليوم قامت بعمل أعظم من اهتمام رجالها هذه الآونة بافتتاح كتاتيب يتعلم فيها عامة بنيها ما يخرجهم عن طور الأمية ويلحقهم بالمتعلمين النافعين. وقد شهد كل عاقل ينظر في العواقب من آثار هذه الهمة القعساء ما يرجى معها إذا دامت على أشدها زمناً أن يزيد عدد الدارسين في هذا القطر على عدد الأميين من أهله وهناك أبشر بالخير الذي يعود من فضل هذه العناية على القطر المصري بل على سائر الأقطار والأمصار. وعسى أن يعتبر بهذه النهضة المباركة رجال البلاد المجاورة فيجنون من كتاتيبهم ومدارسهم لو توفروا على إصلاحها والاستكثار منها ما لا يأتيهم به الأماني والتعللات والله الملهم والمسدد.

سيئات القرن الماضي

سيئات القرن الماضي من مقالة لأحد علماء الفرنسيين نشرت حديثاً في إحدى المحلات العلمية من القضايا التي استلفتت الأنظار انتشاراً الأمراض العصبية في القرن التاسع عشر وخصوصاً في النصف الثاني منه انتشاراً لم يعهد من قبل على ما دخل المجتمع من الإصلاحات والتقلبات في حالتيه الطبيعية والأدبية. فلو طاف الباحث نصفي الكرة الأرضية وراقب عن أمم شرقها وغربها شمالها وجنوبها، مدنها الصغرى والكبرى، أصقاعها الباردة والحارة، لسمع الإنسانية تئن من تزايد الأمراض العصبية كل يوم وقد أصيبت بها أرباب الصناعات والحرف على اختلاف الأعمار والجنس ولم تعمل فيها انقلاب العادات وطرق المعيشة وأساليب الفكر والحس على ما حصل من ارتقاء العلوم الطبيعية وعلوم الحياة التي بها عرف ما كان من قبل مجهولاً من أمراض الدماغ وما انتهى إليه العلم من طبائع الأمراض العصبية وعللها ودلائلها. وارتقاء العلوم الطبيعية في هذا القرن لا يرفع الملام عن أطباء القرون الماضية لسكوتهم عن الأمراض العصبية. فقد نراهم أحسنوا معرفة الأحوال الطبيعية وظواهرها وراقبوها أحسن مراقبة وإن لم يعقلوا عليها شرحاً مرضياً. عرفوا حق المعرفة حقيقة البول السكري والصرع والتشنج وغيرها من الأدواء ولم يعرفوا الخناق وأنواع الحميات والهزال العصبي وهذيان الشيوخ وغيرها من الأوصاب المنتشرة بين أهل جيلنا. لا جرم أن كثرة الأمراض العقلية تستدعي نظر الحكومات والباحثين في الصحة والأخلاق فقد زاد عدد المجانين في أوروبا وأميركا زيادة عظيمة في أواخر القرن الماضي. والجنون على الجملة أربع طبقات: جنون مطبق، وجنون خبل، وجنون ناتج من خبال الشيخوخة، والبلاهة والتغفل والجنون كما قالوا فنون ويكون جنون الخبل ناتجاً من تعاطي الكحول فإن المدمنين للشراب ما برحوا ينمون نمواً عجيباً. وإنكلترا أكثر البلاد التي زاد فيها الجنون في هذه الأثناء. فقد كان عدد المعتوهين فيها سنة 1866 - 53 ألفاً فصار سنة 1897 - 99 ألفاً فالمعتوهون الآن واحد في كل 293 بإنكلترا. وقد ثبت لدى أدباء بريطانيا أن مجانينهم كثروا بكثرة انهماك القوم في تناول الأشربة الروحية فإن 33 في المائة من المعتوهين هم ممن يتعاطون المسكرات عندهم.

وقد نشر حديثاً أحد نُطس الأطباء بحثاً دقيقاً في الجنون بالولايات المتحدة فثبت عنده بالإحصاء أن أكثر الولايات عرضة للجنون هي التي كثر تعاطي الأعمال الصناعية فيها في جنوبي البلاد. أما البلاد الزراعية فإن المصابين بها أقل من ذلك فتجد في مقاطعة الماساشوست مجنوناً في كل 348 ساكناً على أنك لا تجد غير مجنون واحد في كل 935 من مقاطعة الأركانساس. والجنون بين السود أقل انتشاراً منه بين البيض. ومادام الزنوج نازلين في الأرياف فهم في مأمن من ضياع العقل ولكن متى نزلوا الحواضر وأخذوا في مجاراة البيض ومجاذبتهم حبل الجهاد الاجتماعي يكثر فيهم هذا الداء فيملؤون البيمارستانات والمستشفيات. ومن أمراض هذا القرن ما عرفه أطباء الأمريكان من مرض دعوه نوراستينا أو ضعف المجموع العصبي. مرض يكثر انتشاره في البلاد التي تزدحم فيها أقدام السكان. ولم يعرفه قدماء الأطباء فخلطه بعضهم بفقر الدم وبعضهم بالهستيريا ومعظم المصابين به ممن صرفوا قبل الوقت قواهم العصبية في الإفراط بالشهوات من الرجال وممن ضعف تركيبهن النامي من النساء بتعدد الحمل والرضاع وممن أصابتهم خطوب وأهاويل واستولى عليهم أرق متتابع. بل ويصاب به أيضاً من صرفوا أوقاتهم منذ طفولتهم في استعمال قواهم العقلية بما لا تسمح به تراكيبهم ولا يعوض الغذاء ما يصرفونه من دقائق الدماغ على نحو ما ترى شباناً أنجزوا دروسهم ولم يستطيعوا التغلب على مصاعب الحياة فخانتهم قواهم وجهادهم فأضاعوا الثقة بأنفسهم وظنوها عجزت عن الغلبة على ما صادفوه في طريق حياتهم من المشاق فسدت قلة القوة الحيوية في وجوههم سبل الأعمال، وقلبت لهم تقلبات الزمن ظهر المجن، فأمسوا ولا يرون الأمور إلا من وجهتها التي لا ينبغي أن ينظر إليها فيحدث عندهم كل ما يرتاح إليه نظراؤهم كدراً ولهفاً. وتختلف أعراض هذا الداء حتى في الشخص الواحد في كل دور من أدواره ويكثر شيوعه بكثرة الشقاء الاجتماعي وتعدد أسباب الجهاد في الحياة. ومن أمراض هذا القرن ابتلاء بعضهم بالحقن بالمورفين تخفيفاً لبعض آلام تصيبهم أو تفادياً من تصور عوارض يخشون الوقوع بها وقد ابتليت المدنية الغربية بهذه الوصمة كما ابتليت المدنية الشرقية في الهند والصين وتركيا بوصمة التخدر بالأفيون. ومعظم من

يخدرون حواسهم بالمورفين تسكيناً للآلام والأوصاب هم أهل العقول الكبيرة وربما كانوا ممن يعجب الناس بمواهبهم العلمية. وثلث المصابين به من الأطباء. وفيهم قادة الجيوش ورجال السياسة. وقد أقيمت مستشفيات في إنكلترا وألمانيا وفرنسا (وأميركا) ليقلع الداخلون إليها عن عادة استعمال هذا المخدر بالوسائط العلمية والعملية. ومن مفسدات الجنس البشري في هذا القرن التسمم بالكحول فقد زاد صرف المشروبات الروحية في النصف الأخير منه حتى قدر أحدهم خمسة من المائة يموتون في مستشفيات باريس من فعل الكحول. وأوربا سواء في استعمال الخمور اللهم إلا الأقاليم الشمالية الباردة والرطبة منها مثل روسيا والسويد ونروج وبلجيكا فإن شرب الكحول مألوف فيها كل الألفة ويفرط السكان في تناوله وخصوصاً طبقات العملة منهم. فقد أصاب الفرد في فرنسا سنة 1876 أربعة ليترات من الكحول في السنة وأصاب الفرد في ألمانيا خمسة وفي إنكلترا ستة وفي روسيا عشرة إلى اثنتي عشر إلى عشرين لتراً بحسب الولايات والصناعات. ولم يجد فرنسا إكثارها من وضع الضرائب على الكحول إذ لم ينقص شاربوه. والتسمم بالمسكرات أخف وطأة في البلاد التي تجود فيها الكروم مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وجنوبي فرنسا وقلما يصيب الفرد فيها غير لتر واحد أو لترين في السنة. واختلفت بلاد الغرب في وضع قوانين لبيع المشروبات فاكتفى بعضها بالاحتكار وبعضها بضرب الضرائب الفاحشة. ونشأت فيها عدة جمعيات تحض الناس على الامتناع عن المسكرات. وهذه الجمعيات تعظم فائدتها كلما كثرت في كل صقع وناد وساعدتها الإرادة الشخصية. وقد زاد عددها في إنكلترا ونورمنديا وسويسرا والسويد يعرف القائمون بأعبائها بني قومهم بمضار الكحول الطبيعية والأدبية والعقلية. وأن الحكومات لتحسن صنعاً إذا أرادت معلمي المدارس على أن يقرئوا الأطفال شيئاً في قواعد الصحة ويدلوهم على ما تحدثه الكحول من سوء الأثر في الجسم وما ينتج الامتناع عنها من سعادة المرء والأسرة.

تعليم اللغات

تعليم اللغات إن تعليم اللغات على الطريقة التي جرى عليها الغربيون واقتبسها المشارقة قد تكون نظرية أكثر مما هي عملية فيطول أمرها ويصعب تناولها. ولطالما رأينا من يترجم أشعار شكسبير الإنكليزي أو بوالو الفرنسي وإذا رمته الأقدار في شوارع لندن أو باريس لا يطاوعه لسانه أن يلفظ كلمات يهتدي بها لوجه طريقه. ذلك لأن الطريقة في تعلمه تلك اللغة الأجنبية هي عين الطريقة التي يستخدمها الأوربيون في تعليم الصم والبكم بل عين النهج الذي ينهجه المغاربة في تعليم إحدى اللغات الميتة من لاتينية ويونانية أو إحدى اللغات الحية من إنكليزية وفرنسية وإيطالية وغيرها. إذ يكون تدريس النحو والصرف والترجمة من الكتب هو العدة في إتقان اللغات ويسهل على المعلم أن يدرس تلميذه على هذا النحو وربما أخذ في تعليمه لغة وهو لا يحسن أن يؤلف بين جملتين صحيحتين في تلك اللغة التي عهد إليه تدريسها ولم يجود التلفظ بها فكان شغله الشاغل تعليم تلامذته أصول التصريف والإعراب والترجمة على حين قد ثبت أن الدارس قد يستظهر قواعد لغة وقوانينها ولا يبرع في اللغة نفسها. وأسقم المذاهب في تعلم لغة أن يتكلم المرء بلغته في خلال تعلمه لغة غيرها. من أجل هذا قضت الحال أن تكون دراسة قواعد الإعراب والتصريف بعد معرفة اللغة معرفة عملية لا نظرية ولا تفيد الترجمة والنقل إلا إذا توفرت للطالب بادئ بدء معرفة الأساليب في اللغة الغريبة. فعلى من رام أن يتكلم لغة ويكتب فيها أن يفكر في تلك اللغة ويكون شعوره شعور أهلها فيها لا أن يصيغ تراجم وينقل جملاً. فتستدعي الأفكار والانفعالات للحال ما يحتاج إليه الطالب من الألفاظ التي يعبر بها عنها فتصير اللغة التي يتعلمها لغة ثانية له ولا تكون الترجمة من لغته أو إليها إذا دعت الحال حرفاً بحرف بل على طريقة تنقل بها الصورة إلى التعبير عنها. وقلما يسمع المتعلم في معظم المدارس اليوم صدى اللغة التي يتعلمها ويقتضي له أن يربي عليها أذنه وذاكرته ما أمكن. وما أشبه المدرس وهو يشرح للدارس دروسه بلغته الأصلية الابام تود أن تعلم طفلها وهوالكن تمام قواعد الفعل الماضي وتصريف الأفعال الشاذة بدلاً من أن تعنى بتعليمه أن يحسن تلفظ الكلمات الأولى التي يحاول لفظها. وما فتئ تعلم اللغات يختلف باختلاف الاجتهاد في كل قوم ومعظمه دائر في الغرب منذ

ثلاثين سنة على طريقتين وهما إما أن يقيم المتعلم زمناً في بلد اللغة التي يريد تعلمها أو أن يكون أهل الطفل في سعة من العيش فيتخذون له مؤدباً أو مؤدبة يعلمه اللغة بالعمل بين ظهراني أهله وأسرته. وقد ابتدع الأستاذ برليتز الأميركاني طريقة سهلة لتعليم اللغات جرى عليها بعضهم في أميركا وأوربا فأسفرت عن نجاح أكيد. وطريقته عبارة عن نظر عقلي وعلم عملي وبلفظ آخر نظرٌ في المحسوسات لا المجردات إذ اللغة عبارة عن أصوات محكية لا عن إشارات مكتوبة. والتعليم سماعي أولاً ثم نظري. ولا يعمد في طريقته إلى الترجمة ولا إلى النقل ولا يستخدم فيها الطالب معجماً ولا يستصحب كتاب قواعد يل يتعلم الإنسان القوانين بعد لإكمال المعرفة العملية على نحو ما يتعلم الطفل لغة أبيه وأمه. وليس في تعلم القواعد نفع حقيقي إلا متى عرف المرء اللغة فالقواعد تشرح اللغة شرحاً علمياً فتبحث عن علل يتأتى الاستغناء عنها بادئ بدءٍ وقلما تنفع في تلقين اللغة شأن مصور لا يحتاج إلى إتقان العلوم الطبيعية والكيماوية ليصنع صوراً شمسية بديعة. ما اللغة في الحقيقة إلا صورة محكية من الحياة فاقتضى في تعلمها أن يسير الإنسان من نفس الحياة لا أن يعمد إلى أشكال من التعبير لا تمس ولا تتحرك. وقلما تتلاءم الألفاظ وصور الأفكار بين لغة وأخرى كل التلاؤم فالبداءة بالترجمة الحرفية من لغة إلى لغة يراد تعلمها إضاعة للوقت وإتعاب للذهن على غير طائل. ومن العسر المتعذر أن يرسم المرء صورتين رسماً خفيفاً على حين لا يضع إحداهما على الأخرى وكذلك الحال في اللغات فقد امتنع أن يحكم وضع لغتين بعضهما على بعض. واللغة بموجب هذه الأصول الجديدة عبارة عن محادثة دائمة باللغة الغريبة فكل ما يقع نظر التلميذ عليه مباشرة يكون له منه مادة درس وموضوع تعلم. وذلك بتربية الأذن والحواس الصوتية. فيلقن الأستاذ تلميذه حسن اللفظ وسرعة التركيب فيدرس الأفعال الأولى بالأعمال والحركات يقوم ويذهب إلى اللوح الأسود فبكتب ويفتح الباب ويرفع الكتاب ويضعه ثم تعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة يتزايد كل يوم عددها بسرعة. فيكون للتلميذ بهذه الطريقة في تأليف الجملة ما يلزمه من أوليات القواعد والروابط. والأمم بأسرها تتعلم لغاتها بالعمل أولاً ثم بالنظر. فيتعلم المتعلم ما تمس حاجته إليه إلى أن يكتب بدون غلط ويتعلم التلميذ أولاً معاني الكلمات الغريبة ثم يلقن التمرينات

العديدة بعد معرفة اللغة معرفة فطرية فمعرفة عقلية. ومن اللازم اللازب الاعتياد على الصور قبل القواعد. ثم يبدأ المعلم بالسؤال فيجيبه المتعلم ولا يزالان ينتقلان من البسيط إلى المركب ومن شرح المفردات إلى تفسير العبارات ويكون كل ذلك باللغة التي يراد إتقانها. وللفظ في هذه الطريقة المقام الأعلى. ولم يكن يعنى بتقويمه من قبل. والأساتذة الذين يحسنون التلفظ بلغة ما هم ممن تعلموها على الأسلوب الطبيعي في طفوليتهم أو أتقنوها بمقامهم في البلاد التي تتكلم فيها تلك اللغة. وجودة التلفظ هو روح اللغة على التحقيق. ولا تعد العبارة شيئاً مهما بلغت من الضبط متى قبح اللفظ وتجلت الأعجمية فيه عياناً. ومن الهجنة أن التلفظ لا يكاد يصلح إذا فسد لأول أمره. وصعب على الإنسان ما لم يعود. فالطريقة المشار إليها مغايرة لطريقة الترجمة المألوفة في الأغلب إذ كل معرفة يرشد إليها المتعلم على هذه الصورة لا تحسب ناقصة الجهاز مشوشة الأسلوب. وقلما تجد الألفاظ في لغة ما يقابلها في لغة ثانية ولكل لغة اصطلاحاتها الخاصة بها ليس للترجمة مهما أتقنت أن تنقلها على أصلها إذ التصورات التي تمثلها لغة لا تتحد مع تصورات تمثلها ألفاظ لغة أخرى اتحاداً ذاتياً معنىً ومبنىً. كتب أحد الغرباء إلى فنيلون العالم الفرنسي المشهور إن لي منك يا مولاي أمعاء والد يريد أن يقول قلب والد وقال الفونس الثاني عشر ملك إسبانيا وقد جاء قصره في يوم احتفال: أتود أن تتعب معي نحو النافذة يعني بذلك أن تقترب نحو النافذة. ولو تعلم ذاك الكاتب وهذا الملك أن يتكلما الفرنسية على طريقة الأستاذ برليتز إذاً لنجيا من هذا الغلط الشائن وكان شأنهما في سهولة التعبير وجودة التصوير شأن أولئك التجار والسوقة ممن ينزلون بلاداً لا يحسنون لغتها فما هو إلا قليل حتى يمرنوا على تكلمها زمناً فيحسنونها ولا إحسان من تعلموها على دكات المدارس وهم يقلبون المعاجم ويتأبطون كتب نحوها وصرفها وبيانها ناقلين ناسخين مستظهرين ناسين. وطريقة برليتز هذه أن يستعمل أولاً اللغة المتعلمة خاصة وأن يتابع التصور في اللغة الغريبة مباشرة بدون وساطة اللغة الأصلية وأن تُعلَّم أسماء الأعيان بقوة الحس وتعلم أسماء المعاني بتتابع التصور ويدرس النحو بالأمثلة والشواهد.

هذا مذهب الأستاذ برليتز في إتقان ملكة اللغات وقد انتقل من نيويورك إلى باريس عام 1889 فأسست في هذه العاصمة أول مدرسة على تلك الطريقة وانتقل هذا المذاهب في تلك السنة إلى إنكلترا وألمانيا فأسست في كل من لندن وبرلين مدارس لهذا الغرض. وما برحت مدارسها تتكاثر في الأصقاع الأوربية حتى كانت في بدء هذه السنة 242 مدرسة في أوربا وحدها وكلها أسفرت عن ارتقاء واقتصاد في الوقت والمال وطريقة القائمين بهذا الأمر أن يكون لكل تلميذ أستاذه الخاص به فيأخذ هذا يعلم تلميذه ما يقع نظره عليه في قاعة الدرس من منضدة وكرسي وكتاب وباب ونافذة يلفظها بلغتها ولا يزال يكررها المتعلم حتى يتقن التلفظ فإذا نفذت المسميات لدى الأستاذ في الغرفة يعمد إلى صور سهلة واضحة رسمت على صفحات مجموعة رسوم فما هو إلا أن يتعلم التلميذ أسماء الأشياء الواقعة تحت حسه مع الألوان التي يمتاز بها كل منها ثم ينتقل إلى صفات الحجم وأفعال الحركات والأعداد. فإذا أنجز درس الأشياء يشرع المعلم في اختيار جمل يكون التلميذ قد عرف أكثر مفرداتها. فلا يمضي ثلاثون درساً إلا وقد عرف التلميذ الأفعال الشائعة في الاستعمال والمفردات التي تدخل غالباً في الأحاديث العامة ويتمكن في ستين درساً من بيان فكره أصح بيان ف يكل ما له علاقة بمجرى الحياة الاجتماعية العادي. ويحسن في اختيار المعلمين أن يكونوا ممن لا يعلمون لغة المتعلم. ومما يضحك ما وقع لولد أحد كبار المنشئين الفرنسيين وكان يدرس الألمانية على طريقة برليتز قيل أنه لما بلغ به المعلم إلى تمييز الفعل المتعدي من اللازم لم يفهم التلميذ المراد من المتعدي واللازم وأخذ معلمه يشرحهما له بالإشارة تارة والتشبيه طوراً فلم يفلح وكان تلميذه معه كأعجم طمطم لا يفهم ولا يُفهم. وأبى الأستاذ على تلميذه أن يفسر له شيئاً بلغته مع إلحاحه عليه في ذلك وراح الطفل إلى دار أبيه وقد بلغ منه الغيظ وأنشأ يقلب كتاب نحوه يفتش عن الأشكال فاهتدى بنفسه إلى حله وشكا أمره إلى والده فقال له: أي بني لقد أحسن الأستاذ أن أبى عليك شرح ما يريد تعليمك بلغتك ولو قاله لك لغرب عن ذهنك وأصبح لديك بعد زمن نسياً منسياً. أما الآن فإني على ثقة من أنك لا تنسى التفرقة بين الفعل اللازم والمتعدي ولو بعد مائة سنة. قال الكاتب الذي عربنا عنه هذا المبحث وقد كاد أرباب الأفكار والحصافة يجمعون على أن

اللغات الحية لا تعلم كاللغات الميتة بل أنه لابد في الأولى من المران على التكلم بها من أول وهلة وأنه ما من لغة مهما تراءى من صعوبتها على المتعلمين بادئ بدء سواء كانت اللغة الروسية أو الهندية أو العربية أو الصينية إلا ويتيسر إتقانها على طريقة برليتز في مدة تختلف باختلاف ذكاء المتعلم وصعوبة اللغة والله أعلم.

الأخلاق الفاضلة

الأخلاق الفاضلة نعمنْ بنفسي وأشقينني ... فيا ليتهنَّ ويا ليتني خلال نزلنْ بخصب النفو ... س تروَّيتهن وأظمأنني تعودنْ مني إباء الكريم ... وصبر الحليم وتيه الغني وعودتهنَّ نزال الخطوب ... فما ينثنين وما أنثني إذا ما لهوت بليل الشباب ... أهبن بعزمي فنبهنني فما زلت أمرح في قدهنَّ ... ويمرحن مني بروض جني إلى أن تولى زمان الشباب ... وأوشك عودي أن ينحني فيا نفس إن كنت لا توقنين ... بمعقود أمرك فاستيقني فهذي الفضيلة سجن النفوس ... وأنت الجديرة أن تسجني فلا تسأليني متى تنقضي ... ليالي الأمسار ولا تحزني القاهرة حافظ إبراهيم

ماهية الحياة

ماهية الحياة للشاعر بيلي الإنكليزي قدروا الحياة بأزمان وذا خطأٌ ... إن الحياة هي الأعمال والفكر إن الحياة شعور لا يراد بها ... وسم الضياء ولا أنفاس تنحصر لو فكروا جعلوها خفق أفئدةٍ ... من التأثر لكن فاتهم نظر وأطول الناس أعماراً أسدهم ... رأياً وحساً وأعمالاً لها خطر بيروت عبد الرحمن شهبندر

التمثيل في الإسلام

التمثيل في الإسلام للتمثيل يدٌ في تربية الملكات وترقيق الشعور والإحساس يعده الغربيون من العوامل في إنهاض الأمم، ويعده العامة من المسليات. وما هو إلا أُمثولات، ويراه فريق هزلاً، وما هو إلا عين الجد. وأيُّ نفس لا تتأثر بالفضيلة والرذيلة. والسعادة والشقاء. والماضي والحاضر. والمفجع والمطرب. وكأن الغرب خُصَّ بمزية التمثيل كما اختص بكثير من المزايا ولم ترج سوقه في الشرق في عصر من العصور إلا في مملكة الشمس المشرقة بلاد يابان فإن التمثيل فيها قديم كما نقل أحد الفرنجة وقد جاءت إلى بلاد الألمان ممثلة يابانية منذ بضع سنين اسمها سادايا كو من أعظم الممثلات اليابانيات فأدهشت القوم بتمثيلها. وليس من حجة تاريخية يستأنس بها على وجود التمثيل عند العرب غير عبارة كنت قرأتها في بعض أسفار كمال بك الشهير وأظن في مقدمة روايته جلال الدين خوارزمشاه تشعر بأن عرب الأندلس عرفوا التمثيل واشتغلوا به قليلاً. وما أدري على أي شيء بنى هذه الحادثة التاريخية على حين يكاد يكون في حكم الإجماع اتفاق الباحثين في مدنية المسلمين على أنهم ما عرفوا التمثيل على نحو ما كان عليه عند أمم الحضارة القديمة. قال أحد فضلاء الألمان أن التمثيل لم يشتغل به العرب بداعي غلظ حجاب النساء عندهم والحظر عليهم في الخروج والتمثيل لا يتم بدون مثول النساء فيه. ذاكرت مرة أحد الأئمة في معنى التمثيل عند المسلمين فقال أنه من خصائص الجنس الآري وأن الجنس السامي ومنه العرب لا يعرف التمثيل ولا شغل نفسه به لأن حالته لا تقتضي ذلك. ولعل الفرس ألفوا كتاب ألف ليلة وليلة لأنهم من جنس آري وفي هذا الكتاب شيء من التمثيل. والعلوم والفنون تحدث في الأمم بحسب الدواعي والبواعث وفي العربية شيء من الروايات وقطع تمثيلية ولكنها مبعثرة غير منظمة. وسألت أحد الحكماء عن ذلك فقال ليس التمثيل طبيعياً في الأمم والعرب يأنفون منه لما عرفوا به من الأخلاق فيرون من سقوط المروءة أن يمثل مجلس الأمير أو الوزير وإن كان لا يخلو من حكمة فكيف بمجلس صبابة وغرام. أما اليونان فقد ابتدعوا التمثيل لأن لهم خيالات وتصورات خصوا بها دون سائر الأمم ونقل الأوربيون التمثيل عن اليونان لأنهم أرادوا أن يتشبهوا بهم حذو القذة بالقدة. وهناك أسباب أخرى زهدت المسلمين في التمثيل

ذلك لأنهم أمة لم تنقل عن غيرها إلا ما مست حاجتها إليه وانطبق مع عاداتها وليس العرب أمة خيال بل أمة حس وحقيقة. هذا ما قاله العالمان المشار إليهما. وأنت ترى أن التمثيل في بلادنا حديث النشأة. كانت بعثته الأولى سنة 1382هـ في سورية ومنها انتقل إلى مصر. وما برحت حاله تتقلب بين هبوط وصعود وإن لم يعد ذلك صعوداً بالنسبة للأمم الراقية. وليس ذلك فيما أحسب إلا لانقطاع الرغبات في الآداب العربية واقتصار القوم من التمثيل على الأغاني والمناظر لا على المعنويات والجواهر.

التناسل الغريب

التناسل الغريب سمعت وأنا صبيٌّ رجلاً من سراة بغداد يقول لوالدي يوماً أن في ضواحي مدينتنا شيخاً كبيراً له من الولد وولد الولد ما يربو عددهم على خمسمائة نسمة ذكوراً وإناثاً. قال وكان ربُّ هذه العيلة يدعو من ولدوا منه كل شهر إلى داره الخاصة به ويأدب لهم مأدبة يمنح في ختامها كل فرد من أفرادهم قطعة من الدراهم بثلاثة قروش. يريد بذلك اتصال الصلات الأبوية بين الأصل والفرع. وربما سأل أحدهم أو إحداهن وهو يستعرضهم عن اسمه أو اسم أبيه وأمه لأنه كان بلغ سناً تغرب فيها عن الذهن الأسماء. سمعت هذا واستعظمت العدد لكن مقال البغدادي لا يخلو من حقيقة وإن حوى شيئاً من المبالغة شأننا معاشر المشارقة في تكثير الأرقام. ومازلت أيضاً استعظم ما يُروى من أن أبا الطيب المتنبي كان يركب ويركب معه خمسون فارساً من ولده فإذا سُئل عنهم يجيب بأنهم عشيرته خشية عليهم من العين بزعمه. إلا أن حادثة أولاد المتنبي وهم عشر عدد ذاك العراقي يقبلها العقل سيما وإنا نرى لعهدنا ما يشفع بها من تكاثر الذرية فقد اتصل بي أن في إحدى بلاد الأقاليم في مصر أسرة من صلب واحد تتجاوز ثمانين نسمة على أن الأسرات التي يناهز عددها العشرات كثيرة في هذه الديار. وفي إحدى الصحف الإفرنجية أن للترنسفال من هذا المعنى حظاً وافراً قالت: إن قواد الترنسفاليين في حربهم الأخيرة لم يكونوا وحيدين في عيالهم وربما كان لأكثرهم من البنين ما يزيد على عشرة أو خمسة عشر. وإن دار الحرب صمت رجلاً وستة من أولاده يحملون السلاح حمله له. ويقاتلون أعداءهم مثل قتاله أو أشد. وفي الترنسفال أيضاً امرأة رزقت ثمانية عشر ولداً. ومن المشهودات اليوم أن المهاجرة الأول إلى أميركا قد ضعف تناسلهم حتى استدعى هذا الأمر نظر الرئيس روزفلت وأخذ يستطلع طلع آراء العلماء في ملافاة خطبه الجلل. ذلك لأن حياة المدن وما يلقاه أهلها من النصب وخصوصاً في الولايات المتحدة قد أضعفت مادة حياة أولئك الطوارئ مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الجنس البشري. بيد أن من غيروا مساكنهم وراحوا إلى داخلية البلاد منهم أمسوا يرزقون من الأولاد كأكثر المتناسلين وكثير فيهم من بلغ ولده العشرة. وفي غاليسيا اليوم أسرة عدد أعضائها 326 كلها من الجيل الأول والثاني وهي أكبر أسرة

في العالم. وربها من شيعة المورمون القائلة بتعدد الزوجات. ويكثر بين اليابانيين حتى في المدن من يرزق عشرة بنين وبنات أما في القرى فيكثر من يكون له عشرون ولداً. والروس كثير نسلهم. وقد عرض أحدهم ذات يوم على الإمبراطورة كاترينا الثانية تسعين ولداً من صلبه. وفي قازان خمس وعشرون أسرة فيها ثلاثون ولداً أحياء. ومن الدلائل على كثرة تناسل الروسيين أن إحدى نسائهم ولدت ولدها الثامن عشر وهي في السنة السادسة والتسعين. ولو لم يثبت هذا الخبر عند العلماء بالبرهان الصحيح لعدوه من الأحاديث الموضوعة إذ مازال الناس يرون من المستحيل بل رابع المستحيلات حمل النساء في سن اليأس. ولئن خف بين أهل إسبانيا معدل التولد إلا أنك لا تزال ترى في بعض أقطارها أسرات يعد أفرادها بالعشرات. وفي العرب أسرات كبيرة العدد كثيرة الحصا وإن هلك بعض بنيهم صغاراً لقلة العناية بصحتهم ولعل ذلك قضى أن تكون حركة الجنس العربي على وتيرة واحدة لا قلب فيها ولا إبدال. وجماع الأمم الغربية تتناسل تناسلاً غريباً ما خلا فرنسا التي منيت بقلة النسل وعقلاء أهلها في المقيم المقعد من سوء عاقبة ذلك.

التربية والتعليم

التربية والتعليم العمل والعملة في الحديث كلكم حارث وكلكم همام. والحارث الكارث واحتراث المال كسبه والإنسان لا يخلو الكسب طبعاً واختياراً. والهمام مشتق من هم بالأمر يهم إذا عزم عليه. قال الراغب الأصفهاني: العمل كله فعل يصدر من الحيوان يقصده فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات والعمل قلما ينسب إلى ذلك ولم يستعمل في الحيوانات إلا في قولهم الإبل والبقر العوامل. قال علماء اللغة: واعمله استعمله واعتمل اضطرب في العمل وقيل عمل لغيره ورجل عمِل وعمول ذو عمل ورجل عمول كسوب. والعُمالة رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل والعملة العاملون بأيديهم ضروباً من العمل في طين أو حفر أو غيره. والعامل هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله. واستعمل غيره إذا سأله أن يعمل له واعمله أعطاه عمالته. قال باور: يشكو بعض العملة من حظهم وسوء طالعهم ويقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما خلقنا عملة وما حالهم في شكواهم إلا حال من يشكو من كونه خلق إنساناً. فالعمل قانون الطبيعة البشرية وهو شريف بذاته في نظر العقل مقدس مبارك كيفما كانت الطرق التي يجري عليها والغاية التي يرمي إليها. والعملة صنفان: صنف يعمل ذكاؤهم فقط ويدعون عملة الفكر أو أرباب الصناعات الفكرية وهم الذين يتعاطون الأعمال الملقبة بالأعمال الحرة. والصنف الآخر طبقة العملة بأيديهم وأجسامهم وهم أوفر عدداً وأكثر سواداً. هؤلاء العملة هم الأولى يعملون في القرى والمدن ويتبارون في استخراج نتاج الطبيعة على اختلاف عناصرها ويكيفون تلك النتائج بحيث تصلح لما يتطلبه المجتمع من الحاجيات. وهذا الضرب من العملة قسمان أيضاً: زراع وصناع والفئة الثانية مفضلة إلا أن كلتيهما حريتان بالاعتبار والإكرام. حياة العامل أضمن مراتب الحياة الإنسانية بأسرها لأن له من فكره رأس مال لا يسلبه إلا بفقد صحته وزوال كيانه. وليس هذا النوع من الثروة عرضة للأخطار كسائر أنواع الثروة إذ العمل للمجتمع البشري بمثابة التنفس في الحياة ولا يتأتى توقيف حركة العمل والتنفس

بدون أن يؤدي هذا الانقطاع إلى بحران عظيم قد يودي بصاحبه إلى الفناء إذا دام على أشده. وإن حياة الصناع لتستدعي نشاطاً أكثر وحركة دائمة وإذا حدث في الأحيان أن فترت الصناعة موقتاً في بلاد فإن بلاداً غيرها تتطلب نزول أهلها فيها. ومن اعتاد أن يستخدم قواه الطبيعية مدفوعاً بعامل العقل والذكاء يجد له بسطة في الرزق حيث حل من أرض الله. قال أحد عقلاء الأقدمين ليس للقدر سبيل إلي فيسلبني مالي لأني حيثما رمت بي تصاريفه لا أخاف الفاقة ولا اضطر إلى سداد من عوز إذ أحمل ثروتي كلها معي وهو كلام يصدق على العالم كما يصدق على العامل كل الصدق. لأن العامل لا يعدم من يحتاج إليه في أي ناحية رمته فيها يد الأقدار وكيفما قلبته صروف الدهر فعيشه أكثر ضماناً من عيش العالم مادام له من عمله مهارة، ومن جسمه قوة، وما عليه أن يتعلم لغة قوم ينزل عليهم لأن عمل يديه ينوب في خطاب من يود خطابه. وللعامل من الاستقلال ما يفوق به سائر طبقات الناس وإن لم يتأتَ لامرئ في العالم أن يستمتع بالاستقلال المطلق. وذلك لأن العامل في غنى عن التزلف والملق لا يحتاج إلى من يمد إليه يد المعونة إذ قلما يحاذر أن يكون له ممن يجاريه ما يحرمه التمتع بعمالته فإن من يعمل له محتاج للعامل الذي يفوق غيره في أمانته ومهارته. فكما أن العامل يحتاج لمن يعمل له فهذا محتاج للعامل أيضاً والحاجة بينهما متبادلة فليس في ذلك غضاضة على العملة البتة.

صحف منسية

صحف منسية نصائح ابن حزم باب عظيم من أبواب العقل والراحة وهو طرح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هو العقل كله والراحة كلها. من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وأن المها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسر فقد صار مسروراً بالكذب وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص. وإن كان بباطل فصبر اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر. لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويحبونك وأن العلماء يحبونك ويكرمونك لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة. لو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبطه نظراؤه من الجهال لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار منه فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة. لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه. من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر وكغارس الشعراء (شجرة من الحمض ليس لها ورق ولها هدب تحرص عليها الإبل حرصاً شديداً تخرج عيداناً شداداً) حيث يزكو النخل والزيتون. نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى وكتشميمك المسك لمن به صداع من احتدام الصفراء. الباخل بالعلم ألوم من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل. من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه فيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزيتون بالهند وكل ذلك لا ينجب. احرص على أن توصف بسلامة الجانب وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون

منك حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك. وطن نفسك على ما تكره يقلُّ همك إذا أتاك ولم تتضر بتوطينك أولاً ويعظم سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته. الوجع والفقر والنكبة والخوف لا يحس أذاها إلا من كان فيها ولا يعلم قيمتها إلا من كان خارجاً عنها وليس يراه من كان داخلاً فيها. الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها من كان فيها. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها إلا من كان من أهلها ولا يعرفه من لم يكن منها. التهويل بلزوم زي ما والاكفهرار وقلة الانبساط ستائر جعلها الجهال الذين مكنتهم الدنيا أمام جهلهم. ثق بالمتدين وإن كان على غير ديتك ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك. من استخف بحرمات الله فلا تأمنه على شيء تشفق عليه. وجدت المشاركين بأرواحهم أكثر من المشاركين بأموالهم وعلة ذلك طبيعية في البشر إنما تأنس النفس بالنفس فأما الجسد فمستثقل مبروم به ودليل ذلك استعجال المرء بدفن حبيبه إذا فارقته نفسه وأسفه لذهاب النفس وإن كانت الجثة حاضرة بين يديه. خطأ الواحد خير في تدبير الأمور من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد لأن خطأ الواحد في ذلك يستدرك وصواب الجماعة يضري على استدامة الإهمال وفي ذلك الهلاك. سوء الظن يعده قوم عيباً على الإطلاق وليس كذلك إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة أو إلى ما يقبح في المعاملة وإلا فهو حزم والحزم فضيلة. من عيب حب الذكر أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها وكاد يكون شركاً لأنه يعمل لغير الله تعالى وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير لكن ليذكر به فواجب على المرء ترداد النصح رضي المنصوح أو سخط تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً أو بتعريض لا تصريح إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك فلابد من التصريح ولا تنصح على شرط القبول منك فإن تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح وطالب طاعة وملك لا مؤد حق ديانة وأخوة. . . لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته فهذا فعل الأرذال ولا تكتمه ما يستضر بجهله فهذا فعل الشر. الناس في بعض أخلاقهم على تسع مراتب فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب وهذه صفة أهل النفاق والعيابين. وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم. وطائفة تذم في المشهد والمغيب وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين. وطائفة تمدح في الوجه والغيب

وهذه صفة أهل الملق والطمع. وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهد ويثنون بالخير في المغيب أو يمسكون عن الذم وأما العيابون البراء من النفاق والقحة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب. مما ينجع في الوعظ الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله فهذا داعية إلى عمل الخير وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا هذا وحده وهو أن يقتدي به من يسمع الثناء ولهذا نوجب أن نؤرخ الفضائل والرذائل لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف. وتأملت كل ما دون السماء وطالت فكرتي فوجدت كل شيء فيه من حي وغير حي طبعه إن قوي أن يقلع عن غيره من الأنواع كيفياته ويلبسه صفاته فترى الفاضل يودُّ لو كان الناس فضلاء وترى كل من ذكر شيئاً يحض عليه بقول أو فعل أمراً مداوماً وكل ذي مذهب يود لو كان الناس موافقين له وترى ذلك في الغياض إذا أحال بعضها على بعض أحاله إلى نوعيته وترى ذلك في تركيب الشجر وفي تغذي النبات والشجر والماء ورطوبة الأرض وإحالتها ذلك إلى نوعيتها.

نكات الوهراني

نكات الوهراني كتب الوهراني على لسان بغلته إلى الأمير عز الدين موسك فقال: المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام أمير المؤمنين، نجاه الله من حر نار السعير، وعطر بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير، وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح الأدعية من الجم الغفير، من الخيل والبغال والحمير، وتنهي كل ما تقاسيه من مواصلة الصيام، وسوء القيام، والتعب في الليل والدواب نيام، قد أشرفت مملوكته على التلف، وصاحبها لا يحتمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يحل به البلاء العظيم، إلا في وقت حاجتي إلى القضيم، لأنه في بيته مثل المسك والعبير. . . فشعيره أبعد من الشعرى العبور، لا وصول إليه ولا عبور، وقرطه أعزُّ من قرط مارية، لا يخرجه بيع ولا هبة ولا عارية، والتبن أحبُّ إليه من الابن، والجلبان، أعز من دهن البان، والقضيم، بمنزلة الدر النظيم، والفصة، أجمل من سبائك الفضة، وأما الفول، فمن دونه ألف باب مقفول، فما يهون عليه أن يعلف الدواب، إلا بعيون الآداب، والفقه اللباب، والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب. ومعلوم يا سيدي أن البهائم، لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم، ولا تطرب إلى شعر أبي تمام، ولا تعرف الحارث بن همام ولاسيما البغال، التي تشتغل في جميع الأشغال، شبكة من القصيل، أحب إليها من كتاب التحصيل، وقفة من الدريس، اشتهى إليها من فقه محمد بن إدريس لو أكل البغل كتاب المقامات، مات، فإن لم يجد إلا كتاب الرضاع، ضاع ولو قيل له أنت هالك، إن لم تأكل موطأ مالك، ما قبل ذلك. وكذا الجمل، لا يتغذى بشرح أبيات الجمل، وحزمة من الكلاء، أحب إليه من شعر أبي العلاء، وليس عنده طيب، شعر أبي الطيب. وأما الخيل، فلا تطرب إلا لسماع الكيل، وإذا أكلت كتاب الذيل، ماتت في النهار قبل الليل، والويل لهاثم الويل. ولا تستغني الأكاديش، عن الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الحريش. وإذا أطعمت الحمار، شعر ابن عمار حل به الدمار، وأصبح منفوخاً كالطبل، على باب الإسطبل. وبعد هذا كله قد راح صاحبهما إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف. وطلب من بيته خمس قفاف، فقام إليه بالخفاف، فخاطبه بالتقعير، وفسر عليه آية العير، وطلب منه ويبة (كذا) شعير، فحمل على عياله ألف بعير، فانصرف الشيخ منكسر القلب مغتاظاً من الثلب، وهو أنجس من ابن بنت الكلب، فالتفت

إلى المسكينة، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة، وقال لها إن شئت أن تكدي فكدي، لا ذقت شعيراً ما دمت عندي: فبقيت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة، فقال لها العلاف لا تجزعي من حباله ولا تلتفتي على سباله، ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكون عندك أخس من عنفقته.

وصف الجرائد

وصف الجرائد مقتبس من فصل للمرحوم عبد الله باشا فكري لا يذهب عليك أن مثل هذه الصحف الخبرية وأوراق الحوادث الدورية، ليس من شأنها أن تختص بأمة معلومة من الناس، على رأي واحد من الاعتقاد، في بقعة مخصوصة من الأرض، حتى يتيسر لصاحبها أن يتقيد بعوائدهم، ويبني على قواعدهم، ويراعي ما يكون موافقاً لعقائدهم، بل الشأن فيها أن تنتقل من بلد إلى بلد، وتتداول من يد إلى يد، بين أقوام مختلفي الطباع، متبايني الأوضاع، متخالفين في العقائد، غير متفقين في العوائد، فالإتيان بما يوافق جميع الآراء، ويطابق عامة الأهواء، توفيق بين الأضداد، وأصعب من خرط القتاد، وإنما هي كالمطر ينزل على الأرض الطيبة والخبيثة، ثم تنبت كل بحسب طينتها، وكالمغني يقول ما ينطق به لسانه، وينبعث إليه خاطره، ثم كل سامع يذهب فيه مذهبه، ويأخذه على حسب ما عنده، ويتوجه منه إلى ما قصده، ويوجهه لما أراده، على وفق غرضه وهواه، وعلى حسب نظره ومرماه، وكالبضاعة المعرضة للبيع المعروضة على أنظار العامة، يأخذ منها كل واحد ما يعجبه ويستحسنه نظره، فربما كان الشيء الواحد مستحسناً عند واحد من الناس لوجه مخصوص مذموماً عند آخر لا يذمه إلا لذلك الوجه الذي استحسنه به الأول. والعاقل الكيس يستفيد من كل كتاب يراه ما يرضاه ويدع ما وراءه مما يجده خلاف ما يعتقده ولا يدع كثيراً ينفعه لقليل لا يضره. هذا تفسير الكشاف فيه مواضع من الاعتزال أفيترك اللبيب المحصل من أهل السنة ما فيه من المزايا الجمة، والفوائد المهمة، والأسرار التأويلية، لما معها من تلك المواضع الاعتزالية، لا بل يستفيد محاسن ما فيه، ويترك ما وراء ذلك مما لا يرتضيه، ولذلك عكف عليه المحصلون، واعتنى بخدمته العلماء العاملون، بل عدّ في مناقب بعض علماء السنة السنية، أنه عكف عليه أحقاباً مديدة من الدهر، وصرف عليه مدة طويلة من العمر، اغتناماً لما فيه من العلم النافع، ولم يتركوه من أجل تلك المواضع، ومصداق ذلك ما ورد من أن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها فهو أولى بها كما قيل: إن العلوم كأثمار على شجر ... فاجن الثمار وخلّ العود للنار

مثاله رجل وجد في طريقه عقداً نفيساً فيه جوهر عظيم وفي أثنائه شيء من الخرز فإن كان فيه مسكة من العقل وذرة من التمييز أخذ العقد فانتفع بما فيه من الجوهر وما عليه مما في أثنائه من الخرز وإن كان أحمق سيئ النظر فاسد الرأي تركه لما في أثنائه من الخرز.

الغزل المصري

الغزل المصري من الجزء الثالث من ديوان الرافعي الذي يصدر بعد أشهر في التحول تقول أما ترضى مع الحب والجفا ... بأنك حيٌّ والحياةُ كثيرُ وكل الذي أبقاه مني غرامها ... بقيةُ نوم في الجفون تطيرُ كأنيَ من غاز الإنارة في الهوى ... فبينا يرى غازاً إذا هو نورُ في الرضا بعد مجلس العتاب حبيب يرينا قلبه ذا قساوة ... ويتبعها خوفاً علينا بلينه عواطفه يوم العتاب كأنما ... عقدن جميعاً مجلساً في جفونه فيأتي هواه ممسكاً بشماله ... فؤادي وأسباب الجفا بيمينهِ يقول انظري يا رقة النفس وجدَهُ ... ويا رحمة القلب اسمعي لأنينه فتحكم هاتيك العواطف بالرضا ... وتغريمه لي قبلةً في جبينهِ في صديق إذا مسه الخير كتم وإذا مسه الضر باح ولي صاحب أودعت سري حلمهُ ... ولم أدر أن الحلم فيه قريحُ إذا مسه مني على غير ريبة ... أذى خطاٌ أمسى بذاك يبوحُ أراه فنغرافاً فمن مسّ إبرةً ... وإن صغرت في جانبيه يصيح طنطا مصطفى صادق الرافعي

تدبير الصحة

تدبير الصحة أوقات الطعام للتوقيت فائدة جلية في شؤون البشر وحياتهم الاجتماعية كما أن للنظام وحسن الترتيب شأناً في النهوض والحضارة. يعرف ذلك كل من له إلمام بحال الغربيين وما استفادوه من قوانينهم على اختلاف ضرر بها. والطعام كما علمت قوام الأبدان ولا تستقيم إلا بحسن تناوله واختيار الأوقات المناسبة له وفي ذلك تدبير الصحة وراحة العقل والجسم. ولا يتأتى تنظيم الأوقات إلا في بلاد غلبت عليها الحضارة وصفت موارد عيشها وحسنت أذواق أبنائها ومهما حاول الرجل في البلاد المنحطة أن يسير على مناهج المتحضرين فلا سبيل له إلى ذلك إذ يتعذر الجري على النظام الخاص إذا لم يتقدمه نظام عام وطيب العيش أشبه بسلسلة إذا حسن انتساق بعضها أمن انتساق الآخر والعكس بالعكس. قام منذ حين جماعة من رجال الفرنسيين أولعوا باختيار الأحسن وتوفروا على التفكر في استكمال أسباب الراحة فأنشأوا يخاطبون بني قومهم في معنى محاكاة الجنس اللاتيني للجنس الإنكليزي السكوني في عاداتهم وأخلاقهم وقوانينهم وأوضاعهم موقنين بأن لا سعادة لذاك العنصر إلا بنزع ما رسخ فيه من الملكات على غابر الدهر والاهتداء بهدي السكسونيين في منازع حياتهم الاجتماعية والسياسية والأدبية. ومن جملة ما ارتأوا إصلاحه عندهم تنظيم أوقات الطعام ومعاطاة الأشغال على الطريقة الإنكليزية النافعة. قال بعضهم لو ذهب ذاهب إلى لندن عاصمة الأعمال الصناعية والتجارية لما شهد للأشغال حركة إلا الساعة العاشرة قبل الظهر حركة تتصل اتصال الشؤبوب إلى الساعة الخامسة بعد العسر. أي أن القيام بالأعمال التجارية يجري في سبع ساعات وذلك ما خلا السبت فإن المستخدمين ينقطعون عن أعمالهم الساعة الثانية بعد الظهر ولا يتعاطون شيئاً من الأعمال أيام الآحاد. فيهبُّ الإنكليزي من فراشه كل يوم ويتغذى غداء كافياً كضلعين أو ثلاثة من أضلاع الغنم أو العجول وبيض نيمبرشت وقطعة من فخذ الخنزير أو كتفه وصحفة من البطاطس وهو طعام الصباح لا كما يفعل الفرنسيين ويجري عليه معظم أهل البلاد المتمدنة في الشرق من الاكتفاء صباحاً بالشاي أو القهوة أو اللبن أو تناول شيء من المربيات والحلويات مع قطعة من الخبز السميذ أو المحمر.

فإذا ملأ المستخدم الإنكليزي معدته صباحاً بهذا الطعام لا يتناول الوجبة الثانية إلا الساعة الخامسة اللهم إلا مرة نصف النهار حيث يتناول قطعة من اللحم رقيقة في قطعة من الخبز الساندويش مع كأس من الجعة الخفيفة المعروفة عندهم ولا يقطع عمله لذلك إلا بضع دقائق ويظل هذه الساعات مكباً على عمله بلا انقطاع. ذلك لأنه ثبت للباحثين في الحياة البشرية أن الإكثار من تناول الطعام في الهاجرة ثم أخذ النفس بمعاطاة الأعمال وخصوصاً العقلية مما يمرض النفس والجسم فتكون المعدة ممتلئة لا يحتاج الجسم معها إلا إلى المحاورة والراحة ليسوغ الهضم ويأخذ الدم مجراه وهذا متعذر على أرباب الأشغال من الفرنسيين ومن حذا حذوهم من الأمم وخصوصاً إذا دعي أحدهم إلى طعام غيره وأريد على مخالفة عادته من الإكثار من الأطعمة والألوان. أما الإنكليزي فله من الغذاء الكافي الذي يقضمه ويفطر عليه ما لا يشتكي معه جوعاً ولا شبعاً ريثما ينجز أعماله اليومية. بل يكون له من طعامه ما يدب الحرارة الغريزية في جسمه على نحو ما يدبُّ الوقود في آلة التحريك والتنقيل في السكك الحديدية التي يقذف موقدها بالفحم الحجري أبداً. ولا يضيع وقته ويقطع سلسلة عمله في أبرك أوقات نهاره لأن الوقت من ذهب كما يقول المثل الإنكليزي. ومن دين كل إنكليزي أن يحتفظ بالنظام والانتظام ويرعى الواجب ويقوم بما يعهد إليه أحسن قيام وبهذا كان الهجوري في نظره مضيعة للوقت ومجلبة لصد صاحبه عن إنجاز واجباته ومفسدة للصحة. قال الكاتب الذي اقترح على قومه اختيار الترتيب السكسوني وعندي أن الفرنسيين يضيعون أوقاتهم ولا يسيرون في أعمالهم على وتيرة واحدة إذ أن البداءة بالعمل حوالي الساعة التاسعة صباحاً وجعل فاصلة فيه قدر ساعتين لتناول طعام الظهر ثم معاودة العمل إلى الساعة السابعة مما لا فائدة فيه كما هو الحال في طريقة الإنكليز فحبذا لو تقيلنا مثالهم ونسجنا على منوالهم في طعامهم وشرابهم وأعمالهم. أما نحن فنقول أننا معاشر المشارقة لو نظرنا في أحسن ما اعتاده زعماء الحضارة من الأمم في أمور معاشهم واخترنا أنفعه لنا وأمسه بحاجتنا مع تعديل يوافق كل قطر واعتدال ينطبق على مقتضيات العصر إذاً لأحسنا صنعاً وزدنا عائدة ونفعاً.

تدبير المنزل

تدبير المنزل استعمال السكر لنا كل يوم ممن يعنون بتدبير المنازل وراحة أهلها شكل جديد في تدبير الصحة فتجد فئة لا ترى غير أكل اللحوم وفئة تمتنع عنها وتكتفي بالبقول وفئة تؤثر استعمال السكر. فقد قال بعضهم أن السكر خبز الفقير وخمره. وقال غيره أن السكر هو جل ما ينتفع به المحاويج من الأدوية. وقد أكد بعضهم أن أهالي غربي الهند يستعملون قصب السكر كثيراً ولذلك تجد لهم أسناناً ناصعة البياض وكل من يستعمل القصب تأمن أسنانه العطب. والإنكليز والأمير كان أكثر الأمم استعمالاً للسكر ولذلك كانوا ممتعين بأسنان بيضاء صافية سالمة في الغالب. فالسكر هو بمثابة فحم تحمى به الأعصاب وتستعيد به الصحة قواها بعد العناء. وقد جرب استعماله مدة في عشرين جندياً في ألمانيا فكان من استعملوه أسمن وأحسن ممن انقطعوا عنه حتى أن المدمن له ليصعد العقبة الكؤود أسرع من كل من ألف التصعيد في الجبال والنجاد. ويحسن أن يذاب في الماء أو في شاي خفيف ولا بأس باستعماله مع الليمون وإذا أذيب 150 غراماً منه في لتر من الماء أو الشاي فينفع في الهضم ويدب النشاط في الجسم. حياة الفقير أفاض أحد المفكرين في تدبير مساكن العملة والطبقة الدنيا من الناس فقال إنها تتطلب حسن تدبير الصحة والجري على قواعدها من حيطان وسقوف يمكن غسلها وإزالة الأوساخ عنها ومن نوافذ كبيرة وماء على ما يحب وسرب (قبو) للمؤنة وهري أو أنبار لتنشيف الغسيل. ولعله اختار أن تكون النوافذ كبيرة حتى يتخلل المساكن الهواء والشمس فقد جاء في المثل الفرنسي يدخل الطبيب حيث لا تدخل الشمس وما أصحه من قول ولذلك ترى من يعنون بصحة البيوت يقومون على تهوية المنازل كل يوم. دواء الأرق بحث أحد أطباء مدرسة اكسفورد الجامعة في بلاد الإنكليز بحثاً دقيقاً في مداواة الأرق فارتأى أن أحسن علاج له أن يتلو المؤرق وهو على فراشة كتاباً يسهل عليه فهمه هنيهة من الزمن لا تقل عن نصف ساعة ولا تتجاوز الساعة من مثل كتب بلوتارك اليوناني أو

ولتير سكوت الإنكليزي أو أناتول فرانس الفرنسي. وارتأى غيره أن المنوماث هي الأشعار وخصوصاً القصائد الكبيرة. ونحن نرى أن تلاوة شعر كثير من شعرائنا المحدثين تجلب النوم لا محالة.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات مداواة النفوس لابن حزم الأندلسي تآليف كثيرة ضاع أكثرها بما لقيه من أضداده في حياته على ما يتمثل لك من ترجمته. وقد ظفر بعض رجال العلم في المكتبة الظاهرية بدمشق بنسخة من كتاب له في الأخلاق سماه مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل فانتدب إلى طبعه الغيور محمد أفندي هاشم الكتبي فكانت من بعض ما أحيي بالطبع من مآثر السلف الصالح في هذا العصر. اقتبست منه صفحات قليلة في باب الصحف المنسية وعسى أن يتدارك الناشر بعض ما وقع فيه من الأغلاط في الطبعة الثانية. جمع المؤلف في كتابه هذا معاني كثيرة أفاده إياها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال والإشراف على أحوال الزمان وآثر تقييدها على جميع اللذات وعلى الازدياد من فضول المال وذم كل ما سبر من ذلك وأتعب نفسه وأجهدها ليكون ذلك أفضل له من كنوز المال وعقد الأملاك. وكتب الأخلاق مما ينبغي الحرص عليه اليوم وما أجمل ما قاله أبو محمد علي ابن أحمد في الأخلاق: إنما العقل أسا ... س فوقه الأخلاق سور فحلي العقل بالع ... لم وإلا فهو نور جاهل الأشياء أع ... مى لا يرى كيف يدور وتمام العلم بالعد ... ل وإلا فهو زور وزمام العدل بالج ... ود وإلا فيجور وملاك الجود بالنج ... دة والجبن غرور عف إن كنت غيو ... راً ما زنى قط غيور وكمال الكل بالتق ... وى وقول الحق نور ذي أصول الفضل عنه ... احدثت بعد النذور ومما ختم به ابن حزم رسالته وهو مما يقتضي أن يكون دستور العمل في كل علم وعمل قوله: وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب فإياك تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المبالغة قبل أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع. وأيضاً فلا تقبل عليه

إقبال المصدق به المستحسن له قبل علمك فتظلم في كلا الوجهين جميعاً ولكن إقبال من يريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى فالتزيد به علماً وقبوله إن كان حسناً أو رده إن كان خطأ فمضمون لك إن فعلت ذلك الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم. منشآت الوهراني كتاب مخطوط في تسعة كراريس ظفرت به في بعض خزائن الكتب ولا أريد أن أدلَّ عليه إذ ما كل ما كتب تنبغي العناية بنشره. الكتاب جد في قالب هزل وعلم على مثال جهل وحقيقة في طرز خيال، تصفحته تصفح متفكه مستفيد فما رأيته خلواً من شاردة تنقل ونكتة تؤثر. كاتبه ركن الدين أبو عبد الله محمد الوهراني الجزائري من كتبة الرسائل والإنشاء في دمشق ومصر على عهد صلاح الدين يوسف وكان كما ترجمه ابن خلكان أحد الظرفاء قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين وفنه الذي يمت به صناعة الإنشاء فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تنفق سلعته مع وجودهم فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه. وقد تولى الوهراني الخطابة بداريا إحدى أمهات قرى الغوطة بدمشق وتوفي بها سنة 575هـ. هذا هو المؤلف ومصنفه أنموذج يقول بأن الرقاعة ارتقت في ذاك العصر كما ارتقت البلاغة وأن الدولة الصلاحية بما اشتهر عنها من الانطلاق وانتشار المعارف اتسع صدرها لمثل الوهراني اتساعه لأمثال البيساني للتين قوم وللجميز أقوام وكلام المؤلف على خلطه وخبطه يضحك العبوس وقلما تنقبض منه النفوس إلا لدن سماع بعض الألفاظ السخيفة التي تنبو عنها الأذواق السليمة في هذا العصر. وقد رأى القارئ أمثلة من كتابته ورقاعته في باب الصحف المنسية وهذا المؤلف أشبه بموليير ورابلي من شعراء الفرنسيين في النكات والأضاحيك ولكل أمة رجالها والناس كأسنان المشط في الاستواء. نصائح للعملة هو كتاب ألفه بالفرنسية أحد كتاب الفرنسيين المسيو بارو توخى البحث في إيجاد السبل لتحسين حال العملة فحاز استحسان الخاصة والعامة حتى منحه المجمع العلمي الباريسي

جائزة الإجادة وتدارسه بعض الراغبين في النهوض. وقد كتبه بعبارة بسيطة ليفهمه طبقات القراء كافة ويتدبروه كل التدبر يقصد المؤلف مما كتب طبقة العملة خاصة من الصناع والزراع ولكن مصنفه البديع يستفيد به كل طالع محكمة بل كل عامل في الأرض موعظة حسنة. فيتناول منه عملة بولاق وترع النيل وسائر مزارعي أرياف مصر مثلاً كما يتناول منه العاقل أكثر من الجاهل والخاصي فضلاً عن العامي والكبير زيادة على الصغير في كل قطر ومصر. وقد بحث المؤلف فيما يحول دون العامل ونجاحه وسعادته من المصاعب وأن بيده التنكب عنها ووضع المبادئ التي تنتج له طريق الفلاح والسعادة وتطبيقها على أدوار العامل الثلاثة أي حالة كونه خريجاً وعاملاً مستقلاً ومدير معمل وذكر في خلال تطبيقه لهذه الحالات ما يمكن أن يحدث للعامل من الأحوال النادرة الخاصة ويلم بما عساه يكون له من هذه الأحوال من التأثير في حياته الخاصة وعلائقه مع عياله وبين الطرق التي يتقي بها العامل عادية الأمراض ويقتصد جانباً من المال الذي يحصله بعرق جبينه مشفوعاً ذلك بما هو شائع من الأوهام بشأن العملة ورفاهيتهم رفاهية متناسبة مع حالتهم لا رفاهية يتمتع بها الرؤساء والكبراء بل رفاهية نسبية تتم لهم بها رغائبهم المشروعة التي أباح الله لهم الاستمتاع بها في هذه الحياة. وسأحصل بعض فصوله في باب التربية والتعليم لينتفع بتلاوتها بعض أهل بلادنا كما انتفع به من ألف برسمهم ووسم باسمهم. في وادي الهموم رواية حقيقية لا خيالية كمعظم ما ينشر هذه الأيام نسج بردها الكاتب الأديب محمد لطفي أفندي جمعة أحد منشئي جريدة الظاهر الغراء وهي تبحث في الشقاء الاجتماعي المستحوذ على بعض النساء قال: إني أعتقد بأن المرأة تصلح لأن تكون ملكاً طاهراً أو ملكة عادلة أو أماً رحيمة أو زوجاً فاضلة أو مدبرة عاقلة أو بغياً ساقطة أو مجرمة قاتلة وكل ذلك في يد الرجل فليجعلها كما يشاء. والذنب على الهيئة الاجتماعية لأنها ترى كل تلك الأمور ولا تمديدها للمرأة وتساويها بالرجل في كل شيء فإنه عار على عصر العلم والمدنية والحرية والفلسفة أن تبقى فيه المرأة تفجر لتأكل. . .

وفي الرواية من دلائل الإقدام ما لا يستغرب ممن تعلموا العلم المدني الصحيح وتشبعوا بآداب العصر الحاضر فكان لهم من علمهم وتربيتهم ما يدفع بهم إلى قول الحق ولو أمر في بعض الأذواق. وإنا لنحمد الله على أن رأينا في الناشئة المصرية أمثال الكاتب الموما إليه ممن يضعون الهناء مواضع النقب ولا يحفلون بالفقاقيع الفارغة في خدمة العلم والأدب.

سيرة العلم

سيرة العلم سفينة جديدة اخترع أحد الأمريكان باخرة تسير بمحرك كهربائي تقطع أربع عقد في الساعة ولها ست عشرة آلة دافعة تجعل في مؤخر السفينة وجناحها. وقد ثبتت صحة دعواه بالتجربة وستجتاز هذه الباخرة المسافة بين أوربا وأميركا في ثلاثة أيام بعد أن كانت تقطعها في عشرة وزيادة. أكبر دماغ في شبان الإنكليز اليوم شاب في الثلاثين من عمره اسمه دانا يعجب الإنكليز والأمريكان بقوة ذاكرته. وقال العلماء أن ذاكرته فريدة في العالم. وقد أكثر من إجهادها حتى صرح أهل الأخصاء بأنه لا يعمر أكثر من خمس وثلاثين سنة. ولذلك أخذ يتدارك الأمر وهو يربح في الأسبوع ثلاثة آلاف فرنك وباع دماغه بخمسين ألف فرنك قبض بعضها من أحد الباحثين ليفحص دماغه بعد موته وأوصى إذا هلك في إنكلترا أن يحزَّ رأسه للحال ويحنط ويبعث به إلى أميركا. ويقال أن دماغه يزيد نحو ثلثمائة غرام عن دماغ كوفيه الذي حاز الأولية في كبر الأدمغة. السل في القرى يقولون أن السل ينتشر بين سكان القرى والريف انتشاره في الأمصار والمدن وسببه الغبار والكحول وفساد المعيشة وإنهاك القوى والفحش ولا سبيل إلى تلافي ذلك الخطب إلا بأن تجعل الحكومات فئة من أطبائها يختلفون إلى الأرياف فيعزلون السقيم عن السليم ويقيمون للمسلولين مستشفيات. دجاجة حاضنة جرت حتى اليوم تجارب كثيرة بين أجناس الحيوانات في أمر التناسل ولكنه لم يعهد في حوادث التاريخ الطبيعي أن حضنت دجاجة أجراء (كلاباً صغيرة) فقد خطر لأحدهم في بلاد الإنكليز أن يستعيض عن البيض الذي تحضنه الدجاجة بصغار الكلاب فطاوعته الدجاجة وبذل لها ولما تحضنه من هذه الرضع عنايته كأن يسقيها بإبريق ذي زمولة (مصاصة) وغير ذلك من ضروب العناية فأفلح في تجربته.

وقاية الكتب لما احترقت مكتبة تورين في إيطاليا في العهد الأخير وذهب فيها من أمهات الكتب العظيمة ما طالت له حسرة العلم والعلماء قام جمهور من رجال الغرب يفكرون في إيجاد طريقة تحفظ بها ثمرات العقول ولا تسطو عليها النار ولا غيرها من الآفات. وقد وفق أحد أساتذة مدرسة كاليفورنيا الجامعة بأميركا إلى أن أنشئ بفضله في الولايات المتحدة مكتب يعمل على ضم المنحس من الصحف المخطوطة وجعل أمهات للطوابع والنقود. وسيجعل من هذه الدفاتر نسخ يتناولها العلماء والباحثون بأقل ما يمكن من الأثمان. جزيرة مغمورة تركت إنكلترا لألمانيا سنة 1890 جزيرة ايليكولاندا في البحر الشمالي وأخذت عوضاً عنها جزيرة زنجبار لكن تلك الجزيرة أخذت تغمرها المياه فلم يبق منها غير ربعها على ما بذل من العناية في كفّ عادية المياه عنها ولا تلبث ايليكولاندا أن تصبح في خبر كان يضمها اليمُّ إلى صدره ويدرجها في قاعه وقعره. ولوع اليابان بالمحسوسات ليس اليابان في ولوعهم بالمحسوسات بأقل من الصينيين إذا صحَّ الحكم على أخلاقهم من مطالعة الكتب التي تتداولها أيديهم وترغب في تصفحها نفوسهم. ففي خزانة كتب طوكيو عاصمة الإمبراطورية اليابانية قلما يطالع المختلفون إليها الروايات والقصص فقد يتداول القراء في السنة 16 في المائة من الكتب الدينية الموجودة في تلك المكتبة و21 في المائة من الكتب الرياضية وعلوم الطب و20 في المائة من كتب الأدب و18 في المائة من كتب الجغرافيا والرحلات. أخلاق الأمريكان نشر أحد أساتذة هارفرد الجامعة بأميركا كتاباً في علم النفس الأمريكية ذكر فيه ما أمتاز به الأمريكان على من سواهم وهو يرجع إلى أربعة فصول الإبداع والإقدام واعتبار الذات وحب الارتقاء والثقة بالنفس. وقال أن ما عرف به الأمريكي من الانطلاق قد يجعله يتغاضى عما يأتيه غيره ولذلك تجد لأهل السخف والضعف مجالاً واسعاً في أميركا وربما

نشطوا وأخذ بأيديهم على نحو ما ترى لكل مقالة جديدة بينهم أنصاراً يقولون بها بادئ الرأي. اكتشاف مصري عثر العملة أثناء عمارة المرفأ الشرقي في الإسكندرية على قبر في سفح أكمة أم القبة بالقرب من البحر يرد عهده إلى زمن بعيد. وهو منحوت في الصخر وذو مدخل مساحته عشرون قدماً مربعاً يمتد منها ستة إلى داخله وعليها شيد المذبح والقبر قائم الزوايا وطوله تسع أقدام وعلوه كذلك أما أعلاه فمصور وفيه 81 أيقونة مربعة فيها صور ورسوم مجهولة في الأكثر والجدران مصورة أيضاً ومنقوشة ومعظمها إما بكرور الأيام أو بمعادل أرباب المقالع. وقد قام في أطراف الشمال الشرقي والجنوب الغربي من المدخل ناووس من صخر يشغل عرض القبر وأقيمت في طرفيه صخرتان عظيمتان جعلت إحداهما على الأخرى على شكل وسادة وهذه الصخور منقوشة كسائر ما في القبر وداخل الناووس. تاريخ العلم أفاض أحدهم في بعض المجلات الفرنسية في كونه أيتعذَّر وضع تاريخ للعلم. ومن رأيه أن تاريخ العلوم سيكون أولاً في دور فوضى وارتباك قبل أن ينظم سيره بنظام ثابت غير متزعزع وانه بعد الآن سيختم عصر الأمور العلمية العظيمة ويرتقي العلم على وتيرة واحدة وتلغى الأمور الاتفاقية من سبيله ويكون مجراه إلى الطبيعة أقرب. السحر بين الصفر حدَّث أحد الأطباء في مجلة فرنسية عن حالة السحر في الحياة الخاصة والعامة بين الصفر فقال أن أفكار الصينيين في الأرواح والقوى السحرية تشبه ما يعتقده سائر الشعوب فإن انتشرت أمثال هذه الخرافات فذلك لأن أعمال السحرة من الصينيين والأناميين تشبه أعمال سخرة الإفرنج ومشعوذيهم ولها كلها نتائج واضحة تجمعها كلمة التخريف والتضليل. ركاز الماس في مجلة القرن العشرين الفرنسية بحث في معادن الماس في أطراف العالم قال فيه كاتبه: يظهر أن معادن جنوبي إفريقية هي مستودع الأحجار الضخمة من الماس ولكن أجمل

الماس ما جاء من الهند ثم من البرازيل. وهذا الفرق ناتج من اختلاف أصول الماء وفيما خلا ركاز رأس الرجاء الصالح في إفريقية يعثر على الماس مؤلفاً من انحلال الصخور المحتوية على ماس أما في إفريقية فإنه يتولد في الصخر ومنه يتراءى للعيان. منذر الحريق جرب المنذر الجديد الذي اخترع للإعلام بالحريق قبل وقوعه في مدينة نيويورك وأخص ما في هذا المنذر أن يمنع سوء القصد ويكشف الفاعل للحال. ولهذا المنذر علبة متى فتحت تأخذ ساعة دقاقة تدق دقاً لا ينقطع تنبه رجال المطافئ والمضخات وأماكن الإعانة ويوجد في داخلها بابان صغيران لهما ثقب تدخل فيه اليد لتنادي به وتنذر حتى إذا استصرخ من يلزم إسراعه تمسك يد معمولة من معدن الألمنيوم وحافاتها من المطاط (كاوتشوك) كفَّ ذاك الشخص المنذر وتقبض عليه كل القبض ريثما يصل رجال المطافئ ويقتضي أن يعينه أحد حتى تخلص يده ويفلت من هذا الشباك. أعلى جسر فيكتوريا نيانزا أعظم بحيرة في إفريقية الوسطى وثاني بحيرة في العالم وقد أنشأت جمعية إنكليزية خطاً حديداً على مصبها في نهر زامبير وأقامت عليها جسراً كان أعظم جسر في العالم علوه 140 متراً وقد بني في 90 أسبوعاً. ومما جعلته الشركة في أسفله شبكة عظيمة تتلقى من يتفق سقوطهم من العملة من حالق لينزلوا بلا خطر. الصم البكم أثبت أحد الفرنسيين في أن الصم البكم ليسوا صماً لا يسمعون بتة وقد بين بواسطة آلة تنقل الاهتزازات الصوتية الأساسية أن بعضهم يحسون كثيراً بالأصوات الشديدة على حين ترى في آذانهم وقراً لا يسمعون تلك الحروف الصوتية المنبعثة من أصوات حادة على عكس ما تسمع الأذن المعتادة. قال ويصعب إسماع من أصيبوا بالصمم على هذه الصورة بخلاف غيرهم ممن لا ترى فيهم هذه العوارض فإنهم يتوصلون بواسطة السماعة وبعض تمرينات يقومون بها إلى سماع الصوت البشري أحسن سماع وهذه الملاحظات تفيد في أنها تدعم ما ادعاه هلمهولتيز في نظرياته. وهلمهولتيز من علماء منافع الأعضاء من الألمان توفي سنة 1894.

المرأة الطليانية كتبت إحدى كاتبات الطليان وهي من أعداء المرأة الأشداء قالت: أنه لم يحدث في حال النسوة أقل ارتقاء حقيقي. وزعمت أن المرأة الطليانية ليس لها ما تأخذه عن الغريبات عن جنسها وذكرت بأنه ينبغي توفير العناية بتعليم البنات في إيطاليا وغيرها من الممالك التعليم العالي. النوام أو مرض النوم نشر الأميرالاي بروس الذي عهدت إليه الحكومة الإنكليزية منذ عام 1902 بالبحث عن أسباب مرض النوام ودواعي انتشاره في أواسط إفريقية كتاباً قال فيه أنه لم يبق شك بأن هذا المرض ناتج من ذباب سام يتناول السم من دم الحيوان المصاب ويعض أو يقرص من هو عرضة له من الناس وتمتص الذبابة المادة المعروفة القتالة وتبقى في معدتها إلى أن تقذف بها بواسطة خرطومها عندما تمس جزءاً من جسم الإنسان. واللدغة تكاد لا يشعر بها بادئ بدءٍ حتى أن المرء لا يشعر بها في حينها إلا بعد مدة طويلة وربما بعد أن يمضي عليها حولان أو ثلاثة فتنسد الأوعية الدموية في الدماغ وتحرم جوهره من المادة وتصاب به الغدد الليمفاوية خاصة. علم ذلك من تجارب في هذا المعنى أجريت على القرود. وينتشر مرض النوام خاصة في أقاليم ذات بطائح على شاطئ الأنهار والبحيرات وذبابه قلما يبتعد عن مقره أكثر من مائة متر ولكنه غزير جداً بحيث أنه هلك في أوغندا من سنة 1901 إلى سنة 1904 زهاء مائة ألف نسمة من هذا المرض. قال الباحث المشار إليه وسبب هذه الزيادة الهائلة أن أهل البلاد يحاذرون اتخاذ الأسباب الصحية ولا يعتقدون بخطر تلك اللدغة القتالة التي لا يشعرون بها أولاً حتى إنك ترى سكان إقليم فيكتوريا نيانزا لا يحفلون بالذباب الذي يغطي سوقهم عندما يغتسلون. وقد جرب السليماني في مداواة هذا المرض فخفف بعض الألم وإن لم يكن فيه الشفاء التام. وأحسن طرق الوقاية منه أن يباد الذباب بإبادة الأماكن التي تنبعث منها. وهذا ما يقوم به البيض الذي يحكمون تلك البلاد. بيد أن طرق الوقاية ليست عامة بين كل الطبقات فإن السكان لا يهتمون ولا يقلقون ويجهلون الداء والدواء. فاقتضت الحال أن تستعمل الأسباب الفعالة لإكراههم على التوقي وإبعاد من يسكنون مكاناً ملوثاً بجراثيم

المرض عمن لدغوا بدون شعور منهم مدة سنين ولكن دون الوصول إلى هذا التدبير الصحي أهوال يتعذر عدم المبالاة بها مادام الأهلون يمانعون في إجرائها كل الممانعة ولذا ما برح النوام ينتشر فيهلك من يهلك ويسلم منه بالاتفاق من يسلم. إعارة الكتب في إحدى المجلات الروسية أنه أُسست منذ خمس سنين خزانة كتب في بلدة نيجني نوفكرود ليطالع فيها صغار المزارعين والحفاة العراة من الفقراء المنقطعين عن الأعمال فكانت رغبة المطالعين مصروفة أولاً إلى تلاوة الصحف ويليها الروايات وكتب التقاويم والرحلات والزراعة وانه أعير في هذه الحقبة من الزمن 175 ألف عارية لم يفقد منها سوى مجلدين مما يؤيد أن للكتب من قلوب الشعب الروسي مقاماً جليلاً وإن كان بعضهم يقول بسلب أرباب الأملاك أملاكهم. موظفو الأمريكان نشرت إحدى الصحف الروسية بحثاً مستفيضاً في وصف الموظفين في الولايات المتحدة فقالت أنهم يبلغون مليون موظف ومنهم 117 ألف من حراس المدن يقبضون في الشهر من 60 إلى 100 دولار أي من ثلثمائة إلى خمسمائة فرنك وأن للموظفين حقوقاً في النفوذ لا تشبه حقوق أمثالهم في بعض الممالك الأوربية. آثار ثيبة في بعض المجلات الطليانية بحث في المكتشفات الأثرية المهمة التي عثر عليها في ثيبة تلك المكتشفات التي تساعد خاصة على توضيح الأشكال المهم في مصادر الفلسفة اليونانية المتولدة من الفلسفة المصرية.

مقالات المجلات

مقالات المجلات المجلات الإفرنجية المرأة الشرقية في مجلة إنكليزية بحث في المرأة عند الأمم قالت فيه كاتبته في الجزء المختص منه بالمرأة الهندية والصينية واليابانية: أن النسوة في تلك البلاد الشرقية قد نزعن ما طالما قيده بهن الرجال من القيود وأنهن أنشأن جمعيات في ترك العادة المتبعة في بلادهن من تضييق أرجل البنات منذ ولادتهن بالأحذية الضيقة مخافة أن يغادرن بيوت أزواجهن إذا كبرن. وأن حالة النساء اليابانيات كادت تكون إلى السعادة. وللمرأة الحق في اليابان أن ترفض اقترانها مثلاً بزوج ينتخبه لها أهلها وأنها ترى أن تكون تربيتها متفقة مع تربية قرينها ومع أن الطلاق يسهل في برمانيا فقلما يتطلبه أحد الزوجين وأن للمرأة وحدها تربية ولدها والزوج طوع أمر زوجه يأخذ عنها نصائح وينتفع بما تلقيه عليه من الأحكام قالت الكاتبة: ولذلك كان نساء برمانيا أسعد النساء طراً. والمرأة في كوريا هي القوة الاقتصادية العظمى في البلاد. نوابغ الرجال في إحدى المجلات الإنكليزية بحث في الأجناس والأفراد رأى فيه صاحبه أن النابغة هو الذي تنجح به الطبقات على اختلاف أشكالها وارتأى أنه يحكم على جنس من أجناس البشر من صلاته مع الأفراد ولم يفصل فصلاً صريحاً بين فطرة الأفراد وفطرة المجتمع. وهذا الرأي أشبه برأي كارلايل الإنكليزي القائل بأن الأفراد هم العالم بأسره وبهم عليه يحكم. مكتبة الإسكندرية في إحدى المجلات الفرنسية مقالة للمسيو البرسيم أحصى فيها أعداء الكتب وعد من جملة من أحرقوا الكتب بالنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر عامله بمصر أن يحرق مكتبة الإسكندرية لما فتحت. قالت الجريدة بيد أن ما نسب إلى هذا الإمام من الأمر بإحراق خزانة الإسكندرية لا أصل له إذ لم تكن المكتبة موجودة على عهده. وعدَّ في جملة أعداء الكتب النساء لأنهن لا يشفقن عليها ويمزقن جلودها ليجعلنها صرراً أو رزماً. وسننشر

رسالة في حريق المكتبة الإسكندرية بياناً للحقيقة التاريخية. المجلات العربية التمثيل العربي الهلال - بحث في أصل التمثيل قال فيه إنه شرقي المنشأ ظهر في الهند والصين واليابان وظهر في اليونان والرومان. وأن القدماء استخدموا التمثيل لمقاصد دينية ولإخضاع الشعب وتربيته ومن رأيه أن التمثيل قبل الإسلام لم يكن اللهم إلا إذا اعتبر ما كان العرب يقومون به في الكعبة وحولها من الطواف والرقص من قبيل التمثيل. وعدّ من التمثيل الديني ما يقوم به الشيعة من تمثيل مقتل الحسين كما عدّ ما يجربه بعض أرباب الطرق من التمثيل الديني أيضاً. وقال أن أول من أدخل التمثيل بالعربية مارون النقاش من أهل بيروت سنة 1855 أدخله إلى بيروت وعمه سليم النقاش أول من مثل الروايات العربية في مصر سنة 1867. اختلاف الشرائع وغرائبها أنيس الجليس - نقلت بحثاً عن صحيفة إفرنجية قالت فيه: من الأحكام المستغربة حكم أصدرته إحدى مدن إنكلترا تمنع به ثقب عيدان الكبريت على حيطان المنازل في الشوارع وجعلت القصاص على من خالف ذلك غرامة وسجناً. وحرمت إحدى مقاطعات أميركا التدخين فمنعت من حمله وعدت ذلك ذنباً عظيماً وهو حكم يذكر بأحكام القرون الماضية إذ كان مدخن التبغ يجلد في إنكلترا أو سواها ويناله السجن والعذاب. ومنعت إحدى مقاطعات أميركا تعاطي الشراب في الأندية الجامعة ولم تسمح به في المنازل إلا لواحد فقط مخافة أن يشربا فيعربدا. وأصدرت إحدى شركات السكك الحديدية بأميركا أمراً بمنع التقبيل في محطاتها لأنه يضيع به الوقت فتتأخر القطارات. وفي بعض ممالك أوربا يمنع البصق في الشوارع ومن مستغرب الأحكام في أميركا حكم يقضي على كل رجل وامرأة وغلام بأن يذهب إلى الكنيسة ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع. علوم الدعاة المنار - في مقالة دعوة اليابان إلى الإسلام أن الداعية ينبغي له فهم الكتاب العزيز

والاطلاع على السنة ومعرفة ما فيها من حكم التشريع ومعرفة السيرة النبوية وتاريخ الإسلام والبصيرة في علم الاجتماع والتاريخ العام والإلمام بسائر العلوم العصرية والاطلاع على ضروب الأساليب المدنية وغير ذلك. محمد علي الكبير المقتطف - ما برح يكتب في تاريخ محمد علي الكبير وهو في الحقيقة بحث في تاريخ سورية ومصر في أوائل القرن الماضي وجل اعتماد كاتبه على تاريخ الجبرتي وتاريخ مشاقة وكلاهما ثقة. وما أحلى اعتراف مشاقة بأنه كان يساعد إبراهيم باشا وخصومه معاً على حسب طاقته واعتذر عن نفسه بأن خدمة إنكلترا واجبة عليه لأنه من مأموريها. شواذ الخلق الضياء - شواذ الحلق هو كل ما شذ عن المألوف في نوعه بزيادة أو نقص في أعضائه أو اختلاف في بعض أشكاله أو تخاذل في خلقته وهو أن لا يكون بعض أعضائه مناسباً لبعض غرابةٍ في منظره بأن يتجاوز الحد في الضخامة أو الدمامة. قسمها بعضهم إلى أربعة أنواع الشذوذ البسيط وهو ما كان في عضو واحد أو جهاز واحد أو حالة واحدة من أحوال التركيب والشذوذ المركب وهو ما يتناول عدة أعضاء من الجسم ولكنه لا يمنع شيئاً من الوظائف والشذوذ المتداخل وهو في الغالب يرى من الظاهر ويكون باجتماع أعضاء الجنسين أو بعض مميزاتهما في شخص واحد والشذوذ بحده وهو ما يشوه الأشكال الظاهرة إلى ما يخالف شكل بقية النوع وهو في الغالب يؤثر على وظائف الأعضاء بحيث تتعذر الحياة في خارج جوف الأم.

نفاضة الجراب

نفاضة الجراب أسعار الأشعار قال الوهراني لبعض أصحابه وقد فارقه من الشام إلى مصر: فاجتمع يوماً ببعض المعارف الراسخين في المعارف، فسأله عن أسعار الأشعار فأخبره عنها بالكساد، والفساد، وعن أهلها بالحراف، والانحراف، وقال: كل كلام مسجوع، لا يسمن ولا يغني من جوع، وصاحب القصيد، كالباسط ذراعيه بالوصيد، وما عند الأمراء، أخسُّ من ذقون الشعراء، فلو بشر أحدهم بشار وهنأه ابن هانئ، وقصده أبو العلاء، ونزل به صريع الدلاء، ومدحه الدؤلي بداليته، والطائي بطائيته، والوأواء بواويته، لما أجازوه على ذلك بجوزة، ولا أثابوه بثوب خليع، ورد أمس الذاهب أهون عليه من أخذ ذهبه، وخلع الأكتاف أهون من خلعه، وحنوط الغاسل أقرب من حنطته، والشعرى أقرب من قرطه، والتبن مثل التبر. الشاعر والشعير كتب سبط ابن التعاويذي - الشاعر المطبوع الذي يقول فيه ابن خلكان أنه لم يكن قبله بمائتي سنة من يضاهيه في جودة الشعر ورقة المعاني ودقتها (553) - إلى عضد الدين أبي الفرج محمد بن المظفر وهو من أبناء مواليه يطلب منه شعيراً لفرسه. مولاي يا من له أياد ... ليس إلى عدها سبيل ومن إذا قلت العطايا ... فجوده وافر جزيل إليه إن جارت الليالي ... نأوي وفي ظله نقيل إن كميتي العتيق سناً ... له حديث معي طويل كان شرائي له فضولاً ... فاعجب لما يجلب الفضول ظننته حاملاً لرحلي ... فخاب ظني به الجميل ولم أخل للشقاء أني ... لثقل أعبائه حمول فإن أكن عالياً عليه ... فهو على كاهلي ثقيل ازحل كالبوم ليس فيه ... خير كثير ولا قليل ليس له مخبر حميد ... ولا له منظر جميل وهو حرون وفيه بطئ ... ولا جواد ولا ذلول

لا كفل معجب لراءٍ ... إذا رآه ولا تليل مقصر إن مشى ولكن ... إن حضر الأكل مستطيل يعجبه التبن والشعير ال ... مغسول والقت والقصيل إذا رأى عكرشا رأيت الل ... عاب من شدقه يسيل وليس فيه من المعاني ... شيء سوى أنه أكول فهب له اليوم ما تسنى ... وهبه من بعض ما تنييل ولا تقل إن ذا قليل ... فالجل في عينه جليل

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة كارلايل ولد سنة 1795م وتوفي سنة 1881 هو أحد فلاسفة القرن الماضي في بلاد الإنكليز وأوحد رجال القلم وأرباب التاريخ منهم. كان أهله من صغار المزارعين فبعثوا به إلى كلية ادمبرغ المشهورة فامتاز فيها بالرياضيات وبذَّ فيها أترابه ولما أتم سني الدراسة عين معلماً في إحدى المدارس إلا أن صناعة التعليم لم ترقه فاقتصد شيئاً من الدراهم يستعين بها على درس الحقوق واللاهوت في الكلية المشار إليها. ثم تخلى عنهما وأخذ بأهداب الآداب والانكباب على خدمتها. وكان يقول إن الآداب هي البيعة الوحيدة التي تحشر في حجرها جماعة المؤمنين في القرون الحديثة. ويعني بذلك تشبيه الكاتب بواعظ يبشر بأفكاره ويبثها في كل مكان وزمان. أخذ كارلايل يؤازر من أول أمره في إنشاء إحدى الموسوعات وينشر المباحث النافعة في بعض المجلات ويدرس الألمانية وآدابها وقد نقل عنها شيئاً إلى الإنكليزية ثم اضطر إلى معاودة صناعة التعليم قياماً بأود عياله. وكان في خلال ذلك ترجم شعر شيلر الألماني فلم يحز قبول العلماء وأهل الأدب. تزوج كارلايل بفتاة ايكوسية عرفت بعقلها وجمالها بيد أنها كانت تشكو كل الشكوى من سكوته وأثرته. ولم يكن زواج العالم سعيداً لضيق ذات اليد وعموم الحاجة وأشياء داخلية هو الأصل فيها. ولقد كتب سنة 1835 أن الأدب لم يأته بفلس منذ ثلاثة وعشرين شهراً ومع هذا كان من الثبات والانكماش آية الآيات، وغاية الغايات. وفي تلك السنة أتم الجزء الأول من كتابه الثورة الفرنسية وبعث بمسودته إلى ستوارت ميل الكاتب المشهور ينظر فيها فما هو إلا أن جاءه كتاب منه يقول فيه: إن خادمة له خرقاء ألقت بكتابه إلى النار فأصبح رماداً تذروه الرياح. فكاد كارلايل يجن بهذا النبأ حتى أنه ظل ثلاثة أيام لم يأكل ولم يشرب وطاش عقله حتى هام على وجهه في الفلاة وبقي ثلاثة أشهر لا يعي على شيء إلا ما كان من تصفحه بعض الروايات على سبيل الفكاهة. ثم عاود كتابة ما سلف له في هذا الموضوع معزياً نفسه بقوله: لعل الأقدار أرادت أن تعاملني في كتابي كما يعامل الأستاذ تلميذه إذا فرض عليه فرضاً ولم يجد فيه فيقول: عد إلى كتابته ثانية لأنه لا يصلح.

ولما أتم موضوعه كان الطابعون يخطبون ما كتب من كل صوب وارب يريد كل منهم أن يستأثر بما كانوا لا يرتاحون إلى النظر فيه منذ سنين لقلة شهرة صاحبه. وكتب المترجم به مقالات في انتقاد المجتمع الإنكليزي تحزب في بعضها للألمان. وكان بعد عودته إلى لندن يخطب في الأدب والتاريخ ويقيم الحفلات لذلك. ونقد ما حصل من ارتقاء التمدن المزعوم وصنف عدة كتب منها تاريخ فردريك الثاني الألماني وفيه يدرس تلامذة المدارس الجندية الألمانية تاريخ فردريك. ويقول أميرسون الفيلسوف الأميركاني أن كتابه هذا هو أبدع ما كتب من الأسفار التي تشف عن عقل وفضل. أبدع كارلايل في كتابة التاريخ على طريقة حديثة على عكس سائر الكتاب فهو يضم شتاته على نسق مقدمات العلوم وطريقته أن يعول على من ساعدتهم العناية الربانية فكانوا خيرة قومهم وخاصة بني جلدتهم. ومن رأيه أن لكل عصر مزاياه وأهواؤه وحاجاته ومفاسده تتجسد في بطل من الأبطال. وأن للرجال الحق وحدهم أن يحكموا العالم ويصرفوه تحت أمرهم. فللقائد كرومفل ونابليون أن يكونا وحدهما مثال الرجولية الحقيقية. قال وإن كل مجتمع يرأسه ضعاف العقول ينتهي بالانحلال. وعلى هذا الفكر بنى طريقته في الفلسفة التاريخية - هذه زبدة ما ورد في دائرة المعارف الفرنسية الكبرى وغيرها في ترجمة هذا الرجل العظيم.

الصحافة العربية

الصحافة العربية مضت نحو ثمانية عقود من السنين منذ أنشئت أول صحيفة عربية أنشأها محمد علي الكبير في هذه العاصمة وسماها الوقائع المصرية وأنشأ رفاعة الطهطاوي أول مجلة علمية سماها روضة المدارس. دامت الوقائع إلى اليوم وانقطع نشر الثانية بعد أن صدرت أربع عشرة سنة. وما لبثت الصحافة أن ولدت ونمت في أرض سورية ثم انتقلت إلى مصر في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ودبت فيها ودرجت. فكأن الله خص مصر بأن تزكو تحت سمائها الأعمال العلمية كما تزكو تربتها بالأعمال الزراعية. وما برحت الآمال معقودة بأن تبلغ الصحافة عما قليل أشدها ورشدها لتضاهي صحافة الأمم الراقية في موضوعاتها وتأثيراتها إذ أن العقلاء يذهبون إلى أن صحافتنا مازالت حالها على ما انتهت إليه غير متناسبة مع عمرها الطويل. والمعمر في الأعم من حالاته يشتد ساعده وزنده وتقوى ملكة عقله وعلمه بكثرة تجاربه وأسباب رويته. ولا خير في أمة لا يقوم بشؤونها شيوخ تفاخر بأعمالهم مفاخرتها بعقولهم وطول أعمارهم. لا جرم أن تخلف الصحافة عن بلوغ مراقي الفلاح الحقيقي لأول أمرها ناجم عن كونها نشأت وسط أمة لا تعترف بالعلم إلا لرؤساء الأديان وهؤلاء لا يعدون من العلم في شيء إلا ما بحث في الأخرويات أو الزهديات أو الجدليات. وبين ظهراني أدباء يزعمون أن الأدب عبارة عما ألفوه من مد إطناب الإطناب في إطراء الكبراء والأسخياء وأرباب المظاهر والاغتراف من بحر المديح بالطويل العريض. وبين كتاب لا يعتقدون الكتابة إلا فيما اصطلحوا عليه من كتابة الصكوك والعقود والمواثيق. وبين عظماء موقنين بأن رؤساء الدين والعلم والأدب اتباع لهم. هكذا كان العلم والأدب في دور الصحافة الأول. ولا يفوتك العلم بأن من تنبهوا لها كانوا يشاكلون قومهم بعض المشاكلة في أدبهم وأخلاقهم لأنهم أبناء ذاك الوسط الذي هم بعض أفراده وسلالة تلك الطينة الشرقية التي جبلت بيد الضعة وصهرت بقطران المسكنة. ويعلم الباحثون في عقول الفصائل البشرية أن الشرقي ذكي مفطور على حب التقليد خصوصاً إذا تهيأت له الأسباب فقد نجد المصري أو السوري يتعلم شيئاً من لغات الغربيين فلا يعتم أن يقلدهم في مناحيهم وأطوارهم أما من ذهب إلى بلادهم ودخل مدارسهم فإنه يكون مثلهم إلا القليل. غير أن تقليدنا الغربيين في صحافتهم قد أبطأ وكان من حقه أن يتقدم كل تقليد. ذلك أن المجلات الدورية على ما في أكثرها من

المحاسن والفوائد لا يزال بعضها يعرف بالتقليد ويكتب بلسان التقية على أن العالم لا دين له ولا نزعة. أما الجرائد السياسية فتكاد تكون نمطاً واحداً في إنشائها وأخبارها. ناهيك بما في بعضها من التضارب في الآراء والمذاهب. ولو خلت من هذه الشائبة وكان لها مواد وافرة تستعيض بها عن تجسيم الأخبار وبناء قبة من حبة لكان فيها خير ذخر ينفع العقول ويقودها إلى مهيع السداد وجواد الأسعار. وليس العلم كالسياسة في مسائل المغالطة والسفسطة فإن جوزهما فريق في السياسة حباً بالمصلحة فإنهما لا يسوغان في العلم بحال من الأحوال. يعيب المغاربة على المشارقة تقلبهم في مآربهم وحركاتهم. وهذا التقلب محسوس في بعض جرائدنا فإنها كدوارة الهواء في الأفكار تنتسب اليوم إلى حزب وتستميت في الدفاع عنه حتى إذا لم تصادف من ورائه مغنماً أو تؤنس من أهله فتوراً تنقلب عليه وتنسى اليوم ما ذكرته أمس. وليس معنى هذا أني لا أقول بالأحزاب فإن الاختلاف بين الناس ضروري على شريطة أن يخلص صاحب المبدأ في أقواله وأفعاله ويعتقد صحته ويتفانى في نصرته دون أن يغمط حق خصمه ويغض منه. وحبذا لو طرحت مسائل التشيع للأحزاب جانباً واشتغل أرباب الجرائد السياسية في بث أدب وفضيلة وتأييد كلمة حق نافعة. وما التحزب للأحزاب لو أنصفنا إلا ضربٌ من ضروب الخراب وكل بيت ينشق على نفسه يخرب. وما أشبه بأهل البصيرة أن يخففوا من هذه النغمة فقد ضربوا على وترها أعواماً والحال ما استحالت، والأقوال ما نجعت، بلى ازدادت النفوس اشمئزازاً والصدور إيغاراً. ومن سوء طالع هذه البلاد أن معظم بنيها لا يرون الأمور بل لا يريدون أن يرونها إلا من جهة واحدة. ومن الغريب دعوى بعضهم في أن غير هذه البضاعة في العلم والسياسة لا تنفق في سوق الأمة لأنها ما فتئت في الجهالة غارقة والصحيح أن التاجر الماهر يصرف ضروب السلع في معرض بضاعته إذا أجاد مصنوعاته وأحسن بياعاته. ألا ترى إلى رواج أنواع من الصحف ما كان يحلم برواجها. تهيأ لها الرواج عندما صحت عزائم القائمين بها وأخلصوا القصد في نشرها ولا يضر العمل الصالح إذا تصدى بعض ضعاف العقول إلى التزهيد في خطته فما قط اجتمعت كلمة العامة والخاصة على استحسان شيء وكذلك لا يضر الصحف

ويحول دون انتشارها وما يوعز به بعض أنصار التقليد في العلم إلى اليوم من الرغبة عن مطالعتها لأنها مفسدة منقصة فإن أمثال هؤلاء المثبطين عن كل جديد نافع هم الحلمة الطفيلية في العمران، وكل من حال دون أسباب العلم والعرفان، هو العضو المؤوف في جسم الإنسان. زار صديق لي من كتاب الصحف منذ سنين رجلاً ذا شهرة طائلة موسوماً بشعار العلم في إحدى المدن الكبرى وله من التلامذة والمريدين صنوف فعرفه إليه بعضهم وقال له: هذا فلان منشئ الجريدة الفلانية. فقال وما هي الجريدة. فأنشأوا يشرحونها له حتى فهمها ولكن بعد أن بحّ صوت الشارح في شرحه لمحدثه عن معنى الجريدة وهو يستغرب وجود شيء في العالم يعرف بهذا الاسم. فانقلب صاحبنا من لدن ذاك الرجل مغرباً في الضحك متعجباً من أناس في مثل هذا العصر جاهلين بأحوال العالم إلى هذا الحد بعيدين عن حوادث الأيام. وعندي أن أمثال هذا الرجل لا يفيد الصحف تنشيطه وتثبيطه. والمعارف اليوم كسيل جارف تودي بمن لا يجاري الدهر ويمشي مع الأيام والجامدون كثار في كل جيل وقبيل وليسوا هم المطالبين برواج بضاعة القلم أو المقصودين بالنفع من المكتوب. ولئن يهدي الله بهذا صعلوكاً صغيراً خير من إضاعة الوقت في ممارسة شيوخ الجمود وكهوله وشبانه. وكلما تأملت الصحف وآراء طبقات الناس فيها استنتج أن من توفروا على نشرها أول النهضة كان معظمهم من العامة الذين لا يحبون من الجرائد غير ما تأتي به من الربح المادي وبعبارة أخرى كانوا تجاراً لا أصحاب دعوة إلى إصلاح أو إرادة في بث علم وفضيلة، وسماسرة أقوال، لا صيارفة عقول، وجهابذة جربذة لا جهابذة أفعال. دع عنك سيد الصحفيين في الدور الأول أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب في الأستانة فإنه أحسن الاضطلاع بوظيفة الصحافي وتمت على يده حسنات كثيرة من خدمة اللغة والأدب والعلم والسياسة لأن غرضه لم يكن مادياً محضاً. وأن ما نراه اليوم من ارتقاء بعض الصحف السياسية فالفضل له فيه لأنه واضع أساسها الحقيقي وما نراه من انحطاط بعضها فمنشأوه أولئك العامة الذين أنشأوا الجرائد في الدور الأول وغرضهم الدنيا من أي الطرق أتت وما نشهده من ارتقاء بعض المجلات فمصدره رفاعة الطهطاوي في مجلته روضة المدارس

وما منزلة رفاعة في العلم بخافية على دارس تاريخ النهضة العلمية في هذه الديار. ولقد قامت بعد ذاك العهد مئات من الصحف الإخبارية والعلمية ثم سقطت وانتشرت ثم انتثرت شأن كل نهضة في أولها خصوصاً في بلاد يغلب على أهلها القول حتى إذا حقت كلمة الفعل تضاءلت نفوسها أبنائها وأعوزهم الثبات والصبر. وما عهد في تاريخ الحياة الاجتماعية أن عملاً نجح فيه صاحبه دون التشبث بأهداب عامة أسباب النجاح وتهيئة المعدات الضرورية من علم وعمل ومال ورجال اللهم إلا في الشرق فإن معظم من ينجحون فبالاتفاق هذا وقد نفعت الصحف على قلة نصرائها في تنوير العقول وتحسين ملكة المنثور والمنظوم فانتقل زمرة من العامة بإدمان مطالعتها من طور العامية إلى طور العالمية. ولكم كانت الجرائد والمجلات باعثة على تعلق بعضهم بالمطالعة حتى صارت لهم عادة وجبلة وفتحت لهم طريق البحث والدرس. وسقياً ليوم تتأصل فيه الحرية الحقيقية في أخلاق الأمة فتذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ورعياً لعهد نرى فيه لقادة الأفكار من تعليمهم الحر ما يلتزمون به القصد فلا إلى تفريط ينهجون ولا في الإفراط يسترسلون. وقد خطب حاكم الهند منذ مدة متخرجي المدرسة الجامعة بكلكتا فقال أن المبالغة من شأن جرائد تلك البلاد فهلا خطب فينا من يحسن وصف جرائدنا هذه. وبعد فهذا رأي مولع بالصحف على اختلاف ضروبها منذ صغره بل خاطر صحافي خدم الصحافة سنين كثيرة صرح به على جليته غير مدالس ولا مؤالس والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

تأثير الآداب

تأثير الآداب للآداب معان كثيرة فمعناها اللغوي حسن الأخلاق وفعل المكارم وأطلقه المولدون في الإسلام على علوم العربية وأعني به هنا المنظوم والمنثور من الكلام ومنزلته من الفصاحة والبلاغة ليفعل في الأرواح فعل الراح. ولكل أمة أدب بحسب اصطلاحها ورسوم لغتها يطرب به عامتها فضلاً عن خاصتها وتثار به الأحقاد وتحرك الحفائظ وتدعى به إلى سبل السلام والوئام ويدلها على مواقع السداد والسؤدد ويذكرها بأيامها وأيام النازلين بقربها والقاصين عنها وهو على الجملة مسبر للوقوف على الحاضر والغابر ومهماز يدفع إلى العمل بعد القول ومثار كل فضيلة رافعة ومنار كل نجح عاجل أو آجل. لابد في كل نهضة دينية كانت أو مدنية أن تتقدمها الآداب ويتفانى أبناؤها في حبها شهد بذلك تاريخ الأمم جمعاء. ألا ترى أن أديب القبيلة في الجاهلية كان يتدفق من لسانه معين البلاغة فتفعل كلماته في قبيلته يعقد بها سلمها ويشهر حربها ويعدد مفاخرها ومآثرها ويدون تاريخها وأيامها وإن سوق الأدب عند العرب لما نفقت وكثر تغاليهم في نقلها وإنشادها وأصبحت بينهم للبلاغة دولة، ولجوامع الكلم تأثير وصولة، نزل القرآن فأدهش بإعجازه البلغاء، وأسكت ببيانه مصاقع الخطباء، وتأدب رجال الخطابة والكتابة بآدابه وتبيانه فزاد تأثير الشعراء والخطباء أكثر من ذي قبل حتى كان أهل الحكم يحاذرون فلتات ألسنهم فيوسعون لهم من برهم ما يقطعونها به. ولما أخذت الآداب موقعها من النفوس ونالت حظها من العناية ونضجت ثمرتها حتى كادت تذبل عرف العرب أن كيانهم لا يقوم بالآداب وحدها وسلطتهم لا تأمن البوائق ببنات الأفكار وإن دور الأقوال انقضى حكمه وجاءت النوبة للأفعال ونضبت مادة البيان ومست الحاجة إلى البرهان فأنشأوا إذ ذاك يتوفرون على الأخذ من كل علم يزيد في سعادتهم ويضمن لهم الراحة الدنيوية كما ضمن لهم الدين الراحة الأخروية وكان من أمر علوم الأمم وتناقلها بين ظهرانيهم ما كان من حسن الأثر وخدمة الحضارة والغضارة. وهكذا لو بحثت في تاريخ كل أمة لألفيت الآداب روادها، إلى مسالك إسعادها، وقوادها، إلى ذرى رقيها وإصعادها، كان هذا شأن الفرس واليونان والرومان في القرون الماضية بل وشأن الترك والعرب في القرون الحديثة فإنهم لم ينبغ لهم في التاريخ والسياسة وفنون الحرب والطبيعة والرياضة والفلسفة رجال أحرياء بالاعتبار بالنسبة لمحيطهم وأسبابهم

حتى نبغ بينهم أهل آداب أمثال منال وضيا وناجي والأبياري والفاروقي والأسير والأحدب واليازجي وكرامة والجندي والهلالي ومراش والشدياق والبربير وأمثالهم ممن بيضوا الصحف بما سودوه في القرطاس من رائع آدابهم وفيض قرائحهم وخفة أرواحهم. وقر زعماء الأدب في الصدور بما نفثوه من صدرهم أكثر من العلماء والمفننين بما خدموا به العلم والمدنية من نتاج عقولهم المستنيرة وما ذاك والله أعلم إلا لأن الأدباء يكتبون للعامة والخاصة معاً أما العلماء فيكتبون للخاصة فقط. وشأنهم في هذا شأن أهل العلم والاختراع مع أرباب الأموال في الغرب لعهدنا فإن الأول يتعبون في الإبداع فلا يتمتعون بغير جزء طفيف من أعمالهم الشاقة الطويلة ويجيء أرباب المال فيجنون الثمرة غضة يانعة. قال بلونشلي الألماني في كتابه السياسة ما تعريبه: للآداب في أفكار الطبقة المنورة تأثير أعظم من تأثير العلم إذ أن لجمال الشكل والصورة وقعاً كبيراً في النفس أكثر من العلوم التي هي في الغالب قضايا غثة باردة وأن كتب شكسبير وولتير سكوت معروفة أكثر من كتب باكون ونيوتن وأن التمدن الفرنسي ينسب إلى راسين ومولير أو فولتير أكثر منه إلى بوفون ولابلاس ودوبين. وإن كيتي وشيلر قد نورا وحمسا طبقات أكبر من التي نورها كانت والإخوان هومبولد وليسنغ قد أثرا بروايتهما في ناتان أكثر من روايات لاوكون. قال لي أحد ساسة الألمان يوم زار الإمبراطور غليوم الثاني بلاد الشام أندري لم أحب مليكنا السلطان صلاح الدين يوسف حتى قصد دمشق لزيارة ضريحه وفاخر بأنه بات في مدينة عاش فيها من كان أعظم أبطال العصور السالفة قلت لا علم لي بذلك قال لأنه قرأ في صباه رواية وأظنه قال لشاعرنا شيلر تضمنت سيرة صلاح الدين ووقائعه فأشرب قلبه حبه وراح ما لقنه في العاشرة يبرز أثراً من آثاره وهو في الأربعين. قلت وهذا ملك عظيم في الحديث أثر فيه شاعر أمته أحسن تأثير على أنه الأدب يلطف الشعور ويحسن العواطف ولقد كان جد هذا الإمبراطور فريدريك الكبير لما عزم على إنهاض أمته من كبوتها يوعز إلى الشعراء بواسطة بعض وزرائه أن ينظموا قصائد حماسة ترقق الإحساس وتكبر النفوس وتدعوها إلى المعالي فكانت هذه القصائد سبباً في إنهاض ألمانيا ووحدتها على ما قيل.

وإليك مثالاً من تأثير الآداب في القديم قال معاوية بن أبي سفيان اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم فلقد رأيتني يوم الهزيمة وقد عزمت على الفرار فما ردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري: أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لا دفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح

البشر والشعوب

البشر والشعوب معرب عن الفرنسية علم خصوصيات الشعوب - يعمر الأرض ناس قلما يتشابهون، يختلفون بالطول وهيئة الأعضاء والرأس وسيماء الوجه ولون العيون والشعور ويتباينون باللغات والذكاء والإحساس. وبهذا التمايز ينقسم سكان المعمور إلى عدة أقوام تدعى أجناساً. فالجنس مجموع ناس يتماثلون ويباينون جنساً آخر وما يمتاز به جنس عن غيره من العلامات العامة ويسمى طبائع وأخلاقاً هو الذي يتألف منه مجموع خواصه. فيعرف الجنس الزنجي مثلاً بجلد أسود، وشعور مجعدة، وأسنان بيضاء، وأنف أفطس، وشفاه خنس، وفك ضخم. ويدعى درس أحوال الأجناس وما يتشعب عنها ايتنوغرافيا أي علم خصوصيات الشعوب. وهو علم لم يرتق بعد لحداثة وضعه وما برح مشوشاً منتشراً لكثرة مجموع خواص البشر وصعوبة التمييز بينها أحياناً. الأجناس - أخص الأجناس الجنس الأبيض وهو يسكن أوربا وشمالي إفريقية وغربي آسيا. والجنس الأصفر ينزل في آسيا الشرقية ومنه الصينيون والمغول والترك والمجر. ومن دخل أوربا منهم من الفاتحين فبشرته صفراء وعيونه خرز مقطبة ووجناته ناتئة ولحيته خفيفة. والجنس الأسود يقطن أواسط إفريقية وهم الممتازون بأديم أسود وأنف أفطس ووفرة كالصوف. والجنس الأحمر يستوطن أميركا ومنهم هنود القارة حمر الأديم سبط الشعور. الشعوب المتحضرة - يُعدُّ أهل الجنس الأبيض من المتحضرين إلا قليلاً أما سائر الأجناس فقد زلوا على حالة الهمجية والبربرية كما كان الناس قبل زمن التاريخ. قامت الشعوب المتمدنة على تخوم قارتي آسيا وإفريقية فقام المصريون في وادي النيل والكلدان في سهل الفرات. وكلهم أهل فلح وحرث ألفوا الإقامة وجنحوا للسلم. أديمهم مشبع، وشعرهم قصير أثيث، وشفاههم مبرطمة، ولا يعلم على التحقيق من أين منبعثهم. ولم تتفق آراء العلماء على تسميتهم فيدعونهم تارة كوشيين وأخرى شاميين. وقد انسالت من جبال آسيا بين القرن العشرين والخامس والعشرين ق. م عصابات من الرعاة أهل غارة وزعماء فتنة فانتشروا في أطراف أوربا كافة وفي غرب آسيا. ويقسمهم العلماء إلى قسمين آريين وساميين.

الآريون والساميون - ليس بين هذين الجنسين من علامة خارجية جلية فكلاهما من الجنس الأبيض: اهليلجية سحناتهم، متناسبة أعضاؤهم، صافية جلودهم، أثيثة شعورهم، نُجل عيونهم، رقيقة شفاههم، منتصبة أرنبتهم، وهم في الأصل رعاةٌ من سكان الجبال يألفون الارتحال والقتال. ساميّهم من أرمينية، وآريّهم من وراء جبال حملايا وهم يمتازون بالعقل واللسان خاصة امتيازهم بالديانة قديماً. وقد وقع الاتفاق على تسمية الشعوب التي تتكلم لغة آرية بالآريين وهم الهنود والفرس في آسيا. والروم والطليان والأسبان والجرمان والسكنداويون والسلافيون (الروس والبولونيون والصرب) والسلت في أوربا. والساميون هم الشعوب التي تتكلم لغة سامية وهم العرب واليهود والسوريون ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الشعوب تتكلم لغة آرية أو سامية وليست من الآريين والساميين في شيء كما أن الزنجي قد يتكلم الإنكليزية وليس فيه عرق من الإنكليز. وربما عددنا كثيراً من الأوربيين في مصاف الآريين وليست أصولهم في الواقع إلا من جنس غلب عليه الآريون فاقتبس لغاتهم على نحو ما اقتبس الفرس لغة العرب أيام غلبوهم على أمرهم. فهذان الاسمان الآري والسامي يطلقان اليوم على فريقين من الشعوب وليسا جنسين حقيقيين. ولا بأس أن يقال بناء على هذا المعنى أن الشعوب المرتقية كانت كلها سامية وآرية فنشأ من الساميين الفينيقيون رجال البحار واليهود رجال الدين والعرب رجال الحرب فسار فريق من الآريين إلى الهند وانصرف آخر إلى أوربا فنشأت منهم تلك الأمم التي كانت ولا تزال في مقدمة العالم. ولقد امتاز الهنود في القديم بآرائهم العالية الفلسفية أو الدينية واليونان بإيجاد الصنائع والعلم والفرس والرومان بتأسيسهم في الشرق والغرب مملكتين عظيمتين من أضخم الممالك التي نشأت في الأيام الخالية. ويبدأ تاريخ الحضارة بالمصريين والكلدانيين حتى إذا كان القرن الخامس والعشرون للميلاد يصير عبارة عن تاريخ الشعوب الآرية والسامية.

التاريخ

التاريخ الأساطير - نقلت أساطير الأولين عن روايات متسلسلة طالما تحدث الناس بها قبل أن يدونوها لذلك تراها مشوبة بحكايات وخرافات. فتحدث اليونان أن أقدم أبطالهم أبادوا الغيلان وقاتلوا الجبابرة وكافحوا الآلهة وزعم الرومان أن روملس ربته ذئبة ورفع إلى السماء وقص جماع الشعوب عن طفوليتهم أساطير من هذا القبيل لا ثقة بها عند التمحيص مهما قدم عهدها. التاريخ - يبدأ التاريخ حقيقة لدن وجود أخبار صحيحة دونها أهل ثقة وعلو سماع. وليس هذا الدور واحداً في الكلام على الأمم كلها فتاريخ مصر يبدأ قبل ثلاثة آلاف سنة ق. م وتاريخ اليونان يكاد لا يتعدى الثمانمائة سنة ق. م وليس لألمانيا تاريخ يعرف إلا في القرن الأول للميلاد ويعرف تاريخ روسيا منذ القرن العاشر وليس لبعض القبائل المتوحشة إلى اليوم تاريخ في نشأتها. تقاسيم التاريخ الكبيرة - يبدأ تاريخ الحضارة بأقدم شعب متمدن وينتهي بأيامنا فمعنى القرون الماضية الدور العريق في القدم جداً ومعنى القرون الحديثة الدور الذي نحن فيه. التاريخ القديم - يبدأ التاريخ القديم بالأمم القديمة المعروفة من المصريين والكلدانيين أي من نحو ثلاثة آلاف سنة ق. م ويعم شعوب الشرق من هنود وفرس وفينيقيين ويهود ويونان ورومان وينتهي حوالي القرن الخامس ب. م بسقوط المملكة الرومانية. التاريخ الحديث - يبدأ التاريخ الحديث بأواخر القرن الخامس عشر زمان اختراع الطباعة واكتشاف أميركا وبلاد الهند ونهضة العلوم والصنائع ويلمُّ بذكر شعوب الغرب خاصة من أسبان وطليان وفرنسيين وألمان وروس وأمريكان. القرون الوسطى - هي عبارة عن عشرة قرون مضت بين القرون القديمة والحديثة فلا هي قديمة لما اعتور الحضارة القديمة من الاضمحلال ولا هي حديثة لأن التمدن الحديث لم يتكون بعد. وهذا ما يدعى بالجيل المتوسط. مصادر تاريخ الحضارة القديمة - ليس في الوجود اليوم آشوريون ولا يونان ولا رومان فقد بادت الشعوب القديمة كافة وما خلفوه من العاديات هي فهرست نستفتيه للبحث عن أديانهم وأخلاقهم وصنائعهم. والعاديات هي الكتب والرسوم والآثار واللغات. هذه عدتنا في دراسة الحضارة القديمة وهي تدعى مصادر لأنا نستقي منها معلوماتنا. والتاريخ القديم

يتفرع من هذه الأصول. الكتب - وضع القدماء الكتب أيام عرفوا الكتابة فكان لبعضهم مثل الفرس واليهود والهنود كتب مقدسة وخلف الرومان واليونان تواريخ وقصائد وخطباً ومقالات فلسفية. وقلما نجد في الكتب المواد اللازمة لمباحثنا إذ ليس لدينا كتاب آشوري ولا فينيقي أما ما بقي من أسفار الشعوب الأخرى فتافه جداً. ولقد كان القدماء يكتبون ولكن أقل منا ولذلك كانت تآليفهم أندر ولم يكن لهم من كل مصنف إلا نسخ قليلة لما أن الحال كانت تقضي باستنساخها كلها باليد وقد دثر غالب هذه النسخ أو ضاع أو تعذرت قراءة ما بقي منه ويسمى علم حلها باليوغرافيا أي علم الخطوط والكتابات القديمة. المعاهد - أقامت الشعوب القديمة لأنفسها معاهد مثلنا من مثل معابد لأربابها وقصور لملوكها وقبور لموتاها وقلاع وجسور وقنوات وأقواس نصر. ولقد تهدم كثير من هذه المعاهد واستؤصل وتجزأ بيد العدو أو بيد سكان البلاد ومنها ما لم تقوَ الغير على تقويض دعائمه وما فتئت ماثلة للعيان متداعية مثل القصور العتيقة لانقطاع الأيدي عن تعدها. وقد بقيت بقية يعلم منها ما كانت عليه سالفاً. ومازال بعض هذه المعاهد فوق التراب كالأهرام في مصر ومعابد ثيبة وجزيرة فيلا وقصور البرسبوليس في فارس والبارتينون في اليونان والكوليزة في رومية والبيت المربع وجسر الحرس في فرنسا. وإن السائح لعهدنا لينظر إلى هذه الآثار نظره لأثر حديث. وقد ردم أغلب هذه المعاهد على التدريج بتراب أو رمل أو فتاة أرضية وأنقاض فينبغي تخليصها من هذا الساف الكثيف أو حفر أرضها وكثيراً ما تكون عميقة للغاية. ولم يعثر على القصور الآشورية إلا بخرق آكام وتلال. وقد حفرت حفرة عمقها اثنا عشر متراً للوصول إلى قبور ملوك ميسينا. وبعد فإن عفاء هذه الخرائب لم يكن بصنع الدهر وحده فللبشر اليد الطولى في ذلك. ولم يكن القدماء ليتعبون مثلنا في التقدير والقياس لإقامة البناء. وما عنوا بنزع الردم من أماكنه بل كانوا يركمون الأنقاض ويبنون عليها ولا ينزعونها حتى إذا أشرف البناء الجديد على السقوط تنضم أنقاضه إلى أطلال أخواتها القديمة وهكذا تتألف طبقات عديدة من الأنقاض. وقد جاز أحد السياح المدعو شيلمان بحفرة في مكان مدينة طروادة خمس طبقات من الأطلال إذ كان ثمة خمس مدن خربة كلها وأعتقها على عمق خمسة عشر متراً. وما برحوا

يعثرون في رومية في الأحايين على ثلاث بنايات منضدة بعضها فوق بعض وقد تراكمت عليها الأطلال فعلا التراب في سفح التلال بضعة أمتار. بقيت مدينة برمتها لم تمسسها طوارق الحدثان وذلك بحادث طبيعي جرى عام 79 للمسيح وهو أن بركان فيزوف في إيطاليا قذف سيلاً من الحمم مائعة أمطرت رماداً فانكشفت للحال مدينتان رومانيتان كانتا مدفونتين وهما هيركولانوم وبومبيه. وكانت الأولى تحت الحمم السائلة والثانية تحت الرماد. وقد أحرقت الحمم المتاع وغشاها الرماد وحفظها من الهواء فبقيت سالمة. وكلما أزيح الرماد تظهر مدينة بومبيه للأعين على نحو ما كانت عليه منذ ثمانية عشر قرناً. وإنك لترى في بلاطها بعد مجرات العجلات وآثار سير المركبات وصوراً خطت بالفحم في الحيطان ونقشاً وأثاثاً وماعوناً وخبزاً وجوزاً وزيتوناً في الدور والمساكن وهياكل عظام من دهمتهم الكارثة مبعثرة مبددة. وبهذا عرف القارئ أن الآثار والمعاهد تفيدنا كثيراً في الوقوف على حالة الشعوب القديمة. ويدعى علم الأزمنة القديمة أركيولوجيا. الرسوم - نعني بالرسوم كل ما يشمل الخطوط عدا الكتب فمعظم الرسوم زبرت على الحجر وحفر بعضها في صفائح من القلز ووجد منها في مدينة بومبيه ما زبر على الجدران بالأصباغ أو بالفحم. وأن بعض هذه الرسوم لتمثل تذكارات وقائع أو رجال كما هو جار الآن عند الإفرنج فيما يقيمونه من تماثيلهم وبناياتهم. وهكذا نرى الإمبراطور أغسطس دوَّن حياته على معهد انسير ومعظم هذه الرسوم عبارة عن كتابات زبرت على القبور ويماثل بعضها الإعلانات لعهدنا فتحتوي على قانون أو نظام تراد إذاعته بين القوم. ويدعى علم الرسوم ابيكرافيا. اللغات - تفيد اللغات التي نطقت بها الشعوب القديمة في بيان تاريخهم فإذا فهم الباحث كلمات من لغتين مختلفتين ينجلي له أحياناً أن أصل هذين اللسانين واحد ويسجل بأن الشعوب التي تتكلم بها خرجت من نبعة واحدة. ويدعى علم اللغات لينكستيك. النواقص - لا يذهبن ذاهب إلى أن الكتب والمعاهد والأطلال واللغات تكفي للإحاطة بتاريخ القرون السالفة فإن فيها تفاصيل جمة يمكن الاستغناء عنها وما ترغب نفوس الباحثين في استبطان حقيقته قد يعز عليها ويفر منها. وما برح العلماء يحفرون ويحلون

ويظفرون كل يوم بأطلال ومعاهد لم تعرف من قبل وقد بقيت مع هذا نواقص وسيبقى كذلك أبد الدهر.

الأمية في الغرب

الأمية في الغرب ليس لدينا ما يركن إليه من الإحصاءات في نسبة عدد الأميين في بلاد الغرب إلى المتعلمين من أبنائهم إذ أن إحصاء اليوم قد لا ينطبق عليه إحصاء غدٍ. والذي علم بالتحقيق أن الممالك الأوربية الصغرى كالدانمرك والبلجيك وهولندا واسوج ونروج وسويسرا هي أكثر أهل أوربا انغماساً في التعليم وأقل أهلها أميين حتى أن عدد هؤلاء بالنسبة إلى المتعلمين يكاد لا يذكر ويكفي أنه لا يوجد في سويسرا غير شخص واحد أمي في كل ألفين من السكان ذكورهم وإناثهم. ولئن كان التعليم إجبارياً في بعض الممالك الكبرى بأوربا وأميركا فلا يزال عدد الأميين يذكر فيها وفرنسا هي في مقدمة الدول العظمى بقلة أمييها وكثرة متعلميها ومنوريها. وجميع الدول شاعرة بوجوب التعليم تتفنن كل يوم في بثه على أساليب لم يكن يحلم بها اليونان والرومان ولا العرب ولا غيرهم من الأمم العظيمة التي كان لها شأن في بعض أزمان التاريخ. وقد ارتقت المدارك في الغرب حتى أصبح ما كان يدعو إليه خاصته في أوائل القرن الماضي قضية مسلمة عند الخاصة والعامة في أوائل هذا القرن وصار عليه الفتوى والعمل. كل ذلك بفضل أهل العلم منهم وعلى حسب سنة الترقي قال: بنتام ذهب بعض قادة الأمم إلى أن انتشار المعارف مضر وظنوا بأن قيمة الناس تعلو بمقدار نقصهم في المعارف وأنه كلما نقصت معارفهم غابت عنهم معرفة الأشياء التي تبعثهم على الضرر أو علمهم بوسائل فعله. وهو غلط فإن انتشار المعارف ما كان ولن يكون سبباً في ازدياد الجرائم ولا مسهلاً لارتكابها ولكنه نوع الطرق في اقترافها فاستعملت وسائل أقل ضرراً من التي كانت قبلها. لنفرض أن الأشرار يستفيدون من كل أمر وأنه بقدر معارفهم يسهل عليهم الضرر فهل نتيجة ذلك بقاء الناس جميعاً في ظلمات الجهل ولو كان خيار الناس وشرارهم منقسمين إلى نوعين ممتازين كالأمة البيضاء والأمة السوداء لقصرنا المعارف على الأولى وأبقينا الثانية في الجهل لكن تعذر ذلك وملازمة الخير للشر في الشخص الواحد تدعونا إلى القول بجعل الكل تحت نظام واحد فإما جهل مطبق للجميع وإما علم للجميع ولا وسط بينهما. على أن الدواء في الضرر نفسه لأن المعارف لا تساعد الأشرار على شرورهم إلا إذا اختصوا بها لكن إذا عمت سهل على غيرهم أن يعرفوا حبائلهم فيسقط تأثيرها. ألا ترى أن

الأمم في أزمان الجهل ما كانت تعرف من السميات إلا ما تسقي به أسنة رماحها ولكن الأمم المتمدنة عرفت جميع أنواع السميات وعرفت أيضاً كيف تقابلها بما يدفع ضررها. كل إنسان يمكنه أن يفعل جريمة ما وذو المعارف وحده هو الذي يتمكن من وضع قانون لمنعها وكلما قصرت معارف المرء صار ميالاً إلى فصل منفعته عن منافع الغير وكلما ارتفعت مداركه وسمت معارفه علم الجامعة بين المنفعتين. وبعد فإن من نالوا غايتهم حقيقة بجعل أممهم في حضيض الجهل إنما نالوها بنشر الأوهام وإذاعة الأغلاط فيهم ولقد كان أولئك الرؤساء أنفسهم طعمة في هذه السياسة الحرجة إذ صارت الأمم التي استمرت في السقوط تحظر قوانينها عليها أن تصعد في مراقي التقدم فريسة الأمم التي ارتقت معارفها فارتفعت قيمتها عليها. لأن الأولى شبت في الجهل وشابت في الطفولية تحت قيادة قوم أطالوا زمان خمولها ظناً بأنه يسهل عليهم تملكها لذلك سهلت تلك الأمم فتح أبوابها للطالبين إذ لا فرق عندها بين حاكمها والجديد فهي خاضعة وأولئك يحكمون. هذا ما قاله المتشرع الإنكليزي وقال روبرتسون: كان الإفرنج في القرون الوسطى أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فكان الأعيان لا يحسنون توقيع الكتب الصادرة عنهم فيكتفون برسم الصليب عليها بدلاً من التوقيع وقد شوهد كثير منها في الأزمنة الأخيرة بعضها صادر عن الملوك وبعضها عن الأعيان كما ذكر دوكنج بل وجد في القرن الرابع عشر أن أعظم أكابر عصرهم وقوادهم مثل دوغسقلين رئيس الجيوش الفرنسية أمياً. وكان معظم القديسين أرباب المناصب الدينية والدنيوية لا يحسنون كتابة أسمائهم على المقررات في المجالس وكان أعظم امتحان يجري على من يروم أن يتقلد وظيفة سؤاله عما إذا كان يحسن قراءة الإنجيل والمكاتبات ويفسر معناها كلمة كلمة. ولطالما كان الملك الفريد الأكبر يشكو من أنه لا يوجد في البلاد الواقعة بين نهري هومبير والتايمس أحد من القديسين يفهم الدعوات القديسية بلغتها الأصلية ويتمكن من ترجمة العبارات السهلة من اللاتينية. وسبب ذلك ندرة الكتب وعدم انتشارها وذلك أن الرومانيين كانوا يكتبون كتبهم على جلود مصقولة أو على رق قشر البردي ويقال له أيضاً ورق النيل لأنه كان يأتي إليهم من مصر ولما كان ورق البردي أرخص كان استعماله عندهم أكثر من

الجلود. وبعد أن فتح المسلمون بلاد مصر انقطعت الصلات بين أهل مصر وأهل إيطاليا وغيرهم عن أمم أوربا فاضطر الناس أن يكتبوا جميع الكتب على الجلود فأصبحت نادرة. وقد مضت القرون على أوربا والكتابة والكتب نادرة عزيزة في كل أقطارها حتى أن لويز الحادي عشر لما استعار من جمعية الطب البشري بباريس مؤلفات الفخر الرازي أحد فلاسفة المسلمين اضطر أن يرهن مقداراً جسيماً من أعلاقه. وقصارى القول فقد أصبح الأوربيون بعد أن كان علماء الشرع والتاريخ منهم ينادون بما ينادون به على نحو ما تقدم آنفاً يعلمون اليوم ابن الزارع والتاجر والعامل والعالم والموظف ما لا غنية له عنه في هذه الحياة الدنيا من الكتابة والقراءة والحساب ومبادئ الجغرافية والتاريخ والشريعة البسيطة. وفي فرنسا مثلاً يتعلم الجميع إلا أنه ينقطع ناس تفردوا بالذكاء ومن كان أهلهم في سعة من العيش يستطيعون معها الإنفاق على أولادهم يدرسون الدروس العالية كالطب والصيدلة والمحاماة والهندسة والعلم والأدب وخدمة الحكومة بيد أن علماء الفرنسيين يشكون اليوم - وأي أمة لا تشكو من حالها حباً بالازدياد من الارتقاء - من المتعلمين على هذا النمط وأنهم فائضون عن الحاجة وينادي علماؤهم بأنهم لو ألغوا درس اليونانية واللاتينية القديمتين وكفوا بنيهم مؤونة ترجمة سوفقلس وفيرجيل وأنهم لو استعاضوا عنها بأن ذهبوا مثلاً إلى المستعمرات وزرعوا قصب السكر وباروا الألمان والإنكليز في الشؤون الاقتصادية لكان أنفع لهم وأجدى على مجتمعهم. يقولون أن شهادة العالمية (بكالوريا) التي سماها أحد ظرفاء الفرنسيين جلد حمار قد أخرتهم عن اللحاق بالأمم وقد غشي على بصائر بعض العقلاء منهم فصاروا لا يرون الفضل والعقل إلا فيمن درس هذه الدراسة إلا أن أهل النقد منهم يقولون أن من أسس معملاً توفرت فيه الأعمال وجرت على أتمها وكثرت فيه الاختراعات والتفنن وتاجراً أسس بيتاً تجارياً نجح فيه ليس في نظر المجتمع الإنساني دون ذاك العالم الذي يحمل شهادته في العلم والأدب بل هو فوقه. وما صح منذ نحو ثلاثين سنة للفرنسيين لا يصح لهم أن يتعاطوه اليوم والحياة الاجتماعية في تبدل مستمر والحضارة تصير من يوم إلى يوم حضارة صناعية علمية. وقد قال جول سيمون أحد فلاسفة الفرنسيين ينبغي أن نكون أبناء أحرياء بهذا العصر كما قال العرب خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير

زمانكم.

الغناء المصري

الغناء المصري الغناء صوت النفس وهو في كل أمة صورة آدابها وأخلاقها وعاداتها فبينا ترى الوحشيَّ في مفازة تمشي الرياح بها حيرى مولهة وهو يتغنى بذكر الشمس والماء والشراب والعربيَّ تحت القبة الزرقاء يتغنى بذكر البدر والليل والخيل إذا أنت بالحضري وهو آمن في سربه مطمئن في عقر داره لا يخشى زئير الأسد ولا يتطلب الغيث وقد احتفت به الغواني والغيد، والجواري والعبيد، وهو يرتع في خمائل البساتين، يتجرع كؤوس الهناء، ويتغنى بذكر الجمال، والتيه والدلال، والرقيب والعذال، والعتاب والوصال، وترى الجنديَّ يتغنى بذكر الحروب، ويترنم بأغاني الوغى، ويطرب لوقع السيوف على السيوف، كما يطرب الحضري لوقع الصنوج على الصنوج، أو لدق الأنامل على الأوتار والدفوف. والغناء قديم وجد مع النفس لأن الإنسان ما لبث لما أخذه بصره جمال هذه الكائنات وجلال ذلك الخلق البديع أن تحركت عواطف نفسه فحركت عقيرته بأصوات الغناء. ولقد بلغ الغناء العربي شأواً بعيداً فلم يكد يستقر الملك لبني العباس حتى قربوا أهل الشعر وأرباب الغناء. فكانت مجالسه عندهم تفاخر مجالس الحكمة والشعر. وكان للغناء بلابل تغرد فتطرب، وتشدو فترقص. أقام الرشيد ببغداد قصراً على ضفاف دجلة فكان إذا أرقته الهموم يقصد ذلك القصر ويدعو إليه إبراهيم الموصلي ويضاء ذلك القصر البديع ويهب نسيم الليل حاملاً عطر الأزهار فيندفع المغني يحرك الأوتار فترقص الأسماك في أمواه دجلة طرباً وتشاركه البلابل في التغريد. ومن لنا بمجلس من مجالس الأنس بالأندلس وقد ضربت علينا قبة من البلور ينحدر الماء من جانبيها وحولنا الخرد العين وبيننا مائة القد تضم إلى صدرها ابن الطرب وهو يئن من لمس أصابعها تارة ويتأوه آهة المتيم المعمود طوراً وهي تنشد: ما لذَّ لي شرب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح إذا أسى في الصباح أو في الأصيل أضحى يقول ما للشمول لطمت خدي وللشمال هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريباً يا لحظه رد ثوباً ويا لماه الشنيا برد غليل صب عليل

لا يستميل فيه عن عهدي ولا يزال في كل حال يرجو الوصال وهو في الصد وإعجاب الناس في مصر بالغناء شديد وليس هذا الإعجاب لجمال في الشعر الذي يتغنى به ولكنه لبراعة المغني في التوقيع وحذقه في الضرب على الأوتار فإنه لا يلبث أحدهم أن يرفع صوته حتى تخال أنه يدق على صنج فؤادك أو ينقر على أوتار قلبك. وأهل مصر وغيرهم في الطرب بغنائهم سواء لأنه لا تزال فيه روح الغناء القديم الذي كان يتغنى به الكهنة في الهياكل والمعابد ولا يبعد أن تكون تلك الأنغام أقرب الأنغام إلى النفس وأدناها من الجنان. ولقد يسأم المصري غناء الإفرنج وهم يرفعون أصواتهم حتى تكاد تبلغ عنان السماء ثم يخفضونها حتى توشك أن تكون أخفى من دبيب النمل وهم بين هذا وذاك يلبسونها ثوب الرقة والخشونة فتكون وسطاً بين الصياح والنهيق. ولكنه لا يسأم الغناء المصري وهو يرفل في حلل تلك الأنغام البديعة التي تأخذ بمجامع القلوب وتستهوي الأفئدة قبل الأسماع. وليس المصريون أمة حرب فيتغنون بالشعر الحماسي الذي يستفز النفوس ويهيج العواطف ويحرك الشجاعة الكامنة في الأفئدة ولسنا أمة بحارة فنتغنى بذكر الصرصر العاتية والبرق الخاطف والرعد القاصف والرياح العواصف ولسنا أمة عاملة نتغنى بذكر البخار والكهرباء والنار والماء بل نحن أمة مكسال آمنة مخلدة إلى الراحة خيراتها كثيرة وأمواهها غزيرة، نساؤنا طرب، وحياتنا لهو ولعب فلم لا نتغنى منشدين يعيش ويعشق قلبي ... رق الدلال والتيه سلطان زمانه حبي ... يأمر وينهى فيه القاهرة محمد لطفي جمعة

فتيان يؤلفون

فتيان يؤلفون تناقلت الصحف الدورية في الغرب هذه الأيام رأياً للمسيو إميل فاغي من رجال العلم في فرنسا وأحد الأعضاء الأربعين في المجمع العلمي الباريسي قال فيه: أنه لا ينبغي للكاتب أن ينشر ما كتب لينفع به الناس قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره وما هو قبل هذا السن إلا معلم نفسه وممرن قلمه. وقد أذكرني هذا الرأي بأن في أمتنا من نبغوا قبل بلوغهم تلك المدة المعينة وأفادوا واستفادوا من ثمرات عقولهم. ولا يحضرني الآن من أهل الغرب إلا اسم الشاعرين الإنكليزيين كيت وشيلي اللذين قضيا في نحو الثلاثين من عمرهما وقد راق شعرهما كثيراً من الناقدين. أما في الشرق العربي فقد توفي ابن المقفع صاحب كليلة ودمنة وغيره من الكتب الممتعة وهو في السادسة والثلاثين. وتوفي سيبويه وهو لم يتجاوز الأربعين وقد برز في النحو حتى كان من لا يحفظ كتابه لا يعد بشيء في علم الإعراب. وفي مثل هذا السن توفي بديع الزمان الهمذاني صاحب الرسائل والمقامات البديعة. ولم يستكمل ابن سينا ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها من أصول الدين والأدب والطبيعي والرياضي والطب وعلم الأوائل ومات في الثالثة والخمسين وقد فاق الأوائل والأواخر. وابتدأ الشريف الرضي يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. وألف ابن سبعين كتاب بدء المعارف وهو ابن خمس عشر سنة. واقرأ ابن الأعلم النحو قبل أن يلتحي. وكتب سليمان ابن وهب للمأمون وهو ابن أربع عشرة سنة ثم لايتاخ ثم لاشناس ثم ولي الوزارة. وقال السلامي الشاعر الشعر وهو ابن عشر سنين وأول شيء قاله وهو في المكتب بدائع الحسن فيه مفترقه ... وأعين الناس فيه متفقه سهام ألحاظه مفوقة ... فكل من رام لحظه رشقه قد كتب الحسن فوق وجنته ... هذا مليح وحق من خلقه واستظهر الوزير أبو القاسم المغربي من أهل القرن الرابع القرآن العزيز والكتب المجردة في النحو واللغة ونحو خمسة عشر ألف بيت من مختار الشعر القديم ونظم الشعر وتصرف في النثر وبلغ من الحظ ما يقصر عنه نظراؤه من حساب المواليد والجبر والمقابلة إلى ما يستقل بدونه الكاتب وذلك كله قبل استكماله أربع عشرة سنة واختصر كتاب إصلاح

المنطق فتناهى في اختصاره وأوفى على جميع فوائده حتى لم يفته شيء من ألفاظه وكان ذلك قبل أن يستكمل سبع عشرة سنة. ونظم الوزير إسماعيل بن حبيب النظم الفاتق والنثر الرائق قال في. . .: وأبو جعفر بن الأبار هو الذي صقل مرآته، وأقام قناته، وأطلعه شهاباً ثاقباً، يرسلك به إلى فنون الآداب طريقاً لا حباً، وله كتاب سماه بالبديع في فصل الربيع جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة أعرب فيه عن أدب غزير، وحظ من الأدب موفور، وتوفي وهو ابن اثنين وعشرين سنة واستوزره داهية الفتنة ورحى المحنة قاضي اشبيلية عباد جد المعتمد ولم يزل يصغي إلى مقاله ويرضى بفعاله وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر وذلك يدل على رقة نفسه. هذا ومن يستقر التاريخ يجد أمثلة كثيرة للنوابغ قبل السن الذي ضربه الكاتب الفرنسي على أن النفع إذا لم يحصل ممن بلغ الرشد فأحر به أن لا يحصل أصلاً وحصول النفع الحقيقي من ثمرات أعمال الكاتب قد لا يكون في الثلاثين ولا في الأربعين من عمره ولذلك قيل إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... ولم يفخر فليس له افتخار

الجنون بالكتب

الجنون بالكتب الغالب أن عشاق الكتب كعشاق الجمال أو هم أضل سبيلاً، فتراهم هائمين خاملين لا يعون على شيء في الأرض ولا يحفلون بعظائم الأمور فضلاً عن صغارها، يحملون الكتب روحهم وراحهم وريحانهم، بل فروضهم ونوافلهم وأحاديثهم وأشغالهم. وكل شيء إذا جاوز الحد انقلب إلى الضد. وكذلك الحال بعاشق الأسفار فربما جوَّز لنفسه السرقة ولكن سرقة الكتب بل وربما أفتى بحل ذلك لمن يستفتيه. ولقد قرأت فصلاً لأحد كتاب الفرنجة فآثرت تلخيصه كما يلي: أقر أحد عشاق الكتب يوماً في إنكلترا عن نفسه واسمه ديبدن (1776_1847) أنه همّ يوماً أن يسرق وحمد لله على أن خلا بنفسه في خزانة كتب ستراسبورغ ولم تحدثه نفسه بسرقة كتاب منها. وكان خطر على بال رجلين في إنكلترا أن يطبعا لأنفسهما خاصة كتاباً يكون آية في طبعه ووضعه وصوره وورقه وتجليده ولم يطبعا منه غير نسختين. فما كان إلا كلا ولا حتى حدثت أحدهما نفسه بأن يذهب لي دار صاحبه ويستأثر دونه بالنسخة فيسرق بعض صورها حتى تكون نسخته هي التي يرجع إليها فراح في غياب صاحبه إلى زوجه وطلب إليها أن تريه النسخة لغرض بدا له فدفعتها إليه وجعل يقلبها مهتماً بأمرها ثم استغفلها فمزق بعض صور الكتاب وجعلها في جيبه وانصرف فلما عاد صاحبه ارتاب في مجيء صاحبه وقلب أوراق الكتاب فرأى ما فعله فرفع عليه قضية حكمت له فيها جمعية الكتب بألفي جنيه تعويضاً. وقد راودت أحد هؤلاء الغلاة يوماً نفسه أن يحرق مكتبته بعد أن زار مكتبة الدوك دومال ابن لويز فيليب أحد ملوك فرنسا المتوفى سنة 1897 إذ مزق الحسد والطمع والغيرة أحشاء ذاك الرجل. بيد أن العريق في محبة الكتب الحقيقي هو محب الآداب أيضاً وعضد المعارف فيغتبط إذا ظفر غيره بكتب لم يسعده الحظ بمثلها ويأمل أن يكون من ورائها مغنم كبير للمطالعين والدارسين. ومن غرائب هؤلاء العشاق غليوم بودي (1467 - 1540) قال إنه اغتنم الفرصة يوم عرسه فمر بكتبه قبل أن يبني بعرسه ومع هذا رزق بنين وبنات وهو الذي يروى عنه أن خادمه جاءه يوماً وهو يلهث فقال أن لسان اللهيب أخذ يندلع على البيت وكان أمام كتبه بالطبع فأجابه قل لزوجي وهلا تعرف أنني لا أتداخل في أمور المنزل. وأغرب من هذا ما أجراه أدرين تورنيب من مشاهير اليونان وأحد فلاسفة القرن السادس

عشر (1512 - 1565) فإنه نسي يوم عرسه الذي يقضى عليه بأن يجتمع في يومه بالناس. وكذلك كان أمر فردريك مورل لجون من علماء فرنسا المشتغلين وكان يبحث في أخبار ليبانيوس السفسطائي اليوناني فجاءه رسول يقول له أن زوجته تريد أن تكلمه بضع كلمات وكان يحبها حباً جماً فقال له دعني الآن انظر هاتين الكلمتين لكن المهلة التي طلبها طالت واسبطرت فبعثت إليه برسول آخر قال له إن زوجتك كادت تفارق الحياة فحوقل وامتدح منها وردد بعض مآثرها وسيرتها الصالحة وعاد يغوص في بحر كتبه. ومات القس كوجي (1697 - 1767) حزناً لأنه أكره على بيع كتبه. ويروى مثل ذلك عن سكاليجر العالم الطلياني المتوفى سنة 1558 وباترو الفقيه الفرنسي المتوفى سنة 1681 فقد قال الأول إن رمت أن تصاب بأعظم خطوب الأرض فبع كتبك تلق الشقاء ومن رام أن يجمع على رأسه ضروب البلايا صفقة واحدة فما عليه إلا أن يبيعه كتبه. ورأى يعقوب غوبيل (1564) من مشاهير فرنسا مكتبته نهب أيدي الضياع والسلب في فتنة عصابات الكاثوليك فمات يائساً بائساً. وحزن العالم الكتبي كولنه دورافل الفرنسي حزناً ولا حزن يعقوب على يوسف لما رأى كتب الأبرشية تطفو على نهر السين وكان يقدر قيمتها حق قدرها لأنه رتبها وبوبها. واضطرت الحاجة اللغويَّ برونك من ستراسبورغ (1729 - 1803) أن يبيع جانباً من مكتبته واشتد حزنه عليها حتى كان إذا ذكر أمامه مؤلف اقتناه وباعه في جملة ما أباعه تنحدر عبراته على خديه طوعاً كرهاً. واضطر الأمير كاميراتا في القرن التاسع عشر أن يبيع أسفاره في المزاد العلني ولم تكد توزع على مبتاعيها حتى انتحر بيده وقال بيدي لا بيد عمرو. ويقرب من ذلك ما فعله الكونت لابيدويير فإنه توهم أن كتبه أتعبته فباعها فما هو إلا يوم وليلة حتى عاد يشتريها ثانية بكل مرتخص وغال فأشبه في حاله ولداً مبذراً غادر بيت أبيه. وحدث أن أحد الأميركيين المستر بريان وهب إحدى المكاتب مجاميع نفيسة من روايات نادرة فلم تمض أيام حتى عاد إلى قيم المكتبة يطلب إليه أن يرى كتبه فأخذ يحدق بها ويصوب في جلودها ويصعد فظن القيم أن صاحبه ينوي أن يسترجع ما وهب ولكن راح المسكين فانتحر بعد يومين وعزَّ عليه أن يفعل فعلته قبل أن يودع محبوباته قديماً ويرعى

لهن ذمامهن. ومات المركيز شالابر في القرن التاسع عشر قانطاً مخفقاً لكونه لم يتمكن من ابتياع نسخة من التوراة ثمينة. قيل إنه كان في محفظة جعلت في جلدها أوراق مالية بأربعين ألف فرنك فعثر عليها الكتبي لما اشتراها من صاحبتها فأعادها إليها. وقضى بيترارك (1304_1374) في مجلسه ولما استبطأه أصحابه أطلوا عليه فوجدوه ميتاً والكتاب في حجره. وكذلك مات الصحافي ارمندبرتين (1801_1854) مدير جريدة الديبا وكان له مجاميع من أجمل القنيات والكنوز ذكروا أنه مات بين كتبه عقيب وفاة حليلته فوجدوه ماسكاً بكتاب كانت هي تحبه في حياتها فجاء الموت وهو على هذه الحال. ومات المؤلف يعقوب برونه (1780_1867) وهو على كرسيه وبين كتبه بعد أن عمر طويلاً ولا شغل له غير الدرس والتبحر. وقضى الجماعة موبللي منذ نحو نصف قرن وكانت مكتبته تساوي مائة ألف فرنك ولم يوجد عنده من الدراهم ما يكفي نفقات دفنه. ومن عشاق الكتب من سقطوا عن سلالم مكاتبهم فقضوا نحبهم ومنهم اييرت (1791_1834) من غلاة الكتب في درسد والمركيز مورانت (1808_1868) الإسباني وروفر وغيرهم. والمؤرخ الكاتب تيودور مومسان الألماني (1817_1903) ذهب إلى خزانة كتبه ذات يوم والشمعة بيده فسرى لهيبها إلى لحيته البيضاء وقضى بعد شهر متأثراً. وأعجوبة المولعين بالأسفار انطون ماكليابيشي (1633_1714) من مدينة فلورنسا فقد خدم لأول أمره في دكان فاكهانية وأخذ ينظر في الأوراق التي تصر بها الفاكهة فوقع في نفسه أن يتعلم القراءة فاتصل بكتبي ولم يعدم من يدرسه ويعلمه وكان ذا ذاكرة قوية ما حفظ شيئاً ونسيه وحفظ من أسماء الكتب ومظانها حتى أصبح عبارة عن مكتبة سيارة ثم اتصل بالغراندوق كوسم الثالث وجعله قيماً على كتبه ولم تكن هذه الكتب لتشفي مطامعه بل أخذ يطالع فهارس المكاتب الأوربية مطبوعها ومخطوطها ويسأل كبار العلماء السياح عن نوادرها حتى صار يعرف كل دقيق وجليل من أحوال الكتب وكانت له طريقة غريبة في المطالعة فإذا أخذ كتاباً لم يكن طالعه من قبل ينظر في اسمه وفهرسته ومقدمته وتقدمته ويتصفح أوائل فصوله وبعد دقائق يقول لك رأيه في موضوع الكتاب والمصادر التي أخذ منها مؤلفه ولا ينسى ذلك على الدهر. ولم تكن له عناية بهندامه ونظام معيشته بل كان في ليله ونهاره مستغرقاً في أسفاره لا يخرج إلا إلى مكتبته. وكان أعلى بيته وأسفله ومدخله

وحجره ونوافذه كلها ملأى بالكتب. وهو غريب في خموله حتى كان يأكل في الغالب بيضاً وخبزاً وماء - والخبز والماء أكل العلماء كما قيل - ولطالما سرق له خدامه وخدام جيرانه دراهم من خزانة بقربه كان يضع فيها البيض والدراهم معاً وقد أراده البابا والملك أن يتمثل بين أيديهما فتجاهل ما أمرا به وعاش على كسله إحدى وثمانين سنة وأوصى بمكتبته لبلده وكانت تبلغ ثلاثين ألف مجلد وجعل لها مورداً تعيش به ومازالت معروفة به إلى الآن.

الميت الحي

الميت الحي تكاد عيوني تقرأ الغيب في الدجى ... وتسمع أذني فيه ما تضمر النمل وما أنا من قوم تهون نفوسهم ... عليهم إذا خانتهم الصحب والأهل فلي من مضائي رفقة وعشيرة ... فلا سيد ينأى ولا صاحب يسلو فيا حظ لا تسعد ويا خل لا تزر ... ويا دهر لا تعدل ويا عيش لا تحل فما هاجني سخط ولا كفني رضا ... ولا ساءني ظلم زلا سرني عدل وما قتلتني الحادثات وإنما ... حياة الفتى في غير موطنه قتل وما أبقت الدنيا لنا من جسومنا ... على بأسنا ما يستقيم به الظل ولولا اختلاف الناس ما قال قائل ... عجبت لفرع لا يشاكله أصل فهل أرشدت تلك النمال إلى الحجى ... وهل أرضعت بالشهد في كورها النمل يحار الفتى في عيشه ومماته ... فأولها جهل وآخرها جهل وقلت وقد سألني (حافظ إبراهيم) لِمَ لم تتزوج يا خليلاً وأنت خير خليل ... لا تلم راهباً بغير دليل أنا ليل وكل حسناء شمس ... فاجتماعي بها من المستحيل القاهرة محمد إمام العبد

سيئات القرن الماضي

سيئات القرن الماضي التسمم بالتبغ هو أيضاً من الجراحات الاجتماعية التي صيرها هذا العصر نغارة. فالتبغ هو ذاك المسلي الذي يستعمله الجندي والملاح والزارع والصانع والعامل والعالم. يدفع ببعضهم إلى العمل ويسكن في بعضهم شيئاً من انفعالات النفس. ومن العجيب أن الأوربي الذي ذهب إلى أميركا يبث نور المدينة في عقول برابرتها قد أسفَّ إلى الأخذ عنهم فاقتبس منهم عادة التدخين مع علمه أنهم دونه في الذكاء والعلم. فقد نقل الإسبانيون سنة 1560 عادة التبغ من المكسيك إلى لشبونة ومنها انتقلت إلى الديار الأوربية فأولعت النفوس بها. حتى إنه ليصرف على التدخين وما يلحقه من الثقاب (الكبريت) والعلب والغلايين والورق والأنابيب مبالغ جسيمة لو صرفت في تطهير المدن الكبرى وترقية المعارف العمومية وإنشاء دور لعجزة العملة لأتت المجتمع الإنساني بفوائد لا تقدر ولئن كان الضرر المشاهد من التدخين أقل من ضرر المسكر فإن مما لا يختلف فيه اثنان أن إدمان التدخين يحدث اضطرابات في القلب وضعفاً في البصر قلما تشفى إلا بالإقلاع عن هذه العادة السيئة. والأمراض الزهرية إحدى رذائل هذا القرن فإنها هاجمت طبقات المجتمع كله من الفتى اليافع إلى الشيخ الهرم ومن مرضع سليمة إلى طفل ورث عدواه من أبيه وأمه فهواشد فتكاً في إفساد الجنس البشري من عامة الأوبئة التي انتابت المجتمع في أدوار الحقب. ومادام الجهاد في الحياة يتزايد كل آن وطرق العيش تتصعب فإن أسباب الزواج الشرعي تقل ويقل الراغبون فيه بل ومادامت الخدمة العسكرية لا مناص منها في سن مخصوصة من أيام الشباب فإن من العبث منع أسباب الفجور ليضرب دون هذا المرض الوبيل بأسداد منيعة. وزاد انتشار السل الرئوي في الخمسين سنة الأخيرة فأصيبت به طبقات الناس على اختلافهم في البلاد المتمدنة وقد شوهد أنه يفعل في الغالب بالجند في ثكنهم والعاملين في معاملهم والسجناء في حبوسهم لأن الاختلاط الشديد هو من أهم أسباب انتقال العدوى والمصابون بالسل هم بين العشرين والخمسة والعشرين من عامة الوفيات في سائر الأمراض ويصيب الشبان والشيوخ غالباً. ومما يساعد على كثرة فتكه ماعدا انتقاله بالوراثة سوء العناية بالصحة كما هو المشاهد في البلاد الكبيرة فإن الأقدام تزدحم في الأحياء الضيقة والبيوت المظلمة التي لا تنفذ إليها الشمس ولا يتجدد فيها الهواء فتحدث في

الأجسام ما تحدث. أضف إلى هذا كمية الغذاء وكيفيته على النحو الذي يتناوله العملة مما لا نسبة بيته وبين الأعمال الشاقة التي يتعاطونها ويقتضي لها من معوضات القوة ما يكفي ويشفي. ومن الأوصاب التي شاعت في النصف الأخير من القرن في بلاد التمدن أمراض من دواعيها الاضطراب في التغذية والإكثار من الطعام وتدعى بلسان الطب ديستروفيك وهي على أشكال فمنها الرثية أو وجع المفاصل وأوجاع تصيب المثانة وتجعل فيها عسراً. وتجد المصابين بها زرافات كل سنة يغتسلون بالمياه المعدنية في فيشي وكارلسباد. وكان القدماء يظنون أن هذا المرض خاص بالأغنياء إلا أنه تبين مؤخراً أنه ما خص طبقة واحدة من الناس. ومما عمت به البلوى من الأمراض في عهدنا وسببه الغذاء سلس البول السكري. مرض وإن اختلفت الأقوال في أسبابه فإنها لا تعدو أن تكون تأثرات أخلاقية مضنية واضطرابات وحصر للذهن عظيم وعمل عقلي مفرط وأوصاب طبيعية طويلة وأرق وقلة إغفاء. وكل ما يضعف الوظائف الدماغية ويصرف كثيراً من قوة الأعصاب. ومعظم من يختلفون إلى المياه المعدنية يستشفون بها هم من العلماء والساسة والماليين وأرباب الصنائع والأشغال والصيارف ممن حملوا أنفسهم فوق طاقتها. وهناك كثير من الأمراض الحديثة التي جاءت مع الحضارة وهي من مفسدت الدم كالخنازير وأنواع الفقر الدموي وغيرها. فكما أن الكوليرا انتقلت إلى أوربا من آسيا فكذلك نقل أهل أوربا إلى أميركا وآسيا وجزء من إفريقية الحمى التيفوئيدية فإنها وإن عرفها القدماء باسم حمى خبيثة عفنية لم تعرف في أوربا إلا في سنة 1820. وقد انتشرت الدفثيريا أو الخناق في هذه السنين انتشاراً وبيلاً حتى صار مرض الدفثيريا إحدى المصائب المهلكة للأطفال يشترك في التلقيح بجراثيمها أبناء القرى والمدن معاً وذلك لما يبذل من القوى العصبية في جهاد الحياة وبفضل تعدد طرق المواصلات واختصار الأبعاد فتنقل جراثيم عدواها بسرعة من البلاد الموبوءة بها إلى البلاد السليمة منها. والنزلات قد اشتدت وطأتها كثيراً وصارت وبائية وافدة تفتك فتكاً ذريعاً.

المومياء المصرية

المومياء المصرية لحكمة غابت عن الباحثين حنط قدماء المصريين جثث موتاهم وجعلوها مومياء منذ نحو سبعين قرناً. عثر علماء الآثار المصرية على أكثرها في نواويس ومدافن ووضعوا بعضها في المتاحف ودور العاديات لتشهد لتلك الحضارة القديمة بالرسوخ والارتقاء. ولم يكتف المصريون بتحنيط الملوك والملكات والعظماء والعظيمات والأولاد والنساء والعبيد والإماء بل تناولت أيديهم بالتحنيط ضروباً من الحيوانات تعد بألوف ألوف الألوف كشف أكثرها فاستعمل في تسميد الأرض وتزبيلها. وقد أخذ المسيو ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصرية طائفة من هذه الحيوانات والطيور المحنطة ودفعها إلى علماء من أهل الأخصاء فتعاورتها الأيدي بالبحث والعيون بالنظر والأفكار بالتأمل. وألف اليوم عالمان طبيعيان من مدينة ليون كتاباً في الحيوانات الخاصة بهذا القظر فمما قالاه فيه: لقد ظفر في مدافن الحيوانات بأنواع من القرد والكلب وابن آوى والهر والجرذ والضب والثور والظبي والغنم والعنز وغيره وبضروب من الطيور ونحو ثلاثين نوعاً من الجوارح وأكلة الحشرات والثمرات والتماسيح والحيات والأسماك وحيوانات لا فقار لها من ذوات الصدف. ثبت للباحثين الموما إليهما أن حيوانات اليوم لم يختلف شكلها وخلقها عن الحيوانات التي حنطت قبل ستين قرناً إذ ما من مشتغل بالعلوم الطبيعية إلا ويأتيك بأمثلة كثيرة من الحيوانات التي لم تتغير خلقتها منذ مئات من القرون بل منذ ألوف. وهناك ضرب من ضروب الحيوانات يدعى بلسان الحيوان (براشيوبود) يرد عهده إلى أقدم عصور العالم. ومعلوم أنه لا يتأتى حدوث القلب والإبدال في سحنات الإنسان والحيوان إلا بتغيير البيئة والمحيط ولما لم تتغير طبائع هذا القطر منذ ألوف من السنين فلا يعجبن القارئ لما أكده العالمان الفرنسيان من بقاء الحيوان على وتيرة واحدة منذ قرون. كان الهر مقدساً عند قدماء المصريين ولذلك عثر على كثير منه محنطاً وقد تجد بين القططة ما ولد حديثاً وما هي أجنة في بطون أمهاتها. والهر المصري نوعان داجن ووحشي وهذا هو الذي كانوا يحنطونه ويقدسونه. وبعد فقد قدس المصريون اللقلق لأنه يأكل الهوام التي كانت تغير على شواطئ النيل وكان من هذا اللقلق الأبيض والأسود وعثر على كثير من الأسود في المدافن القديمة محنطاً أما

الأبيض فانقرض منذ مائة سنة وهو موجود في الحبشة بكثرة ولعل النيل كان يأتي به. وقدس المصريون الغنم وهو نوعان ادعى بعضهم أن أحدهما جاء من آسيا على نحو ما جرت العادة أن ينسب لهذه القارة كل نوع من إنسان وحيوان ونبات وتوصف بأنها مبعث جماع الحضارة ومهد الكائنات. اتفقت الأديان وبعض الفلاسفة وجملة من الأساطير على أن الشرق مقيل أرقى الكائنات الحية. إلا أن العالمين الباحثين أثبتا بالبرهان أن هذه الحيوانات نشأت في قارة إفريقية على أن الملك سنفرون لما خرب النيل الأعلى وأتى من السودان بسبعة آلاف رجل وامرأة ومائتي ألف بقرة وغنمة جاء بالغنم المدعو لونجيب إلى هذه البلاد من السودان. وفي هذا الكتاب بحث في تحنيط البقر - وبقرة بني إسرائيل صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - وكان يظن أن بعض البقر المصري جاء من آسيا وبعبارة ثانية من سورية إلا أنه وجد منه هنا ما يماثله ودثر بعضه. ومن رأيهما أن البقر الذي حنطه قدماء المصريين كان من البقر الهندي ذي السنامين الموجود منه إلى الآن بكثرة في سهول مصر العليا. وقصارى القول فإن الباحث في تاريخ الإنسان والمؤرخ والطبيعي يرون في كتاب هذين العالمين مادة لطيفة في الكائنات بهذه البلاد وهذه المباحث طافحة بالفوائد في تاريخ الحضارة خاصة وتاريخ الكائنات عامة.

صحف منسية

صحف منسية شعر ابن حزم قال الفقيه أبو عبد الله الحميدي قال كان لشيخنا الفقيه أبي محمد بن حزم في الشعر والأدب نفس واسع وباع طويل وما رأيت أسرع بديهة منه وشعره كثير وقد جمعته على حروف المعجم ومنه ما كتبت عنه هل الدهر إلا ما رأينا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى إذا امكنت فيه مسرة ساعة ... تولت كمر الطرف واستخلفت حزناً إلى تبعات في المعاد وموقف ... نود لديه أننا لم نكن كنا حصلنا على هم وإثم وحسرة ... وفات الذي كنا نقر به عينا حنين لما ولى وشغل بما أتى ... وغم لما يرجى فعيشك لا يهنا كأن الذي كنا نسر بكونه ... إذا حققته النفس لفظ بلا معنى قال وله أيضاً من قصيدة خاطب بها قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشير يفخر فيها بالعلم ويذكر أصناف ما علم يقول فيها أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غروان يستوحش الكلف الصب فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه ما تجيء به الكتب هنالك يدرى أن للبعد قصة ... وأن كساد العلم آفته القرب فوا عجباً من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنو المرء من دارهم ذنب وإن مكاناً ضاق عني لضيق ... على أنه فيح مذاهبه سهب وإن رجالاً ضيعوني لضيع ... وإن زماناً لم أنل خصبه سغب ومنها في الاعتذار في مدح نفسه ولكن لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من بالنبي ائتسى ذنب يقول وقال الحق والصدق إنني ... حفيظ عليم ما على صادق عتب

وأنشدني لنفسه لا يشتمن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حال بمترك ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة ... وتارة في ذرى تاج على ملك وأنشدني أيضاً له لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فروحي عندكم أبداً مقيم ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم وقد كرر أيضاً هذا المعنى فقال: يقول أخي شجاك رحيل جسم ... وروحك ما له عنا رحيل فقلت له المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل قال أبو عبد الله الحميدي وقلت له يوماً قال أبو نواس: عرضن للذي تحب بحب ... ثم دعه يروضه إبليس فقل أنت في طريق التحقيق فقال: أين قول وجه الحق في نفس سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق سيؤنسه رفقاً وينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثق مطلق وأنشدت له (صاحب الذخيرة) أيضاً في ما كان يعتقده من المذهب الظاهر من جملة أبيات يقول فيها: وذي عذل في من سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل فقلت له أسرفت في اللوم ظاهراً ... وعندي رد لو أردت طويل ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل وقال هذا الإمام الشاعر قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت ... أقوالهم وأقاويل العدى محن فقلت هل عيبهم لي غير أني لا ... أقول بالرأي إذ في رأيهم فتن وإنني مولع بالنص لست إلى ... سواه أنحو ولا في نصره أهن لا انثني نحو آراء يقال بها ... في الدين بل حسبي القرآن والسنن

يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي ... ويا سروري به لو أنهم فطنوا دعهم يعضوا على صم الحصا كمداً ... من مات من قوله عندي له كفن إني لأعجب من شأني وشأنهم ... وا حسرتا إنني بالناس ممتحن ما إن قصدت لأمر قط أطلبه ... إلا وطارت به الإظعان والسفن أما لهم شغل عني فيشغلهم ... أو كلهم بي مشغول ومرتهن كأن ذكري تسبيح به أمروا ... فليس يغفل عني منهم لسن إن غبت عن لحظهم ماجوا بغيظهم ... حتى إذا ما رأوني طالعاً سكنوا دعوا الفضول وهبوا للبيان لكي ... يدرى مقيم على الحسنى ومفتتن وحسبي الله في بدء وفي عقب ... بذكره تدفع الغماء والإحن وقال: بلغت من لذة الدنيا ذرى أربي ... في لذة العيش والسلطان والنشب فأذهبت دول الأيام منزلتي ... وزاد فقدي للذات في كربي وكان مالي لهذا كله تبعاً ... بل صار عوناً لأعدائي على طلبي لكن رجعت وقد جد الزمان إلى ... كنز من العلم والأخلاق والأدب فاعجز الدهر أن يودي بواحدة ... منها واقصر عني واهي السبب لا اختشى تضع الأيام منزلتي ... مدى الزمان وعندي أغلب الطلب لا يستطيعون عذلي عن ولايتها ... إذ كل وال لهم بالعزل في العقب هذا بلا كلفة مني ولا حرس ... ولا عديد ولا إنفاق مكتسب وكل من كان في دنياي يصحبني ... ناديته حين خانتني فلم يجب كلام من جرب الأمرين واتضحت ... له المذاهب من جد ومن لعب أنا ابن من دبر الدنيا بخاتمه ... عشرين عاماً وعشر بعد لم يرب وإن منزلتي في العلم منزلة ... في الملك حظ كحظ الصادق النسب مازلت اذخره دهري وانفقة ... (دأباً) كمثل اللجين المحض والذهب وإنني لبخيل بالسلام إذا ... بخلت بالعلم من لفظي ومن كتبي لو استطعت منحت الناس كلهم ... ما قد تجمع في حفظي وفي كتبي أأبذل المال يفني البذل حاصله ... ولست أبذل ما ينمى على النهب

سائل بأي علوم العالمين تجد ... عندي ينابيع ذاك العلم من كتبي

التعليم والتربية

التعليم والتربية الإسراف وسوء السلوك معربة من كتاب نصائح العملة إن ما اعتاده بعض العملة من إهمال الأعمال ذهاباً مع هوى النفس قد يكون أبداً من ورائه ما يدعى بسوء السلوك. ومن عرف بهذا الميل فقد أطرح حلل الشرف في الإنسان ولبس رداء من الشرور قد يتعذر إطراحه في الغالب. لا يستحق اسم الإنسان إلا من جعل شهواته وأهواءه ورغائبه محكومة بنظام العقل على الدوام موضوعة على محك البصيرة والتدبر. ولا يسعد إلا من جعل هذا الخضوع عادة فيه لا يتكلفها ولا يجهد نفسه من أجلها. فعلى الشهوة أن تكون أبداً مطيعة وعلى العقل أن يأمر ولكن إذا أمرت الشهوة وأذعن العقل فقد المرء العقل والسعادة. وعدم اعتدال العامل في شؤونه دليل سوء تصرفه وبحانفه عن جادة الاستقامة وطرق الكرامة. سهل على العامل من الأسف أن يتخلق بهذا الخلق في شبيبته وقبل زواجه أيام يكون في إبان قوته ونضارة صحته يتناول أجرة تفيض عن حاجته فيفيض منها على هواه ما يكفي رجلاً متزوجاً في إعالة عياله. فإن أجرة أمثال هؤلاء العملة الشببة الفتيان لا يكادون يقبضونها حتى يصرفوها في كل سبيل وينفقوها في لا يرضي. ومهما كثرت فإن لها مصارف تستغرقها برمتها ولا تبقي منها ولا تذر. والسرف متلفة كل شيء يتأصل على العادة في النفس مما يخشى منه بعد أن يتعذر إقلاع العامل عن هذا الخلق فيعيش بعد زواجه كما كان يعيش عزباً. لا أجمع بين الانحراف الموقت وسوء السلوك على أن الثاني يتولد من الأول بسهولة. وما من امرئ لا يدرك إلى أين يؤدي الانحراف عن جادة الفضيلة لأول أمره. ومن الهين اللين أن يسقط الإنسان من الطيش إلى الاضطراب ومن هذا إلى سوء السلوك. وا رحمتاه لمن لا يحسن مقاومة شهواته الأولى فإن الهواء الذي يستنشق في المجتمعات وقد ركب الطيش أجزاءه ليحل في تضاعيفه اضطراباً وبحراناً في الحواس وينتهي بضرب من السكر الأدبي ويصعب تبديد شمله بقدر ما ترتاح النفس إليه. ومع هذا فقد يرجو الطائشون عبثاً إصلاح نفوسهم من هذا السكر وأنه موقت لا يلبث المنغمسون فيه أن يرجعوا عن غيهم.

ولكن تجيء الأيام تلو الأيام والأسابيع تلو الأسابيع والشهور عقيب الشهور والنفس لا ترجع عن غيها وغلوائها. ولقد أنشئت في إنكلترا وأميركا جمعيات دعيت جمعيات الاعتدال بغية إنقاذ العامل بل اضطراره إلى عدم إهمال العمل وسوء استعمال أوقات فراغه فأسفرت هذه الجمعيات عن بعض النجاح فيقضى على من يريد الانخراط في سلك هذه الجمعيات أن يقسم إيماناً مؤداه أن يتخلى عن استعمال أي شراب من المسكرات كان. ولكن حظر استعمال شيء حسن في ذاته ليكون المرء على ثقة من سوء استعماله معناه قلة الثقة بنفسه ومن المتعذر أن يكون لامرئ لا يعتبر نفسه ويثق بها من القوة أن يتغلب حيناً من الدهر على سلوكه فيجعله تبعاً لإرادته وإرادته تبعاً لكلامه. ولذلك ترى هذه الجمعيات عرضة للسقوط كثيراً لأنه لو لم يكن للمرء من نفسه وازع يقيه المضال والانغماس في حمأة السفاهة ليس لجمعية أن تناله منه بمجرد حلف يمين والقيام بمظاهر عظيمة. لا تنتهي الأنفس عن غيها ... ما لك يكن منها لها زاجر ومن استنار عقله بنور العقل الصحيح هيهات أن يحيد عن الجادة المثلى ويتعدى حدود الأدب واللياقة. ومن الشبان من يأتون المنكر فيقولون هذه المرة الأخيرة ونحن لا نأتي منكراً بعد. فهلا قالوا مثل هذا القول من قبل وصرحوا بأنهم لا يأتون المنكر ولا هذه المرة أيضاً فما هو إلا أن تستلب هذه المنكرات من أرباب العقول عقولهم حتى إذا أراد أحد المتلبسين بها أن يرجع عنها بعد أن تكون نفسه مجتها يتعذر عليه ذلك. تعرف هذا من عملة انقطعوا عن أعمالهم أياماً وراحوا يقضون أوقاتهم في القصف والسكر فتراهم بادئ بدءٍ قد وجدوا شيئاً من النشاط إن صح أن يسمى نشاطاً حتى إذا اليوم الثاني تصفر ألوانهم وتنقطع أيديهم عن كل عمل فيصبحون باهتين شاخصين ثم لا يلبثون أن يعربدوا ويصخبوا وربما طالت أيديهم بالتعدي على أبناء السبيل تدفعهم إلى ذلك عوامل الخمار. إلا وأن سوء السلوك لتستوحش منه النفوس ويفسد القلوب بما يصحبه من الإفراط الذي ينهك الصحة فيعجل الهرم ويهيئ السبل للأمراض العضالة. إفراط تتلبس به النفس فيقودها من ضلال إلى آخر حتى يتناسى صاحبها ما يقضي به الشرف ويحيد حياداً ظاهراً عن مهيع الشرائع. وعقاب سوء السلوك بسيط فهو يميت القلب ويقتل في صاحبه التوبة

والإنابة وما هو إلا أن يضعف النفس عن الإحساس الطيب والأفكار الصالحة ويميت في نفسه كل شعور حي. يعمل ولكن من دون لذة. بل مكرهاً وما هو إلا كلا ولا حتى تصير البطالة في عينه عبئاً ثقيلاً والعمل عذاباً أليماً فيبلغ حالة لا يبلغها من المرء اعدى أعدائه وهل أشد خطراً من عدو داخلي ينهك القوى ويهدم الأسس. وقد قبل اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك والانكى من ذلك أن من يألفون الدعارة ويأخذون أنفسهم بالفسق لا يلبثون أن يعاشروا من هم على شاكلتهم على نحو ما جاء في الأمثال أن الطيور على أشكالها تقع وشبيه الشيء منجذب إليه. وهناك حدث ما شئت أن تحدث عمن يلقاهم من سخاف العقول وضعاف الآداب ينشط كل منهم صاحبه ويهيئ له سبيل الرذيلة ويحببها إليه وتراهم أبداً وأحاديثهم تدور على تلاعبهم وخلاعتهم ورقاعتهم في بيوتهم وأسرتهم ومع الناس أجمعين. وهكذا ترى سوء السلوك يفسد القلب وينضب مادة الشعور الطيب الخالص فيصبح صاحبه مكروهاً فلا يعيش عيش الإنسان بل عيش الحيوان فسوء السلوك هو ألد أعداء العامل يبعد به عن النجاح والراحة والسعادة. ويا رب ماذا تكون حال العامل إذا ضعفت قواه وأسلمه سلوكه إلى الشقاء مدى العمر مؤدياً به كل يوم إلى أحقر المساكن. فإما أن يرميه مريضاً على حصير المستشفى أو على حضيض ملجأ الفقراء أو يموت تحت مبضع تلامذة الطب في المستشفيات. ولا تسل عما يجلب هذا الحال من فساد نظام البيوت فإن الزوج أيضاً تحذو حذو زوجها وتنصرف إلى الرذيلة فترضع أبناءها سماً زعافاً من فسادها فما هو إلا أن يضيع عليهم مستقبلهم ويتعذر عليهم التحلي بالأخلاق الصالحة ولا يزال الفساد يدب من جيل إلى آخر ينقله الأب لابنه والأم لابنتها حتى تنحل بيوت أولئك العملة وكانت من قبل يتأتى لها أن تؤسس على التقوى وتعيش في هناء ويمسي أفرادهم وهم حلفاء شقاء وامتهان. وبعد فإني أتقدم إلى من استرسلوا في هوى النفس أن يصلحوها ولا يقولوا الصيف ضيعت اللبن ولكن جئت في الزمن الأخير فإن إصلاح النفس يتأتى في الكبر كما يتأتى في الصغر. ومن لا يضبط نفسه زمان الفتوة وهو عهد العقل وسن الأماني الطاهرة والإخلاص الشريف هيهات أن يجيء منه ما ينفع أمته وينتفع هو به. فإصلاح النفس لازم في الكبر أكثر فإذا استقام أمر المرء شهوراً بل أياماً قبل موته لابد أن ينال اعتبار الجمهور

بل الإنابة مطلوبة فيمن أبيض شعره حتى لا يجمع إلى الشيخوخة إهانة الناس وما على من ابتلوا منذ شبيبتهم بهذه المساوئ إلا أن يحاولوا الإقلاع عنها وتصح عزائمهم على ذلك فللإرادة شأن في سلوك الإنسان ومن لا إرادة له لا يعد في البشر.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات العربية ولهجاتها وهي رسالة كتبها بالفرنسية حضرة العالم المدقق الكنت دي لاندنبرغ الأسوجي وقدمها إلى علماء المشرقيات في المؤتمر الدولي الرابع عشر المجتمع مؤخراً في الجزائر. والمؤلف من شيوخ العلم في اللغات الشرقية وخصوصاً العربية وله أصحاب كثيرون في بلاد العرب عرفوه في خلال رحلاته العديدة إلى بلادهم ولاسيما في مصر وسورية وجنوبي الجزيرة وله تآليف كثيرة أفادت التمدن وانتفع بها طلاب العلم. افتتح كتابه هذا بالثناء على عالمين فرنسيين مشهورين سلفستر دي ساسي وكاترمير اللذين جعلا العربية بما توفرا عليه من الدراسة والتدريس علماً أوربياً وبواسطتهما انتقل تعلمها إلى ألمانيا وأولع بنوها بتعلمها وخدمتها أحسن خدمة ثم انتشرت في سائر أنحاء أوربا. وقد عني المؤلف منذ خمس وثلاثين سنة بدراسة اللغة المحكية حتى كان بعضهم في مصر والشام - على ما قاله عن نفسه - يصفونه بأنه مجنون لكثرة عنايته بلغة يحتقر أهلها فصيحها فما الحال بعاميها وقال أن شأنه في ذلك بداءة بدء كان شأن الرسول (ص) لما أخذ يدعو وقومه إلى الدين فيقولون أنه مجنون. وبعد الأعوام الطويلة التي قضاها في تتبع لهجات العرب من مظانها ودراسة الشعر قبل الإسلام والاطلاع على ما أبقوا في اليمن وسورية من الآثار التاريخية المزبورة على الصخور في القفار أيقن أن اللغة المحكية اليوم كان لها حظ من الانتشار قبل الإسلام وأن العرب في ذلك العهد لم يكونوا كما أدعى بعض الباحثين جهلاء أميين أو أنهم خلقوا من لا شيء كما خلقت منيرفا من رأس المشتري ويكفي أنهم كانوا على شيء من المعرفة أن رعاة تلول الصفا وغيرهم من جيرانهم خلفوا ألوفاً من الأحجار عليها خطوطهم وربما كتبت قبل الحميرية اليمانية. ومما استدل به على وجود علاقة بين اللغة الفصحى والعامية وأن العامية كان يتكلم بها في بعض أنحاء الجزيرة أن الإعراب والتنوين قد ظهرا كل الظهور في الخط المسند البابلي الذي عثر عليه حديثاً في شريعة حمورابي وأن الإعراب والتنوين معروفان قبل تلك الكتابة ويقول بعض الباحثين في اللغة الآشورية أن عهد ذلك يرد إلى سنة 2800 ق. م ويرده آخرون إلى 3750 ق. م.

ومن رأيه أن التنوين والإعراب لو حذفا من العربية لأصبح نحوها عبارة عن مائة صفحة مثل نحو لهجة عربية حديثة ولا تبقى كل تلك التراكيب قال: وبعد فلم يرفع من بناء العربية حجر واحد ولكن ربما أضاف إليه علماء النحو أحجاراً كثيرة على أن العلم قاصر عن الإحاطة بالقديم الذي كان قبل الارتقاء الإسلامي العظيم وبالحديث منه. وإن هذه اللغة لتعيش أيضاً على رقتها وما فيها من قواعد إعرابها في المدارس وبين طبقات الشعراء ويكفي في إقناعك يا هذا فيما أقول أن تحضر إليك معلماً عالماً وتسأله فيها مما هو ولا جرم معجزة للرسول صلوات الله عليه ذاك الجمال المسكين الذي ما خامره ريب بأنه يزين العلم الحديث بمشعل من النور يضيء ضياء يأخذ الأبصار منذ ألوف من السنين. فإن اجتمعنا هنا لنعجب بهذا البناء الخالد فبفضل رسول الله ولولاه لما شغلت العربية فرعاً من مؤتمرنا هذا وما كان ملايين من العرب تكلموا ودرسوا لهجة لطيفة خرجت من برج بابل من بين سائر اللهجات. وبحسب ما وصل إليه المؤلف أن لفظ البدو النازلين في الجنوب من شبه جزيرة العرب أكثر انطباقاً مع قواعد النحو من غيرهم وقال أنه لا يضاد القائلين أن سكان حارب وبيحان هم الذاهبون بهذه المزية. وقد قيل للمؤلف أن قبائل فهم وقحطان في الحجاز يحسنون التكلم من بين عرب الشمال. وذكر ما قاله نولدك في مجمع علماء اللغات من الألمان في ستراسبورغ من إن اللغة العربية هي النقطة المركزية للدروس السامية وزاد بأن اللهجات العربية على اختلاف أقطارها لو أخذت بمجموعها مع ذخائر بلاد بابل وآشور التي تكاد لا تنضب كنز عظيم يعثر فيه على المواد الكافية للوقوف على اللغة السامية أحسن وقوف. وختم الكتاب بأنه يود أن يجاري العلماء ويكاثرهم في البحث فيما بقي عليهم أن يبحثوا فيه من لهجات العرب في الغرب الأقصى لولا أنه وصل إلى سن قال فيه امرؤ القيس أراهنَّ لا يحببن من قلَّ جاهه ... ولا من رأين الشيب فيه وقوَّسا

تدبير الصحة

تدبير الصحة التوقي من البرد جاء زمن الكن والكانون وبرد الجو وتغيرت الأهوية فكثرت بذلك الأدواء ولاسيما النزلات فارتأى أحد أطباء فرنسا أن خير ما يقي الصحة من التداعي في مثل هذا الفصل الامتناع عن شرب الماء المبرد أو المثلج أو المقطر وأن يمتنع عن التوابل (السلطات) والبقول النيئة كالفجل والخرشوف (الأرضي شوكي) وأن تنظف المساكن كل التنظيف ويرش أرضها بكلور والجبر (الكلس) على معدل خمسة في المائة وتدهن حيطان الغرف بخاثر الجير مضافاً إليه كلور وأن لا يفرط الإنسان في استعمال الضروريات على أنواعها. إطالة الحياة كتب أحدهم في إحدى المجلات الباريسية الخطيرة مقالاً في معنى إطالة الحياة قال فيه أن القول بأن الهرم يبدأ في سن التسعين فينقطع المرء لهذا عن أعماله وملاذه استعداداً للموت هو حديث خرافة لا يقره من درس علم منافع الأعضاء. قال وإذا ضعفت وظائف هضمنا أو غيرها من الوظائف أو أقعدت عن عملها فلا تمل يا هذا باللوم على الأيام بل لم نفسك بما أسرفت واستهترت. الهرم هو دور الحياة الذي لا يعود فيه المرء يستمتع إلا بجهاز بال فيموت حتف أنفه بيد أن هذا الأجل هو أطول مما يتوهمه الناس إذ يمكن أن يمتد إلى مائة وخمسين سنة وأحياناً إلى مائتين والدليل على ذلك أنك إذا رجعت إلى سجل الوفيات في باريس تلك العاصمة التي فيها من مضنيات الحياة والصحة ما يسوء وينوء تجد الأعمار فيها قد تطول إلى ثمانين أو خمس وثمانين سنة وربما إلى أكثر من ذلك أحياناً.

سير العلم

سير العلم مسمعة هذه المسمعة واسمها كوستيكون هي عبارة عن آلة تلفونية تسمع الصم اخترعها أحد الأمريكان وجربها في عدة محال للتمثيل والمعابد في نيويورك وهي مؤلفة من التلفون والميكروفون والميكالوفون وأشبه بآلة تصوير وتسمع كثيرين في آن واحد. حب العلم وهب أحد الأمريكان مليون فرنك لإنشاء منبر للتاريخ والأوضاع الأميركية في كلية برلين الجامعة رجاء نشر العلم الأميركي حتى في أغنى بلاد الله بعلمها. ولا يبعد أن يمنح الأمريكان بعد كليات لندن وباريس وبطرسبرج ورومية وآثينة ومدريد وسائر عواصم أوربا أمثال هذه المنح والعطايا. ولقد كان سسل رودس الغني الإنكليزي الملقب بنابليون إفريقية أوصى بمال لكلية اكسفورد ليدرس به طلاب العلم من المستعمرات الإنكليزية والأميركية في تلك المدرسة الجامعة ويرجعوا إلى بلادهم وقد تشبعوا بالأفكار الإنكليزية فلم تخل وصيته من النقد عند فريق من العلماء بل قالوا أن الموصي لو أوصى بأن يبعث بأساتذة إنكليز إلى المستعمرات والولايات المتحدة لكان بلغ الغرض وأصاب المحز. غاز جديد يعنى الآن أهل العلم في أميركا باكتشاف غاز جديد من خصائصه أن يمتص الرطوبة من جميع المواد العضوية ويحفظ الحاصلات الغذائية وأخشاب العمارة من الفساد بعض الحفظ. وقد جرب فثبت أن الثمار والبقول وجدت به سالمة من البكتريا بعد أربع سنين لم يطرأ عليها انحلال ولا تغيير كيماوي فغمست بالماء قليلاً فعادت إلى نضرتها ولونها وطعمها. وإذا زيد خمسون في المائة على أجرة الشحن تنقل الغلات في هذا الغاز من مملكة إلى أخرى. ولا يسطو عليها سوس ولا فساد وينقل الجندي منه مؤونة أسبوع ويكتفي الفقير به للدفء ويشفي من الأمراض بإهلاكه جراثيم العفن.

المجلات الإفرنجية والعربية

المجلات الإفرنجية والعربية الموسيقى العربية ما برحت المجلة الفرنسية تأتيها الآراء بشأن الموسيقى الشرقية وأحسن ما ورد عليها من ذلك رأي يقول فيه صاحبه أن العرب يجهلون الإيقاع وينكرونه ويستغربونه وأقام صاحبه الحجة على ائتلاف الألحان الشرقية إذ ليس في ضرب الصوت الشرقي أدنى مناسبة مع الصوت الغربي. الشبان المتعلمون في إحدى الجرائد الألمانية بحث في أن الشبيبة المستنيرة يقف سير علمها بعد أن تنال الشهادات المتنوعة بدلاً من أن تزيد مادتها العقلية بالتوفر على دراسة الكتب الجيدة والأبحاث الخاصة الدائمة وقد أوصى الأهل والشبان أيضاً بطريقة في التعليم معقولة عملية وذلك بأن تلاحظ الحياة البشرية ونشوءها. التبشير الهلال - نشر مذكرات لدكتور فانديك في أعماله وأعمال المرسلين الأمريكان في سورية وصف فيها بيروت وصفاً مجملاً عند دخوله إليها سنة 1840 وكانت قليلة السكان والمنازل وقال أن دروز رأس بيروت تنصروا تخلصاً من الجندية وتتجلى في هذه المفكرات روح البحث والتفاني في المصلحة. تاريخ المورو المقتطف - قرظ كتاب تاريخ المورو أي مسلمي فيليبين الذي وضعه بالإنكليزية حضرة الفاضل الدكتور نجيب صليبي معاون حاكم جزائر فيليبين الأميركية ومن نوابغ سورية بعلمه وتربيته. قال المؤلف أن تاريخ مسلمي فيليبين قبل أن ينتحلوا الإسلام خرافي تناقلوه خلفاً عن سلف ولم يعن أحد بتدوينه ولكن ملا جاء الإسلام إلى تلك الجزائر جاء منه العلم والعمران فانتظمت الأحكام ودونت التواريخ ووضعت التراسيل وهي عندهم كشجرات الأنساب عندنا. والتراسيل بلغة مجندنا ولكنها مكتوبة بحروف عربية. ومعنى مجندنا هو البلاد المروية لأن فيها نهراً يفيض عليها ويرويها فأطلق هذا الاسم على البلاد وعلى سكانها. وكان بدء دخول الإسلام إليها في نحو سنة 1475 للميلاد. قال والمورو

الموصفون بالقسوة والشمم أرقى جداً من الوثنيين الذين يسكنون سائر البلاد مع أنهم جميعهم من أصل واحد لكن الإسلام علمهم وهذبهم وأوصل بينهم وبين غيرهم من الأمم. والكتاب مله ينبئ عن روح صاحبه الشريفة التي تهذبت وأخذت ترى الحقائق بالعين المجردة وقد كان العامل الأعظم في تهذيب المسلمين في تلك الجزر فابتاع لهم منذ مدة كثيراً من المصاحف وكتب العبادة وأخذ يدرسهم فيها حاثاً لهم على التمسك بالإسلام وأقنع حكومة الولايات المتحدة بذلك من الوجهة السياسية جزاه الله خير الجزاء.

نفاضة الجراب

نفاضة الجراب تفقه في ساعة من مضحكات الوهراني مقامة في قصة عجوز تزوجت بإسكافي فجعلته بتعليمها فقيهاً وقالت له كن فقيهاً فكان. قال عيسى بن حماد فقلت للراوي مثلك من أفاد، وشفى بحديثه الفؤاد، فكيف تمشي حاله، وتغطي على الفقهاء محاله، فقال أعلم أنه لما أجمعت العجوز على تعليمه، ورده إلى المدرسة وتسليمه، تخوف من ذلك الأمر، وبات ليلته على الجمر، فلما أصبح قال لها: اعلمي يا هذه أني كنت في بلدي إسكافياً. . . فكيف لي بالمدارس، وأنا كالطلل الدارس، ومن أين لي بالتخبيز (كذا) وأنا مثل حما العزيز، والله ما أفرق بين الحروف، وقرن الخروف، فقالت أيا أعلمك العلم كله، إلا أقله، وأعلمك فصلاً في التدريس، تغلب به محمد بن إدريس، فقال لها يا هذه والله ما أرجو من المدرسة نفعاً، وإني أخاف أن يقتلوني صفعاً، فدعيني في. . . فقالت أريد إخراجك من المدابر، وأرفعك على رؤوس المنابر، فاحضر ذهنك، وافتح لهذا الدرس أذنك، والعم أن الألف قائم كالمعول، وهو كتاب المنزل، والباء كالصنارة، أو كرجل المنارة، والهاء كالثقالة، وفيها شيء كالعرقالة، والطاء كالخف، أو كطائرة الدف، وكل مدور ميم، وكل معوج جيم، والصاد تشبه نعالك، والذال تشبه قذالك، وأن القاف والكاف، يشبهان الاكاف، فاحفظ هذا الكلام، وقد أصبحت مفتي العراق والشام، واحذر اعتزالي، والعم أن بهذا الفصل تقدمة الغزالي. فأقبل التيس يكرر لفظه، حتى أجاد حفظه، وعندها خرج في القمة والغمة (كذا) وعزم على مدرسة جمال الأئمة، فخرجت تبخره من العين، وتقرأ عليه المعوذتين، وقالت له إذا جلست فتربع، ولا تتقنع، وانشر أكمامك، واظهر للناس أعلامك، فإن الغريب ابن ثويبة، والمقيم ابن جديبة (؟) فقال لها: أوصيني يرحمك الله. فقالت له إذا حضرت فانفخ حضنك، وبطنك، وانفش بين الفقهاء ذقنك، وباكر المدرسة عند الصباح، وسابقهم في الرواح، وإن غلبوك في العلم فلا يغلبوك عند الصياح، فقال والك، أخاف أن افتل باللوالك ولكن أوصيني فقالت خذ اللفظ بأناملك بين شفتيك، وزاحم الفقهاء بمنكبيك، وازعق في وجه الشيخ ولا جناح عليك. قال فهاتي إذا شيئاً من قماشك، أرد به صفع الشماشك، فقالت اجسر على القوم، فما هو الأبياض اليوم، واعلم أن الفقه ليس هو إلا النفاق والزعاق، وتلويث وجه

الخصم بالبزاق، فقال لها إن صدقت، فأنا أكون أمام الوقت، وقام في ذلك الأوان، حتى دخل على الفقهاء في الإيوان، فهايته قلوب الجماعة، وخافوا أن يكون من أهل البراعة، فأنصفوه في السلام، وبسطوه في الكلام، وآنسوه بالمحاضرة، حتى جاء وقت المناظرة. شكر المقتبس نرفع إلى من كاتبونا وشافهونا من رجال الأمة أجمل شكر وحمد لما تكرموا به من عبارات التنشيط على نشر المقتبس سواء كان بالخطاب أو بالكتاب كما نثني أطيب الثناء على الصحف العربية على اختلاف نزعاتها وموضوعاتها التي ذكرت صدور هذه المجلة ونوهت بها ونسأل الله أن يحقق آمالهم وآمالنا ويصلح أحوالهم وأحوالنا. وهنا ننشر تتميماً للفائدة ما تفضل به صاحب المقتطف وصاحب المنار الغراوين من نقد المقتبس عملاً بالتماسنا منهما وهاك ما قاله المقتطف في معنى النقد: وفي باب تدبير الصحة شرح أسلوب الإنكليز في الإكثار من طعام الصباح وحث بعض الفرنسيين قومهم على اقتفاء آثار الإنكليز في ذلك لكن علماء الصحة من الإنكليز يخطئون قومهم ويقولون أن الإكثار من الطعام في الصباح ضرر محض ولنجاح الإنكليز أسباب أخرى ولا علاقة لطعام الصباح به. . . وأما ما ذكره في باب مقالات المجلات الذي قال أنه زبدة ما وقع عليه اختياره من أهم أبحاثها فيدل على أن مقام المجلات العربية ليس في عينيه على ما يرام. وهو أسمح من ذلك وأكرم. هذا محل النقد من مقال المقتطف وإليك محله من مقال المنار: وقد انتقدنا عليه أموراً لا يسلم من مثلها المبتدئ بالعمل منها أنه كتب عن ابن حزم في ثلاثة أبواب وتكلم عن الوهراني في غير ما موضع. ترجم ابن حزم في الباب الأول ثم ذكر شيئاً من نصائحه في باب الصحف المنسية ثم ذكر الكتاب الذي اقتبس منه النصائح في باب المطبوعات وكان يحسن أن يذكر في باب واحد من هذا الجزء وكذلك يقال في تكرار ذكر الوهراني والكلام في العملة. ومنها أن ما ذكره من النصائح لم يعد من الصحف المنسية وقد طبع الكتاب قبل وجود المجلة. فإن أراد بالصحف المنسية ما أهمل الناس العمل به فالباب واسع يدخل فيه كثير من المجلدات العظيمة في التفسير والحديث والرقائق وغير ذلك فالانتقاد على الباب نفسه أولى. ومنها أنه لم يكن يحسن ذكر منشآت الوهراني

والتشويق إليها والتصريح بتعمد كتمان مكانها لأن هذا يغري أهل الولوع بأمثال هذه المسائل إلى البحث عنها ومن بحث عن الموجود ظفر به غالباً. ومنها أن بعض المباحث لم توضع في الأبواب التي هي أليق بها فقد أدخل في باب التربية والتعليم الكلام في العملة والصناع وأخرج منه بحث تعليم اللغات. وذكر شيئاً من مقاطيع الشعر في باب النقالات دون باب الصحف المنسية. ومنها أن المقول في بعض المواضع لم يتميز بنسبته إلى الكتب والعلماء تميزاً ظاهراً يعرف أوله وآخره بلا اشتباه كما يرى المدقق في ترجمة ابن حزم وما نقل منها الذخيرة لابن بسام. ومنها الاختصار المخل في بعض المباحث كمبحث الأمية والكتاتيب فالظاهر أنه يريد الكلام على الأمية في الإسلام وكيف انتقلت العرب من بعده منها إلى التعلم حتى إنشاء الكتاتيب قديماً وحديثاً ولكنه جعل نحو ربع ما كتبه في معنى لفظ الأمي وفي تفسير ما ورد في أهل الكتاب من قوله تعالى ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني (وقد ذكر في المقتبس لفظ يقرؤون بدل يعلمون سهواً فليصحح) وكان المناسب أن يذكر تفسير قوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فقد فسر الكتاب هنا بالكتابة وهما مصدران لكتب. ثم ذكر شأن الكتابة في الجاهلية وذكر أمماً أخرى بالإيجاز ولم يذكر عن الإسلام بعد ذلك إلا سطراً ونصف سطر وقال بعد ذلك هذه زبدة ما يقال في معنى الأمية في الإسلام الخ والسبب في هذا الاختصار المخل رغبة الكاتب في إيداع الجزء مباحث كثيرة. وأمثال هذه الأمور التي انتقدناها مما يسهل تلافيها لاسيما بعد التنبيه إليها ومنها ما تبع فيه اصطلاح مجلات أوربا وإن لم يكن عندنا مألوفاً.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة ابن الرومية من جملة تلامذة ابن حزم الأندلسي أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي المعروف بابن الرومية الأموي الاشبيلي المتوفى سنة 639هـ وهو الذي رحل إلى الشرق لمعرفة نباتاته، وأخذ علم الحديث عن ثقاته، ونشر تآليف أستاذه ابن حزم ولولاه لتناولتها يد الضياع خصوصاً بعد أن أصابت الكتب في بلاد الأندلس ما أصابها من طوارق الحدثان. جاء في الإحاطة أنه كان غرة جنسه إماماً في الحديث حافظاً ناقداً، ذاكراً تواريخ المحدثين وأنسابهم وموالدهم ووفياتهم، وتعديلهم وتجريحهم، عجيبة نوع الإنسان في عصره وما قبله وما بعده في معرفة علم النبات، وتمييز العشب وتحليلها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها، بمشرق أو مغرب، حساً ومشاهدة وتحقيقاً، لا مدافع له في ذلك ولا منازع، حجة لا ترد ولا تدفع، إليه يسلم في ذلك ويرجع، قام على الصنعتين - الحديث والنبات - لوجود القدر المشترك بينهما وهما الحديث والنبات إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول، وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان. ولما وصل على رواية ابن أبي أصيبعة سنة ثلاث عشرة وستمائة إلى ديار مصر وأقام بمصر والشام والعراق نحو سنتين وانتفع الناس به واسمع الحديث وعاين نباتاً كثيراً في هذه البلاد مما لم ينبت بالمغرب وشاهد أشخاصها في منابتها، ونظرها في مواضعها، حل في الإسكندرية فسمع به السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب وبلغه فضله، وجودة معرفته بالنبات، وكان الملك العادل في ذلك الوقت بالقاهرة فاستدعاه من الإسكندرية وتلقاه وأكرمه ورسم بأن يقرر له جامكية وجراية ويكون مقيماً عنده فلم يفعل واعتذر بالحج. ولهذا النباتي تآليف حسنة في الطب وله معرفة بأشخاص الأدوية وقواها ومنافعها واختلاف أوصافها وتباين مواطنها وبالجملة فلم يكن يتحرج من الجمع بين علوم الدنيا والآخرة، واشتهر فضله حتى دعاه أبو بكر بن أيوب إلى المقام في بلاده ولا خير في أمة لا تفاخر برجالها ولا تحرص على تكثير سوادهم.

مكتبة الإسكندرية

مكتبة الإسكندرية زعم بعض متأخري المؤرخين أن عمر بن الخطاب (رض) أوعز إلى عمرو بن العاص لما فتح المسلمون مصر أن يحرق مكتبة الإسكندرية وكان فيها مؤلفات الحكماء الأقدمين فانقطع بذلك سند العلوم والصنائع والاختراعات التي عرفت وبعبارة ثانية محيت المدنية القديمة وعاد العالم في جهالة جهلاء. مسألة شغلت بال الباحثين والمفكرين. وقد ألف أحد أفاضل الأستانة محمد منصور كتاباً بالتركية سماه مكتبة الإسكندرية وذلك عقيب مناقشة دارت بينه وبين بعض كتاب تلك العاصمة في إحدى المجلات العلمية التركية منذ نحو أربعين سنة. فتصفحت الكتاب وعربت بعض صفحاته المتعلقة بحريق هذه المكتبة وهاك ما قاله ملخصاً: هلك اسكندر المكدوني فانقسمت مملكته بين قواده واستولى على مصر بطليموس سوتير وكان محباً للعلوم والمعارف وإذ رأى تفرق حكماء اليونان ايدي سبا بما دهم بلادهم من زوال العلم وعفاء المدنية دعاهم إلى حماه فأتوه ومعهم بقايا من الكتب المنوعة فأحسن وفادتهم ووفادتها وأقام لحفظ هذه المصنفات مكتبة بالقرب من معبد السرابيوم علوها مائة قدم وهي قائمة على جبل صناعي وسط مدينة الإسكندرية. وروى بعض المؤرخين أن هذا الملك أحدث في قصره مكتبة أخرى جعل في الأولى أربعمائة ألف مجلد وفي الثانية ثلاثمائة ألف. ولقد ظلت مكتبة الإسكندرية بعناية بطليموس وأخلافه مرجع أهل العلم وكهف حفدة المعارف إلى سنة سبع وأربعين ق. م وقد أبدى مالتابرون في جغرافيته والمجمع العلمي الذي ألف في فرنسا للبحث عن الأبنية القديمة الدائرة وجغالديغي في تاريخه العام وسائر كتب تواريخ رومية الأسف الكثير لحريق هذه المكتبة برمتها عقيب فتنة نشأت من افتتان أحد قياصرة رومية بملكية مصر كليوباترة المشهورة بجمالها وذلك لما استحال حكم رومية إلى الملوكية وأخذ القيصر يطارد عدوه بومبيس حتى بلغ الإسكندرية وهنا جرى بينه وبين كليوباترة أمور أدت إلى إحراق تلك الكتب المنوعة التي بذل النفس والنفيس في استجلابها منذ تأسيس المكتبة إلى أن نعق في أرجائها غراب الدمار. واختلفت روايات المؤرخين في عدد أسفار هذه المكتبة وأكد بعضهم أن الكتب التي أثرت عن حكماء اليونان وحدهم تبلغ سبعة آلاف مجلد وهو عدد فيه نظر إذا أحصينا ما تنتجه

كل مملكة على حدتها في أوربا لهذا العهد من المصنفات على انتشار الطبع والورق وتوفر أسباب التأليف توفراً لم يسبق له نظير في تاريخ العالم. وأن معظم حكماء اليونان اشتهروا عند بعض المؤرخين على حين لم يؤثر عنهم كتاب ما. وعليه فبعيد عن التصديق ما يدعى بوجود مليون كتاب في مكتبة الإسكندرية. ولو كان الأمر على ما ذكروا لاقتضى لكل حكيم من حكمائهم أن يؤلف ثلاثين أو أربعين كتاباً وهو محال. عرفت كيلوباترة أن لها يداً في إحراق مكتبة الإسكندرية فأعادت بناء المكتبة تكفيراً عن سيئاتهم وجعلت في هذه الخزانة مكتبة برغمة التي أهديت إليها وكان فيها مائتا ألف مجلد في رواية. وبعد قليل استولى الرومان على مصر فاشتد ضغطهم على أهلها جرياً على عاداتهم القديمة فسقط عمران الإسكندرية في أوجز مدة ثم اشتغل أكثر الأهلين بحل المسائل الدقيقة من الدين المسيحي الذي كان ظهر في جوار تلك البلاد. واستحالت الحال فبطلت العلوم وانقطع تدريسها في الإسكندرية بالمرة. واحتفظت دولة الرومان بالعاديات والمصانع التي وجدت في البلاد المتغلبة عليها في أوربا وآسيا وإفريقية إلى سنة 390 للميلاد أي قبل الهجرة بمائتي سنة تقريباً. بيد أن تيودوس أحد قياصرة الرومان ارتأى لجهله وتعصبه أن لا يبقى في المملكة الرومانية غير الدين المسيحي وأن تلغى سائر الأديان والمذاهب فاستولى على المعابد وضبط عقاراتها ونفائسها وقامت قيامة الرهبان وحملوا الحملات المنكرة على المعابد والمصانع وهدموها وعاثوا بما فيها جملة. وفي خلال تلك المدة قام تيوفيل رئيس أساقفة الإسكندرية في جملة من رهبان تلك الناحية وخرب المعبد البديع المعروف باسم بباكوس ثم هد معبد السرابيوم بعد مجادلات امتدت لألاؤها وفتن شعواء طالت برحاؤها. وهذا المعبد الذي يعد من بدائع الصنائع وله المقام الأول بين مصانع المملكة الرومانية يمائل بناية الكابتول في رومية. وهدم ما كان في جوار المعبد الآنف ذكره من المكتبة التي أنشئت للمرة الثانية على ما تقدم وقد تلفت هذه المرة جميع كتبها. نعم أنشئت بيعة في محل هذا المعبد ولكن لم تتجدد المكتبة قط ولم يبق لها اسم ولا رسم. واشتد ضغط الإمبراطور جوستنيانوس على عبدة الأوثان وعطل بيوت العلم وقضى بإقفال

المدرسة التي كان يدرس فيها ديوجنس وهرمياس واتاليوس وبرسيان وداماسقوس وايسيدور وغيرهم من الفلاسفة لأنهم لم يرجعوا عن اعتقاد القدماء وينتحلوا النصرانية حتى اضطروا فراراً بأنفسهم عن مواطن الهلكة أن يرحلوا إلى فارس ولما أرادوا الرجوع إلى بلادهم توسط في أمرهم انوشروان ملك الفرس ومن الشروط التي عقدها مع قيصر اليونان أن لا يمس هؤلاء الفلاسفة بسوء وأن يكونوا أحراراً في اعتقادهم على أن مدرستهم عطلت وخربت مع غيرها من مدارس آثينة. علم بهذا أنه كان للإمبراطورين تيودوس وجوستنيانوس يد طولى في إتلاف آثار أهل العلم ومصانعهم قديمها وحديثها رجاء بث دعوة النصرانية فدثرت المدنية التي قامت بحسنات الأجيال السالفة والأمم الغابرة وذلك بأعمال هذين العاهلين وبما أبداه الرهبان والرومان من ضروب العدوان. ثم أفاض المؤلف في حملة أهل البندقية والفرنجة على القسطنطينية سنة 1202م وحرقهم لها ثلاث مرات بحيث دثر ثلثاها وأحرقت أعلاق الكتب التي جمعت فيها منذ نحو تسعمائة سنة ولما استولى هؤلاء الفاتحون على هذه العاصمة تفرقوا في أطرافها وأنشأوا يسلبون كل ما تطول إليه أيديهم من أموال الناس وعروضهم إلى آخر ما قاموا به من العيث في الكنائس والبيع التي أنقذت من لسان اللهيب وعبثوا بحليها وجواهرها وخصوصاً كنيسة أيا صوفية المشهورة فقد أخذوا كل ما أتحفها به الملوك والأغنياء من الجواهر والحلي والنفائس باعوا بعضه بيع السماح وأتلفوا الآخر كأنه لا قيمة له إلى نظائر ذلك مما قاموا به من الأعمال الوحشية التي فصلها حق التفصيل المؤرخ نيكيتاس أحد رجال دولة الروم. واستفاض المؤلف فيما آل إليه أمر مكتبة الإسكندرية من الحريق بقضاء الله وقدره سنة 47ق. م وخرابها للمرة الثانية بحملات رئيس الأساقفة الإسكندري وجماعته عمداً قبل الهجرة بمائتي سنة وإحراق ما جمع في زهاء تسعمائة سنة منذ جعلت القسطنطينية عاصمة لدولة الرومان إلى استيلاء اللاتين عليها بداعي ما حدث فيها من الفتن بين الروم واللاتين. وإن ما أنقذ من هذه الحرائق من الكتب أتى عليه اللاتين بجهلهم واستهزائهم بالمعارف وأهلها حتى أن مصر لما فتحها المسلمون لم يبق لمكتبة الإسكندرية فيها عين ولا أثر ولما فتحت الأستانة أيضاً لم يكن فيها عاديات ولا أعلاق بتاتاً.

وقد صرح جيبون في تاريخه على سقوط دولة الرومان بأن نسبة الحريق لعمر أو لعمرو أكذوبة لفقها أبو الفرج رئيس أساقفة حلب على طائفة اليعاقبة إحدى الطوائف المسيحية بعد مضي نحو ستمائة سنة من الهجرة في تاريخ له ألفه بالعربية ولما نقل ما كتبه إلى اللاتينية انتشرت هذه الأغلوطة في أوربا. ومما قاله أبو الفرج أن عمر بن الخطاب أصدر أمره إلى عمرو بن العاص بإحراق هذه الكتب اكتفاء بما في القرآن من العلم وادعى أن هذه الكتب وزعت على أربعة آلاف حمام في الإسكندرية فظلت المواقد تحرقها حصباً ووقوداً ستة أشهر لا تحتاج إلى غير لهيب تلك الكتب لإحماء الماء. قال جيبون: لا يخفى على أهل البصر أن مكتبة الإسكندرية احترقت قبل الميلاد وما زعمه رئيس أساقفة حلب من أن المسلمين أحرقوها لم يتعرض له مؤرخ واحد ممن ظهروا قبل أبي الفرج حتى أن افتيكيوس بطريرك الإسكندرية عند توسعه في الكلام على استيلاء المسلمين على الإسكندرية لم يذكر كلمة عن حرق عمرو بن العاص لهذه المكتبة. وبهذا علم أن هذه أسطورة ملفقة بالكذب المحض. على أن الإسكندرية كانت من القديم مقر البطاركة ومنبعث المجادلات المعلومة التي حدثت في مسألة الألوهية. فلو صح أنه كان في هذه المدينة مكتبة كما زعم أبو الفرج حين فتحها واحترقت بأمر عمرو بن العاص لاستخدمت تلك المجلدات الضخمة التي ملئت بمباحث تلك المسألة المذكورة ومقالات المناقشين فيها في غير إحماء ماء الحمامات. وهب أن العرب أحرقوا تلك المجلدات فقد أزالوا كثيراً من الأفكار الباطلة التي ألف الناس الاشتغال بها عبثاً وخدموا عالم الإنسان خدمة عظيمة. قال المؤرخ التركي بعد أن أورد هذه الجملة عن المؤرخ جيبون: من البديهي أن ما افترض المؤرخ الموما إليه وقوعه وما زعمه رئيس الأساقفة المذكور من حريق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية التي ملئت بالمجلدات الضخمة في مباحث الألوهية أو مؤلفات الحكماء المتقدمين على فرض وقوعه فليس من العقل ولا من الحكمة ما روي في كيفية حريقها. وغير نكير أن هذه فقرة وضعت بعد لمآرب وغايات. ولو كانت عقدت النية على إحراق هذه الكتب كما ادعى رئيس الأساقفة لمطابقتها للقرآن العظيم أو لمباينتها له لاقتدر عمرو بن العاص أن يبيد هذه الكتب بحضرته جملة واحدة في

يوم واحد وربما في ساعات معدودة وكان في غنى عن تسليمها لأصحاب الحمامات في الإسكندرية ولأهل هذا الثغر وكلهم من الروم يحرقونها كما يحب ويرضى بما تلهمهم إليه معرفتهم. نعم كان ابن العاص يحذو حذو مسيحيي إسبانيا لما استولوا على قرطبة وأحرقوا في يوم زهاء مليون مجلد من مصنفات علماء المسلمين وكانت في عدة مكاتب على ما روى المؤرخ دياردو. ومن البلاهة والحماقة أن يصدق أن عمر يختار هذه الطريقة في إبادة الكتب ويدفعها إلى أرباب الحمامات في الإسكندرية وينقطع عن وظيفة الجهاد المقدسة مع رجاله من المسلمين وعددهم لا يتجاوز أربعة آلاف رجل حين استيلائه على مصر لينقطعوا إلى إحراق كتب دونت بلغة أعجمية ويصرف في ذلك خمسة أشهر أو ستة في قمامين الحمامات مما لا يقبله العقل ولا يوافق الحكمة. وأنى لأرباب الحمامات في الإسكندرية وهم من بني الروم أن يحتفظوا بهذه الكتب ويحرقوها في غياب المسلمين حصباً لحماماتهم فاحر عند ذاك أن ينحي باللائمة على الروم لا على المسلمين باختلاق فئة من الجهال وخصوصاً بعض أصحاب الأغراض. نقض الكاتب التركي ما أتى به بعض أرباب الأهواء وزيفه بالبرهان السديد ثم نقل ما قاله رئيس مدرسة آثينة الكلية في تاريخه العام عند كلامه على الإسكندرية من أن هذه المكتبة حرقت لدن وصول قيصر إلى مصر وأن ما بقي من الكتب تلف قبل استيلاء المسلمين على الإسكندرية بزمن طويل وأن ما يحكى من أن عمرو بن العاص حرقها إن هي إلا فقرة مدخلة بعد هذا. وقد عرب ما تقدم حباً بإظهار حقيقة طال البحث فيها وتعارضت الآراء بأمرها والحقيقة ضالة كل باحث ومستفيد.

مصر

مصر معربة عن الفرنسية بلادها - مصر عبارة عن وادي النيل وهي في مضطرب ضيق خصيب ممتد على ضفتي النهر بين سلسلتين من الصخور طولها 240 فرسخاً ويكاد عرضها لا يتجاوز خمسة فراسخ وعند منقطع الصخور تبدأ الدلتا. وهناك سهل واسع تتخلله شعب النيل وترعه. فمصر كما قال هيرودتس أبو التاريخ هبة من النيل. النيل - يزخر النيل كل سنة في الانقلاب الصيفي بعصارات ثلوج بلاد الحبشة فيفيض على أراضي مصر العطشى يرتفع ثمانية أمتار وأحياناً عشرة فتصبح البلاد كالبحيرة وتبرز القرى المشيدة على الآكام كأنها جزيرات ثم تنخفض المياه في أيلول (سبتمبر) ويعود النهر في كانون الأول (ديسمبر) إلى مجراه الأصلي وقد ترك في كل مكان طبقة من الطين خصبة وهي الإبلز وتسمى الطمي. هذه الرواسب تقوم مقام السماد ويكاد يزرع في التربة الندية بدون حرث. فالنيل إذا يأتي مصر بالماء والتربة وإذا تحول عنها تعود مصر كالبلاد المحيطة بها قاعاً صفصفاً، ورمالاً مجدبة، ما أمطرتها السماء وابلاً ولا رذاذاً. ولم يجهل المصريون فيما مضى ما يجود به نيلهم من الخيرات الحسان وهاك نشيداً كانوا ينشدونه تعظيماً له: سلام عليك أيها النيل أنت الذي تتجلى على هذه الأرض وتأتي بسلام فتحيي موات مصر. أنت إذا انجليت تملأ الأرض طرباً، والقلوب بشراً، فينال كل مخلوق قوته، وكل سن ما تقضمه، رحماك إنك تأتي بالأرزق الطيبة وتنتج كل خير ومير وتنبت للبهائم مرعاها. غنى هذه البلاد - مصر على التحقيق واحة في قفر إفريقية تنبت تربتها البر والفول والعدس وأنواع البقل. والنخيل فيها غابات وآجام. وفي تلك المروج التي يرويها النيل بمائه ترعى قطعان الغنم والثيران والعنز والإوز وتكاد مساحتها تساوي بلاد البلجيك (29400 كيلومتر مربع) ومصر اليوم تقوم بأود 11 مليوناً من السكان وهي نسبة لا تعهد في أوربا على أن مصر كانت آهلة بالسكان قديماً أكثر منها اليوم. روايات هيرودتس - عرف اليونان مصر أحسن من معرفتهم سائر الممالك الشرقية فزارها هيرودتس أبو التاريخ في القرن الخامس ق. م ووصف في تاريخه فيضان النيل وأخلاق

السكان وأزياءهم ودينهم وذكر حوادث من تاريخهم وحكايات لقنها من أدلائه. وتكلم ديودور وسترابون على مصر أيضاً. بيد أن كل من ذكروها رأوها في انحطاط فلم يتيسر لهم أن يعرفوا شيئاً عن قدماء المصريين. شامبوليون - دعت حملة الفرنسيين على مصر (1798_1801) إلى فتح أبواب الديار المصرية للعلماء فهرعوا إليها يزورون الأهرام وخرائب ثيبة عن أمم ويعودون منها وقد حفل وطابهم بالصور والآثار. ولم يكن لأحد أن يحل الخط المصري المسمى بالهيروغليفي. وتوهم الناس أن كل خط من هذه الكتابة يقوم مقام كلمة حتى إذا كان عام 1821 خالفهم شامبوليون أحد علماء الفرنسيين وعمد إلى طريقة أخرى وجاء أحد الضباط من رشيد بأثر ذي خطوط ثلاثة كانت الخطوط الهيروغليفية المسطورة بها مترجمة إلى الرومية. وهذا الأثر يمثل الملك بطليموس محاطاً بدائرة. فتوصل شامبوليون بهذا الاسم إلى الاطلاع على حروف ولدى مقابلتها بأسماء ملوك أخر وكانت أيضاً محاطة بدائرة اكتشفت حروف الهجاء. ولما تيسرت له قراءة الخطوط الهيروغليفية ظهر له أنها كتبت بلغة تشبه القبطية وهي اللغة التي شاعت بمصر على عهد الرومان وعرفت حق معرفتها. علماء الآثار المصرية - جاء بعد شامبوليون زمرة من العلماء توفروا على دراسة أحوال مصر واكتشاف جليها وخفيها وتدعى هذه الفئة من العلماء اجبتولوك أي المشتغلون بالآثار المصرية ولهم رصفاء في ممالك أوربا كافة. وقد أجرى ماريت (1821_1881) من المشتغلين بالآثار المصرية على نفقة خديوي مصر ما يقتضي من الحفريات وأحدث متحف بولاق. وأنشأت فرنسا في القاهرة مدرسة لتعليم الآثار المصرية ناطت إدارتها بالمسيو ماسبرو. الاكتشافات الحديثة - لا يعثر في بلد من بلدان الأرض على خبايا ثمينة كخبايا مصر ودفائنها لأن المصريين كانوا يبنون قبورهم أشبه بدور يضعون فيها ما يقتضي للميت من ضروب الأمتعة والأثاث والرياش والسلاح والطعام وقد غصت البلاد بالقبور الطافحة بهذه الذخائر والأعلاق. وساعد إقليم مصر الجاف الهواء على حفظ هذه الأمتعة سالمة بعد مضي أربعة أو خمسة آلاف سنة. فلم يترك شعب من الشعوب القديمة أثراً كآثار قدماء المصريين وما عرفنا شعباً معرفتنا له.

المملكة المصرية قدم الشعب المصري - قال كاهن مصري لهيرودتس: أنتم معاشر اليونان أطفال. كلام يفهم منه أن المصريين كانوا يرون أنفسهم أقدم أمم العالم فقد قامت ست وعشرون سلالة ملكية إلى عهد الفاتح الفارسي سنة 520ق. م ترتقي أولاها إلى أربعة آلاف سنة. وكانت مصر دولة في خلال هذه الأربعين قرناً فجعلت منفيس في بلاد الصعيد عاصمتها أولاً إلى عهد السلالة العاشرة (وهو دور الدولة القديمة) ثم صارت مدينة ثيبة في مصر العليا (وهو دور الدولة الحديثة). منفيس والأهرام - بنى مدينة منفيس أول من ملك مصر وسورها بسور منيع فبقيت سالمة من بوائق الأيام زهاء خمسة آلاف سنة ثم أخذ السكان أحجار أنقاضها في القرن الثالث عشر وبنوا بها مساكن القاهرة وما تركوه منها أتى عليه النيل وسدل دونه حجاباً أما الأهرام فلا تبعد كثيراً عن منفيس ويرد عهدها أيضاً إلى الدور القديم وهي قبور ثلاثة ملوك من السلالة الرابعة وعلو أعظمها 147 متراً عمل في بنائه مائة ألف عامل مدة ثلاثين سنة. وقد أقيمت سدود منحدرة قليلاً لرفع الأحجار إلى شاهق ثم خربت. التمدن المصري - يدل ما يستخرج من قبور تلك الأعصر من هياكل وصور وأدوات على أن هناك شعباً متمدناً. فقد عرف المصريون قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة للميلاد حراثة الأرض ونسج الثياب وتطريق المعادن والنقش والرسم والخط وكانت لهم ديانة منظمة وملك وإدارة. على حين كانت الأمم النبيهة وهم الهنود والفرس واليهود واليونان والرومان في حالة الهمجية مأثورة مذكورة. ثيبة - خلفت ثيبة مدينة منفيس فصارت عاصمة البلاد على عهد السلالة الحادية عشرة ولم تزل خرائبها المدهشة في لوح الوجود وهي ممتدة على ضفتي النيل ومحيطها نحو اثني عشر كيلومتراً. وعلى الشاطئ الشمالي صف من القصور وهي لقصر والكرنك تبعد بعضها عن بعض نصف ساعة بنيت كلتاهما وسط الخرائب ويجمع بينهما شارع ذو صفين من تماثيل أبي الهول وكان هناك قديماً أكثر من ألف أبي الهول. وأعظم هذه المعابد الحربة معبد عمون في الكرنك أحيط به سور محيطه 2300 متر. وأن طول أشهر قصر (ايبوستيل) وأعظمه في العالم مائة ومتران وعمقه 53 متراً وهو حجم عمود فاندوم.

وكانت ثيبة عاصمة ومدينة مقدسة ومقر الملوك ومسكن الكهنة نحو ألف وخمسمائة سنة. فرعون - يعتبر ملك مصر المعروف بفرعون ابن رب الشمس ومثاله على الأرض ويزعمون أنه كان هورباً. وقد شوهدت صورة الملك رعمسيس الثاني جالساً بين ملكين. فالملك يتعبد إنساناً ويعبد ملكاً ولفرعون سلطة مطلقة على البشر لربوبيته فيحكم حكم المولى على كبار سادات قصره وعلى المقاتلة ورعاياه كافة والكهنة في عبادتهم إياه يلتفون من حوله ويحرسونه فيكون رئيسهم الكاهن الأعظم للرب عمون المستأثر بالحول والطول دونه وقد يحكم باسم الملك ويخلفه في الأحايين. الرعايا - يملك مصر من أعلاها إلى أسفلها الملك والكهنة والجند والموالي وما عداهم فوصفاء يستخدمونهم في حرث الأرض وعمال الملك يلاحظونهم ويقبضون ثمار عملهم بضرب العصي أحياناً وإليك ما كتبه أحد هؤلاء الموظفين إلى صديق له: ألا تذكر حالة الفلاح الذي يحرث الأرض فإن جابي الأموال يقف على الرصيف المعد لجباية عشر الغلات وثلة من العمال بعصيهم يتبعونه وزنوج ماسكون بأيديهم سعفات النخل يصرخون بصوت واحد: البدار البدار إلى تسليم الحبوب. وإذا لم يكن للفلاح ما يؤديه من الغلات يلقونه على الأرض ويشدون وثاقه ويجرونه في الترعة رأسه إلى تحت وقدماه إلى فوق. كيفية حكم مصر - كان الشعب المصري أبداً ولم يزل بعد فرحاً لا يهتم خاضعاً خانعاً أشبه بالطفل المستسلم إلى ظالمه. وكانت العصافي هذه البلاد أداة التربية والحكومة حتى كان أعوان الملك يقولون: (خلق ظهر الفتى ليضرب فهو لا يمتثل الأمر إلا إذا ضرب) ذكر أحد سياح الفرنسيين أنه كان واقفاً ذات يوم أمام خرائب ثيبة فهتف قائلاً: ليت شعري كيف بنوا كل هذا. فاستضحك دليله وقال ماسكاً بيده مشيراً إلى نخلة: بهذه بنوا هذا أجمع اعلم يا مولاي أنه إذا كسرت مائة ألف سعفة من سعف النخل على ظهر من أكتافهم عريانة أبداً تبنى قصور كثيرة ومعابد. اعتزال المصريين - قلما خرج المصريون من بلادهم لما أنهم حاذروا ركوب البحر ولذلك لم تكن لهم ملاحة وما اتجروا والشعوب الأخرى ولم تعرف لهم بحرية إلا على عهد الدولة السادسة والعشرين وما كانوا أمة حربية قط. ولقد قاد ملوكهم الجند في حروبهم واتخذوا القتال دينهم فبعثوا البعوث إلى زنوج الحبش تارة وإلى القبائل السورية أخرى فإذا غلبوا

صوروا صورة النصر على جدران قصورهم ومتى قفلوا راجعين من غزاتهم يأتون بالأسارى فيستخدمونهم في بناء المعاهد على أنهم ما أحرزوا قط نصراً مؤزراً ولا فتحوا فتحاً مبيناً فدهم الأغيار مصر أكثر مما حمل المصريون على الأغيار.

حسنات القرن الماضي

حسنات القرن الماضي عن الإفرنجية تقدم في البحث السالف ما أصاب المجتمع الغربي من السيئات والمضنيات والآن نلم بما أتاه القرن التاسع عشر من الحسنات والمقومات فنقول: إن الثورة السياسية الاجتماعية العظيمة التي حدثت في القرن الماضي في أوربا قد أثرت في تحسين القوى العقلية في الأجيال الحديثة كما أحدثت الاكتشافات العلمية وانتشار التعليم بين السواد الأعظم من الناس نشوءً وارتقاء في المجتمع الحديث وفي الأفكار التي يجري عليها فتحكم فيه حكمها وها نحن نعطي البيان حقه من شرح النتائج الظاهرة من التربية الحديثة طبيعية كانت أو عقلية أو أدبية ونذكر ما أثرت في الشبان من تغيير طرق معيشتهم وأعمالهم وأفكارهم حتى صار من هم بعضهم أن يسيروا بالإنسانية نحو الكمال وإن كان ذلك الآن من المحال. وأعظم هذه الحادثات وأولها هي الثورة الفرنسية إذ قوضت المبادئ التي كانت أساساً للحضارة الأوربية مدة قرون عديدة وبهذا كانت فرنسا مهد الإصلاح الاجتماعي العظيم والأرض التي نمت فيها وربت تلك الأفكار الأساسية التي استولت على المجتمع الحديث كمساواة الجميع أمام القانون واشتراكهم في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية وحرية العمل والصناعة وحرية الدين والفكر. ولأمراء أن قد قل في العصور الغابرة عصر أثر في حياة الأمم الأوربية تأثيره في هذا القرن وما داناه قرن سابق ولا لاحق في أعماله. تلك الأعمال التي لم يقف نفعها عند حد الانقلابات السياسية بل تغيرت بها غايات الأعمال في المجتمع الإنساني وأماني الناس وأميالهم فدخلت الإنسانية كما قال بعضهم في طور جديد من الحياة مطالبة الإنسان بوضع أساس للحقوق كافة وللقوانين عامة على أن تكون روحاً لحق الحرية. نعم تغيرت المناحي والأفكار والعادات والنظامات الاجتماعية فتمثل للمرء ميدان الآمال الغريزية بعيد المضطرب ممتد الرواق وأيقن أن ساحة الجهاد شرع لكل العاملين فلم يفكر في غير تحسين حالته الاجتماعية بالعمل وتثقيف العقل. فانصرف بعضهم إلى العلوم والفنون وبعضهم إلى التجارة والصناعة وبعضهم إلى زراعة الأرض والاغتناء من غلاتها. وكل فرد من أعضاء هذا المجتمع يجتهد جهد طاقته في الأخذ بيد الترقي وإنعاشه من سقطته.

ولم يقنع الإنسان بأن يكون أداة حيوانية في تعاطي الأعمال بل بحث على العكس في إيجاد أدوات وآلات تقوم مقام الأذرع التي لم تكف للقيام بما هدته إليه فكرته الباحثة. فانقسمت العناصر القائمة بالجهاد الإنساني وتنوعت بتعدد التنظيمات الطبيعية والعقلية المنبعثة كم كل امرئ على حدته جرياً على ناموس تقسيم الأعمال. وما فتئت أنواع المعارف الإنسانية المنوعة تكمل وتكبر والنجاح مؤاتيها إلى أن تبلغ مكانة سامية لم تعرف في القرون الماضية. فالعمل وحب العمل هما من العلامات التي ينعت بها عصرنا هذا ولا أعني بالعمل العمل البهيمي المعهود في الأزمان الماضية بل أريد العمل المنتج المتأتي عن ذكاء وفهم. ولقد كانت الحاجة ماسة قديماً للأذرع وقوة الحيوانات لطحن القمح وإدارة المطاحن أما اليوم فقد توصل الفكر البشري إلى استبدال البخار والكهربائية بتلك العوامل بمعنى الفكر في قرننا الذي يحق له أن يدعى قرن الماديات هو العمل والعمل هو الفكر. فماديات اليوم تختلف عن ماديات أمس من حيث أن هذه كانت تعد الفكر مادياً وتلك تحسن المادة بدرس خصائصها الطبيعية والكيماوية للانتفاع بها في الأرباح والمتاجرات الصناعية. وبفضل ارتقاء الأشغال العقلية رقَّ الشعور وسما الإحساس فصارت للمرء قيمة وللعالم مقام وانتهت الحال بتحرير الرقيق والإماء. وبارتقاء العلوم واستخدامها في الحرف والصناعات بلغ الإنسان بإيجاد موارد الإنبات وتوفيرها والاستكثار من الثروة العامة مبالغها. وراح العامل وعدته المعارف العلمية في صناعته يعنى بالتعلم والتفكر والبحث ويهتم بارتقاء الصناعات والعلوم على حين كانت أداة ساذجة تابعة للآلات الصماء. وليس كل ما تم في هذا القرن من صالح الأعمال إلا نتيجة من نتائج العلم العملي وأثر من آثاره. وحقاً أن ارتقاء العلوم الطبيعية والكيماوية في هذه الخمسين سنة الأخيرة قد أثرت تأثيراً بيناً في الصناعات وفي الطبقة العاملة من الناس بل في التجارة وعملائها بحيث امتنع على المرء أن يعيش عيشاً ساكناً خالياً من الهموم وإشغال الأفكار على نسبة نجاح مشروعاته وأعماله. وإذا كانت قيمة الغلات الأرضية والصناعية عرضة أبداً للتقلبات على اختلاف أنواعها لتقلب كيفيات الاستعمال وتبدله صار القائمون على الصناعات في قلق أبداً مضطرين إلى إيجاد طرق جديدة أخرى لنيل الأرباح التي تطمح إليها نفوسهم. إلا وأن اكتشاف البخار والكهربائية واستخدامها في التجارة والصناعة بتقريب الأبعاد

والمسافات وقد دفع بظواهر الحركة الاجتماعية إلى الرُّقيّ فلم تتزايد طرق المواصلات فقط بل اختصرت بحيث استحالت الساعات دقائق والأيام ساعات والشهور أياماً والسنون شهوراً. فقوى الحركة الحية التي لا تنضب قد سهلت الصلات بقصر المسافات في لمحة بين أقطار المسكونة التي تتبادل للحال نتائج نجاحها وأفكارها وأعمالها. ثم رأى المرء نفسه في حاجة تضطره إلى أن يقوم على الصناعات والعلوم بدون وناء وأن يستخدم قواه العقلية بأسرها ويوجهها نحو خصومه في البلاد الأخرى إذ ليست المسابقة مقصورة على شعب واحد ولا على بلد واحد بل قد امتدت شرارتها في أطراف الأرض واتصلت بأمم الكرة الأرضية كلها وخصوصاً بين من توفرت فيهم شروط الإنتاج والعمل. ومع هذا فلم يقف عقل الإنسان عند حد اختراع السلك البرقي والآلات البخارية بل قد تعداهما إلى خرق الأنفاق في الجبال العظيمة وحفر الترع في القفار والأصقاع المستنقعة حبَّ تسهيل الصلات بين أنحاء الأرض المختلفة وتنشيطاً لمقايضة غلات الأرض وثمرات العمل والذكاء. ومن نتائج المواصلات السريعة العديدة بين الأرجاء الكثيرة والبلاد الشاسعة والأجناس المختلفة الطباع واللغات انتشار أفكار التمدن الحديث بين جمهور الناس والتسامح مع الآراء المتضادة. ثم أن الحاجة مست في تعليم الطبقة النازلة من الناس وتلقينهم احترام الإنسانية والبلوغ بهم إلى تكريم الوطني بتعليمهم حقوقهم وواجباتهم. ومما تم في هذا القرن الجليل إعطاء المرأة حقوقها وتحريرها من رق العبودية التي رسفت في قيودها من قبل قروناً متطاولة فقد أنالها حقوقاً ساوت بها حقوق الرجل فصارت بذلك جديرة أن تربي أولادها وتلقنهم حب العمل وتطبعهم على بغض الرذيلة لإصلاح ما اختل من أحوال المجتمع البشري. ولم تكن حال النسوة في عصر من الأعصار مشابهة لحالهن اليوم فقد نلن بفضل القوانين المسنونة حظاً من العلم والأدب تشتد به سواعدهن في التغلب على مشاق الحياة. وقد عنيت معظم حكومات أوربا بإنشاء مدارس عالية وابتدائية لتعليم الفتيات العلم وتلقينهن أساليب العمل وإذا صحت عزائم الأفراد على اتباع سيرة الحكومات ومضافرتها في هذا السبيل من إنشاء المدارس للبنات ترتقي آداب المجتمع الإنساني ويحيى نظام العالم حياة طيبة رغيدة.

وقصارى القول فقد علمت مما مر بك بعض حسنات هذا القرن ولا يفوتك علم ما يناقضها. ومن نظر بعين البصيرة يتضح له كل الوضوح أن القرن التاسع عشر أفاد المجموع أكثر من الآحاد وإذا نظرت كل شيء في الوجود نظر المستبصر تراه ذا وجهين وجه النور ووجه الظل وأحدهما نتيجة لازمة للثاني. فإنك ترى الظافر في الحروب العظمى الوطنية يسكره النصر فيحتفل بما يؤيد تاريخه ويترنم بالأناشيد الوطنية ليخلد آثار سلاحه في رقاب الأعداء ويسجل عظمة أمته ناسياً ما أهرقه من الدماء وألوفاً من النفوس التي قضت نحبها في ساحة الوغى وألوفاً من العجزة من جراح أو أمراض أصابتهم في الحرب وكثرة الأيامى واليتامى ممن قضت عليهم أعمال القوة الوحشية أن يرفعوا باستلال أرواح ذويهم مجد أمته وعظمتها. وبعد فلا يخفى أن كثرة انتشار الذكاء الإنساني في القرن التاسع عشر وازدياد مواد الغلات زيادة لا تنقطع بما تهيأ لها من وسائط العمل الطبيعي والعقلي وجمع الثروات العظيمة وسمو منزلة الذكاء الأدبية قد ولدت كلها سلسلة من الأهواء كانت فيما مضى مقصورة على طبقة قليلة من الناس. ذلك أن الإفراط في حب السلطة والصيت والطمع في الغنى والشرف وشدة الظمأ إلى البذخ والشهوات كان في القديم من خصائص الطبقة العالية والطبقة الغنية في الأمم فتناول اليوم أهل الطبقة الوسطى حتى أرادت السير على مناحي الطبقة العليا حذو القذة بالقذة. إذا عرفت هذا فقد ثبت لك أن الطموح إلى المطالب العالية والذهاب بفضل الشهرة لم يعم قط كما عم في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وقد أهلك هذا المرض الوبيل عدداً من القتلى أكثر مما أهلك من طبقات المجتمع المختلفة في أيامنا. ولئن تولدت الرغبة في الشهرة أحياناً من شعور شريف كريم وحملت المرء أن يفادي بمصلحته بل بحياته الخاصة توقعاً للنجاح فهذا الهوى يتبعه العجب أحياناً فيسود صحيفة صاحبه بحيث يبعده عن غايته المقصودة فيحدث أحياناً هيجاناً عصبياً يستحيل إلى زيغان في العقل واختلال في المدارك. وهنا سؤال وهو لم كانت هذه الاضطرابات العقلية والأدبية؟ فالجواب عنها جواب لا يحتمل الريبة والمغالطة إن ذلك ينسب إلى ميل أبناء عصرنا فقد افتتن الشبان بأبهة الشهرة كأنها الغاية الأصلية في الجهاد الإنساني وكأنها غاية السعادة التي ينبغي الطموح إليها.

حتى أن الحكومات لتساعد حباً بزيادة نوابغ أبنائها على تنمية العجب وحب الذات في النفوس وتأصلهما في تلك القلوب الفتية الراغبة في المراتب العالية بما ينهال عليها من المكافآت الغرارة والتشريفات الزائلة وبعد أن تلقي أذهانهم خيالات غايتها تحسين مستقبلهم تتركهم وشأنهم على حين يدخلون معترك الحياة الحقيقية للشروع في الجهاد. نعم تسلمهم لقوتهم الخاصة عوضاً عن أن تكفل لهم ما يستطيعون معه أن يقوموا بواجبات صناعة شريفة. ثم إن ارتقاء الأفكار الدستورية واشتراك الوطنيين كافة في الحقوق المدنية والسياسية والرغبة في الاشتهار بالمجادلات في دور الندوة قد كان من نتائجها الطبيعية الطمع في الزعامة وحب السلطة بحجة الرغبة في تحسين حال الأمة واتخاذ أسباب السعادة العامة. يشترك في الدعوة إلى هذا الأمر جميع طبقات الأمة. وكلما تأصلت الأفكار الجمهورية في العادات والقوانين زادت اللهجة بذلك وتوفر القوم عليه. وهناك شيء آخر وهو أن الرغبة في المناصب والمراتب زادت زيادة خرجت فيها عن طور التعقل وحدود الاعتدال حتى عند من لم تساعدهم ملكاتهم على تحقيق شيء مما ينالونه. وأن قلة تمييز الحكومات بين مختلف الكفاءات والملكات في رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات قد دق عنق العدل وقتل روح المباراة وأطفأ نور القرائح قبل انبعاثه فصارت تعبث الشفاعة بالكفاءة الشخصية. فنتج من ذلك أن عدداً عظيماً من الفتيان رأوا بلوغ المراتب ومنازل التشريف غاية عملهم الوحيد فراح بعضهم يطمح فيها للوصول إلى الغنى وبعضهم يميل إلى الغنى للوصول إلى المراتب واتخاذ أسباب التصدر وكان عليهم أن يكون العمل سبب السعادة وغايته العالية. بيد أن العلم والصناعات كانت عند كثيرين القاعدة التي استندوا إليها لبلوغ المناصب الاجتماعية السامية وسهلت لهم أسباب الغنى. وقد تولد من الطمع في التمول حب الشهوات والبذخ التي ما برحت تزداد نمواً في الطبقات الاجتماعية عامة كل يوم. وليس معنى البذخ الذي هو مقياس الثروة والغنى أو مظهر من مظاهر الراحة القائم بإنفاق مبالغ طائلة لامتلاك مجاميع جميلة من الأعلاق والنفائس أو العاديات المجلوبة من أقطار عديدة بل إن معناه الإشارة إلى النجاح والذكاء في كل من يحبون أن يشتهروا بحسن الذوق أو حب

الصناعات والفنون. وما أقبح بذخاً غايته أن يحدث ضرورة ويستر في مطاويه الشقاء تحت رداء جميل من التمويه أو أن تكون غاية من يجعله ديدنه إغواء الناس ليخرج من ضائقة ويستلفت الأنظار إلى غناه فيربح من ذلك ما يسد مخمصته وينيله بغيته. ومن أعظم الأعمال التي قامت في هذا القرن تأليف الشركات فإنها انتهت بتأسيس مشاريع عظيمة للانتفاع بموارد غلات الأرض وتنمية صناعتها. وهكذا كان من تأليف الشركات المالية وجمعيات الإحسان وأعمال وإن أسفرت عن معاضدة الثروة العامة فقد قطعت أيدي كثيرين عن العمل وأضعفت من همم الأفراد وخربت بيوتاً كانت من قبل عامرة. فإن ما يعمله الجماعة يستحيل على الفرد القيام به. وقد أكثرا اكتشاف ركاز كاليفورنيا وأوستراليا والترنسفال من الذهب في الأيدي وكانت التجارة في غنى عنه فنقص سعر الذهب وزادت قيمة المصنوعات والحاجبات مما جعل الإنسان في أحرج المواقف من جهاد الحياة. ونتج فقر وغنى من جمع رؤوس أموال عظيمة وتأليف جمعيات صناعية ومالية كبرى بل كان من وراء ذلك فراغ يتعذر إشغاله تعذر إملاء فنطيس (برميل) الدنائيد إذ بعدت غاية عملنا بقدر امتداد دائرتها وانفصمت عرى الموازنة بين رغائبنا وأسبابنا فبذلت القوى العصبية وأجهدت القرائح فوق طاقتها فكان من ذلك أمراض عصبية كثيرة.

التصوير والرسم

التصوير والرسم ما برح أهل الأخصاء في مدينة الإسلام يعجبون من كونها بلغت عند أهله شأوا بعيداً على حين لم يكن لهم هوى في التصوير والرسم كما لأهل المدنية من الأمم الغربية لهذا العهد مثلاً فيحكم أولئك الباحثون حكماً إجمالياً على مجموع ما قام من تلك المدنية بجزء طفيف اطلعوا عليه منها. نعم حظر الإسلام رسم الأشخاص مجسمة على حجر أو خشب أو نحوه تفادياً من أن يرجع العرب إلى عبادة الأصنام والوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها. أما الرسم الذي يمثل الأجسام إلى حد ما فهو مباح لا حظر فيه ولا وزر على فاعله. والدليل على ذلك أنه كان يرد على الصحابة أقمشة من بلاد الروم وفارس رسمت عليها صور أشخاص وغيرهم فاستعملوها في ألبستهم وفرشهم وأثاثهم وتحاشوا من وضعها في مكان عال فلم يجعلوها ستائر للنوافذ ولم يعلقوها على الجدر مخافة أن يشعر ذلك بتعظيمها. أما رسم المسائل العلمية وتصويرها كالنبات والبيطرة والحيوان والهندسة فقد استعمله المسلمون بحسب الحاجة إليه. نرى مثلاً من إجادتهم في هذا الشأن من رسوم كتب أبقتها لنا الأيام ومنها كتاب كليلة ودمنة الذي عرب في القرون الأولى وشاع بين الطبقات كافة مزيناً بصور الأشخاص. وكذلك مقامات الحريري فقد نقل لي من زار مكتبة باريس أن فيها نسخة من المقامات مصورة بأبدع الصور كتبت في القرن السادس. ولابن عربشاه الدمشقي كتاب فارسي اسمه المرزبانامة مزين بالصور أيضاً. قال أحد العلماء الأعلام في أحوال الإسلام. أفرط الأوربيون في استخدام الصور والرسوم حتى صار مصوروهم يتخيلون من ضروب التصوير ما لا يتحقق في الحس وابتذل التصوير والرسم حتى صرت إذا قلت للغربي أنك زرت البلد الفلاني مثلاً ولم تأته بصور شمسية يكاد لا يفهم منك ولو كنت من الفصاحة بحيث يشترك في درك ما تقوله الكبير والصغير مما يكاد يدل على أن تلك الأمم لا تقبل أذهانها إلا المحسوسات وتدق عن تصور ما لا تراه في صورة مرسوماً رسماً مجسماً. قال وليس من العقل تصوير كل الكتب ولا جعلها خلواً من الرسوم بتة مع مسيس الحاجة إلى التصوير ولاسيما في المسائل العلمية والأدبية وأن الإكثار من الرسوم يضعف قوة التصوير. ومن العجيب أن المسلمين وأن حظر دينهم التجسيد والهياكل والتماثيل فقد أبقوا في مصر

على ما وجدوه منها مثل تمثال أبي الهول فإنه بقي سالماً إلى قبيل القرن الخامس حتى إذا اشتد التعصب قام بعض الجهلة يتقربون إلى الله بالعبث بها وقد ذكر ذلك عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف المشهور في رحلته ورد عليهم رداً تفهم منه أن المسلمين كانوا من التسامح بحيث لا يطيلون يد الأذى حتى لما حرمه شرعهم. نقل ابن أبي أصيبعة أن الملوك من اليونانية وغيرها كانت تعلم أولادها الحكمة والفلسفة وتؤدبهم بأصناف الآداب وتتخذ لهم بيوت الذهب المصورة بأصناف الصور قال وإنما جعلت الصور لارتياح القلوب إليها واشتياق النظر إلى رؤيتها فإن الصبيان يلازمون بيوت الصور للتأديب بسبب الصور التي فيها وكذلك نقشت اليهود هياكلها وصورت النصارى كنائسها وبيعها وزوق المسلمون مساجدهم.

انحطاط الأخلاق

انحطاط الأخلاق من البديهي أن للخلق عملاً كبيراً في الحياة الإنسانية يظهر أثره على كل فرد من أفراد النوع والحكم في هذا ثابت بالاستقراء مؤيد بالبداهة لا حاجة بنا إلى الفلسفة فيه وإقامة الدليل عليه. وإنما نريد أن نذكر من أثره في مجموع الأمة ما أصيب به أهل المشرق من الانحطاط الناشئ عن ضعف الأخلاق وفساد ملكات العلم بوسائل الحياة الطيبة التي يتمتع بها أمم غيرهم. لا خلاف بين الباحثين في طبائع الأمم المشتغلين بتقصي أحوال الاجتماع في أن المدينة وإن كانت أثراً جميلاً من آثار ترقي الشعوب وتخلص العقل من قيود التقليد وتخلصه من أسر البداوة إلا أنها مرتع خصيب لجراثيم الأدواء المفضية إلى انحطاط الأمم التي تنو بنمو الحضارة وتتربى في أحضان المدنية. ومن ثم كانت المدنية أشبه بمرتفع ذي سلمين للصاعد والهابط لا ينتهي صاعده في الصعود حتى يبدأ بالنزول ذلك لأن الاستغراق في المدنية مدعاة للاستغراق في الملاذ بما يتوفر فيها من أسباب الراحة ودواعي الرفاهية وهما مجلبة الفساد الذي يتخلل أعضاء المجتمع فإما أن يتمكن منه فيرديه وإما أن يطاوله فيؤذيه. وأكثر ما يظهر ذلك الفساد في الأمم العريقة في الحضارة البعيدة العهد بسلامة الفطرة حيث يتناهى بها الضعف الناشئ عن طول عهدها بالملاذ ويتولاها العجز عن مقاومة الفساد المتمكن في النفوس والأخلاق فتصير إلى حالة من الانحطاط تشبه حالة المريض بمرض معد كل من خالطه سرت إليه عدواه. هذا شأن أمم الشرق التي توغلت في عصور المدنية منذ ابتدأ تاريخ الاجتماع البشري فكانت أقدم الشعوب عهداً بالتمدن لذا صارت إلى ما صارت إليه من الانحطاط وإهمال القيام على التربية الصحيحة التي تقاوم أعراض الضعف المتأتي عن الانغماس في المدنية والإمعان في سبيل الرفاهية وصار الغرب مع ما توفر فيه من أسباب الترف والحضارة أرسخ قدماً في المدنية وأبعد عن مكان الضعف لجدة مدنيته وقيامها على أصول التربية الصحيحة بما تسنى لأهلها من وجود بعض المخترعات النافعة كالمطابع التي أفادت الغربيين في تعميم العلم وتعليمه فوائد لا تحصى مع أن الطبع وجد قبل ذلك عند الصينيين من أهل المشرق ولم يستفيدوا منه ما استفاده الغربيون في رفع بنيان مدنيتهم على دعائم العلم الصحيح. ذلك لما قلناه من أن أمم المشرق الموغلة في الحضارة قد تولاها الضعف

عن النهوض بما أفسد طول أيام حضارتها من أخلاقها منذ عصور بعيدة أو آلاف من السنين حتى صارت من ذلك إلى حال تشبه حال المريض الذي يعدي السليم. وليس فساد الأخلاق في المشرق بقريب عهد بل هو يغلغل فيه من عهد طويل بدليل ما نقل في التاريخ عن أحد قناصل رومية أنه قال إنا وإن غلبنا الشرقيين وهزمناهم ودوخنا ممالكهم إلا أنهم ثأروا منا بأن تركوا لنا مع هذه الممالك أخلاقهم المنحطة. وفي الحقيقة أن الرومانيين وإن بلغوا من عزة الملك والسلطان باستيلائهم على المشرق ما بلغوه إلا أنهم منذ وطئوا بأقدامهم أرض المشرق خطوا الخطوة الأولى إلى الانحطاط بما تسنى لهم فيه من وسائل الترف التي كانت متوفرة يومئذ عند الشرقيين فغلبت على نفوسهم الشهوات وحب الراحة والتنعم بنعيم أهل المشرق ففسدت فطرتهم البدوية التي مهدت لهم بسلامتها من شائبة الحضارة سبيل الغلبة على القرطاجيين والرفس وغيرهم والتسلط على الغرب والشرق حتى إذا خالطوا أمم المشرق التي كان لها حظ من الحضارة ولم يحتاطوا لأنفسهم من آفات المدنية الشرقية التي تسممت بفساد الأخلاق سقطوا من حالق مجدهم ذلك السقوط المريع وغشيهم بعد ذلك من الضعف والذل ما ذهب بدولتهم. ومحا من عالم الاجتماع اسمهم. وحسبك أن تعلم مبلغ انحطاط الأخلاق في دولة الرومانيين في المشرق من تعاليم عيسى عليه الصلاة والسلام التي ترمي إلى الزهادة في نعيم الدنيا لتقف بالقوم عن الإمعان في مذاهب الشهوات والاستسلام لمطالب النفوس الهائمة بحب الانطلاق عن كل قيد. وهذا شأن المشرق أيضاً مع من سبق من الرسل أصحاب الشرائع التي جاءت كلها لتقويم أود النفوس وإنما تنزل هذه الشرائع عند الحاجة كما هو معلوم بالضرورة فكان المشرق لاستحكام الحضارة في أهله وتأصل فساد الأخلاق فيه لم تنقطع حاجته إلى رسول أو شريعة تقوم منآد ساكنيه. وما أصاب الرومان من مخالطة الأمم المتحضرة من سكان المشرق أصاب العرب أيضاً فهم وإن كانوا من أهل المشرق غير أنهم من شعوبه البدوية التي تسيجت من تطرق الحضارة إليها بسياج واق من الصحاري الشاسعة التي تحيط بجزيرتهم حتى إذا بعث الله نبياً منهم بشريعة تدعو إلى الخير وترمي إلى تهذيب أخلاق الأمم ونهضوا لنشر هذه الدعوة وتقدموا للفتح كان لهم من سلامة الفطرة وطهارة الأخلاق ممهد عظيم لبسط جناح

السلطة على الممالك القديمة وفي جملتها بقايا مملكة الرومان الشرقية. ولما تمكن لهم السلطان في الأرض واختلطوا بأهل الحضارة والترف من أمم المشرق غلبوا على أخلاقهم وأسرعت عدوى الفساد إليهم فلم يلبثوا إلا جيلاً أو بعض جيل حتى أخلدوا إلى الراحة ونسوا حظاً مما ذكروا به وحملوه من دعوة الخير والإرشاد إلى الأمم فانحطت أخلاقهم وزالت سطوتهم، وذهبت مع الذاهبين دولتهم. يظن بعضهم أن ما منيت به مدينة الغرب لهذا العهد من فشو الفاحشة والتهتك بين أهلها هو نتيجة الإيغال في الحضارة والنزوع إلى الشهوات وأن فساد الأخلاق المؤذن بتلاشي الأمم إنما هو محصور بمثل هذه الرذائل الفاضحة وليس الأمر كذلك إذ أن هذه الرذائل وإن كانت من نتائج الحضارة ولها أثر قبيح في المجتمعات المدنية فهي بعض من كل ما ندعوه فساد الأخلاق ونراه مظنة انحطاط المشرق وأهله. إذ من المعلوم أن الأخلاق الفاضلة وأضدادها كثيرة جداً كالكرم والبخل، والعفة والشره، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة إلى غير ذلك من الملكات التي منها ما يكون بالفطرة ومنها ما يكتسب بالتربية وتولده في النفوس البيئة أو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان. وضرر الكذب مثلاً إذا تفشى بين قوم أشد خطراً على حياتهم الاجتماعية من التهتك. لأن الكذب آلة كبيرة من آلات الفساد تهدم ركناً عظيماً من أركان المدنية وهو الثقة التي هي روح التجارة والصناعة في كل عصر ومصر. وكذلك الجبن مثلاً فإنه إذا استحوذ على النفوس أضعفها وانتزع ملكة الإقدام على جلائل الأعمال وحرم أربابها ثمرة الاعتماد على النفس والمجاهدة في سبيل الحياة. وهكذا يقال في كل خلق من الأخلاق الفاسدة كمال يقال بالعكس في الأخلاق الفاضلة. ومن أطلق على الشر نظر المتأمل ورأى ما تفشى بين أقوامه من ضعف النفوس، ووهن العزائم، وفقد الثقة والأمانة، والنميمة، والرياء، والكبرياء الباطلة، والعيشة الخاملة، والرضا بالقديم، ومعاداة العلم وغير ذلك من الأخلاق السافلة التي قضت بالشقاء على المشرق وأهله علم أن ما أصاب مدنية المغرب من الاستهتار وشيوع الفاحشة ليس بشيء في جانب ما يرى ثمة من الثقة المتبادلة، والأمانة في المعاملة، والاعتماد على النفس في معترك الحياة، والنزوع إلى المزيد من القوة والعلم والثروة، وحب الحرية، والصدق في العمل والقول، والبعد عن المداهنة والرياء، خصوصاً للقادة والزعماء، وغير

ذلك من الأخلاق العالية التي أصبحت سياجاً للمدنية الغربية يقيها سرعة السقوط فيما سقطت فيه المدنية الشرقية من الضعف والفساد. ورب قائل يقول إن من المحال إذن تخلص الشرقيين من حبائل الانحطاط في الأخلاق واستئصالهم لمرض الضعف الذي نما فيهم بمرور الأجيال، نمو المرض القتال. والجواب عن هذا أن المحال، في الممكنات محال. وإذا نهض أهل المشرق لملافاة ما فات، والنظر فيما هو آت، وانتهجوا سبيل الأناة والتعقل، وكان لهم من القادة ما كان لإخوانهم اليابانيين فليس من المحال حصولهم على مدنية فاضلة تضاهي مدنية المغرب لهذا العهد. ولنا بهذا الصدد كلام آخر نرجئه لفرصة أخرى إن شاء الله. القاهرة رفيق العظم

الكتب والجراثيم

الكتب والجراثيم العاقل يأخذ من كل كلامه أطيبه ومن كل نصيحة أنفعها فلو أراد مثلاً أن يعمل بجميع ما يشير به علماء البكتريولوجيا ويعتقد بفعل الجراثيم اعتقادهم بها لانقطعت يده عن العمل ولسانه عن الأكل وأنفه عن الشم وجسمه عن الحركة ولكن الحكيم يأخذ الكلام ويزنه بميزان الإنصاف ويقلبه على محك البصيرة فلا يقبله أو يقبل منه إلا بعد عرضه على فيصل العقل ومحكم التجارب. ارتأى أحد نطس أطباء الفرنسيين مؤخراً أن أحسن واقٍ للمرء من الجراثيم أن يطالع من الكتب ما صدر من المطابع حديثاً ويقطع أوراقها بمقطع من العاج إذ قد ثبت بالفحص البكتريولوجي أن في الكتاب الحديث قليلاً من الجراثيم التي لا تضر ولكن في دفات الكتب وتحت مغابن أوراقها التي تتداولها الأيدي كثيراً كأسفار المكاتب وغرف القراءة ألوفاً من الجراثيم القتالة يتجلى ذلك بالعين المجردة لمن يحدق فيها وفي كل سطح مربع من أمثال هذه الكتب 43 جرثومة فيتكون من كتاب مؤلف من ثلاثمائة إلى أربعمائة صفحة عدد مدهش من الجراثيم. وليست كل هذه الجراثيم مما يضر ويؤذي على رأي علماء البكتريولوجيا بل أن معظمها من النوع الذي يكثر وجوده على سطح جلدنا ورأس أصابعنا وفي غبار الجو. ولكن الخطر كل الخطر آت من أولئك المسلولين أو الناقهين من الحمى الحصبية من ينظرون في تلك الكتب المعدة لقراءة الخاصة والعامة ويودعونها من سموم أمراضهم ما لا يشفى صاحبه. الخطر آت من أولئك المرضى الذين يسعلون ويعطسون ويمرون أصابعهم وهي مبتلة بلعابهم على صفحات تلك الكتب. فإن ما يتركه المسلول أثناء مرضه أو الناقه من الحمى في ثلاثين أو أربعين يوماً من نقاهته أو المصاب بالدفتيريا من الباشلس والجراثيم بين تضاعيف الأوراق لا يقدر مضرته إلا الباحث. وليست الحوادث التي تدل على انتقال الأمراض المعدية بواسطة الكتب والرسائل والأوراق العتيقة بنادرة فقد أورد بعضها الدكتور لوب الفرنسي في تقريره إلى المجمع الطبي الباريسي ومن أعظم ما قصه من هذا القبيل ما شهدته بلدية خاركوف من أعمال روسيا من فتك السل في مستخدميها فتكاً ذريعاً وبعد البحث ظهر لها أن هذا المرض كان يفتك فيمن كان عهد إليهم العمل في سجلات الإدارة خاصة فسلمت أوراق تلك السجلات للبحث البكتريولوجي فثبت بعد الاستقراء أن أحد موظفي تلك الإدارة وكانت مهمته

الرجوع إلى تلك السجلات أصيب بالسل وكان من عادته أن يبل رأس إبهامه ليقلب أوراق دفاتره فأبقى بين أوراقها كمية وافرة من جراثيم مرضه نمت على الزمن حتى جاء من بعده وأخذت تسري إليهم. ومن الأمثلة أيضاً أن امرأة وضعت طفلاً فكان الطبيب يطبها ويطبه على أحدث الطرق في منع الفساد فمات الطفل في اليوم الثالث عشر من يوم ولادته بعد أن خرجت له بثور متعددة ثم تناولت هذه البثور والدته فماتت بعد مدة أيضاً وكان سبب ذلك كتاب عتيق استعارته الأم من إحدى غرف المطالعة كانت تقرؤه وهي ترضع طفلها فنزع الطبيب جلد الكتاب وبعض ورقات منه فشهد فيه جراثيم ذاك المرض الذي قضى على النفساء وابنها. وما برحت مسألة العدوى بالكتب شاغلة بال الباحثين من علماء الصحة. ويقولون أن الخطر في الكتب المدرسية عظيم جداً لأنها تنتقل من يد إلى أخرى حتى تتمزق وتسود ويحشر فيها من ضروب الجراثيم أشكال إلا أن بعضهم يقول إن الجراثيم لا يطول عمرها على صفحات الكتب كثيراً فباشلس السل يعيش مائة وثلاثة أيام وجرثومة الهواء الأصفر 48 ساعة وجرثومة الخناق 28 يوماً وباشلس الحمى التيفوئيدية يعيش من أربعين إلى خمسين يوماً. ويقول قوم أنه لا ينبغي أن يوثق بهذه الأرقام لأنه ثبت أن سم الخناق يعيش كثيراً في الثياب وأن أحسن الطرق أن تطهر الكتب وليس من طريقة لتطهيرها إلا بإمرارها على بخار فورمول إلا أنها إذا مرت عليه تهرأ الورق وتمزق بعد حين ولابد أن يمر الكتاب على هذا البخار صفحة صفحة. وحدث ما شئت أن تحدث عن العناء الذي يلقاه من يعهد إليه تطهير ألوف من الأسفار. وكيفما دارت الحال فإن النظافة مطلوبة شرعاً وعقلاً والوقاية لازمة واختيار الكتب النظيفة خير من القذرة. وعسى أن يكون فيما تقدم عظة لمن اعتادوا أن يعيروا الكتب والمجلات وينقلوها إلى أيدي كثيرين حتى ممن لا يعرفونهم فيقللون بذلك من عدد مبتاعيها ويجلبون بها جراثيم مضرة بهم.

قوة الجنس اللطيف

قوة الجنس اللطيف نظمتها للمقتبس وهي من باب النسائيات من الجزء الثالث من الديوان هي للنعيم وإن شقينا موعدُ ... في كل يوم مخلف ومجددُ لعب الزمان بنا على آمالها ... ما إن يحققها ولا هي تنفدُ وأشد ما لقي امرؤٌ من نفسه ... أملٌ إذا اقتربت إليه يبعدُ قالوا النسا خدُّ الزمان فهل ترى ... بسوي دماء العاشقين يوَرَّدُ قالوا بنات الشمس في الدنيا وقد ... صدقوا لأن لظى الهوى لا تخمدُ قالوا وأمثال النجوم لأنها ... ما حولها إلا ظلام أسودُ إن النساء هي الوجود أما يرى ... كل الرجال لأجلها ما يُوجَدُ هي في القلوب وكل شيء راجعٌ ... للقلب فهي لكل شيء موردُ والقلب في نسج الطبيعة عقدة ... بين الهوى والرأي لم تلها يدُ فإذا نظرت إلى العظائم لم تجد ... إلا إرادات النسا تتجسدُ وإذا بحثت وجدت كل عظيمة ... في طيها نظرات أنثى تشهدُ يدعونه الجنس اللطيف لضعفه ... فسل البخار بلطفه كم يجهدُ ما الشأن في صغر الأمور وضعفها ... أين الرصاص إذا دَوَى والجلمد السيف يقطع والردى ذو سطوة ... والنار تحرق والنسا تتودد وإذا تقلدت الحليَّ فإنما ... مفتاح باب القلب ما تتقلد ما البحر ملتطماً تضارب موجه ... كالغيظ في صدر امرئ يتردَّد متواثباً كالشيخ يحرج صدره ... فتقوم (هامته) لذاك وتقعد متنفساً نفس القتال إذا دَوَى ... وقع المهند يلتقيه مهند متغيظاً حرداً فلولا أنه ... ماءٌ لسال أشعةً تتوقد تثب العواصف فوقه وثب الجنو ... ن يظل يبرق إذ يهيج ويرعد بأشدَّ من أنثى تكلفت الهوى ... وأتت بحيلة ضعفها تتنهد طنطا مصطفى صادق الرافعي

روح جديدة

روح جديدة أخذت الأمة تنصبغ بصبغة الغربيين منذ أنشأت تأخذ العلوم عنهم وتختلط بالخاصة والعامة منهم. ومن ذلك إجلال رجال العلم والأدب أحياء كانوا أو أمواتاً. فقد بدأت في الشتاء الماضي بتأبين المرحوم فقيد الأدب محمود سامي البارودي وتلاوة القصائد والخطب على ضريحه يوم دفنه وأربعينه وثنت بتأبين حكيم الشرق الشيخ محمد عبده تأبيناً لم يسبق له نظير كما احتفلت في الصيف المنقضي بمترجم الإلياذة العالم سليمان أفندي البستاني. كل ذلك جرى في هذه العاصمة وهي مبعث العلم من بلاد الشرق العربي وثمال الأدباء وعصمة العلماء. ولقد شهدت في النصف الأخير من ذي القعدة حفلة ثانية من تكريم الأحياء للأحياء أقامها جماعة من السوريين في نزل كونتننتال احتفاء بشكري أفندي غانم ناقل رواية عنترة إلى الفرنسية والشاعر المجيد بلغة الفرنسيين. وهو من أهل سورية غادر بلاده منذ 25 سنة وصرف معظمها في الديار الفرنسية. فحضر الاحتفال نحو ثلاثمائة رجل من علية المصريين والسوريين والفرنسيين وغيرهم وتليت خطب وقصائد بالعربية والفرنسية فاض منها معين بلاغة العرب والعجم فتكلم بالعربية سليمان أفندي البستاني ومصطفى باشا كامل وخليل أفندي مطران وعبد الفتاح أفندي بيهم وأسعد أفندي داغر وبالإفرنجية يوسف باشا شكور والمسيو البان ديروجا وأيوب أفندي كميد وداود بك عمون وصاحب الحفلة. احتفلوا بأديب خدم الأدب الإفرنجي. ولما كانت الأمة لم تبرح بعد في طفوليتها من حيث نهضتها العلمية فلا يزال احترامها مقصوراً على الأدباء في الغالب. وقد اذكرني هذا الاحتفال بما كان يجري من أمثاله في عصر الحضارة الإسلامية أيام كانت الأمة مدة العباسيين تكرم العلماء والأدباء كيف كانت نحلتهم ولغتهم. وكان هؤلاء يتحابون ويتآلفون كالأخوة من غير حرج ولا نكير. ومن قرأ كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي يتجلى له أن العلم يجمع بين المتباعدين وإن كل من خمره العقل وعجنه التهذيب وخبزه العلم يتمسك بالجوهر ويطرح العرض وينظر من الأشياء إلى مقاصدها ومغازيها.

التعليم والتربية

التعليم والتربية السعي والعمل نشر هذه الأيام رئيس نظار فرنسا المسيو دومر كتاباً سماه كتاب لا بنائي فاقتبسنا منه الفصل الآتي وهاك تعريبه قال: إن في العمل حياة والفكر والإرادة لا يعدان شيئاً إذا لم يكونا سلماً للعمل. إلا وأن العمل والنشاط والسعي من لوازم التوازن الأدبي والطبيعي في الإنسان وهي من شروط كيانه وفيها بقاء المجتمعات البشرية. ولقد فضت الفطرة أن يكون العمل فرضاً مادياً وجعله قانون الأدب واجباً. رجل العمل هو الرجل النافع لنفسه ولغيره ولبلاده. وتحتاج فرنسا أكثر من قبل إلى رجال عمل من أبنائها فرجال القول فيها كثير. وقد مدح أجدادنا بفصاحتهم منذ عشرين قرناً وينهال عليهم هذا المديح المضحك أيام السقوط والانحطاط خاصة. ولقد كان قيصر يذبح خطباء الغلوا ويجرهم دامية أجسادهم إلى مركبة ظفره ولطالما خطبوا وأجادوا وظلت بلاد الغول مستعبدة. ومن السعادة أن نرى أهل جنسنا قد أظهروا في تاريخهم الطويل المجيد من القادرين على العمل أكثر من غيرهم تشهد بذلك ألفا سنة قضاها في العمل والحرب والمجد فمن الواجب أن نجد في أبنائنا اليوم ذاك الشعور بالعمل والإرادة فمستقبلنا وحياتنا مناطان بذلك. فبالعمل المتواصل الفعال يظفر المرء بالنجاح في جهاد الحياة وميدان العالم فالعمل لازم للدلالة على أننا مطبوعون عليه متطالون إليه وذلك بدون وناء دون أن نعرف العنت والتعب. فبالعمل تستحكم قوى جسدنا وعقلنا ونحفظ صحتنا الطبيعية والأدبية. فالعمل هو الحركة والنشاط وإن شئت فقل هو الحياة بعينها. والجمود والبلادة في قلة الحركة وفي قلة الحركة الموت. وإن في العمل على اختلاف أشكاله عقلياً كان أو أدبياً أو طبيعياً لإشارة على الحياة الشديدة. تلك الحياة التي هي أليق بأن تكون شعار النفوس الكبيرة والتي يجدر بالمرء أن يحيا بها. هب يا هذا للعمل أحسن ما في حياتك فليس كل عمل سعياً والسعي هو العمل المستمر القانوني والعمل يوجد ويغير وينتج. ولا يكفى الانصراف إلى العمل جملة واحدة بل لابد لنا من السعي في العمل المنتج للخيرات العقلية والطبيعية. فالسعي هو أول قانون إنساني أبدي يقضي على الجميع أن يتوفروا عليه فبه تكبر النفوس وتشرف الأرواح وهو ضروري للسواد الأعظم وفرض على الجميع.

متع طرفك قليلاً في سير الإنسانية تجد أن السعي كان في كل دور من أدوارها شرطاً في حياتها وأداة في نجاحها فالبسعي والذكاء والنشاط تغلب الإنسان على الحيوان واستعبد قوى الطبيعة فالتمدن عامة وخصوصاً التمدن الأوربي العظيم هو ابن سعي الإنسان ففي السعي الحرية كما جاء في بعض الأناشيد. السعي يضمن لمن ينصرف إليه استقلالاً ووقاراً يتعذر نيلهما على العطل ولا يطمح إليهما. فهو للمعوز ضرورة مطلقة وفرض مادي مشروع كما هو فرض اجتماعي وللغني نافع له من حيث أنه ينتفع من مال حصل عليه غيره وأورثوه إياه والواجب عليه في هذا المعنى كالواجب على الفقير. وليس عندي من النعوت ما يوصف به من لا يعمل ولا يسعى. أي فضل في الحياة وإعجاب بها عند من لا يود أن يساعد المجتمع بعمله أقل مساعدة وأن يجاري في العمل الاجتماعي والوطني. والغني في سعة من أن يسعى ولا يجب عليه السعي أكثر من غيره لأن الأسباب لديه على العمل أعظم ولأنه غني عما يكتسب به ضرورياته فينصرف إلى المطالب العالية ويسهر على المصلحة العامة. إلا وأن السعي رب الفضيلة والبطالة أم كل الرذائل كما جاء في المثل. ومن ألف الفراغ يصبح وجوده عدماً ضاراً بالمجتمع وبنفسه ولا يمكن الامتناع عن كل عمل فمن لا يعمل الخير يعمل الشر لا محالة فبالسعي الحياة وبالبطالة تفلج الأعضاء وتموت. حديد لا يستعمل يصدأ ودماغ وأعضاء تعفى من العمل تضعف وتسقم. فمن يشغلهم السعي ويعيشون عيش العاملين يسعدون بحفظ قواهم وصحتهم ولا يتأثرون بالمظاهر الخارجية والمناظر التي تدهم الكسل العطل. لا يأتون كل صباح إلى ميزان الحرارة تفكهة ولا ينظرون أحوال الجو ولا يحدقون في المرآة إلى لون ألسنتهم بل يعيشون ويعملون ويبددون ويحرقون الجراثيم المضنية التي تسطو على أجسادهم وعقولهم فهم سالمون طبيعة وأدباً لأنهم عاملون. السعي يدعو إلى تحمل أعباء الحياة وشقائها القليل بنشاط ويمنح حسن الخلق والسرور وعلى العكس في البطالة فإنها تدعو إلى الافتكار في أقل ما يصادفه المرء من العوائق وتعظمها كما تعظم الآلام والأوجاع فتولد الحزن وسوء الخلق والسويداء وهذا المرض من أمراض النفس وهو مبعث أمراض الجسد.

صحف منسية

صحف منسية شعر فقيه الشائع على الألسن أن شعر الفقهاء منحط عن شعر الأدباء ولكن هذا الحكم لا يصح على إطلاقه إذ ما كل فقيه جامد القول تافه الأساليب، وليس كل الناس المهذب والأديب. نعم وليس كل الشعراء منحلة قيود تربيتهم، معتلة عهود حميتهم وحماستهم. ومن المذكورين بالرحمة القاضي علي بن عبد العزيز (366) الذي وصفه صاحب اليتيمة بأنه: فرد الزمان، نادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، وقبة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، ومجمع خط ابن مقلة، إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري، وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علماً وفي الكمال عالماً، وله من أبيات وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى نفسي الأبية والدهر إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر وله: وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن موضع الرزق ضيق إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق وله: ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليساً ليس شيء أعز عندي من العلم ... فما أبتغي سواه أنيساً إنما الذل في مخالطة النا ... س فدعهم وعش عزيزاً رئيساً وقال وهو مما هو يجدر بكل عالم أن يجعله نصب عينه ورهن أذهنه: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس إكراما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما انهنهها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العدا فيمَ أولما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لا خدم من لاقيت لكن لا خدما أأشقى به غرساً واجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان احزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كتاب الأم تنبه شعور رجال الأمة لهذا العهد بأن من أعظم أسباب النهوض الإهابة بالناس إلى العمل بما ألف من الكتب في القرون الأولى للإسلام لمحض خدمة المجتمع ونفعه الخالص بدون تقية ولا غرض. ولو رجع أهل كل مذهب من مذاهب أهل السنة إلى أصول مذاهبهم وطرحت كتب المتأخرين واختلافاتهم لضاق مجال الخلاف ولم يجد المماحكون سبيلاً لقول يقولونه. وقد عني حضرة العالم الأصولي ذي المعزة السيد أحمد بك الحسيني من أعاظم أهل العلم والعمل في مصر بأن طبع على نفقته كتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه. طبعه بالمطبعة الأميرية ببولاق بعد أن كادت تعبث به أيدي الضياع شأن كثير من كتبنا. فأتى من الشام ومصر والحجاز واليمن وألمانيا وغيرها بنسخ من أجزاء هذا الكتاب صار بها الطبع أصح ما ينبغي أن يكون بالطبع. وهو عمل عظيم لو حذا عشرة من رجالنا حذو السيد الحسيني لما بقي لأسلافنا بعد حين كتاب مهم تتوق إلى طلعته نفوس الخاصة والعامة فجزاه الله أحسن جزاء. ولعل نفوس بعض القراء راغبة في أن تعرف من هو الشافعي وما هو كتاب الأم. فالشافعي لا مجال لترجمته الآن بعد ألفت الكتب الضخمة في ترجمته وتعداد مناقبه ويكفي أن يقال في وصفه أنه كان إماماً قرأ عليه الأئمة في عصر قام فيه أعاظم رجال الإسلام وأنه ألف ما ألف من كتب الفقه والخلاف وغيرها قاصداً به وجه الله فكان أهل مذهبه اليوم ربع أهل الإسلام أو يزيدون. جاء في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ذكر من صنف في مناقب الإمام الشافعي: داود بن علي الأصفهاني الظاهري وزكريا بن يحيى الساجي وعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبو الحسين الآبري والحاكم أبو عبد الله بن البيع وفي عصره أبو علي الحسن بن الحسين بن حكمان الأصبهاني وأبو عبد الله بن شاكر القطان والإمام إسماعيل السرخسي والأستاذ أبو مسعود عبد القاهر بن طاهر البغدادي كتابين والحافظ أبو بكر البيهقي والحافظ الخطيب والإمام فخر الدين الرازي والحافظ أبو عبد الله الأصبهاني المعروف بابن المقري والحافظ البيهقي وإمام الحرمين أبو المعاني الجويني. هؤلاء الأئمة صنفوا في مناقب الشافعي ولو شاء الباحث استقصاء من شهدوا له بالعلم

والإخلاص في عصره ومن بعده لاستغرق ذلك أسفاراً برأسها. وقد اعتذر شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني في كتابه توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس بأن من يتكلف التأليف في هذا يقع في تعب من غير أرب وكتاب الأم كما قال ابن حجر نقلاً عن البيهقي بنصه: أولها الطهارات، ثم الصلوات، وذكر فيها الجمعة، ثم الخوف، ثم العيد ثم الكسوف، ثم الاستقساء، ثم التطوع، ثم حكم تارك الصلاة، الجنائز، الزكاة، قسم الصدقات، الصيام، الاعتكاف، المناسك، البيوع، الصرف، السلم، الرهن الكبير، والرهن الصغير، والحجر والتفليس وسائر المعاملات ثم الوصايا، والفرائض، ثم إحياء الموات، والوديعة، واللقطة، واللقيط، ثم كتاب النكاح ومتعلقاته، ثم الجنايات ثم كتاب قتال أهل البغي، ثم الجهاد، وسير الأوزاعي، وسير الواقدي، وكتاب الطعام والشراب والضحايا والصيد والذبائح، والقضاء باليمين والشاهد والدعوى والبينات والأقضية، والإيمان والنذوز، والعتق بأنواعه وكتاب الشروط وعدة كتب الأم مائة ونيف وأربعون كتاباً. هذا هو كتاب الأم بل مجموع الشريعة الغراء في صفحات، وقد طبع منه الآن أربعة مجلدات وبقي ثلاثة وجعل الطابع في هامش ما طبع مختصر المزني للإمام الشافعي أيضاً وسيكون على هامش ما سيطبع من الأجزاء مسند هذا الإمام وكتاب اختلاف الحديث له أيضاً وبعد فإن الأمة تتشرف بصدور هذا الكتاب وتنشد ما قاله ابن دريد في مدح الشافعي رحمه الله ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي روافع مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شوارع ظواهرها حكم ومستنبطاتها ... لما حكم التفريق منه جوامع جواهر البلاغة هو كتاب يدخل في 326 صحيفة من قطع الوسط في علوم المعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي وفنون الشعر والسرقات والمحاضرات الشعرية لمؤلفه الأستاذ الجهبذ الفاضل الشيخ أحمد الهاشمي أحد العاملين من المؤلفين في هذه العاصمة. سلك فيه مسلك الإيضاح والتقريب على طلاب الأدب ونحا فيه منحى التآليف العصرية في التنسيق ولطف الأداء. ولولا بعض اصطلاحات يتوقف فهمها على شرح معلم لا محالة لقلنا أن جواهر

البلاغة مما يقرؤه المطالع لنفسه، ويفهم لباب هذه الفنون بدرسه، وقد كانت فيما مضى صعبة المتناول إلا على من صرفوا في تحصيلها أعمارهم، ووقفوا على تدبرها ليلهم ونهارهم. المفرد العلم كتاب المفرد العلم في رسم القلم من تأليف الأستاذ الهاشمي المشار إليه أهداه إلينا فيما أهدى من تآليفه. سفر جليل لا يستغني عنه العامي فضلاً عن الخاصي لأن فيه بيان لكتابة الحروف العربية وقواعدها وضوابطها وقد عقب عليها بتمارين وأمالي وزاد عليها هذه المرة تمرينات وأمالي لم تكن في الطبعات الماضية وشرح الألفاظ الغريبة فصار الكتاب مفيداً للإملاء والمطالعة والإنشاء نافعاً في الدروس التي قررتها نظارة المعارف المصرية في مدارسها. ويكفي في بيان مزيته أنه طبع الآن للمرة الخامسة ولو لم يكن اقتناؤه من الضروريات لما وجد كتاب في التعاليم من يبتاع منه الطبعة الأولى. فنثني على اجتهاد المؤلف العامل أطيب الثناء لأنه يتوخى فيما يكتب سهولة التعبير، وجودة التصوير، أثابه الله. الضياء وابن سراج كراسة نشرها سعادة العالم اللغوي الأمير شكيب أرسلان دفع فيها ما خطأه به حضرة العالم اللغوي الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء الغراء من وقوع بعض ألفاظ في روايته آخر بني سراج كان انتقدها الشيخ في جملة ما انتقده على كتاب الجرائد من الألفاظ والتراكيب. ومن رأي الأمير أن اللغة العربية يقع فيها الثقل لأدنى ملابسة وقد أورد نصوصاً من اللغة على ذلك كقوله أن الناقوس والشباك والبيت والجريدة لم تطلق عند من دونوا المائة على تلك المسميات التي يعرفها أهل زماننا بل عرفت في كتب اللغة بأن الناقوس خشبة كبيرة تقرع بخشبة صغيرة ويقال لها الوبيل والشباك ما وضع من القصب ونحوه من صنعة الواري والبيت كان يقال لبيت الشعر والجريدة سعفة طويلة رطبة. وعلى الجملة فإنا نشكر للشيخ والأمير عنايتهما باللغة وغيرتهما عليها ونتقدم إليهما باسم العلم وهما من أعز أنصاره أن يقصرا من الجدال على النحو الذي جريا عليه فكلاهما فرد في شأنه أوحد في صحة بيانه والتهكم لا محل له في الأبحاث العلمية وتقرير الحقائق الأدبية

واللغوية. مجلة الشتاء اسم مجلة أصدرها بالقاهرة حضرة الشاعر الناثر ذي المعزة سليم بك عنجوري الدمشقي صاحب الدواوين الشعرية والروايات النثرية وهي أدبية علمية تاريخية فكاهية شعرية تظهر شتاء وتحتجب صيفاً وقيمة اشتراكها أربعون قرشاً أميرياً. وقد تصفحنا العدد الأول منها فرأيناه طافحاً بالمقالات والمقاطيع المنظومة والخطوات المنثورة من بنات أفكار صاحبها فنشكر له همته ونشاطه في خدمة الآداب ونسأل له حسن التوفيق كما يحب ويحب له كل مشتغل بالأدب غيور عليه. كتاب الخير والشر انصرفت وجوه بعض المتعلمين والمستشيرين من العامة إلى قراءة الروايات على اختلاف مناحيها فانصرف إلى كتابة أمثال هذه القصص جماعة من الأدباء ومنهم الأديبان البارعان محمد أفندي وجيه وحسين أفندي الجمل ترجما في العهد الأخير رواية كاترينا بلوم لاسكندر دوماس القصصي الفرنسي المشهور فنثني على اجتهادهما أجمل ثناء ونتمنى أن يكثر أمثالهما من الكاتبين العارفين فجامعتنا تحتاج كل ضرب من ضروب البضائع العلمية. وثمن النسخة ستة قروش صحيحة.

تدبير المنزل

تدبير المنزل آفات الغبار من يدرس كتب الصحة لابد أن يعرف ما يحدث عن الغبار من الآفات والمضنيات. كتب أحدهم يقول أن ليس في السنتمتر المكعب من الهواء الخارجي غير مائة وثلاثين ألف ذرة من ذرات الغبار على حين أثبت الامتحان أن في السنتمتر مليوناً وثمانمائة ألف ذرة وإذا أحصي الغبار بعد الكنس فيكون في كل سنتمتر مكعب خمسة ملايين وأربعمائة وعشرون ألف ذرة. وفي هذه الذرات من أنواع المؤذيات ما لا يطلب غير مستو بل نديّ لتنمو فيه وتتكاثر ولو لم تخل منافذ مشامنا دون دخول هذا الغبار كله إلى الرئتين وتمنع في دخول الذرات الكبيرة لكان تأثيرها في أجسامنا ما كان. يتنفس الإنسان في الدقيقة من 12 إلى 15 مرة نحو نصف لتر من الهواء كل مرة أو أربعمائة لتر في الساعة أو من تسعة إلى عشرة آلاف لتر في الأربع وعشرين ساعة. ويعرف علماء التشريح إذا عرضت على أنظارهم رئة الحضري من رئة الريفي لما في الأولى من الجراثيم المختلفة المؤذية ولولا الغبار ما حملت الجراثيم إلى جسم الإنسان ولبقيت في الزوايا. فالغبار يحمل الحمى القرمزية والحميرة والسل والخناق وغيرها من الأمراض. واختلفت العلماء في كون هذه الجراثيم تدخل الجسم من طريق التنفس أم من طريق البلع ومهما يكن من اختلافهم فإن الغبار من أشد أعداء الأجسام وافتكها بها. فحبذا لو عنيت مجالس البلديات في البلاد التي تدعي أنها سائرة على مناهج المتحضرين في شؤونها البيتية والأهلية والمعاشية بأمر الكناسين أن لا يكنسوا الشوارع إلا في الليل بعد انصراف الناس إلى منازلهم ولا ينفض الخدم البسط والطنافس والأثاث والحصر والباري والكلل (ناموسيات) والدثارات من أعلى الشرفات والطنف فينزل الغبار على أبناء السبيل ويكون لهم أسوأ دليل والغبار من أعداء الإنسان إلا في مغزى المثل العربي القائل غبار العمل خير من زعفران العطلة.

تدبير الصحة

تدبير الصحة الحمامات الشمسية يوجد نقص تتمة الصفحة 158 والصفحة 159 والصفحة 160 حتى فقرة تغميز القلب. تغميز القلب للتغميز (التمسيد) فوائد جزيلة ظهر بعضها مؤخراً في إحدى مستشفيات إنكلترا ذلك أن شيخاً مريضاً تناول جرعة عظيمة من الكلوروفورم فأصيب بإغماء ووقف تنفسه ونبضه فعمد للحال طبيبان من أطباء المستشفى وشرط أثر المحل الذي يسهل أن يتأثر به القلب وشرعا يغمزانه فلم يمر ستون ثانية حتى أفاق المغمى عليه وأخذ القلب يضرب على عادته فعندها أوقفا التنفس الصناعي ولأما الجرح باحتياط عظيم فشفي المصاب تماماً. ويقول هذان النطاسيان أن التغميز ينفع في الإغماء لا محالة. وشي القنب تفنن اليابان في الصناعات حتى استبدلوا وشي القنب في العهد الأخير بوشي الحرير لأنه طبيعي أكثر من القنب وقد عرضوا منه في كيوتو صورة أسد ولبوة. اخترع هذا لوشي رجل اسمه سوكافارا معروف بتفنيه وأعماله الصناعية. ومتى انتقلت هذه الصناعية إلى الغرب وجد القنب الذي ينبت في غوطة دمشق مصرفاً عظيماً. هوام الغابات في الصحف العلمية أن هامة من الهوام المضرة أخذت تأتي على الغابات الغبياء في آكام داكوتا السوداء. ودا كاتوتا إحدى مقاطعات أميركا الشمالية. فهي تحمل على الأشجار بسرعة حتى أنه يخشى أن يتناول الخراب تلك البقعة برمتها. وقد بذل أصحاب الأملاك ملايين من الدولارات بدون فائدة وقد جعلت إحدى الأندية العلمية جائزة كبرى لمن يدلها على علاج شاف من حملات هذا العدو الهائل. خازنة الكهربائية اخترع أديسون خازنة للقوة الكهربائية أكومولاتور جديدة معمولة من صندوق حديد يحتوي صفائح تتبدل من معدن النيكل والحديد عوضاً عن الرصاص الذي كان يستعمل في الآلة

السابقة. ويقدر أن هذه الآلة يقتصد بها 58 في المائة عن الآلة القديمة ويمكن للاتوموبيل أن يسير بهذه الخزانة نحو سبع ساعات أي نحو مائتي كيلومتر دون أن يضطر إلى الإملاء وبقوة دائمة. مدارس الأزياء أنشأ الغربيون مدارس لكل ما يتصوره المرء من الأعمال والصناعات وقد قامت هذه الآونة آنسة من أوانس الأمريكان الشهيرات تهرأ بطريقة القصصين في وصفهم أزياء النساء في قصصهم. قالت أن المرأة لو كانت خارجة الآن من مستشفى المجاذيب أو المجذوبات لما لبست الثياب التي يصفها فيها هؤلاء الكتاب ولذلك ارتأت أن يضاف إلى الصفوف الكثيرة في كلية كولومبيا الخاصة بدارسة فن الصحافة صف يدرس فيه علم الأزياء. والولايات المتحدة تحب أن تفوق الأمم في كل حال وشأن. مثال المدارس كتب أحد أساتذة العلم في أميركا بحثاً في إحدى المجلات العلمية في نيويورك قال فيه أن من أدل الدلائل على ارتقاء التعليم العام في الولايات المتحدة ارتقاء حالة مدرسة تكساس الجامعة التي أسست سنة 1858 ولم يكن فيها عشرين سنة إلا 199 طالباً وفيها الآن ألفا طالب ولها دخل يربو على 1. 750. 000 فرنك. حاضر اليهود كتب أحد كتاب الأمريكان بحثاً تحت هذا العنوان استند فيه إلى أحدث الإحصائيات فكان عدد بني إسرائيل في العالم 224، 118، 11 نصفهم في روسيا والباقون موزعون بين النمسا وألمانيا ورومانيا وإنكلترا وهولندا وتركيا وفرنسا وإيطاليا وبلغاريا ورومللي الشرقية وسويسرا وبلجيكا واليونان والولايات المتحدة وكندا والأرجنتين وغيرها من جمهوريات أميركا الجنوبية وبعض ممالك آسيا وشمالي إفريقية مثل مراكش والجزائر ومصر وفي هذه منهم 100، 21 فقط ولم تعاملهم دولة معاملة رسمية كسائر رعاياها غير النمسا وألمانيا والبلجيك والدانمارك وفرنسا وبريطانيا العظمى ومستعمراتها وإيطاليا وسويسرا والولايات المتحدة أي 41 في المائة من مجموعهم. من هذا العدد عشرة في المائة أغنياء و30 في المائة فقراء وهؤلاء على فقرهم المدقع لا تراهم يسجلون أسماءهم في سائر محاويج

الطوائف لأن أولئك الأغنياء يكفونهم مؤونة التكفف على غيرهم.

المجلات الإفرنجية والعربية

المجلات الإفرنجية والعربية الخط الياباني أنشأ بعض اليابانيين مجلة تعنى خاصة باستبدال الخط الروماني بالخط الياباني وبعبارة ثانية تدعو إلى طرح الحروف الشرقية القديمة والاستعاضة عنها بالحروف الغربية الحديثة. وفي هذا من الثورة العلمية ما قامت له الأندية العلمية في يابان وقعدت. وأصبح لهذا الفكر أشياع ولكنهم قلائل الآن. تقول المجلة أن استعمال صور الحروف الصينية لا يعتبر إلا بأنه من حب الاتصال مع الماضي كما هو الحال في امتيازات قديمة لم يتوصل بعد إلى نزعها والتخلص منها. وبهذا ترى اليابان أقسمت أو كادت تقسم أن لا تبقي أثراً للتقاليد القديمة التي تعوق سير حضارتها. تبادل العلم ذكر أحدهم في مجلة المجلات الأميركية الصورة التي سيجري عليها في مبادلة العلم العالي بين كل من أميركا وألمانيا على الطريقة التي عزم على الاعتماد عليها الإمبراطور غليوم الثاني بالاتفاق مع مدرسة كولومبيا الجامعة. قالت أن أساتذة من هذه المدرسة يذهبون إلى كلية برلين ويشغلون منابر أنشئت لهم خاصة ويأتي أساتذة ألمان من كلية برلين يعهد إليهم بالتدريس في صفوف كثيرة من الكليات الأميركية. وغاية هذه الطريقة في مبادلة الأساتذة أن تتبادل ناشئة الأمة الأفكار والغايات ويتذاكروا في المبادئ والمقاصد. والمظنون أن كلاً من إنكلترا وفرنسا لا يلبثان أن ينحوا هذا النحو فتشترك كليات اكسفورد وكامبردج ولندن مع كلية باريس وهناك بشر العلم بالارتقاء الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشر. التكافل في الأمراض نشرت إحدى الصحف الباريسية مقالاً في فائدة التكافل الاجتماعي لإيقاف سير السل ومجاهدته قالت أن المسلول أحد منكوبي الوسط الاجتماعي وأن مرضه ينتشر باجتماع الجرثومة مع الأرض فالجرثومة تأتي من المحيط أو الوسط والأرض هي جسم الإنسان وصحته من أصل تركيبه أو أسباب ولادته وارثه وتربيته وسكنه. ولما هدمت في إنكلترا أحياء برمتها وكانت قذرة موبوءة انخفض عدد الوفيات بالسل إلى 45 في المائة على حين يرتفع معدل الوفيات بهذا الداء في فرنسا.

الآلات المنغمة المشرق - عني حضرة الباحث العالم صاحب هذه المجلة بنشر ثلاث مقالات عربية في الآلات المنغمة انتقاها من مجموع عثر عليه في خزانة كتب مدرسة ثلاثة أقمار في بيروت وفيه رسائل في الهندسة والفلك وتحريك الأثقال والموسيقى وغير ذلك من الآثار العلمية من وضع علماء الإسلام أو من تعريبهم وتعريب طائفة المعربين في عهد الحضارة الإسلامية ويرتقي هذا المجموع بحسب رأي الباحث المشار إليه إلى القرن الثاني عشر للمسيح. وهذه الرسائل في معنى واحد لقدماء اليونان استحق كتبة العرب شكر العلماء إذ حفظوها لهم من أيدي الضياع بنقلها إلى لغتهم. أما الرسائل فإحداها عمل الآلة التي اتخذها مورسطس يذهب صوتها ستين ميلاً وكانت هذه الآلة تحمل معهم في الحروب لأن بلادهم كانت كثيرة الأعداء فكانوا إذا احتاجوا أن ينذروا أصحابهم أو يسألوا المدد في الحروب لتأتيهم الخيل والمدد أو ينذروا أهل مدينة الملك وأي النواحي أرادوا نفخوا في هذه الآلة وهي الأرغنن الكبير الملقب بالواسع الفم الجهير الصوت وذلك أن صوته يذهب ستين ميلاً. والثاني صنعة الأرغن الجامع لجميع الأصوات وهو أن يسمعك صوتاً عجيباً يبكي بكاء شديداً ويسمعك صوتاً مرقداً ينيم صاحبه على المكان ويسمعك صوتاً يشجي ويلهي ويسمعك صوتاً يطرب ويرقص ويسمعك صوتاً يسحر ويذهب بالعقل. والثالث صنعة الجلجل الذي إذا حرك خرجت منه أصوات مختلفة شجية غنجة وزعم الحكماء أن هذه الآلة عملها ساطس (كذا) القديم في بلاد مصر العتيقة فلما ضرب بها هرب من ذلك الموضع كل سبع وكل هوام وكل طير حتى هربت مواشيهم ودوابهم وكاد أكثرهم أن يجن فاستعفوا من ذلك. فنصبها على موضع مشرف بعيد من المدينة جداً. وبنى في ذلك الموضع هيكلاً وهو يسمى هيكل زواس أي (المشتري) ذي الحسن واتخذوا له عيداً فكانوا يحركون الجلجل في يوم عيدهم ثم يذبحون ويتقربون. المجتمع وعلومه المنار - ذكر أن أكمل الجنسيات وأنفعها للبشر ما كانت أعم وأشمل للطوائف والجمعيات المختلفة في النسب والوطن واللغة والدين والحكومة وأن هذه الجنسية هي نهاية ما يمكن وضعه لسعادة البشر كلهم ولكن الناس لما يستعدوا لها تمام الاستعداد وقد وجدت في الجملة

على عهد الخلفاء الراشدين وأن جنسية النسب مزقت الشمل ولولا جنسية اللغة والوطن ما ترفق المسلمون إلى ممالك وقد حاول الإسلام القضاء على عصبية الجنس واللغة والوطن فغيرت بعد. ومن رأيه أن يكون العمل الواجب دائراً على أقطاب هذه المسائل الكلية (1) كون تعليم الدين مؤيداً للعقائد دافعاً للشبهات الرائجة في هذا العصر (2) كون تعليم التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق والآداب مؤلفاً للرابطة الملية بين شعوب المسلمين وعناصرهم المختلفة (3) تعليم العبادات مع بيان حكمها وفوائدها في تزكية النفس وتعليم أحكام المعاملات مع بيان انطباقها على مصالح البشر ومنافعهم في هذا الزمان (4) تعليم العلوم الرياضية والطبيعية بقصد ترقية النفوس ومجموع الأمة بالأعمال الصناعية (5) إحياء اللغة العربية بإلزام المتعلمين التحاور بها استبدالها لها باللغة العامية وبتعليمهم البلاغة في القول والكتابة ليكونوا كتاباً بارعين وخطباء مؤثرين (6) تعليم الصنائع التي يمكن العمل بها في البلاد وفنون التجارة (7) الجمع بين التعليم وبين التربية العملية في المدارس (8) جعل مدار التعليم والتربية على استقلال الفكر واستقلال الإرادة والاستقلال في العمل الذي يعبرون عنه بالاعتماد على النفس.

طبيب وأديب

طبيب وأديب فقدت مصر في العهد الأخير رجلين حري بتاريخ العلم والأدب أن يدون ترجمتيهما في صفحاته وأعني بهما الدكتور حسن باشا محمود وإبراهيم بك المويلحي. الأول عالم والثاني كاتب أو طبيب وأديب. ولد الأول في مصر سنة 1847م على ما نقل أحد أنجاله ووالده من العرب النازلين في جوار الأهرام ولما ترعرع ظهرت عليه آثار النجابة فدخل القصر العيني ونال شهادته الطبية ثم بعثت به الحكومة المصرية إلى ألمانيا فقضى فيها سنتين ثم انتقل إلى باريس وأحكم الطب علماً وعملاً حتى إذا عاد إلى القطر عين في وظائف مهمة مثل نظارة القصر العيني وطبيب الأمير طوسون باشا وطبيب الخديوي إسماعيل وابنه توفيق ومفتش الصحة العامة. وانتدبته الحكومة في عدة مهمات نائباً عنها في المؤتمرات الطبية الدولية ورأس الجمعيات الطبية في مصر مرات وكان عضواً في عدة جمعيات طبية وعضواً في المجمع العلمي بمصر. وكان على وفرة مشاغله كبير العناية بالتأليف والتعريب حريصاً على الاستفادة والإفادة أميل في أعماله إلى الجد على ما يظهر من تآليفه محبباً إلى الناس. كتب رسائل وكتباً طبية كثيرة نشر بعضها على حدة وبعضها في المجلات. وأهم كتبه الخلاصة الطبية في الأمراض الباطنية وهو كتاب لطيف الأسلوب والوضع سهل المأخذ ومنها رسالة في الهيضة وأخرى نبذة في مدرسة الطب المصرية ورسالة في خلع المعصم وكتاب في داء الفقاع وكتاب في الاستكشاف العصري في الرمد المصري وكتاب الفوائد الطبية في الأمراض الجلدية ورسالة في منافع مياه حلون ومختصر في البواسير ومعالجتها وطريقة التمدد ورسالة في حمى الدنج ورسالة في داء الطاعون البقري الساري ورسالة في وباء الهيضة وغير ذلك وظل يكتب إلى آخر أيامه ولا يستنكف من نشر ما يكتبه في المجلات تعميماً للفائدة. أما إبراهيم بك المويلحي فقد ولد في أوائل سنة 1262هـ وهو من بيت معروف بالغنى والوجاهة اضطرته الأحوال بعد أن خسر ماله في المضاربات أن يستخدم في الوظائف على عهد الخديوي إسماعيل وكان يحبه ويأتمنه ويحسن إليه وقد قضى معه عشر سنين في نابولي كاتماً لأسراره وقضى نحو هذا الزمن في الأستانة. والذي يهمنا من أمره أنه كان من أعظم النوابغ في الإنشاء. وقد أكد لنا من نثق بذوقه في البلاغة وعلو الكعب في

الاطلاع على أسرار العربية وآدابها أن المويلحي في عصره كالجاحظ في عصره. ولا غرو فقد تأدب الفقيد بكتبه وكان يحرص على دراستها والاستئثار بدررها ليله ونهاره. كتب المترجم به عن الأمراء كتباً كثيرة ومقالات بحسب الحاجة والدواعي وتلون السياسة ومذاهبها كما كتب عدة جرائد منذ أول نشأته وآخرها مصباح الشرق ولو دام المصباح على لطافة أسلوبه وجودة ألفاظه وتراكيبه سنين كثيرة لكان من أهم البواعث على ارتقاء ملكة البيان العربي ولصار العامة ممن يتوفرون على مطالعته اليوم أرقى لهجات من الخاصة منذ قرون. وبهذا عرفت أن طريقة المويلحي في الإنشاء طريقة السهل الممتنع ساعده على الإجادة فيها أنه لم يكن يكتب إلا في المسائل التي له وقوف على أطرافها ليكون رأساً في معانيه كما هو رأس في مبانيه. وكان مطلعاً كل الاطلاع على أحوال مصر والأستانة رعافاً تاريخ رجالهما بحيث كانت هذه المواد له على خفة روحه ورشاقة قلمه مادة واسعة ليكتب على الطريقة الهزلية المعروفة عند الإفرنج بالاوميريستيك على أن معظم ما كان يكتبه يمتزج فيه الهزل بالجد. كان مجلسه عامراً بالفوائد الأدبية والتاريخية والاجتماعية نادرة النوادر في نكاته آية في الاطلاع على الدخائل. استفاد أشياعه من لسانه أكثر من استفادتهم من قلمه. ولو وجد مجالاً للعمل النافع وقدر أمراء هذه الديار وكبارها أن يحسنوا الانتفاع بمواهبه كما ينتفع الملوك والأمراء بنوابغ بلادهم في العادة لأشبه المويلحي بسمرك وكرسبي وغيرهما من رجال السياسة في هذا القرن ولما رغب في صرف الوقت في الجزيئات ولانصرف عنها إلى الكليات لا محالة.

انتقاد المقتبس

انتقاد المقتبس تتابعت كتب التقريظ والانتقاد علينا وها نحن نلخصها فيما يلي مكتفين بما ورد فيها من ضروب النقد. وفي مأمولنا أن نصلح ما يمكن إصلاحه من وضع هذه الصحيفة وموضوعاتها على الزمن حتى يجيء منها ما يفيد ويروق بعون الله وتسديده. ورجاؤنا إلى من يأتوا العلم الرجيح ورزقوا ملكة النقد الصحيح أن يقبسوا المقتبس من أنوارهم كلما عن لهم ذلك. ورحم الله من أهدى إلى عيوبي. ولقد اختلفت آراء المفكرين والعالمين فمن قائل باختصار مقالات المقتبس ومن قائل بإشباعها وتوفية كل مبحث حقه من الشرح. كما اختلفت المذاهب في أسلوب إنشائه فمن قائل أنه يصعب فهمه على غير المتعلمين أو دون الرجوع إلى المعاجم كما قال بعضهم ومن مصرح أن لغة المجلات ينبغي لها على كل حال أن تكون أرقى من لغة الجرائد لأن قراءها من الخاصة أو ممن يدانيهم ويرى الفريق الأول أنه لا بأس باستعمال ما استعمله العرب من التراكيب أيضاً ويرده بعضهم ويفنده. واعترض بعضهم على استعمال الإشارات الجديدة مثل،؟. وغيرها قائلين أن ذلك لا يجدر إلا بكتب الأطفال والنساء واستحسنها بعضهم وأراد الإكثار منها للإفهام. ورأى بعض العلماء ضبط الكلمات المبهمة. وآخذنا أحد العلماء على كوننا لم ننسب ارتقاء الصحافة العربية للشيخ محمد عبده أيام كان يحرر الوقائع المصرية ويدير المطبوعات ويحتم على الصحف أن تلتزم تصحيح عباراتها أو توقف. كما عاتبنا بعضهم على أننا لم نذكر المعلم بطرس البستاني في عداد من نهضوا بالصحافة. واستنسب بعضهم نشر رواية في كل جزء لأنه يتوقف عليها لفت أنظار أكثر القراء وصرح عالم بأن الروايات لا يليق نشرها في المجلات العلمية التي تتوخى الجد والفائدة. وانتقدت مجلة الشتاء الغراء اطراد المقتبس في أسلوبه الإنشائي الجد البحت وإرادته على استعمال الهزل الأدبي وقالت أن نكات الوهراني والتعاويذي لا تقوم مقام النكتة الخفيفة وآخذته على تجاوزه الحد في الإيجاز في تلخيص مقالات الجرائد العربية وعلى ما سرى إليه من الغلط من أن سليم النقاش عم مارون النقاش هو الذي أتى بالتمثيل إلى مصر. ولم تر مجلة الشتاء حكم ابن حزم جديرة بالإيثار قالت ولو كانت من مأثور الكلام لأبقاها ناموس بقاء الأنسب في ذاكرة أهل العلم. ونقدت على المقتبس إهماله ذكر العادات الذميمة

ونقائص المجتمع صراحة أو تعريضاً وإطلاقه العنان لأمثال التناسل الغريب الخ. وكتب إلينا أحد علماء دمشق يقول: استغرب المحققون ذكرك قصة المتنبي في باب التناسل الغريب إذ لم يعلم أن للمتنبي أكثر من ولد أو ولدين على شهرة أحواله فإما بيان المأخذ وإما إصلاح الغلط. وإذا قرأت ترجمته إلى آخرها في ابن خلكان يتضح لك ذلك بأجلى برهان. ثم أن مجلتك لا يليق بها أن تعدل عن جادة الجد وخلو الغرض وقتاً من الأوقات فاستعمالك لألفاظ يستشم من خلالها ريح التعريض والاستهزاء غير جائز مثل الفقاقيع الفارغة وما ذكرته في وصف الشعراء المحدثين عند بحثك عن دواء الأرق. ويا حبذا لو ضربت صفحاً عن نفاضة الجراب وإن راقت الأكثرين لأن الغاية تعليم وتهذيب وترقية عقل. قيل للإمام علي كرم الله وجهه لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال: الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة. وكذلك نحن الآن في دور جد وعمل لا دور هزل وفكاهة. . . وصحح لنا عالم اجتماعي ف بدمشق بعض أغلاط فقال: جاء في الصحيفة 74 أمطرت رماداً فانكشفت للحال مدينتان رومانيتان كانت مدفونتين والصواب أن يقال فتغطت للحال مدينتان رومانيتان كانتا مكشوفتين لأن البركان غطى حينئذ المدينتين بالحمم والرماد ولم تكشفا إلا من عهد قريب. ومنها ما جاء في الصحيفة 80 خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم والصواب لا تكرهوا أولادكم على التخلق بأخلاقكم الخ. ومنها في صحيفة 78 الإنجيل والمكاتبات والنصارى يقولون الإنجيل والرسائل. ومنها في صحيفة 110 التحبيز والصواب التمييز. ونختم هذا الفصل بقطعة من رسالة لصديقنا الأمير شكيب أرسلان قصد فيها الدعابة الأدبية واعدين أن تلم في فرصة أخرى بما تجود به قرائح المفكرين من نقد هفواتنا قال الأمير سامحه الله: وآنست في نفسك انشراحاً ونشاطاً، وقلة في كمية السوداء وانحطاطاً، يدل على ذلك في مجلتك فكاهات رويتها، ومداعبات أثرتها، وأسجاع ملت إليها، متى كنت يا محمد مولعاً بالسجع عهدي بك لا تطيقه وإذا مررت بالجناس ولو تمثل لك واقفاً رفسته برجلك وأكببته لوجهه. وطالما نقمت علينا التسجيع، وأقمت علينا من النكير بعدد أنواع البديع، وعددت سجع الحمام، من قبل فجع الحمام، واعتبرت نفائس الجناس، من وساوس الخناس، فها أنا ذا أسجع الآن ولا حرج علي منك ولا تثريب، وأجنس وأنت ساكت ساكن

وهذا أمر غريب، فهل هداك الله إلى الصواب الآن حتى صرت في مذاهب المذاهب وطرق الطرق أو هل نزغت بك نزغات جداد، وجدت بك أهواء لم تكن تعتاد، أو لعلك حصرت السجع والجناس في فاتحة المجلة لأنها من المجلة كقاعة الاستقبال من البيت فلا يد فيها من مراعاة الأمور الرسمية والسجع رسمي في المقدمات. . ولا عيب في هذه المقدمة إلا هذا السعدان الذي في آخرها. لا تؤاخذني بالله عليك لي عندك ثارات، وبصدري من حماطة الجلجلان حزازات، وأنت منصف فلا ينبغي أن يثقل عليك الحق كما يثقل على غيرك. . . أما ما استعظمت من روايات التناسل حتى تجاوزت الحد في الاحتراز في نقله فليس بتلك الدرجة فإن الأمثال كثيرة والمرحوم الحاج حسن عبد الله من خيام مرجعيون وعسى أن لا أكون شرقياً في كثرة الأرقام كان له من الولد وولد الولد ما يربو على التسعين وهو والد محمد أفندي الحاج حسن الشاعر الأديب. أما نصائح ابن حزم فقد ذكرتني بحكم ابن المقفع وإن كان لا ينكر أن هذا أعلى طبقة في الكتابة وأما نكات الوهراني فلا بأس بها لكن يا أخي سألت الله لمجلتك أن يدفع عنها آفات التطويل والتكرار، وأنت لم تقصر في تكرار ذكر الشعير مع الأشعار، ففي كتاب الوهراني الذي يخشى من وهر لسانه طلب للشعير مطول برسم البغلة وفي قصيدة التعاويذي أعاذنا الله من مثله كلام عن الشعير لأجل الفرس فهذا كثير على الشعير. . .

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة جونسون ولد سنة 1709 وتوفي سنة 1784 أحد مشاهير كتاب الإنكليز وعلماء الأخلاق قاسى في طفوليته أنواع العذاب من سوء صحته وأصيب بالسويداء. ولد من أبوين فقيرين فتهيأ له رجل محسن علمه على نفقته في كلية اكسفورد لكن بشاعة صورته وفقره وسويداءه جلبت الشكوى منه فاضطر أن يترك دروسه قبل إتمامها وعاش زمناً في مكتبة والده وكان كتبياً ثم عين في إحدى المدارس الخاصة بوظيفة بسيطة وسنة 1735 تزوج أيماً أكبر منه بعشرين سنة وكان يحبها على بشاعتها حباً لا يصدق. ففتح له معها مدرسة للشبان في ضواحي لينسفيلد بلده لكن قبح صورته وصورة زوجه كانت تخفيف الأطفال ووالديهم فلا يضعون أبناءهم في تلك المدرسة حتى أنه لم يكن عندهما غير ثلاثة أولاد فاضطر إلى ترك التعليم وجاء لندن يفتش على ما يقوم بأوده فاستخدم في إدارة إحدى المجلات الإنكليزية فكان يأتيها بأخبار مناقشات دار الندوة وفي غضون ذلك نشر تأليفاً له فنبه به قدره وشاع بين الكتاب والقراء ذكره وألف معجماً في ثماني سنين وهو أول معجم بالإنكليزية وكان في خلال تأليفه وضع بعض المصنفات فحازت استحسان بيرون وسكوت العالمين الكاتبين المشهورين وتأفقت شهرته بهذا المعجم كل التأفق على أنه لم يكن من قبل خاملاً بل صار بما صنف الكاتب غير مدافع، وحاول أن ينشئ مجلة إلا أنه لم يفلح فيها فسقطت ثم أنشأ أخرى فسقطت. وكان ينفق على الصدقات كل ما يحصله من المال القليل تقريباً حتى أنه آوى إليه ثلاث نساء عاجزات بعد وفاة والدته مع طبيب يطبهن. وفي سنة 1672 منحته الحكومة ثلاثمائة جنيه مساناة ابيضت بها لياليه السود واستعان بها على شقاء الأيام ولم يقبلها إلا بعد التردد وكافأ الحكومة عليها من باب مقابلة الجميل بمثله بأن كتب بضع كراريس في السياسة خدمها بها ولم يقل إلا ما ينطبق على آرائه فيها وكان أكبر همه تأسيس أندية (كلوب) تجمع كبار الرجال من ممثل إلى مؤرخ إلى خطيب إلى اقتصادي إلى مبشر وكان الملك يتطلب سماع حديثه وكذلك كانت طبقة الأشراف في الأمة الإنكليزية.

وفي خلال تلك المدة تعرف إلى رجل من الأغنياء فاعجب به كل الإعجاب وأكرم مثواه وأحله منه المكان الذي ينبغي أن يحله أمثاله وقام له في داره في لندن بل في مصايفه في ضاحيتها بوسائط العيش ورفاهية الحياة وكانت تلك الأعوام هي غاية سعادته ومجده ومازال على تلك الحال يكتب وينشر ويشتهر أمره حتى توفي صديقه بل حاميه بعد ست سنين من صحبة أتته بفوائد جزيلة أقلها أنه استطاع أن يتجول في البلاد على نفقته فتأخرت صحته لهذا الخطب الجلل وكان ذلك سنة 1781. ولما فقد الكاتب حاميه عاد إلى ميله السابق من تأسيس الأندية فأسس له ناديين كانا أشبه بنادي المهووسين السوداويين. ودفن في مقبرة وستمنستر مدفن العظماء من الإنكليز وأقيم له تمثال. وقد وصف تين العالم الفرنسي صاحب الترجمة فمما قاله فيه بعد أن ذكر قبح صورته وإهمال هندامه وسوء نظامه أنه كان شرهاً أكولاً يجلس إلى المائدة فيخضم ويقضم ولا يستمع لحديث مخاطبه بل يستغرق بما بين يديه من الصحاف والألوان حتى لقد كانت تنتفخ عروق جبهته وتتصبب عرقاً لكثرة إدخال الطعام بسرعة على معدته وبعد أن يستوفي طعامه على هذا النحو حتى يكاد يختنق يأخذ في تعاطي الشاي فيتناول لا أقل من اثني عشر قدحاً. قال الذي عربنا عنه هذا الفصل: وأنت ترى أنه من العجيب فيمن كانت له هذه الأخلاق والعادات كيف كان تمثال مجتمع بأسره مجتمع كان من اللطف على جانب هذا إذا لم يعلم أن صاحبنا كان ذا صفات نادرة فقد كان بين جنبيه على تلك الخشونة في الطباع قلب مليء فضلاً ولطفاً وحناناً على الضعاف والأولاد والفقراء والحيوانات وكان أصحابه وهم كثار يحبونه حباً مازج سويداء قلوبهم ولم تكن خشونته لتحول دون ملاطفة النساء بل كان معهن آية الظرف واللطف يتأدب معهن ويسليهن بأطيب ما في العالم من حديث شهي. إلا وأن ما اختلط بأجزاء نفس هذا الرجل من قول الحق والتفاني فيه وحياته الشريفة التي قضاها وإعجابه باستقلال أخلاقه وحريتها كل هذا كان له مادة اعتبار لأدبه وإعجاب بمقدرته العقلية وكان لسناً مفوهاً ولم يعد في أرقى طبقات الكتاب ولا في أرقى المفكرين وكان إنشاؤه مستثقلاً فظاً حتى قال له أحدهم يوماً: إنك يا صاح لو نشأت حكاية أسماك

صغيرة لجعلتها تتكلم كلام الحيتان. وبالجملة فلم يكن من الخوارق والنوابغ في علمه وأدبه بل كان من الخوارق في أخلاقه ولذلك يعد في الأخلاقيين أكثر منه في الكاتبين.

مجلة المقتطف

مجلة المقتطف قلما قام في هذه البلاد عمل مادي أو علمي أو غير ذلك أعواماً طويلة إلا وأصابه من خور عزيمة أربابه وتشتت أهوائهم أو قلة بضاعتهم ومناصبة الأحوال لهم ما تتداعى به أركانه وينحل كيانه. قال بعض العلماء أن حياة الإنسان ثلاثون سنة أي أنه يندر أن يعمل عملاً نافعاً طول حياته أكثر من هذه المدة أو ما يقرب منها وبعد ذلك إما أن يضعف أو يعوقه عائق. بيد أن مجلة المقتطف بلغت هذا السن في هذه الآونة والهمة في تحسينها تتجدد والفائدة الناتجة منها تعظم. قلَّ في المشاريع ولاسيما العلمية منها ما سار به صاحبه على سنة الارتقاء الطبيعي ولذلك قلَّ في أربابها المفلحون. أما صاحب المقتطف فعملاً أولاً تحت نظارة أستاذ لهما عظيم الدكتور كرنيليوس فانديك الأمريكي ولم يخرجا عن حد الخطة التي رسمها لهما فكانت صفحاتهما بادئ بدء قليلة وكتابتهما لا تخلو من ضعف وموضوعاتهما بسيطة تتناولها أذهان الصبيان لأدنى نظر وعلى ما قام من المنشطين لعملهما في ذاك العهد من رجال البلاد لم يبلغ المقتطف الغاية التي كانت ترجى له من الانتشار وكثرة الانتصار. ولقد خيف عليه السقوط أولاً خصوصاً عندما قام بعضهم في مناصبته. ومن العادة أن ينتقد بل أن يعادي كل من يكتب في الأبحاث الجديدة ويدعو إليها ولاسيما ما كان منها فيما لم تألفه عقول القوم من الفلسفة الطبيعية والمعارف المادية. فثارت مثارات النفوس لأول وهلة واستعظم بعضهم إقدام صاحبيه ولو لم يمزجا عملهما بشيء من التقية والمداراة ويهضما النفس في الأحايين لكانت أقل صعوبة يلقاها مثل هذا المشروع تكفي في إخفاق المسعى وانفضاض الناس من حوله. ولو ظل المقتطف يقبل المناقشة فيما يكتبه وينشره لانصرفت وجهته من الكليات إلى الجزئيات وضاع المقصود من إنشائه فقد نصح لهما أستاذهما بالعدول عن خطة المماحكات على ما أثبتا نصيحته في السنة الثامنة فلم يضيعا بعد الوقت في الجدال سدى. ومذ ذاك أخذت كتابة المقتطف وأبحاثه ترتقي مع الزمن بكثرة مران القائمين به. وبعد فليس هذا ما هيأ الأسباب لقيام المقتطف بل هي الدروس التي أحسن صاحباه تلقيها في أول أمرهما ومرنا على الكتابة فيها والخبرة التي توفرت لهما بكثرة المعاناة والدرس وذاك النور الذي ما فتئا يقتبسانه من أستاذهما إلى آخر عمره. وقد عرف المقتطف بحسن

التنسيق ولطف الأداء. . . وقلَّ في العهد الأخير من يدانيه في إجادة الترجمة والتعريب في العلميات المجردة وله بذلك ملكة خاصة لم يسم إليها غير أفراد من أهل العلم الكاتبين كما أنه عرف بحسن الاختيار وانتقاء الموضوعات المفيدة حتى يكاد يكون ذلك مزية خاصة به وجرى في توقع المناسبات على قدم المجلات الأميركية والإنكليزية من إعداد مقالات للنشر كل آن ومقالات لا تنشر إلا في أوقات خاصة. فقد نشر لي مقالة بعد ثلاث سنين من إرسالها إليه ونشر أخرى بالمناسبة بعد سنتين. ويقول منشئ المقتطف أنه يؤلفه من مجلات كثيرة لأهل الأخصاء من علماء السكسونيين وما كل مطلب من مطالبه إلا وهو نتيجة أبحاث عقول كبيرة درسته حق دراسته. دع عنك ما في مكتبته من دوائر المعارف أو الموسوعات (الانسيكلوبيديات) والكتب العلمية الإفرنجية وخل عنك خبرة صاحبيه في معظم الفنون التي يكتبان فيها على ما صرحا بذلك في آخر السنة العشرين. ومع أن للمقتطف مشرباً يصعب أن تقبله كل النفوس وأشياعاً يغالون في محبته وإجلال ما يصدر عنه نراه إلى اليوم يراعي أكثر الأذواق استحساناً. ومن مزج خدمة العلم بخدمة نفسه في الماديات فاتخذ العلم تجارة والتجارة باباً للعلم قد ينجح في الأعم من حالاته. من أجل هذا اضطر المقتطف في الربع الأخير من عمره أن يجاري بعض المجلات في نشر الأبحاث الأدبية فأجاد في بعض رواياته المترجمة ولم يجد في المختارات الأدبية فجاء من المقتطف صحيفة عامة تبحث في أمور كثيرة يصح أن يقتنيها أهل كل جيل وقبيل ولا مسحة عليها من صحف الاختصاصيين من الغربيين تلك الصحف التي تنصرف إلى علم أو عدة علوم لا تتعداها فتطيل فيها وتتوسع ما شاءت وشاء غرضها. وللمقتطف عذر في ذلك مادام أهل الأخصاء في الشرق لا يعيشون من أقلامهم وما عم العلم بيننا حتى يخص. ولكن كان الأجدر به أن يخص بعض من تفردوا بالآداب وذاقوها كل الذوق ليكتبوا فيه أمثال هذه الموضوعات ويحكموا على ما يرد منها من أقلام المراسلين. وأقل ما تم على يد المقتطف من الحسنات أن أناساً ممن أعرفهم في مصر والشام علت بالمواظبة على الأخذ منه أفكارهم وأزال عنهم أدران الغباوة وفتح لهم باب البحث وإعمال الفكرة وغرس فيهم الميل إلى المطالعة والتأليف وأوقفهم على إجماليات من العلوم الحديثة

فكانت هذه المجلة لهم أشبه بدائرة المعارف التي نشرها الخاصة من رجال الفرنسيين في القرن الثامن عشر فجعل الناس يختارون ما يروقهم من العلوم بعد أن ينظروا في معظمها نظرة عامة. بقي أن أقول أن للمقتطف مغامز لا بأس بعرضها عليه ألا وهي ظهور الغرض أحياناً في مطاوي ما يكتب مدفوعاً إلى ذلك بعامل التربية والمنشأ أو بداعي قلة اختبار في أحوال المجتمع أو مراعاة لغرض تستدعيه المصلحة وما كان الأحرى به وهو يدعو إلى العلوم المادية أن يتجرد عن النزعات السياسية والدينية بتة. فالعلم مشاع لا مشرب له ولا دين. ولو خلا من التعريض ببعض الفرق لنجا من طعن الطاعنين عليه من مثل من أوغر صدورهم مثلاً بشرح مذهب داروين في النشوء والارتقاء وكان عليه أن يلخص في مثل هذه الموضوعات حقائقها من غير تحزب إلى ما قد يكون الجمهور على خلافه. وقد يقع لهذه المجلة في بعض الأعداد أن تطرق موضوعاً تافهاً فيكون ذلك على غير قصد منها في الغالب خصوصاً ومنشئها يعني كل العناية أن لا يكرر ما سبقت له الكتابة فيه والناقل قد يسهو عما نقل وشتان بين الناقل والواضع. ومن كان غرضه إرضاء قرائه كافة لابد أن يسقط ولو قليلاً فيما يدعوه الخاصة لغواً أو حشواً. ولعل ذلك هو السبب الذي دعا منشئه أن قال يوماً لأحد كتاب المجلات أنك يا هذا تملأ صحيفتك بالدسم فوق اللازم فالأشبه بك أن تضمنها ما تتحمض به النفوس ليشتد بها القرم إلى العلم. وقد عتب فريق على هذه الصحيفة لتساهلها بنقل تراجم المشارقة وذكر نبذ من أعمالهم الخيرية وأرى لها بعض العذر في ذلك لأن المرء حر أن يسكت عمن لا يعلم عنه ما يكفي للحكم فيه أو لا تروقه حالته ولا يسف أن يكيله المديح كيلاً. فإن أغفلت مثلاً ترجمة جمال الدين الأفغاني وحسن الطويل وحسن توفيق وأمثالهم فقد ترجمت محمداً عبده وعبد الرحمن الكواكبي وبطرس البستاني ومن ضارعهم. هذا وإني استحسن طبعه ووضعه ونسقه وحسبي حجة على أدب صاحبيه وإنهما أميل إلى الإنصاف من كثيرين من حملة الأقلام أن أذكر ما اقترحه علي أحدهما منذ سنين من انتقاد مجلتهما وبعد الاعتذار أشرت بالعدول عن بعض الموضوعات المطولة المملة مثل مقالات

فتح المكسيك وأن تتوفر العناية بتصحيح المسودات من الأغلاط اللغوية والمطبعية لتكون صحيفتهما حجة في الأدب كما هي حجة في العلم المادي فطرحا ذاك الموضوع لقلة غنائه وأنشآ يعنيان بإصلاح الأغلاط وأقاما معهما كاتباً على إنشائه. وهناك مسألة طالما خالجت فكري وذاكرت أحد صاحبيه بها ألا وهي أن منشئيه لم يربيا على منهجهما العلمي ناساً يخلفانهما وما أخال ذلك إلا ميسوراً لهما لو صحت عزيمتهما عليه لأن المدرسة التي تعلما فيها لا تزال تخرج كل سنة من لو ساعدتهم الأحوال وأخذ أرباب البصر بأيديهم لكانوا مثلهما. وما أدري لم لم تصف للمقتطف طبقة ممن ساعدوه من أول نشأته فساروا معه إلى آخر دور من أدواره فقد اتصل بعض مساعديه بأعمال أخرى فزهدوا في المثابرة على مساعدته أو سئموا ولم يثبتوا في حين أخذ المقتطف منذ بضع سنين يؤدي جوائز للكتاب كما كان يفعل صاحب الجوائب قديماً. ومع أن للمقتطف أعواماً طويلة في خدمة القلم يحق له كما قال لي أحد رجال الأدب ممن خبروا المجلات الأميركية والإنكليزية أن ينشر ولو في الأحايين موضوعات هي من بنات أفكار كاتبيه ومن ثمرات مباحثهما الخاصة شأن غيره من المجلات الكبرى في بلاد الغرب ولكن المقتطف لا يرى إلا الأخذ عن الغربيين وعنده معظم ما هو من أصل شرقي مظنة للظن والريبة لا يعتد به في الغالب. وفي الختام أثني على هذا الكتاب العلمي الدوري بما هو أهله لأنه كان خير واسطة علمية بين أفكار المغاربة والمشارقة وأرجو أن تطول أيام صاحبيه ليظلا يودعانه ما ينفع طلاب الحقائق على الدهر وآمل أن يكون في اشتراك كاتبيه هذه الأعوام الطويلة أحسن معلم للمشارقة وداع لهما إلى الاجتماع تذرعاً إلى إصلاح السعادتين.

ديانة المصريين

ديانة المصريين يقول هيرودتس أن المصريين من أشد البشر تديناً ولا يعرف شعب بلغ في التقوى درجتهم فيها فإن صورهم بجملتها تمثل ناساً يصلون أمام رب وكتبهم على الجملة أسفار عبادة وتنساك. الأرباب المصرية - رب الشمس رأس الأرباب (الآلهة) عندهم وهو الخالق المحسن العليم الكائن منذ البدء له امرأة وابن عريقان مثله في الربوبية وكان المصريون يتعبدون بهذا التثليث الذي تختلف أسماؤه وإن اتحدت مسمياته فكان أهل كل إقليم يسمي كلاً من هذه الأسماء الثلاثة باسم يختلف عن الآخر. ففي منفيس سمي الأب فتاح والأم سيخت والابن ايموتس وفي أبيدوس سموها أوزيريس، ايزيس، وهوروس، وفي ثيبة عمون، وموت، وشونس. ثم اختار أهل كل إقليم أرباب الأقاليم الأخرى وقد يشتقون من كل رب تثليث أرباب أخرى وهكذا تعددت الأرباب وتشوش الدين. اوزريس - لهذه الأرباب تاريخ وهو تاريخ الشمس فكان هذا الكوكب يتراءى للمصريين كما يتراءى لغالب الشعوب الأصلية أنه أقدم المخلوقات وبعبارة أخرى أنه من الأرباب فاوزيريس أي الشمس قتلها سيت رب الليل وايزيس القمر امرأته تبكيه وتدفنه وهوروس ابنه الشمس الساطعة يأخذ ثأره قاتلاً قاتله. عمون را - هو رب ثيبة صور عندهم مجتازاً السماء كل يوم في قارب وأرواح الموتى تقذف به بمجاديف طويلة فالرب يقف في المقدم مستعداً لضرب العدو برمحه. وهاك النشيد الذي كان يتغنى به تعظيماً له. السلام عليك أنت تهب محسناً أنت تهب صادقاً يا مولى الأفقين أنت تطوف السماء من عل وأعداؤك هالكون. السماء في أنس والأرض في فرح والأرباب والناس في عيد وكلها اجتمعت لتمجد را يشاهدونه في قاربه وقد كسر العدى. يا را هب فرعون حياة طيبة وامنحه ما يقوته من خبز ويرويه من ماء وطيب شعره وعطر أردانه. أرباب رأسها رأس حيوان - مثل المصريون أربابهم في صورة آدمية تارة وعلى مثال البهيمة أخرى. ولكل رب حيوانه فيتجسد فتاح في الجعل. وهوروس في الباشق. وازوريس في الثور. وتختلط الصورتان طوراً في إنسان رأسه رأس حيوان أو في حيوان رأسه رأس إنسان. وللرب عندهم أن يكون ذا أربع صور وأشكال فيكون هوروس مثلاً

باشقاً أو إنساناً برأس باشق أو باشقاً برأس إنسان. حيوانات مقدسة - لا يعلم لماذا كان يعنى المصريون بهذه الإشارة من اتخاذ الحيوانات التي تشبه الأرباب مقدسة مباركة مثل الثور والجعل وايبس (طائر طويل الرجل) والباشق والقط والتمساح فيتوفرون على إطعامهم وحمايتهم. فقد قتل أحد الرومانيين في القرن الأول قبل الميلاد قطاً في الإسكندرية فثار الشعب وقبض عليه فذبحوه رغم إرادة الملك وشفاعته فيه فعلوا ذلك علي حين يرهب المصريون بأس الرومانيين كثيراً. وكان للمصريين رب يعبدونه في كل معبد. وقد قص سترابون كيفية زيارته تمساحاً مقدساً في ثيبة فقال: كان هذا الحيوان رابضاً على شط غدير فاقترب منه الكهنة وتقدم اثنان منهم ففتحا فمه وجاء ثالث وحشاه حلويات وسمكاً مشوياً وشراباً من عسل مصفى. الثورابيس - أجلُّ هذه الحيوانات المربوبة أو المؤلهة الثورابيس فإنه كان يمثل اوزيريس وفتاح معاً ويعيش في منفيس في مصلى له يخدمه الكهنة فيه حتى إذا مات هذا الثور يكون حاله حال اوزيريس (رب الشمس) فيحنط وتجعل مومياؤه في ناووس أما قبر أوسارهابي فهو من المعاهد الهائلة وقد فتح ماريت الفرنسي مقبرة السرابيوم عام 1851. عبادة الموتى - عبد المصريون أيضاً أرواح الموتى ويظهر أنهم كانوا يعتقدون أولاً أن لكل إنسان قريناً (كا) فإذا مات يخلفه قرينه في حياته وهو اعتقاد اعتقده كثير من الشعوب المتوحشة وكان القبر المصري يدعى قديماً بيت القرين وهو عبارة عن مكان منخفض مظلم كالغرفة يزين من أجل القرين بضروب الآثار من كراسي ومناضد وسرر وصناديق وأصونة وأغشية وأقمشة وألبسة وأدوات زينة وأسلحة ويضعون تارة مركبة حربية وما شاء للذته من تماثيل وصور وكتب ولطعامه من بر وكل ما حلا بالعين وحلي بالفم ويضعون فيه طوراً قرين الميت وهو تمثال من خشب أو حجر صنع على صورته ومثاله ثم يسور مدخل الناووس فيبقى فيه القرين ويعنى الأحياء بأمره فيجلبون له طعاماً أو يتوسلون إلى أحد الأرباب أن يرزقه طعاماً على نحو ما تراه في هذا الرسم المزبور على الحجر: (قربان لازوريس ليعطي زاداً من خبز وشراب وثيران وإوز ولبن وخمر وجعة ولباس وعطور وكل كا طاب وصفاً إلى المتوفى فلان). حشر الأرواح - أنشأ المصريون منذ السلالة الحادية عشرة يعتقدون أن الروح تنفصل عن

الجسد وتلحق باوزيريس تحت الأرض حيث تغيب الشمس كل يوم فيما يظهر. هناك يتصدر اوزيريس في محكمته وقد أحاط به أربعة وعشرون محكماً فيؤتى بالروح أمامهم فتحاسب عما قدمته بين يدي نجواها في الحياة فتوزن أعمالها بميزان الحق وتطلب شهادة القلب. فيهتف الميت قائلاً: يا قلب إني ورثتك عن أمي منذ درجت على الأرض فلا تقم علي شاهداً تتجنى عليّ أمام الرب المتعال فالنفس الشريرة تعذب قروناً ثم تهلك والنفس الطيبة تطير أحقاباً وبعد محن كثيرة تنضم إلى زمرة الأرباب وتفنى فيهم. الموميات - تستطيع الروح في خلال هذه الزيارة الدخول في الجسد لتستريح ولذا اقتضى أن يظل الجسد سليماً. ومن أجل ذلك تعلم المصريون طريقة تحنيط الجثث فيملؤون الجثة عنبراً ويغطسونها في مستحم من النطرون ويعصبونها بعصيبات فتصير مومياء. هكذا توضع المومياء في تابوت من خشب أو جبس وتودع في القبر مصحوبة بما يقتضي لها من ضروريات الحياة. كتاب الأموات - كان يوضع بجانب المومياء كتاب صغير اسمه كتاب الموتى يذكر فيه ما ينبغي للنفس أن تقوله في العالم الثاني دفاعاً عن نفسها أمام محكمة أوزيريس وهو: ما ارتكبت خيانة وما عذبت أيماً وما ارتكبت محرماً ولا ألفت البطالة ولا وشيت بالعبد إلى مولاه ولا حبست الخبز عن المعابد ولا سرقت عصيبات الموتى ولا طعامهم ولا طففت مكاييل الحبوب ولا صدت الحيوانات المقدسة ولا قبضت الأسماك المقدسة. أطعمت الجوعان وأسقيت العطشان وكسوت العريان وقدمت الضحايا للأرباب وصنعت الوضائم للموتى وهنا تستبان حكمة المصريين وهي الاحتفاظ بالرسوم والتكاليف واحترام ما له علاقة بالأرباب وأن يكون المرء مخلصاً محتشماً محسناً. الصنائع الصناعة - المصريون أول من مارس الصنائع التي تمس حاجة الشعب المتحضر إليها فكانت الصور في القبور من عهد السلائل الأولى أي من نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد تمثل ناساً يحرثون ويزرعون ويحصدون ويدرسون ويذرون الحبوب وقطعاناً من ثيران وخرافاً وإوزاً وخنازير وأعياناً حسنة ثيابهم واحتفالات وأعياداً يحتفل فيها بضرب العيدان أي كما كانت حياة هذه الأمة بعد ثلاثة آلاف سنة حذو القذة بالقذة. وقد عرف المصريون

لذاك العهد صنع الذهب والفضة والقلز والأسلحة والحلي والزجاج والخزف والمينا ونسج الثياب من صوف وكتان وأنسجة شفافة أو موشاة بالذهب. عقود الأبنية - كان المصريون أقدر البنائين القدماء في العالم أقاموا المعاهد العظيمة حتى صارت كأنها خالدة بحيث لم يقو الزمن لعهدنا على تقويضها وتبديدها ولم يبنوا مثلنا بيوتاً لسكن الأحياء بل كانت مبانيهم خاصة بالأرباب والموتى فيبنون لهذا الغرض المعابد والمقابر. ولم يبق من مساكنهم إلا رسوم محيلة أما قصور الملوك فلم تكن على قول اليونان غير خانات بالنسبة للقبور. ذلك لأن المسكن يبنى ليأوي إليه الإنسان في حياته والقبر يبقى خالداً على الدهر. القبور - أصل الهرم الكبير قبر ملوكي والقبور القديمة هي من هذا النوع. وترى في مصر السفلى إلى اليوم أهراماً مصطفة كالشوارع أو مبددة هنا وهناك تختلف في الكبر والصغر. ثم صارت تقام القبور تحت الأرض يعمر بعضها تحت التراب وينحت الآخر من حجر الصوان الكرانيت في الجبال ولكل جبل قبور جديدة. وكانت مدينة الموتى أي مدافنهم على مقربة من مساكن الأحياء ولكنها أزهى وأوسع. المعابد - يتطلب الأرباب كذلك مساكن طيبة خالدة وتتألف معابدهم من هيكل جميل وهو مأوى الرب تكتنفه القصور والحدائق وغرف الكهنة وحاشيتهم ودروج جواهرهم وأدواتهم وملابسهم وقد صنع مجموع هذه الأبنية المسورة في عصور كثيرة. فاشترك ملوك من جماع السلائل المصرية في تشييد معبد عمون في ثيبة من السلالة الحادية عشرة إلى السلالة الأخيرة ومن العادة أن يفتح في أول المعبد باب عظيم محني الجوانب وتقام على طرفيه مسلتان مبنيتان بشعاف الصخر مذهبة الأطراف أو تمثالان من الحجر على مثال جبار جالس. وقد يوصل إلى المعبد من طريق طويل نصبت في جوانبه تماثيل أبي الهول مصنوعاً من الحجر على صفين. هذه الأهرام والمنحنيات والتماثيل وأبو الهول والمسلات تنبئ بما بلغه المصريون من العناية بعقود الأبنية وكلها ثخينة قصيرة عميقة بحيث تبدو هذه المعاهد ضخمة لا يبليها الدهر ولا تفنيها الغير. صناعة النحت - حاكى النحاتون من المصريين الطبيعة بنقوشهم. وإن الناظر ليدهش من أقدم التماثيل لما فيها من الحياة والبساطة ولاشك أنها كانت صور الموتى. ومن هذا الجنس

صورة ذاك العامل الجاثي المحفوظة في متحف اللوفر بفرنسا. وعلى عهد السلالة الحادية عشرة تقيد النحات بقاعدة مقررة دينية فلم يعد يمكنه تمثيل الجسم الإنساني على حسب ما يظهر له وأخذت التماثيل منذ ذاك العهد تتشاكل وغدت السوق متآزية والأرجل ملتفة والأذرع مشتبكة على الصدور والهيئة غير متحركة لكنها مهيبة وأبداً ذات جلال ومتحدة في المنوال فانقطعت هذه الصناعة عن محاكاة الطبيعة وغدت رمزاً متفقاً عليه. الرسم - استعمل المصريون أصباغاً لا تنصل بقيت باهية زاهرة بعد مضي خمسة آلاف سنة عليها. على أنهم لم يعرفوا غير تلوين الرسم وظلوا ولا خبرة لهم بتنويع الألوان ولا رسم الظلال والأشباح البعيدة. وكان للرسم كما للنقش قواعد دينية مطردة فإذا عرض على صانع أن يرسم خمسين شخصاً يصورهم على هندام واحد ونظام واحد. الآداب - للمصريين آداب خاصة بهم فقد عثر في النواويس على كتب طب وسحر وزهد كما عثر على قصائد ورسائل ورحلات وروايات. مصير التمدن المصري - احتفظ المصريون بأربابهم ودينهم وصنائعهم إلى ما بعد سقوط مملكتهم فخضعوا للفرس ثم لليونان ثم للرومان ولم يطرحوا شيئاً من عاداتهم القديمة ولا نسوا خطهم ومومياءهم وحيواناتهم ثم دثر التمدن المصري ببطء بين القرن الثالث والثاني ب م.

النهضة الأميركية

النهضة الأميركية ملخصة عن إحدى المجلات الأوربية ما برحت الأفكار حيرى في تكييف حالة الولايات المتحدة الأميركية وارتقائها في سلم الحضارة والعمران فقد مضت القرون ومواد ثروتها لا تنضب وأسباب عمرانها متوفرة وانقضت الأجيال والناس ينسلون إليها من كل حدب. ومع ما فيها من الاختلاط والحركة لا يزال أهلها عجائب في أطوارهم كما أن بلادهم أم العجائب. بلاد حوت الأضداد في الأجناس والأديان فمن ألمان إلى هولنديين إلى أيرلنديين إلى بافاريين ومن كالفانيين إلى كواكوز إلى برسبتاريين إلى بوريتانيين من شيع البروتستانت. ومنهم يتألف على اختلاف الأجناس اللاتينية والسكسونية والإنكليز السكسونية هذا الشعب العجيب المتناسل في تلك الأصقاع بين هاتيك الآجام والغابات الكبيرة والمروج الواسعة. وأهل هذه البلاد من سكان العالم القديم نثروا في عالمهم الجديد جراثيم الترقي وأتوا تلك الديار كما قال كارلايل المؤرخ الإنكليزي حاملين على قواربهم الثخينة من الرجال أمثال شكسبير وكرومفل ممن كانوا أبطال إنكلترا الجديدة والغوغاء الوضيع في أسبابه الرفيع بآدابه. ومن أعظم ما امتاز به هذا المزيج من الناس فكر الإبداع ولم يعق تلك الأمة ما عرفت به هي وأصولها من حب التقليد. ففي أميركا الشمالية كل شيء ونقيضه. ففيها التمدن والتوحش. وفيها حب الفتح والتبسط في مناحي السلطة والدعوة إلى السلام والاحتفاظ به. وفيها الشجاعة المفرطة والاحتيال مع الحذر. وفيها الإعجاب بالعظمة والتمدح. والميل إلى العمل والعزوف عن السفاسف. وفيها التعبد بالتوراة وحرية الفكر. وترى فيها بجانب الأهوال والفظائع من صلب وضرب بالسياط جمعيات اعتدال عجيبة وأوضاعاً بديعة لتعليم العامة. وفي جانب المضنيات الاقتصادية الهائلة عطايا تمنح لمساكين الفقراء حوت في مطاويها الأبهة والتمجد. بل ترى فوق ما هناك من أعمال قاسية جافية إجراء يلتمسون من مواليهم زيادة أجورهم وأولاد أغنياء يملك آباؤهم الملايين والمليارات واللكوك والربوات ثم يروحون ويغدون في بيع الجرائد وينادون عليها بأعلى أصواتهم في الشوارع ويمتهنون أنفسهم بإصلاح الأمواق (بوياجية جزم) وبينا ترى فيها التشديد للمحافظة على الأيام المخصصة رسمياً لتمجيد المولى تعالى وتقديسه على نعمائه

ترى التسامح مع المجتمعات الكافرة الشيطانية بأجمعها والترخيص لها بما تريد. ومن أعظم ما امتاز به أهل هذه البلاد الجفاء والكبرياء وحب البيضاء والصفراء فيقصد كل فرد من أهلها إلى أن يكون حاكماً على غيره وظالماً متسلطاً لا يحيك فيه نصح الناصح، ولا يقنعه غير مدح المادح. قال توكفيل يظهر الأميركيون في صلاتهم مع الأجانب أنهم لا يحتملون أدنى انتقاد وينهمون للمديح فيستحسنون أقل مديح دقيق وفي النادر أن يرضيهم المديح العظيم وقال ستوارت ميل في معنى حبهم للمال: أن الأميركيين صنفان صنف يعنى بصيد الدولارات (الريالات الأميركية) وصنف يربي صيادين للدولارات. وقل في الأمم من يعبد الدينار ويتعبد به مثل هؤلاء الأميركيين وإذا رأيتهم حسبتهم لا يفكرون في غير الثروة والتبجح باختزان الدرهم. ومعلوم أن المال لا يحصل إلا بالاكتساب والاكتساب لا يكون إلا بالحركة ولذلك عرف الأميركيون بالمضاء والحركة حتى قال فيلسوفهم أمرسون ونعم القول قوله: الإنكليزي أثبت الناس وقوفاً على قدميه وليس هذا النوع من الرزانة في السكون غاية ما يجب على المرء فإذا زاد هذا السكون في إنسان فسجل بأنه أميركي وأنك متى سألت أميركياً عن صحته يجبك بأنها في حركة عوضاً عن أن يقول لك إنها جيدة أو أنا في راحة. وقد خصت كل بلد من بلدانهم بمزية لا يضارعها فيها غيرها فامتازت شيكاغو بالصناعات وفيلادلفيا بالعلميات ونيويورك بالماليات وبيتسبورغ بالمعدنيات وهناك ترى ثروات لا تحصى تجتمع وتتفرق وأمجاداً تعلو وتسفل وكلها سائرة نحو التقدم آخذة في سنن النماء الذي ينسب الفضل في التوفر عليه أول مرة لرجل أميركا جورج واشنطون. ولد واشنطون في مقاطعة فرجينيا سنة 1732 ومات فيها سنة 1799 وقد لقبه اللورد بايرون الشاعر الإنكليزي بسينسيناتوس المغرب لكثرة فضائله الشخصية. فقد كان بما خص به من قوة العقل واستقامة الإرادة حكيماً أكثر منه جندياً. فهو على التحقيق مؤلف قلوب أمة وقائد جماعة وزعيم عصابة. قال شاتوبريان الكاتب الفرنسي في كتابه الرحلة إلى أميركا ما نصه: ألق رائد الطرف في الغابات الغبياء التي لمع فيها سيف واشنطون تجد قبوراً بل تجد عالماً. فقد ترك واشنطون بلاد الولايات المتحدة غنيمة في ساحة قتاله. وكان على الجملة زعيم الحاجات والأفكار والمعارف والآراء في عصره قام بنصرة العقول

ولم يضادها وتوخى ما يقتضي أن يراد وعمل بما وسد إليه. ومن هنا جاء عمله متماسك الأجزاء ثابت الدعائم على الدهر. فواشنطون هو الذي أوجد الاتحاد ومثل النهضة الأميركية الأولى فكان الجندي النشيط الباسل والسياسي الذي أعلى شأن بلاده في الحكم الجمهوري والتقاليد الدستورية النافعة على حين كان تزبد كتيار يرغي بمياه جديدة تجري إليه. وبينا كانت تلك الأمواج المزبدة على وشك الفيضان وأنشأ واشنطون يجمع شمل المروءات المختلفة ويوجه الإرادات صوب النفع ويحسن بث الأخلاق التي تسفر عن تغلب الحرية والمدنية. فقد أثبت حقوق المرء المقدسة ورغب في الأخذ بزمام مستقبل ذاك الجنس المحتفظ بالتقاليد السائر مع الزمن في تعديلها واستبدالها بأحسن منها مخافة أن يكون من وراء نشوئها السريع اضطراب هائل يستحيل غالباً إلى نزع فوفاة. وهكذا أسس واشنطون مدينته الجديدة على العدل والآداب العامة قال لما سلم القائد قورنفاليس الإنكليزي: رجائي أن تعلم هذه الحوادث إنكلترا بل تعلم الظالمين قاطبة في العالم أن أحسن طريق يقود على التحقيق إلى الشرف والمجد والفضل الحقيقي هو طريق العدل ومذهب الإنصاف ولذا كان الصراط السوي الذي سلكته الولايات المتحدة في ارتقائها أن لا تتساهل بمبادئ العقل والحكمة وهما نتيجة مادة جديدة سعياً وراء مطامع هي من الجنون المطبق فالولايات المتحدة على ما ذكر حرة مطلقة تفيض بالحماسة البطيئة وتتفي الفتوحات ولا ترضى لنفسها أن تكون مملكة على قدم الجهاد أبداً كمملكة قيصر أغطس. هذا هو مبدأ واشنطون الذي سنه لأمته فلذلك جعلت الولايات المتحدة شعارها أن لا تتداخل أصلاً في شؤون غيرها وأن تضرب صفحاً عن الذهاب إلى أوربا. ولكن جاء بعد واشنطون وبنيامين فرنكلين جايمس مونرو السياسي العظيم خامس رئيس لجمهورية الولايات المتحدة وجعل شعاره أميركا للأميركيين فيقتضي إبعاد الأوربيين عن أميركا وهكذا كانت مقاصد زعماء السياسة في تلك البلاد امتناع أميركا عن التداخل في شؤون أوربا حتى لا تحمل هذه بأن تجعل أميركا مستعمرة لها. وهي القاعدة التي يجب أن يجري عليها كل شعب فتي أمام الشعوب القديمة يود أن ينمو حراً على ما تقتضيه قواه ومصالحه ولم تفكر الولايات المتحدة إلا في الاحتفاظ بحقوقها ومصالحها ولو أدى بها ذلك إلى سلب

حقوق الجمهوريات الصغيرة بالقوة أحياناً. وبالجملة فإن معنى ما كان الأمريكان يتطالون إليه كان محصوراً في قولهم أنا وأود أن أكون.

التفاضل بالبلاد

التفاضل بالبلاد ألف الناس التمجد بالبلاد، والآباء والأجداد، والمال والبنين، عادة في البشر تكثر فيهم بكثرة الجهل وتقل بانتشار العلم، ولقد كان لأهل هذه البلاد من هذا التمجد الباطل قسط وافر، ساعد على إنمائه في النفوس جهل بعض ولاة الأمر السالفين، واتخاذ هذه الأضاليل حجة على من يريدون مناوأته وإرجاعه إلى الطاعة. ولطالما خطب الحجاج في أهل العراق ووصفهم بقوله أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وأطلق عليهم من قبله ومن بعده من أمراء ذاك القطر مثل تلك الصفات وما كانت هذه المعاملة لأهل العراق إلا سياسية ولو كانت أخلاقهم كذلك وكان فيمن ولي رقابهم علم وشفقة لسعى السعي الحثيث إلى نزعها منهم بحكم العادة والأسوة والقدوة ولعل هذه الدعوة كانت جملة فلسفة أولئك الحكام وبيت قصيد حملهم على رقاب الناس وكان من أهل الشام إن وسمهم أعداؤهم بكل كبيرة وألصقوا فيهم باطل التهمات. وهكذا الحال بين الشام والحجاز والشام والعراق فإن معظم المؤرخين والمؤلفين نبغوا في العراق فأكثروا في مصنفاتهم من الأحاديث الموضوعة على أهل الشام لقلة من كتب من هؤلاء ودافع عنهم. ومثل ذلك قل في المغرب مع مصر ومصر مع الشام وفارس مع الهند وكلها في الحقيقة سفاسف لا تساوي درهماً عند المحققين. وما البلاد في أمر الأفضلية إلا سواء لا يفضل شرق عن غرب ولا جنوب عن شمال إلا بالعلم النافع والأدب الرافع والعمران والسعادة. ولذا ضل رأي من وضعوا من المتأخرين كتباً خاصة في فضائل بلد أو قطر. وأضل منهم من وضعوا أحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم في تفضيل مدينة أو بلد كما ضل من وضعوا الموضوعات طعناً على فئة خالفت ما هم عليه. وبعد فالأرض كلها سواء في هوائها ومائها دحاها الله ليعيش فيها البشر ويتنقلوا في أقطارها وقد لا تختلف الأقطار المتنائية في قوة الإنبات إلا قليلاً فليس من العقل أن تمدح بلد لجبل فيها، أو سهل فسيح حواليها، أو نهر كبير يمر في وسطها. ولا أن تذم أخرى لحرارتها، أو لضيق حاراتها وجاداتها، فكانت مصر ولا تزال مثلاً منذ ألوف من السنين طريدة من الأرض عرفت بخصبها وغناها الطبيعي وكانت الشام ولا تزال منذ ألوف من الأعوام مشهورة باختلاف أهويتها. ورقة نسيمها، وتنوع جبالها وأوديتها، فما عد ذلك فضيلة للأولى على الثانية ولا للثانية على الأولى. بل حسب لهما ذلك خاصية يمتاز بها

كلا القطرين بعضهما عن بعض. وقد أنصفهما في الوصف أحد عمال الدولة وقد سئل عنهما فقال: مصر مزرعة ممرعة والشام مصيف بهيج. إن كان ما تفاخر به البلاد بعضها بعضاً هذا إذا سوغنا التفاخر فبالعلم والتربية وغلبة الفضيلة والخير على طبقات الناس كلها لا بالماء والهواء والواحات والجبال والأودية والأشجار والأثمار وكل ما وزعته الطبيعة بين بلدان العالم فنال كل منها بحسب حالته. دخل أبو الحكم المغربي الأندلسي الحكيم المرسي مدينة دمشق فلما حلَّ ظاهرها سير غلاماً له يبتاع لهما ما يأكلانه في يومهما وأصحبه نزراً يكفي رجلين فعاد الغلام ومعه شواء، وفاكهة وحلواء، وفقاع وثلج، فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به وقال له عند استكثاره أوجدت أحداً من معارفنا فقال لا وإنما ابتعت هذا بما كان معي وبقيت منه هذه البقية فقال أبو الحكم هذا بلد لا يحل لذي عقل أن يتعداه ودخل وارتاد منزلاً وسكنه وفتح دكان عطار يبيع به العطر ويطب وأقام على ذلك إلى أن وافاه أجله. ومثل ذلك ما وقع للملك المعظم شمس الدين توران شاه أخو السلطان صلاح الدين يوسف لما تمهدت له بلاد اليمن واستقامت أمورها ملَّ المقام بها وحن إلى الشام وفيها نشأ واشتاق إلى خيراتها والتمتع بثمراتها إذ أن اليمن مجدبة من ذلك. قال ابن خلكان فكتب إلى أخيه صلاح الدين يستقيل منها ويسأله الإذن له في العود إلى الشام ويشكو حاله وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها فأرسل إليه صلاح الدين رسولاً مضمون رسالته ترغيبه في الإقامة وأنها كثيرة الأموال ومملكة كبيرة فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته: احضر لنا ألف دينار فأحضرها فقال لأستاذ داره والرسول حاضر عنده: أرسل هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج فقال أستاذ الدار يا مولانا هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج. فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش لوزي. فقال: من أين يوجد هذا النوع هنا فجعل يعد عليه جميع أنواع فواكه دمشق وأستاذ الدار يظهر تعجبه من كلامه ولكما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أين يوجد هذا هنا فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها في ملاذي وشهواتي فإن المال لا يؤكل بعينه بل الفائدة فيه أنه يتوصل به الإنسان إلى بلوغ أغراضه. ولعمري هل يصح أن تجعل أمثال هذه القصص حجة في أفضلية دمشق على غيرها من

أمهات المدن حيث المعيشة غالية وهل هذا الرخص مما ينبغي أن يفاخر به أهل الاقتصاد في عصرنا يجعلونه إذا استحكم من بلد شؤماً عليه ويعدون البلد كل البلد الذي غلت فيه أسعار الحاجيات والكماليات وارتفعت الأجور والارتفاعات على نسبتها. والأمثلة على ذلك كثيرة فإنه يبلغنا لهذا العهد عن بلاد الأناضول وهبوط أسعار المأكولات فيها لقلة ما يصدر عنها ما لا يكاد يصدق لولا تواتره على السن الطارئين على ذاك الصقع فهل تفضل السكنى فيه على الروم ايلى المرتفعة أسعار الأرزاق فيه. وبعد فإن كان لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى فلا فضل لبلد على أخرى إلا بالعلم والعمل والسعادة الحقيقية.

الاقتصاد

الاقتصاد لبول لروابوليو الاقتصادي الفرنسي في الإنسان كما في سائر أنواع الحيوان سائق طبيعي يدعوه أبداً إلى السعي وراء ما يحفظ حياته ويطيل حبل أجله. فحب الحياة أمر فطري ولذلك احتاج الإنسان حرصاً على بقائه إلى طعام يقوته ولباس يدفع عنه عوادي الحر والقر ومسكن يأوي إليه وغير ذلك. كان الإنسان أول أمره قليل الحاجات جداً وذلك أيام كان يهيم في الغابات والآجام ويقتات من الثمار الطبيعية أو مما يصيده من الحيوانات والطيور والأسماك ويكتسي من جلود هذه الحيوانات ويأوي إلى المغاور والكهوف وأصول الأشجار الضخمة والأدواح الباسقة. أما الآن فما أكثر حاجات الإنسان فإن تقدم المدنية ونمو العمران أحدثا أشياء كثيرة أصبحت اليوم من ضروريات الحياة. فبعد أن كان الإنسان في أدواره الأولى لا يعاني كبير أمر في سد حاجاته غداً الآن مقيداً ينوء تحت أعباء الحياة ومطالبها وليس في حاجاته ما يسهل نيله سوى استنشاق الهواء وشرب الماء وما خلا ذلك فمحتاج إلى فرط كد وعناء. تنوعت المآكل والملابس وتغيرت المساكن وتزايد حب الزينة والظهور في مظاهر الأبهة والتفخل وعظم الميل إلى التلذذ بأمور مادية ومعنوية وأدبية على ضروب شتى لا يحصرها حد ولا يحصيها عد. وبديهي أن الرجل في المجتمع الإنساني لا يستطيع نيل مطالبه العديدة إلا بسعي خاص لحصولها أو بدفع ما يقابلها من المال الذي هو ثمرة عمله أو ثمرة عمل سابق أتى به من قبله. وكيف كان الحال فالحصول على المطالب لا يمكن إلا من طريق السعي والعمل. ومهما اختلفت أعمال البشر وتنوعت فإنها ترمي إلى غاية واحدة وهي سد مطالب الحياة. وقد حقق أهل الأخصاء في هذا الشأن أن الأعمال المشار إليها خاضعة لقوانين عامة. فكما أن الأجسام وقوانين الأجسام تابعة لقوانين عامة مقررة في العلم الطبيعي فكذلك مساعي الإنسان المصروفة في تقاضي الأشياء النافعة له خاضعة لقوانين عامة. وهذه القوانين هي موضوع علم الاقتصاد ولذا يقال في تعريف هذا العلم أنه علم تعرف به القوانين العامة التي تبين مبلغ تأثير مساعي الإنسان في الحصول على المواد المختلفة والانتفاع بها مما لم تمنحه الطبيعة عفواً. ويمكن إرجاع هذه القوانين إلى أصل واحد وهو أن كل إنسان يجتهد

لنيل قدر وافر من المنافع مقابل قليل من السعي وسر ذلك أن الإنسان ميال بالطبع إلى الراحة والكسل ولولا دافع حب الحياة وطول البقاء لما أجهد نفسه في شيء من أمر معاشه وعندما يبتغي شيئاً من المواد النافعة للقيام بحاجاته مباشرة أو بالواسطة فإنه يبحث عن الطرق التي تقلل من تعبه وتوفر له النفع والفائدة. وإذا أمعنا النظر في هذا الأصل نراه منبعثاً من عاطفة حب الذات المنطوية في جوانح كل إنسان. وهذه العاطفة هي ولا جرم أعظم العواطف عملاً وأشدها تأثيراً. فهي المحرك الأكبر في غالب الأعمال، والباعث الأقوى في أكثر المشاريع، والمؤثر الأعظم في جل الأمور إن لم نقل في كلها. ولهذه العاطفة المكانة العليا في الاقتصاد والإثراء وتوفر الرفاهية وتقدم الحضارة. ظن بعضهم أن عاطفة النفع الذاتي هي الأنانية بعينها المضادة لحب خير الغير فحكموا بوجوب عدم الالتفات لتلك العاطفة جرياً على ما تقتضيه قواعد الأخلاق. ولاشك أن الأنانية من الرذائل التي يجب على كل حال اجتنابها ولكن عاطفة حب الذات والنفع الشخصي هما غير الأنانية وبينهما بون شاسع. فالأنانية أن يضع الإنسان نفسه مكاناً علياً وينزل غيره في دركات الانحطاط فيرى احتقار الغير والازدراء به أمراً طبيعياً ويرى نفسه خليقة بالتجلة والتعظيم دون سواها. فينشد المنافع والملاذ من أي طريقة كانت مشروعة أو غير مشروعة أضرت بغيره أو لم تضر. ومن تستحكم فيه هذه الخصلة يكون قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وطبعه شر الطباع لا تثنيه شفقة، ولا تعطفه رحمة، ولا تستميله مروءة ولا نخوة. أما عاطفة النفع الشخصي فهي شعور يدفع الإنسان إلى استجلاب النفع لذاته من طرقه المشروعة بدون أن يلحق ضرراً بغيره ويرق لمصاب سائر الناس في غالب الأحيان ويتصدق من ثمرة مساعيه بما تهديه إليه نفسه. ولا يتجرد امرؤ في العالم عن هذه العاطفة لأنها من نتائج حب الحياة الطبيعية. غير أن تقدير النفع الشخصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمزجة والمحيط والفكر والتربية وغير ذلك. ومن زهدوا في الدنيا واختاروا عيش التقشف في صوامع التعبد فإنهم لم يريدوا بذلك إلا تحصيل نفع أعظم ونيل لذة أسمى من منافع الدنيا وملاذها. وما صلاتهم وصيامهم إلا رجاء الخلاص من العذاب

الأليم وأمل الحصول على لذة النعيم الأبدي الذي وعد به المتقون. ولا ينافي حب النفع الذاتي حب الخير للغير وقد يشترك الاثنين في معظم الأحيان. ودليل ذلك أن الإنسان أكثر ما يفكر في مصالح عياله ورفاهيتهم وضمان مستقبلهم. والأسرة منشأ القومية فمن أحب نفسه حباً خالصاً أحب عياله وأسرته ومن أحب عياله حباً شريفاً أحب مواطنيه وقومه. ولذلك كان حب الذات عاطفة شريفة تنافي الأنانية بتاتاً. والإنسان مدفوع بهذا العامل لتقاضي حاجياته. والحاجيات من أهم المباحث التي يدور عليها علم الاقتصاد. وهي كما هو معلوم كثيرة متنوعة جداً تزداد بارتقاء الحضارة وتقدم العمران حتى أن بعضهم حدَّ الحضارة ببلوغ الحاجات درجة الكمال ولعل كثيراً من الناس يتساءلون: هل تقليل الحاجات أنفع للمجتمع الإنساني أم تكثيرها؟ قال أحد الفلاسفة القدماء: إذا أردت أن تكون ذا ثروة وغنى فقلل من حاجاتك ومطالبك بدلاً من أن تسعى في تزييد أموالك. وقال أرسطو: ما أقل القدر الذي يكفي لعيش الإنسان عيشة راضية. وقامت طائفة من الحكماء في هذا العصر بإحياء معالم الحكمة القديمة فاتخذت هذه الأقوال دليلاً مهماً وصارت تحث على الزهد والقناعة وجعلت تبدي أفكاراً كلها خيال في خيال وإليك جملة من أقوالها: ما كانت حياة العظام الذين قاموا بأمر الإنسانية والفضيلة مثل المسيح وبوذا وزردشت وسبينوزا حياة سعيدة إلا لأنهم كانوا زاهدين قنوعين يحيون حياة روحية فهؤلاء ولأمراء خلقاء بأن يتخذوا مثالاً حقيقياً للاقتصاد. يقول بوليو: إنني لا أخشى من التصريح بأن هذه الأفكار الخيالية ليست على شيء من الأهمية في نظر العلم والمدنية. نعم إن من مقتضى قواعد الأخلاق أن نجعل نصب أعيننا مثال المسيح وبوذا وغيرهما من الزهاد المتقشفين كي يعدل فينا حب الثروة المفرط ويعرف الفقراء الذين خانتهم الحيل وأعوزتهم الوسائل أن سعادة الدنيا لا تتوقف على الثروة والمال بل قد يمكن للمرء أن يعيش مع الفقر عيشة طيبة إذا رضي وقنع. بيد أنه لا يتأتى للبشر كافة أن يعيشوا مثل المسيح وبوذا ولو فعلوا ذلك لما تيسر الوصول إلى هذه الدرجة السامية من الرقي والحضارة - انتهى بتصرف يسير.

دمشق عبد الوهاب

أدعياء العرفان

أدعياء العرفان ما ساءني من زماني ... إلا بنوه وأهله فلا ترى من بنيه ... إلا الذي ساء فعله ومدعي العلم إفكاً ... كأنما العلم جهله وقائل إن فضلي ... وفرٌ ولم يبد فضله وزاعم إن موت ال ... عافين لاشاه بذله وحاكم وهو يتلو ... أنا الذي عمَّ عدله وفاخر في مزايا ... يمتاز فيهن أصله وقائل إن شعري ... حزن الكلام وسهله وذو اليراع ينادي ... أنا الذي ليس مثله إذا هززت يراعي ... ريع الشآم وأهله وذو التنفج يهذي ... أن السماكين نعله حيبات قوم مناهم ... غدر الجواد وحمله ودأبهم في البرايا ... غش اللبيب وختله فما أشد افتئات الإ ... نسان أن ضل عقله وما أضر افتخار ال ... مرء الذي ساء فعله القاهرة حسين وصفي رضا

ريح سموم

ريح سموم وبربك القيوم، ما الذي تظنه يدوم، صوت سمعته في الكروم، وقد مرت عليها ريح سموم، فجفت الأرض وعادت جزرة كثيرة الكلوم، وسقطت الجفان عن فسائلها، وفزعت أوراقها إلى الغيوم، صوت صاروخ من وراء النجوم، ما الذي تظنه يدوم؟ من صروح زاهية فخيمة، من رياض زاهرة كريمة، من بروج شاهقة عظيمة، من معامل حديثة أو قديمة، ما الذي تظنه يدوم. من أسراب منورة تحت الأنهار، من أرتال فيها تدفعها الكهربائية أو يجرها البخار، من بوارج ماخرات في البحار، من أساطيل تنذر بالدمار، من معالم في الأمصار والأقطار، ما الذي تظنه يدوم. من أنفاق تحت الأديم ملؤها عجاجة، تنفثها وتثيرها القطر الولاجة، من قباب بين السحاب وهاجة، من جسور فوق المياه جسيمة، من متاحف في عواصم العالم فخيمة، ما الذي تظنه يدوم. من سدود محكمة منيعة، من خلج كونتها الطبيعة، من ترع تؤلف بين البحار، وتجمع بين بعيد المطارح وشاسع الديار، من خطوط حديدية تطوق الأرض، من أسلاك برقية تطوي المسافة في الطول والعرض، ما الذي تظنه يدوم. من أبنية ذات الطبقات العشرين، من أحياء في المدن الكبرى يأوي إليها المساكين، من معابد وبيع لا أثر فيها للدين، من أصقاع لا صوت فيها للصالحين، ما الذي تظنه يدوم. من قصور مكتنفة برياض خضراء، من صروح الكبراء والأمراء، من بيوت الرؤساء والأغنياء، من أكواخ البؤساء والفقراء، ما الذي تظنه يدوم. من شرائع ودساتير ونظامات، من تقاليد وعوائد وخرافات، من أديان وعقائد وخزعبلات، من دول وممالك وحكومات، من أحزاب وطوائف وجماعات، ما الذي تظنه يدوم. صوت صارخ من وراء الغيوم، صوت ريح سموم، أي شيء يدوم. مهلاً مهلاً أن هذه كلها لصالحة في ذاتها، إن هذه كلها لحسنة في وقتها، لكل شيء من العز والمجد أركان، لكل شيء من أبناء البطر والأشر أعوان، لكل برهة من دهره الوسنان، ساعة أو عام أو حين من الزمان، الطويل من الدهر والقصير سيان، ولكن قل لي بربك القيوم مبدع الشمس والنجوم، أتظنها إلى الأبد تدوم.

إلى حين يا أخي إلى حين، إي ورب العالمين إلى حين، وبعد فقل لي هل أنت من الممترين، أم أنت من المفندين السائلين. أما في زمانك تأملت المغاور في الصخور، فاذكر أن الأمطار والرياح تكونها، والأمطار والرياح تهدمها، إن كل صالح مقبول حتى يظهر على ميدان العالم قائم على المظالم البشرية، أو مناضل عن الحقيقة الأخوية، أو باذل مهجته في سبيل الإنسانية، إن كل شيء في مركزه حريز حصين، إلى أن يزلزله رجل حصيف رشيد، أو امرأة صالحة ذات رأي سديد، فيعلو إذ ذاك صوت المطالب بحقوق المستضعفين المستذلين، ويلحق الجبارون بالأخسرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين. وبعد أن تلاشت ريح السموم فوق الجبال، تلاها نسيم لطيف الاعتلال، فدخلت معه غابة من الصنوبر كثيفة الظلال وسمعت من خلال الأغصان، صوت المحبة والمعروف والحنان، سمعت صوتاً يقول ورب الأكوان، لا يدوم إلا بالإحسان والعرفان، لا يدوم إلا السجايا الروحية الفريدة، سجايا النفس البشرية الخالدة، لا تدوم إلا آثار النهضات الجليلة، ومآثر الأنفس السامية النبيلة، وما أسخف الجدل الوهمي أمام مشروع جليل، وما أوهن التعاليم الوضعية في وجه خطب جسيم، وما أوهى الأقوال والآراء إذا قوبلت بنظرة من رجل عظيم، أو صادفت نفحة من نفحات حكيم، وعندما يرفع مثل هذا رأسه وصوته ولا فرق عندي رجلاً كان أو امرأة يقف دولاب الأعمال، ولا يبقى شيء على حال، عندئذ يبطل الجدال، وتنكسر شوكة المال، وتحشر الرجال، وتكبر الآمال، يومئذ تنقلب المجتمعات، وترتعد فرائص الطغاة الجفاة، عندئذ تتغير العادات وتهب على الأرض الذاريات السافيات، فيسأل السائل من وراء النجوم أين مالكم ونفوذكم، أين تقاليدكم وعقائدكم، أين شرائعكم ودساتيركم، أين حصونكم وصروحكم، أين مصانعكم ومعاهدكم، أين زخرفكم وسفاسفكم. فقل أن هي الأبرهة من الدهر الوسنان، ساعة أو عام أو قرن من الزمان، قل وبرب الأكوان، لا بقاء لما سوى آثار الجد والعرفان، والمعروف والحب والإحسان، فهي هي الجبال الراسيات، وهي هي الحصون الواقيات، وهي هي الباقيات الصالحات، بلى ورب السماء والنجوم، لن تدوم إلا آثار النفوس الطاهرة ووجه ربك الحي القيوم.

لبنان أمين ريحاني

ظلم مصر

ظلم مصر ماذا جنيت وما جناه بنوك ... أظلمتهم يا مصر أم ظلموك وبسمت للغرب العبوس وأهله ... ومنحتهم فوق الذي منحوك وعبست في وجه الشآم وإنما ... قطر الشآم وإن عبست أخوك كم وارث غض الشباب رميته ... بغرام راقصة وحب هلوك ألبسته الثوبين في حاليهما ... تيه الغني وذلة المفلوك القاهرة حافظ إبراهيم

مصر ومستقبل إفريقية

مصر ومستقبل إفريقية مقتضب من كتاب تحرير مصر لا ينكر أحد أن أتعاب المرسلين المسيحيين في إفريقية قد ذهبت أدراج الرياح وأن أهل إفريقية لا يزالون كلهم وثنيين عباد أصنام. وإنا لا نرى في أواسط إفريقية وشمالها ديناً مستحكماً غير الدين المحمدي. فكأن الإسلام فاز حيث خابت النصرانية لأن في الإسلام ما يجذب الإفريقي مما لا يوجد في النصرانية. وهنا نذكر أوربا وهي التي لم تر نور النصرانية إلا بعد أن اقتبست المدنية اليونانية الرومانية. نقول ذلك ولعل الإفريقي لا يزال عاجزاً عن الأخذ بالمسيحية لأنه لم يستعد لها كل الاستعداد. وبعد فلا يخفى أنه لم تسكن إفريقية أمة أوربية سوى البوير فهي الأمة الوحيدة التي تمكنت من العيش في جو إفريقية وهوائها ولكنها على قدرتها وذكائها لم تفلح في مصادمة الوطنيين ولم تخضع منهم أحداً لدينها ولا لمدنيتها ذاك لأن المدنية الغربية لا تدخل إلا في مكان دخلته المسيحية. ولا حاجة أن نقول هنا بأن شعوب إفريقية لم تتعلم من أوربا شيئاً استفادت به أو ساعدها على التقدم في طريق المدنية على أن البيض لم يشدوا رحلهم إلى إفريقية إلا ليغنموا أو يربحوا فهم إذا نزحوا عن مستعمراتهم تركوها خالية خاوية وغادروا الدار تنعي من بناها. وما ذلك إلا لأن بين الوطني والأجنبي حاجزاً منيعاً لا يمكن جوازه. ولاشك في أن هذا البغض والنفور السائدين بين الوطنيين والأجانب يؤديان أخيراً إلى انقراض سكان إفريقية الأصليين واستئصال شأفتهم لا محالة. وإن الإنسانية في أوربا لترجو أن لا تعيد في إفريقية تمثيل الرواية المحزنة التي مثلتها في أميركا. فإن تاريخ استعمار العالم الجديد يحرج صدر الحليم ويسيل مدامع أجمد الناس عيناً ويلين فؤاد أقسى البشر قلباً. ولقد فشلت أوربا في أميركا فشلها في إفريقية لأنها لم تستطع الوقوف على أخلاق شعب الهنود الحمر وعاداته وديانته وصفاته. أضف إلى ذلك أن الأوربيين لم يحاولوا تغيير دين أهل أميركا الأصليين أو إدخال أقل إصلاح على حالهم. ولا ندري إذا كانوا ينجحون لو حاولوا إدخال النصرانية أم لا. ولكن ما نعلمه هو أنهم لم يحاولوا ذلك بل جاء الرجل الأبيض وأزاح بيده القوية كل ما يتمثل أمامه وتناول سيفه

وذبح هنود الشمال والجنوب والشرق والغرب حتى أصبحت قارة أميركا بحراً من الدم الطاهر البريء. فكأن الرجل الأبيض يفرح لرؤية الدم ويطرب لإزهاق النفوس. ولما كان هؤلاء الوطنيون المساكين يخضعون للذل ويستسلمون للأوربيين كانت تصيبهم أمراض أوربا فيموتون كأنهم فروا من الموت إلى الردى. رفع المستعمرون أو الطوارئ الأوربيون علماً كتبوا عليه لا رحمة عندنا ومن يقف في طريقنا فليس له إلا الموت الأحمر وأسفي لقد نجحت أوربا في إبادة ذلك الشعب الهندي الكريم فلا ترى منه الآن إلا أفراداً قلائل يراها الناس كما يرون النوادر والغرائب. وقد شمل الخوف وتمكن الجبن من بعض القبائل المنحطة ففرت إلى جنوب أميركا لاجئة إلى حراجها وغاباتها كما يلجأ الوحش الطريد. وإن قلبنا ليخفق عندما يخطر ببالنا أن ما تم في أميركا يتم في إفريقية سيما ونحن نرى ما نرى بين البيض والسود في تلك القارة من البغض والنفور. وما الداعي إليهما إلا أن المستعمر الأبيض عاجز عن فهم طبيعة الوطني الأسود فيعوقه جهله بطبيعته عن منحه نعمة المسيحية والمدنية. وأي دليل أصدق من قولنا أن نصف سكان جنوبي إفريقية فنوا أو نزحوا عن أرضهم. ويليق بأوربا المتمدنة أن يصبغ الخجل وجهها ألف مرة كلما سمعت الأخبار المعيبة والقصص الشائنة التي ينقلها البريد في كل يوم من أوساط إفريقية. عندما يصل الأوربي إلى تلك البلاد ينسى نفسه ويسقط سقوطاً معيباً. فيحيا الحيوان القذر الساكن في جسمه وتموت عواطف العفة والشرف فيه كلها فلا ينظر إلى الوطنيين إلا نظراً شهوانياً محضاً ولا يعتبرهم إلا وسائل لتنفيذ أغراضه السافلة وإطفاء نار شهوته الحيوانية. إن أمثال تلك الأخبار لا تنقطع عن أوربا أسبوعاً واحداً وكثيراً ما تزيد ذنوب أحد هؤلاء المتمدنين المتوحشين فيسأل عن أمره ويحاكم ولا تحمل الصحف وصف الجرائم التي ارتكبها والذنوب التي اقترفها إلا وترتجف أوربا كلها من ذلك. على أن لدينا في شمال إفريقية مثالاً واضحاً كل الوضوح يدل على عجز الأوربي عن ابتلاع الوطني أو جلبه إلى حظيرة المدنية الأوربية فإن الفرنسيين على ما هم عليه من الصفات التي تفردوا بها دون غيرهم خابوا في الجزائر كما خاب غيرهم في غيرها. وانقضت ثماني عشرة سنة والفرنسيون يجردون الحملات ويعبئون الجنود ويحشدون

الجيوش حتى انتصروا على عرب الجزائر وقد مضى عليهم سبعون ستة في البلاد ولا يزال العرب يكرهونهم وينتظرون فرصة تمكنهم من خلع نير فرنسا عن بلادهم. ولطالما حاولت فرنسا بث النصرانية ففشلت فشلاً قبيحاً. فإذا أصر العرب على البقاء على دينهم ورفضوا المدنية المسيحية فإنهم لا محالة يبيدون. وحيث نظرنا في إفريقية فإنا نرى مستقبل أهليها أسود قاتم إذ لا نرى في أوربا لإفريقية أملاً. وليس أمامنا إلا وسيلة واحدة وهي أن تهب قوة إسلامية وتختلط بتلك الشعوب فتستطيع بدينها أن تصل إلى أعماق قلوب الوطنيين وبذلك يمكن منحهم مدنية إن لم تكن أحسن مدنية فإنها بلا ريب يجهزهم إلى ما هو أرقى منها من المدنيات ولا نرى مدنية قادرة على القيام بذلك العمل الجليل إلا مصر بعد تحريرها.

عمران سيلان

عمران سيلان جزيرة سيلان معروفة في هذا القطر كثيراً وهي في جنوب الهند وسكانها نحو ثلاثة ملايين وقد بحث أحد علماء الفرنسيين فيما بلغته من الارتقاء في العهد الأخير فقال: لم يكد يتم فتح الجزيرة حتى أخذ الإنكليز يدخلون إليها نظاماً استعمارياً جزيل الفائدة فمن أهم الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي قامت على عهدهم أبطال التعذيب والعقوبات البربرية وإقامة مجالس الشيوخ وإلغاء الرقيق والأعمال الشاقة وإلغاء التمييز بين طبقات المذاهب في الشؤون القضائية وإقامة مجلس تشريعي مؤلف من أعضاء رسميين ونشر حرية المطبوعات وإلغاء احتكار زراعة القرفة وتأسيس صندوق للتوفير والعناية بأعمال من شأنها تسهيل سقيا الأراضي وإقامة الطرق والسكك الحديدية وإنشاء بريد منظم وإدارة برق وإدارات عامة أخرى وتعديل القوانين المتعلقة بزواج الوطنيات وتحسين أحوال البيوت والأسر ونشر صحف باللغتين السنغالية والتالمية. وقد ضوعفت الطرق والجسور وأنشئت السكك الحديدية التي تسهل المواصلات وتعود على السكان برفاهية العيش وتحمل التمدن إلى شعوب داخلية البلاد وتقلل عدد الهالكين بالقحط وتقضي على أوهام طبقات الأمة. قال والسكك الحديدية من الأدوات النافعة في إنجاح الشعوب الشرقية. ولقد تنقل سكك سيلان كل سنة نحو مليون ونصف من المسافرين من أبناء البلاد أي أكثر من العدد التي كانت تستطيع عجلات البقر القديمة أن تنقله في قرن واحد. وكانت طرق المواصلات من قبل مقصورة على بعض قنوات بناها الهولنديين أيام استيلائهم على تلك الجزيرة في العمارات البحرية من الشط الغربي في الجزيرة. ولما حل الإنكليز فيها لم يكن بها طرق معبدة مطروقة في أنحاء الجزيرة كلها أما اليوم فإنها غاصة بخطوط الطرق العجيبة. ومن أعجب ما في العالم السكة الحديدية التي تربط الساحل بجبال الداخلية. وقد ارتقت سيلان منذ سنة 1865 ارتقاء كان من نتائجه أن استطاعت القيام بجميع نفقاتها العسكرية بذاتها ولم تعد عبئاً ثقيلاً على مركز إدارة البلاد وهي تؤدي اليوم للحكومة 160 ألف جنيه مساناة للإنفاق على الحامية. أما انتشار المعارف في سيلان فيفوق انتشاره في سائر أصقاع الهند فقد أقامت الحكومة مدارس وطنية في كل بلد وقرية وعدد التلامذة اليوم واحد من عشرة من الصبيان الذين بلغوا سن الدراسة على أنك تكاد لا تحصي تلميذاً واحداً

في كل مائة ولد في الهند. قلت ومن العجيب أن تكون سيلان جزءاً من الهند ويكون نصيبها من تعميم التعليم أكثر من نصيب الهند وحبذا لو صرف الإنكليز والحكومة المصرية العناية بتعميم التعليم في مصر كما هو في سيلان.

الذهب والفضة

الذهب والفضة بلغ البحث والاستقراء بأرباب الإحصاءات إن صاروا يقدرون في بلاد الغرب كل دقيق وجليل من أحوال الاجتماع حتى أنك لو سألت بعضهم كم بيضة تأكل المملكة الفلانية في السنة لأجابك على سؤالك ولذلك لا نعجب إذا رأيناهم يحصون ما استخرج من الذهب والفضة. يقولون أنه لما نفد الذهب من أوربا في القرن السادس قام القوم يفتشون في مطاوي الأرض على الأفلاذ وفي معادنها على الركاز وهذا القول مما لا يعتد به كثيراً عند أرباب التحقيق والذي تبين لديهم أن الخمسين سنة الأخيرة كان لها النصيب الأوفر من استخراج هذين الحجرين وخصوصاً السنين الخمس المتأخرة فقد استخرج من سنة 1900 إلى سنة 1904 زهاء 13 مليار فرنك من فضة وذهب سبعة منها ذهب والباقي فضة. وقد زاد استخراج الذهب في الأربع عشرة سنة الأخيرة فبعد أن كان سنة 1870 ستمائة مليون ارتقى في السنة الماضية إلى مليار وثمانمائة وثلاثة عشر مليوناً من الفرنكات. أما الفضة فعلى رخص أسعارها لم ينزل المستخرج منها كثيراً فقد كان سنة 1890، 671 مليوناً فصار سنة 904، 523 مليوناً هذا مع أن الريال مثلاً قد نزلت قيمته الحقيقية وهو معدن ومازال يساوي أكثر في العرف. وهكذا القول في معدني النيكل والنحاس فإن الناس يثقون بالحكومة بأخذها على علاتها وقلما ينظرون إلى المعدن وحقيقة قيمته. هذا ما كان من أمر المستخرجات أما المضروبات فالخطب في إحصائها أسهل من ذلك فقد ضرب سنة 1890، 773 مليون فرنك ذهباً فبلغ المضروب سنة 904، 2095000000 فرنك أي أنه تضاعف وزاد على ما استخرج وذلك كل ما يضرب من النقود على اختلاف معادنها يضرب بعضه من سبائك أذيبت وحلي بطلت. وكما أخذت سبائك ودفعت إلى دور الضرب لتجعل سكة يتعامل بها فقد أخذ من الذهب سنة 1903 للاستعمال والزينة 395 مليوناً ومن الفضة 345 مليون فرنك وكان للولايات المتحدة القسم الأعظم من استعمال هذين المعدنين ثم إنكلترا ثم فرنسا ثم سائر الممالك وسببه الغنى والترف وكلما غنيت أمة زاد ميلها إلى اقتناء الأواني الذهبية والفضية والحلي وضروب الزينة. هذا ما تبين للإحصائيين وهو أصح إحصاء حديث عندهم وهو يعطي فكراً إجمالياً للمطالع لا قضية ثابتة وعدداً محدداً لا يزاد فيه ولا ينقص منه.

أصل الآريين

أصل الآريين بينما كنت أطالع مقالة البشر والشعوب في مقتبس الجزء الثاني وصلت إلى ذكر أصل الآريين صفحة 70 وهو قولكم (معرباً عن الفرنسية) وآريهم من وراء جبال حملايا فخطر في بالي كلام بشأن الآريين ومنشأ لسانهم كنت سمعته في السنة الماضية من الأستاذ فرنكلن جدنغ أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولمبيا في مدينة نيويورك وأحد الثقات في هذا العلم. وهو الرأي الأخير في منشأ الآرية على ما قرره علماء الاجتماع وهاأنذا ذاكره لكم. قال الأستاذ المذكور في عرض خطابه عن الآريين: أنه لا يحق للأمم الآرية أن تفتخر على غيرها وتباهي بأصلها وفصلها زاعمة أن أصلها ممتاز على غيره إذ ليس ثم على التحقيق من شعوب آرية يرجعون في أصلهم إلى جنس واحد (على حد ما جاء في المقتبس صفحة 71) وكل ما هنالك من آرية الذين نعدهم في مصاف الآريين إنما هو اشتراكهم في بعض الأمور العقلية ورجوع لغاتهم إلى أصل واحد. فالآرية مطلقاً ليست جنسية إنما هي نوع من التهذيب اقتبسه هؤلاء الشعوب بعضهم من بعض. ومنشأ هذه الآرية مختلف فيه فقد قال بعضهم أنه في الهند لرجوع اللغات الآرية إلى السنكريت (لغة الهنود القدماء) وقال آخرون أنه في لثوانية (الجنوب الغربي من روسيا) لأن أقدم أصول اللغة الآرية هي أقرب للغة اللثوانية منها للسنسكريت. على أنهم بعد ما بالغوا في التنقيب وغربلوا الدلائل قالوا أن غور الدانيوب هو منشأ التهذيب الآري ومنه تشعب إلى الجهات الأربع فامتد جنوباً إلى بلاد اليونان فآسيا الصغرى ثم غرباً إلى إيطاليا وإسبانيا وغاليا وغيرها وشمالاً إلى جنوبي روسيا وشمالي جبال القوقاس ثم عبر فرع بحر الخزر قزيين إلى أعالي بلاد فارس إلى الهند. وكل من أحكم درس فنون الهنود وآدابهم يرد كثيراً من مبادئها إلى مصادر فارسية. هذا هو الرأي الأخير في منشأ الآرية وله مقدمات ومستندات طويلة لا محل لبسطها الآن وهو أفضل رأي يعلل به نشوء الآرية وكيفية انتشارها على ما قيل والله أعلم. عن المدرسة الكلية في بيروت بولس الخولي

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات تحرير مصر أحسن ما يقال في تقريظ هذا الكتاب الذي عربه عن الإنكليزية الكاتب البارع محمد لطفي أفندي جمعة أحد منشئي الظاهر ما قالته جريدة الطان الفرنسية في وصف مؤلفه من أنه هو المؤلف الذي خلص من أوهام محيطه وجنسه وما الخلاص منهما بالأمر السهل في الغالب. وقد بحث فيه بحث المتجرد عن الغرض في تاريخ مصر وأعمال فرنسا بريطانيا فيها وما تم علي يد رجالهما من أعمال العمران ورأى أن تنجلي بريطانيا عن القطر لأنه أصبح من المماليك الحية. وقد جاء التعريب رشيق الأسلوب فصيح التعابير على نحو ما ينتظر من أديب مجتهد متفانٍ في خدمة أمته. فنثني على الكاتب حريته وعلى الناقل غيرته. ونتمنى أن يكثر أمثال هذا في الكاتبين المجتهدين والمعربين المجيدين. وقيمة الكتاب عشرة قروش أميرية وهي زهيدة في جانب جودة طبعه ووضعه. آفات المدنية الحاضرة للكاتب المجيد جرجي أفندي نقولا باز من ناشئة بيروت ولع شديد بخدمة الآداب وتحسين ملكات الأخلاق والمجتمعات عرف له ذلك مما وازر به الصحف والمجلات العربية. وقد أتحفنا هذه المرة بكتابه الأخير آفات المدنية الحاضرة تكلم فيه على ما عهد فيه كلام من برئت نفسه من الأغراض ولم يحرص إلا على الدعوة إلى الفضائل ورفع الستار عما موه به وجه هذه المدنية من الشر الباطل والطلاء الزائل فأفصح كل الإفصاح في كلامه على المقامرة والمعاقرة والمخاصرة وعلى غيرها من الرذائل وعساه يزيدنا من البحث في هذا الموضوع المفيد في رسائل خاصة أو في الصحف فإنه ابن بجدته وأبو عذرته. عين بعين امتاز الأديب البارع نقولا أفندي حداد بأنه يتشبع من الموضوعات التي يجول فيها ولذلك كتبت له الإجادة في اكثر ما كتب من الرسائل والمقالات. وأمامنا الآن روايته الأخيرة عين بعين زبدتها تغلب الخير على الشر ولو في الآخر وفيها عبرة للأشرار وسلوة للأخيار فنحث على اقتنائها. مجلة جمعية الملاجئ العباسية

ومكارم الأخلاق الإسلامية. وهي مجلة دينية علمية أدبية تهذيبية صدرت هذا الشهر بالإسكندرية لسنتها السادسة وقد غيرت شكلها واسمها وعهدت إلى نخبة من العلماء والكتاب بإنشائها فجاءت في مطاويها عدة مقالات منها مقالة مفيدة في الإنسان والحياة دل كاتبها على أنه واقف على روح الإسلام وأن الإسلام وسط لا يأمر بالزهادة المضرة كما هو عند الهنود وغيرهم من الفرق التي دخلت الإسلام ولا بالاسترسال في الشهوات على ما هو مذهب ابيكورس الفيلسوف اليوناني وقال أن المسلمين اليوم استبدلوا الانغماس في الشهوات بزهد تلك الفئات وفيها مقالة في العادات المستهجنة وغير ذلك وقيمة اشتراك المجلة 30 قرشاً أميرياً في القطر و10 فرنكات في الخارج يسقط نصفها لتلامذة المدارس وطلبة العلم ولاشك أن القائمين بأعبائها يستحقون من الله المثوبة والأجر ومن الناس الثناء والشكر. المصوَّر اسم جريدة أدبية فكاهية إخبارية مصورة يصدرها مرة في الأسبوع الكاتب البارع خليل أفندي زينية وهو صاحب كتاب التربية وممن عانوا صناعة الإنشاء زمناً وذاقوا من الصحافة حلوها ومرها وعرفوا خلها وخمرها وهي على مثال جريدة البتي جرنال الفرنسية بل نسخة من نسخها في أوضاع عربية وأساليب باعثة على المطالعة وقد كان أصدرها مدة منذ أربع سنين ثم عاود إصدارها الآن في الإسكندرية فنرجو لها الإقبال الذي تستحقه وقيمة اشتراكها 65 قرشاً ولمشتركي الأهرام الأغر 40 قرشاً. الرسائل الفاتحية هي مختارات من رسائل فاتح أفندي الهبراوي الحلبي إلى مراد أفندي الشطي الدمشقي جمعها الأديب محمد جميل أفندي الشطي فجاءت في زهاء أربعين صحيفة. وطريقة الكاتبين في النثر طريقة التسجيع وفي الرسائل شعر كثير. فنثني على الجامع لها ونرجو له الثبات في خطته الأدبية ونستمطر الرحمة على الكاتبين المفننين اللذين قصفت المنية غصني شبابهما وكان يرجى أن يكونا بدرين كاملين.

سير العلم

سير العلم حمام الزاجل هو الحمام الذي طالما استعمل في الحروب وإرسال الأخبار آونة الحصار وغيره وقد كان رائجاً أيام لم يكن أسلاك برقية ولا تلغراف بلا سلك أما اليوم فيستعمل في أوربا وأميركا كما يستعمل في الصين واليابان. وكانت حكومات العرب مولعة بتعهده وتربيته وحصلت منه على فوائد في الحروب كثيرة ولاسيما في حروب الأندلس وحروب الصليبيين. وما برح العلماء من الإفرنج يبحثون في سبب اتجاه هذا الحمام نحو الوجهة التي يراد على الاتجاه إليها وقد قدم في هذا الشهر أحد علماء فينا إلى المجمع العلمي النمسوي بحثاً ارتأى فيه أن الحمام يقود بعضه بعضاً لمعرفة الطرق بحدة حاسة النظر واستحضار الذهن وحفظ الأماكن التي طافها من قبل فالنظر والذاكرة هما اللذان ينفعان الحمام في غدوه ورواحه وسينفع هذا الرأي في الحكم على حيوانات أخرى. القيام والقعود اختلفت الآراء في كيفية تعاطي الأعمال ولاسيما الكتابية منها فقال قوم بأن المراوحة في العمل والاستراحة في الأحايين يعوض الجسم ما يخسره من القعود والانكباب على ما يتعاطاه وقال فريق غير ذلك وارتأى بعضهم أن الكتابة والمرء واقف خير من الكتابة وهو جالس وقد قدم أحد علماء فرنسا إلى مجمع علم الحياة الباريسي رأيه الخاص في هذا المعنى فقال: إذا انتصب المرء قائماً يجيد عمله بحضور ذهن ولكن ذلك لا يدوم كثيراً حتى يناله التعب بسرعة أما العمل والمرء جالس فيوفر على المرء الإجهاد والتعب ويود مجموع النتيجة. الأنباء بالزلازل هذا من العلوم التي وضعت حديثاً واسمها بالإفرنجية (سيسموميتري) وقد أدخل عليه في العهد الأخير من الإصلاحات ما يستطاع به بعد الآن الوقوف على الهزات الأرضية. ثبت ذلك بالبرهان في العام الماضي في زلزال الشمال الغربي من الهند وكذلك في مرصد الزلازل الياباني حيث تمكن العلماء هناك من متابعة المجرى الذي انبعث من الهند واجتاز المحيط الباسيفيكي وأميركا وأوربا بعد أن جاز الخافقين من أطراف الكرة في ساعتين

وثلاث دقائق وخمس وثلاثين ثانية. اكتشاف أثر اكتشفت أحد علماء الآثار من الطليان في القرنة بالأقصر من صعيد مصر لحد. خ. رئيس المهندسين وزوجه من السلالة العشرين في تابوت مموه بالذهب ومعهما كتاب وآنية نبيذ وطول الناووس 14 متراً وطول اللحد 20 وعثر في اللحد على أدوات كتابية في صندوق من موسى ودواة وقدوم ومقطع وغيرها وأثاث بيت من مثل سريرين وفراش وفنارات وصوان فيه حلي وسوط وغير ذلك.

المجلات الإفرنجية والعربية

المجلات الإفرنجية والعربية الأبحاث العلمية في مجلة إنكليزية بحث في أن أميركا هي التي ينبغي لها أن تعنى بمسألة تبادل الأبحاث العلمية من دعوة أساتذة الكليات وجميع المجدين في البحث والتجارب العلمية على أنحائها وبذلك تفتح طرقاً جديدة للارتقاء وتخدم الإنسانية أجل خدمة. ولم يقصر الكاتب بحثه على الأمور النظرية بل تعداها إلى العملية فقال: أن ذلك يتأتى بتوحيد الإدارة ولا تأتي نتيجة ذلك في يوم بل يقتضي لها زمن والذي يهم أن لا يرأس كل فرع من الأبحاث رجل مقتدر بل أن يرأسه أقدر رجل شاباً كان أو شيخاً ويمده بأسباب أي بالأدوات وبخزانة كتب. الحسر في مجلة ألمانية مقال في الحسر أو قصر البصر ذكر فيها كاتبها تأثير الدرس وسني الدراسة في الحسر فقال أن في مدرسة فيها من التلامذة 702 يكون معدل الحسر بين الكسالى 27 في المائة وبين المجتهدين 31 في المائة وفي أولاد القرى 21 في المائة حسر وفي أولاد العملة 26 وفي المتعلمين بعض تعليم 51 في المائة وأن الحسر آخذ في الازدياد بين البشر وقد ارتقى في بعض المدارس منذ بضع سنين من 27 إلى 91 في المائة بين الصبيان ومن 38 إلى 91 في المائة بين البنات و56 في المائة وبحساب آخر 51 في المائة من الحسر يكون آباؤهم حسراً. أما الحسر فليس فيه تأثير كبير وقد ينفع في الكبر ويأتي صاحبه بنتائج حسنة. اليابان والإنكليز واليهود في مجلة فرنسية مقالة بأن بعض سكان الأمة اليابانية القدماء يشبهون سكان الإنكليز وأن أصل بعض سكان يابان من جزائر ماليزيا جاءوها طوارئ وأن اليابانيين يشبهون في صورهم وسحناتهم الإسرائيليين كما أن الإنكليز من نسل الإسرائيليين أيضاً. وقد قال نخبة من رجال اليابان المنورين بأن اليهود الذين خرجوا من الباب الشرقي من بابل انتهى بهم السير إلى يابان ومثل الكاتب صور اليهود في سيرهم إلى تلك البلاد القاسية فكانت مظلاتهم وعصيهم وراياتهم تشبه ما عند اليابان اليوم منها وإن أبناء إسرائيل ساروا في بلوغهم أرض يابان طريق البحر والبر واستخدموا المركبات وأن في بلاد يابان أثراً

عظيماً للوصايا العشر وبعض القوانين الدينية المعروفة عند إسرائيل وأن قصة ملكة سبأ التي أغوت سليمان على ما في التوراة مشهورة جداً بين بعض طوائفهم وأن فيها آثار الحية النحاس التي شاهدها موسى في مصر فإن اتحد اليابان والإنكليز فاتحادهم اتحاد بين إسرائيل ويهوذا. المسكرات في إحدى المجلات العلمية بحث مستفيض في صحة النفس جاء فيه أن تكوين الأخلاق مهم كالعناية بصحة الجسد وأن المسكرات من أعظم ما يحول دون تربية الإرادة وإنشاء الملكات الحسنة في الأعمال. فرعون جديد كتب المسيو ماسبرو شيخ علماء الآثار المصرية مقالة تحت هذا العنوان في مجلة مصر والشرق الفرنسية جاء فيها: أن الفراعنة كثيرون كلما سجلت أسماؤهم بالدستات والعشرات ظهر إلى عالم الوجود غيرها وهذا الفرعون الجديد من السلائل الأخيرة التي حكمت مصر أخيراً وهي ممن نقرأ تاريخها فيما كتبه اليونان المعاصرون واسمه يساميتيك بن نايث ظهر في الصعيد بين خرائب صفون وقد قام إزاء منارة هذه القرية بقايا بناء بارز من الأرض وسافان من حجر رملي طولهما نحو متر وطول هذا البناء من الشرق إلى الغرب أربعة أمتار وقد تهدم طرفاه ولكن وجه حجر البناء باق بحاله وهناك صورة ملك يعبد جالساً أمام رب ووراءه الاهة واقفة وقد تهدمت رؤوس هذه الهياكل وما أحاط بها من الخطوط ولم يقرأ منها إلا خط هيروغليفي واحد ذكر فيه أن الملك يساميتيك بن نايث ماناخابراي هو الذي شاد هذا المعبد بحجر أبيض جيد متين ليبقى على الدهر. وحجارة هذا المعبد كانت بحائط مصلى أشبه بالمعابد التي أقامتها كاهنات عمون في ثيبة. ويظن أن هذا الملك من البطالسة المتأخرين وربما رد عهده إلى أربعمائة سنة أو إلى مائتي سنة أو مائة سنة ق. م وكان هو الرابع المدعو بهذا الاسم والذي اغتنم انتقاص الفتى كورش صاحب فارس ليكون مستقلاً بالفرس والظاهر أن يساميتيك اسمه العلم وماناخابراي اسمه الحقيقي ويغلب على الظن أنه من السلالة الحادية والعشرين. النيل الأزرق

المشرق - في مقالة اكتشاف اليسوعيين للنيل الأزرق أن القدماء منذ قرون عديدة يبحثون عن منشأ النيل وعن مخرج ينابيعه وانجلى ذلك كل الجلاء باكتشاف أصل النيل المعروف بالأبيض من بحيرتي فكتوريا نيانزا والبار عند خط الاستواء وفي هذا النيل الأبيض يصب قرب الخرطوم النيل الأزرق المدعو ببحر الغزال وكان أصله مجهولاً فوفق إلى اكتشافه أحد الآباء اليسوعيين الأب دايز الذي أرسل إلى الحبشة ليدعو أهلها إلى الكثلكة وكان ذلك في القرن السابع عشر وبعد وفاته بنحو 150 سنة قدم الحبشة جمس بروس من أعيان الإنكليز وادعى أنه هو الذي اكتشف ينابيع النيل الأزرق الذي دعاه سفر التكوين بنهر جيجون ويدعوه الحبشان اباوي أي النهر الكبير. ومما قاله ذاك اليسوعي أن النيل عند خروجه من بحيرة باد أغزر منه عند انصبابه فيها وهو مع كثرة مياهه يتسع اتساعاً بالغاً حتى أن المشاة في فصل الصيف يمكنهم قطعه وقال أنه أتيح له أن يشاهدها ما تاق إلى كبار الرجال والفاتحين ككورش وكمبيس واسكندر ذي القرنين ويوليوس قيصر. مالية مصر المقتطف - زادت واردات القطر المصري أكثر من مليون جنيه سنة 1905 عن التي قبلها فكانت 21. 564. 076 جنيهاً وبلغت قيمة الصادرات 20. 360. 285 وكانت في السنة التي قبلها 20. 811. 040 فنقصت نحو نصف مليون جنيه. وقدر ديون الأهالي بأربعين مليون جنيه أي أنها زادت كثيراً ولا يخرج من رباها إلى خارج القطر أكثر من مليون ونصف في السنة. وينفق السياح في القطر مساناة نحو مليون جنيه. فنقصت من ثم ثروة مصر في العام الماضي أكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات عما كانت عليه سنة 1904. ورد ما يعترض به بعضهم ويستدلون به على غنى القطر من أن ثمن الفدان كان منذ بضع سنين نحو عشرين جنيهاً وهو يساوي الآن ستين جنيهاً على الأقل أي أن ثمن أطيان القطر المصري كان مائة مليون جنيه فصار الآن ثلاثمائة مليون جنيه فقال أن دخل أطيان القطر كان يطعم ويكسو عشرة ملايين من النفوس من غير أن يستدينوا قرشاً من الخارج فهل يطعم ويكسو الآن ثلاثين مليوناً من النفوس من غير دين؟ وكانت الواردات في العام الماضي في ثمن الحبوب والدقيق والنقص في أثمان القطن ولا يتلافى ذلك إلا بتعميم الري الصيفي وإحياء الأرض الموات حتى يزرع القطن في مليوني فدان على الأقل

بدلاً من زرعه في مليون ونصف وأن يعنى بتسميده وخدمته حتى ينبت القطر من عشرة ملايين إلى اثني عشر مليون قنطار. ورأى أن لا يستند القطر إلى زراعته فقط وأن يعنى ولاة الأمر فيه بإيجاد موارد صناعية له حفظاً لثروته. النوم المقتطف - عرب عن مجلة العلم العام الأميركية مقالة في النوم جاء فيها: أن أفضل ضجعة للنوم أقلها مساساً بعمل الأعضاء الرئيسية كالقلب والرئتين والكبد والمعدة والشرايين الكبيرة وهي ما مال الجسم فيها على البطن قليلاً كما تفعل ذوات الأربع. وليكن الرأس على مساواة القدمين في الارتفاع ما أمكن والذراعان والساقان بحيث لا تضغط الأعصاب والأوعية الدموية. أما النوم على الظهر فلا يستصوب لكي لا يقع الضغط مدة طويلة على الأنسجة المجاورة للعمود الفقري التي تستمد أعصابها منه فيوقع الخلل والاضطراب في الأعصاب التي تحرك الأوعية الدموية. ثم أن البطن يضغط الأوعية الدموية الكبيرة فيختل سير الدم فيه أيضاً. وعليه فلا يجوز الاستلقاء على الظهر مدة قصيرة. ويجب أن تكون حرارة الأطراف مثل حرارة سائر الجسم عند النوم لأنه إذا كانت القدمان باردتين تأخر النوم وكان خفيفاً. ومن الجهل أن تملأ المعدة طعاماً قبل النوم فإن ذلك يقلق النائم ويؤرقه مثل الجوع ولكن أكل شيء قليل قبيل النوم ليس مضراً بل مفيد على الغالب. وأفضل النوم ما كان ليلاً وما كان منتظماً ومتواصلاً غير متقطع على أن من الناس من ينام نوماً متقطعاً غير منتظم سواء في الليل أو في النهار ولا يناله أذى من ذلك كالمرضعات والممرضات والبحارة وكذلك من يشتغلون أشغالاً عقلية تقتضي حصر انتباههم في موضوع واحد كالأطباء والمحامين وغيرهم. واتفق الناس على أن النوم الباكر والنهوض الباكر من دعائم الصحة وأن الجسم أحوج إلى النوم شتاءً منه إليه صيفاً ولكن الاختلاف كثير على فتح النوافذ أو إغلاقها مدة النوم في المدن الكبيرة ولقرى الحقيرة وبين الأغنياء والفقراء على السواء على أن مما لا ريب فيه أن النوم والشبابيك مفتوحة بحيث لا يتعرض النائم لمجرى الهواء أفضل للصحة واحفظ وإذا زادت حموضة المعدة قبل النوم أو تأرق النائم فعليه باستعمال قليل من كربونات الصودا أو مسحوق فحم الحطب.

إطالة القامة طبيب العائلة - الألعاب الرياضية كلعب الكرة والتمرين العضلي على أشكاله مفيدة ونافعة جداً ومن نشأ على تلك الألعاب لابد أن يكون أطول قامة متى صار رجلاً. ذكر الأستاذ مكلرن أن الرياضة ليست نافعة لإطالة القامة فقط بل مفيدة جداً في تناسب الأعضاء ولولاها لزال الجمال والرونق. ويزداد النمو بازدياد الصحة ويقل بسبب المرض والسكنى في الأرياف أصح منها في المدن وعلى جودة الصحة يتوقف النمو وطول القامة والشغل المعتدل يزيد القامة والعمل الشاق يقلل نموها والنمو في الصيف يكون على أتمه. كيف نأكل طبيب العائلة - بحث في تفضيل البقول وغيرها من الأطعمة على اللحوم والفول والفاصوليا والعدس والحمص وفيها من الآزوت والكربون ما يفوق كثيراً الكمية الموجودة في أحسن أصناف اللحوم ولا ينبغي أن تغلى الخضر الطرية بالماء الكثير لئلا تفقد ما فيها من الأملاح والمواد الآزوتية ويسلق البيض سلقاً خفيفاً وصفار البيض والنخاع والمحار تحتوي عناصر فسفاتية تفيد كثيراً في أحوال التعب الدماغي أو التعب العصبي والسلق والهليون يفيدان المصابين بفقر الدم والأنيميا والتدبير الغذائي النباتي يمتاز على التدبير الغذائي الحيواني بكمية الآزوت اللازمة لقوام الأنسجة وبالكربون الذي يحفظ الحرارة الحيوانية وهو يوافق جميع الأمزجة ويلطف الأخلاق.

نصيحة حكيم

نصيحة حكيم كتب إلينا شيخ من شيوخ العلم وحكماء الإسلام بالنصائح الثلاث الآتية: الأولى - أن لا تلتفت إلى شغب المشاغبين ولا تكترث بهم وإن جلوا فإن الحكيم من يسعى إلى إتمام المقصد وأقل ما يستفيد المشاغبون إضاعة وقت من اكترث بهم وإن قل فالوقت ثمين. بل أقبل على شأنك واعرف مقتضى زمانك. الثانية - لا يمنعك تنكيت المنكتين والمبكتين من تنبيهك على غلط فرط منك فيما سلف فكلما عثرت على شيء من ذلك في عدد فنبه عليه فيما يلي فإن ذلك أقرب إلى الاعتماد على ما تكتب وأكثر العلماء الذين انتفع الناس بكتبهم كانوا على هذه الطريقة ولم يتنكبها إلا الحشوية ومن نحا نحوهم. الثالثة - اعرض عمن يبحث عن تفضيل بلدة على بلدة ونحو ذلك فإن مثل هذا من مباحث الحشوية وقد سألني منذ أيام أحد السياح عن حد المصري والسوري فقلت له المصري من ينفع مصر والسوري من ينفع سورية وكل من نفع بلدة فهو منها طبعاً فالمصري الذي ينفع سورية مصري سوري والسوري الذي ينفع مصر سوري مصري ومن لا نفع لديه لكلتيهما فهو ليس بمصري ولا سوري وقد انتبهت أمريكا لهذه الحكمة الكبرى فجعلت كل من نفع أمريكا نفعاً ما أمريكياً فنجحت.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة القاضي الفاضل ولد سنة 529 وتوفي سنة 596 هذا هو الرجل الذي قال فيه عبد اللطيف البغدادي أحد فلاسفة الإسلام: دخلنا عليه فرأيت شيخاً ضئيلاً كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه. . . وسألني مسائل كثيرة ومع هذا فلا يقطع الكتابة والإملاء. هو عبد الرحيم بن علي البيساني نسبة لبيسان إحدى بلاد فلسطين الملقب بالقاضي الفاضل. قيل أن سبب تعلمه الإنشاء ما روي له من أنه قال: كان فن الكتابة بقصر في زمن الدولة العلوية غضاً طرياً وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكاناً وبياناً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً، وكان من العادة أن كلاً من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع أشياء من علم الأدب. قال: فأرسلني والدي وكان ذا ذاك قاضياً بثغر عسقلان إلى الديار المصرية في أيام الحافظ وهو أحد خلفائها وأمرني بالمصير إلى ديوان المكاتبات وكان الذي ترأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال. فلما حضرت إلى الديوان ومثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبتي رحب بي وسهل. ثم قال لي: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات فقلت ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن الكريم وكتاب الحماسة. فقال: في هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته فلما ترددت إليه، وتدربت بين يديه أمرني: بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة فحللته من أوله إلى آخره ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته. وصف العماد الكاتب من كتاب الدولة الصلاحية المترجم به على طريقته في الكتابة فقال: رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة: والفضل الذي ما سمع في الأوائل، ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار، وهو ضابط

الملك بآرائه، رابط السلك بلألائه، إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو دون لكان لأهل الصنعة، خير بضاعة، أين قس عند فصاحته، وابن قيس في مقام حصانته، ومن حاتم وعمرو في سماحته، وحماسته. طريقة القاضي الفاضل هي كطريقة العماد الكاتب في الأسجاع المنمقة المحبرة ولقد استحكمت هذه الطريقة في القاضي حتى صار يكتب فيها كأنها فيه طبع لا مسحة عليها من التكلف والتعمل. وهي الطريقة التي نقلها العماد الكاتب الأصفهاني عن الفارسية في الغالب ولم تكن شائعة بالعربية في بلاد الشرق وقد برز فيها صاحب الترجمة حتى فاق المتقدمين. قال ابن خلكان: أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو مجيد في أكثرها. وكثيراً ما يقع للفاضل عبارات تكاد تكون من دلائل الإعجاز على بيانه، ومن أسرار البلاغة التي يسمو بها على أقرانه. مثل قوله في صفة قلعة شاهقة ويقال أنها قلعة كوكب: وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة، عمامة، وانملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة. ولقد نال القاضي الفاضل الحظوة من صلاح الدين يوسف بن أيوب بإنشائه حتى أنه لم يكن وزير الإنشاء عنده بل مدبر أمور مملكته وله من الدالة ما للولد على الوالد أو الوالد على الولد حتى استشاره السلطان يوماً في الحج فلم يسمح له وقال له أن رفع مظلمة عن أهل وادي الزبداني أفضل من الحج إلى بيت الحرام على ما جاء في كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين النورية والصلاحية. وفي هذا التاريخ من أحواله وانموذجات من إنشائه تدل على ماله من المنزلة السامية في قلب السلطان صلاح الدين والمكانة من تدبير أمور مملكته ودولته. وكان القاضي يعمل الخيرات ولم تشغله مصالح الدولة عن النظر فيها وإقامة معالمها وحبس الأوقاف على وجوهها النافعة وإكرام العلماء والأدباء قصاده من أقطار البلاد الإسلامية في عصره. كل هذا وكان في وقته متسع لطلب العلم ومذاكرة أهله وخطب ودهم وقربهم. وناهيك بأشغال تقتضيها أمور الدولة على ذاك العهد المحفوف بالمخاوف والفتن.

واستمرت حال القاضي على ما كانت عليه زمن الملك الناصر صلاح الدين عند ولده الملك العزيز وكان يميل إليه في حياة أبيه. ولما توفي العزيز قام ولده الملك المنصور بالملك بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين وتوفي أول دخول الملك العادل أبو بكر بن أيوب إلى الديار المصرية وقد نال بصناعة الإنشاء ما عز نيله على المحدثين والقدماء ولسان حاله ينشد لابن مكنسة الإسكندري وكثيراً ما كان يرددهما. وإذا السعادتك لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان

النهضة الأميركية

النهضة الأميركية قال أحدهم إن مبدأ حماية التجارة الحديث أي حصر المباراة الأجنبية وتنشيط التجارة الداخلية وجعلها حرة ما أمكن كان صفة من الصفات اللازمة لسياسة الرجال الذين قاموا في عصر مونرو بتأسيس الممالك. وهذه الحماية الحديثة هي في الأكثر من عمل الأميركيين فأراد زعماء الأمة عملاً بمبدأ مونرو أن يدفعوا عن أميركا فساد المفسدين كما هو الحال في حماية ولد قاصر تنثني قدماه لأقل صلابة تلقيانها في الأرض ويطبق أجفانه بما يخطف بصره من نور الشمس المشرقة. وإذ رأى مونرو بلاده قاصرة وذات منعة وقوة طمح إلى ضمان هذه القوة فيها ليكون لسان حال كل أميركي بعد يخاطب به الأوربي: إني ذاهب إلى بلادك لأنك في حاجة إليّ ولكن لا تجيء إليَّ إذ ليست حاجتي ماسة إليك. وجاء بعد مونرو من دعم مبدأه في حماية التجارة ومن قال بحريتها المطلقة مثل الاقتصادي هنري كاري. بيد أنهم عادوا جملة إلى رأي مونرو ووجدوا فيه سلامة تلك الأمة وقالوا أن الحماية معقولة وهي القاعدة العامة التي تقوم عليها الممالك المتمدنة ثم جرت حرب من أجل حماية التجارة بين سكان الشمال والجنوب كان داعيها وضع الضرائب على القطن والتبغ وهما من المواد الأساسية في الصادرات. والتقى الحزبان بالسلاح فغلب أهل الشمال أهل الجنوب فقوي عندئذ مبدأ حماية التجارة وصارت من العناصر الحيوية للأمة إذا كانت سنة 1890 صدر منشور ماكنلي في هذا المعنى والدعوة إلى الاحتفاظ به ولم يعف في منشوره من الضرائب الباهظة إلا واردات بعض المواد الأولية والغلات مثل السكر وأرهق بالضرائب الصوف الخشن وأنواع الحرير والحديد والفولاذ وغزل القطن والقطنية والمنسوجات المختلفة والخمور والكحول والأعمال الصناعية. فتضررت من ذلك كل من ألمانيا وإنكلترا وفرنسا. ثم جعلت الحماية سنة 1897 من 55 إلى 60 في المائة من ثمر الحاصلات وعقدوا بعض معاهدات تجارية مع بعض الدول ظل فيها حق حماية تجارة الأمريكان سالماً لم يمس بسوء واحتفظ الأميركي بالدفاع عن حماه من انهيال الواردات الأجنبية عليه كما خاف على سلامة بلاده من غارة الجماعات المهاجرة إلى بلاده. ومذ ثبتت قدم الحرية في أميركا سنة 1820 قذفت أوربا إلى العالم الجديد بسيل من البشر من طليان وألمان وسلافيين وبولونيين وبوهيميين وإنكليز واسكندنافيين وفرنسيين وصينيين. فهاجر إلى بلاد الدولار منذ سنة 1820 إلى سنة 1870 زهاء سبعة ملايين

ونصف من الخلق. وكان الصيني أكثر المهاجرين امتصاصاً لمادة البلاد. والصينيون يهاجرون وتبقى قلوبهم معلقة ببلادهم ومساقط رؤوسهم ولا تزال تحدثهم نفوسهم في غربتهم بالعودة إلى ربوعهم حتى أنهم ليضنون بجثث موتاهم عن أن تدفن في أرض الغربة فهم أشبه بطيور تمر بناحية وهي مفترسة شرسة فلا تعتم أن ترجع أدراجها وتروح إلى أوكارها القديمة حاملة في مخالبها فريسة وقنيصة. فقد قدر أن ما بعث به الصينيون المقيمون في الولايات المتحدة منذ سنة 1853 إلى سنة 1878 بلغ مائة وثمانين مليون دولار كانت معظمها من ولاية كاليفورنيا وبلغ من إعناتهم أهل تلك البلاد أن قامت الفتنة عليهم سنة 1879. ومع هذا دامت مهاجرة الصينيين متواصلة. وسنة 1888 حظرت الولايات المتحدة دخول الصينيين البلاد إلى مدة عشرين سنة ولم ينفذ هذا القانون حق التنفيذ رغم العناية بتأكيده. وما برحت الولايات المتحدة نشدد في نزول فقراء المهاجرين بلادها حتى قضت في العهد الأخير أن لا تقبل الفقير المعوز ولا المريض العاجز ما لم يقدم الداخل ضمانة مالية أو يؤكد بأن لديه مبلغاً من المال ويفحص فحصاً طبياً دقيقاً. فمن ثم باتت البلاد في مأمن من حيث الأمور الاقتصادية لا تضاهيها في ذلك مملكة في الأرض. قال باتان أحد أساتذة مدرسة فيلادلفيا الجامعة: تحتاج الأمم القوية أن تدفع عنها عوادي الأمم الضعيفة كما تحتاج الأمم الضعيفة أن تدفع عنها عوادي الأمم القوية. وقد خصت الولايات المتحدة بأن كان لها على أوربا التقدم الطبيعي فملكت سطحاً من الأرض لم تعمل فيه أيدي العاملين ولم تستخرج خزائنه وخيراته. وفي أوربا يثقل كاهل الناس بضرائب باهظة لأن ثروة الأرضين قد احتكرها أفراد معلومون. حتى لقد تضطر الحكومات أن تضرب ضرائب على أجور العمال. وهي ضريبة لا أثر لها في أميركا. ولذا قضت الحال على هذه البلاد أن تحتفظ بمبدأ حماية تجارتها سواء كان في الحاصلات الزراعية أو في النواتج الصناعية وإذا خفضت حكومة الولايات المتحدة الرسوم الجمركية ونزعت ما يحول دون تلك الحواجز من مطامع الأمم تنهال غلات الأمم الزراعية أي انهيال ويحدث لها نفوذ في الأسواق الداخلية وتق أثمان وارداتها بحيث تجاري الغلات الأميركية وتباع أسهل بيع بحيث تصبح أميركا وهي تؤدي دخلها العقاري لتلك الأمم المزارعة فتتضرر الأجور للحال

الآشوريون والبابليون

ويهدد نجاح صناعة الأمة من هذا الوجه فتجارة الولايات المتحدة لا تحمى لكونها في حالة الطفولية بل حباً بالاحتفاظ بعلو مرتبتها الحاضرة المحققة في أوربا. ولقد عظمت النتائج الاقتصادية بهذا الفكر فتضاعف عدد الأماكن في ثلاثة أرباع قرن كما تضاعفت القوة الصناعية وارتقى عدد الغلات من 15 ملياراً إلى 65 ملياراً. ويظهر من تقرير نشره مكتب الإحصاء في واشنطون منذ سنتين في معنى تجارة أميركا مع العالم أجمع أن الولايات المتحدة أول قوة اقتصادية في الكرة الأرضية ولإنكلترا المقام الثاني. ففي الولايات المتحدة ينبت 75 في المائة من مجموع غلات القطن في العالم وهي تحرص على إبقائها لمعاملها الخاصة. من أجل ذلك ما فتئت تبني المعمل إثر المعمل حتى زادت الآلات في معاملها 22 في المائة على حين لم تزد في معامل أوربا على عشرة في المائة. ومن جملة ما بني معمل فيه خمسمائة ألف آلة ومغزل و12 ألف نول في ضواح سان لويس. تلك المدينة التي قام فيها معرض أميركا سنة 1904 في بقعة مساحتها خمسمائة هكتار من الأرض وكلف من النفقات 250 مليوناً وهو ضعفا معرض شيكاغو سنة 1893 وأربعة أضعاف معرض باريس سنة 1900. معرض دهش له عالم الصناعة والتجارة. ولا غرو في هذا فإنك تعرف مقدار ارتقاء هذه الأمة من أرقام وارداتها وصادراتها فقد كانت وارداتها سنة 1897_98، 30. 080. 248. 270 فرنكاً وصادراتها 6. 157. 411. 650 فرنكاً ومجموع تجارتها 9. 237. 659. 920 فرنكاً وارتقت وارداتها سنة 1902_903 إلى 5. 128. 757. 640 وصادراتها إلى 7. 400. 690. 070 ومجموع تجارتها إلى 12. 229. 447. 710 ومن ذلك يدرك القارئ ولاشك ما تم من النجاح في تلك البلاد بفضل مبدأ مونرو وهو كما وصفه أحد علماء الألمان الإنجيل السياسي الذي تراه معلقاً في شوارع الولايات المتحدة لعهدنا وبفضله كفت عنها غارة الأوروبيين ووقيت سوء المغبة في شؤونها المالية. 6 الآشوريون والبابليون بلاد الكلدان

وصفها - ينبجس من قمم جبال أرمينية المغطاة بالثلوج نهران سريع جريهما بعيد غورهما وهما الرافدان دجلة والفرات الأول من الشرق والثاني من الغرب. يتقاربان أولاً ثم يتباعدان عند بلوغهما السهل فيستقيم دجلة في جريته وينعطف الفرات في صحاري الرمال ثم يجتمع النهران قبل أن يصلا إلى البحر. فالبلاد التي يجتازها هذان النهران هي بلاد الكلدان. وهي سبسب من صلصال تمطره السماء قليلاً وتشتد فيه الحرارة والقيظ بيد أن الأنهار تسقي بجداولها هذه الأرض الصلصالية فتصيرها من أخصب بقاع الأرض وأنبت قيعانها. وأن حبة القمح والشعير لتأتي مائتين وفي أعوام الرخاء ثلاثمائة. والنخيل في تلك البلاد غابات غبياء يستخرج منه الخمر العسل والطحين. الأمة الكلدانية - باكرت الحضارة بلاد الكلدان في العهد الذي باكرت فيه مصر فسكنتها شعوب متمدنة. وقد هاجر إليها عدد من الأجناس من أصقاع كثيرة فاجتمعوا وامتزجوا في هذه السهول الفسيحة الأرجاء. جاءها من الشمال الشرقي ناس من التورانيين أهل اللون الأصفر وهم يشبهون الصينيين وأتاها من الشرق طائفة من الكوشيين ولونهم أسمر قاتم وهم أنسباء المصريين ونزل إليها من الشمال فئة من الساميين وألوانهم صافية وهم أقرباء العرب فتألف الشعب الكلداني من هذا المزيج. مدنها - زعم كهنة الكلدان أن ملوكهم تبسطوا في مناحي السلطة منذ مائة وخمسين ألف عام وهو زعم خرافي يعذرون عليه لأن الحامل لهم عليه توغل مملكة الكلدانيين في القدم. هذه الأرض تتخللها هضاب وآكام كلها كومة أنقاض من بقايا بلد عفته طوارق الدهر. وقد فتح كثير منها وأخرجت منه عدة دفائن مثل أور ولارسام وبال ايلو وظفر الباحثون بعدة آثار. وما برح أمر هذه الشعوب مستوراً عن الأنظار مجهولة حقيقتهم على أرباب الأفكار على أنه من المأمول أن يظفروا بكتابات جديدة في الأماكن الكثيرة التي لم تتناولها الأيدي بالحفر واستخراج الدفائن. وبعد فقد دعت هذه الأمم نفسها بالسوميريين والاكاديين وانقرض ملكهم حوالي سنة 2300 قبل المسيح وربما كانت إذ ذاك في إبان قدمها فيرد عهدها إذاً إلى ثلاثين قرناً قبل الميلاد على الأقل. الآشوريون أشور - هذه البلاد واقعة وراء بلاد الكلدان على شاطئ دجلة وهي مخصبة التربة قائمة

على تلعات كثيرة فيها وأحادير. تخترقها هضاب وتتخللها صخور. تثلج فيها السماء في الشتاء لقربها من الجبال وتهب عليها الأعاصير في الصيف. أصولهم - زخر بحر العمران في بلاد الكلدان فكان فيها أمصار عاش فيها الآشوريون خاملين في جبالهم وقد أغار ملوكهم بجيوشهم الجرارة في القرن الثالث عشر على السباسب والفدافد فأسسوا مملكة ضخمة عاصمتها نينوى. أساطير قديمة - لم نكد نعرف عن الآشوريين منذ أربعين سنة إلا قصة ذكرها ديودورس الرومي من أهل جزيرة صقلية وقيل إن نينوس بنى مدينة نينوى وافتتح آسيا الصغرى جملة واستخضعت امرأته سميرا ميس بلاد مصر وكانت من الأرباب فاستحالت بعد حمامة فخلفها ملوك خاملون مدة 1300 سنة. حوصر آخرهم في عاصمته واسمه ساردانابال فحرق نفسه ونساءه إلى ما شاكل ذلك من الأقاصيص التي قل فيها الصدق وأعوزت كلمة الحق. نينوى - هذا ما عرف عن مملكة أشور القديمة إلى أن اكتشف المسيو بوثا قنصل فرنسا في الموصل سنة 1842 أطلال قصر عظيم بالقرب من قرية خراساباد الحقيرة وقد غشيتها رمال صيرتها رابية. وهذه هي المرة الأولى التي شوهدت فيها الصناعة الآشورية بمظهرها ووجدت الثيران المجنحة بالأحجار سالمة مائلة على باب القصر. وقد جيء بها إلى باريس فجعلت في متحف اللوفر. ولقد استلفت بوثا بحفرياته أنظار أوربا فأنفذت بعثات كثيرة وخصوصاً الإنكليز. توفر بالاس وليارد على الحفر في آكام أخرى فاكتشفت قصور غير هذه. سلمت هذه الخرائب لجفاف الهواء في تلك الأرجاء وبما غشيها من طبقات التراب. ثم أنه عثر على جدران مغشاة بنقوش بارزة وصور وتماثيل وكتابات كثيرة فتسنى درس حال تلك العمارات في أماكنها وأخذت عنها صور المعاهد والنقوش. وأول ما اكتشف قصر خراساباد وهو الذي بناه الملك سراغون مكان نينوى عاصمة ملوك أشور وهي قائمة على عدة هضاب يحيط بها سور ذو أبراج مربع الأضلاع ذرعه 260 غلوة (نحو 43 كيلومتراً) وقد بني خارج الجدران بالقرمد وداخله تراب مهيل. أما دور المدينة فقد دثرت ولم يبق منها أثر ضئيل ولا رسم محيل بيد أنه ظهرت عدة قصور شادها غير واحد من ملوك أشور. وقد ظلت نينوى عاصمة الملوك إلى أن أوغل الماديون

والكلدانيون في أحشاء مملكة أشور ومزقوها شذر مذر. كتابات القرمد - يتألف كل حرف في الكتابات الآشورية من مجموع علامات على شكل سهم أو زاوية ولذلك دعي هذا الخط بالخط المسماري وكانوا يستعملونه خنجراً مثلث النصل في آخره حد مثلث الأضلاع لرسم هذه العلامات يبلونه في صحيفة من الخرف الرطب ثم يدخلونه التنور فيصير صلداً لا ينمحي أثره. وقد كشفت في قصر اسوربانيال مكتبة تامة من الصفائح قام فيها القرمد مقام الورق. الخط المسماري - غالى جملة من رجال العلم في حل هذا الخط أعواماً كثيرة فتعذرت عليهم قراءته إذ كان لأول عهده يستعمل في كتابة خمس لغات متباينة وهي الآشورية والسوسية والمادية والكلدانية والأرمنية. دع عنك الفارسية القديمة. وكانت تلك اللغات مجهولة فدامت اللغة التي نتكلم عليها الآن مشوشة كل التشويش لأسباب عديدة أهمها تكبها من خطوط رمزية ينوب كل منها مناب كلمة مثل شمس رب سمك ومن خطوط ذات مقاطع. ولأن لهذه اللغة نحو مائتي خط ذي مقاطع يتشاكل بعضها مع بعض ويسهل التباسها وإشكالها ولأن الخط الواحد كثيراً ما ينوب عن كلمة وعن مقطع ولأن الخط الواحد يقوم مقام مقاطع مختلفة بمعنى أن خطاً واحداً يقرأ ايلو تارة وآن طوراً وهو أصعب هذه الصور وأشكلها. كان هذا الخط عسراً حتى على من يكتبونه. ونصف ما لدينا من الآثار المسمارية هو كتب إرشادات من نحو ولغة وصور مما ساعد على حل النصف الآخر فتأتى الرجوع إليها في حل المشكلات على ما كان عليه شأن المتعلمين في مملكة أشور منذ 2500 سنة وقد أفلح العلماء في حل الكتابات الآشورية كما أفلحوا في حل الكتابات المصرية. فكانت لهم كتابة مستطيلة في لغات ثلاث آشورية ومادية وفارسية ونفعت الفارسية ف حل غيرها. الشعب الآشوري - فطر الآشوريون على حب الصيد والحرب وأن نقوشهم لتمثلهم مدججين بالأقواس والرماح راكبين صهوات الخيول بحيث ساغ أن يوصفوا بأنهم كماة مجال وأبطال يحسنون الكر والفر. وأن استوى في أعينهم رواحهم إلى مناوشة ومغداهم في حرب زبون. ولقد عرفوا بالخيانة وسفك الدماء فوطئوا آسيا ستة قرون وخرجوا من جبالهم يغيرون على جيرانهم. ولطالما آبوا من غزواتهم وقد أسروا شعوباً بأجمعها والظاهر أنهم

يناشبون غيرهم القتال لمحض حب السفك والتدمير والنهب فإنهم أشد خلق الله بأساً وأقساهم قلوباً. الملك - رأى الآشوريون لملكهم الخلافة عن الله في الأرض جرياً على العادة الآسياوية فأطاعوه طاعة عمياء وبذلوا في حبه مهجهم. فكان الملك عندهم سيداً مطلقاً في حكمه رعاياه مهما اختلفت طبقاتهم يدعوهم إلى حمل السلاح تحت لوائه فيقاتل بهم شعوب آسيا حتى إذا قفل منصوراً يصور مآثره على جدران قصره ذاكراً انتصاراته وما ناله من الغنائم وحرقه من المدن وذبحه من الأسرى وسلخه من أحيائهم. الحملات - إليك بعض فقرات من نشرات الحروب قال اسورنازير هابال عام 882: إنني عمرت جداراً أمام أبواب المدينة العظمى وسلخت جلود زعماء الثورة وغطيت هذا الجدار بجلودهم وقد دفن بعضهم أحياء في أسا البناء وصلب فريق آخر وجعلوا على أوتاد في الحائط وسلخت جلود كثيرين في وكسوت الحائط بها وجمعت رؤوسهم على هيئة التيجان وضممت جثثهم إلى أشكال الأكاليل. وكتب توكلابالازار عام 745 ما نصه: حبست الملك في عاصمته ورفعت كوماً من الجثث أمام الأبواب. هدمت مدنها كلها ودمرتها وأحرقتها وأقفرت البلاد وصيرتها آكاماً وقاعاً صفصفاً ينعق فيها بوم الخراب. وقال سنحاريب في القرن السابع: انطلقت كالعاصفة المدمرة فسبحت السروج والأسلحة في دماء الأعداء كلها في نهر والتراب مبلل وجمعت جثث جندهم كما تجمع الغنائم وبترت أطرافهم وقضقضت عظام من أخذتهم أحياء على نحو ما تقصف التبنة وقطعت أيديهم عقاباً لهم بما جنت أيديهم هذا وقد صورت في إحدى النقوش التي تمثل مدينة سوس وهي ترد إلى عهد اسوربانيبال وشوهدت فيها رؤوس المغلوبين يعذبهم الآشوريون وقد صلمت آذان بعضهم وسملت أعين آخرين ونتفت لحاهم. وهناك رجل يسلخ جلده وهو حي مما دل على أن أولئك الملوك كانوا يرتاحون إلي ما يتم على أيديهم من الحرائق والمذابح والعذاب. خراب المملكة الآشورية - بدأت هذه الطريقة في الحكم في القرن الثالث عشر زمن الاستيلاء على بابل وذلك نحو عام 1270 وظل الآشوريون منذ القرن التاسع يسرحون الحملات ويشنون الغارات حتى أخضعوا وإن شئت فقل خربوا بلاد بابل وسورية

وفلسطين ومصر وكان المغلوبون يثورون في غضون تلك المدة بلا انقطاع والمذابح قائمة على ساق وقدم. ثم ضعفت قوى الآشوريين واتحد البابليون والماديون فقلبوا عرش مملكتهم نينوى عاصمة بلادهم سنة 625 وهي المدينة التي سماها أنبياء بني إسرائيل عرين الأسد ومدينة الدم والغنيمة فتيسر الاستيلاء عليها وخربت فلم تقم لها قائمة بعد. قال النبي ناحوم (خربت نينوى فمن يشفق عليها يا ترى؟).

مقاصد المؤلفين

مقاصد المؤلفين الانتقاد في البشر خلة يجيدون فيه بحسب ما رزقوا من القوى العقلية واستنبطوا من الأسرار العلمية والمرء في الغالب لا يرى عيوب نفسه ويحتاج أن يدله دال معتدل عاقل عليها. وكلك المؤلف وما تأليفه إلا بضعة من نفسه وحسنة من حسناتها أو سيئة من سيئاتها. ولكن ما يسوغ للقرين أن يقوله لقرينه لا يسوغ للعامي أن يقوله للخاصي ولا للغائب أن يعرضه على الحاضر. ومن الأسف أن سرعة الحكم فاشية في المشرق مستحكمة من نفوس أهله فنرى أحد المتعلمين من أبنائه إذا ألقي إليه كتاب ينظر فيه أسطراً ويحكم على المؤلف حكمه المسمط الذي لا يقبل النقض ولا الرد دون أن يعرف مقصده أو يقرأ كتابه برمته أو مقدمته على الأقل. ولطالما كتب بعضهم تقريظاً على بعض الكتب بمجرد تلاوة صفحة من كتاب وسلق كاتبه بالسن حداد لجملة رآها فيه وربما فاته تدبر السياق والسباق وكان ما انتقده منبهاً عليه فصار الناقد ومقصد المؤلف على طرفي نقيض ينتقد عليه ما لو كان قرأ مقدمته على الأقل لما ألقى القول على عواهنه وحكم ابتساراً وافتئاتاً. وبعد فإن كتب العلم كالبضائع تعرض في السوق فتتناولها الأيدي بحسب الرغبات فكما أنه لا يحق لمن نزل السوق لابتياع ثوب أن يعترض على قماش لا يوافق ذوقه وحالته إذ أن الناس من لا يرغب في غير هذا الضرب من النسيج فإنه لا يسوغ لمن يعد نفسه من طبقة العالمين أو المعلمين أو المتعلمين أن يزيف قولاً لقائل دون النظر في المبدأ والغاية والأصل والفرع. لابد لكل مؤلف من غاية يرمي إليها في تأليفه يفهم ذلك في الغالب مما رتبوا كما قال ابن ساعد في صدر كل كتاب من تراجم تعرب عنها سموها الرؤوس وهي ثمانية: الغرض والمنفعة والسمة والواضع ونوع العلم ومرتبة ذلك الكتاب وتربيته ونحو التعليم المستعمل فيه. قال وكتب العلوم لا تحصى كثرة ككثرة العلوم وتفننها واختلاف أغراض العلماء في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف: مختصر لفظها أوجز من معناها وهذه تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني والعبارات الدقيقة ومبسوطة تقابل المختصرة وينتفع بها للمطالعة ومتوسطة لفظها بإزاء معناها ونفعها عام.

فالناظر في كتاب يقتضي عليه بادئ بدء أن يطالعه كله حتى إذا أتى على آخره ورأى المؤلف خالف شرطاً أخذ على نفسه أن يجري عليه كأن يطيل وهو يريد الاختصار أو يختصر وهو يتوخى الإطالة أو يدخل علماً في علم أو يخبط في العبارة ويخلط في الإشارة أو يركب مركباً لا يسوغ ركوبه في التأليف كأن يكون كتابه في الأدب ويودعه صنوفاً من الخلاعة والرقاعة - إذا فعل المؤلف هذا يسوغ للمطالع بعد أن يتلو كلامه حق تلاوته أن يصدر رأيه فيما طالع ويعتدل في حكمه على كل حال. كنت مرة أطالع تاريخ ابن جرير الطبري وهو في عشرين مجلداً فلم أكد أقرأ جزأين أو ثلاثة حتى كاد يعروني الملل لكثرة ما قرأته من الأسانيد ولقيته من الحوادث قبل البعثة وأكثرها مأخوذ عن الإسرائيليات معدود في نظر المحققين من الأخبار الضعيفة. فشكوت أمري لأحد الأدباء وأشرت إلى ما ألقاه من العنت والتعب فعذلني على تطلبي لمثل هذه الأسفار المطولة وعجب من توفري على دراستها والأخذ منها فما أجبته بغير السكوت إلا أنه لحظ بالحال أنني وإياه على طرفي نقيض في هذا التصور. ثم ذكرت مثل ذلك أمام إمام من أئمة العلم فأغضى عن خطابي وتلهى عن جوابي إلا أنه قال حبذا لو ظفرنا له بمختصر فإن بعض العلماء اختصروه قديماً. وما كدت أتصفح الجزء الرابع من كتابي حتى ارتاحت نفسي إليه بعد انقباضها ولانت بعد شموسها وأخذت أطالع فيه الساعات الطويلة واستفيد منه ما لم أره غيره من قبل. وأنشأت أقيم الأعذار للمؤلف رحمه الله في إطالته لأنه جعله مأخذاً للمؤرخين والمطالعين فعدَّ كتابه من الأمهات كما أنه هو من الإثبات الثقات. مضت على ذلك أيام فذاكرت الإمام المشار إليه فيما وقع في نفسي فاندفق يهدر بما جاش به صدره وأفاض في هذا الموضوع إفاضة أبانت عن ضعف المتسرعين في الأحكام على المؤلفين بما تمنيت لو كنت كلي أقلاماً تكتب ما أملاه في ساعة فمما قاله: هذا كتاب الحيوان للجاحظ ضمنه ما يلزم الطبيب والأديب فجاء عبد اللطيف البغدادي فاختصره مقتصراً فيه على ما هو أمسُّ بحاجة الطبيب وأعلق بغرضه وربما يجيء غيره فيكتفي من كتاب الحيوان بما يروق الأديب. ولما ذكرت له ما نقله الدميري من ذكر ملوك الإسلام في كتاب حياة الحيوان قال: الحق معك في ذلك لكن لا يفوتك أن الدميري ليس من علماء

الحيوان ولذلك كان كحاطب ليل جمع بين النافع والضار وما كان أحراه لو كان من أهل التحقيق أن يجرب بنفسه خواص الحيوانات التي ذكرها فقد كان يتيسر له هذا وإن لم يكن ذا إلمام بهذا الفن فيخفف من عناء قراء كتابه ويضمنه فوائد حسنة نافعة على أن كتابه على ما فيه قد وقع في أيدي فئة من المطالعين فاستفادوا منه واشتهر بينهم. قال وليس من الصواب الأخذ على المقري صاحب نفح الطيب لأنه لم يذكر في كتابه تاريخ الأندلس وما توالى عليها ولو أنعم الناقد نظره في مقدمة الكتاب بل في اسمه وأكثر أسماء الكتب تدل على مسمياتها لما حكم هذا الحكم وما كان نفح الطيب إلا كتاب أدب خص فيه بالذكر الوزير لسان الدين بن الخطيب وأورد بحسب ما اقترح عليه بعض أهل الأدب في الشام طرفاً صالحاً من نثره ونظمه واستطرد إلى ذكر بعض رجال الأندلس إلى عهده وجملة من أخبارها بالعرض. ثم قال وكذلك الحال في قلائد العقيان للفتح بن خاقان فإنه كتاب توخى فيه مصنفه إظهار الصناعة اللفظية وأن المترجمين هم من أهل حرفته فاقتصر من ترجمتهم على إيراد طرف من منثورهم ومنظومهم وليس كتابه كالذخيرة لابن بسام فإن هذا ترجم حقائقهم وقصد بذخيرته أن تكون نافعة في الوقوف على أحوال الأندلسيين وتصوير صفاتهم فإن تأفف بعض من تصفحوا قلائد العقيان وعابوا عليه خلوه من تاريخ مواليد المترجم بهم ووفياتهم فإن من الناس من لا يرتضون من مثل هذه الكتب إلا بهذه الطريقة الأدبية. ولكل فئة من المطالعين طائفة من الكتب تروقها ويستهجنها غيرها. هذا مثال في النقد السليم وقد كتب في القديم محمد بن ساعد الأنصاري كتاباً في أنواع العلوم وذكر النافع من كتبها كما كتب عبد اللطيف البغدادي مقالة في إحصاء مقاصد واضعي الكتب في كتبهم وما يتبع ذلك من المنافع والمضار وكتب الفارابي في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها واليوم علينا أن نتدارس ما انتهى إلينا من علم أسلافنا الأقدمين ونضيف إليه ما وصل إليه العلم عند أهله من المتأخرين ونتعلم عن الغربيين صحة النقد والحكم كما نأخذ عنهم العلم والفهم فليس العيب في الحركة وإنما العيب في الجمود والله يسددنا حتى لا ننطق عن هوى.

أمثال إنكليزية

أمثال إنكليزية إذا نهيأ الإنسان للشر فكثيراً ما يغلبه. اختر الزوج بما تسمعه بأذنك أكثر مما تراه بعينك. لا تتسلق علواً مفرطاً لئلا يكون سقوطك عظيماً. الحديث العادي خير مرآة لعقل الرجل وصفاته. لا تعد فراخك قبل أن تخرج من البيض. الحسود يعيش عيشة العناء ويموت موت الأشقياء. الحيلة تحتاج إلى اللباس وأما الحق فيذهب عرياناً. ذاكرة الدائن أحد من ذاكرة المدين. الأعوج بالطبع لا يستقيم بالتربية (الطبع غلب التطبع). أجسر على عمل الخير ولو هزأ الناس بك. الازدراء بالعدو يهيجه. تبصر ملياً ثم أجر حالاً. اليأس يصير الجبان شجاعاً. البراعة تأتي من الخبرة. اختلاف القروح يوجب اختلاف المراهم. أحسن إلى من يسيء إليك فتغلبه. اعمل ما عليك وليأت ما يأتي. ما السكر إلا جنون اختياري. السكر يخرج الإنسان من نفسه ويتركه بهيمة في مكانه. التهذيب يجلي الطبائع الصالحة ويصلح الطبائع الشريرة. ليس كل اثنين زوجاً. خير ما يتعلمه الإنسان بالاقتداء وأحسن الأعمال يأتي بأحسن الأصدقاء. لكل نهار ليل ولكل مسرة حزن. لكل مد جزر. لا يصلح كل عالم للتعليم.

كل امرئ يحب العدل في بيت غيره ولا يبالي به في بيته. كل إنسان ينسب ذنوبه للدهر. ليكنس كل واحد قدام بيته. كل خطأٍ حامل قصاص نفسه. لكل أمر زمان يجب رصده. الخبرة أم المعارف. الجبان لا يربح أبداً. المدح الضعيف تبخيس. لا تخاصم صديقاً لأمر طفيف. الصديق الكاذب شر من العدو الظاهر. الشهرة كالنهر ضيقة عند المصدر واسعة عند البعد. النار المشتعلة بالمنفاخ والحب المغصوب لا ينفعان. لا تخش إلا العار واقتحم كل أمر إلا الضرر بالناس. الولائم حصاد الطبيب. دبدب أولاً ثم امش. استحق أولاً ثم تمنى. التمليق يجلس في صدر المكان وقول الحق يطرد إلى الخارج. آثر متابعة العقلاء القليلين على متابعة الجهلة الكثيرين. الجهال يفتحون آذانهم للتدليس ويغمضون عيونهم عن الحق. الجهال يعقدون العقد والحكماء يفكونها. القوة قد تغلب ولكن المحبة هي التي تربح فمن سامح أولاً نال الفوز. الحظ السعيد يقرع باب المرء ولو مرة واحدة. إذا لم يصل الثعلب إلى العنب قال أنه غير ناضج. الصداقة هي الوردة الوحيدة التي لا شوك لها. كلما صادقت الصداقة تمكنت.

الصداقة تزيد الأفراح وتشطر الأحزان. من لا شيء لا يأتي شيء. من أسلافنا يأتينا الاسم ومن أعمالنا تأتينا الكرامة. ربح المال أهون من حسن التصرف به. اربح عادلاً وأنفق رضيناً واعط بشوشاً وعش راضياً. إذا هيأت المغزل أرسل الله لك الغزل. إذا أعطيت اللئيم إصبعك أخذ يدك كلها. أبطئ في الذهاب إلى ولائم أصدقائك وأسرع إليهم في مصائبهم. بيروت يوحنا ورتبات

كتاب مادي

كتاب مادي بعث إلينا حضرة العالم الألمعي رفيق بك العظم بما يأتي: جاءني كتاب من ذي قرابة لي سائح في أميركا بلاد العجائب توخى فيه وصف الأشياء المادية التي لها مساس بترقي البلاد المادي دون المعنوي أي الشؤون الاقتصادية التي تفيد المهاجرين إلى تلك البلاد الشاسعة والبعيدين عنها أيضاً فرأيت أن أبعث به إليك حتى إذا رأيته نافعاً لقراء المقتبس تتكرم بنشره فيها ليرى الناس كيف يعيش ذلك الشعب الراقي في بحبوحة السعادة والراحة والغنى وكيف يحاول ذلك العالم الجديد أن يبتلع في جوفه قسماً كبيراً من العالم القديم بما يمتُّ به إليه من وسائل الكسب بالطرق العلمية النافعة وبما يشمل به النازحين إلى تلك البلاد من حقوق الوطنية الأميركية بعد مضي خمس سنين على المقيم فيها من الأجانب وكيف يعلم الشعوب دروس الآداب العالية والعلم الصحيح والاقتصاد النافع. ففله در ذلك الشعب ما أعظم همته، وأبعد في الأمور نظره، فإنه ولا نكران للحق حقيقي بالثناء، حري باقتداء الأمم به، والله أعلم بما يكون له من الشأن، ما في مستقبل الزمان، وإليك نص ذلك الكتاب: يأتي الولايات المتحدة كل سنة عدد عظيم من مهاجري أوربا وقد بلغ عدد المهاجرين في السنة الماضية نحو مليون نسمة فيهم قليل من الأرمن والروم والسوريين. ومعظم هؤلاء النازحين عبارة عن أخلاط همج من الناس لا يعرف أكثرهم الكتابة والقراءة، ولا يفقهون معنى للتربية، ولا يقيمون وزناً للأدب، وفقرهم مدقع، وعيشتهم ضنكى. تراهم بعد وصولهم إلى هذه البلاد بقليل في حال حسنة من السعادة والرفاهية. وأن بعضهم ليجني ثروة جسيمة وما ذلك إلا لانتظام الأحوال وكثرة الأعمال. ولقد زادت ثروة الأمة الأميركية وتوفرت الأشغال حتى أنك لتجدها في حاجة شديدة إلى عملة أبداً فكل فرد ينزل بينهم رجلاً كان أو امرأة يجد ما يشغله ويقوم بمعاشه وزيادة. فيأخذ العامل الغريب خمسين ريالاً مشاهرة على الأقل. وأقل أجرة يتناولها العامل الأميركي خمسة وسبعون ريالاً في الشهر (وقيمة الريال الأميركي كقيمة الريال المصري) وهذا جدول أجرة العامل هنا وهو أقل راتب شهري يناله: فمشاهرة العامل الغريب 50 ريالاً والحوذي 60 والطاهي (الطباخ) البسيط 50 والطاهي المرتقي 150 وأجير الحلاق 60 والنجار البسيط 80 والدهان 100 والبناء 100 والكاتب البسيط 50 والشرطي

(بوليس) 90 وسائق الترامواي 60 وأدنى مستخدم في السكة الحديدية 75. وأسباب المعاش سهلة ورخيصة للغاية فالعامل الغريب يعيش بإنفاق ربع ريال إلى نصف ريال يومياً عيشاً طيباً إذ التسهيلات الموجودة هنا لراحة العيش لا أثر لها في بلادنا ولا في مصر ومن ذلك يتضح لك أنه ليس في الأمة الأميركية فقير. وأفقرهم أحسن حالاً من بك في بلادنا. ويجب أن يكون سن الغريب الذي يود الهجرة إلى هذه البلاد دون الستين وأن يكون قوي الجسم سليماً من الأمراض وإلا فلا يباح له الدخول وأن يكون معه يوم خروجه إلى البر من النقد نحو 50 ريالاً أو يكون له قريب أو صديق في البلاد يقبله ويكفله وعلى كل حال ينبغي له أن يفيدهم أنه جاء ليعمل. وعلى من أراد أن يفلح من المهاجرين أن يكون سنه الثلاثين وذا إلمام قليل بالإنكليزية وأن يدخل إحدى المدارس الصناعية لدن وصوله إلى نيويورك يختار ما يشاء من الصنائع. وهنا مدارس للصنائع على أنواعها وأقل مدة للتخرج بصناعة الحلاقة فإنه يمكن إتقانها في شهرين وأكثر مدة تصرف لتعلم صناعة الهندسة ثلاث سنين فينال المهندس سوم خروجه من المدرسة مائتي ريال راتباً شهرياً على الأقل. ومدة تعلم الصنائع الأخرى بين سنة وسنتين من مثل دهان وحداد ونجار وكاتب تجارة ومستخدم في إدارة الأسلاك البرقية وكاتب أداة كتابية وغير ذلك ومنها أشغال يدوية وأشغال عقلية. وزبدة القول أن البلاد بلاد عمل ومضاء لا بلاد كسل ووناء. يعتبر المرء من البلاد عندما يدوس أرضها ويصبح مساوياً لغيره في الحقوق. والأمة هنا متساوية في حقوقها لا فرق بين كبير وصغير ولا تمييز بين العناصر والنحل فيصير بائع الفحم أو تاجر المسكرات رئيساً للولايات ولا عيب عندهم سوى أمور معلومة أولها البطالة. فكل فرد رجلاً كان أو امرأة يعمل ويجد حتى أنك لا تجد هنا محال للقهوة كما هو الحال في بلادنا إذ ليس هناك عاطلون عن العمل يجلسون فيها - وثانيها السرقة والمتاجرة بالعرض وما عدا ذلك فكل صنعة شريفة بدون استثناء. وبعد أن يقضي الغريب في البلاد خمس سنين ينال حق التابعية الأميركية ويكون كذلك هو وأحفاده. في أي بلد كان وأما إذا غادر البلاد قبل قضاء هذه المدة فيعود إلى تابعيه.

يقضى هنا على كل ولد ذكراً كان أو أنثى أن يختلف إلى مدرسة حية إلى السنة الثامنة عشرة من عمره والمدارس كلها مجانية حتى أن الأولاد يعطون فيها الكتب والأوراق بلا عوض فلا عذر إذاً للوالدين في عدم إرسال الولد. ويجازى وليه إذا لم يبعث به إلى المدرسة. والتعليم خال من كل نزعة دينية وقد طالعت كتبهم المدرسية للسنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فلم أجد فيها ذكراً للأديان حتى ولا اسم الدين المسيحي أو عيسى أو الكنيسة أو العبادة وكتبهم عبارة عن حض الولد وبعثه على العمل والرغبة عن البطالة وعمل الخير للإنسان والحيوان والصدق والاستقامة. والحق يقال أن أصول هذه التربية ناجحة عياناً لأن الكذب والنفاق والتدليس والسرقة لا وجود لها في الجنس الأميركي على العكس من ذلك في بلادنا. والنساء الأميركيات أعفُّ من نساء مصر والأستانة على جمال فيهن وحسن بزة وشارة. ولكنه هو الجمال الذي زانه الكمال والحسن الموصوف بالاعتدال. ولاشك عندي أن هذه الأمة أرقى الأمم خَلقاً وخُلقاً. أما التعليم الديني فأمره راجع للأسرة يتعلم الولد دينه من أبيه وأمه خارج المدرسة. والدين الغالب هنا بعض مذاهب البروتستانت. زرت كثيراً من مدارس الفقراء فوجدتها أحسن بكثير من مدارس نيشان طاش وبشكطاش أعني محال الأكابر في الأستانة ولا نسبة بينها. وشاهدت مدرسة لتعليم صب الرصاص مدة التعليم فيها من سنة إلى سنتين وينال المتعلم 150 ريالاً راتباً شهرياً بعد إتمام تعلمه ومدرسة فن إصلاح الساعات. ومما شاهدته هنا وعددته من غرائب العقل الأميركي أن ابنة فرنسية حضرت معنا في الباخرة من فرنسا هاربة مع رجل فرنسي تود الاقتران به خلافاً لرضا والده وبعبارة أوضح هرب الرجل معها لأنه لا يجوز للرجل في فرنسا الزواج قبل بلوغه السادسة والعشرين من غير رضا وليه وإذ كان سن الولد دون ذلك اضطر أن يحضر مع خطيبته إلى أميركا ولما خرجنا إلى البر منعت الحكومة خروج الابنة وطلبوا إليها أن تعين ولياً يكفلها لان خروج النساء بدون ولي ممنوع لئلا يدخل الفاسدات فاضطر الشاب أن يخبرهم بجلية الأمر فقالوا أنهم يريدون عقد النكاح في الحال فما هو إلا أن أتى محرر المقاولات وعقد له عليها في خمس دقائق وأخذوا نفقة على ذلك ربع ريال. فانظر إلى هذه التسهيلات

في نظام الزواج هنا. وكل أنثى بعد سن الثامنة عشرة وكل ذكر بعد سن العشرين يحق لهما الزواج ولو بدون رضا وليهما ولا تسأل الحكومة من جنسية ولا عن دين ولقد قرأت منذ أيام إعلاناً وأظن ناشره غنياً بأنه يدفع سبعة وثلاثين ألف ريال لكل حرمة توفق إلى الهرب من إحدى قصور العظماء في الشرق وترضى بزواج أحد التبعة الأميركية. ومما شهدته هنا من العادات المستحسنة عند الأمريكان النظافة فإنه يوجد في كل بيت عادةً حتى في بيوت أفقر الفقراء حمام بالماء الساخن والبارد وأنك لترى أولاد العملة في هذه الديار أجمل منظراً وأحسن ملبساً وأنظف جسماً من أولاد أكابر بلادنا بمعنى أن أولاد العملة هنا يعادلون أولاد أكابر الأستانة ومترفيها وأما أولاد أكابر سورية فهم أدنى بكثير من أولاد أفقر الفقراء. ومن عاداتهم المستحسنة في معظم البلاد هنا أن الحانات تقفل أيام الآحاد لئلا يتمكن العملة من الانهماك في شرب المسكرات وهم مشغولون بأعمالهم سائر أيام الأسبوع ولا يوجد الأحد حانة للسكر. ويحظر بيع النبيذ والجعة (البيرة) يوم الأحد والبائع الذي يخالف ذلك يعاقب وهم يعتبرون النبيذ والجعة من المشروبات المضرة. أما محال لتمثيل فإنها مرتقية أكثر من أوربا وأرخص أجوراً حتى أنك لترى في بعض الملاعب مائة فتاة يرقصن معاً وأجور الفرجة رخيصة للغاية. صدر عن مدينة سنت لوي في ولاية ميسوري

تخميس قصيدة الوزير أحمد بن زيدون وهي التي

تخميس قصيدة الوزير أحمد بن زيدون وهي التي كتب بها إلى ولادة بنت المستكفي بالله في قرطبة كانت أشعتكم تجلو دياجينا ... وقربكم عن شؤون الدهر يسلينا فبعد ما لعبت خمر الهوى فينا ... أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا أمسى لنا الغم إلفاً لا يبارحنا ... والأنس صار عدواً لا يصالحنا يا من خبت في تنائيهم مصابحنا ... بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا لئن تكن حجبت عنكم نواظرنا ... فما خلت ساعة منكم سرائرنا وإذ تحن إلى النجوى خواطرنا ... يكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا حب قديم به أرواحنا اتحدت ... وجمرة للتلاقي طالما اتقدت حتى إذا باللقا نار الجوى بردت ... حالت لبعدكم أيامنا فغدت سوداً وكانت بكم بيضا ليالينا لم ندر يوم سعدنا في تعرفنا ... أن الشقاء وراء السعد قد دفنا آها على زمن بالحظ مسعفنا ... إذ جانب العيش طلق من تألفنا ومورد اللهو صافٍ من تصافينا هل نرتجي زورة للنفس شافيةً ... وهل تعود لنا الأيام صافية قد كان إذ كانت الأقدار راضية ... وإذ هصرنا غصون الأنس دانية قطوفها فجنينا منه ماشينا لله ساعات أنس عندما التأم ... شمل الهناء بكم والوجد مانأما سقيتمونا بماء اللطف ريَّ ظما ... ليسق عهدكم عهد السرور فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينا الدهر جرَّ علينا في رواحهم ... ذيول ذل فهل هم بانشراحهم لم يعلموا ما دهانا من براحهم ... من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم

حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا نفرُّ من نكد الدنيا فيدركنا ... يخني على صفونا حيناً ويتركنا بالوصل والفصل يحيينا ويهلكنا ... إن الزمان الذي مازال يضحكنا أنساً بقربهم قد عاد يبكينا كم مرة جاءنا حسادنا ونعوا ... لنا الوفاء وفي قطع الصلات سعوا وإذ تبين أن العاشقين رعوا ... غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا بأن نغص فقال الدهر آمينا دعوا لدى الدهر في تنكيس أرؤسنا ... وحرَّضوه على تفريق مجلسنا حتى تصدى إلى تكدير أكؤسنا ... فانحل ما كان معقوداً بأنفسنا وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا ما كان يهجعنا أضحى يؤرقنا ... والمزدري صار بالإزراء يرمقنا فالدهر يومان مروينا ومحرقنا ... وقد نكون وما يخشى تفرقنا فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا كل الورى لم نجد فيهم شمائلكم ... وهب وجدنا فما كنا لنبدلكم إنا وإن أقصت الأيام منزلكم ... لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم رأياً ولم نتقلد غيره دينا لو أن أيامنا فيكم تخيرنا ... لاختار قرَّتهُ بالقرب نيرنا لكنما حادث الدنيا يسيرنا ... لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا إن طال ما غير النأيُ المحبينا طنَّ الوشاة إذا ما شملنا انفصلا ... أن يدركوا من تراخي حبنا أملا خابوا فلو أدركت أجسادنا الأجلا ... والله ما طلبت أرواحنا بدلا منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا قصر سهرنا على أنوار كوكبه ... وفيه ورد الهوى فزنا بأعذبه دعنا على الوجد نقلى في تلهبه ... يا ساري البرق غادِ القصرَ فاهق به من كان صرف الهوى والود يسقينا

إن كان أحبابنا اُّنسوا محبتنا ... وحتفنا عندهم يجري مودتنا فيا عذاب النوى عجل منيتنا ... ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا من لو على البعد حياً كان يحيينا يا ظبية لم تذقنا طعم نفرتها ... حرصاً على عيننا من فقد قرتها يا كرمة كم تمتعنا بخمرتها ... ويا حياة تملينا بزهرتها منىً ضروباً ولذات أفانينا هل يرجع القمر الزاهي لدارته ... فتنجلي ظلمات باستنارته عد يا صفاءً رتعنا في نضارته ... ويا نعيماً رفلنا من غضارته في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا كانت بطلعتك الأرواح منعمة ... ومنك كانت كؤوس الصفو مفعمة يا من هوانا بها أضحى لنا سمة ... لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا أوصافك الغر ما مرَّت على شفةٍ ... إلا غنيت بها عن كل معرفةٍ بقامة في تثنيها مهفهفةٍ ... إذا انفردت وما شوركت في صفةٍ فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا الشعر يروي منِ الهجرانُ أظمأهُ ... وأن تلاه عليل القلب أبرأه قريض شوق نظمناه ليقرأهُ ... ربيب لطف كأن الله أنشأه مسكاً وقدر إنشاء الورى طينا صبابة في النوى ناءت بكلكلها ... وأين آخرها من طيب أولها يا رشفة عهدنا نابٍ بمنهلها ... يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها والكوثر العذب زقوماً وغسلينا على الصفا سحبت ذيلا كوارثنا ... فزال عاقدنا واختال ناكثنا مرت كقبسة عجلان حوادثنا ... كأننا لم نبت والوصل ثالثنا والسعد قد غضّ من أجفان واشينا في خلوة ما بها إلا تتيمنا ... نارٌ ولا نأمة إلا تكلمنا

كأننا وعفاف القلب يعصمنا ... سران في خاطر الظلماء يكتمنا حتى يكاد لسان الصبح يفشينا أفكارنا مع خيالات الغرام لهت ... وبعدكم لسواكم قط ما انتبهت بالحزن والذكر والأشجان قد ولهت ... لا غروَ أنا ذكرنا الحزن حين نهت عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا الطيفُ في النوم يرضينا إذا عبرا ... إذ عزت العين صرنا نطلب الأثرا لا تعجبوا إن صبرنا نحمل القدرا ... إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا نرضى الهوان بديل العز أكملهِ ... والجسم ينحل سقماً من تحملهِ ونرتضي وشلاً عن فيض جدولهِ ... أما هواك فلم نعدل بمنهلهِ شرباً وإن كان يروينا فيظمينا لذنا من البعد في ما ليس نرغبه ... حين اللقاء علينا عزَّ مطلبه فؤادنا أنت دون الخلق مأربه ... لم نجف أفق جمال أنت كوكبه سالين عنه ولم نهجره قالينا أعرضتِ عنا وأعرضنا على وصبِ ... نكتم الناس ما في القلب من لهبٍ فما اتخذت تجافينا بلا سببٍ ... ولا اختياراً تجنبناك عن كثبٍ لكن عدتنا على كره عوادينا ضاقت على رحبها الدنيا فلا سعةً ... تحوي فؤاداً وأحشاء مقطعة نأسى إذا الشمس جازتنا مودعة ... نأسى عليك إذا حثت مشعشعة فينا الشمول وغنانا مغنينا لا شيء يسكن شيئاً من بلابلنا ... ولا نرجي عزاءً من وسائلنا ظعائن الأُنس شالت عن منازلنا ... لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا سيما ارتياح ولا الأوتار تسلينا عين السعود لنا كانت ملاحظةً ... عند اللقاءِ وعين الضدّ جاحظةً لئن تدم برحاء البعد باهظة ... دومي على العهد مادمنا محافظةً

فالحرُّ من دان إنصافاً كما دينا لا نغمة العود والقانون تطربنا ... ولا وجوه عذارى الحي تعجبنا نرضى بوحدتنا والغم يصحبنا ... فما ابتغينا خليلاً منك يحسبنا ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا نصبو إلى موطن في ظل أربعهِ ... لنا حبيب كواه حرُّ أدمعه فالقلب عندك أضحى جلُّ مطمعهِ ... ولو صبا نحونا من علوِ مطلعهِ بدر الدجى لم يكن حاشاك يصيبنا دموعنا عندما تجري مسلسلةً ... تتلو عليكِ أحاديثاً مفصلةً إن لم تكن ساعة اللقيا مؤملةً ... أو لي وفاء وإن لم تبذلي صلةً فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا هذا الكتاب سفير عن مرتبهِ ... في طيه شرح شيء من تعذبه فرددي درسه ترديد منتبه ... وفي الجواب قناع لو شفعت به بيض الأيادي التي مازلت تولينا قولي السلام على روح بنا لقيت ... رياً ومن سلسبيل الغير ما سقيت تحية منك تحيي مهجة شقيت ... منا عليك سلام الله ما بقيت صبابة منك نخفيها وتخفينا دمشق فارس الخوري

الفقراء والأغنياء

الفقراء والأغنياء يأسف الإنسان وتأخذه الحيرة والدهشة عندما يرى أبناء جنسه بين فقير يكاد يموت من جوعه وعريه وغني أغرق في الترف والسرف فصار لا يعرف كيف ينفق ماله ويتزين بألوف الجنيهات. ربُّ عيال عاجز عن كسب القوت الضروري فقير وقير يسعى وراء الرزق فلا يصل إلى ما يتبلغ به إلا بشق الأنفس وقد ترافقه زوجه فتعاني أنواع العذاب. يعللان النفس بالأماني ويقضيان الحياة وسعادتهما أن يجدا الخبز القفار أو البصل أو البطاطا. يسكنان مع أولادهما في غرفة تريد أن تنقض من دار متداعية تملؤها القذارة والعفن يلتفتون بلحاف واحد لم يمسسه صابون وهو على أشكال غريبة ورائحة تستكره مرقع ممزق. وينامون على فراش أخشن من الأرض حشي بقطع الخروق البالية الرثة هذا إذا لم أقل أنهم يضطجعون على الأرض ويصطلون نار عيدان جمعوها من الأزقة والبساتين يستضيئون بلهيبها أو بسراج لا زجاجة له وربما لا يجرؤون على إطلاق الفتيل مخافة أن ينفذ الزيت فإذا مرض الأب أو الأم أمست العيلة بلا طعام ولا إدام - هذه هي حالة الفقير وبينا ترى الأبوين باكيين شاكيين من ألم الفقر تجدهما يقبلان أبناءهما بحنان من وراء الغاية فيفرحان لضحكهم ويحزنان لبكائهم ويضمانهم إليهم ليدفعا عنهم ألم البرد. هذا حال الفقير وهو يكاد لا يتخلف في قطر عن غيره إلا قليلاً. والفقر في الغرب أسوأ حالاً منه في الشرق على حين ترى الغني هناك يبذر من المال ما لو جمع لكفى ألوفاً من المعوزين. ولقد قرأت في إحدى المجلات أن الغنية إذا دعيت في الغرب إلى مرقص تلبس فستاناً من أجود الحرير خاطته أشهر الخياطات لا يقل ثمنه عن مائة وخمسين جنيهاً وتلبس تحت هذا الفستان شعاراً (خراطة) قيمته سبعة جنيهات ومشداً بجنيهين وقميصاً ولباساً بسبعة جنيهات ونصف وجوارب بجنيه ونصف وحذاء بثلاثة جنيهات ونصف وقفازين بجنيه بحيث يبلغ مجموع ذلك 172 جنيهاً وزيادة. فإذا ذهبت العقيلة أو الآنسة إلى المرقص بهذه البزة الجديدة والشارة الحسنة تضع على عنقها فروة تساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه وقد تضع على رأسها تخاريم (دانتيله) من عمل قدماء البنادقة. وشأن هذه التخاريم الانتقال من عقيلة إلى أخرى يتساومن عليها ويتبارين في اقتنائها. دع عنك ما تكمل به زينتها من وضع طوق من اللؤلؤ في عنقها يساوي سبعة آلاف جنيه ووضع تاج من الماس ثمنه خمسة آلاف جنيه وخواتم تلبسها في أصابعها لا يقل ثمن الواحد منها عن

خمسة آلاف جنيه ولا تسل عن الإبر والأمشاط والأقراط. وبالجملة فإن الغنية في أوربا تتجمل بما لا يقل عن خمسمائة ألف فرنك. وجاء في مجلة فيمنيا أن عقيلة ماكاي الغنية الأميركية في نيويورك دعت صويحباتها إلى مرقص شرطت على المدعوين والمدعوات أن يلبسن أزياء القرن الثامن عشر وكانت تلبس فستاناً محلى بالأحجار الكريمة يساوي خمسين ألف دولار أو مليونين ونصف من الفرنكات لتفوقهن بزينتها وحسن بزتها وقرأت في مجلة فرنسية أن كايكوار بارودا لما استقبل حاكم الهند اللورد مينتو كان متوشحاً بلباس عليه من الأحجار الثمينة ما يساوي 250 ألف فرنك وكان في الحضور المهراجا كافاليور ذاك الفتى الغني الذي لا يعلم مبلغ ثروته وعلى رأسه تاج مزدان بالماس واللؤلؤ والزمرد يساوي ثلاثة ملايين فرنك. ولا تسل عن بذخ الأغنياء في نيويورك وما يصرفونه في تزيين قصورهم وحسن خدمتها. وهكذا تجد أولئك الأغنياء يتحلون بالملايين ويصرفون الألوف من الجنيهات ليفاخروا ذلك البائس الفقير ويشولوا بشعرات أنوفهم ويزيدوا قعس صدورهم. ومن العجب العجاب أنك ترى أولئك الأغنياء متألمين شاكين من حالتهم على أنك تجد ذلك الفقير حامداً شاكراً لا هم له سوى كسب ما يسد به رمقه. وهنا مجال ليقال إن الهيئة الاجتماعية كلما ارتقت في مضامير الحضارة زادت مصائب الفقراء وخطت فراسخ وأميالاً واشتدت تباريحهم وأوصابهم. فسبحان المسعد المشقي. دمشق شكري العسلي

صحف منسية

صحف منسية كتب القاضي الفاضل إلى العماد الكاتب وردت مكاتبات كنّ من المجلس العمادي أعزه الله وأكرمه حسنة استفيدت من أثر منقول، وخبر مقول، فأثيب راويه وناسخه، وشكر سارقه ومنتحله وسالخه، وعلى هذا الذكر فإن كان سيدنا تمم التاريخ الناصري فيصل ما عندي منه، ويكمل ما أنعم به، وتركته في دمشق انتظاراً لكماله، وغيرة على تلك المحاسن، أن يتناولها البلاغ، قبل أن تبلغ الفراغ. العدل (كذا) وصل حفظه الله وثقل ثم منَّ الله بعافيته ووهبها، وأتى بلطيفة من لطائف صنعه ما حسبها، وعلى ذكر المرض فالخواطر مشغولة بأمر سيدنا في هذا الإقدام الذي أقدم فيه على نفسه، وحكم الحديد في جلده، ومتى صارت له هذه الجسارة بعدي، وفديته وفدته أحباؤه فإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي، وقد كان الصبر على تطاول المرض، أولى من هذا الهجم على هذا المضض، وما أخشى إلا أن يعسر التحامه، وتتمادى أيامه، فإما العاقبة فغير مخشية ولله الحمد، فيعرفني سيدنا ما استأنف من التدبير فيما بعد. وكتب إليه: وصل كتاب المجلس أدام الله أنس السعادة بأيامه، والملك بأقلامه، ولا حرم الإخوان منه منة اعتزامه، ومؤونة التزامه، ولا برح التوفيق مجزلاً بسهامه، ومسدداً لسهامه، ومساعداً لمراميه، ومساعفاً لراميه، (كذا) وهذا الكتاب المؤرخ بيوم السبت مستهل ذي القعدة أحسن الله فاتحته ومنصرفه، وكشف الضر الذي نؤمل من رحمته أن يكشفه، وكتبه مضمار الأوصاف المرتكضة، وكنوز الخواطر المقترضة، ولما كانت الصدور منشرحة، والنفوس مروحة، كنا نأخذ منها أوصافها، ونعيد إلى كرمتها سلافها، فإما والخطرات معتقلة، والنفوس على همومها مشتملة، فقد ضاق فتر عن مسير، وكاد ينقلب البصر خاسئاً وهو حسير. وعرف ما شرحه المجلس فلو أن ما نحن فيه من الجرح يدمله غير العافية لكان شرحه يدمله، أو لو أن ما بالقلوب من الأسى يرحل بغير بشرى الصحة لكانت ألفاظه ترحله، وعلى ذلك فلو كان الدهر يقاتل بسلاح لقوتل بسلاحها، أو لو كانت جبال الهموم تذرى برياح، لكانت تذرى برياحها، والنفس واثقة بلطف الله تعالى وبما عود، وأن البشارة إن لم تكن في اليوم كانت في الغد. وكانت الألفاظ العمادية كأياديها، وقد جاءت مجيء مسبل الغمام العام، وأضاءت بوارقها فأخجلت ما شام الشام، وتجلت ليالي الهموم

منها بأنفذ أمر عليها من أنوار الأيام، ولكن إلى أن تأتي هذه الكتب قد عفت العيون فكيف منامها، وطلقت العرائس التي تزفها أحلامها. وبالجملة فكل خبر وإن أزعج والعياذ بالله فهو دون ما نظن إذا تأخرت الكتب فتداركونا بها ولله أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، والله تعالى يجعل الخير فيهما، ويعيذنا من جوالب أعمالنا، ونواقص آمالنا، وقد اكتنف بي همان أحدهما أمر العلة، والآخر تأخري عن الخدمة، فأعذاري وإن اتسعت فقد ضيقتها على الحقوق الواجبة، وأخرست لساني عن المحبة الغالبة، وبالله أقسمت أن المشاهدة للآثار وإن كانت رائعة، أروح من التوقع للأخبار وإن جاءت سارة، فأنتم فيما هو أروح، وإن كانت لكم المنة، ونحن فيما هو أبرح، وإن كانت علينا الحجة. وأنا أستحسن قول الشاعر. لولا تمتع مقلتي بلقائه ... لوهبتها لمبشري بإيابه لو علمت أن الحياة مع الحركة تحملني إلى أول نظرة لشريتها وما غلت، وسرت وما بعدت، وتجشمت وما شقت، ولكن لست واثقاً والله بالتماسك. ولعل المسألة تقرب، والوقت يطيب، والثلج يرتفع، والطريق يسلك، والأرجاف ينقطع، والضعف الذي أنا عليه يقف، والله المستعان إن شاء الله تعالى.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الجواب الصحيح شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني أعظم عالم بالسنة وهو في الإسلام كلوثيروس في النصرانية من التوفر على الدعوة إلى الإصلاح إلا أن الأول أعلم والثاني أحكم. ولقد توفر ابن تيمية على الإصلاح الديني ببث الدعوة من طريق التأليف والرد على المبتدعة والمخالفين فعدت تآليفه ورسائله بالمئات وكلها آية في انسجامها غاية في نفعها وفيها تقرأ بعض ما خص به هذا الإمام من المواهب التي قل أن يطمح إليها فرد فذ في أمم كبيرة وقورن كثيرة. وكانت تآليفه رحمه الله بحسب الحاجة والدواعي. ومعظم المخلصين من المؤلفين يضعون تآليفهم على هذا النحو مدفوعين بتلك العوامل. ولما ورد من قبرص على عهد المؤلف - وكان يتنقل من دمشق إلى مصر - كتاب فيه الحجج السمعية والعقلية لدين النصرانية ألف كتابه هذا الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جعله فصل الخطاب في هذا الباب. وظل هذا المصنف منذ القرن الثامن للهجرة إلى يوم الناس هذا مطوياً في الخزائن لا يتداوله غير خاصة أهل العلم حتى استرسل دعاة البروتستانت مؤخراً في بث دعوتهم ولاسيما في هذا القطر فانتدب حضرة الفاضل الشيخ مصطفى القباني إلى طبع هذا الكتاب الجليل يقابل به تلك المؤلفات الضخمة والرسائل الكثيرة التي وضعها المرسلون. وبهذا رأيت أن تأليف الكتاب كان لباعث قوي ونشره بين الخاصة والعامة كان لباعث أقوى. ومن يرجع إليه يعلم مبلغ علم المؤلف واطلاعه على الديانات والنحل ووقوفه على السنة وتاريخها وتأدبه مع مخالفيه ولا عجب فهو هو نسيج وحده وغرة جنسه. أما الطابع فمن الرجال المولعين بإحياء مآثر السلف والعاملين على نشر أعمالهم فقد طبع إلى اليوم من الكتب الممتعة من تآليف أئمة الأمة ما يبيض الوجوه. ومما طبعه من كتب حجة الإسلام الغزالي محك النظر، والاقتصاد في الاعتقاد، والقسطاس المستقيم، وفيصل التفرقة، والحكمة في مخلوقات الله. ونشر أيضاً آراء المدينة الفاضلة للفارابي. وما بعد الطبيعة لابن رشد. وتأسيس النظر للدبوسي. والكلم الروحانية لابن هندو وغيرها. فنشكر له تحفته الأخيرة ونثني على عنايته بتبويب الجواب الصحيح وتصحيحه وهو في

أربع مجلدات تتجاوز صفحاتها 1300 صحيفة من قطع الوسط وبحرف صغير ومطبوع طبعاً جيداً على ورق صقيل كسائر مطبوعاته وقد جعل ثمنه عشرين قرشاً أميرياً ويطلب من محله بخان الخليلي بمصر ومن سائر المكاتب الشهيرة. رسائل القاضي الفاضل عرف القارئ من ترجمة القاضي أن رسائله بلغت مائة مجلد بعضها خاص وأكثرها كتب عن صلاح الدين يوسف ولم أظفر له إلا برسائل قليلة مفرقة في كتب التاريخ والأدب وكان من حقها أن تشتهر بين العالمين والمتأدبين كما اشتهرت رسائل أبي بكر الخوارزمي وأبي الفضل بديع الزمان الهمذاني وأبي اسحق الصابي وغيرهم من كتاب الرسائل أيام ارتقاء ملكة البيان العربي. ولقد ظفرت في خزانة كتب المدرسة الكلية السورية في بيروت بمجلد ضخم من القطع الوسط من رسائل الكاتب المشار إليه كتب في القدس سنة 683 فيه جانب من رسائله ومعظمها مما كتبه لعماد الدين الكاتب الأصفهاني صديقه بل صنيعته. وعلمت أن أحد الأدباء في بيروت سيطبعه على نفقته وعساه يوفق إلى ذلك ويعنى بطبعه وتصحيحه وتعليق حواشي عليه إن أمكن على نحو ما يصنع الغربيون عندما يريدون أن يطبعوا لنا كتاباً. صناعة إنشاء العرب للعالم اللوذعي الأستاذ الشيخ أحمد الهاشمي نفس طويل في خدمة الأدب واللغة اشتهرت مؤلفاته بين ناشئة هذا القطر لما اشتهر عنه من معاناة هذا الفن علماً وعملاً. وقد أتحفنا الآن بالطبعة الرابعة من كتابه جواهر الأدب في صناعة إنشاء العرب جمع فيه كل شاردة نافعة وحكمة رافعة وأبيات ومقامات وروايات ومكاتبات ممتعة لقدماء الكتاب والشعراء ومحدثيهم مما يفيد طالب هذه الصناعة الشريفة في النسج على منوال أهلها. أجاد في الاختيار ما شاء وشاء ذوقه فجاء كتابه نافعاً في بابه لاسيما وفيه نموذج من إنشاء بعض المعاصرين وخصوصاً من المصريين أمثال عبد الله فكري وتوفيق البكري وعبد الله نديم ومحمد عبده وحفني ناصف وحمزة فتح الله وإبراهيم اليازجي وشكيب أرسلان ومحمود أبو النصر وحسن توفيق وأحمد سمير وسلطان محمد وأحمد مفتاح وطه محمود ومحمد دياب

ووفا محمد ومصطفى نجيب وعبد الكريم سلمان وعبد العزيز جاويش وحافظ إبراهيم واحمد شوقي وعلي الليثي وطنطاوي جوهري وغيرهم. وعدد صفحات الكتاب 655 صحيفة مطبوع طبعاً نظيفاً ومشكول بعض محال الأشكال منه ومعلق عليه شرح لغوي ينتفع به الطالب فلجامعه منا أعظم ثناء. مقامات الحريري أهدى إلينا حضرة الفاضل الشيخ محمود عبد القادر سعيد الرافعي صاحب المكتبة المعروفة في السكة الجديدة نسخة من الطبعة السابعة التي طبعها من مقامات الحريري في المطبعة الأميرية الكبرى وقد جعل شرح ألفاظها اللغوية في أسفل كل صحيفة فجاءت في زهاء سبعمائة صحيفة منصفة الحجم وقد ألحقها بفهرس في مفردات الألفاظ اللغوية المشروحة والأمثال العربية والأعلام المشهورة على حروف الهجاء فزاد إلى خدمة هذه المقامات خدمة وماذا عسانا نقول في الحريري وليس من المتأدبين والعالمين إلا من قرأه وانتفع به. ديوان الحماسة وأتحفنا حضرة الشيخ الرافعي الموما إليه بنسخة من ديوان الحماسة وهو ما اختاره أبو تمام من شعر العرب ذاك الديوان الذي لا مندوحة لطالب الأدب والشعر عن الأخذ منه لأنه زبدة ما بقي لنا من آثار الشعراء الأقدمين وناهيك بديوان ينتخبه مثل أبي تمام الذي شهد له بالإجادة في جمعه كما شهد له بالإجادة في شعره. وانتخاب المرء دليل عقله. وقد علق عليه شرحاً موجزاً وطبع الأصل بالشكل الكامل فجاء من الكتب المفرحة الممتعة وعسى أن يظل الطابع الفاضل يتجنب الأدب والعلم بأمهات كتب القوم على هذا الطبع اللطيف والشكل البديع فقد سئمت النفوس تلاوة تلك الكتب السقيمة الحرف والورق. والكتاب في جزئين يقع في زهاء 650 صحيفة متوسطة فنثني على صاحب هذه التحف أطيب الثناء. رواية شرف الاسم مسامرات الشعب مجلة قصصية تاريخية فكاهية لناشرها الأديب عزت خليل بك صادق صاحب مكتبة الشعب ومطبعتها بالقاهرة وهي تصدر مرة في الشهر رواية مستقلة برأسها بقلم كاتبٍ من كتاب مصر وقد كانت هذه المرة رواية شرف الاسم من قلم الأديب أحمد أفندي فخري وهي كسائر ما ينشره صاحب مسامرات الشعب لطيفة الأسلوب وتقع في

164 صحيفة. الفلاكة والمفلوكون كتاب جم الفوائد جزل الألفاظ والمعاني طبعته مطبعة الشعب ومكتبتها الآنف بيانها وهو تأليف أحمد بن علي الدلجي من أهل القرن التاسع للهجرة وهو في الفقر والفقراء وقد قدم له مؤلفه مقدمة هي مثال من أمثلة البلاغة في التوكل وخلق الأعمال وغيرها ثم أتى على تراجم علماء تقلصت عنهم دنياهم ولم يحظوا منها بطائل والكتاب كله درر وغرر يليق به أن تراه العيون كل ساعة لما فيه من الأدب الغض والعبرة البالغة وقد طبع أجود طبع فجاء في 145 صحيفة كبيرة على ورق جيد فنثني على صاحب مطبعة الشعب الأديب على هذه الذخيرة وعساه لا يضن أيضاً بنشر أمثال هذه الكتب النافعة في جملة ما ينشره. تقويم المؤيد قلما رأينا لأبناء هذه البلاد عملاً سار به صاحبه على سنة الارتقاء الطبيعي وصبر عليه زمناً لينضج مثل هذا التقويم الذي أخذ ينشره كل سنة الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد منشئي المؤيد الأغر وأمامنا الآن تقويمه لسنة 1324هـ وهي السنة التاسعة وفيه من الفوائد السياسية والاجتماعية والتاريخية والصحية والحيوية ما لا يعثر عليه إلا في المظان المشتتة ولا يستغني عن الرجوع إليه كل فرد من أفراد المجتمع وهو في زهاء أربعمائة صحيفة ومطبوع أجمل طبع على أجود ورق وقيمته خمسة قروش. وإن إقبال القوم على اقتنائه لأكبر دليل على وفرة حسناته فنثني على صاحبه العامل أطيب ثناء. ترجمة الرافعي آل الرافعي من الأسرات العريقة في العلم والعمل في مصر والشام تولى أفرادها المناصب العلمية والإدارية القضائية في القطرين وقد انتهى مؤخراً كتاب في ترجمة الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير مفتي مصر السابق جمعها بحله الأستاذ الشيخ محمد رشيد وقدم لها مقدمة في ترجمة المرحوم ثم أورد أقوال الصحف فيه ومراثي العلماء والأدباء في الأقطار العربية بحيث أصبح هذا الكتاب مرجعاً في التعريف بهذا الفقيد العظيم ووزعه مجاناً على أحبابه وكل طالب جزاه الله خيراً. أسرار ديوان التفتيش

أهدى إلينا حضرة النشيط إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في مصر نسخة من هذه الرواية وهي من سلسلة روايات حديقة الفكاهة التي يصدرها كل شهر وهي غرامية تاريخية فيها تفصيل ما كان يجري في تلك الدواوين الدينية من الأعمال الغريبة على ما يعلم من قرأ تاريخ أوربا في القرون الوسطى وهي أجزاء وثمن الجزء قرشان فنشكر له هديته ونثني على نشاطه. عاقبة الأمانة هي رواية أدبية علمية غرامية تاريخية لمؤلفيها الأدبيين علي أفندي توفيق ومحمد أفندي ربيع من مدرسي الإنكليزية في هذه العاصمة وفيها كأكثر الروايات ما يرمض ويسر وهي في زهاء خمسين صحيفة صغيرة فنثني على اجتهادهما.

سير العلم

سير العلم مساكين المحترفين ليس الفقر مختصاً بطبقة خاصة من الناس من سوقة وباعة ومزارعين وصناع بل قد عض ناب الفقر في الغرب أيضاً طبقة ممن يتعاطون المحاماة والتعليم والكتابة فقد بحث أحد الأمريكان فرأى أن أحسن طريقة لتلافي هذا الخطب النازل تغيير أساليب التربية فيدخل الأولاد أولاً مدارس ابتدائية إجبارية في السن التي يحظر عليهم فيها دخول المعامل ثم يدخلون المدارس الصناعية ولا تكون إجبارية ويبدأ التعليم بالحال بعد الخروج من المدرسة الابتدائية ويكون موجزاً. أما من يريدون التخرج في المحاماة والطب والهندسة فيبدأون بالدراسة ويداومون العمل طويلاً وتجد الدروس العالية لها مكاناً بين المدرسة الابتدائية والمدارس التجهيزية إلى اتخاذ الصنائع الحرة وتخف بذلك النفقات التي تنفقها الحكومات الآن ويكون التعليم خاصاً ويقضي التعليم الصناعي على الفقر والحاجة. مدفع للبرد معلوم أن البرد يضر كثيراً من المزروعات بنزوله عليها ناهيك بأن واحدتها قد تكون بحجم الجوزة. وقد فكر أحدهم في إيجاد مدفع يبدد شمل البرد إذا تجمع الجو ويدفع عاديته عن المزروعات والمغروسات ومازال مخترعه واسمه سيتجر يتوفر على إكمال مدفعه حتى وفق في العهد الأخير إلى وضع حلقة في داخل المدفع قطرها من 12 إلى 13 سنتيمتراً وبهذه الواسطة تمكن من قذف الهواء المضغوط بواسطة انفجار البارود بسرعة على أطراف الحلقة بقوة غريبة في القذف العلوي فيضطرب الجو بشدة في الطبقة التي يكون فيها البرد. كتب الدنيا أحصى أحد العارفين الكتب التي طبعت منذ اختراع الطباعة فقال أنه طبع منذ سنة 1450 إلى سنة 1536، 42 ألف مؤلف وطبع من سنة 1536 إلى 1636 قرابة 275 ألفاً ومن سنة 1636 إلى 1736، 1. 225. 000 ومن سنة 1736 إلى 1836، 1. 839. 960 فكان مجموع ما طبع إلى سنة 1836، 3. 681. 960 مصنفاً فلو فرض أنه طبع من كل كتاب ثلاثمائة نسخة فيكون مجموع ما طبعته مطابع العالم إلى سنة 1836، 3. 313.

764. 000 وأحصى أحد الأمريكان كتب الولايات المتحدة فقال أن في بيوتها 42. 000. 000 مجلد وعند علمائها وكتابها ومخترعيها 150. 000. 000 وعند كتبيها وطابعيها 60 مليوناً وفي خزائن كتبها العمومية 50 مليوناً وعند تلامذتها ثمانية ملايين وعلى تلك النسبة حسب ما في العالم من أسفار فكانت 3. 200. 000. 000 كليات الشعب بإسبانيا نجحت الكليات التي أنشئت لعامة الشعب ممن لم تساعدهم الأيام على الدراسة في الكليات العالية في إسبانيا وهي تفتح مرتين في الأسبوع وتعلم علماً واحداً وليس التدريس فيها خاصاً بالأساتذة بل إن جماعة من أهل الأخصاء من طبيب ومهندس ومحام بل وتلميذ يلقون فيها على المستمعين من طلاب الاستفادة كل ما شاق وراق من الموضوعات. كلية النساء في اليابان أسس اليابان كلية جامعة في طوكيو سنة 1896 خصت بالنساء دون الرجال وغايتها تعليم اليابانيات ما يؤهلهن للعمل على ترقية الوطن ومدة الدراسة ثلاث سنين تنال الطالبة بعدها شهادة تنطق باقتدارها وكان عدد الطالبات سنة 1901 ثمانمائة طالبة وتقسم الدروس إلى ثلاثة فروع وهي الآداب اليابانية والآداب الإنكليزية والعلم والأدب وهذان العلمان يقسمان إلى فروع أهمها الاقتصاد السياسي والقانون المدني والفيسيولوجيا وتدبير المنزل والصحة. والمعلمات بأجمعهن من نساء يابان أو إنكلترا ويشترط أن لا يقل عمر الطالبة عن 17 سنة وتعيش هذه الكلية بالإعانات الخاصة ولا تدفع لها الحكومة في السنة غير ألفي يان (ريال ياباني). أعظم شلال كان الباحثون موقنين بأن أعظم شلال في العالم هو شلال نيكاراغا في أميركا أو شلال فكتوريا على نهر الزمبيز في إفريقية وقد اكتشفت الآن شلال ثالث يفوق الشلالين السابقين في كثرة ارتفاع مائه وهو شلال اينياسو القائم على نهر صغير المتدفق من نهر بارانا في البرازيل من جنوبي أميركا سعته 4734 متراً أي أنه بالقياس إلى شلال نيكاراغا ضعفان ونصف ويدفع في الساعة 940 مليون طن (الطن ألف كيلو غرام) من علو سبعين متراً

وهو في غابة غبياء لم ينزلها بشر ولا رفع منها حجر ولا مدر ومساحتها لا تقل عن ألف وخمسمائة كيلومتر مأهولة من جهاتها الأربع. باطية عجيبة اخترع أحدهم باطية أو زجاجة تحفظ السوائل التي تملأ بها حارة كانت أو باردة وهي عبارة عن غطائين من الزجاج بينهما فراغ يطلى داخلهما فيمتنع الإشعاع وينفع هذا الاختراع الأطباء والجنود والصيادين والسائحين كما ينفع المرضى ممن يضطرون أن يتناولوا اللبن المغلي في أوقات معينة ومن يريدون تناول الأشربة حارة فيجد المرء متى أراد شيئاً من الشوكولاتا الحارة أو الشاي الساخن أو القهوة الحارة ويتيسر للمريض أخذ الماء المغلي متى أراد. مخيم قديم عثر منذ سنين في ضواحي مرفأ فارامبول من أعمال مقاطعة فكتوريا في أستراليا على آثار أقدام بشرية قديمة جداً وذلك في قطعة من الحجر الرملي فأخذت قطعة منه ودفعت لكلاتش أحد علماء الحيوانات والنباتات الأرضية (بالونتولوجست) ومن أساتذة كلية هايدلبرغ الألمانية فقال أنها آثار وجدت قبل التاريخ. ثم رحل بالذات إلى تلك البلاد ليحقق قوله بالبرهان. وقد نشر الآن خلاصة أبحاثه ويؤخذ منها أنه في عهد يرتقي إلى ألوف من السنين ما تألف به ذاك الحجر الرملي فقام عليه هذا المخيم وحوى أجناساً من البشر قبل التاريخ في أستراليا وأن هذه القارة وتاسمانية كانت جزءاً من القارة الجنوبية التي كانت تمتد إلى المحيط الهندي وتصل أستراليا بآسيا وإفريقية. فدل ذلك على أن الإنسان على الأرض أقدم بكثير مما يتوهمه بعضهم وربما رد عهده إلى مئات الألوف من السنين على ما يحققه العلم والبحث. اختفاء بحيرة الظاهر أن إفريقية الوسطى أخذت تنشف بطائحها وتجف مياهها بالتدريج والعناية وقد غابت عن الأنظار هذه الأيام بحيرة شيروا في الجنوب الشرقي من نياسا في إفريقية الوسطى وطولها 45 كيلومتراً وعمقها عشرون اكتشفت سنة 1869 وخفيت هذه السنة. تلفون جديد

التلفون وعربه بعضهم بالمقول معروف في هذه البلاد وقد توصل العلماء إلى اختراع نوه منه لا سلك له يستخدم إذا حدثت حوادث في الخطوط الحديدية أثناء سيرها وسينتقل من أميركا محل اختراعه إلى أوربا وغيرها فتوصل آلته بأي سلك كان. السل البقري قر الرأي أو كاد على أن السل قد ينقل بواسطة لبن حليب البقر إلى السليمين ممن يشربونه وقد كان ادعى الأستاذ بهرنغ لما نال منذ أربع سنين جائزة نوبل في استكهولم عاصمة الدانمارك جزاء اكتشافه مصلاً للخناق - أنه اكتشف طريقة أكيدة لتلقيح المصابة من البقر بالسل فثبت الآن دعواه وصحت. وطريقته هذه أن يحقن كل حيوان في الأعصاب مرتين في بضعة أسابيع وبمقادير معلومة من باشلس السل المأخوذ من المرضى من البشر. حالة العلم الحاضر هو كتاب ألفه اميل بيكارد أحد أعضاء المجمع العلمي في فرنسا ذكر فيه فصولاً في الجبر والرياضيات والفلك وعلم جر الأثقال والطبيعيات والكيمياء وعلم طبقات الأرض ومنافع الأعضاء والنبات والطب بقلم يشف عن سلاسة وتحقيق ولا يستقل به الأكبار أهل الأخصاء المحققين فكأن المؤلف وضع دائرة معارف يصعب على كثيرين أن يقوموا ببعض ما قام به هذا الفرد إذ أن الإجادة في هذه الموضوعات لا تتأتى إلا لمن وقفوا على الاشتغال أعمارهم وصرفوا في البحث ليلهم ونهارهم قام بهذا العمل العظيم وهو من مشاهير الرياضيين وجعل بين تلك العلوم المختلفة صلة تتجلى منها حالتها اليوم. ومما قال أن العلوم الطبيعية آخذة لهذا العهد أن تتكيف بصورة رياضية وليست الطبيعيات والكيمياء فقط بل العلوم الطبيعية بأجمعها وإن تكن هذه مختلفة عن تلك من هذه الوجهة فعلم الحياة (بيولوجيا) الحاضر مثلاً آخذ بوضع مبدأ مسلم به من أن الحادثات الحيوية تؤول إلى الحادثات الطبيعية والكيماوية. وكل مباحثه تدل على ما ينبغي للعالم أن يعده عما قريب للمستقبل من عدد العلم ليتأتى له أن يحسن البحث العلمي. والحياة العلمية كالحياة الاجتماعية كلما تعاقبت القرون يكثر فيها تعاور الأيدي والاشتراك.

مقالات المجلات

مقالات المجلات الجولان في النوم الضياء - مازال أمر الرؤى الليلية من الأمور الغامضة التي لم يتوصل الحكماء إلى حلها بما يكشف عن شرها ويعلل كيفية حدوثها. ومن أغرب أطوارها ما يعرض لبعض الناس أن ينهض من فراشه وهو نائم ويسعى من موضع إلى آخر ويفعل أفعالاً شتى قد لا يصدر مثلها إلا عن إرادة وتعقل وشعور تام حتى لا يشك من يشاهده في تلك الحالة أنه مستيقظ. أما ما ذهبوا إليه في تعليل ذلك فذكر ولتر سكوت أن الحواس تكون حينئذ نائمة نصف نوم بحيث أن صاحب هذه الحال يشعر بمكان وجوده لكنه لا يكون تام الانتباه حتى يستطيع أن يميز ما حوله بجلاء. وقال غيره أنه حتى تكون عيناه مغمضتين يشعر بقوة النور إلى حد لا يشعر به في حال اليقظة وفضلاً عن ذلك يكون حس اللمس فيه على أشد التنبه وبه يتقي ما يتعرض له من الأخطار كالمشي على سطوح المنازل وشواطئ الأنهار وبهذا التنبه الشديد في حسه يتأتى له أن يفعل أفعالاً أعجب مما ذكر فيقرأ ويكتب كتابة في نهاية الضبط من نثر ونظم وقطع موسيقية ويميز أدق الأشياء. قالوا والظاهر أن ما يأتيه النائم من ذلك هو من فعل الذاكرة والعادة بحيث أن حركات الفكر تتألف في النوم على نفس الوجه الذي اعتادت أن تتألف عليه في اليقظة فيكون ما يفعله في النوم تكراراً لما يفعله في اليقظة وأكثر ما تعرض هذه الحال للمصابين بالاضطرابات العصبية كالصدع والهستيريا وما شاكلهما. فوائد صحية الأفكار - تدل الطبقة البيضاء على سطح اللسان على خلل في وظيفة الهضم لأسباب أهمها ضعف عمومي في جميع البدن وعدم مناسبة الطعام والإكثار نمن تناول اللبن في الصباح وقد يحدث بياض اللسان عن النوم والفم مفتوح لمرض في الأنفين أو الحنجرة. وعلاجه في تقوية عامة الجسم وأعضاء الهضم خصوصاً كاستعمال الطعام المناسب في الوقت المناسب والالتجاء إلى الرياضة البدنية المعتدلة. يجب أن يكون حمام الصباح قصير المدة وأن يستمر عليه المرء يومياً حتى في البرد بشرط أن تكون نوافذ غرفة الحمام محكمة القفل وأن يستعمل المستحم الفرك القوي بمنشفة

خشنة قبل أن يغطس وبعد التنشيف الأول. سئل الدكتور كلون في مجلته عن علة القبض المستعصي فأجاب أن أهم الأسباب معيشة العزلة والجلوس الكثير الذي يضعف عضلات البطن والانحناء كما في الكتاب والمعلمين والتجار ومن جاراهم في الأعمال الكتابية وإفراط في الأكل وإهمال الاعتياد على إطلاق الأمعاء كل يوم بأوقات معينة وعدم مناسبة الطعام كالإكثار من اللحوم والنشويات وعدم تناول الخضر والبقول. ويقوم علاج هذا القبض المستعصي الأصلي بتقوية عضلات المعدة والأمعاء خصوصاً وكل عضلات البطن عموماً كما في الألعاب الرياضية واستعمال التغميز (الدلك) والاستحمام واستنشاق الهواء النقي أبداً. يعالج الزكام (الرشح) المزمن أو المستعصي بوضع مقدار صغير من البولين 30 غراماً و10 نقط من زيت اليوكالبتوس في ماء متبخر ويستنشق البخار بعد أن يكون المزكوم غسل الأنفين جيداً فيشعر براحة حالاً وإذا داوم عليه فمن المرجح بل المؤكد شفاؤه.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة كولريج 1772_1834 الغالب أن الشعراء في كل أمة يتقلبون مع الأهواء فلا يثبتون على حال في مناحيهم ومنازعهم. ومن يعشق الخيال ويهيم بالطبيعة فيخاطب السماك والأسماء، ويهيم بنجوم الأرض كما يهيم بنجوم السماء، لابد أن يقلبه الدهر كل مقلب، وتختلف عليه الأطوار والأدوار، كاختلاف الطبيعة بين صيف وشتاء وليل ونهار. وصاحب الترجمة ما خرج عن هذا الخلق وخروج الشاعر عنه يعدُّ من الغرائب ولا عبرة بالشذوذ. هو من شعراء الإنكليز وفلاسفتهم ربي يتيماً منذ نعومة أظفاره فبعث به أهله إلى مدرسة متوسطة في لندن امتاز فيها بأخلاقه الساكنة وشعوره اللطيف وذوقه العجيب في علوم ما وراء الطبيعة والفلسفة. دخل كلية كامبردج وغادرها بعد سنتين وبعد أن انضم إلى سلك عصابة من سرية الدراغون سعى بعض أصحابه فأخرجوه منه. سافر إلى مدينة برستول لأول أمره فاتحد وشاعرين شابين مثله (روبرت لوفل وسوتني) وزعموا أنهم يريدون أن ينشئوا في ايلينوا من بلاد أميركا مستعمرة تكون أنموذج المستعمرات تحكمها قاعدة المساواة المطلقة والفضائل الاجتماعية كافة بيد أنهم ما عتموا أن عشقوا ثلاث أخوات فتزوجوا بهن وعدلوا عن أفكارهم الخيالية وجمهوريتهم الكمالية وتفرقوا تحت كل كوكب فراح صاحب الترجمة يؤازر في إحدى الصحف الحرة بلندن موجهاً أبداً كلامه إلى الأمة ولذا حازت مقالاته إقبالاً. ثم كتب رواية وكان نشر من قبل ديواناً من شعره وأنشأ جريدة سياسية أسبوعية لم يصدر منها غير عشرة أعداد فذهب تعبه فيها سدى. ثم عزفت نفسه عن السياسة واعتزل في إحدى بقاع سويرستهير الجميلة وأخذ ينظم فيها أشعاره ويخلد لهذه المدرة بأقواله ذكراً لا يحمى على الدهر وانكب على العمل والدرس أيما انكباب وهناك ألف أحسن قصائده الموشحات فنجحت كثيراً ولكنها لم تأته بربح يذكر. وزار ألمانيا وتمكن من إحكام آداب الألمانية ثم تقلبت به الأحوال فاعتزل واحد صاحبيه الاثنين المشار إليهما مدة ولم يلبث أن عاود المسائل السياسية والدينية فأصبح ملكياً وداعية إلى التثليث على ما كان يميل إليه من الحرية المفرطة.

تخلى عن الشعر منذ ذاك العهد وأنشأ ينشئ في جريدة مورنن بوست مقالات يجادل بها خصومه أشد جدال في معنى الثورة مما دل على فكر متقلقل يذهب مذاهب الخيال بحس بالأحوال. وسعى أحد أصدقائه فأنقذه من تعاطي الأفيون تلك العادة الخبيثة الشائعة في الشرق فخلصه بذلك من الجنون وجاءت المنية على الأثر فاختطفته دون أن يتم أعماله العلمية فعهد إلى زوجه أن تنشرها بعده. وكان نفوذ هذا الشاعر الحكيم قوياً في إنكلترا لما عرف به من حب الحكمة وأثر عنه من الكتابات الدينية وجاء من حيث شعره مبشراً بالشاعر بيرون ومملياً على قلبه وروحه فقد استظهر بيرون قطعة صالحة من قصائده كانت له عوناً على الرسوخ في ملكة الشعر. يقول كتاب التراجم الناقدون لو كتب لكولريج أن يتخلى عن الدينيات والسياسيات لجاء منه أعظم شعراء عصره وكان أحد الأحدين غير مدافع وذلك لما خض به من الاقتدار العقلي وسعة التعبير ولطف الأداء. قالوا وكان حديثه مطرباً في الغاية حتى أن إحدى الحانات الغنية في لندن كانت تنقده مبلغاً جسيماً من المال ليحضر إليها ويتسامر وبعض المختلفين إليها. وشبهوا أعماله العلمية بقصر ناقص ترى كل ما فيه هائلاً جميلاً فخيماً ولكن لا تشهد فيه شيئاً قد تم على أصله. وسبب ذلك تلونه في مشربه ومذهبه. والثبات على مبدأ من أقوى عوامل الانتفاع بالرجال.

النظامية والمستنصرية

النظامية والمستنصرية بلغت بغداد في الحضارة أعلى درجاتها إبان التمدن الإسلامي وكانت عاصمة العلم ومبعث أشعة الحكمة حتى في عصور تدنيها أيام ضعف سياستها وأصبح حكم العباسيين فيها اسمياً ولم تبرح تنفخ فيها روح النمو والرقي التي بثها فيها خلفاء القرن الثاني والثالث فكان العادة أو قوة الاستمرار حكمت أن لا يكون القرن الرابع والخامس والسادس والسابع دون ذينك القرنين إلا قليلاً. وظلت هذه العاصمة على علاتها أرقى من قرطبة والقيروان ومصر ودمشق وسمرقند وخراسان وغيرها من أمصار الحضارة وقواعد العمل على ما بذل زعماء تلك العواصم من العناية في مضاهاة دار السلام وقبة الإسلام. ولقد كانت المدارس إحدى العوامل الكبرى في ذاك الترقي ويكاد الفضل يرجع إلى بغداد في إحداثها على هذا الطرز المألوف وإن بقيت الأمة زمناً تتلقى علوم الدنيا والدين في حلقات المساجد والمجامع الخاصة. ولقد استاء علماء ما وراء النهر لما بلغهم توفر الخلفاء على بناء المدارس في بغداد وأقاموا للعلم مأتماً تفادياً من ابتذاله وخشية أن تصبح الغاية من الدراسة دنيوية محضة غايتها جر مغنم واجتلاب ديناً عريضة وأسفوا أن رأوا بعض رجال العلم أخذوا يتناولون رواتب لقاء دروس ينفعون بها الأمة وكانوا وأجدادهم من قبل يلقونها بلا عوض ولا عرض ينالونه. وكأن الله خص القرن الرابع بأن قامت فيه أعظم كليات المسلمين اليوم إلا وهو الأزهر في القاهرة الذي بناه القائد جوهر كما خص القرن الخامس بأن وفق نظام الملك وزير السلاجقة لتأسيس المدرسة النظامية سنة 459هـ ببغداد ووفق المستنصر بالله العباسي أيضاً أن أسس مدرسته المستنصرية في أوائل القرن السابع ببغداد. ولما كانت النظامية والمستنصرية عامرتين بضروب العلم غاصتين بالطلاب والأساتذة لم يكن الأزهر يذكر في جنبهما. ولكن دالت الأيام ودرست معالم هاتين الكليتين العظيمتين وكتب البقاء لهذه المدرسة المصرية. ولذلك أحصر الكلام فيهما الآن فأقول: أسس نظام الملك مدرسته النظامية وسط الجانب الشرقي من دجلة وقسمها إلى مقاصير كثيرة خص كل فرع من فروع العلوم الدينية والدنيوية ببعضها وجعل فيها غرفاً كثيرة يأوي إليها الطلبة والأساتذة هذا عدا ما هناك من أبهاء ومنتديات وقاعات وبستان فسيح ومصلى وأماكن للاستراحة وجميع ما يلزم لدار علم مثلها من سائر موافق الحياة كالمطبخ

والحمام وغيرهما وكانت فيها خزانة كتب عظيمة كما في غيرها من المدارس الكبرى مسبلة على العالمين والمتعلمين فيها. وبنيت طبقتين وأقيمت في أطرافها أروقة وطاقات وجعلت فيها أنابير ومستودعات فيها كل حاجيات أهلها من طعام ولباس وفراش وكان المعلمون كالمتعلمين يكفون المؤونة فيها فينال كل واحد من أوقافها الدارة ما يسد به عوزه وربما ما يفيض عن حاجته. وليس فيما لدي من المواد شيء يصح الاستنباط منه لإصدار حكم صحيح على نظام الدروس والمدرسين والدارسين في تلك المدرسة وناهيك بأنه كان لها مفت يفتي أهلها في مصالحها على ما هناك من أساتذة هم فخر الإسلام والمسلمين في أعصارهم فقد كان الشيخ رضي الدين أبو داود سليمان بن المظفر بن غانم بن عبد الكريم الجيلي الشافعي مفتياً فيها. كما درس فيها جلة مثل أبي اسحق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وأخيه أبي الفتوح أحمد وأبي الفتح بن برهان وأبي القاسم الدبوسي وأبي عبد الله الطبري وأبي محمد الشيرازي وضياء الدين السهروردي وأبي القاسم القشيري وأبي منصور الوزان وأبي الفتح أسعد المهيني وأبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله شيخ العراق في وقته وأبو سعيد المتولي وكمال الدين النحوي وفخر الإسلام أبو بكر المستظهري وأبو بكر بن الدهان النحوي الضرير والشرف يوسف بن بندار الدمشقي وعشرات غيرهم ممن تخرج بهم مئات من الفقهاء والمحدثين والأصوليين والمتكلمين والمتأدبين وغيرهم. وشقيقة هذه المدرسة بل خليفتها المدرسة المستنصرية بناها سنة 631 المستنصر بالله في الرصافة على ضفة دجلة الشرقية وانفق في بنائها ما ينفقه الملوك في بناء إذا أرادوا به تخليد ذكرهم وإحياء مفاخرهم. وجعل فيها خزانة كتب حملت من الآفاق حملها مائة وستون حمالاً وفي رواية بعض المؤرخين أنها كانت مائتين وتسعين حملاً عدا ما أضيف إليها بعد. قال الذهبي وأوقاف هذه المدرسة عظيمة غلت في بعض السنين سبعين ألف دينار قيل أن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار. وقد جعلت على المذاهب الأربعة وأقيم فيها مستشفى وأطباء يدرسون الطب كما يدرس فيها علم الحيوان النبات والفلك والرياضيات على اختلاف ضروبها والآداب على أنواعها والجغرافية والتاريخ وعلوم الحديث والقرآن. وشرط بانيها أن يكون عدد الفقهاء فيها مائتين وثمانية وأربعين فقيهاً يصيب أهل كل

مذهب ربع هذا العدد يأخذون رواتب وجرايات كثيرة هذا ما عدا المحدثين والمقرئين ومشاهراتهم وعدا كتاب متصل بالمدرسة خص بثلاثين يتيماً يستظهرون فيه الكتاب العزيز ويكفون المؤونة وعدا المدرسة الطبية والمستشفى والصيدلية التي يدرس فيها الدارسون ويستشفى بها المرضى ويأخذون ما يقتضي لهم من المعاجين والأدوية. وأول من عهد إليه التدريس في تلك الكلية محي الدين أبو عبد الله ابن فضلان الشافعي ورشيد الدين أبو جعفر الفرغاني الحنفي والنيابة عنهما جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي وأبو الحسن المغربي المالكي واشتهر من مدرسيها جمال الدين العاقولي. ووصف هذه المدرسة العالم محمود شكري الآلوسي في كتابه مساجد بغداد ومدارسها فقال أنه كان فيها مزملة للماء البارد وأن الداخل إليها اليوم من بابها الكبير الجنوبي يرى فسحة طولها نحو مائة متر وعرضها نصف ذلك وفي كل جهة منها إيوان رفيع السمك كأنه أعد كل واحد منها لمدرس من المذاهب الأربعة وأن الموظفين بها كانوا أقل من المشتغلين فإنهم في كل وقت كانوا دون ألفي طالب على اختلاف طبقاتهم واستعدادهم وأما الموظفون فهم دون الألف وكانت التفرقة بين الأصناف والطبقات بألوان الطيالس فذوو الطيالسة الصفر صنف والبيض صنف والحمر صنف وهكذا. وكان في بابها ساعة عجيبة. هذا ملخص ما كانت عليه النظامية والمستنصرية من الإتقان العجيب ولم يبق للأولى من أثر اليوم غير قاعدة منارتها وهي مطبخ أحد الإسرائيليين وبقيت الثانية محفوظة من أيدي التخريب إلا قليلاً بيد أنها حولت إلى إدارة جمرك منذ بضع سنين وذهبت تلك الحضارة وما يتبعها جملة وراحت النظامية ولم نعد نسمع إلا بأخبارها وربما تتبعها المستنصرية تلك المدرسة التي بلغ من غرام بانيها بها كما قال ابن العبري أنه بنى بجانبها بستاناً خاصاً له وقلما يمضي يوم إلا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في إيوان المدرسة ينظر إلى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر إلى المدرسة ويشاهد أحوالها وأحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد أحوالهم. فليت المستنصر يحيا اليوم فيرى ما فعلت الأيام بما شاده وشاده نظام الملك.

البابليون

البابليون المملكة الكلدانية - قامت مملكة آشورية جديدة مكان بلاد الكلدان القديمة الداثرة دعيت مملكة البابليين أو المملكة الكلدانية الثانية. وقد تكلم أحد أنبياء إسرائيل على لسان الرب فقال: أنا أحيي الكلدان تلك الأمة الظالمة وسرعان ما تطوف الأرض للاستيلاء على مساكن غيرها وأن خيولها لأخف سيراً من النمر وفرسانها لينشرون في الأطراف ويطيرون كالنسر ينقض على قنيصته وبالجملة فقد ألف الكلدانيون الفروسية والحرب والفتح وهم يماثلون الآشوريين كل المماثلة فاستولوا على بلاد الفرس والجزيرة وبلاد اليهود وسورية وكانت مدة حكمهم قصيرة فقد أنشئت المملكة البابلية سنة 625 وأبادها الفرس سنة 538 ق. م. بابل - كان بختنصر (604_561) من أقدر ملوكها وهو الذي خرب بيت المقدس وساق اليهود أسرى وأسس في بابل عاصمة بلاده كثيراً من المعابد والقصور. أقيمت هذه المعاهد بالآجر لقلة الحجر في سهل الفرات. ولما كتب عليها الدثور والعفاء لم يبق منها إلا كوم من التراب والأنقاض وقد عثر في المكان الذي كانت فيه بابل على بعض كتابات فعرفت هيئة المدينة. بيد أن هيرودتس اليوناني وصف مدينة بابل وصفاً مسهباً وكان زارها في القرن الخامس ق. م فإذا هي محاطة بسور مربع يشقه الفرات وكانت المدينة تشغل حيزاً من الأرض مساحته 513 كيلومتراً مربعاً (أي سبعة أضعاف مدينة باريس) ولم تكن كل هذه البقعة الفسيحة الأرجاء عامرة بالدور والمساكن بل كان يتخللها حقول مزروعة تقوم بأود السكان آونة الحصار. فكانت بابل من ثم أشبه بمعسكر حصين منها بمدينة. وفي جدرانها أبراج ولها مائة باب من النحاس الأصفر وكان سمكها صالحاً لمرور مركبة عليها وفي حيال السور خندق عريض عميق مليء ماء وسترت حافاته بالقرمد. وكانت دورها ذات ثلاث طبقات أو أربع والشوارع وسطها زوايا قائمة. وما أعجب بناء جسر الفرات وأرصفته والقصر الحصين والجنان المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع. وهذه الجنان سطوح مغروسة بالأشجار قائمة على عمد وقباب مصفوفة طبقات الأولى بعد الثانية. برج بابل - بنى بختنصر في طرف المدينة برج بابل وقال في إحدى كتاباته لقد جددت أعجوبة بورسيبا (من ضواحي بابل) ليعجب الناس منها وهو معبد السيارات السبع في الدنيا فأعدت تأسيسه على النحو الذي كان عليه في الأزمان السالفة. وهذا المعبد على شكل

مربع مؤلف من سبعة أبراج بعضها على بعض وخص كل برج بإحدى السيارات السبع وصور باللون الذي أختاره الدين لتلك السيارة. وهذه الألوان إذا بدئ بها من أسفل فهي: زحل (سواد) والزهرة (بياض) والمشتري (أرجوان) وعطارد (أزرق) والمريخ (قرمزي) والقمر (فضي) والشمس (ذهبي). وكان في أعلى الأبراج مصلى ومنضدة من ذهب وفراش وثير تسكن إليه كاهنة. أخلاقهم وديانتهم أخلاقهم - لا نعرف هذه الشعوب إلا بمعاهدها ومعاهدها تكاد لا تتعدى أعمال ملوكها فلا ترى الآشوريين أبداً إلا وهم مصورون في حرب أو في صيد أو في احتفالات وما صور نساؤهم قط إذ كن حلس بيوتهن لا يخرجن للناس. وعلى العكس في الكلدان فإنهم كانوا أهل حراثة وتجارة ولكننا لا نعرف شيئاً عن حياتهم. يقول هيرودتس أن هذه الأمة كانت تجمع البنات في مدنها مرة واحدة في العام لتزويجهن فيبيعون الجميلات منهن ويؤخذ ثمنهن ليعطى جهازاً إلى مشوهات الخلقة. قال وعندي أن هذا القانون من أحكم ما وضع من القوانين والشرائع. ديانتهم - دين هاتين الأمتين واحد فالآشوريين تمذهبوا بمذهب الكلدانيين وقد التبس علينا هذا الدين لأنه نشأ كدين الشعب الكلداني من مزيج ديانات متباينة مشوشة كلها. فكان التورانيون يعتقدون على نحو ما تتوهمه قبائل سبيريا الصفر أن العالم غاص بالشياطين (مثل الطاعون والحمى والأشباح والعفاريت) دأبها تربص البشر بالشر والأخذ بمخنقهم ولذلك تراهم لا يلجأون إلى السحرة ليطردوا عنهم هاته الشياطين برقياتهم. وكان الكوشيون يعبدون ربين ذوي اقنومين الذكر وكان القوة بزعمهم والأنثى وهي المادة وكان الكهنة الكلدان وهم مجموع طوائف قوية من المنعة بحيث ساغ لهم أن يعنوا بتوحيد الدينين. الأرباب - الرب المتعال هو ايلو في بابل واسور في أشور وقلما يقيمون له معبداً ومنع يشتق ثلاثة أرباب وهم آنوا رب الظلمة وصورته صورة رجل وذنب نسر معصب رأسه برأس سمكة. وبعل ملك الأرواح مصور كالملك على عرشه. ونواح وهو العالم المنظور هيئته هيئة جبار ذي أربعة أجنحة منتشرة. ولكل من هذه الأرباب ربة أنثى إشارة إلى كثرة الأولاد والذراري. ثم ترد من أسفل صور القمر والشمس والسيارات الخمس

والكواكب وفي هواء بلاد الكلدان الشفاف يضيء سناها إضاءة لم نعهدها فتتلألأ كالأرباب. وقد أقام الكلدانيون معابدهم باسم هذه الأرباب وما هي في الحقيقة إلا مراصد يتمكن منها المتعبد من مراقبة سير الأفلاك. علم التنجيم - ذهب الكهنة إلى أن هذه الكواكب أرباب عظيمة تعمل عملها في حياة الإنسان. فكل امرئ يولد في الدنيا في طالع كوكب من الكواكب فيتأتى التنبؤ بسعده إذا علم الكوكب الذي ولد في طالعه. ومن هنا نشأ علم التنجيم والفأل فما يحدث في السماء علامة على ما سيحدث على الأرض. فالنجمة المذنبة مثلاً تنبئ بحدوث ثورة. ويعتقد كهنة الكلدانيين أنهم إذا رصدوا القبة الزرقاء وسياراتها يتنبأون بالحوادث وهذا أصل التنجيم. علم السحر - للكلدان ضرب من الرقى والطلسمات يدمدمون بها لطرد الأرواح أو استحضارها. وهذه العادة من بقايا ديانة التورانيين وهي أصل السحر. نشأ علم السحر والتنجيم في بلاد الكلدانيين وانتشر في أفق المملكة الرومانية ثم تعداها إلى بلاد أوربا. عرف ذلك من تتبع القوانين السحرية في القرن السادس عشر وكان فيها إذ ذاك كلمات آشورية محرفة. العلوم - نشأت علوم النجوم في بلاد الكلدان فمنها عرفنا منطقة البروج وتألف الأسبوع من سبعة أيام إكراماً للسيارات السبع وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً واليوم إلى أربعة وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية. وعنهم أخذنا طريقة الأوزان والمكاييل محسوبة على مقياس الطول مما ألف بالاستعمال عند الشعوب القديمة كافة. الصنائع علم عقود الأبنية - لا نعرف صنائع الكلدانيين حق معرفتها إذ قد سجل العفاء على معاهدهم. وقد حذا أهل الصنائع من الآشوريين ممن رأينا صنائعهم حذو الكلدانيين فصح الحكم على المملكتين جملة واحدة. كان الآشوريون يبنون كالكلدانيين بآجر مجفف بالشمس ويغشون ظواهر الأبنية بالأحجار. القصور - أقام الكلدانيون قصورهم على آكام صناعية جعلوها واطئة مسطحة تشبه سطوحاً كبيرة واقتضى جعل العلالي والغرف ضيقة واطئة واكتفى بتطويلها كثيراً لأن

الآجر لم يكن لينفع في بناء القباب المنبسطة العالية. فالقصر الآشوري يشبه سلسلة أروقة ودهاليز. والسقوف سطوح ممتدة ذات شرفات وفي الباب ثيران ضخمة مجنحة على هيئة الإنسان. والجدران مغشاة من الداخل تارة بروافد من الخشب النفيس وطوراً من الآجر المزين بالمينا وأخرى بصفائح من الرخام الأبيض المنقوش وآنات تزدان الغرف بالصور ويحلى الأثاث بالترصيع البديع. النقش - يعجب المرء من نقوش الصور الآشورية خاصة ومن المحقق أن التماثيل نادرة ولا إتقان فيها لان النحاتين يؤثرون نحت صفائح كبيرة من الرخام ونقوش ناتئة تشبه الصور ويرسمون مشاهد لا نظام فيها أحياناً وحروباً وصيوداً وحصارات مدن واحتفالات يخرج الملك بها في موكب حفل وهناك تتجلى التفاصيل الدقيقة. فترى بنات الخدام الموكلين بطعام الملك وزمر العملة يبنون له بلاطه والحدائق والحقول والغدران والأسماك في الماء والطيور ترفرف على وكناتها أو تتطاير من شجرة إلى أخرى. وترى صور الكبراء من جوانب وجوههم لان أهل الصناعة ما عرفوا تصويرها من الأمام. ولكنك تقرأ في سحناتهم الحياة والشرف. وتظهر الحيوانات في الأحايين وخصوصاً في الرسوم البارزة في الصيد وفي العادة أن تنقل نقلاً حقيقياً مدهشاً. وكان الآشوريون يتأملون الطبيعة ويرسمونها أصح رسم وبهذا تعرف قيمة صنائعهم حتى أن اليونان اقتدوا بمذهبهم في الصنائع بأن قلدوا النقوش الآشورية ففاقوا مقلديهم وليس في الأمم حتى ولا اليونان أنفسهم من أحسنوا تصوير الحيوانات كالآشوريين.

حسنات القرن الماضي وسيئاته

حسنات القرن الماضي وسيئاته معربة عن الفرنسية من المعلوم أن حب البذخ قد وجد في كل عصر من عصور العالم وتواريخ الأمم القديمة طافحة بالأمثلة الكثيرة من ذلك ولكنه كان أبداً سبب الشقاء العام والخاص وتأثيره في هذه القرون الحديثة أدهى وأمر. فقد كان البذخ في القرون السالفة من شأن طبقات الأشراف الكبراء أما في القرن التاسع عشر فأصاب الطبقة الوسطى من الناس تلك الطبقة التي نالت ما نالت بفضل ما خولت من الامتيازات. وهذه الطبقة على كثرة عددها من أشد الطبقات قرباً من الطبقة السافلة وأكثرها بها اختلاطاً ولذلك أصاب هذه أيضاً من ذاك المرض شدة، وبرحت بها تباريح التفخل والتبرج. ومن الأسف أن آفة التظاهر باليسار مازالت يتفاقم شرها ويعظم ضرها من حين إلى آخر وهي من الجراحات الاجتماعية التي هاجمت الطبقات الميسورة والطبقات المعسورة معاً. فقد اعتدنا أن نتخذ من الظل نوراً ومن الظواهر حقائق حتى تضطر الحقيقة أن تكتسي بين أظهرنا في الأحايين رداءاً مموهاً من الكذب للوصول إلى الغاية تنشدها. وما دام العلم لم يعم سواد الشعوب وطبقة العملة لا تهديها المعارف إلى وجه مصالحها الحقيقية فالميدان رحب لأهل المطامع ممن يستخدمون البذخ آلة لإضلال الرأي العام فيعمدون إلى طرق غريبة في الكسب والانتفاع ومنها أشغال البورصة والمضاربات. وسرها قائم بالتأثير في أفكار الرجال بإيجاد الثقة وعدمها في بعض الأحوال على حسب أغراضهم وهم يسيئون استعمال الثقة العامة بإشاعات كاذبة يلفقونها ليغتنوا فيكونوا عالة على ما اقتصده ألوف من البيوت المسكينة وأنت عارف بنتائج أشغال البورصة في الآداب العامة فإن زيادة المالية على هذا النحو تضعف الإحساس وتصد الذكاء عن سننه وغايته الحقيقية وتقتل النشاط على العمل. ويسود أعظم نجاح باهر في الصناعات العادية في عيون أصحابها في جانب الوعود الخلابة التي يعدهم بها القائمون على هذه التجارة. ثم أن أمثال هذه الثروات السريعة الحصول تنبه طمع من كانوا يقنعون من قبل بثمرات أعمالهم أو أملاكهم فيأخذهم دوار الربح فيتدهورون في هذه المضاربة المخطرة فيؤدي ذلك إلى خراب ثروات عديدة وتجلب المصائب على أسرات كثيرة. وما ننس لا ننس الأزمات

المالية التي وقعت منذ ثلاثين سنة في فينا وبرلين ولندرا وحدث عنها إفلاس عظيم في الطبقات العالية والوسطى مما يثبت نتائج البورصة السيئة وما هي إلا بنت البذخ والزهو الجنوني في عصرنا. ولقد حدت الحال بالأمم أن ترقي درجة التعليم العام بداعي الجهاد المستمر العظيم في معترك الحياة الحاضرة فأخذوا يملأون رؤوس التلامذة الذين يتأهلون للصناعات العلمية والأدبية بأنواع المعارف فتضيق عن استيعابها ولا تقوى أجسادهم على تحمل ما ينهال عليها ويصرف من دقائقها فيصابون بأمراض طبيعية وعقلية وتضعف تراكيبهم عن تتميم وظائفها وتضطرب تغذيتهم والمساعدات على تراكيبهم النامية. والأمم التي تزعم أنها في مقدمة الحضارة والقيمة على أسبابها هي التي تجتهد كل الجهاد في هذا المعنى فتنفق النفقات الطائلة لتزيد في ترقية الشبان وإنارة عقولهم وزيادة عدد المدارس وتحسين مواد التعليم العالي والوسط والابتدائي. ولا يفوتنا النظر زيادة على ما ذكر من القوانين الفيسيولوجية (المختصة بوظائف الأعضاء) أن نفوذ القوى العقلية متوقف على كمية الأكسجين التي يحملها الدم إلى الدماغ وعلى الهواء الصافي الذي توفرت فيه مادة الأكسجين يشاركهما على تحسين مجرى الرئة وهو السبب الضروري لسلامة الوظائف العقلية. فإذا بطل هذا الشرط وأضيف إليه تهييج القوى العصبية الناتج من شغل عقلي طويل وخصوصاً في بعض التراكيب والأعمار يضعف مجرى الدم ويؤدي بالتدريج إلى الفقر الدموي الدماغي وإلى إنهاك القوة الفكرية ويبدأ ذلك بضعف الذاكرة وعدم الإمكان في تحديق النظر في الموضوعات المهمة والشبان الذين يتعاطون العلم يصابون غالباً بسوس الأسنان وقد ثبت لأحد أطباء برلين من إحصاء خمس سنين أن ثمانين في المائة ممن تقدموا ليكونوا متطوعين في الجيش مدة سنة لم يكونوا صالحين للخدمة. والفتيات اللاتي ينصرفن إلى الأشغال العقلية يصبن أيضاً بما يصاب به الفتيان من ضعف الدم والأمراض العصبية المختلفة وخصوصاً في سن البلوغ لان حالة المجتمع الحديث أصبحت تقضي على الفتيات أن ينصرفن جملة إلى الكد وإنهاك القوى للتغلب على رنق الحياة ومنهن من لا يجتهدن على هذا النحو إلا مجاراة لرغائب والداتهن أو عملاً بما يقتضيه التقليد. وإذا كان معظمهن عائشات غالباً في المحال المزدحمة ولا تسمح لهن

أحوالهن المالية بالعيش أبداً في أحياء معرضة للهواء وبيوت توفرت فيها شرط الصحة على بابها فقد أسفر ذلك عن انقطاع الحواس التنفسية عن بلوغ حدها الأعلى من الانبعاث لقلة التمرين الوظائفي مما يؤدي إلى بشاعة كثيرة ويفسد الأوضاع الجسدية ويفضي إلى الحسر (ضعف البصر) وانحراف العمود الفقري الشائعين بين الفتيان والفتيات في خلا سن البلوغ. وقصارى القول فقد أحدث القرن التاسع عشر تأثيراً في إصلاح الخيرات المادية والأدبية والعقلية في جميع طبقات المجتمع عامة وفي طبقات العملة خاصة فقلت قيمة ما أحدث وكلفت فوائده أهل الأجيال الحاضرة والمستقبلة كثيراً إذ لم يترك في الوجود غير كثير من المسائل الاجتماعية دون أن يحلها. وسيبقى الجهاد أبداً قائماً على ساق وقدم بين نصراء الطريقة القديمة والمجاهدين لتحقيق نياتهم في الارتقاء الحديث. بين رأس المال والعلم. بين حقوق المجموع وحقوق الأفراد. ومن الأسف أنا لا نزال في دور التجارب وإنا لنتطال إلى بلوغ عقل الإنسان مرتبة الكمال وهذا لا يتأتى إلا بالإنفاق من سائر التركيب النامي الذي يضعف فيعمل على الدماغ فتختلف الاضطرابات باختلاف القوى العصبية والأشغال العقلية والجنس والسن. وإفراط الشبان في الأشغال العقلية مضافاً إلى الاستكثار من ضروب الشهوات في سن الرجولية هو الداعي عند بعضهم إلى استنزاف مادة القوى ونفوذها العقلي ويؤثر في بعضهم من الجهاد في الحياة ومن مختلف ضروب الأطماع في نيل المراتب والمناصب الاجتماعية ويكون سببها عند بعضهم بذل قوى الأفراد الطبيعية والأدبية بأضعاف التركيب النامي بالاضطرابات والهيجان من كل ضرب. والحق يقال أن الإنسان قد تعلم بفضل ارتقاء الحضارة الحديثة طرق الوقاية من كثير من الأمراض بالعمل بالقوانين الفيسيولوجية أي بواسطة الأسباب الصحية في أعمال الحياة الخاصة والعامة. ولا يفوتنا أن تلك القواعد كانت في الأزمان الغابرة مجهولة فكان الضعفاء عرضة للهلاك بداعي قلة أسباب مدافعة العناصر العادية التي تتربص بهم الدوائر على حين فاز الأقوياء بما أرادوا من المنعة والوقاية وحيوا حياة طيبة عمروا فيها إلى أن تمتعوا بأولاد وبنين. هذا وقد توفرت اليوم دور الصحة للفقراء ومستشفيات السل والمصاح

والملاجئ والبيمارستانات لليتامى والعميان والصم البكم والمعتوهين والبله. وبالجملة فإن المجتمع يؤوي في حجره الفقراء والمرضى والبله والضعفاء وكل من أعوزتهم القوة وخانتهم أسباب الجهاد. وقد صار من لم يعيشوا من قبل إلا أياماً في حالة حسنة يعيشون معها ويكبرون ويتبسطون في هذه البيئة الصناعية كالنبات يعيش في بيت من الزجاج بمأمن من الأحداث الجوية وربما ولدوا أولاداً ضعافاً مثلهم وإن كانوا على جانب من الذكاء ولكنهم حرموا من الحدة الطبيعية واحتاجوا للوسائط الصناعية لينجحوا وقد ورثوا الأجيال اللاحقة تلك المفسدات العضوية التي لا تؤهلهم لبلوغ الأجل الأوسط من الحياة البشرية أو تعدهم للأمراض المهلكة التي تشتد وطأتها على الجنس الإنساني وخصوصاً في مراكز السكان الكبرى. وغير خاف أن نماء التجارة والصناعة في النصف الأخير من هذا القرن لم ينشأ عنه فساد هواء المدن بازدحام الناس في أنحائها وبما ينبعث من قاذوراتهم وعفنهم بل قد نتج منه شقاء الطبقة النازلة وانتشار الفجور والفساد والجرائم. وما من أحد يجهل أن السوقه في المدن الكبرى يحتالون أبداً للانتفاع من المفاسد البشرية وأماكن اللهو مثل محال القهوة والمجتمعات ودور اللعب والحانات والمواخير حيث ينفق بعضهم في اللعب ما اقتصده وآخرون ينفقونه في معاقرة المشروبات الروحية وفريق منهم يأتون في ناديهم المنكر وهم لا يتناهون. وأنت ترى بهذا أن حياة العيال المحبوبة آخذة بالضعف من حين إلى آخر كما أن التعلق بالبؤرة (المسكن) الأهلية آخذ بالفتور والانحلال. ولم تحدث محال القهوة والمجتمعات العامة إلا لضرورة اجتماعية ولتكون معهداً يختلف إليه التاجر والأديب في الأحايين وينتابه العامل في آونة عطلته. وقد استعيض عن الأخلاق والصلات البسيطة التي عهدت في الأزمان السالفة بغيرها من الأخلاق والعادات ولكنها نكدة مخالفة للطبيعة وأجدر بها أن تكون مكسوة بالطلاء اللامع من الظواهر من أن تكون لها حقيقة لا شائبة فيها.

حكم منتخبة من روايات شكسبير

حكم منتخبة من روايات شكسبير بارك الله في من يجعلون خيراً من الشرّ وأصدقاء من الأعداء الفاضلُ جسور والصالحُ لا يكون جباناً البتة كثيراً ما ننقض ما نصمم عليه فما القصد إلا عبد الذاكرة في مصائب الزمان امتحان ثابت للرجال لا يمكن أن نكون كلنا سادة ولا يمكن أن يطاع كل السادات طاعةً صادقة (إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع) أنقى كنزٍ يأتي به هذا الدهر الزائل هو الصيت النقيُّ فإذا فقد لا يكون الإنسان إلا تراباً مطلياً بالذهب أو طيناً مصبوغاً الجبان يموت مرات كثيرة قبل أن يأتيه الموت وأما الباسل فلا يذوق الموت إلا مرة واحدة (وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تموت جبانا) مما أوقن به أنه ليس للإنسان أن يقنط بتة بل عليه أن يجد وراء خير الأمور رغم ما يعارضه من أصعب الصعاب ما الحياة حتى نئن ولم هذا الضجيج هل أصابني جنون حتى أربي في نفسي ما ليس له من الثمر إلا المر وأني لأقلعنه من صدري ولو تأصل في قلبي الرجل الشريف يوثق به ثقةً تامة قيل أن الحبّ طفل لأنه كثيراً ما يخدع في ما ينتخبهُ لا يحتاج الحق إلى التلوين لان لونه ثابت ولا يحتاج الجمال إلى زينة الطلاء فإن الأحسن هو الأحسن بلا مزج أصلاً كن عظيماً في الإيمان وقوياً في الصبر على صروف الزمان إذا كنت أميناً يقاومك الأراذل بأجمعهم إذا كانت الأكذوبة محضة فمقابلتها ومقاومتها أمر سهل ولكن إذا كان فيها شيء من الصدق فقتالها عسر للذة والنقمة آذان صماء لا تسمع الحكم الصحيح الغلبة غلبتان إذا رجع الغالب وعدد جيشه وافر

الموت أمر حقير ولكنه يفني ويل الحياة ما الخير والشر إلا ما يظنه الإنسان خيراً أو شراً إذا لم نستفد من مجرى الزمان ذهبت مساعينا ضياعاً يفوقنا أولادنا بحذقهم كما تجاوزنا نحن حذق آبائنا فإننا عرفنا شيئاً وغابت عنا أشياء الناس لا يعتقدون بتوبة أحدٍ وهذا الحكم مصيبٌ غالباً لا فرق إن كانت أكياسنا ملآنة أو أثوابنا حقيرة فإنما العقل هو الذي يغني (لا شيء عظيم في الدنيا إلا الإنسان ولا شيء أعظم في الإنسان إلا العقل) الرجاء الصحيح سريع الجري يطير بجناحي الخطاف ويصير الملوك آلهة وما دونهم من الناس ملوكاً إذا وثق الإنسان بنفسه ثقة كاملة وكانت النفس كفءً فذلك من الأعمال العظيمة الرجل يحب في شبابه من الطعام ما لا يطيقه في شيخوخته إن نفس الكتاب الذي كتبت فيه خطاياي هو نفسي يخسر الرجال شهرتهم إذا لم يراعوها على نحو ما تخسر الجواهر مجدها إذا أهملت أَعنِ الفقير وأعضد المسكين وكلما تقدمت الحياة زد إقداماً وإحساناً إذا عبس الجو توعد بهياج قريب الرجل الشريف مفطور على الصلاح والكرم والفضل والصفات الحسنة لا يعلم المرء ماذا تأتي به كلمةُ السوء من تسميم الحب الزهور الجميلة بطيئة الظهور والعشب البري سريع ما الجمال الأخير باطل مشتبه وضياء لامع سريع الزوال وزهرة تذبل وتموت أوصيك أن تطرح عنك حب الرياسة فقد سقط الملائكة بهذه الخطيئة مادامت الأمور مجهولة وجب أن نحسب حساً بالأفظع ما يمكن أن يصيبنا عارٌ على من يضرب ويقتل لذنوب هو يحبها ويفعلها (لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيمُ) كثيراً ما يقنع صمت البراءة النقية حيث يخيب الكلام أدعُ الله فإنهُ السميع المجيب وهو أقرب إليك من حبل الوريد

الرجل الحكيم لا يجلس ويندب خسارته أبداً ولكنه يجدُّ بسرور في إصلاح ما ناله من الضرر الضربات الكثيرة ولو بفأس صغيرة تقطع أعظم الأشجار وتطرحها إلى الأرض إن نفس عيوننا كأحكامنا عمياء أحياناً قيمة العطايا برمتها تابعة لمقام المعطي من موجبات السرور أن يعمل الإنسان ما يجب متى سار في طريق مظلمة من الحكمة أن يعلم أشر الواقع إذا كنت معنياً بحياتك فاطرد الغفلة عنك وكن حذراً متيقظاً مهما كانت حالة الإنسان حسنة إذا لم يكن راضياً فحياته صائرة إلى غاية الشقاء (لكل شيء مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام إلا من رضي) بادر إلى ما يتيسر من الوسائل ولا تهملها (ولا أوفر شغل اليوم عن كسل ... إلى غدٍ إن يوم العاجزين غد) شر الرياح ما لا خير فيه لأحد (مصائب قوم عند قوم فوائد) بيروت يوحنا ورتبات

شبيبة عظيمين

شبيبة عظيمين ملخصة عن الإنكليزية كان غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا في صباه كما هو الآن خطيباً مصقعاً ولسنا مفوهاً لا تسنح له فرصة كلام إلا وتجد لسانه في النطق يسابق الكهرباء في السريان ولم يتخذ لمران قوة بيانه وفصاحة لسانه إلا أعقد المسائل السياسية وأهمها فلم يسمع منه في شبيبته سوى قراع الكتائب والسيف والمدفع وطبل الحرب وميدان الوغى. زادت حميته وقويت حجته وشكيمته في عهد أبيه المسكين الذي قضى أيام ملكه على فراش المرض وبين أيدي الطبيب والجراح ولقد نسي الابن إذ ذاك أباه ولم تأخذه عاطفة من عواطف حب الابن والده وتغلبت عليه شهوة الملك فكنت تراه في خلال مرض أبيه - وكان يقضي عليه أن يختفي عن الأنظار ويلازم فراشه في ساعاته الأخيرة ليخفف آلامه قبل أن يتجرع حمامه - لابساً ثياب الحرب ممتطياً صهوة جواده يطوف الطرق ويتنقل من بلد إلى آخر ويخطب القوم حتى قال فيه بعض كبار الساسة على ذاك العهد أن هذا الأمير كبعض الممثلين له شغف باللباس والكلام ولو كان من أبناء فرنسا لعذرناه على الطيش والحمق. ومن حسن حظ ألمانيا أن قيصرها لم يكن رجل قول بل كان الفعل أقرب إلى قلبه والعمل أسهل لديه من تحريك اللسان فلما تولى الملك استبدل الفتيان والصبيان بالشيوخ والكهول فجدد بذلك حياة الإمبراطورية وقيد اسمها في سجل الدول الكبرى التي يدير دفتها الشباب وتدبر أمورها الفتوة فكأنه قدَّ من حديد أو صيغ من فولاذ لا يستقر على حال يتجول في الأرض فكأنه ملك من ملوك القرون الوسطى تقمصت نفسه في نفس غليوم. أشتهر عن غليوم بأنه من رجال العمل ولكن شتان بين عمله وعمل غيره من الملوك وحسبنا على صدق هذا القول ما تكتبه الصحف عنه كقولها غليوم السائح وغليوم الخطيب وغليوم ينادي بأنه ملك ملوك الأرض وغليوم يؤنب أشراف مملكته ويمتدح جندها وإمبراطور ألمانيا يغير ثياب الجند وملابس رجال البلاط والقيصر غليوم يطرد بسمارك ويتفرد بالملك والسياسة وإمبراطور ألمانيا يضرب الأرض بأعدائه وإمبراطور ألمانيا الشاعر المصور المستعمر. وقد يعجز القلم عن ذكر ما للإمبراطور من الصفات الكريمة والسجايا الفاضلة التي تميز

الملوك عن غيرهم ومن تلك الصفات شجاعة الإمبراطور وأمانته وإصلاحه ويحكى عنه في صباه أن معلماً أراد أن يتقرب إليه في شبابه ليقربه الأمير أيام ملكه فدنا منه وأسرَّ إليه بأن الفحص سيكون في باب كذا من كتاب كذا. هذا ليجدَّ الأمير الصغير في التحصيل ويفوز على أقرانه في حلبة الامتحان ولكن شجاعة غليوم وإخلاصه عكستا آمال المعلم المتملق فإن الفتى صبر حتى جاء وقت الامتحان وتقدم بقدم ثابتة وجأش ساكن إلى لوحة الكتابة وكتب عليها يكون الامتحان في كذا كما أسرَّ إليَّ المعلم. وكان روزفلت رئيس الولايات المتحدة في شبابه يحتقر أكثر المشتغلين معه في السياسة لعلمه بأنهم ثرثارون لا يؤثر عنهم عمل يذكروهم فئة تقول ما لا تفعل وتخاف التصريح بآرائها وأفكارها ولقد كتب في صباه كثيراً وكان أغلب ما كتبه في المسائل السياسية والحربية التي عرضت له في حياته وله بعض الكتب في التاريخ وفنون الصيد والرياضة البدنية وغيرها يصف فيها الحياة في غرب أميركا. وكتب زهاء عشرين كتاباً في أقل من عشرين سنة. وقد ظهر أول كتاب من قلمه سنة 1882 ثم كمنت قوته الأدبية ست سنوات وأخرج بعدها في سنة 1888 رسالة كبيرة مزج فيها العلم بالسياسة وحلل فيها نظام الحكومة الجمهورية تحليلاً دقيقاً وباح بآراء مهمة جعلت له مركزاً سامياً بين أقرانه سيما وقد أفرغ في تلك الرسالة كل ما مر عليه من تجارب في ثماني سنين قضاها في وظائف الحكومة السامية ومن كتبه كتاب سير الأبطال وحياة الفكر والعمل وحياة أوليفر كرومويل وتاريخ نيويورك وقد جمعت وطبعت كلها في خمسة عشر مجلداً وله غير هذه الكتب مقالات كثيرة نشرت في المجلات الإنكليزية والأميركية. وقد صرح روزفلت بجميع أفكاره الحرة في كتاب كبير اسمه منتهى الكمال ضمنه ما استطاع من الآراء السياسية والاجتماعية وحلَّ فيه كثيراً من المشكلات التي عرضت له في صباه وقد أظهر روزفلت بهذا الكتاب للملأ أنه هو الرجل الوحيد الذي يمكن لأمة كبيرة قوية أن تضع ثقتها فيه. ومن آرائه في هذا الكتاب أنه ليس المجرم الحقيقي هو الذي يسلب ويقتل ويكون هدفاً لسهام العقاب والقصاص إنما المجرم الحقيقي هو السياسي أو الصحافي الكبير الذي يثق به الناس وهو غادر منافق يسعى لمنفعته الخاصة والمجرم

الحقيقي هو الغني الكبير الذي يلعب بالعدل ويعبث بالقانون ليموت ويترك بعده القناطير المقنطرة من الذهب للورثة الفاسدين. إن المجرمين الحقيقيين هم أرباب المال الذين يظلمون العمال الفقراء حقوقهم ويشربون دماءهم ويبذلون كل مرتخص وغال في سبيل الذهب ويسيرون إلى الأمام ولو فوق الجثث البشرية. وهاك شذرة من قلم الرئيس روزفلت يصف بها أرباب الملايين في أميركا قال: ليس في العالم أقبح خلقاً وإغراقاً في الدناءة وقلة الشرف من أرباب الملايين الذين ليس لهم عمل ولا غرض في الحياة يسعون إليه سوى جمع المال وحبسه عن المحتاجين والفقراء. ومن الأسف أنهم يجمعون تلك الأموال الطائلة ويحرزون ألوف الألوف من الذهب ليستعملوها في أغراض وغايات دنيئة فإن أحدهم يلعب بالأسهم المالية والشركات ويملك في يده زمام المضاربات فيفقر قوماً ويغني آخرين لمحض لذته وسروره أو يهب ابنه الجاهل مقداراً عظيماً من المال فيعيش الولد عيشة الكسل والخمول والفساد والفجور ويندفع في طلب الملاذ السافلة ويجري وراء شهواته الدنيئة أو يشتري لابنته زوجاً شريفاً فقيراً يلقب (بلورد) أو (دوق) لتكون (ليدي) أو (دوقة) وفي بعض الأحيان يؤسس مدرسة أو يجري رزقاً على كنيسة فينسى الناس ذنوبه الكبيرة بتلك الحسنة الصغيرة ويغضون الطرف عن عيوبه ويغفرون له خطاياه ويحسبون أن هذا العمل الحقير الخيري الذي تم على يده يبرر أعماله السابقة واللاحقة بأسرها. هذا الرجل هو الذي لا يحفل بالعمال الذين يموتون من أجله ويقتلون أنفسهم في معامله ومناجمه وهو يسلب حقوقهم ويهددهم بالطرد إذا شكوا إليه بثهم وهمهم وكلما أمكنه نقص من أجورهم وزاد ساعات عملهم وإذا سألته الحكومة في ذلك هزأ بها وسخر منها ومن دستورها وقوانينها. هذا الرجل خطر دائم على الحكومة والأمة لأنه يرى بعينه الفساد ولا يمد يده للإصلاح ويسمع بأذنه أخبار الرشوة المنتشرة بين الحكام والقضاة ولا يحرك لسانه بكلمة تعود بالنفع على وطنه الذي ينتمي إليه والجمهورية التي تحميه بل يجلس ويضحك كأنه من الدنيا في ملعب ولا يحس بأنه فرد من هيئة حية نامية عن الواجب الذي عليه نحوها قبل نفسه هذا هو المثري الأميركي الذي يحترمه الناس ويبجلونه ويشيرون إليه بأطراف البنان ويثنون عليه قائلين أنه من أرباب المال والأعمال. وإنك لترى في أميركا غير تلك العجول الذهبية وهم أكثر عدداً ولكنهم أقل خطراً وأعني

بهم أصحاب الأفكار المادية المحضة الذين لا يمدون يدهم إلى عمل إلا إذا علموا أنهم ينالون منه كسباً ولا يستحسنون شيئاً إلا إذا عرفوا أنه مال ومن المال وإلى المال. ولا يعرفون أن شاعراً واحداً يفيد الأمة بعرائس أفكاره أكثر ألف مرة من صاحب معمل لسبك الفولاذ في الولايات المتحدة ولا يعرفون أنه مهما زادت التجارة وكثرت الأرزاق ولت الواردات عن الصادرات لا تعوقنا تلك الأمور شيئاً عن الفضيلة الضائعة ولا يمكننا بها أن نحل المسائل الاجتماعية الهائلة التي تشغل الآن جميع الأمم المتمدنة ويقولون بأن التجارة والأملاك أقدس جانباً وأغلى ثمناً من الحياة والشرف والمجد بما لا يقدر على أن هؤلاء معذورون لأنهم لا يحسون بعاطفة كبيرة ولا ينبض في جسمهم العرق الذي ينبض في أجسام أهل الفضل. القاهرة محمد لطفي جمعة

تحية حبيب

تحية حبيب حي بلاد الشمال ... خلاق تلك المناظرْ يا ميُّ أين العهودُ ... هلا ولاك يعودُ=قد طال منكِ الصدودُ إني أسيرُ الغرام ... صريعُ لطف الحرائرْ بالله رقي لضعفي ... يا خيرُ محبوبَ واشفي=سقام مضنىً بطرفِ يخافُ وقعَ النبالِ ... ممن تفوق الجآذرْ إن جال يوماً بفكركْ ... خيالُ مضنىً بذكركْ=اسقيه من مسك سؤركْ نفسي أتتْ في خيالي ... زارتْ وعقلك فاكرْ إن كنتِ تمشين صبحاً ... بالروض والزهر أوحى=إليك معنى ونفحا فذا شعوري وحالي ... بدا بزي الأزاهرْ كمْ بتُّ أبكي لبعدي ... وما البكاء ليجدي=وكلما هاج وجدي من لطف أهل الدلال ... خشيت فضح السرائر كنا وكان اللقاء ... والشام فيها الدواء=حتى دهانا القضاء أيام صفو الليالي ... بالبين والكل ناكر لكن بعد الحبائب ... يهيج ما في الترائب=فالقلب يغدو يخاطب قلب المحب الموالي ... على ربوع الخواطر رودي مهب الجنوب ... فيه سلام الحبيب=ولن يخف نحيبي حتى أرى للوصال ... من الشمال البشائر بيروت عبد الرحمن شهبندر

عود الشباب

عود الشباب كانت العقول في أوربا قبل انتشار العلوم والفنون بين خاصتها وعامتها أشبه بالعقول الآن في معظم البلاد العربية تستهويها الخرافات والخيالات، وتستغويها الأباطيل والترهات، فيتلقى المرء فكره عن أمه ومرضعته، أو عن خادمه وخادمته، أو عن محيطه وبيئته، وكلها عوامل جهل مركب، وأدوات إضلال وانحلال. ومن ذلك ما كان القوم يذهبون إليه من المذاهب في إطالة الأعمار ويتناولون من أجله الأشربة والمعاجين، ويعمدون إلى اتخاذه من أساليب تنتهي بالموت لا بالحياة. ولا يزال فينا قسم عظيم من أهل التخريف، يعتقدون هذا الاعتقاد السخيف، ويعملون بوصفات وردت في بعض كتب الطب القديم التي ما كانت قط عند الثقات معمولاً بها أو يذكرها العجائز والشيوخ وينقلونها خلفاً عن سلف. وقد بحث هذا الشهر أحد علماء الإفرنج في أسرار الشبيبة فقال ما تعريبه: غصت الأجيال القديمة بالأساليب الغريبة لحفظ الشبيبة وكان المفكرون يصرفون من ذكائهم وأعمالهم شطراً كبيراً إرادة تمديد حدود الحياة البشرية. وما من حكيم إلا واهتدى إلى مذاهب في هذا الباب. وقد حوى علم التنجيم والكيمياء والطب وما يتصرف عليها من أنواع هذه الأدوية ألواناً وضروباً. نشر أحد أطباء الألمان في القرن الثامن عشر كتاباً رأى فيه أن خير ما يبعد الهرم ويبقي على الشباب ما استعمله النبي داود في شيخوخته قائلاً أن الجسم المثقل بالأيام يستفيد من الاحتكاك بالجسم القريب العهد بالولادة أي الجسم الهرم البالي من الجسم الفتي الشديد. وقد عمد إلى استعمال هذا الدواء كثير من أهل الحكمة والفلسفة ومنهم غاليين في القديم وهو عالم التشريح اليوناني المناقض لأبقراط في مبادئه الطبية وممن قال به في العهد الحديث روجر باكون الراهب العالم الإنكليزي الكبير المتوفى سنة 1294. ذلك لأنهم زعموا أن ريح الشباب تعدي الشيوخ والأجسام السليمة الجيدة التركيب ولاسيما الغضة الإهاب تزيد الشيوخ والضعفاء قوة لما ينبعث منهم من الروائح الطيبة والأبخرة السليمة الشهية ولما فيهم من المزايا والقوة. وعندما بلغ داود على ما في الكتاب الأول من سفر الملوك السبعين من عمره اقترح عليه خدمته أن يتزوج فتاة فانتفع بذلك. وارتأى كثير من الأطباء ومنهم كوهزن أن نفس الفتاة من أنفع الأمور للشيخ الهمّ قائلاً أن نفس القوي يقوّي كما أن نفس المسلول يؤذي. وما

على من شك في هذا إلا أن يذكر أن رائحة الزهور البلسمية تنعش منا الجسد وتحفنا بالصحة والبهجة. وتوسع كوهزن فذكر أمثلة كثيرة من رجال أوشكوا أن يقضوا نحبهم فأعيدوا إلى الحياة بما نفخ فيهم حاشيتهم من روحهم. وأورد بوريللي الفسيولوجي الطلياني المتوفى سنة 1679 وتاكيوس وغيرهم أسماء من أشرفوا على الموت وردت إليهم قواهم بما نفخ أصحابهم الصحاح الأجسام في أفواههم. وكذلك الشأن في استنشاق عرق الفتاة. قال كوهزن حدث أن فتى تزوج بعجوزة فعاد إليها شبابها ورجعت إليها قوتها وصحتها على حين كان زوجها يذبل كل يوم كالزهرة ويقترب من الشيخوخة فتراً وشبراً. وهكذا بلغ كورجياس دي ليونتيوم المائة والثماني سنين واناف ايزوكراتس الفيلسوف الآثيني على المائة سنة. دع عنك الفيلسوف زينون وتيوفراست وغيرهما ممن أعجب معاصروهم بقوتهم ونضرة وجوههم وقد نسب لويز كورنارو الطبيب البندقي المشهور جودة صحته في شيخوخته إلى بطانته بيد أن الباحثين لم يهتدوا إلى ضرر أنفاس الناس شباباً كان أصحابها أو شيباً إلا بعد أن ثبت ذلك لطبيبين نطاسيين سنة 1887 وأكدا أن الأنفاس سم ناقع وأن هناك طرقاً ثانية لعود الصحة الذاهبة والنشاط الضائع. ولقد كان لأطباء اليهود والرومانيين كافة طرق خاصة لإطالة الأعمار وكانت أدويتهم في هذا الشأن تختلف باختلاف الزمان والمكان كأن يحتوي بعضها على دهن الأسد وجلد الحرباء ودم الأطفال والبالغين ولكن هذه الأدوية لم يكن لها عمل في الأجسام غير إلقاء الحرارة فيها وبقي العمل بهذه الأدوية إلى القرن السابع عشر والثامن عشر أيام أخذ الطب والعلم يرتقيان وانقلب الطب ظهراً لبطن ولم يعد يقبل النسبة بين ماضيه وحاضره. وهناك أنواع كثيرة من المقويات والمنعشات وتكثير الحياة الذي كان يستعمله القدماء كالا كير الذي استعمله أحد أطباء السويد وبلغ به المائة والسبع سنين من عمره فأعتقد بنفعه كثيرون. والوسواس والإغراء ينفعان في مثل هذه الأحوال ولطالما أعانا أصحابهما على ما يريدون. نشر الكتاب في الغرب منذ تسعة قرون كتباً ورسائل في معنى إطالة الحياة وعددوا من انتفع بمقوياتهم ووصفاتهم من كبار الرجال ولم يعرف اليوم كيفية تحضير تلك المقويات وبقيت أخبار معظمهما مجردة لا مستند لها.

ولقد مضى على تأصل هذه الأوهام عشرون قرناً ولا يزال إلى يوم الناس هذا من يعتقد بأن العود إلى الشباب ميسور وأن لتلك الأدوية أثراً في النفع وما برحت أندية العلم تشتغل وتبحث وكل سنة نسمع باختراع جديد لطول الحياة قد ينجع بعضها بعض الشيء وقد تكون فائدتها أقصر من عمر الكرام. وما ننس لا ننس تجارب المجمع العلمي في لندن واللائحة التي تلاها الدكتور فبير وأعمال الأستاذ متشنكوف التي نشرها مؤخراً وأعمال كثير من الفسيولوجيين والأطباء والبيولوجيين وكلها ترمي إلى إلغاء الشيخوخة من سجل الوجود. وقد نشر منذ حين أستاذان من شيكاغو بحثاً ادعيا فيه أنهما يعيدان الشباب بالحقن بمصل عجلة ولم يثق الناس بأقوالهما. وهنا نغفل الأسباب التي تنهك صحة الشباب وتسارع بالهرم إلى الجسم ويقف على الذرائع التي تنتج النتائج السيئة فنقول: حاول كثير من علماء منافع الأعضاء أن يعينوا المقدار الضروري من الغذاء للإنسان في أدوار حياته واختلفت مناحيهم في ذلك إلا أن معظمهم في الغالب قد قدروا ما يلزمه زيادة عن الحاجة. ومن رأي التواتير أنه يكفي البالغ أن يتناول كل يوم 123 غراماً من الزلال (البومين) و125 من الدهن و400 من الهدروكربون (المواد التي تولد الحرارة). وقال رايك أنه يكفيه 100 و100 و240. وقال مولشخوت 130 و40 و340. وقال فوستر 631 و68 و494. وقال ارمند غوتيه أنه يكفيه 100 غرام من الزلال مضافة إلى 65 من الدهن و410 غرامات من الهدروكربون. واللحم يحتوي على 20 في المائة من الزلال فيكفي الإنسان أقل من رطل (مصري) من اللحم في اليوم لإيجاد الزلال اللازم ولا ينبغي أن يستعمل مع اللحم شيء آخر من المغذيات كالبيض والجبن وغيرهما. وأنت ترى فيما تقدم غلواً وإسرافاً. وفي الأبحاث الأخيرة أنه لا يكفي الجسم 40 غراماً من الزلال. وقال غيرهم من أكابر الأطباء المعاصرين أن 5 إلى 7 غرامات من الآزوت وهي توجد في 30 إلى 45 غراماً من الزلال تحفظ قوام الصحة وتقوم بحاجة أقوى الأجسام وهذه الكمية تتيسر بتناول بعض الأغذية النباتية وقد جرب أحد الأطباء فتناول كمية من الآزوت من 6 إلى 7 فكان من ذلك أن تحسنت صحته كثيراً وشفي من داء المفاصل الذي كان أصيب به منذ سنين كما ثبت نفع ذلك لغيره من أصدقائه بالفعل. وخفف ثمانية من طلبة كلية يال الجامعة في أميركا

طعامهم فانتهت بهم الحال أن اقتصروا على 50 غراماً من الزلال وهم ممن اعتادوا الرياضة البدنية العنيفة مثل ركوب الخيل والبحر والصيد وغيرها فجادت صحتهم أيما جودة. وارتأى أحد المتطببين في باريس أن إملاء المعدة بالطعام وهو مما عمت به البلوى بين الناس كلهم إجمالاً لا ينتج إلا الضرر فاختار لمن يطبهم الصيام - عملاً بالمأثور صوموا تصحوا - وقد جرب بنفسه فعل الامتناع عن الطعام مرات كثيرة فأسفر عن نجاح بين وثبتت لمرضاه فائدة الإقلال من الطعام بل الامتناع عنه في الأحيان. وكذلك كان مذهب الدكتور باردت في رأيه الذي عرضه على جمعية مداواة الأمراض الباريسية وأثبت خطأ قدماء الأطباء في كمية الغذاء المقتضي بزعمهم وقال بأن حواسنا تسمم بالإكثار من الغذاء ذاك الإكثار الذي يجلب لا محالة أمراضاً عضالة وأوصاباً كثيرة. ألا وإن الإفراط في تعاطي المشروبات والغذاء ليسبب عدة أمراض يكون من مجموعها سرعة الشيخوخة والهرم. ويا ما أشد هول الشره على الأجسام فهو خطيئة أصلية ينبغي تطهير الأرض منها وقلما نفكر معاشر البشر فيه على أن الطبيعة تعاقبنا من أجله عقوبات شديدة وتكافئنا فيه فلا نرعوي. متى جاء اليوم الذي يقتنع فيه الناس ببلغة من العيش وسداد من عوز ويقتصرون من الطعام على ما ينفع ولا يثقل المعد بشر الصحة والشباب بالقوة. ولقد أبان كثير من نطس الأطباء في كلية باريس الطبية أمثال هذه الملاحظات وأبان بعضهم الأضرار التي تنبعث من إكراه الأطفال على إطعامهم كثيراً. وحال الجسم في إثقاله بالأطعمة والزلال كحال آلة تجعل فيها كمتة من الزيت تفيض عن حاجتها فإنها تنتهي بالوقوف عن الجري على قانونها المعتاد وكذلك جسم الإنسان إذا أفضت عليه ما لا يحتمله ويكفيه أقل منه. وبعد فقد أصيبت اليوم الطبقة النازلة من الناس بنقمة الأشربة الروحية بحيث يموت عشرهم منها كما أصيب أهل الطبقة العالية بالنهم والشره والإكثار من المواد الزلالية وكلتا الطبقتين الغنية والشقية تلتقيان في طريق الآلام والأوصاب ومهما يكن من الأمر فإن الحرمان من الطعام أقل ضرراً من الإفراط فيه والجوع خير من الشبع. وإني لأرى أن يكف المكثرون من الأطعمة عن تناول أكثر من اللازم ويتركوا الفائض عن حاجتهم لأولئك

المعوزين المحاويج فيحفظون بذلك سلامتهم فينتفع بذلك الأغنياء والفقراء معاً. فإن التكافل نافع على كل حال وقد أبان علم إطالة الأعمار فوائد الغيرية الاجتماعية وبعبارة ثانية الإيثار على النفس وفائدة الإقلال والاعتدال والامتناع عن الإكثار والإقلاع عن المضار.

من ملاهي الأندلسيين

من ملاهي الأندلسيين ذكر الشقندي في رسالته تفضيل الأندلس على بر العدوة في آثارها وحضارتها وفيما خصت به كل بلد من المزايا الطبيعية والصناعية مما يشبه فرنسا لهذا العهد أنه سمع ما في اشبيلية من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والفنار والزلامي والشقرة والنورة وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه والبوق وإن كان جميع هذا موجوداً في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد قال وبابدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك وإخراج القرى والمرابط والمتوجه. (كذا).

صحف منسية

صحف منسية شذرات حكمية سئل أبو سليمان المنطقي لِمَ لم يصف التوحيد في الشريعة من شوائب الظنون وأمثلة الألفاظ كما صفا ذلك في الفلسفة فقال: إنا لا نظن أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم، وعرف حقيقة أقوال متقدميهم، بل كان في القوم من رأى رأي العامة وحط إلى ما حطت إليه ولم يبن منهم كثير شيء مع قدم الزمان ولقاء المحققين الفاضلين وهذا إذا حل لا يكون قادحاً فيما نصصناه من القول في حقائق التوحيد الذي ظفر به خلصان الحكمة، وفرسان الصناعة، على أن الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية ومن العبرانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق إخلالاً لا يخفى على أحد ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع، وتصرفها الواسع، وافتنانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص، ولو كنا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضاً ناقعاً للغليل وناهجاً للسبيل ومبلغاً إلى الحد المطلوب ولكن لابد في كل علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها وذلك للعجز الموروث عن الهيولى، والضعف الثابت في الطينة الأولى، وهذا لكي يكون الله تعالى ملاذاً للخلق ومعاذاً للعالم. قال أبو حيان لأبي سليمان ما الفرق بين طريقة المتكلمين وبين طريقة الفلاسفة فقال ما هو ظاهر لكل ذي تمييز وعقل وفهم طريقتهم مؤسسة على مكايل اللفظ باللفظ وموازنة الشيء بالشيء إما بشهادة من العقل مدخولة وإما بغير شهادة منه البتة والاعتماد على الجدل وعلى ما يسبق إلى الحس أو يحكم به العيان أو على ما يسنح به الخاطر المركب من الحس والوهم والتخيل مع الألف والعادة والمنشأ وسائر الأعراض الذي يطول إحصاؤها ويشق الإتيان عليها وكل ذلك يتعلق بالمغالطة والتدافع وإسكات الخصم بما اتفق وإتمام القول الذي لا محصول فيه ولا مرجوع له مع بوادر لا تليق بالعلم ومع سوء أدب كثير نعم ومع قلة تأله، وسوء ديانة، وفساد دخلة، ورفض الورع بتحمله، والفلسفة أدام الله توفيقك محدودة بحدود ستة كلها تدلك على أنها بحث عن جميعها في العالم من ظهر للعين وباطن للعقل ومركب بينهما ومائل إلى حد طرفيهما على ما هو عليه واستفادة اعتبار الحق من جملته

وتفصيله ومسموعه ومرئيه وموجوده ومعدومه من غير هوى يمال به على العقل ولا ألف تغتفر معه جناية التقليد مع أحكام العقل الاختياري وترتيب العقل الطبيعي وتحصيل ما ندَّ وانقلب من غير أن يكون أوائل ذلك موجودة حساً وعياناً وكانت محققة عقلاً وبياناً ومع أخلاق الهيئة واختيارات علوية وسياسات عقلية ومع أشياء كثيرة يطول ذكرها وتعدادها ولا تبلغ أقصى ما لها من حقها في شرفها. ثم قال وكان شيخنا يحيى بن عدي يقول أني لأعجب كثيراً من قول أصحابنا إذا ضمنا وإياهم مجلس نحن المتكلمون ونحن أرباب الكلام والكلام لنا بنا كثر وانتشر، وصح وظهر، كأن سائر الناس لا يتكلمون أو ليسوا أهل الكلام لعلهم عند المتكلمين خرس وسكوت. أما يتكلم يا قوم الفقيه والنحوي والطبيب والمهندس والمنطقي والمنجم والطبيعي والإلهي والحديثي والصوفي قال وكان يلهج بهذا وكان يعلم أن القوم قد أحدثوا لأنفسهم أصولاً، وجعلوا ما يدعونه محمولاً عليها ومسؤولاً من عرفها وإن كانت المغالطات تجري عليهم ومن جهتهم بقصدهم مرة وبغير قصدهم أخرى قال وكان يصل هذا كثيراً بقوله والدليل على أن النحو والشعر واللغة ليس بعلم أنك لو لقيت في البادية شيخاً بدوياً قحاً محرماً لم ير حضرياً، ولا جاور أعجمياً، ولم يفارق رعية الإبل، وانتياب المناهل، وهو على قبح هيئته التي لا يشق غباره فيها أحد منا وإن كلف (كذا) فقلت له هل عندك علم قال لا: هذا وهو يسير المثل، ويقرض الشعر، ويسجع السجع البديع، ويأتي بما لو سمعه واحد من الحاضرة وعاه واتخذه أدباً، ورواه وجعله حجة، وكان يقول هذه الآداب والعلوم هي قشور الحكمة وما انتثر منها على فائت الزمان لأن القياس المقصود في هذه المواضع والدليل المدعى في هذه الأبواب معها ظل يسير من البرهان المنطقي والرمز الإلهي والإقناع الفلسفي. قال أبو حيان رويت لأبي سليمان كلاماً لبعض المتصوفة فلم يفكه ولم يهش عنده وقال لو قلت أنا في هذه الطريقة شيئاً لقلت: الحواس مهالك، والأوهام مسالك، والعقول ممالك، فمن خلص نفسه من المهالك، قوي على المسالك، ومن قوي على المسالك، أشرف على المهالك، شرفاً يوصله المالك، قال أبو الخطاب الكاتب الشيخ هذا والله أحسن من كل ما سمع منهم فلو زدتنا منه فقال: الحواس مضلة، والأوهام مزلة، والعقل مدلة، فمن اهتدى في الأول

وثبت في الثاني أدرك في الثالث ومن أدرك في الثالث فقد أفلح ومن ضل في الأول وزل في الثاني خاف ومن خاف في الثالث فهو من الهمج واستزاده مظهر الكاتب البغدادي فاستعفى قال: هذا حديث قوم أباعد منا على بعض المشاكهة. قلنا وما قلناه كاف فيما قصدنا فإن استتب خفت العار، واستحليت الغار، (كذا) ولكل أفق يقطفون منه، ولولا هذه اللطائف التي هي شعلة النفوس الوافرة والناقصة، لكانت الصدور تتقرح بأساً، والعقول تتحير يأساً، والأرواح تزهق كمداً، والأكباد تتفتت صمداً، فسبحان من له القدرة وهذه الخليقة، وهذه الأسرار في هذه الطريقة.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات المقابسات في المؤلفين ناس رزقوا الحظ في مؤلفاتهم فانتشرت في حياتهم وبعد مماتهم انتشاراً وأي انتشار ومن هؤلاء الغزالي والماوردي وابن جرير وابن تميمية ومنهم من بقيت تواليفهم مستورة عن الأعين أحياء وأمواتاً ولم ينالوا الحظوة فيها كأن يكون من تلامذتهم أو أولادهم أو أصدقائهم من يحتفظ بما كتبوه وينشره في كل أفق على نحو ما فعل ابن الرومية ونشر في المشرق كتب ابن حزم ولولاه لما أبقى منها التعصب باقية. والغالب أن أبا حيان التوحيدي صاحب كتاب المقابسات هو من أهل الفئة الثانية إذ لم أر واحداً في العشرة من الخاصة من سمع باسمه دع عنك من قرأ له رسالة أو فصلاً مع أنه من أمراء الإنشاء وجهابذة الحكماء والعلماء. نشأ المؤلف في زمن خدمه السعد وحف بالبركة بفضل قوة الاستمرار وما كان في العصرين الزاهرين قبله من علية العلماء وجلتهم والعلم لا يذكو إلا بالأمن والراحة ولا يغني غناءه إلا إذا تسلسل في أجيال عدة حتى صار لهم ملكة راسخة وسنة متبعة. والتوحيدي علي بن محمد نسبة لنوع من التمر ببغداد يقال له التوحيد قال ابن قاضي شهبة وإنما قيل له التوحيدي لأن أباه كان يبيع التوحيد ببغداد وعليه حمل بعض من شرح ديوان المتنبي قوله: يترشفن من فمي رشفت ... هنَّ فيه أحلى من التوحيد قال ابن خلكان إن أبا حيان كان قد وضع كتاباً سماه مثالب الوزيرين ضمنه معايب أبي الفضل ابن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليهما وعدد نقائصهما وسلبهما ما اشتهر عنهما من الفضائل والأفضال وبالغ في التعصب عليهما وما أنصفهما قال وكان أبو حيان فاضلاً مصنفاً له من الكتب المشهورة الإمتاع والمؤنسة في مجلدين وكتاب البصائر والذخائر وكتاب الصديق والصداقة. وتوفي أبو حيان على رأس الأربعمائة. وكلام المرء أحفل ترجمة تعرب عن صفاته ومناقبه. ولأبي حيان من الكتب كتاب المقابسات وهو صغير الجرم كبير الفائدة ذكر فيه وأكثره من محفوظه بعض ما وقع له من مفاوضات علماء عصره في بغداد وكانوا يجتمعون في دار

أبي سليمان المنطقي وعنه أكثر مروياته فيتذاكرون في موضوعات شتى في الفلسفة والأدب. وأكثرها على طريق السؤال والجواب لرجال جمعت بينهم كلمة العلم والحكمة وهذبت نفوسهم الآداب الحقيقية ولم يفرق بينهم اختلاف نحلهم ومذاهبهم. والعلم أعظم دين جامع بين عباد الله. المقابسات اقتبسها أبو حيان من مساجلات إخوانه في الحكمة مثل أبي سليمان المنطقي وهو محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني وأبي زكريا الصيمرى وأبي الفتح البوشجاني وأبي محمد المقدسي العروضي وأبي بكر القومسي ويحيى بن عدي وعيسى بن ثقيف الرومي وابن مقداد وأبي القاسم الانطاكي وكان يعرف بالمجتبى وأبي محمد الأندلسي النحوي وأبي اسحق الصابي والخوارزمي الكاتب ووهب بن يعيش الرقي وابن سوار وماني المجوسي وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري وعبيد الكاتب والبديهي وأبي اسحق النصيبي وأبي علي عيسى بن زرعة المنطقي ومظهر الكاتب وأبي الخطاب الكاتب وغيرهم من كل من هو واحد في شأنه وفرد في صناعته. والغالب أن مذهبهم في الفلسفة كان مذهب أرسطاطاليس شأن معظم المتأخرين من فلاسفة الإسلام كما قال الشهرستاني في الملل والنحل مثل يعقوب بن اسحق وحنين بن اسحق ويحيى النحوي وأبي الفرج المفسر وأبي سليمان السنجري وأبي سليمان محمد المقدسي وأبي بكر ثابت بن قرة وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي وأبي محارب الحسن بن سهل بن محارب القمي وأحمد بن الطيب السرخسي وطلحة ابن محمد النسفي وابن حامد أحمد بن محمد الاسفزاري وعيسى بن علي الوزير وأبي علي أحمد بن مسكويه وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري وأبي الحسن العامري وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي وغيرهم وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا قد سلكوا كلهم طريقة أرسطاطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطن والمتقدمين. وقد عرف أهل الهند فائدة هذا الكتاب فطبعوه فيما أعلم مرتين والغالب أن النسخة الأصلية يغلب التحريف عليها كثيراً حتى يكاد المعنى لا يفهم. وقد نقلنا منه شذرات في باب الصحف المنسية. وفي الكتاب دليل على حرية ذاك العصر وانطلاق الأفكار فيه ولطالما

كان العلماء الذين أخذ عنهم أبو حيان يقولون في مجالسهم عند احتكاك الأفكار وظهور بوارق الحق: يا حسرة الطبيب والمهندس والمنجم والموسيقار والمنطقي والكلامي وجميع أصحاب النظر والقياس على أنهم ما عرفوا التشنيع على علم لا يعلمونه بل كانوا يجلون أقدار أصحاب الصناعات والأفكار على اختلاف طبقاتهم وجمعية أصحاب المقابسات كانت من الجمعيات المرتقية في الإسلام وكان لها أمثال وكل أفرادها من أهل الأخصاء. وللمؤلف كتاب اسمه الإشارات الإلهية في التصوف أطلعت على الجزء الأول منه في خزانة الكتب الظاهرية بدمشق. طبقات الشافعية الكبرى شرع حضرة الشريف مولاي أحمد القادري المغربي بطبع هذا الكتاب بمصر لمؤلفه تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب ابن تقي الدين السبكي وهو في ستة مجلدات جاء الأول منه في ثلاثمائة صحيفة وليس هو مقصوراً على تراجم رجال المذهب بل هو كما قال مؤلفه كتاب حديث وفقه وتاريخ وأدب. وقد قسم حفاظ الشريعة لعهده إلى عشرين طبقة وترجم أصحابها على طريقة الفقهاء لا طريقة المؤرخين. واستفدنا منه أن أول من صنف في الطبقات أبو حفص عمر بن علي المطوعي المحدث الأديب صنف لأبي الطيب سهل الصعلوكي كتاباً سماه المذهب في ذكر شيوخ المذهب ثم القاضي أبي الطيب الطبري وأبي عاصم البغدادي وأبي اسحق الشيرازي وأبي محمد الجرجاني وأبي محمد عبد الوهاب الشيرازي وأبي حسن البيهقي المعروف بفندق وأبي النجيب السهروردي وابن الصالح وأبي زكريا النووي والحافظ المزي وعماد الدين بن باطيش. وقد جعله الطابع بالاشتراك فجعل من يدفع الاشتراك دفعة واحدة خمسين قرشاً ومن يدفعه بعد تمام الطبع ثمانين مع أجرة البريد. يخابر بذلك محل الحاج محمد ساسي بالقاهرة. وسنتكلم على هذا الكتاب بعد مطولاً. فنشكر للطابع عنايته ونرجو له حسن التوفيق إلى إنجازه. آراء المدينة الفاضلة أهدانا الأديب الفاضل الشيخ مصطفى القباني نسخة من هذا الكتاب تأليف المعلم الثاني أبي نصر الفارابي من فلاسفة الإسلام وقد قدم له ترجمة لطيفة للمؤلف. والكتاب على أسلوب متدين عاقل ومما طربنا له القول في خصال رئيس المدينة الفاضلة ومضادات المدينة

الفاضلة وآراء أهل المدن الجاهلة والضالة. وهذا الكتاب مما يقرأوه المطالع ويعيد مطالعته لجمعه بين الفائدة واللذة وجودة تنسيقه وتأليفه. فنثني على ناشره أجمل ثناء وهو يباع في محله بخان الخليلي بمصر. البيان وافانا العدد الأول من السنة الخامسة لهذه المجلة النافعة وهي تصدر بالعربية والأوردية في مدينة لكنأو من بلاد الهند لمنشئها الفاضل المولى عبد الله العمادي وتحت إدارة الفاضل الشيخ عبد العلي المدراسي وقد أخذت تصدر مرتين في الشهر بعد أن كانت تصدر مرة ساعية في تهذيب حال الأمة الإسلامية في عوائدها وأخلاقها متوخية إظهار الحقائق العلمية وإبداء الآراء الحكمية والإلمام بسيرة رجل عظيم أثر بعض الأثر في المجتمع الإنساني وأندية العلم وحلقات الأدب وقيمة اشتراكها 15 شليناً خارج بلاد الهند فنرجو لها الإقبال الذي تستحقه ويستحقه منشئها الأديب.

تدبير الصحة

تدبير الصحة أوان المسكرات نشر الدكتور شارل دانا أستاذ النرولوجيا في كلية كورنل من ايتاكا في أميركا نتيجة أبحاثه في المشروبات الروحية فثبت لديه من حوادث كثيرة أن أوان إدمان المسكرات يبتدئ قبل سن العشرين وأن قليلاً من الناس يتعاطونها بعد سن الأربعين. ومن رأيه إذا أرادت الحكومات أن تفلح في مقاومة المسكرات أن تحظر مبيع الكحول إلى كل ولد أو شاب قاصر بعقوبات شديدة تجري أحكامها على من يخالف ذلك من المتجرين بها وهذه أنجع واسطة لإقلال عدد من اعتادوا هذه العادة السيئة في إدمان الخمور. قال أن جمعيات الامتناع عن المسكرات في إنكلترا وخصوصاً في ايرلندا تمنح جوائز من المال لمن يمتنعون كل الامتناع عن تناول الكحول إلى الخامسة والعشرين من سنهم وهذه الطريقة جيدة لأن كثيراً من الشبان لا ينقضون يميناً أقسموه في هذا المعنى خيفة أن لا يقبضوا ما وعدوا به من الدراهم ولو جرت بعض البلاد التي تضعف أبنائها إرادة النفوس على قانون تضعه في عقاب بائعي المسكرات من تغريمهم وحبسهم مثلاً لأتى ذلك بفوائد جمة. ويظن هذا العالم أن هذه الطريقة تؤثر في سير المسكرات تأثيراً محسوساً في بضع سنين بمعنى أنها لا تزيل أثرها بل تقلل من عدد من يتعاطونها ويقل سواد من تضر بهم. وقد عمدت إنكلترا إلى اتخاذ مثل هذا التدبير ولكن المسكرات ما برحت في بلادها تخرب الأجسام وتزيد الأسقام. وقد جاء في إحصاء أخير إن عدد الممتنعين عن المسكرات في إنكلترا ثلاثة ملايين وعدد الأولاد ممن سنهم دون الخامسة عشرة أربعة عشر مليوناً فبذلك كان عدد من يتعاطون المسكرات في إنكلترا أربعة وعشرين مليوناً يصرف كل منهم في السنة ما قيمته 135 فرنكاً من المشروبات الروحية. ويقدرون أن كثيراً من أسرات العملة في إنكلترا تنفق سدس ما لها على المسكرات وأن ما ينفق على المسكرات في إنكلترا كل سنة يعادل ما أنفقته حكومتها على حرب البوير. هكذا يبحث علماء أمم لا حظر في أديانها على المشروبات الروحية فما هو حال شعوب أصبحت تتعاطاها من غير حرج ولا نكير من دون ما حاجة إليها إلا تقليد الغربيين على أن ديانتهم تحظرها وعاداتهم تنكرها وأصقاعهم لا تحتملها.

السياحة والصحة كان البشر منذ عرف التاريخ يسيحون في الأرض إلا أن سياحاتهم الأولى كانت للغارة والفتح فلما ارتقوا قليلاً في سلم التمدن صارت السياحات للعلم والاتجار ولما أوغلوا في المدنية صارت أكثر الرحلات لحفظ الصحة. ومنذ تسلط الإنسان على المملكة الحيوانية بعد أن كان في عهده الأول يألف البحيرات ويسكن المغاور والغابات مازال معروفاً بميله إلى الرحلة ونزوعه إلى التنقل فطرة فيه يتنقل كما تتنقل بعض الحيوانات والطيور ثم تعود أدراجها إلى كهوفها وأوكارها محافظة على طريقها الأول. ولم تكن السياحة في هذا القطر مثلاً ضرورية لأبنائه ونزلائه قبل ثلاثين سنة كما هي اليوم وقد زادت مرافق الحياة واتخذت أسباب تحسين الهواء وأقيمت المعالم النافعة لأن مشاغل الحياة ومتاعب المجتمع كانت أقل من الآن وأطعمة تلك الأيام وأشربتها كانت إلى البساطة أقرب وطرق العيش كانت إلى السلامة. فالعيش اليوم في مصر أشبه بالعيش في لندن وباريس مع أن الطريقة القديمة كانت ملائمة لهواء البلاد أكثر. وشتان بين طبيعة غربي أوربا وشرقي إفريقية. وقد ارتأى أحد أطباء الإفرنج في هذه العاصمة أن خير طريقة يلجأ إليها من لا يستطيعون مغادرة هذه البلاد في الصيف أن لا يفرطوا في شيء أصلاً ويعيشوا هادئين ويخففوا من العمل ومن الطعام فيتناول المرء في الصباح والمساء طعاماً لطيفاً ولا يأكل عند الظهر ما تتعب المعدة بهضمه بل يتناول قدحاً من الشاي وشيئاً مما يقال له التملق (عصرونية) وأن يعتدل جداً في تناول الأشربة الروحية أو يمتنع عنها كل الامتناع وهو الأسلم ويستحم في النهار والليل بالماء البارد مرتين أو ثلاثة ولاسيما في منتصف الليل ليستريح الجسم من وعثاء التعب وبرحاء القيظ والحر. قال والسياحة ضرورية لمن لم يولد في هذه البلاد ريثما يكون من أبناء أبنائه من يألفون إقليم البلاد أما المصري فإن السياحة تكسبه صحة وتجعل فيه قوة ومضاء وتفيد من حيث الاطلاع على معالم الحضارة وآثار العلم والتهذيب. طول الأعمار شغل هذا الموضوع بال الباحثين من العلماء ومن رأي أحد حذاق الأطباء العارفين بعلم الحياة أن العمر يطول مدة تبلغ ست أو سبع مرات من المدة التي يقضيها الحيوان ليستكمل نموه ويبلغ أشده فالقط ينمو في 18 شهراً ولذلك كان معدل حياته من 10 إلى 12 سنة

والكلب يكبر في سنتين فيعيش من 13 إلى 14 سنة والخيل تنمو في خمس سنين فمعدل حياتها من 15 إلى 30 سنة فنتج من ذلك أن الإنسان لما كان ينمو في عشرين سنة فمعدل عمره من 120 إلى 140 سنة وقد أورد على ذلك برهاناً أن هنري جانكين الإنكليزي عاش 169 سنة وانه مات في بلاد المجر في العهد الأخير بطرس سكورتان وعمره 185 سنة وانه كان في مستشفى بروسيا رجل بلغ المائتي سنة وبيده جواز أعطيه سنة 1763 وكان في سن الستين وهو أيم منذ 123 سنة ومات ابنه سنة 1824 في التسعين من عمره. وقد ارتأى أن اللبن والملح والخبز الجيد والإقلاع عن المشروبات الروحية أعظم باعث على طول الأعمار.

سير العلم

سير العلم خطوط الناس في الغرب فريق كبير يقولون بمعرفة الرجال من النظر إلى خطوطهم ويدعى هذا العلم بالغرافولوجيا فيدعون أن خط المرء صورة منعكسة عن روحه كما أن كتابته تشعر بصفاته. وقد ارتأى أحد الأطباء مؤخراً أن هذا العلم ينفع في تشخيص الأمراض فلا يسأل الطبيب مريضه عن حاله وما أتاه من الأعمال ويسمع من فيه ما تلقيه عليه المخيلة أو توحي إليه به السوداء بل يتقدم إلى مريضه ويستكتبه أسطراً يتعرف بها لأول وهلة حالة صحته فإذا حروفه مائلة بعض الميل ثابتة الأواخر دلت على ظرف صاحبها وإذا كانت على العكس من ذلك رخوة لا إشباع فيها دلت على قلة إحساسه وهكذا جعل لكل خط صورة تنبئ عن كاتبه وربما يعرف بها مزاجه وكرازة يديه وبسطها في دفع أجرة الطبيب. قالت الصحيفة التي ننقل عنها ولاشك أن أشياع هذا المذهب يتكاثرون بعد. سبر الأغوار هي آلة اخترعها مخترع نروجي وسماها (بانيمتر) يتأتى بواسطتها سبر غور البحار بالضبط وهي كما جاء في إحدى المجلات العلمية مصنوعة على مبدأ رجوع الأمواج الداوية التي تعود إذا انبعثت إلى النقطة التي خرجت منها بعد أن تلطم أسفل المحيط وبعبارة ثانية هذه الآلة قائمة على مبدأ الصدى وهي كناية عن آلة ناقلة وآخذة ومقيدة. ضباب البحار اخترع أحد الألمان آلة يهتدي بها ربان السفينة في الضباب الكثيف إلى السفينة القريبة منه ويعرف المسافة التي بقي عليه أن يجتازها ليكون منها قاب قوسين أو أدنى وذلك فيما إذا حال الضباب فلم تنتبه تلك السفينة إلى رفع الإشارة البحرية المتعارفة اليوم وبذلك لا تصطدم باخرة مع أخرى. عشرون سنة على أميركا زار أحد أعضاء دار الندوة الإنكليزية بلاد الولايات المتحدة سنة 1885 وعاد فزارها هذه السنة فدهش من ارتقاء تلك البلاد بمادياتها في العشرين سنة الأخيرة قال ويظهر أن كل طبقة من طبقات المجتمع هناك أغنى من الطبقة التي تقابلها في أوربا. ومما وقع في نفسه

موقع الاستغراب ارتقاء التعليم العالي إذ ترى اليوم في تلك البلاد من 15 إلى 20 كلية جامعة تجاري أشهر كليات أوربا وكل سنة يتضاعف عدد طلبتها ففي كلية يال من التلامذة ما يربو عددهم على طلبة كلية اكسفورد الإنكليزية وفي خمس كليات في شرقي أميركا من الطلبة ما يزيد على عدد طلاب الكليات في إنكلترا بأسرها. قال أن الذوق العام والشعور الأدبي قد بلغا عند الأمريكان اليوم مبلغ الكمال وعيش الطبقة العالية منهم خير من عيش الطبقة التي تقابلها في إنكلترا وأحسن سبيلاً وقد بقي في أميركا الآن ثلاثة أمور لم يدخلها قلب ولا إبدال ألا وهي الحياة السياسية والإدارات البلدية ومسألة العبيد وهذه المسالة لا تزال على ما كانت عليه منذ عشرين سنة. الانتقاد الأدبي رأى أحد علماء فرنسا أن يجعل للنقد طريقة أنجع من طريقته المتبعة الآن وذلك بأن لا تنقد إلا الكتب أو الروايات التي وافقت على استحسانها جمعية مطالعة مؤلفة من طبقة عالية من الصحافيين والمؤلفين ويرى أن هذه الطريقة مما يزيد به انتشار الكتاب ويبعث القراء والمبتاعين على مطالعته وابتياعه.

مقالات المجلات

مقالات المجلات طبقات الناس في مجلة فرنسية بحث في أنه من المتعذر علمياً جعل الناس في طبقة واحدة من المسؤولية وعدمها وانه ليس من العدل تقسيمهم إلى طبقتين غير مسؤولة وهي المجانين ومسؤولة وهي العقلاء بل ينبغي تقسيمهم إلى ثلاث العقلاء المسؤولون والمجانين غير المسؤولين ونصف المجانين نصف مسؤولين. التعليم في يابان تناقلت المجلات العلمية ما هو موضوع البحث بين المجلات اليابانية اليوم من إنشاء مدارس جديدة وقد اختلفت آراء اليابانيين في طريقة التعليم فبعضهم يريدون أن تتعدد الدروس والفنون في المدارس وبعضهم يودون الإقلال منها لئلا تشغلهم النظريات عن العمليات. ورأى بعضهم أن التعليم على ما هو عليه عندهم الآن في معظم المدارس ناقص الجهاز عقيم الأسلوب إذ أن التلامذة يتعلمون اللغات الأجنبية ولا يتقنونها ولا يكتبون فيها ولا يقرأون فيجيدون وقد حسدوا أهل الغرب على أنهم يكثرون من مواد التعليم في مدارسهم الابتدائية والوسطى والعالية ليعدوا عقول التلامذة للاكتشاف والاختراع. مناجاة الأرواح المقتطف - إن انخداع الناس بما يرونه ويسمعونه أكثر مما يظن لأول وهلة فقد اتفق مراراً أن شاهدنا بعض المدعين مناجاة الأرواح نحن وجماعة من الأدباء فخيل لهم أنهم رأوا وسمعوا ما لم نره نحن ولا سمعناه وزاد الفرق بيننا وبينهم حينما تكلم كل منا عما رآه وسمعه فإن الوهم صور لهم الأمور على غير حقيقتها حتى صرنا نرتاب في كل ما نسمعه من غرائب التنويم ومناجاة الأرواح. فإن كانت روح الميت تبقى في هذه الدنيا حول الأحياء تناجيهم وتؤثر فيهم وتسمع كلامهم وتجيب طلبهم فعلى ما لا تفعل أهم شيء يزول به الأشكال وهو أن تقول للأحياء أنا روح العالم فلان جئتكم لأثبت لكم ما كنت أنكره. إن أشهر من ادعوا مناجاة الأرواح اعترفوا أخيراً أنهم كانوا يستعملون الحيل لخداع الناس. إن الأرواح التي يزعم مستحضروها إنها أرواح الموتى لا تفعل إلا أسخف الأعمال وأحقرها فلا تكشف سراً في كشفه فائدة لأحد ولا تسيء بأمر من الأنباء به نفع ما مع أن

مستحضريها يدعون أنها تفعل ما هو أقرب من ذلك ومن يصدقون بمناجاة الأرواح ويمارسون ذلك تضعف قواهم العصبية رويداً رويداً وينتهي أمرهم إلى الجنون ومن كانت أعصابه كذلك لا يركن إلى أحكامه وتصوراته. ثم إن مدعي استحضار الأرواح مشعوذون كلهم ماهرون في تحويل انتباه الذين أمامهم عن الأمور الجوهرية في حيلهم أي ما لا علاقة له بها. والمكان والزمان لا يصلحان للبحث والتنقيب فيتعذر على الرائي أن يكتشف الحيل لاسيما وهو غير معتاد على ذلك. الطوتمية الهلال - الطوتم لفظ دخل اللغات الإفرنجية في أواخر القرن الثامن عشر من لغة أوجيبي من هنود أميركا ويراد به كائنات تحترمها بعض القبائل المتوحشة ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين واحد منها يسميه طوتمه وقد يكون الطوتم حيواناً أو نباتاً أو غير ذلك وهو يحمي صاحبه وصاحبه يحترمه ويقدسه أو يعبده وإذا كان حيواناً لا يقدم على قتله أو نباتاً فلا يقطعه أو يأكله وتختلف الطوتمية عن عبادة الحيوانات والنباتات الشائعة عند بعض القبائل المعبر عنها بالديانة الفتشيه أن هذه عبادة صنم بصورة حيوان وتلك تقديس نوع من أنواع الحيوان أو النبات أو عبادته. والطوتمية الآن منتشرة في العالم المتوحش فهي عامة بين قبائل أوستراليا وكثيرة الانتشار في شمالي أميركا وفي بناما. والطوتم الشائع هناك الببغاء ولا تخلو أميركا الجنوبية من آثار الطوتمية على حدود كولومبيا وفنزويلا وفي جيانا وبسيرو. وللطوتمية شأن كبير في إفريقية فإنها شائعة في سينغمبيا وبين قبائل البقالي على خط الاستواء وعلى شاطئ الذهب والاشانتي وبين الدامارية والبكوانية في جنوبي إفريقية وفي أماكن كثيرة من تلك القارة المظلمة ولها آثار في مدغسكر وبعض جزر ملقا أما في آسيا فلها أثر في أواسط الهند بين بعض قبائل البنغال غير الآريين وفي سبيريا وبعض جهات الصين وجزائر المحيط.

لا جديد تحت الشمس

لا جديد تحت الشمس مما رواه صاحب نفح الطيب من ذكاء أهل الأندلس في استخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس هو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات: يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريح قشعم وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة ابن الحناط الكفيف كلما نظرنا في تراجم رجال الإسلام نظر الناقد المستبصر يتجلى لنا أن من نفعوا الأمة نفعاً حقيقياً هم في الأكثر ممن كانت لهم ولو مشاركة قليلة في العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية لأن هذه الفنون تلقح فكراً جديداً وتكبر دائرة تصور المشتغل بها ولو نظر فيها نظرة إجمالية فما الحال به إذا أحكمها كل الإحكام. وذاقها كما يذوقها أرباب الأحلام. خذ لك مثالاً من ترجمة الرازي وابن تميمية والغزالي وغيرهم فقد كانوا من المتمكنين من علوم الأوائل وتواريخهم لذلك كتبت لهم الإجادة في كل ما أثر عنهم من المصنفات الدينية وغيرها. وصاحب الترجمة أبو عبد الله ابن الحناط الأندلسي هو أحد الأمثلة في هذا الباب إلا أنه انصرف بكليته إلى علوم الدنيا فأفاد واستفاد ولم يصده فقد البصر عن توفر البصيرة في العلم والأدب. ولا غرو فقد كان عصره وقطره مبعث النور ومنبثق الفضائل. قال في الذخيرة: هذا زعيم من زعماء العصر كان ورئيس من رؤساء النظم والنثر في ذلك الأوان. وجمرة فهم لفحت وجوه الأيام. وغمرة علم سالت بأعلام الأنام فكم له من وقذة لا يبرأ أميمها. ونكزة لا يسلم سليمها. وكانت بينه وبين أبي عامر بن شهيد بعد تمسكه بأسبابه. وانحياش كان إلى جنابه. مناقضات في عدة رسائل وقصائد أشرقت أبا عامر بالماء. وأخذت عليه بفروج الهواء. وقد أوردت من ذلك ما يكون انطق لسان بنباهة ذكره وأعدل شاهد على براعة قدره. وقد ذكره ابن حيان في فصل من كتابه فقال: وفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة نعي إلينا أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط الشاعر الضرير القرطبي بقية الأدباء النحارير في الشعر. هلك في الجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم. وهلك أثره ابنه الذي لم يكن له سواه بمالقة فاجتث أصله. وكان من أوسع الناس علماً بعلوم الجاهلية والإسلام بصيراً بالآثار العلوية. عالماً بالأفلاك والهيئة حاذقاً بالطب والفلسفة. ماهراً في العربية واللغة والآداب الإسلامية وسائر التعاليم الأوائلية. من رجل مرهق في دينه مضطرب في تدبيره سيئ الظن بمعارفه شديد الحذر على نفسه فاسد التوهم في ذاته. عجيب الشأن في تفاوت أحواله. وولد أعشى ضعيف البصر متوقد

الخاطر فقرأ كثيراً في حال عشاه ثم طفئ نور عينيه بالكلية فازداد براعة. ونظر في الطب بعد ذلك فانجح علاجاً. وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده فيهتدي منها إلى ما لا يهتدي إليه البصير ولا يخطئ الصواب في فتواه ببراعة الاستنباط وتطبب عنده الأعيان والملوك والخاصة فاعترف له بمنافع جسيمة وله مع ذلك أخبار كثيرة مأثورة.

عميان يؤلفون

عميان يؤلفون تكاد تكون قاعدة لا تتخلف أن من فقد إحدى حواسه تقوى فيه غيرها فمن فقد بصره مثلاً تقوى ذاكرته ومن فقد سمعه يشتد إدراكه. ولما قرأت ترجمة هوميروس الشاعر اليوناني وعلمت أنه كان ضريراً وقرأت ترجمة ملتون الشاعر الإنكليزي وعلمت أنه كان كذلك وقرأت ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر العربي وقلت أنه كان مثلهما وقرأت ترجمة ابن الحناط وقع في نفسي أن أكتب مقالاً في عميان صنفوا وأجادوا أيام كان العرب يؤلفون ويجيدون. فمنهم قتادة بن دعامة كان اكمه وكان يقول لقائده سعيد بن أبي عروبة تجنب بي الحلق التي فيها الخطأ فإنه ما وصل إلى سمعي شيء قاداه إلى قلبي فنسيه. وكذلك كان بشار بن برد رأس طبقة شعراء المولدين اكمه وغاية في ذكائه وتوقد خاطره. وكان ابن الثمانيني نحوياً ألف فيه وانتفع بالاشتغال عليه جمع كثير توفي سنة 442 هجرية وكان شمس الدين بن جابر الأندلسي ضريراً وهو صاحب بديعية العميان وله أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها شرح ألفية بن مالك وغير ذلك وله ديوان شعر جيد توفي سنة 780. وكان أبو بكر بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس أخذ عنه صناعة الأدب جماعة منهم الرمادي الشاعر القرطبي المشهور. وكان أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي حافظاً للآداب إماماً في علم الحساب مع أنه كان أعمى مقعداً مشوه الخلقة ولكنه إذا نطق عرف كل منصف حقه. وكان العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني والعقيلة وغيرهما المقري الفقيه الحافظ من كبار أئمة الإسلام مكفوف البصر قوي الحفظ وكان يقول عند دخوله إلى مصر أنه يحفظ وقر بعير من العلوم وكان عالماً بكتاب الله قراءة وتفسيراً وبحديث رسوله مبرزاً فيه وكان إذا قرأ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وهو أوحد في النحو واللغة. وكان أبو البقاء العكبري شارح ديوان المتنبي وغيره من الكتب الجيدة مكفوف البصر حاسباً فرضياً نحوياً ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه وكان الغالب عليه علم النحو توفي سنة 616. وكان ابن سيده المرسي الحافظ إماماً في اللغة والعربية جمع في ذلك جموعاً منها كتاب المحكم في اللغة وكتاب المخصص الذي طبع حديثاً وله غيره من الكتب الممتعة التي لم يؤلف في فنها مثلها وكان ضريراً وأبوه ضريراً أيضاً وكان أبوه قيماً بعلم اللغة وعليه

اشتغل ولده في أول أمره توفي ابن سيده سنة 458 وكان يحفظ عشرات من أمهات كتب اللغة. وكان أبو الحسن علي ابن عبد الغني الفهري المقري الشاعر عالماً بالقراآت له عدة تآليف توفي سنة 488. ومن مشايخ عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف المشهور الوجيه الواسطي كان تلميذه يحفظه ويحفظ معه ثم يذهبان إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنباري فيقرأ درسه. وكان أبو الحزم الماكسيني الموصلي المقري النحوي المتوفى سنة 603 جامع فنون الأدب وحجة كلام العرب أخذ الناس عنه وانتشر ذكره في البلاد وله رواية واسعة. وكان خليفة أبي العلاء المعري في عماه وأدبه وهو ينحو منحاه. وكان أبو عبد الله هشام بن معاوية النحوي الكوفي ضريراً وله عدة تصانيف في النحو ومن جملة من أخذ عنه الخليفة المأمون. وكان أبو العز مظفر ابن إبراهيم العيلاني المصري الأعمى شاعراً مجيداً صنف في العروض وله ديوان توفي سنة 623 وكان أبو القاسم بن الخطيب الأندلسي صاحب الأشعار الكثيرة والتصانيف الممتعة المتوفى سنة 581 مكفوفاً ضريراً. وكان أبو عيسى ابن الضحاك السلمي الحافظ المشهور أحد الأئمة المصنفين في الحديث ضريراً. وكان أبو العيناء صاحب النوادر والشعر والأدب مكفوفاً كف بصره وقد بلغ الأربعين. وكان أبو بكر ابن الدهان النحوي الواسطي ضريراً وهو من مدرسي النظامية. وهكذا لو تقصيت أسماء الرجال لقرأت العجب من أحوال أولئك العميان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الحق مشاع

الحق مشاع لعل بعض الناظرين في هذا العنوان يعده خروجاً عن القصد وخطلاً في القول وضلة عن سبيل السلامة وما حكم من يبادر إلى التنديد بادئ الرأي إلا حكم من استغواه الهوى واستهواه الغرض فإن الحق كان ولا يزال مشاعاً بين الأمم والبلدان والمذاهب وما قط كان وقفاً على أمة معينة ولا على بلد خاص ولا على مذهب معلوم. الحق كنز ثمين يأخذ كل منه بحسب استعداده وأسبابه بل نور يعم العالمين على قدر خلاصهم من العوائق وبصرهم بالاستنارة به. يخطئ كل الخطأ من يذهب إلى أن كل ما يعتقده أهل المذاهب والنحل لا ضل له من الحق وأن أهل النحل المتعددة في الإسلام مثلاً كالاباضية والسنية والمعتزلة والشيعة قد ضلوا إلا قليلاً والحقيقة التي يقتضي اعتبارها أن الحق تقسم بين أهل هذه المذاهب والنحل ومن أراد أن ينشده فلا يتأتى له ذلك إلا بالنظر فيما كتبه أئمة هذه المذاهب ثم ينخل ما يقرأه وينتحل ما يراه الحق المطلق وهكذا الحال في العلم الذي هو من الأوضاع البشرية فإنه ما خص بقبيل ولا بجيل بل هو موزع على القدماء والمحدثين والشرقيين والغربيين. توخيت أن أصرح هنا بهذا الفكر على جلبته حباً بتقرير جملة تقطع السن من يشاغبون في كل ما لم تألفه أسماعهم ويعتقدون أن ما لم يعرفوه ولا آباؤهم ليس من الحق في شيء. فلا يعظمن على بعضهم إذا قرأوا في طريد هذه الصحيفة ما لا ينطبق مع رغباتهم فالعلم كالحق كثير الأفنان والفنون لا دين له ولا نحلة وناشره معه خازن أمين يجمعه ليصرفه عند مسيس الحاجة. وربما كان فيما يجمعه كخاطب ليل يجمع بين الجيد والرديء ولا يكاد يشعر ولذلك كان على من أوتي نوراً من الحق أكثر من غيره أن يقبسه صاحبه ويدله على عوراته. فقد خالف ابن عباس عمر وعلياً وزيد بن ثابت وكان أخذ عنهم وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما اخذوا العلم عنهم وخالف مالك كثيراً من أشياخه وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكاً في كثير من المسائل قال ابن الأزرق وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي وقال لا أحد أمن عليَّ من مالك وكاد كل من أخذ العلم عنه أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل وما عد ذلك من سوء أدب التلميذ مع شيخه ولا من الخروج عن مراجعة الحق الذي توزعته عقول الناس ونال كل منهم قسطاً منه.

روى ابن جرير عن أبي مخنف عن الصقعب بن زهير عن الحسن قال أربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنَّ إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجراً ويلاً له من حجر وأصحاب حجر مرتين - روى ابن جرير هذا وما عدَّ من الشيعة. ورأى المنذر بن سعيد أرجوزة لابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ولم يذكر علياً فيهم ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد فلما رأى ذلك منذر غضب وسب ابن عبد ربه وكتب في حاشية الكتاب أو ما عليّ لا برحت ملعناً ... يا ابن الخنيثة عندكم بإمام رب الكساء وخير آل محمد ... داني الولاء مقدم الإسلام قال هذا منذر بن سعيد قاضي الجماعة بالأندلس وما عدَّ شيعياً. وكم في تاريخ السلف من أمثال هذه الأنباء التي تدلنا على مبلغ حرية القوم وأن الحق مشاع ليس وقفاً على فئة وأن التقيد برأي واحد أو عدة آراء ولاسيما في المسائل العلمية ليس من السداد في شيء بل هو سبب عظيم من أسباب انحطاط العلم في الشرق.

الفينيقيون

الفينيقيون منقولة عن الإفرنجية صور وقرطاجنة وصفها - فينيقية من بقاع الأرض الضيقة طولها خمسون فرسخاً وعرضها من ثمانية فراسخ إلى عشرة وهي بين بحر سورية وأعلى سلسلة في جبل لبنان. بل هي على التحقيق عبارة عن سلاسل أودية ضيقة ومجارٍ حرجة متخللة بين هضاب وعرة ممتدة إلى البحر ومسايل من الثلوج. تعبث بها العواصف إلى آخر الربيع أما في الصيف فينضب ماؤها إلا ما خزن منه في الآبار والصهاريج. ولقد كسيت جبال هذه الناحية بالأشجار فكان في القمم أرز لبنان المشهور وفي المنحدرات الصنوبر والسرو وفي السفوح أشجار النخيل بالغة شاطئ البحر وفي الأودية ينمو الزيتون والكرم والتين والرمان. مدنها - تتألف عن بعد على طول الشاطئ الصخري رؤوس من البحر أو جزر منه تكون منها مرافئ طبيعية ففي هذه المواني أقام الفينيقيون مدنهم. فقامت صور وارواد في جزيرة يزدحم فيها السكان في المنازل وكانت ذات طبقات ست وسبع وثمان ويجلبون الماء لشفاههم في القوارب. أما مدينة جبيل وبيروت وصيدا فكانت في اليبس. ولم تكن أرض هذه البلاد لتقوم بأود هذا العدد الدثر من الناس ولذلك ما الفينيقيون إلى الملاحة والتجارة. الخرائب الفينيقية - لم يحفظ عن الفينيقيين كتاب فقد ضاعت حتى كتبهم المقدسة. ولقد جرى الحفر في مواضع مدنهم ولكن الخرائب على ما قال العالم المندوب إلى ذلك لم تسلم إلا في البلاد المهملة المتروكة. على أن السوريين عنوا كثيراً بالخرائب فانتهكوا حرمة القبور وأخذوا حلي الموتى وهدموا العمارات ليستعينوا بأحجارها على البناء وحطموا النقوش وذلك لكراهة المسلم الصور المنحوتة بحيث لم يبق اليوم سوى شقيف من الرخام المحطم وأحواض ومعاصر نحتت في الصخر وبضعة نواويس من الحجر. أطلال قلما تجدي نفعاً وتأتي العلم بفوائد وليس ما عرف عن الفينيقيين إلا ما علمناه كتاب اليونان وأنبياء إسرائيل. حكومة الفينيقيين - لم تكن فينيقية مملكة قائمة برأسها بل كان لكل مدينة ناحية صغيرة تستقل بها ولها مجالس وملك تحكم نفسها بنفسها وتبعث بمندوبيها إلى أعظم مدينة فينيقية

لفض المصالح المشتركة وكانت صور محط رحال المندوبين منذ القرن الثالث عشر. وإذ لم يكن الفينيقيون أمة حربية خضعوا لسطوة جماع الفاتحين من مصريين وآشوريين وبابليين وفرس وأدوا لهم الجزية عن يد وهم صاغرون. صور - كانت هذه المدينة منذ القرن الثالث عشر من أهم المدن الفينيقية ضاقت على أهلها فأقيمت إذ ذاك مدينة جديدة قبالتها. ولقد أسس تجار صور مستعمرات في البحر الأبيض كله يصيبون الفضة من مناجم إسبانيا وسلع العالم القديم أجمع. دعاهم أشعيا النبي الأمراء ووصف حزقيال النبي تلك القوافل التي كانت تأتيهم من كل صوب وأوب وطلب سليمان النبي إلى هيرام أحد ملوك صور عملة يشغلهم في بناء القصر والمعبد في بيت المقدس. قرطاجنة - كانت هذه المدينة مستعمرة صور ففاقت هذه بالعظمة وذلك أن الصوربين نبذتهم إحدى الثورات فأسسوا مدينة قرطاجنة على شاطئ إفريقية بالقرب من تونس بعثتهم على ذلك امرأة اسمها ايليسا ونحن ندعوها ديدون (الفارة) ويحكى أن سكان البلاد أبوا أن يبيعوها إلا مسافة تكفي لتغطية جلد ثور ففصلت جلد الثور سيوراً رقيقة بحيث اقتضت مكاناً واسعاً يستوعبها فبنت القلعة إذ ذاك. ولقد اتسعت قرطاجنة لموقعها في منتصف البحر الرومي ولأن فيها مرفأين فأقامت هي أيضاً مستعمرات وفتحت فتوحاً حتى آل أمرها إلى أن حكمت شاطئ إفريقية بأجمعه وإسبانيا وسردينيا وكان لها في كل مكان مكاتب لتجارتها ورعايا يؤدون لها الجزية. الجيش القرطاجني - اقتضى لقرطاجنة أن تدرب لها جيشاً لتصون مكاتبها التجارية من حيف الوطنيين وتربأ برعاياها عن الانتقاض. ومن ثم كانت حياة القرطاجني ثمينة لا يخاطر بها إلا عند الضرورة. آثرت قرطاجنة اكتراء الجند فجندت لها جنداً من البربر سكان بلادها ومن متشردي كل صقع وناحية فصارت صبغة جيشها مبرقشة ملونة يتكلم اللغات كلها ويدين بالأديان كافة. ولكل جندي بزته وأسلحته الخاصة به تخالف بزة رصيفه وأسلحته. فترى فيهم النوميديين يلبسون جلد الأسد يتخذونه وطاء كما يتخذونه غطاء يركبون خيلاً سريعة صغيرة بدون نظام ويطلقون القوس وخيولهم تعدو عدواً. كما كنت ترى فيهم الليبيين وجلودهم سوداء مسلحين بحراب. وطائفة من الايبيريين في إسبانيا لباسهم بياض مزين بحمرة وسلاحهم سيف طويل محدد. وغاليين عراة إلى الزنار يحملون

تروساً كبيرة وسيفاً محدباً يمسكونه بكلتا يديهم. وجماعة من البالياربين مدربين من طفوليتهم على رمي الحجارة أو كرات الرصاص بالمقاليع. أما القواد فكانوا قرطاجنيين تخافهم الحكومة فترقبهم عن أمم وربما صلبتهم إذا غلبوا ولم يحرزوا نصراً مؤزراً. القرطاجنيون - كان في قرطاجنة ملكان والأمر والنهي لمجلس الشيوخ وهو مؤلف من أغنى تجار المدينة ولذلك كانت كل قضية ينهى بها إلى الحكومة مسألة تجارية. كره الناس القرطاجنيين لقسوتهم وطمعهم وغدرهم ولما كان لهم أسطول منظم وعندهم مال يستأجرون به جنداً وحكومة باطشة تهيأ لهم توطيد دعائم ملكهم في غرب البحر المتوسط مدة ثلاثة قرون (من القرن السادس إلى الثالث) بين ظهراني شعوب بربرية منشقة على نفسها مختلفة كلمتها. الديانة الفينيقية - للفينيقيين والقرطاجنيين دين يشبه الديانة الكلدانية فالرب الذكر ويسمى عندهم بعل هو الشمس والربة الأنثى وتدعى بعلت هي القمر. والشمس والقمر في نظر الفينيقيين قوى هائلة تحيي وتميت. ولكل من المدائن الفينيقية ربان. فلصيدا بعل صيدون (الشمس) وعشتروت (القمر) ولقرطاجنة بعل عمون وتانيت ولجبيل بعل تموز وباليت. ويختلف اسم الأرباب في الاعتبارات إيجاداً وعدماً وهكذا يعبد بعل مثلاً في قرطاجنة باسم مولوش ويعتبر عدماً. وقد تنوب عن هذه الأرباب أصنام ولها معابد ومذابح وكهنة يعظمون من شأنهم ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة باعتبار كونهم موجدين ويقدمون لهم ضحايا بشرية باعتبار كونهم مخربين وتعبد عشتروت ربة الصيد العظيمة في الغابات المقدسة ويصورونها على شكل هلال القمر والحمامة ويرسم بعل مولوش في قرطاجنة تمثالاً عظيماً من القلز باسطاً ذراعيه ومدليهما وإذا أرادوا تسكين غضبه يرفعون على يديه أطفالاً تسقط للحال في هاوية من نار. وقد \ قدم أعيان مدينة قرطاجنة مائتي طفل من أولادهم ضحايا للربة مولوش في خلال حصار أغاتوكل لقرطاجنة. هذا وإن تلك الديانة على ما نشأت عليه من الشهوات وسفك الدماء لترهب الشعوب الأخرى ولكنهم يحاكونها ويأتمون بها فكان يذبح اليهود لبعل على الجبال ويعبد اليونان استارتيه وصيدون باسم افروديت وبعل ملخارت من صور تحت اسم هيراكليس. التجارة الفينيقية

أشغال الفينيقيين - عاش الفينيقيون بالتجارة لازدحام أقدامهم في بقعة ضيقة من الأرض. ولم يكن لسائر شعوب الشرق من مصريين وكلدانيين وآشوريين ولا قبائل الغرب البربرية (الأسبان والغاليين والطليان) عهد بركوب البحار وشق العباب والفينيقيون وحدهم جرأوا في تلك الأيام على تجشم البحر فصح أن يدعوا من أجل هذا عملاء تجارة العالم القديم وقادة البيع والشراء يبتاعون من كل شعب سلعه ويتقايضون معه على غلات البلاد الأخرى تجارة كانت مستحكمة الصلات مع الشرق براً والغرب بحراً. القوافل - اعتاد الفينيقيون أن يرسلوا في البر قوافل تتجه وجهات ثلاث إحداها إلى بلاد العرب لتأتي منها بالذهب والعقيق اليماني والبخور والصبر وعطور بلاد العرب واللؤلؤ والأباريز والعاج والأبنوس وريش النعام وقرود الهند. والقافلة الثانية ترحل إلى بلاد أشور لتعود منها بأنسجة القطن والكتان والحمر والأحجار الكريمة والماء المعطر وحرير الصين. وتقصد القافلة الثالثة أنحاء البحر الأسود لتستجلب منها الخيل والرقيق والأواني النحاسية من مصنوعات سكان جبال قافقاسيا القوقاز. بحريتهم - بنى الفينيقيون بخشب أرز لبنان المتين قوارب بأشرعة ومجاذيف حملوا عليها متاجرهم البحرية وما مست حاجتهم أن يكونوا أبداً على مقربة من الشواطئ في ركوبهم البحر إذ كانوا يتجهون حيثما أرادوا بجعل نجمة القطب قيد نواظرهم وكانوا يستدلون بها على الشمال. ولقد فطر الفينيقيون على الاستخفاف بركوب اليم فألفوا بأنفسهم في مراكب صغيرة تغدو بهم وتروح في أطراف البحر الرومي بل جرأوا على اجتياز مضيق جبل طارق أو كما دعاه القدماء أعمدة هيركول فيجتازون البحر المحيط إلى شواطئ إنكلترا وربما بلغوا بلاد النروج. سافرت عصابة منهم في خدمة أحد ملوك مصر في القرن السابع وجازت البحر الرومي لتطوف حوالي إفريقية ثم رجعت على ما قيل بعد ثلاث سنين من البحر الأحمر وغادرت قرطاجنة حملة ضربت نحو شاطئ إفريقية إلى خليج غينة. وقد كتب القائد حانون قصة في هذه الرحلة. البضائع - كان الفينيقيون يبتاعون محاصيل صناعات الشعوب المتمدنة ويبحثون في البلاد المتوحشة عما يقل الظفر به في المشرق من المحاصيل. يصطادون الصدف من شاطئ بلاد اليونان ومنه يستخرجون صباغاً أحمر وهو الأرجوان. وكانت الأنسجة

الأرجوانية تستعمل عند الأقدمين كافة ملابس للملوك والأمراء ويجلبون الفضة التي يستخرجها أهل إسبانيا وسردينا من مناجمهم وكان القصدير من ضرورياتهم يستعملونه في صنع النحاس الأصفر وهو مركب من نحاس وقصدير لا أثر له في بلاد الشرق ولذا كان الفينيقيون يرحلون في طلبه وينشدونه حتى في شواطئ إنكلترا في جزائر القصدير المعروفة بجزائر كاسيتريد. وحيثما حلوا يتخذون الرقيق يبتاعونه تارة كما كان يبتاع النحاس العبيد في ساحل إفريقية. إذ الشعوب القديمة كلها كانت تتجر بالرقيق. وينزلون طوراً في إحدى السواحل فجأة فيختطفون النساء والأطفال وينقلبون بهم إلى بلادهم أو يبيعونهم في القاصية. وإذا واتتهم الحال ينقلبون قرصاناً ولا يتحامون إطالة يد التعدي على الأغيار. سر اختص به الفينيقيون - لم يقلق الفينيقيون إلا من قيام بحارة الأمم الأخرى إلى منازعتهم السلطة على البحار ومجاراتهم في الملاحة والاتجار فمن ثم كانوا يكتمون الطريق التي يسلكونها إبان عودتهم من الأقطار النائية ولذا لم يعرف أحد في القديم جهة جزائر الكاسيتريد المشهورة التي جلبوا منها القصدير. وقد رأت إحدى المراكب بلاد إسبانيا التي كانت لها صلات تجارية مع فينيقية منذ قرون عرضاً بدون تعمل. وكانت قرطاجنة تغرق من تصادفهم من التجار الأجانب في سردينيا أو في ناحية جبل طارق. حتى أن ربان إحدى المراكب أغرق سفينته ذات يوم عندما رأى سفينة غريبة تطارده مخافة أن تطلع على خطة سيره. مستعمراتها - أنشأ الفينيقيون مكاتب تجارية في البلاد التي اتجروا فيها وهي مراكز للبرد حصينة واقعة على شاطئ بحر على مرفأ طبيعي يخرجون إليها بضائعهم وهي في العادة أنسجة وفخار وحلي وأصنام فيأتي أهل تلك البلاد بغلاتهم فيقايضونهم عليها كما يقايض اليوم تجار الأوربيين زنوج إفريقية. تقام أمثال هذه الأسواق في قبرص ومصر وجميع بلاد البحر الرومي التي كانت على همجيتها مثل اقريطش (كريت) وبلاد اليونان وصقلية وإفريقية ومالطة وسردينيا وشواطئ إسبانيا (مالقة وقادس) وربما أقاموها في بلاد الغول (موناكو) وكان أهل البلاد يبنون أكواخهم حول بنايات الفينيقيين فيصبح السوق مدينة ويقتبس السكان أرباب الفينيقيين وقد دامت عبادة ربة على صورة الحمامة حتى بعد أن

صارت المدينة يونانية كما في سيتير والرب ملخارت كما في كورنت ورب ذو جبهة ثور يفترس الضحايا البشرية كما في اقريطش. نفوذ الفينيقيين - لم يكن يخطر للفينيقيين شيء على بال لما أسسوا مكاتبهم التجارية إلا الاحتفاظ بمصلحتهم الخاصة ولكن حدث أن نفعت مستعمراتهم التمدن فإن برابرة الغرب أخذوا عن أمم الشرق وكانت أكثر منها تمدناً كيفية صنع الأنسجة والحلي والماعون وتعلموا محاكاتها. مضى حين من الدهر واليونان لم يعرفوا غير الأواني والحلي والأصنام التي يأتيهم بها الفينيقيون وعلى منوال هذه البضائع نسجوا بعد فإن الفينيقيين حملوا من مصر وأشور الصناعة والبضائع معاً. الأبجدية - حمل الفينيقيون أيضاً إلى البلاد التي نزلوها أبجديتهم وحروف الهجاء ولم يخترعوا الخط إذ كان المصريون يعرفون الكتابة قبلهم بقرون وقد استعملوا حروفاً تدل كل منها على صوت كما هو الحال في حروف الإفرنج. على أن خطهم كان مشوشاً بعلامات قديمة يدل بعضها على مقطع وآخر على كلمة برمتها. لا جرم أنه اقتضى للفينيقيين إذ ذاك طريقة أبسط لكتابة رسائلهم التجارية فاطرحوا العلامات كلها من مقاطع وصور ولم يبقوا سوى اثنين وعشرين حرفاً يدل كل منها على صوت أو على لفظ باللسان فاقتبست الشعوب الأخرى هذه الأبجدية المؤلفة من اثنين وعشرين حرفاً. فقد كتب اليهود من اليمين إلى الشمال كما كتب الفينيقيون وكتب غيرهم كاليونان من الشمال إلى اليمين وكلهم بدلوا شكل الحروف إلا قليلاً. والخط الفينيقي على التحقيق أصل الأبجديات كلها من يهودي وليسي ويوناني وايتاليكي وابتروسكي وايبيرسكي وربما كان الخط النروجي أيضاً فالفينيقيون هم الذين علموا العالم الكتابة.

حسنات القرن الماضي وسيئاته

حسنات القرن الماضي وسيئاته لقد تناول الانقلاب الذي طرأ على الأخلاق العامة أسلوب الطعام أيضاً فإن سرعة المواصلات وسهولتها وميل الحواس الظاهرة وارتقاءها قد أبدل ضرورة الطعام بضرورة الحس الظاهر بمعنى أن الإنسان رجاء إرضاء شهواته الذوقية قد تعدى حدود القناعة بأن آثار الشهوات الصناعية بالتوابل الخاصة والمنبهات الداعية إلى النهم حباً بالإكثار من ضروب الأطعمة والملاذ فقد انتشر فن الطبخ وإجادة الألوان في الأقطار على اختلافها من حيث الحرارة والبرودة وما اختلفت كمياته وكيفياته. كل ذلك لتحقيق شهوات النفوس وأذواق السكان في أنواع الطعام دون النظر إلى ما يحول دون ذلك من عدم الملاءمات الشخصية والمكانية مع هذه الطريقة في التغذية المختلفة الألوان والأشكال. وما أصدق ما قاله أحدهم من أن ما نتناوله اليوم من الأطعمة ينقسم إلى ثلاث درجات أحدها لضرورة الغذاء وثانيها لضرورة الذوق وثالثها توقعاً للأمراض التي تصيبنا في المستقبل. وقال شيشرون الخطيب الروماني: لقد أحدث الشره من المصائب أكثر مما أحدث الحرب فإنه مصدر كثير من الأوصاب والأدواء. فأرباب الشره مستسلمون لعاداتهم في طعامهم وشرابهم بحكم الذوق لا بحكم الضرورة ولذلك تراهم عرضة لكثير من الأمراض ومنهم من يغتر بما يكرعه من المياه المعدنية في فرنسا والنمسا (في فيشي وكارلسباد) وسائر البلاد التي تنبجس فيها أمثال تلك المياه فترى في كل سنة يزور كلاً من تينك البلادين زهاء خمسين ألف زائر ويغرهم تسهيلها الهضم معهم حتى إذا رجعوا إلى أهلهم قريرة أعينهم بما شاهدوه من التحسين في صحتهم يعودون إلى سالف عاداتهم من النهم والبطنة والبطنة كما قيل تأفن الفطنة فيندمون على ما فرطوا في جنب معدهم ولكن بعد أن يسبق السيف العذل. وإن السواد الأعظم من العاملين الذين يتألف منهم جيش المجاهدين في الحياة ليقضون النهار في أماكن محصورة بعضهم في مصنع وآخر في غرفة عمله وفريق في مكتب وغيره في مخزن وكلهم يعملون بلا انقطاع بأيديهم أو بعقولهم فيصرفون جميعاً جزءاً عظيماً من قواهم الطبيعية والعقلية ولا يتناولون أطعمتهم في أوقاتها ولا يرتاحون بعد غذائهم راحة كافية لتعمل الأعضاء الهاضمة عملها ولا يألفون من أنواع المسليات غير أماكن القهوة ودور التمثيل فيستنشقون هواءً ملوثاً بأكسيد الكربون وحامض الكربون وغيره

من الهواء المنبعث من تضايق مئات من الأنفاس المجتمعة في أماكن مغلقة يعوزها الترويح والهواء النقي المستنشق مما يؤدي بمن يختلفون إلى تلك المحال إلى اختلال أحوال الهضم والبنية والقوة وتكون أبدانهم مرتعاً خصيباً لجراثيم الأمراض وفي مقدمتها السل. وما جاء به هذا القرن من الأعمال العلمية والعقلية والطبيعية قد أثر في محيط الناس كل التأثير وخصوصاً في الغذاء والمجموع العصبي. وما أحلى ما قاله أرسطو من أن الإنسان يريد إمتاع حواسه ويبحث عن أسبابه إذ من الملذ للباصرة أن تنظر وللسامعة أن تسمع وللجلد أن يمس وللسان أن يذوق وللشامة أن تستنشق. وجملة الأمر أن نشوء المجتمع الإنساني في القرن التاسع عشر قد جرى بقوة الجهاد المتواصل الذي أودى بحياة مئات الألوف من الضحايا البشرية وقد نبه في المجاهدين وفي أخلافهم حب الارتقاء والتهذيب العقلي بحيث دخل الفكر الإنساني في دائرة من الحركة المعجلة تسير أبداً إلى غاية لا حد لها وأهلها أبداً في قلق حرصاً على كشف أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها المكنونة والوقوف على القوانين القائمة بها. ولئن عني الإنسان بقمع جماح الطبيعة وفتح الترع وحفر القنوات وابتناء الطرق الحديدية في القفار والسهول الواسعة المتجمدة حباً بربط القارات بعضها ببعض فإنه لم يعمل كل هذا رغبة في توسيع ميدان جهاده وزيادة في مصادر الثروة العامة والخاصة بإيجاد مصارف لمصنوعاته بل هناك شيءٌ من سائق الفطرة دعاه أن ينقل بذور التمدن إلى البلاد الشاسعة في آسيا وإفريقية لأنها ظلت مباينة لأفكار الارتقاء والشعور الإنساني وهما من خير ما أنتجه القرن من صالح الأعمال ولكن هذا الجهاد العظيم الذي اضطرت الإنسانية أن تتحمله مدة قرن كامل قد أحدث أمراضاً مختلفة كما أنه زاد الشقاء الاجتماعي واشتدت حرب الحياة بما لم يعهد له نظير. نعم وقف ولاة الأمر على فساد النظام الاجتماعي الحاضر وأيقنوا بالحاجة الماسة إلى مداواته بيد أنهم تضاءلوا عن الإقدام عليه بداعي قلة ما لديهم من الأسباب في تخفيف نتائج حركة الارتقاء وضعف الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع الحديث. على أن الفطرة هدتهم إلى الأخذ من معارف حملة العلم في فروع المعارف الاجتماعية المختلفة والاهتداء بهديهم وخصوصاً فيما من شأنه أن يكون فيه النظافة العامة وإصلاح حال الطبقة

النازلة من العملة وكانت البلجيك أول الدولات التي دعت الدول إلى مؤتمر صحي دولي سنة1851 و1852 ثم حذت فرنسا حذوها ومذ ذاك أصبحت المؤتمرات الصحية الدولية تجتمع كل سنتين في عواصم أوربا. وتنقسم هذه المؤتمرات بحسب معارف من تتألف منهم فيعنى بعضها بالمباحث المتعلقة بالأمم وبإحصاء حركة الشعوب العامة في كل قطر وبأسباب موت الأولاد في سن الطفولية وبحفر القنوات في المدن وإروائها بماء طاهر عذب. ويعنى البعض الآخر بالأمراض السارية وطرق الوقاية منها. ويدرس بعضها الإنسان من حيث صنعته أو حفظ صحته في صناعته من تغيير هواء المعامل والمصانع حيث يقيم العامل ويمس بيده مواد مضرة أو تركيبات كيماوية تفعل فعل السموم أو مواد نباتية أو معدنية تخرج منها غبرة تسبب أمراضاً رئوية. ويعنى بعضهم ببناء بيوت للعملة ومساكن رخيصة. ويبسط بعضهم جناح حمايته على الأطفال في المد الكبرى ويقوم على حفظ الصحة في المدارس. ويهتم بعضهم بوقاية الناس من السل والأمراض الزهرية. ويبحث بعضهم في الطرق التي تحول دون انتشار تعاطي الكحول. وبالجملة فكلهم يد واحدة يسيرون نحو غاية واحدة ألا وهي درس كثير من المشكلات الصحية وتدبير الصحة العامة ليوفروا لكل مملكة سكانها ويكثروا سوادها ولينقبوا عن أسباب من شأنها أن تؤدي بالجنس البشري إلى الكمال بإصلاح ملكات الطبقة النازلة وتحسين غذائهم وتطهير الأرض والهواء والماء استبقاءً لصحة سكان المدن العظمى وتقوية للمقاومات الحيوية في الأفراد ومقاومة لغارة جراثيم الأمراض السارية. وبالنظر لارتفاع كلمة الاشتراكية في أوربا اضطرت حكوماتها والطبقة العالية من علماء الاقتصاد فيها إلى القيام بأعمال تضمن سلامة العملة ومستقبلهم وبعنايتهم تألفت عدة جمعيات تتوخى بذل الإحسان للبائس والفقير وجمعيات متعاضدة على حب الخير. ووافقت دور الندوة والأندية السياسية في ممالك كثيرة على قوانين تقي الشيوخ والزمنى مصارع السوء وموارد الهلكة وتقوم بأودهم في أوقات مرضهم ومصائبهم. ومتى عرف الناس كافة قيمة الهواء النقي والماء الجيد السائغ وما يفعلانه في الصحة والخطر الذي تتعرض له الحياة البشرية من فساد الأرض بالمواد الأولية العفنة متى عرف الناس هذا يقدرون الانطباع على الاعتدال حق قدره في إطالة الأعمار. ولا مندوحة للبشر إذا توفروا على

أسباب النظافة والاعتدال أن يعنوا بتطهير الأخلاق العامة والخاصة من الشوائب وترقية الشعور الأدبي في الأفراد ومن مجموع هذه الصفات تتحقق نيات زعماء التمدن الحديث والداعين إلى البلوغ به أوج الكمال. وإذا لقيت رائد الطرف على ما تم في الأعوام الأخيرة أدركت أن ما انبعث في النفوس من المضاء يقوي الملك في أن يتمم القرن العشرون ما فات شقيقه الأكبر. وإن ما ساعد الإنسان على بلوغ درجة من الترقي فاق بها أسلافه في القرون الماضية هو التعاضد والتكافؤ فهو العمل الذي كلل هامة التمدن في هذا القرن. ورمز هذا النظام: أن من الاتحاد قوة وغاية هذا التكافؤ تقوية صلات الأسرات بالمعارف الاجتماعية ومساعدة المرء العاجز عن العمل من مرض وحادث أو عطلة أو شيخوخة أو هرم فتألفت جمعيات حديثة غايتها أن تعطي رواتب ضماناً للحياة أو في حال الوفاة وقامت بعضها بأعمال خيرية وتهذيبية صناعية وبذل بعضها مجهود لنشر المعارف العلمية في مدارس عملية وتأسيس خزائن كتب وحدائق العملة وبعضها أخذت على نفسها القيام بالأعمال الصحية وتطهير المساكن وتحسين الشروط الحيوية في العملة وتعاهد بعضهم على مقاومة السل وذلك أولاً بالبحث عن أسباب الشقاء الاجتماعي ثم بإحداث ملاجئ ومصاح. وتألفت بعض جمعيات للقيام بحماية الأمومة والطفولة. ناهيك بأن مبدأ التكافل الاجتماعي قد أشربت النفوس حبه في البلاد الإفرنجية حتى أن فرنسا بعد أن كان فيها عام 1891، 9144 جمعية وأعضاؤها 1. 472. 285 ورأس مالها 183. 587. 450 فرنكاً قد صارت سنة 1904 18500 جمعية وأعضاؤها 3. 700. 000 ورأس مالها 380 مليوناً ودخلها 54 مليوناً. وكفى بأنه تألف في شهر أبريل فقط سنة 1904 في فرنسا 117 جمعية جديدة. هذا ولا ريب أنه ستعظم صلات التكافؤ بين صالح الأفراد ومصالح الأسرة البشرية العظمى بكثرة تلك الجمعيات الراقية وتأصل ملكة التكافل الإنساني فتزيد تلك الصلات في كل يوم عن امسه توطيداً. وكيفما دارت الحال فإن هذا يعد من الارتقاء العظيم في السلم الاجتماعي على حين كان معدوداً من قبل من الخيالات الباطلة ولابد أن يأتي يوم يعد فيه من الضرورات للسلامة العامة. فإن افتخر القرن التاسع عشر بأن بسط المشاكل الاجتماعية ومثلها على بساط الوجود فمن الفروض المحتمة على القرن العشرين أن يأتي

على حلها إلى عالم الشهود.

تعليم العميان

تعليم العميان اهتم العالم المتمدن في الأيام الأخيرة بتعليم العميان إذ رأى علماء الاجتماع أنهم يصلحون لأعمال كثيرة لا يصلح لها أغلب المبصرين وذلك مثل التوقيع على آلات الموسيقى والغناء وغيرهما من الفنون الجميلة. وليس تعليم العميان في الغرب بعيد العهد كثيراً بل يرد عهده إلى النصف الأخير من القرن الثامن عشر. فقد أسست سنة 1784 في باريس أول مدرسة للعميان وكانت قراءة التلامذة في هذه المدرسة باستعمال الحروف البارزة. وفي سنة 1786 عرض فالانتين هاي الذي اشتهر بحب الإنسانية في خدمة بني جنسه تلامذته على الملك لويس السادس عشر وحاشيته في بلاط فرسايل. وفي تلك السنة نفسها نشر مقالة في تعليم العميان شرح فيها طريقته. ولكن هاي لم يكن غنياً وحدث أن نضب نبع عطاء الكرام فعجز هاي عن إتمام عمله فقررت الحكومة الفرنسية أن تأخذ المدرسة تحت حمايتها لتنفق عليها من ماليتها وكان ذلك في سنة 1791. وقد أخذت بلاد الإنكليز من فرنسا تلك الطريقة الشريفة فأسست في إنكلترا مدرسة العميان بليفربول وملجأ العميان في ادنبرج ومدرسة العميان في لندن وغير هذه في بلفاست ودوبلين ويورك. وفي سنة 1868 أسس الدكتور ارمتياج جمعية معاونة العميان وكان غرض هذه الجمعية ترقية تعليمهم فأسست المدرسة الملوكية لتعليم الموسيقى وكان الغرض من تأسيس هذه المدرسة ترقية تعليم فن الموسيقى لأنه كان الفن الوحيد الذي برع فيه العميان لسهولة تعليمهم إياه وقد نجح في هذه المدرسة 89 في المائة وكلهم اليوم في مكنة من الكسب والتعيش بصنعتهم. وقد رأى القائمون أمر هذه المدرسة أن أهم شيءٍ في تعليم العميان هو تقوية أجسامهم وتربيتهم تربية بدنية عقلية وذهب بعضهم إلى أن العمى ليس هو السبب الوحيد في خيبة المصابين به بل السبب في خيبتهم إنما هو خمولهم وضعف الإرادة والعزم فيهم فأدخل في هذه المدرسة كثيراً من الألعاب الرياضية كالمشي والعدو والطعن والسباق وركوب الدراجة والتجديف والانزلاج على الثلج. وكان التهذيب العقلي يشمل تقوية الفكر وتنمية قوة الملاحظة والذاكرة وتنبيه الميل إلى الدرس والمطالعة والتمرين على النطق بالتأني مع قلة الكلام. وفرض على كل طفل أعمى أن يتعلم فن الكتابة على آلة الكتابة المسماة تيبرايتر ويختص البنات بتعلم الخياطة والحياكة وصنع الحلل.

وأول من اخترع حروفاً لقراءة العميان إسباني اسمه فرنسيسكو لوكاس اخترع طريقة حفر الحروف على ألواح الخشب وقدم هذه الطريقة إلى الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا ثم اخترعت طريقة للقراءة غريبة وهي استعمال الدبابيس والوسائد بدل الحروف والطروس. واخترع ألماني طريقة القراءة بتجويف الورق الغليظ. وعلم بهذه الطريقة الآنسة بارديس التي نبغت في فن الموسيقى نبوغاً عظيماً. وتدل الإحصائيات العلمية على أن عدد العميان قد أخذ ينقص شيئاً فشيئاً فقد كان في إنكلترا وويلس في سنة 1851 أعمى واحد من كل 979 وفي 1861 كان فيهما أعمى في كل 1138 وفي 1891 كان فيهما أعمى واحد في 1235 وينسب هذا النقص إلى ترقي فن الجراحة البصرية واهتمام الأطباء بدرس أمراض العين واعتناء الأهلين بعيون أبنائهم عند ولادتهم. وفي إنكلترا وويلس 25 مدرسة للعمي و33 معملاً لتعليم الحرف و46 جمعية تختص بفحص أحوال العمي وتدبير أمورهم. والصنائع الشائعة التي تعلم في هذه المدارس هي عمل السلال والفرش والحصر والأكياس والحبال والمكابس والبسط والسلك والكراسي للذكور والخياطة والغزل والنسيج للإناث وقد أفاض الأغنياء على هذه المدارس وهاتيك الجمعيات والمعامل ضروب العطاء وجاد كثير منهم بأرزاق واسعة بعد موتهم وقفوها على تعليم العميان وإصلاح حالهم. وبعد فلا يسعني بعد أن أتيت على ما أتيت عليه من أخبار العمي وتعليمهم إلا أن أحيي الغرب وبنيه الذين أحسنوا الانتفاع بكل شيء وعلموا حتى العميان وأؤنب الشرق وأهله الذين أساؤوا استعمال كل شيءٍ وأهملوا حتى تعليم المبصرين. فلله در أرض يبصر فيها المكفوفون ولا در أرض يعمى فيها الناظرون وسقيا لجدث شاعرنا الذي قال: أن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ... ففي فؤادي وقلبي منهما نور القاهرة محمد لطفي جمعة

جيوش المستقبل

جيوش المستقبل جاء في العدد الأخير من مجلة البابيروس التي ينشئها صديقي ميخائيل مونان الكاتب الأمريكي البليغ مقالة من قلمه تحت عنوان صورتان يقابل فيها بين كلام لكاريل في الحرب وكلام لكارل مركس فاستحسنت نقلها إلى المقتبس لإرجاء نشر محاسن مجلة صديقي الصغيرة النفيسة التي لا تنفعها الشهرة العربية بل حرصاً على بث رأي الفيلسوف الألماني الجميل وحباً بالسلم العام الذي لا يستتب كل الاستتباب إلا إذا تأصلت جرثومة بغض الحرب في قلب كل إنسان. لكاريل فصل مشهور يصف فيه جيشين متعاديين واقفين في ساحة القتال ينتظران أوامر قوادهما على حين ليس من عداوة بين رجال الجيشين ولا ثأر ولا تراث ولا يحملهم على القتال شيء من الضغائن الشخصية ولا دعاهم إلى ساحة الحرب داع من دواعي الأمة والوطنية التي يحسبها بعضهم شريفة جليلة فهم هناك امتثالاً لإرادة حكامهم المطلقة وطوعاً لأوامرهم العالية. هم ثمت لا لأسباب لها مساس بشؤونهم العالمية ولا لدواع تستلزمها مصالحهم الخصوصية ولا لأغراض ينفعهم تعزيزها وتنفيذها ولا لمبادئ يهمهم نشرها ومعرفتها وتراهم مع هذا هجروا نساءهم وأولادهم وبيوتهم وآباءهم وأمهاتهم وكل ما يرغبهم في الحياة ليريقوا دماءهم الطاهرة ودماء غيرهم من الأبرياء من أجل أهواء حكامهم الخبيثة أو مطامعهم الباطلة. وفي كلا الجيشين كهنة يحرضون الرجال على القتال ويزينون لهم الجهاد في سبيل الأمة والوطن. يزينون لهم سفك الدماء الذي يؤهلهم إلى الخلاص بالمسيح كما يزعمون. ويبرهنون لهم أحسن برهان بأن عملهم هذا مطابق للإرادة الإلهية التي يمثلها في حكامه المختارين المباركين ولما كان الكهنة يعزون مثل هذا الجهاد إلى إرادة إلهية شأنهم في كل حرب منذ بدأت القبائل والشعوب تغزو بعضها بعضاً للقتل والسلب والنهب فينتج عن ذلك أن الله عز وجل هو المسؤول وحده عن الحرب وأهواله. وهكذا يهجم المتحاربون بعضهم على بعض هجوم الوحوش الضارية وقد فعلت هذه المنبهات الدينية في الرؤوس فيذبحون إخوانهم ويفادون بأنفسهم للذبح راضين قانعين لأن حكامهم أمروا بذلك وكهنتهم آذنوا به بل حرضوا عليه. على أنهم يسيرون إلى ساحة الحرب بادئ بدءٍ بفتور همة وتردد حتى إذا تقابل الجيشان تتغير الوجوه وتلعب في القلوب روح الهمجية ونهمة القتال. فينقلبون سريعاً وأي انقلاب. ولم يكونوا من قبل ليفكروا في غير بيوتهم وعيالهم المهجورة وفي النول والمحراث

والمعمل وأدوات الصنائع المتروكة. وأما الآن فلا يهزهم سوى نهمة وحشية واحدة فتراهم قد فقدوا كل عاطفة بشرية تراهم يفرحون ويتهللون بسفك الدماء فيصرخون وقد ملأت رائحة الدم خياشيمهم اقتلوا اقتلوا اقتلوا. هذه هي الصورة الهائلة التي صورها كارليل. وهناك صورة أخرى تمثل الجيشين المتعاديين صورها كارل مركس بقلمه. وليست الصورة هذه مشهورة كالأولى ولكن ستصبح عزيزة فريدة في المستقبل فتفوق صورة كارليل شهرة وتستمطر على موحيها ومؤلفها رضوان الله وثناء العباد. وليست هي في الحقيقة صورة بل هي نبوة قد يشاهد أحفادنا تحقيقها عياناً. وصف كارل مركس اجتماع الجيشين يقتتلان كما وصفهما كارليل فهما أيضاً مؤلفان من عامة الناس الذين يقدمهم الحكام طعمة للحرب قال: ها قد دعوا الآن إلى ساحة القتال ولا مصلحة تبعثهم عليه ولا غرض ولا ثأر ولا مبدأ ولا داع البتة ولا سبب يتعلق بشؤونهم الخصوصية ولا واجباً حقيقياً نحو الأمة والوطن يوجب عليهم سفك الدماء الزكية ومع هذا كله ترى الكهنة بينهم يحرضون على عادتهم عملاً بتقاليد تجارتهم وبعد أن يبثوا في الجيشين روح الدين - بعد أن يشحذوا في قلوب الرجال نهمة القتال يتقهقرون ساكنين ويتخذون لهم مراكز آمنة في مؤخرة العسكر. وكأنك بالجيشين قد تقابلا وصدرت أوامر القواد ولكن بدل أن يهجم الرجال بعضهم على بعض هذه المرة هجوم الأعداء تراهم قد رموا بسلاحهم إلى الأرض وتصافحوا مصافحة الإخوان. وعندئذ يختفي إلى الأبد شبح الحرب الهائل. ويهجر الكهنة والعقبان ساحة القتال آسفين. ويتنازل الحكام عن عروشهم ويتعزز الإخاء الحقيقي ويبتدئ عصر الإنسانية. ومن لا يفضل صورة كارل مركس هذه على صورة كارليل: من لا يعمل استطاعته ليقرب اليوم الذي فيه تتحقق هذه النبوة؟ ومن لا يبذل ما في وسعه في سبيل هذه الأمنية الجميلة؟ فسقيا لليوم الذي فيه يبتدئ عصر الإنسانية والمحبة البشرية. لبنان أمين ريحاني

النهضة الأميركية

النهضة الأميركية معربة عن الفرنسية انتشر مذهب مونرو وقوي في نفوس الأميركيين الأدلال بأميركيتهم فتوسعت أحوال الولايات المتحدة وزادت بسطة في الجاه والثروة. وحذا خلفاء مونرو حذوه في التمسك بمبدأ الإكثار من الضرائب على الواردات مع ميل بعضهم إلى حب التوسع وتوفير الصلات مع البلاد الأجنبية وخفف جاكسون أحد رؤسائهم مكوس الجمارك فنقص الدين العام وكان بلغ 127 مليون دولار بتخفيف الضرائب ووفي كله. ثم جاء بعد هذا من الرؤساء من حافظوا حق المحافظة على مبدأ مونرو ورفعوا سدود الجمارك من وجوه السلع الأجنبية وأنذروا العالم أن مبدئهم السياسي القويم في المستقبل الضرب على يد كل دولة أوربية تطمح إلى أن تنشئ لها مستعمرة أو تستحل لها أرضاً في أميركا الشمالية وأن الولايات المتحدة هي الحاكمة المتحكمة التي لا تسأل عما تفعل في تلك الأصقاع وسعوا السعي الحثيث حتى ضموا إلى بلادهم يوكاتان وأريغون وجزيرة سان دومينيك. وصرح كرانت أحد رؤساء الجمهورية أن الوقت ربما لا يطول وأن مجرى الحوادث الطبيعية والصلات السياسية الأوربية مع أميركا قد انقضت أيامها وأن الولايات المتحدة تعمل يداً واحدة مع الممالك الإسبانية الأميركية على إحراز خصل السبق والذهاب بفضل العمل على الأوربيين للاستمتاع بمبدأ سنه مونرو وأدامس وكلاري. وبعد خمس وعشرين سنة قام الرئيس كليفلند وصرح لإنكلترا بأن لجنة أميركية عهد إليها النظر في مسألة فنزويلا فإذا عبثت بريطانيا بما تقرره تلك اللجنة يكون في ذلك الحرب ويعني بذلك أن الولايات المتحدة اشتد ساعدها بحيث صارت في غنية عن الاستمداد من غيرها وأنها حامية أميركا الشمالية والجنوبية معاً وكان لهذا النبأ في العالم القديم (أوربا) دوي كدوي الرعد تحت سماءٍ من الرصاص وظهر مبدأ مونرو هذه المرة سيفاً لامعاً في ظلمات الماضي وبه نهضت نهضة الشمير البصير. وبعد فإن المراد من النهضة الأميركية مذهب الأمريكان الداعي إلى التفاف أميركا برمتها حول الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وذلك حرصاً على مصلحة عالية أخذ مصدرها الأساسي عن مبدأ مونرو. ذاك المبدأ الذي سنه هذا الرئيس وجرى عليه العمل في أزمان

رؤساء كثيرين وفيه بقاء الولايات المتحدة وضمان توسعها وتبسطها في مناحي السلطة والثروة والبقاء وليس غير هذا المبدأ دافعاً عن مصلحة البلاد غارة الأوربيين لاسيما وهم يأتونها زرافات ووحداناً. ولم يكن الرؤساء بولك وكرانت وكليفلند وأولنيه إلا مؤيدين لمونرو وعاملين على نشر مبدأه الاقتصادي. وقد أبان أحد علماء تلك البلاد بأن مبدأ مونرو لم يعمل به هو ولا أشياعه من بعده وأن أميركا لم تنهض حق نهضتها وذكر إثباتاً لرأيه أمثلة طفيفة من تداخل الأوربيين في شؤون أميركا بالفعل دون أن تقيم الولايات المتحدة الحجة على ذلك. فحصار إنكلترا سنة 1842 لسان جان دي نيكاراغا ولمرافئ السان سلفادور سنة 1851 وقبض السفن البرازيلية سنة 1862 انتقاماً من التعدي الذي وقع على البرنس أوف فالس كلها من الأمثلة في هذا الباب. قال هذا الناقد أن مبدأ مونرو لم يسن لمعاضدة حقوق الممالك الأميركية ومصالحها بل للاحتفاظ بحقوق الولايات المتحدة ومصالحها فقط. ثم أن مبدأ التكافل الأميركي من أدنى إقليم الألاسكا في الشمال من أميركا إلى أقصى أرض النار من أميركا الجنوبية هو من الأوهام التي يصعب تحقيقها وقد حملت زمناً بهذا التكافل جمهوريات الجنوب الصغرى إلى أن ظهرت الولايات المتحدة في مؤتمر باناما سنة 1826 بمظهر الأثرة وحب الذات. فإن كان مبدأ مونرو هو الصلة الأساسية التي تضم شتات الأمريكيين بعضهم إلى بعض فإن أوربا لا تعد من الأمريكان غير أهل الشمال أي سكان الولايات المتحدة. وما عداهم من سكان الجنوب فحجة يتوكأون عليها وذريعة يتشبثون بأهداب الدفاع عنهم في الأحايين وما معنى النهضة الأميركية إلا انضواء الأمم الأميركية الضعيفة تحت علم الأمة القديمة ملتفة حول لواء المسكنة ملتحفة ثوب الصغار والذل. ومازال الحق بجانب القوة أي أن الأمريكيين يهددون بسيف قوتهم كل أمة أوربية تريد أن تستبيح حماهم فيدافعون بذلك عن حقيقتهم ومصلحتهم. فقد قيل أن الأمريكي تحيط به تمائم ثلاث التوراة والدستور ومذهب مونرو هذه هي عدته الاجتماعية وسلاحه الذي يستعمله في جهاد هذه الدار. ولئن أسيء استعمالها فليس من داع لملام الأمريكان إذ يقضي على كل أمة أن تقضي أربها وتنال حظها ويحق لكل أمة هددت مصالحها بمصالح أمة متغلبة أن تقاوم جهد قوتها وتدافع عن بيضتها وأن تغير غارة شعواء على من يتربص بها الدوائر فلا

تتسامح مع الأنانية الوطنية إلا بقدر ما لا يضر هذا التسامح بالرغبات الخاصة المحترمة عند الشعوب الأخرى. نعم كل يجر النار إلى قرصه وكل امرئ في شأنه ساع ولكن يقتضي على القوي القادر أن لا يروح مدفوعاً بعوامل حب منفعته قائلاً للضعاف أو المستضعفين جهاراً أو رئاءً: إني أعمل لمصلحتي لا لمصلحتكم ولكنكم اعملوا لي كما لو كنت أنا اعمل لكم. بيد أن هذه الجمهورية الكبرى في أميركا الشمالية لم تسلك مسلكاً آخر أمام جمهوريات الجنوب الصغرى فإن الأولى عالمة علم يقين بأن ليس بينها وبين جاراتها من تكافل المصالح إلا ما يفيد الولايات المتحدة في مادياتها أي أن طريقة حماية التجارة تؤدي إلى الإفلاس والشقاء في البرازيل والأرجنتين فإن هاتين المملكتين خصيبتان ولكنهما ضعيفتان من حيث الارتقاء الصناعي ولذلك اضطرتا بحكم الحاجة إلى أن تفتحا أسواقهما للواردات الشمالية بدلاً من أن تغلقاها. وهاتان المملكتان مضطرتان إلى تحسين صلاتهما مع الكافة لأن معنى اعتزالهما تحت برقع النهضة الأميركية وابتعادهما عن الأوربيين حباً بأن تكونا من حروف الزوائد مع سكان الشمال أنهما كسلانتان جاهلتان محافظتان على القديم مضادتان للأهواء المعادية للتمدن راغبتان في الفناء الطبيعي الذي يلحق الأجناس ويدب فيها سوس الفساد الأدبي. هذا ولم تتمالك إحدى المجلات الأميركية الشهيرة من التصريح بأن الولايات المتحدة تلجأ إلى القوة إذا جرى في الجنوب ما يخالف هواها. ولذا لم يستغرب أحجام إنكلترا سنة 1895 في مسألة فنزويلا وكيف طرد الإسبانيول من جزيرة كوبا سنة 1898 وكيف فتحت بورتوريكو وكيف كادت تباع جزائر الأرخبيل الدنمركية وكيف يطوف الأسطول الأميركي أبداً محافظاً أو قاهراً البحر المتوسط الأميركي حيث تمتد أصقاع سان دومينيك أو فنزويلا أو باناما وكيف يتبجحون عند أقل فرصة ولو في حدوث مسألة خاصة إن مبدأ مونرو يأمرهم بأن يحموا جمهوريات برازيل أو الأرجنتين أو بيرو أو شيلي أي أن يقوموا بشؤون تلك البلاد قيام الوصي والمعلم. وإذ كانت النهضة الأميركية الاقتصادية مرتبطة بالنهضة السياسية ولا تتحقق النهضة الاقتصادية لما هناك من اختلاف المصالح التجارية بين سكان الشمال والجنوب وبعبارة

ثانية بين أميركا البروتستانتية السكسونية وأميركا اللاتينية الإسبانيولية - رأت الجمهوريات الصغرى أن تحتفظ بحقوقها فقاومت ما تدعو إليه الولايات المتحدة من النهضة الاقتصادية خشية أن يلحق سلامتها نقصان. فعقدت مؤتمرات حضرها مندوبو الحكومات الأوربية ومن جملة ما عقد من المعاهدات معاهدة بين أميركا الشمالية والمكسيك سنة 1883 تدخل بموجبها سلع الشمال إلى بلاد المكسيك حرة بلا جمرك كما أن الشمال يقبل حاصلات المكسيك الطبيعية كذلك. ومع هذا لم يظفر سكان الشمال بطلبتهم فقد باع سكان الولايات المتحدة سنة 1894 لسكان الجنوب بضائع بمبلغ 135 مليون دولار وابتاعوا منهم غلات بمائتين وستة وأربعين مليوناً. قال الكاتب وكل ما قامت به أميركا الشمالية من الأعمال من حرب وضم أرض وفتح بلاد من أرض الجنوب إن هو إلا للتفادي من أن ينال مذهب مونرو بعض ضعف وما هذه الأعمال إلا دالة أصرح دلالة على ما تحوي ضلوعها من فكر الاعتداء والفتح المنطوي تحت اسم نهضة أميركا. لا يعدم الحق أنصاراً وإن من الاتحاد قوة. فقد قام بوليفار من رجال السياسة وأبطال الحرية الملقب بواشنطون أميركا الجنوبية فحرر كولومبيا وفنزويلا وبيرو وخط الاستواء وبوليفيا ثم أراد أن يجمع هذه الأمم الحرة كلها في ظل العلم الدستوري ويجعلها مملكة قائمة برأسها ففشل في دعوته ثم عاد فدعاهم باسم المحافظة على مبدأ مونرو فأجابت بعض البلاد الجنوبية دعوته. وتلكأت الولايات المتحدة كثيراً كأنها قالت بلسان الحال أن هذا المبدأ سن لحماية مصالح الشمال لا لمصالح الجنوب وأشارت إلى مندوبيها بأن لا يصغيا إلى ما يقرر إلا بأذن صماء فعرفت جمهوريات الجنوب الصغرى أن جمهورية الشمال الكبرى ليست أختهنَّ. ذلك لأن بوليفار لم يتصف كواشنطون بإرادة ثابتة منظمة بل كان من شدة الحمية بحيث يستهين بروحه ويريق دمه حباً بمصلحة العالم ويرى الأمم كلها أخوة والناس أحراراً سواءً ولذلك لم يحسن إدارة ما افتتحه من البلاد وغنمه من الطارف والتلاد. وظلت الولايات المتحدة سائرة تلتهم كل ما تصادفه في طريقها من المغانم والفرائس ومنها ضم جمهورية التكساس إليها وهي ضعفا مساحة فرنسا. ضمٌّ لم يخل من المخاطر إذ أن الولايات المتحدة تحظر الرقيق ولا تقول هذه الجمهورية بمنعه. وبعد جدال طويل الأذيال

مع المكسيك بل بعد الأخذ بالتلابيب وإشهار المكسيك الحرب على أميركا ضمت التكساس إلى هذه وصارت الولايات المتحدة صاحبة القول الفصل في الشمال بالقوة ومن ذلك تداخلها في جزيرة سان دومينيك وقد انقسمت قسمين مستقلين وثارت بينهما ثائرات العداء ولكنها تلطفت في هذا التداخل. وكانت تود إلحاقهما ببلادها لو لم تكن خارجة منهوكة من حرب الرقيق. ولا يزال لسان الثورات يندلع في تلك الجزيرة وكثيراً ما هددت أميركا من أجلها ولعلها تلتهمها بعد لأنها واقعة بين جزيرتي كوبا وبورتوريكو اللتين بسط النسر الأمريكي مخالبه عليهما. ومرفأ هذه الجزيرة سان نيقولا هو بمثابة جبل طارق لأميركا. وفاوضت الولايات المتحدة حكومة الدانمارك عام 1902 في أن تبيعها جزائرها في الأرخبيل الانتيل بمبلغ خمسة ملايين دولار وهي ثلاث جزائر مساحتها السطحية 310 كيلومترات مربعة وسكانها 32786. فاكتشفت في خلال هذه المدة حبال نصبها أحد أعضاء مجلس البلاد الدنمركية وتبين أنه ارتشى لتحقيق رغبات الأمريكان. فتأخر النظر في أمر الجزائر الآن ريثما تجيء الفرصة المناسبة (والأمريكان كالإنكليز لا يضيعون الفرص ولا يخترعونها) ولئن لم تسقط هذه الأجاصة في أرض الأمريكان فذلك لأنها الآن آخذة بالنضج وما نضجها على الصابرين ببعيد.

انحطاط المشرق بانحطاط الأخلاق

انحطاط المشرق بانحطاط الأخلاق بسطنا الكلام في فصل سابق عن انحطاط المشرق وأبنا ثمة أن سببه انحطاط الأخلاق وعراقة الشرقيين في الحضارة وبلوغهم منها غاية قضت بتمكن الضعف منهم منذ زمان مديد ووعدنا بالعود إلى هذا البحث وإتمام الكلام عليه ووفاءً بالوعد نقول: أشرنا في ذلك الفصل إلى أن الأخلاق السافلة التي تقضي بانحطاط الأمم وضعفها كثيرة وأن ما نراه منها مظنة انحطاط المشرق وأهله لا ينحصر بالملاذ البدنية بل هو أعم من ذلك وأن عامة الأخلاق الفاضلة في المشرق قد تطرق إليها الضعف فأضعف قوى الشرقيين ونفوسهم عن النهوض مع الناهضين والتسابق مع السابقين من أمم المغرب والخطر من هذا على المشرق عظيم يتهدد أهله بناموس الانتخاب الطبيعي القاضي ببقاء الأنسب. وحسبك دليلاً على ذلك هذا السكون المطلق الذي يخيم بسحبه المظلمة على آفاق المشرق بينا المغرب في حركة مستمرة يخترق صداها حجب الفضاء وتهتز لها جوانب الغبراء. فلو هبط الآن على الأرض هابط من عالم النجوم لخيل له أن المشرق وأهله عالم آخر لا اتصال له بالمغرب لما بينهما من التباين الذي يكاد يكون مستحيلاً في نظر العقل في عصر وصلت فيه الكهربائية والبخار بين جوانب الأرض وأصبح فيه العلم مشاعاً بين الأمم لا يقصر عنه نظر المتطاول. ولا يد المتناول. وما هذا التباين إلا أثر من آثار الأخلاق في رقيها وتدليها والإنسان إنما دعي إنساناً مميزاً بنفسه لا بجثمانه فالنفس هي التي تعلو بهذا الإنسان الضعيف حتى تبلغ به عنان السماء وتهبط به إلى الحضيض حتى يلتصق خده بأديم الأرض. فكل ما في المشرق من وهن في العزائم. وفتور في الهمم. وإخلاد إلى السكون. وعجز عن النهوض. وتخاذل يفرق المجتمعات. ويأكل القوميات. ونفور من العمل. واسترسال في الجهل والخمول. ورضا بالضيم واستسلام للفاتحين والمستعبدين من الغربيين. إنما هو نتيجة ضعف في النفوس تأصل فيها بضعف الأخلاق ويوشك أن يرجع بهذه النفوس البشرية إلى الجبلة البهيمية لو لم يقابله حكم هو أقرب لسنن الوجود وأشد أنحاءً على الشرقيين ألا وهو: فناء الضعيف في وجود القوي. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا. إذن فداء المشرق كما تبين لك عضال ومرضه خطر قتال. وهو فساد الأخلاق وضعف

ملكات العلم بلوازم الحياة. ولابد لتقويم الأخلاق من حسن المعالجة بمزاولة التربية الصحيحة وإحياء موات النفوس بالفضائل التي يرشد إليها العلم. والوصول إلى ذلك إنما يكون بأحد أمرين: إما بالشعوب أو بالحكومات: وفي كلا الحالتين فإن نهوض المشرق وقصد أهله هذا القصد يتوقف على وجود قادة في أممه وشعوبه يحسنون بهم السير ويأخذون بهم إلى سبيل الرشاد. على أنا نرى أن وجود القادة من زعماء الإصلاح الاجتماعي في المشرق لا يوصل إلى منتهى الغرض إلا إذا وجد أولئك القادة عضداً من الحكومات وناصراً من زعماء الرياسة والسياسة الذين أصبح في أيديهم قياد الأمم الشرقية. ذلك لما ثبت لنا من تناهي ضعف النفوس في المشرق وفقدها الشعور بالحاجة إلى الإصلاح النفسي والتربية العقلية. ولنضرب لك مثلاً على ذلك بمن قاموا من قادة الأفكار في المشرق في عصر واحد وهو عصرنا هذا فقد سعى المركيز ايتو الياباني لإنهاض قومه في أقصى الشرق فأنجح سعيه ونهض باليابانيين إلى أفق السعادة لما أخذ بيده إمبراطور اليابان كما هو معروف. وسعى غيره كثيرون في أدنى الشرق فأخفق سعيهم لما لم يجدوا من زعماء الرياسة على الشعوب من يأخذ بأيديهم ويعضد سعيهم. ذلك لأن شعوب المشرق كما قدمنا قد مرنوا على الخمول لما تأصل فيهم من مرض الضعف وفساد الأخلاق الفاضلة التي تنهض بالنفوس إلى ذرى الاستقلال الذاتي فأصبحوا اتكاليين لا يسعون إلى عمل نافع إلا إذا سيقوا إليه سوقاً. واقتدوا برؤسائهم إذا كانوا لهم عوناً يضاف إلى هذا غرور الشرقيين ببقايا مدنيتهم الدارسة غروراً يقعد بالهمم عن تطلب غايات الكمال على أن إخفاق المخفقين إنما كان في الحصول على الثمرة العاجلة التي جناها ايتو اليابان وأما الآجلة فلم يكونوا يائسين من نيلها إذا ثابر الخلف من محبي خير الشعوب ومصلحي النفوس والمخلصين في النية والعمل لأقوامهم على إرشاد أمم الشرق إلى سبيل النجاة واستنهاض همم ذوي المروآت من زعماء الحكومات الشرقية إلى بسط جناح الرحمة على الرعية ومعونتها في القيام على أصول العلم النافع وتلمس وجوه الخلاص من براثن الفناء الذي يتهدد أمم المشرق في كل آن ولا يعدم المشرق أفذاذاً من المصلحين في كل عصر توافق دعوتهم من بعض الزعماء آذاناً واعية وقلوباً رقيقة ونفوساً سامية نقية من شوائب الفساد تنطبع عليها صورة الخير وتنزع

إلى النهوض بالشعوب الشرقية من وهدة الذل والخمود. ورب معترض يقول أن نهوض زعماء الحكومات بالأمم أمر غير متوقع الحصول لاسيما في المشرق ومادام الشرقيون قد بلغوا من الضعف ذلك المبلغ فأحر بزعمائهم أن يكونوا كذلك فالأولى أن تحث الأمم على النهوض بنفسها وترك الاعتماد على حكوماتها فالجواب عن هذا أن ذاك الاعتراض وجيه لا يقبل النقض بل هو القاعدة الأساسية في حياة الأمم لكن ذلك يجوز على أهل المغرب وأما أهل المشرق فقد أقعدهم عن العمل بهذه القاعدة طول عهدهم بالجمود والخمول الناشئين عن الإغراق في الحضارة كما قدمنا وتماديهم أجيالاً كثيرة في الاعتقاد بألوهية زعمائهم وما يتبعها من تسليم النفوس إليهم والتعويل في كل الشؤون عليهم وهي عقيدة وإن محتها الشرائع الإلهية من أكثر أرجاء المشرق إلا أن إدمان الأمم عليها غادر في نفوس الشرقيين من آثارها القبيحة اعتماد الشرقيين على حكوماتهم في كل شأن من شؤونهم العامة. وهل تظن أيها القارئ أن الأمة اليابانية كانت تتجول عن مثل هذا الاعتقاد بميكادها (إمبراطورها) لو لم يتنازل هو نفسه عن ألوهيته بمحض إرادته وحب الخير لأمته ويفهم شعبه أنه بشر مثلهم لا قوة له ولا حول إلا بهم ولاحظ لهم سعادة الحياة ومسابقة الأمم إلا بجدهم وهل تظن الصينيين يبلغون من الرقي مبلغ اليابانيين إذا لم يفهمهم إمبراطورهم ابن السماء أنه ابن الأرض ويهدم مختاراً ذلك السور الهائل القائم بينه وبين أمته فيقودهم إلى الطريقة التي سلكها ميكادو اليابان بقومه ورفع لهم فيها بنيان الفضيلة والعلم بإخلاصه وعلو نفسه. وبالإجمال فالشرق يحتاج في نهوضه إلى حكوماته إذا أريد التعجيل في الحصول على الثمرة المبتغاة من دعوة المصلحين في كل قبيل منه وعند تعذر الحصول على هذه الثمرة يعدل فيه إلى الرأي الآخر ولابد في هذه الحال من قيام طائفة من كل قوم على تربية النفوس وبيان الفضائل التي تسمو بها النفس إلى أفقها الأعلى حق البيان والله بحسن العاقبة كفيل. حلوان رفيق العظم

الاحتفاء بالأحياء والأموات

الاحتفاء بالأحياء والأموات قرأت في الجزء الثالث من المقتبس ص147 مقالاً تحت عنوان روح جديدة جاء فيه أن الأمة أخذت تنصبغ بصبغة الغربيين منذ أنشأت تأخذ العلوم عنهم ومن ذلك إجلال رجال العلم والأدب أحياءً وأمواتاً. وقد رأيت دعوى أن ذلك روح جديدة وأن ذلك من أخذ الشرقيين عنهم منظور فيها إذ قد دون التاريخ من أمثال هذه الاحتفالات ما لا يحصى. وما ذنبنا إلا القصور بعدم التنقيب. إن الفقهاء بأجمعهم على تنوع مذاهبهم عدوا من البدع تأبين الميت وذكر محاسنه ورثاءه قبل الدفن وبعده واستدلوا على ذلك بما روي من الآثار المعروفة في دواوين السنة أليس هذا لأن القرون المتقدمة كان فيها شيءٌ من ذلك: إنشاد مراث وتعديد مناقب وبث خطب. بلى ولولاه لما كان لتنبيههم معنى. ولم يزل ذلك معروفاً في عواصم البلاد فلا يموت عالم إلا وتتلى قبل الصلاة عليه عدة قصائد وذلك قبل نفخ هذه الروح الجديدة في صور الشرق. وأما تكريم الأحياء للأحياء فلم يزل يحتفل بختم دروس الكتب المهمة كالصحيحين والموطئ في دور مشايخ الحديث أو أحد أصحابهم احتفالاً يحضره كثير من أهل الفضل والأدب وإن أعوزهم مدح العلم والكتاب نظماً فلم يفتهم ذلك مذاكرة أو لسان حال هذا أثر من آثار ما كان. ما الذي كان. كان إذا ختم عالم كتاباً مهماً من مؤلفاته يحتفل به أفاضل العصر احتفالاً يذيع في كل قطر. أذكر من ذلك ما جرى عام 842 لما ختم الحافظ ابن حجر كتابه الباري شرح البخاري بالتاج والسبع وجوه بين كوم الريش ومنية الشيرج خارج القاهرة حضره من العلماء الذين حفظ التاريخ أسماءهم ثمانون بل نيفوا على ذلك وأما من كان من الطبقة الوسطى فما دونها فأولئك لا يبلغهم الحصر ونظم من أدبائهم ومشاهيرهم في التنويه بهذا المشروع عدة قصائد فمن ذلك قول الصلاح الأسيوطي من قصيدة كم للبخاري من شرح وليس كما ... قد جاَء شرحك في فضل وتتميم وقول الشهاب المتوفى مطلع قصيدة أبياتها 75: تمنعت بدموع الصب في حجب ... فانظر لشمس الضحى في حلة السحب ومنها شرحت صدر البخاري مثل جامعه ... فراح ينشد هذا منتهى الطلب

ومنها هذا وحقك عام الفتح حج به ... لبيت فضلك وفد العلم عن رغب وقول البرهان البقاعي صاحب التفسير المعروف من قصيدة: بأبي الخدود نواضراً حسناتها ... كنواظر الغزلان في الدينار قصدت يكون المسك حسن ختامها ... فتعلمت من ختم فتح الباري وقصيدة لشمس الدجوي وقصيدة للخطيب برهان الدين المليجي وقصيدة المحب الدين البكري أولها حديثك لي أحلى من المن والسلوى ... إذا حل سمعي حرم اللوم والسلوى ومنها وكم من شروح للبخاري عدة ... طواها بفتح البارئ أعجب لما يطوى كساهُ جمالاً من عذوبة لفظهِ ... ففازت بهِ الدنيا وسلمت الدعوى وله قصيدتان أخريان وقصيدة لشرف الدين الطنوبي ولشمس الدين النواجي قصيدة كبرى منها وكم طوى نشره كتاباً ... على ممر الدهور سرمد ومن يكن علمهُ عطاءً ... من فتح باريهُ كيف ينفد ولما فرق مؤلفه صرر فضة ومجامع حلوى أنشد الدجوي بفتح البارئ انشرح البخاري ... وأحمد ختمهُ بالفضل جامع أدار دراهماً صرراً فأنشئ ... وحلوى فيهِ تأخذ بالمجامع واذكر أيضاً أن في سنة 1188 أكمل اللغوي الشهير السيد مرتضى الزبيدي عليه الرحمة شرحه تاج العروس على القاموس واحتفل في داره بالتنويه بهذا المصنف البديع احتفالاً حضره شيوخ الوقت وكبار الأدباء كان منهم شيخ الجماعة الشيخ علي الصعيدي والدردير والسيد العيدروس والأمير الكبير وعطية الأجهوري وعبادة العدوي وأبو الأنوار السادات ومن في طبقتهم والطبقة الوسطى وما بعدها كما فصله الجبرتي. ومن المشاهير في التنويه بذوي الأدب والاحتفال بهم في القرن الغابر الأمير المجاهد السيد عبد القادر الحسني الجزائري ثم الدمشقي الشهير فإنه كان إذا قدمت إليه مقامة أدبية يدعو للتنويه بمنشئها

شيوخ الشام ويولم له أنفس الولائم شتاءً في البلدة وصيفاً في منتزهه بدمر وقد خدم لأجله الصناعتين عدد ليس بالقليل فلكل عصر أفراد وكل وقت له صبغة خاصة ومهما تباينت الأنواع فالجنس واحد. وأما الاحتفالات القديمة التي أشرتم إليها آخر المقالة فاذكرني منها ما شرطه المعظم بن العادل الأيوبي لكل من يحفظ المفصل للزمخشري - وذلك مائة دينار وخلعة قال في وفيات الأعيان: فحفظه لهذا السبب جماعة ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره. دمشق ج. ق

منتخبات من كتاب النبراس

منتخبات من كتاب النبراس في فلك الاقتباس لأحد شعراء الشام لا تجهدنَّ النفس في تدبير ما ... حاولت في الشدة من رخاء وهو الذي تلطفاً بخلقهِ ... (يدبر الأمر من السماءِ) بدنياك التي دسمت فسمت ... وليس لها على حرٍّ بقاءُ عليك إذ انكسرت لجيش هم ... (بنصر الله ينصر من يشاءُ) قيسوا قضاياكم على من مضى ... (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) واستكثروا الزاد لكي تلتقوا ... فيهم (وهم بالعدوة القصوى) عباد الله ملا جاهدوا في ... نفائسهم جهادهم الغريبا (فأنزل) من سكينته (عليهم) ... سناً (وأثابهم فتحاً قريبا) تجليات ربك هل ... أحاط بكنهها لب وهل كشف الغطا إلا ... (لمن كان لهُ قلب) لمن أشاعوا سلوتي ... عنكم أقول ما يجب (يا ويلكم لا تفتروا) ... جهلاً (على الله كذب) يا من بنظم الشعر دعواهم غدت ... تستوجب التنكيت والتبكيتا أبياتكم منها الحجارة فصلت ... (أم تنحتون من الجبال بيوتا) إذا دعيت لكأسٍ ... صهباؤُها قد تراَءت قل حيث حلت بحرم ... (بئس الشراب وساَءت) أقاصيص الفرنجة كم تؤدي ... تلاوتها إلى معنى خبيث فدعها لا تكن في العلم ممن ... بلهوٍ (يشتري لهو الحديث) قالوا وداد الكريم صفه ... وود من لؤْمهُ مزاج فقلت (هذا عذب فرات) ... يحيي (وهذا ملح أُجاج)

التعليم والتربية

التعليم والتربية الإرادة والعزم اهتم الفرنسيين للكتاب الذي وضعه المسيو دومر والي الهند الصينية السابق ورئيس مجلس النواب في فرنسا واحتفوا به لما وجدوا فيه من أدوية أدوائهم الاجتماعية وطرق تربية النشءِ تربية تقيهم آفات العصر التي ضجَّ منها العقلاء وحار في معالجتها الحكماء. وهناك سبب آخر لتلقي القوم هذا الكتاب بأيدي الاعتبار وهو غير ما يتبادر للذهن من بهرج الألقاب التي تحف باسم مؤلفه. بل هو ما عرفوه من مبادئ نشأته ووسائل رفعته حتى كانت سيرته مثالاً يحتذى في الشهامة والإقدام وأخلاقه خير وسيلة لاستكشاف أسرار النجاح. وقد تسابقت جرائدهم ومجلاتهم إلى شرحه وتقريظه ونقلت حسب عادتها فصولاً منه توضيحاً للدلالة عليه والتعريف به. فآثرت تعريب هذا الفصل لشمول فائدته كل قارئ من أي قوم كان قال في الإرادة والعزم: تعلم الإرادة واعمل ما ينبغي. بذلك يمكن أن تلخص النصوص العديدة التي تتخذ قواعد للحياة. أدّ الواجب وكن في الجملة رجل حق أبداً. هذه هي الوصية السامية والفريضة الأدبية التي تسود في سيرة الإنسان. ولا ينبغي لامتثالها أن نرغب فيها فقط بل يجب أن نكون أهلاً للعمل بها أو لي إرادة وقوة تحكم على أنفسنا. هذا هو المهم وهذا هو الصعب. من أجل ذلك كان أول ما يجب على الفتى المتقدم لاحتمال أعباء الحياة وتبعاتها أن يتأهل لامتلاك قياد نفسه فتكون له السلطة المطلقة على هواه وخطرات قلبه كما لها على جسمه وأعمال جوارحه. فإذا كان المرء كذلك أوشك أن يكون امرأ خير وأن يقبض في الغالب على زمام حياته وقياد سعادته. كيف السبيل إلى تأمين سيطرة مستمرة مثل هذه على النفس وهي تظهر متعسرة بادي بدءٍ وأن تكن تهونها المزاولة حتى لقد تصير آلية؟ أنى لنا الصبر على الانفعالات الجاهلية وعلى الجواذب والفواتن التي تحيط بالإنسان؟ كيف نغلب الميل إلى البلادة والاستسلام إلى الأميال الطبيعية التي يحلو الاسترسال معها ما لم تقدر عواقبها؟ كل ذلك ينال بتعلم الإرادة والتمرن عليها. نظم الفلاسفة الإرادة في سلك القوى الإنسانية الأولى فلا نظير لها في الأهمية إلا العقل

الذي يضبط الفكر والواجب والحكم. ثم الإحساس الذي هو مبدأ الحواس والعواطف والشهوات. وأن الذوق السليم ليتفق مع الفلسفة على وضع الإرادة في الموضع الأول بين القوى البشرية وصفات الإنسان الكامل. فإن الإرادة القوية الثابتة لتمكن من كل أمر من حيث الشؤون المعنوية وكثير من الأمور المادية. رجل الإرادة هو وحده الحر في الحقيقة فهو رب أحكامه وأفعاله. يقود أفكاره وعواطفه بل وخياله ويخضع كل شيء لسلطة العقل. فهو يسير بمقتضى أحكام عقله ويأتمر بأوامر وجدانه مع قابليته للسلوك وفق قواعد الحياة التي دعته الحكمة إلى اتخاذها. وفي الإمكان أن يتغلب الإنسان بالإرادة الثابتة على الشهوات الضارة متطرفة أو مهلكة وأن لا يدع سلطة على نفسه لغير العواطف الكريمة والخواطر النبيلة. ولا يصغي إلى العواطف إلا إذا لم تقتض شيئاً ينافي الواجب. فلابدَّ إذاً من إرادة حديثة ليكون المرء امرأ خير فاضلاً حقيقة. وكلٌّ بمثل تلك الإرادة يستطيع الكمال مهما كان مزاجه ومعايبه وكيف كانت مشاربه ومذاهبه. ويحسن في المزاولات الحيوية والأعمال اليومية العديدة التي تهمنا جداً إذ منها يتكون نسيج وجودنا أن لا نضطر إلى التحاور في الفكر عند كل أمر لنتبين أفي العمل به تكون الفائدة أم في الامتناع عنه. ولكن يجب أن يكون لنا قواعد ثابتة وأن تكفي أدنى حركة من إرادتنا المتنبهة لتوعز إلينا بالجزم. فإذا كنت تعرف قيمة العفة وكان من قاعدتك أن لا تفرط في الطعام وأيقنت بمضرة المسكر والدخان مثلاً ثم تعددت المثيرات وتوالت الدواعي إلى ما يخالف ذلك فينبغي أن تتقيها الإرادة بالعزم. وتمرن الإرادة يومياً على مغالبة مثل هذه الصغائر يجعلها نافذة السلطان في غيرها من الأمور المهمة. لا ينال الخير في الشؤون الخصوصية والعمومية إلا بالإرادة. نعم ليست هي المادة الوحيدة للنجاح إلا أنها شرط أولي لا أثر لغيره من الشروط بدونه. فإن كنا نجد لهذه القوة الحيوية أعني الإرادة تأثيراً محتماً في كل أمر لو نظر فيه على حدة فماذا نجد من تأثيرها في حياة يتوالى عملها فيها؟ لا جرم أن الرجل الذي عرف أن يتملك القوة يصير إليه في الغالب تعيين حظه حتى لا يدع للمصادفات والطوالع السيئة إلا أدنى ما لها من التأثير في حياته

بحي يكون هو الكاسب لفلاحه والباني لسعادته. وأما الرجل الذي لا إرادة له فلا يكون له من التأثير في حظه إلا القليل ولو كان ذا عقل كبير فيظل ألعوبة بيد الحدثان وأمره إلى الاتفاق. يجري في الحياة كما جرت فلك لا دفة لها فوق بحر هائج فهي تبحر من غير ما إدارة تتجاذبها الأرياح وتتدافعها المجاري إلى أن تصير إلى لجة تبتلعها. والجامدون من الرجال الذين فقدوا الإرادة بتة هم شواذ كأولي الإرادة الثابتة المطبوعين على العزم والعمل. أما السواد الأعظم فمؤلف من ضعفاء الإرادة وذوي العقول المترددة ولقد كان في إمكان هؤلاء أن يكونوا أحسن حالاً مما هم عليه بثبات عزيمة وسداد رأي لو تعلموا الإرادة. فالتردد والحيرة اللتان تفترسانهم هما مرضان يؤولان بمرور الزمن إلى شلل الإرادة بالفعل. وقد تكون الحيرة والتردد في بعض الأحوال أشد النواقص خطراً وتؤديان إلى الرزايا إذا كان صاحبهما رئيساً ما لأن العزم هو الصفة الأصلية للقواد والحكام والأمراء هكذا تقتضي كلتا الحياتين العمومية والخصوصية أن يعرف المرء أن يعتزم ويريد. فالإرادة التي يقودها العقل إذا ما عملت في الإنسان بصورة مستمرة حتى تبلغ الغاية من نشاطها ويتم لها الكمال تصير عزماً وذو العزم هو رجل إرادة وثبات وإقدام وذلك خير ما يوجد في المجتمع وأفيد ما فيه وأندر. إلا وأن كل ما يقال عن مآثر الإرادة فهو حق وإن شئت فقل ما يقال عن مآثر العزم. العزم يحتاجه الإنسان ليكون فاضلاً يصنع الخير كما يحتاجه لإنشاء حظه وسعادته. وبه يربي شخصيته الأدبية والعقلية ويكون حياته جمعاء. وحكم العزم نافذ في هذين الأمرين الحسي والمعنوي على السواء. فذو العزم ينمو عقله وهو يتحسن ويتكمل أبداً. الطريقان المفتوحان أمامنا طريق الخير وطريق الشر بينهما فرق أما طريق الشر فسهلة وهي على منحدر يستدرج فيكفي من الإنسان أن يميل ميلاً حتى يتردى إلى الحضيض. وأما طريق الخير أكثر عناءً إذ ينبغي لسلوكها جهد مستمر وإرادة ثابتة وبالجملة ينبغي لها عزم. والعمل في إصلاح النفس وتكميلها عمل يومي وشغل لا ينقضي من مثابرة المكارم

والفضائل لاكتسابها والتنقيب عن النقائص والمعايب لمكافحتها وإزالتها وعن المبادئ التي تستدعي الحذر والشهوات التي يجب أن تقهر. هنالك الخير خيرٌ يفعله الإنسان لذاته وثمة خير آخر لا يقل فائدة عن ذاك وهو ما يفعله الإنسان مع غيره أدبياً كان أو مادياً بالنصيحة والأسوة الحسنة قولاً وفعلاً. صاحب العزم الثابت لا يتحول البتة عن هذا العمل النبيل والصنع الجميل يقوم به بأمانة ودقة مستضيئاً بمصباح العقل معتمداً على جزم الإرادة. وانه ليمكنه بل يجب عليه أن يفحص كل يوم ضميره وأعماله فيعتبر اليوم الذي لم يتيسر له أن ينفع فيه أحداً يوماً مضيعاً ثم يتفكر ويتدبر ويستمد من تفكيره حياة جديدة لعزمه وقوى غضة لحرب الحياة فإن ذا الإرادة القوية ليفلح أكثر من غيره فيما لا محيص عنه من الجهاد في سبيل الحياة إذ يكون مجهزاً للعمل فيما ينفعه وينفع ذويه وفيما ينميه ويرفعه ويحقق أمانيه. العزم يفيد في تحصيل الرفاهية والسعادة ما لا يفيده العقل أو الحظ فعلى من أراد النجاح في حياة تليق به أن يلتمس عزماً عريقاً في الثبات وبعد فبقية أسباب النجاح تأتي زائدة. أرى في الناس عموماً والفرنسي خصوصاً - لأني إليه أنظر - جرثومة الإرادة الثابتة وأرى فيه قوة ومتانة ظلت مهملة حتى جمدت وصارت كأن لم تكن لعدم العناية بها والالتفات إلى تهذيبها. أرأيت الرجل يسترخي عضله ويضعف جثمانه إذا هو أهمل الرياضة وترك العمل؟ فكذلك الشأن في القوى الأدبية. إذا كنا نهذب العقل في إبان الشبيبة فمتى نربي العزم؟ لقد آن للشباب الذين أوجه إليهم هذا الخطاب أن يشرعوا في هذه التربية والتنمية الأدبية بأنفسهم ويجب أن يكون هذا أكبر همهم. وعليهم لكي يتعلموا الإرادة ويحصلوا منها على نتيجة أن يعزموا عليها ويمارسوها من غير انقطاع ولا استراحة فيستعملونها في تكميل أنفسهم وكل شأن من شؤون وجودهم إذ الغاية أن يجعل الإنسان ذاته رجلاً ذا عزم يملك هواه ويقتدر على إدارة حياته وتدبير أعماله وأن يكون هو المنشئ لسعادته وسعادة الآخرين من بني جنسه وأن يشرف بلاده وينفعها بخدمته. فيا أيها الشاب الذي تقرأ كلامي إن كنت عازماً على بلوغ هذه الغاية فاذكر الكلمة الأولى من هذا الفصل وهي تعلم الإرادة. يقول معربه وأضف إليها هذا البيت العربي

إذا لم تك الحاجات من همة الفتى ... فليس بمغن عنك عقد الرتائم بيروت عبد المعين خلوصي

صحف منسية

صحف منسية جملة من نثر ابن الحناط فصل له من رقعة: الإسهاب كلفه. والإيجاز حكمه. وخواطر الألباب سهام يصاب بها أغراض الكلام. وأخونا أبو عامر يسهب نثراً ويطيل نظماً شامخاً بأنه. ثانياً من عطفه. متخيلاً أنه قد أحرز السباق في الآداب. وأوتي فصل الخطاب. فهو يستقصر أساتيذه الأدباء ويستجهل شيوخ العلماء وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس وهذه قصيدة أنشأتها في ليلة سماؤها روضة تفتحت النجوم وسطها زهراً. وتفجرت المجرة خلالها نهراً وادٍ يسيل بعسجد. على رضراض زبرجد. فلما أصبت الغرة. واقصدت الثغرة تقلبت مراراً. وتناومت غراراً. حتى نبهني الفجر ببرده. وسربلني الصباح ببرده. وهببت من النومة وصحوت من النشوة. زففتها إليك بنت ليلتها عذراء. وجلوتها عليك كريمة فكرها حسناء. تتلفع بحبرة حبر. وتتبخر في شعار. مؤتلف بين رفها ومدادها. ومجتمع في بياضها وسوادها. الليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس. رقعتها كافور نمنم بمسك. وختامها ياقوت نظم في سلك. تحسب خطها تيم لفظها فشكا. وتخال القلم رقَّ لما به فبكى. فأنشدها أخاك الشهيدي وكلفه على العروض والقافية معارضتها. واحمله على اللين والشدة قارضتها. فستوقد بقلبه قبسا. وتضرب في أذنه جرسا. فستتبين به حظه وتتعرف فضله. وختم الرقعة بأبيات اقصر عن لومي اللائم ... لما درى أنني هائم مازلت في حبه منصفاً ... من لم يزل وهولي ظالم أسهر ليلي غراماً به ... وهو أخو سلوة نائم ومن شعره في قصيدة في ابن حمود ولم أرَ مثلي كيف صار بقلبه ... من الوجد بركان وفي الجفن طوفان ولا مثل هذا العدل كيف أعاده ... عليٌّ وقد مرَّت على الظلم أزمان

شعر البلفيقي

شعر البلفيقي كان أبو البركات محمد البلفيقي أحد أساطين العلم والأدب في القرن الثامن ببلاد الأندلس معروفاً بالصلاح موسوماً بالعلم. قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة ومن مقطوعاته التي هي آيات العجائب وطور حلل البدائع في أسنى الأغراض والمقاصد قوله يعرض لبعض الطلبة وقد استدركته ببعض حلق العلم بسبتة إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها ومنها قوله وهو من الغريب البديع ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن والمصفر يؤذن بالخوف لها هيئة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف ومنها قوله في النصح وله حكاية تقتضي ذلك لا تبذلن نصيحة إلا لمن ... تلقى لبذل النصح منه قبولاً فالنصح إن وجد القبول فضيلة ... ويكون إن عدم القبول فضولا ومنها في الحكم ما رأيت الهموم تدخل إلا ... من دروب العيون والآذان غض طرفاً وسد سمعاً ومهما ... تلق هماً فلا تثق بضمان ومنها قوله وهو من المعاني المبتكرات حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك مارقا ولذاك قد صبغت بلون أزرق ... أو ما ترى ثوب المآتم ازرفا ومنها قوله في المعاني الغريبة في التفكير في المعاني أبحث فيما أنا حصلته ... عند انغماص العين في جفنها احسبني كالشاة مجترة ... تمضغ ما يخرج من بطنها ومنها وقال ومما نظمته بين الدرش وبرجة عام أربعة وأربعين وأنا راكب مسافر وهو مما يعجبني إذ ليس كل ما يصدر عني يعجبني قال لسان الدين ويحق له أن يعجبه تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل عجبت لخصم لجَّ في طلباته ... يصالح عنهُ بالمحال فيفصل

ومنها رعى الله أخوان الخيانة أنهم ... كفونا مؤنات البقاءِ على العهد فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات المدونة الكبرى الإمام مالك بن أنس عالم المدينة وإمام دار الهجرة والمحدث الأعظم المتوفى سنة 179 أخذ العلم عن تسعمائة شيخ فأكثر وما أفتى حتى شهد له سبعون إماماً أنه أهل لذلك وكتب بيده مائة ألف حديث وجلس للدرس وهو ابن سبعة عشر عاماً قال الشافعي إذا جاء الأثر فمالك النجم وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته وما أحد أمن عليَّ في الله من مالك وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله تعالى. وقال الشافعي قال لي محمد بن الحسن أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما قال قلت على الإنصاف قال نعم. قال: قلت ناشدتك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قال قلت ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قال الشافعي فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء نقيس. هذا هو الإمام مالك وهو غنيٌّ عن التعريف بعد أن قال ابن عبد البر أن الناس ألفوا في فضائله كتباً عديدة. وناهيك بمن يشهد له الشافعي مثل تلك الشهادة وهو صاحب الموطئ المشهور أحد الكتب الستة في الحديث النبوي وعنه روي الإمام سجنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العنقي كتاب المدونة الكبرى في فقه مالك. وهذا السفر الجليل عند المالكية ككتاب الأم عند الشافعية وقد ظل قروناً في خزائن الكتب مخطوطاً لا ينتفع به إلا أفراد حتى قيض له الفاضل الحاج محمد الساسي المغربي فبذل ما بذل للحصول على نسخة قديمة منه كتبت بعد المائة الرابعة على رقٍّ صقيل وخط جميل فكانت النسخة الأصلية ملوكية كما يقولون بل أكثر من ملوكية خصوصاً وعليها حواش مطرزة بأقلام الثقات من أهل المذهب كالقاضي عياض وأضرابه. وماذا عسانا نقول في الإشادة بهذا العمل الشريف ولو عني المشتغلون بالطباعة منذ قرن بطبع الكتب الدينية واللسانية والعلمية على هذا الوضع والنحو واختاروا الأمهات الممتعة وجعلوها مقدمة بين يدي نجواهم لربحوا أكثر مما ربحوا وأفادوا أكثر مما أفادوا. وقد أتحفنا الطابع المنوه به بالأجزاء التسعة التي صدرت من الكتاب في هذه العاصمة ولا

يزال يواصل إكمال السبعة الباقية منه فكانت لجودة طبعها وجلاء ورقها ورونق حرفها تضطرنا إلى الاستغراق في تلاوتها الساعات وقد استفدنا أموراً ما كنا نظن أحداً من الفقهاء حرك فيها بناناً ولا غرو ففي مذهب مالك من التوسع في العبادات والمعاملات ما لا تراه في غيره ولذلك كتب الله أن ينتشر في شمال إفريقية حيث كثر اختلاط الناس بالإفرنج قديماً وحديثاً ولا يسعهم في الأغلب إلا مجاراتهم في شؤون معاشهم. فنثني على الطابع بما هو أهله ونتمنى أن يحذو حذوه كل طابع في اختيار أجود الورق والحروف وانتقاء خيرة المصححين لنقول أنا جارينا المرتقين في طباعتهم وماثلناهم في تفانيهم بنشر الأمهات من كتب أمتهم. مجلة عرفات لصاحبها العالم العامل محمود بك سالم من رجال الإصلاح في هذه الديار وهو ممن جمعوا إلى العلوم الحديثة العلوم القديمة وضموا إلى المدينة تديناً. نشر في العام الماضي جريدة باللغة الفرنسية بهذا الاسم لتبحث فيما تمس حاجة الإسلام إلى التعريف به عند من يجهله وحاجة المسلمين إلى ما ينفعهم ويعلي كلمتهم وقد جعل جريدته منذ مدة في قالب مجلة ليتيسر جمعها وحفظها ويتسع الوقت لانتقاء موضوعاتها. أتحفنا بما صدر من عرفات جريدة ومجلة فطالعنا منه طرفاً صالحاً لم تزدنا بالرجل تعريفاً ولم تكن على غيرته وإخلاصه دليلاً جديداً وكفى في الإشادة بذكر صاحب المجلة بأنه يبذل وقته وعمله ودرهمه في خدمة أمته فأكرم بأبوين يهذيان مثله وببلاد تخرج النوابغ إذا علم أبناؤها العلم الصحيح والآداب الطاهرة. وفي هذا المقام نقترح على العالم المشار إليه أن يتفضل ولو بنشر ملحق صغير مع كل جزءٍ يلخص فيه إلى العربية ما ينبغي لقرائها أن يطلعوا عليه. والمجلة ترسل مجاناً لمن يطلبها. لأمية العجم ولأمية ابن الوردي شرح الكاتب الأديب حكمت بك شريف لأمية العجم للطغرائي الكاتب الشاعر المشهور المتوفى سنة 515 ولأمية ابن الوردي الفقيه الأديب المتوفى سنة 749 شرحاً موجزاً ينتفع به طلاب الأدب ويعين على فهم ما أتيهم من ألفاظهما وتراكيبهما. السل الرئوي

أفرد أجدادنا أيام كانوا يشتغلون بالعلم على أنواعه بعض الأدواء بالتأليف لأهميتها وانتشارها كما فعل الرئيس ابن سينا وأبو مروان بن زهر وأبو الوليد بن رشد وحنين بن اسحق ويوحنا بن ماسويه ويعقوب بن اسحق الكندي وثابت بن قرة الحراني وأبو بكر الرازي وغيرهم. وكلما ارتقت العلوم أفرد كل فرع منها بكتب وانصرف إليها ناس بحسب الحاجة. وأمامنا الآن كتاب في الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه من تأليف العالم النطاسي الدكتور خليل بك سعادة من المتميزين في الطب والعلم والمشهود لهم بالإجادة في إحكام العربية والإنكليزية على ما علم ذلك من تآليفه باللغتين ورسائله في بعض جرائدهما ومجلاتهما. والكتاب موضوع على أسلوب غربي في قالب عربي يعزو فيه معظم المواد لقائليها قسمه أبواباً تدعو المطالع إلى مطالعته لما حوى من الفوائد الصحية والعلمية وقد قدم له مقدمة تدل على علو كعبه ونبالة غايته قال: يفتك السل الرئوي كل عام بستة ملايين من البشر فيربو عدد قتلاه في بضع سنين على سائر مجموع القتلى الذين سقطوا في ميادين الوغى أيام معارك الاسكندر وهنبال وقيصر وبونابرت والحرب الأهلية الأميركية وحرب السبعين والحرب اليابانية الروسية وبعد فيحق للعربية أن ترحب بهذا الكتاب الجليل وهو في 225 صحيفة جيدة الطبع والورق ويطلب من مكتبة المعارف وثمن النسخة عشرة قروش صحيحة. وقاية الأسنان لما ألقيت إلينا هذه الرسالة ظنناها مبتكرة ولكن عدنا فذكرنا أن لابن ماسويه كتاباً في السواك والسنونات ولحنين بن اسحق كتاباً في حفظ الأسنان واللثة ألفت بالعربية منذ نحو ألف سنة وما يدرينا إن كان السلف ألف في هذا الموضوع أيضاً كما ألفوا في موضوعات لا يكاد ابن هذه العصور يظن أنها خطرت لهم على بال. وهذه الرسالة هي للفاضل الدكتور علي بك بقلي الطبيب. الاختصاصي بأمراض الفم والأسنان تكلم فيها على كل ما له علاقة بالأسنان والأضراس والأنياب وصحتها وسقمها وهي نافعة في بابها وثمنها خمسة قروش صحيحة. فنشكر له همته. نيل المراد

رسالة في تشطير الهمزية والبردة وبانت سعاد للشاعر الأديب الشيخ عبد القادر سعيد الرافعي علق عليها شرحاً يفسر كلماتها اللغوية فجاءت لطيفة الأسلوب مقبولة عند طلاب هذا الفن وهي تطلب من مكتبة نجل المؤلف في السكة الحديدية. تبيان التعليم لحضرة العالم الأصولي ذي المعزة السيد أحمد بك الحسيني من رجال الفضل والنبل في هذه العاصمة يد طولي في وضع المصنفات الأصولية والفقهية النافعة فبالأمس نشر كتاب دليل المسافر ونهاية الأحكام والقول الوضاح والقول الفصل واليوم نشر رسالة سماها تبيان التعليم في حكم غير المبدوء بسم الله الرحمن الرحيم وما أصدق ما قاله في مقدمتها: والمسؤول ممن وقف على ما كتبته أن يدع الهوى والتقليد ولا يسترسل في مدح القديم وذم الجديد بل ينظر إلى المقال بعين الإنصاف والاعتدال ولا ينظر إلى من قال فالرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال. الدليل إلى البرازيل كتاب أدبي اجتماعي انتقادي لمؤلفه الأديب جرجي أفندي توما الخوري ضمنه وصف المشاهد والآثار التي رآها منذ غادر سورية إلى أن وصل برازيل وذكر ما يلقاه المسافر والمهاجر مازجاً الجد بالهزل أحياناً. وقد قدر عدد السوريين في برازيل وحدها بخمسين ألفاً وامتدح من صحفهم العربية وأربابها إلا أنه تمنى لو أبطلت عادة نشر الرسائل المأجورة في الجرائد وفي الكتاب فوائد لا يستغني عنها المقيم والمسافر. الدين في نظر العقل الصحيح هي مقالات كان نشرها في مجلة المنار الغراء الدكتور النطاسي الفاضل محمد توفيق صدقي في العقيدة الإسلامية وإثبات صدق النبوة المحمدية على وجه أقرب إلى عقول المتعلمين وقبول المدنيين وفي آخرها مقالة في حكمة نجاسة الكلب والخنزير وتحريم لحمهما فجاءت في 160 صحيفة صغيرة وافية بالغرض تدل على بعد غور كاتبها. وثمن النسخة قرشان ونصف تطلب من مكتبة المنار بشارع درب الجماميز. الأجوبة المسكتة

تأليف الأديب الأريب أحمد أفندي صابر جمع فيه ما شاق وراق من الأجوبة اللطيفة التي فتح بها على كبار العرب والفلاسفة قديماً على نمط توخى فيه الإيجاز والاقتضاب فجاء كتابه في 180 صحيفة صغيرة مطبوعة طبعاً نظيفاً على ورق جيد. وعساه يضيف إليه في الطبعة الثانية ما أخره بالقصد من المواد التي لها علاقة بالكتاب ويردفه بما هو شائع اليوم على ألسن القوم من هذه الأجوبة الأدبية اللطيفة التي قد تقع لأحد العامة فيستفيد منها الخاصة والعامة معاً. والكتاب يطلب من مؤلفه بديوان الأوقاف وثمنه خمسة قروش. الحقيقة الباهرة في أسرار الشريعة الطاهرة من تأليف سماحة الأستاذ الشيخ محمد أبو الهدى أفندي الصيادي الرفاعي بنى أبوابه على عدد شعب حديث الإيمان بضعة وسبعون شعبة وقد طبع في القاهرة على ورق جيد وطبع نقي. ذكرى فريد نشرت جمعية تهذيب الشبيبة السورية في بيروت المراثي وأقوال الجرائد وبعض آثار فريد عوض وترجمته وكان من أذكياء الشبان في المدرسة الكلية الأميركية فتوفي منذ ثلاث سنين فرأى أصحابه أن ينشروا له كراسة يخلدون بها ذكره مخافة أن يضيع كما ضاع كبار رجالنا بإهمال فنثني على غيرة من تولوا ذلك. روايات جديدة رواية البعث - معربة عن الإنكليزية بقلم الأديب رشيد أفندي حداد وهي من وضع الفيلسوف الروسي ليون تولستوي تطلب من المكتبة الشرقية. عشيقات الملك - تعريب الكاتب الأديب إبراهيم أفندي سليم نجار تطلب من صاحبها وقيمتها فرنك واحد. رواية سرولاسر - للعقيلة استير مويال تطلب من مسامرات الشعب. الساحر الخالد - معربة عن الإنكليزية بقلم الكاتب الأديب محمد لطفي أفندي جمعة وهي إحدى روايات مسامرات الشعب. هدية الابن

كراسة كتبها الأديب بشارة أفندي الياس عيد الحاج بطرس من جالية السوريين في البرازيل أهداها إلى ولده ووصف له فيها حال البرازيل ومن رأيه أن البرتغاليين لما اكتشفوا البرازيل سنة 1500م كان في جملة من بعثتهم الحكومة البرتغالية إليها عال كثيرة من بقايا السلالة العربية في الأندلس لتطهير بلادها من النسل العربي ولذلك كان في الأمة البرازيلية نقطة دم عربي. فلكاتبها منا الثناء. الاقتصاد لبلوغ المراد رسالة في النحو لمؤلفها الشيخ أحمد مصطفى بن محمود أبي النصر من طلبة الأزهر.

تدبير الصحة

تدبير الصحة الخبز الأبيض مازال علماء الصحة يوصون بالاعتماد على الخبز الأسمر الأبيض وقد أنذر أحد رجال الأمريكان الآن أن من يعتمد في طعامه على الخبز الناصع البياض يصاب بالهزال وفقر الدم إذ أن البياض لا يكون إلا بوسائط صناعية تستلب من الخبز صفاته المغذية. اللحوم والبقول أثبت أحدهم أن الإنسان خلق ليتغذى باللحوم - خلافاً لرأي القائلين بأن البقول هي خير ما يعتمد عليه المرء في تغذيته - قال ومما لا ينكر ما يحدث تناولها من اضطراب في المعد عند كثير من الناس لكن ذلك ينشأ من طريقة الأكل لا من الطعام نفسه وقلة المضغ في الغالب تضر الهضم وتجعل فيه عسراً. جمع الحواس طلبت إحدى المجلات اليابانية من الكتاب أن يوافوها بما يرونه من أنجع الأسباب وأحسن الطرق وأبرك الساعات لجودة التصور فقال بعضهم أن الفكر لا يجري بدون تأمل وهو محتاج لجمع الحواس. وقال بعضهم أن أحسن الساعات للافتكار هي عند الانتباه من النوم صباحاً إذ يكون الدماغ مستريحاً ولذلك كان من أحسن الأمور إلقاء الدروس على التلامذة صباحاً. وآثر آخر أن يبدأ المرء بعمله بعد التنزه ومن ذلك تعظم فوائد الدروس التي يتلقاها الطالب في صفوف تقام بعد الرياضة البدينة. وارتأى آخر أن البدء بالعمل العقلي ينبغي أن يستعد لها بالقراءة وأوصى الأساتذة أن يعمدوا إلى هذه الطريقة. القيلولة هي نوم الظهر والراحة فيه لا غنية لسكان البلاد الحارة عنها وقد يستغني عنها في البلاد الباردة. وقد أخذ أهل العلم في إنكلترا يتناقشون هذه الأيام في فائدتها وخصوصاً لطلبة المدارس لأن هؤلاء يصرفون من دقائق الدماغ كل يوم جانباً كبيراً في استخدام القوى المفكرة والباحثة والمدققة والمشبهة والحاكمة فحالتهم والأمر على ما ذكر تستدعي راحة أعظم بالنظر لما يبذلونه من الإجهاد العقلي والقيلولة تنفعهم في صحتهم أكثر من الرياضات المألوفة في المدارس وما هي إلا عناءٌ آخر عضلي بعد ذاك العناء العقلي وخير

للتلميذ أن ينام في فراشه ويريح عقله وجسمه من أن يسير في الهواء الطلق ويصرف وقت راحته في ترويض جسمه رياضة طبيعية مستمرة عنيفة. وارتأى القائلون باستعمال هذه الطريقة أن يفحص التلامذة كل يوم فحصاً طبياً بمعرفة أطباء من أهل الأخصاء يعهد إليهم فحص تراكيب التلامذة الفسيولوجية وينظرون في قواهم العقلية.

سير العلم

سير العلم التعليم في مصر والسودان لا تزال مصر في مؤخرة الأمم بعدد متعلميها وكثرة أمييها والسودان في مؤخرة المؤخرة. فحيا الله يوماً نرى أهل هذين القطرين يقبلون على تعليم أولادهم إقبال الممالك الصغرى في الغرب على تعليم بنيهم. فترى سويسرا والبلجيك وهولندا والدنمرك والسويد ونروج واليونان ورومانيا وبلغاريا والصرب وكل منها هي دون مصر والسودان بعدد سكانها وغناها الطبيعي أرقى من هذين القطرين في التعليم بل الفرق بين التعليم وعدد المتعلمين هنا وبين التعليم والمتعلمين هناك كالفرق بين الشرق والغرب. ويؤخذ من تقرير اللورد كرومر عن مصر سنة 1905م أن عدد التلامذة الذين حضروا مدارس الحكومة سنة 1905 هم 7410 في الكتاتيب و1478 في دار تخريج المعلمين للكتاتيب و7175 في المدارس الابتدائية العالية و561 في المدارس الصناعية و1345 في المدارس الثانوية و743 في المدارس الفنية ومجموعهم 18182 أنفقت معارف مصر عليهم 276 ألف جنيه مصري. أما في السودان فكان عدد المتعلمين في مدارس الحكومة آخر السنة الماضية 1533 صبياً منهم 392 في كلية غوردون و299 في المدارس الابتدائية العليا و29 في كليتي المعلمين في أم درمان وسواكن و723 في المدارس الابتدائية الأهلية. وقال في كلامه على التعليم الثانوي بمصر أن عدد الناجحين 177 تلميذاً أو 40 في المائة ممن تقدموا للامتحان - والامتحان بالإنكليزية أو الفرنسية - منهم 117 من المسلمين و60 من المسيحيين فيظهر من ذلك أن 66 في المائة كانوا مسلمين أي اقل قليلاً مما كانوا عليه سنة 1904 وقل عدد الناجحين من المسلمين في امتحان الشهادة الابتدائية فإن عدد الناجحين في هذا الامتحان بلغ 1173 تلميذاً منهم 717 أو 61 في المائة من المسلمين يقابلهم 66 في المائة سنة 1904 قال وهذه النسبة ليست مما يوجب الرضى والسرور لاسيما إذا تذكرنا أن المسلمين 93 في المائة من مجموع سكان القطر. وكان عدد المدارس الخصوصية التي تقدم منها تلامذة للامتحان 99 مدرسة منها 50 يديرها المسلمون و27 الأقباط و21 يديرها المرسلون و1 اليهود. قال فلوان ما يبذل من

المال والهمة على المدارس الخصوصية التي على الطراز الأوربي يوجه إلى التعليم الأهلي باللغة العربية وهو على غاية الانحطاط لنتج عن ذلك فائدة عظيمة للبلاد عموماً. وتكلم على الكتاتيب التي قامت بهمة الأفراد في إحدى عشرة مديرية من مديريات مصر فقال أنها أنشأت حتى الآن 758 كتاباً جديداً وهي تبني 187 كتاباً آخر ورممت 366 كتاباً وبلغ عدد الكتاتيب التي هي تحت مراقبة الحكومة 4859 كتاباً منها 2565 كتاباً منحتها الحكومة إعانات قدرها 13164 ج م وقد بلغ عدد المتعلمين فيها 136083 و9611 بنتاً وعدد المعلمين 6295 والمعلمات 32 وتحت إدارة نظارة المعارف 109 كتاتيب أخرى يتعلم فيها 5777 صبياً و833 بنتاً وبلغ عدد كتاتيب البنات وفي جملتها الكتاتيب التي تحت مراقبة الحكومة 2053 وعدد تلميذاتها 12006. وفي بولاق مصر مدرسة للصناعة فيها 423 تلميذاً منهم 285 مسلماً وفي المنصورة مدرسة صناعية فيها 68 تلميذاً. ولا يزال عدد من يدخلون دار المعلمين الناصرية يزداد - وفيها يتعلم المعلمون العلوم باللغة العربية - فقد بلغوا 210 في السنة الماضية وفي المدرسة السنية لمعلمات المدارس الابتدائية 18 معلمة وفي مدرسة بولاق لمعلمات الكتاتيب 39 وفي مدرسة عبد العزيز لمعلمي الكتاتيب 106 وفي مدرسة الفيوم 62 ودار التعليم في درب الجماميز 69 معلماً. وفي مدرسة الزراعة الآن 70 تلميذاً منهم 39 من المصريين والباقون من أمم مختلفة. قال اللورد ومما يسوءني ذكره أن 22 تلميذاً من التلامذة المصريين مسلمون وفي مدرسة الهندسة 57 تلميذاً ومجموع تلامذة مدرسة الحقوق 273 منهم من يدرسها بالفرنسية ومنهم بالإنكليزية وفي مدرسة الطب 116 تلميذاً اثنان منهم في القسم الصيدلي وفي مدرسة البيطرة 32 تلميذاً وعدد تلامذة مدرسة العميان بمصر 27 وتلامذة العميان بالإسكندرية 17 وفي كلية فكتوريا في الإسكندرية 175 تلميذاً المسيحيون منهم 78 واليهود 61 والمسلمون 36. الاختراعات في أميركا تكاد تكون الولايات المتحدة مستأثرة بالاختراعات والاكتشافات في الغرب لهذا العهد فإن ما يخترعه أبناؤها ويكتشفونه يدل على أن قوة الإبداع والإيجاد وقف عليهم ومه أن حكومة

تلك البلاد تتصعب كألمانيا في إعطاء البراءات للمخترعين المكتشفين ما لم يثبت لديها ثبوت الشمس أن صاحب البراءة ابتدع ما لم يسبق إليه حقيقة فقد أحصيت البراءات التي منحتها الحكومة الأميركية سنة 1855 فكانت 2000 براءة ولم تبرح ترتقي سنة عن سنة حتى كانت سنة 1903 - 31700 براءة. النساء العالمات ألفت في لندن إحدى بنات أحد الماليين مجمعاً للنساء العالمات في العالم ونشرت هذه الآونة تأليفاً سيصبح فيما بعد مجلة تصدر في أوقات تعين لها جاء فيه اثنان وثلاثون خبراً ومبحثاً وقطعة شعرية موقعاً عليها من نساء عالمات من إنكلترا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا ورومانيا وكل منهن تكتب بلغتها فكان للإنكليزية الحظ الأوفر وتلتها الفرنسية فالإيطالية ولا يقصر هذا المجمع النسائي أعماله على نشر مقالات الجنس اللطيف في الغرب وأشعارهن بل يتخذ له مركز في عواصم العالم المهمة يكون فيها ما يلزم للمشتركات من أنواع الراحة وضروب المسليات المباحة وخزائن كتب وقاعات اجتماع وقاعات طعام وقد دعون في لندن وبرلين كبار رجال السياسة فلبوا دعوتهم وكان في تلك الاجتماعات غناءٌ ومعارض صناعية من أشغالهن يبعنها بواسطة مكتب تجاري أقمنه لهذا الغرض وكلما تزايدت أعمال هذا المجمع زادت فائدته للمشتغلات بالعلم والصناعة من بنات العقول في الغرب. فمتى يكون للشرق يا ترى مجتمعات كهذه للرجال ثم للنساء. البنات اليابانيات نالت شهادة الطب من الدرجة الأولى من كلية ماربورغ الألمانية الآنسة ايادا ماتا من مدينة كوموتو اليابانية. وليست هذه هي المرة الأولى التي نال فيها اليابانيات أرقى شهادات العلم وأثبتن ذكاءهن وبعد نظرهن في المطالب العالية فإن كليات نيويورك وشيكاغو وسان فرنسيسكو غاصة باليابانيات ممن يدهشن العالم بفهمهن وعلمهن. وإمبراطورة اليابان هارو كوف هي من أشد أنصار النساء وتعليمهن لتحريرهن من رق الجهل فقد بعثت منذ جلست على عرش الإمبراطورية بكثير من البنات على نفقتها إلى كليات أوربا وأميركا. بدأت بذلك سنة 1871 ولا تزال ترسل كل سنة طائفة من البنات تطلبهن إلى حضرتها قبل ذهابهن وتلقي عليهن المواعظ الحسنة وتحثهن على أن يكتبن لها كل ثلاثة أشهر على

الأقل بما تلقينه من أساتذتهن ويطلعنها على نتائج دروسهن وأبحاثهن ويشرحن لها ما أحدث في نفوسهن اختلاطهن بالحياة الأميركية. وليت شعري متى يكون للشرق الأدنى بعض ما للشرق الأقصى من العناية بتعليم البنات وتهذيبهن. مكتبة نفيسة حزن العلم لضياع مكتبة المثري الأميركي الشهير المستر سوترو في زلزال سان فرنسيسكو الأخير فلم يكن فيها أقل من 225 ألف مجلد ومعظمها من كتب العلم والصنائع والأدب القديمة ونسخ مخطوطة بخط مؤلفيها ولاسيما كتب من طبع غوتنبرغ مخترع الطباعة وهذه الخزانة هي أنفس مكتبة في أميركا الشمالية فلا عجب إذا تأسف العلماء لفقدها ولا تأسفهم على ما ضاع في ذلك الزلزال من المكاتب الخاصة والعامة والعروض والأموال. مكاتب فرنسا وضعت إحدى الصحف اليومية الباريسية مقالة افتتاحية في خزائن كتب فرنسا وما تم فيها من الارتقاء في مائة سنة فقالت كان عددها سنة 1873، 733 مكتبة فيها 838000 تأليف فصارت في السنين الأخيرة 2911 مكتبة فيها 4166417 مصنفاً وذلك عدا مكاتب المدارس وعددها أربعون ألف خزانة كتب. قالت أن رغبة الناس انصرفت في العهد الأخير إلى مطالعة الصحف وبعض المجلات حتى عد فريق من أرباب النظر تلك المطبوعات الدورية أعداء الكتب والرسائل. وقال آخر أن المجلات والجرائد تعين على انتشار الكتب والرغبة فيها والصحف أكبر مساعد على خدمة العلم بما امتازت به من الأساليب فإنها تكتب بحسب الأحوال والدواعي فتبعث المطالع على النظر فيها رغم أنفه. ثم ذكرت أن فرنسا متخلفة عن ألمانيا من حيث انتظام مكاتبها ووفرة عددها كما أن هذه متخلفة عن إنكلترا وأوربا كلها متخلفة عن الولايات المتحدة وما مكاتبها إذا نسبت لمكاتب العالم الجديد إلا أكواخ. ومن لأوربا بكريم يشبه كارنجي المثري الشهير الذي يبذل من ماله كل سنة خمسة أو ستة ملايين ريال أميركي لإصلاح خزائن الكتب في بلاده وهو يقول أن المكتبة مدرسة في الحقيقة وقيمتها مؤدب ومرشد. نفقات الجيوش

قدر أحد الصحافيين في أميركا ما أنفقته الدول منذ خمس وثلاثين سنة على تسليح جيوشها فكان معدله السنوي ثمانية عشر ملياراً منت الفرنكات ذهب أكثرها هباءً منثوراً وأن ميزانية الدول جمعاء تضاعفت منذ ذاك العهد. اعتصابات العملة كثر إضراب العملة عن العمل في السنين الأخيرة فقدرت إحدى المجلات الاشتراكية ما حدث من الاعتصابات منذ ست سنين فكانت 4270 اعتصاباً والمعتصبون 1119050 عاملاً منهم من نالوا مطالبهم ومنهم لم ينالوا سوى جزءٍ منها ومنهم من أخفقوا. السخاء الأميركي رأى أحد علماء الألمان أن ما لفت أنظاره في أميركا هو سخاء أفرادها فهم ينفقون الملايين على إنشاء الكتاتيب والمدارس والكليات حتى أن أحدهم وهب أربعة ملايين ريال لإنشاء كلية شيكاغو وحدها. نقل الأبنية في أميركا ينقلون البناء الهائل من أساسه ويجعلونه في مكان آخر دون أن يطرأ عليه ما يخربه ويكون ذلك في الأبنية غير الشامخة وقد نقل الألمان هذه الآونة منارة مدينة ويتمبرغ بالقرب من همبورغ وكان وزنها نحو ستين طناً وعلوها 38 متراً ودامت النقلة 32 دقيقة وكلفت عدا ثمن الأخشاب 8350 فرنكاً فتأخرت المنارة عن محلها عشرة أمتار وكبر بذلك مدخل السفن في الميناء.

مقالات المجلات

مقالات المجلات سقوط الكتب تكلم أحدهم في إحدى المجلات الفرنسية عن سقوط الكتب فقال أن طريقة الإعلانات قد أحدثت تدجيلاً تجارياً هائلاً فإن بعض المؤلفين ينشرون عن مصنفاتهم إعلانات ويبذلون في هذا السبيل من الأموال ما لا يوفي ما ينفقونه إلا طبع عشرين إلى ثلاثين ألف نسخة فتراهم يبتاعون العمود الأول في بعض الجرائد ينشرون فيها صورهم وشيئاً من تراجمهم ويودعونها مفاوضات العلماء بشأنهم ويشغلون الصحف بمناقبهم كل هذا لترويج سلعتهم. الآلام البشرية رأى المستر ستيد صاحب مجلة المجلات الإنكليزية أن يأسو جراحات الإنسانية بخمس مواد وضعها وأيقن أن فيها خلاص البشر في هذه الدار فدعا الأغنياء والفقراء وأرباب السلطة والضعفاء أن يعملوا وإياه يداً واحدة في تحقيق هذه المشروعات الخمسة الخيالية. وهي (1) إخاءٌ عام أساه العدل والحرية مع بث روح الوئام بين النام واتفاق كلمة الإنكليز والأمريكان وألفة الدول والعطف على الأجناس المحكوم عليها وتحكيم دولي (2) اجتماع الأديان كلها وأهل المباحث العلمية الشرعية في عالمي المادة والروح (3) الاعتراف بحقوق المرأة في المجتمع وإعطاؤها حقها من الامتيازات الوطنية (4) إصلاح حال الشعوب (5) تحسين قوى الشعوب طبيعية كانت أو عقلية وذلك ببعثها على المطالعة واللعب في الهواء الطلق والموسيقى والتمثيل. اتحاد أوربا كتب أحد نبلاء الإنكليز في مجلة القرن التاسع عشر رسالة قال فيها أنه موقن بأن الدول لا يعملن بإخلاص على الوفاق الودي الإجماعي بينهن وانه لابد من نشوب ثورة يكون شؤمها مما لم يره الراءون ولا رواه الراوون ولكنه رجا أن يتم بفضل رئيس الوزارة الإنكليزية الحالية تأليف اتحاد عظيم يرمي إلى السلم ويقي العالم هذا الخطر المحدق وقال أن كثرة المعدات الحربية اضطرت الحكومات إلى إنفاق نفقات طائلة ولا غاية منها إلا تقوية عددها وعديدها استعداداً لما عساه يطرأ من التعادي فهن يتحملن نفقات فاحشة في ميزانياتهن وكان عليهن أن يعرفن مصالحهن المشتركة ويفضضنها على أهون الأسباب. وقد أراد

إلغاء الجمارك كلها لأن مبدأ حماية التجارة برأيه لا يتأتى عنه إلا خراب البلاد الاقتصادي. التعليم الابتدائي ارتأى أحدهم في إحدى المجلات البريطانية أنه ينبغي أن تصرف عناية كل أمة إلى تقليل عدد التلامذة في جميع الصفوف وأن تجزأ هذه وتقسم إلى أقسام وأن يلقن الأولاد كيفية التعليم بأنفسهم إذ قد دلت التجارب على أن الدروس التي يتعلمها المرء من تلقاء ذاته هي أحسن ما يتلقنه من ضروب العلم في حياته. عدد الصينيين ظهر لأحد الباحثين من الإنكليز أن في سكان الصين وهم أربعمائة مليون 378 مليوناً ينتحلون ديانة كونفوشيوس وبوذا وتاواست و20 مليوناً يدينون بالإسلام ومليونين يدينون بالنصرانية. السل البقري جاء في مقالة لأحد علماء الألمان أن السل البقري يزداد في أوربا فتكاً فإن فرنسا تخسر به ثلاثين مليون فرنك وألمانيا خمسة وعشرين مليون مارك وأن لبن الأمهات ينقص كلما أكثر عدد سكان المدن كما هو المشاهد في ألمانيا فإن ثلث أطفال برلين محرومون من ثدي أمهاتهم لنضوب درهم وارتأى أن أحسن طريقة للبقر أن تحقن حتى يكثر نوعها ودرها ولا تصاب بالسل. رسوم اللغات المحيط - في الأرض نحو ثلاثة آلاف لغة مختلفة لهجتها كلها بعضها عن بعض ولكن بينها لغات كثيرة متشابهة كالتركية والعربية أو الفرنسية والإنكليزية وبينها ما يكثر فيه الاختلاف رسماً وكتابة ومطالعة فبعضها يقرأ ويكتب من اليمين إلى اليسار وبعضها من اليسار إلى اليمين والبعض من أعلى إلى أسفل كلغات الصين واليابان وما جاورها. اطلع على كتيب جمعت فيه أمثلة من 296 لغة وقد كانت الجمعيات الدينية السبب الأكبر في رسم لغات كثيرة منها لم تكن من اللغات المكتوبة من قبل وذلك توصلاً إلى إتمام ما قصدته من نشر التوراة والإنجيل بين جميع الشعوب.

ديانة الكالا المشرق - كالا بكاف ثقيلة تركية وإن شئت فبجيم مصرية ولام مشددة كلمة ينعت بها الأحباش النصارى الأمحريون من سكان الحبشة الأميين الذين لا يدينون بإحدى الديانتين الشائعتين في شرق إفريقية وهما الإسلام والنصرانية. ومعنى اللفظة من لا كتاب له ثم عم استعمال هذه الكلمة فاشتهر بها اسم هذه الأمة التي تدعو نفسها أورومو والكلمتان اليوم مشهورتان ودونهما شهرة كلمتا أركتا وكوتو اللتان يعرف بهما هذا الشعب. فالكالا اسم لأمة كبيرة تعد من أكبر شعوب إفريقية عدداً تقطن في شرق هذه القارة بلاداً فسيحة متسعة تعم بلاد منليك كلها وسهولاً معظمها مجهول تمتد بين المملكة الحبشية وما وراء بحر الغزال غرباً وبلاد الكنغو جنوباً. ويقدر عدد الكالا الخاضعين فقط لسلطة النجاشي بضعف عدد الأمحريين أي باثني عشر مليوناً ويقسمون من حيث أديانهم إلى ثلاث طوائف أولها الكالا المسلمون وهم طائفة لا يتجاوز عددها الثمانين ألفاً تقطن في المقاطعة الهررية فقط وقد دانت بالإسلام على يد الهرريين ومن يجاورهم من المسلمين. وثانيها الكالا النصارى وهم طائفة قليلة لا يتجاوز عددها مائة ألف نفس تسكن بين الأمحريين نصفهم كاثوليك والنصف الآخر يعاقبة. وثالثها الكالا الأمم وهم الطائفة العظيمة وهي ليست وثنية بل تعبد إلهاً واحداً وتحرم السرقة والقتل وكل ما يدل العقل على أنه منكر وتأمر باحترام الشيوخ والوالدين وبالتضرع إلى واكا وهو الله جل جلاله وتنهى عن أكل اللحم البشري. تطور الأمم المنار - أفاض في أطوار الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً من حيث سياستها وأخلاقها وعلمها ومما قاله: ثبت بالتجربة والاختبار أن المتعلمين للعلوم الكونية هم الذين يسودون أمتهم كما أن الأمم السابقة في مضمار هذه العلوم تسود المتخلفة فيه فالناس تبع لهؤلاء المتعلمين صلحوا أم فسدوا فهم التيار الجديد الذي يحول الأمة من حال إلى حال وعقول هؤلاء المتعلمين وقلوبهم بين أيدي الأجانب فهم الذين يودعون فيها وينقشون في ألواحها المستعدة ما يريدون على علم منهم بغايته وأثره. ومما نشاهد من أثره أن أكثر المتعلمين لا قيمة للدين الذي هو الرابطة العامة للمسلمين في نفوس أكثرهم فهم لا يصلون ولا يصومون ولا يحللون ولا يحرمون وإنما همُّ أكثرهم التمتع باللذات الحسية ولو بذلوا في سبيلها جميع

المصالح العامة. ثم هم مع هذا مغرورون بأنفسهم يحسبون أنهم أرقى من سلفهم الصالح عقولاً وأرجح أحلاماً وأوسع علوماً وأفضل آداباً وأقدر على الأعمال الاجتماعية فلا الدين عرفوا ولا حب الأمة أشربوا وكيف وهم على جهلهم بشريعتها يجهلون تاريخها الذي لم يتفضل عليهم ساداتهم الأجانب بشيءٍ حقيقي منه إلا بعض المسائل المنتقدة التي صوروها بغير صورتها. الأطباء ومدارس الطب الحكمة - كان من يتعاطون الطب في عهد الفراعنة ثلاثة أقسام وهم الحكيم العادي والراقي والمشعوذ الساحر كما وجد في رسالة مكتوبة في عدة صفحات من ورق البردي. كتب هيرودتس أن الطب كان موزعاً في مصر توزيعاً علمياً دقيقاً بحيث كان الحكيم يشتغل بفرع واحد لا بعدة فروع منه. بعضهم يطب الرمد وبعضهم أوجاع الرأس وآخرون المعدة وغيرهم الأمراض الباطنية. وكان الرمديون أكثرهم عدداً ومهارة حتى اشتهروا خارج مصر لأن المصريين كانوا عرضة لرمد موضعي لم يزل شائعاً. ومن الأطباء عدد ليس بقليل كان مشتغلاً بمرض الأسنان لأن المصريين كانوا أيضاً عرضة لهذا المرض لرطوبة البلاد ولحسن سمعتهم في البلاد وخارجها استحضر قورش ودار (من ملوك الفرس) أطباء منهم لمعالجة الأمراض التي كانا مصابين بها وكذلك نجد في مراسلات دارت بين بلين وتراجان (وكلاهما روماني) يهنئ فيها الأول نفسه لنجاته على يد طبيب مصري يدعى أبو قراط وكان أطباء مصر يسيرون في المعالجة حسب قواعد وأصول مكتوبة ويصفها عدد كبير من قدماء الأطباء وكذلك المهندسون المعماريون كانوا يتبعون تصميماً واحداً في بناء معابدهم والنقاشون يرسمون العظماء من الرجال على طريقة واحدة ثابتة.

نفاضة الجراب

نفاضة الجراب منام الوهراني للوهراني صورة منام رآه أو تخيله أتى فيه بكل حلاوة اعتذر ابن خلكان بطوله عن ذكره في ترجمة الرجل. رأى كأن القيامة قامت والناس يعرضون على الديان بأعمالهم فوصف حال فريق الجنة وفريق السعير بألفاظ لو عرت عن البذيء لساغ نشرها على رؤوس الملأ فسأل عن بعض من يدعون التصوف وهم بعيدون منه فقيل له هؤلاء قوم غلب عليهم العجز والكسل في الدنيا فهربوا من كد الصنائع والأعمال إلى زوايا المساجد والمشاهد بحجة العبادة والانقطاع فلا يزال أحدهم يأكل وينام حتى يموت. قال: فبأي شيءٍ كانوا ينفعون الناس ويعينون بني آدم فقيل له: والله بلا شيءٍ البتة ولا كانوا إلا كمثل شجر الخروع في البستان يشربون الماء ويضيقون الطريق وليس لهم ثمرة. ثم قال: ومشينا معه (في المحشر) مقدار أربعة فراسخ وإذا بجمع عظيم يحتوي على مشايخ وشبان وكهول قد حف مجلسهم السكينة والوقار وجلالة الملك والرياسة تلوح على وجوههم فسألنا عنهم فقيل هؤلاء السادة والقادة من بني شمس فدخل قسيم الأعور حتى وقف بين يدي عظيمهم فقال: يا خال (كذا) المؤمنين يا كاتب وحي رب العالمين نحن قوم من محبيكم وقد طردنا عن الحوض لأجلكم ونحن هالكون من شدة العطش بسببكم فقال: لك بينة تشهد بما تقول فقال: نعم جماعة من شيعتكم ومحبيكم الأكراد فقال: أحضرهم فقال: ابعث معي رجلاً شامياً فتخلل الناس ونادى بأعلى صوته: يا عبد الملك بن درياش (؟) قاضي قضاة مصر في أيام الملك الناصر صلاح الدين فلم يجبه أحد. فوقع ابن بدر مغشياً عليه من شدة الأوام فقعدنا عند رأسه وسألنا هل عندكم قطرة ماء نبل بها حلقه. فقالوا: لا والله لو تقدمتم قليلاً لما احتجتم إلى هذا كله. فقلنا له: وكيف ذلك. فقال: لأن أم حبيبة زوجة النبي (ص) تبعث إلى أخيها معاوية كل يوم خمس ثلجيات مزملات كل ثلجية مثل جبل الثلج عشرين كرة فيها الماء الخاص من عين التسنيم. يدفع واحدة منها إلى عمرو بن العاص والأخرى إلى زياد بن أبي سفيان وذويه والأخرى إلى مروان بن الحكم وذويه والأخرى إلى سعيد ابن العاص وذويه ويقسم الواحدة في آل أبي سفيان. وما كان أسرع من أن حضرة القاضي في جماعة من الأكراد فتقدموا إلى معاوية فسلموا

عليه ثم التفتوا إلى ابنه يزيد فقالوا: السلام عليك يا إمام العدل السلام عليك يا خليفة الله في الأرض السلام عليك يا ابن عم رسول الله السلام عليك يا سيدي ورحمة الله وبركاته نفعنا الله بطاعتك وأدخلنا في شفاعتك ورفع درجتك في الجنة كما رفعها في الدنيا فرداً عليهم رداً خفيفاً وقال للقاضي صدر الدين: الحمد لله الذي جعل في أصحابي وشيعتي من يصلح أن يكون قاضي قضاة المسلمين. فقال له القاضي: كل ذلك ببركة الفقيه عيسى ضياء الدين. فقال له أوصيك بأصحابك الأكراد خيراً فإنهم أولى بحسن تدبيرك من سائر الناس فقال: نعم يا أمير المؤمنين ما أحتاج فيهم وصية هذا أنا قد وليت القضاء لجماعة منهم أنا أعرفهم في بلادنا لا يعيشون إلا من لصوصية البقر في الليل وسرقة الحمير بالنهار ولم أفعل ذلك إلا لأني ألزمت باستقضاء قوم أنحس منهم بكثير.

الانتقاد على المقتبس

الانتقاد على المقتبس تفضل كثير من رجال العلم والأدب بنقد هذه المجلة فقال حافظ أفندي إبراهيم أن المقتبس مصبوغ بصبغة شرقية قديمة فينبغي له نبذ القديم من الموضوعات واتخاذ لباس قشيب ينضيه كلما جد غيره. وقال إبراهيم أفندي الجمال كلاماً يقرب من هذا وأن للتفنن في إيراد الأبحاث الجديدة الحاضرة طلاوة ووقعاً في النفوس وقال محمد لطفي أفندي جمعة كلما عمدت إلى النظر في المقتبس تعاظمت أبحاثه وتجافت نفسي عن عباراته لأني أجدني بين مادة صرفة وجد بحت ولاشك أن معظم القراء يشعرون شعوري فلابد لمن أراد أن يعلم غيره أن يتنزل في عباراته وموضوعاته ويحتال عليه ليطالع شاء أم أبى. وقال أحمد بك زكي أرى في بعض الأبحاث اقتضاباً يكاد يكون مخلاً فعليك بإشباعها وعندي أن الأجدر أن تترك قال أحدهم وروى بعض العلماء أو أحد الأساتذة وتنسب القول إلى قائله مباشرة فإن هذا الباب فتح قديماً باب التلاعب في كثير من العلوم وكذلك اليوم. فلا غنية لمن يريد أن يخدم العلم عن التصريح بأسماء المنقول عنهم. وكتب من بغداد الأب انستاس ماري الكرملي يقول: عربتم فصلاً عن إحدى المجلات العلمية ص9 ولم تذكروا اسم المجلة وهو أمر مهم في مثل هذا المقام. وكذلك لم تنوهوا باسم الكاتب الأصلي. وقد تكرر فعل ذلك عدة مرات فأظن أن الأحسن ذكر كل جريدة باسمها وكل مؤلف باسمه. ثم حاولتم بعض الأحيان ذكر لفظة بلفظة أخرى طلباً للجلاء من ذلك ذكرتم في ص56 العكرش فقلتم. . . وبزر كالجاورس - وهو حب يؤكل مثل الدهن (وهو من خطأ الطبع وتريدون الدخن) ولعله الدخن. قلنا ليس العكرش بالدخن بل هو نبات آخر مشهور عند جميع أعراب البادية في العراق ولا يشبه الدخن إلا في الحب فقط. وقلتم ص108 التوابل (السلطات) والصحيح أن هذه غير تلك. وذكرتم ص136 اسم الفنطبيل بمعنى البرميل. ولا مشابهة بين الاثنين وكلاهما معروف عندنا باسمه وبمميزاته. وذكرتم النيرات (ولعلها النيترات) باسم (البورق) وليس الأمر كذلك وبينهما بونٌ بين. وقد وقع في أجزاء المقتبس أغلاط طبع كثيرة فالأمل أنها تصلح في ما يلي أو يمنع وقوعها. وحسناً عملتم وتعملون عند خفاء معنى لفظة أن تكتبوها على علاتها ثم تضعون وراءها علامة الاستفهام أو كلمة (كذا). فإن ما لا يفهمه ذاك. مثلاً كلمة ويبة فهي مستعملة في العراق وقد جاءت في ص31 وهي من المكاييل سعتها 24 مدّاً.

وأما المقالات العلمية فإنها لا تخلو من المغامز ولعل السبب أنكم أردتم أن تجمعوا فوائد جزيلة في حجم صغير. فجاءت الفوائد مبتورة غير مشبعة بالتحقيق. وقد ذكرتم في مستهل المقتبس أن مجلتكم تتمحض للعلم المحض فلا يتحرج من تلاوتها الموافق والمخالف والحال قد ورد في العدد الثالث مقالة عن حرق مكتبة الإسكندرية يستشف من خلال سطورها أن المقتبس لم يتمسك بما وعد فقول الكاتب التركي أن نسبة الحريق لعمر أو لعمرو أكذوبة لفقها أبو الفرج. . . إلى آخر ما هناك واستحسانكم إياه يخالف الحق. فقد ذكر كتبة المسلمين ومؤرخوهم ما يزل الشبهة في هذا الصدد منهم ابن القفطي في تاريخه وموفق الدين عبد اللطيف البغدادي في الفصل الرابع من كتاب الإفادة والاعتبار ومنهم المقريزي الخ الخ فيجدر بالإنسان أن يذكر الأمور التاريخية على صورتها بدون أن يوقع الإهانة بقوم أو بجماعة ولاسيما في مسألة كثر فيها الخلاف والنزاع. حبوتك ألقاب العلا فادعني باسمي ... فما تخفض الألقاب حراً ولا تسمي يقولون محمود ويا ليت أنني ... كما زعموا يا ليت لي طالعاً كاسمي محمود سامي البارودي

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة كيتي 1749_1832 ليس الغنى أبداً مفسدة لصاحبه معواناً على الشر والأشر كما أن الفقر لا يهذب النفوس ويربي الملكات. فابن الغني إذا حسنت تربيته وجاد تعليمه يجيء منه رجل قلما يجيء مثله من أبناء الزعانف والسوقة. وليست هذه القاعدة على إطلاقها في البلاد الراقية والبلاد المنحطة ففي الشرق اليوم لا يتعلم ويتهذب سوى ابن الفقير ويندر أن يشيع العلم والتهذيب بين أبناء الأغنياء كما تشيع الفاحشة وسوء السلوك. والحال في الغرب على العكس من ذلك إذ ترى هناك لأولاد الأغنياء حظاً من العلم وسهماً من التهذيب. شاع ذلك بين أهله منذ نهضوا نهضة الشمير الخبير لتلمس أسباب الحضارة وكثر ذلك بين أظهرهم في هذا القرن والذي قبله فبات الغني موقناً بأنه لا يستوفي الظرف ويذهب بفضل الشهرة وتنهال عليه ضروب المحمدة إلا إذا تهذب التهذيب الحقيقي وتعلم التعليم العالي وهما داعية مجده وفخاره لا واسع عقاره ووافر نضاره. وكيفما تقلبت الدنيا بأهلها فإن الموسر خير من المعسر على نحو ما سيرد عليك في ترجمة كيتي أحد أعاظم شعراء ألمانيا ورجال نهضتها العلمية والأدبية. فقد قيل في ترجمته أنه كان من أسعد السعداء خدمه الحظ وهيأ له عامة الأسباب وتمكن من الانتفاع بالمواهب العالية التي وهبته الطبيعة إياها. ولم يكن كصاحبه شيلر مضطراً معوزاً بل كان السعد يبسم له والرفاهية طوع أمره وهو من أسرة شريفة كان والده مستشاراً للمملكة وفقيهاً مشهوراً ورجلاً فاضلاً مهذباً أما والدته فكانت سليمة الصدر جيدة الفطرة توفرت على تربيته وتثقيف عقله ولطالما كانت تلقنه في طفوليته قصصاً ثم تقطع عليه سلسلتها ليتصور ماذا يكون تاليها. ولقد استحكم الجمال من شعور هذا الشاعر حتى لم يكن يطيق أن يرى ولداً بشع الصورة أمامه فكيتي والحالة هذه جمع إلى الغنى مالاً مثل اللورد ليتلتون الإنكليزي وفيكتور دروي الفرنسي وهو من بيت غني ومجد يضاف إليهما حسن تربية والدته فقد كانت والدته تدربه على الأخلاق الفاضلة وتسوقه إلى المنازع الشريفة أما والده فكان يعلمه ويلقي عليه ويكلمه

منذ صغره بالطليانية والفرنسية وكان يحسنهما ولاسيما الطليانية لأن طول مقامه في إيطاليا حبب إليه لغتها وفنونها فشغف بها. ولما ترعرع كيتي أحكم هاتين اللغتين مع لغته وظهرت عليه إمارات الميل إلى الشعر كما عرف بحب النقد والولوع بالعلوم فمال بادئ بدء وهو في الحادية عشرة إلى شعر راسين من شعراء الفرنسيين ثم أنشأ يرتاح إلى شعراء الرومان واليونان. وفي سنة 1763 دخل مدرسة الحقوق في ليبزيك وكان يأوي إلى دار عجوز لها فتاة فشغفته حباً فنظم فيها رواية هزلية واعتاد مذ ذاك العهد على نحو ما قال عن نفسه أن يصيغ في قوالب الشعر كل ما كان في الواقع يوليه فرحاً أو ألماً ويروض العقل ويربي النفس وعاد إلى بيت أبيه من المدرسة سنة 1768 بعد أن فارقه ثلاث سنين وقد أيقن أن الآداب الألمانية ضعيفة متأخرة ثم رجع بعد مرض اعتراه إلى ستراسبورغ سنة 1770 وأقام فيها حولاً كاملاً كان نافعاً له في تهذيب عقله وتخطيط خطة يجري عليها في حياته. قالت الدائرة تعلم كيتي في ليبزيك ما ينبغي اجتنابه وعرف في ستراسبورغ ما ينبغي عمله. وفي سنة 1771 أتم دروس الحقوق. وكان في خلال الدراسة يضرب في فنون الشعر ويهيم في أوديته وشجونه. وبينما كان شاعرنا ينشر طرف أقواله أو يعدها للنشر كان يتقرب من كبار رجال عصره ويستميل قلوبهم إليه ويحرص على عقد الصلات الأدبية معهم فطاف كثيراً من بلاد ألمانيا وسويسرا وإيطاليا وتعرف إلى رجالها وفلاسفتها وعظمائها ثم تولى منصباً سياسياً في الحكومة. ولم تكن مشاغله لتحول دون أعماله العلمية. فكنت إذا رأيته حسبته منقطعاً عن كل عمل ليس لقلمه في ميدان التأليف جولة وأن المتاعب العالمية صرفته عن وجهته العلمية على حين كان عقله يفكر ولسانه يحبر ويعبر. ولقد ثبت أن وظيفته ما كانت إلا باعثة له على الاستزادة من المعارف. ولو كان يريد أن ينحو منحى قدماء الشعراء لانقطع في غرفته واعتزل الناس ومخالطتهم ولكن كان يطمح إلى أن يجمع في شعره مثال القدماء إلى ما يتأثر به ويتعرف به بذاته من أحوال المجتمع. وفي سنة 1788 تزوج الشاعر بفتاة اسمها كرستيان فولبيوس شقيقة أحد الكتاب فنظم في التقائه معها قصيدة من الشعر قال فيها ما ترجمته: كنت أتنزه في الغابة سائراً في طريقي ولا شيء يعنيني ولا فكر ينازعني

فرأيت في الظل وهرة مطلة تلمع كالنجم الثاقب وهي كالنظرة جمالاً أردت أن أقطفها فتقدمت إليَّ بلطف تقول هل يكون ذلك منك ليقضي عليَّ أن أذبل وأنت تجنيني وتقطفني فعندها أخذتها من أصولها وحملتها إلى الحديقة التي هي زينة داري وما هو إلا أن أعدت غرسها في مكان ساكن وها هي الآن مخضرة مخضلة تزهر على الدوام. ولقد عيب على زوجته أنها لم تكن في الدرجة المطلوبة من العلم تساوي بها درجة بعلها بيد أنها كانت كما وصفها الشاعر تعني بمصالح زوجها وبنتها وأولادها وهذا مما كان يزيد اغتباط كيتي بها لأنها كانت امرأة حقيقية تنظر في شؤونها البيتية. وفي سنة 1794 بدأت صلات الحب بين كيتي وشيلر وما كان اجتماع الشاعرين بادئ بدء دالاً على الصدقة التي تتأكد بينهما بعد بل كان اجتماعهما لأول وهلة اجتماع تكلف وكره. فتعارفا سنة 1788 ولم يتأت تآلفهما حقيقة إلا سنة 1704 عندما أسس شيلر مجلة سماها الساعات وكان يطمع أن تشترك الطبقة العالية من كتاب ألمانيا بها فأبى أكثرهم أن يؤازروه فوعده كيتي بالمساعدة وكتبا سوية كتاباً فيه قصائد هجائية كان كيتي هو الذي اقترح موضوعه فألفاه معاً. وكان ذلك واسطة لاتحادهما فتناولا فيه التنديد بالتقاليد القديمة والنقد على أرباب الأذواق السمجة التي كانت تحول دون تقدم الأدب فكان ذلك منهما بمثابة إعلان للطريقة الجديدة التي أسساها في القريض وأخذ خيال الشعر والأدب من ذاك العهد يوحي إليهما كل طريف وتليد فيتطارحان الأفكار ويتناشدان الأشعار وكل منهما محب لصاحبه يبوح له بذات نفسه ويراقب أعمال صديقه مراقبة الود. دامت هذه الصداقة محكمة العرى إلى أن توفي شيلر سنة 1805. ولقد حاول كيتي في تآليفه - وكانت أولاً منضمة غير منتشرة كتآليفه بعد - أن يعرف القارئ حال المتفنن وما يشغله في العالم من الأعمال. وبعد أن فقد كيتي صديقه شيلر كما تقدم لم يبق في حياته ما يستحق الذكر وامتاز بنقد من كانوا يستحسنون الثورة الفرنسية الأولى وأبان عن أفكاره قائلاً: إني أكرر بأنني أكره كل ما فيه شدة وتهور لأنه مخالف للطبيعة. وفي سنة 1813 تنحى الشاعر في خلال الحركة الوطنية وترك المجال لشعراء

أصغر منه سناً يؤلفون الأغاني الحربية ويحثون الجمهور. وحاول وهو في السبعين أن ينسج على منوال ديوان حافظ الشيرازي شعراً ألمانياً في أفكار شرقية وأناس شرقيين فنظم ديواناً سماه ديوان الشرق والغرب. وهو سفر أغان وإن تكن ألمانية الصبغة فإن تنوع أوزانها واختلاف أسمائها واستبدال الأسماء الشرقية بالغربية جعلها غريبة في بابها تصدر من شيخ شاب. وبعد أن فقد والدته وولده وصديقه الحميم بعد شيلر ضعف سنة 1832 فوافاه أجله وقضى عند الظهر جالساً على كرسيه وكان آخر كلامه ليدخل النور بكمية أكثر. وقد كتب كيتي كثيراً من الأسفار في كل موضوع وكان كثيراً ما يعاشر أهل الأخصاء في كل فن فيوحون إليه بأفكارهم ويبوحون له بأسرارهم وأن المرء ليعجب بما خلفه كيتي من التآليف الممتعة المنوعة التي يستغرق وصفها صفحات من مثل هذه. جاز كيتي كسائر الكتاب ثلاثة أدوار وهي دور التكون ودور النضوج ودور الانحطاط إلا أن دور نضوجه كان طويلاً ودور انحطاطه لم يخل من قوة. وقسم بعض مترجميه أدوار حياته الشعرية إلى ثلاثة أدوار الدور الأول الحبي والطبيعي الثاني المدرسي الثالث التعليمي. ولم يستنكف كيتي من الأخذ عن كبار شعراء الأرض كشكسبير وروسو وهوميروس وكتاب الفاجعات من اليونان والأماديح من اللاتين. وقال في بعض تآليفه: وهل أحسن فينا من القوة وحسن الذوق في امتلاك عناصر العالم الخارجي واستعمالها في مقصد سام. ولذلك امتاز بقوته التقليدية في الشعر والأدب وقوته في التحويل وقوته في التجديد مع مزج ذلك بالنقد وقوته على الإبداع ولم يشغله الأدب والشعر عن معاطاة العلوم الأخرى كعلم النبات والحيوان والجيولوجيا والمنيرولوجيا والطبيعيات ووفق إلى اكتشافات مهمة في التشريح والفسيولوجيا النباتية. هذا هو الرجل العظيم الذي ربي في قصور النعيم وما أفسده الترف والرفاهية جمع في شخصه مزايا كثيرة وعلوماً كبيرة قلما يكتب نيلها إلا لكبار العقول في الأمم والقرون العديدة ولا غرو فإن قيام أمثاله في القرن الماضي والذي قبله هو الذي فتح على ألمانيا أن تكون اليوم في مقدمة الخليقة بعلومها وأعمالها. فسبحان من أسعدها برجالها وأسعدهم بها وأشقى رجالاً في الشرق وأشقى الشرق بهم.

المكاء

المكاءُ (1 تمهيد) كل من زاول الكتابة في بحث عربي موضوعه علم المواليد يلاقي من العناء ما لا يعرف مقداره إلا من يجاريه في هذا الموضوع من أبناء نفس هذه اللغة الشريفة. وعندي أن ليس من خدمة مجردة الغاية تضاهي خدمة من يأخذ على نفسه تخليص اللغة من مثل هذه الألفاظ المبهمة المعاني التي لم يحكم تعريفها أصحاب المتون اللغوية أو أصحاب الفنون الخصوصية فبقيت في دواوينهم وأسفارهم مثل الطلسمات يعاني فكها من لا غاية له إلا الغيرة على لسانه إذ ربما يطوي عدة ليال في جانب حلها وهو مع ذلك لا يرجع إلا بما رجع به حنين وإذ قد كنت ممن عني بمثل هذا الفرع من العلم وتفرغت له أحببت أن أطرف قراء المقتبس بما وفقت إلى معرفته من حقيقة أمر الطائر المعروف باسم المكاء. (2 تعريفه على ما جاء به كتاب العرب) إذا استشرنا كتبة العرب لمعرفة هذا الطائر فلا نسمع منهم إلا تحديدات وتعريفات مجملة لا يتحصل منها ما يصور لنا الطائر بصورته التي يتميز بها بل يوردون لنا ما ربما يصدق أو ينطبق على عدة طيور. فقد قالوا في تعريف المكاء ما هذا حرفه: المكاء بالضم والتشديد: طائر في طرف القنبرة إلا أن في جناحيه بلقاً سمي بذلك لأنه يجمع يديه (كذا) ثم يصفر فيهما صفيراً حسناً قال: إذا غرَّد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات التهذيب: والمكاء طائر يألف الريف وجمعه المكاكي. وهو فعال من مكا إذا صفر. اه (عن اللسان) وقال السيد المرتضى: المكاء: كزنار طائر صغير يزقو في الرياض. قال الأزهري: يألف الريف وقيل: سمي بذلك لأنه يجمع يديه (كذا) ثم يصفر. . . الخ كما في اللسان وقال في حياة الحيوان الكبرى: طائر يصوت في الرياض يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيراً ووزنه فعال كخطاف. اه. وقال القزويني: المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصاً عجيباً وبينه وبين الحية عداوة. فإن الحية تأكل بيضه وفراخه. وحدث هشام ابن سالم أن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت اه. هذا مجمل ما جاء في كتب العرب. ويتحصل منها: أن هذا الطائر يصفر وأن أغلب وجوده في الرياض بين الشاء والحمير وأن في جناحيه بلقاً. قلت ولذا سماه العرب

بالأخرج أيضاً. فإذا تأملنا حق التأمل هذه الإفادات لا يمكننا أن نسلم لحضرة الدكتور جورج بوست (في كتابه نظام الحلقات في سلسلة ذوات الفقرات. الجزء الثاني. الطيور ص27) إن المكاء هو نوع من الببغاء ولاسيما أنه يقول: أما المكاكي فأكثرها تستوطن أميركا الجنوبية وهي أكبر من سائر هذه العائلة (عائلة الببغاءات) وأذنابها طويلة جداً وألوانها بهجة جداً وتمتاز بكبر منسرها والحيز الخالي من الريش حول العينين وهي تطير إلى علو شاهق فهذا كله لا ينطبق على ما نطق به العرب حتى ولا على بعض منه فضلاً عن قوله أن وطن المكاكي هو أميركا الجنوبية فكيف ساغ للعرب أن يسموا طيوراً لم يروها ولم يعرفوها ولم تكن بلادها معروفة في أيامهم. فلا جرم أن الدكتور واهم في زعمه هذا. (3 حقيقة المكاء) أما المكاء فعندنا هو ما سماه صاحب الأوقيانوس باللغة التركية جوبان الدانقجي أي المحتال على الرعاة وسماه صاحب كتاب فرانسز جه دن تركجه يه جيب لغتي وهو وزنظال أفندي: مكاء وخاطف الرياح وجوبان الدادن وهو أحسن المؤلفين الذين ضموا إلى حقائق الألفاظ صحيح المصطلحات. (4 اسمه عند الإفرنج والعرب ومعناه في لسانهم ولساننا) يسمى الإفرنج المكاء ومعناه بالع الريح أو خاطف الريح وبعضهم يطلق عليه اسم أي الضفدع السام الطيار وآخرون يسمونه أي مصاص المعز وبمعنى هذا اللفظ يسميه العلماء أي وكذلك الإنكليز وكذلك أيضاً في لغات سائر الأعاجم ولا غرو فإن هناك سبباً حمل الناس على تسميته بهذا الاسم وهو وجود هذا الطائر في المواطن التي يكثر فيها الماعز والغنم والبقر توهماً بأن هذا الطائر يأتي الدواب ليمتص لبنها وهذا وهم قديم نظنه هو الذي حمل العرب أيضاً على تسميته بالمكاء فإن اللغويين قالوا في سبب تسميته بذلك أنه مأخوذ من المكواو المكاء بمعنى الصفير. وهو محتمل. على أنه قد يكون مأخوذاً من المك وهو المص وأصله المكاك أي المصاص إشارة إلى مصه اللبن. ثم قيل في مك: مكا كما كان ذلك معروفاً عند قوم من العرب أي جعل المضاعف ناقصاً كالمسبي في المسبب (التاج في مستدرك س ب ب) وتقضي في تقضض والتمطي في التمطط. قال أبو عبيدة: العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء ومنه قوله تعالى: وقد خاب من دساها وزهو من دسست. وقوله. ولم يتسنه من

مسنون وقولهم: سرية من تسررت. وتلعيت من اللعاعة (عن المزهر 225: 1). وقد يحتمل أن يكون أصل المكاء: المكان بتشديد الكاف ونون في الآخر ثم قلبوا النون ياء كما قلبوها في ألفاظ كثيرة مثل قولهم التزييد في التزنيد (الصحاح) والميشار في المنشار (عن التهذيب للتبريزي) والصيدلاني في الصندلاني (الصحاح) وفي ليلة طلمسانة قالوا: ليل طلمساية (التاج في طلمس) ومثل ذلك كثير عندهم. ومعنى المكام المصان أو الملجان: وهو الذي يرضع الغنم من لؤمه ولا يحلب (التاج) فيكون هذا موافقاً للمكاء لما اشتهر عنه من أمر مصه أو رضعه للغنم. وهذا الطائر هو الذي سماه الدكتور جورج بوست (في كتابه المذكور آنفاً ص51) ماص المعز وسنذكر عن قريب وصفه وهو مما يوافق كل الموافقة لوصف المكاء من كل وجه. (5 تعريف الطائر بموجب العلم الحديث) المكاكي جنس من الطير من رتبة العصافير المشقوفة المنقار وهي قريبة من الخطاطيف وتتميز بمنقار كثير التفلطح معقوف الطرف بشعر عند قاعدته كثير الانفتاح عند الحاجة وريشها أغبر أصدأ بخطط سوداء وسيقانها مسرولة. (6 وصفه) أصل هذا الجنس مكاء الحجاز ويسميه العلماء بمكاء أوربية قال الدكتور جورج بوست في وصفه: ظن القدماء أن هذا الطير (أي الطائر) يمص بزاز المعز (أي أخلافها) إلا أن ذلك وهم لا طائل تحته. وإنما يقتات الفسافس والفراش والعث والناموس والبعوض والزيز وغير ذلك من ذات التفاصيل التي تظهر في الليل. ومما يعين على لقط هذه الحشرات وجود سائل لزج داخل الفم وهلب خارجه. أما ألوان ماص المعز (المكاء) فعير ناصعة إلا أنها جميلة فإن الريش ذو نمش وخطوط ونقط سمر وسود وسنجابية وصدائية والمنقار صغير مسطح معقوف الطرف وعيناه كبيرتان سوداوان وساقاه خشتنان حرشفيتان قصيرتان وعليهما ريش أسفل الركبة والأصابع متحدة بغشاء إلى نهاية المفصل الأول والإصبع الوسطى أطول من غيرها والمخلب مسنن على جانب واحد ولم يتفق الطبيعيون على فائدة هذا العضو فظن بعضهم أن الطائر يستعمله لنزع قطع الفسافس من هلب فيه والبعض الآخر أنه يمسك فريسته بواسطته. ويستوطن هذا الطير المواضع البعيدة من مساكن الناس ولا يعشش بل تبيض على الأرض (أي تتخذ لها أفحوصاً) قيل إذا رأت

عدواً مقبلاً دحرجت بيضها إلى موضع أمان أه كلام الدكتور قلنا: ولهذا الجنس أنواع مختلفة أغلبها غريب عن هذه البلاد لا حاجة إلى ذكرها. بغداد أحد قراء المقتبس

الإسرائيليون

الإسرائيليون (معربة عن كتاب تاريخ الحضارة) العبرانيون التوراة - جمع اليهود أسفارهم المقدسة بأسرها في سفر واحد دعوه التوراة وهو اسم يوناني معناه الكتاب. هذا هو سفر اليهود الجليل وقد صار لأعل النصرانية أيضاً كتاباً مقدساً. وفي التوراة أيضاً تاريخ الأمة اليهودية ولقد استفدنا من كل ما اتصل بنا عن الشعب المقدس من الكتب المقدسة. العبرانيون - لما نزل الساميون من جبال أرمينية إلى سهول الفرات أخذ أحد أسباطهم على عهد مملكة الكلدان الأولى يضرب نحو الغرب فجاز الفرات فالقفر فسورية وبلغ بلاد الأردن وراء فينيقية وتعرف هذه الأسباط بالعبرانيين يعني أهل ما وراء النهر وهم كمعظم الساميين شعب من الرعاة الرحالة لم يحرثوا الأرض ولا سكنوا الدور والمنازل بل كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر في قطعان بقرهم وغنمهم وجمالهم منتجعين المراعي آوين إلى الخيام على نحو ما يعيش العرب في البادية اليوم. وفي سفر التكوين وصف هذه العيشة البدوية. البطاركة - كان السبط منهم أسرة كبيرة مؤلفة من الرئيس ونسائه وأولاده ومواليه وكان للرئيس على الجميع سلطة مطلقة فكان بهذا السبط أباً وكاهناً وقاضياً وملكاً. من أجل هذا دعونا هؤلاء الرؤساء البطاركة وأعظمهم إبراهيم ويعقوب فالأول أب العبرانيين والآخر والد الإسرائيليين أظهرتهما التوراة في مظهر رجلين أرسلهما الله ليرأسا شعباً مقدساً وقد أعطى إبراهيم ربه ميثاقاً ووعده الطاعة هو ومن يأتي بعده من قومه فبشر الله إبراهيم بذرية تفوق نجوم السماء عدداً واطمأنت نفس يعقوب بأن تكون منه أمة عظيمة وشعب جم. الإسرائيليون - سمي يعقوب باسم إسرائيل أي مدافع عن الله لرؤيا رآها ودعي سبطه بني إسرائيل أو الإسرائيليون. وذكرت التوراة أن القحط حدا يعقوب أن يغادر بلاد الأردن ليسكن وأهل بيته صغارهم وكبارهم على التخوم الشرقية من مصر وهي البلاد التي دعاه يوسف أحد أبنائه إلى هبوطها وقد صار وزيراً لعزيزها أحد الفراعنة. وظل بنو إسرائيل

في تلك الأرجاء قروناً كثيرة فجاءوا وعددهم سبعون نسمة ونموا على قول التوراة حتى صار عددهم ستمائة ألف رجل. خل عنك النساء والأولاد. نزول الوحي على موسى - افتتح عزيز مصر يسوم الإسرائيليين ضروب المظالم ويضطرهم إلى صنع الملاط والقرمد لابتناء مدن حصينة فقام من بينهم إذ ذاك موسى أحد أبنائهم وقد أوحى إليه ربه وعهد إليه أن ينقذهم من الجور والعسف. وكان يرعى غنمه ذات يوم على الجبل فظهر له ملك وسط عليقة تتلظى ثم سمع هذه الكلمات: أنا رب إبراهيم واسحق ويعقوب رأيت ما دهم شعبي في مصر من الحزن وسمعت شكواه ممن يظلمونه وعرفت ما يناله من العذاب ولذا نزلت لخلاصه مما ينتابه من المصريين لأنزله بلاداً من أرض كنعان تفيض لبناً وعسلاً فتعال إذاً أرسلك إلى فرعون تخلص شعبي أبناء إسرائيل وتخرج بهم من مصر فقاد موسى الإسرائيليين وهاجروا من مصر وهذا ما يدعى بالخروج أو سفر الخروج واجتازوا بسفح جبل طور سيناء وهناك تلقوا شريعة الرب وأخذوا يتيهون جيلاً كاملاً في القفار جنوبي سورية. إسرائيل في القفر - وكثيراً ما كان الإسرائيليون يودون الرجوع إلى البلاد التي تركوها فيقولون: أنا لنذكر ما كنا نطعمه في مصر من السمك والقثاء والبطيخ والكراث والبصل فخليق بنا أن نؤمر علينا زعيماً يقودنا إلى بلادنا وكان موسى يدعوهم إلى الطاعة ثم بلغوا الأرض التي وعد الله ذراريهم. الأرض الموعودة - دعيت أرض كنعان أو فلسطين فدعاها اليهود بلاد إسرائيل ثم دعيت بعد بلاد اليهودية ودعاها أهل النصرانية الأرض المقدسة وهي بلاد جافة قاحلة في الصيف ولكن فيها جبال وآكام وصفتها التوراة بما يلي: لقد ساقك ربك القيوم إلى بلد طيب ذات أنهار وينابيع في الأرض تنبجس من الوادي وعلى الجبل بلد البر والشعير والكرم والتين والرمان والزيتون والزيت والعسل بلاد تأكل فيها خبزك آمناً من القحط لا ترزأ في مال ولا ينقصك شيء من رفاهية الحال. وبلغ عدد الإسرائيليين بعد الإحصاء عندئذ 601700 رجل يحمل السلاح منقسمين إلى اثني عشر سبطاً عشر منها من نسل يعقوب واثنان من نسل يوسف هذا عدا عن اللاويين أو الكهنة وعددهم 23 ألف رجل. وكانت تسكن البلاد التي نزلوها عدة شعوب صغيرة تدعى الكنعانيين فأبادهم الإسرائيليون واستولوا على

بلادهم. ديانة الإسرائيليين الله الفرد - عبد سائر الشعوب القديمة أرباباً كثيرة أما الإسرائيليون فاعتقدوا بوجود إلهٍ منزه عن الهيولى برأ العالم ودبره. ففي سفر التكوين أن الله خلق في البدء السموات والأرض وقد خلق النبات والحيوان وخلق الإنسان على صورته ومثاله فالبشر كلهم صنعة الله. شعب الله - بيد أن الله أختار من بين الناس جميعاً أبناء بني إسرائيل ليجعلهم شعبه وأمته فدعا إبراهيم وقال له سأجعل بيني وبينك وبين ذريتك عهداً لأكون ربك ورب ذريتك من بعدك. وقد تمثل الله ليعقوب قائلاً له: أنا الله القادر إله آبائك فلا تتحام نزول مصر فسأجعلك فيها أمة عظيمة. ولما سأل موسى ربه عن اسمه أجابه: تقول لأبناء إسرائيل أنني أنا الله السرمد إله إبراهيم واسحق ويعقوب أرسلني ربي إليكم هذا هو اسمي على الدهر. العهد - فبين الإسرائيليين والمولى تعالى إذاً اتحاد أو عهد فالقيوم جلَّ جلاله يحب الإسرائيليين ويدفع عنهم البوائق فهم والحالة هذه أمة مقدسة وأعلى الشعوب كافة في نظره وقد وعد أن يجعلهم سعداء أقوياء وتعهد الإسرائيليون أن يقابلوه على ذلك بان يعبدوه ويخدموه ويطيعوه فيما يريدهم عليه كما يطاع المشرع والقاضي والمعلم. الوصايا العشر - أوحى القيوم الصمد عز شأنه مشرع بني إسرائيل بوصاياه إلى موسى على جبل طور سيناء بين البرق والرعد وهي مسطورة في لوحين وهما اللوحان اللذان كتب الله عليهما وصاياه العشر بما نصه: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في

اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما قريبك. الشريعة - على الإسرائيليين ما خلا هذه الوصايا العشر أن يعملوا بكثير من الأوامر الإلهية مما ذكر في أسفاره التوراة الخمسة الأولى وهي التي تتألف منها شريعة إسرائيل. فالشريعة تنظم عندهم احتفالات العبادة وتعين الأعياد (السبت كل سبعة أيام والفصح ذكرى خروجهم من مصر وجمعة الحصاد وعيد المظال في موسم قطف العنب) والشريعة هي التي ترتب الزواج والأسرة والتملك والحكومة وتعين العقوبات على الجرائم وتحدد الأطعمة والأدوية فالشريعة عندهم والأمر على ما ذكر مجلة الأحكام الدينية والسياسية والمدنية والجزائية ولمولى الإسرائيليين تعالى أن ينظم أعمال حياتهم جميعها. (الديانة ألفت الشعب اليهودي) لم يقبل الإسرائيليون بحكم الله قبول من خضع وخنع فقد قال موسى للاويين وهو على فراش الموت دافعاً إليهم كتاب الشريعة خذوا هذا الكتاب ليكون شهادة عليكم يا إسرائيل لأني عارف بما أنتم عليه من شكاسة الخلق وقساوة القلب ولم تبرحوا طول حياتي تبدون نواجذ العصيان على المولى القيوم فليت شعري ماذا يكون من شأنكم بعد مماتي. وقد حدث أن مرت قرون ومن العبرانيين من يعبد الأصنام وربما كانت هذه الفئة هي السواد الأعظم من الأمة على أنهم أصبحوا أشبه بسائر الساميين في سورية وظل الإسرائيليون وحدهم على قدم الإخلاص للمولى جل شأنه فتألف منهم الشعب اليهودي وخرج الشعب المبارك بدين الله المتعال من قبيلة مجهولة على التدريج. نعم إنها لأمة قليلة الحصا والعدد ولكنها من الأمم التي لها الشأن الأعظم في تاريخ العالم. مملكة القدس القضاة - نزل العبرانيون أرض فلسطين ولكنهم ظلوا منشقين قروناً كثيرة فلم يكن لذاك العهد كما تقول التوراة ملك لإسرائيل بتة بل كان يعمل على شاكلته ويحكم بما يوحي إليه رأيه. وكثيراً ما كان الإسرائيليون ينسون ربهم ويعبدون أرباب القبائل المجاورة فاستشاط ربهم عندئذ غضباً من سيئات أعمالهم وأسلمهم إلى أيدي أعدائهم يفعلون بهم الأفاعيل حتى

إذا ندموا على ما فرطوا في جنب الله وأصبحوا خاضعين خانعين يرسل ربهم إليهم قضاة يسعون في خلاصهم من أعدائهم المباغتين وربما مات القاضي وعاد دبيب الفساد يدب في نفوس الإسرائيليين فيسجدون لمعبودات أخرى. وكان هؤلاء القضاة مثل جدعون ويفتاح وشمشون من الغزاة يحررون القبائل باسم القيوم الأبدي ثم لا يلبث الشعب أن يعود إلى عبادة الأوثان والتلطخ بحمأة العبودية. الملوك - سئم الإسرائيليون آخر الأمر وطلبوا إلى شمويل (سمو أل) الكاهن العظيم أن يجعل لهم ملكاً فملك عليهم شاول على رغم إرادته وكان على هذا الملك أن يكون منفذاً خاضعاً لإرادة الرب لكنه حاول الخروج عن الطاعة وشق عصا الجماعة فراح الكاهن العظيم يقول له: لقد نبذت كلام الله ظهرياً فسيبعدك ربك عن الحكومة وينزع السلطة من يدك. ثم أن داود وكان زعيماً جندياً خلفه وحمل على أعداء إسرائيل كافة واسترجع لهم جبل صهيون ونقل إليه عاصمته وهي القدس. بيت المقدس - كانت القدس بالنسبة إلى بابل وثيبة عاصمة بلاد فقيرة. وما كان العبرانيون يتعاطون البناء ويميلون إلى العمران بل كانت ديانتهم تحظر عليهم إقامة المعابد وكان يقضى على مساكن الخاصة أن تشبه تلك المكعبات من الحجر التي لا تزال تشاهد إلى اليوم في شواطئ لبنان وقد غشيتها الكروم والتين ولكن كانت القدس بلد اليهود المقدسة وكان فيها للملك قصر يسكنه ألا وهو قصر سليمان الذي دهش العبرانيون بعرشه المصنوع من العاج وهناك أقيم بيت الرب وهو أول معبد عبراني. المعبد - كان المعبد الذي أقيم على عهد سليمان كبيت القربان المقدس عند النصارى مقسوماً إلى ثلاثة أقسام ففي داخله يقوم قديس القديسين حيث كان تابوت العهد ولم يكن يسمح لغير الكاهن العظيم أن يدخله مرة في السنة وفي وسطه المكان المقدس وكان فيه مذبح البخور ومسرجة ذات أغصان سبعة ومائدة الخبز يدخل إليه الكهنة لحرق الغالية ووضع القرابين وفي المقدمة ساحة البيعة مفتحة أبوابها للناس تنذر فيها الضحايا على المذبح الكبير. وعليه فقد صار معبد القدس بعد واسطة عقد الأمة يقصدونه من أقاصي فلسطين لحضور الاحتفالات وكان الكاهن الكبير الذي يرجع إليه أمر العبادة من أعاظم الرجال ورما كان في الأحايين أكبر سلطة من الملك.

الأنبياء نكبات إسرائيل - إن سليمان آخر ملك عرف بالحول والطول وانفصل بعده عشرة أسباط ألفوا مملكة إسرائيل تلك المملكة التي عبد سكانها عجول الذهب وأرباب الفينيقيين ولم يخلص منها الدين لله وحده أو لملك بيت المقدس سوى سبطين ومنهما قامت مملكة يهوذا (977) ولقد انتهكت قوى تينك المملكتين بما اضطرا إلى دخوله من المعارك حتى إذا جاءتهما جيوش الفاتحين من الشرق خربت مملكة إسرائيل بأيدي بختنصر ملك الكلدان (586). إحساس الإسرائيليين - رأى المؤمنون من الإسرائيليين هذه المصائب عقوبة لهم وأن الله عذب شعبه لخروجه عن طاعته على نحو ما جرى قديماً على عهد القضاة وأسلمه للفاتحين يمزقونه كل ممزق. وركب أبناء إسرائيل هواهم واجترحوا الآثام في جانب مولاهم فبنوا علالي وقصوراً في المدن كافة وحذوا حذو الأمم المحيطة بهم فخالفوا بذلك أمر ربهم وما حرمه عليهم فصنعوا صوراً مسبوكة وسجدوا للكواكب وعبدوا الصنم بعل ولذا نبذ الله تعالى أصل إسرائيل وعاقبهم فجعلهم طعمة لمن يكتسح بلادهم ويسلب طارفهم وتلادهم. الأنبياء - على ذاك العهد ظهر الأنبياء وهم إلياس وأرميا وأشيعيا وحزقيل وفي العادة أن يخرجوا من القفر بعد أن نقضوا زماناً في الصيام والصلاة والاعتبار والتدبر يأتون باسم الله لا غزاة مثل القضاة بل منذرين ومبشرين يدعون الإسرائيليين إلى الإنابة وقلب الأصنام والتوبة إلى بارئ النسم وينذرونهم بالخطوب التي يبعثها الله عليهم بعد إذا لم ينيبوا إليه فكانوا من ثم يدعون ويتنبأون. التعليم الجديد - رأى هؤلاء الرجال المستمسكون بالأمر الإلهي أن العبادة الرسمية في القدس غثة باردة. وليت شعري لم يذبحون البقر ويحرقون البخور إجلالاً لله على نحو ما يفعل الوثنيون. يقول عيسى: أصيخوا إليَّ بأسماعكم وعوا ما يقوله تعالى: ماذا أعمل بجموع قرابينكم فقد شبعت من ضحايا الغنم ومن دهن الحيوانات السمينة وما عاد يلذ لي دم الثيران ولا الخرفان ولا التيوس فكفوا إذاً عن أن تقدموا لي ضحايا هي من العبث فإن نفسي عزفت عن استنشاق بخوركم ومتى ترفعون أيديكم أحول نظري عنكم لأن أيديكم ملأى بالدم المهراق فقوموا وطهروا أنفسكم عن سيئات أعمالكم عودوا أنفسكم عمل

الصالحات وخذوها بتوخي طريق الرشاد وحماية المظلومين وأقسطوا اليتيم ودافعوا عن الأيم وعندما تصير خطاياكم كالقرمزي حمراء تبيض كالثلج وبهذا رأيت أن الأنبياء أرادوا الاستعاضة عن القيام بالنذور والضحايا بالعدل وصالح الأعمال. المسيح - استحق بنو إسرائيل ما دهمهم من المصائب ولكن لكل قصاص حد ينتهي إليه وغاية يقف عندها فقد قال عيسى باسم الحي القيوم أيها الشعب لا تخشى الآشوري أبداً فإنه سينالك من عصاه مثل ما كان ينالك من المصري في الزمن الغابر ولكن ستفثأ سورة غضبي قريباً ويرفع عن كاهلك ذاك العبء الثقيل. وعليه فقد علم الأنبياء الشعب اليهودي أن ينتظروا بعثة من يخلصهم وهيأوا السبل للمسيح. الشعب اليهودي الرجوع إلى بيت المقدس - جاء أبناء يهوذا من سهل الفرات ولم ينسوا وطنهم ولطالما احتفلوا به وتذكروه في أناشيدهم يقولون جلسنا على شاطئ أنهار بابل وبكينا وقد ذكرنا صهيون. فعيداننا كانت معلقة في أشجار الصفصاف على ضفة النهر وكان يقول لنا من أتوا بنا: تغنوا ببضع أناشيد من جبل صهيون ولكن أنى لنا أن نتغنى بنشيد للرب في أرض غريبةٍ وبعد سبعين سنة في العبودية أذن سيروس فاتح بلاد بابل أن يعودوا إلى فلسطين فجددوا بناء البيت المقدس والمعبد وعادوا إلى أحياء الأعياد والاحتفاظ بالكتب المقدسة وجددوا العهد مع ربهم علامة على أنهم عادوا إلى طاعته وعدوا من شعبه وهذا العهد عبارة عن ميثاق على الأصول كتبه أعيان الشعب ووقعوا عليه. اليهود - دامت مملكة القدس الصغرى مدة سبعة قرون يحكمها ملك تارةً وكاهن كبيرٌ أخرى وفي كلتا الحالتين كانت تؤدي الجزية إلى زعماء سورية فجبى جزاها الفرس أولاً ثم المقدونيون ثم السوريون ثم الرومانيون. وإذ صدق اليهود (دعوا كذلك لدن رجوعهم) مع ربهم ظلوا على عهدهم الأول من العمل بشريعة موسى والاحتفال بالأعياد وتقديم النذور في القدس وكان الكاهن الأكبر يحفظ الشريعة بمظاهرة مجمع الأعيان والكتبة ينقلونها والعلماء يفسرونها للشعب وجمهور المؤمنين يرون من واجباتهم الجري عليها والعمل بدقيقها وجليلها واشتهر الفريسيون خاصة بغيرتهم وتفانيهم في القيام بضروب الأعمال الصالحة.

المدارس (الكنائس) - ومع هذا فقد كان اليهود يرحلون في التجارة وينتشرون خارج بلادهم في مصر وسوريا وآسيا الصغرى وإيطاليا وكانت طائفة من أهل مذهبهم في المدن الكبرى جميعاً كالإسكندرية ودمشق وإنطاكية وأفيس وكورنت ورومية وكانوا أبداً يجتمعون في صعيد واحدٍ ليحفظوا كيانهم ويجمعوا شملهم المشتت بين الوثنيين ولم يقيموا المعابد لأن الشريعة كانت تحظر عليهم ذلك وليس لهم أن يبنوا سوى معبد يهودي واحدٍ ألا وهو معبد القدس حيث كان يحتفل بالأعياد وتقام المواسم والشعائر بيد أنهم كانوا يجتمعون ليشرحوا كلام الله ويتلوه ودعيت هذه الأماكن باسم يوناني (الكنيس) ومعناه المجالس. خراب المعبد - ظهر المسيح في خلال تلك المدة فصلبه اليهود واضطهدوا حوارييه سواءٌ كان في بلادهم أو في المدن الكبرى التي حلَّ فيها الجم الغفير منهم. ولقد شقت القدس عصا الطاعة عام 70 على الرومانيين فأخذت عنوة وذبح سكانها كافة أو بيعوا بيع الإماء والعبيد فألقى الرومانيون النار في المعبد وقد حفل وطابهم بالأعلاق المقدسة. ومن يومئذ لم يعهد لليهود مجمع لدينهم. ما كتب على اليهود بعد تفرقهم - عاشت الأمة اليهودية بعد خراب عاصمتها ولما تشتت شملها تحت كل كوكب في العالم أنشأت تستغني عن المعبد وأبقت كتبها المقدسة مكتوبة بالعبرية. والعبرية لغة بني إسرائيل الأصلية لم يتكلم بها اليهود منذ رجوعهم من بابل بل اقتبسوا لغات الشعوب المجاورة كالسريانية والكلدانية وخصوصاً اليونانية. على أن المنوَّرين في الدين من الربانيين ظلوا يعرفون العبرية وهم يشرحون التوراة ويفسرونها وهكذا حفظت الديانة اليهودية وبفضل اللغة العبرية أيضاً بقي الشعب اليهودي وكثر أشياع هذا الدين في الأغيار فكان في المملكة الرومانية أناس كثيرون ممن يدينون باليهودية وليسوا من العنصر اليهودي في شيءٍ. قويت شوكة الكنيسة المسيحية في القرن الرابع فطفقت تضطهد اليهود اضطهاداً دام إلى يوم الناس هذا في البلاد المسيحية جمعاء. ومن العادة أن يتسامح مع اليهود في إجراء مراسيم ديانتهم لغناهم واستئثارهم بفروع الأعمال المالية ولكنهم ينحونهم عن ممارسة الوظائف الإدارية ولقد أكرهوا في معظم المدن أن يلبسوا ثياباً خاصة وينزلوا في حي خاص مظلم وخيم وبيل وأن يبعثوا أحياناً بأحدهم يصفع في عيد الفصح والناس يرمونهم

بأنهم يسممون الينابيع ويقتلون الأطفال ويدنسون القربان المقدس وربما يثورون بهم في الأحايين فيقتلونهم ويغنمون ما في دورهم ويسقيهم قضاة البلاد السمَّ أو يعذبونهم أو يحرقون لأقل حجة تافهة ولطالما تفتهم الحكومات زرافات من بلادها وصادرت أموالهم ولقد أجتث دابر اليهود من فرنسا وإسبانيا وإنكلترا وإيطاليا ولم تبق منهم بقية إلا في بلاد البرتغال وألمانيا وبولونيا وفي البلاد الإسلامية ومن هذه الممالك رجعوا إلى سائر قارة أوربا منذ انتهت أيام اضطهاداتهم وكفَّ الناس عن إرهاقهم وإعناتهم.

حكم الإعدام

حكم الإعدام أكثر معاني هذه القصيدة منقول عن فيلسوف فرنسا وشاعرها فيكتور هوكو من مقدمة كتاب له عنوانه أواخر أيام المحكوم عليه بالقتل بين القضاة وآلة الإعدامِ ... حكم يشين عدالة الحكامِ حسب القضاةُ القتل اردعَ رادع ... يثني محللَ أفظعِ الآثامِ وهمَ القضاة فليس يعدلُ حاكمٌ ... إلا بقتل مفاسد الأيامِ هي أوجبت سفكَ الدماءِ ومهدت ... الأشقياءِ سبيلَ كلِّ حرامِ هي خالفت ما بين أخلاق الورى ... فتفرقوا فرقاً بغير نظامِ هي علمتهم كيفَ يفتك بعضهم ... بالبعض فتكَ الذئب بالأغنامِ كم مذنبٍ يأتي الذنوب وجهلهُ ... أو فقرهُ يقتادُهُ بزمامِ يا للقضاءِ أما تهابُ حكومةٌ ... أن تزهق الأرواحَ في الأجسام هلْ قلَّ في الأرضِ الهواءُ فلا غنىً ... عن حكم موتٍ للشقي زؤَام أيضيقُ جوفُ السجنِ عن أمثالهِ ... والقبرُ أضيق منهُ عند زحام لا تستقيمُ حكومةٌ إلا إذا ... قامت معالجةً لكلّ سقام تغني أخا البؤْسِ اليتيمَ بفضلها ... حتى تكون كفيلةَ الأيتام وتزيلُ أسبابَ الخصام فيغتدي ... أبناؤُهُ أعداَء كلّ خصام ما للعقوبة أن تعلم جاهلاً ... لا يذهب الإعدام بالإعدامِ القاهرة نقولا رزق الله

مكتبة الإسكندرية

مكتبة الإسكندرية (نشر المقتبس في الجزء الثالث مقالة ملخصة من كتاب تركي في نفي تهمة حريق مكتبة الإسكندرية عن عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب بالأدلة التاريخية ولما اطلع عليها العلامة المتفنن الشيخ شبلي النعماني أحد كبار دعاة الإصلاح في البلاد الهندية بعث لنا برسالة له كان كتبها بالإنكليزية في معنى حريق المكتبة الإسكندرية فدفعناها إلى صديقنا محمد لطفي جمعة فعربها ملخصة على ما ننشرها. وفي مأمولنا أن لا يحمل القراء هذا الموضوع إلا على إرادة تصحيح خطاءٍ تاريخي إذ ليس في نسبتها لأحد رجال الإسلام ما يدعو إلى الطعن في الدين نفسه كما أنه ليس في نسبتها لبعض رجال النصرانية طعن عليها بالذات والمجلة علمية أدبية اجتماعية وهذه الأبحاث هي موضوع اهتمامها أبداً). قال العالم الهندي: إن ما يوجهه الغربيون عامة من اللوم إلى المسلمين ويتهمونهم به من إحراق مكتبة الإسكندرية ليس سوى أحد أمور كثيرة ظلم فيها الغرب الشرق ووجه الأغيار إلى المسلمين سهام اللوم بغير حق وقد سرى هذا الاعتقاد إلى جميع المشتغلين بالعلم والأدب من الإفرنج بحيث لا تجد كتاب علم أو قصة أو تاريخاً أو خرافة أو مثلاً سائراً إلا وفيه ذكر لإحراق مكتبة الإسكندرية وتقريع للمسلمين الذين أحرقوها وقد دخلت مكتبة الإسكندرية حتى في القضايا المنطقية وهي من العلم الصراح الذي لا ينبغي أن يشاب بالأغراض والأهواء وهاك سؤالاً منطقياً وضعه الممتحنون في سنة 1882 في مدرسة كلكتا الجامعة ورد فيه ذكر المكتبة: بين خطأ القضية الآتية: إن الكتب التي تتفق مع القرآن في شيءٍ لا فائدة منها لوجوده والكتب التي تخالفه يجب إتلافها. لم يكتب تاريخ كبير في حوادث العالم إلا وورد فيه ذكر مكتبة الإسكندرية. وكثيراً ما كان كبار المؤلفين يشفعون الحادثة التاريخية برأيهم الخاص في هذا الموضوع مظهرين خطأ التهمة أو صوابها ويحسن بنا في مثل هذا المقام أن نأتي على الكتب التي استند عليها المؤلف في المراجعة قبل كتابة هذه الرسالة فأول هذه الأسفار تاريخ رومية تأليف العلامة جيبون ونحن نوجه الأنظار إلى ما كتب في هذا الكتاب عن فتوح الإسكندرية وثانيها كتاب اجيبتكا أو ملاحظات فلسفية على بعض الحوادث التاريخية تأليف الأستاذ هويت مدرس

اللغة العربية في مدرسة اكسفورد الجامعة وفي هذا الكتاب ناصر المؤلف القائلين بإنهاء المسلمين بإحراق المكتبة. ثم كتاب الخلفاء الراشدين تأليف وشنجتون ارفنج صحيفة 113 ثم كتاب تاريخ العرب صحيفة 254 ثم تاريخ بلاد العرب قديماً وحديثاً تأليف العلامة اندريو كريستون صحيفة 393 ثم تاريخ نزاع العلم والدين تأليف العلامة درابر الشهير صحيفتا 103 و104 ثم مقالة دائرة المعارف الإنكليزية الكبرى عن الإسكندرية ثم تاريخ العرب العام تأليف العلامة سدليو. ثم شرح العلامة دي ساسي على تاريخ عبد اللطيف البغدادي وفيه كلام مطول وبحث ممل عن إحراق المكتبة ثم رسالة الهير كريل العالم الألماني التي تليت في مؤتمر المشرقيات في جلسته الرابعة في فلورنسا سنة 1878. وأغلب كتاب هذه الكتب سيما من يثبتون هذه الإشاعة يبرئون أنفسهم بقولهم أنهم لم يأتوا بها من عند أنفسهم بل هم يستندون في تقرير هذه الحقيقة إلى ما كتبه العرب أنفسهم في كتبهم وما دونوه في تواريخهم. وأول من أشاع هذه الإشاعة في أوربا رجل اسمه أبو الفرج وهو ابن رجل من بني إسرائيل اسمه هرون الطبيب. وقد ولد أبو الفرج هذا في ملاطية سنة 1226م. وانتحل أبوه المسيحية فنشأ الولد عليها وتفرغ في صباه لدرس فقهها وتمحيص حقاق تلك العقيدة وكان يحسن العربية والسريانية ولما ظهر علمه وبان فضله عين أسقفاً لجوبا وهو حينئذ في الحادية والعشرين من عمره ومازال يرتقي درجات الكهنوت حتى صار رئيس طائفة اليعاقبة ولم يكن فوقه سوى البطريرك وكتب أبو الفرج تاريخاً جمعه من مصادر شتى عربية وفارسية وسريانية ويونانية واختصره في سفر صغير كتبه بالعربية وسماه مختصر الدول وكان هو أول من ذكر خبر إحراق مكتبة الإسكندرية فلما نقل الكتاب إلى اللاتينية سنة 1664 بدأت الإشاعة تتفشى في أوربا بأسرها. وإليك ما ذكره جيبون في تاريخه بالحرف: وقد ذكر ارفنح وكريستون وفلين وغيرهم أن ما أشيع عن الإسلام والمسلمين من المساوئ لم يكن له ذكر قبل نقل هذا الكتاب مختصر الدول إلى اللاتينية ومن ذلك الحين ابتدأ الغربيون يبغضون المسلمين ويحتقرونهم وهاك ما جاء في مختصر الدول بهذا الشأن: ولما أحب عمرو يوحنا فيلوبونوس لعلمه وأدبه وقرَّبه من مجلسه وأدناه من نفسه وصارت

ليوحنا دالة على عمرو لقيه يوماً وقال له: لقد ملكتم كل شيء في هذا البلد (الإسكندرية) بعد فتحه. فنحن لا نعارض في امتلاككم ما ينفعكم كما أنني لا أرى مانعاً من أن ننتفع بما لا تريدون فسأله عمرو عن غرضه فقال أريد ما في المكاتب الملكية من الكتب والمؤلفات الفلسفية. فقال عمرو لابد لي أن أسأل الخليفة في ذلك وكتب إليه يشاوره في الأمر فاتاه من عمر هذا الجواب. إذا كانت الكتب التي تشير إليها تتفق مع كتاب الله فلا حاجة لنا بها وإذا كانت تخالفه فإتلافها خير وأولى. فوزع عمرو الكتب على حمامات الإسكندرية وأمر بإحراقها لإحمائها فاستمرت النار ستة أشهر تأكل الكتب. فاقرأ وتعجب ما جاء في مختصر الدول. وقد انتشرت الإشاعة في أوربا على هذه الصورة وكان العلامة جيبون أول من نبه الناس إلى خطئها فإنه قال في كتابه إنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأسباب قوية منها أن أبا الفرج بن هرون ولد بعد فتوح الإسكندرية بخمسة قرون وجاء قبله كثيرون من المؤلفين والمؤرخين ونحن لم نجد لهذه الإشاعة فيما كتبوه عن مصر ذكراً فكيف نعتمد على قوله ونحله من الصدق غير محله. وقد نبه جيبون بذلك أذهان علماء الغرب فانقسموا قسمين قسم نهض لمناصرة جيبون وقسم قام لمعارضته ومناهضته ومن هؤلاء المستر كريستون الذي كتب تاريخاً للإسلام فإنه قال: لو فرضنا أن أبا الفرج كاذب فيما قال واستنسينا عن روايته فإننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن غيره من كتاب المسلمين أنفسهم أمثال عبد اللطيف البغدادي والمقريزي وكلاهما ذكر القصة في تاريخه بالتطويل. وكذلك قال الهير كيريل وهو يقول أن عبد اللطيف أول من ذكر هذه الحادثة وهو أيضاً ولد بعدها بخمسة قرون. وإذ أن منبع هذه الإشاعة هو ما كتبه مؤرخو العرب فنحن أعلم بما كتبه هؤلاء من غيرنا والمثل العربي يقول وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. ونحن نعلم أن الإفرنج الذي أيدوا الإشاعة اعتمدوا في كتبهم على ما كتبه عبد اللطيف والمقريزي وحاجي خليفة وقد سرت عدوى التقليد إلى بعض جهال المؤلفين فنقل أحدهم

الخبر وعزاه إلى ابن خلدون مما دل على أنه لا يعرف من العربية وكتبها شيئاً. ومن العجيب أنه ينقل ما نقل عما كتبه ابن خلدون عن عمر هذا على شهرة الكتاب بين قراء العربية وعلمهم بأنه لم يحدث لهذه القصة الكاذبة ذكراً. أما كتاب المقريزي فها هو بين أيدينا ففي الجزء الأول من ص151 وصف المؤلف عمود السواري وهو أحد الأعمدة الشهيرة بالإسكندرية نقلاً عن عبد اللطيف البغدادي حرفاً بحرف. أما مكتبة الإسكندرية فقد ورد ذكرها عرضاً في تاريخ المقريزي ولذا يرى الموسيو لانجل أن ما كتبه المقريزي عن المكتبة لم يجيء في كتاب المقريزي إلا عرضاً أيضاً. ومن الغريب أن المؤلفين من الإفرنج ممن لم يروا تاريخ المقريزي مرة في حياتهم ويشيرون إليه في كتبهم وإلى سابقه تاريخ عبد اللطيف. أما الموسيو لانجل فقد قرأ تاريخ المقريزي في لغته بالحرف ونقل منه تاريخ فتوح الإسكندرية نقلاً وافق فيه الأصل فلم يرد لمكتبة الإسكندرية في خلال ما كتب ذكر أو شبه ذكر. وعليه فلا يبقى لدينا إلا مؤرخان هما عبد اللطيف وحاجي خليفة وكثيراً ما يشير مؤرخو الإفرنج إلى الأخير ولكنهم لا يقتبسون منه حرفاً. وقد أراحنا دي ساسي من عناء بحث طويل في هذا الموضوع بأن نقل ما كتبه حاجي خليفة بهذا الشأن وهو: اهتمَّ الناس في صدر الإسلام بدرس فروع الشريعة وفنون الطب لاحتياجهم إلى الأمرين وضربوا صفحاً عما سواهما. ولما كانت العقيدة لم تثبت بعد ولا تزال مقلقة في قلوب الكثيرين ممن انتحلوا هذا الدين رأى أولو الأمر أن يحرقوا ما وجدوه من كتب العلم والحكمة في مكاتب البلدان المغلوبة لئلا يجد الشك سبيلاً إلى قلوب المسلمين. ويرى القارئ أن حاجي خليفة نفسه لم يذكر الإسكندرية أو مكتبتها بحرف إنما ذكر أمر احتراق الكتب عامة ولم يعين مكاناً وهذا نوع من التعمية والنقص في التاريخ لا ينبغي الركون إليه أو الاعتماد عليه فلم يبق بعد إلا عبد اللطيف البغدادي وهو الذي كتب كتاباً فيما شهده في مصر وقد فرغ من تصنيفه في العاشر من شهر شعبان سنة 603 للهجرة. وقد جاء فيه من الأغلاط والأكاذيب في وصف منارة سافاري ونسبتها إلى أرسطو والاسكندر وغيرهما ما يزعزع الثقة فيما كتبه هذا الثقة. وقد ذكر هذا الهير كيريل في

رسالته التي قرأها على أعضاء مؤتمر علماء المشرقيات. على أن لدينا دليلاً آخر لهدم ما بناه عبد اللطيف لو فرضنا صدقه. وهو أن عبد اللطيف البغدادي على سعة عمله وفضله لم يكن مؤرخاً بل كان طبيباً حاذقاً ومن يقرأ كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء يعرف فضل عبد اللطيف في الطب وفروعه ولا يخفى أن من يطلب من الطبيب أن يكون مؤرخاً كمن يطلب من المؤرخ أن يكون طبيباً ولو أن ابن سينا والفارابي أو أحدهما كتب لنا حادثة تاريخية هل يجب علينا أن نثق بها ونعول على صدقها مع علمنا بأنهما اختصا بفرع من العلم غير فن التاريخ؟ أضف إلى ذلك أن عبد اللطيف لم يكن مؤرخاً بل كان كتابه عبارة عن مجموعة حوادث رآها في عصره وأحب أن يدونها بدون إمعان نظر أو أعمال فكرة. وبعد فإن الواقف على حقيقة التاريخ يعلم حق العلم أن مكتبة الإسكندرية أحرقت قبل دخول الإسلام إلى مصر إذ لا يخفى أن ملوك الوثنيين هم الذين أسسوها فلما جاءت المسيحية إلى مصر وكانت في نشأتها متعصبة لدينها وعلومها بتحريض القسيسين والكهنة سعى أهلها في إحراق الإسكندرية وقد سلم بذلك كثيرون من كبار العلماء في الغرب ومنهم العلامة ارنست رينان الذي ألقى خطاباً اسمه الإسلام والعلم في المجمع العلمي الفرنسي وذكر فيه أن العلم والدين الإسلامي يجتمعان ولكنه عندما وصل إلى ذكر مسألة مكتبة الإسكندرية قال أنه لا يعتقد بأن عمراً هو الذي أحرقها لأنها أحرقت قبله بزمن طويل. وكذلك ذكر العلامة درابر في كتابه أن يوليوس قيصر عند قدومه إلى مصر لنجدة كلوبطرة أحرق نصف المكتبة وقلده بطارقة الإسكندرية فأحرقوا البقية وذكر اورسيوس أنه رأى بعينه أماكن الكتب خالية منها بعد أن صدر أمر الإمبراطور ثوديوس بإحراقها. أما وقد انتهى ما لدينا من الأدلة بطريق النقل فنحن نعمد الآن إلى العقل فقد جاء من الرواية التي أثبتنا كذبها أن الكتب وزعت على حمامات الإسكندرية وبقيت تشتعل ستة أشهر وكتاب الإفرنج يقولون أن حمامات الإسكندرية كانت في ذلك الحين تزيد على أربعة آلاف فما مقدار تلك الكتب التي تحرق في ستة أشهر في أربعة آلاف حمام؟ ثم لننظر في مسألة أخرى تحتاج إلى تحكيم العقل: وهي هل يعقل أن عمراً وهو الذي اشتهر بحب العلم وأهله وتقريبهم من مجلسه واكبر دليل على ذلك تقريبه ليوحنا منليوبوس أن يعمد إلى

إحراق كتب ثمينة امتدحها له صديقه ولو قيل لنا أن عمراً لم يكن حر التصرف نقول لابد أن يكتب على الأقل كلمة في نفاسة المكتبة في كتاب إلى عمر ولا نظن أن الخليفة كان يخذله في أمر كهذا لما للفاتح عنده من المقام والمكانة. مثال ذلك أن الخليفة لم يكن يريد فتح مصر ولكن عمراً أخذ ذلك على نفسه فأطاعه الخليفة في فتح مملكة فكيف لا يرضى له إبقاء مكتبة. ومما يدل على أن المكتبة لم يكن لها وجود في عهد عمرو أنه لما كتب تقريره المطول إلى الخليفة بعد فتح الإسكندرية جاء فيه: وفي هذه المدينة أربعة آلاف حمام وأربعة آلاف دار لها شرفات وأربعون ألف إسرائيلي يدفعون الضرائب وأربعمائة مكان للرياضة والتنزه واثنا عشر ألف حديقة تخرج الأثمار فهل يعقل أن الرجل الذي لا يغفل في تقريره الحدائق والديار أن يهمل ذكر مكتبة الإسكندرية لو كانت موجودة في عهده على ما لها من الأهمية ونحن نختم هذه الرسالة ببيت من الشعر الإنكليزي: إننا نوجه إليهم سهام اللوم وليس جديراً باللوم سوانا.

الأمة الشرقية

الأمة الشرقية وذكرى المستنصرية والنظامية أيُّ خطب دها وأي بلية ... قد أحاطت بالأمة الشرقية قد وكلنا أحوالنا للأماني ... والأماني مضلة للبرية بعد أن كان علمنا شائعاً تأْ ... خذ عنا الطوائف الغربية قد غدونا نتيه في مهمة الجه ... ل ونرضى بحالنا المخزية نرفض العلم قائلين حرام ... حرَّمته الأوامر الدينية مثل هذي الدعوى تشوه وجه الد (م) ين والدين كاللآلي المضية أين منا الحزم المذلل للصع ... ب وأين الحمية العربية أين منا الشعور يا قوم والنج ... دة بل أين تلكم الأريحية عيشنا كله سبات عميق ... إن بعض السبات صنوا لمنية أنسيتم دارَ السلام وعارٌ ... إن قولوا لقد غدت منسية ولكم ضمَّ قطرها من ربوع ال ... علم بلدَ المراصد الفلكية فطلول المستنصرية لم تم ... ح ولكن هناك منها بقية تلك كانت مأوى لكل مريد ... راغب في العلوم والمدنية كم أفاضت على أناس علوماً ... فأبادوا مناشئ الهمجية ونظامية النظام ألم تت ... ل عليكم أخبارها المروية أخرجت من أئمة قوماً ... ناطحوا (اورانوس) في العلوية كان عيش التلميذ فيها رخاءً ... فيض رزق وحكمة فلسفية فخليق بنا أباة الضـ (م) ـيم أن ننبذ الشؤون الدينية وبأن نقتدي بأسلافنا من ... رفعوا أصرح الفخار العلية فمن العار أن نكون بعصر ال ... علم ما عندنا ولا كلية أترى حالنا تبدَّل أم نب ... قى مدى الدهر أمَّة جاهلية ليت قومي يذَّكرون عساهم ... يتلافون خطبنا بروية ومن العجز أن ننام عن السع ... ي ونرجو سعادة مرضية

القاهرة حسين وصفي رضا

سدوم القديمة وسدوم الجديدة

سدوم القديمة وسدوم الجديدة اختلف علماء الآثار ورجال البحث والاستقصاء في موقع سدوم اختلافهم في سواها من المسائل العلمية العويصة والمشاكل التاريخية الغامضة والمباحث الأثرية الدارسة فذهب فريق منهم إلى أن موقع سدوم كان في الجنوب الغربي من بحيرة لوط في جانب الجبل المعروف بسدوم. وذهب آخرون إلى أن هذه المدينة القديمة كانت ممتدة من جنوبي بحيرة لوط إلى غربي شاطئ نهر الأردن. وزعم غيرهم أن موقع سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم كان على شاطئ بحيرة لوط ثم عمرت بعد أن خربت. وصرح فريق آخر بأن موقع هذه المدن هو بحر الميت نفسه أو بحيرة لوط عينها وقد استدل أصحاب هذا المذهب على ذلك بأقوال التوراة. فسكان موقع سدوم إذا صحَّ مذهبهم تحت مياه الجانب الغربي من البحيرة. ومهما تكن تلك الآراء متباينة فقد أجمع أولئك الباحثون على أن موقع تلك المدن كان في أنحاء بحر الميت في القسم الغربي من قارة آسيا. يظهر للمطلع على الإصحاحين الـ 18 و19 من سفر التكوين - السفر الأول من الأسفار الخمسة لموسى الكليم - أن سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم المتقدم ذكرها قد انحطت آداب سكانها بحيث لا تطيقها شريعة إلهية كانت أو أدبية أو اجتماعية فقضى الله جلَّ جلاله بأن يعاقب سكانها واطلع إبراهيم الخليل يومئذ على ما سيحل بأهل سدوم فسأل واحداً من أهل الله ممن زاروه من قبل لخلاصها والرفق بأهلها. فذهب اثنان منهما إلى سدوم ولما لم يجدا فيها إلا فشو الفاحشة والشر الفاضح أخرجا لوط ابن أخي إبراهيم مع امرأته وابنتيه إلى بلدة مجاورة اسمها صوغر. ثم هطلت نار من السماء فأحرقت سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم ومزقت شمل أهلها كل ممزق. ولقد صادق كثير من العلماء القدماء على رواية موسى بشأن إحراق سدوم وخراب سائر المدائن المذكورة وتناولها شعراء اليونان ودونوها في قصائدهم بيد أنهم مزجوها بخرافاتهم الفاسدة. ومن أولئك المقرين على تلك الرواية استرابون الجغرافي الشهير المولود في نحو 200 سنة ق. م ويوسيفوس المؤرخ العبراني الذي ولد سنة 37 ق. م وإذ أن آراء أهل التنقيب والعلم تباينت في موقع سدوم فقد اختلفت أيضاً آراء المفسرين من علماء الدين في كيفية إحراق سدوم وسائر المدائن السابقة الذكر. ذهب فريق من العلماء إلى أن الله أنزل الكبريت والنار على تلك المدن حقيقة فأحرقتها

ودمرتها ودكتها إلى الحضيض. ودليلهم على مذهبهم أن التوراة المنزلة صرحت بالأمر بحيث لم تبق شكاً فيه. وارتأى غيرهم من رجال الدين إلى أن بركاناً نارياً انفجر في بطن الأرض فأحرق تلك المدن ودليل أرباب هذا المذهب هو أن إبراهيم الخليل تطلع على تلك البقعة فرأى إذ ذاك دخاناً كثيفاً متصاعداً من قلب الأرض. وبعد فقد عنيت بعض الجمعيات الأوربية بالبحث عن سدوم وسواها إفادة للعلم بأثر يجدونه في أرجائها. ورجال العلم الحقيقي في هذا العصر - عصر التحقيق والبحث - باذلون ما في وسعهم لكشف النقاب عن كل مسألة غامضة تفيد العلم والمجتمع. وقرأت أن أحد السياح الباحثين وجد تمثالاً من ملح في جانب جبل سدوم في جنوبي بحيرة لوط ولعلَّ هذا التمثال هو نصب امرأة لوط التي تقول التوراة عنها بأنها عوقبت بذلك من أجل مخالفتها لأمر رجلي الله فالتفتت إلى ورائها لترى ما حلَّ بسدوم. أما تاريخ إحراق سدوم ودمارها فيرجع إلى أيام إبراهيم الخليل جد اليهود. وتاريخ إبراهيم يرد إلى زهاء أربعة آلاف سنة. ولما كانت التوراة أهم مستند لدرس العلماء الملاحدة على رغم إلحادهم لأنها أقدم تاريخ من حيث المادة التاريخية يرجعون إليها في كثير من المسائل القديمة. ولما كانت موضوع بحث الباحثين من أئمة الدين وعلمائه من شرقيين وغربيين لم أر بدّاً من الرجوع إلى التوراة في بعض وصف مدينة سدوم وعمورة وتوغلهما في القدم والعمران. فقد سمى موسى الكليم تلك البقعة مدن دائرة الأردن ووصفها بقوله أنها جنة وأن أراضيها تسقى بمياه نهر الأردن ولا غرو فقد هام الشعراء في هذا العصر بجمال بقاع بحر الميت فنظموا فيها القصائد. وأمها السياح من كل حدب وكانت كتاباتهم مجمعة على جمال موقع تلك البقعة وخصب أراضيها وطيب هوائها وعذوبة مائها. ولم يرد في التوراة شيءٌ عن عدد سكان تلك المدن الأربع غير أن كثيرة فساد الآداب في سدوم وعمورة خصوصاً على ذلك العهد تدل على أن تينك المدينتين كانتا مأهولتين بالسكان. والفاحشة في الغالب لا تتفشى بكثرة إلا في المدن الكبيرة وحيث يكثر الزحام وينمو السكان. وصرح موسى الكليم بأنه كان لكل مدينة من مدن الدائرة ملك. فكان بارع ملك سدوم وبرشاع ملك عمورة وشنئآب ملك أدمة وشئمبير ملك صبوئيم وانه قد حدثت لهؤلاء الملوك

مع ملوك شنعار والإسار وعيلام وجوبيم وأن إبراهيم الخليل استرجع من هؤلاء الملوك مدن الدائرة والأسلاب بعد أن تغلبوا على ملوك مدن الدائرة وأن إبراهيم تتبعهم إلى حوبه قرب دمشق شمالاً هو ورجاله الثلاثمائة والثمانية عشر حيث استظهر عليهم. هذا بعض ما لخصته واستنتجته من أبحاث رجال العلم والدين التي طالعتها. وقد اذكرني بالكتابة في الموضوع حادث سان فرنسيسكو التي سماها رجال الدين في أميركا سدوم العالم الجديد لما أصابها في 18 نيسان سنة 1906 من البلايا التي تشبه بلايا سدوم العالم القديم. أكبر ولاية في الولايات المتحدة بمساحتها هي تكساس وثاني ولاية كاليفورنيا وأكبر مدينة وأشهرها في كاليفورنيا سان فرنسيسكو أو هي أكبر مدينة في غربي الجبال الصخرية في الولايات المتحدة تقع على شاطئ الأوقيانوس الباسيفيكي من الجهة الشرقية منه وهي مفتاح ولاية كاليفورنيا وميناها أمين جداً. والحاجة العمرانية تستلزم وجودها في تلك البقعة دع عنك أهمية موقعها التجاري والبحري. ولقد دعاها الأميركيون باريس المدن الغربية في الولايات المتحدة وعروس الباسيفيك. ولا غرو فإن مركزها من أجمل مراكز الدنيا وهي كعبة السياح وأصحاب البذخ والترف ومتنزه أرباب المال والجاه ففيها الملاهي على تباين أنواعها والمقاصف على اختلاف أسمائها والحانات وما يتبعها ويتصرف عليها. وكما أن أهل العالم الجديد سموا مدينتهم الغربية باريس كاليفورنيا هكذا دعوها رتاج الذهب لكثرة النضارة في ولاية كاليفورنيا فإن هذه الولاية أغنى الولايات في البلاد المتحدة بمعادنها الثمينة لا بلجينها فقط بل بنضارها وسائر معادنها. ولم تكن شهرة قصورها الفخيمة ودورها الجميلة وأبنيتها الشاهقة ومحالها البديعة بأقل شهرة من قصور سائر مدائن الولايات المتحدة الكبرى كنيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وسواها ففيها أبنية عظيمة وجميلة مؤلفة من ست طبقات إلى سبع عشرة طبقة وهي الثالثة من نوعها في العالم الجديد. أما نزلها الشهير المعروف بالبالاس الذي كلف بناؤه سبعة ملايين دولار (ريال) فهو أجمل نزل في العالم الجديد بل في سائر أطراف المعمور. وما قيل في نزل عروس الباسيفيك من حيث الجمال والإتقان والشهرة يقال في دار الحكومة التي أنفق في سبل بنائها تسعة ملايين دولار أميركي واشتغل مئات العملة في بنائها ربع قرن. ويرجع تاريخ هذه المدينة إلى أكثر من مائة سنة أيام كانت فرضة تجارية ليس فيها

من العمران إلا اليسير على أنها أخذت بالتقدم والنماء منذ ثلاثة أرباع قرن شأن المدن الراقية حتى بلغت ما بلغته وناهز سكانها أربعمائة ألف نسمة. هذا بعض وصف مدينة سدوم العالم الجديد قبل الحادثة الأليمة التي ألمت بها. أما اليوم فقد صارت قصورها البديعة رماداً ودورها الجميلة خراباً وسائر أبنيتها الثمينة قفراً يباباً حتى ابتلعت الأرض كثيراً من رياضها الغناء وحدائقها الزهراء وأصبح معظمها أطلالاً دوارس وآثاراً طوامس. تناول شعراء الأمريكان فاجعة غادة الباسيفيك ونظموا فيها القصائد المؤثرة فرثوها بما يذيب سماعه قلب الجماد. واشتغلت الأسلاك البرقية في كارثتها العظيمة في كل أنحاء البلاد وبلغ نبأها أرجاء العالم المتمدن وانقضت أسابيع على المصيبة والجرائد الأميركية بالإجمال تصف هذا الخطب الجلل. حدث زلزال شديد الساعة الخامسة والدقيقة الثانية عشرة من صباح 18 نيسان (إبريل) الماضي في مدينة سان فرنسيسكو دام دقيقتين فانشقت الأرض وابتلعت شطراً من المدينة بما فيها ومادت الأبنية وسقطت الدور ودمرت القصور وفاضت مياه الأوقيانوس على المدينة وأخذ البركان في جوف الأرض ينذرها بالويل والشقاء والدمار. حدث هذا الزلزال بينما كان الناس نياماً فزعزع أركان المدينة وأشد ما كانت وطأته على أهم بيوت التجارة والأعمال فيها ثم توالت الزلازل فأتت على البنايات المتزعزعة ودمرتها وثبتت الأبنية المتينة المشيدة هياكلها بالحديد بادئ بدءٍ. ثم تصدعت أنابيب الغاز من الزلازل التي توالت بشدة فشبت النار في المدينة والتهمت ما بقي من الدور الفخيمة والأبنية العظيمة وحاول رجال المطافئ إخماد النيران ولكن مساعيهم ذهبت أدراج الرياح ثم عادوا بالديناميت لنسف الأبنية المجاورة لألسنة اللهيب الهائلة فلم يستطيعوا إيقافها وما انقضى بضع ساعات على شبوب النيران في الحي التجاري حتى اتصلت بأحياء السكن فالتهمتها فأصبحت المدينة كطود من نار. وإذا رأى الفرنسيسكيون أن عروسهم الجميلة قد دكت إلى الحضيض ودفنت طيَّ اللحود فرَّ منهم نحو مائة ألف نفس إلى أوكلاند كليفرنيا وفرَّ الثلاثمائة ألف الباقون إلى الجهات المجاورة للمدينة والمطلة عليها يتوسدون الغبراء ويلتحفون السماء ويقاسون آلام الطوى

أشكالاً ويذوقون البلوى ألواناً حتى بيع رغيف الخبز بدولار. ولم تنحصر الفاجعة الأليمة في عروس الباسيفيك بل قد امتد خطبها الفادح إلى غيرها من البلاد المجاورة فألحقت بها أضراراً فاحشة ولما حلت هذه الكارثة واتصلت أنباؤها المشؤومة بالشعب الأميركي الغيور قامت البلاد بأسرها تجمع الأموال وتبعث بها وبالمآكل والملابس إلى المنكوبين فخففوا عنهم وطأة الخطب وبرهنوا لهم بمروءتهم وغيرتهم أنهم شركاؤهم بالضراء وأن الأموال التي جمعت ترجع مجد مدينة المغرب وأن الشعب النشيط الذي أصبح في مدة قرن في مقدمة شعوب الأرض بالنفوذ والثروة والتمدن والذي عمر القفار وأقام المدن والأمصار يستطيع أن يبني على أنقاض سدوم العالم الجديد مدينة من أجمل مدن العالم. ولقد بلغت الإعانات التي قدمت إلى منكوبي سان فرنسيسكو حتى الآن ثلاثمائة مليون دولار وتبرع كثير من كبار المتمولين الأميركيين كل منهم بمائة ألف دولار وتبرع مجلس الأمة في العاصمة (واشنطن) بمليون دولار وكثير من أفراد الأمريكان الموسرين تبرع كل منهم بالمبالغ الكثيرة. ومما يذكر أن محسناً دفع إلى حاكم مدينة نيويورك خمسة وعشرين ألف دولار لمنكوبي سان فرنسيسكو ولم يذكر اسمه. وقد قررت خسائر سان فرنسيسكو بـ 350 مليون دولار. وكانت أشدها وطأة على 17 غنياً وغنية من الفرنسيسكيين فخسروا وحدهم 97 مليون دولار. وكانت خسارة السوريين في الكارثة 32 ألف دولار ولم يفقد منهم أحد وقدر الهالكون من الأميركيين بألفي نفس. وأما قيمة الأرزاق المضمونة في سان فرنسيسكو فهي 268 مليون دولار إذا رفعت شركات الحريق المبلغ برمته تضطر خمس عشرة شركة منها إلى إشهار إفلاسها. هذا وأن حريق سان فرنسيسكو أعظم ما حدث من نوعه حتى الآن في الولايات المتحدة باعتبار خسارة المال والأنفس. فحريق شيكاغو الذي حدث في يومي الأحد والاثنين الواقعين في 8 و9 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1871 أتلف من الأرزاق ما قيمته مائتا مليون دولار. على حين كان عدد البنايات التي أكلتها النار 7. 450 بناية. ومساحة البقعة التي جرى فيها الحريق 73 ميلاً. أما مساحة البقعة التي حدث فيها الحريق في سان فرنسيسكو فهي 26 ميلاً وكذلك حريق بالتمور وبوسطن وكالفستن لا يحسب شيئاً بالنسبة إلى حريق سان فرنسيسكو. أما الزلازل التي حدثت في سان فرنسيسكو في 18 نيسان سنة

1906 فقد حدث مثلها في نفس المدينة في تشرين الأول سنة 1865 وسنة 1868. على أن الخسائر التي سببتها إذ ذاك على فداحتها لا تذكر في جنب الخسائر الفاحشة التي نجمت عنها في العهد الأخير. وفي سنة 1811 حدثت زلازل في الولايات المتحدة هي أعظم ما جرى من نوعها حتى يومنا هذا فانفتحت كوات الأرض من شدتها على مسافة ثلاثمائة ميل من حدود ولاية أوهايو إلى حدود سانت فرانس وانخفضت الأرض مئات أقدام في بعض الأنحاء وارتفعت في سواها ودمرت البلاد الكثيرة وسببت الخسائر الفادحة. وقد ابتدأ حدوث هذه الزلازل في 16 كانون الأول (يناير) سنة 1811 وظلت تتراجع بكل طولها وحولها حتى أوائل شهر شباط (فبراير) 1812. وروى الهنود - سكان أميركا الأصليون - أنهم شاهدوا في القرن السابع عشر بركاناً نارياً في بقعة سان فرنسيسكو يقذف المواد الهائلة من جوف الأرض إلى مئات الأقدام علواً في الجو. ولقد عرف العلماء الباحثون أن موقع سان فرنسيسكو هو على نفس خط بركان فزوف في إيطاليا الذي لا تزال ويلاته متوالية على العباد هناك. ومن المحتمل إعادة مجد سدوم العالم الجديد لأن الهمم العلية المبذولة في عمران المدينة تخترق جبال المصاعب الصعبة المرتقى ولا تقيم مدينة بل مدائن تكون من أقوى وأجمل وأبدع مدائن العالم. وقد باشر المهتمون للأمر باستجلاب الكميات الطائلة من الحديد لأنهم عزموا على ابتناء القصور والدور والبنايات الكبيرة من الحديد ورأوا أن الأبنية القائمة بالحديد قلما تؤثر فيها الزلازل ولعله يتأتى للمعمرين في المستقبل اختراع طريقة للعمران لا تقوى عليها قوات الطبيعة. ولا عجب فالعصر عصر عجائب وغرائب. وما متاعب هذه الحياة إلا عقاب لما يجنيه الإنسان فسبحان الفعال لما يريد. اوماها نبراسكا (الولايات المتحدة) يوسف جرجس زخم

في قلبي

في قلبي خواطرُ في قلبي يضيءُ بها الفكرُ ... أشعتها في كلّ منبثقٍ فجرُ لها رونقٌ من حكمةِ العبرِ التي ... تسامت بها الدنيا أو انحدرَ الدهرُ كما من شعاعِ الشمس والريحِ والندى ... تناولَ سرَّ الحسنِ في أرضهِ الزهرُ جلوتُ على الأيام أسرارَ وحيها ... بوصفٍ يقولُ الناسُ أنَّ اسمهُ الشعرُ تجسمَ فيهم لفظهُ وتحكمت ... معانيه حتى ذاك درٌّ وذي سحرُ إذا قلبوا في شطرِ بيتٍ عيونهم ... تنزَّلَ منْ وحيِ القلوبِ لهم شطرُ وما عرفوا من خدعة السحر عندها ... أقطرٌ على زهر هنالكَ أمْ سطرُ كأنَّ يراعي من أشعة رنتج ... يري من وراءِ الحبرِ ما سترَ الحبرُ بلفظٍ ترى معناهُ من قبلِ لمحه ... كما فاحَ منْ زهرٍ على غصنهِ العطرُ تهاداهُ أهواءُ النفوسِ كأنه ... من الدهرِ للنفسِ التي ساءها عذرُ وما كلماتي غبرُ نبضِ العلى وما ... لسانيَ إلا قلبها وهيَ الصدرُ أعدتُ نشاطَ الدهرِ بعدَ مشيبهِ ... فقد باتَ مختالاً وطرَّتهُ البدرُ فقولوا لحسادي على بعدِ بيننا ... تظنونَ أنَّ السحب فوقَ السما جسرُ فإن كانَ في هذي العصافيرِ طائرٌ ... هجفٌّ فما شاؤوا سوى اسمك يا نسرُ ولي كلماتٌ لو يطيرونَ مرَّةً ... لأمست ومنها كلُّ قافيةٍ وكرُ ولكنهم إن يصمدوا يتسفلوا ... دواليكَ ذا شبرٌ وذلكمُ شبرُ صغارٌ على كبرٍ وشرُّ فضيحةٍ ... وسخريةٍ طفلٌ صغيرٌ بهِ كبرُ على أنها من سنةِ الكونِ لم يزلْ ... يضايقُ من خلطِ الترابِ بهِ التبرُ وفي القلب مني لوعةٌ لو تخلصت ... من الصبرِ يوماً واحداً قتلَ الصبرُ وفيهِ كمْ فيهِ من الحبِ والجوى ... فذاكَ لهُ أمرٌ وهذا لهُ أمرُ وفيهِ من الآمالِ ما العمرُ دونهُ ... فلا سعدَ إلا أن يزاد لنا عمرُ وفيهِ منَ الأيامِ مكفنٌ ... بدمعي عليهِ من طفولتهِ قبرُ وفيهِ وما فيهِ وذا الدهرُ لم يزل ... يعدُّ علينا موجةً وهي البحرُ على أنني لم أفرغ الهممَّ كلهُ ... ولكنهُ نزرٌ وقلَّ لهُ النزرُ تعلمتُ لطفَ الوصفِ من لغة الهوى ... ففيها جنونُ القلبِ قيلَ لهُ الهجرُ

طنطا مصطفى صادق الرافعي

السكك الحديدية في آسيا الصغرى

السكك الحديدية في آسيا الصغرى عن مجلة الطبيعة الفرنسية استفاض في الناس أمر السكة الحديدية البغدادية التي تجتاز آسيا الصغرى من أقصاها إلى أدناها وتقرب بلاد فارس والخليج الفارسي من أوربا. وسيبلغ بالقطار الحديدي عما قريب إلى بغداد وكانت معدودة من قبل من مدن ألف ليلة وليلة. فترن صفارة البخار وتجاوبها أصداء بلاد الكلدان والفرات ويحرك التمدن الحاضر بما خص به من الصفات قبور أخلاف بختنصر. وليس الخط البغدادي أول سكة امتدت في ذاك الرجا فقد وجدت منذ عهد بعيد في غربية خطوط حديدية أخرى نال امتيازها ماليون مختلفة أجناسهم والدولة تمدَّ معظمها بالمال وتعطيها ضمانات عن كل كيلومتر تختلف من عشرة إلى تسعة عشر ألف فرنك. أنشئ أول خط حديدي سنة 1856 وهو من أزمير إلى آيدين واحتفل بافتتاحه سنة 1866 ثم اتصل بدينار وامتدت منه ناشطة أو فرع إلى تيره وسوكه وجوريل وبوجه وسيدي كوي ودكزلي. وطول هذه الخطوط خمسمائة كيلومتر. وسنة 1866 أيضاً افتتحت سكة حديد أزمير - قصبة التي امتدت بعد أفيون قره حصار وأخذت منها ناشطة إلى صوما وطول هذا الخط بأجمعه خمسمائة كيلومتر أيضاً. وفي نحو سنة 1871 شرع بإنشاء خط مدانيا - بورصة. وفي نحو ذلك العهد أنشأت الحكومة خطاً يكون متمماً لخط عظيم يصل إلى الخليج الفارسي بادئاً من اسكدار أو حيدر باشا ومنتهياً بأزميد. وسنة 1889 نالت شركة ألمانية امتيازاً بمد خط حديدي من أزميد إلى أنقرة ماراً باسكي شهر وطوله 576 كيلومتراً ولم يتسن إيصال الخط إلى بغداد ماراً بسيواس. وفي غضون ذلك أنشئ الخط الحديدي من مرسين إلى آذنة ماراً بطرسوس وهو الخط الذي سيصبح من فروع السكة البغدادية. وكل هذه الخطوط تربط المدن الساحلية ببعض الداخلية إلا قليلاً. أما خط أنقرة وقيصرية فأخذ امتيازه لكنه لم يجر تخطيطه. وفي سنة 1888 مدَّ خط من يافا إلى القدس وسنة 1890 شرع بمد خط حديدي من بيروت إلى دمشق ماراً برياق ثم دمشق - مزيريب ثم فرع رياق - حماه. دع الخط الحديدي الذي أنشئ من دمشق وسيتصل بالمدينة ومكة ماراً بعمان فإنه ليس من الخطوط المعدودة من آسيا الصغرى.

ولا بأس من التصريح هنا بأن من تتمة الخط الحديدي البغدادي إنشاء الخط الذي كان بدأ به سنة 1895 من حيدر باشا إلى قونية ماراً بأفيون قره حصار فهو يصح أن يسمى من متممات خط أزمير فمن مدينة قونية إذاً تسير سكة حديد الخليج الفارسي مقتربة من خليج مرسينا. ويتحدث الإنكليز منذ نحو نصف قرن بهذا الخط لأنه يسهل المواصلات مع الهند حتى أنهم وضعوا سنة 1851 مشروع خط حديدي يمتد من السويدية في جنوبي إسكندرونة من أعمال سورية ماراً بإنطاكية وحلب والموصل فبغداد فالبصرة فالكويت. وفكر بعضهم في إنشاء خط حديدي من البوسفور إلى الموصل ماراً بسيواس وديار بكر كما اقترح الروس أن يجعلوا طرابلس مبدأ الخط. وكان ينوي أصحاب امتياز خط أنقرة - قيصرية أن يصلوه بدجلة والخليج الفارسي لكن شركة ألمانية فيها بعض الفرنسيين نالت الامتياز إلى 99 سنة بإنشاء خط حديدي من قونية إلى الخليج الفارسي يكون خط حيدر باشا قبالة الأستانة رأساً له فإذا اجتاز الخط اركلي يصل إلى سهل ثم يصعب تمديد الخطوط الحديدية لأنه يضطر إلى قطع سلسلة من جبال طوروس وفي شمالي الإسكندرونة يجتاز سلسلة أخرى من سلاسل جبال سورية ومن هناك ينشأ فرع صغير لتسهيل نقل الأدوات وتتصل حلب مع الخط الأصلي بفرع آخر يصل بينها وبين خط سورية ويستقيم سير الخط من أذنة إلى الموصل ومن هنا يتبع الخط مجرى دجلة إلى بغداد. وفي مأمول القائمين بتمديد خط الخليج الفارسي أن ينجزوه سنة 1910 وهو مما يستبعد. وكيف دارت الحال فسيأتي هذا الخط بفوائد جزيلة أقلها تقريب المسافة بين أوربا والهند فإن معدل البريد الآن من لندن إلى بومباي في 14 يوماً و16 ساعة ومتى نجز خط بغداد يرسل البريد عن طريق آسيا الصغرى إلى ما بين النهرين في ثلاثة أيام و15 ساعة. لا جرم أن عدد الذاهبين إلى الهند والشرق الأقصى ممن يسافرون في البحر الأحمر وهو قرابة ربع مليون نسمة في السنة سيزيد كثيراً. وإذا صح ما يتحدثون به الآن من إنشاء جسر على البوسفور فسيجيء يوم تختصر فيه المسافة كثيراً فتسافر القطارات من كالى في فرنسا أو من لندن بدون أن تفرغ شحنها حتى تبلغ مصب شط العرب.

تأثير العلم في ألمانيا

تأثير العلم في ألمانيا من مقالة لأحد علماء الفرنسيين ارتقى التعليم العام وانتشر كثيراً في ألمانيا منذ نحو قرن وأصبح التعليم الابتدائي إجبارياً وإن كان ناقصاً وفيه نظر. وبالتعليم فنحن العقول واستعدت لقبول الأفكار الحديثة فرقَّ شعور الأفراد ومرنت قواهم واحتد ذكاؤهم وقويت عقولهم وقلَّ الاختلاف بين الطبقة العالية والطبقات النازلة في المجتمع وذلك في الأمور الذهنية على الأقل. قامت منذ خمس عشرة سنة معاهد التعليم وتهذيب الأمة على أمتن الدعائم وانتشرت في الآفاق الألمانية أيما انتشار. وأنك لترى في كل ناحية أو عمالة لها بعض الأهمية صفوفاً ومدارس يتلقى فيها الكبار العلم ومارس ليلية ومؤتمرات تعليمية إجبارية في كثير من النواحي للشبان ممن سنهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة ولكل مدينة بل لكل إقليم مكتبة موقوفة على سكانها عامة تحبب إليهم المطالعة متى أرادوا بل تضطرهم إلى الاختلاف إليها. دع ما هناك من تمثيل الروايات العامية التي تطلعهم على أسرار الفنون وتحسن أذواقهم وخل عنك أندية المطالعة وأندية التمثيل وجمعيات الغناء والموسيقى التي تتكاثر الحين بعد الآخر. وهكذا تجد العامي من الألمان قد خرج من غفلته وتغفله وصقل ذكاؤه ورق إحساسه وبدأ يفكر في غير الضروريات المادية في حياته اليومية واتسع أمامه ميدان النظر وامتد أفق الغايات السامية وراح يود الاطلاع على ما يحدث في العالم وعلم أن ليس لكل الشعوب ملوك وليسوا دونه في السعادة وأن بعض الشعوب تتألم لأنها محرومة من الحقوق السياسية وأخذ الألماني يفكر في قوانين حكومته وأوامرها ويبحث فيها ناظراً ما يتعلق منها بمصالحه واحترامه الشخصي ورأى من الظلم أن تكون الشؤون السياسية بيد طبقة خاصة من الأمة فينال النعم غيره على حين لم يكن دونه في المدارك وهو لا يرضيه الشقاء الذي قاساه حتى اليوم بل يتطلب الظهور ونيل حظه من اللذائذ. ولما استحكم أساس الوحدة الألمانية تقدمت الديمقراطية بين أهلها كثيراً وسهل ذلك في سبيلهم ارتقاء الصناعات والتجارات ارتقاءً لا مثيل له. فصارت ألمانيا مملكة صناعية بعد أن كانت إلى سنة 1870 زراعية فكان يستخرج منها إذ ذاك 897. 000 طن من الفولاذ

فبلغ ما استخرج من هذا المعدن سنة 1899، 6. 317. 000 وكان المستخرج من الحديد المسبوك سنة 1889، 3. 381. 000 فصار سنة 1900، 8. 520. 000 وكان قدر أنوال المنسوجات سنة 1887، 5. 381. 000 فأصبح بعد إحدى عشرة سنة 7. 884. 000 ونجحت الصناعات الكيماوية والكهربائية نجاحاً باهراً. ولألمانيا المقام الأول بين الأمم في استخراج السكر. كانت نفوس ألمانيا سنة 1871، 39. 360. 000 نسمة تقريباً فبلغت سنة 1890، 47 مليوناً وسنة 1905، 60 مليوناً أي أن الشعب الألماني يزيد في السنة 805. 000 نسمة وكل مولود جديد يحتاج إلى مرتزق جديد له وقلما يجده في الزراعة إذا لم يجده في الصناعة والتجارة لأن مواد الزراعة ضيقة النطاق في تلك البلاد بحكم الطبيعة ولا يتأتى أن يعيش بها إلا عدد محدود من السكان فلم يبق من ثم إلا الصناعة يقيمون لها كل يوم أنواع المعامل الجديدة والمشاريع الصناعية والتجارية الحديثة وسينتهي الحال بأن تغدو ألمانيا بحكم الطبيعة في مقدمة الأمم بصناعتها. ولقد كان لهذا التقدم الاقتصادي نتائج اجتماعية وسياسية كثيرة ذلك لأن هذا الارتقاء زاد في رفاهية الأمة وحسن الأخلاق وسعدت الحياة في ألمانيا وأصبحت داخلية المدن إلى اللطف والذوق يتوفر فيها الزخرف والبهرج والنظافة المفرطة. وإنك لترى في كل مكان خطوط الترامواي والإنارة بالكهربائية مألوفة في البلاد كلها وواجهات الدكاكين مزدانة وإمارات الغنى تتجلى في جميع الأعمال وترى أحياء العملة في المدن الكبرى كهمبورغ وبرلين وكولون لا تشبه غيرها من المدن الفرنسية مثلاً إذ ترى في تلك البلاد دلائل الحضارة ماثلة والناس يظهرون في أجمل بزة وزي وشارة. وللوالدين مطامع يرجونها لأبنائهم ويبحثون عن إيجاد أعمال أحسن من أعمالهم. وبالجملة فإن الشعب الألماني يرفع أسبابه المادية والأدبية عن معدلها السابق في المدن على الأقل. ومعلوم أن كل نجاح مادي لا يقوم إلا ببذل النفس والنفيس في سبيله فالعامل والسوقة من الألمان يدفعون أجور منازلهم أغلى من ذي قبل وهي جديدة البنيان وإذ أصبحوا ينفقون على معيشتهم أكثر اضطروا أن يسعوا في زيادة أجورهم ومداخيلهم وهذا هو السر في قيام الاعتصابات واتحاد الطبقة النازلة مع أهل حزب الشمال الذي يعنى أهله بتحسين حالة

الشعب وإعطائه من النفوذ السياسي أكثر مما كان له. زاد نماء الشعب وانتشار الصناعة عنصر سكان المدن في ألمانيا. فكان سكان برلين سنة 1871، 800 ألف فأنافوا اليوم على مليونين وصار سكان همبورغ زهاء 800 ألف وارتقى عدد سكان كولون من 200 إلى 440 ألف فزاد عدد سكان المدن الكبرى ثلاثة أضعاف بعد الحرب السبعينية وهو يزيد على معدل 15 في المائة كل خمس سنين وليس في الأرياف غير 43 في المائة من مجموع سكان البلاد. وانتشرت الديمقراطية في المدن أسرع منها في الضواحي والقرى حيث يعتزل الأصاغر فيضعف أمرهم ولا يلتفت الناس إلا إلى القيام على الزراعة وتربية الماشية أما ساكن المدن فهو أكثر علماً وحركة وحضارة. ويسهل بث الدعوة الديمقراطية في عقول عملة المدن فإن اجتماعهم في صعيد واحد من الأرض يزيدهم قوة ومضاءً. وقد كان الصناع في كل زمن أسرع إلى النشوء في الديمقراطية من سكان الريف المزارعين إذ الفلاح في العادة من المحافظين وعامل المدن من الديمقراطيين. هكذا هو الحال الآن وهكذا كان الشأن في قديم الزمان. فقد ظلت إسبارطة منصرفة إلى الزراعة وحكمها أرستقراطياً عدة قرون وأصبحت أثينا ديمقراطية منذ انتشرت فيها الصنائع وراجت أسواق التجارة.

نوع من نقد الشعر

نوع من نقد الشعر (قل في رجال الأدب قديماً وحديثاً من تكتب لهم الإجادة في النظم والنثر وقد عرف مصطفى صادق أفندي الرافعي بين قراء العربية بأنه من أفراد الشعراء البلغاء ولو أنصفوه لوصفوه بالكتابة كما وصفوه بالشعر. والنبذة التالية مقتبسة من مقدمة الجزء الثالث من ديوانه وهو تحت الطبع وفيها نموذج من نثره). الشعر تصوير عالمٍ من المعاني والألفاظ فالمجيد من جعله مختصراً من صورة العالم كله. ولابدَّ فيه من شعاع من الروح إذا تجردت له النفس امتزجت لطافتها بلطافته. وربما أخذ المرء بلذة التصوير فظنها في مكان نفسه وحسب نفسه في مكانه. ونحن ناظرون إلى نقد الشعر من هذه الجهة التي يتمثل فيها حياً من الأحياء. تتنازع أنواعه البقاء. فقد أفاض المتقدمون في الأسباب التي يحسن بها ما يحسن من ظاهره وبقبح منه ما يقبح. وجردوا الكتب في طبقات الألفاظ ومخارج الأشعار وسقطات الكلام وألطفوا النظر في وجوه المعاني ومواضعها. وأصابوا منها صفة التمكن في مبادئها ومقاطعها. وإنك لتجد فيما وضعوه من علوم البلاغة البحر الزاخر بهذه الأمواج. والفلك الدائر بتلك الأبراج. يرتقي المبتدئ في الشعر من مطلق النظم الذي هو النمط المصطلح عليه في إقامة الوزن إلى الفكر فيما يجيء به. فإذا صارت له هذه المنزلة أدته إلى الخيال. فإذا ارتفع شيئاً بعد ذلك فهو في جو الروح الذي يسمونه التصور وهناك حدُّ الطبيعة القائم. وحجاب الغيب القاتم. فيكون في منزلة بين الوحي والإلهام ويمر هناك خاطره على النفوس كما ينتقل على الأرض ظل الغمام. وتلك هي أطوار الشعر من طفولته التي يعبث فيها بكل شيءٍ ولا يفقه شيئاً. إلى شبيبته التي يتماسك فيها وقاراً ويندفع إلى شدته التي تعتصم بها الحكمة وتمتنع. إلى مشيبه الذي هو نور الجمال. والحظ المقسوم له من الكمال. والشاعر في الطور الأول كالصبي في يده القوس يغرق في نزعها ما يغرق ثم لا يكون إلا أن يسمع لها أرناناً ضعيفاً فلا هو غلب وهمه. ولا رمى سهمه. فإذا اشتد ساعده وانتقل إلى الطور الثاني كان في منزلة بين الخطأ والصواب. فإذا بلغ إلى الثالث أحكم التسديد. واستوى عنده في الإصابة ما كان من قريب وما كان من بعيد. ومتى صار إلى الطور

الرابع وهو منتهى كماله حسب توزع الطير في الجو لمخافته. وتفرق الوحش في البر لمهابته. وصارت هي السهم لأنه في أثرها. ولفظته عن القنيصة هي القضاء لأنه في خبرها. وما يكن من عيب في الشاعر فلن تجد فيه كتسلط فكره عليه وعبثه بقوافيه فتراه ينظم الكلمة أبياتاً لا معرفة بين أولها وآخرها ثم يجيء بعد جفاف الريق وتخلخل اللسان وانقطاع النفس فيمضي فيها اختياره ويأخذ في التوفيق بينها وهي متنافرة. ويعمل على التعريف وهي لا تزال متناكرة. فمثل الكثير من هذا الشعر مثل الكلمة المفردة إذا نطقت بجملتها أدت إليك معناها على أتم ما يكون فإذا فككت أحرفها ولفظتها حرفاً حرفاً انقلبت إلى قول هراء. ولم تزد على أن تكون أصواتاً ذاهبة في الهواء. وأولئك هم الذين قال في شعرهم ابن ميادة أنه كلفة وتملح. فإذا لم يكن فكر الشاعر عند إرادته ولم تكن إرادته عند اتجاه عواطفه أخذت عليه منافذ القول فاختل. واضطربت جهات رأيه فانحل. وصار من نضوب المادة في أخره أمره كمن يكتب بقلم ليس عليه إلا مسحة من ردع المداد فكلما كدَّه جمد. وكلما هزَّه ركد. فإذا كتب مع ذلك جاء الحرف مفرق الجهات لئيماً في الحروف فلا هو كتابة ولا هو محو. ولقد يحار المرء إذا نظر في شعر العرب ورأى الكثير منه لا يتعدى الوزن والتقفية ولكن أكبر حظ القوم من شعرهم أن ينقلوا الكلام إلى نمط يتفق مع النغم كما ترى في غناء هذه الأيام فهو لا يزيد عن سائر الكلام إلا النمط والإيقاع بحيث أنك لو سمعته وقد جرد من ألحانه لخرجت منه على حساب ما دخلت فيه لا طرب ولا عجب. والغناء على أي وجوهه ينقل النفس من تنقيبها بين الألفاظ عما هو حسن وغير حسن إلى تحركها على الألفاظ نفسها. وإنما النظم العربي أوزان موسيقية. فكل من جاء بعد العرب من الشعراء لا ينظر إلا في أعطاف اللفظ وتلاحم الكلمات وانتظام تلك المعاني القديمة فهو من الجاهلية الثانية وإن كان الأولون قد سموا جاهلية لعبادة الأوثان. فهؤلاء لعبادة الأوزان. ويكاد شعر العرب ينحصر في غرضين الشاهد والمثل فقد كانوا لا يطلبون من الشعر غيرهما كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات. وكان أبدع ما يروج عنهم من أجل ذلك مساق الخبر ومضرب المثل ومقطع الحكمة. والحكيم فيهم يومئذ نبي.

ومن هنا تجد مثار الخلاف بينهم في قولهم هذا أشعر الناس في كذا وذلك أشعر الشعراء وغيرهما أشعر الإنس والجن. وهلم جرا وما عدا ذلك ففي شعرهم من الطرف المستنكرة ما بغلط على الطبع ويثقل على الذوق فمنهم من يشبه وجه الحسناء ببيضة النعام. ومنهم من يشبه جسمه الناحل بأشلاء اللجام. . . إلى غير هذا مما تهجنه الحضارة ولهم مع ذلك وجه عذر فيه ومنفسخ للوم عنه. وإنما ذكرناه مأخذاً أكثرها صدأ الركاكة وغبار القدم. . . فتراجع الشعر بينهم وتعطلت قرائحهم حتى أصبحوا في اتصالهم بمتن أولئك الشعراء كما شبه أبو هفان شعر آل أبي حفصة الذين كان آخر شعرائهم متوج وكان رجلاً ساقطاً وذلك في قوله: (شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته ثم يفتر ثم يبرد. وكذا كانت أشعارهم إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد. . .). وأعجب شيءٍ رأيته في تاريخ الشعر أنه كان عصرٌ يسمون فيه المولد (بالرقيق) ثم صار هذا الاسم علماً بالغلبة وأطلق على الغزل السبط والرثاء السائل ثم عدوا منه أنواعاً عرفوها (بالألفاظ الملوكية) وأجروها في بعض التشبيهات والأوصاف وما إليها. كأن الشعر كان مقضياً عليه أن يبقى في الموتى حتى يموت الأحياء. وأن يكون أهله نصباً على جانبي تلك البطحاء التي كان فيها شعراء الجاهلية. . . وحسبك أن أعداء ابن المعتز لم يزروا على غير نحته وسبكه ولم يحاولوا إسقاطه إلا من بينهما وهو بالإجماع في السطح من طبقات الشعراء. ومنتهى الحمق أن يتخذ مولد ذلك النمط الجاهلي فإن السر في بقاء شعر الجاهلية والمخضرمين بعد أهله حاجة الرواة والعلماء إلى الشاهد منه فلما أسقطوا الاستشهاد بكلام المولدين لما يدخل عليهم من الغلط ولضعف الثقة بلغتهم سقطت هذه الطبقة بعلة طبيعية وهي سنة (بقاء الأنسب). والعرب إنما ابتدأت الشعر بما كان عندها من جزالة اللفظ وإتقان بنية القريض وأحكام عرض القافية ونحوها مما هو طبيعة فيهم فكان على من يخلفهم أن يأخذ في زخرف البناء وزينته بعد أن يكون قد تم منه ما لم يتم وهو الذي فعله أبو تمام والمتنبي ومن في طبقتهما من أهل القوة والكفاية ثم كان على من يجيء بعد هؤلاء أن يزيدوا من تحف عصورهم

ومدنيتها طبقة بعد طبقة حتى يكون ذلك المرضع ديواناً للتاريخ ترتب فيه العصور. وتقف على أبوابه الدهور. ولكنا نجد إلى عهدنا طوائف تنقض ذلك البناء وتقيم على أساه فلا يلبث أن يقع الاثنان معاً. والشعر أقسام كانت محدودة على ما نوعها أبو تمام في حماسته ثم جاء من تفنن فيها وذهب كل مذهب كابن أبي الإصبع وغيره. وقرأت أن البديع الأسطر لأبي رتب ديوان ابن حجاج على مائة وأربعين باباً وواحد. ثم قفي كل باب وجعله في فن من فنون شعر الرجل. ولكن الذي قطع بالشعر العربي دونه إنما هو النوع الذي يسميه الإفرنج بالشعر القصصي ومنه الملاحم الكبرى عندهم كالإلياذة وغيرها. والبسيط منه نادر في العربية بل هو في بسطتها كالظل شيء كلا شيء. ذلك لأن الشعر العربي روح هذه اللغة وهو من اللطافة بحيث لا يضيء فيه المعنى إلا بشعاع من الخيال. فإذا أردت أن تقيم منه حديثاً سويَّ التركيب. كامل الترتيب. زوت عليك القافية وتقطع الشعر فلا تدري من أين تأخذ ولا من أين تدع. كالنور اللطيف تحاول أن تلقي عليه كثافة الغطاء فإذا هو منبسط فوق ما تلقي فمهما تأت من ذلك لا تكون قد صنعت شيئاً. ورأس هذا الأمر عندنا على ما يقول شبيب بن شبة حظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت فلا بد لهذا النوع في لغتنا من وضع جديد يكون وسطاً بين النثر والنظم حتى يحمل الألفاظ والمعاني معاً فيتعلق فيه الشعر بالنفس ويمتد السباق على النفس كما فعل الأندلسيون في وضع الموشحات لحاجتهم التي بعثتهم عليها والعصر يومئذ لهو وترف. والأدب مجد وشرف. وأساس هذا الشعر سلامة الذوق فهي الحاسة التي تتجه بها النفس إلى المعاني وتنقلب عنها. بل هي العين المركبة في الروح تجمع جمال الطبيعة في نظرة واحدة فتنقله إلى الإحساس كما تمد العين الباصرة بمرئياتها وهي المخيلة. ومن الشعراء من يكون سقيم الذوق فهو في نظره إلى الشعر مع فساد ذوقه كاللص في نظرته إلى الحسناء إذا وسوس حليها في وسمعه. يغفل منها عما ينتبه إليه الناس وينتبه لما يغفلون عنه. ومن هؤلاء طائفة الشعراء المصنعين وهم الذين لاحظ لهم إلا في (الصنعة الشعرية)

وفنونها لا تعد فيجيئون بالقصيدة كلها رقع ثم يتنافسون في هذا التصدير ولا يدرون أن الثوب الساذج من قطعة واحدة خير من هذه الرقع كلها وإن كانت من أنفس الخز والديباج وانظر ما يكون موقع هذا الثقل من الأدباء فقد أراد ديك الجن الشاعر مرة أن يهول على دعبل ويقرع سمعه فأنشده بيتاً مضطرباً. . . فقال له دعبل اسكت فو الله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك أو تشكيت دماغك. ولكأني بك في جهنم تخاطب الزبانية أو تخبطك الشيطان من المس. والعلة الطبيعية في بؤس الشعراء هي ذلك الإحساس المتصل بالنفس فكلما غمزته المؤثرات تحول منه بمقدار الضغط بخار روحاني ينتشر حولها وذلك هو الشعر. وقد ترى النفس فيه ضوءً كأنه تبسم القلب الحزين الذي تشابه جلال الطبيعة بجلاله. لأنها مخلوقة في رأي النفس على مثاله. وقد يكون للشاعر متسع في غلوه وكبريائه على هذه الطبيعة إلا في العواطف التي هي روابط القلوب بالقلوب. وموضع الصلة بين ما في الوجود وما وراء الغيوب. فقد يضرب في كلامه بسيف لم يطبع. ويرمي بقذيفة لم تصنع. ويقطع من خيوط الحياة ما لم يقطع ولكنه فيما دون ذلك لا يقدر أن يذكر الحب من قلب لم يحب. ويثبت للشيء الذي لم يجر عليه حكم الوجوب شيئاً مما يجب. فإذا هو فعل أطفأت الطبيعة من روائه. وقامت عواطف الناس شاهدة على كذبه في ادعائه. وقد ذكروا أن كسرى سمع الأعشى يتغنى ذات يوم بقوله: أرقتُ وما هذا السهادُ المؤرقُ ... وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ معشقُ فقال ما يقول هذا العربي؟ قالوا يتغنى بالعربية فأمر أن يفسروا قوله فقالوا زعم أنه سهر من غير مرضٍ ولا عشق. فقال هذا إذا لص. . .؟ وللشعر أساليب تنتجها القرائح ولكن جماع القول فيها أنها تمثيل للطبيعة فكأن الشاعر ينقل مناظر الأرض إلى الروح العالية التي ترسل إلى الجسم شعاع الحياة فتزيد تلك المناظر في قوة الشعاع الإلهي فلا يتصل بالجسم حتى تفيض هذه القوة على القلب فتهزه الهزة التي نعزف منها الطرب. فأي امرئ اجتمعت له قوة التمثيل وسلامة الذوق وهما يكونان عند سعة العقل وسمو الطبع

فذلك الذي هو في معناه بين الملك والإنسان وهو الشاعر.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الموسيقى الشرقية فن الموسيقى من الصنائع الجميلة التي تضعف في كل أمة بضعفها وتقوى بقوتها. ولقد كان العرب أيام حضارتهم يعنون بها كما يعنون بالشعر والأدب والتاريخ والفلسفة وعلوم الطبيعة وكان بعض العلماء في أمهات المدن لا يتحرجون من الغناء ولا يرون الضرب على العيدان والأوتار وسائر آلات الطرب حطة في قدرهم وثلماً لشرف وقارهم. ولما رغبت الأمة عن العلم أياً كان نوعه وزهدت في الضروري من المعارف دع عنك الكمالي أخذ معظم الناس يحتقرون الغناء والموسيقى ومن يتعاطاهما ولا ذنب بعد الجهل. ولقد ألف الموسيقار الفاضل كامل أفندي الخلعي من مشاهير أرباب هذا الفن في مصر كتاب الموسيقى الشرقي فعرف القوم فائدة هذا الفن ومركزه من المجتمع وما إلى ذلك من وصف الألحان وآلات الطرب ورسومها ومشاهير المطربين والموسيقيين في مصر هذا العصر مشفوعة بصورهم فجاء كتابه غاية ما يكتب لمؤلف في فنه من الإجادة بحيث أصبح المرجع في كل شاردة ونادرة في هذه الصناعة الجميلة الشريفة. أجاد المؤلف أثابه الله في وضع تأليفه كما أجاد في طبعه وإتقان صنعه فجاء في زهاء مائتي صحيفة كبيرة القطع على أجود ورق وألطف حرف وهو يباع بعشرين قرشاً مصرياً ويطلب من جميع المكاتب الشهيرة بالقطر فنثني على المؤلف لما عاناه من التعب في وضع مصنفه ونحث كل أديب على مقتناه فهو زينة المكاتب والقماطر ومن كتب العلم الحقيقي النافع. نظام العالم والأمم للعالم الأديب الشيخ طنطاوي جوهري طريقة تكاد تكون خاصة به من مزج العلوم الحديثة بالعلوم القديمة وتطبيق المعقولات على المنقولات وقد وضع فيها عدة كتب ومنها هذا الكتاب الذي جعله على خمسة أبواب الأول في الرياضيات وما يتبعها والثاني في الفلك وما يتصرف عليه والثالث في نظام الأرض وما إليه والرابع في عجائب النبات والخامس في نظام الحيوان. وفي جميع ذلك تقريب لهذه العلوم من أذهان القارئ ومزجها بما ورد في الكتاب الكريم وروي عن سلف الأمة العاملين. والكتاب في 426 صحيفة منصفة القطع

مطبوع طبعاً نظيفاً فنحث القراء على اقتنائه ونثني على همة مؤلفه. أبدع ما نظم جمع الفاضل الأديب يوسف أفندي سنو ديواناً في الأخلاق والحكم مما أثر من لطيف الشعر عن القدماء وضم إليه ما يناسبه من منظوماته ولاسيما ما اشتمل على اقتباس من القرآن وتحرى مع ذكر القصيدة اسم ناظمها وعصره وأجداده وبلاده نابذاً منها ما خالف الشرائع فجاء الكتاب في 235 صحيفة تشهد للناظم الجامع بالبراعة في الأدب والشعر والكتاب يطلب من مكتبته في شارع محمد علي بالقاهرة وثمنه أربعة قروش فنحث على مقتناه. أسلوب الحكيم في منهج الإنشاء القويم - للفاضل الشيخ أحمد الهاشمي وفيه موضوعات إنشائية شرعية أدبية وعظية علمية تاريخية اقتصادية طبية طبيعية سياسية زراعية صناعية تجارية جغرافية عمرانية قال في مقدمته: شرحت فيه مواضع الإنشاء العصرية مستنداً في شرحي إلى الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية وضمنته الجم الغفير من أمثال الحكماء وآداب البلغاء فوقع في 188 صحيفة صغيرة جيد الطبع. كتب ورسائل وروايات أهدانا العالم الأستاذ مرجليوث المستشرق الإنكليزي المشهور كراسة في المناظرة التي جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي مشفوعة بترجمتيهما إلى الإنكليزية معلقاً عليها حواش تدل على بعد غور ناشرها في علوم العرب وآدابهم. وأهدى إلينا العالم الفقيه الشيخ محمد بخيت المطيعي رسالة إزاحة الوهم وإزالة الاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكورتاه. والكاتب المجيد سليم أفندي سركيس رواية تحت رايتين. والأديب البارع نقولا أفندي حداد رواية أسرار مصر. والأديب إبراهيم أفندي شحادة فرح مكسيم غوركي وثلاث من رواياته. والأديب الشيخ محمد خالد حسن العمادي الصباغ رسالة تنبيه الغافلات من النساء المتبرجات. والأديب أحمد أفندي شاكر رسالة مسامرة الوحيد.

والتقرير الثالث السنوي لجمعية تهذيب الشبيبة السورية في بيروت وكان الباقي في صندوقها لغاية يونيو الماضي 14. 258 قرشاً صحيحاً. وأهدانا الأديب السيد إبراهيم الحسيني كتاب (لسان البيان ومنهل العرفان) وهو في أحوال المتصوفة. وأهدانا الأديب محمد أفندي محمود الرافعي نسخة من مقامات بديع الزمان الهمذاني التي شرحها وصححها وطبعها على نفقته بالشكل الكامل وقد رخص ثمنها فجعله أربعة قروش. وطبعت المطبعة اليمنية لأصحابها الأدباء مصطفى أفندي البابي الحلبي وأخويه بكري أفندي وعيسى أفندي كتاب (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) وبهامشه (الأساليب البديعة في فضل الصحابة وإقناع الشيعة) ورسالة (سبيل النجاة) ورسالة (جامع كرامات الأولياء) من تأليف صاحب الفضيلة الشيخ يوسف النبهاني. وأهدينا (حواء الجديدة أو أيفون مونار) وهي موضوع اجتماعي في قصة غرامية للأديب البارع نقولا أفندي الحداد تطلب من المكاتب الكبرى بمصر وثمنها خمسة قروش. الأقلام مجلة عمومية تبحث في كل فن ومطلب لمنشئيها الكاتبين البارعين جورج أفندي طنوس ومحمود أفندي أبي حسين وهي تصدر مرة في الشهر ويشترك في تحريرها خيرة الشعراء والمنشئين وقد تصفحنا الأعداد الثلاثة التي صدرت منها فقرأنا فيها من الآداب المنثورة والمنظومة ما يستفاد منه ويستملح وقيمة اشتراكها 40 قرشاً صحيحاً في القطر و15 فرنكاً في الخارج فنرجو لها الثبات والنجاح. المنهل الصافي مجلة أدبية علمية تهذيبية لصاحبها ومحررها الكاتب البارع محمد أفندي نجيب الحارتي قسمها إلى أربعة أبواب باب الأدبيات وباب المقالات وباب تاريخ الشهر وباب المنتقيات تصفحنا الأعداد الثلاثة الصادرة منها فرأيناها تبحث في الأغراض المشار إليها وقيمة اشتراكها 30 قرشاً في مصر و10 فرنكات خارجها وهي شهرية تصدر في 32 صحيفة فنتمنى لها الفلاح والنجاح. المنبر

كلما زادت المنافسة بين أهل بلد أو قطر أو مملكة نجم عن ذلك فوائد كثيرة وكلما نافس أهل مملكة مملكة أخرى أو جنس جنساً آخر عاد من ذلك الخير على المنافِس والمنافَس. مثال ذلك الجرائد في هذا القطر فقد كان يصدر فيه منذ عشرين سنة جريدتان أو ثلاث وإداراتها لا تكاد تقوم بالضروري من نفقاتها فلما أنشئت جرائد أخرى قال الناس أن الجديد منها يسقط القديم ولكن لم يلبث الجديد أن خدم القديم بعد أن مهد السابق للاحق السبيل. ومنذ ربع قرن لم يكن في مصر سوى جريدة يومية واحدة وهي الأهرام وكان قراؤها لا يتجاوزون الألفين فأصبح اليوم فيها اثنتا عشرة جريدة يومية وقراؤها يعدون بالألوف وهي الأهرام والمؤيد والمقطم واللواء والظاهر ومصر والوطن والجوائب المصرية والأمة والبصير والشرق والمنبر. صدر هذا المنبر في الشهر الماضي بالقاهرة لصاحبيه الكاتبين الفاضلين محمد أفندي مسعود وأحمد حافظ أفندي عوض وهما مشهوران بتحرير المؤيد أعواماً طويلة فجاء منبرهما في موضوعه وتنسيقه دليلاً على سلامة ذوقهما وبعد نظرهما في الأبحاث الاجتماعية والسياسية فنرحب به ونتمنى له انتشار الكلمة والتأثير الحسن في نفوس قرائه.

تدبير الصحة

تدبير الصحة طعام العامل انتشر السل هذه الأيام انتشاراً غريباً وصرفت المبالغ لصد غاراته فلم تأت بنتيجة وإن خففت وطأته بعض التخفيف وأكثر الأسباب التي تدعو إليه الإدمان على تعاطي الكحول والعدوى والسكن في بيوت فسد هواؤها لعد وصول الشمس إليها. ومن جملتها الغذاء فإن الغذاء الناقص هو واسطة لانتشار السل وأكثر ما يقع ذلك لأرباب الفاقة والعملة. فإنك ترى الواحد منهم يصرف قسماً وافراً من أجرته في غذاءٍ ناقص وقد يتأتى له بالقيمة نفسها أو بأقل منها أن ينال غذاءً كاملاً فترى الرجل الذي يصف كمية وافرة من قوته العضلية يأكل كثيراً من اللحم ويشرب الأشربة الروحية فيخصص الشاب الذي دخله في النهار أربعة أو خمسة فرنكات نصفها للشراب وإذا دققنا نرى كثيراً من المآكل الباهظة الثمن ليس فيها كمية وافرة من الكالوري. ففي لتر من اللبن 616 من الكالوري وفي 100 غرام خبز 235 وفي 100 غرام لحم 117 وفي 100 غرام بقول 315. فيتبين من هذا أن البقول مع كونها أرخص من اللحم تعطي حرارة أكثر منه بثلاث مرات. وأن كيلو غراماً واحداً من المعجنات (طحين وسكر) ليعطي 420 من الكالوري أربع مرات أكثر من اللحم. وفي عشر قطع من السكر قيمتها خمسة سنتيمات من الكالوري أكثر من نصف لتر من الخمر الذي تساوي قيمته من 25 إلى 30 سنتيماً. ويحتاج الرجل الذي يشتغل بقوة جسمه إذا كان وزنه 75 كيلو غراماً لصرف 3600 من الكالوري بمعدل 48 كالوري بالكيلو غرام فإذا أنفق العامل نفقة معتدلة وجرى على الجدول الآتي في كل منها - حفظ صحته وطال عمره: غرام سنتيم خبز 520 18 لبن 300 9 سكر 80 6 زبدة 40 12 جبن 40 10

لحم 200 50 بطاطس500 100 (أو غيرها من البقول اليابسة) 150 8 أرز 30 2 أثمار 200 10 قهوة قدح واحد 8 خمر لتر واحد 40 1. 73 فرنك هذا ما قرأته في إحدى المجلات الأوربية وهو يختلف في كل قطر بحسبه آثار الغبار توصي المجلات العلمية بالتوقي من الغبار ما أمكن وتقول أن غبار الشوارع والسكك الحديدية والبيع والمساكن كلها ضارة تدخل الرئة فتلقيها في خطر مبين على دون انتباه منا وانه قلما ينجو من شرها أحد كل النجاة. وقد علم من تشريح الجثث أن تسعين في المائة من الرئات تكون مرتعاً للسل وإن لم يحدث عن ذلك الموت فإن نصف السكان في مدينة نيويورك مثلاً مصابون بمرض الأنسجة الرئوية يختلف شدة وخفة. وبذلك ثبت للباحثين أن جراثيم داء السل الوبيلة لا تنفذ إلى الرئة إلا بواسطة الغبار على الأغلب. وأن هذه الجراثيم يبتلعها أبناء السبيل عندما يجتازون بدار تهدم وبناية تهد وبمسكن ينفضون من نافذته أو أمام بابه البسط والطنافس بل يلتقطها الناس في كل مكان تنتشر فيه الجراثيم المعدية في الهواء المستنشق فينتج منها السعال والتهاب الشعب وذات الرئة ومرض الصدر. ولقد شوهد أن كثيرين ماتوا فجأة بينما كانوا مسافرين في الحوافل (الأومنيبوس) أو في القطارات إذ قضوا أمداً طويلاً في وسط طافح بحامض الكربون وبالجراثيم القتالة. وقد ألفت في إنكلترا عصابة تدعو إلى تطهير الهواء من الجراثيم وأخذت على نفسها مطالبة الحكومة بسن قوانين لحل مسالة الغبار وذلك بإكراه الناس والتشديد عليهم في الحرص على نظافة الشوارع وداخل البيوت ورمز هذه العصابة (حفظ الصحة سلامة الإنسان).

سم الطوابع رأى بعض كبار الأطباء أن في تندية صمغ طوابع البريد باللسان ضرراً لا يقل عن التسمم بحال وأنه ثبت بتتبع حوادث كثيرة أن أناساً أصيبوا بأمراض وانحراف في صحتهم لأنهم يبلون الطوابع بريقهم ويقال أن أسباباً كيماوية حملت ذاك الطبيب على القطع بسم الطوابع ولاسيما الإنكليز منها لأنها معمولة بصفار (الكروم) (معدن يتكون منه اللون اللامع) أو كرومات الرصاص ومن رأي الطبيب أن لا تلقى الطوابع في أيدي الأطفال لأن وجهها أيضاً يحتوي على مادة سامة فإذا وضعوها على ألسنتهم تسمموا بها.

سير العلم

سير العلم نشوء الرسائل انتدبت بعثة علمية من كلية مدينة شيكاغو للبحث في خرائب بابل فوفقت إلى اكتشاف ألفي لوح كتبت بالخط المسند البابلي يرد تاريخ معظمها إلى خمسة آلاف سنة قبل المسيح. وقد جعلت هذه الألواح على أشكال شتى من الطول والعرض فكانت صورة أقدمها عهداً كصورة البرتقالة رسم عليها الكاتب بخط غليظ حروف الكتابة ثم حفظها في الشمس ولم يلبث هذا الشكل السمج أن استبدل به غيره وجعلت الرسائل تكتب على أطرٍ مسطحة مستديرة. وفي نحو سنة أربعة آلاف ق. م توصل البابليون إلى استخدام الرسائل المسطحة القائمة الزوايا أو المربعة ولم يتحولوا عنها بعد. ومن الغريب أن شكل القرميد في الهندسة أيضاً جرى في نشوئه على مثال الرسائل فكان جانب القرميد بادئ بدءٍ مسطحاً محدباً ثم بدا للقدماء أن جعلوها مسطحة من جميع جوانبها. وهنا مجال ليقال أن ما نراه من آثار الارتقاء فنتخيله قد تم في نصف ساعة قد أتت عليه القرون حتى شهدناه على ما هو عليه وقد وجد أولئك العلماء في جانب تلك الألواح القائمة الزوايا التي كانت تستعمل في الكتابة بضعة الألواح جعلت لأغراض أخرى مثل الألواح التي يكتب عليها الأطفال لعهدنا وكانت مدورة. ومن أغرب أشكال هذه الألواح ما استعمل منها للمراسلة بين المتباعدين منذ سنة 2400 ق. م فقد كانت من الخزف يكتب عليها ما يراد تسطيره على العادة حتى إذا نقشت كلها تغطي بغطاءٍ رقيق من الخزف أيضاً بحيث يكون المكتوب في مأمن من اطلاع أحد عليه ثم يختم المرسل رسالته بخاتمه أو يكتب عليها بعض الكلمات تكون عليها عنواناً ثم يجففها في الشمس أو في تنور. وأنت خبير بما يقتضي هذا العمل من النصب والزمن بحيث لم يكن لأحد أن يبعث رسالته إلا في أحوال اضطرارية وبواعث قوية - قالته مجلة الطبيعة. الاشتراكية في العالمين بحث عالم في مجلة المجلات الأميركية في امتداد الاشتراكية في أميركا كما انتشرت في أوربا فقال أنها اليوم في العالم الجديد قليلة الأنصار والدعاة ولكنها انتشرت انتشاراً هائلاً في النمسا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وإسبانيا ففي ألمانيا 3. 008. 000 اشتراكي وفي

فرنسا 1. 120. 000 اشتراكي وفي النمسا 780. 000 اشتراكي وفي البلجيك 500. 000 اشتراكي وفي الولايات المتحدة 442. 440 اشتراكي وفي استراليا 441. 270 ويبلغ عدد الاشتراكيين في العالمين القديم والجديد (أوربا وأميركا) 7. 601. 384 اشتراكياً يصدرون 638 جريدة منها 77 يومية. القوة الكهربائية قالت المجلة الفرنسية: أخذ انتقال القوة الكهربائية يدعو إلى قلب كيان الصناعة من حين إلى آخر وخصوصاً في البلاد التي يتأتى لها الحصول على قوة محركة عظيمة بفضل انحدار المياه فيها. وهذا من شأن بلاد السويد ونروج فإن لهما من ذلك الحظ الوافر ولذا لم يغفل أهل تينك البلدين عن استخدام ما خصتهم به الطبيعة من الشلالات فرأت مدينة لوند أن تستخدم بعض شلالاتها من نهر لاكا لتجهيز الكهربائية لعدة بلاد في جنوب السويد كما تجهزها لمدينة لوند نفسها وتألفت نقابة دنمركية لابتياع هذه الشلالات واستثمارها. أما نهر لاكا فينبع من جبال سامالاند ويجتاز هالاند فينتهي إلى لاهولم ويتألف منه في مجراه شلالان عظيمان أحدهما واسمه ماجفوس علوه زهاء ثمانية أمتار وثانيهما اسمه كاتفوس ينحدر من علو عشرة أمتار. وستقيم تلك النقابة محطات كهربائية بالقرب من ذينك الشلالين فتنقل الكهربائية بالسلك البحري إلى مدينة هلسنكبورغ على الشاطئ الجنوبي من السويد ومن هناك تنتقل بالسلك من تحت البحر وتمر بأورسند إلى بلاد الدنمرك وهذه الطريقة في نقل القوة الكهربائية بالسلك البحري من مملكة إلى أخرى سيكون منها وسيلة جديدة لانتشار الصناعة الكهربائية لجمعها بين أطراف بلاد السكاندينافيا من حيث الشؤون الاقتصادية. الخطوط الحديدية كان طول السكك الحديدية في العالم في نهاية سنة 1903، 859. 355 كيلومتراً منها 432. 618 في أميركا أو 334. 634 في الولايات المتحدة وحدها وفي أوربا 330. 429 وفي آسيا 74. 546 وفي استراليا 26. 723 وفي إفريقية 25. 039. وطول خطوط ألمانيا 54. 426 وروسيا في أوربا 53. 258 وفرنسا 45. 226 والإمبراطورية الهندية 43. 382 وأوستربا والمجر 38. 818 وبريطانيا العظمى وايرلندا 36. 148

وكندا 30. 696 ولبلجيكا المقام الأول في كثرة الخطوط الحديدية بالنسبة لمساحة أرضها ففيها 231 كيلومتر في كل مائة كيلو متر ثم تجيء حكومة ساكس ودوقية باد والألزاس لورين وبريطانيا وايرلندا وروسيا ونروج. سرعة المناطيد نشرت إحدى الجرائد البلجيكية المنصرفة إلى البحث في المناطيد (البالونات) جدولاً قالت فيه أن العارفين بتسيير المناطيد في الأجواء لا يشكون في المسافة المعينة التي تقطعها على نسبة قوة الهواء وسرعة المنطاد وإليك الجدول في سيرها: في الثانية في الساعة متركيلومتر ريح خفيف 0. 51. 800 نسيم ساكن 1. 03. 600 ريح معتدلة 2. 07. 200 ريح متوسطة 5. 519. 800 ريح شديدة 10. 036. 000 ريح شديدة جداً20. 072. 000 عاصفة22. 581. 000 عاصفة كبيرة 27. 597. 000 إعصار 36. 0119. 000 إعصار شديد 45. 0162. 000 الطول والثقل عرض على جمعية علم الحياة الفرنسية بحث في طول الأولاد وثقلهم تبين منه أن الذكور والإناث ليسوا على معدل واحد في أجسامهم بالنسبة لأعمارهم فالبنات إلى التاسعة من عمرهن أصغر جرماً من الأولاد ووزنهن أقل ومن التاسعة إلى الثانية عشرة يتقدمن على الأولاد في الطول والوزن ومن الثانية عشرة يفقنهم في الطول وفي الخامسة عشرة ينحططن عنهم في الثقل وعند ذلك يبدو بين الجنسين فرق محسوس.

الصحة في ألمانيا بلاد ألمانيا من أحرص الأمم الغربية على مداراة الصحة والنظر في المواليد والوفيات ويؤخذ من الإحصاءات التي قدمت إلى مؤتمر السل الدولي ف يتلك البلاد أن الوفيات بهذا المرض قلت 38 في المائة منذ سنة 1875 فإن المصاح التي أنشئت لهذا الغرض ولجأ إليها المسلولون قد شفي فيها 34 في المائة فقد مرض في خلال سنة 1905 زهاء 26. 600 مريض أغلبهم من العملة وبذلت شركات ضمان الحياة الألمانية من سنة 901 إلى سنة 905 نحو 48 مليون فرنك لمقاومة هذا المرض الخبيث وأسست هذه الشركات 36 مستشفى فيها 2. 111 سريراً للنساء و541 سريراً للأطفال وأسست هذه الدور الصحية تحت رعاية إمبراطورة ألمانيا. المجهر الجديد المجهر لفظة وضعها بعض المعاصرين للمكرسكوب تلك النظارة التي ترى بها الأشياء التي لا ترى بالعين المجردة وقد اخترع اثنان من أهل العلم مجهراً يرى فيه ما لم يكن يرى من قبل بأعظم المجاهر وأقواها وسماه اولترا مكرسكوب ومعنى اولترا المتجاوز الحد إذ يرى بهذا المجهر الذرات التي هي ديامتر من أربعة ملايين من الميليمتر على أن المجاهر القديمة لا يتمكن بها من رؤية ما هو ثلاثة من عشر الألف من الميليمتر. تقليد اليابانيين ذكرت إحدى مجلاتهم أن الأمة اليابانية غدت في نشوئها الاجتماعي تقلد الأوربيين حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل ولم تقتصر في تقليدها أهل الغرب في أفكارهم ومناحيهم فقط بل قلدتهم في كل فرع من فروع العادات والأخلاق حتى أصبح القوم يستعملون في المدن الكبرى كطوكيو واوزاكا بطاقات البريد وأفرطوا في استعمالها في مراسلاتهم حتى نفذت من المخازن وأيدي الباعة وتناول التقليد نزوع اليابانيين في العهد الأخير إلى لبس أزياء الأوربيين وألبستهم حتى أن من كانوا منذ سنين يحرصون على ألبستهم اليابانية القديمة غدوا اليوم يلبسون اللباس الإنكليزي والفرنسي بل والروسي وتعدى التقليد سكان المدن إلى سكان الريف والقرى وأخذ أبناء الشمس المشرقة يعتاضون عن أعيادهم القديمة بالاحتفالات الغربية ويستخدمون (البيانو) بدل (الكمنجة) وسائر أدوات الطرب القديمة وقد

بدأ هذا التقليد قبل حرب اليابان والروس الأخيرة بيد أنه أصبح على أتمه بعد أن وضعت الحرب أوزارها وهكذا تأخذ يابان عن الغرب وتعطيه سنة الله في خلقه. القطن الصناعي اخترع في إيطاليا قطن يستخرج من ألياف شجر الصنوبر بعد أن يقلع عن الخشب لحاؤه ويجهز تجهيزاً كيماوياً ميكانيكياً. الدوار كثرت اختراعات الأدوية الواقية من دوار البحر ورأى أحد الألمان أخيراً أن الجلوس على كرسي يكون مقعده معرضاً لاهتزازات سريعة عمودية منحرفة تنشأ عن محرك موضوع تحت الآلة ومناط بالمجرى الكهربائي في السفينة مما يدفع عن الإنسان عواقب الدوار ومبدأ هذا الاختراع أن الدوار ألم عصبي يقل ثم يزول باهتزازات المقعد. أداة الصياد كانت الأشرعة وحبائل الصيد وحبال المراكب معرضة للتلف بسرعة فاخترع في نروج طريقة لطول بقائها ومتانتها وهي أن تغطس في ماءٍ ممزوج بخلاصة البلوط الأميركي الذي يستعمل للصباغ وتبقى 48 ساعة ثم تنشف وتغطس في محلول آخر مؤلف من ماءٍ وبيكورمات البوتاس وملح النحاس وتبقى ساعتين أو ثلاثاً فتقوى بذلك على أنواع الصدمات وتظل متينة. مستشفى نباتي أقيم في بروملي على مقربة من لندن منذ نحو ثلاث سنين مستشفى يطبب فيه المرضى على اختلاف أدوائهم وتعمل فيه أهم العمليات الجراحية وهو بإدارة الدكتور أولدفلد وثلاثة من معاونيه ومما امتاز به هذا المستشفى على سواه أن تدبير الطعام يجري فيه على الطريقة النباتية أي طريقة الاقتصار على النباتات والبقول دون اللحوم والشحوم ويعتمد في المداواة على أصناف منوعة ولكنها لا تخرج عن حد الثمار من مثل التفاح والكمثرى والتوت الإفرنجي والبلح والخوخ وغيرها والدقيق والحمص والعدس والخس والبطاطس والسمن واللبن والجبن والبيض والعسل وهذا المستشفى بناءٌ عظيم عبارة عن عدة قاعات

فسيحة ومكان خاص بلعب الكرة تحيط به حديقة غناء يتنزه المرضى فيها سحابة النهار وزلفاً من الليل إذا كان الهواء موافقاً. وإذا لم يحب المريض أن يتعرض للهواء كل التعرض يأوي إلى الرواق حيث يجد الريح بليلةً بما يحيط به من الخضرة. ومن خصائص المداواة بالهواء أن يعمد المرضى بحسب طبيعة المرض إلى الاستظلال بشجرة يختارونها من كمثرى أو تفاحة أو غيرهما مما يلائم حالة المرض. قالت المجلة التي ننقل عنها ولم يمت في هذا المستشفى إلى اليوم سوى مريضين أحدهما طفل دخله وهو مدنف وثانيهما شيخ مسن جداً. ورق الأريقي الأريقي نبات ويسمى بالفرنسية لابرويير وقد صنع منه في ألمانيا ورق يرجى أن ينافس الورق المعمول من الخشب عما قريب والأريقي ينبت بكثرة في إقليم لونبورغ من بلاد ألمانيا وسوف يحل الورق الجديد محل القديم وسيستعمل أيضاً في صنع الألبسة والأحذية الصحية والصدر الشتوية التي يستعاض بها عن الأنسجة الصوفية. اكتشاف زحاف اكتشفت على عمق عشرين متراً في أرض صلصالية من معمل للقرميد بجوار بتربورغ من أعمال إنكلترا اكتشاف يهم المشتغلين بعلم مطمورات الأرض من النبات وغيره (باليونتولوجيا) وهو عبارة عن بقايا أعظم الزحافات المدفونة حتى الآن واستدل من هيكل عظامها على أنه لا يقل طول هذه الزحافة عن خمسة أمتار وجسمها أشبه بالتمساح ولكن له ذنب طوله متر أو يزيد. والمظنون أنه لم يكن لهذا الحيوان أرجل وأنه كان له أعضاءٌ تشبهها ولو لم تكن تلك الزحافة بلا رأس لعرفت في الحال حقيقتها والعلماء يبحثون للوصول إليها.

مقالات المجلات

مقالات المجلات طول البقاء بحث الأستاذ رومبرغ في المجلة الألمانية عما ينبغي للإنسان أن يقوم به حتى يطول عمره فقال أن النوم أحسن الوسائط لتسكين الأعصاب فقد كان العالم فيرشو الألماني يشتغل إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد منتصف الليل وفي الساعة التاسعة يبدأ دروسه فلا ينام إلا غراراً ولكن هذا لا يقاس عليه لأنه من الشذوذ. قال أن موت الأولاد في الطفولة والأمراض المعدية والسل هي من الأسباب الرئيسة في قلة السكان وضعف نسل الإنسان وإن الإرادة أجدى الطرق في إطالة حبل الحياة. الشرقيات وكيتي نقلت المجلة الفرنسية عن مجلة لاكونتا مبوراري رفيو الإنكليزية خلاصة مبحث مهم لكاتبه يوسف علي نقد فيه حياة كيتي ووصف اشتغاله بلغات الشرق وعلومه فقال أن هذا الشاعر الألماني الكبير لم يكتف بالتوفر على دراسة الآداب الشرقية دراسة المولع بالموسيقى مثلاً بل درسها درس متبحر فدقق في تاريخ الشرق وأساطيره وأخلاقه وتقاليده على ما يفهم من الشروح التي علقها على ديوانه وكان منذ صباه مغرماً بقراءة أسفار أنبياء إسرائيل ثم أولع بتلاوة ديوان حافظ والقرآن تلاوة مستفيد لا تلاوة متفكه. المرأة في الأجيال القديمة نشرت المجلة الآسيوية بحثاً للمسيو رفيلو ابتدأه بقوله ينبغي أن يقسم تاريخ الإنسانية إلى دورين أحدهما قامت فيه الأخلاق بتأليف الشرائع وثانيهما غيرت فيه الشرائع الأخلاق ومثل للدور الثاني بشريعة حمورابي في بلاد الكلدان وبرعمسيس الثاني وبوخوريس وأماسيس في مصر وبيلكورك وصولون في يونان وبالمشرعين العشرة في الرومان. فبين المؤلف حال المرأة في زواجها وإرثها وحقوقها على عهد كل مشرع من هؤلاء المشرعين المدنيين كل ذلك بالاستناد إلى نصوص مقبولة وألفاظ من لغات أولئك الأقوام بنى عليها حكمه واستنتاجه. ترويض الجسم بالتنفس المقتطف - إذا أراد الإنسان أن يتمرن على التنفس بالحجاب الحاجز (الصدر مسيج

بالأضلاع ومسدود من أسفله بعضلة مصفحة هي الحجاب الحاجز وهو على شكل قبة) فليضطجع على الأرض وليحرك بطنه ما استطاع عند التنفس وليمنع صدره عن الحركة ما استطاع بضغط أضلاعه بيديه وبعد أن يتمرن على ذلك مدة ليضع على بطنه كيساً من الرمل لا يزيد ثقله على أربعة أرطال مصرية وليعد التجربة. والتمرن على التنفس بأسفل الصدر يكون والإنسان واقف أو مضطجع أو جالس على كرسي ووجهه نحو ظهر الكرسي فإذا كان واقفاً أو مضطجعاً فليضع يديه على أضلاعه السفلى بحيث تتماس أطراف الأصابع وليتنفس طويلاً وليمنع بطنه وترقوتيه من الحركة ما أمكن. والتنفس بأعلى الصدر يكون بإطالة النفس وإجهاد الأضلاع العليا وإبقاء البطن ساكناً على قدر الإمكان مع عقد اليدين على الرأس. ويمكن التنفس برئة واحدة فإذا أردت التنفس بالرئة اليمنى مثلاً فارفع اليد اليمنى فوق رأسك وضع اليد اليسرى في إبطها وانحن عليها ثم تنفس وافعل عكس ذلك إذا أردت التنفس بالرئة اليسرى فقط. ومن الطرق التي أوصى بها الدكتور هري كمبل لتمرين الجسم بالتنفس قوله (1) قف منتصباً وتنفس تنفساً طويلاً عميقاً ثم اخرج النفس ببطءٍ وسهولة وحاول ما استطعت أن لا تحرك بطنك (2) اخرج النفس من صدرك وأنت تنحني إلى الأمام ثم تنفس تنفساً بطيئاً (3) تنفس تنفساً طويلاً ثم اخرج النفس وأنت تنحني إلى الأمام (4) قف مفرشخاً وخذ نفساً طويلاً حرك به بطنك ما استطعت من غير أن تحرك صدرك ثم اتبع ذلك بزفير سهل بطيءٍ (5) اجلس على الأرض وضع يديك في حضنك وانحن إلى الأمام ما وسعك ذلك وخذ نفساً عميقاً من بطنك وفمك مطبق ثم ارفع رأسك رويداً رويداً وضع يديك فوق رأسك وخذ نفساً عميقاً من صدرك ولا تتجاوز مدة ذلك كله ست ثوان ثم اخرج نفسك متنهداً في ثانية واحدة. وينبغي أن يكون الهواء نقياً والجسم مجرداً من كل ما يعوق سير الدورة الدموية مثل القبات الضيقة والزنانير والمشدات وسار الأربطة وأن يكون الفم مطبقاً فيمر الهواء في الأنف منقى من الغبار مسخناً. أغلاط المولدين الضياء - فيه بحث مطول جليل في أن المجمع على صحته من اللغة هو كلام أهل الجاهلية ومن تلاهم من المخضرين ممن نشأ قبل عهد الإسلام وهو الذي جمعه أصحاب

المعجمات العربية من القرآن والشعر وأثبتوه في مصاحفهم ويلحق به ما تلقوه عمن بقي لعهدهم من العرب الخلص أي الذين لم يختلطوا بالأعجام وهم أهل البادية وأما ما سوى ذلك من كلام المولدين وهم أهل الأمصار فالمقبول منه ما كان قائله من علماء العربية فإذا أتى باللفظة المحدثة جاء بها على أسلوب العرب وطريقتها. وبعد أن أورد ما وقع لبعض المولدين من أصحاب المعاجم والدواوين والأدباء من الأغلاط في الشعر غالباً مما لا يكاد يخلو منه ديوان من دواوين المولدين ليوجب بذلك التثبت عند النقل عنهم قال أنهم لم يكونوا أبعد من أهل هذا العصر عن الخطأ واللحن وإن تقدم زمانهم قال ومما ذكرنا في هذا الفصل تعلم مرادنا بما طالما حثثنا عليه من التزام طريقة العرب في الوضع والقصد من ذلك إنما هو الحرص على وحدة أسلوب اللغة وتواطؤ قديمها وحديثها على وجوه من الوضع لا تنافر بينها ولا تباين وهذا إنما يكون بمتابعة سنة الواضع في صوغ القوالب اللفظية وتفريع بعض المعاني من بعض بحيث تتوفر المجانسة بينها ويتهيأ رد كل فرع إلى أصله وهو ما يشف عنه صنيع الواضعين الأولين فيما نقل إلينا من ألفاظهم إلا ما شذ من ذلك. تأديب الأحداث المشرق - نشر الوصية المعزوة إلى أفلاطون وهي مترجمة بقلم إسحاق بن حنين الناقل المشهور على عهد الخلفاء العباسيين جاء فيها: أيها الأخوة المحبون للعلم اسمعوا واحفظوا وصاتي فإني كأحدكم كنت لما أحببت العلم فإني كاتب لكم مقالة سهلة أبين لكم المدخل إلى العلم بكل صناعة نظيفة التي يتنعم بها ويلذها كل محب متعلم فأول ذلك أن تكونوا طاهرين لا عيب فيكم قبل أن تشرعوا في هذا العلم فإنه لا يجب أن تتقرب الأشياء الطاهرة إلى الأشياء الدنسة ولا الأشياء الدنسة إلى الأشياء الطاهرة ولا تعلموا الذين ليسوا طاهرين بل الذين هم أطهار أبرار طهارة حسنة ولا يقرب ذو العيب الدنس من المبرئ من الدنس وليعلم أنه لا يستطيع مكيال من ماءٍ عذب صاف لطيف يقاوم جب حمأة منتنة ولا تقوى العين الرمدة على خرق شعاع الشمس. لا يكون أدب النفس في بدن قد استجنَّ فيه الجهل والشره لأقبح أقبح بالعاقل من أن يوسم نفسه عند الناس بالعقل ويأمرهم به وهو خلو منه صفر الأدب مرتكب للمآثم. قال وينبغي للأحداث أن يأخذوا طرفاً من الأسباب التي يحتاج

إليها في تدبير الحروب وترتيب الصفوف وتعلم المثاقفة والرمي والمصارعة والطلب والهرب من غير استهانة ولا إنهاك فيه وليتعودوا ركوب الخيل وجريها والعمل بالسلاح. وينبغي أن ينظروا في الموسيقى فإنه من التعاليم الأربعة (وهي التصوير ونحت التماثيل والموسيقى والرقص) حتى يقفوا على المناسبات وتأليف اللحون وأصناف ما ينسب إليها من العود والمعرفة بسائر آلات الموسيقى وأفضلها الأرغن التي عليها ثمانون وتراً مهيأة على الطبائع الأربع.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة جول سيمون 1814_1896 كان سيمون مثل كثير من رجال الإدارة في الإسلام جامعاً بين العلم والسياسة يشبه بعلمه وعقله يحيى بن خالد وزير الرشيد ويحيى بن أكثم وزير المأمون ولسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر ويعقوب بن كلس وزير العزيز بالله الفاطمي والصاحب بن عباد وزير بني بويه وأبي بكر بن زهر الأندلسي وزير المصامدة وابن سينا وزير شمس الدولة صاحب همذان وعبد الملك بن سعيد وزير يحيى بن غانية الملثم ملك الأندلس وأبو القاسم الحسين بن المغربي وزير العبيديين وصاحب ديار بكر وميافارقين والقاضي الفاضل وزير صلاح الدين يوسف وغيرهم من الأفراد في العلم والرئاسة على اختلاف في الطباع والبقاع. لكن هؤلاء الأعاظم تمكنوا من العلم ونشأوا على معاطاة الأعمال بفضل عقولهم وقوة ولوعهم ومترجمنا هذا نشأ وسط أمة منورة ترغب في التعليم والتهذيب وتنشط القائمين بأمرهما فكان له من جودة طريقة العلم أعظم سبب يوصله إلى غاية الفضل والفضيلة. ولد صاحب الترجمة من أبوين فقيرين في إحدى قرى مقاطعة لوريان إحدى العمالات الفرنسية فلما ترعرع دخل المدرسة وناهيك بما يقاسيه أبناء المعوزين في المدارس للقيام بحاجاتهم المدرسية وأداء أجور الدراسة. بيد أن فقره لم يثن من عزمه ودرس في مدرستي لوريان وفان اللتين درّس فيهما بعد. ولما أتم الدراسة عين أستاذاً في مدرسة رين عام 1832 ومازال يتقلب في التعليم من دار علم إلى دار علم حتى انتهى إلى مدرسة السوريون الباريسية الكبرى وعهد إليه تدريس الفروع الحكمية العالية وظل طول هذا الدهر حليف فاقة اضطرته أن يشغل أوقات فراغه من التدريس في مؤازرة الصحف وتأليف الكتب فقضى في ذلك تسع سنين أتته بأجزل الفوائد. وقد بدأ أولاً يؤازر في مجلة بريتان ثم في مجلة العالمين ومازال يؤازر في الجرائد والمجلات طول حياته فقد ذكروا أنه ساعد في كتابة جريدة البريس والسيكل وكان مديراً لهذه من سنة 1875 إلى سنة 1877 وأدار شؤون الغولوا من سنة 1878 إلى سنة 1881 والماتين والفيغارو والطان

والديبا وغيرها من الجرائد والمجلات ومنها مجلة البيوت. قالوا أن الأحوال توجد الرجال وهو قول يصدق على سيمون كما يصدق على غيره فلو لم تطرأ على فرنسا طوارئ سياسية هائلة لظل سيمون يعلم في المدارس ويكتب في الصحف وينشر الكتب ولكن حب بلاده دعاه إلى الدخول في غمار السياسة فخطب في قاعة السوربون بعد سقوط الحكومة الملكية سنة 1851 داعياً إلى الحكم الجمهوري فقال وهو مما اشتهر به كثيراً: ما جئت لألقي عليكم درساً في الأخلاق بل جئت وعامل الواجب يدفعني أن أكون لكم مثالاً تجرون عليه لا أن ألقنكم درساً تحفظونه. جئت لأقول لكم أن غداً تجتمع فرنسا وتلتئم منتدياتها لتندد بما أحدثته الحكومة أو لتقر عليه. أما أنا فأصرح على رؤوس الأشهاد بأنه إذا لم ير الراؤون غير رأي واحد يناقض الآراء ويكون إلى التنديد فأنا أكون صاحب هذا الرأي لا غيري. فكانت هذه الجملة المأثورة سبباً في تنحيته عن التدريس في السوربون واضطر إلى الاعتزال في نانت زمناً انقطع فيه إلى الأبحاث التاريخية. وبعد فإن الثورة الفرنسية الثانية (1848) هي مبدأ دخول سيمون في السياسة فعين بعدها بقليل وزيراً للمعارف والأديان والفنون الجميلة وكان أكبر همه إصلاح التعليم فوضع مشروع التعليم الابتدائي الإجباري ثم استقال ولما كان في مجلس الشيوخ عني أيضاً بمسائل العلم وحاول أن يحول دون نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا فلم يفلح ولما انتخب سنة 1863 عضواً في المجلس التشريعي استمال بما رزقه من شدة العارضة وقوة البيان قلوب من كانوا عليه إلباً حتى صاروا من أعز أنصاره فعرفه قومه بأنه من أشد أعوان الفقيرات من النساء وداعية الحرية الدينية ومصلح حال العملة والعلم والتعليم. وعين أيضاً عضواً في المجمع العلمي الباريسي وهو المجمع المؤلف من أربعين عالماً من كبار علماء الفرنسيين وسنة 1876 تولى رئاسة الوزارة كما تولى رئاسة عدة جمعيات وحفلات سياسية وعلمية وأدبية. هذا هو الرجل العظيم الذي جمع في جنبيه العلم والعمل فكان العلم والتهذيب أكبر دافع له إلى مقاومة أنصار الباطل والصبر على المكاره فيما يلقاه من فقر وقلة ولم يتنازل عن مبدأه الذي ثبت عليه طول حياته. وأنت ترى بهذا النظر أن لسيمون من حيث السياسة والعلم شركاء ونظراء ليسوا بقلائل في كل أمة مرتقية لهذا العهد وإنما سمت منزلته من

عداه بالأخلاق الفاضلة والتفاني في خدمة الإنسانية والمدنية. عاش من شق القلم وظل كذلك طول حياته بعد أن خطبته المناصب ورقي درجات العلى ولو أسف قليلاً للتنازل عن مذهبه في الأخلاق لأصبح في رئاسة الجمهورية وعد من كبار ساسة الأرض كما هو من أكبرهم في العلم والعمل ولقضى حياة طيبة خصوصاً في أخريات أيامه فقد ذكروا أنه كان يكتب في الصحف ليعيش بما يكتب حتى أن إحدى الصحف الكبرى نشرت مقالة من قلمه كان بعث بها في خلال مرضه ليأخذ أجرتها فصدرت يوم وفاته. يعد سيمون من مؤسسي الجمهورية الثالثة الحالية ومن أشد أنصار التكافل الاجتماعي كما يعد رأساً في الكتابة والخطابة. وكتبه ومقالاته وخطبه ومقاماته تعد بالمئات وأول كتاب نشره الواجب والدين الطبيعي والحرية الدينية والحرية السياسية والحرية المدنية وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة موضوع واحد قسمه ثلاثة أقسام وأراد بها تعليم الجمهوريين وتنشئتهم على حب الجمهورية واشرابها قلوب الأمة. ونشر أيضاً عدة كتب مثل كتاب الفلسفة والطبقة العاملة والمدرسة وإصلاح التعليم الثانوي والوطني الصغير وموت سقراط والفلسفة الإسكندرية والمرأة في القرن العشرين والتعليم المجاني الإجباري وغير ذلك من الأعمال العلمية النافعة وكلها دالة على روح فاضلة ونفس شريفة طاهرة تألم للظلم وتطمع في الإهابة بالإنسانية إلى حظيرة التعاضد والتكافل وتنزع إلى إصلاح حال البائسين اليائسين. والناظر في كتبه يقرأ فيها أحسن ترجمة لحياته فقد كان على ما يظهر منها متديناً تديناً معقولاً مازجته الحكمة والاعتدال فصح أن يدعى فيلسوفاً إلهياً وهو ممن نحتاج إلى أمثالهم في مثل هذا القرن الذي قل الاعتدال في أهله فمن متدين غر جاهل لا يدري من أحوال العالم شيئاً ومن متعلم ينكر كل ما يقره المتدينون ويعد حطة عليه أن يتنزل إلى ما لا يفيد بزعمه. ألا أكرم برجل كسيمون بل أكرم ببلاد رفعته من حضيض قرية حقيرة كان فيها فلاحاً خاملاً إلى منصة العلم والوزارة فصار عضواً عاملاً في أمته بل أكرم بمبادئ صالحة وعلم صحيح سار على منهاجها فعف عن مالها وعاش عيشة حرية بمن يكتب في الحرية الحقيقية ويدعو الناس إليها عاش عيشة من وافق علمه عمله فكان العالم العامل والسياسي

المحنك والغيور الصادق والنزيه المستقيم والحكيم العاقل. وقد كافأته أمته بأن نصبت له تحت رعاية الجمهورية تمثالاً في باريس خطب في الاحتفال به عظماؤهم في يونيو سنة 1903 ورددوا أعماله وتأثيراته في عالم السياسة والعلم وأثنوا خصوصاً على طيب أخلاقه وفضيلته العملية.

ملكة العربية

ملكة العربية اللغات من أحكم الصلات بين البشر ومن أقوى عوامل النهوض والارتقاء وعلى نسبة انتشار لغة الأمة يكون نفوذها في سياستها وآدابها وصناعاتها وكل أمة زهدت في لغتها أو تخلت عنها ولم تجر في ترقيتها مع الزمن تغلب على أمرها ويفنى كيانها. يقول أحد العارفين إذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها. وكان نابليون يقول علموا الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن. وباللغة قامت الوحدة الأميركية والإيطالية واليونانية والألمانية والصربية والرومانية والبلغارية فنجت هذه الأمم بلغاتها من استعباد عداتها. جاء القرآن على ما فيه من قواعد التشريع والاعتبار بالأمم الخالية حاوياً قاعدة من أهم قواعد العمران وأعني بها الدعوة إلى توحيد اللغة فقضى على كل مسلم على اختلاف الأجناس أن يتعبد بالقرآن ويتلوه بلغته الأصلية فانتشرت بذلك العربية في القاصية والدانية وأخذ ابن الصين يتفاهم مع ابن مراكش بالعربية على بعد الديار. ولقد قامت الحكومات الإسلامية على اختلاف لغاتها بهذه اللغة وجعلتها لغة دواوينها وكتبت بها رسائلها وخطبها ومراسيمها. فجعلت حكومات الفرس والديلم والترك والبربر والكرد والجركس لغة العرب لغتها ولم تتخلف عن هذه القاعدة في العصور المتأخرة إلا بعض الحكومات جعلت كل منها لغة أسرتها المالكة لغة رسمية لبلادها فاستغرب هذا منها حتى خاصة أهلها. كان يرجى لمصر أن تكون كعبة العربية في العهد الأخير يحج إليها الطلاب من أقطار العالم لو جاء بعد محمد علي رأس الأسرة الخديوية من أنجز العمل الذي كان وضع أساه وتوفر على تعهد النبتة التي غرسها وأعوانه من الإفرنج في بث ملكة العربية ونقل العلوم الضرورية إليها من لغات الأعاجم ولو دامت تلك النهضة سائرة سيرها الأول لكان لمصر حضارة عربية صرفة لم تمازجها عجمة الإفرنج. نعم إن تعلم لغة قوم تحببهم إلى نفس المتعلم في الغالب فمن تعلم الفرنسية كان محباً للفرنسيين ومن أحكم الإنكليزية شغف بالإنكليز ومن شدا الألمانية أعز الألمان ولكم رأينا أوربياً تعلم العربية فأصبح يكرم العرب ويغار على مصلحتهم وآدابهم وبلادهم ولا غيرة ابنها العربي البحت.

أقول هذا وأنا على يقين من أن لغة القرآن قد خدمها علماء المشرقيات من الغربيين أكثر من خدمة خاصتها ورؤساء حكوماتها لها فطبعوا لها من نفائس الكتب وأمهاتها وأقاموا لها محافل ودروساً وسافروا في تعلمها وبذلوا في سبيلها البذول منذ وجهوا وجهتهم قبل المدنية الإسلامية حتى أن أول الكتب التي طبعت بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر للميلاد كانت كتباً عربية من مؤلفات ابن شينا والرازي وابن رشد وغيرهم من فلاسفة الإسلام. ودامت تلك الروح تسري في جسم الحضارة الغربية حتى صار اليوم من علمائهم المختصين بدراسة لغتنا من يحسنون التكلم والتأليف فيها إحسان خاصتنا لها رأيت منهم الأميركي والإنكليزي والألماني والفرنسي والنمساوي والأسوجي والهولندي والروسي وكلهم محل الدهشة والاستغراب وشهدت من حميتهم وغيرتهم على لغة القرآن ما لا أجد بعضه عند كثيرين من خاصتنا. وليس في أهل الإسلام اليوم مثل أهل فارس عناية بالعربية وآدابها لأنهم لم ينسوا فيما احسب أن تعلمها من الدين وأن من ناهضها ووضع السدود في سبيل سيرها فكأنما ناهض الدين وعاق دعوته عن الانبعاث ولذلك كان تعلمها عندهم على حصة موفورة. وقد يجيد متعلمهم فهمها وكتابتها إجادة العربي القح. ولا عجب فللفرس في تاريخ النهضة الإسلامية القديمة أثر مشكور على غابر الدهور. ومع أن التعليم في مصر غداً إنكليزياً والأساس الذي قامت عليه نهضة العربية في أوائل القرن الماضي ترك وبني على غيره لا تزال العربية بالنظر لوحدة اللغة في القطر ولما وقر في النفوس من أن الأزهر أعظم مدارس الإسلام في الأرض وأن فيه جهابذة علماء ولما ينفخه فيها نوابغ البلاد المهاجرين إليها - مع كل هذا لا تزال مصر موطن العربية من هذا الشرق العربي وفيها تصدر أهم المطبوعات والصحف العربية. لا يبعد أن يكون لها شأن غير شأنها الحاضر في المستقبل القريب وإن قل تخرج النوابغ من أبنائها وإحكامهم ملكة اللسان العربي الإحكام الذي يسهل عليهم التأليف والإنشاء والخطابة وقرض الشعر والتمييز بين صحيح الكلام وفاسده. وكانت قويت ملكة العربية في سورية بما قام في بيروت من المدارس الكبرى منذ أربعين سنة ولما استبدلت تلك المدارس اللغات الإفرنجية باللغة العربية وجعلوها لغة التدريس

والخطاب عاد حب لغات الأعاجم فاستحكم من النفوس خصوصاً بعد أن أيقن كثيرون من أهل الفئة التي هي أجرأ السوريين على الهجرة للاتجار والكسب أن العربية لا يأتي تعلمها بمال يعود على صاحبه بالرفاهية فلا تنفع في الماديات نفع اللغات الأوربية لهم في ذلك. اللهم إلا تلك الفئة الفاضلة من كتاب السوريين في أميركا ممن أنشأوا الصحف وأخذوا يسعون جهدهم في بث ملكة اللسان العربي بين المهاجرين في مهاجره كما يعنى مهاجرة الألمان في الاحتفاظ بلغتهم في وسط بلاد الولايات المتحدة. قلت أن ملكة العربية ضعفت في بلاد الشام ويكفي أنك تجتاز البلد والبلدين ولا تجد من يحسن الكتابة والقراءة بلا غلط بل أنك لتستقرئ حال المائة ألف نسمة في حواضر مدن الشام ولا تجد فيها خمسة يكتبون على وجه الصحة. وهكذا الحال في العراق ونجد والحجاز واليمن. وللشعر في هذه الأقطار الأخيرة أثر من الآثار القديمة أكثر من النثر ولا عبرة بالأفراد فهم لا يتجاوزون عدد الأنامل في هاتيك الديار التي كان يعد رجالها بالمئات في العصور السالفة. والأفراد ليسوا معياراً في هذا الباب. ومن أهل الأقطار التي يعنى أهلها بالعربية على عجمتهم مسلمو قافقاسيا والهند فإن تدريس العربية في مدارسهم وكتاتيبهم شائع كل الشيوع وهم معتقدون أن في تعلمها تعلم الدين. من أجل هذا رأينا كثيرين من أهل النهضة فيهم في العهد الأخير طافوا بلاد الشرق العربي للبحث عن طريقة سهلة تمكن ناشئتهم من إحكام العربية في أقرب مدة ومن أيسر السبل ولما يئس بعضهم من وجود بعض أفراد توفرت فيهم هذه الشروط من أبناء جامعتهم ليغنوا الغناء المطلوب عمدوا إلى اختيار أساتذة هم في الأصل أعاجم على نحو ما فعلت كلية عليكدة في الهند وأقامت إنكليزياً يعلم العربية على طريقة اللغات الأوربية تسهيلاً على المتعلمين من أبنائها. وحال القطر التونسي فيما أرى من إحكام ملكة العربية حال سورية حذو القذة بالقذة ولعل الناشئة المتمكنة من آداب القوم يكثر عددها فيعملون وجرائدهم ومجلاتهم وجمعياتهم على النظر في ترقيتها بينهم أما الجزائر ومراكش فما أخالهما يعرفان من العربية إلا بقدر ما يعرف منها أهل مالطة أو أكثر بقليل. دع أهالي شنقيط فإنهم أعظم أهل الأرض عناية بالعربية وحفظاً لدواوين شعرائها وخطبائها فقد تجد الطفلة تحفظ من أسفار الأدب ما لا

عهد للخاصي به عندنا ولكن نظرهم في الأدب والشعر نظر مجرد لا محل للعمل فيه. وهناك بلا إسلامية كزنجبار ورأس الرجاء وجاوه وبعض مدن الصين وأفغانستان وبخاري فإنها ضعيفة في عربيتها ضعف الترك فيها. وبعد فإن من رأى توفر الغربيين على دراسة العربية يكاد يوقن بأن هذه اللغة لا تحيا إلا على أيدي هؤلاء الإفرنج فقد جعلوا لها المقام الأول بين اللغات الشرقية ولم يحسبوها من اللغات الميتة وأحيوا من مآثر الأسلاف ما يبيض الوجوه وينعي على الإخلاف وناءهم وتقاعسهم. وأقدر الأمم الغربية على تلقف العربية فيما أحسب الشعب الجرماني فإن فيه رجالاً يلفظون ويكتبون على مثال كتاب العرب أنفسهم ويليهم في باب العناية بها على ما أرى الإنكليز والأمريكان والنمساويون والفرنسيون والهولنديون والروسيون والطليان والأسبان. وكان الفرنسيين فيما مضى في مقدمة الأمم بالاشتغال بالعربية ولاسيما في عصر العالمين دي ساسي وكاترمير فأصبحوا اليوم في وسطها. ولا يبعد إذا دام الفرنجة على تعهد هذا اللسان بطبع كتبه ودراسة أصوله وفروعه أن يهاجر أبناؤنا إلى بلادهم بعد ليتلقوه عنهم إذا دمنا على خمولنا وتخلفنا. ولولا بعض كتب قديمة تحيا بالطبع اليوم لقلنا بالنظر لما نراه من ندرة المطبوعات العربية العلمية أنه سيجيء يوم نأخذ فيه عن الإفرنج حتى أصول ديننا. ومن الأسف أن جماع ما ينشر من تآليفنا منذ سنين لا يتعدى الروايات والهزليات أما كتب الجد كالفلسفة والتاريخ والرياضة والطبيعة والاقتصاد والاجتماع فلا محل لها من الإعراب في جملة أعمالنا. ولعل العربية في هذه الديار لا تمنى بما منيت به في سائر الأقطار فيكثر في أبنائها المتأدبون بآدابها وإن قل عدد النوابغ أي يعم تعلمها أكثر مما يخص. وعندي أن الرجاء معقود على الأكثر بالمجلات والجرائد إذا صرفت العناية بإنشائها واختيار موضوعاتها فهي هي المدرسة الكبرى للأمة وتأثيراتها متصلة باتصال صدورها وهي تبعث على المطالعة أكثر من الكتب. ومادام القرآن يتلى بلسان العرب فسيبقى أثر له في البلاد الإسلامية كافة وتضعف ملكته الحقيقية بضعف العمل به من دراسة آدابه.

الملاهي وأدوات الطرب

الملاهي وأدوات الطرب عند الأندلسيين من العرب ذكر المقتبس في الصفحة 298 من هذه السنة نصاً للشقندي في أدوات الطرب التي كانت معروفة في عهد المؤلف في اشبيلية. إلا أن بعض أسماء تلك الملاهي لا توجد في دواوين لغتنا ولا ذكر لها في كتب أهل الفن. ولما كنت قد كتبت رسالة في هذا الموضوع وكنت قد أصلحت فيها نص الشقندي إجابة لطلب أحد الأدباء إذ أن النساخ قد أفسدوا بقلمهم ما غمض من تلك الألفاظ رأيت الآن أن أدرج هذا الإصلاح وأشرح تلك الكلمات العويصة لتعم الفائدة. فأقول: أما الخيال وهو أول أدوات الطرب التي ذكرها الشقندي فهو تمثال معضَّى يتخذه أهل اللهو في ألعابهم ويحركونه حركات مختلفة مضحكة بخيط أو بزنبرك خفي وهو الذي يسميه البعض بالكركوز أو العيواظ وبالفرنسية قال في شفاء الغليل في مادة بابه ص 50 وبابه إحدى بابات الخيال أما الخيال جعفر الراقص وأما لخيال الأزاد وجعفر اسم الذي اخترع الخيال الراقص. والكريج (وصحيح روايته والكرج) وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكررن ويفررن ويثاقفن وهي من آلات الرقص (عن ابن خلدون في المقدمة ص374 من طبعة بيروت الأولى) وبالفرنسية يسمى الكرج ; أما العود فمعروف فلا حاجة إلى زيادة تعريفه وبالفرنسية أما الروطة فلا ذكر لها في كتب اللغة وهي معربة عن الأندلسية أو وهي ضرب من الرباب كان يتخذها الشعراء المتجولون ليوقعوا عليها ألحانهم وأغانيهم وأول من اتخذها الغلطيون. وهي بالفرنسية أو والرباب مذكورة في معاجم اللغة فلتراجع وبالفرنسية وكذلك القانون فهو أشهر من أن يذكر وبالفرنسية أما المؤنس فهو قربة يركب فيها مزمار يتخذها أهل البادية في ملاهيهم وأغلب ما تكون في مزمارين. ولعل اللفظة من أصل إسباني يقابلها بالفرنسية أو وهذه اللفظة العربية لا

توجد في كتب اللغة إلا أنها اليوم مشهورة في بلاد العرب بهذا المعنى. والكثيرة مصفحة عن كيثرة وهي في القديم نوع من الرباب ويراد بها اليوم ضرب من السنطور تنقر أوتارها بالإصبع. والفنار (وصحيح روايتها القثار) هي بالفرنسية ويراد بها آلة ذات ستة أوتار ولها يد مقسومة إلى أنصاف ألحان مركب عليها دساتين. والزلامي: نوع من المزمار وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها وتصوت بنغمة حادة يجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة (عن ابن خلدون بحرفه في ص370 من الكتاب المذكور) والزلامي تصحيف الزنامي نسبة إلى زنام وهو زمار مشهور كان هند هارون الرشيد يضرب به المثل في حسن صناعته. قال الشريشي: زنام هو الذي استنبط الناي وهو المزمار الذي تدعوه عامتنا في المغرب الزلامي صحفوه بإبدال نونه لاماً وإنما هو زنامي. أما الشقرة والنورة فقد عرفهما المؤلف نفسه بقوله: وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه. والبوق أيضاً معروف. وقد ذكره ابن خلدون في المقدمة ص370 بقوله: وهو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخيناً دوياً وفيه أبخاش أيضاً معدودة وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذاً. ثم تطرق الشقندي إلى ذكر أصناف الملاهي والرواقص وحسن انطباعهن وصنعتهن وإنهن أحذق خلق الله باللعب. ومن أنواع ألعابهن اللعب بالسيوف وهو معروف. والدك (وصحيح الرواية الدكر بذال مهملة مكسورة بعدها كاف ساكنة) هو نوع من الرقص أو اللعب يعرفه الزنج والحبش ولا يزال الزنج في البصرة يلعبونه في عهدنا هذا وهو النوع المسمى بالفرنسية

وإخراج القرى. (وصحيح الرواية وإخراج القزى بزاي في الوسط جمع قزة كعزى جمع عزة. والقزة الحية) هو نوع من اللعب يعمد المشعوذ أو اللاعب إلى كيس أو جراب ويريه للحاضرين أنه فارغ وبعد أن يتلو عليه بعض الآيات يخرج منه حيات أو قزى أو حبالاً أو خيوطاً وغير ذلك. وكل هذا من أعمال المشعوذين يستلزم خفة عجيبة ومهارة غريبة في اللاعب وربما أخرج من الكيس محابس وخواتم وحلقاً ونحو ذلك. والمرابط. يعني وإخراج المرابط وهو جمع مربط وهو ما يربط به الدابة. والمعنى واضح مما تقدم شرحه. والمتوجه. والأصح الفتوخة وهي جمع فتْخة أو فتخة وهي خاتم كبير يكون في أصابع اليد والرجل أو حلقة من فضة كالخاتم لا فص فيها فإذا كان فيها فص فهو الخاتم. ومن ثم فيكون إخراج الفتوخ من قبل إخراج القزى والمرابط. هذا ما أردنا إيضاحه في هذا الباب حرصاً على كلام المؤلف من التصحيف والتحريف وربك فوق كل علم عليم. بغداد أحد قراء المقتبس

الفرس

الفرس معربة عن كتاب تاريخ الحضارة دين زردشت إيران - بين نهري دجلة والسند وبحر الخزر والخليج الفارسي صقع عظيم يعرف ببلاد إيران تبلغ مساحته خمسة أضعاف مساحة فرنسا أو تزيد ولكن معظمه مجدب قاحل فهو يتألف من صحارى رمال محرقة ومن أنجاد باردة قارسة تشقها أودية عميقة شجراء وتحيط بها جبال شاهقة. وإذ حيل بين الأنهار وجريها فهي لا تسير إلا ريثما تضيع في الرمال أو في بحيرات مالحة. ويشتد هواء هذه البلاد ويتقلب فيكون حراً في الصيف وقراً في الشتاء وقد يجتاز من يهبط هذه البلاد من منطقة تبلغ درجة حرارتها نحو 32 تحت الصفر إلى منطقة حرارتها 45 سنتغراداً بمعنى أن تلك البلاد جمعت إلى برد سيبيريا حرارة السنغال. وهناك تعصف الرياح الزعازع فتفعل في الأجسام فعل الحسام. بيد أن الأودية وضفاف الأنهار مخصبة منبتة. وهذه البلاد هي ولا جرم مصدر الدراق وشجر الكرز ومستنبت الثمار والمراعي. الإيرانيون - سكنت بلاد إيران قبائل من الآريين (القاطنين ببلخ أي بكتريا وهي الوطن الأصلي للجنس الآري) كانوا كسائر أبناء هذه البلاد جنساً من الرعاة المسلمين المحاربين. ولقد كان الإيرانيون يقاتلون على ظهور الخيل ويطلقون السهام ويلبسون ألبسة من الجلد يجعلونها وقاية على أبدانهم من هواء بلادهم الشديد. زردشت - عبد الإيرانيون أولاً ما عبده قدماء الآريين من قوى الطبيعة وخصوصاً الشمس ميترا وقام بين أظهرهم حكيم اسمه زردشت (مه أباد وله كتب كثيرة منها ما له علاقة بالشريعة ثم ظهر زردشت وأصلح هذا الدين) ويدعوه الإفرنج زرواستر فأصلح ديانة الإيرانيين بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد ولم يبلغنا من أخباره غير اسمه. الزاندافستا (الزندو بازندوافستا) - لم يبق شيءٌ مكتوب يؤثر عن زردشت ولكن تعاليمه المؤلفة بعده بزمن طويل قد حفظت في الزاندافستا أي الشريعة والإصلاح وهو كتاب الفرس المقدس. وقد كتب هذا السفر بلغة قديمة لم يفهمها اتباع هذا المذهب أنفسهم ودعوناها أي الإفرنج بازند وكانت تنقسم على ما ورد في أساطيرهم إلى إحدى وعشرين

نسخة كتبت على اثني عشر ألف جلد ثور ضم بعضها إلى بعض بأسلاك من الذهب وأبادها المسلمون لما فتحوا بلاد فارس واحتفظت بعض أسرات إيرانية بتعاليم زردشت وأخلصوا دينهم له فلجأوا إلى بلاد الهند فحفظ فيها أخلافهم المدعوون بارسيس تلك الديانة القديمة. وقد وجد عندهم سفر تام من الزاندافستا وقطع من الكتابين الآخرين. أورمزد هرمز وهرمس واهريمن رمز إلى العقل والنفس وعند العامة إله الخير والشر هذه ديانة زردشت على نحو ما ورد في تلك الكتب إلا أن هرمز الذي يدعوه الإفرنج أورمزد وهو الديان الذي لا يخفى عليه شيءٌ خلق العالم والقوم يصلون له بهذه الألفاظ: أدعو الخالق هرمز واحتفل بشعائره فإنه النور والضياء عظيم رحيم كامل شبهم ذكي جميل سامٍ طاهر يعرف العلم الصحيح مصدر اللذة وهو الذي برأنا وصورنا وأطعمنا وإذ كان على جانب من الصلاح لم يخلق إلا ما هو كذلك وما يرى في العالم من شر فقد برأه رب الشر الكرامانيو أي روح العذاب وندعوه أهريمن (وديو أي شيطان). الملائكة والشياطين - يقف أهريمن الشقي المخرب قبالة هرمز البارئ الحليم ولكل منهما طائفة من الأرواح فجنود هرمز هم الملائكة المطهرون يازاستا وجنود أهريمن شياطين خبثاء (ديو) ويسكن الملائكة في الشرق في ضوء المشرق والشياطين في الغرب في ظلمات الشفق وكلا الجيشين لا يزالان في حرب دائمة والعالم ساحة قتالهما لأن كليهما حاضر في كل مكان فيسعى هرمز وملائكته إلى الاحتفاظ بالخلق وإسعادهم وصلاحهم ويطوف أهريمن وشياطينه حولهم لإهلاكهم وسوء طالعهم وطلاحهم. خلائق هرمز وأهريمن - كل حسنة في الأرض هي من صنع هرمز وتستخدم للخبر فالشمس والضياء اللذان يطردان الليل والكواكب والشراب المخمر الذي يتراءى كأنه صوءٌ سيال والماء المروي للإنسان والحقول المزروعة التي تغذيه والأشجار التي يستظل بها والحيوانات الأهلية والكلب والطيور منها خصوصاً ما يعيش منها في الضوء ولاسيما الديك لأنه يبشر بالنهار هذه كلها برأها هرمز. وعلى العكس ينبعث كل ما يضر من أهريمن فيكون شراً مثل الليل والجفاف والبرد والقفر والنباتات السامة والشوك والحيوانات الكاسرة والأفاعي والحلمات الطفيلية (كالبعوض والبراغيث والبق) والحشرات التي تعيش في الجحور المظلمة كالضبان والعقارب والضفادع والجرذان والنمل - وهكذا تنبعث الحياة

والطهارة والحقيقة والعمل وكل ما حسن في عالم الأخلاق من هرمز. والموت والقذارة والكذب والكسل وكل ما خبث وساء ينبعث من أهريمن. العبادة - مصدر العبادة والأخلاق من هذا الاعتقاد فعلى المرء أن يعبد رب الخير ويناضل عنه. يقول هيرودتس: أن من عادة الفرس أن لا يقيموا هياكل ومعابد ومذابح للأرباب ويعدُّ من أتى ذلك كافراً بالنعمة لأن هذه الأمة لا تعتقد اعتقاد اليونان من أن للأرباب صورة على نحو صورة البشر. وأن هرمز ليبدو بهيئة النار أو الشمس ولذا يحتفل الفرس بعبادتهم في الخلاء على الجبال أمام موقد مشتعل فينشدون الأناشيد تمجيداً لهرمز ويذبحون له الحيوانات (كذا) دليلاً على عبادته. الأخلاق - ناضل الإنسان عن هرمز محسناً لعمله مقبحاً لعمل أهريمن فيجاهد في الظلمات وهو يمد النار بالحطب الجاف والعطور ويجاهد في القفر بحرث الأرض وابتناء البيوت ويجاهد حيوانات أهريمن بقتل الحيات والضباب والحلمات الطفيلية والحيوانات الكاسرة ويجاهد الدنس وذلك أنه يتطهر ويدفع عنه كل ما مات وخصوصاً الأظافر والشعور وحيثما وجدت الشعور والأظافر المقصوصة فهناك يجتمع الشياطين والحيوانات القذرة. ويجاهد الكذب جارياً على قدم الصدق. قال هيرودتس أن الفرس يستقبحون الكذب وهو عندهم عار وسبة كما أنهم يكرهون الاستدانة لأن المديون يكذب بالضرورة. ويجاهد الموت وذلك بالزواج والاستكثار من الولد. جاء في الزاندافستا ما أقبح البيوت التي حرمت من النسل والذراري. الجنائز - متى مات الإنسان تعود جثته إلى رب الشر ولذلك يقتضي إنقاذ الدار منها لا بإحراقها فإنها تنجس الدار ولا بدفنها فإنها تنجس الأرض ولا بإغراقها فإنها تنجس الماء ومن فعل ذلك فيكون قد تلطخ بحمأة القذارة أبد الدهر. وطريقة الفرس في دفن موتاهم تختلف عن غيرهم من الأمم فيجعلون الجثة في مكان عال مكشوفة جبهتها نحو السماء مثقلة بأحجار ثم يركنون إلى الفرار خشية من الشياطين لأنها تجتمع بزعمهم في أماكن الدفن حيث مأوى المرض والحمى والقذارة والرعب والشعور القديمة وعندها تجيء الكلاب والطيور وهي من الحيوانات الطاهرة فتطهر الجثة بافتراسها. مصير الأرواح - تنفصل روح الميت عن جسده وفي اليوم الثالث من موتها يؤتى بالروح

على الصراط (شنيواد) المؤدي إلى الجنة ماراً فوق هاوية جهنم فيسأل هرمز الروح عندئذ عن حياتها السالفة فإن كانت محسنة تعضدها الأرواح الطاهرة وأرواح الكلاب وتأخذ بيدها لاجتياز الصراط ويدخل بها إلى مقام السعداء (برودس أي فردوس) فيهرب الشياطين لأنها تتجافى عن روح الأرواح التقية أما روح الشرير فتصل على العكس من ذلك إلى الصراط ضعيفة لا يأخذ أحد بيدها ويلقي بها الشياطين في الهاوية ويتناولها روح الشر ويقيدها في قعر الظلمات. طبيعة الديانة الهرمزية أو الهرمسية المزدية - نشأت هذه الديانة في بلد يشتد فيه الاختلاف والتناقض ففيها الأودية الباسمة بزرعها والأراضي البائرة المحزنة والواحات الرطبة والقفار المحرقة والحقول والسهول الرملية بحيث تتراءى قوى الطبيعة فيها كأنها في حرب عوان أبداً. وهذا الجهاد الذي يمثل للفارسي فيما يحيط به قد اتخذه شريعة العالم. وهكذا تألفت ديانة خالصة من الشوائب تدفع بالإنسان إلى العمل والفضيلة على حين قد انتشر هذا الاعتقاد بالشيطان والجن في الغرب وشغل شعوب أوربا كافة بالأوهام. المملكة الفارسية الماديون - سكنت بلاد إيران عدة قبائل ولم يشتهر من بينها سوى الماديين والفرس خيم الماديون في غرب بلاد فارس وهم أقرب إلى الآشوريين ولذلك كان على أيديهم خراب نينوى وبلادها 625 ولكن لم يلبثوا أن استغرقوا في الترف وأنشأوا يتخذون ثياباً مسدولة ويألفون البطالة ويعتقدون اعتقادات خرافية شأن الآشوريين بين الساقطين ومازالوا على ذلك حتى امتزجوا معهم أي امتزاج. الفرس - أما الفرس فكانوا في الأنحاء الشرقية (والجنوبية) واحتفظوا بأخلاقهم وديانتهم وشدتهم. يقول هيرودتس: أن الفرس لا يعلمون أولادهم إلى سن العشرين غير ركوب الخيل ورمي النشاب وقول الصدق. قورش اوسيروس اوكيخسرو - قام رئيسهم قورش حوالي سنة 560 وخلع ملك الماديين (الذي هو جده لأمه) وجمع تحت لوائه شعوب إيران كافة ففتح بهم ليديا وبابل وجميع بلاد آسيا الصغرى. ويروى لهذا الملك قصة فصلها هيرودتس في تاريخه تفصيلاً شافياً قال أنه دعا نفسه في بعض ما زبره على الأحجار بقوله أنا قورش ملك الكتائب والعظمة والاقتدار

أنا ملك بابل وسومير وأكاد ملك الأقاليم الأربعة وابن كمبيز (كيكاوس) وسلطان سوزيان. رسوم بيستون - أهلك كمبيز بكر أولاد قورش أخاه سمرديس وفتح مصر (على قول اليونان) علمنا ذلك مما اتصل بنا من الرسم الذي مثل فيه ذلك ولا تزال ترى إلى اليوم في تخوم الفرس وسط سهل أفيح صخرة هائلة نحتت نحتاً عمودياً علوها 450 متراً وهي صخرة بيستون وهناك حروف ناتئة على الحجر تمثل ملكاً متوجاً ويده اليسرى على قوس وهو يدوس أسيراً وتسعة أسرى آخرون واقفون أمامه وقد قيدهم بنفسه. وكتبت ترجمة حياة الملك في رسم بثلاث لغات فقد أعلن الملك داريوس دارا ذلك فقال: هذا ما قمت به قبل أن أغدو ملكاً فقد كان كمبيز بن قورش من بني جنسنا يحكم هنا قبلي وكان له أخ لأبيه وأمه واسمه سمرديس فقتل ذات يوم كمبيز أخاه سمرديس ولا علم للقوم بما جنته يداه. ثم وجه كمبيز وجهته نحو مصر وبينما هو نازل فيها ثار به الشعب وكان قد أصبح الكذب مألوفاً إذ ذاك في تلك البلاد وفي بلاد مادي وسائر العمالات فقام موبذان كان حاضراً إذ ذاك اسمه غوماتا وخدع الأمة بقوله: أنا سمرديس بن قورش وعندئذ انتفض الشعب اجمع وانصرفوا نحوه متخلين عن كمبيز. ثم قضى كمبيز نحبه بجراح جرح نفسه به وبعد أن أتى غوماتا ما أتى من هذه الحيلة واستلب من كمبيز بلاد الفرس ومادي وسائر الأقطار جرى في الخطة التي شاءها فصار ملكاً على هذه البلاد وحاكماً متحكماً في أهلها. فخافه الشعب لظلمه وكان لا يستنكف من قتل الأمة عن بكرة أبيها لئلا تنكشف حيلته ويعرف القوم أنه لصيق بسمرديس بن قورش ودعي في نسبه وقد أظهر للملك داريوس هذه الخديعة ولم يكن أحد في بلاد الفرس ومادي يجرأ على استرجاع تاج الملك من هذا الموبذان غوماتا. قال دارا بعد أن قدم ما سلف وعندئذ تقدمت ودعوت الرب هرمز فأعانني بالتوسل به وكان في صحبتي ناس ذوو إخلاص وصدق فأعانوني على قتل غوماتا وخاصة رجاله فأصبحت ملكاً بمشيئة هرمز واستعدت الملك الذي كان بنو قومنا سلبوه وأرجعته إلى حوزتي وأخذت أعيد المذابح التي طوى بساطها الموبذان غوماتا وذلك لأني كنت مخلصاً للأمة وأعدت الأناشيد والاحتفالات المقدسة إلى سابق عهدها. واضطر دارا بعد أن ضرب ذاك الدخيل غوماتا ضربة قاضية أن يقاتل عدة زعماء ثائرين فقال لقد قاتلت تسع عشرة مرة وغلبت تسعة ملوك.

المملكة الفارسية - علم بما مضى أن دارا أخضع المملكة المختلسة وأعاد مملكة الفرس وقد وسع نطاقها بفتح تراس تراثياً وهي اليوم بلاد البلغار والروملي وولاية من الهند. وكان ينضم تحت لوائه شعوب الشرق أجمع من ماذيين وفرس وآشوريين وكلدانيين ويهود وفينيقيين وسوريين وليديين ومصريين وهنديين فكان سيف سطوته يحمي الأصقاع الواقعة بين نهر الدانوب الطونة غرباً ونهر الأندوس (السند) شرقاً وبين بحر الخزر شمالاً إلى شلالات النيل جنوباً. مملكة لم يعهد لها مثيل في الضخامة (120 مملكة) بيد أن قبيلة جاءت بعد واستولت على تركة الممالك الآسيوية بأجمعها. أقيال الفرس - قلما يعنى ملوك الشرق بأمر رعاياهم إلا ليستنزفوا أموالهم ويمتهنوا في سبيل سلطانهم أبناءهم وينالوا مديحهم وثناءهم وما قط أخذوا أنفسهم بالنظر في شؤون من يحكمونهم. وكان شأن دارا في هذا المعنى شأن سائر ملوك الشرق ترك كل قبيل في بلاده يحكم نفسه على ما يشاء ويشاء هواه محتفظاً بلغته ودينه وشرائعه وأحياناً برؤسائه وسادته من قبل. على أنه كان يعنى بتنظيم دخل المملكة الذي يتقاضاه من رعاياه فقسم بلاده إلى عشرين حكومة سماها إمارة. وكان في كل حكومة شعوب مختلفة كل الاختلاف سواء كان بلغتها أو بعاداتها ومعتقداتها وكان على كل حكومة أن تؤدي مسانهة خراجاً معيناً بعضه نقد ذهب وفضة وبعضه غلات ونواتج قمح وخيل وعاج فيتقاضى حاكم كل مقاطعة أو قيلها ممن وسد إليه أمرها الخراج ويبعث به إلى مولاه الملك. دخل المملكة - بلغ مجموع دخل الملك ثمانين مليوناً بسكة زماننا ما عدا خراج الغلات. وإذا اعتبرنا قيمة النقود في ذاك العصر فإنها تعادل ستمائة مليون جنيه في أيامنا. وكان الملك ينفق هذا على حكومته وجيشه وخاصته وبذخ قصره ويبقي عنده كل سنة سبائك عظيمة من العين يدخرها في صناديقه وكان ملك الفرس مثل سائر المشارقة يرى امتلاك الكنوز العظيمة من دواعي الأبهة والتمجد. السلطان الأعظم - لم يكن في العالم أغنى ولا أقدر من ملك الفرس فقد كان اليونان يدعونه السلطان الأعظم. (ملك الملوك شاهنشاه) وكان له كسائر ملوك الشرق سلطة مطلقة على رعاياه كافة فرساً كانوا أم غيرهم من سائر الشعوب الخاضعة لعرشه. وأنت ترى فيما ذكره هيرودتس كيف كان كمبيز يعامل أعظم سادات قصره: سأل يوماً بريكستاسب (بري

كشتاسب أي روح العظمة) وكان ابنه يسقيه ماذا تقول الأمة في أمري؟ فأجابه: مولاي أنهم يثنون على محامدك أطيب الثناء ولكنهم يذهبون إلى أن لك ميلاً قليلاً للخمر قال كمبيز وقد استشاط غضباً من هذا: اعلم إذا كان الفرس يقولون حقاً وصدقاً. فإذا أنا رميت بسهمي قلب ابنك الذي تراه واقفاً أمامك في هذا البهو فذلك أن الفرس لا يعرفون ما يقولون. وما هو إلا أن أعد قوسه وضرب ابن بريكستاسب فخر الفتى صريعاً فجاءه الملك ينظر أين أصابه سهمه فرآه قد أصماه ومزق حشاه. فاستفز السرور الملك وقال لوالد الغلام وهو ضاحك: لقد رأيت بهذا أن الفرس قد أضاعوا رشدهم فقل لي هل عهدت أحداً يطلق السهم إطلاقي له فيصيب الغاية على ما رأيت من الرشاقة. فقال بريكستاسب لا أعتقد أيها المولى أنه في وسع الرب نفسه أن يرمي النبال مثلك في الدقة والاعتدال. أعمال الفرس - أدى شعوب آسيا في كل دور من أدوارهم جزية للفاتحين وخضعوا للظالمين والغاشمين فنفعهم الفرس كثيراً بأن كفوا بعضهم عن مقاتلة بعض وأزالوا من بينهم أسباب الشجناء وذلك لأنهم أخضعوا كل الشعوب لرئيس واحد. وكان عهدهم عهد سلام لم تعهد فيه مدن تحرق ولا ديار تخرب ولا سكان تذبح أو تؤخذ زرافات وأفواجاً لتستعبد. مدينتا سوس وبرسوبوليس - عني ملوك الماديين والفرس بإقامة القصور على نحو ما كان يقيم ملوك أشور. وأحسن ما اتصل بنا خبره من تلك القصور قصور دارا في سوس وبرسوبوليس وقد حفر المسيو ديولافوا الفرنسي خرابات سوس فعثر فيها على نقوش وقرامد مزينة بالمينا تبين ارتقاء الصنائع إذ ذاك وقد بقيت من قصر البرسوبوليس خرائب عظيمة وقد نحت في صخر الجبل سطح عظيم قام عليه القصر وهو يوصل إليه بسلم واسع بانحدار قليل بحيث كان يتأتى لعشرة فرسان أن يصعدوه معاً. النقش الفارسي - حذا نقاشو الفرس حذو الآشوريين في إقامة قصورهم فتجدها في برسوبوليس كما تجدها في بلاد أشور سقوفاً متسعة السطوح يحرسها أسود من الحجر والنقوش الناتئة تمثل صيوداً واحتفالات. وقد أحسن الفرس في إتمام نموذجاتهم في ثلاثة أشياء وذلك بأن استعملوا الرخام عوضاً عن القرميد وجعلوا في الردهات سقفاً بالخشب المصور وأنشأوا أعمدة خفيفة على شكل جذوع الأشجار في أقصى ما يعلم من الحذاقة

واللطف وهي من أعلى من محيطها باثنتي عشرة مرة. ولذلك جاءت نقوشهم أجمل أثراً وأوقع في النفوس من نقوش بلاد أشور. وقلما نجح الفرس في الصنائع ويظهر أنهم كانوا أحشم شعوب ذاك العصر وأطهرهم وأشجعهم وكانت وطأة حكمهم في آسيا مدة قرنين أقل جوراً مما عرف من ضروب الحكومات وكانوا أميل إلى الرفق بمن يحكمون.

خواطر سائح

خواطر سائح لا نخال أحداً من الناطقين بالضاد يجهل مكانة الأستاذ العالم الشيخ عبد المحسن الكاظمي البغدادي نزيل القاهرة ورسوخ قدمه في الشعر بعد أن حمل المؤيد والمنار قصيدته العينية الشهيرة إلى الأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية ولقد أتحفنا حفظه الله بالقصيدة الآتية أرسلها إلى صديق له جواباً عن قصيدة وقد ضمنها ما رآه واختبره في رحلته من - أبو شهر - أحد الثغور الفارسية إلى القاهرة وهي كما يراها قراء المقتبس تصورات عصرية بأسلوب بدوي متين وسبك محكم رصين وهذه هي: جوىً أودى بقلبك أم وجيبُ ... غداة حدا بك الحادي الطروبُ بعدت عن الديار وصرتَ تدعو ... على البعد الديارَ ولا مجيب رحلت وأنت للعلياءِ صاد ... تحوم على الموارد أو تلوبُ وخلفت المنازل آنساتٍ ... سروب الغيد تتبعها سروب تشق حشاك من كلف عليها ... وتأنفُ أن تشقَّ لك الجيوب وتسحب كالأنيس فضول برد ... وفي برديك ذو شجن كئيب تشدُّ الرحل من بلد لأخرى ... وما لمناك من بلد تصيب وتبلو الناس فرداً بعد فرد ... وما في الناس إلا ما يريب كأنك ترود مرعى كل أنس ... ومرعى الإنس في الزورا خصيب وفي مصر أراك وأنت لاهٍ ... وقلبك في العراق جوىً يذوب فكم والى مَ تنجب ثم تبكي ... ولا يجدي البكاء ولا النحيب وتشرب ماَء جفنك وهو ملح ... ووردك بالحمى عذب شروب كأن الدمع بنطف وهو قان ... عصارةُ كرمة والجفن كوب دع الأنفاس تصعد محرقات ... وخل الدمع من علقٍ يصوب لقد بان الخليط فلا خليط ... وقد بعد الحبيب فلا حبيب فلا تتكلفنَّ لي التصابي ... ولا تسم الحشا ما لا يثيبُ فلا حلوان في عينيَّ تحلو ... ولا طيب الجنينة لي يطيب وما في ذا الحمى لي من حميم ... بصحبته ألذُّ واستطيب ورب أخ رماه البين عني ... بعيداً وهو من قلبي قريب

أناديه ولم أرَ من أنادي ... وأسأله النوال فلا يجيب أقول له وقد أحصى ذنوبي ... من الحسنات أن تحصى الذنوب يعاتبني وقلب الحرّ أدرى ... بما تطوي الأضالع والجنوب ويزعم أنني ثمل طروب ... وما أنا ذلك الثمل الطروب أخيّ أعر مناديك ابن سمع ... يصيخ إلى الدعاء ويستجيب عساك ترد من ذا العتب عني ... لنفسك أو إلى العتبى تثوب أراك أرتبت من حالات نفسي ... وما في النفس من حال يريب أعد نظراً تجد عذري صريحاً ... وعذر المرءِ آونة مشوب فما كانت قطيعتنا جفاءً ... فيوهم ظنك الحلمُ الكذوب فكن مني على ثقة وحول ... ظنونك أن بارقها خلوب فما أنا من تغيره الليالي ... وتثنيه الحوادث والخطوب ينوب بهاك لي عن كل حسن ... وما عن حسن وجهك من ينوب إذا ما عنَّ ذكرك لي تنزت ... له كبدي وطار بها الوجيب أعيذك من جوى شبت لظاه ... ببينك واستمرَّ لها الشبوب وأشفق أن أبثك بعض ما بي ... وبعض الغيب يعلمه اللبيب أؤمل أوبة مما تقضى ... واعلم ما تقضى لا يؤوب فمن عبثت بنا نطف التصابي ... ومالت للقبول بنا الجنوب فبينا تجمع الشملَ الأغاني ... إذا بالشمل فرقه نعيب بنفسي ما بنفسك يوم شطت ... (أبو شهر) وسرت ولا صحيب أقمنا برهة والفجر طفل ... بطلعته قرون الليل شيب وسرنا والهموم لها انسياب ... علينا والظلام له دبيب وعجنا راكبين اليم فلكاً ... وهل أغني الفوارس ذا الركوب بواخر من بنات الماء شماً ... على هام السحاب لها سحوب تحلق كالعقاب بنا وتهوي ... هويّ الطود أوهته الخطوب ولم يرعِ الحشا منا ومنها ... صعود بالعواصف أو صبوب

تكفُّ الموجَ وهو بها محيط ... نزاع النفس لاقتها شعوب ومن عجب على الأمواه تطفو ... وبين ضلوعها أبداً وجيب بلغت بها قرارة كل لج ... بعيد القعر لؤلؤهُ رطيب هنالك شمت لألاَء اللآلي ... ولم تعبث برونقها الثقوب وجزت به أقاصي كل ثغر ... تسيب به المخاوف ما تسيب وظلت أجزّ لمة كل ليل ... له الولدان من هول تشيب وأرضِ جزتها من بعد أرض ... سباسبها المريعة والسهوب أعوج بحارها طوراً وطوراً ... أجوب من الموامي ما أجوب إلى أن قادني أملي لمصر ... قياد الجامحات وهنّ لوب وجاذبني إليها الشوق حتى ... سلست وراض مصعبي الجذيب إذا بالنيل رقراق الحواشي ... قريب النيل جارفه عزيب إذا ما سال سال بكل شعب ... وسالت في أباطحه الشعوب كأن عليه من ذهب مذاب ... مزيج باللجين ولا مذيب وما أحلى الجزيرة من محل ... ترفّ على جوانبه القلوب تحفّ بها رياض طيبات ... يطيب بنشرها الأرج المطيب عليها تصدح الورق ارتياحاً ... ويشدو في رباها العندليب وألفيت البلاد طغت خمولاً ... ودب بأهلها الكسل الدبوب وأسواق البطالة عامرات ... ووادي الموبقات بها عشيب وفيها من سمات الخصب لفظ ... يفاه به ومعناه جدوب وماءُ العز أدركه نضوب ... بها أو كاد يدركه النضوب بقاصمة الفقار رمى قراها ... ولما يخطها الرامي المصيب وهل أبقى لها إلا بقايا ... حشاً بليت كما بلي الشعيب فلا ينفك ينهبها وكل ... بها من حيث لا يدري نهيب فقمت مغاضباً شعباً فشعباً ... وكل جوارحي منها شعوب أيا أهل الحمية كيف أضحى ... حماكم وهو من عزّ حريب

أليس الشرق بالإشراق أحرى ... وأجدر منه بالغرب الغروب فما لطنوبكم قصرت وطالت ... من الغربي فوقكم طنوب تطول جبالكم منها الروابي ... وتعلو هامكم منها العجوب رضيتم بالقعود على الدنايا ... ومنهجكم إلى العليا لحيب ترومون الفخار على الأعادي ... وعن خطط الفخار لكم نكوب وترجون الخلاص من احتلال ... وعار الاحتلال بكم لصيب كما يرجو الفريس خلاص نفس ... وقد علقت من الأسد النيوب أتيت لأستطب فزاد سقمي ... وقد يفضي إلى الداءِ الطبيب لها بقية

النشوء العقلي والاجتماعي

النشوء العقلي والاجتماعي في مصر أخذ التقدم يرتقي في مصر بعد أن كانت مثل جميع البلاد الإسلامية لقلة العلم والزهد في معاناة الحياة التجارية تقول أن الحياة الدينية والمدنية شيءٌ واحد وأن في القرآن والسنة أحكام الحياتين وفي مضامينهما جميع القوانين. أما الأديان السماوية الأخرى فقد رأت من الضرورة الفصل بين السلطة الزمنية والروحية ولم يتسن للإسلام أن يشذ عن هذا القانون. ومن تأمل ما جرى في مصر منذ خمسين سنة فقط وقاس ما نتج من دخول التمدن إلى هذا القطر خلال هذه المدة يدرك بأن النشوء يكون على أتمه بعد قليل وأن هذا التغيير يجري تحت طي السكون جارياً في مجراه الطبيعي من دون إكراه ولا إعنات. ومع هذا ظنَّ كثير من المفكرين بأن البلاد الإسلامية تبقى بعيدة عن التمدن. حملهم على هذا الظن ما رأوه من شدة تحمس المسلمين لدينهم وخضوعهم لما أمر به القرآن خضوعاً أعمى. وحجة أهل الإسلام في هذا الباب أن التمدن الإسلامي لما كان منشراً أكثر من غيره كانت العقائد سالمة لم تمس وراسخة لم تزعزع إلا أنه يقال لهم أن علماء العرب في تلك العصور لم يكونوا يدرسون سوى علوم مقررة قام بها تمدن الشعوب الأخرى ولم يقتربوا من الكتب التي حوت علوماً غيرها أو من المصنفات الأدبية والصناعية التي تفتح على العقل باباً جديداً. على أن التمدن العربي لم تعهد له طفولية إذ ولد كاملاً وبلغ رشده في قرنين فكان من الإسلام كما كان من سائر الأديان أن عدل من امتداد تأثيرات الذكاء وتقهقره في آن واحد وذلك مما لا يتأتى أن يجدد اليوم عهده. لأن تحاكك البلاد الإسلامية بالعنصر الأوربي وانتشار العلم وضروريات الحياة الجديدة ستؤدي ولا جرم إلى تحرير العقول من قيودها وتنتهي بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية لا محالة على نحو ما نرى من سرعة النشوء الذي بدأ الآن يظهر في مصر آخذاً نحو المدنية الحديثة. ومما لا شك فيه أن الإسلام بعيد أن يضمحل الآن بل أنه على العكس ينتشر ويزداد أشياعه ويتجدد له أنصار حتى في أوربا وأميركا حيث تجد له الآن طوائف من المسلمين ولكن هذا السير سيكون أبطأ من ذي قبل ويقوم المسلم بفروضه الدينية سراً. نعم يكون للمسلم كما

للمسيحي لعهدنا حياتان إحداهما ظاهرة والثانية باطنة ولا تكون الثانية سبباً في التشويش على الأولى. يقول المسيو هوداس من علماء المشرقيات من الفرنسيين إن المتعلمين يحبون أن يريحوا عقولهم بعض الراحة وذلك بأن يتناسوا أن لهم عقولاً. ولذلك تبقى الأديان الرئيسة في أوربا سنين كثيرة بعد على حالة ملائمة بعض الملائمة. فنشوء الجنس الإسلامي لا مناص من وقوعه لأنه يجري بطبيعة الحال والدين لا يكون عائقاً له في بادئ الأمر لأن جميع الديانات في الأصل تعمل كأنها أعنة تحول دون كل تقدم على أن اليهودية والنصرانية اللتين لهما تعاليم ضيقة وهما أقل حرية من الدين الإسلامي لم يحولا دون نشوء الأجناس الأوربية. يمثل الإسلام صورة مجتمع ديمقراطي فلا يعوقه عائق من سلطة الأشراف ولا عائق من سلطة رجال الدين ولا عائق من البابوية أي ليس فيه رئاسة دينية. وهذه العوائق هي من الأسباب المؤخرة فلا يخشى منها أن تؤثر في نشوء العنصر الإسلامي. ومنذ سقوط الدولة العباسية أصبح الخلفاء لا يجمعون في شخصهم وحدهم بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية الدينية والسياسية وأخذت الشعوب الإسلامية تنمو وتنتشر في أطراف العالم بأسره ولا تخضع لسلطان واحد. ولقد عرف التعصب في جميع الأديان وأعني بالتعصب ذاك الإحساس الذي يحمل صاحبه على الجهاد دفاعاً عن دينه وحفظ التاريخ حوادث هائلة من هذا القبيل لكل طائفة من طوائف أهل الأديان وردد ما سكرت به من حب الغلبة وبسطة السلطان أما الإسلام فعلى العكس من ذلك ظهرت فيه مظاهر التسامح أكثر من غيره مما يرجع الفضل فيه أسباب خاصة بالإقليم الذي قامت في وسطه تلك الديانة أو هو خاصة من خواص العنصر الذي دان بها. وكان الداعي إلى المذابح التي أهرقت فيها الدماء في هذا الدور الجديد من الهجرة بواعث سياسية لا بواعث دينية. والدليل على ذلك أنك تجد في الشرق عناصر مسيحية كما فيه عناصر إسلامية وترى فيه الجامع مجاوراً للكنيسة والمسلم يعيش مع المسيحي وصلاتهما حسنة ومنافعهما متبادلة. وليس في الشرق ما يعد خطراً على نشوء الأمة الإسلامية السريع سوى جهل السواد الأعظم ممن لم يرزقوا حظاً من الذكاء يكفي لتكبير عقولهم فيراقبون

أعمال رؤسائهم مراقبة فعالة ويعارضون إذا دعت الحال إلى معارضة سوء استعمال الأحكام. ونذكر من الأسباب التي تؤخر سير التقدم إلى الأمام قلة الاتفاق بين المصري المسلم والمصري غير المسلم. فإن الأول لا يعترف للثاني بأن يقول عن نفسه أنه مصري ويزعم أن مصر له دون غيره. نهم إن المسلمين أكثر عدداً ولكن المسلمين مع غير المسلمين في مصر من حيث التهذيب العقلي ومن حيث وجود طبقة عالية يكادون يتعادلون ويتوازون وكذلك نفوذ الطائفتين وتأثيراتهما. وأقول هذا وأنا على يقين من أن التعصب الإسلامي غير ممتد الرواق في مصر بحيث يحول دون سير المسلمين نحو الارتقاء وإذا فرض وجوده بقوة التقاليد فالتربية تكفي لإزالته. قلت أن الإسلام بعيد عن أن ينافي التمدن بل هو على العكس دين يسمح لمنتحله أن يقصد إلى الارتقاء مطلق الحرية والتصرف. ومن المعلوم أن المسلمين ليسوا تابعين لإمام واحد وأنه ليس من ضرورة في الدين أن يتبعوا خليفة واحداً يتولى السلطة السياسية والسلطة الدينية فتوسيد الأمر إلى رجل يجمع بين السلطتين متعذر في الإسلام. وإني لأعرف من الإنكليز والأمريكان من دانوا بالإسلام فما عاقتهم وطنيتهم الإنكليزية والأميركية عن التفاني في نصرة دينهم الجديد فتراهم خاضعين لحكوماتهم ونظامات أمتهم عاملين بشعائر الدين الذي انتحلوه. كان للعلم مقام جليل بين المسلمين بحيث كان من يعرف القراءة والكتابة يعد من الطبقة الراقية ويحترمه الناس ويبجلونه. وليس لرجال الدين عند المسلمين وأعني بهم العلماء والأئمة ما لأمثالهم عند أهل النصرانية. بل تؤلف تلك الفئة في الإسلام من جميع الناس على السواء مهما كانت طبقتهم. فإذا أحرزوا قسطاً من العلم يخضع لهم الناس وإن لم يكن في أيديهم شهادات تؤذن بأن لهم حق التسلط عليها. والباعث الثاني على نشر التمدن بين المسلمين اختلاطهم بأوربا فإن كل من رأوا انتشار التمدن المصري وقدروا تأثير السياحات إلى أوربا حق قدرها وعرفوا ما ينتج من اختلاط المسلم بغيره في هذه السياحات يتجلى له الشوط البعيد الذي قطعته الأمة المصرية والتقدم الذي سعى إليه هؤلاء السائحون فصح أن يدعوا من الممهدين لسبيل الحضارة والتمدن.

والفرق في الحقيقة بين هؤلاء السائحين وبين المقيمين في البلاد جوهري محسوس إذ أن السياح سواء كانت رحلتهم للنزهة أو التجارة قد غيروا شكل البلاد وكان منهم أن جعلوا مصر اليوم تخالف مصر منذ ستين سنة وبين هذين الدورين بون شاسع كما لا يخفى على الناظر البصير. ومن يجرأ أن يشبه بلاد الجزائر اليوم بالجزائر قبل أن يفتتحها الفرنسيين؟ ومثل ذلك يلاحظ في جميع البلاد الإسلامية حتى أن مراكش لتمس بإصبعها المدنية الرافعة في جوارها أعلامها. وساكن الشاطئ أسمى عقلاً ومدنية من ساكن الداخلية لأنه يختلط على الدوام بالعناصر الراقية وينال بذلك علماً لا يناله سكان الوسط. اعتبر ذلك في أوربي يتوغل في داخلية مراكش فإن المسلمين يسبونه ويشتمونه. وإذا كان الأوربي في صحبة مراكشي تهذبت نفسه بالاختلاط بالأجانب فإن هذا يحاول أن يشرح للأوربي خطأ ابن دينه مستدلاً على دعواه بجهل مواطنه وأنه مازال على الفطرة متعصباً ومتشبعاً بأفكار أمته القديمة. وبعد فإن تهذيب المرأة سيكون من أعظم العوامل في المدنية الإسلامية. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نعترف بأن ما تم من الارتقاء لبعض الطبقات المنورة في المسلمين كان الباعث الأكبر عليه تأثير تربية المرأة. لأن الشريعة المحمدية خولتها من الشعور ما تعرف به كرامتها لتكون مستقلة ولأن محمداً صلوات الله عليه أراد إنهاض المرأة من سقوطها الذي كانت فيه قبل الإسلام فتسامح بتعدد الزوجات. ومن المحقق أن أسباباً شديدة كانت تقضي بنيلهن هذا الامتياز. ذلك أن في تعدد الزوجات مضاعفة الأمة ونموها وتكثير سواد الموحدين مما حسن أثره في هذه الأمة. نعم كان تعدد الزوجات من الدواعي إلى تجنب الفسق فاستطاعت بذلك المرأة التي تحدثها نفسها بمن في خارج بيت زوجها أن تجد لها من الشرع نصيراً يجعلها في حل من التزوج ممن تحب. وبهذا لم يعهد بين المسلمين الزواج غير الشرعي ورفع عنهم عار التسري واضطروا إلى احترام الأبكار في بيوت غير بيوتهم. والدليل على هذا بأنه منذ قل تعدد الزوجات في البلاد التي نال أهلها نصيباً من التعلم أصبحت بيوت الفجور مملوءة بالوطنيات المسلمات بعد أن كان أهلها من غير بنات البلاد وقامت بيوت العهر الوطنية تجاري مواخير الدخلاء وتتغلب عليها.

ظلت المرأة المسلمة راضية بما قسم لها من مال زوجها بعد وفاته إلى أن استنارت بقيس من المعرفة فأنشأت تدرك بأن حظها هذا يسجل عليها بأنها دون الرجل في المنزلة. وإنا لنلاحظ اليوم أن الرجل المسلم في البلاد المتحضرة لا يتزوج بغير زوج واحدة وقلما كانت الزوج فيما مضى تقضي أوقاتها مع زوجها بل تبقى في خدرها ولا تخرج منه إلا محجبة مبرقعة ولا تزور غير النساء إذ لا يزورها غيرهن فتخلصت المرأة اليوم من هذه العادات وهذا الزوج مهما بلغ من تدينه يتسامح مع زوجه لتخرج لمقابلة الناس على الطريقة الأوربية. وهذا مما أحدث في الرجل أيضاً أحسن تأثير لأنه بالاختلاط المتواصل مع المرأة في البيت أخذت أخلاقه تتدمث وعواطفه تلطف وترق واقتبست المرأة المسلمة بما عرفت به من الرقة المعهودة عن المرأة الأوربية - لما نزلت هذه بلاد الشرق مع زوجها الموظف - أساليب الانبساط والبهجة اللذين ما كان زوجها يجدهما من قبل إلا في البيوت الأوربية. ومن الغريب أن تعدد الزوجات الذي كان في القديم خاصاً بالغني أصبح لعهدنا عادة من عادات الفقير لأن هذا يستخدمهن آلات ينتفع بها في أموره المعاشية فإذا كان له عدة زوجات يكن له بمثابة أجيرات يحرثن أرضه ويزرعن زرعه ويوفرن عليه ماله فلا يحتاج بهن إلى أيدي العامل والزارع. لا جرم أن تعليم المرأة المسلمة سيكون من الدواعي الرئيسة في نشوء العنصر الإسلامي ويساعدها على ذلك فقدان الرئاسة الدينية عند المسلمين وخلاص المسلمة من التأثيرات السيئة التي ترجع بها القهقرى إذا تولى بعض أمرها أحد خدمة الدين. وهنا نلم بالارتقاء الاقتصادي في المسلمين لأنه أحدث تغييراً في حالتهم. فقد ظلوا قروناً كثيرة بعيدين عن الحركة الاقتصادية محتفظين بتقاليدهم في متاجرهم فكان منهم لما رأوا تكاثر الأعمال المالية أن عقدوا الصلات التجارية مع غيرهم من الشعوب. وأي واسطة أحسن في قلب العادات القديمة من المراباة. فقد كان المسلمون لا يقولون بجمع رؤوس أموالهم وقلما كانوا يستدينون بالربا فأنشأوا اليوم يستدينون بالربا ولكنهم لا يدينونه فنجحت بذلك أعمالهم وأخذوا يملكون أموالاً طائلة اضطرتهم إلى استثمارها والمسلمون اليوم يتعاطون جميع أعمال المصارف والخصم. وإنك لترى الآن في مصر شركات عظيمة

ورؤوس أموالها من أهل الإسلام خاصة. وجملة القول ليس الإسلام كما رأيت جامداً لا يتحرك بل أنه يجري في نشوئه بحسب الحاجات والضرورات الحالية وأنا موقن بأنه يضرب الآن نحو المدنية ويسعى لها سعيها بطبيعة الحال.

نظام الطبيعة والإنسان والحيوان

نظام الطبيعة والإنسان والحيوان نظام الأرض أن تدور دورة من الغرب إلى الشرق في كل أربع وعشرين ساعة فيكون الليل والنهار. ودورة في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً من الغرب إلى الشرق فتتأتى عنها فصول السنة وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء. أتى على هذا النظام الذي سنه الخالق العظيم لحفظ الكون نحو ستة آلاف سنة عند علماء الدين وتسعة أو عشرة آلاف عام على رأي علماء طبقات الأرض. وما برحت الطبيعة محافظة على نظامها لأنه من لزومياتها. ومتى تشوش اختلت الأرض وقضي على من فيها بالتقهقر الملازم والخراب الدائم. وما يقال في الأرض من حيث محافظتها على نظامها الطبيعي يقال في كل ما دب عليها من إنسان وحيوان وكل ما ينبت فيها من أعشاب ونباتات ومزروعات وغياض ورياض وغيرها. فالبشر سن عقلاؤهم والمتمدنون منهم نظامات لهم لحفظ حقوقهم ومصالحهم المدنية والعمرانية والعمومية والخصوصية وغير ذلك. وللحيوانات على تباينها نظامات تمشي بموجبها وإن لم يدركها أكثر البشر. هذه طائفة الذئاب من الوحوش الكاسرة يظنها معظم الناس لا ترتيب لديها ولا نظام على أن لها نظامات يجهلها الإنسان. وهذه طائفة النمل التي ينظر إليها المرء نظرة الازدراء والاحتقار حازت من النشاط والترتيب والنظام ما يذهل العقول ويحير الأفكار. راقب سرباً من الذئاب يسير في البرية ترى له قائداً يقوده. وكل ذئب منه يسير بترتيب وراء رفيقه وكأنها كلها جنود مدربة يقودها قائد محنك. وتأمل طائفة من النمل في جدار تلق ما لقيته في سرب الذئاب من القيادة أو الزعامة والترتيب والنظام. وما يقال في الذئاب والنمل يقال في سائر الحيوانات كاسرة كانت أو داجنة وطائرة أو سابحة. ويلحق كل من يخالف النظام من تلك الحيوانات قصاص بقدر جرمه. فالذئب الذي لا يسير على سنن النظام أو يخالفه إذ يمشي سربه يرتد عليه قائد السرب ثم سائر الذئاب فتمزقه تمزيقاً. وبديهي أن هذا القصاص عند طائفة الذئاب من الحيوانات بمثابة قتل القاتل عند البشر. وكل ما يقال في الذئاب بهذا الشأن يقال في غيرها من الحيوانات. خلق الله الإنسان الأول آدم وسن له شريعة ونظاماً كما برأ تعالى الخليقة وسن لها نظامات

تمشي عليها منذ البدء فقال له من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها وهذه الشريعة أو النظام أساس شرائع الجنس البشري وقوانينه فهي أولها. وكان لجماع الآباء الأولين والشعوب القديمة شرائع ونظامات وما فتئت نظامات هؤلاء الموسويين وشرائعهم مدونة في أسفار موسى كليم الله. وتلك الشعوب والأمم التي عاصرت الموسويين وجاءت بعدهم كالكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والحثيين والمصريين والأدوميين والكنعانيين والعرب واليونان والرومان وغيرهم كان لهم شرائع ونظامات نقلها إلينا المؤرخون القدماء كهيرودتس اليوناني الذي ولد عام 484 ق. م وزنفو الروماني الذي ولد نحو 380 ق. م ويوسيفوس العبراني الذي ولد عام 37 ق. م وغيرهم. ولقد عني اليونانيون في أيامهم بالنظامات المدنية والشرائع الدولية. على أن الرومانيين نظموها وأتقنوها. ثم أخذت شعوب الأرض مبادئ نظامات الرومانيين وشرائعهم وفي مقدمتهم الأمة النابليونية. وزادوا عليها كثيراً وشرحوها شروحاً حسب مقتضيات المكان ومطالب الزمان. ولا يزال معظم دول المعمور ساعياً إلى سن نظامات جديدة وشرائع مفيدة ومهتماً بتحسين قوانين بلاده وحكوماته. حتى أن الصين التي استولى الانحطاط عليها قروناً أفاقت من رقادها وبدأت بضبط نظاماتها وتحسين شرائعها وسنها على مثال شرائع العالم المتمدن. وإرسال الصين البعثة المؤلفة من اثني عشر عضواً من كبار رجال الأمة الصينية ومتهذبيها في هذه الشهور الأخيرة إلى العالم الجديد وأوربا لدرس شرائع القارتين ونظاماتهما العصرية أكبر شاهد على نهضة هذه الأمة وأشهر دليل على شدة اهتمامها بنظامات بلادها وشرائع دولتها. فالنظامات المدنية والشرائع الدولية والقوانين العمرانية رافقت الإنسان منذ وجد الإنسان الأول إلى الآن. وهي ضرورية للدول ضرورة الهواء للإنسان. ولازمة للأمم والبلاد لزوم الماء للإنسان والحيوان والنبات. وليست هذه النظامات من حاجات البشر ولا هي محصورة فيهم فقط بل هي من ضروريات كل ما نراه أمامنا ووراءنا وفوقنا وتحتنا من هذه الخليقة العجيبة أو هذا الوجود الذي لا يزال موضوع بحث الباحثين من علماء غربيين وشرقيين. فلتلك الأمطار التي تهطل وتحيي الزرع والضرع والإنسان والحيوان والنبات نظامات وما

تحويلها أحياناً في البلاد الباردة إلى الثلج إلا من برودة الجو. وما المضار التي تأتي منها إلا منبعثة من تلك الطوارئ الخارجية التي هي سبب من أسباب تشويش نظامها الطبيعي. لولا تلك الأهوية والرياح التي نظنها مضرة ما نمت الزروع والأشجار النمو المطلوب وما أتت بالأثمار والفوائد المنتظرة منها. فالرياح المعتدلة تقوي جذوع المغروسات والمزروعات ومتى تقوت جذوعها كثر نموها. والرياح تسبب اللقاح المعروف بلقاح المغروسات ومتى تم هذا الازدواج أو اللقاح أثمرت المغروسات. أما المضار الناشئة من الرياح الشديدة فهي من عوامل الطبيعة الخارجية. فاعتدال الرياح نظامها واختلال الرياح طوارئ خارجية تطرأ عليها فتشوش نظامها ويكون بذلك تشويش نظامها واختلاله. وتلك الأشجار الزهراء التي تتضام بعضها إلى بعض عند تموجات الهواء وتلك الزروع الخضراء الني نشاهدها تتمايس وتتعانق وتلك الرياحين الجميلة التي تنفح عبيرها وتلك الأزاهير العطرية التي يعبق شذاها هي كلها ذات نظامات طبيعية وفي نموها وجمالها ورائحتها وثمرها وقائدتها أدلة على نظاماتها التي دونت في كتاب الطبيعة العظيم. بل هذه القبة الزرقاء ونجومها وسياراتها وكواكبها كالشمس والقمر والثوابت وغيرها فإن لها نواميس طبيعية ونظامات سطرتها لها أنامل الطبيعة. ونواميس النور معروفة وهي أن النور ينبعث بالتساوي من الجسم المنير إلى الجهات كلها وأنه يسير في خطوط مستقيمة إذا اخترق وسطاً متجانس الأجزاء. وأن كثافته تنقص بقدر ما يزيد مربع بعده. أما التشويش النظامي الذي يحدث للطبيعة بسبب الطوارئ الخارجية التي تطرأ عليها فهو بمقام الاختلال النظامي الذي يعرو الشعوب والدول فيفسدها ويلحق بها أضراراً فاحشة بل يسقطها من ذروة مجدها وقمة سعدها إلى حضيض الشقاء والدمار. هذه بلاد السودان من إفريقية قد كانت قبل أن احتلتها بريطانيا العظمى مسرح الجهل ومجزر سفك الدماء وفي أقصى دركات التأخر والانحطاط والتوحش لأن النظام فيها كان معدوماً. أما اليوم فقد سنت الدولة الإنكليزية نظاماً للقطر السوداني على حسب مقتضيات العصر فساد الأمن في ربوعه وافتتحت مدارس التهذيب فأخذت تبدد غياهب الجهل من بلاده. ولا يسع الواقف على تواريخ القدماء إلا التصريح بأن كل أمة حافظت على نظامها وكل

دولة سارت على سنن قوانينها وكل قبيلة اتبعت شرائع بلادها حازت مقاماً من المجد والعز والرقي وإن كل من خالف تلك النظامات من تلك الأمم والدول انقلب عزها ذلاً وهناؤها شقاءً وارتفاعها سقوطاً وتقدمها تأخراً. ولا حاجة إلى القول أن الأمة الإسرائيلية لما خالفت شرائعها ونظامها المدنية والدينية دبت في مجتمعها روح الموت الأدبي والمدني وعبث بجامعتها عابث فمزق شملها وانفصل حبلها وما المصائب والاضطهادات التي لقيتها هذه الأمة في جميع قارات العالم بل ما المذابح التي جرت على شعبها المتفرق بل ما السيف الذي عمل في رقاب كثيرين من هذا الشعب العريق في القدم أينما كان وحيثما حل في خلال القرون الخالية وفي كل قرن من القرون المتوسطة والحديثة ما خلا القرن الثامن عشر للميلاد بل ما الداعي إلى انفصام عروة اليهود على وجه البسيطة إلا بسبب مخالفتهم للنظام والشريعة. وهكذا يقال في البابليين الذين بلغت أسوار مدينتهم العظيمة 300 قدم ارتفاعاً و87 قدماً عرضاً وبلغ محيط دائرتها 48 ميلاً. فقد سقطت بيد الماديين والفرس سنة 644 ق. م. لأنهم سكروا في عيدهم السنوي فغفلوا عن واجباتهم نحو الشريعة الدولية والنظام الأدبي فهبطوا ذلك الهبوط المريع وخسروا تلك المدينة العظيمة التي أجمع المؤرخون القدماء على أنها كانت سيدة الممالك ودرة تاج فخار الأمصار. خسر البابليون على ذاك العهد بخسارة بابلهم مائة باب مصفحة بالنحاس وخسروا هيكل بابل الذي كان ارتفاعه 600 قدم والبحيرة الصناعية التي بلغ محيطها مائة ميل وعمقها زهاء 35 قدماً. وفقدوا أيضاً الجنائن الصناعية التي جعلت طبقات بعضها فوق بعض وبلغ علوها علو البرج. دع الدور الفخيمة والقصور الشاهقة والأبنية الجميلة. والواقف على تاريخ اليونان القدماء وامتداد سلطتهم وما بلغوه من قوة السعد وعلى تاريخ الرومان وما وصلوا إليه من مناعة العز والمجد لا يرى بداً من التصريح بأن تشويش نظامهم الدولي واختلال شرائعهم المدنية كانا قاضيين على تلك السلطة وذلك المجد والسعد بالتلاشي والزوال. فحري والحالة هذه بحكام البلاد الذين تشوش نظامهم وأخذ سوس الفساد بنخر جسم مدنيتهم وعمرانهم وحقيق بالآخذين بنواصي العباد ممن استولى عليهم الرقاد أن يستيقظوا ويعتبروا

في مصير تلك الدول القديمة التي درست آثارها ويتأملوا في ما فعل التشويش النظامي بالشعوب الماضية التي طمست أخبارها. وأن يتمثلوا بالدول الراقية والأمم الناهضة ويقوموا بمطالب التمدن ويلبوا نداء هذا العصر. بل جدير بكل فرد يحب شعبه ويغار على وطنه أن يحافظ على قوانين بلاده ويساعد في تأييد نظام دولته وحكامه. فمتى تحسنت شؤون الأفراد تحسنت شؤون العيال فالجماعات فالشعوب. وإذا كان الإنسان ملكاً أو مملوكاً وجيهاً أو صعلوكاً رئيساً أو مرؤوساً غنياً أو فقيراً عالماً أو جاهلاً لا يجد من نفسه دافعاً يدفعه إلى المحافظة على نظام البلاد والدول والمشاريع المدنية والعمرانية فله أمثلة مما يراه في الجهات الست من جماد ومياه وحيوانات ونباتات وأجرام ما يجعله ينادي على رؤوس الأشهاد بوجود النظام ووجوب المحافظة عليه ووجوب ضرورته للبشر ضرورة الهواء والماء والشمس والطعام للإنسان. اوماهانبراسكا (الولايات المتحدة) يوسف جرجس زخم

أيتها السماء

أيتها السماء إليك تتوق أيتها السماءُ ... نفوسٌ قد أضرَّ بها الشقاءُ ومضتها على الأرض الرزايا ... واسأمها بمحبسها الثواءُ أحقيّ يا سماء مني نفوسٍ ... إليكِ لها إليك لها التجاءُ ترجى فيكِ بعد الموت عيشاً ... فوا أسفاه إن خاب الرجاءُ عدينا ثمَّ إن شئت امطلينا ... فإنا بالوعود لنا اكتفاءُ وإنا نحن قومٌ قد أهنا ... وإنا نحنُ قومٌ أبرياءُ وإنا قد عشقنا الموت لما ... سمعنا ذكره فمتى اللقاءُ إذا أمست حياة المرءِ داءً ... فليس سوى الحمام لها دواءُ يساء المرء أن يحيا سليماً ... ولكنَّ الحوادث لا تشاءُ وما حبّ المعيشة في ديارٍ ... لأحرار النفوس بها جفاءُ فلا سقياً ولا رعياً لأرضٍ ... تراقُ على جوانبها الدماءُ وما سلمت عليها قبل هذا ... من الأرزاءِ حتى الأنبياءُ انفسي إن جزعتِ من المنايا ... فإني منكِ يا نفسي براءُ عبدتِ الأدنياَء رجاَء دنيا ... حوتها بالخداع الأدنياءُ وأوردتِ الهوانَ فلم تعافي ... فأين تحدثي أين الإباءُ أبيني يا سماء وخبرينا ... بما لم ندرِ دامَ لكِ العلاءُ ولا زالت على مرّ الليالي ... نجومكِ يستضيءُ بها الفضاءُ هل الأرواح بعد الموت منا ... لها في جوك السامي بقاءُ أم الأرواح تابعةٌ جسوماً ... لنا تبلي فيلحقها الفناءُ فضاؤكِ هل يصيرُ إلى انتهاءٍ ... أم الأبعاد ليس لها انتهاءُ وحقٌّ أنَّ للأجرام حداً ... أم الحد الذي يعزى افتراءُ وبعد نهاية الأجرام قولي ... خلاءٌ في الطبيعة أم ملاءُ يحيرني امتدادك في الأعالي ... ويبهجني بزرقتك الصفاءُ أحبّ ضياَء أنجمك الزواهي ... فأحسن ما بأنجمك الضياءُ نجومكِ في دوائر سابحات ... يحفّ بها المهابة والبهاءُ

تراءى في تحركها بطاءً ... وما هي في تحركها بطاءُ ولا هي في الجسامة لو علمنا ... ولا في بعدها عنا سواءُ أبيني يا سماءُ وخبريني ... وإلا دام في قلبي امتراءُ أيبقى المكثرون من الخطايا ... إذا ماتوا وليس لهم جزاءُ لعمرك لا تريد النفسُ هذا ... فما أجاني وذو التقوى بواءُ رأيت البعض يخشع للمنايا ... فيذكرها ويغلبهُ البكاءُ مخافة أن يلمّ الموتُ يوماً ... ببنيتهِ فينهدمَ البناءُ ويضرب عن وراءِ الموت صفحاً ... كأنَّ الموت ليس له وراءُ فإن تسأل يقل ما الموت إلا ... نهاية كلّ من لهم ابتداءُ إضاءتك الحياة وكنت قبلاً ... بليل حشو ظلمته العماءُ وجودك بعد ذاك الليل صبحٌ ... وهذا الصبح يعقبه المساءُ رقيت من الجماد فصرت حياً ... تميزهُ الدراية والذكاءُ أقول كذا ولم أزدد يقيناً ... بما في الأمر لو كشفَ الغطاءُ فقلت لهُ وبعض القول حقٌّ ... صريحٌ لم يجز فيهِ المراءُ أليسَ مركبَ الإحياءِ طراً ... عناصرُ أوضحتها الكيمياءُ فقال بلى فقلت لهُ أليس ال ... عناصر لا تحسّ ولا تشاءُ فقال بلى فقلت إذن فماذا ... جرى حتى استتبّ لها انتماءُ وصارت بعد في الإنسان جسماً ... يفكرُ عاقلاً ولهُ دهاءُ فقال السرُّ في التركيب أنَّ ال ... مركب قد يقوم بهِ ارتقاءُ إذا اتحدت عناصرُ في بناءٍ ... تغير وصفه ذاك البناءُ وجدّ لهُ خصائصُ ذات شأنٍ ... عناصرُ جسمهُ منها خلاءُ وإنَّ حياتنا والموت فالعم ... أجيجٌ في العناصر وانطفاءُ ولكنَّ التعصب في أناسٍ ... أضلهم الهوى داءٌ عياءُ وإفهامُ الجهول الحقَ مرّاً ... عناءٌ ليس يشبهه عناءُ وفي الأصل الجواهر لو علمنا ... قوىً منها الأثيرُ له امتلاءُ

تلاقى بينها فتكون منها ... جواهرُ في النفار لها ولاءُ صغيرات الحجوم محقراتٌ ... ومنها الكائناتُ لها ابتناءُ تضمن قوتي جذبٍ ودفعٍ ... كما يبديهِ هذا الكهرباءُ وإنَّ الشمس والأجرام طرَّاً ... من الحركات ولدها السماءُ لكلّ مقولة منها إليها ... على الدور ابتداءٌ وانتهاء فإن برزت فذاك لها وجودٌ ... وإن خفيت فذاك له فناءُ سماؤك هذهِ تحوي نجوماً ... لأكثرها عن البصر اختفاءُ فتحسب ما يريك الليل منها ... شموعاً في الصباح لها انطفاءُ وما هي لو تعي إلا شموسٌ ... بها ليدي منوّرها اعتناءُ شموس قد أضاَء الجوّ منها ... وزال بها عن الكون العماءُ يصغرها بعينك حين ترنو ... لها بعدٌ هنالك واعتلاءُ أهمّ بأن أعد الأرض منها ... كواحدة فيمنعني الحياءُ فإنَّ الأرض تابعة لشمس ... إلى أمّ النجوم لها انتماءُ فتيهي يا سماءُ فليس شيءٌ ... تكونَ فيكِ عنك لهُ غناءُ فأنتِ لكلّ موجودٍ وجودٌ ... وأنتِ لكلّ موجودٍ وعاءُ وهذا الجوّ أنتِ لهُ امتدادٌ ... وهذي الأرض أنتِ لها غطاءُ وإنَّ وجود ما في الكون طراً ... عليكِ إذا تأملنا ثناءُ يليق يليق (ما استعليت كبراً) ... بشأنكِ يا سماء الكبرياءُ فقبل القبل كنت كذا سماءً ... ولا شمسٌ هناكَ ولا ضياءُ ستفنى الكائنات وليس إلا ... لوجهِ الله ثمَّ لكِ البقاءُ فقلت لهُ رعاكَ الله هذا ... على ما جاَء في العلم اعتداءُ فإن حقائق الأشياءِ سرٌّ ... خفيٌّ ما لغامضهُ انجلاءُ وأبدت قبلنا الحكماء فيها ... أقاويلاً فما برح الخفاءُ العراق ج. ص

تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين

تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين كل فن من الفنون المعروفة اليوم نشأ نشوءً تدريجياً وانتقل ينمو من البسائط إلى المركبات وقد كانت مبادئ العلوم جميعها موجودة في عقول البشر وهم بعد في طور الهمجية ثم أخذت تلك المبادئ تنمو وتزيد بالاستدلال والاستقراء إلى أن انتهت في طريق تكاملها إلى الحالة التي نجدها عليها في هذا الزمان. وقد كانت الحاجة أماً للاختراع والاكتشاف وكثرة مطالب الناس في مجتمعاتهم ومقتضيات عمرانهم كانت تدعوهم إلى التوسع في ما لديهم من المعرفة وتحملهم على التجربة والقياس فوطدوا أساس العلم الذي وضعه لهم العقل ورفعوا عليه البناء الذي أنشأه لهم الاختبار حتى شخص إلى عنان السماء وأصبح اليوم يغيب البصر في بعد مداه وترامي أطرافه وقسمه القائمون به إلى فروع كثيرة اختص بكل فرع منها فريق من العلماء الأعلام وأخذوا على أنفسهم الاحتفاظ به والزيادة فيه فكان ما نراه اليوم من المعلومات في كل فن خلاصة عصور كثيرة مر بها الإنسان وعمل عقول جمة تعاقبت عليه الواحد بعد الواحد. من ذلك علم الهندسة الذي نحن في صدده في هذه المقالة التي كتبناها لقراء المقتبس ونحن على ثقة أننا لم نأت إلا على نزر من غزر ووشل من بحر من أسماء الجهابذة الأعلام الذين أنشأوا هذا الفن وتعاونوا على إبلاغه حده في هذا العصر. الهندسة علم يبحث في أوضاع الخطوط المستقيمة والمنحنية وفي الزوايا والسطوح والأجسام مع النسب التي بين المقادير وهي أقسام منها الهندسة البسيطة للسطوح والمجسمات وهي تبحث في صفات الخطوط القياسية والسطوح المستوية مع ما تحيط به من الأجسام وينطوي فيها أبحاث الخطوط والزوايا والمثلثات والمضلعات والدائرة والكرة مع الأجسام المحاطة بسطوح قياسية مثل المكعبات والأهرام وغيرها. والهندسة العالية وهي التي تبحث في المنحنيات الحاصلة من قطع المخروط والأشكال الشلجمية والذهلولية. ومنذ عهد غير بعيد ارتقت الهندسة العالية ارتقاءً باهراً وتفنن العلماء في إدخال الطرق الجبرية لحل القضايا الهندسية وتوسيع ما يعرف عندهم اليوم بالهندسة الحلية أو التحليلية. ومن أقسام هذا الفن الهندسة الوصفية أو الرسمية وهي عبارة عن توسع في معالجة الأظلال العمودية أو المرتسمات الهندسية ورسم أشكال الأجسام على السطوح المستوية وهذا القسم من الهندسة يحتاج إليه كثيراً في صناعة البناء وإقامة القباب والجسور

وغيرها. قال الحكيم فانديك في أحد كتبه الهندسة قسم من التعليميات موضوعة المقدار وهو كمٌّ ذو امتداد أي كل ما له واحد من ثلاثة أشياء وهي الطول والعرض والعمق ويقال لها الأبعاد الثلاثة. ولذلك يكون كل من الخط والسطح والمجسم مقداراً دون الحركة فإنها وإن كانت كماً لا تعد مقداراً إذ ليس لها شيءٌ من الأبعاد المذكورة وهو تعريف محكم لهذا الفن اخترنا إلحاقهُ إلماماً بأطراف البحث. قلنا أن الهندسة مثل غيرها من العلوم بدأت بالبسائط وتدرجت إلى المركبات ومدارها أوليات بسيطة وحقائق مدركة بالبداهة مثل قولهم الكل أعظم من جزئه والأشياء المساوية لشيءٍ واحد هي متساوية والكل يساوي مجموع أجزائه وأمثال هذه من الحقائق المفهومة بدون برهان وغير المفتقرة إلى إقامة الدليل. وهذه الأوليات هي أساس فن الهندسة وعليها مداره وهي قد أدركها الإنسان منذ ظهوره وانسلاخه عن العهد الحيواني. وأول رجل استعان بشبره أو بقدمه أو بإصبعه أو بذراعه أو بباعه أو بقامته أو بخطوته أو بسهمه أو بنشابة تناولها من الأرض وقاس بها طول طريقه أو عرض كهفه أو محيط جذع شجرته أو ارتفاع جداره يكون هو المهندس الأول الذي ظهر بين الناس. وكما يستحيل علينا اليوم أن نعرف البادئ بعلم الحساب وواضع الأعداد وقواعدها الأولى كذلك يستحيل أن نعرف البادئ بالقواعد الهندسية ونكتفي بالقول أنها وجدت منذ وجد العقل ونمت معه مصاحبة لنمو العمران وارتقاء تمدن الإنسان. ويرجح الباحثون أن المصريين هم أول قوم دققوا في المقاييس وعينوا بعض الأشكال الهندسية مثل المربع والمثلث والدائرة ومسحوا الأرض ودونوا في أطوالها وعروضها جداول وسجلات حفظت في دار الملك ورجع الناس إليها عند الحاجة. وذلك أنهم كانوا في أول أمرهم يقسمون الحقول بينهم ويقيمون عليها تخوماً من الطين فيعدو عليها النيل عند فيضانه ويذهب بها فتضيع الحدود والفواصل ويضل الفلاحون أرضهم فدعا رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد جماعة العلماء وأمرهم بالتفتيش عن طريقة يخلصون معها من هذا الارتباك وتكفيهم شر المنازعة على التخوم كل سنة فمسحوا الحقول المستثمرة ووضعوا قواعد مسح المربع والمستطيل من السطوح واستخدموا الزوايا والأقواس في تعيين الحدود وإقامة الفواصل وألفوا كتباً وقسموا

الأرض على موجبها وفرضوا الجزية بحسبها وجرت دولة المصريين على ترتيبهم عهداً طويلاً. وقبل عهد رعمسيس كان المصريون قد عمروا الأهرام وشيدوا الهياكل والأبنية الضخمة على أصول هندسية أدركوها بالتجربة والعقل وجروا عليها في الأعمال غير أنهم لم يجعلوها فناً ولا كتبوا فيها شيئاً انتهى إلى المنقبين في هذا العصر. وعلى هذا النمط جرى الكلدان بين النهرين في بناء القصور وإقامة الآثار التي مازال بعضها ماثلاً إلى هذا اليوم. قال هيرودتس أن منشأ علم الهندسة كان في مصر وذلك يوم جعل سيزوستريس أو رعمسيس الثاني المزارعة دورية بين الفلاحين فاضطر الناس في مثل هذه الحالة إلى مساحة السطوح المستطيلة والمثلثة والمستديرة لأجل تعيين الحدود بين الحصص في أرض لا يوجد فيها شيءٌ من التخوم والفواصل الطبيعية كالصخور والمسايل والرجم والسدود وغيرها وأكد أرسطوطاليس هذا القول بأن العلوم الرياضية نشأت في مصر. هذا وإن كان المصريون والكلدان بدأوا بوضع القواعد الهندسية إلا أنهم لم يتجاوزا فيها القدر الذي دعتهم إليه أحوال معيشتهم في مسح الأرض وتشييد الهياكل ومراقبة النجوم لمعرفة الأوقات مما له دخل في زراعتهم وعبادتهم وبقوا واقفين عند هذا الحد حتى ظهر اليونان ومدوا يدهم إلى كل جرثومة من جراثيم التمدن والعلم في الشرق فأخذوها ونمت على أيديهم نمواً عجيباً فوسعوا أطراف الهندسة ورفعوها إلى منزلة جديرة بالاعتبار وبسطوا قواعدها واكتشفوا فيها الأسرار العميقة وألفوا الكتب المطولة بالأقسام والأبواب حتى صار فن الهندسة يصف بين أرفع العلوم شأناً وأجلها قدراً. وأبعد مهندسي اليونان عهداً ممن انتهى إلينا خبرهم طاليس الفيلسوف أحد الحكماء السبعة (639_548 ق. م) نزل مصر ودرس المعروف عند علمائها وكهنتها من مبادئ الهندسة وقاس ارتفاع الأهرام بواسطة أظلالها وحمل العلم إلى اليونان حيث رجع وأسس المدرسة الأيونية جاعلاً الهندسة أحد الفنون القانونية فيها فقرأه عليه عدد كبير من طلاب الحكمة ومحبيها ونبغ فيه بعضهم وهو الذي اكتشف أكثر القضايا في المثلث متساوي الساقين وخواص الزوايا المحيطية في الدائرة وقضايا المثلثات المتشابهة فكان أول من جعل لهذا الفن حلقة تدريس خاصة به وجمع الأشتات المعروفة منه ولقنها الطلبة وفتح باباً لمن بعده إلى الاكتشاف

والزيادة. أوسع تلاميذه فضلاً وأسيرهم شهرة فيثاغورس الفيلسوف الذي ولد سنة 570 قبل الميلاد ورحل إلى مصر متشبهاً بأستاذه بعد أن طاف أكثر بلدان الشرق ثم رجع إلى جنوبي إيطاليا وأسس مدرسة صار لها شأن عظيم في تاريخ التمدن. وهو الذي أثبت عدم التناهي في قياس قطر المربع بالنسبة إلى ضلعه وأثبت القضية المشهورة في أن مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي القاعدة والعمود ويذهب بعضهم إلى أن هذه القضية كانت معروفة عند المصريين قبل زمن فيثاغورس والصحيح أنه أول من أقام عليها البرهان الهندسي. واكتشفت عدة قضايا في الأشكال والأجسام القياسية والمضلعات التي محيطاتها متساوية وهو أول من جعل الهندسة فناً استقرائياً. وقام بعد فيثاغورس عدد عديد من علمائهم صرفوا اهتمامهم في كشف القضايا وإقامة البرهان عليها منهم اناكساغورس المتوفى سنة 430 ق. م وهو أول مهندس جر على من بعده ويلاً كبيراً وحملهم عبثاً ثقيلاً بتفطنه إلى تربيع الدائرة وصرف القسم الأعظم من وقته في حل هذه المشكلة التي تعاصت عليه وعلى من أتى بعده إلى يومنا هذا والغرض من تربيع الدائرة هو رسم مربع بطريقة هندسية تساوي مساحته مساحة دائرة مفروضة فمات رحمه الله وأوصى من يعقبه في علم الهندسة بإكمال العمل الذي بدأ به فصرفت الأيام والشهور والسنون والمعضلة في مكانها كلما زادوها احتفاءً زادتهم إبهاماً وخفاءً حتى أدركوا في العصور الأخيرة أنهم يطلبون الأبلق العقوق كما أدرك كيميو الأقدمين أن حجر الفلاسفة لا ينال. قال الحوراني في رثاء أستاذه الرياضي الشهير المرحوم ميخائيل مشاقة: والصبرُ عزَّ على الجميع كأنه ... تربيعُ دائرةِ ورسمُ مسبع ومنهم اينوبيدس مكتشف طريقة رسم العمود ورسم زاوية مساوية لزاوية مفروضة ومنهم هبوقراط الرياضي المولود سنة 450 ق. م الذي تقبل مثال صاحبه في الاشتغال بتربيع الدائرة. وهو أول من اشتغل بالبحث في مسح السطوح المحاطة بخطوط منحنية فاكتشف طريقته لتربيع الأهلة المعروفة عند المهندسين بأهلة هبوقراط والتي جعلت أساساً لمسح السطوح المنحنية وهي أنك إذا رسمت على كل من الوتر والضلعين في المثلث قائم الزاوية نصف محيط إلى جهة رأس القائمة فمساحة الهلالين الحادثين من تقاطع المحيطات

ناؤه 2/ 3 ... 1. 259921 وإذا كان ضلع الصغير أربع أقدام كان ضلع الكبير 3 / تساوي مساحة المثلث. ومسح أيضاً أهلة أخرى بطرق متعددة جميعها قاصرة على انطباقها على الأهلة دون سائر السطوح المكتنفة بالخطوط المنحنية. وعرضت عليه قضية تضعيف المكعب التي كانت شغل الرياضيين الشاغل في ذلك العصر. ذلك أن الطاعون تفشى في جزيرة ديلوس وثقلت وطأته حتى أعيت به حيلة السكان ولم يطيقوا معه مقاماً فلجأوا إلى هاتف أبولون في تلك الجزيرة وسألوه عن الوسيلة لانكشاف الوباء عنهم فأشار عليهم بأن يجعلوا المذبح المكعب الذي في هيكله مضاعفاً في حجمه ففعلوا في الحال بأن زادوا على المذبح ما يساويه مقداراً وأقاموا ينتظرون انفراج الأزمة فما ازداد الوباء إلا فتكاً ولم يجدهم التوسل نفعاً فعادوا إلى الهاتف فأجابهم أن أبولون يريد أن يبقي المذبح مكعباً في شكله مع إضافة مقدار جرمه إليه. فوقع القوم في ارتباك وحاروا في حل هذه القضية ثم عرضوها على العلماء الراسخين في ذلك الزمان فلم يوفقوا إلى معرفة طول ضلع المكعب المطلوب ليكون حجمه مساوياً لضعفي حجم المذبح وأربكتهم المسألة كما أربكت كثيرين بعدهم من الرياضيين أصحاب الشهرة وطول الباع وقد عرضت على أفلاطون فعجز عنها ولجأ إلى المغالطة والسفسطة في إثباتها. ولم يقم رياضي بعد ذلك العهد إلا ضرب رأسه بها وحاول حلها فأعجزت جميعهم حتى أفضى أمرها أخيراً إلى ديكارت في القرن السابع عشر فمثلها بالشكل الشلجمي من قطع المخروط وبالدائرة متقاطعين وأثبت أن حلها بالخطوط والدوائر مستحيل. أما بالأعداد فهي من أبسط المسائل التي يعرفها المبتدئون لا تزيد عن استخراج الجذر الكعبي فإذا كان ضلع المذبح الصغير قدماً وجب أن يكون ضلع المذبح المطلوب 128. ثم ظهر أفلاطون (430_347 ق. م) وبعد أن أقام في مصر زماناً وأخذ العلم عن كهنتها عاد فوقف على المذاهب الفيثاغورية وأعلن اهتمامه وعنايته بعلم الهندسة فكتب على باب مدرسته لا يدخلها إلا من كان محباً للهندسة وكان يدعو الله سبحانه المهندس الأزلي. وهو أول من بحث في القطوع المخروطية وهو صاحب الرأي المتعلق بالنقط والأوضاع الهندسية وأتلف جزءً كبيراً من وقته في الاشتغال بقضية تضعيف المكعب فعجز عن حلها بالإثبات الهندسي ولكنه اهتدى إلى طريقة عملية وأصر على أنها إخراج صحيح للمسألة

وهي ليست كذلك. هذه القضية جرها هاتف أبولون على العلم والعلماء فذهبت بأثمن الساعات وأرفعها قدراً بدون أن تأتي بفائدة لأصحابها غير أنهم اهتدوا وهم يعالجونها إلى حل عدة قضايا هندسية واكتشاف عدد كبير من القواعد والحقائق الرياضية حتى أن أفلاطون تدرج منها إلى وضع أساس الهندسة التحليلية لأنها هي التي جرته إلى استخدام الجبر والحساب في الهندسة كما جرت غيره إلى وضع مقدمات مسهبة وتأليف رسائل مطولة تمهيداً لحلها وتذرعاً إلى بابها. ولا يخطر لي الآن أن علم الهندسة استفاد من الدين في غير هذه المرة. (البقية تأتي) دمشق فارس الخوري

الحياة

الحياة كم ساعة آلمني مسها ... وأزعجتني يدها القاسية فتشت فيها جاهداً لم أجد ... هنيهة واحدة صافية وكم سقتني المرّ أخت لها ... فرحت أشكوها إلى التالية فأسلمتني هذه عنوة ... لساعة أخرى وبي ما بيه ويحك يا مسكين هل تشتكي ... جارحة الظفر إلى ضارية حاذر من الساعات ويل لمن ... يأمن تلك الفئة الطاغية وإن تجد من بينها ساعة ... جعبتها من غصص خالية فالهُ بها لهو الحكيم الذي ... لم ينسه حاضره ماضيه وامرح كما يمرح ذو نشوة ... في قلةٍ من تحتها الهاوية فهي وإن بشت وإن داعبت ... ختالة قتالة عادية عناقها خنق وتقبيلها ... كما تعض الحية الباغية هذا هو العيش فقل للذي ... تجرحه الساعة والثانية يا شاكي الساعات اسمع عسى ... تنجيك منها الساعة التالية المعنى مأخوذ من المثل الفرنسي المشهور وترجمته آه لو يعلم الشباب وآه لو يقدر المشيب. لم يدر طعم العيش شبا ... ن ولم يدركه شيب جهل يضلُّ قوي الفتى ... فتطيش والمرمى قريب وقوى تخور إذا تشبث ... بالقوي الشيخ الأريب بينا يقال كبا المغفل ... إذ يقال كبا اللبيب أوّاه لو عقل الشباب ... وآه لو قدر المشيب القاهرة إسماعيل صبري

صحف منسية

صحف منسية حكم ابن المقفع ظفرت في دار الكتب الخديوية بالقاهرة برسالة في الحكم من تأليف ابن المقفع ولعلها رسالته المشهورة في الأدب كتبها علي بن أحمد الحلبي سنة 844هـ وقال في آخرها أنها كتاب الأدب الصغير وذكر في أولها أنها كتبت برسم خزانة المقر الأشرف الكريم العالي الجمالي ناظر الخواص الشريفة بالممالك الإسلامية عظم الله شأنه وصانه عما شأنه. ومعلوم أنه لم يطبع حتى الآن لابن المقفع سوى كتاب كليلة ودمنة ورسالة الدرة اليتيمة. قال القفطي في ترجمة ابن المقفع ما نصه: كان فاضلاً كاملاً وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور وهو فارسي المنسب ألفاظه حكمية ومقاصده من الخلل سليمة ترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة وهو كتاب قاطيغورياس وكتاب باري ارمينياس وكتاب انالوطيقا وذكر أنه ترجم اسياغوجي تأليف فرفوريوس الصوري وغيره وترجم ذلك بعبارة سهلة وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة وله تواليف حسنة منها رسالته في الأدب والسياسة ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. وإليك الرسالة كما هي في الأصل: بسم الله الرحمن الرحيم قال عبد الله بن المقفع رحمه الله تعالى: عمل البر خير صاحب. أحق ما صان الرجل أمر دينه. الآلف للدنيا مغتر. من ألزم نفسه ذكر الآخرة اشتغل بالعمل. المغبون من طلب ثواب الآخرة في الدنيا. القلب أسرع تقلباً من الطرف. أحسن العفو ما كان عن عظيم الحرم. الاعتراف يؤدي إلى التوبة. الإصرار وعاءٌ للذنوب. الجواد من بذل ما يضنُّ به. المتكلف لما لا يعنيه متعرض لما يكره. الفكر مفتاح القلب. الاستماع أسلم من القول. كمون الحقود ككمون النار في العود. أكرم الأخلاق التواضع. التواضع يورث المحبة. الكبر مقرون به سوء الظن. من عذب لسانه كثر إخوانه. من استبعد الآخرة ركن إلى الدنيا. سرور الدنيا كأحلام النائم. المغبون من طلب الدنيا بعمل الآخرة. المصيبة العظمى الرزية في الدين. سرور الدنيا مخوف المغبة. من

أهلك نفسه في مرضاة غيره عظمت جنايته. أنفع الكنوز العمل الصالح. أحقُّ الناس بالبر أعلمهم بالعاقبة. من أبصر العاقبة فآثرها أمن الندامة. الوالي من وزرائه بمنزلة الرأس في أعضائه. من عرف ثمار الأعمال كان حقيقاً أن لا يغرس مراً. أهن دنيا بائدة تستكمل كرامة. أبقي الجروح مضضاً جرح الآثام. ائت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك. استصغر المشقة إذا أدت إلى منفعة. رأس البر الورع. اطلب الرحمة بالرحمة. خير الأعمال ما دبر بالتقوى. بالحزم يتم الظفر. من أحب التزكية تعرض للضحكة. الدنيا نوم نائم والدولة حلم حالم. من سالم الناس ربح السلامة ومن تعدى عليهم كسب الندامة. بادر لعمل الخير إذا أمكنك. من حصن سره أمن ضرر ذلك. الدنيا قد تدرك بأجهل كما تدرك بالعقل. أحسن العمل الصالح ما كان بصدق النية. خسر من أنفق حياته في غير حقها. طوبى لمن ترك دنياه لآخرته. من الحق على السلطان رفع ذي الفضيلة وأن يسد فاقته. لا تحمد نفسك على ما تركت من الذنوب عجزاً. والرسول يعرف قدر المرسل. رفق الرسول يلين القلب الصعب. لا رأي لمن انفرد برأيه. من ترك رأي ذي النصيحة اتباعاً لما يهوى استوخم العاقبة. المشاورة أوثق ظهير. المستشار مؤتمن. اعتبر عقل الوالي بإصابته موضع أصحابه. من صحب السلطان لم يزل مروعاً. كثرة أعوان السوء مضرة بالعمل. بالحزم يتم الظفر. بأصالة الرأي تظفر بالحزم. استوجب الطاعة من ذوي الرأي بالمودة الصنيعة عند الملك. (كذا) الحازم من استمسك برأي الحزمة من ذوي الرأي. لا صلاح لرعية واليها فاسد. خير مستفاد الهدى. أكثر محادثة من يصدقك عن عيوبك. حلية الملوك وزراءهم. أكمل النصحاء من لم يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلها. فساد الوالي أضر بالرعية من جدب الزمان. استعن بالصمت على إطفاء الغضب. لا تجنين على نفسك عداوة وبغضة اتكالاً على ما عندك من العمل والقوة والمنعة. كن في الحرص على معرفة عيبك بمنزلة عدوك في معرفة ذلك. البصير من عرف ضره من نفعه. (التواضع يورث المحبة. أكرم الأخلاق التواضع. الكبر مقرون به سوء الظن) ربما تحولت البغضاء مودة والمودة بغضاء. قرب الصالحين داع للصلاح. أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم. المال عون قويٌ على المروءة وإنفاقه مهلكة للمروءة. من عدم ماله أنكره أهله. خير الملوك من يرى أنه لا يضبط ملكه إلا بالعدل بين رعيته وأضيعهم الفظُّ المتهاون. لا تغتر الأقوياء

بفضل قوتهم على الضعفاء. الضعيف المحترس من العداوة أقرب إلى السلامة من القوي المغتر. أخوف الأحقاد أحقاد الملوك. أبصر الوزراء من بصر صاحبه عيبه بالأمثال. من قلَّ كلامه حمد عقله. من عرف قدره قلَّ إفراطه. احسن والدولة لك يحسن إليك والدولة عليك. (كمون الحقود ككمون النار في العود) من حرم العقل رزئ دنياه وآخرته. آفة العقل العجب. الهمُّ مرض العقل. احذر صولة اللئيم إذا شبع. احسن المدح أصدقه. الإحسان يقطع اللسان.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كتاب المعجب في الناس من يحكمون على الأشياء بظواهرها وعلى كليات الأمور بجزئياتها فيأخذون من الغلط صواباً ومن الباطل حقيقة ويا ليتهم ما استنتجوا ولا استنبطوا. عادة يكفي في وصف قبحها بأنها تخلط بين الحق والباطل والصدق والكذب. ولقد كنت استحلي من بعض أهل العلم تأففه من سماع الاستنباط في الأخبار علماً منه بأن صحة البرهان تكاد تكون مفقودة في الأمة فكان شأنه إذا قصَّ عليه أحد قصة أن يشير إليه بترك الاستنباط وأن يكتفي بذكر نبأه مجرداً عن الشروح والحواشي وحواشي الحواشي. ومن سوء الاستنتاج أو الاستنباط دعوى بعضهم أن سوق الشعر لما راجت في الأندلس كانت السبب في زوالها وتبديد شمل أهلها لتشاغل القوم به عن الذود عن حياضهم. والظاهر أن القائل بهذا القول طالع بعض كتب التراجم وفيها شيءٌ من الشعر للمترجم بهم فظنَّ أن هذه العناية بالقريض سلبت من النفوس الاستقلال ونزعت منها قوة الإرادة وأغرقتها في بحور الترف والسرف وفاته أن الشعب في تلك البلاد كان في أخلاقه وعلمه وقت زوال ملكه أحسن من كثير من الشعوب الباقية اليوم وأن ملوكهم هم الذين يبوءون بالتبعة وأحق باللوم والتعنيف. نعم كان للقوم غرام أيامئذ بالشعر والأدب لأنهما وسيلة إلى العلوم كافة حتى قيل عن المعتمد بالله بن عباد الأندلسي أنه كان لا يستوزر وزيراً إلا أن يكون أديباً شاعراً حسن الأدوات فاجتمع له من الوزراء الشعراء ما لم يجتمع لأحد قبله ولم يكن الشعر هو القاضي على تلك المملكة وإنما هو اختلاف كلمة المتغلبين ووجودهم وسط أعداء أشداء يسعون كل يوم إلى تأييد سلطانهم والنيل من عداتهم والأخذ بالقديم من ثاراتهم على حين كان أمراء الطوائف بالأندلس لاهين ساهين همة أحدهم كأس يشربها وقينة تسمعه ولهو يقطع به أيامه وبلغ من تخاذل ملوك الأندلس وتواكلهم إن كان ملوك النصارى يأخذون الإتاوة من ملوكها قاطبة يدفعونها إليهم في حين ضعفهم عن يد وهم صاغرون. ولما تمكن حب الأثرة من جوانحهم أخذ أحدهم يلتجئ إلى عدوه الإفرنجي ليعينه على أخيه وأبيه. ولذا كان العقلاء يتنبأون بذهاب الأندلس عن حكم المسلمين قبل سقوطها بزهاء قرنين ومن

هؤلاء الرجال عبد الرحمن بن خلدون شيخ فلاسفة العمران. على أن فتح الأندلس كان من الغلطات التي جرت على الأمة وبالاً كان في الوسع تحاميه. بيد أن الغلط في فتح هذه البلاد كان باعثاً على ظهور إبداع العرب وفضل ذكائهم في الغرب فحمل ذاك الشعب المبذعر البائد لجيرانه من الأوربيين نموذجاً من الحضارة والعلم. وإني لأحمد الله على أن أرانا دوراً سقطت فيه كلمة الممخرقين والسفسطائيين فطبع من كتب الأسلاف ما سهل الوقوف على حقائقهم وأخبارهم ومن جملتها كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب لمحيي الدين أبي محمد عبد الواحد بن علي المراكشي طبعه في ليدن أحد علماء المشرقيات العلامة دوزي الهولندي صاحب كتاب المسلمون في إسبانيا المكتوب باللغة الفرنسية وناشر كثير من مؤلفات الأندلسيين كما طبعه طبعة ثانية غيره من علماء المشرقيات. لم أعثر لمؤلف المعجب على ترجمة وإنما قال عن نفسه في كلامه على مراكش وبهذه المدينة أعني مراكش مسقط رأسي وهي أول أرض مس جلدي ترابها وكان مولدي بها لسبع خلون من ربيع الآخر سنة 581 في أول أيام أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ابن علي ثم فصلت عنها وأنا ابن تسعة أعوام إلى مدينة فاس فلم أزل بها إلى أن قرأت القرآن وجودته ورويته عن جماعة كانوا هناك مبرزين في علم القرآن والنحو ثم عدت إلى مراكش فلم أزل متردداً بين هاتين المدينتين ثم عبرت إلى جزيرة الأندلس في أول سنة 603 فأدركت بها جماعة من الفضلاء من أهل كل شأن فلم أحصل بحمد الله من ذلك كله إلا معرفة أسمائهم وموالدهم ووفياتهم وعلومهم وانفردوا دوني بكل فضيلة ولا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم. وهذا الكتاب هو كما وصفه مؤلفه: أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدود أقطاره وشيءٍ من سير ملوكه وخصوصاً ملوك المصامدة بني عبد المؤمن من لدن ابتداء دولتهم إلى سنة 621 ينضاف إلى ذلك نبذة من ذكر من لقيه المؤلف أو لقي من لقيه أو روى عنه بوجه ما من وجوه الرواية والشعر والعلماء وأنواع أهل الفضل ومن الوجوه التي ذكرها لمن قدم له كتابه عذر في غاية اللطف وإن كان في غنية عنه إلا وهو قوله ضعف عبارة المملوك وغلبة العي على طباعه فمهما وقع في هذا الإملاء من فتور لفظ أو

إخلال بسرد فهو خليق بذلك على أن عبارة الكتاب في الغاية جزالة وبلاغة شأن معظم ما أثر عن الأندلسيين. حدد المؤلف أولاً جزيرة الأندلس أجمل تحديد مندمج واضح وذكر خبر فتحها وأتى بأجمع تفصيل لأخبارها وسير ملوكها ومن كان فيها من الفضلاء وذكر هناك حديثاً ضعيفاً في فضل الأندلس وهو في معنى الأحاديث التي يرويها أهل كل بلد من بلاد الإسلام في فضل بلدهم وقال أن معظم ما يروى من هذا القبيل فيه نظر. وأحسن بأن عدَّ من جملة فضائل الأندلس أنه لم يذكر قط أحد على منابرها من السلف إلا بخير إشارة إلى أن بني مروان وإن استولوا على تلك البلاد بعد سقوط دولتهم في المشرق بأيدي العباسيين لم يعمدوا ثمت إلى لعن أحد على منابرها كما جروا مع الخليفة الرابع نحو ألف شهر. أوجز المؤرخ في ذكر الأمويين لأنه لم يضع كتابه لذكر أخبارهم وإنما أورد طرفاً مجملاً منها حباً بتسلسل الحوادث وعني بذكر دولة المصامدة خاصة فلم يصف عبد الرحمن الداخل بأكثر من قوله: (فلم يزل مستتراً يتنقل في بلاد المرغب حتى دخل الأندلس ودخلها حين دخلها طريداً وحيداً لا أهل له ولا مال فلم يزل يصرف حيلته ويسمو بهمته والقدر مع ذلك يوافقه إلى أن احتوى على ملكها وملك بعض بلاد العدوة وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكر عنده قال ذاك صقر قريش وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم وعلى سيرة جميلة من العدل. وبعد فلو اعتدل المترجمون في ذكر مترجميهم إلى هذا الحد لما احتاج المطالع في تمحيص الحقائق إلى روية زائدة ولسقط كثير ممن تلتمس بركاتهم ويترضى عنهم كلما ذكروا. وقال في هشام بن عبد الرحمن أنه كان حسن السيرة متحرياً للعدل يعود المرضى ويشهد الجنائز ويتصدق بالصدقات الكثيرة وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الشديدة المطر ومعه صرر الدراهم يتحرى بها المساتير وذوي البيوتات من الضعفاء ولم يزل هذا مشهوراً من أمره وذكر ولده الحكم بن هشام الملقب بالمرضي بأنه طاغ مسرف وله آثار سوءٍ قبيحة قال (وفي أيامه أحدث الفقهاء إنشاد أشعار الزهد والحض على قيام الليل في الصوامع أعني صوامع المساجد وأمروا أن يخلطوا مع ذلك شيئاً من التعريض به مثل أن يقولوا يا أيها المسرف المتمادي في طغيانه المصر على كبره المتهاون بأمر ربه أفق من سكرتك

وتنبه من غفلتك وما نحا هذا النحو فكان هذا من جملة ما هاجه وأوغر صدره عليهم وكان أشد الناس عليه في أمر هذه الفتنة الفقهاء وهم الذين كانوا يحرضون العامة ويشجعونهم إلى أن كان من أمرهم ما كان). يقسم المعجب إلى قسمين طبيعيين ينتهي الأول بقيام محمد بن تومرت صاحب دولة الموحدين وينتهي القسم الثاني بسنة 621 ففي القسم الأول خلا التاريخ السياسي تراجم كثير من أهل السياسة والعلم والأدب. وتراجم المشاهير هي في الحقيقة تاريخ السياسة. فممن ذكرهم من أهل العلم أبو محمد بن حزم وأورد له قطعة من شعره ومما قاله في رجل تمام أتمُّ من المرآة في كل ما درى ... وأقطع بين الناس من قضب الهند كأن المنايا والزمان تعلماً ... تحيله في القطع بين ذوي الود وذكر ابن عبدون وابن وهبون القائل قلَّ الوفاءُ فما تلقاهُ في أحد ... ولا يمر لمخلوق على بال وصار عندهم عنقاءُ مغربة ... أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال وترجم ابن زيدون وابن عمار وقد أورد له من قصيدة بيتاً لم يسمع لمتقدم ولا لمتأخر بمثله وهو السيف أفصح من زياد خطبة ... في الحرب إن كانت يمينك منبراً وألمَّ بذكر ابن اللبانة الذي أكثر من رثاء المعتمد على الله وقد حبسه صاحب مراكش باغمات واستلب منه ملكه وقتل ولده ومما قاله ابن اللبانة في المعتمد والدهر في صبغة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فيها استحالات ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة وأطال المؤلف في ترجمة ابن عمار وأجاد لأنها دالة على حالة سياسية وقد يورد من الأشعار أرقها وأعذبها ويعتذر بأنه خالف الغرض الذي فرضه على نفسه من الاختصار كل مرة بأسلوب. ولابن عمار لما حبسه المعتمد (قصائد لو توسل بها إلى الدهر لنزع عن جوره أو إلى الفلك لكف عن دوره فكانت رقىً لم تنجع ودعوات لم تسمع وتمائم لم تنفق)

فمنها قوله: سجاياك إن عافيت أندى وأسجح ... وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله تجنح حنانيك في أخذي برأيك لا تطع ... عداي ولو أثنوا عليك وأفصحوا إلى أن يقول: وماذا عسى الواشون أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي واضح متصحح نعم لي ذنبٌ غير أن لحمله ... صفاة يزلُّ الذنب عنها فيسفح عليك سلام كيف دار به الهوى ... إليّ فيدنو أو عليَّ فينزح ويهنئه إن مت السلو فإنني ... أموتُ ولي شوق إليه مبرح وبين ضلوعي من هواه تميمة ... ستنفع لو أن الحمام يجلحُ وأطال صاحب المعجب أيضاً في نقل رسائل ابن عبدون وهي في الغاية جزالة ورشاقة وشعره الجيد المنسجم وهو صاحب القصيدة التي يقول في أولها الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاءُ على الأشباح والصور وكان ابن عبدون (أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب) ومن شعره لاح المشيب على رأسي فقلت لهُ ... الشيب والعيب لا والله ما اجتمعا يا ساقي الكأس لا تعدل إلي بها ... فقد هجرت الحميا والحميم معا ومنه إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا رأيت فيها شييخاً لست أعرفه ... وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى ومن لطيف الشعر ما رواه لأبي عمر القسطلي من شعراء الطبقة الثالثة في الأندلس - قال أبو منصور الثعالبي في اليتيمة القسطلي عندهم كأبي الطيب بصقع الشام - يمدح بها أبا علي القالي: من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي أقصر فما دين الهوى كفر ولا ... اعتد لومك لي من التنزيل عجباً لقوم لم تكن أذهانهم ... لهوى ولا أجسادهم لنحول

دقت معاني الحب عن إفهامهم ... فتأولوه أقبح التأويل في أي حاجة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل إن قلت في عيني فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي ومما ارتجله أبو عمر في بعض مجالسه أجد الكلام إذا نطقت فإنما ... عقلُ الفتى في لفظه المسموع كالمرءِ يختبر الإناَء بصوته ... فيرى الصحيح به من المصدوع ولما ملك أمير المسلمين يوسف جزيرة الأندلس وكان صاحب المغرب الأقصى وضخم سلطانه واستحق اسم السلطنة وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين وانقطع إليه (من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار فممن كتب لأمير المسلمين كاتب المعتمد على الله أبو بكر المعروف بابن القصيرة) (كان على طريقة قدماء الكتاب من إتيان جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أخذها متأخر والكتاب اللهم إلا ما جاء في رسائله من ذلك عفواً من غير استدعاء) وذكر غيره مثل ابن عبدون وأورد له بعض رسائله التي كتبها عنه وهي مسجعة منمقة كما كان أورد له طرفاً صالحاً من شعره. قال ولم يزل حال أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس وصرف عنايته إلى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك كأبي القاسم بن الجد المعروف بأن القبطرنة وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وأخيه أبي مروان وأبي محمد عبد المجيد بن عبدون المذكور آنفاً في جماعة يكثر ذكرهم وكان من أنبههم عنده وأكبرهم مكانة لديه أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال) وهنا نقل المؤلف شيئاً من رسائل هذا وبها انتهى القسم الأول باختلال أحوال المرابطين واستبدادهم بالأمر حتى خرج عنهم. يبتدئ القسم الثاني من هذا الكتاب بقيام محمد بن تومرت الذي قام بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سنة 515 وادعى المهدوية ولحقه جماعة في بلاد المغرب وأسس دولة المصامدة في الأندلس بممالأة عبد المؤمن بن علي. أفاض المؤلف في ترجمة هذا المهدي فكشف الغطاء عن حقيقته ولا عجب فإن ابن تومرت من أعاجيب الخلق ورجال العلم ثم

ذكر خليفته من بعده عبد المؤمن وأولاده وأحفاده ووزراءهم وكتابهم وقضاتهم وأخلاقهم وصفاتهم وأخبارهم. ولما دانت أكثر بلاد الأندلس لعبد المؤمن وتشوفت إليه أعيانها سار حتى نزل سبتسة فعبر البحر ونزل الجبل المعروف بجبل طارق وسماه هو جبل الفتح فقام به أشهراً وابتنى به قصوراً عظيمة واجتمع له في مجلسه فيه من وجوه البلاد ورؤسائها وأعيانها وملوكها من العدوة والأندلس ما لم يجتمع لملك قبله واستدعى الشعراء في هذا اليوم ابتداءً ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك إنما كانوا يستأذنونه فيؤذن لهم وكان على بابه منهم طائفة مجيدون فدخلوا فكان أول من أنشد أبو عبد الله محمد بن حبوس من أهل مدينة فاس وكانت طريقته في الشعر على نحو طريقة محمد بن هاني الأندلسي في قصد الألفاظ الرائعة والقعاقع المهولة وإيثار التقعير. كرر المؤلف الثناء على عبد المؤمن ومما قاله فيه وقد كرر هذا المعنى مراراً (وكان محباً في الآداب مؤثراً لأهلها يهتز للشعر ويثيب عليه اجتمع له من وجوه الشعراء وأعيان الكتاب عصابة ما علمتها اجتمعت لملك منهم بعده) وأفاض ما شاء وشاء بيانه في وصف أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وكان عالماً مفنناً مكرماً للعلماء والشعراء كثيراً ولم يزل (يبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب وكان ممن صحبه من العلماء والمتفننين أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة المسلمين كان متحققاً بجميع أجزاء الفلسفة) (يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخدمة من الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد إلى غير هؤلاء من الطوائف وكان يقول لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عمدهم وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له بلغني أنه كان يقيم في القصر عنده أياماً ليلاً ونهاراً لا يظهر وكان أبو بكر هذا أحد حسنات الأندلس في ذاته وأدواته) (ولم يزل أبو بكر هذا يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار وينبهه عليهم ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم). وابن الطفيل هو الذي استدعى ابن رشد يوماً وقال له: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه ويقول لو

وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس فأن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبر سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه قال أبو الوليد فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس وابن الطفيل هو صاحب رسالة حي بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية التي استخلصها من كلام الرئيس أبي علي بن سينا. وختم المؤلف ترجمة أبي يعقوب بقوله وهو شاهد على انطلاق في الفكر: (وفي الجملة لم يكن في بني عبد المؤمن في من تقدم منهم وتأخر ملك بالحقيقة غير أبي يعقوب هذا) ومما دل على حرية خاطره ما وقع له مع أستاذه أبي جعفر الحميري علم الأندلس في الآداب والعلم وقد نظم بيتين استحسنها وقال لابنه هذا والله الشعر لا ما تصدعني به طول نهارك فما كان من ابن أستاذه إلا أن عمل بيتين أخذ معنى بيتي المؤلف وأعدمهما رونقهما ومسخهما جملة قلما تلاها الحميري على تلميذه استحسنهما فقال: هذا والله أحسن من شعري فتغير له وقال: (يا بني دع عنك هذه العادة فإن أسوأ ما تخلق به الإنسان الملق وتزيين الباطل سيما إذا أصاف إلى ذلك الحلف الكاذب والله إنك لتعلم أن هذا ليس بشيءٍ وإلا فقد اختل ميزك وساء اختيارك وما أظن هذا هكذا). وكتب المؤلف ثلاثاً وثلاثين صفحة في ترجمة أمير المؤمنين أبي يوسف وكان يخالف من تقدمه في مشربه تداخل في عقائد الناس وألزمهم بعقيدته وطلق الحرية بتاتاً واضطر اليهود أن يلبسوا ثياباً غير ثيابهم تمييزاً لهم وإهانة والغالب أن سوق الشعر لم ترج في أيامه كل الرواج كما كانت في أيام غيره من الملوك وكانت كلها حروباً وفتناً وسفكاً وبطشاً وعمارة قصر وأحياء مدينة. ومما رواه حيلة لطيفة احتالها ابن عمار رجل الجزيرة على ملك الاسبانيول الأدفنش عندما خرج في جيوش ضخمة يقصد بلاد المعتمد طامعاً فيها (وذلك أنه أقام سفرة شطرنج في غاية الإتقان والإبداع لم يكن عند ملك مثلها جعل صورها في غاية الإتقان أظهرها بحيث بلغ أمرها ملك الأسبان وكان مولعاً بالشطرنج وكان ابن عمار طبقة عالية فيه فأراده الملك

على أن يلعبا معاً فما كان إلا كلا ولا حتى غلب ابن عمار ملك الإفرنج غلبة ظاهرة لجميع الحاضرين لم يكن له فيها مطعن فقال له ابن عمار هل صح أن لي حكمي قال نعم. فما هو قال أن ترجع من هاهنا إلى بلادك فأسود وجه الملك وقام مقعد ورجع عن قصد الفتنة بعد أن أخذ إتاوة عامين بفضل ابن عمار. ومن نكت الكتاب ما رواه من أن أبا العلاء صاعد بن الحسن الربعي دخل على المنصور أبي عامر يوماً في مجلس أنسه وقد كان تقدم له أن اتخذ قميصاً من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه فلبسه تحت ثيابه فلما خلا المجلس ووجد فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط فقال له ما هذا يا أبا العلاء فقال هذه الخرائط التي وصلت إليّ منها صلات مولانا اتخذتها شعاراً وبكى واتبع ذلك من الشكر فصلاً كان رواه فاعجب ذلك المنصور وقال له لك عندي مزيد وكان كما قال. وألف له أبو العلاء هذا كتباً فمنها كتاب سماه كتاب الفصوص على نحو كتاب النوادر لأبي علي القالي واتفق لهذا الكتاب من عجائب الاتفاق أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه وعبر النهر نهر قرطبة فخانت الغلام رجله فسقط في النهر هو والكتاب فقال في ذلك بعض الشعراء وهو ابن عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن العريف بيتاً مطبوعاً بحضرة المنصور وهو قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص فضحك المنصور والحاضرون فلم يرع ذلك صاعداً ولا هاله وقال مرتجلاً مجيباً لابن العريف عاد إلى معدنه إنما ... توجد في قعر البحار الفصوص ومما يستفاد من هذا الكتاب وهو حريٌّ بأهل هذا العصر أن يتدبروه ما ذكره لبعض الأولاد ممن لا يتجاوزون الخامسة عشرة من الشعر والنثر فمن ذلك قصيدة للرصافي الشاعر قالها في حضرة الخليفة في يوم الحفل ولم تكمل له عشرون سنة ورسالة أوردها لصبي بعث بها للمؤلف من مدينة سوس يخبره بفتح عظيم تم على يد السلطان وقطع دابر من كان نازعاً إلى الفتنة وهي من اللطافة بحيث يتعذر على كثير ممن يسمون العلماء الأفاضل لعهدنا أن يكتبوا مثلها أو دونها بدرجات.

وألم المؤلف في سير المصامدة وأخبارهم وقبائلهم وأحوالهم في ظعنهم وإقامتهم وذكر صفة إقامة الجمعة عندهم وذكر خطبتهم وكيفية دعائهم لملكهم وهو عندهم الإمام المعصوم والمهدي المعلوم. وهكذا تجد الكتاب من أوله إلى آخره على نسق واحد يتنقل فيه المطالع بين السياسة والتاريخ وتراجم الرجال وذكر العلماء ومفاوضاتهم والشعراء وشعرهم والوزراء وأخبارهم والكتاب ورسائلهم والفلاسفة وما جرى لهم. كل ذلك لم يخرج فيه عما قصده من التلخيص وذكر أقاليم المغرب وعين مدنه وحدد ما بينها من المراحل عدداً من لدن برقة إلى سوس الأقصى وذكر جزيرة الأندلس وما يملكه المسلمون من مدنها. عمل ذلك عملاً بإرادة الملك الذي صنف الكتاب باسمه وقال في الاعتذار عن ذلك وما أحلاه من اعتذار: فلم ير المملوك بداً من الجري على العادة في سرعة الإجابة وامتثال مرسوم الخدمة لوجوب ذلك عليه شرعاً وعرفاً هذا مع أن هذا الباب خارج عن مقصود هذا التصنيف وداخل في المسالك والممالك. فجاء الكتاب كما ترى سفر جغرافية المغرب فيه ذكر معادنها وأنهارها ومدنها وتاريخ مختصر لها بل تاريخ للآداب والعلم والاجتماع فيها يطالعه المستفيد فيكاد لا يترك القلم من يده يقيد من شوارده وفوائده مع أن صفحات الكتاب لا تتجاوز 273 من القطع الوسط وهو على اختصاره يغني عن مطالعة المطولات لقلة الظفر بها. وما أخال عالماً في هذا القرن على جودة طرق التعليم في بلاد الإفرنج ووفرة أسباب العلم عندهم لو أراد أن يؤلف في موضوع هذا الكتاب أن يكتب أصغر منه جرماً وأكثر منه فائدة وإمتاعاً. وقد قيل أن الأسماء تدل على مسمياتها ولكل شيء من اسمه نصيب. وكتاب المعجب هو في الحقيقة مما وافق اسمه مسماه وطابق لفظه معناه لا يقرأه مستفيد إلا ويعجب به كل الإعجاب وقد أجاد طابعه في اتباعه بفهرست للأسماء الواردة في الكتاب وأسماء الكتب المذكورة فيه وذلك على عادة الغربيين في كل ما طبعوه من الكتب العربية جزاهم الله خيراً. تاريخ التمدن الإسلامي من الكتب النافعة التي عني بتأليفها تاريخ التمدن الإسلامي لرصيفنا المؤرخ الفاضل جرجي أفندي زيدان صاحب الهلال الأغر وهو يبحث في نشوء الدولة الإسلامية وتاريخ مصالحها الإدارية والسياسية والجندية وبيان ثروتها وتاريخ العلم والأدب والتجارة

والصناعة فيها ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها والعادات والأخلاق. وقد تفرع عن كل مبحث مباحث وعن كل باب فصول تدل على مبلغ علم المؤلف فتم له هذه السنة الجزء الخامس منه وهو آخر الكتاب. وكان كل سنة يصدر جزءاً فيتحفنا بنسخة منه نطالعها بروية واستبصار. ومن يطالع فهرس الكتب العربية والإفرنجية التي رجع إليها أثابه الله في وضع مصنفه يتجلى له قدر التعب والمعاناة. أما وقد وضع الآن صديقنا المؤلف الخطوط المهمة من رسم هذا الموضوع الواسع فسيجيء يوم يستوفيه هو بنفسه فيزيد فيه أو ينقص منه أو يجيء غيره من متعاطي هذا الفن فيصلحون بعض ما وقع له منها مما لا نسميه هفوات بل اضطراريات لا مناص للواضع في فرع من فروع العلم من الوقوع فيها. والكتاب مطبوع طبعاً جيداً وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة بمصر فنهنئ المؤلف على هذا العمل النافع الذي جعله خلاصة علمه وزبدة ما وصل إليه اطلاعه على الفن الذي يمت به ونسأل الله أن يكثر فينا من أمثاله العاقلين الفضلاء. المدونة الكبرى صدر الجزء العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من هذا الكتاب الجليل رواية الإمام سحنون عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك وبقي منه جزءان فيقع الكتاب بذلك في ستة عشر مجلداً وقد تبين لنا من تصفح هذه الأجزاء الأخيرة أن في بعض الأحكام المنقولة عن محدث المدينة أحكام وافقه فيها القانون الفرنسي ولذلك أصبح من الجدير بكل مشتغل بالحقوق المدنية كما هو حري بطالب العلوم الشرعية أن يقتني هذا الكتاب الممتع ليقابل بين القديم والحديث وليعلم أن الفقه الإسلامي لم ينقل عن الفقه الروماني بل أن مأخذه الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وإنا نثني في هذا المقام أطيب الثناء على طابعه الغيور الحاج محمد أفندي الساسي المغربي كما لا نزال نشكر له ما بذله من العناية في سبيل الحصول على النسخة الأصلية المقروءة على رجال هذا الشأن ليخرج للأمة هذا الكتاب المعدود من أمهات كتبها التي يرجع إليها ويعول في هذا الباب عليها. منتخبات المؤيد جمع سعادة الصحافي الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر وجريدته أقدم جريدة

إسلامية كبرى تصدر في هذا القطر منذ ست عشرة سنة - منتخبات سنة جريدته الأولى جمعها في كتاب وقع في زهاء خمسمائة صفحة وقد أتحفنا بنسخة منه فقرأنا فيه لباب تاريخ تلك السنة السياسي والإداري والعلمي وكل ما يتصرف على ذلك من الأوامر والمنشورات والحوادث المهمة الخاصة بمصر والسودان والدولة العلية فجاء سفراً حافلاً بما يلذ ويفيد نرجو له التوفيق إلى إنجاز سائر السنين في أقرب وقت فإن في بعض الصحف اليومية من الأبحاث التي تقع لها في الغالب ما يجدر بأربابها أن يحرصوا على تخليدها لتنقل خلفاً عن سلف وتكون في القماطر يرجع إليها عند اللزوم. وحبذا لو جرى على مثال صاحب المؤيد الأغر غيره من أرباب الجرائد اليومية ممن يكتبون اليوم ويفقد ما تعبوا بإنشائه غداً. وهذه المنتخبات جيدة الطبع وثمن الجزء عشرون قرشاً مصرياً فنحض كل محب للاطلاع على اقتناء نسخة منها. روح التسامح من القرآن هو كتاب وضعه بالفرنسية حضرات الأفاضل قيصر أفندي ابن العطار والهادي أفندي السبعي وصديقنا السيد عبد العزيز الثعالبي التونسي ترجموا فيه الآيات والأحاديث النبوية الآمرة بالتسامح واحترام المخالفين وأفاضوا في حرية الاعتقاد في الإسلام ورفع شأن المرأة وبينوا فيه أن الإسلام دين عام لا خاص جاء للعرب فقط وأنه يأمر بتعليم الرجل كما يأمر بتعليم المرأة ويقضي باحترام كل صالح من أي نخلة كان وبينوا فيه ما كان من شأن الإسلام في خدمة الحضارة والمدنية ونعوا على المسلمين إغفالهم أصول دينهم والتمسك بخرافات وأضاليل من مثل تقديس الأئمة ومشايخ الطرق وغير ذلك وهو كتاب إصلاحي مفيد قدموه إلى المسيو فالي أحد أعضاء مجلس الشيوخ في فرنسا وناظر حقانيتها سابقاً فشكرهم على غيرتهم ونشاطهم. والكتاب طبع في باريس أحسن طبع ويطلب من مؤلفيه في تونس. امالي الزجاجي لبعض العلماء في القديم طريقة كانوا يملون فيها مسائل من علمهم يسمونها الامالي وممن اشتهروا بذلك ابن الشجري إمام الأدب والشعر وأيام العرب ألف اماليه فكان أحسن كتبه ومنهم أبو العباس ثعلب النحوي له امالٍ ولأبي علي القالي كتاب في الامالي عرف به

ولأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري امالٍ ولأبي القاسم الزجاجي النحوي المتوفى سنة 337هـ امالٍ أيضاً وقد طبعت هذه الأيام امالي الزجاجي بمصر وشرحها الفاضل الأديب الشيخ أحمد ابن الأمين الشنقيطي فجاءت في نحو 140 صفحة جيدة الورق والطبع فنثني على طابعيها الألباء أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وأخيه وهي تطلب من مكتبة أمين أفندي المومأ إليه بالحلوجي وفيها فوائد لغوية وأدبية وتاريخية لا يستغني عنها متعاطي هذه الصناعة فنشكرهم على هذه التحفة. سقوط نابليون الثالث قلما ينشر بيننا من الروايات المفيد التصحيح الأسلوب والتراكيب النابي عن طور الخلاعة والرقاعة ولكن رواية سقوط نابليون التاريخية الاجتماعية الأدبية الغرامية العصرية جاءت وافية ببعض الغرض فهي بلا مراء من أحسن ما عرب لنا. ألفها الكاتب الفرنسي اميل جابوريو وعربها الشاعر الكاتب المجيد نقولا أفندي رزق الله ولم يقع المعرب في مثل ما وقع فيه غيره من كتاب الروايات من التراكيب الإفرنجية والألفاظ المبتذلة العامية والتراكيب الركيكة بل أنها على طولها نسق واحد في جودة عبارتها وتعبيرها مع انطباقها على الأصل في الغالب بحيث جاءت في ثلاث مجلدات تقرب من ألف صفحة. ويقيننا أنه لو رجع المعرب الفاضل على ما كتب لحذف بعض ما جاء على رأس قلمه عفواً من التجاوزات وبعض الألفاظ التي لا يكاد يسلم منها كاتب عربي في هذا العصر على أن ما كتبه غاية ما يمكن لكتاب الروايات أن يجيدوا فيه الآن فنثني على همته وأدبه كما نثني على طابعها الأديب عزتلو خليل بك صادق صاحب مجلة مسامرات الشعب وصاحب مكتبة الشعب ومطبعتها بمصر وهي تطلب من مكتبته وثمنها ثلاثون قرشاً صحيحاً. ديوان الرافعي صدر الجزء الثالث من هذا الديوان لناظمه الفاضل الأديب مصطفى أفندي صادق الرافعي وهو تمام ديوانه وقد صدره بباب التهذيب فالحكمة فالنسائيات فالوصف فالغزل والنسيب فالمديح والتقريظ فالأغراض والمقاطيع فالمراثي ويدخل في كل باب ضروب من الحكمة والدب تدخل السرور على قلب الكئيب وتحمل النور إلى عقل الأديب الأريب من ذلك قوله:

قومي (ولا فخر) على حالة ... لا يعرف الإنسان إنسانا فكلهم مأربه واحدٌ ... فيما أرى شيباً وشبانا (وظيفة) تكتب تحت اسمه ... أو (رتبة) تذكر عنوانا وقال في الطبيعة والناس ضلت الناس لا الفقير ممنى ... بثراءٍ ولا الغني يبالي خفض الدهر ثم أعلى فأمسى ... بعضهم سادة وبعض موالي أخوة كالغصون ينبتها الجذ ... ع قصار تكون تحت طوال أيهذي النفوس ملت عن الفط ... رة حتى بليت بالإذلال الثرى ينبت الحبوب جزافاً ... والورى يقسمون بالمكيال والشاعر على ما يعرفه القراء مطبوع في شعره مجيد في نثره فله منا الشكر على همته ونشاطه وقد وقع هذا الجزء في 150 صفحة جيدة الطبع والورق وهو يطلب من المكتبة الأزهرية في السكة الجديدة وثمنه خمسة قروش وأجرة البريد قرش واحد فنحث المتأدبين على مقتناه. الرحلة الحجازية هو كتاب في 228 صفحة من جمع الأديب الشيخ عبد الله القدومي فيه حوادث ومسائل علمية أثرت عن الشيخ عيسى القدومي النابلسي من علماء القرن الماضي وفيها مطالب دينية وبعضها مما لا يقره أهل التحقيق الراجعين إلى هدى الكتاب والسنة من أقوم طريق ممن ردوا مفتريات الحشوية وأهل التلفيق. وإنا إذا عذرنا المؤلف على ما وقع فيه لما عمت به البلوى من السخافات في عصره عصر التقهقر والجهالة فإنا لا نعذر الطابع اليوم وعصره عصر الارتقاء والعلم. روايتان جديدتان أهدانا الأديب إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية نسخة من رواية القبطان بول تعريب الأديب حبيب أفندي فهمي ونسخة من رواية حورية الفلك تعريب الأديبين توفيق أفندي حبيب وقسطنطين أفندي نوفل وهما تطلبان من مكتبته. مجلات جديدة

(الجامعة) هي المجلة التي اشتهرت بأبحاثها الأدبية والاجتماعية المعربة عن علماء الإفرنج وكتابهم وبعد أن صدرت أربع سنين في الثغر الإسكندري انتقلت منذ مدة إلى ثغر نيويورك فأصبحت تصدر هناك مرتين في الشهر وقد انتهت إلينا أعدادها الخمسة من سنتها الخامسة فألفيناها سارت سيرتها الماضية من التوسع في المطالب المشار إليها فنثني على منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون ونحث الأدباء على مقتناها وقيمة الاشتراك بها ثلاثة ريالات في القطر المصري. (الحياة) هي المجلة الإسلامية العمرانية الفلسفية التي أصدرها الفاضل محمد فريد بك وجدي ثمانية عشر شهراً ثم انقطع عن إصدارها وقد بدا له هذه الآونة إعادتها فصدرت شهرية جاعلة مذهبها في الإصلاح مواجهة أنصار القديم وزعماء الجديد وطائفة المعتدلين والسعي في إحداث حركة فكرية بينهم في أبواب قسم عليها أبواب المجلة فنثني على نشاط منشئها الفاضل ونتمنى له التوفيق إلى ما يقصد إليه وقيمة اشتراك المجلة 20 قرشاً في مصر وريال ونصف في البلاد العثمانية. (النبراس) مجلة علمية أدبية تاريخية فكاهية تصدر في كل شهر مرة لصاحبها الأديب أحمد أفندي شاكر وهي في 16 صفحة وقيمة اشتراكها 15 قرشاً أميرياً وخمسة فرنكات ونصف في الخارج فنتمنى لها الثبات والبقاء. (فتاة الشرق) صدر العدد الأول من هذه المجلة الأدبية التاريخية الروائية لصاحبتها الأديبة العقيلة لبيبة هاشم وهي مشهورة بإنشاء بعض الروايات والمقالات في الصحف سابقاً ولذلك يرجى أن تحسن الاضطلاع بأعباء هذا العمل ولا تتكل على أقلام الرجال في كتابة مجلة لربات الحجال وقيمة الاشتراك 50 قرشاً في القطر و13 فرنكاً و50 سنتيماً في الخارج. أهديت إلينا بعض كتب كبيرة لم نتمكن بعد من النظر فيها فمعذرة إلى مرسليها وموعدنا الأجزاء التالية.

سير العلم

سير العلم صحافة مصر يؤخذ من تقرير البريد المصري عن سنة 1905 أنه يصدر في القطر المصري 33 جريدة سياسية وتجارية عربية و8 جرائد شرقية غير عربية و53 إفرنجية وجريدتان عربيتان هزليتان وثلاث جرائد إفرنجية وعشرون مجلة أدبية وعلمية وصناعية عربية ومجلة واحدة شرقية ومجلتان إفرنجيتان و11 مجلة عربية ومجلتان دينيتان عربيتان و4 مجلات طبية عربية ومجلة واحدة نسائية إفرنجية ومجلة عربية ماسونية. فمجموع ما يصدر في القطر بين صحف ومجلات عربية وإفرنجية 146 منها 61 إفرنجية و9 شرقية غير عربية و76 عربية. تطهير الهواء هواء المدن في العادة فاسد مضر رديء فالأبخرة والغازات والغبار المتراكم والدخان والروائح القذرة العفنة التي تتكاثف في الجو بلا انقطاع تفسد المناخ ولاسيما إذا زاد سكان المدينة عن المليون يحيط بهم مليارات من الأمتار المكعبة من الهواء الذي تنمو فيه الجراثيم القتالة. وقد عرض طبيبان من أطباء غلوستر في مقاطعة الماساشوست في أميركا الشمالية طريقة ادعيا أنهما وفقا إليها وأنها تطهر الأهوية وذلك بأن تقام مئات من الآلات المفرغات تنقي كل منها عشرة آلاف متر مكعب من الهواء كل دقيقة. واقترحا أن تجرب طريقتهما تحت القبة الأرضية من السكة الحديدية الجديدة التي أنشئت منذ بضعة أشهر تحت مدينة نيويورك. ويكلف إقامة مائة آلة مفرغة مليون جنيه فتتجمع المواد الحيوانية والنباتية والمعدنية المعلقة في الفضاء بعد إجراء التطهير في حفر ذات بواليع (مجارير) فيستخدم ما يجمع في بعض الأعمال الزراعية والصناعية فيكون من ذلك أرباح توفي النفقات وتزيد. نفق المانش أقيم منذ أشهر نفق (تونيل) بين إيطاليا وسويسرا واليوم يراد إقامة نفق ثان تحت بحر المانش بين إنكلترا وفرنسا ويكون طول هذا النفق ثلاثين ميلاً أو ثمانية وأربعين كيلومتراً على عمق 45 متراً عن قاع البحر فتستفيد الأمتان من اتصال بلادهما مباشرة بدون ركوب

اليم ويصبح ثغر دوفر أعظم الثغور فينافس ثغر همبورغ وانفرس وتتصل لندن بباريس ومجريط مدريد ولشبونة وبروسل وفينا ورومية والأستانة وأثينا وبطرسبرج. القهوة (البن) الخالصة تصعب معرفة جيد القهوة الناعمة من رديئها وقد نشر مكتب الزراعة في الولايات المتحدة كراسة لإحاطة القوم علماً بالقهوة الرديئة جاء فيها إذا كانت القهوة المسحوقة ذات شكل واحد تفحص بالعين المجردة أو بالعدسية وإذا لم تكن على شكل واحد فتكون القهوة مخلوطة بفول أو حمص أو هندباء أو غيرها من المواد وللوقوف على سلامة القهوة ضع قليلاً من مسحوقها في زجاجة مليء نصفها ماءً وحركها حتى يبتل كل جزءٍ من أجوائها فيكون في القهوة الخالصة بعض مادة زيتية وبها تطفو على وجه الماء أما ما كان من غير مادة البن فيرسب في أسفل الزجاجة. أما الهندباء فتترك عندما تذاب في الماء أثراً مائلاً إلى السمرة تخدع النظر. الفقراء والأغنياء ارتأى بعض الأمريكيين أن اختلاف كثير من فتيان الأغنياء إلى المدارس الكلية يجلب على فكر الشبيبة ضرراً وخطراً. وقد وافق رئيس كلية يال على هذا التغيير ومن رأيه أن معايب الطلبة الأغنياء كمعايب الطلبة الفقراء ولكلا الفريقين صفات يمتاز بها وفي العادة أن يكون الفقراء أصحاب أنانية وأن يكون الأغنياء ضعافاً في الغالب قال وليس الفقر منقذاً من الأهواء والنزغات. اللغة الجديدة قيل لما رأى تيمورلنك التتري في القرن الثامن لهجرة جيشه مزيجاً من أجناس مختلفة ذات السنة متبلبلة أوعز إلى بعض خاصته بإنشاء لغة يتفاهمون بها على تباين لهجاتهم فأنشؤوا لغة اردو أي الجيش فانتشرت حتى أصبحت الآن لغة الهند الرسمية يتكلم فيها الهنود على اختلاف ولاياتهم ومناحيهم. وأن هذه اللغة الاردية أو الهندستانية كانت من جملة الأمور التي حملت في العهد الأخير أحد أهل العلم في روسيا فأنشأ لغة سماها الاسبرانتو ألفها من لغات أوربا وسهل مفرداتها وتراكيبها ونحوها وبيانها حتى شاعت في مدة قصيرة بين الإفرنج على تنوع لغاتهم وأخذت تصدر فيها الكتب والصحف ويتعرف بها الإيطالي إلى

الروسي والألماني إلى الإسباني والصربي إلى الإنكليزي والبلغاري إلى الفرنسي. وقام في أذهان العلماء أن يسعوا لجعل هذه اللغة لغة دولية كما كانت الفرنسية من قبل فأخذت بعض الجمعيات الساعية في نشر ألوية السلام بين الأنام تبذل الجهد لتكون هذه اللغة التي ألفها البشر عمدة لكل المتمدنين وإنقاذهم من عناء تعلم لغات جمة ليتآلفوا مع بقية الأمم. ويؤخذ من لهجة الصحف الغربية أن عدد المتكلمين بهذه اللغة يزيد كل يوم مئات وأن مجموعهم أربى على مئات الألوف. فلز جديد يتألف هذا الفلز (برونز) اللدن السهل التطريق من النحاس المعروف والقصدير وغيرهما من المعادن الصلبة دعاه مخترعه فورميتال (المعدن القوي) وأنه للينه الخاص به ليصنع كما يصنع الحديد والفولاذ والنحاس فيتأتى سبكه صفائح متجانسة ويصنع على نحو ما تصنع هذه المعادن فيدق محمىً وبارداً ويطرق ويصفح ويطبع ويحدب ويجعل أسلاكاً وقطعاً. وهذا المعدن لا يصدأ ويقاوم فعل ماء البحر فلا يتآكل كما يتآكل الحديد وغيره ويصبر على رطوبة الأرض والحوامض المحلولة. وكل هذا مزايا خاصة به يفضل بها الحديد والفولاذ وليس هو أغلى قيمة من أجود أنواع النحاس ويستعمل للمضخات والاسطوانات المائية والكراسي الميكانيكية واللوالب التي تقذف المواد المدمرة وعدادات توزيع المياه والدواليب المسننة وغيرها. المشي على الماء اخترع ضابط في أميركا قبقاباً إذا وضع الإنسان فيه رجله يسير به على سطح الماء فيعوم ولا يغرق وسمى هذا القبقاب أيضاً زورق الرجل أو حذاء الماء وهو من خشب على شكل زورق صغير تدخل فيه الرجل بسهولة وينحني اللابس إلى الأمام على نحو ما يفعل من يريد التزحلق على الجليد ثم يحرك الرجل اليسرى فيسير الماشي على النحو الذي يسير به الهندي من السهولة إذا ركب زورقه المعمول من القش. وليس هذا الحذاء ثقيلاً وقد كانت الأحذية التي جرب بها الضابط اختراعه بادئ بدء طويلة ثم صغر مقياسها فأصبح الماشي يلبسها ويسير بالسرعة التي يتطلبها ويتجه به حيثما شاء. ويحتاج لبس القبقاب المائي إلى قليل من المعرفة ليتوازن جسمه معها ومتى تعلمها يسير بها كما يسير راكب الدراجة

(بسيكلت) ومتى مشى هذه المشية ثلاث مرات يمهر فيها مهارة تبعده عن الخطر. وإذا حدث أن سير القبقاب انكسر فلا يغرق لابسه لأن القبقاب المائي يستعمل عند الحاجة كما تستعمل الأطواف (الكلخات المشدودة) وهذا السير يكون على وجه الترع والأنهار لا في تيار البحار. قالت المجلة الإفرنجية التي نقلت عنها هذا النبأ ولقد كان بعضهم حاول اختراع شيء يماثل هذا الحذاء الغريب في القرن الماضي وجربه في نهر السين في باريس فلم يفلح أما اختراع الضابط الأميركي اليوم فواف بالغرض المقصود. قلنا وقريباً نرى السائرين على سطح الماء يعبرون النيل والفرات ودجلة وبردى والأعوج والعاصي ونهر إبراهيم ونهر أبي علي وسيحان وجيحان وغيرها من الأنهار والترع ويصدق ما كان يزعمه بعضهم من أنهم كانوا يمشون على الماء ولكن دعواهم كانت بلا علم ولم يقم برهان واحد على صحتها تقبله العقول السلمية ودعوى المخترع الجديد يدعمها العلم والبرهان. الري الشائع أن الأراضي التي تروى على نظام واحد تأتي ثلاثة أضعاف الغلات والثمرات التي تأتي من أرض من مثلها بالتعهد بالسقيا وقد بحث عالمان من علماء الفلاحة من الإفرنج في هذا الأمر فأثبتا أن عدة أسباب تدعو إلى عدم كفاية الري وأن حاجة الأرض إلى الماء ليست على معدل واحد في كل مكان على أنك تجد أكثر الفلاحين في معظم الأقطار يسقون زروعهم على طريقة واحدة وبكمية واحدة ويشحون بالماء على الأرض التي تتطلب مزيد ري على حين كان عليهم أن ينظروا في كل أرض إلى حالة رشحها ويعطوها من الماء ما تقتضيه طبيعتها. وذلك بأن لا تسقى التربة القليلة الرشح سوى كميات كثيرة فيكون ما ينفق على الري متعادلاً مع الغلات التي تأتي منها. ويعنى هذا العالمان بوضع رسم على ما يقتضي لكل أرض صرفه من الماء يتوازى مع غلاتها وعلى حسب طبيعة كل تربة. مستقبل الشمس قال كثيرون من علماء الفلك أن الشمس آخذة بالهبوط وأنها ستظلم بعد أن كانت ضياء العالمين وتوشك أن تنطفئ شعلتها وتبطل حرارتها. وقد أثبت اللورد كيفن ونوكمب وبل من رجال هذا الفن أنه سيكون لعمل الشمس حداً وأنه انقضى زهاء نصف عمرها ولم يبق لها إلا أقله. وخالفهم الأستاذ سي من المرصد البحري في كاليفورنيا بأميركا قائلاً أن

الشمس لم تبلغ حتى الآن سوى ربع عمرها وأن المستقبل كفيل بما سيكون من حالها بعد بانياً حكمه هذا على أعمال رياضية قام بها قيام الأبطال وصبر حتى تناول النتيجة صبر المتخاصمين يوم النزال فبان له أن ما مضى من ملايين السنين على ما ارتآه داروين في النظام الشمسي هو من الاستقراء الناقص في حالتها لأن الجاذبية هي التي تشعل في الشمس وأن حظ معظم السيارات الثابتة كحظ الشمس أي أنه مازال فيها نصف حرارتها وزيادة. وقد اهتم بعض أرباب هذا الشأن باستقراء الأستاذ سي وأخذوا يبحثون في أمره وعلى كل فإن كلامه يبعث على الاطمئنان من ناحية الشمس وأنها ستبقى أيضاً بضعة ملايين من السنين. مركبات القطارات كل من ركب القطارات يعلم ما ينالها من الغبار خصوصاً عندما تصل إلى آخر الخط بعد أن تسير ساعات متواليات وأن السكك الحديدية تستعمل في الغالب المكانس لإزالة الأوساخ التي تعلق في المركبات وقد استعملت بعض البلاد مؤخراً أداة ميكانيكية لكنها لم تأت بنتيجة نافعة لأن الغبار كان يزول عن ظاهر المقاعد ويعلق في الثنايا والطيات التي لا تصل إليها تلك الآلة وجربت الشركات الفرنسية منظفات متحركة ذات مضخات فارغة من المواد تدار بمحرك كهربائي وتنقلها عجلات فأسفرت عن نتيجة حسنة وسرعة مطلوبة. وجربت بعض الخطوط الألمانية هذا الاختراع في ضاحية برلين فظهر لها نفعه. الطماطم البندورة كان يحظر على المصابين بداء المفاصل وآلام العضلات أن يتناولوا الطماطم لما فيها من حامض ملح الحماض الذي يزيد في ألم المصابين بهذين الداءين وقد أقام العالم الفرنسي ارمند غوتيه الحجة على هذا الخطر إذ استبان له أن في الطماطم كمية وافرة من الحامض الليموني وحامض الماليك مما يصفه الأطباء للمصابين بآلام العضلات. كتاب فرنسا قدرت إحدى المجلات أن لفرنسا في هذا القرن مائة ألف كاتب أو دعي في الكتابة منهم 64. 750 لا صفة لهم أي ليس لهم حسنات ولا سيئات و31. 100 كاتب هم وما تخطه أناملهم سخرية وهزوءٌ و135 رجلاً يكتبون أموراً مهمة بإنشاء وسط و28 هم كتاب

حقيقيون مما دل على أن المجيدين قلائل في كل أمة. الصنائع العربية قال أحد الباحثين في المجلة التونسية أن جودة الصناعة العربية تتمثل لك في التحف منها وفي المصنوعات العادية وأن العرب أخذوا عن الروم والفرس أولاً كيفية إقامة دورهم وأن صناعة تطريق المعادن ارتقت عندهم كما فاقوا غيرهم في صنع الفسيفساء ويقال أن الفينيقيين أخذوا صناعة الزجاج عن زجاجي العرب. مدرسة الكتاب في ميلان إحدى المدن الإيطالية مدرسة أسست سنة 1888 على يد جمعيات الطباعة في تلك المدينة دعوها مدرسة الكتاب أي صنع الكتاب وما يتوقف عليه من طبع ووضع وقد كانت الحكومة الإيطالية تساعدها مسانهة بألف وخمسمائة فرنك وظلت حقيرة حتى سنة 1900 وهي السنة التي وهبها بعضهم ملايين من الفرنكات وقفها عليها وقفاً شرعياً تنتفع تلك المدرسة بمغله مادامت الأرض والسماء. فعندها أقامت عمدة المدرسة لها بناءً فخيماً كلف ثلاثمائة ألف فرنك وجعلت فيها صفوفاً لتعليم تنضيد الحروف وصفها باليد وعلى الأداة وصفوفاً للطبع والتصحيح والقطع والحفر على الخشب وطبع الحجر والتذهيب والتنحيس وصفوفاً لدرس طريقة التصوير الميكانيكي والتجليد والرسم وتعلم اللغة الإيطالية وغيرها ومدرسة لتعليم المستخدمين في حوانيت الكتبية. ويتعلم التلاميذ في هذه المدرسة ما يروقهم من هذه الصناعات مجاناً لا يدفعون شيئاً. بحيرة زئبق اكتشفت في الجبال المجاورة لفراكروز في المكسيك بحيرة من الزئبق سطحها نحو 125 فداناً وعمقها خمسة أمتار ويساوي الزئبق الذي فيها عدة ملايين من الفرنكات وكانت هذه البحيرة معروفة عند أهل الجوار منذ أجيال ولكن يصعب الوصول إليها لما في طريقها من الصخور والتلعات حتى إذا فعلت الحوادث البركانية فعلها سهلت السبيل إليها وسيقام نفق في الجبل ليصل إليها الناس آمنين. هواء المدن والأرياف

ثبت لأحد الباحثين في هواء المدن العظمى أن ميزان الحرارة الترمومتر يعلو علواً متوسطاً في المحال التي تجتمع فيها البنايات بكثرة وقد أخذ معدل الحرارة في لندن وبرلين وباريس وقاسه بحرارة ضواحي تلك المدن فكانت في الغالب أنقص في الأرياف منها في المدن درجتين أو ثلاث درجات. وأكد الشيوخ من الإنكليز أن البرد في إنكلترا لا يقرس الآن كما كان يقرس منذ خمسين سنة وعلل ذلك أصحاب الشأن بأنه كان هناك مستنقعات جففت فانقطعت الرطوبة وكان الشتاء قديماً يبدأ في إنكلترا في شهر ديسمبر (كانون الأول) بل وفي نوفمبر (تشرين الثاني) أما الآن فتصل إلى يناير (شباط) وقد خلصت من البرد. إذا عرفت هذا فإنه يسوغ لك أن تقول بأن هواء سيبيريا الجليدي سينقلب عما قريب. ومعلوم أن درجة الحرارة في فرخويانسك وهو أبرد مكان في الأرض من ولاية اياكوستك يبلغ معدل الحرارة فيه في الشتاء 61. 9 تحت الصفر ثم أن لقطع الغابات دخلاً في تغيير الهواء فإن قطع الأشجار من الغابات التي لم تقطع منها من قبل شجرة قد أحدث في أميركا أسوأ التأثير في الزراعة التي كانت تلك الأشجار في الحقيقة بمثابة واق لها من بوائق الجو. قوى الأمم كتب أحدهم في المجلة الاستعمارية النيابية مقالاً جاء فيه أن ما يتنبأ به العالم من ظفر أمة على أمة يكون تخرصاً فلا يصدق فأل المتفائل ولا حدس الحادس من ذلك أن اليابان وكانت سنة 1894 أربعين مليوناً قد دحرت جيش ابن السماء وكان عدد الصينيين إذ ذاك 360 مليوناً وها أن جمهوريتي الأورانج والترانسفال ولم يكن فيهما أربعمائة ألف نسمة ولا جيش دائم قد تغلبا على الجيش الإنكليزي وقهرا إنكلترا ذات الحول والطول وضخامة الملك والسلطان وكان من اليابان أن غلبت الجيش الروسي وهو جيش القياصرة الجرار. قال الكاتب وإنا لنجهل مع هذا تقدير قوى الممالك الجندية على وجه التقريب وكل أمة لا تكون قوية بدون تنمية الشهامة الطبيعية وتعويد أفرادها النظام في العمل واقباسها قبس التهذيب والتعليم والتثقيف هيهات أن تعد من القوة في شيءٍ فقد كان لروسيا مورد عظيم للرجال ولكن كان ينقصها التمدن ويكفي أن العمل بين سكانها كان غير مكرم على الجملة وأن الأمة في روسيا لتضطر أن تنقطع عن العمل في السنة 135 يوماً في أعياد بطالة.

قانون الوراثة نشرت مجلة أميركا الشمالية بحثاً في كيفية انتقال الصفات والعيوب الطبيعية والعقلية بالوراثة من الآباء للأبناء ومن جيل إلى آخر ظهر منه كيف خلطت الوراثة بغيرها من المؤثرات الكسبية أو الناشئة من المولد والموطن فاستنتج الباحث بأن الأمراض الظاهرة أو الكسبية لا تنتقل أصلاً وأن الاستعداد للأمراض هو الذي ينتقل لا المرض نفسه. مثال ذلك السل فقد تبين اليوم أن المسلول لا تنتقل إليه من آبائه جراثيم العلة بل ينتقل إليه الاستعداد لهذا الداء ولولا ذلك ما تيسر الشفاء منه. واستنتج بأن عيوب التراكيب الظاهرة لا تنتقل في العادة وأنه من الممكن أن ينتقل الخلل الباثولوجي في الحواس الداخلية. وقع خطأ في ص425 س8 وأبي بكر بن زهير والصواب وأبا بكر وس 10 أبو القاسم والصواب أبا القاسم وفي ص459 س5 فما اجاني والصواب فما الجاني.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة ياقوت الحموي 554_626هـ لا يستقر بأرض أو يسير إلى ... أخرى كشخص قريب عزمه نائي يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو ... ماً بالعزيب ويوماً بالخليصاءِ وتارة ينتحي نجداً وآونة ... شعب الحزون وحيناً قصر تيماءِ هذا ما استشهد به ياقوت على تنقله في الرباع والبقاع وما كان تنقله سوى تنقل عاقل يرحل في اقتناص شوارد العلم ولقاء الرجال واستنفاض البلاد فهو أشبه بعالم غربي لهذا العهد يقطع المساوف ويركب البحار ويجوب القفار متنقلاً من قارة إلى قارة يدرس ويشاهد ويعتبر. ولكن شتان بين عالم اليوم وعالم الأمس. فالأول يقله البخار والكهرباء والثاني يركب الخيل والبغال والجمال. الأول يضرب في مناكب الأرض ووراءه دولة تحميه وأمة يعتز بها وجمعيات تنفق عليه وناس. . . . . . عمله قدره والثاني يخذله سلطانه وتسلمه أمته يعيش بكده ويعتمد في كل شأن على إرادته. وغايته من دنياه في عمله الشاق أن يخلص مما تنتج قريحته رأساً برأس غير متوقع خيراً من مستحسن ولا شراً من مستهجن. وبهذا ساغ لنا أن نقول أن السائح العالم في القرون الوسطى أعظم من السائح العالم في القرون الحديثة وأن الناظر في التاريخ ليستعظم أكثر ما يأثره من نور المعرفة للقدماء وقلما يستكثر ما يتم على أيدي طبقات المحدثين فما وفق إليه الجغرافي الفرنسي الشهير اليزه ركلو مثلاً في القرن التاسع عشر من التآليف والإجادة بعد صفاء الزمن وانتظام الحال لا يستعظم كما يستعظم صنيع ياقوت الحموي الجغرافي العربي في القرون الوسطى. نشأ ياقوت أسيراً ذليلاً أسر من الروم فقيل له الرومي وبيع في بغداد فاشتراه تاجر يعرف بعسكر الحموي وإليه نسب فقيل له ياقوت الحموي ولما صار ملكه جعله في الكتاب ليتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره (تجائره) وكان مولاه أقرب إلى الأمية لا معرفة له بغير الكسب. ويؤخذ مما قاله صاحب وفيات الأعيان أن ياقوتاً قرأ شيئاً من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة أوجبت عتقه فأبعده عنه وذلك في سنة ست وتسعين

وخمسمائة فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد ثم أن مولاه ألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئاً مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً. وبهذا سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ثم دخل خوارزم وغيرها ولقي من الشدائد والمصائب ما يلقاه في العادة أرباب الأفكار. منها أنه ذاكر يوماً أحدهم في بعض أسواق دمشق وذكر له رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكان منحرفاً عنه بما علق في ذهنه من مطالعة كتب الخوارج فثار الناس عليه وكادوا يقتلونه وبلغ أمره الوالي فطلبه فلم ير بداً من الفرار ولسان حاله ينشد قول الوزير ابن زيدون وقد فرَّ من قرطبة فررت فإن قالوا الفرار أرابه ... فقد فرَّ موسى حين همّ به القبط غادر دمشق سنة 613 كما غادر خوارزم يوم أتاها التتر لا سبد له ولا لبد متخلياً عن كل ما ملكت يمينه. خرج من بلد ذكر فيه رأيه وربما كان إيراده له بالاعتدال لأنا لم نر ما قاله هو أو بعض المنصفين في هذه الكائنة. فاعجب لأمة يلعن على منبرها الخليفة الرابع نحو ألف شهر من دون حرج ولا نكبر ويجيء بعد قرون من يذكره بالأدب من الوجهة التاريخية في تلك العاصمة نفسها فتقوم عليه القيامة فما أسرع تبدل الأخلاق والأحوال في القرون والأجيال. من النصب إلى التشيع ومنه إلى غيره من المنازع والنحل. كان الأدب والتاريخ وتقويم البلدان أو الجغرافيا هي العلوم الغالبة على ياقوت وفي الجغرافيا برّز وبذَّ لأنها تتوقف على كثرة الاطلاع والرحلة وهما كانا ديدنه ودينه وما ألفه من الكتب هو من أرقى ما جادت به القرائح في عصره وبعده وإن جاء عرضاً في بعضها ما يعده علماء العصر من قبيل الخرافات مثلاً فإنه كان من لوازم عصره. والعلم والمعتقدات في عهدنا لا تشبه العلم والمعتقدات في عهده. على أن ما صنفه لا يزال إلى اليوم معتمداً ومعدوداً من الأمهات الطيبات وكتابه الذي اشتهر به لعهدنا خصوصاً معجم البلدان كما أن له كتاب معجم الشعراء ومعجم الأدباء - وهذا يطبع الآن في مصر كما طبع معجم البلدان فيها ثانية - وله كتاب المشترك وضعاً والمختلف صقعاً وكتاب المبدأ والمآل

في التاريخ وإرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء وكتاب الدول ومجموع كلام أبي علي الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب وأخبار المتنبي وغيره. هذا هو الرجل الذي رباه عاميٌ من عامة التجار فبلغ بحدة ذهنه وتوفره على الدرس مبالغ الأعاظم الكبار وكانت حياته حياة جهد وعمل لاقى من الدهر الألاقي واضطهده قومه وحسده معاصروه إلا أنه عرف قدره في علمه على ما كان هناك من الصعوبة في معرفة الرجل في تلك القرون في حياته. قال ابن خلكان وكان الناس عقيب موته يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه. وياقوت الرومي في ولوعه بالعلم والرحلة كمعاصره ابن سعيد المغربي ذاك كان في الشرق وهذا في الغرب فحيا الله زماناً ينبغ فيه أمثالهما.

العلم الصحيح

العلم الصحيح نشرتها بجريدة الظاهر أولاً قالوا العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان أو دنيوي وديني فالدنيوي علم ما فيه صلاح المعاش وحفظ النظام في عالم الكون والفساد والديني كل ما له مساس بالمعاد وتهذيب النفس والابتعاد عن المنكرات في هذه الفانية للظفر بالباقيات الصالحات في تلك الدار الباقية. كان العلم الديني لأول أمره موجزاً مندمجاً لم يتعد قواعد مقررة وأصولاً نافعة فكان العربي يقصد الرسول عليه السلام يعلمه الدين في ساعة ثم يحيله على القرآن ويقول له اذهب راشداً وبشر عشيرتك وأهلك فقد عرفت من الدين جوهره وسره وما ينبغي له. فمن ثم دام الإسلام إلى السذاجة حتى قامت قائمة العصبيات من أجل التنازع على الملك وتجاذب حبل السلطة فمزج الدين بالسياسة ودخل في الإسلام من لا يهمه منه غير المغانم وراح بعضهم يدسون ما لم يقل فيما قيل وكثر المنافقون ممن سعوا بالدين في سرهم وهم من اتباعه في جهرهم وأنشؤوا يلبسوا ثياب الأصدقاء وهم له أعداء ماكرون. دسوا عوامل إفسادهم وفي القوم يومئذٍ صفوة من الأخيار توفروا على محاربة البدع والموضوعات بكل لسان وبنان بل بكل سيف وسنان وكانوا على إخلاصهم وتأثيرهم كلما استأصلوا شأفة فاسد نبض من الأفسد نابض ورجال السياسة وأكثرهم لا يرجع في الغالب إلى رأي ومذهب يدهنون من وراء ذلك لحملة الدين ويبذلون لهم ما يستغوونهم به لينطقوا بألسنتهم ولا يفسدوا عليهم أمرهم إذا رفعوا أصواتهم ونعوا عليهم تبديلهم لما أنزل وإلصاقهم به ما ليس منه. ولما رأى العقلاء عائث الفساد يدب دبيبه في علوم المعاد خافوا أن يتدرج من العبث بالأعراض إلى العبث بالجواهر فلم يروا بداً من التدوين والتقييد والدلالة على مواضع الضعف والسخف ليبدو السليم لا شائبة فيه. وأنت خبير بما يقتضي ذلك من التطويل دع عنك ما يتخلله بالطبع لأن في القائمين به العالم العامل وفيهم صاحب البدعة والمقالة. مضى على هذه الحال ردح من الزمن وعلوم الدين لم تمتزج بشيءٍ من علوم الدنيا إلى أن دخلت علوم الحضارة في الملة وسموها علوم الأوائل ورأت من بعض خلفائنا من أخذ

بيدها وهيأ لها أسباب انتشارها فعندها كثرت المذاهب والآراء ونشأ العراك الأول بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية أي بين الدين القائم بالتسليم وبين الفلسفة المبنية على البرهان. وظلت حال العلم الديني تابعة لمجرى السياسة إن جاء عاقل من الأمراء والملوك يكل أمره لجهابذة من المحققين ينظرون فيه وهم مؤتمنون مأمونون وإذا ولي رقاب الناس جاهل ينزل نفسه في كل المنازل فيتولى من الخلق أمور دنياهم ودينهم ويقرب إليه كل من يتابعه على أهوائه ولا ينكر عليه فعلاته والعقلاء بمعزل لا ينطقون إلا كارهين وربما تدرعوا الخمول وآثروا الانقطاع على الدخول في المجتمع لامحاضه النصح وتخليصه من المفاسد الطارئة عليه. نعم أن التاريخ لم يخل من وجود عقلاء في كل دور من أدواره ولكن قوتهم ضئيلة لا تنفع وصوتهم خريد لا يسمع إذا نسبتهم لأولئك المنافقين في خدمة الآمرين والناهين وقد قل عددهم كثيراً في هذه الديار خصوصاً بعد الدولتين النورية والصلاحية وصار العلم أشبه بتقاليد ورسوم منه بعلم وعمل ومناطق ومفاهيم. وما فتئت العادات يتخيلها بعضهم من الدين ويدسونها فيه وللجهل الكلمة النافذة في الهيئة الاجتماعية إلى أن كان القرن التاسع والعاشر وما يليهما من قرون الهجرة وهي من العصور المظلمة في تاريخ الإسلام حقيقة فعندئذ قل المميز والمفكر وبطلت علوم الحكمة جملة واحدة وصار من يتعاطاها في نفسه وبين خاصته كمن يأتي أمراً إداً ويخون دينه وأمته وبطل النظر في الأصول وتحتم على كل عقل أن لا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين. فأصبح بذلك يعد العالم كل العالم من يحفظ من هذه الفروع أكثر. اعتبر ذلك بما تتلوه في تراجم أعيان العلماء في هذه القرون فإنك لا تراها تتعدى الأقوال والآراء وأهل كل جيل يقدسون قول من سلفهم ولو ببضع سنين نعم إنك لو أنصفت لا تكاد ترى لهم تأليفاً تقرأ فيه نور العقل والخلاص من التقليد البحت ولقد أتت أيام في معظم الأصقاع الإسلامية حرم النظر فيها حتى في الكتاب والسنة وعد الناظر فيهما محاولاً للخروج عن سنن الجماعة فإذا خالف فرد ما ألفوه أهانوه ومن قاوم بفكره سجنوه أو نفوه وشردوه وذا خافوا بأسه قتلوه وجعلوه عبرة ومثلاً للآخرين. تأصلت الأوهام فعدت من أقدس القربات وسار الناس مع تيار الجهل وتقديس أقوال أدعياء

العلم والتقوى وصدرت الأحكام بعوامل الأوهام وغدت هذه البلاد كبرج بابل في التبلبل والتشويش اتخذت كل منها لها أئمة وأولياء وأنشأت تكبر أمرهم وتدعي لهم مقاماً ما ادعوه لأنفسهم وراح الفقيه يكفر الصوفي والصوفي ينقم على الحديثي والأصولي يحمل على الفروعي واشتغل أهل كل قطر بل أهل كل مصر بتقديس من تواطؤوا على تقديسهم والطعن فيمن عداهم ممن لم يصوروا لهم بالصورة المناسبة لما وقر في نفوسهم وركز في طبائعهم وعشش في مخيلاتهم. وهكذا امتزجت علوم الدين بالمشاغبات والمماحكات لو بعث الشارع وأصحابه لرأوا الاختلاف بين ما ورد وما صار إليه مستحكماً بعيد الأطراف يصعب الجمع بينهما كما يصعب الجمع بين النقيضين. ماذا أصف من تسرب الجهل إلى العبث بالعقول في تلك القرون وأنك لترى أثراً من آثاره لهذا العهد عند بعض من فطموا أنفسهم عن النظر في المعقولات منا فترى كلمات التضليل والتكفير والتبديع والتفسيق أسرع إلى أفواههم من الماء إلى الحدور وتشهد الغر الغمر يتحكم بالجنة فيعطيها لمن يشاء ويحرمها من يشاء فوا رحمتاه على أناس أضاعوا فضل عقولهم في الجدل ولكم كان الخير يأتي من جهتها لو اشتغلت بالمفيد ونبذت الأهواء ظهرياً ولكن إذا أراد الله بقوم سوءً رزقهم الجدل ومنعهم العمل. قلت فيما سلف أن علوم الدنيا دخلت في الملة لما رأت من يعضدها من رجال السياسة وكان ذلك في القرن الثاني. بيد أنها لم تنتشر الانتشار المطلوب إلا في القرن الثالث. شاعت قرنين ثم أخذت تضعف إلى أواخر القرن السابع أيام قل المشتغلون بها ولو على طريقة نظرية بعلوم العقل التي لا قائمة لأمة بدونها مهما أخلصت في دينها. وإذا استفتيت تواريخهم تجد المتلبسين بشعار العلماء لا يعدون في جملتهم ذاك الرياضي والجغرافي وربما فضلوا عليهما المعمار والثرثار. من أجل هذا نرى المدارس على تفنن القوم في إنشائها بعد القرون الوسطى فنازلاً خاصة بالفقيه والمحدث والقارئ والرباطات للمجذومين والمعدمين والكسالى ولم نجد مدرسة اللهم إلا بعض مدارس الطب موقوفة على الرياضيين والطبيعيين والفلكيين والمؤرخين كأن علومهم هذه أباطيل لا تصح الإعانة عليها وحسب الرياضي أن يغضي الفقيه عنه مادامت الحال بين هبوط وصعود والأجدر بها أن تدعى سقوطاً إلى منتصف القرن الماضي أيام أخذ السلطان عبد المجيد في البلاد العثمانية ومحمد

علي باشا في هذا القطر يسهلان السبل لهذه العلوم ويعد أن أهلها في مصاف العلماء وأنشئت المدارس لتعليمها وغدا المشتغلون بالعلوم الدنيوية حزباً والمتوفرون على تعليم العلوم الدينية حزباً آخر على أنه لم تحمد عودة تلك العلوم الدنيوية التي سماها بعضهم عصرية وبعضهم دعاها حديثة لما نتج عنها من حركة كانت أشبه برد فعل ماثلت الأمة معها صائماً أخذ منه الجوع فلم يجد ما يطعمه حتى ساقته الأقدار إلى مائدة مترف موسر وقد حوت ما طاب وحلا من صنوف الأطعمة والحلواء فأخذ يلتهم ما وصلت يده إليه بدون ترو ويزدرده بلا مضغ ويمزج بارده بحاره وحلوه بحامضه ويؤخر ما يقتضي تقديمه ويقدم ما يحسن تأخيره. ونشأت ناشئة لم تدر من العلم الحقيقي غير قشوره شربت مصة من مورده ظنتها غاية ما يرتوي به المرتوون وراحت تعد المروق غاية النور والإزراء على النبوات من آيات الحكماء والطعن بالشرائع من عمل الجهابذة النحارير وإنكار القديم مهما كان نفعه والتعلق بالحديث مهما ضؤل قائله من دواعي النهوض والاستنارة. وعلى الجملة ينبذون كل ما ليس لهم به علم من تراث أجدادهم حاسبين الصحيح منه والسقيم في مقام واحد مما حكين ولو بان لهم الراجح من المرجوح. يقول فتية اليوم أنه لا نجاح للأمة إلا بنبذ ذاك القديم مباشرة والأخذ بهذا الحديث على علاته وفاتهم أن ما يسوغ في الغرب لا يتم في الشرق وأن لكل أمة طبيعة ومنازع لا مناص من مراعاتها وأن إقامة مدينة جديدة في بادية أسهل من إصلاح مدينة قديمة لا غنية عن البناء فيها وأن من العقل أن لا ينبذ ذاك القديم بل يرجع فيه إلى الأصل القليل ويؤخذ النافع منه ويترك ما عدا ذلك من تخريف المخرفين وضلالات المبتدعين والأخذ من هذا الحديث بالعلم الصحيح الذي تمس إليه الحاجة وإطلاق الحكم للعقل يعمل معمله في طريقه. العلم الصحيح هو الذي يبعث صاحبه على عمل النافع ولو كان في ذلك ضياع مصلحته الشخصية فلا يبالي حامله بغضب الرؤساء والزعماء ولا يستغويه رضى الغوغاء والدهماء. يتجشم المخاطر في نشر خاطر. ويركب كل صعب وذلول لإنارة مظلمات العقول. العلم الصحيح هو الذي خلص من ضغط الأهواء السياسية والمذهبية وسلم من التأثيرات والغايات فلقنه صاحبه بريئاً من شوائب النزعات والنزغات وأثر في نفسه تأثيراً مجرداً

فإذا نطق بعده فلا ينطق إلا بما يوحي إليه هاتف الفهم السليم والعقل الحكيم فلا يتعصب للآباء والجدود ومألوفات المحيط وعادات الأهل والإقليم ويتحزب لشيخه وأستاذه ولو تجلى له أنهما عن طريق الحق ناكبون. العلم الصحيح هو الذي يحترم صاحبه به آراء غيره ولو كانت مباينة لأفكاره كل المباينة ولا يعدها سخافات وترهات فينكر كل ما لا يعلم ويستكثر ما وعى. ولا يعد حطة عليه أن يتسقط الحكمة إن وجدها وفي أي المظاهر ظهرت فيأخذ نفسه بالتعلم ولو شاب وجاوز الثمانين. العلم الصحيح هو الذي تكون نتائجه أكثر من مقدماته وفروعه خيراً من أصوله يأخذ له حامله من نفسه فلا يتكبر عن إفادة ولا يستنكف من استفادة ويسعى إلى بث ما يعرف في كل أفق ويعد البشر أخوة فلا يقصر في تعليمهم مما علم يقين أن إصلاح الأفراد سلم للوصول إلى إصلاح الجماعة والمصلحة العامة هي أبداً موضوع نظر من رزق حظاً من هذا العلم. العلم الصحيح هو الذي يربي الملكات ويهذب النفوس فلا يستخدم صاحبه علمه أداة للغلبة بالباطل والإدلال على الأقران والذهاب بفضل الشهرة والمحمدة الزائلة والتبجح والتنطس فامنح اللهم بفضلك هذه الديار شيئاً من هذا العلم وكثر فيها سواد أهله بمنك وحسن تسديدك.

صفحة من تاريخ مصر

صفحة من تاريخ مصر معربة عن مجلة الاكونومبست أوربيين الفرنسية للمسيو ادمون تيري يبتدئ تاريخ مصر الحديث من عهد محمد علي مؤسس الإمارة الخديوية الحاضرة ومحمد علي هذا ولد في الروم أيلي وهو رجل شجاعة وفرط ذكاءٍ سعى فوفق إلى أن ينصب والياً على القاهرة وحاكماً على القطر المصري سنة 1805 وذلك بمساعدة المماليك الذين أبادهم بعد ست سنين من استلامه أزمة الحكم عندما طمح هؤلاء النبلاء بعد أن كانوا عبيداً وأجناداً موصوفين بحب السلب والنزوع إلى الفتنة في تهديد قوته. بلغت مصر على عهد قدماء ملوك المماليك التركمان والجراكسة (1254_1517) أرقى درجات الحضارة الشرقية ولكن كان الشعب يؤدي المغارم بطريقة وحشية قاسية ولم يكن حكمهم الذي دام 263 سنة سوى سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والمؤامرات وانقلاب في أحوال القصور وجرائم وجنايات يباع فيها الدم بيع السماح. حتى أن السلطان سليم الأول العثماني لما استولى على مصر سنة 1517 رآها وقد استحكمت فيها الفوضى المطلقة فجعلتها خراباً يباباً. ولم تكن البلاد على عهد الفتح العثماني (1798_1517) أسعد منها على عهد المماليك الذين عادوا بعد قليل واسترجعوا نفوذهم القديم وإليك ما قاله نابليون الأول في وصف هذا الدور الذي دام 281 سنة وذلك نقلاً عن مفكراته على الحملة المصرية: أبقى السلطان سليم أربعين ألف جندي حامية تحفظ البلاد التي افتتحها وقسمهم إلى سبعة فيالق وكان الستة منها مؤلفة من العثمانيين والسابعة مؤلفة من المماليك. وجمع لذلك كل من سلم من أيدي هؤلاء. وعهد بإدارة البلاد لباشا وأربعة وعشرين بيكاً ولجماعة من الأفندية وإلى ديوانين وكان أحد هؤلاء البكوات الأربع والعشرين قائم مقام الباشا ونائبه ولقد كثر عدد فيلق المماليك وهو مؤلف من أجمل الرجال وأشجعهم وأخذت الفيالق الستة بالضعف ونزل عددهم بعد قليل إلى سبعة آلاف جندي على حين بلغ المماليك وحدهم زهاء ستة آلاف. وفي سنة 1666 أخذت الفوضى يدب دبيبها في كل رجا وزحزح العثمانيون عن القلاع والمعاقل فاستولى المماليك على كل شيء ودعي رئيسهم شيخ البلد. ثم أخذ القوم ينفرون من الباشا ويحتقرونه فنادى علي بك شيخ البلد سنة 1767 بالاستقلال والاستئثار

بالسلطة وضرب السكة باسمه واستولى على مكة وحارب سورية واتحد مع الروس وغدا البكوات كلهم عندئذٍ من المماليك. وفي سنة 1798 أصبح لكل بك من هؤلاء البكوات الأربع والعشرين قصره الخاص به وفيه من الحاشية والغاشية ما يختلف قلة وكثرة وكان عند أضعفهم بأساً مائتا مملوك وكان لمراد بك ألف ومائتا مملوك بحيث كان هؤلاء الأربع والعشرون بيكاً يؤلفون جمهورية تخضع لأعظمهم نفوذاً فيهم ويتقاسمون بينهم الأموال ويتوزعون المعاقل. وقد قدر عدد المماليك نساءً ورجالاً وأطفالاً سنة 1798 بخمسين ألف نسمة يخرجون منهم اثني عشر ألف فارس. أهلك الجيش الفرنسي في حرب الأهرام في يوليو سنة 1798 سبعة آلاف مملوك وأباد محمد علي سنة 1811 ما بقي منهم. ثم أن الباب العالي صدق على ولاية محمد علي على مصر لقاء سبعة ملايين من الفرنكات يدفعها خراجاً في السنة فحاول أن يعيد إلى القطر ما فقد من بهائه القديم فوطد أسباب الأمن في البلاد ونظم له جيشاً قوي الشكيمة. وبينما كان ولدا محمد علي طوسون وإبراهيم يستأصلان شاقة الوهابيين سنة 1818 ويستوليان على النوبة وسنار وكردوفان التي كانت أضيفت إلى إمارة مصر باسم السودان المصري وخرطوم عاصمتها سنتي 1821 و1822 وينجدان السلطان محمود العثماني في قتال اليونان المتمردين سنتي 1824 و1829 ثم يغيران بعد ذلك بسنتين على سورية والأناضول انتقاماً من السلطان على عدم اعترافه بالجميل بينما كان أبناء محمد علي يقومان بهذه الأعمال كان محمد علي والدهما يتقدم إلى فرنسا وكان يحبها كثيراً أن تبعث إليه بمهندسين وكيماويين ومعماريين وميكانيكيين وغيرهم يحفرون له الترع ويصلحون سدود النيل القديمة ويقيمون قناطر حديثة ويعمرون الأطيان القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد ويدخل إليها المزروعات الجديدة وينشئ المعامل لينجح في توفير الغلات والتجارة الوطنية. ولكن محمد علي لم يحسب حساب العمل وما يقتضي له في هذا التبديل الاقتصادي الذي كان يرغب فيه فأباد الفلاحين على نحو ما صنع المماليك بما حملهم إياه من السخرة والضرائب وسبهم أراضيهم التي جعلها إلا قليلاً ملكاً خاصاً له وترك للخزانة الاستئثار بالتجارة الخارجية.

على أن ما بذله هذا الوالي لم يكن متناسباً مع قوة البلاد المساعدة ولم يحدث عنها لسوء الطالع النتائج التي كان يتوقعها فلم تلبث تلك المصانع ومعامل القطن والسكر التي أنشئت بالأموال الطائلة في جميع أمهات مدن القطر أن تداعت أركانها عقيب ما قام بنيانها وذلك لسوء إدارتها ولقلة استكمالها أسباب الجودة بحيث أن محمد علي لما أصيب بمرض في عقله وتخلى عن الإدارة لبكر أولاده إبراهيم (1848) كان الشعب المصري في بؤسه وشقائه على نحو ما كان في آخر حكم المماليك. خلف إبراهيم أباه بموجب وفاق تم عقده بين محمد علي والباب العالي وصادقت عليه الدول العظمى (1841) اللائي ضمن لعزيز مصر أن تكون له ولأحفاده الذكور من بعده ملكاً أبدياً يتوارثها بكر الأولاد مع حفظ سيادة الباب العالي على القطر. ولكن لم تطل مدة حكم إبراهيم أكثر من بضعة أشهر وخلفه ابن أخيه عباس باشا (10 نوفمبر سنة 1848) وكانت إدارته للبلاد إلى الضعف. تولى عباس باشا سنة 1854 فخلفه سعيد باشا رابع أولاد محمد علي. يقول المسيو رافيس في بحث له جليل في مصر أنه كان ذا حظ من الذكاء الباعث على العمل والحامل على حمل أسباب الحضارة على نحو ما كان لوالده مع ما امتاز به من التهذيب الأوربي الذي لقنه أحسن تلقين فاتسعت مداركه ولذلك أتم إصلاحات والده وتوسع فيها. فألغى بعد سنتين النخاسة والجمارك الداخلية والاحتكار وأطلق للفلاح حريته الشخصية وحرية التملك ووفى ديون القطر القديمة وهو الذي أنجز قناطر النيل ورخص للمسيو دي لسبس صديق صباه أن يخرق ترعة السويس وهو أول من جعل للأمير راتباً وأقام خزينة خاصة. مات سعيد باشا سنة 1863 وخلفه إسماعيل بن إبراهيم فنال هذا من الباب العالي (1866) حق الإرث في الإمارة لأولاده وإلغاء حق بكر الأولاد فيها في فروع القرابة غير الفرعية ونال لقب خديوي فجاء ذكره في مجموعة القوانين العثمانية بعد ذكر اسم السلطان مباشرة. ولقد حرص إسماعيل على إدخال التنظيمات الجديدة ولكنه كان منفاقاً متلافاً للمال فساق البلاد المصرية بإدارته المحزنة إلى الإفلاس وإضعاف الاستقلال الوطني الذي كان حلم باسترجاعه. قال ادمون أبو في كتابه العجيب المسمى الفلاح الذي نشره قبيل الاحتفال بافتتاح ترعة

السويس بعد أن وصف جمال الصنعة في مساجد القاهرة ووصف عجائب الهندسة الدقيقة التي دعوها بدون مسوغ قبور الخلفاء وقام القوم بصنعها بحيث تعجز جميع الأيدي العاملة في مصر عن مضاهاتها ما نصه: عهد جميع هذه المصانع الصالحة الجميلة كعهد أمثالها عندنا تقرأ فيه الكآبة والتشويش ولعمري كيف تأتى لأولئك القدماء أن ينشئوا أعاجيب من المصانع والمعاهد يتعذر على مصر الحديثة إصلاحها؟ يتداعى كل شيء ويبيد فيذهب غير مأسوف عليه هباءً منثوراً ولا يحاول الأحياء اليوم أن يدعموا ما وهى من تلك الخرائب الفخيمة. هم أهل إخلاص في أعمالهم لم تضعف نفوسهم كما ضعفت نفوسنا منذ أقمنا بناء بيعنا الكبرى على الطرز الغوطي. ولعمري كيف جوز أولئك المؤمنون أن يتركوا تلك المصانع الدينية تتداعى أركانها على حين نحن بذلنا كل مرتخص وغال لصيانتها على الحادفينا. أنشئت المصانع العامة في جميع الممالك بفضل المعاونة الحقيقية والشخصية وقامت بفضلات ما تنفقه الأمة في سبيل حاجياتها. نرى المصريين الماثلين أمامنا يصرفون أقل ما يمكن صرفه ويقومون على ما يظهر لي بأعظم الأعمال الجسدية وإن لم يكادوا يقومون بالإنفاق على أنفسهم وتأدية الخراج للحكومة. ليت شعري هل فسدت الأرض أم سكانها أم حكومتها أم يتحتم علينا أن نعتقد بأن استبداد المماليك فتح هوة يتعذر ردمها. كتبت هذه السطور منذ زهاء نصف قرن بعد إبادة المماليك المتأخرين فثبت بها أن محمداً علياً وأخلافه قلما عنوا بتحسين حالة هذا الشعب الخاضع العامل الذي لم يعمل قط إلا للغرباء ولم ينله نفع من كده وإليك ما قاله الآن اليزه ركلو بعد ادمون أبو بعشرين سنة: إن النقوش الناتئة في المصانع المصرية تمثل هذا الشعب بأنه كان منذ ثلاثة آلاف سنة كما هو اليوم يحني رأسه تحت ضربات السياط. ولقد كان الفلاح المصري أبداً مظلوماً مرهقاً لا قدرة له على الانتقال كما ينتقل البدوي الرحالة وليس في سهل الدلتا العظيم المنبسط ولا في وادي النيل الضيق المضطرب مكان يسعه أن يحاول الالتجاء إليه ليكون فيه بمأمن ولذلك كان عرضة للشقاء لا مستقبل له ولا أمل يرجو نيله ومع هذا تراه يحب مسقط رأسه حباً جماً وإذا طرحته النوى مطارحها وأبعدته عن ضفاف نهره المحبوب تعروه الكآبة ويموت معذباً بالإب أي مرض فرقة الأوطان.

عود إلى موضوعنا - فقد فتحت ترعة السويس في نوفمبر سنة 1867 ثم اتخذ إسماعيل سياسة التغلب التي افلح فيها جده ووسع حدود مصر إلى البحيرات العظمى في إفريقية الوسطى سنتي 1870 و1876 وصادق له السلطان على نصف استقلال الخديوية فيما يتعلق بالباب العالي ولكن إسماعيل أنشأ في خلال عشر سنين من حكمه يسرف ويتلف فعد عهده عهد إسراف مالي شرع يستدين من فرنسا وإنكلترا حتى اقترض 2500 مليون فرنك بشروط كانت من الفداحة بحيث أصبح الإفلاس لا مناص من الوقوع فيه. نعم حدث ذلك بالفعل فرضي إسماعيل سنة 1876 بقبول المراقبة الأجنبية على المالية المصرية وبعد انقضاء ثلاث سنين على هذا ومحاولة إعادة النظام الإداري إلى نصابه الأول عين في الوزارة المصرية اثنان من المراقبين أحدهما إنكليزي المستر ريفرس ويلسون والآخر فرنسي المسيو دي بلنيير سنة 1879 وعندها نشأ عن ذلك ما هو معلوم من المشاكل بين الإدارة المصرية ووكلاء الدائنين وإن وقع الاستحسان على المراقبة الإنكليزية الفرنسية في جميع ما يختص بالمالية المصرية. جاء في كتاب المسألة المصرية الذي نشر حديثاً كلام للمسيو فريسنيه (أحد وزراء فرنسا) حكم فيه الحكم التالي على عزل إسماعيل وحلل مؤلف هذا الكتاب الممتع التقلبات المنوعة في السياسة الفرنسية بمصر منذ حملة بونابرت إلى أيامنا قال الوزير: وهكذا انتهت أيام أمير كان في مكنته أن يكون حظه غير ما تم له فقد كانت له على نقائصه الكبيرة صفات محمودة فلئن كان محتالاً موسوساً مهووساً مفرطاً في العجب مسرفاً محباً للعظمة فقد كان أيضاً صاحب سلطة وذكاء في تعاطي الأعمال يحسن التمييز بين مصالحه المختلفة وتظهر كفاءته في حسن خدمتها. وقد دل إصلاحه القضائي وما بذله من مد يد المعونة في مشروع ترعة السويس وما توفر عليه من القيام بكثير من الأعمال النافعة على أنه أهل للعمل بالأفكار السامية. ولو كان لفرنسا في مصر إذ ذاك معتمد حازم حاذق وثابت لنالت بواسطته نفوذاً كبيراً وكان يتأتى بمعونة الدول وفي الأحوال الحرجة التي وقعت البلاد فيها أن يؤخذ بيد إسماعيل في طريق يكون إلى السلامة أكثر من الطريق الذي سلكه. فقام على عرش الإمارة المصرية بقيام توفيق أمير مهذب سليم الطوية تام الأخلاق مقتصد

ولكنه ضعيف الرأي لا نفوذ له متوسط الذكاء تتقاذفه التأثيرات المتناقضة بحيث يعجز عن التغلب على مركز حرج. ولذلك رأيت مصر في خلال ذلك عرضة للاضطراب وعدم التماسك ثم للاختلال وانتشار الحوادث. وعلى الجملة فقد كان من أثر الحوادث التي تلت إعادة المراقبة المالية أن راح أشياع إسماعيل يستثمرون المغانم منها فنشأ عن ذلك اضطراب شديد بين المسلمين من المصريين انتهى بثورة السودان وقيام المهدي محمد أحمد يدعو إلى الجهاد (أغسطس 1881) وأدى إلى الفتنة المشهورة في القاهرة (9 سبتمبر 1881) التي أثار ثائرها الحزب الذي سمى نفسه الحزب الوطني وكان الأميرالاي عرابي زعيمه المعروف.

شيء من تاريخ الكائنات والإنسان

شيءٌ من تاريخ الكائنات والإنسان خلق الله النور ثم الجلد ثم النبات والأشجار والأعشاب والمياه. ثم الشمس والقمر والكواكب ثم الأسماك والطيور ثم الدبابات والبهائم ثم الإنسان. لا يعلم العلماء مقدار المدة التي كانت بين خلق النور وبين الجلد وبين سائر المخلوقات المتقدم ذكرها. فقد يمكن أن المراد في الأيام التي ذكرها موسى أول مؤرخ ظهر على وجه الأرض عصر أو مدة طويلة. فإنه لا يوجد كلمات في اللغة العبرانية التي كتب فيها موسى تاريخه أو الأسفار الخمسة في التوراة تدل كل منها على يوم ومدة وعصر على حدتها. ولقد دل كل من علم طبقات الأرض وعلم الفلك على أن المراد بتلك الأعصر ألوف عديدة من الأعوام. بيد أن قسماً كبيراً من البشر يعلم حق العلم بأن الله جل جلاله سلط الإنسان على الكائنات وعلى هذه الطبيعة العجيبة أو أنه أقامه سيداً على كل ما نراه أمامنا ووراءنا وفوقنا وتحتنا وحولنا من جمال هذا الكيان وبدائع هذه الخليقة التي حار في فهم أسرارها القدماء والمحدثون. آدم جد الأسرة البشرية كلمة عبرانية معناها التراب الأحمر. وحواء جدة الجنس البشري كلمة معناها أم كل حي. ولقد دلت الآثار القديمة في جميع قارات العالم - في آسيا وفي إفريقية وفي أوربا وفي أميركا على خلق آدم وحواء. فوجدت صور منقوشة على الصخور تدل على رجل وامرأة وبيد هذه ثمر. أما موقع الفردوس الأرضي الذي وجد فيه الأبوان الأولان فقد اختلف فيه الأثريون ورجال البحث. فقال فريق أنه كان في ما بين النهرين أو في أرمينية بدليل ذكر موسى الكليم للنهرين دجلة والفرات. وقال آخر أنه كان في بابل أو في بلاد الكلدانيين. كانت كل أمة في هذا الوجود تنسب خلق الأبوين الأولين إلى وطنها أو بلادها فجاء العلم يفسد هذه الدعوى حتى صار من المرجح في هذا العصر أن خلق آدم وحواء كان في جهات أرمينية أو فيما بين النهرين. على أن هذا الاختلاف في هذه المسائل التاريخية والمشاكل العلمية لم يكن باعثاً على الاختلاف في أن الأبوين الأولين قد سقطا حسب مذهب أهل الإيمان وأن الله طردهما من جنة عدن وأنه قال لهما: بعرق وجهكما تأكلان خبزكما.

ولد للأبوين الأولين قابيل وهابيل إلا أن الأول قام على الثاني فقتله حسداً. فكان قابيل أول من حسد وأول من أوجد المطامع البشرية التي لا تزال تئن منها البشرية والإنسانية. ثم ولد سائر الآباء الأولين فكان عددهم كلهم عشرة. وهم آدم وشيث وانوش وقينان ومهللئيل ويارد واخنوخ ومتوشالح ولامك ونوح. ولقد أطال الله حياة كل منهم فبلغ بعضهم من العمر نيفاً وتسعمائة سنة لمقاصد جليلة منها إنماء النوع الإنساني. قال موسى الكليم ما ملخصه: لما كثر الجنس البشري على وجه البسيطة وكثرت شرور الإنسان أهلكه الله بالطوفان. واختلف العلماء فيما إذا كان الطوفان عاماً أم خاصاً وأخذ كل من الفريقين المختلفين يؤيد مدعاه. فمن براهين علماء الدين أن الطوفان كان عاماً لا خاصاً لأن التوراة صرحت بأن المياه غطت جميع الجبال التي تحت السماء وإنها أهلكت كل جسد يدب على وجه الأرض وأن آثار الأمم القديمة تدل على كونه كان عاماً لا خاصاً. ومن براهين الفريق الثاني من علماء الآثار وعلماء الجيولوجيا أن قبائل المغول في الصين وبلاد الأحباش والسودان من أصل قبل الطوفان. وقد أثبت علم طبقات الأرض أن الطبقة الثالثة من الأرض طبقة طوفانية. على أن علماء هذا الفن يقولون بأن تلك الطبقة ناشئة من طوفانات عديدة فطوفان سنة واحدة كطوفان نوح لا يمكن أن يكونها. اختلف العلماء فيما إذا كان الطوفان عاماً أم خاصاً كما اختلفوا في مستقر السفينة النوحية ومهد الجنس البشري بعد الطوفان فقد ذهب جماعة من أهل البحث والتنقيب والعلم إلى أن الفلك النوحية استقرت على جهة من سلسلة جبال الهند وبلاد كوش بدليل أن تقليدات الفرس والهنود تدل على ذلك. وذهب غيرهم من الباحثين إلى أن مهد البشر ومقر سفينة نوح كانا في أرمينية ويقول موسى الكليم أن فلك نوح استقر على جبال اراراط وهو أصح قول إذا اعتقدنا بصحة ما كتبه موسى. وكيف لا نعتقد بصحة الأسفار الخمسة وقد برهنت على صحتها الخطوط الهيروغليفية المصرية والمسمارية والكلدانية التي كان أول من اكتشف أسرارها فقيد العلم يوحنا فرنسيس شامبوليون المتوفى سنة 1832م. قال الكتاب الشريف أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بالطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض وقال وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض وقال وكانوا بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث تكوين ص9

عدد 11 و13 و18 و19. إذا لم نتبع مذهب الذاهبين إلى أن أهل الصين والسودان وهنود أميركا من أصل قبل الطوفان فيكون سام وحام ويافث أصولاً لجميع الجنس البشري بعد الطوفان. فقد أقام سام في آسيا وأقام حام في إفريقية وأقام يافث في أوربا فالآسيويون القدماء من ذرية سام والإفريقيون الأصليون من أصل حام والأوربيون من أصل يافث. وأما نوح فهو جد الآسيويون والإفريقيون والأوربيون بعد الطوفان. ذهب عدد كبير من العلماء إلى أن موسى الكليم اقتصر على ذكر أنساب النوع الأبيض من البشر. وأما أنساب النوع الأصفر والنوع الأسود والنوع الأحمر فلم يتعرض لها. ولعله أراد بهذا التخصيص أو الاقتصار ذكر الشعوب التي كان يعرفها العبرانيون في أيامه. غير أن العلماء اهتدوا إلى حل هذه المسألة فقالوا أن نوحاً عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فلا يبعد أن يكون ولد له أبناء أو أولاد في أثناء تلك المدة فكانوا أصولاً لشعوب أخرى. فالشعوب القديمة التي ظهرت بعد الطوفان وذكرها موسى الكليم والمؤرخون القدماء كالآشوريين والعبرانيين والعيلاميين والعرب والآراميين هم من أصل سام. والإيرانيون والتتر والجومريون والأتراك واليونان والسلافيون والايبارييون من أصل يافث. والمصريون والغوطيون والكنعانيون والكوشيون من أصل حام. واختلف أهل البحث في لغة الإنسان الأولى اختلافهم في غيرها من المسائل الغامضة فمنهم من قال بأنها كانت عبرانية ومنهم من قال بأنها كانت إحدى اللغات السامية كالسريانية والكلدانية والعربية. وقد تكون اللغة الأولى نوعاً من اللغات السامية ثم طرأ عليها تغييرات وإصلاحات وتحسينات. على أن هذه جميعها لم تغير شيئاً من جوهرها الأصلي. ولما كان نوح وذووه هم الذين بقوا بعد الطوفان كانوا بلا مراء يستعملون أو يتكلمون لغة الإنسان الأولى. ظل نسل نوح يتكلم هذه اللغة مدة أربعة قرون حسب الترجمة السبعينية. أما الذين اخترعوا الحروف الهجائية فهم الفينيقيون الذين فضلوا على العالم بأسره بمصنوعاتهم وآدابهم التي منها اختراع الحروف الهجائية. ثم كثرت اللغات وتنوعت إلى أن بلغت ما بلغته في هذا العصر.

ذهب عدد كبير من علماء الدين إلى أن المدة التي كانت بين الخليقة والطوفان بحسب النسخة العبرانية هي 1656 سنة وبحسب الترجمة السبعينية 2242 سنة فإذا صح هذا المذهب فهذه الأعوام العديدة تكفي لإكثار نسل آدم وجعل سورية والعراق مأهولة بالسكان في تلك الحقبة التي بين الخليقة والطوفان. قال المطران يوسف الدبس في تاريخ سورية إن الحجة القاطعة على أن سورية كانت مأهولة بولد آدم قبل الطوفان هي موقع سورية الطبيعي وحيث أن المرجح عند العلماء أن مهد الجنس البشري كان أولاً فيما بين النهرين أو في أرمينية وكانت هذه البلاد متاخمة لسورية وكان لا يوجد بين البلادين جبال وبحار يستعصي مسلكها بل سهول خصيبة طيبة الهواء جيدة المرعى فقد كانت سورية بلا مشاحة مأهولة بالسكان. هذه خلاصة ما قال المطران العلامة بهذا الشأن. أما أحوال البشر قبل الطوفان من زراعية وصناعية وتجارية واجتماعية ومدنية فلم يتوصل إليها الباحثون بعد. وكل ما ذكره موسى بهذا الصدد هو أن يابال كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي وأن يوبال كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار وأن قوبال قايين كان الضارب كل آلة من نحاس وحديد. إن أشهر الشعوب التي قامت قائمتها في سورية بعد الطوفان إلى عهد إسكندر الأول هم الآراميون والكنعانيون والعبرانيون والمؤابيون والإسماعيليون والمدنيون والعمونيون والأدوميون والفلسطينيون والسامريون والعناقيون. وأشهر هذه الأمم جميعها الحثيون والفينيقيون والعبرانيون. هذا ولي سلسلة كتابات في هذا الموضوع سأقتبسها من مباحث أشهر علماء الشرق والغرب كما اقتبست هذه المقالة خدمة لمجلة أجلها ولأمة أحبها. اوماهانبراسكا - الولايات المتحدة يوسف جرجس زخم

إحدى نقائص الاجتماع

إحدى نقائص الاجتماع واقعة حال وقفت بأشيبين إلى ... مرام لي اصاديه يديران الحديث على ... زمان ربيا فيه فقلت مضى زمانكما ... فما تذكار ماضيه فقالا يا له زمناً ... وتذكاراً نواليه رأينا قبلكم ما لم ... تروا شيئاً يحاكيه فقلت نعم وسوف نرى ... من الآتي وخافيه أموراً لن يراها الش ... يخ فالموت ملاقيه فنابهما لذكر الموت ... غيظ خيف باديه وقالا هل رأيت الغي ... ب لا لست برائيه لعلك أن تلاقي المو ... ت تعدونا عواديه فقلت لعل تمر كما ... يقر العين غاليه فقالا لا غلاء ولن ... ترى ثمراً يضاهيه فلم أبخل به ثمناً ... يهيج البخل رابيه ورحت يكاد يفضحني ... لعاب لج جاريه فلما أن أتيت البي ... ت في جهد أعانيه إذا بالتمر قد أربت ... فما تحصى مساويه العظة عجبت لمن دعاه إلى ... لقاءِ الله داعيه فتاق إلى الحياة ولم ... تحل عنها أمانيه وحارب ربه شرهاً ... إلى فلس يواتيه أما للشيخ مزدجر ... فينزع عن معاصيه أما يوقن أن المو ... ت قد شمر حاديه وإن قد أوشك المنز ... ل أن يبلغ قاصيه

أحمد محرم

المدارس والأخلاق

المدارس والأخلاق لا تقوم واجبات المدارس بتعليم العلوم فقط بل إن بث روح الفضيلة والإقدام من أخص واجباتها. جول سيمون تنبه الناس حديثاً لإنشاء المدارس في الشرق ورغب بعضهم فيها بعد أن ذاقوا لذة العلم ورأوا عظم تأثيره في الغرب فعملوا على تأسيسها جهدهم ولم يمض زمن حتى كثرت معاهد العلم وتعددت لاسيما في اليابان مملكة الشمس المشرقة مدهشة العالم بسرعة ترقيها. أتى على بلادنا أزمان عفت فيها آثار المدارس أو كادت إلا ما كان هناك من كتاتيب قليلة ضئيلة فعادت تنفض عنها غبار الإهمال وتزهو بما أنشئ فيها من بيوت العلم حتى أوشكت تضاهي بعض بلاد الإفرنج العامل أهلها على توطيد أركان العمران فيها وإخلاص من مستو بل المفاسد بالتهافت على العلم والرغبة في التهذيب توصلاً إلى بلوغ الكمالات الإنسانية والتمتع بما يجعل الحياة على الأرض هنيئة صافية لا شر فيها ولا شقاء وهو مما يسر ولا جرم المحبين المنصفين ويحقق آمال العاملين المخلصين وينبئ بمستقبل باهر وارتقاء أكيد ينهض بالشرق من كبوته ويعيده إلى سابق عظمته. ولقد مرت على مدارسنا أعوام وهي إلى يومنا هذا لم تعن بتحسين الأخلاق وإصلاح الملكات والعادات اعتناءها بقواعد اللغات والرياضيات والطبيعيات على حين نرى الحاجة ماسة إلى تقويم أود الأخلاق وعجن النفوس في مركن الوطنية وحب الخير والإحسان وتنظيفها من أقذار ما توالى على البلاد من النوائب والإحن وعوامل الجهل والانحطاط وتنشئتها على الجرأة والعزم والحزم والإقدام والتساهل والمسالمة والتعاضد والاتفاق وتدريبها على الصدق والإخاء والاجتهاد والترتيب والاقتصاد وتقويتها على احتمال أثقال الحياة ومتاعب العمر وتذليل العقبات ومقاومة التجارب بالعفة والنزاهة والمكاره بالصبر والترفع عن الصغائر والتمسك بأهداب الفضائل والنهوض إلى معالي المجد والجهر بالحق وعدم الاعتداد بالقيل والقال والتشبث بأهداب المحال وتربيتها على احترام حق الضعيف وإكرام المستحق ومعاونة القاصر وتنشيط المستعد وطلب النافع ونبذ المضر إلى غير ذلك مما يؤهل المرء ليحسن القيام بواجباته والتمتع بحقوقه ويؤدي به إلى ما يتمناه له

المصلحون. وهذه كما رأيت أمور أولية ينبغي إيثارها على كل شيء. وقلما نظرت مدارسنا مع ما فيها من العلماء والأدباء وما لها من الفضل في إنارة الأذهان وترقية العقول وتوسيع المدارك إلى تلك المقومات نظر حكيم مخلص يعرف كيف يداوي الإعلاء وتقاوم أدواء الأمم ولم تقصر جل اهتمامها إلا على حشو الأدمغة بقواعد اللغات والرياضيات والطبيعيات على ما مر بنا آنفاً غير مفسحة للأدبيات والاجتماعيات إلا القليل من أوقات الدراسة فيها كأنها تجهل قيمة النفس وتأثير الأخلاق في الوجود. والأنكى أن ما تعلمه الواحدة وتذهب إليه تشجيه الأخرى وتبعد عنه وما تحض عليه هذه تقاومه تلك إذ ندر وجود مدرسة عندنا لا غاية لها في العلم ولا مأرب خاص على أن العالم لا مشرب له ولا دين كما قال المقتبس الأغر في عدد أسبق. ولا تنحصر واجبات المدارس فيما تجري عليه مدارسنا الحاضرة التي تفقد الأولاد كثيراً من الأمور الطاهرة الآتية معهم إليها وتضعف فيهم أميالاً سامية فطروا عليها مذ تكونوا في أحشاء أمهاتهم وتلاشي منهم نزعات شريفة ورغائب عظيمة مقدسة وتبث فيهم مبادئ تافهة ونعودهم عادات سيئة وتمكن منهم أخلاقاً فاسدة وتنشئهم على التعصب والإدعاء والكبرياء والضعف والجبن والكذب والرياء وما أشبه ذلك من النقائص التي أكلت من لحومنا وشربت من دمائنا مئين من السنين حرمنا فيها الهناء والارتقاء. ولولا إعداد المدارس طلبتها للاستنارة بنفوسهم لنفوسهم وتأهيلها لهم بالعلم لدرس الآداب والعمل على تحسين الأخلاق لما بالغنا إذا قلنا أن مدارسنا أضرت قدر ما نفعت. ومن راقبها بنزاهة وإخلاص وبحث في طرائق التربية فيها بحثاً دقيقاً إذا جاز لنا أن نقول أن فيها تربية تتضح له الحقيقة بأجلى بيان. . . وإصلاح المدارس خير أساس يجب أن يقوم عليه الإصلاح. الضغط على العقول وإرهاق الوجدانات وخنق الأفكار ومعاكسة النوابغ ومعاملة التلاميذ بالقسوة والجور والشراسة والاستبداد والشتم والضرب وقلة الأدب على نحو ما بينت ذلك في فصل من كتابي الإنسان ابن التربية وإيثار أهواء المعلمين على القوانين ومآرب الوالدين على مصالح البنين وعدم الاعتداد بالغرائز وعدم تنشيط العزائم وتعزيز الصدق والجرأة والإقدام وعدم جعل المعلمين أنفسهم قدوة حسنة للتلاميذ وتطبيق أفعالهم الخاصة والعامة على أقوالهم وما شاكل ذلك مما يأتي به كل معلم غير مؤهل للتعليم بأخلاقه وآدابه

على ما نشاهد في كثير من مدارسنا مما لا حاجة إلى إعادة ذكره الآن وإثارة الأشجان بتعداده - كل هذا أساس فساد الأخلاق في المدارس. راقبت مرة طلبة إحدى المدارس في وقت الراحة فرابني أمر تلميذ منهم كان كمن يبحث عن ضائع وعرفت بعد البحث أن يحمل (السنيال) وقد رأيته يأتي من ضروب الرياء والتجسس ما أحزنني على مستقبله ومستقبل أبناء مدارس من مثل هذه تدرب بنيها على عادات سيئة وأعمال دنيئة. وهل أسوأ وأدنى من جاسوس يغتاب الناس وينم بهم. ولو اعترض أحد على مثل هذه الأمور لاحتجت المدارس على إتيانها بحجج وبراهين لا تخرج عن حد (الغاية تبرر الواسطة) وعندي أن شرف الأخلاق وإباء النفس مع العلم القليل خير من الصغار والدناءة مع إتقان التكلم بعدة لغات. من المسؤول عن فساد أخلاق شبان العصر وسوء أحوالهم الأدبية يا ترى غير البيوت والمدارس؟ وإذا كان الوالدون على ما يعهدهم الجميع لا يعرفون من شؤون التربية غير اسمها ولا من الأخلاق إلا ما شبوا عليه ولا من العادات سوى ما تأصل فيهم أفلا يجدر بالمعلمين المتعلمين المهذبين أن يعوضوا عن هذا النقص جهدهم ويسدوا من الخلل ما يستطيعون؟ نعم لا أنكر أن المعلمين اليوم هم أبناء هذه المدارس أيضاً وما يتقاضونه من الرواتب لا يرغب في المهنة المهرة البارعين ولا يدني منها غير الكسالى العاجزين في أغلب الأحوال ولكن أين تأثير الإدارة والرئاسة ورواتب المديرين والرؤساء لا تحول دون انتخاب المستعدين والمستعدون على ازدياد؟ يقولون اكثروا من المدارس واستكثروا. ولا نجاح لنا بلا مدارس ولا ارتقاء. ولكن فاتهم أن ما عندنا منها لو عرفت كيف تربي أخلاق بنيها على ما يعوزنا لكان الأغنياء منهم ينشئون المدارس من تلقاء أنفسهم دون أن يحوجونا إلى النداء والمطالبة والحكماء يديرونها حسب الأصول دون استبداد بالأولاد وتلاعب بالحاسات والمعلمون يهذبون النفوس ويكفوننا مؤونة الكلام في هذا الموضوع الخطير. وقد كثرت مدارسنا وحسبنا من أنواعها ما عندنا وخير من زيادتها أيضاً العناية بتحسين طرق تربية الأخلاق فيها وهذا الركن العظيم الذي يتوقف عليه نجاح الأمة. لا ريب أن المدارس تكيف الأمم وبواسطتها تستطيع كل أمة تغيير ما تريد من عاداتها

ومبادئها وأخلاقها إذا توحدت فيها غاية التربية والتعليم ووافق كلاهما حاجات الأمة لاسيما وأبناء المدارس وبناتها سيصبحون يوماً آباء وأمهات يتولون تربية الأولاد الأولى الأساسية التي تدوم آثارها بدوام العمر ولا يلاشيها إلا القبر. فعلى المدارس فقط يمكننا أن نعتمد الآن في تهذيب الأخلاق وإصلاحها هذا إذا عرفت كيف تتوصل إلى ذلك بالتربية الصحيحة والتعليم القويم. وقد أكثر العلماء والفلاسفة الغابرون والحاضرون من إيضاح أصول التربية والتعليم وما على من يتعاطى صناعة التدريس ويتولى شيئاً من أمور المدارس إلا مراجعة ذلك في أماكنه ودرسه حق دراسته وانتخاب ما يلائم حالة السكان ويوافق حاجاتهم وإتقانه تمام الإتقان وإلا فسدت أعمالهم وساءت نتائجها كما هو الواقع لعهدنا. وبعد فكيف نرجو إيجاد أمهات مدركات وأباء عاقلين نعتمد عليهم في تنشئة أبناء الغد على المبادئ السامية والإهابة بهم إلى أسمى قمم الاجتماع وإدراك مراتب التمدن الرفيع ومدارسنا الحاضرة لا عناية لها بالأخلاق كما ينبغي؟ كيف نتمنى بلوغ المجد والأخذ بحظ وافر من الإنسانية وحفظ الثروة وإحسان التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات وأخلاقنا على ما هي من الفساد والالتواء؟ الأخلاق الأخلاق خير ما تطالب به المدارس وإصلاحها من الأوليات الضروريات التي يجب أن تنحوها مقاصدها وتسدد إليها خطى المسعى. وعلى كل معلم أن يضع هذه الغاية الشريفة نصب عينيه ويلهج بذكرها في الليل والنهار كيفما حل وسار. ولا يغني المرء عن شريف الخصال مال ولا جاه ولا عز ولا بنون ولا ينيله حب الناس واحترامهم ونفعهم له إلا ما فطر عليه من كريم السجايا وما اعتاده من حميد العادات. وما الأخلاق في عرف الناس إلا مجموع عادات والعادة نتيجة ممارسة. فإذا قام الوالدون والمعلمون بالوسائل الفعالة على منع الأولاد من ممارسة كل ما لا يحسن بهم أن يعتادوا عليه يحفظوا لهم مستقبلهم من ثقل وطأة تلك العادات ويخلصوهم من شرها وإذا فات ذلك الآباء والأمهات لجهل وغباوة لا يجب أن يفوت الأساتذة الذين يدعون العلم والمعرفة ويتنصلون من وصمة الجهل والغباوة. بيروت

جرجي نقولا باز

ميت الأحياء وحي الأموات

ميت الأحياء وحي الأموات تيقظ فما أنت بالخالد ... ولا صرف دهرك بالراقد فخلد بسعيك مجداً يدوم ... دوام النجوم بلا جاحد وابق لك الذكر بالصالحات ... وخل النزوع إلى الفاسد ورد ما يناديك عنه الصدور ... إلا در درك من وارد وسر بين قومك في سيرة ... تميت الحقود من الحاقد فإن فتى الدهر من يدعي ... فتأتي أعاديه بالشاهد ولا تك مرمى بداء السكون ... فتصبح كالحجر الجامد وكن رجلاً في العلى حولاً ... تفنن في سيرة الراشد إذا اطردت حركات الحياة ... وجاءت علي نسق واحد ولم تتنوع أفانينها ... ودامت بوجه لها بارد ولم تتجدد لها شملة ... من السعي للشرف الخالد فما هي إلا حياة السوام ... تجول من العيش في ناقد وما يرتجى من حياة امرء ... كماءٍ على سبخة راكد وليس له في غضون الحياة ... سوى النفس النازل الصاعد يغض على الجهل أجفانه ... ويرضى من العيش بالكاسد كأكل الطعام ولبس الثياب ... وامرار وقت بلا عائد فذاك هو الميت في قومه ... وإن كان في المجلس الحاشد وما المرء إلا فتى يفتدى ... إلى العلم في شرك صائد سعى للمعارف فاحتازها ... وصاد الأنيس مع الآبد وطالع أوجه أقمارها ... بعين بصير لها ناقد فأبدى الحقائق من طيها ... وألقى القيود على الشارد إذا هو أصبح نادى البدار ... وشمر للسعي عن ساعد فكان المجلي في شأوه ... بعزم يشق على الحاسد وإن بات بات على يقظة ... بطرف لنجم العلى راصد وأحدث مجداً طريفاً له ... واضرب عن مجده التالد

وما الحمق إلا هو الاتكال ... على شرف جاء من والد فذاك هو الحي حي الفخار ... وإن لحدته يد اللاحد بغداد معروف الرصافي

تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين

تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين انتهينا بكلامنا في الجزء السابق إلى آخر ما جاء به أفلاطون من الأبحاث الهندسية وها نحن الآن نسرد أسماء الكبراء في هذا الفن الذين قاموا بعده إلى هذا العهد. في أواخر عصر أفلاطون اشتهر اخيتاس الذي أصاف شيئاً مذكوراً إلى المعلوم من خواص المنحنيات والقضايا المتعلقة بها واستغل كثيراً في قضية تضعيف المكعب التي فصلناها في مقالتنا السابقة ووضع أساساً للمكتشفات التي قام بها أرخميدس في الميكانيكيات واصطناعها على الأصول الهندسية. ثم قام دينوكراط خريج أفلاطون وقسم الزاوية إلى ثلث زوايا متساوية مستعيناً عليها بالقوس التي سماها الرباعية. وجاء برسيوس فبحث في خواص اللولبيات وهو أول من اشتغل بالخطوط والسطوح اللولبية ووضع لها معادلات لاستخراج نصف قطرها ومعرفة زاوية الهبوط فيها. وفي هذا العهد طلع كوكب الهندسة الشارق وبدرها الآفق نعني به المهندس إقليدس الشهير (315_255 ق. م) ولعله أعظم من اشتغل بفن الهندسة منذ ظهورها إلى هذا اليوم. وليس هو منشئها أو مكتشف مبادئها كما يزعم الكثيرون من غير العارفين لأن أكثر قضاياها الخطيرة كانت معروفة قبل عهده ولا اشتغل بمسائلها الصعبة ولا أضاع زمانه للتوصل إلى حل قضية غير ممكنة ولا كشف كثيراً من خفاياها ولكنه خدمها أكثر من جميع العلماء الذين سبقوه أو تأخروا عنه فهو جمع كل القضايا التي كانت معروفة إلى عهده والتي حلها كبراء الفن قبله ورتبها في سلسلة محكمة الوضع مرتبة الحلقات جاعلاً برهان كل قضية مستنداً إلى ما قبلها وأدخل البرهان الخلفي في إثبات كثير من القضايا الهندسية وذلك عبارة عن رد الوجوه المطلوب نفيها إلى عدم الإمكان فلا يبقى إلا وجه واحد ممكن كقولهم إذا فرض تفاوت زاويتي مثلث وجب تفاوت وتريهما والزاوية الكبرى يقابلها الضلع الأطول فهو يثبت هذه الدعوى بأن الضلعين لا يمكن أن يكونا متساويين لأن ذلك يقضي بكون المثلث متساوي الساقين ويفضي إلى تساوي الزاويتين وهذا مخالف للغرض القائل بتفاوتهما ولا يمكن أن يكون الضلع المقابل للزاوية الصغرى هو الأطول لأن ذلك يقضي لزاويته بالزيادة وهو مخالف للغرض أيضاً فلم يبق إذن إلا أن يكون وتر الزاوية الكبرى أطول من وتر الزاوية الصغرى وهذا هو المطلوب إثباته. وقد استخدم إقليدس هذا

الأسلوب من البرهان في إثبات كثير من القضايا التي لم يجد لها مخرجاً غيره. وجعل جملة القضايا التي تمكن من جمعها واستخراجها في ثلاثة عشر كتاباً وقف الستة الأولى منها هندسة الخطوط والزوايا والسطوح البسيطة والأربعة التي بعدها على الهندسة الحسابية من خواص الأعداد ونسبتها لبعضها وعلاقتها بالأشكال الهندسية والثلاثة الأخيرة على المستويات المتقاطعة والمجسمات وإلى هذه الثلاثة أضاف هيبسكل مهندس الإسكندرية الذي ظهر بعد إقليدس بنحو قرن ونصف قرن كتابين أكمل بهما الناقص من كتب إقليدس في تلك الأبواب. ومازالت الستة الأولى مع الحادي عشر والثاني عشر من كتب إقليدس معولاً عليها في أكثر المدارس لتلقين فن الهندسة وإلى اليوم لم يستطع المشتغلون بهذا العلم أن يأتوا بتبويب يفضل تبويب إقليدس ويختار عليه لسهولة التحصيل. وينقل أيضاً أنه وضع كتاباً في المقاريض وبعض مقالات في قطوع المخروط وثلاثة كتب في قضايا المسائل السيالة التي يفضي حلها إلى نتائج متعددة غير أنه لم يحفظ للخلف شيءٌ من هذه الكتب. وبعد إقليدس أصبح علم الهندسة سهل المأخذ قريب التحصيل وصار لابد للراغبين فيه من درس كتبه قبل كل شيءٍ. ولم يعد يحسب من فطاحل الفن والمكتشفين فيه إلا من زاد شيئاً خطيراً على ما في تلك الكتب أو أدخل أسلوباً جديداً أو اكتشف قضايا مجهولة لها شأن يذكر وهذا راجع إلى أن علم الهندسة مثل غيره من العلوم الرياضية لا تخلق جدته ولا تنقصه الأيام بمرورها أو العصور بكرورها. وكان بطليموس ملك مصر يقرأ الهندسة على إقليدس فوجد صعوبة في حفظها وتعاصى عليه فهمها لأنه كان يتوقع أنها تهون لديه كما هانت عقبات الملك وصعوبات السلطان ويكره أن يعنت فكره وينهك قواه في إدراكها فالتفت إلى معلمه وقال له ألا يوجد إلى الهندسة طريق أسهل من هذه؟ فأجابه إقليدس بقوله ليس إلى العلم سكة سلطانية وعنى بها أن السلاطين والعامة سواءٌ في اعتبار العلم وتحصيله فذهب قوله مثلاً عند اليونان وأخذه عنهم الغربيون في هذا الزمان وجروا عليه بالعمل فوضع الملوك أولادهم في المدارس الكبرى والصغرى يتلقون العلوم مع رعاياهم ويأخذون الفنون عن الأساتذة كما يأخذها غيرهم ويحتملون القصاص ويأخذون الجوائز التي يستحقونها بجدهم ونشاطهم وآدابهم بدون أقل مزية على الفقراء الخاملين من الطلبة.

بعد انصراف إقليدس برز أرخميدس الصقلي وهو يعد من أكبر الرياضيين القدماء إن لم يكن أكبرهم (287_212 ق. م) فقد أضاف إلى الفن قضايا كثيرة جديدة لم تكن معروفة قبله وتعمق في مباحث المجسمات إلى أن كشف حقائق جمة وأعد لعلماء المتأخرين قواعد نفيسة جعلوها أساساً لطرائقهم في قياس السطوح المنحنية والمجسمات. نعم إن إقليدس وضع في كتبه شيئاً من الأبحاث في الأشكال المنحنية غير أنه اقتصر منها على القليل ولم يتعرض لتمثيلها وقياسها بالآحاد المربعة من السطوح المستوية والمكعبة من الحجوم أما أرخميدس فقد وضع القواعد التي يقتضيها هذا التمثيل في مقالاته النفيسة التي ألفها في الكرة والاسطوانة وفي المقاطيع الكروية والمخروطة وفي قياس الدائرة وقضيته التي أثبتها في أن مساحة قطعة من سطح ثلجي تساوي ثلثي مساحة شكل متوازي الأضلاع محيط بها هي بالحقيقة أول القضايا التي وضعت في تربيع سطح محاط بخط منحنٍ. ومباحثه في اللولبيات بالغة من التدقيق والتعمق درجة عالية بحيث يعسر فهمها حتى على العلماء الراسخين في هذا الزمان. وتوسع في تفصيل الأشكال الإهليلجية المعروفة بالقطع الناقص وهو الذي أثبت النسبة بين محيط الدائرة وقطرها وأحسن استخدام الحقائق التي اتصلت إليه ممن قبله كما أنه أجاد في بسط أفكاره وآرائه وصبها في أسلوب قريب المنال على من بعده. واستخدم الهندسة في الميكانيكيات وكشف كثيراً من القواعد الأساسية اللازمة لهذا الاستخدام واكتشف ناموس الثقل النوعي واستعان به على ترويض القوى الطبيعية وهكذا صرف عمره في العلم والعمل إلى أن قتل وهو لاهٍ في الأشكال الهندسية التي رسمها على الرمل المنبسط أمامه في غرفته قتله الرومان يوم فتحهم مدينة سرقوسة في جملة من قتلوا غيره من العلماء والفلاسفة والخطباء في كل فتح فتحوه وبلادٍ دوخوها. قلت عندما وصلت إلى هذا الموضع من مقالتي وذكرت مقتل أرخميدس على يد الجند الروماني ألقيت القلم من يدي ووقفت برهة أجيل في خاطري تاريخ الدولة الرومانية التي يطنب الإفرنج بها ويفخرون بعرض جاهها وسعة سلطانها فما مررت للرومان على عمل جليل خدموا به الإنسانية ومهدوا فيه سبيل العلم. نقول عملاً جليلاً ونريد به عملاً يليق بمثل دولتهم ويذكر معهم فيعرف الإنسان حقهم عليه مادام ودامت الأرض بسكانها. ولم أعثر لهم إلا على جيوش متألبة وقوادٍ متنازعة وسيوف مخضبة بالدماء ومدن تركوها

خراباً ودول اسكتوا نأمتها آخر الدهر وعلم أجهزوا على بقية القائمين فيه بدون أن يرثوه عنهم. فهم محقوا التمدن الفينيقي في قرطجنة وقوضوا عمران البطالسة في مصر واستأصلوا جرثومة العبرانيين من فلسطين وأجهزوا على الدولة السلوقية في سورية والعراق وحالوا دون ترقي العمران الساساني في بلاد فارس وأخمدوا شرارة التمدن الذي بدأ يظهر في آسيا الصغرى ونقضوا معاهد العلم والفلسفة والصناعة والسياسة في بلاد اليونان وما تفرع عنها في جزائر البحر المتوسط وبسطوا ظلهم الكثيف على أنقاض هذه الأمم والدول وملؤوها بملاعبهم ومراقصهم وساحاتهم التي شغلوها بصراع الأسود والثيران ومواقف الجنود والفرسان. ولولا أن قام العرب في أواخر دولتهم وأخذوا العلم اليونان واحتفظوا به إلى الخلف في العصور المتأخرة لما كان وصل إلينا من علوم المتقدمين شيءٌ ينقع الغلة. وأغرب من هذا أن كتاب الإفرنج في هذا العصر يغضون الطرف عن الأضرار التي ألحقها الرومان بالتمدن الإنساني ولا يعدونهم من المخربين الأشرار ولو كان الرومان دولة شرقية لأسرع كل كاتب فيهم إلى نعتها بالتخريب والتدمير والإضرار والفساد كما ينعتون دولة التتر التي رفعها جنكيزخان وتيمورلنك هذه جملة معترضة مرت في خاطري وأنا أكتب هذه المقالة فأثبتها وأنا أعلم أن ليس هذا موضعها ولكنه خاطرٌ عنَّ فأثبتناه وفكرٌ ألم فقيدناه. وبعد أرخميدس اشتهر أبولونيوس المولود حوالي سنة 240 قبل الميلاد بما كشفه من أعمال الهندسة الوضعية وهي تعيين محال النقط والخطوط المجهولة وله مقالات في قطع المخروط جاءت في ثمانية كتب انتهى إلينا سبعة منها واستخرج الثامن هالي الفلكي في القرن السابع عشر للميلاد مستعيناً على استخراجه بما نقله بابوس من مكتشفات أبولونيوس منثوراً في فقر شتى. وهذه المقالات كان لها شأن باهر بين علماء الهندسة بعده حتى لقبوه بالمهندس الأكبر فقد أوضح فيها خصائص البؤر والمحترقات ووضع مبادئ المباحث في القطبيات والناميات والحدين الأعظم والأقل. والذي بقي إلى هذا العصر من مؤلفاته كان أكثره محفوظاً في الكتب اليونانية وكان قسم منه منقولاً إلى العربية فأخذ عنها. بعد ما تركه أرخميدس وأبولونيوس من الآثار في الهندسة صار يصعب على من يأتي بعدهما أن ينال نصيباً من الشهرة في هذا الفن فإنهما لم يتركا للخلف باباً مغلقاً إلا ما كان

بالغاً حد الإعجاز فمر أكثر من قرن قبل أن ظهر نيفوميدس في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد واشتهر بأبحاثه في المنحنيات وقياسها مستعيناً عليها بالطرق الميكانيكية وفي قضايا النسبة ذات الوسط المشترك وفي تثليث الزاوية. وظهر معه هبار كوس الذي هو أول علماء الفلك المعروفين ومخترع الإسطرلاب ومكتشف الاعتدالين وواضع التقاويم للنجوم بأطوالها وعروضها السماوية والذي هو مرجع بطليموس في علم الهيئة. أما في الهندسة فقد اكتشف عدة حقائق في المثلث الكروي والمرتسمات والأظلال وغيرها مما له تعلق في علم الهيئة وهو آخر من بقي له ذكر من علماء الهندسة قبل الميلاد. وفي آخر القرن الأول بعد الميلاد ظهر منالاوس فوضع مؤلفاً في الكرويات كشف فيه كثيراً من خواص المثلث الكروي وهو أقام القضية الأساسية في أبحاث القاطع وصفاته. وفي أوائل القرن الثاني بعد الميلاد قام بطليموس الذائع الصيت في فني الهيئة والجغرافيا ووضع عدة تآليف أهمها كتابه الذي سماه العرب المجسطي وعنوا بها الأعظم وعنهم أخذ الإفرنج الكتاب واسمه وفي النقول التي عثرت عليها رأيتهم يقولون أن العرب وضعوا له هذا الاسم ولعلهم أخذوه من اليونانية ثم أدخلوا عليه أداة التعريف. وهذا الكتاب يبحث في علم الفلك إنما فيه كثير من مباحث المثلثات المستوية والكروية وفيه حقائق كثيرة في خواص الكرة منها ما هو من مكشوفات بطليموس ومنها ما هو مأخوذ عن هبار كوس الفلكي. بعد بطليموس لم يشتهر أحد في فن الهندسة حتى أواخر القرن الرابع للميلاد حين ظهر بابوس ونشر كتابه الذي سماه المجموعة الرياضية وأثبت فيه كل القضايا والاكتشافات التي كانت في أيامه منقولة عن أشهر الرياضيين ونسب كل واحدة إلى صاحبها وأضاف إليها كثيراً من الحواشي تسهيلاً لفهمها وهو أول من ذكر التناسب غير الموسيقي. وفي القرن الماضي عثروا له على عدة قضايا في مسح السطح المتعرج الممتد الواقع بين خطين متعرجين مؤلفين من أقواس كثيرة مثل مجاري الأنهار والطرق غير المستقيمة وكان الأب غولدن اليسوعي قد نشر هذه القضايا في أوائل القرن السابع عشر وادعاها لنفسه وعبرت دعواه هذه على العلماء نحو قرنين حتى ظهرت الحقيقة عند العثور على

كتب بابوس ووجود قضايا غولدن فيها قبل أن يولد هذا الأب اليسوعي بأكثر من اثني عشر قرناً. البقية تأتي فارس الخوري

النهضة الأميركية

النهضة الأميركية معربة من مبحث لأحد علماء فرنسا يقول بعض الباحثين أنه لم يعهد أن تحسنت الصلات السياسية بين الإسبانيين والأمريكيين في دور من أدوار التاريخ وأنه ما كانت صداقة بين الأمتين قط. حالة متسلسلة من عهد خريستوف كولمبس فاتح أميركا الأول فإنه اعتبر هذه القارة أرضاً مفتوحة فراح الاسبانيول من سهول قشتالة الوعرة والعجب أخذ من نفوسهم ينقضون على تلك الأراضي البكر ويسخرونها لأمرهم. فلم يحترموا معابد الشمس في بلاد الانكاس وربطوا خيولهم في قاعات القصور في المكسيك وراحوا يسفكون الدماء ويملؤون جيوبهم بالمال نهمين إلى أخذه وبذلك أصبحوا ملوكاً في العالم الجديد وأخضعوا أميركا الجنوبية إلا أقلها لسلطان قهرهم بالسيف والنار وأطاعتهم جزائر الأرخبيل الانتيل وجزءٌ عظيم من أميركا الشمالية حتى ساغ لشارلكان ملك إسبانيا أن يقول أن الشمس لا تغرب عن ممالكي ولكن لكل فجر شفق ولكل علو نزول. فقد تألفت في حجر البلاد المفتوحة على توالي القرون أجناس جديدة تنبه فيها فكر الاستقلال. وبينما كان ملوك إسبانيا في قصر الأسكوريال غارقين في فسادهم (كما كان أسلافهم ملوك الأندلس لما طردهم الإسبانيون منها) غافلين عما يدبر في تلك الأصقاع النائية من بلاد أميركا كانت حركة الأفكار على أتمها في هذه البلاد. ولم يكد يجتاز نابليون جبال البرينيه الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا حتى قامت بلاد أميركا الجنوبية على ساق وقدم وحذت المكسيك حذوها فانسلخت عن إسبانيا تلك الزهرات واحدة بعد أخرى. وفي غضون ذلك كانت تنمو مملكة الشمال من أميركا قد تجسد فيها فكر التبسط والتوسع داعية إسبانيا عدوتها القديمة للقتال مستندة إلى طالع قوتها وكان نجماً ساطعاً على حين كان نجم إسبانيا قد خوى وهوى. وكان غير مذهب مونرو كيان تلك البلاد كما حرر سيف بوليفار أرض الجنوب من رق العبودية للدول الغربية. ولم يبق للإسبانيين من تلك الأصقاع المتنائية الأطراف بأسرها غير جزيرة كوبا فكانت لهم بمثابة جوهرة بديعة من بين تلك الحلي التي أضاعتها. فكوبا لؤلؤة الأرخبيل بلاد الأحلام والخيالات التي يمتد فيها سماط من الذهب الأخضر من حقول

قصب السكر وتختلط بنجوم الأرض وسهوبها المعشبة وبحقول التبغ التي يعبث بهال النسيم وترنحها نسمات الغدو والآصال وبالغابات الغلباء الغبياء حيث يدوي الجراد الوردي الحاد ويطير وهناك بحيرات صافية تضطجع فيها التماسيح مستلقاة على فرش من النيلوفر المزهر. ظل العلم الأوربي خافقاً على تلك الجزيرة التي طالما تسكعت في العبودية ولم تبد نواجذ الشر وسكان الولايات المتحدة من وراء ذلك يحرقون الأرم غيظاً من ذلك. وما فتئ سكان الشمال منذ انتشر مذهب مونرو إلى أن انتشرت مذكرة ماكنلي سنة 1898 يتربصون الدوائر بالاسبانيول ولا يكتمونهم العداء وقد دارت سياستهم في تلك الجزيرة على منع أية دولة أوربية مهما كانت قوتها من الاستيلاء على كوبا. واغتنمت الولايات المتحدة فرصة ضعف إسبانيا لتأخذ منها كوبا بالمال مباشرة أو بمعاضدة الثوار أو إشهار الحرب بالواسطة ودامت إسبانيا سنين طويلة ترقب وقوع هذه القنيصة في كفها. وما أشبه أميركا في مراقبتها إسبانيا إلا بنسر بالغ أشده ممتع بقواه ينقض على باز هرم لا منقار له ولا مخلب. وفي غضون ذلك تبايع الماسونيون في تلك الجزيرة على الموت أو الاستقلال وقامت من بعد ومن قبل ثورات طفيفة كان القائمون بأمرها يخافون لأول أمكرهم البوادر حتى إذا كان عام 1860 قام ثلاثة رجال ممن أشربت قلوبهم حب الحرية الحقيقية يحاولون استقلال بلادهم وقد خص كل منهم بمزية لا يشاركه فيها صاحبه وكان ثالثهم قائد جموع الزنوج وهم ثلث سكان الجزيرة فاشتعلت بهم جذوة الفتنة وكانوا النافخين في ضرامها من أقصى البلاد إلى أدناها. وبيعت الأسلحة للثائرين ودامت الحرب بين الثائرين والإسبانيين والولايات المتحدة ترقب من طرف خفي ما يحل بالجزيرة وتشهد إسبانيا تنفق أموالها وتمزق رجالها. ثم فسدت أحوال الموظفين والإسبانيين في كوبا وصاروا ينالون وظائفهم بالرشى والمحاباة فضج السكان وراحوا يتألفون عصابات تحت راية القائم هناك وأتتهم النجدات من كل الجهات. واتفق أن أرسلت إسبانيا عليهم أحد قوادها فأجرى من الفظائع والفضائح ما أسود له وجه إسبانيا أمام العالم المتمدن فزادت نفوس الكوبيين شموساً واشمئزازاً وقويت شكيمتهم على دفع صائل الإسبانيين وخلع نير سلطتهم. وفي 12 أبريل (نيسان) سنة 1898 أصدر رئيس جمهورية الولايات المتحدة بلاغاً أخيراً

إلى إسبانيا أعلن فيه الحرب عليها وحجته أن انتشار الفوضى في الجزيرة وطول أمدها وحب الإنسانية والأضرار التي لحقت بمصالح حكومته التجارية دعته أن يضع حداً لهذه الفتن لئلا يكدر صفاء الجزيرة. وقد عرف الكوبيون ما انطوت عليه صدور الأمريكان من الرغائب فخاطبهم أحد رجال السياسة بقوله: أنتم الدولة التي فسحت للأيرلنديين والبولونيين مجال الرجاء في الاستقلال وظهرت هذه المرة حكومة أميركا بمظهر العظمة وأن القول قولها فيما تريد لا تنازعها دولة أوربية فيما تنويه من حماية حقوقها. وكانت حرب الأمريكان مع الاسبانيول ذات بال وهي في الحقيقة لا خطر فيها عليهم ولم تمض أيام حتى حطم أسطولهم أسطول الإسبانيين في سانتياغو وعقدت عهدة الصلح في باريس فتخلت إسبانيا عن جزائر الفليبين لقاء عشرين مليون دولار وعن بورتوريكو وكوبا بدون أن تتعهد الولايات المتحدة بدين كوبا. دخلت كوبا تحت حكم الولايات المتحدة سنة 1898 وخرجت منها سنة 1902 على وجه قل في الدول من يروقه العلم به. ذلك أنها لم ترغب في أن تحيد عن سنن الإنسانية فعملت بالحكمة المأثورة عن واشنطون مؤسسها الأول من أن المستقبل مضمون لأحسن الناس أخلاقاً فرأت أميركا أن ليس من الإنصاف أن يقاتل الأمريكان عن جزيرة تريد نزع السلطة الأجنبية ويأخذوها غنيمة باردة وهم أنصار الحرية الأقدمون ورجال السياسة المحنكون ولمستقبلهم باسمون وبعظمته مستبشرون. فمن ثم حافظوا على مصالحهم في الجزيرة وجعلوا لها حكومة جمهورية. ورفع تمثال إيزابيلا الكاثوليكية من المتنزه العام وكان قائماً فيه منذ مائتي سنة ونصب تمثال الحرية وغادر الحاكم الأميركي أرض الجزيرة بين الهتاف والدعاء لدولته بالنصر ولكوبا باشتداد الأزر (في الشهر الماضي اضطرت الولايات المتحدة أن تعود فتجهز جيشاً على كوبا لقمع ثائرة الثائرين). دخلت الولايات المتحدة في مسألة فنزويلا سنة 1881 رغم إنكلترا ولم ترهب أساطيل هذه وعظمتها البحرية بل دفعها إلى ما تريد آمالها في النهضة الأميركية وما ترى لنفسها الحق فيه والاحتفاظ به من مثل مبدأ مونرو عدم مداخلة الأوربيين في أميركا تلك القارة التي لها حق التصدر فيها وأفضلية الحكم على سائر أقطارها وأهلها وأنها هي هي المرجع في كل المسائل الاجتماعية التي تعرض لأميركا والأمريكان يهددون إنكلترا ضمناً في المفاوضات

السياسية الطويلة حتى ساغ لهم بها أن يجروا ما أرادوا في فنزويلا مشيعين أن المخترع أديسون الشهير قد اكتشف مدافع تطلق قنابل من الديناميت وسلاسل مهلكة وأدوات كهربائية تبيد جيوشاً. بمعنى أن أميركا إذا أعلنت حرباً على أية دولة من دول أوربا لابد أن ترجع مكللة بأكاليل النصر وتكون إنكلترا أو غيرها مثلاً في يد الولايات المتحدة كما كانت إسبانيا في يدها كالفارة بيد القط. ثم فضت المسائل وانتهت بدوي مدافع الأمريكان في كوبا على ما أرادت الولايات المتحدة وتخلصت إنكلترا من هذه الورطة أحسن تخلص خائفة أن يصيب مستعمرتها كندا ما أصاب مستعمرات غيرها في أميركا من قبل. ثم قامت الفتن بين الأحرار والمحافظين في كولومبيا دامت إلى سنة 1900 فتداخلت الولايات المتحدة بواسطة أحد رجالها وكفت عوادي الشر فصار لها بذلك نفوذ أدبي متزايد وعلت مصلحتها فوق المصالح وكان لها الفضل في حقن الدماء وإغماد سيف الفتنة والعداء. وبينما كان الأمن يعود إلى نصابه في كولومبيا كانت حكومة فنزويلا تسيل دماً نجيعاً لاختلاف الكلمة على رئيسين لها يتنازعان السلطة. حرب قتل فيها نحو ثلاثين ألف رجل ومع هذا هونت بعض الجرائد أمر هذه الفتنة ودعتها بحرب الرواية الهزلية. وقد ساعدت الولايات المتحدة كولومبيا على فنزويلا في الباطن في مسألة التخوم بين تينك المملكتين وقامت أميركا الشمالية تدفع عادية من يريد كولومبيا بسوءٍ وحجتها أنها لا ترضى إلا باستتباب أسباب التجارة في برزخ باناما وأنها ما لجأت إلى القوة في هذا المعنى إلا لما عجزت كولومبيا عن ذلك. قضت الفتن الأهلية وتجييش الجيوش والتعويضات والنهب أن تكون خزانة حكومة فنزويلا أفرغ من فؤاد أم موسى وماليتها أضعف من جسم العليل بعلة قديمة حتى تضرر من ذلك أرباب الأموال من الأجانب النازلين فيها ولاسيما الإنكليز والألمان والطليان بل تضررت ثروة الغرباء من الأوربيين كلهم ورعايا الولايات المتحدة أيضاً وأنذرت ألمانيا حكومة الولايات المتحدة بسوء المصير. وسنة 1901 أعلن سفير جرمانيا الولايات المتحدة أن دولته تضطر إلى استعمال القوة في فنزويلا إذا لم تجب هذه مطالب الماليين الأجانب ثم عادت تلك الدول الثلاث والغضب آخذ منها مأخذه لسلب حقوق رعاياها حتى اضطرت السفن الألمانية أن تغرق سفينتين فنزويليتين وعندها قامت الولايات المتحدة تقول أنها

ترضى بتحصيل المطاليب من فنزويلا ولكنها لا ترضى بأن تضم دولة أوربية إلى حكمها أرضاً أميركية تغنمها في حرب تشهرها على فنزويلا. وأصبحت هذا البلاغ وعززته بثلاث وخمسين بارجة حربية وأربعة عشر ألف جندي لإيقانها بأن غاية تلك الدول وألمانيا في المقدمة أن يحصرن مرافئ فنزويلا ويحكمن فيها بعد بما أردن. ثم قر رأي كل من ألمانيا وإنكلترا وإيطاليا على أن يحكمن المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة في هذه المهمة فأبى إباء تلطف ثم عهد إلى أحد رجاله فحل الأشكال سنة 1903 وأرضى دول أوربا الثلاث الكبرى حتى اعترفن للولايات المتحدة بأنها صاحبة الشمال كما هي المسيطرة على الجنوب وأن بيدها تطبيق مفاصل مبدأ مونرو في كل ناحية من أنحاء القارة الأمريكية وأنها وإن كان منها الغيم والمطر في هذه الزعازع فقد أوردت الأشكال وجرى على يدها حله فحق لمونرو وأشياعه من بعده أن يهتزوا في قبورهم طرباً بهذا الظفر وبنجاح مبدأهم رغم أنف المعاند والحسود.

التفاسير والمفسرون

التفاسير والمفسرون من كتاب التعليم والإرشاد التفسير من العلوم التي قارنت ظهور الإسلام ونزول القرآن على النبي (ص) إذ كان ما من آية تنزل على النبي (ص) إلا ويفسرها لأصحابه إلا أنه تأخر تدوينه إلى عصر تابعي التابعين استغناءً بالحفظ عن الكتابة ولندرة الكتاب فيهم مع اشتغالهم كافة بالحروب لنشر الدعوة الإسلامية ثم دون على ما ستراه بعد هذا. فالمفسرون من الصحابة الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص. وأكثر من نروي عنه في التفسير من الخلفاء الأربعة علي رضي الله عنه لتأخر وفاته وابن مسعود روي عنه أكثر مما روي عن علي لاشتغال علي بالخلافة ومحاربة الخوارج وغير ذلك وأما ابن عباس حبر الأمة وعالمها وترجمان القرآن فقد روي عنه في تفسير كتاب الله ما لا يحصى كثرة وأحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة وعليها اعتمد البخاري في صحيحه وطريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة عشرين ومائة عن عطاء بن السائب وطريق اسحق صاحب السيرة وأوهى طرقة طريقة الكلبي عن أبي صالح والكلبي هو أبو النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ست وأربعين ومائة فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير فذلك سلسلة الكذب. ومن الطرق الواهية عنه طريق مقاتل بن سليمان الأزدي المتوفى سنة خمسين ومائة إلا أن الكلبي يفضله لما في مقاتل من المذاهب الرديئة وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر وإن أخرج له ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفاً لأن جريراً شديد الضعف متروك الحديث ولذلك لم يخرج له ابن جرير في تفسيره. هذه طرق تفسير ابن عباس جيدها ورديئها نقلناها برمتها وميزنا غثها من ثمينها لئلا يغتر كل أحد بنسبتها إلى ابن عباس فإن لابن عباس منزلة في تفسير القرآن لا تضارع وليس

كل من روى عنه شيئاً محقاً في روايته بل فيهم الضعيف والكذاب فينبغي لمن نقل له شيءٌ عن ابن عباس في التفسير أن يتبين الطريق التي روي له منها فإن كانت من الطرق الجيدة اعتمدها وإلا ردها. وأما أبي بن كعب المتوفى سنة عشرين فعنه في التفسير نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا الإسناد صحيح ولا أعلم لها وجود إلى يومنا هذا. وأما مفسرو التابعين فمنهم مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة ثلاث ومائة قال عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة وعلى تفسيره اعتمد الشافعي والبخاري ومنهم سعيد بن جبير المتوفى سنة أربع وتسعين وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة خمس ومائة وعطاء بن أبي رباح المتوفى سنة أربع عشرة ومائة وطاوس بن كيسان المتوفى سنة خمس ومائة وهؤلاء كلهم أصحاب ابن عباس والآخذون عنه. ومنهم علقمة بن قيس المتوفى سنة اثنتين ومائة والأسود بن يزيد المتوفى سنة خمس وسبعين وإبراهيم النخعي المتوفى سنة خمس وتسعين والشعبي المتوفى سنة خمس ومائة وهؤلاء أصحاب ابن مسعود ومنهم عبد الرحمن بن يزيد ومالك بن أنس والحسن البصري وعطاء الخرساني ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة سبعة عشر ومائة وأبو العالية رفيع بن مهران المتوفى سنة تسعين والضحاك بن مزاحم وعطية بن سعيد المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة والسري الكبير والربيع بن أنس. ثم جاء بعد هؤلاء طبقة دونوا التفاسير وجمعوا فيها بين أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة ووكيع ابن الجراح وشعبة ابن الحجاج ويزيد بن هرون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس واسحق بن راهوبه وروح بن عبادة وعبد الله بن مجيد وأبو بكر بن أبي شيبة. ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى حذت حذو التي قبلها إلا أنها اتسعت في الرواية والطرق التي جاءت الرواية منها كابن جرير وعلي بن أبي طلحة وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وابن المنذر وغيرهم. ثم انتصب من بعد هذه الطبقة طبقة أخرى فألفوا تفاسير مشحونة بالفوائد وأقاويل الصحابة والتابعين إلا أنها محذوفة الأسانيد كأبي اسحق الزجاج وأبي علي الفارسي وعلي بن أبي طلحة وأبي العباس المهدوي وحذا حذوهم أبو جعفر النحاس وأبو بكر النقاش إلا أنهما

اقتصرا فاستدرك الناس عليهما. ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين عن هؤلاء فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بتراً فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل ثم صار كل من نسخ له قول يورده ومن خطر بباله شيءٌ يعتمده ثم تناقل المؤلفون ذلك خلفاً عن سلف واعتمدها الناس واندرست كتب الأئمة لعدم الباحث عنها فاندرست كتب التفسير وعلم التفسير ولم يبق في أيدي الناس شيءٌ مما يصح الوقوف به والاعتماد عليه. قال السيوطي رأيت في تفسير قوله تعالى غير المغضوب عليهم نحو عشرة أقوال مع أن الوارد عن النبي (ص) والصحابة والتابعين ليس غير اليهود والنصارى حتى قال ابن أبي حاتم لا أعلم لذلك خلافاً لأحد. ثم نبغ بعد هؤلاء قوم نبغوا في بعض العلوم فكل واحد منهم ملأ تفسيره بما غلب على طبعه من الفنون واقتصر على ما تمهر فيه كأن القرآن أنزل لأجل هذا العلم فقط فالنحوي ليس له إلا تكثير وجوه الإعراب وإن كان بعضها بعيداً ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر والنهر والأخباري ليس له إلا القصص والأخبار عمن سلف من الأمم حقاً كان ذلك أو باطلاً كالخازن والبقلي. والفقيه يورد الأحكام الفقهية وربما استطرد إلى ذكر أدلتها ورد كلام المخالفين فيها إلى غير مما لا ارتباط له بعلم التفسير بوجه من الوجوه كما فعل القرطبي في تفسيره وصاحب العلوم العقلية يشحن كتابه بأقوال العلماء والفلاسفة ومناظراتهم والرد عليهم كما فعل فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير. وصاحب البدعة من أهل كل مذهب يملأ كتابه ببدعه ويؤول كل ما يمكنه تأويله من آي القرآن للاستدلال به على بدعته فإن عرض له من الآيات ما يخالف بدعته عمد لصرفها عن ظاهرها واختلق لها معنى لا يعارض بدعته ولا يبطلها وإن لم يكن بيده حجة على تأويل القرآن وصرفه عن ظاهره الذي كلف الناس بالعمل به غير مخالفته لبدعته التي يرى أنها الحق الصراح وأن نصوص الشرع وإن خالفتها يجب أن ترد بالتأويل إليها. وهذه طريقة عامة المفسرين من أهل الكلام كل واحد منهم يستدل بالآية على ضد ما يستدل بها مخالفه عليه ومن قرأ تفاسيرهم رأى كيف يغلب حب النفس على الإنسان فيخرج به إلى نقض أساس دينه وتشويه محاسنه ويرحم الله أبا العلاء حيث يقول

وكم من فقيه خابط في ضلالة ... وحجته فيها الكتاب النزل والملحد يشحن كتابه بالكفر والخرافات وأنواع الإلحاد ويجعل القرآن حجة على كفره ويؤول النصوص القرآنية للوصول إلى هذا الغرض كما فعل أهل التفسير من المتصوفة ومن قرأ تفاسيرهم لم يصدق أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين. وأكثر الناس يقرؤون كل ما يبصرون ويعتقدون كل ما يقرؤون لا يفرقون في الأقوال بين حق وباطل ولا في الرجال بين مسلم ومبتدع وملحد والأمر لله العلي الكبير. ومجمل القول في علم التفسير أنه مهجور بين الطلاب طلاب العلوم الشرعية في الممالك الإسلامية كلها وأن من نظر منهم في كتاب من كتبه نظرة من غير قصد أو بقصد لا يصحبه شيء من الاعتناء والاهتمام وعنايتهم بالدواوين الشعرية على أنهم لا يتعاطون نظمه ولا يحسنون لو تكلفوه فوق اعتنائهم بعلم التفسير أضعافاً مضاعفة. والذي يقرؤون شيئاً من كتب التفسير يشتغلون بكل شيءٍ سوى التفسير فيضيع المقصود من الفن فيما بين تلك المباحث التي لها أول وليس لها آخر. والذي ينظر فيما طبع من نحو قرن في مصر وهي محط رجال العلوم الدينية وكعبة العلوم التي يفد إليها الحجاج من جميع الآفاق والقدوة لجميع أهل الأمصار يرى العجب العجاب. يرى أن الذي طبع منها إلى الآن تفسير الجلالين بحاشية الصاوي وبحاشية الجمل. البيضاوي بحاشية الشهاب. الكشاف بقطعة من حاشية السيد. تفسير فخر الدين الرازي. تفسير أبي السعود. النسفي. تاج التفاسير. ابن جرير الطبري طبع من نحو سنتين فقط. الدر المنثور للسيوطي. تفسير ابن عباس وبعض تفاسير ضئيلة. هذه هي كتب التفاسير التي تتداولها أيدي الناس اليوم وهي التي يعتمد عليها طلاب العلوم الشرعية في تفسير كتاب الله جل شأنه والوقوف على المراد منه. فأما تفسير الخازن وهو أكثر كتب التفاسير تداولاً وأعظمها انتشاراً بين عامة المسلمين وطلبة العلوم الشرعية فهو الكتاب الذي يقف القلم حائراً عند وصفه لا يدري ما يقول فيه وما الذي يحذر به المسلمين منه وخير ما يقال فيه أنه مجموعة الأكاذيب ولا أرى إلا أن الإنسان لو جرد ما فيه من الأكاذيب الموضوعة على لسان رسول الله (ص) والأقاصيص الكاذبة التي وضعها اليهود كقصة بابل والغرانيق وارم ذات العماد وغيرها لكانت فوق

نصف الكتاب وبعد ذلك فأشياءٌ إن لم تضر لم تنفع. وهو على اشتماله على هذين الوصفين اللذين هما من أقبح أوصاف المؤلفات فهو العمدة لعامة المسلمين وأكثر طلبة العلوم الشرعية وأكثر انتشاراً بينهم. ولقد أرى أن نسخه التي نشرت في مصر لا تقل عن مائة ألف نسخة فسد بواسطتها عشرة أضعاف هذا العدد من المسلمين ودخل عليهم في دينهم ما ليس منه من حديث موضوع وتفسير مفترى. ومن العجيب أنه لا يوجد في علماء الإسلام من ينهى الناس عن نشر مثل هذه الكتب المفيدة للعلوم والشرائع المضرة بالأخلاق والعقائد وقد لا يخلو بلد من بلاد الإسلام عن قوم من أهل العلم ولو قليلين يعرفون ما في هذه الكتب من المفاسد ولا يحظرون على الناس استعمال هذه الكتب لاتقاء شرها بل ربما سئلوا عنها فأثنوا عليها خيراً مسايرة لأميال الناس عامة ومصانعة لهم فيما هو من أهم مهمات الدين. وأما تفسير الجلالين بحاشيتيه الجمل والصاوي فهما يساويان تفسير الخازن انتشاراً وكثرة تداول إلا أن انتشار الخازن بين العوام أكثر وانتشار هذين بين الخاصة نعني طلاب العلوم الشرعية أكثر. فأما الشرح فهو غاية في الاختصار لا يمكن الاستقلال به في فهم كتاب الله تعالى مع علل فيه أخر يعلمها من جمع بينه وبين بعض تفاسير المتقدمين الموثوق بها وبمؤلفيها وأما حاشيتاه الضخمتان فهما من مؤلفات متأخري أهل العلم بمصر وحسبك هذا في معرفة منزلتيهما بين المؤلفات. . . وأما الكشاف ومختصره للقاضي البيضاوي فهما المشكلة التي لا تحل إجمالاً وإغلاقاً وغموضاً ولشدة عراقتهما في ذلك أكثر المتأخرون من تعليق الحواشي والشروح عليهما لبيان عباراتهما وتوضيح مقاصدهما حتى لو جمعت الحواشي والشروح التي عليهما لا ربت على ألف مجلدة وما ذكره صاحب كشف الظنون مما كتب عليهما قليل من كثير ولولا أنهما بحيث يخفيان إلا على من ألف حل الرموز والطلاسم واستخراج المخبآت لم يعتن من جاء بعدهما بالتوسع في الكتابة عليهما والمبالغة في توضيح غوامضهما. وفوق هذا كله اشتمالها على مسائل كثيرة خارجة عن التفسير بالمرة لا ترتبط فيه بوجه من الوجوه كالمسائل الكلامية التي حشيا به كتابيهما وهي ليست من فن التفسير ولا من متعلقاته وإنما كان الغرض من ذكرها بيان معتقديهما والاستشهاد له بكتاب الله.

ويلحق تفسير أبي السعود بهذين التفسيرين فإنه صورة أخرى لهما مع بعض تغييرات قليلة جداً ويلحق تاج التفاسير بتفسير الجلالين ونسبته إليه كنسبة تفسير أبي السعود إلى تفسيري الكشاف والبيضاوي وإن اختلف عنه فيسيراً. وأما تفسير فخر الدين الرازي وهو كتاب العامة والخاصة وعمدة الناس في هذا الموضوع فأبو حيان المفسر يقول في تفسيره تفسير الإمام فخر الدين فيه كل شيءٍ إلا التفسير. وما أحسن ما ترجم به أبو حيان هذا التفسير الكبير بل البحر العميق ولقد يفتح الإنسان جزءاً من أجزاء هذا التفسير للمراجعة والكشف فيه عن آية من آي كتاب الله فلا يشعر إلا وقد توسط بحراً لجياً لا يخلص الإنسان منه إلى ساحل. ويظهر مما كتبه الإمام فخر الدين في مقدمة كتابه أنه قد أودع كتابه كثيراً مما لا تعلق له بعلم تفسير كتاب الله ولا ارتباط له. ولقد رأينا لمتأخر من متأخري المصريين يدعى السحيمي حاشية على شرح عبد السلام على جوهرة التوحيد تقع في أربع مجلدات ضخام على أن الأمير وهو أطول باعاً منه في علم الكلام وأدق نظراً استوعب الكلام على شرح عبد السلام في مجلد صغير وكان في قدرة السحيمي أن يضيف إلى مجلداته الأربع أربعة أخر ولكن رأى أن الاقتصار على هذا المقدار كاف في البلاغ إلى ما قصده من البرهان على سعة اطلاعه. وجاء الألوسي من متأخري أهل العراق فأخذ تفسيره من تفسير الإمام فخر الدين إلا أنه حذف منه كثيراً من الزوائد وأضاف إليه وأحسن غاية الإحسان شيئاً من أقوال سلف المفسرين ومتقدميهم وإن لم يميز بين ما قوي سنده من هذه الأقاويل وما وهي فبقي في الأمر بعض لبس وإشكال وأضاف إليه أيضاً جملة كبيرة من تفاسير المتصوفة. وأما تفسير الدر المنثور للجلال السيوطي فقد زعم أنه اختصر به على حسب عادته تفسير ابن جرير الذي جمع فيه صحاح الأحاديث المتعلقة بتفسير كتاب الله تعالى وبيان أسباب النزول وأضاف السيوطي في مختصره أحاديث واهية الإسناد في هذا الموضوع نفسه ومزجها بتلك الأحاديث أحاديث الأصل فاختلطت بها حتى لا يمكن التمييز بينها وقلت الثقة في الجميع. وأما تفسير محيي الدين فهو مسخ للقرآن ونقض للدين من أساسه ويرى بعض الباحثين أنه ليس من مؤلفات محيي الدين وإنما هو من مؤلفات القاشاني أحد الملاحدة الباطنية نسبه

لمحيي الدين لبروجه بين عوام المسلمين ومن يستميتون إلى ما يقوله محيي الدين مهما كان حاله. والظن بمحيي الدين أنه لا يضع مثل هذا الكتاب ولا يذهب هذه المذاهب الفاسدة في تفسير كتاب الله تعالى. وسواءٌ كان من مؤلفات محيي الدين أو غيره فإن انتشاره بين المسلمين بحت ضرر سيما ولا موقف يوقف الناس على الصحيح والفاسد من هذه الكتب. وأما تفسير ابن عباس فهو من مؤلفات مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس جمع فيه رواية محمد بن السائب الكلبي عن ابن عباس وقد علمت مما ذكرناه في المقدمة حال ابن السائب الكلبي وضعفه وقلة ثقة العلماء بمروياته. هذه كتب التفسير التي نقرأها اليوم وإن كان قد فاتنا ذكر شيءٍ منها فإنه لا يخرج عن مضارعة واحد من هذه الكتب التي ذكرناها فلم يبق بيدنا ما يصح الاعتماد عليه والثقة به غير تفسير ابن جرير وهو الحسنة الوحيدة للمطابع الإسلامية بعد قرن وأكثر من ظهور المطابع في الممالك الإسلامية ولوال أن بعض أمراء الأعراب من سكان الجزيرة العربية راسل بعض تجار الكتب بمصر في شأنه وأعانه على ذلك بمساعدات جليلة لم يظهر له ظل في عالم المطبوعات اكتفاءً عنه بالخازن والجمل.

الاستشفاء بالموسيقى

الاستشفاء بالموسيقى ملخصة من مقالة في المجلة الباريسية قال أفلاطون: لم يبعث الأرباب فن الموسيقى لإدخال السرور على البشر واللذة على حواسهم بل لتسطين اضطرابات نفوسهم وتهدئة تلك الحركات المشوشة التي لا مندوحة لجسد مليء بالنقص عن الشعور بها. فجعل الأطباء قديماً وحديثاً هذه الكلمات نصب أعينهم عرف ذلك من ثباتهم على المحاولة في شفاء مرضاهم بالأنغام فاستعملوا الموسيقى لشفاء أو تخفيف الصرع والسويداء والإب (النزاع إلى الوطن) والخبل وضيق الصدر والهوس والجنون والبلادة والسير والتكلم في حال النوم والخدر والنقطة والهستريا والسكتة والفالج والسرسام وداء الأعصاب والحميات والنقرس وعرق النسا والرثية روماتيزم والطاعون والحميراء والكلب وغيرها كما استعملوها لشفاء الجروح والقرصات السامة ولتقوية الهضم والتنفس وترشيح الأخلاط فللموسيقى أهمية في الطب وتستخدم للتمريض. كانت تتم في القديم معرفة فنون الشعر والموسيقى والطب لشخص واحد. يقول ألين (الكاتب اليوناني من أهل القرن الثالث) أن ترباندر وتاليت وترتي كانوا أطباء موسيقيين وأوصى كسينوكرات وأبقراط واسكلبيادس وكاليين وأرتي وسليوس اورليانوس وتيوفراست باستخدام الموسيقى في عدة أمراض عندما تنقطع الحيلة من العلاج في بعض الأدواء. وكان الأحياء والأموات يسمعون أدوات الطرب. قال مونارك أن القدماء كانوا يسمعون المحتضرين بعض الألحان وربما اسمعوها من قضوا نحبهم لعلهم تعود الحياة إليهم. وقال سليوس اورليانوس أن فيثاغورس كان أول من استعمل الموسيقى في شفاء الأمراض وأنه جرب ذلك في بلاد اليونان. وقال بورهاف (1668_1738) لا بأس بنسبة جميع الخوارق التي رويت عن الرقيات والأشعار في شفاء الأمراض إلى الموسيقى التي كان قدماء الأطباء يجيدونها. استعملت الموسيقى في عصرنا لمعالجة عامة الأمراض فأصدر بونابرت أمره إلى أجواق موسيقى كتائب جيش الشرق أن تصدح كل يوم تحت نوافذ المستشفيات ولا تزال أجواق الموسيقى العسكرية إلى اليوم في كثير من الحاميات في الولايات تذهب مرة أو مرتين في الأسبوع لتنغم بأبواقها أما مرضى الجند.

ولقد عزمت إحدى جمعيات الإحسان في إنكلترا على تحقق تأثير الموسيقى في تسكين الآلام الطبيعية والأدبية في كثير من الأسقام فألفت من مرضى الموسيقيين عصابة تقوم في مكان خاص بها تتناوب العمل فيه ليل نهار لنقل الأنغام الموسيقية بواسطة أسلاك التلفون إلى قاعات مخصوصة من كل مستشفى كبير في لندرا. فأسفر ما جرى من التجارب في هذا الشأن حتى الآن عن نتائج مهمة. وأقل ما نجم من الفوائد أن أخذ المضطربون من المرضى ينامون ملء جفونهم واستراحوا من التشويش والتبلبل. وتألفت في سهالنبورغ جمعية من النساء المريضات لتصدح كل يوم بالقرب ممن أجريت لهم العمليات بالأنغام الموسيقية صوتية كانت أو آلية فثبت أن درجة حرارتهم كانت تنزل وأن آلامهم تخف. ومثل ذلك جرب في مستشفى بلتون بإنكلترا. والكمنجة هي الآلة المستعملة في الأكثر. وأحسن الآلات استعمالاً في حال الأرق علبة موسيقية بسيطة تدور بحركة ساعة دقاق أو بمحرك كهربائي. بيد أن تأثير الموسيقى في المرضى يحتاج إلى درس طويل إذا أخذ بمجموعه لا على التعيين. نشر أحد أطباء الألمان كراسة في فعل الموسيقى في النفوس فقال أنها إذا أضعفت الأصحاء فهي تسكن حواس المرضى وأنها لتنفع في أوجاع الرأس والدوار والإغماء واستشهد على ذلك بامرأة كان صوت الأرغن يضيع رشدها فيعروها جذب وكانت تلك الآلة بعينها تحدث نفس التأثير في فتى طلياني كان مصاباً بالدودة الوحيدة. ذكر روسو الفيلسوف أن كاهناً كان إذا سمع صوت الأرغن يتأثر حتى ليضطر إلى مغادرة الهيكل وعلى العكس في رجل من قومه كان يستولي عليه وهو في حالة السماع ضحك عصبي يستلزم إخراجه من الكنسية. لاحظ الطبيب المشار إليه أن الموسيقى تعدل سير الدم وتحسن حالة التنفس فإذا كانت الأنغام الموسيقية حادة بهجة تبرق العين وتزيد حمرة الوجه ويسرع النبض وتنمو حرارة الجسد ويضرب القلب ويسعل الهضم وإذا كانت الأنغام الموسيقية كئيبة وبطيئة تحدث للعين غشاوة ويصفر الوجه وتقل رطوبة الجلد ويزداد تواتر الدم إلى القلب ويضعف ضرب النبض ويقل التنفس ويطول. قال وتفعل الموسيقى في المجموع العضلي فبها يتحمل الجنود الشدائد والمتاعب فتتضاعف

قوتهم عندما يباشرون القتال وتؤثر أيضاً في التهييج العضلي فإنك ترى أناساً يرقصون من الليل ويطيلون الرقص وما كانوا ليقوموا بهذه الرياضة لولا سماع الأنغام. فالمرأة مهما بلغ من لطف مزاجها وتأثرها من أقل تعب ينالها يهون عليها الرقص ساعات على صوت آلات الطرب. ثم أن الملاح والمعدن والبحري يتغنون عندما يقومون بأعمالهم الصعبة. يحب صاحب المزاج الدموي من الموسيقى ما أفرح وجاز على السمع وكان طبيعياً في الوضع. ويفضل السوداوي من الموسيقى الشديد القاسي العالي. ولا يحب البلغمي شيئاً من أنواع الموسيقى. أما أهل الدعة والسكون والعلماء فلا يجيدون الشعر ولا يحسنون صنعة الغناء. على أن في هذا القول نظراً لأن القول بأن المزاج الفلاني لا يقبل النغم الفلاني هو ناشئ لا من المزاج فقط بل من الوراثة والمحيط والتربية ولقد عرف علماء لا يرتاحون للموسيقى ورأيت من لا يفضلون شيئاً عليها وشهدت من يتوفرون عليها ويعتدلون في سماعها. وضع الطبيب المنوه به ست قواعد لاستعمال الموسيقى في شفاء الأمراض أولها أنه كلما كانت الموسيقى طبيعية وأعربت عن اللغة الطبيعية في الفكر تؤثر في النفوس كثيراً ولاسيما في نفوس من لم يتعلموا التعليم الكافي. ثانيها لما كان لكل بلاد أنغامها الخاصة بها فإن الموسيقى تؤثر في الروح كلما قربت من هذه الأنغام. ثالثها ينبغي أن تكون الموسيقى متناسبة مع درجة تأثير الموضوع. رابعها ينبغي أن يحدث تأثير الموسيقى ببطءٍ فيبدأ مع السوداويين باستعمال ألحان يتدرج فيها من الخفيف إلى القوي ويستعمل من الألحان الشديد أمام أصحاب النفوس الغضبية. خامسها اختيار الآلات المستعلمة للغاية التي تطلب فصاحب المزاج السوداوي يرتاح لسماع الطبل والبوق ذي الأنبوبتين وكذلك المزمار والعود يناسبان مزاجه. سادسها تطرب الموسيقى الطبقات العالية أكثر مما تؤثر في الطبقات النازلة. ومن رأي هذا الطبيب أن الموسيقى تشفي صاحب السويداء كما تزول بها الكآبة والحزن وتبعد الخوف. ولقد أجمع الفلاسفة على أن شيئين إذا عادلا ثالثاً يكونان هما متعادلين فإذا كانت الموسيقى نافعة في إزالة الكدر والسويداء هما في الحقيقة شيءٌ واحد. فإن أبقراط حدد السويداء بأنها الكدر والخوف.

وهنا أورد صاحب المقالة حوادث من التاريخ في أوربا ولاسيما في فرنسا تدل على ما نفع من الأنغام في مداواة بعض الأسقام ولاسيما الجنون والاختلال وداء النقطة مما دل على أنه أحاط بالموضوع من جميع أطرافه وقتله درساً واطلاعاً. ثم قال أن الإسلام انتفع من تأثير الموسيقى لتحريض أشياع الحسين الشهيد على الجذب والتهيج وذلك بقرع الطبول المتواتر على إيقاع متساوق سريع فيردد الشيعة على نغم الطنبور ألحاناً مقفاة حتى ينتهي الحضور بأن لا يعودوا يتأثرون للضرب ولا للجرح. وكذلك الحال في دراويش الهند فإنهم يستعملون كلمة واحدة ويكثرون من ترديدها فتؤدي بهم إلى الجذب مصحوباً بقلة التأثر. وبعد أن أفاض في إيراد حوادث القدماء وأخبار عنايتهم بالموسيقى في شفاء بعض الأمراض قال أن مراد الرابع (1623) أثرت فيه الموسيقى فعقد النية على أن يبقي على أخوته الذين كان ينوي اهراق دمهم وأن فرنسيس الأول بعث إلى سليمان الثاني بجوق من الموسيقى فلاحظ هذا أن شراسة خلقه لطفت بسماع ألحانهم فأسف من جراء ذلك كثيراً ولم يلبث أن طرد للحال جميع الموسيقيين من حضرته. وجملة القول أن الموسيقى تؤثر في الدورة الدموية في الإنسان والحيوان ويزيد بها ضغط الدم وينقص وتتبع هذه التقلبات تأثير تهييج الأعصاب السمعية. وأن آلات الطرب والصفير ليظهر فعلها بتحسن في تشنج القلب خاصة. وتغيير الدم الناتج من تأثير الموسيقى يناسب تحول التنفس وإن كان يتجلى ذلك مستقلاً عن تحول التنفس. يزيد الستركنين في تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية والكورار على العكس يضعفه. والكلورال (نوع من المخدرات) والكحول والأفيون تضعف أيضاً تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية وتغيير الدورة الدموية تابع لارتفاع الصوت وشدته بل لارتفاع الجرس ونزوله. ولتغير الدورة الدموية دخل كبير في ذاتية الحيوان والإنسان ولاسيما في جنسية الإنسان وتابعيته. وعلى من أراد الوقوف على تأثير الموسيقى في أحد أعضاء الجسم سليماً كان أو سقيماً أن يفرق بين العناصر التي ينبعث منها ذاك التأثير. فالهزج واللحن والإيقاع تؤثر تأثيرات مختلفة بحسب تركيبها وتلحينها. وفي الختام نقول أن الاستشفاء بالموسيقى قديم العهد وقد ظل محتفظاً بأهميته العلمية والعملية على حالة واحدة رغم اختلاف العصور.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كتاب التعليم والإرشاد ينقضي الشهر والشهران بل السنة والسنتان ومصر لا يكاد يصدر فيها كتاب ترجح حسناته على سيئاته ونفعه على ضره ولذلك ترانا عند نشر كتاب نافع في موضوع جدي نهلل له كثيراً ونبتهج به أيما ابتهاج. والكتاب الذي أمامنا لمؤلفه الكاتب الفاضل السيد محمد بدر الدين الحلبي هو من الكتب النافعة في الإصلاح الإسلامي. وأي إصلاح أجدى على مجتمعنا من إصلاح طرق التعليم بعد أن أجمع عقلاؤنا منذ قرون أنه مختل معتل ولا نهوض للأمة إلا برده إلى أصوله والسلوك به في مبيع السداد. تصفحنا الكتاب برمته فرأيناه يدور على ثلاثة أقطاب الأول في العلوم التي يشتغل طلاب العلوم الشرعية اليوم بها وبيان ما تمس حاجة المسلمين إلى الاشتغال به وما لا تمس وفي الإسلام غنية عنه لأنه دون لا لخدمة الدين بل لمصلحة دينية وقد مضى زمن تلك المصلحة ولم يبق من حاجة إلى النظر فيه. الثاني بيان حقيقة المؤلفات التي يشتغل بها طلاب العلوم الشرعية وذكر النافع منها من غيره والإشارة إلى ما يجب الاشتغال به من الكتب الجيدة النافعة والكتاب أحد الأستاذين. الثالث النظر في طرق التعليم وكيفيته في المدارس الإسلامية عامة في مصر والغرب والشام والهند وغيرها وبيان جيدها من رديئها وذكر طرق التعليم النافعة التي كان يجري عليها التعليم في القرون الأولى ليعمل به في أيامنا هذه. ولقد رأينا المؤلف تلطف في ما كتبه وغلب على ذهنه صحته فوصف عقم طريقة التعليم التي هي أحرى أن تسمى أزهرية لأنها منه نشأت وصف من ذاق فعرف ومما قاله في قلة الناجحين فيها: ولو أردنا أن نحصي عدد الناجحين من أولئك المستعدين لتعلم العلوم الدينية نجاحاً نسبياً لم يكونوا أكثر من واحد في كل مائة ولو طلبنا الناجحين حقيقة الذين يمكنهم القيام بوظيفة التعليم لم يكونوا أكثر من واحد في الألف إن كثر عددهم. وجاء في مكان آخر وأثبت بالإحصاء أنه لم ينجح في امتحان الفقه الحنفي سوى اثنين في المائة أو في المائتين. تكلم المصنف بدون مصانعة على فساد الكتب التي تدرس والطريقة المتبعة في التدريس

وذكر علم المنطق وأبطل قول القائلين وجوب الاشتغال به وبين أنه لا جدوى منه في المطالب العقلية وتكلم على علم الأصول والفقه والتوحيد ومن رأيه في الاجتهاد أنه ليس بمحظور على أحد من الناس وليس بضربة لازب على كل إنسان بل أن من رأى منه ما يؤهله للقيام بأعباء هذه الخطة العظيمة فله أن يجتهد ويعمل بما أداه إليه اجتهاده قال وإنا لا نجيز لأحد يرى في نفسه صلاحية للاجتهاد أن يدعو الناس إلى العمل بقوله والأخذ بما أداه إليه اجتهاده لا لشيء سوى أننا نرى أن في ذلك توسيعاً لباب الخلاف بين المسلمين ونحن في حاجة إلى تضييقه إلى أن يقول وخير من الاشتغال بهذا وأجدى للمسلمين اختيار ما يوافق أهل كل عصر ومصر من أقوال الأئمة المجتهدين والعمل بها وترك التقيد بمذهب أمام واحد من الأئمة وفي هذا من التوسيع على المسلمين والنظر إليهم ما لا ينكر وقعه. وأطال في علم الكلام وسماه العلم المشئوم ودعا إلى وجوب تركه على نحو ما دعا إلى ذلك كبار رجال الإسلام في القديم قائلاً أن ليس من فائدة فيه سوى زعزعة أركان الدين ونقض أساسه. وتكلم على علوم البلاغة وأثبت أن لا حظ لأرباب المدارس الدينية منها وأفاض في أنه لا عذر للناس اليوم في استعمال كتب المتأخرين مع وجود كتب المتقدمين وقال أنه من أقبح آثار هذه الكتب أنها تضعف الفكر. وختم كتابه وهو في 290 صفحة بالكلام على الأزهر وسوء حالته متعلقاً بأهداب الأدب الذي يشكر عليه وقد اقتبسنا منه في غير هذا الوضع فصلاً في التفسير والمفسرين دلالة على أسلوب المؤلف في الانتقاد وأخذنا عليه أنحاءه على المدارس النظامية وطرق تعليمها وإنكاره إدخال بعض العلوم كالتاريخ والجغرافيا إلى الأزهر مع أنه لا يتم علم العالم إلا بمعرفة تاريخ أمته وتقويم بلادها على الأقل كما رأيناه لم يصب المرمى في كلامه على علم الأصول ومهما يكن فإن الكتاب من جيد المصنفات النافعة وعساه يوفق إلى نشر الجزء الثاني المتعلق بالإرشاد في أقرب وقت جزاه الله عن العلم خير الجزاء. المدونة الكبرى انتهى طبع الجزأين الخامس عشر والسادس عشر من هذا الكتاب الذي نوهنا به في بعض الأجزاء السالفة وبطبعهما تم طبع المدونة لإمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي وقد أورد طابعها الفاضل الحاج محمد الساسي المغربي في آخر الجزء سماع هذه المدونة عن

أعلام من العلماء آخرهم عبد العزيز بن عامر وذلك في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة من الهجرة بالقيروان وقد كان على النسخة الأصلية النفيسة تقارير وفوائد لأكابر علماء المالكية كالقاضي عياض وابن رشد وغيرهما وهي مكتوبة بقلم عبد الملك بن مسرة بن خلف اليحصبي في أجزاءٍ كثيرة جداً وتاريخ كتابتها سنة 476. فنهنئ الطابع الذي ربح من هذا الكتاب مادة ومعنى ونأمل أن يطبع غيره من الأمهات النافعة ليستفيد بذلك ويفيد. الأخلاق والسير هو كتاب مداواة النفوس لابن حزم الأندلسي عني بطبعه الفاضل الأديب الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري طبعه على نسخة قديمة ظفر بها فجاء به بعض زيادات عن الطبعة الأولى التي طبعت منه منها قوله كانت في عيوب فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه. وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله. فمنها كنف في الرضاء وإفراط في الغضب فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني وأعجزني ذلك في الرضى وكأني سامحت نفسي في ذلك لأنها تمثلت أن ترك ذلك لؤمٍ ومنها دعابة غالبة فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح وسامحت نفسي فيها إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر حتى ذهب كله ولم يبق له والحمد لله أثر بل كلفت احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع ومنها حركات كانت تولدها غرارة الصبا وضعف الإغضاء فقصرت نفسي على تركها فذهبت ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة الخ وهو في زهاء مائة صفحة صغيرة ويطلب من المكاتب الشهيرة في مصر والشام. وحبذا لو اعتمدته نظارة المعارف المصرية لتدريس الأخلاق. تذكار ديوان راغب وصبري

هو آخر ما طبع الشاعر الأديب الشيخ رشيد مصوبع اللبناني من شعره اللطيف أهداه لعطوفة إدريس بك راغب وسعادة إسماعيل باشا صبري من أعيان مصر ومن شعره في وصف غني كبير توفي عن امرأة حسناء ولم يأت حسنة في عمره. ليس بدعاً إن لم يشيعك قوم ... في الحمى من خيارهم والعيون من يعش في الحياة غير ثمين ... يتولى للقبر غير ثمين لا تلم حاملي اليراع إذا ما ... فزت منهم بالندب والتأبين ليس بدع بأن يلاقى ضنين ... من أكف الكرام كف ضنين وقال في انقلاب الزمان: يعبس الدهر ثم يبسم حينا ... هكذا هكذا نقضي السنينا وتمر الخطوب تعدو غنيَّ النا ... س لكن ما فاتت المسكينا ويعيش الغني دوماً بشوشاً ... ويعيش الفقير دوماً حزينا كل دار يحلها المرءُ إن كا ... ن غنياً إنساً يرى وحدينا لا جمال ولا جلال ولا علم ... سوى درهم يرن رنينا وقال: وتأوي إلى أوكارها طير أيكةٍ ... وجنب فقير لا يلامس مرقدا ترى في وجوه البائسين تضاؤلاً ... وفي وجنات الموسرين توردا وهذا الجزء 96 صفحة جيدة الطبع فنثني على همة الناظم الأديب ونحث الأدباء على اقتناء شعره. مجموع رسائل في أصول الفقه الأولى من أصول الشافعية للإمام ابن فورك الأصبهاني المتوفى سنة 406هـ والثانية من أصول الظاهرية للشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي المتوفى سنة 638 والثالثة من أصول المالكية لنجم الدين الطوفي البغدادي المتوفى سنة 716 والرابعة للجلال الأسيوطي المتوفى سنة 911 جمعها الأستاذ الفاضل الدراكة الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي وعلق على بعضها شروحاً نافعة لطلابها في بابها وطبعت طبعاً جيداً فوقعت في 80 صفحة منصفة القطع فنحث على اقتنائها.

تاريخ أساس الشريعة الإنكليزية أو سنة الارتقاء في نظام الحكومة الإنكليزية ومصدر القوانين الأساسية للحكومات الدستور كلها تأليف دافد وطسن وتعريب الكاتب البارع نقولا أفندي حداد وهو كتاب أجاد مؤلفه في وضعه ومعربه في نقله وطابعه في طبعه جاء فيه من الفوائد التاريخية الاجتماعية الموجزة ما لا يستغني عن الاطلاع عليه كل محب للاطلاع على تاريخ هذه الأمة العظيمة وقد وقع في 190 صفحة متوسطة فنحث الأدباء على مقتناه وهو يطلب من طابعه حضرة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية بمصر وثمنه عشرة قروش أميرية. كتاب معجم البلدان كادت تعد كتب الأسلاف التي طبعها الأوربيون في مطابعهم وصححوها بمعرفتهم على المواد التي لديهم في مقام المخطوطات النادرة لغلاء أسعارها وقلة الظفر بها ولذلك يشكر من أعاد طبعها وأجاده منا كالذي أحيا كتاباً مخطوطاً لم يكن معروفاً من قبل إلا عند الخاصة. ومعجم البلدان هو من أمهات الكتب الممتعة في الجغرافيا القديمة بل من أهم الكتب الأدبية والتاريخية وهو أشبه بقاموس بوليه الفرنسي في الجغرافيا والتاريخ إلا أن هذا كتاب حديث ومعجم البلدان قديم يمتاز على بوليه بالآداب والأشعار وذكر أبناء هذه البلاد الشرقية وأصقاعهم خاصة. طبع أحد علماء ألمانيا منذ عهد طويل هذا الكتاب فكادت تنفد نسخه وعز الظفر بها حتى على الغني وجعله في أربعة أجزاءٍ ضخمة ما خلا الفهرس البديع الذي كان ألحقه به وقد عني هذه السنة حضرة الأديب محمد أمين أفندي الخانجي بطبعه في القاهرة فأنجز منه حتى الآن سبعة أجزاءٍ ولم يبق سوى جزءٍ ثامن من الكتاب الأصلي وهو تحت الطبع وسيجعل له ذيلاً في مجلدين آخرين سماه منجم العمران فيما فات ياقوت من أسماء البلدان فيتم بذلك عشرة مجلدات في نحو خمسة آلاف صفحة لا يستغني عنه أديب ولا مؤرخ ولا جغرافي وفي يقيني أن هذا المعجم تنفد نسخه عما قريب بالنظر لما اشتهر عن ياقوت الحموي من العلم الزاخر والتحقيق الباهر بالنسبة لعصره. وقد تولى تصحيح الكتاب الأستاذ الفاضل الأديب الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي فنثني على مصححه وطابعه أطيب ثناءٍ والكتاب يطلب من هذا في القاهرة بثمانين قرشاً مصرياً قبل تمام الطبع وبمائة

قرش بعده وعساه يوفق إلى طبع غيره من الكتب النافعة المهمة. رواية موريس أو ابن الغريب عربها عن الإنكليزية بتصرف الأديب كامل أفندي بطرس وأهداها لصديقه الشاعر الكاتب البليغ محمد أفندي أمام العبد قال المعرب: فارتاحت نفسي إلى ترجمتها ترجمة لا تغضب اللغة ولا تسيء إلى الأسلوب العربي بقلم كالمرآة لا يخدع الناظر إليه وما أقدمت على ما أقدمت عليه إلا بعد ما ألفيتها كالبكر في خدرها لا تعيب ولا تعاب فكانت في معزل عن كثير من الروايات التي كتبت فكادت تغير من أخلاق البشر بقدر ما غيرته من الحقائق. النهضة الشرقية وهي مقالات نشرها سعادة الوجيه عطا بك حسني من أعيان القاهرة في بعض الجرائد السيارة وعني بجمعها الكاتب الأديب ذي المعزة عبد المسيح بك انطاكي صاحب جريدة العمران الغراء فجاءت في زهاء 280 صفحة صغيرة ووصف فيها رحلته إلى الأستانة وذكر أراءً له خصوصية بشأن حكومات الإسلام وثمن النسخة الواحدة عشرة قروش وهي تطلب من طابعها وجامعها في القاهرة. وقائع الحرب عرف فارس أفندي الخوري في مصر بأنه عالم كاتب باحث ولم يشتهر عنه ما اشتهر به في الشام بأنه شاعر مجيد أيضاً وقد طبع له هذه الآونة صديقه الدكتور الفاضل حسين أفندي حيدر أربع قصائد في تاريخ حرب الروس اليابانية التي نشبت في 8 فبراير (شباط) ووضعت أوزارها في 5 سبتمبر (أيلول) 1905 كان نظمها على ذاك العهد وألم فيها بالأسباب التي دعت إلى إشهار الحرب وذكر المعارك البحرية والبرية المهمة التي دارت بين الصفر والبيض وأتى على أسماء القواد والوزراء فصبها في قالب الشعر مع المحافظة على كيفية التلفظ بها في لغاتها الأصلية بدون تكلف وفسح للانفعالات النفسانية والتخيلات في الوصف مجالاً رحباً في تضاعيف الأبيات ومزج التقرير التاريخي مع الخيالات الشعرية بحيث لم تعد منظوماته تاريخاً مجرداً ولا وصفاً شعرياً مفرداً بل جمعت بين الاثنين ولقد كان من المتواتر على ألسن الناس في وصف الشعر بأن أعذبه أكذبه فلما تأملنا

ملياً ما نظمه الناظم المشار إليه قلنا إن أعذب الشعر أصدقه لأنه لم يخرج عن الصدق فيما قال عن الحرب أو روى. وهذه المنظومات أجمل تاريخ يحفظ لأعظم حرب نشبت منذ عرف التاريخ إلى الآن. قال في وعيد الروس لليابانيين وعيد جله صوت جهور ... ومن ذا يرهب الصوت الجهورا ذوات الناب ليس تضر شيئاً ... إذا صخبت وأكثرت الهريرا وقال عند غرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو ... كملاح يحاذر أن يجورا إلى أن شقت الغمرات فاها ... وأصعدت البلايا والسعيرا فشاهد تحت أخمصه جحيما ... وقد فتحت قذائفه حفيرا كأن جهنماً وجدت سبيلاً ... ومطوياتها لقيت نشورا كأن هناك بركاناً تلظى ... وأطلق في الفضا ناراً ونورا كأن البحر غضبان عليهم ... لما جروا على الدنيا شرورا طوى بضميره حنقاً فلما ... دنا مكروف كاشفه الضميرا هوت فيه السفينة في خليج ... وكانت قبل تخترق البحورا ومن وصفه اليابانيين في وقعة يالو أقام الروس في يالو قلاعاً ... على تحصينها صرفوا شهورا مسيل النهر دونهم فظنوا ال ... سعدى لا يستطيعون العبورا ومن خاض البحور إلى الأعادي ... أيأبى أن يخوض لهم نهورا مشى اليابان لا يخشون بؤساً ... وماء النهر يكتنف الصدورا بجيش كل من فيه جريءٌ ... تمنى للأعادي أن يطيرا إلى أن يقول ولا عجب لمختال مدل ... إذا أخلى الحواضر والثغورا إذا غفل الرعاة عن المواشي ... فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا وأن الخاشع اليقظان يكوي ... بحد حسامه البطل الفخورا

كذلك من توخي البغي متناً ... تراه بدون معثرة عثورا وقال في إعجاب الروس بقوتهم واحتقارهم خصومهم لقماءتهم لقد شمخوا على اليابان لما ... رأوا جنديهم قزماً زميرا وقالوا سوف نطحنهم فتغدو ... قبورهم الضواري والنسورا ولكنا على يالو وكنشو ... وجدنا القول بهتاناً وزورا فعرض الجسم لا يغني فتيلاً ... وطول القد لا يجدي نقيرا الست ترى الوليد وفيه حزمٌ ... يسوم الفيل خسفاً والبعيرا رهام الطير تنخلع ارتياعاً ... إذا رأت البواشق والصقورا وقال في انتصار اليابان في معركة شاهو ترى للعين من حنق شرارا ... وللأسنان من ألم صريرا وللأرواح من جزع غياباً ... وللأشلاء من عجز حضورا تمنى الجيش لو كانوا خشاشاً ... إذن ولجوا المخافر والوكورا ولو كان الخيار لهم بمتن ... ضمين للنجا اختاروا الطيورا تمنى الروس لو خلقوا إناثاً ... وسبوا اليوم إذ ولدوا ذكورا إذن ولي الرجال النضج عنهم ... وهم لزموا المنازل والخدورا وقد حسدوا الشيوخ على مشيب ... كما حسدوا المشوه والصغيرا وقد لعنوا الحروب وخائضيها ... ومن أضحى لجمرتها مثيرا وقالوا ليتنا كنا اتحدنا ... وقاتلنا المسبب والمشيرا إلا رحم امرؤٌ حر شجاع ... يجاهد ملكه أو يستشيرا وقدس سر سلطان تنحى ... تفرده وقال الأمر شورى ومما قاله في وصف وقعة مكدن ملائكة السلام خلت وأضحى ... شياطين الشرور مشمرينا كأن رذائل القتل استحالت ... فضائل فاعلوها يفخرونا كأن قذائف النيران رسل ... أتت توحي التهور والجنونا تجيء من السماء بمعجزات ... تؤيد ما ادعتهُ فيؤمنونا

فما صعقات موسى فوق هذا ال ... هزيم يضعضع الجبل المتينا على ورع تمجس آل عيسى ... كأن النار نار جبال سينا كأن الهم فيها تجلى ... إذا ما استقبلوها يسجدونا وقال في هزيمة الروس عجب الأنام لشدة الغلب الذي ... ذاقوا ولو غلبوا فذلك أعجب فتغلب اليابان فيه غرابة ... لكن جهل الروس أمر غريب هجموا ولا علم لهم بخصومهم ... ماذا أعدوا للدفاع وألبوا من ذا يغول الليث وسط عرينه ... إلا الشقي الغمر من لا يحسب نصبوا حبائلهم وقد وقعوا بها ... إن الظلوم يصاد في ما ينصب إلى أن يقول ركبوا من البغي الوخيم حقائباً ... فرس البغاة حقيقة لا تنجب ما كان في الأسطول إلا غرة ... وخيانة وظلامة وتعصب فهوى والاستبداد كان رفيقه ... وفساد روسيا كذلك يصحب عرفوا بأن الظلم ليس بغالب ... عدلا ول اصدع التعسف يشعب والمستبد المستجيش عبيده ... إن نازل الأحرار لا يتغلب أيفوز مهضوم الحقوق بمن لهم ... حرية بصدورهم تتلهب ظفر الذي اعتاده جهل بمن ... اعتاده علم رجاءٌ مجدب فالعلم منصور اللواء مؤيد ... والجهل مشقوق الجبين مخيب والعدل ليث عاصم لجواره ... والظلم خصم أن تعرض ثعلب وقال في هذا المعنى كثرت شكاويهم وقالوا خانهم ... قدرٌ وغالبهم قضاءٌ أغلب ذو الحزم يتخذ النتائج راضياً ... والغمر يتهم الزمان ويعتب وقال في مولد ولي عهد روسيا أثناء الحرب مخاطباً أهل البلاط الروسي: طمحت إلى أرض السوى أبصارهم ... ولسلبها حشدوا الجيوش وجندوا أمروا بقتل النفس وهي بريئة ... وعصوا وصايا ربهم وتمردوا

إلى أن يقول مخاطباً الطفل ها أنت تنمو في عناية والد ... حانٍ يذود السوء عنك ويطرد والبعض من أبناء جيلك لا ابٌ ... يحنو عليهم إن بكوا وتنهدوا آباؤهم سقطوا بساحات الوغى ... ليوسعوا لك دولة ويمهدوا فإذا نموا وملكت فارفق ذاكراً ... حق الذين على ولاك استشهدوا وعساك تنشأ عادلاً لا تدعي ... إن الجميع لأجل عرشك أوجدوا فالملك جسم والعدالة درعه ... درع بمجبوك الحديد مسرد والملك بستان أعز سياجه ... عدل به ريح المخاوف تركد يتوقع الإصلاح منك وليتنا ... نحيا لنعرف ما يجيء به الغد وقد ألحق الطابع بهذه القصائد كتاباً كان بعث به الفيلسوف تولستوي الروسي إلى القيصر الحالي يعظه وينصح له ويذكره بحال رعيته معربة بقلم الناظم أيضاً فجاءت هذه الرسالة حاوية من النثر والنظم وأرقه وأنفعه فنثني على الناظم والطابع بما هما أهله والرسالة تطلب من المكاتب الشهيرة في مصر وثمنها ثلاثة قروش صحيحة وهي جيدة الطبع والورق في 68 صفحة منصفة القطع.

سير العلم

سير العلم آثار مصرية اكتشفت بالقرب من أهرام أونياس ضريح يرد عهده إلى خمسمائة سنة قبل الميلاد وعثر فيه على جثة الكاهن هو كمنساف وعليه آثار كثيرة من الآنية الخزفية وغيرها وعثر في تل بالزقازيق على حلي أكثرها مرصع بالأحجار الكريمة مثل اسورة وأقراط وعقود وكؤوس ومشربيات من الفضة والذهب وكلها حسنة في صنعها ووضعها فنقلت إلى المتحف المصري. طلاب الشريعة يؤخذ من إحصاءٍ وضعه العالم ذي المعزة أمين بك سامي ناظر مدرسة الناصرية والمعلمين أنه كان عدد طلبة العلم في الأزهر هذه السنة 9758 وعدد المدرسين 317 وعدد طلبة الإسكندرية 440 و39 مدرساً وعدد طلبة الجامع الأحمدي 5161 ومدرسيهم 70 وأن مجموع طلاب الشريعة في القطر 21352 والعلماء المدرسين 1025 وأن في الأزهر 661 من الطلبة غير المصريين. الخدام يشكو أهل أوربا من تناقص عدد الخدام سنة بعد أخرى على توفر أسباب الرفاهية وما تقتضيه من الحاشية والغاشية وقد أفاض أحد الباحثين في هذا الموضوع فظهر له أنه كان في فرنسا 892759 خادماً و1311471 خادمة سنة 1866 فنزل عددهم سنة 1896 إلى 160183 رجلاً و703148 امرأة وإذا دامت الحال على ذلك تضطر أكثر حكومات الغرب إلى تأسيس مدارس للخدمة بعد قليل من السنين. الخطوط الحديدية في أميركا ذكرت مجلة المجلات النيويوركية بحثاً في الخطوط الحديدية التي أنشئت وتنشأ في خلال هذه السنة في الولايات المتحدة وكندا فكان مجموع طولها 35 ألف كيلومتر تقتضي من ثلاثة إلى أربعة مليارات فرنك ومن جملة تلك الخطوط خط طوله 1600 كيلومتر يجتاز غابات يستخدم خشبها للبناء ولصنع ورق الكتابة ومن جملة ما يستفيد بهذا الخط صقع مضيق هودسون فإنه لم يكن يسلكه قبل عشر سنين إلا بعض تجار يعطون الدراهم

فيبتاعوا بها فراء. وبالسكة اليوم تفتح أبواب هذا المضيق للتجارة العامة. التربية العملية رأى أحد علماء الطليان أن بني قومه مقصرون في تربية أطفالهم ولاسيما الطبقة الوسطى منهم فارتأى أن يغرب الأطفال عن إيطاليا ويبعث بهم إلى إنكلترا أو ألمانيا أو أميركا ليتمكنوا من تغيير محيطهم وبيئتهم ويكون لهم من التنقل ما يساعدهم على تعلم الصناعات والتجارة بين تلك الشعوب الراقية. وكانت فرنسا منذ نحو أربعين سنة جرت مع أبنائها على هذه الطريقة لأجل تعليمهم اللغات الأجنبية فكانت تغر بهم لهذا الغرض إلا أنها عادت فضعفت عندها هذه الطريقة في التعليم وأصبحت عندها نظرية على حين أصبحت عند أميركا عملية. ويرى الأمريكان من متممات العلم والعمل أن يبعثوا بأولادهم إلى أشهر عواصم العالم ليطلعوا عليها ويصرفوا فيها زمناً لتطبيق العلم على العمل. شلالات نروج نروج من أكثر بلاد أوربا شلالات فقد قدروا قوتها بمليون وربع حصان بيع منها إلى شركات ونقابات أجنبية بما قوته نصف مليون وخمسون ألف حصان واقتضى للإنفاق على جر هذه القوة خمسمائة مليون كورون. المهندسون في ألمانيا وفرنسا أورد رئيس جمعية مهندسي الملكية في فرنسا إحصاءً مهماً بخصوص تأسيس مدرسة جديدة في باريس للصنائع والفنون فقال أن في فرنسا 16000 مهندس تخرجوا في مدارس مختلفة و138000 محل في حاجة إلى مهندسين وعلى العكس في ألمانيا فإنك تجد فيها 76000 مهندس ولا تجد فيها غير 55000 مركز لهم ولذلك رأى أن تعنى فرنسا بإحداث مدارس عملية ينتدب للتدريس فيها أساتذة تمكنت الصنائع العملية من نفوسهم. التصعيد في حملايا جبال حملايا سلسلة من الجبال في آسيا تفصل بين بلاد الهند وتبت وقممها أعلى قمم في العالم فيبلغ ارتفاعها في كاوريزانكار 8839 متراً وفي كنشنجا 8581 متراً وطولها 2250 كيلومتراً. وقد نشر لونكستاف سياحة سماها نزهة ستة أشهر في حملايا قام بها في

العام الفارط فقال أنه توصل إلى صعود 7300 متر في صخور ناندا ديفي في غربي نبال فلفت بسياحته أنظار العالم إلى دعوى السائح غراهام الذي ادعى أنه بلغ في تصعيده سنة 1883، 6863 متراً في جبل مونال و7300 متر في كابروا وقد قضى السائح لونكستاف ليلة بطولها مع دليله وارتفع 7019 متراً عن سطح البحر أي 23 ألف قدم بعد أن سقط نحو ألف متر في الثلج ونجا بقضاءٍ وقدر من الموت. ثم قاسى من ألوان العذاب لقلة الطعام والمنام ما جرأه من الغد على اقتحام المصاعب والتصعيد إلى 7300 متر وبالجملة فقد أثبت هذا السائح ما كان ادعاه غراهام وكان العلماء في شك من دعواه بأنه بلغ 7726 متراً في هذا الجبل الشاهق. السلك البحري أنشأت أعظم شركة للأسلاك البحرية في العام الماضي أكبر سلك بحري بين أوربا وأميركا أنفقت عليه 700 ألف كيلو من النحاس و350 ألف كيلو من الطبرخى الغوتابرشا و700 ألف كيلو من أسلاك الحديد والنحاس والقنب والمواد الواقية واقتصدت الشركة 15 في المائة من السرعة بالنسبة لبقية الأسلاك الأخرى فتمت به الأسلاك البحرية التي تربط أميركا بأوربا إلى خمسة خطوط وهي اليوم تنشئ خطين آخرين أحدهما من جزيرة مانيلا إلى الصين والآخر من غوام إلى اليابان ويتمان هذه السنة. مدارس التجارة في أوربا دهش أحد الأمريكان ممن زاروا أوربا مؤخراً من كثرة ما شاهد من المدارس التجارية في سويسرا قال أن مدنها الحقيرة لا تخلو من مدارس تجارية فإن لمدينة نوشاتل وسكانها ثمانية عشر ألف نسمة مدرسة تجارية يتعلم فيها سبعمائة صبي بينهم خمسة وعشرون من أبناء الأمريكان. وفي مدينة فينا 19 مدرسة للتجارة ولألمانيا المقام الأول في هذه المدارس والمدارس التجارية قليلة في إنكلترا ولذلك ترى الأجانب منهالين عليها من كل صوب يتقلدون الأعمال الحسابية في الغالب. البيض والسود أفاضت إحدى المجلات الإنكليزية في أفضلية الجنس الأبيض على الجنس الأسود وقالت أن هذه الفكرة المغلطة هي نتيجة كراهية طالما أثرت تأثيراً سيئاً في تاريخ الإنسانية وأن

هذا التمييز لا يكون على أتمه إلا عند الشعوب القصيرة النظر فما يذهب إليه بعض الشعوب من تفضيل البيض على الزنوج والصفر والحمر هو من الأوهام التي لا تبرر إلا إذا كانت هذه الميزة من حيث العقل. وليس للأبيض أن يزعم أرجحيته على المتوحش وغير التمدن إلا إذا كان هو متمدناً بعقله واقتداره وبذلك تهيأت له القوة الاجتماعية وإذا حاد عن ذلك يرجع القهقرى ولا يمكن مما أراد إلا بالظلم وإبادة من فتح بلادهم وغلبهم على أمرهم. فليس في الواقع غير جنس واحد من البشر وهو الجنس البشري عامة ولا يكون اشتراك سياسي واجتماعي بين السود والبيض إلا إذا عدل هؤلاء عن اتخاذ قاعدة واهية في أعمالهم تشعر بأن قوى الأجناس أفعل من الوحدة البشرية. مكاتب الأطفال لا تزال الولايات المتحدة تكثر من تأسيس المكاتب ليختلف إليها الأطفال خاصة وقد جربوا في نيويورك بأن جعلوا في سقوف إحدى خزائن الكتب غرفاً للمطالعة فصرت عند ما تزور هذه السقوف بعد الظهر ترى فيها نحو 40 أو 50 طفلاً يطالعون الكتب والصحف في الهواء الطلق ولذلك ستكون سقوف المكاتب الثلاثة التي تنشأ الآن في نيويورك على أحسن وضع بحيث لا يضيع فراغ منها إلا فيما يفيد. سرعة التأثر والانفعال الايستزيومتريا آلة توضع على الرأس لمعرفة سرعة التأثر والانفعال وطرقه المختلفة اخترعها فبير أحد علماء ألمانيا في القرن الماضي وهي كالبركار في شكلها أنيطت بها دائرة ذات درجات وطرفاها رقيقان جداً فتجعل أطرافها على الجلد ريثما يشعر المصاب بألم ويختلف ابتعاد أطراف هذه الآلة بحسب الحالة العصبية وتكون الداء في عضو من الأعضاء. وبهذه الآلة يعرف مقدار التعب العقلي. وقد جرب الآن الأستاذ بينه من كلية السوربون في باريس بمعونة لجنة مؤلفة من عشرين عضواً فعل التأثر بواسطة هذه الآلة في عدة من مدارس باريس فتبين له أن التعب العقلي ناتج من طبيعة العمل ومدته والساعة التي يجري فيها فيبلغ تعب عقول التلاميذ في صفوف المساء أرقى درجاته وذلك لقلة الدم في الدماغ بعد الطعام وإن اشتغال التلميذ مساءً في منزله يحدث تعباً كثيراً كما يتعب في أثناء الامتحانات. وقد نشر الأستاذ غريسباش الألماني في هذه الآونة أيضاً بحثه في هذا

الموضوع المهم فكان من نتائج تجاربه في أولاد من أبناء الرابعة عشرة اختبر حالتهم بواسطة آلة الايستزيومتريا فكانت حركتها الوسطى على جبهة الولد 3. 5 مليمتر و5 قبل ابتداء الدروس في الصباح و13 بعد قضاء أربع ساعات في الدرس ورجع مقياسها إلى 10 بعد الانصراف من المدرسة مساءً ويرتقي مقاسها إلى 22 درجة بعد درس المساء في المنزل ومن رأي العالم الألماني أنه لا يقتضي مداومة اشتغال التلميذ بعد انصرافه من المدرسة فقد يحدث أن التلميذ عند منصرفه من المدرسة يعطى وظيفة (فرضاً) يعملها أو درساً يستظهره في بيته بعد أن تعب في النهار فيسقط من الإعياء فما هو إلا أن يغلبه النعاس وتتعرض صحته للخطر. وقد نصح هذا العالم أن يلغى الاستعداد للامتحان مرة واحدة وأن يستعاض عنه بأسئلة شهرية تجري بملاحظة مفتشي المدارس ونصح لآباء التلاميذ أن يعنوا بصحة أبنائهم العقلية وأن يطلبوا إلى المدارس أن تصحب شهادات الدروس والسلوك المألوف إرسالها إليهم من المدارس كل مدة بشهادات تؤذن بمقاس إجهادهم العقلي. الأديان والقضاء والقدر ذكر أحدهم في المجلة الكبرى الفرنسية حالة الأديان في العالم وقدرها بنحو خمسة آلاف دين وقال أن المرء يولد على دين آبائه وليس هو الذي يختار دينه وإن من ضعف عقول البشر ما يذهبون إليه من أن الدين يحل مسألة القضاء والقدر ولو كان لأحد الأديان أن يحل هذه المشكلة لأوضح غامضها على طريقة محسوسة جلية لا تختلف ولا تتناقض وتوافق العقل وقال أن كل ما يبت في أمور العالم إنما يبت بتأثير العلم لا الدين. طريقة ارتقاء الألمان ذكرت إحدى المجلات الألمانية أن الطريقة التي جرت عليها ألمانيا فكانت سبباً في نهوضها لم تكن كما يزعم بعضهم محصورة في ارتقاء التعليم فيها بل أنه أتى مما أتيح لها من النمو في صنائعها وتجارتها ذاك النمو الذي قضى بتغيير صورة المدارس لتصبح متناسبة مع ما تستلزمه دواعي هذه الأعمال وكثرت هذه التغييرات منذ نحو عشرين سنة وكانت إمارة ساكس في مقدمة المقاطعات الألمانية عملاً بهذا القلب والإبدال. مرض الحضارة

هو المدعو بالفرنسية يتخوف المبتلى به من النظر إلى الناس عند اجتيازه ساحة عامة أو شارعاً كبيراً أو جسراً طويلاً ويصاب به في الأكثر أرباب الأمراض العصبية والهستريا والماليخوليا فلا يجرأ المصاب على المرور من تلك الأماكن ولو لم يكن في ذلك خطر عليه. يخاف المصابون بهذا المرض أن يتنقلوا من رصيف إلى آخر ولا يزالون يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى حتى إذا كان هناك خطر حقيقي من الاجتياز يقدمون على المرور ويذهلون فيركضون فيوشكون أن يسقطوا فيما حاذروه من الخطر. ولهذا المرض حوادث تجري كل يوم في باريس وغيرها من العواصم الكبرى. ولذلك دعوناه مرض الحضارة وإن لم تنطبق التسمية على المعنى الأصلي لأنه يكثر حيث يستبحر العمران وتزدحم أقدام السكان. قال أحد كبار الأطباء أن هذا المرض عقام عضال. وأشار غيره على المصابين به أن لا يسكنوا الحواضر الكبرى في هذا القرن قرن الحركة الدائمة. وارتأت إحدى المجلات الطبية أن هذا المرض قديم وربما عرف قبل أن يعرف التاريخ وصاحبه يخاف من الحصان والعربة السائرة في وسط الطريق. وأحسن ذريعة يعمد إليها في معاملة المصاب به أن يؤخذ من الطريق بيده كما يؤخذ الأعمى إلى مكان لا خطر عليه فيه وأن يعود النظر إلى أبناء السبيل وهم سائرون وعن الأخطار بعيدون. التعليم التجاري نشر أحدهم في مجلة العالمين الفرنسية مقالاً جاء فيه أن الشبان المستعدين في فرنسا للاستخدام أو لإدارة بيوت تجارية هم على جانب من الكثرة ولا ينبغي أن يصرف الفرنسيين عنايتهم إلا إلى المحال التي يعدونها ليشغلها أبناؤهم فقد كانت تجارة فرنسا الخارجية سنة 1890 ثمانية مليارات و190 مليون فرنك فبلغت سنة 1905 تسعة مليارات و436 مليوناً ولكن تجارة ألمانيا الخارجية ارتقت في خلال السنين من تسعة مليارات و436 مليوناً إلى خمسة عشر ملياراً و924 مليوناً وارتقت تجارة إنكلترا الخارجية من 17 ملياراً إلى 22 ملياراً و300 مليون وفي خلال هذه الخمس عشرة سنة تضاعفت صادرات الولايات المتحدة وزادت صادرات إيطاليا 26 في المائة ولم تزد صادرات فرنسا سوى 27 في المائة. بعد المدرسة

كتب كاتب في مجلة المجلات الأميركية يقول أن المدارس كثيرة لمن يريد إتقان فن بعد خروجه من المدرسة الأولى في أميركا وهي المدارس الليلية المنتشرة في جميع أصقاع الولايات المتحدة وفيها تجري المذاكرات العلمية ويستعاض عن الشروح الشفهية باستعمال الطرق العملية مثل مدرسة الكهربائية في توبكا (كانساس) ومدرسة الصيدلية في بوستون ومدرسة المعادن في لوس أنجلوس (كاليفورنيا) ومدرسة الرسم في بورتلاند (أوريغون) ومدرسة الاوتوموبيل في نيويورك ومدرسة الحسابات وغيرها من المدارس العملية ومما تمتاز به جميع هذه المدارس على غيرها أنك ترى فيها ابن المثري الكبير في جانب ابن العامل والأجير لا تمييز بينهما في حال من الأحوال. تهزيل الإنسان قال ابن سينا في القانون فصل في التهزيل أن تدبير الهزال هو ضد تدبير التسمين وهو تقليل الغذاء وتعقيبه الحمام والرياضة الشديدة إلى أن يقول وليكن طعامهم (من يراد تهزيلهم) وجبة وليحمل عليهم بالرياضيات العنيفة والاستفراغات ووصف لذلك أدوية وأفاض في الكلام فيه بحسب ما ارتآه في عصره. ومن رأي الدكتور كارل بورنستين الذي عرضه أمام الجمعية الطبية في ليبزيك هذا الشهر أنه على من أراد تهزيل نفسه أن يقلل ما يتناوله يومياً من الهدروكربون والأغذية الدسمة فتخف بذلك حرارة الجسم وأن يزيد في استعمال آح (زلال) البيض أو المادة التي تشبهه وأن يكثر من العمل الدماغي والإقلال من اللحوم ويغتذي باللبن والبقول التي تطبخ بلا دسم والفواكه المطبوخة وأن يختار في المشي الصعود وارتقاء العقاب وأن يستعمل التغميز والألعاب الرياضية وأن يستحم بماءٍ حار على معدل 45 من الحرارة مدة نصف ساعة وأن يستعمل كميات قليلة من الكينا والأدوية الحديدية. قال صاحب هذا الرأي أنه لا يتوقع أن ينتج للحال نتيجة لهذه الطريقة بل أنه ثبت له بأن من يستعمل هذه الضروب من الأطعمة والرياضة ينتهي جسمه بالنحول والنحافة ولابد مع ذلك من الرجوع إلى رأي الطبيب فإن من أحب أن يداوي نفسه بدون أخذ رأي المتطببين يضر في الغالب نفسه أكثر مما ينفعها. أبناء المحاويج ذكرت إحدى المجلات العلمية بحثاً في الجمعيات التي تستوكف أكف المحسنين لتستعين بما

تجمع من الأموال للإنفاق على أبناء المحاويج المعوزين تخرج بهم للنزهة في الضواحي أياماً معلومة في الصيف لتبعث النشاط في صحتهم مما ينالها من الهواء الفاسد في المدن الكبرى. قال الكاتب أن إحدى الجمعيات في لندن بعثت إلى الضاحية سنة 1901 بـ 34259 طفلاً ليتنزهوا على نفقتها. وقد أحدثت الدنمرك منذ تسع وعشرين سنة مستعمرات لها في الخلاء خاصة بترويض الفقراء وهناك يفتح أصحاب الأملاك بيوتهم لقبول من ينزل عليهم من أبناء تلك الطبقة والسكك الحديدية تقلهم مجاناً. وقد قدم لهم إمبراطور النمسا أحد قصوره في الأرباض ينزلونها على الرحب والسعة. وبعثت جمعية واحدة من مثل هذه في برلين سنة 1900 بـ طفلاً إلى الفلاة وزعتهم على 183 مصيفاً وأنفقت عليهم 1. 216. 435 فرنكاً. وحذت هذا الحذو في تنزيه أبناء الفقراء كل من البلجيك وإيطاليا وروسيا والسويد ونروج وهولندا وإسبانيا وسرت هذه العادة الحسنة من ملبورن إلى كاما كورا فالولايات المتحدة. ولفرنسا المقام السادس بجمعياتها بين الحكومات التي ينفق أبناؤها على نزهة فقرائهم أما في هذه البلاد فلا قدرة للفقراء على الارتحال للنزهة والأغنياء عندنا إذا رحلوا فتكون في الغالب رحلتهم لارتكاب الموبقات التي لا تتيسر لهم على ما تشتهي أهواؤهم في مساقط رؤوسهم.

احتفال بعالم

احتفال بعالم كلية عليكرة الإسلامية هي أعظم كلية في الهند للمسلمين ينبغ منها تلاميذ أفاضل كل سنة ومن جملة رجالها الأستاذ الفاضل الدكتور السيد ضياء الدين أحمد. ذهب بعد إنجاز الدراسة إلى إنكلترا وألمانيا وفرنسا وقضى سنين في كلية كمبردج الإنكليزية وغوتنغن الألمانية والسوربون الفرنسية ولما حفل وطابه بالعلم عاد إلى بلاده لينفعها بفضل علمه واختباره فمن بهذا القطر لدراسة أحواله والاطلاع على سياسة التعليم فيه وربط صلات التعارف بين المصريين والهنود ولما عزم على الرحيل قام بعض أصدقائه وفي طليعتهم سعادة الأستاذ الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر فاحتفلوا بوداعه في نزل كونتننتال بحضور نحو ثمانين رجلاً أكثرهم من رجال العلم والأدب فألقى صاحب المؤيد خطبة عرفه بها إلى الحضور ثم قام المحتفل به وألقى خطبة بالإنكليزية قال فيها: في بلاد الهند أكثر من مائة مدرسة مثل كلية عليكرة لكن ما يجعل لكليتنا امتيازاً حقيقياً على غيرها أنها الشرقية الوحيدة التي يوجد فيها نظام خاص بإقامة الطلبة وسكناهم فيها إلى الطريقة الإنكليزية فيتولون شؤونهم بأنفسهم في السير والإدارة. ومن حسن حظنا في عليكرة أننا لا نعرف ولا نتبع الطريقة الفرنسية في ضبط الطلبة ونظامهم بواسطة ضباط فإنها طريقة عقيمة ولها مضار كثيرة ظاهرة في مصر. ومن أسرار نجاحنا أننا نتمسك كثيراً بالتربية الدينية والتربية الوطنية إذ يجبر الطلبة على تأدية الواجبات الدينية كلها وينشطون على الاهتمام والاشتغال بأحوال المسلمين في أنحاء العالم كافة. والكلية الآن تتبع خطة التعليم في الحكومة وتعد الطلبة لامتحان المدارس الجامعة الكبرى على أن الغاية من مبدأ الأمر أن تكون عليكرة مدرسة جامعة إسلامية مستقلة. وقد قال المرحوم السيد أحمد خان (مؤسس الكلية) منذ زمن طويل في خطبة ألقاها إن نجاتنا لا تكون إلا في الوقت الذي يصبح فيه أمر تعلمنا بيدنا ولا تسترقنا مدارس الحكومة الجامعة فنأخذ إذ ذاك العلوم بيميننا والفلسفة بشمالنا ونحمل تاج لا إله إلا الله محمد رسول الله فوق رؤوسنا. ثم قال أنه تم الاتفاق على تأسيس كلية عربية لا يقصد منها أن يتعلم الطلبة فيها اللغة العربية لتأدية امتحان مخصوص ولكن الغرض منها أن يتلقى الطلبة تاريخ الإسلام بتدقيق وإمعان للبحث في أسباب رقيه وانحطاطه. وإننا نؤمل أن تظهر هذه المدرسة الجواهر

المختبئة في آداب اللغة العربية وتنشر الكتب النادرة بتفاسير وإيضاحات. وفي عزمنا أن نخصص بعض الطلبة بهذه الكلية العربية ونجعل لهم مرتبات لكي يستريح بالهم من جهة المعاش وليتفرغوا للدرس والبحث. ونحن الآن أيضاً ننشئ إزاء تلك الكلية العربية كلية أخرى للعلوم الطبيعية. ولطالما سألنا بعض الناس - لماذا يضيق بنا الفكر وحب الذات فننشئ مدرسة جامعة إسلامية ولا يبعثنا سمو النفس ومكارم الأخلاق والتسامح في الدين على جعل جامعتنا عامة مشتركة - ونحن نقول: لا نقصد منع غير المسلمين من الوجود في جامعتنا الإسلامية. فإن أبوابها مفتوحة كما هي الحال الآن في عليكرة لغير المسلمين وكل محب للعلم بلا تمييز بين الجنس والدين. وفيها الآن طلبة من اليهود والمسيحيين والوثنيين ولن نسعى مطلقاً في إخراجهم منها ولا نسميها جامعة إسلامية إلا بالمعنى الذي تنسب إليه اكسفورد وكمبردج إلى كنيسة إنكلترا الرسمية. وبعد أن قال أن تعليم الدين إجباري في عليكرة وقابل بينها وبين المدارس الثانوية في مصر وحث القوم على إرسال زمرة من الطلبة لتلقي العلوم فيها إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة قام حضرة الفاضل حافظ أفندي عوض أحد صاحبي المنبر الأغر وترجم خطبته إلى العربية ثم نهض سعادة صاحب المؤيد وألقى خطبة موخزة نافعة قال فيها: ويقيني أن مصر لو رزقت مدرسة جامعة ذات مبادئ قويمة مثل كلية عليكرة وتناسب في عظمتها حالة مصر الحاضرة لكانت مصدر حياة أقوى وأعم نفعاً لا للمصريين فقط ولكن لمسلمي العالم كله الذين هم في حاجة كبرى للترقي الصحيح المبني على دعائم العلم والفلسفة. وإنني أتمنى من صميم فؤادي أن يقصد هذه الكلية بعض الطلاب المصريين لأنهم يستفيدون مع العلوم التي يكتسبونها مزيجاً من آداب التربية الإسلامية العالية ومن الأخلاق الإنكليزية التي تطابقها في كل ما هو شريف وعال ما لا يستفيدون مثله من كليات أوربا مهما ارتقت مبادئها. ثم ختم مقاله بالتعريف بالعالم الهندي وقال أنه أعظم نابغ شرقي في العلوم الرياضية والفلكية التي تلقاها في كمبردج وكان من مزايا نبوغه أنه سبق جميع مناظريه من أرجاء إنكلترا كلها ممن تقدموا للامتحان لنيل جائزة اسحق نيوتن العالم الفلكي الشهير وهي مائتا

جنيه إلى أن قال: ولعلكم ترون مثلي أن السيد ضياء الدين أحمد هو رجل مخلص في مباحثه وآرائه قد وقف نفسه على العلم حتى كاد يفنى فيه وكل من يفنى في العلم يحيا به. وأنه لا يوجد مظهر حياة في الدنيا أقوى من مظهر الحياة العلمية للذين يتجلون بها للعالم. ثم ختمت الحفلة بتناول الحلواء والشاي وأبدى الحضور شكرهم للمحتفلين والمحتفل به فلما رأينا كل هذا وابتهاج الحضور بمقدم العالم الهندي بعد مقامه الطويل في بلاد الغرب ذكرت ما كان من انتشار العلم في بلاد الأندلس ولا سيما عندما ورد في الخطبة قول أحد حكام الهند أن كلية عليكرة ستكون قرطبة الشرق الحديث ذكرت هذا وانحطاط المسلمين الآن وأنهم تحت ظل حكوماتهم في الغالب أذلة وأن عقلاءهم وهم أندر من الكبريت الأحمر يذهبون في طلب العلم لنقله من مصادره إلى أهلهم ومواطنيهم كما فعل الأستاذ ضياء الدين وكما كان يفعل يهود أوربا فيأخذون العلم عن علماء المسلمين في الأندلس حتى إذا تشبعوا بآرائهم ومذاهبهم وقضوا زمناً في حلقاتهم واهتدوا بهديهم يغادرونهم لينشروا ما تلقوه في إيطاليا وفرنسا وغيرها من البلاد المجاورة فتأمل كيف دالت الدول وصار الغربيون يعطوننا ما كانوا يأخذونه عنا مع الزيادات التي زادوها عليه. ويا ليت شعري هل تكون عليكرة قرطبة الشرق حقيقة كما قالوا.

وفاة عالم

وفاة عالم فجع العلم هذا الشهر بفقد أحد أساطينه الحجة الثبت الشيخ أحمد أبو خطوة رجل العلم الراجح والفضل الجم. ولد طاب ثراه في بلدة كفر ربيع من أعمال المنوفية وكان والده من أوساط الناس وحفظة الكتاب العزيز فلما ترعرع تعلم ما أمكنه تعلمه في بلده وحفظ القرآن ثم أتى إلى القاهرة سنة 1279 وعمره قرابة خمس عشرة سنة لتلقي العلم في أزهرها فأخذ الفقه الحنفي عن الشيخ عبد الرحمن البحراوي والشيخ عبد الله الدرستاوي وحضر لأول أمره في مذهب المالكية على الشيخ الشعبوني وأخذ المعقولات عن الشيخ محمد البسيوني البيباني والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي والشيخ حسن الطويل ولازم الأخير ملازمة متصلة فقرأ عليه المنطق والتوحيد والهندسة والأخلاق والتصوف والحكمة العالية القديمة وغيرها من العلوم التي لم تعهد قراءتها في الأزهر. واستمر على الاتصال بالشيخ الطويل وهو من أعظم فلاسفة المسلمين في هذا القرن بمصر حتى مضى هذا لسبيله كما استمر ملازماً الشيخ الدرستاوي حتى أتم عليه دراسة مذهب بأجمعه. هؤلاء هم مشايخ الفقيد الذين تخرج بهم ومنهم الشيخ الشربيني أيضاً. وفي سنة 92 جاز الامتحان لنيل شهادة العالمية من الأزهر فحاز الدرجة الأولى وعد من نوابغ الأزهريين المتمكنين من الفروع والأصول الجامعين إلى المنقول والمعقول. ولقد أسعده الحظ بملازمة الشيخ الطويل فجاء منه رجل لم يجمد جمود الفقهاء ولم يطش طيش السفسطائيين من المتفلسفين. وكان متضلعاً من علمي الفقه والأصول يمزجهما معاً في درسه. وأكد لي عليم بأحواله أنه كان كنزاً مخفياً في هذين العلمين لم يعهد له فيهما قرين في علماء زمانه. درس زمناً طويلاً في الأزهر فانتفع الطلاب بعلمه وسعة مداركه وكثرة تحقيقه وكان مفتياً لديوان الأوقاف زمناً ثم عين قاضياً في المحكمة الشرعية في هذه العاصمة. حدثني صديق له أنشأ معه وراقب سيره وسيرته أنه كان سريع الفهم سريع القراءة سريع الكتابة قوي العارضة متين الحجة بليغ القول حاد الذاكرة بيد أنه لم يكتب إلا نادراً لاشتغاله بمهام القضاء لما نضج علمه واشتد ساعده ولأنه كان بعيداً عن الظهور ولعل ذلك كان منه لحكمة اقتضتها التقية التي يضطر أكثر الموظفين في الحكومات الشرقية إلى اتخاذها شعارهم. ومن الأسف أن 99 في المائة من النوابغ في الشرق ينصرفون جملة واحدة إلى

التوظف فلا يعود في وسعهم خدمة أمتهم وبلادهم الخدمة المتوقعة منهم وهم في إبان قوتهم وشرخ شبابهم ودور كهولتهم. والموظفون في معظم الأمم كالآلات بيد رؤسائهم لا يهمهم إلا رضاهم ويعدون ما وراء ذلك من الواجبات الاجتماعية. كان يعد المرحوم من أخلص أصدقاء فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده ونصيره في آرائه الإصلاحية سراً لا جهراً. ولما لغط بعضهم في مسألة الفتوى التي أفتى بها مفتي الديار المصرية المشار إليه جواباً على سؤال ورد إليه من الترنسفال في جواز لبس المسلم القبعات وضرب البقر بالبلط والذبح بدون تسمية وجواز صلاة الشافعية خلف الحنفية كان الفقيد في مقدمة من أيدوا الشيخ المفتي في فتواه وألف رسالة (إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية) التي جمع بها من نصوص كتب المذاهب الأربعة ما دحض به آراء المخالفين المشاغبين فكانت من الأدلة على بعد غوره في الاطلاع على المذاهب وقد عرض ما جمعه على غير واحد من علماء كل مذهب فأجازوها فعزيت إلى جماعة مبهمين. وقيل أنه كتب في بعض الصحف اليومية مقالات لم تعز إليه لغرض اقتضى ذلك. وعلى الجملة فقد كان الفقيد على شرط العلماء الأقدمين من الإلمام بأحوال زمانه فهو علمَ علم وحجة حكم وفهم ولو أتيح له أن يهتم بالعموميات لواد الانتفاع به. ومن أخلاقه أنه كان رزيناً وقوراً لين الجانب فكان إذا اجتمع بأكبر أعدائه يحسن لقاءه والتأدب معه ولم يجد له المنتقدون ما يتطرقون منه إلى انتقاده بما يشينه إلا ما كان من قبوله شفاعات أصدقائه مدفوعاً إلى قضاء حوائجهم بعامل المروءة العظيمة الناشئة عن شدة ثقته بهم واعتقاده الصدق في أقوالهم وما يقصدون إليه. فلا عجب بعد هذا إذا عد فقده خسارة كبرى على القضاء والعلم في هذه الديار. رحمه الله.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة الجاحظ لم يأت على الشرق العربي أيام كانت رياض الأزمنة وعهد السعود حقيقة كأوائل الدولة العباسية ولاسيما زمن المأمون والرشيد - علم زاهر وحرية مطلقة وسعة عيش وسيادة تامة ونصر مؤزر وسلام شامل والقول الفصل لأرباب العقل في كل حال وشأن. ولذلك لا يستغرب أن ينشأ أيام تلك الدولة مثل الجاحظ رجل العلم الراسخ والنظر السديد والأدب الناضج والبلاغة التي لم يكتب لمتقدم ولا لمتأخر في هذه الأمة العربية أن داناها على نحو ما أجمع كبار أرباب هذه الصناعة. ولد الجاحظ وطير اليمن يغرد في الأصقاع الإسلامية وناهيك بالعراق في قرنه الثاني والثالث. فكانت هذه الأسباب على ما خص به من جودة الفطرة أكبر معين له للقبض على قيادة العلم النافع وتحكيم العقل السليم في المنقول ولقد تخرج بالنظام صاحب المذهب المعروف في علم الكلام ولكنه لم يجمد على علمه وحده وإن كان رأساً في علم الكلام وله مقالة معروفة بع في أصول الدين وفرقة تعزى إليه من فرق المعتزلة أعقل أرباب المذاهب في الإسلام دعيت الجاحظية. الجاحظ وعاءٌ من أوسع أوعية العلم في الأمة لم يحو إلا لبابه خالصاً من القشور كلها كان وقفاً على الخير المحض لكل متناول فكأنه وكأن مصنفاته الممتعة التي يتجلى فيها بعد نظره وغوره وإخلاصه وأخلاقه دائرة المعارف أو موسوعات العلوم بلغة غربية منتشرة لعهدنا حوت كثيراً من علوم البشر أو النافع الراجح منها وهي مسبلة على المطالعة في خزانة كتب إذا قلبت أي صفحة من صفحاتها تعود من تحديقك فيها وقد حفل وطابك بما طاب من ثمرات معارف الناس. فهو ولا مراء أحد أفراد في هذه الأمة ما أظنهم يتجاوزون عدد الأنامل. هو ممن إذا ذكروا في مصاف رجال الأمم رفعنا بما كتبوا رؤوسنا وابتهجت بذكراهم نفوسنا. ناهيك برجل قال في وصف كتبه الأستاذ أبو الفضل ابن العميد الوزير العالم المشهور وقد جرى ذكر الجاحظ في مجلسه فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به فسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل قال أبو القاسم السيرافي وكان حاضراً: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله

مع عادتك في الرد على أمثاله فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً ولم استصلحه لذلك. نعم إن كتب الجاحظ على ما قال ابن العميد تعلم العقل والأدب وإن حسده معاصروه فما هو أول ذي نعمة محسود. بيد أنه كان عارفاً بشغب المشاغبين وحسد الكارهين وإليك ما قاله فيهم في كتاب المحاسن والأضداد: إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسي فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد المركب فيهم وهم يعرفون براعته ونصاحته وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملك معه القدرة على التقديم والتأخير والحط والرفع والترهيب والترغيب فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة فإن أمكنتهم الحيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي ألف له فهو الذي قصدوه وأرادوه وإن كان السيد المؤلف فيه الكتاب نحريراً نقاباً ونقريساً بليغاً وحاذقاً فطناً وأعجزتهم الحيلة سرقوا معاني ذلك الكتاب وألفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً وأهدوه إلى ملك آخر ومنوا إليه به وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوباً إلي وموسوماُ بي. وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيري وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة ويحيى بن خالد والعتابي ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته علي ويكتبونه بخطوطهم ويصيرونه إماماً يقتدون به ويتدارسونه بينهم ويتأدبون به ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رئاسة يأتم بهم قوم فيه لأنه لم يترجم باسمي ولم ينسب إلى تأليفي. هكذا كانت الحال بين الجاحظ ومعاصريه والمعاصرة حرمان في كل زمان. ولكن كان له من القبول عند الخلفاء والأمراء والأغنياء في دهره ما يقل وقوع مثله لغيره في عصر من الأعصار. فإن استبشع المتوكل منظره لما ذكر له لتأديب بعض ولده وصرفه بعد إكرامه - وكان الجاحظ مشوه الخلق قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين والجحوظ النتوء وكان

يقال له الحدقي لذلك - فقد اختاره المأمون معلماتً لنفسه وكفى بمنزلة المأمون بين خلفاء الإسلام فهو أعقل خليفة في الإسلام بلا مدافع وأعلم رجال بني العباس. وعمر مترجمنا عمراً طويلاً فنيف على ما قيل عنه على تسعين سنة وكانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة بلده التي نشأ فيها. قال ابن خلكان وقد أصيب بالفالج في أواخر عمره فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده وكان يقول في مرضه اصطلحت علي الأضداد إن أكلت بارداً أخذ برجلي وإن أكلت حاراً أخذ برأسي وكان يقول أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة وكان ينشد أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب وحكى بعض البرامكة قال كنت تقلدت السند فأقمت بها ما شاء الله تعالى ثم اتصل بي أني صرفت عنها وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار فخشيت أن يفاجئني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل ولم يمكث الصارف أن أتى فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل بالفالج فأحببت أن أراه قبل وفاته فصرت إليه فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادم صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلت فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل فقلت للجارية: لابد من الوصول إليه. فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال: أحب أن أراه قبل موته فأقول قد رأيت الجاحظ ثم أذن لي فدخلت وسلمت عليه فرد رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله. فانتسبت له فقال: رحم الله تعالى أسلافك وآبائك السمحاء الأجواد فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تنشدني شيئاً من شعرك فأنشدني. لئن قدمت قبلي رجال فطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدما

ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما ثم نهضت فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج قلت: لا. قال: فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه فقلت: نعم وخرجت متعجباً من وقوعه على خبري مع كتماني له وبعثت له مائة إهليلجة. قلنا ولو وقعت حكاية الإهليلج لرجل من المتأخرين لعدها للقائل كرامة وراح يدعي أن صاحبه يعلم الغيب ويكشف مخبآت القلوب ويتصرف في الكون وأهله إلى آخر ما يلغط به المهووسون في هذه القرون وقد بلغ من ضعف العلم والعقول أن لو أنكر منكر ذلك لرموه بكل كبيرة ولكن ذاك الأمير البرمكي عد بفطرته السليمة ما صدر عن الجاحظ قوة فراسة ونسبه إلى اتفاق صادف واقعاً. ولو أتيح لنا الاطلاع على ترجمة مفصلة للمترجم به لعرفنا الجاحظ ونشأته وما وقع له في عصره وما أثر عنه من المصنفات التي تعد بالعشرات أكثر مما عرفنا منه وما علينا للوقوف على ذلك إلا أن نعمد إلى النظر إلى تآليفه ففيها أعظم ترجمة حافلة له وكلام الرجل أصدق ما ينبئ عنه.

التعريب والترجمة

التعريب والترجمة لا أصعب من تقييد الإنسان بأقوال غيره وأفعاله خصوصاً إذا كانت تخالف ما لقنه وألفه. وهذا مما يصح إطلاقه في الترجمة والنقل كما يصح في غيره. وذلك جاء في المثل الطلياني المترجم خائن لأنه لا يخلو في الجملة من الحياد عن الأصل وترك معان ربما كانت المقصودة بالذات من كاتبها الأول. ولقد انقسمت طرق التراجمة في الإسلام إلى قسمين فارتأى فريق أن التعريب وهو نقل المعاني المرادة بقالب عربي بحسب ما يقضي به ذوق الكاتب ويساعد عليه اللسان ولهجته خيرٌ من الترجمة أي النقل بالحرف والتزام ما قاله الكاتب الأصلي ولو لم ينطبق كل الانطباق مع ذوق اللغة المنقول إليها. والطريقة الأولى ألطف وأعذب والثانية أصدق وأمتن. فالأولى طريقة يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما والطريقة الثانية في التعريب طريقة حنين بن اسحق والجوهري وغيرهما وأقل ما في الأولى من الجهد أن بعض الألفاظ ليس لها ما يرادفها في لغة ثانية وأقل ما في الثانية من الراحة أنها لا تقيد الكاتب بالألفاظ. قال الصفدي وهذا الطريق أي الثاني أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن اسحق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح. ولقد رأيت معربات كثيرة ومترجمات نقل بعضها قديماً عن السريانية والرومية والفارسية والهندية والنبطية واللاتينية وحديثاً عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والروسية فاستنتجت منها أن بني لغتنا يستفيدون من التعريب بالمعنى والتحصيل أكثر من النقل بالحرف. وانتفع الناس بما لخصه الحكيم ابن رشد من كتب فلاسفة اليونان أكثر من انتفاعهم من الأصل وقد اعتمد الإفرنج نقله ولم يحاولوا تطبيق ما لخصه على الأصل حتى بعد أن ظفروا بالكتب المنقول عنها بحسب ما انتهى إليه عملنا. ولا يعفى معاني هذين الطريقتين في النقل من أن يكون ضليعاً من العلم الذي يكتب فيه آخذاً بقياد اللغة المنقول عنها وإليها. وكلما تباينت آداب أمة عن أخرى وانفسح ما بينهما مجال الاختلاف في العادات والاجتماع صعب نقل شيءٍ من لغة إلى لغة ثانية. والفرق بين لغة شرقية ولغة غربية أكثر من الفرق بين لغتين شرقيتين أو لغتين غربيتين لما في تحكك المتجاورين من المجانسة في الأفكار

والمناحي. وعندي أنه لا غنية للناقل من لغة أوربية عن التلخيص مهما حاول أن يطبق مفاصل اللغة العربية على لغته فإن للغربية اصطلاحات قلما توافق ذوق لغتنا ولهم معان لا يفهمها من عرف أولئك الأقوام وتاريخهم ومجتمعهم. وهذا غير ميسور لكل الناس. وبعد فقد ضعف القائمون بأمر الكتابة والتعريب ودامت الأمة العربية زهاء خمسة قرون وقد انقطعت منها الترجمة والنقل بانقطاع العلوم وضعف أهل العربية وارتقت اللغات الأخرى ونمت ألفاظها العلمية ومعانيها المدنية حتى أدت الحال بالكاتب العربي اليوم إذا أراد وصف منضدة عمله وردهة مجلسه وما يقع نظره عليه كل حين من أنواع الآنية والماعون وكليات الأمور وجزئياتها أن لا يجد في حافظته من الألفاظ ما يسد هذه الثلمة اللهم إلا كليات ألفاظ لا تتعدى الأغراض اليومية الشائعة من المؤاكلة والمعاشرة حتى بين أبعد الناس عن مذاهب الحضارة وما ذلك لقصر اللغة عن بلوغ هذه الغاية ففيها لو تصفحنا ما انتهى إلينا من كتب القوم مادة تكفينا ولو بعض الكفاية دون أن نلجأ في التعريب إلى اللفظ العامي أو المبتذل أو الأعجمي أما الألفاظ العلمية فالأحرى بنا أن ننحتها أو ننقلها على أصلها إذا لم تخالف الأوضاع العربية أو نجد لها ما ينطبق عليها من اللغة ولو ببعض تكلف كما فعل المترجمون في القديم. فسر ابن جلجل الأندلسي أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس العين زربى وكان ترجم ببغداد في أيام جعفر المتوكل ترجمه اصطفن بن بسيل من اليوناني إلى العربي وتصفح ذلك حنين بن اسحق فصحح الترجمة وأجازها فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسماً في اللسان العربي فسره بالعربية وما لم يعلم له اسماً تركه على اسمه اليوناني اتكالاً منه على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره باللسان العربي إذ التسمية لا تكون بالتواطؤ من أهل كل بلد على أعيان الأدوية بما رأوا أن يسموا ذلك إما باشتقاق وإما بغير ذلك من تواطئهم على التسمية وبقي الكتاب على الترجمة البغدادية بالأندلس إلى أيام الناصر عبد الرحمن بن محمد فكاتبه أرمانيوس ملك القسطنطينية وهاداه بهدايا منها كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب وكان الكتاب مكتوباً بالإغريقي الذي هو اليوناني وبعث معه كتاب هروسيس (؟ هيرودتس) صاحب القصص وهو تاريخ للروم عجيب فيه أخبار الدهور وقصص الملوك الأول وفوائد

عظيمة. ثم بعث ملك الروم براهب اسمه نقولا فوصل إلى قرطبة سنة 340 وكان بها جماعة من الأطباء يبحثون عن تصحيح أسماء عقاقير الكتاب وتعيين أشخاصه فأنشؤوا يبحثون عنها بحيث زال الشك فيها عن القلوب وأوجب المعرفة بها بالوقوف على أشخاصها وتصحيح النطق بأسمائها بلا تصحيف إلا القليل منها الذي لا بال به ولا خطر له وذلك يكون في مثل عشرة أدوية. هكذا عربوا الألفاظ الطبية بالأندلس وهكذا كان تعريب غيرها من المصطلحات اليونانية وغيرها في بغداد وهكذا يجري علماء الإنكليز في ضم ما يحدث من الألفاظ العلمية إلى لغتهم كلما ست الحاجة إلى ذلك ووكل الفرنسيين وضع الكلمات اللازمة إلى مجمعهم العلمي. ولو أن نفراً من أهل الأخصاء في اللغة العربية عنوا كل على حدته بإيجاد بعض ألفاظ لتناولتها أقلام الكتاب ولسرت على الألسن وانتشرت في الكتب والأوراق ويبقى منها الأنسب بطبيعة الزمن وينسى ما لا غناء فيه. فقد وضع بعض أرباب الجرائد والمجلات ألفاظاً لبعض المستحدثات العصرية فكادت تكون كالألفاظ المألوفة لنا ولو وفقنا إلى تكثير سوادها إذاً لسهلت الترجمة والتعريب على من تمحضوا لهما ووقفوا نفوسهم على إغناء لغتنا بكنوز عظيمة مباحة لمن يحسن تناولها وفيها قيام جامعتنا وكفاء نهضتنا.

صفحة تاريخية في سورية

صفحة تاريخية في سورية انقضى من الخليقة إلى الطوفان 2243 سنة حسب الترجمة السبعينية و1656 سنة حسب النسخة العبرانية. وأقدم مؤرخ يلم بتاريخ الجنس البشري في هذه المدة الطويلة هو موسى الكليم. ولم يذكر موسى بمكانة البشر من الحضارة والعمران في تلك الحقبة التي كانت بين الخليقة والطوفان. فقد دون موسى الخمسة الفصول الأولى من سفر التكوين - أحد أسفاره الخمسة - وهي لا تبحث إلا عن الخليقة وعن آدم وحواء وعن قابيل وهابيل وعن الآباء العشرة وعن كثرة شرور الإنسان التي أدت إلى الطوفان. ولد الإنسان الأول - آدم - في ما بين النهرين أو في أرمينية على ما يرجح علماء هذا العصر وعاش 930 سنة. وولد شيث لسنة 130 آدم حسب النسخة العبرانية وعاش 912. وولد انوش سنة 235 وعاش 965. وولد قينان سنة 325 وعاش 910. وولد مهللئيل سنة 395 وعاش 895 سنة. وولد يارد سنة 460 وعاش 962 سنة. وولد اخنوخ سنة 622 وعاش 365 سنة. وولد متوشالج سنة 687 وعاش 969 سنة. وولد لامك سنة 874 وعاش 777 سنة. وولد نوح سنة 1056 وعاش 950 سنة. هؤلاء هم الآباء الأولون العشرة من الخليقة إلى الطوفان. ولم يذكر موسى عنهم سوى سني حياتهم وأن لامك كان أول من تزوج أكثر من امرأة وأن ابنه يابال كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي وأن أخاه يوبال كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار وأن توبال قايين كان الضارب كل آلة من نحاس وحديد. قال ابن الأثير المتوفى سنة 1233م أن مهللئيل كان أول من استخرج المعادن وشاد الأبنية في العالم. وقال غيره من مؤرخي العرب كابن خلدون المتوفى سنة 1405م وكأبي الفدا المتوفى سنة 1331 أن الأب الثالث انوش كان أول من أوجد المحاكم وأوصى بالإحسان بين البشر. أما ما وجده المتأخرون محفوراً على القبور والصخور وجدران الأبنية من الخطوط المصرية المعروفة بالهيروغليفية والخطوط المسمارية فكان بعد الطوفان. لا مشاحة في أن سورية كانت مأهولة بولد آدم قبل الطوفان. والحجة على ذلك لا الظنون التي جعلها بعضهم حقائق ودونت في بطون الأوراق ولا الأوهام والتقاليد التي تناقلها الخلف عن السلف وجعلها بعض الباحثين ذات أهمية كبرى هي أن سورية متاخمة لما بين النهرين والفاصل بين البلادين سهول واسعة ومروج خصيبة وأن تلك المدة الطويلة التي

كانت بين الخليقة والطوفان تستدعي تفرق بني آدم في القطر السوري. ولد لنوح جد الأسرة البشرية بعد الطوفان سام وحام ويافث فأقام الأول أو نسله في آسيا. وأقام الثاني أو نسله في إفريقية. وأقام الثالث أو نسله في أوربا ولقد كثر نسل نوح بعد الطوفان فظهر الآراميون في دمشق والجيدور والجولان والبقاع وحمص ولبنان والبترون وجبيل وبيروت. ثم توطن سورية بعض قبائل الجبابرة وأقام العمونيون في البلاد التي لا تزال معروفة بهم والموآبيون في بلاد موآب والإسماعيليون في العربية الصخرية وما جاورها والأدوميون في بلاد أدوم والفينيقيون في صور وصيدا وجبيل. وتفرعت من هذه القبائل فروع كثيرة في قرون مختلفة. أما الحثيون فكانت بلادهم شمالي سورية. افتتح سزوستريس المصري فينيقية نحو سنة 1500 ق. م وتغلب بنو إسرائيل على أرض كنعان نحو سنة 1450 ق. م وقال بعض الباحثين لا بل سنة 1540 ثم استحوذ على قسم من سورية تجلت فلا صر الأول سنة 1120 ق. م ثم افتتح الآشوريون فينيقية عام 756 ق. م وتغلب بختنصر الثاني مبك بابل على كل سورية سنة 600 ق. م ودخل الإسكندر الكبير إلى سورية سنة 333 ق. م وحاصر صور في شباط فبراير وافتتحها في آب أغسطس سنة 232 ق. م. ثم افتتح صيدا وجبيل وبيروت والسامرة والجليل وغزو وسواها وملك البلاد التي اكتسحها عشر سنوات ثم انقسمت مملكته بعد وفاته بين قواده كما سيجيء. ثم استولى السلوقيون على شمالي سورية سنة 311 ق. م وكانت هذه البلاد قبل ذلك العهد بقرون تحت حكم الحثيين. هذه أشهر القبائل والدول التي استولت على سورية منذ عهد نوح إلى بدء حكم قياصرة الرومان فيها فإذا أطلعنا على تاريخ فينيقية ألفينا أنه كان لكل مدينة من مدنها ملك وأن الفينيقيين رجال البحار وقادة الأسفار وزعماء التجارة والصناعة وأهل العلوم في أيامهم لم يكن تعدد ملوكهم على بقعتهم الصغيرة إلا دليلاً على انقسامهم. وما يقال في أمة البحار ذلك العهد يقال في بني إسرائيل. فقد كان تاريخ هذه الأمة المختارة في مدة نحو 994 سنة عبارة عن مشاغبات وانقسامات في عهد القضاة وفي عهد الملوك. وكانت الأخطار والصعاب محيطة بهم من شعوب سورية المعروفة في أيامهم. وهكذا قل في سائر الأمم السورية التي عاصرت الإسرائيليين في عهد قضاتهم وملوكهم.

فحروب تلك الشعوب القديمة وغزواتها المتواصلة وحروبها الساحقة كانت برهاناً قاطعاً على انفصام عرى الجامعة السورية إذ ذاك. وقد دام حكم ملوك الآشوريين في سورية نحو 150 سنة لم يتمتع السوريون في أثنائها براحة ولم يصف لهم كأس الهناء بل كانت تلك المدة الطويلة سلسلة متاعب وحلقات مصاعب ولدت الشقاء والذل والهوان. أما الاثنان والثلاثون ملكاً من اليونانيين فقد حكموا سورية نحو 269 سنة وكان تاريخ سورية في أيامهم مملوءاً بأخبار الانقسام الذي حصل بعد وفاة الإسكندر وبالحروب المظلمة التي جرت في عهدهم وبالمطامع اليونانية التي ظهرت بكل مظهرها وقتئذٍ وكانت من أشد الويلات وأشأم النكبات على الأمة السورية. اختلف المؤرخون من العرب والفرنجة في تعيين السنة التي استولى فيها الرومان على سورية اختلافهم في غيرها من المسائل التاريخية ولاسيما العريقة في القدم. فقال بعضهم أن بدء حكم الرومان في سورية كان سنة 64 ق. م وقال غيرهم أنه كان سنة 65 ق. م ومهما يكن الاختلاف عند أرباب البحث والتنقيب من أهل العلم والسير فقد كان استيلاء الرومان على سورية في سنة 64 ق. م أو في السنة التي بعدها. بلغت مدة حكم الرومان في سورية سبعمائة وسنتين. وكانت ستمائة وثماني وثلاثين سنة من أغسطس قيصر إلى هرقل. وكان بمبايوس افتتحها بنحو 64 سنة قبل أن تولاها أغسطس قيصر. ولقد بدأ حكم الرومان في القطر السوري وبدأ معه النزاع والشقاق والخصام والاستبداد والأنانية. فقد كان الخصام سائداً بين أفراد عائلة هيرودس الملك المشهور بالأوصاف الشريرة. وذلك من أول عهد استيلاء الرومان على سورية إلى أوائل القرن الأول للميلاد. فقتل هيرودوس أرسطوبولس من أسرة المكابيين ثم قتل مريما زوجته وإسكندره أمها وابنة إسكندره وأرسطوبولس المقدم الذكر وحارب العرب وكانت البلاد متضعضعة في أيامه. ومن يطالع تاريخ عائلة الهيرودسيين ولا يرميها بالظلم والعار والشنار؟ ومن يعلم أن هيرودس الملك قتل جميع الصبيان في بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون ولا يقول أن هذا شقيق لنيرون الظالم الشهير في الشر والمجازر الهائلة التي لا يزال صداها يرن في مشارق الأرض ومغاربها.

ومن الحوادث التي جرت في القرن الأول للميلاد في سورية اختلاف أرشيلاوس خليفة هيرودس مع اليهود في اليهودية إحدى أقسام الأرض المقدسة وقتله منهم في يوم واحد ثلاثة آلاف رجل وحدوث انشقاقات كثيرة وتحزبات متنوعة بين الأهلين وهياج الشعب وقتل كثيرين من اليهود ونهب هيكل أورشليم وإحراق الرومان رواقه. ولم يقتصر النزاع في ذلك العهد على اليهود بل كان له نصيب كبير مع اليهود والمجاورين لهم من الأمم. وفي 16 أيار مايو سنة 66 للميلاد أضرم فلورس الوالي الروماني نيران الحرب مع اليهود فأكثر من السلب والنهب في أورشليم وقتل يومئذ ثلاثة آلاف وستمائة نفس وصلب عدداً من وجوه اليهود. ثم تغلب اليهود في أورشليم على الرومانيين وفتكوا بكثير منهم وتمكنوا من إخراجهم من المدينة في 17 أيلول سبتمبر سنة 66 للميلاد. ولما اتصلت بالسوريين أخبار قتل اليهود جنود الرومان يومئذ قاموا بإيعاز من ولاة الرومانيين على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم في كل مدينة ينكلون بالأمة اليهودية فقتلوا منها في بيسان 13 ألفاً وفي عسقلان ألفين وفي عكا ألفين وفي قيصرية ثمانية آلاف وأربعمائة نفس. ولقد جرى في كثير من مدن سورية وبلدنها نفس ما جرى في أورشليم فاشتد الخصام وكثر القتل والسلب وقل الأمان في ذلك الأوان. ثم انقسم اليهود أقساماً في عهد ولاية يوسيفوس اليهودي على الجليل وهو المؤرخ الشهير المولود سنة 37 ق. م. وبداعي أحزاب اليهود الثلاثة وكثرة الاختلاف بينهم أحرقوا من مؤونتهم في أورشليم إذ كان الرومان يحاصرونها وفي عيد الفصح سنة 70 للميلاد حاصر طيطوس الروماني أورشليم وبعد أن أذاق اليهود داخل المدينة - أورشليم - أنواع العذاب والجوع والاضطهاد ألواناً فتح الرومان المدينة في 10 آب أغسطس سنة 70 للميلاد. ولقد أحرق الرومان أورشليم إذ ذاك ودمروا مدن اليهود وجعلوها خراباً إباباً وسبوا اليهود وأعملوا السيف في رقابهم. وكانت سورية في ذلك العهد قائمة من كثرة الانقسامات والفظائع التي جرت في ديارها التعسة. فقاسى السوريون في ذلك العهد ألوان العذاب من أجل النفوس الطاهرة التي ذهبت فريسة الأنانية والاستبداد والاعتساف والحيف والخصام والشقاق. وفي القرن الثاني حارب اليوس ادريانوس الحاكم الروماني في سورية يومئذ الشعب

اليهودي وابتنى على أنقاض هيكل أورشليم العظيم هيكلاً لعبادة الأوثان وكان ذلك سنة 128 للميلاد. وفي تموز (يوليو) سنة 132 أعاد اليهود إضرام نيران الثورة فكانت النتيجة أن لينيوس روفوس والي اليهودية أعمل الحسام في أعناق رجالهم ونسائهم وأولادهم. ولما كانت قوات لينيوس روفوس وقواده وجنوده قد زادت من اليهود عتواً وتهجماً وتهيجاً وافى اليهودية حاكم آخر من حكام الرمانيين وقتل من اليهود 580 ألفاً وأحرق ودمر نحو 900 قرية وأخرب كثيراً من الحصون وأسر كثيرين من اليهود وسباهم وأسرهم إلى رومية. وفي هذا القرن اضطهد الرومانيون المسيحيين في كل أنحاء سورية وحمل البريتنون على الرومان وتغلبوا عليهم في أول الأمر ثم عادوا على أعقابهم خاسرين. وعند خاتمة هذا القرن حدثت حرب شديدة بين اليهود والسامريين. وفي القرن الثالث حارب سابور ملك الفرس الرومان وتغلب على سورية سنة 262 للميلاد ثم تغلب عليه التدمريون بهمة أذينة وأرجعوه إلى بلاده. وفي القرن الرابع اشتد الاضطهاد على المسيحيين في سورية وكثر الظلم والجور في تلك البلاد وذلك بفضل غلوس أخي قسطنطين ملك المشرق وفضل هذا الملك العاتي نفسه وكان ذلك سنة 351 للميلاد. وفي سنة 363 للميلاد توالى الاضطهاد على النصارى في سورية وكثرت المظالم بين جميع أمم القطر حتى أن يوليانوس الروماني الحاكم يومئذ كان عازماً على التنكيل بجميع المسيحيين في مملكته لو لم تختطف المنون أنفاسه في 27 حزيران يونيو سنة 363 للميلاد إذ كان يحارب الفرس في بلادهم. وفي القرن الخامس حدثت حرب في سورية بين الملك الأسود أحد ملوك الحيرة وبني غسان أحد ملوك الشام الذين كانوا تحت أمرة القياصرة الرومانيين ونشبت حرب ثانية بين ابن ملوبة وملوك غسان. وفي القرن السادس حدث أن كسرى ملك الفرس حمل على سورية في أيام وستيانس الملك الروماني وحدثت ثورة السامريين وخرب كثير من مدن سورية بالزلازل الهائلة. وفي القرن السابع أضرم اليهود نيران الثورة أيضاً وذاق الرومانيون واليهود والسوريون بسببها متاعب كثيرة وحمل الفرس في هذا القرن لمحاربة اليونان. استولى العرب الفاتحون على سورية سنة 634 ب. م وفي سنة 1095 حمل الصليبيون على سورية فبلغوها سنة 1098 ففتحوا أورشليم سنة 1099 وعكا سنة 1104 وطرابلس

وجبيل وبيروت سنة 1110 وصيدا سنة 1111 وعسقلان سنة 1154 وصور سنة 1125 ويافا سنة 1192 وحاصروا دمشق سنة 1148 فلم يتغلبوا عليها. وبعد سبع حملات للصليبيين على سورية وقعت في الثلاثة قرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر طردهم منها صلاح الدين الأيوبي في أواخر القرن الثاني عشر ثم طردهم ملوك الجراكسة في الربع الثالث من القرن الثالث عشر وغزا الخوارزمية سورية سنة 1241 للميلاد ونكلوا بسكان عدة مدن منها وأذاقوهم المتاعب أشكالاً والويلات ألواناً وحذا حذو الخوارزمية التتر فغزوا سورية سنة 1260 وأعملوا السيف بالسوريين وعملوا ما عمله الخوارزمية قبلهم. وسنة 1517 استولى على القطر السوري السلطان سليم ولم تبرح سورية إلى يومنا هذا تحت حكم سلاطيننا العظام. اوماهانبراسكا (الولايات المتحدة) يوسف جرجس زخم

كلية المستنصر بالله

كلية المستنصر بالله جئت في أوائل هذا الرمضان إلى كلية المستنصر بالله القائمة في الضفة الشرقية من دجلة زائراً لها بعد مضي سبعة قرون على بنائها فألفيت بابها الشرقي الشمالي الكبير مسدوداً فدخلتها من باب مفتوح إليها حديثاً من الجانب الجنوبي المتصل بدجلة أفضى بي إلى ساحة وسيعة طولها سبعون متراً تقريباً في عرض أقل من نصف ذلك قليلاً قد سقف إدارة الجمرك التي امتلكتها مقدار ثلثيها بحصر مرفوعة على عمد من خشب وقاية لما تحطه فيها ابتغاء رسومه من رزم الأمتعة التجارية المجلوبة من أوروبا والهند ومشيت في خط أعوج بين تلول وكثبان من الرزم والحمول وضجيج الحمالين يكاد يصم أذني فقلت في قلبي هذا بدل من أصوات الأساتذة الذين كانوا يلقون الدروس العالية في هذه الكلية على مسامع ألوف من طلاب العلم. وطفت حول الساحة وأسراب الدجاج السارحة هناك تتطاير فارة من أمامي. وسرحت طرفي فيما يحيط بها من البناء الضخم ذي الطبقتين المشيد بالآجر وارتفاعه مع ما دفن منه إلى اليوم في الأرض خمسة عشر متراً تقريباً فوجدت كثيراً من الغرف مسدوداً أبوابها وغالب الأبنية واقعاً في طرفي الساحة طولاً فإن هناك عدداً من المنتديات والقاعات الفسيحة ذا طبقة واحدة يساوي ارتفاعها ذات الطبقتين كانت في قديم عمرانها مختصة بالدرس العام والبحث والمذاكرة فخرب بعضها اليوم وألم به البلى وفصل مدخل كثير منها عن الساحة الأصلية الكبرى إما بسد بابها القديم أو ببنائه وحول القسم الأكبر إلى إدارة الجمرك وبعضها من الطرف الغربي إلى إدارة النهر السنية وأنبار للفحم المختص بالوابورات السلطانية وبعضها إلى ملاهي قهوات وبعضها إلى مخازن للأمتعة وحوانيت. خرجت من الساحة ودخلت من الطرف الجنوبي إلى ناد منها عظيم طوله خمسون متراً في عرض سبعة عشر تقريباً هو بعض ما ذكرت أن مدخله فصل عن الساحة الأصلية فألفيته كذلك مستودعاً للرزم التجارية. وفي الجانب الغربي الجنوبي وما يقابله من الجانب الشرقي الشمالي نظير ذلك إلا أنه أقل طولاً وعرضاً أما الذي في الجانب الشرقي الشمالي فهو اليوم ملك لبعض أغنياء اليهود وقد كتب له قضاة المسلمين حججاً شرعية بذلك وسلمته إدارة الطابو أوراقاً رسمية بملكيته فحول إلى مغازات جسيمة. أما القسم الفوقي من المدرسة فكثير من غرفه متداع بادي الشقوق مائل الجوانب خاضع

لحكم الدهر المبدل لعزها القديم بالهوان فتألم قلبي لمشاهدة ذلك وفاضت دموعي أسفاً عليه. وسألت أحد الحمالين أن يدلني على السلم الذي يفضي إليه فأجاب أن السلالم منهدمة فلا طريق إلى الصعود إلا ما كان في أعلى الجانب الغربي الجنوبي فإنه تحفظ فيه الحمول الخفيفة المجلوبة من الخارج. فانصرفت وقلبي يكاد ينفطر مثل جدرانه حزناً على ما شاهدته من خراب هذه المدرسة التي كانت في سالف عهدها ملجأً كريماً للعلم وكعبة يطوف بها طالبو الحكمة ودار الفخر للأمة العربية. وطفت بها من الخارج وقست بخطواتي طولها فوجدته 120متراً في عرض ستين تقريباً هذا إذا لم نحسب الحمام الجسيم الذي هو في الجنوب الشرقي منها وقد ألحق بالجمرك حديثاً وكذلك الجامع الذي هو في الشمال الغربي منها قد فصلته اليوم عنها سوق تقضي إلى الجسر فإذا أضفنا ذلك والمظنون أنهما كانا في القديم ملحقين بها زادت جسامة هذا البناء الفخيم. أما النظامية فلا يرى لها اليوم أثر في بغداد والذي يشاهد من قاعدة المنارة غير مختص بها فيما اعتقد إذ لا يناسب ثخنه ما نسمعه عن فخامة ذلك البناء بل هو فيما أظن بقية جامع صغير قد بني على أنقاض تلك واندرس. ثم عدت إلى داري فنظمت قصيدتي هذه: وقفت على المستنصرية باكياً ... ربوعاً بها للعلم أمست خواليا وقفت بها أبكي قديم حياتها ... وأبكي بها الحسنى وأبكي المعاليا وقفت بها أبكي بشعري بناتها ... وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا بكيت بها عهداً مضى في عراصها ... كريماً فليت العهد لم يك ماضيا بكيت بها المدفون في حجراتها ... من العلم حتى بل دمعي ردائيا أكفكف بالأيدي بوادر أدمعي ... ويأبين إلا أن يفضن جواريا وطأطأت رأسي في ذراها تواضعاً ... وحييت بالتسليم منها المغانيا وسرحت أنظاري بها فوجدتها ... بناء لتشييد المعارف عاليا بناءً فخيماً عز للعلم مثله ... فقلت كذا فليبن من كان بانيا وألفيت قسماً قد تداعى جداره ... وقسماً على ما كان من قبل باقيا تهب رياح الصيف في حجراتها ... فتلبسها ثوباً من النقع هاييا

وتسعى على الجدران منها عناكب ... تجد لها فيما تداعى مبانيا فألممت فيها بالروم دوارساً ... وسئلت منهن الطلول بواليا وقلت لدار البحث عظمت محفلاً ... وقلت لنادي الدرس حييت ناديا أكلية العلم الذي كان روضه ... نظيراً كما شاء التقدم ناميا بأية ريحٍ فيك هبت زعازع ... تصوح ذاك الروض فاجتث زاويا بقد كنت فيما قد مضى دار حكمةٍ ... بها الناس يعلم الحقائق ماهيا فكنت بأفق الشرق شمساً مضيئةً ... تشعين نوراً للمعارف زاهيا وكانت بلاد الغرب إذ ذاك في عمى ... تقاسي من الجهل الكثيف الدياجيا فأين رجالٌ فيك كانوا مشائخاً ... إليهم يحث الطالبون النواجيا وكانوا بحاراً للعلوم عميقةً ... وكانوا جبالاً للحلوم رواسيا وكانوا مصابيح الهدى ونجومها ... بهم يهتدي من كان في الليل ساريا يميتون في نشر العلوم نهارهم ... ويحيون في حل العويص اللياليا نواحيك من طلابها اليوم اقفرت ... وكانوا الوفا يملئون النواحيا فقالت وقاك الله لا تسألنني ... فمالك نفع في السؤال ولا ليا فقلت أجيبيني كما كنت سابقاً ... تجيبين من قد جاء للعلم راجيا فقالت ألمت حادثاتٌ عظيمةٌ ... وجرت على هذي البلاد واهيا هناك استبد الدهر بالناس مبدلا ... فرفع مخفوضاً وسفل عاليا هناك اضمحلت دولةٌ عربيةٌ ... بها كانت الأيام ترفع شانيا وعوض عنها دولةٌ ثم دولةٌ ... تسر بكون الجهل في الناس فاشيا وذاك لأن العلم للمرء مرشدٌ ... يعلمه عن حقه أن يحاميا عرت نكبات الدهر بغداد بعدما ... بها ردحا ألقى السلام المراسيا فاذهب ما للعلم من رونق الصبا ... تتابع أحداث يشبن النواصيا وأدنى الذي قد نابها من نوائب ... خرابي ولولاها لما كان دانيا فكابدت منهن الصروف نوازلاً ... وقاسيت منهن الخطوب عواديا وأبدي على عزي القديم إهانتي ... رجال لشخص العلم كانوا أعاديا

وأهملت حتى انهد مني كما ترى ... مبان لنشر العلم عزت مبانيا وصرت على حكم الذين تحرزوا ... من العلم يا هذا إلى ما ترانيا فقد ذوي الغصن الذي كان ناضراً ... وقد عطل الجيد الذي كان حاليا أضاءت قرون بي هي اليوم قد خلت ... فسل إن تشأ عني القرون الخواليا وكنت أرجي أن تعود عمارتي ... إذا بعث الرحمن للعلم راعيا فأملت عمراً ذلك العود باطلاً ... وعشت له دهراً أمني الأمانيا أرجي بها أني ألاقي شبيبتي ... فأيقنت هذا اليوم أن لا تلاقيا لقد نقض الأيام بالعجم مرتي ... ومر الليالي يتبعن اللياليا ورنق عدوان الزمان معيشتي ... فمن لي بأن ألقى الزمان مصافيا ومزقني الباغون كل ممزق ... ولا أحدٌ عن فعل ذلك ناهيا فقد صيروا للفحم بعضي مخزناً ... وبعضي حوانيتاً وبعضي ملاهيا وحطت بساحاتي ابتغاء رسومها ... بضائع للتجار تشقي الأهاليا ولاقيت منهم كل خسف وجفوة ... فماذا عسى من بعد ذا أن ألاقيا أغل فلا أسقى من الماء شربة ... ودجلة تجري بالنمير أماميا فيا ليتني كنت اسمحوت باجمعي ... ولا كان في حالي كذا الذل باديا كما أنه أختي النظامية اسمحت ... ولم يبق من آثارها الدهر باقيا وكل جديد سوف يرجع للبلى ... إذا لم يكن منه له الله واقيا بغداد

العالمون والعاملون

العالمون والعاملون اطلعت في المقتبس على ترجمتكم للأستاذ جول سيمون الفرنسي من فلاسفة هذا القرن فأعجبني تشبيهكم إياه ببعض رجال السياسة في الإسلام ممن أجمعوا بين العلم والعمل أو ممن ترقوا إلى الوزارة من طريق القلم. وقد ذكرتم من هذه الطبقة طائفة صالحة مثل ابن سينا والصاحب بن عباد والقاضي الفاضل ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم ولو استقصيتم لذكرتم في هذه الجملة ابن الأثير وابن العميد بالمشرق وابن خلدون وأبا بكر بن عمار وابن زمرك في المغرب وكثيراً من الرؤساء وإذا وصل الدور إلى زماننا هذا فجودت باشا وأحمد وفيق باشا بل كوجك سعيد باشا الذي تولى رئاسة الوزراء مراراً وهو من مخرجي صناعة القلم بل من مخرجي كتابة الجرائد السيارة. وشاء مترجم إفراد هذه الطبقة بالترجمة لملأت تراجمها المجلدات الكبار من القديم والحديث وهي طبقة تمتاز على غيرها بكونها جمعت بين الإدارة والعلم وقرنت بين الحكم والحكم وإن سياستها في الأغلب مبنية على قواعد العلم مستنيرة بضياء الحكمة ومن سعادة العمران أن يكون الحاكم حكيماً. ولا أريد بذلك تعطيل فضيلة من لم يعرجوا إلى المناصب العالية من طرق الأقلام فإن لهم فضائلهم وإن إدارة الرجال مواهب والعلم علمان غريزي ومكتسب وقد يغني المكتسب عن الغريزي في هذه الأمور لأن الإدارة ترجع إلى العمل والتجربة أكثر مما ترجع إلى العلم والحفظ كما أنه ليس كل من درس وتعلم وركض طرف القلم صالحاً لأن يتولى سياسة الملك وإدارة الجمهور ويخوض غمرات المشاكل لما ذكرنا من كون الإدارة موهبة فطرية تزداد بالتجربة وتزكو بالعمل وإن كل امرئ ميسرٌ لما خلق له. على أنه لو تبارى العالم العامل المجرب والعامل المجرب بدون علم في مضمار إدارة لكان أولهما هو السابق وكان مذهبه هو الأسلم لأنه يضم إلى نور عقله نتائج قرائح الناس ويبني في عمله على أساس ويضيف إلى منطقه المخلوق معه المنطق المدون الذي حفظه عن الكتب فيجمع بين موهبتي النفس والدرس وينظم بين حاشيتي المطبوع والمسموع فيكون طريقه آمن من الخطر وأقرب إلى الهدى ويبقى مكانه في صدور الناس أهيب من مكان المجرب بدون علم ولا أستاذ. وشأن هذين الصنفين أحدهما مع الآخر شأن الطبيب القانوني حائز الشهادة مع المجرب الذي اختبر بعض المسائل بنفسه فربما كان المجرب أنفع علاجاً من القانوني ولكن لا يحمل ذلك على ثقة ولا يبعث على طمأنينة وتكون مهارته محصورة في الأمور

التي جربها بنفسه فقط ويبقى المتطبب على حذر من طبه وقد يلام من يسلم نفسه إليه ولو أصاب ولا يلم من سلم نفسه إلى القانوني ولو أخطأ وهذا كله من مقتضى مقام العلم. كذلك خروج رجال السياسة من رواق طلبة الحكمة وصف حملة الأقلام في الأعم الأغلب أقرب إلى لسلامة من خروجهم من طبقة أخرى انحصر فضلها في التجارب الشخصية ولزم أن يخرج صاحبها خارق العادة في الذكاء وبيضة عصره إدراكاً ومضاءً حتى يكون له من عقله مغن عن الدرس فإن طبقة أهل النظر والعمل معاً هي التي جمعت نوراً على نور وضمت بين وحي الصدور ووحي السطور. وإن ملكة الصين التي فرطت إلى حوض المدنية منذ الآلاف من السنين قد جعلت نظامها من القديم الترقي إلى الإدارة بمعراج الدرس وإن أهم أوضاع مملكتهم هو الامتحان وهو عندهم درجات كلما اجتاز منه الدارس عقبة اعترضته أخرى حتى يجتازها كلها ويكون نيله من مناصب الدولة على قر مضائه في الامتحان ومن كان عندهم أعلى حكمة كان أعلى حكم وإنما سلكت حكومات أوروبا في تعليم رجال الإدارة عل أثرهم وإن كانت طريقة هذا التعليم في أوروبا قد تهذبت وترقت وصارت أقرب إلى الفائدة. فإن الأوروبيين قد جعلوا العلوم فروعاً وأفناناً ورشحوا لكل فن منها طلاباً ليكونوا أقوم عليها من غيرهم وأرسخ فيها من سواهم ومع هذا فلا تزال ترى لرجال القلم المزية الكبرى على غيرهم لأن العلم بلا قلم أشبه بطائر أخص الجناح صاحبه عاجز عن الرقي وإن القلم في كف العالم هو أداة التقدم وجناح النجاح ولهذا تجد أكثر رجال السياسة والإدارة في أوربا ولاسيما في فرنسا هم من حملة الأقلام وكتاب الصحف ورقاة المنابر ويندران يوجد فيهم نابغة أو رجل مشهور إلا وقد سبق له كتابة أو مؤازرة في إحدى الجرائد وذلك أن ثمرات العلم لا تعرف إلا على أسلات الأقلام فمن ظهرت له بينهم آثار فائقة انتخبوه للندوة ثم إن امتاز فيها بين الأقران رفعوه إلى الوزارة سمعاً في إفادة البلاد من معارفه إذ كان العلم على الغالب بالعمل والنظر طريقاً إلى الأثر. أول سيمون مترجمكم في الشهر الماضي فقد عرفته في باريس سنة 1892 وكان ساكناً في ساحة المادلين وقد ذرف على الثمانين وهو يكتب ويحبر ويؤازر في جملة جرائد وكلماته تشترى بالذهب وكم حبر أغلى من تبر والى الآن لا أنسى لذة فصوله القصار في جريدة

الطان فإن كتابته آية في الطلاوة والرقة ومثال في سلامة الذوق وسداد الحكم ولقد كانت الحكمة تتفجر من خلال كلماته وقد يعيد القارئ مطالعة كتاباته المرة على المرة ولا يملها من العذوبة والأدب والعلم والعقل وسبحان من خص من شاء بما شاء. وقد جرت بيني وبينه مباحثات ومراسلات هي عندي من أنفس ذخائر حياتي وكنت أناقشه على بعض أقوال له تتعلق بشريعتنا فإذا أوضحت له الوجه فيها أذعن إلى الحق ولم يكبر ذلك عليه شأن كل عالم كبير لأن العلم إذا خالط النفس صار هو ضالتها وطرد من جواره كل دعوى وصفت تلك النفس لقبول الحقائق وجدير بالبلاد التي يسوس أمورها علماؤها العاملون أن ترقى أعراف الفلاح لأن من أعظم أسباب السعادة أن يكون الفيلسوف والياً أو الوالي فيلسوفاً. بيروت شكيب أرسلان

الخلنج والخلينج

الْخَلَنْجُ وَالْخُلَيْنِجُ (1 تمهيد) طالع بعض القراء الأماثل من البغاددة ما جاء في المقتبس عن فوائد ورق النبات الذي ذكر هناك (ص421) باسم الاريقي. وسألوني هل له اسم في العربية وما هو وهل ذكره شعراء العرب في شعرهم وما هذا النبات وطلبوا مني أن أعرفه تعريفاً مولاً كافياً شافياً على ما جاء به العرب سابقاً والإفرنج في عهدنا هذا فلبيت طلبهم بكتابة السطور التالية (2 تعريف الخلنج على ما نطق به العرب) اسم الاريقي بالعربية هو الخلنج. أما الاريقي فكلمة يونانية قال ابن البيطار في تعريفه: قال أبو عبيد البكري: هذا الاسم يقع عندنا بالأندلس على الشجرة التي يصنع من أصلها فحم الحدادين ويسمى باليونانية اريقي (وبالأصل المطبوع ارتقي وهو من غلط الطبع) لها أغصان طوال مقدار قامة الإنسان ذات هدب أصفر من هدب الطرفاء بين اللدونة والخشونة وزهره صغير إلى الحمرة وفيها غبرة وهي لطيفة في شكل المحجمة في جوفها شعيرات من لوانها في رأس كل شعيرة حبة هينة لطيفة ألطف من حب الخردل فرفيرية اللون قد فرعها واحدة حتى خرجت في وسطها من كمام الزهرة (قلت أنا: وهذا النوع يسمى بالفرنسية أو ومنه صنف آخر أبيض النور إلا أنه ألطف من نور الأول مقداراً والشكل واحد. (زدت أنا: وهذا الذي يصح أن نطلق عليه اسم الخلينج مصغر خلنج تمييزاً له عن الخلنج الأول ويقابله باليونانية لفظة موريقي وهو الذي يطلق عليه بالفرنسية اسم بدون تقييد وبلسان النبات أو وقال في تعريفه داود الحكيم في تذكرته: خلنج شجرة بين صفرة وحمرة يكون بأطراف الهند والصين ورقة كالطرفاء وزهره أحمر وأصفر وأبيض وحبه كالخردل. وقال المجد الفيوز أبادي: الخلنج كسمد: شجر معرب. وزاد في التاج: شجر فارسي معرب (خلنك) يتخذ من خشبه الأواني. وأما صاحب دائرة المعارف فإنه من بعد أن أورد كلام داود الحكيم من تحديد ووصف قال: وقد ذكروا (أي العرب) أنه يصنع من خشبه قصاع قال الشاعر: يطعم الشهد في الجفان ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج وهذا يدل على أنه شجر كبير. وقولهم يكون بأطراف الهند والصين يدل على أنه غير

الذي اصطلح على تسميته مؤخراً بهذا الاسم لأنه معروف في غربي آسيا وفي أوربا كثيراً أنه شجيرات أو نجوم. قلنا أن ابن منظور عند ذكره البيت الآنف إيراده قال:. . . وقيل هو كل جفنة وصحفة وآنية صنعت من خشب ذي طرائق وأساريع موشاة. قلنا: وحينئذ يسقط اعتراض الدائرة على أن كلامها صادق إذا كان من الخلينج لا عن الخلنج لأنني رأيت في بلاد الهند ما يمكن أن يخرط من سوقه أنواع الآنية بدون أدنى مانع. لأن هذا النبات يكون أنجماً وشجيرات تكاد تكون أشجاراً ويبلغ جنسها 400 نوع وموطن أغلبها إفريقية وليس منها في أوربا إلا عشرون وفي آسيا الغربية ثلاثة أو أربعة وفي الهند والصين وفارس نوعان فقط منهما الخلنج الكبير. (3 تعريف الخلنج على ما ذكره العلماء المحدثون وأنواعه) هو جن أصلي لفصيلة الخلنجية أي أنها النبتة ثنائية الفلقة وحيدة أهداب التويج ذكورها سفلية الاندغام وأغلب نباتاتها شجيرات ونجوم جميلة المنظر وأهدابها (وهي أوراقها) متعاقبة في الأغلب ويندر كونها متقابلة أو احاطية وهي بسيطة خالية من الأذينات ونورها مختلف وأجاسها أربعة أشهرها الجنس الأساسي ثم الاندروميدة ثم الاربوتس فالرودندرون. الخ. وأما أثمارها فتكون في خل كثير البزر. وأغلب منابت الخلنج الأرضون الرملية ومن خاصيته النبتية أنه يزيد تراب الأرض التي يجيء فيها ويعلي خصبها ويجعل ذلك التراب من أحسن الأتربة لخفته وقوته ولذلك يعرف بالتراب الخلنجي. أما اختلاف أنواعه فيأتي في العموم من هيئته الخارجية ونظام أنواره وألوانه التي لا تقف عند حد. إلا أن جميع هذه الأنواع تعرف بدوام خضرة أهدابها وطول بقاء أزهارها وخلانج إفريقية هي أجمل وأبهى وأزهى هذه الأنواع وأشدها رغبة للناس وتطلباً لها منهم إلا أنها ألطف قواماً وبقاء وهي تتكاثر بالبزر أو العكيس. (حاشية. العكيس بلسان النباتيين: القضيب من الحبلة يعكس تحت الأرض إلى موضع آخر وقد يطلق على كل قضيب يعكس ولو لم يكن من قضبان الحبلة. قلت وهو المعروف في بعض البلاد بالدرخة عند العوام وبالفرنسية أو التعزيز (حاشية: التعزيز عند علماء النبات

ما يحول من فسيل النخل وغيره قال القتيبي: وسمي بذلك لأنه يحول من موضع إلى موضع فيغرز قلت وهو المعروف في بعض البلاد بالقلم عند العوام. وعند الفرنسيين بكلمة أما أشهر الأنواع المعروفة في هذه البلاد الشرقية فهو الخلنج الأرمد ويعرف بلسان علماء النبات باسم وينبت بكثرة في الحراج ولوفرة أزهاره فهو ينشر بين خضرة تلك الدكادك والألوية أعلاماً وردية ضاربة إلى البنفسجية وهو الذي قال عنه ابن البيطار أن النحل تعمل من زهراتها عسلاً ليس بمحمود. - والخلنج الصادق وهو رأس النوع المسمى بالكلونة ومشهور بتويجه المشقوق. - وخلنج المكانس وهو الذي تتخذ من أغصانه الناعمة المكانس والمنافض الخشنة (المنافض جمع منفض أو منفضة وهي المسماة بالفرشاة أو الفرشة عند البعض والمكانس الاسلامبولية والشامية تسوى من هذا النوع. وفي عدة بلاد تتخذ تلك الأغصان مع الجذور خشباً للوقود وفحمه من أحسن الفحم. ومن أنواعه الأجنبية الخلنج ذو الأزهار الكبيرة وهو يكثر في البلاد الرأس من إفريقية ويبلغ علوه متراً ونصف متر ونوره أحمر برتقالي أو أحمر سقلاطوني. ومن تلك الأنواع الخلنج القاروري وتكون أزهاره على هيئة قوارير ولونها على بياض مؤطرة بحمرة. (4خواصه الطبية) قال داود الحكيم: هو حار يابس في الثانية قد جرب دهنه لإزالة الإعياء والضربان والنقرس عن برد. ونشارته إذا غسل بها البدن فعلت ذلك ومثقال من بزره بالعسل يحفظ القلب من السم والأكل في أوانيه ينفع الخفقان. وقال ابن البيطار: إذا تضمد بزهرتها أو ورقها أبرأت نهش الهوام. وقال جالينوس في 6وقوة هذا النبات قابضة محللة لا لذع معها وأكثر ما يستعمل منه ورده وورقه فقط. وقال الشريف: زهره له قوة حارة يابسة في الثانية وإذا جمع زهره ووضع في الدهن وشمس ثلاثة أسابيع ودهن به نفع من الإعياء ومن أوجاع المفاصل ومن النقرس البارد السبب. وفي دائرة المعارف: اشتهر بتفتيت الحصا وشفاء القولنجات واستعمل منقوع أزهاره في شفاء القوباء وقيل إذا تكمد بالأزهار نفعت من النقرس. وقد تستعمل في الحمامات البخارية كذلك وقيل أيضاً أنها تنفع من حمى الربع. (5وروده في أشعار العرب) جاء في الأغاني 17: 167 قال الزبير: حدثني عمي مصعب أن عبيد الله بن قيس كان عند عبد الملك فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت

فقال عبد الملك: يا ابن قيس أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها: ملكُ يطعم الطعام ويسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج فقال لا. أين يا أمير المؤمنين لو طرحت عساسك هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه فضحك عبد الملك. ثم قال: قاتلك الله يا ابن قيس فإنك تأبى إلا كرماً ووفاءً. قلت وقد اختلفت الروايات في إيراد البيت المذكور ففي الأغاني هذه الرواية. وفي دائرة المعارف الرواية التي ذكرناها في صدر هذه المقالة. وكذلك جاء في محيط المحيط. وأما رواية التاج فهي: تلبس الجيش بالجيوش وتسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج وإليك الآن رواية اللسان: يلبس الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج وفي مادة ب خ ت من التاج: إن يعش مصعب فإنا بخير ... قد أتانا من عيشنا ما نرجي يهب الألف والخيول ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج وممن ذكر الخلنج من الشعراء هميان ابن قحافة. فقد قال: حتى إذا ما قضت الحوائجا ... وملأت ساحلاً بها الخلانجا منها وثموا الأوطب النواشجا (عن اللسان) فهذا بحث علمي أدبي لغوي طبي من قديم وحديث عساه يكون كنزاً للطالب والله الموفق إلى السداد بغدادأحد قراء المقتبس

الضبط

الضبط جاء في تاج العروس أن الأضبط هو الذي يعمل بيديه جميعاً ويقال ضبط الرجل بالكسر يضبط وهي ضبطاء. وفي الحديث سئل النبي (ص) عن الأضبط فقال الذي يعمل بيساره كما يعمل بيمينه وكذلك كل عامل بعمل بيديه جميعاً وهو الذي يقال له أعسر يسر فإن عمل بالشمال خاصة فهو أعسر بين العسر وهي عسراء وقد عسرت بالفتح عسراً بالتحريك ويقال رجل أعسر وامرأة عسراء إذا كانت قوتهما في أشملهما ويعمل كل واحد منهما بشماله ما يعمله غيره بيمينه. ويقال للمرأة عسراء يسرة إذا كانت تعمل بيديها جميعاً ولا يقال أعسر أيسر ولا عسراء يسراء للأنثى وعلى هذا كلام العرب. والعسران جمع أعسر يقال ليس شيءٌ أشد رمياً من الأعسر ومنه حديث الزهري كان يدعم على عسرائه العسراء تأنيث الأعسر اليد العسراء ويحتمل أنه كان أعسر. وبعد فقد قرأنا في مجلة الطبيعة فصلاً تحت هذا العنوان فآثرنا تحصيله قالت: أنشئت في لندرا منذ مدة جمعية لنشر عادة العسر واليسر يقضي على أعضائها أن يدعوا الأولاد والبالغين إلى استعمال كلتا اليدين يعلمونهم ذلك بالمثل ويدربونهم عليه بالقدوة والعادة. ونحن لا نعلم لم لا ينتفع باليد اليمنى كالانتفاع باليد اليسرى على حد سواء على حين ليس هناك عائق يعوق عن ذلك فترى الرجل أو المرأة في عدة صنائع يستعملان باختيارهما إحدى اليدين من دون مشقة. وترى الضاربين بالأرغن يحذقون الضرب باليمنى واليسرى على غرار واحد. وإن كانت اليمنى تترجم عن الجزء المبهم من أنغام هذه الآلة. وضارب الكمنجة يمر أصابع يده اليسرى على درجة من السرعة لا تصدق فيمسك الآلة باليسرى ويستعمل قوس الكمنجة باليمنى. ويتوصل من يستعملون آلة الداكتيلوغراف أن يضعوا على مصفهم حروفاً باليدين متى مهروا في عملهم. ويقال مثل ذلك في صنائع وأعمال أخرى تكون فيها اليد اليسرى بالضرورة أقدر على العمل من اليد اليمنى وينتفع بكليهما معاً على حد سواء. الناس في الغالب أياسر بمعنى أنك تجد في المائة أعسرين أو ثلاثة عسران وتجد 97 أو 98 أيسر وتكاد تجد فيهم الأضبط على الندر. واستعمال اليمنى قديم العهد جداً ولا يستعمل المرء كلتا يديه بالطبع بل قد سبق إليه بالدريج ولبعض أسباب. وإنا إذا فحصنا هياكل عظام القدماء نرى بالبحث فيها فروقاً في الطول والثخانة بين الذراعين واليدين مما يستدل منه على أن الناس كانوا في أوائل عهد الإنسانية يستعملون الذراع اليمنى أكثر من اليسرى

فزادت كثرة استعمالها في قوتها ومقاومتها للمصاعب ونمتها نمواً. وسواءٌ ورثنا عن أجدادنا أو بالتطبع عادة استعمال اليمنى إيثاراً لها على اليسرى فإن هذا الأمر طبيعي. وإذا سألت عن السبب الذي من أجله كان الإنسان في أوائل العهد الأول أيسر فالجواب عليه أنه نشأ على ذلك بحكم الوراثة فقد عرفت أسرة كان أبوها أعسر ولم تكن الأم كذلك وربما كانت تستعمل يسراها متابعة له فجاء ابنها أعسر. ويرى السير جايمس ساويرا أحد كبار دعاة الجمعية المشار إليها أن الإنسان لا يستعمل كلتا يديه بقطرته وإن استعمال اليمنى من القديم نشأ من عادة استعمال السلاح ونشأ في العهد الحديث من عادة الكتابة. ومن يعلم كيف كان الرجل الأول الذي رسم خطوطاً على الحجر أو على ورق البردي بإحدى يديه. ومن الواضح أن المرء بالتمرين توصل إلى استعمال اليمنى كما يستعمل اليسرى. ومجذوموا الذراع اليمنى من الأدلة في هذا الباب. ولكن إذا نظر المرء إلى الكتابة باليسرى يتجلى له بأنه قريب من كتابة المرآة. عرفت أضبط وكان جراحاً مشهوراً في باريس وهو الدكتور كوسكو كان يجري العمليات باليسرى واليمنى معاً ولا يهمه حال المريض من هذه الوجهة وهو على منضدة العملية. فيخرج بياضة العين (كتاراكت) بكلتا يديه على حد سواء من المهارة. وكان حاذقاً في جراحته حذقه في الموسيقى والنقش والرسم ومع هذا لم أره يكتب وصفة بيده اليسرى. وقد حاول الأستاذ مركيل الألماني أن يجلو هذا الأشكال ومن رأيه أن ليس في انتخاب إحدى اليدين صدفة وإلا لكنت ترى عند بعض الشعوب جيوشاً من العسران بدلاً من الأياسر وليس هما غير العادة والتعليم اللذين جعلا عادة استعمال اليمنى وسلسلاها فينا حتى انتهت إلينا على هذا النحو.

النهضة الأميركية

النهضة الأميركية من مبحث في المجلة الجديدة الفرنسية بورتوريكو هي الجزيرة الرابعة من جزائر الأرخبيل بمساحتها السطحية والأولى بكثرة السكان فإن فيها 85 ساكناً في كل كيلو متر مربع على حين لا يبلغ معدل السكان في سائر جزائر الأرخبيل 18 نسمة في كل كيلو متر مربع وهذه الجزيرة من الخصب والأمراع بحيث يجود فيها السكر والتبغ والقهوة وتأتي بغلات وافرة. وهي على خلاف جزيرة كوبا التي لها طرق لا تسلكها الخطا ولا تهتدي إليها القطا. وتقفط بورتوريكو على قطري أسباب الحياة وهي أنموذجات الجزائر ومثال العمران في البلدان إذ لها كثير من الطرق المرصوفة الموصلة بين أمهات مدنها كما تجمع السلسلة فرائد العقد. كل هذه الصفات في كوبا وما خصت به من المرافئ الأمينة اللائقة لإجراء التمرينات البحرية قد أهابت بمطامع الأمريكان أن يستولوا عليها ويطردوا منها الإسبانيين وحجتهم أن ثمانية أعشار مقايضات الجزيرة وتجارتها هي مع الولايات المتحدة. ولما غلبت إسبانيا سنة 1898 كان من نتائج معاهدة باريس أن ضمنت للولايات المتحدة الأخذ بمخنق تلك الجزيرة الغناء ولم ينتطح عنزان في استيلائها عليها لأنه لم يكن في سكانها من يطالب بالحرية والاستقلال بل قد انصرفوا جملة إلى الأعمال الزراعية وتخلوا عما وراء ذلك من مطالب الحياة الاجتماعية فراحت الولايات المتحدة تنظمها بنظامها وتؤدبها بآدابها أكثر من تنظيم جزائر الفليبين حيث كان سكان هذه يقاومون لنيل الاستقلال النوعي فتحول هذه المطالبة دون إجراء ما تريد أميركا عمله في هذه الجزر. وظهرت في كوبا قوة أميركا الاستعمارية وإبداعها في طريقة الفتح والاغتناء وقد منحتها بعد شيئاً من الحكم حفظت فيه حقوقها فكانت كما قالت جريدة الطان الباريسية أشبه بأثينا أيام معاهدتها البحرية الأولى في القرن الخامس أو رومية بفتوحاتها - نواة من الحرية يحيط بها موكب من الرعايا والعبيد. وسنة 1903 ثار سكان برزخ بنما مطالبين بالاستقلال فإن الثلاث والخمسين ثورة وفتنة ومذبحة التي حدثت في البلاد منذ سبع وخمسين سنة كانت دون تلك الثورة بأهميتها في نظر العالم فساعدتها الولايات المتحدة في الانفصال عن كولومبيا. وقد عني رئيس الجمهورية بأمر هذا الاستقلال ليتسنى لأمته أن تشيد برزخاً يجمع بين البحرين المحيطين

وتكون فيه صاحبة النفوذ الأول فأبانت الولايات المتحدة هذه المرة بأنها تدوس الحق بأقدامها إذا كان فيه إسقاط نفوذها. ومن ألقى رائد الطرف في أحوال الولايات المتحدة في القرن الماضي لا يعتم أن يسجل بأن هذه الحكومة سارت كل هذه المدة ولم تفشل لها راية ولم تسقط لها كلمة بل كانت بفضل المحافظة على مبدأ مونرو صاحبة الراية العليا والكلمة الفاصلة من الأرجنتين إلى البرازيل وشيلي ومن بيرو إلى كولومبيا وفنزويلا ومن سان دومينيك إلى المكسيك مارة بكوبا فتداخلت في شؤون تلك الحكومات كافة مباشرة أو بالواسطة وإرادتها على العمل بإرادتها حتى حق أن يقال أنه لم تطر ذبابة لم تشعر بها حكومة واشنطون في أنحاء تلك القارة. ولقد هدد ألمانيا القائد ديوي أحد رجال الولايات المتحدة بالحرب لأن بعض سفنها قامت بتمرينات في جزيرة مارغريتا على شاطئ فنزويلا سنة 1901 وكان أملها أن تقيم لها فيها محطة للفحم وزاد في استيلاء الولايات المتحدة مهاجرة ربع مليون من الجنس التوتوني الجرماني إلى جنوبي بلاد برازيل. وقد كادت الحرب تنتشب بين إنكلترا وأميركا على مسائل فنزويلا ثم انحل الأشكال صلحاً بعد أن توعد رجال أميركا إنكلترا بانفصال كندا عن نفوذها إذا هي ظلت على عنادها كما سقطت إسبانيا وهي العدوة القديمة لأميركا من حالة مجدها واضطرت إلى الإذعان للقوة. أما روسيا فتخلت عن آخر ما لها في تلك القارة الأميركية لقاء بضعة ملايين من الدولارات وقد اقترح على فرنسا أن تتخلى عن جزائر المارتينيك والكوادولوب وتبيعها بيع الرضى لا بيع غبن. أما إنكلترا وألمانيا وإيطاليا فقد عاد لهن بعض نفوذهن في فنزويلا. وهكذا تجد القارة الأمريكية وفيها نحو عشرين أمة صغيرة كلها طوع أمر الولايات المتحدة. فقد كانت المكسيك ولا تزال تحمى بمبدأ مونرو وأخذت منها التكساس. وكندا مؤتلفة مع الأميركان وهؤلاء يركنون إليها. وبورتوريكو أضيفت إليهم وانتيل الدانمرك وسان دومينيك كادا يباعان لها وكوبا أصبحت أميركية وبنما وكولومبيا وفنزويلا وكل أواسط أميركا لا تعمل إلا بالروح التي تبعثها فيها دار ندوة واشنطون. وقد سكتت برازيل في مسألة آكر المهمة وشيلي والأرجنتين وبيرو وجمهورية خط الاستواء يعترفن بمبدأ مونرو على درجات مختلفة. ولطالما أدى الحسد المتأصل بين برازيل والأرجنتين وشيلي إلى إهراق الدماء ولذلك كان

بعضهم يقول أن النهضة الأميركية غير ثابتة الأساس والخطر محيق بها وأن نتائج تلك النهضة مجهولة وأن الحوادث أثبتت أن الولايات المتحدة لم تنظر في كل أحوالها إلا لمصلحتها الخاصة وأن نهضتها قامت بالقوة والحرب ومع هذا فلا يخطر ببال أن أميركا تود أن تضم إليها العالم الجديد برمته بل تريد المحافظة على الحالة الحاضرة عاملة في كل شؤونها بمبدأ مونرو الشريف المبني على قاعدة فسيولوجية. ومن نتائج هذه النهضة أر رقيت الولايات المتحدة أرقى درجات العمران فكانت صادراتها سنة 1871 خمسمائة مليون فرنك فبلغت سنة 1900 - 2300 مليون هذا مع أن جانباً كبيراً من غلاتها يصرف في البلاد. وكانت معاملها سنة 1900 - 415ر490 معملاً تصنع ما قيمته 65 ملياراً من المصنوعات. وللولايات المتحدة المقام الأول بحاصلاتها الزراعية فإنها بلغت خمسة عشر ملياراً ونصف مليار من الفرنكات. وتحتاج أوربا مسانهة إلى 480 مليون هكتو لتر من الحنطة تستغل أكثرها وتبقى محتاجة إلى 134 مليون من الخارج تقدم أميركا منها 25 إلى 60 مليون هكتو لتر بعد أن تقوم غلات البلاد بحاجات سكانها. وقد زاد عدد سكان المدن الكبرى على نسبة غريبة فكان سكان فرنسيسكو سنة 1850 - 800ر34 فبلغوا في أيامنا 000ر350 وكان سكان بنتيمور 169 ألفاً فصاروا 625 ألفاً وسكان فلادلفيا 340 ألفاً فبلغوا مليوناً وربع مليون. وزادت نفوس شيكاغو من 963ر129 إلى 000ر008ر1. وكان لهذا الارتقاء الاقتصادي الذي لم يسمع بمثله يدٌ كبرى لأصحاب المليارات من رجال الأموال والغنى الواسع في تلك البلاد ممن أوجدوا فيها ضرباً من ضروب الملك في الأعمال والأموال إلا وهم قادة الاحتكار من التجار مثل كارنجي وفندربلت ومورغان فكانوا ملوك الأرض حقاً وقياصرة الناس بلا مراء من أجل هذا لما رحل مورغان إلى جزيرة كوبا عنيت الحكومة بأمر الطرق التي مر قطاره الخاص فيها عناية فائقة وقد قابله إمبراطور ألمانيا أحسن مقابلة وخافت بورصة مدينة نيويورك وأزعجت لزكام دماغي طفيف أصابه عرضاً منذ بضع سنين. ضاقت أميركا بما رحبت بهؤلاء الأغنياء فلم يجدوا لأموالهم مصارف في بلادهم حتى قام في أفكارهم أن يبعثوا البعوث من مواليهم وخدامهم يلتمسون في عرض البحور والبرور

مناهل يردونها وخزائن يوزعون فيها كنوز أموالهم. وأنت ترى بهذا أن النهضة الأميركية كالنهضة الإنكليزية قائمة على أساس اقتصادي مغموس بحب المصلحة حتى قال أحدهم: أن سياسة التوسع الأميركية ليست في الحقيقة إلا مثالاً من أمثلة الأنانية المتوحشة التي تمليها المطامع والآمال المستحكمة في عقول شعب وجه جميع قواه الحية نحو تنمية الثروة والعروض المادية أحسن تنمية والأخذ بضبع الراحة والتبسط في مناحي الرفاهية والسعادة. ومعلوم أن التجارة تابعة للعلم فحيثما خفق علم دولة تتحسن تجارة أبنائها. والروح الأميركية معجونة بالكبرياء طامعة بالغلبة والاستيلاء مطبوعة على الحماس والإدلال بالقوة التي تنبهت وسلكت مسلكها الطبيعي العادي بفضل مبدأ مونرو. قال الفيلسوف اميرسون الأمريكي أن الروح العامة حاضرة في كل شيء لا تعمل فيه إلا للخير والحسن ويكفي أن يقوم كل منا على قدم الصدق بما خلق له حتى تسود الألفة في العالم. وقد اتخذ هذا الحكيم المرء صورة رمزية وأكد عليه أن يعتقد بفكره ويثق بقوته ويعجب بنفسه. وهذه هي القاعدة المطردة التي انصبغ بها أبناء الأميركان وطبعوا نفوسهم عليها. ولذا أصبح كل تغلب عند الأميركان جهاداً مقدساً كما كان قديماً عند المسلمين ونفذت النهضة في عظم الأمة وجبل عليا لحمها. زادت حركة الأفكار في العالم أواخر القرن التاسع عشر فأنشأت الأمم تجتهد في اظبان ملكاتها وما انطوت عليه من الرغبات والآراء. ويقال أنهم يحاذرن ارتباطاً هائلاً ينبغي لكل منها أن تتوقاه. فكانت نتيجة ذلك عند الأمم القوية اتخاذ سياسة عدائية في توطيد السلطة ونشر الكلمة وهذا هو معنى النهضة التي تجد أثراً من آثارها في روسيا وألمانيا وتراها على أشدها في إنكلترا والولايات المتحدة أما الأمم الضعيفة فكانت النتيجة عندها أن دافعت عن حوزتها بحد المرهفات ووقفت أبداً على رد الغارات والهجمات وهذه هي الوطنية. فإيطاليا وفرنسا خصوصاً قد أحستا بهذا النفوذ والمبدأ الذي جمعت فيه الولايات المتحدة بين الهجوم والدفاع وعاشت في ظله طامحة أن تجمع في البيت الأبيض (قصر رئيس جمهوريتها) زمام حكم العالم على نحو ما كانت رومية قديماً تجمع في قصر قياصرتها. هو مبدأ مونرو القائل أميركا للأميركيين بل أميركا لكان الشمال من أهلها فصح والأمر على ما ذكر أن تقول بعده العالم للولايات المتحدة كلمة رددتها صحفهم في الحرب

الإسبانية منذ بضع سنين وجهروا بأن نابليون على ما اشتهر عنه من القوة والمضاء قد جبن عن اكتساح أميركا وإدارة دفة مطامعه نحوها. ومن العبث أن يقال أن أمة ولو كان زعيمها قيصراً أو الاسكندر تفتح العالم اليوم بعد أن بلغ الثمانية أو العشرة شعوب في الأرض ما بلغوه من التمدن والتبسط في مناحي الارتقاء وأن ينقسم العالم كما كان على عهد الرومانيين إلى ولايات وقنصليات. ولو وقف الأمر عند هذه الحال لكان الخطر على العالم قليلاً من النهضة الأميركية لكن الولايات المتحدة لا تفتأ عند مسيس الحاجة أن تطيل يد التعدي على خصيماتها من الأمم وتستلب منها ما تريده من مرافئ ومراقب وقلاع ترصد بها طرق تجارة العالم. وأخذ مانيلا هو أول خطوة في هذا السبيل الطويل. أما فتحت إنكلترا على هذا النحو جبل طارق ومالطة والسويس وكلكتا وملبورن ورأس الرجاء الصالح؟ أما أميركا فتطمح إلى أن تجعل لها مقاماً في شؤون سياسة العالم لاعتقادها بعلو كعبها وفضل تقدمها على نحو ما فعلت النمسا قديماً في أوربا وكما كان شأن فرنسا عندما نجحت سياسة ريشيليو ومازارين. وبعد أن صرح الرئيس روزفلت عام 1903 بأن للولايات المتحدة حق التقدم الاقتصادي على البحر المحيط ومنه على العالم عاد يقول في السنة التالية من الخطأ أن يعتقد معتقد بأن أمته ظامئة إلى الفتح والاستعمار فإنه ما من أمة تخشى بأس الولايات المتحدة إذا حافظت على الراحة وقامت بوظائفها وأبانت أنها تحسن العمل في المواد السياسية والصناعية ولكن سوء الاستعمال البربري الدائم والضعف الناتج من التراخي في عامة صلات مجمع متمدن هو مما يؤدي إلى تداخل أمة متمدنة. قال هذا وهو الدليل على ما تكنه صدور تلك الأمة من المرامي البعيدة. وتداخل أميركا في شؤون يهود رومانيا ونصارى أرمينية ويهود كيشنيف بحجة الإنسانية أثر من آثار التجارب الأولى التي تريد القيام بها لتجس نبض العالم وتقدر مبلغ قوتها. وهذا تحين للفرص ما جرى مثله لألمانيا القديمة والنمسا وإسبانيا وفرنسا أيام العزة والقوة. جرت إنكلترا على حرية المقايضة في التجارة فكان لها التقدم في أسواق التجارة في العالم أما فرنسا فقد مشت على طريقة التعريفتين في تقاضي المكوس والجمارك منذ سنة 1892 وفي تلك السنة مشت ألمانيا على طريقة حماية التجارة على نسق أشد من نسق فرنسا وسنة 1899 رفعت إيطاليا تعرفة جماركها وسنة 1899 عملت إسبانيا كذلك وسنة 1898

قامت بمثل ذلك نروج وروسيا وفعلت السويد مثل هذا الفعل سنة 1892 والبلجيك سنة 1900 وبرازيل والمكسيك وكندا سنة 1897 والأرجنتين واليابان سنة 1899 والهند الإنكليزية سنة 1896. وكذلك كان شأن إنكلترا فإنها أخفت مقاصدها من حماية تجارتها بحجة تقاضي رسوم أميرية من الجعة والخمور. أما الولايات المتحدة فإنها تتطلب كسائر الشعوب بل أكثر من كل الشعوب امتداد سلطتها مع حماية تجارتها والحماية فيها أبداً على أمتنها بفضل مبدأ مونرو حتى فاقت في هذه الطريقة أمم العالم قاطبة. الباقي للآتي

جوائز نوبل

جوائز نوبل يردد كل سنة اسم نوبل في الصحف ولعل كثيراً من القراء لا يعرفون من هو وما هي جوائزه فنوبل رجل أسوجي عظيم من أهل القرن الماضي خدم الإنسانية في حياته وبعد مماته خدمة يدونها له التاريخ ولم يكن من كبار العلماء ولكنه كان من كبار العاملين والمخترعين من أرباب الصنائع. هو الفرد نوبل الكيماوي ولد في استوكهلم عاصمة السويد سنة 1833 ومات سنة 1896. ذهب مع والده وكان مهندساً إلى بلاد الروس لإقامة معمل للنسافات في ثغر كرونستاد واشترك مع أخيه في استثمار مناجم البترول في باكو ولئن أخفق والده في الأولى فقد أفلح أخوه في الثانية. ولكن الفرد لم يرقه هذا فعاد إلى عاصمة بلاده يدرس الكيمياء فدرسها في ثلاث سنين. وقد حاول إدخال النيتروغليسيرين في المواد المنفجرة فانفجر معمله كما انفجرت معامل أخرى عملت مثل عمله في ألمانيا وأميركا حتى إذا ارتأت الحكومات أن تمنع استعمال هذه المادة وقع في نفسه سنة 1867 أن يخفف من تأثيرها فمزجها بمادة أخرى السيليس أمورف أو الصوان المنتثر فتم له بذلك اختراع الديناميت وهي المادة المعروفة في نسف الصخور والمقالع وغيرها وحل الديناميت محل معظم المواد المنفجرة واستعيض به عن غيره في المناجم وإملاء القذائف وغيرها ولم يلبث أن صار للديناميت نحو عشرين معملاً في بلاد أوربا وأميركا الشمالية وله فيها اليوم مئات. واخترع الفرد نوبل البارود بلا دخان وأقام له عدة معامل في أوربا وقام بأعمال صناعية مهمة وأبحاث عملية نفعت العلم والصناعة. هذا هو نوبل ونشأته على وجه الإيجاز ومن هنا جاءه المال ودرت عليه أخلاف السعادة وإذا كان سمحاً جواداً للغاية ولاسيما على ما فيه إنهاض شأن العلم العملي النافع دفع من ماله نصف ما اقتضى لحملة اندرى الرحالة الذي ذهب لاكتشاف القطب الشمالي. ولما حانت منيته أوصى بالقسم الأعظم من ثروته وقدرها خمسون مليون فرنك أن تجعل منها كل سنة خمس جوائز توزع على أهل العلم والصناعة وقدر كل جائزة ثلاثمائة ألف فرنك الثلاث الأولى لثلاثة رجال من أي الملل والنحل إحداهما لمن يكتشف أو يصلح أهم مسألة في الطبيعيات والثانية لمن يكتشف أحسن اكتشاف في الكيمياء والثالثة لمن يوفق لأحسن عمل أو اختراع في علم النفس أو فن الطب والرابعة تعطى لمن يؤلف أحسن كتاب في الآداب والخامسة لمن يعمل عملاً نافعاً لإلقاء بذور الإخاء بين أبناء البشر من مثل تنقيص

عدد الجيوش العاملة أو فضها إن أمكن أو تأليف مؤتمرات للسلم. وقد عهد أن تتولى المجامع العلمية في بلاده توزيع الجوائز الأربع الأولى ووكل أمر الخامسة لمجلس نواب السويد لأنها سياسية أكثر منها علمية. وقد نال هذه الجوائز حتى الآن كثيرون من رجال العلم والاختراع والآداب والسياسة من أمم الغرب وكانت هذه السنة من حظ المسيو هنري مواسان الفرنسي فإنه نال جائزة الكيمياء لأنه مخترع الأفران الكهربائية المستعملة في تسييح المعادن. ونال جائزة الطبيعيات المستر جون طومسون الإنكليزي المتوفر على درس الكهربائية التحليلية والحسابية والمكتشف لأسرار عظيمة فيها. ونال جائزة الطب كل من المسيو سانتياغورامون الإسباني والمسيو كاميل كولجي الإيطالي وهما من أعظم المشتغلين بالأمراض العصبية وقد ظهرت لهما حقائق كانت من قبل غير معروفة. ونال جائزة الآداب المسيو جاردوسي الإيطالي المتفاني في خدمة أمته من طريق التآلف الأدبية والقصصية. ونال جائزة السلام المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة لأنه سعى فعقد الصلح بين الروس واليابانيين في السنة الماضية. فليتأمل أغنياؤنا ومن اعتادوا أن يوصلوا بعد موتهم في عمل نوبل ولينظر علماؤنا أن صح أن يسموا علماء.

إمارة الأفغان

إمارة الأفغان نشر الدكتور هاميلتون طبيب أمير الأفغان سابقاً مقالة في مجلة المجلات الإنكليزية وصف فيها حال هذه الإمارة قال فيها: مركز أفغانستان خطير من حيث علاقتها بالهند فهي في أواسط آسيا واقعة بين أملاك إنكلترا وروسيا يحدها من الشمال نهر الأكسوس وتركستان الروسية ومن الجنوب بلاد الهند ومن الغرب إيران ومن الشرق جبال البامير مستقلة في شؤونها استقلالاً تاماً وهي خمس أميالات كبرى كابل وهرات وقندهار وأفغان تركستان وبادكشان ومقاطعتان وهما كفرستان وآخان وتبلغ مساحتها السطحية ثلاثمائة ألف ميل مربع وسكانها زهاء ستة ملايين نسمة ويختلف دخل حكومتها من مليون جنيه إلى مليونين. وجيشها أيام السلم مائة وخمسون ألفاً. ولما شاع سنة 1809 أن نابليون الأول والإمبراطور إسكندر الأول أزمعا أن يهاجما الهند بادرت إنكلترا إلى إنفاذ سفير إلى حاكم كابل فعقد محالفة مع حاكمها شان شوجاء ولما دفعت روسيا حكومة إيران سنة 1836 إلى الاستيلاء على هرات رأت بريطانيا أن الحكمة تقضي بتجديد المحالفة مع حاكم الأفغان وكان إذ ذاك دوست محمد في دست الإمارة وذلك لتكون الأفغان حاجزاً في الشمال الغربي من الهند يحول دون المطامع الروسية وإذ كان نفوذ روسيا يزداد استحكاماً في كابل انفصمت عرى تلك المحالفة فسيرت إنكلترا حملة على كابل سنة 1838 لتقليص ظل روسيا من تلك الحاضرة ودامت الحرب الأفغانية الأولى من هذه السنة إلى سنة 1842 واحتلت كابل وقندهار وأعاد الإنكليز إلى سرير الإمارة شاه شوجاء ثم خلعوه ونصبوا دوست محمد وبعد ذلك انجلى الجيش الإنكليزي. وفي سنة 1855 عقدت محالفة بين بريطانيا وأفغانستان وفرضت الأولى للثانية مليون روبية إتاوة سنوية وأن تقيم لها سفيراً في كابل. وتوفي دوست محمد سنة 1863 فحدث بين أخلافه فتن أهلية على الإمارة دامت خمس سنين ثم تمت الغلبة لشير علي فبعث إنكلترا إليه بالذخائر الحربية ولما طلب إليها أن تعترف لأبنه عبد الله بولاية العهد أبت عليه ذلك فنادى به خليفته من بعده على الرغم منها واذرأت إنكلترا جفاء منه احتلت كويتا سنة 1876 فلم يسعه إلا أن يلجأ إلى روسيا وبقي معاهدها ومشاكساً لإنكلترا. فسيرت عليه هذه حملة ثانية احتلت قندهار وهرب شير علي وقضى نحبه عقيب ذلك وتولى بعده يعقوب خان الإمارة أربعة أشهر فحدثت الحرب الأفغانية الثالثة سنة 1879.

وانتخب أمراء القبائل الأمير عبد الرحمن سنة 1880 حاكماً لأفغان واشتغل لأول أمره بإطفاء الفتن الداخلية ثلاث سنين. ولما تفرغ لتنظيم الجيش أمدته إنكلترا بستين ألف جنيه لتعزيز الحدود من جهة روسيا وبعشرين ألف بندقية من الطراز الحديث وبكثير من المدافع والذخائر فتعهد لها بأن يكون أبداً وقفاً على كل خدمة تطلبها إليه. ثم أخذ ينظم الجيش على الطريقة الجديدة فزادت إنكلترا أتاوته إلى نحو مائة ألف جنيه فأنشأ المعامل ودور الصناعة وأخذ يصنع العدد ويحشد العدد وكان ينوي أن يجيش حين الحاجة مليون جندي. والتفت إلى الإدارة فنظمها ومع أنه وضع القوانين الإدارية وعمل بها لم يدخل تعديلاً في قانون الجنايات ولم يبطل الفظائع التي يعامل بها الجناة وغيرهم من مثل وضع الجاني في فوهة المدفع وإطلاقه عليه ووضع اللصوص أو غيرهم في مكان عال منعزل عن الناس حتى يموتوا صبراً كما فعل الأمير عبد الرحمن بأحد الموظفين لما قال أن روسيا ستزحف على أفغانستان فأنفذه الأمير إلى جبل شاهق قائلاً ستمكث هناك ريثما يزحف الروس. وكاد يخشى من تكدير صفو العلائق بين الأمير عبد الرحمن وحكومة إنكلترا لو لم يعالجه الموت فخلفه ابنه حبيب الله وكان تمرن في زمن والده على تولي الشؤون وحافظ على تقاليد أبيه ومنازعه السياسية مع الهند والاحتفاظ باستقلاله فارتأت أن تدفع إليه حكومة الهند المتأخر من الإتاوة وهي أربعمائة ألف جنيه وأن تهيئ له السبل لاستجلاب السلاح من الخارج ولإنكلترا مطالب تريد الآن نيلها من الأمير مثل إنشاء خطوط حديدية وأسلاك برقية تربط عاصمة الإمارة الأفغانية ببلاد الهند. أما الأمير الحالي فلا يماثل والده في الذكاء ونفوذ البصيرة ومن أخلاقه أنه رأى ذات يوم عقرباً في حذائه فأمر حافظ ثيابه أن يلبسه لأنه ضيق ليتسع فلبسه فلدغته العقرب فعاقبه بذلك على إهماله. ومن الإصلاحات التي أتاها الأمير الحالي إلغاء بعض الضرائب وتحسين طريقة الجباية وقد أذن للتجار أن يقترضوا من الحكومة مالاً ينتفعون به في متاجرهم بدلاً من أن يقترضوا من المرابين بربا فاحش. وأذن لجميع رؤساء القبائل وكانوا نزحوا من البلاد خوفاً من أبيه أن يرجعوا إلى بلادهم وألف مجلساً من أعاظم الموظفين وجمعية تبحث في القوانين الملكية أعضاؤها ينتخبون من قواد الأسرة المالكة ومن الخانات نواب الأمة ومن

الموالي أي العلماء وينظر الأمير في أمور الإدارة والقضاء جميع أيام الأسبوع ويقضي الجمعة في العبادة والراحة والأحد في التفتيش. والسلطة في يد العلماء وأكثر سكان البلاد من أهل السنة.

صحف منسية

صحف منسية رأي الجاحظ في التعريب قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له أن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه ودقائق اختصاراته وخفيات حدوده ولا يقدر أن يوفيها حقوقها ويؤدي الأمانة فيها ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على المجرى وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه. فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق وابن ناعمة وأبو قرة وابن فهر وابن وهيلي وابن المقفع مثل ارسطا طاليس ومتى كان خالد مثل أفلاطون ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيها سواء وغاية. ومتى وجدناه أيضاً قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليها لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكنه إذا انفرد بالواحدة وإنما له قوة واحدة فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق والعلماء به أقل كان أشد على المترجم وأجدر أن يخطئ فيه ولن تجد مترجماً يفي بواحد من هؤلاء العلماء هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله عز وجل. نصيحة الجاحظ للمؤلف ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتبه غفلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه فتوقف عد فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب ويتفهم معنى قول الشاعر إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلج بهم عيٌ وإكثار

ويقف عند قولهم في المثل كل مجر في الخلاء يسر فيخاف أن يعتريه ما اعترى من أجرى فرسه وحده أو خلا بعمله عند فقد خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته ليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه فأشاع فيه الحرارة فزاد في غضبه فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار. وكذلك صاحب القلم فما أكثر من يبتدي الكتاب وهو يريد مقدار سطرين ويكتب عشرة والحفظ مع الإقلال أمكن وهو مع الإكثار أبعد. واعلم أن العاقل إن لم يكن بالمتتبع فكثيراً ما يعتريه من ولده أن يحسن في عينه منه المقبح في عين غيره فليعلم أن لفظه أقرب نسباً منه من ابنه وحركته أمس به رحماً من ولده لأن حركته شيءٌ أحدثه من نفسه وبداءته من عين جوهره فصلت ومن نفسه كانت وإنما الولد كالمخطة يتمخطها والنخامة يقذفها. ولا سواء إحراجك من جزئك شيئاً لم يكن منك وإظهارك حركة لم تكن حتى كانت منك. ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره وفتنة بكلامه وكتبه فوق فتنته بجميع نعمته. وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه حتى لا يحتاج السامع لما فيه من الروية ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به ن ألفاظ السفلة والحشوة ويحطه من غريب الأعراب ووحشي الكلام وليس له أن يهذبه جداً وينقحه ويصفيه ويروقه حتى لا ينطق إلا بلب اللب وباللفظ الذي قد حذف فصوله وتعرفه وأسقط زوائده حتى عاد خالصاً لا شوب فيه فإنه إن فعل ذلك لم يفهم عنه إلا بأن يجدد لهم إفهاماً مراراً وتكراراً لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام وصارت أفهامهم لا تزيد عن عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره وفي كتاب اقليدس كلام يدور وهو عربي وقد صفي ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه ولا يمكن أن يفهمه من يريد تعليمه لأنه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر وتعود للفظ المنطقي الذي استخرج من جميع الكلام.

التربية والتعليم

التربية والتعليم انتظام الأوقات من مقالة للدكتور تولوز نشرت في الجورنال من بورك له بساعات عمره لا يقضيها إلا في النافع ولا يبارك له فيها إلا إذا عرف فيمتها ولم يؤخر عمل اليوم للغد. فإن التسويف والإرجاء من الآفات التي تضيع فيها الأعمار سدى. وكم ارجأ ناس عملاً اقتضى عليهم أن يقوموا بأعبائه لساعته فضاعت الشهور بل السنون ولم يتمكنوا من معاودته. ومن الفتيان الأغمار من يذهبون إلى أن تمام الحرية الخلاص من كل قيد وسلطة ونزع كل ربقة من الرقبة يعدون ذلك غاية الغايات في السعادة وما أضمن الطرق لسعادة المرء ونجاحه إلا أن يلزم نفسه قاعدة لا يتعداها في عمله مهما جاءت قاسية عليه بادئ الرأي. والتوقيت في المدارس وساعات الصفوف والدروس هو من أحسن القواعد التي تنشئ التلميذ على حب النظام وإلا لرغب عما لا يحبه من الدروس إلى ما يحبه وفي ذلك يضيع عليه فوائد من اعلم. كما تقدم الطالب في سني الدراسة قلت عنايته بتحديد معلوماته فيقل حفظه ويكثر فكره وبهذا ترى الطالب لا يستقر في ذهنه إلا ما استظهره في سنيه الأولى من الكتاب أو المدرسة الابتدائية. وسببه ما كان يقضى عليه مراعاته من التوقيت والتحديد ودوران اليد العليا فوق رأسه. ولكل صناعة قواعد خاصة بها. وهيهات أن تستقيم أعمال إدارة إلا إذا روعيت فيها هذه القواعد كل المراعاة. فإن أحب الناس المخازن الكبرى فذلك لأن كل من فيها من المستخدمين يدققون في تعاطي وظائفهم. ولقد أجمع العالم على الاعتراف بأن مشروعاً تجارياً هو أرقى في شؤونه من إدارة عامة إذ يحاول القائمون بأعباء ذاك المشروع أن يرضوا زبنهم ما أمكن ففي البيوت التجارية يجيبون على الرسائل يوم وصولها والبريد هو المهيمن على الرؤساء والموظفين. أما في الإدارات فإن الرسائل تطرح جانباً وتظل أياماً طويلة في قماطر الكتاب دون أن يجاب عليها ولا يسأل أحدهم عنها مسؤولية فعلية. ولا يكفي اعتراف النفس بالواجب ليحسن المرء القيام به بل أن التصديق على عمل العامل ضروري في كل فرع من فروع الأعمال وإذا ترك العامل في أي شركة أو إدارة كانت ولم

تراقب أعماله بعمل في عشر سنين ما كانت الشركة تعمله في سنة. ومن اللازم اللازب تمشية القواعد على الكبار قبل الصغار وإلا ساءت الحال. وبحق ما يذهب إليه العقلاء من أنه يعد من سيئات النظام الاجتماعي أن يعفى الكبراء من كل قيد ويرهق الصغار بأثقال القيود والقواعد فلقد حدث عن ذلك كثير من الأدواء الحاضرة. ومما يصاب به ضعاف القلوب والإرادة أن يكونوا أحراراً في أعمالهم. ولقد عرفت موظفاً كان مثال الغيرة والمواظبة على العمل أيام كان في وظائف صغيرة فلما تدرج في المناسب وعد في مصاف الرؤساء أصيب بالانحلال في كل أعماله وصار يمشي مع هواه غير مراقب لأمس واليوم حساباً. ولعل بعضهم يعترض على كلامي هذا ويقول أن هذا الموظف كان منحطاً في أخلاقه أما أنا فلا أجيب من يلومونه إلا بأنهم كانوا يسيرون كما سار لو صاروا إلى مثل ما صار إليه. وإني لأرثي لحال من يقول أن منصبي حسن وعملي سهل وأنا حر لا يراقبني مراقب فلا يد فوق يدي ولا إرادة تحول دون إرادتي إذ القائل ذلك هو حقاً عبد نفسه وأهوائه ورذائله. ومما طوح بإمبراطرة الرومان فأفرطوا في الشهوات واسترسلوا في الموبقات أنهم كانوا يتمتعون بسلطة كبرى ولو حرم نيرون الظالم ما كان حصل له من السلطة لعاش ولا جرم عيش الأشراف بلا دبدبة بعيداً عن المفاسد والشرور. وإني لموقن بأن القواعد التي تصد من يعمل بها عن الوفاء هي التي تسهل أمامه عقبات الأشغال وتجعلها في عينه هينة لينة. ومتى يا هذا حتمت على نفسك أن تنام كل ليلة الساعة العاشرة تشعر من نفسك بعد اعتيادك ذلك بغاية الانبساط الحقيقي. لا يتأتى بلا قاعدة لأسرع الناس على العمل أن يقوم بأسباب حياته على ما ينبغي فيتعب أبداً في تنكبه العمل الذي لا يروقه إلى ما يروقه. من أجل هذا رأينا العاملين من الناس يبطئون في الجواب على الرسائل الواردة إليهم ونرى بعضهم لا يتسع لهم الوقت للمطالعة اللازمة وآخرين لا يعبئون بالأمور الخارجية. وكل ذلك فيه ما فيه من الأسباب المضرة في المجتمع. فالقاعدة النافعة هي التي تنادي العامل بها: ها قد آن وقت المراسلات. ها قد آن لك أن تكتسب معارف جديدة. ها قد حق عليك أن تزور أصحابك وتغشى خاصتك. وأرى أن السير على مقياس الزمن (كرونومتر) يصعب على المتفننين وعلى كل من يستهويهم الشعور ويسيرون بحسب الإحساس ولكني على يقين من أنه لا شيء أجدى نفعاً

في العلم والسياسة من التوقيت والانتظام. هذه القاعدة واجبة حتماً على كل امرئ في العالم ولكنها أشد جواباً على ضعاف الإرادة والمترددين في نياتهم وأعمالهم ممن يقتضي أن يكون لهم أبداً وصي أو مسيطر ينفخ فيهم الروح التي بها يعملون. ولقد عالجت أحدهم بلغ به الضيق أن انقطع عن كل عمل فصرت أصف له كل يوم كيف يسير وكيف يقطع النهر ويصعد الشارع المؤدي إلى ساحة المريخ ويدخل المخزن الفلاني ويبتاع ربطة لرقبته ويذهب إلى محل التمثيل يشهد رواية ويبقى في مكانه إلى انتهاء المشهد فنجح علاجي وانتهى ضعفه وصار بعد يؤقت لنفسه ولا يجري على هوى إرادته.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كتاب الحيوان تقدم لنا في صدر هذا الجزء أن للجاحظ كتاباً كثيرة في معظم العلوم. وكتابه الحيوان هو أم كتبه ومن أحسن ما خط بنانه بدليل أن كثيراً من العلماء فيما مضى خدموه وعنوا به فالأديب منهم اقتصر على ما ورد فيه من الفوائد الأدبية واللغوية والعالم جرده من الأدبيات واقتصر فيه على العمليات وممن اختصره عبد اللطيف البغدادي العالم الحكيم المشهور والقاضي السعيد بن سناء الملك الشاعر المصري المشهور وسمى المختصر روح الحيوان وقد قال فيه صاحب وفيات الأعيان: ومن أحسن تصانيفه وأمتعها كتاب الحيوان فلقد جمع فيه كل غريب وكذلك كتاب البيان والتبيين ضبع البيان والتبيين منذ بضع سنين إلا أن نفوس العالمين والمتأدبين ما برحت مشتاقة للانتفاع أيضاً من كتاب الحيوان الذي ورد ذكره على كل لسان واشتهر أمره على كر الدهور والأزمان. وقد أحياه بالطبع هذه الآونة الفاضل محمد أفندي السامي المغربي فطبع منه إلى الآن أربعة أجزاء وبقي منه ثلاثة وذلك على نسخة مخطوطة في دار الكتب الخديوية مقابلاً على نسخة في مكتبة الأزهر وذلك بحرف واضح وشكل بديع وورق جيد مثل جميع ما طبع حتى الآن. وأنا لا تحضرنا عبارة في بيان فضل هذا الكتاب فإن ما صدر منه لم نتمكن من مطالعته كله ولو طالعناه مرة ما اكتفينا به لأن كلام الجاحظ كلما كرر حلا وحسن به النفع. الكتاب تتمثل في كل صفحة من صفحاته عقل الجاحظ وفضل علمه وسعة مداركه واطلاعه في فنون الأدب والشعر ولو اعتمدته المدارس في دهرنا لتدريس فن الأدب لجاء من قارئيه ومتدارسيه كتاب يعيدون العربية إلى سابق حياتها والأدب إلى نضرته المعروف بها في عصور الحضارة الإسلامية الأولى. وكنا نود لابتهاجنا بإحياء كتب الجاحظ اليوم أن نخص هذا الجزء برمته بالكلام على الجاحظ ومصنفاته بالتفصيل لولا أن رأينا أننا لو وقفنا على ذلك مجلد سنة ما وفيناه ووفيناها ما يجب من الإفاضة ولذلك فإنا نتقدم إلى كل أديب ومحب للمطالعة أن لا يخلي خزانة كتبه من كتاب للجاحظ وإن كتبه إذا جمعت كلها لتغني عن عشرات من المجلدات في الأدب والتاريخ والشعر والعلم.

ويا حبذا لو وفق الطابع الموما إليه إلى تصحيح الأصل على عدة نسخ فإن منه نسخاً مخطوطة في بعض مكاتب الأستانة. ولو صرفت العناية إلى ضبط بعض حركاته وشرح العويص من معانيه ومفرداته لزاد النفع بالكتاب. وكيفما كانت الحال فإنه يحمد قصد الطابع مادام يبذل المجهود وسيجيء يوم يعيد طبعه على هذا الوضع والطبع ولكن ببعض الشكل والتدقيق في التصحيح. كتاب البخلاء أهدانا الطابع المنوه به هذا الكتاب النفيس من مؤلفات الجاحظ أيضاً وهو السفر الذي جمع فيه من قصص البخلاء ونوادرهم واستقصى في ذلك بحيث لم يترك لهم شاردة إلا ألم بها وإن تردادها ليمكن الفصاحة من النفس ويسري عنها همومها فقد نقرأ بعض نوادرهم وتستغرب في الضحك أي استغراب ولا تكاد تأتي على آخر الكتاب حتى يقنعك الجاحظ ببلاغته بأن البخل من أحسن الأخلاق فلله ما يفعل البيان. وهو في مائتي صفحة منصفة الحجم. مجموع رسائل الجاحظ هي أيضاً من مطبوعات حضرة السامي أفندي الموما إليه الأولى في الحاسد والمحسود والثانية في مناقب الترك وعامة جند الخلافة والثالثة في فخر السودان على البيضان والرابعة في التربيع والتدوير والخامسة في تفضيل النطق على الصمت والسادسة في مدح التجار وذم عمل السلطان والسابعة في العشق والنساء والثامنة في الوكلاء والتاسعة في استنجاز الوعد والعاشرة في بيان مذاهب الشيعة والحادية عشرة طبقات المغنين. وقد وقعت كلها في 190 صفحة منصفة القطع جيدة الطبع وتطلب من طابعها بمصر. المحاسن والأضداد طبع الأديب محمد أمين أفندي الخانجي وشركاؤه هذا الكتاب النافع للجاحظ أيضاً على أجمل شكل وأحسن طبع. وقد عني بتصحيحه وقراءته على الأستاذ اللغوي الشيخ أحمد ابن الأمين الشنقيطي وحرر جميع الأبيات الواردة في الكتاب بالشكل الكامل وهو في 256 صفحة. وموضوع الكتاب يعرف من اسمه فإن الجاحظ يصف لك محاسن الدهاء والحيل حتى تكاد تذعن ثم يأتيك بضد ذلك ويصف لك محاسن وفاء النساء وضده ومحاسن مكرهن

ومساوئ مكرهن وهكذا كلما قرأت الشيء يخيل لك أن الأمر تم ولم يبق كلام لقائل فيجئك الجاحظ بأسلوبه المدهش ومادته الغزيرة بضد الفصل الذي سبق لك ويتلاعب بالألفاظ والمعاني. والكتاب يطلب من طابعه بمصر. ترجمة المستظرف أهدانا حضرة المسيو را من علماء المشرقيات من الفرنسيين نسخة من ترجمته الفرنسية لكتاب المستظرف في كل فن مستطرف لمؤلفه شهاب الدين أحمد الابشيهي من أهل القرن التاسع للهجرة وكان من المعلمين في مصر. والمستظرف من الكتب المعتمدة كثيراً عند أهل العلم من المشارفة ولذلك فلما تجد لمؤلفه ترجمة تدل على فضله ولكن المترجم المشار إليه نقله إلى لغته حباً بإحياء فوائده بين أهلها فجاء في مجلدين وقعا في زهاء ألف وستمائة صفحة كبيرة يكاد لا يخرج عن الأصل في ترجمتها ولو أدى به ذلك إلى بعض تحريف لا يذكر في جنب الحسنات التي أتاها في ترجمته وهو يطلب من مؤلفه الفاضل في طولون. وقد بعث إلينا العالم المنوه به كراسة في نقد الترجمات الفرنسية والطبعات التي ظهرت بالعربية من كتاب ألف ليلة وليلة يقول فيها أنه شرع في نقلها إلى الفرنسية طبق الأصل الصحيح فنثني على غيرته وثباته وفضله بما هو أهله. مجلة العالم الإسلامي 28 انتهى إلينا العدد الأول من هذه المجلة الحديثة التي تصدرها باللغة الفرنسية في باريس البعثة العلمية المراكشية وبعبارة أوضح جماعة من علماء المشرقيات من الفرنسيين. والغرض الذي ترمي إليه هذه المجلة البحث في تاريخ النظام الاجتماعي في العالم الإسلامي وحاله الحاضرة أي تنتقل أبداً من الكلام على ماضي الإسلام إلى حاضره وتلم بحركة الحوادث والأفكار وتبين الوجهة للمستقبل. وهي لا تدخل في غمار السياسة فلا تخدم سياسة خاصة بل تجعل وكدها في خدمة ذاك التمدن الإسلامي الذي هب من رقدته وأخذ ينادي من عليكرة إلى فازان ومن زنجبار إلى خربين بالدعوة إلى العلم والمعارف

والتهذيب والتعليم والتربية والمدارس. قالت أن تأسيس جامع في خربين لا يحتقر أمره كما لا يحتقر إنشاء مدرسة إسلامية للبنات في جوهانسبورغ. وقالت أنه يسهل ائتلاف الأمم بعضها مع بعض متى زالت الأوهام من بينهم فإنها سبب سوء التفاهم وإنه يسهل التئام الشرق مع الغرب أو الإفرنج مع المسلمين إذا تعارفوا حق المعرفة. وقد تلونا فيها عدة أبحاث ممتعة منها تعليم المسلمين الابتدائي في الجزائر والحركة السياسية في الهند ومفكرات على الإسلام في الهند الصينية الفرنسية ومنها مقالة علي آغا خان في الهند فأخرى على العجم والدستور فثانية في اليابان والإسلام ثم أخبار متفرقة عن جميع البلاد الإسلامية وباباً خاصاً بما كتب عن الإسلام والمسلمين من الأسفار والرسائل. وإنا لنرحب بهذه المجلة النافعة ونود أن تظل على الخطة التي رسمتها لنفسها فلا يكون للسياسة إلى أبحاثها سبيل. والسياسة ما دخلت في أمر إلا وأفسدته. ونحث كل من يفهم الفرنسية في هذه الديار أن يبادر إلى الاشتراك بها فهي من أنفع ما يكتب عن أهل الإسلام في تلك الديار وقيمة اشتراكها خارج فرنسا 35 فرنكاً. فنثني على القائمين بهذا المشروع النافع أجمل الثناء ونسأل لهم التوفيق إلى ما يقصدون إليه من خير البشر والسعي في النافع العلمية العامة جزاهم الله خيراً. نادي اللغات الشرقية البلجيكي بعث إلينا العالم المستشرق المسيو راول بوانتو في بروكسل رئيس مجمع اللغات الشرقية في البلجيك كراسين ذكر فيهما مادار من الخطب بين أعضاء المجمع في السنتين الماضيتين الأولى لتأسيس مدرسة في البلجيك لتعليم اللغة الصينية حباً بنشر تجارتها في مملكة ابن السماء والثانية لتأسيس مدرسة لتعليم اللغة الفارسية وقد أسست أيضاً فمما قاله الرئيس المشار إليه إن ما قامت به البلجيك اليوم من تأسيس مدارس لتعليم اللغات الآسيوية ليس بالأمر الجديد فإن الدول الغربية التي كان لها صلات مع الشرق شعرت بوجوب تعلم لغاته منذ القديم ولذلك أسست لها مدارس خاصة فأقامت النمسا سنة 1753 على عهد ماري تريز مدرسة للغات الشرقية في فينا وما كانت الغاية منها تخريج القناصل والوكلاء السياسيين بل تخريج التجار العارفين فعاد ذلك عليها بمنافع عظيمة. وكذلك فعلت فرنسا

فأسست مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس سنة 1795 افتتحت منها فوائد سياسية وتجارية وأنشأ بسمارك في برلين مدرسة لمثل هذا الغرض سنة 1887 وكذلك روسيا أنشأت مدرسة عالية لتعليم اللغات الشرقية في بطرسبرج وذلك ما عدا المجامع العلمية الشرقية في موسكو وفلاديفوستك. وحذت البلجيك هذا الحذو وهي تنشئ هذه السنة مدرسة لتعليم اللغة العربية. بارك الله بكل من يخدم العلم تحت أي ستار ولأي غرض كان. خمس رسائل نادرة طبع الأديب النشيط الشيخ عبد المجيد زكريا على نفقته خمس رسائل لأربعة من كبار رجال العلم الأقدمين وحملة لواء الشريعة والدين. اثنتان منها لشيخ الإسلام ابن تيمية إحداهما في شرح حديث أبي ذر والأخرى فتواه في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف وما المراد بهذه السبعة وهاتان الرسالتان هما كسائر ما كتبه شيخ الإسلام من الكتب والرسائل والفتاوى النافعة. والثالثة كتاب الأدب الصغير لابن المقفع منقولة عن المقتبس. والرابعة في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للحافظ الذهبي وهي مفيدة جداً في بابها فما قاله فيها: وقد كتبت في مصنفي الميزان عدداً كبيراً من الثقات الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك ومازال يمر بي الرجل التبت وفيه مقال من لا يعبأ به ولو فتحنا هذا الباث على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة فبعض الصحابة كفر بعضهم بتأويل ما والله يرضى عن الكل ويغفر لهم فما هم بمعصومين. قال وهكذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعناً ويعامل الرجل بالعدل والقسط. فأما الصحابة فبساطهم مطويٌ وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم أحد من الغلط لكنه غلط نادر لا يضر أبداً إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى. وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمداً ولكن لهم غلط وأوها فمن ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضاً ونقلا حديثه وعمل به على تردد بين الأئمة الإثبات في الاحتجاج عمن هذا نعته. . . ومن فحش خطأه وكثر تفرده لم يحتج بحديثه ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين ويوجد ذلك

في صغار التابعين فمن بعدهم. وأما أصحاب التابعين فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطه وغلظ تخبيطه فترك حديثه. وهكذا أورد مشاهير المحدثين وذكر عن كل فرد منهم بإيجاز ما قيل فيه. وحبذا لو صرفت العناية إلى إحياء كتب الجاحظ الذهبي في هذه الديار فإنها كلها عقود منظومة نافعة ولا نذكر أنه طبع له سوى ثلاثة كتب جليلة الأول تذكرة الحفاظ طبع في حيدر آباد الدكن من الأصقاع الهندية والثاني كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال طبع في الهند أيضاً والثالث المشتبه في أسماء الرجال طبع في ليدن. وحبذا يوم يطبع كتابه تاريخ الإسلام. والرسالة الخامسة رسالة في حكمة الله تبارك وتعالى في خلق العالم وخصوصاً الإنسان وتكليف الناس للعبادات وهي لحجة الحق عمر الخيام. وهذه الرسالة فيما نحسب أول ما طبع بالعربية لهذا الفيلسوف الشرقي الكبير الذي ترجم ديوانه الفارسي إلى الإنكليزية فأقامت معانيه أدباء الإفرنج وأقعدتهم وأحلوا محل الاعتبار العظيم لعلو فلسفته ما أحلوا شعر حافظ الشيرازي وأبي العلاء المعري عندما ترجم إلى لغاتهم. ولما لم يشتهر الخيام بين قراء العربية رأينا أن ننقل الترجمة الموجزة التي ذكرها له صاحب تراجم الحكماء وما لا يدرك كله لا يترك كله. قال القفطي في الخيام: أمام خراسان. وعلامة الزمان. يعلم علم يونان. ويحث على طلب الديان. بتطهير الحركات البدنية: لتنزيه النفس الإنسانية. ويأمر بالتزام السياسة المدنية. حسب القواعد اليونانية. وقد وقف متأخرو المتصوفة مع شيء من ظواهر شعره فنقلوه إلى طريقتهم. وتحاضروا بها في مجالساتهم وخلوتهم. وبواطنها حيات للشريعة لواسع (في الأصل لوامع) ومجامع للأغلال (لعله الإصلاح) جوامع. ولما قدح أهل زمانه في دينه. وأظهروا ما أسره من مكنونة. خشي على دمه. وأمسك من عنان لسانه وقلمه. وحج متأقاة لا تقية. وأبدى أسراراً من السرائر غير نقية. ولما حصل ببغداد سعى إليه أهل طريقته في العلم القديم. فسد دونهم الباب سد النادم لا سد النديم. ورجع من جده. إلى بلده يروح إلى محل العبادة ويغدو ويكتم أسراره ولابد أن تبدو. وكان عديم القرين في علم النجوم والحكمة. وبه يضرب المثل في هذه الأنواع لو رزق العصمة. وله شعر طائر تظهر خفياته على خوافيه. ويكدر عرف قصده كدر خافية فمنه: إذا رضيت نفسي بميسور بلغة ... يحصلها بالكاد كفي وساعدي

أمنت تصاريف الحوادث كلها ... فكن يا زماني موعدي أو مواعدي أليس قضى الأفلاك في دورها بأن ... تعيد إلى نحس جميع المساعد فيا نفس صبراً في مقيلك إنما ... تخر ذراه بأنقاض القواعد والرسالة جيدة الطبع والورق وتطلب من مؤلفها في دمشق ومن المكاتب الشهيرة في القاهرة بثلاثة قروش أميرية فنحث على اقتنائها.

سير العلم

سير العلم مالية القطر المصري نشرت الحكومة المصرية ميزانيتها الجديدة عن سنة 1907 المقبلة فكانت الإيرادات 14. 740. 000 جنيه مصري والمصروفات العادية والخصوصية 14. 240. 000 ج. م ومما جاء فيها أن القطر المصري بلاد زراعية محضة تابعة لأحوال النيل والنيل نفسه تابع للأحوال الجوية التي لا يمكن معرفتها قبل وقوعها ثم أن أسعار محصولات القطر المهمة تتوقف على الأخذ والعطاء في أسواق العالم وأن حاجة مصر ماسة أبداً إلى صرف مبالغ عظيمة على المشاريع ذات الإيراد كالري والسكك الحديد وأعمال المواني ففي كل البلاد الأخرى تقوم الحكومة بهذه المصاريف بقروض تعقدها ولكن هذه الطريقة تصادف صعوبات كبيرة إذا أريد اتباعها في القطر المصري بالنظر إلى الأحوال الخصوصية الموجودة فيها هذه البلاد. ولقد تم بناء خزان أسوان بمبلغ جسيم جداً ورغم هذه الصعوبات لم يتيسر صرف أموال أخرى على المشاريع المفيدة إلا بتكوين مال احتياطي جمع بصعوبة من سنة إلى أخرى من زيادة الإيرادات عن المصروفات ومع أن مقدار هذا المال يبلغ اسماً نحو تسعة ملايين ج. م في الوقت الحاضر إلا أن معظمه مخصص لأعمال ضرورية سيتم إجراؤها في السنين المقبلة. وكان الوارد من البضائع سنة 1906_23. 700. 000 ج. م ومن النقود 8. 200. 000 ج. م والصادر في نفس هذه السنة 23. 800. 000 ج. م من البضائع و2. 100. 000 ج. م من النقود وكان الوارد سنة 1900_14. 112. 370 ج. م من البضائع و4. 114. 612 من النقود والصادر من البضائع 17. 12. 370 ج. م ومن النقود 2. 602. 790 ج. م ولجودة محصول القطن زادت قيمة الواردات هذه السنة بمعدل 10 في المائة تقريباً عن واردات سنة 1905 وكان لجميع فروع تجارة الوارد تقريباً نصيب من هذا التقدم الحسن ولكن التقدم الأهم كان في نوع المعادن والآلات وكان ارتفاع أسعار الأقطان مع زيادة المحصول سبباً في ربح القطر خمسة أو ستة ملايين زيادة عن السنة السالفة. وكان موسم القطن سنة 1906_67. 500. 000 قنطار على حين كان سنة 1897_6. 543. 128 على وجه التقريب.

وقدرت مصروفات نظارة المعارف العمومية لسنة 1907_457. 351 ج. م منهم المصروفات الاعتيادية 374. 000 ج. م يقابلها 169. 300 ج. م سنة 1906 فتكون الزيادة الظاهرية 204700 ج. م منها 160. 000 ج. م ناشئة عن درج مصروفات المدارس الأهلية والكتاتيب لأول مرة في ميزانية المعارف و11200 ج. م ناشئة عن إلحاق (الورش) الصناعية بنظارة المعارف فتكون الزيادة الحقيقية 32. 500 ومنحت نظارة المعارف اعتمادات خصوصية بمبلغ 83. 350 ج. م لإتمام إنشاء بعض المدارس في العاصمة وبعض مدن الأقاليم وتقرر من سنة 1907 فصاعداً أن تضاف جميع إيرادات المعارف العمومية إلى إيرادات الحكومة العمومية وتقوم الحكومة في نظير ذلك بجميع مصروفات المدارس. والكتاتيب الموضوعة تحت مراقبتها. وبقي الخراج الذي يدفع للدولة العليا وقدره 665041 ج. م كما كان عليه وكذلك الإعانة السنوية التي تصرف للسودان وقدرها 379. 763 ج. م وقد بقي من المال الاحتياطي الذي تحت تصرف الحكومة 10. 800. 000 ج. م. هجرة الأوربيين ألف المسيو ريني كونار من علماء فرنسا كتاباً في الهجرة عند الأوربيين في القرن التاسع عشر بحث فيه فيما إذا كانت الهجرة دليل صحة الأمة أو سقمها ومما استنتجه أن الأقطار التي يخفق عليها العلم البريطاني لا تبقى كلها على شكل واحد إرثاً لإنكلترا أو أبنائها إن لم يكن من الوجهة السياسية فمن الوجهة الاستعمارية. ذلك لأن عدد المواليد يقل في الجنس الإنكليزي السكسوني ولأن سائر الأمم الأوربية أخذت ترغب في الهجرة كثيراً وتنازع هذا الجنس فيها. . قال إن هجرة الألمان خفت عن ذي قبل وأن التولد قل في ألمانيا أو أوشك أن يقل وأنها ستصبح بعد أن كانت بلاداً زراعية زمناً طويلاً يتناسل أبناؤها كثيراً ويكثرون من المهاجرة بلاداً كثيفة السكان ضعيفة الهجرة وإن إيطاليا وهي فقيرة بما لها غنية بكثرة مواليدها سيكون لها فضل التقدم على جميع الأمم الأوربية بكثرة النازحين منها والمتولدين فيها فتؤسس لذلك ممالك ومستعمرات وتحكمها ولكن بدون أن يخفق عليها العلم الإيطالي. الخطوط الحديدية تحت الأرض

رأت حكومة نيويورك أن تؤلف لجنة للبحث في تركيب الهواء في الأنفاق التي تسير فيها الخطوط الحديدية تحت الأرض وتنظر في درجة الحرارة والرطوبة والروائح المنبعثة منها والجراثيم الخاصة بها لأنه ثبت أنه ينال بعض الركاب أخطار صحية من السير تحت الأرض وقد تبين لهذه اللجنة أن الحرارة مرتفعة تحت الأرض أكثر من سطحها وربما كانت فاحشة الارتفاع وأن ما يتخلل تلك الأنفاق من الهواء بواسطة الدهاليز والأدراج لا يكفي لدفع الأخطار ويضر بصحة الركاب وأنه من اللازم إقامة منافذ للهواء تحت الأرض ليتخللها بواسطة آلات تستعمل للتروح وقد عددت مضار الأنفاق وعللتها ورأت أن تطهر الخطوط وما يحيط بها في الأنفاق وأن تزال منها كل مادة تلقى فيها ويرفع منها الغبار وأن يغمس بالملاط جزءٌ عظيم منها إن أمكن. مقاومة البعوض هجمت جيوش البعوض على جزيرة ستاتين ايلاد على مقربة من نيويورك فأذاقت السكان أنواع العذاب والأمراض وبعد أن نظر رجال الصحة في الأمر رأوا أنه متولد من بطائح كثيرة كانت هناك فأخذوا في تجفيفها وشرعت الحكومة تنفق عليها فخفت وطأته ثم حذت هذا الحذو كثير من ولايات أمريكا الشمالية فأسفر تجفيف البطائح وردمها عن نتائج حسنة قال الدكتور دوتي إذا توفرت جميع الولايات المتحدة على مثل هذا العمل يصبح البعوض لا أثر له في أميركا إلا إذا ورد في بعض الكتب على سبيل الحكاية والرواية. العصر الجليدي تخوفت بعض الصحف العلمية مما يؤكده بعضهم من أن العصر الجليدي قد آن وقته بحيث تصبح بعض البقاع الصالحة الآن لسكنى البشر غير صالحة لذلك دفعة واحدة. إذ ثبت في النصف الأول من القرن التاسع عشر أن أصقاعاً من الأرض كان ينحسر الثلج عنها مدة من السنة فأصبحت اليوم في نفس تلك المدة تعمم بالثلج من يناير إلى ديسمبر ويعلو بضعة أقدام فغدت المناطق الباردة تتقدم وتضم إليها أرضاً من المناطق الحارة فما هو إلا بضعة قرون حتى ينقص سطح الأرض الصالحة لسكنى البشر فيقضي على الولايات المتحدة أن تجد لها ملجأً في أمريكا الجنوبية كما يقضي مثل ذلك على كثير من الممالك الباردة. وقد ادعى العلماء القائلون بذلك أن دعواهم مبنية على حسابات مدققة لا مرية فيها.

تطبيب النباتات أسسوا في ظاهر مدينة واشنطن مستشفى لمداواة الأشجار وتخليصها مما يطرأ عليها من الأدواء والعاهات مثل الكرمة والبطاطا والدردار والصفصاف والزهور كالقرنفل ونحوه. ذلك لأن عند القوم مستشفيات للإنسان والحيوان فليس من الإنصاف أن يحرم النبات من مستشفيات أيضاً وسيعنى القائمون بأمر المستشفى الجديد بدراسة أحسن طرق الوقاية وأنفع الأدوية في هذا الباب. ورجال العلم يعلقون على ما سيجري فيه من التجارب آمالاً كبيرة. اكتشاف مدينة ابتاع المسيو وهيتاكر نزيل جزيرة صقلية جزيرة سان بانتاليون وهي موضع مدينة فينيقية قديمة غابت عن الأنظار منذ إعصار ولم يعد يظهر منها غير رؤوس أبراجها وقد بدءوا يحفرونها وعلماء الآثار تتلمظ شفاههم مذ الآن ويؤكدون أنهم سيعثرون فيها على عاديات نافعة لهم. التصوير عن بعد أثبت المسيو كورن أنه وفق إلى أخذ الصور الشمسية عن بعد وذلك عقيب أن صرف أربع سنين في البحث عن ذلك فاخترع آلات تنقل في عشرين دقيقة إلى أي مسافة كانت زجاجة الصورة الشمسية بواسطة الأسلاك البرقية والتلفونية. الجنون والعمل رأى أحد علماء الروس أن أحسن طريقة للتخلص من الجنون إذا وجد في أحد من الأسرة فكان في المرء استعداد له أن يعمد إلى العمل ولا ينقطع عنه بتة وبذلك يحفظ صحته ولا يأخذه قانون الوراثة فيصاب بما أصيب به أحد آبائه أو أمهاته قال أن من عادتهم البطالة لا يصابون بالجنون بل أن الجنون يعرو العقول إذا كان أربابها يألفون البطالة فينمو بذلك فيهم كسل القوى ويكون منه الجنون لا محالة. الأسلاك البحرية بلغ طول الأسلاك البحرية في العالم أجمع 45 ألف كيلو متر منها ستون في المائة لإنكلترا و18 في المائة للولايات المتحدة وتسعة في المائة لفرنسا وستة ونصف في المائة لألمانيا

وما زالت تكثر هذه الأسلاك كما تكثر الخطوط البرقية. الجامعات تكلم أحد علماء الأمريكان على الجامعات في الأرض مثل الجامعة الأمريكية والجرمانية والجامعة السلافية والجامعة الإسلامية والجامعة البوذية والجامعة اليونانية وغيرها ونظر في كل جامعة على حدتها ودل على طريقة قيامها وانتقدها وأشار إلى ما ترمي إليه وإلى إمكان نجاحها وقال أن الجامعة بين أمة هي كالشجرة تنبت فيها على الدوام أغصان جديدة فلا يبعد بعد هذا إذا قامت جامعة لاتينية وجامعة مسيحية وجامعة أوربية. نبات يتنبأ مازال علم الطوارئ الجوية قاصراً عن الإحاطة بتقلباتها على كثرة ما أحدث من المراصد في أنحاء العالم. فمن المتعذر اليوم أن نقول متى تطرأ وكيف تطرأ الظواهر الفلانية على أرضنا ولا يمكن معرفتها قبل وقوعها. وقد اكتشف عرضاً أحد علماء الأحداث الجوية في النمسا المسيو نوفاك اكتشافاً مهماً ينحل به هذا الإشكال بعض الحل. ذلك أنه بينا كان منذ عشرين سنة يسيح في الهند الغربية وقع نظره على الشجرة المعروفة عند علماء النبات باسم التي تنبت في مصر وغابون من إفريقيا وغيرها من البلاد الحارة وهي شجرة دقيقة الساق صغيرة الأوراق الوردية أو البيضاء. فشاهد أوراق هذا النبات تذبل في بعض الساعات ثم تعود إلى حالتها السابقة. والغريب أن هذه الظاهرة لم تنشأ من تبدل النور ولا من رطوبة الهواء بل أنها دلت على وقوع عاصفة شديدة وقعت بعد ثلاثة أيام. فأخذ العالم المشار إليه منذ ذاك يجرب هذا النبات في عدة حائق وأصقاع ولاسيما في كيف فرأى أن وريقاتها تنخفض إذا ارتفع ميزان الحرارة وتعود فتنتصب متى نزل وإن حركات هذا النبات إذا نظر إليها نظراً بليغاً تدل على قوة الأحداث الجوية وطبيعتها ودقتها واتجاهها قبل حدوث شيءٍ من ذلك بيومين أو ثلاثة في محيط يختلف من 75 إلى 100 كيلو متر وربما تنبأت بالمطر عن بعد ثلاثة آلاف كيلو متر. ويعرف من حركات أضلاع وريقاتها وتغير شكلها فيما إذا كان سيحدث زلزال أرضي أو انفجار بركاني أو انفجار مواد مدمرة في المناجم قبل وقوعها بأربع وعشرين ساعة إلى بعد سبعة آلاف كيلو متر فإذا اتخذت برلين مثلاً مقراً لرصد الأحداث الجوية والطوارئ الأرضية يتيسر لك أن تقف على ما

يجري من ذلك في أوربا كلها وربما بلغت إفريقية. هذا ما نعربه بالحرف عن بعض المجلات العلمية فإذا صح فيكون هذا النبات من أغرب ما تم من الاكتشافات في المواليد الثلاثة حتى الآن. آلة تنفس جديدة اخترع عالمان من سان فرنسيسكو آلة للتنفس تفوق ما اخترع من نوعها حتى الآن إذ تمكن بواسطتها كل إنسان أن يدخل آمناً إلى وسط الدخان مهما كان كثيفاً والغاز مهما بلغ من خطره وقد جرب اختراعهما أمام لجنة خاصة في لندن فأسفر عن نتائج حسنة. وإذا حمل الإنسان هذه الآلة وهي عبارة عن ثلاثة اسطوانات يستطيع أن يمكث ساعة في محل فسد هواؤه بالدخان أو الغاز أو غيره. حائق العملة كتب أحدهم في إحدى المجلات الفرنسية فصلاً في الحدائق التي أنشئت لفائدة العملة وإعانتهم فقال أنها لم تكن معروفة قبل سنة 1897 وإن يكن أول ما أسس من نوعها كان في القرن السادس عشر أيام أنشئت 23 حديقة في كرافلين في فرنسا وأنه بلغ عدد تلك الحدائق اليوم في فرنسا وحدها 11. 543 حديقة مساحتها السطحية 350 هكتاراً يربح منها نحو 72 ألف نسمة. مدرسة الأيامى وصف أحدهم مدرسة الأيامى التي أنشأتها في الهند امرأة اسمها رامباي من دعاة الإصلاح في بلادها فعلمت بعض الأيامى من النساء التعليم اللازم وأشربتهن كره الزواج على صغر فبذلك تمكنت من تزويج مئات من بنات جنسها وجعلهن بحيث يحصلن ما يقوم بنفقاتهن. الراحة والفكر ذكر بعض الباحثين أن الحياة مقدسة وأن ما يهم منها خصوصاً حفظ العقل ولا يحفظ العقل إلا بالراحة فعلى كل امرئٍ أن ينام متى أراد ويطيل نومه ما شاء لأن الرقاد يعد في الحقيقة اقتصاداً لا تضييعاً وأحسن المحسنين لبني جنسه من يتمكن من إيجاد السبل لإنامة المرضى والموجوعين.

موت الأطفال رأى الدكتور هرمان لكران أن معدل من يموت من الأطفال في القاهرة من ابن يوم إلى ابن خمس سنين 145 في الألف وفي الإسكندرية 130 في الألف ومن ابن خمس سنين إلى عشر ينزل هذا العدد إلى عشرة في الألف. مادة للتطهير اخترع أحدهم مادة جديدة لاتقاء خطر الغبار في الشوارع والحارث وقد كتم مخترعه سر اختراعه إلا أنه فهم أنه عبارة عن رواسب زيت معدني وقطران ومطهرات من الفساد. ويستعمل في تطهير الطرق غير المبلطة ويكلف تطهير كيلو مترين من الأرض سبعة جنيهات وجنيهاً واحداً أجرة عجلة يمكن اقتصادها من نفقات الرش وقد سماه الباهنيت. المطالعة في أميركا بحث بعضهم في الولايات المتحدة منذ ثلاث سنين ليقف على أكثر أصقاعها ولوعاً بالمطالعة فرأى لبلوغ هذه الغاية أن يقسم في كل ولاية عدد الكتب المستعملة في المكاتب والمدارس والجمعيات العمومية على مجموع عدد السكان واستثنى من ذلك الكتب الموقوفة على المراجعة في الخزائن العامة. فأسفر بحثه عن نتائج غريبة ورأى أن القطرين اللذين تكثر فيهما المطالعة هما الواقعان على شاطئي الأتلانتيك والباسيفيك من الولايات المتحدة. ففي ولاية نيوانكلاند يستعمل كل مائة نسمة 243 كتاباً وفي كليفرنيا 207 وفي ولاية نيويورك 155. العمل والحياة أفاض أحد كتاب الإنكليز في العلاقة الكائنة بين العمل والحياة فقال أنه تنبغي العناية بالبالغين من الأولاد وأن يحسن تلقينهم من أساليب العلم والعمل ما يستطيعون معه أن يتعلموا بعد لأنفسهم بأنفسهم فينجزون ما تعلموه بالقراءة والتأمل. فإن العلوم الابتدائية في إنكلترا ناقصة والبلاد تدفع من النفقات على التعليم ما لا تأخذ ثمرة تقابله فلا يعلم الأطفال الإنكليز ما يجب عليهم أن يمارسوه في الحياة من الشرف والعدل والعمل النافع للمرء بذاته وللمجتمع بأسره ولا يعرفون قيمة الثروة العامة ومعناها الحقيقي.

إغاثة المرضى بحث أحد علماء الألمان في المعاهد التي تساعد المرضى في فرنسا وألمانيا فقال أن بافيرا تنفق في السنة 9. 892. 444 ماركاً في هذا السبيل وسكانها ستة ملايين وأن لبرلين 1200 معهد وجمعية وشركة لإغاثة المرضى وأن في باريس 16000 مكتب للإحسان تغيث مليوناً وأربعمائة ألف مريض فقير وأن ثروة هذه الإدارات تبلغ 446 مليون فرتك. هجرة الأوربيين إلى أميركا في مقالة في إحدى المجلات الألمانية إن هجرة الأوربيين إلى أميركا ما بحرت على حالها وقد هاجر منذ سنة 1800_22 مليوناً من الأوربيين على الأقل نزلوا في الولايات المتحدة. ومن سنة 1900 إلى 1903 هاجر من أوربا 5. 300. 000 ألف نسمة منها 30. 000 من الألمان و31700 من الأيرلنديين و14000 من الإنكليز و181700 من الطليان و109600 روس وبولونيين و163700 نمساويين ومجريين. الأولاد العاملون يؤخذ من إحصاء جرى في ألمانيا سنة 1898 أن فيها 532283 طفلاً مستخدماً في التجارة والصناعة وأن للنمسا من كل 80. 589 طفلاً 23016 طفلاً أي زهاء 28 في المائة من مجموعهم يعملون بأيديهم وأن في سويسرا 53 في المائة من الأطفال يعملون بأيديهم لاكتساب قوتهم ومنهم 42 بالزراعة. الكتب في إنكلترا قسم أحد مشاهير الكتبية في لندن القراء ومن يبتاعون الكتب إلى ثلاث طبقات الأولى طبقة رجال العلم ممن يؤلفون ويضطرون إلى الوقوف على ما ينشر من الكتب في العلوم التي تمحضوا لها وهذه الطبقة قليلة العدد. وطبقة المتعلمين وهي تقدر الكتب الجديدة قدرها. وطبقة الشعب عامة ممن لا يتناولون إلا ما يهمهم ويروقهم ويسليهم من الأسفار المتوسطة الاعتبار. قال ويندر أن يطبع من رواية مهما بلغ من الإقبال عليها عشرة آلاف نسخة ومتوسط ما يطبع من رواية ألف أو ألفا نسخة ونفقات الطبع غالية فألف نسخة من مجلد تكلف 2125 فرنكاً أجرة صف حروفها وطبعها وثمن ورقها وتجليدها وتغليفها يضاف إليها

1250 فرنكاً أجرة إعلانات فيأخذ المؤلف عشرة في المائة من المبيع وهي أجرة زهيدة لا تقابل تعبه ولا يتأتى الربح إلا إذا جاوز المبيع ألفي نسخة وكثيراً ما ينتهي الأمر بخسارة فيضطر الكتبي أن يبيع الكاسد من الرواية في المزاد. وبالجملة فإن صناعة الكتبية في إنكلترا كما هي في فرنسا معرضة للأخطار لأنه لا يتيسر أن يعرف ما يناله الكتاب من القبول عند صدوره. فنادق شاهقة روى اللواء الأغر أن الحكومة المصرية أذنت ببناء بعض الفنادق حوالي الأهرام وأبي الهول على الطريقة الأميركية. والبناء الذي يشاد على تلك الطريقة يبلغ ثلاثين أو أربعين طبقة وكلها من الفولاذ الصلب الذي لا تحرقه النار ولا تهزه الزلازل ويسمي الإنكليز تلك المباني ماسة السماء لعلوها وارتفاعها. ولا يخفى أن الواقف بأعلاها يستطيع أن يشاهد وادي النيل ممتداً تحت أقدامه كما يراه الناظر في خريطة ولعل الأميركان أرادوا أن يسلموا بتلك المباني الفاخرة ما بناه خوفو وخفرع ومنقرع في القرون الغابرة. أثر عربي ازدانت هذه المرة خزانة كلية هيدلبرغ الألمانية بزهاء 200 أثر تاريخي بينها لوحة من الخشب كتب عليها جزءٌ من سورة الأعراف وكتاب كتب على عظم غنم يرد عهده إلى 239 للهجرة وهو من أقدم الكتابات العربية القديمة المعروفة ودرج ذكرت فيه صحيفة من ابن لحية وعدد كبير من أوراق تتعلق بجباية الأموال كتبت بأجمل خط بقلم قرة بن شريك عامل مصر في النصف الثاني للقرن الأول للهجرة وقد نشر العالم الدكتور بكير صورها واستخرج بعض نموذجات منها طبق الأصل وقدم لها مقدمة مع تفسير الكلمات العربية فمتى نرى في الشرق بعض رجالنا ينقطعون للبحث في آثارنا العربية فإننا أحق بمعرفة بيوتنا من غيرنا. \

وفاة رياضي

وفاة رياضي فقدت المدرسة الكلية الأميركية في بيروت هذا الشهر أستاذاً من أكبر أساتذتها وعالماً من جهابذة العلماء القيمين عليها نفع البلاد بفضل علمه وفنه ونعني به الأستاذ روبرت وست الأمريكي فعز نعيه على تلاميذه وأحبابه وقد ترجمته النشرة الأسبوعية بما يأتي ملخصاً. ولد في ولاية بنسلفانيا سنة 1862 وهو ابن قسيس فاضل أحكم العلوم والفنون في كلية برنستن أم كثيرين من أساتذة المدرسة الكلية السورية وهي من أشهر كليات أميركا. ونال شهادتها سنة 1882 ثم شغل بدرس دروس خاصة في علم الفلك والرياضيات العالية حتى اشتهر بعد قليل بأنه من كبراء الرياضيين. وأتى إلى بيروت سنة 1883 فكان من معلمي مدرستها وكان أولاً من أساتذة اللغة الإنكليزية فيها ثم صار أستاذ الرياضيات والفلك. ومما قاله الدكتور بورتر في وصفه كان الأستاذ وست عالماً محققاً كثير التدقيق في العلوم يبذل الجهد في إدراك كنه الحقائق وكان يعلم بإحكام وإيضاح فيبلغ المسائل العويصة بعبارات بسيطة حتى يبلغ ذهن الطلبة اليقين ولهذا كانوا يثقون بعلمه كل الثقة. وقال الأستاذ بولس الخولي أن الفقيد كان أستاذاً مقتدراً ومن أدلق اقتداره ثلاثة (1) أنه كان يعلم ما يعلمه حق العلم و (2) أن تعليمه كان على أحسن أسلوب فكان يرغب تلاميذه في البحث عن الحقائق لأنفسهم وكان في مقدمتهم في الدرس والاجتهاد والصبر و (3) أن سجاياه كانت تؤثر في أفئدة الطلبة فإنه عرف شؤونهم وأحبهم واهتم بهم فلا بدع إذا كان الأسف عليه عظيماً.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة شيلر 1759_1805 المؤثرات في أخلاق الرجال كثيرة وأهمها التربية والمحيط فكلما حسن هذان العاملان جاءت منهما نفوس مجردة عن الشرور نازعة إلى خير الأمور وأكثر العلماء على أن من الأخلاق ما هو طبيعي ومنها ما هو كسبي يستفاد بالعادة والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً. قال بعضهم ليس شيءٌ من الأخلاق طبيعياً للإنسان ولا نقول أنه غير طبيعي وذلك أنا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعاً أو بطيئاً. وهذا الرأي الأخير هو الذي اختاره العلماء المتأخرون وأكثر فلاسفة الإسلام ومنهم ابن مسكويه وأحسن ما جاء في تربية النفس والأخلاق قوله تعالى ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. هذه القاعدة الكلية في التربية لا تكاد تتخلف ويشتد ظهورها في كبار رجال الخليقة مثل مترجمنا اليوم شيلر الألماني رافع علم الحرية والنهضة الأدبية في أمته والساعي إلى إعلاء شأنها وإبلاغها درجات الكمال فقد أثرت في التربية الأولى التي ينشأ عليها كل سليم الفطرة في الغالب من حب الخير المحض وكره الشر فاشمأز من أعمال البشر وسيئات الحياة ثم لما قذفت به أدوار الحياة إلى المدرسة الحقيقية وأعني بها مدرسة العالم وأخذ في مثافنة كبار أرباب العقول وحملة العلم المقرون بالعمل تحلى له الراجح من المرجوح وصرح له الحق عن محضه وكشف له أصحابه وجه الحقيقة في أمور كثيرة. وكل قرين بالمقارن يقتدي. لم يكن شيلر كصاحبه كيتي رجلاً خدمه السعد وحالفه الرغد بل كان من شقاء الحياة وقلة ذات اليد المثل المضروب والرجل المحروب المحزوب. عزم والده أن يعلمه اللاهوت من أول أمره ليكون له مورد رزق في حياته ويعيش عيش الواعظين والمرشدين وإن شئت فقل عيش الزاهدين والمزهدين إلا أن الدوق شارل وجين دي ورتمبرغ أشار على والديه أن يبعثا به إلى مدرسة شارل لتي أسسها في استوتكارت وفيها درس الحقوق والطب

وانصرف مدة الدراسة إلى مطالعة الكتب المحظور تلاوتها على التلاميذ سراً وقراءة جانب من أسفار الأدب من سنة 1773 إلى سنة 1780. ولما خرج من المدرسة عين جراحا في الجيش براتب 18 فلوريني في الشهر فضاقت به الدنيا بما رحبت إذ كان يقضي عليه أن يخضع لنظام الجندية وينثني صاغراً لأوامر أمير نكاد مستبد ولعة بكشف رعاياه عن أسرارهم الخالصة ومراقبة سيرهم عن أمم. فلم تمض عليه سنتان في خدمة الدوق دي ورتمبرغ حتى ضاق صدره بما يلقاه من جور القوانين النابية في الأغلب عن طور العقل فخاصمه لأنه كان يمنعه من نشر شيء من قلمه في الأدب وحبسه مرة خمسة عشر يوماً لأنه ذهب لحضور رواية تمثيلية بدون إذن فاضطر شيلر أن يفر بنفسه ليتمتع بحريته فتوارى مدة عن الأنظار مخافة أن يقبض عليه ويسلم للدوق في ورتمبرغ وظل سنتين بعد ترك الخدمة يقاسي صروف الحدثان لا ملجأ ولا مورد ولا مال ولا فراغ بال. أجول من قطرب وأفلس من ابن المذلق وأهون من قعيس على عمته يقذف به نجد إلى سهل وسهل إلى حزن وبؤسه متصل كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها إن راح ذات اليمين تطوح به الطوائح ذات الشمال وإن اتجه نحو الشرق صاح به صائح عليه بالغرب وكأن الطبيعة عاندته في جسمه وصحته كما عاندته في وفره وماله. فقد كان نحيفاً ضئيلاً يمشي كاللقلق حرم الذوق حتى يكاد يضحك منه من يراه ولطالما سخر منه أصحابه عند تمثيل رواياته إذ لم يكن يعتني بهندامه ولا بملابسه فكنت تراه رث الهيئة والسربال وبيل المسكن تنبعث من غرفته رائحة الدخان الذي يدخنه وتراها غاية في التشويش فمن سخ من مصنفاته مطروحة في كل ناحية ومن بطاطا ملقاة مبعثرة في الزوايا ومن صحاف فارغة وزجاجات وأوان وغيرها تجدها هنا وهناك. وكثيراً ما كان صديقه كيتي يضجر من مجالسته في غرفته على عهد صداقته الأولى ولما بحث عن سر النتانة تبين له أن شيلر يحفظ التفاح العفن في جرار مائدته. وهكذا كانت فاتحة حياة شيلر بؤساً وشقاءً وعناءً. روح ملتهبة متحمسة محصورة في جسم سريع العطب لها اتصال بالعالم الخارجي ولكن على أردأ الوجوه والصور وحالته الداخلية مقيدة بأمور خارجية لا ترضيك بوادرها فكادت تكون تربيته وحشية تقتل فيه روح الاستقلال وذلك لما يعانيه من الشقاء الذي يكرهه على الجهاد المتواصل لتحصيل رزقه كل

يوم وكاد ما يلقاه من الألاقي في صباه يقضي عليه بالتأخر في سبيل العلم وهو أبداً يتقاذفه عاملان أفكاره الفلسفية الخيالية وميله إلى الآراء الثورية. وبالجملة فقد كان على فقره وضعفه لا يرضيك ظاهره لأنه لم يخلق ليعجب الناس ويذهب بفضل الشهرة بينهم مثل كيتي صديقه ولا ليعيش في العالم عيش السعداء ويستمتع بطيبات الحياة الاجتماعية ولذلك تخلى شيلر وهو في سن الفتوة عن العالم الخارجي وعمد إلى الغوص في عالم الفكر والخيال وقد ذكر أحد واصفيه الأدوار التي تغلبت عليه فقال: إنه كان لأول عهده بعيداً كل البعد عن العالم الحقيقي يشتعل ذكاءً ممزوجاً بالعجب وقد أثرت فيه كتابات جان جاك روسوا الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي وغيره من شعراء ألمانيا فأصبح عدو المجتمع اللدود وخصيم التمدن الحديث والقديم. عرف بالاشمئزاز من أحوال البشر وبسوء النظر في مستقبل العالم وبسلامة النية في دعوة الخلق إلى الكمال على ما تجلى ذلك في كتاباته التي نشرها في صباه ثم بدلته التربية وأثر فيه صحابه وعشراؤه فأخذ يحسن ظنه بالمدنية الحاضرة وارتأى أن يخرج الإنسان من طور الطبيعة أولاً ويدخل في ميدان الجهاد بعمله مقاماً أدبياً محموداً فيكون من ذلك سعادة الإنسانية. وقالوا في وصف شيلر أيضاً إنه لم يكن يعشق الطبيعة مثل صاحبه كيتي وما كان ينظر للعالم والناس مثل هذا نظر الصبور الذي لا غرض له ولا هوى بل كان يهتم بحالته الداخلية أولاً ثم بأفكاره وما شعر بأنه كان يتخمر في نفسه ويغلو في صدره من الإحساس والشعور فما ذكره في شعره وألم به في نثره من أحوال العالم هو ما وقع في قلبه وقاسى منه بذاته واقتنع به اقتناع فيلسوف وأخلاقي. ومن أهم ما شعر به ميله إلى الحرية ولكنه كان ميلاً مجرداً ليس فيه أثر للعمل إذ1 لم تخلق مع شيلر تلك الخاصية من إثارة النفوس وإهاجة العواطف وقد منحته فرنسا عام 1792حق الوطنية الفرنسية لحريته وتحمسه. ولقد أشرب قلبه حب الحرية فيه من فطرة سليمة تأبى الظلم ولا تميل إلى الصغار. وكان هذا الاستعداد فيه رد فعل طبيعي لما قاساه من الضغط منذ دخل المدرسة بل إنه حجة له لنقض أساس الاستبداد الذي عرف به صغار أمراء ألمانيا ممن لقي منهم الشدائد. جاء في موسوعات العلوم الفرنسية: وفي سنة 1787 ذهب شيلر إلى مدينة ويمار رجاء نيل الزلفى من ثلاثة كتاب وهم ويلاند الشاعر الأديب وهردير الكاتب الفيلسوف وكبتي العالم

الفيلسوف وكان الدوق شارل أغست قد استدعاهم إلى حماه وجعلهم من رجال قصره فأراد شيلر من تقربه منهم أن يسلك سبيلهم في تقوية جميع قواه مطلقة حرة بدون أن يهتم لغير ذلك من أسباب النجاح فخاب سعيه أولاً مكن الانضمام إليهم وتكثير سوادهم ولكنه بقي مقيماً في ويمار وإن كان بعيداً عنهم رغم إخفاق ما قصد له وانتهت به الحال بعد بضع سنين قضاها في أشق أنواع الصبر المحزن إن نال مرتبة ثابتة فعين أستاذاً في كلية اينا سنة 1789 وفي السنة التالية تزوج بشارلوت دي لانجلفلد فرأى منها رفيقة تفهم مغازيه ومراميه وتحبه وتعنى بأمره وتخلص في خدمته خصوصاً في أوقات مرضه. فساعده حب زوجته له وإعجاب تلاميذه وأصحابه بمواهبه واحترامهم له على التفرغ للعمل براحة بال أكثر من ذي قبل فأخذ يتغير شيئاً فشيئاً وأخذت تهدأ أفكاره من اضطرابها وتلين نفسه بعد شموسها وتجلت له الغاية التي يرمي إليها ويقضي عليه بعد ذلك أن يقتحمها بعزم ومضاءٍ. فراح يبذل أقصى مجهوده في التأليف وكثيراً ما كان يفرط في النظر ويعمل في الكتابة عملاً يجاوز الطوق ثم دعته الحال أن يتوفر على دراسة التاريخ دراسة الخبير البصير ليزيد به خبرة ويلقح به شعره. وكان يكتب في صغره كيفما اتفق فرأى من الضروري أن يستكثر من المعارف التاريخية الثابتة المحسوسة وأيقن أن مادته لا تغزر وأفكاره لا تنضج إلا بالتخلي عن الشعر زمناً والانقطاع إلى درس التاريخ وأن يتعلم كما قال عن نفسه أموراً كثيراً هو في حاجة إليها ويزرع قبل أن يحصد. ثم درس العلم الإلهي وأمور الآخرة أي درس الفلسفة في كتب فلاسفة اليونان الأقدمين ويتحر في فلسفة كانت الحكيم الألماني الشهير فاستفاد من دراسته فلاسفة اليونان لطف الأداء وجلاء المعاني ووضوحها وسهولة المأخذ مما لم يكن له أثر في منظومه ومنثوره ورأى في كانت أعظم ممثل للأفكار الحديثة وراقه منه حكمه السامية التي ذهب بها مذهب زينون الفيلسوف اليوناني كما راقه بأفكاره في الجمال والفنون. وقد دفع المترجم به إلى درس كتب الفلسفة اليونانية ويلاند المشار إليه كما دفعه إلى التبحر في مصنفات كانت رينهولد الفيلسوف حتى أصبحت تآليفه التي صدرت عنه في تلك الحقبة من حياته كأنها توفيق من الفلسفة اليونانية والكانتية أي بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة. وفي سنة 1794 استحكمت صلات الود بين شيلر وكيتي وكانا تعارفا سنة 1788 تعارفاً

لم يؤد إلى إحكام علاقات القلوب فانتفع المترجم من صاحبه كثيراً وأقل ما استفاد منه أنه أراده على الرجوع إلى حظيرة الشعر وكان زهد فيه زمناً على ما تقدم وانصرف إلى التاريخ والفلسفة. عاد إليه بنشاط غريب بعد انقطاعه عنه ست سنين. ثم مرض سنة 1791 مرضاً كاد يودي بحياته فلما ابل آلى أن يغتنم الساعات الباقية من حياته ليبقي له آثاراً تنفع الناس فألف في مدة عشر سنين وهي المدة التي قضاها في عشرة كيتي تآليف كثيرة كأنه كان يسارق بها المنون وأكثرها في الشعر والأدب والنقل عن اللغات. وقصارى القول فإن شيلر الأديب الشاعر المؤرخ الحكيم المفكر هو بعد كيتي أكبر رجل من أهل الأدب في ألمانيا وربما كان مشتهراً لدى الخاصة والعامة أكثر من صديقه. وقد حسده معاصروه ولم يعترفوا به حتى أن المحدثين من أهل الأدب الساعين إلى نزع قيود الإنشاء القديم ومنهم الفيلسوف نيتتش الألماني حمل عليه حملات منكرة ولعل حملات هذا الفيلسوف كانت على شيلر في الزمن الذي جن فيه وهو لا يقل عن عشر سنين وهذي بالفلسفة هذيان المحموم. وامتاز شعر كيتي على شعر شيلر بأنك تقرأ في الأول النبالة والترف وشعر الثاني يطرب به الشعب فكأن الأول لزعماء الأمة والثاني للأمة نفسها وإن شئت فسمهما شاعر الأغنياء وشاعر الفقراء. وقد وصفت صاحب هذه الترجمة العقيلة دي ستايل الكاتبة الفرنسية في كتابها ألمانيا بما يأتي معرباً بقلم أحد أصدقائنا: كان شيلر عظيم الذكاء ثابت الاعتقاد وهما خلتان قل أن يجتمعا في رجال الأدب. تقرأ بين عينيه ما يسري بين جنبيه وترى شخصه مصوراً في كتابته يوحي إليك ذلك الأدب الوافر والعلم والفضيلة النادرة. وما كان شيلر ممن يغيرون اعتقادهم تمويهاً وتضليلاً لغيرهم. بلى كان يحب الشرف ويشغف بالمجد فيسعى إليهما من كل سبيل. وما أجمل الذكاء الذي سرى في أعطافه الشرف وقوة النفس إذا امتزجت بصفاء السريرة. فقد كان شيلر صديقاً وفياً وأباً رحيماً وزوجاً باراً يحترم النساء ويعجب بالفنون الجميلة ويعبد البارئ تعالى على ما وهبه من ذكاءٍ نادر على ما ترى ذلك ماثلاً في مصنفاته لو قلبت تضاعيفها وحدقت في سطورها. ولقد لقيت شيلر لأول مرة في قصر الدوق دي ويمار في مجلس حافل بأهل العلم فإذا هو

يتوقد ذكاءً وبعد نظر. وكان يجيد قراءة الفرنسية وإن لم يتكلم بها وقد ناظرته في أفضلية طريقة التمثيل عندنا فقام يعارضني على ما يجد في لسانه من حبسة وعجز عن التكلم بالفرنسية وإبان عن فضل جم وعلم واسع فانقلبت من المجلس وأنا احترمه وأبجله.

النقل والنقلة

النقل والنقلة ليس العلم وقفاً على أمة معينة ولا على أهل دين خاص ولغة خاصة بل العلم مشاع بين سكان الأرض يقتبسه الراغبون فيه ممن عرفوا غناءه لهم وفائدته لقيام جامعتهم وإعلاء كلمتهم كما أن الحضارة تنتقل من يد إلى يد وتأخذها الأمة المتحضرة عن جارتها أو ترثها عن أختها الذاهبة. ولذلك لم تستغن أمة في النقل عن غيرها ما يعوزها من علوم البشر على اختلاف أنواعها نقلاً ينتفع به أهل جيلها وقبيلها ويؤثر الأثر المطلوب في العقول. فقد نقل الفرس علومهم عن جيرانهم الهنود ونقل الرومان عن اليونان ونقل اليونان عن المصريين ونقل العرب عن اليونان والفرس ونقل الإفرنج عن العرب واليونان والرومان وغيرهم من أمم الخليقة. وقد مست الحاجة في هذا النقل إلى ترجمة أهم كتب أولئك الأقوام في الصناعات والديانات وعلوم الحكمة والطب والرياضيات والشرائع والتاريخ والأدب. هذا الكثير من العلوم التي نراها لعهدنا وكتبها التي لا تحصى في كل ضرب من ضروب المعرفة النافعة لسعادة الخلق هي ولا جرم من عمل القرون المتطاولة هي زبدة تجارب صفوة بني آدم وأغض ثمرات عقولهم منذ ألوف من السنين تكونت فيها أمم كثيرة ثم بادت وقامت مدنيات تذكر ثم سقطت منها ما نقل إلينا ومنها ما لم ينقل. فكما أن اللغات والشعوب ترجع إلى أصول قليلة تفرع عنها هذا العدد الدثر من الأجيال المعروفة في قارات الكرة الأرضية الخمس فكذلك كانت العلوم قليلة وما برحت تنمو بنمو الأيام والأزمان. وحال النقل من حيث القلة والكثرة حال العلوم والأمم حذو القذة بالقذة. ولما تم للعرب النصر وتبسطوا في مناحي الملك والسلطان وانتشرت لغتهم في معظم الأصقاع التي افتتحوها انصرفت عنايتهم إلى تنظيم بلادهم بنظام الأمم التي سلفتهم إذ أيقنوا أن ليس كالعلم كفيلاً ببقاء أمة وضامناً لها سعادتها والعلم لا يتم إلا بالنقل عن أمة أخرى. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بتعلم لغة اليهود كما تعلم بعض الصحابة لغة الحبشة لما هاجروا إليها في بدء الدعوة الإسلامية. دع عنك من دخلوا في الإسلام من الفرس ومن تعلم من العرب لغة فارس. وهذا كان مبدأ النقل والتعريب وإن لم يؤثر عن هذا الدور كتاب ولا رسالة لأن الأمة كانت أمية ولم تكن دونت بعد أهم علم عندها إلا وهو علم الدين فأحر بها أن لا تنقل عن غيرها علوماً هي بالنسبة إليها ثانوية. وأول كتاب نقل إلى العربية كتاب أهرن بن أعين وجده عمر بن عبد العزيز في خزائن

الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به فلما تم له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم وكان المنصور أول من عني من العباسيين بنقل شيءٍ من علوم الأوائل ثم مشى على أثره جعفر البرمكي وجماعة من صنائع الدولة إلا أن غرام المأمون بذلك كان من وراء الغاية. قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي أن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طراً إليها فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثبت الهمم من غفلتها وهبت الفطن من ميتتها وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان مع براعته في الفقه كلفاً في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم. قال ولما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هرون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه منها ما حضرهم فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأن أهل العلم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده. نعم بلغت عناية المأمون بالعلم والنقل التي لا فوقها وقد ادعى بعضهم أن عدد المترجمين والناقلين والمصححين الذين حشرهم إليه من أطراف مملكته كانوا ثلاثمائة رجل من مختلف الأديان والمذاهب أمرهم أن لا يجعلوا للتعصب عليهم سبيلاً وإن ينبذوا الجدالات الدينية ظهرياً لتكون اجتماعاتهم علمية صرفة. وقيل أنهم كانوا يجتمعون مرة في الأسبوع فتعرض المترجمات على أناس من أهل العلم والبصر بالعربية فيقرون سليمها وينبذون سقيمها. وعلى عهده كثر الاعتماد على النحت والاشتقاق والوضع لترجمة المصطلحات الطبية وغيرها من العلوم المادية وكان المأمون ينفق على المترجمين أكثر مما يصرفه غيره على ملاذه في بضع عشرات من السنين. وبعد فإن الناس من لا يعدون من المؤلفين غير من يأتون بشيءٍ من عندهم ولو غثاً تافهاً

أو ينقلون كلاماً لغيرهم وينسقونه ويضيفون إليه ما يشاءون على أن من عنوا بإجادة النقل والترجمة من لغات الأعاجم إلى لغتهم هم في الأكثر ليسوا في فضلهم وأفضالهم دون أولئك المؤلفين بل أن من ينقل علماً لا عهد لأمته به أفضل من أكثر أرباب التواليف والمصنفات. ولذلك تقاضانا عرفان الجميل لبيض أيادي أولئك التراجمة في الإسلام أن نذكر أسماء من عثرنا عليهم منهم وندل على الجهابذة المهرة فيهم. ولابد من الإشارة إلى أن معظم التراجمة قديماً وحديثاً كانوا من غير أهل الإسلام لحكمة ربما كان فيها معنى من معاني ما قبل من أن العلم لو نزل من السماء لتلقاه قوم من أهل فارس. ولعل تقسيم الأعمال قضى على المسلمين أن ينقطع علماؤهم إلى تدوين العلوم الدينية واللسانية وتركوا غيرها من الأشغال العلمية لمن يحسنها أو يخلق وقد لقنها من صغره من أهل ذمتهم أو غير أرباب نحلتهم. نقل اصطفان القديم الكيمياء لخالد بن يزيد الأموي في القرن الأول كما تعلمها هذا من مريانوس الراهب الرومي فكان هذا أول كتاب نقل. ونقل ماسر جويه السرياني كتاب أهرن بن أعين بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وكان البطريق في أيام المنصور وأمره بنقل أشياء من الكتب القديمة وابنه أبو زكريا يحيى ابن البطريق وكان في جملة الحسن بن سهل. وكان حنين بن اسحق أول من نقل شيئاً من علوم الروم إلى السرياني ثم إلى العربي وكان هذا الرجل يحسن السريانية والعربية والرومية والفارسية بل يعرف غريبها ومستعملها وهو الذي اختار له المتوكل لما أتمنه على الترجمة كتاباً نحارير وكانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا كاصطفين بن بسيل وموسى بن خالد الترجمان وقيضا الرهاوي وسيرجس الراسي. وما أنا بمبالغ لو قلت أن حنيناً نقل ربع ما ترجم إلى العربية من علوم الأوائل أيام التمدن الإسلامي وكان ربعه الجيد الذي لا غبار عليه وذلك لأنه كان زيادة على إحكامه لتلك اللغات الأربع عالماً بالعلوم التي ينقلها من طبها وفلسفتها. ولحنين ولدان داود واسحق صنف لهما كتباً طبية في المبادئ والتعليم ونقل لهما كتباً كثيرة من كتب جالينوس واشتهر اسحق وتميز في صناعة الطب وله تصانيف كثيرة إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية وكان اسحق يحسن اللغات التي يحسنها أبوه وقلد هارون الرشيد يوحنا بن ماسويه ترجمة الكتب القديمة مما وجد بأنقرة وعمورية

وسائر بلاد الروم ووضعه أميناً على الترجمة. وكان جرجس ابن جبرائيل أول من ابتدأ في نقل الكتب الطبية إلى العربية عندما استدعاه المنصور. وحبيش الأعسم بن أخت حنين بن اسحق وتلميذه ناقل مجود يلحق بحنين واسحق. وعيسى بن يحيى بن إبراهيم كان أيضاً تلميذاً لحنين بن اسحق وكان فاضلاً أثنى عليه حنين ورضي نقله وقلده فيه. وقسطا بن لوقا البعلبكي كان ناقلاً خبيراً باللغات فاضلاً في العلوم الحكمية وغيرها. وما نقله أيوب المعروف بالأبرش في آخر عمره يضاهي نقل حنين. وسلام الأبرش من النقلة القدماء في أيام البرامكة ويوجد بنقله السماع الطبيعي. وأبو النصر بداري بن أيوب وابن رابطة وتيوفبلي وشملي وعيسى بن نوح وقويري وداريع الراهب وهيابثيون وصليبا وثابت بن قمع وأيوب وسمعان فسرازيج بطليموس لمحمد بن برمك. وأبو عمرو يوحنا بن يوسف الكاتب. وترجم آل نوبخت إلى الفارسية وترجموا منها ولابن نوبخت الفضل بن نوبخت نقل حنين في النجوم ومنهم موسى ويوسف ابنا خالد. ومن النقلة من الفارسي إلى العربي علي بن زياد التميمي ويكنى أبا الحسن وسهل بن هارون والبلاذري أحمد بن يحيى وجبلة بن سالم كاتب هشام واسحق بن يزيد ومحمد بن بهرام بن ميطار الأصفهاني والفتح بن علي البنداري وعبد الله بن علي وأبو حاتم البلخي ومحمد بن الجهم وهشام بن القاسم وموسى بن عيسى الكردي وزادوية ابن شاهويه الأصفهاني وبهرام بن مرداشان وعمر بن الفرخان. وابن الفرخان هذا هو أحد حذاق التراجمة في الإسلام وهم كما قال أبو معشر في كتاب المذاكرات حنين بن اسحق ويعقوب بن اسحق الكندي وثابت بن قرة الحراني وعمر بن الفرخان الطبري. ونقل من السريانية الحديثي الكاتب والحسن بن البهلول الأواني الطبرهاني وأبو البشر متى والتفليسي ومرلاحي نقل بين يدي علي بن إبراهيم الدهكي وداريشوع كان يفسر لاسحق بن سليمان بن علي الهاشمي وكذلك إبراهيم بن بكسن وعلي بن إبراهيم بن بكسن وأيوب بن قاسم الرقي ومن نقله كتاب الايساغوجي. ونقل من الهندية أو السنسكريتية إلى العربية منكة الهندي وأبو الريحان البيروني وابن دهن ومن الكلدانية أو النبطية ابن وحشية ونقل سعيد الفيومي عن العبرانية. وكان أبو علي عيسى بن زرعة اليعقوبي المنطقي أحد النقلة المجودين وله تصانيف مذكورة. ونقل من السرياني إلى العربي ونقل عيسى الرقي من

أطباء سيف الدولة ابن حمدان من السريانية أيضاً ونقل منها أيضاً ماسرجيس الطبيب وعيسى بن ماسرجيس كان يلحق بأبيه وكذلك شهدي الكرخي وابن شهدي وكانا متوسطين وفاق الابن أباه في آخره عمره ومن المعروفين بالترجمة ابن جلجل وأبو عبد الله الصقلي. ونقل الحجاج بن مطر للمأمون كتباً منها كتاب إقليدس والمجسطي ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قرة الحراني ونقل للمأمون أيضاً عدة كتب حبيب بن بهريز مطران الموصل وممن نقل عن السريانية كثيراً أبو الخير الحسن بن سوار المعروف وابن الخمار وأبو الفرج الملطي ويحيى بن عدي اليعقوبي. ونقل عن الفارسية عبد الله بن علي الفارسي وعبد بن المقفع نقل عن البهلولية أي الفارسية واليونانية كثيراً من كتب الحكمة وممن أجاد النقل من السريانية وغيرها الحسن بن ثابت بن قرة الصابئ ومن تلاميذه عيسى بن أسيد وكان يقدمه ويفضله. ونقل من اليونانية نظيف القس الرومي. وكان عبد المسيح بن عبد الله الناعمي الحمصي المعروف بابن ناعمة متوسط النقل وهو إلى الجودة أميل وفي درجته زروبابن مانحوه (ماجوه) الناعمي الحمصي. وكان هلال بن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وكذلك كان فثيون الترجمان يلحن ولا علم له بالعربية وكان أبو نصر بن ناري بن أيوب قليل النقل لا يعتد بما نقل ويفوقه بسيل المطران وكان إلى الجودة أميل. ومن المتوسطين في نقلهم أسطاث وحيرون بن رابطة وإبراهيم بن الصلت وثابت الناقل ويوسف الناقل تلميذ عيسى بن صهربخت وأيوب الرهاوي وأبو يوسف الكاتب ويحيى بن البطريق وتدرس السنقل وأبو سعيد عثمان الدمشقي ومصور بن باناس وعبد يشوع بن بهريز وإبراهيم بن بكس. هؤلاء التراجمة الذين عرفناهم في الإسلام وأكثرهم كانوا يرزقون من نقلهم ويعملون مدفوعين بتنشيط الملوك والأمراء والحريصين على خدمة العلم إلا يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها فإنه كان ينقل لنفسه ولم يرتزق بما كتب. وليس فضل من نشطوا التراجمة دون فضل من ذكرنا من المترجمين كما أن الأفراد الذين نشطوا النقل ورزقوا أناساً عليه يذكرون بالرحمة كما يذكر عمر بن عبد العزيز وخالد الأموي والمنصور والرشيد والمأمون والمتوكل. فقد كان جعفر البرمكي وجماعة من أهل بيته يعنون بأمر النقل والتعريب. وكان منكة

الهندي في جملة اسحق بن سليمان بن علي الهاشمي وكان ينقل من اللغة الهندية إلى اللغة الفارسية وكان شير شوع بن قطرب من أهل جندي سابوريبر النقلة ويهاديهم ويتقرب إلى تحصيل الكتب منهم بما يمكنه من المال. ومنهم محمد بن موسى المنجم وهو أحد بني موسى بن شاكر الحساب المشهورين والرياضيين المذكورين وكان محمد هذا أبر الناس بحنين بن اسحق نقل له هذا كثيراً من الكتب الطبية. قال أبو سليمان المنطقي السجستاني أن بني شاكر وهم محمد وأحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن اسحق وحبيش بن الحسن وثابت بن قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار. ومنهم علي بن يحيى المعروف بأن المنجم أحد كتاب المأمون وكان نديماً له وعنده فضل ومال إلى الطب فنقلوا له منه كتباً كثيرة ومنهم تادرس الأسقف كان أسقفاً في الكرخ وكان حريصاً على طلب الكتب متقرباً إلى قلوب نقلتها فحصل منها شيئاً كثيراً وصنف له قوم من الأطباء كتباً لها قدر وجعلوها باسمه. ومنهم محمد بن موسى بن عبد الملك نقلت له كتب طبية وكان من جملة العلماء الفضلاء يلخص الكتب ويعتبر جيد الكلام فيها من رديئه. ومنهم عيسى بن يونس الكاتب الحاسب من جملة الفضلاء بالعراق وكان كثير العناية بتحصيل الكتب القديمة والعلوم اليونانية. ومنهم علي المعروف بالفيوم اشتهر باسم المدينة التي كان عاملها وكان النقلة يحصلون من جانبه ويمتازون من فضله. ومنهم أحمد بن محمد المعروف بابن المدبر الكاتب وكان يصل إلى النقلة من ماله وأفضاله شيءٌ كثير. ومنهم إبراهيم بن محمد ابن موسى الكاتب وكان حريصاً على نقل كتب اليونان ومشتملاً على أهل العلم والفضل وعلى النقلة خاصة. ومنهم عبد الله بن اسحق وكان أيضاً حريصاً على نقل الكتب وتحصيلها. ومنهم محمد بن عبد الملك الزيات وكان يقارب عطاؤه للنقلة والنساخ في كل شهر ألفي دينار ونقل باسمه كتب عدة وكان أيضاً ممن نقلت له الكتب اليونانية وترجمت باسم جماعة من أكابر الأطباء مثل يوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع وداود بن سرابيون وسلمويه بن بنان واليسع وإسرائيل بن زكريا بن الطيفوري وحبيش بن الحسن. هذا ما وقفت عليه من حال المتوفرين على النقل والمرغبين فيه قديماً وقد فقدت ملكته من الأمة مدة تربو على خمسة قرون حتى إذا كان أواسط القرن الثالث عشر للهجرة عادت إلى

الترجمة بعض حياتها السالفة بفضل النابغين من مدارس الإفرنج في البلاد العربية أو بالمتخرجين على أساتذة بعض المدارس الوطنية ممن تشبعوا بآداب الأمم الراقية وقلدوهم في ممارسة الأعمال العلمية فنقلوا وما برحوا ينقلون أثابهم الله بعض ما تمس إليه الحاجة من علوم الأمم الغربية على قلة نصيرهم وفقدان البواعث والدواعي مدفوعين إلى ذلك بعاملين ألا وهما إحياء لغة عذبة وخدمة العلم الصحيح ولا أمة إذا فقدت لغتها ولا مدنية إذا لم يأخذ الخلف عن السلف والمتأخر عن المتقدم والجاهل عن العالم.

المجرة

المجرة ماذا برقراق السحائب ... ضمن المجرة من كواكب ليست كمزعم بعضهم ... نهراً يفيض على الجوانب كلا ولا هي لو تعي ... زبدٌ بوجه السيل ذائب كلا ولا وادٍ على ... طرفيه قد صفت كتائب حيث الأسنة داخل الم ... هبوات تضحك والقواضب أهناك جيشٌ لا أبا ... لك حذوه جيشٌ محارب فلننتظر حتى نرى ... من ذا من الجيشين غالب كلا ولا سدمٌ حوت ... غازاً فهذا الظن كاذب لكن شموسٌ جاريا ... تٌ ضمن هاتيك السحائب بل أن هاتيك السحا ... ئب ذات أنجمها الثولقب أجرامها يسبحن في ... بحر الأثير لكل جانب الكل يذهب في الفضا ... ء على اختلاف في المذاهب وعلى ارتباطٍ بينها ... بقوى جواهرها الجواذب يا أيهذا العالم الن ... جمي كم بك من عجائب كم زار منك مظامنا ... جرمٌ يجد السير دائب جرم بديعٌ شكله ... جرم يعد من الغرائب فله نواة ذات نو ... ر مشرقٍ وله ذوائب ويضيء حتى تستض ... يء به المشارق والمغارب ويزيد إشراقاً على ... إشراقه مهما يقارب حتى إذا ما دار حو ... ل الشمس سافر وهو آيب فكأنه متحملٌ ... في زوره كتباً لغائب أمخبرٌ أحد النج ... وم لشمسنا بعض المطالب يا عالماً يحوي عوا ... لم سائرات في مواكب كم من شموس فيك أك ... ثرها عن الأبصار عازب شسعت فأسفر بعدها ... عن مثل أنوار الحباحب

وهناك لولا أبعد الأ ... بعاد نيران لواهب تجلو أشعتها المني ... رة ما هناك من الغياهب وتوازنت أجرامها ... فالكل مجذوب وجاذب ولها توابع في تنق ... لها السريع لها تصاحب تحكي توابع شمسنا ... فتطوف منها في الجوانب وعلى توابعها تدو ... ر توابعٌ أخرى صواحب العلم هذا رأيه ... فيها ورأي العلم صائب يرضى به من كان ذا ... نظر بعين العقل ثاقب لكن من جهل الحقا ... ئق من سماعته مغاضب ومن المصائب أن تخا ... طب جاهلاً ومن المصائب أما الحياة فإن ظ ... ن العقل فيها غير خائب أيجوز أن الأرض تس ... كن وحدها بين الكواكب وتكون غير الأرض خا ... لية كأمثال الخرائب هذا لعمري أن يصح ... فإنه لمن العجائب إن الحياة تبين حي ... ث ترى لها وسطاً يناسب ما أوحش الأجرام لم ... تمرح بها بيض كواكب وترق كأحسنها العيو ... ن النجل فيها والحواجب يا ساكني تلك النجو ... م على اختلافٍ في المراتب إني مخاطبكم فلا ... تلووا الوجوه عن المخاطب بالله قولوا لي أأن ... تم مثلنا غرض النوائب إنا نعاتبكم إذا ... لم تفحصوا إنا نعاتب أحياتكم كحياتنا ... لا تكتموا عنا متاعب أم هل هناك حياتكم ... صفو فليس بها شوائب إنا لنفزع من مصا ... ئب لاجئين إلى مصائب إنا بظاهر أرضنا ... قسمان مغصوب وغاصب

الظلم ضيق في وجو ... هـ رجائنا طرق المكاسب والعلم مغلوبٌ فلا ... يعلى به والجهل غالب إنا بحالٍ لو علمتم ... غير محمود العواقب نسعى لنفع الآخري ... ن من الذين لهم مناصب ونعيش في حال التعا ... سة بالأماني الكواذب لهفي على الشبان قد ... سلكوا سبيلاً للمعاطب غيلوا بكل قساوة ... فبكتهمو حتى الأجانب ويلي على بيض نشر ... ن من الأسى سود الذوائب يخمشن حر وجوهه ... ن ويلتمن على الترائب يبكين فقد أعزةٍ ... ماتوا فهن لهم نوادب بغداد ج. . .

القسوة في المدارس

القسوة في المدارس أسست المدارس لإنماء القوة العاقلة في الإنسان ولتوسيع المدارك وتنوير العقول وتهذيب النفوس وتدميث الأخلاق وترقية الأفكار ولبث الألفة والإخاء والحب وحقائق الحرية والمساواة ونشر مبادئ الحق والخير والجمال والشرف والشهامة والجرأة ونزاهة القلب. ومن أخص واجباتها أيضاً الاعتناء بالصحة من وراء الغاية وتقوية الجسم تقوية للعقل وكبح جماح الأهواء وإنهاض الهمم ونقض كل وهم وضلال وتمويه وخرافة وتقويم كل اعوجاج وغرس صفات الإنسانية الصرفة وما طاب من العلوم الضرورية للمرء ضرورة الطعام والشراب واللباس. وبالجملة فقد أنشئت المدارس لتقود الإنسان وتدفعه في سبيل الكمال الإنساني. قال كانت الفيلسوف الألماني: سرار تقاء الإنسانية في المدارس. وقال جول سيمون فيلسوف الفرنسيين ليس من واجبات المدارس تعليم العلوم فقط فإن من أخص واجباتها بث الفضيلة والإقدام. وقد اتفق العلماء على الإقرار بوجوب تهذيب النفوس قبل تعليم الرؤوس وتفضيل المبادئ الأدبية على الأصول العلمية ونزع كل غلظة وفظاظة وسيئة باللين والرفق والإقناع. فليست الغاية إذن من إنشاء المدارس اعتقال الأولاد وإملاء الذاكرة فيهم من قواعد الكتب اللغوية والعلمية والرياضية والطبيعية وتحقيرهم وإرهابهم وإهانة نفوسهم وجرح عواطفهم وإيجاعهم بقسوة الشتم والضرب كما يخيل للمعلمين الذين يتوهمون أنهم لا يستطيعون أن يعلموا ويهذبوا إلا بالشتم والضرب. الشتم والضرب في المدارس أثران من آثار الهمجية والتوحش يمثلان كل التمثيل في مدارس القرن العشرين على ما فيه من دلائل التقدم العلمي وعلائم الارتقاء الأدبي. فيعيدان ذكرى أقبح صفحات العصور الغابرة أيام سادت الخشونة والقسوة ولم يكن حد اعتبار الحيوان الناطق فيها يتعدى حد اعتبار رفيقه الحيوان الأبكم إلا بشيء لا يذكر. وهما من أكبر العوامل الحائلة دون إقبال الأولاد على المدارس برغبة داخلية وشوق طبيعي كما أنها من أهم البواعث التي تمثل لهم المدارس سجوناً مظلمة ومحال أسر ومطابق عذاب وشقاء. نحن في زمن لا غنى لنا فيه عن العلم وقد أصبحت المدارس من حاجاتنا الأولية ومن الضروريات التي يجب الاعتماد عليها بعد اعتماد الأمهات والآباء في إعداد رجال

المستقبل فنحن إذاً في أشد حاجة إلى ترغيب أحداثنا في المعارف وتحبيب المدارس إلى نفوسهم وجعلها في عيونهم أماكن سرور مقدسة تترفع عن كل ما يمثل الحيوانية ودور استفادة تتعالى عما يشين الإنسانية. ومن الأسف أن القسوة مازالت شعار المدارس والشتم ما انفك لسان حال المعلم والضرب سلاحه وعدته ومع كل ما وصف من أضرار هذين الأثرين القبيحين وقيل في لزوم إبادتهما ومع كل ما صدر من نواهي ذوي النفوذ وأوامر الحكومات في وجوب منعهما ما برح المعلمون قساة القلوب يشتمون الطلبة لأقل الأسباب وينهالون عليهم بالضرب لأدنى الهفوات. مضت قرون كثيرة والقسوة ساعد المربي وعضد المعلم المتين والشتم والضرب رائجان في المدارس حتى أن سليمان الحكيم قد أشار باستعمال القضيب في تهذيب البنين. وكان الاسبرطيون يتركون الأولاد في المدرسة جياعاً ويضربونهم كثيراً تشجيعاً لهم على مشاق الحياة وعندما يعجز الولد عن التجلد ويرفع صوته من الألم تتلطخ حياته بالعار. وكان قدماء المصريين يعاقبون التلاميذ بالضرب بالعصي متمثلين بقول القائل_إن آذان التلاميذ في ظهورهم فهم لا يسمعون إلا إذا ضربوا. ولقد بلغ من اعتقاد الناس قبلاً بفائدة القسوة في المدارس أن صار العامة يمازحون التلاميذ بقولهم راح العيد وفرحاته وجاء المعلم وقتلاته وأمسى الوالدون يخوفون الأطفال من المعلمين كما يخوفونهم من المارد والجن والغول. وكان الرجل يقتاد ابنه إلى المدرسة ويقول للمعلم لك اللحم ولي الجلد والعظم فلا تبخل بالفلق أو تتوانى بالضرب. وخير هدية كانت تسر المعلم هي حزمة قضبان وخصوصاً إن كانت أغصان رمان. وجل وصية كان يوصي بها هي الشتم بفظاظة والضرب بقسوة وكان يلام إذا تبسم وبش في وجه الأولاد وتهاون بالعقوبات الشديدة ولم يستعمل وظيفة المنتقم لا وظيفة المهذب. هكذا كانت المدارس سابقاً بؤرة القسوة والجور ومستوبل الشتم والضرب على أن تلك الأيام لم يتجاوز فيها العلم حد الظنون ولم تكن المعارف غير قواعد لغات ولم يكن المعلمون أفضل من رعاة المواشي. وعلماء الأخلاق والنفوس كانوا قلائل نادرين والغرور والتقليد واتباع الأهواء والادعاء والتمويه والتظاهر أمور كانت من أخص صفات

المدرسين. أما الآن فما عذرنا وقد تغيرت الأحوال وتبدلت المدارس بفضل العلم الصحيح المؤيد بالتجربة والبرهان والاستقراء والإحصاء وظهرت لدى الناس أضرار التربية القاسية المذلة الموجعة فعمل الفضلاء على استبدال التربية اللطيفة المعزة المقنعة وبها سعوا جهدهم حتى استتب لهم الأمر في أكثر البلدان. وأول من سعى في ذلك في بلاد المشرق علي باشا مبارك أحد وزراء المعارف في مصر والدكتور دانيال بلس رئيس الكلية السورية السابق في بيروت. جعلا التعليم مقروناً بكرامة النفس وأبطلا الشتم والضرب بتاتاً واكتفيا بالقول والقدوة. ومنذ ثلاث سنين صدر أمر نظارة المعارف العثمانية بمعاقبة المعلم الذي يضرب تلاميذه وبمنعه من التعليم إذا عاد لضربهم مرة أخرى وقد حظرت جمعية فلسطين الروسية على معلمي مدارسها ضرب التلاميذ وجعلت من أهم قوانينها طرد كل معلم يقسو ويتصلف. إلا وأن صفات الإنسانية ترتقي في الكون العاقل بواسطة التربية الحسنة والتعليم الجيد. وأهم مقتضيات التربية والتعليم الضرورية جداً هي أن يكون المربي والمعلم قادراً على إقناع التلميذ بأن ما ينهاه عنه مضر حقاً وما يدفعه إليه نافع لا محالة وأن ما يلقنه إياه من الآداب والعلوم ليس إلا مصابيح بين طريق حياته وعوامل تقوده في سبيل الكمال الإنساني دون أن يتعدى حد العقل والضمير فيضغط على الأول ويضعف الثاني أو بالحري يميته وكذلك إقناع التلميذ بحسن نيات المعلم بما يبديه نحوه من الرقة واللطف ودلائل الحب والإكرام. فالمعلم الذي يقسو على التلاميذ ويعاملهم بالشتم والضرب بحجة أنه يروم نفعهم يضر من حيث يقصد الإفادة وبدلاً من نزع السيئات من أخلاقهم نزعاً باتاً كما يخال يزيدها تمكيناً فيهم. لأن الولد الذي يحسن سلوكه خشية الشتم لا حباً بالآداب ويتقن دروسه رهبة الضرب لا رغبة في النجاح يقيم في أعماق نفسه أماكن حصينة للسيئات حتى إذا لاحت لها الفرص وخلت من الرقباء وأمنت العقاب تظهر من مكانها بادية للعيان وهكذا يتعلم الكذب والخداع والرياء ويشب على الجبن واللؤم والحقد وغير ذلك من نتائج القسوة والضغط وتتأصل فيه كراهة المعلم ويخاله عدواً لدوداً. هذا عدا ما يقتبسه من قسوته ويعيه في دماغه من كلماته الفظة الغليظة الدنيئة وعدا ما يتشربه من شراسته وعناده واستبداده.

فالقسوة في المدارس من أكبر آفاتها ومن أسوأ سباتها لأنها تخمل عقول الأحداث وتحط نفوسهم وتفقدهم الشعور الأدبي وقوة الإرادة والاعتماد على النفس وصحة الحكم على الأمور والتمييز بين الحسن والقبيح إذ يستسلمون للمعلمين بعقولهم وقلوبهم وينقادون إلى أهوائهم (أي أهواء المعلمين) انقياداً أعمى يصدهم عن إطلاق مجاري العقل والابتكار والاستنباط والاستنتاج ويزيدهم شراً على شر والفرق بين آداب تلاميذ المعلم المستبد القاسي الفظ المهين الضراب ونجاحهم وبين آداب تلاميذ المعلم اللطيف المحب المكرم المقنع بين ظاهر. قال الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده: جعل التعليم مقروناً بكرامة النفس هو قوام التربية فإن المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس لأنها تخفي الأخلاق الذميمة ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر في أقبح الصور. وأما الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم من الشوائن وتأنف من كل ما ينافي الشرف. وقال ابن خلدون أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم ذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة لكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراءً وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى أنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. ومن كلام عمر من لم يؤدبه الشرع لا

أدبه الله حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. هذان رأيان لحكيمين كبيرين من آراء الحكماء التي لا تحصى في هذا الشأن دلهم عليها العلم والاختبار والاستقراء والزمان ويضيق بنا المقام إذا أردنا إحصاء الحوادث المحزنة التي جرت وتجري في المدارس المعروفة بالقسوة. كم من أمهات ثكلن بنيهن لشراسة المعلمين ولكم غض آباءٌ الطرف عن قسوة المدرسين ففقدوا أحداثهم وكم من أولاد ضاع مستقبلهم من غلظة المعلمين. سلوا المستشفيات والبيمارسانات سلوا الكهنة والمشايخ والمشعوذين والأطباء والإحصائيين علهم ينبئونكم صريخاً عن شهداء القسوة في المدارس. ولرب معترض من مزاولي حرفة التعليم الجالسين على كراسي أفلاطون وجول سيمون ومكس ملر وابن رشد المنتحلين لقب السيد المسيح ينتقد بعض كلامي ويرشقني بأسهم من ملام ويتخذ وصية حكيم الإسرائيليين حجة علي وما جوابي إلا أن القسوة في المدارس لا تفيد إلا في البلاد المتوحشة فقط حيث لا أم تهذب الأطفال ولا أب يحسن القدوة ولا هيئة مرتقية تساعد المعلم في نياته ولا قدوة خير تمنع الشر. ومع ذلك فيقتضي حينئذ لمستعمل العصا (في التربية والتعليم) حكمة سليمان وصبر أيوب ورقة السيد المسيح وبحث دروين واستقراء سبينوزا وإلا فالقسوة في المدارس مضرة على كل حال. بيروت جرجي نقولا باز

النهضة الأميركية

النهضة الأميركية خاتمة بحث معرب عن المجلة الجديدة زادت الهجرة إلى الولايات المتحدة منذ سنة 1870 وكانت ألمانيا وإنكلترا من البلاد التي هاجر منها الناس زرافات وبعثت كل من النمسا والنروج والسويد وإيطاليا وفرنسا والصين واليابان عصابات من المهاجرين يغشون البلاد الجديدة ويحملون إليها برؤوس أموال كبيرة وأسست ألمانيا وغيرها مراكز للاستعمار في أميركا الجنوبية. ونظمت إنكلترا لها مملكة استعمارية يبلغ عدد رجالها من مائتي مليون إلى ثلاثمائة منتشرين في أصقاع الأرض ومدت روسيا سلطتها على سيبيريا والأقاليم التي وراء بلاد القوقاز وحلت فرنسا في الهند الصينية ومدغسكر وألمانيا في بحار المحيط وأميركا الجنوبية ونثرت إيطاليا أرجاء بلاد الحبشة بأشلاء أبنائها واليابان تحارب روسيا للاستيلاء على كوريا. أما الولايات المتحدة فلم تنو اتخاذ مثال الأمم المتحدة إلا سنة 1898 فدخلت إلى جزائر الهافاي وساموا والفيلبين وكوبا وبورتوريكو وباناما وأخذت تضع العقبات فس سبيل المهاجرين من أوربا والشرق الأقصى وراحت تبعث بجمهور من مهاجرة أبنائها مع رؤوس أموال ضخمة إلى المحال التي بسطت ظل نفوذها عليها. وعقدت المعاهدات التجارية الخاصة مع جمهوريات الجنوب وبعض الممالك الأوربية جاعلة لحماية تجارتها القول والفصل. ومما يدل على بسط سلطة الأميركيين وتوفيقاتهم الاستعمارية استشارهم بجزائر الهافاي سنة 1900 تلك الجزائر التي تأخذ منها الولايات المتحدة سبعين ألف طن من السكر وفيها من ضروب الثمار والزهور ما تحار له الألباب وجميع أهلها يقرؤون ويكتبون وقد نالوا الجائزة الأولى في انتشار التعليم الابتدائي بينهم في معرض باريس سنة 1878 والعيش فيها من حيث الرغد والرفاهية لا يشبهه إلا المقام في جزائر كناريا. وقد نالت أميركا سنة 99 معظم جزائر ساموا ثم حولت وجهتها نحو استراليا واليابان والصين لما في البلاد الأولى من الخصب والغنى وفي الثانية من الطموح إلى الترقي وفي الثالثة من الضعف والاستسلام. جعل الأميركان قبلتهم تلك الممالك والتجارة مقصدهم الأول نعم بعثوا بدعاة الدين ولكن دعاتهم لم يشبهوا دعاة الكثلكة بحال فهم يبتعدون عن المشاغب والمتاعب ويجعلون التجارة

أخص آمالهم ولذلك كان لهم في الصين المقام الأعلى فاستفادت منه أميركا فائدة مذكورة وساعدهم على ذلك مضاهاتهم للأوربيين في متاجرهم في أقصى آسيا كون مدينتهم سان فرنسيسكو أقرب إلى شنغاي وهوكنغ ويوكوها من هامبورغ والهافر ومرسيليا إليها. وقد كان للأمريكان اليد الطولى في إطفاء فتنة البوكسر في الصين سنة 1900 وإنقاذ السفارات الأجنبية من الحصار وفتح أبواب الصين للتجارة العامة على قدم المساواة بين الدول. وسياسة الباب المفتوح أمرضتهن كافة ولم تتألم أميركا بمحالفة اليابان وإنكلترا سنة 1902 تلك المعاهدة التي أدت في الأحايين إلى خرق سياج هذا الباب في بعض أحوال مخصوصة. ولم يكتف أرباب الأموال من الأميركان أمثال فندربلت وجاي كود وركفلر بتأليف شركات كبيرة للاتجار في الصين بل قامت زمرة من أصحاب الملايين منهم ترى احتكار المشاريع الإفرادية في إحدى الصناعات غاية في البساطة فاحتكر المثري كارنجي الحديد ثم تألفت شركة من كل من كارنجي ومور ومورغان احتكرت الفولاذ في بلاد أميركا وهو من الاحتكارات التي لم يسمع لها مثيل وقد ساعد هؤلاء المحتكرين الثلاثة على احتكار الفولاذ إن كانت لهم الخطوط الحديدية. وبعد أن تم لهم ذلك أنشئوا شركة بحرية تمخر سفنها عباب البحر المحيط ليتمكنوا بواسطة سفنها من الاستيلاء على تجارة الأسواق الخارجية كما تمكنوا من الأخذ بناصية الأسواق الداخلية. ثم أسس المثري مورغان دار صناعة يصنع فيها أرخص السفن وأجودها حتى لا يتيسر لشركة في العالم مهما بلغت من القوة بأن تضاهيه وشركاءه في احتكارهم. غلبت أميركا حكومة إسبانيا منذ سبع سنين فرغب كثير من الدول الأوربية في مسالمة أميركا وأصبحت كل من إنكلترا وألمانيا لا تخاف على نهضتيها إلا من سطوات الأميركان. وحاولت ألمانيا القرب من الولايات المتحدة ولكن هذه لا ترضى عن تلك وهي ترى أبناءها ينزلون في أميركا ويستنزفون أموالها بالإتجار وغيره من الأعمال. أما إنكلترا فحالها مع الولايات المتحدة تختلف عن حال غيرها ذللت لأنها غذت أميركا بأجود لبنها فلما انفصلت عنها عرفت قدر حماية التجارة وتمكنت بهذا المبدأ من التغلب وإحراز قصب السبق لأن تينك الأمتين على طرفي نقيض في صلاتهما التجارية. فأميركا تقول بحماية

التجارة وإنكلترا تقول بحريتها. ولقد خيف على مستقبل التجارة الإنكليزية حتى قال غلادستون: مهما كان من سرعة سيرنا معاشر الإنكليز فإن سير الولايات المتحدة قد جعلنا وراءها بمراحل وستكسف تلك البنت أمها وتشل المقام الأول الذي نشغله اليوم فلا نستطيع إذ ذاك أن نصدها عنه إلا كما صدت البندقية وجنوة وهولندا عظمتنا المأثورة. قال الكاتب هذا القول سنة 1870 ولم يكد يتم القرن التاسع عشر حتى صارت إنكلترا من هذه الوجهة دولة ثانوية ولأميركا المقام المحمود وحق التصدر والأولية وأمست إنكلترا لا يهمها سبق أميركا وحدها بل قام لها من دول الأرض من حذون حذو الأميركان في مباراتهم التجارية مثل الألمان واليابان والروس. وغير خاف أن العنصر السكسوني من أعظم العناصر إدلالاً بعظمته حتى لقد صرح يوماً سسل رودس الغني المشهور الملقب بنابليون الكاب بأن الله اختار العنصر الذي يتكلم الإنكليزية ليكون أداة يقام بها مجتمع أسس على العدل والحرية والسلام ولطالما صرح نبلاء الأمة الإنكليزية بمثل هذه الأفكار وأظهروا من الفرح بنهضة الأميركيين وأن نجاحهم كيف كان يعد نعمة على البريطانيين لا نقمة. قال بعضهم سئل إسكندر دوماس القصصي الفرنسي ذات يوم أي تأليفه أحب إليه وكان ابنه جالساً بالقرب منه فأشار بيده إلى ابنه وقال هذا. ولذلك أقول أي حسنة تعد لإنكلترا الولايات المتحدة رأس حسناتها أهلها أهل العزائم وهم أجدر منا بالقيام بالعظائم. ومن جملة ما أوصى به سسل رودس من الأعمال الخيرية أن يصرف من ماله على الدهر أجرة تعليم تلميذين من كل ولاية من الولايات المتحدة يجيئون مدرسة اكسفورد الجامعة في بلاده ليتعلموا فيها على نفقته ويعودوا إلى أميركا لتنتفع بهم أمته. قالت إحدى الجرائد ولو كان عكس الأمر بأن أوصى أن يعلم بعض أبناء بلاده في أميركا للوقوف على أحوال الأميركان لعمل خيراً كبيراً. حتى أن القاعدة الشائعة في مدرسة هارفرد الجامعة الأميركية التي سنها الفيلسوف أميرسون الأمريكي هي: أن السكسونيين كانوا وعليهم أن يكونوا العنصر الحاكم المتسلط وما يطمحون إليه هو أبسط النفوذ والقدرة على الاضطلاع بالأعمال.

وبعد فإن النهضة الأميركية أحدث من النهضة الإنكليزية وأقوى من النهضة الألمانية والروسية وأحسن انتظاماً من النهضة اليابانية ومنها الخوف القريب على مستقبل العالم. وأن مبدأ مونرو مضافاً إلى نهضتها الزراعية والصناعية والتجارية هو ما يطوي الأحشاء منها وجل أبداً من حيث الأمور السياسية. ولقد كان للنساء اليد الطولى في هذا الارتقاء فإنك ترى للمرأة في الولايات المتحدة من الاعتبار والمقام مالا تراه لها في بلاد أخرى من ممالك الأرض. فالمرأة هناك تؤسس البيوت على التقوى والحب لا على المصلحة والمنفعة وتنفخ في ذويها النشاط الذي يعلى منزلة الإنسان وتحببه إلى النفوس. فمن أجل المرأة قام الأميركان بأعمال عظيمة في حروب الرقيق المدعوة بحروب الانشقاق ومن أجل المرأة ترى الأميركي معجباً بنهضته وساهراً أبداً على دفعها إلى أقصى غايات الكمال على أن في الولايات المتحدة من المسائل السياسية الداخلية ما لم توفق بعد إلى حله مثل مسألة الرقيق والمسألة المالية ومسألة الجيش ومسألة البحرية ولا ينبغي لمن يرغب في العمل من الدول أن ينتظر ريثما تنحل هذه المشاكل لئلا تفوته الفرصة وتنادي محبة المباراة منهن الصيف ضيعت اللبن. أما المسائل العسكرية والبحرية فالولايات المتحدة تحلها أي حل ناهيك بأمة لم يكن لها سنة 1891 من السفن الحربية ما يستحق الذكر وصار لها اليوم المقام الثاني بين الدول البحرية وتطمح إلى إحراز المقام الأول مما يتأتى لها في القريب العاجل. وإني لآمل أن لا يذهب كلامي في الهواء إذ أن نهضة الأميركان تستحق أن تستدعي أنظار الأوروبيين ما دامت تسوي كل مسائلهم ويمتلئ الفراغ وتصلح النواقص ولم يبق في الولايات المتحدة في الحقيقة غير مسألة السود التي تنحل بطبعها يوماً عن آخر. وما برح إخلاف عبيد إفريقية ينمون منذ حرب الرقيق وكانوا إذ ذاك أربعة ملايين فغدوا اليوم من اثني عشر إلى ثلاثة عشر مليوناً على أن السواد الأعظم منهم ما برحوا في ذهول وخمول وما فتئ الأميركيون يكرهونهم كثيراً وإن حرروا من رقهم فقد لا تجد فتاة أميركية تزوجت بزنجي ولطالما عوقب بعض الزنوج على إن أطالوا يد تعديهم على النساء البيض ومزقوهن إرباً إربا وهذا ناتج عن البغض القديم المتأصل بين العنصرين ويزيد فيه الصفات السيئة التي اختص بها الزنوج بيد أن العقول ما برحت تفكر في تلك البلاد بإيجاد

حل لهذا الإشكال ووضع دواء لهذا الداء وذلك من طريق العلم والتربية. قام العمراني الأسود كوكر واشنطون وأنشأ مدرسة جامعة عظمى للسود في مدينة توسكيكو وأسست فيها مدارس خاصة بالزنوج تكون تحت مناظرة العقلاء من الأميركيين. وقد عني رجال الأميركان ومنهم الرئيس روزفلت اليوم بتحرير الجنس الأسود من رقه الأدبي فدعا إلى تناول الطعام على مائدته كوكر واشنطون المشار إليه ولم تخش الآنسة ابنته على سواد بشرتها من التنزه مع النساء البيض. ولا يلبث السود أن يتعلموا لترتفع مداركهم عن التسفل والفظاظة وليفنوا في كيان الأميركيين كما يفنى غيرهم من المهاجرين. وإني أعود فأقول أن نهضة الأميركيين جديرة أن تدرس حق دراستها وإلا ساءت مغبة أوروبا وباءت بالخسران العظيم وخصوصاً إذا تمت الأمنية بعقد تحالف إنكليزي أميركي. وليعلم الدول كلهن مع هذه القوة الهائلة أن للجميع_كما قال الفيلسوف سبينوزا_محل من بيت الرب أي مجال لكل الرجال في هذه لحياة الدنيا ليعلموا والله يعلم السر وأخفى.

أكلة التراب

أكلة التراب معربة عن مجلة الطبيعة الفرنسية أكلة التراب من العادات المشاهدة في جميع أطراف العالم فلا يتناوله المتناولون أجزاءً صغيرة كما تؤخذ التوابل بل يكثرون من تناوله بكميات وافرة. وقد قال بلين أن بعض الرومانيين كانوا يمزجون الحنطة بالطباشير المستخرج من ضواحي بوزليس إحدى مدن إيطاليا اليوم. وكان التراب المختوم المجلوب من جزيرة لمنوس وأرمينية يستعمل في الطب. ويأكل بعضهم الطين في أميركا الجنوبية في خلال الفيضانات كما يتخذون التراب إداماً في المعجنات في بورتو والهند والصين ويقوم الصلصال الأبيض مقام صحفة من الحلواء في شاطئ الذهب بإفريقية. ويتخذ من الحجر الرخص الأبيض طعمٌ لقنص الثعالب والوعول وغيرهم من الحيوانات الكاسرة. وسمن الحجر معروف عند العملة الألمان. وقد شاع استعمال تراب صالح في بلاد فارس. وأهل السنغال يمزجون تراب المغرة (طين أحمر) بالأرز فيأكلونه. وثبت في الهند خاصة منذ عهد طويل أن أكل التراب ينتهي بصاحبه إلى الموت. ويظهر أن القوم في أمريكا الجنوبية يضعون في الليل على عيون الأطفال أوجهاً مستعارة لمنعهم من قلع الجبس عن الحيطان وأكله. وكثيراً ما شوهد أن أناساً في بعض الأصقاع يتناولون كمية من التراب أو الخزف المكرر فقد ثبت أن العثماني (كذا) يتناول نصف رطل مصري في النهار وأن الفرد في إقليم البنغال من بلاد الهند يتناول ستة أواق. ويجعل التراب أو الخزف بعض الأحيان تماثيل صغيرة وغيرها كما نجعل السكر والحلويات وأقراص الطحين والعسل والتوابل. فيستخدمون في البنغال وبوليفيا صور قديسين من الطين والخزف كما يتخذون منها في جاوة صور آدميين وحيوانات. والتراب أكثر شيوعاً من الخزف. ولقد أدى البحث عن أسباب مرض آكل التراب ليوم إلى أنه ينبغي التمييز بين ما استعمله بعض الشعوب في كل زمن من مزج طعامهم بمواد حديدية مختلفة وبين المرض الذي يصاب به بعضهم في الأصقاع معينة وهو عبارة عن ابتلاع كمية عظيمة من التراب. فإن من الأمراض ما ينشأ عنه ميل إلى تناول التراب مثل بعض أمراض الهستريا والجنون

والخبل. وكذلك بعض النساء في حال الحبل. ويكثر الميل إلى ذلك بالأكثر في الأمراض التي تحدث عنها اضطراب في المعدة ويشكو أربابها بضيق وجوع واحتراق في القسم الشراسيفي فيتوهمون أنهم إذا ابتلعوا جسماً ثقيلاً تسكن آلامهم وهذا ضرب خاص من ضروب الطوى الشديد وجوع البقر ومن جملة الأمراض الشائعة في أقطارنا ما ينجم عنه حالياً إفراط في اشتهاء الطعام وميل إلى ابتلاع ماد صلبة ولو لم تكن مغذية هو مرض الأنيميا المصرية داءٌ عني بالنظر فيه بعض أهل العلم منذ بضع سنين فثبت الهم أنه يحدث من ديدان صغيرة قليلة كانت أو كثيرة تعلق في الغشاء المخاطي المعدي على مساواة الإثني عشري (أي القسم الأول منت المعي الرقيق) ولا يصاب به في البلاد الأوروبية غير عملة المناجم ولذلك يدعى أيضاً هزال المعدنين. كما يصاب به العملة الذين يشتغلون في الأنفاق ومعامل الخزف والقرميد. والحرارة والرطوبة هي من الأسباب الجوهرية في نمو هذه الديدان. فتعيش الدودة وتبيض في معي المرء كما تنمو في الطين الذي هو إلى الحرارة وتدخل الجسم عن طريق الجلد أو عن طريق الفم وبهذا عرفت أن دودة الأحشاء هذه التي يقل نموها في البلاد الباردة للأسباب المقدمة آنفاً يكثر نموها في الأصقاع الحارة والرطبة. وبعد فقد ثبت وجود الأنيميا المصرية مثلاً في مصر وعلى ساحل إفريقية تقريباً وإنه يصاب بها الزنوج أحياناً بصورة شديدة للغاية. وقد وجد الباحثون بين المصابين بها أناساً من أكلة التراب كانوا يحملون داء الأنيميا في أحشائهم. ومن السهل أن نتصور مبلغ ما يتعرض له أكلة التراب من الأخطار إذا عرفنا أنه مملوءٌ بالدويبات والجراثيم. ولا يعد أن ينجلي البحث في المستقبل عما إذا كانت نسبة بين الأصقاع التي ينتشر فيها مرض الأنيميا المصرية وبين الأصقاع التي يؤثر عن أهلها أكل التراب. وإنا لنرى أكلة التراب على كثرة في الهند كما نجد مرض الأنيميا. وكذلك الحال في الصين والهند الصينية وسيام واليابان. وقد بحث سنتيل في مرض الأنيميا في أمريكا فثبت له أنها منتشرة في الأرجاء التي شوهد فيها أكلة التراب وأنه لا يصاب بها الهنود فقط تتناول الزنوج والبيض أيضاً. ويروى أن أكلة التراب يموتون في أمريكا شر ميتة فتبدو عليهم أعراض الهزال فيهلكون.

هذا وقد ثبت أن الأنيميا تسبق في الغالب عادة أكل التراب وقيل أنه سبب الأنيميا ولا يدرك ذلك في الأنيميا البسيطة وتظهر كل الظهور إذا كانت الأنيميا ناشئة عن ديدان.

تراسل الأفكار

تراسل الأفكار حدث مرةً أن أميراً شهيراً من أمراء بلاد بعث بنفر من أخص اتباعه إلى إيالة يتولى أمرها رجل وافر الثروة عظيم الجاه نافذ الكلمة حتى صبح نداً للأمير المشار إليه يخشى بأسه ويحذر جانبه فلم ير الأمير من وسيلة للتفرد بالحكم والسلطان سوى التخلص من ذلك الند بطريقة من الطرق وبعد التروي في الأمر عول على اغتياله فأسر ذلك إلى الأتباع المنوه عنهم وبقي سراً مدفوناً في قلوبهم لا يعلم به أحد من البشر. وبينما الأتباع سائرون لقضاء مهمتهم في وسط واد وإذا برجل واقف على صخر شاهق يناديهم قائلاً أيها القوم ألا يكفي اثنان منكم لقتل فلان وذكر اسم الرجل فعرتهم الدهشة وتولاهم الهلع والذهول لأن رجلاً آخر في العالم وقف على سر الدسيسة وهم على يقين أنه لم يعلم أحد سواهم به إلا الأمير. وهذه الحقيقة وأمثالها التي كان يسخر منها العلماء منذ بضع سنين وينسبونها إلى الصدفة أو الأوهام قد أصبحت شغلاً شاغلاً لعلماء ما وراء المادة وسيكون لها شأن خطير في رفع ستار الإبهام عن حقيقة القوى العقلية التي لا نعلم من أمرها حتى الآن سوى النزر اليسير. الطريقة التي جرى عليها البشر في نقل الأفكار من دماغ إلى دماغ أو من عقل إلى عقل هي واحدة من اثنتين وهما اللفظ والكتابة ففي الأولى يكون عضو السمع هو الواسطة في نقل الفكر إلى الدماغ وفي الثانية يكون الواسطة عضو البصر إلا أنه قد تبين الآن بعد طول البحث والاختبار أن هنالك طريقة ثالثة ينتقل بها الفكر من دماغ إلى آخر في الفضاء على مسافة ألوف من الأميال دون وسيلة من الوسائل المادية وهذه الظاهرة الغريبة من ظواهر علم ما وراء المادة التي لم يتفق العلماء حتى الآن على وضع لفظ لها في اللغات الأجنبية يقع عليه الإجماع قد أطلقنا عليها في العربية لفظ تراسل الأفكار وهي الغرض من هذه المقالة. والمراد بتراسل الأفكار انتقال فكر من دماغ إلى دماغ دون توسط إحدى آلات الحس المعروفة فقد يتفق أن ينقل شاب في القاهرة وهو في حال النزع شعوره في لحظة حدوث تلك الأعراض لوالدة له قد تكون في باريس مثلاً فتشعر بنزع ابنها في تلك اللحظة عينها وليس فقط بل قد يتاح له أن ينقل إليها في تلك اللحظة أيضاً وصيته وأمانيه الأخيرة بحيث تتجلى لوالدته واضحة كل الوضوح وليس هذا من باب التخرصات والأوهام ولكنه حقيقة

علمية أجمع جلة الفلاسفة على الإقرار بصحتها ولكنهم اختلفوا في تعليلها وهم في ذلك فريقان فريق الماديين وفريق الروحيين. والشواهد على صحة ما تقدم كثيرة تعد بالألوف نجتزئ هنا بذكر واحدة منها يكون بمثابة أنموذج للمطالع اللبيب وهو أن شقيقة أحد الجنود الذين توجهوا إلى الترنسفال أثناء حرب البوير شعرت فجأة في لندرا أن أخاها أصيب برصاصة في صدره والدم ينزف غزيراً من جرحه وأفادها في تلك اللحظة عينها أنه عندما سقط جريحاً في ميدان الوغى عاونه رفيقان احتملاه من موضعه وأغاثاه جهد الطاقة وذكر اسميهما لها دون أن تكون قد سمعت بهما قبلاً على الإطلاق وأوصاها أن تخصهما بهبات مخصوصة من ملكه عينها لها تكون بمثابة تذكار منه إليهما اعترافاً بشهامتها فدونت الشقيقة هذا الشعور والتاريخ بالدقة ولم يكن سوى بضعة أسابيع حتى وردتها التفاصيل مؤيدة لما تقدم كل التأييد. وليس من داع إلى الأغراب في إيراد الأدلة والشواهد فقد جرى في نفس القاهرة منذ عام أو عامين ما هو بمثابة ثبت لما تقدم إذ جاء رجل وامرأة وأظهرا من البراعة في قراءة الأفكار ما حير الحاضرين وأدهشهم ولقد تفنن الحضور في الإضمار تفنناً حتى أن أحدهم أخذ دبوساً ووضعه ضمن لفافة وضعها مع لفائف أخرى في علبة جعلها في جيبه فلما اقتربت المرأة من الرجل اعترتها هزة عصبية كمن هو في حيرة ثم ما لبثت أن وضعت يدها في جيب الرجل وأخرجت منها اللفافة فقطعتها قطعاً وأخرجت من وسطها الدبوس وهي تنتفض انتفاضاً. ومن أهم شروط قراءة الأفكار أن يكون القارئ معصوب العينين لكي لا يستعين بقوة فراسته والاستدلال بملامح الوجه على ما يدور في خلد من أمامه وليتمكن من جمع قوى الذهن حتى تكون أشد تأثيراً وانفعالاً إذا كان مفتوح العينين وقد جلس مشاهير قراء الأفكار في حضرة أعظم ملوك العالم والقابضين على أعنة أحكامه فأدهشوا الحضور بما كانوا يأتونه من الإصابة في الحكم وكشف مخبآت الأفكار. غير أن هنالك فرقاً جوهرياً بين قراءة الأفكار وتراسلها إذ أنه لابد في الحالة الأولى للقارئ من لمس أطراف أنامل الشخص أو جبهته أما في الحالة الثانية فلا شيءٌ من الملامسة بل تنتقل الأفكار من دماغ إلى دماغ آخر على بعد ألوف من الأميال دون توسط

آلة من آلات الحواس المعروفة على ما مر بيانه وهو العقدة التي وقفت عندها الباب علماء ما وراء المادة حيارى يتلمسون لها حلاً ينطبق على شرائع الطبيعة ونواميسها. إذا رميت حجراً في بركة ماء ساكن تكونت نقطة الوقوع في دوائر لا تحصى من التموجات تزيد كل منها عن التي ضمنها حتى تتلاشى في المحيط وذلك لأن دقائق السوائل سهلة الحركة فتفعل فيها القوة فعلاً متساوياً إلى كل الجهات وهذا هو السبب في تكون الحركة الناشئة من سقوط الحجر على شكل دوائر مختلفة الحجم لها مركز واحد وهو نقطة الوقوع ونفس هذه التموجات التي تحدث في الماء تحدث أيضاً في الهواء الذي هو في عرف علماء الطبيعة سائل لطيف فإذا صفقت كفاً بكف أحدث الصفق تموجات في الهواء إلى سائر الجهات فتقع على الأذن فتهتز طبلتها اهتزازاً يختلف باختلاف شدة الصفق وتنتقل الاهتزازات المذكورة على طرق لا مجال لتفصيلها إلى العصب السمعي الذي ينقلها إلى حاسة السمع في الدماغ فيشعر بالصوت. إلا أن هناك سائلاً آخر في غاية اللطافة يملأ جوانب الفضاء ويتخلل إبعاد الأجرام السماوية ومسافات الكون لم تشاهده عين ولم تسمعه إذن ولم يخطر على قلب بشر في العصور السالفة أطلق عليه العلماء اسم الأثير واستدلوا على وجوده بأدلة ليس هنا محل شرحها فإذا تموجت دقائق هذا السائل تموجات خصوصية أحدثت الظاهرة الطبيعية التي نسميها بالنور وما اختلاف ألوان النور التي نشاهدها في قوس قزح سوى اختلاف تموجات الأثير فإذا انخفضت إلى درجة معلومة أصبحت حرارة أي أمواجاً لا تدرك بالعين بل يشعر بها بأعصاب الحس فالنور والحرارة إذاً صنوان إنما يدرك أحدهما بحاسة البصر والآخر بحاسة اللمس تبعاً لتموجات هذا الوسط اللطيف المسمى بالأثير. واعتقاد الفريق الأكبر من العلماء الآن هو أن الفكر الذي يتولد في الدماغ يحدث أمواجاً خصوصية في الأثير شبيهة بأمواج النور التي مر بك بيانها ولكل فكر تموجه الخاص كما أن للأزرق من النور تموجات خصوصية في الأثير وللأحمر مثلها فكذلك لكل نوع من الأفكار تموجه الخصوصي في الوسط المشار إليه وكما أن النور يسير بسرعة مدهشة تبلغ نحواً من مائتي ألف ميل في الثانية حتى يتاح لنا إبصاره لحظة حدوثه فكذلك يتاح للفكر أن يحدث تموجاته الخصوصية في الأثير سائراً بمثل هذه السرعة العجيبة وكما يتأتى للقوة

الباصرة في الدماغ أن تشعر بالنور على مثل هذه المسافة فكذلك يتأتى للدماغ أن يشعر بتموجات الفكر الصادر إليه من دماغ آخر لحظة حدوثها ولو كان أحدهما في جانب من الكرة الأرضية والآخر في الجانب المقابل. فإذا أدركت ذلك هان عليك أن تقفه كيف تنتقل الأفكار لحظة حدوثها من دماغ إلى دماغ على مسافات شاسعة وكيف يمكن لقريب أن يشعر بما يجول في دماغ قريب له يقضي نحبه غير أن ذلك لا يتأتى لكل فرد الحصول عليه إذ لابد هنالك من استعداد خاص في الدماغ يؤهله لهذا الشعور البالغ منتهى الرقة ولولا ذلك لكان كل فرد من البشر قارئ أفكار والواقع يدلنا على أن ذلك محصور بفئة قليلة جداً ثم إن هذا الشعور دليل على وجود نفس للإنسان تتجلى لقريبها لحظة انفصالها عن الجسد أو هو ظاهرة طبيعية محضة يكفي التعليل عنها بما تقدم فهو مما لم يقطع به العلماء حتى الآن وليس من راضنا الخوض به في هذه المقالة فلكل فريق أدلته ولكل عالم دينه. القاهرة الدكتورخليل سعادة

شاه إيران

شاه إيران فقدت بلاد فارس صاحبها الحكيم ومدبرها العظيم وأباها البر الرحيم الطيب الذكر مظفر الدين شاه. توفاه الله في الشهر الماضي عقيب مرض طالت به برحاؤه واشتدت عليه بلواؤه. داء النقرس والكليتين. فشق نعيه على كل من عرف ما لاقته أمته في عهده من صلاح الحال وحسن المآل. ولد في 14 جمادى الثانية سنة 1269 وأمه أميرة من الأسرة المالكة ولما شب أخذ في تلقينه العلوم الابتدائية ثم نصب وهو يافع ولياً للعهد وجعل والياً على أذربيجان وأقام في قاعدتها مدينة تبريز معهد أولياء العهد في الحكومة الفارسية وهناك أخذ يتلقى اللغات والعلوم فاحكم منها الفارسية والعربية والتركية والفرنسية وحذق الرياضيات والعقليات والتاريخ والجغرافيا وفن المدفعية وبقي يمارس أعمال الإدارة تسعاً وثلاثين سنة كان في خلالها مظهر العطف والرأفة ومثال العدل والحكمة حتى يروى أنه كان يقول لا وليت ملكا أبناؤه فيه عبيد. تولى عرش السلطة في 23 ذي القعدة سنة 1313 وإبان فيها عن دراية واسعة ولقد حاول لأول أمره أن يدخل إلى بلاده من الإصلاحات ما تأمن به عوادي الأغيار ويعيش أهلها في نعيم وغبطة لكنه حاذر من نفوذ رجال الدين والإشراف في مملكته وتعصبهم الذي يمازحه جهل بالحديث وجمود على القديم فعزم أن يمهد لذلك بأن يرحل إلى أوربا ويصحب معه زمرة من رجال قصره وأكابر دولته ليروا بأعينهم ما في الغرب من حضارة رافعة وانتظام شامل فيعودوا وقد تشبعوا بفكر الإصلاح ويكونون يده اليمنى في العون عليه ولكن لم يجد منهم في رحلاته الثلاث ما كان يتوقعه وانصرف هناك معظمهم إلى شهواتهم وما خصوا للنظر فيما يقصد إليه مولاهم ولا نزراً من أوقاتهم ولا أعاروه نظرة من التفاتهم. حتى إذا كانت هذه السنة نزع جماعة من الأمة في طهران إلى الثورة ولجأ قسم منهم إلى السفارة الإنكليزية وهاجر قسم إلى الأماكن الطاهرة في العراق أو يدخل الشاه الإصلاح المطلوب وعندها وجد وسيلة إلى منح الأمة ما كان يجول في صدره منذ سنين فمنحها الدستور وشرع لها قاعدة الشورى الإسلامية ولقد خاف أن يدركه الأجل ولم تستحكم من مجلس الأمة قواعده ولما اشتد عليه المرض دعا إليه ولي عهده وأمره بأن يوقع على ورقة كان ألقاها إليه فوقع عليها بدون أن يراها تأدباً وقال له هذا هو الدستور الذي منحناه للأمة.

ولما بلغه وهو على فراش الموت أن ولي عهده غير راض عن الدستور سأله عن معنى ذلك فقال له والعبرات تتساقط من مآقيه: أيجدر بالمملوك أن يخالف أمر مولاه. ومن جملة ما قام به من أعمال الإصلاح أنه تنازل عن راتبه الملوكي وكان خمسة ملايين فرنك فأنزله إلى 75 ألفاً بما له من الثروة العظيمة الخاصة وألغى كثيراً من المكوس والضرائب وأسس في عاصمته مدرستين على الطراز الحديث ليعلم أولاد الفقراء مجاناً وحبس لهما ما يكفيهما من ماله وحث قومه على إنشاء المدارس فنشئت في طهران عشرات من المدارس على الأصول الجديدة وكذلك في معظم المدن الفارسية ما خلا مدارس الحكومة وكان طاب ثراه متديناً غيوراً مفكراً جداً يقرب العلماء والشعراء ويغدق عليهم من جوائزه وعطاياه وهو ثاني ملك شرقي منح أمته الدستور عن طيب خاطر ومات وهو حريص على تنفيذه محاذر أن ينقض ما أبرمه ويهدم ما أقامه. ولذلك كان خطبه جسيماً والأسف عليه عميماً. أما خلفه الشاه محمد علي فقد ولد في 14 ربيع الثاني سنة 1289 وأقيم ولياً للعهد وحاكماً على أذربيجان يوم وفاة جده ناصر الدين شاه وتولي والده منصة العرش الفارسي وقد تعلم حد الكفاية من العلوم واللغات وهو يعرف العربية والإنكليزية والروسية والفرنسية مولع بالضرب على بعض أدوات الطرب موصوف بالنباهة قوي البنية تغلب عليه حدة الشباب في الأحايين ولعل بلاد الأكاسرة تلاقي منه خير نصير في إتمام ما بدأ به والده من الإصلاحات النافعة في عمران ذلك الملك وارتفاع شأنه.

المسلمون في الفيليبين

المسلمون في الفيليبين الفيليبين هي أرخبيل أو مجموع جزائر في الإقيانوس الكبير تتألف من نحو ألف ومائتي جزيرة صغرى وكبرى. وهذه الجزر هي القسم الشمالي من ماليزيا اكتشفها ماجللان الملاح البرتغالي ودعيت باسم فيليب الثاني ملك إسبانيا وهي ممتدة على 1500 كيلومتر من الشمال الشرقي من بورنيو بين بحر الصين والمحيط الباسيفيكي وتبلغ مساحتها السطحية 296. 000 كيلومتر مربع وأهم محاصيلها البن والأبازير البهارات وقصب السكر والأرز والتبغ والقنب ومن بحرها وأنهارها يستخرج عرق اللؤلؤ والدر بكثرة ومناخها شديد ولذلك كان أهلها وعددهم زهاء سبعة ملايين نسمة أشداء أقوياء. وقد اضمحل سكانها الأصليون إلا قليلاً بما داهمهم من بأس الفاتحين من الماليزيين وأكثر سكانها تمدناً اليوم هم التاغال وعددهم مليون ونصف والفيزايا وعددهم مليونان ونصف والفيكول وعددهم أربعمائة ألف والمورو أي المغاربة وهم المسلمون وعددهم كثير في الجزائر الجنوبية. وهم أخلاط من الماليزيين والصينيين والهنديين والعرب والجاحدين من الأوربيين ويعد في جملة المسلمين قوم من الجورامانتادو يقدمون أرواحهم فدية لله ويتقربون إليه بقتل الكافرين وهم متعصبون على الجملة على ما وصفهم أكثر من كتبوا عنهم. ولقد استولت إسبانيا على هذه الجزر زمناً ولكنها لم تعمرها وغاية ما صرفت وكدها إليه تنصير السكان ليدينوا بالكثلكة فأصبح المتظاهرون بها والمنتحلون لها تسعين في المائة من السكان ولما لقي التاغال والميتيون ما لقوا من سيطرة رجال الدين وسوء الإدارة قاموا يريدون تخفيف ما نالهم وأن يعاملوا بالمساواة مع البيض فنشبت ثورة سنة 1896 ولم تنطفئ شعلتها إلا بوعد زعيم الثائرين أن تقوم إسبانيا بالإصلاح المنشود ولما لم تقم هذه الحكومة بوعدها عاد ذاك الزعيم يبدي نواجذ الشر في السنة التالية بمعاونة الولايات المتحدة وبعد أن حاربت الحكومة الأمريكية إسبانيا من أجل هذه الجزائر استولت على الفيليبين وكوبا وبورتوريكو ونكست أعلام إسبانيا وراح الأمريكان يستعمرونها فيحسنون استعمارها. ولما مد السلام رواقه على هذا الأرخبيل وانتهى دور الكتائب والحسام جاء الدور للكتب والأقلام وأخذت المجامع العلمية تبعث برسلها للبحث والتنقيب لتنظر في تاريخ الفيليبين واجتماعها وعمرانها فانتشر منذ سنة نحو عشرين مصنفاً في الكلام على هذه الجزائر ومن

جملتها كتاب المورو أي مسلمي الفيليبين لوطنينا الفاضل الدكتور نجيب صليبي. ولقد اطلعنا على مبحث في مجلة العالم الإسلامي الفرنسية اقتطفته من مصادر كثيرة ومنها كتاب جزائر الفيليبين الذي ظهر مؤخراً بالإنكليزية من قلم جون فورمان فآثرنا تحصيله للقراء ليقفوا على أحوال أولئك القوم ويعرفوا مبلغ عناية الغربيين بكل فرع من فروع العلم والاجتماع قالت المجلة الباريسية: شغل المؤلف جزءاً عظيماً من كتابه بالكلام على المسلمين بعد أن أطال عشرتهم وخالط زعماء الثورة ورجال الحكومة منهم فجاء من ذلك ببيان رائده الإنصاف وسداه ولحمته التحقيق وقد أبان في كتابه علاقة مسلمي الفيليبين مع الإسبانيين سابقاً ومع الأمريكيين لاحقاً إلى أواسط سنة 1905. المسلمون اليوم هم عبارة عن ثمانية أو تسعة أعشار جزيرة مينداناو الكبرى وجميع أرخبيل سولو مع جنوبي بالوان وكانوا منتشرين في الشمال من تلك البلاد على عهد الفتح الإسباني ولما نزلت الحملة الإسبانية الأولى في جزيرة لوسون سنة 1507 اختلطت لأول أمرها مع الراجا (حاكم) توندو وابن أخته الراجا سليمان في مانيلا حاضرة الفيليبين اليوم وكان قائد الجيش الإسباني العام إذ ذاك يرى سكان توندو ومانيلا مسلمين ويطلق عليهم في مكاتباته الرسمية لفظ المورو أي المغاربة ولم يكن لأحد من الإسبانيين شك في ذلك لأن المغاربة لم يطردوا الطرد الأخير من إسبانيا إلا سنة 1492. ولقد اختلفت الأقوال في دخول الإسلام إلى تلك الجزر والمرجح أن الجزر الجنوبية مثل ميداناو وسولو انتشر فيها الإسلام لقربها من مسلمي شمالي بورنيو فاستولى المسلمون على سلطنة بورنيو عقيب أن خربوا مملكة الماجاباهيت من بلاد جاوه سنة 1473 ولم يتحارب الإسبانيون مع سلاطين المسلمين إلا في سنة 1577 وقد تقدم السلطان عبد القهار عدة ملوك مسلمين ومنه بدأ تاريخ الفتن بين المسلمين والإسبانيين. وبالجملة فإن الإسلام انتشر في مينداناو وبورنيو بمساعي دعاة العرب على أنه لم ينتشر حقيقة في جنوبي الفيليبين إبان الفتح الإسباني ولم تنتحل سولو الإسلام إلا بعد أن جاءها دايكس من بورنيو وتزوج أحد زعمائهم المدعو اندازولان - وكان استولى أولاً على جزيرة بازيلان ثم على سولو - من ابنة زعيم من أعيان المسلمين في مينداناو وانتحل الإسلام وأسس سلطنة سولو ثم

قويت شوكته باتحاده مع بورنيو ومينداناو. وعادت الأحقاد القديمة فتجددت بين الإسبانيين والمسلمين وحمل الإسبانيون على هؤلاء مدفوعين بعامل السخط الشديد وفي سنة 1576 ثار لاكاندولا والراجا سليمان في جزيرة لوسون ولكن قوة الإسبانيين إذ ذاك حالت دون انتشار الكلمة الإسلامية وإن بقيت اليوم بقية من ذرية لاكاندولا في بعض القرى فقد انحط مقامهم وأصبحوا نكرة لا تعرف حتى أن أحدهم كان خادماً في مطعم فرنسي في مانيلا سنة 1885. وقد بعثت إسبانيا سنة 1596 حملة على مينداناو فقتل قائدها عند نزوله إلى البر وأغار والي سولو بنفسه سنة 1638 فاحتل بعض المراكز في شاطئ ميداناو حيث لقب الراجا سيبوجي سنة 1640 بلقب السلطنة. ولم تكن هذه السلطنة وذاك الاحتلال إلا اسماً لا حقيقة لهما إذ بقيت الفتن قائمة قاعدة بين المسلمين الأصليين والمسيحيين الفاتحين ولاسيما في القرصنة. فدامت الغزوات البحرية بين الفريقين بلا انقطاع مدة ثلاثة قرون فريق يعتقد أنه يجاهد جهاداً مقدساً وهم المسلمون وفريق يدعي أنه يحارب باسم الصليب وهم المستعمرون الإسبانيون. وفي أواسط القرن الثامن عشر حدثت بين المسلمين والإسبانيين فترة غريبة ذلك بأن المفاوضات بينهم انتهت بأن يكاتب ملك إسبانيا سلطان سولو الذي قاوم أحد أخوته مكانه فجاء مانيلا يطلب مساعدة حاكمها. ورأى السلطان محمد عليم الدين أن يتنصر فتعمد ولحقت به أسرته وبدأت تتعلم في مانيلا التعليم الإسباني المسيحي وبعد سنتين رخص له بأن يذهب من مانيلا إلى سولو وزامبوانكا في موكب له فاضطر أولاً أن يكتب إلى السلطان محمد أمير الدين في مينداناو وينصح له بلسان شديد اللهجة أن ينضم إلى الإسبانيين. وبعد سفره بقليل تبين للحاكم الإسباني أن العبارة العربية كانت مخالفة للعبارة الإسبانية التي كتبها بنفسه ووقع عليها ولذلك أمر بسجنه في زامبوانكا ثم أعيد إلى مانيلا ولم يسع الوالي الإسباني إلا أن يعود إلى تنصير ذاك الحاكم المسلم ولو صورة. ولما احتل الإنكليز مانيلا سنة 1763 وجدوا السلطان مسجوناً فأطلقوا سراحه فراح إلى سولو وأقام على استئصال شأفة الإسبانيين في مينداناو وأصاب الإنكليز أيضاً شيءٌ من شره وإن أحسنوا معاملته. وقد بعث الإنكليز إلى سولو بمائة وخمسين رجلاً لتوطيد قدمهم

فيها فدعاهم أحد زعماء المسلمين إلى مأدبة وذبح منهم 144. وبعد أن انجلت إنكلترا عن قاعدة تلك البلاد عدل الإسبانيون من معاملتهم للمسلمين فاعترفوا سنة 1836 باستقلال سلطانهم هناك حتى إذا كان عام 1884 سيروا عليه حملة واستولوا على حاضرة بلاده فراح السلطان وخاصة رجاله يحتفظون بألقابهم فأدرت حكومة إسبانيا عليهم رواتب ومشاهرات إلا أن المسلمين لم يبرحوا يلجؤون إلى الغارة والنهب في السواحل حتى قيل أن غارات المسلمين قويت شوكتها سنة 1876 فلم يعد حكم إسبانيا في سولو إلا اسمياً. وهكذا جرت حوادث بين الحكام الإسبانيين والسلاطين المسلمين يخضع هؤلاء تارة وينتقضون أخرى مثل سلاطين باكات وبوهاين وكودارنكان المتحالفين مع داتواوتو ولما ضاقت إسبانيا ذرعاً ببعض القبائل المسلمة وانتقاضها الحين بعد الآخر عزمت غداة ثورة سنة 1896 أن تطرد المسلمين من عقر دارهم وتسكن فيها جماعة من المسيحيين الوطنيين ثم خضع بعض أولئك الأمراء للإسبانيين خضوع حب لأن منهم من كان يقدر المدنية الغربية قدرها ولذلك ظلوا على موالاة الأمريكيين أيضاً بعد أن استولوا على هذه الجزائر. ويؤخذ مما كتبه فورمان أن الأحقاد القديمة بين الإسبانيين والمسلمين دامت على أشدها مدة ثلاثة قرون وظل المسلمون هناك يذكرون ما وقع لإخوانهم مسلمي إسبانيا. ومما كانت تجري الشروط عليه بين مانيلا الإسباني وحاكم سولو المسلم أن لا تمس شعائر المسلمين. وعلى ما حاولته إسبانيا من تنصير المسلمين فقد خرجت من الجزائر كيوم دخلتها ولم تفلح فيما قصدت إليه. ولا شك أن جمهورية الفيليبين تحسن معاملة المسلمين كالإسبانيين وكذلك المسلمون لم يكونوا أقل عداء لسكان البلاد المسيحيين من معاداتهم للبيض. ولما استولى الأمريكيون على الجزائر لم يمسوا المعتقدات الإسلامية ولا عملوا على نقض شرع أهل الإسلام وإن كانوا ينكرون عليهم ترتيباتهم في حكومتهم وهي حكومة أعيان ارستوكراطية وقد انتقد أحدهم على حكومة الولايات المتحدة أن وطدت نفسها على انتظار إدخال تعديل في حال المسلمين هناك وتعليلها الأمل بأن نشر التعليم العام بينهم سيؤدي بعد إلى نتيجة حسنة. على أن الأمريكان كانوا يوجسون خيفة من نظام الإقطاعات الشائع بين المسلمين هناك. وقد نادت حكومة أميركا بأن يظل أهل ولاية المسلمين يحكمون أنفسهم

بأنفسهم ولم تتداخل إلا بعض الشيء في حكومتهم وإدارة بلادهم وتمتاز حكومة أميركا عن إسبانيا بأن طريقتها في حكم تلك الجزيرة والمسلمين من أهلها خاصة هو بتدريب الأهلين على المبادئ الديمقراطية أما إسبانيا فقد أرادت أن تحمل على الإسلام نفسه لتخلص من المسلمين. ولو اقتربت بعض الزعماء المسلمين من الأمريكان سياسياً مع احتفاظهم بأخلاقهم من الوجهة الاجتماعية لما طال على البلاد عهد السلام. وقد عنيت الحكومة الأمريكية بتنظيم شؤون المسلمين وتأسيس بلديات لهم في الجزر تقيم مع المجالس الوطنية وتعمل بالعادات الوطنية ما أمكن وهي العادات التي لا تنافي عادات الشعوب المتمدنة ولا أخلاقها وقد بلغ عدد جيش الاحتلال الأميركي النازل في جزيرة سولو وحدها 4839 رجلاً و294 ضابطاً على أن المحاربين من أهلها لا يتجاوزون العشرين ألف رجل. وفي تلك الولاية 41 مدرسة فيها 2114 تلميذاً و15 معلماً أمريكياً و50 معلماً مسيحياً وطنياً و9 معلمين مسلمين والمدارس غاصة بالتلاميذ والمتعلمين حتى أن 240 طفلاً من المسلمين حرموا من الدرس الآن فباتوا ينتظرون لأن المدارس ملئت بالتلاميذ والطلاب من المسلمين.

إحدى نقائص الاجتماع

إحدى نقائص الاجتماع 2 شيخ كثير الذكر والتسبيح ... ينهى عن المنكر والقبيح يقول قال الله والرسول ... وأثبت المنقول والمعقول ويكثر الصلاة في المساجد ... والدور إذ يدعى إلى الموائد وربما أزورّ عن الطعام ... مخافة الوقوع في الحرام وصدَّ ظمآناً عن الشراب ... كيلا تطول مدة الحساب صارت له منزلة جليلة ... وشهرة عريضة طويلة فأمه الغنيّ والفقير ... وزاره الكبير والصغير هذا يريد مطلباً عسيراً ... وذاك يرجو نشباً وفيراً وذا يروم البرء من أدوائه ... إذ عجز الأساة عن دوائه وازدحمت في دارة النساءُ ... فما لهنَّ دونه رجاءُ هذي جفاها الزوج منذ حين ... ولجَّ في الغلظة بعد اللين وتلك لا تُملاءُ الأولادا ... فقلبها يتقد انقادا وهذه قد رغب الخطاب ... عنها فأشقى عيشها العذاب وهكذا استسلمت العقول ... للشيخ فهو الله والرسول وكاد أن يعبد دون الخالق ... سبحانه عن عمه الخلائق وإنني لفي ممرّ خال ... ساق إليه سائق الأحوال في ليلة أودى شقاء أجد ... بحليها فاستسلمت للوجد أحزنها تصرف الخطوب ... فدمعها منهمر الشؤبوب إذ عنّ شيخ لو بعيني نائم ... مرَّ لكان مثل وهم الواهم فكان لي من أمره المريب ... وشغفي بالنادر الغريب داع إلى السير على آثاره ... لا عرف الغائب من أخباره فانسرب الشيخ إلى مضيق ... أفضى به وبي إلى طريق لمحت فيه وجهه المقنعا ... فخلت أن ناظري قد خدعا

فمن يظن ذلك الإماما ... يرضى الخنا ويؤثر الحراما قال لمومس هناك تخطر ... لعلها بابن غنيّ تظفر عمي مساء وهلمي فأنا ... نعم المرجى للفسوق والخنا سلي ألم أبل البلاَء الحسنا ... واجتن الحمد فنعم المجتنى لا تزعميني وكلاً ضعيفاً ... إن صار هذا الشيب لي حليفا ولا شحيحاً أو أخا أعسار ... لكن حياً ينهلُّ بالنضار لاسيما حين تدار الاكؤُس ... ويستقرّ بكينا المجلس قالت أصبت فالمراد المال ... هو الشباب الغض والجمال لولا طلاب القوت لم تجدني ... بحيث أبلي صحتي وأفني وأبذل العرض وما إدراكاً ... ما العرض أغلى ما رأت عيناكا لو رام مني ولك الكرامة ... ما رمت كلب مفرط الدمامة لم يك مني دونه امتناع ... مادام لي بماله انتفاع ودخلا البيت فعدت واجماً ... احسبني فيما رأيت واهماً ما أولع النفوس بالحرام ... وأسرع النقص إلى التمام بل ما أشد نكد الأيام ... وأتعب العاقل في الأقوام فاز المراءون وخاب الصادق ... والتبست على النهى الحقائق وانتشر الفساد والضلال ... وخرجت عن حكمها الأحوال فيا سماءُ أمطري الأرضينا ... ناراً تبيد الخلق أجمعينا أما لهذا الحلم والإغضاءِ ... من غاية ترجى أو انتهاءِ دمنهور أحمد محرم

ضمان الحياة

ضمان الحياة أفاضت المجلة الفرنسية في وصف شركة لضمان الحياة أنشئت في مدينة تورين من أعمال إيطاليا في العهد الأخير وقد خالف القائمون بها جميع شروط الشركات المؤسسة من هذا النوع حتى الآن وإليك محصل ما قالت: من نقص شركات ضمان الحياة الحالية أنه لا يمكن للفقراء أن ينتفعوا منها فلو فرضنا أن أحدهم مثلاً أراد أن يضمن حياته على عشرة آلاف فرنك عند إحدى الشركات المعروفة يقضى عليه أن يؤدي مسانهة خمسمائة فرنك فإن مات قبل الأجل المضروب وهو عشرون سنة مثلاً تقبض أسرته عشرة آلاف فرنك وإن عاش إلى ما بعد هذه المدة يقبض رأس ماله أي عشرة آلاف بدون فائدتها. وفائدتها مهما قلت لا تنزل عن ثلاثة ونصف في المائة فيكون مجموع فائدة هذا المبلغ في خلال هذه المدة ألفا فرنك على أن شركات الضمان الكبرى تأخذ فائدة أموالها من خمسة إلى ستة في المائة. وهاك إحصاء فيما وزعته شركات الضمان الرئيسة في العالم منذ تأسيسها حتى 31 ديسمبر سنة 1904. اسم الشركة وزمان تأسيسها ما أعطته للمساهمين ما دفعته للمضمونين فرنك فرنك العمومية (باريس) 1819 131. 503. 706104. 687. 153 الاتحاد 182919. 435. 88818. 778. 917 الوطنية 1830103. 402. 75077. 338. 122 عنقاء مغرب 184426. 505. 84739. 725. 045 نيويورك لم تعط شيئاً 411. 574. 943 ومن هذا الإحصاء يتضح لك أن شركات الضمان أخذت ممن ضمنت لهم حياتهم ملياراً من الفوائد وزعت منها 280 مليوناً على المساهمين و240 مليوناً على المضمونين ولذا كان من يضمنون حياتهم آلة لهذه الشركات المالية تستعملها لتنال منها كل فائدة وعائدة ولا بدع إذا حرصت كثيراً على أن يعيش المضمونون المدة المتفق عليها لئلا تعطيهم قبل الوقت ما لم تكن قبضته كله منهم وربحت منهم الفائدة. أما الشركة الجديدة فقد أسست بدون رأس مال ورأس المال يستدعي أناساً يقومون على

استثماره. بل أن أعضاء صندوق الضمانة هم متكافلون متضامنون فيصفي كل سنة حساب ما يجمع من جميع المضمونين أي أنه يوزع بين أسرات من ماتوا في خلال السنة من المشتركين فيعود المجموع من المال على عيالهم إذا مات أحدهم وربما بلغ المال مبلغاً حسناً. ويشترك في هذه الجمعية الرجال والنساء والشبان والشيوخ والأغنياء والعملة فإذا مات من كل ألف شخص منهم في خلال السنة اثنتان وعشرون نسمة وهو معدل الوفيات في كل ألف ساكن في إيطاليا وفي جملتهم الأولاد الذين يكثر الموت بينهم واستثني من ذلك من استثنتهم الشركة من الأطفال والشيوخ وكان المشتركون كما هي قاعدة الجمعية من أهل سن العشرين إلى الخامسة والأربعين ممن لا يتجاوز المتوفى منهم عشرة في الألف - إذا كان هذا فيصيب أسرات من مات عميدها مبالغ من المال وهذه الجمعيات تنقسم إلى طبقات لا يسوغ لكل طبقة أن تعمل ما خصصت نفسها له قبل أن يبلغ عددها ألف نسمة فإذا فرضنا أن أعضاء طبقة يدفع كل منهم فرنكاً في الشهر أو اثني عشر فرنكاً في السنة فيكون مجموع ما يدفعون كلهم في السنة 12000 فرنك. يوزع هذا المبلغ على العشر أسرات التي يموت أربابها في خلال السنة بحسب التقدير فيصيب كل أسرة مات أحد من ضمنوا حياتهم لمنفعتها بعدهم ألف ومائتا فرنك. فإذا وضع الفرد في مدة خمس عشرة سنة مائة فرنك في السنة ومات في خلال هذه المدة تأخذ أسرته عشرة آلاف فرنك وإذا عاش فلا يأسف على المبلغ الذي وضعه كل سنة لأنه زهيد. ولا يحتقر مبلغ عشرة آلاف فرنك تناله أسرة بعد فقد ربها وبدونه تتمزق وتتشتت أما هذا المبلغ فيكفيها لوفاء بعض الديون واستئجار مسكن والإنفاق ريثما تجد لها مورداً آخر أو تهاجر بها أو تعلم بها ولداً. ومن الصعب على صغار المستخدمين كمعلمي المدارس وصغار التجار وفتيان القضاة والأطباء أن يدفعوا كل سنة مثلاً خمسمائة فرنك كما هو الحال في شركات الضمان القديمة في زمان كثرت فيه ضروب النفقات وإذا قدر المشترك أن يدفع سنة لا يستطيع أن يدفع الثانية وإلا فإنه يضطر أن يحرم نفسه من كل لذة ونعيم ليوفي قسطه السنوي وعلى العكس في هذه الجمعية أو الشركة الجديدة. ولذا أخذت شركات الضمان الأخرى تحاربها وتتهمها بسوء القصد على أن الناس لم يدخلوا فيها بالألوف بل بعشرات الألوف ومادام أمرها بيد

القائمين عليها فإنها مضمونة النتيجة وقوة المجموع أكثر من قوة الأفراد.

حوادث السنة

حوادث السنة من الجدير بالتدوين من حوادث هذه السنة ما وقع في هذا القطر من الخلاف في طور سيناء على التخوم المصرية العثمانية فجرى التحديد وكان يخشى حدوث فتنة بين العثمانيين والمحتلين من الإنكليز وكادت تتكدر كأس الصفاء بين المصريين والإنكليز لأن هؤلاء رموا أولئك بالتعصب فقامت الجرائد الوطنية تنفي عن قومها هذه التهمة وكانت مناداة المصريين بحب الدولة هي الباعثة على هذه التهمة. ومن حوادث العلم والاجتماع أن الشركات الأوربية وغيرها كثرت في هذه السنة بمصر لاستثمار أرضها وأموالها وعقاراتها. واهتم بعض أعيان الأقاليم بإنشاء كتاتيب للأطفال وحبس أطيان عليها كما عني بعض أعيان بني يوسف بإنشاء مدرسة صناعية وجمعوا شيئاً من المال اللازم لها واهتم أعيان البحيرة بإنشاء مثلها في إقليمهم بمدينة دمنهور. وقامت فئة من رجال العلم والوجاهة في العاصمة وأرادوا منذ الصيف الماضي إنشاء مدرسة جامعة مصرية تغني أبناء مصر عن التعلم في مدارس الحكومة ومدارس البلاد الأجنبية وكان زعيم تلك الفئة سعد باشا زغلول فلما عين في خلال ذلك ناظراً للمعارف المصرية عهد بإدارة هذا العمل إلى صديقه قاسم بك أمين فأخذ هذا يثير الأرواح بفصاحته ويهز أكفَّ السماح بحميته. والخلف كالسلف مشهور بفضل علمه وقوة إرادته. وقد جمع حتى الآن نحو عشرين ألف جنيه. ووهب روكلفر المثري الأمريكي عشرين ألف جنيه لمدرسة أسيوط الأمريكية دفعة واحدة. وزادت حركة العمران في ربوع السودان ولاسيما بعد أن فتح بور سودان واتصل بالبحر الأحمر من قرب سواكن بناحية بربر على النيل بالسكة الحديدية التي أنشأتها الحكومة في سنتين وكلفت مليوناً وثلاثمائة وخمسة وسبعين ألف جنيه وطولها زهاء 350 ميلاً. وتوفر الأهلون في أكثر البلاد العثمانية على الزراعة والتجارة فارتفعت أثمان العقارات في المدن والأراضي في الضواحي والدساكر وارتفعت أسعار الحاجيات بكثرة الاختلاط وسهولة النقل عن ذي قبل فقد مدَّ من خط الأستانة - بغداد قرابة ثلاثمائة كيلومتر ومد من سكة حديد الحجاز نحو ثمانمائة كيلومتر وقطارات البخار الآن يرن صداها في وسط جزيرة العرب. واتصل الخط الحديدي بين بيروت ودمشق بمدينة حلب وأنشئت تراموايات كهربائية في بعض الحواضر العثمانية كما شرع بإنارة بعضها بالكهرباء. وحدث بين الدولة العثمانية والحكومة الإيرانية اختلاف على الحدود لم يسوَ بعد. وضرب الجيش

العثماني إمام الزيدية في اليمن يحيى بن حميد الدين والثوار من أتباعه واسترجع صنعاء منه فاكتفى القائم بما كان تحت حكمه من صعدة وأعمالها وظلت الدولة تحكم ما كان لها. وقوي الأمير عبد الرحمن بن سعود وتبعه أهالي نجد فقتل الأمير ابن الرشيد واستولى على معظم الصقع النجدي وأقيم الأمير متعب مكان أبيه أميراً على ما بقي له من البلاد. ومنح الشاه مظفر الدين صاحب إيران حكومة نيابية لأمته برضاه وطلب بعض المشايخ والأعيان وتوفي في الشهر الماضي وخلفه الشاه محمد علي ثاني أنجاله. وتوفي سيدي محمد الهادي باي تونس وخلفه سيدي محمد الناصر باي وزار الأمير حبيب الله خان اللورد منتو حاكم الهند العام كما زار الهند ومصر البرنس دي غال ولي عهد إنكلترا. وقابل وفد من رجال المسلمين من الهنود حاكم الهند وسألوه أن ينظر في أحوالهم السياسية فوعدوهم خيراً. واجتمع مؤتمر التربية الإسلامية في مدينة دكة الهندية وحضره ثلاثة آلاف مندوب من جميع الأصقاع الهندية. وزار ملك كمبودج من أقيال الهند الصينية بلاد فرنسا وصار فيها أضحوكة كما صار من قبل بهنزين ملك الداهومي وغيره من ملوك الشرق المنحطين. وأخذت اليابان ترقي بحريتها وجنديتها أكثر مما كانت بعد أن نفضت عنها غبار الحرب الروسية اليابانية. وأنفذت الصين لجنة للبحث في قوانين الأمم المتمدنة في الغرب وعادت فأخذت تطبق العلم على بالعمل وصدر أمر الإمبراطور بمنع الأفيون من مملكته. ووافقت الصين على المعاهدة التي أبرمت بين حكومة الهند وحكومة تبت. وكادت العلائق السياسية تنقطع بين الولايات المتحدة واليابان لأن طلاب العلم اليابانيين طردوا من مدارس سان فرنسيسكو الجامعة بدون مسوغ. وعقد في الجزيرة الخضراء من أعمال إسبانيا مؤتمر قوامه نواب من الدول الكبرى للنظر في شؤون الفوضى في مراكش وذلك بتأثير إمبراطور ألمانيا فتقرر أن تنظم شرطة من الإسبانيين والفرنسيين وأن ينشأ مصرف للحكومة المراكشية ولم تزل الفوضى قائمة هناك. ومن كوائن أوربا هذا العام تولي الأحرار زمام الوزارة الإنكليزية بعد الاتحاديين وكانت فاتحة أعمالهم منح الترنسفال مجلساً نيابياً ودستوراً تجري عليه أمورها. وزيارة الإمبراطور ادورد السابع لأكثر مدن أوربا واجتماعه بالإمبراطور غليوم الثاني في ألمانيا والإمبراطور فرنسيس يوسف في النمسا. ووفاة الملك كرستيان التاسع صاحب السويد

وكان محباً للعرب مولعاً بآثارهم وخلفه ابنه فريدريك الثامن. ومنها تتويج هاكون الأول ملكاً على بلاد نروج بعد أن انفصلت عن السويد أو أسوج. وأمر القيصر نقولا الثاني بحل الجمعية العمومية (الدوما) التي كان منحها لأمته وهي بمثابة مجلس نيابي معتدل عقيب الثورات التي نشبت في بلاد روسيا بعد حربها مع اليابان وبعد انقضاض الدوما حدثت ثورات في هلسنفورغ وكرونستاد بيعت فيها الأرواح بيع السماح كما بيعت في بطرسبرج وموسكو وفرسوفيا وغيرها من أمهات المدن الروسية وقويت نفوس الثوار على البطش بالأشراف وزعماء الحكومة ومن ذلك الاعتداء على رئيس النظار والقائد تريبوف والكونت ابناتيف وغيرهم كثيرون. وانتخب المسيو فاليير رئيس مجلس الشيوخ في فرنسا رئيساً للجمهورية عوضاً من المسيو لوبه الذي انتهت مدته وتألفت الوزارة الفرنسية مرتين ثم سقطت وجردت فرنسا الكنائس وفصلتهما عن الحكومة وضيقت السبل في وجوه رجال الدين وطردتهم وشردتهم. وأهم ما حدث في ألمانيا حل مجلس الأمة وانتخاب آخر مكانه. وفي إسبانيا زواج ملك إسبانيا وكاد يلاقي حتفه في موكب زواجه بقنبلة ألقاها أحد الفوضويين فنجا هو وزوجته بعد أن قتل عشرات من الأنفس. واستقال البرنس جورج حاكم كريت وأقيم مكانه رئيس وزارة اليونان السابق المسيو دليانس. وانتخب الدكتور بينا رئيساً لجمهورية برازيل وهو رابع رئيس تولى زمام جمهوريتها منذ سنة 1889 عندما حدثت الثورة بالمطالبة بالجمهورية. وأهم الأحداث الطبيعية انفجار مناجم لاكوريير في فرنسا هلك فيه زهاء ألف عامل وثوران بركان فيزوف في إيطاليا وزلزال مدينتي فالباريزو وسان فرنسيسكو في أميركا وهما الزلزالان اللذان قضي فيهما ألوف من الأنفس وراحت فيهما أموال وعروض كثيرة ودمرت مدينة كنغستون عاصمة جزائر الجاماييك الإنكليزية. وانتشرت المجاعة في بعض بلاد روسيا وقحطت بعض ولايات اليابان فتداركت الحكومتان أمر ذلك كما قحطت بعض ولايات الصين. وحدثت ثورة في الناتال كما حدثت فتنة في جزيرة كوبا.

الشيخ إبراهيم اليازجي

الشيخ إبراهيم اليازجي فجعت العربية في الشهر الماضي بكبير من أكابر أهلها المنشئين وأستاذ من جهابذة المعربين والمؤلفين الطيب الذكر والأثر الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء. توفاه الله في هذه العاصمة عن ستين عاماً قضاها بين المحابر والدفاتر وقد وقف حياته على الإفادة والاستفادة فانتفع به خلق كثير في جميع البلاد التي تقرأ فيها العربية ولاسيما في مصر والشام. ولقد عزَّ نعيه على كل من عرف فضله وأخلاقه وما خصَّ به من دماثة الخلق ولين الجانب وعزة النفس وحسن العهد ولا عجب فقد فقدت المطبوعات بفقده عضواً عاملاً ورجلاً نافعاً. ورثاه جمهور كبير من العلماء والفضلاء وابنته الصحف والمجلات على اختلاف الملل والنحل واللغات لأن المصيبة بفقده كانت عامة جازاه الله أفضل ما يجازي المحسنين على إحسانهم. وهاك ما كتبناه في المؤيد الأغر يوم وفاة هذا الفقيد العزيز من تأبينه وترجمة حياته: كان فقيد اليوم عالماً مدققاً ولغوياً ضليعاً ومترسلاً تحريراً ومفتناً فكهاً ونقاداً غيوراً وكاتباً فريداً وشاعراً مجيداً قضى حياة المتعلم والمعلم والعالم على أكمل وجوهها وبرز خاصة في علوم العربية على أقرانه فعد من آحاد زمانه. نشأ من بيت كان ربه يتغنى ليله ونهاره بالشعر والأدب فشبَّ وشاب فيما نشأ عليه أنشئ له. وناهيك بمن يرضع اللغة من صغره ويعاني الأدب في جميع أدواره لا يصل إلى وسمعه غيره ولا تقع عينه على ما سواه والجميع مستحسن له ومصفق ومؤمن على أقواله ومصدق. فانصرف في مدينة بيروت كوالده الشيخ ناصيف إلى التعليم والتصنيف فتخرج به جهابذة أدباء وأكثرهم اليوم هم الحركة الدائمة في مصر والشام وألف على ذاك العهد كتباً وصحح أخرى منها شرح ديوان المتنبي. وصحح التوراة كما نقح كتب والده المدرسية في الصرف والنحو والبيان والعروض ووقعت له محاورات مع صاحب الجوائب وغيره كطرفة الطرف وكتب مجلة الطبيب سنة كاملة بمساعدة صديقيه العالمين الدكتورين زلزل وسعادة. هبط مصر في شتاء سنة 1897 لإنشاء مجلة علمية وطبع معجم عربي كان عني بتأليفه منذ سنين ولكن خانته الأقدار فرأى ما كان يسمعه عن نهضة مصر العلمية مبالغاً فيه وأن

سوق العلم والأدب كاسدة لا لإقبال عليها فأصدر أولاً مجلة البيان سنة بمعاونة الدكتور زلزل ثم أصدر وحده مجلة الضياء فدامت مطردة الصدور إلى صيف هذه السنة وقد شحنها من عرائس أفكاره وتحقيقاته اللغوية وأماليه الأدبية ما لو كتب بغير هذا اللسان لأعجب به أهله وكبروا مثل مقالات اللغة والعصر ولغة الجرائد وأغلاط العرب وأغلاط المولدين وطبع في العهد الأخير كتاب نجعة الرائد في اللغة ولم يوفق إلى طبع معجمه لأسباب أهمها قلة النصير والظهير. كان الفقيد شديد الغيرة على لسان العرب بحيث لا يدانيه في ذلك غير خاصة الخاصة. مبالغاً في التدقيق والتمحيص حتى أنه كان يألم ممن يرتكب غلطاً لغوياً إنشائياً ألمه ممن يسيء مباشرة إليه أو يصادره في أعز الأشياء عليه ولذلك قلما كان يغفل كتاباً أو ديواناً من النقد اللغوي والأدبي وكثيراً ما تأخذه الحمية العربية فينحني على المنتقد عليه وربما وصلت المسألة من العموميات إلى الخصوصيات كما جرى في نقده معجم أقرب الموارد وكتاب الدرة اليتيمة وغيرهما. ولابد لمن يتمحض للانتقاد أن يلاقي ما لقي الشيخ اليازجي فيصاب ويصيب خصوصاً والناس في زماننا لم يألفوا الانتقاد وأكثر المنتقدين يعدونه ثلماً لشرفهم وحطة لأقدارهم والناقد كيفما كانت الحال لا تصفو له القلوب إلا علي الندرة ولاسيما إذا عامل منتقديه بأنه هو المسيطر على كل ما يبدر من خطاءٍ وخطل والكفيل بحل كل إشكال ومعضل فكان انصراف قلوب بعض العالمين والمتأدبين عنه لعدم اضطلاعه بسياسة التعليم وهو داء العلماء من القديم حتى عقد ابن خلدون فصلاً في أن العلماء أبعد الناس في السياسة. وعلى الجملة فقد كان فقيد اللغة والأدب اليوم آية في سعة اطلاعه على شوارد اللغة واوابدها محيطاً بأقوال أئمة البيان العربي عارفاً بصحيح الكلام من فاسده بصيراً ببعض العلوم كالفلك والرياضيات وله إلمام تام بالفرنسية والإنكليزية (والعبرانية والسريانية) ويد طولى في الخط والرسم والنقش والحفر بحيث لو أتيح له أن يعمل بما يهوي وينصرف إلى ما يغلب على طبعه لاختار أن يكون رساماً من أهل الفنون الجميلة. ولولا أنه آثر خدمة العربية كما قال لي عن نفسه مخافة أن يغلق بيته على حين في وسعه فتحه ويتوانى عن خدمة لغة عرف أبوه وأخوته من قبله بالتوفر على خدمتها والغرام بآدابها لجاء منه

مصور ماهر ربما خلف وراءه مالاً وكان أهنأ عيشاً وأهدأ بالاً. خدم الشيخ إبراهيم لغتنا بوضع بعض ألفاظ لمسميات إفرنجية وعرب بعض المصطلحات وله شعر جيد وبعضه سائر على الألسن وإن لم ينسب إليه تقية مثل قصيدته المشهورة في القطرين التي يقول في مطلعها. دع مجلس الغيد الأوانس ... وهوى لواحظها النواعس إلى أن يقول سامحه الله: فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانس والخير كل الخير في ... هدم الجوامع والكنائس وإن صحَّ ما قيل لي أمس من أن الشيخ اليازجي مات بسرطان في الكبد فيكون ما كان قاله هو في نعي فقيد الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قضى. . . بعلة السرطان وقد تشبث منه بين الفك والنحر ودب في مجرى الفصاحة منه ولا عجب أن يدب السرطان في البحر قد نعى به نفسه وهو جدير أن يطلق عليه فإنه بلا مراءٍ رافع لواء الأدب وشيخ العاملين على إحياء لغة العرب فلا عجب إذا اهتزَّ عالم الأدب اليوم أسفاً على فقده. عوضنا الله عنه خيراً وألهم المصابين بفقده جميل الصبر والسلوان.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات قانون الصين ترجم الرحالة الفاضل الشيخ سعيد العسلي الطرابلسي هذا القانون عن اللغة الصينية وهو تأليف جلالة تونجي خانكدي إمبراطور الصين السابق. والمترجم ممن ساحوا الأقطار الشرقية ولاسيما فارس والهند وبعض الصين وتعلم بعض اللغات الآسيوية. وهو قانون مدني لا علامة على الانحطاط فيه وقد قال المترجم أنه أفرغ في قالب الحكمة والموعظة وجله موافق للشريعة المطهرة ومن مواده: الإنسان مضطر إن لم يأكل أنهكه الجوع وإن لم يلبس الثخين والصفيق بقي عرياناً وأهلكه القر فمن أراد أن لا يجوع فعليه بالحرث والغرس ومن أراد كعم كلب البرد فليرب (الفلة) أي دود القز وليتخذ الحرير والحراثة من أعمال الرجال وتربية الفلة وعمل الحرير من عمل النساء فاحرثوا يا معشر الرجال وازرعوا واجروا المياه واحفروا الآبار واكروا الأنهار واحيوا الموات واغرسوا أشجار الفواكه الطيبة اللذيذة واكثروا ما أمكنكم من غرس الفرصاد والتوت والحور والخلاف والصفصاف وغير ذلك للوقيد والاحتطاب والعمارة وكذلك اكثروا من زرع الخضر والبقول وعليكم بالقنب والكتان والقطن وقصب السكر والقنى ولا يغب عن أذهانكم نفع الشاي فإذا فعلتم ذلك أمرعتم وأخصب عيشكم واتسع لكم المأكل والمشرب (تعطف) من أراد إحياء موات أو زراعة أرضه وليس عنده بذر ولا أدوات الحرث فليطلب من أمير الأراضي في تلك الناحية ما يلزمه من الغلة والبقر والآلة وعلى ذلك المأمور أن يمهله ثلاث سنين لا يطلبه بالخراج ثم يسند منه ما أعطاه بلا زيادة وكذلك من عمد إلى قفر فأحياه وأجرى إليه الماء الكافي وجعله قابلاً للزراعة والغرس والسكن فإن جزاءه أن يمنح رتبة بك ويجعل أميراً على ناحية وإن كان معزولاً لذنب عفي عنه ورد إلى منصبه وإن كان من أرباب المذهب رقي أو زيد في مدته وإن لم يكن أهلاً لذلك أجزل له الخاقان الأنعام وخلد له ذكراً حسناً. وإذا لزم لك الحرير أيتها المرأة فخذي قدر ما يكفيك من البذر واحتاطي عليه بأن تجعليه في زجاجة وتحفظيه في خرق الحرير في الموضع الحار حتى إذا جاء فصل الربيع فابسطيه على الملاحف والأطباق وغذيه بأوراق التوت كما تعلمين حتى إذا استعد لعمل القز ضعي له ما ينسج عليه حتى إذا تم ذلك فخذيه وحليه واعملي

الحرير وليكن حريرك رفيعاً نفيساً لتزداد الرغبة فيه وعليك بنسج أنواع الأقمشة الملونة الفاخرة المحتوية على كل شكل غريب ونقش بديع وليكن ذلك متفاوت الوزن والنسج والمقدار والثمن ليأخذ كل ما يليق به وليشترك في تربية الدود وعمل الحرير وفتله ونسجه الجم الغفير منكن ليتحصل لكن الكثير من ذلك فإن التعاون والاشتراك في الأعمال مما يجعل القليل كثيراً والنزر غزيراً وبهذا لكثر أنواع الملبوسات وبكثيرة المأكول والملبوس يطيب العيش وتصلح الأحوال وتكفى الحياة مؤونة الإفلاس والتكفف على أبواب الناس. أليس هذا بصدق. أليس هذا بأشرف من الكسل والغفلة والقعود تحت الجدران وملازمة البيوت كالعميان والنسوان وجزاء من تقاعد عن ذلك حتى جعل يشكو الجوع والعري وسلك طرق أهل الغي والفساد يذكر. وفي آخر القانون أن من ارتكب جريمة من المسلمين أجري عليه الجزاء بما يقتضيه شرع مجين شنك رين (وهو اسم محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه الإنسان المقدس) أيها المسلمون احترموا دينكم واعتصموا بما جاء به نبيكم فمن أتى منكم منكراً فعلى القاضي أن ينفذ فيه حكم شريعته ومن أبى أجرينا عليه حكم (لي) من الضرب والهوان وإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي بخلاف شرعه جرد وأجرى عليه حكم المفتري على الدين. المسألة المصرية ترجمت إدارة صحيفة المنبر الغراء رسالة للمستر جون روبرتسون أحد أعضاء دار الندوة الإنكليزية إلى العربية ذكر فيها المسألة المصرية ومما جاء فيها أن تاريخ العالم السياسي يثبت أنه من الاغترار أن يطلب من أمة أن تكون شكورة لأخرى أجنبية عنها تتولى السيادة عليها. ولطالما قيل في الأيام الماضية للإيطاليين قبل أن يحصلوا على استقلالهم أنه يجب عليهم أن يكونوا راضين عن النمسا لأنها ساعدت على ترقيتهم وأسعدتهم وحفظتهم من اعتداء بعضهم على بعض ووقتهم غارات الأمم الأخرى فلم تفلح هذه الأقوال مع الطليان ولم تحملهم على الرضى والقبول. ثم مثل بالبولونيين مع روسيا والأيرلنديين مع إنكلترا وقال أنه إذا كانت القرون الطويلة قد مرت ولم يسد الوفاق بين أمتين (الأيرلندية والإنكليزية) تتكلمان لغة واحدة وتصاهر إحداهما الأخرى وتتعلمان آداب لغة واحدة فهل يظن بدون الرجوع إلى مبادئ المودة والانعطاف والصفاء أن يسود الوفاق بيننا وبين أمم

غريبة عنا في الدم والعنصر واللغة والتقاليد والعادات - ويعني بذلك مصر والهند. ثم تكلم على التعليم في مصر ورد أقوال من يذهبون من ساسة الإنكليز الآن إلى أنه يجب أن لا تكون الغاية التي يرمى إليها تكثير عدد التلاميذ إلى حد فائق بل أن تكون بتعليم عدد محدود تعليماً تاماً فإن الحكومة لم تزل بعد بعيدة عن تلك الحالة التي يمكنها فيها تعليم أكثر الأهالي تعليماً موافقاً وأبطل مزاعمهم هذه بالبراهين محتجاً بأن الهبة التي تدفعها الإمبراطورية الإنكليزية للتعليم في اسكتلندا هي سبعمائة ألف جنيه وهو مبلغ يزيد عنه كثيراً المصروف فعلاً على التعليم في تلك البلاد مع أن عدد سكنها لا يزيد عن نصف عدد سكان القطر المصري وعلى ذلك يعبر هؤلاء الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً في مصر أن صرف 66. 888 جنيهاً كل سنة كاف للتعليم فيها. وختم قوله بأن الإحصاء الرسمي يدل على أن عدد القارئين والكاتبين في مصر من الرجال هو 389. 407 بموجب إحصاء سنة 1897 ولم تترق المعارف بعد ذلك ترقياً يذكر وعدد القارئات والكاتبات 10. 269 أي من حيث المجموع 5 في المائة من أهالي القطر وقال في الاحتجاج للمصريين وهم يرون أن مبلغ ربع مليون من الجنيهات يصرف فقط على مدارسهم على حين تبذل الحكومة ثلاثة ملايين وثلاثة أرباع المليون إلى حملة القراطيس المالية من الأوربيين فائدة للذين لم يستلموا من أصله إلا القليل. ثم قال فإن شوهد بأن الجرائم تكثر في مصر فليس لها إلا أن تعمد إلى ما تقوم به البلاد المتمدنة فإن ترقية آداب مصر هي الدواء الناجع والحل الصحيح للمسألة المصرية. معجم البلدان ظهر الجزء الثامن من معجم البلدان لياقوت الحموي الذي طبعه في مصر الأديب محمد أمين أفندي الخانجي وشركاؤه فتم به الكتاب كله وهو الآن آخذ بطبع المستدرك عليه الذي سماه منجم العمران وقد عني بتصحيحه الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي فجاء سليماً من الغلط على الجملة ولاسيما في المحال التي عثر فيها على أصل صحيح يرجع إليه مثل نسخة وستنفيلد المطبوعة في ألمانيا وغيرها من المخطوطات وإنا لنثني أطيب الثناء على الطابع الأديب وهو يطلب من مكاتبه في مصر والأستانة وتونس وغيرها وثمنه ثمانون قرشاً وبعد إنجاز طبع الملحق مائة قرش وهو رخيص جداً إذا قيس

بالطبعة الأوربية التي نفدت أو كادت أو إذا حسبت أكلافه ونفقاته. تاريخ الأندلس وهو المسمى بالمعجب في تلخيص أخبار المغرب للشيخ الحافظ الفقيه محيي الدين المراكشي وهو الكتاب الذي تكلمنا عنه مطولاً في الجزء التاسع من المقتبس وبينا فوائده وجودة تأليفه بتطويل طبعه في مصر هذه الآونة الأديب محمد أفندي هاشم الكتبي على النسخة المطبوعة في أوربا فجاء في 250 صفحة صغيرة جيدة الطبع حرية بأن يصحبها المرء معه في خلواته ويقرؤها في سمره ومتنزهاته وقد رخص ثمنها فجعله ثلاثة قروش صحيحة بعد أن بيعت الطبعة الأوربية بأربعين فنحت كل أديب على مقتناه ويطلب من طابعه في دمشق ومن أكثر مكاتب القاهرة. مرآة علوم هي مجلة علمية صناعية أدبية اجتماعية صدرت هذا الشهر في القاهرة باللغة التركية يحررها زمرة من رجال الأدب والفضل منهم رفيق بك العظم وحقي بك العظم والدكتور عبد الله بك جودت وعبد الحميد أفندي الزهراوي ويوسف سامح بك وكمال بك وغيرهم وقد أنشؤوها إجابة لطلب بعض عقلاء مسلمي قازان في روسيا ممن رأوا أن أحسن واسطة للتمدن أن يتعلموا اللغة التركية الحديثة ويتخلصوا من لغتهم الرديئة الجنتاي القديمة. وقد تلونا فيها أبحاثاً ممتعة منها بعد المقدمة اللطيفة مقالة في جزائر الكومور وسكانها المسلمين. وخلاصة تاريخية في الإسلام والمدنية ونبذة من كتاب روح الأمم معربة عن الفرنسية. ودليل مصر. ومقالة طبية ثم باب الاختراعات والأدبيات وقيمة الاشتراك بها 40 قرشاً أميرياً فعسى أن ينتفع بها من أنشئت لأجلهم وعساها تأخذ بأهداب الحزم والصبر وفق الله القائمين بها خدمة للعلم والحضارة. روايات ورسائل جديدة (بديعة وفؤاد) مؤلفة هذه الرواية الكاتبة الأديبة العقيلة عفيفة كرم من الأدبيات السوريات في الولايات المتحدة وقد نشرت من قلمها فصولاً كثيرة في التهذيب والانتقاد والإصلاح في جريدة الهدى اليومية الغراء في نيويورك وكتبت هذه الرواية اللطيفة وجعلت نصب عينها ما ترمي إليه في كتاباتها من إنهاض شأن المرأة وتهذيب الرجل وهي تقع في 368 صفحة

متوسطة مطبوعة طبعاً جميلاً على ورق جيد في مطبعة الهدى وقد جعلتها هدية لكل سيدة مشتركة في الهدى وما يباع منها يصرف في سبيل الإحسان بعد توفية نفقات الطبع ولاشك أن إنشاء الكاتبة وفكرها يتحسنان بكثرة تمرينها على ما وقفت نفسها عليه أكثر الله من أمثالها في مجتمعنا العربي. (رواية آخر الليل) عربها الأديب ركاردو حبيب صلبان وطبعت على نفقة إدارة الهلال وهي أدبية غرامية في زهاء ثمانين صفحة وتطلب من مكتبة الهلال. (المنظمات الجميلية الشطية) هي كراسة من منظومات الأديب مكرمتلو محمد جميل أفندي الشطي وأهدانا الأديب الموما إليه جدولاً له في الفرائض فنثني على نشاطه. (الطفل المفقود) أهدتنا مجلة مسامرات الشعب رواية الطفل المفقود لواضعها الكاتب الفرنسي مكسيم ويلمر ومعربها الكاتب الشاعر البليغ نقولا أفندي رزق الله وهي كسائر ما نقلته يراعة المعرب الفاضل من الروايات الحسنة الأدبية التي تجمع بين الفائدة والفكاهة وإنا لنثني على صاحب المسامرات الفاضل فإنه لا يألو جهداً في تحسين مشروعه الأدبي فلا غرو بعد هذا إذا لقي إقبال قراء العربية والبضاعة تباع مهما بلغ الكساد.

سير العلم

سير العلم تسميم المأكولات نشرت المجلة الفرنسية بحثاً في كيفية تسميم المأكولات والمشروبات في فرنسا ودخول الغش على الحاجيات كاللبن ومزجه بالماء وتزبده (قشه) والخمر وشوبه والجعة واتخاذ المواد الرديئة في صنعها وخمر التفاح والشوكولا واللوز الهندي والقهوة والشاي والمياه المعدنية وهذه أقرب جميع المأكولات والمشروبات إلى الغش والتدليس وكذلك السمن والدقيق والخبز وشحم الخنزير وزيت الزيتون واللوبياء والفلفل وغيرها من الأدوية والعقاقير. الجرائد في اليابان في طوكيو عاصمة اليابان 16 جريدة يومية ومعدل ما يطبع من كل منها اليوم 35 ألف نسخة ومجموع ذلك 550 ألفاً وليست تأثيرات الجرائد في اليابان كتأثيراتها في أوربا والكتاب هناك لا يتوقعون مما يكتبون إلا إرضاء قرائهم. مستقبل اليابان روت بعض مجلاتهم أن مستقبل اليابانيين لا يتوقع من رجال حكومتها ولا من رجال الحرب فيها بل من رجال الأعمال فيها فإنهم أدوات الحضارة يمهدون لها السبل بالبحث عن الطرق التي تغني البلاد من الوجهة الاقتصادية ولذلك أسست منذ ثماني عشرة سنة مدرسة تجارية في كيوجيجوكو فتخرج فيها حتى الآن نحو ألف تلميذ انتشروا في أطراف البلاد اليابانية. وقد زعمت المجلة بأن اليابان لا تكون دولة عظمى إلا إذا تحولت بالتدريج إلى أن تكون المركز الصناعي والتجاري في الشرق الأقصى. فلسفة سبينوزا بحث عالم في إحدى المجلات العلمية في فلسفة سبينوزا القائل بأن الله واحد أحد يحل في كل الكائنات فقال إن فلسفته أثرت في ألمانيا فقال بقوله الفلاسفة لسينغ وهردير وشيلرماشير وهيكل وكيتي وهين وأن كولريج ووردسورت وهربرت سبنسر في إنكلترا اسحبوا على منواله وإن فيكتور كوزين من حكماء فرنسا أحيا فلسفته أيضاً في بلاده. خطوط لندن تلفون

بلغ طول أسلاك الندى في العالم المتمدن زهاء خمسة ملايين وربع من الكيلومترات منها 1. 534. 000 في ألمانيا و623. 487 في فرنسا و1. 313. 000 في إنكلترا و200. 000 في سويسرا و138. 000 في روسيا و92 ألفاً في نروج وما بقي موزع على سائر الأمصار والأقطار. نهضة الطليان كتبت في العهد الأخير رسائل وكتب كثيرة في نهضة الإيطاليين ونظر إليها المفكرون من الأمم نظر الإعجاب ونظر إليها بعضهم نظر الحسد ومما قيل فيها أن الشمال من شبه جزيرة إيطاليا هو موطن الحركة الاقتصادية كما كان في السالف منبعث القوة والوحدة الإيطالية وإن ليس كمثل حركة الاجتماع بإيطاليا في سائر أقطار المعمور. قضبان الحديد معروف أن الخطوط الحديدية قلبت نظام العالم بسرعة النقل وسهولته ولقد كان يستعمل منه لأول أمرها ما حسن وما لا يحسن من القضبان أما الآن فقد انصرفت العناية إلى استجادة أنواعها والاستعاضة عن القديم منها بأحسن منه جديداً. وقد كانت الولايات المتحدة من أكبر الدول المكثرة من استعمال القضبان الحديدية لأن خطوطها طويلة جداً وكانت معاملها تصنع بقدر ما يصنع في نعامل العالم كله على وجه التقريب فلم تكن زنة ما استعملته الولايات المتحدة سنة 1878 من القضبان سوى نصف مليون طن فأصبح اليوم ثلاثة ملايين ونصفاً وقد زاد في الخمس عشرة سنة الأخيرة ثلاثة أضعاف فكان مجموع ما صرفته من الحديد لقضبان السكك الحديدية من سنة 1870 إلى سنة 1895 58 مليون طن أما ألمانيا وإنكلترا وفرنسا فإنهما بعد الولايات المتحدة في ما تخرجه معاملهن من القضبان ولكن النسبة بعيدة بينهن وبين الولايات المتحدة وكذلك الحال في كندا وإيطاليا واليابان والصين. العانسات العاملات نشرت إحدى الكاتبات في مجلة علم الاجتماع الدولية مقالة ضافية في حال المرأة البرتغالية فقالت أنها تشبه القاصر الذي هو لا يزال تحت وصاية مووليه وإن المرأة المتزوجة التي

ليس لها ثروة خاصة بها لا يصح لها أن تدعي أنها ربة البيت التي هي فيه. ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن في فرنسا 2. 622. 170 امرأة لم تتزوج بقين عانسات في بيوتهن على حين جاوزن الحادية والعشرين من العمر وإنه يمكن أن يكون في البرتغال نحو مليونين وقد شوهد أنه تكاثر في المدة الأخيرة عدد النساء اللاتي أخذن ينهلن على المدن البرتغالية يطلبن الاستخدام والامتهان بالحرف. آلة الاقترع هي آلة اخترعها أحد الطليان وعرها في ميلان أمام جمهور من الناس دعاهم ليبدوا آراءهم فيما إذا كان الأولى الإكثار من الجيوش والعدد أو الإقلال منها فيعرف بواسطتها عدد الموافقين وعدد المخالفين لهذا الرأي ولهذه الآلة مزية على الآلة المستعملة اليوم في الانتخابات لأنه لا يتيسر بها الغش ولا التدليس. فآلة البسوفوغراف تنفع كثيراً في دور الندوة ومجامع الأمة والمؤتمرات والمجتمعات على اختلاف أنواعها إذا قضت الحال أن يؤخذ قرار المجتمعين بعد المفاوضة بينهم. وربما استعملت في المخازن لتعداد الداخلين والخارجين منها كما تستعمل في الطرق العامة لإحصاء أبناء السبيل والعجلات الذاهبة الجائية وغير ذلك. ارتقاء أمريكا كتب أحد المفكرين في مجلة المجلات النيويوركية فصلاً عدد فيه ما تم في الولايات المتحدة من أسباب الحضارة والعمران. قال وعلى من أراد أن يدرك مقدار ما بلغته أمريكا من الارتقاء الاقتصادي الغريب أن لا يحسب بالملايين بل المليارات فإن الربع الأخير من القرن السالف كان أنجح دور في التاريخ الأمريكي ظهرت فيه غرائب وعجائب في كل فرع من فروع الأعمال. فبفضل توفر أسباب الري وإنشاء الخطوط الحديدية وكثرة استخراج الجديد من مناجمه الذي يبلغ نصف ما يستخرج في جميع العالم ارتقت الزراعة ارتقاءً لا مثيل له في أدوار الأمم. وكل هذا ليس بشيء إذا قيس لما تتوقعه البلاد في المستقبل الباهر ولا سيما بعد أربعين سنة أيام يكبر أبناء اليوم فيصير أهل الولايات المتحدة مائتي مليون نسمة وهم. إنشاء الحياة

رنت الأندية العلمية بما عرضه المسيو ستيفان لدوك على مجمع العلوم الباريسي من أنه يستطيع إنشاء أحياء حبة حقيقية من جواهر جامدة وخلق نباتات ذات سوق وأوراق بوضع قطعة من السكر وسولفات النحاس في محلول معدني فتكبر وتنمو وتصير نبتة تامة وقد ردت عليه الجرائد العلمية فقالت أنه أوهم الحضور بأنه استطاع تأييد مدعاه الذي قالوا أنه أصعب من الحصول على حجر الفلاسفة على حين انطلى على بعض البسطاء فتناقلوه وعدوه صحيحاً. قال المجلة لقد أعجب الناس لما قرؤوا صورة مدعاه في أعمال المجتمع ولم يروه يشير إلى ما قام به المسيو تروب الألماني عام 1865 و1867 من التجارب التي أدت إلى إنشاء نباتات حقيقية. وقد عد ما ادعاه هذا الباحث مثل حية فرعون وهي اللعبة التي يلعب بها الأولاد مؤلفة من شيءٍ من الزئبق إذا أشعلت انتفخت كالحية بعد أن كانت صغيرة الحجم وقال أحد أعضاء ذاك المجتمع متى حل الإنسان هذه المسألة يكون أخلق من الخالق وأقوى من الطبيعة كلها وأقدر من العالم اللامتناهي. الإنكليزي والمطالعة نشر أحدهم مقالة في حرب الكتب في إنكلترا قال فيها أن القارئ الإنكليزي من أطمح القراء في المطالعة وأن ميله إلى الإكثار منها يكاد لا يصدق وإن الإنكليزي ليطالع جريدة التيمس وهي تصدر في عشر صفحات وأحياناً في ست عشرة ولا تراه راضياً عن نفسه قانعاً بما أحرزه من الفوائد بل أن القوم لا يقبلون على مطالعة الموجزين في عباراتهم من المؤلفين بقدر إقبالهم على المكثارين منهم. فوالتير كوت تقرأ كتبه أكثر من هال كين وماري كورللي وفي المكتبة السيارة في لندن سبعة ملايين مجلد. الأطباء اليوم بحث أحدهم في مجلة المجلات الفرنسية في حالة الأغنياء منذ سبعمائة سنة ولا سيما الأطباء والجراحون وقابلها مع أهل طبقتهم في هذا العصر من الفرنسيين فقال أن الأطباء الأمراء كانوا يأخذون رواتب سنوية تختلف بين 2250 فرنكاً وهو المبلغ الذي كان يتناوله طبيب الكونت دي سافوا (1401) و22000 فرنك كانت مخصصة لجراح شال العاقل أما اليوم فإن الطبيب الباريسي الذي يطب القوم يعود ثلاثين مريضاً في اليوم فيكسب ثلاثين

ألف فرنك في السنة أما كبار الأطباء في باريس وهم نحو أربعين طبيباً فيربح كل منهم من مائة ألف إلى مائتي ألف فرنك. الحيوان والإنسان أنشأت إحدى كاتبات لندن مقالاً فيما أرتاه الإنسان في الحيوان في جميع أدوار التاريخ وكيف احترم الأول الثاني أو ظلمه فقالت أن أبولونيوس دي تيان أقام الحجة على تضحية الحيوانات التي كانت شائعة في كل مكان على عهد الرسل. أما آباء الكنيسة فلم يجسروا على إلغاء هذه العادة وأقدم الفلاسفة على القول بعدم أذية الإنسان للحيوان لأن الخالق تعالى أنشأ الخلق الناطق وغير الناطق على حد سواء في العالم فقام سلس من فلاسفة القرن الثاني للميلاد وبلوتين الإسكندري من فلاسفة القرن الثالث وبورفير الإسكندري من أهل القرن الثالث أيضاً ونادوا بالرفق بالحيوان. ثم إن الكنيسة تلونت في الحكم على الحيوان فحكم مجمع ورمس علناً بالموت على النحل ولكنه أجاز أكل عسلها. وفي سنة 1379 حكم دوك بورغونيا بالموت أيضاً على خنزيرتين وخنزير. وللفيلسوف ديكارت الفرنسي ف القرن السابع عشر رأي في أرواح الحيوانات يعرفه من عرف فلسفته. ودافع شوبنهاور الألماني الحكيم عن الحيوانات وفضلها على الإنسان. ومنذ جاء داروين الإنكليزي وأعلن رأيه في النشوء والارتقاء أخذ الناس يعتبرون الحيوانات بأنها أخوتنا المنحطة عنا مقاماً ليس إلا. بيوت العلم الأمريكية نشر أحد المطارنة العلماء رحلته إلى أمريكا في إحدى المجلات الألمانية فمما قاله فيها أنه دهش مما شاهد من الميل إلى الترقي الذي أصبح غريزياً في المجتمع الأمريكي كما أعجب بكثرة المدارس والكليات الجامعة المنتشرة في كل صقع وبلدة وقرية في الولايات المتحدة وكل ذلك مما يلفت الأنظار ويأخذ بمجامع القلوب والأبصار. فإن كليتي يال وهارفرد مثلاً هما في الحقيقة مدن حقيقية فيهما معامل كيماوية من أحسن ما يتصور العقل وأدوات وآلات في كل ضرب من ضروب العلم والصنائع وخزائن كتب لا نظير لها وقال أن أساتذة المدارس الابتدائية ليسوا قساة جفاة ذوي هيئات مرعبة يضعون على عيونهم المناظير ويخيفون الكبير والصغير بل هم نخبة من الفتيان امتلأت أجسامهم نشاطاً

ووجوههم بشاشة. وإن صوت النساء اللاتي تعلمن على مثال تعليم الرجال أخذ يرن في جميع المناقشات العامة. الأديان والآداب كتب عالم في مجلة الإصلاح الاجتماعي بحثاً تساءل فيه عما إذا كان يتأتى لأمة أن تكون آدابها سالمة من الشوائب عندما تلغي حكومتها الأديان فأثبت بأنه كلما قل التدين واضمحل الاعتقاد بالأديان تضعف الآداب على نسبة تلك القلة وتنحط الأخلاق انحطاطاً محسوساً. الرياضة البدنية بحث أحدهم في تربية الأمة تربية طبيعية فقال أن اليابان قد قوي جنسها بتمريناتها العضلية المعروفة عندها باسم جيوجيتسو وإن السويد أدركت ما يتهددها من أخطار المشروبات الروحية فقاومتها وأخذت في الإكثار من الرياضات البدنية فعاد إلى الأجسام نشاطها بعد أن كادت تفقده وهكذا كل أمة تريد أن تتربى التربية الطبيعية ينبغي لها أن تكثر من أنواع الرياضيات وتمتنع عن الموبقات والمسكرات.

خاتمة السنة الأولى

خاتمة السنة الأولى نحمده تعالى على أن هدانا للجري على الخطة التي وضعناها منذ البداية بهذا العمل العلمي وأن حقق آمالنا فيما قصدنا إليه من السعي في سبيل الإفادة والاستفادة فجاء ما كتبناه ونشرناه ما ترى لا ما يجب أن ترى. وإنما هي سنة الارتقاء تدرجنا فيها على ما اتضح ذلك للقارئ البصير ولا ملام على من بذل المجهود في درك المقصود. ولقد لقي المقتبس من الإقبال عليه ما لا يستحقه وصادف من المنشطات ومؤازرة العلماء والأدباء الباحثين ما قوي به عضده وزنده ولكنه استفاد في الأغلب من نقد الناقدين والمستهجنين أكثر من تقريظ المقرظين واستحسان المستحسنين وصديقك من صدقك لا من صدَّقك. وهنا نثني أعطر الثناء على تلك الفئة العاملة التي جادت على المقتبس بأفكارها وأبحاثها واتخذته مباءة لأنفاسها الطاهرة ومثابة آدابها الباهرة ونتقدم إلى رصفائنا حملة الأقلام وقادة الصحافة في مصر والشام والهند وأمريكا وبعض المجلات العلمية في أوروبا لنشكرهم على ما يتفضلون كل شهر بكتابته على هذه الصحيفة والتنويه بها والدعوة إلى تناولها والنقل عنها ترغيباً وتحبباً. كما نرفع عبارات الشكر لعمدة جمعية الشرق السورية في أومهانبراسكا من أعمال الولايات المتحدة لإقامتهم حفلة تذكارية للمقتبس في متنزه ماناوا على سبعة أميال من أومها في السادس عشر من شر أغسطس الماضي فخطبوا بما أملاه الإخلاص وحب التناصر وفاه صديقنا الفاضل الغيور يوسف أفندي جرجس زخم بما كان من بعض الأدلة على فضله وأدبه وكذلك إخوانه الفضلاء الذين أحيوا بعد شهرين ليلة أنس في محفلهم ووقف 24 مدعواً من أعضاء المحفل وشربوا نخب صاحب المقتبس وألقوا أبياتاً أبانت عن كرم شرقي ونفوس سامية. والله نسأل أن يجعل عامنا الثاني أفضل من الأول ويوفقنا إلى خير الأعمال ويهديا من العلم الصحيح إلى أقوم سبيل إنه أكرم مسؤول.

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم على ما أقبستنا من قَبَس العلم بنور العقل السليم. فكان أفضل ما صدر عن كرمك الجزيل وفضلك العميم. ونستهديك لساناً لا يحلو له إلا النطق بما يعتقد صحته بعيداً عن التزلف والتقية. وبياناً مؤيداً بأيدك ليجد سبيل القبول من قلوب البرية. اللهم وقفنا إلى معالجة سم الجهل الناقع. بترياق التعليم النافع والأدب الرافع. وحبب إلينا التواصي بالحق والإنصاف. وجنبنا مضالَّ الاعتساف ومزالَّ الخلاف. وأشرب أفئدتنا حب الإقرار بحسنات العدو قبل الصديق. وأصرفنا عن مزالق التدليس ومغامز التلفيق. وافتح مغلق عقولنا برحمتك لنهتدي بما اهتدى به البشر الناهض بفضل البحث والتنقيب من نور علومه. واشدد عزائمنا لقرن العلم بالعمل فتمتزج روحه بأجزاء نفوسنا وننتفع بحديثه وقديمه. رب نسألك أن تطبع هذه الأمة بطابع التسامح المقبول. وتبغض إليها التعصب المنبوذ المرذول. لتقبل الحكمة من أي وعاءٍ خرجت. ومن أي جو تنفست. وعن أي لسان انبعثت. ولا تكلننا إلى أنفسنا لئلا نضل ونشقى. وبعد فقد قضى المقتبس عامه الأول وهو اليوم في فاتحة عامة الثاني يدبّ ويدرج. حرص - ولا يزال يحرص - على الانتفاع بنصح العقلاء. ونقد الجهابذة الفضلاء. وإرشاد المنزهين عن الأهواء. بما يؤهله إلى السير على سنة النمو والارتقاء. ولكل عمل عمره الطبيعي لا مندوحة من قضائه. والنتائج أبداً بالمقدمات مقرونة. وإذا جاز الفخر فيحق لهذه الصحيفة أن تفاخر بأنها قامت بمؤازرة العالمين والمفكرين. لا بمعونة الكبراء والموسرين. ولذلك فُرض عليها أن تشكر أيادي المتوفرين على إمدادها من معين دروسهم وأبحاثهم أضعاف أضعاف ما تشكر لغيرهم. وستظل أبحاثها على ما كانت عليه مع إشباع الكلام أكثر من ذي قبل في معظم ما تخوض عبابه من الموضوعات وتنشر في كل جزء رواية أو قصة أو أفكوهة تروّح عن النفس بعد تلاوة العلميات والأدبيات وذلك عملاً بما اقتضاه منا جمهور من القراء. فنلتزم كل مرة فتح باب نفاضة الجراب وكنا نود أن لا نعود إليه مؤتمرين بأمر بعض الأكابر لولا أن ثبت لنا بالاختبار أن الجدَّ البحث لا يروج بين أبناء الغرب وهم في تهذيبهم واستنارتهم ما هم فما بالك في هذا الشرق وهو ما هو. ومما وضعته هذه المجلة موضع العمل بعد الآن أن لا تعطي من عندها ألقاباً علمية وأن

تقتصر على الألقاب الرسمية فتورد اسم المعاصر كما تذكر العالم الغابر وتدعو الشرقيَّ باسمه كما تدعو الغربيّ وفي ذلك تخفيف على القراء واقتداء بالقدماء من أسلافنا الأقدمين وحملة لواء العلم والحضارة من الغربيين المحدثين والله ولي الهداية.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة قطب الدين الشيرازي هو القاضي قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي كان إماماً مبرزاً في عدة علوم مثل العلم الرياضي والمنطق وفنون الحكمة والطب والأصول وله عدة مصنفات وفضائله مشهورة. كان مولده بمدينة شيراز في صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة وتوفي بتبريز سنة عشر وسبعمائة فتكون مدة عمره ستاً وسبعين سنة وسبعة أشهر ملخصاً عن تاريخ أبي الفدا وقال ابن الوردي أنه توفي وهو في عشر الثمانين وكان غزير العلم واسع الصدر حسن الأخلاق وجيهاً عند التتر وغيرهم ثم قال في رثائه: لقد عدم الإسلام حبراً مبرزاً ... كريم السجايا فيه مع بعده قرب عجبت وقد دارت رحا العلم بعده ... وهل للرحا دور وقد عدم القطب وقال الشيخ طاهر الجزائري في كُنَّاشه وقفت على كتاب من تراجم أناس من المشهورين جمع الإمام العلامة نجم الدين أبي الخير سعيد بن عبد الله الدهلي البغدادي وفيه ترجمة القطب الشيرازي وهي ناقصة في النسخة فأثبتها على ما وجدتها اعتناءً بهذا العلامة الأوحد: ومنها كتاب أقليدس وهو باللغة الفارسية أيضاً صنفه باسم البرواناه وزير الروم ومن جليل مصنفاته شرح كليات القانون في الطب لابن سينا وهذا الشرح لم تسمح قريحة بمثله لأنه يشتمل على خلاصة الشروح المصنفة لهذا الكتاب وهي عشرة شروح اجتمعت عنده مع تنقيحات لطيفة وزيادات غريبة من نتائج خاطره الغزيرة من كتب عزيزة الوجود قد لا يوجد مثلها إلا في خزائن الملوك وسماه التحفة السعدية يعني باسم الوزير سعد الدين محمد الساوجي وزير الملك غازان وبعده أخيه (كذا) خربنده واتفق أن هذا الكتاب تم شرحه وسيره إلى الوزير المذكور وفي أثناء هذه الحال توفي الشيخ قطب الدين ووقع الترسيم والتوكيل على الوزير المذكور وطولب بالأموال وذلك في أذربيجان سنة عشر وسبعمائة وقصد خربنده العراق والوزير صحبته لتحصيل المطلوب منه إلى أن قتله ليلة السبت حادي عشر شوال سنة إحدى عشرة بمحول قريب بغداد ومع ما كان فيه هذا الوزير من المضايقة رسم لقطب الدين جائزة هذا الشرح مبلغ ستة آلاف دينار رائج عنها من الدراهم ستة وثلاثون ألف درهم وراجعوا الوزير سعد الدين في ذلك وعرفوه بوفاة الشيخ قطب

الدين فقال الوزير أنا لا أعود في هبتي وخصوصاً لمثله وفي مثل كتابه فأحضر جميع المال المذكور وجمع له أرباب الديون فقضى عنه ما كان عليه من الديون القديمة والحديثة التي كانت قد اجتمعت عليه مدة المرض وكان قد بقي مريضاً أحد وخمسين يوماً وكان معظم نفقته في هذه العلة الصدقة على الفقراء وعلى طلبة العلم وبقيت من المال بقية وزعت على أولاده وخاصته وكان هذا الوزير قد أنعم بهذه الجائزة وهو يومئذ تحت التوكيل وهو مطالب بألف كومار من المال منها عشرة آلاف دينار روائج فانظر إلى علو همة هذا الرجل وسعة نفسه وصدق اعتقاد. . . وكان له مع المشايخ الصالحين والصوفية المحققين اتصال حقيقي ونفس روحاني يرتاح إليهم في أوقات خلواته وصفاء مشروباته قال: وقد لازمت ذراه المحروس ثماني عشرة سنة فشاهدت معظم سيرته تشتمل على الأخلاق الشريفة والفضائل الكاملة مع السخاء المفرط. كان لا يبقي على شيء مما يحصل بيده لا في سفر ولا في حضر وكان أكثر عطائه للفقراء وطلبة العلم وذوي البيوت القديمة وذوي الحاجات قال ولقد حضر عنده في بعض الأيام مائتا دينار فبلغه أن صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر صاحب الموسيقا قد قدم من بغداد لضرورة ديون عليه قد غلبته فقال هذا من بيت له خدمة قديمة للخليفة العباسي فبعث إليه بالمبلغ المذكور واعتذر إليه أنه لم يكن عنده في هذا الوقت غير هذا المقدار. قال: وكان يقول في مرض موته ليست فائدة المهلة في حياتي إلا لأعطي الفقراء شيئاً فكان مصمماً على العطاء والإحسان وفعل الخير إل أن صار إلى أحسن مصير. قال وكان في أسفاره يصحبه من التلاميذ جماعات وخصوصاً في أيام توجهه إلى خراسان والروم فلقد اجتمع معه في سفره إلى الروم نحو الأربعين طالباً وغالبهم أرباب فضائل وعلوم راسخة وكان يخدمهم بالمال والنفس والعلم وكانوا مع هذا يتقصونه وما يفعله معهم من الخدمة والخير ويقولون هذا الرجل متطفل علينا لأن الناس إنما يخدمونه ويعطونه الأموال لأجلنا ونحن الذين نشيد كلمته ونظهر فضيلته ونجمله بين الناس. قال وكان يبلغه هذا وأمثاله عنهم فلا يغضب ولا يلتفت إلى قول القائل إليه ذلك ويقول: أنا أريض أخلاقي بالصفح عن زلات إخواني إلي. وقال الأربلي: وأخبرني الشيخ ضياء الدين الطوسي قال: اجتمعت بقطب الدين الشيرازي

بقزوين وهو يقرأ الفقه على الشيخ علاء الدين الطاووسي صاحب التعليقة قال فسألته عن بعض أحواله فحكة لي اشتغاله بالطلب وأنه ترك معالجة الناس وخرج من شيراز وقصد بلاد خراسان وأنه توفر مدة سنين على تحصيل علم المعقولات من علم الكلام قال وقال لي ما وجدت نفسي في عمري متوفراً على طلب العلم لم اشتغل بسوى (كذا) هاتين السنتين هما كانتا خير تحصيل حصل فيهما من العلوم النظرية ما أحياني لكني غير عالم بالفقه فقصدت الشيخ علاء الدين الطاووسي لأقرأ عليه الفقه فقرأت عليه الحاوي الصغير وكتاب الوجيز وكانت للشيخ علاء الدين نسخة من الوجيز محشاة بالفوائد اللطيفة من الفقه فسرقها وهرب من قزوين قال: وهكذا كانت عادته إذا أعجبه كتاب يتحيل حتى يسرقه وكان مشتهراً بين طلبة العلم في مبادئ أحواله بهذا الوصف قال وطلب علاء الدين نسخته فلم يجدها فقالوا لم يكن عندك غير محمود الشيرازي فقال ليس هو آخذها وقال لي مهذب الدين الشيرازي أحد تلاميذ قطب الدين إن قطب الدين كان يلقي الدروس من هذه النسخة بمدينة سيواس ويقول هذه النسخة سرقتها من شيخي علاء الدين الطاووسي بقزوين في مبدأ تحصيل العلم وكنت عاجزاً عن مشترى الكتب. ولما عمر ملك خوارزم نلك مارستاناً أنفذ الشيخ قطب الدين إليه برسم هذا المارستان كتباً طبية قيمتها بالتقريب أربعة آلاف درهم فأجازه بجائزة تشتمل على رقيق قماش ونقد قيمة الجميع ستة وثلاثون ألف درهم. وصنف كتاباً باسم الملك عز الدين ملك شيراز في علم الأخلاق والحكمة فأجازه ببغلة سنية وآلاتها ومعها ثلثمائة مثقال ذهباً وتخت قماش ذكر هذا وما قبله الأربلي قال: وكنت بماردين فسير لصاحبها الملك المظفر هدية تشتمل على مملوك صغير تركي وآخر رومي وتخت قماش منوع من الحرير وسجادة وكتاب صغير من تصانيفه فرد الملك المظفر الجميع وقبل السجادة والكتاب وأجازه عليهما باثني عشر ألف درهم وقال: هذا القدر هو الذي ينبغي أن يقبل من العلماء إما كتاب من فوائدهم وإما خرقة من بركاتهم. ولم يحمل؟ إلا في دملة غازان فإنه كان بينه وبين رشيد الدولة كراهية في النفوس بين الشخصين لأن قطب الدين كان يتنقص كثيراً برشيد الدولة وبتصانيفه ويستجهله ويحط عليه. وقد صنف تصانيف في تفسير الكتاب العزيز وفي غيره وكان قطب الدين يظهر نقصها

ويكشف عن عورتها قلت ولقد حدثني بعض شيوخنا عن قطب الدين أنه لما بلغه أن الرشيد قد شرح القرآن العظيم قال لأصحابه ايه هاتوا التوراة حتى أشرحها قال الأربلي وتمكن رشيد الدولة من دولة غازان فأشاع أنه يريد أن يقتل قطب الدين ثم ظهر أنه قتله بقطع رزقه الذي كان مقرراً على الدولة ومبلغه ثلاثون ألف درهم فقلل لغازان هذا الرجل فقيه ايش يعمل بهذا المال كله هذا تضييع هذا يكفيه اثنا عشر ألف درهم وكان غازان بخيلاً فأصغى إلى قول رشيد الدولة وقطع سائر ما كان لقطب الدين من المبلغ المذكور وبعد مدة طويلة سعى فيه حتى أطلق له في كل سنة اثنا عشر ألف درهم قال: وكان قطب الدين قد بيت مع رشيد الدولة وعجز عن تلافي ما أفسد وعجز عن رضاه قال لكن كان قطب الدين سعيداً في عقله وعمره وتصانيفه وأصحابه فما أثر ذلك عنده شيئاً لكنه كان خائفاً لأن يسعى رشيد الدولة في قتله فآمنه الله تعالى منه قال الأربلي وأخبرني التاجر الشفار قال ولما تطاولت علة الشيخ قطب الدين الشيرازي وأحس بالموت طلب إليه الصدر زين الدين علي بن فخر الدين بن عبد السلام الطيبي وقال له يا خواجه زين الدين أريد من أنعامك أن تتولى أمر تجهيزي ودفني فإني ما رأيت أن أضع هذه المكرمة إلا عندك لأني شاهدت رغبتك في فعل الخيرات والمبرات فأجاب زين الدين بالسمع والطاعة قال ولما توفي قطب الدين أنفق زين الدين على جنازته وتجهيزه ودفنه وأيام العزاء سبعة آلاف درهم ومائتي درهم ومن ذلك أنه اشترى سبعة آلاف ذراع قماش قطن أبيض وفصلها قمصاناً وعمائم للأيتام والأرامل وألبسها سبعمائة إنسان من الفقراء والتلاميذ اللائذين بقطب وطائفة من الأيتام والأرامل فكانوا بين يدي الجنازة يبكون ويندبون وجلس مدة أيام العزاء للناس والتزم إطعامهم ومهامَّهم وما هو من كلف العزاء لمثل هذا الميت. قال الصدر شمس الدين: وما رأيت أحداً من الرؤساء أطول من نفس قطب الدين الشيرازي في الشفاعات لذوي الحاجات وذوي السلطان كان إذا جلس إلى أمير أو وزير أو قاض يخرج أوراقاً من جيبه نحو عشرين أو ثلاثين قطعة ويشفع في الجميع وكان غالبتها يقضى وما يرد إلا القليل وكان كثيراً ما يشاهد من الأمراء والأكابر مللاً من كثرة شفاعاته فلا يلتفت إلى ذلك الممل ولا يترك تردده إليهم ويقول ولأي شيء خُلقوا وخُلقنا وما نفعنا بالجاه إذا لم نقض حاجات الناس إذا تركنا هؤلاء وسجاياهم لا يقضون حاجة المسكين أو عاجز محروم فنحن

نسوقهم إلى فعل الخير قهراً وتحيلاً عليهم حتى يؤجروا ونؤجر نحن معهم ونقضي حوائج الناس الملهوفين العاجزين كان هذا دأبه يفعل غالب أوقاته الخير بجاهه وماله وعلمه رحمه الله.

تسامح العظماء

تسامح العظماء يظن من لا عهد له بدرس مشاهير رجال الإسلام أنهم كانوا جبابرة لا يحسنون غير البطش والكر والفر على أن الباحث في سيرهم يراهم من أشد الأمم حرصاً على ما فيه قوام عمرانهم ولم يكن في قلوبهم غالباً شيء مما يقال له تعصب أو تحزب بل ساسوا رعاياهم سياسة العدل لم يحابوا ولم يداجوا فقدروا الكفاءات قدرها ولم يعتبروا في مصالحهم إلا أهل الغناء والعلم. وربما لا يصدق إلا غمار في هذه الإعصار لو قلنا لهم إن معاوية بن أبي سفيان اصطفى لنفسه ابن أثال النصراني من أطباء دمشق وأحسن إليه وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه. وصحب تياذوق الطبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتولي من جهة عبد الملك بن مروان وخدمه بصناعة الطب وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير. وخدم جورجس بن جبرائيل الخليفة المنصور وكان عظيماً عنده رفيع المنزلة ونال من جهته أموالاً جزيلة والمنصور هو الذي يقال له الدوانيقي لبخله. وخدم بختيشوع بن جورجس هارون الرشيد وتميز في أيامه وكان رئيس الأطباء كلهم في بغداد. وكان جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس حظياً عند الخلفاء رفيع المنزلة عندهم كثيري الإحسان إليه وحصل من جهتهم من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء وكان مكيناً عند جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أحبه مثل نفسه وكان لا يصبر عنه ساعة ومعه يأكل ويشرب أعطاه الرشيد مرة من أجل مداواة إحدى حظاياه خمسمائة ألف درهم وأحبه مثل نفسه وجعله رئيساً على جميع الأطباء. وأمر له المأمون مرةً بألف ألف درهم وبألف كر حنطة ورد عليه سائر ما كان قبض منه من الأملاك والضياع وصار إذا خاطبه كناه بأبي عيسى جبرائيل وأكرمه زيادة على ما كان أبوه يكرمه وانتهى به الأمر في الجلالة إلى أن كان كل من تقلد عملاً لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى جبرائيل ويكرمه وكان عند المأمون مثل أبيه. ووجد في خزانة بختيشوع بن جبرائيل مدرج فيه عمل بخط كاتب جبرائيل بن بختيشوع الكبير واصطلاحات بخط جبرائيل لما صار إليه في أيام خدمته الرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة يذكر أن رزقه كان من رسم العامة في كل شهر من الورق عشرة آلاف درهم يكون في السنة مائة وعشرون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفاً ألف

وستمائة وستون ألفاً ونزله في الشهر خمسة آلاف درهم يكون في السنة ستون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف وثلثمائة وثمانون ألف درهم ومن رسم الخاصة في المحرم من كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم ومن الثياب خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم. تفصيل ذلك: القصب الخاص الطرازي عشرون شقة الملحم الطرازي عشرون شقة الخز الصوري عشر شقاق الخز المبسوط عشر شقاق الوشي اليماني ثلاثة أثواب الوشي النصيبي ثلاثة أثواب الطيالسة ثلاثة طيالس ومن المسور والفنك والقماقم والدلق والسنجاب للقبطين. وكان يدفع إليه في مدخل صوم النصارى في كل سمة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم وفي يوم الشعانين من كل سنة ثياب من وشي وقصب وملحم وغيرهم بقيمة عشرة آلاف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألفاً وفي يوم الفطر في كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم وثياب قيمة عشرة آلاف درهم على الحكاية يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألف درهم. ولفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم من الورق مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة ألف درهم. ولشرب الدواء دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة درهم. ومن أصحاب الرشيد على ما فصل منه مع ما فيه من قيمة الكسوة وثمن الطيب والدواب وهو مائة ألف درهم من الورق أربعمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة تسعة آلاف ألف ومائتا ألف درهم. تفصيل ذلك عيسى بن جعفر خمسون ألف درهم زبيدة أم جعفر خمسون ألف درهم العباسة خمسون ألف درهم إبراهيم بن عثمان ثلاثون ألف درهم الفضل بن الربيع خمسون ألف درهم فاطمة أم محمد سبعون ألف درهم. كسوة وطيب ودواب مائة ألف درهم ومن غلة ضياعه بجندي سابور والسوس والبصرة والسواد في كل سنة قيمته بعد المقاطعة ورقاً ثماني مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ثمانية عشر ألف ألف وأربعمائة ألف درهم ومن فضل مقاطعته في كل

سنة من الورق سبعمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ستة عشر ألف ألف ومائة ألف درهم وكان يصير إليه من البرامكة في كل سنة من الورق ألفا ألف وأربعمائة ألف درهم. تفصيل ذلك: يحيى بن خالد ستمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث عشرة سنة أحد وثلاثين ألف ألف ومائتي ألف درهم يكون جميع ذلك مدة أيام خدمته للرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة وخدمته للبرامكة وهي ثلاث عشرة سنة سوى الصلات الجسام فإنها لم تذكر في هذا المدرج من الورق ثمانية وثمانين ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم منها خمسة وثمانون ألف ألف درهم ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف درهم. التذكرة: الخراج من ذلك ومن الصلات التي لم تذكر في النفقات وغيرها على ما تضمنه المدرج المعمول من العين تسعمائة ألف دينار ومن الورق تسعون ألف ألف وستمائة ألف درهم. تفصيل ذلك ما صرفه في نفقاته وكانت في السنة ألفي ألف ومائتي ألف درهم على التقريب وجملتها في السنين المذكورة سبعة وعشرون ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم ثمن دور وبساتين ومتنزهات ورقيق ودواب والجمازات سبعون ألف ألف درهم ثمن آلات وأجر وصناعات وما يجري هذا المجرى ثمانية آلاف ألف درهم. ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته اثنا عشر ألف ألف درهم. ثمن جواهر وما أعده للذخائر عن قيمة خمسمائة ألف دينار خمسون ألف ألف درهم. ما صرفه في البر والصلات والمعروف والصدقات وما بذل به خطه في الكفالات لأصحاب المصادرات في هذه السنين المقدم ذكرها ثلاثة آلاف ألف درهم. وما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه ثلاثة آلاف ألف درهم. ثم وصى بعد ذلك كله عند وفاته إلى المأمون لابنه بختيشوع وجعل المأمون الوصي فيها فلسلمها إليه ولم يعترض في شيء منها عليه بتسعمائة ألف دينار. ولا عجب فيما قاله فثيون الترجمان أن جنس جورجس وولده كانوا أجمل أهل زمانهم بما خصهم الله به من شرف النفوس ونبل الهمم ومن البر والمعروف والأفضال والصدقات وتفقد المرضى من الفقراء والمساكين والأخذ بأيدي المنكوبين والمرهوقين على ما يتجاوز الحد في الصفة والشرح. وبلغ بختيشوع بن جبرائيل من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من سائر الأطباء الذين كانوا في عصره وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرس وبلغ من كمال

المروءة ومباراة الخلافة في الزي واللباس والطيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ في النفقات مبلغاً يفوق الوصف وكان أيضاً لطيف المحل من المهتدي بالله وشكا إليه ما أخذ منه في أيام المتوكل لنكبة وقعت عليه من هذا لفرط إدلاله عليه فأمر أن يدخل إلى سائر الخزائن فكل ما اعترف به فليرد إليه بغير استئمار ولا مراجعة فلم يبق له شيء إلا أخذه وأطلق له سائر ما فاته وحاطه كل الحياطة. وكان عبيد الله بن بختيشوع متصرفاً ولما ولي المقتدر الخلافة استكتبه لحضرته وبقي معه مديدة وصار ابنه جبرائيل من خاصة عضد الدولة بن بويه وكان يكرمه كثيراً ويغدق عليه المشاهرات ووصله الصاحب بن عباد بما قيمته ألف دينار وكان دائماً يقول صنف مائتي ورقة أخذت عنها ألف دينار يعني بذلك الكناش الذي وضعه بأمر الصاحب في الأمراض التي تعرض من الرأس إلى القدم. وكان عيسى المعروف بأبي قريش صيدلانياً أكرمه المهدي مرة ولم يزل يطرح عليه الخلع وبدر الدنانير والدراهم حتى علت رأسه وكناه أبا قريش أي أبا العرب. وخلف اثنين وعشرين ألف دينار مع نعمة سنية. وكان عبد الله الطيفوري من أحظى خلق الله عند الهادي وزكريا بن الطيفوري كان من جماعة القائد أفشين كان منه إن امتحن الصيادلة في معسكره كما امتحن يوسف لقوة الكيميائي زمن المأمون صيادلة بغداد. وكان إسرائيل بن زكريا الطيفوري جليل القدر عند الخلفاء والملوك كثيري الاحترام له وكان مختصاً بخدمة الفتح بن خاقان بصناعة الطب وله منه الجامكية الكثيرة والأنعام الوافر. وكان المتوكل بالله يرى له كثيراً ويعتمد عليه وله عند المتوكل المنزلة المكينة وجد مرة على المتوكل لما احتجم بغير إذنه فافتدى غضبه بثلاثة آلاف دينار وضيعة تغل له في السنة خمسين ألف درهم وكان متى ركب إلى دار المتوكل يكون موكبه مثل موكب الأمراء وأجلاء القواد. وكان يزيد بن زيد بن يوحنا متطبب المأمون وخدم إبراهيم بن المهدي وله من الإحسان الكثير والأنعام الغزير والعناية البالغة والجامكية الوافرة. وتقدم سابور بن سهل عند المتوكل وكان يرى له وكذلك عند من تولى بعده من الخلفاء وكان عالماً بقوى الأدوية المفردة وتركيبها وكان موسى بن إسرائيل الكوفي متطبب إبراهيم بن المهدي. وكان سلمويه بن بنان متطبب المعتصم اختاره لنفسه لما استخلف وأكرمه إكراماً كثيراً يوفق

الوصف وكان يرد إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلات وغيرها بخط سلمويه وكل ما كان يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين فبخط سلمويه وولى أخا سلمويه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد وخاتمه مع خاتم أمير المؤمنين ولم يكن أحد عنده مثل سلمويه وأخيه إبراهيم في المنزلة وكان المعتصم يسميه أبي فلما اعتل سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده فلما مات امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته وأمر بان تحضر جنازته الدار ويصلى عليه بالشمع والبخور على زي النصارى الكامل ففعل وهو بحيث يبصرهم ويباهي في كرامته وحزن عليه حزناً شديداً. وعالج إبراهيم بن أيوب الأبرش إسماعيل أخا المعتز وبريء فأجازته أمه والمتوكل بست عشرة بدرة وكان أخص المتطببين عند المعتز لما أفضت الخلافة إليه. وكان جبرائيل كحال المأمون يدخل إليه في كل يوم عند تسليمه من صلاة الغداة فيغسل أجفانه ويكحل عينيه فإذا انتبه من قائلته فعل مثل ذلك وكان يجري عليه ألف درهم في كل شهر. وأجرى الرشيد على ماسويه أبو يوحنا ألفي درهم في الشهر ومعونة في السنة عشرين ألف درهم وعلوفة ونزل وألزمه الخدمة مع جبرائيل وكان لهذا في الشهر عشرة آلاف درهم ومعونة في السنة مائة ألف درهم وصلات دائمة وإقطاعات. وخدم يوحنا بن ماسويه بصناعة الطب المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل وكان له منهم الأنعام الكثير والمنزلة السامية وله عليهم دالة الأقران على أقرانهم لا الخدم على مخدوميهم. وكان ميخائيل بن ماسويه متطبب المأمون وكان به معجباً وله على جبرائيل بن بختيشوع مقدماً حتى كان يدعوه بالكنية أكثر مما يدعوه بالاسم وكان لا يشر الأدوية إلا مما تولى تركيبه وإصلاحه له. وبلغ حنين بن إسحاق عند المأمون منزلة عالية لأنه كان رئيس جماعة التراجمة لعهده وكانت له الإقطاعات الحسنة والجواري الجيد والإحسانات الفائضة وزادت مكانته كثيراً بعد خروجه من المحنة التي ألحقها به أعداؤه وأمر المتوكل الأطباء الذين طلبوا قتل حنين وسعوا فيه لديه أن يحمل إليه كل منهم عشرة آلف درهم. وأمر أن يضاف إليها مثلها من خزانته فكان زهاء مائتي ألف درهم. قال حنين في كلامه على ذلك ثم أن الخليفة أمر بإصلاح ثلاث دور من دوره التي لم أسكن قط منذ نشأت في مثلها ولا رأيت لأحد من أهل صناعتي مثلها وحمل إليها سائر ما كنت إليه محتاجاً من الأواني

والفرش والآلة والكتب وما يشاكل ذلك بعد أن شهد لي بالدور وتوثق بشهادات العدول لأنها كانت خطيرة في قيمتها لأنها تقوّم بألوف دنانير فلمحبته لي وميله إلي أن تكون لي ولعقبي ولا تكون عليّ حجة لمعترض فلما فرغ مما أمر به من الحمل إلى الدور وجميع ما ذكر وتعليقها بأنواع الستور ولم يبق غير المضي إليها أمر بحمل المال الضعف الكثير بين يدي وحملني على خمسة أرؤس من خيار بغلاته الخاصة بمواكبها ووهب لي ثلاثة خدم روم وأمر لي كل شهر بخمسة عشر ألف درهم وأطلق لي الفائت من رزقي في وقت حبسي فكان شيئاً كثيراً وحمل من جهة الخدم والحرم وسائر الحاشية والأهل ما لا يمكن أن يحصى من الأموال والخلع والإقطاع وحصلت وظائفي التي كنت آخذها خارج الدار من سائر الناس آخذها من داخل الدار وصرت المقدم على سائر الأطباء. وخدم يوحنا بن بختيشوع بصناعة الطب الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل وكان يعتمد عليه كثيراً ويسميه مفرج كربي. وحظي بختيشوع بن يوحنا من الخلفاء وغيرهم واختص بخدمة المقتدر بالله وكان له منه الأنعام الكثير والإقطاعات من الضياع وخدم بعد ذلك الراضي بالله فأكرمه وأجراه على ما كان باسمه في أيام أبيه المقتدر. الباقي للآتي.

النعام في الحضارة المصرية

النعام في الحضارة المصرية عن مجلة الطبيعة الفرنسوية النعامة أعظم الطيور وأضخمها يبلغ علوها نحو مترين ووزنها أربعين كيلوغراماً أحياناً. سمعها دقيق ونظرها حاد وحاسة الذوق والشم فيها غليظة بحيث لا تتخير غذاءها وقلما تميز بين جيده ورديئه. فهي وإن تكن من الحيوانات آكلة العشب تخضم أغذية نباتية وتحتك بكل ما يقع نظرها عليه من حديد وقرمد وخشب وتصدمه حتى يكاد يتناثر. ساقاها مستويتان مستطيلتان متينتان حتى أنها لتقطع نحو 280 كيلومتراً في أقل من عشر ساعات فتبذُّ بذلك الصافنات الجياد في حلبة الطراد. وريش جسم ذكر النعام أسود فاحم وريش الأجنحة والذنب أبيض وعنقها أجرد لا ريش له وهو أحمر كساقيها وعينها زرقاء ومنقارها أصفر ورجلاها سنجابيتان وهي كالجمل تنزل المناطق الحارة المنعزلة عن الناس. عرف القدماء النعام وورد ذكرها في التوراة أكثر من مرة وسماها اليهود ابنة الصياح وكثيراً ما تزعق في المطارح النائية الواسعة في ظلمات الليل وتنخر نخيراً ممزوجاً بعويل محزن يرمض القلوب ويجلب الكروب. وهي من البلاهة بحيث لا يضاهيها حيوان حرمها الخالق تعالى من الحكمة ولم يجعل لها حظاً من الذكاء كما ورد في التوراة. ويذكر بلين أن الصيادين يضطرونها إلى أن تقبع رأسها وتخفيه ظناً منها بأن لا يراها أحد ومتى طاردها المطاردون تستخدم رجليها بمثابة مقلاع وترمي بهما أحجاراً بغلظ الكف. هذا الطائر مشهور منذ القرون العريقة في القدم ويبيض في الرمل ولا تحضن أنثاه بيضها إلا من الليل لأن حر النهار ينقفها. وإنك لتراها إرسالاً وعصائب على مقربة من الواحات في رمال أفريقيا وبلاد العرب وتُرى في الصحراء من جبال الأطلس إلى ضفاف النيل وفي رمال صحراء ليبية ومصر الوسطى وفي القفر الواقع في الجنوب الغربي من الإسكندرية. رأينا النعامة مرسومة في مصانع الفراعنة والحبشان آخذين بزمامها وقد لزَّت في قرن مع الأسود والفهود وغيرها من حيوانات تلك الأرجاء. ويروى عنها في أساطير الأولين روايات من مثل اختيارها دون سائرا لحيوانات لإنقاذ إله الخمر لما ذهب هذا إلى الهند

على رأس جيشه الجرار مجتازاً صحاري ليبيا حتى إذا اشتد به الظمأ استغاث بالمشتري فدله على نعامة فتبعها حتى قادته إلى مكان حفرت فيه الأرض بمنقارها فنبضت منها عين. ولما كان الصيادون يطاردون النعام مطاردة شديدة وكثيراً ما كانوا يلبسون جلودها ويقلدونها في حركاتها فيقتربون منها ويباغتونها. يستعملون لحمها غذاء لهم ويستخدمون جلدها تروساً أو ثياباً أو مضاجع وفرشاً. وإذا تمكنت النعامة من صيادها نفثت فيه سماً قتالاً وعضته عضة يقاسي منها أنواع الألم فلا تكون عاقبتها عليه سوى الموت. أما توم (بيض) النعامة فكان الصيادون يأكلون ما في داخلها فإذا أتوا عليه يستعملون القشرة أقداحاً وأكواباً وإذا رأوها ضخمة يقسمونها شطرين يكونان قبضتين لرجلين يستران بهما رأسيهما. ومازال بعض السكان في أفريقيا إلى يومنا هذا يقتاتون من لحم النعامة وشحمها وتومها ويبيعون ريشها أو يستخدمونه زينة لرؤوسهم. ويستخدم النعام لحمل الأثقال. وشاعت عادة ركوب النعام في القديم كل الشيوع. ويؤخذ مما قاله بوزانياس القائد الإسبارطي المشهور (477 ق. م) أنه رئي على جبل هيليكون من بلاد اليونان تمثال لارسينوي الأميرة المصرية التي تزوجت بطليموس محمولاً على نعامة من النحاس. ويقول اتينيه الكاتب اليوناني الذي جاء في القرن الثالث للمسيح أنه كان في الاحتفال بظفر فيلادلف الذي قام في الإسكندرية ثمانية قطارات من النعام في كل قطار نعامتان وقد رُسمت صورة جماعة يتعاطون الشراب مرسومة على كوب وفيها ست نعامات يركب متونها فتيان ويسير أمامهم رجل مستور الوجه ووراء هم موسيقار يمشي الهوينا ضارباً بمزماره. ومما يقصونه من الأخبار عن فيرموس ماركوس الجبار المصري أنه كان يركب نعاماً ضخمة ويستوي على ظهورها فتنساب به انسياباً سريعاً حتى كنت تخاله يطير وكان أكولاً يطعم كل يوم نعامة. وذكر أن هليوكابال الإمبراطور الروماني وضع مائدته ستمائة مخ نعامة. وكان موسى على العكس يكره لحم النعام وحظر على بني إسرائيل استعماله. واستعمل النعام في نينوى صوراً لطيفة في الثياب المطرزة والمشالح الآشورية. وفي بعض النقود الرومية صور مقلوبة تمثل نعامة تسير إلى الشمال والكلب يهم بها. وفي صور قدماء المصريين أشياء كثيرة تدل على استخدامهم النعام في كثير من المهام.

ورد في كتب التاريخ أقاصيص عن حسن تخلص النعام في الحروب مما يرجع الفضل فيه لشكلها لأنها تشبه الطائر وتشبه ذوات الأربع ولها من كل فصيلة من هذه الفصائل أحسن ما فيها. وكان لريشها أثر وأي أثر في أساطير وادي النيل لم يصل إليه الجعلان ولذلك نرى من جملة الجُزى التي كان الفراعنة يضربونها على سكان الحبشة جزية وافرة من الريش وبيض النعام زيادة على ما كانوا يفرضونه عليهم من خرائط التبر. يقول هورابولون إن المصريين كانوا يمثلون للرجل العادل بريش النعام بدعوى أن هذا الطائر هو الوحيد من بين الطيور في تساوي ريشه. ولذلك أمثلة كثيرة في تاريخهم القديم. وترى في الخط الهيروغليفي أن ريش النعام إشارة إلى صوتين مختلفين (ما وسو) فيستخدم الأول لكتابة الحقيقة. ويفهم من مغزى الفلسفة المصرية أن معنى (ما) العدل فمن ثم كانت ريشة النعامة رمزاً إلى ربة الحقيقة والعدل. ترى هذه الريشة التي تمثل الحقيقة والعدل ماثلة أحياناً وقد جعلت رأساً لجسد امرأة وكثيراً ما تظهر في صورة رشيقة متجلببة برداء ضيق وقد جعلت في ذراعيها وكاحليها أساور وفي إحدى يديها إشارة الحياة وفي الثانية صولجاناً تريد بذلك الحقيقة والعدل. وكثيراً ما كنت ترى أمثال هذه الصور ماثلة بعضها أما بعض وقد. . . .

الشعر العربي

الشعر العربي ذكرت حديث الهوى برهة ... وأنسيت نفسي ذاك الحديثا ومازلت فوق ظهور المطي ... طوراً سميناً وطوراً غثيثا إلى أن بلغت قصارى المنى ... وعدت لكل علاء وريثا ونلت الذي لم تصله الظنو ... ن مجداً أثيلا وعزاً أثيثا وأدركت غاية ما يرتجى ... وحزت قديم العلى والحديثا وأصبحت بين الملا مفرداً ... أجير طريد الليالي الكريثا أفرج كربة كل امرئ ... أتى بي من دهره مستغيثا أنا من تشير إليه البنا ... ن ظعيناً إذا ما يرى أو لبيثا تحط بأثقالها المكرما ... ت حيث يحط الأمون الدلوثا نجائب عزم إذا أرقلت ... تركن الحزون أباطح ميثا متى تحتلبها تجد عندها ... لبون الخطوب شطوراً ثلوثا من القوم عهدهم لم يزل ... وثيقاً وعهد سواهم نكيثا إذا ما دعوا للندى والكفا ... ح هبوا أسوداً وسالوا غيوثا ليوث وغىً أنجبوا للعلى ... ليوث وغى تسترق الليوثا فكم أصلحوا للورى فاسداً ... وذادوا الليالي عن أن تعيثا تمنى السماء وجوزاؤها ... ببوغاء أرضهم أن تلوثا ترحل إلى العز يا ابنه ... وترض في دار هون مكوثا وخذها معتقة من على ... تريك لدى المزج نوحاً وشيثا ولا تخدعنك وجوه الورى ... وكن للسرائر منها نبيثا لكم من فتى خلته طيباً ... فألفيته بعد ذاك خبيثا القاهرة عبد المحسن الكاظمي

حكم وخواطر

حكم وخواطر كتبت منذ سنوات في المجلة المصرية بعض جمل وخواطر سنحت لي يومئذ منها ما تحديث به مناهج الحكماء ومنها ما ذهبت به مذاهب التعريض والإيماء إلى معانٍ عصرية ومقاصد سياسية فاستحسن بعضهم تلك الجمل واستشهدوا بها ووجد في بعضها قوم إغلاقاً ولم يدركوا جميع مراميها فقصدت أن أجرب هذا النمط مرة ثانية لا لأنني مخترع شيئاً بل لأني مجدد أسلوباً إذ أن المعاني وإن كان أكثرها قديماً فلابد لها في كل عصر من زي يلائمه ولكل زمن لغة ولكل عصر بلاغة. قرائح الرجال كمعادن الجبال لا تظهر القرائح إلا بالاختيار كما لا تعرف المعادن إلا بالاحتقار ما حث مطايا التقدم مثل مناخس الانتقاد إذا تأخر بالإنسان مركب الحياة تمنى مهب الحوادث حملة العاقل في رأسه وجملة الجاهل على ظهره الفضل دنبٌ يذنبه الفاضل إلى أهل النقص فليكفّر عنه بالتواضع ربَّ ملولٍ من العمل لو ارتاح ملَّ أكثر قد يفيد السلب كما يفيد الإيجاب وأحياناً ينهض بالمرء النقص ما لا ينهض به الكمال قد يكون ما يُجدي العدو بعداوته بوزن ما يفيد الصديق بصداقته وكم عداوة أكسبتك محابّ المتكبر ممقوت ولو أخرج الحق من جنبه والمتواضع محبوب ولو لم يتب من ذنبه لأنه مهما يكن من فضيلة فإن الكبر ينسفها ومهما يكن من نقيصة فإن الإقرار يخففها أحسن مركز للعدو العاقل العدل في غير لين والأدب في غير خضوع بعض الناس يداوي العداوة بالظلم وبعضهم يعالجها بالذل وكلاهما يزيد الداء قد تقع الندامة على العجلة بالخير كما تقع على العجلة بالشر وربما كان الندم على المعروف مع غير أهله أنكى من الندم على الجزاء في غير أهله. الصادق أشد الناس دهاء لأنه يصل إلى جميع مقاصده من أخصر الطرق ويعبر إلى النجاة على جسر الاعتقاد إذا كان العامل عالماً كان إذاً العالم عالماً (العامل الأول هو الوالي) إذا كان الملك حكيماً فمملكته هي المدينة الفاضلة

لا تظنن العالم الشرير عالماً لأن العلم الذي لا تطهر معه النفس هو كالماء الذي لا يطهر من النجس جميع الخلائق مفترسة لكن بعضها يأكل بالأسنان وبعضها يأكل باللسان ليس المهذب من لا تجد له عدواً بل المهذب من لا تجد عليه طاعناً بحق أكثر ما يمتدح العدو عدوه في موطن الحملة عليه إذا ضعف زرع القلب أنبت زوان الكذب على أسلة اللسان إذا قدرت فاصفح لأن علو المقام كافٍ في الانتقام ما أقبح الهجوم بالمُعوِر والسباق بالمقصّر وإثارة العداوات بمخروق الستر الثناء نبتُ شائك لا يُجتنى إلا بإدماء الأصابع والراحة لصٌّ هارب لا يمسك إلا بهجر المضاجع إذا أنعمت بنعمة وجحدها جاحد فلا تذكرها لأن سكوتك عن المنّ أكرم من كرمك بالمنة اكبر الرجال في عيني من كان فعله أكثر من قوله وباطنه خيراً من ظاهره ضدان لا أصعب من اجتماعهما لدى المرء ضيق الرزق وسعة العقل لا تنتقم لنفسك مثلما ينتقم لك الدهر وقد يزيد على ما كنت تريد ما عاض من المال مثل العقل ولا سدّ هوّة الفقر مثل الشرف ولا قصف غصن الفضيلة مثل ريح الدعوى ولا جدع أنف الأصالة مثل دنس العرض والأصيل الطاهر أولى بالعشق من الجميل الباهر. مناط الحساب العقل وعلى قدر عقل الخصم يكون انفعال خصمه منه لا يغلبك في خصام مثل المجنون لأنه محكوم له من الجميع من أول جلسة الصداقة أمانةٌ وجدير بالأمانة التي أبت حملها الجبال أن لا تعرض إلا على أقوياء الرجال أسعد حالات الصداقة أن يتوازن الحسن والحب وأن تتساوى درجات الاعتبار في العقل مع جرات الائتلاف بالقلب يجب أن يصوَّب الصواب ولو خاب صاحبه وأن يخطّأ الخطأ ولو فاز راكبه لأن الصواب للنجاح أساس وما جاء خلاف ذلك فعلى خلاف القياس كل عهدٍ لازمٌ ذمة صاحبه إلا في الشر فالنقض حلال

ما أعجب إلا ممن يتعرض للنوافل وهو غير متمم للفروض وممن يتصدى للمكارم وهو غير مؤد للحقوق وممن يأخذ طريقة رفاعية أو قادرية وهو مقصر في نفس الإسلام من أغرب ضروب الحسد أن العين تتجمد لجاهك ولو كنت محسناً وتسيل لبؤسك ولو كنت مسيئاً ليس معنى التعنت في اختيار الصديق النفور من الناس أو التقطيب في وجوه الجلاس إذ بين الصداقة والمؤانسة درجات فمؤانسة الجميع لباقة وكياسة ومصادقة الجميع حماقة وخساسة لا يمكن الإنسان أن يحب من لا يحترم ولكن ربما اتخذ من لا يحترم وسيلة لقضاء حاجته وشتان بين المحبة والمصانعة لا يجب الاتكال على الكبار في تجويد الأعمال العامة بسبب علو مر بهم لأن غلط الكبير يكون كبيراً ولأن علو المركز يحول دون التدقيق بقدر حظك من الدنيا تقسو عليك القلوب وعلى درجة علوك تنظر شزراً إليك العيون لو كانت قيمة كل امرئ ما يحسنه حقاً لخسف المقام بكثير من كبار الأرض الشهادة الحسنة بحق العدو أحبولة التصديق عند الذم الجهل البسيط أول درجات العلم وخيرٌ للإنسان أن يقيم بالعراء من أن يقيم بالبناء الساقط يستريح المرء من الصدوق لأنه يركن إلى كلامه كله ومع الكذوب لأنه لا يقبل شيئاً من جدّه ولا هزله وإنما كان التعب مع المتوسط هذا الذي لا يُدرى متى يصدق ومتى يكذب ما من خير محض ولا من شر محض ولا من حال تضر من وجهين قيمة الشيء الحاجة إليه فالثلج قيمته حمله والحجر ثمنه نقله وكم تراب هو ذهب وكم عودٍ يستطرف وهو في أرضه حطب. إذا طال البؤس على امرئ تمنى التبديل لأن بالتقلب على الجنبين راحةً للعليل التواضع ستّار كل العيوب والخضوع ملينُ لأقسى القلوب لا تفرط في تشهي أمر فربما صار حلوه علقماً وآلت راحته ألماً وجنيت من كثرة التمني ندماً كثرة التسهيل في الأول تورث كثرة التعقيد في الآخر.

بيروت شكيب أرسلان

أمريكا وعلماء العرب

أمريكا وعلماء العرب كانت أمريكا مجهولة عند أبناء القرن الخامس عشر بدليل أن المؤرخين في ذلك العهد لم يذكروا عنها سوى أخبار اكتشافها في أواخر ذلك القرن غير أن كلام ايراتوستينيس واسترابون اليونانيين اللذين عُنيا بفن الجغرافيا بنحو 200 سنة ق. م. يستدل منه على أن القدماء كانوا يتحدثون بوجود قارة مجهولة في أيامهم. ولقد اهتم الخليفة المأمون بن هارون الرشيد السابع من خلفاء بني العباس عام 833 للميلاد بعلم الجغرافيا في جملة ما اهتم به من أصناف العلوم فكان من ذلك أنه اشتغل في هذا الفن عدد من علية علماء العرب في دار الخلافة وانتشرت معرفته من تلك المدينة إلى معظم البلدان بعد أن درست آثاره وطمست أخباره في القرون المتوسطة في أوروبا. ولم يقتصر علماء العرب إذ ذاك على جمع ما بقي من أقوال علماء اليونان والرومان في هذا الفن بل جدوا في اكتشاف بلاد مجهولة في أيامهم وتخطيطها فذهب فريق منهم سنة 900 للمسيح إلى الشرق الأقصى من القارة الآسيوية ومضى فريق آخر إلى القارة الغربية. ولو لم يثبط عزائمهم أمير الجزيرة التي بلغوها بعد 24 يوماً من سفرهم من لشبونة من بلاد البرتغال إلى الغرب لكانوا أول من اكتشفوا أمريكا. وبعد فقد ظل هذا الفن مجهولاً في أوروبا حتى أواخر القرن الرابع عشر للميلاد ولذا بقيت القارة الأمريكية وأستراليا والجهات الشمالية من أوروبا والجهات الشرقية من آسيا مجهولة في تلك البرهة الطويلة. ومن الحروب والفتوحات ما يبعث على يقظة العباد والبلاد وهبوبها من رقاد الانحطاط فقد حدث أن طرد السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 1187م الصليبيين من سورية فعاد هؤلاء إلى المغرب بعد سبع حملات حملوها على المشرق حاملين معهم ما اكتسبوه من علوم العرب وكتبهم وأخذوا؟؟ هناك. . . .

الأرض

الأرض خبر في الأرض أوحتهُ السما ... لأولي العلم برسل الفكر أنَّ هذي الأرض كانت أولا ... ما ترى بحراً بها أو جبلا أو سهولاً أو ربىً أو سبلا ... أو رياضاً زهرها الغض نما من سحاب جادها بالمطر إنما كانت كتلك الأخوات ... من نجوم سائرات دائرات حول شمس هي إحدى النيرات ... كنَّ من قبل عليها سُدُما كتلةً واحدة في النظر ثم بعد انفصلت من ذا السديم ... قطع منها صغير وجسيم ضمن أفلاكٍ بها الدور تديم ... فاستقر الكل فيها أنجما حول غير الشمس لم تستدر أولاً نبتون منه انفصلا ... ثم أورانس يهدي زحلا ثم للمشتري مريخ تلا ... ثم هذي الأرض فالزهرة ما بعدها غير أخيها الأشهر وأخو الزهرة بالشمس اقتدى ... ولها أقرب سيارٍ غدا وهي سارات خلفه طول المدى ... فأمام الأرض ذات انتظما خلفها المريخ ثم المشتري أرضنا كانت لظىً مشتعله ... مذ من الشمس غدت منفصله لم تزل في دورها منتقله ... كتلةً فيها اللهيب احتدما وهي ترمي في الفضا بالشرر كان فيح النار منها مصعدا ... وهجاً في الجو عنها مبعدا حيث لا يمكن أن ينعقدا ... فوقها منه بخارٌ ديما هاطلات بالحيا المنهمر بقيت حيناً وهذا أمرها ... وهي بالإشعاع يخبو حرّها وانثنى يبرد من ذا ظهرها ... فاكتست قشراً يحاكي الأدما واستمرت بطنها في سعر

ثم قد صار على مر الزمان ... قشره يغلظ آناً بعد آن بيد أن النار عند الهيجان ... قد أعادت قشرها منخرما بصدوع مدهشات البصر شخصت أطراف هاتيك الصدوع ... بجبال شمخت منها الفروع ولها في العين أشكال تروع ... تقذف الأفواه منها حُمما صار منهن ركام الحجر حصلت من قذف هاتيك المواد ... حيث يجمدن جبال ووهاد وركاز وصخور وجماد ... بعضها دقّ وبعض عظما وهو صلب الجسم صعب المكسر وهناك انعقدت فيها الغيوم ... من بخارٍ كان في الجو يعوم ردّه البرد مياهاً في التخوم ... فجرى السيل عليها مفعما كل غور فوقها منحدر عمها السيل فغطى حين سال ... سطحها مجترفاً منها الرمال فطما الماء ولكن الجبال ... شخصت في الماء لما أن طما وعلت كالسفن فوق الأبحر غمر الماء به ما غمرا ... ثم خلّى بعضها منحسرا محدثاً في السطح منها جُزُرا ... أنزل الماء بها ما حطما من طفال وحتات المدر بسيول الماء كم فيها أرتكم ... من رمال رسبت فيها أكم ولكم خدَّت أخاديد وكم ... قد بنت من طبقات علما نضدت فيه صفيح المرمر ثم صارت وهي من قبل موات ... تصلح الأقطار منها للحياة فانبرت تنبت في البدء النبات ... ثم أبدت من قواها النسما وارتقت فيها لنوع البشر فغدت إذ ذاك تزهو بالرياض ... وبها الأدواح تنمو في الغياض

ثم ترميها أكف الانقراض ... بانحطام حيث تمسي فحما حجرياً بمرور الأعصر من حطام الخلق في الأرض هضاب ... كونتهن أكف الانقلاب ما تراب الأرض والله تراب ... إنما ذاك حطامٌ قدما من جسوم باليات الكسر كم على الأرض رفات باليات ... من جسوم طحنتها الدائرات فاحتفر في الأرض تلك الطبقات ... تجد الأنقاض فيها رمما هي للأحياء أو للشجر كل وجه الأرض للخلق قبور ... خفف الوطء على تلك الصدور والعيون النجل منهم والثغور ... إنما أنت ستفنى مثلما قد فنوا والموت دامي الظُّفُر ظلت الأرض على كر الدهور ... تبحر الأجبُل فيها والبحور فوقها تُجبل والماء يغور ... وعلى ذاك استدل الحكما بجبال السمك المستحجر علماء الأرض لم تبرح ترى ... حيوان البر لما دثرا منه في الأبحر أبقى أثرا ... وكذا في البر ألفى العلما أثراً من حيوان الأبحر كل ما في الأرض من قفرٍ وبيد ... وجبال شهقت فوق الصعيد عن زهاء الربع منها لا يريد ... وسوى ذلك منها انكتما تحت ماء البحر لم ينحسر في صعيد الأبحر المنغمس ... مثلُ ما يوجد فوق اليَبَس من جبال ناتئات الأرؤس ... ووهاد تستزل القدما ورُبىً مختلفات القَدَر ما نرى اليوم من الماء الحميم ... والبراكين التي تحكي الجحيم ومن الزلازل ذي الهول العظيم ... دل أن الأرض فيما قُدما

ذات جرم ذائب مستعر كل ما كان بحال السيلان ... فهو يغدو كرة بالدوران وكذاك الأرض في ماضي الزمان ... كروياً قد غدا ملتئما جرمها من سيلان العنصر ثم أن الأرض من قبل الجمود ... ولدت منها وليست بالولود قمراً دار عليها بسعود ... وجلا في الليل عنها الظلما فهي بنت الشمس أم القمر بغداد معروف الرصافي

نبأ من الصين

نبأ من الصين من مبحث لأحد علماء الفرنسيس في المجلة الباريسية كان لانتصار اليابانيين على الروس رنة فرح في الصين والهند فاعتبرت الصين بهذه الحرب وتنبه في أبنائها شعور الوطنية وراحوا بعد أن كانوا يفزعون من العُدد الحربية التي هي أدوات التمدن الأوروبي ينزعون عنهم لباس الخوف وتأبى نفوسهم الاستسلام للبيض على نحو ما كانت حالهم منذ قرون وقلما أُثر في الماضي عن الصينيين انتقاض أو ثورة على الأجانب بل كانوا أبداُ يحتقرون برابرة الغرب في سرهم ويعتبرونهم دونهم من حيث الذكاء والمدنية. أما الآن وقد أثبتت الجيوش اليابانية لأهل الجنس الأصفر أن ما أقامه الأوروبيون من العقبات في سبيلهم يمكن تذليله فقد نفضت الصين عنها غبار الكسل وأطرحت الجبن جانباً وهبت من سباتها عازمةً أن تشترك في الجهاد الزمني الذي يتمخض به الجنسان الأبيض والأصفر ولم تكن الحرب اليابانية الروسية إلا إمارة من إماراته ومقدمة من مقدماته. تألف في الصين حزب يطالب بالإصلاح فأرادت الحكومة بادئ بدء أن تحل عراه مخافة أن يكون مبتسراً فلا تجني البلاد منه غير توطئة السبل للأغيار من الأوروبيين ولكنها عادت فتركته وشانه فكثر أشياعه لكثرة انتشار الأفكار في مملكة ابن السماء بأنه لا أمان من تقسيم الأوروبيين أو الإذلال بيد اليابانيين إلا إذا صلحت حالها ولذلك انضم إلى حزب (كانغ يو واي) المصلح الشهير كثير من العمال الذين يخشون على بلادهم من التمزق. وما لبثت الأفكار الجديدة أن سرت إلى بلاط إمبراطورة الصين بفضل بنات سفير ابن السماء في باريز يوكانغ اللائي تهذبن أحسن تهذيب فاختارتهن الإمبراطورة نديمات لها فاغتنمن هذه الفرصة وأنشأن يؤثرن حتى في الإمبراطورة نفسها. وإنك لترى اليوم الإمبراطورة - وهي صاحبة الصين من أقصاها إلى أقصاها - بعد أن كانت منذ خمس سنين بعيدة كل البعد عن الأفكار الحديثة وكانت عزلت ابن أختها عن الحكم لأنه ظهر أنه ممالئٌ لحزب الإصلاح قد أخذت اليوم تدخل بذاتها في طريق الإصلاح وعزمت كل العزم أن تنظم مملكتها وأنشأ مستشاراتها العارفات على ما فيهن من حذق ودربة يقنعنها بما تصير إليه المملكة من الدمار إذا تُركت وشأنها لأن المطامع محدقة بها. فأي مسؤولية تلحق الإمبراطورة وبأي وجه تقابل أجدادها بعد موتها إذا هي غادرت

المملكة السماوية نهب أيدي الناهبين ممزقة كل ممزق. وينسب وصول حزب الإصلاح إلى غاياته لأولئك التلاميذ الذين يتلقون العلم في المدارس خارج بلادهم وخصوصاً لمن يدرسون في كليات اليابان وكلهم يد واحدة في محاولة إصلاح بلادهم ذاك الإصلاح الذي به أصبحت اليابان مملكة مغبوطة مرهوبة الجانب والبأس وإن كثيرين من هؤلاء التلاميذ ينزعون إلى الثورة ويريدون أن يقطعوا كل صلة مع الماضي وأن يقيموا على أنقاضه أساس ملك جديد يتمكن من ضبط قياد الصفر عامة بيده. وكان من نتائج أعمالهم الشريفة أن انبث هذا الفكر على التدريج في عقول أربعمائة مليون نسمة من سكان الصين وأنشأوا صحفاً باللغة العامية أخذ منشئوها ينقدون أحوال المملكة السماوية ويطالبون بتغيير إدارتها ويحملون الحملات المنكرة على كل عامل يقف في طريق الإصلاح ويناوئ سياسته غير مبالين بما قد ينتج لهم ذلك من العذاب الشديد أحياناً. ولم يتخلف النساء أيضاً عن الاشتراك في هذه الحركة إذ كان لهن من بنات الوزير نديمات الإمبراطورة المشار إليهن أعظم مثال ينشطهن ويحتذين مثاله فأسسن مدارس لبنات الحكام وأسست الإمبراطورة من مالها الخاص مدرسة خاصة لتهذيب بنات موظفي قصرها. وكانت المرأة الصينية إلى هذا العهد تعيش في جهالة جهلاء وحالها نسق واحد مزوجة كانت أم عازبة لا تتخلل حياتها سلوى أدبية. وإن كانت من الغنيات تمتاز بانقطاعها عن كل عمل عن نساء الشعب. أما اليوم فقد تغيرت حالها بالمرة فإن الفتيات الصينيات يذهبن إلى الكليات اليابانية ينجزن فيها دروسهن مع التلاميذ الصينيين. وأصبحت تطبع مجلات خاصة بالنساء وذلك في المدن الصينية الكبرى وتصدر كتب حديثة تبحث في شأت المرأة الصينية. وكانت الإمبراطورة أصدرت أمراً سنة 1902 تنصح به لقومها أن يبطلوا عادة تعصيب الأرجل لتكون صغيرة في الكبر فعادت اليوم تلغي هذه العادة البربرية رأساً بسعي مرسلي البروتستانت فتألف جمعيات لهذا الغرض أخذ أعضاؤها على أنفسهم أن يتركوا أرجل بناتهم بدون تصغير ويمنعوا أولادهم من التزوج بزوجات ضُغطت أرجلهن في صباهن حتى صغرت. وهذه النهضة النسائية من الأدلة على انقلاب حالة الصين في الزمن الأخير إذ ما كان يظهر قبل عشر سنين أن تدخل أمثال هذه الإصلاحات ويطرأ مثل هذا التبديل

في أخلاق سكان مملكة ابن السماء وعاداتهم. وكانت الامتحانات المدرسة القديمة تجمع كل مرة من 250 ألفاً إلى 300 ألف مرشح بينهم بعض الشيوخ فمنذ سنتين انقلبت الحال وأبدلت تلك الدروس الخطابية على نصوص كونفوشيوس حكيم الصين والتمارين الصعبة في الإنشاء التي كان يكفي للمرء أن ينجح فيها حتى يعين عاملاً أو مهندساً أو قائداً أو طبيباً أو قاضياً أو أمير بحر إلى آخره. وقد وضع الفاحصون في الامتحانات الأخيرة بأمر الإمبراطورة مسائل لم يعهد مثلها للمرشحين من التلاميذ ربما لا تجرؤ الكليات الفرنسية أن تضع مثلها وإليك سؤالين منها: هل يحسن التمدن الأوروبي أم لا يحسن بأمة لم تحصل عليه فقد أصبحت يابان دولة من الطراز الأول بقبولها له وعلى العكس في مصر فإنها سقطت تحت نير إنكلترا لما أدخلت إليها التمدن الغربي فماذا يستنتج الطالب من ذلك للصين. والسؤال الثاني: أي الطرق المشروعة تعمد إليها الصين لتكره الولايات المتحدة على إلغاء القوانين التي تقيد الصينيين عن الهجرة إلى أمريكا. ولقد أوقع رخص أجور العملة الصينيين ومنازعتهم للعملة الأمريكيين بلاد الولايات المتحدة في حيص وبيص فأصبح العامل منهم لا يكسب قوته إلا بشق الأنفس ففقدت بذلك ملايين من الريالات ولم يكتفوا بذلك بل حالوا دون البضائع الأمريكية وتصريفها في مصارف الصين. وفي العام الماضي قضوا على التجارة الصينية في إقليم مغوليا وقد درست البعثة التي أنفذتها الصين إلى أوروبا ما ينبغي لأمة متحضرة من الأوضاع السياسية والمدنية لتكسر الصين قيود التقليد بعد أن كانت قروناً ترسف فيها وتصبح الصين ولها دار ندوة وابنها يعرف الانتخاب بعد أن ظلت عشرين قرناً في حروب وغارات متواصلة ومذابح لا نهاية لها كان الصينيون إذا لم يتحاربوا في خلالها بعضهم مع بعض يلتقون مع القبائل الرحَّل في الشمال والسيتين والهونسيين والأتراك والتتر وقد نسي الصينيون منذ مئتي سنة ما كانوا يمتازون به من الشجاعة وذلك على عهد أسرى مانشو الحاكمة الآن وما لقنتهم إياه من الاستكانة وحببته إلى قلوبهم من السلم واحتقار السلاح وحمله. بيد أن ظفر اليابان الأخير أضرم في قلوبهم حب الغارة وعادة إليهم شجاعتهم السالفة وأخذت الصين تعد لها جيشاً وطنياً تستعين به على دفع الطوارئ نظمته على

النسق الأوروبي وهو يبلغ اليوم مئة ألف جندي متخرجين على يد ضباط ألمان ويابان. وسيصبح عدد جيشها بعد خمس سنين خمسمائة ألف جندي منظم. وقد سلب حكام الولايات امتيازاتهم الحربية ومن شكا منهم ذلك عُزّر وغُرّم غرامة تصرف في التجهيزات الحربية.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات عقلاء المجانين مهما اختلفت التقلبات على العقل البشري لا تزال مادة خواطره واحدة على تباين الأعصار والأمصار. فما يجول في أفكار أبناء هذا العصر الجديد من الموضوعات قد جال في خيال أهل القرون الخالية. وما كل ما اخترع اليوم واستنبط كُشف سرّه في جيل أو قرن بل إن التصورات تكاد تكون واحدة وإن اختلفت ضعفاً وقوة وكل ما يبهرنا من أسباب الحضارة هو عمل قرون كثيرة. من كان يظن أن بعض سلفنا خطر له أن يُطرف أبناء عصره بكتاب في نكات المجانين وحكم البله والمتبالهين. هذا المصنف هو للعلامة الثبت الناقد الحجة الرحلة أبي القاسم الحسن بن حبيب المفسر النيسابوري بدأه بمقدمة في الجنون وما ورد فيه في الكتاب العزيز وما احتالت به قريش على الرسول صلوات الله عليه من نسبته إلى الجنون لما دعاها إلى الحق شأن كل قبيل ينسب للجنون كل عاقل يخالف قوله وفعله ما هو فيه وتوارثه بالتقليد الأعمى. قال المؤلف: لقد سألني بعض أصحابي عوداً على بدء أن أصنف كتاباً في عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم وكنت أتغامس عنه إلى أن تمادى به السؤال فلم أجد بداً من إسعافه بطلبته وإجابته إلى بغيته تحرياً لرضاه وتوخياً لهواه وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب مثل كتاب الحافظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي رحمهم الله فوقع كل كتاب منها في جزءٍ ما يقارب جزءاً تتبعتها وتيقنتها وضممت إليها قرائنها وعزوتها إلى أصحابها وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب وأرجو أني لم أسبق إلى مثله. ثم ذكر المؤلف أصل الجنون وأسماء المجنون في اللغة أورد منها الأحمق واستشهد بقول الشاعر: سبحان من نزَّل الأشياء منزلها ... وصير الناس مرفوضاً ومرموقا فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وجاهل حمق تلقاه مرزوقا ومنها المعتوه والأخرق والمائق والرقيع والمرقعان واستشهد بقول عبيد الله بن عبد الله:

وما الناس إلا وعاة العلوم ... وسائرهم غنم في قطيع وإنا بلينا ببله حمير ... ومحنة دهر رفيع رقيع ومنها الموسوس والأنوك والبدهة والذولة والموتة والعرهاة والأولق والمهوس واللهلباجة واللكع والجذب والهجاجة والرشاع ثم ذكر الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى فمنها قولهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي أنها مع حمقها تظلم غيرها. ومن أمثالهم أحمق بلغ أي أنه مع حمقه يبلغ حاجته ومن أمثالهم فيه خرقاء ذات نيقة أي أنها حمقاء وهي في ذلك تتأنق في الأمور. ومن أمثالهم أحمق من رجلة وهي البقلة الحمقاء وحمقها أنها تنبت في السروح ومسايل الأودية فيجيء السيل فيجرفها. ومن أمثالهم أنه لأحمق من ترب العقد والعقد عقد الرمل وحمقه أنه ينهار ولا يثبت فيه الترب يضرب للذي لا يثبت ولا يستقر على حال. ومن أمثالهم أنه لأحمق من دعة وهي امرأة عمرو بن جندب بن العنبر ومن أمثالهم أحمق من الممهورة إحدى حدمتيها (هما الخلخالان) وتقول العرب للمبالغ في الجنون مجنون ولبعض أصحاب الشافعي: جنون مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون ومنها خامري أم عامر (كنية الضبع) ومنها أنه لأحمق من العقعق قال ابن الكلبي تقول العرب أنه لأحمق من حماقة عقعق وذلك لأنها تبيض على الأعواد فربما وقع بيضها فأنكر. والمجانين على ضروب فمنهم المعتوه والممرور والممسوس والعاشق قال الإصمعي: لقد أكثر الناس في العشق فما سمعت بأوجز ولا أجمل من قول بعض نساء الأعراب وسئلت عن العشق فقالت داء وجنون. وكانت العرب تقول الشباب شعبة من الجنون. وهنا تم القسم العلمي من الكتاب وبدأ المؤلف يورد القصص والحكايات الكثيرة على المجانين وأشعارهم وذكر أمثلة ممن اعتقد بدعة وارتكب كبيرة فأدركه شؤمها فجنّ ومن جُنّ من خوف الله ومن تجانّ وتحامق وهو صحيح العقل وهم ضروب فمنهم من تعاطى ذلك ليري شأنه ويستره على الناس ومنهم من تحامق لينال غناء ومن تحامق ليطيب عيشاً ومن تحامق لينجو من بلاء وآفة. ولم تخل هذه الحكايات من حكم وأمثال لا يتأتى مثلها إلا لأرباب العقول وأشعار لطيفة قلما

تجدها فيما بين أيدينا من الكتب كقول علي بن محمد بن قادم. عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقولهم ألذُّ وأحلى لو لقوا ما لقيت من حرفة العل ... م لساروا إلى الجهالة رسلا ولقد قلت حين أغروا بلومي ... أيها اللائمون في الحمق مهلا حمقي قائم بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هز وذكر كثيراً من أخبار أويس القرن أول من نسب إلى الجنون في الإسلام ومجنون ليلى وسعدون المجنون وبهلول وعليان وغيرهم. ومن حكاياتهم أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد فخرج على أن يسأل أول من نظر إليه فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عظم وسوّد وجهه وركب قصبة فأخذ رمحه فسلم عليه وقال: مسألة. فقال: سل ما يعنيك وإياك وما لا يعنيك. فقلت: مجنون والله ثم قلت: أني أصبت من النساء بلاء وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس وأنت تمام المائة. فقال: أعلم أن النساء ثلاثة واحدة لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك فأما التي لك فشابة طرية لم تمس الرجال فهي لك لا عليك إن رأت خيراً حمدت وإن رأت شراٌ قالت كل الرجال على مثل هذا وأما التي عليك فامرأة ذات ولد من غيرك فهي تسلخ الزوج وتجمع لولدها وأما التي لا لك ولا عليك فامرأة قد تزوجت قبلك فإن رأت خيراً قالت هكذا تجب وإن رأت شراً حنت إلى زوجها الأول. فقلت: ناشدتك الله ما الذي غير من أمرك ما أرى قال ألم اشترط عليك أن لا تسأل عما لا يعنيك فأقسمت عليه فقال: إني رُشّحت للقضاء فاخترت ما ترى على القضاء. قلت: وقد فعل ابن الهيثم الرياضي الفيلسوف المشهور مثل هذا وترك الوزارة وتجانّ ليكون له حرية يتمتع بها في خدمة العلم. وقال الإصمعي: قال عمي: دخلت بعض أحياء العرب فرأيت شيخاً موسوساً يهذي وقد اجتمع إليه الناس فقلت: من هذا؟ فقالوا: حساس الموسوس لا يزال ينام ليله ونهاره وربما ينتبه فزعاً مرعوباً فيجلس ساعة ثم يصيح ويهيم على وجهه ثم يعود إلى نومه فبت ليلة هناك وهو على الحال الذي وصفوه فلما أصبحنا أتيته فقلت: ما اسمك يا شيخ أنت أنوم من فهد مالك تنام دهرك فقال: النوم لا تبعة عليّ فيه وفي مجالستك ومجالسة أضرابك تبعات.

قلت: وأي تبعة عليك في مجالستي؟ قال: اشتغل بك عمن أنشأني ثم أنشد يقول: لقد أغنيت عن هذا السؤال ... وعما أنت فيه من المقال فإن كنت الغداة تريد قولا ... فما فيه رضى مولى الموالي ثم عدا هائماً على وجهه في تلك الرمال قائلاً: ما أكثر فضول أهل الحضر. قال الإصمعي: بينا أنا ذات يوم عند والي الكوفة وهو يسألني عن أهل البصرة إذ أقبل مجنون بالباب يتكلم بالشعر فقال: أدخلوه فدخل فإذا هو رجل كأنه نخلة سحوق نتن الأطراف موسوس فسلم على الأمير فرد عليه السلام وقال: من أنت؟ فقال: إني أنا أبو الشريك الشاعر من يسأل عني فأنا ابن الفاغر فقال الوالي: ما أمدحك لنفسك!! فقال: لأنني أرتجل ارتجالاً ... ما شئت يا من ألبس الجمالا قال الإصمعي: فقال لي الأمير ما هذا مجنون فألق عليه ما عندك فقلت له ما الري؟ فقال: الريم فضل اللحم للجزار ينحره للفتية الأيسار فقلت ما الحلوان فقال: أليس ما تعطي على الكهانة ... والحر لا يقنع بالمهانة فقلت ما الدكاع فقال: إن الدكاع هو سعال الماشية ... والله لا يخفى عليه خافية قلت فما التوله فقال: عوذة عنق الطفل عندي توله ... وقد تسمى العنكبوت توله قلت فما الرفة فقال: الرفة البيت فسل ماشيتا ... لقد وجدت عالماً خرّيتا قال الإسمعي: فاستحييت من كثرة ما سألته فقال: قل ما الهلقس والسحساح والحل الرادح لا براح قلت: الهلقس الطمع الحريص والسحساح الذي لا يستقر في موضع والرادح المهزول فقال: ما أنت إلا حافظ للعمل ... أحسنت ما قلت بغير فهم فقال الوالي: فحبذا كل مجنون مثل هذا ثم أمر له بعشرة آلاف درهم فلما قُدم إليه المال قال: أكل هذا هو لي بمرة ... تم سروري واعترتني شرة

ثم أقبل على الأمير فقال: رِشت جناحي يا أخا قريش ... أقررت عيني وأطبت عيشي والكتاب معظمه من هذا النسق وهو يقع في نحو مئة صفحة منصفة القطع مكتوب بخط جميل تغلب عليه الصحة. والغالب أنه نقل عن نسخة صحيحة ووقع في أيدي جهابذة نقّاد فقوّموا منآده وأوده أما إنشاؤه المئة الثالثة والرابعة سلاسة بلا تكلف وطبع بلا تصنع. طبقات الشافعية الكبرى - أهدانا مصطفى أفندي فهمي الكتبي نسخة من هذه الطبقات لمؤلفها شيخ الإسلام تاج الدين بن تقي الدين السبكي المطبوعة في مصر على نفقة مولاي أحمد بن عبد الكريم القادري الحسني الفاسي فجاءت في ستة مجلدات حوت من الفوائد التاريخية والاجتماعية والأدبية والمذهبية والخلافية والمناظرات والمطارحات والفكاهات والحكايات ما لا يسع المتعلم جهله فضلاً عن المشتغلين بفقه الشافعي لأن الوقوف على سير أرباب هذا المذهب مما لا غنية لطالب عنه. ابتدأ المؤلف كتابه بمقدمة طويلة عريضة بلغت زهاء مئة وعشر صفحات من كتابه لا تخلو من مغامز وفوائد جاءت عرضاً. ولابد أن تقع فيما ينقله المكثار ويرويه على طرفة تستطرفها وفائدة تقتطفها. ولذلك قالوا المكثار كحاطب ليل ويجمع بين الجيد والرديء. ولا ذنب في ذلك على التاج السبكي بل الذنب في الأكثر على عصره فقد كان عصر المشاغبات والمماحكات وضعف ملكة التأليف. قسم المؤلف كتابه إلى طبقات سبعٍ الأولى طبقة من جالسوا الإمام الشافعي وعددهم نحو أربعين فقيهاً والثانية وهي فيمن توفي بعد المائتين للهجرة ممن لم يصحب الشافعي وإنما اقتفى أثره، ويبلغ عددها نحو ثلاثين رجلاً. والطبقة الثالثة فيمن توفي بين الثلثمائة والأربعمائة وعددها نحو 170 مترجماً والطبقة الرابعة فيمن توفي بين الأربعمائة والخمسمائة وهي نحو 270 فقيهاً. والطبقة الخامسة من مات بعد الخمسمائة وعددها نحو 470 فقيهاً. والطبقة السادسة فيمن توفي بين الستمائة والسبعمائة وهي قرابة 250 فقيهاً. والطبقة السابعة فيمن توفي بعد السبعمائة وتبلغ نحو 135 فقيهاً. وقد ساق المؤلف أسماءهم كلها على حروف المعجم وأكثر من الكلام على من ارتضاهم وربما أدخل في غمار الفقهاء من ليس منهم كما يفعل بعض مؤلفي الطبقات في الغالب حباُ بتكثير سوادهم.

وقد أورد التاج طرفاً كبيراً من الكوارث والفتن التي حدثت في بعض تلك الأدوار واستطرد إليها لأدنى مناسبة وأكثر ما شاء وشاءت قريحته فلم يكن منها غير تكبير حجم الكتاب على غير طائل. وطبقات الرجال لا دخل فيها لحوادث الأجيال وهذه من خصائص كتب التاريخ السياسي. ومن يقرأ المناظرات التي ذكرها المصنف وهي مما وقع بين بعض الفقهاء المترجمين وبين غيرهم ممن ليسوا على مذهبهم يتضح له ما كان ثمة من تعصب بين المتخالفين وكيف صرف أرباب المذاهب أوقاتهم في الجدال والقيل والقال. وإنا لم نر عبارة لوصف هذه الطبقات أجمل من التي كتب بها إلينا أحد كبار شيوخ العلم في الشام عندما صدر الجزء الأول منها قال: قد سررت بطبع طبقات التاج السبكي لقلة ما طبع من كتب التاريخ في مصر وإن كان السبكي شديد التعصب كما يظهر من مقدمة الكتاب التي أفردها لذم التعصب، والمتعصبين وجعل من المفرطين فيه شيخه الحافظ الذهبي فزعم أنه أفرط على الأشاعرة ومدح فزاد في المجسمة يريد بالمجسمة الحنابلة وعلماء الحديث وهي عبارة تدل على فرط السخافة فإن كان الذهبي متعصباً فتعصبه نشأ عن خطاءٍ في الاجتهاد وتعصب التاج عن عناد ولجاج غير أن الزمان سيسقط كل مموه أياً كان فينتفع بكتابه بمثل ذكر ما للمؤلف من مؤلَّف ونحو ذلك. والكتاب جيد الطبع على الجملة يطلب من مكتبة مصطفى أفندي فهمي بخمسين قرشاً مصرياً فنحث على اقتنائه فإن حسناته كثيرة ولا يجوز أن يزهد في عقد من اللؤلؤ إذا كان فيه بعض الخرز. والصيرفي الحاذق ينقد الدينار الخالص من الستوق الزائف. ونثني على طابعه أجمل ثناء. سياحة في القطر المصري - هو كتاب في نحو 150 صفحة فيه مباحث اجتماعية وتاريخية عن البحيرة والشرقية والفيوم وأسيوط وغيرها ومباحث عمومية عن العربان والأمن العام وغير ذلك مما له علاقة بحياة هذه المديريات المهمة في القطر المصري ساح فيها عوض أفندي واصف صاحب مجلة المحيط ورئيس تحرير جريدة مصر وتكلم عن شؤونها بما دله عليه اختباره وفضله وقد نشرها أولاً في مصر ثم جعلها ملحقاً لمجلة المحيط وأرسلها لمشتركيه في العام الماضي وهي تطلب من مؤلفها وفيها من الفوائد ما يرغب فيه كل مصري أديب فنحث على اقتنائها ونشكر لرصيفنا عنايته وهديته.

سير العلم

سير العلم لغة الاسبرانتو انتشرت هذه اللغة التي ألفها الدكتور زامنهوف الروسي انتشاراً عظيماً في العهد الأخير وأقبل الأوروبيون على تعلمها لسهولة مأخذها وسينعقد مؤتمرها هذه السنة في كامبردج فتقيم له كلية هذه المدينة احتفالاً بديعاً وقد أنشئت جمعية من علماء الحقوق ممن تعلموا اللغة الجديدة. وممن ينتصر لهذه اللغة وتلقنها ملكة إسبانيا وملكة نروج التي تعلم هذه اللغة للبرنس أولاف الصغير. والمظنون أن الدكتور زامنهوف سينال في العام المقبل جائزة نوبل جزاء خدمته الإنسانية بهذا الاختراع المفيد للأمم. أكل الأثمار ألف المسيو جبرائيل فيو الفرنسوي كتاباً دعاه لنغرس الأشجار ولنأكل الأثمار ومما جاء فيه أن مئتين أو ثلثمائة متر مربع تنبت البقول اللازمة لأسرة فيبلغ متوسط غلة الهكتار (عشرة آلاف متر مربع) من الهليون والخرشف (أرضي شوكي) 1200 فرنك ومن الملفوف 1000 فرنك ومن الجزر 700 فرنك ومن البطاطا 500 فرنك ومن السلجم (اللفت) 400 فرنك ومن الحنطة 380 فرنكاً. وإذا توفر العامل على زراعة حديقته خضراً وبقولاً تكون لأسرته مورد رفاهية ويسار وتنبه فيه الرغبة في الاقتصاد وتجود بذلك صحته. قال إذا غرست مئة شجرة مثمرة في هكتار من الأرض تغل أكثر من الحنطة والبطاطا والشمندر بمعنى أنه يأتي بمورد لا يقل معدله عن ألف فرنك. وأوصى بغرس الأشجار المثمرة وجعل عشرة أو خمسة عشرة متراً بين كل شجرة حتى لا يكون اشتباكها والتصاقها داعياً إلى عدم الانتفاع من غلة الأرض فتزرع أنواع المحاصيل والغلات. ثم استطرد المؤلف ونصح للناس أن يغتذوا بالأثمار خاصةً قائلاً إن الأمراض الشائعة في عصرنا هي مسببة من الإفراط في تناول اللحوم ومما في عضلاتها من الزلال على حين أن قضم الأثمار يفيد الصحة أكثر من ذلك. وقال إن ضعف المجموع العصبي (نوراستينيا) يشفى بتناول الأثمار وعدد أمراضاً ينتفع المصابون بها من تناول الفاكهة وأتى بأدلة مقنعة وبراهين علمية لتأييد مدعاه. البنايات العائمة

وفّق أحد مهندسي كاليفورنيا إلى اكتشاف طريقة لإقامة منائر في البحر وحصون وبنايات في مداخل المرافئ في عرض البحر تطفو على الماء وكل ما يبنى بحسب إشارته من هذه المباني يقاوم فعل جميع التقلبات التي تحدث على وجه الماء في البحر المحيط. والظاهر لأول نظر أن ما ادعاه المهندس المشار إليه يعد من المستحيل بلوغه ويناقض ما جرى عليه العمل في إقامة الأبراج والمنائر والبنية في وسط البحر حتى الآن. فإنه توصل إلى إقامة هذه الأبنية في عمق من المياه لا يتحرك باهتزاز سطح الماء والأساس إذا كان بعيداً عن الماء الذي يهتز بالأمواج دام أكثر وقاوم فعل المياه. وهذا الاختراع سيفيد التجارة البحرية والدفاع عن الموانئ والشواطئ فائدة كلية. فإن قليلاً من الموانئ يتمكن فيها البناؤون من وضع الأوتاد التي تغرز ليقام البناء عليها في الماء وبهذا الاختراع يمكن بناء أرصفة عائمة فتفرغ عليها السفن شحنها بدون عائق وهذه الأرصفة تعلو وتسفل بحسب حالة المد والجزر في البحر. وبهذا الاختراع يمكن تشييد منائر في الماء الكثير التلاطم الذي لم يكن يتيسر من قبل أن يبنى فيه كما تشيد أمكان بعيدة عن الساحل لتأمن السفن من أخطار الشواطئ. الملبس المسموم ثبت أن في بعض الحلويات سماً يضر بعض الضرر أحياناً ونسب ذلك بعض الباحثين إلى ما يحشى به من الزبدة والبيض ثم قرّ الرأي أن في البيض سماً زعافاً أحياناً لفساده وإن كان جديداً وأن أحسن واسطة في اتقاء خطر البيض أن ينظر الطاهي أو ربة البيت إليه عند وضعه في الحلويات وغيرها ليرى فيما إذا كان سليماً أو فاسداً. تعقيم اللبن بحث كثير من علماء الكيمياء والحياة بألمانيا في الأيام الأخيرة فيما إذا كان اللبن (الحليب) المغلي أنفع من غير المغلي وبعد المرادّات الطويلة تبين أن اللبن المغلي للأطفال أنفع ولكنه إذا أغلي كثيراً تفقد خاصية من خواصه الكيماوية والحيوية. وبحث علماء من الأمريكان في تعقيم اللبن بدون واسطة الحرارة فرأى أن يضاف إليه كمية قليلة من محلول ممزوج بأكبر مقدار من الأوكسجين ومادة أخرى لا تغير لونه ولا طعمه أصلها من مادة حيوانية. وبالجملة فإن المسألة ما برحت موضوعة على بساط البحث بين العلماء هذا يقول

بغلي اللبن وذاك يرى تناوله بارداً وغيره يرى أن يعدل عن تعقيمه بمزجه ببعض المواد كما تقدم. نبات ضار إذا لم يكن في النباتات مادة سامة لا تضر في العادة إذا لم يكن فيها نفع. ولبعض النباتات خاصية الضرر كالنبات الذي يكثر في أمريكا الجنوبية فيأتي بأضرار بليغة للحيوان والإنسان وهو من جنس الستيبا فتجد في غلاف الزهرة الأسفل من مجموع ما تتألف منه سنابله زُغْبُراً فيه حرير يتلوى على نفسه فإذا ثارت الريح تحمل براعم هذا النبات فتعلق بشعر الإنسان ولحيته وتتلوى فتدخل الجلد فإذا حاول المرء قلها تنكسر وتزيد في الانغراز. ويمكن الإنسان أن يتخلص منها أما الحيوان فإنه إذا أصابت عينه تقلعها فتعميها فلا يتيسر له أن يتناول غذاءه فإذا كانت تلك الحيوانات وحدها مطلقة يكون قلع عينيها سبباً في هلاكها وعدم قدرتها على الاقتيات ثم أن براعم هذا النبات تلصق في جلد الخرفان فتحدث فيها تقرصاً مؤلماً كما تدخل في فم الحيوان آكلة النبات وتجعلها كمغرز الإبر. وقد حاول العلماء إيجاد واسطة لاتقاء هذه الآفة فلم يفلحوا والستيبا ما زال يكثر. الفلسفة الحديثة ألف أحد علماء الألمان كتاباً في تاريخ الفلسفة الحديثة وهو يترجم الآن إلى أكثر اللغات الأوروبية شأن كل كتاب نافع يصدر بإحدى لغاتها فلا يلبث أن يترجم في الشهر الذي يصدر فيه وربما صدرت الترجمة والأصل في ساعة واحدة من المطبقة. وقد أتى بالبراهين السديدة عند كلامه عن فلاسفة القرن التاسع عشر فانتقد كانت واضع الفلسفة الحديثة أحسن انتقاد ثم أنحى على الفيلسوفين فيختي وهيكل الألمانيين وسماهما بخارقي قوانين الفلسفة وأصولها وأضاف إليهما الفلاسفة شيلرماشير، وشوبنهارو، وهربارت، من الفلاسفة الألمان لأنه لا نظام في آرائهم وهم يتكلمون كلام المغتاظ الحانق وقال إن الفلسفة الحسية تبدأ من أغست كونت الفرنسوي كما تبدأ الفلسفة الإنكليزية من ستوارت ميل ودارومير وسبنسر فإن هؤلاء أتوا الغرب بأفكار وعواطف يسير عليها اليوم ويعيش في ظلها. الحلقة المفقودة

اكتشفت سنة 1891 في ترنييل من أعمال جاوة بعض عظام تحت التراب تشبه عظام القرد (جيبون) والإنسان واستبشر العلماء عندئذ بأنهم كادوا يظفرون بالحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد كما هو مذهب كبار علماء الطبيعة أمثال داروين ووالاس وهاكل وغيرهم ثم أجلى البحث عن لا شيء. وقد فرح العلماء الآن بما وفق إلى اكتشافه الأستاذ كلاتش أثناء بحثه في شمالي أستراليا من اكتشاف ينفع علم الإنسان (انتروبولوجيا). فقد أذاع أنه صادف في بور داروين على الشاطئ في بقة قلما ينزل إليها السائحون ولم يدخلها التمدن الحاضر - امرأة تعيش في البلاد على حالة التوحش من الفطرة الأصلية وتشبه بأوصافها القرود التي تشبه الإنسان (انتروبوييد) ورجلاها مثل أرجل الزنوج تتسلق بهما الأشجار بمثل السرعة التي تتسلق بها القرود. وهذه أول مرة شوهد فيها مخلوق بشري على هذه الصفة. ويزعم الأستاذ المشار إليه أن هذه المرأة مرتقية من القردة وإن أجدادها كانوا قروداً ولا شك. فإذا ثبت له ما زعم فيكون الدروينيون عثروا على الحلقة المفقودة التي ينشدونها منذ أزمان. لتلفون في السكك الحديدية - أخذ في استعمال الأدوات التلفونية في قطارات الخطوط الحديدية الرئيسة في الولايات المتحدة فتتأتى المخابرة بعد الآن بين المركبات والقاطرة على اختلاف أنواعها كما تتيسر مخاطبة المحطات وتنفع هذه التلفونات في اتقاء الأخطار التي تعرض للقطاعات في طريقها. وتستعمل أسلاك هذه التلفونات في إرسال الرسائل البرقية ولا يحدث من ذلك التباس. الالكحول من الشجر اكتشف أستراليا الغربية ضرب جديد من الالكول يأتي من شجر غض كبير تحتوي أليافه على خمسة في العشرة من الالكحول وكان هذا الشجر معروفاً منذ القديم بين النازحين إلى تلك القارة والمبعدين إليها فقد كانوا يستخرجون منه سائلاً يقوم مقام الجعة (البيرة). السكسكون واللاتين ألف أحد علماء الاجتماع في إيطاليا كتاباً في العنصرين الإنكليزي السكسوني واللاتيني أبان فيه أهم أسباب ارتقاء الشعوب وبحث بحثاً مدققاً مؤيداً بالحجة في أسباب سر تقدم الأمم وانحطاطها وهو يرى أنه ليس هناك عناصر بل أمم يؤيد ذلك لا من طريق علم

الاجتماع بل من طريق علم الإنسان وقال أنه ليس في العالم الآن أمم مكوّنة من جنس واحد بل هي نتيجة الامتزاج الحقيق وأخلاط من عناصر مختلفة. فما أن الجنس أو العنصر يشتهر وينتظم بما له من الصفات التشريحية المعروفة فيه فكذلك تعرف الأمة بجماع الأخلاق النفسية والمظاهر الاجتماعية. وما سر تقدم أمة إلا آتٍ من أحوال اقتصادية وغيرها تطرأ عليها فتنهضها إلى أعلى عليين أو تسقطها إلى أسفل سافلين. فلو حازت أمة تقدماً على غيرها كما يتوهمه بعض علماء الاجتماع لما رأيناها إلا باقية أبداً في أعلى قمم المجد. بيد أن التاريخ لم يذكر بأن أمة حالفها النصر والنجاح والتقدم في جميع أدوار حياتها السياسية والاقتصادية. وبينا كل ديمولين صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين ينشر كتابه كان العاقل يلاحظ أن الأمة الإنكليزية التي تمجد بها وأذل أمته لرفعة شأنها قط ظهرت فيها بعض أغراض الضعف. وعلى هذا فإن من الأزمان ما يواتي أمة أن ترقى رقياً عاماً في مهد الحضارة إذ تكون فيها القوى التي تلائم ذلك الرقي. ولذا ترى في الأمم علواً وانخفاضاً وسقوطاً وارتفاعاً. وأغرب ما في هذا الكتاب فصل قارن فيه المؤلف بين ارتقاء ألمانيا وارتقاء إيطاليا وهما الأمتان اللتان نالت كل منهما وحدتها في زمن متقارب فإنه رأى أن الناس يبالغون بما بلغته ألمانيا في سلم الارتقاء الاقتصادي وأنها تفوق إيطاليا بمراحل في هذا السبيل فقال إن في ألمانيا 57 مليون ساكن وثروتها نحو 150 ملياراً من الفرنكات أما إيطاليا فثروتها 65 ملياراً وسكانها 32 مليوناً فمعدل ثروة الفرد في ألمانيا 2622 فرنكاً وفي إيطاليا 2003 فرنكات أما من حيث عظمة إيطاليا في الأمور العلمية فإن كل من ينظر إليها نظر المجرد عن الغرض ير فيما يشاهده من أعمالها العلمية والأدبية بأنها آخذة في المسير نحو دور جديد من العظمة والمجد.

نفاضة الجراب

نفاضة الجراب فجائع البائسين هذه روايةٌ وطنيةٌ أخلاقيةٌ واقعيةٌ تمثل للقارئ ما تئن منه هيئتنا الاجتماعية من البؤس وما يتخلل نظام بيوتنا من الخلل تشبه في بعض مضامينها رواية البؤساء لأستاذ الفصاحة والأدب حافظ أفندي إبراهيم وإن كان بين الروايتين فرق في الأسلوب وكيفية الأداء ولا عجب إذا تم للمتقدم ما لم يتم للمتأخر فإن حافظاً هو بلا مراء مالك زمام البيان والتبيان. ولعل المغرمين بالروايات والعالمين بنسج الأقاصيص والحكايات يؤاخذونني على الاقتضاب في الفصول الغرامية فيعدّونه نقصاً في الأسلوب فأنا أستميحهم عذراً على ذلك إذ قضى علي وضع الرواية وسلسلة حوادثها بأن أقتصر على ما اقتصرت والله المستعان. دمشق شكري العسلي 1 في ليل الأربعاء السابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) هطلت الأمطار وهبت العواصف واشتد البرد فاستحال المطر ثلجاً وابيضت الدنيا فصارت كالعهن المنفوش وأخذت خديجة تشعر بألم الوضع نحو الساعة الخامسة بعد الغروب فأيقظت زوجها أحمد وأخبرته بما ألمّ بها من ألم المخاض فهبّ من ساعته ليأتي بالداية وأحب أن يستصحب معه مصباحاً يستصبح به في ظلام الليل الدامس ولما كانت داره خالية من كل شيء راح يطلب إلى خادم جاره وكان هذا من الأغنياء أن يعيره فناراً أو مصباحاً فطرق الباب عليه وكان الخادم مهتماً بإحضار سفرة الحلويات والفاكهة ليتناول منها ضيوف سيده فخجل أحمد وخشي أن يظن القوم أنه أتى مدفوعاً بما نبعث من رائحة الطعام ولكن صاحب المنزل كان كريم الطبع محباً للضيوف فتبسم له ورحب به واستثقل بعض الحضور مجيئه في تلك الساعة فهمس أحمد في أذن صديقه الخادم قائلاً له: هل لك أن تعيرني مصباحاً أستنير به في طريقي لأني ذاهب لأحضر الداية لامرأتي فقد أخذها المخاض. فسأل صاحب الدار خادمه عن سر مجيء أحمد فأجابه الخادم أنه يريد أن يستعير منا مصباحاً وأعلمه بالسبب فأمره مولاه بأن يلبي طلبه فأخذ صاحبنا المصباح وذهب مهرولاً إلى الداية فلما قرع بابها

سألته عن المُقْرب فأجابها بأنها امرأته وإذ أيقنت أنه لا ينالها إلا التعب والبرد ونسيت ما ستناله من الأجر والشكر وما يترتب على عملها من خدمة الإنسانية لم يسعها إلا أن تظهر أسفها واعتذرت بمرض اعتراها منذ أسبوع فدلت على أنها عارية من عواطف الرحمة مجردة عن الإنسانية التي كانت توجب عليها أن تسعى إلى تخليص تلك البائسة من خطر الموت ومن يدر كم من النساء اللواتي ذهبن لجهلها وعدم اعتنائها بقواعد الصحة. وكم سمعنا ورأينا من النساء اللواتي فارقن الدنيا بسبب الوضع لجهل القابلات وقلة عنايتهن. انفصل صاحبنا عن باب الداية وعينه تقذف قطرات الحنو الزوجي ممزوجاً بحسرة البؤس البادي على صفحات خديه وذهب إلى قابلة أخرى فسألته عن الأجرة فأخبرها بما في مكنته أن ينقدها إياه من الدراهم فامتنعت واعتذرت ثم قالت إنها لا تخرج من منزلها العامر إلا بأجرة وافرة فأخذه البكاء وذهب إلى عجوزة عرفت بعمل الخير لها خبرة بالتوليد فاستنهض همتها وأخبرها بما جرى له مع تينك القابلتين فأسفت لحاله ولعنتهما ولعنت الزمان الذي قل عم الخير فيه وأخذتها الحمية والحماسة الشرقية فذهبت معه على الفور وأجلست خديجة على الكرسي وأخذت تعالجها وتحمسها وتقرأ لها ما تيسر من القرآن وتتوسل بالأدعية على عادة العجائز التقيات. فلما حانت الساعة السابعة بعد منتصف الليل وضعت خديجة غلاماً سُر به أبواه وسمياه سعيداً تفاؤلاً بأن ينالهما السعد بهذا وقرأا الفاتحة على هذه النية ومن العادات التي لا خلاص منها إكرام القابلة بضروب الحلواء والفاكهة ولم يكن عند صاحبنا درهم واحد ليقوم بهذه العادة فرهن قدراً له وأتى ببعض المآكل قدمها للقابلة وانصرفت واعدة إياه بالمجيء كل يوم لتتم إحسانها. 2 أخذ سعيد ينمو يوماً فيوماً وغدا سلوى أبويه في بؤسهما ومحط آمالهما وكانت مياومة أبيه لا تقوم بنفقة عياله فحسن لديه أن يُستخدم في كتائب الدرك لينال ثلثمائة قرش مشاهرةً فقدم طلبه والتمس تعيينه وساعده على ذلك بعض أهل الخير فعين نفراً وظن أن ما تم له من الخير ناله بيمن طالع سعيد ابنه فأمل فيه خيراً وزادت محبته له وكان أحمد حسن المنزع مهذب الأخلاق عُرف بالأمانة فاتخذه زعيم الدرك علي باشا وكيلاً على منزله وأحله منه محل الثقة وطفق يحسن إليه وإلى سعيد ابنه وكان قد بلغ ابنه السادسة من عمره فظهرت

عليه أمارات النباهة وحدة الذهن. وكان للقائد المشار إليه ابنة وحيدة اسمها جميلة هي في السادسة من عمرها كسعيد وقد كان اجتماع سعيد بها في منزل واحد واشتراكهما في العمر سبباً في ارتباطهما برابطة الإخاء المتينة وألف كل منهما أخاه حتى صارا كأخ وأخته لا يطيقان افتراقاً. وفي غضون ذلك أدخل الباشا سعيداً إلى المكتب الابتدائي فلما بلغ الثانية عشرة من عمره أتم الدراسة الابتدائية وثبتت لدى الباشا كفاءته فأدخله المكتب الإعدادي الملكي بدمشق داخلياً بلا أجرة فجدّ في دروسه حتى تقدم في صفه وأصبح الأول فيه وهو يختلف إلى منزل الباشا في اغلب الأحيان وكلما دخل المنزل يشعر بميل لرؤية جميلة ويشتاق إليها كلما غاب عنها فأدرك أن لها مكاناً من قلبه علياً وخُيل له أن يتزوج بها ولكن كان يمنعه عن هذا التصور ما بين أبيه وأبيها من تفاوت الطبقة عالماً أن الناس لا يزالون مغرمين بالظواهر وأن الصفة المطلوبة بل الضالة المنشودة في الزوجية هي المال والجاه وندر من اهتم بمكارم الأخلاق والتربية الصحيحة ولذلك أيقن أنه لا ينال ما تطمح إليه نفسه إلا إذا نال جاهاً ومقاماً عظيماً. وكان كلما اجتمع بها يرى منها أمارات الحب والميل إليه ولم يجسر أحدهما أن يبوح لصحابه بما تكنه الصدور. 3 ألا أن خير الودّ ودّ تطوعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب حدث ذات يوم أن كانت دار الباشا خاليةً فعزم سعيد على إظهار ما في فؤاده من دواعي الهوى وراح يختلس الفرص ويحادث جميلة ويأخذ معها في أهداب الكلام حتى ساقهما ذلك إلى ذكر أيام صباهما ثم تحين المناسبة وقال لها: أيخطر على بالك يا تُرى ما كان بيننا مستحكماً من علائق الحب والوداد أيام كنا أحداثاً؟ ألا تذكرين ذلك العهد الذي كان بهجة الأيام والليالي ورياض الأزمنة فكأن الشاعر نظر إليه حين قال: شهور قد قُضين وما علمنا ... بأنصافٍ لهن ولا سِرار - ألستَ تحبني الآن؟ - كيف لا أحبكِ! ولكني لا أعلم إن كنت باقيةً على العهد في الحب أو زال أثره من نفسك ذهاب أمس الدابر فإن الأيام تقلب القلوب.

- سلْ قلبك ينبئك عما في ضميري لك - قلبي يحدثني بمحبتك ولكن لست أدري. . . وعندها ساد السكوت وانقطعت سلسلة الحديث فلم يتجاسر أحدهما على الاعتراف بأكثر مما اعترف والموقف حرج. فغير سعيد الموضوع خوفاً من لومها وعتابها وأخذا يبحثان عن المكتب فصار يمدح مستقبله ويشرح آماله ويتعلل بأنه سيكون منه رجل عظيم يحرز الرتب العالية والرواتب الوافرة إذا ساعده القدر ولم يخنه الحظ. وهنا تم الحديث وانقضت جلستهما التي يصح أن تسمى الأولى وهي الأولى في شرح الغرام فودع سعيد حبيبته وأليفة صباه وذهب إلى مدرسته وآماله تسبح به في سماء الخيال وقد أيقن أنها شريكته في الحب فارتسمت صورتها أمام عينيه في درسه وعندما يخلو بنفسه وكان يذهب في تأويل كلماتها مذاهب شأن من رأى بصيص نور السعادة وكان منها محروماً. أو تجلت له أمارات الغنى وكان من قبل معدماً. سل قلبك ينبئك عما في ضميري لك جملة فاهت بها جميلة فأخذ أليف صباها يقيم العلالي والقصور من الأحلام ويتفنن في تفسير مضمونها على أوجه وبعد أن نثل ما في كنانة علمه من فهم المعاني الدقيقة قال يخاطب نفسه: أسألك يا قلب ألا ما أطلعتني على ما حوته ضلوعها؟ فإن كان وداً خالياً من الغرام فلست أرضاه إذ لا يجديني نفعاً. ثم راجع نفسه فقال إن قلبي يحدثني بأن عندها مني ما عندي منها وأن سكوتها يدل على ذلك والسكوت في معرض الحاجة إقرار. ثم ما لبث أن سخر من نفسه وقال: وإذا لم تعترف لي بما في فؤادها كيف يسوغ لي أن أحكم بحبها لي على وجه الذي ترمي إليه آمالي؟ وأنشأ يفكر فيما يوصله إلى معرفة كنه أمرها من ناحيته فرأى أن يسطر لها كتاباً يستطلعها به طلع أفكارها فبعث إليها بالكتاب التالي: سيدتي - ساقتني الجرأة أن أكتب إليك بهذا الكتاب وأنا أخشى أن لا ينال منك قبولاً ولا يكون سبيلاً إلى غضبك الذي أعدّه من قواصم الظهور. وإني لأود أن يقيم لي عذراً مقبولاً بما يمت به إليك من بيان ما تجنّه أضالعي لك من الحب الطاهر. فإن قولك يوم اجتمعنا إن ما في قلبي لك ينبئني بما في فؤادك. قولٌ خليق بالنظر فقد فتشت في سويدائه وحناياه فلم

أجد فيه لك غير الحب الأكيد مما يدعوني إلى تعليق الآمال بما هو أقصى مناي من دنياي وأعني به أن تكوني شريكة حياتي تشاطرني فيها الأفراح والأتراح. وإن أتقدم إليك إذا رأيت في رسالتي هذه قحة وجرأة أن تطويها عاذرةً والكريم عاذر وإذا وقع كلامي منك موقعاً حسناً فلا تلومي مفاتحتي لك بما في قلبي واعف عني وقني سورة سخطك واكتمي الأمر عن الشمس والقمر والسلام عليك. . . ثم طوى الكتاب ووضعه في غلاف وذهب إلى منزل الباشا وطلب أن يقابل الخانم الكبيرة ليقبل يديها ويقوم بما اعتاد من تقديم واجباته لها فدعته إليها وسلمت عليه ودعت له بالتوفيق. فاختلس فرصةً في تلك الساعة وألقى الكتاب بيد جميلة فتناولته مرتعشةً وقد احمرّ وجهها ثم أقام هناك هنيهةً وانصرف إلى مدرسته. ذهب سعيد فدخلت جميلة غرفتها وأغلقت الباب وأرخت ستور النوافذ وسدت المنافذ والشقوق بحيث لا يراها أحد وجلست على كرسي ووجهت وجهها نحو الجدار وأخذت تقرأ الكتاب فاحمر وجهها خجلاً وعلمت أنه وقع في شراك هواها فأرادت أن تتماسك ولا تريه انحلالاً في الإخلاص لعلمها أن بعض الرجال يكرهون زواج من يبحن بسرائرهن في الهوى. فبعثت إليه كتاباً تعيبه به على جرأته وما وقع له من الإلماع إليه على أسلة لسانه وبنانه. ولما تلا كتابها أخذ اليأس والخجل يقيمه ويقعده فهجر منزل الباشا زمناً حتى صار أهل بيته يسألون عنه ووقعت جميلة في شر أعمالها وندمت على ما فرط منها من عتابه المرّ الجافي على جرأته الغريبة وأيقنت أن الخوف أقصاه عن غشيان منزل أبيها فكتبت إليه بما يأتي: عزيزي: أراك هجرتنا هجراً طويلاً وما عودتنا من قبل ذلك فإن كان هذا تناسياً فهو ينافي أملنا فيك وإن كان خجلاً من عتابنا فعملك مردود عليك. فتعال إذاً يوم الثلثاء إذ يخلو لنا الدار بتغيب أمي وأبي لأبوح لك بذات نفسي ولك مني ألف سلام. ثم طوت الكتاب وبعثت به مع خادمتها الأمينة إلى المكتب فلما تناوله سعيد كاد يطير فرحاً وأخذ يغوص في بحور الخيال ويسبح في فضاء الأماني إلى أن أقبل اليوم المضروب للاجتماع فاحتال على مدير المكتب ونال منه رخصة بالخروج ذلك اليوم فخرج مهرولاً نحو منزل حبيبته. فلما دخل عليها سلم سلام المتلعثم وهو لا يدري ما يقول فأحسنت

استقباله بوجه يفتر سروراً ويطفح بشراً وأخذت تلاطفه بالكلام وتقول كيف يخطر لك أن أسطر في الورق ما يخالج قلبي لك من الحب وليت شعري ماذا يكون حالنا لو وقع الكتاب في يد من يأتي به أبي ومن يشفع فينا عندئذ؟ فسكن روع سعيد وما جاش به من الجأش وعلم علم اليقين أنها لم تجسر على مفاتحته فقال لها: الآن حصحص الحق وعلمت مكانتي منك فهل تتنازلين لقبولي رفيقاً لك في حياتك غير ناظرة إلى فقري وقلة جاهي وتكتفين بمكارم أخلاقي وآدابي وتعتمدين صدقي وفرط ودي وتثقين بأن حياتي ستكون وقفاً على ما فيه رضاك. فقالت أنت تعلم أن أمر زواجي ليس بيدي ولو خيرت لما اخترت سواك. على أني أستطيع رد كل من يطلبني غيرك وأنا عالمة بشدة بأس أبي فكن في أمان من أني سأبذل الوسع لأظل عانساً ريثما تنجز سني دراستك ولعلك تنال مقاماً يبلغك أمانيك فأعطيك هذا الوعد وسأثبت عليه مهما كلفني من العذاب والهوان. - أنا أعلم منزلتي وأن لا سبيل إلى طلبك ولكن ما يخالج قلبي من الأماني يدفعني إلى القول باني بعد ما أتم دروسي التجهيزية سأذهب إلى الأستانة وأدخل في إحدى المدارس الكبرى فأنال عند خروجي منها بعد نيل الشهادة منصباً يهيئ لي مستقبلاً جميلاً أكون جديراً بك ويسوغ لي طلبك من أبيك. - نعم ما قلت وفكرت فليس لك عندي سوى النصيحة أن لا تتأخر عن الجد في التعليم لئلا تقعد ملوماً محروماً واسع جهدك ولا ريب عندي أنك ستحرز مقاماً يليق بنفاذ بصرك وبصيرتك ومكارم أخلاقك وسمو آدابك وإياك أن تقلبك الأيام فتنسى ما قر عليه قرارنا الآن وأوصيك بالثبات على الوعد ولو بُليت بأنواع العذاب. وهنا أقسم لها بكل محرجة من الإيمان وتحالفا على أن لا يخلا بالوعد وتفارقا على اللقاء ولو بعد حين. البقية تأتي

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة اميرسون 1803 - 1882 يظن بعضهم أن العالم إذا بث فضل علمه والأديب إذا نشر آثار أدبه والأخلاقي إذا علّم الحكمة لأهل جيله وقبيله وصاحب الدعوة أو النزعة إذا نفخ في الناس من روحه ولم يظهر للعيان في الحال أثر مما قصدوا له ووقفوا نفوسهم عليه وأنفقوا نقد أعمارهم على خدمته يعدون في الخائبين الخاسرين وأن العمل إذا لم يُنتج لأول الأمر لا يعد صاحبه رجلاً مذكوراً ولا عمله مبروراً مشكوراً كأن يطلبون من الغرس أن يثمر في يومه ومن الطفل أن يكبر بانفصاله عن أحشاء أمه وفاتهم أن لكل عمل عمره ولكل مؤثر أثره والله لا يضيع عمل عامل. يكاد يوقن كل ناظر في الحضارة الغربية وباحث في تاريخها منذ مئتي سنة أنها ترمي بالتدريج إلى أن تكون حضارة مادية بحتة لا ينظر فيها لغير الأبيض والأصفر وأن أهل الغرب على اختلاف أصقاعهم وحكوماتهم لا يحيون ولا يريدون أن يحيوا إلا أن الحياة المادية ولا تراهم إلا زاهدين في الحياة الأدبية أو الروحية. فعلى نسبة غنى المرء عندهم وكثرة ذهبه تزداد حرمته والإعجاب به وكلما استحل أكل مال الضعيف وتفنن في هضم حق الفقير ولو تحت ستار الاحتكار أو الاستعمار أو الشركات والمضاربات عُدّ من أرباب العقول والمضاء وهذا من عيوب هذه المدينة الأوروبية وما نخال أن الحال كانت كذلك على عهد الحضارة الإسلامية. الحياة المادية تكاد الآن تتغلب في كل بلد من المعمور على نسبة دخول نور العلوم وفضلات التمدن الحالي وتشهدها على أتمها في الولايات المتحدة الأمريكية لأن جميع أهلها من المهاجرين من أقطار العالم في طلب الرزق وقل فيهم مثل المهاجرة الأول الذين هاجروا إليها فراراً بنفوسهم من ظلم الحكومات الأوروبية فتكوّن منهم والله أعلم على ما طبيعة تلك المملكة الضخمة من الخصب وأسباب الثروة التي لم يجتمع مثلها لمملكة أقوام يحلمون بالدولار ويحيون به ويموتون في حبه ويفصلون كل شيء على مثاله ويسعون بكل ما يمكن إلى نيله ولا يفكرون في غيره من الحياة الأدبية التي لو نزعت من أمة لزالت

عنها سعادتها وغبطتها ونعماؤها. ولقد كان أول من دعا من حكماء تلك الديار إلى الإقلال من هذا التكالب الضار والجمع بين حب الذهب وحب الأدب صاحب هذه الترجمة اميرسون حكيمها وعالمها العامل. دعا إلى ذلك وأهل طبقته من المفكرين في أمته فأثر دعوته في بعض النفوس تأثيراً نظرياً ولكن لم تظهر آثارها العملية حتى الآن على أن كثيراً من زعماء الأفكار وحملة العلم فيهم يتوفرون اليوم على قتل تلك الروح المادية ومحاربتها للتخفيف من شرر شرورها وفي طليعتهم الرئيس روزفلت داهية الأرض وعالم القياصرة والإمبراطورة وأعقل المالكين من المطلقين والمقيدين. نشأ اميرسون في حجر الدين وكان أبوه رئيساً دينياً من شيعة الموحدين فانصرف في أول أمره إلى احتذاء مثال والده في الوعظ والإرشاد ونال وظيفته في كلية هارفارد الجامعة فدرس فيها علم اللاهوت وغدا واعظاً موحداً في إحدى بيع بوستون إلا أنه لم يلبث أن تخلى عن هذه الصناعة وذهب إلى بلدة كونكورد سنة 1835 ينقطع للتعليم والإلقاء على سبيل المذاكرات العامة وإلى تأليف الكتب وإنشاء المقالات في المجلات وأسس لنفسه مجلة دينية فلسفية سماها الكمال وكانت تآليفه لأول عهده فلسفية محضة ولما زار إنكلترا سنة 1848 ورأى أهل العالم القديم وما عندهم من آثار وأمصار تنبهت فيه القوى النفسية فوضع تأليفاً كان سبباً لأن لقّب به كارلايل أمريكا تكلم فيه على كثير من كبار الرجال ممن بلغوا مراتب الكمال على نحو ما تكلم كارلايل الإنكليزي في كتابه الأبطال وعبادة الأبطال. ومن جملة كتب اميرسون التي تأفَّقت بها شهرته كتاب سماه الخُلُق الإنكليزي درس فيه أخلاق الأمة الإنكليزية من الوجه الاجتماع والأدبي شرح فيه على أحسن طراز وألطفه وأوضح أسلوب وأنفعه الأسباب التي نجم عنها مجموع النقائص والعيوب التي يتألف منها الخُلُق البريطاني. كان اميرسون كاتباً وشاعراً وهو إلى الكتابة أميل وفيها أمتن وأرصن. منقطع القرين في سلاسة التعبير ولطف الأداء والتصوير مما كاد يبلغ به حد الإعجاز في لغته. وكان حكيماً مفكراً وأخلاقياً عظيماً. قيل إن الوحدة التي مال إليها اميرسون وسعة العيش التي أنقذته من الهموم الخارجية أتاحتا له أن يكون منه في القرن التاسع عشر رجل شبيه بمونتين في

القرن السادس عشر هذا كاثوليكي وذاك بروتستانتي. فأميرسون حكيم كمونتين وشارون الحكيمين الفرنسويين وشكسبير الشاعر الحكيم الإنكليزي. ولقد أولع بدرس كتب مونتين ثم انتقل إلى الأخذ من كتب شكسبير فهو مثلها باحث من النظار وهو مثلهما في الإبداع والعمل بما في فطرته بعيد الغور حسن التعليل جيد النقد نافذ البصيرة خالص من شوائب التقليد. قال مترجموه أنه جمع جميع الأدوات التي تطلب للفلسفة ولم يتيسر له أن يحيلها إلى طريقته. ومما امتاز به نقده أحوال عصره لأن طرق الحكومات الجمهورية تهلك الفرد في سبيل الجماعة فقام اميرسون وناهض في عصره هو وكبار أرباب العلم من أهل حلقته المتشعبين بأفكار أمثال وتوروالكوت وشاننغ وفرانك سانبون وغيرهم المتكالبين على الغنى المستحلين للمطامع. وقام يقول للفرد: اعتقد بما يوحيه إليك قلبك. ورأى أن الصناعات تقضي على عالم الكمال فأنشأ يقول إن العالم لا يحيا حياة طيبة رغيدة إلا إذا نبذ الأنانية وطهّر حياته من الشهوات البدنية ليبلغ الزلفى من رب العباد براً تقياً. فاميرسون هو صاحب الفلسفة المعنوية التي تدعو إلى المعارف والآداب وقد وصفته مجلة بلاكو ماكازين بقولها: كان اميرسون من أسجع الناس خُلقاً وأوسعهم علماً وأحسنهم رأياً وأسمحهم فكراً وآلفهم بالفطرة وأخلصهم من الأوهام المائجة المتغيرة ليس له نظرية يحيد عنها ولا طريقة يصعب الأخذ بها ولا أرب في القبض على قياد أحد. يطلب للمرء أن يكون لنفسه وأن لا يعتمد إلا عليها وأن يوقرها ويحترمها على مثال كبار الرجال ممن لهم ما له وعليهم ما عليه. فإن قام اميرسون بمبدأ عام استنتج من فلسفته أو تصور أنه أتى أمراً جديداً لم يسبق إليه سابق فهو أنه دعا إلى إعادة الإنسان إلى شرفه في نظر أخيه والإهابة بالناس إلى الغيرية وزحزحتهم عن الأنانية ليكون المرء كبيراً في نفسه معتمداً عليها مستقلاً كل الاستقلال في أفكاره وأفعاله وهذه هي الشروط الحقيقية في القوة الشخصية والخير الاجتماعي. وما نرانا مخطئين لو عقلنا إن فلسفة اميرسون النظرية تتعاصى على التحليل فيقتضي حلها بحسب ما يوحي إليه وحي الوقت وأن يجع إلى حلها في مشالك المسائل المتعلقة بما وراء المادة وإذا تعاورتها بالحذف والتنقيص تُفقدها رواءها وتضيع سناها وسناءها فعليك

يا هذا أن تقبلها على علاتها وتشربها على كدوراتها إذ أن حسنها إن تبقى على رسمها كما صدرت عن أبي عذرتها وهو يسير في الفلوات ويصعد الآكام والعقبات ويوغل في الحراج والغابات ويميلها بحسب ما تنزل عليه من السماء ويستنشقها من الهواء ويسمعها من حفيف الأوراق ويتناولها من أرج المروج الخضراء ويقرأوها في سطور المسايل والتيار. فإن أنت حذفت منها اضطرابها وارتخاءها وتلون صورها ولهجاتها وارتجالها ومواضع الوقف فيها تصاب بآفة وعاهة. ولذا كان علينا أن نقبل تعاليم اميرسون بالحرف بدون أن نغير منها شيئاً فهو ابن الوحدة والتأمل.

شعراء النصرانية في الجاهلية

شعراء النصرانية في الجاهلية عُني حضرة الأب لويس شيخو اليسوعي منذ برهة بإظهار فضل شعراء النصرانية في عهد الجاهلية وهو نعم العمل لو توخى في ذلك صراح الحق واتبع سنن التاريخ المسنون نقلاً ورواية. إلا أنه حفظه الله قد أخذ على نفسه أمراً هو في غاية الصعوبة والعنت ألا وهو تنصير بعض شعراء الجاهلية ممن لم يكن لهم من النصرانية حظ. فلا غرو أنه يعد هذا العمل من قبيل تنصير من كان على الضلال مبتغياً بذلك القربى والزلفى من رب العباد واكتساب الأجر والثواب في الدنيا والمآب. غير أنك لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي ويا ليته وقف عند هذا الحد وكأنه لم يجترئ بذلك فأخذ الآن بحل قيد من تقيد بدين وإجباره على النصرانية قبل أم أبى. كما فعل هذه السنة بالسموأل إذ أجبره وهو بين الأموات على إنكار دينه وانتحال النصرانية له. فلا جرم لو أمكن للموتى أن ينطقوا لكان أول نطق السموأل إنكار هذه الفعلة الشنعاء وهذا القهر المنكر: وإذا سألتني متى فعل حضرة الأب هذا الفعل؟ قلنا: فعل ذلك عند عثوره على قصيدة تُنسب إلى صاحب الأبلق الفرد (المشرق 9: 482 و674) وقد زاد عليها بعض النصارى بيتاً أو بعض أبيات لإيهام القارئ أنه كان على النصرانية. وهذا ما حدا الأب إلى أن يقول في (المشرق 9: 675). نشكر حضرة مراسلنا الذي أطلعنا على روايات هذه القصيدة. وكنا وددنا لو زادنا علماً عن النسخة التي أخذ عنها لتعريف قدمها وخواصها. وإن كان البيت الأخير صحيحاً صدق ظننا السابق بأن السموأل نصراني لا يهودي لاسيما أن أصله من بني غسان وبنو غسان نصارى اه قلنا: نقلنا كلام الأب برمته ليطع عليه القارئ الحكم العدل ويعرف قوة براهينه وحججه. أما قوله: إن كان البيت الأخير صحيحاً صدق ظننا السابق بأن السموأل نصراني. قلنا: ونحن نقول مثله غير أنه لسوء الحظ خطته يدٌ أثيمة فحطته هذا المحط ومن هذا يظهر أن الناظم النصراني الكاذب لم يراع انتقال الرموز شيئاً بعد شيء لتنتهي إلى ظهور المسيح بل هجم على الموضوع دفعةً هجوم الذئب الجائع فوقع على فريسته وفراها بأنيابه إلا أن الغير وقعوا عليهما أيضاً فأظهروا خيانته. وأما قول الأب: ولاسيما أن أصله من بني غسان وبنو غسان نصارى فهو قول لا يسلم به

المطلعون على أخبار العرب في عهد الجاهلية. لأن من غسان من كان على دين دهما العرب وهي الوثنية ومنهم من دان باليهودية وطائفة كانت على النصرانية فكيف يقول بعد ذلك: إن غسان كانت نصارى. أما أن فريقاً منهم كان يدين بالوثنية فهو أشهر من أن يذكر فهذا الحارث الأكبر ابن أبي شمر الغساني الملقب بالأعرج وهو الذي اشتهر ملكه في أيام القياصرة فإنه كان وثنياً قحاً ويتضح ذلك منه أنه: أهدى سيفيه المعروف أحدهما باسم رسوب والآخر باسم مخذم لبيت الصنم (عن الطبري 1: 1706) وبيت الصنم المذكور هو بيت مناة لأن غسان كانت تعبد هذا الصنم (عن معجم ياقوت في مادة مناة). وزد على ذلك أن تلبية غسان عند وقوفها عند صنمها كانت هذه: لبيك رب غسان. راجلها والفرسان (تعن تاريخ اليعقوبي 1: 297). وهذا سطيح الكاهن المشهور فإنه كان غسانياً إلا أنه لم يكن نصرانياً وإن كان خال نصراني من أهل الحيرة. فهل بعد كلام هؤلاء الأئمة الأفاضل مندوحة للإيهام والإبهام؟ - نعم أن حضرته إذا أراد أن يزكي نصرانية شاعر برأ ساحته من كل ما يمكن أن يقع على ثياب دينه أدنى غبار إلا أن ذلك كله إذا فات على عقول بعض القراء فلا يفوت على عقول الأدباء لأنه لا يشفي فيهم علة كما لا يروي منهم غلة. أما أن اليهودية كانت في غسان فهذا بين من دين السموأل فإنه ليس من كاتب أو أديب أو مؤرخ أو لغوي ذكر دين السموأل إلا وقال عنه أنه يهودي المذهب فهذا الطبري وابن الأثير وابن خلدون والمسعودي وأبو الفداء واليعقوبي وابن رسته ونحوهم هم لسان واحد لإثبات هذه الحقيقة الراهنة التي هي على زُبية من سيل الوهم والخطأ. لا بل أن حضرة الأب نفسه يقول بذلك في مجاني الأدب 3: 313 في الحاشية فكيف انثنى اليوم عن رأيه؟ - وهذا وأن اليعقوبي يقول بصريح العبارة 298 وتهود قوم من غسان وهو يقول أيضاً في ص 299 أن النصرانية كانت أيضاً في غسان. ومن ثم فقول من يقول إن اليهودية كانت في غسان كما أن النصرانية والوثنية كانتا فيها فهو بعيد عن سهام الملام. هذا من جهة السموأل وإلا فإن حضرته قد نصر أيضاً غير هذا من الشعراء ما قد اذخر له أجراً مذكوراً لا يفنى ولا يزول إذ لا تمد اللصوص إليه يدها كما أن السوس لا يتعرض

له. من ذل أنه نصر في الجزء الأول من كتابه شعراء النصرانية هؤلاء الواردة إليك أسماؤهم مرتبة على حروف المعجم: الأخنس بن شهاب. الأعشى بن قيس. الأفوه الأودي. أفنون. امرؤ القيس وأعمامه. أمية بن أبي الصلت. بسطام بن قيس الشيباني. جساس بن مرة. جليلة. جحدر بن ضبيعة. الحارث بن حلزة. الحارث بن عباد. الخرنق أخت طرفة. سعد بن مالك البكري. السفاح التغلبي. سويد بن أبي كاهل اليشكري. طرفة. عبد يغوث. عمرو بن قميئة. عمرو بن كلثوم. عميرة بن جُعيل التغلبي. الفند الزماني كليب. وائل بن ربيعة. المتلمس. المثقب الفندي. المرقش الأصغر. المرقش الأكبر. المسيب بن علس. المنخل اليشكري. المهلهل أخو كليب. ونصر في الجزء الثاني: الأسود بن يعفر. ذا الإصبع العدواني. أوس بن حجر. الحصين بن حمام. دريد بن الصمة. الذبياني. الربيع بن زياد. زهير بن أبي سلمى المزني. زيد بن عمرو بن نُفيل. سلامة بن جندل. عبيد بن الأبرص الأسدي. عروة بن الورد. علقمة الفحل. عنترة العبسي. كعب بن سعد الغنوي. ولعلك تظن أن عمله المبرور يقف عند حد تنصير الأفراد فأربع على ظلعك فقد نصر أيضاً عدة قبائل وبطون مما يدل على غيرته. فعنده كندة ومذحج وطيء وتغلب وقضاعة وإيان وبكر وتميم ومزينة وأسد وكنانة وعدوان وذبيان وغني وهوزان وعبس كلهم نصارى لا غير ولا غرو أنهم تلقوا الإيمان القويم عنه عند قدومه إلى العالم وإسماعه إياهم صوته وهم في القبور. على انك لو وقفت على سر دعائه هؤلاء الأقوام إلى دين عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لاستغرقت في النوم والأحلام إلا أني لا أريد أن أطلعك بنفسي على هذا السر الغريب بل أجتزئ بأن أورد لك بعض الشواهد لتقف أنت بنفسك عليه بدون أن أبوح لك به ليكون كل الفضل لك. قال مثلاً في المشرق 7: 620 قال طخيم بن الطخماء يمدح بني تميم: وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق اه قلت: إن الكلمات التي قدمها على هذا البيت وصدّره بها يوهم أن تميماً كلها كانت نصارى. والحال أن الحق هو على غير هذا الوجه فإن الشاعر مدح بعضاً من تميم. قال في الكامل

1: 26 (من الطبعة المصرية) ما هذا حرفه: قال أبو العباس: ومن سهل الشعر وحسنه قول طخيم بن أبي الطخماء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. ثم من رهط عدي بن زيد العبادي: كأن لم يكن يومٌ بزورة صالحٌ ... وبالقصر ظلٌّ دائمٌ وصديقُ بنو السمط والحدّاء كل سميدع ... له في العروق الصالحات عروقُ وإني وأن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوقُ اهـ المقصود من إيراده. وعلى هذا الوجه أيضاً جاء النظم المذكور في معجم ياقوت في مادة زورة 2: 957 فكيف صير إذاً جميع بني تميم نصارى وفيهم الوثنيون والمجوس واليهود والثنوية والنصارى إلى غير ذلك من الأديان؟ فلا جرم أن حضرة الأب واهمٌ في قوله هذا بل موهم! ومن غريب أمره أنه من بعد أن نصَّر تميمياً قال بعد صفحات من قوله المذكور في بني تميم كلاماً هذا نصه بحرفه: وعلى ظننا أن الذين هجوا بني حنيفة لأكلهم ربهم وقت المجاعة إنما أرادوا القربان الأقدس. كان بنو حنيفة النصارى يتناولونه فظن الشاعر أن ذلك لجوعهم قال بعضهم: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحُّم والمجاعه لم يحذروا من ربهم ... سوء العقوبة والتباعه وقال آخر: أكلت ربَّها حنيفةُ من جو ... عٍ قديمٍ بها ومن أعواز (اه عن المشرق 7: 622) قلنا: إن الذين هجوا بني حنيفة هذا الهجو كانوا من تميم (عن الآثار الباقية ص 210) فإذا كان الأب يزعم أن بني تميم كانوا نصارى وكان بنو حنيفة أيضاً نصارى فكيف يُعيّر الواحد الآخر بشيء هو فيه؟ أما تحرير الرواية فهو أن بعض بني حنيفة (لا كلهم) كانوا نصارى وهم الذين كانوا يكونون في رُصافة هشام المعروفة باسم الزوراء وإلا فإن سائر بني حنيفة كانوا على أديان مختلفة حسب البلاد التي كانوا يكونون فيها. والذين أشار إليهم الشاعر هم الذين كانوا قد اتخذوا صنماً من حَيْس (والحيس تمر يخلط بسمن وأقط فيُعجن

ويُدلك شديداً حتى يمتزج ثم يُندر منه نواه وربما جُعل فيه سويق. ولم يكن من الخبز قط). قال في الآثار الباقية ص 210: كان بنو حنيفة قبل مُسيلمة اتخذوا في الجاهلة صنماً من حيس فعبدوه دهراً. ثم أصابتهم مجاعة فقال رجل من بني تميم: أكلت ربها. البيت. وقال آخر: أكلت حنيف. البيت. فأين هذا مما ذهب إليه حضرة الأب؟ فلا جرم أنه واهمٌ بل موهِم. وقال حضرته في المشرق 7: 621 وكان المنتصرون من أهل الجاهلية يعبدون الصليب كما دل عليهم بعضهم في هجو بني عجل وكانوا نصارى: تهدّدني عجلٌ وما خلت أنني ... خلاةٌ لعجل والصليب لها بعلُ اهـ قلنا: ولم يكن بنو عجل كلهم نصارى بل بعض منهم. وإلا فإن أغلبهم كانوا على الوثنية دين دهما العرب لا النصرانية كما يريد الأب أن يوهمه. إذ بنو عجل كانوا من بكر بن وائل ووجود الوثنية في بطون بكر أمرٌ لا يحتاج إلى إيضاح. وقال أيضاً في المشرق 7: 624 وقال الزبرقان بن بدر: نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... منا القروم وفينا تنصب البِيَعُ اه فأدخل وهمين في هذا الكلام. أولاً جعل الزبرقان من النصارى كما أوضح ذلك ببين العبارة في شرح المجاني ص 135 إذ قال: كان (الزبرقان) في الجاهلية سيداً يدين بالنصرانية وهو القائل: نحن الملوك فلا حيّ يقاومنا ... فينا العلاء وفينا تنصب البيع وفد مع بني تميم على نبي المسلمين سنة 9 هـ / 631 م بنو تميم وأجازهم محمد اه المقصود من إيراده. والحال أن الزبرقان لم يكن هنيهةً من الزمان نصرانياً فلو سلمنا له أن رواية البيت وفينا تنصب البيع صحيحة لكان لفظ البيع هنا جمع بيعة بكسر الأول مثل الحلبة والركبة للنوع والهيئة. والمراد مبايعة الملوك وطاعتهم والمعاقدة على ولائهم والمعاهدة عليه كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ومحصل معنى البيت على هذا هو: نحن الملوك والكرام أو القروم وفي شأننا تجري عقود البيعة لا مستحق لها غيرنا. وهذا معنى يلائم ما قبله وما بعده ويمتزج معهما امتزاج الماء بالراح لا

أن البيع جمع بيعة وهي كنيسة اليهود أو النصارى على ما ذكره أهل اللغة فإنه مع عدم ملائمته للكلام منافٍ لما صرح به أهل المقالات ومن تكلم على أديان العرب. والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال. على أن للبيت رواية ثانية ذكرها صاحب الأغاني 4: 8 وهي: نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... من الملوك وفينا يؤخذ الربع وفي زاد المعاد وقد ذكر القصة مفصلة في الصفحة 452 من الجزء الثاني رواية ثالثة وهي: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا يُنصب السبُعُ وفسر السبع أنه يوم عيد من أعياد الجاهلية. فكيف يقول إن الزبرقان نصرانياً وأي كاتب من الكتبة الأقدمين أو المحدثين يقول بهذا القول الفج والبراهين متضافرة ومتكاتفة ومتساندة على كونه خالياً من دين عيسى بن مريم. والوهم الثاني الذي حاول إدخاله في العقول هو تأييد بني تميم أنهم كانوا كلهم على النصرانية. وهو يزعم ذلك في جميع ما يكتبه فقد قال في المشرق 7: 618 اشتهرت (عدة قبائل) بالنصرانية قبل الهجرة كتغلب وتميم وكندة اه. فنحن نقول: إنه لم يوجد في عهد الجاهلية قبيلة واحدة كان يدين جميع أفرادها بالنصرانية لا كندة ولا تميم ولا بكر ولا تغلب لا بل ولا غسان فإن هذه القبائل كانت أحياء وبطوناً تعبد الأصنام أو كانت على غير النصرانية فقد بينا لك ما كانت عليه غسان من اختلاف الأديان. وهذه تغلب المشهورة بكونها نصرانية فإنها لم تكن كذلك في عهد الجاهلية. أما كون بعضها كان يعبد الأصنام فهذا ما لا ريب فيه. قال ياقوت في معجمه في مادة أوال (1: 395) أوال اسم لصنم كان لبكر بن وائل وتغلب بن وائل اه. وكانت تغلب من ربيعة وكانت تلبية ربيعة عند وقوفها عند صنمها هذه: لبيك ربنا لبيك. لبيك إن قصدنا إليك. وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة. لربها مطيعة. اه عن تاريخ اليعقوبي 1: 296 ولم تكن التغالبة ممن كانوا يعبدون الأصنام عبادة بدون أن يعتقدوا بصحتها ولذا تراهم يحلفون بها. ومن ذلك كلام جساس حينما سأله أبوه مرة بعد قتله لكليب: ما وراءك يا بني؟ قال: طعنت طعنة لتشغلن شيوخ وائل رقصاً. قال: أقتلت كليباً؟ قال. إي وأنصاب وائل وأي قتل. (عن

كتاب شعراء الجاهلية 1: 155) وبهذا المعنى حلف أيضاً المهلهل أخو كليب وكان وثنياً إذ قال: كلا وأنصاب لنا عاديّة ... معبودةٍ قد قطعت تقطيعا قال صاحب الضياء مفنداً حضرة الأب لويس شيخو وقد أجاد: الأنصاب: الأصنام أو كل ما عبد دون الله وفسرها جامع الكتاب بأنها كانت حجارة ينصبونها في الجاهلية ويهل عليها ويذبح لغير الله تعالى. قال: وبقي منها بعضها بعد تنصر ربيعة وكان الجهال من العرب يعبدونها. اه. وكأنه ظن أن هذا القول يثبت نصرانية المهلهل ويخرجه من الذين كانوا يعبدون هذه الأنصاب مع أن الرجل يحلف بها ويصرح بأنها معبودة ولا يعقل أن أحداً يحلف بمعبود غيره إذا كان يعتقده باطلاً. وزد على ذلك أنه يقول: وأنصاب لنا بضمير المتكلمين فجعل نفسه في جملة أصحاب تلك الأنصاب ووصفها بالعادية أي القديمة إثباتاً لرسوخ عبادتها في قومه وأن هذه العبادات انتهت إليه عن أسلافه الأولين. ولكن الظاهر أن حضرة الأب كلما عثر على من شك في دينه أو جهل أمره عده نصرانياً تكثراً بالباطل وتبجحاً بما ليس وراءه طائل اه (الضياء 5: 218) ثم أيجهل حضرة الأب أن من التغالبة من اتبع سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان المتنبئة فليراجع الطبري 1: 1911 ير أنهم تركوا التنصر مع رئيسهم الهذيل بن عمران وانضووا إليها. وعليه فلك تكن كل تغلب نصارى. الباقي للآتي بغداد أحد القراء

تسامح العظماء

تسامح العظماء تابع ما قبله اتصل ثابت بن قرة الحراني بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين وأقطعه ضياعاً جميلة وكان يجلسه بين يديه كثيراً بحضرة الخاص والعام ويكون بدر الأمير قائماً والوزير وهو جالس بين يدي الخليفة. قال أبو إسحاق الصابي وهو ممن حظي عند الأمراء أيضاً: إن ثابتاً كان يمشي مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة للرياضة وكان المعتضد قد اتكأ على يد ثابت وهما يتماشيان ثم نثر المعتضد يده من يد ثابت بشدة ففزع ثابت فإن المعتضد كان مهيباً جداً فلما نثر يده من يد ثابت قال له: يا أبا الحسن وكان في الخلوات يكنيه وفي الملأ يسميه سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها وليس هكذا يجب أن يكون فإن العلماء يعلون ولا يُعلون. وكان سنان بن ثابت بن قرة في خدمة المقتدر بالله والقاهر وخدم أيضاً بصناعة الطب الراضي بالله. وكان ابنه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة في خدمة الراضي بالله أيضاً وخدم بصناعة الطب المتقي بن المقتدر بالله والمستكفي بالله والمطيع لله. واتصل أبو الحسن الحراني ثابت بن إبراهيم بن زهرون بعضد الدولة وكان له منه الجاري السني. وكان غالب طبيب المعتضد بالله وكان أولاً عند الموفق طلحة بن المتوكل وارتضع سائر أولاد المتوكل من لبن أولاد غالب فكان يسر بهم فلما تمكن الموفق من الأمر أقطعه ونوله وأغناه وكان لم مثل الوالد وعالج الموفق من سهم كان أصابه في ثندوته وبرأ فأعطاه مالاً كثيراً وأقطعه وخلع عليه لغلمانه من أراد إكرامي فليكرمه وليصل غالباً فوجه إليه مسرور بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب ووجه إليه سائر الغلمان مثل ذلك وصار إليه مال عظيم ولما قبض على صاد وعبدون أخذ لعبدون عدة غلمان نصارى مماليك فمن أسلم منهم أجري له رزق وترك ومن لم يسلم منهم بعثه إلى غالب وكان عدد من أنفذ إليه سبعين غلاماً أزمة وغيرها فلما ورد عليهم معهم رسول من قبل الحاجب قال غالب: أي شيء أعمل بهؤلاء؟ وركب من وقته إلى الموفق فقال: هؤلاء يستغرقون مال ضيعتي مع رزقي. فضحك الموفق وتقدم إلى إسماعيل زيادة في إقطاعه الحرسيات وكانت ضياعاً جليلة تغل سبعة آلاف دينار وأوعدها له بخمسين ألف درهم في السنة وبعد الموفق طلحة خدم لولده

المعتضد بالله أبي العباس أحمد وكان مكيناً عنده حظياً في أيامه وكان المعتضد يحسن الظن به ويعتمد على مداواته. وخدم أبو عثمان سعيد بن غالب المعتضد بالله بصناعة الطب وحظي عنده وكان كثير الإحسان إليه والأنعام عليه. وعوّل الملوك على صاعد بن بشر في العلاج ولطالما حصل له مال عظيم وحشمه الخليفة ووزيره وزكاه وقدمه على جميع من كان في زمانه. وكذلك ديلم داود بن ديلم خدم هذا المعتضد بالله في الطب وخصّ به فكانت التوقيعات تخرج بخط ابن ديلم لمحله منه ومكانته وكان يتردد إلى دور المعتضد وله منه الإحسان الكثير والأنعام الوافر. ومنهم أبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي كان منقطعاً إلى الوزير علي بن عيسى. ومنهم عيسى طبيب القاهر كان عمدته ويركن إليه ويفضي إليه بأسراره. وكان إسحاق بن شليطا خادماً بالطب للمطيع لله. وفنون المتطبب كان يختص بخدمة بختيار ويكرمه ويعده أمراً عظيماً. ونظيف القس الرومي استخدمه عضد الدولة في البيمارستان الذي أنشأه ببغداد وخلع عليه خلعاً سنية. وكذلك أبو غالب بن صفية تقدم في زمن المستنجد بالله والمستضيء بأمر الله. وكذلك أمير الدولة ن التلميذ من رجال المستضيء بأمر الله وبلغت به الأنفة والغنى أنه كان لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، مدحه السيد النقيب الكامل بن الشريف الجليل والشريف أبو يعلى محمد بن الهبارية العباسي بقصيدتين غراوين وذكر أفضاله وكماله كما مدح الشريف الرضي أبا إسحاق الصابي كثيراً وكان بينهما مودة أكيدة. وكذلك مدحه الطغرائي وابن جكينا وغيرهما كما مدح الشريف ابن الهبارية أبا الفرج يحيى بن صاعد بن التلميذ من أسرة أمير الدولة وكان له جماعة من الأنساب كل منهم متعلق بالفضائل والآداب. ومنهم أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي اليهودي كان في خدمة المستنجد بالله. ومنهم أبو الخير المسيحي طبيب الناصر لدين الله. وابن نصر بن المسيحي حظية أيضاً أمره هذا الخليفة عقيب برئه من مرض على يده أن يدخل دار الضرب ويحمل من الذهب مهما قدر أن يحمله ففعل به ذلك ثم أتته الخلع والدنانير من أم الخليفة ومن ولديه الأميرين محمد وعلي والوزير نصير الدين أبي الحسن بن مهدي العلوي الرازي ومن سائر كبار الأمراء بالدولة فحصل من العين الدنانير عشرين ألف دينار ومن

الثياب والخلع جملة وافرة وألزم الخدمة وفرضت له الجامكية السنية والراتب والإقامة. وكان أبو الفرج صاعد بن هبة الله بن توما طبيب نجم الدولة أبي اليمن نجاح الشرابي وارتقت به الحال إلى أن صار وزيره وكاتبه ثم دخل إلى الناصر وكان يشارك من يحضر من أطبائه في أوقات أمراضه ثم حظي عنده الحظوة التامة وسلم إليه عدة جهات يخدم بها وكان بين يديه فيها عدة دواوين وكتّاب قال ابن القفطي: إنه كان بمنزلة الوزراء واستوثقه الناصر على حفظ أموال خواصه وكان يودعها عنده ويرسله في أمور خفية إلى وزرائه ويظهر له في كل وقت. وخدم أبو الحسين صاعد بن هبة الله بن المؤمل المسيحي بالدار العزيزة الناصرية الإمامية وتقرب قرباً كثيراً. وكسب بخدمته وصحبته الأموال وكانت له الحرمة الوافرة والجاه العظيم. ووصل أبو الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار بالطب إلى أن أقبل له محمود الملك الأرض وكان الملك محمود عظيماً جداً. وتقدم أبو سهل المسيحي عند سلطان خراسان. وأجرى الرشيد على منكه الهندي رزقاً واسعاً وأموالاً كافية. وخدم إسحاق بن سليمان الإسرائيلي الإمام أبا محمد عبيد الله المهدي صاحب أفريقيا بصناعة الطب. وكان يحيى بن إسحاق الطبيب في صدر الدولة عبد الرحمن الناصر لدين الله الأندلسي واستوزره وولي الولايات والعمالات وكان قائد بطليموس زماناً وكان له من الناصر محل كبير كان ينزله منزلة الثقة ويتطلع على الكرائم والخدم. وهارون بن موسى الأشبوني خدم الناصر والمستنصر بصناعة الطب وإسحاق بن قسطار من أحبار اليهود خدم بالطب الموفق مجاهداً العامري وابنه إقبال الدولة علياً. وحسداي بن إسحاق من أحبار اليهود أيضاً خدم بالطب الحكم بن عبد الرحمن الناصر لدين الله. وكان ابن بكلارش يهودياً من أكابر علماء الأندلس في صناعة الطب وخدم بها بني هود. وحظي بليطيان الطبيب بطريرك الإسكندرية على النصارى الملكية في أيام الرشيد ووهب له مالاً كثيراً وكتب له منشوراً في كل كنيسة في يد اليعقوبية مما أخذوها وتغلبوا عليها أن ترد إليه فرجع بليطيان إلى مصر واسترد من اليعقوبية كنائس كثيرة. وخدم إبراهيم بن عيسى بالطب الأمير احمد بن طولون وكذلك سعيد بن توفيل. وكان إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس في خدمة الحاكم بأمر الله ويعتمد عليه في الطب. وكان موسى بن العازار في

خدمة المعز لدين الله العلوي وكان في خدمته أيضاً ابنه إسحاق بن موسى المتطبب وكان جليل القدر عند المعز ومتولياً أمره واغتم المعز لموت إسحاق لموضعه منه ولكفايته وجعل موضعه أخاه إسماعيل بن موسى وابنه يعقوب بن إسحاق. وكان أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر طبيب الحاكم بأمر الله ومن الخواص عنده وكان العزيز أيضاً يستطبه ويرى له ويحترمه وكان متقدماً في الدولة الفاطمية. وكان الحقير النافع من أطباء الحاكم الخاص وكان ابن مقشر مكيناً في الدولة الفاطمية حظياً عند الحاكم بلغ منه أعلى المنازل وأسناها وكان له منه الصلات الكثيرة والعطايا العظيمة ولما مرض ابن المقشر عاده الحاكم بنفسه وأطلق لمخلفيه مالاً وافراً. وخدم أفرائيم بن الزفان الخلفاء الذين كان في زمانهم بمصر وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئاً كثيراً. وكان ابن جميع الإسرائيلي من أطباء الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عالي القدر نافذ الأمر يعتمد عليه في صناعة الطب. وخدم أبو البيان بن المدور الخلفاء المصريين في آخر دولتهم ثم خدمة صلاح الدين يوسف وكان يرى له ويعتمد على معالجته وله منه الجامكية الكثيرة والافتقاد المتوفر وتعطل في آخر عمره من الكبر والضعف فأطلق له الناصر في كل شهر أربعة وعشرين ديناراً مصرية تصل إليه ويكون ملازماً لبيته ولا يكلفه خدمة وبقي على تلك الحال وجامكيته تصل إليه نحو عشرين سنة. وكان الرئيس بن هبة الله الإسرائيلي من خدمة الخلفاء المصريين بالطب وكانت له منهم الجامكية الوافرة والصلات المتوالية. وخدم الموفق بن شوعة الإسرائيلي الملك الناصر بالطب لما كان بمصر وعلت منزلته عنده. وممن حظي في أيام هذا أيضاً وأيام أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب أبو المعالي بن تمام اليهودي. وكان السلطان صلاح الدين أيضاً يرى لأبي عمران الرئيس موسى الإسرائيلي ويستطبه وكذلك ولده الأفضل علي وهو الذي يمدحه القاضي السعيد بن سناء الملك بقوله: أر طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم فلو أنه طب الزمان بعلمه ... لأبراه من داء الجهالة بالعلم ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم

وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم وكان إبراهيم بن الرئيس موسى في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب. وكان أبو سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فانة الطبيب حظياً عند خلفا مصر. وكذلك ابنه أبو سعيد بن أبي سليمان جعله الملك العادل في خدمة ولده الملك المعظم وأكرمه غاية الإكرام وأمر أن لا يدخل قلعة من قلاعه إلا راكباً مع صحة جسمه فكان يدخل في قلاعه الأربعة كذلك وهي قلعة الكرك وقلعة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق. وخدم أبو سعيد بالطب أيضاً الملك الناصر والملك العادل. وكان أبو شاكر بن أبي سليمان مكيناً عند السلاطين جعله الملك العادل في خدمة ولده الملك الكامل فبقي في خدمته وحظي عنده الحظوة العظيمة وتمكن عنده التمكين الكثير ونال في دولته حظاً عظيماً وكان له من إقطاعات ضياع وغيرها ولم يزل يفتقده بالهبات الوافرة وكان الملك العادل يعتمد عليه وكان يدخل في دميع قلاعه وهو راكب. وكان أبو الفضل بن أبي سليمان طبيباً للملك المعظم في الكرك ثم خدم الملك الكامل. وكان عيسى الرقي المعروف بالتفليسي في خدمة سيف الدولة بن حمدان يأخذ أربعة أرزاق رزقاً بسبب الطب ورزقاً بسبب النقل ورزقين بسبب غلمين آخرين. وأنعم صلاح الدين على سكرة الحلبي المتطبب وخلع عليه وأقطعه أراضي مؤبدةً. وخدم موفق الدين بن المطران بالطب الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عظيم الجاه. وكان يتحجب عنده ويقضي أشغال الناس ونال من جهته من المال مبلغاً كثيراً قال أبو الظاهر إسماعيل وكان يعرف ابن المطران ويأنس به: إن العجب والتكبر الذي كان يغلب على ابن المطران لم يكن على شيء منه في أوقات طلبه العلم وقال إنه كان يراه في الأوقات التي يشتغل فيها بالنحو في الجامع يأتي إذا تفرغ من دار السلطان وهو في ركبة حفلة وحواليه جماعة كثيرة من المماليك الترك وغيرهم فإذا قرب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب الذي يشتغل فيه في يده أو تحت إبطه ولم يترك أحداً من العلماء يصحبه ولا يزال ماشياً والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه فيسلم عليه ويقعد بين الجماعة وهو بكيس ولطف إلى أن يفرغ من القراءة ويعود إلى ما كان عليه ثم أنه أسلم فزوجه صلاح الدين إحدى حظايا داره وترقت حاله عند سلطانه إلى أن كاد يكون وزيراً وحصلت له أموال جمة من أمراء الدولة في حال مباشرته لهم في أمراضهم

وتنافسوا في العطاء له. وممن خدم صلاح الدين أيضاً بالطب أبو منصور النصراني وأبو النجم النصراني وأبو الفرج النصراني وخدم هذا الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين ثم صار أولاده خدمة أولاد الملك الأفضل. وخدم أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي بالطب الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين وكان يعتمد عليه وخدم أيضاً الأمير فارس الدين ميمون القصري. وكان عمران الإسرائيلي حظياً عند الملوك واعتمدوا عليه ونال من جهتهم الأموال الجسيمة والنعم التي تفوق الوصف ولم يخدم أحداً من الملوك في الصحبة ولا يقيد معهم في السفر وحرص به الملك العادل بأن يستخدمه في الصحبة فما فعل وكذلك غيره من الملوك. وكان موفق الدين يعقوب المسيحي خدم الملك المعظم عيسى وصار معه في الصحبة وكان حسن الاعتقاد فيه حتى انه كان يعتمد عليه في كثير من الآراء الطبية وغيرها فينتفع بها ويحمد عواقبها وقصد الملك المعظم أن يوليه بعض تدبير دولته والنظر في ذلك فما فعل واقتصر على مداومة صناعة الطب فقط وكان قد عرض للحكيم يعقوب في رجليه نقرس وكان يثور به في أوقات يألم بسببه وتعسر عليه الحركة فكان الملك المعظم يستصحبه في أسفاره معه في محفة ويفتقده ويكرمه غاية الإكرام وله منه الجامكية السنية والإحسان الوافر. وخدم صدقة السامري بالطب الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وبقي معه سنين كثيرة في الشرق وكان يحترمه غاية الاحترام ويكرمه كل الإكرام ويعتمد عليه وله منه الجامكية الوافرة والصلات المتواترة. وكان مهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري شمس الحكماء في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وخدم أيضاً لعز الدين فرخشاه بن شاهان شاه بن أيوب وخدم بعده لولده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه وحظي في أيامه من جهته من الأموال والنعم شيئاً كثيراً وكان يستشيره في أموره ويعتمد عليه في أحواله. هكذا كان عظماء الإسلام يعاملون أهل ذمتهم من نصراني ويهودي وسامري ومجوسي. يبوحون لهم بأسرارهم ويطلعونهم على خويصة أنفسهم ويوسدون إليهم مهمات أمورهم

ويأمنونهم على حرمهم وأرواحهم ويغدقون عليهم هباتهم وإحساناتهم ويرفعون منزلتهم ومكانتهم لا ينظرون في ذلك إلى نحلة ولا مذهب ولا يعتدون بمخالف ولا بموافق بل يتبدرون الكفاءات ويختارون الأصلح والأنسب وقد قابل أولئك المقربون ساداتهم بصنوف الأمانة وخدموهم فأحسنوا خدمتهم وقلما خان منهم إلا بعض أفراد فسدت فطرهم واختلت عقولهم وأحلامهم وضلوا عن سواء السبيل.

حكم وخواطر

حكم وخواطر من ترك شغله للوكلاء ضاع عليه النصف إذا ربح ودفع من ماله الضعف إذا خسر ما احتاج إنسان مداجاة أعدائه إلا من فسولة أصدقائه. كما لا ترجو صداقة الكذاب فلا ترج صداقة الجبان لأن الكذب والجبن أخوان أبوهما الضعف. أدلُّ الدلائل على حماقة المرء جمع الضدين على بغضه والصادق الحكيم يجمع الأضداد على حبه. أكثر ما تكون المواعظ كالخزف الصيني في البيوت تحفظ ولا تستعمل خمود الهمم عند اشتعال اللمم إنما آثر الناس العدو العاقل لا لأنه لا يضر بل لأنه أبلغ في الضرر وأخف في الألم فهو كالسيف الماضي يقطع ولا يؤلم أما العدو الجاهل فهو سيف كليل لا يقط الرقاب ولا يريح من العذاب لا يقد على احتمال رفعة الأدنياء إلا الفيلسوف الذي تساوت عنده الأشياء يظن الكريم قليل الأنانية والحال انه أشد حباً لنفسه حيث آثرها على المال، ويظن اللئيم محباً لذاته والحال أنه عدوٌّ نفسه إذ أسقطها في مساوئ الأعمال، وأن سموأل الوفاء أشد إثرة من كل إنكليزي على وجه الأرض لأنه سمح بحياة ابنه لأجل حياة اسمه. إذا حاف الإنسان غائلة عدو متكبر أنامه بمورفين التقريظ لا تظنن محالاً عداوة محب مهما اشتد كلفه ولا محبة عدو مهما تناهى شنانه فإن الزوجين يكونان جسماً واحداً ويقع بينهما الطلاق وإن في مخازن الغيوب ما لا يخطر على القلوب إن لم تلن دمامل الفت بمراهم المراحم لم ينجح فيها إلا المبضع الصارم لكن لا خير في عنف لم يتقدمه لطف يتقى الخراب الكبير بالاضطراب الصغير وكلاهما من البلاء كما يتقى المرض الثقيل بالتقليح الخفيف وكلاهما من العياء العقل بلا قلب نورٌ بلا حرارة لذة الخيال أقوى من لذة الواقع لذلك المجاز أوقع من الحقيقة القليل من الخبيث يفسد الكثير من الطيب كما أن المتر المكعب من الآجن يفسد ذوق مائة

مثله من العذب الفرات. قوة الإرادة من قوة الكهرباء لأنه متى امتلأت الإرادة جذبت المقاصد البعيدة بدون سلك ظاهر. إذا تلبدت غيوم الغموم لم ينشرها مثل تموجات الهواء، بألحان الغناء الطبيعة مثال، والشاعر مصور، وأحسن الشعراء توليداً، أجودهم للطبيعة تقليداً. يكاد الشعراء يكونون صوفية لأن المعنى واحد والصور مختلفات كما أن الوجود واحد والتعدد للجهات من دلائل أن الحياة خيال لذة الإنسان بالأماني وأن علمها كواذب، ولهوه بالتصورات ولو كانت محالات، وبكاؤه بالدموع في قراء قصصٍ موضوع لا تخالن المستغرق في فن قاصر نظره عليه أبصر به من سواه ممن ينظر في متعدد الأمور لأن تنوع الموضوعات في ذهن الإنسان يوسع دائرة العقل ويسدد مرامي الحكم. ينبغي أن تدقق في اختيار صديقك كما تدقق في اختيار امرأتك إذ كما يجب للناس أن يتخيروا لنطفهم كذلك يجب أن يتخيروا لمروءاتهم خير للمرء أن يكون خصياً من أن يلد عاقاً عصياً لا يبرد على الأكباد شيء كزكاء ثمراتها التقبيل ضريبة الحسن، والمشورة ضريبة الذكاء، والجود ضريبة اليسار، والنجدة ضريبة البأس، ولا يمنع الضرائب إلا العاصي على الله والناس إذا أوصيت بامرئ ولم يرجع إليك فاعلم أن حاجته قد انقضت لأن أكثر المراجعة يقع استنجازاً للحاجة ونادراً يقع شكراً على النعمة كذب الكبير يسمى سياسة يستدل بسيادة الغرباء في بلاد على انحلال العصبية أكثر مما يستدل بها على الأخلاق الرضية المملكة جسم والأجنبي ميكروب ولا يرعى الميكروب من الجسم إلا مواطن الضعف. قلوب العشاق أقدم من تلغراف ماركوني العصر الجديد هو عصر الحديد والغناء الأقوى بالغثاء الأحوى (الفحم الحجري)

لو ردّ الناس كلام الكذابين بحذافيره لالتزموا الصدق وإنما روّج بضاعة الإفك أنه مهما اشتهر به الإنسان فلا يزال يلصق منه بالأذهان. خير لمن لم يصب طهور العلم أن يتيمم بالتقليد ما أجد العائلة بنقطة كم وجه أبيض منه بلا أزرق وفرع أسود منه موت أحمر أكثر الناس استعداداً لعداوتك من قام من تحت سلطتك لأنه يريد أن يقوم بقدر ما نام ولأن سواد الليالي متعادل مع بياض الأيام. قد لا يكون الإمام تقياً وتصح الصلاة إذا راعت الجماعة وشرها وقد لا يكون الوالي عادلاً وتمشي العدالة إذا عرفت الرعية قوانينها. الحسد نار في الفؤاد يبردها بعضهم بالتنقص ويلقي عليه اسم الانتقاد الوالي الظالم خائن للسلطان في أمانته فجزاؤه جزاء الخائنين جهنم بالعز أطيب منزل أبلغ بيت إلا في مقام الهوى قد تذهب الحقوق ضحية الخلابة وقد تأكل المتاع نار الذرابة وقد تختفي الحقائق بين هدرات الشقائق ولكن ذو البصر يميز بين الغث والسمين ودريفوس يتبرأ ولو بعد سنين. من كان مرمى نقده الإصلاح العام لم يخف ذلك من أسلوبه والناس أكيس من أن لا يفرقوا بين الحاسد والناصح احذر من هو دونك في العداوة أكثر من حذرك ممن هو كفؤك لأن الكفؤ يأنف أن يقاتلك إلا بسلاحك ولا يأخذك غيلة أما الدون فإنه يأخذك كيفما استطاع ولا يرى في ذلك غضاضة كانت الفتوحات أولاً بالسيف فصارت اليوم بالدين فهي لا تزال بين الأحمرين لا تجتاز عقبة بدون جهد سواء النازل فيها والطالع متى ثارت القبائل وهاج هائج التعصب على الأجانب فاعلم أن في تلك الجهة معدناً أعجب المهندسين أو أن شركة تألف لاستثمار بعض الأرضين أجدر المصابين بالشماتة قومٌ لم يزالوا يتحاملون على ولاتهم العقلاء حتى ابتلاهم الله بولاية المجانين إذا اهتدى الغول إلى معارف الإفرنج فالصين قد صين

لابد من يوم أسود بين الأصفر والأبيض السياسة في أيامنا هي فوق الديانة لأنه إذا تعارض العقل والنقل أول النقل حتى يطابق العقل أما السياسة فلا تقبل التأويل أياً كان مصادمها بيروت شكيب أرسلان

العالم شعر

العالم شعر قرأت وما غير الطبيعة من سفر ... صحائف تحوي كل فن من الشعر أرى غرر الأشعار تبدو نضيدةً ... على صفحات الكون سطراً على سطر وما حادثات الدهر إلا قصائد ... يفوه بها للسامعين فم الدهر وما المرء إلا بيت شعر عروضه ... مصائب لكن ضربه حفرة القبر تنظّمنا الأيام شعراً وإنما ... ترد المنايا ما نظمن إلى النثر فمنّا طويل مسهب بحر عمره ... ومنّا قصير البحر مختصر العمر وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا ... وذاك هجاء صيغ من منطق هُجر * * * ورب نيام في المقابر زرتهم ... بمنهلّ دمع لا ينهنه بالزجر وقفت على الأجداث وقفة عاشق ... بقفراء يدعو دراس الطلل القفر فما سال فيض الدمع حتى قرنته ... إلى زفرات قد تصاعدن من صدري أسكان بطن الأرض هلا ذكرتم ... عهوداً مضت منكم وأنتم على الظهر رضيتم بأكفان البلى حللاً لكم ... وكنتم أولي الديباج والحلل الحمر وقد كنتم تؤذي الحشايا جنوبكم ... فكيف رقدتم والجنوب على العفر ألا يا قبوراً زرتها غير عارف ... بها ساكن الصحراء من ساكن القصر لقد حار فكري في ذويك وأنه ... ليحتار في مثوى ذويك أولو الفكر فقلت وللأجداث كفي مشيرة ... ألا إن هذا الشعر من أفجع الشعر * * * وليل غُدا في الجناحين بتّه ... أسامر في ظلمائه واقع النسر وأقلع من سفن الخيال مراسياً ... فتجري من الظلماء في لجج خضر أرى القبة الزرقاء فوقي كأنها ... رواق من الديباج رصّع بالدر ولولا خروق في الدجى من نجومه ... قبضت على الظلماء بالأنمل العشر خليلي ما أبهى وأبهج في الرؤى ... نجوماً بأجواز الدجى لم تزل تسري إذا ما نجوم الغرب ليلاً تغورت ... بدت أنجم في الشرق أخرى على الإثر تجولت من حسن الكواكب في الدجى ... وقبح ظلام الليل في العرف والنكر

إلى أن رأيت الليل ولت جنوده ... على الدعم يقفو أثرها الصبح بالشقر فيا لك من ليل قرأت بوجهه ... نظيم البها في نثر أنجمه الزُّهر وقلت وطرفي شاخص لنجومه ... ألا إن هذا الشعر من أحسن الشعر * * * ويوم به استيقظت من هجعة الكرى ... وقد قدَّ درع الليل صمصامة الفجر فأطربني والديك مشجٍ صياحه ... ترنم عصفور يزقزق في وكر ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها ... هبوب نسيم سَجْسَج طيّب النشر فقمت وقام الناس كلٌّ لشأنه ... كأنّا حجيج البيت في ساعة النفر وقد طلعت شمس النهار كأنها ... مليك من الأضواء في عسكر مجر بدت من وراء الأفق ترفل للعلى ... رويداً رويداً في غلائلها الحمر غدت ترسل الأنوار حتى كأنها ... تسيل على وجه الثرى ذائب التبر إلى أن جلت في نورها رونق الضحى ... صقيلاً وفي بحر الفضاء غدت تجري وأهدت حياة في الشعاع جديدة ... إلى حيوان الأرض والنبت والزهر فقلت مشيراً نحوها بحفاوة ... ألا إن هذا الشعر من أبدع الشعر * * * وبيضة خدر أن دعت نازح الهوى ... أجاب ألا لبيكِ يا بيضة الخدر من اللاء يملكن القلوب بكلمة ... ويحيين ميت الوجد بالنظر الشزر تهادت تريني البدر محدقةً بها ... أوانس أحداق الكواكب بالبدر قلله ما قد هجن لي من صبابة ... ألف بها طيّ الضلوع على الجمر تصافح إحداهن في المشي ترابها ... فنحر إلى نحر وخصر إلى خصر مررت وقد أقصرت خطوي تأدباً ... وأجمعت أمري في محافظة الصبر فطأطأنَ للتسليم منهن أرؤسا ... عليها أكاليل ضفرن من الشعر فألقيت كفي فوق صدري مسلّما ... وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر وأرسلت قلبي خلفهن مشيّعا ... فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري وقلت وكفي نحوهن مشيرة ... ألا أن هذا الشعر من أجل الشعر

* * * ومائدة نسْجُ الدمقس غطاؤها ... بمجلس شبان هم أنجم العصر رقى من أعاليها الفنغراف منبراً ... محاطاً بأصحاب غطارفة غُر وفي وسط النادي سراج منور ... فتسحبه بدراً وهم هالة البدر فراح بإذن العلم يُنطق مقولاً ... عرفنا به أن البيان من السحر فطوراً خطيباً يحزن القلب وعظه ... وطوراً يسرّ السمع بالعزف والزمر يفوه فصيحاً باللُّغا وهو أبكم ... ويسمع ألحان الغنا وهو ذو وقر أمين أبى التدليس في القول حاكياً ... فتسمعه يروي الحديث كما يجري تراه إذا لقنته القول حافظاً ... تمر الليالي وهو منه على ذُكر فيا لك من صنع به كل عاقل ... أقر لآديسون بالفضل والفخر فقلت وقد تمت شقائق هدره ... ألا إن هذا الشعر من أعجب الشعر * * * وأصيد مأثور المكارم في الورى ... يريك إذا يلقاك وجه فتى حر يروح ويغدو في طيالسة الغنى ... ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر تخونه ريب الزمان فأولعت ... بأخلاقها ديباجتيه يد الفقر فأصبح في طرق التصعلك حائراً ... يجول من الإملاق في سَمَلٍ طمر كأن لم يرح في موكب العز راكباً ... عتاق المذاكي مالك النهى والأمر ولم تزدحم صيد الرجال ببابه ... ولم يغمر العافين بالنائل الغمر فظلَّ كئيب النفس ينظر للغنى ... بعين مقلّ كان في عيشة المثري إلى أن قضى في علة العدم نحبه ... فجهزه من مالهم طالبو الأجر فرحتُ ولم يحفل بتشييع نعشه ... أشيعه في حامليه إلى القبر وقلت وأيدي الناس تحثو ترابه ... ألا أن هذا الشعر من أحزن الشعر * * * ونائحة تبكي الغداة وحيدها ... بشجو وقد نالته ظلماً يد القهر عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم ... عليه قضى بطلاً بها وهو لا يدري

فويل له من حاكم صُبَّ قلبه ... من الجور مطبوعاً على قالب الغدر من الروم أما وجهه فمشوّه ... وقاح وأما قلبه فمن الصخر أضرَّ بعف الذيل حتى أمضَّه ... ولم يلتفت منه إلى واضح العذر تخطفه في مخلب الجور غيلةً ... فزجًّ به من مظلم السجن في القعر تنوء به الأقياد إن رام نهضة ... فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري تناديه والسجان يكثر زجرها ... عجوز له من خلف عالية الجُدْر بُنيَّ أظن السجن مسَّك ضره ... بُنيَّ بنفسي حلَّ ما بك من ضر بنيَّ استعن بالصبر ما أنت جانياً ... وهل يخذل الله البريء من الوزر فجئت أعاطيها العزاء وادمعي ... كأدمعها تنهلّ مني على النحر وقلت وقد جاشت غوارب عبرتي ... ألا إن هذا الشعر من أقتل الشعر بغداد معروف الرصافي

الشرق في الغرب

الشرق في الغرب من مقالة للمسيو لوسين بوفا في مجلة العالم الإسلامي عني أهل المجر وهم من أصل آسياوي وبلادهم على أبواب الشرق بالمباحث الشرقية عناية كبرى على ما هو مأثور عنهم من التوفر على خدمة العلم. ومازالوا منذ قرون كثيرة جيران شعب مسلم يتحدون معه في الأصل وإن اختلفوا في الفروع ويتكلمون لغة تكاد تشبه لغته ولذلك رأوا من الواجب عليهم أن يتمحضوا لدراسة الموضوعات الإسلامية. قام منذ سبعين سنة رجل عالم غيور منهم اسمه كوسما كوروس فزار آسيا ليبحث فيها عن أصل الأمة المجرية. وتاريخ حياة هذا الرجل يشبه تاريخ أرمنيوس فمبري في كثير من أدواره. لم ير كوروس حرجاً في دخول دير للبوذيين في بلاد التُّبَّت بضفة كاهن رجاء الوقوف على أحوال شعوب آسيا الوسطى ولم يتحرج من الأخذ عن علماء بوذيين. ثم قام فمبري الذي طاف آسيا الوسطى لابساً ثياب درويش والأستاذ غولدسير الذي طلب العلم في الأزهر. وكان من أعمال هؤلاء الرجال أكبر مجد لأمتهم في خلال القرن التاسع عشر. وما برح علماء المجر يقصدون الهند الواحد تلو الآخر يبحثون في علومها وتاريخها وأديانها ومنهم اليوم أورل ستين نزيل آسيا الوسطى الذي عرفت الحكومة الإنكليزية أن تنتفع من مباحثه في شماليا لهند وبلوجستان وأتى بفوائد جمة. ومما لا مشاحّة فيه أن رؤساء هذه المباحث اليوم في بلاد المجر هما الأستاذان فمبري وغولدسير من أساتذة كلية بودابست وقد اختص الأول بتعلم اللغة التركية حتى أتقنها إتقانه للغته وخدمها أجل خدمة وانصرف الثاني إلى دراسة العربية واللغات السامية. ولد فمبري سنة 1831 أو 1832 من أسرة يهودية فقيرة في بلاد المجر في قرية سان جيورجين وبعد أن تلقن مبادئ التعليم في قريته أخذ في تعلم العبرية والدين ثم انتقل إلى مدرسة برتستانتية فتعلم فيها اللغة المجرية واللاتينية ومنها دخل مدرسة أخرى رومية ثم مدرسة كاثوليكية. ولما أتم دروسه كان قد أتى على آخر ما يملك من الدراهم فاضطرته الحال إلى أن يعلم أطفالاً براتب 150 فلورينياً عند أسرة إسرائيلية في بلدة مارينتال وانتقل بعد إلى التدريس براتب أكثر في بيت أسرة في قرية كوتيفو من أعمال سلافونيا فترك مقامه في هذه القرية أجمل أثر في نفسه لأنه تجلى له فيها السبيل يتحتم عليه سلوكه في حياته العلمية. ففيها

عقد العزم على أن يكون عالماً باللغات وفيها شرع لأول أمره بتعلم التركية وبالنظر في المباحث التي أطارت شهرته في العلم وفيها درس التركية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية والدانيمريكية والسويدية. وإذ رأى أن ينصرف إلى البحث في أحوال الشرق نزل عاصمة فينا يستنصح العالم دي هامير الذي نشطه على ما هو آخذ نفسه في سبيله فذهب إلى بودابست يتعلم فيها العربية والفارسية. وقضت عليه الحاجة في هذه المدينة أيضاً أن يكون مؤَدِباً ليسد بما يناله من الجر بعض حاجته ولما كانت نفسه تنزع به إلى رؤية الشرق لم يعتم عندما اقتصد 120 فلوريناً أن سافر إلى الأستانة. وصف فمبري هذه العاصمة عقيب حرب القريم سنة 1857 فقال إن شُذّاذ الآفاق كانوا ينهالون عليها من كل صوب وأوب والعثمانيون لا يكادون يعبئون بكل وارد عليهم بيد أنهم تلقوا المترجَم بالعطف وعاملوه بالإحسان فكان لما بلغ الأستانة لا يملك إلا دريهمات وصادف صعوبات جمة لأول أمره لكنه تمكن من التغلب عليها بمساعدة أحد مواطنيه ممن انخرطوا في خدمة الدولة العثمانية وأعني به القائد كمتي الذي دُعي بعد باسم إسماعيل باشا فسعى له هذا بوظيفة معلم عند أسرة في بك أوغلي ومن ذاك الحين دخل على ناظر الخارجي رفعت باشا بصفة أستاذ وأخذ فمبري يتشبه بالعثمانيين في أطواره ومناحيه عملاً بنصائح وطنيه إسماعيل باشا ومجاراةً له فدعا نفسه رشيد أفندي وأخذ يتعرف إلى أهل الطبقة العليا ي الأستانة على ذاك العهد ويختلط بهم ويعاشرهم. وفي خلال ذلك أيضاً بدأ يشتغل في الصحافة فعين مراسلاً لإحدى الجرائد الألمانية الكبرى. أصبح فمبري أفندياً بحتاً لا ينقص عن أدباء الأستانة في معرفة اللغة التركية وآدابها. ولكنه لم يقنع بما حصل له من ذلك بل طمحت به نفسه إلى زيارة آسيا الوسطى وهي البلاد التي قام منها الأتراك وهاجموا أوروبا ليتيسر له أن يسمع اللغة التركية الأصلية في موطنها تلك اللغة التي لطُفَت فكانت منها اللغة العثمانية اليوم. وكانت الصعوبات التي تحول دون هذه الأمنية كثيرة إلا أن الأستاذ فمبري لم يبال بالمصاعب. وغادر الأستانة بمساعدة المجمع العلمي الذي عينه عضواً مراسلاً ليرحل رحلة كانت فيها شهرته وبعد صيته. فاكتسى ثياب مسلم واجتاز آسيا الصغرى ودخل

فارس فعره العامة من ثيابه بأنه سني وراحوا يطيلون إليه يد الأذى. وبعد شق النفس بلغ طهران ونال من ناظر خارجيتها إذ ذاك المرزا سيد خان جوازاً بمتابعة سيره. ذكر المترجم به ما لقيه من رحلته هذه من المتاعب فإنه طاف بلاد فارس متنكراً في ثياب درويش وكاد يكشف أمره ويعرف أنه ليس من أهل الإسلام ولكنه نجا ولم تدرك حقيقته. ثم التحق بجماعة من الحجاج فرافقهم إلى خيوه وبخارى ولقي من سفره هذا نصباً لم يكن أقل مما لقيه في مبدأ رحلته وبعد سنة عاد إلى طهران فطلبته روسيا أن يكون موظفاً عندها فأبى وعاد إلى بودابست سنة 1864. وبعد أن قضى فيها مدة طُلب إلى إنكلترا بإلحاح شديد فذهب إليها واستقبل فيها بالحفاوة. وقد نشر فيها رحلته هذه بالإنكليزية فلم تلبث أن ترجمت إلى لغات أوروبا واشتهر أمرها وكانت الحكومة الإنكليزية تود كثيراً أن تجعل في جملة رجالها رجلاً كالأستاذ فمبري يعرف الشرق معرفة حقيقية ليكون منه لها أحسن خدمة ولكن العالم المجري آثر أن يعود إلى وطنه على شدة حبه لإنكلترا. وعند عودته عين أستاذاً لكلية بودابست فكان فيها أول أستاذ غير كاثوليكي. وهنا انتهى تاريخ جهاد هذا الرجل وقد دام ثلاثاً وثلاثين سنة من حياته. وذكر فمبري في الفصول الأخيرة من رحلته كيف زار إنكلترا وفرنسا ولقي فيهما الملوك والأمراء وأعاظم العلماء ورأى منهم الحفاوة وأورد في فلصين اجتماعه بالسلطان عبد الحميد خان صديقه القديم والتقاءه بشاهي الفرس الأخيرين. وما أحلى الصفحة التي ذكر فيها كيفية اجتماع ناصر الدين شاه به لما اجتاز هذا مدينة بودابست في رحلته إلى أوروبا ودهشته لما رأى في المجمع العلمي المجري ذاك الدرويش الذي كان لقيه في طهران منذ بضعة عقود من السنين. كتب فمبري في العلم والسياسة وكل ما خطته يمينه نافع خطير. فقد ابتدأ يعمل في الصحافة بعد بلوغه الأستانة بقليل من الزمن ومن ذاك العهد لم يفتأ يؤازر في عدة مجلات إنكليزية وأمريكية وألمانية وفرنسية. والسنُّ لم توقفه عن نشاطه ولا عاقت حركته عن الانبعاث فإنا نراه إلى اليوم يتناول الموضوعات المختلفة بالهمة المعهودة فيه فبينا تراه يبحث في اللغات وعلمها إذا هو يبحث في الآداب فأصول الشعوب فالتاريخ فالسياسة

فالأحوال الاجتماعية. أما أغناس عولدسير المشار إليه فهو من أعاظم العلماء بالعربية في قارة أوروبا. ولد سنة 1850 فتخرج بأرمنيوس فمبري الموما إليه ثم قضى أربع سنين في كليات برلين ولبزيك وليد. وفي الثالثة والعشرين من عمره عهدت إليه حكومته بمهمة فسافر إلى سورية ومصر وقيد نفسه في طلبة الجماع الأزهر ولما عاد إلى بلاده عين أستاذاً في كلية بودابست وعضواً في المجمع العلمي المجري رصيفاً لأستاذه. ولغولدسير القدح المعلَّى في علم أصول اللغات السامية وأصل اللغة العربية خاصة وهو بحر طامٍ في تاريخ الإسلام. وهنا عدد الكاتب بعض أعمال هذين الرجلين في العلم وذكر جانباً من مصنفاتهما وعقب عليهما بذكر بعض كبار علماء المشرقيات من المجر ومنهم من خص بتعلم التركية ومنهم الأخصائيون بالعربية وكلهم يخدمون الآداب الشرقية حق الخدمة. ففي قسم الفلسفة من كلية بودابست صفان للغة التركية وآدابها ولأصل اللغة الفارسية وفي القسم الديني منها صف للعربية والسريانية والكلدانية. وليس لتعليم اللغات الشرقية في بلاد النمسا والمجر غير كليتي بودابست وفيينا. وللأبحاث العلمية في المجر موارد غنية تساعد القائمين بها على البحث والتنقيب. منها المجمع العلمي المجري الذي جعل في زمرة أعضائه أناساً من المستشرقين أمثال فمبري وغولدسير وزيشي. ومنها جمعية علم خصوصيات الشعوب المجرية التي أنشأت فرعاً شرقياً خدم الأبحاث الإسلامية أجلَّ خدمة سواءٌ كان بعلم أحوال الأمم وأصولهم وأخلاقهم وتفرقهم (ايتنولوجيا وايتنوغرافيا) أو بعلم اللغات والأدب والآثار والتاريخ والجغرافيا. وفي سنة 1904 أنشأ المجمع الدولي الآسياوي جمعية مجرية للبحث التاريخ والأثري واللغوي وأصول الأمم في آسيا الوسطى والشرق الأقصى. وهذه الجمعية تبحث بحثاً علمياً في بلاد الأورال وتتفرغ ما عدا البحث في أخلاق الأمم وتفرقهم للأبحاث المتعلقة بأمم الأورال الالتاييكية كما تبحث في حالة البلاد التي ينزلها غير هؤلاء الشعوب وتعيين هذه الجمعية فئة من علماء المجر تكون لهم صلة مع سائر الجمعيات والعلماء من الأمم الغربية وتنفق على من يرحل الرحلات العلمية وتتفق مع سائرا لجمعيات العلمية في المجر ليكون العلم بينهن مشتركاً ولاسيما فيما يتعلق بالآثار والعاديات. وتوزع الإعانة السنوية التي

تعطيها نظارة الأديان والمعارف في المجر ثلاثة أثلاث. ثلث على المجلة التي هي لسان حال الجمعية والتي تنشر أعمال الأعضاء ومباحثهم. والثلثان الآخران يوزعان بالسوية على الفروع التي تريد الجمعية مساعدتها ولاسيما فرع اللغة والبحث في أصول الشعوب والآثار والتاريخ. وتعين نظارة الأديان والمعارف هؤلاء الأعضاء إلى أربع سنين فإذا أتموا هذه المدة يقدمون لائحة بمن يرشحونهم بعدهم لتقر النظارة عليهم وقد انتخب للرئاسة هذه المرة الأستاذ فمبري. وفي جانب هذه الجمعيات العلمية الصرفة جمعيات اقتصادية لا تقل عنها فائدة. فإن المتحف التجاري الإمبراطوري المجري في بودابست أسس سنة 1887 وهو من المباني الفخيمة ويعد رسمياً تجارياً ونصب له وكلاء في جميع أرجاء بلاد البلقان كما له وكلاء في الإسكندرية وتونس. وقد أسس هذا المتحف فأدرك لأول عهد تأسيسه ضرورة التعليم الابتدائي لإعداد بعض النشء للتجارة مع الشرق فأنشأ سنة 1891 صفاً للتجارة الشرقية وهو الذي أصبح اليوم مجمعاً علمياً للتجارة ثم أعيد تنظيمه سنة 1898 - 1899 فنتجت منه أحسن النتائج. أما التعليم ال1ي شرعه هذا المجمع العلمي فيتناول عدة أبحاث ومعارف يدرسها المتعلم في سنتين وهي عملية حقيقية لا نظرية خيالية. وأهمها تعلم اللغات الشرقية ولغات بلاد البلقان خاصة والعلوم التجارية والقنصلية وعدة مواد أخرى. وعلى كل طالب أن يتعلم سنتين اللغات الشرقية وهي الرومانية والصربية والبلغارية والتركية والرومية الحديثة والعربية العامية والروسية. وأن يتعلم المراسلات التجارية والكلمات الاصطلاحية في التجارة والقضاء وأن يتعلم من اللغات الأوروبية الإيطالية والفرنسية ومن العلوم جغرافية الشرق ولاسيما بلاد البلقان وآسيا الصغرى وعلم أصول أممها وأخلاقهم وعلم التجارة والجمارك والحقوق العمومية والإدارية وقوانين التجارة وطريقة الاعتمادات. وهناك صفوف لتعلمي اللغات الشرقية تقام في المساء. وقد خصص المجمع العلمي مبلغاً من المال ليستعين به بعضهم على التعلم وحذا حذوه في هذا السبيل بعض أرباب الخير وغيرهم. ثم رأت هذه الجمعيات العلمية أنه لا غنية لها عن صحيفة تكون لسان حالها وسجل أبحاثها وتحقيقاتها فأنشأت مجلة شرقية تكتب بجميع لغات أوروبا وتباع بثمن بخس

تُعنى بالمباحث الأورالية الالتاييكية سمتها كليتي زميل وبعلم خصوصيات الشعوب وتنشر مقالات عن الأمم الشرقية النازلة بين نهري فولغا وأورال من الجنس الفينو المجري وأبحاث في العنصر التركي وتعنى عناية خاصة بنشر التقاليد القديمة أو العامية وتبحث في صلات الأمم الأورالية الالتاييكية بعضها مع بعض أو مع غيرها وتبحث في أحوال الشعوب الآسياوية ولاسيما في أصول التتار والأمم القفقاسية والإيرانية والصقلبية (السلافية) وغيرها. وقد قال العالمان اللذان عُنيا بإدارة شؤون هذه المجلة أن المجر هم زعماء العناصر الأورالية والالتاييكية وممثلو تلك الحضارة نزولا بلادهم منذ ألف سنة وظلوا محتفظين بلغتهم وهي أشبه بجزيرة خضراء في الشرق وسط بحر محيط مؤلف من سيل الشعوب الجرمانية والصقلبية على حين أن أمماً كثيرة تماثلهم كالبلغار والبشناق والخزر والكومان لم يتركوا أثراً من تاريخهم يذكر وبادت مملكتا الهونس والأفار وذهبتا ذهاب أمس الدابر. وختم الكاتب هذا الفصل بتعداد ما كتبه أولئك الأعلام من الأبحاث الممتعة وشاركهم في وضعه زمرة من علماء المشرقيات من الألمان والفرنسيس والإنكليز والروس والترك وكان للمباحث الإسلامية ولاسيما التركية منها شأن عظيم في سجل أعمالهم. دمعة بعد جناية آه حتى مَ يظل الحق غريباً فيم عاهدكِ أيتها الجمعية البشرية، إلى مَ تبقى التقية - كالجندي الجاهل العنيد - مسيطرة على الصلاح بين أفرادك، ولما يُخرج على الصدق أن يخرج بموكبه وتاجه في هذا العالم كما يحب جلاله؟ متى يا تُرى تنشط هذه الحقيقة من عقالها الأزلي وهل من أماني هذه الأرض أن ترى كهربائية الصلاح مضيئة في آفاقها قبل أن تسود الشمس؟ آه، ما أوحش الإنسان وما أقساه: يضم بين ضلوعه عواطف ملؤها الحنان والحب والحقيقة والفضيلة والعدل، وضميراً هو هو معيار الإنصاف في هذه الحياة، وشعوراً هو السيّال الأثيري الذي ملأ ذرات كل شيءٍ، نعم لقد ضمّ بين ضلوعه هذه المزايا الفاضلة وهو ربها وهو بها العالم الأصغر والنسخة الكبرى لهذه الكائنات، ولكن أين هذه القوى الملكية، أليست معه يوم يفعل فظائع الشيطان، أما هي بين ضلوعه عندما يقدم على الشر والباطل؟. . .

أجل، هي لا تزال فيه، ولكنها يا للأسف والخسران قد صدأت وتولتها رطوبة البعد عن الحق وسطا عليها غُبار الرذيلة. . . كم وكم أيهذا الصلاح يبسم في العالم الإنساني القاتم بريقٌ ضئيل من ذُبالتك المعرضة لجميع الأهواء، من كل الأنحاء، فأريد أن أتبعها، فلا أجدني إلا بين الأشواك، في جانب هوّة مدهشة، يظهر منها التنين وجهنم والغول وكل خيالات الوهم ومخوفات الباطل. . . كم وكم أيهذي الحقيقة عاهدت عواطفي وضميري وكل شعوري على إخائك، على الصدق لك وعلى إهداء حياتي العزيزة علي إليك، نعم إليك فقط، إليك وحدكِ، فيضطرني هذا الوسط الأسود إلى جناية لا محيص عنها، فأفعلها وأنا شاعر باجتياح روحي إلى البكاء، فأرجع إلى نفسي، وأبكي، ثم أبكي، ثم أبكي، حتى أروي ظمئي من هذا الاختياج في حين أني عارف تمام المعرفة أن الجناية البشرية لا تبررها قطرات الدمع. وكم وكم أيهذا العدل من دمعة قطرت بيني وبين نفسي من عينيّ بعد جناية، بعد حادثة مشؤومة، فذكرت عند ذلك أنني لا أزال إنساناً وحشياً قاسياً في هذه الحياة. . . القسطنطينية محب الدين الخطيب

صحف منسية

صحف منسية قصيدة لأبي العلاء المعري أستغفر الله في أمني وأوجالي ... من غفلتي وتوالي سوء أعمال قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في ... مشاة وفدٍ ولا ركبان أجمال فقلت إني ضرير لم يحجَّ أبي ... ولا ابن عمي ولم يعرف منى خالي وحجَّ عنهم قضاءً بعد ما ارتحلوا ... قومٌ سيقضون عني بعد ترجالي فإن يفوزوا بغفران أفُز معهم ... أولا فإني بنار مثلهم صالي ولا أروم نعيماً لا يكون لهم ... فيه نصيب وهم أهلي وأشكالي فهل أسرُّ إذا حُمَّت محاسبتي ... أم يقتضي الحكم تغتابي وتسآلي من لي برضوان أدعوه فيرحمني ... ولا أنادي مع الكفار أمثالي باتوا وحتفي أمانيهم مصورةً ... وبتُّ لم يخطروا مني على بال وفوّقوا لي سهاماً من سهامهم ... فأصبحت وُقّعاً عني بأميال فما ظنوك إذ جندي ملائكة ... وجندهم بين طواف وبقال لقيتهم بعصا موسى التي منعت ... فرعون ملكاً ونجت آل أسرال أقيم صيتي وصوم الدهر آلفه ... وأدمن الذكر إبكاراً بآصال عيدين أفطر في عامي إذا حضرا ... عيد الأضاحي يقفو عيد شوال إذا تنافست الجهال في حال ... رأيتني في خسيس القطن سربالي لا آكل الحيوان الدهر مأثرةً ... أخاف من سوء أعمالي وآمالي وأعبد الله لا أرجو مثوبته ... لكن تعبد إكرام وإجلال أصون ديني عن جُعل أؤمله ... إذا تعبد أقوام باجعال

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات مفردات الراغب قال الإمام الرازي إن الراغب الأصفهاني من أئمة السنة وقد قرنه بالغزالي وهو من أهل المئة الخامسة. ولم نعثر له على ترجمة حافلة على أن ما عرف من كتبه كافٍ في الدلالة على واسع علمه وكثرة تحقيقه فمن كتبه المطبوعة الذريعة إلى مكارم الشريعة وتفصيل النشأتين وهذا المفردات في غريب القرآن. طبع الكتاب الأخير وقد أعادت المطبعة الميمنية طبعه على نفقة أصحابها مصطفى أفندي الحلي وأخويه بكري أفندي وعيسى أفندي مصححاً بمعرفة الشيخ محمد الزهري الغمراوي على عدة نسخ بدار الكتب الخديوية وبعد أن تحرى أصوب الروايات في مظانها من الكتب اللغوية وضبط ألفاه بالشكل الكامل فجاء في 576 صفحة حرياً بطالب معاني الكتاب العزيز وألفاظه أن يقتنيه وألفاظ القرآن كما قال المؤلف: هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة وكالحثالة والتبين بالإضافة إلى لُبوب الحنطة. والكتاب يباع في مكتبة طابعيه بشارع التبليطة بالغورية وهو في اعتقادنا يغني الطالب عن الرجوع إلى التفاسير إذا أراد كشف المعاني من الألفاظ اللغوية فنثني على طابعيه بما هم أهله فإنهم أحيوا بمطبعتهم كثيراً من كتب السلف التي كان يعز وجودها وحبذا يوم يعيدون طبع جميع ما طبعوه ولاسيما الأمهات بالحروف الجديدة اللطيفة ليكون أدعى للإقبال وأحسن للمطالعين على كل حال. محاورات المصلح والمقلد هي مقالات نشرت في المجلد الثالث والرابع من مجلة المنار الإسلامية الغراء ويليها فتاوي نشرت في المجلد السادس منه موضوعها الاجتهاد والتقليد وكليات الدين الإسلامي لمنشئها السيد محمد رشيد رضا المعروف بعلمه وعمله وقد شرح فيها بأسلوبه الرصين المحكم كثيراً من أدواء المسلمين ولاسيما المقلدين منهم والجامدين وزيف ترهات الممخرقين ومعتقدات الحشوية المبطلين فأفاد وأجاد أثابه الله وهي تقع في 140 صفحة مطبوعة طبعاً

نظيفاً وتطلب من مكتبة المنار بخمسة قروش فنحث كل طالب ومتعلم على اقتنائها. الهداية إلى فرائض القلوب هو الباب الأول من كتاب التوحيد تأليف الرئيس بَحية بن يوسف اليهودي الأندلسي نشره الدكتور إبراهيم سالم المقدسي وقد أراد أن يجعله تمهيداً لتأليف تام من كتاب الهداية للدائن (أي قاضي اليهود) الأندلسي المشهور بابن بحية. ولقد كان لليهود شأن في الفلسفة العربية يعرفه حق معرفته كل من درس الحضارة الإسلامية. فللميموني كتاب دلالة الحائرين ولسعدية كتاب الإيمانات والاعتقادات ولسليمان بن جبيرول كتاب إصلاح الأخلاق وقد طبعت أكثر مصنفاتهم في أوروبا وترجم أكثرها إلى الفرنسية أو الألمانية أما ابن بحية مؤلف هذا الكتاب فلم يترجم حتى الآن إلى لغة من لغات الغرب ولذلك كان في عمل الدكتور المشار إليه أحسن مقدمة تدل على فضله. وإنا لنرجو أن يوفق إلى نشر ما ينوي تأليفه من مجاميع مسلسلة في فلاسفة اليهود الذين كتبوا بالعربية في القرون الوسطى على عهد ارتقاء الأندلس. ي. د فصول الحكماء هي رسالة في مئة صفحة صغيرة تأليف سماحة محمد أبي الهدى أفندي الصيادي جمع فيها تراجم حكماء اليونان والإسلام وشيئاً من حكمهم وعقب عليها بتراجم بعض مشايخ الطريق والتصوف وأورد شيئاً من إشارتهم وعباراتهم وقابل بينها وبين كلام الحكماء. مقامة الأمثال السائرة - طبع عبد القادر باشا الخضيري من بغداد هذه المقامات لمؤلفها الشيخ عبد الله السويدي البغدادي المتوفى سنة 1174 ضمنها الأمثال السائرة القديمة المولدة المعروفة على طريقة التسجيع والترصيع التي كانت مألوفة في عصره. وفي ذيلها مقامة للشيخ عبد الرحمن الأنصاري وهي مسجعة أيضاً.

سير العلم

سير العلم مضار الغبار حدث في منجم فحم ببلاد الإنكليز سنة 1844 أن التهب التهاباً شديداً فقضى على كثيرين من المعدّنين. وقد دعي عالمان للبحث في سبب هذا الالتهاب فذهبا إلى أنه ناتج من الغاز المتجمع على سطح الغبار في المنجم ونصحا بالتوقي من هذا الغبار فثبت أن الغبار المتراكم كيف كان حاله يخشى من التهابه ولاسيما غبار الدقيق والسناج (الشحار) والسكر والقطن وغيره من المواد التي يضر مسها كما يضر مسّ الديناميت. وكل معامل القطن التي لا تعنى بإزالة هذا الغبار من حيطانها يحترق ويلتهب إذا أصابته حرارة وكذلك مطاحن الدقيق والأمثلة على ذلك كثيرة كما روت المجلة الباريزية. وكانت بعض المعامل تكتفي برفع هذا الغبار وتروّحه وقد اخترع أحدهم آلة تفصل الغبار المتجمع وتقذفه بقوة شديدة إلى مقر هذه الآلة فتتكون منه مادة تستعمل في تغذية الماشية وأدخلت تحسينات كثيرة على هذه الآلة وأخذوا في أمريكا يجعلون استعمالها ضربة لازب على كل محل يتصاعد الغابر منه مخافة أن يعلق بها شيء من اللهيب عن بعد فتلتهب وتضر بالمكان والمكين. البناء في أمريكا أخذ القوم في نيويورك يمتدون في الهواء بمبانيهم فإنهم أقاموا فيها 19 مسكناً يكون مجموع ما فيها من الطبقات نيفاً وأربعمائة طبقة ويكثر نوع هذه البنايات في الغالب في جزيرة مانهاتان والبنايات ذات الست والثلاثين طبقة كثيرة جداً وتستعمل الأدوات الرافعة بقوة الماء أو الكهرباء لطلوع السكان ونزولهم وإذا دامت الحال على هذا المنوال في سكنى العلالي بل الأعالي فسيكون للحياة في أمريكا بعد حين شأن غير شأنها الحاضر فيقضي الرجل في مسكنه معظم ساعات نهاره لا يكلم الناس إلا بالتلفون ولا ينزل إلا إذا رأى حاجة ماسة لنزوله وقد ظهر أن الأعمال لم تتعطل بذلك عن سيرها وأنها ما دامت تتزايد. شقاء العلماء هربرت سبنسر هو أكبر عالم إنكليزي قام في القرن التاسع عشر وقد نشرت مفكراته عن حياته فإذا بها يصف نفسه قبل أن يموت بأشهر صورة تحزن ولكنها تعلّم. قال: إنه أصيب

في السنة الخامسة والثلاثين من عمره بضعف في قواه عقيب اشتغاله الأشغال العقلية الطويلة الصعبة ومذ ذاك أصيب بالأرق الدائم وفي السبعين من عمره لم يعد يستطيع أن يعمل سوى ساعة في النهار متقطعة يراوح بينها وبين أعمال أخرى فلا يعمل كل مرة أكثر من عشر دقائق. وقبل أن يموت بعشرين سنة عدل عن تناول طعامه في المدينة وأصبح إذا سمع الأنغام الموسيقية خمس دقائق وكانت من قبل تستهويه وتشوقه أو لعب بالنرد أو غيرها من الألعاب بضع دقائق يمرض أياماً وكاد لا يستطيع القراءة ولا يستطيع أن يمشي زيادة عن ثلثمائة متر ولا أن يتنزه أكثر من عشر دقائق في عربة ذات آلة مفرغة للهواء. ولما اهتدى إلى مذهب النشوء لم يكن يهنأ له بال إلا بوضعه وشرحه. وعاش وقلبه لا يعرف حباً غير حب الحقيقة. قال والعزوبة كانت بعد كل ذلك هي أليق بي بل هي أليق بالمرأة التي لا أعرفها والتي لم أتزوجها. قالت المجلة التي نروي عنها وهكذا حياة كبار الرجال وخصوصاً كبار العاملين المجاهدين منهم ما كانت قط عذبة المذاق. والمجد في الغالب لا ينال إلا إذا بذل فيه كل ما عزّ وهان. اللغة الإنكليزية اللغة الإنكليزية أكثر اللغات ألفاظاً فقد قدروا مؤخراً عدد ألفاظها بثلثمائة وخمسين ألف لفظة هذا وشكسبير الشاعر الإنكليزي لم يستعمل من هذه الألفاظ سوى ستة عشرة ألفاً وميلتون الشاعر المشهور أيضاً لم يؤثر عنه أنه استعمل أكثر من ثمانية آلاف لفظة. ويستخدم الإنكليزي المتوسط في تعليمه من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف كلمة ويتأتى لمن يعرف ألف لفظة أن يحسن التخلص باستعمالها في إنكلترا وهذا غريب. فلسفة الشرق كتب إنكليزي في إحدى المجلات الهندية الإنكليزية فصلاً في العلوم التي يتيسر للغرب أن يأخذها عن الشرق فقال إن العلوم الفلسفية ينبغي أن تؤخذ عن الشرق أولاً وفي الهند ميدان فسيح أكثر من كل بلاد شرقية سبقت لها حضارة قديمة لدرس أصول اللغات ومقارنتها والديانات ووضعها على محك التنظير وأن لها في الفلسفة القدح المعلى. فالمذاهب الهندية في الفلسفة لم تأخذ شيئاً عن أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس بولس بل إن حكماء الهند بحثوا منذ ألوف من السنين في المسائل الكبرى التي أزعجت الإنسانية كمسألة الوجود

المطلق والآخرة والروح والربوبية. فعلى من يودون أن ينصرفوا إلى دراسة علم النفس وعلم ما وراء الطبيعة أن لا يباشروا هذين العلمين إلا بعد أن يتمكنوا من الوقوف على بعض ما ذهب إليه قدماء حكماء الهند في هذا الموضوع. الطلاق في أمريكا يكثر شيوع الطلاق في الولايات المتحدة سنة عن سنة وإن لم ينظر القانون في حال الأولاد الذين يولدون من المطلقات وقد غبطت إحدى المجلات الأوروبية بلاد الأمريكان على قلة الطلاق بينهم على كثر ما يقال عن شيوعه بينهم فقالت إن حدوث مئتي ألف طلاق في سنة 1900 بأمريكا لا يعد شيئاً مذكوراً إذا قيس بأمة يبلغ عدداً نحو ثمانين مليوناً. مستقبل الاتوموبيل نشرت مجلة المجلات النيويوركية فصلاً في الأتوموبيل استندت فيه إلى ما تم له من الانتشار منذ اثنتي عشرة سنة في أمريكا فقالت أنه لم يكن فيها على ذاك العهد سوى خمسة اتوموبيلات ومنذ خمس سنين لم يكن في أمريكا إلا قليل من عجلات الأتوموبيل يقتنيها كبار المثرين للتسلية والبذخ ويقدر اليوم عدد الأتوموبيلات في أمريكا بمئة ألف أتوموبيل وقد صنع منها في السنة الماضية وحدها خمسة وعشرون ألفاً وأوصي لهذه السنة على خمسين ألفاً أخرى وهذا مما يدل على أن عجلات الأتوموبيل ستقضي على عجلات الخيول وخصوصاً متى أدخل على الأتوموبيل بعض الإصلاح. اكتشاف في سيلان - اكتشفت في جزيرة سيلان مصانع عظيمة فخيمة أقامها الملك العظيم بارا كراماباهو الذي شيد 1478 حوضاً لخزن مياه الأمطار ليستعملها الناس. وعثر في معبد كال فيهارا على ثلاثة تماثيل ضخمة للمعبود بوذا نُحتت في حجر الصوان على أجمل شكل واكتشفت كهوف حفظ فيها تاريخ سيلان قبل المسيح وعثر فيها على كتب بوذية كتبها الكهنة على أوراق النخيل ملتصقة بعضها إلى بعض وموضوعة في ظروف من حرير لتجمع في صناديق صغيرة من خشب جعلت في مقاصير. الحياة المادية كتب أحد رجال العلم والدين مذكرات عن الولايات المتحدة قال فيها أنها أصبحت جنة أرباب الصنائع والفنون وأهل العلم راجت فيها الآداب والفنون رواجاً لم يعهد له نظير

حتى أن الممثل أو المغني إذا طاف أمريكا يعود منها بثروة. فالعمل في هذه البلاد هو الحياة حقيقة أي أن كل عامل ينال حظه من سعة الرزق بقدر جده في أعماله وقد أصبح الذهب فيها الغاية الوحيدة التي يسعى إليها الناس. وبحق ما قال أحد الأمريكان: إننا نحسن العمل ولكننا لا نحسن العيش فإنا نرى الانتحار شائعاً بين أهل الطبقات الغنية أكثر من شيوعه بين أهل الطبقة الفقيرة. تلقيح الأرض رأى بعضهم منذ مدة أن يستعمل النيتراجين لإخصاب التربة وأمراعها. ثم أن أحد علماء الزراعة من الإنكليز اخترع في هذه الأيام اختراعاً آخر لتلقيح الأرض المجدبة خصوصاً إذا كانت رملية فجربت هذه المادة في عدة أصقاع من بريطانيا فأتت البقول قبل ثلاثة أسابيع من ميعادها وزاد محصولها خمسين في المائة ويكلف كل آكر (هو 40 آراً ونصف والآر مئة متر مربع) شليناً وحاداً فيأخذ الفلاح ثلاث رزم يكون في الأولى كمية من الأملاح المعدنية وفي الثانية ذرور وفي الثالثة فوسفات النشادر ويجعلها في إناء كبير يملأه ماء ويجعل مسافة 24 ساعة بين وضع كل رزمة ثم يجعل هذا المحلول مع البذور فتبتل بها أو يمزجها بتراب ويذرها على الأرض أو يرش بهاذ المحلول أديم الأرض المزروعة. النوام هو مرض النوم الذي شاع كثيراً في أفريقية الشرقية وهلك به نحو مئة ألف نسمة في بضع سنين وقد انتدب للنظر فيه الدكتور كوخ الألماني ونش الآن تقريره عنه فقال إنه حقن المصابين به بمادة الأتوكسيل المؤلفة من النشادر فظهر أنه يخفف بعض آلام المريض ويرجى أن يشفى به فإذا وفق الدكتور الباحث إلى تحقيق الأمنية من دوائه فيخفف عن ابن أفريقية بدوائه الجديد ما خففه عن ابن الغرب بدوائه للسل الرئوي. وقف على العلم وقف أحمد بك الشريف من أعيان طنطا مئة فدان من أجود أطيانه على المدرسة الجامعة المنوي إنشاؤها في مصر ويقدرون ثمنها بثلاثين ألف جنيه بارك الله به وبماله.

نفاضة الجراب

نفاضة الجراب فجائع البائسين 4 مضت أيام وسعيد يجتهد فوق طاقته بحيث قدم فحصين عن دروس صفين في آن واحد حتى بلغ الصف المنتهي ليقرب وصوله إلى المدارس العالية وظل مثابراً على خطته حتى خرج الأول من المدرسة ولم يترك جائزة لأحد من رفقائه في الصف فأدهش المعلمين والتلاميذ وأمّل الجميع بنجاحه في المستقبل وبعد ما نال الشهادة عزم على السفر واطلع الباشا على قصده فساعده على ما يريد ولم يتيسر له أن يختلي بجميلة ولكنه ودعها قائلاً أؤمل أن أوفق إلى مطلوبي وذهب إلى الأستانة تحف به الآمال وتشيعه الأحلام. حتى إذا بلغ دار السعادة أخذ يفكر في انتخاب مدرسة يتخرج فيها على النحو الذي يكون به في المستقبل جديراً بجميلة فلا تكبده ما لا يطيق من النفقات. فرأى أن دار المعلمين أحسن عائدة عليه لأن الأول في الصف فيها يقبض مشاهرةً ليرة عثمانية وكان يعتمد على نفسه بأنه سيحرز الأولية بيد أنه فكر بما سؤول إليه أمره في المستقبل وماذا سيكون من اشتغاله فلما أدرك أنه سيصير معلماً للنشء وقيماً على الأطفال امتنع عن الدخول إلى دار المعلمين ذلك لأن هذه الصناعة تعد قبيحة عند العامة وهو يود أن يصير في مقام يكسب به جاهاً يخوله الحق أن يخطب جميلة من أبيها ثم فكر في حقيقة تعليم النشء وتدريبهم فأدرك انه بعمله هذا يكون علمهم العلوم وأحسن تربيتهم وجعلهم رجالاً للأمة وقد يعلمهم المؤازرة والتضامن فيجعلهم جسماً واحداً وأمة واحدة كالبنيان المرصوص ويدربهم على الأعمال الشريفة التي تعود بالخير على وطنهم فيغنم بذلك أجراً جزيلاً وثناءً جميلاً. وربما أحرز منصباً في نظارة المعارف يجعله في أوج المعالي إذا ساعده الدهر وخدمه الحظ وكان مغروراً بحظه لما رأى من نفسه الغناء في الفوز بالأولية في الصف ومحبة الناس عامة. وبعد أن فكر ملياً في الأمر أزمع الدخول إلى هذه المدرسة فدخلها وأخذ يقضي أوقاته ويفني صحته في الدرس لينال ذلك الراتب. وفي غضون ذلك انتقل الباشا من دمشق برتبة أكبر إلى مكان بعيد فساقته الضرورة إلى الاكتفاء بهذا الراتب القليل. وكان سعيد لما بلغ الأستانة نزل في خان من خانات شنبرلي طاش واستأجر أصغر حجرة

فيه يدفع ثلاثين قرشاً في كل شهر وقد أتى معه بفراش ولحف واشترى قطعة بساط عتيق فمده وجعل يجلس على فراشه كل من يزوره من إخوانه وكان يشتري ما يلزمه من الأواني شيئاً فشيئاً ويعيش في غاية الاقتصاد. فكلما دخل حجرته أو أكل أو شرب أو نام يعتريه ضيق صدر فيشكو دهره ويقول إلى متى وأنا مقضيٌّ عليًّ بالتقتير والحرمان من كل لذة وقد ينتهي في الأحايين إلى درجة اليأس بحيث يكاد ينتحر ليخلص من هذه الحياة التعسة ثم يرجع إلى نفسه ويقول قتل الإنسان ما أكفره. لابد من تحمل المشاق حتى أنال السعادة ومهما عاكستي الدهر فإني قاهره بشدة صبري ثم يأخذ يفرك في مستقبله وماذا يفعله وربما تجسمت أمامه السعادة ورأى نفسه في أعلى المناصب وأنه نال حينئذ وصالاً من حبيبته جميلة وبينا هو يخوض بحار هذه الخيالات يرى ساعة الدرس أتت فيلعن الدرس والاجتهاد لأنه كان في حرب من الأفكار. وكان يمتنع عن التنزه إلا إذا اكرهه إخوانه على رفقتهم فيذهب حياءً منهم فينغصون عيشه وهم بمالهم فرحون فكان إذا رأى منزلاً عالياً تذكر حجرته وإذا رأى عربة جميلة تذكر ذهابه وإيابه إلى المدرسة مشياً تحت المطر والثلج وإن رأى نُزلاً تذكر دكان الطاهي الذي يتعشى فيها وإذا استنشق هواءً نقياً تذكر هواء حجرته الفاسد وإذا رأى غادة تذكر حبيبته وإذا رأى عجوزة تخدمها السراري تذكر أمه وهي تعمل في المطبخ. وكلما شاهد ما يدل على السعادة كان يذكر ما يقابله من شقائه فيرجع من التنزه حزيناً كئيباً ويعود رفقاؤه مسرورين. ولذلك كان يعد أحسن أوقاته ساعة نومه الخالي من الأحلام إذ يستريح به من التفكر في الشقاء وكان كلما ذكر شقاءه يقطع أمله من جميلة ولكن الآمال كانت تبعث الاطمئنان إلى قلبه. وقضى ثلاث سنين على هذا المنوال وهو بعيد عن راحة الفكر وانشراح الصدر فأتم الدراسة وأخذ شهادة تامة تؤهله لكل خدمة ثم عين معلماً براتب ثمانمائة قرش في الشهر فساقته الآمال وأطمعته الرواتب وسعد به أبواه وأهله ولكن لم يمض زمن حتى مات أبوه وخلف له أسرة قضي عليه أن ينفق عليها فأصبح راتبه لا يكفيه وصار يلتمس ممن تعرف إليهم أن يعينوه معاوناً لمدير مكتب بيروت الإعدادي فبلغ راتبه ألفاً ومائة قرش على شرط أن لا يفارق المكتب إلا ليلتين من كل أسبوع ويدرس أربع ساعات كل نهار ويعلم الرياضيات والتاريخ والإنشاء فصار يتألم من تنوع الفنون

التي يشتغل بها وكان يود أن يختص بفن واحد منها ولكن قلة الأجرة التي خًصت للدروس اضطرته إلى أن يتحمل هذا العذاب ويمنع نفسه من الإخصاء بفن واحد ومع كثرة اشتغاله وتألمه من كثرة عائلته ما نقطع لحظة عن التفكر بجميلة ولكن بعدها عنه وانقطاع أخباره جعلاه في يأس من الوصول إليها وكان في احتياج للزواج. 5 في يومٍ راقت سماؤه ورق هواؤه ذهب سعيد مع صديق له يسمى رفيقاً إلى متنزه ضبيا ليصرف وقتاً بدون فكر ويتخلى ساعة عن بؤسه وشقائه. فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث في كل ما خطر ببالهما. فساقهم الكلام إلى البحث عن الزواج شأن من لم يتزوجوا من الشبان وكان لرفيق أخوات جميلات متعلمات يود الناس الزواج بهن ولكن كان له أم عرفت بمساوئ الخلاق واشتهرت بسوء الطوية فامتنع الناس عن التأهل بأخواته. وكان رفيق في كدر من كسادهن وهو على علم من مكانة سعيد في الحال والمآل فتصور سعادة لأخته في قرانها بسعيد فتجاسر وكلفه بأن يصير له صهراً ففكر سعيد هنيهة ووعده بالقبول فتعهد رفيق بإسكانه في منزله واعتباره واحداً من أهله وفرداً من أفراد عائلته وافترقا على أمل القران فذهب رفيق وأخبر أمه بما جرى بينه وبين سعيد ومدحه لها وأعلمها براتبه وأفهمها مستقبله فسرت به وأملت بسعادة ابنتها فرضيت وساقت ابنها إلى إتمام هذا الأمر فذهب إليه غير مرة وسأله عن عزمه فأجابه بالقبول وكان سعيد فكّر في جميلة وما بينهما من الوعد. ولكنه استبعد ثبات النساء على أقوالهن والوصول إليها لما بينه وبينها من الامتياز في الطبقة وعبثاً رأى نفسه معلقة بها فرضي بالزواج وتكلم مع رفيق على مقدار المهر فرضي هذا بخمسة آلاف بعد قبول أمه ولكنهما قرراً على أن يعقد النكاح على مهر مقداره 150 ليرة رئاءً أمام الناس وعينت ليلة العقد ودعي الأقارب والخلان وشربت المرطبات وتولى الشيخ صيغة العقد وذهب كل من حضر داعياً بلسانه وهم ما بين معترض ومنتقد وساب وشاتم وحامد. وعينت ليلة العرس ودفع المهر سعيد فاستدان وباع راتبه بنقص ليقبضه قبل ميعاده حتى يقوم بما يلزم من نفقات العرس. واجتمع بقرينته شهيرة فوجدها على ما يرغب وسرّ بها وظن أنه نال السعادة فصار معززاً

مكرماً لدى أسرة رفيق بأسرها ولكنه وقع في قبضة الديون بعد أن كان يقتصد من راتبه ويجمع دراهم وصرت لا تراه إلا شاكياً باكياً من دهره يفكر ويقدر فيما يجعله غنياً وكانت عنده (تحويلات) البنك العقاري وتحويلات سكة حديد الروم ايلي فرهنها على مبلغ ليوفي ديونه فما خلص منها ولكن ذلة ليالي الوصال وأوقات الاجتماع كانت تنسيه همه وتسليه عن غمه. وظل نحو شهري بين مسرور بزوجته ومغموم بديونه وكان أخبر أمه التي تركها بدمشق بزواجه فأرسلت تطلب منه أن تحضر إليه لترى كنّتها وتلتقي بابنها فاستدان لها مبلغاً أرسله إليها فأتت ونزلت ضيفة في بيت رفيق ولم تلبث يوماً أو بعض يوم حتى أخذت أم رفيق تهينها هي وبناتها إلا شهيرة امرأة سعيد فإنها كانت تبجلها رعايةً لقرينها فتكدرت أم سعيد وأخبرت ابنها بما وقع لها فأسف لذلك واضطر إلى الرحيل فاتخذ له داراً سكنها هو وأمه وامرأته فزادت نفقته وازدادت ديونه فصعب انتقاله على أم رفيق لأنه كان يشترك معها في الإنفاق على البيت وكانت تقتصد بسببه وتخفف نفقات ابنها فسعت في إرجاع ابنتها بدعوى أنها لا تطيق السكنى مع أمه وكانت تعلّم ابنتها ما تقوله فصارت هذه تلح عليه باعتزال أمه وتبدي له الجفاء بعد أن كان لا يرى منها إلا المحبة والوفاء فصار يؤاخذها على أعمالها وينصح لها بأن لا تسمع كلام أمها فما سمعت له وتركته وحيداً من أجل أن تنال رضى أمها ورجعت إلى بيت أخيها. اغتنمت تغيب أهل الدار ذات يوم فأتت بحمالين ونقلت متاعها وتركت الدار بلا أثاث فرجع سعيد في المساء فلم يجد متاعاً وأخبره الجيران بما تم فعلن حماته والساعة التي عرف بها رفيقاً وكانت امرأته حاملاً قد أقربت وكان أخوها متغيباً عن بيروت عندما تمت هذه الأعمال القبيحة فلما رجع أخبرته أمه وعظمت المر في عينه حتى جعلت سعيداً فحمة سوداء أو حية رقطاء وصورته لابنها مثال الدناءة والرذيلة وجردته من كل شهامة وخلة كريمة ونسبت إليه من الأعمال ما لم يخطر له على بال حتى أشربته بغض صهره وساقه الحنو الأخوي للانتصار لأخته وأعماه كلام أمه عن رؤية الحق وراح يظن الباطل حقاً وأصبح لا يثق بكلام سعيد فبدلاً من أن ينصح لأخته وأمه أخذ يزيدهما عتواً وطغياناً. وكان سعيد يسعى ليصلح الخلل ونصح لرفيق ووعظه فما استفاد إلا هجراً وصداً فتركه وشأنه. وضعت شهيرة فطلبوا منه نفقات الوضع فما تأخر عن طلبهم وأرسل إليهم جميع ما يلزمهم

من دارهم وغير ذلك على أمل أن يرجعوا عن غيهم. فولدت الفتاة غلاماً فرح به أبوه ولكنه لم يتسر له أن يراه وصار يتوسط ليرى مهجة فؤاده فلم يحظ بطائل. وعندها رأى أن يهجر أهل زوجته هجراً جميلاً فاغتاظ رفيق لذلك وأقام الدعوى عليه في المحكمة الشعرية فأتى بشهود من أقاربه ليشهدوا أن سعيداً طلق شهيرة فشهدوا بالطلاق وأنه لم يدفع من مهرها المسجل شيئاً وقدره مائة وخمسون ليرة وهنا أدرك سعيد أنه وقع في شرك احتيال رفيق الذي اتفق معه على خمسة آلاف قرش وكتب العقد 150 ليرة ولكنه أقام البراهين والأدلة القاطعة على أنه دفع المهر وأنه لم يسبق منه طلاق وأن الفتاة زوجته في كل وقت وأنه يحبها وأن تعيين هذا القدر من المهر كان من قبيل التظاهر أمام الناس بالسعة ومفاخرة لا حقيقة. فأدرك القاضي إخلاصه وأيقن بصحة دفع الخمسة آلاف من المهر المسجل وما استطاع إلا أن يحكم ببقية المائة والخمسين ليرة مهراً مؤجلاً لأنه مسجل بالقيود وشهادة الشهود على أنه موقن بعدم صحة هذا المهر المسجل ورتب على سعيد مائة وخمسين قرشاً في كل شهر أجرة الحضانة وتربية ابنه وحكم ببقاء الزوجية. فعند ذلك يئس سعيد من إمكان الاجتماع بزوجته إلا إذا ماتت حماته ولم يجسر على الطلاق خوفاً من أن يحق عليه أداء بقية المهر لأنه لم يبرح رازحاً تحت أحمال الديون التي تذهب ببركة راتبه كل شهر وأخذ يشكو من آلام الوحدة بعد أن كان يعيش العيشة الزوجية فساقته الضرورة إلى الميل للزواج مرة ثانية فوسط امرأة من اللواتي يتوسطن للنساء سمسارات وأوصاها بأن تفتش له على زوجة غنية لا أم لها ولا أب ولا أخوات. 6 من عجائب الاتفاق أن علي باشا عاد إلى بيروت بمنصب أعلى من منصبه سابقاً فأنشأ سعيد يتردد عليه ويزوره في أغلب الأحايين. علمت جميلة بما حل بسعيد فأسفت عليه وشمتت به لأنه خان عهدها على أنها لا تزال مقيمة على العهد ويئست من الزواج وعزفت نفسها عن الرجال وحكمت عليهم بأنهم أقل وفاءً من النساء ولكنها ودت الاجتماع به لتعاتبه وتشكو إليه وتشكو منه لأنها لم تطلع أحداً على سرها وأخذت تسعى وراء مقصدها حتى تيسر لها أن تخلو به في منزل أبيها فرحبت

به وأخذت تعاتبه قائلة: لم يخطر ببالي أنك ستخون عهدي لأني لم أعهد فيك إلا الوفاء والثبات ومكارم الأخلاق فما الذي حملك مع على الخيانة؟ - نعم خنت عهدك على أن مكانك لا يزال محفوظاً في قلبي ولكن علمي بمنزلتي وعدم إمكاني القران بك واحتياجي إلى تدبير أمر معاشي وتنظيم حياتي ساقاني إلى ذلك الزواج المشؤوم لازداد شقاءً على شقاءٍ وأنال جزاء خيانتي لعهدك وكان ينبغي أن أبقى على الوفاء ولو عشت العمر كله في حرمان. فضحكت جميلة ثم قالت: هب أني لم أشك بما أعهده فيك وأنك لا تزال على عهدك القديم فما الذي ساقك إلى الزواج مرةً أخرى وأنت على علم من حبي لك ووجودي في بيروت؟ - لم أقصد من ذلك إلا تعذيب زوجتي والانتقام منها لأني أعلم أن أعظم ما يجازى به النساء الزواج عليهن ولو كانت الواحدة منهن مطلقةً وعلى عصمة زوج آخر. - وهذا هو العجب العجاب! فكيف يليق بمنوّر الفكر مثلك عرف بمكارم الأخلاق أن يتنازل للانتقام؟ أنسيت أن الرجال لا ينتقمون عند المقدرة؟ - لا أنكر أن الانتقام نقيصة في الرجال ولكن إذا كان الذي لا تنتقم منه يعد عدم انتقامك جبناً ويزيد في طغيانه فهل يعامل إلا بالانتقام؟ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ودفع الشر بالشر أحزم، واللئام لا يعاملون بغير الانتقام. - هب إني سلمت لك بأن الانتقام من هؤلاء الأنذال واجب عليك وإذا لم تفعل تلام فقل لي بأبيك ألا تأمل إرجاع امرأتك؟ - لا أخفي عنك أنني ربما رضيت بها إذا رجعت عن غيها وعلمت أن لا خلاص لها مني وأصلحت نفسها وماتت أمها كل هذا إذا كنت في يأسٍ منك. - فأنت إذاً عازم على الانتقام منها بزواج امرأة أخرى؟ ألا تصبح إذا رجعت إليك ذا الزوجتين؟ فكيف تتصور لك راحة أو هناء بين زوجتين وأنت على علم بأن من يتزوج امرأتين يشتري عذابه بيده فينغص تنغيصاً لا نهاية له ويلقي بنفسه في الغم والهم، وإذا طلقت الثانية لترجع إلى الأولى فيكون عملك مما يشين العقلاء لأن النساء لسن كما يقول بعض الجهلاء كالحذاء متى ما مللت منه تنزعه من رجلك!. وتذكر ما كتبته إحدى منذ حين من أن رجلاً رأى في منامه أن حذاءه سقط في النهر فراجع كتب تفسير الأحلام فلم

يجد تعبيراً لرؤياه سوى مفارقة زوجته فطلق امرأته تفسيراً لمنامه وتصديقاً لكتب الحشو. على أن العاقل البصير يحترم النساء لأنهن جنس لطيف جدير بالتعظيم والمحبة. النساء أمهاتكم اللواتي يعانين أنواع العذاب في الوضع فمن لم تكن أمك فهي أم أخيك أو أبيك أو صديقك أو جارك أو ابنك. فكيف يليق بك أن تطلق زوجتك بعد ما تستوفي حظوظك منها وتذهب برأس مالها فتتركها محرومةً من الزواج؟ ولا يدورنَّ في خلدك أني لا أذكر أن الله تعالى أجازكم أن تأخذوا من النساء مثنى وثلاث ورباع ولنه جل شأنه شرط عليكم العدل ثم ذكركم بأنكم لا تستطيعون أن تعدلوا بين النساء. وكيف ترضى امرأة بشريكة لها في حياتها بأعمالها وأفراحها؟ ألا تضطر أن تحرمها منك لتعدل بين الاثنتين وتعاملها بالمساواة، أويخطر ببالك أن تلك التعسة تنام تلك الليلة وهي على علم من أنك عند أعدى عدوّاتها؟ ثم افرض أن الاثنتين اتفقتا - وهذا ضرب من المحال - أليس من الممكن أن يأتيك أولاد من الاثنتين؟ وبديهي أن يتنازع أولادك على أقل سبب فإذا انتصرت الواحد لابنها لا تسكت الأخرى فيقع النفور بينهما وبين الأخوة فتحرم بذلك راحتك وتفقد سعادة عائلتك فإذا كان الشقاق دأب بيتك ونشأ الأخ على بغض أخيه فكيف تؤمل منه خيراً للهيئة الاجتماعية؟ أوهل لك سبيل إلى الإقناع بأن تعدد الزوجات حسن ونتائجه حسنة؟ - لا يسعني الإنكار بمضرة تعدد الزوجات إلا إذا كان عن ضرورة وللضرورة أحكام، ولا أنكر أن الشرع الشريف لم يبحه إلا لهذا السبب وما فرضه علينا فرضاً فمن لم يكن في اضطرار إلى تعداد زوجاته فلا يليق به إلا الرضا بواحدة. وإذا صفا لك من زمانك واحد ... نعم الصديق فعش بذاك الواحد - فإذا وافقتك الجديدة وأعجبتك بخلُقها وخلْقها وطلقت شهيرة فماذا تكون حال ولدك منها؟ لو كان أجمل ولد في العالم وكنت أعقل رجل لابد من أن تسقطه من عينك وتجعله نقطة سوداء لأن المرأة عدوة طبيعية لابن زوجها فإذا نشأ ابنك في ظلم امرأتك واستبدادها ألا تكون حينئذ قد جنيت عليه. وأنت في عيني أعظم من أن ترتكب جناية مثل هذه وهب أنه سمحت لك كل هذه الأحوال أليس من العار أن تتزوج باسم الانتقام أو باسم الاحتياج وأنت تعلم أن القصد من التأهل اتخاذ قرينة تشارك الرجل في أفراحه وتشاطره أتراحه ويكمل بها ويعيش معها عيشة راضية فيقومان بما يجب عليهما للمجتمع الإنساني وهذا الأمر لا

يتم إلا بقران الرجل بمن توافقه طبيعة ومزاجاً وأخلاقاً ولذلك أرى أن تسعى في استرضاء خاطر شهيرة إذا كانت فيها هذه الشروط وترضى بما قسم لك ربك وتربي ابنك كما تشاء لتجعله خير الخلف من بعدك عساه يكون لك ذخراً وسنداً. - أنا وحقك معترف بما أتيت به من الحقائق ومن الأسف أنه لم يتيسر لي الاقتران بمن توافقني وتكون جامعة لشروطك ولو أسعفني الحظ وتزوجت منك لسعدت وما أتاحت لي الأيام أن أقع في المهالك والأخطار. - قضي الأمر وكان بودي أن أكون قرينة لك ولكنك عجلت فأخطأت وحرمت نفسك مني وحرمتني بعملك من التأهل بغيرك لأني وعدتك بان لا أرضى بسواك ومن شيمي وطبعي الثبات على وعدي فلهذا لا أقرن بأحد وسأعيش عانساً متبتلة وبحكم القضاء راضية فلما سمع سعيد هذه العبارة احمر وجهه وأطرق خجلاً وود الموت ليخلص مما عراه من الخجل أمام من فاقته بمكارم أخلاقها واستولى عليه السكوت وانقطع عن الحركة. فلما أدركت خجله قالت لا تستحي فإنك لست أول رجل خان الجنس اللطيف بوعده فمهما كان الرجل عاقلاً رقيق الشعور كريم العواطف والأخلاق لا يزال في عتو بدعوى التفوق على النساء ولا يعد الخطأ أمامهن إلا من قبيل السهو والنسيان الملازمين للبشر ولكن كن على ثقة من أنه سيجيء يومٌ ترتقي فيه الهيئة البشرية وتعلم منزلة المرأة وواجبات الرجال نحوها فتحفظ حقوقها فتصبح معززةً مكرمةً ولا يجسر أحد حينئذ على خيانتها لأن عمله يعد سقوطاً في الأخلاق، وأرجو منك أيها الصديق أن لا يشق عليك كلامي وما لك إلا الإذعان والاعتراف بالذنب لأني صاحبة الحق. وأما أنا فإني أسلمت أمري لخالقي الذي جعلني بائسة محرومة من شرف السعادة الحقيقية. فعند ذلك قام وعبرات الأسى تنهمل من عينيه على خديه وأخذ يقبل يديها ويقول: ها أنا ذا أكرر اعترافي بذنبي عني والعفو من شيمك ولا تزيديني هماً وخجلاً فوق كدري، وارحمي شبابي لئلا يسوقني هذا العذاب إلى الانتحار. فضحكت وقالت: أرجو أن تجلس في مكانك. أتدري سبب ضحكي؟ قال: لا. فقالت لأني قرأت من الروايات وأخبار العشاق ما لم أتذكر عدده وقد ثبت لدي أن الرجال يستعطفون النساء ويستميلونهن بدعوى الانتحار فلا يصدق دعواهم إلا اللواتي حرمهن الخالق من

العقل والعلم وكم قرأت وسمعت من أخبار الرجال الذين كانوا عزموا على الانتحار من أجل معشوقاتهم وبعد أن حظوا بقربهن تركوهن يعانين آلام العذاب وندر من انتحر والنادر لا حكم له. وإني لا أود أن أسمع من عاقل مثلك أن يقول هذا الكلام فلو كنت ممن يطيب لهم الانتحار لصبرت من أجلي وعملت مثلي. هذا والشائع على الألسن أن الرجال أقدر من النساء على ضبط أنفسهم ولكني رأيتك مع شدة عقلك ومتانة أخلاقك لم تمنع نفسك من خيانة العهد. - كفى سيدتي أما قلت لك أني تزوجت اضطراراً علماً مني أنه من المحال أن أصل إليك لما بيننا من الدرجات والفروق. - هل طلبتني ورجعت خائباً حتى تعتذر هذا الاعتذار الواهي؟ - لا أجرؤ على أن أخطبك لأني كنت على يقين من رجوعي خائباً وخفت أن تتحول عني أنظار الباشا وأن تنقلب محبته لي نفوراً مني فأكون حينئذ ضيعت آمالي على أني مازلت غريقاً في بحر الآمال. - ماذا تقول؟ أجننت أم تهذر؟ - أعذريني على خطأي ولا تجرحي حواسي فإني مازلت أسعد بها. - ماذا تقول؟ لقد صغرت في عيني بعدما كنت كبيراً!. أنسيت إننا كنا نتكلم عن تعدد الزوجات ووصف مضراته؟ وكيف يخيل إليك أن تجعلني شريكةً لمن خربت آمالي وجعلتني في حرمان من حبيبي الخائن؟ - آه سيدتي دعي عنك هذا الكلام فإني سأطلقها من أجلك وأرجع إليك إذا ساعدني الحظ. - كيف تطلق زوجتك أم ولدك وأنت تعلم أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق وماذا تكون حالها بعد الطلاق وماذا يؤول إليه أمر ابنك التعيس الذي سيتربى على غير ما تريد؟ - أنسيت أن الله تعالى قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} على أني سعيت لأمسكها بمعروف فلم يتيسر لي لأنها شربت لبن اللؤم من أمها ولا أمل لي بإصلاح حالها وهي كلما تقدمت ودرست على أمها زادت لؤماً وخبثاً وبغضاً إلي فطبيعة الحال تسوقني إلى تسريحها وأما ابني فإنه أهمل وترك للطبيعة تتصرف به كما تشاء فخانته وسلطت عليه الأمراض وقد أخبرني الطبيب أن لا أمل في حياته وإذا مات أراحنا واستراح وبذلك

تزول الموانع ويبقى مانع واحد وهو قبول الباشا الذي لا سبيل إليه فهل إليه من وسيلة؟ - أنا ثابتة على قولي وعهدي ولكن وجود زوجتك يمنعني عن قبول ذلك. فأقسم لها بالله بأنه لو لم يخف من الحكم عليه بدفع بقية مهرها لطلقها ثم قال: لا يخفى عليك قلة ذات يدي وعدم اقتداري على دفع المبلغ ولعل الحظ يسعفني فيموت ابني على أني أعدك وعد حر أنه يستحيل اجتماعي بها بعد الآن.

التقية

التقية الأمم في أول نشأتها تحتاج إلى كتم أمرها وضم أطرافها والتماسك في كل أحوالها خوف عدو قاهر ومليك مقتدر وعدة ضخمة وعدد؟؟ من مال ورجال حتى إذا استحكم أمرها وأصبحت كفؤا لمناوئها تظهر ما كانت تضمر وتقدم إقدام الاتيي على الوادي وتلوب على من تضمه إليها وتكثّر به سواد قومها. وهكذا حال الأفراد فإن العالم أو صاحب الدعوة إذا كان في مبدأ شأنه بين قوم يخاف بادرتهم إذا فاتحهم بأفكاره يخفي شيئاً مما يكنه ضميره حتى إذا اشتدت شكيمته واستحكمت مُنّتُه واستجاش له أنصاراً وخاصة يقبلون ولو جانباً من أفكاره وعلمه يتدرج في بث دعوته فيبدأ بالضعاف أو المستضعفين إلى أن يصل إلى الأقوياء والعظماء. وهذا الضرب من الكتمان يسمى التقية مشتقة من أتقاه أي خافه وهي ضد العلانية. عادة راجت ولا تزال رائجة في المشرق خصوصاً بين المغلوبين المخالفين أمام الغالبين الظالمين ولكم ذهب بها فيما غبر أرواح رجال لم يحسنوا استعمال التقية ونجا بها أناس جعلوها شعراً يلبسونه ومجناً يتقون به عادية من يخالفونهم أو يريدونهم على العلم بما لا يعتقدون به من علم ورأى ونحلة. جاء الرسول العربي عليه الصلاة والسلام فقام يبث دعوته وتحمل فيها صنوف الأذى والإهانة ولما كثر أنصاره ومريدوه من المهتدين وخاف امتداد الأذى هاجر إلى المدينة وهناك أقام على تلقين اليقين علانية. ولذلك أجمع رأي الصحابة على عهد عمر بن الخطاب لما أرادوا التأريخ أن يبدأوا من سنة الهجرة لأنه الوقت الذي حكم فيه الرسول على غير تقية فأكن الدور الأول ما كان إلا لتأسيس ما بدأ ظهوره من الدعوة في المدينة فلم يحسبوه. وقد جاء في القرآن آيات تدل على الأخذ بالتقية وآيات على عكسها بحسب المناسبات. قال الخازن في تفسير قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} أي ألا أن تخافوا منهم مخافة ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن مداراة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا

مع الخوف من القتل مع سلامة النية إلى الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}. ثم أن هذه التقية رخصة فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم. وأنكر قوم التقية وقالوا إنما كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز أمة الإسلام والمسلمين فليس لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: ابن الحسن يقول التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان. فقال سعيد: ليس في الأمان تقية إنما التقية في الحرب. وقيل إنما تجوز التقية لصون النفس من الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. اهـ واختلفت مذاهب المسلمين في التقية فروى المؤرخون أنه كان سبب اختلاف نافع بن الأزرق ونجدة بن عامر من زعماء الخوارج أن نافعاً قال التقية لا تحل والقعود عن القتال كفر واحتج بقوله تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}. وبقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وخالفه نجدة فقال: التقية جائزة واحتج بقوله عز وجل: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}. وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فالأزارقة من الخوارج وهم أصحاب ابن الأزرق المشار إليه يقولون إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل. وحكى الكعبي عن النجدات وهم أصحاب نجدة بن عمار أن التقية جائزة في القول والعلم كله. وقال الصُّفرية الزيادية وهم فرقة من الخوارج أيضاً: التقية جائزة في القول والعمل. والرِّدَيُّ عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه. أما الشيعة فلهم في التقية تجوّز لم تعرفه فرقة من المسلمين فيما أحسب فكل ما أرادوه تكلموا به فإذا قيل لهم ذلك ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا إنما قلناه تقية وفعلناه تقيةً. هذا ما نقله الشهرستاني في الملل والنحل وليس في الأيدي كتاب من كتبهم نرجع إليه فيما قالوه هم في حقها. ولقد رأيت بعضهم يستعملون التقية في خلواتهم وجلواتهم فلا تجديهم إلا صغر النفوس وضياع الشمم والشرف على حين لا يضطرهم إلى ذلك داعٍ ولا يريدهم عليه حاكم ولا محكوم عليه. ولكن هي العادات يرضعها الأبناء مع لبن الأمهات فيتعذر الإقلاع عنها إلا بعد الاستغراق في نور العلم النافع والتربية الصحيحة. والعقل يقضي بأن يستعمل في دار التقية ما لا يستعمل في دار العلانية على حسب

الأحوال. وقد تترتب مفاسد دينية ودنيوية على سوء استعمال التقية ولكن قل في العلماء وأرباب المقالات من أحسن استعمالها وساعده محيط بلاده على تحقيق أمانيه. والتوسط في كل شيء محمود المغبة فكيف بالتوسط مع الطواغيت والمرء لا ينجو معهم بدونه. عهدنا الحجاج لما هزم عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم يتلقى كتاب عبد الملك بن مروان في عرض الأسرى على السيف فمن أقر منهم بالكفر خلّى سبيله ومن أبى قتله. فأتى منهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير. وكان الشعبي ومطرف تريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها فذهب عامر ومطرف إلى التعريض والكناية فعفا عنهما وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرَّض به الشعبي: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وانخزل بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا وقووا خلّيا عنه. ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال هل الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: إن من شق العصا، وسفك الدما، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر. قال خليا عنه. ثم قدم إليه سعيد بن جبير فقال له: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال اضربوا عنقه. أرأيت رجلاً معروفاً بصلابة دينه ووفرة علمه وثبات جنانه وقوة برهانه فادى بروحه من أجل الحق وغلّب الموت على القول بما يخالف ما وقع في نفسه؟ أبى إباؤه وأنفت أنفته أن يلجأ إلى تقية لا يرضاها ذوو النفوس الكبيرة فذهب مثال الكمال وأنموذج الفضيلة والتقوى أبد الدهر. هذا هو سعيد بن جبير الذي لا تفتأ الألسن تذكره بالرحمة وتسخط على من قتله شر قتلة. ومن التقية المحمودة إن صح أن يسمى التقية ما يأتيه بعض العلماء من الامتناع عن إفشاء بعض الأسرار في الدين للعامة وقد أرجع الغزالي هذه الأسرار التي يختص المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها إلى خمسة أقسام: الأول أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك وإخفاء سر الروح من هذا القسم. الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه

لا يكل الفهم عنه ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الزرد بالجعل. الثالث أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب كما لو قال قائل رأيت فلاناً يقلد الدر في أعناق الخنازير فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها. الرابع أن يدرك الإنسان الشيء جملةثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق. الخامس أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده حقاً والبصير بالحقائق يدرك السر فيه. قال صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق: كثرت البدع وكثرت الدعاة إليها والتعويل عليها وطالب الحق اليوم شبيهٌ بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمر بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى. وأن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة. قال ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه. ونسب تنكب الناس عن طريقة الحق لعدم الحرص وقوة الداعي وللخوف من شر الأشرار مع الترخيص في التقية بإجماع الأمة فقد أثنى الله على مؤمن آل فرعون مع كتم إيمانه وسميت به سورة المؤمن وصح أمر عمار بن ياسر بذلك وتقريره عليه ونزلت فيه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. وقد قيل من عرف الخلق جدير أن يتحامى ولكن من عرف الحق فعسير أن يتعامى. والذين آمنوا أشد حباً لله. ونسبه أيضاً للخوف من الشذوذ من الجماهير والانفراد عن المشاهير. وذكر أيضاً أنه زاد الحق غموضاً وخفاءً أمران أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام قائلاً: ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر

الخلق. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته في الناس وأما الآخر فلو أبثه لقطع هذا البلعوم. ومازال الأمر في ذلك يتفاحش وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة المقصد الأسنى ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح الرحمن الرحيم. وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات البرهان في مسألة قدم القرآن، والرازي في كتابه المسمى بالأربعين في أصول الدين. قال: وثانيهما الاعتماد على الكتابة في حفظ العلم فإنه أدى إلى كتم أهل العلم لكثير من مصونه في أول الأمر ثم لمهمات الدين في آخره وكان العلم في أول الأمر يبذل من أهله لأهله مشافهةً ولو سراً وذلك أول النقص وهو محفوظ في الصدور غير مبذول لأهل الشرور في الشعور فلما قلّ الحفظ وطال الأمر وكتب ليحفظ وتعذرت الصيانة وخيف العدوان من أعداء أهل الإيمان كتم بعضهم فلم يظهر علمه فازداد النقص واتقى بعضهم فتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفاً على نفسه ورمز بعضهم فغلظ عليه فيما قصده في رمزه فتفاحش الجهل. وأما الفرق بني ما يجوز من المصانعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز وهو المصانعة وربما عبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالفة وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام. ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في الرسالة المخرسة لأهل المدرسة: لا يجوز أن تكون المولاة هي المتابعة فيما يمكن التأول فيه لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق وصلى الحسن البسط على جنائزهم وأقام علي بن موسى الرضا مع المأمون وكثَّر جماعته وتزوج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك. والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له فتأويله ممكن. وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي مولاة الكافر لكفره والعاصر لمعصيته ونحو ذلك. وهو كلام صحيح والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} ومنها قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ

يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. تأمل هذا المنقول في التقية من كلام ذاك الإمام المجتهد وهو نموذج من تأليف من عمل بعلمه ولم يكتم حقيقةً إرضاء لخاطر ولم يتق رثاء وخوفاً وطمعاً. ذاك كلام أبي عبد الله محمد المرتضى من أكابر علماء القرن التاسع أنفت نفسه من التعصب لعادات الآباء والمشايخ فتجانف طرق أسلافه وحكّم الإنصاف في أقوال فرق الإسلام ولولا عراقته في الشرف وبُعد غوره في العلم وإخلاصه في أقواله وأعماله لاضطهد وأوذي ونال من صنوف العذاب ألواناً. أقدم هذا الإقدام مؤثراً أن ينصرف عنه جانب من حطام الدنيا مثل تولي الإمارة عند الزيدية وشرطها عندهم أن يتقلدها أعلم الناس وأشرفهم وكان هو جامعاً لهذين الشرطين وهو من أسرة تولت زعامة الناس فرأى الدعوة إلى الحق خيراً من الإمامة والإمارة فردّ على أبناء مذهبه الأصلي في كتاب ضخم يقع في زهاء ألف ورقة وسماه العواصم والقواصم وخلّف مصنفات غيرها دلت على سعة فضله وعقله وأنه ممن أحسنوا استعمال التقية ولم يتأذوا بالعلانية ورخصت أعمارهم في عيونهم فأفادوا واستفادوا. وكتابه إيثار الحق المنقول عنه آنفاً رأيه في التقية أكبر دليل على ما توصف به. وإذا قابلنا بني كلام هذا الإمام وكلام من اشتهر أكثر من شهرته لا نعتم أن نشعر بفرق بين المشارب والعقول ولكلٍّ ذوقه وعقله. فمن مشاهير المؤلفين والفلاسفة الفخر الرازي وكل من قرأ مصنفاته ير فيها عقلاً كبيراً ومادة واسعة. ومع هذا وجد له أهل البصر ما ينتقد في حياته العلمية. درّس الرازي والتفت حوله التلاميذ والأساتذة فكان إذا ركب يمشي معه ثلثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ونال الحظوة من أمراء عصره والحظة عند شعوبه وتعاظم حتى على الملوك ومع هذا مال الرازي إلى مذهب الجبر القاضي بأن الإنسان كالريشة في الهواء لا عمل هل ولا تدبير ينفعه وأن القضاء والقدر يدوران به على مرادهما وهو المذهب الذي عشش اعتقاده في صدور معظم المسلمين فكان من دواعي انحطاطهم وإن لم يشعر ظاهر الشريعة ولا المأثور عن الأمناء عليها في الصدر الأول بشيء من هذا المعنى وإنما رأى الرازي الخير

في نصرة هذا المذهب لأنه كان متسلطاً بكثرة على أهل بلاده فقرر كما قال عن نفسه ما أعتقده أنه هو الحق وتصور أنه الصدق. ولقد رد عليه بعض علماء المسلمين وسفهوا رأيه فيما ذهب إليه حتى أن كل محب لاحترام العلم وإكرام صنيع حملته ليرجو أن تكون بعض هذه الأفكار التي أخذها العلماء على الرازي هي التي سجل على نفسه في وصيته بأنه رجع عنها. وأنت ترى أن اليماني والرازي المشار إليهما قضيا حياةً طيبةً ممتعين بثمار علقهما وغادرا هذه الدار بلا إهانة وفتنة واكتفى معاصروهما ومن بعدهما من العلماء بالرد عليهما في الورق فكانا مثالاً فيمن نفعته التقية وعرف استخدامها. وإذا جئنا نستشهد بمن جنى عليهم عدم استخدام التقية نخرج عن قصد الاختصار. قال الثوري: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلّط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية قد صرح بما اعتقد صحته والغناء فيه فعاداه أعداء التجديد والتحقيق وأشياع التخريف والتلفيق من علماء السوء الرسميين وآذاه من شأنهم مسايرة الحزب الغالب من الأمراء الذين لا مذهب لهم إلا المال ولا دين إلا بسطة الجاه ولا سياسة إلا حكم الناس بما يريدون ولا عقل إلا الاعتصام بالقوة والجبروت. قضى فساد محيط ابن تيمية والجهل المركب الذي فُطر عليه من جُفّوا في التجني عليه بممالأة من لا رأي لهم أن قضى سجيناً سنين عديدة في جب يوسف بقلعة الجبل بالقاهرة وأعواماً في برج بالإسكندرية وأعواماً في قلعة دمشق إلى آخر ما عومل به من الحبس وكان القصد من هذا كله إيقاف قريحته عن الانبعاث تفادياً من أن يجرف سيلها العرم ما وهى من باطل الاعتقاد ووجد ضعاف العقول وأسرى التقليد آباءهم عليه من الأضاليل والخزعبلات. ولا أقول إن ما لقيه ابن تيمية من الألاقي حبس قلمه عن الكتابة وعلق تأثيره في نفوس مئات من القريبين للخير ولكن من لنا بعشرة عملوا عمله في تاريخ الإسلام رزقوا نفساً كنفسه وعزيمة كعزيمته يستهين بروحه وراحته ويستميت في نصرة الحق وإماتة الباطل من دون ما تقية؟ ولقد شهدنا رجلاً قام في القرن الثاني عشر في وسط جزيرة العرب دعا إلى مثل دعوة ابن تيمية واستنار بعلمه. واهتدى بهديه فعاش سعيداً والنفع به عميماً ألا وهو محمد بن عبد

الوهاب. قام هذا بين قوم تغلب عليهم السذاجة البدوية والفطرة العربية فصاح فيهم صيحة أراد بها زحزحتهم عما كانوا فيه من العبادات والمعاملات لأنها من شأن أهل الجاهلية منافية للإسلام فأذعن أعلامه بين أناس ما عرفوا إلا الشرك والوثنية. وكان نصيب هذا الداعية من علماء عصره أن بدّعوه وفسقوه وكفروه ولو طالت إليه يد الأشرار لمزقوه كل ممزق وجعلوه سلفاً ومثلاً للآخرين. نعم نفعت تلك البادية في بث الدعوة بلا تقية ولا مصانعة أكثر من الشام ومصر زمن ابن تيمية. والدعوات كلها سياسةً كانت أو علمية ما فتئت تبدأ في البوادي والأقاصي ثم تمتد امتداد شواظ من نار فتلتهم الأقرب فالأقرب. وأهل المدن يستغرقون في الترف على الأغلب ويتبنكون النعيم حتى تكاد تنزع منهم وجداناتهم إلا قليلاً فيلجأون إلى المشاغبة في كل ما لم يألفوه والتمويه في الحق والباطل. ولذلك ترى سكان الجبال والأرياف أنشط في كسب العلم وأرغب في التجديد ونزع التقليد لبعدهم عن نشأة السرف والترف. ومعاذ الله أن يفهم من هذا القول أن ابن تيمية لم يحسن استخدام التقية وابن عبد الوهاب أحسنها ولكن الأول جمع الشروط كلها فخانته بيئته وأسلمه قومه لأهواء الحاسدين. وهذا هو السبب الذي من أجله اعتاد بعض أصحاب الأفكار والمجددين المصلحين منذ القديم أن يهجروا مساقط رؤوسهم لبث دعوتهم وترويج بضاعتهم كما ترحل التاجر بتجارته والصانع بنتائج صنعته. عهدنا معظم العلماء لما أن يشتد عليهم في وطنهم الضغط الناشئ من حسد حاسد وكيد كائد ينزلون صعقاً آخر ليقدروا بقيمهم الحقيقية ويثمنوا بما يساوون. كان هذا شائعاً في بلاد الإسلام أيام كان فيها بقايا من العلم ونسيس من الحياة الاجتماعية فكان العالم إذا كُرب أن تُكربه التقية في بغداد يهجرها إلى الشام وإذا اشتدت به الحال هنا يغادرها إلى مصر أو المغرب أو الأندلس وإذا وقع عليه ما لا ترضى به نفسه في الروم يرحل إلى فارس. إليك حكم التقية في العلم والعلماء والدين والأمراء. ولم أفض فيما يستعمله أهل السياسة من التقية لأن ما هم بسبيله مبني في الغالب على الخديعة والحيل مدعوم بالرهبوت والجبروت مصبوغ كل يوم بصبغة تخالف صبغة أمس. وأني لأرجو أن لا يكون جماع أهل العلم والسياسة داخلين في غمار من وصفه أحد

الأعراب بضعف فقال: سيء الرؤية، قليل التقية، كثير السعاية، ضعيف النكاية ولا أن يكونوا مثل من قال المأمون فيهم لرجل وعظه فأصغى إليه منصتاً فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فأسأل الله أن ينفعنا بها وربما علمنا غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.

شعراء النصرانية في الجاهلية

شعراء النصرانية في الجاهلية تابع ما قبله هذا وإن سألت حضرة الأب لويس شيخو كيف عرفت أن الشاعر الفلاني أو الفلاني كان نصرانياً على حين لم يصرح لك بذلك أحد الأئمة. فيجيبك من فوره وبدون تمهل أجوبة باردة يعيدها كل مرة على من يطالبه بإيراد الأدلة على نصرانية أحد شعراء الجاهلية ممن نصرهم على يديه. فاسمع ما يقول مثلاً عن نصرانية امرئ القيس (المشرق 8: 1003) فبأي دين كان إذن يدين امرؤ القيس أبدين الوثنيين؟ لا نظن وقد فند حضرة الأب أنستاس حجج القائلين بتعبده للأصنام. فيبقى أنه كان إما يهودياً أو نصرانياً. ولم يقل أحد بيهوديته فكان إذن نصرانياً ولا نريد بنصرانيته هذه كما مر أنه كان متمماً لفرائص الدين المسيحي أو أنه كان كاثوليكياً. كلا. وعلى رأينا أنه كان من ملة النسطورية التي أحل أصحابها أموراً لم يحلها غيرهم من النصارى. أما أدلتنا على نصرانيته فهي الآتية: أولاً: إبطال مزاعم القائلين بوثنيته ومزدكيته. ثانياً: خلو شعره من آثار الشرك ففي كل ديوانه ليس من إشارة تدل على عبادة آلهة العرب في الجاهلية. ثالثاً: بل تجد إقراره بوحدانية الخالق وبالبعث والنشور مع شواعر دينية ظاهرة. . . هذا فضلاً عما في قلبه من الرغبة في المجد والأمور الشريفة والعدول عن حطام الدنيا (كذا. وقد أورد هنا بيتين لا يدلان أبداً على عدوله عن حطام الدنيا بل على تعلقه بأهداب مجد العالم المؤثل). رابعاً: وفي شعره من الإشارات النصرانية ما في غيره من الشعراء النصارى. . . (كذكره) مصابيح الرهبان والمقدس وهو الزائر لبيت المقدس والإران وهو تابوت النصارى. . . خامساً: انتشار النصرانية في كندة قبيلة امرئ القيس لمح إلى ذلك حضرة الأب مناظرنا. سادساً: خروج امرئ القيس إلى القيصر يستنجد به وهذا لم يكن ليخطر على بال أهل البادية وهو يعلم أن القياصرة نصارى متعمقون في الدين لو لم يتخذ وحدة الدين وصلة

بينه وبين القيصر لاسيما أن القيصر كان يومئذ يستنيان من أشد الإمبراطورين تحمساً للدين وأنه (على ما روى العرب) أزوجه ابنته. سابعاً: ومن الدلائل على نصرانية امرئ القيس نصرانية عمته هند بنت الحارث المعروفة بهند الكبرى. . . وقد ذكرنا في المشرق (5: 1060) الكتابة التي وضعتها في صدره وفيها تدل على نصرانيتها ونصرانية أبيها الحارث وابنها عمر بن هند. . . ثامناً: وكذا قل عن نصرانية أم امرئ القيس التي تسمى فاطمة بنت ربيعة بن الحارث وكانت من تغلب وأخواها كليب والمهلهل التغلبيان ولا أحد يجهل أن تغلب كانت تدين كلها بالنصرانية. تاسعاً: وأقوى من ذلك ما كتبه المؤرخ ننوز وهذا الرجل العظيم أرسله يستنيان إلى الحبشة وإلى امرئ القيس الكندي وهو يدعوه قيساً ليولي امرأ القيس فلسطين فلما عاد إلى القيصر وأتم ما عهد إليه كتب خبر رحلته في تأليف وقع في أيدي فوطيوس فاختصره في مكتبته الشهيرة. . . عاشراً: ويؤيد قول ننوز المؤرخ الشهير بروكوب من الكتبة المعاصرين لامرئ القيس. . . انتهت الأدلة. فنحن الآن نجيب على كل واحد منها مستهلين بالنتيجة التي استنتجها من بحثه هذا وقد صدّر بها حججه الدامغة فنقول: لو فرضنا أن امرأ القيس لم يكن وثنياً فلا يستنتج من ذلك أنه كان إما يهودياً وإما نصرانياً لأن عدة أديان كانت في بلاد العرب وأصحابها من الموحدين وهم مع ذلك ليسوا من اليهود ولا من النصارى. فما على حضرة الأب إلا أن يفتح كتاب الشهرستاني فيرى ذكر فرق دينية جمة كلها في بلاد العرب وكان أصحابها موحدين. لكن لما كان ذكرها يطول هنا فنضرب عنها صفحاً ونحيل القراء الكرام على مطالعتها في مظنتها. على أنه لا يجوز لنا أن نسكت عن الحنيفية إذ كانت شائعة ذائعة في بلاد العرب كلها ولاسيما في بلدح ومكة والطائف ويثرب وغيرها. قال الشهرستاني: من العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر وينتظر النبوة وكانت لهم سنن وشرائع. . . فمن كان يعرف النور الظاهر والنسب الطاهر وينتظر المقدم النبوي: زيد بن عمرو بن نُفيل (وهو الذي نصّره حضرة الأب ودوّن اسمه

في سجل عماد النصارى يعني في كتاب شعراء الجاهلية - 2: 619) كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: أيها الناس هلموا إلي فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري. اه ولكي تتثبت وتتحقق أن الحنفاء لم يكوونوا يهوداً أو نصارى بل على ملة إبراهيم اسمع ما جاء في كتاب الأغاني (3: 16) ما هذا نصه بحرفه بخصوص دين زيد بن عمرو بن نفيل قال: إن زيد بن عمرو خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: لعلي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم. فقال اليهودي: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال زيد بن عمرو: لا أفر إلا من غضب الله وما أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال ما اعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم. فخرج من عنده وتركه. فأتى عالماً من علماء النصارى فقال له نحواً مما قال اليهودي. فقال له النصراني: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال: إني لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحواً مما قال اليهودي: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. فخرج من عندهما وقد رضي بما أخبراه واتفقا عليه من دين إبراهيم. فلما برز رفع يديه وقال: اللهم على دين إبراهيم. فهل بعد هذا النص الجلي يماحكنا حضرة الأب ويقول: لا بل وكان زيد بن عمرو نصرانياً لأنه لم يكن يهودياً؟ قلنا: وكان أمية بن أبي الصلت من الحنفاء أيضاً لا من النصارى. قال في الأغاني (3: 187): كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقراها ولبس المسوح تعبداً وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنفية وحرم الخمر (والنصارى لا تحرمه) وشك في الأوثان وكان محققاً والتمس الدين (والنصارى لا تلتمس غير دينهم) وطمع في النبوة (والنصارى لا تطمع في النبوة) لأنه قرأ في الكتب (وليس ذلك في كتب النصارى) أن نبياً يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو. اهـ بحرفه. فأين بقيت نصرانية أمية؟ اللهم إلا أن تكون بعد في عقل حضرة الأب حرسه الله. . هذا من جهة كون الإنسان قد يكون موحداً ولا يكون مع ذلك لا يهودياً ولا نصرانياً. وهو

جواب مقدمته والآن نجيب على جواب أدلته فنقول: أولاً: إننا إن سلمنا أن امرأ القيس لم يكن وثنياً فلا نسلم أبداً أنه لم يكن مزدكياً لأن براهين الأب في نقض أدلة براهين خصمه في منتهى الضعف والوهن. كيف لم يكن مزدكياً وقد أثبت أغلب المؤرخين وأرسخهم قدماً في تحقيق الأخبار وتحريرها أن جده الحارث كان مزدكياً وكذا كان أبوه حُجْر. ومزدكية أو زندقة والده مما لا تحتمل الشك أو الريب إذ قد قال اليعقوبي وهو من أقدم مؤرخي العرب في كتابه (1: 299) وتزندق (أي تمزدك) حُجْر بن عمرو الكندي. فإذا كان حضرة الأب يثبت دين رجل لكون أمه أو خالته أو عمته كانت على النصرانية فلماذا لا يريد أن يقبل حجة من يريد أن يثبت دين رجل لاتباعه دين أبيه أو جده؟ فقد أثبت الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في رسالة ألفها فيما خالف الإسلام ما عليه عرب الجاهلية وورد الشرع بإبطاله وذكر نحو مائة مسألة. منها: تقليد الآباء والأسلاف والإعراض عن الاستدلال وإلى ذلك الإشارة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}. قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} إلى غير ذلك. اه. فامرؤ القيس على هذا هو على مذهب آبائه إن لم يقم دليل صريح على خلاف ذلك به يقال أنه خالف دين آبائه وانتحل الدين الفلاني مثلاً وهذا لم نعثر عليه في أحد الأسفار. ثانياً: أما خلو أشعاره من آثار الشرك فيحتمل أنه لم يكن وثنياً لكن لايستنتج منه أنه كان نصرانياً إذ كان في بلاد العرب عدة أديان كلها قائلة بالتوحيد كما سبق القول ولم يكن أصحابها مع ذلك نصارى. قال الشهرستاني: كانت العرب إذا لبت وهللت قالت: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالكه. وقال قبل ذلك: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر وحللوا وحرّموا وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم اه. وقال أيضاً: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع وأنكروا البعث (بعث الأجساد) والإعادة. اهـ.

فأنت ترى من هذا أنه لم يوجد نوع واحد من الموحدين بل أصناف مختلفة. ومثله يقول المسعودي في مروج الذهب فقد ذكر ثم ما هذا نصه: كانت العرب في جاهليتها فرقاً. منهم: الموحد المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور موقناً بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي. اهـ. وقال أيضاً: وكان من العرب من أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام. اه. ومثل هذا الكلام كثير في كتب العرب الأقدمين والمحدثين. ثالثاً: جوابنا على خلو شعر امرئ القيس من آثار الشرك محتوٍ على جوابينا السابقين فلا حاجة إلى الإعادة. رابعاً: أما قوله إن الإشارات النصرانية الموجودة في شعره تنطق بلسان حالها عن علاقاته مع النصارى فهاذ لا ننكره لكن بين أن يكون له علاقات مع النصارى وبين أن يكون نصرانياً فرق ظاهر لا يخفى على عاقل أديب مثله. وكذلك القول في من استعمل الاصطلاحات النصرانية في شعره فهذا لا يدل على تنصره. وإلا لزم أن كل من ذكر مثل هذه الألفاظ والاصطلاحات واستعملها في ما كتب ونظم أنه نصراني مثل يزيد بن معاوية وابن المعتز ومدرك بن علي الشيباني وغيرهم من لغويين ومؤرخين وإخباريين وغيرهم وغيرهم. وهو قول فاسد لا يحتاج إلى إظهار ما فيه من الوهن. خامساً: أما استدلاله بانتشار النصرانية في كندة قبيلة امرئ القيس فهو قول باطل لأن النصرانية كانت أقل انتشاراً في كندة من سائر الأديان فيها. ولو فرضنا أنها كانت منتشرةً فيها فلا ينتج من ذلك أن كل أفراد القبيلة كانت تدين بها. فهذا تميم مثلاً ففيها كان نصارى (الكامل 1: 26) وياقوت 1: 598 وكان فيهم المجوس ومنهم زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب والأقرع بن حابس وأبو الأسود جد وكيع بن حسان وكان فيهم صابئة عبدوا الدبران. ومنهم ثنوية. وآخرون عبدة أصنام وكانت تلبيتهم عند صنمهم: لبيك اللهم لبيك. لبيك لبيك عن تميم قد تراها، قد أخلقت أثوابها، وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. (عن اليعقوبي 1: 296) ومنهم من اتبع سجاح المتنبئة. وفريق وافق مسيلمة الكذاب وهم بنو عطارد بن عوف بن كعب بطن من تميم. فهل يصح دائماً في الاستدلال والاستنتاج أن ننتقل من الجزئي إلى الكلي؟ هل يجوز لنا أن نقول إن بني تميم كانوا كلهم

نصارى؟ أو كلهم عبدة أصنام، أو كلهم اتبعوا سجاح، أو كلهم وافقوا مسيلمة لأن بعضهم كان كذلك. فإذا كان لا يجوز دائماً: فلماذا يريد الأب أن يجوّز لنفسه ما لا يجيزه لغيره؟ ففي كندة كانت اليهودية (اطلب بلوغ الإرب 1: 379) والنصرانية (راجع كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 86) والوثنية وكانت تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، تملكه أو تهلكه، أن حكيم فاتركه (اليعقوبي 1: 297) إلى غير ذلك من الأديان. فلم يريد أن يخصها بالنصرانية؟ أليس لمجرد الإيهام؟ سادساً: من أوهن أدلته على نصرانية امرئ القيس استنجاد أمير الشعراء بالقيصر! فأي علاقة للدين هنا؟ فنحن لا نرى في ذلك سوى استنجاد الضعيف بالقوي أو التعاقد والتعاهد لمنفعة شخصية أو غاية دولية. وبخصوص ما يشبه استنصار الشاعر المذكور أو هو هذا الاستنصار بعينه كتب الأدبي دُشين في كتابه المرسوم بالكنائس المفترقة ص 329 ما هذا معناه فأرادت دولة الروم أن تنتفع من هذه الحالة (حالة اضطراب أمور الحميريين) فأرسل قيصر الروم إلى ملوك اكسوم وحمير عدة رسل كان أولهم يوليان ثم ننّوس. وكانت الغاية من ذلك تحويل تجارة الحيري من تلك الجهة لأنها كانت على ما يُظن تتبع طريق هرمز فتتخذ دائماً طريق فارس. وكان في الصدر غايات عسكرية أيضاً. فألقى يُستنيان نظره على رجل اسمه قيس كان قد نكث حبل الوصال مع اسيمفيوس (ملك الحميريين النصراني) ليقيمه رئيساً على قبائل عرب كندة ومعدّ. وكان الغرض من ذلك أن قيساً يتفق مع الحميريين ليحارب الفرس بعد أن يكون قد تمكن من رئاسته. فهنا نرى القوي يلتجئ إلى الضعيف وكل ذلك لغايات سياسية. ولو كان لما يزعم حضرة الأب صحة أي استنصار الضعيف بالقوي من لوازم الديانة أو نتائجها أو روابطها لقلنا إن جميع الدول المتعاهدة هي على دين واعتقاد واحد. وإلا لما ارتبطت. والحال أن المسائل السياسية لا تعلق لها بالمسائل الدينية، وهذا ما يفقهه أصغر الولدان. وكما تشهد عليه الأحوال وأحداث الزمان. في الحال وسابق الأوان. ومن غريب كلام حضرة الأب لويس المحترم أن امرأ القيس استنجد بالقيصر لوحدة الدين ولولا ذلك لما خطر على بال أحد أهل البادية خاطر الاستنجاد وهو مع ذلك يُظهر في دليله التاسع أن القيصر كان أول من فكر بهذا الأمر إذ كان قد جرت مذاكرات منذ عهد الحارث

بهذا الخصوص فأتمها على يد حفيده امرئ القيس. وعليه فأي الروايتين أصح؟ وأيهما نصدق؟ لاشك أن التعصب يبين من أثناء السطور. واللسان شاهد على ما في الصدور. وإليك الآن دليله السابع: من الدلائل على نصرانية امرئ القيس نصرانية عمته هند بنت الحارث المعروفة بهند الكبرى. . . ثم قال: وقد ذكرنا في المشرق (5: 106) الكتابة التي وضعتها في صدره وفيها تدل على نصرانيتها ونصرانية أبيها الحارث وابنها عمرو بن هند. قلنا: أما نصرانية عمته وولدها عمرو فلا ننكرها. وأما نصرانية أبيها فمشكوك فيها. لأن قوله: ويكون الله معها ومع والدها كما رواه المشرق فغير صحيح. والذي أورده ياقوت مع ولدها أي ابنها. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى أن أباها لم يكن على دين النصرانية لتطلب الخير الأعظم لنفسه ولذا لم تقل: ويكون الله معها ومع ولدها ووالدها وكذلك قالت: ويغفر خطيئتها ويترحّم عليها وعلى ولدها ولم تذكر والدها لكونه لم يكن نصرانياً. وهذا يحملنا على القول بأن أباها بقي مزدكياً حتى أنها لم تطلب له ما طلبت لنفسها ولولدها من مغفرة الخطايا والرحمة والملك مع الله في مجد الآخرة. هذا ومن أعجب ما في هذه الحجة الاستدلال بمذهب عمة امرئ القيس على مذهبه مع أن حضرة الأب المستدل لم يرض باستدلال من استدل بالنصوص الواضحة الصريحة على أن أباه وجده كانا على دين المزدكية. ومن المعلوم أن الولد في الغالب المشهور يكون على دين آبائه لاسيما أهل الجاهلية. فلكم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} ولم نسمع أنهم قالوا: إن الولد على دين عمته أو خالته كما أسفلنا قبل هذا. ودونك ما نقول عن الدليل الثامن: الاستدلال على نصرانية امرئ القيس بكون أمه كانت تغلبيةً ومن ثم أنها كانت نصرانيةً وعليه فامرؤ القيس نصراني هو في غاية الضعف والوهن. فقد مر بك أن تغلب لم تكن كلها نصرانية ولاسيما قد أبنّا لك أن أخوي فاطمة أم امرئ القيس وهما كليب والمهلهل كانا على الوثنية فيكف يُستنتج بعد ذلك أن أمير الشعراء كان نصرانياً؟ هذا وقد يكون في البيت الواحد عدة أشخاص ولهم أديان مختلفة وهو أمر مشهور في الجاهلية. ثم أن الأب قد ذكر في دليله التاسع ما زين لنفسه أن يقول إنه أقوى الأدلة وهو إرسال

الملك يستنيان ننوس سفيراً إلى الحبشة والحميريين وقبائل البادية لكي يولي امرأ القيس رئاسة فلسطين. لكن لا نرى كيف يستدل بذلك على نصرانية الشاعر والملك الضليل. ولقد أجنبا أن مثل هذا لا يستنتج منه وحدة الدين في المولّي والمولّى بل يتحصل منه حسن التواصل بين القيصر والشاعر لا غير. وقد فعل القياصرة مثل ذلك في غير النصارى كما يشهد بذلك التاريخ والأمثلة كثيرة فلتراجع في مظانها. وأما دليله العاشر فلا يخرج عن دائرة المعنى المتقدم ذكره والجواب عليه واحد. فليعد إليه والعود أحمد. فيتحصل مما تقدم شرحه الحقائق الآتية وهي: 1 - أن امرأ القيس كان مزدكياً ولا ريب في ذلك. والسبب هو لأن أباه وجده كانا على هذا الدين. ومن ثم فالأبناء يعتبرون على دين آبائهم إن لم يأت ذكر صريح بكونهم اتبعوا ديناً آخر. ولما لم نقف على أثر يؤيد أن امرأ القيس خالف دين آبائه فالنتيجة واضحة كون الابن اتبع الأب في مذهبه. على أننا لا نريد بقولنا أنه كان مزدكياً كان من المتحمسين في دينه؟ كلا، بل على حد ما كان الغير متبعين أديانهم. يعني أنهم كانوا ينتحلون من الدين ظواهره وقشوره لا غير. 2 - لا يجوز لنا أن نقول أن فلاناً من أهل الجاهلية كان على دين كذا ما لم يصرح بذلك أحد الأئمة. فإن حرمنا هذا السند فيجب حينئذ أن نتضافر عدة أدلة لامعة على سد مسد هذا السند وإلا فمن اللازم أن يعد ذلك الرحل بين جماعة المتدينين بدين دهماء العرب أي التوحيد مع عبادة الأوثان أو بدين طائفة عقلاء العرب وحكمائها يعني بالحنفية. (حاشية: - إن الأئمة من المتكلمين في الأدب واللغة والتاريخ قد ذكروا كل من كان على دينٍ من أهل الجاهلية وصرحوا به تصريحاً بيناً. ولم نجد أحداً نسب النصرانية إلى امرئ القيس إلا أنهم نسبوا المزدكية إلى أبيه وجده ولهذا ورد فيه: إنه القائد لمن سلك مسلكه إلى النار مع أن كلام الأئمة في أهل الفترة يأبى كونه من أهل النار إذا كان على النصرانية أو اليهودية يعني إذا كان من أهل الكتاب). 3 - الاستدلال بأسماء العرب أو بدين قبائلها وعشائرها وأقوامها على حقيقة دين الواحد منها أو ببعض عوائده الملية أو ببعض مبهم إشاراته وتلميحاته وكلامه غير كافية لإقامة

الدليل على جوهر دينه. اللهم إلا أن تجتمع هذه الحجج العامة مع حجج خاصة فحينئذ تحمل تلك محمل هذه فيتبين الحق ويتصرم الباطل. وهذان الدليلان يوضحان أن امرأ القيس على دين المزدكية ولم يكن أبداً على دين آخر ولاسيما النصرانية كما توهمه الأب لويس شيخو اليسوعي. 4 - إن ما يزيد إشكالاً مسألة دين عرب الجاهلية وجود عدة أديان وفرق كانت تقول كلها بالتوحيد. ولم يكن اليهود والنصارى وحدهم موحدين ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه الحقيقة. وكتبة العرب قد ذكروا معتقد تلك الفرق بحيث لا يبقى في الأمر شبهة البتة. وعليه فإننا إن عدلنا عن القول بمزدكية امرئ القيس (وهو أمر بعيد) فلا جرم أننا نميل إلى القول بأنه كان موحداً إلا أنه لم يكن نصرانياً مهما حاول الغير أن يثبتوه لضعف براهينهم في هذا الصدد. وفوق كل ذي علم عليم. بغداد أحد قراء المقتبس

حكم إنكليزية

حكم إنكليزية الحياة الحياة أمر خطير ولكنه بهيج محفوف بالنعم والفرص الثمينة الحياة لا تقدر بالسنين فقط لأن الحوادث أحياناً هي أفضل ما تحصى منها الأمر الوحيد العظيم للمرء أن يكون له في الحياة مسلك خاص به يكاد يؤسف لكل خطوة نسيرها في الحياة إذا تأملنا خطوات أخرى كثيرة كان يتيسر أن نخطوها الحياة أمثولة في التراضي فإننا أبعد ما نكون عن الرضا متى نلنا كل ما نريد جعلت الحياة للعمل لا للبطالة - للكد في الخطر والخوف ولعمل شيء من الخير قبل أن يأتي الليل الذي ينقطع المرء فيه عن العمل وما كانت الحياة ليحاول بها المرء الاستمتاع بجنة في الأرض محن الحياة كثيرة تعرض على الدوام وكثيراً ما تغير في لمحة كل ما نفكر فيه ونشعر به الطفولية والشباب تنيخ حول الطفل جميع الفضائل الثلاث وهي الإيمان والرجاء والمحبة ليس في الطفل ما ينذر بمخاوف المستقبل ولا تذكر أحزان مضت خصال الرجل في أوائل عمره خصاله إذا بلغ أشده كل أمر يبدأ في الدنيا صغيراً فيما يتناوله المرء من الأعمال كما أن كل بشر يبدأ الحياة من الطفولية الشباب سعادة علية في نفسه لأن الممكنات منطوية تحته بأسرها وليس فيه ما لا يمكن رده أكثر ما يعمله الإنسان في حياته هو ما يعمله في شبابه للشباب الخطأ وللكهولة الكد وللشيخوخة الأسف العمل الواجب ثق بأن الحق عامل للقوة وعلى هذا الإيمان أجسر أبداً على عمل ما تراه من الواجب عليك العمل الواجب لا يعبس وجهه إلا متى هربت منه وإذا تابعته تبتسم إن من يعملون ما يجب عليهم في الأمور اليومية الحقيرة هم الأولى يقومون به في الشؤون

العظيمة ما عرفت أنه يجب عليك فاعمله في الحال ما يجب دائماً على كل إنسان لرفقائه هو أن يعرف ما فيه من القوى والمواهب الخاصة ويؤيدها لنفعهم يتكامل العقل لا بالعلم بل بالعمل لا يهم كل إنسان خيبة سعيه أو نجاحه بل أن يعمل ما يجب عليه حتى الموت نحسب ما له من النور العمل والهمة لا خطر للمرء ولا كرامة له إلا بالعزم الفاضل ما نفع العافية والحياة إذا لم نعمل بهما عملاً من وجد عمله فقد وجد السعادة التي عليه أن لا يطلب غيرها لا مبالغة بأن العمل الخالص يكاد لا يضيع بتة فإننا إذا لم نجد الكنز الوهمي في الحقل أخصبناه بالعمل على الأقل ألا تعلم أنك كلما كنت أنشط على العلم كانت سعادتك أكثر لا تعد مواهب المرء شيئاً إذا لم تكن مقرونةً بموهبة العمل من العجب أن بعض الناس يحسبون لذة الحياة بلا عمل أمراً باهراً وهم يسوقون غيرهم إلى عمل بلا لذة. النجاح ليس للإنسان أن يقضي بالنجاح وله أن يفعل أكثر من ذلك وهوان يستحقه سر النجاح حصر الفكر في الشيء المطلوب وهو ما يسبق كل عمل عظيم في الحياة سبب نجاح من يهتمون بأمورهم أن منازعتهم كانت قليلة تيق أن عطية النجاح ليست إلا إتقان العمل في كل ما تعمله بلا التفات إلى الشهرة التي إذا اتفق أبداً وقوعها كانت من باب الاستحقاق لا من باب غرض يسعى إليه. كيف تستطيع إتيان عمل في الدنيا أو تنجح في شأن من شؤونها إذا لم تكن لك ثقة بنفسك. إذا شئت النجاح في الحياة فاجعل المواظبة صاحبك العزيز والخبرة مشيرك الحكيم والحذر

أخاك الأكبر والرجاء خُلقك الحارس بيروت يوحنا ورتبات

التعليم بالعربية

التعليم بالعربية تحيا لغة كل أمة بحياة سياستها فإذا انتعشت هذه خدمت تلك فانتشرت ونمت. ومتى ضعفت السياسة ضعفت اللغة بضعفها. فقد رأينا اللغة الإنكليزية تغلبت على الفرنسية أو كادت في معظم أقطار المعمور لأن سياسة إنكلترا وابنتها الولايات المتحدة نافذة في القارات الخمس ولأن الشعوب الإنكليزية السكسونية أرقى الأمم بعلومها وآدابها وأخلاقها وصناعاتها ومتاجرها واستعمارها. واللغة أيضاً كالتجارة تابعة لعَلم الدولة فحيثما خفق لواء أمة وانبسط ظل سلطانها تتغلب بالطبيعة لغة ذلك العَلم والسلطان. والناس مفطورون على تقليد حاكمهم في منازعِه ومناحيه تقليدهم له في شعاره. واللغة رأس كل تقليد وشبُّه. وعلى هذه السنة جرى المغلوبون على أمرهم من الروم والقبط والترك والفرس في الدولة الأموية والعباسية وأخذوا يتلقفون العربية خصوصاً بعد أن نُقلت لغة الدواوين في عهد عبد الملك بن مروان الأموي من الرومية والفارسية إلى العربية وقال سرحون كاتب عبد الملك لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم. وقد اهتم الإنكليز لما احتلوا هذا القطر بجعل التعليم بالإنكليزية في مدارسه لينشأ لهم على الزمن جيل جديد يفهم مغازيهم ومراميهم ويكون عونهم على تأليف القلوب وواسطة للتفاهم فلا يستثقل ظلهم ولا يتبرهم بدولتهم. ومن تعلم لغة قوم وثق بهم وعرف تاريخهم وشرائعهم وأشرب قلبه حبهم. ولطالما رأينا من تعلموا العربية من متعصبي الإفرنج هاموا بالعرب وتاريخها وشريعتها ولا هيام أهلها بها وغاروا عليها غيرة الكرام. وكذلك الحال بالإنكليزية مثلاً فإنا نرى متعلميها يتشيعون لأهل تلك اللغة. ومن علم شيئاً والاه ومن جهل شيئاً عاداه. حمي وطيس الحوار في الشهر الماضي في بهو الجمعية العمومية في هذه العاصمة بشأن إعادة التعليم بالعربية في المدارس الأميرية المصرية إلى ما كانت قبل سنة 1889 فكانت حجة الحكومة أن العربية لا يتسع صدرها ولا ينطلق لسانها للعلوم العصرية وما تنتجه حضارة الغرب كل يوم من المسميات التي لا أسماء لها في هذه اللغة وأنها لو سمحت الآن بإعادة التعليم بالعربية في المدارس لأعوزها الأساتذة والكتب. وليس هنا محل تفنيد الآراء التي تمليها الأهواء السياسية في هذا الشأن، وإنما نلم بذكر رأينا العلمي في هذه اللغة التي يرميها المماحكون بأنه يتعذر عليها أن تكون بعد لسان العلم ومباءة الحكمة الغربية.

إن كل منصف للعربية ليراها قد اتسعت لكل ما ألقي عليها من علوم الحضارة ومطالبها ولم تتخرج من إدخال الكلمات الدخيلة التي لا عهد لها بها فما وجد التراجمة والنقلة في العهد الأول مرادفاً له في أصل اللغة وضعوه وما لم يروا له لفظاً أو مادةً يشتقون منها نقلوه على أصله أو نحتوه بعض النحت بحيث لا يصعب على العربي أن ينطق به لمخالفته الصيغ المألوفة. هكذا جروا في معظم الألفاظ الفقهية والكلامية والفلسفية والنجومية والطبيعية والطبية والرياضية والزراعية والكيماوية. ولم يكن التراجمة كلهم من الماهرين بالعربية بل كان المترجمون كثيراً ما ينقلون المعاني وعلماء اللغة والمحيطون بشواردها وضوابطها يضعون الألفاظ والمصطلحات وكثيراً ما كانوا يترجمون اللفظة الواحدة إذا عجزوا بجملة تفسرها. وهذا مألوف في معظم اللغات وقلما يكون لكل لفظة في لغة مرادف لها في اللغة الثانية ولاسيما إذا كان النقل من لغة غربية إلى لغة شرقية كما كان صدر الدولة العباسية. والعلوم نقلت عن الرومية والنبطية والفارسية والنقل عن الرومية أكثر. والرومية غربية بعيدة عن العربية الشرقية في أسلوبها. ألا وأن كتب الأسلاف لتشهد أبد الدهر بأن العربية تقل كل دخيل وعلم. وفي المؤلفات العلمية التي ظهرت في مصر على عهد محمد علي وسعيد أكبر دليل على ذلك. فقد كان المترجمون ينقلون الكتب إلى العربية فيجيء المصححون في دار الترجمة يقوّمون العبارة وينظرون في بعض ما له مقابل من اللغة. كان ذلك قبل ثمانين سنة واللغة العربية منحطة لارتفاع سند العلوم الكونية من بين أهلها قروناً فما بالك اليوم وقد ارتقت لهجة اللغة واستحكمت ملكتها في القائمين على الكتابة والتدريس وصار كثير من العامة ممن شغفوا بالمطالعة يميزون بالفطرة بين صحيح الكلام وفاسده وأصبح أكثر تلك العلوم لأبنائنا مألوفاً بل غدا معظم المترجمين ينقلون في أصعب الموضوعات بأسلوب تكاد لا تقرأ فيه صورة الترجمة لسلاسته. نعم إن الواحد منا قد يصعب عليه اليوم نقل علوم لا عهد لنا بها كعلم الحياة (بيولوجيا) مثلاُ فلا يكون ضعفه في ذلك دليلاً على ضعف اللغة التي لم تحشر إلى ذهنه ساعة الترجمة ألفاظها وتراكيبها بالسرعة التي يريدها بل الذنب كل الذنب على جهله العلم لأن فهمه يتوقف على الإحاطة بعلوم كثيرة ليست من المألوفات عنده. وأنى يتأتى لمن لا يفهم

الأصل أن يحسن نقله بألفاظ وأسلوب يفهمه من لم يفهمه واللفظ والمعنى يخونانه؟ ولو درسنا هذا الفن على أهله لما صعب علينا نقله بأسره فنترجم الألفاظ التي لا مرادف لها عندنا بجملة ريثما يقوم من يضع لها مرادفاً في لغتناً أو نأخذها كما هي في اللغات الإفرنجية على نحو ما أخذنا كثيراً من الألفاظ في العهد الأخير وأدمجناها في مطاوي كلامنا. والعربية ليست دون التركية في معنى النقل فإن الأتراك فتحوا باب النقل من اللغات الأوروبية فاغتنت لغتهم على قلة مادتها الأصلية بآداب الأمم الغربية وعلومها. ولو أتيح للعربية أن يعاد قلم الترجمة إلى القاهرة كما كان لا يصعب على المدارس الابتدائية والثانوية والعالية أن تسير مع العلم الغربي كتفاً إلى كتف. فلا يفوتنا هنا اليوم ما نُشر في الغرب أمس. وكيف يطلب من العربية الآن أن تحوي كتباً بأحدث ما تم من أبحاث العلم واكتشافاته بعد أن بطلت منها الترجمة في العلوم العصرية منذ أبطلت كلية بيروت الأمريكية تدريس العلوم بالعربية وجعلتها بالإنكليزية وقضت نظارة معارف مصر أن تكون الإنكليزية أيضاً لغة المدارس وضعف تعليم آداب اللغة في مدارس الأجانب في سورية وفي المدارس الأميرية بمصر. وكان من هذا الضعف أن زهدت النفوس في تعلم لسان العرب وانتهى أمره إلى نفر من المولعين به وهم أفراد لا يبنى عليهم حكم في مصر والشام والعراق وتونس. بل وكلت خدمته لمرتزقة الكتّاب كأكثر محرري الجرائد وكتاب الروايات وبعض أساتذة المدارس ومعظمهم لا يهمهم من اللغة إلا أن يكتبوا ما يُطلب منهم أو يعملوا في الدائرة التي حددت لهم. وبديهي أن الناس لا ينبعثون إلى التأليف في لغة إلا إذا وجدوا المنشطات عليه والدواعي الحافزة إليه كأن تقبل الدولة ما يؤلفون وتنيلهم الجوائز عليه وتطبعه على نفقتها وتدرسه في مدارسها. وإنما يرغّب الناس في العلم وهو أشق الصناعات وأشرفها رواج سوقه بين الخاصة والعامة ولكن إذا رأى المؤلفون أن بضاعتهم مزجاة وأن أرقامهم كعباً لا يربح من قلمه ما يسد جوعته وأسعدهم من لم يُضطهد في سبيل نشر علمه فهيهات أن تنشط اللغة من عقالها. وإذا لم توفق مصر إلى جعل التعليم بالعربية يستحيل أن توجد كتب علمية أو ينشأ لها نشؤ يحسن الكتابة والخطابة على مناحي البلغاء. دع عنك الأفراد فإنهم

لا يخلو منهم زمن مهما بلغ من انحطاطه العلمي والاجتماعي.

يا عدل

يا عدل متى تحضر نطب يا عدل بالا ... وأما أن تغب عنا فلا لا وكم واعدتنا يا عدل وصلاً ... رجوناه فلم تُنِل الوصالا وطالبناك بالإنجاز لما ... مطلت فلم تزد إلا مطالا إلى الناس التفت يا عدل يوماً ... فإن عليك للناس اتكالا زوالك لا تهنّأ مُحضِروه ... يكون لعز مملكة زوالا وإن السعد حيث طلعت يبدو ... وإن الأمن حيث تميل مالا وإنك كالصباح إذا تجلى ... وأسفر عن عمود قد تلالا وإنك قد أضأت الناس قدماً ... وإنك كنت حينئذٍ هلالا فكيف وأنت هذا العصر بدرٌ ... بلغت تمام ضوئك والكمالا تواري نورك المحبوب عنا ... وتحجب عن محبيك الجمالا أقم للحق ديواناً عظيماً ... ورخّص كي نلمّ به عجالى فنقرأ في ظلامتنا كتاباً ... ونشكو في حضورٍ منك حالا * * * وقفت وأعيني مغرورقات ... على ربع لميَّة قد أحالا على ربع لمية زايلته ... ولم يكُ عرف مية عنه زالا أسائله فلم يُرجع جوابي ... كأن الربع ما فهم السؤالا وقفت محاذياً طللاً حكاني ... به وحكيت دارسه هُزالا كأني إذ أسائله خيالٌ ... يخاطب في معطّلة خيالا ذكرت به زماناً فيه ميٌّ ... تلاعبني وتوليني الوصلا وصالاً قد نعمتُ به كأني ... شربت به على ظمأ زلالا * * * ألا يا ميّ حبك في فؤادي ... كمثل النار يشتعل اشتعالا أبيني كيف ليلك قد تقضى ... فبعدك ليلنا يا مي طالا أمية نوّلينا منك قرباً ... أمية ثم لا تذري النوالا ولم نك إذ منعت الوصل ندري ... أبخلاً كان ذلك أم دلالا

أذنب يا رعاك الله أنا ... عشقنا منك يا مي الجمالا * * * أدر في الربع عيناً منك وانظر ... إلى حال إليها الربع حالا تولّى فيه عنك العيش حلواً ... فخلّ العين تنهمل انهمالا وما الربع الذي أخبرت عنه ... سوى الوطن الذي ركناه مالا وليس سوى العدالة ما هوينا ... وميٌّ قد ذكرناها مثالا إذا أمست حياة المرء عبئاً ... عليه لا يطيق لها احتمالا ولازمه من الأحزان داء ... وأصبح داؤه داءً عضالا وقد فرحت أعاديه شماتاً ... وفارقه أحبته ملالا فليس سوى الحمام له طبيب ... يداوي منه آلاماً توالى فإن الموت يرحمه وينفي ... خطوباً قد نزلن به ثقالاً وإن الموت ملتجأٌ كريم ... لمن ألقى بساحته الرحالا فزرنا عاجلاً يا موت زرنا ... فإن لنا بزورتك احتفالا ويا نفس ارحلي عنا ففينا ... بقاؤك لم يكن إلا ضلالا ودوسي في طريقك كل صعب ... بعزم تنطحنين به الجبالا فإن إن برحت الحسم منا ... سموتِ إلى ذرى جو تعالى * * * نفرّ من الحياة إلى المنايا ... لأن حياتنا أمست وبالا نريد من الكروب بها خلاصاً ... وعن دار الهوان بها ارتحالا وإن لنا إذا متنا حياةً ... ننال إلى السماء بها انتقالا ستخرج عن مضيق الجسم روحي ... وتُلْفي في الفضاء لها مجالاً بقاء الروح بعد الجسم أمر ... به اختلفوا ومن يدري المآلا فقال البعض أن الروح تبقى ... إذا انفصلت عن الجسم انفصالا وقال البعض أن النفس تفنى ... إذا لاقت قوى الجسم انحلالا فظن بقاءها حتماً أناس ... وعدّ بقاءها قومٌ محالا

وقد قلنا به ونفاه بعض ... وأن لنا مع النافي جدالا بغداد ج. ص

هنود أمريكا

هنود أمريكا لما وطئت أقدام البيض قارة أمريكا ألفوا أنحاء كثيرةً منها مأهولةً بالهنود فدهشوا لما رأوا، كما عجب الهنود من رؤية البيض وتوهموهم آلهةً بادئ الرأي. فأخذوا يسجدون لهم ويعبدونهم ويقدمون لهم الهدايا النفيسة كالقطع الذهبية الكبيرة التي لم يكن لها قيمة عند الهنود. ولقد وهم المكتشفون الأوروبيون في ظنهم أن سكان أمريكا الأصليين على جانب من الحضارة والعمران، بيد أنهم لم يلبثوا في ذلك العالم الجديد طويلاً حتى تحققوا أن أولئك الهنود هم قوم جهلاء انقضت عليهم ألوف من السنين وظلوا على حالة واحدة من الخشونة والجهالة. فكانت الفلاحة عندهم في ذلك العهد غير معروفة. وكانوا يعيشون من الصيد وثمار الأرض الطبيعية. وكانت بنادقهم أقواس النشاب ورصاصهم الأحجار المحددة وسيوفهم العظم والصوّان. وكانت مساكنهم من تراب الأرض وأعشابها، ولم تكن إلا أكواخاً حقيرة ملأى بالأقذار لا ترتيب فيها ولا نظام، وكان معظمهم بدون مساكن يعيشون كالحيوانات البرية، وإذ كانوا يطوفون البقاع والربوع للقنص والصيد اضطرتهم حالة الإقليم إلى عمل الخيام من جلود الحيوانات التي كانوا يصطادونها ويعيشون من لحومها وكثيرون منهم ما برحوا عائشين كسابق عهدهم. اهتم علماء أوروبا بأمر أولئك الهنود فأخذوا يبحثون عن أصلهم وانقضت عشرات السنين على أبحاث كثيرين منهم وإلى اليوم لم يتوصلوا إلى معرفة ذلك. فذهب فريق من العلماء إلى أن أصل هنود أمريكا من أوروبا، وذهب فريق آخر إلى أن أصلهم من آسيا وهذا المذهب هو المعوّل عليه اليوم. أما كيفية نزولهم أمريكا وعهد مجيئهم إليها فهما من المسائل الغامضة عند أهل البحث والعلم إذ ليس من تاريخ لذلك وليس ثمة آثار تفيد في هذا الباب على أن أصل الهنود واحد وهم عريقون جداً في القدم. والدليل على أن الهنود من أصل واحد تشابه سحناتهم على تباين عشائرهم في جهات من مختلف الأقاليم في قارة أمريكا. والدليل على قدمهم تفرع لغتهم الأصلية التي تختلف من الخمسين إلى الستين فرعاً. وكل هذه الفروع منسوبة إلى أصل واحد هو الأصل السامي.

ويستلزم تفرع هذه الفروع العديدة من لغة واحد دهراً طويلاً. وبحث جمهور من علماء القرن المنقضي عما إذا كان هنود أمريكا من أصل قبل الطوفان أو بعده فكانت نتيجة أبحاثهم بأن أقرّ فريق منهم على أن الهنود من أصل قبل الطوفان. وذهب فريق آخر إلى أن أصلهم من بعد الطوفان. والحقيقة أنه ليس هناك أدلة تدل دلالة صريحة بحسب قوانين العلم الحديث على كون هنود أمريكا من خمسة آلاف سنة. ويقول علماء الدين إنه انقضى على الطوفان نحو أربعة آلاف سنة. فإذا صح هذا الزعم فيكون مذهب الذاهبين إلى أن الهنود من أصل بعد الطوفان فاسداً. ورجع علماء أصول اللغات في هذا العصر أن أصل لغة الهنود ساميٌّ وإن هؤلاء الهنود من آسيا. ولقد تأملت ملياً في كثيرين منهم في أوقات مختلفة فوجدتهم يشبهون الكلدان وعرب البادية من وجوه كثيرة. وغنيّ عن البيان أن قارة آسيا أقرب القارات من قارة أمريكا الشمالية. فالحاجز بين القارتين خليج بيرين المعروف. * * * عرف عام 1891 أن لكل قبيلة من الهنود لغة مختصة بها وثبت أن للهنود 59 لغة. أما عدد عشائرهم فقد ناهز الثمانمائة عشيرة. وعدد الهنود في الولايات المتحدة الآن 267. 000 نفس 80 ألفاً منهم على جانب من التمدن و177. 000 لا يزالون على جانب عظيم من التوحش كما كانوا في القرون الغابرة و60 ألفاً يحسبون من جماعة المصوتين في انتخابات الرؤساء والحكام والولايات. ولم يبق من أملاك الهنود الخصيبة التي كانت على التحقيق 276 مليون آكر غير سبعة ملايين وأكثرها من الأراضي التي لا تصلح لغير رعي الماشية. ويرد تاريخ مساعي حكومات الولايات لتهذيب الهنود إلى عام 1775 فإنها أخذت على ذاك العهد تنفق المبالغ الطائلة في تعلمهم فذهبت تلك الأموال ضياعاً لأن الهنود غلاظ الرقاب ميالون إلى اللهو وقضاء العمر في التنقل من بقعة إلى أخرى. ولئن ذهبت أتعاب الولايات المتحدة بدون جدوى في أول الأمر فإن هذه العقبات لم تقف في طريق الحكومة الغيورة على تهذيب شعوبها. فقد جدد مجلس الأمة الهمة عام 1877 وبدأ بافتتاح المدارس الخصوصية للهنود لتعليمهم أولاً القراءة والكتابة والحساب. ثم العلوم وواجباتهم نحو الدولة

والأمة والوطن والدين والإنسانية. ولم يأت ربع قرن على تأسيس تلك المدارس بين الهنود حتى استنار كثيرون منهم بقبس المعارف وأصبحوا يعدون من رجال الدولة والأمة فكان من حكومات الولايات أنها أبدت بما قامت مثالاً لكل دولة لا تحفل بتهذيب شعوبها وأن التهذيب هو مطلب هذا العصر وأن العزائم القوية تبدد غياهب الجهل وأن الهمم العلية تخترق جبال المصاعب. وبعد فقد كان الهنود سابقاً يعدون بالملايين أما اليوم فقد انقرض معظمهم ولم يبق منهم أكثر من 400 ألف نفس ذلك لأن حكومات الولايات حصرتهم في بقاء خاصة في أمريكا الشمالية. فحرموا من المنافع الصحية التي كانوا يتمتعون بها أيام كانوا يمرحون ويسرحون في طول البلاد وعرضها أيام لا منازع ينازعهم ولا حاكم يقيد حديثهم أيام كانوا يعيشون من خيرات الأرض الطبيعة وصيد الحيوانات. ومن أسباب انقراض نسل هذا الشعب المتوحش القديم حصرا لزواج في العيال والعشائر ولولا اختلاط زواج الهنود ببيض أوروبا وعبيد أفريقيا لكان عددهم اليوم قليلاً جداً. ولعل لبقاء إلا نسب فعلاً في الأمر والله أعلم. الولايات المتحدة. أوماها نبراسكا يوسف جرجس زخم

مقاومة الالكحول

مقاومة الالكحول ثبت للباحثين في أدواء المجتمع الأوروبي منذ أوائل القرن التاسع عشر أن الالكحول على اختلاف أجناسها تحدث المضار الجسيمة فتهلك الأنفس وتبيد الأموال وتشوه الخلقة وتؤثر في النسل والعقل وأن أقل ما يصيب المدمن جنون مطبق وسبة يلحقه عارها أبد الدهر فقام الصالحون من أهل ذاك المجتمع يناهضون الالكحول دفاً لغوائلها ولاسيما ف البلاد التي يزعم بعضهم أنها وقاية لهم من برودة الجو كروسيا والسويد وشمالي فرنسا ونورمنديا وإيرلاندا. توفر المقامون على مناهضة المسكرات فأثمرت أعمالهم على تواليا لأيام ثمرات غضة نافعة جناها أهل بلادهم فكان من السويد بفضل وعظ الواعظين أن أصبح يصيب الفرد من أهلها في السنة ستة لترات من المسكرات بعد أن كان يصيبه سنة 1830 أربعون لتراً وكان بدأ لإفراط في تعاطي المسكرات ببلاد السويد منذ أواخر القرن الثامن عشر. وقد جاهد بطرس ويزلكران عميد مدينة غوتمبورغ ثلاثين سنة جهداً حسناً فوفق عام 1855 إلى وضع حد للألكحول وكانت أفكاره في هذا المعنى أساساً للقوانين التي سنتها حكومة السويد وجرى العلم بها. وهذه الأعمال ترمي إلى شدة في معاملة بائعي المسكرات وصانعيها. قالت الطان ضربت الحكومة السويدية على صانعي المسكرات ضرائب فاحشة وأخذت تزيدها الحين بعد الآخر بلغت سنة 1888 - 138 فرنكاً على كل هكتولتر (مئة لتر) فعجزت المعامل الصغيرة عن صنع المشروبات إذ قضي على كل معمل أن يخرج في اليوم أربعة هكتولترات من الالكحول الخالص أو يغلق أبوابه ولم تسمح الحكومة بتنزيل هذا المعدل إلى هتكولترين ونصف إلا سنة 1871 وحظرت عمل الالكحول إلا في شهرين من السنة ثم تسامحت ورخصت على توالي السنين بأن تصنع سبعة أشهر في السنة. فكان من ذلك أن قل في السويد عاصروا الخمر فبعد أن كان فيها سنة 1829 - 124، 172 معملاً نزل عددها سنة 1898 إلى 128 معملاً. وجعلت السويد ببيع المسكرات حراً في الجملة إلا أنها جعلت معدل ما يباع منه بالجملة 250 لتراً وأن لا يباع بالمفرق أقل من لتر واحد ليأخذها المبتاع معه ولا يشربها في محل ابتياعه لها. وعاملت الحانات بأقصى الشدة فأمرت أهلها أن يغلقوا محالهم الساعة الثامنة

مساء في القرى والساعة العاشرة في المدن ولم تسمح لبائع المسكر أن يتقاضى مالاً من غريم له باعه خمراً بالنسيئة. وضربت اثنين وأربعين فركناً ضريبة على كل هكتولتر من الالكحول الصافي فأصبحت تمر في أربع ولايات من تلك البلاد فلا ترى فيها محلاً واحداً لبيع المسكرات. وقامت جمعيات تنشئ مطاعم لا يقدم فيها الشراب إلا بأثمان فاحشة وأنشئت في أنحاء كثيرة من البلاد غرف للمطالعة ليلهو فيها العامة عن الاختلاف إلى الحانات فنزل معدل تناول المشروبات الروحية في العشرين سنة الأخيرة إلى أربعين في المئة بمدينة استوكهولم وإلى خمسة وأربعين في مدينة غوتمتبورغ وسنت سنة 1892 قانوناً إجبارياً يقضي فيه على جميع المدارس أن تلقي دروساً في طبيعة الالكحول وتأثيراته المضرة. وقد حذت سويسرا حذو السويد في مقاومة المسكرات فقامت في كل ناحية من أنحائها جمعيات تدعو إلى الإقلاع عن المسكرات وجمعيات لمقاومة الالكحول ومؤتمرات للدعوة إلى مقاومة لابسنت لأنه ثبت أنه من أضر المشروبات الروحية. ولما قتل أحد السكيرين في مقاطعة فود زوجته وابنتيه منذ سنتين هاج أهالي تلك المقاطعة وقدموا للحكومة محضراً فيه زهاء 75 ألف توقيع وهو ربع عدد السكان. فاضطر مجلس النظام هناك إلى إصدار قانون شديد في منع المسكرات وحصرها حتى كان ربح تلك المقاطعة وحدها من احتكار الابسنت نحو ستة ملايين فرنك هذه السنة وقد أضر هذا الاحتكار بكثير من أرباب معامل الابسنت وأقفلت بيوت كثيرة كان أهلها يرتزقون منه فآثرت الحكومة مصلحة البلاد على مصلحة الأفراد. وهكذا كل حين تنشأ المجامع وتعقد الجمعيات لمقاومة المسكرات في الجمهورية السويسرية. وكذلك فعلت أيرلندا فنادى رجالها سنة 1838 بالإقلاع عن المسكرات وكان بلغ إذ ذاك عدد محال بيعها 21326 وما برحوا يكافحونها وأهلها حتى نزل عددها إلى نصف ذلك بعد عشر سنين وأغلقوا الباقي ويقل اليوم في أيرلندا عدد السكيرين واحداً في المئة كل سنة فقد كان يصيب الفرد من الأيرلنديين سنة 1903 سبعة وثمانون فركناً في السنة ثمن المشروبات فأصبح معدل ما يصيبه سنة 1905 خمسة وسبعين فرناً ولا يزالون يسعون إلى تقليل هذا المعدل. ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن في نيويورك وسكانها نحو ثلاثة

ملايين ونصف 10820 محلاً لبيع المسكرات بالمفرق وفي باريس وسكانها مليونان ونصف 20. 000 وفي لندن وسكانها أربعة ملايين ونصف 5860 محلاً. هذه خلاصة ما تلوناه بالإفرنجية في هذا الشهر وكنا كلما تلونا إحصاء أو فكراً نافعاً في هذا الباب نذكر ما قاله بنتام المشرع الإنكليزي (1748 - 1832) في كتابه أصول الشرائع من أن الخمر في الأقاليم الشمالية يجعل المرء كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يصبح به كالمجنون ففي الأولى يكتفى بالمعاقبة على السكر لأنه عمل فظيع وفي الثانية يجب منعه بطرق أشد لأنه أشبه بالتشرر ولقد حرمت ديانة محمد جميع المشروبات الروحية وهذا التحريم من محاسنها. فإذا رددناه ذكرنا أن هذا التحريم لم ينفذ بالفعل في الممالك الإسلامية إلا على عهد نور الدين محمد بن زنكي صاحب مصر والشام وديار الجزيرة فإنه أبطل صنع المسكرات في أيامه من البلاد وأقفل الحانات وعاقب الشريب الخمير بأقصى العقوبات فانتفعت البلاد من هذا المنع الشديد فوائد حسن أثرها على عهد خلفه صلاح الدين يوسف ومن بعده.

نبأ من الصين

نبأ من الصين من مقالة في المجلة الباريسية للصين اليوم عشرون فيلقاً في كل واحد منها فرقتان تحتوي على 12500 جندي وتؤلف كل فرقة من أربع كتائب من المشاة وكتيبة من الفرسان وثلاث بطاريات مدفعية وجماعة من المهندسين ويخدم الجندي في العسكرية تسع سنين ويخدم ثلاث سنين رديفاً يخدم فيها شهرين على رأس كل سنة بحيث يتأتى للصين أن يكون لها زمن الحرب مليون جندي منظم. وكان أبناء الأسرات الشريفة يستنكفون من خدمة الجندية أما اليوم فإن أشرافهم يخدمون ضباطاً عن رضى لما أشربته قلوبهم من حب بلادهم وكذل تجد بين الجنود شباناً جازوا الامتحانات الأدبية وآثروا خدمة أوطانهم على تقلد أعمال رابحة وليسوا في صبرهم على المكاره ورشاقة أبدانهم وخفة حركاتهم دون اليابانيين في شيء. وقد كان في أواخر سنة 1904 في الصين اثنتان وعشرون مدرسة حربية فيها 3364 ضابطاً وأساتذتهم من الألمان واليابانيين وترسل الحكومة بأذكاهم عقولاً إلى اليابان يتممون فيها دروسهم في المدارس الحربية يدرسون مع شبان يابان ويمثلونهم في فحصوهم حتى إذا خرجوا من المدرسة يقضون في الجيش الياباني ثلاث سنين أو أربعاً يمرنون فيها على الأعمال الحربية. يدخل الصين كل سنة نحو ثلثمائة ضابط وإذا أضيف إلى هذا العدد نحو ثمانمائة أو تسعمائة ضابط ممن يتخرجون في مدارس الصين نفسها كان للصين كل سنة 1200 ضابط جديد معلَّم وهناك ضباط من الدرجة الثانية يمكن استخدامهم عند نشوب الحرب كما فعلت اليابان في حربها الأخيرة مع الروس واستعملت من كان لديها على شاكلتهم، وقد قضت الإمبراطورة على كل حاكم كبير أن يبعث إلى يابان أو إلى مدرسة نانكين العسكرية بأحد بنيه يتعلم فيها الأعمال الحربية وأخذ ضباط الصينيين يحذون حذو ضباط اليابانيين في عنايتهم بالجند وتدريبه على الأعمال الحربية. تعتني الحكومة الصينية بأسطولها الحربي فإنه بعد أن دُمر في الحرب اليابانية أخذت تعيد إنشاءه بواسطة رجال قدموا للصينيين (خصومهم سابقاً) عدة طرادات ومدفعيات وقد أنزلت بعض هذه السفن الحربية إلى البحر في خلال الحرب اليابانية الروسية وافتخر الأميرال

الياباني الذي كان يرأس حفلة تسيير هذه السفن بأنه لم يعهد أن دولة أوروبية سلمت سفناً حربية وجعلتها تحت إمرة بلاد أخرى على حين هي مشتبكة في حرب أهوالها على ما ترون. هذا ما توصي عليه الآن الصين من السفن في المعامل الألمانية والإنكليزية. كل هذا تقوم به حكومة ابن السماء لتحسين حال الميزانية فإنها بعد أن كانت 350 مليون فرنك أصبحت مليارين ونصفاً. ولقد كانت العادة أن يعهد إلى حكام الولايات بجباية الأموال من مقاطعاتهم فيقضي عليهم القيام بجميع نفقات حكومتهم وإرسال ما بقي من الجباية إلى بكين. وبديهي أنهم كانوا يخفضون النفقات ويقتصرون منها على ما لابد منه ويرسلون إلى خزينة العاصمة أقل من القليل. ولطالما كان الحاكم يتنحى عن عمله بعد أن يتولاه ثلاث سنين بعشرة ملايين فرنك ربحاً خالصاً له على حين لم يكن راتبه ليتجاوز مائتي ألف فرنك ويقضي عليه أن يوزع من ثمانمائة إلى تسعمائة ألف فرنك رشوة. أما الآن فقد أخذت هذه العادات تتعدل بفضل حزب الإصلاح. نعم إن خونة الموظفين ما برحوا هم السواد الأعظم بين العمال على انه حدث منذ سنين أن حكاماً منهم خلعوا ربقة العادات القديمة وعفوا عن مال الأمة والتلاعب بها ليتغنوا من الرشوات. وأخذت الحكومة تجبي الجبايات على طريقة منظمة تتعلق بقصر بكين مباشرةً، وأصدرت الإمبراطورة بتحريض حزب الإصلاح أمراً تتهدد فيه الموظفين بأشد العقوبات والتعذيب إذا هم ارتكبوا وارتشوا، ووعدت أنها تزيد الرواتب إذا رأت أنها لا تقوم بنفقاتهم بحيث لا يبقى للحكام حجة يتوكأون عليها في تلاعبهم وقد كان ارتشاء حكام الصين أهم سبب لضعف مملكة ابن السماء. ولابد من التنويه هنا بأن الصينيين ما برحوا يستحلون ميع الاختراعات الأوروبية ويقبلونها واحداً بعد واحد فقد اتصلت مدنهم الكبرى منذ بضع سنين بالأسلاك البرقية والتلفونية. ولكن الصينيين يستنكفون من مخاطبة البيض وبعبارة أخرى الأوروبيين بواسطة التلفون ويستعملونه فيما بينهم في التخاطب. وإن وزراء الصين يبدون ارتياحاً لإنشاء الخطوط الحديدية وقد ذهبت الأيام التي كانوا يزعمون فيها أن تنين الأرض يجرح إذا مدت الخطوط فيغضب وتكون الهزات الأرضية دليل غضبه. ففي الصين اليوم عشرة آلاف كيلومتر من السكك الحديدية أنشئ بعضها أو مُنح امتيازه ويعمل به. وتخلف بعض

الشركات الأجنبية عن الإسراع في مد الخطوط الحديدية دعا حكومة الصين أن تعمد بعد الآن إلى مد السكك على نفقتها وتحرم البيض منها، وكل من يتسامح بعد الآن مع شركة أجنبية غير صينية من الحكام يعزل من وظيفته مؤبداً. لا جرم أن الصين أيضاً تحاول أن تنزع ربقتها من اليابان بعد أن تأخذ عنها ما تحتاجه الآن كما حاولت نزع يدها من يد الأوروبيين من البيض. قال أحد رجال الإصلاح فيهم: إن بلاد يابان على ما دخلها من الإصلاح منذ سنة 1868 ما برحت بلاد مملكة إقطاعات وحكومة أشراف وراثية أما الصين فحكومتها في الحقيقة أميل إلى الجمهورية ولذلك تختلف مقاصد الحكومتين. ومن المعلوم في التاريخ أن الصين ويابان قلما اتحدتا والأوروبيين لا يستفيدون من الشرق الأقصى إلا بدوام المباراة بين مملكة الشمس المشرقة ومملكة ابن السماء والظاهر أنهم يحاولون تطبيق مذهب مونرو على بلاهم القائل أمريكا للأمريكيين فعساهم يقفون عند هذا الحد ولا يقولون أوروبا للآسيويين.

كتاب من العالم الجديد

كتاب من العالم الجديد القانون الأساسي أعظم أسباب نجاح الولايات المتحدة وقد جاء فيه أن الولايات المتحدة ليس لها دين رسمي وأن الأديان كلها سواء في نظر الحكومة. ولهذا ترى الحكومة لا تنفق درهماً واحداً على معهد ديني وأهل كل دين يبنون معابدهم من مالهم لأنفسهم والمدارس خالية من التعاليم الدينية فيأتي المهاجرون إلى أمريكا بالألوف من جميع العناصر والنحل ولا يعدون أنفسهم غرباء بل يرسلون أولادهم إلى هذه المدارس يتخرجون فيها على النحو الذي ينشأ عليه أولاد الأمريكان الأصليين. وقد كتبت إليك سابقاً أن هذه المدارس حرة مجانية إجبارية للذكور والإناث. هذه المدارس لا تعنى بالتعليم العقلي فقط بل تصرف وكدها إلى تعليم أمور تعود بالمنافع الجسمية. فتعلم التلاميذ أصول اللبس والمشي لئلا يعتادونهما على غير الصورة المناسبة كما تعلم الطبخ وتدبير المنزل. والمدنية بهذه المدارس منتشرة بين أهل الحواضر والقرى على نمط واحد. وأعظم فرق بين مدارس أوروبا والمدارس هنا أن أهل أوروبا يعلمون صبيانهم في مدارس على حدة وبناتهم في مدارس خاصة بهن. والبنات والصبيان هنا يدرسون في مدرسة واحدة في المدارس الابتدائية والعالية يتربون سوية من الخامسة إلى الثامنة، العاشرة أو العشرين من العمر. ويدعي الأمريكان أن لهذه التربية محسنات جسيمة لم تثبت لي صحتها. ولكن مما لا شبهة فيه أن البنات يترجلن فترى الابنة الأمريكانية متخلقة بأخلاق الصبيان ولها من الجرأة والاعتماد على النفس ما للصبي. وإن الرجال يحترمون النساء كثيراً بحيث يبلغون حد الإفراط في ذلك ويعدون من أعظم الجنايات التعدي على امرأة أو ابنة ولو كانت زنجية. ترى الفتاة الجميلة ذاهبة وحدها في المحال البعيدة ولا يجسر امرؤ أن يقترب منها أو يسمعها كلاماً بذيئاً لئلا يجلب عليه عمله هذا ضروب البلاء. ذلك أن القوم إذا رأوه يكلم من لا تريد مخاطبته يتعذر عليه الخلاص منهم فيضربونه ويدمونه وربما ضُرب بحيث يوشك أن يهلك. وإذا قبضت الحكومة عليه تجازيه جزاءً شديداً. وإذا اعتدى معتد فاستباح العرض أو ما يشبهه فإعدامه أمر محقق على أي حال كان. وقد شهدت بعض حوادث من هذا القبيل وذلك أن عبداً صفع امرأة على خدها فأدى ذلك إلى سقوطها في الوحل فاجتمع الناس فبحثوا عنه فوجدوه وفي الحال تألف محكمة مؤقتة حكمت عليه بالإعدام فشنق

لساعته. ورأيت رجلاً من البيض اعتدى على عرض ابنة مراهقة فحكمت المحكمة عليه بالسجن المؤبد. وشهدت عبداً آخر التقى بفتاتين وطلب إليهما أن يقبلهما ومع أنه لم يمسسهما بيديه حكمت المحكمة عليه بألف ريال جزاء نقدياً لكل منهما النصف. وبالجملة فإن الاعتداء على النساء مهما كان فضعيف ويعده القوم جناية لا عفو فيها. فأين هذه الأخلاق من أخلاق المصريين الذين يتفاخرون بالتعرض للنساء المسلمات بقحة وسلاطة. وبعد فإن أمر التعليم في المدارس الأمريكية موكول إلى النساء فهن المعلمات وهن المديرات ولا تجد المعلمين من الرجال إلا في المدارس العالية. وقد كنت ذهبت إلى الجبال حيث المناجم والمعادن فشاهدت فيها مدارس تشبه مدارس أعظم الحواضر. رأيت أولاد عملة المناجم ممتعين بتربية وتعليم أحسن من أكثر أولاد الأكابر في بلادنا. وفي هذه المناجم ملايين من العملة وأقل أجرة للعامل ثلاث ريالات أمريكية في اليوم. ودور الكتب العامة من أسباب ترقي الولايات المتحدة بعد المدارس فترى في كل بلدة أو قصبة مكتبة عامة يدخلها الناس مجاناً. وتقسم كل مكتبة إلى أقسام بحسب حجمها وحجمها يكون على مقدار اتساع المدينة. فترى فيها قسماً للمطالعة فيه الجرائد السياسية والمجلات العلمية والأدبية وغير ذلك من المطبوعات اليومية والأسبوعية والشهرية وأصغر مكتبة تحتوي على خمسين جريدة. وفي المكاتب الكبرى أكثر من ذلك. وقسماً فيه الكتب على اختلاف ضروبها من كل فن وعلم وباب. وقسماً من المكتبة خاصاً بالأولاد وفيه كتب وجرائد ورسوم مما ترغب فيه نفوسهم ويبعثهم على المطالعة والبحث وترى في بعض تلك المكاتب امرأة عُهد إليها النظر في دائرة الأطفال من المكتبة تستقبلهم وتتلطف معهم. وأطفال هذه البلاد لا يشبهون أطفال بلادنا فلا ترى بينهم أحداً يلبس ثياباً رثةً أو حافي القدم أو قليل الهندام أو ما يماثل ذلك من قلة العناية خصوصاً البنات فإنهن بدون استثناء يلبسن الثياب النظيفة المكوية ويصففن شعورهن وينظفنها ويمشطنها وما السبب في ذلك إلا شيوع العلم والمدنية بين أفراد الأمة على اختلاف طبقاتها. وإلى الآن لم أشاهد ولداً أقرع أو أرمد لأن هذه الأمراض تنشأ من قلة النظافة. فما الحال في البنات. والنساء على ما رأيت هن في الولايات المتحدة أرقى الجنس الإنساني علماً وتهذيباً. عود إلى حديث المكاتب. إن فيها دوائر أخرى منها واحدة للتحرير والتأليف والترجمة

وفيها من الكتب ما يلزم المؤلف والمترجم. وللمطالع أن يقرأ الكتاب الذي يريده في المكتبة وله أن يستعيره فيطالعه في بيته. وفي هذه المكاتب ضروب من الكتب كانت في وضعها بعضها مع بعض أثراً من آثار التسامح، ترى فيها كتباً من نوع واحد في الأديان والمذاهب والسياسة وإلى جانبها كتباً تنقضها. كتب الفلسفة التي تحمل على الدين موضوعة بجانب الكتب التي تؤيده وتبجله. وكذلك الجرائد ترى الصحف الاشتراكية التي دأبها انتقاد أقوال الرؤساء وأفعالهم والحكومة ومجالسها موضوعة إلى جانب الصحف التي تسالم الحكومة وزعماء السياسة. ولكل واحد الخيار في مطالعة ما يشاء وتصديق ما يشاء أو تكذيبه. ويبلغ مديرات هذه المكتبات وموظفاتها من النساء ثمانين في المئة من بقية الموظفين ويختلف راتب المديرة من ألف ومائتي ريال في السنة وهو الحد الأدنى في الرواتب التي ينالها أمثالهن إلى ألفين وأربعمائة ريال وهو الحد الأعلى. للمستر كارنيجي المثري المشهور فضل عظيم في إتمام هذه المكاتب فإنه أنشأ ألفاً ومائتي مكتبة في ألف ومائتي بلدة ولهذا الرجل خيرات جسيمة عدا هذه المكتبات. وقد منح هذا الشهر أحد أعاظم الأغنياء واسمه مستر جون روكفلر اثنين وثلاثين مليون ريال دفعة واحدة لإنشاء مدارس وكان أعطى من قبل أحد عشر مليوناً لتلك الولاية التي منحها هذه المنحة هذه المرة فتكون جملة إعاناته للمدارس ثلاثة وأربعين مليون ريال. وبهذا يمكنك أن تقيس درجة الغنى في الولايات المتحدة. ومعلوم أن نفوس الولايات المتحدة كان زمن استقلالها أي قبل 130 سنة أقل من أربعة ملايين وكانوا أقل الأمم ثروة فبلغوا الآن 85 مليوناً ويقدرون نمو ثروة البلاد بعشرة ملايين ريال كل يوم. كل ذلك بفضل الحرية الدينية والمساواة الشخصية وانتشار العلم بين أفراد الأمة ولاسيما النساء. ففي الولايات المتحدة نحو ثمانية عشر مليون تلميذ منهم خمسمائة وخمسون ألف تلميذ في المدارس العالية منهم 330 ألف فتاة و220 ألف صبي. فإذا كان المتخرجون في المدارس العالية يصبحون بعد رؤساء الأمة ونخبتها فاستنتج من هذا الإحصاء أن البنات أرقى من الصبيان وتعال معي وأعجب ممن يدعي أن النساء ناقصات في عقلهن أليس هذا دليلاً حسياً لا يقبل الرد بأن البنات أرقى من الصبيان؟ اللهم لا إذا قلنا إن نساء بلادنا هن من جنس آخر أدنى ممن الجنس الأمريكي. وعليه فلا أدري

كيف يدعي بعضهم النقص في عقل النساء وما النقص في الحقيقة إلا من تربيتهن لا فيهن. والنساء هنا يدخلن في كل عمل من الأعمال المعاشية ومعظم كتاب دواوين الحكومة من النساء. هذا وليحط عملك أن طول السكك الحديدية في الولايات المتحدة هو نحو مائتين وعشرين ألف ميل (الميل نحو 1700 متر) ونحو ثمن هذه الخطوط لرجل اسمه هاريتمين يلقبونه ملك السكك الحديدية. والخدمة في الجندية البرية والبحرية اختيارية هنا ويقبل فيها الأجانب على شرط أن تكون صحتهم جيدة وأن يعرفوا الإنكليزية قراءة وكتابة ويقضي على كل متطوع أن يخدم ثلاث سنين وراتبه ثلاثة عشر ريالاً في الشهر يزداد فيه كل سنتين إذا بقي في الخدمة حتى يبلغ راتبه 25 ريالاً. ويلبس الجند ويأكلون أحسن الألبسة وأطيب الأطعمة وقد زرت ثكنة من ثكنتهم فصادفت الجند في الطعام فرأيتهم يأكلون على موائد مجللة بالقماش الأبيض ولكل واحد ملعقته وشكوته وسكينه وكأسه ولكل خوان خادم واقف في خدمة الجالسين إليه ويبلغ جيش هذه البلاد ثمانين ألف جندي. هذا ما خطر لي الآن أن أدونه لك والسلام عليك.

رأي في الشعر

رأي في الشعر الشعر لغة الشعور وقد أخرج عن معناه الأصلي فأصبح يفهم منه الآن الكلام الموزون المقفى الذي يتوخى صاحبه إيداع خياله وشعوره فيه بصورة تستفز العواطف وتأخذ بمجامع القلوب وابتذله الأكثرون فأضحى حرفة يتغنى بها أحدهم ويعمد إلى اكتسابها على طريقة علمية كأن يقرأ العروض والقوافي ثم يقبض على اليراع ويحاول صف كلام ملفق ليس من الشهر في شيء طمعاً في أن يقال عنه إنه شاعر وما أحراه أن يدعى ضفافاً فهو أشبه بمنضد الحروف في المطابع إلا أن هذا يصف الحروف بقياس معلوم وطريقة مصطلح عليها وذلك يصف الكلمات حسب تفاعيل الخليل. الشعر شعور لا كلام والشاعر صاحب هذا الشعور يشعر بما لا يشعر به غيره ويسمع ما لا يسمعه غيره فعينه تخترق السحب وتسرح في فضاء العوالم وتأتي إليه بما لم يخطر على بال، وخاطره يفترع أبكار المعاني التي لم يسبقه إليها أحد، ووجدانه يختلف عن وجدان سائر الناس، والنظرة التي ينظر بها إلى العمران ليست كنظرة الناس. فكل نظم خالٍ من الخيال ليس حقيقاً أن يدعى شعراً ولا يمكن أن يعيش بعد صاحبه وربما مات قبله. وكم من شعر نُظم وكم من شاعر نظم فوارتهما أيدي الزمان في مدافن النسيان. فالشعر لا يعيش إلا إذا استوفى شرطين: أولهما أن يكون فيه شعور فائق وخيال بالغ، وثانيهما أن يكون مسبوكاً في قالب متين المبنى موضح المعنى فالشرط الأول لا يتنازع فيه أحد ضرورة أنه من مقتضيات الشعر وشرائطه الكبرى. نعم إن الشعر الذي لا شعور فيه ليس شعراً كما أن العلم الذي ليس فيه العلم الصحيح لا يعد علماً. وما أحسن لفظة شعر تفصح عن المراد من الشعر وهي لفظة حسن وضعها لما يقصد منها تفضل لفظة بوتري الأعجمية لأن هذه تعني الفعل وليس فيها ما يستشف منه المعنى المرغوب والشيء المقصود. أما الشرط الثاني فلأن اللغة واسطة لنقل خيال الشاعر إلى الناس. وأحرى بهذه الواسطة أن تكون ممحصة من شوائب التعقيد ومعائب الالتباس. وكلما كانت اللغة صحيحة كان فهم الشعر سهلاً. فهي كالوعاء تودع فيها سوامي الفكر وسوانح الفطن. وإذا كان الوعاء ناقصاً في شيء يوجب تمامه كان المودَع فيه خليقاً أن تذهب بحسنه عوامل الأيام. وكم من نظم طوته صحف الدهر لغير علة سوى أنه أنشئ بعبارة تافهة تخالف القياس المألوف.

ومن الناس من لا يذعن لهذا الشرط فيحسبون أن مراعاة اللغة في الكتابة سواء كانت نظماً أو نثراً ليست ذات شان فيقولون أن الغرض من اللغة ليس إلا التفاهم فلا ينبغي أن يعنى بها كثيراً فيجوزون لأنفسهم ارتكاب أغلاط فادحة في النحو واللغة وسائر العلوم اللغوية ناسين أن التغاضي عن الاهتمام باللغة يؤدي بهم إلى فوضى لا يرأب صدعها ولاسيما أن اللغة العربية ضوابط تقيدها وقواعد تضبطها فإذا فسد التركيب فسد المعنى وبفساد التركيب تضيع اللغة وبفساد المعنى يغلط في فهم الأفكار التي يقصد الشاعر نقلها إلى قارئ شعره فينتج إذاً أنه كلما كانت لغة الشعر ركيكة كان فناء الشعر المودع فيها سريعاً. يتضمن الخيال في الشعر وصف الانفعال الذي يطرأ على النفس إذا أدرك صاحبها في عالم الحس شيئاً يدعو إلى الانفعال وباعثاً ينزع به إلى التأثر بحيث لا يستطاع معه إلا الالتجاء إلى الشعر للإفصاح عما يكنه الفؤاد في صور كلامية يتجلى بها الخيال ويتجسم الشعور متنقلاً من عالم الخيال إلى عالم المنظور ولا يتوخى في هذا الانتقال إلا دفع ألم وسد مطلب من مطالب النفس تتقاضى صاحبها إتمامه كما قد تقتضيه تأديتها مطالب أخرى. ليس الشعر عملاً من الأعمال العادية التي يتكلفها الإنسان ويضطره المعاش إليها فيسعى لنيلها. الشعر ينظم لنفسه لا لغاية أخرى ولا يكون شعراً إلا إذا نظم أثر انفعال من حادث أو شعور وأما إذا نظم على سبيل التفكهة وبدون داعٍ فيكون متكلفاً فيه والنفس مقسورة على إبرازه على حين يجب أن يكون منبعثاً من النفس باختيارها وقبولها فالشاعر الذي ينظم محمولاً على النظم بتيار الرغبة في الشهرة والنزوع إلى الصيت لا يكون شعره شعراً. الشاعر كما قال بعض الأعاجم مخلوق لا مصنوع وحسبك عليه من حجة دامغة أن الشاعر المطبوع ينظم الشعر وهو صبي لا لغرض وإنما يشعر بشيء فينطق بالشعر عفواً مستخدماً ألفاظ الصبيان للتعبير عن خياله ثم يرتقي فيصبح أقدر على إظهار شعوره وينمو شعوره بنمو مركزه في الدماغ كما تنمو سائر القوى العقلية كلما تقدم الإنسان في العمر وقد تبطئ سجية الشعر في ظهورها لعلة خارجية فتتأخر إلى سن العشرين أو بعدها كما جرى لملتون الشاعر الشهير ولكنها ظهرت في أغلب الشعراء في سن الصبا وأعلى درجات الشعر وصف الطبيعة ففيه تظهر قريحة الشاعر بأعظم مظاهرها. يرى الشاعر في الوجود

أموراً يتعذر على غيره رؤيتها ينظر إلى سيار كأنه هبط عليه وحيٌّ من العلى فينظم فيه المعاني الحسان على حين لو سئل غيره أن يصف السيار لما قال غير نجم منير. وفي أساطير الأولين إن بعض الأمم اعتقدوا بوجود قوة غيبية تلهم الشعراء وتوحي إليه الشعر ولا توحيه لسائر الناس. وما يراه الشاعر في ظواهر الطبيعة يكون مخبوءاً تحت حجاب كثيف لا يرى الناس من ورائه شيئاً على أنه يصبح شفافاً إذا نظر إليه الشاعر فيرى وراءه كنوزاً وركازاً. وقد عني الإفرنج بالشعر الوصفي فأجادوه ويتلوه في الحسن الشعر الذي يمثل الطبع البشري وما في الإنسان من العواطف والأميال وما يتنازعه من الأشواق والشعور الذي يطرأ على الشاعر عند حدوث نكبة عامة وما شاكل ذلك وكل وصف بعث عليه انفعال عظيم. أما الشعر الرثائي فأحسنه ما نظم عن انفعال شديد كما وقع لشاعر الانكتار العظيم تنيسون حين نكب بفقد صديقه الحميم حلام المؤرخ المشهور فرثاه بقصيدة طويلة رنانة وصف فيها العواطف البشرية وصفاً دقيقاً واستحوذ عليه من الغم في ذلك الخطب المؤلم. على أن الرثاء مبتذل الآن، وكم من شاعر يرثي ميتاً لا يعرف سوى اسمه فيأتي شعره وأمارات التكلف بادية عليه ليس فيه إلا معانٍ تافهة سيقت النفس إلى إبرازها سوقاً. والمدح أسقط الشعر لما فيه من الاختلاق ولاسيما إذا قصد منه جر مغنم أو دفع مغرم فيضطر الناظم أن يبتدع المعالي والمكارم وينسبها إلى ممدوحه. ويبلغ الشعر المدحي أعلى درجة في عصر البداوة ويأفل نجمه في عصر الحضارة حتى يكاد يكون معدوماً. وكان الشعراء يتخذون هذا النوع من الشعر وسيلة للزلفى من الأمراء واستدرار العطايا من العظماء. والشعر الهجائي أرفع في نظري إن صح أن يكون لي نظر من الشعر المدحي وأقرب منه للغرض المبدئي من الشعر خصوصاً إذا نظم عقيب تهيج حاسة الاشمئزاز من إدراك شوائب ونقائص في الهجو تبعث الشاعر على الهجاء اضطراراً. وأما إذا تكلف له فيكون من أعمال العقل لا من أعمال الشعور والعواطف. وقد علمت مما مر بك أن الشعر من خصائص العواطف وليس للعقل علاقة به، ولذلك لا يعد من الشعر كل ما نظم من المعقولات والمنقولات، ويدخل تحت هذا الأراجيز على تفاوت أنواعها وآراء الفلاسفة التي أودعت في الشعر وآي الحكماء وعلماء الأخلاق. وبالجملة فإن

كل ما ليس له اتصال بالعواطف ليس شعراً وإنما هو نظم ولا يتعذر على النبيه التمييز بين الشعر والنظم إن هو تذكر معنى كلمة شعر. والله أعلم. يافا خليل الخوري

التربية والتعليم

التربية والتعليم تربية السكسونيين قامت منذ بضع سنين حركة في الأفكار في معظم بلاد أوروبا للمفاضلة بين التربية التوتونية واللاتينية أي بين تربية الإنكليزي والألمان والأمريكان المعروفين بالإنكليز السكسونيين وبين تربية الفرنسيين والطليان والإسبان ولقد أطلعنا على مقالة في إحدى المجلات الكبرى الفرنسوية أفاض كاتبها في تأثير المسابقات بين طلبة الطب في الأخلاق. ومما جاء فيها أن هذه المباراة في الفحوص قد تؤدي إلى ضعف ملكة الذكاء وإن نفعت في تمرين الذاكرة بما يضطرون أن يودعوه ألواح محفوظهم من القوانين والصور وقد يستظهرونها استظهاراً نظرياً ولا تكون عندهم من العمليات في شيء بمعنى أنهم مهما جعلوا دراستها دينهم وديدنهم لا يخرجون من الامتحان إلا وقد غربت تلك المواد عن أذهانهم. سئل أحد التلاميذ يوماً عن حرب السبعين وكان قد درسها من قبل بالطبع فلم يحر فيها جواباً. وسئل عن التلفون فانقطع ولم ينبس ببنت شفة. مع أنه بعيد عن الظن أن يكون في الغرب اليوم ناهيك بفرنسا من لم يسمع بحرب السبعين وأخبارها والتلفون وآثاره. وبعد هذا لا يسعنا إلا التصريح بان الطريقة العقيمة في التربية التي اتخذتها فرنسا من نحو مئة سنة ما زادتها إلا الرجوع القهقري وسبق الأمم السكسونية. تربية تسقم العقل وتضعف الجسم. تربية تحبب إلى المرء الراحة والسكينة والاقتصاد والترف والسرف. تربية كأنها ملصقة بغراء لا تلبث أن تتزعزع إذا أمطرتها سماء الدنيا بوبلة فما بالك لو هبت عليها أعاصيرها وعواصفها وسحت فوقها وابلها ومدرارها. قال بعض علمائنا إن فرنسا مستنبت الأوسمة والمراتب وميدان المسابقات والمناوشات وإذا أردنا على أن لا ننقد هذا الخُلُق نكتفي بأن نقول إنه دليل الأنانية والشعور بالحاجة إلى العدل ونحن لا نزال شعب تلاميذ أي إننا محتاجون في تربيتنا أن نربى تربية الصغار من مهدنا إلى لحدنا فنساق منذ نعومة أظفارنا في المدرسة والبيت بقوة الأيقونات والأنواط والعلامات والصفوف والقوانين ومن نشأ على هذه الطريقة في التربية يحتاج إذا بلغ مبلغ الرجال أن يظل متطلباً للأوسمة والجوائز وأن تنظم حاله بنظام الاستحقاق والأهلية. وقال غستاف لبون مؤلف كتاب حضارة العرب وغيره من الكتب الممتعة: إن كليتنا معاشر

الفرنسيس لا تنشئ إلا أهل أوهام وأرباب أكثار وثرثرة ممن بعدت نفوسهم عن الحقيقة بعدها عن معرفة العالم الذي يقضي عليهم أن يعيشوا فيه. من كل وُكَلة تكلة لا يعمل بدون يدٍ تدفعه وعون يقوده وعين تلاحظه. ففي بيته تقوده أمه ويأخذ بيده أبوه، وفي المدرسة يشتد ساعده بزند معلمه ومربيه حتى إذا دخل في غمرة الحياة يظل حائراً لا يعرف مصيره ما لم تأخذ الحكومة بيده وتصرفه فيما تشاء وتهوى. وقال غيره: أين نجد في فرنسا مثل أولئك الأولاد الذين رأيتهم خارج هذه البلاد يسافر احدهم وحده وهو في سن العاشرة من لندن إلى بطرسبرج في فئة من أطفال الكتاتيب تختلف سنهم بين الثامنة والعاشرة فيقضون تحت الخيام نصف العطلة المدرسية في جزيرة من سان لوران يعيشون من صيدهم وقنصهم فيكف لا يتأتى لهؤلاء الأطفال من الإنكليزي أن يستعمروا حيث شاؤوا من الأرض ويكونوا من أنفع الطوارئ متى بلغوا الخامسة والعشرين. وقال احدهم: لا شيء أذل على النفس من رؤية الفرنسوي خارج بلاده فكأنه ميت انقطع عمله أو مدنف يتلجلج لسانه فلا يجيب عما يسأل. وقال غيره: من الرعونة أن يعتقد الفرنسيس بعلو كعبهم في كل شيء ولو ذهب إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أمم لرأى شعباً كان يشكو مما نشكو منه. داء أصيب به زمناً فشفى نفسه منه. يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها فيقدس كارالايل ظهيرها ونصيرها ويقيس حاله بالإنكليز فيراهم سباق غايات. ثم إذا رأى في تينك المملكتين ما رأى وقاسه بحاله يركب بحر الظلمات ليتبصر فيما تورثه جدد الفضائل في هذا القرن الحديث وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأمريكان. لفرنسا نظارة للمعارف، ولأمريكا مدرسة للتربية. فالأولى تعلم والثانية تربي. الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها، والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها. تعد فرنسا أدمغة لحفظ قانون، وتهيئ أمريكا أذرهاً للعمل. يغرس الأمريكان في عقول ناشئتهم شهامة الإرادة التي لا تنفع بدونها المواهب وتضيع القوى بدداً وإذا فقدت يكون العلم نفسه قليل النفع. وهذا القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم أميرسون تلميذ هيكل الألماني القائل في فلسفته: ليست الحياة شغلاً عقلياً ولا مناقشة ومهاوشة بل الحياة هي العمل. ولقد علق في أعلى باب كل مدرسة بأمريكا شعار معناه: إن تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة وعلى الشبان أن يحسنوا معرفة

الحياة بإرادة ثابتة.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كنز العلوم واللغة من المؤلفين المجتهدين في مصر محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة والمصنفات الكثيرة وقد أصدر هذا الشهر مجلداً ضخماً في زهاء 870 صفحة كبيرة ذات ثلاثة أعمدة من الحرف المتوسط سماه كنز العلوم واللغة وهو صورة دائرة معارف مصغرة فيها بعض الفصيح وخلاصات من العلوم النقلية والعقلية والطبيعية والطبية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية. وقد أخذنا عليه اقتضابه في بعض المواد المهمة وتطويله في غيرها مما هو دونها في الفائدة فرأيناه مثلاً قد أغفل في الأعلام ابن تيمية وابن القيم وابن الهيثم والذهبي والسيوطي والقلقشندي وابن فضل الله العمري وذكر عبد الرحمن العمري والقليوبي والشنواني والشبراوي والكفراوي. والمعاجم المختصرة في العادة تذكر الأهم فالأهم من السماء والأشخاص. ورأيناه تابع بعض المعاجم الإفرنجية في إيراد بعض الشؤون التاريخية الشرقية ونقلها على غلطها مثل قوله في محلين إن صلاح الدين يوسف هو ابن أخي نور الدين محمود بن زنكي مع أنه لا قرابة بينهما وصلاح الدين كردي ونورد الدين تركي ومثله قوله أن فاراب من بلاد الأناضول. وقد نقل بعض أعلام الأشخاص والأماكن بحسب الأصل الإفرنجي فقال مثلاً سالونيك كما يلفظها الإفرنج والصواب سلانيك. وجزيرة ساموس: سيسام. ونهر الدانوب: الطونة. والسلافيون وتسميهم العرب الصقالبة. وليسبون: والعرب تقول إشبونة، وجبال هيماليا: حملايا. والتيبت: والعرب تقول تُبت كسكر. وبخارست: بكرش. وقد أعجبنا منه أدبه في كلامه على المخالفين من فرق الإسلام وغيرهم وفي الكتاب فوائد نافعة لا يسع متعلماً جهلها وعسى أن ينتشر كتابه بين جميع الطبقات فإنه على إنجازه سلمٌ إلى تناول دوائر المعارف الإفرنجية الكبرى. وحبذا لو تدارك المؤلف ذكر من أهمل من الأعلام وما اغفل من أسماء البلدان ولو بملحق على حدة. وفقه الله وأكثر فينا أمثاله من أهل النشاط في خدمة العلم والتوفر على التصنيف والنشر. فتح الرحمن لطالب آيات القرآن هو مفتاح أو فهرس يعين على الاهتداء إلى مواقع الآيات الكريمة جمعه فيض الله أفندي العلمي الحسني المقدسي ووقف على طبعه الشيخ أحمد حسن طبارة محرر جريدة ثمرات

الفنون الغراء. وقد عني الجامع بان استعان بكتاب ترتيب زيبا وكتاب نجوم الفرقان واقتصر من ألفاظ الكتاب العزيز على الكلمات الرئيسة التي يثر خطورها بالبال أي الأفعال المشتقة والأسماء المتمكنة. وبالجملة فهذا السفر البديع يسهل الوصول إلى الآيات الكريمة على من يريد الاستشهاد بها فيتناولها سالمةً من التحريف في أقل من لمح البصر وقد ألحق به فهرساً للأعلام فجاء من أنفس الذخائر التي لا يستغني عنها طالب. جزى الله جامعه ومصححه خيراً. والكتاب يباع بريال مجيدي في بلاد الشام ويطلب من المكاتب الشهيرة. وقد طبع في المطبعة الأهلية في بيروت طبعاً متقناً للغاية على ورق صقيل جيد. تقويم المؤيد صدر هذا التقويم البديع سنة 1325 هـ. فأتم بذلك سنته العاشرة وهو من وضع محمد أفندي مسعود صاحب جريدة المنبر الغراء. وقد قرأنا فيه نبذاً في التوقيعات وعلم الفلك والكيمياء وفصولاً علمية وأدبية وإحصائيات ونظام الحكومات والأخبار العمومية والتاريخ العام والتراجم والمسائل السياسية والمعاهدات وأحوال مصر سنة 1900 وتخطيط الوجه القبلي وشذرات نافعة في القضاء والإدارة والزراعة وتدبير المنزل والدليل المصري وغير ذلك من الفوائد التي تنفع أصحاب الأعمال والبيوت وإنا لا نزال نقول إن تقويم المؤيد من أحسن الكتب الدورية التي تصدر في هذه العاصمة وما برح التحسين فيه مستمراً سنة عن سنة فشكراً لفضل مؤلفه الذي ثبت على إصداره وتوفر على الاستزادة من فوائده الممتعة. أبدع الأساليب في إنشاء الرسائل والمكاتيب هو كتاب يقع في زهاء ستمائة صفحة يحتوي نموذجاً من العرائض والرسائل والمخاطبات التجارية والإخوانية والرسمية وفيه مختصر في أصول مسك الدفاتر لمؤلفه عبد الباسط أفندي الأنسي صاحب جريدة الإقبال الغراء في بيروت وقد طبعه الآن طبعة ثانية أجزل فيها فوائده وهو مطول من كتابه هداية السائل إلى إنشاء الرسائل وقد رتبه على خمسة أبواب أدخل فيها الأغراض التي تعرض للكاتب في مكاتباته وطبعه في مطبعته المعارف طبعاً لطيفاً وهو يباع في مكتبته الأنسية باثني عشر قرشاً فنحث الطلاب على اقتنائه ونشكر للمؤلف عنايته وهديته. السجل المصري

أصدر علي أفندي يوسف الكريدلي من المشتغلين بصناعة القلم في القاهرة كتاباً بهذا الاسم وأخذ على نفسه إصداره في منتصف كل شهر إفرنجي مشتملاً على كل ما حدث في الشهر السابق من الحوادث والوقائع وأعمال الحكومة المصرية كالأوامر العالية والمنشورات واللوائح والتنقلات والرتب والأوسمة والوفيات والمواليد فكان تاريخاً دورياً لمصر يصدر في أجزاء متفرقة مزيناً بصور بعض أمراء البلاد ووزرائها وكبرائها وعلمائها وأعيانها ومشاهيرها وفضلائها وأدبائها وشعرائها وكتابها وكل ذي مظهر ومقام وفي الجزء الذي صدر عن شهر يناير كثير من الفوائد التي ينبغي تخليد أكثرها في تاريخ البلاد وهو في زهاء 180 صفحة متوسطة الحجم وقيمة كل جزء خمسة قروش أميرية وهي قليلة لكثرة فوائده فعسى أن يلاقي مشروع هذا الأديب الإقبال اللائق به. لباب الخيار في سيرة المختار هي رسالة جميلة الطبع والوضع تدخل في 82 صفحة من ذوات النصف في السيرة النبوية لمؤلفها الشيخ مصطفى سليم الغلاييني من المشتغلين بالعلم في بيروت ذكر فيها شذرات مهمة من أحوال الرسول وأعماله وجميع غزواته ولم يذكر من سراياه إلا ما كان له علاقة ببعض الغزوات وقد علق شرحاً لغوياً موجزاً على الألفاظ اللغوية أو التي يخشى التباسها على المبتدئ فجاءت نافعة لجميع الطبقات فله الشكر على عنايته وفضله. خارطة العالم هو المصور الذي رسمه الاكسرخوس يوحنا الحداد نزيل شيكاغو ومن أهل الفضل وقد أهدينا نسخة منه فرأيناه من أجمل المصورات الجغرافية الإنكليزية وأنفعها وليته يتفضل بترجمته إلى العربية ليعم انتفاع الجالية السورية به في أمريكا كما يعم سائر البلاد العربية. ديوان الشاب الظريف طبعت المطبعة الأهلية في بيروت هذا الديوان المشهور لمؤلفه المتوفى سنة 688 هـ عن 27 عاماً وأضافت إليه ما عثرت عليه من نظمه المتفرق في دواوين الأدب وفسرت ألفاظه اللغوية وقد قالت إنها جعلته خدمة لطلبة المدارس مع أن أكثر الديوان من الغزل الذي لا يروق أن يطلع عليه الشيوخ دع عنك الأطفال وعلى كل فإنا نشكر لها هذه العناية بنشره

ونرجو أن تنشر غيره من آثار السلف النافعة. لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر أو الغاية في البداية والنهاية وهو كتاب في 280 صفحة لمؤلفه ميخائيل أفندي انطون الصقال الحلبي جعله على شكل رواية أخلاقية فتصور أنه رأى والده بعد وفاته في الرؤيا وقص عليه ما رآه في العالم الثاني أي في السماء والحقيقة أنه قص عليه حالة الأرض فتخلل ذلك كلام في المدينة الفاضلة والمدينة السافلة وأطور البشر وأخلاقهم ومنازعهم والديانات والنحل والمعتقدات كل ذلك في أبواب مخصصة وبعبارة سليمة فصيحة تخللها كثير من الشوارد اللغوية التي شرحها المؤلف في أسفل الصفحات فأجاد وأفاد في الاحتيال على بث الأفكار الصحيحة المعتدلة في ثوب عربي جميل. وهذا الكتاب يطلب من المكاتب الشهيرة في القاهرة بريال مصري. الأخبار أعاد هذا الشهر الشيخ يوسف الخازن إصدار جريدته الأخبار بعد أن حجبها مدة وأنشأ يصدرها في الصباح وهي الجريدة الصباحية الوحيدة باللغة العربية وصاحبها ممن تقلبوا في الصحافة كل مقلب وهو يحسن ما يقتضي لهذه الصناعة الشريفة من أدوات العلم العملي والنظري يضاف إلى ذلك حنكة وتجارب وبعد غور ونظر فلا عجب إذا رجونا أن يكون لصحيفته شان في الآداب عظيم وصوت في السياسة رخيم ولسان في صحة الأحكام قويم. الجريدة اسم لجريدة جديدة يومية أنشأتها شركة من أعيان القطر وأصدرتها هذا الشهر في بزة جديدة وطبع جميل وعهدت بإدارتها إلى أحمد بك لطفي السيد من رجال القضاء، وبإنشائها ومؤازرتها إلى جماعة من أهل الفضل والأدب كالسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي وأحمد بك زكي ونجيب أفندي شاهين وعبد الحميد أفندي الزهراوي ويوسف أفندي البستاني وكامل أفندي دياب وغيرهم وهي تصدر كسائر جرائد العاصمة بعد الظهر. وقد تصفحنا الأعداد التي صدرت منها فرأيناها سليمة العبارة متينة التراكيب جيدة الموضوعات فرجونا لها أن تكون كجريدة الديبا الفرنسوية من حيث وفرة مادتها وصحة

عبارتها فإن الديبا وهي لشركة أيضاً ترمي إلى خدمة الآداب. وسبيل الجريدة في سياستها مع الحكومة سبيل المحاسنة التي لا تجر إلى ترك حق أو تزيين باطل وهي أجلى مظاهر الاعتدال الذي يجب أن يكون دعامة العلاقات بين أمة وبين حكومة كلتاهما في طور التكون. فعسى أن يكون منها ما يؤهلها لبلوغ الغاية النافعة التي يتوقعها أنصارها ومساهموها. وقد بلغ بالجريدة عدد الجرائد العربية اليومية في القطر ثلاث عشرة جريدة. زاد الله النافع القويم منها فإن هذا العدد يوجد في مدينة صغرى من مدن الغرب وأصغر جريدة من جرائد الولايات هناك تطبع أكثر من أكبر جريدة في عواصمنا. الاحياء مجلة في ثماني صفحات تصدر مرتين في الشهر في مدينة الجزائر وهي إسلامية أدبية إخبارية وقيمة اشتراكها 4 فرنكات في الجزائر وتونس و5 في الخارج وهذه أول مجلة على ما نعلم صدرت بالعربية في ذلك القطر فعسى أن تكثر فيه بعد ذلك الصحف والمجلات ويحذو إخواننا الجزائريون حذو إخواننا التونسيين في نشر المطبوعات العربية النافعة وإذا كان نقص ما يكتبونه محسوساً بادئ بدء فإن كثرة المران تجبر كل نقص. الريحانة هي مجلة تاريخية أدبية قصصية تصدر في منتصف كل شهر عربي لصاحبتها ومررتها جميلة خانم حافظ وقد قدمت لها مقدمة لطيفة في السعادة وغرض المجلة وفيها مقالات في التربية والتاريخ وتعليم المرأة وهذا هو أهم أبحاث المجلة وإن كل من عانى البحث في الشؤون العامة ليوافق الفاضلة صاحبة الريحانة على أن الرجال هم سبب تقهقر النساء في الآداب والعلم وإنهن لو تعلمن كما يتعلم الرجال أو أقل لسعدت الأمة الإسلامية كما سعد غيرها من الأمم المعاصرة. وقيمة اشتراك الريحانة 30 قرشاً في مصر و10 فرنكان خارجها فنرجو لها التوفيق إلى ما تقصد إليه. أكثر الله من أمثالها العاملات.

سير العلم

سير العلم الحالة الاقتصادية في مصر كتب الدكتور الفريد أفندي عيد المالي الشهير تقريراً في الديون المعقودة على رهن في القطر المصري فقال إن فيه الآن خمسة مصارف تسلف النقود على رهن عقاري وهي المصرف الزراعي والمصرف العقاري وشركة الأراضي والرهنيات المصرية وصندوق واللندبنك وقد بلغ رأس مال المصرف الزراعي 7. 715. 000 جنيه ورأس شركة الأراضي والرهنيات المصرية 877. 500 جنيه ورأس مال صندوق الرهنيات العقارية 10 ملايين فرنك ورأس مال اللندبنك 975 ألف جنيه هذا ما عدا قيمة السندات التي أصدرتها. وقال إن شركات التأمين الإنكليزية سلفت مليوناً وأربعمائة ألف جنيه وسلف جماعات أصحاب الأموال ثمانمائة ألف جنيه واستنتج أن سلف الأفراد بلغت 5 ملايين و445 ألف جنيه فيكون مجموع الديون المعقودة على رهن في المصارف وغيرها 28 مليون جنيه و145 ألف جنيه ومجموع الأموال المستحقة للشركات العقارية التي باعت أراضيها على أقساط زهاء مليوني جنيه ومجموع الديون المستحقة على رهن 38 مليون جنيه و997. 720 ج وقال إن تاريخ عقود الرهن في القطر يرد إلى سنة 1876 وإن الرهنيات زادت قيمة الأرض وقدر الأموال التي سلفت على أرض البناء بمئة وخمسين مليون جنيه أما الأموال الموظفة فلم يرد جميعها من الخارج بل إن قسماً منها من أموال البلاد. المصارف الزراعية العثمانية نشرت نظارة المصارف الزراعية في البلاد العثمانية إحصاء بأعمالها عن سنة 1319 على الحساب الشرقي فقالت إنه كان عدد شعب المصارف في مراكز الولايات والألوية 66 شعبة وعدد شعب الأقضية وبعض الألوية 314 شعبة وكان رأس مال هذه الشعب كلها 3. 777. 500. 841 قرشاً وأقرضت هذه المصارف للفلاح العثماني 306. 824. 322 قرشاً وبلغ عدد المقترضين 96. 074 مزارعاً وقد بيعت في مدة خمس عشرة سنة أراضي زهاء 8100 فلاح لم يوفوا ما عليهم من الديون لتلك المصارف وبلغ عدد المستدينين من الفلاحين في 15 سنة أيضاً 981. 349 شخصاً. وهذه المصارف الزراعية

في البلاد سهلت على الفلاح العثماني اقتراض المال في حين حاجته بفائه ستة في المئة كما سهلت المصارف العقارية في القطر المصري سبل استلاف النقود برهن العقارات فكان منها أن اغتنى ألوف من الناس ما كانوا يملكون من قبل إلا ما لا يذكر. أما في البلاد العثمانية فإن المصارف الزراعية أنقذت الفلاح بعض الإنقاذ من شطط المرابين وإجحافهم. إحصاء غريب كان في الولايات المتحدة في العام الماضي 220030 ميلاً من الخطوط الحديدية وبعد أن كانت منذ سنين زائدة عن حاجة البلاد أصبحت الآن تلك البلاد في أشد الحاجة إلى الاستكثار من هذه الخطوط ويلزمها على أقل تعديل 75 ألف ميل أخرى ينفق عليها 1100 مليون ريال في السنة مدة خمس سنين وقد عجزت معامل أمريكا على كثرة استعدادها عن صنع ما يطلب منها من القاطرات والمركبات للخطوط الحديدية فإن أمريكا الشمالية يلزم لها من ذلك 250 ألف مركبة في السنة وكان في أمريكا سنة 1905 - 47. 350 قاطرة و40. 713 مركبة و1. 731. 409 مركبة لنقل البضائع وكان عدد من ركبوا القاطرات الحديدية إلى مسافة ميل فأكثر في تلك السنة 23. 700. 149. 46 راكباً وبلغ ما نقل إلى مسافة ميل من البضائع 186. 463. 190. 510 طنات. المعلمات والمعلمون تقول إحدى المجلات العلمية إن الحال إذا ظلت على هذا المنوال يُربّى أهل الجيل القادم في إنكلترا والولايات المتحدة على أيدي المعلمات بدل المعلمين فقد كان الرجال منذ خمسين سنة يديرون أربع مدارس ابتدائية في إنكلترا من كل خمس مدارس وفي سنة 1870 تساوى عدد المعلمين والمعلمات أما اليوم فإنك ترى من كل أربع مدارس ثلاثاً يديرها النساء ويقدر عدد المعلمات في الجزائر البريطانية بعشرين ألف معلمة وعدد المعلمين بأربعة آلاف معلم. أما في أمريكا فإن قلة المشاهرات التي تدفع للمعلمات تحول دون إقبال ربات الحجال على التعليم. شقاء العمال وضعت مجلة أمريكا الشمالية مقالاً ضافياً وصفت فيه حالة العملة وما يصيبهم من العاهات الطبيعية والعملة هم القسم الأعظم من أهل الولايات المتحدة فقال إن سبب ذلك زيادة عدد

المحاويج وازدحام المدن بأقدام السكان وقلة الغذاء عند الفقراء والمساكين فلم يكن سكان المدن منذ مئة سنة في أمريكا أكثر من 3 في المئة وقد أصبح اليوم 40 في المئة وفي بعض الولايات أكثر من ذلك. وسبب هذا رغبة الناس عن سكنى القرى والمزارع وانهيالهم على المدن والعواصم لإدخال الأدوات في الأعمال الزراعية والاستغناء في أكثرها عن أيدي العاملين كما كان من قبل فاضطر أكثر الفلاحين أن يدخلوا المعامل في المدن وأن ينقطعوا عن الزراعة ولكن ما يقبضونه من المياومات لا يسد حاجاتهم الضرورية فيبيتون في أماكن رديئة الهواء تكثر فيها الأمراض والوفيات فإذا لم يهلكوا قبل سن الشيخوخة فإن معظمهم يصابون بأمراض بطيئة تزيد ضعفهم الطبيعي ضعفاً. وهذه الأسباب تنتج هذه النتائج في كل مكان ولاسيما في الولايات المتحدة فإن الحالة هناك أدهى وأمر. ولا سبيل إلى تلافي هذه الآفات إلا بان تجعل الرياضية الجسمية إجبارية في جميع المدارس وإن تضاعف أيام العطلة وأن يكره الأولاد على قضائها في الخلاء والبراري وأن تسير التربية الطبيعية هي التربية العقلية على نظام صحي وأن يحسن طعام الأولاد في المدارس. لحم الخيول نشرت أحد علماء الإسبان بحثاً في الدعوة إلى تناول لحم الخيول فقال إن من يدعي من الإسبانيين إنها قذرة رديئة لا توافق الصحة هو في ضلال مبين وإذا استعمل هذا الضرب من اللحم ولاسيما بين الطبقات النازلة يتبين لآكليه أنه من اللحوم اللذيذة الطعم كثير التغذية يقوي الجسم وقد استشهد على صحة رأيه بإحصاءات أكلة الخيول في الأمم ولاسيما في بروسيا التي ينمو فيها متناولوه وقال إن فرنسا لم تبدأ بتناول لحم الخيل إلا سنة 1866 وكان بعض الفرنسيس قبل ذلك يتناولونه سراً على أن الجندي الفرنسوي في حرب القريم كان يؤثر لحم الخيل على لحم البقر أما الجندي الإنكليزي فكان يتقزز من تناوله قال وكيفية تقديم لحم الخيل على الموائد هي التي تحببه إلى النفوس أو تكرهه إليها وإن بعض الشرهين ليزعمون إن لسان الحصان لذيذ الطعم. المكاتب في نروج بحثت إحدى المجلات العلمية الهولندية في تاريخ المكاتب العامة في بلاد النروج فقال إنها

تُرَدُّ إلى أواخر القرن الثامن عشر وكان مبتدعها رجلاً اسمه سورت ارفلو خطر له أن يجعل كنبه القليلة في غرفة يطالع فيها الخاصة والعامة فمشى على أثره غيره من عشاق الكتب وشاركوه في هذا العمل النافع وأخذ الشاعر ورجلاند يبث هذه الفكرة في العقول بما وضعه من كراسة ذكر فيها ما ينال الشعب النروجي من النعم الجسام بتهيئة أسباب المطالعة له في الكتب العلمية الحقيقية فوضع بكتابته هذه أساس مكتبة عامة للشعب وأشار بالكتب النافعة التي ينبغي وضعها فوقع كلامه موقع القبول من القلوب فلم تمض سبع سنين على دعوته حتى صارت مكاتب الشعب هناك سنة 1837 - 185 مكتبة منتشرة في طول البلاد وعرضها ويبلغ اليوم عددها نحو ثلثمائة والحكومة تنفق عليها ما يلزمها من النفقات. مدنية آسيا الوسطى ذكرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية أن ضابطين إنكليزيين رحلا منذ مدة من بلاد الهند إلى بكين مارين ببلاد تُبت وتركستان الصينية فاكتشفا في طريقهما اكتشافات أثرية مهمة وكانت هذه الأصقاع وهي اليوم تكاد تكون غير مأهولة مهد مدنيات قديمة قويمة زال أثرها فكان بحث هذين الضابطين مذكراً بها. وساح عالم ألماني في الشمال الشرقي من تركستان فاكتشف بعد عناء ثلاثة أشهر نقوشاً على الحيطان ومخطوطات كتبت بالخط الناكاري والبرهمي وهي من خطوط آسيا الوسطى ومن هذه المخطوطات ما هو مكتوب بالخط الصيني والتبتي والتانغوتاني والسرياني والمانشوي والويكوري والتركي الأزرق ومنها ما كتب بلغة مجهولة غريبة ويطن أنها سريانية أو مشتقة منها. وأنت ترى في هذه الخطوط مجموعة من اللغات الآرية واللغات السامية يضاف إليها تلك اللغة التركية الزرقاء أقدم اللهجات التركية التي عرفت. والمخطوطات التانغوتانية من أنفس ما عثر عليه من هذه الآثار لأن هذه اللغة مشتقة من اللغة التبتية ومكتوبة بخط محرف من اللغة الصينية غريب في شكله ووضعه ولم تعرف هذه اللغة إلا برسوم كان عثر عليها منذ مدة. وقد كتبت بعض هذه الكتابات على ورق وبعضها على ورق البردي وبعضها على رق أبيض جميل وبعضها على خشب وفيها من الفوائد التاريخية واللغوية ما اغتبط به أهل البحث والعلم. ومما لفت الأنظار من هذه الآثار خصوصاً المخطوطات المانشوية المكتوبة باللغة الفارنسية الوسطى بحروف خاصة اخترعها في فارس ماني مؤسس المذهب المعروف به سنة 270

ق. م وحلها موللر اللغوي في متحف خصوصيات الشعوب في برلين لأن هذه المخطوطات تؤكد ما كان لفارس من النفوذ العظيم في آسيا الوسطى ومما اكتشفه العالم الألماني عدد عظيم من الجثث لابسة ثياب كهنة بوذيين ماتوا صبراً في المعابد التي كانت لهم سجوناً وفي هذه الجثث إشارة إلى ما كان يجول في صدور الفاتحين الصينيين من الكراهة للديانة البوذية. والتماثيل المصنوعة من الجص هي تماثيل بوذا تدل على أنه كان للهند في تلك العصور نفوذ ممتد الرواق في الشرق الأقصى ويابان. التنويم الكهربائي جرب أحد أساتذة مدرسة نانت الطبية في فرنسا التنويم بالكهربائية بدلاً من التنويم بالكلورفورم فأسفرت تجربته عن نتائح حسنة فإن المنوم يبقى بدون حركة اختيارية ولا يحس بأي ألم يحدث له ويبقى في حال سبات مدة مرور المجرى الكهربائي عليه فإذا حُوّل عنه يقوم لساعته وجرب ذلك في الكلاب والأرانب. حفظ الثمار اخترعت وسائط لحفظ الثمار ومن أقربها تناولاً ما اخترعه أحد علماء الإنكليز وذلك بتغطيس الثمرة مدة عشر دقائق في محلول مؤلف من 3 في المئة من محلول حامض النمل الصناعي (فورمول) فالثمار اللطيفة القشرة كالعنب والتوت الإفرنجي والكرز ينبغي أن تغسل بالماء الصافي بعد أن تجعل في ذلك المحلول أما الثمار الأخرى التي تقشر كالتفاح والكمثرى والدراق فلا لزوم لغسلها وتحفظ الثمرة بهذه الواسطة من 10 إلى 15 يوماً فإذا قطفت قليلة النضج تسافر بهذه الطريقة إلى البلاد الشاسعة ولا تنبعث منها رائحة. اللفافة الجديدة إن اللفافة التي اخترعها أحد رجال الإنكليز في العالم الماضي قد عرضت الآن في لندن وكثير من أمهات مدن الولايات المتحدة وهذه اللفافة لا تطوي الجرائد فقط بل تلصق عليها الطوابع وتربطها وتعلق عليها العناوين وتجعلها رزماً وأضابير. ويقول بعضهم إن هذه الآلة معقدة بعض التعقيد ولكنها لا تشغل مكاناً كبيراً وتغني عن استعمال مئات من الأيدي فتطوي في أقل من ساعة ألوفاً من الجرائد المعدة للإرسال وتربطها وترزمها وتناط بها آلة أخرى تمنع من وقوع سهو في عدد الأعداد المرسلة.

المعارف في مصر ظهر منذ أيام تقرير اللورد كرومر السنوي عن مصر والسودان لسنة 1906 فمما قاله عن معارف مصر إن الاعتمادات المخصصة لها أصبحت الآن 374000 ج. م بعد أن كانت 197000 ج. م سنة 1903. وإن في القطر 32 مدرسة ابتدائية راقية تحت تفتيش نظارة المعارف وكان مجموع تلاميذها 7584 مقابل 6815 تلميذاً سنة 1905 و97 في المئة من التلاميذ المسلمون. وفي مصر 20 مدرسة أخرى من هذا القبيل أرادت أن تكون تحت مراقبة نظارة المعارف وفيها 4690 تلميذاً وتقدم للامتحان في الدروس الابتدائية الأخيرة 1634 طالباً تخرجوا من مدارسا لحكومة و1736 تعلموا في مدارس خاصة أو درسوا في بيوتهم فقبل منهم 904 تلاميذ فقط أو 27 من مجموعهم ومن الذين نالوا الشهادة الابتدائية 564 تلميذاً مازالوا يتممون دروسهم في مدارس الحكومة أو مدارس خاصة ومنهم 214 تلميذاً دخلوا في خدمة الحكومة و26 أخذوا يتعاطون أعمالاً حرة لأنفسهم ومنهم 100 بقوا بلا عمل. وتقدم للشهادة الثانوية 740 طالباً يقابلهم 447 في سنة 1905 فقبل منهم 366 أو 49 في المئة من مجموعهم وكان منهم 256 أي 70 في المئة مسلمين ومنهم 277 مازالوا يدرسون في المدارس العالية و72 دخلوا في خدمة الحكومة و12 استخدموا في أعمال خاصة و5 ظلوا بلا عمل ونحو 41 في المئة من الطلاب المقبولين أخذوا أنفسهم بدراسة الحقوق و26 في المئة درسوا الطب و24 طالباً دخلوا دار المعلمين. وقال في كلامه على الكتاتيب أنه أنشئ في مدرية الدقهلية منذ أقل من سنتين 228 كتّاباً من أموال الأغنياء ووقف عليها ما لا يقل عن 309 أفدنة ما عدا المباني ولم ينشأ في خلال السنة الماضية في القطر سوى 33 كتاباً جديداً وأصلح 90 وكان عدد الكتاتيب في القطر سنة 1898 - 301 كتاب فيها 6931 صبياً و898 بنتاً و490 معلماً و9 معلمات فأصبحت سنة 1906 - 4432 - فيها 145. 838 صبياً و10. 704 بنتاً و6551 معلماً و33 معلمة وشكا من قلة إقبال النساء على أن يكن معلمات كما شكا من جهل المعلمين الموجودين في المدارس الابتدائية ونسب إليهم إخفاق التلاميذ في التقدم لنيل الشهادة. وقد بلغ عدد مدارس البنات 209 وعدد التلميذات 13705 وبلغ عدد البنات اللائي يذهبن

إلى كتاتيب الحكومة 2135 وعدد اللائي يذهبن إلى الكتاتيب الأخرى 10704 تلميذات وقال إن الأهالي أقبلوا على تعليم بناتهم والتوسع في تلقينهن علوماً أكثر من الأول. وتكلم على مدرسة الزراعة فقال إن فيها 65 طالباً منهم 38 مصريين و27 مختلفة أجناسهم ومن هؤلاء المصريين 29 من المسلمين. قال ولا يزال معدل المسلمين في هذه المدرسة قليلاً على زيادة فيه. وقال في كلامه على مدرسة الهندسة إن فيها الآن 89 طالباً منهم 58 مسلماً وقد دخل إليها 40 طالباً في شهر سبتمبر الماضي منهم 30 مسلماً فعدد الطالبين من المسلمين في هذه المدرسة يزداد سنة عن سنة. ولفت أنظار المصريين إلى تعليم أولادهم الهندسة وقال إن مصر محتاجة إلى مهندسين وطنيين وفيها أعمال كثيرة لهم. وذكر مدرسة الحقوق فقال: إن طلبتها الآن 358 طالباً منهم 263 مسلماً وقال إن الإقبال على تعلم الحقوق زاد منذ ست سنين. وقد نال شهادة الطب من المدرسة الطبية في القصر العيني 20 طبيباً وتقدم للدخول فيها 97 فقبل مهم 53 طالباً، قال اللورد: إن عدد الأطباء قليل وإن الأمة بقدر ما تستنير تشتد حاجتها إلى الأطباء. وأشار في كلامه على مدرسة البيطرة إلى أن فيها 30 طالباً وفي كلامه على مدرسة العميان أنها آخذة في التقدم والعطايا تنهال عليها وأن فيها 27 طالباً داخلياً وانه اختلف إليها في السنة الماضية نحو عشرة أولاد كل يوم بصفة خارجية. وقال إن في مدرسة فيكتوريا في الإسكندرية 215 صبياً منهم 79 إسرائيلياً و79 مسيحياً و57 مسلماً. وقال في كلامه على المعارف في السودان: إن في مدارس حكومتها 430 تلميذاً منهم 311 مسلماً و25 قبطياً و4 إسرائيليين وذلك ما عدا صبيان الكتاتيب، وإن قد أخذت تنشأ النتائج الحسنة من التعليم في السودان بعد أن رأى السودانيون أن منهم 37 رجلاً تخرجوا في مدارس الحكومة فاستخدمتهم بعد في أعمالها. وأشار إلى كلية غوردون في الخرطوم فقال إن تلاميذها قلائل وإن خطتها تنشئة معاونين مهندسين ومساحين وأن تكون فيها مدرسة ثانوية ومدرسة ابتدائية. وأصبحت المدارس الابتدائي الراقية في السودان ست مدارس فيها 762 تلميذاً. وفي مدرسة الصنائع التي هي فرع من فروع كلية غوردون 25 خريجاً يتعلمون الصنائع المختلفة. ويؤخذ من كلام جناب اللورد أن الكتاتيب الخصوصية للذكور ضعيفة جداً في السودان على رغم تنشيط الحكومة لها وتكلم على مدارس المرسلين في

السودان وقال إن الحكومة السودانية لم تأذن لهم بإنشاء مدارس في الأصقاع السودانية المختلفة لأن الأهلين كلهم من المسلمين وغاية الأمر أنها ترخص لهم بإنشاء مدارس في الخرطوم حاضرة السودان لتكون هذه المدارس تحت مراقبة الحكومة ولأن فيها أولاداً لغير الطائفة الإسلامية. وعلى الجملة فإن القارئ يلاحظ معنا بعد تلاوة ما تقدم أن مصر والسودان يستحيل عليهما أن يبلغا في معارفهما مبلغ الحكومات الراقية في كثرة المتعلمين والمتعلمات قبل أن تمضي قرون إذا ظل العمل جارياً على هذا النحو في البطء. آثار الأفغان ذكرت إحدى المجلات الإنكليزية في الهند بحثاً لأحد رجال التاريخ والأثر كشف فيه الغطاء عن بعض ما اشتملت عليه أفغانستان من الشؤون التاريخية فقال إن أفغانستان تهم كلاً من الهند وفارس وإن اسمها كان على عهد خلفاء الإسكندر آري كما أطلق عليها آراشوزي وباروباميز ودارنجيان وكانت لها مدنية راقية وبعد أن انتقل منها العنصر اليوناني إلى بلاد الهند كانت كرسي مملكة الهند السيتية (السيت قبائل رحالة متوحشة كانت في الشمال الشرقي من أوروبا وفي الشمال الغربي من آسيا). وهناك اجتمعت أديان ثلاثة وهي المزدكية والبرهمية واليونانية. وإنك لترى إلى اليوم فرعاً من لغة الزاند سارية في لغة أفغان ومعظم أسماء المدن الحديثة من أفغانستان ورد في كتاب ديانة الفرس الأقدمين. أما كون بارسيس من المتشيعين لزرادشت في الهند استولى في غابر الدهور على بلاد الأفغان فذلك ثابت بما شوهد من أنقاض المعابد والحصون. النساء والاجتماع تكلم أحد الباحثين من الفرنسيس في مجلة العالمين الباريزية عن الأعمال التي تقوم بها النساء في فرنسا لتحسين أحوال بنات جنسهن فذكر من الجمعيات المفيدة اتحاد البيوت لمؤسستها الآنسة كاهيري فقال إن غايتها أن تلقي في ذهن أعضائها منذ سن الطفولية حب الإقدام والتبصر والتكافل وإن هذه الجمعية أقامت بيتاً يأوي إليه الأطفال من السنة الثانية ونصف إلى السادسة فيعلمون ما يعدهم لتلقي الدروس الابتدائية بعد ذلك من أسهل الطرق. وقد جرى العمل في هذا المأوى بمذهب فيبرل في التربية ومذهبه مؤسس على مبدأين عظيمين وهما تعلم الولد القراءة قبل أن يتعلمها في الكتب وأن يتعلم الرسم قبل أن يؤخذ

بتعلم الكتابة. والأسرة تدفع عن كل طفل من أولادها أو بناتها عشرة سانتيمات في اليوم وإذا أرادت تعليمه الرياضة البدنية فتدفع عنه أجرة ذلك 25 سانتيماً في الشهر وتدفع خمسين سانتيماً عن كتب تقدم له في الشهر ومتى أحبت أسرته تعلميه الموسيقى تدفع عنه فرنكين في الشهر. ويتعلم البنات في هذا المأوى علم تدبير المنزل ويتلقين دروساً في الطبخ بحيث إذا أتقنها لا ينفقن أكثر من فرنك في اليوم عن كل شخص يراد إطعامه وإعالته. وهذه الجمعية تعلم ثمانمائة طفل ويجتمع آباء الأولاد وأمهاتهم كل شهر مع المعلمات المربيات ليتفاوضوا معهم في تربية أطفالهم. وفي سنة 1901 أنشئت في فرنسا أول مدرسة لتعليم تدبير المنزل أنشأتها امرأة من فضليات النساء وفي فرنسا اليوم خمسون مدرسة من مثل هذه فيها 1200 تلميذ وتلميذة منها خمسة في باريز ويعلم في كل مدرسة ما يلزم للمختلفين إليها من الذكور والإناث وما يلائم حالهم وشأنهم. الذهب كان المستخرج من الذهب سنة 1796: 900 مليون فرنك فصار سنة 1906 ملياراً و800 مليون فرنك. إحياء الموتى اخترع أحمد علماء الأمريكان الأستاذ بو آلة كالمضخة الطلمبة التي تستخدم لإملاء إطار الدراجة بالهواء بعد تفريغه منه وقال إنه يحيي بها بعض الحيوانات كالأرانب والكلاب والجرذان وقد أجرى بالفعل تجارب من هذا القبيل فأفلح في تجرباته ويقول إنه يتمكن بآلته من إحياء من يموت من البشر مختنقاً أو مسموماً ويحيي من يموتون تحت البنج ويمنع موت الأطفال اختناقاً عند الولادة ويعيد السكارى إلى صحوهم بعد خمس دقائق ويحيي المصعوقين بالكهربائية إلى غير ذلك من الأعاجيب التي قام بها بعد اشتغال 31 سنة ودهش لها العلماء وصفقت لها مجامعهم وأنديتهم. محسنة أمريكية روت جريدة الهدي النيويوركية أن العقيلة رسل ساج أرملة أحد كبار أغنياء نيويورك (خلف لها زوجها ثمانين مليون ريال) قد منحت اليوم 10 ملايين ريال اختارت لتوزيعها نخبة من أفاضل جمهورية أمريكا وفاضلاتها وجعلت غايتها: - (1) تحسين حالة بيوت

الفقراء صحياً. (2) مقاتلة السل في نيويورك وأمهات المدن بتعليم المسلولين كيف يشفون بالعمل في الخلاء وأكل بعض المغذيات والامتناع عن المسكرات والتدخين وتعليم أهلهم كيف يتقون الداء. (3) إرسال أولاد الفقراء إلى البرية عند اشتداد الحر. (4) جمع فضلات موائد الأغنياء لإطعام الجياع. (5) مقاومة تدخين القاصرين. وتنوي هذه المحسنة إنفاق ما خلفه لها زوجها في مثل هذه السبل من أعمال الخير ونفع البشر. الأعمال العقلية - قال الدكتور فلوري في بحث له في المجلة الفرنسوية إن الإقلال من الطعام هو خير ما تداوى به مِعَد أرباب الأعمال العقلية الذين يقضون الساعات الطويلة محصورين في غرف ضيقة يعملون أعمالاً تهيج أعصابهم وتثير قواهم وأدمغتهم وأكثرهم معرضون لوجع المفاصل وضعف المجموع العصبي. وقد أحصى الطبيب المشار إليه 33 رجلاً من أرباب الأعمال والأموال و26 من المستخدمين في الإدارات و21 طبيباً فلم يظفر من بينهم بغير 4 محامين ونقاشين ووكيل دعاوٍ واحد سالمين من الضعف مثل تعب الذاكرة وتشوش الفكر وضياع الإرادة والسويداء وقلة الهمة للعمل وغير ذلك. قال: وكل ذلك ناشئ في الأكثر من الإفراط في تناول اللحوم والخمور والالكحول والشاي والقهوة والدخان. وهو يصف لأرباب الأشغال العقلية إذا كانوا لم يصابوا بأعراض هذه الأمراض أن يقتصروا في الصباح على مائتي غرام من القهوة باللبن وقرصين بالسمن وعند الظهر أن يتناولوا قرصين بالسمن على شكل خبز ومئة إلى مئة وخمسة وعشرين غراماً من اللحم المشوي بدون صلصة وعلى بقول خضراء أو سلاطة مطبوخة وطعام من اللبن وكعكتين وفي المساء أن يتناولوا حساءً وفطائر أو بقولاً ناشفةً أو خضراء وفواكه مطبوخة وكعكتين بالزبدة وان يمتنعوا كل الامتناع عن الخمر والمشروبات الروحية على اختلاف أنواعها ويقللوا من القهوة. آلة للعمى يقال إن عالماً نرويجياً اخترع آلة توضع في عيون العمي فيبصرون ولكن لا بعيونهم كالمبصرين بل بتنبيه حواسهم. سحب الحمولات كان يجري النقل في أوروبا قبل اختراع السكك الحديدية على السفن في البحار والأنهار

والترع وكانت الأجور التي تؤخذ عن النقل قليلة بالنسبة وقد عادت ألمانيا اليوم إلى استعمال النقل في بعضه أنهارها الكبيرة على السفن التي تسير بالكهربائية وتقطر معها عشرات من السفن فثبت لها أن مليوني طن من الأثقال تكلف أجرة نقلها بالكهرباء مثل ما تكلف بالبخار وإذا تضاعف هذا العدد تقلل النفقة عشرين في المئة ولذلك ستحذو أكثر الحكومات حذو ألمانيا. واقي الحبوب اكتشف أحد علماء فرنسا اكتشافاً يقي الحبوب كالقرطمان والحنطة والشعير والذرة وغيرها من الآفات التي تطرأ عليها فتغيرها فخدم باكتشافه الزراعة خدمة لا تقدر بثمن. البحث في الأعماق لم يتمكن الباحثون في أعماق المحيط إلى بلوغ أكثر من ثلاثة عشر متراً فإذا جاوزوا هذا القدر واضطروا إلى النزول إلى عمق أكثر يستخدمون المسبار وقد اخترع أحد المهندسين آلة يستعملها الغطاس فتمكنه من الوصول إلى السفينة الغرقى في قعر البحر وبها ينزل إلى عمق مئة متر بسهولة وقد جرب هذا المهندس هذه الآلة المعدنية 115 مرة فوفت بالغرض وتوفر على تجربة اختراعه خمس سنين فتم كماله أخيراً على ما يرام. وهذه الآلة تجدد الهواء من تلقاء نفسها بواسطة محركات كهربائية معلقة بها وتنير للغطاس طريقه بالكهربائية أيضاً. النزلة الصدرية ثبت لدى كبار الأطباء أن النزلة الصدرية تعدي كالسل والجذام وغيرهما من الأمراض وقد رأى أحدهم في لندن أن تصدر الحكومة أمرها إلى شركات السكك الحديدية بتطهير المركبات ونفض المخدات والمتكآت والمقاعد في عجلات الخطوط الحديدية بعد أن تسير مدة لأن جراثيم النزلة تعلق فيها لا محالة وقال إن المفرط في تناول الالكحول هو معرض للوقوع في هذا المرض أكثر من غيره وقال غيره إن المصاب بالنزلة إذا أقام في منزله خمسة عشر يوماً لم يخرج للناس يقل جداً المصابون بالنزلات الصدرية بقلة اختلاط السقيم بالسليم. جمعيات التعاون

عمت هذه الجمعيات أوروبا بأسرها ففي ألمانيا نحو ألفي جمعية من هذا النوع ومثلها في إيطاليا وفي الدانمارك ألف جمعية وللبلجيك من هذه الجمعيات أنواع وضروب نافعة وفي إنكلترا من هذه الجمعيات ألوف وأهلها ينفقون على البائس والفقير بألوف الألوف فقد قدر أحد كبار رجال الإنكليز العارفين إن الإنكليز أنفقوا على هذه الجمعيات 756 مليون فرنك. اللحوم في فرنسا في إحصاء أخير أن فرنسا تكثر في هذه الأيام من تناول لحم الخيل ويقبل أهلها عليه أيما إقبال فإنك ترى في كل مدينة لها بعض الشأن من مدنها مسلخاً لذبح الخيول وقد أكلت مدينة باريس في السنة الماضية أربعين ألف حصان أي ثمانية أضعاف ما كانت تأكل منه سبع سنين. ولحم الخيل يساوي نصف لهم الضأن وإذا روقب أمر تقديمه لا يضر بالصحة أصلاً كما تقدم في غير هذا الموضع. ثروة الولايات المتحدة لو وزعت الثروة في الولايات المتحدة على الأفراد بالتساوي لأصاب كل أمريكي 1235 دولاراً و86 سنتاً وفي الولايات المتحدة 125 ألف رجل يبلغ مجموع ثروتهم 33 مليار دولار فلو قسمت عليهم بالتساوي لأصاب كل واحد منهم 264 ألف دولار وفيها 1 مليون و375 ألف رجل يبلغ ثروتهم 23 مليار دولار فلو وزعت عليهم بالتساوي لنال كل شخص منهم 16 ألف دولار وفيها 5 مليون و500 ألف شخص يبلغ مجموع ثروتهم 8 مليارات و200 مليون دولار فلو وزعت عليهم بالتساوي لنال كل فرد منهم 1. 500 دولار وفيها 5 ملايين و500 ألف شخص يبلغ مجموع ثروتهم 800 مليون دولار فلو وزعت عليهم بالتساوي لأصاب كل واحد منهم 150 دولاراً فهؤلاء 12 مليون و500 ألف شخص من سكان الولايات المتحدة يستحقون أن يذكروا في التقويمات المالية العامة ويبقى 71 مليوناً من سكانها غير موجودين مالياً. أصدر المستر ركفلر المثري تقريراً مثبتاً بشرف كلامه أن ثروته لا تتجاوز 300 مليون دولار وأن دخله السنوي من 15 مليوناً إلى 20 مليون دولار. ومن الأغنياء المستر كارنيجي الذي تقدر ثروته بمبلغ 166 مليون دولار ومسزانلر واكر التي تقدر ثورتها بمبلغ 130 مليوناً ويليهما عدد كبير ممن تقدر ثورة الواحد منهم بمئة

مليون دولار كفندربلت وغيره وكل هؤلاء عاملون على زيادة ثروتهم لا على تفريقها فهم يملكون المناجم والسكك الحديدية وأكثر الشركات التجارية وتقدر ثرواتهم مجموعة بمبلغ 40 مليار دولار حال كون الأموال المبذولة في سبيل الخير في الولايات المتحدة كلها تقدر بأربعين إلى خمسين مليون دولار وليست إلا مبلغاً جزئياً بالنسبة إلى دخل الأغنياء وليست كلها مجموعة منهم. عن الهدى بتصرف.

تبذير الكبراء

تبذير الكبراء الإسراف الغالب آفة من آفات الحضارة ولا إسراف إذا لم توجد حضارة وعلى نسبة حضارة الأمة وغناها يكون في الأكثر بذخها وإسرافها وإن شئت فقل إسراف أهل البسطة والغنى. مثاله ما نسمعه لهذا العهد عن ديار الغرب وإيغال الموسرين من أهله في الإنفاق على كل ما طاب وحلا وبهرج وزخرف فينفق الفرد في الشهوات والتبرج ما يكف لإعالة عشرات الألوف أعواماً. وتأتينا عنهم أنباء لا تكاد تصدق لولا تناصرها واتفاق المشاهدين لها عياناً على إثبات ما يقال ويروى. ولو استقريت تاريخ الأمم لرأيت الشيء الكثير من ذلك قبل ألوف من السنين وآخر من انتهت إلينا أخبار ترفهم الرومان واليونان لما بلغت الحضارة بينهم حدها. وهذا الشرق أيضاً ما خلا في كل دور من أدواره من مسرفين كانوا إخوان الشياطين وإسراف اليوم يختلف عن إسراف أمس فإنه كان في غابر الأحقاب مقصوراً على رجال الدول والكلمة النافذة عند الملوك والسلاطين أما اليوم فالإسراف يكون من الرعاة والرعاية معاً خصوصاً بعد أن انتقلت الثروة إلى الأفراد. وتاريخ العرب لم ينقل إلينا سوى أخبار الأمراء والملوك وما عني المؤرخون بنقل أخبار الأفراد من الأغنياء ولذلك كان علينا إذا رغبنا أن نستشهد تاريخنا ونبحث في حالتنا الاجتماعية في القرون العابرة أن نقتصر على إيراد ما انتهى إلينا علمه من أخبار أولئك العظماء وهي لا تخلو من عبرة وتسلية. خذ لك أمثلة لا تستغرب بعدها زوال الممالك الشرقية وتقرأ فيها نموذجاً من تفننهم في دورهم وقصورهم وأفراحم ومجتمعاتهم. فقد رأت الرميكية زوج المعتمد بن عباد الأندلسي الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي فيه فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين وخاضتها مع جواريها وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط قال ولا يوم الطين فاستحت واعتذرت. ولما اقتعد ابن أبي عامر الذروة في أيام الحكم الأندلسي صنع قصراً من فضة لصبح أم هشام وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك وقامت بأمره عند سيدها الحكم وحدث الحكم خواصه بذلك وقال إن هذا الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به. وكان في دار القاهر بالله عشرة آلاف خادم من الخصيان ويفرق الضحية من الإبل والبقر

أربعين ألف رأس ومن الغنم خمسين ألف رأس. وكان عز الدولة بن بويه متوسعاً في الإخراجات والكلف وكان يتناول أحد الموظفين بإيقاد الشمع أمامه ألف من في كل شهر. ولما بعث ملك الروم يتوعد المستكفي بالله بالقتال استعرض عسكره فكان جملة العسكرة المصفوفة مائة ألف وستين ألفاً ووقف الغلمان بالزينة والمناطق الذهبية وكذلك الخدم والخصيان ووقف الحجاب وكانوا سبعمائة وزينت دار الخليفة بالمستور والبسط فكانت جملة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج المذهب وكانت جملة البسط اثنين وعشرين ألف بساط وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشرة غصناً وأوراقها من ذهب وفضة وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة وعلى الأغصان طيور خضر من ذهب وفضة ينفخ الريح بها فيصفر كل طير بلغته. وحكى الصابي عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود يعني ابن محمود بن سبكتكنين بغزنة فشاهدنا بالباب أصناف العساكر وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك وقد أقيمت الفيلة عليها الأسرة والعماريات الملبسة بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف سماطين وفي أوساطم مناطق الذهب وبأيديهم أعمدة الذهب ومسعود جالس في سرير من الذهب لم يوضع على أرض مثله وعليه الفرش الفاخرة وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت وقد أحاط به الغلمان الخواص بأكمل زينة ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خواناً من الذهب على كل خوان خمسة أطباق من ذهب فيها أنواع من الأشربة فساقهم الغلمان ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار فيه ألف دست من الذهب وأطباق كبار خسروانية فيها الكيزان وعلى كل طبق زرافة ذهب وأطباق ذهب فيها المسك والعنبر والكافور وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار وأشجار العود قائمة بين ذلك وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر وفي جوانب المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص شيء بقصر الوصف عنها وذكر أشياء أخر تحير الأسماء والأسماع - قاله ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار. ومما يعد في باب ترف الكبراء وسرفهم ما رواة المقريزي من أعذار (طعام الختان) بني

ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي في الأندلس وكانت لهم دولة كبيرة وبلغوا في البذخ والترف إلى الغاية ولهم الأعذار المشهور الذي يقال هل الأعذار الذنوبي وبه يضرب المثل عند أهل المغرب وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق. وبوران هي ابنة الحسن بن سهل امرأة المأمون قالوا لما دخل إليها نثرت عليه جدتها ألف لؤلؤة من أنف ما يكون فأمر المأمون بجمعه فأعطاه بوران ثم أوقد تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون مناً (رطلاً) وقالوا أن المأمون لم يرقه هذا الإسراف وقال فيه. وأقام المأمون في معسكر الحسن سبعة عشرة يوماً يعد له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه وخلع الحسن على القواد مراتبهم وحملهم ووصلهم وكان مبلغ ما لزمه خمسين ألف ألف درهم وكتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد فمن وقعت بيده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها وأوعز إلى النوتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس بها أخريات نهارهم. والمتتبع لهذه الأخبار يعثر منها على الكثير ولاسيما في أيام مباهاتهم وولائمهم وأعراسهم فقد روى المؤرخون أن أبا الجيش خمارويه بن طولون صاحب مصر لما زوّج ابنته أسماء للمعتضد بالله العباسي على صداق قدره ألف ألف درهم جهزها أبوها بجهاز لم يمل مثله حتى قيل كان لها ألف هارون ذهب وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وطائف مصر وأرزاق جنودها مائتي ألف دينار ويقال إن المعتضد أراد بزواجها افتقار الطولونية وكذا كان. وذكر ابن الأثير في حوادث سنة ثمانين وأربعمائة كيف نقل جهاز ابنة السلطان ملهشاه السلجوقي إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا بقدر ما فيها من الجواهر والحلي وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر ومهد عظيم كثير الذهب وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين والأمير برسق وغيرهما ونثر أهل نهر مغلى عليهم الدنانير والثياب وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً ثم أرسل

الخليفة - المقتدي بأمر الله - الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلثمائة موكبية ومثلها مشاعل ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً وقال الوزير لتركان خاتون سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره فأجابت بالسمع والطاعة وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان يعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخليفة وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حي أن فيه ألف منّ من السكر وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر وأرسل إلى الخاتون زوجة السلطان وإلى جميع الخواتين وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك. وهكذا كانت أعمال أولئك الرجال تصدر عنهم بلا روية ولا حساب لأن الرعايا والبلاد والثروة كانت لهم يتصرفون فيها بما يشاؤون وأين هذا الترف من ذاك الاقتصاد الذي أثر عن عمر بن عبد العزيز وقد أمر جليسه رجاء بن حيوة أن يشتري له ثوباً بستة دراهم فأتاه به فجسه وقال هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً قال رجاء: فبكيت قال: فما يبكيك قال: أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته وقلت هو على ما أحب لولا أن فيه خشونة وأتيتك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم فجسسته وقلت هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً فقال: يا رجاء إن لي نفساً تواقة تاقت إلى فاطمة ابنة عبد الملك فتزوجها وتاقت إلى الإمارة فوليتها وتاقت إلى الخلافة فأدركتها وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها. وقال: قوّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباءً وعمامة وقميصاً وسراويل ورداءً وخفين وقلنسوة. بل أين ذاك الإسراف من زهد نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد

اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ولقد شكت إليه زوجته الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل لها منها في السنة نحو العشرين ديناراً فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكذلك كان خليفته صلاح الدين يوسف بن أيوب فإن كان على كثرة فتوحه وبسط يده على ذخائر وكنوز عظيمة لم يدخر منها شيئاً وفرقه في وجوه المبرات وإقامة المعالم الخيرية حتى إذا لحق بربه لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري وأربعين درهماً ناصرية ولما بنى له أحد رجاله في دمشق قصراً مشرفاً بهجاً وبخه على عمله ولم يرض أن يسكنه لما أنفق عليه من النفقات الفاحشة. وبالجملة فتاريخ الأمة ينعي على المسرفين أعماله كما ينادي بالثناء على المقتصدين من رجالها فإن جاء مثل ابن عباد وابن أبي عامر والقاهر والمستكفي والحسن بن سهل فقد جاء أمثال عمر بن عبد العزيز ونور الدين وصلاح الدين وكل منهم ذكر بعمله ولقي جزاءه في قصده وإسرافه. الانتحار سلامٌ على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما

الانتحار وأسبابه

الانتحار وأسبابه الانتحار قل النفس. ولا يعمد المرء إليه حتى تضيق به الدنيا أو تضيق به نفسه. ولا يبعث الإنسان على الانتحار باعث أشد من ضياع أمل له كان يعلل به قلبه أو نعمة زالت كان يمرح في نعيمها أو مال فقده على غير رغبة منه أو أسر وقع فيه وهو لا يرجو منه فكاكاً أو ذنب جناه ولا يرى له من الجزاء عليه خلاصاً أو غرام كوى فؤاده وهو لا يرجو أن يطفئ ناره بماء الوصال. وهناك باعث أشد من تلك البواعث وأعني به سوء التربية ونقص التهذيب. فإن النفس الساذجة كالسيف البتار الذي أغفلته الصياقل أو كالحجر الكريم ولا يبدو بهاؤها حتى يزيل صدأه العامل الحاذق فيبهر الأبصار بنوره. والتهذيب يصقل النفوس ويظهر الفضيلة الكامنة. وإنك ترى أخا الجهل إذا ثارت برأسه سورة الغضب ولم يكن الانتقام طوع بنانه أو أحب حباً أخذ برشده وغشى على بصيرته ولم ينل إربه أو فقد مالاً قليلاً تعب في الحصول عله يضيق به عقله ويقتل نفسه بيده. الحكماء والانتحار وأبعد الناس عن قتل النفس أهل الحكمة والعلم فإنهم يرون الانتحار جبناً وضعفاً في العزيمة ووهناً في الهمة. وهم إذا لم يبلغوا مناهم عادوا فأملوا وإذا زالت نعمة كانوا يرفلون في حللها قنعوا بآثارها وأن فقدوا مالاً فالمال أدنى ما يتطلبون وإن نالهم أسر علموا بان لكل شيءٍ مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام إلا من رضي وهم أشد الناس إحجاماً عن الذنوب فأنى لهم أن يجرموا فيحتويهم القنوط؟ أريد بأهل الحكمة أولئك الذين نالوا من العلم منالاً كبيراً فأسفرت لهم الحقيقة وعلموا بخلود النفس. الفلاسفة الماديون والانتحار ومن المفكرين فريق لا يقول بالنفس والخلود ويرون إن الموت نهاية كل حي. وهذا الفريق يؤثر الموت على الحياة والفناء على البقاء ويرى أن الحياة شر وتعذب وفي الموت كل الراحة والهناء. ومن أنصار هذا الفريق فريق الماديين وهم يقولون بأن النفس بدعة لا

وجود لها وإن الكون خلق من المادة. إنما توجد في الخلق الحياة بالحركة وغيرها من القوى الكامنة في المادة. ومنهم الدهريون القائلون بأن العالم أرحام تدفع وأرض تبلع. وإن المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم وإن أمر الإنسان في حياته موقوف على صروف الزمان. هؤلاء بأسرهم يقولون بتفضيل الموت على الحياة ويرون أن الحياة ذنب جناه الناس على النسل. وقد نشأت هذه المبادئ عند الفرس واليونان وغيرهم من الأمم التي أتى عليها الزمان. فلما أشرقت شمس الحكمة في الغرب وأينعت أزهار المدنية الحديثة قام من الغرب أناس يدعون إلى تلك المذاهب وألبسوها لباس الغلو الشديد. حتى حدث الحال ببعضهم أن أسسوا جمعيات بعد أن ائتمروا بينهم على الانتحار بالتعاقب فينتظم الفرد في سلكها على أن يقتل نفسه إذا انتهى إليه الدور وأصابته النوبة. الجهلاء والانتحار وترى الجاهلين وهم لم يسمعوا بالخلود ولم يعوا بأن لم نفوساً زكية لها بالخالق اتصال ولم يعلموا بمبدأ الماديين ولم يبلغهم مذهب الدهريين إذا سئموا تكاليف الحياة (وأي الرجال لم يسأم؟) عمدوا إلى نفوسهم فاختطفوها من بين جنوبهم وهم على يقين من أنهم يلقون عذاباً أليماً قائلين ولعذاب الآخرة خير لنا من تكاليف الأولى. كتاب القصص والانتحار يلعب كتاب القصص بالنفوس لعباً. ويندر أن تقع لك لا تنتهي بقتل نفس ليأس استحوذ على رجل أو حب أحدث في قلبه جنوناً. ولقد تنال تلك الصغائر من صغار العقول منالاً كبيراً فتمهد لهم السبيل إلى ارتكاب ما يرتكبون. على أنه ليس في كتاب (ألف ليلة وليلة) وهو أشهر القصص في لسان العرب قصة تنتهي بقتل النفس. وقد يقاسي أحد أبطال ذلك الكتاب أهوالاً تشيب لها الولدان ولا يخطر على قلبه قتل نفسه. وأخبار العرب في كتب الأدب وهي كثيرة غزيرة فيها أخبار الحرب والغرام والثأر والانتقام لا تجد فيها خبراً ينتهي بقتل النفس. إنما تسرب إلينا الاقتداء بإبطال القصص في قتل النفس من تلك القصص الغربية التي يتحفنا بها المعربون.

فن التمثيل والانتحار وإنك لا تشاهد رواية مؤلمة حتى تجد لقتل النفس فيها أثراً كأنه هو ما يعمد إليه الناس وقت ضيقهم وهم لا يعمدون إلى خالقهم أو يثوبون إلى رشدهم. وأشد تلك الروايات في النفس وقعاً رواية (شهداء الغرام) وخلاصتها أن فتى يعشق فتاة. ويقف العداء في سبيل قربهما. ثم يحدث أنه يقتل قريباً لها فينفيه الملك فتحزن عليه حبيبته وتجرع كأساً ينالها بعد سبات عميق فيدفنها أهلها. ويأتي حبيبها إلى قبرها زائراً على غير علم بأنها لا تزال حية ترزق. وإذا ما رأى قبر حبيبته ورأى جمالها الفتان قد ذبلت زهرته يجرع سماً زعاقاً فيخطف روحه الموت الزؤام وتفيق حبيبته من سباتها فيأخذ بصرها حبيبها فتراه جثة خامدة قد أطفأ الموت شعلتها فتقتل نفسها. وغير هذه من روايات شكسبير رواية القائد المغربي. فإنه تلحقه غيرته على امرأته من رجل غريب ويوقع بينه وبينها رجل من أهل الشر والفساد فيخدم أنفاسها. ثم يحصحص الحق ويدري بأنها بريئة وأن شرفه سليم لم ينله أذى فيقتل نفسه غيظاً من نفسه. ومن روايات فيكتور هوجو رواية طبق الخافقين ذكرها واشتهر أمرها بين أهل الفضل والأدب اسمها (رويبلاس) وخلاصتها أن أميراً من أمراء الإسبان رأى أن الملك صائر إلى الزوال لأن الملك كان كثير التنقل والارتحال والملكة من ربات الجمال فأتى في بعد الملك بغلام من السوقة بهي الطلعة وقال إنه أخوه فأحلته الملكة محل الإكرام والتبجيل. وأحب الغلام الملكة حباً مبرحاً هذب نفسه ولطف من خلقه وسما به سمواً كبيراً. ورأى رويبلاس الوزراء يوماً يتفاوضون فيما بينهم على مال المملكة فعنفهم فسمعته الملكة فأحبته وقربته إليها. ولما علم الأمير المحتال بذلك جمع بينهما تحت مدارع الظلماء على غير علم منهما بقصده ثم فاجأهما ووصم الملكة بوصمة العار وذلك لتتخلى عن الملك ويتفرد به. فعز الأمر على رويبلاس وخلع لباس الأمراء وقال إنك لقيت الملكة مع غلام من بطانتها ولم تجدها مع أمير يظن به وبها السوء. فذعر الأمير الكبير لفعله فأخذ الغلام بسيفه وقتل به الأمير ثم جرع السم فارتاعت الملكة وصرخت بملء فيها (رويبلاس) فيقول وهو يتضاءل بين يدي الموت: مولاتي الرحمة والرضوان

ثم يغلبه الموت على أمره. قصيدة من الشعر وحرام على حافظ إبراهيم أن ينظم قصيدة تهيج النفوس الساكنة وتحرك الشر في القلوب وتحمل من نالت منه الخطوب على أن يقتل نفسه إذا قال حفظ الله نفسه: سعيت إلى إن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما سلامٌ على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما أضرّت به الأولى فهام بأختها ... وإن ساءت الأخرى فويلاه منهما فهبي رياح الموت نكبأ واطفئي ... سراح حياتي قبل أن يتحطما فيا قلب لا تجزع إذا عضك الأسى ... فإنك بعد اليوم لن تتألما ويا عين قد آن الجمود لمدمعي ... فلا سيل دمع تسكبين ولا دما ويا صدر كم حلت بذاتك ضيقة ... وكم جال في أنحائك الهم وارتمى فهلا ترى في ضيقة القبر فسحة ... تنفس عنك الكرب إن بت مبرما أكابر الرجال والانتحار ولقد قام فريق من أهل الطب وقالوا بان الجنون أقوى أسباب قتل النفس. وعارضهم في ذلك آخرون وقالوا بأن من يحفظ التاريخ ذكر انتحارهم كانوا من أعقل الناس وأكبرهم نفوساً. ومن هؤلاء الرجال العظام الذين سعوا إلى حتوفهم بأظلافهم وخطفوا أرواحهم بأسيافهم القائد القرطجني الشهير هنيبال فإنه بعد أن هزم جنود الرومان شر هزيمة عاد فأفل نجم سعده ورافقته الخيبة ولازم جنده الفشل وانهزم. فأوي إلى ملك يحتمي به ثم لم تطق نفسه أن تبقى على الذل فانتحر. ومنهم كاتو القائد الروماني الشهير. وكان ذلك القائد من أنصار بومبيوس الذين يمتون إليه بحبل الصداقة والإخلاص وكان من المتألبين على قيصر العاملين على انخذاله فلما أخلفت الأيام ظنه وبات قيصر والنصر حليفه واندحر بومبيوس وأنصاره شق الأمر على كاتو وأبت نفسه أن يبقى على الضيم فطعن نفسه بخنجره طعنة أودت بحياته. ومنهم أوتو القيصر الروماني الكبير الذي تألبت عليه جنود الألمان وردوه مخذولاً محسوراً

فأبت نفسه العار واختار الصارم البتار. ووجد عليه أهل مملكته فقتل كثير منه نفوسهم حزناً وأسى. ومن له إلمام بالتاريخ الحديث يذكر أن فريدريك الكبير بعد أن ظهر على أعدائه ظهوراً كبيراً عاوده النحس ولزمه الفشل وتألبت عليه ثلاث دول كبرى وتخلى عنه محالفوه فاحتواه اليأس ونال منه القنوط وعمد إلى الانتحار. ولكنه عاد فغلبته على أمره بقية عزيمة فيه وتحول عن قتل نفسه بنفسه. نابليون لم ينتحر ولا يسعنا إلا أن نذكر نابليون ذلك الملك الكبير صاحب الحروب والغارات ورب القتال الذي نال من الأمم ما لم ينله الإسكندر أو هنيبال فإنه بعد أن كان من أمره ما كان وأسرته إنكلترا مالكة البحار وقذفت به إلى تلك الجزيرة القصية التي يحيط بها بحر الظلمات إحاطة المطبق بالأسير وبقي فيها في ذل وانكسار تحت حكم رجل جاف الطبع غليظ القلب لا يعبأ بأكاليل النصر ولا تهمه تيجان الفخار ست سنين طوال لم يدر في خلده أمر الانتحار. فما أكبر تلك النفس في النصر والأسر. انتحار المرأة والرجال الذين يقتلون نفوسهم أكثر من النسوة اللاتي يقترفن الانتحار لأن الرجل أقرب إلى متاعب الحياة وهمومها وهو الذي يلقى آلام العيش ويذوق أصناف العذاب فهو الهارب الطالب الراغب الراهب الهالك النادب. وهو الذي يخوض غمار معترك الحياة فإما فائزاً منصوراً أو مخذولاً محسوراً. أما المرأة فهي سيدة الرجل ومليكة قلبه يسعى ليأتيها برزقها وينصب ليصونها من الشقاء فهي أبعد منه عن مصائب الدهر وطوارئ الحدثان. وإنك لترى أن النساء لا يعمدن إلى الانتحار فراراً من فقر أو هرباً من عار أو حرصاً على شرف من أن تناله يد الأذى أو حزناً على مال مضيع أو أسفاً على نصر عقد للأعداء لواؤه ولكن لحب دب في النفي دبيب الجنون في العقل أو غيرة نالت من قلوبهن ما تناله النار من الحطب. وكأن المرأة لا تزال تخشى على جمالها من أن تذبل زهرته حتى بعد الموت فهي تقتل

نفسها بما لا يمس حسن وجهها فتعمد إلى السم أو الغرق. وأشهر من قتلن نفوسهن من النسوة الملكة كلوبطرة. فإنها بعد أن مات عشيقها (انطونيوس) وأمست الدنيا في عينيها أضيق من سم الخياط عمدت إلى قتل نفسها. فدعت إليها وصيفة لها وقالت ألبسيني حلة الملك وضعي فوق رأسي تاج السلطان فقد آن لي أن أموت وكنت أهوى أن كون من الخالدات أما الآن فما أسهل الموت وما أحلاه وما أمر العيش وما أقسى الحياة. آه. . . إني أكاد أسمع صوت حبيبي وهو يدعوني إليه. وأراه يهم بنفسه فإذا رآني أسعى نحوه تبرق أسرته. ثم أخذت بالحية وقالت إلي أيتها الحية الفانية حلي عقدة حياتي. ووضعت بها على صدرها وحنت عليها حنو أم مرضع ففغرت الأفعى فاها كأنها تبسم لها ورضعت من ثديها ماء الحياة. . . ولما جنت أوفليا عشيقة همليت عمدت إلى قتل نفسها فأرخت غدائر فرعها ووضعت فوق رأسها إكليلاً من الزهور وسعت إلى غصن شجرة على شاطئ البحر وجلست عليه وأخذت تهز بنفسها طرباً ما تهتز الطيور على الأغصان وهي تشدو وتغرد فلم يقو الغصن على حمل قدها وهوى بها فعانقها الموت على صدر الماء. على أن هناك سبيلاً إلى الموت أيسر من السم والغرق. روى رجل أن فتاة سلكت ذلك السبيل قال: ودفعنا بالباب فهبت علينا من الحجرة روائح الأزهار وعطر الرياحين ونظرنا إلى الفراش فإذا به مثقل بالفل والياسمين والورد والنسرين. وبصرنا بالفتاة وهي بني خمائل الزهور وقد نامت ملء جفونها ولكن ورد خدودها لم يذبل فخلناه بعض الزهور الزاهرة. الانتحار داء من أدواء المدنية قال ابن خلدون: إن البداوة أقرب إلى الخير من الحضارة وسبب ذلك أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على

نسبتها وما يحصل منهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد مما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها. ونزيد على قول ذلك العالم الجليل إن في جسم الحضارة شوائب وأدواء البداوة سليمة منها. فإن أهل الحضر يجمعون في طباعهم بين الأنانية والاستئثار بالنفع والكذب والنفاق والسرقة فتنزع نفوسهم إلى الشر والفساد وأما أهل البدو فهم أبعد عن تلك العيوب والمثالب لأن الخيرات عندهم وافرة فلا يتسرب الطمع إلى نفوسهم ولا يجد حب الذات من قلوبهم مكاناً رحيباً. وليس الانتحار إلا داء من أدواء المدنية الحديثة يلجأ إليه كل بائس ظلمه ذلك المجتمع الإنساني وأهمل شأنه وهو في حاجة إليه. ولذا ترى قتل النفس يزداد رويداً رويداً في كل البلدان التي انتشرت فيها المدنية وهو على الأكثر في المدن الكبرى حيث معترك الحياة أشد باساً ونار الجهاد في سبيل هذه الحياة الدنيا أحمى وطيساً وعلى أقله في القرى الصغيرة وبين الفلاحين وحيث يجد كل إنسان عملاً يعمله هو. وحيث لا ترى المرأة تتبرج وتتزين فتأخذ بعقل الرجل وحيث لا حانات يأوي إليها الفتيان فيزيدون جنونهم بما لديهم من المال القليل وحيث الطبيعة ساكنة هادئة تشهد بجمال الخالق وقدرته وكماله. هل الانتحار عدل؟ لا يستطيع الكاتب أن يبوح برأيه في أمر قتل النفس بعد أن بينه هذا التبيين ويجدر بالقارئ أن يحكم على الأمر بنفسه. وغير نكير أن الحياة كلها شر وأن الخير فيها صائر إلى الزوال. . . وإن ذوي المفسدة ينالون ما لا يناله أهل الخير والفضل. ونعم إن حب الحياة فطرة في الإنسان فهو لا يعمد إلى قتل نفسه إلا إذا بلغت به الهموم والأحزان أو الفقر والفاقة مبلغاً شديداً أو نال منه داءُ لا يرجى شفاؤه أو غرام مبرح منالاً كبيراً أو أبت نفسه الذل بعد العز. وتلك أمر ولا يعرفها إلا من يذوق مرّها لأن الشوق لا يعرفه إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها. ونحن نعلم أن أحد هذه البواعث يحدث في العقل جنوناً فيقتل المجنون نفسه. فهلا التمسنا عذراً للمجانين؟

القاهرة محمد لطفي جمعة

الجباية في الإسلام

الجباية في الإسلام لفن المالية منزلة عالية عند رجال الدول لأنهم في أشد الحاجة إلى معرفه ليعلموا كيف يفرضون الضرائب على الأمة ولهذا عني به الأوروبيون فجعلوه من أهم الفنون التي تقرأ في أرقى المدارس الجامعة فمن درس هذا الفن واطلع على كتاب الخراج لأبي يوسف رآه جامعاً للأبحاث المالية في صورة مجلة مندمجة القواعد تكون أساساً لروح أموال الدول وبياناً لذلك أشرع بتعريف فن المالية وأذكر موضوعه وغايته فأقول: فن المالية (هو عليم يبحث عن أموال الدول) وضع لوصف تلك الأموال وبيان نوعها وتكييف إدارتها. وغايته تعليم القواعد المقررة المأخوذة عن تجارب جرت لأخذ الأموال بالعدل وصرفها بالعقل على شرط أن تحفظ مصالح الأمة والحكومة معاً فالدولة التي لا تراعي قواعد هذا الفن لا يتيسر لها أن تحصل على الأموال الطائلة التي تلزم لحفظ حياة بلادها والذود عن حياض أمتها. منشأ أموال الدول ثبت بالاستقراء أن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر سنة الكون في جميع الأمور وناموس عام يشمل الأشياء كلها وهذا القول يصدق على البشر والدول. ولما اخذ الناس يتكاثرون وينمون في الأرض أنشأوا ينقسمون إلى قبائل وعشائر وأصبح قويهم يطمع في التغلب على ضعيفهم فطرة فيهم منذ خلقوه ودأبهم في كل جيل. وهذا ما دعا كل فريق إلى الحذر من جاره أو الانتقام منه أو التعدي عليه فيتحاربون ويتقاتلون وينهب بعضهم أموال بعض ويعبثون بالسكان ويسبون النساء ويستحيون الذراري فيجعلونهم أذلاء صاغرين. وكان الدولة في تلك الأدوار عبارة عن هيئة تحفظ نفسها من تعدي القبائل والعشائر وتسعى لتكون على وفاق مع غيرها وتنشر لواء العدل وتحكم بالعرف والعادة معتمدة على الوجدان على حين كان لا فرق بين الحكومة والدولة من ثم يتضح أن أساس وظائف الحكومة وأهمها منع اعتداء الأعداء ونشر لواء العدل بين أفراد الأمة وكانت العادة إذ ذاك أن يتجهز أفراد القبيلة للحرب بسلاحهم وأموالهم بيد أنهم كانوا يتركون ما يغنمونه من الأموال والأراضي لرئيسهم وأعوانه جزاء شجاعتهم في الحرب وقيامهم بسنة العدل في زمان السلم وما هذه الأموال والأراضي المسلوبة إلا أموال الدولة الابتدائية وعلى هذا النمط كانت

الأمم الشرقية في العصور المتقدمة توزع الغنائم على الأمراء والشجعان والرهبان وتأسر السكان وتزرع أراضيهم على أكتافهم. ولما ارتقت حكومات اليونان القديمة والدول الشرقية أذهن يوسعن نطاق بلادهن ويقوين سطوتهن فبنين بتلك الأموال وأولئك الأسرى المباني العظيمة والآثار الفخيمة التي لا تزال تدهش المتأخرين وظل هذا الناموس معمولاً بع وقاعدة من قواعد حقوق الدول المعتبرة في ذلك الحين إلى أن بزغت شمس الإسلام فتبين بطلان هذا القانون الواهي وجعل القائمون بدعوة الدين يكتفون بفتح البلاد وضرب الخراج على الأراضي والجزية على الرقاب ويتركون السكان أحراراً يتصرفون في أملاكهم كما يشاؤون كتاب الخراج ص 14 و20 وجاء فيه بالحرف قال عمر رضي الله عنه فأقر ما أفاء الله عليك في أيدي أهله واجعل الجزية عليهم بقدر طاقتهم تقسمها بين المسلمين ويكونون عمار الأرض فهم أعمل بها وأقوى عليها ولا سبيل لك عليهم ولا للمسلمين معك (ص: 82) وغدت الدول الإسلامية وحكومات الرومان على ذاك العهد تصرف الأموال في توطيد دعائم الأمن والعدل وتسهيل سبل النجاح على أن الملوك والأمراء في الأجيال المتوسطة أخذوا يحصرون الأموال والأراضي بأنفسهم فصاروا يديرون الممالك بذاتهم وكانت أموالهم يومئذ عبارة عن دخل الرهبان بعد موتهم ريثما يعين غيرهم يضاف إلى ذلك دفائن الذهب والفضة المكتشفة وأموال من لا وارث يرثهم أو من قتلوا جزاء أعمالهم القبيحة وما يحصل من الحراج والمعادن وضرائب المسكرات والصيد وانتقال الأراضي بين الوارثين وعشور البيع والشراء والجزاء النقدي وغير ذلك فيتضح من ذلك أن الأموال المذكورة هي أساس الضرائب الجارية في البلاد المتمدنة الآن. ولما اخترع البارود واستبدلت المحرقات الفاتكات بالجارحات واتحدت الأمم والشعوب جعلت الدول تتيه عجباً بعظمتها فأخذت يثير بعضها على بعض ويشن الغارات أعواماً مديدة حتى صارت الحكومة تنوء بأعباء الديون واضطرت إلى تحصين القلاع وتقوية الحدود واستخدام الجيوش المنظمة في زمن السلم دون الحرب وأنشأت تسعى في تزييد أموال الملة ليزداد دخلها وتسعى في رفاهيتها وسعادتها وتحسي أخلاقا وتهيئ الأسباب الكافية لهذا الغرض فاقتضى لذلك مبالغ طائلة.

فتبين مما تقدم أن أهم وظائف الحكومة نحو الأمة حفظ كيانها من تعدي الأعداء في الداخل والخارج وهذا لا يقوم إلا بأحكام أسس العدل والحرية وتعميم المعارف وتوفير أسباب الزراعة وتنظيم الصنائع وتسهيل طرق التجارة وكل ذلك يحتاج إلى دراهم ولذلك أحق للحكومة أن تأخذ من الأمة أجرة قيامها بنشر العدل والأمن داخلاً وخارجاً براً وبحراً وليست هذه الأجرة إلا أموال الحكومة التي يحق لها تقاضيها من أفراد الأمة. قال أبو يوسف: كتب أمير الطائف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أصحاب النحل لا يؤدون إلينا ما كانوا يؤدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون مع ذلك أن نحمي لهم أوديتهم فأكتب إلي بريك في ذلك فكتب إليه عمر أن أدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاحم لهم أوديتهم وإن لم يؤدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحم لهم قال وكانوا يؤدون إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كل عشر قرب قربة اهـ ص 40 وقال: فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدوا المسلمين وعوناً للمسلمين على أعدائهم فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجلاً من قبلهم يتجسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريدون أن يصنعوا فأتى أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعاً لم ير مثله فأتى رؤساء أهل كل مدينة رسلهم الأمير الذي خلفه أبي عبيدة عليهم فأخبروه بذلك فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبو عبيدة يخبره بذلك وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج وكتب إليهم أن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بينا وبينكم إن نصرنا الله عليم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئاً اهـ ص 81 فتأمل! كيف تطرح الضرائب تبين مما فصلناه أن طرح الضرائب العادلة التي تطبق الأمة حملها (لا يكلف الله نفساً إلا

وسعها) حق صريح من أهم حقوق الحكم والاستقلال ولا يخفى على من قرأ التاريخ أن الحكومات وقعت في ديون جسيمة وتداعت تحت أثقالها بسبب الحروب العظيمة التي امتدت أعواماً وشهوراً لعلل معقولة أو غير معقولة حتى اضطرت إلى تحميل الأمة الأجرة التي تقدم ذكرها مع تسوية ديونها من أجل حفظ كيأن الدول ولذلك عرف علماء هذا الفن الضريبة بقولهم: الضريبة ما أصاب كل فرد من أفراد الأمة من نفقات الحكومة بالنسبة لريعه الحقيقي. فالضرائب يجب أن تؤخذ من أفراد الأمة بالعدل والإنصاف وشرط في أخذها النسبة مع صافي إيراد كل شخص وقد بذل الأوروبيون جهدهم في البحث فلم يروا غير ثلاث طرق يؤملون بها أخذ الضرائب التي لا مناص منها على قاعدة العدل والإنصاف ولكنهم قلما نجحوا فيما قصدوا له وأما تلك الطرق الثلاث فهي: 1 - أن يتبين أفراد الأمة إيرادهم ويعترفوا للحكومة بمداخليهم 2 - التحقيقات الرسمية 3 - الإمارات الخارجية فبيان أفراد الأمة واعترافهم هو إجبار كل فرد على بيان حقيقة ريعه لينال نصيبه من النفقات اللأزمة للحكومة. غير أن هذه الطريق لا تكون سالمة لأن الناس يكرهون بيان حقيقة أموالهم مع ريعهم ولا يستثنى من ذلك إلا الإنكليز الذين حرموا على أنفسهم الكذب أمام حكومتهم فيما يترتب عليهم أداؤه لأنهم على ثقة من عدلها فلا تكلفهم مالا يطيقون ومع أن هذه الطريق أقرب للعدل من سواها فهي لا تكون عادلة عند جميع الأمم ويستحيل اعتراف المرء بحقيقة دخله إذا كان مقدار الضرائب فوق الطاقة. وأما التحقيقات الرسمية فهي أن يدقق عمال الحكومة ويحققوا دخل عمال أفراد الحكومة ويحققوا دخل أفراد الأمة ومهما كان أولئك الموظفون متصفين بالعدل معروفين بالإنصاف بريئين عن الغرض والغاية لا يصدقون في تقديراتهم ولا يصلون إلى حفظ النسبة بين المكلفين ولذلك يصعب تحقيق العدل في هذا الطريق. وأما الإمارات الظاهرة فهي أقل عدلاً من غيرها لأن الظواهر لا تكون حقائق وذلك باعتبار المنازل الجسيمة غير سديدة لأن الناس اعتادوا أن يتظاهروا بالمال والغنى

ويضعوا أنفسهم في مصاف من لهم من الإيراد ما يساوي ملكهم وكذلك البخلاء المقترون ممن إذا رأيتهم حسبتهم من الفقراء المدقعين مثلهم كمثل البغال والحمير يحملون الفضة والذهب ويأكلون التبن والشعير فلو نظر لظواهر هؤلاء وفرضت الضرائب على تلك النسبة ظلم الأولون وتضررت الحكومة بخسة الآخرين. ومع شدة عناية الدول المتمدنة بإيجاد واسطة لوضع الضرائب بالعدل لتعم كل فرد وتؤخذ منهم على نسبة واحدة لكي لا يكلف الضعيف بالكثير ولا القوي بالقليل لم ينجحوا حتى الآن. بيد أن سعيهم هذا جعلهم يقربون من العدل وكذا المسلمون في صدر الإسلام بذلوا قصارى جهدهم من أجل أن يعدلوا بين الرعية في حفظ النسبة بين الإيراد والضرائب. جاء في كتاب الخراج ص 20 فمسح عثمأن الأرضيين وجعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى الرأس اثني عشر درهماً وأربعة وعشرين درهماً وثمانية وأربعين درهماً وعطل من ذلك النساء والصبيان. أهم وقال: حدثني الحجاج بن ارطاة عن ابن عوف أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مسح السواد ما دون جبل حلوأن فوضع على كل جريب عأمر أو غأمر لينال الماء بدلو أو بغيره زرع أو عطل درهماً وقفيزاً وأحداً ومن كل رأس موسر ثمانية وأربعين درهماً ومن الوسط أربعة وعشرين درهماً ومن الفقير اثني عشر درهماً وختم على أعناقهم رصاصاً وألغى لهم النخل عوناً لهم وأخذ من كل جريب الكرم عشرة دراهم ومن كل جريب السمسم خمسة دراهم ومن الخضر من غلة الصيف من كل جريب ثلاثة دراهم ومن كل جريب القطن خمسة دراهم. وقال: ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها فجعل على كل مائة جريب زرع مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي جريب مما بعد ديناراً وعلى كل ألف أصل كرم مما قرب ديناراً وعلى كل ألفي أصل من بعد ديناراً وعلى الزيتون على كل مائة شجرة مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي شجرة مما بعد ديناراً وكان غاية البعد عند مسيرة اليوم أو اليومين وأكثر من ذلك فتبين من هذا أن مراعاة النسبة للإيراد الصافي من الأمور التي يجب أن يعنى بها في طرح الضرائب.

جباية الأموال وخلاصة الأمر أن رجال الإسلام سعوا لجعل التكاليف متناسبة مع إيراد الأشخاص كي لا يظلم زيد بعمرو. وأما جباية الأموال فشرط فيها علماء هذا الفن أن تكون في زمان سعة المكلف بها فيحصل من الفلاح ضريبته مثلاً بعد أن يذري غلاته ويأتي بها للبيع لئلا يضطر للاستدانة بالربا. فيكون مكلفاً بالمال ورباه. ويتقاضى من أرباب المواشي بعدما تنتج وتدرج ويتمكن من بيعها حتى لا يستدين أيضاً وتؤخذ عن العقارات عندما تؤجر وم الصادرات والواردات عند دخولها وخروجها وأوصوا أن لا تجبى تلك الأموال قبل أوأنها فقال أبو يوسفكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أحد عماله على العشور في العراق والشام من مر عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئاً إلى مثل ذلك اليوم من قابل إلا أن تجد فضلاً_إلى أن فل. حدثني يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان وكان على مكس مصر فذكر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إليه أن انظر من مر عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم ومما ظهر من التجارات من كل أربعين ديناراً وما نقص فيجاب ذلك يبلغ عشرين ديناراً فإن نقصت تلك الدنانير فدعها ولا تأخذ منها وإذا مر عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون في تجاراتهم من كل عشرين ديناراً دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها فلا تأخذ منها شيئاً واكتب لهم كتاباً بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول. وقد شرط على الجباة أن لا يضايقوا الرعية لئلا تنفر من الحكومة وحددوا لهم زمأن الجباية فمن تأخر عن الدفع أنذره الجأبي بلطف يخجله فإذا تأخر عن إيفاء ما عليه بعد أنذاره أنذره ثانية بشدة ممزوجة بلين وإذا تأخر بعد ذلك أقام عليه الدعوى بالمحكمة ثم يوضع الحكم في دائرة الإجراء فتحصله هذه كسائر الديون بحسب القانون على شرط أن لا تمس كرامة المكلف بدفعها. قال أبو يوسف حدثني إسماعيل بن إبرأهيمبن المهاجر البجلي عب الملك بن عمير قال حدثني رجل من ثقيف قال استعملني علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عكبراء فقال لي وأهل الأرض معي يسمعون: انظر أن تستوفي ما عليهم من الخراج وإياك أن ترخص لهم في شيء وإياك أن يروا منك ضعفاً ثم قال رح إلي عند الظهر فرحت إليه عند الظهر فقال لي إنما أوصيك بالذي أوصيتك به قدام أهل عملك لأنهم

قوم خدع انظر إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفاً ولا رزقاً يأكلونه ولا دابة يعملون عليها ولا تضربن أحد منهم سوطاً وأحداً في درهم ولا تقمه على رجله في طلب درهم ولا تبع لأحد منهم عرضاً في شيء من الخراج فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني وأن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك. قال: قلت أذن ارجع إليك كما خرجت من عندك قال: وإن رجعت كما خرجت قال: فإنطلقت فعملت بالذي أمرني فرجعت ولم انتقص من الخراج شيئاً. وقد منع عمال الصدقة الجباة عن قبول الهدية والصدقة قال أبو يوسف استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقال له ابن اللتيبة على صدقات بني سليم فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي قال النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته أما بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض أبطيه فقال اللهم هل بلغت. ولما كان أمر جباية الأموال من أهم الأمور التي يجب تجنب الظلم والاعتساف وحفظ راحة العامة والخاصة قال أبو يوسف أن تتخذ قوماً من أهل الصلاح والدين والأمانة فتوليهم الخراج ومن وليت منهم فليكن فقيهاً عالماً مشاوراً لأهل الرأي عفيفاً لا يطلع الناس منه على عورة ولا يخاف في لومة لائم ما حفظ من حق وأدي من أمانة احتسب به الجنة وما عمل به من غير ذلك خاف عقوبة الله فيما بعد الموت تجوز شهادته أن شهد ولا يخاف من جور في حكم أن حكم فإنك إنما توليه جباية الأموال وأخذها من حلها ونجنب ما حرم منها أن يرفع من ذلك ما شاء ويحتجن منه ما شاء فإذا لم يكن عدلا ثقة وأميناً فلا يؤتمن على الأموال إلى أن قال: وقد يجب الاحتياط فيمن يولى شيئاً من أمر الخراج والبحث على مذاهبهم والسؤال عن طرائقهم كما يجب ذلك فيمن أريد للحكم والقضاء وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفاً لأهل عمله ولا محتقراً لهم ولا مستخفاً بهم ولكن يلبس لهم جلباباً من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم ثم قال: ولتصير مع الوالي الذي وليته قوماً من الجند من أهل الديوان في أعناقهم

بيعة على النصح لك فإن من نصحك أن تظلم رعيتك وتأمر بإجراء أرزاقهم عليهم من ديونهم شهراً بشهر ولا تجري عليهم من الخراج درهماً فيما سواه وقال: تقدم في اختيار هؤلاء الجند الذين تصيرهم مع الوالي وليكونوا من صالحي الجند ومن له الفهم واليسر والنعمة منهم إن شاء الله تعالى ويستنتج مما تقدم أن مراعاة النسبة بين الإيراد وبين الضرائب من أهم القواعد الأساسية في فن المالية ويظهر للقارئ مما ذكر أن المسلمين في صدر الإسلام بذلوا طاقتهم من أجل تخفيف أثقال الضرائب عن الأمة كما يفعل القائمون بوضع الضرائب من العمال العالمين بقواعد هذا الفن في البلاد الراقية اليوم وكذا أقر العلماء أن الدولة لا تكون غنية إلا بشعبها ولا يغنى الشعب إلا بقلة الضرائب فمنع أبو يوسف طلب الزيادة في الخراج من المكلفين بعبارة طويلة ثم ختم كلامه قائلا في الزيادة هذا ضرر على أهل الخراج ونقص للفئ مع ما فيه من الإثم

من أين إلى أين

من أين إلى أين من أين من أين يا ابتدائي ... ثم إلى أين يا انتهائي أمن فناء إلى وجود ... ومن وجود إلى فناء أم من وجود له اختفاء ... إلى وجود بلا اختفاء خرجت من ظلمة لأخرى ... فما أمامي وما ورائي ما زلت من حيرة بأمري ... معانق الأس والرجاء أن طريق النجاة وعر ... يكبو به الطرف ذو النجاء يا قوم هل في الزمان نطس ... يهدي إلى ناجع الدواء لأي أمر هذي الليالي ... تأتي وتمضي على الولاء فتطلع الشمس في صباح ... وتغرب الشمس في مساء أرى ضياء يروق عيني ... ولست أدري كنه الضياء وما اهتزاز الأثير إلا ... علالة نزره الجلاء نحن على رغم ما علمنا ... نعيش في غيهب العماء نشرب ماء الظنون عبا ... فلم نعد منه بارتواء تأتي علينا مشاهدات ... نروح منهن في مراء وكم نرى فعل فاعلات ... من القوى وهي في الخفاء ياويلة الحس أنه عن ... حقيقة الأمر في غطاء فإن أجزاء كل جسم ... مبتعدات بلا التقاء وفي دقاق الجماد عرك ... يتهم الحس بالخطاء يا قوة الجذب أطلقيني ... من ثقله أوجبت عنائي لولاك لولاك يا شكالي ... لطرت كالنور في الفضاء أنت عماد السماء لكن ... خفيت عن عين كل راء ربطت كل النجوم فيها ... بعضاً ببعض ربط اعتناء فدرن في الجو جاريات ... كانها السفن فوق ماء نحن بني الأرض قد علمنا ... بأننا من بني السماء لو كنت في المشتري لبانت ... أراضي سماء بلا امتراء

فليس فوق وليس تحت ... ولا اعتلاء لذي اعتلاء وإنما نحن فوق نجم ... نحيا محاطين بالهواء فليت شعري أي ارتقاء ... للروح يبقى أي ارتقاء وأنت يا كهرباء سر ... يدا وما زال في غشاء عجائب الكون وهي شتى ... فيك انطوت أيما أنطواء أضأت إن شئت كل داج ... إن كأنت الروح للبقاء وكم تقاضاك فيلسوف ... حقيقة صعبة الأداء فقال والقول منه ظن ... ما الكون إلا بالكهرباء وليلة بتها أنادي ... نجومها أبعد النداء أأخذ منهن بالتداني ... فكراً ويأخذن بالتنائي فإنثنى باكياً بشعري ... ويطرب الليل من بكائي وربما كر بعد وهن ... فكري فألفى بعض الشفاء فأرجع القهقرى أغني ... وما سوى الشعر من غناء أقول والنسر فوق رأسي ... وطالع النجم في إزائي يا أيها الأنجم الزواهي ... لله ما فيك من بهاء أما كفاك السنى جمالا ... حتى تجللت بالسناء يا أنجم النعش فاصدقيني ... أمات ذو النعش بانطفاء أني إذا كنت في حداد ... إليك أهدي حسن العزاء وأنت يا نسر من كلال ... وقعت أم طلبة الغذاء أخوك هل طائر لوكر ... أم قاصد منتهى الفضاء كان أم النجوم سيف ... سل على الليل ذو مضاء رصع متناه بالداري ... فراق في الحسن والرواء كان نجم السها أديب ... في أرض بغداد ذو ثواء كان خط الشهاب مدل ... لأسفل البئر بالرشاء كانما أنجم الثريا ... في شكلها الباهر الضياء

قفاز كف به فصوص ... من حجر الماس ذي الصفاء برئت للموت من حياة ... ما نكبت مهيع الشقاء لم يكفها أنها اجتياح ... حتى غدت حومة البلاء يا أيها المترف المهنى ... يمرح في ثوب كبرياء مهلا أخا الكبر بعض كبر ... ألست تقنى بعض الحياء أنت ابن فقر إلى أمور ... بهن تدعى يا ابن الثراء

أمريكا الشمالية

أمريكا الشمالية موقعها الجغرافي_تشغل أمريكا الشمالية القسم الشمالي من القارة الغربية وتحتوي على نحو سدس اليابسة من الكرة الأرضية وهي تقريباً مثلثة الشكل وشواطئها البحرية مسننة لعمق خلجانها. سطحها_أن القسم الغربي من سطحها مرتفعات واسعة تخترقها سلسلة جبال عالية وهي تمتد بلسان طويل من برزخ تانتيبك إلى آخر إلى آخر شمالي غربي القارة. مساحتها_مساحتها 9، 349، 741ميلا مربعاً وهي أكثر بقليل عن نصف مساحة قارة_أكبر قارة في العالم_وتبلغ زهاء ثلثي قارة أفريقية مساحة وأكبر من قارة أوروبا مرتين. وطولها نحو 5500 ميل وعرضها نحو 4500 ميل وهي ثالثة القارات اتساعاً. جبالها_أعلى جبالها سانت ايلياس. وعلوه 18، 010 أقدام. وجبل أوريزابا وعلوه 8314 قدماً. وهذان الجبلان من سلسلة جبال كورديلراس. وهما ثانياً جبال الدنيا يعلوهما. فجبل حملايا في قارة آسيا يعلو عن سطح البحر 27000 قدم وهو أعلى جبال الدنيا وجبال القوقاس في أوروبا تعلو عن سطح البحر 178000 قدم وهي خامس جبال الدنيا بالعلو. أما الجبال الصخرية في أمريكا الشمالية فتخترق البلاد من البحر الشمالي من جنوب تخوم الأسكا إلى الجهة الجنوبية من أمريكا الجنوبية. أنهارها_أشهر أنهار أمريكا الشمالية مسيسبي. ولورانس. ومكنكني. وهي أهم سائر شرقي الجبال الصخرية ويوكون وكوليدو. وكولومبيا ثلاثة أنهر مصدرها تلك الجبال وهي تصب في الأوقيانس الباسيفيكي. ومسيسبي من الأنهر التي تسير فيها السفن ومصدره في شمالي البلاد ومصبه في بحر المكسيك وهو أسرع أنهار التي أمريكا ويصب فيه نهر أوهايو ونهر ميسوري ونهر أركانسس. ونسبة نهر مسيسبي في أمريكا الشمالية إلى سائر أنهرها كنسبة نهر أمازون إلى سائر أنهار الدنيا من حيث العظم والكبر والطول. ونهر الأمازون أعظم أنهار الدنيا في برازيل في قارة أميركا الجنوبية ومساحته 268100 ميل وهو ثاني أنهار الدنيا طولاً. فنهر يانيسي في سيبيريا أطول أنهار الدنيا طوله 3688 ميلاً وطول أمازون 3596 بحيراتها_عدد بحيرات أمريكا الشمالية عشر أشهرها وأعظمها خمس بحيرات هي سوبيرير ومشيغن. وهورن. واري. وأونتاريو ومن هذه البحيرة يخرج نهر سانت لورانس

السابق الذكر هواؤها_أعظم قسم من أمريكا الشمالية هو في المنطقة المعتدلة. وفي هذا القسم صحاري وحراج واسعة وقسم صغير منها في المنطقة المتجمدة حيث لا تعيش النباتات والمغروسات أو حيث تكون الأنجم والطحلب هي النباتات الرئيسية. وعلى الجملة فإن شمالي أمريكا الشمالية باردة كثيراً وهواؤها بارد معتدل في أقاليمها المتوسطة وحار في جنوبها حيث تجود الأشجار وتكثر البقول. أمطارها_تهطل الأمطار تهطالاً كثيراً على الأقاليم غربي شمالي كولومبيا وعلى الأراضي الواطئة المحيطة بخليج المكسيك وبحر كريب وقلما تمطر في سلسلة جبال كورديلراس وفي الأقاليم الواقعة غربي المكسيك. أما سائر أقاليم هذه القارة فمطرها معتدل وكثيراً ما تمطر في فصل الصيف كما تمطر في فصل الشتاء. أراضيها_أراضي أمريكا الشمالية جيدة جداً وفيها سهول واسعة وهي مخصبة. وقد بقيت قروناً عديدة قبل اكتشافها فصارت اليوم بهمة الجالية الأوروبية تدر على البلاد أخلاف الثروة واليسار وهي التي يصح القول فيها أنها أرض الميعاد التي تفيض لبناً وعسلاً. حأصلاتها_البر والشعير والذرة والأنس والبطاطا والعنب والمشمش والدراق والخوخ والتين والموز والسكر والتفاح الذي لا نظير له في الدنيا بحجمه وجودته. والأرز والقطن والشاي وأكثر أنواع البقول. حيواناتها_أكبر حيواناتها المفترسة النمر المخطط والدب والأغبر والدب الأسود والجاموس البري والغزال ودب القطب الشمالي والخيل والبقر والخنزير والغنم والمأعز والكلب والهر وغيرها وتبلغ الحيوانات التي لا توجد في بلاد سواها نحو ثمانين نوعاً وعدد الطيور فيها 362 نوعاً. أما الوحوش البرية التي كانت تأوي الغابات والحراج فقد أنقرض أكثرها. وأصدرت حكومات الولايات الأوامر بانقراضها وعمر الأوروبيون المهاجرون معظم تلك الأرجاء. معادنها_الذهب والفضة والفحم والقصدير والرصاص والماس والزمرد واللؤلؤ والمغناطيس. وهذه المعادن توجد بكثرة فيها وأمريكا الشمالية أغنى قارة في العالم بالمعادن ومعادنها الذهبية توجد بكثرة في كليفرنيا وهو الأقليم الذي يشبه الأقليم السوري في القارة

الآسيوية من وجوه. أقسامها_تقسم أمريكا الشمالية إلى ثمانية أقسام هي الولايات المتحدة والمكسيك التي استقلت تحت الحكم الجمهوري سنة 1824 وأمريكا المتوسطة وجزائر الهند الغربية وكرنيلاند وألاسكا ونيوفوندلاند. وتحكم سبعة أقسام منها الولايات المتحدة. أما كندا فتحكمها الدولة الإنكليزية. حدودها_يحدها شمالاً الأوقيانوس المتجمد الشمالي وشرقاً الأقيانوس الأتلانتكي وجنوباً بحر كريب وبرزخ درايان والأقيانوس الباسيفيكي وغرباً الأقيانوس الأتلانتكي وغرباً الأقيانوس الشمالي المتجمد والأقيانوس الأتلانتكي والأقيانوس الباسيفيكي. أنواع البشر القاطنة في هذه القارة_يقطن هذه القارة خمسة أنواع من البشر هي النوع القوقاسي وأصله من إنكلترا وجرمانيا وفرنسا واسبانيا وفرنسا وسائر ممالك أوروبا. والنوع الحبشي وأصله من قارة أفريقيا الجنوبية وهو يكثر في جنوبي الولايات المتحدة. والنوع المغولي وأصله من الأسكيميين وهم جيل من الناس يقيمون في بعض جهات الشمال من القارة والصينيون أتوا من الشرق الأقصى في آسيا وهم مقيمون غالباً في غربي البلاد في ولاية كليفرنا. والنوع المعروف بهنود أمريكا_سكانها الأصليين الذين كتبنا عنهم نبذة تقدمت هذه أديانها_نشأت أديان عديدة للإنسأن في كل جيل وبلاد قطنها الإنسان وعمرها فمن البشر من عبد الشمس والقمر والنجوم والسيارات والأصنام وبعض أنواع الحيوانات. ومنهم من عبد الله جل جلاله. ومنهم من جعلوا أفراداً ممتازين ببعض المواهب العقلية آلهة فسجدوا لهم وعبدوهم. وقد قام الملأحدة ويقومون في كل زمن وقطر ومصر. وتاريخ أديأن الجنس البشري متفاوت فتاريخ دين اليهود يرجع إلى أربعة آلاف سنة في أيام إبرأهيمالخليل في غربي قارة آسيا وهم يؤمنون بالسيد عيسى وإنجيله. وتاريخ دين النصارى إلى نحو خمسة آلاف سنة. وكان هؤلاء يعبدون بعض الحيوانات والصور والنقوش التي توهموا أنها كانت مقدسة. وتاريخ أهل الهند يرد إلى أكثر من أربعة آلاف سنة وكان الهنود ولا يزال أكثرهم يعبدون بزهم وفريق منهم يعبدون بوذاً. وتاريخ بوذا يرجع إلى نحو 2500 سنة. ويرد تاريخ الإسلام إلى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة.

وما يقال في أديان سكان البلاد والقارات التي أشرنا إليها يقال في أديان قارة أمريكا الشمالية. فإن عبده الأوثان وهم في وكرنيلاند في شمالي البلاد وكلهم من الأسكيميين وعبدة الشمس والقمر وبعض الحيوانات وهم معظم هنود أمريكا. وفي هذه القارة البوذي والبرهمي والكافر والمؤمن والمحمدي والدرزي واليهودي والنصراني. والديانة العامة في هذه القارة هي الديانة المسيحية. أما أديان أمريكا الشمالية فترجع إلى تاريخ أمريكا المجهول وتاريخ أديان سائر القطان وإذا اعتبرنا تاريخ أديانها منذ اكتشافها فيكون أربعمائة وأربع عشرة سنة. تنوعت المذاهب وتعددت المشارب في هذه البلاد ومع ذلك فليس للتعصب أثر فيها. فالحرية مباحة لكل دين من الأديان وأن المهاجرين السوريين ليأتونها من بقعة عريقة في التعصب إلى بقعة حديثة بالتساهل وقد حمل فريق منهم التعصب معهم إلى هذه القارة وأخذ هذا الفريق يتاجر بالأديأن فكانت ثمرات التعصب وتلك التجارة إهراق الدماء وخسارة المال وإهانة الاسم والسمعة. الولايات المتحدة - أوماها نبراسكا يوسف جرجس زخم

التجارة والشهرة

التجارة والشهرة من مقالة في المجلة الباريزية ظهر كتاب في نيويورك مؤخراً اسمه طريقة الإعلانات الجديدة قال فيه مؤلفه أنه انتشر الولع بالسياحة في المجتمع الحديث فلم تكتف كل أمة أن تنعزل وراء تخومها عزلة تامة بل راحت تختص بعمل لا يشاركها فيه سواها. فإذا كأنت المانيا تؤثر كبار رجالها المعروفين وتوسد إليهم الأعمال العلمية وفرنسا تعلم أبناءها الصنائع على اختلاف ضروبها فإن أمريكا تسوق إلى مضأمير الأعمال وهي على ما يظهر موطن المشاريع الصناعية العظمى. وإنا لنميل كل الميل أن نحكم على الأمم حكمنا على الأفراد. نحكم عليهم حكماً مسمطاً في شؤون ليست فيهم على حين كان الواجب علينا أن نقدرهم ونضعهم في المنزلة التي يستحقونها. وقد يذهب بنا الاستقراء الناقص إلى أن نستنبط أن جارنا محروم من الأمر الفلاني. وما على الغريب عن أمة يريد أن يصفها حق وصفها إلا أن يضيف ما رآه إلى ما لم يره. فإن في الأشياء أبداً ما يعجب به ويحب. ولا شك أن الحاجيات بأسرها والنزوع إلى العلى قد أخذت حظها عند كل أمة مثال ذلك أن تشهد التفنن بالصنائع في أمريكا إلا أنك تراه على أتمه في مملكة أخرى وعلى وجه يخالفه كل المخالفة. فمن يطلب المصنوعات الفرنسية في أمريكا يسخر منه كمن يطلب إلى اللابوني أن يلبس ثياب سكان المناطق الحارة أو للنازل على مقربة من خط الاستواء أن يعد الأدوات لصيد الدب الأبيض من جواره. يعيب فلاسفة الألمان على الأمريكي عدم اشتغاله بعلوم ما وراء الطبيعة وعلى العكس يعيب علماء النفس الأمريكان على أساتذة الألمان اكتفاءهم من العلوم بالنظر فيها إلى دون العمل بها. ويعيب المتفنن من الفرنسيين على الأمريكي كونه نفعيا على حين ترى الأمريكي يهزأ إذا نظر إلى ما في بلاد الفرنسيين من أثار التفنن والصناعة. قال الفيلسوف هربرت سبنسر: إن صاحب الفلسفة هو الذي يعرف الصلات التي يهتدي إليها عامة الناس. وبعد فإن أمريكا توصف بأنها مهد الأعمال المالية والحركة التجارية والصناعية والإعلانات هي دليل على ما هناك من نشاط في الاتجار والصنائع. ومتى أوردنا لك بعض الأرقام يتبين لك أن القوم غريبون في أعمالهم. قال موسيوديسي: تنفق الولايات

المتحدة في السنة خمسمائة مليون ريال أجور إعلاناتها. أي أن ما تنفقه يقرب مما تنفقه الدول الأوروبية العظمى كروسيا وألمانيا وفرنسا واسبانيا على جيوشها. وكأنت الولايات المتحدة تنفق هذا المبلغ سنة 1905 وبحسب التقدير الذي قدره عألمان آخران ارتقت النفقات من ستمائة مليون ريال إلى مليون ريال للإعلان عن مصنوعاته وها هو اليوم يصرف ألف ريال في اليوم على هذا الغرض. وتخصص المعامل الكبرى التي لبيع بالمفرق في مدينة نيويورك وحدها البريد زهاء أربعة ملايين ريال في السنة لنشر إعلاناتها في الصحف. وفي مدينة شيكاغو يستخدمون البريد لنقل قوائم بإعلاناتهم وقد صرف أحد أصحاب المخازن الكبيرة لإرسال طبعة واحدة من الإعلانات بطريق البريد 64 ألف ريال ومعظم الأجور التي يدفعها أرباب المحال التجارية والصناعية يؤدونها لأرباب المجلات لأن المجلة تبقى على المنضدة معرضة للأنظار نصف شهر أو شهر ريثما يصدر العدد التالي أما الجرائد تغيب عن الأنظار بعد الأنظار بعد ساعات من صدورها. تتقاضى إحدى صحف فلادليفيا وهي تطبع مليون نسخة ستة ريالات عن كل سطر من الإعلانات فتكون أجرة الصفحة الواحدة في اليوم ستة آلاف ريال وإذا خصصت بمحل تجاري واحد تؤجر بأربعة آلاف ريال. وهكذا الحال في جريدة العملة التي تصدر في أوغستا فإن أجرة السطر فيها خمسة ريالات وهده الجريدة تطبع مليوناً وربع مليون نسخة والمجلات تتقاضى في أمريكا عن الإعلانات أجرة أرخص من أجرة الجرائد لأنها أقل انتشاراً وأعظم مجلة تطبع في العالم الجديد 60335 نسخة فتأخذ أجرة كل صفحة خمسمائة ريال وكثيراً ما تكون نصف صفحاتها مشحونة بالإعلانات فقط وقد قدر ما تتقاضاه عشر مجلات كبرى في الولايات المتحدة فبلغ معدله السنوي 4، 130، 353 ريالا. وهكذا قل عن النفقات الطائلة التي ينفقها أرباب التجارة استأجرت ثلاثين ألف مكان لتعليق الإعلانات عشرة ريالات في السنة عن كل قدم مربع في إحدى ساحات نيويورك العظمى. ويكون للتاجر من الرجل الماهر في التفنن بالإعلانات ذخر وأنفع عامل فينقذه راتباً مهماً. لذلك تدفع المخازن الكبرى التي تبيع بالمفرق في أمهات مدن أمريكا مثل نيويورك وشيكاغو الذي يحس صف البضائع في الزجاج يتقاضى أجرة مثل هذه مسانهة.

قدر المقدرون أن متوسط ما ينفقه التاجر الأمريكي على الإعلانات من أصل أرباحه خمسة في المائة ومنهم من ينفق أكثر ومنهم من ينفق أقل. ويقتضي ذلك من التفنن وحسن الذوق شيئاً كثيراً ولما كانت أمريكا المثل السائر بغناها ترى الدراهم فيها تغدو وتروح من جيب إلى جيب كانها بانطلاقها دراهم ذاك الكريم المفتخر بقوله لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق فالمرء بادئ بدء لا يرى حاجة ماسة لابتياع المصنوعات وبيعها إلا طمعاً في الأرباح الكثيرة ومباهاة بما لديه من عروض ومتاع وثروة حقيقة أو غير حقيقية ثم تصبح هذه العادة بعد من ضروريات الحياة. قال باسكال في كتابة (الأفكار): أكثر من الصلاة تكن تقياً. ويقول لسان حال التجارة: اجعل الزخرف والزينة ديدنك تغدو بطبعك مفنناً والذوق يحصل لصاحبه بسرعة. قالوا أن التاريخ يعيد نفسه وهو قول صحيح فقد رأينا طبقة الإشراف في الغرب وهي في الأصل من أبناء أولئك البرابرة القساة والأمراء الغلاظ الجفاة في أوائل القرون الوسطى قد رقت طباع أهلها بالتعليم والتربية فالمال هو الذي يولي الشرف ويحسن الأذواق في الحقيقة. وأمر بديهي لأن حواسنا تتأثر في الغالب والعجب يورث الرغبة في الجمال وامتلاك ناصية الجمال تكون مادة للعجب. خذ مثالاً لذلك رغبة القوم في أمريكا بالملاحة والظرف وتأثيرهما في عقولهم. فإن المخازن العظيمة التي تبيع بالمفرق في المدن الكبرى كنيويورك مثلاً يكثر الطلب عليها أيام الاثنين أكثر من سائر أيام الأسبوع. ذلك لأن الجرائد تصدر يوم الأحد طبعات خاصة من صحفها وتملؤها بالإعلانات وعلى العكس في يوم الجمعة فإن الأشغال فيه تكون في فتور حتى يعده التجار من الأيام التي لا حياة فيها ولا رواج لسلعهم. بيد أنه لم يسعهم إلا أن يتداركوا أمره بإعلانات جلبت الزبائن على مخازنهم فعد ثاني الأيام في منافعه التجارية وأنك لترى كثيراًت من ربات يغسلن غسيلهن ويقضين شؤون بيوتهن يوم الثلاثاء ليتمكن يوم الاثنين من الاختلاف إلى المخازن والانتفاع بما جعلته للزبون في ذلك اليوم من الأمتيازات. ولو شئنا تعداد ما يأتيه الأمريكان من ضروب الاحتيال في الإعلانات لضاق المجال فإن القوم يعتبرون الإعلانات من أدوات النجاح النافعة شهدت بذلك العادة والحس مثال ذلك أن

القوم في الولايات المتحدة يصرفون كميات وافرة من الكعك بحيث يحشى أن ينسوا استعمال الخبز فيما بعد. فكان من رغبة الناس في الكعك يباع بالمفرق منذ بضع سنين بأن يوضع عند البدال في صناديق وبراميل مفتحة ويجعل الواحد تلو الآخر فيجئ الزبون يجس الكعك ويذوق قطعة منه ثم يشتري أو ينصرف. فإذا أراد أن يشتري يتناول البائع الكعك بأصابعه في العادة ليضعه في الميزان ويكون قد وزن فيه من قبل سكر أو بن أو ملبس ثم يأخذ فيضعه في كيس الورق. وأنت خبير بأن تنأول الكعك على هذه الصفة فيه ما فيه من الأضرار بالصحة والقذارة التي تؤدي إلى القرف وهي منافية للذوق قليلة السرعة والغناء. خل عنك بأن الكعك إذا ظل على الدوام معرضا للهواء يفقد طراوته وقضمه. على أن الناس لم يشتكوا من هذه الطريقة. وكان من الإعلانات أنها هي التي سدت الخلل وأصلحت الحال. غدا التاجر الأمريكي لا يكتفي بأن تكون بضاعته أحسن بضاعة بل اقتضى عليه أن يؤثر في أذهأن العامة ويحملهم على ابتياع ما لديه والاعتماد في تنأول حاجتهم عليه. فمن ثم كان التاجر أن يشفع جودة بياعاته بفوائد لم يكن للمبتاع على بال اجتناؤها وأخذ الباعة يتفننون بكعكهم حتى أدت الحال إلى أن يباع الأن في رزمة وزنها محدد. فترزم أولا في ورقة غليظة صحية تنفذ إليها الرطوبة والهواء ثم يوضع هذا المغلف في علبة من المقوى على شكل لطيف وتلف تلك العلبة بورقة أيضاً وترسم عليها علامة المعمل واسمه. وبهذه الطريقة أصبح الكعك في أمريكا آمناً من الجراثيم الضارة والغبار الملوث يحفظ بحاله طويلاً ولا ترقد فيه القطط في الليل كما كان من قبل وأخذ الباعة يبيعون منه كميات أوفر. وتبأرى الباعة في هذا التفنن حتى لا يتخلف أحد عن صاحبه ولا يقطع البائع المتفنن على البائع الخامل رزقه وما الداعي إلى كل هذا إلا الرغبة في الإعلان. ولم يقف الأمر في أمريكا عند حد بيع الكعك على هذه الصورة بل أنه تعداه إلى السكر والبن والملح والفلفل والأرز وغيره. وربما بيع الخبز بعد الأن في ورق خاص به لا تمسه يد ولا تراه عين ولا تؤثر فيه عوامل الحرارة والبرودة. وهكذا تدخل روح الترتيب والنظام والنظافة حتى إلى أفقر بيوت الأمريكيين مما يعد خطوة عظيمة في طريق الاتجاه صوب الولوع بالجمال واختيار الأحسن من كل شيء.

ومن فوائد الإعلانات أنها نفعت في بيع الثياب الحاضرة الجاهزة فكان بعض الأمريكيين ومنهم الفقراء فقط يلبسون من قبل ألبسة حاضرة ويعمد بعضهم إلى الخياطين لأن مقادير أجسامهم تختلف بعضها عن بعض وقد لا يوأفق الاكتساء بالأقيسة المعتادة فقام أحدهم وأنشأ معملاً لصنع الثياب الحاضرة من جميع أنواع الطول والعرض والهندام وتوصل بواسطة الإعلان عن محله بالجرائد والمجلات أن أقبل الناس عليه لأن قيمة الثياب الحاضرة تفرق عن التفصيل نحو النصف فإذا وجد كل إنسأن القياس الذي يطلبه يفضل أخذ بدلةثم ما زال ما كان علق في الأذهأن القوم من أن الألبسة الجاهزة لا تلاءم كل جسم وغدا معظم أهل أمريكا يبتاعون الألبسة المهيأة على الأيام ذاك الوهم الذي غرسه الخياطون وغيرهم. وكان من رخص الثياب في أمريكا أن غدا الأمريكيون غاية في نظافتهم ولبسهم الجديد من الثياب. وحدث أن أحد الأمريكان نزل إلى مدينة هامبورغ في ألمانيا فقال لأحد رفاقه عجبت من أهل المدينة كيف لا يوجد فيهم غني يلبس بزة جديدة. ذلك لأنه رأى القوم يلبسون ثياباً لا تماثل في نظافتها وحسن نظامها ما يلبسه سكان المدن الأمريكية وبهذا عرفت أن الأمريكيين فاقوا الأوربيين في ولعهم باتخاذ الجميل من كل شيء وإن كان هذا الخلق فيهم قديماً في الأوربيين. ومثل ذلك قل عن الأثاث والرياش في المساكن فإن الأمريكأن يستجدونها ويستجدونها. وارتأى كثيرون من مراقبي سير الإعلانات أن ما كان منها منظوماً يفضل على المنثور لأن العامة تطالعها برغبة وينظرون فيها إذا كانت شعراً ولو عامياً أكثر من نظرهم في غيرها. ومن الناس من يقول أن الإعلانات كثيراً ما جلبت ضرراً لأن القارئ بما فيها ويكون فيها مبالغة أو خديعة فيبتاع السلعة أو الشيء فيبخس أو يغبن وأنها كثيراً ما أتت بما لا تحمد مغبته. ولكن القائلين بالاستكثار من الإعلانات يقولون أبداً: أن لكل سبب من أسباب العمل سلاحاً ذا حدين وذكاءنا أيضاً نصرفه في الشر كما في الخير. فلا داعي إذا لتعنيف المعلنين بحجة ما في إعلاناتهم من الخطاء. وليس من العقل أن ينبذ الدين والأدب بحجة أن هناك ناساً من المنأفقين المخادعين كما لا يجوز بحال أن يزهد في سهام المصارف (البنوك) لأن في بعضها تدليساً وغشاً.

قيل لخياط في فيلادلفيا أنك تغش الناس بما تنشره من إعلاناتك التي تخالف أكثرها حقيقة الواقع فقال: أن في هذه المدينة مليون فلو خدع بما أعلنه عشرة في المائة منهم وأكثرهم بله مغفلون وتيسر لي أن القي في شرك احتيالي عشرة في المائة منهم أي عشرة آلاف نسمة فإنا في سعة من العيش وبسطة من الغنى. وفاته أن من خدع مرة لا يرجع ثانية في الغالب. وأحسن طريقة لدفع الغش عن القراء أن يجعل أرباب الصحف والمجلات أجوراً غالية على الإعلانات التي يلحق عليه إدارة الجريدة من مالها لأنها هي التي كأنت السبب في خديعته. العامة وضعاف العقول يخدعون في العادة بكل ما حوت الإعلانات. والعامة أكثر الناس. ويليهم في الانخداع النساء ثم العملة. على أن العامة يقل عددهم في أمريكا لشيوع التعليم فيها فيقل لذلك المنخدعون بالإعلانات الساقطة يوماً بعد آخر. قال المسيو بوأنكره في كتابه (قيمة التعليم) وهو الكتاب الذي اشتهر بين الخاصة والعامة: لا يعرف كم نفع البشر الاعتقاد بعلم الفلك. فإن قدر الفلاح لكبار وتيخو براهي فذلك لإنهما كانا يروجان على السذج من الملوك أخباراً من المغيبات يبنيانها على قرانات الكواكب. فلو لم يكن أولئك الأمراء على جانب من التغفل يصدقون بما يلقى عليهم لكنا بقسنا إلى اليوم نعتقد أن الطبيعة تابعة لهوى النفوس وظللنا نتسكع في بيداء الجهالة. وهذا القول ينسج مثله على منواله فيقال: لو لم يكن للأمريكيين رغبة في اكتساب المال ولو لم يتنافسوا فيه ويتفاخروا في إحرازه ولو لم يكونوا متعجرفين ربما كنا رأينا القوى السامية في الإنسان تسقط في المزاحمة مع القوى العملية النافعة الصرفة في جنسنا الإنساني وكنا نسير الشؤون المادية على وجه سمج. فالصنائع هي زخرف الحياة ولا يكون الزخرف إلا مع الغنى ولا يحصل الغنى في هذه العصور الديمقراطية البعيدة عن العبودية إلا بالتفإني في اصطياد الدرهم والدينار وقد ينتج من شر كبير خير كثير ومن الولوع بالمال في الاتجار بالأدب والفنون.

نظام الأكل

نظام الأكل معربة عن مبحث للدكتور فلوري في المجلة الفرنسوية سوء الهضم أكثر الأمراض انتشارا ولاسيما في الطبقة المستنيرة من الناس ومسبباته كثيرة فليست أسبابه الأخلاقية هي الغمم والملل فقط بل الاهتمام بالأشغال والأعمال. وإذا تيسر للمصاب به أن يسلي نفسه ويبدل محيطه الذي يعيش فيه وأن يستحم في حمامات البحر والنهر وأن يصرف زمناً في الخلاء يزول هذا المرض مؤقتاً ثم يعود إلى حالته عند عودة صاحبه إلى معاطاة أعماله. ولطالما نصح الطبيب للمصاب بسوء الهضم أن يتخلى عن أفكاره ويتناسى ما يشغل ذهنه ولكن هذه النصيحة قلما عمل بها إلا إذا كان في خلال الطعام. ولقد أبان بافلوف الفسيولوجي الروسي المشهور أنه ينبغي تنأول الطعام بسرور ليجود الهضم. فإذا كان صاحب المرض مشتت البال وقضي عليه أن يتناول طعاماً لا طعم له ولا لذة فيه لا يسيل اللعاب وعصارة المعدة ولا يعمل الهضم عمله وعلى العكس إذا استحسن المصاب به صحفه من الطعام فإنه يسيل لعابه في فمه وتحسن عصارة المعدة ويتم الهضم بسهولة. يقولون أن الطاهي إذا أجاد الطبخ يحمل الآكل على أن يتناول من الطعام فوق حد الكفاية وهذا غلط فإن الناس لا يفكرون بأن أمثال هذا الطاهي ينتفع بغفلة المصاب بسوء الهضم ويستدعي سيلأن اللعاب والعصارة. وينبغي أن يكون تام النضج على أن ذلك لا يكفي إذ الواجب على الآكل أن يتنأوله كما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. وإن معاشر الناس بأسرنا نأكل أكلاً رديئاً أي أن طريقتنا في تعاطي الطعام ليست صحية فلا نرى حرجاً في الإسراع بتنأول كمية من الطعام على المائدة. وجوب التمهل في تنأول الطعام من الآفات المنتشرة كثيراً تنأول الطعام بسرعة فإن الوقت يقضي على بعض الناس أن يسرعوا في خضمهم وقضمهم لأن دواعي أعمالهم تبعثهم على ذلك وبعضهم وهم أهل المزاج العصبي يعجلون في جميع الأعمال ويستحيل عليهم أن يقوموا بالتأني في معاطاة عمل لهم فترأهم يقضون أعمالهم كلها بسرعة ويصدم حركاتهم بعضها بعضاً وتأخذ أفكارهم بعضها برقاب بعض ترى كثيرين منهم من إذا حفزتهم الشهوة للطعام وجلسوا إلى الخوان

يشعرون بحاجة شديدة لتنأول الأكل فيزدرونه ازدراداً دون أن يجعلوا في وقتهم متسعاً للمضغ وقصارا هم أن يخضموا طعامهم مسرعين. كانهم يرون الغذاء ضرباً من ضروب السخرة فيأبون التريث والتلكؤ فلا يكاد يفرغ ما بين أيديهم من الصحاف حتى يطلبوا غيرها بإلحاح وسرعة. وقد أطلقت اللغة ألفاظاً منوعة على الأكولين من مثل الاشتراط والنهم والشره أما الطبيب فإن هذه الأسماء تتساوى في نظره ويراها كلها بنتائجها فإن النهم وسرعة تنأول الغذاء على اختلاف حالاتها تؤول إلى نتيجة واحدة من تشويش الصحة. ذلك أن العصارات الهاضمة لا تؤثر التأثير الحسن في الأطعمة التي لم يحسن مضغها فإن الغذاء يتخمر ويحدث اضطرابات وبروزاً فاسداً وهي من الأسباب الفعالة في حدوث داء المفأصل. تزول هذه الاضطرابات بأسرها إذا عقد المرء العزم على أن يحسن المضغ بالتدريج وقد نصح الدكتور فلتشر الأمريكي بإجادة المضغ على مهل وبتقليب اللقمة بحيث تستحيل كالمرق وتنعم وتمتزج باللعاب أي امتزاج ومن رأيه أن يبقى اللبن والحساء والخمر وكل شراب مغذ مدة في الفم قبل البلع. واللقمة إذا جزئت وطحنت على هذا النحو تصبح كالمادة القلوية باللعاب السائل. وقد قال فلتشر أن هذه القلويات ضرورية لهضم الطعام ومما ينفع في هذا الاستعمال الفواكه الحامضة مثل التوت الإفرنجي (فريز) والريباس (عنب الثعلب). وقد تبين له أن الهضم سهل بهذه الطريقة فقلت جراثيم الأمعاء ولم يبق فيها غازات ولا فساد وقلت رائحة المواد البرازية وبقيت في الأمعاء مدة أطول وقل مقدارها وتقلصت الأمعاء. والمتمهل في طعامه يشعر بزيادة المسرة عند الغذاء وتطيب نفسه لتنأول طعام بسيط ويتبدل سير صحته فلا تعب في الجسم ولا في الفكر غب الطعام ولا وجع في ولا أوجاعا مجهولة وتقل أعراض الرثية والنقرس بل تزول وهكذا الحال في ضعف المجموع العصبي فإنه يتبدل ويبتهج صاحبه ويحسن نظره في المستقبل. لأن جميع هذه الأعراض السيئة وكثيراً غيرها هي ولا جرم ناشئة من تسمم الإنسان بيده من الطعام فوق طاقته على طريقة مختلة. وأن كثيراً من الأمراض المزعجة لتحدث من ذلك فإذا جاد المضغ وحسن تنأول الطعام لا يحدث من سواء أثرها ما يحدث. فليس من الضرورة لمن أراد الاحتفاظ بشبابه أن يملأ معدته كما قال الأستاذ متشنكوف باللبن الرائب أو بحسب رأي القائلين

بالتغذية بالنباتات أنت يمتنع الإنسان عن أكل اللحم بل يكتفي المرء بأن يحتاط لنفسه احتياطاً وأحداً وذلك بأن يمضغ بتأن فإذا فعل ذلك يسعده الحظ فيعمر مئة سنة. نعم أن تحمس أتباع فلتشر لا يخلو من غلو فقد أبان جأن فينوفي كتاب فلسفة طول الأعمار أن أحسن ما يداوي به المرء ليبلغ أقصى حدود الشيخوخة أن لا يكون فقط معتدلاً في كل شيء بل أن يكون من أسرة معمرة يبلغ أفرادها المئة سنة. وقد اعترف الأطباء في كل عصر بضرورة أطالة المضغ ليكون الهضم أصوله. وأنت ترى أن فلتشر لم يأت أمراً جديداً بل جعل من هذه الوصية الشائقة لجميع المصأبين بسوء الهضم قاعدة يسيرون علها وسنة يتبعونها. وقد أثبت المستر ستيدان أستاذ الفسيولوجيا في كلية بال الأميركية قدر هذه الوصية فأخذ ينظر بالدقة في طعام الأساتذة والتلاميذ والجند وقسم جراية كل إلى نصفين وجرب ذلك بالدقة وأخذ يسجل على وجه الصحة ما يدخل الجوف وما يخرج منه. فتوصل أقوياء البنية بمجرد تنأولهم الطعام بتأن أن يهضموا هنيئاً مريئاً نصف الطعام وأحياناً ثلثيه وقللوا خصوصاً من معدل لأنه هو الغذاء الذي يهيج بالأكثر تركيب التو كسين فقويت أجسامهم ونشطت وحالفتها البهجة وأخذوا يتمتعون بصحة أجود من صحة أخوانهم الذين لم يسيروا على سيرتهم. ينبغي تقليل كمية الغذاء أن لا نسرع في تنأول الطعام بل نكثر أيضاً من تنأوله فإن هذين النقصين متلازمين بالضرورة. ولا بد لمن يسرع في تنأول أكله أن يتناول كمية كبيرة من الطعام لأن جزءاً من طعامه لا يهضم وكلما أكل زادت شهوته ونهمه ولا تنتهي به الحال إلى الشبع. ولقد عرف القدماء مضار الإكثار من الطعام فضربوا لذلك الأمثال فاشتهرت عنهم وكان أول مؤلف أشاع ذلك بين الملأ ودعا إلى عدم الإكثار من الطعام لويجي كورنا رو (1467_1566) فإن هذا الشريف البندقي (نسبة لمدينة البندقية) بعد أن قضى سبابه في الفسق طفق في الأربعين من عمره عقيب مرض شديد عراه يجري على ترتيب مدقق في معيشته على نحو ما يجري الرهبأن النساك فأخذ يقلل كل يوم كمية طعامه شيئاً فشيئاً بحيث أنزله إلى 340 غرأما من الطعام الجامد و400 غرام من الخمر ونصب له ميزاناً

يتحقق به ما يدخل معدته وما يخرج منها. وهكذا تقدم هذا السري غيره يقرون في الأقلال من الطعام ولكنه لم يذكر الطريقة التي كان يمضغ بها فقويت بذلك صحته كثيراً وفي السبعين من سنة حدث له حادث مربع من عربة فقضقضت أعضاؤه وتهشمت جمجمته فحكم الأطباء بأنه هالك لا محالة ولكنه لم يلبث أن شفي. ولقد أراد أن يزيد طعامه بعض الشيء فمرض وعاد إلى التقشف في أكله ولم يعد يغضب ووجد راحة في فكره وأصبحت أخلاقه دمثة وحالته إلى النشاط والبهجة. وفي الثالثة والثمانين من عمره وضع كتاب ذكر فيه الطريقة التي ينبغي الجري عليها لتطول الحياة بلا أسقام ونشر أيضاً ثلاثة مصنفات في هذا الموضوع ومات في السابعة والتسعين وقال بعضهم في الثامنة بعد المئة. ومن عهد هذا الرجل كثرت الأمثلة المشابهة لحاله وأنا اقتصر على إيراد حدثها فأقول أن الرحالة يوحنا شاركو الذي نزل من السفينة في رحلته الأخيرة إلى القطب الجنوبي في جماعة من رفاقه ليتوغل في الجنوب لما كان توزيع الطعام موكولاً إليه أخذ يعطي كل فرد من رفاقه نصف جرايته بدون أن يقول لهم أنه نقصهم من طعامهم فلم يشك أحدهم جوعاً وكانوا على ما ينالهم من التعب مسرورين ولم يمرضوا وبذلك تيسر له أن يطيل أمد هذه الرحلة حتى إذا كانوا في العودة وقد بقي معه قسم عظيم من المؤن أنشأ يعطيهم الجراية تامة أي الجراية المظنون أنها ضرورية للإنسأن فأصيبوا كلهم إذ ذاك بسوء الهضم. وهنا سؤال وهو كم يقتضي للمرء من الجراية ليعيش على أقل تقدير. فأقول أن ذلك يرجع إلى أمور منها قامة الإنسان ووزنه ثم البلاد التي يعيش بها والجنس الذي ينسب إليه والعمل الذي يتعاطاه. وقد قام التواتر بتجارب مدققة للغاية في هذا الباب فأخذ رجلاً زنته 60 إلى 70 كيلو غراماً وكان يعيش في حرارة 17 درجة ويمتنع من كل عمل لا جدوى فيه وجعله في غرفة ووزن ما يدخل إليه وما يخرج منه بأدوات كثيرة منوعة كما وزن تنفسه وقدر جميع أعماله وأعطاه من الغذاء ما يولد فيه الحرارة اللأزمة إذا كان لا عمل له فرأى أنه في حاجة إلى 2250 من الكالوري في كل ساعة هذا إذا كان لا عمل له أي إلى 33 من الكالوري في الكيلو غرام فالشبان يحتملون الإفراط في التغذية فلا يحدث من ذلك فيهم سوى زيادة في حرارة الجسم وعرق غير اعتيادي وحاجة غير معتدل وليس كذلك في الشيخ والرجل الذي بلغ أشده وفي جميع من لم تكن بنيتهم على حالة حسنة فإن الإفراط في

تنأول الأغذية يحمل المعدة فوق طاقتها فيشق عليها ويرهقها من أمرها عسراً. فإذا لم يتأت الهضم تخمر وتسمم ذاتي فتكثر الأملاح والحامض البولي الحامضة ويصاب المرء على الزمن باحتقأن الكبد وتغير الكلى والتحول إلى شحم فيكون بذلك مصاباً يوجع الأعصاب والمفأصل والسويداء وغيرها. كيف يتمكن المرء من الأقلال من الطعام ومن تنأوله بتأن تبين لك مما تقدم أن من مصلحة الإنسان أن يعدل عن طريقة عيشه ولا يقتضي ذلك كبير عناء ويكفي في هذا الباب إقناع المرء بذلك ليتحول إليه. على أنه من المحقق صعوبة التغلب على عادة سيئة حتى أن المصاب بسوء الهضم ليعترف بأنه يسرع في طعامه ويود إصلاح نفسه ولكن أرادته وحدها لا تكفي في مغالبة هواه فتراه يحتاط في أول جلوسه إلى المائدة ولكنه لا يلبث أن يعود إلى طبيعته فتتغلب عليه فيأخذ في القطع والبلع. ونظن أن مداواة هذا النقص تكون بإعطاء أطعمة منوعة كثيراً تتقدمها توابل مطبوخة كحساء الجلبان أو العدس والخذيعة (طعام من لحم أو سمك مخردل) وربما نصحوا باستعمال العلك فيهجم اللعاب والعصارة المعدية على الغذاء إلا أنه يلزم للعاب من الوقت ما يتمكن معه من البسيلان. ولذلك اقتضت الضرورة أن تكون البداءة بالأكل لقماً صغيرة وأن يمضغ بتأن حتى اللحم والحساء بل السوائل من اللبن والمرق والشراب. ويرجو بعضهم أن يعالجوا قلة سيلأن اللعاب بأن يمضغ بعد الأكل قطعة من الصمغ مضغاً طويلاً. فقد اعتاد الأمريكيون هذه الطريقة وما هي إلا ملطفة وملينة مؤقتاً فإن اللعاب يسيل متأخراً كثيراً فإذا وصل إلى المعدة يمتزج مع السوائل وعصارة المعدة فيفقد جزءاً من قوته. وهناك حيل يحتال بها لإصلاح حال الأكولين وزحزحتهم عن الشره فإذا كان الأكول يملأ معدته ليشبع فوق طاقته ونصح له أولا أن يقطع اللحم والخبز قطعاً صغيرة كما تقطع للأطفال وأن لا يتناول منها سوى لقمة دفعة واحدة وأن يتناول الحساء والبقول الناشفة بملعقة صغيرة وأن لا يأخذ إلى فمه شيئاً منها إلا إذا بلغ المعلقة الأولى برمتها. وتتيسر معالجة سوء الهضم بتحريض صاحبه على الأقلال من أنواع الأطعمة كثيراً كان يراد على أن يتناول فطيراً فيأكل منه على وتيرة واحدة وهو طعام قليل اللذة ولكنه من أكثر الأطعمة

هضماً ولا نرى هنا تعداد الطرق المختلفة التي يعمد إليها بعض الأمريكان فإن بعضهم يتنأولون غذاء مقتصرين فيه على الحبوب وبعضهم على الثمار وبعضهم يأبون أن يتنأولوا طعاماً دخل النار. ومما يرتاب فيه أن تكون أمثال هذه التدأبير في الأكل صالحة في ذاتها وعلى كل فهي تقلل من الشراهة. ولهذه التدأبير في نظر الفسيولوجيين عائق عظيم وهو أن المرء يتنأولها بدون لذة على حين قد قلنا آنفاً ينبغي لجودة الهضم أن يستحسن الإنسان ما يتنأوله من الطعام. يقتضي أن يكون طعام المصاب بسوء الهضم بسيطاً ولكن ينبغي أن يكون لذيذاً محضراً أحسن تحضير فإذا استحسنه المريض تنتهي به الحال أن يتلمظه ببطء وإذا رضي بأن يقدم له الطعام على مهل وأن يفصل بين كل صحفه بحديث مفرح فيكون ذلك من حسن طالع المصاب بسوء الهضم إذ يغدو معتدلاً في شرهه. وإذا لم يصلح المعمود نفسه على الرغم مما تقدم فله طريقة أخرى ينصح بها فليتشر قال: إذا بلغ الإنسأن الطعام وفيه بضعة أجزاء لم تستحق كل السحق تقف بعد الحلق أما الجزء السائل من اللقمة فإنه ينزل إلى البلعوم وعندها يستدعي ذلك عملاً جديداً من البلع لتسييرها إلى مقرها. خذ مثالاً لذلك طلمة (قرصاً) من الفاكهة فامضغها وأبلعها فإن التفل يستحيل باللعاب إلى مواد نشائية (هيدرات الكربون) نصف سائلة فتمر بعد ذلك في البلعوم أما قشر الثمار وبزها فإنه يقف قليلاً في الحلقوم وليس أسهل عند ذلك من إبداء حركة يعاد بها الطعام إلى الفم بدون قيء وأن تتعاور وهذه الأجزاء التي لم يحسن المرء سحقها ويعاد مضغها حتى لا يعود يحس بطعمها أصلاً فإن هذه الطريقة التي ارتآها وتحققها بذاته هي أسهل على الأجزاء من إبقاء الطعام ريثما يمضغ بتمامه. وهكذا ينبغي استعمال الحيل على العادات القبيحة فإن الأرادة مهما بلغ من قوتها لا تكفي إذا لم يساعدها الذكاء. الأطعمة السهلة الهضم يقول فلتشر أن كل من بلغت به الحال أن يأكل قليلاً بتأن لا تأتي عليه بضعة أشهر حتى يتمكن من تنأول كل شيء ويستطيع أن يهضم فينبغي له ريثما يسعده الحظ بهذه النتيجة أن يعنى كل العناية باختيار الأطعمة السريعة الهضم. وقد اختلف المؤلفون في معنى سريع الهضم على طرق شتى فقالت فئة: هو كل طعام يجري بسرعة إلى الأحشاء وعلى هذا

النظر قرروا لكل طعام الوقت الذي يصرفه في المعدة بيد أنه يمكن أن يمر في الأحشاء وهو غير مهضوم وغير قابل للتعديل. ويفضل أن ينظر كل طعام سريع على الهضم لأنه يستحيل في الحال إلى كيموس متشابه وأن من الصعب تحقيق أمر هذه الكيموسة. والأفضل أن يعمد في ذلك إلى أن يعمد في ذلك إلى التعريف العامي وهو أن كل طعام سريع الهضم إذا هضم بدون أن يدركه الإنسان وكل طعام لا يهضم هو الذي يحدث ثقلاً وانتفاخاً وتجشؤاً. وقد وضع الكيماويون والفسيولوجيين في كل زمان طبقات للطعام على قابليتها للهضم وعدمه فلم يكن بحثهم إلا تقرير الرأي الشائع. وإنا لا نذكر هنا ما وضعوه من القوائم والفهارس لأنك تجدها في جميع المعمودين بدون تمييز. بيد أن بعض الناس على لطافة معدهم يهضمون بعض الأطعمة الصعبة الهضم. دع عنك الاستعداد الشخصي الذي لا يحسن الأطباء تفسيره ويزخرفونه ستراً لجهلهم باسم مفخم فيدعونه (الأديوسأنكرازيا) وهو الميل أو الكراهة لبعض الأمور وينشأ من استعداد خاص بالمزاج. ثم أني أرى من الأشبه أن يقال أن هذه الأطعمة قابلة للهضم لأنه يلذ المرء تنأولها ولا ينبغي أن يستنتج من هذا أن كل طعام يروق في الذوق يكون سهلاً على الهضم فإن عكس ذلك هو المألوف وأحسن ما يجدر في هذا الباب تعاطيه أن يثق المرء باختباره الخاص. وعلى كل فإن بعض الأصناف من الغذاء سيئة الأثر في جميع المعمودين وهي الأطعمة المهيجة والأطعمة الدسمة. فإن الفلفل الأحمر والبهار والخردل والتوابل المصنوعة في الخل والطرطور الإنكليزي تهيج شهوة الطعام وليس سوى تهيج المخاطيات فينبغي الإمتاع عنها وكذلك الحال في الأدوية المفتحة (كالمياه المعدنية وغيرها) والإبسنت والخمر فإنها كلها تقاس على ما تقاس عليه تلك المشهيات أما الأطعمة الدسمة فإن فيها عائقاً أخر لأن الدهن يتحد مع مخاط المعدة فيمنع عنها البروز ويقاوم هجوم الأطعمة بالعصير المعدي. ومن المبادئ المقررة التي ينبغي للمعمود الجري عليها أن يكون طعامه لا دسم فيه ولحمه لا دهن فيه وسمكه كذلك وأن تكون الثمار التي يتنأولها غير زيتية. وهنا اعتراض وهوانه كيف يتأتى تحضير الأطعمة إذا منع الطاهي من وضع شجم الخنزير والدهن و (السلسات) الدسمة فإن معنى ذلك على أيدي الطاهي بحيث يتعذر عليه أن يحسن طبخ الطعام فيكون من ذلك على المعمود أشق من مرضه على أنه يمكن استخدام مادتين دسمتين سهلتين على

الهضم ألا وهما زيت الزيتون والسمن فإن زيت الزيتون الخالص يحسن أكله ولكن ينبغي ترغيب النفس في طعام الزيت. وسكان الجنوب من فرنسا عرفوا بهذه الميزة. وكذلك السمن فإنه الغذاء الدسم السريع الأنهضام على شرط أن لا يكون مطبوخاً فإذا كان السمن نيئاً يكون مستحلب وقطيرات دقيقة تعوق العصارات الهاضمة عن عملها كثيراً وإذا كان مطبوخاً يسوء هضمه كشحم الخنزير. فلا يضاف السمن على الأطعمة المختلفة إلا إذا رفعت هذه عن النار وتم طبخها وهذه الطريقة التي اعتادها مهرة الطهاة لأن السمن إذا أذيت على الوجه يحفظ طعمه. أما السمن النباتي المستخرج من الجوز الهند الذي أخذ يدخل المطابخ تحت أسماء متنوعة فإنه يهضم كالسمن الحيواني. وأراني في الختام قد مرنت على الكلام في فن الطبخ بكتابة هذه المقالة على أنها ليست فصلاً في الفسيولوجيا بل هي درس في الطبخ أردت أن أبن ببساطة أن لعناية المصأبين بسوء الهضم علاقة بهذا الفن ولو كنت أشكو من هذا المرض لعمدت إلى طبيب ممن عرف بشرهه وأخذت رأيه فيما يقتضي لي الجري عليه فإنه يكون ولا جرم ابن بجدة هذا المرض ولكن من الغلو أن يطلب مجموع هذه الصفات من رجل فرد.

نبأ من الصين

نبأ من الصين لأحد علماء الفرنسيس بعد أن ثارت ثورات البوكسر من دعاة الفتنة في الصين وصار سبيل للأوروبيين أن يتداخلوا في شؤونها عمدت أن تحذو حذو اليابأن في إبدال أوضاعها بأوضاع غريبة وتصبغ بلادها بصبغة الحضارة الأوروبية فكان منها أن صرفت وجهتها إلى التعليم. وبعد أربع سنين ألغت نظام التعليم القديم وطريقة الأمتحانات العقيمة فعد ذلك انقلاباً عظيماً لا في السياسية بل في عد ضربة قاضية على كونفوشيوس وما لقيه بين أبناء الصين منذ القرن التاسع من النفوذ والتأثير فأصبحت تعاليمه هي المعمول بها وأساس كل تعليم في البلاد الصينية فكان يتحكم في جزئيات الصينيين وكلياتهم ولم يعهد أن كان لبشر مثل هذه السلطة على مثل ذي القوم في عدده وإن دامت سيطرة إنسان قروناً لا يجرأ أحد على مقضها. فقد كان من قبل المسيح بستمائة سنة. ولد في إمارة لو التي هي اليوم ولايةشانغ تونوهي للألمان تعد جزءاً من كياوتشو. نعم لم يعهد في تاريخ البشر ما يشبه هذه العبادة وهي مدينة دينية يعبدها رجل بسيط ويعبده شعب لا يحصى مدة 24 قرناً في الشرق الأقصى. ولذلك لم يجسر أحد من أتباع هذا المذهب على إلغاء الطريقة القديمة في الفحوص وحذف اسم كونفوشيوس من المدارس سيما وصورته في كل صف يسجد لها التلميذ والأستاذ على حد سواء. فكان من هذا الانقلاب أن استعيض في المدارس عن تعليم جميع العلوم وجعلها فرعاً وأحداً يجعل كل فرع منها مختصاً بفئة من الناس كان تكون الأولى مدرسة للحقوق والأخرى للطب والثالثة للعلوم السياسية والرابعة للصنائع والفنون وغير ذلك وكأن يكفي في نيا الشهادة المدارس الكلية تأن ينشئ شيئاً في الأدب يأخذ موضوعه من كتب كونفوشيوس ويطلب إليه كتابه شيء في الشعر وكانت تفتح أبواب المناصب والمراتب أمام من يحسن ذلك من الطلاب. فعرفت الحكومة عقم هذه الطريقة في التعليم وأنشأت مدارس خاصة دعتها مدارس العلوم الحقيقية الثابتة وأنشأ الأمبراطور نظارة للمعارف العمومية ترقب أحوالها كما هو الحال في الغرب وستنقسم تلك المدارس على ثلاث طبقات ابتدائية ووسطى وعليا. وقد رخصت الحكومة لبعض الولاة أن ينشئوا في عمالاتهم مدارس مجانية يقرأ فيها التلاميذ نصف النهار ويتمكن الفقراء في خلال ذلك من الدراسة في الصباح والعمل لتحصيل قوتهم بعد الظهر وهذه المدارس أشبه بمدارس

البالغين في فرنسا والفرق بين هذه وتلك أن هذه تفتح في المساء وتلك تفتح في الصباح ذلك لأن الصينيين لا يسهرون في الليل اللهم إلا من يتعاطى الأفيون منهم وما عدأهم فإنهم يباركون منامهم حفظا لصحتهم وحرصا على الأضواء وصرف شيء منها عبثاً. ولقد كان إصلاح التعليم في الصين ونشر المعارف بين طبقات العملة أو الفقيرة من المستحيلات إلا بتسهيل طريقة الكتابة وكانت هذه من الإبهام والألتباس بحيث حالت دون العامة وتلقي المعارف الأدبية وغيرها. فرأى الأمبراطور من الحكمة أن يصدر أمره ليستعمل خط جديد صيني يتألف كله من خمسين حرفاً ويسهل إتقانه في شهرين. وبفضل أهل العلم جرائد تطبع بهذه الحروف الجديدة ليتمكن المتعلمون من استخدام هذه النغمة ولذا أصبحت نتائجها راهنة من الآن. أدركت الصين بعقول رجالها الثاقبة كل الإدراك أن نشر التعاليم الديمقراطية بين الغوغاء من أهلها لا يكون إلا بواسطة الصحافة التي تتنأولها العقول كلفة وأن الطريقة لحقيقة في إزالة غشاوة الأوهام عن الأبصار العامة وإزالة ما علق في نفوسهم عن الأجانب أن يطلعوهم على أوضاع الغربيين وكانوا يرونهم من قبل أعداء لا يمليون إلا على السلب ولا يظمئون إلا السفك الدماء ويطلقون عليهم شياطين الغرب. وإذ أخذت الصحف تستخدم الخط الجديد فستحارب هذه الأوهام وتنتهي بالتغلب عليها وإزالتها من العقول وهذا الرأي الشائع عند من يرون اختطاط خطة النجاح. يطمع الأمبراطور أن يبث العلم في عقول رعاياه وهذا الأمر موقوف على الإكثار من المدارس تحتاج إنفاق والصين يعوزها المال كما قد تمس الحاجة إليه في كل مملكة فلم ير ابن السماء بداً من استو كاف أكف الطبقات كلها وراح يفتتح الاكتتاب العامة وجعل لكل من يؤدي ألف فرنك لقب شرف أو وساماً ومن أدى من عشرة آلاف لإلى خمسين ألف فرنك يحق له أن ينشئ وسط الشوارع العامة قوس من نصر من الحجر يخلد به اسمه وعلى نسبة عظم المبلغ المعطى يكون البناء التذكاري جسيماً. وهذا من غرائب الحيل الباعثة على الطمع النافع. فالصبي يعجب بأجداده ولذلك تراه يتعاظم الآن إذا تخلد ذكره كما تخلدت أسماؤهم ويكون له بهذه الطريقة باب يثبت به إخلاصه لبلاده بل يؤيد به منحه وأعطياته وربما كان في الأوربيين من تطمح نفوسهم إلى هذا التمايز من أقامة أقواس

نصر من هذا النوع بعد أن كان الملوك حتى اليوم مستأثرين بمجدها دون سائر الناس. ومما أضافه ابن السماء على تلك الاكتتابات لإنشاء المدارس نزع ملكية الأراضي والعقارات لأجل المنافع العامة فصدر أمره إلى المعابد التي لم تقم على نفقة الحكومة ولا اعترفت هي بها أن تدفع مداخليها إلى خزانة الدولة لتخصص للمدارس. وعلى هذا الفكر أحالت الحكومة الصينية قصر أمير توأن السابق أثار ثورة البوكسر إلى مدرسة حربية خاصة بتعليم الأمراء والإشراف وأبناء الحكام من أهل الطبقة العالية وهذا القصر في بكين في المدينة التاتارية. ولا بد من الملاحظة هنا أن إنشاء المدرسة الحربية هي على طرفي نقيض مع تعاليم كونفوشيوس الذي ينفي الحرب ويحظره على الصينيين يعده أسوأ الجرائم. ولقد كان من كره هذا الفيلسوف ومقاومته للحروب أن أصبحت به المملكة السماوية بلا مدافع يدفع عنها عادية أعدائها فعرف الصينيون اليوم بما لقنتهم إياه يابان من دروسها الحاجة الماسة في الشرق الأقصى إلى تأليف الجيوش المنظمة القوية بمحض تجاربهم واستعدادهم ليقاوموا بها الدخيل الذي لا يرمي إلا إلى تجزئة بلادهم واكتساح أرضهم. وقد شعروا بأتن خضوعهم لتقاليدهم ولدينهم قد أضر بهم فقضى عليهم الحكيم كونفوشيوس. بيد أنهم لم يعصوا عليه ولم ينزعوا حبه من نفوسهم بل تركوه وشأنه وأخذوا ينظرون في أمرهم من طريق أخر. وأنشأت الحومة بجانب نظارة المعارف العمومية نظارة أخرى للمعارف مهمتها الأولى لأن تؤسس في المملكة كلها مدارس للتجارة والزراعة وتربية الدود والغابات وكان الصينيون على مثال قدماء الرومان يحتقرون التجارة ويعدون أهلها من الساقطين في الهيئة الاجتماعية ولا يرى الصينيون إلا الطاعة العمياء لما رسمته شريعة كونفوشيوس لأن هذا لا يحترم إلا الأدباء ورجال الدرس والبحث فأصبح ما كان دونهم ودون الترقي قروناً كثيرة جائز العمل مرخصاً. وكأنت الصين من قبل محرومة من المكاتب العامة على مثال خزائن الكتب في أوروبا فلم يظهروا لأحدهم منذ عهد كونفوشيوس ما يتأتى من الفوائد للمدينة فأسسوا اليوم مكاتب جمعوا فيها جميع الكتب المنقولة إلى اللغة الصينية التي نشرت في ممالك كثيرة في العلوم العلمية والمعارف الشائعة التي من شأنها أن تساعد الصين على النهوض وأنشأت الحكومة مكاتب للترجمة رسمية في جميع المدن الصينية الكبرى. أما المجلات فليس غير المرسلين

الكاثوليك والبروتستانت من يعنى بنشرها في الصين حتى الآن وهي تبحث في الموضوعات الدينية وتشغل قليلاً من صفحاتها بالأبحاث العلمية وقد ارتقت الصحافة كثيراً في الصين وفيها اليوم كثير من الجرائد اليومية والجرائد التي تصدر ثلاث مرات في الشهر وأدرك الصينيون منذ كارثة البوكسر أن الصحافة من المواد الجوهرية في الحياة العامة ولذلك ترى كل من تعلم القراءة منهم يقرأ الجرائد حتى الأمبراطور وجميع الجرائد الجديدة كلها تقريباً تكتب على مثال جريدةسهان باو التي تصدر في مدينة شنغاي وهي التي أسست سنة 1868 على يد شركة صينية وذرع هذه الصحيفة الكبيرة متر وثلاثون سنتيما ذات ثماني صفحات طولها 30 سنتيمتراً وعرضها 30 وتباع بعشر سبايك وهي تعادل خمسة سانتيمات. وترى المقالات في هذه الجريدة التي يكتبها الأدباء العارفون من أهل الكفاءة جيدة في موضوعاتها منوعة الأساليب وهي في العادة مفعمة بالإحساس الطاهر ويظهر استقلال هذه الصحيفة مما تنصح به للحكومة وبما تدل عليه من الفساد المستحوذ في الإدارة وبما تعلقه على السياسة الخارجية وقد تكون تعليقاتها سديدة. وفي هذه الجريدة مجال طويل للبحث في الشؤون المختلفة وترى رواد الأخبار في الصين على غاية من المهارة يدخلون في كل مكان ويعرفون كيف يحدثون غيرهم ويروون عنهم الأخبار وهي طريقة أخذوها عن اليابانيين. وأحسنوها وترى الصفحات الأربع الأخيرة غاصة بالإعلانات التجارية صينية أو أجنبية وفي إعلانات الأجانب حروف باللغات الإفرنجية لإلفات أنظار الصينيين وورق هذه الجرائد معمول من ورق الخيزرانالبامبو ولذلك تراه رقيقاً للغاية ويطبع من وجه واحد ويترك الوجه الآخر أبيض لأنه شفاف يرى ما وراء لأنه أميل إلى الصفرة على أن لون ورق الجرائد وطبعها يمكن تغييرها في بعض الأحوال على نحو ما يفعل أرباب الطباعة إذا مات أحد أفراد الأسرة المالكة فتطبع الورقة التي تذكر الأمر المعلن بالخبر على طبع أزرق وهو علامة الحداد عند إمبراطورتهم لأن البياض لا يتجلى على الورق الأصفر المستعمل في العادة وعند زواج الأمبراطور وعيد ولادته أو ولادة الأمبراطورة والدته تصدر الصحف على ورق أحمر وهو لون العيد والسعادة وتطبع بالسواد. ويستعمل اللون الأحمر أيضاً في اليوم الأول من السنة وهو يصادف بعد شهر من رأس السنة في أوروبا.

والجرائد المصورة ناجحة في المدن العظمى وهذه الصحف مؤلفة من اثنتي عشرة ورقة مضاعفة ولها غلاف أحمر أو أخضر وثمن النسخة عشرون سنتيما أما الصور فتكون خطوطاً في موضوع جديد. ليس في الصين قوانين مقيدة لحرية الكلام والكتابة كما أنه ليس فيها قوانين تتضمن لها حقوقها بحيث أن الصحافيين الصينيين هم تحت رحمة رجال الشرطة والحكام كل حين. ولما لم تكن الصحف الصينية لهذا العهد لسان حال حزب سياسي فليس لها قوة ولا خطر منها على الحكومة ولذلك يصح أن يقال أن ليس في الصين صحف غير ولا صحف معارضة وقد حاولت مؤخراً جريدة أنشئت في وسط بلاد الصين بشركة صينية يابانية أن تنزع عن تلك الطريقة وتخرج عن رقبتها فألغاها الوالي للحال. ولا بأس أن نختم هذا الفصل بالكلام على الصين الحديثة بأن الحكومة الصينية أخذة بتنشيط تعليم النساء وكان حتى الآن مهملاً بالمرة إذ أن المرأة كانت أبداً في الشرق ولاسيما في الشرق الأقصى بعيدة عن الإتمام بشؤون بلادها أما الأن فقد أسست الأميرات المالكة المدارس وتطوعت العقائل اليابانيات للتدريس في كل مكان من بكين وسو تشو وهذه من بلاد الصين بمثابة باريس من فرنسا. وأنشئت عدة مدارس كثيرة لبنات الأسرات الكبيرة وقد حضر في العهد الأخير أربع عشرة أميرة مغولية إلى بكين ليلقين فيها التعليم الأوروبي. واللغو الإنكليزية تدرس في جميع هذه المدارس. وأنت ترى أن للصين الجديدة مستقبلاً زاهراً يبعث الغرب على الطمأنينة الآن وهو خائف من الحظر الأصفر وأن الصين تسير إلى المستقبل في نفس الخطة التي اختطها الغربيون نعم أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن طويل قبل أن تأتى الشجرة المغروسة بأثمار يعتد بها حقيقة ولكن الصيني عرف بصبره لذلك تراه يؤمل نيل النتيجة في هذا القرن وهو الذي عرف أن ينتظر الغد ويرقبه رقبة الفلاسفة مدة طويلة لا تقل عن بضعة ألوف من السنين.

صحف منسية

صحف منسية كتاب الاشربة لابن قتيبة استخرجه أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس توطئة ابن قتيبة أشهر من أن يذكر هنا بكلمات قليلة تكون له وقائمة ولذلك لم أر حاجة إلى إعادة ما ترجم به في وفيات الأعيان كما مذهب كل من طبع له كتاباً في الشرق فاكتفي بما أتى ابن خلكان عن البحث اللائق بشأن عيون الأخبار وكتاب المعارف. ثم أني أن صغر حجم كتاب الاشربة لا يقبل الإطاعة في الخطبة_وإن كأنت الأطالة في الخطب مما عوقب ابن قتيبة في الوفيات_فأرجأت إلى وقت آخر إنشاء مقالة تفي بحقوق هذا العلامة إن شاء الله فأحضر الكلام الأن في الكتاب الذي بدأت اليوم بنشره ووصف النسخة التي نقلته عنها وبالله التوفيق. أما الكتاب فمعروف وقد ذكره صاحب كشف الظنون (تحت عدد 9846 الجزء 5 ص43) واستشهد ببعض فقراته غير واحد من الأدباء لاسيما ابن عبد ربة فإن هذا النهاب نقل إلى العقد الفريد معظم كتاب الاشربة بعد أن خلط بين أجزائه ولو كان طبع العقد بما يجب له من العناية والدقة لكنا ربما أمسكنا عن نشر كتاب الاشربة مع ما أسقطه ابن عبد ربه من الفوائد الجزيلة والمحاسن الجليلة التي جرت عادة ابن قتيبة أن يأتي بها على أسلة قلمه. وإذا قرأت ما كتبه صاحبنا في الخمر والنبيذ وغيرهما مما قد حرم أو أحل شربه فلا بأس بأن تقرأ ما جاء به ابن ربه في هذه المسألة لتصلح الأغلاط العديدة الواقعة في نسخ العقد المطبوعة وتطلع على ما عاتب به الأمام ابن قتيبة من أطالة الكلام وعلة النسيأن المؤدية إلى التناقض بين قوليه فنأسف لأن الله عز وجل لم يمن على ابن قتيبة بعمر طويل ليحيا إلى عصر ابن عبد ربه فيطلع على ما كتبه هذا ويهديه التوفيق لشرح الأحاديث التي أدعى الناس تناقضها في كتابه المؤلف في تأويل مختلف الحديث. أما النسخة التي نقل عنها النص فعبارة عن أحد المؤلفات الموجودة في مجموع من مجاميع مصطفى باشا المحفوظة في دار الكتب الخديوية وقد نقلت من المجموع الذي عدده 166

ثلاثة كتب للأصمعي وهي كتاب الشاء وكتاب الدارات وكتاب النبات والشجر نشرها كلها الدكتور أوغست هفنر وطبع منها الأدباء اليسوعيين ببيروت في سنة 1898 كتاب الدارات وكتاب النبات والشجر. وتصفحت فهارس للمخطوطات المحفوظة في دور الكتب في الشرق والغرب فلم أظفر بغير نسخة من كتاب الاشربة. فلله در هذا الناسخ الذي وقى من أيدي الضياع هذه الأثار الأصمعية والقتيبية وأن لم يكن علمه باللغة والمعاني يوازي مهاراته بفن الخط فإنه يحذف الكلمات والفقر ولا يشعر وهذا شأن متأخرين النساخ كلما رأى الرائي ما ينسخون يحكم عليهم بأنهم ينقلون الكلام بدون فهم ولا علم. واسم الناسخ عبد الحليم بن أحمد اللوجي نسخ مجموعة النفيس في جزئيين قدم الثاني وأخر الأول في التجليد فأوله قد انتهى من تحريره يوم الجمعة غزة محرم سنة 1105 وثانيه في أواخر ذلك الشهر وكتاب الاشربة موجود في الجزء الثاني المقدم من الصفحة 55 إلى الصفحة 80 وطول الصفحة 37 سنتيمتراً وعرضها 16 وعدد السطور في الصفحة 29 سطراً والخط دقيق واضح ولما لم أعثر على نسخة أخرى للكتاب عمدت إلى النص المنقول في العقد الفريد لضبط هذه الرسالة بعد المقابلة. وأما الرواية فإنها جاءت مرتين فأثبتنا التي بعد البسملة كما ترى وأزلنا التي بعد ترجمة الكتاب وهي رواية الحسين بن المظفر بن أحمد بن كنداج عن أبي محمد عبد الله بن جعفر ابن دستورية النحوي عن ابن طاهر محمد بن عبد الله البيع. إذ المشهور أن ابن دستورية كان من تلاميذ ابن قتيبة وروى عنه. كتاب الاشربة وذكر اختلاف الناس فيها تأليف أبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة بسم الله الرحمن الرحيم اخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن علي بن عبد الله فيما أذن لنا أن نرويه عنه قال اخبرنا أبو عبد الله الحسين بن المظفر كنداج (وفي الأصل كداج) البزاز قراءة عليه قال اخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دستورية النحوي قراءة عليه قال أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة: الحمد لله الذي هدانا لدينه المرتضى. وأكرمنا بنبيه المصطفى. وجعلنا خير أمة أخرجت

للناس إيمانا بالغيب وتصديقا بالوعد وشفقا من الوعيد وإخلاصا للتوحيد. وأعطانا بالصغير الكبير. وباليسير الكثير. وبالحقير الخطير. وبطاعته في الأيام المعدودة الخلود في النعيم المقيم ورضي منا بعفو الطاعة وفسح لنا في التوبة وجعل من وراء الصغير المغفرة ومن وراء الكبير الشفاعة فلم يهلك عليه إلا من نفر نفار الظليم وشرد شراد البعير وأوسع لنا من طيب الرزق وحرم علينا الخبائث ولم يجعل في الدين من حرج ولا حظر بالاستبعاد إلا ما جعل منه الخلف إلا طيب والبذل إلا ما وفر منه رحمة منه وبرا ولطفا وعطفا. فحرم علينا بالكتاب الميتة والدم ولحم الخنزير وبالسنة سباع الوحش والطير وعوضنا من ذلك بهيمة الأنعام الثمانية الأزواج وسائر الوحش وصنوف الطير وحرم علينا بالكتاب الميسر وبالسنة القمار وعوضنا من ذلك اللهو بالرهان والنضال وحرم علينا الربا واحل البيع وحرم السفاح واحل النكاح وحرم بالسنة الديباج والحرير وعوضنا الخز والوشي والعقم والرقم وحرم بالكتاب الخمر وبالسنة المسكر وعوضنا منهما صنوف الشراب من اللبن والعسل وحلائل النبيذ. وليس فيما عازنا من وراء من هذه الأمور التي وقع الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الاشربة وكيفية ما يحل منها وما يحرم منها وما يحرم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوافر الصحافة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم حتى يحتاج ابن سيرين مع ثاقب علمه وبارع فهمه إلى أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ وحتى يقول له عبيدة وقد لحق خيار الصحابة وعلماؤهم منهم علي وابن مسعود اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية أخرى. أخذت الناس أشربة كثيرة فمالي شراب منذ عشرين سنة إلا اللبن أو ما العسل. وإن شيئا وقع فيه الاختلاف في ذلك العصر بين أولئك الأئمة لحري أن يشكل من بعدهم وتختلف فيه آراؤهم ويكثر فيه تنازعهم وقد بينت من مذاهب الناس فيه وحجة كل فريق منهم لمذهبه وموضع الاختيار من ذلك بالسبب الذي أوجبه والعلة التي دلت عليه ما حضرني من بالغ العلم ومقدار الطاقة لعل الله يهدي به مسترشدا ويكشف من غمة وينقذ من حيرة ويعصم شاربا ما على دخل الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة ويردع طاعنا على خيار السلف بشرب الحرام وأؤمل بحسن النية في ذلك من الله حسن المعونة والتغمد للزلة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قد اجمع الناس جميعا على تحريم الخمر بكتاب الله إلا قوما من مجان أصحاب الكلام وفساقهم لا يعبأ الله بهم فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة وإنما نهى الله عن شربها تأديبا كما أنه أمر في الكتاب بأشياء ونهى عن أشياء على جهة التأديب وليس منها فرض كقوله في العبيد والأماء: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا. وقوله في النساء فاهجروهن في المضاجع واضربوهن - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقالوا لو أراد تحريم الخمر لقال حرمت عليكم الخمر كما قال حرمت عليكم الميتة والدم. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا لتشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يختل على عأقل ولا على جأهل واجمع الناس على أن ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر وانه لا يزال خمرا حتى يصير خلا واختلفوا في الحال التي يخرج بها من منزلة الخمر إلى منزلة الخل فقال بعضهم: هو إن يتناهى في الحموضة حتى لا يبقى فيها مستزاد وقال آخرون: هو إن تغلب عليها الحموضة وتفارقها النشوة. وهذا هو القول لأن الخمر ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير وإنما حرمت بعرض دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالا كما كانت قبل الغليان حلالا وما أكثر من يذهب من أهل النظر إلى أن الخمر إذا انقلب عن عصير والخل إذا انقلب عن خمر أن عين كل واحد غير عين الآخر وهذا القول ما ليس به خفاء على من تدبره وأنصف من نفسه وكيف يكون هاهنا عينان والجسم واحد لم يخرج من الوعاء ولم يبدل وإنما أنتقلت أعراضه تارة من حلاوة إلى مرارة وتارة من مرارة إلى حموضة ولم يذهب العرض الأول جملة واحدة ولا أتى العرض الثاني جملة (واحدة) وإنما زال من كل واحد شيء بعد شيء كما ينتقل طعم الثمرة وهي غضة من الحموضة إلى الحلاوة وهي يانعة والعين قائمة وكما يأجن الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة وكما يروب اللبن بعد أن كان صريفا فيتغير طعمه والعين قائمة ومثل الخمر مما حل بعرض وحرم بعرض المسك كان دما عبيطا حراما ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبا حلالا. وأما النبيذ فاختلفوا في معناه فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا فإذا اشتد ذلك وصلب فهو خمر. وقالوا: إنما كان الأولون من الصحابة والتابعين يشربون ذلك يتخذونها في صدر نهارهم ويشربونه في آخره ويتخذونه من أول الليل ويشربونه على

غدائهم وعشائهم. وقالوا: سمي نبيذا لأنهم كانوا يأخذون القبضة من التمر أو الزبيب فينبذونها في السقاء أي يلقونها فيه. وقال آخرون: النبيذ ما أتخذ من الزبيب والتمر وغيرها من المستخرج بالماء أو ترك حتى يغلي وحتى يسكن. ولا يسمى نبيذا حتى ينتقل عن حاله الأولى كما لا يسمى العصير خمرا حتى ينتقل عن حلاوته ولا يسمى الخمر خلا حتى تنتقل عن مرارتها ونشوتها وإنما سمي نبيذا لإنه كان يتخذ وينبذ أي يترك ويعرض عنه حتى يبلغ. وهذا هو القول لأن النبيذ لو كان ماء الزبيب لما وقع فيه الاختلاف ولأجمع الناس جميعا على أنه حلال من قبل أن يغلي ففيم اختلف المختلفون وعم سأل السائلون؟ قال الشاعر: نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تعطر لو خر الذباب وقيذا وقال ابن شبرمة: ونبيذ زبيب ما اشتد منه ... فهو تخمر والطلاء نسيب وقال آخر: تركت النبيذ وشرابه ... وصرت حديثا لمن غاب فسماء نبيذا وهو يفعل هذا الفعل ولا يجوز أن يكون أراد ماء الزبيب ولا ماء التمر قبل أن يغليا وروى الراقدي عن أخيه سملة بن عمر بن شيبة بن أبي كبير الاشمعي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يخدر الوجه من النبيذ ولتفاتر منه الحسنات وروى شريك عن أبي اسحق عن عمرو بن حريث قال: سقاني ابن مسعود نبيذا شديدا من جر اخضر وحدثني سبابة عن عمرو بن حميد عن بن سليم قال: حدثني أصحاب انس إنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي يكون في الخوأبي وما جاء في مثل هذا مما يدل على أن النبيذ ما غلي واسكر كثيره وفرق قوم بين نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ولا اعلم بينهما فرقا فيكره واحد ويستحب وآخر لإنهما جميعا مسكران. أنشد ابن أعرأبي (هزج) ألا أيها المهدي ... إلينا من شهر دع الآس ولا تغفل ... إذا جئت عن التمر فإن الآس لا يسك - ر واللذة في السكر حجج المحرمين لجميع ما أسكر

وأما المسكر فإن فريقا يذهبون إلى أن كل شيء أسكر كثيره كائنا ما كان ولو بلغ فرقا فقليله كائنا ما كان ولو كان مثقال حبة من خردل حرام. فلم يفرقوا بين ابن ثلاث ليال من نبيذ التمر إذا غلي وبين ابن ثلاث أحوال من عتيق السكر وعتيق الخمر ولا فرقوا في ذلك بين منفرد وخليطين ولا بين شديد وسهل ولا بين ما استخرج بالماء وما استخرج بالنار وقضوا عليه بأنه حرام وبأنه خمر وذهبوا من الأثر إلى حديث حدثنيه محمد بن خالد خداش عن أبيه عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ما مسكر خمر وكل مسكر حرام. وحديث حدثنيه اسحق بن راهويه عن المعتمر بن سليمان عن المهدي بن ميمون عن أبي عثمأن الأنصاري عن القاسم عن عائشة رحمة الله عليها أن النبي صلى الله وسلم قال: كل مسكر حرام وما أسكر الفرق فالحسوه منه حرام. وحديث حدثنيه محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل شراب أسكر فهو حرام. مع أشباه لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها وفي ما ذكرنا من هذه الأحاديث غنى عن ذكر جميعها لأنها أغلظها في التحريم وأشدها إفصاحا به ووإبعادا من حيلة المتأول. وقالوا: والشاهد على ذلك من النظر أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجرائرها على شاربها لأنها رجس. قال الله تعالى وجل من قائل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطأن فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون}. وقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها. قالت عائشة رحمة الله عليها: ما شرب أبو بكر رحمة الله عليه خمرا في جاهلية أو إسلام. وقال عثمان رحمة الله عليه: ما تغنيت ولا تفتيت ولا شربت خمرا في جاهلية أو إسلام ولا مست فرجي بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم 1وكان عبد الرحمن بن عوف ترك شربها وقال فيها بيتا: رأيت الخمر شاربها معنى ... برجع القول أو فصل الخطاب حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعد قال قال عثمان: إياكم والخمر فإنها مفتاح كل شر. أتي برجل فقيل له: إما أن تخرق هذا

الكتاب وإما أن تقتل هذا الصبي وإما أن تسجد لهذا الوثن وإما أن تشرب وإما أن تقع على هذه المرأة. فلم ير أهون عليه من شرب الكأس فشرب فوقع على المرأة وقتل الصبي وخرق الكتاب وسجد للصليب. وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته: لم لا تشرب الخمر فإنها في جرأتك. فقال: ما أنا بأخذ جهلي بيدي فادخله في جوفي وأصبح سيد قومي وسفهيهم. وقيل له بعد ما أسن واسلم: قد كبرت سنك ودق عظمك فلو أخذت من هذا النبيذ شيئا يقويك. فقال: أصبح سيد قومي وأمسي سفهيهم وآليت أن يدخل رأسي ما يحول بيني وبين عقلي. وكان قيس بن عاصم يأتيه في جاهليته تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ 2 ما عنده فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرا قبيحا فجذب ابنته وتنأول ثوبها ورأى القمر فتكلم بشيء ثم انهب ماله ومال الخمار وانشأ يقول وهو يضربه. من تاجر فاجر جاء الإله به ... كان لحيته أذناب أحمال جاء الخبيث بميسانية3تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال فلما صحا خبرته ابنته بما صنع وما قال فإلى لايذوق الخمر أبدا وقال. رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تفسد الرجل الحليما فلا والله اشربها صحيحا ... ولا اشقي بها أبدا سقيما ولا أعطي بها ثمنا حياتي ... ولا أدعو لها أبدا نديما وكان عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية وقال: لا اشرب شرابا يذهب بعقلي ويضحك بي من هو أدنى مني وأزوج كريمتي من لا أريد. فبيتنا هو بالعالي إذ أتاه آت فقال: أشعرت أن الخمر حرمت؟ وتلا عليه الآية في المائدة فقال تبا لها لقد كان بصري فيها نافذا. قيل لأعرأبي أتشرب النبيذ؟ فقال: لا اشرب ما يذهب عقلي. ودعا يزيد بن عبد الملك نصيبا أو كثيراً إلى ندامته فقال: يا أمير المؤمنين اني لم أصر إلى هذه المنزلة بمال ولا دين وإنما وصلت إليها بلساني وعقلي فإن رأيت أن لا تحول بيني وبينهما فافعل وقال بعض الشعراء: ومن تقرع الكأس الذميمة سنة ... فلا بد يوما أن يريب ويجهلا فلم أر مشروبا أخس غنيمة ... وأوضع للإشراف منها واخملا وأجدر إن تلقي حليما بغيها ... ويشربها حتى يخر مجدلا

وقال آخر: ولست بلاح لي نديما بزلة ... ولا هفوة كانت ونحن على الخمر عزلت بجبني قول خدني وصاحبي ... ونحن على صهباء طيبة النشر وأيقنت أن السكر طار بلبه ... فاغرق في شتمي وقال وما يدري ودخل أمية بن خالد بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثار فقال: ما هذا؟ فقال: قمت الليل فأصاب الباب وجهي فقال عبد الملك: رأتني صريع الخمر يوما فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع فقال أمية: لا أخذني الله بسوء ظنك يا أمير المؤمنين. فقال لا بل لا أخذني الله بسوء مصرعك. ودخل حارثة بن بدر العداني على زياد وكان حارثة صاحب شراب وبوجهه أثر. فقال له زياد: ما هذا الأثر في وجهك؟ فقال: ركبت فرسا لي أشقر فحملني حتى صدم بي الحائط. فقال له زياد: إما أنك لو ركبت الأشهب لم يصبك مكروه. وقال ابن هرمة الشاعر في شرفه ونسبه وجودة شعره يشرب الخمر بالمدينة ويسكر فلا يزال الشرط وقد أخذوه ورفعوه إلى الوالي في المدينة فحده فوفد على أبي جعفر المنصور وقد قال فيه المدحة التي امتدحته بها وقافيتها لام فاستحسنها وقال له: سل حاجتك. قال يا أمير المؤمنين تكتب إلى عامل المدينة أن لا يحدني إن وجدني سكرانا. فقال أبو جعفر: هذا حد من حدود الله وما كنت لأعطله فهل من حاجة غيره؟ قال لا والله يا أمير المؤمنين فاحتل لي بحيلة فكتب المنصور إلى عامله. من أتاك بابن هرمة وهو سكرأن فاجلده مائة جلدة واجلد ابن هرمة ثمانين. فرضي ومضى بكتابه فكان العون إذا مر به صريعا قال: من يشتري ثمانين بمائة؟ ثم أعرض عنه. وكان مالك بن قيس من ثقيف يشرب مع ابن الكأهلية يوم عرفة وهم محرومون فغلبه السكر فنام حتى فات الحج وأدركه ابن الكأهلية فقال: أليس الله يا مال ابن قيس ... وان غبنا عليك رقيب عين أقم صدر المطيعة وانج اني ... أراني وابن نعجة هالكين فأية جريرة أعظم من هذه وأية غبنة أشد من غبنتها وأية صفقة أخسر من صفقتها وماذا يلقى صاحبها فإذا عاودها هان عليه القبيح قال القطامي

أفر إذا أصبحت من كل عاذل ... وأمسي وقد هانت علي العواذل وقال ابن هانئ: اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح وسقى قوم إعرأبية مسكرا فلما أنكرت نفسها قالت لهم: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم قالت: لئن كنتم صدقتم لا أحدكم من أبوه. وكان العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام يشتدون على النساء في شربه حتى ما يحفظ أن امرأة شربت ولا أن امرأة سكرت. وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال عقيل بن علقمة المري غيورا فكأن يسافر ببنت له الجرباء فسافر بها مرة فقال قضت وطرا من دير سعد وربما ... على غرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابن له يقال له عملس: أجز فقال لا فا صبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الادلاج ميل العمائم ثم قال لابنته: أجيزي يا جرباء فقالت كان الكرى سقأهم صرخدية ... عقارا تمشي في المطا والقوائم فقال: والله ما وصفتها هذه الصفة إلا وقد شربتها ثم أحال عليها يضربها (بالسوط) فلما رأى ذلك بنوه وثبوا عليه فحلوا فخذه بسهم فقال إن بني زملوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم شنشنة أعرفها من اخزم واخزم فحل والشنشنة الشبه وقد فضح الله بالشراب أقوأما من الإشراف فحدوا ودونت في الكتب أخبارهم ولحقت بتلك السبة أعقابهم. منهم الوليد بن عقبة (بن أبي معيط أخو عثمأن لأمه) شهد عليه أهل الكوفة بشرب الخمر وأنهم صلى بهم الغداة (ثلاث ركعات) وهو سكرأن فقال: (إن شئتم) زدتكم. شهره الله بذلك وبمنادمة أبي زبيد الشاعر وكان نصرانياً فحده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان وفيه يقول الحطيئة: كامل شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالغدر نادى وقد تمت صلواتهم ... أأزيدكم ثملا وما يدري ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشفع والوتر

كبحوعنانك إذ جربت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري. ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر) فحده هناك عمرو بن العاص سرا فلما قدم على عمر رضي الله عنه حده حدا آخر (علانية). ومنهم العباس بن عبد الله بن العباس كان ممن شهر بالشرب وبمنادمة الأخطل الشاعر وكان نصرانيا وفيه يقول: ولقد غدوت على التجار بمسح ... هرت عواذله هرير الاكلب لذ تقبله النعيم كانما ... مسحت ترائبه بماء الذهب لباس أردية الملوك يروقه ... من كل مرتقب عيون الربرب ينظرون من خلل النور إذا بدا ... نظر الهجأن إلى الفنيق المصعب فضل الكياس إذا تشتى لم يكن ... خلفا مواعده كبرق الخلب وإذا تعورت الزجاجة لم يكن ... عند الشراب بفاحش منقطب فأخبر أنه غدا على تجار الشراب به وأخبر أنه يروقه عيون النساء ويرقنه. وكان عبيد الله بن عبد الله بن عباس من أحمل الناس وكأن يقال له المذهب لجماله فمدحه كما كان يمدح بعض النصارى وكأنت الشهرة في الشعر على حسب حسنه ورغبة الناس في حفظه. ومنهم قدامة بن مظعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حده عمر بشهادة علقمة الحصي عليه وغيره في الشراب. ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شجمة حده أبوه في الشراب وفي أمر آخر فمات. وعاصم بن عمر بن الخطاب حده بعض ولاة المدينة في الشراب. وعبد الله بن عروة بن الزبير حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب. وعبد العزيز (بن) مروان حده عمر بن الأشدق في الشراب. وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة (الأشعري) قال يحيى بن نوفل الحميري: وأما بلال فذاك الذي ... تميل الشراب به حيث مالا يبيت يمص عتيق الشراب ... كمص الوليد يخاف الفصالا ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السكر فيه أحولا لا ويمشي ضعيفا كمشي النزيف ... تخال به يمشي شكالا ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي بالكوفة فضح بمنادمة سعد بن هبار فقال

حارثة بن بدر (4). نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دوياً دوي النحل في الغار فأصبح القوم إطلاقا أضر بهم ... حث المطايا وما كانوا بسفار يدين أصحابه فيما يدينهمو ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار وهذا عبد الملك بن مروان بعد اجتهاده في العبادة فضحه الله تعالى في الشراب فكان يشرب المغذي وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك تشرب بعدي الطلا. فقال أي والله والدماء. وهذا الوليد نقم عليه الناس شرب المسكر ونكاح أمهات أولاد أبيه فقتلوه. وهذا يزيد بن معاوية كأن يقال إذا ذكر الخمور والقرود فقال فيه. ابني أمية أن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثم مقيم طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم ومرنة تبكي على نشوانة ... بالصبح تقعد تارة وتقوم ومنهم خالد بن عمرو بن الزبير وفيه يقول القائل إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... جبيراً وعاطيت الزجاجة خالدا أمنت بأذن الله أن تقرع العصا ... وأن يوقظوا من رقدة السكر راقدا وصرت بحمد الله في خير فتية ... حسأن الوجوه لا تخاف العربدا والعجب عندي قوله * وأن يوقظوا من السكر * وأكثر ما يوقظ السكرأن للصلوة افتراء حمدهم على تركهم إيقاظه للصلوة إذا سكر؟ وهذا أبو محجن الثقفي شهد يوم القادسية وأبلى بلاء حسناً شهر وكان فيمن شهد ذلك اليوم عمرو بن معد يكرب فقدم عليه وهو القائل. إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذقها فحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال: أخبرني الأصمعي عن ابن الأصم عن عبد العزيز بن مسلم العفيلي قال رأيت قبر أبي محجن الثقفي بأرمينية الرابطة تحت شجرات من كرم. (الباقي يتبع)

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات شرح ديوان المتنبي ما رزق أحد من الشعراء حظوة كحظوة المتنبي في شعره وما خدم ديوانه. ولعل ذلك والله أعلم من أجل تلك الحكم الرائعة التي تخللت شعره. وما يخيل لي أن المتنبي بقي اسمه يردد على الأفواه كل يوم ألوفاً من المرات إلا بفضل حكمه وإلا فالمديح والنسيب الذي فيه يوجد مثله في دواوين غيره من الشعراء. اطلعت بالاتفاق على شرح لهذا الديوان لأبي الحسن علي بن أحمد الو احدي المتوفى سنة 468 قال صاحب كشف الظنون فيه وهو أجمل ما وجدنا عليه من الشروح وأكثرها فائدة ليس في شروحه مثله. قال فيه الشارح بعد البسملة والحمدلة والصلاة: أما بعد فإن الشعر أنقى كلام. وأعلى نظام. وأبعد مرقى في درجة البلاغة. وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة. وأعلقه بالحفظ مسموعاً. وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً. وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقياناً. أو من نبات لكان ريحاناً. ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها. أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل. في أعين الزهر إذا انفتحت الرياض غب المطر. وأرق من دمع المستهام. ومن رقرق بماء الغمام. وهذا وصف أشعار المحدثين الذين تأخروا عن الجاهلية. وعن نأنأة الإسلام إلى أيام ظهور الدولة العباسية. فإنهم الذين أصبح بهم الشعر عذباً فراتاً بعد ما كان ملحاً أجاجاً. وأبدعوا في المعاني غرائب أوضحوا بها لمن بعدهم طرقا فجاجاً. حتى أصبحت روضة الشعر. مفتحة الأنوار يانعة الثمار. مفتقة الأزهار. متسلسلة الأنهار. فثمرات العقول منها تجتبى. وذخائر الكتابة عن غرائبها تقتني. وكواكب الآداب منها تطلع. ومسلك العلم من جوانبها يسطع وإليها تميل الطباع. وعليها تقف الخواطر والأسماع. وإليها ينشط الكسلان وعند سماعها يطرب الثكلان. لما لها من المزاين والتدبيج. وسطوع روائح المسك الأريج. وبعد أن أورد حديث أن من الشعر لحكمة وقول عائشة الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح قال: ولقد رويت أشعاراً منها القصيدة أربعون ودون ذلك وأن الناس منذ عصر قديم قد أولوا جميع الأشعار صفحة الأعراض مقتصرين منها على شعر أبي الطيب المتنبي نائين عما يروى لسواه. وأن فاته وجاوز في الإحسان مداه. وليس ذلك

إلا البحث اتفق لها فعلاً وبلغ المدى وقد قال: هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيدا وجاء في آخر الشرح. هذا آخر ما اشتمل عليه ديوانه الذي رتبه بنفسه وهو خمسة آلاف وأربعمائة وأربع وتسعون من الفراغ من نسخ هذا التفسير والشرح السادس عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وأربعمائة قال الشيخ الأمام رحمه الله: إنما دعاني إلى تصنيف هذا الكتاب مع خمول الأدب وانقراض زمانه اجتماع أهل الكتاب أهل العصر قاطبة على هذا الديوان وشغفهم بحفظه وروايته والوقوف على معانيه وانقطاعهم عن جميع أشعار العرب جأهليها وإسلاميها إلى هذا الشعر واقتصارهم عليه في تمثلهم ومحاضرتهم وخطبهم ومقاماتهم حتى كان الأشعار كلها فقدت وليس ذلك إلا لتراجع الهمم وخلو الزمان وتقاصر الرغبات وقلة العلم بجوهر الكلام ومعرفة جيده من رديه ومطبوعه من متكلفه ومع ولوع الناس بهذا الديوان لا ترى أحداً يرجع في معرفته إلى محصول أو يعي ببيان عن مودعاته وغوامض معانيه ومشكلاته. . . . وهاك نموذجاً صغيراً من شرحه قال: أبي خلق الدنيا تديمه ... فما طلبي منها حبيباً ترده قوله تديمه من فعل الدنيا وكذلك ترده أي تدفعه ويجوز أن يريد ترده إلى الوصل يقول حبيب تديمه الدنيا قد أبت ذلك أي تأبى أن تديم حبيباً على الوصال فكيف أطلب منها حبيباً تمنعه عن وصالنا وكيف أطلب منها أن ترده إلى الوصال بعد أن أعرض وهجر. وأسرع مفعول فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده يقول أن الدنيا لو ساعدتنا بقرب أحبتنا لما دام ذلك لأن الدنيا بنيت على التغير والتنقل فإذا فعلت غير ذلك كانت كمن تكلف شيئاً هو ضد طبعه كما قال حاتم ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع ومثله قول الأعشى السني ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه ... يدعه وتغلبه عليه الطبائع وأدوم أخلاق الفتى ما تشابه ... وأقصر أفعال الرجال البدائع وقول إبرأهيمبن المهدي

من تحلى شيمة ليست له ... فارقته وأقامت شيمه وقال في شرح وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده هو مثل ضربه لنفسه كان يقول أنا أتعب خلق الله لزيادة همتي وقصور طاقتي من الغنى عن مبلغ ما أهم به وهذا مأخوذ مما في الحديث أن بعض العقلاء سئل عن أسوء الناس حالاً فقال من قويت شهوته وبعدت همته واتسعت معرفته وضاقت مقدرته. وقال الخليل ابن أحمد رزقت لباً ولم أرزق مروته ... وما المروءة إلا كثرة المال إذا أردت مسامات تقاعدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال فلا ينحل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان بالمال عقده هذا نهي عن تبذير المال والإسراف في إنفاقه يقول لا تذهب مالك كله طلب المجد لأن المجد كله لا ينعقد إلا بالمال فإذا ذهب مالك كله انحل ذلك المجد الذي كان يعقد بالمال ألا ترى إلى قول عبد الله بن معاوية أرى نفسي تتوق إلى أمور ... يقصر دون مبلغهن مالي فلا نفسي تطاوعني ببخل ... ولا مالي يبلغني فعالي وقد كتب الأصل بالحمرة والشرح بالحبر الأسود على عادة الكتب القديمة ولولا نقص كراس منه لكان جديراً بالطبع وقد روى بعضهم أن هذا الكتاب مطبوع في أوروبا والنسخة التي تكلمت عليها كتبت في شهر رمضأن سنة 1075 وعدد أوراقها 525 من الحجم الوسط الإدراك للسأن الأتراك نشر مسيو لوسين بوفا من مشاهير علماء المشرقيات عند الفرنسيس هذه الرسالة النافعة لمؤلفها أبي حيان الأندلسي المولود في غرناطة سنة 654 والمتوفى في مصر سنة 754 وكان أبو حيان كثير التصنيف ذكر له مترجموه زهاء سنين مصنفاً وهو العلم المفرد في النحو وله خمس رسائل في نحو اللغة التركية وصرفها وقد قال عن هذه الرسالة أنها لم ينسخ على منوالها كتبها عقيب مقامه في مصر واختلاطه بالترك الذين كانوا ملوك عصره

وهذه الرسالة تنقسم كما قال ناشرها إلى كتاب مفردات اللغة التركية مترجمة إلى العربية وفيها نحو ألفين لفظة والقسم الثاني في التلفظ والتصريف والقسم الثالث في النحو فنشكر للناشر عنايته أكثر الله في خدمة العلم أمثاله الفنون السبعة أهدنا مسيو هرمان كيز من علماء المشرقيات من الألمان نسخة واحدة من هذه الرسالة وعني بالفنون السبعة الشعر القريض والموشح والزجل والمواليات والكان وكان والقوما وشرحها كلها بالألمانية مع إيراد بعض الفقرات باللغة العربية. والقوما والكان وكان لا يعرفها سوى أهل العراق. وحبذا لو عاد هذه الآونة إلى ما كان كتبه في هذا الموضوع وأشبعه مع ترجمة جميع ما يكتبه لتعم فائدته الجميع مناقضاة العلماء اطلعنا على رسالة للأمير شكيب أرسلأن في رثاء فقيد اللغة الشيخ إبرأهيماليازجي فما قاله فيها لم يبرح الدهر فتاك المضارب عن ... أيامه البيض أو ليلاته السمر إذا لها غافل عن رعي طارقه ... فللشدائد منه بالغ النذر كفى برب المنايا واعظاً وجزاً ... رشداً لمن كان من دنيا على غرور تخالف الناس في الأهواء حين حيوا ... وجمع الموت منهم كل منتثر وقد يلج ببعض كيد شانئه ... ولو درى لصفا صفواً بلا كدر وقد يحاول في أعدائه ظفراً ... وأنه بين ناب الموت والظفر كم وترت قوس ضغن كف ذي ترة ... فأذهب الموت عزم الوتر والوتر والدمع يغسل ما بالقلب من وضر ... كما يزول غبار الأرض بالمطر إلى أن يقول بعد أن وفاه حقه من الرثاء إليك حقك لا ظلم ولا سرف ... لاينكر الشمس إلا فاقد البصر وأن يؤأخذك نقاد بباردة ... فليس يرجم إلا مثمر الشجر وقد يعاب الذي في البدر من كلف ... وليس يسلب معنى الحسن في القمر الإسلام في أفريقية الشرقية

مسيو لشاتليه من كبار علماء المشرقيات المنصرفين في فرنسا إلى دراسة أحوال الشرق ولاسيما أهل الإسلام وبلادهم قضى في ذلك السنين الطويلة وهو اليوم رئيس مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية وله في الأبحاث المشار إليها عدة مصنفات ممتعة ومنها هذا الكتاب الذي أتحفنا بنسخة منه قرأنا فيها أدلة على فضله وتحقيقه فقد تكلم فيه على مسلمي غربي أفريقية كلام من رحل إليهم وخالطهم وعرف عجرهم ونجرهم وشفع كلامه بنصوص تاريخية ووصف أحوالهم الاجتماعية والدينية والمعاشية والسياسية في سفر ضخم وقع في زهاء 370 صفحة وشفعة بمصورات تفيد القارئ إذا أراد أن يتصور تلك البلاد. ومما استنتجته أن الإسلام عريق في تلك البلاد يرد عهده إلى زمن عمرو بن العاص لما فتح مصر وجاءه ستة من البربر ودانوا بالإسلام وراحوا ينشرونه بين أهلهم وعشيرتهم وأن الويز دي كاداموستو قال سنة 1455 أن الإسلام يزداد انتشاره بين قبائل الزنوج في أفريقية الغربية. ومن رأي المؤلف أن الدين المحمدي يعم الزنوج في أفريقية إذا لم يستخدم المرسلون الكاثوليك والبروتستانت لتنصير من بقي منهم من بلا دين. وعلى الجملة فقد وصف بلاد السودانيين والصحراء والبربر والعرب بما لم يبق بعده مجال لقائل شأن العارفين المحققين الذين يؤلفون ويحسنون فجاء هذا الكتاب مرجعاً يستفتيه كل من تهمة دراسة أحوال أولئك الزنوج. منهل الوراد قسطاكي بك من أعيان حلب مشهور بأدبه وفضله ألف بعد بحث ستة عشر عاماً كتاباً في علم الانتقاد أصدر الجزء الأول منه في نحو ثلاثمائة صفحة تكلم فيه على علم النقد عند العرب وقال أنه لم يكن معروفاً عندهم أيام استبحار العلم والحضارة في أقطارهم وأن ما عرف عنهم لا يصح في الأكثر أن يسمى نقداً وتكلم على تاريخ النقد عند سائر الأمم وفي القرون الوسطى والقرون الحديثة وعلى أساليب الإنشاء ورتب الشعر وطبقاته وأفاض في ذلك فهذا الجزء الأول هو في تاريخ النقد وموضوعه استوفى تاريخه عند الإفرنج أكثر مما استوفاه عند العرب والجزء الثاني وهو تحت الطبع في قواعد هذا الفن وفروعه. وقد أهدى المؤلف كتابه لطلاب العلم وتلاميذ المدارس عسأهم يقعون على فائدة في تضاعيف سطور صرف المصنف على تدوينها شطراً من العمر قائلا أنه خالف بذلك عادة متقدمي

العلماء والكتاب في هذا اللسأن العربي المبين من إهداء تآليفهم لبعض أمراء عصرهم وحكام زمانهم كما فعل أبو منصور الثعالبي بإهداء كتابه نثر النظم وحل العقد إلى الملك المؤيد أبي العباس خوارزم شاه وكتأبيه المشهورين فقه اللغة ويتيمة الدهر إلى الأمير عبيد الله أبي الفضل الميكالي وحذا حذوه الفتح بن خاقان بإهداء كتاب قلائد العقيأن إلى أمير المؤمنين أبي اسحق بن يوسف ين تاشفين والفيروزابادي بإهداء القاموس لمجلس الملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن وأهدى الفيلسوف ابن خلدون تاريخه إلى أمير المؤمنين أبي عبد الله المريني. بارك الله لقسطا كي بك بهمته التي ساقته إلى أفراد هذا الفن بالتأليف. والنقد كما هو معلوم يرتقي بارتقاء الأمة فعسى أن يكون من الكتب النافعة ما ينتج منه ارتقاؤه في هذا العصر بين الأمة العربية. نجعة الرائد أتحفنا الشيخ حبيب اليازجي بنسخة من هذا الكتاب النفيس في المترادف والمتوارد تأليف عمه فقيد اللغة الشيخ إبرأهيماليازجي وفي هذا الكتاب أبواب مهمة لا يستغني كاتب معرب عن ألفاظها وجملها التي اختارها الشيخ من أرق الألفاظ ومنسجم التراكيب للعرب وهذا الجزء في العلم والأدب وما إليهما وفي سياقه أحوال وأفعال شتى مما يعرض في الألفة والمجتمع والمعاش وفي معالجة الأمور وذكر أشياء من صفاتها وأحوالها وهو ما يقع في 225 صفحة جيدة الطبع تدل على غور كاتبها وتدقيقه فحبذا لو اعتمدت عليه المدارس المصرية في التدريس والمراجعة فإنه من خير ما ألف في موضوعه وهو يطلب من مطبعة المعارف بالفجالة بمصر. كتاب الأخلاق طبع محمد أفندي هاشم الكتبي هذه الرسالة المفيدة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي كتبها إلى بعض أخوانه سنة إحدى وتسعين وخمسمائة هجرية بقلم بليغ يذكرنا بنمط الأندلسيين في الإنشاء. وهذه الرسالة مما يعلي مقام الشيخ الأكبر في صدر المنكرين عليه دع عنك المعتقدين به لأنه لم يذكر فيها ما لا يقع تحت الحس بل ذكر فاضل الأخلاق وسفسافها ومما قاله فيها: وملاك الأمر في تهذيب الأخلاق وضبط النفس الشهوانية والنفس

الغضبية هي تقوية النفس الناطقة فإن بهذه تكون جميع السياسات وهذه النفس إذا قويت (وأصبحت) متمكنة من صاحبها أمكنه أن يسوس بها قوتيه الباقيتين ويكف نفسه عن جميع القبائح ويتبع أبداً مكارم الأخلاق وإذا لم تكن هذه النفس قوية في صاحبها وكانت مقهورة خافتة فلول ما ينبغي أن يعتمده في سياسة أخلاقه أن يروض هذه النفس ويقويها وتقوية هذه النفس إنما يكون بالعلوم العقلية فإنه إذا نظر في العلوم العقلية ودقق النظر فيها ودرس كتب الأخلاق والسياسة وداوم عليها تيقظت نفسه وتنبهت وانتعشت من خمولها وأحست بفضائلها وأنفت من رذائلها وذلك أن هذه إنما تضعف وتخفت إذا عدمت الفضائل والمناقب واستولت عليها فإذا اقتبست الفضائل واكتسبت الآداب تيقظت وتنبهت من غشيتها وثارت من سكرتها وقويت بعد ضعفها وفضائل هذه النفس هي العلوم العقلية وخاصة ما دق منها والرسالة كلها من هذا النمط في الانسجام والمرامي السامية في تهذيب النفس واشرابها حب الفضيلة. غريب القرآن طبع محمد أمين أفندي الخانجي وشركاؤه هذا الكتاب المسمى بنزهة القلوب للأمام أبي بكر محمد عزيز السجستاني من أهل المئة الرابعة وهو على حروف المعجم مشروح ألطف شرح وأسهله متيسر معاني مفردات الكتاب العزيز أن يرجع إليها في أسرع ما يمكن من الحجم الصغير وبطلب من طابعه بثلاثة قروش. أمالي السيد المرتضى السيد المرتضى المتوفى في سنة 436 هو شقيق الشريف الرضي الأول عالم والثاني أديب وقد طبع هذه الآونة محمد أمين الخانجي وشركاؤه أماليهوهي أربعة أجزاء صدر الجزء الأول منها وقد جعل اشتراكه 15 قرشاً أميرياً بالاشتراك إذا اشترك المشترك قبل صدور الجزء الثاني وما بعد ذلك يباع بخمسة وعشرين قرشاً. وهذا الكتاب هو أحد مأخذ الإتقأن في علوم القرآن للسيوطي وفيه نبذ كثيرة في الأدب والتاريخ قد لا نجد أكثرها في الكتب المتدأولة وقد جعله المؤلف مجالس فكان هذا الجزء اثنين وعشرين مجلساً كل مجلس فيه ما رق وراق من الأخبار والأثار مثل تراجم بعض الدهرين والزنادقة والمعمرين وبعض رؤساء المعتزلة ومما رواه لابن المفقع من الحكم قوله: قيل أن يحيى بن زياد الحارثي

كتب إليه يلتمس معاقدة الإخاء والاجتماع على المودة والصفاء فأخر جوابه فكتب إليه كتاباً آخر يسترثيه فكتب إليه عبد الله: أن الإخاء رق فكرهت أن أملكك رقي قبل أن أعرف كهنك. وكان يقول ذلل نفسك بالصبر على الجار السوء والعشير السوء والجليس السوء فأن ذلك من لا يكاد يخطئك. وكان يقول إذا نزل بك أمر مهم فإنظر فإن كان مما له حيلة فلا تعجز وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع وقال لبعض الكتاب: إياك والتبغ لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة فأن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة. وقيل له ما البلاغة فقال التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها. ومن كلام الجاحظ: ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي الكلام عذب ينأبيعه إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى. وقال لا تكلم العامة بكلام الخاصة ولا الخاصة بكلام العامة. وروى من أخبار المعمرين أن عبد المسيح بن بقيلة الغساني ذكر الكلبي وأبو مخنف وغيرهما أنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة وأدرك الإسلام ولم يسلم وكان نصرانياً وروي أن خالد بن الوليد لما نزل على الحيرة وتحصن منه أهلها أرسل أبعثوا إلي رجلاً من عقلائكم وذوي أنسابكم فبعثوا إليه بعبد المسيح بن بقيلة فأقبل يمشي حتى دنا من خالد فقال: أنعم صباحاً أيها الملك قال: قد أغنانا الله عن تحيتك فمن أين أقصي أثرك أيها الشيخ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت قال: من بطن أمي. قال: فعلام أنت قال: على على الأرض قال: ففيم أنت قال: في ثيأبي. قال: أتعقل لا عقلت. قال: أي والله وأقيد. قال: ابن كم أنت. قال: ابن رجل واحد. قال خالد: مل رأيت كاليوم قط أني أسأله عن الشيء وينحو في غيره. قال: ما أجبتك إلا عما سألت فأسأل عما بذلك. قال: أعرب أنتم أم نبط قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا. قال: فحرب أنتم أم سلم. قال: بل سلم. قال: فما هذي الحصون. قال: بنيناها للسفينة نحذر منه حتى يجيء الحليم فينهاه. قال: كم آتي لك. قال: خمسون وثلاثمائة سنة. قال: فما أدركت سفن البحر في السماوة في هذا الجرف ورأيت المرأة تخرج من الحيرة وتضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفاً حتى تأتي الشام ثم قد أصبحت خراباً يباباً وذلك دأب الله في العباد والبلاد قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه. فقال له خالد: ما هذا في كفك. قال: هذا السم. قال: ما تصنع به. قال أن كان عندك ما

يوأفق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته وإن كأنت الأخرى لم أكن أول ساق إليهم ذلاً وبلاءً أشربه فأستريح من الدنيا فإنما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته فأخذه ثم قال بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء فشربه فتجللته غشية ثم ضرب بذقنه في صدره طويلاً ثم غرق فأفاق كانما نشط من عقال فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضربه صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم فإن هذا أنر مصنوع لهم على مائة ألف درهم يقول: أبعد المنذرين أرى سواماً ... يروح بالخور نق والسد ير أبعد فوارس النعمان أرعى ... مراعي نهر مرة فالحقير تحاماه فوارس كل قوم ... مخافة ضيعم عالي الزئير فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كمثل الشاء في اليوم المطير تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور نودي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج بني قريظة والنضير كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساة أو سرور وبالجملة فالكتاب رخيص الثمن ثمين القيمة والنفع جداً وقد عني السيد محمد بدر النعساني الحلبي بتصحيحه وضبط ألفاظه وتعليق بعض حواش هذا الجزء في 330 صفحة مطبوع الطبع المتوسط مشكول محل الأشكال من ألفاظه.

غلو الشرقيين

غلو الشرقيين عرف العلماء البيأن المبالغة بأنها وصف شيء بما لا يزيد على الواقع واختلفوا في جوازها وأباحتها فجعلوا منها المقبول ومنها المردود وهو الرأي الراجح وقسموا المبالغة إلى أقسام ثلاثة الأول التبليغ وهو وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه في العادة والثاني الإغراق وهو وصف الشيء بالممكن في العقل دون العادة والثالث الغلو وهو الوصف الذي لا يمكن عقل ولا عادة. ولقد درجت سوق الغلو ولا تزال رائجة في الشرق بما سرى إليه من ضعف العقول بضعف العلوم التي تنفع في التميز بين ما يقع وما يمتنع. والغلو موجود عند كل أمة ولكنك تراه على أشد عند المشارقة فإن المفهوم من تاريخ المغاربة وآدابهم بأنهم دوننا في المبالغات والسبب في ذلك والله أعلم أن فلسفة أبناء الغرب فلسفة حسية مبنية على الحس وفلسفتنا فلسفة خيالية. الشرقي يبالغ ويفحش في الغلو بالدقيق والجليل من شؤونه الدنيوية والأخروية فقد بالغ في تصوير الأمور الروحية حتى صار كثير من أممه يؤلهون المخلوقات ويسجدون للجمادات والعجماوات أو يثبتون لما يحترمون من الآداميين من ضروب الصفات ما تضل في تكييفه العقول ويعتريها الذهول. جاءت الأديأن السماوية لنزع هذا الغلو من العقول فسلمت بتعاليمها العقول في بعض أصقاع الشرق حيناً من الدهر حتى عادت بالتدريج إلى سابق أعراقها وإفراطها في وصف البشر وتاليههمإلى حد الهزل فدل ذلك على عموم الجهل وضعف العقل. الشرقي يبالغ في تصوير الصفات فإذا وصف أحد بالعفة اختلق له النعوت ما تمليه المخيلة وتساعد عليه محفوظاته من ألفاظ اللغة وأقل ما يصف به من يريد وصفه أن يثبت له من الصفات ما لا يليق بعضه إلا بأكبر دعاء من أفراد العالم. الشرقي يبالغ إذا وصف أحداً بالسخاء والشجاعة والمروءة والشمم وكل ما يرفع النفوس إلى المقامات السامية. وفي دواوين الشعر وكتب المحاضرات أمثلة أكثر من أن تحصى أو يشهد بها فأقرأها يتجلى لك كيف تضيق الأحلام بالأوهام وأنى تسطو الخرافات على المخلوقات. نعوذ بالله من شعرائنا الجاهلين والمخضرمين والمولدين إذا أنشأوا ينشئون القصائد

ويشدون بالمناقب والمحامد. تأملها ملياً وضعها على محك النقد الصحيح وأنصف في تطبيق مفأصلها على وأنظر إذا كنت لا توجب عليهم الكفارات لفرط ما غلوا في المبالغات وإذا غاليت أيضاً فأحكم عليهم بالجلد مئين واسجنهم لئلا يعلموا الناس هذا الخلق المشين ويحملوا إليهم ذاك الرأي الدفين. وقل معي أن أمة تقول أعذب الشعر أكذبه وأشعر الناس من استجيد كذبه هي أمة المبالغة والغلو. ومع أن الحساب من اخترع الشرقيين وكان له فيما مضى بين ظهرانيهم شأن عظيم ترى خاصتنا في القديم والحديث إذا عدوا وقاسوا نسوا الحساب والمساحة وإذا قدروا وغلوا في عالم الخيال عن طور الحس وتناسوا التدقيق فكالوك أو وزنوك بالألوف وربما كانت في العشرات. ترى قومنا هدأهم الله إذا سألت أكثر الطبقة العالية منهم كم قوة الدولة الفلانية أجابوك لساعتهم كذا وكذا بتحديد الأرقام مع أنك لو سألت كبار رجال تلك الدولة لتمهلوا في الجواب واضطروا أن يرجعوا إلى حساب وربما في نفوسهم بعد ذلك من صحة ما قالوا أشياء كما مات الفراء وفي نفسه شيء من حتى. ترى كثيرين من خاصتنا إذا سألتهم عن الثروة لا يسعك إلا أن تقف شاخصاً تستعيذ بالله من غلو المشارقة وتجويزهم الكذب وإيغالهم في الباطل وضعف استقرائهم واستنتاجهم وغفلتهم عن القياس. قف وأسأل الله السلامة وهم يصورن لك صاحب المئة من الألوف وصاحب مئات الألوف وهكذا إلى ما شاء الله وشاء اتساع عقولهم. ولقد كان بعض الظرفاء يقول: إذا ذكرت أموال في صاحب الثروة في الشرق وقدر ما تملك يمينه فأحذف صفرين من اليمين الأرقام فإذا قالوا لك فلاناً يملك عشرة آلاف فأعرف أنه يملك مئة وإذا قيل لك مئة ألف فأعرف أنه يملك عشرة آلاف وهكذا افرض أقل تعديل لعلك تسقط على الحقيقة وكان يقول إذا لم تصدق فأسأل العابدين ممن يقدرون ثروات الأفراد إلى آخر درهم مما عندهم على حين أنك لو سألت أصحابها عما يملكون لما عرفوا أن يقدروا لك إلا بالتخمين والتقريب هذا إذا لم يكونوا من أهل الغلو والإغراق. أجارك الله من شرقي يتشدق بذكر عالم عرفه أو سمع به أو جد نسب إليه ولاسيما إذا كان ذاك العالم في عالم الأموات والشرقي يرى المبالغات بالأموات من أقرب القربات ولعله

يحيل على بعيد عن قصد لأن الحكم على الأحياء القريبة يستلزم منه أن يأخذ المتكلم من لسانه وبيانه. ساعدت الجرائد والمطابع والمدارس على تخفيف الشرقيين من المبالغات ولكنها لم تتمكن إلى اليوم من نزع هذا الخلق المتأصل في السواد الأعظم وبعض الناس في الغالب مسوقون إلى المبالغة بحكم العادة والبيئة. ولقد وقعت من ذلك حادثتان كانتا من أكبر الأدلة على أن هذا الخلق فينا لا ينزع إلا إذا أكثر الكتاب من التنديد فيه وعملنا كلنا على قلب أوضاع مجتمعنا وعاداته. فالحادثة الأولى جرت في مصر إبأن العقبة في السنة الماضية فقالت إحدى الجرائد المتحمسة أن الدولة حشدت في عريش مصر ثمانمائة ألف جمدي كتبت ذلك برقم غليظ ولما سئلت من الغد في معنى هذه المبالغة قالت أن المحشود من الجنود هو ثمانون ألفاً وأن الصفر زائد وبعد التحقيق تبين أن ما كان جمع هناك من الجند لم يتجاوز الألفين فتأمل مبالغة تقولها جريدة كبرى في مدينة كالقاهرة في مثل هذا العصر عصر الإحصاء والتقدير في قطر اتصل جنوبه بشماله وشرقه بغربه بالخطوط الحديدية والأسلاك البرقية والتلفونية بحيث لا يحتاج تحقيق هذا الغلو إلا لشيء من البحث. والحادثة الثانية جرت لصاحب هذه المجلة أذكرها للقارئ على سبيل التمثيل والفكاهة فإني ما ذكرتها إلا وذكرت معها غلو الشرقي. ذلك أني كنت منذ تسع سنين أكتب جريدة الشام فنعى الناعي ذات يوم رجلاً من وجهاء إلا طراد في صالحية دمشق كان معروفاً بين أهل جيله وحيه بأنه من المعمرين المتمتعين فقال لي الناعي وكان من أكابر الفضلاء: أكتب أنه مات عن خمس وثلاثين سنة بعد المئة. فقلت له: أن العدد عظيم فهل لك أن تنزله فنهرني وقال: أكتب والحق أقول أن المرحوم كان أطول عمراً مما قلت لك يعرف الناس حتى أن فلاناً قال لي ذلك وأكده أفلا يسعك ما يسع العارفين به وعندها كتبت: ومات عن عمر جاوز الخامسة والثلاثين بعد المئة. ولم يكشف الناعي بذلك بل قال أن المتوفى خلف خمسمائة نفس ذكوراً وإناثاً فكتبت بعد تأبينه والغلو في ذكر عاداته وصحته طول حياته: ومما يجدر بالذكر أن له من الولد وولد ما ينوف عن خمسمائة نفس ذكوراً وإناثاً. كتبت هذا وأنا بين الشك واليقين في صحته لكني كنت والحق يقال إلى اليقين أقرب لأن

النأقل ممن اعتقد فيهم سعة العقل وصحة القياس. فأعجب الناس بما كتب وتحدثوا به وربما زاد بعضهم فقال: أن عمر المرحوم كان أكثر مما ذكر وأن الجريدة أخطأت في تقدير عمره ولعل سنه لا تقل عن مئة وخمسين وأولاده وأحفاده أكثر مما ذكر وأن الجريدة أخطأت في تقدير سنه لا تقل عن مئة وخمسين وأولاده وأحفاده أكثر من ذلك بمئين. ولما انتشرت الصحيفة في البلاد تنأقلت الخبر عنها بعض المجلات العلمية وأكثر الجرائد السيارة في البلاد العثمانية وربما لم تغفل زميلاتها في مصر أيضاً عن نقل هذا النبأ الغريب فدهشت من هول ما رأيت ونبهني أحد العقلاء إلى هذا التسرع في الحكم على عمر الميت وأولاده فلم يستغني إلا أن أخذت في تحقيق فتبين أن الرجل لم يتجاوز المئة وأن أبناؤه وأبناء أبناؤه هم دون الخمسين بيقين. ون ظل بعض أحباب المبالغة يقولون أن الرجل مسن جداً وقد حارب في جيش إبرأهيمباشا المصري ولكن لم يسعهم أن يكثروا في عداد أولاده لأن الإغراق في عددهم يكذبه العيان وأما عمر والدهم فليس فيه مستند تاريخي صحيح يعول عليه ما دام الشرقي يأخذ تاريخ رجاله وأكثر ساسته في الأكثر من أفواه الشيوخ والعجائز. وبعد مدة ظهر لي أن المتوفى ومن صحته ونشاطه وقالت أن عمره مئة وخمس وعشرون سنة. فكان مل جرى من المبالغة في تقدير عمر الرجل وأولاده وأحفاده أشبه بما تأتيه الجرائد الصفراء في أميركا من الغلو في تجسيم الأخبار لإلفات الأنظار. وأحسن تعليل للمبالغة ما ذكره ابن خلدون بقوله: وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه. وتفاوضوا في الأخبار عن الجيوش المسلمين والنصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء والموسرين توغلوا وطاعوا وساوس الأغراب فإذا استكشف أصحاب الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدونه وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتخذ آيات الله هزواً ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة.

المرأة في الإسلام

المرأة في الإسلام تعدد الزوجات حالة لأزمة لبعض درجات النشوء العمراني لا مناص منها فكثرة الحروب بين القبائل وما ينشأ عنها من نقص الرجال مع حفظ عدد النساء واستبداد الأمراء أمور توجب أمور كلها توجب هذه العادة التي نستقبحها في عصرنا هذا ونراها ضرراً عظيماً. ولقد عرف تعدد الزوجات في القديم بين الأمم الشرقية كافة واستعمال الملوك لها وهم مظنة الاتصال بالله تعالى حللها للرعية وحببها إليهم وقد انتشرت في الهندوس وهم مجوس الهند منذ ابتداء أمرهم والظاهر أنهم كانوا كالماديين والآشوريين والبابليين والفرس لا حد لهم في التزوج من النساء وأن برأهمة الصف الأول إلى يومنا هذا يباح لهم من تعدد الزوجات ما تشتهي نفوسهم. وانتشرت هذه العادة أيضاً في بني إسرائيل قبل ظهور موسى وهو رضي بها من غيره أن يضع حداً لها إلا أن التلمود في الأعصر المتأخرة علق العدد على كفاءة الرجل ومع أن الربانيين وهم أحبار اليهود نصحوا للناس بأن لا يتزوجوا بأكثر من أربع فقد خالفهم القراء ون في ذلك ولم يجوزوا وضع حد ما. ودين الفرس الأقدمين يكافئ الرجل على تعدد زوجاته وقد انحطت هذه العادة عند الفينيقيين والسوريين الأقدمين إلى الخروج عن الأطوار البشرية وبلغت عند التراسيين والليديين والبلاسجيين الذين نزلوا القارة الأوروبية وغربي آسيا ما لم تبلغه ويوصي به بعد الموت. وأبيح لهم من التعدد ما شاؤوا. أما رومية فإن الأحوال الخاصة التي بنيت عليها أدارتها منعت تعدد الزوجات غالباً. ومهما يكن من صحة ما ورد من اغتصاب الصابنيات فإن وجود هذا في الأساطير الرومانية الخاصة بالزواج. أما في الأقطار المجاورة وخصوصاً عند الأترسكانيين فإن تعدد الزوجات من العادات الممتازة أصحابها. ومجاورة الرومانيين لغيرهم من الأمم سكان إيطاليا أحقاباً متوالية وحروبهم وانتصاراتهم قروناً عديدة مع ما ينشأ عن ذلك من عادات البذخ كل ذلك منه أخيراً أن الارتباط الأخلاقي في الزواج أصبح سبيهاً بالألفاظ المرددة ليس إلا. وإذا كان تعدد الزوجات ممنوعاً في صريح القانون الروماني فإن السيدات الرومانيات بعد الغلبة على قرطا جنة تطالب نفوسهن للانتفاع من منافع جمهورية حرة ضخمة كالجمهورية

الرومانية فلم يروهن غير العاشقين وأصبح الزواج حينئذ تسرباً مختلطاً. وتشير حرية النساء وضعف ارتباطهن بالرجال وكثرة تغيير الزوجات وإفراغهن على الغير - إلى أن انتشار تعدد الزوجات تحت اسم مستعار. وفي غضون ذلك ابتدأت تعليم النصرانية الأولى تنتشر على شطوط الجليل وتنير العالم الروماني كله. وتأثير الاسينيين الظاهر في تعاليم المسيح وما يضاف إليه من الاعتقاد بقرب صراحة. وهكذا بقي حال تعدد الزوجات حتى منعه يستيانس إلا أن هذا المنع القانوني لم يغير شيئاً في آداب الأمة وبقي حال تعدد الزوجات كما كان عليه حتى مجته أذواق أهل القرون المتأخرة وكأنت الزوجات ما عدا الزوجة الأولى تئن تحت أعباء ثقيلة لا حقوق لهن ولا ضامن بل كن عبيد أوهام أزواجهن وتصوراتهم وأولادهن لا يورثون بل كانوا يدعون نغولاً ويعاملون معاملة المتشردين ولم يكن هذا النوع من الزواج محصورا في الطبقة العالية فقط لأن خدمة الدين كثيراً ما نسوا عهد الرهبانية وارتبطوا بغير واحدة من النساء سواء كان ارتباطا مشروعا أو غير مشروع. ومن المحققات التاريخية التي لا تقبل الشك أن تعدد الزوجات لم يستنكر إلا في الأعصر المتأخرة. والظاهر أن القديس اغسطينس نفسه لم ير فيه سقوطاً في الآداب أو إثماً وحرجاً بل صرح أن تعدد الزوجات لا يعد جريمة لأن قوانين البلاد تبيحه. وأننا نرى المصلحين الجرمانيين وهم في عصر متأخر كالعصر السادس عشر أباحوا الزواج مثنى وثلاث لأسباب العقر أو ما أشبهه. ويقول بعض الباحثين وهم لا يرون إثماً في تعدد الزوجات أن المسيح لم يصرح بمنع هذه العادة ويذهبون إلى أن الاقتصار على زوجة واحدة هو من العوائد الداخلة على النصرانية من الجرمانيين أو اليونانيين والرمانيين. أما الاحتمال الثاني فهو يخالف الحقائق التاريخية مخالفة ظاهرة ولا يجدر بالذكر. وأما الاحتمال الأول وهو القول بالأصل الجرماني فإنه يتوقف على شهادة ضعيفة لواحد أو اثنين من الرومانيين الذين هم أكذب الناس في شهادات ينتفعون من التلاعب بها ولو فرضنا صحة شهادة تأستس فبماذا نعلل تعدد الزوجات بين سراة الجرمانيين حتى القرن

التاسع عشر؟ ومهما يكن من عوائد الرومانيين في العصور الأولى فمن الواضح أن تعدد الزوجات في أواخر أيام الجمهورية وابتداء الأمبراطورية كأن سنة مقررة أو على الأقل لم يحسب مخألفاً للقانون. والأمر الصادر بمنع نشر تعدد الزوجات يشير إلى وجوده واستعماله ونجاح هذا الأمر البريتوري في إصلاح الخلل ودفع الضرر يظهر لمن طالع جواب الأمبراطور هونور يس والأمبراطور أركاديس في أواخر القرن الرابع وعرف سلوك قسطنطين وابنه اللذين كانت لهما زوجات متعددة. وأن الأمبراطور فالينتيأن الثاني أذن علناً لأفراد رعيته أن يتخذوا من الزوجات ما شاؤا. أما الكنيسة استاؤا أو أطهروا على الأقل اعتراض على القانون بل أننا نرى ملوك رومية كانوا على العكس وتزوجوا بعدة نساء وكذلك عامة الناس لم يقصروا عنهم فقلدوهم. وهكذا بقي حال الشرائع الرومانية حتى أيام يستيانس حين تجمعت حكمة ثلاثة عشر قرناً من قرون النشوء في تدبير المعيشة فسنت تلك الشرائع الجديدة التي لم يكن للنصرانية فيها أثر يذكر وأعظم مشيري يستيانس كان ملحداً وثنياً. على أن منع تعدد الزوجات في قوانين يستيانس لم ينجح في أبطألها وإيقاف أميال العصر. وهذا القانون يدل على ترق في الفكر واختص تأثيره ببعض الأفراد أرباب العقل وأما العامة فكان عندهم حبراً على ورق. أما في مقاطعة غربي أوروبا فاختلط البرابرة بالسكان الأصليين وامتزج آدابهم بآدابهم حط من علاقة الرجل بالمرأة. ولا ينكر أن بعض القوانين البربرية سعى في إصلاح تعدد الزوجات إلا أن المثال أقوى من الكلام فكان اعتياد الملوك هذه العادة قدوة للعامة لا يقوى عليها النظام حتى أن خدمة الدين والرهبانية الدائمة مما يستحب لهم حباً بطاعة الكنيسة قد رووا أنفسهم من عادة تعدد الزوجات بحصولهم على رخصة بسيطة من المطارنة أو غيرهم من رؤساء الدين. وأعظم خطأ ارتكبه كتاب النصارى اعتقادهم أن النبي العربي تمتع بتعدد الزوجات أو شرعه وما كأن يقال قديماً من أنه هو الذي أحدث هذه العادة هو علامة على جهل القائلين به وقد ظهر فساده ورده الأعداء ولأصدقاء. وأما القول بأن النبي انتحل هذه العادة أو شرعها فلا يزال تقول به عامة النصرانية وكثير من خاصتها من أهل العام ولكن لا أرى

أفسد من ذلك وأن النبي لم يجد عادة تعدد الزوجات في أمته فقط فقد وجدها شائعة عند جميع الأمم المجاورة حيث اتخذت بعض أقبح صورها. نعم أن المملكة النصرانية سعت في دفع هذا الضرر إلا أنها حاولت عبثاً فتعدد الزوجات بقي على ما كان عليه غير وازع المرأة البائسة ما عدا الزوجة الأولى بقيت تئن أنيناً. وقد كانت بلاد فارس أيام منبعث الفساد ولم يكن لها قانون للزواج معترف به وإذا فرضنا وجوده فإنه كان مجهولاً منبوذاً ولم يحدد الزند فستا عدد الزوجات التي يمكن التزوج بها أرخى الفرس لأنفسهم عنأن التمتع بزوجات متعددة شرعيات وسراري. وزواج المتعة كان مألوفاً عند الجاهلين واليهود مع عادة تعدد الزوجات فأثرت هذه النصورات الأخلاقية الدنيئة في الجزيرة العربية أسوأ تأثير. حسنت الإصلاحات التي قام بها النبي العربي حال المرأة تحسيناً ظاهراً ورفعت مقامها لأن المرأة كانت في الجاهلية وعند اليهود من أهل الجزيرة العربية على أحط ما يكون فكأنت الفتاة اليهودية تعامل معاملة كالخادمة في بيت أبيها وكان له أن يبيعها إذا كان مقلاً من المال ولأولاده من بعده أن يتصرفوا بها كيفما شاؤا وهي وأبيها لا ترث شيئاً من مال أبيها أن لو يمت أبتر لا ذكور له وكأنت المرأة عند الحضر من العرب مالا وتحسب جزءاً صحيحاً من ثروة والدها أو زوجها والأرملة تصبح بعد وفاة زوجها مما يرثه الأولاد لذلك كثيراً ما تزوج الأبناء بزوجات أبائهم من بعدهم وهو زواج حرمه الإسلام وسماه المسلمون زواج المقت. ومما استعملها أهل اليمن. وبلغ بغض الجاهليين للنساء أنهم يئدون بناتهم وهي عادة فظيعة كانت منتشرة بين قريش وكندة. وقد استقبحها النبي جداً وأنكرها بعبارات كالصواعق بل هي أشد وجعل لها ولعادة تقديم الأطفال للأرباب أشد العقاب. أما المرأة في المملكتين الفارسية والبيزنطية فكانت منحطة وبعض أهل الطيش ممن دعأهم النصارى بعد زمن قديسين كان ديدنهم أن يحطوا من قدر المرأة ناسين أن الشر الذي رأوه فيها إنما هو صورتهم المعكوسة. وعلى هذا الحال من الانحطاط العمراني والانحلال الأدبي ونداء الناس أن الشرائع القديمة بعد وزنها بميزأن التجربة ناقصة أدخل النبي إصلاحاته فجعل احترام المرأة من أركان دينه ودعي أتباعه ابنته خاتون الجنة حباً بها

واحتراماً لها وهي عندهم مثال لنوعهاوسيدتنا الزهراء تمثل الأخلاق الفاضلة وعفة الإزار في المرأة وهي أسرف كمال أدركه الإنسان وقد خلفتها سلسلة من النساء طويلة كرمت هذا الجنس بفضائلها حتى قل من لم يسمع بالسيدة رابعة وبألف من اضرابها. وقد منع النبي في شريعته عادة الزواج المشروط ومع أنه أباح المتعة في أول الأمر لكنه حرمها في السنة الثامنة من الهجرة. وأعطى المرأة من الحقوق ما لم يكن لها من فبل وخولها امتيازات سوف تقدر قدرها كلما تقدم الزمن فساواها بالرجل كل المساواة من حيث استعمال القوى الشرعية ووضع لتعدد الزوجات حداً أعلى وشرط العدل بينهن ومما هو حري بالنظر أن الآية القرآنية التي تبيح التزوج بأربع يتبعها ما يرجع العدد إلى الحد الطبيعي والآية هيوأن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة. والتشديد في هذا الشرط مع النظر إلى معنى كلمة العدل في التعاليم القرآنية لم يخف على عقلاء الأمة الإسلامية وليس المقصود من العدل المساواة في المسن والملبس وغيرهما من الحاجات الأهلية بل المقصود منه أيضاً المساواة في المحبة والميل وهذا لم يخف على التزوج بواحدة فقط. ومع أن اضطهاد المتوكل الطائش منع مبادئهم فإن الاعتقاد يسري في أركان البلاد الإسلامية الراقية بأن تعدد الزوجات مخالف الشريعة الإسلامية الغراء كما ينافي تقدم العلم والتمدن. ومما يجب النظر إليه أن تعدد الزوجات ينشأ عن أحوال خاصة ففي بعض الأزمنة وفي بعض انتقال الهيئة الاجتماعية من حال إلى حال يكون من الضروريات الأساسية لحفظ المرأة من الهلاك وإذا صحت الأخبار والإحصائيات فأكثر الفظائع المنتشرة في منبعث المدينة الغربية ناشئ عن الحاجة الشديدة وقد أشار أب هك والسيدة دف غوردن إلى أن تعدد الزوجات في الشرق هو في الغالب مما تؤدي إليه ضرورة الحال. ولما تقدمت الأفكار وتحولت الأحوال ذهبت ضرورة تعدد الزوجات وأصبح استعمالها إما مهجوراً مسكوتاً عنه أو ممنوعاً صراحة. ولذلك أصبحت البلاد الإسلامية التي تغيرت فيها الأحوال الداعية إلى تعدد الزوجات تعد هذه العادة ضرراً عمرانياً ومبدأ يخالف روح الإسلام التي لم تتغير فيها هذه الأحوال حيث لا توجد الوسائط والمعاشية التي تعتمد عليها

النساء في البلاد المتمدنة. ولمعترض أن يقول أن الإباحة الكلامية تترك محلا للتمتع المشبوه والتلذذ المستكره لذلك يكون تعدد الزوجات من الأعمال الشاقة ونحن نسلم بقوة هذا الاعتراض وهو حري بألفات نظر من يريد تخليص التعاليم الإسلامية من المذمة الملتصقة بها ويريد التقدم مع الزمن. ومما يجب ذكره أن مرونة الشرائع هي أعظم محك نعرف به قيمة تلك الشرائع ومنافعها وهي سر القرآن لأنه تقبله أرقى الشعوب وهو يسد عوز أحطها ولا يتعامى عن الاقتصار على زوجة واحدة ضرراً شديداً. أما القيام بأبطال تعدد الزوجات فليس الصعوبة بالمكان الذي يتوهمه بعضهم. والمصيبة التي أصابت المسلمين وهي أصل ما هم عليه اليوم منعهم الاجتهاد وتمسكهم بالتقليد. وليس بالبعيد يوم يرجع فيه الفقهاء إلى كلام النبي في حل مسألتهم وهي هل يقلدون النبي أم يقلدون الذين استعملوا اسمه الكريم في أغراضهم أو أغراض الأمراء الذين عاشوا في أكنافهم. وقد مرت أوروبا في مثل هذا الطريق وكلن الأولى بها أن تراقب نهضة الإسلام وإصلاحه بالصبر والحنو لا أن تسلقه بالسنة حداد. ومتى تم التخلص من شرك الأفكار القديمة يصير من السهل على مشتر عي البلاد الإسلامية نسخ تعدد الزوجات إلا أن سداداً كهذا لا يتأتى إلا بعد ترق عام في إدراك الحقائق وأحاطة بروح الإسلام. وإن موافقة التعاليم الإسلامية لكل درجة من درجات الترقي تدل على حكمة المعلم. وليس تعدد الزوجات بين أقوام متدنية وله من الشروط ما وضعه النبي مما يؤسف له وهو على الأقل خير من عادة تعدد الأزواج وخير وازع أدبي. وكلما انتشر العلم وكثر التهذيب قدرت أضرار تعدد الزوجات قدرها وصار الناس أكثر علماً بوسائط منعها. ولا نقول الآن أن مسلمي الهند استفادوا كثيراً من اختلاطهم بالبرأهمة الذين يحل لهم في مذهبهم الفجور جهاراً بل نقول أن هؤلاء المسلمين فسدت أخلاقهم وانحطت تصوراتهم التي من شأنها رفعة الإنسان وتشريفه ونقاء قلبه وانتشرت طبقة الهتري بينهم كما هي بين جيرانهم الوثنيين ومع ذلك فثمة دلائل محسوسة يضيء قلوبهم ويخرجهم من ظلماتهم. وقد أدى المعتزلي اجتهاده إلى الاقتصار على زوجة واحدة لأن الشريعة تمنعه من ارتباط ثأن في خلال وجود ارتباط سابق. والخلاصة أن الزواج في عرف المعتزلة هوأن يكون ارتباطاً

اختيارياً حتى آخر رمق بين رجل وامرأة واحدة وهو اليوم حد الاقتصار على زوجة واحدة. وقد سرى كره تعدد الزوجات وصار من المسلمات العمرانية أن لم يكن من المسلمات الأخلاقية وهو مع كثير من العوامل الخارجية يقتلع هذه العادة من بين الهنود المسلمين حتى صار من المعتاد بينهم أن يضعوا في عقد الزواج جملة تمنع الزوج صراحة من حق التزوج بثانية ما دامت الأولى موجودة. وفي كل مئة منهم اليوم خمسة وتسعون مقتصرون على زوجة واحدة وهذا إما لاقتناعهم بفائدة ذلك أو لاضطرارهم إليه. وتستقبح عادة تعدد الزوجات بين الطبقات المهذبة العالمة بتاريخ أسلافها والقادرة على مقابلته بتاريخ بقية الأمم إما في بلاد فارس فقسم صغير من السكان يتمتع بهذه العادة المشكوك بلذتها والمأمول أن يقوم قريباً جماعة من حكماء المسلمين يفتون بأن تعدد الزوجات كالرق مكروه في شريعة الإسلام. ولنرجع الأن إلى موضوع زواج النبي المتعدد وهو يظهر لكثيرين ممن يجهلون الحقيقة أو يتجأهلون موضع انتقاد ومحل لوم. ومنتقدوه من النصارى يذهبون إلى أنه باتخاذه زوجات متعددة ميز نفسه بما لم يجوزه الشرع فأظهر ضعفاً في الأخلاق يصعب اتفاقه مع النبوة. إلا أن التعمق في التاريخ وتقدير الحقائق بدلاً من أن يبرهن أن النبي كان مفرطاً في الشهوات يدل دلالة صريحة على إنه كان يفادي بالعزيز في سبيل الغير باتخاذه بحسب شرع أمته عدة زوجات فقيرات وسد حاجتهن وهو فقير لا مال له ولا عقار. وأننا إذا درسنا عواطفه درساً مدققاً ونظرنا إليها من الجهة الإنسانية يظهر لنا تخرص المعترضين عليه. ولما تزوج خديجة كان في الخامسة والعشرين من العمر وكانت هي أسن منه كثيراً وقد قضيا سوية نحو ربع قرن رافلين في أثواب السعادة والإخلاص وكانت كل هذه المدة رفيقه الوحيد ومساعده الأمين على تخفيف ما كان يصيبه من أذى قريش واضطهادهم وعند حلول أجلها كان في الحادية والخمسين ولا يمكن لأعدائه أن ينكروا أنهم لا يرون في حياته كل هذه المدة ثلمة في أخلاقه أو نقطة سوداء في صحيفته البيضاء. وهو لم يتزوج بغيرها في حياتها على أن الرأي العام في عشيرته يجّوز له ذلك لوشاء. وعند رجوعه من الطائف بعد بضعة أشهر من وفاتها وهو ضعيف مضطهد تزوج بسودة

أرملة السكران وهو ممن كان أسلم وهاجر إلى بلاد الحبشة فراراً بدينه وبنفسه من قريش وقد توفي في منفاه وأبقى من بعده أمرأته في أشد البؤس والشقاء. وعوائد البلاد لا تمكنه من مساعدة هذه المسكينة الفقيرة أن لم يتزوج بها لذلك نرى أن مبادئ الإنسانية والشفقة تحتم عليه اتخاذها زوجاً له على إنه كان حينئذ في أضيق الحالات. وكان عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة المعروف بعد ذلك في التاريخ (بأبي بكر) من أتقى الأتباع وأشدهم تعلقاً بالنبي وأسبقهم للإسلام وهو أشبه بعلي بن أبي طالب من حيث حبه للنبي وكانت له ابنة صغيرة اسمها عائشة فكإن جل قصده أن يمكن علاقته بالنبي بتزويجه ابنته وكانت في السابعة من العمر إلا أن عوائد البلاد تسمح بذلك الزواج وبعد الإلحاح صارت تلك الآنسة الصغيرة في مصاف الزوجات الطاهرات. وبعد مدة من وصول المهاجرين إلى المدينة حدثت مسألة تدل على حال المعيشة العربية في ذاك الزمن وكل من عرف العرب وعرف أنهم أهل أنفة وحرب وأثار يتيسر له أن يدرك سر هذه الحادثة وهي أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني كانت له ابنة اسمها حفصة فقدت زوجها في غزوة بدر وكانت صعبة المراس وصعبة المزاج كأبيها لذلك كان يتجنبها الصحابة ويكرهون التزوج بها فكان هذا كاللوم والتوبيخ عند أبيها وليدفع عن نفسه ذلك عرضها زوجة على أبي بكر فأبى ثم عرضها على عثمأن فأبى فذهب مغضباً إلى النبي ليشكو إليه ما لحقه من العار فكان لا بد من إرضائه وتستكين غضبه بحل هذا النزاع وأسبابه الواهية من المضحكات لكنه كان كافياً في ذلك الزمن لإشعال نار الفتنة بين المؤمنين وهم في أول أمرهم فتدارك النبي ذلك وسكن غضبة عمر بتزوجه ابنته وهكذا أرضى أصحابه وأصلح ذات البين. ومن زوجاته هند أم سلمة وأم حبيبة وزينب أم المساكين وهن أيضاً كن أرامل ذهبت عداوة قريش بمن يعيلهن وامتنع قرابتهن عن مساعدتهن أو لم يكونوا أكفاء قادرين. وكان النبي زوّج صديقه ومولاه زيداً سيدة اسمها زينب تنتسب لبيتين من أشرف بيوت العرب فلفخرها ونسبها وربما بجمالها أيضاً كانت تغتاظ من زواجها بمولى من الموالي وربما زاد الطين بلة تكرار زينب في حال مناسبة كليمات كان قالها النبي وقد زار زيداً ورآها مكشوفة الوجه وهي (سبحان الله العظيم سبحان الله مصرف القلوب) - جملة يقولها

اليوم كل مسلم يرى صورة جميلة - وكانت زينب كثيراً ما تكرر أمام زوجها هذه الكلمات التي قيلت في الإعجاب الطبيعية لتريه أن جمالها أعجب الناس حتى النبي. ولما عيل صبر زوجها زيد عزم أخيراً أن يطلقها فذهب إلى النبي ليظهر له فقال له النبي (مالك أرابك منها شيء؟) قال (لا والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ولا رأيت إلا خيراً) فقال له النبي (أمسك عليك زوجك واتق الله) إلا أن زيداً لم يطع الأمر الشريف فطلقها فأغتاظ النبي من عمله خصوصاً وهو الذي خطبه عليه وزجه بها وبعد نجاح زينب في الخلاص من عصمة زيد قامت تلح في التزوج بالنبي ولم ترجع حتى تشرفت بأن تكون في عداد زوجاته. وللنبي امرأة أخرى تدعى جويرية ابنة الحارث سيد بني المصطلق كان في غزوة لإخماد ثورة قامت بها عشيرتها ورضي منها من أسرها أن تفتدي نفسها بفدية تقدمها له فسألت النبي هذا المال فأعطاها اياه حالاً فاعترافاً بفضله عليها وشكراً له عرضت نفسها عليه فرضيها زوجة وحالما عرف المسلمون هذا الارتباط الجديد قالوا فيما بينهم أن بني المصطفق صاروا من ذوي قرابة النبي فيجب علينا أن نكرمهم ونعاملهم بما هم أهله وهكذا عفوا عن الأسرى حتى بارك هذا الزواج السعيد مئة أسرة أطلقت من الوثاق. وكانت صفية اليهودية ممن أسره المسلمون في غزوة خيبر فأعتقها النبي وكرمها بالتزوج بها. ومن زوجاته ميمونة وهي من ذوي قرابته تزوجها في مكة وكانت فوق الخمسين من العمر وهذا الزواج أكسب الإسلام رجلين مشهورين هما العباس وخالد بن الوليد قائد قريش في وقعة وقاهر الروم. وهكذا كان حال زواج النبي ومن الممكن أنه تزوج بعض الأحيان ليرزق ولداً لأنه لم يكن من الآلهة وربما شعر بالميل الطبيعي إلى ترك وارث من بعده وقد يكون أحب التخلص من اللقب الذي لقبه به أعداؤه ولكن إذا نظرنا إلى الحقائق كما هي نرى أن الزواج المتعدد نشأ عنه من المنافع زيادة على ما ذكرنا ميل لائتلاف القبائل المتعادية واجتماع كلمتها. ومما يجب ذكره أن عادة الأخذ بالثأر كانت شائعة في الجاهلية وهي أضعف القبائل ولم يكن إذ ذاك بيت ليس له ثارات أو عليه ثارات تقتل فيها رجال وتستحي النساء. ولما قام موسى وجد هذه العادة شائعة في قومه أيضاً (كما تشيع في الأمم إذا كانت على درجة من

العمران مخصوصة) ولما ينجح في أبطألها أباحها إلا أن النبي محمداً كان أشد إدراكا للدواء الذي يجب استعماله فربط القبائل المتنازعة بعضها ببعض كما ربطها برباط الزواج وعند حلول أجل البعثة وقف على عرفات وصرح بأبطال هذه العادة الجاهلية. إلا أن خبث أعداء يجورون في أحكامهم ويتعصبون لأوهامهم شوه عواطف حملت محمداً على تعدد زوجات كن أرامل ومستضعفات لولاه لنبا بهن المربع ولجفت قلوبهن من حرارة الجوع على أن هذه العواطف أباحها الأنبياء السابقون. وربما عد الغربيون اليوم عادة تعدد الزوجات شراً محضاً وليست هي بالمحرمة فقط بل نتيجة شه وفساد وكاني بهم قد نسوا أن هذ1هـ العوائد كلها هي نتيجة المحيط وابنة الحاجة وإن كبار الأنبياء من اليهود وهم مثال الكمال في المذاهب السامية أجازوا تعدد الزوجات واستعملوه إلى حد يعد في نظر المعاصرين نهاية الفساد. والغالب أن يقال أن الواجب على النبي لا يخضع لأي ضرورة تضطره إلى مدح عادة سيئة كهذه أو لأباحتها وأن الواجب عليه تحريمها بتاتاً فالمسيح غض الطرف عنها ولم يتعرض لها. لكن من أمعن النظر يرى أن هذه العادة مثل كثير غيرها من العوائد ليست شراً محضاً والشر كلمة نسبية لأنه قد تكون عادة من العادات مباحة في أول الأمر تقبلها مبادئ الأفراد والجماعات إلا تقدماً في أفكار الأمة تغيراً في أحوالها ربما يجعل هذه العادة مضرة حتى تمنعها الحكومة بعد حين. أما أن الأفكار تترقى فهو من المسلمات وإما أن العوائد والأعمال تتوقف على ترقي الأفكار وأنها إما أن تكون حسنة أو سيئة بحسب الأحوال و (روح العصر) فهي حقيقة يجهلها أهل الأفكار السطحية كثيراً. بيروت عبد الرحمن شهبندر

الكنى والألقاب

الكنى والألقاب جرى الاصطلاح في الأسماء على تقسيمها إلى علم وهو ما علق على سيء بعينه غير متنأول ما أشبهه ولقب وهو ما أشعر بمدح أو ذم وكنية وهو ما صدر بأب أو أم. وقد ولع العرب بالكنى والألقاب ولعاً غريباً حتى صاروا يكنون الطفل والعقيم بل الوحش والطير بل الجماد والمعاني كما ستراه. من أعظم مقاصد الكنى في الأناسي خشية مبادرة اللقب السيئ على لسان عدو أو ماجن فيلصق بالمرء لصوق الجرثومة في المنيب الوبيء وفي أثر (بادروا أولادكم بالكنى أن تغلبهم الألقاب). ومن مقاصدها فيها تعظيم المكنى وتوقيره فقد فطرت الأنفس على كراهة خطابها باسمها ومشافهتها به. وأما في غير الأناسي فلقصد التوسع في باب الأعلام والتفنن في الأوضاع والازدياد من المعاني. ولم تك كنأهم تخلو عن نكتة وسر في وضعها أي ملاحظة معنى بإزائه يكون الوضع كما قالوا في أبي لهب كني به لجماله لأن اللهبة البياض الناصع وأوثر في التنزيل الكريم أما لشهرته أو للتعريض بكونه جهنمياً وكما قالوا للضبع أم لأنها ترسم الطريق لا تفارقه وأم المثوى لصاحبه المنزل والأمثلة يطول تعدادها ويسهل تعرف أسرارها من معاجم اللغة المطولة. وما برحت الكنى والألقاب أخذة في الأعلام دوراً هاماً في الجاهلية والإسلام سيما في قرونه الوسطى فقد نسيت بسببها كثير من الأعلام لغلبتها عليها ولقد رأيت من يخفى عليه مثلاً اسم الأمام أبو يوسف أو القاضي أبي الطيب ونحوهما ممن اشتهر بكنيته فنسي اسمه لذا سنح لي أن أبين قاعدة للمتقدمين نوع الكنى والألقاب تنكشف بها معرفة الأعلام مما اصطلح عليه أولئك وجرى على المؤرخون. فمن الكنى أبو اسحق كنية لمن اسمه إبرأهيمتأسياً باسمي الخليل وابنه عليهما السلام أبو إبرأهيملمن اسمه إسماعيل. أبو الحرث لليث وأرسلان. أبو الحسن لعلي. أبو داود لسليمان. أبو الدر لياقوت. أبو زكريا ليحيى. أبو سليمأن لداود. أبو الشكر لأيوب. أبو الصبر له أيضاً. أبو الطيب لطاهر. أبو العباس لأحمد وخضر. أبو علي للحسن والحسين. أبو عمرأن لموسى. أبو الفضل لجعفر وللربيع وليحيى. أبو الفتح لنصر. أبو القاسم لعلي ومحمود. أبو محمد لعبد الله. أبو محفوظ لمعرف. أبو المعالي لعبد الملك. أبو مروان له أيضاً. أبو المسك لكافور. أبو الميمون لمبارك. أبو المنصور لظافر. أبو الوقت لعبد الأول.

أبو هريرة لعبد الرحمن. أبو يحيى لزكريا. أبو يوسف ليعقوب. ومن الألقاب للمتأخرين. سيف الدين لغازي. شمس الدين لمحمد. شهاب الدين لأحمد. صلاح الدين ليوسف. عماد الدين لإسماعيل. هذا ما غلب من الكنى والألقاب واشتهر في تلك الأسماء وقد يكون لها كنى وألقاب أخرى. وقد يكون للمرء عدة كنى كما تراه في قولهم ذو الكنى وقد يشتق للمرء من معنى اسمه له إشارته أو حاله (أبو الطيب) لمن اسمه طاهر لما بين الطيب والطهر من التناسب وكذا (أبو السرور) لمن اسمه عيد. وأبو الجود للسخي. وأبو مطاع للأمير. وأبو الغارات للمجاهد. وذو القرنين لعظيم الملك. وقد لا يكون لشيء من ذلك كما حدث في عهد منح الألقاب المضافة لذوي السيطرة من أجيال والمضافة للدين وقد أشار للثاني الأديب الخليع عبد الرحمن المسجف الملقب ببدر الدين من رجال فوات الوفيات (مدفون في بستانه بدمشق قرب المزة وأمام قبره المحجر قبة يجري عندها نهر تظن أهل القرى هناك أنه من الأولياء وليس تحت القبة مزار) في قوله: قالوا تلقب بدر الدين مفتخراً ... نجل الجنوبي من قد زين الأمنا فقلت لا تعجبوا منه فذا لقب ... وقف على كل نجس والدليل أنا وقد يكنى الرجل بأكبر أولاده أو بأشهرهم أو بأحبهم إليه وقد يكنى بابن أخيه كما كنيت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بأم عبد الله وقد يكنى الرجل بما يقوم عليه ويعرف به كأبي الرجال لمن تربى عنده النجباء مجازاً ولمن له عدة أولاد حقيقة وبما ظهر فيه من اليمن والخير كأبي البركات وقد وضع كثير من الألقاب والكنى علماً برأسه في العصور الأخيرة كبهاء الدين وصلاح الدين وأبي الخير وأبي بكر ولا حجر في ذلك إلا أن القرون الأولى كان لأسمائها نوع نظام سهل به وضع نظام بإزائها لألقابها وكناها مع ما شف عن أدب مع الأئمة الأعلام فإن من رعاية الكبير وقدره قدره وضع لقب له يعرف به. نعم لكل عصر مظهر ولكل دور طور ولكن باب الأدب مع الأعلام لا يغلق على الدوام. قلنا قد بلغ من شغف العرب بالكنى أن وضعتها للطير والوحش والجماد والمعاني لما ملئت به أسفار اللغة من ذلك فمن ذلك أبو الحباحب لدويبة تظهر ليلاً صغيرة يخيل أنها نار. وأبو الحصين للثعلب. وأبو جعده للذئب. وأبو براقش لطائر فيه ألوان. وأبو فراس للأسد.

وأبو حفص له أيضاً. وأبو قبيس لجبل بمكة. وأبو الأبيض للبن. وأبو الأثقال (الحملات) للبغل. وأبو الأخضر للريحان. وأبو حيان للفهد. وأبو أيوب للجمل. وأبو بحير للتيس. وأبو حماد للديك. وأبو حميد للدب. وأبو حيان للفهد. وأبو خداش للنسور. وأبو صابر للحمار. وأبو شجاع للفرس. وأبو طالب له أيضاً. وأبو طأمر للبرغوث. وأبو عاصم للزنبور. وأبو العوام للسمك. ومن المعاني أبو مالك للهرم. وأبو أسعد له أيضاً. أبو مرحب للظل. أبو زيد للكبر. أبو عمرة للفقر وسوء الحال والجوع. قيل لأعرأبي أتعرف أبا عمرة قال كيف لا وهو متربع في كبدي. ومن الأمهات أم القرى لمكة المكرمة. أم قشعم للمنية. أم الرأس لأعلى الهامة. أم الدماغ لجلدة الرأس. أم جابر للخبز. أم سويد للأست. أم الهدير للشقشقة. أم الطعام للمعدة. أم النجوم للثريا. أم خداش للهرة. أم شبل للبوه. وقد ألف في معرفة الكنى عدة مؤلفات منها كتاب أبي العباس الأحوال ولم يتقدمه أحد في هذا الفن وألف ابن السكيت كتاب المثنى والمكنى والمؤاخى ولابن الأثير كتاب سماه المرصع. وعني المحدثون بهذا الفن وصنفوا فيه أيضاً منهم الأمام ابن المديني ثم الأمام مسلم ثم النسائي ثم الحاكم أبو أحمد - غير صاحب المستدرك على الصحيحين - وأبي الفضل الفلكي وأبي الوليد الدباغ وأبي الفرج بن الجوزي وآخرهم الحافظ ابن حجر وليت وأحداً منهم مثل للطبع ويالله ما نسي من العلوم وأسفارها. وللمحدثين تقسيم غريب باب الكنى أوصلها بعضهم إلى تسعة من سمي بالكنية ولا اسم له غيرها كأبي أبكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة بالمدينة من عرف بكنيته ولم يعرف له اسم كأبي مويهبة مولى النبي صلوات الله عليه من لقب بمنيته وله اسم وكنيته كأبي تراب علي رضي الله عنه اسما وأبي الحسن من لقب كنيتان أو أكثر كمنصور الفراري أبي وأبي الفتح وأبي القاسم من اختلف في كنيته كأسامة رضي الله عنه أبي زيد وقيل أبو محمد غيرهما من عرفت منيته واختلف في اسمه كأبي بصرة هو حميل (بالحاء مصغراً) وقيل جميل (بالجيم مكبراً) وكأبي هريرة قال القطب الحلبي في اسمه واسم أبيه نحو أربعين وأصحها

عبد الرحمن بن صخر من اختلف فيهما كسفينة مولى النبي عليه حكي في اسمه وكنيته اثنان وعشرون قولاً من عرف بالاثنين كأبي عبد الله سفيأن الثوري ونحوه مما لا يختلف فيهما من اشتهر بها مع العلم باسمه كأبي إدريس الخولاني عائذ الله دمشق أحد قراء المقتبس

تأثير العقائد والمقاصد في الأخلاق

تأثير العقائد والمقاصد في الأخلاق أن العلماء الذين وضعوا المطولة والمختصرة في تهذيب الأخلاق لم ينظروا إلى هذا البحث إلا من عرض فلا يعثر لهم على كلام يكشف القناع عن حقيقته ويجمع أطرافه وإنما ذلك لأن الحوادث والأحوال لم تتجه بهم إلى الدخول من هذا الباب ولقد رأيت العصر يستصرخ الحراص على أنتظام الأحوال ويتقاضى الكتاب القائمين على هداية الناشئة إلى سبيل النهضة أن يقبلوا عليه إقبال المغرم بالدنيا على استخراج الكنوز المدفونة وأن يبذلوا الجهد في إظهار ما خفي من أسراره ويسنفذوا الوسع في ما حجب من ذخائره. ولما رأيت أن الكلام فيه من جلائل الخدم التي يسع المنشئ أن يقوم بها لأهل العصر هزني الغرام بهذه المحمدية أن أتوفر ليلة على أنشاء مقالة أكلف المقتبس أن يحملها إلى قرائه المنبثين في الآفاق مع ما يحمل إليهم من أزاهره العاطرة وثماره الطبية الناضجة آملا أن تلاقي عند الشبأن الأدباء والناشئة النجباء ما يلاقي الزائر الكريم من الهشاشة وإكرام الوفادة في منازل الكرام وبيوت الكبراء وذلك بأن يكرموها بالمطالعة وتدقيق النظر فيما يترتب عليها من النتائج المفيدة بل من الأدوية الناجعة في شفاء أدواء الأخلاق إذا اندفعت النفوس لأتباعها وأحبت عليها. تعريف الخلق الخلق بضم فسكون والخليقة والفطرة والطبع والطبيعة والغريزة وما هو في معناها صفة باطنية تشبه الصورة الظاهرة فالكرم الذي طبعت عليه نفس زيد خلق يشبه ما ترى من الحمال في محياه والشجاعة التي فطرت عليها نفس عمرو بمنزلة ما ترى من طول قامته وامتلاء أعضائه. وقد اختلف أصحاب الحكمة الخلقية في قبول الأخلاق للتغير فمن قائل أن الأخلاق لا تقبل التغيير إلا متى صار الذئب حملاً والجمل برغوثاً ودليلهم أن الخلق الباطن مثل الصورة الظاهرة وهذه لا تقبل التغيير فهو كذلك لا يقبل التغيير ومن قائل أن الأخلاق تقبل التغيير فمن طبع على الشح تصيره بعض الأحوال أكرم من حاتم ومن فطر على الجبن فقد يقوم في خياله ما يحبب إليه الموت حتى أن الصورة الظاهرة في الإنسان تتغير تبعاً لحالة النفس كما يرى في وجه الغضوب والمنفعل والمسرور والكمد والخائف والمطمئن والخالي القلب والمهموم وإلا فأين هيئة من يتوقع العزل عن منصب عال من

هيئة من يبشر بالارتقاء إليه وأين صورة من يرزأ ظهيره من صورة من يلقى نصيره وهل من فر من بيته وقد تداعت جدرانه كمن دخل صرحه وقد كمل وتزويقه فإذا علمت ذلك تبينت أن الرأي إنما هو رأي القائل بقبول الأخلاق للتغيير وإلا فمن أين تعلم الدب الرقص وأي الرأي أن لم تحدث تغييراً في الطبائع تبدلاً في الغرائز. فإن كنت تريد أن تتعرف تصاريف الطبائع وأحوالها فلا بد من أمرين الأول أن تراقب ذلك في الناس وفي نفسك. والثاني أن تنظر إلى اختلاف العقائد وتبدل المقاصد في النفس البشرية حتى ينقلب الراغب زاهداً والزاهد راغباً والشجاع جباناً والجبان شجاعاً. تأثير العقائد العقائد مبادئ تقرر في ذهن صاحبها أنه يسعد بطاعتها ويشقى بعصيانها وأنه يهلك إذا خالقها وينجو أن أتبعها وترسم على لوح قلبه أن حفظها يكفل له خاتمة سعيدة وآخره حميدة وأن نبذها يدفعه إلى عاقبة شؤم ونهاية عذاب فهذه العقائد باطلها وحقها سواء من حيث التأثير في نفس المعتقد فمن استحكمت العقيدة في روحه هان عليه كل عزيز وغال في سبيلها فتحلو له نفس المرائر وتطيب له المكاره حتى إذا دعته إلى فراق الحياة لبى دعاءها فهذه أقاصيص الشهداء وأحاديث الأولياء تبسط أمامك من أثار العقائد الحية في الصدور ما تريك أفإنينه أن الأهواء البشرية أماء خواضع طوائع لملك الاعتقاد المتسلط على النفس وكم لك في سير الرسل الكرام من خطيب بأن لا سطوة في الكون على النفس إلا دون سطوة العقائد. وإذا ذكرت في النار كراماً لتمثال مولوك الذي أخذوه معبوداً يلجأون إليه. والهنود الأولى يرمون بأولادهم في النهر. أو أخطرت على بالك الشيوخ والعجائز الذين يأتون من أقاصي الأرض إلى أورشليم تبركاً بزيادة قبر المسيح غير مباليين بما يقامون من السفر ومكاره الغربة مع ما يستلزمه بعد الشقة من وفرة النفقة قطعت أن لا سيد للنفس البشرية إلا سيادة دون سيادة الاعتقاد. تأثير المقاصد وإذا راقبت الناس وعوامهم وخواصهم رأيتهم إلا قليلاً منهم يجورون على عقولهم ويغالطون حسهم ويكذبون عيونهم في سبيل مقاصد تحيك في نفوسهم فإذا كلفت أنفسهم بشيء أو مقتته يخال من يسمع كلامهم فيه أنهم قد فارقوا ألبابهم أو أن البابهم قد فارقتهم

فإن أحب أحدهم بلدة جعل الحسن مقصوراً عليها وقال سعادة الحياة لا تعرف إلا تحت جوها والتنزه لا يطيب إلا في كرومها وبساتينها وأن الظماء لا يسقى إلا بورد مائها وأن كرم الخلال لا يتعدى سكانها والتبحر في العلم لم يعهد إلا لعلمائها وأن الفصاحة لم تظهر بدائعها ولم تبد روائعها إلا على السنة خطبائها وشعرائها وإن رئاسة الصنائع قد انتهت إليها وأن الجود لم يضرب خيامه إلا في أرضها وبالجملة فإنها المخصوصة من بين بلاد الله كلها بأنها مجتمع المحاسن الطبيعية والصناعية وأنها الحرية بأن تستبد بمجد التفوق على كل بلدة في الأرض وإذا كره بلدة قال نسيمها يحمل نسم الأمراض وثمارها تورث الأسقام وحرها يذيب الأجسام وأهلها خبثاء لئام وعلماؤها أقل من صغار الطلاب علماً وخطباؤها أقل الناس عقلاً وأضعفهم تصوراً ليس لهم من مقتضيات الخطابة إلا الجراءة يبيع الخرز بسعر الدرر وينادي على النحاس كما ينادي على الذهب بل استغرب أمر من يعرض القطن ويقول هذا حريراً ثم والنحاس ذهباً. وأعلم أن تساوي البلدتين هواء وماء وأدباً وعلماً وتجارةً وزراعةً عند جميع الناس لا يرده عن قصر المحاسن عليها دون الأخرى إذا كان له من وراء مدحها غاية كما لا يردعه عن سلب كل حسن عن البلدة الأخرى وهكذا يفعل بهم الكلف والمقت في سائر الأشياء وأنل لترى أثر هذا الأمر في تلاميذ المدارس فقد يقوى قصد أحدهم تارة فتشد رغبته ويكثر تحصيله وقد يضعف تارة فتضعف رغبته في الطلب ويقل تحصيله وقد نرى في الطلبة من رسخ في نفسه فضل العلم فذلك لا يعتريه في طلبه ملل ولا يأخذه ضجر ولا يستطيل زمأن التحصيل وإن طال ويحسب الكتب مغاوض اللؤلؤ ومعادن الذهب. الخلاصة قصارى القول أن من أراد حمل الناس على محمدة فلا مندوحة له أن يزرع في نفوسهم يزور الانتفاع بها واكتساب الفائدة بتحصيلها حتى إذا تمكن تصور ذلك في أذهانهم أقبلوا عليها إقبال الناس لهذا العهد على ما يحب من الأزياء وعلي سبيل الاستطراد أقول أن من أراد الاقتدار على الترغيب وبلوغ الأرب فليقف أثار مخترعي الأزياء فهؤلاء هم أئمته العظام وشراحه الكرام وكل ما كتب الخطباء من التنبيهات لا يعدل بجزء مما يجري على ألسنتهم أو يصور في دفاتر أزيائهم فهؤلاء قد عرفوا الطباع البشرية وخبروا الأهواء

الإنسانية وقبضوا على مفاتيح القلوب وعرفوا طرق الوصول إلى امتلاكها فمثلهم مثل واعظ كلف أن ينهى النساء عن إتيأن المعابد بالزينة والروائح الطيبة فقال لقد شكا إلي واعظ البلدة انكن تأتين المعبد متطيبات وعلى رؤوسكن أنواع الزينة وأنه طال ما نهى عن ذلك فزادكن النهي تمادياً في الأمر فاجنبه أن لاحق لك في ذلك. فتعجب واستغرب وقال ما السبب قلت إلا أن الأدب يقضي على كل من تعلم أن رائحة فمها خبيثة أن تتعطر وتتزين حتى لا تؤذي جاراتها فما سمعت النساء هذا الكلام حتى صفقت كل واحدة تنزل ما على رأسها من أنواع الزينة حذر أن يظن أن رائحة فمها خبيثة ومن هجرن التزين والتخلق والتعطر واقتصرن على الذهاب إلى المعبد بالأثواب النظيفة فقط. فلو لم يكن هذا الواعظ فظنا ذا علم بما ركب في الطباع لذهب كلامه بلا فائدة كما ذهب كلام واعظ البلدة من قبل. بيروت سعيد الخوري الشرتوني

الميكروب

الميكروب الميكروب أصغر ما خلق عالم الأحياء جرماً وجسماً وأعظمها قوة وفعلاً. كان أولا يعيش ويتنفس على سطح المعمور منسابا بين المخلوقات دأبه دأب كل حي من إيجاد القوت والمكافحة للحياة والبقاء. ذلك أنه لا يترك جامداً يحتوي على بعض ما يصلح لغذائه إلا ويحلله مبدلاً حاله تبديلاً أو يمحوه فيجعله أثراً بعد عين وليس في الأرض حي من حيوان ونبات إلا وهو يتصدى له منازعاً إياه قوته وحياته. على أنه في ذلك يخدم بأنواع منه الحيوان ويقوم بوظيفية عظيمة الخطر كتحويل المواد الجامدة إلى غذاء يعيش به وكإصلاح أنفس المأكولات والمشروبات للإنسان بواسطة الاختمار وبأنواع أخرى منه يكون مفسداً ومخرباً. فإن أكثر آفات الزروع وضربات الأشجار وأمراض الحيوانات والبشر يكون الميكروب مسببها والفاعل الوحيد فيها. فهو لنا في الحياة رقيق غير مفارق ومجاور جابر أو جائر. وعلى هذه السنة مرت السنون والأجيال والإنسان تناله من الميكروب الضربات والنكبات ويتجرع السموم بصبر جميل من دون أن تتجلى له يد الجائر بل لم يخطر له ببال أو خيال بأن هناك عدواً خفياً يحمل إلى داء دوياً. وذلك بالنظر إلى الحيوان والإنسان خاصة. إما إذا أمعنا النظر وسما بنا الفكر ونظرنا في وظيفة الميكروب على وجه البسيطة نظراً عاماً بعد أن نكون قد اختبرنا وتوغلنا في الأحاطة بمنافع كل من أنواعه واحدة فواحدة تحار عقولنا لا محالة من حكمة مبدع الكون الذي جعل أصغر مخلوقاته وأنحفها يقوم بأعظم لتغذية وظيفة وخدمة في العالم. وناهيك بتحول جثث الموتى مثلاً إلى تراب وهذا إلى ما يصلح لتغذية النباتات وغيرها وكذلك إصلاح مياه البحور والأنهر من ازدياد الأملاح والأوساخ فيها التي تنافي حينئذ وجود الأسماك والحياة مطلقاً يتوقف كله على الميكروب. فلولاه لما حصل التعديل والموازنة بين الجامد والحي وتعطلت بينهما الدورة فتعذر خلود بل وجود بل وجود عالم الأحياء. والميكروب في فعله ذلك إنما يسعى لنفسه وبطلب الغذاء لحفظ حياته وخلود نسله. آراء الأقدمين في تولد بعض الحيوانات من دون والد لم يعرف الميكروب أناس قلائل من القدماء عرفوه بالظن والحدس فكان يخبطون خبط عشواء في أمر تولد الذباب والحشرات والدقيق من كل حيوان ونبات. وما كأن ذلك عن

في إدراكهم بل لأنهم لم يدخلوا المسألة من بابها ولقلة إطلاعهم فيها وقلة ما لديهم من الآلات والوسائط التي ساعدت المتأخرين على حلها. فيجدر بنا قبل أن نبحث عن هذه أن نذكر بعض آراء الأقدمين في تولد بعض الحيوانات والنباتات من دون والد. قيل أن أرسطو كتب في بعض ما دون كل جسم يابس ابتل وكل مبتل منه جف يولد الحيوانات الدقيقة. وينسبون إليه أيضاً الزعم بأن الديدان التي تظهر على بعض البقول في مزارعها لا تتكون إلا من تعفن الأقذار والأوساخ وتخمرها أعني السرجين الذي تصلح به الحقول والسماد الذي يخصب التربة. وكذلك تتكون البراغيث في التراب. وقرر الشاعر فرجيل بأنه قد يتولد النحل من أمعاء ثور جافة. وقال فلوطر خس بأن أرض مصر الكثيرة المستنقعات تتولد فيها الفيران والجرذان من دون والد. وفي القرن السابع عشر فإن هلمونتسا بأن الروائح الكريهة التي تنبعث من قعر المستنقعات تتولد منها الضفادع والبزاق والعلق وبعض الحشائش إلى غير ذلك من الحشرات والذباب التي فيها وكان على يقين في قوله فيزعم أنه إذا أخذ جرة وملأها قمحاً وسد فمها بخلق وسخ لم يمر على ذلك القمح أكثر من واحد وعشرين يوماً حتى بتحول إلى فيران. وهذه يكون منها ذكور وإناث تتزاوج وتتكأثر. ومن هذا القبيل كيفية تولد العقارب من الحبق فإن العالم المذكور كان يشير على أن من أراد التجربة أن يأخذ أجرة ينقر على إحدى جوانبها حفرة يملأ وها بمسحوق نبات الحبق ثم يأخذ أخرى يضمها إلى الثانية مغطياً بها حفرة الحبق فلا يلبث هذا مدة حتى يتحول إلى عقارب حقيقية. وقيل أن برز السماق يتحول إلى قراد الكلاب ودودة القز بزرها نباتي إلى غير ذلك من الآراء الواهية التي لم تبن على ملاحظات حقيقية. وهو مما يستغرب حقيقة من رجال كانوا أفراد زمانهم على حين هم من السذاجة والجهل على جانب ويتعرضون لحل أعظم المسائل الطبيعية كالتولد والحياة بنوع من القول لا يقبله العقل السليم. وكان ريدي الايطالي أول عالم فتح باب الملاحظة المدققة في مسألة تولد الديدان من والد وذلك سنة 1638 فإنه قال بأن الدود الذي يشاهد في اللحوم الفاسدة بنسج رقيق يمنع عنه الذباب فلا يعود يتولد فيه البتة. نعم إن هذا الرأي صحيح ولكن ريدي المشار إليه لم يتمكن من إقناع جمهور العلماء ولم يظفر بشرف الاكتشاف. لأن الفضل ليس لمن عرف الحقيقة

بل لمن اكتشف أحسن أسلوب وأعظم واسطة لإثباتها وإقناع العموم بها منطقياً حسياً فلم ينتج أدنى منفعة للعلم من هذا الاكتشاف ولم يتصد أو يتحزب له أحد بل دامت المجالات في مسألة التولد نحو مائتي سنة وهي في طور الحدس ولم يتقدم أكثر مما فعل ريدي. تغلب رأي التولد الطبيعي أو الحيوي عندما اخترعت النظارة المعروفة بالميكروسكوب أي نظارة الإجرام الدقيقة وسميت عندنا بالمجهر فتحت طريقاً جديدة للبحث في مسألة التولد المذكور وللحكم فيها حاسياً من بعد التحقق بالنظر بالعيأن فجرى التخالف والجدال بين القائلين بتولد الدقيق من الحيوان من دون والد أو طرائياًَ والذين لا يقبلون إلا بالتولد الحيوي الطبيعي مطلقاً فادتهم خاتمة كل بيضة من بيضة. فمن بعد اختراع المجهر طرحت المسألة هكذا: هل التولد الذاتي ممكن ومن أين تتولد الديدان والذباب وبقية الحشرات من الدقيق من الحيوان. فقال ندهام الإنكليزي: أن الرأي المشهور بأن الديدان حتى الفيران والعقارب وغيرها قابل للتولد من ذاتها طرائياً في المواد الآلية الخأمرة قد تبين غلطة واضمحل على أنه من انحلال تلك المواد وفسادها بتولد حقيقة ألوف من الحيوانات الدقيقة التي لا ترى إلا بالمجهر. فلا يقتضي أن ننكر أو نشك في هذه الحقيقة من أجل غلطنا وجهلنا في تلك. ثم قام بفون الشهير وتحزب لندهام المذكور وحامى عن آرائه فتغلب وقتئذ على الحيويين لأنه لم يكن بينهم كفوء لمقاومته. وفي سنة 1828 اكتشف اهرنبرغ نوعاً من الحيوانات في الماء والتراب لا ترى إلا بالميكروسكوب ما سماه بالانفروار وهي خلايا متفردة ومنفردة عن بعضها كل منها قائم بذاته وله جميع الخواص الحيوية أعني الإغتذاء والنمو والتولد. ومن بعده بثمان سنوات سنة 1837 أظهر شوان الألماني وكانيارد لاتور الفرنسوي كل من قبله ومن تعاط بينهما ولكن الأول أسبق - بأن الاختمار الذي يصل حيث توجد المواد الآلية هو فعل حيوي مختص بالخلايا أو الحيوانات الدقيقة لا يصل إلا بها ملازم لها ومتوقف عليها البسيطة التي الأوكسجين الذي يكون بمنزلة الغذاء للخلايا. فداع هذا الاكتشاف وصار قاعدة عليها بني رأي الحيويين فعلاً وطرحت القضية هكذا. هل أن الاختمار والتعفن وبعض الأمراض تفعلها الخملايا فعلاً حيوياً ناتجاً عن اغتذائها بشيء مما تتركب منه المواد القابلة للاختمار.

فأثبت شوان أحد المكتشفين المذكورين بأن جميع المواد المختمرة لا تخلو أبداً من الإجرام والخلايا الحية. ولدى الأمتحان صادق عليه أكثر العلماء. وأما المعارضون فإنهم لما يرون سبيلاً إلى انكسار الواقع سلموا بالقضية ولكنهم حأولوا وجود اختمار من دون الخلايا عندما زاحمتهم النتيجة كما سنبينه. دمشق سليمان غزالة

علو الهمة

علو الهمة أبى الله أن يسوم إلى قنن المجد ... ويعطى زمام الفخر إلا فتى الجد فتى لا يبالي بالنوائب والنوى ... ولو طوحته في حزون من الجهد فتى أن يكن بالشرق أمسى مقامه ... وفي الغرب مقباس بغاه على البعد وأطلق للشوق العنأن فأوجفت ... صوافنه في السهل والغور والنجد تجوب الفيافي معنقات كانها ... قطار بخار هاج من سورة الحقد فسار يباري الريح يبغي عدوه ... وفي قلبه نار الضغينة في وقد فلما رأى عجز الجياد وهاجه ... لواعج في الأحشاء من قبس الوجد دعا قائد الشمس اتئد وأروم زورقاً ... إلي فآتيها ورهطي أو وحدي فهذى الجياد الصافنات أكلها ... سراها على الآكام والحزن والوهد لعلي أقضي ما أورم من المني ... فارجع كالسيف الجزار إلى التغمد كذا فليكن هم الرجال وحزمهم ... وإلا فموت أو رجوع إلى المهد فليس ينال المجد إلا بهمة ... أشد مضاء من شبا الصارم الهندي ومن لم يرو النفس من آجن المنى ... ويقذف بها في هوة الجهد والكد فما هو يوماً للمعالي بصاحب ... ولا مالكاً ماما عاش ناصية المجد ولا نائلاً من دهره ما يرومه ... ولا لحياض المكرمات بذي ورد وما المجد إلا همة إن تمثلت ... تزلزلت الأفلاك منثوة العقد فلا أن تبغ أن ترقى إلى ذروة العلى ... ولم تركب الأهوال نصاً على وخد فترجع عنها كاسف البال مخفقاً ... تمر بك الأطيار تحسناً بلا سعد وهل يخطب الحسناء من ليس قادراً ... على مهرها ما ذاك من عادة الجعد فمن شاء أن يولى السعادة فلتكن ... له الهمة القعساء رائدة القصد ويتخذ التقوى شعاراً ومذهباً ... إلى مورد الرضوان والمسرح الرعد فمن يجعل التقوى صوى لفعاله ... فما يوماً بالمزيغ عن الرشد ومن عدم التقوى أناحت بصدره ... كوارث أشجان من الصلد وليس التقى ثوباً تقادم عهده ... وما لبسه زاهدا يعد من الزهد ولا أن يرى بين المصلين ساجداً ... ومذهبه إلا ضرار دأب الفتى الوغد

ولكنما التقوى فؤاد مطهر ... سليم من الآفات أشهى من الزند به قد رعى سرح الوئام وبددت ... كتائبه سرح الشقاق هن الورد فإن رمت أن تحيى برغد من المنى ... بدنياك والأخرى مطيراً من الرفد فجد لخير وأجهد النفس حقبة ... من الدهر تبلغ منتهى شعف الحمد بيروت صطفى سليم الغلاني

اليونان

اليونان معربة من كتاب تاريخ الحضارة العناصر اليونانية صورة هذه البلاد - أرض يونان من الأقاليم الضيقة (هي 57000 كيلو متر مربع) لا تكاد مساحتها تزيد عن مساحة سويسرا ولكنها بما فيها من اختلاف الأهوية وما يتخللها من الجبال ويتقسمها من الخلجان أقليم غريب في شكله خلق ليؤثر تأثيراً كبيراً في أخلاق ساكنيه. وتقطع أرض اليونان من وسطها سلسلة من الجبال (البند) فيناوح الجبل فيها جبلا مثله ويقوم الصخر إلى جانب الصخر حتى يعلو عن سطح البحر ستمائة متر كانه حصن أحاطت به سلاسل عالية وعرة مثلجة تنزل في البحر على خط قائم وتمتد الجزر على طول الشاطئ وما هي إلا جبال مغمورة يمر رأسها فوق الماء. وتقل في الأرض ذات الوهاد والنجاد التربة الزراعية وتكاد لا ترى حيثما ألقيت ناظرك غير صخور جرداء مرداء أما الأنهار فتشبه سيولاً ليس فيها غير طريدة ضيقة من التربة المنبتة بين مجراها ونصفه جاف وبين صخور الجبال الجرداء. وكان في هذه البلاد الجميلة بعض غابات وأشجار سرو وغار ونخيل وكروم غرست في مواضع من التلال ولكن قلما أتت بغلات جيدة أو بمراعي خصبة. فبلاد هذا شأن طبيعتها ينشأ أبناؤها ممشوقة قدودهم قوية أجسادهم قانعة نفوسهم. البحر - تعد بلاد يونان من البلاد الساحلية وهي أصغر من إلبرتغال وشواطئها تكاد تقرب من شواطئ اسبانيا بكثرتها ينساب فيها البحر من عدة خلجان ووقائع وتخاريم. ومن العادة أن يحيط باليم صخور تتقدم أو جزر تتقارب يتألف مرفأ طبيعي وهذا البحر أشبه ببحر لا مد فيها ولا جزر ولذلك سلمت شواطئه من الضرر وليس لونه كالبحر المحيط أبيض كامداً كثيباً وهو في العادة هادئ صاف ولونه كالبنفسج كما يقول هوميروس ولا أكثر استعداداً من البحر للسفر فيه سفراً قصيراً. ولقد نهب ريح الشمال صبيحة كل يوم فتسير بها قوارب مدينة أثينة نحو آسيا الصغرى قائمة مثل صخور الكمين وإذا صحت السماء تقطع السفينة المسافة وهي بقربة من اليابسة تراها كل حين. ولذلك كان لسكأن هذه البلاد من سكون بحرهم ومتشردين على نحو ما كان الفينيقيون فإنتشروا في العالم القديم

أجمع وجلبوا إلى بلادهم سلع مصر وبلاد الكلدان وآسيا واختراعاتها. هواؤها - لطف هواء بلاد اليونان حتى أن الجليد في أثينة لا يحدث إلا في كل عشرين سنة والحر معتدل في الصيف بما يهب عليها نسيم البحر وإلى اليوم لا يزال الشعب فيها ينام في الطرقات منذ شهر مايوأيارإلى أواخر سبتمبر أيلول والهواء فاتر جاف وكان يرى على بضعة فراسخ في القلعة المطلة على أثينة ريش تمثال بالاس وليست دوائر الجبال القاصية مستورة بالضباب كما هو الحال عندنا معاشر الفرنسيس بل أنها تنحل بأسرها في السماء الصافية. هذه البلاد بجمالها تدفع المرء أن يتخذ الحياة عيداً فيرى كل شيء يبسم حوإليه فمن نزهة في الحدائق بالليل واستماع أصوات الصراصير ومن الجلوس في ضوء القمر والضرب بالشباب وقصد الجبال للشرب من مائها واستصحاب أنراح وشربه على النغمات والأغاني وقضاء الأيام في الأيام في الرقص هذه هي ملاذ اليونان وما هي إلا ملاذ جيل من الناس فقير مقتصد فتي لا يعرف الهرم أبداً. بساطة العيشة اليونانية - لا يتعب المرء من حرارة هذه البلاد ولا يشقى ببردها بل يعيش في الهواء الطلق مسروراً قليل النفقة ولا تقتضيه البلاد غذاء غريزاً ولا ثياباً ثقيلة ولا داراً مرفهة. فقد كان اليوناني بتبلغ بحفنة من الزيتون وسمك السردين ويلبس نعلاً وقميصاً ورداء كبيراً. وكثيراً ما يخرج حافياً مكشوف الرأس وداره بناية منيعة ليست من المتانة بحيث يدفع اللصوص عن دخولها بثقب حائطها ولا له الأثاث غير وبعض لحف وبضع أوان جميلة ومصباح وكأنت الجدران خالية من الزينة مبيضة بالجيرالكلس ولا يأوي إلى الدار إلا آونة النوم فقط. بلاد اليونأن الأصلية أصل اليونان - كان أصل الشعب الساكن في هذه البلاد الجميلة الضيقة النطاق من الجنس الآري أنسباء الهنود والفرس جاؤا مثلهم من أجيال آسيا. ولقد نسي اليونان تطواف أجدادهم الطويل فكانوا يقولون أنهم ولدوا من التراب كالصراصير. بيد أن لغتهم وأسماء أربابهم لم تترك مجالاً للشك في أصلهم. وكلن اليونأن الأول كسائر الآريين يقتاتون باللبن ولحوم القطعان ويسيرون مدججين بأسلحتهم وهم أبداً على قدم القتال ينضمون قبائل وفصائل تحت أمرة بطاركتهم.

أساطير - جهل اليونان أصولهم كسائر الشعوب القديمة فلم يكن لهم علم بمنشأ أسلافهم ولا بالزمن الذي توطنوا فيه أرض يونان ولا بشيء من أخبارهم وأعمالهم فيها. وإن حفظ ذكر الحادثات الطارئة كما وقعت ليتوقف على أعداد الأسباب لها ومن أسبابها الكتابة. غير أن اليونأن لم يعرفوها إلا حوالي القرن الثامن (ق. م) ولم يكن لهم واسطة لحساب السنين ثم اتخذوا بعد طريقة حساب السنين اعتباراً من المهرجأن العظيم الذي كانوا يختلفون به في أولمبياد كل أربع سنين وتدعى هذه المدة الفترة الأولمبية وقد وضعت الأولمبية الأولى عام 776 فتسلسل تاريخ اليونان منذ ذاك الحين ولم يتصل بما وراء ذلك. ومع هذا فقد نقلت أساطير كثيرة عن هذه المدة الأولى في البلاد اليونانية وخصوصاً قصص قدماء الملوك والأبطال الذين كانوا يعبدونهم كانهم نصف أرباب وهذه الأقاصيص مشوبة بحكايات يتعذر الإلمام بما فيها من حق وصدق فقد ذكروا في أثينة أن الملك الأول المدعو سكر وبس كان نصفه ملكاً ونصفه حية وذكروا في ثيبة أن كاد موس مؤسس المدينة جاء من فينيقية للبحث عن أخت أوروبا التي خطفها ثور وكان قبل تنيناً وزرع أضراسه فنبت منها مقاتلة ومنهم تناسلت الأسرات الشريفة في ثيبة وزعموا في مدينة أرغوس أنه أصل الأسرة المالكة من بيلوبس وكان أعطاها المعبود زيوس كتفاً من العاج للاستعاضة عن كتفه التي أكلتها إحدى الأرباب. وهكذا كان لكل بلد أساطير يتلونها ويتنأقلونها وظل أبناء يونان يذكرونها إلى ما بعد ويثبتون لأبطألهم القدماء نصيباً من روح الربوبية مثل أبطألهم برسي وبيليروفون وهيراكليس وتيزي ومينوس وكاستورس وبول وكسي وميلميا كرس وأد نيس ومعظم اليونانيين بل أن الطبقة المنؤرة منهم اتخذوا هذه التقاليد حقائق لا نزاع فيها إلا قليلاً. تلقوها على نحو ما تؤخذ الحادثات التاريخية أخبار الحرب بين ابني أديبس ملك ثيبة وحملة الأرغون وت التي سافرت في طلب جزه الكبش التي قام بحراثتها ثورأن لهما أرجل من قلز تقذف النار من أفواهها. حرب طروادة - أشهر هذه الأقاصيص كلها حروب طروادة وهي أوسعها بياناً وتفصيلا فيرون إنه كان نحو القرن الثاني عشر مدينة غنية ذات سطوة اسمها طروادة وكأنت الحاكمة المتحكمة على شاطئ القارة الآسيوية فجاء أحد أمراء هذه المدينة واسمه باريس إلى أرض يونان وسبى هيلانة حليلة منيلاس ملك إسبارطة فاتفق اغاممنون ملك أرغوس

مع سائر ملوك وأنقذوا لحصار طروادة جيشاً يونانياً على أسطول مؤلف من ألف ومائتي سفينة فدام الحصار عشر سنين إذا كان الرب زيوس راضياً عن الطرواديين عاقداً النصر بألويتهم. ولقد اشترك مقاتلة اليونان كافة في هذا الحصار فقتل هكتور رئيس المدافعين عن حياض طروادة بيد أشيل وكان أجمل اليونانيين خلقة وأشجعهم نفساً وجر جثته حول المدينة. قاتل أشيل بسلاح ألهي وهبته إياه أمه ربة البحر ثم هلك بسهم أصابه في عقبه. حتى إذا يئس اليونان من الاستيلاء على المدينة بالقوة عمدوا إلى الحيلة فأهموا أنهم أزمعوا أنهم الرحيل وتركوا ورائهم حصاناً من خشب اختبأ فيه الجيش فأخذوا الطرواديون هذا الحصان وأدخلوه مدينتهم فلما جن الليل خرج القواد منه وفتحوا أبواب المدينة لليونأن فحرقت طروادة هذا الحصان وأدخلوه مدينتهم فلما جن الليل خرج القواد منه وفتحوا أبواب المدينة لليونأن فحرقت طروادة وذبح الرجال واستبعد النساء. ولما قفل زعماء اليونان من غزاتهم هبت عليهم العاصفة فغرق بعضهم في البحر وقذفت الأنواء بفريق منهم إلى شواطئ بعيدة وكان من حظ عولس أكثر هؤلاء الزعماء جربزة ودهاء وأطولهم يداً في كيد المكايد أن قضى عشر سنين تتقاذف به البلاد حتى أدت به الحال أن فقد سفنه جمعاء ونجا من العراق برأسه. وبعد فقد كان الاعتقاد بحرب طروادة شائعاً في القرون القديمة شيوع الأخبار الثابتة. فزعم القوم أن غاية الحصار كانت سنة 1184 وحددوا مركز المدينة. وقد خطر للمسيو شيلمان من علماء الأثار سنة 1874 أن يحفر محل هذه المدينة فاقتضى له أن يزيل أنقاض عدة مدائن منضدة بعضها فوق بعض فعثر على عمق خمسة عشر متراً في أعماق طبقة من تلك الأنقاض على أثار مدينة حصينة استحالت رماداً وظفر في خرائب أهم تلك من تلك البنية بصندوق ملئ بالحلي من ذهب سماه كنز بريام. وكان ثمة نقش وكانت تلك المدينة التي ظهر سورها كله صغيرة وحقيرة وعثروا فيها على كثير من الأصنام الصغيرة الرديئة الصنع والوضع وهي تمثل ربة لها رأس بومة (وعلى هذه الصورة كان اليونان يمثلون الربة بالأس) ومع كل هذا ثمة دليل يقوم على أن هذه المدينة الصغيرة دعيت باسم طروادة قديما. ميسينيا - ورد في الأساطير اليونانية أن تملك اغاممنون الذي كان قائد الحملة اليونانية

على مدينة طروادة كانت عاصمته مدينة طروادة وأن زوجته قتلته عند عودته من هذه الغزاة بالقرب من قصره. ولقد عرف اليونان مكان ميسينيا لأنها كانت مأهولة إلى القرن الخامس قبل المسيح ولا يزال إلى اليوم حول الجبل سور من الصخور الضخمة مصفوفة بعضها فوق بعض بدون ملاط يلحم بين أجزائها وتحتها خمسة أمتار وكان اليونان يدعون هذا السور الحيطأن السيكلونية اعتقاداً منهم بأن الجبابرة سيكلون قد أقاموا بنيانها ورفعوا قواعدها. ويدخل إلى هذا السور باب علوه زهاء ثلاثة أمتار مؤلف من ثلاثة صخور هائلة وفوقها عمود بين أسدين منقوشين وهذا هو باب الأسود. ولما اكتشف شيلمأن سنة 1876 مدينة طروادة عزم أن يبحث عن قبر اغاممنون في ميسينيا وكان الحفر قد جرى فيها غير بعيد عن سطح الأرض فحفر شيلمأن في التراب حتى وصل إلى الصخر فلما كان على عشرة أمتار من العمق عثر على ستة قبور فيها سبع عشرة جثة مع كمية كبيرة من الحلي الذهبية وأساور وعقود ودبأبيس وتيجان وسبعمائة سفيقة ورقة ذهب وزهاء مائتي سيف وخنجر مع نضال مموهة بالذهب والفضة. وكان على وجوه بعض الجثث برقع من السفيقة وكانت هذه القبور على ما ظهر مدافن أمراء ميسينيا. ومنذ ذاك العهد اكتشف الباحثون في كثير من أنحاء اليونان أشياء كثيرة ومنها أواني خزفية وحلي تشبه خزف ميسينيا وحليها وقد عثر في بعض الأحيان بين هذه الدفائن على حلي مصرية من عهد الدولة التاسعة عشر فاستنتجوا من ذلك بإنه كان في يونان منذ الزمن العريق في القدم (بين القرن الثامن عشر والخامس عشر ق. م) ملوك أصحاب شوكة ويستصنعوا الأثار النفيسة وهذا ما دعي بالتمدن الميسيني. أشعار هوميروس - أن القصيدتين المنسوبتين للشاعر هوميروس وهما الإلياذة التي ذكرت فيها حروب اليونان ورجولية أشبيل أمام طروادة والأوذيسية التي جاءت فيها حوادث عولس بعد سقوط طروادة. هاتأن القصيدتان هما اللتان إذاعتا في أطراف العالم أجمع سقوط مدينة طروادة. وقد حفظتا قروناً دون أن يكتبا فكان المغنون الذين ألفوا الترحل يستظهرون أبياتاً طويلة منهما وينشدونها في الأعياد. وفي القرن السادس أمر أحد أمراء أثينة واسمه بيزيستران أن تجمع القصيدتان وتكتبا فأصبحتا بعد وما زالتا أبداً أجمل الآداب

اليونانية المعجبة المطربة. يقول اليونان أن مؤلفهما هوميروس كان أحد أبناء يونان من مدينة أيونية وعاش نحو القرن التاسع أو العاشر ويمثلونه على صفة شيخ ضرير فقير يهبط أرضاً ويصعد أرضاً وتنازعت سبع مدن شرف نسبته إليها تدعى كل منها أنها مسقط رأسه وقد وقع التسليم بذلك تقليداً بدون مناقشة فيه. وفي أواخر القرن الثامن عشر قام أحد علماء الألمان واسمه فولف وأبان بعض تناقض في هاتين القصيدتين أداه أن يجزم بإنهما ليستا من نظم شاعر واحد ولكنهما كتاب مؤلف من مقاطيع لشعراء مختلفين وقد حمل أهل العلم على هذه القضية حملات وهم بين مثبت لها ومنكر لها تماماً وظلوا مدة نصف قرن يتنازعون في وجود هوميروس أو عدمه وما زال فريق أهل العلم إلى اليوم على أن المسألة متعذر حلها. ومن المؤكد أن هذه القصائد قديمة العهد جداً وربما كانت من القرن التاسع. ألفت الإلياذة في آسيا الصغرى وربما تألفت من مجموع قصيدتين خصت أحدهما بحروب الطروادة وثانيتهما بحوادث أشيل أما الإذويسية فإنها على مجموع الإلياذة بعينه. اليونان على عهد هوميروس - يتعذر علينا أن نوغل في نوغل في تاريخ اليونأن إلى قرون بعيدة. وأشعار هوميروس أقدم مستند بشأنهم. ولما نظم الشاعر منظومته نحو القرن التاسع قبل المسيح لم يكن لبلاد اليونان إذ ذاك اسم يطلق على سكان اليونانية قاطبة فسمأهم هوميروس باسم قبائلهم الأصلية ويظهر أنهم كما وصفهم قد نجحوا منذ غادروا إلى آسيا فعرفوا حرث الأرض وبناء المدن الحصينة وتألفوا شعوباً صغيرة. وأطاعوا ملوكاً لهم وكان لهم مجلس شيوخ ودار ندوة وقد فاخر اليونان بحكومتهم واحتقروا الشعوب النازلة بقربهم لأنهم كانوا دونهم فدعوهم البرابرة. ولقد صرخ عولس بخشونة السيكوليس بقوله: (ليس لهم قواعد في العدل ولا أندية يتشاورون فيها وأفرادهم يحكمون نساءهم وأولادهم بالذات ولم يعرفوا الكتابة ولا النقود ولا تطريق الحديد وقلما كانوا يجرؤون على ركوب البحر وتجشم أخطاره ويزعمون أن الغول سكن جزيرة صقيلة.

المترجمات وحكم المترجم فيها

المترجمات وحكم المترجم فيها يتوقف النقل من لغة عربية شرقية على أمور منها أحاطة المترجم بالموضوع أحاطة تامة ومنها تمكنه من اللغتين التي يترجم إليهما أكثر من اللغة التي ينقل عنها وقد جرت العادة النقلة والمترجمتين في هذا اللسان قديماً وحديثاً أن ينقلوا بالمعاني كما ينقلون بالألفاظ والنقل بالمعنى أعذب وأسلس لأن المترجم ينشئ جملة على مناحيه ويؤلف كلامه بحسب تسلسل أفكاره والترجمة باللفظ أي نقل كل كلمة بما يرادفها في اللغة المنقول إليها هي من أشق الأعمال وقلما يجيد فيها إلا أفراد. ولذلك رأينا أكثر النأقلين يختارون طريقة النقل بالمعنى ولكن المرء يضطر في بعض الموضوعات إلى النقل بالحرف الواحد خصوصاً إذا كان المنقول عنه عالما كبيراً أو صاحب رأي ونحلة يحب النأقل أن يطلع من ينقل إليهم على فكر المنقول عنه على علاته بدون زيادة أو نقصان منه مخافة أن يصدق عليه المثل الطلياني القائل (المترجم خائن) وأي خيانة أكبر من نقل أقوال صاحب نزعة أو مذهب محرفة مهزعة وأن ينسب إليه ما لم يقله أو ينقص من أقواله ما له بذكره مأرب وربما لا تتشدد مرامي كلامه إلا بتلك الجمل أو المعاني التي لا يحفل المترجم بنقلها ولا يتعنى تصويرها من أجل هذا ترى أهل الأمانة من المعانين لصناعة القلم قد يحتفظون بما يكتب غيرهم وينقلونه لمجرد الإطلاع ولو أدى بهم إلى الخروج عن سنن البلاغة وخالف ما في اعتقادهم فكل ما يأتي به المترجم والحالة هذه لا يورده وهو مؤول عن مكانه من الصحة. ولو قصد النأقل ولاسيما في الصحف الدورية العلمية أو اليومية السياسية أن يعلق على كل فكر ينقله عن غيره أو يحذف كل جملة لا توأفق ما وقع في نفسه لضاع الغرض المقصود والوقت الثمين. وإذا فعل فيكون كمن حاول أن يحيل كل فكر إلى فكره وأن يبعث بأكثر المقاصد ينسخها على طريقته ويقضي على القارئ إذ ذاك أن يسمع نغمة واحدة تملها أذنه مهما كانت جيدة التوقع والتلحين ومن ثم ترجمت إلى العربية في زمن الخلفاء الذين كان لهم ولوع بالعلوم مؤلفات كثيرة كان الغرض من نقلها مجرد معرفة آراء أربابها ككتب النحل والملل والسحر والطلاسم فإن هذا مما لا يقول به أحد من أهل العلم. ولقد رأينا كثيراً من فحول العلماء ألفوا في الملل والنحل وذكروا رأي كل فريق مشفوعاً بأدلته ولم يتصدوا لنقد ذلك مع مباينتهم له اعتماداً على أن لرد تلك الشبه كتباً خاصة يرجع إليها من

يعنى بذلك.

سير العلم

سير العلم تربية الازدهار كان اختراع أحد الباحثين في كوبنهاغ طريقة لتربية الأزهار بواسطة المواد المخدرة فتنأول اختراعه هذا جماعة من أرباب الزراعة في فرنسا وأكملوه وطريقتهم أن توضع النباتات وهي جافة على طبقة من الرمل الناشف في صندوق يمكن إغلاقه إغلاقاً محكماً وعلق على غشاء الصندوق يلقي فيه الأثير من ثقب ليسد بسرعة وكلما تبخر الأثير ينزل إلى أسفل الصندوق ويغشي النباتات الموجودة فيه وبعد 48 ساعة ترفع النباتات وتجعل في بيت آخر في هواء بليل وتربى كالعادة فتزهر أكمامها وأزهارها بسرعة أكثر من سرعة النبات التي لا تربى على هذه الصفة يزهر ويورق في ثلاثة عشر يوماً على حين يقتضي لزرعه المعتاد سبعون يوماً ولا يأتي مثله وهكذا قل في سائر الأزهار. إعارة الكتب منذ سبع سنين أنشأ جماعة من الألمان في برلين خزانة كتب وغرفة للقراءة وهي تعير ليأخذوها إلى بيته ومحل عمله فكان مجموع ما أعارته في السنة الماضية ثمانين ألف مجلد استعاراً أكثرها الرجال وكان عدد القارئات واحدة في كل خمسة وعشرين مستعيراً ونصف أرباب الاستعارة عملة وربعهم من المستخدمين على اختلاف الطبقات وثلثا الكتب المعارة أدبية ونحو ربعها علمية ولم يفقد من هذه الكتب سوى تسعة. قالت المجلة الإفرنسية ومن الغريب أن هذه المكتبة تستجلب 529 جريدة ومجلة لفائدة قرائها على أنك لا نرى في مكتبة الأمة بباريز سوى خمسين من نوعها. الطالبات في إنكلترا أنشئت سنة 1868 في كلية كمبردج في إنكلترا مجالس يجتمع فيها النساء خاصة ليستمعن ما يلقي فيها من أصناف العلوم إذ تكأثر عدد المستمعات قضت الحال بأن ينشأ لهن بيوت يأوون إليها وكان حضورهن أولاً على سبل التسلية والشغف فأصبحن الآن كالرجال يتعلمن ويزاحمنهم في الحضور إلى تلك المدارس وصفوفها ويشتغلن في مكتبها التي فيها أربعمائة ألف مجلد وهي ثالث مكتبة في إنكلترا بضخامتها وأصبح القسم الخاص بهن من هذه الكلية الآن ينقسم إلى ثلاث جمعيات الأولى دينية والثانية أدبية والثالثة سياسية

وأعضاؤها من البنات وقد وصفت إحدى المجلات صورة اجتماعهن ومناقشاتهن وما يصرفن فيه من مفيد الأعمال كالرقص والسباق والألعاب المحللة وتمرين بعضهن على استعمال مضخات الحريق الحين تلو الآخر حتى إذا كبرن وصرن ربات بيوت وحدث أن همت النار لهن يستطعن إطفاء الحريق من أيسر السبل. الصحة في يابان قال رئيس أطباء الجيش الياباني في تقرير له أن يابان بلغت أرقى درجات التقدم فإن ثمانمائة ألف جندي الذين عادوا مؤخراً إلى بلادهم من ديار الحرب قد جرى على تطهيرهم على الأصول الصحية فكان الجندي ينزع ثيابه كلها ويضعها في كيس ويستحم في خأبية مملوءة بالماء الحار ثم يلبس قميصاً ويمشي قليلا في الشمس ريثما تدخل ألبسته في المستحم الخاص بها وكذلك تطهر أسلحته بأمرار بخار فور مول عليها وقد طهرت حتى الخواتم التي يلبسها الجنود وأعطوا أوراقاً مالية جديدة بدل الأوراق التي كانوا يقبضونها زمن الحرب مشاهرات لهم. وقد دامت هذه العملية 75 دقيقة لكل جندي وبهذا لم يجلب الجيش الياباني معه إلى بلاده أمراضاً وبيلة وأوبئة قاشرة كان يأتي بها الجنود معهم من ديار الحرب أيام كأنت الأمم لا تعتقد بالجراثيم والنسم. حياة العميأن الطبيعية ألف أحد العلماء براغ كتابا درس فيه أحوال العميان وحواسهم فقال أن حاستي اللمس والسمع تفيدان العميأن فائدة كلية لا كما يظن على وجه عام وليس ذلك لأن هاتين الحاستين قويتأن فيهما بل لأنهم يحسنون استعمالها والانتفاع بهما وحاسة الشم تهديهم لأمور لايهتدون إليها باللمس أما حاسة الذوق فيهم فلا تختلف عما هي عليه عند المبصرين وللأعمى حاسة سادسة وهي شعوره بالمصاعب والحوائل وهي حاسة مؤلفة من السمع واللمس وهو ذو ذاكرة قوية لأنه يقضى عليه أن يمرن نفسه منذ صغره على حفظ ما ينقل إليه يستظهر ما يسمعه في ليله ونهاره وهذا التمرين الدائم لذاكرته يمكنه من إتقأن الموسيقى. وقد ترى ذاكرته في الغالب من أعجب الذاكرات في البشر. الصدأ تبين من الكشف الأخير أن الصدأ يفعل فعلاً شديداً لم يكن من قبل معهوداً ففي إنكلترا

يخرب في اليوم ثمانية عشر طناً على طول خط حديدي واحد وفي أميركا يأتي بضرر أكثر من ذلك على السكك وقد كانوا يعالجون الصدأ بطلاء الحديد ولكن الباحثين الآن بحثوا في طريقة تقي الحديد من الصدأ فلا تفعل فيه المياه ولا غيرها من الرطوبات وقد وقفوا إلى إتقانها. الصلع اختلفت الآراء في الصلع فقال بعضهم بأنه حلمة طفيلية معدية وقال غيرهم أنه نتيجة بعض أمراض وأوجاع وارتأى آخرون بأنه نتيجة السهر في إجهاد العقل بأمور صعبة وعاقبة من عواقب الهموم والاضطرابات. وقد تبين لأحد أساتذة مدرسة الطب في دتروا من ولاية ميشيغأن الأميركية بأن الصلع يحدث من فساد استنشاق الهواء ولا يمكن التخلص منه إلا بإحسان استنشاق الهواء الجيد فإن الهواء الفاسد في الرئتين إذا لم يستنشق كما ينبغي يسري كما يسري السم في الدم ولا تكون تغذية بصلات الشعر إلا قليلة أو فاسدة. وقد جرب الدكتور المشار إليه هذه القضية في ألوف من الأشخاص فثبت له رأيه بالاختبار وقد جرب أن ينشق هواء نقياً لجماعة من الصلع أو المعترضين له فبعد أسبوع من استنشاقهم له من أعلى الصدر نشطت بصلات الشعر وأخذت في النمو ولم تأت على هذه العملية عشرة أسأبيع حتى صارت لهم شعور أثيثة. قالت المجلة التي نقلت هذا الخبر أنه انشق الكلاب والدجاج والحمام هواء فاسد ففقدت ريشها وشعرها. أندية الإنكليز زار أحد المفكرين أندية لندن فكتب عنها مقالة إضافية في إحدى مجلاتها كانت في الحقيقة وصف الحياة الإنكليزية واختلاف تغييراتها المتتابعة فمما قاله: الأندية مرآة صادقة تقرأ فيها عنوان القلب والإبدال الذي طرأ على الهيئة الاجتماعية والأخلاق على توالي القرون ولطالما مرت فيها أجيال من الناس ذكروها فذكرتهم وأقدم أندية لندرا النادي البحري الملوكي أسر سنة 1674 وأنشئ غيره في النصف الأول من القرن السادس عشر وأسس نادي طرف الغار سنة 1805 إلى غير ذلك من الأندية التي كان ولا يزال يختلف إلها العالم والمفكر والموظف والسياسي والبحري وأهل جميع الطبقات. بلاد الزنج

كتب المسيولوسين بوفا في مجلة العالم الإسلامي بحثاً وصف فيه سكان البلاد الساحلية من أفريقية ولغتهم وعاداتهم وذكر لمعة من تاريخهم وجغرافيتهم فمما قاله أن الشاطئ الشرقي من أفريقية كان معروفاً عند الملاحيين الفنييقين واليونانيين في البحر الأحمر وأن قد كانت له صلات تجارية مع الخليج الفارسي وعمان والشاطئ الغربي من الهند قبل الهجرة بزمان وقد ذكر بطليموس الجغرافي في القرن الثاني للميلاد جزءا من البلاد في جنوبي الحبشة سماه زانجير ثم دعي الزنوج النازحون منها بالزنج وهم يختلفون عن بقية الشعوب الأفريقية كالنوبيين والحبش بشفاههم المقلصة وأفواههم المفلطحة ثم كثر ذكرهم في تاريخ الإسلام في القرن الثاني بعد أن انتشر الإسلام بينهم ولم تكن العلائق بين بلاد الزنج والممالك الإسلامية مقصورة على جلب الرقيق منها بل إنه كان من تأثيرها دخول الإسلام إليهم ولم يكن انتحال العرب للإسلام ليغير شيئاً من نوع الصلات التجارية التي كانت بينهم وبين الزنج فبل البعثة المحمدية فدخل الإسلام إليهم على يد حمزة أخي الخليفة عبد الملك سنة 86 واستنتج الكاتب بأن عمان والخليج الفارسي كان لهما شأن عظيم في الاستعمار الإسلامي منذ القديم قال وقد تعاقبت الأسماء الكثيرة على هذه البلاد ومنذ عهد ابن بطوطة أخذ يزول عنها اسم بلاد الزنج ففي شمإليها شاطئ الصومال ثم السواحل وتعاقب الحكم عليها الترك فإلبرتغال فجماعة من أهلها مثل سلاطين مسقط وزنجبار وسنة 1890 تقاسمت كل من إنكلترا وألمانيا هذه البلاد فأخذت الأولى الساحل الشمالي والثانية الجنوبي فصارت زنجبار والجزائر الملاصقة لها في منطقة نفوذ إنكلترا. ويقدر نفوس هذه البلاد بزهاء مليون وخمسمائة ألف نسمة منهم مليون وأربعمائة ألف من الوثنيين والباقون عرب وإيرانيون وزنوج وأوربيون وقد أصبحت اللغة العربية والفارسية وبعض الألفاظ الإفرنجية وأصل لغتهم لغة البانتو وقد أرجعها الباحثون في اللغات إلى تقاسيم كثيرة فقالوا أنها 168 لغة و55 لهجة واللغة الساحلية مستعملة بين المسلمين خاصة بحيث أصبحت لغة التجارة في أفريقية الشرقية والوسطى. وختم هذا الفصل بقوله أن جوهانستون قال منذ عشر سنين أن اللغة العربية تضمحل في داخلية بلاد الزنج من زامبير إلى النيل الأبيض وأن اللغة الساحلية تقوم مقامها ولاسيما البادية منها. مداواة المسلولين

في إحدى مجلات كوبنهاغ بحث في معاملة ألمانيا والدينمارك للمسلولين قال كاتبه أن الألمان في مقدمة الأمم التي أشأت المستشفيات الكثيرة لمحاربة هذا الداء وتليها الدينمارك. ويقيم المسلولين في المصاح بالدينمارك. من عشر شهراً أما في ألمانيا فيقيمون ثلاثة أشهر ولكن المصأبين بهذا الداء في الدينمارك يشتغلون في المصاح أو المستشفيات أشغالا يستطيعونها وتدفع الحكومة تلك البلاد ثلاثة أرباع النفقات التي تنفقها هذه المستشفيات والربع الآخر تدفعه العمالات والولايات. علم الجراثيم كان من نتيجة البحث عن الجراثيم في الممالك الغربية أن أحدث فيها خوفاً من عاديتها على اختلاف أنواعها وسرى من ذلك إلى بلاد الشرق عدوى التخوف كما هو الأن في الغرب. وما يرح الأطباء يحذرون الناس من أخطار الميكروب على اختلاف أنواعه والحق معهم في ذلك فمن الضرورة تحذير الخلق من الأخطار التي تلحقهم من قلة العناية الصحية فإذا انتشر مرض الجدري لا بد للطبيب من أن ينصح بإعادة التلقيح ولكن ينبغي أن يلاحظ أن المسافة تختلف بين ما يقال له احتياط وبين ما يقال له خوف فالاعتدال مطلوب على كل حال وإنا لنرى أرباب المزاج العصبي يعيشون الأن في هلع دائم على حين كان الواجب عليهم أن يكتفوا بالحذر والاحتياط فبعضهم يقول ابتعدوا عن التقبيل وعقموا اللبن وغيره من المشروبات مخافة أن ينقل جراثيم السل إلى متنأولها وأن يبتعد المرء في مصافحة غيره لئلا يأخذ الجراثيم التي تكون نازلة على الجلد ويوصون أن لا ينزل المرء في سياحته في إحدى الفنادق لئلا يأخذ جراثيم مرض ينتقل إليه بواسطة الفراش واللحاف وعلى من اضطر أن يركب القطار أن لا يمس المخدات والمتكآت والستائر. وقد كثر التخوف من الميكروب حتى قام أحدهم في نيويورك واخترع آلة صغيرة وهي عبارة عن أنبوب صغير يحمله المرء تحت طرف ثيابه ويملأه بسائل مطهر فتمر بالعروة عقدة تناط بالأنبوب الصغير فتتألف منها آلة مبخرة فإذا تنهد قليلاً يبدأ التبخر فيستعمل المرء هذه الآلة على هذه الصورة كلما اجتمع في الشارع مع شخص كما يستعملها لتبخير كل ستار أو قطار أو دثار أو شعار أو جدار يشتبه في أمره. قالت الجلة الباريسية ولا يبعد أن يأتي يوم يبني فيه المهندسون بيوتاً ومساكن تكون بمأمن من الجراثيم الضارة

وقد بدأ القوم في أميركا يجربون تجربات من هذا القبيل بإنشاء غرف كلها من الزجاج ولا ينبغي الاستهزاء بهذه الفكرة فإن الطلبات متوالية في ذلك.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات دائرة المعارف الإسلامية ستصدر عما قريب دائرة المعارف الإسلامية التي ألفها هوت سما من أساتذة كلية ليدن بمعاونة جماعة من علماء المشرقيات مثل هوار وفو لرس وبرتولد وزترتستين وهور وفيس وبكير ومارسي وباسي وغيرهم من الهولنديين والفرنسيون والألمانيين والنمساويين والسويديين وقد ذيلت كل مقالة بتوقيع كاتبها على الأوروبيين في موسوعات العلوم عندهم وقرأنا في مجلات العلوم الشرقية ثناء كثيراً على هذا العمل النافع وتدقيق كتابها في المسائل التاريخية والاجتماعية والإسلامية. وإنا نعرف بعض من اشتركوا فب تأليف هذه الدائرة النافعة وهم متمكنون من آداب العرب وتاريخهم مطلعون على ماضي الإسلام وحاضره وما منهم إلا من طاف كثيراً من أقطار المسلمين وعاشر أهلها وأطلع على أحوالها. فلا جرم أن يجئ مما تخطه أناملهم مثال التحقيق وأنموذج الرواية والبعد عن الغرض. عرب سورية فقبل الإسلام المسيو دوسو عالم من أهل الإحصاء في سورية عرفناه منذ بضع سنين أيام رحلته الأخيرة إلى بلاد الصفا وهو يكاد اليوم يكون حجة بلغة الصفا وتاريخها. وكتابة الصفا لم تكن معروفة قبل خمسين سنة فحلها جماعة من علماء المشرقيات وانتهت الرياسة فيها لصديقنا دوسو واللغة الصفوية هي اللغة العربية وأهل الصفا هم أول النازحين إلى سورية وإن جاء بعدهم بعض القبائل إلا أن تاريخ أولئك قد عرف أكثر من غيرهم من أهل سورية الراحلين بما اكتشف من أثارهم ومصانعهم ونقوشهم المزبورة على الأحجار وقد كان عدد ما عثر عليه 1750 كتابة اكتشف نصفها المسيو دوسو والمسيو ماكر وهي مهمة من حيث الحياة الإسلامية ومما قاله فيه أنه ينبغي تصحيح الأفكار الشائعة والأغلاط التي يقع فيها بعضهم بشأن العرب فإن العرب ليست على إطلاقها من أهل الجزيرة العربية بل أن سكانها الرحالة في الجنوب من أصول أخرى وينبغي أن يطلق اسم العرب على سكان أواسط جزيرة العرب وشمإليها وعلى قبائل الرحالة التي تطوف في بادية الشام لأن هذه البلاد عربية صرفة وانتقل كل سنة يأتي هذه البلاد بقبائل من نجد وكل قبلة تعقد مع

القبائل الرحالة الأخرى عهوداً يسمونها خوة وتقضي بينها الربيع. والتنقل قديم يرد عهده إلى أوائل التاريخ المسيحي. قال أن الصفا غير قابلة للسكنى لأنها ذات براكين ولكن في جوارها بلاداً تسكن خصيبة ذات مياه قال فيها ياقوت الحموي أنها أصل البلاد الصفوية. وقال أن اللغة الصفوية هي إحدى اللهجات العربية وليست فينيقية. وذكر أن الأثار التي عثر عليها ذات شأن حيث علاقتها بالدين لأن المسلمين عفواً أثار الجاهلية الأولى فلم يبقوا منها أثراً وقال أن الصوفيين كانوا يذكرون اسم الجلالة قبل الإسلام وقبل أن يختلطوا بالرومانيين وأن العرب لم تفتح تلك البلاد عفواً بل أن اختلاطهم بالأمم المجاورة قبل الإسلام هيأ لهم سبل الفتح وأن الرومانيين لم يحأولوا أن يصدوا عرب البادية عن التنقل بل كانوا يعاملونهم بسلام لئلا تكدر كأس الراحة. ديوان الحافظ محمد حافظ أفندي إبرأهيممن أعاظم شعرائنا الأفراد نبغ في البلاغة فاستولى على غاياتها وله نمط خاص به في الانسجام وجودة التصوير في الموضوعات التي ينظم فيها معظم قصائده على حين لا يقع منها لغيره إلا الأبيات الفذة النادرة فشعر حافظ هو الذي تقرأ فيه روح العصر. شعرٌ شعر شاعره بحركة العقول والاجتماع فنظم فيه وأبدع. ومن أعظم حسنات حافظ في شعره أنه ينقحه ويشذبه فلا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً. فإن نظم في شهر قصيدة ينظمها غيره في يوم ولكن قصيدة الشهر تبقى وتخلد وبتنأقلها الناس ويستظهرونها وقصيدة اليوم تذهب بذهابه. وقد نشر الأن الجزء الثاني من ديوانه في 136 صفحة صغيرة ولكنها كبيرة النفع ومعظم ما فيه من قصائد اجتماعية في شؤون الأمة قال على لسأن اللغة العربية: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني ... عقمت فلم أجزع لقول عداتي ولدت ولما أجد لعرائسي ... رجالاً وأكفاء وأذت بناتي وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً ... وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني ... ومنكم وأن عز الدواء أساتي فلا تكلوني للزمأن فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي أرى لرجال الغرب عزاً ومنعةً ... وكم عن أقوام بعز لغات أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً ... فباليتكم تأتون بالكلمات أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياتي ولو تزجرون الطير يوماً علمتم ... بما تحته من عثرة وشتات سقى الله في بحر الجزيرة أعظماً ... يعز عليها أن تلين قناتي حفظن ودادي في البلى وحفظته ... لهن بقلب دائم الحسرات وفاخرات أهل الغرب والشرق مطرق ... حياءً بتلك الأعظم النخران أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً ... من القبر يدنيني بغير أناة واسمع للكتاب في مصر ضجة ... فاعلم أن الصائحين نعاتي أيهجرني قومي عفى الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواة سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسبل فرات فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت قي تلك الرؤوس رفاتي وإما ممات لا قيامة بعده ... ممات لعمري لم يقس بممات وقال في قصيدة عن غلاء الأسعار أيها المصلحون أصلحتم الأر ... ض وبتم عن النفوس نياما أصلحوا أنفساً أضر بها الفق ... ر وأحيى بموتها الآثاما ليس في طوقها الرحيل ولا الج ... د ولا أن توأصل الأقدما تؤثر الموت في ربى النيل جوعاَ ... وترى العاران تعاف المقاما ورجال الشآم في كرة الأرض ... يبارون في المسير الغماما ركبوا البحر جاوزوا القطب فاتوا ... موقع النيرين خاضوا الظلاما يمتطون الخطوب في طلب العي ... ش ويبرون للنضال سهاما

وبنو مصر في حمى النيل صرعى ... في بلاد رويت فيها الأناما يرد الواغل الغريب فيروى ... وبنوك الكرام تشكو الأواما أن لين الطباع أورثنا الذ ... ل وأغرى بنا الجناة الطغاما إن طيب المناخ جر علينا ... في سبيل الحياة ذاك الزحاما حياة الزوجين هو كتاب أدبي اجتماعي يشتمل على آداب حياة الزوجين وما يجب على كل منهما نحو صاحبه وعلى ما تضمنته أسفار الحكماء وأحكام العلماء وقد بحث فيه مؤلفه عبد اللطيف أفندي مصطفى في حالة البيوت والزواج المشروع المعقول ووصف اختلال أحوال الخطبة والتربية والعادات السافلة بعبارات تشف عن أدب وقد درس الموضوع في مظان كثيرة فجاء فيها مفيداً يشهد بالفضل لمؤلفه ويرجى منه عموم النفع. الدروس التهذيبية عرب أحمد أفندي فوزي هذا الكتاب المفيد عن اللغة الإنكليزية وهو على أسلوب في التأليف لم يؤلف في العربية يأتي بتراجم العظماء والعلماء بأسلوب حكاية ويستطرد إلى ذكر أعمالهم واختراعاتهم بحيث يتطلع القارئ إلى ما تنطوي عليه القصة فيتعلم الأفكار الصحيحة والحوادث التاريخية ويلم بسير المشاهير وأحوال الاجتماع والآداب بدون أن يتعب أو يمل كما وقع له في فصول الكتاب الجليلة مثل ضبط النفس وحياة معتدلة والمثابرة والشجاعة والاعتماد على النفس والتبصر والنظام والتواضع والصدق في العمل والحرية والبحث عن الحق واختلاف الآراء وغيرها. الكتاب موضوع لأطفال تختلف سنهم بين العاشرة والرابعة عشرة ونرى أنه يفيد الكبار من الرجال والنساء وحبذا لو حذا حذو معربه كل من يعرف إحدى اللغات الأوروبية فينقل إلى العربية كتاباً أو كتأبين في حياته في ضروب العلم والأدب زكاة عن علمه وحباً بنفع لغته وأمته. والكتاب في 350 صفحة صغيرة مطبوع طبعاً جيداً وثمنه فرنك واحد ويطلب من المكاتب الشهيرة فحث على اقتنائه. مجلة الأزهر أصدر محمود بك زكي مجلة بهذا الاسم وهي علمية دينية أدبية تهذيبية تاريخية تبحث في

المسائل وتدافع عن حق الأزهر وعلمائه وتصدر مرة كل اسب وعين وتحرر تحت ملاحظة بعض أكابر علماء الأزهر وقيمة اشتراكها ثمانون قرشاً وللأزهريين وطلبة العلم بأربعين وقد استبشرنا بهذه المجلة فلعل الأزهريين يتمرنون بعد الآن على الكتابة والتأليف فإن مدرسة فيها اثنا عشر ألف طالب حرية بأن تصدر باسمها مجلة تدون فيها أراء أهلها وأميالهم وزبده علومهم وإذا كان في هذه المجلة الآن بعض أمور تؤخذ عليها فإن كثرة المران على العمل تجود مع الزمن وما قط جاء عمل تأما من يوم البداءة به فنرحب بالرصيفة الجديدة ونرجو لها طول البقاء.

فجائع البائسين

فجائع البائسين (تابع ما قبله) - كنت وعدتني وأخلفت وعدك وهيهات أن تثبت عليه - أما قنعت وعذرتني؟ وأخذت تفكر مترددة أن تكلفه بالطلاق المشئوم الذي لا نود أن تسمع ذكره وهي تخاف أن لا يقبل فتخجل أو يطلقها حباً بها وهو لا يريد ثم قالت يستحيل أن أكون زوجة ثانية وأجتمع بأعدى عدواتي أو أتصور أن لي عدوة في حياتي ولذلك أرجوك أن تعذرني إذا أبيت أن أجيبك على سؤالك. - فإن كان ألمانع لقبولك وجود شهيرة فهي طالق ثلاثا فكوني على ثقة من أن اجتماعي بها مرة أخرى ضرب من المحال ما كان بودي طلاقها ولكنه سبق منك فأعدك بالقبول وقد عفوت عنك وسامحتك بما بدر منك ونسيت كل خطيئاتك - أشكر لطفك وإحسانك ولم يبق أمامنا من العقبات سوى فبول أبيك وإقناعه سأجد إليه وسيلة تضطره إلى أجابة الطلب. وهنا تعانقا وتفارقا على أمل اللقاء وأخذ سعيد يفكر بالسعادة ويؤمل بقربها وهيهات! هيهات! لأن السعادة الحقيقية مفقودة وقد يظن المرء أنه سعيد بالنسبة للشقي أو يتظاهر بالسعادة: (تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد) ولكن الأماني تجعل الإنسان يعيش في خيال السعادة فهذا سعيد ولد بالأمل وعاش بالأمل وسيعيش بالأمل وصار يسبح في بحور الخيال وأخذ يؤثر البقاء في فراشه على الذهاب إلى أحسن سمر ليفكر فيما ستصير إليه حاله. فبينما هو يفكر في خيالاته أتاه خبر وفاة ابنه مع أحد أقارب زوجته فطلب هذا منه أن يرسل يجهزه للدفن ولم يكن سعيد رأى ابنه فحدثته نفسه أن يرى صورته ولو كان ميتاً ليلتذ بالبكاء عليه ويقول إنه كان لي ابن فأرسل وطلب ذلك فوعده الرسول وذهب فأخبر شهيرة وأمها بما أراد فغضبا ونادتا بالويل والثبور قائلتين أن هذا لا سبيل إليه وأسرعتا بتجهيز الطفل وحمله إلى الجبانة فأتى سعيد فوقف قرب الباب المشئوم وأرسل خادمه ليطرق الباب فصاحت النساء وشتمته ولعنت الولد وأباه ودعتا الله أن يلحق الأب

بالابن فأدرك من ذلك الصياح أن الميت أرسل إلى الجبانة وسأل الجيرأن فأخبروه أنه أخرج وصلي عليه ثم أخذوه ليواروه التراب فذهب إلى المدافن فلم يجد سوى حملة الميت راجعين فسألهم عنه فقالوا أنه دفن وأجره على الله فأخذه البكاء وأسف أسفاً عظيماً. وبينما هو يكفكف عبراته أتاه طغمة الشحاذين فأحاطوا به فمنهم من يقول اسمعونا الفاتحة إلى روح الميت ومنهم من تسرع في تلاوة حزب من القرآن ومنهم من يقول أعطنا من مال الله وتصدق عن روح ابنك فما وسعه إلا أن شتمهم وكدرهم وطردهم ولكنهم استعملوا سلاحهم إذ أبت نفوسهم السب والشتم فأعطى خادمه ريالا وأمره بأن يصرفه قطعاً صغيرة ويوزعه عليهم على السوية تخلصاً من سلاطتهم وإلحافهم فتركوه ولحقوا الخادم وكادوا يضربونه فرمى الريال وفر أمامهم يعدو مسرعاً فإنقضوا جميعاً على الريال وأنشئوا يترامون بعضهم فوق بعض فجرح أحدهم وراح ينتقم من رجل برئ فقابله وانتصر عليه فأتى الشرطي وأخذ يضربهم بسوطه ففر بعضهم وقبض على الآخر فساقهم إلى المخفر وأخذ الخادم فلم يتركهم حتى أخذ منهم ما يرضي خاطره. طغمة الشحاذين في كل بلدة ضروب وأشكال وأكثرهم عدداً وأرقأهم في الشحاذة والتفنن في الإلحاح والإلحافكلاليب دمشق فلهم هناك رئيس يحكم على أعوأن له من كل حي من أحياء المدينة ومن وظيفة الأعوان أخبار الرئيس في أسرع وقت بموت ميت وتوزيع صدقة وهذا يعلم جميعهم فما هو إلا أن يصطفوا حول جدار الميت قبل المعزين ينتظرون خروج النعش ليمشوا حوله مهللين مكبرين بأنغام خاصة بهم فيمدون الكلام وينغمون بأشداقهم ويخرجون ألسنتهم. وللرئيس أجرة الأخبار يتقاضاها من كل فرد منهم حتى إذا دفن الميت يهجمون على أهله ويطلبون منهم أجرة التهليل والتكبير كانهم دعوهم وقالوا على أجرة معلومة وقد يسمعونهم ألفاظاً فظة ويحملونهم منة كان يقولون لا يليق بمن ورث مبالغ من المال أن لا يتصدق عن روح مورثه كانهم شركاء الوارث في ميراثه فيزيدونه غماً إلى غمه. ولما رجع سعيد من الجبانة وفكر بأنه خلص من أجرة الحضانة وحيل بينه وبين زوجه قوي أمله وشكر ربه على ما زال عنه من الغمة وذهب إلى زيارة الباشا على حسب عادته وأخبره بما وقع له فأسف هذا له ورق لحاله وشعر بلزوم حمايته لأنه هو ولي نعمته ولامه

على التأهل بهذه الزوجة ثم قال له: ينبغي لك أن تفتش على زوجة توأفقك - لا يخفى على سعادة الباشا أن سعادة الباشا أن رفيقي أخو زوجته هو الذي غشني بأخته وكان الباشا حينئذ متغيباً عن بيروت فلو كان هنا ما تزوجت إلا بعد استشارته ولآن أسعى في سبيل الزواج ولكني عزمت على ترك هذه المسألة لرأي مولاي - سأفكر لك بزوجة حسنة وأمر الخانم لتبحث لك عن امرأة تليق بك. فشكر فضله وقبل يده وبعد أن مكث هنيهة في حضرته أستأذن بالانصراف إلى داره ظلت جميلة وحيدة في المنزل وأخذت تفكر وتقول إلى متى وأنا في حرمان من الزواج؟ لست براهبة ولا يحظر علي التأهل وما يخيل لي أني أجد أحسن وأوفق من سعيد وحبي له شديد ولا أود أن أقترن بغيره فمن يطيق أن يمنعني من اتخاذه رفيقاً لي؟ إذا كان اعتقاد أبي بالمناصب والمواقع وهو لا يعلم أنه لا تمييز بين البشر بالفضائل ومكارم الأخلاق فأرادته لا تمنعني عن تذلك ولست لأمره طائعة على أن الشرع الشريف منحني حرية الزواج بعد البلوغ وها أنا ذا بلغت سن الرشد وطاعة أبي الذي ينكر الحقائق بضعف عقله وقلة علمه غير واجبة عندي إذا كان له أولد أعلم منه بمصالحهم وأعقل منه وأمثل في تدبير خصوصياتهم وأنا أعلم من أبي ولا شك بمن يصلح لي ولكن الأدب والكمال يضطرانه إلى أن يرضى عن زواجي ومن الحزم والعقل أن أسوقه إلى ما أتمناه ولكن كيف أصل إلى ذلك؟ وأخذت تفكر في وسيلة إلى تحمل أباها على أن يهم بزواجها من سعيد فجلست يوماً مع أمها وذكرت سعيداً وما قاساه من أمرأته وصارت إلى تمدح مكارم أخلاقه وتعظم مستقبله بعين أمها وتتمنى له زوجة ترتاح إليها نفسه وتطيب وكانت أمها تصدق ما تقوله حتى حمستها فقالت: إذا كان يريد الزواج فإنا سأسعى له. فتجاسرت حينئذ جميلة وقالت لو كان لي فكر في الزواج لما تزوجت سواه. وقصدت بهذه العبارة استطلاع رأي أمها فقالت هذه نعم وأنا أوأفقك على أفكارك ولكني ما زلت استغرب امتناعك عن الزواج وقد فات أوانه وانقطعت الرغبات فيك وأنت على تصوراتك الغريبة؟ - أتدرين متى أرضى بالزواج؟ متى وفقت لكفؤ يقوم بضروراتي ويعرف قدري ولا يتزوجني إلا من أجل فضيلتي وأنت تعلمين أن الذين طلبوني حتى الأن لم يقصدوا مني إلا الانتساب لأبي ولا يخفى عليك أن الذي يطلبني من أجل أبي عندما يتوفى والدي

يهملني ولعله يطلقني أو يتزوج مرة آخرا ويتركني حزينة أبداً. ما زالت تلقين هذه المشكلات فمن أين لنا أن نأتيك بمن يوأفقك على ما تنزع إليه نفسك؟ قد يوجد ولكنه لا يجسر أحد على طلبي لعلمه أني أرد طلبه وهذا يصعب عليه أن يرد خائباً لعزة نفسه وشرف طبعه وكرم أخلاقه. هل تعلمين فتى بهذه الأخلاق؟ - وأنت تعليمنه من هو؟ سعيد - لا أشك بمكارم أخلاقه وعزة نفسه ولكنه غير كفؤ لك من حيث الشرف لأن أباك باشا وأبوه جندياً وعائلته غير معروفة بين الناس والعجب العجاب رضاك به زوجاً لا محل للعجب هنا لأن مكارم أخلاقه تقوم مقام شرف الفتى والشاعر يقول: لا تقل أصلي وفصلي أبداً ... انما أصل الفتى ما قد حصل وإذا كان فقر عائلته يمنعك عن القبول فليس الفقر عيباً للمرء ولا الغنى شرفا له وخلاصة القول كوني على يقين من أني إذا قصدت الزواج لا أتزوج غيره لأنه هو وفق مرغوبي - فهمت الآن أن له في قلبك مكانا والحب أراك أيا موافقاً على أني لا أطيق أن أذمه لأني لا أجد فيه من العيوب سوى فقره وانحطاط منزلة أسرته. - قلت لك أن الفقر ليس بعيب وأما انحطاط مكانته فمكارم أخلاقه تشفع بها ومع هذا كله فإنه سيتولى منصباً عالياً يبلغ به مبالغ الإشراف وينال راتباً عظيماً يصيره من زمرة المترفين. فإن كنت ترغبين فيه زوجا لك فصرحي بكلامك ولا حاجة إلى براهينك. . . . . سكوت وإطراق في الأرض - فلو رضيت لك وشايعتك على فكرك فهل تتصورين أن الباشا يرضى بذلك وهو غرس نعمته وزيدي على ذلك أن له زوجة أخرى - أنت قادرة على إقناع الباشا وإرضائه وأما زوجة سعيد فليس فيها كبير أمر لأني على ثقة من أنه يطلقها من أجل أبي

- من أين لي أن أقنع الباشا ليرضى بذلك؟ - أنت تعلمين كيف تفعلين - دعيني الآن ريثما أجد فرصة مناسبة أسترق فكر أبيك وأعلم إن كان يمكن ذلك أم لا. وبعد ما خرج سعيد من منزل الباشا دخل هذا إلى دائرة الحريم وأخذ يظهر أسفه ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألته الخانم عن السبب فأخبرها بما جرى لسعيد وابنه فبكت لحاله وأسفت عليه ثم قال لها: أني تعهدت له بأن أزوجه وأن أرسلك لتفشي له على امرأة توأفقه. فتجاسرت الخانم عندئذ وقالت: إن كنت تود أن تحميه وتريحه زوجه بابنتك فهو غرس نعمتك وقد نشأ بفضلك وفي ظلك وما هو ظلك وما في الحقيقة إلا ابنك ولعلنا نتخذه ولداً فيكون لنا عوناً وسنداً - لا أنكر مزاياه وأحبه كولدي ومنزلته عندي منزلة جميلة ولكن امتناع جميلة وكلام الناس يحولان دون ذلك على أني لست ممن يعدون الفقر انحطاطاً ومزرياً بالشرف ولا استنكف من مصاهرته لأن مكاني وشرفي يكفيانه - كلام الناس ليس مما يحفل به العأقل في مثل هذا المقام لأن العأقل البصير من لا يبالي بكلام لا طائل تحته وقد يكفيه رضا الأخيار والأخيار لا يرون الفقر وجهل مكانة العائلة منافياً لمكارم الأخلاق وهم يرجحون الفضائل على كل مزية والمدح ما كان من الأخيار والذم ما كان منهم ولعل جميلة ترضى به لأن امتناعها ناشئ عن وجود قرين يوأفقها على أنها تمدح سعيداً في كل حين وتقر له بالفضل - وأنا لا أبالي بكلام العامة ولا بكلام من انحطت أفكارهم ولكن إذا رضيت أنا بذلك فهل جميلة ترضى به - فلنسألها - اذهبي واسإليها دخلت على جميلة وأخبرتها بما جرى بينها وبين أبيها ففرحت وقالت لأمها يجب علينا أن نحتاط لئلا يفهم ويغضب وأنت تعلمين حاله إذا أخذه غضب - أصبت بما فكرت. فماذا نفعل؟ - اذهبي وقولي له أن جميلة لا تخالف أمرك ولكنها تلتمس منك مهلة تفكر في هذه المسألة الحيوية التي تحتاج إلى إمعان وزيادة استبصار

- هاأنا ذا ذاهبة وذهبت. فدخلت على الباشا وأخذت تمدح جميلة على ترويها وعقلها وكمالها ثم قالت: أنها لا تخالف أرادتك وهي طوع أمرك فيما تقضيه عليها ولكنها تلتمس مهلة يومين لتفكر في الأمر ثم تخبرنا سلباً أو إيجاباً - أخاف أن تصر على عنادها وأنا أود أن أزوجها في حياتي لنفرح بها فقولي لها أني أمهلتها يومين فذهبت وخبرتها ففرحت بنيل المراد وبشرت سعيداً بواسطة خادمتها ففرح هذا وظن أن السعادة العظمى لاحظته عيونها وأخذ يفسرها ويقلبها على وجوه آملا أن تكون تلك السعادة مكافأة لما عاناه من قبل وصار يسبح في ظلمات الخيال وصرت لا تراه إلا ضاحكاً مسروراً يقول تارة سأرتاح من أجرة الدار وأسكن منزلاً عالياً وأركب عربة خاصة وأرتقي بمعونة الباشا وأخلص من هم صرف الراتب على تدبير المنزل واقتصد راتبي وأوفي راتبي فأكون حينئذ سعيداً ثم أخذ يفكر فيما بالذي سيتراكم من مشاهرته فقرر أن يشتري أوراق يانصيب المصرف العقاري وتحويلات سكة حديد الروملي وأصبح في أمان من كسب أعظم المبالغ ورأى أن يشتري خيلاً ليقيم على تربيتها فيبيعها بما تيسر من الليرات ويشتري دكاناً ثم مخزناً ثم ضيعة فيصير من الأغنياء ويستتغني عن الاستخدام وعن معاناة شرور العالم ويكتفي بأن يصير عضواً في أحد المجالس وطوراً يقول أن السعادة ليست شيئاً في الحقيقة بجانب اقتراني بجميلة لأن السعادة العظمى هي اقتران زوجة بزوج يوأفقها في الخلق ويقوم بما يفرض عليه لتقوم هي بما يفرض عليها من أعمال الحياة وبمثل هذه الخيالات كانت تمر أيامه وليإليه فصار لا يفكر إلا في السعادة ونسي كل ما عاناه من قبل بل وتناسى ما وقع له شأن الإنسان يتذكر السعادة في الشقاء وينسى الشقاء في الإقبال وكان وصول سيعقد به له على حبيبته جميلة. ولما مضى اليومان أجابت بالقبول وفوضت الأمر لأبيها لا يباح ففرح هذا وأرسل سعيداً فأتى هذا مسرعاً لإنه كان عالماً بالأمر فقطع الطرق وما شعر إلا وهو أمام المنزل وكان من عادته أن يأتي ماشياً على رجليه فأتى هذه المرة في العربة وأستأذن عليه فدخل إلى ردهة الباشا فقبل يده وجلس أمامه فقال له الباشا يا بني أنت تعلم أني ربيتك كولدي وأحبك بمثابة ابنتي جميلة ولآن أريد أن أجعلك ابناً حقيقياً وأفرح بك فهلا تطيع أمري؟ - سيدي العبد غرس نعمائك وإن كنت عشت أو أصبح لي شأن فذلك بفضلك وإحسانك

فمقامك أعظم من مقام أبي عندي أن كان أبي الذي توفي والدي بالجسم فإنت أبي بالفكر أبي بالعلم أبي بالأدب أبي بكل شيء قال اله تعالى (ولئن شكرتم لأزيدنكم) والعبد يقر ويعترف بأنه ليس في وسعه شكر النعم الجسام التي أولانيها مولاي فليس لي إلا أن أطيعه في كل ما يصدر من سعادة فمر بما تريد وأنا عبدك المطيع. - بارك الله بكرم أخلاقك ووفقك وجعلك من أسعد الناس وأعلم يا بني أني على غاية من الأسف لما عانيته من العذاب في زواجك وأنا حتى بلغت مما أقر عيني به كلما نظرت إليك وسمعت عنك فأحب أن أصل ما بدأته معك لتترحم علي بعد موتي وتكون ولياً على عائلتي التي ستصبح بعدي بدون رجل يتولى شؤونها وهذا لا يتم إلا بزواجك من ابنتي جميلة فأعرضها عليك إذا لم يكن لك مانع - لا مانع لي يمنعني عن نيل النعم فالعبد رهين الأمر في كل حين فمر بما فلا تجدني إلا عبداً مطيعاً - حفظك الله وسنعقد لك عليها هذا الأسبوع إن شاء الله السميع العليم - أطال الله عمر مولاي ثم شكر فضله وقبل يده ودخل الباشا على ما دار بينه وبين سعيد وهذه أخبرت جميلة ففرحت وأيقنت بنيل المراد. وبعد أربعة أيام دعي عمال الولاية والأمراء والوجهاء والعلماء إلى دار الباشا المشار إليه ووكل سعيد أحد أحباب الباشا وعين بعد شهر من تاريخ العقد. غدا سعيد يرقب يوم العرس بفروغ الصبر ولما أن الوقت استعد للسرور فدعا رفقاءه ليشاركوه بفرحه وحبوره وما علم بما أخفاه له الدهر الخؤون وقد نامت عينه عنه إلى حين فأدخله الباشا تلك الليلة على جميلة وأوصأهما بعضهما ببعض ودعا لهما بالتوفيق. فلما دخل بها وخلت به أخذت تعاتبه قائلة: لو كنت خالياً من أوهامك الغريبة وحفظت العهد لنلت ما نلته الآن وما كنت وقعت ولكن خلق الإنسان عجولا على أني ما زلت أعجب منكم معشر الشرقيين فمهما كبر عقلكم وارتقى فكركم ودرستم العلوم والفنون لا تزالون مقيدين بالأوهام الباطلة ولقد ترى الواحد منكم ينتقد الخرافات ويعيب أوهام غيره ويرتكبها غير مختار وذلك بما تعلمه من أمه الجاهلة في طفولته يرضع لبأن الخرافات مع لبن أمه ولا

يخطر ببالك أيها الحبيب أني أقصد بانتقادك هذا مدح الجنس اللطيف فإنا عالمة أن وجود فتاة مرتقية الفكر سليمة العقل خالصة من الأوهام والخرافات في بلادنا قد أصبح ضرباً من المحال وذلك أن المدارس التي أسست لتثقيف عقول البنات لا تعلمهن إلا مبادئ العلوم والفنون ضعيفة ضئيلة لا تكاد تسد الحاجة وقد لا توجد مهذبات مدربات في المدارس يهذبن الفتيات ويدربنهن على الفضائل وحب الكمال إلا ما ندر ومما يؤسفني أن أرى أن أهم درس يدرس في المدارس تعليم أمة اللغات لأننا لا نزال نعد التكلم أو العلم بإحدى اللغات دليلاً على الفضل والكمال وأغرب من هذا كله ما نراه من إنهماك المعلمات في تعليم البنات التفصيل على الزي المودة وزركشة الفساتين فالمعلمات يغرسن حب الأزياء في عقول النساء وهن غير مباليات بتثقيف عقول الفتيات ولذلك نرى الفتاة تخرج من المدرسة على آخر طرز وأحسن زي من الزينة والتبرج وقد تتكلم بلغة من اللغات فتكون حينئذ بلغت منتهى العلوم والآداب بزعمها وزعم أهلها. ولا يخفى عليك أن التي دأبها التزين واللباس وتجديد الأزياء لا تجد في وقتها متسعاً لتعليم ابنها وتهذيبه ولذلك أصبحت المرأة علتنا الاجتماعية ومقياسنا متى ارتقت ارتقينا وإذا هوت هوينا معها فلا تقوم لنا قائمة إلا بتهذيب المرأة التي إذا هزت بيدها اليمنى سرير ابنها هزت باليسرى الدنيا بأسرها والرجل العظيم لا يأتي إلا من عظيمة سبقته وهي أمه ولله در من قال (الطفل صفحة بيضاء وأمه تنقشه كما تشاء) ولعلنا نرى يوماً يكثر به نصراء المرأة الضعيفة فيعلمون حقائق الأمور ويعنون بتهذيب بناتهم ويخدمون بناتهم ويخدمون بذلك بني نوعهم. وإما نحن نربي أبنائنا كما نشاء ونجعلهم مثال الكمال ونثقف عقولهم ونعدهم للبيئة الاجتماعية خدمة يقومون بواجباتهم نحو بني الإنسان والحيوان. = لقد أعجبني خطابك البديع الذي أعرب عما في ضميري ولكن ما لي أراك مرتدية على أخر زي؟ أما كان اللائق بك أن تبتدئي بنفسك وتهجري الأزياء وتنزعي عنك المجوهرات الثقيلة التي استغرب كيف تطيقين حملها على إنه كأن يكفيك رداء جميل الزركشة في شكل بسيط يقبله الذوق السليم. = كان يجب علي ابتداء بنفسي ولكني خفت من أن توجه سهام اللوم وأصبر عرضة لأفواه الناس وربما جلب ذلك على والدي كلام المتكلمين فحطوا من قدره

= أليس من العقل أن لا تبالي بكلام الجاهلات اللواتي لا يميزن بين الحسن والقبيح وأنت لست من اللواتي يتزين ليلة العرس ليغرن أزواجهن حتى يملكن قلبهم فإنت ملكت فؤادي منذ كنت طفلاً ومكانك لا يزيده لباسك وتبرجك شيئاً في عيني ولا تنقصه بساطة ردائك ويا ليتك كنت جعلت البساطة زياً بين الناس لأنه ينظر إليك والنساء يقلدونك ولكن كما قلت أن الإنسان مهما ارتقى لا يزال مقيداً بقيود الأوهام. وأما عدم تصبري وخيانتي لعهدك فهذا أمر مقدر المقدر محتوم والأشياء مرهونة بأوقاتها ولا يستطيع بشر أن يفر من القدر ولذلك لا أرى محلاً للوم = أن هذه العبارات عبارات العجزة الذين إذا أخطئوا وأسأوا رجعوا بخطئهم على القدر وشكوا من الدهر وإذا أحسنوا منوا وافتخروا. = دعينا من الفلسفة والكلام فلنطرب بألحان المغنيات ونترنم بآلات الطرب لأن هذه الساعة ساعة طرب وهي الليلة التي لا تتكرر في حياتنا والأيام بيننا سنتجاذب أطراف الحديث ونبيع بعضنا بعضاً من الحكم والحقائق ما تشاء وثاني يوم العرس عهد الباشا إلى بأن يتصرف بمنزله كما يتصرف كما يشاء ووكل إليه أشغاله الخاصة وصار يتصرف بالصدق والاستقامة واقتصد كثيراً من النفقات وغدا هو المرجع ومن كان له حاجة عند الباشا كان يأتيه فيلتمسها منه وهو يحسن معاملة الناس حتى استجلب قلوبهم وكأن يساعد المغدور ويسعى في استحصال حق المظلوم من الظالم. وتكلم مع الباشا على أن يسعى في ترقية وظيفته فوعده بذلك ففرح وقوي أمله بالسعادة وصار يوفر رواتبه ويوفي ديونه حتى اشترى سندات البنك العقاري وتحويلات سكة حديد الروم ايلي واشترى حصانين ليربيهما وأخذ يتسع خياله يتسع وآماله تكبر شقاؤه فهو يأكل ويشرب وينام ولا يدفع بارة ويتنزه بعربة الباشا ولا يصرف إلا القليل فتخلص من الطلب والدين.

الهجرة إلى مصر

الهجرة إلى مصر إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي دحا الله الأرض ليعيش البشر عليها ويتناسلوا فيها فيعمروها ويحيوا مواتها ويسيطروا على المخلوقات كلها فالأرض هي المنزل العام يجلس أهله في أي ناحية منه أحبوها وراقتهم وينتقلون في بقاعها وأصقاعها ووهادها ونجادها وحزنها وبحرها وبرها على حسب ما تقضي أحوال الصحة وطبائع الأجسام وخواص النفوس. فقد هاجر الفينيقيون قديماً وأقاموا قي قرطجنة وعمروها كغيرها من شواطئ البحر الرومي وهاجر الغوط من جرمانيا إلى جنوبي أوروبا ودأهموا المملكة الرومانية وهاجر الروم من بلادهم إلى شواطئ البحر المتوسط وجزره وشواطئ البحر الأسود وبلاده وعمروها. وكثير من الأمم أمثالهم غادروا مساقط رؤوسهم وأخذوا لهم بلاداً ثانية استعمروها. وهاجرت في العهد الحديث أمم كثيرة وأمم وقعت هجرة الأوربيين إلى أمريكا عمروها بجنسهم الأبيض بعد أن كانت خربة بالجنس الأسود. وكذلك هجرة الهولنديين إلى جنوبي أفريقية وهجرة الروس إلى سيبيريا وهجرة القاتقاسيين والجراكسة إلى البلاد العثمانية وهجرة الإسرائيليين من بلاد روسيا وهجرة المسلمين الروسيين إلى أمريكا وغيرهم. وللعرب حظ وافر من الهجرة والتنقل في الجاهلية والإسلام بل أن الهجرة من طبيعة جزيرتهم يغمدون إليها للكلأ والمراعي أو للاتجار بنتائج مواشيهم وحأصلاتها. وأول هجرة في الإسلام كانت هجرة عشرة من الصحابة وأربع نسوة وقيل أكثر أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيبهم من البلاء قائلاً لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه فخرجوا ثم عادوا بعد سنين. وهكذا هاجرت العرب إلى فارس ومصر والشام وأفريقية والأندلس والسند وكشغر لما فتحت. ولولا أقدامهم على الهجرة ما رأينا الإسلام منتشراً في قلب آسيا وأفريقية. ولا نزال إلى اليوم نشهد أثراً من أثار حب العرب للهجرة وقد زادها اليوم قرب الموأصلات وسهولة السفر. نرى أهل حضرموت في جنوب الجزيرة يهاجرون إلى حيدر أباد الدكن الهندية فيكون معظم جيش البلاد منهم ونرأهم يهاجرون إلى جاوة فيكثر فيها سوادهم ويغتني بعض أفرادهم. ونرى النجديين يهاجرون إلى الهند في التجارة ثم يستوطنوها ويصبحون فيها أصحاب كلمة ونفوذ. ونشهد السوريين يهاجرون إلى أمريكا

وأفريقية ونيرتاشون ويتأثلون. وانهيال السوري على هذا القطر خاصة قديم جداً يصعب تعيين زمنه لاتصاله ببلاد الشام براً وبحراً ولم تكن القوافل في الإسلام تنقطع في البر كما أن المراكب لم تكن تنقطع عن السفر في البحر ولم تبرح بلاد الشام مصيف مصر وأحدهما مكملة لعمران جارتها. وقد وصف ابن فضل الله العمري في التعريف بالمصطلح الشريف طريق القوافل بين القطرين كما عقد القلقشندي في صبح الأعشى فضلاً في مراكب الثلج الوأصل من البلاد الشامية إلى الملوك بالديار المصرية. ومصر ما برحت كما وصفها ابن خلدون في القرن الثامن (بستأن العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر). نعم هي محشر الأمم ولاسيما المجاورة من البر أو المناوحة لها من سيف البحر. وذلك لأن عمرانها طبيعي مستبحر في معظم أدوارها فلا عجب إذا كانت مهاجر الأمم من أن تكون نقطة الاتصال بين قارات أوروبا وأفريقية وآسيا بفتح ترعة السويس فما بالك بعد أن تم لها ذلك. فمصر والحالة هذه مقصودة من أقطار الأرض أكثر مما يقصد أهلها سائر الأقطار والأمة التي تكثر في الغالب خيرات بلادها لا يهون عليها مغادرتها. وطلب الحاجيات هو الباعث الأقوى على المهاجرة فإذا كفيها المرء يصاب بالوناء وضعف العزائم. وما فتئ السوريون والرم والترك والمغاربة مذ كانت حكوماتهم تتغلب على مصر ينزلون بلاد النيل. فالروم حكموها زمناً طويلاً وكذلك الترك والعرب والجراكسة فكان من العناصر إن نزلتها بكثرة وأصبح أكثرهم عمالاً وحكاما وقضاة ورؤساء وجند وعلماء وأرباب صنائع وتجارة ولم تكثر هجرة الأوربيين إليها إلا عقيب الاحتلال الفرنسي عند ما بدأ الفرنسيس والطليان والمجر وغيرهم من أمم الغرب يهبطون إليها وقد كثر سوادهم على عهد الخديوي إسماعيل لأنه فتح أمامهم طرق الهجرة وأحسن معاملتهم ووفر لهم المغانم وطرق الكسب. ولما قبض رجال الاحتلال من الإنكليز على أزمة الأعمال أخذ الناس يفدون على مصر من كل فج عميق حتى أنك لتجد فيها الآن من جميع الشعوب واللغات أناساً أسسوا فيها الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية وكثير منهم اغتنوا من خيراتها بفضل كدهم. وقد

قدرت ثروة السوريين فيها بخمسين مليون جنيه أي بعشر ثروة القطر وهكذا سائر الأمم ولاسيما الروم والطليان ولفرنسيس فإن فيها من هذه الأجناس ألوفاً اغتنموا من خيراتها واتخذوها دار هجرتهم وطناً ثانياً لهم. وحال مصر اليوم مع المهاجرين إليها يختلف عن حالها مع أمثالهم في القرن الماضي لأن ثقة الأمم تزداد بها الحين بعد الآخر ولأن الأساس الذي قامت عليه حضارتها اليوم أساس مالي زراعي. خصوصاً وقد ظهرت الآن نتائج ما تعب القابضون على أزمة سياستها سنين في تأسيسه واشتهر ذلك عند الخاص والعام في الأقطار النائية بما يتصل بهم من أخيارها وأخبار من يغتنمون من المهاجرين إليها ممن توفرت لديهم رؤوس أموال أو كانوا من أرباب العقل والعمل فكانت مصر ميداناً لظهور أثارها. وربما لا يذكر الناس إلا من نجحوا وقلما يذكرون من أخفقوا. عادة في البشر ولعلها من موجبات أقدامهم على الكسب والكدح في هذه الدار. ولقد ساعد على كثرة الهجرة إليها حال بعض البلاد المجاورة لها من حيث اجتماعها ومادتها. فترى سكان جنوبي إيطاليا القاحلة يهاجرون إليها من القاطنين في الشمال منها لأن شمالي إيطاليا مخصب وأهلها مكتفون بما تجود به عليهم أرضهم وسماؤهم. وكذلك تكثر إليها هجرة سكان جزائر البحر الرومي ولاسيما بلاد اليونان وأهل سواحل الشام وجبالها. هذه مصر من حيث هي مهاجر الأرض فهي دولية كما يقول الساسة أو مشتركة بين أجناس وأديان شتى. والتاريخ يشهد أنها كانت رحبة الصدر بالوافدين عليها في كل العصور للين عريكة أهلها ولم يحدث هذا التمييز بين سكانها إلا عندما أراد مهاجروا الإفرنجة أن يستطيلوا على أهلها فأحدثوا لهم ما يقال له الأمتيازات الأجنبية التي تخولهم من الحقوق ما ليس للوطني مثله ثم كثر توارد الأخلاط عليها ولم يكن الوافدون إليها على غرار واحد بل كان منهم المنورون العالمون وهم الأفراد. ومنهم المتعلمون المهذبون وهم أكثر. ومنهم العامة الأميون وهم السواد الأعظم. ومنهم طلاب رزق وسوقة نازعوا ابن البلاد وربما غلبوه لأن من جاء في طلب غرض يحتال للوصول إليه. والغريب في الغالب يكون أجرأ وأنشط من الأصيل لأن الغربة في ذاتها إمارة من إمارات النشاط. وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد

والأمثلة على ذلك كثيرة في هذا الباب من القديم فليس للوافد ما للقاعد من الخمول والاتكال ويكفي أن في لندرا لهذا العهد وهي مهد الصناعات والارتقاء زهاء مائتي ألف رجل من رجال الألمان استولوا على أعمالهم المالية واستأثروا بها دون ابن البلاد المتعلم المنور الذي لا يقل عنه في مواهبه هذا في عاصمة إنكلترا فما الحال بمصر وأكثر الوافدين إليها من الشعوب القوية ومن أهل البلاد الباردة التي تبعث النشاط في قلوب أبنائها وأجسامهم وعقولهم فيتخذون عدتهم استعدادهم وكدهم رأس مالهم وعتادهم وذخرهم قصدهم واقتصادهم على حين قد أتت على الوطني أزمان من الفوضى ضعفت بها قواه فأصبح لا يقوى على العمل إلا عوده زمناً ولقنه بالتعليم والتربية وقد فاجأته الثروة والحرية مفاجأة بهرته وحيرته ثم أن ابن البلاد في الغالب لايسف إلى المكاسب التي يتنازل إليها للغريب فالأول يدل بأرومته ويعتز بأمته والثاني يذل في سد حاجته ونيل بغيته. ولما رأت الحكومة المصرية على عهد الوزارة الرياضية أن الوطني يكاد يفنى في الدخيل سنت لائحة صعبت فيها على النازل في مصر أسباب الحصول على حقوق الوطني إلا بعد مقامه خمس عشر سنة على وأشعاره الحكومة بعزمه على تغيير جنسيته قبل حلول الوقت المعين بخمس سنين فكانت هذه اللائحة غريبة في بابها منعت بعض الطراء على القطر من ولوج باب الاستخدام في دواوين الحكومة وحظرت عليهم تعاطي الأعمال الإدارية والسياسية إلا أنها صرفت وجهتهم إلى اتخاذ الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية الحرة فافلحوا أكثر مما لو كانوا حصروا وكدهم في الوظائف الاتكالية ولم تحق عليهم كلمة مصر للمصريين. ومن هنا نشأ بغض النظر كثير من المصريين للغرباء. كان السبب في ذلك أول منافسة هؤلاء لأبناء البلاد في اجتياز الوظائف وهناك أسباب أخرى قواها أرباب الأهواء والغايات المسموعة فإنتقلت بالتقليد إلى العامة ومن نحا منحأهم من الخاصة. وليست الشكوى التي يشكوها بعض الوطنيين من الوافدين في محلها كلها لأن من اغتنى بكده أو بطرق غير شريفة فإنما غنمه له وغرمه عليه. واو تسنى لابن البلاد أن يعمل عمله ما تأخر وياليت خاصة هذه البلاد يسعون إلى نزع هذه الأوهام من عقول العامة حتى لا يبغضوا غيرهم بسبب وبلا سبب ويمتزج بعضهم مع بعض لتحيل بودقة مصر ذاك الدخيل إلى المعدن الذي تريد أن يكونوا كلهم عليه. فقد ثبت أن ثبت أن هذه البودقة

المصرية أحالت إليها فيما مضى التركي والجركسي والكردي واليماني والحجازي والعراقي والشامي والمغربي والفارسي فأتى منهم مقامهم قليلاً في هذا الوادي مصريون يغارون على مصلحة مصر وكثير منهم نفعوها وخدموها وأيديهم أكثر من ذلك خدمة أبنائها لها تحت اسم مصريين. وما قط كانت لها بقعة من بقاع الأرض معلومة الحدود والمساحة وفقاً على جنس خاص من البشر لا ينازعها فيه منازع تسرح وتمرح فيها ما شاءت. فالأرض أرض الله والناس عباد الله وما أحلى بيت البحتري في هذا المعنى ولا تقل أمم شتى ولا فرق ... فلأرض من ترابه والناس من رجل وكل من نظر في نهوض الأمم لا يعتم أن يرى بأن كل أمة ربيت على كره غيرها وتجافت عن الاختلاط به وحسن الانتفاع منه وتجني من الخسارة أكثر من الربح. ولقد كانت بغداد من أكبر أمثلة التسامح في البلاد الإسلامية رفعت مقام الغريب وأحسنت الاستفادة منه فكان يعد بغدادياً كل من دخل بغداد. وتساوى في ذلك عجمها ودي لميها وعربيها وتركيها ونسطوريها وروميها ومجوسيها ومسلمها فجمع العدل من شملهم وآخت الراحة بينهم وعد سواء في النسبة إليها من نزلها اليوم منذ قرن وقد أعان على تكوين هذا المزج انتفاء الجنسية في الإسلام ورفق المسلمين بأهل ذمتهم ولولا ذلك ما قامت تلك الحضارة التي نسبت للمسلمين العرب مع أن أثرهم فيها أقل من أثر غيرهم من الأجناس والأديان. ولكن العمل مشترك وهو منسوب لقائدهم. وأنا لا نزال نقول أن نقول أن من حظ مصر أن تكون البلاد المجاورة لها محتاجة حتى أشبهت فاس في القرون الوسطى لما تواتر عيث العرب على القيروان واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت محمد بن أبي عأمر وابنه فرحل من قرطبة ومن القيروان من كان فيها من العلماء والفضلاء من كل طبقة فنزل أكثرهم مدينة فاس قال صاحب المعجب في الثلث الأول من المئة السابعة أن فاس اليوم على غاية الحضارة وأهلها في الكيس ونهاية الظرف ولغتهم أفصح اللغات في ذلك في ذلك الأقليم وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب إليها ينسب وبحق ما قالوا ذلك وقال أن القيروان كانت منذ الفتح إلى أن خرابها الأعراب دار الخراب تفرق أهلها في كل وجه فمنهم من قصد مصر ومنهم

من قصد صقلية والأندلس وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب فنزلوا مدينة فاس. قصدوا فاس كما قصد الأندلسيون بلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والشام لما تأذن الله بانقراض دولتهم فعدوا من أهلها بل أهلها بل كما رحل الإيطالي والألماني والإسباني والإنكليزي والفرنسي إلى أمريكا لما ضاقت سبل الرزق في وجوههم فعدوا أميركيين وانشأوا يخدمون أميركا أكثر من خدمتهم لبلادهم حتى إذا تناسلوا فيها جاء أولادهم أمريكيين صرفاً. وكلما ارتقت الأمم تطال إلى إدماج غيرها في مجموعها والأمم الإفرنجية اليوم أكثر تسامحا في هذا المعنى من الأمم الشرقية كما يظهر بالاستقراء. قال ابن حزم الأندلسي: إن جميع المؤرخين من أمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرية التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكانها إلى أن مات فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً (قال ابن حجر صوابه أربعة أعوام) وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفها الله تعالى وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا وأن البصريين بدأ والعمران بن حصين وأنس ابن مالك وهشام بن عأمر وأبي بكرة وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف وجمهرة أعمارهم خلت هنالك وأن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدر داء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوى وفي المكيين عبد الله بن الزبير والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فيمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض أتباعه وخلافه محرم اقترافه ومن هاجر منا إلى غبرنا فلاحظ لنا فيه والمكان الذي اختاره أسعد به.

فضل العربية

فضل العربية كتب مستشار معارف مصر فصلاً سلخ فيه اللغة العربية من مزاياها ونشر في أخر تقرير عميد الاحتلال عن السنة الماضية قال فيه: إن تعليم العلوم بالإنكليزية في المدارس الأميرية بمصر لا مناص منه الأن لعدم وجود الكتب اللأزمة والأساتذة الأكفاء ولأن اللغة العربية فقيرة قي تركيب الجمل العلمية وبالنظر لجمودها والتباس تراكيبها لا تستطيع أن تكون لسان حال العلم والتدريس وأنه ليس فيها سئ من روح الأديبات الحديثة وأن أحسن الترجمات لا تتوصل إلى نقل فكر المؤلف إلا مشوهاً إذا أرادت نظارة المعارف أن تعتمد على ما يترجم من أصناف العلوم إلى العربية وقد وقع كلامه موقعاً سيئاً في نفوس العارفين بخصائص العربية ولما كان أكثر ما كتبه مما دخل بسياسة هذا القطر رأينا أن ننقل للقراء زبدة ما ساجلناه به ثم نردف ذلك بفصل في اللغة لأحد علماء المئة الخامسة. فقد قلنا في معاجمها المطبوعة ثمانون ألف مادة وكل مادة يشتق منها عشر ألفاظ هي بلا شك من اللغات الواسعة في العصر الذي لم تكن تعتبر فيه لغة علم أي في عهد المأمون العباسي وبعده فنقلت إليها علوم الفرس واليونان والرومان والهند في أي وقت كانت لغة بدوية فكيف لا يتسع صدرها لهذه العلوم الآن وهي لغة علم منذ ألف سنة هذا مع أن بعض العلوم من اختراع العرب كالجبر مثلاً فإنهم وضعوا قواعده ودونوا كتبه ونقله الأوروبيون عن العرب فاللغة التي اخترع بها ودون بها ودرس بها لا تضيق عنه اليوم وهي هي وهو هو. ولا تزال العلوم الرياضية هي إياها منذ أول نشأتها وأن زادت بعض نظريات أو تمرينات فالكتب المؤلفة كافلة لتدريسها أما العلوم الطبيعية فإن ما يرس في المدارس لا يتجاوز ما وضع له من الكتب بالعربية في القرن الماضي وتسهل زيادة ما زاد منها وتعريب ما يصدر منها الحين بعد الآخر في بلاد الغرب. واستشهدوا له بقول أحد رجال الفرنسيس الذي نصح للمصريين أن يحتفظوا بلغتهم ويتعلموا إحدى اللغات الأجنبية معها كما فعل المجر والتشيك والبولونيون ولا عينة للإنسأن الآن عم تعلم عدة لغات أجنبية هذا فضلاً عن لغة واحدة كالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. أما الفصل في فضل اللغة العربية فها هو بنصه: اللغة عبارة عما يتواضع القوم بينهم به من الكلام أو يكون توفيقاً يقال في لغة العرب أن السيف القاطع حسام أي تواضعوا على أن سموه هذا الاسم وتجمع لغة على لغات ولغين ولغون وقد قيل في اشتقاقها أنها مشتقة

من قولهم سمعت لواغي إذا أولعت به وأغريت به وقيل بل هي مشتقة من اللغو وهو النطق ومنه فعله (إلى أن يقول في فضيلة اللغة العربية ومزتها): فأما ما نحن بصدده من ذكر اللغة العربية فلا خفاء بميزتها على جميع اللغات وفضلها أما السعة فالأمر فيها واضح. ومن تتبع جميع اللغات لم يجد فيها لغة تضاهي اللغة العربية في كثرة الأسماء المسمى الواحد على أن اللغة الرومية بالضد فإن الاسم الواحد وجد فيها للمسميات المختلفة كثيراً وقد كان بعض اللغو بين في إيصال المعاني في النقل إليها يبين ذلك أنه ليس كلام ينقل إلى اللغة العرب ألا ويجئ الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني وبقائها على حالها وهذه بلا شك فضيلة مشهورة وميزة كبيرة لأن الغرض في الكلام ووضع اللغات بيأن المعاني وكشفها وإذا كانت لغة تفصح عن المقصود مع الاختصار والاقتصار فهي أولى بالاستعمال وأفضل مما يحتاج فيه إلى الإسهاب والأطالة. وقد خبرني أبو داود المطران وهو عارف باللغتين العربية والسريانية أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني فبحث وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوة وحسناً وهذا الذي ذكره صحيح يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية. وقد حكي أن بعض ملوك الروم وأظنه تيفور سأل عن شعور المتنبي فأنشد له كان العيش كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا وفسر له بالرومية فلم يعجبه وقال كلاماً معناه ما أكذب هذا الرجل كيف يمكن أن يكون جمل على أعين إنسان. وما أحسب أن العلة فيما ذكرته غير النقل إلى اللغة العربية ومنها وتباين ذلك إلا أن لغتنا فيها من الاستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات فإذا نقلت لم يجد النأقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها وهي على هيئتها لتعذر مثلها في اللغة العربية التي ينقل إليها والمعاني لا تتغير فنقلها ممكن من تبديل وما كان ما ينقل من العربية فتغير حسنه لهذه العلة وما ينقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته لأن نأقله يجد ما يعبر به في اللغة العربية أفضل مما يريد وأبلغ مما يحاول وهذا وجه يمكن ذكر مثله ويجب أن يتأمل وينظر فيه لأني لا أعرف لغة سوى العربية إنما ذهبت إليه ظناً وحدساً. وقد تصرف في هذه اللغة ما لم تصرف في غيرها من اللغات فلم توجد إلا طيعة عذبة في كل ما استعملت فيه نظماً ونثراً وهي إلى الأن لا تقف

على غاية في ذلك ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى * إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب * وقد بينت فضلها وما فيها من الاختصار في العبارة عن المعاني وذكرت وجه التفصيل عليه موضع الاختصار مما لا شبهة فيه. فأما السعة فالأمر فيها أيضاً واضح لأن الناظم والنأثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة وكأنت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة تقع موقع تلك اللفظة في المعنى أخذ الأسماء للمسمى الواحد وتلك فائدة حأصلة بلا خاف على أنه ربما عرض في وضع الأسماء المشتركة فائدة في بعض المواضع فلم تجعل اللغة العربية خالية منه بل فيها أسماء مشتركة كقولهم عين وما أشبهها. وها هنا لها فضيلة أخرى وهي أن الواضع لها أن كانت مواضعه تجنب في الأكثر كل ما يثقل على الناطق تكلفة والتلفظ به كالجمع بين الحروف المتقاربة في المخارج وما أشبه ذلك واعتمد مثل هذا في الحركات أيضاً فلم يأت إلا بالسهل الممكن دون غيرها من اللغات من اللغات كذلك كلغة الأرمن الزنج وغيرهم. ومما يدل على فضل اللغة العربية وتقدمها على جميع اللغات أن أربابها وأصحابها وهم العرب الذين لا أمة من الأمم تنازعهم فضائلهم ولا تباريهم في مناقبهم ومحاسنهم وأن كانوا تواضعوا على هذه اللغة فلم تكن تنتج أذهانهم الصقيلة وخواطرهم العجيبة إلا شيئاً خليقاً بالشرف وأمراً جديراً بالتقدم وإن كان توفيقاً من الله تعالى ومنة بها عليهم وقال ابن حزم: لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا الأشياء وكيفيتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها أشكالا وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة المسميات كلها المختلفة من كل التأكيد يرفع الأشكال ويقطع السغب فيما قلناه وقد قلناه وقد قال قوم السريانية وقال قوم هي العبرانية وقال قوم هي العربية والله أعلم إلا أن الذي وفقنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة وليست لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول أنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة وهكذا في

كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة لأخرى يتبدل لغتها لا يخفى على من تأمله ونحن نجد الكلمة كلغة أخرى ولا فرق فتجدهم يقولون في العنب الغنيب وفي السوط أسطوط وفي ثلاثة دنانير ثلثدا وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاءً فيقول مهمد إذا أراد أن يقول محمد ومثل هذا كثير فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلاف البلدان إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبدل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة اسحق ولغة ولده والسريانية بلا شك هي لغة إبرأهيمصلى الله عليه وسلم بنقل الاستفاضة الموجب نصحة العلم والسريانية أصل لهما وقد قال قوم أن اليونانية أبسط اللغات ولعل هذا أنما هو الأن فإن اللغة يسقط أكثرها وتبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واستغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان سبباً لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم ضرورة ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى فكيف تفلت أكثرها والله أعلم.

أصل لفظ كعبة ومكة وكربلاء

أصل لفظ كعبة ومكة وكربلاء نشر أحد المكاتبين في أحد المجلات العلمية ما صورته: سألتكم عن أصل كعبة ومكة فأجبتم أن الاسم كعبة محرفة من الكلمة كابلا (كذا) التي معناها مسجد. فأرى أنكم مصيبون (كذا) لأن كلمة كابلا كانت تطلق على بعض المعابد المسيحية ككعبة نجران. وبعد البحث وجدت أن الكلمة كابلا مشتقة من كار بالا أي العمل الصلوي (كذا) وكاربلا كانت اسم كذا. يريد اسماً) لمعبد عظيم وهو مشهد النبي تموز المذكور في التوراة في سفر حزقيال ص 14: 8. والمذكور في تواريخ الشرق عن النبي تموز هو أنه ولد في مدينة الأهواز وهجر الأهواز إلى كربلاء وهناك قتل هو وبنوه وأنصاره وبعد قتله آمنت به قبائل تلك النواحي وبنت على قبره قبة عظيمة وكانوا يأتون من جميع النواحي لأجل زيارته. وكانوا في هذه الزيارات ينشدون المراثي ويلبسون الثياب السوداء ويبكون عليه. وغالباً لا تكون هذه الزيارات إلا في شهر تموز. أما أتباعه فقليلون الأن البعض منهم في سوك شيخ (؟) والآخر في البصرة. واسمهم الأن الصابئون وأكثر عملهم في الصياغة ولا يزالون للآن يجرون شعائرهم الدينية بالتطواف حول كربلاء وليس الثياب السوداء وإنشاد المراثي. ويظن بعض الشيعيين أنهم يبكون على الحسين رضي الله عنه. وذلك من الاتفاقيات الغربية. أي أن يكون مشهد الأمام الحسين هو ذات مشهد تموز وقد تبين لي أن الكاتب المذكور قد أخطأ المرمى فأقول: 1 - لا يمكن أن تكون لفظة كعبة مأخوذة من كابلاً لأن هذا الحرف بهذا المعنى حديث الوضع بالإفرنجية بالنسبة إلى مثله بالعربية. 2 - إن بين اللفظتين كعبة وكابلا بونا عظيماً 3 - إن كابلا فرنساوية الأصل لا لاتينية. ومن تلك اللغة نقلت إلى هذه. والحال لا يمكن أن يعقل أمر أخذ العرب لفظة عن محدثي الفرنسيس. 4 - ولو فرضنا أن اللاتينية سبقت الفرنساوية في هذا المعنى فالعرب لم يأخذوا عن اللاتين لفظة تتعلق بأمور الديانة. إلا ما حدث منها في العصور الأخيرة 5 - وأما أن كلمة كابلا أطلقت على بعض المعابد المسيحية ككعبة نجران. فالتاريخ يخالف هذا التأكيد الزائغ عن الغرض. وأما أن كابلا مشتقة من كار بالا فهذا أمر يخالف كل معقول ومنقول. لأن وكاربلا فارسية وكابلا فرنساوية أو لاتينية على رأي ضعيف

ونصارى الفرس لم يعيروا الإفرنج لفظة واحدة دينية لتكون هذه اللفظة الثانية. أما كابلا فمشتقة من الحبرية أو الغفارة ويراد بها ثوب يشتمل به الكاهنة كالرداء عند القيام بشعائر الدين والظاهر أن اسم الكابلا وهي المصلى مأخوذ عند الإفرنج من غفارة أو حبرية وضعت في مصلى وتلك الحبرية كانت لأحد القديسين بمنزلة الذخيرة فسمي المصلى بها. هذا الذي ذهب إليه لتره وهو أرجح من كلام مكاتب تلك المجلة. أما أن كابلا لا يراد به المسجد ولاسيما كعبة نجرأن فلأن المصلى أو الكابلا لا يكون فيه إلا مذبح واحد وأكثر ما يكون لأهل بيت أو قصر خاص. ولا يمكن أن يقال فيه القداس إلا بأذن أسقف الأبرشية والكعبة معبد عام. وتفسير كار بلا بالعمل الصلوي غريب فلفظة كار فارسية ومعناها العمل أو الشغل وبالا يعني لأعلى فيكون محصل المعنى: العمل الأعلىلا العمل الصلوي. أما كون كار بلا مشهد النبي المذكور في التوراة في سفر ص14: 8 فالذكور في هذا الموطن أن هناك كانت نساء جالسات يبكين على تموز ولم يقل صاحب السفر الكريم أنه نبي. والمشهور عن تموز أنه من معبودات أفينيقية وكأن يسمى أيضاً أدو نيس ومن الأخبار الشائعة عنه أنه قتل وهو شاب في قرية غينية من الأصقاع المذكورة فناحت عليه أمه الزهرة أو عشتا روت. وهذه هي خرافة لا حقيقة لها وإنما كانوا يرمزون بها إلى الشمس وتقابلتها من حالة النور إلى الظلام في بعض فصول السنة. فكانوا إذا قدم الخريف يحتفلون بأعياد يدعونها جنازة تموز. فقول الكاتب أن تموز ولد في مدينة الأهواز فليس له من الحقيقة أدنى نصيب وأما أنه قتل هو وبنوه وأنصاره في كربلاء فحديث خرافة لا ذكر له في تواريخ الشرق. والمكاتب لم يذكر اسم هذه التواريخ ولا أصحابها الذين نطقوا بها. وأما قوله: (وأتباعه قليلون اليوم. . . واسمهم اليوم الصابئون). فليس لهذا المعبود أتباع في بلاد العراق. والمتعبدون له كانوا في فينيقية لا غير. وحكاية قتلة موضوعه فكيف يقال بعد هذا أنه دفن هو وأتباعه في كربلاء. والصابئون لا يعبدون تموز قط. وهم لا يوجدون في سوق الشيوخ (لا سوك شيخ) ولا في البصرة بل كانوا هناك في سابق الزمان وهم الأن في الناصرية والعمارة وما جاورهما مكن القرى الصغيرة. والصابئون لا يترددون إلى كربلاء أبداً ولا يبكون أحداً في مواطنهم.

وعندي أن كربلاء منحوتة من كلمتين آشوريتين وهما: (كرب) و (إيلا) ومعنى الكرب: الحرم وأيلا: الإله. فيكون محصل المعنى: حرم الله أو حرم الإله كان لهم هناك وهذا يدل على أن هذا الموضع كان في سابق الزمن حرماً لإله من آلهة الآشوريين أو الكلدانيين أو ما ضاهأهم من أمم تلك البلاد المنقرضة الممحوقة. ووجود الإحرام (جمع حرم) عند تلك القرون أمر مشهور لا يحتاج إلى تنبيه الأفكار إليه. وعليه فكانت كربلاء في سابق العهد إما بمنزلة الحرم لأحد الهتهم. وإما إنه كان فيه محراب أو هيكل يعبد فيه. لأن لفظة (حرم) عند الآشوريين (وكذا عند الوشيين والحبش) تعني كلا الأمرين يعني الحرم والمحراب. والظاهر أن (الكرب) مبدلة من لفظة (الحرم) أو هذه من تلك. فقال بعضهم فيه (الحرب) على لغة مازن أي ممن يبدل الميم باءً كما قالوا: البوباء والموماة. والصرم والصرب ورجل بجباج ومجماع الخ. ومن بقايا الحرب بالعربية المحراب وهو بمعناه أو يكاد. ولا جرم أن (الكرب) بمعنى (الحرم) كان معروفاً عند بادية العرب ثم أميتت اللفظة بعد أن ولد من عقبها لفظ محراب فعاش إلى يومنا هذا بعد أن قتل ذاك ولما صارت الكلمة بلفظ الحرب تلقاها عرب آخرون من مجاوري الأشوريين أو تلقى الأشوريين اللفظة عن العرب أو لما اختلط الأشوريون بالعرب وكان يصعب على الأشوريين النطق بالحاء إذ هي غير موجودة في لسانهم أبدلوها بالكاف وفي بعض الأحيان بالخاء فإنتقلت اللفظة من صورة (حرب) إلى صورة (كرب). بل أن بعض العرب كانت تبدل أيضاً الحاء كافاً. فقد قالوا الحثحث والكثكث. وأكثر النخل وأحثر الكأبي والحأبي. ووقوع حرفين مبدلين في الكلمة الواحدة غير منكر عند العرب فقد قالوا: السبت والشبت ولغنك ولعلك وفلان منسرح من الكرم ومنسلخ. إلى أخر ما هناك وعندنا غير هذ1هـ الأمثلة تربي على المئات. وأما من ذهب إلى أن كربلاء منحوتة من (كرب) و (بلاء) فمن الأقوال السخيفة الواهنة التي لا تحتاج إلى إظهار ما فيها من بعد التأويل واسم الموضع معروف قبل وجود العرب فيه. فتأمل. وأسخف من هذا كله قول أن كربلاء سميت بهذا الاسم أخذاً من الكربلة مصدر كربل. وكربل الشئ خلطه لأن ترابها مخلوط برمل. وقيل من كربل الحنطة غربلها لأن ثراها

يشبه أن يكون مغربلاً وقيل من كربل الرجل: مشى في الطين وكربل فلان: ة خاض في الماء وذلك أن الأمطار إذا كثرت في كربلاء لا يوجد للرجل وسيلة سوى المشي في الطين أو الخوض في الماء. وفي كل ذلك من التعسف في التأويل ما يكفينا مئونة في الخوض في تفنيد هذه الأقاويل. فأحفظه وأما أصل لفظة الكعبة فعندي أنه عربي محض لأن الكعبة عندهم الغرفة وكل بيت مربع وهذا يشير إلى أصل وضع الكعبة في سابق العهد. هذا فضلاً عن أن مادة (ك - ع - ب) تدل على التجمع والأمتلاء ومنه كعبت الجارية نهد ثديها. وكعب فلأن الإناء: ملأه وهذا يشير إلى أن هذا البيت كان يجتمع إليه الناس من كل حوب وصوب والظاهر أن هذا الأصل أن هذا الأصل الثلاثي من أرومة ثنائية الجرف يعين) ك - ب) ومنه كب الشئ: ثقل (وبثقل عند تجمع جواهره أو دقائقه) والغزل: جعله كبباً. والكباب: الكثير من الإبل والغنم والتراب والطين اللازب والثرى وما تجمد من الرمل. والكبة الجماعة من الخيل والجروهق من الغزل والإبل العظيمة والثقيل. . . إلى آخر المادة فإن معنى التجمع لا يزال معقوداً بناصيتها وقل مثل هذا القول إذا بدلت الكاف حرفاً يقاربها ويكثر التبادل بينها. يعني (ق - ب) تقول قب النبات: يبس (اليبس لا يخلو من تجمع في أجزائه) والقب: الرئيس والملك والخليفة (أي الذي تجتمع عنده لغرض من الأغراض) إلى أخر ما هناك من مثل القبة. وهو بناء سقفه مستدير مقعر معقود الحجارة على هيئة الخيمة. . . وكذلك إذا أقحمت العين بين القاف والباء فإنه ينهض ناهض بين يديك هو القعب والقعبة. فقعب الحافر كان مقبباً كالعقب. والقعب: القدح الضخم الجافي (الذي يجمع السوائل) والقعبة: شبه حقة للمرأة (تجمع فيها أدواتها) والقعبة: النقرة في الجبل (يجتمع فيها الماء) والقعيب: العدد الكثير (المجتمع بعضه إلى بعض). . . الخ وإذا استقريت مبدلات الحرفين وما يقحم بينهما لا تقع إلا على مثل ما مر بك. وهذا كله يدل على أن الكعبة من أصل عربي قح معناه التجمع تتجمع الناس فيها كما تتجمع دقائق السوائل ونحوها في الإناء. ولقد اتخذ العرب والعجم في السابق وفي هذه الأزمان معنى لفظ الإناء وما جاء من هذا القبيل لمعنى محل التجمع فهكذا قالوا في معنى الكنيس

والكنيسة وهكذا قالوا في بعض الألفاظ التي تدل على السفن. ولا تظن أن مادة (ك - ب. أو ق - ب. أو - ك - ع - ب. أوق - ع - ب) خاصة بالعربية بل قد وردت أيضا بهذا المعنى في اليونانية. فإن اللغة العربية يقولون (قنبي) كما تقول العرب: قنب وذلك في بعض معانيها. وقالت اليونان (كوبي) كما قالت العرب (كوب) وقالت اليونان (قوبس) كما قالت العرب: كعب وكعبة ومكعب. ومن ثم فإذا أراد بعضهم أن تكون الكعبة من أصل أعجمي فلا تكون إلا من أحد هذه الألفاظ اليونانية الثلاثة المذكورة إلا أننا نقول ونقول دائما أنها عربية العمومة والخونة أما لفظة (مكة) فالذي يظهر لنا في أصلها أنها آشورية من (مكا) ومعناه (البيت) من باب التغليب. كما أن الكعبة معناها: البيت المربع. ووجود الأشوريين في بلاد العرب أمر لا شبهة فيه. والدلائل كثيرة بهذا الخصوص نكتفي بإيراد واحد منها وهو قول علي حين سأله أعرأبي عن أصل قريش: (أننا نبط من كوثى) وقد اتفق أغلب المفسرين وأثبتهم قدماً في العلم أن المراد بكوثى العراق وسكانها كانوا أشوريين فإنتقال الأشوريين الكلدانيين إلى مكة في سابق أمر لا ينكر ولاسيما بعد الاكتشاف العادية التي حسرت اللثام عن أسرار جمة كانت خفية عن عيون الأنام وربك أعلم بحوادث الأيام والأقوام. أحد قراء المقتبس

بني الأرض

بني الأرض بني الأرض هل من سامع فابثه ... حديث بصير بالحقيقة جبلنا على حب الحياة وأنها ... مخيفة أحلام أطافت بحالم سعى الناس والأقدار مخبوءة لهم ... وناموا وما ليل الخطوب بنائم جرت سفن الأيام مشحونة بنا ... على بحر عيش بالردى متلاطم تأملت في الأحياء طراً فلم أجد ... بهم باسماً إلا على ألف واجم ورب سعيد واحد تم سعده ... بألف شقي في المعيشة راغم وما المرء إلا دوحة في تنوفة ... ملوحة أغصانها بالسمائم لها ورق قد جف إلا أقله ... وعيدانها بين النيوب العواجم ولا بد أن تجثث يوماً جذورها ... وتقلعها إحدى الرياح الهوا جم أرى العمر مهما ازداد يزداد ينقصه ... إذا نحن في نقص من العمر دائم ولولا أنهدام في بناء جسومنا ... لما احتيج في تعميرها للمطاعم لحى الله بأساء الحياة كاننا ... نكيل من حاجاتها بالا دأهم نروح كما نغدو نجاهد دونها ... أموراً دعتنا لارتكاب الجرائم فلو كنت في هذا الوجود مخيراً ... وفي عدمي لاختراعه غير نادم هل الموت إلا سالك وحياتنا ... إليه سبيل مسلبين المعالم وما زال هذا الدهر غضبان أخذاً ... على الناس من سيف المنون بقائم تبصر تجد هذى البسيطة منزلاً ... كثير اليتامى عأمراً بالمآثم وليس الذي آسي له فقد هالك ... ولكن ضياع المفجعات الكرائم أرامل تستذري الدموع وحولها ... يتامى كأفراخ القطا والحمائم وكأين ترى مخدومة في جلالها ... سعت حيث أبكاها الردى سعى خادم فليت المنايا حين قوضن بيتها ... بدان بها من قبل هدم الدعائم أرى الخير في الأحياء ومض سحابة ... بدا خلبا والشر ضربة لازم إذا ما رأينا واحدا قام بانيا ... هناك رأينا خلفه ألف هادم وما جاء فيهم من عادل يستميلهم ... إلى الحق إلا صده ألف ظالم جهات كجهل الناس حكمة خالق ... على الخلق طراً بالتعاسة حاكم

وغاية جهدي أنني قد علمته ... حكيماً تعالى عن ركوب المظالم دأبت لنفسي في الحياة كانني ... من العيش ملقى في شدوق الضراغم يخاصمني منها على غير طائل ... أناس فابدي الصفح غير مخاصم واقنع بالقوت الزهيد لطيبه ... حذار وقوعي في خبيث المطاعم واترك ما قد تشتهي النفس نيله ... لما تشتهيه قلة دراهمي وكم لي في بغداد من ذي عداوة ... وما أنا في شيء عليه بجارم إذا جئت بالقلب السليم يجيبني ... بقلب له من كثرة الحقد وارم

الأمم والأفراد

الأمم والأفراد أن للسوريين عامة ولاسيما المتهذبين منهم أن يعلموا جميع الوسائل التي رقت بالأمم في الأدبيات والماديات ويعرفوا كيفية التذرع بها إلى مجاورة الغير في الرقي وأن ما بلغه الناس في هذا العصر من العلوم والمعارف وما أدركوه من الآداب والفضائل وما استنارت به أذهانهم وارتقت عقولهم واتسعت مداركهم وهذب أخلاقهم وما بلغوه من التفنن والمهارة والإتقأن في الزراعة والصناعة والتجارة وما اعتمدوا عليه من القوانين في السياسة والرئاسة والقضاء والإدارة وما أحرزوه من أسباب التمدن والعمران وما أتوه من جليل الأعمال وعظيم الحسنات ليس جميعه نتيجة الاتفاق وابن الرفاهية والكسل والاختبار ابن الأفراد والنابغين فما نراه اليوم من ترقي المعاصرين وتمتعهم بوسائل التقدم والنجاح إنما أتى على يد تلاميذ خمسة وسبعين قرناً حسب رواية التوراة وأكثر من ذلك على رأي العلماء الطبيعيين والمؤرخين وما مر بهم من الأدوار كاف لتعليمهم والأخذ بأيديهم إلى هذا المقام. فقد توإلى على الجنس البشري أزمان بين الشدة والرخاء والبؤس والنعيم وأحاطت بأبنائه المضرات والمنافع أحاطة الهالة بالقمر واكتنفتهم العبر من جميع الجهات فكانوا تارة يعتبرون بها وينتفعون وتارة أخرى يتلاهون عنها فيفوتهم النفع ويتضررون. وعلى هذا المنوال كانوا يتراوحون في التقدم والازدهار والتقدم والتأخر والصعود والهبوط وكانت تتفاوت مراكز الأمم في مراتب العمران تفاوتاً عظيماً لم يزل بيناً صريحاً حتى الآن غنياً عن الدليل والبرهان. وذلك لعدم اعتدادها بالأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج بنسبة واحدة. موضوع خطأبي - الأمم بأفرادها - وأريد بالأفراد ها النوابغ والشاذين الممتازين والمتفردين بأعمالهم ومآتيهم مجددين مخترعين مبتكرين وأعني المحررين من رق العادات المستقلين في الاعتقادات الذين لا يكتفون بتحصيل الرزق والاهتمام بالأكل والشرب واللباس وما أشبه من شؤونهم الخاصة فقط ولا يقلدون التافه المبتذل من الموضوعات والشؤون ولا تصدهم العقبات وتثنيهم المعاكسات الذين يخلدون ذكرهم بفعالهم ويعد الواحد منهم بمقام الألوف والملايين. هؤلاء هم الأفراد الذين أعنيهم بكلامي الآن وهم الذين يجمعون شتات الأمم ويؤلفونها أو

يقسمونها ويبعثرونها. يشيدون أركان مجدها ويرفعون أعلام عزها أو يزعزون دعائمها ويهدمون أسوارها. يقيمونها أو يقعدونها. يغنونها أو يذلونها. ينشطونها أو يخملونها. وبعبارة واحدة يؤثرون حسب أميالهم ومبادئهم وغاياتهم. وهم نافع قلما يضر أو ينفع ومتوسط بين النفع والضر أي مفيد ومؤذ معاً. فالأول من هبات الله للخلق والثاني من تلاميذ إبليس والثالث من الجبلتين بدليل ما نراه من التباين والتناقض والاختلاف في نتائج أعمالهم الخاصة والعامة مما يؤيد القول بأن الأمم بأفرادها وتوضح ما لهم فيها من المأثر والأعمال بنسبة استعدادهم وقوأهم وتقر بأنها شاكرة لهم ممتنة أو ناقمة منهم حاقدة عليهم ولا تنكر أنها تنادي على رؤوس الأشهاد أنها مدينة لهم بما تتمتع به من الحسنات أو تصيح أو تتأوه وتتنهد مما حملوها عليه ورغبوها فيه وعودوها إياه من السيئات. وقلما ذكر التاريخ غير الأفراد في كل جيل وأمة ودولة. وقلما عدد مناقبهم ونوه بغير فعالهم من التأثير في الأمم. فمهما اشتغل العاديون أي العامة وكدوا واجتهدوا مهما قلدوا وتشبهوا ومهروا وأتقنوا مهما تعددوا وتكأثروا وتناطروا وتزاحموا فلا يؤثرون في ذويهم تأثير الأفراد في الخير أو في الشر ولا يرقون صنائعهم وفنونهم ترقية الأفراد لها ولو مر عليهم قرن من برمتها ومهما بلغ عديد الأمة في أي زمن كانت مهما ساعدتها طبيعة البلاد ودرت عليها أخلاف الرزق والثروة مهما سعت في سبل العمران ورغبت في نيل الأدبيات والماديات لا قيام لها إلا بأفراد يحثونها على النهوض في والثبات ويرشدونها إلى أقوام السبل ويتولون زعامتها لها ويقودونها في سبل الخير العام وبراعة وتفنن. ويختلف تأثير الأفراد باختلاف مراكزهم في هيئة الاجتماع ويتباين بنيانها فكلما علا مركز الفرد ازدياد تأثيره واشتد نفعه أو ضره. والويل لأمة لا تعبأ بأفرادها ولا تعمل على تنشيط النافعين منهم ومعاونتهم وترقيتهم جهدهم فإنها لا محالة خاسرة لأن ترقي الفرد لا يتوقف على سعيه الشخصي واعتماده على نفسه فقط واقتحامه واجتيازه العقبات بل ارتقاءه مناط بالأحوال المحيطة به ولها تأثير فيه لا ينكره غير المكابر أن للأفراد يداً في إيجاد الأمم. وحيثما عرفت قيم الأفراد وجلت أقدارهم فنشطوا وأخذ بأيديهم ووثق بهم وركن إليهم وتعددوا وأفادوا لأن الوسائل المعاونة لهم تسهل سبل نجاحهم فيبلغ معظمهم أو كلهم مبلغ

النفع الحقيقي بدلاً من أن بلوغ الربع أو الثلث أو النصف فقط. أي فرد يستطيع اليوم أشغال العالم بما شغله به الأسكندر وتيمور لنك ونابليون وأمثالهم قديماً. في مكنة مستعد أن يصير أعظم من روسو وباستور وبرتلو ولكنه يندر جداً أو يستحيل أن يوجد نيرون ثان على الأرض اليوم أو فيما بعد وما ذلك إلا لأن الأمم أمست قادرة على تكييف أفرادها بما بثه فيها الأفراد من المبادئ والآراء وبإمكانها جعلهم فضلاء مجردين إلى النفع ولو بإكراه. والفرق عظيم بين الفرد المفيد المخلص الغيري وبين النصر المرائي الأناني. ذاك يسعد أمته وهذا يشقيها والأمم الحية تتطلب العادة من جميع أبوابها بكل ما فيها من القوى. سطوة الأفراد عظيمة على العقول وليس بمستغرب فإن من طبائع الناس تقليد كبارهم ونوابغهم كل بحسب مهنته وحرفته وميله فالغني يقتدي بالأغنى منه والعالم بالأكثر علماً والأديب بالأوفر أدباً والفاضل بالأفضل منه وهلم جرا. كل ما تتمتع الأمم من الحسنات قد جنته بواسطة الأفراد. العلم والأدب المعرفة والفضيلة الثروة والرفاهية المجد والشهرة جميع ذلك من نتائج أتعابهم وتفردهم. ارتقى الطب بأفراد لا يعدون جزءاً من مليون من الأطباء الذين نشأوا في الأرض محققين ودجالين والناهضون يعدون على الأصابع وهم أبيوقراط وهرفي وجنر وتروسو وبريتونو وباستور وباهرنغ ويزس وككوخ ورو والكيمياء قد تنكر نفسها فضل لافوا زيه وبرتلو. والزراعة لا يمكنها نسيأن النتائج الآتية من تجارب السر جون لوز ورفيقه الدكتور غلبرت. والفلسفة مقرة بخدم أرسطو وابن رشد وتوما وأغسطينوس وديكارت وباكون وكانت وسبنسر والاجتماعيات تردد بالشكر والأمتنان ذكر فولتير وروسو وسيمون وتولستوي. والشعر يترنم بأميروس ودانت والمتنبي وشكسبير وهو كو وكل فن مقر بأفضال أفراده عليه وتأثيرهم فيه. ولا عجب إذا غير الفرد من حالات أمته أو حرفته ما لا يغيره الألوف الملايين من العاديين. هدم باكون وديكارت أسوار الفلسفة القديمة وأسسا الحديثة وأوضح دروين مذهب النشوء والارتقاء. وعم مكس ملر الأوروبيين والمشارقة كثيراً مما لم يكونوا يعلمونه من تاريخ لغاتهم ومعتقداتهم. وبطرس الأكبر الروسي وكرم ويل الإنكليزي وفرن كلين الأمريكي وبسمارك الألماني والميكادو الياباني الحالي وأمثالهم كثيرون ممن قد نهضوا ببلادهم بتفردهم دع عنك المصلحين والمشرعين كما أن كثيرين من الأفراد قد أساؤوا إلى أممهم

إساءات قلما يغفرها لهم التاريخ ككارلوس الثاني عشر ملك الأسوجيين ونابليون الثالث إمبراطور الفرنسيس وأشباههما. كولمبوس ومجلان وفاسكودي غاما أغنوا العالم باكتشافاتهم أدباً ومادة. فكتور وهو كو وكمال بك غير طرائق الإنشاء في الفرنسية والتركية. بهرام ما لا باري وأحمد خان أفاد الهنود أكثر مما استفاد وه من أنفسهم وهم عشرات الملايين. بوكر واشنطون يعمل على ترقية السود أعمالا لم يأت بمثلها ملايين منهم. فإنديك وبلس والبستانيون واليازجيان أفادونا أكثر مما استفدنا من مجموعنا برمته. عرف الغربيون أن الأمم بأفرادها نشطوا الأفراد وعزروهم ورفعوا أقدرهم ولم يضنوا بعزيز وغال في سبيل هذا السبيل. وأول ما وجهوا أنظارهم إليه تكثير الوسائل العامة التي يسهل وصول الأفراد إليها واستخدامها في ما يقدمهم ويرقيهم فأكثروا المدارس وجعلوا التعليم إلزامياً وأنشئوا المكاتب للمطالعة وأسسوا المنتديات للمباحثة غير جأهلين أن وجود الأفراد غير متوقف على هذه الأمور وإنا حجتهم تسهيل الوسائل لظهورهم ومعاونتهم على الاستفادة والإفادة إذ لا يعلم غير الله من أي فئة ينبغ الأفراد في حين كل من الفقراء أم من الأواسط أم من الأغنياء. ولكن الرأي المعول عليه أن الأفراد كثيراً ما يرون نور الوجود في الأكواخ والبيوت المتوسطة لا في القصور والمنازل الفخمة. وبهذا تتضح غاية إنشاء المدارس المجانية والمكاتب والمنتديات العمومية. ولم نعد نحن في بلادنا أفاضل منا ومن محبينا أدركوا هذا الأمر الجليل فعملوا على إيجاده وتعزيزه. كثير من الناس لا يعبأون بغرف القراءة ولا يرون فيها غير غرف التسلية وصرف أوقات الفراغ لغرض أسمي وأعم ولا يقتصر نفعها على استمالة الشبان عن القهاوي والحانات وترقية عقولهم بالمطالعة وتهذيب نفوسهم بها بل هي مورد عذب للأفراد يستفيدون منها ما يضن به الدهر عليهم. وإذا لم يكن لها غير هذا النفع لكفاها فضلاً وفخراً.

الميكروب

الميكروب تولده وعلة الاختمار انقسم العلماء نظرياً بناء على اكتشاف شوان السابق بيانها في علة الاختمار إلى ثلاثة أقسام. أولهم القائلون أن الاختمار عارض يطرأ على بعض الجوامد في أحوال مخصوصة لا ينتج ولا يتوقف حصوله على الخلايا أو الميكروب التي لا يكون لها فعل أو مدخل في الاختمار إذا وجدت في شيء من تلك المواد بل تصادف أحياناً فيها لأنها تتكون منها بنوع طارئ بلا علة أو والد. سمي أهل العلم (أصحاب التولد الذاتي أو الطر آني). والقسم الثاني هم القائلون أن الاختمار فعل حيوي قائم بالخلايا وملازم لحياتها وهي تنمو وتتكأثر وتتخلد طبيعياً بالتناسل وهؤلاء هم (الحيويين). والقسم الثالث هم الذين ينسبون الاختمار إلى فعل كيماوي. وكان الرأي الأول مرجحاً ومقبولاً عند جميع الذين ينسبون لما لم يكن قائماً على أساس وقاعدة علمية وليس في تعليلاته النظرية ما يشفي غليل المنتقد المتوغل ويقنع النبيه المتبصر كان يقوم الحين بعد الآخر من يخطئ القائلين به ويحاول اكتشاف سبب حقيقي وتعليل تركن إليه العقول ويقبله الحدس السليم. وكان كثيرون قد وقعوا على الحدس وقرروا وجود سبب خفي عن الأبصار يكون علة الاختمار والأمراض ولكنهم كانوا قاصرين عن إثباته ببرهان تستند قضاياه على الإدراك حسياً ومنطقياً. ففي سنة 1776 حاول (سيلنزاني) الإيطالي إثبات وجود الخلايا وبيان تولدها وفعلها في الاختمار مستنداً على التجارب فأخذ بعض السوائل الاختمارية ووضعها في أكواب من الزجاج أحكم سدها ثم غلاها في الماء قاصداً إتلاف ما فيها من الخلايا أو الميكروب ومنع دخول الهواء إليها بعد الغليأن فنجحت تلك. لأن بعض الأكواب دامت معقمة لم يفسد ما فيها ولم يتخمر. وذاع خبرها فبينت عليها كيفية حفظ بعض المأكولات من الفساد بوضعها في علب تغطى ويحكم سدها ليمتنع دخول الهواء إليها. إن نجاح هذا المسعى وأن لم يكن غير كاف لإقناع الكافة فقد كفاه فضلاً إدخاله الشك على المذهب القديم وفتحه باباً للدخول علمياً وعملياً في الموضوع. وبعد ذلك قام كثيرون وتفرعوا للبحث والتوغل في المسألة وخصوا أنفسهم لها ويذلوا

النفس والنفيس في استقصاء الحقيقة فتركوا المناقشات النظرية والحدسية واقتصروا على التجربة والعمل وإذ كانت سوق العلوم وقتئذ رابحة ناجحة لم يتركوا واسطة أملوا منها بعض النجاح لأي علم أو فن نسبت ولم يستعينوا بها في البحث عن الحقيقة. وأفضل الوسائط والآلات لهم خدمة هو كما سبق القول المجهر الذي كان وقتئذ قد أيقنت صناعته واستكملت فتوصلوا به إلى رؤية أدق الميكروب عيناً وعياناً. ولما كان مجرد وجود الأجرام الحية في مادة مختمرة أو متعفنة لا يكفي للتصديق بأنها المسبب الوحيد لذلك اقتضى أن يتبين أيضاً بالتجربة بأن ظواهر الاختمار لا يمكن حصولها في مادة ما جردت من تلك الإجرام وحجبت عنها. وعليه فإنهم كانوا يصنعون المواد التي يقصدون التجربة عليها في زجاجات فيغلونها في الماء لكي تموت بالحرارة الأجرام الحية من السائل والزجاجة وذلك إما بسد الزجاجات أثناء الغليان أو بتعرية الهواء الداخل إليها من الأجرام الحية. قلت فيما سبق أن هذا الأمتحان كان سبق إليه وجرب منذ سنين عديدة. فكان العالم منثار قد اختبر بأنه يقي من الفساد جميع المواد التي يغليها ثم يغمرها في الزيت يحجرها عن الهواء أو إنه كان ينقي ويصفي الهواء من أجرامه بالحوامض قبل أن يمس تلك المواد المغلية. وفي سنة 1837 أعاد شوأن الموما إليه تلك التجارب عينها وكان زيادة على ذلك إذا هلك الأجرام الموجودة في الهواء بأمراره في أنبوب حام قبل وصوله إلى المواد المعروفة للتجربة لم تفسد. إن تنقية الهواء من الأجرام الحية سواء كانت بوسائط كيماوية أو بحرارة النار لم تغير تركيبه الطبيعي. على أن المخالفين للرأي الحيوي تشبثوا بها محتجين بأن الهواء بتلك الوسائط يطرأ عليه تبدلات جوهرية فلا يعود صالحا للحياة. فرداً لهذا الاعتراض عاود شريدر وفوندش سنة 1854 تلك التجارب ولكنهما جعلا ذلك في زجاجات ذوات عنق أو أنبوب طويل منحن على زاوية قائمة. والغرض من ذلك هو تسريح البخار والهواء الخارج من الزجاجة عند الغليان وبعد تصفية الداخل إليها بقطعة قطن مندوف نقي توضع في فوهة الأنبوب فصحت التجربة وأفحم المعترضون. ولكن حاول بوشه في سنة1858 أيضاً إثبات

حدوث الاختمار من دون هواء ومن بعد تعقيم المواد المجرب عليها ثم أخذ الزجاجة وسد فمها سداً محكماً فكبه في إناء مملوء الزئبق. فبعد أن برد في الزجاجة أدخل إليها من تحت الزئبق كمية من الأوكسجين وبضعة غرامات من حشيش يابس معقم فما لبث الماء أن فسد والزجاجة في الزئبق لم يدخلها الهواء فاستنتج المعلم الموما إليه بأن هذه قد حصلت من ذاتها ولم تأت لا من المواد التي كانت قد عقمت ولا من الهواء الذي لم يدخل الزجاجة. فرد عليه وباستور بأن جراثيم التي ظهرت بماء الزجاجة إنما وصلت إليه بواسطة الزئبق الذي لم يعقم قبل التجربة وكان معرضاً للهواء تتساقط عليه الجراثيم المنثورة في الهباء ثم أخذ وباستور بالاتفاق مع شفر ويل في إعادته جميع التجارب التي تثبت رأي الحيويين وذلك بأسلوب جلي بسيط تراه العيون وتدركه العقول فصنعا زجاجة ذات عنق كالأنبوب طولها نحو متر أو أكثر منحنية على زاوية قائمة عند أصلها وذات تعرجات كثيرة أشبه بالحية الزاحفة تنتهي فوهتها منحنية نحو الأرض. والغرض من ذلك أن الهواء الداخل إلى الزجاجة بمروره في الأنبوب يترك في تعرجاته جميع ما يحمله من الهباء حتى ينتقي إذا وصل إلى داخل الزجاجة واختلط بالسائل. فيكون بهذه الواسطة غنياً عن جميع الوسائل التي اتخذها المجربون من قبل لتنقية الهواء فكانت هذه التجربة الأخيرة لأنها أكدت جميع ما قبلها وقطعت قول كل معترض. وناهيك بأن وباستور لم يكن يكتف بتجاربه العديدة على ملاحظة زجاجة واحدة لا اختلاف بينها البتة. فكان يعقم الزجاجات وما فيها ويتركها في مكان خاص تصلح درجة حرارته لحدوث الاختمار فلم يظهر ذلك في شيء منها. فكان السائل يختلط ببعض الجراثيم المتساقطة في الأنبوب فيختمر لا محالة. وقصارى القول فإن الزجاجات المعقمة كانت تبقى كذلك أبداً ما لم يدخل إليها عمداً للاختبار بعض جراثيم الاختمار. فاشتهرت تلك التجارب وعرفت قواعدها وشروطها في العالمين حتى صارت دستور العمل لحفظ المأكولات والمشروبات ووقايتها من الفساد وسميت باسم واضعها ومكتشفها وباستور. وعندما كثر المجربون واختلفت مآربهم ودرجة معلوماتهم في فن الميكروب تهاون بعضهم في الدقة واستكمال الشروط التي لا بد منها للنجاح حبطت بعض تجاربهم فاعتمدوا على القواعد الموضوعة وغالطوها وادعوا بأنهم اتخذوا جميع الوسائط المقررة فلم يتمكنوا من منع الفساد والاختمار ولما كأن ذلك نتيجة خطأهم وقلة دقتهم وقصر

باعهم فاعتراضهم لم تزعزع القواعد التي تقرر حكمها أبداً. جراثيم الميكروب وصئبانه لم يفتر وباستور من تحصين اكتشافه واستكمال الفوائد والشروط للاحتراز فيها من الفشل. من ذلك أنه عندما أطلع بأن بعض الميكروب لم تهلكه حرارة الماء التي تغلي والقدر مكشوفة بل كان يبقى بعضه حياً من بعد الغليان أما على الزجاجات أو فيها فيفسده أخذ يسخنها والزجاجات إلى درجة 110=125 من الحرارة في القدر المعروفة باسم مخترعها بابن. وعرف شريدر أيضاً ذلك فصار إما يسخن المواد الآلية بالقدر المذكور أو يتركها تغلي على العادة القديمة بضع ساعات. ولا يخفى أن من الميكروب الذي لم تممته حرارة الماء الغالي هي جراثيمه أو وصئبانه. واكتشف وباستور سنة 1865 جراثيم أو بيضات ونسجها صئباناً لكل من أنواع الميكروب تخلفها هي فيتكون منها النسل. وأشهر من توغل في البحث عنها المعلم كوخ الألماني ونشر فيه كتاباً سنة 1876 وأظهر بأن جميع الميكروب وهو في إبان نشوئه ونموه يهلكه الماء المغلي بل أقل حرارة من درجتها إنما جراثيمها تحتمل بطراً شديد الأجاج وأظهر أيضاً بأن الحرارة الرطبة أنجع منها يابسة لأهلاك تلك الجراثيم فجعل بعض أنواعها في حمام جاف حرارته120 مدة أربع ساعات فلم تهلك ولكن تم ذلك بمدة ساعتين في حمام درجة حرارته 140 وأما الحرارة الرطبة أعني في حمام فيه بخار الماء فمائة درجة من الحرارة تكفي غالباً لأهلاكها تماماً بمدة قصيرة. ولأجل الحصول على الأمنية التامة في ذلك علمنا كوخ بان نكرر عملية التسخين في حمام البخار المذكورة بضع دفعات بين بعضها عدة ساعات ريثما يبرد السائل. فالجراثيم التي لم تهلكها الحرارة تنتعش وتنمو حينئذ فقبل أن يدرك وقت تخليفها وضع السائل من جديد في حمام البخار فيهلك الميكروب الناشئ فيه. فإذا أعيد ذلك مرة أخرى أو أكثر تتحول الصئبان كلها إلى خلايا ناضجة فتهلك ويحصل كذلك التعقيم التام.

اليونان

اليونان غارات على أرضهم ورحلات إليها تاريخ اليونان - لم يسكن جميع شعوب يونان منذ الزمن الأطول البلاد التي كانوا فيها في القرن السابع أي في العصر الذي أخذ أهل العلم يعرفون عنهم شيئاً يوثق به. وقد حفظ كثير من هذه الشعوب ذكرى نزولهم في تلك البلاد وامتازوا عن الشعوب العريقة في القدم النازلة في تلك البلاد. جاءت أمم كثيرة فاحتلت أرض يونان بقوائم سيوفها وتشتت شمل غيرهم أمام المغيرين عليهم. ويقول اليونان أن بدء هذه الغارات الشعواء والرحلات كانت من القدم بحيث لم تصلنا أخبارها مسطورة ونقلت وشاع ذكرها تقليداً ويقولون أنها كانت في القرن الثاني عشر (أي بعد أخذ طروادة بثمانين سنة) ولا عبرة على أن هذا التاريخ أخذ قضية مسلمة بدون جدال ولا نزاع فيه. دعي أقدم سكان يونان بالبيلاسج (ولعل معناه القدماء) ولم يعرف عنهم شيء ولا فيما إذا كانوا من جنس يوناني أو من جنس آخر. ومن هؤلاء السكان غير اليونان ولا يعلم أيضاً كيف أبدل اسم بيلاسج بالهيلانين إذ لم يرد أشعار هوميروس أيضاً ذكر لهذا الاسم. ومن المقرر أن بضعة بلاد حفظت أثراً من أثار فاتحيها وغزاتها. فقد جاء قوم برابرة من البلاد المشهورة ببلاد المهاجمين عصابة من الفرسأن الإشراف وأمسى سكان البلاد الأصليون عملة يزرعون ويحرثون ليس إلا. وقد رحل وأمسى الذي سمي باسم (بيوسيا) كل من لم تخضع لهذا الحكم. وبعد ردح من الدهر خرج الدور يون من جبال البند واجتازوا برزخ كورنت وأغاروا على بلاد المورة واستوطنوا من أقاليمها ما أمرعت تربته وغنيت رباعه وبقاعه مثل لا كونيا ومسينيا وارغوليديا وسيكيونيا وكورنت ومي كار. ويروى أن قدماء ملوكهم دعوهم الهيراكليديين (أي نسل المعبود وهيراكليس) ليغلبوا رعايأهم الثائرين ويعيدوهم إلى عروشهم وكان ملوك إسبارطة يرون أنهم من نسل قدماء السكان لا من الدور يين وقد استحال الشعب الذي احتل البلاد التي أغار عليها الدور يون إلى زراع وأهل فلاحة. واستولت عصابة من الأيتوليين الذي صحبوا الدوريين في تلك الحملة على مقاطعة إيلديا في الغرب. وأنهال الأشياتيون ممن أبت نفوسهم الخضوع على شاطئ شبه جزيرة المورة.

الشمالي وطردوا منها الأيونيين وأسسوا الأثنتي عشرة مدينة الآشيانية فلجأ الأيونيين المطرودون إلى مقاطعة اتيكيا وامتزجوا بسكانها الأقدمين ومن ذاك العهد عرف الأثينيون أي سكان اتيكيا شعباً أيونياً. ثم انفصلت عصابات من عدة شعوب وراحوا يؤسسون مستعمرات في السيف الآخر من البحر. والأيوليون أقدم هذه العصابات النازلة في آسيا ثم سكنوا بعد ذاك الشاطئ بعينه. واحتل الدور يون جزيرة أقر يطش (كريت) وبعد زمن استعمر اليونان صقلية وإيطاليا الجنوبية. الدور يون - يراد بالدور يين نسل سكان الجبال النازلين من الشمال ممن طردوا أو أخضعوا سكان السهول شاطئ بلاد اليونأن الجنوبية المعروف ببلاد المورة ويذكر هؤلاء المغيرون أن ملوكاً من إسبارطة من نسل البطل هيرا كليس قد طردهم رعايأهم فجاءوا يبحثون عنهم في جبالهم فتبع الدور يون أخلاف هذا البطل حباً به ونصبوهم على عروشهم ثم أغاروا على السكان واستضعفوا أرضهم وديارهم. وكان هذا العنصر جيلاً من الناس اشتهر بجماله وقوته وصحة أجسامه وتعود البرد وشظف العيش وحياة الفقر والفاقة فترى رجالهم ونساؤهم يلبسون ثياباً قصيرة ى تصل إلى ركبهم. والدور يون أمة حربية دعاها الاضطرار إلى أن تكون أبداً على قدم الدفاع تحمل عدتها وعتادها وهم أقسى أهل يونأن لبعد أقليمهم عن سكان البحر ولذلك احتفظوا الأمصار لأنهم كانوا على وحدتهم لا يستطيعون الأمتزاج بالغرباء ولا تقليدهم في منازع أخلاقهم. الأيونيون - يدعى شعوب اتيكيا والجزائر وشاطئ آسيا بالأمة الأيونية. ولا يعلم من أين جاءتهم هذه التسمية وهم على عكس الدور يين جنس من البحارة أو التجار. ومن أكثر شعوب اليونانية تهذيباً لأنهم استفادوا من الاحتكاك بأمم مشارقه أعرق منهم في الحضارة واقتبسوا من النظر إليهم وهم ضعاف في صبغتهم اليونانية لامتزاجهم بالآسيويين ولأنهم نحوا نحو هؤلاء في عاداتهم إلا قليلاً يميلون إلى السلم ويولعون بالصناعات ويعيشون عيش الترف يمضون الكلام ويرققونه ويلبسون ثياباًًً ضافية الأذيال على مثال المشارقة. الهيلانيون - هذان العنصران أو الجنسأن المتباينأن المعروفإن بالدور يين والأيونيين هما عناصر اليونان وأقدرها. فأقليم إسبارطة للدور يين وأقليم أثينية للأيونيين وليس السواد الأعظم من اليونان والدور يين ولا أيونيين ويعرفون بالأيوليون وهو اسم مجهول يطلق

على شعوب مختلفة في تلك الأصقاع من أيوليين واكرنا نيين وفوسيديين وبيوسيين من أهل البلاد اليونانية الوسطى والأشانيين من أهل المورة. وكل من تقدم ذكرهم يسمون باسم الهيلانيين الذين عرفوا به منذ ذاك العهد وهم لا يعرفون تسميتهم هذه كما نجهل نحن ذلك على أنهم يقولون أن دور وس وعولس كانا هيلانة وأيون حفيدهما. مستعمرات اليونان الاستعمار اليوناني - لم يقتصر الهيلانيون على سكنى بلاد اليونأن فقط بل قام منهم طوارئ من أهل المدن أنشؤا بلداناً في جميع الأنحاء المجاورة وكانت عدة من هذه الممالك الصغيرة اليونانية في جميع جزائر الأرخبيل وعلى شاطئ آسيا الصغرى وأقر يطش وقبرص وفي كل ما أحاط بالبحر الأسود إلى بلاد القاف قاس والقريم على طول البلاد العثمانية في أوروبا (المعروفة إذ ذاك بتراسيا) وعلى شاطئ أفريقية وفي صقلية وإيطاليا إلى شواطئ فرنسا وأسبانيا. أخلاق هذه المستعمرات - يبدأ تاريخ المستعمرات اليونانية منقرون كثيرة أي من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس وهذه المستعمرات اشتقت من كل المدن ونتجت عن كل جنس دورياً كان أو أيونياً أو أبولياً. ولطالما قامت المستعمرات في أماكن قفرة تارة وفي بلاد مأهولة أخرى أسست حيناً بالفتح وآونة بالإتحاد مع السكان وأنشأها بحارة أو تجار أو منفيون أو متشردون. وتمتاز هذه المستعمرات على اختلاف زمانها ومكانها وجنسها وأصلها بخلق عام وأنها نشأت دفعة واحدة بمقتضى قواعد ثابتة. وما كان الطوارئ أو المستعمرون من اليونان يحلون في بلد واحد بعد واحد عصابات صغيرة ولم ينزلوا بقعة عرضاً فيقيمون لهم مساكن تصبح بالتدريج مدينة على نحو ما يفعل الطوارئ من الأوروبيين في أمريكا اليوم بل أن الطوارئ منهم يسافرون قضهم وقضيضهم دفعة واحدة ورئيسهم واحد فتؤسس المؤسس لها سواراً مقدساً ويجعل بيتاً مباركاً يوقد فيه ناراً مقدسة. تقاليد المستعمرات - يتضح مما نقل من القصص القديمة في تأسيس بعض هذه المستعمرات وجه الاختلاف بينها وبين المستعمرات الحديثة. وإليك كيفية استعمار مرسيليا والبداءة به فقد جاء إلى بلاد الغال (فرنسا اليوم) أوكس نيس أحد أهالي مدينة فوسي في آسيا الصغرى على سفينة تجارية فدعاه أحد زعماء الغاليين إلى عرس ابنته ومن عادة هذا

الشعب أن تدخل العروس بعد الطعام حاملة كأساً تقدمها لرجل تختاره من الجماعة فوقفت أمام اليوناني ومدت الكأس نحوه. فظهر للقوم أن هذا العمل كان بإلهام من السماء إذا لم يكن متوقعاً. فما كان من الزعيم الغالي إلا أن تزوج أوكسينس من ابنته وسمح له بأن يؤسس ورفاقه مدينة على خليج مرسيليا ثم رأى أهل فوسي أن الجيش الفارسي يحاصر مدينتهم فقاموا يعدون لهم سفناً تقل عيالهم وأثقالهم وأصنامهم وحلي معابدهم وغادروا بلدهم ماخرين في سفنهم وأقسموا عند منصرفهم أن لا يعودوا إليها إلا إذا عامت على وجه الماء الحديدة المحماة التي ألقوها في البحر. وقد نكث كثير منهم بالعهد وعادوا إلى مسقط رؤوسهم أما الباقون فظلوا يشقون العباب بعد العباب حتى وصلوا إلى مرسيليا بعد أن تجشموا أهولاً كثيرة. وأسس الأيونيون مدينة ميلت تاركين نساؤهم وراءهم واستولوا على بلد يقطنها ناس من آسيا فذبحوا الرجال وتزوجوا النساء وبناتهم قسراً. ويقال أن هؤلاء النساء أقسمن أن لا يتنأولن الطعام مع أزواجهن وأن لا ينادينهم بيا أزواجنا. عادة بقيت قروناً يعمل بها نساء ميلت. أما مستعمرة برقة في أفريقية فقد أسست بأمر صريح من المعبود أبولون ووحي منه. فلم يكن سكان مدينة تيرا الذين أمروا بذلك يحاذرون من نزول بلد مجهول ولم يعملوا بهذا الأمر إلا بعد سبع سنين وكانت جزيرتهم عرضة للجفاف فاعتقدوا أن أبولون ساقهم إلى تلك الجزيرة عقاباً منه لهم. وحاول الطوارئ الذين أنقذوهم أن يرجعوا فدأهمهم مواطنوهم وأكرهوهم على السفر. وبعد عامين في إحدى الجزر وقد خانتهم فيها أسباب النجاح انتهى بهم الحال أن يستوطنوا أبد الدهر مدينة برقة فكان منها مدينة عأمرة راقية. خطورة المستعمرات - شأن هذه الطوارئ أن تؤسس حكومة جديدة في كل مكان تنزله ولا تخضع لأم القرى التي انفصلت عنها بتة. وهكذا بلغت الحال بأن كان البحر المتوسط محاطاً بمدن يونانية كل منها مستقلة تمام الاستقلال. فأصبح كثير من هذه المدن آية في غناه وقوته لم تضاهه بهما المدن التي خرجت منها وكان لها أصقاع أوسع وأخصب وسكان أوفر وأكثر. ويقال إنه كان في مدينة سيباريس في إيطاليا ثلاثمائة ألف رجل يحمل السلاح وأن كروتون جيشت جيشاً مؤلفا من مئة وعشرين ألف مقاتل وفاقت سيراكوزة في صقيلة وميلت في آسيا بقوتهما مملكتي إسبارطة وأثينية وكان يدعى جنوب إيطاليا يونأن

الكبرى. وما كانت وما كأنت المملكة الأصلية غير بلاد صغرى بالنسبة لتلك المملكة المأهولة كلها بالطوارئ من اليونان. وحدث أن كان الهيلانيون أوفر عدداً في البلاد المجاورة منهم في بلاد اليونان نفسها. ونرى بين رجال تلك المستعمرات طائفة صالحة من المشاهير هوميروس والسيوس وساف وس وطال يس وفيثاغورس وهير أقليطس ودو موقر يطس وانفيد كلس وأرسطوطاليس وأرخميدس وتيو كرينس وغيرهم. المدن - ظل اليونان منقسمين إلى طوائف صغيرة في كل البلاد التي نزلوها كما كانوا على عهد هوميروس. وغير خاف أن أرض اليونان وإيطاليا الجنوبية منقطعة بالبحر والجبال ولذلك انقسمت بالطبع إلى عدد كثير من المقاطعات الصغيرة كل منها منفردة عن جارتها برأس من البحر أو بجدار من الصخر بحيث يسهل الدفاع عنها وتصعب الموأصلات فكانت تتألف من كل مقاطعة حكومة على حدتها تدعى مدينة وقد بلغت أكثر من مئة مدينة وإذا أحصيت المستعمرات بلغت زهاء الألف وليست مملكة اليونانية إلا صورة مصغرة بالنسبة إلنا فإن ايتكيا كلها لا تساوي نصف أصغر مقاطعات فرنسا لهذا العهد أما أراضي كورنت أو ميكار فقد صارت ريفاً ومزارع. ومن العادة أن تكون ما يعبرون عنه بمملكة الواحدة قلعة المملكة الثانية وجبالها أو مرفأ المملكة المجاورة وكثير من هذه الممالك لا يسكنه أكثر من بضعة ألوف من الناس وأعظمها لا يكاد يكون فيه مائتان أو ثلاثمائة ألف نسمة. وبعد فلم يؤلف الهيلانيون أو اليونانيين أمة برأسها ولا أنفكوا من التقاتل والتقاطع على أنهم تكلموا لغة واحدة على حد سواء وعبدوا آلهة واحدة عاشوا عيشة واحدة منذ شطوط أسبانيا إلى طرف البحر الأسود. فكانوا بهذه العلامات يتعارفون كما تعارف أبناء نبعة واحدة ويمتازون عن سائر الأمم التي يدعونها البرابرة فينظرون إليها نظر الأستخاف والأمتهان. الديانة اليونانية تعدد الأرباب - اعتقد اليونان اعتقاد سائر قدماء الآريين بأرباب كثيرة ولم يكن لهم شعور باللأنهاية ولا بالأزلية ولم يؤمنوا برب واحد تكون السماء سرادقه والأرض سلمه ومرتقاه. واعتقد اليونان أن كل قوة في الطبيعة من هائها وشمسها وبحرها هي قوة إلهية ونسبوا كلا من هذه القوى إلى رب خاص إذ لم يدركوا أن علة واحدة تنتج كل هذه الأكوان ولذا عبدوا

عدداً من هذه الآلهة فكانوا وثنيين على هذا النحو. نسبة الشهوات البشرية ودعوى تجسد الرب - كل رب هو قوة من الطبيعة وله اسم خاص به ولشدة تصور اليونانيين وسعة خيالهم مثلت لهم أذهانهم تحت الاسم كائناً حياً في أبهى المظاهر من الصور البشرية وكانوا يتمثلون المعبود أو المعبودة على صورة رجلاً جميل الطلعة وامرأة وسيمة المحيى وعند ما كان عولس أو تيليماك يصادفإن رجلاً عظيماً وسيماً يبدان بسؤاله عما إذا كان رباً من الأرباب. وقد صور على ترس البطل أشيل صورة جيش. قال هوميرس في وصفه له: أن أريس واتنييه كانا يقودان الجيش وكلأهما متشح بالذهب وكانا من الجمال والاعتدال على صورة تليق بالأرباب إذ البشر أقزام فصار القامات وكان الأرباب اليونانيين بشراً يلبسون ثياباً ولهم قصور وأجساد كأجسادنا وهم أن لم يموتوا يجرحون. وذكر الشاعر هوميرس كيف أن أحد المحاربين جرح الرب أريس فراح يصرخ من الألم. وهذا الضرب من اختيار الأرباب على مثال البشر هو ما يدعى انترومورفيسم أي تجسيد الأرباب. علم الميثولوجيا - للأرباب أقرباء وأولاد ورهط وأسرات لأنهم ناس كالآراميين فأمهم ربة وأخوتهم أرباب غيرهم أو ناس هم نصف أرباب. وتدعى أنساب هذه الأرباب تيوغونيا. وللأرباب تاريخ وحوادث ولهم قصص في مواليدهم وأخبار شبيبتهم وأعمالهم. فالرب أبولون مثلاً ولد في جزيرة ديلوس وكأنت اليها أمة لاتون وقتل غيلاناً كان قد خرب تلك البلاد في سفح جبل البار ناس. وهكذا كان لكل مقاطعة يونانية أخبار تعزوها لأربابها سموها الخرافات ومن تتألف الميثولوجيا أي تاريخ الأرباب. الأرباب المحليون - بقي الأرباب وهم اليونانيون وهم على صفتهم البشرية على ما كانت عليه أولا كواثن طبيعية فكان القوم يتخيلونها كما يتخيلون البشر وقوى الطبيعة فقد كأنت الناياد فتاة جميلة ونبعاً في آن واحد. وتخيل هوميرس الشاعر أن نهر جزيرة الزانت هو رب وقال فيه (لقد تدفق نهر الزانت على البطل أشيل وهو يزيد غيظا ويرغي حنقاً ويخر طافحاً بالزبد والجثث) وظلت الأمة تقول أن الرب زيوس ينزل المطر ويرسل الرعد. وكان اليوناني يعتقد أن الرب عبارة عن مطر وسيل وسماء أو شمس لا السماء والشمس والأرض على الجملة. وكان ربه مسامتاً للسماء التي تظله والأرض التي تقله والنهر الذي

يعله. فمن ثم كان لكل فمن ثم لكل مدينة أرباب ومعبودات كثيرة فمن رب الشمس إلى أباب الأرض إلى رب البحر وكانت تلك الأرباب منفصلة عن شمس البلد المجاورة وأرضها وبحرها بمعنى إنه كان لأهل كل مقاطعة ربها ومعبوداتها الخاصة بها. فليس لرب إسبارطة زيوس رباً لأثينة زيوس بعينه وربما كان يذكر في قسم واحد ربان تحت اسم أبولون. ذكر أحد من طاف بلاد اليونان من السياح أنه شاهد ألوفاً من الأرباب كانت تدعى أرباب المدينة ولم يكن هناك سيل ماء ولا غابة ولا أكمه شماء إلا وهي مؤلفة ولها صفة لا يشاركها فيها غيرها وربما كان هذا المعبود صغيراً لا يعبده إلا يعبده من أهل الجوار وما مزاره غير مغارة في الصخر. الأرباب الكبيرة - وهم اليونان أن فوق الأرباب الصغيرة المنبثة في كل مقاطعة بضعة أرباب كبيرة كالشمس والسماء والأرض ولبحر المدعوة بهذا الاسم ولها في كل كان معبد خاص أو مزار يتقرب فيه إليها وكانت تمثل كل من هذه الأرباب أهم القوى الطبيعية وما أكثر عدد هذه الأرباب التي اشترك أهل يونان كافة في التقرب إليها فإنك لو أحصيتها لا تكاد تصل في عددها إلى العشرين. ومن سوء عادتنا معاشر الإفرنج أن ندعو هذه الأرباب بأسماء أرباب لاتينية وإليك حقيقة أسمائهم: زيوس (المشتري=هيرا (جونون) =اتينيه (منرفا) =أبولون=رتيمس= (ديان) =هيفر توس (فولكين) =هرميس (عطارد) =هيستيا (فيسا) أريس= (المريخ) =افروديت (الزهرة) بوزيدون (سيريس) =برسيفونه (بروزربين) هاديس (بلوتيون) =ديوينزوس (باخوس). وهذه الزمرة من الأرباب هي التي كانت تعبد في كل المعابد على الجملة ويتوسل إليها في الصلوات. خصائص الأرباب - لكل من هذه الأرباب هيئته وهندامه وأدواته المدعوة خصائص هكذا تصورها المؤمنون من أبناء يونان وهكذا مثلها النقاشون منهم. ولكل خلقه المعروف به بين عابديه ولكل منها عمله الخاص به في العالم ويقوم بوظائف معينة وذلك بمعونة أرباب ثانوية تطيعه في العادة ويتصرف فيها بأمره. فالرب اتنيه مثلاً هو على صورة عذراء ذات عينين براقتين مثلت قائمة وهي تحمل رمحاً وعلى رأسها خوذة وعلى صدرها سلاح لامع وهي عندهم ربة الهواء النقي والحكمة والاختراع وعلى جانب من الهيبة والشراسة. ومثل

هيفيزتوس رب النار حاملاً بيده مطرقة على صورة حداد أعرج قبيح الهيئة وزعموا أنه ينزل الصاعقة. وأن الربة أرت يمس كانت عذراء متوحشة تحمل قوساً وكنانة وهي تطوف الغابات تتصيد مع زمرة من الجنيات وهي ربة الغابات والصيد والموت. أما هرميس الذي قتلوه لابساً نعالاً مجنحة فهو رب المطر المخصبة وله أعمال أخرى وهو رب الأسواق والأماكن ورب التجارة ورب السرقة ورب الفصاحة يسري بأرواح الموتى ويمشي في السفارات بين الأرباب ويقوم على تربية الحيوانات. وللرب اليوناني أبداً عدة وظائف في الغالب عي في نظرنا متخالفة غير أن اليونان تخيلوا أن بيتاً تشابهاً ويرتئون لها صلة وعائداً. الأولمب وزيوس - كل من هذه الأرباب أشبه بملك في مقره ومع هذا فقد لاحظ اليونان أن جميع قوى الطبيعة لا تسير بالتصادف وأنها تعمل يداً واحدة فكانوا يطلقون اللفظ الواحد للتعبير عن النظام والعالم ففرضوا أن أرباب أتحدت على تسيير نظام العالم وأنه كلن لهم شرائع وحكومة كما للبشر. وكنت ترى في شمالي اليونان جبلاً ذا قمم مكسوة بالثلج لم يصعد إليه بشر واسمه الأولمب وعلى هذه القمة المستورة عن أعين الناس بما يتراكم عليها من الضباب توهم اليونان أن الأرباب يعقدون جلساتهم فيجتمعون مستنيرين بتنور سماوي يتقاضون في شؤون العالم وعظيمهم زيوس يرأس تلك الجلسات لأنه رب السماء والنور والرب الذي يؤلف فالسحاب ويرسل الصواعق وصوروه على مثال شيخ مهاب ذي لحية بيضاء جالس على عرش من ذهب وهو الذي خص بالزعامة دون سائر الأرباب ولذلك تراها تخضع له فإذا بدرت من أحدها بادرة المقاومة في أمر يتهددها زيوس وإليك ما ذكره هو ميرس على لسانه اعقدوا في السماء سلسلة من ذهب وتعلقوا بها أنتم معاشر الأرباب ذكوراً كنتم أو إناثاً ولو بذلتم الجهد كلكم لا تجرون زيوس إلى الأرض وهو الملك وعلى العكس إذا أردت أن أجذب السلسة إلي فإنا جاذب إلي الأرض والسماء والبحر ثم أعلقه بقمة الأولمب ويبقى العالم كله معلقا مصلوبا ما دمت أعلى منزلة من الأرباب والبشر. آداب الميثولوجيا اليونانية - وهم اليونان أن معظم أربابهم من القسوة والسفك والخداع والسفاهة على جانب فاخترعوا لهم أخباراً سفيهة وأعمالاً نأبية عن طور اللياقة. فكان هرميس بزعمهم لصاً واشتهرت أفروديت بغنجها وخفرها واريس بقسوته وكانوا كلهم من

العجب بحيث لا ينفكون عن اضطهاد من تسأهل في تقديم الضحايا لهم. ولما أعجبت نيوبي ملكة ثيبة بكثرة أسرتها لم يصعب عليها أن رأت الرب أبولون يصمي أولادها بالسهام ويمزقهم كل ممزق. وكان من حال تلك الأرباب في الحسد بحيث لا تتمالك من رؤية إنسان بلغ غايات السعادة. فاليونان رأوا السعادة من أعظم الأخطار لأنها تجلب غضب الأرباب حتماً ولذلك ابتدعوا ربة للغضب والانتقام سموها نيميزيس ويذكرون لها قصصاً كالآتية مثلاً: ذلك أن بوليكراتس الظالم من أهل الجزيرة سيسام خاف يوما أن حسد الأرباب إذ غدا ذا طول وحول وكان يملك خاتم ذهب له موقع كبير من نفسه فألقاه في اليم لئلا تكون سعادته مشوبة بالشقاء ثم أن صياداً أحضر لبولكراتس ذات يوم سمكة عظيمة وجد خاتمه في جوفها فكأن ذلك في نظره شؤماً دالاً على وقوع المصيبة الأكيدة، فحوصر بعد في مدينته وأخذ وصلب وعاقبه أرباب يونان على سعادته نالها وحظ من النعم أصابه. عرف بهذا أن الميثولوجيا اليونانية كانت عارية عن الأخلاق إذ كان الأرباب قدوة سيئة للناس قال ذلك فلاسفة اليونان وضيقوا على الشعراء الذين نشروا هذه الحكايات وذكر أحد تلاميذ وفيثاغورس أن معلمه أطلع على الجحيم فرأى فيه روح هوميروس الشاعر مصلوبة في شجرة وروح أزيودس مدلاة في دعامة عقوبة لهما على أهانتهما الأرباب وقال كسينوفإن أن هوميروس وازيودس قد نسبا للأرباب أعمالاً من شأنها أن تكون عاراً بين البشر وشناراً عليهم وهناك إله واحد لا يشبه البشر ولا بعقولها وكان يزيد على ذلك قوله: لو كان للبقر والأسود أيد واستطاعت أن تصور كالناس لصنعوا للأرباب أجساداً تشبه أجسادهم ولجعلت أعين للأرباب أجساداً كالخيل والبقر. والناس يذهبون إلى أن للأرباب إحساساً وصوتاً وجسداً. هذا قول كسينوفإن وهو من الحق والعدل بمكان إذ جعل اليونأن الأول أربابهم على صورهم مثل ما كانوا عليه في ذاك العهد سفاكين غدارين حسودين معجبين وكذلك كان أربابهم. ثم صاروا على نية التحسين في أخلاقهم ينشأ أخلافهم متبرمين من هذه المبادئ كلها عازفين عنها ولكن تاريخ الأرباب وأخلاقهم كانت مقررة بحكايات قديمة أخذها أهل الأجيال الحديثة ولم يجرؤوا على تغيير أرباب أجدادهم الفظة السفيهة بغيرها.

بعض تباريح

بعض تباريح المعنى مأخوذ عن شاعر أمريكاني حمامة هذا الفجر ويحك رفرفي ... لتلتقطي حب النجوم وطيري لعل الصبا تندي على القلب ندوة ... تنفس وجدي أو تبل زفيري فلي في الصبا شكوى ولي في الصبا هوى ... وبعض تباريح وبعض أمور تحك نفسي كلما هفهفت وما ... تظن بأنفاس وشعلة نور تلاقي إليها الحب من كل مذهب ... كما استهدفت فيه لكل مصير فكيف انتثت تلق الهوى أو شعاعه ... لحاظاً وألفاظاً ونور ثغور كثير على نفسي همومي وحسبها ... على عنت الأيام حمل ضميري تخالجني بالرغم يأس مبرح ... سواء غيري بعده ويسيري وما أنا مردود إلى الرأي بعد ما ... تحكم طبعي واستمر مريري شجينا وباتوا قد خلت مهجاتهم ... على أفق بادي الصفاء منير وما في اكتئاب العشق حزن وإنما ... لمعنى يرى في اللحظ بعض فتور

سير العلم

سير العلم أثار رومانية كان أحد علماء الأثار من الطليان اكتشف منذ بضع سنين في فياسا كرا من جبال مدينة رومية مدافن قديمة جداً يرد عهدها إلى ما قبل تأسيس رومية بقرون فاهتز لذلك العلماء والمؤرخون إذ ثبت لهم إن ما يوجد في عظماء هو ما وجد تلك المدافن من الخزف والحلي والتعاويذ وضروب الزينة التي زينت بها العظام هو مما يدل على أن هناك عنصراً وتمدناً يخالف العنصر الروماني وتمدنه. وقد عثر الأن في جبال بلاتين أي في تلك البقعة عينها على مدافن على شكل آبار مثل قبور الفور وم وربما كان المدفون فيها أناس من سكان تلك البلاد الأصليين وما زال الحفر متتابعاً. أميركا والفينيقيون ما برح علماء الأثار يبحثون عمن سكن أمريكا قبل القرون الوسطى قائلين أنها عرفت قبل مكتشفها كريستوف كولومبس بنحو خمسة وعشرين قرناً لأن الأثار التي وجدت في كثير من أنحائها كالهياكل والأواني النحاسية والكتابات العبرانية تدل على أنه سكنها ناس من العبرانيين أو الفنييقين والأرجح أنهم فينيقيون لأن جميع الهياكل كانت أبوابها متجهة إلى الشرق خاصة بعبادة الشمس على نحو الهياكل الفينيقية ووجد فيها صور بعض الحيوانات الكاسرة والدا جنة منها ما عهد عند الفنييقين ومنها ما أثرت عبادته عن قدماء المصريين ومعظم تلك العاديات أشبه بهياكل سورية وجنوبي أوروبا وشمالي أفريقية وغيرها من البلاد التي نزلها الفنيفييون وأقاموا فيها متاجر فاستنتج من ذلك علماء الأثار ورجحوا أن الفينيقيين نزلوا أمريكا كما نزلوا أيرلندا في أقصى الشمال الغربي من أوروبا وأن أهل أمريكا قبل الاكتشاف كانوا يعرفون ما عند الفينيقيين من الصنائع والدين واللغة وكلما ظهرت عاديات جديدة تجلت حقائق كثيرة ويثبت ثبوتاً لا مجال للشك فيه. المنازل المهلكة وضعت المجلة مقالة وصفت فيها المنازل الفقيرة في باريس بدأت فيها بما جاء في المثل الفارسي القديم يدخل الطبيب أحياناً إلى الدار المحرومة من الهواء والشمس وقالت أن الأمراض المعدية ولاسيما السل لا تنتشر إلا في الأمكنة الندية التي لا تضربها أشعة

الشمس وأن جراثيم هذا المرض تعيش أسأبيع بل أشهراً في الظلام فإذا أقام أمرؤ ضعيف الجسم مستعد لهذا المرض الخبيث في غرفة معرضة للشمس يسلم من هذا المرض وعلى العكس تسرع إليه جراثيمه إذا جلس في مكان رطب لا شمس فيه ولا هواء ينفذ إليه حتى قال بعضهم أن السل هو أحد أمراض الظلمة وقد أجمع أطباء الأمم الباحثين في هذا الداء العياء على أن السبب الرئيسي في انتشاره فقدان النور والشمس من أكواخ الفقراء التي يحشر إليها العيال والأطفال وقالوا لا يكفي أن تكون غرفة النوم وردهة الاستقبال وغرفة الطعام معرضة للشمس بل لا بد من أن يكون المطبخ وكل مكان في البيت معرضاً لها أيضاً ولأجل السكنى في بيت ذي ثلاث طبقات ينبغي أن يكون قائماً على شارع عرضه 15 إلى 30 متراً بحيث يغدو الهواء والشمس فيه وتروح. وقال كاتب المقالة أنه يؤخذ من الإحصاء الذي جرى مدة عشر سنين في مساكن باريس وهي 80 ألف مسكن أنه قضى بالسل 101496 شخصاً في 23124 مسكناً منها 5763 مسكنا وقع فيها 38 في المئة من مجموع من قضوا بالسل وثبت أن 358 مسكناً من هذه المساكن كان فيها 2628 غرفة مسكونة لا هواء فيها ولا نور بالمرة وإن 820 مسكناً يجب أن يهدم فوراً لأنها منبعث هذا العقام. وقد قامت عدة جمعيات في فرنسا تدعو إلى تطهير البيوت واختيار أماكن صحية للعمل والنوم والراحة في الليل والنهار. وفي ألمانيا مجالس بلدية تعطي التعليمات يختاره وسيئاته لئلا يصاب وأسرته بمرض عششت فيه جراثيمه وكذلك ترى في كثير من المدن مجالسها البلدية عارفة بالبيوت الملوثة والبيوت السليمة لتتوفر على محاربة جراثيم السل الرئوي. وفي مقالة ثانية أن السل يمكن شفاؤه إذا تدورك أمره وأنه ثبت أن الفقراء هم أكثر الناس عرضة له ففي ألمانيا يموت به 110 آلاف نسمة منهم 80 ألفاً من الطبقات العاملة التي يقل دخلها عن أفي مارك في السنة. عادة الأفيون تعاقب اليابان متعاطي الأفيون بالأشغال الشاقة وتختلف مدة ذلك باختلاف استهتاره واسترساله وقد أصدرت الصين في العهد الأخير أمراً تقضي فيه على جميع بيوت الأفيون العامة أن تصفي أشغالها وتقفل أبوابها وأعطتها أمراً لذلك عشر سنين ولكن عادة الأفيون التي يطاردها أهل الشرق الأقصى التي نشأت بينهم أصبح أهل أوروبا يتسأهلون معها

بحيث يجري تنأول الأفيون جهاراً في العواصم والحكومات غافلة عن متعاطيها الذين اعتادوها في رحلته إلى الشرق مثل الإنكليز والفرنسيين وقد ارتأى أحد أطباء الفرنسيين إن خير علاج يعالج به متعاطي هذا المخدر أن يسجن في دار خاصة بأمثاله ويقطع عنه الأفيون دفعة واحدة ففي الأسبوع الأول يشكو كثيراً ثم يخف ألمه لفقد ما كان الفه وتسمم به دمه لا كما يعامل الذين يستخدمون المورفين إذا أريد منعهم من تعاطيه بالتدريج معهم في نزع عادته منهم وهو يرى أن الأفيون كالأوبئة ينبغي مكافحتها بشدة زائدة وأنه خطر اجتماعي لا يقل عن خطر المسكرات يعود بأعظم المضار على الجنس كما يعود على الشخص وعلى المجتمع كما على الأسرة. الرعاد الجديد اخترع أحد رجال الإنكليز رعاداً يقطع في الدقيقة 300 متر وهي أعظم سرعة بلغتها السفن البخارية حتى الآن وسيحدث عنه تبديل في الملاحة الحربية وتتضاعف به قوة الغواصات. ذرور اللحى اخترع أحد الإنكليز ذرورا للحى تستغني به بعد الآن عن استعمال المواسي في حلقها وهو ما يجعل معجوناً يمد على اللحية فتزول بالحال ولا يحتاج صاحبها إلا إلى غسلها بعد ذلك وقد جرب هذا الاختراع ونجح ويؤكدون أنه خير ما عرف من نوعه حتى الآن. تأثير الشعراء قالت بعض المجلات العلمية أن الشعراء في بعض أدوار الأمم هم الذين ينشئون لغة بلادهم وعنهم تنبعث وبهم تهتدي فاللغة الألمانية الأدبية الحقيقية نشأت من عهد كيتي وقد جعل دانتي الطلياني لهجة طوسكانيا لغة لإيطاليا عامة وقد تبين لأحد الباحثين أن أشعار هوميروس اليوناني هي التي أحكمت اللهجة الآسية في بلاد اليونان. الطلبة في فرنسا نشرت نظارة المعارف في فرنسا إحصاء بطلاب الكليات والمدارس والجامعة في هذه السنة فكانوا 58 ألفاً منهم 2300 أنثى ونحو 3500 غير وطني ونصف الطلبة يتعلمون

الحقوق بينهم نحو مئة طالبة وطلاب الطب أقل من طلاب الحقوق فيهم نحو ألف طالبة وفي كلية باريس نصف طلاب فرنسا ثم تجيء كلية ليون وتولوز وبوردو. موت الأطفال ينقص معدل الوفيات من الأطفال في معظم البلاد المتمدنة ولاسيما في ألمانيا وإنكلترا ففي كل مئة طفل في ألمانيا يبلغ 75 منهم السنة الأولى من أعمارهم. أما فرنسا فإن 87 في المئة يبلغون هذه السن. عقل الأمبراطورة إمبراطورة اليابان من أعقل نساء الأرض وأكثر الملكات والأمبراطورية عناية بالمسائل النسائية فهي محسنة تصرف القسم الأعظم من وقتها في الاختلاف إلى المستشفيات والمدارس وقد أنشأت للبنات كثيراً من المستشفيات الخاصة بهن وهي التي أسست منذ سنة 1874 أول مدرسة لتخريج المعلمات في طوكيو إذ أنها علمت بأن المرأة اليابانية ينبغي لها أن تعضد زوجها في عمله لإصلاح حال اليابان. سكر الفاكهة يوصي علماء الصحة باستعمال السكر لمن يصرفون كثيراً من قوأهم العضلية ليعوضهم عما فقدوه وقد رأوا الآن أن استعمال سكر القصب يهيج الغشاء المخاطي المعدي كما ظهر تجارب كثيرة في الجند الألماني وأنه يفضل استعمال السكر المصنوع من الثمار. التآليف في أوروبا يؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أنه ظهر في ألمانيا في السنة الماضية ضعفاً ما ظهر في فرنسا من المصنفات الأدبية وأنه حظ إيطاليا من ذلك حظ فرنسا تقريباً أما إنكلترا فصدر قيها نصف ما صدر في فرنسا. وقد صدر في سنة 1901 نحو 35 ألف مصنف في ألمانيا و1000 في فرنسا ومثلها في إيطاليا و6000 في إنكلترا. فكم تأليف صدر باللغة العربية ياترى لغة نحو مائتي وخمسين مليوناً من المسلمين ولغة يقدر المتكلمون بها في أفريقية وغربي آسيا بنحو ستين مليونا. الترجمة باليابانية

أكد أحد علماء اليابان أن الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة اليابانية صعبة جداً ويصعب نقل جميع صور الألفاظ والمعاني كما يسهل نقل العلوم من لغة أوروبية إلى لغة مثلها ولو لم يكن في اللغة المنقول إلها نفس المفردات والأوضاع الموجودة في اللغة المنقول عنها وقال أن اللغة اليابانية اليوم عائقة عن إدخال أساليب الارتقاء الأوروبي وأن لغة اليابان غنية وفيها من الألفاظ والأساليب في الشعر ما لا يوجد مثله في لغة سواها والصعوبة في ذلك أن لغة للكتابة ولغة للتكلم فهي من جهة ترسم التصورات ومن جهة تنطق بها فمن المتعذر والحالة هذه رسم التصورات في مفردات مفهومة فما دامت الألفاظ تحول دون الترجمة الصحيحة يصعب أن تكون يابأن في تمدنها كأهل أوروبا كما تحب وترضى. صحة العيون أثبت الدكتور كوليك مدير التربية الطبيعية في مدارس نيويورك بما قام به من التجارب العديدة أن لاضطراب النظر تأثيراً يلحق بالصحة واستنتج أن إجهاد العيون يضر بمجموع تركيب الإنسان وقال أن العلماء هاكسي وكارلايل وأنييركان سبب هلاكهم سوء حالة عيونهم. ولا يزال هذا المرض بتزايد الحالة الاجتماعية. ومعلوم أن عيون الحضري أعظم من عيون البدوي لما تتعرض له الأولى من القراءة والتحديق في الأمور الدقيقة أو الحروف السوداء على الورق على حين أن الثاني لا يقرأ ولا يكتب ولا يتعب نظره لأنه يسرح بصره في الأبعاد في هواء مطلق بدون أن يهيج أعصاب النظر وأثبت الدكتور المشار إليه أن كثيراً من الأمراض كالأوجاع الطبيعية والشقيقة والأم المعدة مسببة من القراءة فلا تداوى إلا بوضع المناظير على العيون. ومعظم الناس لا يحتاطون في قراءتهم ويجهلون بأنه ينبغي أبداً اجتناب القراءة أو العمل وهم على وضع يدخل النور إلى عيونهم مباشرة على حين أن بؤبؤ العين يتطلب نوراً معكوساً. ومن رأيه من يعنى بعينيه تجود صحته وغسلهما بالماء البارد حسن وأحسن منه عدم تعريضهما لما يضرهما. اكتشاف القطب ستسافر هذه السنة بعثتأن لاكتشاف القطب الشمالي علاوة على البعثتين اللتين سافرتا إليه فبالبعثة الأولى برئاسة رجل دنمركي تتولى البحث عما إذا لم يكن أرض غير معروفة في

شمال الأسكا والثانية بزعامة أمير من أمراء وهي ستتم أبحاث القبطان أيرتشين في غروانلاند وترسم صورة جزء من الشاطئ الشمالي الشرقي من هذه الجزيرة. كما تسافر في هذا الصيف بعثة علمية إلى القطب الجنوبي من طريق المحيط الهندي حتى تصل إلى أرض فيكتوريا ومنها تنزل من السفن وتستعمل طريقة أخرى للنقل وربما استعمل الأتومويل في هذه الرحلة. وكان الرحالة روس وصل إلى عرض 78 في القرن الماضي وأعلن أنه يستحيل أن يتقدم المرء إلى الأمام ولكن الرحالة سكوت اكتشف سنة1902 و1903 بأن وراء سد الثلج الذي منع روس من التقدم بقعة يمكن الوصول إليها على مراكب بلا عجل فبلغ بذلك درجة 82 ودعا ذلك المكان باسم ادوارد السابع. نور غير الشمس الاسيتلين مادة من المواد التي تستعمل في إنارة المصأبيح. وقد ارتأى أحدهم في أمريكا بأنه يمكن الاستغناء بها عن نور الشمس في زراعة النباتات ويمكن بواسطة الحصول على توت إفرنجي جيد لطيف قبل موسمه بخمسة عشر يوماً.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات مجموع متون أصولية لا يوجد فن من الفنون يتسع فيع مجال النظر مثل فن أصول الفقه ولذلك عني أهل العلم وألفيت فيه الكتب كثيرة ومن غرائب هذا الفن أنه يتيسر هذا الفن أنه يتيسر أن تجمع أهم مسائله في ورقة أو ورقات ويمكن التوسع فيه حتى يكتب فيه في عشرة آلاف ورقة وهو كغيره من الفنون قد وقعت فيه كتب في غاية الجودة وكتب دون ذلك إلا أن أكثر الكتب الجيدة كان يفقد أثرها ومنها رسالة الأمام الشافعي وهو أول من جمع مسائل هذا الفن. وأكثر ما عني به المتأخرون كتب في غاية الإيجاز تعد عبارتها من قبيل الألغاز فكان المبتدئ يبتدئ بها مع أنها لم توضع له البتة فحدث من ذلك أنه هجر هذا الفن حتى أن كثيراً من الحواضر لا يوجد بها من له إلمام به. ولقد حاول بعض أفاضل العلماء أن يبحثوا عن كب جعلت للمبتدئ حتى إذا قرأها أولاً هان عليه الأمر فيما بعد. ومن أعظم من قام بهذا الأمر الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق فقد انتخب أولاً أربع رسائل من أحسن رسائل هذا الفن وكتب عليها حواشي نافعة بحيث تكشف الغطاء في كثير من المواضع ولم يكفه ما فعل أولاً حتى اتبعها ثانيا برسائل أربع في مذاهب الأئمة الأربعة وحشاها كذلك. وقد وصلنا هذا المجموع وهو مشتمل على مختصر المنار لزيد الدين الحلبي الحنفي المتوفى سنة 808 والورقات لأمام الحرمين ضياء الدين الجوني المتوفى سنة 478 المتوفى سنة684 وقواعد الأصول لصفي الدين البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 739 طبعت هذه الرسائل على نفقة محمد أفندي هاشم الكتبي وتطلب من مكتبته في دمشق وهي في زهاء 150 صفحة منصفة القطع. البريد المصري أتانا تقرير مصلحة البريد المصري عن سنة1906 فاستفدنا منه أموراً كثيرة تدل على حياة القطر منها أنه بلغ عدد المراسلات التي أصدرتها إدارة البريد في السنة الماضية 58000000 رسالة وكانت في السنة التي قبلها 50770000 رسالة فتكون الزيادة 14 في المئة. وكأنت الزيادة عامة لجميع أنواع المراسلات المتبادلة في القطر مع البلدان الخارجية ولاسيما المراسلات المسجلة داخل القطر إذ زادت 70 في المئة والسبب الأكبر

في ذلك تخفيض رسوم التسجيل داخل القطر من أول يناير سنة 1901 من 10 إلى 5 مليمات عن كل مرحلة. وبلغ ما صدر بواسطة البريد من حوالات وصرر نقود داخل القطر 23358000 ج. م مقابل 22880000 في سنة 1905 وبلغ عدد الحوالات التي تبودلت مع الجهات الخارجية 197500 حوالة بمبلغ 796900 ج. م وبلغ عدد الطرود المرسلة 759000 طرد مقابل 751 ألفاً في السنة التي قبلها وتقدم الطرود المحول عليها من 77 ألفاً سنة 1905 إلى 85800 سنة 1906 وأحدث في القطر 168 جهة للبريد فصارت إدارات البرد فيه 1249 أو زاد عدد مودعي النقود في صندوق التوفير فكان 5908 شخصاً منهم 43877 وطنيون و15207 أجانب وكان عددهم سنة 1905 (21411) من الوطنيين و (12013) من الأجانب فمعدل الزيادة 40 في المئة وأنشئت صناديق توفير للأحداث فبلغ عدد المفرين فيه منهم 4225 وبلغت إيرادات ديوان البريد 237097 ج. م وكانت في السنة التي قبلها 215917 وبلغت المصروفات 185176 ج. م وكانت 149656 في سنة 1905 فيكون مقدار زيادة الإيرادات على المصروفات 51921 ج. م فزادت بذلك واردتها أكثر من الضعف في مدة العشرين السنة الماضية على ما أدخل في خلال هذه المدة من تخفيض الرسوم على المراسلات بفضل انتباه مصلح هذه المصلحة يوسف سابا باشا. الإنسانية هي المجلة العلمية التهذيبية الفكاهية الدينية الأدبية التي تصدر في غرة كل شهر لصاحبها الشيخ إبرأهيمالدباغ كان أصدر منها خمسة أجزاء وتوقف مدة عن إصدارها وأمامنا الأن الجزء السادس من سنتها الأولى وفيه كلمة افتتاح لطيفة الأسلوب فيها تصريح محزن بكساد البضاعة الأقلام ومقالة اعتدال في الإنسانيةلعبد القادر أفندي المغربي ومقالة مناحي المنشئين للسيد حسين وصفي رضا وغير ذلك من المقالات والشذرات الفكاهية والأدبية التي تدل على سلامة ذوق كاتبها وأدبه وفضل مؤازريه وأنصاره فنرجو للإنسانية الانتشار في جميع الأقطار وقيمة اشتراكها 60 قرشاً في السنة و30 قرشاً لطلبة العلم وهو قدر إذا قيس بفوائدها. السند

هي رسالة لملحم بك إبرأهيماللبناني فيها أهم الملاحظات في أحكام السند والسفتجة والحوالة وصور كثيرة منها الصكوك والاستدعاآت ومعاملة دائرة الإجراء وتعليمات محرري المقأولات وقانون الإفلاس وغير ذلك من المسائل التي تهم من يحب الإطلاع على المسائل العدلية في البلاد العثمانية ولاسيما العربية منها وإن شئت فقل اللبنانية وقد ألقها بجدول بأسماء قرى لبنان مرتب على حروف المعجم مع الإشارة إلى القصبة والمديرية والقضاء التابعة لها كما ألحق بها متن الرحيبة في الفرائض لأبي عبد الله الرحبي المعروف بابن التقية. المترجم المترجم مجلة نصف شهرية لدرس اللغتين الألمانية والفرنسية في سويسرا وفيها كل جملة وترجمتها مقابلها عمود فرنسي وعمود ألماني وموادها عبارة عن قصص وحكم وأمثلة علمية وأدبية وفي كل جزء منها جانب عظيم من الكلمات التي يسهل استخدامها وقد وافتنا الأجزاء العشرة التي صدرت منها وتصفحتاها كلها. وهي 16 صفحة وقيمة اشتراكها أربعة فرنكات وخمسة سانتيمات فنحث عشاق اللغتين على اقتنائها ولاسيما الألمانية فإن العارفين بها بيننا قلائل جدا فلو تعلم أحدهم مبادئ قراءتها وكتابتها لسهل عليه أحكامها بواسطة هذه المجلة. وصايا للطبيب من كتاب الأصول لعلي بن رضوأن المتوفى سنة ثلث وخمسين وأربعمائة. الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال (الأولى) أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء حسن الذكاء جيد الرؤية عأقلاً ذكوراً خير الطبع. (الثانية) أن يكون حسن الملبس طيب الرائحة نظيف البدن والثوب. (الثالثة) أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم. (الرابعة) أن تكون رغبته في إبراء المرض أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغيته في علاج الأغنياء. (الخامسة) أن يكون حريصاً على التعليم والمبالغة في منافع الناس. (السادسة) أن يكون سليم القلب عفيف النظر صادق اللهجة لا يخطر بباله شيء منت أمور

النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأغنياء فضلاً عن التعرض لشيء منها. (السابعة) أن يكون مأموناً ثقة على الأرواح والأموال لا يصف دواء قتلاً ولا يعلمه ولا دواء يعالج الأجنة عدوة بنية صادقة كما يعالج حبيبه.

فجائع البائسين

فجائع البائسين تابع ما قبله بعد ما قبرت شهيرة ابنها أنشأت تفكر فيما يؤول إليه أمرها لأنها أدركت انقطاع أجرة الحضانة وزوال العلاقة التي كانت تربطها بسعيد ولم يبق بينهما غير عقد الزوجية فأدركت أيضاً استصدار الحكم عليه بمائة ليرة يمنعه من الطلاق إذا أرادت أن يطلقها فما وجدت انفع من الرجوع إليه والرضا به وكان بلغها أنه يسعى في زواج غيرها فأعربت لأمها عما يخالج ضميرها وقالت لها أنها تود الرجوع إلى زوجها قبل أن يقترن بغيرها فأخذتها على أنكارها وطمأنتها بقولها: أنه لا يقدر على الزواج لأن الناس علموا بما جرى بينكما فيخافون على بناتهم من أن يصرن إلى ما صار إليه أمرك. ثم قالت: وليس مثلنا قليلي العقل والبصيرة. ماذا جرى لي حتى يمتنع الناس عن تزويجه بناتهم أما كنت أنت السبب في تنافرنا ونحن كنا راضين من بعضنا وكان الصفاء ملازمنا والهناء يرأفقنا فأنت التي كدرت صفاءنا بتصوراتك الدنيئة فلو كنت تركتينا وشأننا لما حدث بيننا شيء ولكن طمعك الذي أدى بنا إلى الفراق وبعث فينا روح الشقاق فأسألك بأبيك ماذا تبغين مني؟ ألست بالغة الرشد والكمال؟ فلماذا لا تتركيني حرة في أعمالي أتصرف بها كما أشاء؟ فإن كان قصدك قتلي وهلاكي فبئست الأمهات اللواتي تبدلن سعادة بناتهن بالشقاء وأني لا أدرك غرضك من افتراقنا مع أننا كنا على وئام وسلام يحسدنا من سمع بما قامت عليه قواعد ائتلافنا. ما لي أراك اليوم تشتاقين إلي زوجك الذي هو مطية العار فلا عاش الرجال؟ لم أر سبة بانتسأبي إليه إما أنت التي سعيت في زواجي به؟ وهل كان مجهول الأحوال لديك ولدى أخي الذي رأفقه ثماني سنين وأنا على علم من أنه لا يزال كما كان عليه من قبل وما يخيل لي أن أجد مثله بين الناس فهل رأيت أم سمعت برجل يعامل أمرأته بالمساواة ويسعى فيما يرضيها بكل ما أمكنه في هذه البلاد؟ من لي برجل يعاملني هذه المعاملة الحسن؟ على أني أعجب من أعمالك مع أصهارك. ألست أنت التي كنت السبب في طلاق أختي حتى أصبحت محرومة من الزواج؟ وهي لا تزال في كدر وأسف على زوجها مع أني أعلم ويعلم كل إنسان أن الأمهات تحب أصهارها أكثر من أبنائهن وأنت

على العكس تبغضينهم فتنفر ينهم من بناتك حتى تحرميهن منهم. أما سمعت قول بديعة التي طلبت أختي الصغيرة أنها أعجبتها وودت تزويجها بابنها ولكنها خافت على ابنها منك فها أنت قد اشتهرت بين الناس بسوء الخلق ورديء الطباع. لقد تجاوزت حدك يا شهيرة فإنت لا تزالين في سن الطفولية لا تميزين الصالح من الطالح وأنا أخطأت بقبول سعيد زوجاً لك ولكني سأجتهد في التكفير عن خطأي وإصلاحه فلا تأسفين على هذا الرجل الدنيء الأصل الفقير الحال وأيقني بأنه عندما يثبت طلاقك أزوجك وتعيشين معه عيشة لا يشوبها كدر ولا يتخللها شقاء. أو تحسبين أننا في قحط من الرجال؟ أما تتقي الله في سعيك لإثبات طلاق لا أصل له وهب أنك وفقت إلى إثباته بشهادة شهود زور والبهتان وحكم القاضي بتفريقنا وأعطاني إعلاما شرعياً بأني مطلقة فهل يكون الطلاق موافقاً لحقيقة الشرع الشريف. لا! ولكن أخذنا لك مائة ليرة فإذا كنت لا أزال على عصمته كيف يتسنى لي أن أزوج بغيره تتزوجين بإعلام الحاكم وحكم الحاكم أمر مقضي يعمل به ويقوم مقام الطلاق. في أي ديانة وأي شريعة وجدت هذا الجواز وهذا الحكم المعقول أو تحسين أني لا أخاف الله بانتقالي إلى عصمة رجل آخر وأنا على عصمة غيره فإذا كان طمعك بالمائة ليرة التي تودين أخذها زوراً وبهتاناً فلا حاجة لي بها ولا أود أن أعصي أمر الخالق طمعاً في حطام الدنيا أو نسيت أن من يغنمون الدراهم بطرق غير مشروعة لا يصرفونها إلا على أمراضهم ويدفعونها ثمن أدوية وأجرة أطباء وهم يقضون آخر حياتهم في أتعس الأحوال وقد يتمنون الموت فلا يجدونه وإذا تزوج زوجي وهجرني هجراً طويلاً كيف تصير حالي فهل لي حينئذ سوى البكاء والنحيب حتى تستولي علي الأمراض وارزح في فراش الأسقام والعلل فأموت شهيدة سوء تصرفك. أنت تظنين أنه يتزوج ويطيق هجرك. سترين أنه متى يئس من الزواج يتوسط من يرجعك إليه ويدخل تحت حكمنا فنتصرف به كما نشاء. أنت تحسبين أنه لا يتمكن من الزواج وأنا شعرت بأنه سيوفق لأن كثرة البنات وبقاءهن من غير زواج وفساد هذا العصر يدعو العقلاء للتسأهل في زواج بناتهم وأنا على يقين من

أنه سيهجرني فإما أن أموت وإما أن أرجع إليه من هذا النشوز فأكون تحت سيطرة امرأة جديدة فإن مت تكونين الجانية علي وإن رجعت إليه تكونين سبب بؤسي وشقائي بعد ما كنت سعيدة. لقد فهمت أنك تودين الرجوع إليه قاتل الله بنات هذا العصر اللواتي لا يطقن الهجر ساعة. فليخطر ببالك ما تشائين فإني أعزه وأحب الرجوع إليه فبل أن يتزوج. ثم قامت وتركت أمها ودخلت حجرتها وأغلقت الباب عليها وأخذت تبكي وتندب حظها وتلوم نفسها على إطاعة أمها. مضت على هذه المحاورة هنيهة وجيزة فدخلت على شهيرة إحدى صويحباتها التي كانت تتنسم الأخبار عن زوجها وتأتها بها فقالت لها أتدرين ماذا جرى؟ فقالت: لا إن سعيد عقد على جميلة خانم ابنة علي باشا فصاحت قائلة: آه. وأغمي عليها. فندمت هذه على أخبارها ثم أتت بالماء والعطريات ورشت على وجهها وجعلت تفرك يديها وتدلكها حتى تنبهت فأخذت تبكي وتلعن أمها التي سببت لها هذه النقمة وتفكر فيما حل بها فأيقنت أنها ستفارقه أبد الدهر وأنه سيحتفظ بعد الآن بود جميلة خانم ولا يسأل عنها وقد دخلت أمها فأخبرتها بواقعة الحال وقالت لها: كنت تظنين أن لا يتزوج فها هو قد اقترن بأحسن ابنة في بلدنا فإنقطع أملي بلقائه وأظن بأنه لا يطلقني ولا يأخذني إليه إلا إذا رقت لحالي زوجته فأكون تحت أمرها وأرادتها فهذه نتيجة أعمالك القبيحة. فأدركت أمها خطأها وأخذت تلطفها بالكلام وتعدها بالأمال ثم دعت ابنها رفيقاً وعزموا على أقامة دعوى الطلاق مرة ثانية وأتوا بشهود غير الأوليين وعينوا يوم الجلسة يوم عرسه لينغصوه وظنوا أنهم يوفقون إلى أخذ الحكم عليه فيكون يوم عرسه يوم نحسه ولم يدر في خلدهم أن يوم عرس المرء في غالب الأحوال يوماً مباركاً ولا يخطر ببال العروسين سوى السعادة ففرح بما أتوه ولم يتنغص وأيقن أنه سينتصر عليهم لأنهم حصروا الدعوى في يوم كان عنده أشرف الأيام وأحسن يوم وصاله ونيل آماله فذهب رحيب الصدر عالي الهمة ودخل المحكمة فأقيمت الدعوى وضبطت الإفادات فشهد الشهود بما تعلموا لا بما علموا فجرح شهادتهم وأقام البراهين فإنتصر عليهم وأخذ الحكم مرة ثانية بوجود الزواج وعاد رابحاً ورجعوا خائبين وكان ما كان. فاستولى الكدر على شهيرة

واعتراها الأرق ولازمها الحزن والبكاء فنحل جسمها وتبدلت ألوانها وضعفت قواها فسطت جراثيم السل على كرياتها البيضاء فعطل جهاز التنفس وخرب الرئتين فمنع تطهير الدم من الحامض الكاربونيك فتبدلت حمرة خدها بالأصفرار وأخذت وطأة المرض تزداد عليها يوماً فيوم فماتت شهيدة ضعف الأرادة وسوء التصرف وعلم أخوها خطأه ولكنه حمل الذنب على سعيد وعزم على الانتقام منه بدلً من أمه الجانية. ولما بلغ سعيد موت شهيرة أسف عليها وحزن عليها وبكى بكاءً دعا إلى كدر جميلة ولكن اعتذر لها وأقسم الإيمان على أن بكاءه كان من قبيل الأسف على ما عانته من العذاب والشقاء. ولما تخلص سعيد من كل منغص أيقن أنه لم يبق عنده شك ولا شبهة في السعادة التي كأن يسعى إليها فاتسعت آماله وصار لا يفكر إلا في السعادة وصار لا يرى إلا ضاحكاً مسروراً وقد نسي ما أتى عليه من قبل وظن أنه خلق سعيداً وعاش سعيداً وسيموت سعيدا ولكن فاته قول الشاعر: وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر وذلك أن سعيداً بينما كان راكباً عربته يتجول بها على ساحل البحر في رأس بيروت ويتطلع إلى الأوانس اللواتي تتزين لتسحر الألباب وتطغي الشباب ممن يسابقونهن في الزينة والتبرج وسرعة الانتقال من زي إلى آخر وهما فريقان بين ساحر ومسحور وعاشق ومعشوق أو عاشق محروم وعجوز تفكر في أيام صباها يوم كان الشباب يلتفون من حولها متسابقين في استجلاب قلبها وكان صاحبنا يأسف لذلك العاشق المحروم ويضحك من تلك العجوز الشمطاء التي صبغت شعرها وبيضت وجهها بالذر ور ولونت خدودها بالصباغ الأحمر لترجع فتاة وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر ويلوم تلك الغادة الدعجاء التي زين الخالق جمالها بعيون نجل تكاد تفتت الأكباد على ما شوهت به نور وجهها من الذر ور لتجعله أبيض ولو تركته على طبيعته لكان أجمل وقد تؤثر فيها شدة حرارة بيروت فيكللها العرق ويرسم خطوطاً في غصون خدها المبيض بالبز موت فتشعر بذلك أو تنبهها رفيقتها فتخرج من جيبها منديلاً مليء بالذر ور فتمسح وجهها كانها تمسح العرق. ويضحك من الشبأن الذين حرمهم الله من نعمة الجمال عندما يرأهم يرفعون سبلا تهم بشواربهم وينزلون طرأبيشهم ليستعطفوا قلوب الغادات وربما التفت إليهم واحدة من قبيل

الصدقة والإحسأن فيظن ذلك أنه أعجبها بطوره وجماله. ويزداد ضحكه عندما يرى ذلك الشاب الذي إذا رأى سيدة أحنت رأسها لحفرة في الأرض رفعت العربة فكان الانحناء اضطرارياً يظن أن ذلك كان للسلام عليه فيحني رأسه فتضحك من جهله ويحسب ذلك تبسماً والتفافاً ويذكر حينئذ قول شوقي نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء ويقول لرفيقه لم يبق بيني وبينها إلا الكلام والكلام يجر ما بعده. ويعجب لذلك الفتى الذي لو رأى الآنسة تصلح شعرها بيدها أو ترفع غرتها عن جبينها لظن ذلك سلاماً له ووضع على رأسه كانه يريد السلام بدون أن يشعر به أحد لحوقاً على مكانتها وهي لا تبالي به ولا تنظر إليه ويبكي أسفاً على المومسات اللواتي خرجن يقلدن كبيرات العقائل يلبسهن ليجلبن قلوب الشبان ويعشن بتمزيق ثوب عفتهن ونقدهن بدلها دراهم معدودة على أنهن يظهرن المحبة لمن لا يطقن أن يراه ولذلك لا يجدر بالعأقل أن ينظر إليهن بعين الكبر والغرور ويهينهن من أجل بيع شرفهن وعفتهن لمن يرنه أو لا يردنه فلو فحص عن الأسباب التي ساقتهن إلى أدنى المتاجر لما تأخر عن العذر ووجه سهام الملام نحو غيرهن. ومما كان يأسف له سعيد ما يراه من الشبأن الذين لو رأيتهم ونظرت إلى لباسهم لحسبتهم من أبناء أغنى الأسر في بيروت على أنهم لا يملكون سوى راتبهم الذي لا يتجاوز ثلاث ليرات يأخذونها من الاستخدام في مخزن أو متجر ولا يجدون حرجاً في التشبه بالأغنياء وترأهم أبداً باكين من قلة الدراهم وقد يتخيلون وقد يتخيلون السعادة ولكنهم لا يجدون لها أثراً إلا في أمريكا فيهاجرون إليها وقد يموت الكثير منهم من الجوع أو يرجعون ملومين مدحورين. بينما كان سعيد يفكر في الهيئة الاجتماعية ويتأمل هذا المعرض البديع أتاه الخادم مسرعاً فقال له أن الباشا أتى من سفره وهو مريض مرضاً شديداً فذعر لهذا الخبر ورجع إلى المنزل مسرعاً وكان الأطباء أتوا ومرضوه فلازم فراشه وأخذ سعيد يستقبل العواد ولكن المرض أخذ في ازدياد حتى قضى الباشا نحبه وانتقل إلى رحمة الله فجهزه وواره التراب واحتفل بمأتمه احتفال الابن البار بوالده الفقيد. وهنا انكشفت شمس آمال سعيد وخاف من رجوعه إلى البؤس والشقاء لأن الباشا كان مستقيم المبدأ فلم يترك لوارثيه سوى الدين

وأثاث المنزل. وحسب صاحبنا الراتب الذي ستناله حماته زوجة الباشا فبلغ ألفي قرش فأطمأن بعض الاطمئنان وأدرك أنه لا يزال في عيشة راضية وكانت حملت منه جميلة فصار يفكر في ولده وصار البحث بينه وبينها على ابنهما الذي سيصرفإن في تربيته مزيد العناية ليأتي منه أنموذج الكمال ومثال الأدب ويعلمانه حقائق العلوم في طفولته ليشب على حب العلم ويتعرى من كل خرافة وقررا تلقينه تراجم أحوال أعاظم الرجال وأفعالهم وحقائق الكائنات وأنشآ يربآن به عن سماع القصص والحكايات المشوبة بالأكاذيب والعجائب ولما قرب وقت الوضع أخذ سعيد يستجلب الكتب المدونة في تربية الأطفال فيقرؤها هو وأمرأته ويعينأن الخطة التي يجريان عليها في تربية ثمرة غرامهما حتى وضعت له أنثى حسنة الخلق أشبه بأمها فسمياها (خبرية) لعلها تكون مبشرة بالخير وفرحا كثيراً ولكنه لم تمض هنيهة من الزمن حتى فاجأتهما وفاة الخانم الكبيرة وانقطع الراتب فأصبحت الأسرة حملاً على سعيد ولم يبق لها من إيراد سوى راتبه وهو ألف قرش فصرف ما جمعه واقتصده وباع الحصانين لعجزه عن القيام بنفقتهما ورجع إلى عالم الاقتصاد والإدارة ومع هذا كله كان يعلل نفسه بطهارة بيته من الأدناس ويرى نفسه في راحة من كل عناء. في يوم سكنت نأمة القيظ وهب ريح الصبا اعترى صدر سعيد ضيق ساقه إلى التنزه فبحث عن صديق له ليذهب معه إلى قرية من القرى للنزهة وإذ لم يوفق إلى صاحب يرأفقه ذهب برأسه وأخبر جميلة بذهابه وكان خرج على حصان استأجره فبينما هو يجد في المسير فاجأه رجل كان يعرفه من أقارب رفيق فسلم عليه كانه أخ حميم ثم سأله عن سفره فأجابه بما قصد فطلب رفقته فقبله وشكر له فضله وقال إنه كان يود أن يجد له رفيقاً يتسلى معه فنعمت الصدفة ثم أخذا يقطعا الطريق رويداًَ رويداً وكان الحديث بينهما عن شهيرة فصار ذلك إلى الرفيق يؤأخذ سعيداً وينسب إليه القصور وهذا يعتذر ويرجع بالذنب إلى أمها وإلى رفيق فما كان من هذا الخبيث إلا أن أخرج غدارته وأطلق الرصاص عليه قائلاً خذها جزاء بعملتك بشهيرة فأصاب قلبه فوقع في الأرض يقول: آه قتلتني يا خائن. وكانت هذه العبارة آخر كلامه ثم ذهب ذلك اللعين إلى مدير الناحية وأخبره بأنه حدث قتل في هذا المحل الفلاني ففرح المدير لذلك بمجيء الرزق ولكنه لم يكن عنده من أنفار الدرك

أحد لأنهم ذهبوا إلى القرى يستنشقون أخبار الوقوعات التي حدثت بين الأهالي لأنهم أصبحوا بفضل مديرهم يرضون بغدر يقع بينهم واعتداء بعضهم على الآخر لأنه لا يستنكف من أخذ الدراهم من الشاكي والمشتكى عليه وأصبح من أصابه حيف من جاره يغضي على القذى ويحتمل مصابه بالصبر فإنقطعت عنه الواردات فجعل يرسل الدرك والجواسيس ليستطلعوا طلع الوقائع ويأتي بأصحاب الحقوق ويدعوهم إلى أقامة القضايا فينكرون ذلك وهو بين مطمن لهم على حقوقهم ومهدد أن لم يقيموا الدعوى فأرسل يستدعي أنفار الدرك وأخذ يجمع من مر بالقتيل وتكلم معه أو رآه أو سمع به ويحبس من يشاء ويضرب من يشاء ويترك من يدفع له فدية النجاة وكان معظم مساعيه في جمع الدراهم لا في إثبات الجرم ولكن اعترف الجاني بإنه كان أخرج غدارته ليراها سعيد فخرجت خرطوشة من نفسها خطأ وكان سمع (لا علم كان أميالاً يقرأ ولا يكتب) أن المخطئ ينجو من العقاب فلم يسعه إلا إلقاء القبض عليه وإرساله إلى حاضرة الولاية مع محضر التحقيق. ونقل سعيد إلى داره مضرجاً بدمه فلما طرق الباب خرجت الخادمة وفتحت الباب فوجدت سيدها قتيلاً محمولاً في محفة فصاحت ووقعت على الأرض مغمى عليها فسمعت سيدتها صيحتها وشعرت باضطراب وارتعدت فرائضها فهمت لتذهب فما تمكنت لانحلال قواها ولكنها جسرت نفسها فسعت لترى ماذا جرى فوجدت رفيقها محمولاً على الأكتاف في لون أصفر والدم خضب وجهه وصبغ نباسه ولا حركة به فسقطت على الأرض لا حراك بها. وكان الجيران دخلوا البيت فأخذوا ينبهون جميلة من غشيتها وأدخلوا القتيل غرفته ووضعوه على فراشه وبدأ البكاء والنحيب وكان الناس هناك نساء ورجال يبكون دماً على هذا الفتى البائس الذي لم يسمع عنه إلا الفضائل وما عرف إلا بالكمال واللطف وحسن الخلق ولين العريكة وأتى طبيب البلدية والمستنطق ومعاون المدعي العمومي وعاينوه وأمروا بغسله ودفنه فغسلوه وكفنوه وحملوه على الأعناق ليواروه ترابه. لبؤسه حتى يوم مماته لم يكن في المدينة من أصدقائه أحد غير فتى قام بواجباته نحوه ومما ذكره ذلك الصديق أنه رأى وجه خيرية ابنة سعيد على يد الخادم تضحك وتقول (باء باء ئو ئو دح ئو ئو؟) كانها عرفت أن أباها نام نومه أبدية وعلمت أن الكفن لباساً جديداً وأنه دخل في حياة جديدة وانتقل من دار الفناء إلى دار البقاء فلسان حالها يهنئه على خلاصة من

البؤس والشقاء وكانها تقول: أنت ذهبت وتركتني أنا وأمي وعمتي وجدتي في عذاب أليم فهنيئاً لك وبؤساً لنا وأسفاً علينا. قال الصديق لما تمثل لي ما حل بهذه الأسرة التعسة ورأيت ابتسامة تلك الفتاة زاد تأثيري وبكائي من مشاهدة هذه الفاجعة المدهشة. فهذا سعيد ولد شقياً فسعد بالخيال والأمال ومات تعساً فسعد بالخلاص من العناء والسقاء فرحمة الله على روحه الطاهرة. أخذت العدلية تنظر في القضية فما وجدت بأوراق المدير ما يدل على ثبوت الجرم فشرعت بالتحقيقات وثبت لديها وجود عداوة وضغائن وعلمت بأن الفعل نتج عن قصد كما أدعت زوجة سعيد أن القاتل الحقيقي هو رفيق وذلك انتصاراًُ لأخته التي قتلها هو وأمه بسوء تصرفه ولكن نتيجة المحاكمة كان الحكم فيها بأكثرية الآراء على القاتل بالحبس ثلاث سنوات. والله يقتص من عباده بأعمالهم وهو العليم الحكيم.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة جبرائيل مونو كان ثلاثة من الناس في السابع من تموزيوليوسنة 1807 مجتمعين حول منصة سترت بنسيج الدمقس الأخضر في مدينة تيليست من أعمال بروسيا وقد اتشحوا بأفخر ما تقتضيه الكبرياء والفخفخة من الألبسة المذهبة وتقلدوا الأوسمة البراقة. هؤلاء الرجال هم المسيو شارل دوتا ليران وزير الخارجية نابليون الأول إمبراطور فرنسا والبرنس أسكندر كورا كين مستشار القيصر واحد أعضاء مجلس الشورى ومن إشراف الروس والبرنس لوبانوف الفريق في الجند الروسي. دعي أولئك الثلاثة إلى قاعة المذاكرات بواسطة موظف خاص حسب ما تقتضيه قواعد التشريفات التي يظن أنها أبدية ليوقعوا على العهدة التي بدأت مادتها الأولى بهذه الجملة: سيدوم السلام والوئام بين نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا وملك إيطاليا وبين قيصر الروسيين أجمعين منذ أول يوم يتم فيه التصديق على هذه العهدة من الجانبين فذهبت هذه المعاهدة ببروسيا والبروسيين إلى أقصى دركات اليأس حتى كانما كانت نذيره بانقراضهم وتأذن سلطانهم أو أن ذاك الوفاق الفرنسي الروسي بناء يقام على أنقاض حكومة هذه البلاد. . . بينما كان منذوبو هاتين الدولتين المتخالفين يجوبون الأرض مسرعين ليبشروا الشعوب الأوروبية بإشراق أفق السياسية عن أزمنة جديدة إذا باستاد بروسي لا ينظر إليه أمراء السياسة والحرب إلا بعين الازدراء يفكر في أسباب فلسفية يسد بها ثلمات القنابل والمعاهدات التي خربت وطنه فأخذ يعقد المؤتمرات ويخطب أفراد قومه بأن يرجع كل إلى قوته ويعمد إلى أدراع بأسه ويسعى في إنهاض بلاده قدر طاقته. هذا هو فيختي الذي أخذه البروسيون أستاذا في جامعة برلين لما رأوا من ذلاقة لسانه وصدق بيانه وسداد جنانه. وكان فيختي يرجو في خطبه أن يرى شعوب الجرمان وحكوماته متحدة ليكون لها من اتحادها قوة. تلك الأمة التي برهنت في حرب السبعين على أنها عملت بنصائح فيختي كما ينبغي للأمم المغلوبة أن تعمل بنصح رجالها إذا كأنت الدعوة إلى الإتحاد روح نصحهم.

مضى على معاهدة تيليست أربعة وستون عاماً ثم عادت تلك المنصة الأخضر غطاؤها واجتمع حولها في عاشر مايو 1871 في مدينة فرانكفورت من أعمال ألمانيا أيضاً أربعة مندوبين كأنت المفاوضات بينهم ذات صخب وهياج تارة وممزوجة باستهزاء مشئوم طوراً. من المندوبين رجل قوي الحجة شديد البأس يدعى بسمارك وهو الرجل الذي لم يكن يعبأ بمراسم التشريفات ولا يهتم بما اعتادت السياسة أن تكنه في مثل هذه المواقف وكان إذا بحث أمامه عن التقارير التي وضعتها الساسة في هذا الباب فك أزرار ملابسه وأنشأ يستغرب في الضحك كثيراً قائلاًأن هذه كلها بما ينشر في رفرف الصحف اليومية من الروايات فبينما يحسب الإنسان أن سيكون من وراء وقائعها حادث إذا به يسبح في خيال ثم أنه يمد رجليه بحذائهما العسكري ويطلب الجعة ليشرب في حضرة المسيو درا نيم الحرج الصدر من حرية بسمارك وأمام المسيو دجولار الذي خجل من هذه الأعمال والمسيو جول فارد الذأهل الحائر. هذا هو بسمارك فلاح براند نبورج الذي انتهى إلى رئاسة الوزارة الألمانية قد اضطر المسيو جول فارد والمسيو جولار إلى أن وقعوا على عهدة تقضي بانفصال ولايتين من ولايات الفرنسيس وإدخالهما في سمظ البلاد الألمانية. وهنا ذكر الفرنسيس - وقد أصبح كل شيء عندهم قرين الانحلال قريب الاضمحلال - ما كان من أمر الأستاذ فيختي وتأثير خطبه في الدعوة إلى الاتحاد ومواعظه الاجتماعية وراحوا يرون مداواة جرحى وطنهم بالأدوية الفكرية وترياق الأخلاق على ما شاهدوا من همز الساسة وغمزهم واستخفافهم. ذلك لأن رجال العلم كانوا على يقين من أن نصر الأمبراطور غليوم المؤزر لم يكن من رصاص البنادق بل أن تربية الألمان الفكرية عملت يومئذ ما لم تعلمه أفواه المدافع. من أجل ذلك أخذ الفرنسيس يبحثون عن مذهب نافع في التربية يذهبون إليه لينهضوا بأمتهم حتى تضارع بلاد جيرانهم. وفي مقدمة من فادوا بأنفسهم في سبيل سعادة فرنسا وسلامتها المسيو جبرائيل مونو الذي رأى الناس من أعماله ما جعله أليق العلماء بهذه الوظيفة المقدسة. تلقى جبرائيل العلم مع لافيس ورامبو ودوري وفيدال دولا بلانش أوجستن فيلا في صف

واحد من مدرسة دار المعلمين وكان يطال ببصره إلى ما وراء الأفق باحثاً عن مكان يلجأ إليه للتحقيق والتتبع ثم انجذب دفعة واحدة بما فطر عليه من الاستعداد نحو ألمانيا تلك الأرض التي أجمع هو وأصدقائه وأساتذته على أنها الوطن الثاني للذين يحيون ليفكروا ويدأبوا فكانت حجرة عملة في زقاق (أولم) تردد أصداء نغمات وادي ألب ووادي أردر على جميع الشبأن العاملين الأذكياء الباحثين عن الحقيقة في تلك الديار وهي ملجأ المتخرجين في مدرسة دار المعلمين الفرنسية من أراء الفلسفة القديمة. يسير علم اللغات نحو التكمل والنشوء في بافيرا وسكسونيا وبوم رانيا بجميع فروعه حتى أصبح أفاضل فرنسا مدينين لكليات ليسبيك وبون وهالة وغوتنغن. وأني لار نست رنان أن يضع كتابه حياة المسيح لولا أبحاث استر وس في أصول اللغات وهذا غاستون بوفاسيه أحد أعضاء المجمع العلمي الفرنسي يعترف بأنه تلميذ مومسن المؤرخ الألماني وهؤلاء فو كار وجورج برو وميكائيل بريال والبرد ومن قد بنوا مؤلفاتهم كلها على أفكار علماء ألمانيا شاكرين وكذلك القصصيون في فرنسا قد ساروا وفي مقدمتهم غاستون باري تحت لواء الأستاذ ديبز الشهير. مرت على المسيو مونو في دار الأستاذ وايج أمام كلية غوتنغن ليال حفل وطابها بالفوائد الجمة وهنا يلقي الأستاذ على مونو وعشرة من رفاقه مباحث حافلة وخطابات ممتعة في فقد التاريخ وفلسفته حتى قال مونوكانت هذه الدروس تبث في أفكارنا انتظاماً ووضوحاً وكنا متلذذين بما نشعر به من حب العلم والحقيقة وإبداء صفحة الوجوه لهما. كان وايج ذا فطرة ملكية تلاءم علمه في تربية أفكارهم أكثر من اجتهادي في التأليف وأظنني نجحت. ذلك لأن كتبي ستذهب بها الأيام إلى زوايا النسيان ولكن اسمي ستتلقاه العصور بعضها عن بعض ما دامت أعمال تلاميذي ومباحثهم العلمية باقية فمثل آراء هذا الأستاذ الفاضل تهذب الألمان وأحسوا بوجوب الانتقام من الفرنسيس وبمثل هذا التهذيب تمثلت كوائن بسمارك وحركته السياسية. وبينا كان جبرائيل مونو متطوعاً في خدمة جرحى حرب السبعين تحت قيادة المارشال ما كما هون والجنرال أرول بالادي الفرنساويين حدث أن صادف أكابر لغويي الجرمأن في لباس أفراد الجند البروسي فدهش لذلك ووقف ذأهلاً معجباً.

ما أمحت أماني الفرنسيين في البراز الأخير من هذه الشعوب من هذه الحرب الشؤمة حتى ذكر مونو الذي كأن يسعى بين جثث جرحى الحرب يائساً - أنه مؤرخاً وأخذ يؤلف كتابه (الألمان والفرنسيين) نأقلاً فيه مشاهداته منذ بلغ مدينة (راكور) من أعمال اللوريين إلى ذهاب نابليون الثالث وفي هذا الكتاب طبق مونو نظرياته الفلسفية التي كان يعملها تلاميذه. وأنك لتقرأ من خلال سطوره أسلوباً مشبعاً بالجد والتؤدة براء من كل طعن أو تعريض دالاً على أن مونو من المؤرخين الذين يرون أن التصريح بالحقيقة كيفما كانت أنفع الطرق وأسماها. من أجل ذلك كان الكتاب من أثمن ما كتبه المعاصرون عن هذه الحرب. وإن أسباب غلب الفرنسيس يتمثل أمام أنظار القارئ في كل صفحة من صفحاته حتى كانت حرية وجدان المؤلف وصدق لهجته المعزز بالآراء العلمية سبباً لنحت أسئلته على السن مدعي الوطنية الغارقين في لجج الخيال. ومما فطر عليه المترجم به استيلاؤه على غايات التواضع فلا يريد أن يصفق له ولا أن يستحسن عمله مكتفياً بتسليم ما اهتم بجمعه من الخزائن إلى فريق خاص غير طالب لقاء ذلك شهرة أو سمعه وأن المصفي إلى مونو ليحار من أصوله وتبحره الواسع وتدريسه القويم مع قلة اهتمامه بالخطأبيات. وإذا وجد في المجالس التي ترجح التؤدة والكون أنصت حتى إذا سخت له - والقوم في أثناء المناقشة والحوار - سانحة تلألأت جبهته المفكرة وأبرقت عيناه من وراء نظارتيه الذهبيتين وترك قلمه ومذكرته وأخذ يلقي على السامعين ما يظهر له بعواطف شديدة ولسان مبين. وأنك لترى الجهل واللهو والعيون الساهية قد انتبهت كلها مغلوبة لما فتح أمامها من أعماق مناظر الماضي الفسيح. وبعد فإن تأثيرات مؤرخنا الفاضل في التدريس لا تظهر من مؤلفاته لا من تعاليمه في دار المعلمين ولا من كتاباته في المجلة التاريخية التي تولي أدارتها أكثر أيام حياته بل من محاوراته الخاصة مع تلاميذه ورفاقه في التحرير ومع أصدقائه وقد خاطبه صديقه أرنست لافيس في خطبة ألقاها يوم احتفال إحدى الكليات قائلاً: (أنك لتلقي بنفسك إلى التهلكة لتخلص غيرك منها ولا تمنع نصائحك ومعونتك عن أحد وأنك لتسرع إلى مكاتبة المشتغلين بالبحث عن الحقيقة وسلامة البشر مهما كانت نحلتهم وقوميتهم). ومن نتائج أبحاث مونو المثمرة في ألمانيا اجتهاده في تفهيم جميع تلاميذ المدارس معنى

(التعاون والاتحاد) وخلاصة الفكر الأساسي الذي يذهب إليه هو وأصدقاؤه: (أن الفرنسيس مستحقون لما نزل بساحتهم من البلايا كما أن الألمان أهل لما نالوه من النصر وما علينا الأن الا أن نسعى إلى اقتطاف ثمرات هذا الدرس المفيد فإنها نافعة لنا ولا تكون الصدمات الاجتماعية وخيمة إلا على أصحاب الغفلة والخمول. ولقد عرفنا منذ الآن ونحن مضطرون لدفع جميع ما يتهدد جامعتنا والسلم العام من الحوادث. وأن الغالبين قد أخذوا المقاطعتين من أرضنا والخمسة مليارات من أموالنا وما علينا إلا أن نقتبس من فضائلهم لقاء ذلك). وبعد فإن من الأبطال الذين ألقوا بأنفسهم إلى ساحة البراز في مسألة در يفوس الاجتماعية من أجل الحقيقة والعدل هو المسيو مونو أيضاً فإنه اجتهد في هذا الدرس العام أن يعلم الإنسان أن من واجباته أن يفادي بنفسه في نصرة الحق ولكنه لم يسلم بدفاعه هذا من تعريض المعرضين وسهام أولئك الذين رأى أن ليس من إهانة لهم غير (السكوت). القسطنطينية محب الدين الخطيب

روزفلت وحرب أمريكا

روزفلت وحرب أمريكا الاجتماعية والاقتصادية من راجع تاريخ الأمة الأميركية وراقب نشوءها ونموها وسيرها السريع في مضمار العمران والفلاح ووقف على خدمها للجنس البشري لا يستغرب إذا قلت أن هذه هي أرض الميعاد وأن شعبها هو شعب الله المختار - شعب الله المختار لا ليأكل العسل ويشرب اللبن ويتمتع بالطيبات ويتنعم بالخيرات فقط بل شعب الله الذي اختاره ليحمل للعالمين نبراس الحرية والإنصاف وليمد يد الإخاء للبائس في كل قطر ويغيث المحتاج في كل مصر ولتكون بلاده ملجأ للمظلوم والتعس ويجد فيها طالب الحرية والاستقلال الشخصي والتقدم والارتقاء ما يؤهله لنيل مبتغاه. وليس معنى ذلك أن البلاد بلغت حد الكمال أو إنها حلت جميع مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية أو إنها استراحت من الأتعاب فألقت رأسها على مسند الرغد والنعيم وانقطعت عن الجد والعمل والتلذذ بالخيرات لأن البلاد الحية كالفرد الحي لا تطلب الراحة ولا ترتاح إلى الهدوء والسكينة بل تقوى بركوب الأهوال ومصارعة الصعاب. لأمريكا مشاكل عديدة تظهر عسرة الحل لمن لا يعرف نشاط هذا الشعب وإقدامه كان الله عز جلاله يبتغي بقاء هذا الشعب فيقيم له من أبنائه رجالاً يدفعون عنه الأخطار كلما تهددت البلاد المشاكل وسطت عليا الأزمات. أرسل واشنطن القائد الباسل فحل بيده رقبة الأجنبي ثم لما وشكت البلاد أن تنقسم على نفسها بعث لنكن فبدد عوامل الانقسام وربط أجزاء البلاد بعضها ببعض حتى صارت كما كانت قبل حربها الأهلية تحت علم واحد تسعى إلى غاية واحدة وتدفعها إلى السعي نفس القوى والأمال. فاليوم إذ تفاقم شر حربها الاقتصادية وبلغ اعتساف ملوك المال الحد الذي لا يطاق أقام الله بطل الأمة (تيودور روزفلت) ليدافع عم حقوق الشعب ويؤيد سلطة القانون ويعاقب المجرمين سواء كانوا من أرباب الملايين أو من الذين دأبهم السعي لهدى أركان المجتمع الإنساني الحاملين الراية الحمراء لا يحترمون الشرائع ولا يعبئون بنظام الهيئة الاجتماعية. إن سياسة هذا الباسل منذ ابتداء في معاركة المسائل الاجتماعية ومحاربة الاختلال والفساد في الأحكام يتضمنها قوله: (إن حريتي لا تعرف أخاً).

فهذه الحرية التي لا تعرف الصديق إذا اعتدى على الحق هي التي جمعت حوإليه قلوب الأمة وألقت الرعب في قلوب أهل البشر والفساد. روزفلت رئيس البلاد اليوم وقائد الحزب الجمهوري كان من أتباع هذا الحزب منذ أنجز دروسه في كلية هارفارد ودخل ميدان الحياة غير أن هذا لا يمنعه من رؤية العيوب التي انتطخ بها رجال حزبه. ما تعين رئيس شرطة مدينة نيويورك حتى شهر سيف الحرب على أعداء الفضيلة والأمن والآداب ولم تعرف حريته أخاً أو صديقاً فتضايق كثيرون من أتباعه وخاف الجمهوريون عاقبة هذه الصرامة فحسبوا أن هذه التدقيق يكثر أعداء حزبهم ويقوي جيوش أضدادهم فهرعوا إليه وقالوا لقد تجاوزت حد الاعتدال والحكمة في تنفيذك القانون فبعض هذه الشرائع مضر بالمدينة إذا صار تنفيذها حسب منطوقها الحرفي. فأجابهم أنني مسئول عن تنفيذ الشرائع كما أجدها فإن تكن غير موافقة فليبادر المشرعون إلى تغييرها. ولما أنتخبته ولاية نيويورك حاكمها كانت أشد حملاته على الفاسدين من رجال حزبه فشعر يومئذ بنفوذ أهل المال وتأثيرهم في نواب الشعب واشترائهم الأمتيازات بالأموال وإدراك أن هذا هو الخطر الذي يسرع بالحكومات النيأبية الديمقراطية إلى الفساد والانحلال فتألمت نفسه الحرة لاسيما وأن أكثر أصحاب الأعمال والأموال هم من حزبه. لما شبت الحرب الاسبانية استقال من منصبه وكان مستشار وزارة البحرية وتطوع لمقاتلة الأسبأن فقاد فرقة من الخيالة المتطوعين وقد سطر التاريخ له البسالة والشجاعة في موقعه (سان جوان) وملكته شجاعته قلوب مواطنيه. فلما اجتمع زعماء الحزب الجمهوري في فيلادلفيا سنة 1900 م لترشيح رجلين للرئاسة ولنيابة الرئاسة كان روزفلت يومئذ (أسد الشعب) فظن كثير من الكتاب ورجال السياسة أن مجلس الأمة سيرشح روزفلت للرئاسة ولكن رؤساء الحزب وقد عرفوا استقلال وجدانه وقوة أرادته سعوا إلى إبعاده عن الرئاسة فأشار الداهية بلات مدير الحزب الجمهوري في نيويورك أن يرشحوا روزفلت لنيابة الرئاسة أملا أن يقلدوه ذلك المنصب القليل الخطر من حيث والنفوذ فيرضون بذلك الشعب الذي يحب روزفلت ثم يضعون في هذا منصب الرئاسة رجلاً يصغي إلى أقوالهم ولا يحارب مصالحهم وكان ما كان من ترشيح مكنلي للرئاسة وروزفلت لنيابة الرئاسة وفوز الإثنيين في ذلك المعترك على زعماء الحزب

الديمقراطي إلا أن الله بعث لمقاصد سامية فوضوياً أثيماً ليطعن الطيب القلب وليم مكنلي تلك الطعنة التي أرسلت روحه إلى العالم الثاني فارتقى روزفلت إلى كرسي الرئاسة فهلعت قلوب ملوك المال وقالوا في سرهم خلا الجو لروزفلت فإنه سيقيم علينا الحرب التي كنا نتحاشاها وخاف الشعب أيضاً من تغيير السياسة فجأة يضر الأحوال فيوقف حركة الأعمال وتصاب الأشغال بكساد عظيم. غير أن روزفلت أبى أن يجلب الاضطراب إلى البلاد فتعهد للشعب أنه سيسير في سياسته على الخطة التي رسمها مكنلي فهدأ روع أرباب المصانع ورؤساء الشركات الكبيرة وأصحاب السكك الحديدية وبقيت البلاد تتمتع بالنجاح الفلاح. ولما أنتهت مدة رئاسته سنة1904 م رشحه الجمهوريون ثانية للرئاسة لأن صوت الشعب لم يقبل بشخص آخر. وما خمدت نيران تلك المعركة السياسية حتى انجلت عن فوز روزفلت على خصمه باركر فوزاً باهراً لم يسبق في تاريخ الأمة. ما استلم روزفلت أزمة الرئاسة للمرة الثانية حتى جرد سيفه لمقاتلة كل من اعتدى على شرائع البلاد لا يرهب في حربه سطوة عدو ولا يراعي حرمة صديق. أو كما قال أن حريتي لا تعرف أخاً. ارتقت البلاد وتقدمت وزادت ثروتها في السنين الأخيرة زيادة يصعب على العقل أن يدركها فليس من دولة بين دول المتقدمين أو المتأخرين أدركت ما أدركت أمريكا من التقدم. تجارتها سبقت كل تجارة ومصانعها ومعاملها لا مثيل لها في الأرض. زراعتها تدر الخير على البلاد كالسيل الجارف. خطوطها الحديدية لو مدت في خط واحد لبلغ طول ذلك الخط أكثر من المسافة بين الأرض والقمر. صادراتها ووارداتها السنوية تزيد على الثلاثة آلاف مليون ريال وهذه ليست إلا سبعة بالمائة من تجارتها الداخلية وفيها من أصحاب المال من يزيد إيراد الواحد منهم على إيراد بعض دول الأرض. تكأثر المال فيها فزادت قوة الماديات وأصبح تأثير الريال خطراً على المطامع والغايات في بلاد الحق والحرية والمساواة أخذ الممولون يؤلفون الشركات الكبرى ولا هم لهم إلا الكسب وإن تكن طرق تأسيسها مخالفة لشرائع البلاد ونظاماتها ومغايرة للصدق والشهامة والحق. اختلت الآداب في الأشغال الكبيرة فصار من الهين على بعض ملوك المال أن يشتروا الأمتيازات من مجالس التشريع ومنتديات سلع تجارية تباع وتشرى بالمال. ثقلت وطأة

هؤلاء الملوك الذين أخذوا يحتكرون الحاجيات والكماليات فصرخ الشعب صراخ المظلوم في أرض الحرية سمع صراخه الأسد الباسل تيودور روزفلت فحمل على العدو الحملة بعد الحملة وها هو الآن لا يزال في ساحة الوغى يرميه أعداؤه وهم أعداء الشعب بسهام العدوان والبغضاء فيبيدوها ترسة المتين متحطمة مكسرة لأنه يدافع عن الحق ولأن الشعب والله يشدان أزره في حربه الشريفة. اتفق سراً ملوك السكك الحديدية (هريمن) و (هل) و (مورغن) وغيرهم على جعل شركات الخطوط الحديدية التي تربط شيكاغو ومدن الولايات المتوسطة بالشاطئ الباسيفيكي شركة واحدة. قصدوا من ذلك الاتفاق قتل المناظرة ليتيسر لهم الاستبداد في أجور الشحن والسفر ضموا بذلك الاتفاق شركة (الباسيفيكي الشمالية) وشركة (الباسيفيكي المتحدة) وشركات أخرى صغيرة دعوها شركة التأمين الشمالية. وما انتشر أمر هذا الاتفاق حتى شكا أهل الغرب وتذمروا من استبداد ملوك الخطوط الحديدية. ورفعوا شكوأهم إلى ستة من حكام الولايات الغربية فلم يستطع هؤلاء أن يردوا المعتدين عن سيرهم السيئ وعيشهم بالقانون فعرضوا على الرئيس الحالة فأوعز روزفلت إلى المدعي العمومي أن يستقرئ أمر الشركة الجديدة فبحث المسيو نوكس سراً فوجد أن الشركة العظمى قد تعدت حدود القانون. فلم يتأخر روزفلت يوماً وأحداً عن أقامة الدعوى على هؤلاء الملوك الماليين فحاكمتهم الحكومة أمام مجلس القضاء فوجدتهم معتدين فأجبرتهم على فض الاتفاق ولم يكن بالحسبان أن الحكومة تقدم على مقاتلة شركة أموالها تعد بمئات الملايين ولكن حكومة رئيسها روزفلت لا ترهب (مورغن) ولا تخشى (روكفار) ولا (هيل). لما طلب روزفلت رؤساء الشركة التي أشرت إليها للمحاكمة هرع (مورغن) العظيم إلى واشنطن فدخل القصر الأبيض وهو عالم أن لخصمه حرية لا تعرف أخاً. فقال مورغن: يلزم أيها الرئيس أن نجتمع معاً ونتفق على أمر. يجب أن نحل المسألة بالمسألة. فأجابه الرئيس أخاف يا مستر مورغن أن لا تكون حتى الآن عارفاً منصبي. أنا هنا لأنفذ شرائع الولايات المتحدة. ولكن نحن يا مستر روزفلت لم نخالف القانون إذا لم تخاف من الأذى؟

نعم ولكن يجب أن تتسأهل أيها الرئيس. لا تسأهل في تنفيذ القانون. فآب مورغن ملك المال في أمريكا الذي يرعب (وال ستريت) - شارع الصيارفة في نيويورك - لأقل حركة أو لفظة منه تكسوه الخيبة ويرأفقه الفشل. وبعد أن عاد مرغن خائباً إلى نيويورك ذهب إلى واشنطن غيره من رؤساء السكك الحديدية ممن لهم علاقة بالشركة الكبرى قال أحدهم: كان من الضروري يا حضرة الرئيس قبل أن ترفع علينا الدعوى أمام المحاكم. فأجابه روزفلت بقوله لماذا؟ - لأن أقامة الدعوى بغتة أسقطت أسهم السكك الحديدية فكان يجب أن تفيدنا عن عزمك رحمة بالأرامل والأيتام الذين يملكون أسهماً في هذه الشركات. فأجابه المدعي العام هل أخبرتم الأرامل والأيتام لما احتكرتم أسهم الشركة الباسيفيكي الشمالية؟ وعندئذ تكلم الرئيس بلغة لم يسمعها قبلاً هؤلاء الأغنياء فقال: أن الحكومة لا تعلن عندما تعتقد أنه ارتكب جريمة بل توقفه ثم تخبره عن الجريمة التي ارتكبها. لماذا تطلبون من الحكومة أن تعلن المجرم إذا كان غنياً ولا تعلنه إذا كان فقيراً؟ وهكذا النصر لروزفلت خادم الشعب الأمريكي وخاب هريمن ملك السكك الحديدية الذي يستولي على خطوط تزيد قيمتها على ألف ومائتي مليون ريال. والذي يسعى إليه روزفلت هو أن يضع كل شركات السكك الحديدية تحت مراقبة الحكومة في واشنطن المراقبة الرسمية ويعتقد أن هذه الشركات متى علمت أن عين الحكومة ترى كل مخبآها وتعلم بكل أفعالها فلا تجسر أحد على أحد الأعمال المخالفة للشرائع على أن بعض رجال السياسة يخشى من أن تزيد المراقبة في سلطة الحكومة الزيادة التي ربما تعود بالأخطار على المبادئ الديمقراطية وهؤلاء الساسة يطلبون هذا الحق - حق المراقبة الرسمية الفعالة على السكك الحديدية للولايات المختلفة. أما براين زعيم الحزب الديمقراطي فيرى أن اعتساف شركات الخطوط الحديدية لا تكون عاقبته السيطرة ومراقبة حكومة واشنطن على الخطوط الحديدية فقط بل الاستيلاء التام أيضاً على جميع سكك

البارد. ولكن روزفلت لا يرى الآن دافعاً إلى هذا التطرف في محاربة هذه الشركات الهائلة. وآل ستريت يكره روزفلت الكره الشديد لأنه لا يستطيع أن يلين أرادته الحديدية. اتفقت شركات اللحم تحت إدارة شركة واحدة فصارت تستري المواشي من الفلاحين بالأثمأن التي تعينها وتبيع اللحوم بالأسعار التي تلائمها وعدا ذلك فإنها تبيع اللحوم غير الصالحة للصحة فحاربها الرئيس فقهرها أمام المحاكم ثم حمل مجلسي الشيوخ والنواب على سن قانون يعين رقباء من قبل الحكومة يفحصون كل ما يذبح من المواشي وكل ما تقدده الشركات من اللحوم فمن يخالف القانون يعاقب حتى أن الحكومة صارت تجبر هذه الشركات على وضع ختم المراقبة على كل ما تبيعه. اختلت نظامات السكك الحديدية وفسدت مديريها فصاروا يحابون بالأمتيازات التي يعطونها لأرباب المتاجر والمصانع يطلبون من زيد التاجر الغني رسوماً أقل من عمرو المتوسط الحال فإذا كان عمرو الفقير الحال أو المتوسط الحال مناظراً لزيد الغني في بلد واحد يعجز عن مناظرته لأنه يدفع رسوماً باهظة لاستجلاب بضائعه من مصادرها على حين يستجلبها زيد بأجور زهيدة فسنت الحكومة قانوناً يقتضي بموجبه أن تكون الأجور واحدة للغني الكبير والتاجر الفقير. ولكن التجار الكبار وأصحاب السكك الحديدية لجئوا إلى حيلة يدرسون بها القانون ولا يكونون بها تحت سلطته وبذلك أعني نظام الترجيع أي أن شركة الخط الحديدي تأخذ نفس الأجور من كل التجار الذين يشحنون بضائعهم على خطوطها ولكنها ترجع سراً إلى من تشاء مبالغ يتفقون عليها قبل الشحن. فالفقير والمتوسط الحال شكيا أمرهما إلى الحكومة فسنت النظام ضد الإرجاع ولكن الشركات الكبرى استمرت على مخالفة القانون فأقام عليها روزفلت حرباً عواناً. ومن هذه الشركات شركة الزيت العظيمة التي يرأسها كفار أغنى أغنياء العالم وشركة السكر وغيرها. والحرب اليوم قائمة في المحاكم بين الحكومة وبين شركة الزيت الشهيرة وقد أقامت الحكومة الأدلة الراسخة علة ذنوب هذه الشركة ولا شك أنها ستلقي جزاء آثامها العديدة ويقال أنها ستدفع من الغرامات لا أقل نمن ثلاثين مليون ريال فتأمل. حمل الطمع بعض الشركات التي تجيز الأطعمة المقددة على الالتجاء إلى الغش والفساد فتكأثرت أضرار هذه الأطعمة حتى لم يعد يثق الإنسان بسلامة نوع الأنواع استخدموا

الكيمياء فصاروا يخلطون المركبات الكيميائية بالأطعمة لكي يطول حفظها في علب الصفيح التنكأو الزجاج بل تعدوا هذا فصاروا يركبون المواد المختلفة ويقلدون الأطعمة الطبيعية كالعسل والدبس والقهوة وما شاكل ذلك حتى لم يعد يعرف الناس بعض الأحيان هل هم يأكلون أطعمة مركبة في معامل كيماوية أم مستخرجة من خيرات الأرض. عقد النية روزفلت أن يضع لهذا الغش والفساد فسعى بكل قواه حتى حمل مجلسي الشيوخ والنواب على سن قانون (الطعام التقي) وفاز بسعيه على الرغم مما أنفقته هذه الشركات من الأموال وما بذلته من المساعي. ومن يغش الطعام الآن يعاقب أشد المعاقبة. ومما يزيد جهاد روزفلت شرفاً في محاربة ملوك المال المفسدين أن هذا المحارب ابن عائلة غنية وصاحب ثروة طائلة فحربه ليست حرب رجل اشتراكي المبادئ أو حرب رجل يروم نقض بنيأن الهيئة الاجتماعية إنما هي حرب رجل تتألم نفسه من الاعتساف والرشوة والفساد والاختلال سواء صدرت هذه المساوئ من هريمن ملك السكك الحديدية أو من أصغر عامل في أحقر معمل في البلاد. فالكل في اعتقاده متساوون أمام القانون من يعصي الشريعة أو يدوس النظام يجب أن يلقى العقاب سواء كان من أصحاب المعامل أو من العمال. فرو كفار يعرف أنه يلقى روزفلت إذا زار القصر الأبيض الأكرام والرقة ولكنه يعرف أيضاً أن جون متشل رئيس جمعيات الفعلة في المناجم يلقي نفس المعاملة وقد سأله مرة أحد أصدقائه وهو على القطار في كاليفورنياأي رسالة تحب أن أحمل منك إلى جمعيات العمال المتحدين فأجابه روزفلت قل لهم أني سأعامل بالعدل والإنصاف الفعلة المتحدين في جمعيات منظمة وسأعامل بنفس العدل والإنصاف الفعلة الذين لا ينتسبون إلى جمعيات منظمة وسأعامل بنفس العدل والإنصاف أرباب المال والأملاك. الجميع سواء أمام الشريعة. لما احتفل نادي كرد ايرن في واشنطن في العام العابر احتفاله السنوي وكان من المدعوين روزفلت وسفراء الدول وأكبر رجال الأعمال والأشغال في البلاد خطب روزفلت خطاباً صريحاً لا يزال صداه يرن في إذان من سمعه. ومن جملة ما قال وقد وجه مقاله وقتئذ إلى كبار الممولين الحاضرين ما معناه أ، الست عدو المال والممولين. أنا لست عدو الأرزاق. أنا أعظم صديق للمال المجموع طبقاً للشريعة والنظام. أنا أخلص صديق ومدافع

عن الأملاك. إذا أردتم أن تحرس أملاككم من الرعاع الذين يعتدون على القانون فعلموهم أنتم كيف تكون المحافظة على القانون. الغني المعتدي على القانون أكثر مسئولية من المعتدي الفقير. إذا رمتم سلامة الأملاك والأمان على الأرزاق فحافظوا أنتم على النظام واحترموا الشريعة وإلا فإني أحذركم من الرعاع. الرعاع. الرعاع. صيارفة وال ستريت يسمونه (روزفلت الفضولي) ويوجين دس الفوضوي يدعوه (روزفلت المجرم) والدكتور داي رئيس كلية سيد كيوز الجامعة يسميه (الفوضوي) وبعض أعدائه يدعونه (المحارب). (المهيج). (الساعي إلى القلأقل الاقتصادية). (لذلك لا يجد لذة بغير الحرب والخصام) ولكن الشعب الذي يتكون منه الرأي العام - تلك القوة الفعالة في البلاد الديمقراطية يحبه ويبجله ويثق به. أعداؤه يرون في سياسته خطرا على البلاد أما الشغب فإنه يحثه على القبول أن يرضى بترشيحه للرئاسة سنة 1908 لكن روزفلت يرفض الرفض الصريح لأنه لا يحب أن يخالف النظام غير المكتوب الذي لا يستصوب انتخاب رجل لرئاسة البلاد للمرة ثلاث مرات. جورج واشنطن محرر أمريكا هو أول من رفض الانتخاب المرة الثالثة وقد مشى الرؤساء بعده على هذه الخطة الحميدة والمقصود منها أن تبقى القوة قي قبضة رجل واحد لئلا يميل إلى حب الاستبداد والاستئثار بالأحكام. لم يقم رئيس واشنطن أحبه الشعب في حياته كما يحب تيودور روزفلت ففيه تتمثل أسمى آمال الشعب الأمريكي وأرقى عواطفه. فمن أخلاقه الشجاعة وحرية الوجدان ومحبة الإنصاف والعدل والميل إلى مساعدة المظلوم البائس وحب الجد والهمة والإقدام على عظائم الأمور بصبر وثبات فهو أشرف ممثل لصفات الأمة فلذلك هامت به القلوب وتعلقت به الأفئدة. يتهمه أعداؤه بمحبة الحرب والقتال والميل إلى سفك الدماء. ولكن الشعب يعلم أنه هو الوحيد بين عظماء الأرض وملوكها الذي أوقف أفظع حروب الأعصر الحديثة - الحرب الروسية اليابانية - وحقن دماء بني البشر التي كانت تجري كالأنهر في أودية مانش وريا ولذلك يدعونه واضع السلام ولا يستغربون أن وهبته دولة نروج مدالية نوبل التي لا تهبها إلا لمن يخدم السلام أكبر الخدم. ينسب إليه أعداؤه الكبرياء وحب السلطة ولكن الشعب يعلم أنه يرى الفضيلة ويكرمها أينما

وجدها فلذلك أضاف في القصر الأبيض الزنجي الأسود بوكر واشنطن لأنه يعلم أن بوكر واشنطن الزنجي رجل فاضل يخدم شعبه ويرقي حالتهم ويساعد بذلك أمريكا على حل أكبر مشاكلها الزنوج. أعداء روزفلت يتهمونه بتحريك الاضطرابات الاقتصادية ولكن الشعب لا ينسى أن روزفلت هو الذي أطفأ نار تلك الحرب الاقتصادية التي قامت بين أصحاب مناجم الفحم والعمال المعتصمين وأنقذ البلاد من أخطار ثورة عظيمة عندما تعاظم الخلاف بين أرباب المال والعمال في المناجم وتوقف عن العمل لا أقل من نصف مليون عامل. ولقد ارتفعت أثمأن الفحم بأبهظ الأثمأن لعدم وجوده عندما دخل الشتاء ببرده وثلجه والخلاف لم يزل مستحكماً فضاقت النفوس وتهيجت الخواطر وخاف العقلاء من شر ما يحدث وسعى كثيرون أن يرجعوا الحالة إلى سابق عهدها ولكن أصحاب المناجم أبوا أن يسلموا بواحد من مطالب المعتصمين. عندئذ عزم روزفلت على حسم الخلاف فاستل سيف الغيرة متخذاً من قوة الرأي ترساً يرد به كيد أصحاب المناجم الذين جاهروا في أول الأمر ليس لروزفلت حق بالمداخلة. فتدخل روزفلت على الرغم من اعتراضاتهم وأجبرهم أن يعرضوا المشكل على مجلس تحكيم يتألف أعضاؤه من رجال اشتهروا بالنزاهة والعدالة والمعرفة. تألف مجلس التحكيم ونظر في الخلاف فوجد أن الحق مع العمال فأبدى حكمه فخضع الفريقان وانتهى ذلك الخلاف العظيم ونجت من شرور ذلك الاغتصاب. ولا يسمح المقام أن أذكر أكثر مما ذكرت من حسنات هذا الرجل العظيم وخدمه للشعب الأمريكي خصوصاً وللعالم عموماً. ولاسيما في هذه الحرب الاقتصادية التي يسعر نارها ويكفيه فخراً أنه بث في الناشئة الأمريكية روحاً ظهر تأثيرها في كل ولاية ومدينة في أمريكا - روح القانون وكره الاختلال والفساد فهو الذي في جهاده وحياته وأقواله وكتاباته يفسر لتبيان كلمة نجاح بمعنى جديد أو قديم ولكن كاد ينزع من الأذهأن فالنجاح الذي يبشر به روزفلت هو النجاح الحقيقي الذي لا يشتريه المرء بالمفاداة بمبادئه وفضائله بل الذي يقوي المبادئ السامية ويكثر الفضائل. المال خير إلا إذا كان الحصول عليه لا يتيسر بغير العبث بالشرائع وقتل الوجدان فإذا ذاك يصير شر ما يتهدد الفرد والأمة.

وخلاصة القول أن الخوف على فناء البلدان والممالك واضمحلال الشعوب وتأخرها لا يجب أن يكون من حدوث الاختلال والشرور فهذه ملأزمة للعمران حتى يبلغ درجة الكمال إنما الخوف كل الخوف متى استحكم الفساد ولا من يستأصله متى ضرب الشر أطنابه وليس من يجرد عليه سلاح الحرب والمقاومة فكيف نخاف على حياة أمة لا يظهر فيها فساد حتى تجد من يقاتله بغيره وثبات كيف نخاف على مستقبل هذا الشعب الأمريكي وممثل أسمى صفاته هو تيودور روزفلت الذي إذا نادى ودعا الشعب الأمريكي لمساعدته في خدمة الحق ومحاربة الإثم. سمع الناس نداءه لأنهم أحياء فقاموا يعضدونه في جهاده. وعلى الجملة فإن الحرب قائمة بين الحق والباطل وأن الأمال عظيمة بفوز الحق والعدالة إذ لم ير إلى الآن أن قائد لحق روزفلت خاب في موقعه منذ بدأ في حربه الشريفة لتأييد النظام والعدل. ولله در جون مورلي السياسي الأمريكي الشهير الذي قال بعد أن زالت الولايات المتحدة منذ عهد قريب رأيت في أمريكا مظهرين عظيمين للطبيعة شلالات نياغرا وتيودور وروزفلت برو فيدنس (الولايات المتحدة). الولايلت المتحدة شحادة شحادة

اليونان

اليونان أبطالهم البطل - البطل في بلاد اليونان رجل معروف يغدو بعد موته روحاً ذات سلطان ولا تتم له الربوبية بل ينال منها نصفها فمن ثم لا يسكن الأبطال في الأولمب في سماء الأرباب ولا يدبرون شؤون العالم أجمع ولهم مع هذا أيضاً سلطة فوق كل سلطة بشرية يغيثون بها أحبابهم ويهلكون أعداءهم. ولذا عبدهم للأرباب عبادتهم للأرباب واستغاثوا بهم وتضرعوا إليهم. وما من مدينة أو قبيلة أو أسرة إلا ولها بطل خاص بها وهو عبارة عن أشباح متخيلة تحميها فتعبدها وتتقدم إليها بأنواع القربات. ضروب الأبطأل - ومن هؤلاء الأبطال فئة اشتهرت في الأساطير وعدت من الأعيان مثل أشيل وأوليس أممنون ولا شك في أن بعضهم لا حقيقة لهم قط مثل وهيراكليس وأديب. وليس بعضهم إلا أسماء لا مسميات مثل هيلين ودور وس وعوس. غير أن عبدتهم ينظرون إليهم نظرهم إلى أشخاص قدماء وقد عاش معظم هذه الأرباب وبعضهم من الأعيان قد ذكرهم التاريخ وكانت لعم أعمالهم مثل لبون يداس وليزاندز وكانا من القواد وديمقراط وأرسطو وكانا فيلسوفين وليكورك وصولون زكانا مشرعين. وعبد أهل مدينة كروتون أحد مواطنيهم فليس لأنه أجمل أهل زمانه في بلاد اليونان. وكان الزعيم الذي يقود الطوارئ ويؤسس مدينة يعد بين السكان البطل المؤسس فيقيمون له معبداً ويتقربون إليه كل عام بأنواع النذور والقربان. وهكذا كان مليتاديس الأثيني يعبد في مدينة من أعمال تراسيا وباز يداس الإسبارطي الذي قتل في دفاعه عن امفيبوليس كما يعبد في هذه المدينة إذ اعتبره السكان مؤسساً لبلدهم. حضور الأبطأل - يظل البطل ساكناً في البلد الذي دفن فيها جسده سواء كان في قبره أو في الجوار. وقد وصف هير ودنس هذا المعتقد فكانت مدينة سيسيون تعبد البطل ادراتس فأقامت في الساحة العامة مصلى إكراما له. ولقد ارتأى كليستين جبار سيسيون أن يتخلص من هذا البطل فراح يسأل هاتف دلفيس عما إذا كان يفلح في طرد ادراتس. فأجابه الهاتف بقوله: أن ادراتس كان ملك السيسونيين وأنه لص وقاطع طريق فلما لم يستطع كليستين أن يطرد ذاك البطل عمد إلى الحيلة فبعث إلى ثيبة يبحث عن عظام بطل آخر اسمه ميلا

نيبس كان من ألد أعداء ادراتس قتل له صهره وأخاه. ثم جعل تلك الأعياد والنذور تقدم إلى ميلا نيبس بعد أن كانت تقدم إلى ادراتس زمناً وراح يقتنع وسائر اليونانيين أن البطل المغتاط يركن إلى الفرار. مداخلة الأبطأل - للأبطال قوة إلهية ففي وسعهم كما في وسع أرباب أن يفعلوا الخير والشر كما يشاءون. ولقد أخطأ الشاعر ستيز يشور في كلامه على هيلانة المشهورة (تلك التي جيء بها إلى طروادة على نحو ما ورد في الأساطير) فكف بصره حتى إذا رجع عن كلامه عاد بصيراً. ويزعمون أن هيلانة صارت نصف ربة بعد موتها فأرسلت للشاعر بالداء بادئ بدء ثم اتبعه بالدواء. ويدعون أن الأبطال الحامية لبلد تدفع عنها الأدواء والمجاعة وتذب عن حياضها من غارة بالدواء. وقد زعم الجند الأثيني أنهم رأوا بين صفوفهم في حرب ماراتون تيزيه بطل أثينة ومؤسسها وقد تدجج بسلاح لامع في حرب سلامي نية وظهر البطلان أجاكس وتيلا مون اللذان كانا فيما مضى ملكي جزيرة سلامينة في أعلى ذروة منها باسطين ذراعيهما نحو الأسطول اليوناني. قال تيموكلس (وما قهرنا الفرس إذ قهرنأهم ولكن الأرباب والأبطال قهروهم) وفي إحدى روايات سوفقلس (أديب إلى تولون) بينا كان أديب مشرفاً على الموت ملك أثينة وملك ثيبة وأراده كلأهما على الأرض بترك جثته تدفن في أرضهما ليكون بطلاً حامياً لها فأجاب طلبهما في أن يدفع في بلاد الأثينيين وقال لملوكهم: أني لا أكون بعد موتي خالياً من النفع في هذا القطر بل أكون ركناً ركيناً لا تقاويه ألوف الألوف من المحاربين. وكان يرى أن بطلاً وأحداً يساوي جيشاً برمته ويرهب بأس هذا الشيخ ولا رهبة الأحياء أجمعين. العبادة بدء عبادة الأرباب - كان الأرباب والأبطال على ما لهما من الحول والطول ينشرون في الناس جماع الخيرات والسيئات كما يشاءون فكان من الخطر أن يكونوا على المرء ومن العقل أن يكونوا وإياه يداً واحدة. ولقد ذهب القوم إلى أنهم كانوا أشبه بالبشر يسخطون إذا تركوا وشأنهم ويرضون إذا عني بهم. وعلى هذا الفكر نشأت العبادة فكانت عبارة عن إتيان صالح الأعمال مع الأرباب لنيل رضأهم. وقد صرح أفلاطون بالرأي العام كما يلي قال (أن الاضطلاع بالقول والقيام بصالح الأعمال مع الأرباب سواء كان في الصلوات أو

في النذور هو من التقوى التي بها نجاح الخاصة والبلاد وعكسها هو الشقاء الذي به تثل عروش الممالك وتندك معالم العمران) يقول كسينوفإن في آخر كتابة الفروسية في بحبوبه النجاح. فالديانة كانت بادئ بدء عهداً وميثاقاً فكان اليوناني يسعى في استرضاء الأرباب وينال من لدنهم مقابلة ذلك ومنافع ومغانم قال أحد الكهنة أبولون لمعبوده أني قد أحرقت ثيراناً سمينة منذ زمن طويل بسهام غضبك أعدائي الأعياد العظيمة - زعم اليونان أن لأربابهم إحساسا وعواطف كعواطف البشر ولذلك عنوا بالقيام بكل ما يسترضى به الإنسأن فكانوا يقدمون لهم لبناً وخمراً وحلواً وفاكهة ولحماً وينشئون لهم قصوراً ويحتفلون إكراماً لهم بأعياد إذ كانت تلك المعبودات أرباباً سعيدة تحب الفرح والمناظر الجميلة. وما كان العيد كما هو الحال عندنا اليوم عبارة عن أفراح بل كان احتفالاً دينياً يضرب في خلاله عن الأعمال وتأخذ الأمة في إبداء مظاهر المسرة على رؤوس الأشهاد أمام المعبود. فمن ثم كان اليوناني يسر بهذه الأعياد ويحتفل بها إجلالاً لأربابه ومعبوداته لا قياماً بأهوائه الخاصة وشهواته. جاء في نشيد قديم إكراماً للمعبود أبولون أن الأيونيين يدخلون السرور عليك بما يقومون به من مطاعنتهم المعهودة وغنأهم ورقصهم. الألعاب الاحتفالية - نشأت الألعاب الاحتفالية من هذه المسليات التي كانت تقام أعظاماً للأرباب فكان لكل مدينة ضرب من ضروبها تكرم بها ومعبوداتها وما كانت في العادة تقبل لمشاركتها بها غير أبناء وطنها ومع هذا فقد بألعاب يشترك بها جماع أبناء يونان ويحضرونها وذلك في أربعة أماكن من البلاد اليونانية. وتدعى الألعاب الأربعة العظيمة وأخص تلك الألعاب ألعاب أولمبيا. يحتفل بها كل أربع سنين إكراماً للمعبود زيوس وتدوم خمسة أيام أو ستة فيأتي دهماء اليونان من أطراف البلاد تغص بهم الملاعب والمشاهد ويأخذون في تقديم الضحايا والتقرير بالصلوات إلى المعبود زيوس (الشمس) وسائر الأرباب ثم يتبأرى القوم في الأعمال الآتية: عدو على الإقدام حول الملعب. قتال يعرف عندهم بالبانتاتل لإنه كان عبارة عن خمسة ألعاب فيقفز المتبارون ويركضون من طرف الملعب إلى طرفه الآخر ويقذفون إلى بعد بطارة من المعدن ويرمون الحراب ويتقاتلون بالأيدي والأبدان. ثم ملاكمة بجمع الأكف يتقاتلون فيها وأذرعهم مستورة بسيور من جلد.

ومسابقة عجلات كانت تجري في الميدان والعجلات خفيفة يجرها أربعة جياد ويتصدر القضاة في الألعاب بألبستهم القرمزية وقد توجوا بأكاليل الغار فينادي المنادي بعد القتال باسم الظافر واسم بلده على رؤوس الأشهاد ويكافأ بتاج من الزيتون جزاء ما وفق له ويستقبله مواطنوه استقبال الظافر الفاتح وربما خرقوا خرقاً في الحائط ليمروا به منه فيقبل تقله مركبة تجرها أربعة من الجياد لابساً القرمزي والشعب كله يخفره. وكان يعد هذا النصر الذي نعده اليوم من أعمال المصارعين في المحال العامة من أحسن الأعمال وأولاها على ذاك العهد يحتفل بها أعظم الشعراء ولم يكن هم بيندار أشهر شعراء الأغاني القدماء غير نظم المقاطيع في سباق المركبات. ويروى أن أحدهم واسمه دياكوراس رأى في يوم واحد ولدين له وقد توجا فحملاه على أعين القوم حمل الظافرين فلما شاهد الشعب أن أمثال السعادة عظيمة جداً بالإضافة إلى الميت ناداه: مت بادياكوراس إذ ليس في وسعك أن تكون بعد معبوداً. فضاق ذرع دياكوراس من الاضطراب ومات بين أيدي ولديه وفي نظره ونظر أبناء يونان أن رؤية وأكفهما قوية شثنة وسوقهما سريعة كأن ذلك منتهى السعادة الأرضية. وعلى هذا يحق لليونان أن يعجبوا بالقوة الطبيعية فقد كان أقوى المصارعين من أحسن الجند في الحروب التي يتقاتلون فيها جسداً لجسد. الفأل - كان اليونان يرجون من آلهتهم أعمالاً كبيرة تلك الواجبات والأعياد والاحتفالات فكأنت المعبودات تحمي عبدتها وتسبغ عليهم برود العافية والغنى والنصر وتقيهم المصائب والنوائب التي يتوقعون نزولها ترسل علامة من لدنها يفسرها الناس. وهذا ما كان يدعى بالفأل. قال هير ودنس كان إذا اقتضى لأحدى المدن أن تمتحن ببعض الخطوب يتقدم لها على ذلك علامة في العادة. ولقد تفاءل أهل شيو (صاقز) تفاؤلا دلهم على ما ينالهم من الهزيمة فلم يرجع من مئة فتى بعثوا بهم إلى دلفيس يترنمون وينشدون سوى فتيين وهلك سائرهم بالوباء. وعلى ذاك العهد أنفض سقف مدرسة المدينة على أطفال كانوا يتعلمون القراءة فلم ينج منهم سوى طفل واحد وكان عددهم مئة وعشرين. هذه هي الإمارات التي قدم الأرباب إرسالها على أبناء يونان تنذرهم وتبشرهم. ولقد كان اليونانيين يرون الأحلام والطيور التي ترفرف في السماء وأحشاء الحيوانات التي يتقربون بها لأربابهم بل وكل ما يقع نظرهم عليه من الزلزال والكسوف إلى عطسة يعطسها المرء - يرون كل هذه الأمور

الطبيعية إمارات إلهية فيها سعادتهم وشقاؤهم ففي حملة صقلية بينما كان نيسياس القائد الأثيني يركب جيشه المنهزم في السفن أوقفه خسوف القمر فظن أن الأرباب بعثت بهذه العجيبة تنذر الأثينيين أن لا يتموا ما بدؤوا به من الأعمال الحربية فاضطر نيسياس إلى الانتظار سبعة وعشرين يوماً وهو يقدم القرأبين تسكيناً لغضب الأرباب. فسد الأعداء في هذه الفترة ميناء المدينة وحطموا أسطولها وبددوا شمل جيشها. ولم ير الأثينيون لما بلغهم النبأ سوى أمر واحد نجوا من أجله نيسياس وذلك إنه كان عليه أن يعرف أن اختفاء القمر بالنظر إلى جيش منهزم علامة حسنة. وفي غضون العودة المعروفة بعودة العشرة آلاف خطب القائد كسينوفون في جنده فلما أنتهى إلى هذه العبارة لنا الأمل الوطيد أن نرجع والمجد أليفنا بمعونة الأرباب عطس أحد الأجناد على الأثر فأخذ الجيش يهتف ويضرع إلى الرب على أن بعث لهم الفأل فهتف كسينوفون: إلا فلننذر بتقديم ضحايا لزيوس إذ بعث إلينا ما نتفاءل به بيننا نحن نتفاوض في سلامتنا. هاتف الغيب - كان الرب في الأحايين يجيب سؤل من يدعوه ويستشيره من المؤمنين لا بإشارة صماء بل على لسان أحد الملهمين من علية الناس فيأتي القوم مزار رب ينشدون أجوبة يتلقونها ونصائح يستنصحون بها وهذا هو معنى الهاتف بالغيب. وأنك لترى في أماكن كثيرة من بلاد اليونان وآسيا جملة صالحة من الهاتفين بالغيب وأشهرهم في دودون من بلاد أبيروس ودلفيس في سفح جبل البار ناس فكان الرب زيوس في دودون يجيب دعوة المضطرين بدوي أشجار البلوط المقدسة والرب أبولون كلن المستنصح في دلفيس وكأن يسري في مغارة من معبده من شق التراب مجرى نسيم طن اليونان أن الرب بعث به لأنه ما استنشقه إنسأن الا وخرف وجن ولذا وضعوا أثفية على شق الأرض وهي عبارة امرأة فتجلس على تلك الأثفية بعد أن تستحم في حمام مقدس وتقبل الإلهام فما هو إلا أن يأخذها شيء من البحرأن العصبي حتى تبدأ تصرخ أصوات وتتفوه بكلمات متقطعة فيتلقاها منها كهنة حولها فينظمونها شعراً ويقصونها على من جاء يستنصح فكان هتاف الغيب من بيسيا هذه مشوشاً ملتبساً. ولما سألها كريز وس. ولما سألها كريز وس عما إذا كان يجب عليه أن يشهر على الفرس حرباً أجابته بقولها (إن كريز وس يدمر مملكة عظيمة) ثم أن مملكة عظيمة تقوضت أركانها ولكنها كانت مملكة كريز وس. وكان

للإسبارطيين ثقة عظمى بالبيسيا ولم يكونوا يسيرون حملة لهم من دون استشارتها وقد اقتدي بهم سائر اليونانيين وهكذا أصبحت دلفيس مبعث الهاتف الوطني. الأمفكتيونيا - ألف اثنا عشر رجلاً من أعيأن الشعوب اليونانية جمعية سموها الأمفكتيونيا حباً بحماية قبر دلفيس فكان يجتمع نواب هذه الشعوب كل سنة في دلفيس للاحتفال بعيد أبولون وللنظر فيما إذا كان المعبد يخشى عليه من مد يد الأذى لإنه كان ثروة عظيمة ربما تدعو اللصوص أن ينبهوه. وقد صادر أهل سيرا وهي المدينة القريبة من دلفيس هذه الكنوز الثمينة في القرن السادس فأعلن عليهم أولئك الأعيأن المشار إليهم حرب من استباح الأمور المحظورة وخرق سياج المقدسات فأخذت سيرا وهدمت من أساسها وبيع سكانها بيع الرقيق وأصبحت أرضها كان لم تغن بالأمس. ومع هذا فلا ينبغي أن يذهب ذاهب إلى أن مجمع الأمفكتيون أشبه في وقت من الأوقات مجلساً يونانياً. بلى أنه لم يعن إلا بمعبد أبولون لا بالشؤون السياسية وما قط ضرب على أيدي شعوب الأمفكتيون حتى لا يثيروا بينهم دواعي الشقاق فالهاتف الغيبي الأمفكتيونيا في دلفيس كان لهما حظ أوفر من سطوة الهاتفين والأمفكتونيين ولكنه ما ضم قط أشتات اليونانيين وجعلهم أمة قائمة برأسها. إسبارطة شعبها لاكونيا - لما هاجم أهل الجبال من الدوريين شبه الجزيرة المورة نزلت أعظم عصابة منهم في مقاطعة إسبارطة ولا كونيا واد ضيق يشقه نهر عظيم يعرف بالاوروتاس يحيط بهما جبلان عظيمان غطيت قممها بالثلوج وقد وصفهما أحد الشعراء بقوله أيتها الأرض الغنية التربة المخصبة الرباع المتعذر استنباتها واستثمارها أيتها البلدة الجوفاء المحصورة بين جبال قائمة الكثيبة في منظرها المنيعة على هجمات المهاجمين وقد عاش الدور يون من الإسبارطيين في هذه البلاد الحصينة بين ظهراني سكانها القدماء فأصبح بعضهم رعايا وفريق عبيدهم وموإليهم وبهذا أنقسم سكان لا كونيا إلى ثلاث طبقات وهم الهيلوتيون والبيريكيون والإسبارطيون. الهيلوتيون - سكنت هذه الطبقة من السكان أكواخاً منتشرة في الفلاة وأقاموا على حرث

الأرض وزراعتها وما ملكوا الأراضي التي يعملون فيها ولم يكونوا مطلقين في مغادرتها وما كان حالهم في ذلك إلا حال عبيد القرون الوسطى مستأجرين تابعين للأرض خلفاً عن سلف عاملين لمالكها الإسبارطي وكان يتناول منهم أفضل قسم من غلاتهم. ولطالما احتقرهم الإسبارطيون وحاذروا بأسهم وأسأوا معاملتهم واضطرارهم إلى لبس ثياب غليظة وضربوهم بلا داع ليذكروهم أتهم عبيد وأرقاء. وربما أسكروهم في الآحايين لينفروا أبنائهم من السكر. وقد شبه أحد شعراء إسبارطة الهيلويينبحمر موقورة تكبو وتنوء تحت أعباء الأحمال وإعياء الضرب والبيريكيون - سكنت هذه الفئة مئات من القرى في الجبال أو على الساحل وألفوا الأسفار البحرية واتجروا وصنعوا المواد الضرورية للحياة فكانوا أحراراً يدبرون شؤون مزارعهم بيد أنهم كانوا يؤدون ضريبة لحكام إسبارطة ويخضعون لهم. حالة الإسبارطيين - أبغض الهيلوتيون والبيريكيون سادتهم الإسبارطيين يقول كسينوفون لم يكن لأحدهم عند ما تكلمه في شأن الإسبارطيين أن يكتم مبلغ سروره لو تسنى له أن يأكل الإسبارطيين أحياء. زلزلت إسبارطة ذات يوم وكادت تتداعى أركانها فما كان بأسرع من البرق حتى انهال الهيلوتيون من أطراف الفلاة ليقتلوا الإسبارطيين الناجين من الهلاك. ثم انتقض والبيريكيون وأبوا الخضوع. على أن الإسبارطيين كانوا من سوء السلوك بحيث يستحقون سخطهم. ولقد أمر الإسبارطيون عقيب حرب اشترك فيها كثير من الهيلوتيين في معسكراتهم أن ينتقموا من اشتهر منهم بالشجاعة ووعدهم أن يعتقوهم وكان هذا الوعد منهم حيلة ليعرفوا بها أشجعهم نفوساً وأجرأهم على إبداء نواجذ الثورة فإنتخب ألفإن منهم طافوا بهم أرجاء المعبد متوجة رؤوسهم إشارة إلى الحرية ثم أدخلهم الإسبارطيون في خبر كان ولم يعرف أحد كيف هلكوا على حين كان المضطهدون عشرة أضعاف موإليهم وما قط ربا الإسبارطيون على تسعة آلاف رب أسرة يقابلهم مائتا ألف من الهيلوتيين ومائة وعشرون ألفاً من البيريكيين واقتضى أن يعادل واحد من الإسبارطيين عشرة من موإليهم في مسائل القتل وإذ اعتادوا المصارعة قضت الحال بأن يكون أفرادهم أقوياء أشداء فكانت إسبارطة معسكراً لا جدار له وكان شعبها جيشاً على قدم الدفاع أبداً. التربية

الأولاد - يؤخذ أطفال هذه الأمة منذ ولادتهم ليكون وأحداً منهم أجناد فكل مولود يؤتى به أمام المجلس فإذا وجد ضعيفاً أشوه يعرضونه على مجلس لأن أحوالهم أوجبت أن لا يكون جيشهم مؤلفاً إلا من أرباب القوة والجلادة فمن يستحيونهم يؤخذون من أهلهم في السابعة من عمرهم ويربون مع أقرانهم كانهم أولاد جماعة فيرحلون عارية أقدامهم وليس على أبدانهم غير رداء واحد هو وقايتهم صيفاً وشتاءً وينامون على كدس من القصب ويغتسلون في المياه الباردة من نهر الأوروتاس ويقللون من الطعام ويزدردون كثيراً وأطعمتهم غليظة ليعتادوا أن لا يملئوا معدهم. ويقسمون إلى سرايا كل سرية مئة رجل ولكل منها زعيم. وكثيراً ما يريدونهم على التطاعن بالأرجل والأكف. ويساطون في عيد أرتيمس حتى تسيل دماؤهم أمام هيكله وربما مات بعضهم متأثراً من الضرب على أنهم قلما يستغيثون فيرون الشرف أن لا يرفعوا أصواتهم يريدون بذلك تدريبهم على أن يقتتلوا ويحتملوا العذاب والألم. وكثيراً ما يمنعون عنهم الطعام بتاتاً فيسرقون ما يقتاتون به فإذا خدعوا يضربون بالسياط ضرباً مبرحاً. وكان من أحد أولاد الإسبارطيين كما قيل وقد سرق ثعلباً وخبأه تحت ثوبه أن أثر جعل بطنه فريسة للثعلب ينهشه على افتضاح أمره وإظهار فعلته. وكان يراد تدريب الأولاد على حسن التخلص في الحروب فيسيرون غاضين أبصارهم ساكتين وأيديهم تحت ثيابهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة كانما على رؤوسهم الطير أمام الهيكل وكان عليهم أن لا يتكلموا على الطعام ويطيعوا كل من يلقونهم وذلك لكي يخضعونهم للنظام. البنات - أما سائر اليونانيين فيحجبن بناتهم في البيوت ويشغلنهم بحياكة الصوف. أراد الإسبارطيون أن يقووا أجسام نسائهم ويجعلنهم من المقدرة بحيث يلدن الأقوياء من الأولاد فمن ثم كانوا يربون البنيين على غرار البنات إلا قليلاً. ولقد كانوا يتمرنون في رياضتهم على الركض والقفز ورمي الأطر والطعن بالحراب وقد وصف الشاعر ألعاباً كانت فيها البنات كالمهارة مسترسلة شعورهن والغبار نأثر وراءهن وقد اشتهر من أمرهن أنهن كن أصح نساء اليونان وأشجعهن. التهذيب - حياة الرجال منظمة أيضاً كحياة الجند إذ قضت الحال عزائمهم أمام جمهور الأعداء فيكون الإسبارطي في السابعة عشرة سنة جندياً ويظل كذلك إلى الستين. فكأنت الأزياء وساعة القيام والمقام والطعام والرياضيات محددة بنظامات كما هو الحال في ثكنة

الجند اليوم. فإذا لم يحارب الإسبارطي يستعد للحرب فيمرن نفسه على العدو القفز وحمل السلاح ويروض على كل حين عامة أطراف جسمه من عنقه وذراعيه وكتفيه وساقيه. ولا يحق له أن يتجر ولا يحترف ولا أن يحرث أرضاً فهو جندي وليس عليه أن يحيد عن مهمته بمعطاة أي عمل كان. وليس له أن يعيش في أسرته على هواه فإن الإسبارطيين يتنأولون الطعام زمراً زمراً ولا يخرجون من بلادهم إلا بأذن وهذا يعد من تنظيم جيش في ديار العدو. الإيجاز بالكلام - قاسى هؤلاء المحاربون شظف العيش فكانت سجناتهم صفيفة تقرأ فيها العجب والخيلاء وكانوا يختزلون الكلام اختزالاً. وهذا ما يسمى بالكلام الموجز وبالإفرنجية (لا كونيك نسبة لمقاطعة لا كونيا وقد بقي منها هذا التعبير). فكأنت الحكومة تبعث إلى حامية على خطر من مباغتة العدو لها برسالة لا تكتب فيها سوى كلمة (الحذر) ولقد أخطر ملك الفرس جيشاً إسبارطيا أن يطرح سلاحه فأجابه القائد تعال خذه ولما استولى لزاندار على أثينة لم يكتب سوى هذه الجملة سقطت أثينة الموسيقى والرقص - كأنت الأشغال لإسبارطة صنائع حرية بجيش. حمل الإسبارطيون معهم ضرباً من الموسيقى خاصة بهم كانت على جانب عظيم من الوقار والحماسة والكراهة في الإسماع وهي من ضروب الموسيقى العسكرية. فيروح الإسبارطيون إلى ساحة الوغى على نغمات المزمار ويسيرون على الإيقاع. ورقصهم عبارة عن استعراض قائد لجند فيرقص الراقصون الرقص العسكري المألوف ببلاد يونأن المدعو بالبيريك مسلحين ويتابعون عامة حركات القتال ويشيرون بالضرب والكر والفر والطعن بالحراب. بأس النساء - عرف النساء بتحميس الرجال على القتال واشتهرت أثار شجاعتهن في يونأن فكتب فيها المصنفات. وقد قتلت امرأة إسبارطية ولدها لفراره من الزحف قائلة إن نهر الأوروتاس لا يجري ليشرب منه الوعول ولما علمت إحدى نساء تلك البلاد إن خمسة أولاد لها هلكوا قالت ليس هذا ما أسألكم عنه فهلا كتب النصر لإسبارطة فلما أجيب بالإيجاب قالت إذا فلنحمد الآلهة ولنشكر لهم. التربيات الملوك والمجلس=للإسبارطيين أولاً كما سائر أبناء يونان ملوك ومجلس شيوخ ودار ندوة

حفظت كل هذه التربيات ولكن من حيث الصورة فقط. فالملوك وهم من نسل المعبود هيرا كليس يشرفون ويكرمون ولهم حق التصدر في المواضع الأولى في المأدب ويقدم لهم من الطعام ما يكفي اثنين وإذا مات أحدهم يلبس جميع الرعايا عليه الحداد. بيد أنهم لم يتركوا لهم أدنى حكم بل يراقبونهم كل المراقبة. وكان مجلس النواب مؤلفاً من ثمانية وعشرين شيخاً منتخبين من العيال الغنية القديمة يقومون بما ندبوا إليه مدى الحياة ولكنهم لا يحكمون. المفتشون - أن المفتشين (ايفور) هم السادة الحقيقيون في إسبارطة وهم خمسة حكام يتجدد انتخابهم كل عام ويناط بهم تقرير السلم والحرب وفصل القضايا. وهم يرأفقون الملك في قيادة الجيش فيديرون حركة الأعمال الحربية وكثيراً ما يريدونه على الرجعة من الحرب وهم في العادة يستشيرون أعضاء مجلس الشيوخ ويقررون ما ينبغي باتفاق آرائهم ثم يجمعون الإسبارطيون في إحدى الساحات ويطلعونهم على ما تم من القرار ويطلبون إليهم أن يصدقوا عليه أما الأمة فإنها تستحسن ما تم بالهتاف دون أن تناقش في أقل مسألة. ولا نعلم فيما هذه الحكومة حكومة إشراف مؤلفة من عدة أسرات حاكمة. فمن ثم لم تكن إسبارطة بلاد مساواة وكان فيها أناس يدعون أهل المساواة وذلك لأنهم كانوا سواء فيما بينهم أما غيرهم فيدعون المرؤوسين ولم يكن لهم شيء من الحكم البتة. الجيش - بفضل هذه الطريقة في الحكم احتفظ في الإسبارطيون بأخلاقهم الجبلية فلم يكن عندهم نقاشون ولا مهندسون ولا خطباء ولا فلاسفة بل أنهم انصرفوا كلهم إلى الحروب وحذقوا علم الكر الفر أيما حذق وغدوا من المقننين لغيرهم من اليونانيين وأتوا العلم بعملين عظيمين أحسن طريقة في القتال وأحسن طريقة في التدريب. المسلحون - كان اليونان قبلهم يسيرون إلى القتال بغير أنتظام فيمتطي الزعماء صهوات الخيول أو عجلات خفيفة ويتقدمون صفوف الحملات والناس يتبعونهم مشاة وقد تسلح كل منهم كما أراد وقد تفرقوا طرائق قدداً وليس في وسعهم أن يكونوا يداً واحدة في العمل أو في المقاومة. وما هو إلا أن يستحيل القتال إلى مبارزات ثم إلى مذابح. أما في إسبارطة فللمقاتلة بأجمعهم سلاح واحد وكانت وسائل دفاعهم درعاً يغطي النصف الأعلى والخوذة تقي الرأس والمسامي (الطما قات) تقي الساق والتروس تجعل في مقدمة الجسد. أما وسائل

هجومهم فسيف قصير ورمح طويل. ويسمى المسلح على هذه الطريقة باسم ايبولت. والمسلحون من الإسبارطيين مقسمون إلى كتائب وسرايا وفرق وشراذم على سبيل مثال ترتيب جيوشنا لهذا العهد إلا قليلا. فكان الضابط يقود إحدى هذه العصابات ويبلغ رجاله أوأمر الرئيس بحيث أنه يتأتى للقائد العام أن يوحد حركة الجيش كله. وهذه الطريقة التي نراها سهلة هي بالنسبة لليونان أبدع عجيب. مصاف الجيش - متى بلغ الجند مقدمة الأعداء يأخذون مصافهم في العادة على ثمانية صفوف متقاربين بعضهم من بعض مؤلفين من جموع متكاثفة تدعى حجافل ومصافاًًً ويقدم الملك وهو قائد الجيش عنزة على سبيل النذر للأرباب وإذا تفاءلوا بأحشاء الذبيحة تفاءلاً حسناً يبدأ جماعة من الجند يرددون لحناً وعندئذ تهتز صفوفهم فيباغتون أعداءهم مسرعين على الإيقاع ونغمات المزمار والرمح يعلو والترس على الجسد فيحملون عليهم وصفوفهم متراصة فينكسون أعلامه بجموعهم ووثوبهم ويهز مونه ويقفون حالاً لئلا يقطع مصافهم وأنه ليتسنى لكل جندي أن يحمي أخاه ما دام سير الجيش كتفاً إلى كتف فيكون بذلك كالبنيأن المرصوص يتعذر على العدو أن يجد إلى حرفة خرقه سبيلا. نعم أن هذه التعبئة كثيفة في ذاتها ولكنها كانت تكفي لغلبة جيش مشوش وقلما يقاوم ناس منفردون مثل تلك الجموع ولقد فهم سائر اليونان هذا الأمر فاقتدوا جميعهم بالإسبارطيين ما ساعدتهم المكنة فكان جندهم حيثما حلوا مدججين بالسلاح وقاتلوا حجافل وكتائب متراصة. الرياضة الجسمية=اقتضى تدريب رجال خفاف ليتسنى مهاجمة العدو مثل تلك الصفوف وتنكيس لأول وقعة فكان على جندي أن يحسن البراز والصراع فمن ثم الإسبارطيون الرياضات البدنية واقتدى بهم سائر اليونانيين فأصبحت الرياضة عملاً من أعمال الأمة كافة. وأكثر أعمالها اعتباراً ما يكلل صاحبه في الأعياد العظيمة. عرفت إحدى المدن في البلاد النائية بين بربراة الغول أو البحر الأسود وثبت أنها يونانية إذ كان لها ملعب للأعمال الرياضية. وكان هذا الملعب قطعة مربعة عظيمة تحيط بها أروقة أو دهاليز وهي على الأغلب على مقربة من نبع وله حمامات وقاعات للتمرين في هذا الملعب عامين على الأقل يختلفون إليه كل يوم يتعلمون القفز والركض ورمي الإطار وضرب الحراب ويتصارعون بوسط الجسد لتقوية العضلات والجلد وينغمسون في البارد ويطلون أبدانهم

بالزيت ويتمسحون بمسحة. المصارعون=معظم الإسبارطيين يقضون عامة حياتهم في ممارسة هذه التمرينات إباء ومروءة فلا يعتمون أن يصبحوا مصارعين وقد وفق بعضهم إلى بعضهم إلى أن تمت على أيديهم خوارق ويقال أن ميلون من مدينة كروتون في إيطاليا كان يحمل ثوراً على كتفه ويوقف عجلة وهي راكضة بأن يمسكها من خلفها. ولقد كان هؤلاء المصارعون يخدمون في الحروب خدمة الأجناد وكثيراً ما يقومون بقيادة الزحوف وبهذا صح قولنا أن الرياضات البدنية بمثابة تدريب على الحرب. أعمال الإسبارطيين=تعلم الإسبارطيين من اليونانيين التروض والقتال وجاء منهم مصارعون أقوياء أشداء وجند منظم وعرفوا بهذه الميزة في بلاد اليونان وكانوا من أجل ذلك يحترمون في كل مكان. ولما قضي على سائر الشعوب اليونانية أن تقاتل الفرس مجتمعة تحت راية واحدة لم يستنكفوا من اتخاذ الإسبارطيين زعماءهم. قال خطيب أثيني وكان هذا الأمر بحجة صحيحة واستحقاق تام.

ألكني يا ضياء

ألكني يا ضياء أجدك يا كواكب لا ترينا ... بياناً منك يخبرنا اليقينا كان العالم العلوي سفر ... نطالعه ولسنا مفصحينا نحاول منه إعراب المعاني ... بتأويل فنرجع معجيبنا كواكب في المجرة غائمات ... حكت في البحر فسحتها السفينا سرت زهر النجوم وما دارها ... فلاسفة مضت ومنجمونا شموس في السماء علت وجلت ... فظنوا في حقيقتها الظنونا سوابح في الفضاء لها شؤون ... ولما يعلموا تلك الشؤونا وما ارتجفت بجنح الليل إلا ... لتضحك فيه مما يزعمونا لعل لهنا بهذا الجو شأنا ... سوى ما نحن فيه مرجوما تلوح على الدجى متلألئات ... فتبهج في تلألوها العيونا وأني يدرك الرائي مداها ... وأن القي لها نظراً شفونا تود الغانيات إذا رأتها ... لو انتظمت لها عقداً ثمينا تقلده على اللبات منها ... وتطرح الدماج والبرينا ألكني يا ضياء إلى الدراري ... رسالة مسهر فيها الجفونا لعلك راجع منها جوابا ... يزيل عماية المتحيرينا فقل أني تحير فيك فكري ... كذلك تحير المتفكرينا فيا أم النجوم وأنت أم ... أيولد فيك كالأرض البنونا وهل فيك الحياة لها وجود ... فيمكن للردى بك أن يكونا وهل بك مثل هذه الأرض أرض ... وفيها مثلنا متخالفونا وهل هم مثلنا خلقا وخلقا ... هناك فيأكلون ويشربونا وهل هم في الديانة من خلاف ... نصارى أو يهود ومسلمونا وهل حسبت بك الأيام حتى ... تألف من تعاقبها السنونا وهل بالموت نحن إذا خرجنا ... عن الأجساد نحوك مرتقونا فتبقى عندك الأرواح منا ... تصأن فلا ترى جفناً وهونا فأجيب بالمنون إذا وأحبب ... بها إن كان علمك المنونا

أبيني ما وراءك يا دراري ... فنحن نخالة بعداً شطونا قد اتسع الفضاء لك اتساعا ... فهل أبعاده بك ينتهينا وصغرك ابتعادك فيه حتى ... إليك استشرف المتسوفونا فهل كان ابتعادك من دلال ... علينا أم بعدت لتخدعينا خوالد في فضائك أنت أم قد ... يحل بك الفناء فتذهبينا وقالوا ما لعدتك انتهاء ... فهل صدقوا أو ارتكبوا المجونا وقالوا الأرض بنتك غير مين ... فهل أبناء بنتك يصدقونا وقالوا أن والدك المفدى ... أثير في الفضاء أبى السكونا ترصدك الأنام وما أتانا ... بعلم كيانك المتر صدونا (فهرشل) ما شقى منا غليلا ... ولا (غاليل) أنبأنا اليقينا و (كلبر) قد هدى أو كاد لما ... أبانك يا نجوم تجاذبينا إلى كم نحن نلبس فيك لبسا ... ومن جرارك ندرع الظنونا لعل النجم في إحدى الليالي ... سيبعث للورى نورا مبينا تقوم له الهواتف قائلات ... خذوا عني النهي ودعوا الجنونا بغداد معروف الرصافي

خرائب مدينة بمبي

خرائب مدينة بمبي كان اسم بمبي يطلق في القرون الخالية على مدينة أنشأها الرومأن في سفح جبل يزوف (في إيطاليا) مدينة توفرت فيها دواعي الهناء فأحبها عظماء البلاد وأصحاب الوظائف العليا فكانت مباءتهم في تلك الجنة. شادوا قصورا يختلفون إليها في الأحايين ليسروا عن أنفسهم الهموم ويجددوا ما فقدوا من قومهم في مشاغل السياسة. ومما كان يزيد جمال تلك المدينة أنهم كانوا يزينون جدران بيوتها ومنازلها بأنواع النقوش الملونة بالأنواع السبعة المعروفة وفي آخر كل الشوارع كان نبع يجلس بجانبه المرء وأمامه الحدائق الغناء يشرف على بحر الروم وتتجلى له المناظر البديعة فيخال أنه في جنأن السماء ويتمنى لو يبقى هناك أبد الدهر. إلى هناك كان الناس يتقاطرون فرادى وأزواجا فيفرح المكروب كربته ويتناسى المنكوب نكبته ويزيد عدد المتنزهين يوم تروق السماء فيجتمعون على تباين المشرب وقد تحلى بعضهم بالملابس الأرجوانية وجلس الآخر على مقاعد الرخام يستظلون فكان البيت في تلك المدينة كقصر صغير لا يقل في فخامته عن القصور هذا الزمان أو هياكل أسلافنا الأولين. كانت مساكن عظماء الرومأن في بمبي مثال الرونق والجمال ونموذج الأبهة والكمال على أحد تلك القصور زائر فيجتاز المدخل المزين بالعمد الكثيرة ثم يأتي الردهة العظمى التي كان صاحب المنزل يستقبل الضيوف فيها بالحفاوة والإكرام ويصغي إلى شكاوي المظلومين ويسمع مصانعات المنأفقين وفيها كان يودع ماله يضعه في صناديق الحديد ويكل أمره إلى رب المنزل. ثم يفضي المتفرج إلى غرفة أخرى قد دقت أرضها بالفسيفساء وزخرفت حيطانها بالنقوش وأنواع الصور ورصعت بالفصوص الذهبية والياقوت وسائر أنواع المعادن الثمينة وفيها يحفظون سجلات الأسر وأخبارها لأول أمرهم وكان في المنزل غرف متعددة مهيأة لتنأول الغذاء وحجر للنوم مزوقة مزخرفة وغرف أخرى تجعل فيها العاديات والأحجار الكريمة. ثم ينتهي المتفرج إلى غرفة واسعة أعدت لمحاكمة المذنبين وهذه تفضل سائر الغرف لأنها كانت على حديقة وفيها جميع أنواع المبهجات فمن ثمر يفتن النواظر بألوانه المتفاوتة ومن ينأبيع تنبعث مياهها إلى كل صوب وتلطف الهواء ينشأ عنها أصوات تشنف الإذان ومن أوان خزفية زرعت فيها نادرة الوجود وإلى جانب هذه وضع بعض أنصاب الرجال

العظماء وكأنت النقوش على حوائط القصر تمثل بعض المشاهد في أساطير اليونان كالاستيلاء على أوروبا ووقعة لامازون وكثير من هذه المناظر لا يزال محفوظاً في متحف نابولي المشهور. وصوروا على أرباب القصر صورة كلب وكتبوا في أسفلها احترز من الكلب إشارة إلى أسطورة من أساطيرهم. وكانت تلف عمد المحكمة بأكاليل صنعت من الزهور تبدل كل صباح. والموائد كان يعمل أكثرها من شجر الليمون الحامض وتزين بالنقوش العربية وكانوا يهتمون جداً بالأسرة فيصنعونها من النحاس والذهب والجواهر ويضعون فيها المساند الكثيفة ويزوقونها بشغل الإبرة الذي لم يفقهم فيه أحد. وكان صاحب القصر إذا أدب مأدبة لأهل الوجاهة والمكانة لا يألوا جهده في تجهيز كل ما من شأنه إبهاج الزائر فيجلس الضيوف على مقاعد الردهة متكئين على المساند ثم يغسلون أيديهم في الأواني الفضية وينشفونها بالمناشف الملونة بصباغ الأرجوان ثم يتنأولون الأطعمة ويأكلون الفواكه الموضوعة في أوعية ذهبية. وكانوا يأتون في أشد أيام الحر بالثلج ويستعملونه على الأخونة لتبريد الماء وإنعاش الجسم. وكان من يريدون كؤوس الخمر على الحضور في خلال المأدبة يقدمون لهم من أفخر خمور الدنيا وفريق آخر من الخدم يرقصون لأتراب الزائرين وأصحاب الغناء يوقعون الألحان ويغنون شيئا من أغاني هورس أو انقر يون وإذا انتهت الوليمة تنبعث المياه العطرة بغتة من قساطل لا ترى فتؤرخ كل ما تحويه الردهة وتنتعش نفوس الجماعة ثم تبرز موائد أخرى وقد فرشت عليها صنوف الطعام فتعيد قابلية الضيوف ويأكلون ما لذ لهم أكله ثم تختفي هذه الموائد وتبرز بدلا منها موائد أخرى يلعب عليها بعض أعضاء مجلس الأعيان والقنأصل والحكام بالنرد فيخسرون الممالك والمقاطعات بهذه اللعبة أو يربحون. هذا الفساد يقوم به زمرة طرأ على أمة الرومأن في ابتداء هبوطها. ويعقب هذه المشاهد مشهد الرقص يقوم به زمرة من الفتيات يدهشن الناظرين بما يأتينه من التفنن في ضروب الرقص الغريب ويغنين من الأغاني ما يسبي القلوب ويلعب بالعواطف والنفوس. هكذا كانت أحوال بمبي في القرن الأول بعد الميلاد يؤمها المتنزهون من أطراف البلاد ويفضلونها على منازه الدنيا. طرأت عليها نازلة جائحة في الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام تسعة وسبعين والناس فيها في الملاهي دهمتهم طوارق الحدثان وثار بركان

في ظهيرة ذلك النهار وطفق يقذف الرماد والحمم من جوف الأرض ويدفعها إلى المدينة فطبق الدخان من كل ناحية. دخان كثيف أسود كالقار أحال صفاء المكان ظلمة مدلهمة فعقبه أنين وعويل وشتائم المنكوبين بعضهم بعضا في ساعة أضاع فيها الأخ أخته والعروس عروسه والزوج زوجته والأم ولدها في آن تعذر على الأنام أن ينظروا من الموجودات سوى لمعان كان يلمع من قمة البركان. فمادت الأرض بسكانها من أركانها وبدأت المنازل تهدم وأصحابها يستجيرون ولا مجير فيرحم والبحر يتراجع عن اليابسة كانه ارتعد فرقاً من ثوران بركان يزوف وهيجانه وكشف الهواء بما أنقذف إليه من الغبار ثم تراكمت كل هذه المقذوفات وحملت إلى المدينة فطمرتها ومحتها من هذا الوجود. أدرك أهلها الموت وهم منغمسون في لذائذ الحياة فهلك الضيوف في ردهات القصور وربات الحجال في الخدود والجند في ثكنتهم والسجناء في محابسهم ومطابقهم والأرقاء بقرب الينأبيع حيث كانوا يتنزهون وأصحاب التجارة وهم يبيعون السلع في مخازنهم وطلبة العلم وهم بين المحابر والدفاتر وحاول بعضهم الهرب فقادهم العميأن الذين تعودوا السير في حالك الظلمات فبغتهم البوار وانقلب الناس من المدن المجاورة إلى بمبي بعد تلك النازلة ببضعة أيام فلم يلفوا هنالك سوى بقعة مغطاة بالرماد وفي الأعماق طمر ألوف من البشر ورقدوا رقاداً لم يعقبه قيام. طمروا فطمرت معهم لذائذ هم وعفت من بعدهم الأثار مدينتهم وتقوضت معالمها. وقد تسنى لها في القرن الثامن عشر أشخاص تمحضوا لدراسة الأثار فطفقوا ينقبون في تلك البقعة وبعد أن تكبدوا المشاق وجدوا المدينة في الحالة التي طمرت بها فبعض المنازل لم يزل ثابتاً وبعض النقوش لا تزال ظاهرة وهياكل الموتى موجودة في الأماكن التي أدرك الموت أصحابها فيها منذ عهد سحيق فالسجين لم يزل مغلولاً بالأغلال والعروس لابسة سلاسل الذهب والأساور والشحيح قابضاً على درهمه والكهنة مختبئين في أجواف تماثيل أربابهم المجوفة ليخدعوا أتباعهم إلى ما آخر ما هنالك من المناظر المدهشة والمشاهد المذهلة. هذه أثار دولة الرومأن التي خفق نسرها في كل جو وعقدت رايتها في كل أرض فكانك في دراستك أثار بمبي تستطلع أخبار الرومان أيام كانوا في أعلى ذرى رقيهم وسيطرتهم وتتجلى لك مظاهر حضارتهم منذ ظهورهم مضافة

إليها مظاهر التمدن اليوناني التي نقلها الرومان عن اليونان والمظاهر التي اقتبسها هؤلاء عن أمم المشرق التي كان في القدم الكعب الأعلى في العمران وقد انقرضت كانها لم تكن تلك سنة الكون تغير دائم تصدق على جميع العوالم ولا تزال تفعل في هذه الموجودات حتى ترجع بها إلى العدم كما كان عليه الحال في غابر الأزمان. يافا خليل الخوري

قصيدة مجهولة للسموأل

قصيدة مجهولة للسموأل نشرت بعض المجلات والجرائد العربية منذ بضعة أشهر قصيدة نسبها الناشر الأول وهو الأستاذ مر جليوث الإنكليزي إلى السمو أل الشهير ثم وجدت منها نسخة ثانية في الموصل أصح رواية من الأولى. ثم وجدت منها نسخة ثالثة أصح من السابقتين في بغداد. وذلك بينما أنا أبحث في كتبي على أحد شعراء بغداد في القرن المنصرم ورد ذكره في مخطوط نفيس عندي فعثرت على قصيدة السمو أل ولما أنعمت النظر فيها وجدتها قليلة الضرائر الشعرية والأغلاط النحوية وألفيتها تختلف الرواية عن النسختين المذكورتين فجئت أتحف بها قراء المقتبس واصفاً لهم المخطوط مع بعض الانتقاد لهذه المنظومة. وردت القصيدة في الصفحة 174 من مخطوطنا وقد ترجمت بهذا العنوان. هذه القصيدة للسمو أل من بني قريظة لا للسمو أل من بني غسان وإليك الآن نصها: ألا أيها الضيف الذي عاب سادتي ... ألا أسمع جوأبي لست عنك بغافل ألا أسمع لفخر يترك القلب مولهاً ... وينشب ناراً في الضلوع الدواخل فأحصي مزايا سادة بشواهد ... قد اختارهم رحمانهم للدلائل قد اختارهم عقماً عواقر للورى ... ومن ثم ولأهم سنام القبائل من النار والقربان والمحن التي ... لها استسلموا حب العلا المتكامل فهذا خليل صير النار حوله ... رياحين جنات الغصون الذوابل وهذا ذبيح قد فداه بكبشه ... يراه بديها لا نتاج الثياتل وهذا رئيس مجتبى تم صفوه ... وسماه إسرائيل بكر الأوائل ومن نسله السامي أبو الفضل يوسف ال ... ذي أشبع الأسباط قمح السنابل وصار بمصر بعد فرعون أمره ... بتعبير أحلام لحل المشاكل ومن بعد أحقاب نسوا ما أتي لهم ... من الخير والنصر العظيم الفوأصل ألسنا بني مصر المنكة التي ... لنا ضربت مصر بعشر مناكل ألسنا بني البحر المفرق والتي ... لنا غرق الفرعون يوم التحامل وأخرجه المبدي إلى الشعب كي يرى ... أعاجيبه مع جودة المتوأصل وكيما يفوزوا بالغنيمة أهلها ... من الذهب الإبريز فوق الحمائل ألسنا بني القدس الذي نصبت لهم ... غمام تقيهم في جميع المراحل

من الشمس والأمطار كانت صيانة ... تجير نواديهم نزول الغوائل ألسنا بني السلوى مع المن والذي ... لهم فجر الصوان عذب المنأهل على عدد الأسباط تجري عيونها ... فراتاً زلالا طعمه غير حائل وقد مكثوا في البر عمراً مجدداً ... يغديهم العالي بخير المآكل فلم يبل ثوب من لباس عليهم ... ولم يحوجوا للنعل كل المنازل وأرسل نوراً كالعمود أمامهم ... ينير الدجى كالصبح غير مزايل ألسنا بني الطور المقدس والذي ... تدخدخ للجبار يوم الزلازل ومن هيبته الرحمان دك تذللاً ... فشرفه الباري على كل طائل وناجي عليه عبده وكليمه ... فقد سنا للرب يوم التبأهل آه فمن قابل بين هذه الراوية الروايتين الأوليين اللتين يحكم أن أصبح من تينك. وأن هذه نقلت عن أصل أصدق رواية من النسختين اللتين أخذت عنهما الروايتأن الإفرنجية والموصلية. يظهر ذلك من مقابلة بعض الألفاظ مثلاً قد ورد في القصيدتين الأوليين هذا البيت: فهذا خليل صير الناس حوله ... رياحين جنات الغصون الذوابل فهذا لا معنى له وهو محرف والأصح ما في نسختنا أيصير النار حوله وورد أيضاً في النسختين: بتعبير تدبير لحل المشاكل والتدبير لا يعبر وإنما تعبر الرؤى والأحلام ومنه ما أنشده المبرد في الكامل لبعض الأعراب: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا وعليه فإن روايتنا أصح أيضاً في هذا البيت وقول النسختين: ومن الشمس والأمطار كانت صيانة ... تجيز عسا كرهم لهوف الغوائل فهذا مكسور البيت فضلاً عن اضطراب معناه في قولهلهوف الغوائل والأصح ما جاء في روايتنا تجيز (بالراء المهملة) نواديهم نزول الغوائل لأن الغوائل تنزل بالمرء وبهذا المبنى والمعنى ورد أغلب كلام العرب كما هو مشهور وجاء في النسختين: وأرسل نوراً كالعمود أمامهم ... ينير الرجا كالصبح لا غير مزائل فهذا البيت لا يخلو من المعنى. لكن من لا يرى أن هذا البيت مصحف الرواية وأن

الصحيح ينير الدجى بالدال المهملة لا بالراء كما يتضح لأدنى تأمل. وأما البيت الأول على أن النسختين فلا يخلو من معنى بقوله: ألا أيها الصنف لكن نوع التصحيف فيه باد لكل ذي عينين والأصح ألا أيها الضيف أما ناظم هذه القصيدة قط أنها للسمو أل بن عاديا فأين هذا الشعر من قوله: تغيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها أن الكرام قليل. . . الخ ففي هذا النظم من محكم المبني ومتانة المعنى ما لا يرى أثر في القصيدة ولعل سبب وهم الناس في نسبتها إلى السمو أل بن عاديا. توأفق في اسم ناظم آخر عرف باسم السمو أل لأن هذا الاسم يوأفق شموئيل وشموئيل أو شيمل ورد لألوف من اليهود ففي نسبتها إلى واحد من بني قريظة أمكان لأن هؤلاء محقوا بعد الإسلام بقليل أما لأنهم دانوا بالإسلام أو لأنهم هجروا وطنهم ولحقوا بإخوانهم خارج بلاد العرب فلم يصل إلينا من شعرهم إلا النزر القليل وعلى كل فليس هذا من نظمهم أو نظم بعضهم لأن تعبير النصرانية الحديثظاهر من خلال النظم يشف عن حداثة وضعه لأن ورود كي وكيما في الشعر الجاهلي قليل نادر وهاتأن اللفظتان قد وردتا تباعاً في هذين البيتين: وأخرجه المبدي إلى الشعب كي برى ... أعاجيبه مع جودة المتوأصل وكيما يفوزوا بالغنيمة أهلها ... من الدهر الإبريز فوق الحمائل ثم انظر ماذا قوله: ألا اسمع لفخر يترك القلب مولهاً=وينشب ناراً في الضلوع الدواخل فهل من ضلوع تكون خوارج حتى تنشب النار في الدواخل منها. فلا غرو أن في هذا التعبير لغواً وتكلفاً ولا تأتيهما واحد من أهل الجاهلية ولو أردنا أن نقبل الروايتين الأوليين فلا يمكننا إلا أن نضرب بهذا النظم عرض الحائط إذ فيهما من الأغلاط الفظيعة ما لا يرتكبه أضعف طلبة المدارس في يومنا هذا فكيف يعزى إلى ناظم بليغ كالسمو أل ابن عاديا الغساني. ومما يشهد أن يداً غريبة تصرفت بهذه الأبيات البيت الأخير الذي ورد في القصيدة الموصلية ولم يرد في الرواية الإفرنجية ولا في الرواية البغدادية وهو هذا: وفي آخر الأزمان جاء مسيحنا ... فأهدى بني الدنيا التكامل

فما معنى سلام التكامل ثم أننا إذا قررنا بنسبة هذه الأبيات إلى السمو أل المشهور وهو يهودي فح كما تشهد عليه جميع كتب العرب فلا يمكن أن يقول مثل هذا الكلام وكذلك إذا نسبناه إلى يهودي أخر. فلا جرم أن ناظم هذا البيت الأخير مسيحي النحلة لإقراره بمجيء المسيح ولأنه زاد هذا البيت بدون أن ينظر إلى التسلسل التشأبيه والرموز فجاء به تهجماً بدون أدنى مراعاة لما ورد قبله ولو قيل لنا أن السمو أل بن عاديا كان من غسان وغسان كلها نصارى قلنا أن السمو أل كان مسيحياً فجميع مؤرخي العرب وكتبهم وأديارهم فضلاً عن أن غسأن لم تكن كلها على النصرانية مخالفون لها فقد كان فيهم من يعبد الأصنام ومن أوثانهم مناة. قال ياقوت في معجمه: هذا الاسم اسم صنم في جهة البحر مما يلي قديداً بالمشلل على سبعة أميال من المدينة. وكأنت الأزد وغسان يهللون له من جهة البحر ويحجون إليه وكان أول من نصبه عمرو بن لحي الخزاعي. . . ومنهم من كان على دين دهماء العرب كسطيح بن ذئب الكاهن فلم يكن نصرانياً البتة. وقد جاء في تاريخ اليعقوبي 1: 297 - (كانت تلبية غسان عند قومهم وقوفها أمام صنمها لبيك رب غسان راجلها والفرسان) وقال في ص298 (وتهود قوم غسان) وقال في ص299 (وتنصر. . . غسان وهذا كلام يدل على النصرانية واليهودية كانتا في غسأن لا النصرانية وحدها) وقال الطبري في تاريخه 1: 176 (وكان الحارث بن أبي شمر الغساني نذر سيفين وثنياً مشركاًُ وكل من وقف على النسختين السابقتين وعلى نسختنا يعرف بنفسه يعرف بنفسه ما في نسبة هذه القصيدة إلى السمو أل من الشطط. أما اسم مخطوطنا فهونيل السعود في ترجمة الوزير داود كتب في سنة 1232 وعدد صفحاته المكتوبة والبيضاء 314 وطول الصفحة 21 سنتيمتراً في عرض 13 وهو مصحف أحمر ومزين بخطين أحمرين مزدوجين وفي الوسط خطان متآزران على بعد سنتمتر والقرطاس المخطوط من النوع المسمى بالترمذي المشهور عند العامة بالترمة. وتبتدئ الصفحة الثالثة بقصيدة لناظمها في مديحه الملا جواد البصير يمدح بها والي بغداد والبصرة وشهر زور داود باشا ثم تليها عدة قصائد في مديحه أيضاً بخط حسن وهي لعدة شعراء عراقيين مجهولين اليوم لا نعرفهم إلا مما بقي مدوناً من قريضهم في هذه المجموعة وهذا وحده كاف لأن يعرفك منزلة هذا الديوان النفيس إذ بواسطته نعرف عدة شعراء عراقيين من بصريين وحلين وبغداديين وغيرهم.

وقد بلغت عدة القصائد في مديح الوزير ستاً وسبعين ثم يتلوها قصائد أخرى مختارة من نظم الأقدمين والمولدين ومعاصري الكاتب ثم يتلو ذلك منتجات من كتب الحديث والأدب والأقوال المشهورة مختلفة الموضوعات والأغراض وكلها من أنيق النثر والنظم ومما يزري ضياء حسنة ببهاء النجم وأغلب ما جاء في هذا الديوان لم أعثر عليه في الكتب المطبوعة. جمعه مؤلفه من عدة كتب مخطوطة عزيزة المنال. ومما فيه أبواب الأحاديات والثنائيات والثلاثيات ثم ديوان مرتب القوافي على حروف المعجم لعدة شعراء وكلها قصائد غراء آخر قصيدة منها دالية لأبن حجة. ومن الغريب ما هذا الديوان بيت شعر لبديع الزمان وهو يقرأ من أحد عشر وجهاً وهو من أغرب ما جاء في هذا الصدد ونحن نورده هنا لما فيه من الغرابة. ودونك إياه بنصه ومواقع الحبر الأحمر منه. (كفى) نا بأنا في زمان مذمم ... يذاد عن الحق المبين ويدفع (حزناً) أنا نزور معاشراً ... فنهمل فيما بينهم ونضيع (أني) أقول مقالة ... فيمنعني منها اللئيم ويقمع (بدار) أرذال ... قلوبهم غيظاً علي تقطع (مذلة) ... وليس بها حراً من الناس ينفع (أرى) كل من فيها عن الحق يدفع (الذل) فيها دائماً ليس يقطع (من) إرجائها يتنوع (أ) كنافها يتسرع (ملاكها) يتفرع (يتوقع) وفي الوجه الثاني من هذا الديوان صور لبعض الرسائل التي دارت بين خأن الحويرة ورستم أغا بشأن معركة البصرة سنة 1156 وهي من الأثار التاريخية التي يحرص عليها الباحث كل الحرص لأنها لا توجد في غير هذا الكتاب النفيس وتقع في أربع قوائم ونيف مشتبكة السطور محبوكة الحروف وفي الصفحة 313 قصيدة للسيد عبد الغفار الموصلي مكتوبة بقلمه على ورقة طيارة فأخذها وهو من مشاهير شعراء القرن الماضي. وهذه

القصيدة هي الدرة الثمينة لأنها هي وحدها محفوظة بخطه فلا يحفظ من خطه غيرها وبها يختم الكتاب الضخم وليس في صفحة من صفحاتها ذكر اسم جامعه.

صحف منسية

صحف منسية كتاب الاشربة - لابن قتيبة عني بنشره المسيو أرتوركي أحد علماء المشرقيات قال العتيبي شعراً ذكر فيه كثيراً من مقابح السكر: (بسيط) دع النبيذ عدلاً وإن كثرت ... فيك العيوب وقل ما شئت هو المشيد بأسرار الرجال فما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا كم زلة من كريم ظل يشهرها ... من دونها تستر الأبواب والكلل أضحت كنار على علياء موقدة ... ما يستسر لها ولا جبل والعقل علق مصون لو يباع لقد ... الفيت يباعه يعطون ما سألوا فأعجب لقوم منأهم في عقولهم و ... أن يذهبوها بعل بعده نهل قد عقدت لخمار السكر ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها علل وأزرت بستأن النوم أعينهم ... كان أحداقها حول وما حولوا تخال رائحهم من بعد غدوته ... حبلى أضر بها في مشيها الحبل فإن تكلم لم يقصد لحاجته ... وإن مشى قلت مجنون به خيل قالوا وإنما قيل لمشارب الرجل نديمه من الندامة لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه وفعل فقيل لمن شاربه نادمه لأنه فعل مثل فعله والمفعلة تكون من اثنين كما تقول ضاربه وشاتمه ثم اشتق من ذلك نديم كما يقال جالسه وهو جليس وقاعده فهو قعيد ويدل على قول هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة: فيها أنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة. وحدثنا عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه أنه قرأ فيما قرأ من الكتب أن الله تعالى لما لعن إبليس وأخرجه من الجنة قال: يا رب لعنتني وجعلتني شيطاناً رجيماً وأنزلت الكتب وعثت الرسل فما رسلي؟ قال: رسلك الكهنة. قال: فما كتأبي؟ قال: الوشم. قال: فما حديثي؟ قال: حديثك الكذب. قال: فما قراءتي؟ قال: قراءتك الشعر. قال: فما مؤذني؟ قال: مؤذنك المزأمير. قال: فما مسجدي؟ قال: مسجدك السوق. قال: فما بيتي؟ قال: بيتك الحمام. قال: فما طعامي؟ قال: طعامك كل ما لم اسمي عليه. قال: فما شرأبي؟

قال: شرابك كل مسكر. قال: فما مصائدي؟ قال مصائدي؟ قال: مصائدك النساء. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن ارطاة حين تتابعت الأخبار عليه تتابع الناس في الاشربة المسكرة على التأويل: أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الشراب أمر ساءت فيه رغبة الناس حتى بلغت بهم الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام وهم يقولون شربنا شراباً لا بأس به وإن شارباً حمل الناس على هذا لبأس شديد وأثم عظيم وقد جعل الله عنه مندوحة وسعة من أشربة كثيرة ليس في الأنفس منها حاجة: الماء العذب واللبن والعسل والسويق وأشربه كثيرة من نبيذ التمر والزبيب في أسقيه الأدم التي لا زفت فيها فإنه بلغني عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النبيذ الظروف المز فتة وعن الدنان والجرار وكان يقول: كل مسكر حرام. فاستغنوا بما أحل الله عما حرم فإنه من شرب بعد من شرب بعد تقدمنا إليه أوجعناه عقوبة ومن استحق ومن استخفى فالله أشد بأساً وأشد تنكيلاً. وحدثني القطعي عن الحجاج عن حماد بن سلمه عن حميد عن الحسن: قال إذا دخلت على أخيك فكل ما أطعمك وأشرب مما سقاك. قال: يا أبا سعيد أنهم ينتبذ ون في الجرم فقال: أو يفعلون؟ قال وقد شهر المتعاشرون على الشراب بسوء العهد وقلة الحفاظ وأنهم أصدقاؤك ما استغنيت حتى تفتقر وما عوفيت حتى تنكب وما غلت دنانك حتى تنزف وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك قال الشاعر أرى كل قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم إخاؤهمو ما دارت الكأس بينهم ... وكلهمو رث الوصال سؤوم فهذا ثباتي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم وقال آخر بلوت النبيذ يين في كل بلدة ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظ إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... وأن فقدوها فالوجوه غلاظ مواعيدهم ريح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاظوا بطان إذا ما الليل ألقى رواقه ... وقد أخذوها فالبطون كظاظ

يراع إذا ما كان يوم كريهة ... وأسد إذا أكل التريد فظاظ وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله. وقال المأمون لقوم: يا نظف الخمار ومرابع الصؤور وأشباه الخول وقال مسلم بن قتيبة: أن ال فلان أعلاج أو باش لئام غدر شاربون بانقع ثم هذا يعد في نفسه نظفه خمار في رحم طاحد وربما بلغت جناية الكأس زوال النعمة وسقوط المرتبة وتلف النفس فإن الرجل ربما استخلصه السلطان لمنادمته وأدخله موضع آنسة فيزين له الكأس غمزة القينة والعبث بالخادم والتعرض للحرمة وقال المأمون: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء إفشاء السر والقدح في الملك والتعرض للحرم. وقد بلغك من ذلك ما لا أحتاج إلى ذكره وقديماً بلي المعاقرون بمثل هذا من جرائر الكأس. وقد كان عمرو بن هند طرفة الذي استخلص طرفة بن العبد لندامته فبينما هو يوماً يشرب أشرفت أخته عليهما فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده فقال (هزج) ألا (يا) أيها الظبي ... الذي يرق شنفاه ولولا الملك الق ... د قد ألثمني فاه سمعه عمرو بن هند فكتب له كتأبا إلى عامله بالبحرين وأوهمه أنه أمر له فيه بجائزة وأمر العامل بقتله فلما ورد على العامل سقاه من الرياح حتى أمله ثم فصد أكحله حتى نزف فمات فقبره هناك مشهور يشرب عنده الأحداث ويصبون فضل كؤوسهم عليه. وروي رجلاً من طي نزل من شيبأن يقال له المكاء فذبح له الطائي شاة وسقاه من الخمر فلما سكر الطائي قال للشيباني هلم أفاخرك أطيء أكرم أم شيبان؟ فقال له الشيباني: حديث حسن المدامة ومنادمة كريمة أحب إلينا من الفخار. فقال الطائي: لا والله ما مد رجل يداً أطول من يدي! ومد يده. فقال له الشيباني: أما والله لئن أعدتها لأخضبنها من كوعها! فأعاد فضربه الشيباني فقتله أبو زبيد في ذلك لبني شيبان (خفيف) خبرتنا الركبان أن قد فخرتم ... أفرحتم بضربة المكاء ولعمري لعارها كان أدنى ... لكم من تقى وحق وفاء ظل ضيفاً أخوكم لأخينا ... في صبوح ونعمة وشواء ثم لما رآه به الخم ... ر إلا تربية باتقاء لم يهب حرمة النديم وحفت ... يا لقوم بالسوأة السواء

قال: وربما طمس الخمار على العقل وربما بالبيان وغير الخلقة فعظم أنف الرجل وحمر وترهل. قال جرير في الأخطل وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدنان كان أنفك دمل شبهه بالدمل لحمرته وورمه. وقال أخر في حماد الرواية نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلوته حماد هدلت مشافره الدنان وجهه فبياضه يوم الحساب سواد وأبيض من شرب المدامة وجهه=فبياضه يوم الحساب سواد قالوا: ومن شربة نبيذ الشطار والخلعاء والمجأن فحملهم الكأس على المجون ويحملهم المجون على ركوب الكبائر معلنين وإتيأن الفواحش مجاهرين ويرون أتم ذلك لذة أظهره وأنقصه مسرة أستره فقال قائلهم فيج باسم ما تأتي من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر وربما كفروا بالله مجوناً وكذبوا الرسل وجحدوا بالنشور والبعث في حال شربهم. قال الوليد قربا مني خليلي ... عبدلا دون الشعار واسقياني وابن حرب ... واسترانا بالإزار فلقد أيقنت أني ... غير مبعوث لنار سأروض الناس حتى ... يركبوا دين الحمار واتركا من طلب الج ... نة يسعى في خسار وهذا الشعر مما استحل به دمه وقال روح المعروف بابن همام (خفيف) اسقني يا أسامة ... من رحيق مدامة اسقنيها فإني ... كافر بالقيامة وهو القائل: وإنما الموت بيضة العقر وقال أبو نواس تعلل بالمنى إذ أنت حي ... وبعد الموت من لبن وخمر حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو وقال قائل أيضاً (خفيف)

فدعاني وما ألذ وأهوى ... واقذفإني في بحر يوم الحساب وهو القائل أيضاً يصف الخمر عتقت في الدن حتى ... هي في رقة ديني وحدثنا دعبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشيص وأبو نواس في مجلس لهم فقال لهم أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه ولهذا اليوم ما بعد فليأت كل أمرئ منكم بأحسن ما قال فأنشدناه فأنشد أبو الشيص وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم وأهنتني فأهنت نفسي طائعاً ... يا من يهون عليك ممن يكرم قال فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر حتى ما يكاد يقضي عجبه وأنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه (بسيط) موف على مهج في يوم ذي رهج ... كانه أجل يسعى إلى أمل قال: فقال لي أبو نواس هات يا أبا علي وكانني بك وقد جئتنا بأم القلادة لا تعجني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى فقلت: كانك كنت في نفسي ثم سألوه أن ينشدهم فأنشدهم (بسيط) لا تبك ليلى وتطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد فلما بلغ إلى قوله تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فمالك من سكرين من بد قاموا فسجدوا له فقال: افعملتوها أعجمية لا كلمتكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً. ثم قال: تسعة في هجرة الإخوان كثير وفي هجرة بعض يوم استصلاح للفاسد وعقوبة على الهفوة. ثم التفت إلينا فقال: علمتم أن رجلاً عتب على أخ له في بعض المودة فكتب إليه المعتوب عليه: أن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر. فهذه جرائر السكر قد ذكرنا منها ما حضرنا وهي أكثر من أن نحيط بها. قالوا: وشاهدنا على أن اسكر والخمر شيء واحد من اللغة أن الخمر ما خمر والمسكر يخمر فاسم الخمر يلزمه ووجدنأهم يقولون لمن أعتقب الصداع

وغلث النفس والإرعاش من شرب الخمر مخمور وبه خمار ويقولون لمن أصابه مثل ذلك من المسكر الذي يسمونه نبيذاً مخمور وبه الخمار مأخوذ من الخمر وهو اسم للداء الذي يصيب منها والأدواء كثير تأتي على فعال نحو كباد لوجع الكبد والقلاب لوجع القلب والصفار والصداع والبوال ولا عطاس ولم نسمعهم يقولون لمن أصابه ذلك منبوذ أو نباذ. فهذا ما للمغلظين فيه من القول والحجج. ونذكر ما للمطلقين له من الحجج والقول. حجج المحلين لما دون السكر قال المطلقون: إنما حرمت الخمر التي أجمع الناس على صفتها وكيفيتها بعينها وما سوى ذلك كائناً ما كان نبيذ ما دون المسكر منه حلال فسووا بين النقيع والطبيخ والحديث والعتيق والتمر والزبيب والمفرد والخليطين والسهل والشديد وما اتخذ من عصير العنب إذا ذهب بالثلثين - لأنه جاء في الحديث أن الثلثين حظ الشيطان - ورد عليه الماء واحتجوا بحديث ابن عباس: حدثنا زيد بن اخزم قال حدثنا أبو داود عن شعبة عن مسعر ابن كدام عن أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس أنه قال: حزمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب. وبحديث رواه يحيى بن اليماني عن الثوري عن المنصور عن خالد عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش وهو يطوف في البيت فأتى نبيذ من السقاية فقطب فدعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه فشرب فقال له رجل أخر أمر هو يا رسول الله؟ قال: لا. وحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن أبي عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو شاك وهو راكب معه محجن كلما مر بالحجر استلمه بالمحجن حتى إذا قضى طوافه نزل فصلى ركعتين ثم أتى السقاية فقال: اسقوني من هذا فقال له العباس: ألا نسقيك مما نصنع في البيوت؟ قال: لا ولكن أسقوني مما يشرب الناس. فأتى بقدح من نبيذ فذاقه فقطب فقال: هلموا فصبوا فيه ماء ثم قال: زد فيه! مرتين أو ثلاثاً ثم قال: إذا صنعأحد منكم هكذا فاصنعوا به هكذا. وبحديث يرويه وكيع عن ابن أبي خالد عن قرة العجلي عن عبد الملك بن أبي أخي القعقاع بن شوز عن ابن عمر أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بقدح فيه شراب فقربه إلى فيه ثم رده فقال بعض جلسائه أحرام هو يا رسول الله؟ فقال ردوه. فرده ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب وقال: انظروا هذه

الاشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء. وبحديث رواه عبد الله ابن الفضل عن أبي غالب الضبيعي حابس بن محمد عن أبي جرير عن عطاء أن عمر وقف على السقاية فوضع يده على بطنه فقال: هل من شراب فإني أجد في بطني غمزا. فأتى بشربة من السقاية فسربها ثم قال: أخرى. فأتي بها ثم ثالثة فشرب منها ثم دعا بسجل - وربما قال: بذنوب - فشج الإناء بالماء حتى فاض نواحيه ثم قال: عباد الله كل شراب استخرج ماؤه بمائة فهو حرام لا تشربوه وكل شراب استخرج ماؤه بغير مائه فهو حل اشربوه. مع أحاديث كثيرة واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام. فإن هذا منسوخ نسخة شربة الصلب يوم حجة الوداع. قالوا: ومن الدليل على إنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر ثم وفدوا إليه بعد فرأهم مصفرة ألوانهم سيئة أحوالهم فسألهم عن قصتهم فأعلموه أن ذلك لائتمارهم بما أمرهم به من ترك شرابهم فأذن لهم في شربه. وبأن ابن مسعود قال: شهدت التحريم وشهدتم التحليل وغبتم بإنه كان يشرب الصلب من نبيذ الكوفيون وجعلوه أعظم حججهم. قال بعض الشعراء (بسيط) من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في جوف خأبية ماء العناقيد أني لإكراه تشديد الرواة لنا ... فيه ويعجبني قول ابن مسعود وإنما عنى الطلا وهو ما طبخ من عصير العنب حتى يذهب ثلثاه ويرد عليه الماء وكان كثير من الكوفيين يشربونه. وحدثني محمد بن خالد بن خداش عن مسلم بن قتيبة. قال: حدثنا حمزة بن الزيات قال: رأيت الحكم بشرب الخمر طلا جعلت أعجب من رقته وكان يهدي لإبرأهيمبختج خأثر فكان نبيذه ويلقي فيه العطر وبأن عمر كان يشرب على طعامه الصلب ويقول هذا اللحم في بطوننا وشرب نبيذاً كاد يصير خلاً وماء التمر وماء الزبيب لا يكاد أن يكون خلاً حتى يكون خلاً حتى يكون نبيذاً ثم يدخلهما شيء من الفساد من غير أن يصير خلاً لأن كاد في كلام العرب هم أن يفعل ولم يفعل وقد قال قوم أنه شرب خلاً والخل لا يسمى نبيذاً ولا يسمى شراباً لأنه ليس مما يشرب ومن ذا شرب الخل من الناس للذة أو منفعة فيشربه عمر؟ وقال الشعبي شرب إعرأبي من أدواة عمر فإنتشى فحده عمر وإنما على السكر لا على الشرب ودخل على قوم يشربون ويوقدون في الاختصاص

فأوقدتم. فقال لهم: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم ونهيتكم عن الإيقاد في الاختصاص فأوقدتم. وهم بتأديبهم فقالوا مهلاً: هاتان بهاتين. وانصرف عنهم. وإنما نهأهم عن المعاقرة وهي إدمأن الشرب. حتى يسكروا ولم ينههم عن الشرب. وأصل المعاقرة وهي إدمأن الشرب حتى الشرب. وأصل المعاقرة من عقر الحوض وهو الشاربة وكذلك قال الأشج لبنيه: لا تبسروا ولا تبخلوا ولا تعاقروا فتسكروا ولو كلن ما شربوا عنده خمراً لحدهم كما حد ابنه في الخمر. وبلغه عن عامله بد ستميسان أنه قال الأهل أتى الحسناء أن خليلها ... بميسأن يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصناجة تحدو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتألم لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجو سق المتهدم فقال أنه والله ليسوءني ذلك والله لا عملت لي عملا! وعزله. وقالوا: فإنما أنكر عليه الندامة وشربه بالكبير والصنج والرقص وشغله باللهو عما يشغله إليه ولو كان ما شرب عنده خمراً لحده.

سير العلم

سير العلم التغذية بالفاكهة كاد أكلة الفاكهة ينازعون بمذهبهم في الغرب أكلة البقول فهم يعتمدون على الفواكه والثمار ويحرجون كل الحرج في استعمال غذاء غيرها وقد نشر المسيو كوليو بحثاً في هذا الشأن أثبت فيه أن الاكتفاء بالثمار يكفي البنية الإنسانية. قالت المجلة المنقول عنها ومعلوم أن الأمر في التغذية معلق على كمية الكالوري الموجودة في الطعام فإن المرء الذي يتغذى تغذية حسنة على أوسط تعديل 110 غرامات من الألبومين و60 غرأما من الدهن و422 غراماً من هيدروات الكربون وإلى 200 من الكالوري. ويرى الباحث المشار إليه أن الإغتذاء بالثمار يقوم مقام هذه المواد المغذية فالثمار ذات البزور والنوى والحب والثمار الناشفة والمائية والسكرية كلها نافعة واختلاف أنواعها يعوض عن اختلاف الأطعمة والثمار الحامضة تفتح القابلية وما في تلك الثمار من المائية يقوم مقام المياه المعدنية ولم تعلم إلى الآن تأثيرات الثمار في مداواة الأمراض اللهم إلا العنب فقد ثبت نفعه في كثير منها وكيف كأنت الحال فإن الاعتدال في تنأول الثمار نافع والمرء إذا اقتصر على الأجاص والتفاح يأمن الجراثيم والعدوى من كثير من الأمراض. ورق جديد لم يكن ينتفع بسوق جمع الساق القطن انتفاعاً يذكر من قبل وقد اكتشف الآن طريقة لتحليلها والانتفاع بها كالانتفاع بحملها فاستخرج ورق منها كالورق الذي يستخرج من القطن نفسه ومن لحاء الشجر. وقد فرح أهل العلم بهذا الاكتشاف لما أن ورق مهدد بارتفاع الأسعار لأن الولايات المتحدة وكندا أخذتا تشددان في منع قطع الغابات فلا يتيسر بعد مدة الانتفاع بلحائها الذي كأن يستخدم في صنع الورق ويقدرون أن سوق شجيرات القطن تبلغ من عشرة إلى أثني عشر مليون طن في العالم كل سنة ولعله يكون وراء ذلك رخص الورق الذي يكون أعون على نشر العلم كما كأنت الطباعة بعد النسخ. السعال في المعابد من دخل المعابد والمساجد في ساعات الوعظ والخطب وقد غصت بالمستمعين لا يلبث أن يسمع شخصاً يسعل حتى يتبعه غيره كانما عداء وكثيراً ما شوهد أن بعض الخطباء

والوعاظ اضطروا إلى السكوت ريثما يفرغ الحضور من سعالهم وهذه العدوى التي تصيب المصلين والمستمعين كالتثاوب الذي يعزو ركاب الحوافل والسكك الحديدية. وقد بحث أحد علماء الأميركيأن في علة السعال فرأى أن الضغط إذا اشتد على الأذن من كثرة الكلام يؤثر في الحنجرة فيكون منه السعال إلا أن الباحثين لم يقنعهم هذا التعليل وظلوا ينكرونه ويتابعون النظر في علته. مركبات كهربائية ستنشأ قريباً كهربائية سنة1906 58975000طن منها 25500000 من الولايات المتحدة 12490000 من ألمانيا و10450000 من إنكلترا و32270000 من فرنسا و 2340000 من البلجيك و628000 من كندا و5340000 من الممالك الأخرى وقد كان ما استخرج في العالم سنة 1870 - 12 مليون وما استخرج سنة 1880 18 مليون طن وسنة 1890 - 27 مليون طن. علائم السل اختلفت الأفكار في معرفة هذا المرض المصاب بهذا الداء وذلك بشق الجلد شقاً سطحياً صغيراً وفركه بسدادة مغطسة ببضع نقاط من مصل كوخ المضاد للسل فإذا لم يكن المرء مصاباً بهذا المرض يلتحم الشق بدون أن يصاب بشيء وإذا كان به مرض تخرج على سطح الجلد دمله صغيرة تصير بعد بضعة أيام بثرة تشبه التطعيم. وقد جرب هذا الاكتشاف فظهرت صحته. إدبار الكتاب يشكو الكتاب الإنكليز منذ حين من عدم إقبال الناس على ما يكتبون إقبالهم عليه قديماً وقالوا أن تأثير المؤلفين أخذ في التناقض وقد نسبوا ذلك لانتشار الأدبيات العامية في الناس حيناً بعد آخر فأفسدوا الذوق العام ولكن النقاد يرون أن الذنب على الكتاب فإنهم إذا لم يجدوا من يستحسن مكتو بهم فذلك إما لأنهم تصقلوا في كتاباتهم أو لأنهم رفعوها بحيث علت عن مفهوم القراء ثم الشعراء والقصصيين أنشئوا يحيدون عن الحياة العادية الطبيعية وراحوا يتشبثون بأذيال الجمال في مسطورهم فخرجوا بذلك عن مطلق الأدب إلى مطلق التفنن وقد كان الإقبال يتم لكارلايل وأمير سون ورو سكين وجورج اليوت قديماً لأن من

الناس من وأفقوهم ومنهم من خالفوهم أما المؤلفون المحدثون فلم يتبعوا تلك الطريقة ولذلك آن أن يتكلم العلماء لغة تدخل الإذان بلا استئذان وتفعل في القلوب الفعل المطلوب. تبادل التعليم نمت جمعية تبادل الأطفال والشبان من أمم مختلفة نمواً عدة علماء الاجتماع الخطوة الأولى نحو السلام العام. ويرجع الفضل في أصل تأسيس هذه الجمعية للأستاذ توني ماتيو من أهل باريس فأته رأى أن اختلاط أطفال أمة بأمة أخرى مما ينزع العداوات من الصدور ويقرب بين الأجناس المختلفة فقد أرسلت جمعية لأول عهد تأسيسها منذ أربع سنين 25 ولداً فرنسياً يتلقون العلم في البلدان الأجنبية وزاد عدد من أرسلتهم في السنة الماضية إلى 116 طفلاً وقد ذهب أربعة أخماسهم إلى ألمانيا ليعودوا منها وقد أشربت قلوبهم محبة أقرانهم الذين يدرسون وإيأهم في مدارسها حتى إذا شبوا وشابوا يعملون على ما فيه نفع الأمتين. التعليم في الريف ابتاعت مدينة أركاشون في فرنسا 34 فداناً في غابة على ضفة البحر تبني بها مدرسة تجهيزية يدخلها من يريدون من الأولاد أن يتعلموا في هواء نقي لا تشوبه شوائب المدن ومفاسدها. قالت المجلة التي عربنا عنها: وأنشأ هذه المدرسة هو في الحقيقة بدء عهد في تطبيق مبدأ في الفلاة التي يرجى أن يكثر عددها في أرجاء فرنسا الأربعة. الهواء والعاملات عرف أناس من أهل الإحسأن في مدينة كمبري الفرنسية بأن الهواء للأبدإن خير دواء فأسسوا جميعه لإرسال النساء والفتيات ممن يحتجن إلى الراحة والاستمتاع بالهواء الطلق إلى الخلايا وأخذوا يرسلون منهن إلى جبال سافوا ولا تدفع الواحدة ثمن طعامها وإيوائها في اليوم سوى قرشين وهو مما لا يصعب على النساء العاملات أن تدفعه. الزمنى والشواذ فتحت في إحدى مدارس باريس صفوف خاصة بالأولاد الزمنى وشواذ الخلق إذ تبين أن في فرنسا 120 ألف طفل وفتى كانوا يحرمون من التعليم لعاهات طرأت على أجسامهم

فجعلتهم من شواذ الخلق وأنهم إذا لم يكن لهم صفوف خاصة بهم يحرمون من نعمة العلم. الأسنان الصناعية كان أطباء الأسنان قبلاً يتولون صنع الأسنأن الصناعية بأنفسهم لتجيء متناسبة مع الأسنأن الطبيعية الباقية محفوظة في شكلها وحجمها أما الأن فقد تولت المعامل ذلك فأخذت تصنع بمئات الألوف ما يلائم كل أضراس والثنايا والأنياب فخفت بذلك مئونة التعب على أطباء الأسنان وأعظم معمل للأسنأن الصناعية في العالم معمل فيلادلفيا فإنه يرسل في السنة إلى أقطار الولايات المتحدة وسائر أنحاء العالم من أسنانه بالملايين وقد عهد إلى النساء خاصة في صنع الأسنأن فيدرين على عملها منذ نعومة أظفارهن وأجورهن حسنة ولكن تعلم صناعتهن صعب ولاسيما فيما يتعلق بوضع الألوان. نبات الأحجار الكريمة ذكرت إحدى المجلات العلمية أن من خصائص نباتات جزائر الفيليبين أن يوجد فيها أحجار كريمة ومن جملة النباتات التي يستخرج منها نوع من الخيزران يعرف بالربا سهير ففيه ضرب من الأحجار الثمينة يشبه الأحجار المعروفة ولكنه أغلى منها قيمة لأنه أندر وليس في جميع جذوع هذا النبات أحجار بل أنك قد تبحث في ألوف منها حتى تظفر بذاك الحجر ولونه وردي يضرب إلى الخضرة ويوجد منه في بعض أنواع النارجيل في سيلان ولا يكون كبيراً في العادة بل هو صغير يختلف حجمه رأس دبوس إلى حجم الحمصة. وفي حكومة الفلبين وفي بعض المتاحف بأوروبا بضعة أحجار من هذا النوع وهي تفاخر وتحرص عليها كما تحرص حكومة الفلبين الآف على أمثالها من الخيزور. واقية من البرد معلوم أن بعضهم يعمد إلى إطلاق مدفع أو بندقية أو قذيفة لوقاية أشجاره ومزروعاته من البرد وقد أدعى أحدهم الآن أنه اخترع مناطيد صغيرة تشبه المناطيد المستعملة في رصد الأحداث الجوية للتحليق في الجو وإطلاق قذائف منها ذكر صورة لاستعمالها ولا يزال الأمل قوياً في نتيجة هذا الاختراع ولعله يكون منه ما ينفع كما ينفع الشاري قضيب الصاعقة في اتقاء الصواعق. بريد كهربائي

شرعوا في برلين ينشئون طريقاً كهربائياً تحت الأرض لتربط مكاتب البريد بمحطات السكك الحديد مباشرة فيمد بين المحطات والمكاتب مجاز ضيق عرضه 5 سنتيمتراً وعوه متر ونصف تسير فيه قاطرات كهربائية صغيرة لحمل البريد فيها من ست إلى سبع قطارات بحيث لا يتعذر عليها أن تجتاز الخطوط المستديرة. وستطلى جوانب هذا المجاز بالملاط منعاً للرطوبة. وبهذه الطريقة يرسل البريد بسرعة زائدة على وجه مضمون أكثر مما كان يرسل. الأرمن في أميركا كتبت مجلة المجلات الإنكليزية مقالة ذكرت قيها ما بلغه الأرمن من الارتقاء في الولايات المتحدة بفضل كدهم وإقدامهم فقالت أنهم اتخذوها ميداناً لبضائعهم وأعمالهم وقد أفلحوا بحيث أصبح في وسعهم أن يرسلوا إلى أخوانهم في البلاد العثمانية خمسمائة ألف فرنك اعانة لهم وفي الولايات المتحدة خمس جرائد أسبوعية تصدر بالأرمينية وخمسة وخمسون منهم يدعون إلى دينهم وفي كلية بال الجامعة خمسون تلميذاً منهم يتعلمون على اختلاف ضروبها وقد نزل الأرمن في معظم تلك البلاد فهم في كليفرنيا يعنون بزراعة الأشجار المثمرة وفي نيويورك يتعاطون أعمال اليد على اختلاف أنواعها. نفقات التعليم قدروا أنه بلغ مجموع النفقات على التعليم العام في ميزانية إنكلترا عشرة في المئة وستة في المئة في فرنسا وألمانيا اثنين بالمائة وفي روسيا قال أحد الروسيين وإذا أسقطنا من نفقات التعليم في روسيا ما يصرف منها على التعليم العالي والثانوي لا يبقى إلا ستة بالألف يصرف على التعليم الابتدائي وليس في روسيا سوى مائتي ألف مدرسة لتعليم الفلاحين وهي بإدارة الرهبان وذلك عدا المدارس الوزارية القليلة وهناك مدارس تابعة لنظارة الداخلية أو الحربية خاصة بأولاد الممتازين وكل هذه المدارس تكلف الأمة مائة ونصفاً في المئة من مجموع الميزانية وفي روسيا مئة مليون من الرجال والنساء لا يقرؤون ولا يكتبون وقد طلب إلى الندوة الروسية أن تزيد ميزانية المعارف سبعة ملايين روبل. المجرمات

ذكرت إحدى المجلات اللندية أن عدد المجرمين في فرنسا هو أربعة أضعاف عدد المجرمات. وإن نسبة المجرمين إلى المجرمات في الولايات المتحدة كنسبة 1 إلى 12. أما في إنكلترا فإن المجرمات كثيرات ولاسيما اللائي يرتكبن الجرائم الكبرى وسبب ذلك قلة الاعتدال وتعاطي المسكرات فقد بلغ عدد الأحكام الصادرة على النساء في إنكلترا سنة 1878 م 54347 حكما من أجل تعاطيهن المسكر فارتفع سنة 1904 م إلى 60211 حكماً وحكم على كثيراًت لأنهن ضربن سكة زائفة. المطالبات بحق الانتخاب قالت المجلة أن المطالبات بحقوقهن في الانتخاب من النساء - كما ينتخب الرجال - يعملن في ألمانيا والسويد ونروج والدينمارك وإيطاليا على نحو ما يعمل بنات جنسهن في بريطانيا وأن فرنسا متقهقرة في هذا المعنى وليس فيها منتخبات وقد ألفت الجمعيات النسائية الكثيرة تحألفاً عاماً يجمع بين المطالبات بهذا الحق على اختلاف الدول وذلك بزعامة عقيلة أميركية اسمها كات وللنساء الهولنديات المطالبات بهذا الحق مجلة شهرية لهذا الغرض.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة تولستوي ما خلت كل أمة ولا كل عصر من وجود مصلح أو مجدد يقوم بين قومه بالوعظ والإرشاد ويأخذ بيدها في مهيع السداد. تساوت في ذلك الأمم المنحطة والناهضة قديمها وحديثها شرقيها وغربيها. وتولستوي هو رجل روسيا اليوم ومجدد حياتها الاجتماعية سعى إلى الإصلاح فأثرت حكمته في عقول مئات ممن استعدت نفوسهم لقبول الخير فما عتموا أن بثوا أفكاره في مئات وأشربت القلوب محبته وأكبرت الأمم دعوته. ولا يزال على ما أصاب بلاده من رفع وخفض يمتع النظر بما يجري في القرب والبعد فهو اليوم في التاسعة والسبعين من عمره قتل الدهر علماً ونحر الأيام فهما كانت جملة ما استفادة من تجارب وعلم وما ورثه من آبائه من مال وضياع وفقاً على أمته وما ينهضها من عثرتها. من العادة أن يترجم كبار العلماء أنفسهم في كل أمة. وقد طلب من الحكيم الروسي أحد أصدقائه منذ مدة أن يوافيه بترجمة حياته أو يدله على طريقة يتسنى له بها أن يجمع موادها فكتب إليه شيئاً من أحواله صبياً ويافعاً وذكر له بيته ومنشأه وهما أساس في تربية ملكات الرجال. قال ما نعربه عن إحدى المجلات الإفرنجية: فكرت في أجابة طلبتك فرايتني في تيهاء من الحيرة يتنازعني عاملان عامل شر وعامل أشر منه. وأعني بالأول إعجاب المرء بنفسه والإغضاء عما أتاه من المفاسد في حياته وأريد بالثاني الانطلاق في الحرية المفرطة وإيراد مظالم بأسرها. إن خلصت في وصف نذالتي وغفلتي ومفاسدي وانطلقت وتجوزت في إبدائه على نحو ما أنطلق الفيلسوف روسو في هذا المعنى يأتي ذلك كتاب أو مقال يخلب الألباب. فهل نلام نحن ضعاف الفطرة من البشر إذا كنا أنذلاً مثله وأني لا أنكر عندما بدأت أذكر حياتي وقد تمثلت أمامي غفلتي ولؤمي وذهبت بي الهواجس كل مذهب ورحت أقول في نفسي أنا ذاك الرجل الذي يطريني كثيرون على ما بي من شقاء وبلاهة. ولك أن تفسر قولي هذا بأني أكثر احتيالا من غيري - أقول لك هذا القول بحرية ولا أقوله لأجمل به إنشائي. من أجل هذا إلى تسطير ترجمتي لأني رأيت من اللازم اللازب أن للملأ لؤم حياتي بأسره إلى أن تنبهت من غفلتي وأن أذكر محاسنها بعد أنتباهي.

ذكرت بادئ بدء الحسنات في حياتي ولكني لما فكرت في الحوادث المكررة التي انتابتني في غضونها رأيت أن مثل هذا هذه الترجمة أن لم تكن كلها كذباً لم تكن كلها مكتوبة بإخلاص لأني مثلت فيها المناحي الحسنة وأسدلت حجاب السكوت على المناحي السيئة وعندما فكرت في كتابه الحقيقة على بابها دون أكتم منها شيئاً من السيئات التي تخللت حياتي ذعرت مما يكون لهذه الترجمة من التأثير في الأذهان وفي ذلك مرضت وعاودني الفكر خلال هذه العطلة التي ساقني إليها حكم الاضطرار وبقي يتردد في خاطري ذكرى ولكنها كانت مفزعة. وكنت أشعر لا توصف بما قاله بوشكين الشاعر في قصيدتهالذكرى ذاقت نفسي عذاب الجحيم لما ذكرت لؤم حياتي الماضية ولم أعد أفارق تلك الذكرى بتة فإنها سمعت حياتي وكدرت سربي وشربي. جرت العادة أن يأسف الناس على نسيان ما جرى لهم بعد موتهم فيا ما أسعد ذلك من حال. ولبيت شعري أي أوصاب كانت تنالني في هذه الحياة لو ذكرت كل ما تعذب به وجداني وكل ما ارتكبه من أثم في حياتي السالفة ومن ذكر الخير كان عليه أن يذكر الشر. فيا سعدي أن نسيت ذكرى ما شقيت به بعد موتي من ذات نفسي غير الوجدان ذاك الوجدان الذي يمثل الخير والشر والصغير والكبير والسلبي والإيجأبي. نعم إذا غربت الذكرى عن الذهن عد ذلك نعمة كبرى وما دمت تتردد في الخاطر لا يتأتي أن يعيش المرء مسروراً ولكن إذا غابت صورتها ندخل ميدان الحياة وصحيفتنا بيضاء نقية فيكتب عليها ما جد لنا من الخير والشر. وبعد فلم تكن حياتي كلها منحطة المقام في خبثها بل كان منها عشرون سنة كذلك ومعلوم أيضاً أن حياتي في ذلك الدور لم تكن شراً دائما كما تمثلت في عيني في غضون مرضي إذ قد تنبهت في ذلك أميال نحو الخير لم تطل كثيراً بل أطفئت شعلتها للحال بما دهمني من الشهوات التي لم يضبطها عنان. على أن اشتعال الفكر على هذا النحو في خلال مرضي دلني في دلالة صريحة على أن ترجمة الإنسان نفسه على ما تكتب في العادة التراجم إذا أغضيت فيها عن نذالتي وجريمتي في حياتي تكون ولا جرم كذباً وإن خير الأساليب التي يتوخاها الكاتب في ترجمته أن ينطق بالحقيقة على جليتها. وأمثال هذه التراجم هي التي تمثل الحقيقة على

بابها للقارئ وإن أورثت كاتبها الخجل. فلما ذكرت ماضي حياتي على النحو أي ذكرت ما أتيت من خير وما تم على يدي من شرر أيتني أقسم أدوار حياتي الطويلة إلى أربعة أدوار: أولها ذاك الدور العجيب وخصوصاً إذا قيس بالدور الذي يليه - البار البهيج الشعري وأعني به دور الطفولية. ثم الدور الثاني وهو العشرون سنة كان فيه من الفساد الغليظ والخدمة والطمع بالمعالي وخصوصاً في المكاسب ما كان. ثم جاء الدور الثالث وهو الثماني عشرة سنة أي منذ تزوجت إلى نشوري الروحي وهو الدور الذي يحق له أن يدعى في نظر العالم دور الأخلاق بمعنى أني عشت في هذه الثماني عشرة سنة كما تعيش الأسر بالحشمة والنظام غير مستسلم لمفسدة ينبذها الناس ولكن جميع مصالحي كانت مقصورة على عنايتي بأسرتي عناية مقرونة بحب الذات ممزوجة بالأنانية وعلى زيادة ثروتي وعلى نجاحي الأدبي وعلى مختلف حظوظ تنالها نفسي والدور الرابع يرد إلى العشرين سنة التي فيها أنا الآن وأود أن أموت عليها وبها يتمثل لي في الحياة الماضية من عظيم الخطر وهو الدور الذي لا أبغي سواه ما خلا اعتيادي الشر الذي اندمج في روحي في الأدوار الأخيرة. وأرى كتابة حياتي على هذا النحو أنفع من هذر بدر من القلم في أثني عشر مجلداً من مصنفاتي وتنأولها الناس في عهدنا ونسبوا إليها من التأثير ما لا تستحقه. كانت جدتي ابنة الأمير نقولا ايفإنوفيش غورتشاكوف الأعمى وكان غنياً تأثل وأرتاش وجمع حطام الدنيا شيئاً كثيراً. وكل ما أتصوره فيها أنها كانت قليلة التعلم كثيرة الذكاء وكانت مثل كثيراًت من أبناء وطنها على ذاك العهد تحسن الفرنسية أكثر من الروسية وكأن تعلمها عبارة عن معرفة هذه اللغة فقط فدللها والدها أولاً ثم زوجها وكانت عنواناً على الأسرة بأجمعها لأنها كانت بكرها وموضوع احترامهم أجمعين. وكان جدي على ما ظهر لي أيضاً على شاكلة جدتي محدود المعرفة ولكنه كان من اللطف والأنس على جانب وقد أدى به الكرم إلى الإسراف الذي بلغ حد الحمق. وكان بثقة يخلص وكانت في مقاطعة بيليف في بولياني ميدان الولائم وتمثيل الروايات والمراقص والمأدب ويضاف إلى ما يقتضي ذلك من النفقات ولوع جدي بالمقأمرة على ضعف معرفته فيها مع ما كان مني من إقراض كل من يقصده دراهم ما كان يرجعها إليه. هذا إلى الأعمال الكثيرة التي باشرها

فإنتهت كلها بخراب بيته وإفلاسه حتى باع أملاك زوجه واضطر إلى التوظف فصار للحال والياً لقازان. ذكروا لي أن جدي لم يكن يقبل الرشى ما خلا رشوات من عملة الأكحول وهي الرشوة التي ما كانت تستنكر إذ ذاك في كل ناحية من أنحاء الأمبراطورية الروسية ولكن قيل لي أن جدتي كانت تقبل الرشوة بدون اطلاع جدي وهكذا دامت الحال حتى زوجت ابنتها الثانية في قازان والبكر في بطرسبرج من أحد الإشراف وبعد أن قضى زوجها نحبه سكنت جدتي لدى والدي في اياسنيا بوليانا وهناك أدركتها شيخه عجوزة وكانت تحب والدي وأولاده وتتلهى بنا كما تتلهى بخالاتي. وظهرانها لم تكن تحب والدتي لأنها كانت تحب جدتي دون قدر والدي وتحسدها على حب والدي لها. وأذكر أن جدتي ساحتنا معها إلى موسكو وأهم ما يخالج فكري من ذلك ثلاثة مشاهد. المشهد الأول عندما كانت جدتي تغسل يدها بالصابون فتخرج منها فقاقيع كنت أدهش وأسر بمرآها وأذكر يديها البيضاويين ووجها الناصع الباسم. والمشهد الثاني أيام كنا نذهب إلى غابة البندق ونجنيه في صحبة مؤدبنا وكانت جدتي تصطحبنا في عجلتها والخادم يجر إليها الأغصأن الميلاء لتقطف بندقها وتضعه في كيس أمامها وأذكر قوة معلمنا في جره الأغصأن الكبيرة من أدواح البندق وتلك الظلال الوارفة والحر الشديد وسط الغابة والهواء البليل في الظل وتناوح أشجار الغاب ورائحتها وكيف تأكل الفتيات اللاتي كن معنا البندق على طراوته فلا نبقي منه ولا نذر ونملأ به جيوبنا وأردن ثيابنا وعجلتنا. وكنت يخيل لي أن تلك الفقاقيع لا يتيسر إحداثها إلا على يد جدتي وذاك الريح البليل في غابة البندق لا يهب إلا إذا رأفقتنا إليها جدتي. والمنظر الثالث وهو أعظمها وأعني به (ليون ستبانيش) الأعمى القصاص الذي كان في بيتنا من بقايا مجد جدي الغابر يسكن دارنا ولا همل له إلا سرد الأقاصيص في الليل وذلك لأن عماه كأن يساعده على حفظ الحكايات بألفاظها بمجرد تلاوتها عليه مرتين وكان يتلو على مسامع الحضور حكاية قمر الزمان المعروفة في قصة ألف ليلة وليلة وكنت اقترب من القصاص استمع إليه ولكنني ما كنت أفهم شيئاً مما يقول ثم أنام ولا أعود أحس بما يجري في دارنا إلى الغد. وما أعرفه عن جدي والد أمي أنه بعد أن صار قائداً على عهد الأمبراطورة كاترينا عزل دفعة واحدة عن منصبه لأنه لم يرض أن يتزوج ابنة أخت المشير يونمكين نديم كاترينا

الثانية فنحاه عن منصبه لأنه رفض الزواج منها لأسباب لم عرفها فيها رداً غير جميل. ولما نحي عن منصبه تزوج بفتاة من أهل الصور رزق منها لبنة. وكان جدي هذا مشهوراً بجبروته وأنه من الرؤساء البغاة. بيد أني لم ينقل لي شيء عن قسوته ولا عن عقوباته المعتادة في عهده وأظن أن ذلك كان يقع منه على التحقيق لكنه لم يجسر أحد من حاشيته وفلاحيه أن يطلعني على ذلك مع إلحاحي في السؤال وذلك تشريفاً لقدره وإعظاماً لحكمته فلم أكن اسمع عنه غير عبارات الثناء على بعد غوره وسداد نظره واعتداده بفلاحيه وخدامه على كثرتهم. وقد أسس بناية عظيمة لخدمته وكان لا يقصر عنايته على إطعامهم فقط بل يعنى بكسوتهم أحسن كسوة وبإدخال السرور على قلوبهم وكان يقيم لهم الألعاب المختلفة في أيام الأعياد والمواسم. وكان من أتباعه وخاصته آمنين بما له من النفوذ من ظلم الظالمين من الحاكمين فمن ثم كان جدي في جميع أعماله يميل إلى المتانة والراحة والإحسان والظرف يعشق الطرب والموسيقى ويجلس إلى سماعها من والدتي في أماكن أعدها لذلك في حديقة الدار. لا أتذكر والدتي قط فقد كنت ابن سنة ونصف لما قضت نحبها فإنا لا أتمثلها أصلاً ولا أعرف شيئاً يدلني على جسم إنسان بل أعرفها بالروح وكل ما بلغني من أمرها كان حسناً جميلا. سألت أهلي عنها فحدثوني بأطيب الحديث لا لكونها أمي بل لإنه كان فيها من صفات عالية من الخير والإحسان. وكنت أجدني في طفولتي بين ظهراني قوم حفهم الصلاح والفضل أرى ذلك خاصة فيهم من والدي إلى سائق العجلة كما يرى أصفياء القلوب غالياً كل حسن في الناس ولا تتمثل لهم إلا الصفات الطاهرة. وعندي أن ما تمثل لي فيمن نشأت بينهم من الصفات كان إلى الصحة أقرب. ولذلك أعجبت به في صغري. لم تكن والدتي من الجمال بحيث تسبي الألباب بل على جانب من الذكاء بالنسبة لعصرها فكانت تحسن الروسية قراءة وكتابة خلافاً لمعاصراتها إذ ذاك وتعرف الفرنسية والألمانية والإنكليزية والإيطالية ولها ميل إلى الفنون وتجيد الضرب على البيانو. ولقد ذكر لي عشيرتها بأنها كانت تحسن إلقاء الحكايات فتستدعي إعجاب الحضور وترتجل الكلام ارتجالا وكانت تمتاز بكظم غيظها على ما روى لي الخدام. فإذا عرض لها ما يهيجها يحمر وجهها وربما بكت على ما نقلت لي وصيفتها ولكنها ما قط فاهت بكلمة قبيحة إذ أنها لم

تكن تعرف من ألفاظ الهجر ولا كلمة. لدي رسائل كتبتها والدتي وإلى خالاتي وجريدة تصف فيها سلوك أخي البكر (نيكلولانكا) الذي كلن عمره ست سنين عندما توفيت وكان أشبه منا كلنا بصورتها. وكانت ما استنتجت ذلك من كتاباتها ولحظت ذلك من أخي وعلمته علم اليقين عدم الاحتفال بآراء الغير والأتضاع بحيث كانا يحأولان أن يكتما فوائد التعليم والذكاء والفضيلة التي امتاز بها دون سائر من العيوب اللأزمة ليعد صاحبها من كبار الكتاب ولقد شاهدت ذات يوم أحد الأغنياء الساقطين وهو حارس والي وكان يصطاد معه أخذ يهز به أمامي واذكر كيف أن أخي لما حد جني ببصره مسروراً رأى في هذه الأهانة مسرة عظمى. ومثل هذا الخلق كان في والدتي في أخلاقها أرقى من والدي وأسرته اللهم إلا (تانيانا ألكسندر كولسكي) التي قضت معها نصف حياتها وكانت أمرأته مشهورة بأخلاقها المهذبة. ولم يكن أخي وأمي ممن يقولأن الا خيراً عن الناس وكنت أرى شقيقي إذا كان له ما يقال في سيرة أحد أن يبتسم ويبدي حسن الخلق وكذلك كانت أمي كما فهمت من رسائلها. وكنت قرأت في حياة القديسين قطعة من كلامه تأثرت بها نفسي. ذلك راهباً كان معروفاً عند الناس بكثرة خطاياه فرآه ذات ليلة في عداد الأخيار يسرح ويمرح في أعلى عليين فسأله عن أمره فقيل له أنه لم يغتب أحداً في حياته. قلت فإن كان في عداد الآخرة يشبه هذا فوالدتي وأخي لاشك أحرز هذا الجزاء. وامتازت والدتي عن محيطها بحرية وجدانها وسذاجة لهجتها في رسائلها فكان القوم إذ ذاك يغالون في إظهار حاساتهم. عادة لهم كانت مألوفة غير مستنكرة فيقول القريب لقريب يكتب إليه أنت منقطع القرين وأني عبدك وأنت بهجة حياتي وكلما كأنت التبجيلات في الاخوانيات قليلة دل ذلك على قلة إخلاص الكاتب للمكتوب إليه. وقد شهدت هذه العادة في رسائل ولكنها كانت معتدلة في إظهارها عباراتها تدل على الاعتدال والإخلاص. قيل لي أن والدتي كانت تحبني حباً جما وتدعونني بتيامني الصغير وقد كانت غنية وكان والدي نشيطاً بهجاً واسع الصيت والصلات وأظن أن والدتي كانت تحب والدي لأنه والد بنيها وزوجها ولم تكن تحبه حب العاشق المستهام وكان حبها لخطيبها الأول الذي اختطفته المنية حب الفتيات الذي لا يشعرن به إلا لمرة واحدة وإن ما أعلمه عم اليقين هو أن أمي كانت

تحب ثلاثة حباً حقيقياً وهم خطيبها الأول والآنسة اينيس الفرنسية إحدى صويحباتها وابنها البكر وكانت تنشئ له جريدة ذكر لرغبتها الشديدة في تربيته ما أمكن وهناك دليل على أنها كانت ضعيفة في هذا المعنى لا تدري ما تعمله. مثال ذلك أنها كانت تؤنبه عندما يشتد فيه شعور الإحساس فيبكي مثلاً عندما يشاهد الحيوانات تتألم أمامه لأن على المرء برأيها أن يكون قاسي القلب وكانت تعاتبه على الصغائر كان يقول لجدته أشكرك عوضاً عن أن يقول لها أسعد الله صباحك ومساءك. وأكدت لي خالتي أن أمي كانت تحبني وأني كنت أحد من يحبه قلبها وخلفت والدتي خمسة أولاد كانت آخرهم ابنة ماتت في نفاسها. وظلت مع والدي تسع سنين كانت أيام سعد ورخاء فكانت على علو منزلتها ولطافة أخلاقها وآدابها تحب من حولها ويحبونها وكانت أميل إلى العزلة تصرف وقتها بأولادها ومطالعة الروايات أمام جدتي في الليل بصوت عال والاشتغال بمطالعات نافعة مثل كتاب أميل للفيلسوف روسو والمذاكرة فيما قرأته ويقضين شيئاً من الوقت في الضرب على آلة طرب ثم يتدارسن اللغة الإيطالية وتتنزه وترى أعمال المنزل. لبعض الأسرات أوقات من الصفاء لا يزعجها موت أحدهم ولا مرض أفرادهم فيعيشون سعداء وهذا الدور صادفته والدتي إلى حين وفاتها فكان والدي يدخل البهجة على قلوب أهل البيت بما يوفره على ذكره من الأضاحيك الملهية والأحاديث المسلية. هذا ما عرفته من مطالعة المفكرات والرسائل عن والدتي وحياتي في بيتنا على ذاك العهد في الطفولية وهاأنا ذا وصلت إلى وقت ألم فيه بما أذكره بنفسي فأرويه مقروناً بأشخاصه وأماكنه. أما والدي فقد كان عمره سنة 1812 سبع عشر سنة انخرط في سلك الجيش على كثرة توسل أهله به ليرجع عما قصده له خوفهم عليه وكان إذ ذاك أحد أنسائنا قائد الجيش العامل فعينه له حاجباً واشترك في حرب سنة1813 - 1814 وأسره الفرنسيين ولم يخلص من الأسر إلا سنة 1815 عندما دخل جيشنا باريس. بلغ العشرين من عمره ولم يكن على شيء من العفاف حتى أن أهله زوجوه بخادمة وكان عمره ست عشر سنة تفادياً من أن تسوء صحته على نحو ما كان القوم يذهبون إليه إذ ذاك فولد له منها ابن دعوة ميشانكا عاش في حياة والدي عيشة حسنة ثم ساءت حاله فكأن كثيراً ما يلجأ إلينا لنعينه وأني لا أذكر شعور التعجب الغريب الذي شعرت به عندما أمسي أخي

هذا شحإذا يستو كف الأكف وهو شبيه في خلقته بأبي بل أشدنا به شبهاً ثم يجيء ويطلب منا أن نحسن إليه بشيء من المال ويسر بما ندفعه إليه من عشرة روبلات أو خمسة عشر. ثم تنحى والدي عن الخدمة ونال راتب العزل ولحق بجدي في قازان وكان حاكمها وبعد قليل ذهب جدي إلى سبيله وأصبح والدي رب أسرته مع جدتي المعتادة على البذخ والديون مثقلة كأهل بيتنا وعندئذ تزوج والدي بوالدتي على نحو ما شرحته آنفا من أمرها. كان والدي دموياً ربعة القوام مقبول الوجه كثيب النظر يعنى بأمور زراعته ولم يكن معروفاً بالقسوة بل كان إلى الضعف أقرب بحيث أني لم أسمع إنه كان يضرب فلاحيه على أجسادهم على نحو العادة المتبعة في هذه الديار على أنه لم يبلغني إنه كان في بيتنا أثر لهذه العقوبات إلا بعد موته. وحدث ما شئت أن تحدث عن مبلغ استغرأبي يوم كنت آتياً من نزهة لي مع مؤدبي وسأل أحدنا وكيلنا وكان مع سائس الخيل عن المكان الذي يقصده فقال له أنه ذاهب إلى الأنبار ليضرب السائس على بدنه ورحت من ساعتي أسأل خالتي عن سر ذلك وكانت هي تكرر العقوبة بالضرب فلامتني على أني لم أوقف ذاك الوكيل عن عمله ولكن بعد أن سبق السيف العذل. كان أبي مصروفاً إلى الزراعة وفض القضايا التي خلفها له والده وكان يذهب إلى الصيد ويحب المطالعة كثيراً وقد اقتنى مكتبة فيها كتب آداب الفرنسيس وبعض كتب العلم وإلى على نفسه أن لا يبتاع كتاباً جديداً حتى يأتي على ما لديه من الأسفار ويطالعها برمتها ولم يكن به ميل إلى العلوم. بيد إنه كان في علمه يعادل المتعلمين من أهل عصره ولا يصح أن يسمى من الأحرار في دهره بل كأن يكره كل تغيير شيء من حاله فلا يخضع للكبراء ولا يزور الموظفين بل ولا يزورنا واحد منهم لما كان بينه وبين أهل الحكم في ذاك الوقت من التباين الضمني في المبادئ والغايات. وأني لا أذكر والدي وهو جالس على ديوانه يدخن بغليونه وأذكر صيوده وأذكر أيامه واجتماعنا به وتحفيظي شيئاً من شعر بوشيكن وكيف أعجب بتلاوتي له. نعم أذكر رحلاته وغدواته ما كان يفيضه علي من حسناته وإحسانه وأذكر حبه وحبي ذلك الذي شعرت به بعد موته أكثر من شعوري به من قبل. وهنا استطرد إلى ذكر شيء مما علق بذهني من أمور طفولتي أذكرها وأنا لا أثتثبت بعضها حقيقة أم خيالية. ولقد كنت في القماط وأريد أن

أفلت يدي ولا أستطيع ذلك وأصرخ وأبكي وصوتي كان منكراً حتى في عيني ولكن ما كنت أتمالك نفسي من البكاء وأرى أحدهم في قربي يحنو علي ولا أذكر شخصه وأرى ذلك كانه ظلم أو يكاد يكون ظلماً ولكني أذكر إنهما كانتا اثنتين وكان صوتي يؤثر فيهما فكانتا تسمعان صوتي ولكنهما لا تنقذاني مما أشكو منه ثم أصرخ بشدة أيضاً فيريان أنه من اللازم أن أكون مقيداً في قماطي وأنا أرى أنه ليس كذلك وأريد أن أثبت لهما ذلك وأصرخ صوتاً حاداً كانت نفسي تنكره ولكن لم أكن أتمالك منه وأشعر بالظلم والقسوة لا من الناس فقط بال من الأقدار إذ كنت أشهد الناس يرثون لحالي وكنت أشفق على نفسي ولا أعرف ذلك ما هو ولن أعرفه عندما كانت سني تزيد على السنة. وعلى الجملة فقد كأن ذلك من المؤكد أول تأثر بل أشده شهدته في حياتي ولا أذكر صوتي والأمي فقط بل أذكر مزاجي واختلاف تأثراتي. أطلب الحرية وهي لا يتضرر بها إنسان وأنا على حاجتي إلى القوة ضعيف وهم الأقوياء وكذلك أذكر عندما كانوا يغطسونني في القادوس وقد جعلت فيه رائحة زكية جديدة يمسحون بها جسدي واستلذ جلوسي في القادوس وهو صقيل لطيف والماء فاتر خفيف ويد مربيتي تروح وتجيء تدلك بدني. وهاتأن الذكريتان هما اللتان أذكرهما منذ ولادت إلى الثالثة من عمري بل إلى الخامسة لا أكاد أذكر السماء ولا الشمس ولا الورق ولا العشب. بحيث ساغ لي أن أقول أني عشت عيش البهيم أيام كنت أتعلم وأنظر وأنصت وأحاول أن أتكلم وأنام وأرضع وأضحك وأسر والدتي في ذاك العهد حصلت ما أعيش به الآن حصلت به في مدة وجيزة بأقصى ما يمكن من الكثرة بحيث أني لم أستطع أن أزد وأحداً في المئة على هذه المعرفة. وليس بيني وبين ابن الخامسة سوى مسافة لا تصدق وليس بين الجنين والولادة سوى هوة وليس بين العدم والجنين سوى شيء صعب تعليله ومعرفته. وهنا يقال أن الوقت والسبب هما صور الفكر وأن الوقت والسبب هما من الفكر وأن معنى الحياة خارج عن تلك الصور بيد أن حياتنا كلها سوى الخضوع المتواتر لهذه الصور أو الخلاص. أما تذكاراتي القصية فإنها ترجع إلى السنة الرابعة أو الخامسة من عمري وكلها قليلة لا تتعدى حد البيت والعيش المنزلي وما أنس لا أنس في طفولتي وأنا على سروري فرح مبتهج ووصيفتي أو اللائي عهد الهين تربيتي تقص علي قصة ايرميفتا (كما تخوف عامة

النساء في الشرق الأدنى الأولاد بالعفريت والبع بع) فكانت تنقبض نفسي لسماعها وأتبدل البهجة بالفزع والفرح بالترح وأذكر شقيقتي بجانبي وأذكر مؤدبنا الألماني تيودور ايفا نو فبتش وأن لم أكن في تلك السن تحت وصايته وأذكر دارنا وأنها كانت شاهقة وأذكر ما ألقاه فيها من النساء وربما كن الغسالات وكيف كنت أقفز ويقفز معنا مؤدبنا ولكن قفزة خفيفة. هذا ما يتردد في خاطري من ذكرى الحوادث التي طرأت علي قبل الخامسة أما بعدها فإن ما أذكره ولا أنساه هو أخذهم بيدي إلى المؤدب ايفإنوفيش واستعاضتي عن اللعب والقفز وغيرهما بالدراسة وتبديل ما كنت ألفته بعادات أخرى ومنازع جديدة. وهنا ذكر الحكيم خالته تاتيانا الكسندر وفنا وما أثرته بأعماله في حياته وكانت من النساء المتهذبات فعلمته الحب والميل إلى الوحدة والتأثر من المظالم.

الولايات المتحدة

الولايات المتحدة يقسم تاريخ الولايات المتحدة إلى خمسة أدوار: الأول دور السكان الأصليين وهم الهنود والثاني دور السفر والاكتشاف وهو من سنة 986 إلى سنة 1607 م والثالث دور الاستعمار وهو من سنة 1607إلى سنة 1775 م والرابع دور الثورة من أجل الاستقلال وهو من سنة 1775 إلى سنة 1789 والخامس دور الجمهورية وهو من سنة 1789 إلى 1907 م اكتشف غريستفورس كولمبوس أمريكا سنة 1492 ب. م فأخذ بعض الأوروبيين بادئ بدء يهاجرون إليها بقصد امتلاك ديارها وجمع لجينها ونضارها. ولما ذاع صيت هذه الديار في أقطار أوروبا واشتهر أمر غناها واتساع بقاعها وخصب أراضيها وغباوة هنودها أخذ يتقاطر إليها الأوربيين زرافات وجماعات وذلك من سنة 1607 م فصاعداً. وكأنت الأمة الإنكليزية أكثر الأمم الأوروبية اهتماماً بالمهاجرة إلى أمريكا. ثم لما كثر عدد الأوربيين فيها اغتصبوا أملاكاً واسعة من الهنود واشتروا بعضها بأثمان بخسة واستوطنوا بعض مقاطعات الولايات المتحدة. وفي 18 نيسأن سنة 1775 م أعلن الأمريكيون الحرب على بريطانيا العظمى. وفي 7 حزيرأن سنة 1776 م نهضوا لطلب الاستقلال من سلطة تلك الدولة لاستبدادها بهم وتضيقها على أملاكهم حينئذ فتابعوا الحرب. وبعد سبع سنين جرت فيها الدماء أنهاراً استقلوا في 4 تموز سنة 1783 م ويرجع معظم الفضل لذلك إلى ديكا رد هنري لي وتامس جفرسن من فرجينيا ويوحنا أدامس من ماسثوست وبنيامين فرنكلن من بنسلفإنيا وروجر شيرمان من كنتكت وروبرت لنكستن من نيويورك فهم الستة المشهورون الذين اجتمعوا في 11 حزيرأن سنة 1776 م وقد قرروا أن ينزعوا رقبة الاستبداد عن رقاب الشعب. وسنة 1789 جدد الأمريكيون المعاهدة بعضهم مع بعض ودونوا فيها نظامات وشرائع في مدينة فيلادلفيا. وكان عدد الولايات التي دخلت في المعاهدة إذ ذاك ثلاث عشرة ولاية وهي نيو همبشير وفر مونت ومسشوست ونيويورك وكنتكت ونيوجرسي وبنسلفإنيا ودالوار ورودايلندا ومريلا ند وفرجينيا وكرولينا الشمالية والجنوبية. وفي 4 حزيرأن سنة 1789 م أعلنت الولايات المتحدة الحرب أيضاً على بريطانيا

العظمى وكان في عهد مادسن الرئيس الرابع للولايات المتحدة وكانت نتيجة تلك الحرب ازدياد العمران وتعزيز قوة السكان. وفي 26 نيسأن سنة1845 م أخذت الولايات المتحدة تحارب الأسبأن فأظهر الأمريكيون قوة الاتحاد والاستقلال ولم تزدهم تلك الحرب إلا مجداً وعزاً وعمراناً. ونشأت الحرب المذكورة في عهد بولك الرئيس الثاني عشر للبلاد. وفي 12 نيسأن سنة 1861 م بدأ حرب تحرير العبيد بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة وانتهت في 9 نيسأن سنة 1865 وكان رئيس البلاد إذ ذاك إبرأهيملنكن الشهير. وسنة 1898 م حاربت الولايات المتحدة اسبانيا وفازت عليها ووسعت دائرة نفوذها واشتد ساعدها وذاعت سطوتها واتسع نطاق بقاعها وارتفع شأن تمدنها وعمرانها وكأن ذلك في عهد مكنلي الرئيس الخامس والعشرين للبلاد. أول رجل عظيم رأس الولايات الأمريكية هو جورج واشنطن. ولد في 22 شباط سنة 1732 م في وست فرجينيا وشب على الآداب الرائعة والهمة الرافعة والمبادئ النافعة وفي نيسان عام 1789 م رأس الولايات المتحدة وظل في منصبه الخطير 8 سنوات وقضى نحبه في 12 كانون الأول سنة 1797 م. وأقل ما يقال عنه إنه كان رجلاً فاضلاً ورئيساً عاملاً غير مدافع رقى بلاده إلى درجة سامية تحسد عليها. والشعب الأمريكي يجله كثيراً ويعيد له كل سنة ويدعوه أب الأمة. وتولى أريكة الرئاسة بعد واشنطن يوحنا أدامس. ولد في برينتري من أعمال ماسشوست في 19 تشرين الأول عام 1735 م وانتخب رئيساً للولايات المتحدة في 4 إذار سنة 1797 م وأتم مدة الرئاسة التي هي أربع سنوات. وقد نمت البلاد في أيامه وانتهت مدته بختام القرن الثامن عشر. وخلف الرئيس أدامس تامس جفرسن أحد الستة الأشخاص المصلحين الذين مر ذكرهم وهو الرئيس الثالث. ولد في البيمارلي من أعمال فرجينيا في 2 نيسان عام 1743 م وانتخب رئيساً للبلاد في غرة القرن التاسع عشر سنة1801 م ورأسها دورين أي ثمان سنوات وكان غيوراً على الإصلاح ومصلحة الوطن والأمة كفؤاً للقيام بالعظائم والأمة الأمريكية تحسبه من أعظم المصلحين وأفضل رؤساء البلاد توفي في 4 تموز سنة 1846

م. وقام بعد جفرسن جيمس ماديسن وهو الرئيس الرابع على البلاد ولد في كن جورجيا من أعمال فرجينيا في 6 إذار عام 1751 م وتوفي في 28 كانون الثاني عام 1836 م في مونتيار من أعمال فرجينيا. كان ماديسن ناظر الداخلية في عهد الرئيس جفرسن وفي 4 إذار عام 1809 م انتخب رئيساً للولايات المتحدة ورأسها مرتين وللرئيس ماديسن أفضال على الجمهورية يذكروها الأمريكيون ويغالون بها وقام بعد جفرسن جيمس منرو وهو الرئيس الخامس ولد في 29 نيسأن سنة 1758 في ويستمورلاند من أعمال فرجينيا ومات في 4 تموز عام 1831 وانتخب رئيساً للبلاد في 4 إذار عام 1817 م ورأس البلاد مدتين أي 8 سنوات. ومونرو وهو الرئيس المشهور بشريعته التي سنها وهي أن أمريكا للأمريكيين وقد أفادت هذه الشريعة الجمهورية الأمريكية فوائد عظيمة. وكان منرو أحد المتصفين بالغيرة والمروءة والشهامة وخدمة الدولة والأمة خدمة صادقة. وخلف مونرو يوحنا كونيكي أدامس وهو الرئيس السادس. ولد في شهر تموز عام 1767 وقضى نحبه في 23كانون الثاني عام 1848 وكان من أقدر رجال الجمهورية في السياسة الخارجية والداخلية. تولى نظارة الداخلية في عهد الرئيس مونرو وانتخب رئيساً للبلاد في 4 إذار عام 1825 م وبعد أن أكمل مدته عين نائباً لولاية ماسشوست في واشنطن العاصمة وقام بعد يوحنا أدامس أندرا وس جاكسن وهو الرئيس السابع. ولد في أكسم من أعمال ساتلمنت في 5 إذار عام 1767 م ورأس البلاد مرتين وكان ديمقراطياً وخلف جكسن مارتن بيورن وهو الرئيس الثامن ولد في كندر هوك من أعمال نيويورك ونائباً للرئيس جكسن 4 سنوات وفي 4 إذار عام 1837 انتخبه الحزب الديمقراطي رئيساً للبلاد وكانت مدته أربعة أعوام. وقام وليم هنري هرسن وهو الرئيس التاسع والبطل الشهير. ولد في بيركلي من أعمال فرجينيا سنة 1773 م وانتخب للرئاسة في 4 إذار عام 1841 م وكانت مدته شهراً وأحداً وذلك بسبب وفاته. وأقيم بعده يوحنا تيلر وهو الرئيس العاشر. ولد في مدينة تشارلس من أعمال فرجينيا في 29 إذار عام 1790 وتوفي في 17 كانون الثاني عام 1862 م وانتخب للرئاسة في 4

نيسان سنو1837 وكانت مدته أربع سنوات إلا ثلاثين يوماً. وخلف الرئيس تيلر نوكس بولك. ولد في وكرولينا الشمالية عام 1795 م ومات في تانسي عام 1849 م. وتولى رئاسة البلاد في 4 إذار عام 1845 م وكانت مدته أربعة أعوام وهو الرئيس الحادي عشر للبلاد. وقام بعد بولك زكريا تيلر. ولد في 24 تشرين الثاني عام 1784 م وقضى نحبه في 9 تموز وتولى كرسي الرئاسة في 4 إذار عام 1849 م وكانت مدته أربعة شهور وأربعة أيام. ومما يذكر عنه إنه كان محبباً إلى النفوس وذا شهرة عظيمة حازها بدربته وحنكته وبسالته التي أبداها أيام كان قائد العام في حزب الولايات المتحدة مع المكسيك وهو الرئيس الثاني عشر. وظهر بعد تيلر ميلا رد فيليور وهو الرئيس الثالث عشر. ولد في كيفونيورك في 7 كانون الثاني عام 1800 م ومات في 8 إذار في بفلو نيورك. وانتخب للرئاسة في 8 أيار سنة 1804 م وكانت مدته ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر و37 يوماً وخلف فيلمور فرنكلن بايري وهو الرئيس الرابع عشر. ولد في 23 تشرين الثاني عام 1804 وقضى نحبه في 8 تشرين الأول في نيوهمشير عام 1769 م وانتخب رئيساً للبلاد في إذار سنة 1853 م وكانت مدته أربع سنوات. وفي أثناء رئاسته فتحت أبواب التجارة للولايات المتحدة في مملكة اليابان وكان بايري ديمقراطياً. وقام بعد الرئيس بايري جيمس بوتشانن رئيساً للولايات وهو الرئيس الخامس ولد في 12 نيسان عام 1791 م في بلدة الرئيس فرنكلن من أعمال بنسلفإنيا. وتوفي في أول حزيرأن سنة 1862 م كان الرئيس بوتشانن قبل أن يتولى رئاسة البلاد ناظر الداخلية في عهد الرئاسة بولك وانتخب رئيساً للبلاد في 4 إذار عام 1857م وكانت مدته أربع سنوات وكان ديمقراطياً أما إبرأهيملنكن فقد ولد في 12 شباط سنة 1809 م في ولاية كنتكي وقتل في 15 نيسأن سنة1865 م وذلك في أول عهد رئاسته للمدة الثانية وانتخب رئيساً للولايات في 4 إذار عام 1861 م وكانت مدته أربع سنوات و42 يوماً وهو الرئيس السادس عشر المشهور بفضائله والمحبوب جداً من شعبه. وتحتفل الأمة الأميركية في مولده سنوياً اعتباراً لخدمه

الجليلة في سبيل الإنسانية والوطنية وتقديراً لمقامه السامي في قلوب الأمريكيين خصوصاً وعالم الحضر عموماً. والرئيس السابع عشر هو أنداوس جانسن. ولد في وكرولينا الشمالية عام 1808 م ومات في 31 تموز عام 1875 وتولى الرئاسة في 15 نيسأن سنة 1865 وكانت مدته ثلاثة أعوام وعشرة أشهر و15 يوماً. والرئيس الثامن عشر يوليس غرانت. ولد في ولاية أهايو في 17 نيسان 1885 تولى الرئاسة في 4 إذار عام 1869 وكانت مدته ثماني سنوات. والرئيس التاسع عشر هو أرتر فورد هايس. ولد في أهايو عام 1817 وكان من إشراف البلاد وأكابر أغنيائها. رأس البلاد في 5 إذار عام 1877 وذلك بعد أن تقلب في وظائف سامية كثيرة وكانت مدته 4 أعوام. والرئيس العشرون هو جيمس غارفيلد. ولد في 19 تشرين الثاني عام 1831 في كويهفو أهايو وأطلق عليه الرصاص في 2 تموز عام 1881 ومات من جراء ذلك في 19 أيلول عام 1881 م وتولى الرئاسة في 4 إذار عام 1881 وكانت مدته خمسة أشهر. والرئيس الحادي والعشرون هو تشتر أرثور. ولد في فرنكلين من أعمال فرمونت في 5 تشرين الأول سنة 1830 وحاز شهادة محام سنة 1850 ثم انتخب نائياً للرئاسة عام 1880 ثم تولاها في 1881 بداعي اغتيال الرئيس غارفيلد وكانت مدته ثلاثة أعوام و7 أشهر إلا يومين. والرئيس الثاني والعشرون هو غرو فيلد كليفلنلد. ولد في كالداوي من أعمال نيوجرسي في إذار عام 1837 وبعد أنتعلم قبل في مجمع العلماء في نيويورك ثم درس الشريعة في بفلونيورد عام 1855 ونال الشهادة عام 1859 م ثم نصب مدعياً لبفلو عام 1863 م ثم مأموراً للأحكام عام 1869 نم ثم حاكماً على مدينة بفلو عام 1871 وسنة 1883 أقيم حاكماً على مدينة نيويورك وسنة 1884 م انتخب رئيساً للولايات وكانت مدته 4 أعوام وكان ديمقراطياً. والرئيس الثالث والعشرون هو هاريسن وكانت مدته من سنة 1888 إلى سنة 1892 والرابع والعشرون هو كليفلند المتقدم الذكر وكانت مدته من سنة 1892 م إلى سنة 1896

والخامس والعشرون هو مكنلي وكانت مدته من سنة 1806 إلى سنة 1901 م والسادس والعشرون هو تيودور روزفلت الرئيس الحالي. ما برحت الولايات المتحدة بعد استقلالها في حاجة ماسة لإلى من يعمر ديارها ويحرث أرضيها ويستغل خيراتها ويستخرج معادنها ويساعدها على تنظيم مدينتها وتوسيع نطاق عمرانها وترقبها في مراقي الارتقاء ففتحت حكوماتها أبواب المهاجرة لجميع الأمم على اختلاف هيئاتها ولغاتها فوافاها الأوروبي من إنكلترا وجرمانيا والنمسا وإيطاليا وروسيا وأسوج ونروج واليونان وبرتغال وسويسرا وهولندا والبلجيك والآسيوي من الصين واليابان والهند والبلاد العثمانية وجاءها الأفريقي من ديار النيل ومراكش والسودان. ومما يلي يعلم القارئ نمو سكان الولايات المتحدة وعمرانها الغربيين. عدد سكان الولايات المتحدة عام 1790 3929214 1800 5308483 18107239881 1820 9638453 1830 12866020 1840 17069453 1850 23191876 1860 31443321 1870 38558371 1880 50155783 1890 52622250 1900 75994575 1907 أما عدد الولايات المتحدة فكأن سنة1789 م ثلاث عشرة ولاية واليوم صارت 48 ولاية. وتقع سبع عشرة ولاية في الجهة الشرقية على الأوقيانس الاتلانتيكي وهي نيويورك

ونيوجرسي ونيو همشير ورود ايلندا وماين وبنسلفإنيا وكولومبيا وكنتكت ومر مونت ومسشوست ومريلا ند وفرجينيا وكرولينا الشمالية والجنوبية وجيورجيا ودولار. وخمس ولايات تقع على بحر المكسيك وهي تكساس ولويزيانا ومسيسي والأباما وفلوريدا وسبع عشرة ولاية تقع في وسط البلاد وهي ايلنيين ومشغن وويسكنس وأهايو وأيوي ونبرا سكا وميسوري وأكوتا الشمالية والجنوبية وكنس وأركسنس وكنتكي وتنسي ومينسوتا وفرجينا الغربية. وإحدى عشرة ولاية غربية تقع على الأوقيانس الباسيفيكي وهي كاليفورنيا وأور يكون ونيفادا زبوتاه ومونتانا وأيد هو وواشنطن وكولور يدو ونيو مكسيكو وارزونا وأويوما. ولا يزال باب المهاجرة إلى الولايات المتحدة مفتوحاً لجميع الشعوب ما خلا الصينيين فإن حكومة الولايات سنت شريعة لمنع دخولهم إلى بلادهم سنة 1884 م. وفي 28 شباط سنة 1907 صادق المجلس التشريعي في ولاية كاليفورنيا على لائحة تمنع الأجنبي من التملك في تلك الولاية. هذا إذا لم يكن متجنساً بالجنسية الأمريكية. وغاية المجلس القصوى منع اليابانيين والصينيين من دخول كاليفورنيا والتملك فيها فهم لا يستطيعون التجنس بالجنسية الأمريكية. ويظهر من تشديد العم سام على المهاجرين في هذا العهد الأخير أنه لا بد من إيصاد باب المهاجرة في وجه الأسيويين أن لم يكن عاجلاً فآجلاً. ودعوى حكومة العم سام أن الشعب الأسيويين سواء كان من الصين أم اليابان أم الدولة العلية فهو لا ينفع البلاد. فما يرمي إليه الأسيوي هو جمع المال وإنفاذه إلى وطنه خل عنك أنه ربما ضاقت الولايات على رحبها بأهإليها بعد مضي قرن. ومن جدول عدد سكان الولايات الآنف يتبين أن زيادة السكان بلغت في مدة 117 سنة نحو اثنين وثمانين مليوناً من النفوس فإذا استمرت الزيادة على هذا المعدل فلا شك أن حكومة واشنطن تضطر إلى إقفال باب الهجرة وربما قفلته فبل انقضاء تلك المدة. مما تقدم يعلم المطالع أن النصر كان حليف الولايات المتحدة في الخمس حروب التي ذكرتها وأن نمو السكان والعمران كان اليفها وأنها أي الولايات صارت في مدة 32 سنة في طليعة الممالك المتمدنة بالقوة والسطوة والجاه والثروة بل أن المدينة والحضارة والعمران وهذا لعمري من بعض الأدلة على نشاط الشعب الأمريكي واتحاده وارتقاء شخصيات

أفراده وعلى بذله ومروءته وشهامته وغيرته وصدق وطنيته وعلى سهر حكوماته على مصلحة البلاد والأنام وقيامها بواجباتها نحو أمتها ووطنها خير قيام. فإنعم بكل أمة تحذو حذو الأمة الأمريكية وتقفو أثر مصلحيها العظام ورؤسائها الكرام وأنعم بكل دولة تسهر على مصلحة رعاياها وتبذل ما في وسعها لإسعادها وأنهاضها. وما أحرى الشعوب الأسيوية المنحطة أن تقتدي بنهضة الأمة الأميركية وتنهض بذلك الشرق الهازل النازل فتخلد لملوكها وحكايات طيب الذكر ولبلادها ولها الشكر والفخر. أوماها نبرا سكاالولايات المتحدة يوسف جرجس زخم

الكنى والألقاب

الكنى والألقاب رأيت بحثاً في الكنى والألقاب لأحد قراء المقتبس ذكر فيه القاعدة المصطلح عليها في الكنى كقولهم أبو اسحق لمن أسمه إبرأهيموأبو إبرأهيملمن اسمه إسماعيل وأبو داود لمن اسمه سليمان وأبو محمد لمن اسمه عبد الله وأبو العباس لمن اسمه أحمد وهلم جرا وذكر أيضاً شغف العرب بالكنى وضعها إياها للطير والوحش بل للجماد والمعاني مثل قولهم أبو الحصين للثعلب وأبو الطاهر للبرغوث وأبو صابر للحمار وقولهم من باب المعاني للهرم أبو مالك وللفقر أبو عمرة إلى ما أخر ما ورد في ذلك البحث. ولما كان يحمل بالبحث الجميل أن يحيط بأطراف الموضوع بحيث لا يترك منه شاردة ولا تهمل فيه فائدة فقد قصدت أن أضم إليه اصطلاح أهالي جبل لبنان بل وأكثر البلاد التي تجاوره في أمر الكنى فإنه قد يختلف عن الاصطلاح الأول فإنهم يقولون هكذا: أبو ملحم لمن اسمه إبرأهيموقد يقولون له أبو خليل وأبو داود لمن اسمه ملحم وأبو سليمأن لمن اسمه داود وأبو علي لمن اسمه سليمان وقد يقال أبو محمد وأبو شاهين لمن اسمه محمد وقد يقال أبو سليمان ويقال أبو قاسم وأبو علم الدين لمن اسمه قاسم وأبو حسين لمن اسمه علي ويقال أيضاً أبو خطار وأبو نجم لمن اسمه خطار وأبو نجم لمن اسمه خطار وأبو أحمد لمن اسمه شاهين وأبو محمد لمن اسمه إسماعيل وأبو يوسف لمن اسمه أمين وأبو علي لمن اسمه أحمد وأبو عباس لمن اسمه حسين هذا أشهر كناة وقد يقال أبو قاسم لمن اسمه مصطفى وأبو مرعي لمن اسمه حسن وأبو حسن لمن اسمه عبد الله ويقال أيضاً أبو زين الدين وأبو حسين لمن اسمه يوسف ولمن اسمه محمود أيضاً وأما الأسماء المضافة إلى الدين مثل نصر الدين وزين الدين وبدر الدين فأكثرها أبو محمد ومنها يكنى بأبي يوسف مثل عز الدين وعلم الدين وبأبي داود مثل حسام الدين. ويقولون أيضاً أبو ناصيف الياس وأبو عساف جرجس وأبو شبل ناصيف وأبو قبلان أسعد وأبو منصور وغير ذلك. ومن كنأهم للوحش أبو فارس للنمر. ومن الكنى الجمادية ما ينسب إلى قرية عين دارة وهو قولهم أبو حسن طقطق وللتين المطبوخ بالدبس وأبو نجم الدين محني ذقنه. وللإبريق أبو يوسف علم الدين ولذلك قالوا إذا حضر أبو نجم الدين محني ذقنه قام يرقص أبو يوسف علم الدين أي إذا حضر التين المطبوخ بالدبس فلا بد من دورأن الإبريق للشرب وهذا يحاكي اصطلاح القدماء الذي ذكره كاتب بحث الكنى والألقاب من جهة تكنية الجوامد.

ومما أهمله مكاتبكم من الكنى الحيوانية أبو حجأدب للحرباء وأبو الحسل وأبو السيل للضب وأبو عسلة وأبو مذقة للذئب وأبو سليمأن لضرب من الجعلان وأبو الأبد للنسر وأبو روح للهدهد وأبو الأخذ للباشق وأبو الأخطل للبرذون وأبو الأشعب للبازي وأبو الأشيم وأبو حسأن للعقاب وأبو ثقل للضبع وأبو جاعرة للغداف من الغربان وأبو حكيم للذئاب ومثله أبو جعفر وأبو برائل للديك وأبو زيد للعقعق وأبو الجراح وأبو حذر للغراب ومثلهما أبو زاجر وأبو جهينة للدب وأبو الجيش للشاهين وأبو حاتم للكلب ومثله أبو خالد أبو دغفل للفيل وأبو الحسن للطاووس وأبو الحسين للغزال وأبو رأشد للقرد وأبو زرعه للخنزير وأبو العرمض للجاموس وأبو عكرمة للحمام وأبو النعيم للكركي وأبو يعقوب للعصفور وأبو زفير للإوز وأبو زياد للحمار مثل أبو صابر وأبو طالب الفرس مثل أبو شجاع وغير ذلك. ومن المعاني أبو مالك للسغب وأبو دراس وأبو جابر للخبز ويقال له أيضاً تسمية بدون تكنية جابر بن حبة وأبو عاصم للسويق وأبو الأبيض للبن وكما كثرت أسماء الأسد فقد كثرت كناه فيقال له عدا أبا الحارث أبو الأبطال وأبو الأخياش وأبو شبل وأبو الوليد وأبو ليث وأبو العباس وأبو النحس وأبو رزاح وأبو حفص وأبو الوليد وأبو الهيصم وأبو محراب وأبو التأمور وأبو الحذر وأبو محطم وللنمر جملة كنى منها أبو خلعة وأبو الخطاب وأبو جهل وأبو رقاش وأبو الأسود وأبو الأبرد. ولا ندخل الأن الأمهات والأبناء والبنات والأخوة والأخوات والأذواء والذوات فإنه يطول بذلك الشرح وإنما نقول على وجه الإجمال أن اتساع هذا الباب في اللغة العربية هو من جملة الدلائل على ثروة اللغة وفخامتها وبلاغة عباراتها وأن الكنى خصوصاً ما أطلق على الجمادات والمجردات مما يدل على شدة تخيل الناطقين بها وإنزالهم الصامت منزلة الناطق وتجسيمهم المجرد إلى حد أن يتمثل ولا يخفى أن أبلغ البلاغة هو ما قوى لك الخيال ومثل لك صورة المعنى حتى كانك تراها بالعين وتلمسها بالكف فالبليغ إذا أجزل خيل لك المعنى جسماً وإذا أراد الرقة هلهل لديك المادة حتى حسبتها هباء أو ظننتها وهماً وأن إطلاق الكنى في الجوامد والمعاني وإجراءها مجرى ما به الحياة لما يجسم المعاني ويحرك الجوامد عند من كان يشعر بالبلاغة.

سوء المنقلب

سوء المنقلب بغداد حسبك رقدة وثبات ... أو ما تمضك هذه النكبات ولعت بك الأحداث حتى أصبحت ... أدواء خطبك ما لهن أساة قلب الزمان اليك ظهر مجنه ... أفكان عندك للزمان ترات ومن العجائب أن يمسك ضره ... من حيث ينفع لو رعتك رعاة إذ من ديالة والفرات ودجلة ... أمست تحل بأهلك الكربات أن الحياة لفي ثلاثة أنهر ... تجري وأرضك حولهن موات قد ضل أهلك رشدهم وهل اهتدى ... قوم أجأهلهم هم السر وات قوم أضاعوا مجدهم وتفرقوا ... فترأهم جمعاً وهم أشتات لقد استهانوا العيش حتى أهملوا ... سعياً مغبة تركة الأعنات يا صابرين على الأمور تسومهم ... خسفاً على حين الرجال أباة لا تهملوا الضرر اليسير فإنه ... أن دام ضاقت دونه الفلوات فالنار تلهب من سقوط شرارة ... والماء تجمع سيله القطرات لا تستنيموا للزمان توكلاً ... فالدهر نزاء له وثبات فإلى متى تستهلكون حياتكم ... فوضى وفيكم غفلة وأناة تالله أن أفعالكم بخلافه ... نزل الكتاب وجاءت الآيات أفتزعمون بأن ترك السعي في ... هذي الحياة توكل وتقاة إن صح نقلكم بذاك فبينوا ... أو قام عندكم الدليل فهاتوا لم تلق عندكم الحياة كرامة ... في حالة فكانكم أموات شقيت بكم لما شقيتم أرضكم ... فلها بكم ولكم بها غمرات وجهلتم النهج السوي إلى العلى ... فترادفت منكم بها العثرات بالعلم تنتظم البلاد فإنه ... لرقي كل مدينة مرقاة أن البلاد إذا تخال أهلها ... كانت منافعها هي الآفات تلك الرصافة والمياه تجفها ... والكرخ قد ماجت به الأزمات سالت مياه الواديين جوارفاً ... فطفحن والأسداد مؤتكلات فتهاجم الماآن من ضفتيهما ... فتناطحا وتوالت الهجمات

حتى إذا اتصل الفرات بدجلة ... وتساوت الوهدات والربوات زحفت جيوش السيل حتى أصبحت ... بالكرخ نازلة لها ضوضاء فسقت بيوت الكرخ شر مقيئ ... منها فقاءت أهلها الأبيات واستنفعت منها المياه فطحلبت ... بالمكث ترغو تحتها الحمآت حتى استحال الكرخ مشهدا بؤس ... تبكي به الفتيان والفتيات طرقاته مسدودة ودياره ... مهدودة وعرا صه قذرات ياكرخ عز على المروءة أنه ... لجج المياه عليك مزحمات فلئن أماتتك السيول فإنما ... أمواجهن عليك ملتطمات من مبلغ المنصور عن بغداده ... خبراً تفيض لمثله العبرات أمست تناديه وتندب أربعاً ... طمست رسوم جمالها الهبوات وتقول يالأبي الخلائف لو ترى ... أركان مجدي وهي منهدمات لغدوت تنكرني وتبرح قائلا ... بتعجب ما هذه الحربات أين البروج بنيتهن مشيدةً ... أين القصور علت بها الشرفات أين الجنان بحيث تجري تحته ... االأنهار يانعة بها الثمرات أترى أبو الأمناء يعلم بعده ... بغداد كيف تروعها النكبات يا دجلة يا للرزية دجلة ... بعد الرشيد ولا الفرات فرات كان الفرات يمد دجلة ماؤه ... بجدأول تسقي بها الجنات إذ بين دجلة والفرات مصانع ... تفتر عن شتب السنوات يا نهر عيسى أين منك موارد ... عذبت وأين رياضك الخضلات ماذا دهى نهر الرفيل من البل ... حيث المجاري منه مندرسات إذا قصر عيسى كان عنده مصبه ... وعليه منه أطلت الغرفات أم أين بركة زلزل وزلزاله ... االسلسال تسرح حوله الظبيات يا نهر طابق لا عدمتك منهلاً ... أين الصراة تحفها الروضات أم أين كرخايا تمد مياهه ... نهر الدجاج فتكثر الغلات أم أين نهر الملك حيث تسلسلت ... فيه المياه وهن مطردات

قد كان تزدرع الحبوب بأرضه ... فتسح فيه بفيضها البركات أم أين بطا طيا تأتيه من ... نهر الدجيل مياهه المجراة وله فروع أصلهن لشار ... ع الكبش المجاري منه منتهيات تنمو الزروع بسقيه فغلاله ... كل العراق ببعضها يقتات لهفي على نهر المعلى إذ غدت ... لا تستبين جنانه النضرات نهر هو الفردوس تدخل منه في ... قصر الخلافة شعبة وقناة كالسيف منصلتاً تضاحك وجه ... هـ الأنوار وهي عليه ملتمعات إذ نهر بين عند كلواذى به ... ملد الغصون تهزها النسمات وبقربه من نهر بوق دارة ... تنفي الهموم مروجها الخضرات يا قصر باب التبر كنت مقرناً ... والنفي يصدر منك والإثبات أيام تطلعك العدالة شمسها ... وترف فوقك للهدى رايات أيام تنشدك العلوم نشيدها ... فتعود منك على العلوم صلات أيام تقصدك الأفاضل بالرجا ... فتفيض منك لهم جداً وهبات أيام يأتيك الشكي بأمره ... فيروح عنك وما لديه شكاة تمضي الشهور عليك وهي أنيسة ... وتمر باسمة بك الساعات ماذا دهاك من الهوأن فأصبحت ... أثار عزك وهي منطمسات قد ضيعت بغداد سابق عزها ... وغدت تجيش بصدرها الحسرات كم قد سقاها السيل من أنهارها ... ضراً وهن منافع وحياة واليوم قلت بجانبيها أرخوا ... دفق السيول فماجت الأزمات بغداد معروف الرصافي

اليونان

اليونان أثينة الشعب الأثيني اتيكيا - فاخر الأثينيون لسكنأهم أبداً بلاداً واحدة وأدعى أجدادهم أنهم ولدوا من الرمل كالزيزان. وقد اجتاز الفاتحون من سكان الجبال بالقرب من بلادهم ولم يهاجموها وقلما دعتهم اتيكيا إلى قتالها. هذه المقاطعة مؤلفة من جبال شاهقة صخرية ناتئة في البحر على شكل مثلث الأضلاع. وهذه الصخور المشهورة بقطع رخامها وبعسل نحلها جرداء مرداء بينها وبين البحر ثلاثة سهول صغيرة قاحلة لا تروى (الجفاف سواقيها في الصيف) ولا تقوم بتغذية أمة كبيرة. أثينة - على فرسخ من البحر في أعظم تلك السهول قامت صخرة عظيمة وحيدة منتصبة وقد أنشئت أثينة في سفحها. أما المدينة القديمة التي كانت تدعى الأكروبول (المدينة الغالية) فإنها كانت في قمة الجبل. وقد أخذ سكان اتيكيا يتفرقون إلى ممالك عديدة فكانت كل قرية تحكم نفسها بنفسها ولها ملك فجمع جميعها تحت زعامته وهو ملك أثينة فيتألفون بذلك مدينة واحدة وليس معنى ذلك أنهم كلهم يحطون رحالهم في المدينة. بل يظل كل معبودة أثينة وخضعوا بأجمعهم لملك واحد. ثورات أثينة - قد رجعت أثينة فنزعت السلطة الملكية واستعاضت عنها بتسعة زعماء (أركون) يتبدلون كل عام. وأنا لنجهل هذا التاريخ كل الجهل إذ لم يبلغنا عن ذاك الوقت أقل كتابة نستند إليها. ويروى أن الأثينيين عاشوا قروناً في شقاق يضطهد إشراف أصحاب الأملاك (أوبا تريد) العملة من أصحاب المياومات في أرضيهم وببيع الدائنون مدينيهم بيع الأرقاء. ولقد عهد الأثينيون حباً بتوطيد الراحة إلى صولون أحد حكمائهم أن يسن لهم قوانين يسيرون عليها فقام بثلاث إصلاحات: أولاً تقليل قيمة السكة وهو مما سهل على المدينون أن يوفوا ما عليهم من أهون سبب. ثانياً جعل الفلاحين ملاكاً للأراضي التي يزرعونها ومن ذاك الحين صار في اتيكيا كثير من صغار أصحاب الأملاك مما لم يعهد مثله في بلاد يونانية. ثالثاً قسم السكان العامة إلى أربع طبقات يحسب مداخليهم وقضى على كل منهم أن يؤدي الضرائب ويقوم بالخدمة العسكرية على نسبة ثروته. أما الفقراء

فأعفأهم من الضرائب والخدمة. ولقد خضع الأثينيون بعد صولون إلى بيزيستراس أحد أبنائهم العالمين العارفين ثم بدأ الاضطراب سنة510 إصلاح كليستين - استفاد كليستين أحد زعماء الأحزاب من هذه الاضطرابات فقام بثورة عظيمة. ولقد سكن كثير من الغرباء في اتيكيا وكان معظمهم ملاحين وتجاراً يقطنون مدينة بيرا بالقرب من المرفأ. فأعطأهم كليستين حقوق الوطنيين وساوأهم بالسكان الأقدمين فصار من ثم في تلك المقاطعة شعبان مختلفإن سكان اتيكيا وسكان بيرا وكانا يتميزان إحداهما عن الآخر بعد ثلاثة قرون من هذا الاختلاط باختلاف سحناتهم فيشبه أهل اتيكيا سائر اليونانيين ويشبه أهل بيرا الأسيويين. وهكذا زاد الشعب الأثيني فأصبح أمة جديدة ومن أكثر سكان بلاد اليونان حركة ونشاطاً حتى إذا كان القرن الخامس تألفت الهيئة الاجتماعية في أثينة تأليفها الأخير فكان ثلاث طبقات يقطنون اتيكيا ألا وهم الموالي والأجانب والوطنيون. الموالي - الموالي هم السواد الأعظم من أهل البلاد فلم يكن ثمة رجل مهما بلغ من الفقر المدقع إلا ويملك مولى أما الأغنياء فيملكون منهم كتيبة وملك بعضهم نحو خمسمائة مولى وكان من شأن هؤلاء الموالي أن يبقوا في الدور وشغلهم في الطحن والعجن وحياكة الثياب ونسجها وطبخ الطعام وخدمة سادتهم. ويعمل بعضهم في المعامل حدادين وصباغين أو يشتغلون في المقالع والمناجم الفضية. ويقوم سيدهم بأودهم ولكنه يبيع لنفسه كل ما تنتجه أيديهم ويأتي ثمرة أعمالهم ولا يعطيهم من جميع ذلك إلا الطعام. فكان عامة الخدمة والعاملين في المناجم ومعظم الصناع عبيداً وأرقاء. يعيشون في المجتمع دون أن يعدوا منه بل لا يتصرفون بأنفسهم وهم ملك موإليهم جسماً ومادةً. ولم يعتبروا إلا اعتبار عروض تملك وربما دعوهم أجساداً وليس لهم من شريعة غير أرادة سيدهم. ولسيدهم عليهم كل حق وسيطرة فإن شاء شغلهم وإن شاء حبسهم وإن شاء حرمهم من طعامهم وإن شاء ضربهم وإذا نشأت لأحد الوطنيين قضية يتأتى لخصمه أن يطلب تعذيب موإليه ليقروا بما يعملون. وقد امتدح عدة خطباء أثينيين هذه العادة وعدوها ضرباً من ضروب الحذق لأخذ شهادة صحيحة. قال الخطيب ايزيه أن التعذيب أحسن واسطة لنيل البراهين إلى كشف القناع عن محيا الحقيقة بجعل العبدان في العذاب الشديد.

الأجانب - هم ناس من أصول مختلفة يقيمون في اتيكيا وهم الذين يدعون الميتيكيين (أي المتساكنين) ولم يكف الرجل كما هو الحال عندنا أن يولد في أرض أثينة ليعد وطنياً بل يجب أن يكون ابن وطني. وعبثاً استوطن الطراء في اتيكيا أجيالاً كثيرة وما عدت قط أسراتهم أثينية. فالميتيكيون والحالة هذه لم يكن لهم أن يشتركوا في الحكومة ولا أن يتزوجوا وطنية ولا أن يقتنوا ملكاً على حين كانوا أحراراً في أشخاصهم ولهم حق السفر في البحر وأن يكونوا صيارف وتجاراً على شرط أن يتخذوا لهم زعيماً ومولى يمثلهم أمام القضاء. وكان في أثينة زهاء عشرة آلاف أسرة من الميتيكيين ومعظمهم صيارف وتجار. الوطنيون - اقتضت الحال أن يكون الإنسان ابن وطني أو وطنية ليكون وطنياً أثينياً ومتى بلغ الفتى الثامنة عشرة من عمره يعد عندهم رأشداً فيقف أمام جموع الشعب ويدفع إليه السلاح الذي يقضي عليه حمله ويقسم يميناً فيقول: أقسم أنني لا أهين هذا السلاح المقدس ولا أغادر موقفي في صفوف الأعداء وأن أخضع للحكام والقوانين وأشرف دين وطني. فيكون بهذا الحلف وطنياً وجندياً معاً ويقضي عليه بعد أن يخدم الجندية إلى سن الستين وله لقاء ذلك حق الجلوس في مجلس الأمة والقيام بوظائف الحكومة وربما رضي الشعب الأثيني بجعل رجل وطنياً على حين ليس هو ابن وطني ولكنه يرضى بذلك على صفة استثنائية وتوسعاً في المكرمة العظيمة. فيوأفق المجلس على قبول الغريب وينبغي أن ينتخبه على الأقل ستة آلاف وطني بعد تسعة أيام من هذا الاقتراع وفي جلسة ثانية وذلك في انتخاب سري. والشعب الأثيني هو كدائرة مطبقة لا يدخل فيه أعضاء جدد إلا إذا رضي الأعضاء القدماء على أنهم لا يقبلون غير أبنائهم. المجلس - يلقب الأثينيون حكومتهم بالحكومة الديمقراطية (أي حكومة الشغب) وليس هذا الشعب ما نعني به عندنا من جمهور السكان بل هو جماعة الوطنيين وخلصاء الإشراف وعددهم بين خمسة آلاف إلى عشرون ألف رجل وهم زعماء الأمة بأسرها. ولهؤلاء الجماعة سلطة مطلقة وكلمة عليا وهم في التحقيق ملوك أثينة فإن مجلسهم يلتئم ثلاث مرات في الشهر للمفاوضة والاقتراع. يجتمعون في الهواء الطلق في ساحة البينكس فيجلس الوطنيون على مقاعد من حجر ذات درجات ويقعد الحكام بإزائهم على مصطبة ويفتحون الجلسة باحتفال ديني وصلاة يصلونها ثم يعلن المنادي بصوت جهوري بالمسألة

التي يتناقش فيها المجلس قائلاً من منكم يشرع بالكلام أولاً. ولكل وطني الحق أن يطلب ذلك. وعندها يصعد الخطباء المنبر بحسب تفاوت أعمارهم ومتى تكلموا كافة يضع الرئيس المسألة المطلوبة على بساط البحث فيقترع المجلس بأن يرفع أعضاؤه أيديهم ثم ينصرفون. المحاكم - لما كان الشعب حاكماً فهو يقضي في القضايا لذاته وبذاته ولكل وطني بلغ الثلاثين من عمره أن يكون من أعضاء مجلس فيجتمع الحكام في القاعات الكبرى فرقاً كل فرقة مؤلفة من خمسمائة نسوة. وفي كثير من القضايا يلتئم فرقتان أو ثلاث فرق من الحكام فتتألف المحكمة من جمهور يبلغون ألفاً أو الفاً وخمسمائة قاض ولم يكن للأثينيين حكام كما هو الحال عندنا لرفع القضايا بل كانت هذه المهمة من وظيفة الوطني الذي يعهد إليه تجريم المجرمين. فيمتثل المدعي والمدعى عليه أمام المحكمة ويخطب كل منهما خطبة تزيد على وقت حدد بساعة دقاقة مائية. ثم يبدأ القضاة بالموافقة على وضع حصاة بيضاء أو سوداء فإذا توفر للمدعي بضعة آراء (أصوات) زيادة على خصمه يحكم عليه ويجرم. الحكام - كان الشعب الحاكم في حاجة إلى مجلس لوضع المسائل موضعها من البحث وإلى حكام ينفذون ما يقرره ويتألف المجلس من خمسمائة وطني تصيبهم القرعة حولاً كاملاً. وإذا كثر عدد الحكام خص عشرة منهم لتعبئة الجيش وقيادته وثلاثون لإدارة الشؤون المالية وستون منهم يعهد إليهم خطة الحسبة من النظر في الشوارع ونظافتها والأسواق وبياعاتها والأوزان والقياسات وما يتبعها. متعة هذه الحكومة - لم تكن السلطة في أثينة في أيدي الأغنياء والشرفاء كما كانت في إسبارطة بل كانت تقرر كل مسألة بأكثرية الآراء وتتعادل الآراء فيجري انتخاب الحكام وأعضاء المجلس والعمال بالقرعة. إلا القواد فإنهم لا ينتخبون كذلك. والوطنيون يتساوون لا من حيث الأمور النظرية بل من حيث الأمور العملية. ولقد قال الحكيم سقراط لأحد أهالي أثينة المنورين وكان لا يجرأ على الكلام أمام الشعب يا هذا ممن تخاف؟ أمن القصارين أم من السكافين أو من المعمارين أو الحرأثين أم من السوقة والمرتزقين فمن هاته الطبقات يتألف المجلس وكثيرون من هؤلاء الحكام مضطرون إلى الاحتراف ليعيشوا ولم يكن في وسعهم أن يخدموا الحكومة بالمجان ولذلك عينت لهم مشاهرات وأجوراً

سانتيماً من سكنتا وهو القدر الذي يتأتى لرجل أن يعيشوا به ذاك العصر. من أجل هذا العصر الأعضاء الفقراء في هذه المجالس وجلسوا على دكات المحاكم مع الأغنياء كتفاً إلى كتف ووجهاً إلى وجه. الفوضويون من الشعب_لما كانت تفصل المسائل برمتها في المجلس أو المحاكم بالمناقشة فيها وإلقاء الخطب في مضامينها كان فصحاء القوم هم أرباب المكانة المكينة في الأمة. فاعتادت هذه أن تسمع لأصوات الخطباء وأن تعمل بنصائحهم وتعهد إليهم في السفارات وأن تعينهم قواداً وزعماء. ويدعى هؤلاء الرجال الفوضويينأو زعماء العصاة. أما حزب الأغنياء فيضحك منهم. وقد مثل أريستوفإن الشعب في إحدى الروايات الهزلية في صورة شيخ سخيف فقال: أنت غبي تصدق كل ما تسمع تستسلم لأهل النفاق والدسائس يتلاعبون بك على هوأهم وتغتبط بالسعادة متى خطبوا فيك. وقال أحدهم خطاباً لا حد نزاع الآفاق. أنت يا هذا شقي فظ غليظ وصوتك شديد وفي بلاغتك من القحة وفي حركاتك من السرعة ما يؤهلك على ما رأى إلى كل ما يلزمك لحكم أثينة. الحياة المنزلية اخترع الأثينيون وظائف كثيرة عهد القيام بها إلى فئتين من الوطنيين. فكان الوطني الأثيني كالموظف والجندي في أيامنا مهتماً بالانصراف إلى الأعمال العامة يصرف أيام حياته في إشهار الحرب والحكم على الشعب يقضي أيامه في المجلس أو في المحكمة أو في الجيش وفي محال الرياضة أو في السوق وكان له أبداً امرأة وأولاد لأن الدين يأمره بذلك ولكنه ما كان يعيش البيوت. الأولاد_يحق للوالد عندما يولد له مولود أن يطرحه ويطرده خارج بيته فيموت طريحاً إذا لم يلتقطه أحد أبناء السبيل ويربيه ليجعله مولى له. وأنت ترى أن أثينة اتبعت في هذا خطة جماع الشعوب اليونانية. والبنات كن ينبذن في العراء ويطرحن خارج المنازل أكثر من البنين قال أحد الخطباء الهزليين أن الابن يربى في الغالب ولو كان ذووه في أقصى دركات الفاقة أما الابنة فتهمل ولو كان أهلها من الغنى على جانب. فإن قبل الوالد الولد يعد من الأسرة ويترك أولاً في مساكن النساء بالقرب من الأم حيث يظل البنات إلى أن يتزوجن أما البنين فينفصلون عن تلك البيوت في السابعة من عمرهم فيسلم الطفل الأثيني

إلى المربي الذي يعهد إليه تعليمه وتحسين هيئته والخضوع والطاعة وكثيراً ما يكون المعلم من طبقة الموالي إلا أن والد الطفل جعله في حل من ضرب ابنه. وهذه كانت عادة عامة في القدم. ثم يذهب الولد إلى الكتاب يتعلم القراءة والكتابة والحساب وإنشاد الأشعار والتغني مع جماعة الموسيقيين على نغمات المزمار ثم يأخذ في سبيل تعلم الألعاب الرياضية وهذه غاية ما يتعلمه الولد فيجيء من هذا التعليم من أبناء الأثينيين رجال صحيحة أجسامهم هادئة أفكارهم يدعوهم اليونانيين أهل الصلاح والجمال. أما الفتاة فتظل بالقرب من أمها لا تتعلم شيئاً. ويذهبون إلى أنه يكفي الابنة الأثينية أن تحسن الخضوع وتتشبث بأهداب الطاعة. وقد مثل كسينوفإن أحد أغنياء الأثينيين المهذبين وهو يخاطب الحكيم سقراط في شأن زوجه قال: لم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى تزوجتها وقد كان ذووها جعلوها إلى ذاك العهد تحت المراقبة الشديدة وأرادوا أن لا تبقى وتعيش ولا تسمع شيئاً على التقريب مما أهلها لأن تكون امرأة تحسن نسيج الصوف وتصنع منها ثياباً ورأت بأي الطرق يستخدم الأماء والخادمات. ولما اقترح عليها زوجها أن تكون شريكة في حياته أجابته مدهوشة: على أي أمر أعينك وهل أنا قادرة على شيء؟ فلطالما قالت لي أمي إن شأني الخاص بي أن أكون عأقلة. فمعنى كون المرأة عأقلة أن تخضع وهذه هي الفضيلة التي تطلب إلى المرأة اليونانية. الزواج - تتزوج الفتاة في الخامسة عشرة من سنها وأهلها يختارون لها زوجها فيكون تارة شاباً من أسرة قريبة أو رجلاً طاعنا في السن من أصدقاء والدها ولا يعدو أبداً أن يكون وطنياً أثينياً وقد تعرفه الفتاة من قبل في بعض الأحوال وما قط أخذ رأيها في معنى زواجها. ولما تكلم المؤرخ هيرودتس عن أحد أبناء يونان قال: إن كالياس هذا جدير بأن يتكلم المتكلمون في أمره للخطة التي يسلكها مع بناته فإنهن متى صلحن للزواج ينحلهن من المال شيئاً كثيراً ويسمح لهن باختيار أزواج لهن من أبناء الأمة ويزوجهن بمن ينتخبنهم. النساء - كان في داخل كل بيت أثيني مسكن منعزل بالنساء يدعى الحرم ولا يختلف إلى هذا المسكن غير الزوج والأنسباء وتبقى فيه ربة البيت دائماً مع صويحباتها وإمائها تراقب أعمالهن وتلقنهن أصول تدبير المنازل وتوزع بينهن الصوف ليحكنه وهي تشغل نفسها بحياكة الثياب أيضاً. وقلما كانت تخرج من دارها إلا في الأعياد الدينية ولا تظهر في

مجتمعات الرجال قط. قال الخطيب أزيس: حقاً أنه لم يكن لأحد أن يجرأ على الغداء عند امرأة مزوجة فإن النساء المزوجات لا يخرجن لتنأول الطعام مع الرجال ولا يسمحن لأنفسهن أن يأكلن مع الغرباء وغير المحارم. وما كنت لتنأول المرأة التي تخالط الرجال معدودة في جملة النساء المحتشمات المهذبات. وهكذا لم تكن المرأة وهي على حالها من الاعتزال والجهل ذات عشرة مقبولة فيتزوج بها الرجل لا لتكون شريكة حياته بل لتقوم بأمر بيته وتلد له أولاداً ولأن العادة والدين عند اليونانيين يقضيان بأن يكون للمرء حليلة. وقال أفلاطون إذا تزوج المتزوج فليس برضاه وذوقه السليم بل لأن شريعة تقضي عليه بذلك. وقال مياندر الشاعر الهزلي هذه العبارة: إذا شئت التحقيق فقل أن الزواج شر ولكنه شر لا مناص منه. ولذا كان أبداً للنساء في أثينة كما في معظم المدن اليونانية مقام وضيع في المجتمع. الحروب المادية بينما كان اليونان أخذين في تنظيم مدنهم كان الفرس يجمع شتات بلاد الشرق كافة تحت لواء واحد. ولقد تقابل اليونان والمشارقة وكان المصاف بينهم لأول الأمر في آسيا الصغرى. وكان على شاطئ آسيا مستعمرات يونانية غنية مأهولة فطمح قورش ملك فارس في ضمها إلى بلاده فبعثت تلك المستعمرات تستنجد بالإسبارطيين وقد اشتهروا بأنهم أجرأ أبناء اليونان وأنذروا بذلك قورش فأجابهم بقوله: أنني ما خشيت قط هذا الضرب من الناس الذين يجتمعون في ساحة وسط مدنهم ليخدع بعضهم بعضاً بالإيمان والعهود (كلامه على ساحة السوق) فغلب أبناء اليونأن في آسيا وأصبحوا رعايا ذاك الخاقان الأعظم. وبعد ثلاثين سنة تقابل الملك ادوارد مع يونان أوروبا ولكنهم ظهروا عليه هذه المرة فأرسل الأثينيون عشرين سفينة على الأيونيين العصاة فدخل جندهم في ليديا واستولوا عنوة على مدينة ساردس عاصمة ليديا وأحرقوها. فإنتقم دارا عن ذلك بأن خرب المدن اليونانية في آسيا ولم يبق على يونان أوروبا. وقيل أنه أمر أن يتمثل لديه ضابط في كل مأدبة على مسامعه قوله: مولاي تذكر الأثينيين. وقد بعث إلى المدن اليونانية يطلب تراباً وماءً. وهذه الإشارة الشائعة عند الفرس كانت دلالة على أن شعباً يخضع بلاده لسلطة الخاقان الأعظم فأوجس معظم اليونانيين خيفة واستسلموا خاضعين باخعين فطرح الإسبارطيون المندوبين

من الفرس في بئر قائلين لهم أن يأخذوا منها ماءً وتراباً يحملونهم إلى ملكهم. وهذه كانت فاتحة الحروب المادية. مبادلة الخصمين - أن التباين بين هذين العالمين المتحاربين قد أشار إليه هيرودتس أحسن إشارة في صورة محاورة بين كسيركيس ملك الملوك وديمارات أحد المنفيين من الإسبارطيين فقال هذا: أتجاسر أن أؤكد لك أن الإسبارطيين يعلنون عليك حرباً حتى ولو انحاز سائر أبناء اليونان كافة إلى حزبك ولو لم يبلغ جيشهم ألف رجل. فأجاب كسيركيس ضاحكاً وليت شعري هل في وسع ألف رجل أن يشهروا حرباً على هذا الجيش الكثير العدد والعدد وأني لا أخشى أن يكون في كلامك تحذلق كثير. وهب أن عددهم خمسة آلاف فنحن زهاء ألف لقاء واحد. فلو كان لهم زعيم مثلنا فإن الخوف يحمسهم ويزيد نفوسهم مضاء فيزحفون يضرب السياط على جيوش أكثر مما خصتهم به الفطرة. يقول ديمارات أن ليس الإسبارطيون دون غيرهم في حرب يتلاقى فيه المتحاربون جسداً لجسد حتى إذا انضموا بعضهم إلى بعض صاروا جيشاً برأسه ومن أشجع الناس وإمضأهم. وقصارى القول فإنهم وإن كانوا أحراراً في الظاهر ليسوا كذلك في سائر شؤونهم فلهم حاكم مطلق ألا وهو القانون فهم يخافونه كثيراً ويرهبون بأسه أكثر من رهبة رعايانا لك. يطيعونه والقانون يأمرهم أن يثبتوا في مصافهم أبداً إلى أن يغلبوا أو يموتوا - إليك حال هذين الحزبين أحدهما مع الآخر فترى من جهة عدداً عديداً من الرعايا تضمهم القوة بزعامة رئيس ذي هوى وشهوات. ومن جهة ثانية جمهوريات صغرى محاربة يحكم أبناؤها أنفسهم بأنفسهم بقوانين يحتفظون بها ويرعونها. الحرب المادية الأولى - نشبت حربان ماديتان كأنت الأولى بمثابة حملة على أثينة فأرسل داراً ستمائة سفينة أنزلت جيشاً فارسياً في سهل ماراتون الصغير على سبع ساعات من أثينة. ولقد كان دين الإسبارطيين يحظر عليهم أن يسيروا قبل أن يكون الهلال بدراً وكان القمر إذ ذاك في الربع الأول فقضي على الأثينيين أن يحاربوا وحدهم فجاء عشرة آلاف من الوطنيين مسلحين سلاح الأبطال وأقاموا لهم معسكراً أمام صفوف الفرس بقيادة عشرة قواد يتناوبها كل منهم يوماً حتى إذا كانت نوبة القيادة لملتيادس عبى جيشه للحرب فهاجم الأثينيون صفوف الأعداء على صفوف مشتبكة فلما رأهم الفرس اقتربوا منهم ولم يجعلوا

في مقدمتهم فرساناً ولا دارعين فظنوهم جنوا وأضاعوا رشدهم. وهذه هي المرة الأولى التي جسر فيها اليونان صفوف الفرس في حرب منظمة. فطفق الأثينيون يحملون على جناحي الجيش ويمزقونه كل ممزق ثم رجعوا إلى القلب وحملوا الفرس على الهزيمة نحو البحر واضطرابهم إلى معاودة ركوب البحر وكان من نصرة اليونأن في حرب الماراتون أن أنقذتهم وأطارت صيتهم في أرض يونان كلها. حرب مادية ثانية - نشبت الحرب بعد عشر سنين بغارة فجمع كسيركيس بن دارا شعوب بلاده كلهم ويقال أن جيشه البري بلغ مليوناً وسبعمائة ألف مقاتل مؤلفاً من ماديين وفرس لابسين قمصاناً ذات أكمام مسلحين بدبأبيس محددة الرؤوس ومن هنود يلبسون ثياباً قطنية يحملون أقواساً ونبالاً من خيزران ومن زنوج يلبسون جلد النمور ومن قبائل رحالة ليس لهم سلاح إلا ما كان من حبل ذي أنشوطه ومن فرنجين مسلحين بحراب قصيرة وأتراس صغيرة ومن ليديين مجهزين على الطريقة اليونانية ومن تراكسيين يحملون حراباً ومدى وقد شغل تعداد صفات الجيش عشرين فصلاً في تاريخ هيرودتس. وكان هؤلاء المحاربون يجرون وراءهم جموعاً توازي الجموع المدربة على القتال من خدمة للجيش وموالي من النساء وكثير من البغال والخيل والجمال والعجلات المشحونة بالأثقال ولقد اجتاز هؤلاء الأخلاط هيلسبون على جسر قام من مراكب في ربيع سنة 481 وظلوا يتابعون سيرهم سبعة أيام بليإليها تحت ضرب السياط ثم اجتازوا تراكسيا وساروا على بلاد يونان يجرون بالقوة وراءهم من يصادفونه من الشعوب فكان الأسطول الفارسي وهو مؤلف من ألف ومائتي سفينة حربية يمشي على شواطئ تراكسيا مجتازاً ترعة جبل أتوس الذي خرقه كسيركيس عمداً. فدخل الرعب في قلوب اليونانيين وخضع معظمهم لخاقأن الفرس فضموا جندهم إلى الجيش الفارسي. وراح الأثينيون يستشيرون هاتف دلفيس فأجابهم أولا أن أثينة تخرب ويكون عإليها سافلها حتى إذا تضرعوا إليه أن يجيبهم بجواب يبعث على الطمأنينة رد عليهم بقوله: إن زيوس يمنح بالاس (حامية أثينة) جداراً من خشب لا يتأتى الاستيلاء عليه وحده وأنكم لتجدون فيه سلامتكم أنتم وبنوكم. ولقد حث العرافون الذين طلبوا إليهم أن يفسروا كلام هذا الهاتف جماعة الأثينيين على مغادرة اتيكيا وأن يذهبوا ليستوطنوا مكاناً آخر. وفسر تمستوكلس جدار الخشب بالمراكب. فقضت الحال إذا أن يرجعوا على

الأسطول ويحاربوا الفرس في البحر. وإذ قد عزم أهل أثينة وإسبارطة على المقاومة أخذوا يبحثون في تأليف عصابة اليونأن للحكم على الفرس فاجترأت بعض المدن على الدخول في هذه العصبة وانضموا تحت قيادة إسبارطة ولما نشبت أربع حروب في عام واحد قرروا القتال فسحق الفرس ليونيداس ملك إسبارطة في الترموبيل وكان معسكراً لسد فم أحد المضايق وضرب الأسطول اليوناني الأسطول الفارسي في سلامينة وكان مجتمعاً في خليج يزحم بعضه بعضاً وبدد أبطال اليونأن في بلاتيه الجيش الفارسي الذي بقي في بلاد اليونان ولم ينج من ثلاثمائة ألف رجل سوى أربعين ألفاً ونزل في ذاك اليوم جيش يوناني في ميكال على شاطئ آسيا وهزم الفرس وهكذا غلب اليونأن الخاقان الأعظم صاحب فارس.

صحف منسية

صحف منسية كتاب الأشربة - لابن قتيبة عني بنشره المسيو أرتوركي أحد علماء المشرقيات وحدثني محمد بن داود عن نضير عن سنان عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار وسئل عن النبيذ فقال: انظر ثمن التمر من أين هو. أراد مالك أنه يجب على المستفتي عن النبيذ حلال أم حرام أن يتنزه عما لا اختلاف فيه من اكتساب الحرام الذي هو ثمن التمر ثم يسأل بعد ذلك عن النبيذ المختلف فيه. قالوا: فلو كان عند خمر ما توقف هذا التوقف. وقد يحتمل أن يكون أراد: إن كان ثمن التمر حلالاً كان النبيذ الذي اتخذ منه حلالاً وإن كان ثمن التمر حراماً كان النبيذ الذي اتخذ منه حراماً. فإن كان ذهب هذا المذهب فالخبز واللباس والإدام على هذا السبيل عنده تحل إن طابت المكسبة وتحرم إن خبثت. وعوتب شعيب بن يزيد في النبيذ فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شر عملي. يريد أنه قد يأتي ما هو شربه وأن الواجب على من أراد إصلاح نفسه والانتقال إلى طهارة التوبة أن يبدأ بالأخبث فالأخبث من عمله والأعظم فالأعظم من ذنوبه فينزع عنه فإما أن يدع التزوج بالأماء لما كره منه وهو يزني أو يترك الشرب في آنية الذهب لما نهي عنه من ذلك وهو يشرب الخمر في العساس فهذا من السخف وإفراط الجهل وقال أبو الغالية الرياحي اشرب النبيذ ولا تمزز والتمزز أن يشرب قليلاً قليلاً وهو مثل التمزز. وأراد أبو الغالية أن يشربه دفعة واحدة للري ولا ينأقل الأقداح ويتابعها ليسكر وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال نعم. قيل: وكيف تشربه؟ قال على غداي وعشاي وعند ظمائي. قيل فما تركت منه؟ قال التكاءة ومحادثة الرجال. قال المأمون اشرب النبيذ ما استبشعته فإذا سهل فاتركه. فأراد أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الأسكار. وقيل لسعيد بن سالم: أتشرب النبيذ؟ قال لا. وقيل لم: قال تركت كثيره لله وقليله للناس. حدثني محمد بن عبيد عن إبرأهيمبن أبي بكر بن عياش قال: صام عمي الحسن بن عياش خمسين حولاً متتابعة فكان لا يفطر في السنة إلا خمسة أيام كان أبي يصنع أيام التشريق طعاماً بكثرة وتجودة ويدعو الفقهاء ومشائخنا فيتغذون مع أبي ويسقيهم أو قال من أراد منهم النبيذ

الصلب؟ وكان سفيأن الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه واحتجوا من جهة النظر بأن الأشياء كلها حلال إلا ما حرمه الله. قالوا فلا نزيل يقين الحلال بالاختلاف ولو كان المحللون فرقة من الناس فكيف وهم أكثر الفرق؟ وأهل الكوفة جميعاً على التخليل لايختلفون. حدثني اسحق بن راهويه قال سمعت وكيعاً يقول: النبيذ أحل من الماء ولم يكن أحد من الكوفيين يحرمه غير ابن ادريس وكان بذلك عندنا معيباً وقيل لابن ادريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال ذلك مبلغهم من العلم. وقال لنا اسحق: عيب وكيع بقوله: هو أحل من الماء لأنه إن كان حلالاً فهو بمنزلة الماء فكيف أحل منه عتب ونحن نقول إنهليس يلحق وكيعاً في هذا الموضوع عيب ولا يرجع عليه منه عتب لان كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم في الوصف واستقصائهم بالمدح والذم يقولون هو أشهر من الصبح واسرع من البرق وابعد من النجم. وليس ذلك بكذب لأن السامع له يعرف مذهب القائل فيه وكلهم متواطئون عليه كذلك قوله هو احل من الماء يريد المبالغة في وصفه بالتحليل. وإنما عاب أهل الكوفة ابن ادريس بمخالفته أهل بلده وتغليظه ما ترخصوا فيه. وحدثني محمد بن عبد الله عن إبرأهيمابن أبي بكر بن عياش قال: قلت لابن مبارك: من اين جئت بهذا القول في كراهتك النبيذ ومخالفتك المشائج وأهل المصر؟ فقال: هو شئ اخترته لنفسي. قلت: فتعيب من شربه؟ قال لا. قلت وما اخترت لنفسك وقال عاصم بن أبي النجو: لقد أدركت قوماً يجعلون هذا الليل جملاً يشربون النبيذ ويلبسون المعصفر فهؤلاء أهل الكوفة وأكثر أهل البصرة على مثل مذهبهم. وكان عبد الله بن داوود يقول: ماهو عندي وماء البركة الا سواء. وقال القطمي: قال لي عبد الله بن داوود: لا بأس أن يشربه الرجل على أثر الطعام كما يشرب الماء. وقال: اكره ادارة القدح واكره نقيع الزبيب واكره المعتق واكره نبيذ السقاية. وقال: من ادار القدح لم تجز شهادته. قالوا: وكأن كثيراً من الحجازين بين يترخص فيه حتى غلط فيه مالك وحد في الرائحة والرائحة قد تلتبس وتشتبه بغيرها وكيف يخرق ظهور المسلمين على الظهور وظهر المسلم حمى لا يباح الا بيقين وقد يأكل الرجل الكمثرى والتفاح والسفرجل ويشرب المشبه النبيذ فيوجد منه رائحة النبيذ وكان الا قيشر اخد وقد شرق وأستنكه فوجدوا منه رائحة النبيذ ظاهرة فقال يقولون لي انكه قد شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت سفرجلا

وقالوا: وجدنا الناس ثلاثة اصناف أصحاب الرأي وهم جميعاً مجمعون على تحليله أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وكل من سلك سبيلهم وأصحاب الحديث وأكثرهم على التحليل. وأصحاب الكلام هم أيضاً على ذلك وكيف نزيل يقين التحليل بطائفة من الناس؟ قالوا: ومثل النبيذ مثل نهر طالوت. حدثني شبابة قال: حدثنا غسان بن أبي الصلاح الكوفي عن أبي سلمة يحيى بن دينار عن أبي المطهر الوراق قال: بينما زيد بن علي على بغلة له بصر برجل من أصحابه محجل الأزار على قميصه ردع من زعفرأن فقال له مهيم فقال له يا ابن رسول الله إني اعرست وقد أحببت أن تكرمني بدخول منزلي. فثنى رجله ونزل فأخذ صاحب المنزل بيده واقعده على الحجلة فما استكبر ذلك واتي بطعام. وبلغ الشيعة مكانه فازدحموا على مائدته فطعم وطعم القوم ثم إنه عطش واستسقى فأتى بعس فيه نبيذ فكر فيه ثم قطب ثم دعا بماء فكسره ثم شرب ونأولني وكنت عن يمينه فشربت ونأولت الذي عن يميني ودار العس على القوم جميعاً فقلت له: يا ابن رسول الله حدثنا بحديث سمعته من آبائك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تنزل متى منازل بني إسرائيل حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو أن رجلاً من بني إسرائيل نكحت نساؤها في الأسواق لكان في أمتي من يفعل ذلك. إلا وأن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت أحل منه الغرفة وحرم منه الري ألا وأن الله جعل فيكم النبيذ احل منه الري وحرم منه السكر. وقالوا: لم يحرم الله شيئاً إلا وقد جعل منه عوضاً في مثل معناه فلو كان النبيذ خمراً ما كان العوض من الخمر وإنما خلق الله الأقوات والثمرات قدراً لحاجة الناس إليها فلو كان النبيذ خمراً ما كان يصنع بالتمر والزبيب والدوشاب وأشباه ذلك مما لو ترك الناس اتخاذ الشراب منه لبار وفضل أكثره من مآكل الناس وحاجتهم وقالوا: والله لا يحرم شيئاً إلا لعلة الاستعباد ولو كان تحريم الخمر للسكر لم يطلقها الله تعالى للأنبياء والأمم فقد شربها نوح عليه السلام حين خرج من السفينة واغترس الحبلة حتى سكر منها وبدت فخده وشربها لوط عليه السلام ليلة رفع وشربها المسلمون في صدر الإسلام. وقالوا: اما قرلهم أن الخمر ما خمر والمسكر مخمر فهو خمر مثله فإن الأشياء قد نتشاكل في بعض المعاني فيسمى بعضها بعلة فيه وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر الا ترى أن اللبن يخمر يروبة تلقى فيه ويترك حتى يروب ولا يسمى اللبن خمراً وإن خمير العجين يسمى خميراً

ولا يسمى هو ولا ما خمر به من العجين خمراً وإن نقيع التمر يسمى سكراً لا سكاره ولا يسمى غيره سكراً وإن كأن يسكر وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحيط به. وقالوا: واما قولهم للرجل مخمور وبه خمار إذا أصابه الصداع والارعاش عقب الشراب فأن ذلك قد يقال لمن أصابه مثله في النبيذ فيقال: به خمار ولا يقال: به نباذ فإن الخمر اسم قديم وكأنت الجاهلية تعرفه وتلفظ به من الخمر والنبيذ محدث إسلامي لم تكن العرب في الجاهلية تعرفه وكان شربة النبيذ من السلف لا يبلغون السكر ولا يقاربونه فيصيبهم عليه ما كان يصيب شرتة الخمر من الخمار وإنما كانوا ينالون منه اليسير على الغداء والعشاء ثم خلف من بعدهم خلف يشربون الخمر ولم يتهيبوا من المسكر فقيل: بهم خمار على ما سبق من الاسم المتقدم ولو كان الله حين احل النبيذ احل من السكر الذي يكون منه الخمار وكان شربة النبيذ من الصحابة والتابعين سكروا فأصابهم ذلك للزمنا أن يقال به نباذ او لا يقال فيجيب ما ذهبوا إليه. وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر. قال الاقيشر وكان مغرماً بالشراب: وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنع ربها ساعة قدر أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد غادرت الشعرى وقد خفق النسر فقلت اصطحبها او لغيري فاهدها ... فما أنا بعد الشيب ويلك والخمر فاعلم كان الخمر هي التي لم تغل بها القدور. وقال ابو زيد في الوليد بن عقبة حين عزله عثمان عن الكوفة بشهادة أهلها عليه بشرب الخمر قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراب سوى الحرام حلال يريد انهم زعموا انك تشرب الخمر وقد كان هناك شراب حلال من النبيذ ويروي (وقد كان حلالاً سوى الحرام فمالوا). يريد كان شراب النبيذ حلال فمالوا عنه وقذفوك بشرب الخمر. ولم نحتج بأبي زبيد وهو نصراني رأيناه حجة في تحليل أو تحريم وإنما أردنا أنه اعتذر له إلى عثمان وإلى الناس بهذا القول ولم يكن ليعتذر إلا بما ينكر الناس. قال جميل بن معمر: فظللنا بنعمة واتكانا ... وشربنا الحلال من قلله اتكانا - طعمنا. ومنه قول الله تعالى: {واعتدنا لهن متكا} وشربنا الحلال يعني النبيذ والقلل

جمع قلة وهي جرار يكون فيها النبيذ. قال الشاعر: وقد كأن يسقى من قلال وحنتم ولما دخل على الوليد ليقتل قال لهم: ما تنكرون مني؟ الم افعل؟ وجعل يعدد إحسانه إليهم. قالوا: ننكر منك شرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك. فقال: قد جعل الله فيما احل سعة عما تذكرون. وقال: دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة ... وكأساً ألا حسبي بذلك مالا خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا إذا ما صفا عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا اريد بدالا فما تراه حين اعتذر فرق بين الخمر والنبيذ وقال: قد جعل الله لي فيما احل من النبيذ سعة عن شرب الخمر وفيما احل من النساء سعة عن نكاح الأمهات. وكان أبو الهندي الشاعر مغرماً بالخمر فعاتبته ابنته على ذلك ووعظته فاعلمها أنه غير صابر وأنه إن تركه اعتل فقالت له: اشرب نبيذ التمر فشربه ثم عاد إلى الخمر وقال: أأشرب تمراً ينفخ البطن منتناً ... واتركها صهباء طيبة النشر وقالٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بعض الإشراف وكان ركبه الدين وخفت حاله أن يك يا جناح علي دين ... فعمران بن موسى يستدين تلم بنا الخصاصة ثم تعفي ... على اقتارنا حسب ودين فما يعدمك لا يعدمك منا ... نبيذ التمر واللحم السمين أما تراه وصف نفسه بالحسب والدين ثم قرن ذلك بشرب الخمر. وأراد عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وقال يحيى بن نوفل اليماني ويغتبقأن الشراب الذي ... يحل به الخلد للجالد شراب يوأفق فهر اليهود ... ويكره للمسلم العابد يريد إنهما يغتبقأن الخمر الذي يوجب شربه الحد ثم تنبه فقال يوأفق فهر اليهود ويكره للمسلم العابد فهذا يدل على أن غيره لا يكره له ولا يوجب الحد. وفهر اليهود هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه ومنه حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كانهم اليهود خرجوا من فهرهم.

وهذا أبو النواس شاهد الناس على شيء فقال: يا ابنة القوم اصحبينا ... ما الذي تنتظرينا قد جرى في عودة الما ... ء فأجري الخمر فينا إنما نشرب منها ... فاعلمي ذاك يقينا كل ما كان حلالا ... لشراب الصالحينا قال: وأما قولهم الخمر رجس فقد صدقوا في اللفظ وغلطوا في المعنى أن كانوا أرادوا أنها نتن لأن الخمر ليست منتنة ولا قذرة إلا بالتحريم فإنه اوجب النفور منها. قال الأخطل وذكر الخمر كانما المسك نهباً بين أرحلنا ... مما تضوع من ناجودها الجاري وقال آخر: فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الدليل في موارد أعالي النيل ألف هذا الكتاب السير وليم جارستن مستشار نظارة الأشغال العمومية في مصر وعربه إبرأهيممصور بك رئيس الترجمة في هذه النظارة. وقد جمع فأوعى في وصف كل ماله علاقة بالنيلين الأبيض والأزرق من منطقة البحيرات في أواسط القارة الأفريقية حتى بلاد السودان. صرف المؤلف سنين في الرحلة إلى تلك البلاد ووصف أحوالها الطبيعية والجيولوجية وأمدته الكومة بالنفقات الطائلة التي لا تقوى عليها إلا الدول العظمى وساعده في مهمته بعض رجال الري والعلماء المخصين في هذا الفن فجاء ما كتب دليلاً على جودة البحث والاستقراء. والكتاب في 636 صفحة كبيرة من أجود الطبع والورق وفيه ما عدا الملحقات وذكر ما يمكن القيام به في المستقبل من الأعمال في سبيل زيادة الانتفاع بمياه النيل رسوم شمسية في الأماكن والجبال والجدأول والأنهار التي يمر بها هذا النيل وهي 46 رسماً متقناً. ومن تلاه بالأمعأن الذي يستحقه يدرك غاية الإفرنج في إشباع مصنفاتهم وصرف أقصى الهمة إلى تحسينها وإتقانها ويدرك مبلغ اهتمام المترجم بنقل هذا الكتاب الفني الذي يهم العربية نقل أمثاله من اللغات الإفرنجية. هذا السفر المفيد شاهد عدل على اتساع صدر العربية لترجمة عامة العلوم والفنون بلغة بليغة لا تشوبها شائبة العجمة وتنطبق على الأصل المنقول عنه ولا نغالي إذا قلنا أن لغة الدليل هي من أصبح الإنشاء بلاغة وتحريراً فإن كان ابن النيل لا يجد مندوحة من تنأول هذا الكتاب ليعرف سر ماء يرويه فإن ابن غير هذا الوادي يجب عليه أن يتنأوله ليتخذه أنموذجاً في التعريب الصحيح كما يستفيد منه الفوائد العلمية والفنية التي تكثر في كل صفحة من صفحاته. ولو نقل كل شهر إلى هذا اللسان كتاب استوفى شروط التأليف على الصورة التي ذكرناها في فرع من فروع العلم التي لا عهد بها للعربية لما اتت عليها بضع سنين ألا وهي تحاكي أرقى اللغات العلمية الأوروبية. ومن تصفح كتاب الدليل ممن عانى صناعة التعريب يتجلى له ما عاناه معربه في نقله وخصوصاً بعض المصطلحات التي عمد إلى بحر اللغة واغترف منه ألفاظاً عربية قابل

بها المفردات الإفرنجي وهي تربو على مئة لفظة ومعظمها مما لم يدر على السن الكتاب والمعربين. تاريخ الأستاذ الأمام هو اسم تاريخ فقيد الشرق الشيخ محمد جمعه له مريده السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الاغر في ثلاث مجلدات كبيرة الأول في سيرته وهو لا يزال تحت الطبع والثاني في منشآته وهو يحتوي على بعض رسائله ومقالاته التي نشرت في الجرائد والمجلات ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم الديني ورسائله إلى العلماء والأدباء وحكمه المنثورة وهو في 560 صفحة من قطع الثمن وقد قدم له مؤلفة مقدمة بين فيها منزلة المرحوم المفتي من العلم والعمل ثم أخذ في نقل بعض ما خطته يراعته في خلال حياته على اختلاف اطوارها ومن تلاه يدرك قدر الفقيد العزيز. والجزء الثالث وهو في 438 صفحة من قطع الثمن أيضاً يحتوي على تأبين الجرائد وبعض الكبراء والفضلاء ونموذج من التعازي ومراثي الشعراء وفيه شي كثير من ذكر العواطف يدل على مكانته من وضع التاريخ له في قلوب مريديه واحبابه على اختلاف الأمصار والأفكار وفي هذا الجزء مثال من شعر العصر ونثره في موضوع واحد وهو الرثاء وتقييد المناقب والأثار. وثمن الجزء الثاني خمسة عشر قرشاً صحيحاً في مصر وأجرة البريد ثلاثة قروش وفي الخارج ستة فرنكات وثمن الجزء الثالث عشرة قروش صحيحة وثلاثة اجرة البريد وأربعة فرنكات في سائر الاقطار ويبأعان بمكتبة المنار في شارع درب الجماميز وهما من جيد الطبع والورق. فنثني الثناء الاطيب على حسن وفاء رصيفنا جامع هذا التاريخ وعلى ما بذله من الهمة العالية في وضعه وجودة تنسيقه حتى جاء كتاب أدب وحكمة وكنا نود الاقتباس منه لنفع القراء لولا معرفتنا بانه سينشر انتشاراً عظيماً في عامة الاقطار والأمصار. لوائح الانوار البهية كتاب للشيخ محمد بن احمد السفاريني الأثري الحنبلي من أهل القرن الثاني عشر يتضمن شرح منظومته التي ضمنها أمهات مسائل عقائد السلف وهو في مجلدين الأول في 388 صفحة والثاني في 488 صفحة طبعها على نفقته طبعاً متقناً بعض الراغبين باتحاف

الخلف بأثار السلف وذلك في مطبعة المنار وبملاحظة صاحبها الفاضل وقد وشحه بفهرست مرتب على الحروف يتيسر به الوقوف على محتويات الكتاب فنحت الأثريين على اقتنائه ونشكر لطابعة ومصححة عنايتهما. مؤلفات السيد البكري سماحة السيد محمد توفيق البكري نقيب الإشراف هو من بيت مذكور بالشرف في مصر وهو معروف باشتغاله بالعلم والأدب وقد طبع في هذه الأيام خمسة كتب مهمة في بابها احدها سماه صهاريج اللؤلؤ وهو سفر وقع في 388 صفحة بقطع الثمن جيد الطبعة جمع فيه كثيراً من نثره ونظمه الرائق وسلك فيه مسلكاً جديداً في الوصف جمع إلى فخامة اللفظ براعة المعنى وشرحه الشيخ احمد الشنقيطي والشيخ محمد المصري شرحاً صافياً. الثاني كتاب التعليم والإرشاد جمعه بعض رجال الصوفية في عصرنا بأمره وهو في 677 صفحة وفيه ما لا يسع الصوفية جهله من المسائل. والثالث كتاب بيت السادة الوفائية تأليف سماحته واسمه يدل على مسماه ذكر فيه تراجم ما اشتهر من هذا البيت ومناقبهم. والرابع كتاب بيت الصديق تأليفه أيضاً يظم منثورة من أسفار عديدة استقصى فيه تاريخ هذا البيت الظاهر مكانه في الإسلام وهو في 411 صفحة من قطع الثمن. والخامس كتاب المستقبل للإسلام وهو من قلم المؤلف أيضاً ذكر فيه ما يتعلق بهذا الشأن فنثني على همة المؤلف ونرجو أن يوأصل اتحاف القراء بمثل ما اتحفهم به من هذه الأثار الرائعة. مجموعة هي مجموعة مشتملة على الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وعلى كتاب الحيدة للأمام عبد العزيز الكناني وعلى عقيدة السلف لابن سهيل الصابوني وهذه الرسائل الثلاث مهمة في بابها ولاسيما رسالة الحيدة فإنها صورة مناظرة جرت في حضرة أمير المؤمنين المأمون في مسألة خلق القرآن بين عبد العزيز الكناني وبشر المريسي وكان المأمون هو الحكم قابان عن فضل جم وإنه كان يقصد بمسألة خلق القرآن التي شغلت بعض العلماء في آخر عهده تحقيق حقيقة علمية لا الانتصار لنفسه او لما وقع في ذهنه وهذه الرسالة أعظم مثال في الحرية العربية. طبعها الحاج مقبل الذكير وجعلها وفقاً لا يباع ولا يشرى يمعرفة فرج الله أفندي زكي الكردي الكتبي المعروف في القاهرة فجاءت في 249 صفحة جيدة

الشكل. الجامعة الإسلامية وأوروبا هي رسالة تأليف رفيق بك العظم صاحب كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من المصنفات الاجتماعية بحث فيها بحثاً تاريخياً في الجامعة الإسلامية وذكر فيها للمتعصبين من ساسة الاوربيين تحاملهم على بلاد الإسلام بالبراهين التاريخية الدامغة ونصح فيها للشرقيين والغربيين نصيحة من خبر الأمور الحاضرة وقاسها بالغابرة وهي 58 صفحة جيدة الطبع والوضع. الإنسان ابن التربية كتاب أدبي أخلاقي انتقادي لجرجي أفندي نقولا باز المعروف بمقالاته الاجتماعية والأخلاقية وفيه مباحث مفيدة مثل محاسن العصر ومساوئ الحضارة وسوء التربية والوالدين والتربية البيتية والاجتماعية وغير ذلك مما ينفع أرباب البيوت ويؤثر في عقول الناشئة وهو في مئة صفحة أهداه لرصيفنا صاحب الهلال جرجي أفندي زيدان وصدره يرسمه وطبعته جمعية شمس البر في بيروت وخصصت ريعه لأعمالها الأدبية. عبد القادر الجيلاني هي نبذة في تر جمة هذا العالم نشرها بالعربية والإنكليزية الأستاذ مرجليوث مدرس العربية في كلية اكسفورد جمعت فأوعت في هذا الباب وقد نشرت ملحقة في المجلة الآسياوية الإنكليزية. التقيه في الإسلام رسالة من قلم الأستاذ غولد سهير مدرس اللغة العربية في كلية بودابست كتبها بالألمانية ونشرب ملحقاًُ للمجلة الألمانية المشرقية أهدانا إياها مؤلفها عقيب أن طلع على مقالة التقيه في الجزء الثالث من هذه السنة وسنعود إلى الاقتباس منها ما لم نحصل عليه من النقول. مقالات قصر الدوبارة كتاب في 110 صفحات طبعه عبد الله أفندي حسين وصالح أفندي شكري حوى مقالات كتبتها جريدة المؤيد في اللورد كرومر وسياسته وخطابه الوداعي ورد المؤيد عليه وغير

ذلك مما له صلة بهذا البحث وقد أحسن طابعاه في نشره على هذا الشكل الجميل فإن هذه المقالات من خير ما خطته يراعة كاتب سياسي في معنى الدفاع عن امته وبلاده وهو يطلب من طابعيه في دار المؤيد. لبنان في خمس سنين هو كتاب وقائع في 140 صفحة شرح فيه كاتبه ما حدث من الحوادث والأخبار في جبل لبنأن في عهده الأخير شرحاً ضافياً يستعان به في المستقبل على وضع تاريخ مفصل لهذا الجبل فجاء ما كتبه الكاتب أشبه بالأخبار اليومية لابن بدير في القرن الثاني عشر في دمشق والجبرتي في القرن الثالث عشر في مصر هذا مع سلاسة في التعبير وتلاعب بالألفاظ والمعاني يدل على بعد غور الكاتب وحسن بيانه. أطباق الذهب لشرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله المغربي الأصفهاني مائتا مقالة ومقالة في الحكم والمواعظ على طريقة السجع البديع شرحها الشيخ محمد منير المقدم في الأزهر وضبطها بالشكل الكامل وطبعها طبعاً جيداً فجاءت في زهاء 150 صفحة صغيرة. رواية الخادعين هي إحدى روايات احمد مدحت أفندي الكاتب التركي عربها حقي بك العظم صاحب كتابي دفاع بلفنا وحرب اليونان وهي تمثل صورة من المدنية الإسلامية في القرن الأول نشرت ملحقة لجريدة الكلمة الحرة وتباع بأربعة قروش في مكتبة القاهرة. الدقائق في الحقائق (أفكاري عن النفس والروح ثم القدرة الإلهية والأديان تأليف يعقوب أفندي جبرائيل مراد) وهو في 126 صفحة جيدة الورق. نسمات الصباح هذه نبذة من شعر حلمي أفندي مصري صدرها بنبذة بالشعر والعرب وضمنها مقاطيع وتخاميس وقصائد عرب بعضها عن الإفرنسية ونظم بعضها في أغراض عصرية لطيفة فجاءت في 64 صفحة صغيرة.

اكاذيب السياسة كراسة في الرد على خطبة اللورد كرومر التي القاها في حفلة وداعه التي اقيمت بأمره في دار التمثيل الكبرى بالقاهرة مساء 4 مايو سنة 1907 تأليف (ابنة النيل) وهي فتاة مصرية لم تصرح باسمها وعدد صفحاتها 78 صفحة صغيرة.

سير العلم

سير العلم سكة حديد جديدة اخترع مهندس ايرلاندي اسمه لوي برنان بعد أن صرف سنين طويلة في النظر والبحث طريقة جديدة لتسيير مركبات السكك الحديدية إذا سلمت له من كل وجه فإنها تقلب أصول النقل المتبعة الأن في اقطار الأرض واختراعه عبارة عن تطبيق ناموس الجير وسكوب (وهي آلة اخترعها فوكول سنة 1852 ليستدل بها على دورأن الأرض) على مركبات السكك الحديد بل على جميع المركبات كمركبات الاتوموييل وغيرها. فالسكة الجديدة تسير إذا على خط واحد فتوفر نفقات كثيرة وليس فيها ادنى خطر وتسير بالكهربائية لا بالبخار. التصوير بالألوان منذ أربعين سنة اخترعت طريقة التصوير بالألوان وما برحت تتعاور بالعناية لتبلغ كمالها وقد وفق رجل فرنساوي هذه الأيام اسمه لوميير فاخترع طريقة جديدة اقتصادية لرسم الألوأن الطبيعية كلها على أجمل وجه يتصوره العقل. الانتفاع بالفطر الميكولوجيا هي فرع من فروع علم النبات خاص بمعرفة أنواع الفطر. وتقسم ضروب الفطر إلى نوعين وهما النوع المرئ الجيد والنوع السام الضار. ولما كان الفطر يكثر في تارار من أقليم الرون في فرنسا رأت جمعية تعليم العامة أن تنشئ لها في تارار مكتباً لمعرفة الجيد من هذا النبات من رديئه وكل من جنى فطراً وأتى به ذاك المكتب بفحصه له ويعطيه ورقة باسمه فكان الفطر بذلك لاهالي ذاك الأقليم الجبلي منذ ثلاث سنين أعظم مورد لهم يقتاتون منه ويبيعون لاما فضل منه وتساوت في معرفة جيده من رديئه الطفلة والشيخ الكبير ولم يعد احد يتسمم ببعض أنواعه. سم الغضب ثبت للأستاذ غاتس من واشنطن أن للغضب الذي يثور في رؤوس الناس سماً كما أن للحزن سماً خاصاً به وللخوف كذلك. ذلك لأن التغييرات الباطنية مهما كانت فجائية او زائلة يكون منها رد فعل على المجموع العصبي فنفس السخص الغضبان أو السوداوي يختلف بلونه عن نفس السوداوي الكئيب ولكي يثبت ذلك جعل بعضهم يتنفسون في أنبوب

برد بالجليد لينحل النفس المستنشق فيه فجاء منه سائل لا لون عند ما كان المتنفس في الانبوب ساكناً غير مضطرب. وسائل اسفع إذا كان المستنشق غضوباً وسائل اسود إذا كان حزيناً وسائل وردي إذا كان وجدانه يتألم. وقال أن نفس الغضب إذا سال على الطريقة التي ابتدعها يكون فيه كمية من القوة الحيوية ومواد كيماوية إذا ابتلعها المرء تورده حتفه وإن هذا السم هو أشد سم عرفه العلم حتى الآن. كتب الأرض قدروا عدد المطبوعات الأدبية في العالم بخمسين مليون مجلد. ولم يكن حتى الأن لغير خزائن الكتب العظمى قوائم مطبوعة بالكتب التي لديها فكان مما يهم المشتغلين بالأمور العلمية وباعة الكتب أن ينظروا في المجلات التي تعنى بذكر الأسفار القديمة والحديثة. وقد جرت العادة في ألمانيا أن يرسل كل طابع إلى مكتب العلوم الاجتماعية في برلين بنسخة مما يطبع وإن يرسل الطابعون مطبوعاتهم في إنكلترا إلى مكتب العلوم الطبيعية. وفي كلتا العاصمتين توضع فهارس كل سنة. وقد ارتأى احد علماء الأوطان أن تضاف فهارس مكتبة الأمة في باريز وهي ثالث مكتبة من مكاتب العالم بكثرة كتبها وتسقط منها المكررات وهكذا يعمل بالأحدى عشرة مكتبة من المكاتب الكبرى في العالم فيأتي من ذلك فهرس عام لجميع الأسفار في الأرض. السيارات صنعت الولايات المتحدة سنة 1906 - 58 ألف سيارة (اتوموبيل) وصنعت فرنسا 55 ألفاً وصنعت إنكلترا 27 ألفاً وصنعت ألمانيا وإيطاليا 20 ألفاً. التوفير كان فيما مضي يمدح أهل الطبقة الوسطى في فرنسا لاقتصادهم ولكن ثبت أن الألمانيين من أهل طبقتهم أكثر منهم اقتصاداً فإن ما وضع في صناديق التوفير في فرنسا في سنة 1904 قد بلغ أربعة ملايين ونصفاً من الفرنكات وسكان فرنسا 39 مليوناً على حين بلغ ما وضعه الألمانيون وعددهم 37 مليوناً تسعة ملايين ونصفاً وقد زاد المودع في صناديق التوفير في فرنسا من سنة 1900 إلى سنة 1904 مائتي مليون اما في بروسيا فقد بلغ مليارين من الفرنكات.

غلاء الحاجيات غلت أسعار الحاجيات في العالم المتمدن مع أن ما يستخرج سنوياً من الذهب قد بلغ ضعفي ما كان عليه منذ عشر سنين. ويؤخذ من إحصاء التجارة العام أن تجارة العالم ارتفعت من 54 مليار فرنك سنة 1867 إلى 136 ملياراً سنة 1901 أي أن مجموع النقود المتعامل بها قد بلغت ثلاثة أضعاف ما كانت في 34 سنة على أن محصولات العالم لم ترتق ثلاثة أضعاف ما كانت عليه ولا تنسب الزيادة لارتفاع أسعار البضائع بل لبخس أثمأن الذهب لكثرة المستخرج منه. عمال المخازن كتب احد كبار البيوت التجارية التي تبيع بالجملة في شيكاغو نصيحة لمستخدميه وهي: لا تحتقر أصلاً زبوناً ولو كان رث الثياب. ولا تقلم أظافرك على ملاء من الناس ولجعل في جيبك أبداً قلم رصاص ولا تعره لأحد ولا ترتكب غلطة واحدة سبق لك ارتكابها. طواف العالم آخر ما اهتدى إليه البشر من السرعة في الأسفار أن يقطع المرء الأرض في خمسين يوماً بإنفاق 146 جنيهاً فيسير السائح من باريز إلى موسكو ففلاديفوستك فكويه فيوكوهاما فسيتيل فنيويورك فشربورغ ففرنسا. اتقاء الغش من أحسن الطرق التي سارت عليها الولايات المتحدة في اتقاء الغش في الإعلانات أنه إذا نشرت جريدة إعلاناً ضاراً تنذرها دار البريد بأنها تحرمها من الأمتيازات التي خصتها بها إذا ظلت تنشر هذا الإعلان وترجع جميع الرسائل الواردة باسم المعلن إلى من صدرت عنهم وتكتب عليها (مزورة) وفي ألمانيا وروسيا يتداخل الأطباء في الأمور الضارة بالصحة التي تنشر الجرائد عنها الإعلانات. التربية في يابان كتب احد نبلاء يابان مقالة في إحدى المجلات الإنكليزية ذكر فيها ما توفر الميكادو عليه من العناية منذ خمس وعشرين سنة لإنهاض الآداب في بلاده. قال أنه شرع سنة 1880

بمنع بعض الكتب المدرسية والدساتير وفي سنة 1890 جعل بناء التعليم على أسس جديدة وأمر الأمبراطور أن تكون مبادئ التربية مأخوذة عن تربية البيوت وعواطف المربين وعطفهم على من يربون وأن يسعى كل أمرئ إلى توسيع مداركه العقلية بان يتأهل للدفاع عن المصلحة العامة. وصية عالم ترك ادوارد دي هارتمأن الفيلسوف العظيم كتاباً عظيماً سينشر بعده في ثماني مجلدات وهو خلاصة الفلسفة كلها وشرح مبادئها وقد خص كل مجلد بفرع من فروعها كعلم النفس والعلوم الطبيعية والمادية والمبادئ الأولية والأخلاقية وهذه هي وصيته. معونة على العلم كان احد محسني الفرنسيس المسيو كاهن وقف على كلية فرنسا ألوفاً من الفرنكات لتصرفها كل سنة في إعانة أهل العلم والأدب يسيحون في الأرض ليزدادوا علماً ويؤبوا إلى بلادهم لينفعوها بفضل علمهم وقد وفق الآن خمسة عشر الف فرنك تصرف لأمرأتين او فتاتين كل سنة لتطوفا بها إلى أوروبا والولايات المتحدة واشترط أن تكونا معلمتين في المدارس الثانوية وأن تكونا عارفتين بلغة أجنبية. عنصر الفقراء كان الرأي الشائع أن أولاد الفقراء أصبح أجسأما من أولاد الأغنياء وإن هؤلاء دون أولئك بذكاء عقولهم وصحة أحلامهم ولكن العالم نيسفور احد أساتذة كلية لوزأن في سويسرا بما احدثه من الفن الجديد وهو علم تعريف طبقات الفقراء قد أثبت أن الأولاد الأغنياء أرقى فطرة وسحنة عقلاً مما كانوا يوصفون به ففتح بذلك سبيلاً نافعاً في مستقبل الإنسانية وكان بعلمه الجديد القائم على البحث في أحوال الفقراء لا البحث في الفقر أشبه بعلم البحث في الجانين لا البحث في الجنايات قال من بحث له في المجلة الإفرنسية: ويعرف الاختلاف الظاهر في أشكال طبقات أهل السعة وأهل الفاقة من الناس وما بينهما من الفروق التي تكاد تجعلهما المتين متباينتين مع إنهما يعيشأن في ارض واحدة ويتكلمان بلغة واحدة بالبحث في أشكال الطبقات النازلة وتأثيرهما الطبيعية والفسيولوجية. قال توكفيل الكاتب السياسي الفرنسوي (1805 - 1859) تتألف أمم مختلفة كثيرة من طبقات المجتمع الواحد

وقالوا أن كل امة تنقسم إلى المتين وهو قول صحيح لأننا لو بحثنا في حياة الفقير وحياة الغني لرأينا أن مبدأ التناقض بينهما على اتمة بيد أن هذا الرأي يعد من غريب الآراء. قامات الفقراء من أرباب الأعسار أصغر من قامات الموسع عليهم من أهل اليسار. فطول بن الفقير في الرابعة عشرة من عمره متر وستة وأربعون سنتيمراً وطول ابن الغني في مثل هذه السن متر ونصف وطول قامات الرجال الفقراء متر وأربعة وستون سنتيمتراً في الغالب وطول الأغنياء في سنهم متر وثمانية وستون سنتيمتراً ووزن جسم الموسرين من الأولاد وهم في الثالثة عشرة 35 كيلو وزنة جسم ابن الفقير في مثل تلك السن 33 كيلو. ومحيط رأس ابن الفقير في الحادية عشرة أصغر من محيط رأس ابن الغني فهو في الأول 524 في الثاني 533 وابن الغني وهو في سن العشرين 551. 9 وابن الفقير 547. 0 وهكذا ارتفاع الجبهة وقوة الجمجمة والدماغ والجمجمة الداخلية وزاوية الوجه كلها في قياسها في الفقراء أصغر مما هي في الأغنياء وسعة الحنك في الفقراء أكثر مماهي في الأغنياء. وإذا قيست قوة أبناء الفقراء بقوة أبناء الأغنياء بمقياس القوة (ديناموتر) نجد أن الغني في السابعة يحمل عشرة كيلو على حين لايقدر ابن الفقير أن يحمل أكثر من ثمانية. والفتاة من بنات اليسار تحمل 12 كيلو وهي في الثانية عشرة ومثلها من الفقيرات لا تقوى على حمل أكثر من 7 كيلو. وأولاد الأغنياء أقل صبراً على التعب من أولاد الفقراء فقد دلت التجارب الكثيرة أن أبناء الأغنياء في الثانية عشرة من اعمارهم تنقص من 18 إلى 7 كيلو. وكذلك الصدر فإنه في أولاد الموسرين أكثر سعة من أبناء المعسرين اللهم إلا فيمن يعملون أعمالاً صناعية من أبناء الفقراء يكبر بها محيط صدورهم. وحركة النمو في أولاد الفقراء أبطأ مما هي في أولاد الأغنياء. وبنات الفقراء لا يبلغن الا بعد سنة او سنتين من السن التي يبلغ فيها امثالهن من بنات الأغنياء. وأثبت كثير من الأطباء أن المولودين حديثاً من أولاد الفقراء أقل وزناً من امثالهم من أبناء الأغنياء والأم المستريحة تلد أولاداً أثقل وزناً من الأم المتعبة إلى آخر يوم من حملها وليس لها غذاء جيد. ومن المؤثرات في صحة المولود سن الأم وزمن بلوغها وتعاقب ولادتها وصحة حالتها وكل هذه الأمور تؤثر في طول الطفل ووزنه.

ويخطئ من يقول أن الجمال وتناسب الأعضاء موجدان في أولاد الفقراء لأن الجمال والقوة والنشاط تابعة لسعة العيش أبداً ولاسيما لحالة الأم وإن وجد جمال في أبناء الفقيرات وبناتهن فإنه عرض زائل يذبل لأول نضارته وأقل تعب ينالهم. وتكثر الأسقام والموت في الفقراء أكثر من كثرتها بين الأغنياء وذلك لأن الفقير عرضة للأمراض أكثر بالنظر لتركيبه فلا يقوى على مقاومتها ولان معيشته شاقة. وخالف من يقول بان تشويه وجوه الفقراء وسحناتهم ناتج من تعاطيهم بعض الصنائع وأثبت بأن ذلك خلقي فيهم وأن للفقر والانحطاط الطبيعي وما يلحق بذلك من التبدلات والاضطرابات في التغذية يداً كبيرة في التأثير في الطفل قبل أن يحيا. وتكلم على الأخلاق النفسية من الإحساس على اختلاف أنواعه والعواطف الأدبية والتأثرات والذكاء فقال أنها في الفقراء أقل مما هي في الأغنياء واذ يتأخر ابن الفقير في نموه فهو لا يبلغ أشده بدون مساعدة شروط كثيرة من التعليم والمحيط المرتقي والرفاهية الطبيعية والاقتصادية وهو مما لا يحلم أن يراه من كانوا في أدنى سلم الاجتماع. ولئن نشأ من الطبقة النازلة أناس يكذبون هذه القضية كانوا من خيرة العقلاء والأذكياء ولكنهم قلائل جداً لأن الأسباب الصحية والاقتصادية تؤثر في بنية الإنسان وعواطفه وعقله ولاسيما في ذكائه ونبوغه وليس الذكاء والنبوغ مما يستفيد من المحيط بل هما خلقة في المرء. ومما لا ريب فيه أنه كلما كثر في عنصر الانحطاط العقلي والانحطاط المعاشي لا ينشأ وسطه إلا أناس ضعيفة عقولهم منحطون عن غيرهم من أهل السعة. بحث الباحثون في خصائص الشعوب والأجناس والقبائل ولم يبحثوا كثيراً في خصائص الطبقات الاجتماعية في امة واحدة. وما الخصائص التي تميز طبقتين من طبقات شعب واحد غنية وفقير إلا بأكثر تبايناً حتى بين أهل البلد مما هي بين امة في القاصية وامة في الدانية وثبت للباحث بالبراهين المدققة أن الاختلاف في الولادة والموت وسن الزواج والأمراض وغيرها بين البارزين الفقراء وبين أهل طبقتهم من سكان فينا أقل مما هو بين سكان مملكتي إيطاليا ونروج مثلاً وأن الاختلاف يكثر بين طبقتي الفقراء والأغنياء من أهل البلد الواحد ولا يكثر على تلك النسبة بين شعبين متباينين بلغتيهما وأصلهما بعيدين أحدهما عن الآخر مئات من المراحل. والتمدن يبدو في الطبقات النازلة مهما ارتقت بلادهم

كما يبدو عند الطبقات النازلة في البلاد المنحطة أي أن فقراء بلاد التمدن ينتشر فيهم الجهل ويقل النسل ويكثر الموت والجرائم كما هو الحال بين فقراء البلاد الساقطة. ولا يفوتنا النظر أن التمدن لا ينتشر في الآفاق المنوعة من ارض واحدة على معدل واحد بل أنه يستنير كل الإنارة في أفق ويظلم في آخر أو يكون ذا نور ضئيل ورسم محيل. وهم قوم أن الطوتمية وعبادة الظلام والحيوانات والأحجار والأشجار والمياه والنيران والظواهر الجوية والسحر وغيرها من أنواع التعبد هي من خصائص الأمم المتوحشة القديمة والحقيقة أن هذه العبادات لا تزال حية نامية بين الطبقات النازلة عند أكثر الأمم عراقة في الحضارة على أنك تجد مثل هذه العادات والاوهام والأخلاق شائعة أيضاً عند أرقى الطبقات المتحضرة لهذا العهد وذلك لأن للاموات تأثيراً شديداً في نفوسنا وهي الحاكمة المتحكمة فينا ولكم يحاول المتمدن منا أن ينزع عنه ما كان الفه اسلافه من العادات والعبادات وماهو يبالغ ما أراد لا تحكم ذلك منه وغلبة العادة ولكن ذلك يقل في الطبقات العالية ويكثر في الطبقات النازلة.

نقد المقتبس

نقد المقتبس كان معظم النقد الذي ورد على هذه المجلة في عامها الأول مقصوراً على الألفاظ والوضع اما نقد هذه السنة فأكثره على المعاني والمقاصد. وقد كتب إلينا احد أهل العلم في القاهرة يقول (كنت آليت على نفسك أن لا تتعرض في المقتبس للمباحث المتعلقة بالدين أو السياسة لئلا يظهر منك ما يشتم منه رائحة التعصب للملة أو الدولة ثم رأيتك كانك نسيت عهدك حتى نبهك احد أدباء بغداد على ذلك. وقد رأيتك عدت إلى مثل ذلك فأكبرت الأمر في مثل مسألة بسيطة لا توجب شدة ولا حدة كمسألة التقية ورحت بنحي فيها على الشيعة وإن كان ما أوردته منقولاً عن غيرك حتى أحرجت بذلك صدورنا دع عنك صدورهم. وكذلك فعلت في مسألة السموأل فإنها مسألة طفيفة فما بالك أعظمت الأمر فيها ولعلك تقول أن المقصد بذلك تنقيح البحث في التاريخ وهو من مباحث العلم على أن الاعتراض جاء من غيري فنشرته. أقول نعم كان الخطب سهلاً لو لم يكن في المقالة شدة. وصاحب المجلة مسؤول عما يكتب في مجلته. والمأمول أن لا تعود إلى مثل ذلك او تبين عذرك المقبول في هذا الشأن والسلام عليك) هذا ما تناولناه بيد المنة لكاتبه وكنا نود أن نكتفي بنشره ونترك الحكم فيه للقراء كما فعلنا حتى الآن في جميع ما جاءنا من هذا القبيل لولا أن كثر مثل هذا النقد علينا وجاءنا شيء من نوعه من مصر والشام والعراق فأصبح السكوت عن الأجابة ضرباً من ضروب الأهمال. وبعد فالمجلة لا تزال جارية على الخطة التي رسمتها في أول جزء صدر من التمحص للعلم المحض والانطلاق في الفكر والتجوز في الاقتباس والنشر. وما يبدر منافي بعض الموضوعات مما قد يحمله بعضهم على نزعة دينية أو سياسية فإنما يكون في الغالب من مؤزاري المجلة الكرام أو مما نقتبسه من غيرنا أو يقع لنا بالعرض لا بالقصد ولا نبرئ النفس من الذهول في بعض الأحيان فالإنسان محل النسيان. ليس معنى نشرنا في السنة الماضية لمقالتين في حريق الأسكندرية أحدهما معربة عن التركية والأخرى عن الإنكليزية مما يستدل منه على أننا نريد الغض من الرفع لآخر فالمسألة تاريخية صرفة تعاورتها الأقلام ولا تزال تتعاورها من أهل كل نحلة وجنس. وكذلك درجنا بحث (شعراء النصرانية في الجاهلية) وهو من المباحث التي لامنا بعضهم على القبول بنشرها ولو علم اللائمون بأن الناقد والمنتقد عليه متحدان في النحلة والمشرب

لخففوا من اللائمة. وهكذا قل في نشرنا مقالة التقية فإنا لم نقصد إلى الحط من فرقة معينة فيما كتبنا وعذرنا إلى من تألموا مما نقلناه في التقية عند الشيعة أن ليس لدينا كتاب من كتب محققيهم ننقل عنه ما يتم به البحث. ولو تفضل أولئك الناقدون فوافونا بما أثر عن أهل العلم من الشيعة لكانوا أحسنوا صنعاً. وقد كان وعدنا احد أفاضلهم أن يوافينا بما قاله علماؤهم ثم عاد فاعتذر بان شواغل شغلته عن ذلك أهم من هذه المسألة. ولايفوتنا النظر بان تعلق العلوم بعضها ببعض يقضي علينا في الأحايين أن ندخل في مبحث اجتماعي أو علمي شيئاً من مسائل الدين تيمماً للبحث كما وقع لنا في بحث البقية وما كان في وسعنا أن نصور للقارئ هذا الموضوع لو لم نعتمد إلى كتب التفسير والكلام ونقتبس منها ماله اتصال بالبحث. اما قول المنتقد المشار إليه بان صاحب المجلة مسؤول عما ينشر ولا يعذر فكلام لا يخلو على اطلاقه من نظر. ذلك لأنه لا يتيسر تقييد حرية المكاتبين إذا كانوا مخلصين فيما يكتبون ما لم يتجاوز قلمهم الحد في التنكيت والتبكيت فأن ذلك مما يلام فيه الكاتب والناشر على أننا كثيراً ما نعدل مثل هذه السقطات مالم نذهل او نجد الأمر فيه غير جلل على أنا قد اشرنا إلى العذر في مثل ذلك في نبذة نشرناها منذ شهرين تحت عنوان المترجمات وحكم المترجم فيها. فهل فيما أوردناه مقنع؟ اقترحنا منذ مدة على احد أصدقائنا أن يعرب لنا عن الإنكليزية شيئاً من مقالات القاضي أمير علي الهندي نظراً لشهرة المؤلف في بلاد الإنكليز فعرب لنا مقالة المرأة في الإسلام فنشرنا نصفها في الجزء الخامس من هذه السنة وقد وردت علينا من احد فضلاء سورية رسالة شديدة الوطأة ينقد فيها مقال القاضي الهندي وبنى نقده على أمرين أحدهما ضعف الأخبار التي نقلها وأنها لا تعرف في كتب الثقات من علماء الأثر والثاني تعليله بعلل لا تعقل فأن كثيراً من علماء الإسلام بل وغيرهم من المحامين عنه قد أوردوا في ذلك عللاً محكمة فيها مقنع للناظر. ولما كان نشرها برمتها يوجب الدخول في تفصيل قضايا يباين ما أنشئت له المجلة من الأبحاث رأينا أن نكتفي بالإشارة إلى تلك الرسالة شاكرين للمنتقد عنايته منبهين على أن المنتقد عليه حسن النية فيما كتب وكثيراً ما يكبو الجواد.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة ابن زيدون إذا انتشرت الآداب والعلوم في أمة وكادت تعم أفرادها كافة يأتي من بين أولئك المتعلمين الكثار صفوة من الرجال منهم ينشأ النوابغ لان ارتقاء العلوم في الخصوص يكون على نسبة ارتقائها في العموم. وصاحب الترجمة هو احد أفراد الأندلس المعدودين زكا أصله وسما عقله ورجح بيانه وانفتق لسانه وبعد صيته بين حملة رايات القريض وصواغ عقود الإنشاء جمع إلى تليد مجده طريفاً وإلى آدابه الوهبية آداباً كسبية وقد عد في الطبقة العالية بين شعراء الأندلس ونال من المنثور حظاً كبيراً فهو على التحقيق كما وصفه احد الأدباء (بحتري المغرب) لحسن ديباجته وسهولة معانيه ومتانة تراكيبه تقرأ في منظومة العواطف في أبهى مظاهرها وتتجلى لك أغراضه في أسمى معانيها فشعره جعبة الأدب البارع ودرج الذهب الرائع ومثال الظرف والرقة وعنوان الانسجام والإجادة حتى قال أحدهم فيه: من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف كله. وصفه صاحب القلائد بقوله: زعيم الفئة القرطبية ونشأة الدولة الجهورية الذي بهر بنظامه وظهر كالبدر ليلة تمامه فجاء من القول بسحر وقلده أبهى نحر لم يصرفه إلا بين ريحان وراح ولم يطلعه إلا في سماء مؤانسات وأفراح ولا تعدى به الرؤساء والملوك ولا تروى منه إلا حظوة كالشمس عند الدلوك فشرف بضائعه وأرهف بدائعه وروائعه وكلفت به تلك الدولة حتى صار ملهج نسانيها وحل من عينها مكان إنسانها. وفي بعض المجاميع أن الوزير آبا بكر بن عمار وأبا الوليد بن زيدون كانا في حسن الشعر فرسي رهان ورضيعي لبان وقد ذكرا أكثر الأدباء بالأندلس إنهما اشعر أهل عصرهما هذا ما ذكره العماد الكاتب وذكر له القصيدة التي أولها (أما في نسيم الريح عرف يعرف) والرسالة التي كتبها لأستاذه ابن جهور يستعطفه بها وقد اعتقله لما سمع أنه مال إلى المعتضد عباد وذكر لابن عمار الرائية التي استوزره لسببها ابن عباد وهي ادر الزجاجة الخ. ولقد كان ابن زيدون آية في طلاقة لسانه كما كان غاية في حسن بيانه ويحكى أن ابنته

توفيت وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم فقيل إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد الصفدي وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنين في أساليب الكلام وهو أمر صعب إلى الغاية وأرى أنه اشق مما يحكى عن علماء وأصل بن عطاءاته ما سمعت منه راء لإنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهوينه أن وأصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء وهذا كثير في كلام العرب فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزنى أو غير ذلك أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهدم أو غير ذلك وأما ابن زيدون فأقول في حقه أقل ما كان في تلك الجنازة وهو وزير ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر وهذا كثير إلى الغاية لاسيما من محزون فقد قطعة من كبده ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحاب وقال ابن بسام في الذخيرة في ترجمة ذي الوزارتين الكاتب أبي الوليد ابن زيدون وصاحب الذخيرة خير من يصور الرجال ومناشئهم وأحوالهم: كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم. وخاتمة شعراء مخزوم. احد من جر الأيام جرا. وفات الأنام طرا. وصرف السلطان نفعاً وضراً. ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للجدول تدفقه. ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه. ولا النجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني. شعري الألفاظ والمعاني. اخبرني غير واحد من وزراء إشبيلية قال: لما خلص ابن عبد البر من يد عباد. خلوص الفرزدق من يد زياد. بقيت حضرته من أهل هذا الشان. أعرى من ظهر الأفعوان. وأخلى من صدر الجبان. فهم باستخلاف أبي محمد ابن الباجي المشهور أمره الآتي في القسم الثاني من هذا الديوان ذكره فكان أبا الوليد غص بذلك ووطأ أبا محمد بن الجد على الإشارة بالاستغناء عما هنالك فكأنت الكتب تنفذ من إنشاء أبي الوليد إلى شرق الأندلس فيقال: تأتي من إشبيلية كتب هي بالنظم أشبه منه بالنثر. وقد أجرى ذكره أبو مروان بن حيان في وصف من كان اصطنع ابن جهور من رجال دولته فقال: ونوه بفتى الأدب وعميد الظرف الشاعر البديع الوصف أبي الوليد احمد

بن زيدون ذي الابوة النبيهة بقرطبة والوسامة والدراية وحلاوة المنظوم والسلاطة وقوة العارضة والافتنان في المعرفة وقدمه إلى النظر على أهل الذمة لبعض الأمور المعترضة وقصره بعد على مكانه من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء فأحسن التصرف في ذلك وغلب على قلوب الملوك. وقال ابو مروان وكان أبو الوليد من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة في أيام الجماعة والفتنة وبرع أدبه وجاد شعره وعلا شأنه وانطلق لسانه فذهب به العجب كل مذهب وهون عنده كل مطلب وكان علقه من عبد الله بن احمد احد حكام قرطبة ما اداه إلى السجن فالقى نفسه يومئذ على أبي الوليد بن جهور في حياة والده أبي الحزم فشفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به واسنى خطته وقدمه في الدين اصطنع لدولته واوسع رايته وجلله كرامته ولم يقنعه ذلك فيما زعموا فاتفق أن عن له مطلب بحضرة ادريس الحسني بمالقة فأطال الثواء هنالك واقترب من ادريس وخف على نفسه واحضره مجالس أنسه فعنف عليه ابن جهور وصرفه في السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة فاستقل بذلك بفضل ما أوتيه من العارضة بالنسب والجاه والمنفعة ولم يغنه ذلك عن التهافت في الترقي لبعد الهمة فهوى عما قليل إلى عباد صاحب إشبيلية فهاجر عن وطنه إليه ونزل في كنفه وصار من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته ويسفر له في مهم رسائله على حال من التوسعة وكان ذهابه لعباد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. قال أبو الحسن: فاما سعة ذرعه وتدفق طبعه وغزارة بيانه ورقة حاشية لسانه فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد والرمل الذي لا يحصر ولا يعد اخبرني من لا ادفع خبره من وزراء إشبيلية قال: لعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحداً بمثل ما أجاب به غيره لسعة ميدانه وحضور جنانه. وقد اخرجت من أشعاره التي هي حجول وغزر ونوادر أخباره التي هي مأثر وأثر ورسائله التي اخرست السنة الحفل (ما ستتلوه) ثم ذكر له ما يتعلق بذكر وفاة ذي الوزارتين فصل من تاريخ الشيخ أبي مروان ابن حيان رأيت اثباته لنبل مساقه وحسن اتساقه يقول فيه: وفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وأربعمائة سار الحاجب سراج الدولة عباد بن محمد إلى إشبيلية الحضرة الاثيرة لمطالعتها وتأنيس أهلها

من وحشة خأمرت عامتهم من أجل عدوان رجل منهم على يهودي زعم أنه سب الشريعة فبطش به المسلم وسط السوق وجرحه وحرك عليه العامة فقبض عليه صاحب المدينة عبد الله بن سلام واعتقله فكان لعامة الناس في إنكار حبسه كلام وإكثار فخاطب السلطان بقرطبة بما كان منه ويستأمره في شأنه فعجل انفاذ ولده الحاجب سراج الدولة إلى إشبيلية في جيش كثيف من نخبة غلمانه ووجوه رجاله لمشارقة القصة والاحتياط على العامة وانفذ معه ذا الوزارتين أبا الوليد بن زيدون أحد الثلاثة كابري وزرائه المثناة وزارتهم مع الحاجب على بقية وعك كان متألماً منه ولم يعذره في التوقف من اجلها فمضى لطيته مسوقاً إلى منيته وخلف ولده ابا بكر الفذ الوزارة المرتسم بالكتابة وراء ساداً مكانه بالحضرة فأقر فيها أياماً ثم أمر بالمسير وراء والده لأمر كلفه فعجل بالانطلاق له فمضى غداة يوم السبت من ثمان خلون من المحرم سنة ثلاث وستين فخلت منهم منازلهم بقرطبة وصيرت على سواهم فتحدث الناس بيبو مكان الأديب ابن زيدون لدى السلطان وبما جرى من الحظيين لديه ابن مرتين وابن عمار في ابعاده وابعاد ابنه واحتوائهما على خاصة السلطان وتدبير دولته ولم يطل الأمد بابن زيدون بعد لحاق ابنه به ووجدانه إياه متزايداً في مرضه نازحاً عن ألافه على جهد في استدعائها على أنتهاء المدة وانتهاك القوة فاستقر به وجعه إلى أن قضى نحبه وهلك بدار هجرته إشبيلية صدر رجب سنة ثلاث وستين فدفن فيها مشهوداً مفتقداً واحتوى تربها عليه فيا بعد ما بين قبره وقبر ابنه لدينا رحمة الله عليهما. ولقد اتصل خبر هلكه بعشيرته أهل قرطبة فتنازعوه وسيئوا لفقده وحزنوا عليه إذ كان منهم متعصباً لهم هاوياً إليهم حدباً عليهم والبقاء لمن تفرد به وحده. وقد عزى اخوانه عنه امتداد بقاء فتاه الندب أبي بكر ولده بعده ساداً ثلمه سامياً مسماه غائطاً عداه عاطياً منتهاه مع شماخة ودماثة وحصافة ونزاهة ومعرفة ووفور حظ من أدب بلاغة وكتابة وشركة في التعاليم المعلية واشتداد في رعاية متقادمي الذمة لم يفقد اخوان أبيه معها الا عينه هو. اما شعره فمعروف سائر على الألسن. وقد افضنا في الكلام على ديوانه في غير هذا الموضع من هذا الجزء. واما نثره فقليل في الايدي لم يشتهر منه غير رسالتين مفردتين لم ينسج ناسج على منوالهما إحداهما رسالته في التنكيت على احد وزراء عصره وهي التي

شرحها الأديب المشهور ابن نباته السعدي. والثانية رسالته التي كتبها وهو في الحبس يستعطف بها أمير مصره وقد شرحها صلاح الدين الصفدي (وطبع هذان الشرحان في الديار الأوروبية) ومتى ساعدنا الوقت نشرناهما لكثرة ما فيهما من التلميح للأمور التاريخية التي يجدر بكل أديب الوقوف عليها وقد أحببنا أن ننشر له بعض الرسائل التي ذكرها صاحب الذخيرة نقرأوها في باب الصحف المنسية.

ثروة العرب

ثروة العرب قد يظن من يطالع تاريخ الإسلام بدون أن يعمل نظره معمله أن مايراه في تضاعيف سطوره من أخبار الثروة وطول ارقامها وتفإني الباحثين عنها والمتفإنين في نيلها ضرباً من ضروب الغلو ساق إليه تسرع المؤلف او اختلاق منه ليجعل لمن يتكلم عنه وقعاً في النفوس ويحبب إليها مطالعة كتابه خصوصاً والبشر في كل دور من ادوارهم كادوا يجعلون الدينار معبودهم. لو لم يرد إحصاء الثروة الإسلامية في كتب الثقات ما كان كلام بعضهم عنها بحيث يصبح نقله. فقد لقي الرسول عليه الصلاة والسلام ربه وحاله من الزهد في المال والرفاهية حاله واستن معظم أصحابه بسنته وكان من أمر أبي بكر وعمر وعلي من الزهد في المال ماشاع ذكره وظهر أثره وتحدث به السمار في الامصار. قال معاوية وقد ذكر المال (اما ابو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده واما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها واما عثمأن فأصاب منها واما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن) على هذا النحو كان التأثل والارتياش راح الخليفة الأول وأسباب الفتوح معدودة ولم يصل قواده إلى أقصى جزيرة العرب ليفتحوا بلاداً عأمرة كفارس ومصر والشام كانت خزانة الثروة والأموال بما كان فيها من حضارة قديمة وإنما تهيأت الفتوحات وكثرت الغنائم أيام الخليفة الثاني ففتح الله للمسلمين تلك البلاد الغنية فعف عنها هو معظم أصحابه وكان يصادر من عماله من يجمع مالاًُ من غير حله. أما الخليفة الثالث فأخذ نصيباً من الدنيا هو وعماله وربما اغرق هؤلاء في نيلها بطرق لم تعهد زمن الخليفتين السالفين لان معظمهم من انسبائه وخاصته لا يحاسبون فيما هم فاعلون حتى إذا جاء الخليفة الرابع أراد إرجاع الخلافة إلى طورها اللائق وقتر على نفسه وعلى خاصته وذويه ولم يتسع له الوقت حتى تظهر فيها أخلاقه بالقول والفعل لاشتغاله بدفع غوائل الفتن. جاء معاوية فإنقلبت الخلافة إلى ملك عضوض وبدأ يستكثر من المال فيعطيه الأديب والطبيب والخطيب والفقيه والكاتب والقائد والعامل ومن ماثلهم يجعلهم عدته في توطيد الملك له ولذريته فكثرت الأموال والناس على دين ملوكهم. ولم يكن الا قليل حتى ابدى عبدة الدرهم نواجذهم من غير نكير وكاد ينسى ما كان عليه أهل الصدر الأول الا قليلاً ففي حوادث سنة اثنتين وثلاثين (أن الدنيا اتسعت على الصحابة حتى كان الفرس يشترى

بمائة الف وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة الف وكأنت المدينة عأمرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمارة وقبة الإسلام فبطر الناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا اقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا) (وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام تاجراً كثير الأموال بعد أن كان فقيراً باع سرة أرضاً له بأربعين ألف دينار فتصدق بها كلها وتصدق مرة بسبعمائة جمل باحمالها قدمت من الشام وأعان في سبيل بخمسمائة فرس عربية) (ومات أبو طلحة الانصاري احد من شهد بدراً في سنة أربع وثلاثين وكان أكثر الانصار مالاً) (وكان الزبير بن العوام ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة كثير المتاجر والأموال قيل كان له الف مملوك يؤدون إليه الخراج فربما تصدق بذلك في مجلسه وقد خلف أملاكاً أبيعت بنحو أربعين ألف الف درهم وهذا لم يسمع بمثله قط) (وكان طلحة بن عبيد التميمي أحد العشرة من الأجواد يقال له طلحة الفياض وطلحة الجود ويقال أنه فرق في يوم واحد سبعمائة الف ويروى أن إعرابياً من أقاربه قصده وتوسل إليه فوصله بثمانمائة الف درهم ويروى عن عمرو بن دينار عن مولى طلحة أن دخل طلحة كان كل يوم الف درهم ويقال أنه خلف من المال الفي الف درهم ومائتي ألف دينار وقال ابن الجوزي خلف طلحة ثلاثمائة حمل ذهباً وروى ابن سعد باسناد له قومت أصول طلحة وعقاره بثلاثين الف الف درهم) وخلف عمرو بن العاص نائب معاوية على مصر (أموالا عظيمة من ذلك سبعون رقبة بعير مملوءة ذهباً وكان معاوية قد أطلق له خراج الديار المصرية ست سنين شارطه على ذلك لما أعانه على وقعة صفين). جمع ابن العاص ما جمع لا من الخراج الذي كأن يستأثر به وحده وإنما من تلونه في أساليب استخراج المال من أهل مصر ولذا صادره عمر بن الخطاب لما كان عاملاً له عليها. روى الديري في كتاب الحبس على التهمة عن أبي القاسم بن سلام في كتاب الأموال في اسناد له عن هشام بن أبي رقية وكان ممن افتح مصر قال افتتحها عمرو بن العاص فقال: من كان عنده مال فلينتابه قال: فأبي بمال كثير قال: وبعد

ذلك بعث إلى عظيم أهل الصعيد فقال: المال فقال: ما عندي مال فسجنه قال: وكان عمرو يسأل من يدخل عليه هل تسمعونه بذكر أحداً قالوا: نعم يذكر راهباً بالطور فبعث به مع رسول من قبله إلى الراهب فأتي بقلة من نحاس مختومة برصاص فإذا فيها كتاب وإذا فيه يا بني إن ارتم مالكم فاحفروا تحت الفسقية فبعث عمرو الأمناء إلى الفسقية فحفروا فيها فاستخرجوا منها خمسين اردباً دنانير قال فضرب عنق القبطي وصلبه. ومصر هي أم المدن الإسلامية بثروتها وتربتها ذهب كما وصفها احد حكامها ولم يزل أمراؤها يستنزفون أموالها ففي سنة خمس وثمانين (مات متولي مصر والمغرب عبد العزيز بن مروان الأموي اخو الخليفة وقد ولي الديار المصرية عشرين سنة وخلف أموالاً لا تحصى) وسنة 515 مات بمصر الأفضل أمير الجيوش شاه نشاه احمد بن أمير الجيوش بدر الأرمني وكانت ولايته ثمانياً وعشرين سنة على الديار المصرية (واستولى الأمر على حواصله كلها ولم يسمع في الدنيا بمثلها كثرة كانت دوابه باثني عشر ألف ألف دينار وكان لبن المواشي التي له يغل في العام ثلاثين ألف دينار وأما بن خلكان فنقل عن صاحب الدول المنقطعة قال: خلف الأفضل وزير الديار المصرية وأمير جيوشها ستمائة ألف ألف دينار ومائتين وخمسين إردب دراهم وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج) وكانت أسباب الثروة في البلاد الشرقية كثيرة وخصوصاً لمن ولي شيئاً من أمر الأمة في دور الانحطاط وارتفاع المراقبة وفساد التربية فإن المصادرات والرشوات وأنواع الهدايا والقربات وقلة النفقات ورخص البياعات كانت كلها من الأسباب التي تهيء الأمير متى رفع خوف الله من قلبه أن يكون صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يسلبها ألوفاً من الضعفاء لينعم بها باله وبال عياله وأولاده من بعده. وإلا فكيف كان يتأتى للأمراء أن يخلفوا الأموال الطائلة في خزائنهم ويسرفوا إسرافاً لا يكاد يصدق لولا صحة ما رواه المحققون من أهل النظر. قيل أن جملة ما أنفقه عبد الله محمد بن أبي يوسف احد ملوك الأندلس في سفرة له مائة وعشرون حملاً ذهباً فكم كان في خزائنه يا ترى؟ ولا يخفى على ذي بصر أن أحوال العرب الاجتماعية لم تكن في الدرجة التي نتصورها ولو حفظت لنا كتبهم وسجلاتهم من الضياع لكان حكمنا على مدنيتهم من هذا القبيل صحيحاً لا شوب فيه ولا تخليط ولاشك إن

كان للقوم عناية بالمال وطرق استثماره وأخبار أصحابه عنايتهم بالشؤون التي قلما يخطر بالبال إن كتاب العرب دونوا فيها وصنفوا. وما تعب يعانيه من يود الخوض في ذكر أحوال العرب على جليتها إلا ناتج من قلة الظفر بكل ما كتبوه وقد صام القوم عن العلوم الاجتماعية قرابة خمسمائة سنة لم يكن لهم فيها بعد ابن خلدون فيما احسب كتابة ولا رسالة يصح الرجوع إليها في المعضلات. رغب كثير من أهل الإسلام في الدنيا على أصولها ونشدوها من أبوابها وادخروا الأصفر والأبيض بعرق الجبين والكدح المشروع والطرق المعقولة والارتياض والاستنفاض والصناعات والتجارات والزراعات. وإن قل من جمعوا المال من حله وأنفقوه كذلك قلتهم في كل امة بحيث يتأتى للباحث في تراجم كبار الأغنياء في العالم أن يرجع طبقاتهم إلى ثلاث أما سارق بطرق تجارية أو صناعية كما في الغرب اليوم أو سارق برشوة ومظلمة كما في الشرق قديماً وحديثاً أو وارث ترك له أهله مالاً جنوه بتلك الأسباب وقليل منهم بالعمل واتخاذ أسباب الرزق. ولا يعقل أن يكسب المرء من حلال صرف ويسير على قانون مشروع أو معقول ويتسنى له أن يكون من رجال الخزائن والصناديق. كان أمام أهل مصر الليث بن سعد الفهمي المتوفي سنة 175 (من بحور العلم له حشمة وافرة وكان نظير ملك قيل كان دخل الليث في السنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة مال قط وكان نواب مصر من تحت اوأمره) وسنة 302 صادر المقتدر بالله العباسي حسين ابن الجصاص الجوهري وسجنه قال ابن الجوزي: وأخذوا منه ما قيمته ستة عشر الف ألف دينار قال بعضهم: رأيت ابن الجصاص يقبن بين يديه بالقبان سبائك الذهب قال الكتبي في ذيل الوفيات: كان ابن الجصاص من اعيأن التجار ذوي الثروة الواسعة ولما بويع لعبد الله ابن المعتز وانحل أمره وتفرق جمعه وطلبه المقتدر اختفى عند ابن الجصاص هذا فوشى به خادم صغير لابن الجصاص فصادره المقتدر على ستة آلاف ألف دينار قال ابن الجوزي: أخذوا منه ما مقداره ستة عشر الف ألف دينار عيناً وورقاً وقماشاً وخيلاً وبقي له بعد المصادرة شيء كثير إلى الغاية من دور وقماش وأموال وبضائع وضياع. قال ابن الجصاص في سبب ثروته: إنه كان في دهليز أبي الجيش خمارويه بن احمد ابن

طولون وكان وكيله في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه وما كان يفارق الدهليز لاختصاصه به فخرجت إليه قهرمانة لهم في بعض الأيام ومعها عقد جوهر فيه مائة حبة لم ير قبله ولا بعده افخر ولا أحسن منه كل حبة منه تساوي مئة ألف دينار عنده وقالت: يحتاج أن يخرط حتى تصغر فتجعل في إذأن اللعب وفي قلائده قال: فكدت اطير وأخذتها وقد قلتٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ السمع والطاعة وخرجت في الحال مسروراً وجمعت مائة حبة أشكإلا في النوع الذي طلبته واردته وجئت عشياً وقلت إن خرط هذا يحتاج إلى انتظار زمان وقد خرطت اليوم ما قدرنا عليه وهو هذا ودفعت إليها المجتمع وقلت الباقي يخرط في أيام فقنعت بذلك واعجبيها الحب فخرجت وما زلت أياماً في طلب الباقي حتى اجتمع ف حملته إليها وقامت علي المائة حبة بدون المائة الف درهم وأخذت منهم جوهراً بمائتي الف الف دينار ثم لزمت دهليزهم وأخذت لي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني وكان يلحقني من هذا كثر مما يحصى حتى كثرت النعمة وانتهيت إلى ما استفاض خبره. هكذا اغتنى ابن الجصاص المتوفي بعد العشرين والثلثمائة تقريباً وله أخبار ونوادر لا تصدر الا عن النوكي كان يتظاهر بها ليرى الوزراء منه هذا التغفل فيأمنوه على انفسهم إذا خلا بالخلفاء. ومما يدل على مقدار الثروة الإسلامية النظر في مصادرات الملوك لأمرائهم وقوادهم فقد صادر المنصور سنة ثمان وخمسين ومائة خالد بن برمك (وأخذ منه ثلاثة آلاف الف ثم رضي عنه). (وفي سنة 219 غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ بي أبي دؤاد القاضي وصادره وأخذ منه ستة عشر الف الف درهم) وفي سنة تسع عزل القاضي القضاة يحيى بن اكثم وأخذ منه مائة ألف دينار. وكان الوزير ابن الفرات ذا جبروت وفتك وزر مرات للعباسين ثم صودر وقتل قيل كان دخله من ملكه في السنة الفي ألف دينار وكان له من الخيل والمماليك والتجمل مالا يكون مثله لسلطان. ولما جرت المحنة على الوزير أبي علي بن مقلة صاحب الخط المشهور في زمن الراضي بالله في سنة 324 أخذ خطة بالف ألف دينار (ومات ايتاخ التركي الأمير مقدم جيوش الواثق سنة أربع وثلاثين ومائتين خافه المتوكل فقبض عليه وأميت عطشاً وأخذوا له الف ألف دينار.

جاء في ذيل الدول وسنة 753 قبض السلطان على الوزير علم الدين بن زنبور وصودر بعد الضرب والعذاب فكان المأخوذ منه من النقد ما يزيد على الفي ألف دينار ومن أواني الذهب والفضة نحو ستين قنطاراً ومن اللؤلؤ نحو أربعين ومن الحياصات الذهب ستة آلاف ومن القماش المفصل نحو ألفين وستمائة قطعة وخمسة وعشرين معصرة سكر ومائتي بستان وألف وأربعمائة ساقية ومن الخيل والبغال ألف ومن الجواري سبعمائة ومن العبيد مائة ومن الطواشية سبعون إلى غير ذلك. وكان دخل القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد العباسي من املاكه في السنة سبعمائة ألف دينار (ومات سنة 301 أمير جند يسابور علي بن احمد الراسبي وخلف تركة عظيمة منها ألف ألف دينار وألف فرس). وخلف احمد ابن يونس الحراني من أطباء الأندلس ما قيمته أزيد من مائة ألف دينار نال أكثرها من الطب. وكان أبو عبد الله بن الكتاني من أطباء الأندلس وفلاسفتها ذا ثروة وغنى واسع وفي عيون التاريخ أن عبد الله بن محمد الأسدي المعروف بابن الاكفإني قاضي قضاة بغداد المتوفي سنة 405 أنفق على ماقيل مائة ألف دينار على طلب العلم. وخلف خاسر الشاعر أيام الرشيد ستة وثلاثين ألف دينار وليس هذا بعجيب على من نظم بيتين مدح محمد بن زبيدة لما بايعه الرشيد فخشت فاه دراً باعه بعشرين ألف دينار. وذكر أن السلطان سنجر بن ملكشاه المتوفي سنة 552 صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر الذي خطب له بالعراقين واذربيجان واران وارمينية والشام والموصل وديار بكر وربيعة وضربت السكة باسمه في الخافقين - اصطبح خمسة أيام متوالية ذهب في الجود بها كل مذهب فبلغ ما وهبه من العين ستمائة ألف دينار غير ما أنعم به من الخيل والخلع والأثاث وغير ذلك وقال خازنه اجتمع في خزائنه من الأموال ما لم اسمع أنه اجتمع في خزائن احد من الملوك إلا كاسرة وقلت له يوماً حصل في خزائنك ألف ثوب ديباج أطلس وأحب انب يصرها فسكت وظننت أنه رضي بذلك فأبرزت جميعها وقلت أما تنظر إلى مالك أما تحمد الله تعالى على ما أعطاك وانعم عليك فحمد الله تعالى ثم قال يقبح بمثلي أن يقال ما ل إلى المال وأمر الأمراء بالأذن في الدخول عليه ففرق عليهم الثياب الأطلس وانصرفوا واجتمع عنده من الجوهر ألف وثلاثون رطلاً ولم يسمع عند احد من الملوك بمثل هذا ولا بما يقاربه قاله ابن خلكان.

قال صاحب الدول: خلف الملك الأفضل ستمائة ألف ألف ديناراً عيناً ومائتين وخمسين اردباً دراهم نقد مصر وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس وثلاثين راحلة إحقاق ذهب عراقي ودواة ذهب فيها جوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال في عشرة مسامير على كل مسمار منديل مسرود مذهب بلون من الألوان ايما احب منهالبسه وخمسمائة صندوق كسوة لخاصته من دق تنيس ودمياط وخلف من الخيل والرقيق والبغال والمراكب والطيب والحلي والتجمل مالا يعلم قدرة إلا الله تعالى وخلف خارجاً عن ذلك من البقر والغنم والجواميس ما يستحي الإنسان من ذكر عدده وبلغ ضمان البانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار ووجد في تركته صندوقان كبيران فيهما ابر ذهب برسم الجواري والنساء. ذكر الطبري في سنة ثلاث عشرة ومائتين أن المأمون ولي أخاه المعتصم الشام ومصر وابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم وأعطى كل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر الخمسمائة ألف دينار وقيل إنه لم يفرق في يوم واحد من المال مثل ذلك. وكان أبو محمد عبد الله بن احمد الطالبي المصري صاحب رباع وضياع ويغم ظاهرة وعبيد وحاشية كثير التنعم كان بدهليزيه رجل يكسر اللوز كل يوم من أول النهار إلى أخره برسم الحلوى التي ينفذها لأهل مصر من الأستاذ كافور الاخشيدي إلى من دونه فمن المناس من كان يرسل له الحلوى كل يوم ومنهم لك جمعة ومنهما كل شهر وكان يرسل إلى كافور في كل يومين جامين حلوى ورغيفاً في منديل مختوم قال ابن خالكان: ودفع أبو محمد عبد الله ين عبد الحكم والد أبي عبد الله محمد صاحب الأمام الشافعي لهذا الإلمام عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله وأخذ له من ابن عسامة التاجر ألف دينار ومن رجلين آخرين ألف دينار وكان أبو محمد من ذوي الأموال والرباع وله جاه عظيم وقدر كبير. هذه أمثلة مما عثرنا عليه تصور للقارئ حالة الثروة عند العرب بعد التثوير والله اعلم بالصواب.

اليونان

اليونان سبب نصرة اليونان - لم تكن حرب مادي حرباً وطنية بين يونان وبرابرة بل كان يونان آسيا ونصف يونان أوروبا يقاتلون في الجيش الفارسي ولم يجسر كثيرون من أبناء جنسهم على ابداء أقل حركة. وكان الخاقان الأعظم ورعاياه هم الذين حاربوا اسبارطة وأثينة ومن حالفهما في الحقيقة. فكان من خوارق العادات أن يغلب هذان الشعبان الصغيران ذاك الخليط العظيم من الفرس. وزعم اليونانيون أن الآلهة قاتلوا عنهم ومتى درست أحوال الخصمين عن أمم بطل عجبك. فقد كان الجيش الفارسي جسيماً فظن كسيركس على سذاجة قلبه أن النصر معقد اللواء بكثرة العدد بيد أن هذه الجموع كانت مرتبكة من نفسها ولم تدر من أين تأخذ ذخيرتها وتتقدم تقدم بطيئاً ويضيق ذرعها من أول يوم الحرب حتى أن السفن المزدحمة كانت تغرز طرف مقدمها في السفن المحيطة بها وتحطم لها مجاذيفها ثم أن في ذلك الجماء الغفير كما يقول هيرودتس كثيراً من الناس وقليلاً من الجند. ولم يكن غير الفرس والماديين وهم خيرة الجيش يقاتلون بشدة أما غيرهم فلم يكونوا يزحفون إلى العدو إلا إذا انهالت السياط عليهم وقد جاؤوا بسيف القوة والقهر إلى حرب لا يهمهم أمرها ولا سلاح لديهم ولا نظام في مصافهم فهم لا يلبثون أن يركنوا إلى الفرار بمجرد أن تغيب أعين الحراس عنهم. وتقاتل الماديون والفرس وحدهم في بلاتيه وميكال ونجا الرعايا. وكان الجند الفارسي سيء النظام والعدة يلبس ثياباً طويلة وقد وقيت رؤوسهم بقلنسوة من لباد وحفظت أجسامهم أتراس من شجر الصفصاف والخلاف وسلاحهم قوس ومدية قصيرة جداً ولم يكونوا يستطيعون القتال إلا بعيدين ويقاتل الرجل رجلاً مثله. أما الاسبارطيون والمتحدون معهم بعقد المحالفة فكانوا على عكس ذلك تقيهم التروس العظيمة والخوذ ووقايات السوق ويسيرون جموعاً مشتبكة لا تقاوم يخرقون صفوف العدو بحرابهم الطويلة وما هو بأسرع من رد الطرف حتى تصير الحرب ملحمة كبرى ومذبحة تباع فيها الارواح بيع السماح. نتائج الحروب المادية - فادت اسبارطة الجيوش ولكن كما قال هيرودتس كانت آثنية هي التي انقدت اليونانية بان كانت لها مثإلا في المقاومة. فالفت اسطول سلامينة وقد استفادت آثنية من هذه النصرة أما المدن الايونية من الجزر وشاطئ آسيا جملة واحدة فقد ثارت ومردت والفت عصابة تبايعت فيها على الموت في سبيل الذود عن اوطانها من مهاجمة

الفرس. وأما الاسبارطيون وهم شعوب جبلية فلما لم يستطيعوا أن يدبروا حرباً انصرفوا راجعين ادراجهم فأصبح الأثينيون إذ ذاك زعماء العصابة. وفي عام 476 جمع اريستدس قائد اسطولهم نواب المدن المتحالفة فقر رأيهم على متابعة حرب الخاقان الأعظم وتأمروا بينهم على تقدم سفن ومحاربين وإن يؤيدوا كل سنة قطيعة من المال قدرها 460 تالاناً (أي مليوناً وسبعمائة الف فرنك) وجعلت الخزانة بمدينة ديلوس في معبد ابولون معبود الايونين وكان عهد إلى أثينة أن تقود الجيوش وتجبي القطائع. وقد القى اريستدس في البحر قطعة من الحديد والحصى واقسموا كلهم أن يحتفظوا جميعاً بالعهود إلى يوم تطفو هذه الحديدة على سطح الماء وذلك حباً بتأكيد العهد وتفادياً من نقض يمين الاخلاص. وقد حدث مع هذا أن الحرب وقفت وعقد اليونان - وكان النصر اليف الويتهم أبداً - معاهدة سليمة او هدنة مع الخاقان الأعظم فأبى الملك أن يعد يونان آسيا من رعاياه (نحو سنة 449). وهنا سؤال يورد في هذا الباب وهو كيف انتهت معاهدة اريستدس وهل كان على المدن المتحدة أن تؤدي القطائع على حين ليس عليها أن تقاتل بعد فابى بعضها ذلك حتى قيل أن أطفئت نار الحرب. وزعمت آثنية أن المدن كانت أخذت على أنفسها العهد على الدهر فاضطرتها إلى أن تؤدي ما يطلب إليها. حتى إذا وضعت الحرب أوزارها لم يجد خزانة ديلوس فتيلاً ولذلك نقلها الأثينيون إلى مدينتهم واستخدمها في ابتناء المصانع والمعاهد. ولطالما كانوا يقولون أن المتحدين يؤيدون ما يتقاضونه من الضرائب للخلاص من ايدي الفرس فمن ثم لم يكن لهم ما يطالبون به بتة ما دامت أثينة تدفع عنهم عادية الخاقان الأعظم. وهذا مما غير حالة المتحالفين فصاروا ملزمين بدفع الضرائب لأثينة وما عتموا إن امسوا رعاياها فزادت أثينة في قطائعهم واكرهت مواطنيهم على المثول أمام المحاكم الأثينية بل قد انفذت بطواريء من قبلها ليستعمروا جانباًَ من ارضهم وبهذا النظر أصبحت أثينة ام القرى تحكم زهاء ثلثمائة مدينة متفرقة في الجزر وشواطئ الارخبيل وتجبي قطيعة قدرها ستمائة تالأن في كل سنة. الصنائع في بلاد اليونان أثينة على عهد الأمبراطور بيركليس بيركليس - كانت أثينة في منتصف القرن الخامس من اقدر المدن اليونانية يدير أمرها

بيركليس احد أبناء الاسرات العظيمة وكان مقلاً من الكلام غير مبتذل في شخصه ولم يكن يتوقع في أعماله رضي الأمة بل كان الأثينيون يحترمونه ولا يجرون الا على نصائحه وهو معروف بانه متمكن من شؤون الادارة ومعرفة البلاد ولذلك دخلوا تحت سيطرته وحكمه فأدار سياسة أثينة كلها أربعين سنة كما قال معاصره توسيديس المؤرخ: أن الحكومة الديمقراطية كانت موجودة بالاسم بل كانت تلك الحكومة حكومة الوطني الأولى على التحقيق أثينة ومصالحها - كانت منازل القوم الخاصة في أثينة كما معظم المدن اليونانية ضيقة واطئة متراكمة بعضها على بعض يكون منها ازقة ضيقة منعطفة سيئة التبليط. وقد جعل الأثينون عظمتهم في معالهم الهامة. فمنذ أخذوا يجبون من محالفيهم قطائع لتصرف في سبيل الحروب كانوا ينفقون النفقات الطائلة في أقامة أبينة جميلة فعمروا في ساحة أحد الشوارع رواقاً مزيناً بالصور (الفيسيل) وانشؤا في المدينة دار تمثيل ومعبداً اكراماً لبيزيس احد أبطألهم واوديون معهد الشعر والموسيقى وذلك للمسابقة في هذا العلم. ولكن قامت أجمل المباني على صخرة الاكروبول كانها على قاعدة هائلة وهما معبدان (أحدهما وهو البارتينون جعل قربى للمعبودة أثينة حامية مدينة أثينة) وهيكلاً ضخماً من القلز يمثل أثينة وسلماً من الأثار الجليلة يصل إلى البروبيلي ورواق الرخام في أثينة. ومن ذاك العهد كانت أثينة عظيمة أثينة - ومع ما خصت به أثينة من الصفات المشار إليها كانت أيضاً مدينة أهل الصنائع فقد حشر إليها الشعراء والخطباء والمهندسون والمصورون والنقاشون وكان بعضهم من أهل أثينة ووجهائها وجاءها البعض الاخر من أطراف ارض يونان يحملون إلى تلك المدينة العظيمة نتائج صناعاتهم وطرف طرائفهم. لا جرم أنه نبغ كثير من أرباب الصنائع اليونأن لم يكونوا من أهل المدينة أثينة وذلك قبل القرن الخامس وبعده بكثير من الزمن ولكن قل إن اجتمع هذا القدر العظيم من أرباب الصنائع في مدينة واحدة ولقد كان معظم اليونانيون من اكيس أرباب المعارف في الصناعات وموادها بيد أن الأثينيين فاقوا غيرهم بحسن ذوقهم وصنع ايديهم وامتازوا بعقول مثقفة ورغبة في الطرف وأثار الظرف واللطف. ولئن جاء من أبناء يونان امة رفيعة القدر عالية المكانة في تاريخ الحضارة فذلك لأنها امة تحسن ملكة الصناعات فلا جيوشهم القليلة ولا بلادهم الصغيرة الرقعة خدمت العالم والعمران خدمة أعظم من خدمة

صناعهم لهما. فاليك السبب الذي من أجله كان القرن الخامس أجمل عهد في تاريخ يونان والداعي إلى أن جعل أثينة تستأثر بفضل الشهرة أكثر من غيرها من المدن اليونانية. الآداب الخطباء - امتازت أثينة أولاً ببلاغة خطبائها فكانت حقاً بلد الأدب وحسن الإلقاء فبالخطب في مجلس الأمة يقرر إشهار الحروب وعقد السلم ووضع القطائع والضرائب وكل الشؤون العظيمة وبالخطب التي تلقى في المحاكم يحكم على الوطنين والرعايا أو يبرؤون فللخطباء السلطة وعلى الأمة أن تعمل بنصائحهم ومواعظهم وربما عهدت إليهم بإدارة شؤون المملكة فقد عين كليون قائداً ورأس ديموستين الخطيب حرب فليب. وللخطباء نفوذ وكثيراً ما يلجؤون إلى بلاغة القول للنيل من عداتهم في سياستهم وربما اغتنموا لأنهم ينالون من أرباب الغايات ما يرضيهم من المال ليعضدوا أحد الأحزاب. فقد أخذ اشيل مالاً من ملك مكدونيا وقبض ديموستين دراهم من ملك الفرس. ثم أن بعض الخطباء ينشؤون خطباً ليلقيها غيرهم. ولا يسوغ لمن كانت له قضية أن يرفعها بواسطة محام كما هو الحال عندنا بل تقضي شريعة البلاد أن يتكلم صاحب القضية في قضيته بالذات. فمن ثم كان عليه أن يروح إلى أحد الخطباء يلتمس منه تأليف خطاب له يستظهره ليتلوه أمام المحكمة. ولطالما جاب بعض الخطباء بلاد اليونان وتكلموا في موضوعات توحيها إليهم المخيلة فأقاموا لهم كما نقول مقامات وعقدوا اندية ومؤتمرات وكان قدماء الخطباء يتكلمون بدون مقتصرين على أن يقصوا على المنابر الكوائن بدون أن يعمدوا إلى أساليب خطأبيو فيقفون في المنبر لا حراك لهم دون أن يصرخوا او يتحركوا وكان الملك بيركليس يخطب خطبه على طريقة هادئة دون أن يحرك اهداب ردائه وعندما كان يقف في منبر الخطابة وقد تكلل رأسه حسب العادة باوراق الشجر يزعم الشعب أنه يتخذه رباً من أرباب الأولمبيا ولكن الخطباء الذين جاؤوا بعد ذلك طمعوا في أثارة الأمة وتحريك احساسها والنفوذ إلى شعورها واصطلحوا على الإنشاء المتين يروحون في المنبر ويغدون منشدين متحركين. وما عتمت الأمة أن اعتادت هذا الاسلوب في الفصاحة. ولما أخذ ديموستين يتكلم في منبر الخطابة للمرة الأولى طفق الحضور يقهقهون ويضحكون من اسلوبه اذ لم يكن يحسن التلفظ ولا الوقوف ثم ما لبث أن مرن على الالقاء وإحسأن الحركات المطلوبة حتى صار نديم الشعب

وعزيزه. دبت الأيام ودرجت الليالي وديموستين خطيب في امته. وقد سئل ثالثة فقال العمل. ومعنى العمل طريقة الالقاء فإنها كانت تهم اليونان أكثر من الخطبة. الحكماء - كان منذ قرون عند يونان آسيا خاصة أناس يراقبون المادة ويفكرون في أمرها لقبوا بالحكماء والعلماء في آن واحد وقد عنوا بالطبيعات والفلك والتاريخ الطبيعي اذ لم يكن العلم قد انفصل بعد عن الفلسفة وهكذا كان حال المشاهير الحكماء السبعة ببلاد يونأن في القرن السابع. السفسطائيون - جاء ناس على قرب عصر بيركليس إلى أثينة فاتخذوا تعليم الحكمة صناعة واجتمع لهم كثير من التلاميذ انشؤا يتقاضونهم أجور الدروس التي يلقونها. وجعلوا ديدهم الإنكار على الدين والعادات وأصول ادارة المدن اليونانية يوهمون انها غير مبنية على العقل. ويأخذون من ذلك أن المرء لا يعرف شيئاً صحيحاً (مما كان قريباً من الصواب في عهدهم) وليس في طاقته أن يعرف أمراً صدقاً كان او زوراً قال أحدهم: لا وجود لا مر ومتى وجد صعبت معرفته. ويدعى هؤلاء العلماء المعلمون للتشكيك بالسفسطائيين. وقد خص بعضهم بملكة الخطابة. سقراط والفلاسفة - حاول سقراط احد شيوخ أثينة أن ينكر على السفسطائين ويوقفهم عند حدهم على فقر حاله وبشاعة منظره ولكنه لسانه ولم تكن له دروس يلقيها كأولئك السفسطائين بل يكتفي بالرواح إلى المدينة يخاطب من يصادفهم من جماعتهم بكثرة ويحملهم بكثرة الأسئلة على أن يفكروا فيما ينكر فيه نفسه. وكان بحثه مع الفتيان خاصة يعلمهم وينصح لهم. ولم يكن يظهر سقراط أنه شدا سيئاً من العلم بل كان يقول إن غاية علمي أنني ادري بأنني لا ادري. وود لو دعي فيلسوفاً أي محباً للحكمة لا حكيماً كسائر بلك الزمر. ولم يتدبر شيئاً من طبيعة الكون أو مسألة من مسائل العالم بل كان همه دراسة أحوال الإنسان. وكانت حكمته في قوله: أعرف نفسك. فكان من ثم مبشراً بالفضيلة. وإذ أنه كثيراً ما كان يخوض في الموضوعات الأخلاقية والدينية عده الأثينيون سفسطائياً. في سنة 399 مثل أمام المحكمة متهماًً بأنه يتجافى عن عبادة أرباب المدينة وانه يحاول إدخال أرباب جديدة إليها ويفسد على الشبان عقائدهم فلم يحاول أن يدافع عن نفسه بل حكم عليه بالموت وكانت سنة إذ ذاك سبعين سنة فإنتصر له كسينوفون احد تلاميذه وألف أفلاطون

من الفلاسفة محاورات أقام فيها سقراط زعيم المتحاورين فاعتبر من ذاك العهد أبا للفلسفة أما أفلاطون فقد كان صاحب مذهب معروف (429 - 348) ولخص أرسطو تلميذ أفلاطون (384 - 322) علوم عصره كافة في كتبه وقد انقسم الفلاسفة الذين أتوا بعد المعلمين أرسطو وأفلاطون قسمين دعيت شيعة أفلاطون بالرواقيين وشيعة أرسطو بالمشائين (لان أرسطو كان يعلم وهو يروح ويغدو). الموسيقيون - كان من العادات القديمة أن يرقص القوم في الحفلات الدينية فيمن جمهور من الفتيان حول مذبح المعبود ثم يرجعون واقفين كالإشراف وقفة ذات معان وإشارات. إذ كان القدماء يرقصون بأجسادهم كلها ويختلف رقصهم كثيراً عن رقصنا وهو ضرب من التطواف الحماسي أو أشبه برواية ذات إيماء وكان هذا الرقص الديني أبداً مشفوعاً بأغان تعظيماً للأرباب ويسمى جمهور الراقصين والمغنين جماعة الموسيقيين. للمدن كلها جماعة من الموسيقيين ومنهم أبناء أشرف العيال يعدون كذلك بعد أن يستعدوا زمناً. ومن فرط العناية أن يكون خدمة الرب جديرين بخدمته. الروايات الفاجعات والهزليات - كان يحتفل الفتيان في الأرياف المجاورة لأثينة كل عام بإقامة المراقص الدينية إكراماً للرب ديونيزوس اله الكرمة وكان بعض هذا الرقص متثأقلاً يمثل أعمال العبود فيضرب رئيس جماعة الموسيقيين على وتر أغنية ديونيزوس ويصور جوقة رفاقه وهم أناس لهم أرجل تيوس يسكنون الغابات ثم يأخذون في تمثيل عيش أرباب أخر وأبطال قدماء. ثم خطر لأحدهم أن ينصب مصطبة يجيء ممثل يلعب عليها عندما ينقطع جوق الموسيقى عن الضرب بأنغامه. وهكذا تم المشهد ونقل إلى المدينة بالقرب من شجر الحور الفارسي أو مجتمع السوقة فنشأت من ذلك الروايات الفاجعات. أما الرقص الآخر فكان مضحكاً فينكر الراقصون وجوههم ويتغنون بمدائح الرب ديونيزوس وقد شابوها باضاحيك يسلون بها الحضور أو بتصورات هزلية في حوادث حدثت ذاك اليوم. وقد صنع في الجوق الهزلي ما صنع في الجوق المفجع من إدخال ممثلين ومحاورات ونقل المشهد إلى أثينة وهكذا نشأت الروايات الهزلية من اجل هذا واحتفظت الفاجعات والهزليات ببعض أصلها وظلت تمثل أمام هيكل الرب وإن تكن فاجعة ولئن غدا الممثلون وهم جلوس على المصطبة أصحاب موقع في المشهد فقد ظل جوق

التمثيل يرقص ويتغنى وهو يطوف حول المذبح وكان جماعة الموسيقيين في الروايات الهزلية كما كان يجيء المتنكرون يبدون ملاحظاتهم على السياسة بغلظة. الملاهي - جعل في منحدر قلعة الاكروبول ملعب للرب ديونيزوس اله الكرمة يسع ثلاثين ألف متفرج وذلك ليحضر اللأثينيون كافة هذه المشاهد. وكان هذا الملعب كسائر الملاعب اليونانية مكشوفاً تحت السماء ومؤلفاً من دريجات من الحجر مصفوفة على شكل نصف دائرة بإزاء جماعة الموسيقى حيث كان يطوف المنشدون وأمام المشهد الذي تمثل فيه الرواية. ولا تقام المشاهد فيه إلا في أوقات أعياد الأرباب بيد أن المشاهد كانت تدوم إذ ذاك عدة أيام متوالية يبدأون في الصباح عند بزوغ الغزالة ويمثلون للحال ثلاث فاجعات وقصة هجوية تنتهي على ضوء المشاعل من الليل والفاجعات الثلاث يؤلفها واحد وتمثل فاجعات أخرى في الأيام التالية وهكذا كان المشهد ميدان مسابقة بين الشعراء والأمة تعطيهم جوائز الاستحسان وأشهر هؤلاء المتبارين اشيل وسوفقلس واربيدس. وقد عهدت المسابقة أيضاً بين مؤلفي الروايات الهزلية ولم يؤثر من كل ما الفوه من الروايات غير قطعة واحدة الفها أريستوفإن الشاعر الهزلي.

المقامات اللزومية

المقامات اللزومية مازال الزمان يرينا من أثار الأندلسيين كل سفر جليل ويكشف لنا عن عنايتهم بجميع العلوم مايدل على عظيم اقتدارهم وسموا أفكارهم لاسيما في العلوم الأدبية التي هي عنوان رقة الشعور وصفاء الذوق فقد تفننوا في طرق الإنشاء وأساليب البلاغة بما لا يدخل تحت الحصر. اسعدني الحظ في الاستانة بالوقوف على المقامات اللزومية وهي عبارة عن خمسين مقامة في مكتبة (جامع لاله لي) للوزير الكاتب الأمام أبي الطاهر محمد بن يوسف التميمي السر قسطي الأندلسي انشأها عند ما وقف على ما أنشأه الرئيس أبو محمد الحريري بالبصرة وبناها على أحسن اسلوب والتزم في نثرها ونظمها مالا يلزم وقد وجدت على ظهر الكتاب ما نصه (المقامات الخمسون) المحتوية على معاني الأدب للوزير الكاتب الأمام أبي الطاهر محمد يوسف بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن إبرأهيمالتميمي المازني السرقسطي ويعرف بابن الاشتركوني أبو الطاهر. قال ابن الزبير: كان أديباً لغوياً شاعراً كاتباً معتمداً في الأدب فرداً متقدماً في ذلك في وقته روى عن أبي علي الصفدي وأبي محمد بن السيد وابن البادش وابن الاخضر وأخذ عنه أبو العباس بن ضا قال: وعليه اعتمدت في تفسير كامل المبرد لرسوخه في اللغة العربية وله المقامات اللزومية الشهيرة وشعره كثير مات بقرطبة يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادي الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ومن شعره ومنعم الاعطاف معسول اللمى ... ما شئت من بدع المحاسن فيه لما ظفرت بليلة من وصله ... والصب غير الوصل لا يشفيه انصجت وردة خده بتنفسي ... وظللت اشرب ماءها من فيه وهاءنذا اذكر المقامة الأولى تفكهة للقراء ورجاء أن يطلع عليها من لهم عناية بنشر أثار السلف فيمثلها للطبعة فيفيد ويستفيد وهي هذه: المقامة الأولى القفرية قال: حدثنا المنذر بن حمام قال: حدث السائب بن تمام قال: اني لفي بعض البلادوقد اقبلت من الطريف والتلاد استاف الأرض واذرع الطول والعرض افتل الدهر في الذروة

والغارب وارقب منه كل شارق وغارب قد أفردني حتى الأمل ونابذني حتى السعي والعمل عبر سفار ونضو مهامه وفقار ولا صاحب على طول الاغتراب الا رقراق آل وسراب اذ دفعت إلى اباطح واجارع ومسارح ومشارع فاجلت الطرف في نور وزهر واحلت العيش على جدول او نهر وإذا بلمة كالنجوم يترامون من الكؤس بالرجوم يتهللون طلاقة ويتبذلون خلافة قد نبذوا الوقار واستحلوا العقار واستنفذوا العين والعقار وعوضوا من المسك الدن والقار تنم عن شمائلهم الرياض وتخجل من إيمانهم الحياض قد غفلوا عن العواقب ولم يشعروا بالزمان المراقب (يحيون بالريحان يوم السباسب) وينتمون إلى اكرم المناصب والمناسب قد لفهم الشباب في برودة وروأهم من سلسله وبروده يتنقلون جنيات اللحم ويجرون فضول الريط واللحم والكاس قد تمشت في المفأصل فما ترى غير مساعد اوموأصل قد نزلوا من الأرض وهادا وافترشوا الروض مهادا وإذا أمامهم شيخ رائع السبلات ضخم العضلات يصغون إلى حديثه ويفتنون بقديمه وحديثه فهو يعللهم من خبره بطرف ويهدي اليهم منه اندي تحف وطرف يحبب إليهم البطالة فما يملون منه اسهاباً ولا أطالة فملت إلى منتدأهم وكنت الذي حيأهم وفدأهم فقالوا: كرم رائع ومجد ضائع ونضو هازل وضيف نازل وابتدر الشيخ فقال: خبر ذائع وحديث شائع وخب هازل وعود نازل من اين بالشعث ويا استعب كلا أمريك أشد واصعب لقد اجترأت على الملوك وتخللت نظم السلوك وركبت المهالك وتوغلت المسالك هل عندك من معزية ياهذيل فإنك ما شئت من عذيق او حذيل أنى وانت اخو الصعاليك سموت إلى ذوي الرتب والمماليك فقلت: مهلاً ايها الشيخ مهلاً وهلا مرحباً بك وأهلا أن ترني وقد نفذ زادي وصفر مزادي وطفيء شهأبي واخلق اهأبي وخشن اديمي ونفر عني صاحبي ونديمي فلقد فتنت الكواعب وذللت المصاعب وارضيت الأمال وتسوغت الأمال وبذلت الخطير ووصلت الشطير واكرمت النزيل ووهبت الجزيل وسحبت فضل الذيل وارسلت طرفي بين الخول والخيل وقدت الجياد ومتعت القياد ثم لم يكن إلا أن تقلبت أحوال وتعاقبت سنون وأحوال ذهبت بالحديث والقديم وأثرت في الصميم والاديم فبدلت من النعيم البوس ومن البشر القطوب والعبوس وعوضت من العذب المجاج بالملح الاجاج ومن الأعزاز بالاذلال ومن الإكثار بالأقلال فابتدر الشيخ يفديني بأبنائه ويهديني بهنائه ويقول: إنه لكما قال ومن اين لعاثر أن يقال أنا

أعرف آباءه وأجداده وشهدت جموعه وأعداده طالما ركب السرير ولبس الحرير وصبت إليه الكعاب وانقضت دونه الكعاب وخضعت لجده الأملاك وكان به القوام والملاك لقد أطاعت الانداد وأجابته الأعداد ودوخ البلدان فذل كل له ودان فيالك من دهر لايبقى على احد ولا ينقى على مستأنس وخد يعنى بالقريب والبعيد ويولع بالشقي والسعيد ومن حق ذلك الفضل أن توصل أسبابه وترفع قبابه ويصان مذاله ويحلى جيده وقذاله وانتم يابني الا كارم وذوي الهمم والمكارم رفوا للافاضل واعطفوا بالفواضل وارحموا عزيزاً ذل وكثيراً قل ومترياً ادقع وحائماً على موردكم وقع فكل خلع ما عليه والقى بما عنده إليه وخلع عني تلك الاسمال وجاء بما شاء وشئت من كسوة ومال فملأ اليمين والشمال واستقبل الجنوب والشمال ثم قال اللهم يارافع الإعدام وجامع الندام وعالم الخفيات وميسر الحقيات وملطف الأسباب ومؤلف الاحباب متعهم بالمسرات والحبرات والحفهم بالمروط والحبرات وافض عليهم جدواك وزحزح عنهم بلواك واحرسهم عن الغير ولا تجعلهم عظة الأمثال والسير وارسل عليهم من سترك مديدا وخذ بهم من أمرك شديدا وقال لي: خذها اليك. وإذا كنت معك فلا عليك. فسرنا وقد ظل العشا وسقط عليه العشا يقودني زعم إلى اسرته ويحادثني عن يسره وعسرته وجعل يومي ويشير ويقول هناك العدد والعشير كل له خول طاعته ولك علي أمرة مطاعة فسرت حتى دنا بي إلى خيام ومعشر نيام فقال: امكث هاهنا قليلاً حتى اريك جليلاً واكشف لك من أمري عجيباً واقو دلك سابحاً او نجيباً تحل من متن هذا في انيق وتسمو من ذروة ذاك على نيق تم تتبوأ القصر المشيد وتخلف المأمون والرشيد فتخلل تلك الخيام وايقظ النيام فما شعرت الا بالقوم وقد أخذوني باللوم من المنتاب والطارق ولعله الخائن البارحة والسارق والا كف ولا تكف واليمين تصفع والشمال لا ترفع ولا قول لي يسمع ولا أنا في الحياة أطمع حتى طردوني عن حمأهم ورموا بي إلى مرمأهم لا أقلب طرفاً ولا أقرر خوفاً والشيخ مع ذلك يرميني بسهامي ويعجب من صبيه وجهامي ويذكرني بالعهد ويقول ما احوجك إلى المهد ثم انصلت عني انصلاتا وولى انسراباً وانفلاتا وهو ينشد: دعا بي الدهر لو تجيب ... ياحبذا السامع المجيب كم تصحب الدهر بالأماني ... يغرك الطرف والنجيب

من خادع الدهر والبرايا ... فذلك السيد النجيب المجد فوز الفتى بحظ ... فما تميم وما تجيب يارب خدن تركت يوماً ... وحظه الوجد والوجيب مجدلاً في التراب يدعى ... منه سميع فلا يجيب فعلمت أنه الشيخ ابو حبيب فقلت مالداء كيده من طبيب دمشق محمد علي

المرأة في الإسلام

المرأة في الإسلام ومن اوضح أوصاف النصرانية في عصورها الأولى حطها من قدر الزواج فكانت تعد هذا الارتباط من الأحوال المنحطة وتحسب البنين جناية وشراً وكأنت الأديار والصوامع حجبت عن العالم اصح العقول فكان خدمة الدين اما أن يمنعوا من الزواج بتاتاً او لم يؤذن لهم أن يتزوجوا غير مرة واحدة. وقد نشأ بعض هذا الانحراف عن التشبه بالمعلم نفسه وبعضه عن أحوال متنوعة حملت النصارى الأول على تنظيم سلكهم. وشدة تعلق نبي الناصرة بأهل المذهب الاسنى وانتظاره حلول الساعة في العاجل حين تنتهي جميع الارتباطات المدنية وانقضاء بعثته وهو في مقتبل العمر كلها أمور تجلو لنا أسباب حطة من قدر الزواج وكيف أنه (لم يجن على احد) واجتماعه بالتعمديين وهو اسني يرشدنا إلى طرف من حياته القصيرة التي تثير العواطف وشدة بغض بولس للنساء مع ما يعضده من كلام المعلم قوى في الكنيسة الاعتقاد الاسني بأن الارتباط الزوجي وهو اقدس العقود انما هو إثم يحب تجنبه ما امكن وكان يحسب المقصود من الزواج ايلاد الأولاد وقضاء الشهوة البهيمية ليس إلا. ولا تزالعقود الزواج في أكثر الكنائس مصبوغة بهذه الصبغةالخالية إلى يومنا هذا ولا يزال هذا التصور الدخيل على النصرانية يذهب بالناس حيث لا توجد العلوم الكونية إلى أن الرجل الذي لم يدخل دنيا قط هوأفضل كثيراً ممن تدنس بالزواج. ويوجيس الهند المعفر بالرماد ونساك الشرق مسبلو الشعور واحبار بوذا هم من اهل التبتل وعندهم أن إدراك العلم لا يتم الا بحل الروابط الأهلية وأن الوصول إلى الازل لا يمكن الا بعيش التوحد وقد أخذت النصرانية الاعتقاد بالتبتل عن مشككي المشرق وزهاده. ومن الناس من اتخذ عصمة المسيح من الاثم برهاناً على الوهيته ومنهم من اتخذها حجة على شدة فضله على غيره من المتشرعين وعندنا أن مقابلة فاسدة الأساس كهذه بين المسيح والنبي هي من الموهومات بتاتاً وأساسها خطاء في تقدير المقاييس الأخلاقية. وإن صح أن التبتل مما يجعل صاحبه كاملا فالمتصوفون والنساك والدراويش هم إذا الكاملون والحياة الكاملة تكون حينئذ بترك الروابط الأهلية وإن من المحقق أن نظرية مثل هذه لا تعد إلا أنحرافاً عن الفطرة وما نتيجتها الا الدمار.

إذا لم ياترى هذا الحظ من قدر النبي وهو الذي اكمل بعثه المسيح الأنه تزوج بغير واحدة وقد بينا الحكمة في زواجه المتعدد وسعينا على الأقل في بيان أن هذه الأعمال التي اتخذت للحط من قدره انما هي من باب ايثار الغير. ولننظر الأن في أمر زواجه بالنظر المطلق ولنسأل انفسنا لم تزوج موسى بغير واحدة أكان في عمله هذا من أهل الفضيلة ام من أهل الرذيلة؟ ولم تمتع داوود بزواج لا حد له ومكانته عند الله معلومة؟ والجواب بسيط وهو أن لكل زمان مقياساً خاصاً ومعياراً مقدراً وما يوأفق زمناً وأحداً لا يوأفق غيره. ومن الواجب أن لا يقيس الماضي بالحاضر. وإن امثلة الفضيلة من أهل الكمال لا يخسرون شيئاً من عظمتهم إذا عملوا بمقتضى زمنهم وكانوا في عملهم امناء شرفاء. أيجوز أن ندعو المسيح طامعاً خيالياً يحاول العبث اوإن ندعو موسى وداوود شهوانين يسفكان الدماء لأن عقل الأول كان مفعماً بتخيلات ملك منتظر وسلوك الاثنين الأخيرين هو مما ينتقد في القرن التاسع عشر. إننا لو فعلنا ذلك لاخطأنا في كلا الحالين لأن اماني المسيح وأعمال موسى وداوود هي من الحقائق التاريخية التي مشت على مقتضى الزمن. ومن اوضح ميزات النبي أنه وهو في أسمى حالاته لم يتعدم عن الاحياء منتظراً جيلاً لم يولد بعد وهو يمثل في نموه نمو البشر. وأن المسيح ومحمداً لم يقدرا على تغيير الجمعية البشرية دفعة او محو كل ترتيباتها السياسةالملية. وهو كالمسيح اكتفى أن يغير المقتضات الحالية بزرع مبادئ تلاشي هذه المقتضيات متى حان الوقت المناسب ولصحت في قلوب أتباعه. أما القول بأن النبي ميز نفسه بمنافع حرمها على أتباعه فهو من الوهم الناشئ عن الجهل لان حد تعدد الزوجات لم يوضع إلا في المدينة بعد الهجرة بسنين وما أبيح له كان عبئاً وضع قصداً على ذي وجدان يحاسب نفسه في أعمالها بدلاً من أن يكون لذة لكل متهتك. وحدث كل زواجه قبل نزول الحد ومما نزل مع هذا الوحي التحديدي وحي آخر نزع من النبي كل امتياز فأصحابه أبيح لهم إذا راعوا حدود الشرع زواج مثنى وثلاث ورباع وكان لهم أن يكرروا زواجهم بقوة الطلاق الذي كأن يكرهه اما هو فقد حرم عليه طلاق اية من زوجاته وأن يضيف إليهن زوجة أخرى، أيعد هذا امتيازاً انتفاعياً ام عملا أنسانياً يراد به

القيام باود من احتمى به وايثاره. وسبب موضوع الطلاق في الإسلام اغاليط وجدلاً إلا أنه مما لا شك فيه أن أحكام الطلاق القرآنية هي أعدل من أحكام الطلاق في سائر الكتب. وقد حسب حق الطلاق في الأمم الخالية كافة نتيجة لأزمة لسنة الزواج إلا أن هذا الحق كان محصوراً في يد الجنس الأقوى إلا في النادر ولم تخوله الزوجة في حال من الأحوال. وأن تقدم المدينة وترقي الأفكار حسنا من حال المرأة بعض التحسين فالنسالة ايضا حصلن على نوع من هذا الحق الذي لم يقصرن في استعماله حتى صارت سهولة عقد الزواج وحله في الأمبراطورية الرومانية من باب الاكتفاء باللفظ. وللزوج في شريعة العبرانين أن يطلق زوجته لاي سبب بقبحها في عينه. وكاد لا يوجد عندهم مايحدد سلطته هذه وهواه ولم يجوزوا للزوجة المطالبة بالطلاق بحال من الأحوال. وعدل الشمعيون عادة الطلاق بعد ذلك نوعاً من التعديل بوضع بعض الشروط إلا أن الهلاليين حافظوا على الناموس وأبقوه على صورته الأصلية. وعند ظهور النبي كانت سنة الهلاليين هذه هي الجارية بين يهود جزيرة العرب وكان الطلاق منتشراً عندهم كما كان منتشراً عند جيرانهم الوثنين. أما الطلاق عند الاثنيين فكان بيد الرجل كما كان عندالاسرائليين. وقد أباحت الأحكام الرومانية الطلاق منض ابتدائها وكذلك الالواح الاثنا عشر. وإذا صح مايثقول المعجبون بالرومانين من انهم لن يتمتعوابهذه العادة الا بعد الن مضى على تأسيس رومية خمسمائة سنة فليس ذلك من دواعي فضلهم على غيرهم لأنه أبيح للزوج عنده أن يقتل زوجته لأسباب معينة كالسم والخمر الخ ولم يجز للمرأة أن تطالب بالطلاق وإذا التمست مفارقته فإن تهورها يجعلها أهلاً للقصاص. إلا أن كثرة الطلاق في الجمهورية اللاحقة كانت علامة ظاهرة على أنحطاط الآداب وسبباً وتنجيه له في آن واحد. ذكرنا هاتين الأمتين لإنهما أشهر الأمم الخالية ولان أفكارهما أثرت في الأفكار المعاصرة أشد التأثير. ولا ينكر أن صيغة أحكام الطلاق عند الرومانين صبغة ارتقائية ونتيجتها رفعة المرأة

ومساومتها بالرجل وهذا ناشئ عن تقدم الأفكار كما هو ناشئ عن غيره من الأسباب الخارجية. (وكلمة المسيح التي تتضمن أمره في الطلاق مرنه تقبل أي تفسير تتطلبه حكمة المقنن) ولنا أن نقول أن المسيح لما قال: (فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان) لم يكن في تصوره الا اقتلاع حطة الأخلاق وانه لم يفكر في نتائج كلامه ويدل الحكم الملحق القاضي يجعل الزنا السبب الوحيد لجواز الطلاق على تنبيه المسيح لمقتضى الحال إلا أن حكمة المقننين التالين لم تقف عند التمسك الأعمى بحكم وضع في الغالب بجمعية في طفولتها. ويمكن أن تحسب قاعدة المسيح مبدأ يدل على شعور سامي لا أن تحسب نموذجاً ففي حكم الطلاق هو مماترده الإصلاحات التي اضيفت إلى هذه القاعدة في الاعصر التالية في البلاد النصرانية ولم يقيد حق الطلاق في الجاهلية والجاهليون لم يراعوا في نسائهم عدل وشفقة إلا أن النبي انظر إلى هذه العادة بعين السوء وعلى استعمالها مما يهز اركان الاجتماع وكثيراً ماصرح بأن لا شيئاً يرضي الله أكثر من عتق الرقاب ولا شي يغضبه أكثر من الطلاق ولكن كان أمن المستحيل عليه اقتلاع هذه العادة بتاتاُ من بين الاعراب وهم على ما كانوا عليه. فمن ثم تحتم عليه أن يهذب جمعية ساذجة على جانب عظيم من التوحش ويعدها لحالة أسمى حتى إذا حان الوقت ونضجت الأفكار تنمو مبادئه وتزهر أخلاقه في قلوت البشر ولم تكن تلك العادة شراً محضاً لدلك أباحها للرجل على شروط معلومة فأجاز للزوجين مدداً ثلاثاً يمكن لهما في غضونها إصلاح ذاب البين فإذا لم يتم ذلك جرى الطلاق. ووضع قاعدة التوسط فيما إذاحدث نزاع بينهما. قال المسيوسيرو وهوممن لم يفضله احد في تحليل الأحكام الإسلامية: (اجيز الطلاق ولكن وضعت له رسوم تفضل إلغاء طلاق مستعجل لم يترو فيه. ولكي يكون الطلاق مما لايقبل الرجعة تلزم ثلاث طلقات متعاقبة يفصل مأبينها شهر واحد) ولقد احدثت إصلاحات النبي تغيراً جديداً في الشرائع المشرقية فهو وضع حداً للطلاق ومنح النساء حق الفارقة لأسباب معقولة وفي أواخر أيامه بلغ به الحال أنه حرم الطلاق إذا لم يوجد حكم (أن ابغض الحلال إلى الله الطلاق) لأنه يمنع السعادة ويضر في تربية

البنين. لذلك نرى من اللازم أن لا تفسر إباحة الطلاق في القرآن التي لهاصورت العادات الخالية الا بعبارات الشارع نفسه ومتى عرفنا امتزاج القانون والدين في الإسلام يسهل علينا فهم مقاصد الشارع في حكم الطلاق. ومن المنتظر اختلاف المذاهب في إباحة الطلاق للزوج من غير مداخلة القاضي وقسم مهم من الفقهاء عد الطلاق الصادرعن الزوج محرما الا لضرورة كالزنا وجماعة اخر وأكثرهم من المعتزلة لا يبحيون الطلاق مالم يجيزه حاكم الشرع وهم يذهبون إلى أن إباحة الطلاق تتوقف على حكم قاضي عدل لا يميل مع أحد الخصمين ويستندون في ذلك على كلام الشارع الذي ذكرناه وعلى قاعدته وفي وجوب انتخابات حكم فصل الخلاف بين الزوجين ويذهب الاحناف والشافعيون والمالكيون وأكثر الشيعة الا إباحة الطلاق لا لغير سبب وبعد أن اعترض صاحب (رد المحتار) على القائلين بتحريم الطلاق قال (وأما الطلاق فإن الأصل فيه الحظر بمعنى أنه محظور الا لعارض يبيحه وهو معنى قوله الأصل فيه الحظر ومع أن الفقهاء اتخذوا الإباحة المؤقتة قاعدة دائمة وجهلوا كثيراً من قواعد العدل الذي وضعها الشارع فإن الأحكام التي سنوها أعدل كثيراً وارحم بالنساء من اكمل الشرائع اليونانية التي نمت في حجر الكنيسة. وجوز الفقهاء للمرأة طلب الفراق لسوء الاستعمال وسوء المعيشة وغيرها من الأسباب لكنها إذا لم تأت بحجة مقبولة في طلبها هذا تخسر صداقها وعلى كل فمتى صدر الطلاق عن الزوج وجب عليه أن يعطيها صداقها الذي كانا عيناه وقت الزواج. وتكرار نصح القرآن للزوجين أن لا يفترقا وتتحريضه على حسم المنازعات بالتسوية المناسبة يدلان على احترام الشارع لعقد الزواج وفي سورة النساء (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو أعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحظرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيماً) وجاء فيها أيضاً (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما أن الله كان عليماً خبيرا) والأجانب أما أنهم لم يدركوا احترام الزواج في الفقه الإسلامي أو لم يقدروه قدره. جاء في الأشباه والنظائر وهو كتاب إسلامي مشهور ما

خلاصته: أن الزواج سنة وضعت لحفظ الهيئة الاجتماعية ولكي يحفظوا الناس أنفسهم من الفحش ويخلصوا أعراضهم من الدنس وهو مقدس وضعه الله بأمره لأنه عبادة تحفظ البشر من اختلاط النسل ومتى عومل معاملة الشركات والاتفاقات يكون ارتباطاً دائماً بني على اتفاق اثنين رجل وامرأة لم يكن بينهما ما يمنعهما من اتفاق مشروع وكثيراً ما قيل أن النبي أباح لأتباعه التسري فضلاً عما أباحه لهم من الزوجات الأربع الشرعيات إلا أن ذكر الحكم المختص لهذه المسألة يكفي لبيان بعد ذلك عن روح الإسلام. جاء في سورة النساء (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت إيمانكم من فتياتكم المؤمنات. . . . ذلك لمن خشي العنت منكم وإن تصبروا خيراً لكم والله غفور رحيم) وقد بنى الفقهاء إباحة التسري بالجواري على هذا الأساس الضعيف وعلى أحوال خاصة حدثت في ابتداء ظهور الإسلام. وهذه المسألة مع مناقضتها لروح الشريعة سببت بعض الحملات الشديدة على الدين الإسلامي. والتسري هو ارتباط السيد بالأمة من غير جواز زواجي كان معروفاً عند العرب والنصارى وجميع الأمم المجاورة ولم يحرمه النبي في أول الأمر إلا أنه في أواخر أيامه منعه صراحة جاء في سورة المائدة (اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي اخدان) قابل القسم الأول من هذا الأمر بتعصب الكنيسة التي منعت زواج النصراني بغير النصرانية وكثيراً ما كان الحرق نصيب الكافر الذي يتزوج النصرانية ومن هنا يظهر الفرق بين هذه القاعدة والقاعدة الإسلامية التي هي ترق ظاهر في المعيشة والمدنية أما تحريم زواج المسلمات بغير المسلمين فأسبابه مقتضيات سياسية حدثت في أول تأسيس الجمعية الإسلامية. وغير نكير أن كثيراً من العادات التي أخذها المسلمون عن الجاهليين والتي بقيت ككثير من بقايا نشوء سالف مالت الأمم الإسلامية نحو الانحطاط ومن هذه العادات عادة الحجاب فقد كانت منتشرة بين الأمم الخالية منذ أقدم العصور والجينكونيتس كانت من السنن المعروفة عند الأثينيين ونساؤهم كن محجوبات عن الأنظار العامة كالفارسيات والهنديات اليوم والجينكونو في هم مثل زملائهم من المشارقة حرس البيت

يراقبون النساء بدقة شديدة. ونشأت من احتجاب المرأة بالطبع طبقة الهتري التي كان لبعض أعضائها أثر مهم في التاريخ الأثيني. لولا المظهر الخارق للعادة التي ظهرت به الدولة البيزنبية والدول الأوروبية والأمريكية لقلنا أن منشأ الطبقة البائسة التي تظهر في كل هيئة اجتماعية تقدمت ولو قليلاً في الصناعات المدنية والتي هي خطر على البشر وعار على المدينة هو انسحاب المرأة وحرمانها من حقها المشروع في تهذيب العقول وتمحيصها وترقية عواطفها. ومن خواص العقل البشري أنه متى لم يدرك النقي يسعى في إدراك المشوب. وخير مثال لقولنا هذا في الأزمنة الخالية البابليون والاترسكانيون والأثينيون والجاهليون من أهل مكة. ومنشأ الفساد العمراني الذي ينسل إلى كل قلب ويسمم دماء الأمم المعاصرة هو انتشار عبادة المادة ومغطاة بغشاء من ن الدين سواء كان نصرانياً وإسلامياً أو غير ذلك. وقد تألم النبي منذ صباه من انتشار فساد الآداب المخيف بين أهل مكة واتخذ أقوى وسيلة موافقة لاقتلاع جرثومته قال بسورت سميث (ولقوانين النبي الشديدة في أول الأمر ثم بالتنبه الأدبي الذي حدث من هذه القوانين بعد ذلك نجح حتى يومنا هذا وكان نجاحه أشد من عيره في تخليص البلاد الإسلامية) حيث لم تطفح بالأجانب (من هؤلاء المتشردين الذين يعيشون بشقائهم وهم بجودهم طبقة معروفة يخجلون كل فردمن الهيئة التي ينتمون إليها) ومن المحقق أن سنة الحجاب لها منافع كثيرة في الهيئات الساذجة التي لم يستتب عمرانها بل أن الحجاب لا يستقبح بتاتاً في بلاد تختلف فيها طرق التهذيب وتتباين الأخلاق تبايناً كلياً. وهي منتشرة اليوم بين اقوام يبعدون كثيراً عن التأثير الإسلامي الذي يظنه بعضهم السبب في حجاب المرأة في بلاد الهند وغيرها من البلاد الشرقية ففي بلاد كوريا بلغ حجاب المرأة درجة الهزء والسخرية وفي الصين وفي المستعمرات الاسبانية في جنوبي القارة الأفريقية لا تزال عادة الستر محافظاً عليها. ولما قام النبي كانت منتشرة بين الفرس وغيرهم من الأمم الشرقية فأدرك منافعها وربما استحب للنساء العزلة والتفرد لانتشار فساد الأخلاق بين جميع الطبقات ولكن لا يقال أنه أراد أن يكون انفرادها على هذه الصورة الجامدة المعروفة اليوم او أنه أذن بالحجاب هو جزء من هذا الدين. جاء في سورة الأحزاب (يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن

ذلك ادنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً). وفي سورة النور (وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهم الا ما ظهر منها وليضربن بخمورهن على جيوبهن الآية). إرشادات سهلة الفهم في وسط ذاك الاضطراب الذي كان النبي يسعى في اخراج الترتيب منه بهداية الله - إرشادات حكيمة يقصد منها نشر الحشمة والأدب بين النساء وتحسين لباسهن وسلوكهن ووفايتهن من الاهانة. فمن الخطأ إذا أن نعتقدن في الدين ما يثبت هذه العادة ومما يفسر استحسان النبي العزلة للنساء تفسيراً ظاهراً تمتع أفراد بيته تمتعاً لا مانع فيه ولا حجاب. وهذه عائشة أم المؤمنين وزوج النبي بعد وفاة خديجة دبرت الحملة على علي وهي قادت عساكرها في وقعة الجمل وكثيراً ما دخلت فاطمة ابنة النبي في مبحث الخلافة وإن زينب سبط النبي وأخت الحسين حمت ابن أخيها من الأمويين بعد كربلاء وصلابة أخلاقها هالت عبيد الله بن زياد القاسي ويزيد القليل الرحمة. وكان انحطاط الأخلاق الذي اجتث أصول العمران في الجاهلية وعند الإسرائيليين والمسيحيين في أشد الحاجة للإصلاح. ومما لاشك فيه أن استحسان النبي العزلة للنساء قصد به استئصال جذور الفساد ومنع عادة تعدد الأزواج المخيفة التي كانت شائعة في الجاهلية إلى زمن البعثة. قال فن همر (أن الحريم بيت مقدس يمنع منه الأجانب لا لأن النساء ليست حرية بالثقة بل لما ألبستهن العادات من ثياب التقديس وشدة احترام النساء في أعالي القارة الآسياوية والأوروبية (في البلاد الإسلامية مما يظهر للعيان) واتخاذ النساء مثالاً كمالياً ميزة طبيعة تمتاز بها ارق الشعوب إلا أن العجب القومي والتعصب الديني احدثا نظريتين لرفعة المرأة بين الطبقات المهذبة في البلاد النصرانية اليوم. إحداهما ترجع هذه الرفعة لما يسمى عند النصارى بالماريولترى أو تألية العذراء وعبادتها والثانية للفروسية في القرون الوسطى المزعوم أنها من نتائج المبادئ التيوتونية أما من حيث النصرانية وعلاقتها بالنساء فكلما عضضنا الطرف وأوجزنا في المقال نحسن لها لأننا نرى الكنيسة في العصور الأولى حينما كان دين القوم من جميع الطبقات عبادة أم المسيح جردت المرأة من أوصاف الفضيلة وألبستها رداء من شتم وحرمان وكتب آباء

الكنيسة الواحد تلو الآخر فصولاً طوالاً في قبح النساء وميلهن للشر وتأصلهن في الخبث. وقد مثل ترتليان أفكار معاصريه في المرأة في كتاب يقول فيه (أنها باب الشيطان وفاتحة الشجرة المعلقة تاركة الأوامر الإلهية مهلكة الصورة الرحمانية وهي الإنسان). وذكر كاتب آخر باستخفاف أنه فتش عن العفة في النساء فلم يجد لها أثراً. ومثل كريزستوم وهو من كبار القديسين رأي الكنيسة في المرأة بقوله أنها شر ضروري ومحنة طبيعية ومصيبة ملأزمة وخطر مبين وسحر مميت وضرر مزين وقد حرمت الكنيسة على النساء القيام بالوظائف الدينية كلها إلا ما كان منها وضيعاً ومنعتهن من حضور الجمعيات الخاصة والعامة ومن الذهاب إلى الحفلات والأعياد وأمرتهن أن يعتزلن الناس أن يصمتن ويطعن رجالهن وينصرفن إلى النسيج والغزل والطبخ وأن يحتجبن من فروقهن إلى أقدامهن إن خرجن من بيوتهن - هكذا كان حال المرأة أيام كأنت الماريولتري سائدة بين الناس. وفي الأيام التالية وفي المدة التي انقضت بين انقراض الدولة الغربية واستتباب العمران الأوربي الحاضر وهي مدة وصفت بأنها (زمن الاغتصاب والمداهنة والاستبداد والشهوة والعنف) حسنت النصرانية من حال المرأة بعض التحسين بإدخال مسألة الأديار للرهبان والراهبات وهذا التحسين المشكوك فيه لا يصلح إلا لعصر كان اختطاف المرأة فيه من الأمور المعتادة وبلغ فساد الأخلاق فيه درجة لا توصف. ولم تكن الأديار معاهد الفضيلة أبداً وكذلك لم تكن الرهبانية أشد حفاظ لطهارة الذيل والعفاف. وفي يومية ريكو المذكور فيها زياراته الدينية ما يوضح خاصة حال الأخلاق ومقام المرأة في أبهى دور (من عصر الإيمان) ولم يؤثر قيام الإنجيليين شيئاً في أحوال المرأة أو في أفكار المشرعين المختصة بها. والخلاصة أن المسيح اكرم المرأة أما أتباعه فحرموها من العدل والإنسانية. والنظرية الثانية التي اشرنا إليها وهي الشائعة بين طبقة كتاب الروايات في أوروبا فهم يحسبون أن كل من قام في الأعصر المتوسطة هو بيرد او كريشتن. والمظنون أن عصر الفروسية يمتد من ابتداء القرن الثامن إلى انتهاء القرن الرابع عشر (وهي المدة المعاصرة لحكم الأمويين في الأندلس). إلا أن المرأة في هذه المدة وإن أحاطت بها هالة من الشعر والروايات فكثيراً ما كانت موضع الشر والأذى وكأنت القوة والخداع أوصافاً مميزة للعصر الذهبي عصر الفروسية النصرانية. وكان أولند وآرثر حديث خرافة حتى التقى الغرب

بمدينة الشرق. ولم تكن الفروسية ابنة المجاهل الأسكندناوية والحراج الجرمانية لان النبوة والفروسية كلتاهما من نتاج الصحراء. فمن الصحراء قام موسى وعيسى ومحمد ومن الصحراء أتى عنترة وحمزة وعلي. وكأنت المرأة عند الحضر من العرب وهم ممن انتحلوا المبادئ الشائعة بين السوريين والفرس والرومانيين على غاية من الانحطاط كما ذكرنا لكنها كان لها عند بعض الرحل حرية حسنة وتأثير قوي في أحوال القبيلة قال برون (ولم تكن كاليونانية موضع البؤس والشقاء) فكانت ترافق الرجال إلى الحرب وتبث فيهم روح الحماسة والنخوة وكان الكماة يخوضون عباب الحرب متغنين بمديح الأخت أو الزوجة أو المحبوبة وعندهم أن ما يكافئ به الحبيب هو خير مكافأة لهم عن صولتهم وبطشهم. وكأنت الشجاعة والكرم خير خصال الرجال والعفة خير خصال النساء. وربما لو أصابت امرأة في القبيلة سبة أو لحقها عار استعرت لها لظى الحرب بين قبائل الجزيرة كلها. وما أسباب حروب الفجار التي استعرت نارها أربعين سنة حتى أطفأ النبي ثائرتها إلا سبة لحقت ابنة فتية في سوق عكاظ. وقد حول النبي عادة حسنة إلى اعتقاد ثابت فأصبح احترام المرأة باباً من أبواب الإسلام ونرى في كثير من الأحوال التي تعكس لنا صورة عصره الساذج أن سننه تبعث على الشهامة والمروءة في معاملة المرأة أكثر من سنن سائر المعلمين السابقين ويختلف الإسلام كالنصرانية باختلاف الأفراد والعصور لكن المروءة الخالصة كانت في الإجمال أكثر مصاحبة للإسلام منها لغيره. وكما كان بطل الإسلام وابن مؤسس حلف الفضول على أهبة لمحاربة أعداء الله بسيفه ورمحه كذلك كان على أهبة للأخذ بناصر الضعيف والمظلوم ولم يعدم الداعي الملوح المستجير سواء كان في سهول العراق أو ما هو اقرب للجزيرة فارساً يأتي للأخذ بناصره وجبر كسره. وكانت أعمال هؤلاء الفرسان تدون في الأخبار وتنتقل من الخيمة إلى القصور فتؤثر في صولة الأجيال التالية وأن الخليفة ألقى من يده يوماً قدح الشراب في دار ضيافته لما بلغه أن فتاة عربية قالت في اسر الرومانيين لم لا يأتي عبد الملك لتخليصي وعاهد نفسه على أن لا يذوق شراباً أو ماء حتى يخلص الفتاة من الأسر فسار من وقته بجيش عرم على

الرومانيين الأنذال وما بر بيمنه حتى ملكت تلك الفتاة أمرها. وإن أحد الملوك المغوليين وهو الملك همايون بينا كأن يسير إلى كابل والأفغانيون يطاردونه وصله سوار ملكة مؤاخية وهو علامة على الصداقة وطلب المساعدة فترك شؤونه الخاصة وأعاد كرته وكسر أعداءها ثم عاد إلى سيره السابق. وسمى عنترة أبا الفروسية وكان علي مثالها الكمالي جمع الشهامة والشجاعة والكرم وكان نقي القلب رقيق الخصال عالماً لا يخاف ولا يوبخ فوضع أمام الناس أشرف مثال لمتانة الأخلاق والشجاعة والمروءة وقد ظللت مبادئه - وهي صورة مبادئ معلمه - البلاد الإسلامية وكأنت الروح المحرك المحيي لكثير من الأجيال التالية. وكان من أمر الحروب الصليبية أنها جمعت الغرب البربري بمدينة الشرق الإسلامي فنبهته إلى عظمة المسلمين وترفهم. وكان تأثير مسلمي الأندلس خاصة في جيرانهم النصارى هو الباعث على إدخال الفروسية في الغرب ولم يكن التروبادور والتروفور الذين قاموا في جنوب فرنسا والمنسنجر الذين قاموا في البلاد الجزمانية والذين تغنوا في الحرب بأناشيد العشق والشهامة إلا تلاميذ رومنسور قرطبة وغرناطة ومالقة وقد استمد بتررك وبكاشيو بل تايو وتسوشر من الينبوع الإسلامي إلا أن خشونة البرابرة الغربيين في عاداتهم وتصوراتهم كست الفروسية ثوبا حشنا. وبقيت المرأة في الأعصر الإسلامية الأولى حتى سقوط الدولة العربية في المشرق تشغل مكاناً علياً كمكان المرأة المعاصرة فزبيدة امرأة الرشيد قامت بعمل عظيم في عصرها وتركت بحكمها وأدبها اسماً يفتخر به المتأخرون. وإن حميدة امرأة الفاروق أدبت ابنها في غياب زوجها حتى صار من أشهر علماء عصره وكان اسمه ربيعة الرأي. وكانت سكينة ابنة الحسين وسبط علي أذكى أهل زمانها وأكثرهم فضيلة وتهذيباً وقد سماها برون (سيدة سيدات زمانها) ووصفها بأنها (أجملهن وارقهن وأوضحهن أخلاقاً) وجمعت إلى علمها حسن استماعها لحديث العلماء والصالحين. ولقد عرف نساء بيت النبوة بعلمهن وفضيلتهن وتصلب أخلاقهن. وكانت بوران امرأة المأمون وأخته أم الفضل امرأة الأمام الثامن العلوي وابنته ام الحبيب كلهن مشهورات بالعلم. وقامت في القرن الخامس من الهجرة السيدة سكينة الملقبة بفخر النساء وألقت دروساً عامة في مسجد بغداد الجامع موضوعها الأدب

والبيان والشعر ولما في تاريخ الإسلام شأن يساوي شأن أشهر العلماء. وماذا كان يصيبها يا ترى لو انها نشأت بين اخوأن القديس سرل والجواب يظهر مما أصاب هيباتيا وكان من الممكن أن لا يمزقها أولئك المتحمسون ولكن من المحقق انها كانت تحرق كالساحرات وكانت ذات الهمة (المحرقة في اللغات الأوروبية الحأزمة) قلب الأسد وصاحبة كثير من الوقائع تحارب مع أشهر الفرسان جنباً لجنب. وقد اعترف كل من لم يتعصب من الكتاب بإصلاح المرأة الذي أتى به النبي. على أن المتعصبين لا يزال ديدنهم القول بأن الإسلام حط من مقام المرأة - تهمة إلا اكذب منها - وان تسعة عشر قرناً من قرون النشوء والترقي عملت مع ما أورثته مدنية سابقة وأحوال مناسبة على جعل المرأة في أكثر البلاد النصرانية أعلى درجة من الرجل بالنظر الاجتماعي أي ولدت آداباً تعترف على الأقل بحق المرأة بالأفضلية الاجتماعية. ولكن ماهو حقها الشرعي ياترى حتى في أعظم البلاد النصرانية. وإن المرأة المتزوجة كانت في البلاد الإنكليزية حتى في عصر متأخر جداً لا يعترف لها وحدها بحق من الحقوق دون زوجها. والآن إذا لم تبلغ المرأة المسلمة في مئة سنة آتية مقام أتى في عصر لم تعترف فيه امة من الأمم اودين منالأديان او جمعية من الجمعيات بحق المرأة سواء كانت بكراً او متزوجة وعاش في بلاد تعد ولادة الابنة مصيبة ومع ذلك خول النساء حقوقاً لا تخولهن اياها الحكومات المتمدنة اليوم إلا كرهاً - أن معلماً كبيراً مثل هذا حري بثناء الخلق واعترافهم له بالجميل ولو لم يفعل غير هذا لصدق في دعواه أنه ارسل رحمة للعالمين. وإن حقوق المرأة المسلمة كما هي مدونة في كتب الفقهاء لا تقل عن حقوق المرأة الأوروبية اليوم واننا لا نتعرض هنا لغير الضمانات التي تضمن حقوقها في الشريعة الإسلامية وهي أن المرأة مادامت غير متزوجة تبقى في بيت أبيها ومادامت دون سن البلوغ فابوها يسوسها ومتى بلغت أشدها فإن الشريعة تمنحها بيدها ما يخصها من الحقوق من غير أن يشركها شريك في ذلك. ولها حصة معلومة في ميراث ابويها كاخواتها وإذا اختلفت النسبة فذلك لاختلاف المقام. ولا يمكن إجبار البالغة على زواج واحد حتى السلطان في حال من الأحوال ولا تخسر المتزوجة حقوقها الخاصة وللزوجة على الزوج صداق مقدم فإذا لم يدفعه تحكم الشريعه لها بصداق يناسب درجتها. والزواج الإسلامي عمل مدني لا يحتاج

إلى قسيس أو رسوم معلومة وأن عقود الزواج الإسلامية لا تخول الرجل سلطة على الزوجة وراء ما عينته الشريعة له عليها ولا تعطيه حقاً من الحقوق بالتسلط على امتعتها أو ثروتها. فحقوقها من حيث انها ام لايتوقف الاعتراف بها على وساوس القضاة المختلفي المشرب والتربية. وما كسبته بيدها لا يتمكن من إتلافه زوج مبذر وإن زوجاً شرساً لا يقدر على الإساءة إلى زوجته من غير عقاب وهي تدير أمرها بيدها متى كانت بالغة من غير مداخلة زوجها او أبيها. وتداعي غرماءها في المجالس العلنية من غير أن تضطر إلى الانضمام إلى رفيق ثان أو تحت اسم زوجها وبعد ما تترك بيت أبيها بتقى لها الحقوق التي يخولها الرجل. وإن امتازاتها من حيث أنها ام وزوجة لا تضمنها المجاملات المتقلبة ولكن تضمنها الأحكام المسطرة في كتاب الشرع. ونقول إجمالاً أن حالتها لاتقل عن حالة كثير من نساء الغرب ومن المحقق أنها في كثير من الشؤون أرفع منهن مقاماً وتأخرها بالنسبة إلى الغربيات ناتج عن قلة التهذيب بين الطبقات عامة لا عن شيء خاص في أحكام الفقهاء. بيروت عبد الرحمن شهبندر يوجد نقص من فقرة الأزمة المصرية صفحة 480 إلى فقرة صحف منسية صفحة 484 (مقتبس2)

صحف منسية

صحف منسية نثر ابن زيدون كتب ابن زيدون من قرطبة إلى ابن مسلمة بإشبيلية قبل تحوله إليها ياسيدي وأرفع عددي. وأول الذخائر في عددي. واخطر علق ملأت من اقتنائه يدي. ومن ابقاه الله في عيشة باردة الظلال. ونعمة سابغة الاذيال. قد تناصر الثناء عليك. وتوالي الحديث الحسن عنك. حتى حللت محل الأمانة. وكنت موضع تقليد الوطر واثبات الطوية. والله يمتعك بما حازه لك من الخير. ووفره عليك من طيب الذكر. في علمك أعزك الله ما تقتضيه العطلة من اظلام الخاطر وصداء النفس ويجنبه طول المقام من أخلاق الديباجة وارخاص القدر وقد رأيت أن اجتني ثمرة من الآداب أطلت الاعتناء بها. وأخلاق ادمت رياضة الأنفس عليها. ولما فحصت الملوك وجدت عميدهم الذي انسى السالف قبله. وتقدم الراهق معه. وأتعب العابر بعده. الحاجب فخر الدولة مولاي. ومن أطال الله بقاءه. وكبت أعداءه. بما خصه الله به من سناء الهمم. وشماخة الشيم، وانتظام أسباب الرياسة. وكمال آلات السياسة. واجتماع المناقب التي أفردته من النظراء. وأعلته عن مراتب الاكفاء. فرأيت قبل أن أحمل لغيره نعمة. واوسم ممن سواه بصنعة. أن أعرض نفسي مملوكته عليه عرض من لا يؤهلها لاجازته لا بالاستخارة ولا يطمع لها في قبوله الا مع المسامحة فو كنت الوليد بن عبيد براعة نظم وجعفر بن يحيى بلاغة نثر وإبراهيم بن المهدي طيب مجالسة وإمتاع مشاهدة ثم حضرت بساطة العالي لما كنت مع سعة أحاطته إلا في جانب التقصير وتحت عهدة النقصان غير أنه الا يعدم مني لنجابة غرس اليد وأصابة طريق المصنع من ولاية أخلصها ونصيحة أمحضها وشكر اجنيه الغض من زهراته وثناء اهدي إليه العطر من نفحاته ففوضت اليك هذه السفارة واعتمدتك بتكليف النيابة لوجوه منها حظوتك لديه ومكانتك منه سوغك الله الموهبة في ذلك وانهضك باعباء الشكر لها ومنها سرو مذهبك وكرم سجيتك وصحة مشاركتك لمن لم يستوجبها استيجابي ولا استدعاها بمثل أسبابي من تداني الجوار وتصافي السلف والانتماء إلى آسرة الأدب. فإن وأفقت السانحة الاراة فحظ أقبل. وعبد بلغ من سيده ما امل. ولم أقل عمرك الله كما قيل في النجمين. بل قلت وقد يجمع الله الشتيتين. وإن عاق حرمان عادته أن يعوق عن الظفر ويعترض دون

الأمل فأعلمه أيده الله اني في حال العطلة مع غيره والتصرف. ويومي الايطان والتطوف. كالمهتدي بالنجم حين عدم ذكاء ومتيم الصعيد إذا لم يجد الماء فإن اغش قوماً غيره او ازرهم ... فكالوحش يدنيه من الأنس المحل والله يتولاه بالفسحة في عمره. والإعلاء لأمره. ويصرف الاقدار مع ايثاره. ويصرف وجوه التوفيق إلى اختياره. ولك سيدي في انتدابك كما ندبتك له ما للساعي المنجح من الشكر. أوللمجتهد البالغ من العذر. وملاك الأمر تقديم المراجعة للايجاب فأسكن إليه. والجواب فاعتمد عليه. وأهدي اليك ندى الغض الناضر من سلامي والارج العطر من تحفتي. وله رسالة خاطب بها ابا مروان بن حيان المؤرخ المشهور قال في فصل منها وقد أهداه احمالاً من الزيت والبر في سنة ممحلة: وللذي أسكن إليه من حسن قبولك. وجميل تأويلك. اقابل بالحقير. واواجه بالتافه اليسير. ويعلم الله تعالى إني لو تاحفتك عمري ما رأيت أن ذلك كفوء لقدرك. ولا وفاء ببرك. فكيف ما دونه فلك المنزلة التي لا تسامى. والجلالة التي لا توازي. وما شيء وإن جل الا محتقر لك مستصغر عند محلك. ويصل مع موصل كتابي هذا ما ثبت ذكره في المدرجة طيه وانت بمعاليك تتفضل بقبوله وتصل أجمل صلة بالتغاضي عن رتاحته. والاستجازة لنزارته. مقتضياً بذلك شكري وحمدي ومستبداً منهما بجميع ما عندي. وقد راجعه ابن حيان برقعة يقول فيها: أن لفجأة المسرات الباعثة لآمال النفوس الحائمة صدمات تذهل الجنان وتعقل اللسأن فمن فرح النفس ما يقتل ومن باهر الصنع ما يذهل. ولا كمثل ما فاجأتني به من فضلك المبتدر ميقانه على وفاض من الازودة وخمود من المصأبيح وضغطة من الظنون المخوفة لنكد السنا لم يشغلك عن وجودك شاغل حتى قضيت يذرك في لأول وقته ولم ترض بعادتك المتكلفة لي بشأن الدين حتى تحملت عن ثقل القوت فطرقني قطار هديتك الفاجئة غداة أصبحت فيها منصفاً من الزاد مستوفزاً للارتياد فسكنت دهشاً فرحاً واستحال بياني بلها حتى نولت كتابك الكريم. نظرت في لإليه فنالني به اهتزاز لذكرك وارتياح لقولك فجوزيت جزاء المحسنين بما لرحت من فكري لكشفك في اديم يوم هم عام مع انك قبلت شكري فلا فضل فيه لمقابلة معروفك الا بامحاض

الدعاء لك في حراسة مهجتك ودوام نعمتك واستبصار الملك الأعلى عميد الورى مستكفيك في حسن رأيه فيك اعاذك من عين الكمال ووقاك طوارق الأيام والليال وحفظ على زماننا مافيك من كرم الخلال وانهضك بما التزمته من احناث من اقسم في عصرنا أن الجود عدم لا ينال بمنة. وقد طوينا في هذه الرسالة بعض ألفاظ لسقم النسخة المنقول عنها. شعر ابن زيدون في دار الكتب الخديوية بالقاهرة نسخة خطية من ديوان بحتري المغرب ابن زيدون وقع في 107 ورقات صغيرة تغلب عليه الصحة في الغالب ولم يذكر فيه تايخ ليعرف به الزمن الذي كتبت فيه وقد كتب في آخره مانصه: تم شعر ذي الوزارتين أبي الوليد احمد ابن زيدون وشعر الملكين والحمد لله وحده. وإن خير ما يقرظ به ديوان صاحب قصيدة (أضحى التناحي بديلاً من تجافينا) التي بعث بها إلى ولادة بنت المستكفي بالله أن يكتفي بنقل شذرات منه تدل على مبلغ ذاك الشعر من العراقة في الحضارة والرقة. وقد اتصل بنا أن أديباً من دمشق قد مثل هذا الديوان البديع للطبع او كاد ولا شك أن أصحاب القريض سيسرون بنشره بينهم. قال ابن زيدون يمدح أبا الوليد بن جهور احد ملوك الطوائف وهي أول ديوانه هذا الصباح على سراك رقيبا ... فصلي بفرعك ليلك الغربيبا ولديك امثال النجوم قلائد ... الفت سماءك لبة وتريبا لينب عن الجوزاء قرطك كلما ... جنحت تحت جناحها تغريبا وإذا الوشاح تعرضت اثناؤه ... طلعت ثريا لم تكن ليغيبا ولطالما ايديت اذ حييتنا ... كفاً هي الكف الخضيب خضيباً اطنينة دعوى البراءة شأنها ... أنت العدو فلم دعيت حبيبا ما بال خدك لا يزال مضرجاً ... بدم ولحظك لا يزال مريبا لو شئت ما عذبت مهجةعاشق ... مستعذب في حبك التعذيبا ولزرته بل عدته أن الهوى ... مرض يكون له الوصال طبيبا ما الهجر الا البين لولا أنه ... لم يشح فاه به الغراب نعيبا

ولقد قضى فيك التجلد نحبه ... فثوى وأعقب زفرة ونحيبا وأرى دموع العين ليس لفيضها ... غيض إذا ما القلب كان قليبا مالي وللأيام لجّ مع الصبي ... عدوانها فكسى العذار مشيبا وقال مع تفاح أهداه إلى الوزير الأجل محمد بن جهور اتتك بلون الحبيب الخجل ... مخالط لون المحب الوجل ثمار يضمن إدراكها ... هواء أحاط بها معتدل تأتي لا لطاف تدريجها ... فمن حر شمس إلى برد ظل إلى أن تناهت شفاء العليل ... وانس المشوق ولهوالغزل فلو تجمد الراح لم تعدها ... وان هي ذابت فخمر تحل لها منظر حسن في العيون ... لدنياك لكنه منتقل وطعم يلذ لمن ذاقه ... كلذة ذكراك لو لم يمل يمثل ملمسها للاكف ... لين زمانك او يمتثل صفوت فادللت في عرضها ... ومن يصف منه الهوى فليدل قبولكها نعمة غضة ... وفضل بما قبله متصل ولو كنت اهديت نفسي اخ ... تصرت على أنها غاية المحتفل وكتب إلى الأديب أبي بكر مسلم بن احمد رسالة يتنصل بها شحطنا وماللدار نأي ولا شحط ... وشط بمن نهوى المزار وماشطوا اءاحبابنا الون بحادث عهدنا ... حوادث لاعقد عليها ولا شرط لعمركم أن الزمان الذي قضى ... يشت جميع الشمل منا لمشتط وأما الكرى مذ لم ازركم فهاجر ... زيارته غب والمامة فرط إلى أن يقول وهو مما ذكر له القلائد عدا سمعه عني واصغى إلى عدي ... لهم في اديمي كلما استمكنوا عط بلغت المدى اذ قصروا فقلوبهم ... مكامن اضغان اساودها رقط يولونني عرض الكراهة والقلى ... ومادهرهم الا النفاسة والغبط وقد وسموني بالتي لست أهلها ... ولم يمن امثالي بامثالها قط

فررت فإن قالوا الفرار ارابه ... فقد فرّ موسى حين همّ به القبط وقال وهو السحر الحلال ساحب اعدائي لانك منهم ... يامن يصح بمقلتيه ويسقم أصبحت تسخطني وأمنحك الرضى ... محضاً ونظلمني فلا اتظلم يامن تألف ليله ونهاره ... فالحسن بينهما مضيء مظلم قد كان في شكوى الصبابة راحة ... لو انني اشك وإلى من يرحم سقى الغيث اطلال الاحبة بالحمى ... وحاك عليها ثوب وشي منمنا واطلع فيها للازاهير انجما ... فكم رفلت فيها الخرائد كالدما اذ العيش غض والزمان غلام أهيم بجبار يعز وأخضع ... إذا المسك من اردانه يتضوع إذا جئت أشكوه الهوى ليس يسمع ... فما أنا في شيء من الوصل أطمع ولا أن يزور المقلتين منام قضيب من الريحان أثمر بالبدر ... لواحظ عينيه ملين من السحر وديباج خديه حكى رونق الخمر ... وألفاظه في النطق كاللؤلؤ النثر وريقته في الارتشاف مدام سقى جنبات القصر صوب الغمائم ... وغنى على الاغصان ورق الحمائم بقرطبة الغراء دار الأكارم ... بلاد بها عق الشباب تمائمي وانجبني قوم هناك كرام فكم لي فيها من مساء واصباح ... بكل غزال مشرف الوجه وضاح يقدم أفواه الكؤوس بتفاح ... إذا طلعت في راحة انجم الراح فإنا لإعظام المدام قيام ويوم لدى النبي في شاطئ النهر ... تدار علينا الراح في فتية زهر وليس لنا فرش سوى يانع الزهر ... يدور بها عذب اللما اهيف الخصر بفيه من الثغر الشيب نظام ويوم بحوحي الرصافة مبهج ... مررنا بروض الاقحوأن المديح

وقابلنا فيه نسيم البنفسج ... ولاح لنا ورد يخد مضرج تراه أمام النور وهو أمام واكرم بأيام العفاف السوالف ... ولهو أثرناه بتلك المعاطف بسود اثيث الشعر بيض السواف ... إذا رفلوا في وشي تلك المطارف فليس على خلع العذار ملام وكم مشهد عند العقيق وجره ... قعدنا على حمر النبات وصفره وظبي يساقينا سلافة خمره=حكى جسدي في السقم رقة خصره لواحظه عند الدنو سهام فقل لزمان قد تولى نعيمه ... ورثت على مر الليالي رسومه وكم رق فيه بالعشي نسيمه ... ولاحت لساري الليل فيه نجومه عليك من الصب المشوق سلام وله وقد قال فيها صاحب الذخيرة أنه كتب بها من بطليوس أيام تكدره عليها وهي من غرر نظامة ودرر كلامه يادمع صب ماشئت أن تصوبا ... ويافؤادي إن ان تذوبا أن الرزايا أصبحت ضروبا ... لم ار لي في أهلها ضريبا قد ملأ الشوق الحشا ندوبا ... في الغرب اذ رحت به غريبا عليل دهر سامني تعذيبا ... ادنى الضنا اذ ابعد الطبيبا ليت القبول احدثت هبوبا ... ريح يروح عهدها قريبا بالأفق المهدي الينا طيبا ... تعطرت منه الصبا جنونا يبرد حر الكبد المشبوبا ... يامتبعاً إساءة التأويبا مشرقاً قد سئم التغريبا ... اما سمعت المثل المضروبا ارسل حكيماً واستشر لبيبا إذا اتيت الوطن الحبيبا ... والجانب المستوضح العجيبا والحاضر المنفشج الرحيبا ... فحي منه ما رأى الجنوبا مصانع بجاذب القلوبا ... حيث الفت الرشأ الربيبا

مخالساً في وصله الرقيبا ... كم تات ليلي بدره الغريبا لما أنثنى في سكره قضيبا ... تشدو حمام حليه تطريبا هصرته حلو الجنى رطيبا ... ارشف منه المبسم الشنيبا حتى إذا ما اعتن لي مريبا ... شباب أفق هم أن يشيبا بادرت سعياً هل رأيت الذيبا ... اهاجري ام موسعي تأنيبا من لم أسع من بعده مشروباً ... ما ضره لو قال لا تتريبا ولا ملام يلحق القلوبا ... فلا ملام لحق المغلوبا قد طال ما تجرم الذنوبا ... ولم يدع في العذر لي نصيبا ان قرت العين بان اؤبا ... لم آل أن استرضى الغضوبا حسبي أن احرم المغيبا ... قد ينفع المذنب أن يتوبا وقال: ولما التقينا للوداع غدية ... وقد خفقت في ساحة القصر رايات وقربت الجرد العتاق وصفقت ... طبول ولاحت للفراق علامات بكينا دماً حتى كان عيوننا ... بجري الدموع الحمر منها جراحات وكنا نرجي الأوب بعد ثلاثة ... فكيف وقد كانت عليها زيادات مطبوعات ومخطوطات صدر هذا الكتاب النفيس في الشهور الأخيرة باللغة الإفرنسية من قلم المسيو هنري ليشتنبرجي من أساتذة كلية السوربون في باريز وهو في نحو أربعمائة صفحة تلونا في مسطورة أثار عظمة الأمة الجرمانية وارتقائها في أدابها وعلومها وصنائعها وأخلاقها واوضاعها السياسية والاجتماعية ولاقتصادية والدينية في خلال القرن التاسع عشر كل ذلك مكتوب بلسان الانصاف البحت اوحاه العلم الذي لا ينطبق صاحبه من جانب القلب بعامل هوى النفس واملاه التمحيص الذي يتوفر عليه علماء الغرب إذا اخصوا في فن من الفنون وأرادوا أن يضعوا فيه المصنفات الممتعة النافعة. وقد عددنا الطفر بهذا الكتاب نعمة لانا كنا نعرف درجة ارتقاء الألمان معرفة سطحية وذلك لان من أخلاق هذه الأمة بل من أخلاق الأمم السكسونية كالإنكليز والأميركان أن لا يهمها التظاهر بعظمتها الحقيقية الا بعد

إيراد الدلائل الحسية على ذلك وظهور نتائج الأعمال بالطبع. ومما استفدناه منه أن الألمان لم يكتفوا بنزول بلادهم بل هم منتشرون في جميع بلاد أوروبا ولاسيما فيما وراء تخومها من الجهات الأربع فقد كأن سنة 1900 في بلاد النمسا 9171000 ألماني أي 36 بالمائة من مجموع السكان يحيون فيها لغتهم وحضارتهم ونفوذهم وفي الأكثر في بوهيميا على كثرة مناضلة عنصر الصقالبة لهم. وعلى الرغم من معاكسة العنصر المجري للعنصر الجرماني لايزال في بلاد المجر 2135000 ألماني أي نحو 33 في المئة من عامة السكان يحافظون على حالتهم وإن شئت فقل يفلحون في الأعمال وينتشرون كما هم في أقليم كرواسياسلافونيا من ديار المجر فإنهم زادوا فيها أربعة أضعاف ما كانوا في النصف الثاني من القرن الأخير. وعدد الألمان في شرق ألمانيا من ولايات البلطيق من أعمال روسيا نحو ربع مليون وهم العنصر المتمدن المتعلم الفني. وفي جنوبي ألمانيا أي في بلاد سويسرا الألمانية يتراجع عنصرهم قليلاً بالنسبة لعنصر الولش وفي غربي ألمانيا 32 الفا أي في هولاندا والبلجيك الفلامندية و68 ألفاً في البلجيك ولوكسمبرغ. وماعدا هؤلاء فإن هناك ملايين من الألمانيين غادروا ألمانيا على أن يعودوا إليها او هاجروا منها هجرة قطعية فمنهم جنود يخدمون الأجانب ودعاة دين للكثلكة أو إلبرتستانتية ورواد في آسيا وأفريقيا يكتشفون المجاهل والمعالم ومهاجرون مدفوعون بعامل الفقر نزلوا وراء البحر المحيط أي في أمريكيا يبحثون عن الثروة وكل هؤلاء الألمان الذين طرحتهم النوى مطارحاً والقتهم الاقدار في اطراق المعمور كله هم عنصر قوي في جسم القوة الجرمانية ذو شأن عظيم قال المؤلف ومعلوم أن هجرة الألمان كانت متصلة بعد سنة 1830 حتى أنه يقدر عدد الألمانيين الذين غادروا ألمانيا في خلال القرن التاسع عشر بخمسة ملايين ومعظمهم بين سنة 1881و1890 هكذا أسست منذ ذاك العهد مستعمرات ألمانية كثيرة وأهمها مستعمرة الألمان في الولايات المحدة ويقدر عدد الأميركيين الذين هم من أصل الماني بخمسة وعشرين مليوناً وتعشرة إلى اثني عشر مليوناً تقرأ في جبهتهم ألمانيتهم وهم اما أنهم يتكلون بالألمانية او هم مولدون من آباء ألمان او انهم احتفظوا بعاداتهم وتهذيبهم بما قوى

الرابطة بينهم وبين بلادهم الأصلية وكان هذا العدد الدثر من أعظم القوى الألمانية اذ لم يتشبه على ايسر وجه بمن نزل بين ظهرهم من الأميركان وينزع عنه أخلاقه وأداب جنسه في الجيل الثاني أو الثالث واحياناً في الجيل الأول. ويبلغ الألمان في أميركيا الجنوبية نصف مليون نسمة وهم فيها أكثر احتفاظاً بلغتهم وآدابهم وأغنياء من الطراز الأول وفي استراليا نتشبهون بالعنصر الإنكليزي السنكسوني لأول أمرهم وعلى العكس في النازحين منهم إلى الشرق من جهات الأملاك العثمانية والروسية كقافقاسيا وتركستان وسبيريا من جهة وفلسطين من جهة أخرى فمنهم احتفظوا بأصولهم ولغاتهم وهم على قاب قوسين من النجاح والتقدم وهكذا الحال في سائر البلاد التي نزلوها في آسيا ولاسيما في المستعمرات الهولاندية وكذلك في أفريقية ولاسيما في مستعمرة الرأس ويقدرون عدد الألمان في أوروبا بستة وسبعين مليوناً ونصف يضاف إليهم نحو اثني عشر مليوناً منتشرين في أطراف القارات الأربع الأخرى منهم عشرة ملايين في الولايات المتحدة وأربعمائة الف في أمريكيا الشمالية وخمسمائة الف في أمريكيا الجنوبية وثمانية عشر ألفاً في أمريكيا الوسطى و623 الفا في أفريقيا و110 ألاف في جزائر المحيط و88 ألفاً في آسيا وسنعرب من هذا الكتاب بعض فصوله لفائدة القراء محمد علي هي قصة تاريخية غرامية تشتمل على سيرة محمد علي باشا مؤسس العائلة الخديوية من أول نشأته حتة قبض على أزمة الحكومة المصرية عربها عن الإنكليزية نسيب أفندي المشعلاني المشهور في تعريب القصص والفكاهات ونشرتها مجلة الهلال الغراء ملحقاً لها تعويضاً لقرائها عن شهري الصيف وهما اللذان تحتجب فيهما هذه المجلة النافعة وقد جعلتها هدية يدفعون في الاغلب إلا إذا حفزهم حافز ورغبهم كان ما يتنأولونه كل يوم او كل أسبوع او كل شهر من الأفكار والأبحاث لا يساوي وحده في نظرهم أن يقابل بثمن طفيف. وقد أحسن رصيفنا صاحب الهلال بهذه القاعدة الملذة وهي في زهاء ثلاثمائة صفحة من قطع الثمن فنحت عشاق الفكاهات على مطالعتها ونثني على نأقلها وناشرها بما يستحق فضلها.

ديوان صريع الغواني صريع الغواني او مسلم بن الوليد شاعر متقدم من شعراء الدولة العباسية وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع وهو الذي لقب هذا الجنس البديع واللطيف وتبعه فيه جماعة وأشهرهم ابو تمام الطائي وكان حسن النمط جيد القول في الشراب وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى توفي سنة 208 وقد كان طبع ديوانه في أوروبا والهند واعاد طبعه الأن فئة من انصار الأدب ببور سعيد فأحسنت ونعما فعلت وحبذا لو تتبعه بغيره من الكتب المطبوعة في أوروبا وهي تعد كالمخطوطة في ديارنا لندرتها. قال مسلم في الحكم: شكا الزمان بما امضى به قدرا ... أن الزمان لمحمود على الابد لن يبطئ الأمر ما املت اوبته ... وان اعانك فيه رفق متئد والدهر أخذ ما اعطى مكدر ما ... اصفى ومفسد ما اهوى له بيد فلا يغرنك من دهر عطيته ... فليس يترك ما اعطى على احد وقال من هذا النوع كم رأينا من أناس هلكوا ... فبكى احبابهم ثم بكوا تركوا الدنيا لمن بعدهم ... وردهم لو قدموا ما تركوا كم رأينا من ملوك سوقة ... ورأينا سوقة قد ملكوا قلب الله عليهم وركا ... فاستداروا حيث دار الفلك مرآة الزمان جرت عادة كثير من طباع الغربيين أن يطبعوا بالزنكو غراف كثيراً من الكتب القديمة الخطية لاسيما إذا كان خطها بديعاً يغلب عليه الضبط والصحة وفي ذلك فوائد لا تحصى لأن الممالك نسخة من كتاب او رسالة طبع على هذه الصورة كانه ملك النسخة الأصلية الفريدة في بابها وربما طبع الكتاب بهذه الطريقة لا لما ذكر بل لصعوبة النسخ أو الطبع على الطريقة المألوفة ومن ذلك ما فعله الدكتور ريكارد جوت أستاذ العربية في جامعة شيكاغو فإنه طبع في الأيام الأخيرة الجزء الثامن من مرآة الزمان للعلامة يوسف سبط ابن الجوزي وهذا الجزء يحتوي على نهم الأحداث من سنة 495إلى سنة 654 ولعل بعض

الطابعين في المشرق يقتنعون هذا الأثر وإن كان يحتاج إلى عناء وكلفة فإن في دور الكتب هنا وعند كثير من المولعين بها كثيراً من الكتب التي يجد ران تطبع على هذه الطريقة لا على الطريقة الأخرى. الفضيلة والرذيلة جورج اونه من مشاهير كتاب فرنسا المعاصرين له عشرات من المؤلفات في التمثيل والقصص وكلها منتشرة بين الفرنسين وهو من الناقمين على أرباب المجد والمال ولذلك ترى معظم كتاباته تدور على هذا المحور. وقد عرب منشيء هذه المجلة في هذه الآونة رواية من سلسة روايات له كثيرة سماها جهاد الحياة نشرتها مجلة مسأمرات الشعب في267 صفحة منصفة القطع وسميت (الفضيلة والرذيلة) وهي تمثل رجلاً من أهل الأدب والقريض اتصل بقتاة أدبية وامرأة متأدبة فحاول أن يحل من الأولى محلاً دفعته عنه بفضل أدبها وتربيثها مع أن امها كانت معروفة بالخلاعة والتبذل وحل من الثانية وهي غنية من ربات القصور محلاً لا يليق بمن كتب وصفت أن يحله فأخذت ترفع مقامه بين خاصتها وتبره ليصلح لها كتاباتها المنثورة والمنظومة لأنها كانت مولعة بالشهرة أدبية ولما تستعد لها على أصولها وقد تخلل ذلك كلام في النقد على أرباب الرفاهية والمجد وطلاب الشهرة الباطلة مثال من تغفل بعض أرباب المطابع والجرائد والمجلات والمجامع العلمية في فرنسا مما تحتاج كل صفحة من صفحاته إلى شرح طويل. وهذه الرواية تلذ مطالعتها الخاصة أكثر من العامة وهي تطلب من مجلة مسأمرات الشعب وثمنها خمسة عشر قرشاً وتهدى لمن يشترك بالمجلة المذكورة. المجرم البريء نشرت مجلة مسأمرات الشعب القصصية هذه الرواية معربة بقلم كاتب هذه السطور أيضاً وهي رواية بلذ مطالعتها جمهور الناس تمثل صورة من صور التهور في الغرام الحرام وعواقبه المدمرة وذلك أن صاحب معمل في باريز كان في حالة حسنة من دنياه يعيش في غبطة مع زوجته وفتاته فساقة الغرور إلى الاتصال بامرأة احد كبار المحامين استلت منه آدابه وماله ثم جمعته الاقدار في حرب السبعين مع زوجها وكان يعرفه من قبل معرفة بسيطة فتصادقا على الرغم منه وانقذ كل منهما حياة صاحبه في بعض المواقع فعاد صاحبه

وقد قطعت ساقاه فلم ير صاحب المعمل أن يعود إلى سالف عهده مع زوجة صاحبه بعد تلك الحقوق التي بينهما وراح يوبخ نفسه على ما قدمت يداه اما هي فكتمت الأمر وأخذت تدبر له مكيدة للانتقام منه بواسطة رجل كان قبض عليه صاحب المعمل في دار الحرب وهو يتجسس للعدو وسجنه ريثما ينفذ عليه حكم الإعدام ففر في الليل وعادإلى باريز وتعرف إلى تلك المرأة وكان مطلعاً من قبل على شيء مما يدور بينها وبينه قبل الحرب. وصادف أن وقع صاحب المعمل في ضائقة عقيب وقوف الحركة المالية في فرنسا وكان مديناً لرجل عجوز بمبلغ من المال فأراده أن ينظر إلى ميسرة فالح هذا في تقاضي دينه فلم يسعه إلا أن يدفع إليه ما أراد وعندها دمر ذاك الجاسوس إلى دار الشيخ وذبحه وأخذ اوراقه المالية التي كانت فيها إشارة إلى انها صادرة عن صاحب المعمل ودفع القسم الأعظم منها إلى عشيقة صاحب المعمل القديمة لتؤديها إليه وفاء عن مبلغ كانت اقترضته منه أيام اتصالها به فأخذها هذا فرحاً وصادف أن كانت دار صاحب المعمل في ضاحية باريز مناوحة لدار الشيخ القتيل الذي كان دائن الأول مديناً له وإن صاحب المعمل تأخر ليلة القتل مضظرباً من الأزمةا لمالية التي تهدده بالخراب وإن زوجته وابنته رأتا شخصاً شبه لهما به فظنتا انه هو الذي دخل دار ذاك الجار العجوز قبيل منتصف الليل واتفق وجود شبه في الصورة بين صاحب المعمل وبين الجاسوس القاتل ووقعت للابنة وامها امارات قوية تدل على أن صاحب المعمل هو القاتل لا محالة ولما استنطقتهما النيابة من الغد ظهر عليهما تردد لم يشك القضاة معه بأن القاتل هو صاحب المعمل قتل غريمه بعد أن دفع إليه المبلغ كما علم من كتأبين كان بعث بهما إليه قبل يومين من مقتله يهدده فيهما ضمنا أن لم يمهله في الدفع ولما سجن صاحب المعمل بما قامت عليه من الإمارات وهو ينادي بانه بريء تقدم صديقة في دار الحرب ذاك المحامي على عجزه ليتولى الدفاع عنه وفاء بحقوق الصداقة فابى أن يطلعه على سر قضيته ليحسن انقاذه من ايدي القضاة لكن صديقة المحامي عرف بأن في المسألة سراً له اتصال بأمور نسائية ابت مروءة صاحبه أن يبوح به إليه لأنه ربما ادى إلى خراب بيت وتشتيت شمل أسرة عظيمة وبينا هو في المحكمة يدافع عنه يوم صدور الحكم عليه وقد ايقن الناس بانه كاد يؤثر بطلاقة لسانه في عقول القضاة فيبرؤن صاحبه او يحكمون عليه بعقوبة خفيفة جداً ألقيت إليه بطاقة فلما

قرأها دهش وتلعثم ثم نقلوه إلى غرفة وجاء الطبيب وقد فارق المحامي الحياة وعندها حكمت المحكمة على الذي تبين لها أنه القاتل بالاشغال الشاقة مؤبداً. وفي خلال ذلك هلكت امرأة صاحب المعمل حزناً وخلفت ابنتها وهي في السابعة يتيمة عجية فكفلها خال أبيها وباع المعمل والمصيف وجميع ما يملكه ابن اخته ووفى ما كان عليه من الديون. اما صاحب المعمل فتمكن بعد سنة من الفرار ومن محبسه في خمسة من المجرمين السياسيين وانقلب إلى نيويورك فقيراً وقيراً فدخل في أحد المعامل وكان يحسن صناعة الحديد قوي العضل عارفاً بالميكانيكيات فظهرت كفاءته ووفق إلى أن جمع مبلغاً من المال عاد به بعد سنتين إلى فرنسا متخفياً وأخذ ابنته من خاله ورجع إلى أمريكيا فزوده بمبلغ منالمال يستعين به على تربية ابنته وكان خاله عقيماًُ فإنشأ ذاك المحكوم عليه بتوسع عمله وذهب إلى كندا فاغتنى كثيراً بفضل كده وعمله وسعة معارفه في الميكانيكيات والطبيعيات وعلم ابنته التعليم العالي وبدل اسمه واسم اسرته وبعد أن قضى هناك نحو عشر سنين حدثته نفسه بالرجوع إلى وطنه ليكشف سر قضيته ويعاد النظر فيها ليعرف من اين أبى فرجع واتخذ له داراً في ظاهر باريز. ومن غريب المصادفات أن القصر الذي اكتراه كان بالقرب من مزرعة انتقلت بالارث الشرعي لزوجة صديقه الذي هلك في خلال الدفاع عنها وعشيقته القديمة وكانت اوت إليها بعد وفاة زوجها مع ولديها فاتصل أهل البيتين بواسطة ابنة صاحب المعمل وعقدت بينهما صلات التعارف ومازال الغني المحكوم عليه يبحث حتى توصل إلى معرفة القاتل الحقيقي ودخل معه في شركة ثم بعث إلى البورصة من قبله بمن سعى إلى اسقاط اسهمها فافلس شريكه او كاد ولم يجد ملجأ الا شريكه صاحب المعمل فوعده باعطائه شيئاً من المال إلا أن القاتل القديم اضمر أن يقتله وراح من الليل إلى داره وكان نصب له تمثالاً من الخشب وضعه على المنضدة فشبه له وظنه هو فإنشأ يضربه بخنجره وكان صاحبنا كامناً له مع اثنين من رجال الشرطة وقاضين كان لهم يد في الحكم عليه سابقاً فأمسكوه واعترف بفعلته وهو متلبس بالجريمة إلا أنه طعن نفسه في الحال بخنجره وسألوه أسئلة فاعترف بانه هو قاتل ذاك الشيخ العجوز الذي كان صاحب المعمل مديناً له وأن له شريكاً في قتله وحشرجت روحه فلم يسم ذاك الشريك وعندها صدر عفو الحكومة عن صاحب المعمل وعقد لابنته على احد ولدي صديقة المحامي وكان محامياً

أيضاً وماتت في خلال ذلك أمهما أي عشيقة صاحب المعمل وقد اقرت بما جنته وسقطت من عيني ابنيها وراح الزوجان الجديدان تحالفهما السعادة بعد أن شقي أبواهما وأماهما هذا الشقاء الذي قاد ليه الغرور وطيش الصبا والصبوة. وقد وقعت القصة في ثمانمائة صفحة صغيرة صدرت في أربعة أجزاء وهي تطلب من مكتبة المسامرات وثمنها ثمانية قروش وفيها كثير من الحوادث التي بلذ العامة وبعض الخاصة.

سير العلم

سير العلم حروب العالم ألف أحد علماء الفرنسيس كتاباً جليلاً سماه ماضي الحرب ومستقبل السلم ذكر فيه ما احدثته الحروب من الويلات قي القرن التاسع عشر قرن العلم والنور فقال أن القوانين حكمت في خلاله على عشرة آلاف مجرم بالإعدام في العالم على حين أن الحروب ازهقت ارواح خمسة عشر مليون شاب شجاع وعلى هذا فقد كفر مجرم واحد عن فعلته بالموت وفضى الفإن من الابرياء في ميادين الوغى فكان الماضي حقاًُ مجزرة عقيمة وإذا ظلت هذه المجازر تجري على مرأى ومسمع من العالم فإن عارها تحمر منه الخدود وذكراها تقشعر منه الجلود. قال ومن ادعى بأن فرنسا إذا سعت إلى أبطال الحرب ولم تعد إلى مااتته من حوادث الجنون في إهراق الدماء على عهد فرنسيس الأول ولويس الرابع عشر ونابليون الأول تسعى إلى حتفها بظلفها فهو في غرور وإذا فعلت فرنسا فإنها بذلك تعمل على ما فيه مجدها وإعلاء شأنها. قال واما أولئك الألوف من الضباط ومئات الألوف من العملة في دور الصناعات الذين يعملون الآن فإنهم ينصرفون إلى أعمال غير أعمالهم الأن فبدلاً من إنشاء الدوارع الحربية ينشئون البواخر التجارية وبدلاً من صنع الخرطوش يعملون على استنبات الحنطة وقال ينبغي أن تكون معاهدات التحكيم إجبارية بين الأمم وبذلك تمتنع الحروب من العالم. الدخان الضار يحدث من دخان المعامل في المدن الصناعية الكبرى كلندن وباريز ما يضر بالسكان والمكان فقد قدر الحامض الكبريتي الذي يتكون منها كل سنة في لندن وحدها بنصف مليون طن تدخل في رئة الناس فتقرضها كما تفرض الحجر الجيري والرضم والقرميد وتحيل هذه المواد إلى سلفات الجير وتتفتت ويخشى منها على المصانع الكبيرة والمعاهد والمعابد. وقد جربوا عدة مواد لملافاة ضرر هذا الدخان ورأوا أن أحسن واسطة طلي البنايات بمحلول الباريت لأنه كلاملاط يحكم الربط بين أجزاء الحجارة فاسفرت تجربته عن تقوية الحجارة كانها الآن خارجة من المقلع وكانت من قبل تتفتت باليد. ولكن إذا اغتبطت الجمادات بانها لا تتضرر بعد الآن بهذا الدخان فإن الإنسان والنبات مازالا يتضرران منها

والعلماء يبحثون عن طريق تقي منها البشر. أقزام جدد صادف أحد رجال البعثة الإنكليزية التي عهد إليها صعود جبال القمر في خلال سياحتها في أفريقيا جيلاً من الأفريقيين الأقزام لم يكن معروفاً من قبل في بقعة كاد يظن أنها أمنع من جبهة الأسد تمتد من جنوبي بحيرة إلبرت ادوارد وهي جبلية ذات وهاد ونجاد وعقاب وشعاب وفيها فوهات بركانية خامدة وهذه الجبال مغطاة بأشجار الخيزران الجيد وقد نزل أولئك الأقزام في ادغال هناك وهم يعيشون بشن الغارات على من في جوارهم ونهب السكان المنتشرين في الجبال. وهم اقصر قامات من أقزام الكونغو ولم يعرف العلماء الباحثون في أصول الأمم عنهم شيئاً. فهم لا يعرفون الصنائع ولا الصيد ولا يحسنون غير السلب والنهب وعندهم خلايا يقتاتون بعسلها مع اللبن وقد أتى المكتشف معه إلى أوروبا باقزمين مثالاً من أولئك القزم المجهولين. اللغة العربية قال الدكتور براون احد أساتذة جامعة كامبردج في مأدبة أقامتها اللجنة المصرية في دار الندور الإنكليزية لجماعة المصريين: أن لغة مصر الآن تهبط وهي اللغة العربية الفصحى لأن الازهر قد بقى في خلال هاتيك القرون المظلمة حصناً منيعاً للغة العربية والآداب الإسلامية. وقال: يقولون أن اللغة العربية غير صالحة للعلوم العصرية. يقولون هذا وهم من الضياع. اللغة التي نقلت لنا آداب الفرس والهنود القرون البائدة. اللغة التي كتبت بها جميع المؤلفات العلمية الثمنية كيف يمكن أن يقال أنها لا توسع صدرها لتلقين مبادئ علوم عصرية؟ ألفت الكتب في علم الجغرافيا وتخطيط البلدان على طريقة لم يؤلف مثلها وكتبهم العربية في التاريخ اوسع الكتب وادقها بل في نظري أن التاريخ في بعض المؤلفات العربية لم يكتب على نسقة في أوروبا وذكر ابن خلدون وابن الاثير والطبري والفخري وغيرهم ثم قال: وفي باب العلم والفلسفة والأخلاق نجد من المؤلفات ما لا يوجد له مثيل. ما ظنكم بجماعة من كبار أهل العلم يجتمعون في القرون التي كنا فيها في دور الهمجية والوحشية يؤلفون دائرة علوم اسمها (اخوأن الصفاء) ونحن من الآن نفتخر بكتاب دائرة العلوم

الإنكليزية في القرن العشرين ونقول أن اللغة العربية لا تصلح لتلقين العلوم. هذا الشهر ستاني في كتابة (الملل والنحل) قد جمع في مؤلف صغير خلاصة الآراء الدينية والفلسفية التي كانت تعتقد فيها الأمم الغابرة والحاضرة وهذه دوائر العلوم العربية في مكاتب اسبانيا وفي مكاتب أوروبا وكيفما كأنت الحجة في عدم تعليم العلوم باللغة العربية في مصر فلا مراء مطلقاً في أن تعليم امة بغير لغتها صد لها عن التقدم وعقبة كبرى في سبيل نهضتها بل أقول أنه لا تعليم البته لامة بغير لغتها. ورق الخيزور ذكرنا ما كان من اتخاذ بعضهم الورق من شجيرات الاريقي وما كان من اتخاذه من سوق القطن وعيدانه. وقد قرأنا في الأخبار العلمية الآن انهم أخذوا يصنعون الورق من الخيزور في برمانيا من أعمال الهند الصينية فمنحت حكومتها عدة امتيازات للانتفاع بالخيزران وقد كان الصينيون منذ الزمن الأطول يعرفون ألياف الخيزور وانه يصنع به الورق وأن لم يستعمل في الصناعة بالفعل ولكن أحد الإنكليز المقيمين في جزائر الجاماييك عن له هذا الخاطر فأخذ منذ عام 1900 يضاعف الهمة في زرع الخيزران في ذاك الارخبيل ولكن أعماله لم تأت بفائدة لنزع أليافه من الصمغ الذي يلصقها بالجذوع وقد توصلوا الأن إلى صنع ورق جميل جداً من ألياف الخيزور وهو من الطراز الأول في الجودة والمتانة وأخذت الحكومة الإنكليزية في ذاك الصقع تنشيط زراعة الخيزران لرخص أسعاره وجودة ورقه وسيعمل من أليافه بعد سبع سنين كل سنة عشرة آلاف طن وبعد خمس عشرة سنة عشرون ألف طن فيأتي بأرباح عظيمة. البيض قدم أحد العارفين إلى كلية باريز بحثاً في منافع بيض الدجاج وبيض الفسيخ (البطارخ) قابل فيه بين تغذية هذا البيض وتغذية اللحوم فقال أن البيض ولاسيما بيض الفسيخ تكثر فيه مادة الألبومين أكثر من اللحم وانه حسن الرأي الاعتماد على هذا البيض في التغذية على شرط أن لا يتعدى معدله من الجنسين من خمسين إلى مائة غرام في اليوم وقال أنه من حيث الثمن ارخص من اللحم وسالم من العيوب وفيه غذاء نافع فوسفوري. المطاط

كتب أحدهم في مجلة المجلات الأمريكية مقالاً تكلم فيه عن المطاط وذكلا شيئاً من تاريخ معرفة الناس فوائده واكتشافهم الجهات التي تنمو فيها أشجاره واستخراجهم له قال: في المنطقة الحارة التي هي المنبت الحقيقي لأشجار المطاط نحو الثلاثمائة أو الأربعمائة شجيرة وغرسة يخرج منها سائل يضرب لونه إلى البياض فيه خواص المطاط وأهم مورد له الآن وادي الأمازون والكونغو ومن المحتمل الحصول عليه أيضاً في المستقبل من جزيرة سيلان ومستعمرة سنغافورة بكميات وافرة. وفي هذا الوقت تزرع ملايين من أشجار بالهند مع أنواع منها جديدة يرجى أن يكون مطاطها رائجاً جداًُ في جميع الأنحاء. المطاط مادة يستخرج من لحاء الأشجار ولتلك المادة لون يشبه لون اللبن وهي في عرف علماء الكيمياء من قسم الجوامد التي تعرف بالمواد الغروية غير أنهم يجهلون كل الجهل المنشأ الحقيقي لخاصتها الغروية. وقد وفق شارلش ماكنتوش عام 1833 إلى تذويب المطاط في البينزين وفي سنة 1839 اكتشف شارلس جدبير من نيويورك أنه إذا مزجت كمية من المطاط مع أخرى تعادلها من الكبريت لم يكن الناتج لينحل إذا استلطت عليه حرارة خفيفة او لنزلج إذا كانت درجة الحرارة عالية. لم يكن المطاط في ذاك الوقت مستعملاً بكثرة في الولايات المتحدة أما اليوم فإنها تستعمل زهاء نصف ما يستخرج من المطاط في الكرة الأرضية ويصح أن نقول أن المطاط يكون غداً من الزم ضروريات الحياة وأصبح عظيم الخطر والقدر وقد جاء وافياً بما كنا ننشده من متمات معينات التنقل. فلولاه لكان من المستحيل عمل مركبات السكك الحديدية الهوائية (مركبات تسير على قضبان من حديد بواسطة الهواء المضغوط) ولولاه لماتمكنا من نقل الكهرباء وتسييرها في الاسلاك. من الممكن للناس أن يستغنوا عن المطاط في صنع الاحذية والجوارب مثلاً ولكنهم لا يمكنهم أن يتخلوا عن استعماله - اذ لايوجد ما يغني عنه - في عمل وسائل التنقل الجديدة كعربات السكك الحديدية والسيارات وفي المفاوضات بالكهرباء والإنارة بها وكذلك يحتاج إليه في عمل الجراحات وفي الادوية ويبلغ مجموع ثمن ما يباع منه في أنحاء العالم 16 مليون درهم إنكليزي وزنه هذا المحصول 125 مليون رطل إنكليزي والمدن التي فيها أكبر سواقي المطاط والتي يصدر منها إلى سائر الأمم وهي: نيويورك وليفربول ولندرة

ولشبونة والهافر ولا يزيد ما يؤخذ سنوياً من المطاط من الأشجار التي زرعت حديثاً عن مائة طن. والاشتغال بجمع المطاط في جهات الأمازون والكونغو صعب جداً ولا يقدر على المعيشة والعمل هناك غير الوطنين. وجميع الاحذية والنعال والملابس المصنوعة منه بالولايات المتحدة - ما عدا مدينة بوسطن - تحتكرها شركة واحدة تدعى (شركة مطاط الولايات المتحدة) ويفيدك أن تعلم أنه يمكن إصلاح ما يخرب مما يصنع من المطاط إذا تقادم عليه العهد وإرجاعه إلى سابق حاله. السكك الحديدية تكثر الاعشاب والجميم في ممر الخطوط الحديدية حتى تكاد تكون احياناً من عوائق القطارات وقد استعملت عدة ذرائع لأهلاكها فلم تأت بنتيجة وقد اخترعت الآن شركة سكك حديد المحيط الهادي في أمريكيا مركبة كهربائية ذات دواليب تحرق الاعشاب على طول الخط الحديدي فتزيل في النهار الواحد الحشيش والعشب من ثلاثين إلى أربعين كيلو متراًُ وهذه المركبة تسير كما يسير القطار العادي وإذا اجتازت مرتين ثلاثاً في مكان فبشره بعدها بانه لا ينبت فيه عرق أخضر. اللبن النباتي يستعمل هذا اللبن في الصين ويستعاض به في أحوال عن لبن البقر وهو يصنع من بزور الفأصوليا الزيتية فتطبخ وتعصر جيداً بحيث يأتي منها نوع من العصيدة إذا حلت في الماء يكون منها مشروب يسمى اللبن النباتي ويصنع من جبن طري ويمكن جفظه بوضعه في الملح فيشبه جبن (الروكفور) وجبي العنز المعروف بالشيبيشو وجبن (الجرافيرا) اللغات الأوروبية يقول احد علماء السكسونيين أنه سيكون عدد المتكلمين باللغة الإنكليزية في أواخر القرن العشرين 650مليوناً من البشر وعدد المتكلمين بالروسية 235 مليوناً وعدد المتكلمين بالألمانية 215 وعدد المتكلمين بالإفرنسية 90 مليوناً وعدد المتكلمين بالايطالية 79 مليوناً وبالاسبانية 75 وقد اوقع بعض الفرنسيس الشك في هذا التخمين. قاموس المجمع العلمي

ذكروا أن عدد المفردات التي شرحها قاموس المجمع العلمي الفرنسوي اثنان وثلاثون ألفاً فيها عشرون ألفاً من أصل علمي او غريب. وقد قدروا عدد المفردات البسيطة المستعملة بالإفرنسية في الحاجيات اليومية بأربعة آلاف كلمة. ويقول اللغوي ماكس موللر في كتابة علم اللغات أن غاية ما يستعمله المتعلم من الإنكليز في شؤونه هو أربعة آلاف كلمة أيضا. ونحن لا نظن أن المألوف من الألفاظ في معظم اللغات يتجاوز هذا القدر او أكثر منه بقليل مهما كأنت اللغة متسعة. أثر لأرخميدس عثر المؤرخ هبرج الدانيمركي مؤخراً على نسخة خطية كتبت على ورق صادرمن مدينة القدس وهي عبارة عن رسالة في الحساب غير معروفة من أرخميدس أعظم مهندس يوناني وهذه الرسالة تكاد تصور حساب التكامل الذي عرف في العصور المتأخرة وبهذا الا كتشاف يكون أرخميدس أعظم رياضي قام في العالم. التربية المتحدة انشأ أحدهم مجلة بالإنكليزية في إنكلترا سماها مجلة (كليتي اكسفورد وكمبردج) وهما أشهر مدارس إنكلترا يتوخى فيها الجمع بين المدرستين ليتحدا في التعليم وقد كتب أحدهم فيها مقالة بين طريقة الولايات المتحدة في توحيد التربية فقال أنه لم يكن في أميركا سنة 1870 - في المئة من المدارس المختلطة من الصبيان والبنات وما بقي منها كان يختلف إليه الصبيان فقط. وفي سنة 1898 أصبحت المدارس المشترك 70 في المائة من مجموع مدارسها وربما أنشئت هناك كلية عظمى خاصة بالبنات فقط. تنزيه المستخدمين يتنافس كثير من المحال التجارية الكبرى في فرنسا في إرسال مستخدميهم لاسيما مستخدمانهم إلى الضواحي والجبال خلال الشهر الصيف ليروحن نفوسهن بأجور طفيفة جداً وقد أنشئت في باريز جمعيات لإرسال الأولاد إلى الجبال مدة القيظ وبمثل هذه الأعمال الأفرادية تنحل المشاكل الاجتماعية أحسن حل. مدارس النساء

قالت المجلة يجدر بنا بمناسبة مرور السنة الخامسة والعشرين على تأسيس مدارس البنات العالية أن نقول أن فرنسا 56 مدرسة وسطى و47 مدرسة عالية للبنات. العاملات في فرنسا في فرنسا ستة ملايين امرأة مستخدمة في الصناعة ومليون امرأة تخدم في البيوت والحوانيت ومائة وخمسون ألفاً انصرفن إلى الأعمال الحرة ومئة ألف في خدمة الحكومة في العاصمة والولايات المهاجرون إلى أمريكيا يؤخذ من التقرير السنوي الذي نشره مكتب المهاجرين إلى أميركا إنه كان عدد المهاجرين إلى الولايات المتحدة سنة 1906 زهاء مليون نسمة ولم يهاجر إليها في سنة واحدة أكثر من هذا العدد حتى الآن ومعظم المهاجرين هم الطليان فقد بلغوا 287 ألفاً ويليهم البولونيون والألمان واليابانيون والفرنسيس. المتعلمون في العالم احصى احد أساتذة كلية كولومبيا الجامعة عدد الأولاد الذين يتعلمون في المدارس فكان عددهم 23 في المئة من مجموع الأمة في الولايات المتحدة و19 في المئة في ألمانيا و15 في إنكلترا وفرنسا وثلاثة ونصفاً في المئة في روسيا سبعة ملايين ولد ليس لهم مدرسة يتعلمون فيها. سياح الأميركان تشاءمت صحف أميركا من كثرة إقبال الأميركان على السياحة في أوروبا فقد زاد عددهم في هذه السنة زيادة عظيمة فقدر الراحلون منهم بمئة ألف سائح فإذا كان معدل ما ينفقه الواحد منهم خمسة آلاف فرنك فيكون ما تخسره أميركا من ذلك خمسمائة مليون فرنك. الاحتكار في أمريكا بدأت الولايات المتحدة تدرك مضار الاحتكار فقد قدر بأن معامل السكر التي أغلقت بمنافسة كبار المحتكرين لها سنة 1905 في تلك البلاد بلغت ثلثمائة معمل ومثل هذا العدد من المدابغ ومعامل الاحذية كما أغلق مائتا معمل للقطن وقد زادت أثمأن هذه المصنوعات

ثلث ما كانت عليه كما زاد المصنوع منها ثلاثين في المئة. ثروة أميركيا كتب أحدهم في مجلة العالمين الباريزية فصلاً في ثروة الولايات المتحدة قال فيه أن نجاحها في زراعتها هو بيت قصيد فلاحها فإن صادراتها الزراعية بلغت أربعة مليارات فرنك وهي تزيد عن وارداتها الزراعية ملياراً او خمسمائة مليون. فالثروة الزراعية تساوي نصف ثروة الأمة باسرها والزراع الأميركي يمثل 35 في المئة من مجموع الشعب العامل وأكثر رؤوس تصرف في الزراعة وما ينهضها وتصريف المياه والتنقل والمهاجرة وتسهيل الموأصلات وأسباب النقل. وما نظارة الزراعة في تلك البلاد العظيمة الا مستودع عظيم للبذور (التقاوي) على اختلاف أنواعها توزعها على المدارس العامة او يوزعها نواب البلاد بايديهم على الفلاحين يناولونهم اياها باليمين كما يناولونهم بالشمال كراسة تطبع منها تلك النظارة ملايين من النسخ فيها كل ما ينفع الزراع في زراعته. طعام الفرد قالت مجلة العلم في القرن العشرين أن الاعتماد على البقول في الغذاء نافع على شرط أن يطبق على حاجة كل فرد ولا يكفي أن يحرم المرء نفسه من اللحم ويجشو معدته بالبقول الخضراء والمواد النشوية ولا أن يمتنع من تنأولها بل ينبغي أن ينظر في ذلك إلى القوى الهاضمة التي تختلف في كل إنسان بحسب الشهوة والجنس والسن وثقل الجسم وغير ذلك فالفرد الذي يبلغ وزنه من 65 إلى 70 كيلو غراماً مثلاً يكتفي بالفين او بالفين وخمسمائة جزء من الكالوري إذا اجاد مضغ الأطمعة تماماً. قانون الأمية اقترح على الولايات المتحدة وضع قانون من شأنه أن لا يرخص بالدخول للعامي الأمي من المهاجرين إليها فلا يدخل الولايات المتحدة الا من تعلم التعليم الابتدائي وإذ كان أهل إيطاليا أكثر الأمم هجرة إلى أمريكا فسيقضى عليهم أن يتعلموا كلهم ما يخرجهم عن الأمية لان قانون التعليم الإجباري لم يسر في إيطاليا إلا في سنة 1882 ومع هذا فقد دل الإحصاء الأخير أن على 60 في المئة من اهالي أقليم كالابر وهي واقعة إلى الجنوب الغربي من شبه الجزيرة إيطاليا لا يعرفون أن يوقعوا على صك زواجهم وفي مقاطعة

نابولي 30 في المائة من المتزوجين ما برحوا أميين اما في رومية فإن عدد الأميين 12 في المئة ونصف من هاجروا في السنة الماضية من إيطاليا إلى أميركيا أمييون. دائرة المعارف الألمانية صدر الجزء الثامن من هذه الموسوعات التي دعوها (العلوم العصرية وانتشارها وغاياتها) التي ينشرها الأستاذ بولس هيتبرغ تحت حماية امبراطور الألمان ويساعده في وضعها مئات من أهل الاخصاء في العلوم والفنون المنوعة ومن المقالات التي فيها ما يعد بين كبار أهل العلم من الأثار النادرة والكتابات الباهرة وهي كسائر دوائر المعارف على حروف المعجم ولكنها تقسم إلى أربعة اقسام فالقسمين الأوليين يتناولان البحث في العلوم العقلية كالدين والفلسفة والأدب والفنون الجميلة والحكومة والمجتمع والحقوق والاقتصاد السياسي والقسم الثالث مخصص للعلوم الطبيعية والقسم الرابع يبحث في العلوم الاصطلاحية وهو من أهم الأسفار التي الفت في هذا القرن لأنه خلاصة علوم البشر وزبدة ابحاث الألمان المعروفين بصبرهم وانكماشهم. الجرذان الجرذان من أشد المصائب على العالم ولم تعرف إلى الان واسطة لابادتها. نادت بذلك نظارة الزراعة في الولايات المتحدة وحق لها أن تنادي لأن الجرذان قد قامت منذ قرون باضرار لا تحصى في أميركيا وهي آمنة مطمئنة وراحت تنتقل إلى العالم الجديد من العالم القديم وتنتاسل وتتكأثر وكأنت الأسباب المتخذة لابادتها عقيمة بلا جدوى. والجرذان ثلاثة أنواع الاسود وهو المنتشر في أمريكيا منذ ثلاثة قرون والاسمر وأصله من نروج وصل إلى هناك منذ سنة 1775 وأثار حرباً عواناً على الاسود والنوعة الثالث جرذ انتقل إلى أميريكا من مصر على البواخر التجارية وانتشر على الشواطئ ولاسيم في الجنوب وباض فيها وفرخ الجرذ الاسمر أشد هذه الأنواع فتكاً وأكثرها تخريباً ويقدرون ما تقضمه الجرذأن في الولايات المتحدة كل سنة من الحبوب بما لا يقل عن نصف مليار فرنك وهو لايكتفي بتنأول الحبوب فقط بل يقرض الاقمشة والحرائر والأمتعة ولا يتحامى قضم الاسلاك الكهربائية وكثيراً ما كان يحدث عن فعله حرائق. وقد قدرت الخسائر التي تنجم عن الحريق في السنة بخمسة وسبعين مليوناً من الفرنكات بأميركيا الجرذان هو السبب الأعظم

في أكثرها. خل عنك سطو الجرذانعلى غيره من الحيوأن الذاجن والحمام والاطفال في سررهم. هذا وهو واسطة لنقل الجراثيم المعدية من بيت إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى. والسبب في كثرته أنه تناسل تناسلاً غربياً فتلد الفأرة في كل شهرين او ثلاثة من عشر إلى أربع عشرة فأرة ثلاث سنين يلد منه ويولد له زهاء عشرين مليون جرذ يموت أكثرها ولكن مايبقى منها كاف لان يقرض الطري واليابس. والحكومة الأميركية ساعية لابادة الجرذان ووضع نشره بمضاره وخبث أثاره وستشاركها الدول كلها في إعلأن الحرب على تلك القراصنة.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة لسان الدين ابن الخطيب 713 - 677 قلما يتأتى لعالم ولي المناصب الرفيعة في الدول أن يبارك به في وقته فيجتمع على أحسن وجه القيام باعبائها إلى الأعمال العلمية. والأمارة والعلم قلما يجتمعان وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. من اجل هذا رأينا مثل ابن حزم وابن الهيثم يزهدان في الوزارة بل يحتالأن إلى الخلاص من توليها علماً منهما بانها صارفة لهما عن التمجض لخدمة العلم والتوفر على التصنيف. وقل في رجال هذه الأمة من جمعوا بين المزيتين ولاية الأعمال وصرف أوقات الفراغ في التصنيف وتنمية ملكة العلم على ما كان شأن القاضي الفاضل ولسأن الدين ابن الخطيب فمترجمنا هذا هو احد مفاخر الأندلس ونوابغها علماً وعملاً لم تلهه أعمال الوزارة عن النظر في علوم كانت هي السبيل في وصوله إليها وساعده زيادة على ما كان يحافظ عليه من اوقاته إنه كان مبتلى بالارق يسهر الليل الا أقله ولذل قيل له ذو العمرين لإنه كان يعمل في ليلة كما يعمل في نهاره. فلا عجب بعد هذا أن عدت مصنفاته بستين مصنفاً لو خلف بعضها عالم انقطع للعلم جملة لعدت غربية في تابها فما بالك بابن الخطيب يتولى أمور الناس والأندلس قد أشرفت على السقوط والفتن بين الأمراء على ساق وقدم والدسائس عليه من كل جهة يكتب ويفكر وقد ترجمه ابن خلدون فقال: أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة كان له بها سلف معروفون في وزارتها وانتقل ابو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري فيها. وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوساً بأبي الحسن ابن

الحباب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية ولما هلك ابن حباب سنة تسع وأربعين وسبعمائة ولى السلطان أبو الحجاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه وثناه بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم داخله السلطان في توليه العمال على يديه بالمشاركات فجمع له بها أموالاً وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد من قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مروان بالعدوة معزياً بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته. ثم هلك السلطان أبو الحجاج وبويع ابنه نحمد بالأمر لوقته فأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه واتخذ لكتابته غيره وجعل ابن الخطيب رديفاً له في أمره وتشاركا في الاستبداد معاً. ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيراً إلى السلطان أبي عنان مستمدين له على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها استأنه في إنشاد شي من الشعر يقدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم أبياتاً اهتز السلطان لها فأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم الا يجميع عطائهم. ثم أثقل كأهلهم بالإحسان وردهم بجميع مطالبهم. قال القاضي أبو القاسم الشريف: لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان الا هذا. وبعد ذلك اعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه إلى أن شفع فيه ثم سار في ركاب السلطان إلى وادي آش قادمين على السلطان أبي سالم فارغد هذا عيش ابن الخطيب في الجراية والاقطاع ثم أستأذنه السلطان في التحول إلى جهات مراكش والوفود على أثار الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال باتحافه فبادروا في ذلك وحصل منه على حظ وعند ما مر بسلا في قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على روية الراء الموصولة يرثية ويستثير به استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها ان بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره قسم زمانك عبرة أو غبرة ... هذا تراه وهذه أثاره فكتب السلطان ابو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا

عن سلطانه طول مقامة بالعدوة ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس فاستقدم ابن الخطيب من سلا ورده إلى منزلته كما كان. وبعد ذلك فصل عن الوزارة ثم أعيد إلى مكانة من الدولة من علو بده وقبول اشارته وأدركته الغيرة من عثمان بن يحيى مقدم القوم في الدولة ونكر على السلطان الاستكفاء به والتخوف من هؤلاء الاعياص على ملكه فخدره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبة واباه واخوته واودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان وأخذ ودفع الية تدبير المملكة وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الأمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتوأفقوا على السعاية فيه وقد صم السلطان عن قبولها ونما الخبر بذلك إلى اين الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض عنهم. وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية وربما خيل أن السلطان مال إلى قبولها وانهم قد احفظوه عليه فاجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب وأستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية وسار إليها في لمة من فرسانه ومعه ابنة علي الذي كان خالصة السلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه اذ ند بين يديه فخرج قائد الخيل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز لملك العدوة قد اوعز إليه بذلك وجهز إليه الاسطول من حينه فاجاز إلى سبته وتلقاه بها بأنواع التكرمة وامتثال الأوامر ثم سار بقصد السلطان فاهتزت له الدولة واركب السلطان خاصته لتلقيه واحله بمجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان الشرف والغزة واخرج لوقته كاتبه ابا يحيى بن أبي مدين سفيراً إلى الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على اكمل الحالات من الأمن والتكرمة ثم لغط المنافسون له في شأنه واغروا سلطانه بتتبع عثراته وابدوا ما كان كامناً في نفسه من سقطات دابته وإحصاء عصابته وشاع على السنة اعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة احصوها عليه ونسبوها إليه ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي أبو الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وامضاء حكم الله فيه فصم لذلك وانف

لذمته أن تحفز ولجواره أن يردى وقال لهم: هلا أنتقم وهو عندكم وانتم عالمون بما كان عليه واما أنا فلا يخلص إليه بذلك احد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسأن الأندلس في جملته فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن عازي القائم بالدولة فنزل فاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات وحفظ له القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفي. ولما استوفى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه قبض على ابن الخطيب واودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان أبي العباس واحضر ابن الخطيب بالمشورة في مجلس الخاصة وأهل الشورى وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه فعظم عليه النكير فيها فونح ونك ل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ ثم تل إلى محبسه واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه وافتى بعض الفقهاء فيه ودس سليمان بن داوود رديف وزير السلطان لبعض الاوغاد من حاشيته بقتله فطرقوا السجن ليلاً ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقاً في محبسه واخرجوا شلوه من الغد فدفن ثم أصبح من الغد على شأفة قبره طريحاً وقد جمعت له اعواد واضرمت عليه ناراً فاحترق شعره واسود بشره واعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته. قال ابن خلدون: وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاءت بهاسليمان واعتدوها من هناته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته ولله الفعال لمايريد. وكان عفا الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتيجيش هواتفه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك بعدناوان جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت وانفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... كنا نقت فها نحن قوت وكنا شموس سماء العلا ... غر بن فناحت عليها البيوت فكم جدلت ذا الجسام الظبا ... وذو البخت كم جدلته النجوت وكم سيق للقبر في خرقه ... فتى ملئت من كساه التخوت فقل للعدا ذهب ابن الخطي ... ب وفات ملئت من كساه التخوت

فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت قلت هي اهواء السياسة صيرت لسأن الدين إلى ما صيرته إليه وماعدوه عليه مما خالف به الشرع وجرى مع الفلسفة فإنما هي حجة طالما كثر التوكؤ عليها منذ ضعف العلم في هذه الأمة ولوصح مازعموا اما كان الاجدر بالأمناء على الدين وهو في عهد عزة أن يغيروا عليه وينبذوه عن حمى سلطانهم لئلا يستشري افساده للعقائد بما نشره من المصنفات والقليل الذي انتهى الينا مما خطه يمين لسأن الدين يدل ولا جرم على حرية في الفكر لم يجاب معها ولم يداج ولعلها هي التي عدها اعداؤه له من الهنات قال في ترجمة الحاكم باديس بالأندلس في كتابة الأحاطة بعد أن وفاه حقه من الوصف موانه من الملوك الجبابرة فائل الرأي خليع الرسن: وقد ادال اعبقاد الخليفة في باديس بعد وفاته وقدم العهد بيعرف أخبار جبروته وعتوه على الله سبحانه لما جبلهم عليه من الانقياد للاوهام والانصياع للاضاليل فعلى حفرته اليوم من الازدحام بطلاب الحوائج والشفاء من الأسقام حتى أولو الدواب الوجيعية ما ليس على قبر معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي. واليك كيف وصف في مكان آخر جعفر بن احمد الخزاعي الغرناطي من مشايخ الطريق قال: إن قومه خرجوا من وطنهم عند تغلب العدو على شرق الأندلس فنزلوا في ربض البيازين جوفي المدينة وارتاشوا وتأثلوا وبنوا المسجد العتيق وأقاموا رسم الأرادة يرون انهم تمسكوا من طريق الشيخ أبي احمد بأثره فلا يغبون بيته ولا يقطعون اجتماعاً على حالهم المعروفة من تلاوة حسنة وايثار ركعات ثم ذكر ثم ترجيع أبيات في طريق التصوف مما ينسب للحسين بن الحلاج وامثاله يعرفونها منهم مشيخة قوالون هم فحول الاجمة وصواديك تلك القطيعة يهيجون بلابلهم فلا ينشبون أن يحمي وطيسهم ويخلط مرعيهم بالهمل فيرقصون رقصاً غير مساوق للايقاع الموزون دون العجال الغإليه منهم بأفراد كلمات من بعض المعقول ويكر بعضهم على بعض وقد خلعوا خشن ثيابهم ومرقعات قباطيهم ودرانيكهم فيدوم حالهم حتى يتصببوا عرقا وقوالهم يحركون فتورهم ويذمرون روحهم يخرجون بهم من قول إلى آخر ويصلون الشيء بمثله فربما أخذت نوبة رقصهم بطرفي ليل التمام ولا تزال المشيعة لهم باخشيشانهم مبدياً التبرك بهم. إلى أن يقول فتسقط فيما بينهم بفلتة سماعة أي المزمار اخوة الطريق وهم أهل سذاجة

وسلامة أولو اقتصاد في ملبس واقتيات بادنى بلغة ولهم في التعصب نزعة خارجية وأعظمهم ما بين مكتسب متسبب وبين معالج مدره ومريع حياكه وبين اظهرهم من الذعرة والصعاليك كثير. والطرق إلى الله تعالى على عدد انفاس الخلائق جعلنا الله مما قبل سعيه وارتضى ماعنده ويسره لليسرى. وقد ترجم لسأن الدين نفسه في آخر كتاب الأحاطة ونقل عنه المقري في سبب نكبته ما يأتي متخصاً: وخلفني يعنى اباه عبد الله عالي الدرجة شهير الخطة مشمولاً بالقبول مكنوفاً بالعناية فقلدني السلطان سره ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن معززة بالقيادة وسوم الوزارة واستعملني في السفارة إلى الملوك واستنابني بدار ملكه ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه وائتمنني على صوان حضرته وبيت ماله وسجوف حرمه ومعقل امتناعة. ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي وأعلى مجلسي وقصر المشورة على نصحي إلى أن كانت عليه الكائنة فاقتدى في اخوه المتغلب على الأمر فسجل الاختصاص وعقد القلادة ثم حمله أهل الشحناء من اعوان ثورته على القبض علي فكأن ذلك وتقبض علي ونكث ما ابرم من اماني واعتقلت بحال ترفيه وبعد أن كبست المنازل والدور واستكثر من الحرس وختم على الاعلاق وابرد إلى ما ناء واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات الأمثال في تبحر الغلة وفراهة الحيوان وغبطة العقار ونظافة الالات ورفعة الثياب واستجادة العدة ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والابنية واكتسحت السائمة وثيرأن الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل فأخذ ذلك البيع وتناهبتها الأسواق وصاحبها البخس ورزأتها الخونة وشمل الخاصة والأقارب الطلب واستخلصت القرى واعملت الحيل وطوقت الذنوب امد الله تعالى بالعون وانزل السكينة وانصرف اللسأن إلى ذكر الله تعالى وتعلقت الأمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها الحال حسبما قلت عند اقالة العثرة والخلاص من الهفوة تخلصت منها نكبة مصحفية ... لفقداني المنصور من آل عأمر ووصلت الشفاعة في مكتبة بخظ ملك المغرب وجعل خلاصي شرطاً في العقدة ومسالمة الدولة فإنتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب وبالغ ملكي في بري: منزلاً رحباً وعيشاً خفضاً واقطاعاً جماً وجراية ما وراءها مرمى وجعلني بمجلسه صدراً ثم اسعف

قصدي في تهيوء الخلوة بمدينة سلا منوه الصكوك مهنأ القرار متفقداًُ باللها والخلع مخول العقار موفور الحاشية مخلى بينه وبين إصلاح معادي إلى أن رد الله تعالى على السلطان أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه وصير إليه حقه فطالبني بوعد ضربته وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته ولم يوسعني عذراً ولا فسيح في الترك مجالاً فقدمت عليه بولده وقد ساء بامساكه رهينة ضده ونغص رهينة الفتح بعده على حال من التقشف والزهد فيما بيده وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده حسبما قلت من بعض المقطوعات: قالوا لخدمته دعاك محمد ... فإنفتها وزهدت في التنويه فاجبتهم انا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه لما عاهدت الله على ذلك وشرحت صدري للوفاء به وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيده املي ومرمى نيتي وعملي فعلق بي وخرج لي عن الضرورة واراني أن مؤازرته ابر القرب وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين امد الثواء واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة واشهد من حضر من العلية ثم رمى إلى بعد ذلك بمقاليد رأيه وحكم عقلي في اختيارات عقله وغطى وصرف هواي في التحول ثانياً قصدي واعترف بقبول نصحي. إلى أن قال ومع ذلك فلم اعدم الاستهداف للشرور والاستعراض للمحذور والنظر الشزر المنبعث من خزر العيون شمة من ابتلاه الله بسياسة الدهماء ورعاية سخطة ارزاق السماء وقتلة الأنبياء وعبده الاهواء ممن لا يجعل الله تعالى أرادة نافذة ولا مشيئة سابقة ولا يقبل معذرة ولا يحمل في الطلب ولا يبلبس مع الله بأدب. هذا ما قاساه لسأن الدين من ضروب النعم والنقم فعد فرداً في التقلب في نعمائه وغريباً في بلواه وقد اكتفينا آنفاً بنقل ما قاله فيه ابن خلدون صديقه وماقاله هو في شرح نكبته أوردناه بعبارتهما الا قليلاً وإن اورث هذه الترجمة تطويلاً وذلك لعلمنا بان إنشاءهما مما ينبغي احتذاء مثاله وجزالة ألفاظهما وجودة معانيهما مما يعز نظيره.

الميكروب

الميكروب اعتراض أهل المذهبين الكيماوي الطرآني على الحيويين لم تزد الأيام والتجارب نذهب الحيويين الا تحقيقاً وثبوتاً. فبعد أن تقرر بانه إذا منع اختلاط الميكروب بالمواد الآلية المفعمة لن تحصل فيها ظواهر الحياة والاختمار حتى يرتفع الحجر عنها فيحدث الاختلاط عمداً كان ام سهواً كان الأولى والاجدر أن تتقرر هذه النتيجة بأن الميكروب لا يمكن تكونه من ذاته طرآيياً بل تتولد من آخر مشابه له جنسياً ولكن أهل الرأي الكيماوي اعترضوا بقولهم: إن جميع المواد القابلة للاختمار التي يعرضها المجربون للحرارة تتغير جوهرياً وتفقد الخميرة الكيماوية طبيعياً فيها فلم تعد تختمر. لأنهم يزعمون بأن الاختمار يحصل بواسطة خميرة كيماوية والحرارة تتلفها فيتعذر الاختمار. ومن ثم كانت تلك المواد عينها التي لم تعرض للحرارة تختمر لا محالة من دون الميكروب. وكذلك كان أصحاب أعراض التوليد الذاتي القائلون بأن الحرارة تغير المواد جوهرياً فيمتنع حصول الاختمار فيها وتولد الميكروب. هذا كان اصعب الاعتراضات حلاً لا جوهرياً لأنه دعا إلى ايجاد وسائط ومواد غير التي دارت عليها التجارب والأمتحانات ومن دون تعقيم بالحرارة. ففتقت الحاجة للحيويين بان يعيدوا جميع التجارب ولكن على مواد عقيمة طبيعياً وذلك كالدم والحلييب والبول وعصير العنب الخ فإن هذه المواد السائلة إذا أخذت باحتراز ووضعت في الزجاجات ذوات الأنبوب المذكورة في الفصل السابق من دون أن يختلط بها او يلامسها الهواء الخارجي كانت تفي بالمقصود حق الايفاء. لان تلك المواد عرضت للتجربة ودامت في الزجاجات عقيمة لم يمسها الفساد. وبعضها لم يزل ولن يزال باقياً إلى ما شاء الله ذكراً انفيساً وشاهداً لتلك التجارب التي قطعت قول كل معترض معاند. وجود الميكروب في الماء والهواء والتراب أثبت الحيويون بان أنواع الميكروب موجودة ومنتشرة في المسكونة لأن المواد الصالحة للاختمار كلها تختمر لا محالة حيث وجدت إذا استوفت الشروط الملأزمة للحياة ولم تحجر عن الميكروب. هذا دليل كاف وواضح على وجود الميكروب في كل مكان على سطح الأرض ومع ذلك

فإن العلماء اجهدوا قرائحهم لاثبات وجوده عيناً وفعلاً فيما يحيط بنا ويجاونا. ففي سنة 1828 ابتدأ اهرنبرغ بفحص الماء والغبار فوجد فيها من الخلايا ما سماه بالانفزوار ومعناه خلايا مائية وسمأهم بعضهم بالنقاعيات. واظهر من بعده بوسنه وتندال وباستور بأن الهواء والماء والتراب وجميع ما يحيط بنا لا يخلو أبداً من الميكروب الذي يكون هباءً في الريح وسابحاً في الماء وملتصقاً بالأواني وجميع ما يستعمل فينتشر بواسطتها ويتساقط حيث اتفق له. فالواقع منها على مايليق به ويصلح لمعاشه وساعدته الأحوال والشروط التي لا بد منها للحياة لم يلب أن تنتعش فيه الحياة فينمو ويتكأثر محولاً تلك المواد إلى حال أخرى يقال لنوع منها اختمار وللآخر ختر فتعفن. . . . فالحوأصل الآلية تكون أصلياً لا ميكروب فيها وهذا أنما ينتقل إليها بواسطة خارجية. في أن الميكروب هو سبب الاختمار لم يترك خصوم الحيويين وسيلة املوا منها بعض الصواب في آرائهم ولم يتشبثوا بها. فمن بعد أن افحمهم برهان وجود الخلايا وتكونها بالتناسل الطبيعي ووجوب وجودها الحصول الاختمار في أي مادة كانت على الاطلاق وكذلك وجودها وانتشارها على وجه البسيطة قام من ادعى بان من ذلك كله لا ينتج بأن الميكروب هو بنفسه السبب الوحيد الملازم للاختمار لأنه لم يتبين باي نوع وكيف وما هي القوة الكامنة فيه تؤثر بالمواد الجامدة فتبدلها من حال إلى أخرى. صرح (شوان) باديء بدء بان زيادة ظواهر الاختمار وقلتها تلازم نمو الخميرة وازديادها وقلتها وذلك لأن الخلايا تأخذ من المواد الصالحة لها ما ينفعها في غذائها ونموها وما لم تنتفع به يتكون منه الاكحول. وقال كثيرون بعد شوان بذلك المبدأ ودافعوا عنه جهدهم ولكنه لما لم يسند إلى تجارب وبينات تدركها الحواس لم يكن كافياً للاقناع وعندها قام ابن بجدتها بل عذيقها المرّجب وجذيلها المحكك واعني به باستور وأثبت سنة 1857 أولا أن الاختمار يلازم جوهرياً حياة الخميرة ونموها وإن ظواهره كلها تتوقف على فعل الخلايا التي تنمو وتنشأ باتخاذها غذاء الأجزاء التي تتركب منها المواد الصالحة للاختمار. ومن اجل ذلك فباقتياتها بالمادة

السكرية مثلاً لا تتحول هذه جميعها إلى الالكحول وحامض الكربونيك بل بجزء منها نحو خمس في المائة تتكون الخلايا نفسها. فكانت من ثم أجزاء المواد الاختمارية هي غذاء الخميرة وهذه تصرف الجزء الأصغر من ذلك لنموها وتكأثرها والأكبر يتحول بالاغتذاء إلى الالكحول وحامض الكربونيك. ولما كان في تركيب الخلايا يدخل أيضاً جزء من الازوت والأملاح المعدنية ظن باستور في أول الأمر بانه لا بد من وجودها في المحلول المعدّ للاختمار لكي تنمو الخلايا وتحلل المادة السكرية. واطلع بعد ذلك على أنه لا حاجة لذلك فإن الخلايا إن تنمو في المحلول السكري المحض بدون ازوت واملاح. على أن النموّ في هذه الحال يحصل أما من مادة ازوتية مذخورة في الخلايا نفسها او أن الخلايا الفتية تستفيد فيه من بقايا اسلافها. واطلع أيضاً بانه إذا جعل الخميرة وحدها في الماء الخالي عن السكر تصلح تلك البقايا موقتاً لان تكون غذاء تاماً تعيش عليه هذه الخلايا الفتية وتحولها إلى الالكحول وحامض الكربونيك: بمعنى أنه يحصل هنالك الاختمار من دون سكر وفي سنة 1870 اظهر باستور بأن الأجزاء الآزوتية الداخلة في غذاء الخلايا ليس من الواجب أن تكون من المواد الزلالية فإن الأملاح النشادرية تقوم مقامها في التغذية. والحأصل فإن المحلول المركب من جزء من الأملاح المذكورة والمعدنية ومن السكر يكون أصلح غذاء (مادة) للاختمار الالكحولي. تحقق كثيرون بعد باستور ذلك عملياً وأثبتوا بأن لي دخل للمواد الزلالية لحصول الاختمارونشوء الخلايا بخلاف ما ادعاه وفتئذ الكيماوي الشهير لببتيج. واما غاز الاكسجين الذي يحتوي عليه الهواء وكان يظنه الأولون السبب الوحيد للاختمار فقد اظهر باستور أن الخلايا تجتذبه من الهواء بكثرة وتقذف حامض الكربونيك كما تفعل بقية الحيوانات وجاء بعده شتزمبرغ فابأن ذلك وأثبته أيضاً بأن الاختمار انما يتوقف على اغتذاء الخلايا وتنفسها الهواء لا على الاكسجين. ولما كان باستور قد اظهر من بعد ذلك بان بعض الميكروب لا يحب الاكسيجين ويعيش بدونه وبدون الماء سمى ذلك بالهوائي وهذا بغير الهوائي. وفي ذلك بحث طويل لا يساعدنا المجال على تفصيله. أن الاختمار هو فعل حيوي (فسيولوجي) وما عدا الادلة التي سبق بيانها الناتجة عن التجارب المختلفة

واخصها تجارب شوان وباستور التي تثبت بأن الاختمار فعل حيوي نذكر أيضاً شواهد تؤيد بان جميع الظواهر التي تشاهد في الاختماروالتعفن وغيرها لا يمكن أن تكون الا فسيولوجية اعني افعالاً حيوية. ومن ذلك أن زيادة الاختمار وقلته تكون في نسبة نمو الخلايا وتكأثرها في المحلول الاختماري وأن ذلك يتوقف أيضاً على حصول الحرارة المعتدلة في المكان والمحلول وأن المواد السامة التي توقف الافعال الحيوية في الحيوان والنبات او تخدرها كالكلورفوم والاثير وغيرها ولو جزءاً زهيداً منها توقف أيضاً فعل الخلايا وتعطل الاختمار. وزد على ذلك مأعرف بالتحليل الكيماوي من أن الاختمار يبدل تبديلاً جوهرياً جميع المواد بنوع وكيفية لا يمكن حصولها الا بفاعل كيماوي له أعظم قوّة وتأثير. ولما كان في المحلول الاختماري لا يدخل شيء من ذلك فالتبدل فيه لا يمكن أن يسند الا إلى فعل حيوي. أنواع الميكروب وتفصيلها عرف من الميكروب أنواع كثيره مختلفة لكل منها شكل وخواص وطبائع وافعال تميزه عن غيره لا تقوم الا به. فإن ميكروب الاختمار الالكحولي مثلاً يختلف شكلاً وفعلاً وطبيعة عن الخلي واللبني وغيرها وميكروب الكوليرا ليس ميكروب الطاعون. وكذلك بقية الأمراض الميكروبية فإن لكل منها نوعاً خاصاً يمتاز ويختلف بعضه عن بعض اختلاف الأمراض. وقد عرض الأستاذ سديو في 11 إذار سنة 1878 على الجمعية العلمية الباريسية بان تسمى جميع دقائق الحيوان والنبات المحكي عنها بالميكروب ليكون لها اسم شامل لأنواعها. لأن الاسماء كانت قد كثرت وقتئذ لاكتشاف أجناس وأنواع مختلفة. لهذا صفات نباتية ولذاك حيوانية ولآخر بين بين حتى أن بعضهم اشار بأن يسمى بعالم الدقائق الحية ليمتاز عن عالمي الحيوان والنبات توفيراً لعناء التفصيل والتفريق ودفعاً للشذوذ عن القواعد المصطلح عليها لذلك العهد. وفي بحثنا الآن عنها لا يفيدنا جدول أسمائها لأنه يبعدنا عن الموضوع ويشغلنا عن حكاية اكتشافها. ولما لم يكن من أنواع الميكروب ما يوجد طبيعياً وحده محضاً إلا في النادر من دون أن يكون مختلطاًمعه من نوع او أنواع أخرى اقتضى أن يوصل العلماء إلى تفصيله

وتفريقه عن بعضه. فباستور هو أول من بين وجوب ذلك وإليه يعود الفضل في اكتشاف الواسطة وحل المشكلة. فإنه أخذ من تلك الزجاجة نقطة خلطها في زجاجة ثانيةفمن هذه نقطة في ثالثة وهلم جراً إلى العاشرة بل أكثر. وجعل الزجاجات كلها في محل واحد فصار من بعد ذلك اعني لدى ظهور الاختمار في واحدة منها يفحصها ليرى نوع الميكروب الذي فيها. ففي اغلب الاحيان كان ميكروب الزجاجات الأخيرة من جنس واحد محض إذا أخذ منه وزرع في زجاجات معقمة لا يجني الا من ذلك الميكروب جنساً ونوعاً. هذه الواسطة اعني تمييز الميكروب بعضه عن بعض واجتناء نوع محض منه صار عليها مدار علم الميكروب فتقدم ونجح واي نجاح. ولا يخفى ما هنالك من الصعوبات وطول لانتظار وصرف الأموال الجزيلة مع طول الأناة والصبر فاخترع الأستاذ كوخ واسطة عوضاً عن السابق بيانها صار عليها التعويل عند جمهور العلماء لأنها قريبة المأخذ عاجلة النتيجة كفيلة بنجاحها وهي لا تكلف الا شيئاً قليلاًمن المصاريف ولولاها لما توصل لاقتباس علم الميكروب الا الخاصة من المعلمين واغنيائهم. الاعتراضات كان أصحاب مذهب التولد الذاتي في بادئ الأمر هم الا كثيرون ولهم الصوت الأعلى واليد الطولي والتصدر في المحافل العلمية فكانوا يعدون من خالفهم مبتدعاً ودخيلاً فيخذلونه بل يحرمون عليه حرية القول والعمل لا يضاح أفكاره والدفاع عن آرائه وعند ما كثر الحيويون واشتهرت آراؤهم المبينة على نتائج التجارب التي يراها ويقبلها كل ذي عقل سليم ولاسيما عند ما ظهر باستور وانتشرت أعماله وانتصر له كثيرون من العلماء اضطر أولئك إلى البروز إلى ميدان الجدال واذ لم تسعهم المكابرة واسكات الخصم ببينات دامغة املوا الانتصار عليه بمقاومته بسلاحه نفسه اعني بالتجربة والأمتحان فأصابتهم سهامهم وسلموا للحق واذعنوا له. لان اعتراضاتهم كانت اوهى من بيت العنكبوت: فمنهم من كان ادّعى أنه وجد بالتجربة بعض الاختمار من دون ميكروب وآخرون استشهدوا لاثبات زعمهم بحدوث التعفن في جوف جثث الموتى وفساد بيض الدجاج مع بقاء قشرها سالماً.

وكذلك حدوث الاختمار اللبني والخلي على الرغم من منع اختلاط الميكروب بسائلها العقيم. وادعى بعضهم بانهم حافظوا على الحبول بدقة وانتن مع ذلك. وكذلك انهم نقوا مواد الاختمار بالترشيح والتصفية ولم تبق كلها سالمة. وفي تلك الأحوال كلها كانوا اما يزعمون بانهم لم يجدوا أثراً للميكروب في جميع المواد التي أعدت للتجربة فينسون الاختمار والتعفن إلى فعل كيماوي واما يقولون بأن الميكروب وجد في جميعها على كثرة احترازهم منه فيستنتج الطرآئيون حجة صريحة على صحة التولد الذاتي. وقال بيشام أن التدرنات التي تشاهد في الحياة في بروتو بلاسم الخلايا التي يتركب منها جسم كل حي من نبات وحيوان تتجول إلى ميكروب بعد الممات. ان سخافة تلك الاعتراضات كلها بينة فلم تزعزع رأي الحيويين بل زادته متانه ورسوخاً وسبب ضلالهم وخبطهم هو عدم تصديقهم بوجود الميكروب فلم يعبؤوا به ولم يتخذوا بحق وسائط التحرز من انسيابه فيما يجربونه سيما وانهم لم يردوا التوغل في علم الميكروب الذي كان يومئذ صعب المنال وهم يستهينون به. الاختمار الكيماوي ذكرنا فيما سبق بان بعض العلماء كانوا يعتبرون الاختمار فعلاً كيماوياً فكان ليبيح وحزبه منذ سنة 1829 يدعي بأن الخميرة هي مادة كيماوية بتحللها يحصل تحول السكر إلى الالكحول والحامض الكربونيك وحأولوا اثبات زعمهم ببينات مسندة كلها على مشابهة الاختمار بفعل بعض الأجسام وعناصرها كيماوياً. فعجزوا وبدل لييبيح سنة 1870 مدعاة وزعم بان وجود الخلايا في الاختمارانما يكون ثانوياً فهي تحدث مادة خاصة تسبب الاختمار كيماوياً وهذا لا يتوقف على الخلايا بل على المادة التي تفرزها فلو امكنا إذا بإحدى الوسائط افراز تلك المادة لتوصلنا إلى حصول الاختمار بها وحدها من دون الخلايا. واستشهد بظواهر حيوية تضاهيها تشاهد في النبات والحيوان من الطبقة العليا وكذلك عند الإنسان وهي حصول التيسين والتربسين والميوزين والدياستاز وغيرها ومنفعتها لا تختلف عن الاختمار قطعياً فهي إذا خميرة كيماوية. أن الحيويين لم ينكروا وجود الخميرة الكيماوية ولكنهم لم يسلموا بأن للنوعين فعلاً وتأثيراً متشابهين حقيقة. لأن الخمير الكيماوي يؤثر ويفعل بمجرد الاختلاط والملامسة وفعله

تحليلي اعني أنه يفرق الأجزاء والعناصر بعضها عن بعض كفعل الحامض الكبريتي وغيره بالأجسام وكميته لا تزيد بل تنقض في الاختمار ويقتضي له أكثر من ستين درجة ليؤثروا الأثر الذي لا تعطله السموم الفسيولوجية. وأما الخميرة الميكروبية فتحول وتبدل ماهية المواد تحويلاً جوهرياً وكميتها ليست بمحدودة فإنها تجري حكمها مهما زادت اوقلت وهي تزيد او تنقص على نسبة كثرة الاختمار او قلته. وفعلها يحصل بين (25 - 40) من درجة الحرارة ويتعطل تماماً إذا أضيفت إليه شيئ من السموم الفسيولوجية. فلا ملابسة إذا بين الاثنين واما في بعض المواقع التي يحدث فيها اختمار مختلط كيماوي وحيوي كما في التعفن فيجري الخميران حكمهما معاً فالكيماوي الناتج بعضه عن الميكروب يحلل بوجوده المواد فيتنأولها الحيوي ويغتذي بها فيحولها ويبدل ماهيتها تبديلاً جوهرياً فإذا أردنا من ثم أن نوأفق ليبيح وتقبل بأن التحلل الطارئ على العناصر في الاختمار يحصل عن اختلاط او معمعة عنصرية أشبه شيء بالخميرة وأن هذه لا يمكن حصولها الا بوجود الخلايا وحياتها واقتياتها فلا يعتبر حينئذ ليبيح معترضاً بل مؤيداً الرأي الحيويين. وقصاري القول أن الحيويين بعد أن استمروا نحو خمسين سنة بين دفاع وهجوم ظفروا بجميع من عادأهم وعاندهم. وسلم بصحة آرائهم قابضر زمام العلم من جميع الأمم والملل. فتوطدت بينهم دعائم السلام وعلائق الاتفاق ونشرت راية الاتحاد والتعاضد لمحاربة العدو المضر من أنواع الميكروب بالاكتشاف على مكانته وحركاته وختلاته وخزانة فيمزقون حبائله ويخلصون الجنس البشري بل عالم الاحياء اجمع من حملاته وصولاته ويكسرون حدته وشوكته أبداً.

اليونان

اليونان الصنائع اليونانية المعابد اليونانية - قامت أجمل المباني في اليونان تعظيماً للأرباب فمتى ذكرت هندسة اليونأن فلا يذهب الفكر الا معابدهم. وليس المعبد اليوناني كالبيعة النصرانية خاصاً بقبول المؤمنين الذين يهرعون إلى الصلاة فيها بل هو قصر ينزله الرب وتمثالاً يمثله قصر تحفة الابهة والجلالة ولا يلجه جمهور المؤمنين بل يظلون خارجه حوالي مذبح تحت السماء وقد قامت مقصورة الرب في وسط المعبد وهو مزار سري لا نافذه له ولا ضوء ينفذ إليه الأماكن من كوى في الاعالي. وقام الصنم في داخله معمولا من خشب او رخام او عاج لابساً ذهباً محلى بالثياب والحلي وكثيراً ما يكون هيكلاً عظيماً. وقد مثل زيوس في معبد الأولمبيا قاعداً ويكاد يصل رأسه إلى القمة ولذا قيل أن الرب لو تمثل قائماً لخرق السقف وقد حجب هذا المزار عن الانظار من كل ناحية وهو عبارة عن مستودع ذخائر الصنم ويجتاز من يروم دخله ضرباً من الرواق مؤلفاً من صفوف من السواري. ووراء الغرفة غرفة ثانية معلقة فيها الاعلاق الثمنية الخاصة بالرب وجميع قنياته وربما جعل فيها ذهب المدينه وفضتها. وهكذا كان المعبد صواناً وكنزاً ومتحفاً وتحيط بالمعبد صفوف من السواري من أطرافه الأربعة مؤلفة حوالي جدار المزار عشاء ثانياً للرب وكنوزه والسواري على ثلاثة أنواع تختلف باختلاف أساسها ورأسها او تاجها وعلى كل منها اسم الأمة التي اخترعها او اكترث من استعمالها وهي بحسب اختلافها في القدم السواري الدورية والسواري الايونية والسواري الكورنتية. ويدعى المعبد باسم السواري التي بنى عليها. وفوق الاعمدة حوالي البناء صفائح من رخام منقوشة على شكل اللوحة تتناوب على قطع من رخام منظمة ومنها يتألف الافريز. ويعلو المعبد بنية مثلثة في أعلى مقدم البناء مزدانة بتماثيل وقد صورت المعابد اليونانية بألوان عديدة من أصفر وازرق وأحمر وبقي أهل التمدن الحديث زمناً وهم يأتون تصديق ذلك. وكان من الوأهم العام أن لأبناء اليونان ذوقاً معتدلاً جداً في نقش البناء. بيد أنه اكتشف في كثير من المعابد أثار نقوش لا تبقى مجالاً للشك حتى ادت الحال أن علموا بالتأمل فيها أن

تلك الألوأن اللامعة لم تحسن اخراج الخطوط وكان عليها أن تحسنه أكثر من ذلك. صنعة النقش اليوناني - يتراءى المعبد اليوناني بادئ بدء أنه ساذج لا زينة فيه وما هو الا علبة مستطيلة من حجر موضوع على صخر أما الواجهى فتحوي على شكل مربع تعلوه زاوية. فلا ترى لأول نظرة غير خطوط مستقيمة وأسطوانات حتى إذا نظرت فيها عن أمم تنكشف لك أنه ليس من هذه الخطوط المستقيمة العديدة الا خط واحد مستقيم في الحقيقة. فالسواري منتفخة نحو الوسط والخطوط القائمة منحنية قليلاً نحو المركز والخطوط الأفقية محدبة في الوسط. وكان هذا من الدقة بحيث اقتضى قياسه بالتدقيق لاكتشاف الصنعة فيه. وقد لحظ النقاشون اليونان أن اخراج مثل هذا المجموع المتطابق من البناء يقتضى تجنب الخطوط الهندسية التي تظهر منحدرة وتوفير العناية بظواهر المناظر البعيدة. قال كاتب يوناني إن غاية النقاش أن يخترع طرقاً يسحر بها اعين ناس. ولقد كان أهل الصنائع في يونان يعملون باخلاص لأنهم يعتقدون عملهم قربى من أحد الأرباب لذلك كانت صنائعهم معتنى بها في كل أطرافها حتى فيما لا يرى منها وهي من المتانة بحيث بطول امد بقائها بعد لولم يعاجلها التخريب بشدة. ودام البارتينون إلى القرن السابع عشر سليماً وانشق شطرين بانفجار مخزن من البارود كان بقربه وقد جمعت النقش اليوناني إلى المتانة حسن ذوق وإلى السذاجة علماً ومهارة. زالت معابد اليونان كلها تقريباً ويكاد يبقى بعضها مبعثراً مخدوشاً مهدماً متداعي الاركان وربما كانت طبقات من سوار على أنها تكفي على علاتها أن تفلت نظر من يراها. النقش - لم يكن النقش عند المصريين والاشوريين الا زينة من توابع الابنية أما اليونأن فقد احلوه محل صناعة رئيسية. وأشهر أرباب الصنائع عندهم النقاشون فيدياس وبرا كسيتيل وليزيب. فينقشون التارز دون النصف من البناء ليزينوا جدران معبد وواجهته والبنية المثلثة في أعلى البناء. ومن هذا النوع الافريز الشهير في الباناتينيه المحيط بالبارتينون وهو يمثل تطواف شابات أثينة يوم الاحتفال بعيد الربة الكبيرة. وكان هؤلاء النقاشون ينقشون هياكل وتماثيل خاصة بعضها يمثل رباً ويستخدم صنماً وبعضها يمثل مصارعاً ظافراً في الالعاب الاحتفالية أقيمت له هذه التماثيل جزاء نصرته.

واقدم التماثيل اليونانية منحدرة عوجاء تشبه النقوش الاشورية ثم غدت لدنة ظريفة وكانت أعظم الأعمال من صنع فيدياس في القرن الخامس وبراكسيتيل في القرن الرابع اما تماثيل القرون التالية فإنها على التأنق فيها أقل شرفاً وعظمة. وكان في نونأن الوف من التماثيل اذ أن لكل مدينة تماثيلها وقد تابع النقاشون عمل التماثيل بلا أنقطاع مدة خمسة قرون ولم يبق منها على كثرتها غير خمسة عشر تمثالاً لم تعبث به الايدي. ولم تنقل الينا طرفة من الطرق الشهيرة بين اليونان وأشهر تماثيلنا اليونانية اما أن تكون نسخة من الأصل مثل تمثال الزهرة في ميلوا او أعمالا أثرت عن عصر الانحطاط مثل تمثال ابولون في البلفيدير. ومع هذا فقد بقي منها ما يكفي إذا أضيفت إليها قطع التماثيل والصور البارزة التي ما زالت تستخرج بالحفر لان يتصور المرء حالة النقش اليوناني ويكون له فكر اجمالي عنها المهندسون اليونأن فكروا أولاً في تمثيل أجمل الأجسام في مظهر وقور شريف. وما اضاعوا الفرص كلما سنحت ليشهدوا أجمل الرجال في أجمل الهيآت من محل الرياضة والجيش والمراقص والاجواق المقدسة فيدرسونها ويحسنون نقلها. وما ضاهأهم احد في محاكاة الجسم البشري ومن العادة أن يكون الرأس صغيراً في تمثال يوناني والوجه ساكناً كامداً ولم يعن اليونان مثلنا بمعاني الوجه بل يعتنون بجمال التخاطيط ولم يراعوا التناسب بين الأعضاء والرأس والجسم برمته مثال الجمال في التماثيل اليونانية. صناعة الخزف - عرف اليونان أن يتخذوا من الفخار صناعة حقيقة دعوها سيراميك بقي منها اسمها فقط فالخزف أو الفخار لم يعتبر في يونان مساوياً لسائر الصناعات ولكن له منفعة عظيمة لنا وذلك اننا نعرفه أحسن من معرفتنا غيره فقد تداعت المعابد والتماثيل اما أعمال الخزافين اليونأن فقد حفظت بحالها في المدافن التي يعثر فيها عليها اليوم. وقد جمع منها إلى الآن زهاء عشرين الف خزفة في متاحف أوروبا وهي نوعان: الأواني المنقوشة بنقوش سوداء او حمراء على اختلاف الحجم والشكل. والتماثيل الصغيرة المعمولة من التراب المطبوخ التي عرفت منذ خمس عشرة سنة وقد اشتهرت الآن او كادت منذ اكتشف الدمى البديعة في تاناكار من يبوسيا ومعظمها انصاب صغيرة وبعضها يمثل أولاداً او نساء.

التصوير - اشتهرت في يونان عصابة من المصورين مثل زوكسيس وفارانيوس وايبل وكل ما اتصل بنا عنهم يرجع إلى بضع اقاصيص وربما كانت مبهمة في الاحايين أو إلى بعض أوصاف ذات صور. وانا للوقوف على حالة التصوير اليوناني قد اقتصرنا على ماعثر عليه من تصاوير الحوائط في بيوت إحدى المدن الايطالية وهي من القرن الأول للميلاد وكانها تقول بلسان الحال اننا لم نعرف عنها شيئا. التجارة الأثينية - أصبحت أثينة في القرن الخامس مدينة كبرى على حين كانت اتيكيا أقليما مجدبا لا تغل ما يكفي لاعالة سكانها فتضطر إلى حلب الحنطة والخمر والسمن والسمك من الخارج. وقد كان عبيد أثينة على العكس يعملون الثياب والخزف والسلاح والأثاث مما يباع خارج بلادهم. فمن ثم كثرت أساليب التجارة. فكأنت البضائع ترد إلى مرفأ بيرا او تصدر منها وكانت أنشئت فيها ارصفة ومخازن وقد سماها احد الخطباء في القرن السادس بانها سوق بلاد اليونان بأسرها. وكانت تأتيها حأصلات بلاد الشمال خاصة ويحمل إليها من الداخلية في مواني البحر الاسود وتراسيا الحنطة والخشب والجلود والعبيد وكانت أثينة تتجر مع اليونأن النازلين في جنوبي إيطاليا إلى نابولي. وإذ كان لكل مدينة يونانية نقودها الخاصة بها فقد كان يأتي أثينة دراهم من ضروب مختلفة فاقتضى لذلك صيارفة يبدلونها وكانوا يدعونهم (ترأبيزيت) لأنهم كانوا يجلسون في الساحة وراء منضدة وكانوا كلهم تقريباً من الغرباء الذين أصبحوا ميتيكيين ثم انهم كانوا اتخذا مهنة اضافوها إلى مهنتهم تلك وهي اقراض النقود فيخزنون الدراهم ويقرضونها بفائدة فاحشة بنحو (20 في المئة).

حرب المورة

حرب المورة خصائص عامة - انقسم اليونأن إلى قسمين بعد تأسيس مملكة أثينة في الجزائر اليونانية فكانت المدن الساحلية خاضعة إلى أثينة والمدن الداخلية باقية بحت أمرة اسبارطة. وبعد خلاف طال أمره نشبت حرب بين اسبارطة وحليفاتها في ذاك الصقع من جهة وأثينة ورعاياها الساحلييين من الجهة الأخرى وكانت هذه الحرب هي المعروفة بحرب المورة. دامت سبعاً وعشرين سنة (404 - 431) ولما القت اوزارها عادت فنشبت باسم آخر إلى سنة360. كانت تلك الحروب مشوشة بقتتل المحاربون فيها براً وبحراً يقتتلون في ارض اليونان وفي آسيا وتراسيا وصقلية أي في اصقاع مختلفة وكان جيش الاسبارطيون أحسن انتظاماً فجعل مقاطعة اتيكيا قاعاً صفصفاً وكان اسطول الأثينيين أكثر استعداداً فخرب الشواطئ ولم يؤثر عن تلك الحروب الناشبة بين المدن اليونانية الا الشدة ويكفي في وصفها الإشارة إلى بعضها. فقد كان احلاف الاسبارطيين في بدء الحرب يلقون في البحر جميع سلع المدن المعادية لهم فقابلهم الأثينيون بقتل سفراء اسبارطة بدون أن يستمعوا لاقوالهم. خضعت مدينة بلاتيه صلحاً وكان وعد الاسبارطيون جماعة المحاصرين بانهم لا يعاقبون أحداً بدون محاكمة واليك مع هذا كيف كان قضاة الاسبارطيين يعاملون الاسرى: يسألون كل واحد منهم عما إذا قام في خلال الحرب بخدمة للاسبارطيون فكان نالاسير يجيب سلباً فيحكمون عليه بالإعدام. وقد بيع النساء كالأماء. عصت مدينة مدللي على الأثينيين فاعادوها إلى طاعتهم ثم اجتمع الشعب الأثيني وبعد المشورة بينه قضى بإعدام سكان مدللي نعم إنه رجع من الغد عن رأيه وارسب باخرة ثانية تحمل العفو عن أولئك المنتقضين. بيد إنه كان نفذ حكم الإعدام على زهاء الف من سكان مدللي. وكان من العادة إذا دأهم جيش بلاد العدو أن يخرب البيوت ويقطع الأشجار ويحرق الغلات ويقتل الحرأثين. وبعد أنتهاء الحرب يجهز على الجرحى ويعمد إلى قتل الاسرى صبراً. وإذا جرى الاستيلاء على مدينة يؤول كل مافيها ملكاً للغالب فيباع رجالها ونساؤها وأولادها كما يباع العبيد. هكذا كانت إذا حقوق الحرب. وقد أوجزها توسيد في خطاب له في الجملة الآتية: قال تنقض المسائل بين الناس بواسطة قوانين العدل متى اضطروا إليها من الطرفين ولكن القوي يأتي ما في طاقته والضعيف

يذعن له. فالأرباب يتسلطون بضرورة الفطرة لأنهم الاقوياء والناس يجرون على مثالهم. الاستيلاء على أثينة - ولما تعب الشعبان من هذه الحرب الباطلة عقدا السلم بينهما ولكن امده لم يطل. وذلك أن أثينة بعثت بجيشها إلى صقلية لتفتح سيراكوس المحالفة لاسبارطة وهناك أحيط به وبعد النكبة سيراكوس أسر الجيش الأثيني برمته وطفق الغالبون يخنقون عامة القواد وجماعة الجند ومن ابقوا عليه انزلوهم إلى لاتومي وهي مقالع قديمة كانت تتخذ حبوساً القوهم فيها سبعين يوماً ومتزاحمين متراصين لا وقاية تقيهم حرارة الشمس في الصيف او رطوبة ليالي الخريف. فمات كثير منهم مرضاً وجوعاً وعطشاً لأنهم لم يكادوا يطعمونهم الا ما يسد رمقهم بعض الشيء وبقيت اشلاؤهم ملقاة على الأرض تفسد الهواء ثم اخرج أهل سيراكوس من بقي حياً من الأثينيين وباعوهم كما يباع الرقيق. وأقاموا الاسبارطيون حامية في جبال اتيكيا بحيث تمكنوا من توقيف تجارة أثينة مع بلاد الشام ومنها كانوا يأتون بالحنطة. وذهب ليزاندر القائد الاسبارطي إلى آسيا وأخذ مالاً من الفرس جهزيه اسطولاً وطاف شواطئ آسيا وإذ كان احلاف أثينة لا يقاتلون الا بالقوة تركوه وشأنه ثم أن ليزاندر حطم الاسطول الأثيني في آسيا (405) وحاصر أثينة وأخذها جوعاً واضطرها إلى تخريب اسوارها وحرق سفنها الحربية.

أين منى ما أريد

أين منى ما أريد اريد لو استتب لي الخلود ... ولكن اين مني ما أريد على أن البقاء يطيل همي ... وما في ريثه ما استفيد وليس بنافعي شيئاً بقائي ... وقد غصت باحبأبي اللحود ولكن كيف اقناعي لنفس ... تعلقها بدنياها شديد أأصبر عن احبائي الأولي قد ... ثووا اني إذا رجل جليد مشوا للموت من دار أقاموا ... معي فيها فاقفرت العهود تثير ديارهم حزناً بقلبي ... وتوحشني التهائم والنجود فإن بك في الاسى رجل وحيد ... فإني ذلك الرجل الوحيد يسير إلى المقابر كل يوم ... اخ منها التراب به يزيد ولو عاد الذي يمضي سلونا ... ولكن من يرحل لا يعود وماهي حالة الشهداء فيها ... أايقاظ هنالك ام رقود لعمرك لا يرد الموب حصن ... ولا هذي العساكر والجنود يبيد نعم يبيد المرء لكن ... عناصره تدوم ولا تبيد يدور الشيء من صفة لأخرى ... ولكن منه لا يفنى الوجود وجسم المرء تبنيه خلايا ... زمان حياتها فيه زهيد إذا مات منها فيه قسم ... يجيء مكانه قسم جديد وينقطع التجدد حين يؤدي ... فلا يخضر بعد اليبس عود إلا أن الحياة أعز شيء ... يحب وأنها الخصم اللدود شقاء عم هذا الناس حتى ... تشتكي الشيخ منه والوليد وقالوا تعض من يحيا سعيد ... فمن هو ذلك الحي السعيد اتعكس حالة الشرق الليالي ... فتجتمع المعارف والجدود لعمرك لا ينيل المجد مال ... ولا خيل ولا ابل ترود ولا ثوب على طرفيه وشي ... ولا قصر على تل مشيد قأن المجد ذب عن ضعيف ... تهضمه اخو الظلم العنيد اداري الحاسدين رجاء أن الا ... يبالغ في مساءتي الحسود

يضر النفس منه او يقيها ... فتى يلج الحوادث او يحيد وأوقات الفتى اما نحوس ... تدور على المصائب او سعود ليال هن بالافراح بيض ... وأيام من الاحزن تسود كذاك الشعر فهو يكون اما ... رديئاً لايطيب به النشيد واما رائق الألفاظ يزهو ... فتحسب أنه العقد الفريد وذاك هو الذي إن أنشدوه ... تتزين منه للآداب حيد أقول الشعر منقاداً إليه ... بطبعي وهو أكثره قصيد فإنظمه ولا ادري أأني ... مسيء حين أنظم ام مجيد اليك عن المجرة لا تسلني ... وعن عدد العوالم كم يزيد ولا عما وراء السحب فيها ... فذلك أمر مطلبه بعبد حدود تنتهي الأفكار منا ... وما أن تنتهي تلك الحدود وبين الفرقدين على اتصال ... تراه عيوننا بعد مديد ألكني يا ضياء إلى نجوم ... منورة لها منها وقود يراها من له لب شموساً ... ويعمه عن حقائقها البليد وجيء منها بأخبار الينا ... فإنك يبننا نعم البريد سترقى النفس طائرة إليها ... إذا انفكت عن النفس القيود لقد تعست هنا فإذا تعالت ... يكون نصيبها عيش رغيد لعمرك قد تشابهت الليالي ... فما في عودها شيء جديد نهار خلفه يأتي نهار ... وليل كلما ولى يعود ترى عيني بكف الموت قوساً ... بها سهم إلى جهتي سديد فياموت ارمني إن كنت ترمي ... فإني بالردى صب عميد ولم ار منهلاً كالموت عذباً ... على طرفيه تزدحم الورود أقول لم يهاب الموت جبناً ... برغمك كائن ما لا تريد ولكني اخلف عند موتي ... نساء حزنها بعدي شديد فتلد ام للجوى منها صدور ... وتخمش في الاسى منها خدود

مرزأة وأخرى ذات نوح ... وأخرى ما لا عينها جممود

حكم مقتبسة عن الإنكليز

حكم مقتبسة عن الإنكليز الكمال البساطة هي غاية الكمال في صفات المرء وأخلاقه وعبارته اقصد الكمال في كل شيء الكمال لا ينال الا مهلا مع مرور الزمان لا ينال الرجل كمالاً إلا إذا كان له أصدقاء صادقون او أعداء الداء إذا اقتلعنا من انفسنا رذيلةً واحدة في كل سنة شرعنا في سبيل الكمال قياس الإنسأن القياس الأعلى الكمال مكوّن من صغار الأمور وما الكمال بالأمر الصغير الرجاء آمالنا تقصد كالبزاة الشامخة أغراضاً في مرتفعات الهواء لا شيء يؤيد النفس بالاقدام والمخاطرة في كل ما تطلبه كالأمل الوطيد متى انحدرت غيوم العواصف كان المستقبل شديد الدجى لولاشروق الرجاء باشعته المبهجة في هذا العالم المظلم إذا كان طبعك طبع الرجاء المتسع فذلك هو حصنك الوحيد المنيع الذي تحتمي به في هذا الوادي وادي الدموع يستقيظ باكراً من يوقظه الرجاءُ وإذا رأفقه في الطريق كان سيره حثيثاً الطاعة الطاعة واجبة على الذين لا يعملون كيف يحكمون الطاعة جيدة لا غنى عنها ولدنا خاضعين لأحكام الله ومن اطاع الله كان حراً آمناً مرتاحاً (سنكا الفيلسوف الروماني) الاشرار يطيعون خيفةٌ والصالحون على حب (أرسطو) من لا يقدر على الطاعة لا يقدر على الحرية او على السلطة ومن لا يكون ادنى في شيء لا يكون أرفع في شيء انني اتعلم كل ساعة تعليماً من تعاليم الطاعة

السرور من اسر غيره كأن ذلك سروراً لنفسه كن بهجياً ما امكن لأن السرور لنفسه لاينحصر فينا بل هو كامل عظيم في سرور غيرنا الصديق البهيج كنهار منير يضيء كل ما حوله لا سعادة ثابته في الحياة الا لمن ينسى نفسه من اجل غيره إذا كان الزحف نصيبي فازحف راضياً وإن كان الطيران نصيبي فاطير نشيطاً ولكنن سأجهد كل الجهد أن لا اكون مغموماً الرفيق البهيج كمركبة لمن قد تعب في الطريق آمال الدنيا التي قد يشغل الناس قلوبهم بها تخيب اوقد تصح ولكنها كالثلج الذي يغطي وجه الأرض ساعة او ساعتين ثم يزول (عمر المختار) الشوق النفس إلى الكمال الشوق إلى الكمال خفير قوي إلى الفضيلة كل إنسان يتوق احياناً إلى مايجب عليه من معالي النفس جزاء المرء الذي يشتاق إلى أعلى ما تتصوره النفس هوانه لا ريب له فيها كل ما على الأرض اظلال لأشياء في السماء هي وحدها الباقية لاريب في أن التصورات العالية ثابته الوجود الكمال الذي يتخيله الإنسان آفة لما عنده من نقص الكمال التشوقات الخيالية بعيدة جداً عنا فلنرض بالسعي وبما يمكن من الدنو إليها. التأمل والتذكير تذكر مراحم الله السابقة علاج دافع للقنوط في يوم الشدة ما مضى فقد إلى الابد وهو مجموع مذخور ولكنه لم يبق لنا فكل كلمة نطقنا بها وكل خطوى نخطوها لايمكن استراجعها إذا نظرنا إلى ما مضى من الشدائد رأينا أن بعضها كإن خيراً عظيماً يفوق ما تحملناه من مشقتها إذا تردد فيك العقل وارتاب فاذكر ما مضى واهتد به واذهب إلى البيت الذي ولدت فيه وإن

كان قد ولد الإيمان هناك فردد ما كان يعتقد ابوك والصلاة التي كانت تصليها امك التذكر مهما كان محزناً فهو أفضل العلائق التي تصل حياة الدنيا بحياة الآخرة. العادة العادة حبل ننسج منه خيطاً كل يوم إلى أن نبلغ حجماًُ لا يمكن قطعه رب في نفسك عادة الانتباه الشديد إلى كل أمر يعرض لك سواء كان في القراءة أو المراقبة أو الاصغاء إلى التعليم العادة افعل النواميس التي تعمل في الفطرة البشرية تتكون فينا العادات كما يتراكم الثلج بعضه فوق البعض عادة النظر إلى الأشياء بالسرور وتأمل الحياة بالأمل تتربى فينا كغيرها من العادات تتكون العادات الحسنة بأعمال العقل والمجاهدة الدائمة للتغلب على المحن النصيب كل أمريء عامل على نصيب نفسه إذا قرع النصيب بابنا فمن الخطأ أن لا نفتح له ونرحب به دولاب النصيب يدور أبداً ومن يستطيع أن يقول انني سأكون اليوم إلى الأعلى؟

السجن

السجن سكنا ولم يسكن حراك التبدد ... مواطن فيها اليوم ايمن من غد عفا رسم مغنى العز منها كما عفت ... (لخولة اطلال ببرقة ثهمد) بلاد اناخ الذل فيها بكلكل ... على كل مفتول السبالين اصيد معاهد عنها ضل سابق عزها ... فهل هو من بعد الضلالة مهتد أحاطت بها الارزاء من كل جانب ... إلى أن محتها معهداً بعد معهد وحلق في آفاقها الجور بازياً ... مطلاً عليها صائتاً بالتهدد وينقض احياناً عليهافتارة ... يروح وفي بعض الاحايين يغتدي فيخطف اشلاء من القوم حية ... ولم يقد المقتول منها ولم يد ويرمي بها في قعر اظلم موحش ... به اين تسقط جذوة الروح تخمد هو السجن ما إدراك ما السجن انه ... جلاد البلايا في مضيق التجلد بناء محيط بالتعاسة والشقا ... لظلم بريء او عقوبة معتدي زر السجن في بغداد زورة راحم ... لتشهد للانكاد افجع مشهد محل به تهفو القلوب من الاسى ... فإن زرته فاربط على القلب باليد مرّبع سور قد أحاط بمثله ... محيط بأعلى منه شيد بقرمد وقد وصلوا ما بين ثان وثالث ... بمعقود سقف بالصخور مشيد وفي ثالث الاسوار تشجيك ساحة ... تمور بتيار من الخسف مزبد ومن وسط السور الشمالي تنتهي ... إليها بمسدود الرتاجين موصد هي الساحة النكراء فيها تلاعبت ... مخازيق ضيم تخلط الجد بالدد ثلاثون متراً في جدار يحيطها ... بسمك زهاء العشر في الجو مصعد توأصلت الاحزأن في جنباتها ... بحيث متى يبل الاسى يتجدد تصعد من جوف المراحيض فوقها ... بخار إذا تمرر به الريح تفسد هناك يود المرء لو قاء نفسه ... وأطلقها من اسر عيش منكد فقف وسطها وانظرحواليك دائراً ... إلى حجر قامت على كل مقعد مقابر بالاحياء غصت لحودها ... بخمس مئتين انف ساو بازيد وقد عميت منها النوافذ والكوى ... فلم تكتحل من ضوء شمس بمرود

تظن إذا صدر النهار دخلتها ... كانك في قطع من الليل اسود فلو كان للعباد فيها أقامة ... لصلوا بها ظهراً صلاة التهجد يزور هبوب الريح الا فناءها ... فلم تحظ من وصل النسيم بموعد تضيق بها الانفاس حتى كانما ... على كل حيزوم صفائح جلمد وحتى كان القوم شدت رقابهم ... بحبل اختناق محكم القتل محصد بها كل مخطوط الخشام مذلل ... متى قيد مجروراً إلى الضيم ينقد يبيت بها والهم ملءاهابه ... بليلة متبول الحشا غير مقصد يمييت بمكذوب العزاء نهاره ... ويحيى الليالي غير نوم مشرد ينوء باعباء الهوان مقيداً ... ويكفيه أن لو كان غير مقيد وتقذفهم تلك القبور بضغطها ... عليهم لحر الساحة المتوقد فيرفع بعض من حصير ظلالة ... ويجلس فيها جلسة المتعبد وليست تقيه الحر الا تعلة ... لنفس خلت من صبرها المتبدد وبالثوب بعض يستظل وبعضهم ... بنسج لعاب الشمس في القيظ يرتدي فمن كان منهم بالحصير مظللا ... يعدونه رب الطراف الممدد ترأهم نهار الصيف سفعا كانهم ... اثافي أصلاها الطهاة بموقد وجوه عليها للشحوب ملامح ... (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد) وقد عمهم قيد التعاسة موثقاً ... فلم يتميز مطلق عن مقيد فسيدهم في عيشه مثل خادم ... وخادمهم في ذلة مثل سيد يخوضون في مستنقع من روائج ... خبائث مهما يزدد الحر تزدد تدور رؤوس القوم من شم نتنها ... فمن يك منهم عادم الشم يحسد ترأهم سكأرى في العذاب ومأهم ... سكأرى ولكن من عذاب مشدد وتحسبهم دوداً يعيش بحمأة ... وما هو من دود بها متولد الا رب حر شاهد الحكم جائزاً ... يقود بنا قود الذلول المعبد فقال ولم يجهز ونحن بمنتدى ... به غير مأمون الوشابة ينتدي على أي حكم املاية حكمة ... ببغداد ضاع الحق من غير منشد

فادنيت للنجوى فمي نحو سمعه ... وقلت لأن العدل لم يتبغدد رعى الله حياً مستباحاً كانه ... من الذعر اسراب النعام المطرد وما صاحب البيت الحقير بناؤه ... بافزع من رب البلاط الممرد وماذا ك إلا أنهم قد تخاذلوا ... ولم ينهضوا للخصم نهضة ملبد فناموا عن الجلى ونمت كنومهم ... سوى نوحة مني بشعر مغرد وهل انا الا من أولئك إن مشوا ... مشيت وإن يقعد أولئك اقعد وكم رمت ايقاظاً فاعيا هبوبهم ... وكيف وعزم القوم شارد مرقد نهوضاً نهوضاً ايها القوم للعلى ... لتبنوا لكم بنيان مجد موطد تقدمنا قوم فابعد شوطهم ... وقد كان عنا شوطهم غير مبغد وسد علينا الاعتساف طريقنا ... فاحجف بالغوري والمتنجد افي كل يوم يزحف الدهر نحونا ... بجند من الخطب الجليل مجند فيارب نفس من كروب عظيمة ... ويارب خفف من عذاب مشدد بغداد معروف الرصافي

كتاب الاشربة

كتاب الاشربة لابن قتيبة وإنما معنى قوله (انما الخمر والميسر والانصاب والازلام وجس) أي معصية والكفر والنفاق والمعاصي رجس يدلك على ذلك أن الازلام هي القداح فاي نتن لها؟ وهذا مثل قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} أي نفاقاً إلى نفاقهم ومثله {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} وكيف يكون رجساً أي نتناً وهي في الجنة؟ وقال الله تعالى: {وأنهار من خمر لذة للشاربين} فوصفها باللذاذة ولم يصف بذلك عيرهما مما ذكر معها. وقال: {يسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} ولم يرد فيما يرى أهل النظرأن الزنجبيل يلقى فيها وإنما أرادوا إنها تلذع اللسان كانها مزجت بزنجبيل. والشعراء تصف أفواه النساء براح مزجت بالزنجبيل. قال المسيب ابن علس وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر وقال الأعشى بمشبهه بالزنجبيل والعسل: كان جنياً من الزنجبي ... ل بات بفيها وأريا مثورا وقال الجعدي وبات فريق منهم وكانما ... سقونا طفا من اذرعات مفلفلا ولهذا يقول الشعراء للخمر مزة للذعها اللسان ولا يريدون الحموضة وقال بعض أصحاب اللغة: إنما مزّة بفتح الميم أي فاضلة من قولك: هذا أمز من هذا أي أفضل وأرفع. وقال: (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون) فنفى عن خمر الجنة عيوب الخمر الدنيا وهو الصداع ونفاذ الشراب وذهاب العقل والمال ونحو هذا قوله في فاكهة أهل الجنة (لا مقطوعة ولا ممنوعة) فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا لأن فواكه الدنيا تأتي في وقت وتنقطع في وقت ولأنها ممنوعة الا بالثمن والعرب تسمي الخمر درياقة يريد انها شفاء كالدرياق. قال ابن مقبل سقتني بصهباء درياقة ... متى ما تلين عظامي تلن وقال الله تعالى {ويسئلونك عن الخمر والميسر قل فيها اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما} فالإثم العذاب وكذلك الآثام قال: {ومن يفعل ذلك يلق إثاما} أي عقاباً وأما

منافعهما فكثيرة لا تحصى. وإنما تقع مضارها مع إكثار وتجاوز المقدار فأما الاقتصار فلم يكن لشاربيها قبل التحريم فيها مضار. فمن منافعها ما يصيبه للناس من أثمانها ولو لم تعتصر الأعناب لبارت على أهلها. ومن ذلك منفعتها الجسم لأنها تدر الدم وتقوي المنة وتصفي اللون وتبعث النشاط وتفتق اللسان ما أخذ منها بقدر الحاجة فإذا أخذ الإفراط فكل شيء مع الإفراط يضر. وكأنت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح وكان رجل من قدماء الأطباء إذا دخل على عليل لم ير فيه موضعاً لسقي الدواء سقاه الخمر الريحانية الممزوجة بالماء ليلقي الروح بحبيبه ويبعث من النفس بالمسرة ما قد أسقطه الداء فإن رأى العليل قد قوي قليلاً واحتمل بعض الدواء عالجه. قالوا: ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً وأصل الراح والروح والرَّوح من موضع وأحد الا أنهم خالفوا بينها في البناء ليدل كل واحد منها على معناه ويقارب معانيها كتقارب أسمائها فالروح روح الأجسام والروح النفخ لأنه ريح يخرج عن الروح والروح طيب النسيم والروح هي الريح الهابة. والراح على فعل وأصله روح فقلبت واوه ألفاً لما أنفتحت ما قبلها ثم اشتقوا الريحان من ذلك لرائحته وربما سموا الخمر روحاً قال النظام: مازلت أخذ روح الزق في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح وربما سموا الخمر دماً لأنها تزيد في الدم والنفس تتصل بالدم. وكذلك قالوا: نفست المرأة إذا حاضت. وقالوا نفساه لسيلأن الدم. قال المسلم: خلطنا دماً من كرمة بدمائنا ... فاظهر في الألوان من الدم الدم وحدثني الرياشي عن مورج عن سعد بن سماك عن أبيه عن عبيد راوية الاعشي قالت: قلت للأعشى: اخبرني عن قولك ومدامة مما تعيق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها فقال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء يريدان حمرتها صارت دماً. وقال الطثرية ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر وفي الخمر انها تسخي البخيل وتستخرج من اللئيم. قال عمرو بن كلثوم:

مشعشة كان الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا ترى اللخر الشحيح إذا مرت ... عليه لماله فيها مهيبا قوله: سخينا من السخاء وأراد بقوله إذا ما الماء خالطها لأنها لا تمزج الا عند الشرب قال طرفة: وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل جواد وطمر ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحقون الأرض هداب الأزر وقد عيب بهذا طرفة لأنه مدحهم بالعطاء وهم نشاوي ولم يشترط لهم ذلك في صحواتهم كما قال عنترة وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما اقتصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي والجيد في هذا المعنى قول زهير اخو ثقة لا يذهب الخمر ماله ... ولكنه قد يذهب المال نائله يريد أنه يعطى إذا بخلت النفوس. وقال ابن ميادة ما أن الح على الإخوان اسألهم ... كما يلح بعظم الغارب القتب وما أخادع ندماني لأخدعه ... عن ماله حين يسترخي به اللبب وقال بعض المحدثين كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا فلي فرحة في مسكرة وانتشائه ... وفي الصحو ترحات تشيب النواصيا فياليت حظي من سروري وتر حتي ... ومن جوده أن لا علي ولا وليا وفي الخمر أنها تشجع الجبان وتبعث الحصر العي وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد من جرأتك؟ الترك وكثير من العجم يشربونها في الحرب وكانوا في الجاهلية ينالون منها يوم اللقاء وكذلك اصطحبها قوم من المسلمين يوم بدر قبل أن ينزل تحريمها وفي الخمر أن كل شارب يمل شرابه غير شرابها وإن أحداً لا يقدر يشرب منها فوق الري إلا بالكره للنفس على القليل غير شارب الخمر وما أشبهها من المسكر. حدثني القطعي عن أبي داوود قال حدثنا أبو بجرة عن الحسن قال: لو كان في شرابهم هذا

خير لرووا منه وفي الخمر أنها تزيد في الهمة والكبر وتهيج الأنفة والأشر وسقى قوم إعرابياًكؤوساً ثم قالوا له: كيف تجدك؟ قال أجدني اسر واجدكم تحسنون إلي وقال الأخطل إذا ما زياد علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير خرجت اجر الذيل من كانني ... عليك أمير المؤمنين أمير العلل بين النهل فلذلك قال ثلاث زجاجات لأنها نهل وعللان قال المنخل ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير فإذاسكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير وقال الأعشى: ولقد شربت ثمانياً وثمانياً ... وثمان عشر واثنتين وأربعا من قهوة باتت ببابل صفوة ... تدع الفتى ملكاً يميل مصرعاً وقال الخمر انها تمد في الأمنية قال الأعشى لعمرك أن الراح إن كنت شاربا ... لمختلف آصالها وغدائها لنا من ضحاها خبث نفس وكابة ... وذكرى هموم ما تغيب اداتها وعند العشي طيب نفس ولذة ... ومال كثير عده نشواتها وفي الخمر انها تطيب النفس وتذهب الهم وكانت ملوك العجم تجعلها مجمة للقلوب ومستراحاً من الشغل. قال اعرأبي كان يشرب النبيذ ثم تركه وشرب اللبن قد تركت النبيذ مذ كن عندي ... وتحسيت رسلهن مذيقا فوجدت المذيق يوجع بطني ... ووجدت النبيذ كان صديقا تعد النفس بالعشي مناها ... وتسل الهموم سلاً رقيقاً وذكر الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمي ران جبلة بن الايهم قال لحسان: يا ابا الوليد اني مشغوف بالخمر فذمها لي فقال: لولا ثلاث هن في الكأس لم يكن ... لها ثمن من شارب حين يشرب لها نزف مثل الجنون ومصرع ... دني وأن العقل ينأى فذهب فقال: أفسدتها فامدحها فقال:

لولا ثلاث هن في الكأس أصبحت ... كأفضل مال يستفاد ويطلب أمانيها والنفس يظهر طيبها ... على همها والحزن يسلى فيذهب وفي الخمر إن كل شارب على شرابه يصبر عنه غير الخمر فإن لها ضراوة لا يشبهها الا ضراوة اللحم. وكان عمر رضي الله عنه يقول: اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقالوا: أهلك الرجال إلا حمرأن اللحم والخمر. وأهلك النساء إلا صفرأن الذهب والزعفران. وقال الشاعر حين منع أهل الشام من شرب الخمر: الم تر أن الدهر يعبر بالفتى ... ولا يملك الإنسان صرف المقادير صبرت ولم اجزع وقد مات إخوتي ... وما أنا عن شرب الطلاء يصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر فهذه وما أشبهها منافعها في الجاهلية وأما منافع الميسر فإن أهل الثروة والأجواد من العرب كانوا في شدة البرد وجدب البلاد وكلب الزمان ييسرون أي يتقأمرون بالقداح وهي عشرة اقداح على جزور يحزئونها على ثمانية وعشرين جزءا وقد ذكرت هذا في كتاب الميسر وبينت كيف كانوا يفعلون فإذا قمر أحدهم جعل أجزاء الجزور لذوي الحاجة وأهل المسكنة واستراش الناس وعاشوا وكأنت العرب تمدح بأخذ القداح ويعيب من لا ييسر وتسميه البرم قال متمم يرثى أخاه مالكاً ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا ولم اسمع أحداً من الإسلاميين ذكر أنه قأمر بالقداح فافحش افحاش القائل وهو الأخطل: ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست باكل لحم الاضاحي ولست بقائم كالعير ادعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولاً ... وآكل ما تفوز به قداحي قال: واما ذمهم شربه المسكر بقلة الوفاء وسوء العهد فاسوأ من ذلك اقدامهم على السكر وترك الصلاة وركوب الفواحش واعجب منه عقدهم على أن كل مسكر خمر محض لعلة الاسكار وهم يشربونه وعلمهم بأن الله حرم المسكر وهم لا يبيتون الا عليه فإذا عوتبوا على شربه مع الاعتماد أنه خمر قالوا: لان نشربه ونحن نعلم أنه ذنب نستغفر الله منه احب الينا من أن نشربه مستحلين له غير مستغفرين منه. وما ادري أمن الجرأة على الله

اعجب ام من العلة. أما الجرأة على الله والاقدام على ماحرم في كتابه عندهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم وأما العلة فالطمع في المغفرة وهم مصرون لا ينصرم عنهم يوم جمعتهم الا عقدوا النية على الاجتماع في غده او بعد غده وإنما يغفر الله بالاستغفار للمقلعين ويتقبل من المتقين وكيف ما جاهروا الله بالعصيأن فيه وهم مستيقنون اسلم مما ركبوه وهم غارون وماذا يقولون في رجل زنى وهو لا يعلم أن الله حرم الزنا وآخر زنى وهو يعلم أن الزنا من الكبائر التي تسخط الرب وتوجب النار ايهم اقرب إلى السلامة وأولى من الله بالعفو او ليس أهل العلم على أن الذي لا يعلم لا حد عليه من جلد وتعزير ولا رجم وإن على الآخر حد البكر إن كان بكراً وحد المحصن إن كان محصناً فهذه أحكام الدنيا واما أحكام الآخرة فلولا كراهة التألي على الله لقلنا في الذي ركب الفاحشة وهو لا يعلم أن الله حرمها معفو عنه. وقد روي أن رجلاً اقرّ بالزنا بأم مثواه فلما أمر بأقامة الحد عليه قال: ما علمت أن الله حرم ذلك فاستحلف ثم دريء عنه الحد. وكأنت العلماء تنهى العوام عن كثرة السؤال وقالوا لان يؤتى السيء على جهل به اسلم من أن يؤتى على علم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت اليه النفوس والاثم ما حاك في صدرك فكرهت أن تطلع عليه الناس.

التقية

التقية لما قرأ احد كبار علماء دمشق ما كتبناه في التقية في الجزء الثالث من مجلد هذه السنة كتب الينا يقول: (ان مسألة جواز التقية قولاً وعملاً عند الصفرية الزيادة فيه نظر اذ المعلوم انها جائزة عندهم قولاً لا عملاً لأن المذاهب فيها عند الخوارج ثلاثة عدم جوازها أصلاً عند الازارقة وجوازها قولاً وعملاً عند النجدات وجوازها قولاً لا عملاً عند الصفرية الزيادية) وقد عقد في كتاب مشارق العقول لعبد الله بن حميد السالمي العماني الاباضي فصل في التقية فقال: اجز تقية بقول أن خلص ... من نيل ضر من به القول يخص وأمنعها في إتلاف نفس انجنى ... والخلف في إتلاف مال ضمنا ولم تجز تقية بالفعل ... كالحرق والغرق ومثل القتل لكن جواز ما أبيح في الضرر ... كالأكل للميتة والدم اشتهر ومكره جاء بما الحد يجب ... عليه في أن لا يحد نستحب وقال ابن حزم في الملل والنحل: وقد اجمع أهل الإسلام على أن إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله عصباً فاستدر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصداً بذلك السلطان فسأل السلطأن ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه او أنه يعرف موضعه او ماله فإنه محسن مأجور مطيع لله عز وجل وإن صدقه فاخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقا عاصياً لله عز وجل فاعل كبيرة مذموماً نماماً وقد أبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية. ونقل الأستاذ غولد سير في رسالته التقية في الإسلام عن بعض علماء الشيعة: أن الله جعل هذه التوريه مما حفظ به شيعتنا ومحببنا. ونقل: مؤمن لاتقية له كمثل جسد لا رأس له. ونقل من كتاب كشف القناع عن وجوه حجة الإجماع أن أمير المؤمنين كان منذ قبض الله نبيه في حال التقية ومداراة ومدافعة لاستيلاء من استبد بالأمر الخ. . . أن التقية لم تفارقه ولم يجد منها بداً في حال من الأحوال ولم يتمكن من تتبع أحوال القوم وكان يقول لقضاته وقد سألوه بماذا نحكم فقال: أحكموا بما كنتم تحكمون حتى يكون الناس على جماعة أو أموت كما مات أصحأبي.

هذا ما أتانا من القول بعد طبع ذاك المبحث فألحقناه به تتمة له والغاية منه كما علمت تاريخيه اجتماعية صرفة وذلك لأن للتقية علاقة كبرى بمجتمعنا ونهضتنا.

التعليم في ألمانيا

التعليم في ألمانيا أعظم حسنة تسجل لألمانيا فصلها التعليم الديني عن التعليم الذنيوي بدون أن تمس أحدهما بسوء وتعطي لأحدهما ما سلبته من الثاني ولذلك استقام أمرها وأصبحت مدرسة العالم فلم تغل في محاربة الدين كفرنسا ولم تبالغ في التعصب له كاسبانيا بل كانت بين بين واليك ما قاله صاحب كتاب ألمانيا الحديثة ونشوئها في كيفية فصلها للتعليمين على اسلوب حكيم قال ماترجمته: جاهدت ألمانيا في سبيل نشؤها المادي ولم تترك الجهاد في طريق ارتقائها العلمي وإحداث تعليم وطني لبلادها تتعاوره الايدي بالإصلاح كل حين. ومن المحقق أن الحكومة الألمانية أخذت على نفسها أن تنظم قواها الدفاعية والهجومية وإن تنمي شعبها وثروتها وتسهر على امن رعاياها ورفاهيتهم المادية ولكنها لم تقف عند هذا الحد في القرن التاسع عشر بل ما كاد يطلع فجره حتى قام الفيلسوفإن فيختي وهيجل يحققأن الأماني بما أنشآه من الاوضاع العلمية ويدلأن الألمان على الطرق التي تبلغ بهم أقصى درجات الارتقاء. ومابرح هذا الاعتقاد منذ نهض هذان العظيمان ينتشر ويقوى حتى ادى إلى نتيجتين عظيمتين إحداهما تولي الحكومة لادارة التعليم بدل الكنيسة وأخذها على عاتقيه تنسقه ومراقبته وتوفرها على نشره على اختلاف درجاته توفراً لم يسبق له نظير وثانيتهما أن الأمة انتظمت حالها على التدريج فايقنت بما تسأل عنه مع جميع أفرادها ورأت أن من واجبها أن تحتفظ برأس مالها الإنساني فتحمي المساكين والضعفاء خاصة وتدفع عنهم عوادي الهلاك واسواء الفساد الأدبي وتمد إليهم يد المعونة في الازمات وتقيهم عوارض العجز والزمانة. وهكذا كان نجاح التعليم العام وتنظيم التضامن الاجتماعي أول مابذلت الحكومة الألمانية عنايتها به. أخذت الحكومة أولا بالتتابع تصبغ التعليم بصبغة عامية وتسلب من الكنيسة هذا الحق بعد أن كان في القرون الوسطى لها وحدها القول الفصل في شؤون التعليم. ففي أواخر القرون الوسطى سقطت الكليات تحت مراقبة الحكومة وبعد دخول عهد الإصلاح (قيام لوثيروس المصلح في النصرا نية) سقطت في يدها المدارس الثانوية أيضاً. وفي القرن الثامن عشر

والتاسع عشر جاء دور المدارس الابتدائية فآل أمرها إلى الحكومة تصرفها كما تشاء وتهوى. قبضت بيدها على أزمة التعليم وأخذت في إدخال التغيير عليه. فقد كأنت الكليات والمدارس اللاتينية فيما سبق ترى من أهم واجباتها أن تخرج رهباناً ولاهوتيين فتعنى المدارس الابتدائية بنشر مبادئ الاعتقاد الديني بين الأمة لم تلبث أن نزعت عنها الصفة الدينية فأصبحت مجامع علمية لا يتصدر فيها اللاهوتيون اليوم كما كانوا امس ولا يتصدر فيها الفلاسفة واللغويون كما كانوا في أوائل القرن التاسع عشر بل الصدارة فيها كل الصدارة لرجال العلم والأطباء. انتظمت المدرسة الألمانية على صورتها الحاضرة في أوائل القرن التاسع عشر وخلعت عنها اللباس الديني بل صبغة الفكر الأدبي المولد من الحضارة اليونانية التي ازدهرت دراستها على ذاك العهد في ألمانيا وانشأت تعلم تعليماً من مجملات العلوم كعلم اللغات والتاريخ والرياضيات والعلوم الطبيعية. ثم نزعت يدها من يد الكنيسة بتحريص بستالوزي وأخذت تلقي في نفوس التلاميذ الاعتماد على النفس وحب العمل وتبث فيهم بحسب مطالب اللاهوت الأدبي الذي قال به (كانت) الفيلسوف القول بحب الذات او بالشخصية الحرة المستقلة. ولئن كان التعليم العام نحو منتصف القرن الثامن عشر قد بقي على صبغته الدينية ولاسيما في البلاد التي تنتشر فيها الكثلكة فإن المدرسة الابتدائية في القرن التاسع عشر أصبحت على التدريج مدرسة وطنية تشرب فيها قلوب الشبأن محبة للوطن كانها دين ثان. كل ذلك بفضل العناية التي صرفت لتعليم اللغة الألمانية وتاريخ ألمانيا. ولا يزال الكنيسة إلى اليوم تأثير مهم في ألمانيا ولاسيما في دائرة التعليم الابتدائي. وقد ظلت المدرسة على الجملة تقر بالإيمان وتعترف به ومازالت تعلم تعليماً دينياً اعتقادياً. ومن العجب أن ترى ثمت مدارس كاثوليكية اوبرتستانتية او إصلاحية تعلم تحت حماية الحكومة حقائق دينية بادية التناقض وهي خاضعة في كثير من الأحوال للتفتيش الكنائسي. وقد ثبت أن الاصوات ما برحت تعلو بالشكوى من هذه الحالة فيشتكي المخالفون من الزام أولادهم بتعليم مناف لإيمانهم او لمعتقدهم العلمي.

حتى انك لترى في المعلمين كثير يقيمون الحجة على الاكراه في تعليم الدين بحسب قانون لا ينطبق على معتقداتهم الدينية الخاصة. وهناك حزب عظيم من القوم يطالب على الدوام بالاستكثار من المعاهد التي تقبل التلاميذ من كل المذاهب. والظاهر أن ألمانيا لاتنوي الان نزع النصرانية من المدرسة حتى أن أرباب الأفكار الحرة وهم بعيدون عن كل معتقد لا يرون بان نزع الصبغة الدينية من التعليم في ألمانيا هو من الممكن او مما يرغب فيه وهم معتقدون بانه متى أصبحت المدرسة (كافرة) لا دين لها يحول قسم وافر من سكان البلاد ولاسيما من الكاثوليك وجوههم عن المدارس العامة وينظمون لأبنائهم مدارس خاصة يتلقى فيها الأبطال التعليم الديني الذي يراه ذووهم ضرورياً لهم. على أن جمهور كبير من الألمان لا يرون (المدرسة الحرة) على الطريقة الفرنسوية من الانموذجات التي تحتذي والأمثلة التي ينسج عنها. يرى المسيو بولسان وهو من مشاهير المؤرخين في علم التربية ومن أرباب التأثير أن فرنسا الكاثوليكية إن رأت اضطرارها إلى تأسيس مدرسة عامية حرة لتكون متشبعة بالروح الوطنية فإن هذه الضرورة لم توجد لحسن الطالع عند الألمان لأنهم اعتادوا مجاراة للنشوء الديني أن يوفقوا بين العلم والدين والمعرفة والإيمان ولهم من التوراة اداة لا مثيل لها من التربية الأدبية لا تغني عنها أجمل الشذرات المنتخبة من كتب الآداب العامة. إذا فلا مانع الأساتذة من احتفاظهم بالتعليم الديني والتوارة وإن يعدوا عقول النابتة الألمانية لتعليمها مبادئ النصرانية التاريخية مشذبة من صبغتها الدينية مقتصراً على مافيها من لباب الآداب. اما أنا فلا اعجب مما يذهب إليه العالم المشار إليه من هذا التوفيق إذا كان هوالمقبول بين أهل الطبقة الوسطى في البلاد أكثر من المذهب المتطرف الذي ينبذ من المدرسة كل تعليم ديني. فالتعليم العام على هذا الوجه بتحرر من قيوده كما أنه يكون أكثر انصباغاً بالصبغة الديمقراطية. ولقد كان التعليم في ألمانيا بادئ بدء مقصوراً على طائفة خاصة من الناس ثم صار تعليماً اكليريكياً في القرون الوسطى ثم عالياً وارستقراطياً على عهد النهضة (سنة 1453) إلى القرن الثامن عشر ثم أصبح مدنياً بامتتزاجه بفلفسة إنكار الوحي والانصياع بصبغة

الحضارة اليونانية فساغ بذلك لأهل الطبقة المتحضرة. ومن الألمان أن يرأسوا الحركة العقلية. وفي القرن التاسع عشر اقتربت ألمانيا شيئاً مما كانت ترمي إليه من التهذيب الوطني الذي نادى به فيختي فيخطبه للامة الألمانية. زالت الحواجز التي كانت تحول دون اصناف التعليم ولم تبق اللغة اللاتينة لغة إجبارية لكل من أراد التهذيب العالي. وانتزع من المدرسة المدنية على التدريج ما كان لها سابقاً من صبغة مدرسة لاتينية وكان من النجاح الذي تم للمدارس الابتدائية او قرب بينها وبين المدارس الثانوية وإن قلت على التوالي مسافة الخلاف بين الأساتذة الذين تخرجوا في المدارس الدينية وبين الأساتذة الذين تلقوا التعليم العلمي لاسيما وأن التعليم على اختلاف درجاته أصبح يلبس ثوب العمل والحقائق. وكان تعليم الطبقات العالية في المجتمع الألماني في أواخر القرن الثامن عشر عبارة عن تحسين الذوق والأدب فخلف هذا التعليم في أوائل القرن التاسع عشر التعليم الأدبي. وقد رأينا النشوء نحو الفلسفة الحسية الذي تم بين الطبقات المستنيرة وكان من أمر هذا النشوء بالطبع رد فعل في معاهد التعليم فغدا التعليم على اختلاف درجاته أكثر تشبعاً بالروح الأدبية أو الفلسفية وأقل تمسكاً بالنظريات. وقامت بجانب المدرسة الأدبية مدارس احدث من مدارس الفلسفة الحقيقية والحسية وزادت العناية بتعليم العلوم واللغات الحية فكانت وافية بحاجات أهل المدن الصناعية أو التجارية ونشأت بالقرب من الكليات في كل مكان مجامع علمية ما زالت على ارتقاء ونماء. وهكذا أخذ يتداعى الحاجزالقديم الذي كان قائماً بين المتعلم في القديم العلوم الأدبية واللغوية والأمي الذي لم يكن وأحداً للكل بل يحق لكل فرد أن يأخذ منه بقدر ما تسمح له قواه الطبيعية والعقلية محل التهذيب الأدبي واللغوي الخاص بعلية القوم وأهل الطبقة المستنيرة منهم. وعلى الجملة فقد عملت ألمانيا في خلال القرن الماضي بهمة لم تعرف الوناء في سبيل نشر العلم بين جميع أبنائها والاشك أن حماستها في ميدان المدارس اختلفت صعوداً وهبوطاً في تلك الحقبة من الزمن. فكانت شديدة للغاية في خلال الثلث الأول من القرن الذي وضعت فيه أسس تنظيم التعليم العام من المدرسة الابتدائية إلى الكليات ثم بردت في خلال الثلث الثاني من نالقرن خاصة فكانت حكومات ألمانيا على عهد الثورة بين سنتي 1830و 1870 يحذرون بل يعادين التعليم العام ولكنه عادت إليه حياته غداة الغلبة التي

كتبت لبريوسيا وتوطيد كلمة الأمبراطورية. وقد جرى بين الناس جرى المثل بأن المعلم الألماني كان هو الظافر الحقيقي في معركتي سادوفا وسيدان وأن الغلبة ألمانيا اتتها في الحقيقة من سر تقدمها في مضمار العلم والتهذيب. لا جرم أنه بدرت اليوم بوادر الشك في فضيلة تأثير حالة تشبه الحالة التي دفعت أرباب الأفكار عندنا (الفرنسيون) ان يطالبوا باسقاط العلم وتفليسه فأثبتوا والسويداء متغلبة على عقولهم بأن العلم الذي يرجى أن يكون منه كشف اسرار ما في الكون وأن يأخذ بايدي الأخذين من معينة فيقودهم إلى وجهة عامة ويسوق أرادتهم سوقاً لم يؤد قط إلى حقائق قطعية مطلقة. بلى كان من منافعه أن حل بعض المعضلات حلاً قليلاً موقتاً لا يزال على الدهر موضع النظر والتنقيح. وكثير في الناس من شعروا دفعة واحدة بان قد انتهكت قوأهم بما يقضى عليهم تعلمه من المعارف الكثيرة التي تؤهلهم إلى الأحاطة بعض الشيء في دائرة من دوائر العلم ولذلك يئسوا او كادوا من هذه الحالة التي توشك أن تكون مستديمة لهذا النشوء الذي لا حد له وتستلزمه دواعي العلم. وربما ظهر اليوم ما كان يخالج افئدة الطبقة الخاصة وبعض أهل الطبقة الوسطى من سوء الظن لتستقبل الذي استحكم منها حوالي منتصف القرن. وتتساءل الحكومة فيما إذا كانت لم تسرف في بث التعليم بين طبقات الأمة وفيما إذا لم يكن التعليم نقمة لا نعمة على قسم عظيم من الأمة وفيما إذا كان لا تتعذر أرادة شؤون امة نالت من التعليم شطره او نصفه. وقد ساعد القلق الذي سببه النجاح الاشتراكية على نشر هذه الشكوك بين أناس كانوا منذ عهد غير بعيد مقاومين كل المقاومة بل مقتنعين كل الاقتناع بانه من الفروض العينية على الحكومة أن تبذل العلم وتنشره بين جميع رعاياها. وقد ظل الرأي المعتدل موقناً على الجملة كما قال المسيو بولسان بانه لا تحرز المكانة العليا في الجهاد العام نحو التفوق والسلطة الا الأمم التي تحسن أن تضمن لفتيانها تعليماً متيناً وتهذيباًَ راسخاً بما تنظمه من المدارس المتقنة وما تكونه من البيوت الناحجة من حيث شؤونها الاقتصادية والسالمة من شوائب المفاسد الأخلاقية. ويرى العارفون أن تأويل الارتقاء الذي قامت به ألمانيا أتى من اسرع الألمان قبل جميع الأمم في وضع التعليم الإجباري قبل غيرهم ومن عنايتها بتخريج أساتذة عارفين ما امكن

في جميع فروع التعليم. ويستنتجون من ذلك بان جهل السواد الأعظم من الأمة لا يتأتى أن يكون البتة ضماناً لراحة مملكة وبقائها وأن الطاهر من مصلحة الحكومة الملوكية انها تطلب تفإني الحكومة في نشر التعليم وأن المستقبل مضمون للأمم التي تحسن أكثر من غيرها حل مشكلة التعليم الوطني.

صحف منسية

صحف منسية وصف عاصمة الأندلس قال لسأن الدين بن الخطيب في (كتاب الأحاطة في أخبار غرناطة) عند ما ألم باسم هذه المدينة ووضعها ووصفها الجغرافي ما نصه: وبردها لذلك من المنقب الشتوي شديد وتجمد بسببه الادهان والمائعات ويتراكم بساحاتها الثلج في بعض السنين فجسوم أهلها بصحة الهواء صلبة وسحناتهم خشنهة وهضومهم قوية ونفوسهم لمكان الحر الغريزي جريئة وهي دار منعة وكرسي ملك ومقام حصانة. وكان ابن غانية يقول للمرابطين في مرموته وقد عول عليها للامتساك بدعوتهم (الأندلس درقة وغرناطة قبضتها فإذا تجشمتم يا معشر المرابطين القبضة لم تخرج الدرقة من ايديكم) ومن ابدع ما قيل في الاعتذار عن شدة بردها مما هو غريب في معناه قول القاضي أبي بكر بن شبرين رعى الله من غرناطة متبوا ... يسر كئيباً او يجير طريدا تبرم منها صاحبي عند ما رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا هي الثغر صأن الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودا وقال الرازي عند ذكر كورة البيرة: أن ارضها سقي غزيرة الأنهار كثيرة الثمار ملتفة الأشجار وأكثرها ادواح الجوز ويحسن فيها قصب السكر ولها معادن جوهرية من ذهب وفضة ورصاص وحديد وكورة البيرة أشرف الكور نزلها جند دمشق. . . وفحصها لا يشبه بشيء من بقاع الأرض طيباً ولا شرفاً الا بالغوطة غوطة دمشقز وقال بعض المؤرخين بعد أن عدد نباتاتها ومعادنها: وكفى بالحرير الذي فضلت به فجراً وقنية وغلة شريفة وفائدة عظيمة تمتاز منها البلاد وتجلبة الرفاق فضيلة لا يشاركه فيها الا بالبلاد العراقية وفحصها الافيح المشبه بالغوطة الدمشقية حديث الركاب وسمر الليالي قد دحاه الله في بسيط سهل تخترقه المذانب (مسيل الماء إلى الأرض) وتتخلله الأنهار والجدأول وتتزاحم فيه الغرف والجناحات في ذرع أربعين تنبو العين فيها عن وجهه. . . وبعد أن فصل المؤلف كتابه إلى فصول كثيرة وأتى على ذكر ما آل إليه حال من ساكن المسلمين بغرناطة من النصاري وما ينسب لهذه الكورة من الاقاليم التي نزلها العرب وما

اشتمل عليه خارج المدينة من القرى والجنات والجهات قال في احضاء بيوتها: وتذهب هذه الغروس المغروسة قبلة ثم يفيض تيارها إلى غرب المدينة وقد كثرت بها الجبال الشاهقة والسفوح العريضة والبطون الممتدة والاغوار الخائفة مكللة بالأعناب غاصة بالادواح متزاحمة بالبيوت والابراج بلغ إلى هذا العهد عدها في ديوان الحرص إلى ما يناهز أربعة عشر الفا نقلت ذلك من خط من يشار إليه في هذه الوضيعة. وقال في فصل آخر: ويحيط بما خلف السور من المباني والجنات في سهل المدينة العقار الثمن العظيم الفائدة المتعاقب الغلة الذي لا يعزفه الحمام ولا يفارق الزرع من الأرض البيضاء ينتهي ثمن المرجع منها إلى خمسة وعشرين ديناراً من الذهب العين لهذا العهد فيه مستخلص السلطان مايضيق عنه نطاق القيمة ذرعاً وغبطة وانتطاماً يرجع إلى دور ناجمة وبروج سامية وبيادر فسيحة ومصاب للحمائم والدواجن ماثلة منها في طوق البلد وحمى سورها جملة. . . إلى أن يقول بعد ذكر القرى والدساكر: أن أكثر هذه القرى امصار فيها ما يناهز خمسين خطبة تنصب فيها لله المنابر وترفع الايدي وتتوجه الوجوه. وجملة المراجع العلية المرتفعة فيها في الأزمنة في العام بتقريب ومعظمها السقيا الغبيط (اغبط النبات غطى الأرض وكثف وتدانى كانه من حبة واحدة) السمين الغالي ما ينيف على اثنين وستين الفا وينضاف إلى ذلك مراجع الأملاك السلطانية ومواضع احباس المساجد وسبل الخير ما ينيف على ما ذكر فيكون المجموع باحتياط خمسمائة الف وستين الفا والمستفاد فيها من الطعام المختلف المجلوب للجانب السلطاني ثلاثمائة الف قدح ويزيد ويشتمل سوادها وما وراءه من الارحاء الطاحنة بالماء ما ينيف على مائة وثلاثين رحى الحقها جناح الأمنة ولا قطع عنها مادة الرحمة بفضله وكرمه. وقال في وصف أخلاق أهل ذاك القطر وعاداتهم وملابسهم: فتبصرهم في المساجد أيام الجمع كانهم الازهار المفتتحة في البطاح الكريمة تحت الاهوية المعتدلة. وذكر أصولهم وانسابهم وجندهم واسلحتهم ثم قال: وأعيادهم حسنة مائلة إلى الاقتصاد والغنى بمدينتهم فاش حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيراً من الأحداث كالخفافين ومثلهم واشار إلى طعامهم وفواكههم وصرفهم (سكتهم) فقال ما نصه: وعادة أهل هذه المدينة الانتقال إلى حلل العصير اوإن إدراكه بما تشتمل عليه دورهم والبروز إلى الفحوص بأولادهم وعيالهم

معولين في ذلك على شهامتهم واسلحتهم على اكتاد دوابهم واتصال امصارهم بحدود ارضه. وحليهم في القلائد والدمالج والشنوف والخلاخل الذهب الخالص إلى هذا العهد في اوالي الجدة واللجين في كثير من آلة الرجلين فيمن عدأهم والأحجار النفسية من الياقوت والزبرجد والزمرد ونفيس جوهر كثير ممن ترتفع طبقاتهم المستندة إلى ظل دولة او اصالة معروفة موقرة. وحريمهم حريم جميل موصوف بالحسن وتنعم الجسوم واسترسال الشعور ونقاء الثغور وطيب النشر وخفة الحركات ونبل الكلام وحسن المجاورة إلا أن الطول يندر فيهن وقد يبلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد والمظاهرة بين المصبغات والتنافس بالذهبيات والذيباجيات والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر ويكف كف الغدر ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة وأن يعامل جميع من بها بستره ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته. وصف لسأن الدين امة ملك قشتالة فقال: وحال هذه الأمة غريبة في الحماية الممزوجة بالوفاء والرقة والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمية عادة العرب الأول وأخبارهم في القتال غريبة من الاسترجال والزحف على الاقدام أميرهم ومأمورهم والجثو في الأرض أو الدفن في التراب والاستظهار في حال المحاربة بعض الالحان المهيجة ورماتهم قسيهم عربية جافية وكلهم في دروع ولا لجام عندهم والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم وعار شنيع ورماتهم يسبقون الخيل في الطراد وحالهم في باب التحلي بالجواهر وكثرة آلات الفضة غريب.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الأحاطة في أخبار غرناطة قل في كتب الأدب والتاريخ ما ينتفع به مطالعه في أمور كثيرة بقلة الجيد منها وذلك لأن المصنفات كالبضائع فيها الجيد وفيها الرديء والمصنفين اصناف فقسم يؤلف وقد تمت ادواته وتشبع بما يود الحوض فيه فلا يكتب الا الثمين النافع وقسم بين ذلك وقسم يخلط ويخبط لاهوى له إلا في ذكر اسمه وحشر نفسه في عداد المصنفين. وصاحب كتاب الأحاطة في أخبار غرناطة هو من أهل الصنف الأول ما كتب كتأبا الا عن فكر وروية وناهيك بما يصدر من نفثات ابن الخطيب حسنة الأندلس ونابغة عصره بل كثير من العصور قبله وبعده. وفقت شركة طبع الكتب العربية بمصر إلى نشر الجزئين الأولين من هذا الكتاب واوفقت طبع الثالث لكثرة التجريف الذي وجدته فيه بحيث يتعذر على القارئ كشف وجه الحقيقةمنه. ولئن وقع في هذين الجزئين اغلاط وتحريفات التبس بها الحق بالباطل وكأنت العناية تقضي استثبات صحتها وإرجاعها إلى نصابها لو امكن فإن هذا التهاون يغتفر في جانب تلك الذخيرة التي نبشوها ونشروها وهي ولا جرم من بعض ما يعمر به بناء الشعر والنثر ولسأن الدين حجة فيهما قاطعة. وأن لنا ريبة في كون هاته المجلدات الثلاث هي كل ماكتبه المؤلف في رجال عاصمته وعبارة صاحب نفح الطيب تساعد على هذا الشك. قال: ان كتاب الأحاطة هن الطائر الصيت بالمشرق والمغرب والمشارقة أشد إعجاباً به من المغاربة او أكثر بهجاً بذكره مع قلته في هذه البلاد المشرقية وقد اعتنى باختصاره الأديب الشهير البدر البشتكي وسماه مركز الأحاطة في أدباء غرناطة وهو في مجلدين سنة 793 وقد جعل كل أربعة أجزاء من الأصل في مجلد اذ هو في مجلدين ونسخة الأصل في ثمان مجلدات. وقف سلطأن الأندلس نسخة منه على بعض مدارس غرناطة وكانت في اثني عشر سفراً متقنة الخط والعمل وكان لسأن الدين ارسل في حياته نسخة من الأحاطة إلى مصر وقفها على أهل العلم وجعل مقرها بخانقاه سعيد السعداء قال المقري وقد رأيت المجلد الرابع منها وكان في ثمانية أجزاء ورأيت بظهر أول ورقة من هذه النسخة خطوط جماعة من العلماء وعلمت أن

المكتوب في الوقفية ثمان مجلدات لا اثني عشر فلعل ذلك الاختلاف بسبب الكبر والصغر. قلت وهذه العبارة كتبت بعد الالف. وكيفما كانت حال الكتاب كبراً وصغراً فقد اخرج إلى عالم المطبوعات نموذجات من نثر لسان الدين وشعره ونثر جماعة من أصحابه وشعرهم. ابتدأ الجزء الأول بوصف جغرافية الأندلس الطبيعية والسياسية والاسيما عاصمتها بحيث يتراءى لك متى قرأته أن الكابت عصري نشأ في حجر حضارة هذا القرن. للسأن الدين نمط خاص به في الإنشاء وتعبيرات لا تجدها لغيره من كتاب المغرب المشرق تتمثل في كلامه روحاً عالية ولفظاً شفافاً ومعنى جزلاً. وما كان نسقه ليرضى كل الرضى لو لم يكن يغوص على بدائع المعاني التي يميلها عليه اشمئزازه من محيطه وتقززه من خدمة دولته حتى كان يدعو أن يلطف الله بمن اتبلى بذلك وأن يخلصه خلاصاً جميلاً. وكيف لا تدفعه حميته إلى القول وقد استولى العدو في أيامه على معظم قواعد الأندلس مثل إشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والمرية ولسأن الدين يستصرخ وزعماء السلطة في لهوهم وغرورهم مسترسلون. ولئن خاطبهم (دون الجهر من القول لمكان التقية) فما تجار ممن يرميه بالزندقة ايضا في كتابه هذا لأن لسأن الدين املاه بلسان الانصاف والانطلاق فعز على نظرائه خروجه عن مألوف العادة في ذكر تراجم الناس حتى يخيل اليك انهم كلهم كأسنأن المشط في الاستواء. تقرأ الترجمة في الأحاطة وهو في تراجم الرجال الذين نشأوا فيها او مروا بها وبعبارة أخرى هو تاريخ الأندلس ورجالها فيتجلى لك المترجم به كانك تراه وما اظن أن كتاب التراجم من الإفرنج اليوم باقدر على وصف رجالهم من صاحبنا لسأن الدين ولا عجب فهو اوروبي ايضا غدي تلك التربة المسكية والهواء الصافي والماء العذب وللبقاع تأثير في الطباع وما المرء الا نسخة ثانية من محيطه وبيته. ولم يقتصر المؤلف كتابه على ذكر الملوك والرؤساء والفقهاء وأهل الطرق كما هي عادة معظم المؤرخين بل ذكر كثيراً ممن غلبت عليهم المعارف الدنيوية مثل أبي القاسم اصبغ بن محمد (426) احد مفاخر الأندلس قال وكان محققاً لعلم العدد والهندسة مقدماً في علم الهيئة والفلك والنجوم وكانت له مع ذلك عناية بالطب وذكر تآليفه على عادته في اثبات حسنات المترجمين وسيئاتهم. ومثل أبي على الصعلعل حسن بن محمد رئيس الموقتين

بالمسجد الأعظم من غرناطة (716) وكان فقيهاً أماماً في علم الحساب الهيئة أخذ عنه الجلة والنبهاء قائماً على الاطلال والرخائم والالات الشعاعية ماهراً في التعديل مع التزام السنة والوقوف عند حد العلماء في ذلك مداوم النظر ذا استنباطات ومستدراكات وتواليف نسيج وحده ورجعه وقته. ومثل أبي جعفر احمد بن الحسن بن باضة السلمي الموقت بالمسجد الأعظم بغرناطة قال وكان نسيج وحده وقريع دهره معرفة بالهيئة وأحكاماً للآلة الفلكية ينحت منها بيده ذخائر يقف عندها النظير والحبرة جمال خط واستواء صنعة وصحة وضع بلغ في ذلك درجة عالية ونال غاية بعيدة حتى فضل بما ينسب إليه من ذلك كثيراً من الاعلام المتقدمين وازرت آلة بالحمائريات والصفاريات وغيرها من آلات المحكمين وتغإلى الناس في يأثمانها أخذ ذلك عن والده الشيخ المتفنن شيخ الجماعة في هذا الفن. ومثل أبي العباس احمد ابن مفرج الأموي النباتي المشهور ومن ضارعهم في علمهم من الأطباء والفلاسفة والحكماء والكيماويين ممن لا يعدهم أكثر المؤرخين في صنف العلماء. وذكر شهيرات النساء في عصره مثل نزهون بنت القلاعي وام الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطبحالي وحمدة بنت زياد المكتبي وحفصة بنت الركوني وغيرهن من نالأديبات وتجوز في إيراد بعض مجالسهن مع أدباء الأندلس وما كان في ذلك بأس في عصره. والكلام على الجزء الثاني لا يخرج عن حد الكلام على الجزء الأول وإن كان في الثاني يطول في بعض التراجم كأطالته في ترجمة أبي عبيد الله محمد القرشي التلمساني فإنه كتب تسعاً وعشرين صفحة بين شيوخه ونثره ونظمه ونكته مما اخرجه عن الصدد وكذلك ترجمة ابن زمرك احد اعيان أدباء الأندلس كتب فيه عشرين صفحة وقيل أن ابن زمرك كان يعد من جملة الساعين بنكبة ابن الخطيب. وقد يحمل المؤلف الحنق فيطلق عنان القلم في ترجمة الكبراء أيضاً كنا وصف اسماعيل بن يوسف بن اسماعيل بن فرج بن نصر السلطان الذي احتال على اخيه المتوثب على ملكه ومثل ما ترجم به محمد بن اسماعيل بن محمد بن فرج بن اسماعيل بن نصر الرئيس المتوثب على الملك على كرسيه الأمارة ووزراء دولته وكاتب سره وشيخ الغزاة على عهده. وقد عثرت فيه على ألفاظ ما كان يخيل لي أن الأندلسيين سبقونا إلى استعماله مثل طومارة للبطاقة وفي القاموس الطأمور

والطوأما الصحيفة ج طوأمير. ولفظه الممطر لما يعرفه الفرنسيس بالباردسو ذاك الرداء الطويل. واستعمل لفظة عائلة التي أنكرها احد علماء اللغة المعاصرين فقال في ترجمة احدهم: عظيم الهشة مبذول البشر عظيم المشاركة قديم العائلة. ووردت لفظة يخت في الشعر الأندلس وكنا نظنها من قبل إنكليزية ففي قصيدة لمحمد بن جزي الكلبي: نعم لست ارضى عن زماني اوأرى ... مكاناً به السفن المواخر واليخت الزجل وتاريخ الدول للسأن الدين الخطيب كتاب سماه رقم الحلل في نظم الدول طبع في تونس نظم فيه ملوك المسلمين من لدن صاحب الرسالة (ص) إلى القرن الثامن كل دولة على حدتها نظماً رائعاًٍ ليس فيه للتكليف شائبة وعلق على كل دولة شرحاً لطيفاً ضمنه ما ساعد عليه الاختصار من أخبار الملوك وأحوال اممهم ووزارائهم. وفي هذا المختصر من الحقائق مالا يكاد يوجد إلا في المطولات وخصوصاً في أخبار دول المغرب كبين الاغلب وملوك الشيعة من العبيد بين بأفريقية ومصر وبني امية بالأندلس وملوك الطائف فيها ودولة المرابطين من لمتونه أهل اللثام والموحدين ودولة بني أبي حفص بأفريقية وبني زيان بتلمسان وبني مرين وبني نصر وهاك نموذجاً منه في وصف ملك المأمون وهو المليك العالم الحليم ... ساعده السعد بما يروم من بعد ما كابد أمر عمه ... وفرج الله من غمه فقر المأمون ملك الأمة ... بعد اضطراب دائم وغمه واشرق السعد على الخلافة ... وانسدل الا من بلا مخافة وكان حبراً عالماً حكيماً ... عدلاً تقياً حازماً حليماً وثار إبرأهيمنجل المهدي ... وناله قسراً بغير عهد فأثر العفو واغضى عن دمه ... منقبة شاهدة بكرمه ومات في غزواته المعلومة ... كانت بها أعماله مختومة معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار هي رسالة طبعت حديثاً في فاس بمطبعة الدكتور احمد يمني أفندي لسانها لمؤلفها لسان الدين بن الخطيب جاءت في 54 صفحة في أحمل حرف واجود ورق ولم تنقصها الا

العناية بالتصحيح. وصف فيها المؤلف على طريقة السجع المنمق معظم بلاد المغرب والأندلس وصف متقيد بالسجع على طريقة السؤال والجواب فذكر جبل الفتح واسطبونه ومربلة وسهيل ومالقة وبلش وغمارش والمنقب وشلوبانة وبرجة ودلاية والمرية وبطرنش وبيرة ومحاقر وقتورية وبرشانة واوربة وبلش وبسطة واشكر واندرش وشبالش ومدينة وادي آش وفتيانة والحمة وصالحة وانيرة ومنتفريد ولوشة وارجلانة والنتقيرة ودكوان وقرطمة ورندة وسبتة وطنجة وقصر كتامة واصيلا وسلا وآنفا وآزمور وتيط ورباط اسفي مراكش واغماه ومكناسة وفاساً ومدينة الملك وأمر سلوين وتازا وغساسة فما قاله في وصف فاس: هي الحشر الأول والقطب الذي عليه المعول والكتاب الذي لا يتأول بل المدارك والمدارس والمشايخ والفهارس وديوان الراجل والفارس والباب الجامع من موطأ المرأفق ولواء الملك الخأفق وتنور الماء الدأفق ومحشر المؤمن والمنأفق وسوق الكاسد والنأفق حيث البنى التي نظر إليها عطارد فاستجفاها وخاف عليها الوجود أن يصيبها بعينه الحسود فسترها بالغور واخفاها والأسواق التي ثمرات كل شيء إليها قد جبيت والموارد التي اختصت وحببت المنارة المخطوبة وصفاح الخلج المشطوبة والغدر التي منها ابو طوبة بلد اعارته الحمامة طوقها ... وكساها ريش جناحها الطاوس فكانما الأنهار فيه مدامة ... وكان ساحات الديار كؤوس اجتمع بها ما أولده سام وحام. وعظم الالتئام والالتحام. فلا يعدم في مساكنها زحام فأحجارها طاحنة. ومخابزها شاحنة. والسنتها باللغات المختلفة لاحنة. ومكاتبها هائجة ورحابها متهائجة واوقافها جارية والهمم فيها إلى الحسنات واضدادها متبارية. وقال في آنفا وهي التي سماها إلبرتغاليون في القرن السادس عشر الدار البيضاء: جون الحط والأقلاع ومجلب السلاع تهوي إليها السفن شارغة وتبتدرها مسارعة تصارف برها الذهب بالذهب الابريز وتراوح برها وتغاديه بالتبريز. تسقط الطير حيث يلتقط الح ... ب وتغشى منازل الكرماء وخارجها يفضل كل خارجة. وقانصها يجمع بين طائر ودارج. وفواكها طيبة. وامطارها عصيرها صيبة. وكيلها وافر. وسعرها عن وجه الرخاء سافر. وحبرتها لا تنقطع لها خف

ولا حافر. ولكن هواؤها وماؤها عديما الصحة. والعرب عليها في الفتن ملحة. والأمراض بها تعبث وتعبث. والخزي بها لايلبث. صفوة العرفإن في تفسير القرآن اهدانا محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة نسخة من مقدمة تفسيره هذا أتى فيها على موجز من فلسفة الأديان وادوار الإنسأن في الاستسلام للعقيدة أو التردد فيها وعلاقة ذلك بالجهل والعلم ولحضارة والبداوة وذكر فصولاً في الوحي والنبوات وخوارق العادات والشؤون الروحية وتاريخ القرآن من حيث وحيه وجمعه وترتيبه وناسخة ومنسوخة وتعدد قراآنة كل ذلك بعبارة سهلة تدل على فضل المؤلف وقد استشهد بآراء علماء المشرقيات في الكتاب العزيز وأهل الإسلام فزادت بذلك فائدة هذه المقدمة التي وقعت في 181 صفحة كبيرة فنهنئة على نشاطه الذي يرينا كل حين أثرا من أثاره. ومما عربه عن المسيو جول لابوم في مقدمته فهرسته الذي جمع فيه الآيات المتشابهات قوله في حالة العالم قبل البعثة النبوية (كان جو العالم في حوالي ميلاد محمد (ص) في القرن السادس الميلادي متلبداً بغيوم الاضطربات والفتن فكان شعب الوزير يغو آلاريون في اسبانيا وفرنسا الجنوبية يصادقون الملك كلوفيس وأولاده الكاثوليكيين فكانوا من أجل ذلك يطلبون مساعدة امبرطور مملكة الرومأن الشرقية المدعو جوتسنيانس ثم اضطروا إلى الدخول معه في حروب جديدة تخلصاًمن سلطة القواد الذين جاؤوهم تلك المساعة فقد كانوا يزعمون أن لهم حق الفاتحين لا ولاء المحامين اما في فرنسا نفسها فكان أولاد كلوفيس هذا متغادرين متقاتلين وكأنت الحروب التي شبت نيرانها بين الملكة الوزيغوتية برونهو والملكة الفرنكية فيريد يجوند تهيء للتاريخ أشد الصحائف أثارة للاسى والكمد. وكان الانجلو في إنكلترا ينازعون السكسونين الأرض التي احتلوها واستعبدوا فيها ذرية كيمريس وهم اقدم المغيرين على تلك الجزيرة التي تتطلع اليوم للوقوف في مقدمة الأمم علماً وصناعة وقوة وهي التي كانت في ذلك الوقت مجالاً للقوة الوحشية السائدة في تلك الغياهب الحالكة. (اما في إيطاليا فكان اسم الرومان وهو ذلك الاسم الشامخ قد فقد موقعه القديم وكانت رومية وهي الشظية الأخيرة او رأس ذلك التمثال الكبير المتهشم (يعني مملكة الرومان) في حالة

تمللها من استحالة أمرها إلى مركز ديني بسيط ترتج وتضطرب كلما الم بها طائف من ذكرى عظمتها القديمة أيام كانت مركزأً دينياً أصلياً فكانت تهيء نفسها لان تكون مركز البابوية وهي تلك السلطة الزمنية كما اقتضت سياسة شارلمان أن يجعلها كذلك بعد قرنين من الزمان ولكنها مع ذلك لم يسعها حمل نير الهيروليين والاستروغوتيين وامبراطورية المملكة الرومانية واللومبارديين الذين تدأولوا السلطة عليها تدأولاً. (اما مملكة اليونأن التي كانت قد نسيت مجدها القديم فكانت تابعة لمملكة الرومأن الشرقية مثلها منها كمثل الزينة ذات الضوضاء. وكان شرق أوروبا مقلقاً جنوبها من أول مصب نهر الرون من جهة الغرب إلى مصب نهر الطونة (الدانوب) من جهة الشرق فكان الأسكندينافيون والنروجيون والدانيماركيون يتزاحمون في الطريق الذي كان سلكه الغوط والهونيون الذين احتلوا تراسيا ومكدونية ولمبارديا وإيطاليا بالقوة او بالخديعة. في ذلك الوقت بدأ ظهور الاتراك من اعماق آسيا الصغرى وهي تلك الأمة التي قصرت فيما بعد مملكة اليونان على اسوار القسطنطينية. (التصوير البديع الذي جادت به قريحة المسيورينأن لبيان مركز الأمبراطورية الرومانية في القرن الأول من التاريخ المسيحي لا علاقة له البته بالتصوير الممكن عمله لتجلية حال أوروبا في القرن السادس: تلك كانت مفاسد قيصيرية مختمرة اما هذه الوحشية حربية تلعب بالارواح وتتمرغ في الاوحال. (اما آسيا فلم تكن اهدأ بالاًً من أوروبا في شيء: فمملكة التبت والهند التي اقتبست منها الأمم السائدة في أوروبا الآن قرائحها وأفكارها العامة ولغاتها. والصين التي بعد مسألتها اغرب المسائل السياسة والفلسفية وبالجملة اغرب المسائل الاجتماعية كانت كلها ممزقة الاحشاء بالحروب الداخلية والخارجية المتضاعفة بالمنازعات الدينية. (أما السفح الشمالي من الهضبة الآسياوية العالية التي هي في حوزة روسيا الأن فكانت غير معروفة على الاطلاق واما مملكة الفرس التي كانت أحوالها مرتبطة بأحوال الغرب خصوصاً من لدن حملة الأسكندر المقدوني فكانت مشتبكة في حرب مع اليونأن الرومانيون في القسطنطينية الذين كانوا أصحاب السلطة على آسيا الغربية. واما في أفريقيا فكان هؤلاء اليونأن الرومانيون انفسهم وهم اخلاط من عساكر وتجار وحكام

مجموعين من آفاق مختلفة - دائبين امتصاص دم القطر المصري وعاملين على جعل مصر العلمية ذات المجد القديم كالجثة المصبرة لا حركة فيها ولا حس وكان هذا شأنهم في الاقاليم الخصبة يومئذ في الجهات الشمالية من أفريقيا التي انتزعوها من ايدي الفنداليين. كتاب الحيوان لا مجال هنا للكلام على هذا الكتاب الجليل الذي احياه بالطبع محمد أفندي الساسي المغربي كما احيا كثيراً من كتب مؤلفه الجاحظ والمدونة للأمام مالك وغير ذلك بعد أن تكلمنا في المجد الأول في فضل الجاحظ ومزية كتبه بما لا نرى الأن في اعادته كبير أمر أما الأن فنزف البشري إلى عشاق العلم والأدب أن قد تم الجزء الخامس والسادس والسابع من كتاب الحيوان وبه تم هذا السفر البديع الذي لم ينسج كاتب على منواله ولا سمحت قريحة بمثاله فتمت بذلك فائدة جعبة علم وأدب بل خزانة كلها منافع حيثما قلبت طرفك منها تسقط على ما تقر به عينك وتشرح به صدرك وتحلي به عقلك وها نحن أولاء ننقل هنا للتسلية فائدة تأخذها بالعرض من ألوف الفوائد في اسماء لعب الاعراب قال الجاحظ: النقيرا وعظيم وضاح والخطوة والدارة والشحمة ولعبة الضب فالنقيرا أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى اسفله ثم يقول لصاحبه اشته في نفسك فيصيب ويخطئ. وعظيم وضاح أن تأخذ بالليل عظماً أبيض ثم يرمي به واحد من الفريقين فإن وجده واحد من الفريقين ركب أصحابه الفريق الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به. والخطوة أن يعلموا مخراقاَ ثم يرمي واحد منهم من خلفه إلى الفريق الآخر فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم فإن أخذوه ركبوهم. والدارة هي التي يقال لها الخراج. والشحمة أن يمضي واحد من أحد الفريقين بغلام فيتنحون ناحية ثم يقلبون ويستقبلهم الآخرون فإن منعوا الغلام حتى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه ويدفع الغلام إليهم وإن هم لم يمنعوه ركبوهم وهذا يكون كله في الليالي الصيف عن غب ربيع مخصب. ولعبة الضب أن يصوروا الضب في الأرض ثم يحول واحد من الفريقين وجهه ثم يضع بعضهم يده على شيئ من الضب فيقول الذي يحول وجهه انف الضب او عين الضب او ذيب الضب او كذا وكذا من الض على الولاء فإن أخطأ ما وضع عليه يده ركب وركب أصحابه وإن أصاب حول وجهه الذي كان وضع

يده على الضب ثم يصير هوالسائل. تقرير اللورد كرومر صدرت الترجمة العربية من تقرير معتمد إنكلترا في هذا القطر سابقاً عن الحالة المالية والادارة والحالة العامة في مصر وفي السودأن سنة 1906 مترجماً في ادارة المقطم ومطبوعاً في مطبعته وهذا آخر تقرير اللورد كرومر ضمنه حقائق كثيرة عن مصر والسودان وتكلم فيه كلام السياسي والاجتماعي الذي يخدم امته باللذات وغيرها بالعرض وجاء في 248 من قطع الثمن وبحرف كهذا الحرف. وقد سبق لنا نشر شيء منه عن حالة المعارف عند صدور النسخة الإفرنسية منذ بضعة أشهر وتقارير العميد السالف من خير الكتب الاجتماعيةى والاقتصادية في حياة مصر فهي حرية بأن لا تخلو منها مكتبة. نخب لغوركي سليم أفندي قبعين ممن اتقنوا اللغة الروسية وترجم بعض كتب لمشاهير كتابها منها كتاب حقوق المرأة في الإسلام وانجيل تولستوي ومذهب تولستوي وقد ترجم مقالات لمكسيم غوركي الكاتب الشاعر الاشتراكي الذي كان له أثر مهم في نهضة روسيا الأخيرة فاستفدنا منه الوقوف على اسلوب هذا الكاتب الذي رفعت امته قدره ورفع هو قدرها ومن لنا بعشرة ينقلون للعربية من الروسية والألمانية والايطالية ما يغنيها فإن من أعظم النقض في النهضة العلمية المصرية الحديثة أن لا يكون فيها تراجمه ينقلون الينا ما تمس إليه الحاجة من آداب تلك الأمم وأخلاقها وأثار عملهم لان ما يترامى الينا عن طريق الفرنسيس والإنكليز لا يساوي ما نأخذه عن تلك الأمم نفسها تهذيب الشبيبة السورية أخذنا التقرير السنوي الرابع لهذه الجمعية النبيلة المقصد وفيه خلاصة أعمالها من أول تموز سنة 1906 إلى مثله سنة 1907 فكان مجموع دخلها 19753 قرشاً ومجموع ما أنفقته 8035 قرشاً أنفقته على شبأن لا يستطيعون أن يتعملوا لضيق ذات يدهم وما زالت تنفق على بعض نابغة الذكاء. والقائمون بهذا العمل فئة من افاضل المتخرجين من المدرسة الكلية الأميركية جزأهم الله خيراً. حديث البلبل

هي محاورة أدبية خيالية وكلمات وعظية لمحمود أفندي رمزي وقعت في 48 صفحة صغيرة. الأبيض والاسود هي إحدى روايات فيكتور هوغو عربها لمسأمرات الشعب نقولا أفندي رزق الله بسلاسة تعريبة ونقله فنشرتها تتمة لسنتها الثالثة وقد اعلنت ادارة هذه المجلة القصصية الفريدة في بابها بانها ستصدر في سنتها الرابعة في 244 صفحة صغيرة مرتين في الشهر أي في 2880 صفحة في السنة وقد حسنت ورقها وطبعها وزادت قيمة اشتراكها إلى خمسين قرشا وهي همة تذكر لصاحبها خليل بك صادق الذي عرف ذوق الجمهور وخدمة بهذه الروايات الأدبية وقد صدر المعرب روايته بثلاث قصائد في وصف هوغو الأولى لاحمد بك شوقي والثانية لحافظ إبرأهيموالثالثة من نظمه وقد جاء في الأولى ثأر الملوك وظل عند ابائه ... يرجو ويؤمل عفوه المئثور واعار (وترلو) جلال يراعه ... فجلال ذاك السيف عنه قصير يا ايها البحر الذي غمر الثرى ... ومن الثرى حفر له وقبور أنت الحقيقة إن تحجب شخصها ... فلها على مرالزمان ظهور أرفع حداد العالمين وعد لهم ... كيما يعيد بائس وفقير وانظر إلى البؤساء نظرة راحم ... قد كأن يسعد جمعهم ويجير الحال باقية كما صورتها ... من عهد آدم ما بها تغيير البؤس والنعمى على حإليهما ... والحظ يعدل تارة ويجور ومن القوي على الضعيف سيطر ... ومن الغني على الفقير أمير والنفس عاكفة على شهواتها ... تأوي إلى احقادها وتثور والعيش آمال تجد ونتقضي ... والموت اصدق والحياة غرور ومما جاء في الثانية عاف في منفاه أن يدنوبه ... عفو ذاك العأهل المغتصب بشروه بالتداني ونسوا ... انه ذاك العصامي الأبي كتب المنفي سطراًً للذي ... جاءه بالعفو فاقرأ واعجب

ابريء عنه يعفو مذنب ... كيف تسدي العفو كف المذنب جاء والأحلام في اصفادها ... مالها في سجنها من مذهب طبع الظلم على اقفالها ... بلظاه خاتماً من ذهب وانبرى يصدع من اغلالها ... باليراع الحر لا بالقضب هاله أن لايراها مرة ... تمتطي في البحث متن الكوكب ساءه أن لا يرى في قومه ... سيرة الإسلام في عهد النبي قلت عن نفسك قولاً حكيماً ... لم تشبه شائبات الكذب انا كالنجم تبر وثرى ... فاطرحوا تبري وصونوا ذهبي وجاء في الثالثة الا هل أتى اقوامنا أن دولة ... تدول إذا ما شاعر قام منشدا اغار على رب السرير بشعره ... وضعضع ملكاً ظنه الناس سرمدا وكانت قوافيه جيوشاً تزودت ... حياة وموتاً للاحبة والعدى تولى بريد الدهرللناس نقلها ... وأنشدها في الخافقين مرددا ولم يبق في ارض الفرنسيس غير من ... يقر له بالفضل او يحفظ اليدا فعاد إلى اوطانه غير ناقم ... على غربة أولته ذكراً مؤبدا وإعلاء اقدار الرجال وخفضها ... اضل واشقى الشرق والغرب اسعدا الانتقام قصة بقلم ناصيف أفندي نقولاوس والغالب انها مترجمة وأن لم يذكر صاحبها ذلك وهي في 192 صفحة متوسطة وتطلب من مكتبة الهلال ومكتبة الشعب.

سير العلم

سير العلم حقيقةالسجن كتب السيد هاملتون من رجال ادارة سجن مقاطعة مشيغأن في الولايات المتحدة فصلا في (مجلة العالم الكبيرة) وصف فيه هذا السجن الذي هو مثال السجون الحقيقية التي يراد منها أن يجد الناس فيها ما يسيرون معه بعد مغادرتهم اياها على محور الاستقامة ويتركون ما الفوه مما يخالف ارتكابه القانون ويهدد اركان النظام والسلام ويجعلهم أعضاء اشلاء في جسيم الأمة قال: يقيم بين جدران هذا السجن سبعمائة نفس من اسواء سكان المقاطعة خلالاً وهم مع هذا يعاملون على الجملة بشفقة ولهم في سجنهم الحرية التامة. وبما أنهم يعودون الأخلاق الكريمة فمن الممكن أن يبلغوا ويسمموا بنفوسهم إلى مراتب الأمانة والاستقامة. ولا يسمح بجلد المذنبين في هذا السجن ويؤذن لهم بعد ظهر كل سبت بالتنزه احراراً مدة ساعة في ارض خضراء كثيرة الكلاء وإذ كان هذا الأمتياز الذي يناله المجرمون عرضة للالغاء إن نشأ عنه سواء فالمسجونون انفسهم يبالغون في الاحتراس من وقوع ما يؤخذ عليهم وعلى هذا فليس في السجن أكثر من ثلاثين حارساً وجميعهم لا يحملون بايديهم غير العصي فقط. ولا يسمح لهم بحمل اسلحة نارية داخل السجن وتعرف المسجونين بسيمأهم والبستهم فمن كان حسن الخلال يلبس رداء ازرق ومن لم يزل تحت التدريب على ذلك يلبس كسوة رمادية غير أن أولئك المذنبين الذين لم يصلحوا لقبول ذلك وقد جردوا من جميع الأمتيازات التي ينالها الآخرون فهم يلبسون اردية خاصة بهم مخططة. ويبقى السجين محبوساً ولا يطلق من سجنه حتى تصبح أخلاقه شفيعة بنيله ذلك. ويشترط قبل مبارحته السجن أن يتعرف إلى احد يتكفل بان يبحث له عن عمل يحترف به ويراقبه ويسوغ للسجناء أن يتكلموا في السجن في خلال عملهم ولايجوز لهم أن يضعوا في غرفهم آلات الطرب وتأتي في الغالب جمعيات التمثيل التي تزور المدينة إلى السجن فتمثل القصص على المسرح اللطيف الصغير الذي بناه المجرمون فيه. وهذه المعاملة بالشفقة والرحمة هي الوسيلة الوحيدة التي تتبع في هذا السجن من زمن قديم. ولقد شوهد أن التهذيب بالعنف والرهبة مهما سهل أمره فهو مضر للغاية ومميت لشعور من يعنى بتأديبه وتهذيبه.

انقراض الطيور ينقرض في الغالب كل سنة نوع او عدة أنواع من الحيوانات والطيور وهذا الانقراض أخذ في الزيادة والاسراع. وقد قال السيد ادورد فيفإن من مقال نشر في (جريدة شامبر) الإنكليزية إنه كان في جزيرة سانت توماس من جزر الهند الغربية أربعة عشر نوعاً من أنواع الطيور منذ قرن فإنقرض إلى الآن منها ثمانية أنواع ومكث في أفريقيا الغاغة حتى سنة 1875 ثم انقرض وانقرضت معه عدة أنواع من طيور أخرى. وبادت من جزائر المحيط الهندي عدة أنواع من طيور ثمينة القدر وقد انقرض الدود في القرن السابع عشر وغاب عن الانظار الجاموس الأميركاني تقريباً من أمريكيا الشمالية. فظائع الحرب انشأ السيد كارل شوروز مقالاً بليغاً في إحدى المجلات الإنكليزية تكلم فيه عن وقعة جتسبرج وقد رأينا أن ننشر شيئاً مما كتبه في وصف ما يراه الناظر يميدان أن القتال في اليوم الثاني لحدوث إحدى الوقائع قال: لا اقبح ولا ابشع من النظر إلى جثث القتلى في ساحة الحرب وقد لبثوا يوماً او أكثر قبل أن يذوقوا حتفهم عرضة لا شعة الشمس الحرقة والهواء الحار. وقد تنكرت سحنتهم فإنتفخت وجوههم وانصبغت بالسواد وبرزت اعينهم وصارت ثابتة في مكانها لا تتحرك وتبدلت هيئتهم حتى بعدوا عن أن يميزوا يعرفوا وقد انفرد بعضهم وبقي غيرهم مرتبين صفوفاً ووقع آخرون بعضهم على بعض فكانوا اكواماً. بدت على آخرين هيئة من يريد الراحة بالصلح وقد رفعت ايدي فريق منهم. وظهر آخرون في صورة الجلوس. وأخذ نفير يركعون. وبقي بعضهم ينبش الأرض باظفاره. وقد تشوه كثيرون تشوهاً منكراً بينا كأنت الحروب شديدة الوطيس وملك المنون يرفرف فوق الرؤوس. امتلأت الديار ومجالس الحيوانات والمزارع بالانين ووضعت النضائد في فضاء الأرض ومكث الجراحون واكمامهم مرفوعة إلى مرأفقهم. وسواعدهم المكشوفة وكذلك وزراتهم الكتانية مخضبة بالدماء وهم - الا قليلا - قابضون على اسلحتهم باسنانهم يبنا يكونون مهتمين بمداواة جريح راقد فوق المنضدة او على مكان آخر او تكون ايديهم مشتغلة بعمل وهناك من خلفهم برك الدماء وبجانبها اكوام من السواعد والارجل المقطوعة مما يزيد

ارتفاعه في بعض الاحيان عن قامة الإنسان! الجريح راقد على المنضدة وهو غالباً يصيح مما يقاسيه من الالم فيخفف إليه الجراح ويفحص بسرعة جرحه ثم يشرع في بتر العضو الذي يؤذيه ويشير إلى الخدم بالاستعداد لاحضار آخر. فيخرج سلاحه من (بين اسنانه) التي كان قابضا عليه بها حين كانت يداه مشغولة ويمسحه يخفة مرة او مرتين في (وزرته) الملطخة بالدم ثم يبدأ بالبتر. فإذا انتهى من عمله نظر إلى خلفه وتنهد كثيراً صادراً من اعماق فؤاده ثم نادى (غيره). . . . . ويلفت نظرك أن ترى الجراح - وقد مضى عليه زمن طويل وهو يشتغل - نازعاً سلاحه من يده قائلاً والدموع الغزيرة تنهمل من عينيه أنه لم يعمل عمله بثبات فإن يشاهده تعجز عن رؤيته طاقة البشر. وترى كثيرين ممن جرحوا من المجاهدين يتحملون الأمهم وهم سكوت بجلد وسكون وجبنهم متجعدة واعينهم دامية. ثم يصل إلى أذنيك صدى انين من فؤاد كليم واصوات من الالم منكرة تشق الفضاء وصريخ يائس قانط يقول (ايها اللورد. . . ايها اللورد) او (دعني اموت) ثم تسمع اصواتا ضئيلة تردد وتقول: (امي. . .!) او (أبي. . . .!) او (وطني. . .!) رعاية الاطفال اسس السيد جرانشرعام 1903 بباريز جمعية دعاها (جمعية وقاية الاطفال من داء السل) والعمل الذي تقوم به هذه الجمعية هوأنها تبحث عن الاطفال المصأبين بهذا الداء ثم تأخذهم وترسل بهم إلى المزارع وهناك يعيشون في الهواء الطلق مع اسرات الفلاحين يعودهم جماعة من الأطباء تنتخبهم الجمعية. وقد أنشئت مدرستان بفرنسا خارج المدن حيث يكون الهواء خالصاً نقياً فيدرس فيها التلاميذ المرضى ممن لا يوأفقهم هواء المدن وهناك يعالجهم الأطباء. والآن يعملون في إنشاء مثل هذه المدارس في ألمانيا حيث رأى الدكتور بندكس إنشاء مدارس الغابات وأول مدرسة منها فتحت أبوابها سنة 1904 وكانت نتيجتها مرضية. ويتعلم في هذه المدرسة التلاميذ الرقيق والمزاج المصابون بالسل. ونظامها أن يذهب إليها التلاميذ كل يوم صباحاً في الساعة السابعة ونصف تقريباً مشاة على اقدامهم أو في المركبات الكهربائية فإذا بلغوها تنأولوا في الحال حساء سخيناً وقطعة من الخبز. وبعد أن يدرسوا الدرس الأول يتنأولون قدحاً من اللبن وشيئاً من الخبز أيضاً. اما طعام الغذاء

فيتألف من اللحم والبقول والبطاطا. وهم كذلك يتنأولون عند الساعة الرابعة بعد الظهيرة لبناً وخبزاً. اما اجرة التعليم فالأغنياء ملزمون بدفعها عن أولادهم. وأبناء الفقراء تدفع (البلدية) نفقاتهم. هذا وقد شيدت ملاجئ صحية كثيرة لاغلب البلاد الألمانية في الغابات يقضي فيها نهارهم من تمكنت منهم العلل والأمراض. الطعام الصحي كتبت السيدةك. ايرل في العدد الأخير من مجلة (الشرق والغرب) الإنكليزية مقالة صحية موضوعها (الطعام الصحي) صرحت بانها تذكر فيها ما يحصل به الإنسان على القوة والصحةقالت: احدث اكتشاف هارفي لدورة الدم انقلاباً عظيما في العلوم الطبية واني اعتقد أنه سيأتي يوم لا ينكير احد فيه النظرية الطبية الجديدة وهي أن كثرة وجود الحامض البولي في الجسد يسبب الضعف وهذه الحال سواء في كل مناخ وهواء. وأرى أن الطعام الذي يخرج الحوامض البولية من الانسجة والعضلات والمفأصل يسهل شفاء المصأبين بداء النقرس أو المفأصل أو المصأبين بالأم عصبية. ويكفي أن يتناول الإنسأن الطعام في اليوم ثلاث مرات. وخير لمن يجب أن يغير دائماً الاطعمة التي يتنأولها ساعات الاكل أن يسير على النظام الآتي: - أولا: الشاي والقهوة وحساء اللحم - تبدل بأنواع للبن والحليب والماء وحساء مع اللبن - ثانياً: طعام الصباح - تبدل بالثريد والخبز المحمص والبقسماط وحبوب الدقيق ونحو 100\ 133 درهم لبن وشيء من البندق ثالثاً: ما يتناول بين طعام الصباح يبدلأن الخبز المحمص والبقسماط وحبوب الدقيق والطعام وطعام الظهيرة: - المركب (طعام يتكون من البيض والدقيق واللبن وغيرها) ومائة درهم من اللبن واوقية انجليزية من الجبن رابعاً: طعام الظهيرة: - يبدلان بالخبز المقدد والبقسماط وحبوب الدقيق والطعام المركب وصفحة من الجبن ومائة درهم من اللبن قالت الكاتبة: ومن أهم البواعث التي تسبب القابلية للاكل أن يكون الإنسان تعباناً اويكون

قد عمل شيئاً نشط به جسمه. الهجرة الطليانية كتب أحدهم في مجلة المسائل الدولية الاستعمارية الفرنسوية مقإلا في هجرة الطليان جاء فيه انها تزيد سنة عن سنة ويؤخذ من الاحصاآت الرسمية أن عدد المهاجرين سنوياً بين سنة1895 - 1900 كان حوالي ثلثمائة الف فأصبح من سنة 1901 - إلى 1904 نصف مليون كل سنة وارتقى سنة 1906 إلى 787977 مهاجراً ومعظمهم من الفلاحين والمهاجرون من الذكور على نسبة 81 في المئة و19 من الاناث والمهاجرون في الأكثر هم سكان الجنوب وينزلون أميركيا كما يهاجر سكان شمالي إيطاليا إلى اقطار أوروبا فقط ليغتنوا فيها. وقد بحث علماء الاجتماع من الطليان في نفع الهجرة لبلادهم او عدمها ولم يبنوا لهم رأياً بعد. وشوهد ناس من أهل الطبقة الوسطى اباعوا اراضيهم وانقلبوا إلى بلاد أخرى يرتاشون فيها ويتأثلون وهذا ما ينسب إلى قلة التناسب المتزايد بين وسائط الحياة التي تقل وحاجيتها المتكأثرة. ومن الأسباب التي ذكروها في مضمار الهجرة أن عدد العجزة في إيطاليا خف عن ذي قبل ولكن لم تعد تنمو سكان البلاد في العشر سنين الأخيرة على نسبة نموها من قبل وذكروا من حسناتهم أنه قل عدد البطالين وارتفعت أسعار ايجار الاراضي وترقت أثمانها بما جاء به بعض المهاجرين لدن عودتهم إلى بلادهم من الأموال كما زادت ثروة إيطاليا بما يغدق عليها ابناؤها المهاجرون من مهاجرهم. قد جاء في ذاك التقرير أن للهجرة يداً في إيطاليا منذ ثلاثين سنة في ارتقاء إيطاليا الاقتصادي وهو مادة ارتقائها التجاري اجتياز البحار يتحدثون الأن في الاندية الصناعية والعلمية في اجتياز المسافة بين أوروبا والولايات المتحدة في اربعة أيام. وقد ادعى مهندس أميركي أنه يقطع في باخرة جديدة انشأها حديثاً ثلاثين عقدة في الساعة وكانت باخرتأن ألمانيتان وهما من آخر طراز يقطعان 23 عقدة. ولم تكن البواخر تقطع لأول اختراعها سوى 9 عقدة في الساعة ثم تدرجت حتى وصلت إلى 23 عقدة وهاهي اليوم قد بلغت او كادت الثلاثين على أن المسافة تجتاز بين أمريكيا وأوروبا في خمسة أيام وبضع ساعات. أما الباخرة الجديدة فتحمل من عشرين إلى ثلاثين

ألف طن وآلتها بقوة ثلاثين الف حصان ووزن الآلة المحركة يبلغ مائتي طن وإذا أضيف إليه عداد الغاز فيكون خمسمائة طن ويقتضي 850طناً من زيت البترول الخام لاجتياز مسافة مائتي ميل ما عدا الوقود ولا يخرج منه دخان. اوراق السفر رأى بعض الباحثين أن عمال السكك الحديدية يأخذون الاوراق من المسافرين ليقطعوها ويعيدوها إليهم وربما احبوا العجلة فقطعوها بريقهم مما لا يخلو من نقل الأمراض ورأوا أن أحسن طريقة في هذا الباب هي التي سارت عليها بعض شركات السكك الحديد في سويسرا فإنها تجعل الاوراق اضبارة واحدة وتقطعها كما تقطع الطوابع بادنى مس اليد. المدارس في مصر احصى مدير الاحصائيات في مصر عدد المدارس الوطنية والأجنبية في هذا القطر فكانت 200مدرسة مصرية فيها 47534 من البنين و3897 من البنات و 20 إنكليزية فيها 1415 تلميذاً و 120 أميركية فيها 7044 تلميذا و2053 تلميذة و 9 نمساوية فيها 881 تلميذا و550 تلميذة ومدرستان هولانديتأن فيها 142 تلميذا و36 تلميذة و 85 مدرسة فرنسوية فيها 8645 تلميذا و 7140 تلميذة وأربع مدارس ألمانية فيها 233 تلميذا و446 تلميذة و29 يونانية فيها 3108 تلاميذ و1363 تلميذة و 35 ايطالية وفيها 2314 تلميذا و 2338 تلميذة ومدرسة روسية واحدة فيها 475 تلميذاً. وصية للعلم اوصى ألماني بمئة ألف مارك لينفق ريعها على تلميذ ذكي من المدارس العثمانية العالية ينجز دروسه في ألمانيا. جماجم المصريين ظهر الأستاذ اليوت سميث معلم التشريح في مدرسة الطب بالقاهرة من البحث في المومياء المصرية أن جماجم قدماء المصريين كانت رقيقة وأن القسم الخارجي منها هو على الجملة من النحافة على مايعجب منه الناظر على أن تجويف الجمجمة لم يصب بمرض ولا تظهر فيه نحافة حيث كأنت العضلات. وقد شاهد ذلك في أهل السلالة الرابعة إلى أهل السلالة

الرابعة عشر خاصة ولم يجدها فيمن كان قبلهم او بعدهم وقد تبين ممأقام به الأستاذ ماسبروغيره من علماء الأثار المصرية من الحفريات انأهل الطبقات العالية في الأمة المصرية كانوا يضعون على رؤوسهم شعوراً مستعارة فنسب العلماء نحافة رؤوسهم لثقل تلك الشعور وذلك لأن الأستاذ اليوت سميث لم يشاهد هذا الضعف إلا في جماجم أهل الغنى والثرى. من تلك السلائل ولا يقدح في ذلك ماألفه الفلاحات من حمل أشياء ثقيلة على رؤوسهن على أن جماجمهن سالمة من العيوب فإن الضعط الموقت لايؤثر في الجماجم كما يؤثر الضغط الدائم من مثل الشعور وغيرها. والمسألة ما برحت موضع النطر. خارطة الولايات المتحدة شرعت حكومة الولايات المتحدة في رسم مصور لتلك البلاد لم يعيد مثله حتى الآن في رسم الأرض فأخذت كل ولاية تقيس وتمسح وتذكر ما جد من القرى والدساكر والمدن ويقولون أن حكومة الاسكا تجتهد من وراء الغاية في رسم بلادها لتضمها إلى خارطة تلك البلاد مع أن القسم الأعظم منها لم يكشف بعد. وناهيك بما يقضي ذلك من النفقات في بلاد هي مساحتها كأوروبا أو أكثرويقال أن هذا العمل يكلف أمريكا مليوني فرنك أي من 75 إلى 100 فرنك في كل كيلو متر مربع ولا ينجز قبل سنة 1909 التعليم في فرنسا تنفق فرنسا على التعليم العالي في ست عشرة كلية ثلاثة عشر مليونا وثمانمائة الف فرنك وقد كان مجموع الطلبة في هذه المدارس الجامعة سنة 1906 - 35670 تلميذاً وزاد منذ عشر سنين نحو عشرة آلاف طالب وكان الأساتذة إذ ذاك 591 فصاروا الان 800 الرخص والعلم لئن ارتفعت أثمأن الحاجيات منذ خمسين سنة لكثرة النقود فقد كان من تأثير العلم أن ارخص كثيراً من المواد الصناعية بفضل إدخال التحسين على ادواتها فنزل سعر المتر الواحد من المرايا نحو الثلثين ونزل سعر الحامض الكبرتي إلى النصف والصودا إلى ثلاثة ارباع وقد استفادت الزراعة والصناعة من هذا الرخص فائدة كبرى. نساء اليابان والألمان

منذ عهد غير بعيد تضاعف عدد مدارس الاناث في اليابأن فأصبح المتخرجات منها يتعاطين التدريس أو المحاماة أو الكتابة. وانك لتجد في جميع أمهات المدن اليابانية اندية للنساء وقد أخذ بعضهن ينشرن في طوكيو الآن جريدة سمينها (المرأة في القرن العشرين) تتولى ادارتها (اوتا ايمي) الكاتبة الاشتراكية المشهورة التي أحكمت الإنكليزية كما أحكمت لغتها فصارت الصحف الأميركية تتلقى مقالاتها بالقبول كما تتلقى مقالات كبار الكتاب من الإنكليز. وما برح النساء في ألمانيا يطالبن بقبول البنات المتعلمات في العشر كليات الألمانية التي سدلت حتى الآن أبوابها في وجوه البنات وقصرت تعليمها على البنين والغالب انهن ينلن بغينهن كمانلتها في كليات بافاريا مثل كلية مونيخ وارلانجن وفي دوقية باد ككلية فريبورغ وهايدلبرغ وتوبيغ وفي امارة تورنغ ككلية اينا وفي امارة ساكس ككلية ليبسيك. وقد طلب 160أستاذا من أساتذة الكليات الألمانية إلى الحكومة أن تسمح بحرية الدخول للبنات في مدارس الصبيان. وينقسم الطالبات في ألمانيا إلى طالبات طب وطالبات فلفسة وطالبات علم اصول اللغات وطالبات تاريخ. فمتى يطلب نساؤنا يا ترى حقوقهن من التعليم الابتدائي المنظم فقط. الشعب النظيف يرى الدكتور ماتينيون وهو ممن أقام مدة في الشرق الأقصى أن النظافة عندأبناء يابان كادت أن تكون من الإيمان فيرى الياباني أن الاستحمالم كل يوم من الضروريات كتناوله قدح الأرز. وقد أثبتت الحرب الروسية اليابانية الأخيرة شدة تعلق هذه الأمة بالنظافة فكان الجند في معسكراتهم يستعملون جراراً صينية كبرى من افخار المطلي يجعلونها تحت الأرض ويتخذونها مستحماً لهم. ولكل جندي في جعبته فرشة لتنظيف أسنانه وذرور لها لأن الياباني يعنى بأسنانه كل العناية ويتمضمض مرات عديدة في اليوم. وقد عجب الأطباء الأوربيون من تنطيع اليابانون في النظافة إلى هذا الحد كما ثبت لهم أن من كل خمسة جنود من الوربيين يموت أبعة من الأمراض وواحد قتلاً أما من أبناء يابان فإن في خمسة قتلى موت واحدمنهم من الأمراض.

محاسن الكتب

محاسن الكتب للجاحظ كأنت العجم تقيد مأثرها بالبنيان والمدن والحصون مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر وبناء المدائن والسدير والمدن والحصون. ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالكتب والأخبار والأشعار والأثار فلها من البنيان غمدان وكعبه نجران وقصر مأرب وقصر مارد وقصر شعوب والابلق الفرد وغير ذلك من البنيان. وتصنيف الكتب اشد تقييداً للمأثر على ممر الأيام والدهور من البنيأن لأن البناء لا محالة يدرس وتعفى رسومه والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن ومن امة إلى امة فهو ابدا جديد والناظر فيه مستفيد وهو ابلغ في تحصيل المأثر من البننيان والتصاوير. وكأنت العجم تجعل الكتاب في الصخور ونقشاً في الحجارة وخلقه مركبة في البنيأن فربما كان الكتاب هو الناتئ وربما كان هو المحفور إذا كأن ذلك تاريخياً لأمر جسيم او عهداً لأمر عظيم او موعظة يرتجى نفعها او احياء شرف يريدون تخليد ذكره كماكتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر وعلى الاطق الفرد وعلى باب الرها يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة فيضعون الخط في ابعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس واجد ران يراه من مر به ولا ينسى على وجه الدهور. ولولا الجكم المحفوظة والكتب المدونة لبطل أكثر العلم ولغلب سلطأن النسيان سلطأن الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لقد بخس حظنا منه. وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء واعوأن الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء وكتب الملاهي وكتب اعوأن الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب السخفاء وحمية الجاهلية. ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه. ولولا جياد الكتب اوحسانها لما تتحركت ههمم هؤلاء الطلب العلم ونازعت إلى حب الكتب وانفت من حال الجهل وأن يكونوا في غمار الوحش ولدخل عليهم من الضرر

والمشقة وسوء الحال ماعسى أن يكون لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير. وسمعت محمد بن الجهم يقول: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تنأولت كتاباً فاجد اهتزازي للفوائدوالاريحية التي تعتريني من سرور الاستنباه وعز التبينت أشد ايقاظا من نهيق الحمار وهدة الهدم فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته لم أوثر عليه عوضاً ولم ابغ به بدلاً فلا ازال انظر فيه ساعة كم بقي من ورقه مخافة استنفاذه وانقطاع المادة من قبله. وقال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه فسئل عن ذلك فقال لم ار قط اوعظ من قبر ولا أنس من كتاب ولا اسلم من الوحدة. واهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه: هديتي أعزك الله تزكو على الانفاق وتربو على الكد لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب وهي انس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والاخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة مسأمر مساعد ومحدث مطاوع ونديم صدق. وقال بعض الحكماء: الكتب بساتين العلماء. وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤونه له. وقال آخر: ذهبت المكارم الأمن الكتب. قال الجاحظ وانا احفظ وأقول: الكتاب نعم الذخر والعقدة والجليس والعمدة ونعم النشرة ونعم النزهة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الانيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل والزميل ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علماً وظرف حشي طرفا واناء شحن مزاجاً إن شئت كان أين ماقال وإن شئت كان ابلغ من سجبان وائل وإن شئت سرتك نوادره وشحك مواعظه ومن لك بواعظ مثله ويناسك فاتك وناطق اخرس ومن لك بطبيب اعرأبي ورومي هندي وفارسي يوناني ونديم مولد ونجيب ممتع ومن الك بشي يجمع لك الأول والاخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل وخلافة والجنس وضده. وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الاحياء ومن لك بمؤنس لا ينام الا بنومك ولا ينطبق إلا بما تهوى آمن من الأرض واكتم السر من صاحب السر واحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ولا اعلم جاراً آمن ولا خليطاً وانصف ولا رفيقا اطوع ولا معلماً أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية وعناية ولا أقل

املالا ولا ابراما ولا ابعد عن مراء ولا اترك لشغب ولا ازهد في مجال ولا اكف عن قتال من كتاب. ولا اعم بيانا والا أحسن مواتاة ولا اعجل مكافأة ولا شجر اطيب عمرا ولا اطيب ثمرا ولا اقرب مجتنى ولا اسرع إدراكا ولا اوجد في كل ابان من كتاب ولا اعلم انتاجاً في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع من السير العجيبة والعلوم الغريبة وأثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية والبلاد النازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب. ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غباً وورده خمساً وإن شئت لزمك لزوم ظلك وكان منك كبعضك. والكتاب هوالجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يقليك والرفيق الذي لا يملك والمستمع الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لايريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال اممتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وبخخ نفسك وعمر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك يطيعك بالليل طاعته بالنهار وفي السفر طاعته في الحضر وهوالمعلم إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه بالمادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عزلت لم يدع طاعتك وإن هبت ريح اعدائك لم ينقلب عليك ومتى كنت متعلقاً منه بادنى حبل لم تضطرب معه وحشية الوحدة إلى جليس السوء. قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري فالكتاب احب الي من الحفظ لأن الاعرأبي ينسى الكلمة قد سهر في طلبتها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام ولا اعلم جارا برا ولا خليطا انصف ولا رفيقا اطوع ولا معلما أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية ولا أقل جناية ولا أقل ملالا وابراما ولا احفل أخلاقا ولا أقل خلافا واجراما ولا أقل غيبة ولا ابعد من عضيهة ولا أكثر اعجوبة وتصرفا ولا أقل تصلفا وتكلفا ولا ابعد من مراء ولااترك لشغب ولاازهد في جدال ولااكف عن قتال من كتاب. ولا اعلم قرينا أحسن موافاة ولا اعجل مكافاة ولااحضر معونة ولااخف مؤونة ولاشجرة أطول عمرا ولا اجمع أمرا ولا اطيب ثمرة ولا اقرب مجتنى ولااسرع إدراكا ولا اوجد في

كل ابان من كتاب ولااعلم نتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع بين التدأبير العجيبة والعلوم الغريبة ومن أثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمع لك الكتاب. والكتاب هو الذي يؤدي إلى الناس كتب الدين وحساب الدواوين مع خفة نقله وصغر حجمه صامت ما اسكته وبليغ ما استنطقته ومن لك بمسأمر لا يبتديك في حال شغلك ويدعوك في أوقات نشاطك ولايحوجك إلى التجمل له والتذمم منه. قال ابو عبيدة: يابني لا تقوموا في الأسواق الا على زراد او وراق. وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه من مأثر غطفإن فقال: ذهبت المكارم الا من الكتب. وسمعت أبا الحسن اللؤلولي يقول: غبرت أربعون يوماً ما قلت ولا بت الا والكتاب موضوع على صدري. وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال: لولا طوله وكثرة ورقه لنسخه فقال ابن الجهم: لكني ما رغبني فيه الا الذي زهدك فيه وما قرأت قط كتابا كبيرا فاخلاني من فائدة وما احصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منهاكما دخلت. وقال العتبي ذات يوم لابن الجهم الا تتعجب من فلان نظر في كتاب أقليدس مع جارية سلموية في يوم واحد وساعة واحدة فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو يعد لم يحكم مقالة واحدة على أنه حر مخير وتلك امة مقصورة وهو احرص على قراءة الكتاب من سلمويه على تعليم جارية قال ابن الجهم: قد كنت اظن أنه لم يفهم منه شكلا واحدا واراك تزعم أنه قد فرع من مقالة. قال العتبي: وكيف ظننت به هذا الظن وهو رجل ذو لسان وأدب قال: لاني سمعته يقول لابنه: كم انفقت على كتاب كذا قال: أنفقت عليه كذا انما رغبني في العلم اني ظننت اني أنفق عليه قليلا واكتسب كثيراً فاما إذا صرت أنفق الكثير وليس في يدي الا المواعيد فإني لا اريد العلم بشيء فالإنسأن لا يعلم حتى يكثر سماعه ولا بد أن تكون كتبه أكثر من سماعه ولا يعلم ولا يجمع العلم ولا يختلف حتى يكون الانفاق عليه من ماله الذ من الانفاق من مال عدوه ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب الذ عنده من عشق القيان وانفاق المستهزئين بالبيأن لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا وليس ينتفع بانفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب ايثار الاعرأبي فرسه باللبن على عياله وحتى يؤمل في العلم ما

يؤهل الاعرأبي في فرسه. وقال إبرأهيمبن السندي مرة: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصى على المقالات بالورق النقي الأبيض وعلى تحلل الحبر الاسود المشرق البراق وعلى استجادة الخط والارغاب لمن يخط فإني لم ار كورق كتبهم ورقا ولا كالخطوط التي فيها خطا وإذا غرمت مالا عظيما مع حبي للمال وبغض الغرم كان سخاء النفس بالانفاق على الكتب دليلا على تعظيم العلم وتعظيم العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامة ومن سكر الافات. وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء فكنت اكتب عنه بعضا وادع بعضأفقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن مكان ما تسمع اسود خير من مكان أبيض. وقال الخليل بن احمد: تكثر من العلم لتعرف وتقلل منه لتحفظ. وقال ابواسحق القليل والكثير للكتب والقليل وحده للصدر وأنشد قول ابن بشير اما لو اعي كل ما اسمع ... واحفظ من ذاك ما اجمع ولم استفد خبر ما قد جمع ... ت لقيل هو العالم المصقع ولكن نفسي إلى كل نو ... ع من العلم تسمعه تنزع فلا أنا احفظ ما قد جمع ... ت ولا أنا من جمعه اشبع واحصر بالغي في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع فمن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقري يرجع إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لاينفع وقال ابن اسحق: كلف ابن بشير الكتب ما ليس عليها أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الاحمق عأقلا ولا البليد ذكيا ولكن الطبيعة إذا كان فيها ادنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي ومن أراد أن يعلم كل شي ينبغي لأهله أن يداووه فأن ذلك انما تصور له بشي اعتراه فمن كان ذكيا حافظا فليقصد إلى شيئين وإلى ثلاثة أشياء ولا ينزع الدرس والمطارحة ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه سائر الاصناف فيكون عالما بالخواص ويكون غير غفل عن سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه ومن كان الأوله ثلاث نسخ. وقال ابو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ اليد الا اعتقدت أنه أفضل

من واعقل. وقال ابو عمرو بن العلاء: قيل لنا يوما أن في دار فلان ناسا قد اجتمعوا على سوءة وهم جلوس على خيرة لهم وعندهم طنبور فتسورنا عليهم في جماعة من رجال الحي فإذا فتى جالس في وسط الدار أصحابه حوله وإذا هم بيض اللحى وإذا هو يقرأ عليهم دفترا فيه شعر فقال الذي سعى بهم: السوءة في ذلك البيت واندخلتموه عثرتم عليها فقلت: والله لا اكشف فتى أصحابه شيوخ وفي يده دفتر علم ولو كان في ثوبه دم يحيى بن زكريا وأنشد رجل يونس النحوي استودع العلم قرطاساً فضيعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس قال فقال يونس: قاتله الله ما أشد ضنانته بالعلم وأحسن صيانته له أن علمك من روحك ومالك من بدنك فضعه منك بمكان الروح وضع مالك بمكان البدن. وقيل لابن داحة واخرج كتاب أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفية دفتين طائفتين بخط عجيب فقيل له: لقد اضيع من تجود بشعر أبي الشمقمق فقال: لاجرم والله أن العلم ليعطيكم على حساب ما تعطونه ولو استطعت أن اودعه سويداء قلبي او اجعله محفوظا على ناظري لفعلت ولقد دخلت على اسحاق بن سليمأن في أمرته فرأيت السماطين والرجال مثولا كان على رؤوسهم الطير ورأيت فرشته وبزته ثم دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحوإليه الاسقاط والرقوق والقماطر والدفاتر والمساطر والمحابر فما رأيته قط افخم ولاانبل ولا اهيب ولا اجزل منه في ذلك اليوم لأنهجمع مع المهابة المحبة ومع الفخامة الحلاوة ومع السؤدد الحكمة. وقال بعضهم: كتب الحكماء وما دونت العلماء من صنوف البلاغات والصناعات والاداب والارفاق من القرون الوسطى والأمم الخالية ومن له بقية ابقى ذكرا وأرفع قدرا وأكثر ردءا لأن الحكمة انفع لمن ورثها من جهة الانتفاع بها وأحسن في الأحدوثة لمن احب الذكر الجميل والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على أثار من قبلهم وأن يميتوا ذكر أعدائهم فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية وعلى ذلك في أيام الإسلام كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عأمر وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان. إن من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومراشدهم ومضارهم ومنافعهم أن تحتمل ثقل

مؤونتهم في تقويمهم وأن تتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل ما يسدى إليهم فلن يصأن العلم بمثل بذله ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره على أن قراءة الكتب ابلغ في إرشادهم من تلاقيهم اذكان مع التلاقي يشتد التصنع ويكثر التظالم وتفرط العصبية وتقوى الحمية والأنفة من الخضوع وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين وإذا كأنت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة امتنعت من التعرف وعميت عن مواضع الدلالة وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وأصابة الحجة لأن المتوحد يدرسها والمتفرد يفهم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله وقد عدم من له يباهي ومن اجله يغالب. والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدم مؤلفه ويرجح قلمه على لسانه بأمورمنها أن الكتاب يقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الاعصار وتباعد ما بين الأمصار وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب والمتنازع في المسألة والجواب. ومنأقلة اللسان وهدايته لا تجوز أن مجلس صاحبه ومبلغ صوته وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره ولولا ما اودعت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لما حسن حظنا من الحكمة ولضعف سببنا إلى معرفة ولو لجأنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا وتشاهده نفوسنا لقلت المعرفة وسقطت الهمة وارتفعت العزيمة وعاد الرأي عقيما والخاطر فاسدا ولكل الحد وتبلد. وأكثر من كتبهم نفعا وأشرف منها خطرا وأحسن موقعا كتب الله تعالى التي فيها الهدى والرحمة والأخبار عن كل حكمة وتعريف كل سيئة وحسنة ومازالت كتب الله تعالى في الالواح والصحف والمحار والمصاحف وقال الله عز وجل: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) وقال: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ويقال لأهل التوارة والانجيل أهل الكتاب. وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا على أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه وقد امكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التقليد وهبت ريح العلماء وكسد العي والجهل وقامت سوق البيان والعلم وليس يجد الإنسأن في كل حين إنسانا ومقوما يثقفه

والصبر على افهام الريض شديد وصرف النفس عن مغالبة العالم أشد منه. والمتعلم يجد في كل مكان الكتاب عتيدا وبما يحتاج إليه قائما وما أكثر من فرط في التعليم أيام خمول ذكره وأيام حداثة سنه. ولولا جياد الكتب وحسنها ومبينها ومختصرها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونزعت إلى حب الأدب وانفت من حال الجهل وإن تكون في غمار الحشو ولدخل على هؤلاء من الخلل والمضرة من الجهل وسوء الحال ما عسى أن لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقد نجد الرجل بطلب الأثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاماً وهو لا يعد فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حينفة وأشباه أبي حنيفة ويجفظ كتب الشروط في مقدار سنة او سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري أن لا يمر عليه من الأيام الا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار او بلد من البلدان. قال ابن بشير في صفة الكتب في كلمة له. اقبلت اهرب لا آلو مباعدة ... في الأرض منهم فلم يحصني الهرب فقصروا اوس فما والت خنادقه ... ولا النواويس فالماخور فالحرب فايما موئل منها اعتصمت به ... فمن ورائي حثيثاً منهم الطلب لما رأيت باني لست معجزهم ... فوتا ولا هربا قربت احتجب فسرت في البيت مسروراً به جذلا ... جاراً لبوأة لا شكوى ولا شغب فرداً يحدثني الموتى وتنطق لي ... عن علم ما غاب عني منهم الكتب هم مؤنسون وألاف غنيت بهم ... فليس لي في انيس غيرهم ارب لله من جلساء لا جليسهمو ... ولا عشيرهمو للسوء مرتقب لا بادرات الاذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطق ذرب ابقوا لنا حكماً تبقى منافعها ... أخرى الليالي على الأيام والشعب فايما آداب منهم مددت يدي ... إليه فهو قريب من يدي كثيب ان شئت من محكم الأثار يرفعها ... إلى النبي ثقات خيرة نجب او شئت من عرب علما بأولهم ... في الجاهلية انبتني بها العرب

او شئت من سبر الأملاك من عجم ... تنبي وتخبر كيف الرآي والأدب حتى كاني قد شاهدت عصرهمو ... وقد مضت دونهم من عمرهم حقب يا قائلا قصرت في العلم نهيته ... امسى إلى الجهل فيما قال ينسب أن الأوائل فد بانوا بمعليهم ... خلاف قولك ما بانوا ولا ذهبوا ما مات مثل أمري ابقى لنا أدبا ... نكون منه إذا ما مات نكتسب قال الجاحظ: ومما يدل على نفع الكتاب أنه لولا الكتاب لم يجز أن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وما يحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فتعلم بها أهل البصرة قبل المساء،

غلاة الكتب

غلاة الكتب لله اخوان افادوا مفخراً ... فبوصلهم ووفائهم اتكثر هم ناطقون بغير السنة ترى ... هم فاحصون عن السرائر تضمر ان ابغ من عرب ومن عجم معاً ... علماً مضى فبه الدفاتر تخبر حتى كاني شاهد لزمانها ... ولقد مضت من دون ذلك اعصر خطباء أن ابغ الخطابة يرتقوا ... كفي ركفي للدفاتر منبر كم قد بلوت بها الرجال وإنما ... عقل الفتى بكتاب علم يسير كم قد هزمت به جليساً مبرماً ... لا يستطيع له الهزيمة عسكر ليس في الدنيا منظر تنصرف إليه الوجوه ولا صورة تحدق فيها العيون ولا نفحة ترتاح إليها الارواح وتخاطبها القلوب ولا صديق اخلص من ذاك الكتاب تودعه سرك فلا يخونك وتبوح إليه بذات نفسك فيحفظ غيبتك ويطرب حضرتك. ليس في صنائع البشر مثل هذه الاوراق الثمينة التي قد يجهد كاتبها في تسويدها نفسه ويصرف عليها أيامه واعوامه رجاء نفع يرتجى وعقل يرتقي وجهالة تضمحل وذكر يخلد ومحمدة تردد. نعم ليس افعل في القلوب من الكتاب يعيد مظلمها مستنيرا وميتها حياً ويجعل بعد عسر يسرا. فبالكتب تحيا الأمم وترتفع إلى ذرى المجد والسؤدد بالصحف تأنس النفوس المستوحشة وتنبسط الصدور المنقبضة. وماذا عسانا نقول في وصف الكتاب بعد أن قرأ القارئ ما قرأ في صدر هذا الجزء من قول الجاحظ سيد العلماء ورأس الحكماء وإنما نقول هنا على الجملة إن قد كثر المولعون في جميع الكتب قديما بكثرة أسباب الحضارة بحيث لو أراد المرء إحصاء من ولعوا بذلك من العرب ووصف شيء من حالتهم لا قتضى ذلك كتاباً برأسه. فبلغ من عناية الملوك بالكتب وجمعها أن حمل المأمون إلى بغداد من الكتب المخطوطة ما يثقل مائة بعير وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الاستانة. قيل إن عدد مجلدات خزانة المأمون كان ستمائة الف وأن فهرستها دخلت في أربعة وأربعين مجلداً وقيل ذلك في مكتبة الخلفاءبالأندلس. وانشي بيت الحكمة في بغداد على عهد الرشيد في غالب الاقوال وكان يجتمع فيه النساخ والمؤلفون والمترجمون والمطالعون. اما دار الحكمة او دار العلم في القاهرة فكانت فيها خزانة انشأها الحاكم بأمر الله وحمل إليها الكتب من

خزائن القصور. وكان في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة الف مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غيره وكان من نظامها أن تعار بعض الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة. وقد تكأثرت خزائن الكتب في المدرس الكبرى والصغرى فقومت كتب المدرسةالنظامية ببغداد بالوف وكذلك كان شأن مدارس الشام ومصر. قال القلقشندي في خزائن الكتب المشهورة: ويقال أن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن احداها خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد فكان فيها من الكتب مالا يحصى كثرة ولا يقوم عليه نفاسة ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد فذهبت خزائن الكتب فيما ذهب. الثانية خزانة الخلفاء الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعاً للكت النفيسة من جميع العلوم ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة ووقفها بمدرسته الفاضلية بدرب ملوخيا بالقاهرة فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الايدي فلم يبق منها الا القليل. الثالثة خزانة خلفاء بني امية بالأندلس وكانت من اجل خزائن الكتب أيضاً ولم تزل إلى انقراض دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف عليها. قال وأما الآن (أي في القرن الثامن) فقد قلت عناية الملوك بخزائن الكتب الكتف اكتفاء بخزائن كتب المدارس. ولم تكن الحكومات ورؤسائها مولعة بجمع الكتب وجعلها وقفاً على المطالعة والمراجعة في قصورهم او مكاتب ينشئونها لهذا الغرض اوفي مدارسهم بل كان العلماء الوزراء وكثير من أهل الثراء مولعين باقتناء الكتب على تعذر الحصول عليها فقد كان نور الدين الشهيد مولعاً بالكتب جمع منها الأمهات وقف كثيراً منها على الاستفادة. وكذلك كان صلاح الدين فإنه نقل بعض الكتب المهمة من مصر إلى الشام لما صار عليهما سلطاناً. وانشأ يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله ثاني الخلفاء الفاطميين خزانة كتب الواحد عشرات من النسخ ولقد غإلى من كتب عنها ومنهم المقريزي وقالوا كان العزيز يتعهدها بنفسه حيناً بعد آخر. وانشأ نوح بن منصور صاحب بخأرى من ملوك بني سامان مكتبة منقطعة القرين فيها الكتب على اختلاف ضروب العلم. وقد وصفها ابن سينا وكان أذن له بدخولها وقراءة ما فيها من كتب الطب فقال: دخلت داراً ذات بيوت كثيرة في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض في بيت كتب العربية والشعر وفي آخر الفقه

وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد فطالعت فهرست كتب الأوائل وطلبت ما احتجت إليه منها ورأيت من الكتب مالم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته أيضاً من بعد. ولما كتب نوح بن منصور إلى الصاحب بن عباد وزير بني بويه المتوفي سنة 385 ورقة في السر يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير مملكته كان من جملة اعذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل فما الظن بما يليق بها من التجمل. وكان سيف الدولة بن حمدان مولعاً بجمع الكتب ولوع نوح بن منصور فكانت في داره خزائن كبيرة جمع فيها الأمهات المفيدة. وقيل إن وزير الواثق بالله كان ينفق ثلاثين ألف دينار كل شهر على ترجمة الكتب ونسخها. وكان للفتح بن خاقان وزير المتوكل خزانة كتب جمعها علي بن يحيى لم ير أعظم منها كثيرة وحسناً وكان يحضر داره فصحاء العرب وعلماء البصرة والكوفة قال ابو هنان ثلاثة لم ار قط ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم منهم الجاحظ والفتح بن خاقان واسمعيل بن اسحق القاضي وكان الفتح يحضر لمجالسة المتوكل فإذا أراد القيام لحاجة اخرج كتاباً من كمه او جيبه وقرأ فيه إلى حين عودة المتوكل - قاله ابن الكتبي في الفوات. وذكر المبرد مثل هذه الرواية فقال أنه مارأى احرص على العلم من ثلاثة الجاحظ والفتح بن خاقان واسمعيل بن اسحق القاضي. فأما الجاحظ فإنه كل إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره أي كتاب كان وأما الفتح بن خاقأن فإنه كان يحمل الكتاب في خفه فإذا قام بين يدي المتوكل للبول أو الصلاة اخرج الكتاب للنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريده ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه. واما سمعيل بن اسحق فإني ما دخلت عليه قط الا وفي يده كتاب ينظر فيه او يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه. وبلغ من ولوع بعض الخاصة بالتوفر على خدمة العلم انهم كانوا يفتحون أبواب خزائنهم لكل مستفيد فقد جعل حنين بن اسحق النسطوري في بغداد داره مكتبة عامة تفد إليها طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بماذا كرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه. وكان لافرائيم بن الزفإن الإسرائيلي من أطباء مصر همة عالية في تحصيل الكتب الطبية وغيرها وكان

أبداً عنده النساخ يكتبون ولهم ما يقوم بكفايتهم منه. وقال ابن أصيبعة وحدثني أبي أن رجلاً من العراق كان قد أتى إلى الديار المصرية ليشتري كتباً ويتوجه بها وانه اجتمع مع افرائيم واتفق الحال فيما بينهما أن اباعة افرائيم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلد. وكأن ذلك في أيام ولاية الأفضل بن أمير الجيوش فلما سمع بذلك أراد أن تبقى تلك الكتب في الديار المصرية ولا تنتقل إلى موضع آخر فبعث إلى افرائيم من عنده بجملة المال الذي كان قد اتفق تثمينه بين افرائيم من الكتب ما يزيد على عشرين الف مجلد. وكان للصاحب امين الدولة السأمري همة عالية في جمع الكتب وتحصيلها قال ابن أبي اصيبعة: واقتنى كتباً كثيرة فاخرة في سائر العلوم وكأنت النساخ أبداً يكتبون له حتى أنه أراد مرة نسخة من تاريخ دمشق للحافظ بن عساكر وهو بالخط الدقيق ثمانون مجلداًً فقال: هذا الكتاب الزمن يقتصر أن يكتبه ناسخ واحد ففرقه على عشرة نساخ كل واحد منهم ثمان مجلدات فكتبوه في نحو سنتين وقد اجتمع عندما كثر من عشرين الف مجلد وفي رواية انها بلغت مائة الف مجلد لا نظير لها في الجودة. ووقف موفق الدين أبي طاهر بساوة دار الكتب. قال ابو بكر بن شإذان: وكان ممن أخذ عن الصولى وكان يتباهى كثيراً بالكتب وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان كل صف من الكتب لون فصف أحمر وصف أصفر وغير ذلك قال فكان الصوفي يقول هذه الكتب كلها سماع وكان ابو منصور الخوافي كثير الرواية وأكثر رواياته كتب الأدب وكان قد جمع كتباً من كل جنس. وكانت لبني موسى بن شاكر همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل وأتعبوا انفسهم في شأنها وانفذوا إلى بلاد الروم من اخرجها لهم واحضروا النقلة من الاصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني فاظهروا عجائب الحكمة - قاله ابن خلكان وكانت لموفق الدين بن المطرأن المتوفي سنة 587 على ما في تاريخ الأطباء همة عالية في تحصيل الكتب حتى أنه مات وفي خزائنه من الكتب الطبية وغيرها ما يناهز عشرة آلاف مجلد خارجاً عما استنسخه وكانت له عناية بالغة في استنساخ الكتب وتحريرها. وكان في خدمته ثلاثه نساخ يكتبون له أبداً ولهم منه الجامكية والجراية وكان من جملتهم وكان من جملتهم جمال الدين المعروف بابن الجمالة وكان خطه منسوباً وكتب المطران أيضاً بخطه كتباً كثيرة وكان كثير المطالعة للكتب لا يفارق ذلك في أكثر اوقاته وأكثرالكتب التي كانت عنده توجد وقد صححها واتقن

تحريرها وعليها خطة بذلك وبلغ من كثرة اعتنائه بالكتب وغوايته فيها أنه كتب لكثير من الكتب الصغار والمقالات المتفرقة في الطب وهي في الأكثر يوجد جماعة منها في مجلد واحدا استنسخ كلاً منها بذاته في جزء صغير قطع نصف ثمن البغدادي بمسطرة واضحة وكتب بخطه أيضاً عدة منها واجتمع عنده من تلك الأجزاء الصغار مجلدات كثيرة فكان أبداً لا يفارق في كمه مجلداً يطالعه على باب دار السلطان او اين توجه. وكان للقاضي الفاضل من رجال صلاح الدين يوسف ولع بتحصيل الكتب ولعه بالكتابه قيل إن كتبه التي ملكها تكون مئة ألف مجلد وليس هذا يبعد على من كان له من صلاح الدين المكانة المعروفة فقد كان دخله ومغله على ما في كتب التاريخ نحو خمسين ألف دينار سوى متاجر الهند والمغول وغيرهما. وكان جمال الدين بن القفطي الصعيدي وزير حلب المعروف بالقاضي الاكرم المتوفي سنة 646 جماعاً للكتب جمع منها ما لا يوصف وكانوا يحملونها إليه من الآفاق وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار ولم يحب من الدنيا سواها وله حكايات غريبة من غرامه بالكتب ولم يخلف ولداً فاوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب. وكان ناصر الدين العسقلاني المتوفي سنة 723 جماعاً للكتب خلف ثمان عشرة خزانة مملوءة كتبا نفيسة أدبية وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب وبقيت تبيع منها إلى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان إذا أراد أي مجلد قام إلى خزائنه وتنأوله كانه الآن وضعه بيده قال ابن الكتبي: وكان يباشر الإنشاء بمصر زماناً إلى أن اضر لأنه أصابه سهم في نوبة حمص الكبرى فعمي وبقي ملازماً بيته. وخلف ابو زكريا يحيى معين المعري البغدادي الحافظ المشهور من الكتب مائة قمطر وأربع حباب شبأبية مملوءة كتباً وكان الأمير ابن فاتك من افاضل اعيان مصر محباً لتحصيل العلوم وكانت له خزائن كتب فكان في أكثر اوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها وليس له دأب الا المطالعة والكتابة ويرى أن ذلك أهم ما عنده وكانت له زوجة كبيرة القدر أيضاً من أرباب الدولة فلما توفي نهضت هي وجوار معها إلى خزائن كتبه وفي قلبها من الكتب وإنه كان يشتغل بها عنها فجعلت تندبه وفي اثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها ثم شيلت الكتب المبشر ابن فاتك يوجد كثير منها وهو بهذه الحال.

وجمع الوزير الفاضل ابو نصر المنازي كتباً كثيرة وفقها على جامعة ميا فارقين وجامع آمد قال ابن خلكان وهي إلى الآن موجودة بخزائن الجامعين ومعروفة بكتب المنازي. وكان الأستاذ أبو الفتوح برجوان من خدام العزيز صاحب مصر ومديري دولته مولعاً بالكتب ولعه بالطرائف والأثاث والرياش والآلات وخلف منها مالا يحصى كثيرة واقتنى تاج الدين البغدادي اوحد عصره في فنون الآداب وعلو السماع من كتب خزائن مصر كل نفيس. وكان ابو موسى سليمان بن محمد الحامض النحوي المتوفي سنة305 صاحب الكتب الحسأن في الأدب اوصى بكتبه لأبي فاتك المقتدري بخلاً بها إلى أن تصير إلى احد من أهل العلم. وذكر صاحب نفح الطيب أن جده كان غنياً جداً حتى أن المقري هذا لم يدرك من ثروة جده الا أثر نعمة اتخذ فصوله عيشاً وأصوله حرمة ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب. ومن جملة ذخائر قصر العاضد آخر ملوك العبيد بين بمصر التي استولى عليها صلاح الدين يوسف خزانة كتب من الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة الف مجلد. وكان ابو سعد السماني صاحب كتاب الانساب يحصل الكتب. وكان ولد القاضي الفاضل الأشرف بهاء الدين مثابراً على تحصيل الكتب مثل والده. وكان في دار أبي المظفر بن معروف من افاضل مصر واطبائها مجلس كبير مشحون بالكتب على رفوف فيه ولم يزل في معظم اوقاته في ذلك المجلس مشغلاً في الكتب والقراءة والنسخ قال في طبقات الأطباء: ومن اعجب شيء منهم الا وقد كتب على ظهره ملحاً ونوادر مما يتعلق بالعلم الذي قد صنفت ذلك الكتاب فيه وقد رأيت كتباً كثيرة من كتب الطب وغيرها من الكتب الحكمية كانت لأبي المظفر وعليها اسمه ومامنها شيء الا وعليه تعاليق مستحسنة وفوائد متفرقة مما يجانس ذلك الكتاب. قال الذهبي وسنة اثنتين ومائة مات الضحاك بن مزاحم الخراساني صاحب التفسير وكان علامة وكان مؤدباً عنده ثلاثة آلاف صبي ومكتبة كالجامع كان يدور عليهم قلت: ومن العجيب وجود كتب في القرن الأول تكون من الكثرة بحيث صح أن تدعى مكتبة وكان اسحق بن إبرأهيمالنديم الموسيقي المتوفي سنة 235 كثير الكتب حتى قال أبو العباس ثعلب رأيت لاسحق الموصلي الف جزء من لغات العرب وكلها سماعه وما رأيت اللغة في

منزل احد قط أكثر منها في منزل اسحق ثم منزل ابن الاعرأبي. وكانت صاحب القاموس الفيروز ابادي لا يسافر الا ومعه احمال من الكتب. وكتب ابن قيم الجوزية بخطه مالايوصف وكان محباً للعلم ومطالعته وكتابته واقتناء كتبه واقتنى من الكتب مالا يحصل لغيره. وكان عند محمد ابن سيد الناس كتب كبار وأمهات جيدة وهو من الحفاظ والمحدثين ورأى ابن النديم صاحب الفهرست مكتبة ابن أبي بعرة من أهل مدينة الحديثة في الموصل وقال: إنه لم ير لأحد مثلها. ومدح ياقوت الحموي مدينة مرو فقال: ولولا ما عرا من ورد التتر إلى تلك البلاد واخراجها لما فارقتها إلى الممات لما في أهلها من الرقة ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها فإني فارقتها وفيها عشرة خزائن للوقف لم ار في الدنيا مثلها كثرة وجودة منها خزانتأن في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية وقفها رجل يقال له عزيز الدين ابو بكر عتيق الزنجاني وعتيق بن أبي بكر وكان فقاعيا للسلطان سنجر وكان في أول أمره يبيع الفاكهة والريحان بسوق مرو ثم صار شرأبياً له وكان ذا مكانة منه وكان فيها اثنا عشر الف مجلد او ما يقاربها والأخرى يقال لها الكمالية لا ادري إلى من تنسب وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعد محمد منصور في مدرسته ومات المستوفي هذا في سنة 494 وكان حنفي الذهب وخزانة نظام الملك الحسن بن اسحاق في مدرسته وخزانتأن للسمعانيين وخزانة أخرى في المدرسة العميدية وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها والخزانة الخاتونية في مدرستها والضميرية في خانكاه هناك وكانت سهلة التنأول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت ارتع فيها واقتبس من فوائدها وإنساني حبها كل بلد والهاني عن الأهل والولد وأكثر فوائد هذا الكتاب (معجم البلدان) وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن. وفي خطط مصر ومزاراتها للسخاوي أن المدرسة المحمودية بخط الموازينيين انشأها محمود الاستادار في سنة 797 ورتب بها درساً للسادة الحنفية وللحديث النبوي وعمل بها خزانة كتب لم تحو خزانة مثل ما فيها من الكتب وهي كلها كتب قاضي القضاة إبرأهيمبن جماعة وكان الأمام زين الدين ابو حفص عمر بن مسلم القرشي من علماء دمشق المتوفي سنة 792 مولعاً بالكتب وملك من نفائسها شيئاً كثيراً حتى أنه لما اعتقل هو وابنه بقلعة

دمشق في دولة الظاهر برقوق رهن كثيراً من كتبه على المبلغ الذي طلب منهما. وأولع الأمام المقري الواعظ المفسر الخطيب الصوفي شيخ العراق عزالدين أبو العباس احمد الفاروقي الواسطي بالكتب كثيراً قال ابن كثير: إنه خلف الفي مجلد ومائتي مجلد وتوفي سنة 694 واحب بدر الدين بن غانم احد كتاب الإنشاء بدمشق الكتب وعني بجمعها وخلف الفي مجلدة. ووقف فخر الدين المارديني الفيلسوف سنة 594 جميع كتبه في مدينة ماردين في المشهد الذي وقفه حسام الدين بن ارتق الفيلسوف والكتب التي وفقها فخر الدين هي من اجود الكتب وهي نسخة التي كان قد قرأ أكثرها على مشايخه وحررها وقد بالغ في تصحيحها واتقانها. وحصل عمرأن الإسرائيلي الطبيب المتوفي سنه 637 من الكتب الطبية وغيرها مالا يكاد يوجد عند غيره. وأحصيت الكتب التي وجدت في خزانة نور الدين على بن جابر فكانت نحو ستة آلاف مجلد. وبامثال هؤلاء راجت صناعة الوراقة والنسخ في البلاد الإسلامية وراج المطابع اليوم او أكثر حتى كان الوجيه بن صورة المتوفي سنة 607 سمساراً في الكتب بمصر (وله في ذلك حظ كبير وكان يجلس في دهليز داره لذلك ويجتمع عنده في يوم الأحد والأربعاء اعيأن الرؤساء والفضلاء ويعرض عليهم الكتب التي تباع ولا يزالون عنده إلى انقضاء وقت السوق فلما مات السلفي سار إلى الأسكندرية لبيع كتبه) وبعد فقد أولع أهل الأندلسين بالتطريس على أثار المملكة الإسلامية الشرقية في علومهم صناعتهم وزراعتهم حتى كان لبعض العظماء منهم في كل عاصمة من عواصم العلم في الشرق مساخ متوفرون على نقل الكتب التي يؤلفها المشارقة والا يصح أن تخلو منها مكاتب المغاربة فكان الأندلسين كسائر الغربيين الاوروبين من الإفرنج يولعون من الفطرة بالأخذ عن الشرق كليات الحضارة وجزئياتها. وترى اليوم مثالاً من ذلك يشبه حال الأندلسيين مع سكان المشرق قديماً فإن أهل الغرب ما برحوا ييتبعون أثار السلف في الشرق على ارتقاء العلوم عندهم وايغالهم في مرامي المدينة. ذكروا إنه كان في الأندلس وحدها سبعون مكتبة عامة فيها مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة. قال ابن الخطيب كانت في سبته خزانة كتب العلوم وكذلك في مكناسة الزيتون خزائن الكتب. وكان الحكم بن الناصر المتوفي سن جماعاً للكتب يبذل الأموال في

استجلابها من الاقطار قال الذهبي: ولعل كتبه كانت تساوي أربعمائة ألف دينار وقال لسأن الدين بن الخطيب إنه كان محباً في العلم والعلماء مثيراً للرجال من كل بلد جمع العلماء من كل قطر ولم يكن في بني امية الأعظم همة ولا اجل منزلة في العلوم وغوامض الفنون منه قال ابن حزم: اخبرني تليد الخصي وكان على خزانة العلوم والكتب بدار مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها الا ذكر اسماء الدواوين لا غير. وقال ابن خلدون أن الحكم كان يبعث في شراء الكتب إلى الاقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس مالم يعهدوه قال جمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والاجادة في التجليد فاوعى من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده الا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن يبيع أكثرها في حصار البربر وأمر باخراجها وبيعها الحاجب واضح ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة. ونقل المقري أن الحكم جمع الكتب مالا يحدولا يوصف كثرة ونفاسة حتى قيل انها كانت أربعمائة الف مجلد وانهم لما نقولها أقاموا ستة أشهر في نقلها قال: وكان ذا غرام بها قد أثر ذلك على لذات الملوك فاستوسع علمه ودق نظره وجمعت استفادته وقلما يوجد كتاب من خزائنه الا وله فيه قراءة او نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد الا عنده لعنايته بهذا الشأن. وكان ابو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن أحد ملوك المصامدة شديداً الولع بالعلم والأدب طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة فجمع كثيراً من اجزائها وبدأ من ذلك بعلم الطب ثم تخطى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة وأمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي قال صاحب المعجب: اخبرني أبو محمد عبد الملك الشذوني أحد المتحققين بعلمي الطب وأحكام النجوم قال: كنت في أيام شبيبتي استعير كتب هذه الصناعة يعني صنعة الأحكام من رجل عندنا بمدينة إشبيلية اسمه يوسف يكنى أبا الحجاج يعرف بالمراني كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في الفتنة

بالأندلس فكان يعيرني اياه في غرائر أحمل عرارة واجيئ بغرارة من كثرتها عنده فاخبرني في بعض الأيام أنه عدم تلك الكتب بجملتها فسألته عن السبب الموجب لذلك فاسر الي أن خبرها انهي إلى أمير المؤمنين فارسل إلى داري وانا في الديوان لا علم عندي بذلك وكان الذي ارسل كافور الخصي مع جماعة من العبيد الخاصة وأمره أن لا يودع أحداً من أهل الدار وأن لا يأخذ سوى الكتب وتوعده والذين معه أشد الوعيد أن نقض أهل البيت ابرة فما فوقها فأخبرت بذلك وانا في الديوان فظننته يريد استصفاء أموالي فركبت وما معي عقلي حتى اتيت منزلي فإذا الخصي كافور الحاجب واقف على الباب والكتب تخرج إليه فلما رآني وتبين ذعري قال لي لا بأس عليك واخبرني أن أمير المؤمنين يسلم علي وانه ذكرني بخير ولم يزل يبسطني حتى زال ما في نفسي ثم قال لي: سل أهل بيتك هل راعهم احدا اوة نقصه شيئاً. جاء أبو المسك حتى أستأذن علينا ثلاث مرات فاخلينا له الطريق ودخل هو بنفسه إلى خزانة اكتب فأمر باخراجها فلما سمعت هذا القول منهم زال ما كان في نفسي من الروع وولوه بعد أخذهم لهذه الكتب منه ولاية ضخمة ما كان يحدث لها نفسه. ولم يزل يجمع الكتب من اقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له منهم مالم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب. ولماتغلب السلطان يعقوب بن عبد االحق صاحب المغرب الأقصى على ملك قشتالة في أواخر المئة السابعة سأله أن يبعث إليه يكتب العلم التي بايدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام فبعث إليه منها ثلاثة عشر حملاً فأمر السلطان بحملها إلى فاس وتحبيسها على المدرسة التي اسها بها لطلبة العلم. وكان احمد بن الرومية احد اعلام المحدثين المتوفي سنة637 وهو النباتي الذي وقف على مالم يقف عليه غيره ممن تقدم في الملة الإسلامية حتى صار فرداً لايجار به احد بإجماع من أهل هذا الشأن - كثير الكتب جماعاً لها كما قال في الأحاطة وذلك في كل فن من فنون العلم وربما وهب منها لملتمسه الأصل النفيس الذي يعز وجوده احتساباً واعانة على التعليم قال: وانتشرت عنه تصانيف أبي محمد بن حزم واستحسنها واظهرها واعتنيى بها وأنفق عليها أموالاً جمة حتى استوعبها جملة فلم ينشد له منها الا ما لا يخطر له مقتدراً على ذلك بجدته ويساره. قال: ولما وصل إلى المشرق لقي مئتين من شيوخها فقفل برواية

واسعة وجلب كتباً غريبة. وذكر صاحب الأحاطة أن ذا الوزارتين أبي عبد الله اللخمي المتوفي سنة 708 اكرم العلم والعلماء ولم تشغله السياسة عن النظر ولا عاقة تدبير الملك عن المطالعة والسماع وافرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت قصوره عن خزائنها وأثرت انديته من ذخائرها. قال ابن خاتمة: كان للشيخ أبي بكر الحكيم الرندي عناية بالرواية وولوع بالأدب وصبابة باقتناء الكتب جمع من أمهاتها العتيقة وأصولها الرائقة الانيقة ما لم يجمعه في تلك الاعصر سواه ولا ظفرت به يداه وكان اقتناء الكتب عند الأندلسين من شارات الوجاهة وامارات الظرف وقد يجمع الغني ما شاء من كتب وقماطر وهو لا يعلم الفائدة المترتبة عليها وكان أهل قرطبة ارغب في مقتنايتها من أكثر البلاد الأندلسية. جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بن الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة ما ادري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فاريد بيع آلاته حملت إلى قرطبة وإن مات مطرب بقرطبة فاريد بيع آلاته وكتبه حملت إلى إشبيلية حتى تباع فيها قال أبو الفضل التيفاشي: وقرطبة أكثر بلاد الله كتباً. وروى المقري أن ذلك صار عندهم من آلات التعين ورئاسة حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب وينتخب فيها ليس الا لأن يقال فلان عنده خزانة كتب والكتاب الفلاني ليس عند احد غيره والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. قلت: وهذا الغلو يشبه لعهدنا غلو جماع الطوابع والعادات والصور وممن كان جماعاً للكتب والدواوين العلمية بالأندلس احمد بن عباس الانصاري فكان معتنياً بها مغالياً بها نفاعاً بها من خصه لا يستخرج منها شيئاً لفرط بخله بها الا لسبيلها حتى لقد أثرى كثير من الوراقين والتجار معه فيها وجمع منها ما لم يكن عند ملك - قاله لسأن الدين. وقال في ترجمة احمد بن الصغير الخزرجي من علماء الأندلس المتوفي سنة 559 إنه كان مولعاً بالأسفار كتب من دواوين العلم ودفاتره مالا يخفى كثرة بشدة ضبط وحسن خط وعد في جملته محتنه أن ضاعت له في ذلك وفي غيره كتب كثيرة بخطه مما تجل عن القيمة. وقال وكان احمد ابن إبرأهيممن أهل الأندلس امتحن بان نشأ بينه وبين المتغلب بمالقة من الرؤساء وحشة فكبس منزله واستولت الايدي على ذخائر كتبه وفوائد تقييده عن شيوخه ما

طالت له الحسرة وجلت له الرزية ولما سريت عنه النكبة كانت له الطائلة على عدوه والطائلة الحسنى بعد الثياب أمره والظفر بكثير من منتهب كتبه وتوفي سنه 708. وكان ابو جعفر احمد بن الجواز من أهل القيروان عالماً وجد له خمسة وعشرون قنطاراً من كتب طبية وغيرها. وكان القاسم بن محمد الاشبيلي الأمام الحافظ المحدث المؤرخ باذلاً لكتبه واجزائه ووقفها. وكان ابن نعزله اليهودي كاتب باديس الصنهاجي احد رؤساء الأندلس جماعاً للكتب وكان ضليعاً في العلم كتب عنه وعن صاحبه بالعربي فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى والصلاة على رسوله والتزكية لدين الإسلام. وكان محمد بن حزم جماعاً للكتب. وكان ابو بكر محمد بن يحيى والد أبي زكريا الراوية من حفاظ النحو واللغة والشعر مولعاً بالكتب جمع منها شيئاً عظيماً. وكان عبد الله محمد بن عبد الله السلمي المرسي احد ائمة العلم كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث لا يستصحب كتباً في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه. وكان الوزير الكاتب ابو جعفر احمد بن عباس وزير زهير الصقلى ملك المرية من بلاد الأندلس جماعاً للدفاتر حتى بلغت أربعمائة الف مجلد وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها. وكان المظفرين الافطس صاحب بطليوس كثير الأدب جم المعرفة محباً لأهل العلم جماعة للكتب ذا خزانة عظيمة لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة - قاله ابن حيان. وقال ابن بسام: كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق المترجم بالتذكرة والمشتهر أيضاً اسمه بالكتاب المظفري في خمسين مجلداً يشتمل على فنون وعلوم من مغازي وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب. هذا ما ظفرنا فيه من اسماء غلاة الكتب في عصور الارتقاء في هذه الملة فليته يعود للشرق بعض هذه الهمة في اقتناء المفيد.

نظام الشرب

نظام الشرب لماذا نشرب الماء ضروري للحياة. وقد ثبت أن بعض المخلوقات المنحطة كذوات الثديين تصبر على قلة الماء حتى إذا بللت به تعود إلى الحياة في الحال. وفي الواقع انها تموت بعد أن تترك بيوضاً ذات قشرة ثخينة تبقى في الجفاف وتنقف في الرطوبة. وترى الحيوانات المائية في البلاد الحارة عند ما يقل الماء تتخذ لنفسها وقاية من مادة ملتحمة ثم تخلد إلى السبات. ففي بطائح السنيغامبيا التي تجف ثلاثة ارباع السنة سمك غريب (بروتو بتروس انيكتانس) متى اعوزه الماء وينغمس في قالب من الطحين الملتحم الأجزاء وينام نوماً طويلاً. ولا يعيش الإنسأن في القفار وبلاد السهوب المعشبة الا بفضل بعض الينأبيع القليلة. والحيوانات على اختلاف أجناسها تردها وهي تربد بل صداها. تحمل الحيوان على الشرب ضرورة دفع العطش والمرء وحده هو الذي يتوقع من الشراب لذائذ أخرى. فهو يتطلب اشربة تبعث شهوته للطعام فيختار لذلك في العادة من الادوية المفتحة مما يتألف من الالكحول ممزوجاً بنباتات مرة كثبات كف الذئب وغيره مما يوصي به الأطباء. يتطلب الاشربة التي تسهل الهضم. والمرق من أكثرها تأثيراً وتغذيته متوسطة ولكن ينشأ عنه ترشح عزير في الاخلاط فتكثر العصارة المعدية ولذلك جرت العادة أن يتناول في بدء الطعام. ويتطلب المرء أيضاً اشربه تسره وتطيب بها نفسه كالقهوة والشاي واللوز الهندي تحسن صوت القلب وتدفع التعب وتهيج الرأس. وفي بعض الأمثال أن من يقتصرون على الماء تعروهم الكآبة. فإذا كان العامل يتعاطى الالكحول بعد معاطاة عمله الشاق فذلك لأنه يريد أن يرى نضرة الحياة. والبحث عن المسكرات من مبادئ أعمالنا. ثم أن المرء يتطلب اشربة تغذية طبيعية كاللبن ومحضرة كالشوكولاتا ومخمرة الالكحول. وقد تبين اليوم أن الالحكول مادة تدب منها الحرارة في احسامنا ولكن الإفراط في تنأوله ملازم لاستعماله. مدة بقاء الاشربة في المعدة تقضي الحال بهضم الاشربة كما تهضم الاغذية ويقول الفسيولوجيون أن درجة هضم الطعام تختلف فهي تتبع لمكثها في المعدة. وقد رأى بعض الباحثيين باستعمالهم آلة الفوناند

سكوب أن للمعد اطواراً في هضم الشراب فإذا فرغت الا تستغني في العادة عن أن يكون فيها كمية قليلة من الشراب فمتى تنأول المرء شراباً يسقط إلى المعدة في الحال على خلاف رأي الاقدمين ويمكث فيها زمناً. ويرون أن المعدة تنقبض وتصعد وتستطيل مارة بالعرض ويرتفع معدل ما فيها حتى يبلغ فم المعدة وهكذا ينزح الشراب على طريقة لا تنقطع إذا عرفت هذا فلك أن تقول أن الشراب الممزوج بالاطعمة يمر في المعدة قبل الطعام لقلة كثافته ويشغل الطبقة العالية منها. ويرى أحد الباحثين من الألمان أن المعدة تهضم نصف لتر من الماء في نصف ساعة على حين يبقى اللحم فيها مدة ثلاث ساعات. وإذا جرب البحث في الاشربة المختلفة يتجلى أن مقامها في المعدة يختلف كاختلاف الاطعمة في سرعة هضمها وعدمه وقد جرب الطبيبان بيانشي وكونت فعل الاشربة في إنسان على الريق فأخذا يعطيانه نصف لتر من الماء فتمددت المعدة ككيس وبعد ساعتين فرغ معظم الماء وعادت المعدة إلى صورتها السالفة. وتمدد المعدة بالاشربة الغازية مثل ماء سلتز مثلاً تمدداً كثيراً وتتسع دائرتها ويطول زمن امتلائها فتجدها بعد ساعتين من تنأول الماء وهي محتوية على كمية كبيرة منه. وعليه فالواجب اتقاء الاشربة الكثيرة الغازية كماء سلتز الصناعي الذي ينعش شهوة الطعام الضعيفة قليلاً ثم يحدث عنه في الحال كسل دائم في المعدة. وليس في الخمور المزبدة هذا العائق فإن الاكحول الذي يحتوي عليه يقبض المعدة ثم أن مدمنيها يتعاطونها باردة جداً على درجة برودتها من 8 او 10 درجات واحياناً على معدل درجتين كماتشرب الشمبانيا المبردة. أما المرق فإنه يحدث غازات فتمدد المعدة ويطول أمر تفريغها فإذا هاج المرق ترشيح عصارة المعدة فإنه على العكس يبطئ الانقباضات المعدية. بمعنى أنه يسكن شهوة الطعام على حين يظهر أنه يغذي وليس في تغذيته كبير أمر بل أن المرء يشعر بالجوع بعد تنأوله سريعا وعليه فمن الواجب أن يتناول من المرق كمية قليلة كمايجب أن يكون قليل المائية يتناول على أنه مسهل للهضم زائد في العصارة المعدية لا على أنه غذاء. أما الاشربة المغذية كاللبن والشكولاته فإنها تجري في المعدة فتتقلص بها مسرعة بعد ساعتين من هضمها ولا يعود فيها غير جزء ضعيف والاشربة الحارة والعطرة تبقى في المعدة أقل من جميع أنواع الاشربة ونعني بالاشربة الحارة القهوة اللوز الهندي والشاي

والماتي والاشربة الأخيرة أي القهوة والشاي وللوز الهندي ولماتي نافعة للاعصاب بل انها ملينة لها وذلك أن المعد الكسلانة تحسن حالتها إذا استعملتها على ما أثبتته التجارب واعترف به العامة والخاصة في كل زمن. في أي وقت يسوغ الشراب لايكفي بيان أي شراب ينبغي الاعتماد عليه بل ينبغي أن يعرف في أي وقت يناسب تعاطيه. لا جرم أن في العادة قاعدة لذلك. فاللبن والشكولاتا يتنأولهما الناس في الصباح والخمر مع الغداء والقهوة بعدالطعام. وإذا عرفت هذه القواعد فإن السبب في بقائها مجهول على الجملة وذلك لانا نخضع للعادات بدون أن نبحث عن سرها فالمرق والحساء من المقبلات المعينة على الهضم وهو على جودته يمدد المعدة وهذه تصلح بالخمر الذي يقبضها فإذا لم تكف الخمور المألوفة في تنبيه المعدة الكسلانة فإن القهوة التي نشرب بعد الطعام تقوم مقامها وذلك لأنها تؤخذ على درجة 45 من الحرارة. والاشخاص المصابون بضعف في اعصابهم يستعيضون عن القهوة بقدح من منقوع الاقحوان إذا كأنت القهوة تهيج معهم وذلك لأن في الاقحوان مواد عطرة وحرارتها نافعة كحرارة القهوة. قليل من الخمر على الطعام خير مم يأتيه المدمنون فإنهم يتنأولون منها في الصبوح والغبوق فيأخذون قدحاً في الصباح على الريق لبيعثوا النشاط في أجسامهم ويتنأولون المقبلات والمشبهات والاكحول طول النهار. وهذه الاشربة إذا جمعت تهيج المخاط المعدي كما تهيج عروق الكبد فيتأتى عنها وجع في المعدة ومرض في الكبد أما المعارف بأشكال الخمر فإنه يحافظ على أصول الطبخ فيتسير له أن يتناول كمية كبرى من الكحول بدون أن يشعر بتأثيرات ضارة. كيف ينبغي الشرب لا تكفي معرفة الساعة التي يجد ربها الشرب بل ينبغي أيضاً أن تعرف طريقته. كما أنه ينبغي تنأول الطعام بتأن ينبغي كذلك شرب الماء بتأن فالعارف بالشراب إذا ذاق قدحاً منالخمر الجيد بشربه نغبه ويضعه في فمه شيئاً فشيئاً ويترشفه ليدرك رائحته وتصل به الحال أن يحسن ذوقه بحيث يعرف أصل ما يتناول من الخمر وحالته من القدم وهذه المعرفة تبلغ أرقى درجاتها عند المتتدوقين.

فالسير على هذه الصفة التي ما شأنها التلذذ مما يساعد على الهضم كثيراً وتأثر الاعصاب الذوقية يهيج ترشح الريق فياتي الماء إلى الفم ويحلل الشراب. وقد ابأن الفسيولوجيون أن المعدة وإن كانت فارغة ترشح عصارة معدية بكثرة. وعند ما يصل إليها الشراب فإن كل من المغذيات يهضم بسرعة وإذا كان من المهيجيات كالاكحول يتحلل ولا يؤثر أصلاً في المخاط. ومن سوء الحط أن قليلين من المتذوقين يحسنون معرفة طعم الاشربة وذلك لاننا جمعنا الا نادر منا نشرب كما نأكل بسرعة زائدة دون أن نفكر فيما نعمل حتى إذا اصبنا بسوء الهضم نسرع إلى استشارة الطبيب وهذا لا يلبث أن يوصينا بالتأني ونحن لا نعمل بما يرسم لأن الأقلاع عن العادات السيئة يصعب مباشرة الاجدر استعمال الملعقة او طاس ذي عنق طويل كالذي يستعمله المرضى او يستعمل النبيذ الذي يجفف عنبه على القش. ومعلوم أن الطريقة الأخيرة تستعمل في احتساء الاشربة المبردة والاحتياط في ذلك مطلوب وإذا تنأولها المرء بسرعة تؤثر البرودة في المعدة وتحدث فيها اضطرابات تضربها. واصعب من ذلك المدمن الذي يتناول القدح دفعة واحدة فتفتح المعدة وتقفل بسرعة كالآلة فلا يشعر المسكين الا بالحرارة التي تنشأ عن الاكحول فإذا جرى تنأوله على هذه الصورة من السرعة ودخل على معدة فارغة من الطعام لا يحلله اللعاب فيدخل إلى معدة جافة فيكون من ذلك ما يزيد في المضرة. المدمن كالشره لا صواب في عمله فالأول مدخول في عقله والثاني شهواني. وارضاء شهوة أقل خطراً من الإفراط. وتكفي الشره كمية قليلة من الطعام فإذا أكثر منه تضعف حواسه وينقطع المجنون بالسكر هو ولا شك مصاب في عقله حقيقة لا يشبع مهما كبرت وأحسن الطرق في معالجة دائه أن يمنع من السكر على رغم انفه. الإكثار من الاشربة يشرب الناس كما يأكلون بسرعة بدون أن يتمهلوا في ذوق ما يتنأولون وبعد ذلك يكثرون من العجلة في طعامهم وشرابهم وكلتاهما عادتان رديئتان متلازمتان. فيشرب الشارب شرابه بدون شعور منه كلما رأى كأسه فرغ يملأوه حتى إذا استوفى حظه يكون قد ملا معدته بشراب والقى الاضطراب في عقله بابخرة خفيفة من السكر. ومن اصعب الأشياء

أن يلح عليك من دعاك إلى تنأول طعامه وشرابه بالإكثار فتضطر إلى امتثال أمره أدباً وما هو إلا أن تنقلب إلى أهلك مريضاً لكثرة ما شربت. ليست الاشربة الروحية ضارة فقط لما فيها فإن التسمم الالحكول بل القهوة بل بالشاي مشهور لدى الخاصة والعامة بل أن ضررها يكثر من تنأول الكميات الوافرة منها حتى أن الماء العذب النقي إذا جرى تنأوله با فراط يصبح ضاراً فيحل العصارة المعدية ويمنع الهضم ويتعب المعدة والطعام الكثير لا يستلزم أكثر من ثمانمائة غرام من الشراب ولكن الشراب لا يلبث أن يتناول ضعف هذا الوزن او ثلاثة أضعافه على أن قدحين من الشراب أي من ثلثمائة إلى خمسمائة غرام تكفي في غذاء منوسط والمكثرون من تنأول الجعة يصابون بتمدد المعدة وتضخم البطن وارتخاء البدن وتعب الكلى ويصابون بالزحير وانبساط القلب المفرط فالإكثار ضار على كل حال. الاشربة الشافية إذا كان الإفراط في تنأول الاشربة قتالاً فإن استعمالها في بعض الاحيان قد يشفى وكلامي هنا لا يتناول الادوية العديدة كالمياه المعدنية ومياه البروز واللعوق وغيرها من الاشربة التي تجهز على صورة سوائل بل أن المياه الصرفة وحده مساعداً حسناً على التداوي. فقد قام في الازمأن السالفة أطباء عالجوا الادواء بالماء وأول من سن هذه الطريقة فلاح من أهل العقول الكبيرة اسمه بريسينز اشتهر في أوائل القرن التاسع عشر بعد أن كان خاملاً في قرية صغيرة من سيلزيا من أعمال بروسيا وراح الناس من كل مكان يفزعون إلى تعاطي التداوي بالماء للاستحمام او للشرب منذ ذاك العهد أكثر الأطباء من وصف التداوي بالماء. وكيفما كانت طريقة استعماله فإن الماء إذا أخذ بكثرة يجلب الانحطاط والسميات ويكثر الاخلاط الضارة بالحياة على الكلى والجلد. فمن الضروري أن يشرب الماء على الريق لينفع في غسل المعدة فإن المصأبين بضعف المجموع العصبي تجود صحتهم بتنأول قدح من الماء البارد صباحاً عند القيام من النوم وينبغي اختيار ماء ثقل فيه المعادن والا فتتعب الكلى. ولقد قام في عصر بريسينز من ينافسه ويصف غير طريقته في نفس قريته التي نشأ فيها وأخذ يحظر على الناس الشرب ينأهم في التعريق والتعريق يزعمه يدوم من ست

إلى ثمان ساعات وكان يوعز بالأقلال من الطعام كثيراً وقد فاخر بان كثيرين شفوا على يده بهذه الطريقة ولكن الناس الذين يتحملون طريقته قلائل. اماالأن فقد لطفت طريقة الأمتناع عن الشرب لأن الطبيب يصف للمصاب بسوء الهضم الذي ثقل فيه العصارة المعدية أن يخفف من السوائل كما يصف ذلك لأرباب المعد المصابة بالتمدد والمصأبين بالضعف الذين يحاذرون الأمتلاء والكظة. ولاسيما للشرهين ممن نرى حرمانهم من الاشربة يعدل شهواتهم للطعام بالقوة وفي تلك الحال يكفي تنأول قدح في خلال الطعام ولكن ينبغي أن يمتنع عن الشراب ساعتين او ثلاثاًُ بعده وهكذا اصدق المأثور عن النبي محمد (عليه السلام) (الماء في خلال الطعام يعطي قوة) المشروبات القتالة ثبت الآن أن الماء تنبعث الجراثيم الباثولوجية كالهواء الأصفر والحمى والتفوئيد وغيرها وقلما يعرف الناس أن الماء ينقل بيوض جراثيم الاحشاء كما اوضح ذلك العالم متشنكوف حديثاً وكثيراً من الناس من يحملون في احشائهم جراثيم التفوئيد بل والكوليرا ولا تضر بهم. فالماء يحتوي على حلمات طفيلية بقدر ما يحتوي من الباشلس فاضافة شيء من الالحكول عليه في صورة خمر اوغيره من الاشربة المخمرة لا تأثير له ولا نفع. اما تقطيره الذي طالما دعا إليه الأطباء فلا يؤثر إلا إذا بولغ في التدقيق فيه وهو ضاراً إذا كان هناك تربة ترشح وفيها شقوق. وأحسن الطرق في تنأول أفضل الماء سالماً من المضار أن يطال تعريضة للهواء والشمس فهما يقللان سمية الجراثيم ويقيضان عليها. وبذلك يفهم القارئ كيف أن أهل مدينتي كفرسان وانجر إحداهما تشرب من نهر السين والثانية من نهر اللوار هم أقل أصابة بالحمى التيفوئيدية من غيرهما من المدن التي يستقي ماءها من الينأبيع وذلك لان بينك المدينتين تشربأن الماء بعد أن يمر على مرشحات متسعة من الرمل والفحم فيتعرض للهواء ويتصفى. أما من حيث الحلمات الطفيلية فإن الهواء والنور لا يؤثرأن فيها ويقول متشنكوف ينبغي غلي الماء للوقاية منه لكن هذا الاحتياط يصعب اتخاذه اذ أن الناس إذا تنأولوا طعامهم مطبوخاً وامكنهم الاستغناء عن البقول الفجة الا بغسلها بالماء المغلي وإذا أكلت من الفواكه ما طبخ او كان قابلاً للتقشير ولم يؤخذ اللبن الأمغلياً فإن استعماله الماء

المغلي هو في العادة ثقيل تفه لا لذة فيه. نقول تفه لأن فقد الحامض الكربونيك الذي يوليه الطعم وثقيل لأنه زالت عنه مواده المعدنية. على أنه يمكن على حال أن لا يغإلى برداءة الماء المغلي وذلك بان يهوى بالتكرير ويحفظ في مكان رطب. ويستعمل الجنس الأصفر الشاي الخفيف في امصارهم لأن الماء النقي من الشوائب يصعب ايجاده في بلادهم الكثيرة السكان ولكننا لا نرى استعماله في بلادنا لان تأثير الشاي إذا أضيف إلى تأثير الاشربة المخمورة والإكثار من اللحوم يضرنا أكثر مما ينفعنا. وانه ليطول العمل بهذه النصائح ولكنها تنفع ضعاف الأجسام ممن يريدون عود العافي عليهم كما تنفع صحاح الجسم ممن يتعرضون لانتهاك القوى والضعف إذا استرسلوا بلا وازع ضمعي. وحفظ الصحة عدو اللذة.

سياحة العقل

سياحة العقل لا تقبل الاجرام عدا ... كلا ولا الابعاد جداً العقل يرجع خاسئا ... عنها وأن لم يأل جهدا يرقى إليها موريا ... بالفكر في الظلماء زندا متجهزاً بضياء ان ... ظار بها إن ضل يهدي وقد استعد وكل سا ... ع يستعين بما استعدا فيسيح في ليل به ... زهر النجوم يقدن وقدا ويجوز اجوازاً لها ... متعسفاً فيكاد يردى مهما ترقى صاعداً ... الفي وراء البعد بعدا يسمو وينفذ موغلا ... فيصده الاعياء صدا حكت المجرة صارما ... وحكت سحائبها فرندا نفسي تود وكيف ام ... نع في نفسي أن تودا لو انها وجدت طري ... قاً منه للشعرى يؤدى وتصعدت فتقلدت ... من انجم الجوزاء عقدا وبكفها لمست من ال ... قرب السماء اللازوردا خادعت نفسي حين لم ... ار من خداع النفس بدا اني إذا خالفتها ... كانت لي الخصم الالدا يانفس بعد الموت ذا ... لك كائن فاليك وعدا والعقل يعلم من سيا ... حته التي أولته مجدا أن المجرة لم تكن ... الا عوالم فقن عدا والسحب فيها انجم ... هن الشموس بعدن جدا متحركات في السما ... ء تخال أن لهن قصدا متنقلات في فس ... يح فضائها عكساً وطردا فلها مجاز في مجا ... هلها تسير به ومعدى زرقاً وحمراً زاهيا ... ت في مجاريها وربدا متجاذبات لو تخل ... ف واحد عنها ولا ودى

وهناك اجرام على ... كر الدهور جمدن بردا ستعيد يوماً ما حرا ... رتها القديمة او أشدا وتمد ثانية اشع ... تها إلى الأطراف مدا اني لاحسب أن ها ... ذا الكون حي سوف يردى وكذاك احسب كل نج ... م جوهراً للكون فردا والأرض بنت الشمس تر ... ضع من حرارتها وتغذى وتدور في أطرافها ... مشدودة بالجذب شدا فتطوف مثل فراشة ... لاقت بجنح الليل وقدا وبدور محورها توج ... هـ نحو نور الشمس خدا لولا دليل الجذب ما ... ملكت بهذا السعي رشدا ولا بعدت عن امها ... فمضت وما الفت مردا بل تاه حامد جرمها ... او صادممت في السير ضدا فهناك يهلك أهلها ... وتكون للسكان لحدا ويلي لها أن صادمت ... جرماً من الاجرام صلدا لهفي على الشبان تخ ... مد منهم الانفاس خمدا وعلى الحسأن الكاعبا ... ت عرضن كالرمان نهدا والورد خداً والظبي ... عينا وخوط البان قدا تردى وأكبر في نفو ... س العاشقين بذاك فقدا فتموت سلمى في الشبا ... ب وزينب وتموت سعدى كشفت بهم غماؤها ... واحيل بؤس العيش رغدا هم البسوا الاقواماذ ... فسدوا من الإصلاح بردا وبنوا بفضل الذب بي ... ن الظلم والضعفاء سدا مثل السيوف المصلتا ... ت لهم تكون الأرض غمدا وعلى الفلاسفة الإلى ... كشفوا من الاسرار عدا وعلى الرجال الماحص ... ن العلم تحقيقا ونقدا

ويلي له من حادث ... يستفيد الاعمار حصدا أن لم يمت في يومه الان ... سأن فهو يموت بعدا ما الموت الا منهل ... نأمنه وفداً فوفدا قد مر للمتنعمي ... ن وطاب للبؤساء وردا حمداً لك اللهم في الس ... راء والضراء حمدا ماذا تكون الأرض بع ... د صلائها اتعود تهدا اتجد بعد خرابها ال ... مظنون للعمران عهدا الها إذا بلغت بها ... ية دورها المسعود مبدا اني لآمل أن تعي ... د قوى الحياة وتستردا وتعيش حيواناً بها ... وتكون للإنسان مهدا وتعيد اباء كلما ... كانوا بها وتعيد ولدا الأرض بالإنسان تك ... سب بهجة وتنال سعدا ياارض لولا سعيه ... لم تدركي يا ارض مجدا هو ذلك السر الذي ... افشاه مبدعه وابدى لا تحتقره لكونه ... في زعمهم قد كان قردا فلقد تقدم في الكما ... ل وبالفضائل قد تردى

تهذيب الفرد في المجتمع الإنساني

تهذيب الفرد في المجتمع الإنساني تهذيب الفرد لفظ يراد منه معاونته على التذرع بالذرائع التي تؤهله إلى حياة تامة في هذا الوجود. والتهذيب من حيث هو يشمل على أمرين أحدهما أن يكسب الفرد شيئا من العلم ثم يصحبه بشئ من العمل وكلأهما نافع. بل هما من الأمور التي يترتب عليها قوام معش الفرد والاسرة والأمر الآخر يتضمن ترقي القوى المودعة في الفرد على اختلاف أنواعها وهذا الترقي يمكن تلك القوى من نيل اللذائذ التي تهديها طبيعة الوجود والبشر إلى نفوس تقبلها وتستطيع أن تستمع بها. النوع الأول تحث عليه الأخلاق وتوجبه لان به يحصل التلاؤم بين الفرد ومحيطه ويصبح خليقاً بالوجود. ولما كان لهذا النوع علاقة بالحياة كان الحصول عليه من واجبات الفرد نحو نفسه ثم نجو المجتمع. وأصحاب العمل اليدوي لا ندحة لهم عن احراز هذا النوع من التهذيب لان به معاشهم ولا غنى عنه بكل فرد من البشر اللهم الا لمن انتقل إليه شئٌ من الرزق بالارث فيمكنه أن يعيش به. اما سائر الأفراد فإنهم إذا اغفلوه ولم يتعنو له يتعذر عليهم مناصبة الطوارئ الطبيعيه التي تقضي بنسخ الضعيف ليقوم مقامه القوي. وينتج من هذا أن الفرد الذي لا يكون متأهباً التاهب التام بهذا التهذيب يصبح كلاً على كأهل ثائر الناس هو واسرته وولده فإذا هم ابوا تقديم الضرورات له ولنسله فلا يتخلصون من قلق وسآمة ينالأنهم عند مشاهدة عجزهم وألمهم. وهو بلية على البشر مصدرها أولئك الذين عاثو في الأرض فسادا او بخسو التهذيب حقه وخلطو فيه اذ وهمو فيما يتقاضونه فأطلقوه على ملعومات ربما حملت في مطاويها ضر أكثر من نفع وربما كانت وسيلة لإكثار القاعدين الذين لا طاقة لهم بهذا الوجود. هؤلاء باسم العلم والتهذيب يثقلون مناكب البشر ويكلفونهم بتقديم القوط وسائر الحاجات. يتسمون بسمات لون نزعنها عنهم لرايت تحتها العجب العجاب. أما النوع الثاني فليس له نهج خاص ولا يجب أن ينحى في طلبه طرق معلومة والأولى أن تترك القوى وشأنها فلا يكون الواجب مسيطراً عليها رد ليلها الطبيعة والسليقة وهما تسوقأن الفرد إلى معرفة اللذائذ التي هوأهل أن يمتع نفسه بها والتي إذا تغاضى عنها ولم يبالي بها كأن ذلك باعثا في انتقاص سرورة وزياة المهم أن أهل الزهد يتخلون عن البشر ويعمدون إلى مسخ جسومهم وتعذيب ابدانهم على أتباعهم أي ملذة كانت وينفرون من كل ما

يطلق عليه هذا اللفظ على أن تعظيم العامة لهم ومجرد ذهابهم إلى أن العناية الغيبية راضية عنهم فيه من اللذة ما فيه هذا مع أنه لا دليل لهم على قهر انفسهم وكراهتهم للذة وغلوّهم في الزهد حدا بفرقة الكوكر أن ينددو بهم ويخطوهم. وقد رأينا طائفة من الفلاسفة مذهبهم أن السعادة هي أسمى فضيلة وفلسفتهم تدعي الهدونية فهوُّلاء يحرضون يحرضون على ترقية المدارك والعواطف وتمرينها على معالجة المحسوسات بحيث تصبح خليقة إن تكب منها كل ما من شانه جرُّ سرور لصاحبها او رفع الم عنه وعلى التمادي تصل به إلى السعادة المنشودة وكله استعداد لحياة تامة وهذا مما يقتضيه التهذيب على ما مرّ بك وتحث عليه الأخلاق. تر مما تقدم اننا وصفنا التهذيب وصفاً عاما ونتوخى الان أن نورد لمعاً عن فروعه المتفاوتة ومأخذه المتعددة فمن جملة هذه الفروع التهذيب العملي وهو أعظمها خطراً على لمن الناس لا يقدرونه حق قدره وقد كاد يهمل أمره في كثير من معاهد الطلب وتلافى هذا الخطر أهل النظر فقاموا بشدون ازره وسعوا بإدخاله في لوائح المدارس. على أن المنافع التي تنجم عن التمرين العملي والمهارة اليدوية تتجلى لمن توقف معاشه عليهما وانحصرت مصادر ضرورات حياته فيها على أنه لا يسع من كانو في غنا عنها لما توفر عنهم من دواعي الثروة وأسباب الدعة الا الاقرار بالنفع الذي يتأتى من التحصن بهما. ولا نزاع في أن هذا التهذيب ياتي بمرأفق خطيرة ينصرفون إلى الاشتغال بالصنائع وسائر الأعمال البدنية على أنه لا ينبعي أن يعني به كثيراً في تربية الطلبة الذين عقدوا النية على معطاة الصنائع في المستقبل لان هؤلاء يتيسر لهم فرص لاتمامه وحسبهم التمرن على شئ طفيف منه. أما الطلبة الذين يتوخون ولوج الدوائر العلية من المجتمع كوظائف الحكومة وسائر الأعمال العقلية فيجب أن تربى فيهم المهارة الفنية والقوة المدركة على السواء لان محيطهم المنتظر لا يمكنهم من الرياضة العضلية وإنهماكهم بمعضلات المسائل بنسيهم الواجب عليهم لابدانهم. ثم أن الفرد الذي يهذب علقه وبدنه يكون أقل عرضة لعوامل الوجود وعوارض الطبيعة من مشوه الجسم واندهمته نكبة او بغتته حادثة فهو اقدر على درء ضرها عنه وقد يكون عوناً لاخوانه في كثير من الاحايين بيدان الضعيف من البشر يعرضه ضعفه إلى الوقوع

في حبائل النوائب وقد يؤدي به إلى الهلكة إن يم يغثع قريبه المقتدر فترى من هذا أن مشاعر الفرد وأعضاء بدنه لها غاية واحدة وهي المناسبة والمطابقة بين افعال الفرد وبين الأشياء والحركات التي تتنأولها افعاله فوجب أذن على البشران يرقوا مداركهم وجسومهم على السواء لتكون خليقة بافعال ذات شأن حتى يكمل التناسب بين الفرد والمحيط أن في الطرائق التي تتخذ الأن في تروية الطلبة نقص محسوماً. وما استخف تربيه نلقن برمتها بمثائل تلقى على الطالب ليعيها في حافظته فالعلم معلا شانه والعمل مهمل أمره ولا يسوغ الشطط في وجوه التهذيب فالتمرين العملي واجب وينبغي أن ينظر فيه إلى الغاية التي ينشهدها الفرد ويردها أن تكون اسا بحياته ثم هو يتروى في فوائد التمرين ويأخذ منه قدرا ينفعه في إدراك غايته ويهمل مالا يجديه أما المنافع التي تكون من تهذيب القوى باسرها فمما لأمراء فيه وهي تظهر في كل عمل من أعمال البشر. التهذيب العقلي هو الفرع الثاني من تهذيب الفرد ولعله ينطبق في مأخذه على الفرع الأول فكما أن في التهذيب العملي ريضاة لأعضاء بصور تعدها لمعالجة الأشياء مباشرة فهكذا التهذيب العقلي يوجب تمرين العقل وتجهيزه للمطابقة بينه وبين الأشياء لمعالجته اياها بواسطة الأعضاء. على أن التهذيب العقلي بأعلى صوره هو فوق طاقة العامة فيكاد يخفا عليهم أن ثمة علاقة بينه وبين الحياة العملية وأن بينهما مطابقة وأنه نافع للبشر في تحصيل معايشهم وما ذلك لضعف نظرهم في الأمور وجهلهم بطبائع الأحوال. فقد نسو أن العود الذي يرفع به ثقل وأن الدولاب والجذع اللذين يستخدمأن في باخرة ماهي كلها تطبيق لمبادئ العلم في نظريات المخل. نسو أن تثقيف النبال يقتضي علم ببعض مبادئ القوى والحركة في العلم الطبيعي واننا نحن نتدرج من هذه المبادئ البسطية في العلم ثم نتطرق إلى نتائج رياضية وفلكية وأن العلم نفسه نشا نشوءاً وما زال يترقى حتى بلغ حاله المعهودة الان وأن المعارف المشوشة التي ابتدا العلم بها قد كانت للبشر أساسا لاكتشاف العلم المنظم والنافع للفرد وبدونه لا يقوى على الحياة الا ترى أن المعارف العالية في الفلك وسائر الرياضيات هي دليلنا الأمن في المعامل والمكاتب أهل العمل التجاري وفي تسيير السفائن والبواخر. وإن علم الحكمة والكيمياء ليس عنهما غنى في التجارب العلمية والتحليل المادي وعلى الجملة فالتهذيب العقلي يوجب ترقيه قوة الفرد ومواهبه وبذلك يؤثر

في محيطه ثم يستعد لان ينفع نفسه ويحيى حياة تامة. ولما كأنت التهذيب العقلي وسيلة لمعرفة طبائع الأشياء وجب توسيع نطاقه مهما امكن فلا يجوز للفرد أن يتخذ جزء منه ويغفل أجزاء ولعل هذا من نقائض الأساليب الحاضرة في تعلم الصنائع. فإن العلم ببضعة من المظاهر الطبيعية مع جهل سائرها قد يؤدي إلى سقطات فادحة في ابداء الأحكام في أحوال الموجودات وقد يتعذر بقاؤه في الذاكرة. ثم أن لكل شئ وكل عمل في هذا الوجود روابط تربطه إلى ظواهر الكون على تباين صنوفها فمنها ما هو رياضي ومنها ما هو طبيعي ومنها ما هو كيماوي ومنها ما هو حيوي وهذه الظواهر جميعها مشتبكة بعضها ببعض حتى أن العلم التام بجملة منها يقتضي العلم بمبادئ بقيتها. وقد يستغرب بعضهم من الحث على توسيع التهذيب إلى هذا الحد ويخيل لهم أن ذلك لا ضرورة تدعو إليه على أن تعميم التهذيب على هذا الاسلوب يمكن الفرد من إدراك حقائق كل علم على حدته دع عنك ما فيه من إدراك النتائج الأصليه التي تتفرع عن هذه الحقائق ولا يجب عليه أن يبحث عن تشعباتها ونسبها وتفاصيلها فليس ذلك من شانها وبعد أن يقف على مبائ العلوم باسرها يصبح ذا المام بمظاهر الكون جميعها وإذ ذاك يكون قد استعد استعدادا تاما للاخصاء فيصرف نفسه إلى جملة من ظواهر الطبيعة ويعمد إلى درسها واتقانها. نرى من هذا أن الاجتماع نفسه يحث على التهذيب العقلي من وجه مضمن لأنه كلما عظم شانه سهل أمر معاش الفرد والاسرة. وبالجملة استدر المجتمع النفع العام. وهنالك وجه آخر ظاهر يؤيد التهذيب العقلي على أنه ليس له علاقة بالحياة العملية وهو مستقل عنها كل الاستقلال وهاك ما نقصد على سبيل الايضاح: - أكثر البشر لا يدركون عظمة الكون وذلك لقلة مادة العلم وكساد بضاعة التهذيب بينهم فالخادم وصاحب الحانوت وحامل العلم والأديب جميع هؤلاء لا يدكون عظمة مافي هذا الوجود من حي وجماد ولا يدكون ما يستطيع إدراكه ناس انقطعوا إلى درس حركات الطبيعة وظواهرها. هؤلاء يقدرون أن يبحثوا في دقائق الطبيعة ويسرحوا مخيلتهم في الكون بعد أن يكونوا قد اقصوا عن عقولهم المباحث والخواطر التي تتعلق بالحياة العملية. تصور ردهة مزدانه حوائطها بانوع الزين وقد دخلت إليها في جنح الدجى ولم يكن فيها الا شمعة منارة موضوعة بقرب زاوية في

الحائط فبأن لك شئ من الزينة والنقوش وخفيت عنك أشياء وبينما أنت في هذا الحال انيرت مئة قنديل كهربائي فازالت من الردهة رداء الظلام الحالك ومثلتها لعينيك بما فيها من الزين والنقوش. هذا مثال ينطبق على ظواهر الكون كل الانطباق فالعلم يعلي شأن الحياة العقلية وكلما كان تهذيب الفرد اتم كل نظرة في الكون اوسع. ينتج من هذا أن درس نظام المظاهر الطبيعية يوجد في الفرد علما عاما بأحوالها علي أنه يؤدي به إلى حدود يقف عندها العقل البشري في دهشة ويتقاصر عن تجاوزها كل بحث وعبروا عنها بقولها ما وراء الطبيعة. وهذا الدرس يمكننا من إدراك العلاقة بين الفرد واسرار الوجود ويخولنا أن نشارك الطبيعة ونتمتع بما تفيضه علينا من سوابغ النعم وعظيم اللذائذ. أما العلم الذي يجب عل الفرد أن يتطلبه قعلم الاجتماع وهذا يتضمن الاطلاع على التاريخ ولاسيما ما كان يبحث منه عن الوطن وماله علاقة به وينبغي تتبع اصار الأمم والرجوع بها القهقرى إلى ما قبل انبلاج فجر حضارتها والبحث عن أثارها في ابان بدوتها لان هذا البحث هو المصدر الذي نشات منه الحقائق الاجتماعية المتفرقة وهو مهمل في دوائر التربية الحاضرة. ثم أنه يجب الوقوف على أحوال الأمم الشرقية لأن ذلك يفتضيه علم العمران ويوجبه. ودرس التاريخ يجب أن يتناول بالأكثر أحوال الأمة وكل ما ليس له علاقة بالاشخاص على أنه لا يجوز اغفال سيرة الرجال بتاتا ولا يجب أن يبخس حقه غير أن المؤرخين افرطو في الاهتمام به حتى انهم حصروا علم التاريخ بتراجم العظماء ومازال الاغمار في كل عصر يؤيدون هذا الرأي. وقد صرح كارليل أن علم التاريخ كتابة عن تدوين حوادث قام بها الملوك مضافا إليه ترجمة حالهم والناس الآن يميلون إلى الاطلاع على تواريخ الرجال الغابرين كما يرغبون في الاطلاع على أحوالهم المعاصرين. والغرض من درس التاريخ هو الاطلاع على نواميس النشوء الاجتماعي وهذا لا يتيسر بالوقوف على ترجمة حال الملوك والوزراء والبابوات والقواد ولا بالعلم بما شنوه من الغارات او قاموا به من الحصارات او احدثوه من المؤأمرات وابرموه من المخالفات والمعاهدات. ثم انك إذا تدبرت الطرق التي ترقي بها المجتمع ت أن رقيه كان بادئ ذي بدُّ في تقسيم

الأعمال وتوزيعها على الأفراد وكثيراً ما حدث التقدم بدون رضى الحكام. هذا يدلك على أن النشوء العمراني يجري مجراه فيكيف المجتمع وينوعه غير مبال بالعوائق التي يحاول الكبراء صده بها. ويليق بنا أن نعلم شيئا من الأعمال التي قام بها بعض الملوك ونطلع على أخلاقهم لما في ذلك من النفع لنا في إدراك مشاهد النشوء لتي حدثت في زمانهم والتي إن هي قصلت عن حوادثها وعن اشخاص كان لهم علاقة بها تعذر إدراكها حق الإدراك ثم أن المعرفة المتوسطة من هذا العلم تعيننا على إدراك الطبع البشري وتق بنا على بقاع نشرف منه على ما بلغه الإنسان عن طرفيق متناقضين وهما الصبر والخير فمن البشر من يسعى إلى دمار العمران وخرابه ومنعم من يسعى إلى إعلاء شانه وتوسيع نطاقه. اما علم الأدب فلا ريب أن له شانا عظيما في تهذيب الفرد وأعداده لحياة تامة ولا يجب مع هذا أن يخص بوقت طويل لاسيما في تهذيب الرأشدين واعني بهم من بلغوا من العمر ما يناهز العشرين وذلك لأن البشر عموماً يرغبون العمل في أمور تلذهم ويستسهلون معاطاتها. فالتاريخ المتعارف والشعر والروايات وتراجم العظماء طالما عني بها كثيرون وانصبوا عليها وانصرفوا إليها أما العلم الذي يبحث عن طبيعة وظواهر الكون فليس للبشر ميل إليه ولذا وجبت العناية به أكثر من الأدبيات. على أن للدأبيات قدرا عظيماً عند أصحاب الهدونية يتخذونها من وسائل بلوغ السعادة لان عليها تترتب البلاغة في الحديث والطلاقة في اللسان ومنها تكتسب العبارة جزالة ورقة وبها تتولد اللذائذ العقلية وتنصبغ المشاريع الاجتماعية ولولاه لكان الحديث كناية عن ألفاظ يتفأهمون بها وهي خلو من الحياة كالجسم إذا فقد الروح. بيد أن البشر يتطرفون جدا في متابعة تهذيب الفرد فمنهم من يفرط فيه ويغفله بتاتاً فيخسر فوائده جهلا. ومن سلك هذا المسلك هم السواد الأعظم من البشر ومنهم من يفرط فيه كان ينصرف بكليته إليه فيؤدي به هذا الإفراط إلى اضرار ربما كانت مهلكة. قال أميرسون: إن من شرائط التهذيب الأولية أن يكون الفرد حيواناً قوياً وهو قول ينطبق على أفراد البشر بدون تفرقة. فالحياة التي تزري بالوجه الحيواني من الفرد ليست حياة. وإن كان يعذر صاحبها في بعض الاوال فإنه ملوم على وجه العموم ولو تقصينا أحوال البشر ومعارفهم لظهر لنا أنه لا يمكن انفصال العقل عن الحياة ولا أنفصال الحياة عن

الأجسام وتتبين أنه لا يمكن أن يحيا الفرد يحاة تامة إلا إذا كان قوي البنية شديد العضل وأن الاعتداء على شرائع الصحة الطبيعية يؤدي بالفرد إلى مضار طبيعيه ويجلب مع الزمن مضار تشوش العقل وتضعضع أحواله. ثم إنه لا ينبغي للفرد أن ينصرف إلى التهذيب الأعلى الا بعد أن يكون عرف أنه اكمل الواجب عليه من سائر مطالب الحياة ولا يجب أن يكون تهذيبه عقبة أمام نشوء الجسم ولا أن يتوخى منه التمرين على الحركات القانونية التي تتضمن الالعاب اليدوية فإن هذه لا تنقع في الحياة الا قليلاً. ومن الخطأ الفادح الاهتمام االمفرط بالتهذيب بحيث تنتهي الحال بالإنسان أن ينصرف به عن سائر اللذائذ الطبيعيه وقد يولد فيه هذا الإفراط سآمة تناله في نفس الموضوعات والأشياء التي أخذ النفس بها ولعل هذا الكره متأت عن الضغط الشديد على النفس واكراهها على سلوك مسلم مذموم. وأن الإفراط في تهذيب النساء تهذباً عاليا مذموم في ذاته لما يجلب عليهن من الاضرار الجسيمة قال بعضهم: إن جامعتي غرتون وننهم في كمبردج ليستا على صواب في تهذيب البنات لإنهما متطرفتان والتهذيب الذي تستعملأنه مناف للصحة الجيدة. وهو قول حق إذا أخذ على بابه. على أن قائليه يخلطون في فهم معني الصحة الجيدة ويعنون بها سلامة الجسم من التوعك والانحراف الظاهرين. اما نحن فنريد منها أن يكون الفرد ذا مزاج قوي وأن يكون فيه نشاط الحركة. فنرى أن القول المار ذكره صحيح وإن كان فكره مغلوطاً فيه. وإن هناك بوناٌ شاسعاً بين معاني الصحة فالناس ينظرون إلى الظواهر. ومن الغريب أن كثيراً من النساءِ يخدعن بظواهرهن فيظن الناظر إليهن انهن ممتعات بصحة جيدة غير أنهن في الحقيقة غير خليفات بإنشاء نسل صالح لحفظ النوع ذلك أن في المرأة فضلة من الكريات الحيوية ليست في الرجل خلقت لإنشاء النوع البشري فإذا ارهقت الأعضاء بالأهمال والإفراط في التهذيب الأعلى كان ذاك باعثاً على نقصان تلك الفضلة وقد تبقى المرأة قادرة على التوليد لبقاء ما يقتضيه في بدنها من القوة الحيوية فلا يشعر بذلك النقصان. ثم إن تتلف من الجسم مقادير عظيمة من الكريات في أعمال اخر غير أعمال التوليد كالحركات اللأزمة للحياة العميلية وما يندثر من الدماغ عند أعمال الفكرة وأعمال الروية وانفعال المتأثر به وما شاكل من الإتلاف الحيوي الذي يؤثر على التمادي

في كريات التوليد فيضعفها. فنرى من هذا أن قوة التوليد في المرأة تضعف على نسب متفاوتة فطورا تضمحل فلا تستطيع المرأة الولادة وتارة تولد ولكنها لا تستطيع الأرضاع وفي بعض الأحوال تتأتي اضرار لا اقدر أن اصرح بها ومن العواقب السيئة التي تنجم عن الإفراط في تهذيب النساء وقوع النفرة والتباعد بين الزوجين وهو من النتائج الدقيقة التي لا تظهر الا لأصحاب التروي. ولو هذبت لوائج المدارس عندنا (إنكلترا) بطرق مطابقة للعقل ولتأتي للنساء التهذيب الضروري لهن وتخلصن من مضار التربية الحاضرة ويجب أن يلغى منها كل ما يعبث بها من المضار ويبقى كل نافع. ولا يمنع ولاة الأمور من الغاء الطرائق الحضارة الا زعمهم انها موافقة لمقصود التربية. على أن التربية بأسمى معانيها تقتضي الحصول على شئ من العلم ضروري لكيأن البر نافع لإنارة الاذهان وتوسيع العقول مقصود به أعداد الفرد بحياة كاملة وما تجاوز ذلك كان فيه غلو عقيم وإفراط سقيم. سبق لنا في هذه المقالة أن الأخلاق توجب تهذيب الفرد وتحث عليه وهناك موجبات عمرانية فمنها ما هو غيري ومها ما هو اناني. أما الانانية فهي تحتم على الفرد أن يتحلى بالتهذيب العقلي لان به تترقى قواه ويطيب له المعاش وإن هو اغفله وجهله كان أشبه بالحيوان منه بمخلوق عأقل. والغيرية تتقاضى الفرد أن يبل من قواه شيئا في سبيل سرور غيره فإن لم مهذباً يستحيل عليه نفع المجتمع الإنساني. وأفضل أنواع التهذيب هو التهذيب الفني واعتي به درس الفنون الجميلة كالموسيقى والتصوير والشعر ولا يجب أن يتوخى فيه فقط النفع الشخصي والسعادة الذاتيه وإنما ينبغي ايضا أن يعني به لأنه يهيئ الفرد لنفع محيطه وهذا هو الموجب الغيري. على أن للوجه الاناني شانا عظيما في هذا التهذيب لأن الفرد الذي يتعلم الموسيقى وسائر الفنون ينال من اللذة ما يتعذر استمتاع غيره بها ممكن ليس على شيئ من العلم بها. إلا أن الإفراط في التهذيب الفني ليفضي بصاحبه إلى اضرار شأن الإفراط في سائر أنواع التهذيب العقلي ولذلك وجب الاعتدال لأن التطرف فيه يذهب الوقت ويضيع العمر سدى. واقبح المضار التي تنجم عنه مشاهدة في النساء اللواتي انصرفن إلى الفنون الجميلة

واغفلن سائر الأعمال. ومع أن الأخلاق تحث على التهذيب الفني فهي تشدد النكير على الإفراط فيه ولا ترضى عن أساليبه في هذا العصر. وما أحسن البحث في الرذائل التي انبعثت عن الغلو في حب الموسيقى فأن ذلك يظهر كل الظهور أن المغالاة سوس ينخر عظام الأمم حتى ينتهي بها إلى العدم.

المطلقة

المطلقة بدت كالشمس يحضنها الغروب ... فتاة راع نضرتها الشحوب منزهة عن الفحشاء خود ... من الخفرات آنسة عروب نوارٌ تستجد بها المعالي ... وتبلى دون عفتها العيوب صفا ماءُ الشباب بوجنتيها ... فحامت حول رونقه القلوب ولكن الشوائب أدركته ... فعاد وصفوه مدر مشوب ذوى منها الجمال الغض وجدا ... وكاد يجف ناعمه الرطيب أصابت من شبيبتها الليالي ... ولم يدرك ذؤَابتها المشيب وقد خلب العقول لها جبين ... تلوح على اسرته النكوب إلا أن الجمال إذا علاه ... نقاب الحزنمنظره عجيب حليلة طيب الاعراق زالت ... به عنها وعنه بها الكروب رعى ورعت فلم تر قط منه ... ولم ير قط منها ما يريب توثق حبل ودهما حضورا ... ولم ينكث توثقه المغيب فغاضب زوجها الخلطاءُ يوما ... بأمر للخلاف به نشوب فاقسم بالطلاق لهم يمييناً ... وتلك إليه خطأ وحوب وطلقها على جهل ثلاثاً ... كذلك يجهل الرجل الغضوب وافتي بالطلاق طلاق بت ... ذوو فتيا تعصبهم عصيب فبانت عنه لم تأت النايا ... ولم يعلق بها الذام المعيب فظلت وهي باميه تنادي ... بصوت منه ترتجف القلوب لماذا يانجيب صرمت حبلي ... وهلق أذنبت عندك يا نجيب ومالك قد جفوت جفاَء قالٍ ... وصرت إذا دعوتك لا تجيب ابن ذنبي اليَّ فدتك نفسي ... فإني عنه بعدئذ اتوب اما عاهدتني بالله أن لا ... يفرق بيننا الا شعوب لئن فارقتني وصددت عني ... فقلبي لا يفارقه الوجيب وما ادماه ترتع حول روضٍ ... ويرتع خلفها رشأ ربيب فما لفتت إليه الجيد حتى ... تخطفيه بآزمتيه ذيب

فراحت من تحرقها عليه ... بداءٍ مالها فيه طبيب تشم الأرض تطلب منه ريحاً ... وتنحب والبغام هو النحيب وتمزع في الفلاة لغير وجه ... وآونةٌ لمصرعه تؤُوب يا جزع من فؤادي يوم قالوا ... برعم منك فارقك الحبيب فاطرق رأسه خجلاً واغفى ... وقال ودمع عينيه سكوب نجيبة اقصري عني فإني ... كفإني من لظى الندم اللهيب وما والله هجرك باختياري ... ولكن هكذا جرت الخطوب فليس يزول حبك من فؤادي ... وليس العيش دونك لي يطيب ولا اسلو هواك وكيف اسلو ... هوى كالروح في له دبيب سلي عني الكواكب وهي تسري ... يجنح الليل تطلع او تغيب فكم غالبتها بهواك سهداً ... ونجم القطب مطلع رقيب خذى من نور رنتجن شعاعاً ... به للعين تنكشف الغيوب والقيه بصدري وانظريني ... ترى قلبي عليك به ندوب وما المكبول القى في خضم ... به الأمواج تصعد او تصوب فراح يغطه التيار غطاً ... إلى أن تم فيه له الرسوب بأهلك يا ابنه الأمجاد مني ... إذا انا لم يعد بك لي نصيب الا طل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليش له وجوب غلوتم في ديانتكم غلواً ... يضيف ببعضه في الشرع الرحيب أراد الله تيسيراً وانتم ... من التعسير عندكم ضروب وقد حلت بامتكم كروب ... لكم فيهن لا لهم الذنوب وهي حبل الزواج ورق حتى ... يكاد إذا نفخت له يذوب كخيط من لعاب الشمس ادلت ... له في الجو هاجرة حلوب يمزقه من الأفواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوب فدى ابن القيم الفقهاء كم قد ... دعأهم للصواب فلم يجيبوا ففي (اعلامه) للناس رشد ... ومزدجر ملن هو مستريب

نحا فيما اتاه طريق علم ... نحاها شيخه الحبر الاريب وبين حكم دين الله لكن ... من الغالين لم تعه القلوب لعل الله يحدث بعد اكراً ... لنا فنجيب منهم من يخيب

مخطوطات نادرة

مخطوطات نادرة اما وقد خصصنا شطرا من هذا الجزء للكلام على محاسن الكتب وغلاتها فيجدر بنا أن ننقل هنا من كناش الشيح طاهر الجائري وناهيك بما يقع عليه اختيار هذا الأستاذ الكبير بعض المخطوطات النادرة من الأسفار المحفوظة في خزائن الكتب العامة في الاتسانة ودمشق وحلب والقاهرة وبايز نسوقها هنا ليرجع إليها من يتصدون لطبع الكتب او يرغبون في الاستنساخ تعميماً للفائدة علم الحكمة من الجدير بالطبع والاحياء في دار الكتب الخديوية بالقاهرة في هذا الفن تلخيص كتب أرسطو الأربعة وهي المقولات والقضايا والقياس والبرهأن لابن رشد تلخيص كتب أرسطو الأربعة وهي السماع والسماء والعالم والكون والفساد والأثار العلوية لابن رشد ويلي ذلك كتابأن له أولهما في اثبات اقاويل المفسرين والمطابقة لما قاله أرسطو في العلم الطبيعي ثانيهما في التقاط الاقاويل العلمية من مقالات أرسطو الموضوعه في علم ما بعد الطبيعة مقالات أرسطو الموضوع في علم ما بعد الطبيعه مقالات أرسطو لأبي الفرج عبد الله بن الطيب كتب سنة 480 الانصاف لابن سينا التعليقات له. وفي مكتبه اللاله لي بالاستانة شرح الإشارات لابن كمونة اليهودي شرحها للسيف الأمدي المعارف العقلية للغزالي في مكتبة اياصوفيه بالاستانة الحكمة المشرقية لابن سينا كتاب في الحكمة الجديدة لابن كمونة اليهودي 676 كتاب في الناظر للحسن بن الهيثم العمل بالكره الفلكية لقسطا بن لوقا البعلبكي تحرير أقليدس لمحيي الدين المغربي مجموعة الرئيس اين سينا فيها رسالة في معرفة الله وصفاته وافعاله وأخرى في قصائد الشيخ وأخرى في مسائل درات بينه وبين بعض المتكلمين وأربعة في خطبة الشيخ وخامسة في أمر المهدي ومجموع اخر للرئيس أيضاً فيه رسالة في الارزاق وفي إيراد البراهين على مسائل عويصة وثالثه في اثبات النبوة ورابعة في اقسام العلوم العقلية وخامسة في حل مشكلات في الهيئة. وفي المكتبة العثمانية بالاستانة ترجمة كتب أرسطو لاسعد اليانيوي 1134 وفي مكتبة الفاتح مختصر صوأن الحكمة لحجة الحق عمر بن سهلان. وفي مكتبة راغب باشا شرح

النجاة للشيرازي المدخل في الموسيقى للفارأبي في مكتبة بني جامع بالاستانة نهاية الإدراك للقطب الشيرازي. في مكتبة الكوبرلي الكاشف لانب كمونة سعد بن منصور اليهودي المنتخب من صوأن الحكمة لأبي سليمان محمد بن طاهر السبحستاني. في المكتبة الاحمدية في حلب المباحث المشرقيه للفخر الرازي. علم التاريخ في دار الكتب الخديوية الاعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام ليوسف البياسي ج2 در السحابة في مواضع وفيات الصحابة للصغناني طبقات فقهاء اليمن تجارب الأمم وتعاقب الهمم لابن مسكيه طبع منه الجزء السادس المغرب في حلي أهل المغرب لستة سادسهم ابن سعيدة سنة 672 كتبه بخطه للخزانة الكمالية بحلب نهاية المشتاق للادريسي محلي بالذهب كتب سنة 748 الدرر الكامنة في المائة الثامنة للحافظ ابن الحجر المقتضب من كتاب جمهرة النسب لياقوت الحموي. في مكتبة بشير اغا بالاستانة منتخب تاريخ الحكماء ويسمى صوأن الحكماء لأبي القاسم البيهقي. في مكتبة الكوبرلي أحوال الهند للبيروني (لعله المطبوع في أوروبا) انباء الغمر بأبناء العمر للحافظ ابن حدر سنة 852 تاريخ بغداد للخطيب البغدادي نسخة 4 تاريخ مصر ودمشق للعلم البرزالي 738 تنبيه الملوك لعمر والجاحظ

الكتاب

الكتاب كتابي لا اروم سوى كتأبي ... فكم خففت فيه هموم مأبي اجيل الطرف فيه فيجتلي لي ... مخائل حكمة في كل باب إذا غمزت فناة الدهر قلبي ... اداوي في مباحثه مصأبي لان اخطأت في فكري يبحث ... ففيه قد هديت إلى الصواب وان شاهدت من قومي جفاءً ... يسليني باقوال عذاب حوى خبر الزمان بما اتاه ... وما يأتي إلى يوم الحساب غدا عمن تقدم ترجماناً ... يخبرنا بأخبار عجاب اعاتيه إذا خطب دهاني ... فليس يمل من كثر العتاب تراه اخرساً وتراه يحكي ... بابلغ ما تريد من الخطاب كتوم أن فشيت له بسر ... وان حأبيت غيرك لا يحأبي فكم نادمته بالليل وحدي ... فيغنيني عن الخلزد الكعاب وكم فيه سكرت من المعاني ... فعفت لطيبها طيب الشراب تكفل لابالعلوم فكل علم ... حواه لا يؤُل إلى ذهاب فما حاسبته الاَّ تراه ... خبيرا بالدقيق من الحساب فمن والاه نال هدى وفضلاً ... ومن عاداه راح إلى عذاب

اليونان

اليونان الأعضاء الثلاثون - لما غدا القائد ليزاند صاحب أثينة اكره أهلها على تنظيم حكومتهم بحيث لا يخرجون عن حكمه بتاتاً. فإنشؤا مجلساً مؤلفاً من ثلاثين عضواً انتخبوا من أعداء الحكم الديمقراطي وكانوا قبل حأولو النزوع إلى الثورة ليفصموا عرى الدستور وعهد إلى هذا المجلس أن يؤلف دستوراً جديداً ويحكم أثينة بدون أن يرجع إلى رأي احد ولا أن يراعي قانوناً واقيمت لحماية هذا المجلس من سطوة الأثينيين حامية من الجند تحت أمرة قائد اسباركي في قلعة الاكروبول المشرفة على المدينة. وهذه كانت طريقة الحكم التي وضعها وهذه كانت طريقة الحكم التي وضعها ليزاند في المدن اليونانية في آسيا والجزر عند ما اخرجها من محالفة أثينا. خول هؤلاء الأعضاء سلطة لا نهاية لها وشعروا بانهم مؤيدون بالجيش الاسبارطي فإنشؤا بحكمون حكم السادة القادة ويقبضون على اشياع الحكم القديم وينفذون عليهم الأحكام وربما كانت سيطرتهم تتنأول الأغنياء متخذين ذلك حجة في مصادرة أموالهم فمن ثم لقب أولئك الأعضاء بالثلاثين ظالماً. وانتهت الحال بترامين أحد الأعضاء وكانت تأمر على الديمقراطية واتفق مع الاسبارطين أن قال لرصافئه بانه قتل أناس كثيرين فيجب الكف عن ازهاق الارواح فما كان منهم إلا أن اتهموه بالخيانة وطردوه من المجلس وحكمو عليه بالإعدام. وقد وفر كثير من الوطنيين من أثينة ولجؤا إلى البلاد المجاورة ولاسيما إلى ميكار وثيبة واستولى احد هؤلاء النازحين المدعو ترازيبول في 70 من أصحابه على قلعة من أعمال اتيكيا في الجبال على طريق بيوسيا عنوة فجاء الأعضاء الثلاثون في اشياعهم يدأهمونه إلا أنهم ردوا على اعفابهم وحأولوا أن يحاصروا القلعة ولكن رجع رجالهم إلى أثينة لما هطل الثلج وبعثوا بالحامية الاسبارطية وبالفرسأن فهجم ترازيبول نازحون جدد فلما اجتمع له منهم الف رجل اجتاز اتيكا فاستولى على مرفأ بيريه ونزل في مونيشي وراء معأقل اتخذها للتحص فقدم الأعضاء الثلاثون في رجالهم إلا أنهم ردوا على الاعقاب. وعندئذ نزع اشياعهم السلطة منهم واعطوها إلى مجلس مؤلف من عشرة طلب معونة اسبارطة فبعث هذه إليها بليزاند حاكما من قبلها وحاصرا بيريه بالسفن. ثم وصل ملك اسبارطة في جيشه ووصل إلى أثينة وأمر بالكف عن القتال وفصلت حكومة اسبارطة ببين الفريقين ورخصت

لجميع النازحين أن يعودوا إلى أثينة فدخل ترازيبول ورجاله إليها وهم مدحجون باسلحتهم وصعدوا إلى قلعة الاكروبول يقدمون ضحية للمعبود. ثم اعاد الأثينيون الدستور القديم وتراجع الأعضاء الثلاثون في اشياعهم إلى الوزيس فقصدهم الأثينيون وهاجموهم وقتلو الزعماء وارجعوا الباقين ثم اقسموا كلهم أن لاتنزع الاحقاد من صدورهم لما أنتشب من الحرب الأهلية وهو مما دعي بالهدنة بالنسيان ولم تعد تحدث ثورة في أثينة بعد. ضعف المملكة الفارسية_شغل اليونان بقتال بعضهم بعضاً فكفوا عن مهاجمة الخاقان الأعظم بل وأخذوا يسعون في مخالفته. وكأنت المملكة الفارسية لا تقل عن ذلك في تيهاء الضعف فأصبح الحكام لايخضعون للحكومة بتاتاً ولكل منهم بلاطة وخزانته وجيشه يحارب من يشاء وقد امسى قيلاً ملكاً صغيراً في ولايته وكان الملك إذا أراد أن يعين والياً مكان اخر لايجد إلى ذلك سبيلاً الا بقتل السلف ففقدت ملكة الحرب من نفوس الفرس بعد أن كانوا امة يرتجف لذكرها جميع شعوب آسيا. وهاك كيف وصف الفرس كسينوفون احد ضباط اليونأن الذي كان موظفاً عندهم: انهم ينامون على البسط ويلبسون فقاقيز في ايديهم ويتدثرون بالفرو ويلبس الكبراء حجابهم وخبازيهم وطباخيهم وحماميهم واخدمة الذين يخدمونهم على موائدهم ويطيبونهم ويعطرونهم ليجعلوا منهم فرساناً موظفين ويربحوا أجورهم ولئن كانت جيوشهم كثيرة العدد فلم ينتفع بها في شيئ وسهل على المرء أن يحكم عندما يرى أعداءهم يطوفون بلا فارس احراراً أكثر من أصحابهم ولايجرؤن أصلاً على ى قتال بعضهم بعضا عن امم والفرسان مسلحون كما كانوا سابقا بالسيف والترس والفأس ولكن لم تكن لهم الجرأة على استعمالها. وكان سائقو المركبات الحاصدة قبل أن تصل إلى العدو تلقي بنفسها عمداً او تفتقر إلى الأرض بحيث أن تلك المركبات إذا خلت من سائقيها تجدث لهم ضرراً أكثر مما ينشأ منها للأعداء على أن الفرس لا يكتمون انفسهم ضعفهم العسكري ويعترفون بانحطاطهم في هذا الشأن ولا يجرأون على الدخول في المعارك بدون أن يكون بعض الروم في جيوشهم ومن قواعدهم أن لايقاتلوا اليونانيين بدون أن يكون لهم منهم مساعدون. حملة العشرة الاف_شوهد هذا الضعف عندما سار كيكاوس سنة 400 اخو الخاقان الأعظم ارتاكسركيس ليخلفه وكان فبي تلك البلاد إذ ذاك ألوف مؤلفة من نزاع الآفاق أو المنفيين

من اليونانيين يؤجرون انفسم اجناداً فدعا كيكاوس عشرة آلاف رجل منهم حتى أن أحدهم كسينوفون كتب يصف حملتهم. فاجتازوا بلاد اسيا إلى حدود الفرات بدون أن يقف احد في وجوههم ثم اقتتلوا بالقرب من بابل. وأخذ اليونان جريا على عادتهم يعدون مسرعين وهم يصرخون صريخ الحرب وقبل أن يكون البرابرة على قيد غلوة بادروا إلى الهزيمة فلحقهم اليونان وهم يتصارخون أن لايفارق أحدهم صاحبه. ولما أنتهت إليهم مركبات الحرب فتحوا صفوفهم ليتركوا لهم سبيلاً إلى المرور ولم يصب يوناني بادنى ضرب ماخلا وأحداً جرح بسهم. جرح كيكاوس وتشتت جيشه بدون أن يقاتل وظل العشرة آلاف يوناني وحدهم في داخلية بلاد محاربة أمام جيش عظيم ومع هذا لم يجسر الفرس ايضا على مهاجمتهم ولكنهم غدروا فقتلوا خمسة قواد لهم وعشرين ضأبطأ ومائتي جندي جاؤا لعقد محالفة. ولا أصبح أولئك المستأجرون من الجند بلا قواد وضباط انتخبوا زعماء جدداً وحرقوا خيامهم ومركباتهم وركنوا إلى الفرار ودخلوا في جبال ارمينية الوعرة وعلى مانالهم من جوع وكثرة الثلوج وسهام القبائل الوطنية التي لم ترض أن تفسح لهم مجالاً للمرور وصلوا إلى البحر الاسود ورجعوا إلى الأرض يونان بعد أن قطعوا مملكة فارس وبقي منهم عند عودتهم سنة 399 8000 جندي. اجازيلا_وبعد ثلاث سنين دأهم اجازيلا ملك اسبارطة في جيش صغير بلاد آسيا الوسطى وليديا وفريجيا المشهورة بغناها وخصبها وقاتل الولاة والعمال وراح يدخل إلى اسيا ولكن الاسبارطيين ارجعوه ليقاتل جيوش التيبيين والأثينيين. وكان اجازيلا أول يوناني قام في ذهنه أن يفتح بلاد فارس فحزن أن راى اليونانيين بقتل بعضهم بعضاً ولما اختبروه بماتم لغلبة كونت قائلين له أنه هلك فبها ثمانية من الاسبارطيين فقط وعشرة الاف من العدو لم يفرح بهذا النصر بل تنفس الصعداء وقال: مسكينة انت يا بلاد اليونأن التعيسة لقد اضعت رجالك وكان لك فيهم وحدهم غناءٌ في اخضاع عامة البربر. وإلى ذات يوم أن يخرب مملكة يونانية قائلاً: إذا ابدنا جميع اليونأن الذين لايقومون بواجبهم فأين نجد رجالاً للتغلب على البرابرة؟ وهذا الشعور كان قليلاً على عهده. قال مترجمه كسينوفون عندما أورد هذه الكلمات لاجازيلا هاتفاً من كان غيره يرى من المصيبة

أن يغلب عندما كان يحارب شعوبا من جنسه. عظمة ثيبية. ايبامينوداس مقاومة اسبارطة_جاء من زمن كانت فيه اسبارطة صاحبة السيادة براً وبحراً. قال كسينوفون: وكانت على ذلك العهد جميع المدن تخضع لأمر يصدر عن أحد الاسبارطيين ولما ضاقت صدور المتحالفين مع اسبارطة من الخضوع لها الفوا عصابة لمقاومتها فكان من ذلك أن طرد الاسبارطيون أولاً من اسيا ولم يسلم لهم سلطانهم على بلاد اليونان بضع سنين الا بمحالفتهم لملك الفرس 387 بيدان استيلاءهم لم يدم طويلا فكان في سهل بيوسا شعب شديد الباس شجاع النفس وهؤلاء البيوسيون الذين شهرهم جيرانهم الأثينيون وربما على غير استحقاق قد ظلوا منقسمين بين إحدى عشرة مدينة وكانت ثيبية اقواها سقطت على حين غرة في ايدي الاسبارطين فادخل زعيم حزب الإشراف المحاربين من الاسبارطيين القلعة واوقف زعيم حزب الديمقراطيين ونفذ عليه القضاء المبرم. واذ لم يرض أربعمائة رجل من اهالي ثيبة أن يظلموا تحت حكم الاسبارطيين لجؤا إلى أثينة. فعزم أحدهم المدعو بيلوبيداس وهو شاب من اسرة شريفة غنية أن ينقذ بلاده كما فعل ترازيبول في تخليص وطنه فراح يقيم في قرية مع جماعة من المنفيين واتفق مع الثيبيين الذين بقوا في ثيبية فدخل في إحدى ليالي الشتاء إلى المدينة في رجاله ودأهم الحكام وهم في مأدبة فذبحهم ومن الغد دعا مجلس الأمة فهتف له هذا بانه محررها من اسره العبودية. وعندها سلمت الحامية الاسبارطية التي كانت في القلعة. وعادت ثيبية مستقلة وعملت على أن تجمع تحت ادارتها جميع مدن بيوسيا لتسير جميع البيوسيين تحت لواء احد لحرب اسبارطة. ايبامينوداس_كان ايبامينوداس هو الرجل الذي نظم حاله الثيبيين فحفخفقت به لهم اعلام النصر. وكان من اسرة شريفة إلا أنها غنية فاعتاد نوعاً من الحياة القاسية وظل يعيش فيها مقلاً من الطعام لايتنأول الخمر وليس له غير رداء واحد ولامال لديه. فصيح اللسأن الا أنه يندر أن تراه يتكلم ولايقول الا الحق وهذا مما لم يكن من عادة اليونان شجاعٌ جداً في الحروب ولكنه مفرط في الإنسانية متضع شديد البأس يحبه ويحترمه كل من يراه. ولم يكن يعنى بصراع المصارعين الذي كان يشوق شائر أبناء يونان بل اعتاد السباق واللعب

بالسلاح واخترع ضرباً جديداً من القتال. وكان الثيبيون كسائر اليونانيين قد اختاروا العادة الاسبارطية فيصطف الجند الرجلى منهم كتائب كتائب على ثمانية إلى عشرة صفوف وكانت جيوشهم في كل مكان في تعبئتها نمطاً وأحداً تؤلف مثلثاً ذا زاوية قائمة مستطيلة ورقيقة فكانوا إذا حمل جندهم على العدو يشعرون بان تروسهم المعلقة على اذرعتهم الشمال تحميهم من اليسار ومن اليمين صفوف رفاقهم يحمون الميمنة بالطبع بحيث أن الجناح الايمن من الكتيبة يشعر بأنه أقوى ما يكون في عادة. فتخيل ايبامينوداس أن يعبئ رجاله على شكل زاوية قائمة مؤلفة على طولها من صفوف متساوية في عدد ها بل أن يضع في الجناح الايسر صفوفاً أكثر من الايمن فتأخذ الكتيبة شكلاً غير متناسب يشبه شكل زاوية قائمة. فيكون الجناح الايسر اضخم من الايمن ومؤلفاً من أحسن المحاربين يحمل حملة منكرة على جناح العدو الذي يكون اضعف منه فينكس وسط جيش العدو وياخده من جنبه فدافع الثيبيون عن بلادهم بادئ بدء من الجيش الاسبارطي الذي بقي يدأهم بيوسيا في ربيع كل سنة اعواماً كثيرة ويقطع الشجر ويحرق الغلات ولم يجسر أن يقاتل قتالا منظما بل كانت غاراته مناوشاتٍ فقويت شكيمتهم وتمرسو في الحرب. رأى ايبامينوداس أن جيشه قد اعتاد قراع الأبطال وقوي ساعده في حومة النزال وكأنت الرجال من جند الاسبارطيين اصطفت على عمق اثني عشر مقاتل بالقرب من لوكترس وكانت رجالة السيبيين أقل وفرسانهم أكثر لان بيوسيا كانت بلادً تربى فيها الخيول الجياد فاستطاع ايبامينوداس أن يحمي المسيرة وكان من ذلك أن اختصر خط الحرب وحمل الجناح الايسر من جيشه وكان مؤلفا من خمسني صفاً فبدد شمل الجناح الايمن من الاسبارطيين حيث كان الملك واقفا فقتل 371 وهذه كأنت المرة الأولى التي تغلب فيها جيش يوناني على حيش اسبارطي وأصبحت ثيبيا المدينة المقدسة أكثر من جميع مدن يونان وصارت لها الأمرة على بيوسيا كلها وكأنت الشعوب اليونانية في المورة إلى ذاك العهد خاضعة لاسبارطة فالتمست معونة الثيبيين لنيل استقلالها. فإنشات مدينة ماتينيه في بلاد اركادية اسوارها على الرغم من دفاع اسبارطة وزبحت تيجة الأغنياء. احلاف اسبارطة وكان الاركاديون من سكان الجنوب مشتتين إلى ذاك العهد في القرى فإنضمو بعضهم إلى بعض وانشؤا مدينة حصينة سموها ميكالوبوليس ثم أراد ايبامينوداس جمهور الثيبين على أن يذهبو إلى

غزو الاسبارطيين في عقل دراهم فدخل الجيش البيوسي إلى بلاد المورة وكثر سواده بالاركاديين واهالي ارغوث وتوغل في أقليم لاكونيا وطفق يعسكر أمام اسبارطا 270 وكانت هذه هي المرة الأولى التي راى فيها الاسبارطيون العدو في ارضهم. ولم يكن لاسبارطا اسوارٌ فسلح اجازيلا وكان قد بلغ إذ ذاك من العمر 76 سنة جماعة الهيوليتين وحصن الاكام المحيطة بالمدينة. ولم يجسر ايبامينوداس على الهجوم وإذ كان عاجزا عن اطعام جيشه في البلاد التي استباح حماها وجعل عإليها سافلها استراجعه ادراجه وقبل أن يغادر المورة جمع المسينيين وقد أصبحوا منذو ثلاثة قرون رعايا الاسبارطيين واعانهم على أنشاء مدينة قوية سميت ميسين وعادو يلمون شعثهم وتحالفت اسبارطة مع الاثنيين الذين كانو يحسدون الثيبيين كما حالفو أهل سيراكوزة ومع الجبارديس الذي بعث إليها للمحاربين الغاليين فغلب الاركاديون احلاف ثيبة. وعندها حاولت ثيبة أن تنال معونة ملك الفرس وارسل القائد بيلوبيداس إلى اسيا وآيب يحمل كتاباً من الخاقان الأعظم الذي وعد أن يحارب اليونأن الذين لايقبلون بمحالفة ثيبة 367 اما سائر المدن فلم تكن تخشى ملك الفرس وابت أن تخضع له. ولم تكن ثيبية من القوة لتخضع إلى سلطانها جميع بلاد اليونأن فظهر ايبامينوداس على أحسن حال في بلاد المورة مع الجيش البيوسي وحالف المسينيين ثانية وحاول أن يدأهم اسبارطة واذ بلغ ذلك اجازيلا كرّ راجعاً وراح ايبامينوداس يهجم على جيش العدو في اركاديا بالقرب من مدينة ماتينه وظفر في هذه المعركة باتخاذه الأسباب التي اتخذها في لوكترس ولكن أصابه سهم فمات بيومه. وفقد الثيبيون به قائداً يقودهم وانتهت أيام عز ثيبة ولم يبقى مما قام به القائد ايبامينوداس الا مدينة مسسينا التي أصبحت مملكة مستقلة وسقط سلطان اسبارطة من بلاد المورة كما سقط من بلاد اليونان. نتائج الحروب - لم تؤدي هذه الحروب إلى تاليف اليونانيين كافة امة واحدة اذ لم يكن لمدينة من مدنهم لااسبارطة ولا أثينة من القوى ما تكره به سائر المدن على الطاعة لها والخضوع لسلطانها وما كان منه إلا أن ينهك بعضهن قوى بعض ويكافح بعضهن بعضاً وكأن ذلك من حظ ملك الفرس الذي استفاد من هذا الانقسام ولم تبلغ الحال بالمدن اليونانية انها لم تتفق عليه بل انها كانت على حدتها تحالفه للانتقام من سائر أبناء اليونان وقد

صرح الخاقان الأعظم 387في معاهدة انتالسيداس بان جميع المدن اليونانية في اسيا هي ملك له ولم تخالف اسبارطة قول ذلك ولنقضت زعمه وكذلك كان شان أثينا وثيبية بعض بضع سنين فقد قال خطيب أثيني: ان ملك الفرس هو الذي يحكم بلاد اليونان ولم يبقى عليه إلا أن يقيم له عمإلا في مدننا. اليس بيده الحل والعقد في بلادنا؟ اما نحن فندعوه الخاقان الأعظم كما لو كنا عبيده؟ وهكذا اضاع اليونان بتفاشلهم وتدابرهم ما كانو غنموه في حرب مادي

سير العلم

سير العلم وفق الأستاذ بو بعد اشتغال ثلاثين سنة الا تكميل الة التنفس الاصطناعي وهي مؤلفة من اسطوانتين صغيرتين لهما بوقان موضوعان بحيث يمكن تحريكهما معاً فأحدهما توصل كمية من الاوكسجين والأخرى تاتي بالهواء ويناط في كل مهما أنبوب توضع طرفه على منأخير الذي يراد تنفسيه وقد جربت هذه الالة في الارانب والكلاب فحسنت نتائجها. حامض الكربون انشأ معمل في اوفرن من أعمال فرنسا لصنع حامض الكربون السائل وهو يكثر في ارض تلك الناحية وكان من قبل يضيع منه في الهواء ملايين من الأمتار المكعبة وهذا الغاز أحسن بطبيعته من المصنوع فأخذت فرنسا تحذو حذوا ألمانيا في الانتفاع من انحائها البركانية فتصنع في اليوم ملايين الكيلو غرامات من حامض الكربون السائل وعدد ينأبيع الغاز التي يمكن الانتفاع بها ستة وستكون لأهل تلك الناحية مورد ربح عظيم. جوهر صناعي الكوروندون خجر لطيف يعتبر بعد الالماس بقيمته ويسميه صياغ الإفرنج الحوهر الشرقي وهو ذو ألوان مختلفة فمنه الوردي والأصفر والازرق والبنفسجي والاخضر واللازوردي وقد اكتشفت إحدى الشركات في أمريكا معدن تستخرج منه بطرق صناعية ما يشبه الجوهر الشرقي بصلابته ولا يقل عنه رواء ومتى كثر انتشاره تسقط قيمة الماس الطبيعي أكثر مما سقطت. كتب العميان الآنسة هيلانة كلير هي ممن ابتلاهن الله بالعمى والصم والبكم وقد خدمت أبناء جنسها بان سعت إلى تعليمهم خدماً تذكر فتبين لها بعد الاختباران أن الطرق المؤلفة لتعليمهن بحروف ناتئة او محفورة أو غيرها ليست من السداد في شيئ وتؤدي إلى أن الأعمى الألماني لايستفيد من مثيله الفرنساوي ولا الأمريكاني من الإنكليزي ولذلك ترى توحيد طريق تعلم العميان والصم البكم على طريق برابل الفرنسوية وربما عقدت مؤتمرات لذلك. التدفئة الكهربائية اصطنعت شركتأن للكهربائية في أمريكا ادوات من الكهربائية تستخدم للتدفئة وتوليد

الحرارة ارخص من توليد الحرارة من الغاز بثلاثة مرات عالمة عاملة ذكرت الصحف أنه عهد للآنسة هاس أن تنظم مجموعة المستندات الرسمية في نيويورك لأنها اقدر قيمة على الكتب والدفاتر في جميع الولايات المتحدة وهي مديرة دار الكتب العامة في نيويورك وقد عجبت المجلات من أن تكون مجموعة الأعمال الرسمية في الولايات المتحدة من ترتيب امرأة أديبة ولكن هو العلم يشترك بعد الأخذ منه الاسود والأبيض والنساء والرجال. الرقص انشأت فرنسا في بعض فيالقها مدرسة لتعليم صغار اضباط الرقص على أنواعه وكان لها من قبل في كل معسكر مدرسة للرقص اذ ثبت أن الرقص ينفع الصحة ويزيد انشراح النفس وهو من المتممات للرياضة الصحية المسلية وكان نابليون الأول يكره جنده على الرقص قبل انتشاب المعركة وبعدها في كل فرقة في روسيا معلم للرقص. قضاة الإنكليز ينسبون معظم الفضل في تحري قضاة الإنكليز الحق في بريطانية لكثرة الرواتب التي يتقاضاها الفرد منهم فإن قاضي القضاة يقبض 350 الف فرنك في السنة والقضاة العاديون 150 ألفاً وفيهم من يقبض 300 الف وقضاة المقاطعات يتنأولون 37500 فرنك وعند الإنكليز 60 قاضيا يقضون في خمسمائة محكمة وعند فرنسا 1600 قاض لثلاثمائة وخمسة وسبعين محكمة وهم يقبضون أقل من ذلك بكثير ولكن إنكلترا وتعطي قضائها رواتب باهظة وتطلب منهم عملا حسناً كثيراً مدرسة المثريات اقسمت الولايات المتحدة أن تكون رأسا في عامة أسباب الحضارة والعمران فمن جملة مدارس البنات العالية عندها مدرسة اكوتز في ضواحي فيلادلفيا بنيت وسط حدائق ذات بهجة وهي عبارة عن قصور ملوكية حوت أرقى درجات الترف والرفاهية وفيها دار تمثيل كبري وحديقة للشتاء واجرة تعليم الفتاة الواحدة فيها عن السنة المدرسية وهي ثمانية أشهر

عشرة آلاف فرنك الطب في البلاد العثمانية كتب احد أطباء العثنانين فصلا ضافيا في مجلة العالم السلامي الفرنسوية تكلم فيه على طلب التجارب والطب الأصولي ومدارس الطب والمستشفيات في الاستانة والولايات وصناعة الطب فقال أن الطب في البلاد العثمانية قبل افتتاح المدرسة الطبية في الاستانة سنة 1827 كان عبارة عن تجارب وما كأنت الأمة تعتقد على ذاك العهد بالطب الغربي بل ولم يكن لها ثقة حتى بالطب التجربي وكانت تكفي بالعقاقير تأخذها من دساتير الدجالين على غير جدوى والمسلمون يضيفون إلى هذه الطريقة المالوفة في القرون الوسطى في التداوي القول بالادعية للاستشفاء وكانو يرونها نافعة في أمراض كثيرة ولاسيما الأمراض الباطنية والعصبية وأن هذه العادات ما برحت شائعة على كثرة المعتقدين بتأثيرات الطب وليس هذا الاعتقاد خاصا بالمسلمين بل أن المسيحيين كان لهم مثال منها في حضارتهم وتاريخهم واستشهد بحديثهم اخر الدواء الكي وقال أن بعض القوم يصفونه فينفعهم وأن الحكومة لما أنشات المدرسة الطبية الأولى في الاستانة كان اساتذتها اجانب وكانت تدرس بالفرنساوية ولم تدرس بالتركية الا سنة 1873 ولم يكن رغبة للمسلمين في تعلم هذه الصناعة فشق على الأساتذة الذين أخذو بالتدرس الطب بالتركية بادئ بدء ثم أخذو يتعلمون المصطلحات الطبية ويؤلفون لها مفردات من العربية والفرنسية والتركية وإذا صعب عليهم التعبير عنها يلفظ عربي او تركي او فارسي ياتون باللفظ اللاتيني أو الفرنسوي بدون أن يعمدون إلى أخذ شئ عن الإنكليزية والألمانية. وبعد أن ذكر كيفية تدريس الطب وأورد اسماء مشاهير الأطباء العثمانيين من المسلمين والارمن والروم ومعاملة الطلبة المدارس او أحوالهم قال أن في البلاد العثمانية مدرستين طبيتين ملكتين أحدهما في الاستانة والثانية في دمشق. وعدد المستشفيات العثمانية ووصفها فقال أن في الاستانة وضواحيتها عشر مستشفيات ما عدا المستشفيات المدارس وفي الولايات وهي إحدى وثلاثين ولاية 122 مستشفى وأهمها في الحواضر وقال أن تشريح الجثث ممنوع في المستشفيات العسكرية والملكية ولا يجري اذ حدثت جناية أو في السجون وقد عاق منع التشريح تقدم الطب مع أنه من جملة برنامج دروس المدرسة الطبية الكبرى

وهو غير مناف الإسلام لأن السلطان محمود الثاني استصدر فتوى من شيخ الإسلام في التلخيص بالتشريخ فافتاه بذلك وقال إن المستشفيات البلدية في الاستانة أربعة وإن عدد المستشفيات في الولايات الأربع والعشرون وفي الاستانة ثلاث مستشفيات خاصة واحد للارمن والثاني للاسائيليين والثالث للروم وفيها مستشفيان أحدهما ألماني والثاني فرنسوي وختم كلامه بالكلام على الدحالين من الرجال والنساء والعثمانيين والأجانب ممن يمارسون أعمالهم في السر سواءٌ كان في الاستانة أو في الولايات وبربحون ما يربحون لفرط استسلام الناس إليهم وتفضيلهم احيانا على غيرهم تحريم التقبيل رأى كثير من الأطباء في مؤتمر لهم عقدوه في إحدى مدن أميركا أن يسن قانون يحظر التقبيل على المتزوجين بل على الأمهات وعلى ذوي القربى والاخدان والمتحابين ورأوا أن تعلق على حوائط المدينة إعلانات يذكر فيها عدد الجراثيم التي يلصقها المقبل بشفتيه على خد المقبل. قالت المجلة التي ننقل عنها وماهو يا ترى رأي هؤلاء النطاسيين لو حضروا عيد القبل في رومانيا وهو الذي يجيءُ فيه البنات والفتيات زرافات من جميع أطراف القرى المجاورة تحمل كلا منهن سجلا اودلوا من الخمر مزيناً بالرياحين ويقبلن كل من يضادفنه في طريقهن من شفتيه ثم يقدمن له السجل ليسقي منه ويرتوي ومن أبى أن يتناول وما يقدم له يعد عمله إهانة. ويارب كم من الجراثيم تنتقل من فم إلى آخر يوم ذاك العيد في تلك العادة الغريبة كلام النساء كان يظن أن كثرة كلام النساء أتى من ضيق عقولهن أما الأن فقد أثبت الأستاذ ماراج من كلية السوربون بباريزان اقتدارهن على الكلام ناشئ من متانة صدورهن وذلك أنه بحثص في اصوات الرجال واصوات النساء وقاص مقدار ضغط الهواء الصادر من الفم فظهر له أن المتكلم من الرجال يتعب أربع أضعاف المتكلمات من النساء وأن النساء لا يتعبن من الكلام صح بقدر ما يتعبن إذا استعملن مراوحهن المناطيد كان لسباق المناطيد شان عظيم في فرنسا وألمانيا في العهد الأخير وتفننت الأمم في

تطييرها تفننا ذكرت الجرائد السيارة أكثره اخر سرعة فقطعتها المناطيد الألمانية كانت 110 كيلو مترات في ساعتين و17 دقيقة والمنطاد الديد أشبه بسفينة طوله 128 متراً وعمقه 11 متراً و70 سنتيمتراً وقطراه 11430 مترا مكعباً وهو على شكل اسطواني ينتهي بمخروط سنيني وفي ستة عشر غرفة في كل منها منطاد من القماش المنفوخ بالهيدروجين. جريدة بالتلفون الف احد كتاب الأميركان سنة 1888 كتاباً خيالياً ذكر فيه كيف يعيش الإنسان بعد مئة سنة ومما قاله أن طريقة تبليغ الأخبار وسماع الموسيقى وخطاب الاندية والمؤتمرات ستنقل إلى الناس بواسطة التلفون فضحك بعضهم من هذه النبؤة ولكن مدينة بودانست عاصمة المجر قامت تحقق اليوم ما تنبأ بحدوثه ذاك الكاتب فاسست شركة تلفون تنقل لاهالي تلك العاصمة بواسطة مائتي عامل لها يعملون بلا انقطاع في اسلاك تلفونية طولها ثلثمائة كيلو متر إلى خمسة عشر الف مشترك أخبار العالم وانباءه البرقيه وحوادث اليوم وانباء المجالس النيابية والخطب السياسية وأخبار البورصة والأسواق وحوادث الشرطة والقضايا المرفوعة أمام المحاكم وشذرات من صحف بست وفينا وأبناء والظواهر الجوية والإعلانات وغيرها كل يوم من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة العاشرة مساءً وتنقل للمشتركين ألفاظ الممثلين في أشهر دور التمثيل كما يلقونها والمواعظ كما يفوه بها أصحابها وغيرها والمشترك لا يدفع لقاء هذه الأخبار التي تنقل إليه بأسرع ما يكون سوى عشرين سانتيماً في اليوم وستسارع باريز وشدن وبرلين وغيرها من العواصم إلى تأليف شركات من هذا الطراز نظافة الشوارع أصبحت نظافة شوارع لندن وبرلين المثل المضروب عند الأمم بنظافتها على كثرة الحركة فيها ولاسيما لندن أعظم عواصم الأرض فإن برلين تمنع المارة من القاء الورق دع عنك الفضلات في الشوارع ولندن تستخدم ألوفاً من الاطفال يحمل كل منهم مكنسة ورفشاٌ لتناول السرقين حالة وقوعه وجعله في علب كبيرة تجمع وتباع من أرباب الحدائق سمادا للارض من انفع ما يكون.

تبخير الموتى يقول كوى المستشرق بان عادة حرق الخشب الذكي الرائحة اكراما للاموات كانت مألوفة في المدينة قبل الإسلام وبقيت لعده راسخة. نفقات التعليم في إحصاء أخير أن المدارس الابتدائية البلدية في إنكلترا تسع 3520000 الف تلميذ والمدارس الأهلية 3509914 تلميذاً وقد كان معدل من اختلفوا إلى المدارس الأولى سنة 1905 - 3199050 تلميذاً وإلى المدارس الأهلية 2842654 تلميذاً وبلغت نفقاتها 21323274 جنيهاً منها 11022600 دفعتها الحكومة و10300674 دفعتها المجالس البلدية وبلغ سائر ما أنفق على التعليم 3040964 جنيهاً منها 1556481 جنيهاً دفعتها الحكومة و 1484476 جنيهاً من موارد معينة أي أن برنامج معارف إنكلترا بلغ خمسة وعشرين مليوناً من الجنيهات في حين أن حكومة مصر تنفق على ضروب التعليم أقل من أربعمائة الف جنيه. بل الانكى من ذلك أن ولاية فيكتوريا في اوستراليا وسكانها مليون وربع تنفق على تعليم أولادها عشرين مليون فرنك. التعليم في الهند يؤخذ من الإحصاء الأخير أن عدد المدارس في ولاية مدارس من أعمال الهند قد كأن سنة 1906 - 839910 وكان قبل 841034 مدرسة ونزل معدل الصبيان الذين يتعلمون فيها فصار 29 بالمئة كما زاد معدل المتعلمات من البنات فأصبح خمسة وكسوراً في المئة وكان يجب أن يكون في المدارس تسعمائة الف متعلمة فلم يأتها غير ثمانية وأربعين ألفاً بحيث اضطرت مدارس كثيرة إلى اقفال أبوابها والحكومة لم يتيسر لها أن توزع ما خصصته للانفاق على المتعلمين والمتعلمات اما في أقليم بنجاب فقد ساءت حالة التعليم أكثر وذلك أن 14 في المئة من البنين يختلفون إلى المدارس و28 - 2في المئة من البنات. ثروة فرنسا يؤخذ من احصاآت المواريث أن ثروة الأفراد تكثر في فرنسا فبعد أن كأنت الإيرادات أربعة مليارات فرنك سنة 1873 أصبحت سنة 1902 ستة مليارات وارتقت واردات

المنقولات من مليار سنة 1873 إلى مليار وثمانمائة الف فرنك سنة 1903 وليس لامة بقدر ما لفرنسا من المنقولات خارج بلادها وقد زادت وارداتها من مليار و58 مليوناً سنة 1873 إلى مليار و894 مليونا سنة 1903 وكان دين فرنسا سنة 1904 ملياراً ونحو نصف مليار اتحاد التربية تحاول دوقيه باد في ألمانيا أن تدخل إلى مدارسها طريقة الوحدة في التربية بحيث يتعلم الاناث بجانب الذكور في مدرسة واحدة وقد كان عدد البنات اللاتي تعلمن سنة 1906 في المدارس العلمية والصناعية مع الصبيان 53 ابنة وأخذت المدارس العالية تقبلهن ويقبلن على التعليم فيها. البطالة في إنكلترا بلغ هذا العام عدد من ليس لهم عمل في بلاد الإنكليز مليون نسمة أيأنوأحداً من كل أربعين ليس لهم عمل وربما يستكثر بعضهم هذا العدد وهو كثير إلا أن جميع الممالك مصابة بداء البطالة والسبب في ذلك أن القرى يقل سكانها ويكثر سكان المدن وليس في هذه أعمال تقوم باعالتهم فقد كان الفلاحون سنة 1890 ثلث مجموع سكان بريطانيا فهم الان خمسهم وكذلك الحال في ألمانيا فقد بلغ عدد المشتغلين بالزراعة فيها 21 مليوناً من أصل 62 مليوناً والباقون يعملون في التجارة والصناعة التيسير في السياحة كتب أحدهم في بعض المجلات العلمية في تيسير السفر في النصف الأخير من القرن الماضي والاقتصاد والراحة التي نشأت فيه قال أن المسافر كان يقضي ستين ساعة في قطع المسافة بين بايز وبوردو وهي 685 كيلو متراً أي أنه يقطع نحو عشرة كيلو مترات في الساعة وكان يدفع اجرة عن كل ساعة في المركبة لا تقل عن 14 سانتيمتراً ما عدا الا كل ومن يسافر مع البريد يؤدي ضعف هذه الاجرة كما يقطع المسافة في أقل من ذلك بقدر النصف أما الأن فإن المسافة تقطع في السير السريع بالسكة الحديدية في سبع ساعات وعشرين دقيقة والاجرة ليست فاحشة الكتابة على الزجاج

الكتابة على الزجاج تسليه لا تتطلب غير أن المران عليها ولكي ينجح الإنسأن فيها ينبغي له قلم رصاص من معدن الالومنيوم يمكنه صنعه بنفسه وذلك بان يلف عليه شيئاً من هذا المعدن ثم يبلُّ الزجاج بلا خفيفا او يغشيه يمحلول ملح القلي ويبرع في هذه الكتابة من سبق لهم انهم عانو التصوير قليلا. مدرسة الممرضات اقتبست فرنسا من انكترا إنشاء المدارس لتعليم الممرضات وفد أنشئت مدرسة في بوردو منذ ثلاث سنين تخرج فيها من الممرضات أحسنهن وأفضلهن وقد جعلت هذه المدرسة داخل مستشفى فتتولى مديرتها أمر ممرضاتها وتعلمهن وتمرنهن كانهن تلميذات في الطب ومتى تمن حصصهن ينقلبن إلى غرفهن او يصرفن اوقاتهن في قاعة كبيرة جعلت فيها خزانة كتب ومحال للمطالعة والكتابة أو إلى الضرب على البيانو. الموظفون الفرنسيون تحصى أحد الباحثين عدد الموظفين في الجهورية الفرنسوية فقال أنهم كانو سنة 1846 188 ألفاً فأصبحوا الان 400 الف وإذا عد فيهم موظفو المقاطعات والعمالات بلغوا 530ألفاً والشفاعات وعطف أصحاب المناصب على ذوى قربأهم. . . . . . . . . . . . . . . . . . هي السبب في عذة الزيادة المفرطة التي تكلف نحو مليار فرنك في السنة إذا اضيفت إليها روابت المتقاعدين. مكتبة تجدد وصف احد فضلاء الفرنسيس المكتبة التي انشأها كارنجي الغني الأميركي في مدينة اديمبرغ التي هي من بريطانيا كمدينة أثينة من يونان أيام عزها فقال أن ليس فيها كتب نفيسة كثيرة بل فيها ادلة وكتب إرشادات وتقاويم وخطط وغيرها معروضة على المناضد للمطالعة ليرجع إليها المختلفون إلى تلك المكتبة لأول ساعة وعددهم كمل يوم لا يقل عن 7000 وإن 4 من 7 يترددون على غرفة المجلات وهناك غرفة لاعلاق الكتب لمن يطلبها قيها 52 الف مجلد وهي تتمزق وتعتق فتجدد كل مدة ويؤتى بأحسن منها اما قاعة

المراجعة ففيها 101396 مجلداً من المعاجم والموسوعات ومجاميع القوانين وغيرها. فقراء الهند نشرت إحدى المجلات الألمانية بحثاً في حكماء المسليمن في الاصقاع الهندية الذين يدعون بالفقراء فقالت أن الاوروبيين الذين يزورون الهند زيارة سطحية بدون أن يسبروا أخلاقها يرون من هؤلاء الفقراء مجانين مختلة شعورهم ولكن لهؤلاء الصالحين الشخاذين دخلا في الدين وعددهم بحسب الإحصاء الأخير نحو خمسة ملايين نسمة في الهند ومن أشهرهم كوريسإنكار وكان من قبل وزيراً لبهافنكار وهو ذو حظوة عند الإنكليز ومؤسس مدارس وسجون كانت انموذجا في انتظامها ثم نفض يده من الدنيا وانقطع إلى غابة سنة 1879 وكتب إلى ماكس موللر الفيلسوف اللغوي الألماني: لقد عشت ستين سنة في الحياة الخارجية فاريد الآنأناصرف عمري في التأمل. العرب والغوط بين أحد الباحثين الإنكليز النسبة بين الهندسة الغوطية والعنصر الغوطي وبين الهندسة العربية والعنصر العربي والغوط وهم شعب كان ينزل في جرمانيا واغار على المملكة الرومانية سنة 410م فقال إن الهندسة العربية غير ثابتة ولذلك فنيت واضمحلت أما الابنية الغوطية فهي على العكس تنيئُ بعقول بناتها من أهل الشمال وبشدة أخلاقهم وإن ما خص هذا العنصران أي الغوطي والعربي مما أنبأ به تاريخهما من قلة نظامهما يقرأه المرءُ فيما بقي من مصانعهما وأثارهما.

حالتنا العلمية والاجتماعية

حالتنا العلمية والاجتماعية حري بنا والربح الأول من القرن الرابع عشر ينتهي بانسلاخ هذا الشهران نذكر بعض ما تم للبلاد العربية في خلاله من أسباب النهوض وتحسين الملكات والارتقاء العلمي والأدبي فنثبت من ذلك ما نعرفه عن مصر والشام بالعيان وما يبلغنا عن بلاد القاصية من ثقات من رحلوا إليها او اطلعنا عليه فئة من أهلها فنقول: كان حظ مصر من هذا الارتقاء عظيما إذا قيس بالخطوات التي خطتها الاقطار الأخرى ومصر لاتزال منذ سقوط الدول الأولى محط رحال العالمين والمتعلمين ومقصد أهل الإسلام من أهل أفريقية وأوروبا واسيا وجزائر المحيط. فقد زاد فيها عدد المتعلمين وبعد أن كانوا واحدا او اثنين في المئة أصبحوا الان نحو عشرة وزاد المتأدبون والقراء ايضا فبعدان كأنت الجرائد لايتنأولها أكثر من الفي قارئ ومعظمهم لايكادون يفقهون مايقرأون زاد عددهم زيادة كبرى حتى جاوزوا فبما احسب ثلاثين ألفاً وكثير منهم يعقلون ما يلقى عليهم كما زاد تحسين الصحافة العربية وأخذ تجري على مثال الصحافة الغربية وصار لها صوت وتأثير في الأمة. وعلى تلك النسبة نما فريق الكتاب والأدباء والمعربين والمصنفين بعد أن كان الكتاب في مصر أواخر القرن الثالث عشر يعدون على الأصابع معضمهم ضعاف يكثر في كلامهم اللحن والركاكة كما تقل الأفكار السديدة ولو لم يكن المصريون منصرفين إلى تولي أعمال القضاء والإدارة والطب والهندسة في الحكومة لرأيت الكاتبين والمفكرين منهم أكثر سواداً وأعظم نفعاً ولكن الأمال معقودة بان يزيد عددهم ويكثر الانتفاع بثمرات عقولهم وتجاربهم في الربع الثاني من هذا القرن أصبح بعضهم يشعرون بأن الاعتماد في تعليم أبنائهم على الحكومة وحدها ليس من السداد في شئ ومتى أخذت الوظائف كفايتها من العمال يغدو المتعلمون وقد سدت في وجوههم الأبواب في الحكومة فلا يعود أمامهم غير الصناعات الحرة ومنها القيام على التأليف والكتابة وهي من المعايش التي يزهدون فيها الان ساعد مصر على النهوض انتشار الحرية وكثرة احتكاك الأهلين بالأجانب فنشأ من ذلك نشئٌ أن لم يكن في الغاية بتعلمه فهو أهل للعمل لو درب عليه. وعرف أكثرهم منزلتهم ومنزلة قومهم من القصور فهموا أن يعملوا وحاولوا أن ينفعوا وأصبح الناس يبحثون في الشؤن العامة أكثر من ذي قبل وإن كان بحث عامة الناس في الشؤن السياسية عقيم في

الاغلب والجرائد هي السبب في غرس هذا الميل في نفوس القوم فهي المدرسة اليومية بعد المدارس الأميرية والأجنبية والكتاتيب الأهلية ولطالما أكثرت من ترديد عبارات التحميس والنقد والتنديد والنعي والعويل ففعلت اقوالها في الاذهان بقدر تأثير كتابها حتى خاف العقلاء أن تكون الاراء السياسية مشغلة للقوم عن النظر في شؤن التجارة والزراعة والصناعة. وقد أخذت بعض الجرائد الخطيرة تحاول سد هذه الثملة فإنشأت تكثر من نشر الموضوعات الاجتماعية والتاريخية والأدبية على نحو ماتفعل الصحف في بلاد الغرب. وكما كان للجرائد العربية تأثير في الأفكار فقد فعلت فعلتها في الألسن والأقلام بإستعمالها الكلام الفصيح كل يوم بحيث علق من تراكيبها ومطلحاتها جملة صالحة صار العامة يدمجونها في تضاعيف كلامهم وخطابهم وترقت بواسطتها لغة الدواوين وكانت من قبل في احط دركات الركاكة. نشأ لمصر مهندسون وأطباء وقضاة متعلمون كأحسن أبناء صنفهم في بلاد الغرب لولا أن رجالنا يصابون في الأكثر بشيئ من الفتور ووقوف عقيب سن الدراسة قد يعوقهم ةعن الجري في العمل بعد أن يستوفوا النظريات ولولا ذلك لرأينا من أثارهم في نشل أبناء بلادهم من سقطتهم أكثر مما رأينا. وأبناء مصر لايزالون مقصرين فيما يربى النفوس على حب العمل الحر النافع ولم يقبلوا حتى الآن على اتقأن العلوم الزراعية والصناعية وما ينبعي لهم إقبالهم على الحقوق مع شدة حاجة القطر إلى الزراعة قبل كل علم. ويسرنا أن نرى كثيرين من المصريين يقصدون بلاد الغرب للتعلم قي مدارسها وبعضهم من أبناء الاعيان وكيفما كأنت الغاية من تعلمهم فهم فخر من مفاخر بلادهم ولابد أن يكون السابقون مقصرين فيما يجب عليهم أتباعه والاضطلاع به بداءة بدء ولكن الجيل المقبل سيكون انشط في عمله واسراع إلى تلقف مايلزمنا من مدنية أوروبا وما يضر بنا منها وهو كالصدأ عليها وعقلاء أهلها ينادون بالتخلي عنه في كل شارقة وبارقة. قلت أن الجرائد أثرت في نهضة المصريين ولم أقل المجلات لأن هذه مقصورة على طبقة خاصة من القراء وبعضها منتشر خارج القطر أكثر من انتشاره داخله لأن العمليات والاجتماعيات والدينيات والأدبيات ليس لها في نفوس العامة تلك المنزلة التي يجدها القارئ فيما يقرأه للتفكهة من الأخبار والمناقشات السياسية ويجده منه قيد النظر ويكبر فيه

الأماني. على أن لبعض المجلات الكبرى التي ظهرت في مصر على قلة انصارها فضلاً كبيراً في التعليم والتربية. ومن الترقي في الأفكار أن بعض أهل الجمود ممن كانوا لايقولون بتلاوة الصحف والكتب الحديثة أخذوا يقرؤنها اضطراراً وسمحوا او تسامحوا بمطالعتهم فكان من أثارها أن عرف بعض طلبة العلوم الدينية تقصيرهم في الأخذ من علوم الدنيا بحظ وافر يعينهم على فهم اسرار الشريعة ونشأ من هذه الحركة أن دخل شئٌ من الإصلاح طفيف على طريقة التعليم في الازهر وادخل في قاعة دروسه من علوم الرياضة وتقوم البلدان والتاريخ وفن الأدب ما كانت تلك المدرسة الكبرى محرومة منه زمناً طويلاً. وانه على عقم طريقتها إلى الآن يرجى أن ينشأ منها ناشئة يفضلون بما تعلموه اخوانهم الذين سبقوهم خصوصاً وقد وفرت العناية بمدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم وهما من انفع المدارس لاتمام دروس من يتخرجون في الازهر وانشأت مدرسة أبي العباس المرسي في الأسكندرية تخرج من طلبة الدينيات من لهم مشاركة في شيئ من علوم الدنيا. فكان مشايخ العلوم الدينية وكانوا لايسفون للتنازل إلى تعلم ما فاتهم من أسباب العلم بزمانهم رأوا الآن وقد قامت المدارس المنظمة على طريقة الأوروبية بعض التنظيم تنازعهم فضل تربية الأمة وأعداد رجالها أن لامندوحة لهم عن دعوة صغار الطلبة ولو بلسان الحال أن ينظروا نظراً اجمالياً فيما لاغنية عنه من علوم العصر. فعسى أن تتم للناهضين من هذه الأمة امنيتهم من الاهابة بالمتعلمين إلى الأخذ من علوم الدنيا والدين على حد سواء ثم يتمحص منهم من يريد أن يتمحص لفرع من الفروع التي تجد فيها له الغناء. ومن قرأ تاريخ أوروبا في القرن السادس عشر يجده كتاريخنا في هذا الربع الأول من القرن: عراك بين القديم والحديث وقلة اتقأن لهما كليهما والنفوس أخذة بالشعور تلوب على ما يليها نهوضاً. وإدراك الفرد نقصة وسعيه إلى كماله ولو اخطأ الطريق بادئ بدء فأل خير وبشرى سعادة. والقول أول مراتب العمل والشك أول درجات اليقين. ولا بقاء لهذه الأمة إلا إذا ابقت على النافع من قديمها ولم تستهن به واضافت إليه من الحديث مالا عهد لها به وفيه قوام اجتماعها. ان اختلاط مصر بالغرباء والإفرنج منهم خاصة ممن كثر إقبالهم عليها أكثر من كل بلد

يتكلم أهله بالعربية اللهم الا الجزائر وتونس وتعلم جانب من ناشئتها في مدارسهم واتقانهم للغاتهم وذهاب أهل السعة منهم كل صيف للاصطياف في أوروبا وإرسالهم بعض أولادهم يغترفون من معين العلم في مدارسها وشلن - كل هذه الأسباب دخلت مصر في طور البلاد الإفرنجية ولاسيما حواضرها وأمهات مدنها حيث يكثر المتعلمون وأهل اليسار وتصدر الصحف والمطبوعات ويجتمع الموظفون والمزارعون والمضاربون وأهل التجارة. ومما يعد في باب الارتقاء في الفكر الديني بفضل ما انتشر بالطبع من أمهات الكتب الدينية وتناقلها الايدي على اختلاف الطبقات أن أخذ بعض العامة دع عنك الخاصة يدركون أن في بعض معتقداتهم شوائب وفي الكتب المعتمدة في القرن الماضي من مؤلفات المتأخرين اغلاطاً لا بدّ من نزعها والرجوع فيها إلى الأصول الصحيحة. وهذا الاعتقاد سرى في النفوس لأسباب منها انسيال تيار الفلسفة الجديدة واحياء الأمهات من أسفار السلف وانتبهاء أهل العقول إلى أن الرجوع بالناس إلى الأصول خير من الضلال بها في مهامه الفروع المشوبة والمعتقدات الضارة. وقد دخلت المطبوعات في دور جديد فبطل بعض الطبع السقيم وأخذ أرباب المطابع يحأولون تجويد الطبع وانتقاء المصنفات النافعة فاحيوا كثيراً من الأمهات القديمة في الشريعة والأدب والتاريخ كما ترجمو بعض المترجمات الجليلة في الحقوق والطب والكيمياء والطبيعة والاجتماع والقصص. وكان الفضل في تحريك نفوس المسلمين هنا وايجاد حركة أدبية بينهم لأحد أرباب النفوس الكبيرة والحكمة ونعني به السيد جمال الدين الافغاني فإنه هبط مصر في الربع الأخير من القرن الثالث عشر ولقي فيها من بقايا أهل العلم والذين تعلموا في أوروبا من ساعدوه على قبول دعوته وكأنت العجلة من طبعه يريد التاثير والإصلاح مباشرة ولو لم يكن كذلك لدل الأمة أكثر مما دلها على معاييبها ووصف لها من أسقامها بنغمة لم تكن تالفها وقد نفعت دعوته في تهيئة الملكات فربى له رجالاً يغلبوا عليهم النشاط والعقل في الجملة ومنهم أكبر مريديه الشيخ محمد عبدو الذي ووفق إلى تولي منصب الافتاء فكان له فيه أعظم تاثير ومضى ذهاء عشرة سنين على مصر كان فيها زعيم الحركة الإصلاحية كما كان شيخة جمال الدين من قبل ومن أعظم أثار الشيخ المفتي إنشاء الجمعية الحيرية الإسلامية وهي عمل نافع تثلج له الصدور وتقر العيون.

أما القطب السوري فكانت حركته العلمية والأدبية جيدة على الجملة ولاسيما في بيروت مدينة العلم والمدارس في الشام ومركزها الحركة العقلية التي نشأت في الحقيقة بفضل مدارس مرسلي الأمريكان والفرنسيس وطبعتيهما العظيمتين وسائر المطابع والجرائد التي نشات فيها أواخر القرن الماضي وبعده وثلت من الافاضل الذين خدموا العربية خدمة نافعة كفإنديك وورتبات وبوست والبستاني والاسبر والأحدب واليازحي والحوراني والشرتوني وشيخو وبلو واضرابهم الثائرين على أثارهم. ومما ساعد على تحسين الاذواق ببيروت ولبنان كثرة ولوع سكان الجبل بالهجرة إلى أمريكا منذ أوائل القرن كما أولع اجدأهم الفينيقيون بها من قبل وعودة بعضهم بأموال أقاموا فيها القصور والمباني على النسق الغربي وحأولو العيش على المناحي الإفرنجيه وجلبوا معهم عادات ومعارف جديدة نفعت في إنشاء ملكاتهم وادابهم. والفلاح السوري على الجملة أرقى من الفلاح المصري واذكى منه ولكن أهل الطبقة الوسطى والعليا من المصريين أرقى من أهل جنسهم في الشام وقد سرت من حب الهجرة شظية إلى داخلية سوريا وهب المسلمين إلى الاغتراب بعد أن كان المسيحيون وحدهم يضربون في اكناف الأرض ولاسيما في أمريكا ومصر كما سرت عدوة العلوم الحديثة وحب تعلم اللغات الأوروبية ولكن هذه الجراثيم ما زالت قليلة الانتشار بينهم. ممن كان لهم اليد الطولى في الدعوة إلى تصحيح الأفكار في سوريا ولاسيما في دمشق وأعمالها الشيخ طاهر الجزائري فإنه نفع بتآليفه وإرشاده وخطبه في الاندية الخاصة حتى كان سبباً في إنارة عقول جمهور كبير من المتعلمين والمتأدبين والمتصدين للنفع والتدريس فكان العضو العامل في إنشاء المدارس الابتدائية في سوريا واحياء كتب السلف بعد أن بددهم الخلف وجعلها في خزائن عامة كالمكتبة العمومية في دمشق وغيرها. ولكن سوريا منيت بالمراقبة على المطبوعات فهجرها أكثر المفكرين والكاتبين من أبنائها بحيث صح أن تدعى سوريا مدرسة وميدان العمل مصر وأمريكا وغيرها. ولأن لم يأتي المسلمون في سوريا إلى الأن في عمل يدل على فضل وعقل فإن الانتباه للذي حدث في هذا العهد يدعو إلى الأمل بانه سيكون منه عما قريب أحسن أثر يعود على البلاد بما ينفعها في مادياتها ومعنوياتها. ومتى ايقن المرء بجهله تعلم والجهل البسيط خير من الجهل المركب ونريد للجهل البسيط هو أن لا يعلم

صاحبه ويعلم أنه لا يعلم والجهل المركب هو أن لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم. هذا في العلوم الدنيوية أما العلوم الشرعية فقد قل المشتغلون بها كثيراً لأن الناس مفرطون على حب المنفعة العاجلة. وذلك أن فريق المتعلمين رأوا العلوم الشرعية أصبحت لا يرزق صاحبها منها بقدر رزق صاحب العلوم الدنيوية فرغبوا عن الأولى إلى الثانية وفشا فيهم داء الاستخدام كمصر فضعفت بذلك العلوم الإسلامية التي كانت تعد دمشق وحلب مثلا من أمهات مدنها وأسواقها في العصور السالفة. وإذا تقدمنا إلى العراق نجده يشبه حال الشام وإن بقي له شئ من العلوم القديمة ولم يأخذ من الحديثة بقسط وافر على أن ذكاء العراقي ونشاطه معروفإن موصوفإن ولا يبعد إذا تهيئت أسباب واحدة للقطرين الشقيقين أن يسبق العراق الشام. ومثل ذلك يقال في نجد واليمن والحجاز فإن الذكاء موجود في أهلها على اتمه ولكن أسباب التعلم ضعيفة جداً والعأقلون العاملون لا يهتدون إلى طريقة تنفتح أمامهم سبيل الوصول. وأقليم نجد ما برح على الفطرة حتى أن علوم العربية ضعيفة فيه وليس هناك غير العلوم الشرعية من الفقه الحنبلي وغيره مما بثهُ فيهم أمامهم محمد بن عبد الوهاب في القرن الثالث عشر وكانوا من قبل فيه جاهلية جهلاء وهم لا يزالون بعيدين عن تعلم العلوم العصرية مع كثرة تجول بعضهم في الاقطار المجاورة في التجارة ورؤيتهم في الهند ومصر وغيرهما من أثار العلم الغربي ما يبهج ويدهش. وكذلك الحال في اليمن إلا أن العلوم الإسلامية على كثرة الفتن هناك ما فتئت بين الزيدية أرقى مما هي في غيرها من الاقطار وهي منحطة عند غيرهم ويمتاز عامة أهل نجد واليمن عن عامة غيرهم بمعرفتهم المبادئ الأولى التي هي أساس لما بعدها بحيث أن عامتهم يشاركون اعلا طبقات العلماء في المبادئ الصحيحة حتى أن كثيراً من عامتنا بل من علمائنا يتوهمون في كثير من عامتهم بانهم علماء فخواصنا أرقى من خواصهم وعامتهم أرقى من عامتنا. والحجاز ما برح كما وصفه الكتاب العزيز واديا غير ذي زرع كما أنه لا يزال واديً غير مخصب بالعلم والأدب وإن كان كما قال لي أحد الثيقات بانه قد ينزل في علماء كبار ولكن يقصدونه للعبادة والتخلي عن الدينا لا ليعملوا ويجدو فترة فيه الافغاني والهندي والمغربي وغيرهم ممن صرفوا اعمارهم في النافع واحبوا أن يختموها بالعبادة. أما السواد الأعظم من السكان

هناك فبعيدون الان عن التغيير ولعل السكة الحجازة متى وصلت بلادهم ببلاد الشام تنقل إليهم من وراء البحار ما تستنير به عقولهم كما ستنقل إليهم الغلات والثمار. هذه أحوال جزيرة العرب من الارتقاء وهو احرى كما رأيت أن يدعى وقوفا. واما شمال أفريقيا فحالتها ليست الا دون ما يرجى فإذا نظرت إلى المغرب الأقصى ترى الفوضى السياسية تمزق احشائها منذ سنين بل منذر اعصار والقول الفصل فيها لمشايخ الطرق منذ خمسة قرون وليس لعلماء الدين الحقيقين سلطة تنفع أما العلوم العصرية فعدومة بالجملة وإذا نظرت إلى فاس وغيرها من أمهات مدن العلم في ذاك الصعق الواسع لا تجدها قد اختلفت شيئا عما كانت عليه منذ قرون اللهم إلا في انحطاط العلوم الدينية مع أن المغرب الأقصى من أوروبا على قيد غلوة ولكنه ضرب دونه ودون المدنية باسوار منيعة وحرم أهل الشأن فيه. ما لم يحرمه دين ولا عقل كقراءة الكتب الجديدة والصحف بل وصل الغلو بهم إلى تحريم تفسير القرآن لخيالات يتخخيلونها من قراءته. وإذا جئت المغرب الاوسط وهو الجزائر ترى العلوم الإسلامية منحطة فيه والعلوم الجديدة ليس منها شيء إلا في المدارس الفرنسوية على قلة جدواها ولم يصل منها إلى أهل البلاد النافعين في انهاضها غير نور ضئيل جداً لان أكثر الدول المستعمرة تذهب إلى أن العلم يرفع ريقتها عن المسعمرين وكذلك الحال في المغرب الادنى وهو تونس وبرقة أي طرابلس وما والاها من بلاد الصحراء إلا أن أهل تونس هم بالنسبة للمغربين المجاورين لها أرقى في العلوم الدينية والدنيوية. وجامع الزيتونه يكاد يكون أرقى من الجامع الازهر على أن تونس كانت منذ القدم تعنى بالعلوم الإسلامية أكثر من غيرها من الاقطار وحسن الترتيب بين التوانسة في طريقة التعليم قديم العهد كيف لا وهم في الا كثر من نسل الفينيقيين وجالية الأندلسيين. ويرجى لهم بعد أن نفس عنهم الخناق بعض الشيء أن تنفعهم الحرية فيفكر قادتهم لهم وإن ما نسمع به ونراه من الصحف والجمعيات التي أكثروها من تأسيسها مؤخراً ليدعونا إلى الرجاء بأن يكون الربع الثاني من القرن أحسن فائدة وأكبر عائدة عليهم أن لم يعاودهم الضغط والمراقبة. هذه الحال البلاد التي يتكلم فيها باللغة العربية بقي السودان وزنجبار وحالهما حال سائر

البلاد العربية واضعف وكنا نأمل لأهل زنجبار أن يكونوا كأهل اليمن في العلم والانتباه والاندري ما احاق بهم حتى تأخروا عن اللحاق بهم. وإذا احصيت العرب لا ترأهم يقلون عن خمسين مليوناً ولو قست حالهم العلمية والمادية بأصغر الشعوب الأوروبية كلبلجيك او هولانده او سويسرا لبكيت وانتحبت هذا ولغة العرب ينطق بها نحو مئتين وخمسين مليوناً فهي أقوى اللغات واضعفها اقواها بأساسها الثابت المتين واضعفها بأهلها المشتتين. فنسأل الله أن يهيء لهذه الأمة من يرشدها ولا خير لها الا من نفسها لان سيادتها وكبراءها ناموا عن رعايتها.

مصائب المكاتب

مصائب المكاتب ليس أعز على عالم من كتب وأوراق كتبها هو أو كتبها هو غيره ولذلك نجد المصنفين في كل عصر ومصر يختارون أجود الورق وأثبت المداد وأجمل الخطوط تخليدا لجدهم وحرصا على بنات أفكارهم أو أفكار من عاصرهم أو تقدمهم ولما كان لكل شيء في العالم عمر طبيعي يقضيه حيوانا كان أو نباتا أو جمادا لم تخرج الكتب عن حد كونها عرضة للفناء وإن طالت أعمارها أكثر من غيرها في عالم الكون والفساد بيد أن المصيبة بها جليلة لأنها ثمرة عقول البشر وزبدة أقوالهم وأفعالهم، وأفضل ما في المرء عقله ولا يتم له حفظ ثمراته في الغالب إلا بكتاب. حدثت الكتب في الإسلام في أواخر القرن الأول ولم يمض قرن أوقرنان حتى عدت بالأولوف وصار لها شأن عند القوم بعد أن كانوا أمة أمية لايقرأون ولا يكتبون قيل أن الكتب التي كتبها أبوعمرو بن العلاء المتوفي بعد الخمسين ومائة عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب السقف ثم أنه تقرأ أي تنسك فأخرجها كلها وفي رواية أحرقها فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده الا ما حفظه بقلبه ومعلوم أن أصحاب السلطان في الإسلام عنوا بأقامة الخزائن وتسليبها على المطالعة والمراجعة والنسخ ينتابها خاصة الناس وعامتهم لندرة الكتب وعزة الظفر بها إذ ذاك وقد أصاب تلك الخزائن ما أصاب غيرها من مخربات العمران وأقلها التجريف والتمزيق والضياع والتفريق ولذلك طالت لها الحسرة وهلاك فرد لا يوازي هلاك أفراد وإن عد الفرد أحيانا بأمة وكذلك الحال في الكتب فإن ذهاب مكتبة أومكاتب برمتها لا يشبه ذهاب كتاب أوبضعة كتب وأهم المآتم التي أقيمت على الكتب الإسلامية ثلاثة. الأول يوم دخل هولاكو سنة 656 إلى بغداد وقتل الخليفة العباسي وأزال الخلافة جملة وخرب دار السلام فألقيت الكتب في دجلة حتى قيل أن لونه مائه على غزارته بقي أياماً أسوداً مكمداً بما تحلل فيه من مداد الأسفار التي ابتلعها وبالغ المؤرخون فيما ذهب في تلك النكبة ويكفي بأن بعض تلك الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة على زمن هؤلاء التتر قد أنشأ بها نصير الدين الطوسي أحد فلاسفة الإسلام خزانة عظيمة اتخذها بمراغة في القبة والرصد الذي أنشأه هناك فيجتمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد. والمأتم الثاني يوم دخل الإفرنج مدينة طرابلس الشام في الحروب الصليبية فأحرقوا مكتبها بأمر

الكنت برترام سنت جيل وكان قد دخل غرفة فيها نسج كثيرة من القرآن فقضى بإحراق المكتبة كلها وفيهأعلى ما قيل ثلاثة ملايين مجلد. وأصاب البلاد غير هذين الرزيتين ما أصابها من الخراب بأيدي التتر وأهل الصليب. والمأتم الثالث نكبة الأندلس وداهيتها الدهياء فقد وقعت كتب المسلمين في أيدي أعدائهم وقد أعمأهم الجهل والتعصب فجعلوها طعاماً للنار. قال قوندي في تاريخه إن مسيحي إسبانيا لما استولوا على قرطبة حرقوا كل ما طالت إليه أيديهم من مصنفات المسلمين وعددها مليون وخمسون ألف مجلد جعلوها زينة وشعلة في يوم واحد ثم رجعوا على سبعين مكتبة في الأندلس وأنشئوا يتلفون كل ما عثروا عليه في كل أقليم من مؤلفات العرب. وقال أحد مؤرخيهم ربلس أن ما أحرقه الأسبانيول من كتب الأندلسين بلغ ألف ألف وخمسة آلاف مجلد. وذكر بعض المؤرخيون أن أحد جثالقتهم أمر بإحراق ثمانين ألف مجلد في ساحات غرناطة عقيب استيلائهم عليها وأنهم قبضوا على ثلاث سفن قاصدة مراكش تقل ما عزّ على المسلمين أن يخلفوه ورائهم من أسفارهم فألقوها في قصر الأسكوريال ثم لعبت فيها النيران وبقيت منها بقية رتب فهرستها أحد مسيحي سورية وجعلوها إلى اليوم مكتبة ينتابها علماء الأرض وكان بقي منها على عهد من رتبها 1851 سفرا. وقد ادعى قوم أن المسلمين حرقوا كتب الأمم الأوائل وأنه أمر عمرو بن العاص بإحراق مكتبة الأسكندرية وفيها قسم كبير من حكمة اليونان وغيرهم من الأمم الخالية وإنهم حرقوا مكاتب فارس في خلال الفتح وأن عبد الله بن طاهر قائد المأمون حرق في خراسأن سنة 213 ما كان باقياً من مؤلفات المحبوس إلى غير ذلك مما يتذرعون به من الحجج وهو من الحجج وهو مردود عند أهل التمحيص ونقدة الأخبار. ولو كان لما ادعوه ظل من الحقيقة لذكر قدماء المؤرخين من المسلمين ذلك ولو بإشارة طفيفة. ولماذا يا ترى لا نرى لهذه الدعوى ذكراً فيما بين أيدينا من كتب التاريخ كابن جرير والمسعودي والبلاذري وغيرهم كما أنا لا نجد لذلك أثراً في كتب سيرة العمرين وكان على مؤلفيها لو كانت رويت هذه الأخبار لهم من طريق صحيحٍٍٍٍٍٍ وتوارت في زمانهم أن يعدوها في باب مناقب الخليفة الثاني ويوردها بسلامة صدر على عادتهم في بعض

أخبارهم بل كان على أصحاب الكتب الستة مثلا أن يفردوا لإحراق الكتب باباً لو كان صدر من بعض الخلفاء الرأشدين مثل هذا العمل كل هذا لم يرد شيء منه في تضاعيف كتب الثقات وإنما هم الوضاعون وضعوا هذا الخبر كما وضعوا مئات مثله وألصقوه بالأمام فتلقفه من لا عهد له بوضع الأخبار على محك النقد من مؤرخي القرون الوسطى قضية مسلمة وراح بعضهم يتذرعون به إلى النيل من الأئمة بإحراقهم الكتب ليحولوا دون العقول والأخذ من علوم الأوائل وكل مانسب للمؤرخين المتأخرين منقول عن القفطي من أهل القرن السادس ولايبعد أن يكون تلفقه من كتب الواعظين وتابعه عليه من بعده. يؤيد ذلك ما مُني به المسلمون من التفرق إلى شيع يضاد بعضها بعضاً وما ثبت في التاريخ من أن الحريق طرأ على هذه المكتبة مرات قبل الإسلام ولما فتحت الأسكندرية في الصدر الأول لم يكن في مكتبتها من الكتب ما يدعو إلى مد يد الفاتح إليها بشيءٍ من الأذى والحرق ولذا لم يذكر هذا الخبر أحد من معاصري الفتح من المؤرخين سواء كانوا من الروم أو غيرهم. هذا ما وقع للكتب العربية من النكبات العامة في القرون الوسطى وقد وقع لها ما بعده نكبات أعظم وأدهى نريد بها جهل القوم وزهدهم فيها ومفاداتهم بها ويبعثها بثمن بخس لكل طالب. وما زال الشيوخ من أهل هذا الجيل يحدثوننا بما وقع لكتبنا في مصر والشام وأقله السرقة والحرق الإختياري ويبعثها من الدلالين لينقلوها إلى الأجانب. حدثني ثقة أن دلال كتب في دمشق كان يغشى منازل أهل العمائم ممن يعرفون بين القوم بالعلماء ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس فيبتاع منها ما طاب له من كتب القوم المخطوطة بأثمان زهيدة إذ لم يكونوا يحرصون إلا على كتب الفقه وكانوا أبيع من إخوة يوسف لكتب التاريخ لأنها كذب بزعمهم والكذب لا ينبغي أن يوضع في قماطرهم وخزائنهم وهناك فنون كثيرة تلحق فن التاريخ بالطبع وهي كتب الحكمة والأدب. قال وقد ابتاع معظم هذه الكتب قنصل ألمانيا

إذ ذاك بما يساوي ثمن ورقها أبيض وبقي سنين يتلقطها من أطراف سورية حتى اجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها إلى بلاده فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها والغالب أن معظم ما في مكتبته برلين العربية هو من بقايا الكتب. التي كان يعدها أولئك المتعالمون أضاليل وأباطيل والتخلص منها بدارهم معدودة خير وأبقى. ومثل هذا وقع في كثير من بلادالشرق العربي ولاسيما القاهرة فإن ما تدورك أمره وجمع في خزانة الكتب الخديوية هو غيض من فيض. وكذلك ما جمع في خزانة الكتب العمومية في دمشق وما بقي في بعض مدارس حلب وغيرها وما أظن إلا أن حظ سائر البلادالإسلامية كان كحظ هذين القطرين في كتبه لأن الداء واحد وهو عموم الجهل. أما مكاتب الأستانة وهي نحو أربعين مكتبة الآن ويبلغ ما فيها نحو مائة ألف مجلد ففيها النفيس الذي لا خطر له ولكنها مغلقة تأكلها الأرضة ولا ينتفع بها وكثيراً ما سطا عليها شياطين الأنس من الغربيين وابتاعوا بعضها من القوّام عليها لقاءَ ريالات يرضخون بها ولا يزال معظمها في حكم العدم وتوشك إذا دامت كذلك أن تفنى مع ما فني وترحل مع ما رحل. إلا فلتعمر مكاتب موينخ وبرلين وستراسبورغ وليبسيك وليدن وفينا وبودابست واكسفورد ولندن وباريز والأسكسوريال وبطرسبرج ونيويورك وشيكاغو وغيرها من المكاتب العامة والخاصة فإنها هي التي عرفت قدر ما احتقرناه وبواسطة رجالها يحيا كل كتاب انتقل إليهم وينتفع

به ولو بعد حين وآمالنا في انتشار مدينة الإسلام على يدنا وإن كنا نود مشاركة أولئك الغيومرين في أحياء مدينتنا وصاحب الحاجة أولى بها.

نظام العمل

نظام العمل للدكتور موريس دي فلوري في (المجلة) الفرنسية لا أرى إنساناً يصف نفسه بأنه يقتلها في العمل خليقاً بأن يكون حكمه معقولاً لأن العمل في ذاته لا يقتل بل هو على العكس شرط الصحة وموازي القوى. إذاع في العهد الأخير أحد الدعاة إلى نزع الملكية المتحمسين المخلصين بأن دور السعادة أتى وأنه سيكفي المرء بعد الآن أن يعمل كل يوم ساعة وثلثاً ليقوم بحاجاته الخاصة ويوفي ما للمجتمع عليه من المطالب. وهو نظر في المستقبل لم أحفل به بتة إذ لم يقع من قلبي موقعاً لعلمي بأن الأنقطاع عن العمل اثنين وعشرين ساعة وأربعين دقيقة هو مما يؤدي بالإنسانية إلى مواقع الضعف الطبيعي المحزن والغفلة التي تغشى الأبصار والبصائر سيئاتها. هذا إذا لم أقل أن هذه البطالة والإغراق في عدم استعمال قوانا ربما يدفعاننا إلى السقوط فيما سقط فيه أسلافنا الأول من الوحشية. على حين نرى العمل اليومي الطويل ضرورياً لتجديد قوانا وهو منظم غريب في جهادنا العصبي فعلينا والحالة هذه أن لا نتطال إلى الأقلال منه بدون تبص. لا يموت كبار العاملين شباباً كما يموت أسوأ الخاملين والأمراض السارية لا تبقى على النساء المنقطعات عن العمل وتتنأول الرجال المجدين في تعاطي أعمالهم. وكذلك الحال في رجل له دخل يعيش في إحدى الولايات فتراه لا عمل له إلا أن يقرأ جريدة ويذهب ليتفرج على مرور القطار السريع تراه يشيخ بسرعة على نحو ما يشيخ ذاك الطبيب من معارفي وهو يستيقظ الساعة السابعة صباحاً من نومه ويذهب ليقوم بوظيفته في المستشفى ثم يلقي درساً في المدرسة الطبية ويسأل المرشحين في الفحوص ويطب عشرين مريضاً أحسن تطبيب ويكتب عشر رسائل ويدير دفة أعمال المباحث في معمل كيماوي ويرأس لجنة طبية وينشر كل سنتين أوثلاث سنين مجلداً ممتعاً من قلمه. نعم إنك لترى الشعوب المفرطة في الكسل مهما كان

هواءُ بلادها جيداً يموت منهم أكثر مما يموت من الشعوب المتوفرة أبداً على تعاطي الصناعات. ومن المحق أن من الصنائع ما يضر بالصحة تعاطيه. والمرءُ قد يمرض لأنه استنشق زمناً غباراً أو أبخرة مضرة مهلكة. ولا يختلف اثنان بأن للعمل العقلي والعضلي شروطاً وأرى أن أنصح للعاملين بما لديَّ من النصائح لأعلمهم أن لا يعرضوا أنفسهم للأعياء والأعنات. ولابدَّ لي أن أقول في فاتحة كلامي لمن اتخذوا الكسل شعاراً أن كل حاسة من حواس الإنسان إذا انصرفت زمناً إلى الراحة تهزل على أن الحاسة التي تعمل على الدوام تحفظ وتزداد وتكمل. يقول علماءُ منافع الأعضاء أن صرف القوى بالعمل المعتاد يكاد لا يدرك إذا كان قانونياً ويعوض النوم والغذاء ما فقد منها. وأن المرء إذا كان صحيح الجسم وجرى في تدبير صحته على قاعدة معقولة يقوم بعمل يوازي على الأقل يومي العمل المقنن في العادة وهو ما تراه نقابات العملة الآن مغايراً للمعتاد وذلك بدون أن تنفذ قواه. وأرى أن هذه الكمية من العمل هي في الواقع نافعة لقوام البنية الحيوية القانونية. نشر الأستاذ لاندوزي في مؤتمر السل الأخير خلاصة أبحاثه المهمة التي عُني بتحقيقها هو واثنين من تلاميذه المسيو هنري والمسيو مارسيل لأبي وأورد الصورة التي يغتذي بها في العادة العملة الباريزيون. فدلت تحقيقاتهم على أن معظم العاملين بقوأهم يبذلون تقريباً من الدراهم ضعفي ما يقتدي لغذائهم اليومي وأن انتقاء أنواع الأطعمة كما هو الآن ينافي كل المنافاة قواعد تدبير الصحة الغذائية وهي مبادئُ قلما يعنى بها علماء الاجتماع لهذا العهد. ومن المحقق بعض التحقيق أن العمل الصناعي إذا قام به المرءُ وعمل فيه التركيب النامي على حد الكفاية لا يستلزم شيئاً من التعب العصبي الكثير لأنه يكاد يجري على وتيرة واحدة بدون وساطة الفكر الاختياري ولا تتعب سوى المصاعب التي لم تنتظر والصعوبات غير المألوفة لأنها تستلزم من القوى تطبيقاً جديداً لتجري نحو غاية تحدث ولم تكن متوقعة فالطعام القليل الذي يسوءُ انتقاؤُه وكميته هو الذي بتعب الجسم ويمرضه نعم أن الضرر نشأ من الإفراط في استعمال

المقويات الرديئة والمهيجات والكحول وفساد المسكن وازدحامه وقلة نفوذ الهواء إلى محل العمل حيث يعمل العامل مع إخوانه ممن يكونون مصأبين بالسل. ولقد أحسن من سنوا قانوناً لعمل صغار الأولاد إذ دل الإختبار على أنه لا يتأتى إكراه الأعصاب التي لم تتكامل على العمل الطويل بدون أن يحدث فيها ضرر ويستندون في ذلك على أن عظام الأطفال تكون أخذة بالنمو. ولكن رجلاً بالغاً صحيح الجسم يحسن ما يعمل من الصنائع ولا يسمم جسمه في حانة بما يتنأوله من المشروبات الروحية لا يتعب بمقدار ما يكون عمله منتظماً. يذهب المديرون للطبقة العاملة الأن إلى اعتبار العمل اليومي أسراً وظلماً ينبغي الخلاص منه بالسرعة الممكنة. وهذه المزاعم منافية من كل وجه لمبادئِِِ علم منافع الأعضاء الحديث الثابتة المحسوسة إذ ثبت أن العمل مبعث السرور والصحة يطيل فينا حبل الحياة وينهضنا من خمولنا وبدونه لا يتأتى لنا أن نعيش في المجتمع. أليس العمل هو السبيل الوحيد الذي ينسينا شقاءَنا فلا نفكر في الأمنا ويحملنا على مداواتها بأن نلجأ إلى بعض الرفاهية والدعة. من شأن المؤثرات الخارجية أن تديم أعصابنا على أنكماشها فالقوة البشرية فينا تنشأ من قوة الإدراك بالحواس لا لتعمل تلك القوة عملها وتفنى في مكانها بل لتصدر عنا وتقوم بما قدر لها وتتبع الأعمال بنتائجها. ولا بد من الوقوع في خطر إذا تركت تلك الحاسة تتجمع في مراكز أعصابنا فالفتور يؤدي بادئ بدء إلى الغضب ثم ينتهي بالهزال. فعلينا والحالة هذه أن ندعو إلى حب العمل فإنه مصدر القوة المتجددة النامية والرضى والأمان. وعلينا أن نعني كل العناية بتحسين حال العمل وتعميم قواعد تدبير الصحة في الحرف الشاقة وأن نطالب بتطهير المعمل والمسكن ونضاعف عدد المطاعم الصحية الرخيصة وأن نغلق أبواب كثير من الحانات وأن نلقن العملة مبادئ التمدن ونعلمهم أن يعيشوا بعقل وحشمة وأن لا ينهبوا حياتهم نهباً وأن نجعل لهم سلاحاً يجاهدون به البؤس والمرض وأن نصرح على رؤُوس الملأ ولو ساءَ ذلك بعضهم بأن من يفتري بأن العمل مذلة ومنقصة كاذب في مذهبه ختار في مبدأه.

يظهر أن نوع العمل الذي اعتاد الناس أن يدعوه عقلياً لأنه يستدعي شيئاً من الجهاد العصبي هو أقل موافقة لقواعد الصحة وأقل نفعاً من عمل الحقول والمعامل. فحياة من يقضون أوقاتهم في الغرف فيها ما يعوّد التركيب النامي على كسل الأعصاب وليس فيها بوجه من الوجوه ما يبعث النشاط في إسقاط المسممات وقلما يطعّم طعاماً أو يشرب شراباً ويدخن وهو يعمل. فمن يقضي نهاره في أماكن ضيقة غير معرضة للهواء ولا يجري من أنواع الرياضة إلا ما يأتيه كل يوم من القفز إلى الحافلة ليصل بها إلى داره لا شك إنه يصاب بوجع المفأصل وما إليه من الأوجاع الكثيرة ولا تلبث حواس الإفراز مثل الأحشاء والكبد والكلية أن تتدرن فلا تعمل عملها وينتهي ذلك بفساد الصحة عامة والهرم العاجل. فإذا كان من يعمل بعقله حامي الرأس بارد الأرجل ضعيف المعدة متداعي الأحشاء رخو الأعصاب ضعيف السوق فهو بلا مراءٍ عرضة أكثر من عامل المدينة والحقول لسوءِ الهضم والبدانة والصلع والنقرس وضعيف المجموع العصبي ولأمراض كثيرة سببها البطءُ في التغذية. هذا حظ العاملين بعقولهم ممن يعملون لغيرهم ولا يتحملون أقل مسؤولية أما من يعملون بعقولهم ويديرون حركة أشغالهم فيكون لهم خيرها وشرها وخلها وخمرها فأولئك أناس تضطرهم الدواعي إلى إجهاد القوى والدقة وتجديد جُدة الأرادة والخوف من السقوط والقلق مما يأتي به الغد ويكثر المصابون بضعف المجموع العصبي من أرباب الأشغال العقلية من مثل المهندسين وأصحاب الصنائع والسياسة والشبأن الذين يستعدون لتقديم الأمتحانات أو الدخول في المسابقات. ولقد كنت لأول أمري مثل كثير من رصفائي في طب الالأم العصبية أذهب إلى أن ضعف الجهاز العصبي كان ينبعث في الغالب من الإجهاد في العمل والإفراط فيه أما الأن فقد علمت بالتجربة خمس عشرة سنة أن الإعتقاد بأن أهم سبب في المتاعب العصبية ناتج في الأكثر من عمل مؤَثر وغم وشدة الجد وكد الذهن في موضوع مخصوص والعمل القلق والمؤثرات من الأفكار والملقيات في الإضطراب والتذبذب من مثل النظر إلى الغاية وتوقع الثمرة.

فمن ورثوا عن والديهم مرض النقرس والأعصاب هم عرضة للتألم من الحياة خاصة فتسوّد أيامهم في عيونهم وتبهظهم فيستطيلون حياتهم فتنحل قوأهم الدماغية. وبهذا عرفت أن طريقة العمل هي التي تولد الأعياءَ لا العمل نفسه. يتظاهر الإنكليز السكسونيون أن تبدو عليهم إمارات العجلة والقلق ولا يتجلى الإضطراب على محيأهم وأن يسلكوا مسلك التؤدة والعقل. ومن المحقق أن برودة الطبع في الظاهر تكره صاحبها على استعمال السكون في الباطن وتقمع الجهاز العصبي. فقلة الصبروالخمول والحمية تجيءُ بالتعود والمران أكثر مما تنشأ بعامل الطباع والأمزجة ومن يتأمل يتضح له أن السيئات التي تحملها لنا حوادث الحياة يكون شرها الأصلي لا بذاتها بل بالكيفية التي نحلها منا ومعظمها لا يفعل فينا إلا بقدر تجسيمها في أنفسنا. على أن من يعملون قليلاً هم الذين يعجلون في استنفاذ قوة حواسهم العصبية وذلك لأن تثأقلهم عن العمل يلقي في قلوبهم الخوف حتى ليغصون بالماءِ الفرات ومن يقع في نفسه أنه قام بكل ما يقدر عليه يتوقع أبداً والسكون رائدة نتيجة اجتهاده الذي قلما يضيع بأسره. والحال سواءٌ في الأعمال العقلية والأعمال اليدوية وجميع أعمال حياتنا على أنواعها وفي جملتها الحب وما يتصرف عليه لا تتعب إلا إذا كانت متقطعة نادرة أوغير مألوفة وعارضة بدون تسلسل بينها. والعادة والميل يزيلان مفعول المؤَثرات العصبية. ولقد بحثت قديماً في حالة المشاهير والطريقة التي يجري عليها كبار المفكرين من كتابنا في حياتهم فما رأيتهم يتوقعون أن يوحى إليهم من السماءِ بالخواطر والأفكار بل إنهم كانوا ينشدونها بطول الثبات وانتظام أعمال انتظاماً تاماً فكان أعاظمهم يبدأُون بعملهم كل صباح في ساعة معينة على نحو ما يشرع المستخدمون في مكتب تجاري بعملهم وكان دوام تحديقهم في شيءٍ واحد يضاعف أفكارهم بحيث تكون عالية عظيمة وكان الصبر الطويل عند معظمهم أول الملهم القويّ في عقولهم وقد عمروا إلا قليلاً منهم أمثال بالزاك الذي قتلته همومه وزولا الهالك بعارض طرأَ وموسيه قضى من تعاطي المسكرات وبولير وجول دي كونكور والفونس دودى وموباسان قضوا نحبهم عقيب أمراض طرأت عليهم عرضاً وما قط نسب موتهم قبل استيفاءِ سني حياتهم للعمل الذي كانوا يتعاطونه؟ وهنا نأتي على التدأبير التي تعين العاملين فلا يلاقون نصباً ولا صباً. فاعلم أنه ليس

أحسن في شرع العمل من توفر المرءِ على عمله وأن ما يجلب التعب في العمل الطبيعي أوالعقلي هو كيفية تعاطي العمل أي أن اجهاد الذهن وحصره في موضوع يعطي المرءَ قوة فعلى الأرادة ريثما يستحضر الذهن ويشرب حب الميل إلى العمل الذي ينوي استخراج شيءٍ منه أن تتوسط في الأمر للحال لتستدعي انتباه الفكر واجتماعه وهذا مما يجلب التعب ولكن متى تهيأ سبيل الموضوع الذي يقضى الشروع به ومتى أعددت للموضوع عدته وأسبابه يجري العمل فيه بذاته ويعمل الدماغ فلا يعود يتأثر بالفكر وحصر الذهن فعلى المرء والحالة هذه أن يعمل بمضاءٍ وتسلسل ويجدر به أن يحاذر استنزاف قواه. خيرٌ لمن لم يرزق أرادة ثابتة وقوَّة أدبية عجيبة ومن لم يؤت فضائل سامية خارقة أن يعتاد عادات نافعة فإن العادة الحسنة والضارة سواءٌ في تأثيرهما في النفس. وبعد فلنتعلم تنظيم حياتنا بتدقيق وأن نجلس إلى منضدة العمل كل يوم في وقت معين ليتراكم الدم من ذاته في دماغنا ويستعد لعمله وتعد المعدة جهازها الهضمي للطعام وتجوع من نفسها في الوقت المعين لغذائها. حقاً ما قيل أن العادة طبيعة ثانية بل هي قوة جميع الضعفاء وهي سر الأقوياء إذ أن أرباب العقول الكبيرة يكرهون أنفسهم عليها عند ما تحدثهم نفوسهم بإبراز تأليف مطول ممتع. قال موسو الإيطالي عند كلامه على التعب أن أطالة الفكر في موضوع واحد تضاعف في قيمة الوقت مضاعفة خاصة. وهو كلام لطيف لأنك ترى الإنسأن في تعاطي العمل ثلاث ساعات شديدة التي تأتي بها المداومة على الفكر النافع يعمل عملاً أكثر وأحسن من عمل عشرين ساعة متقطعة وتفكر لا طائل تحته وفي أحلام مختلفة غير مقررة التي يقضي فيها المرءُ وقته في انتظار الوحي والإلهام. ولقد كانت طريقة مشاهير كتاب العالم على هذا النحو ومعظمهم لم يصرف أكثر من ساعتين أوثلاثاً في عمله اليومي أما سائر ساعات الفراغ فكانوا يقضونها بالطبع في التدبير وهو من توابع الأعمال العقلية. وهنا مجال لأن أبين أنه ينبغي تدبير الصحة ومن اللازم على ابن الكتابة أن يتربص كل يوم بعص الرياضة العضلية مخافة أن يتسخ التركيب النامي كله وفي جملة ذلك الدماغ الذي يتحتم إحراق فضلاته وإسقاطها فإن المشي وركوب الدراجة والإرتياض والفروسية

نافعة لأرباب العقول على شرط أن يعتدل فيها فلا يكون في معاطاتها تعب عضلي يزيد التعب العقلي. وجميع حركاتنا الإختيارية ناشئة من قشرتنا الدماغية. وإني لا أعرف أناساً فرطوا كثيراً في حصر أذهانهم في السباق فأضاعوا قوّة أفكارهم وعلينا أن لاننسى أن الحركة العضلية ينبغي أن تجري بالطبيعة لادخل للأرادة فيها ليحسن أثر الرياضة ولا يقع المرءُ في الإفراط. وعلى المرءِ أن يلتزم القصد للغاية تحامياً من الوقوع في بطاءة التغذية والربالة ووجع الأعصاب وتجمد الشرايين وجميع ما يجري هذا المجرى من الأمراض فإن الأطعمة المعتادة والخمور الجيدة والمشروبات والإفسنتين كلها مما يورث حواسنا أذى كبيراً فتغير الدماغ وتضر بالإعتدال والصفاءِ وحضور الذهن وإذا ثارت في متعاطيها ثائرة الغضب تورث رأسه ثقلاً وسباتاً مضراً فإن الإفراط وسوء الهضم مضران بأرباب العقول الكبيرة لما أنه ثبت أن جميع كبار كتابنا على التقريب اقتصروا على تنأول الماءِ ولم يتعاطوا المشروبات الروحية. أما العفة التي يراها بعضهم غير ضرورية للقرائح فإنا لا أراها إلا نافعة فإن المرءَ الذي يقضي حياة طيبة في العمل لا تأتيه المفاسد والإستهتار إلا بالضرر وهي إمارة نقص فيه أما الحب الشريف فإنه يرفع قدر الإحساس ويسمو بالنفس وينبه الأرادة للإنتقال من عمل إلى آخر.

ارتقاء الفكر

ارتقاء الفكر ترجمة مقدمة كتاب أمانية الحديثة ونشوؤها إذا قيس العصر الحاضر بالقرون الوسطى فأول ما يبدو للناظر كالشمس الرائعة ازدياد مقدرة البشر في خلال القرن الأخير. ولعلَّ في الناس من يرتاب في تقديم الإنسانية من هذا الوجه فيقول أن ابن اليوم إذا قيس بابن أمس فليس أسعد منه حالاً ولا أوسع عقلاً ولا أكثر أمناً وطمأنينة. على أننا نعتقد اعتقاداً لا تردد فيه بأن القوة المشتركة التي يتمتع بها المتمدنون ويكافحون بها عناصر الوجود قد زادت زيادة كبرى. فتنسى للذكاء الإنساني أن يخطو خطوة عظيمة خلال القرن التاسع عشر في سبيل تسخير القوى الطبيعية وحسن الانتفاع بها والتغلب عليها. فغدا المرء لا ينظر للعالم على ما كان ينظر إليه ابن القرون الغابرة ولايشعر بمثل شعوره نحوه سابقاً بل ارتقى عقله وأي ارتقاء وتقدم كما يقول نقدة كتبه الألمان فصار كل شيءٍ ذاتياً في الإنسان. عرفت القرون الوسطى بعدم استقلال شعورنا وبتبعيته لقوى الوجود التي تربو على قوانا كثيراً. وإذا حللنا العقل الذي أخذ يقوى حوالي القرن الخامس عشر يثبت لدينا بأن ما يزيد في مساحة الخلاف بيننا وبين أهل القرون السالفة نشأ من عدم توفقهم إلى معرفة مبدأ تحليل عناصر المادة وتعليل المسببات. نحن نقول بوجود رابطة سببية مستحكمة بين جميع الظواهر الحسية بدون استثناء ونسعى جهدنا بما لدينا من التجارب أن ندرك جميع هذه الصلات والأسباب والنتائج حق الإدراك. ولا نزال في حال عدم اطلاعنا على تلك الصلة موقنين بوجودها وأن العلم الناضج يتمكن من تحليلها وتعليلها. وهذا اليقين الأساسي هو الذي نقص ابن القرون الوسطى. فكانت معرفته بالعالم الخارجي ضيقة النطاق ولم يكن لديه كما لابن هذا العصر تجارب جمة مبنية على قواعد راهنة منظمة بنظام معقول ومرتبة يبحث عن شرح الأسباب وتعليلها بل كأن يكتفي كل حين في باب التبصر في وجوه الأمر وكشف غامض كل سر يعرض في فضاء الظواهر بأن يعللها بأقيسة مختلفة وقد تكون سطحية لا قائمة على استدلال مدقق واستنتاج متين.

وأي شيءٍ أعجب مما كان عليه ابن القرون الوسطى أمام مجموع حوادث ما زالت ضيقة المضطرب علمته العادة أن يميز فيها بعض النظام فجزم من تلقاء نفسه بوجود عالم المعجزات والخوارق وبأنه فسيح المدى غير خاضع للنواميس الطبيعية على قربه منا وفي مكنته أن يفرط كل حين السلسة القانونية من هذه الظواهر. وأي شيءٍ أعجب من حال ابن القرون الوسطى وقد فقد الحلم الحسي المنظم فكان من قلة اختباره أن أثر فيه كل التأثير ما ورثه من الحكمة التقليدية. وأي شيءٍ أعجب من مذهب قائم على الاعتقاد بالخوارق ومؤسس على سلطة تقليد قديم يستولى على العقول وتلزم به الأذهان والأرادات بقوة لا تغالب. أما العقل الحديث فيختلف عن ذلك كل الاختلاف. وذلك أن العقول كانت في القرون الوسطى تذل برضاها أمام سلطة التقاليد وتعترف في كل مكان بالخوارق وبتأثيرات السحر والتنجيم والأمور الغيبية المطلقة التي تشير إلى أن هناك قوى سامية في عالم الكون والفساد. غير أن العقل الحديث غدا أكثر استقلالاً وامتد فضاءُ التعقل في الإنسانية أيما امتداد وأخذت تجاربه الكثيرة تنظم وصار لها قانون تكثر به وتزيد وانتشر العلم والميل العلمي على موازاة ذلك. وحل بالتدريج الاعتقاد بالمقدور محل الاعتقاد بما فوق الطبيعة وقام البرهان بالاستدلال المسدد مقام البرهان بالقياس. وانتظمت إذ ذاك معرفة العالم معرفة مبنية على العقل والتجارب التي ما زالت تكثر وتتم ولاسيما في خلال القرون الثلاثة الأخيرة. فألقت الرياضيات الميكانيكة في خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بما قام به من الاكتشافات العظيمة كل من (سيمون ستيفن) و (غاليلة) و (نيوتن) و (ديكارت) و (لايبنز) و (أولر) و (لابلاس) وخرجت العلوم التجربية أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر من دور الشك والحيرة وبدأ تاريخ الكيمياء الحديث بلا فوازيه كما بدأ علم الكهرباء بكالفإني وفولتا. وفي خلال القرن التاسع عشر نضجت المواد واتسعت الآراء في المجموع الميكانيكي في العالم وعرف العقل الإنساني تصور جميع العوامل الطبيعية في الوجود والأعمال الميكانيكة والحرارة والصوت والكهربائية كانها مرادفات كثيرة مختلفة ترجع إلى شيءٍ واحد وأنها قوة سياسية تظهر متحدة الذات والمعنى بنفسها في جميع الظواهر الطبيعية.

وهكذا برهن العقل البشري على وحدة قوى الطبيعة وأثبت أن القوة في كل مكان على تباين أشكالها تخضع لناموس القواعد الأساسية في الطبيعيات ولقانون حفظ القوة وبقائها ومعرفة المادة. ثم توسع أكثر من ذلك في اكتشافاته فحاول أن تعم هذه القوانين الطبيعية العضوية وأظهر في أحد الأجسام البسيطة التي لاتتجزأ بأن الكربون وهو الجسم الغريب الذي يدل على تكون المجموع الحيوي وتنوعه إلى ما لأنهاية له بأنه يمثل أساس الكيمياء في الحياة (رأي هيكل الألماني) واكتشف في الخلايا البسيطة الفردة جسماً حيوياً صغيراً تتولد منه باجتماعه المتصل جميع الأنسجة التي تتألف منها التراكيب النباتية أو الحيوانية وتوصل العقل الإنساني بنظرية النشوءِ التي كان تنبأ بها الشاعر كيتي في أواخر القرن الثامن عشر وقررها داروين سنة 1859 بأن قدّم لعلم الحياة (بيولوجيا) مسألة التحليل والتركيب وأعلن بأن العالم إذا أخذ بمجموعه فليس إلا نشوءاًًًًًًً دائماً من المادة. ولكن العقل لم يقف عند حد العناية بشرح العوالم المؤسسة على مبادئ تعليل الأشياء ولم يكتف بالنظريات بل تعداها إلى العمليات فأصبح يعمل ويوجد. فكان كلما أحسن معرفة النواميس الفعالة في حوادث أيضاً أخضع قوى الوجود إليه وأدخلها تحت نظام وترتيب وشغلها فيما ينفعه فكما أنه أوجد العلم فقد رتب الفنون العقلية. وكأنت الفنون القديمة تجربية صرفة يعرف الصانع كيف يتصرف بما لديه من المصنوعات جارياً في ذلك على الطريقة التي تعلمها ممن سبقه وذلك لأن معلمه نقل إليه بالعمل الطرق التجربية وعلمه كيف ينبغي له أن يتعاطى العمل ليتمكن من صنع الشيء الفلاني. وكان على جهله بنواميس الوجود يطبق طريقته في العمل بدون أن يعرف في الأكثر كيف تبلغ به النتيجة المطلوبة وعلى أي وجه تسير. وكثيراً ما كان يعثر بالعرض على طريقة جديدة للوصول إلى الغاية المنشودة من أسرع سبيل فينبغي في الحال مجموع قوانين الفن بقاعدة جديدة يخلفها لأعقابه وأخلافه ولكن مجموعة القوانين التي اهتدى إليها بالصدفة وانتقلت إليه من أسلافه لم تبرح على الدوام طريقة تجربية اكتشفت عرضاً لا مجموعاً حسن التنسيق بالمعارف المبنية على العقل المؤَيدة بالعلم والتجربة. وبعد فإن مما تمتاز به الفنون الحديثة التوسع كل حين باستبدال العلم المبنيّ على العقل

بالعلم الذي كان يقوم على النظر وإحلال الطريقة العلمية محل الطريقة التقليدية فمن ثم كان من توابع معرفة الوجود معرفة علمية أن عدلت جميع الفنون التي برزت في شكل أعرق في الحداثة والجدة. ما هي الغاية التي يرمي إليها علم الوجود؟ إنه يعنى بالذات أن يُرجع اختلافات الكيفية إلى اختلافات الكمية وبإيجاد طريقة رياضية توضح بإسلوب تام إحدى الظواهر الطبيعة وأن يرجع جميع ظواهر الحياة العضوية في ذاتها إلى حركات تكون أكثر تركباً من المواد الأولية التي ما كانت تختلف في جواهرها عما تتألف منه الأجسام غير الآلية. حتى أن العلم الحديث على اختلاف أشكاله ميكانيكية كانت أو طبيعة كهربائية أوكيماوية وغيرها ترمي إلى أن تسقط في كل مكان العوامل الحيوية لتسنعيض عنها بعناصر ميتة فتبدل مثلاً القوة المحركة الإنسانية أو الحيوية بقوة البخار أو الكهرباء وتستبدل عوامل الحديد أو الفولاذ أي الأدوات بالعملة الذين خلقوا من لحم وعظم وتستعين عن الحأصلات الآلية والطبيعية كالخشب والألوأن النباتية والأسمدة بحأصلات غير آلية وصناعية كالفحم الحجري والفحم وفحم القلي النيلي والأسمدة الكيماوية. فأصبحت الإنسانية بذلك على التوالي معروفة المقاصد لا تعلق لها بشيءٍ مستقلة عن المسافة أو الزمن غير تابعة للكفاءات الطبيعة أو الكسبية من مثل رشاقة اليد وحدة البصر والسمع والذوق والشم ولا وقفاً على فئة خاصة من الناس بل تجري بدقة شديدة لا تتغير حركتها وأعني بها الآلة والأداة. ولم تقتصر الإنسانية على الإستسلام لا حوال الزمان والمكان التي جعلت نمّو الأحياء الحيوانية والنباتية الطبيعي تحت تصرفها ولكنها انتجت الحأصلات التي أرادت إيجادها بأن ركبت تركيباً صناعياً من العناصر والقوى التي لها. ولم يقف الأمر عند حد صناعة دقيقة يوشك سرها أن يضيع بل أصبح ذلك من الاكتشافات التي لا نزاع فيها النافعة في علوم البشر على مر الأزمان كلها وبين ظهراني جماع الأمم. وهكذا بلغ انتشار العلم والفنون العقلية في قدرة الإنسان وتسلطه على الطبيعة إلى التي لاتصدق ودخل القلب والإبدال على أسلوب العلم بأسره وتنأول فهم أسرار الحياة والعالم. كنا نقول بأن الإنسان شعر في القرون الوسطى بأنه مستقل بالذات بعد أن كان خاضعاً في

جميع أطوار حياته المادية والروحية لله أو لتعاليم الكنيسة حل تام لا جدال فيه لجميع المسائل العويصة في مسائل ما وراءِ الطبيعة وهذا الحل أوحى به المولى بالذات فكان على ابن تلك القرون أن يقبل ذلك بدون نظر أو مما حكة فيه. فقانون الأخلاق مفروض عليه كانه أمر إلهي وما عليه إلا الخضوع له صاغراً. وكان النظام الإجتماعي مؤسساً على تعاليم قديمة له صفة نصف مقدسة فيخضع الإنسأن في جميع أعماله المهمة في حياته لأمر صادر من قوة وأرادة أسمى من قوته وأرادته لا يسعه معها إلا الخضوع المطلق والاستسلام التام. بيد أن حالته هذه من الخضوع لسلطة خارجية هي التي تعدلت كلما أيقن المرءُ بقوته ولقد مضت القرون والنصرانية تأتي أبناء الغرب بقواعد تكون المادة وتشرح النشوء تأتي أبناء الغرب بقواعد تكون المادة وتشرح النشوء التاريخي وتأويل معنى الحياة وتسن السنن وتشرع الآداب. مضت قرون وكانوا يضعون الإيمان في رأس كل شيءٍ وكلما ازداد انتشار العلم العقلي والسلطة المنظمة التي يوليها هذا العلم تزداد ثقة المرء بنفسه فأصبح العلم من ثم خصماً للإيمان وراح العقل يعجب بما أوتيه من آيات الغلبة وكتب له من أسباب الفلج والنجح طامحاً إلى أن يحل محل الدين في كل ما له علاقة بالحياة البشرية وطامعاً أن ينزل المقام الأول من صحيفة أعمال الناس. وما جاء القرن السابع عشر والثامن عشر حتى أدت الحركة العقلية إلى تأليف مبادئ واسعة وانتهت بإنشاء فلسفة ديكارت وسبينوزا ولايبنز وطفق العقل ينزل منزلة القاضي المسيطر على الحق وأخذ على نفسه إنشاء مذهب يجري عليه العالم وُعدَّته ما رزقه من نور المعرفة مستقلاً عن كل سلطة نازعاً من كل تقليد ووحي. وفي أوائل العهد الحديث أعلن الفكر الألماني على روؤُس الملأ بلسان (كانت) و (فيختي) بالمبدأ العظيم في استقلال الأرادة فعكس العلاقة التي كانت مقبولة إلى ذلك العهد بين الدين والأخلاق. وكان اللاهوت الأدبي القديم يرى مبدأ الأخلاق في الأرادة الإلهية ويخضع الأرادة البشرية لأرادة الله وهذا ما رآه (كانت) أدباً مختلف القانون قائماً على مبدأ السلطة وقضى عليه بكل جهده حاكماً بأن الأرادة الخالصة المقررة خاصة بحدود العقل الصرّف تكون وحدها الفاعلة العاملة فيه بما تسنه لنفسها بنفسها من قانون تجعله مبدأ كل أدب

حقيقي معلناً بأنه ليس في الأرض سلطة لها حق التسلط على الحرية البشرية وأن المرءَ يشرع لنفسه ويقنن لإجتماعه وأنه إذا خضع لقانون الأدب فإنه يخضع بذلك لعقله الخاص فكان من (كانت) أن تم على يده في دائرة اللاهوت الأدبي عمل قريب المأخذ وفتح بذلك عصراً جديداً في تاريخ الوجدان الأدبي وبفضله تم للإنسانية استقلالها وللعقل تحريره. وأنشأت الإنسانية بعد ذلك تتناغى بهذا العقل وتؤيده بمضاءٍ دائم وفضت زيادة على ذلك الاعتقاد بأن الشخص المفكر العامل لا يعترف بسلطة فوقه يجب عليه الخضوع لها وزاد في ابن العصر الشعور بأنه لا يجب أن يخضع بل أن يدير وينظم ووطد نفسه على تجشم المشاق في استخراج خيرات الأرض بقوة الفكر وعلى العمل لتنظيم الحياة في كل مظاهرها بقانون العقل وذلك من حيث الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة. وقام الفيلسوف نيتش ونادى بإنكار الألوهية في فلسفته الذاتية العصرية على صورة متطرفة غربية ولم ينكر من يقول أهل اللاهوت بوجود بل مجد المولى الفاعل الذي يعتقد به علماءُ ما وراءِ المادة وأخذ يدعو الإنسان أن يبقى (مخلصاً للأرض) وأن يطرح جانباً كل اهتمام بمسائل الآخرة وأن يفهم بأنه هو موجد الأشياء قائلا أن ليس فيما عداه حقيقة مرئية أدبية أوطبيعية يجب عليه الخضوع لها بل عليه أن يشرع لنفسه شريعته حراً مستقلاً. وأن ليس في العالم إلا مركز قوى لاتزال في نشوءٍ وهي أبداً في تفاعل وتدافع يؤَثر بعضها في بعض. فالجد في إحراز الحول والمنعة المتزايدة على المدى تلك المنعة التي تُخضع لسلطانها جزءاً عظيماً من القوى هو العمل الرئيسي في الحياة العامة. وبذلك صح قولنا أن المباينة تمت على أشدها بين العقل في القرون الوسطى والعقل اليوم. فصار المؤمن وهو يشعر من جهة بأنه محاط بأسرار وأعاجيب ويخضع مختاراً لسلطة التقليد الديني والأدبي والعملي ومن جهة ثانية يرى الشيطأن المريد الذي لا بعترف أصلاً بقانون ولا يد فوقه ويرى في الجهاد المتوأصل لإحراز المنعة أنه هو حظ الإنسان على الدوام بل قسط الإنسانية من العالم أجمع. وإذا عارضت على هذه الصورة بين السلطة القديمة والذاتية الحديثة فلا أدعي بحال من الأحوال أنني أثبت أن لأحد هذين الرأيين في الحياة قيمة خاصة به تسمو منزلتها عن الأول ولا أن أحدهما يجب بطبيعة الحال أن يختلس مكان الثاني ولا أن التاريخ يدلنا على

أن ثمت نشوءاً دائماً لا حد له نحو (الذاتية) العقلية. وغاية ما أريد أن أقول أن المرءَ في العهد الحديث ولاسيما في خلال القرن التاسع عشر أحس من نفسه بأنه اتسع في صدره على نسبة كبيرة الشعور بالقوَّة المنظمة للذكاء وللأرادة الإنسانية فصرف همته من وراءِ الغاية إلى إحراز القوَّة العلمية أو الفنية والاقتصادية أو السياسة فالجهاد ربما كان أعظم حادث في القرن التاسع عشر وبه تمت الغلبة للعقل العلمي المستقل على ما عداه. على أنه من الثابت أن الغريزة الدينية التي كانت تخضع الأرواح في القرون الوسطى للأسرار الإلهية وتحملها على تبجيل هذا التقليد في الدعوة الربانية وتخنعها للعبادة والخضوع للنظام العام وتحملها على الخضوع لقانون العالم بل على الخشوع المحترم أمام معميات العالم لا بالسلطة والعنف_هذه الغريزة لم تبرح تسمع لها إلى عهدنا ركزاً. يعمل ابن العصر بما فيه من قوّة على تسخير العالم لذكائه وأرادته وهو يفاخر بقوَّته ولكنه يظل محساً بما في نفسه من ضيق مضطربة في الإستيلاء على المادة ولم سيما في القوى اللامتناهية المخوفة التي تحيق به ويشعر بها في النفس التي تتجلى من التقاليد العظيمة الدينية أوالأخلاقية السياسة أو الاجتماعية مضيفاً هذا إلى سنن السلوك التي أملاها العقل. يهم البحث في حالة ألمانيا في القرن التاسع عشر من وجهتين وذلك لأن الألمان كانوا في أوروبا الشعب الذي أبلى بلاءً حسناً في خدمة الفنون العقلية والأرادة المنظمة والأمة التي تفتحت بينها (الذاتية) الحديثة على أدهش صورة وهم مع ذلك من الأمم التي حفظت للفكر الديني والاحترام التقاليد الدينية قوّة أكثر من غيرها. فقد ساعد الفكر الألماني كل المساعدة على أنتشار العلوم الحسية وأحكام التفسير العقلي للعالم. فإنتظمت القوّة الألمانية على طريقة حسنة المنهاج هائلة الحول والطول فقصدت بجد لا نظير له إلى إحراز القوّة الاقتصادية والقوّة السياسة. بما أصبحت به ألمانيا إحدى الدول التي هي أعظم الناس انتشاراً وارتقاءً على نحو ما هي إنكلترا والولايات المتحدة. وهكذا رسخ العقل الألماني بتأثير من الطراز الأول وأداة من القوّة ومن قلة تسامحه سلاحاً. ولطالما حاول العقل الألماني أن يتفق ما أمكنه مع السلطات القديمة وحاول في الدينيات عقد عهود التحكيم مع المعتقدات التقليدية وذلك بأن يصلح النصرانية لا أن يشتد في حربها وكان من العقل الألماني في السياسات أنه لم يجعل من كل قطعة مملكة تقوم بنظام العقل

وتحافظ على التقاليد مراعياً إياها كل المراعاة وأبدى احترامه للسلطة الملوكية وتلطف فلم يعتد على الحقوق المكتسبة ولا غإلى في نشؤها السياسي الذي يؤدي إلى الديمقراطية في الأمم الحديثة. أيعد كل هذا ضعفاً أم قوة؟ سؤَال فيه نظر. يعجب بعض الناظرين من استمرار النشوء السياسي والديني في ألمانيا ويرون من أعظم المنافع التي نالت هذه الأمة أنها لم تأت على قديمها فتدكه من أساسه وبهذا لا يستبعدون بأنها ستظل في تقدمها على النحو الذي نحته آمنة العوادي والصدمات باحثة وظافرة عن قانون يقبله السواد الأعظم في المعضلات الديمقراطية والاشتراكية أو الإقطاعية والإكليريكية. ويرى آخرون على العكس من ذلك بأن ألمانيا اليوم وهي على إغراقها في أعداد معدات الحرب وشدة احتفاظها بإقطاعاتها وثقافتها في بسط سلطانها وتغإليها في فلسفتها العقلية وولوعها بإحراز السلطة واحتجأن المال مزدرية بالديمقراطية أو الإنسانية بحيث أصبحت نأقلة بنظريات الأفكار في وسط أوروبا الحديثة القديم الذي كان من حقه أن يضمحل إلى هذه القرون الحديثة وربما لا تلبث أن يصيبها قريباً تغيير عظيم يكون عليها شديداً. وهذا أمر طالما تنأوله النظار بالبحث وإلى الأن لم يسفر عن نتيجة.

اللغات الإفرنجية

اللغات الإفرنجية لهجت بعض الألسن في منافع اللغات الأوروبية ومضارها في مجتمعنا عقيب أن قام صاحب المؤيد في الجمعية العمومية في الربيع الماضي وناقش ناظر معارف مصر في وجوب تعليم العلوم في المدارس الأميرية باللغة العربية فكان من أثر ذاك الحوار أن بطلت دروس الأشياء وجعل تدريس علم تقويم البلدان باللغة العربية في المدارس الإبتدائية كما شرع بتعليم الرياضيات في السنين الأولى من المدارس الثانوية باللغة العربية أيضاً. فقام بعض الناس متخذين من هذا الإصلاح حجة على قلة غناء اللغات الإفرنجية زاعمين أن في العربية ما يكفيها من العلوم. على حين كان ما دعا إليه الداعون من التدريس بالعربية لمقصد آخر أُريد به أحيله لغة البلاد إذا درست العلوم بها وإشراب نفوس المتعلمين حب أمتهم ليعم النفع مما يتعلمون لا التنفير من تعلم اللغات الإفرنجية التي لا يمتري عأقلأن في وجوب تعلمها على فريق كبير من الناس ولاسيما من تصدوا للنفع والتأليف والكتابة على نحو ما يفعل علماء اليابأن فيتعلمون الإنكليزية كما يتعلمون لغتهم الأصلية. نقول تعلم اللغات الأجنبية وما أحرانا أن نقول إتقانها لأن المبادئ البسيطة منها قد لا تفيد المتعلم إلا توهمه أنه أصبح من العارفين. فإن تعوذ علماؤنا قديماً من نصف فقيه ونصف صوفي ونصف كاتب ونصف شاعر فما أحرانا أن نتعود من ناشئ يتعلم طرفاً من لغة لا يستفيد منها ولا يفيد. وليس معنى هذا أنه يتحتم وجوباً على كل متعلم للغة أجنبية أن يكون فيها مؤلفاً خطيباً كاتباً مترجماً فهذا مناف لسنة الكون ولكن المطلوب أن يعرف الناس في تعلم إحدى اللغات الأوروبية القدر الذي يؤهلهم للانتفاع منها في التجارة وأعمال الإدارة والقضاء والعلم. ولا مشاحة في أن أكثر من تعلموا اللغات الأجنبية من أبنائنا لم يتقونها وأن حذقوها فلا يكون لهم من المعرفة بلغتهم ما يستطيعون معه أن يعبروا به عن أفكارهم وينقلوا إليها ما يعوزها من علوم الغرب وحضارته. بيد أن اللغة وأن أتقنها صاحبها لا تنفعه وينتفع بها النفع المطلوب إلا إذا أضاف إليها علماً أو فناً أخصى فيه واللغة آلة لا غاية وإن كان من يتقن لغة أوروبية لا يتسنى له ذلك إلا بعد أن ينظر نظرة إجمالية في الفنون المتعارفة. أما ما يقوله بعض من لا يساعدهم الوقت على تعلم لغة أجنبية من أنه ليس في النقل من

اللغات الغربية كبير أمر وأن العالم يستفيد من الوجود أكثر من استفادته مما دوّنه كبار أرباب العقول من أمم الحضارة فهذا من الآراء التي يقصد بها الاعتذار عن التقصير ومن جهل شيئاً عاداه. إذ من الثابت المقرر أننا مهما تأملنا في صحيفة الكون لا نستطيع أن ندرس فيه نظام الإجتماع ولا تقننين القوانين ولا الطب والهندسة ولا الفلك والطبيعة والكيمياء وفنون الأدب والتاريخ ورسم الأرض وغيرها من الفروع الكثيرة التي لا أسماء لها في العربية إذلم يكن للعرب عهد بها ولا تتم سعادة مجتمع اليوم إلا بتعلمها وإتقانها. ومن قال بأن أسلافنا من العرب قد أجالوا في هذه العلوم قداح أنظارهم ووضعوا فيها ما وضعوا من رسائلهم وأسفارهم فهو على صواب وخطاءٍ. وذلك أن أجدادنا قاموا بالواجب من خدمة هذه العلوم في عصر تماسكهم وانبساط ظل دولتهم إلا أنه انقطعت سلسلتها بعد القرن السادس إلى منتصف القرن الثالث عشر للهجرة وهي القرون التي كانت فيها الأمة العربية في غفلة والأمم الغربية في انتباه فأخذ الغرب عن الشرق ما عنده من حضارة وزاد عليها أضعافاً ولايزال يركض طرف عقله في مضمار البحث والاستقراء ويعاني من ضروب العلم ما نحن فيه معه أجهل من تلميذ مبتدئ بالتهجئة بالنسبة إلى عالم يكتب الكتاب ويقصد القصيد. فالأمة العربية إذا أرادت النهوض العقلي والعملي يجب عليها أن تأخذ من كل علم بالسهم الأوفر ولا يتم لها ذلك إلا بالنقل عن الأمم الغربية وهذا لا يتأتى إلا بعد أن تخرج مدارسنا الألوف من الطلبة المتعلمين على الأساليب الحديثة لينشأ لنا منهم عشرات يكونون لنا عوناً على ما ينقصنا من أسباب نهضتنا وما تشتد حاجتنا إليه. ويكاد ذلك إلى الآن يعد مفقوداً بيننا اللهم إلا طائفة من أسفار نقلها بعض المولعين بالعربية وما تيسر للمجلات تعريبه من حين إلى آخر من علوم الغرب. وكله دون حد الكفاية بكثير. قال ابن رشد في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال: (إذا تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس الفقهي فبين إنه أن كان لم يتقدم أحد من قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة فإنه عسير أوغير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقاء نفسه وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي بل معرفة

القياس العقلي أحرى بذلك وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة فإن آراءَه التي تصح بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونه آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبلة ملة الإسلام). (وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فتنظر فيما قالوه من ذلك فإن كان كله صواباً قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها يقدر على الاعتبار في الموجدات ودلالة الصنعة فيها فإن من لا يعرف المصنوع ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع فقد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجدات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية ونبين أيضاً أن هذا الغرض إنما يتم لنا في الموجدات بتدأول الفحص عنها وأحداً بعد واحد وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم على مثال ما عرض في علوم التعاليم فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة وكذلك صناعة علم الهيئة ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وإبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض وغير ذلك من مقادير الكواكب ولو كان أذكى الناس طبعاً إلا بوحي أوشئ يشبه الوحي بل لو قيل أن الشمس أعظم من الأرض بنحو 150 ضعفاً أو ستين يعد هذا القول جنوناً من قائله. وهذا شئ قد قام عليه البرهأن في علم الهيئة قياماً لا يشك فيه من هو من أصحاب هذا العلم (قال وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط وفي العملية فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة. وإذا كان هكذا فقد يجب علينا أن القينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجدات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرنأهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرنأهم).

هذا ما قاله الفيلسوف الإسلامي في عصر كان العرب أساتذة العلم في العالم وقوله كما رأيت غاية غايات الحكمة. وما الغربيون الآن بالنسبة إلينا إلا قدماء متقدمون وبهديهم يجب علينا أن نهتدي في العلوم. وهذا لايقدح فيما خلفه لنا أسلافنا من أثارهم أيام استئجار عمرانهم واتساع سلطانهم. أما اللغات الحديثة التي تشتد حاجتنا إلى الأخذ منها فهي الإنكليزية والإفرنسية والألمانية. وفي كل لغة من هذه اللغات من أنواع المعارف ما لا يكاد يحلم به من لا يعرف لغاتهم. وليت شعري إذا كان بعض أهل الغرب والعلوم قد بلغت عندهم ما علمت من الإرتقاء الغريب يتعلمون لغات الشرق لينقلوا منها إلى لغاتهم بعض الكتب التاريخية والأدبية والأخلاقية والشرعية ويستعينوا بها على قراءة أثاره وما زبر على أحجاره أفلسنا نحن أحرياء بأن نتعلم لغاتهم على فقرنا الثابت ونقتبس منهم ما يعوزنا من علوم البشر؟ إلا أن ما نفاخر به من علم أسلافنا وحضارتهم العظيمة إنما قام بإحيائهم مدينة من قبلهم من الأمم كالروم والفرس وغيرهم ولم يتأت لهم ذلك إلا بترجمة علومهم والزيادة عليها وتحسينها فكانوا بذلك أحسن صلة وعائد بين أمم الحضارة السالفة والأمم الأوروبية الخالفة. فحضارة الإسلام أن أنصفنا قامت بفضل التراجمة والنقلة من اليعاقبة والإسرائليين والمسلمين لا بأيدي علماء الكلام مثلاً وقد كان على يد هؤلاء التشتيت وعلى يد أولئك الجمع وشتان بين المفرق والمجمع. وليس معنى هذا أنكار فضل من تمحضوا لخدمة الشريعة واللغة في القرون الأولى للإسلام وما في الناظرين من يقول بأن الخليل والجاحظ والغزالي والمأوردي هم في حسن بلائهم في خدمة هذه الأمة دون أبي الريحان البيروني ونصير الدين الطوسي وحنين بن اسحق وثابت بن قره. وما كان قط أهل الفريق الأول يحتقرون علم الفريق الثاني ولا العكس لما وقر في النفوس من أن المجتمع لا يقوم على أمتن الدعائم إلا إذا أتقن كل ذي علم عمله. قال الجاحظ: (الإنسان وإن أضيف إلى الكمال وعرف بالبلاغة وفاتش العلماء فإنه لا يكمل أن يحيط علمه بكل ما في جناح بعوضة أيام الدنيا ولو استمد بكل نظار عظيم واستعان بكل بحاث واع وكل نقاب في البلاد ودراسة للكتب وما أشك أن عند الوزراء في ذلك ما ليس عند الرعية من العلماء وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء وعند الأنبياء ما ليس عند

الخلفاء وعند الملائكة ماليس عند الأنبياء وما عند الله عزَّ وجلَّ أكثر والخلق في بلوغه أعجز وإنما علم الله كل طبقة من خلقه بقدر احتمال فطرهم ومقدار مصلحتهم). وقال الراغب الأصفهاني في الذريعة: العلم طريق إلى الله تعالى ذو منازل قد وكل الله تعالى بكل منزلة منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور في طريق الحج والغزو فمن منازله معرفة اللغة التي عليها بني الشرع ثم حفظ كلام رب العزة ثم سماع الحديث ثم الفقه ثم علم الأخلاق والورع ثم علم المعاملات وما بين ذلك من الوسائط ومعرفة أصول البراهين والأدلة ولهذا قال (هم درجات عند الله) وقال (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وكل واحد من هؤلاء الحفظة إذا عرف مقدار نفسه ومنزلته في حق ماهو بصدده فهو في جهاد يستوجب من الله أن يحفظ مكانه ثواباً على قدر علمه لكن قلما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته وشره في مكسبه وطالب لرياسته وجأهل معجب بنفسه بصير لأجل تنفيق سلعته صارفاً عن المنزل الذي فوق منزلته من العلم وعائباً لما فوقه وصارفاً عمن رامه فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل أويبفر الناس عنه فعل وإن ما في عبارة هذين الحبرين ليذكر بما يجب للمجتمع من مراعاة مبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي وقد قال أحد كبار شيوخ العلم من المعاصرين إن مما يؤخر الشرق في العلم عدم مراعاة أبنائه لمبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي ففيه من يحسن التفصيل كما فيه من يحسن الخياطة وليس بينهما من يضم أعمال الفئة الأولى للثانية لينتفع بها المجتمع حق الانتفاع ومثل لذلك بمن نقلوا لنا العلوم على عهد الحضارة الإسلامية الأولى فقال إنه كان يندر أن يجمع المترجم بين معرفة العلم الذي يترجمه واللغتين اللتين ينقل منهما فمن كان يجيد السريانية لا يحسن العربية إلا أنه كان يترجم ما يفهم بعبارة ركيكة أو عامية فيجئ المصححون يصلحون العبارة على الأسلوب العربي فتجئ معرباتهم من أصح ما يكون لفظاً ومعنى وعلى هذا درج ديوان الترجمة في الدولة العلوية الخديوية في القرن الثالث عشر في مصر فكان المترجم غير المصحح ولذلك جاءَ فيما نقلوه روح العربية أكثر من المصنفات التي نقلت إلى العربية حتى في هذا القرن قال وهكذا عرفت دولة العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والأسرة العلوية في القاهرة أن تجمع بين من يحسن التفصيل ويحسن الخياطة فكان من هذا الجمع ما كان كما حسن النفع من كل ما تصرف تحت اسم

علم.

الشعر الاجتماعي

الشعر الاجتماعي ليس جميع ماخلد في بطون الاوراق من شعر شعرائنا الغابرين هو في المديح والهجاء والرثاء والغزل والنسيب والخمريات والزهديات والخلاعيات بل كان منهم ذوو أخلاق طاهرة يتأثرون بمحيطهم ويشعرون بشعور امتهم يشساركونها في الأمها وأسقامها ويسعون إلى صلاحها وإصلاحها وإن ماانتهى الينا من شعر الجاهلين والمخضرمين والمولدين أن صح اصدار الحكم عليه لقتله ليدعو إلى القطع بان معظم الشعراء اميل إلى الخصوميات منهم إلى العموميات 0وابوالعلاءالمعري رأسهم في تشريف الشعر والتفادي من ابتذاله وجل لزومياته من الشعر الاجتماعي الصادر عن نفس أبيه مشرفة على ما يعبث بجسم المجتمع من الشرور والغرور والقصور ولذلك لم يبرح يضرب على نغمة التنديد وكثيراً يخرجه النقد إلى الغلو واي شعر خلا من الغلو ولو خلت نفس أبي الطيب المتنبي من المطامع والتغالي في حب الجاه والغني لساغ أن يكون من مجموع حكمياته ديوان شعر اجتماعي ينفع الأمة في تكبير نفوسها وتحسين ملكاتهها ولاسيما لوكأنت الحكمة مختلطة بأجزاء نفسه اختلاطها بأجزاء روح المعري وكانت اقواله على قدر افعاله. فقد رأينا يملا الدنيا مديحا بسيف الدولة ثم يهجره ويمدح كافورا والاخشيدي لما كان يرجو أن يوليه ولاية ثم يهجوه اقبح هجو لما يئس منه فكيف يثق العقلاء باقواله وتفعل أشعاره في النفوس فغلامحمودا. وإذا تقدمنا إلى ما وراء ذينك العصرين وبحثنا في شعراء أوائل العباسية كأبي العتاهية وأبي نواس لانعتم أن نقول فيهما مأقلناه في أبي الطيب وإن كانت الزهديات غالبة على شعر الأول والخمريات متحكمة من شعر الثاني. أما من كانوا بعد ذلك العهد من الشعراء كأبي فراس الحمداني فإنك تجد شعرهم بحسب محيطهم فتقرأ في شعر هذا علو النفس والشمم وشيئامن روح الاجتماع وبحق ماقيل بديء الشعر بملك وهو أمرؤ القيس وختم بملك وهو ابوفراس وبحق ماقالوا كلام الملوك ملوك الكلام. وانك لاتجد في نفسك النشأة التي تجدها بتلاوة شعر الشريف الرضي وابن الرومي ماتجده بكلام صريع الغواني وناصح الدين الارجاني. اما ما إذا جئت تقرأ الشعر في القرون الخمسة الأخيرة وهي عصور انحظاظ اللغة وانحطاط الأفكار فتكاد لاتجد الجيد واحدا من مائة وأكثر من اجادوا في الاجتماعيات من كانوا على شيء من معرفة زمانهم من الشعراء وتأثروا بتأثر امتهم

مثل تلك الزمرة من الشعراء التي سقطت الأندلس في أيامها فبكوها ورثوها او كانوا قبيل سقوطها فحذروا ملوكهم عاقبة التفاشل وبينوا لهم مواضع الضعف واي شعر واقع في النفس وافعل في أثارة الشجون من قصيدة ابن الابار لما اوفده صاحب بلنسية عندما حاصرها ملك برشلونة إلبرتغالي إلى ابن أبي حفص صاحب أفريقية التي يقول في مطلعها. أدرك بخيلك خيل الله أندلس ... أن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر مالتمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا ياللجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للحادثاتوامسى جدها تعسا في كل شارقة المام بارقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا وكل غاربة اخجال شائبة ... لثني الأمان حذرا والسروراسى وفي بلنسية منها وقرطبة ... ماينسف النفس او ماينزف النفسا واي شعر اصدق من رقعة وجدت في جيب أبي عبد الله الفازازي يوم موته يقول فيها الروم تضرب في البلاد وتغنم ... والجور يأخذ مابقي والمفرم والمال يورد كله قشتالة ... والجند تسقط والرعية تسلم وذوو التعين ليس فيهم مسلم ... الا معين في الفساد مسلم اسقي على تلك البلاد وأهلها ... الله يلطف بالجميع ويرحم قال المقري أن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده فلما وقف عليها قال بعد ما بكى صدق رحمه الله تعالى ولو كان حيا ضربت عنقه. ولم يزل أهل الأندلس بعد ظهور الإفرنج على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخذ الثأر بالنظم والنثار فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب أفريقية أباحفص ويقول فيها. ياحسرتي لعقائل معقولة ... سئم الهدى نحو الضلال هداءها ايه بلنسية وفي ذكراك ما ... يمري السؤن دماءها لا ماءها كيف السبيل إلى احتلال معاهد ... شب الاعاجم دونها هيجاءها وإلى ربا واباطح لم تعترض ... حلل الربيع مصيفها وشتاءها

طاب المعرس والمقيل خلالها ... وتطلعت غرر المنى اثناءها ومن ذلك قول بعضهم يندب ظليطلة لثكلك كيف تبتسم الثغور ... سرورابعد مايئست ثغور أما وأبي مصاب هد منه ... ثبير الدينفاتصل الثبور إلى أن يقول فإن قلنا العقوبة أدركتهم ... وجاءهم من الله النكير فإنا مثلهم وا شد منهم ... نجور وكيف يسلم من يجور أنأمن أن يحل بنا انتقام ... وفينا الفسق اجمع والفجور واكل للحرام ولا اضطرار ... إليه فيسهل الأمر العسير ومما قبل في ذلك قصيدة أبي البقاء الرندي وهي ممااشتهر لكل شيء إذا ماتم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته ازمان وهذه الدار لاتبقي على احد ... ولايدوم على حال لها شان يمزق الدهر حتما كل سابغة ... إذا نبت مشرفيات وخرصان ومن هذا الباب قصيدة العقيلي يتوسل بسلطأن فاس التي يقول فيها كنا ملوكا لنا في ارضنا دول ... نمنا بها تحت افنان من النعم فايقظتنا سهام للردى صبب ... يرمي بافجع حتف من بهن رمي فلاتنم تحت ظل الملك نومتنا ... واي ملك بظل الملك لم ينم وهكذا كانت تلك الطبقة من الشعراء على ذلك العهد في الأندلس على نحو ما كان بعض شعراء ألمانيا في القرن الماضي وقد قاموا يحمسون الأمة والحكومة في معارضة الدين ومناهضة الحكم المطل مثل ستراوس والاخوان بوير وارنولدروج وكارل ماركس وفورباخ وكجمهور من الشعراء السياسين مثل هوفمأن فون فالرسلبين ونجلستيد وفرايليجرات وميسنير وكارل بيك وعوتفريد وكاين كيل ممن أخذوا على أنفسهم الدفاع عن حقوق الأمة والحرية وأخذوا ينشرون في أوروبا دعوات حماسية ولكن شتان بين من يسعون إلى تأسيس ملك ضخم وسلطان عظيم العلم رائده والعقل قائده يقولون فتسمع

اقوالهم وتؤثر الأثر المطلوب وبين من يقولون كبقايا أولئك الأندلسين وهم خائفون فلا تؤثر اقوالهم ويمسون ينشدون ويصبحون يندبون بلادا سقطت واطفالا يتمت ونساء ايمت وعمرانا اضمحل وساكنا ابذعر. وليس معنى هذا أن الشعركله يجب أن يكون اجتماعيا بل أن أكثره أصبح كذلك ينفع ويرقي. والشعر ادعى إلى التأثير واسرع أن يعلق في الذهن من النثر. والشعراء إذا أحسنو القصيد وصرفوه فيما يفيد تقطف البلاد بثمرة اقوالهم ماتقطفه من ثمرات اقوال الخطباء والكتاب أن لم نقل أكثر. الشاعر الاجتماعي هو الذي يدل امته على عوارها وعارها ويبين لها طريق نجاتها وعثرتها وينوع الأساليب في تعليمها وتهذيبها. وماانس لاانس غوركي شاعر الروس وقد كان منذ سنين يؤلف القصيدة الثورية الاجتماعية يلقنها الفلاحين حتى إذا استظهروها يرحل عنهم وقد ظل اعواما على هذه الدعوة ورجال الشرطة يطاردونه وهو بجربذته يفلت من بين ايديهم حتى كانت اقواله من جملة مأولد الثورة الروسية الأخيرة وقد اذكرني غوركي بعمارة اليمني الشاعر الذي دعا في مصر للدولة الفاطمية بعد أن حل عراها صلاح الدين يوسف وماقال في ذلك من قصائد ومقاطيع كانت سبب صلبه ومن جملة شعره القصيدة التي توضح عذر السلطان صلاح الدين في قتله وقتل من شارك في ذلك قال في مطلعها رميت يادهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلي الحسن بالعطل سعيت في منهج الرأي العثور فإن ... قدرت من عثرات البغي فاستقل جدعت مارنك الاقنى فإنفك لا ... ينفك مأبين نقص الشين والخجل لهفي ولهف بني الأمال قاطبة ... على فجيعتنا في اكرم الدول إلى أن يقول ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لأعلى صفين والجمل وقل لأهليهما والله ما التحمت ... فيكم قروحي ولا جرحي بمندمل ماذا ترى كأنت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما ... ملكتم بين حكم السبي والنفل وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد وأبيكم غير منتقل

مررت بالقصر والاركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الاعادي ووجه الود لم يمل اسبلت من اسف معي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل ابكي على ماترا آى من مكارمكم ... حال الزمان عليها ولم تحل دار الضيافة كانت انس وافدكم ... واليوم اوحش من رسم ومن طلل وفطرة الصوم إن اصغت مكارمكم ... تشكو من الدهر ضيما غير محتمل وكسوة الناس في الفصلين قددرست ... ورث منها جديد عنهم ويلي وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل وختمها بقوله وماخصصتم ببرأهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل كانت رواتبكم للذمتين ولل ... ضيف المقيم وللطاري من الرسل وللجوامع من احباسكم نعم ... لمن تصدر في علم وفي عمل وربما عادت الدنيا لمعقلها ... منكم واضحت بكم محلولة العقل ولسائل أن يقول اما في شعراء العربية اليوم من تقع لهم ياترى مثل هذه القصائد الحماسية الاجتماعية يحسنون بقريضهم الملكات ويضمون الشتات قبل الفوات. فالجواب أن هذه الروح ضئيلة جدا في شعرائنا فإن غلبت على شعر حافظ أفندي إبرأهيمحتى جاز أن يدعى الشاعر الاجتماعي بلا مدافع وقرئت في قصائد جميل صدقي أفندي الزهاوي ومعروف أفندي الرصافي من شعراء بغداد فإنها تقل في شعر الشيخ عبد المحسن الكاظمي واحمد بك شوقي والأمير شكيب ارسلان ومصطفى صادق أفندي الرافعي والسيد توفيق البكري والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي وخليل أفندي مطران والأمير نسيب ارسلان ونقولا أفندي رزق الله وعبد الله أفندي البستاني وإبرأهيمأفندي الحوراني وفارس أفنديالخوري وعيس أفندي أسكندر معلوف ورزق أفندي حداد واحمد أفندي محرم وامين أفندي حداد واسمعيل باشا صبري وحفني بك ناصف والياس أفندي فياض ومحمد أمام أفندي العبد وطانيوس أفندي عبده وقسطاكي بك الحمصي واحمد أفندي الكاشف واضرابهم المجيدين في شعرائنا ممن لم تحضرني أسمائهم فإنك لاتقرأ لأحدهم المقطوعة أو القصيدة الفذة حتى

تقرأ له عشرات غيرها في أغراض أخرى فيا حبذا لو توخى قيادة القريض بما ينظمون النفع العام ونحوا في أشعارهم منحى السداد لتفعل في عقول منشديها وراويها فتسدد خطأهم وتصحح أفكارهم وتقوي قلوبهم وتصلح عيوبهم. فعصرنا هذا عصر الحقائق لاعصر الخيالات والعأقل ينتفع باقواله بحسب نيته وهيهات أن نقول أن للشعرالعربي دولة إلا إذا حسنت أثار اقوال زعمائه في أبنائه وقديما قالوا اعذب الشعرا كذبة اما نحن اليوم فنقول اعذب الشعر اصدقه وعهدنا هذا يفتح بما فيه من دواعي القول قرائح من لم يحلم بانه يقول الشعر.

الغروب

الغروب نزلت تجر إلى الغروبذيولا ... صفراء تشبه عاشقا متبولا تهتز بين يد المغيب كانها ... صب تململ في الفراش عليلا ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء اصيلا مذ حان في نصف النهار دلوكها ... هبطت تزيد على النزول نزولا قد غادرت كبد السماء منيرة ... تدنو قليلاللافول قليلا حتى دنت نحو المغيب ووجهها ... كالورس حال به الضياء حيولا وغدت بأقصى الأفق مثل عرارة ... عطشت فابدت صفرة وذبولا غربت فابقت كالشواظ عقيبها ... شفقا بحاشية السماء طويلا شفق يروع القلب شاحب لونه ... كالسيف ضمخ بالدما مسلولا يحكي دم المظلوم مازج ادمعا ... هملت بها عين اليتيم همولا رقت اعإليه واسفله الذي ... في الأفق اشبع عصفرا محلولا شفق كان الشمس قد رفعت به ... ردنابذوب ضيائها مبلولا كالخود ظلت يوم ودع إلفها ... ترنو وترفع خلفه المنديلا حتى توارت بالحجاب وغادرت ... وجه البسيط كاسفا مخذولا فكانها رجل تخرم عزه ... قرع الخطوب له فعاد ذليلا وانجط من غرف النباهة صاغرا ... وأقام في غار الهوان خمولا * * * * * * * لم انس قرب الأعظمية موقفي ... والشمس دانية تريد افولا وعن اليمين أرى مروج مزارع ... وعن الشمال حدائق ونخبلا وتروع قلبي للدوالي نعرة ... في البين يحسبها الحزين عويلا ووراء ذاك الزرع راعي ثلة ... رجعت تؤم إلى المراح قفولا وهناك ذو برذونتين قد انثى ... بهما العشي من الكراب نحيلا وبمنته نظري دخان صاعد ... يعلو كثيراً تارةوقليلا مد الفروع إلى السماء ولم يزل ... بالأرض متصلايمد أصولا وتراكبت في الجو سود طباقه ... تحكي تلولا قد حملن تلولا

فوقفت ارسل في المحيطإلى المدى ... نظرا كما نظر السقيم كليلا والشمس قد غربت ولما ودعت ... ابكت حزونا بعدها وسهولا غابت فاوحشت الفضاء بكدرة ... سقم الضياء بها فزاد نحولا حتى قضت روح الضياء ولم يكن ... غير الظلام هناك عزرائيلا وأتى الظلام دجنةفدجنة ... يرخي سدولا جمة فسدولا ليل بغيبه الشخوص تلفعت ... فظالمت احسب كل شخص غولا ثم انثنيت اخوض غمر ظلامه ... وتخذتنجم القطب فيه دليلا ان كل اوحشني الدجى فنجومه ... بععثت لتؤنسني الضياء رسولا سبحان من جعل العوالم انجما ... يسجن عرضافي الاثير وطولا كم قد تصادمت العقول بشأنها ... وسعت لتكشف سرها المجهولا لاتحتقر صغر النجوم فإنما ... أرقى الكواكب مااستبان مااستبان ضئيلا دارت قديما في الفضاء رحى القوى ... فغدا الاثير دقبقها المنخولا فاقرأ كتاب الكون تلق بمتنه ... آيات ربك فصلت نفصيلا ودع الظنون فلا وربك انها ... لم تغن من علم اليقين فتيل معروف الرصافي * * * * * * * *

الشمس في الطلوع

الشمس في الطلوع طلعت في جلالة ووقار ... من وراء التلول شمس النهار طلعت من حجابها كآلة ال ... حسن في موكب من الانوار وتجلت مثل العروس بوجه ... نوره باهرا أولي الابصار فكست منكب الربى وحوإليها ... رداء مطرزا بالنضار وادرت على الرياض شعاعا ... لج في لثم مبسم الازهار كلما مس ظاهر الأرض اعطى ... رونقا للتراب والأحجار ماتدانىالا واهدى نشاطا ... لحياة الحيوان والأشجار وله في جدأول الروض رقص ... فوق سطح الماء الزلال الجاري واضاء الهواءفهوكبحر ... ماج في لج نوره الموار أن للشمس منظراسوف يلغي ... مثله في النجوم والاقمار منظرا راق حسنه غير أني ... كل يوم اراه بالتكرار انما الشمس مركز لنظام ... سابحفي بحر بعيد القرار ليس في عالم المجرة الا ... قدراصاغرامن الاقدار نحن من ارضنا نعيش جميعا ... فوق جرم محقر سيلر طاف يسعى على ذكاء دا ... ت بليل فراشة حول نار الشمس في المغيب اترى افزع الغزالة ذيب ... فهي تسعى شريدة وتغيب وقد أصفر وجهها كفتاة ... قلبها من وشك الفراق كئيب ام قضت نصف دورة هذه الار ... ض دنا فيه من ذكاء غروب وعلاها السحاب فأحمر منه ... لدواع ذوائب وجيوب صاح ماهذه الدماء اراها ... بعيوني افي السماء حروب ام ترى ابدت الطبيعة لوحا ... نظر الروح نجوه مجلوب تقف العين نحوه وهي حيرى ... يستبيها جماله المحبوب حار في وصفه الأديب فلايع ... لم ماذا عسى يقول الأديب

وانظر البر في مقابلة الشم ... س تجدماتذوب منه القلوب بقر الحي من مرتعها تر ... جع في مشية خطاها قريب وقطيع الاغنام من وجهة الشر ... قإلى جانب الخيام يؤب وصغار الحملان مربوطة تص ... بو إلى اماتها وتلوب تسمع الأمهات وهي إليها ... مسرعات بغامها فتجيب منظر الغروب في البر يشجي ... فتكاد القلوب منه تذوب منظر يعجز المصور والشا ... عر عن رسمه ويعيا الخطيب

اليونان

اليونان عظمة مكدونية فيليب - الأسكندر - فتح آسيا انهكت الحروب المتصلة مدة قرن بين اسبارطة وأثينة قوى تينك المملكتين فتركتاقتال ملك الفرس إلا أن شعباجديدا وهم المكدونيون عاودوا قتاله حتى نالوا منهوكانو على خشونتهم وقسوتهم أشبه بقدماء الاوربيين شعبا مؤلفا من رعاة وجند. ولقد سكنوا شمال بلاد يونأن في واديين عظيمين مطلين على البحر. وقلما كان اليونانيون يحلونهم محل الاعتبار بل ينظرون إليهم نظرا ثانويا كما ينظرون للبرابرة وإذا المكدونيون يدعون انهم من نسل هيراكليس سمح لهم اليونان بان يركضوا خيولهم في سباق الالعاب الأولمبية وبذلك اعترف بهم ضمنا بانهم من أبناء اليونان. فيليب - قلما كان هؤلاء الملوك النازلون في بلاد الداخلية بعيدين عن البحر يشتركون في حروب اليونان وفي سنة 360 تسلم اريكة العرش المكدوني شاب نشيط شجاع طموحونعني به الملك فيليب فطمحت به نفسه إلى القيام بثلاثة أمور (ا) أن ينشىء جيشا قويا (2) أن ينشىء جميع المواني على شاطىء مكدونية (3) أن يكره سائر اليونان على الانضواء تحت لوائه لقتال الفرس فصرف في هذا الشأن أربعا وعشرين سنة ونجح فيما قصد له. واستسلم اليونأن اليه بل واعانه كثير منهم واتخذ له انصارا ببذل المال في جميع المدن يحسنون الظن فيه ويمتدحونه قال: {مامن قلعة يتعذر الاستيلاء عليها إذا استاع المرء أن يدخل إليها بغلا مثقلاباذهب} وهكذا استولى على جميع مدن شمالي اليونانية واحدة بعد أخرى. وقد كان الخصم اللدود لفيليب الخطيب ديموستين وهو ابن صانع اسلحة تيتم في السابعةمن عمره واختلس اوصياؤه جزءا من ماله بلغ أشده أقام عليهم قضيةواكرههم على أن يعيدوا إليه مااختلسوه منه وكان درس خطب ايزيه واستظهر تاريخ توسيديد بيد أنه عندماخطب على المنبر العام قوبل كلامه بالقهقهة إذ كان صوته ضعيفا جدا ونفسه قصييرا فتوفر عدة سنين على ترويض صوته. ويروي إنه كان ينقطع شهورا طويلة ونصف رأسه محلوق لئلا

يحاول الخروج ويلقي خطبا وفي فمه حصا وهو على شاطىء البحر ليمرن نفسه على التغلب بصوته على جلبة الناس ولمل رجع إلى المنبر كان قد اخضع صوته لاراته وإذا كان يحافظ كل المحافظة على أعداد جميع خطبه قبل القائها غدا أرقى خطيب وأعظم مفوه في بلاد اليونان. وكان الحزب الذي يرجع إليه أمر أثينة على ذاك العهد بزعامة فوسيون يطمح في السلم اذ لم يكن لأثينة جند كاف ولا مال وافر يقاف ملك مكدونية عند حده فكان فوسيون يقول سأشير عليكم بالحرب متى صرتم بحيث تستطيعون القيام باعبائها. وكان ديموستين على العكس يحتقر فليب ويراه كانه من المتوحشين فتطوع في خدمة الحزب الذي يطلب محاربته واستخدم مافيه من فصاحة لاخراج الأثينين من سياسة المسالمة ولم يدخر وسعا مدة خمس عشر سنة في تحريضهم على ذلك. وانك لتجد مضوع كثير خطب ديموستين الحملة على الملك فيليب وكأن يسميهاالفلبية. قال في خطابه الأول سنة352: متى تقومون ايها الأثينيون بواجباتكم؟ اتريدون أن تسرحوا وتمرحوا في الساحات وبعضكم يسأل بعضا بقوله: ماوراءك من الأخبار؟ اما أنا فأقول لكم ليس من جديد إلا أننا نشاهد مكدونية يتغلب على أثينة ويستولي على ارض يونان؟ أقول لكم إنه من الواجب تسليح خمسين سفينة وأن تعقدوا العزم إن تركبوها بالذات عند مسيس الحاجة. جنبوا مسمعي جيش مؤلف من عشرة او عشرين الفا من الأجانب ولا حقيقه له الا على الورق فإني لا اريد الاجنود من الوطن متطوعين في خدمته. وقال ديموستين في الفيليبيات الثالثة سنة341 يذكر الأثينيين بما حازه فيليب من الظفر عليهم لغفلتهم وقلة حركتهم {كان اليونان قديما عندما يسيئون استعمال سلطتهم ليظلمواغيرهم تقوم بلادهم كلها على ساق وقدم لمنع هذا الظلم ونحن اليوم نقاسي مانقاسي من مكدوني حقير متوحش من أصل ملعون فيخرب المدن اليونانية ويحتفل بالالعاب البيتية او يأمرخدمه بالاحتفال بها وهذا ماينظر إليه اليوناني بدون أن يأتي أمراكما ينظر إلى البرد يتساقط وهو يضرع بأن لايصيبه. والسلطة تعظم بدون أن يخطو احد خطوة لايقافها. وكل ينظر من عهد إليه في تمزيق شمل غيره كما لو كان يعد ذلك ربحافي وقته بدلا من أن يفكر ويعمل لسلامة اليونان عندما يعرف الناس المصيبة ستنال البعيدين}. ولما استولى فيليب على الاتيه في مدخل بيوسيا (339) ازمع الأثينيون بما نصح به ديموستين أن يشهروا الحرب ويبعثوا بوفود إلى ثيبة وذهب

ديموستين زعيما للوفد ولقي في ثيبة وفدا جاءه من قبل فيليب فتردد الثيبيون واردهم ديموستين على أن يتناسوا جميع احقادهم القديمةوأن لايفكروا في غير سلامة الوطن اليوناني وفي الدفاع عن الشرف والحرية فعزموا بمساعيه أن يعقدوا محالفة مع أثينة وأن يظلوا على المقاومة والحرب. وبعد سنة (338) نشبت الحرب في شيرونيه من أعمال بيوسيا وكان عمر ديموستين إذ ذاك ثمانيا وأربعين سنة فخدم في الجيش جنديابسيطا وإذ كان جيش الأثينين والثيبيين قد دعي إلى حمل السلاح بسرعة لم يعادل جند فيليب المدربين ولذلك كأنت الهزيمة الأول. الاستيلاء المكدوني_واذ ظفر فيليب أقام حامية في ثيبة وصالح أثينة ثم دخل إلى ارض المورة فاستقبله أهلها كانه المحسن إلى الشعوب التي اضطهدها اسبارطة ومن ذاك العهد لم يصادف أقل مقاومة فجاء إلى كورنت (337) وجمع فيها مندوبي جميع المدن اليونانية (ماخلا الاسبارطيين فإنهم لم يبعثوا بمندوبين قط) وعرض عليهم مشروعه وهو أن يتوبى زعامة جيش يوناني لغزو فارس فاستحسن المندوبون رأيه وعقد محالفة عامة بين المدن اليونانية كافة وذلك على أن تحكم كل مدينة نفسها بنفسها وتعيش بسلام مع غيرها وأنشىء مجلس لتلك الوحدة لمنع الحروب والفتن الأهلية والقتل والمصادرة وهذه الوحدة كان من شأنها الاتحاد مع الملك مكدونيا والاقرار له بالزعامة على جميع الجنود والسفن اليونانية وحظر على كل يوناني أن يحارب فيليب وإذا فعل تضرب عنقه دون محاكمة. الأسكندر - خنق فيليب ملك مكدونية سنة 334 وكان ابنه الأسكندر إذ ذاك ابن عشرين سنة وكان مثل جميع اليونان من أبناء البيوت الشريفة ماهرا في الالعاب الرياضية شديد القوى في الكفاح يحسن ركوب الصافنات الجياد (وهو الذي وحده استطاع أن يكبح جماح حصانه بوسيفال في الحرب) وكان زيادة على ذلك عارفا بالسياسة حسن البيان يعلم التاريخ الطبيعي وكان أستاذه من سن الثالة عشرة الفيلسوف أرسطو أعظم عالم في اليونأن فكان يتلو الالياذة بشوق ويدعوها دليل فن الحرب ويريد أن يتشبه بالأبطال الذين ورد ذكرهم فيها. فكان خلق ليكون فاتحا لأنه مغرم بالقتال مولعبحب الشهرة وكان ابوه يقول له (ان مكدونية ضيقة النطاق فلاتسعك) الجحافل المكدونية - ترك فيليب لابنه الأسكندر اداة من ادوات الفتح ونعني بها الجيش

المكدوني وهو أحسن جيش عهد في بلاد اليونان يؤلف جيش المشاة وجيش الفرسأن فكان الجحفل المكدوني مؤلفا من16 الفا من الرجال مصفوفين ألوفا ألوفاستة عشر صفاويحمل كل واحد منهم رمحا طوله ستة امتار وكان المكدونيون في ساحة الغي بدلا من أن يسيروا إلى العدو كلهم من جهة واحدة يقفون لاحراك بهم ويضربون برماحهم العدو منكل صوب وكان جنود المؤخرة يرفعون رماحهم من فوق رؤوس الصفوف الأولى بحيث كان ذاك الجيش يشبه حيوانا عظيما وقد انتصب وعليه الحديد والعدو يدأهمه فبتحطم. وكنت ترى الأسكندر بينما كان الجيش في ساحة الحرب يوقع بالعدو وهو في مقدمة فرسانه وكانت هذه الكتيبة من الفرسان مؤلفة من خيار الفتيان الإشراف. فتح آسيا - سافر الأسكندر في ربيع سنة 334 في ثلاثين الف رجل (معظمهم من المكدونيين) وفي 4500 فارس لايحمل معه غير 70 تالونا من المال (أقل من أربعمائة فرنك) وذخيرة تكفي هذا الجيش الضخم أربعين يوما. ولم يكن عليه أن يقاتل ذاك الغوغاء من الشعوب التي لاسلاح لها وقد سخرها كنجسر الفارسي لأمره فقط بل كان أمامه خمسون الفا من اليونأن المجندين في خدمة الخاقان الأعظم تحت قيادة حاذق يدعىممنون الرودسي فقد كان في مكنة هؤلاء اليونان أن يصدوا المكدونيين عن العبور ولكن صادف أن مات ممنون وتشتت جيشه شذر مذر فتخلص الأسكندر من خصمه الوحيد العنيد وفتح المملكة الفارسية في سنتين. وذلك بعد أن ظفر في ثلاث مواقع فبدد في آسيا الصغرى الجيوش الفارسية الرابطة وراء نهر غرانيك (في مايو333) وهزم الأسكندر دار يوس ملط فارس وجيشه الذي يقال إنه كان مؤلفا من ستين الفا من مضايق سيليسيا في ايسوس (نوفمبر 332) وشتت في اربل بالقرب من دجلة جيشا أكثر عددا (331). فكانت هذه الغلبات مثالا من الحروب المادية فالجيش الفارسي لاسلاح له ولايحسن الرماية وهو مشوش بنفسه في اخلاط من الجنود والاجراء والاثقال وكأنت الجنود المختارة وحدها التي تقاتل والباقي يشتت ويقتل ولم يكن الفتح في غضون الحرب الانزهة يكتب فيها الظفر وهذا الفاتح لايجد أمامه مقاوما وماذا يهم شعوب المملكة أن يخضعوا لداريوس او للأسكندر كان يفتح بها مملكة برأسها فموقعة الغرانيك استولى قيها على آسيا الصغرى ومعركة ايسوس افتتح فيها سورية ومصر ومعركة اربل بقية البلاد.

ولما صار الأسكندر الحاكم المتحكم في المملكة الفارسية اعتبر نفسه وارثا للخاقأن الأعظم صاحب فارس فلبس اللباس الفارسي واستعمل عادات البلاط الفارسي في الاحتفالات الرسمية واكره قواده أن يركعوا أمامه على السنة الفارسية وتزوج من بنات الفرس وزوج ثمانين من ضباطه من ثمانين من بنات إشرافهم وأراد أن يوسع مملكته إلى أقصى الحدود كما فعل الملوك القدماء وتقدم فاتحا نحو الهند وهو يقاتل القبائل المحاربة ولما عاد في جيشه إلى بابل (324) هلك بالحمى في بضعة أيام في الثالثةوالثلاثين من عمره (321) مقصدالأسكندر - من المتعذر جدا أن نعرف ما كان يقصد الأسكندر. هل كان يفتح حبا بالفتح؟ او إنه كان له مقصد آخر؟ وهل كان يريد أن يجعل جميع تلك الشعوب شعبا واحدا ومملكة واحدة؟ هل اتخذ المناجي الفارسية ليكون مثالا لغيره؟ او أنه قلد الخاقان الأعظم صلفاوإعجابا؟ اننا لن نقف على نياته إلا أن أعماله كانت لها نتائج عظيمة وقد اسس سبعين مدينة وعدة مدائن في مصركالأسكندرية وفي بلاد التتر حتى بلاد الهند ووزع على رعاياه الكنوز التي وجدها في خزائن الخاقان الأعظم وكانت مطروحة فيها لاينتفع بها وأخذ معه علماء يونانيين لدرس نبات آسيا وحيوانتها وجغرافيتها وهيأالملكات في الشوب الآسيوية إلى تعلم لغة اليونان والتخلق بأخلاقها ولذلك أطلق على الأسكندر لقب الكبير تأسيس الممالك اليونانية الأسكندرية - المتحف - ممالك آسيا - التمدن اليوناني في الشرق خراب مملكة الأسكندرية - جمع الأسكندر تحت علم واحد جميع بلاد العالم القديم من بحر الادرياتيك إلى نهر الاندوس ومن مصر إلى القأفقاس. ولم يدم الملك العظيم الابدوامة فلما هلك اختلف قواده فيمن يولى الملك بعده وحارب بعضهم بعضا مدة عشرين سنة واتخذوا بادىء بدء حجة لحروبهم بانهم يتقاتلون لمعاضدة احد أسرة الأسكندر كاخيه وابنه واخوته وإحدى زوجاته ثم تقاتلوا علنا بأسمائهم وتوطيدا لدعائم الملك لسلطانهم فكان لكل واحد منهم جزء من الجيش المكدوني او جنود يونان مأجورون فكان اليونانيون يتقاتلون فيمن يستأثر بآسيا ويحكم عليها والناس ينظرون إليهم غير محتفلين بما يأتون كما كان لو كان اليونان يقاتلون الفرس أعداءهم. ولما وضعت الحرب اوزارها لو يبق الا ثلاثة قواد وقد هيأ له كل منهم مملكة واسعة مما خلفه الأسكندر فحكم بطليموس مصر وسلوقس سورية

وليزيماك مكدونية وكانت انفصلت بعض الممالك الصغرى او أخذت بالانفصال عنها مثل أبير أوروبا ومثل بون وبيتيني وغالاسيا وكابادوس وبرغام في آسيا ومثل مقاطعتي باكتريان وبارسيا من بلاد الفرس وبذلك تم تقسيم مملكة الأسكندر. التمدن اليوناني في الشرق - كان الملك من أبناء اليونان ويعيش عيش اليونان ويحافظ على لغته ودينه وعاداته. من الآسياوين أي من البرابرة وهو يحاول أن يجعل له حاشية من جنسه ويجند جنوده من أبناء يونان بالاجرة ويتخذ موظفين يونأن لادازة البلاد ويجلب إلى عاصمته شعراء وعلماء وأرباب فنون من اليونان. وكان في البلاد على عهد ملوك الفرس كثير من اليونانوالطوأرىء والتجار ولاسيما من الاجناد فأكثر ملوك اليونان من جلبهم وانتشروا في جميع أطراف آسيا وكثر سوادهم حتى انتهت الحال بالوطنين أن يلبسوا اللباس اليوناني وينتحلوا الديانة اليونانية والأخلاق اليونانية واللغة اليونانية ولم يعد الشرق آسياويابل أصبح يونانيا حتى أن الرومانيين لم يجدوا في آسيا في القرن الأول شعوبا يشبهون اليونانية باسرهم الأسكندرية - لقب ملوك اليونان من مصر وهم خلفاء بطليموس بلقب الفراعنة على نحو ما كان يلقب ملوكها الاقدمون ولبسوا التاج ودعوا الناس إلى عبادتهم باسم أبناء الشمس ولكنهم كانوا محاطين باليونانية وأقاموا عاصمتهم على شاطىء البحر في مدينة يونانية وهي الأسكندرية. تلك المدينة الجديدة التي أنشئت بأمر الأسكندر. بنيت الأسكندرية على سطح مستو فكانت ذات نظام أكثر من غيرها من المدن اليونانية وكأنت الشوارع تنقسم إلى زاوية قائمة ويشقها من وسطها شارع وعرضه ثلاثون مترا وطوله ستة كيلو مترات وعلى جانبيها ابنية عظيمة مثل بناء الستاد حيث كانت تقام الالعاب العامة والجمناز والمتحف والارسينوم. وكان المرفأ مؤلفا من سد طوله الف وثلثمائة متر يصل بين اليابسة وجزيرة فاروس وفي طرف هذه الجزيرة أقيم برج من الرخام جعل في قمته مكان بنبعث منه ضوء على الدوام لتسير به السفن التي تريد دخول المرفأ ومن هناك جاء اسم المنارة. فقامت الأسكندرية مقام المدن الفينيقية وغدت المينا العظمى للتجارة في العالم باسره. المتحف - كان المتحف بناء عظيما من الرخام متصلا بقصر الملك وقد أراد ملوك مصر أن يجعلوه معهدا علميا عظيما. وفيه مكتبة عظيمة وكان القوام عليها أن ببتاع جميع

مايتسنى له الظفر به من الكتب فكل كتاب يدخل مصر يحمل إلى المكتبة والنساخ وينقلون المخطوطات ويرجعون نسخة لصاحبها مع التعويض عليه واتصلت الحال بان جمع على هذا النحو عددمن الجلدات لم يسمع بمثله (وهو أربعمائة الف مجلد كما قيل) وكأنت الكتب المخطوطة لكبار المؤلفين إلى ذاك العهد مبعثرة مشتتة وعرضة لخطر الضياع فأصبحت يعرف لها مقر يرجع إليه. وكان في المتحف ايضا حديقة للنبات والحيوان ومرصد فلكي وقاعة للتشريح اقيمت علىالرغم من اوهام المصريين كما أقيم معمل كيماوي (كان الملك بطليموس فيلادلف يخشى كثيراًمن الموت فقضى بضع سنين في البحث عن اكسير لأطالة الحياة) وكان في المتحف العسكري مساكن للعلماء والرياضين والفلكيين والأطباء ويقدم لهم غذاؤهم على نفقة الحكومة وكثيراً ما كان الملك يتناول الطعام معهم دليلا على احترامه لهم وكانوا يقضون اوقاتهم في المحاورة والمطالعة ويجيء الناس من جميع بلاد اليونأن ليستمعوا لما يلقون وكان الشبان يبعث بهم اباؤهم إلى الأسكندرية ليتعلموا. ويقال إنه كان فيها نحو 14الفا من الطلاب. ومن ثم كان المتحف مكتبة ومجمعا علميا ومدرسة في آن واحد فهو أشبه بمدرسة جامعة وهذا الوضع الذي هو عام بيننا مألوف كان على ذاك العهد من الاوضاع الجديدة التي لم يسبق لها نظير. ولقد أصبحت الأسكندرية بفضل متحفها مقصد جميع المشارقة من يونان ومصريين وأسرائليين وسوريين يحمل كل منهم دينه وفلسفته وعمله ويختلط بعضهم ببعض فغدت الأسكندرية إذ ذاك وظلت قرونا كثيرة عاصمة العلم والفلسفة في العالم. برغامة - كانت برغامة في آسيا الوسطى من ممالك الصغرى ولم تعد لها سطوة بيدان عاصمتها برغامة كانت كالأسكندرية مدينة أرباب الصنائع والأدب وانشأ نقاشو برغامة في القرن الثالث قبل الميلاد مدرسة مشهورة. وقد ملكت برغامة كما ملكت الأسكندرية مكتبة كبرى جمع إليها الملك اتال الكتب المخطوطة لقدماء المؤلفين وفي برغامة اخترعت الكتابة على الجلود لاستعاضة عن ورق البردي وكان هذا الورق الجديد ورق برغامة هو الورق الذي حفظت به المخطوطات القديمة الحروب الأخيرة في يونان

العصابات - الفتح الحروب الأهلية - كانت بأيدي بضع أسرات غنية من اليونانيين في جميع المدن اليونانية على التقريب جميع الأعمال والمعامل الصناعية والسفن التجارية وعامة مصادر الربح وموارد العيش اما سائر الاسرات أي السواد الأعظم فلم يكن لهم ارض ولامال وماذا كان الوطني الفقير بعمله ليكسب رزقه؟ لم يكن له إلا أن يؤجر نفسه زراعا او عاملا او ملاحا. بيد أن عبيد أرباب الثروة في مصانعهم ومعاملهم وسفنهم وكانوا يقومون بهذه الأعمال ولايكلفون للانفاق عليهم غير شيء زهيد بالنسبة للنفقات التي كان على السادة أن ينفقوها إذا استخدموا الاحرار في أعمالهم لأنهم كانوا يطعمون عبيدهم طعاما غليظا ولا يؤدون إليهم أجورا. ثم إنه من الصعب على الفقير أن يعمل لحسابه لندرة الدراهم ولم تكن الفائدة من عشرة في المئة وهيهات أن يقرضه إنسان مايعوزه. على أن العادة لم تكن تسمح للوطني أن يتعاطى الصنائع لأن الفلاسفة كانوا يقولون بانها تفسد الجسم وتضعف النفس ولاتترك في وقت صاحبها متسعا للنظر في الشؤون العامة ولذلك قال أرسطو أن المدينة الحسنة النظام لايجب عليها أن تعد الصانع فيها وطنيا. فكانت من الوطنيين في يونان طبقة شريفة ترى كما يرى الإشراف في فرنسا قديما أن لها الحق أن تحكم وتحارب وفي ذلك شرفها اما تعاطيها الأعمال بايديها فيعد تنازلا واتضاعا ومن اجل هذا حالف البؤس معظم الوطنيين بما كانوا عرضة له من منافسة العبيد في أعمال الحياة وما وقر في نفوسهم من شروط الشرف والنباهة فحكم الفقراء المدن ولم تكن أسباب عيشهم متوفرة وخطر لهم أن يسلبوا الأغنياء فألف هؤلاء شركات منهم لمقاومة أولئك وعند ذلك انقسمت كل مملكة يونانية إلى قسمين الأغنياء ويدعون (الأقلية) والفقراء ويدعون (الأكثرية) أو الشعب. وبدأ الأغنياء والفقراء يتباغضون ويتقاتلون فإذا صار الحكم للأغنياء يطردون الأغنياء ويصادرون أموالهم وربما اتخذوا واسطتين بالغتين في التطرف وهما الغاء الديون وتقسيم الاراضي من جديد. فإذا عادت السلطة للأغنياء يطردون الفقراءوكانوا يتعاهدون بينهم في كثير من المدن قائلين (اقسم باني اظل ابدا معاديا للشعب واؤذيه مااستطعت) ولم ثمت من سبيل إلى التوفيق بين الفريقين فلا الأغنياء يستطيعون أن يستسلموا للتخلي عن ثروتهم ولا الفقراء يرضون أن يموتوا جوعا. قال أرسطو (أن الثورات تنشأ من سبب تقسيم

الثروات) ويقول بوليب (ان حرب أهلية تنشب فهي لنقل الثروات من يد إلى أخرى) ومن ثم كان الفريقان يقتتلان أشد قتال على نحو مايحدث ابدا بين الجيرأن فتغلب الفقراء بادىء بدء في ميلت واكرهوا الأغنياء على الهرب من المدينة ثم اسفوا لأنهم لم يذبحوهم فأخذوا أولادهم وجمعوهم في الانأبير تحت ارجل البقر ودخل الأغنياء المدينة فأصبحوا أصحابها الحاكمين فيها وأخذوا هم ايضا أبناء الفقراء وزفتوهم (دهنوهم بالزفت) واحرقوهم احياء. الحكم الجمهوري والحكم الأفرادي - كان لكل من الأغنياء والفقراء شكل خاص في الأحكام يجرونها في المدينة عندما يقوى أحد الفريقين. فكانت حكومة الأغنياء من نوع الحكم الأفرادي (أوليكارشي) تعهد بالأحكام إلى بعض أفرادها اما حكم الفقراء فكان حكمهم ديمقراطيا يكلون حكمهم إلى مجلس الأمة وكل واحد من الفريقين يتفق مع الفريق المماثل في المدن الأخرى وبذلك تألفت عصابتان تقاسمتا بينهما جميع المدن اليونانية: عصابة الأغنياء أو الحكم الأفرادي وعصابة الفقراء أو الحكم الجمهوري. وبدأت هذه الطريقة في الحكم خلال حرب المورة فكانت أثينة تعضد الحزب الديمقراطي واسبارطةتماليء الحكم الأفرادي فاتحدت المدينة التي فيها للفقراء سلطة مع أثينة كما اتحدت المدن التي تسلط عليها الأغنياء مع اسبارطة. ولقد قامت الحروب الأهلية بين الأغنياء والفقراء ثلاثة قرون (من 430إلى 150) ذبح في خلالها كثير من أبناء البلاد وطرد منهم عدد أكثر من ذلك فأخذوا يهيمون في أطراف الأرض على وجوههم لأمورد لهم يعيشون منه ولا يعرفون الاصناعة واحدة وهي الجندية فينخرطون متطوعين في الجيش الاسبارطي والأثيني وفي جيش الخاقان الأعظم والجيش الفارسي بل وفي كل جيش يدفع إليهم أجورهم فكان من أبناء يونان خمسون الفا في خدمة عندما قاتل الأسكندر وهم لايكادون يعدون إلى بلادهم متى خرجوا منها. العصابات - ضعف الشعوب التي حكمت بلاد اليونان واسبارطة وأثينة وثيبة ولم يبق في القرن الثالث من أهل الشدة والبأس غير سكان غرب البلاد فالايتوليون يسكنون الجبال في شمالي خليج كورنت والآسيون النازلون في شاطىء المورة في جنوبي هذا الخليج وقد نظموا أحوالهم عصابات لامدنا فاحتفظت كل مدينة بحكومتها وكان لها كلها مجلس للعصابة

يقرر فيه الحرب والعهود ويفرض الجند الذي تقدمه وينتخب القائد الذي يقضى عليه أن يقود جيش العصابة. فإنقسمت المدن اليونانية بين هاتين العصابتين المتعاديتين. من العادة أن تعضد العصابة الايتولية الحرب الديمقراطية والعصابة الآشية الحزب الاليكارشي. وقد رأس العصابة الآشية ضأبطأن شهيران إحداهما ارتوس في القرن الثالث وهو الذي طاف بلاد اليونان سبعاوعشرين سنة (251 - 224) طاردا الظالمين من جيع المدن أخذا بيد الأغنياء معيدا إليهم أموالهم ومقلدهم حكم للبلاد والقائد الثاني فيلوميان قام في القرن الثاني وقاتل الظالمين في اسبارطة فقتله السينيون. احلاف الرومانيين - لم يكن احد من تينك العصابتين من القوة بحيث يجمع جميع المدن اليونانية وعندئذ ظهر الرومأن فحاربهم من ملوك اليونأن فيليب ملك مكدونية (192) ثم ملك سورية انطيوخس (193 - 169) فنكست اعلامهم كليهما ودمرت رومية جيوشهما واستولت على اساطيلها وقاتلت (برسي) ملك مكدونية الجديد وأسرته وخربت مملكته (167). ولم يحاول اليونان قط أن يجتمعوا للدفاع عن انفسهم وظل فقراؤهم واغنياؤهم يقتتلون وكل حزب يمقت الحزب المعادي له أكثر من بغضه الغريب وتحالف الحزب الديمقراطي مع ملك مكدونية ودعا الحزب الأوليكارشي للرمانيين. وبينما الثيبيون من الديمقراطيين يقاتلون في جيش فيليب كان مواطنهم من الأوليكارشيين يفتحون أبواب المدينة للقائد الروماني وقد حكم بالإعدام في رودس على كل من قاموا او تكلموا بما يخالف رضى رومية وكتب كاليكرات احد اشياع الرومانيين من الآشيين قائمة بالف وطني اتهمهم بانهم كانوا يميلون للبرس فارسلوا إلى رومية وأمسكوا فيها عشرين سنة بدون أن يحاكموا. الفتح - لم يظهر الرومانيون أولا في مظهر الأعداء وقد ذهب القنصل فلامانيوس سنة197 بعد أن غلب ملك مكدونية إلى برزخ كورنت واعلن أمام اليونأن المجتمعين للالعاب البرزخية بان جميع الشعوب اليونانية حرة فطرب الجمهور لقوله واقتربوا منه ليشكروه يريدون أن يسلموا عليه وهو محررهم وأن يروا صورته ويلمسوا يده ويلقوا عليه اكاليل النصر وباقات الزهور فازدحم الناس عليه حتى كاد يختنق. ولم يلبث الرومانيون

أن أصبحوا سادة فحدثتهم انفسهم بان يقودوا البلاد فاطاعهم الأغنياء عن رضى لان رومية كانت لهم واسطة للخلاص من حزب الفقراء ودامت هذه الحال أربعين سنة. ولما شغلت رومية بقرطجنة سنة 147 للحزب الديمقراطي حياته في بلاد اليونان فاعلن الحرب على الرمانيين فذعر لذلك فريق من اليونانيين وتقدم كثيرون إلى الجند الروماني ووشوا إليهم بمواطنهم بل وشوا بانفسهم وبعضهم فروا إلى اقاصي المدن وآخرون القوا بانفسهم في الآبار أو الهوات وصادر زعماء المقاومين أموال الأغنياء والغوا الديون واعطوا سلاحا للعبيد وكان الجهاد شديدا واذ غلب الآشيون للمرة الأولى عادوا فحشدوا جيشاوساروا إلى القتال مستصحبين نساءهم وأولادهم وحبس القائد دبوس نفسه وجميع عياله في بيته والقى فيه النار. وكانت كورنت مركز المقاومة فدخلها الرومانيون وذبحوا الرجال وباعوا النساء والأولاد (146) ونهبت المدينة وحرقت وكانت مملوءة بالنفائس وكنت ترى صور كبار المصورين مطروحة في الغبار والجند الروماني مستلقيا فوقها يلعب بالنرد.

صحف منسية

صحف منسية وصف الهرمين قال القاضي الفاضل: الهرمان قداقد الأرض (؟) وكل شيء يخشى عليه من الدهر الا الهرمأن فإنه يخشى على الدهر منهما (وللمتنبي) اين الذي الهرمان من بنيانه ... من قومه مايومه مايومه ما المصرع تتخلف الأثار عن أصحابها ... حينا ويدكها الفناء فتتبع وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بعيشك هل ابصرت أحسن منظرا ... على مارأت عيناك من هرمي مصر انافا عنانا للسماء وأشرفا ... على نحو إشراف السماك أو النسر وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كانهما نهدان قاما على صدر وقال الفقيه عمارة اليمني خليلي ماتحت السماء بنية ... تماثل في اتقانها هرمي مصر بناء يخاف الدهر منه وكل ما ... على ظاهر الدنيا يخاف الدهر تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري وقال اخر انظر إلى الهرمين اذ برزا ... للعين في علو وفي صعد وكانما الأرض العريضة اذ ... ظمئت لفرط الجزر والمد حسرت عن الثديين بارزة ... تدعوالاله لفرقة الولد فأجابها بالنيل يشبعها ... ريا ويشفيها من الكمد وقال ظافر الحداد تأمل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب كعمار يبتن على رحيل ... بمحبوبين بينهما رقيب ودونهما المقطم وهو يحكي ... ركاب الركب ابلغها الركوب وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف وهو محزون كئيب وقال ابن الساعاتي

ومن العجائب والعجائب جمة ... دقت عن الإكثار والاسهاب هرمان قد هرم الزمان وأدبرت ... أيامه ويزيد حسن شباب لله أي بنية ازلية ... تبغي السماء بأطول الأسباب وكانما وقفت وقوف تبلد ... اسفاعلى الأيام والاحقاب كتمت عن الاسماع فضل جهادها ... وغدت تشير إليه بالالباب وقال سيف الدين بن جبارة لله أي غريبة وعجيبة ... في صنعة الاهرام للالباب اخفت عن الاسماع قصة أهلها ... ونضت عن الابداع كل نقاب فكانما هي كالخيام مقامة ... من غيرما عمد ولا اطناب وقال بعضهم واجاد تبين أن صدر الأرض مصر ... ونهداها من الهرمين شاهد فوعجبا وقد ولدت كثيراً ... على هرم وذاك النهدناهد ولما عدى القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى الاهرام كتب الأمير الجأولي الدوادار وذلك في سنة تسع وعشرين وسبعمائة قال لي البشارة أن امسيت جاركم ... في ارض مصر باني غير مهتضم حفظتموا لي شبأبي في ظلالكم ... مع انكم قد وصلتم بي إلى الهرم

مطبوعات ومحفوظات

مطبوعات ومحفوظات بهجة الصيانة في عجائب مصر والكنانة هذا الكتاب من جملة مخطوطات خزانة الكلية الأمركية في بيروت لمؤلفه احمد محمد القزوبني أوله: الحمد الله الذي خلق الإنسان من صلصال من حماء مسنون وفضا بعضهم على بعض فهم بذلك يتفاوتون. (فجعل منهم الخادم والمخدوم والحاكم والمحكوم وخص بالنبوة والخلافة بعض أولاده وخص بالسلطنة والعبودية منهم على مراده) ذكر فيه المؤلف المواضع التي وقع بها ذكر مصر في القرآن والاحاديث المنقولة فيها ثم ذكر جغرافيتها وبلادها وأول من نزل فيها ومن ملكها ودخلها من الأنبياء والعلماء وذكر عجائبها وأثارها ومن دخلها من الصحابة والتابعين وحكمها من الملوك والسلاطين إلى زمن الملك الأشرف قابتباي في النصف الأخير من القرن التاسع. والكتاب كله موجز العبارة تسهل قراءته كتب سنة 1085 هـ ولايخلو من خرفات وموضوعات كما أنه لايخلو من حقائق حربة النشر. وقد رأينا علماء المشرقيات ينشرون الكتاب من اجل مسألة او بعض مسائل فمن لنا من أرباب مطابعنا من يطبع لنا كتابا من مثل هذا له علاقة كبرى بتاريخ بلادنا وقد نقلنا عنه ماجاء فيه في وصف الهرمين في باب الصحف المنسية. المستصفى يكفي في شرف علم أصول الفقه ماقاله الغزالي مؤلف هذا الكتاب من أن (أشرف العلوم ماازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لايتلقاه الشرع بالقبول ولاهو مبني على محض التقليد الذي لايشهد له العقل بالتأييد والتسيد) وقد ذكر لنا احد كبارالعلماء أن أهم الكتب التي ألفت في هذا الفن على طريقة المتكلمين أربعة كتب كتاب البرهأن لأمام الحرمين والمستفي للغزالي وهما من أهل السنة وكتاب العمد للقاضي عبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة وما بقي فهو متفرع عن الأربعة وهي قواعد هذا اافن واركانه. وقد أصبحت أكثر هذه الأربعة كالمفقود أن لم تكن مفقودة وتدارك احد اركانها وهو الركن الأهم فيما يبدو لنا كتاب المسصتفى لحجة الإسلام الغزالي الذي هو من آخر مؤلفاته واجودها وكلها جيد السيخ فرج

الله زكي الكردي وطبع معه كتابا آخر يسمى فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت للشيخ محب الله بن عبد الشكور. وكان بودنا لو طبع مع هذا الكتاب كتابا يناسبه مثل المنخول للأمام المشار إليه او لو طبعه مجردا على عادة أرباب المطابع الراقية. وقد طبع في المطبعة الأميرية طبعا جيدا مما يوجب الشكر للطابع وحبذا لو اتبعه بامثاله من أمهات الكتب النافعة في الفنون المختلفة خصوصا مايخشى فقده منها والكتاب في مجلدين وقعا في نحو ثمانمائة صفحة من قطع الربع وثمنه45 قرشا أميريا من الورق الجيد و35 قرشا من الورق العادي. الفوائد السمية في شرح النظم السمى بالفرائد السنية في فروع الفقه على مذهب الأمام أبي حنيفة الشيخ محمد الكواكبي المتوفي سنة 1096ويليه منظومة الفرائض للشيخ عبد الله الحنبلي وبهامشة إرشاد الطالب إلى منظومة الكواكب في علم الأصول للكواكبي ايضا طبع الجزء الأول منه بالمطبعة الأميرية الشيخ فرج الله زكي وهذا الجزء في 376 صفحة ويطلب من طابعه ب35 قرشا من جيد الورق من عاديه وسينجز الجزء الثاني قريبا. تقريب المرام تهذيب الكلام كتاب مشهور لسعد الدين التفتازاني وهو من اخصر مألف في هذا الفن واجمعه ولما كان يحتاج إلى شرح يبن مقاصده ويشيد قواعده تصدى لذلك الشيخ عبد القادر السنندجي من علماء الاكراد وطبعه الشيخ فرج الله زكي ويطلب منه وثمنه 12 قرشا. رسائل وكتب منوعة كتاب العقد الثمين في بيان مسائل الدين تأليف الشيخ علي السويدي من أهل القرن الثالث عشر للهجرة طبع طبعا متقنا بمطبعة مصطفى أفندي وعيسى أفندي وبكري أفندي البأبي الحلبي وهو في 223 صفحة ويباع في مكتبهم بستة قروش ونصف مجلد ا. ويطلب منها ايضا كتاب كشف الظلمة لحسين أفندي قلي الداغستاني وهو بثلاثة قروش. والرحلة الشنقيطية لفقيد الرواية واللغة الشيخ محمد محمود الشنقيطي تباع بمكتبتهم بثلاثة قروش. واهدينا الكتاب المفيد الكافي للتعليم الجغرافي تأليف محمود أفندي عابدين في مائة صفحة صغيرة.

ورسالة في التنويم المغناطيسي لمحمد أفندي مختار البأجوري وثمنها قرشان. ومنظومة في الإنسان والسلم والحرب لناظمها الشيخ سليمان ظاهر. ونبذة من شعر الشيخ عبد السلام الشطي نشرها حفيده جميل أفندي. والتقرير الرابع عن أعمال مشيخة علماء الأسكندرية سنة 1324 وفيه أن عدد الطلاب إلى نهاية العام الماضي 576 والذين استمروا على الدراسة منهم 324 وتقدم للمشيخة هذا العام 485 استمر منهم على الطلب 293 وفي التقرير فوائد كثيرة تدل على سلوك هذا المعهد العلمي سبيل النجاح.

سير العلم

سير العلم العلم في مصر مما يسجل بالحمد ويدعو إلى توسيع الأمال في مستقبل مصران نظارة معارفها وفرت العناية هذه السنة بالتعليم باللغة العربية في المدارس الأميرية وارسلت ثمانية عشر تلميذا من نبهاء المصريين إلى بعض مدارس إنكلترا يتعلمون فيها كما كأنت العادة جارية منذ زمن محمد علي إلى عهد قريب بإرسال طائفة من التلاميذ الأذكياء إلى مدارس الغرب ليعودوا منها فينفعوا بلادهم بفضل علمهم وقد انشأت المعارف بقوة أرادة ناظرها تتوسع بالتعليم المجاني وانشأت مدرسة القضاء الشرعي وشرع في التدريس فيها منذ أول السنة المدرسية والرجاء أن يأتي من هذه المدرسة من المنافع مثل ماأتى من مدرسة دار العلوم ومدرسة الألسن. ومما يدعو إلى الرجاء في اعتماد الأهلين على أنفسهم لتعليم أولادهم أنه زادت العناية بإنشاء الكتاتيب الأهلية في ارجاء القطر ولاسيما في مديرية الدقهلية حيث بلغ عددها ازهاء ثلثمائة كتاب صرف على بنائها نحو مائة وخمسين الف جنيه ووقف عليها من الاطيان والعقارت مايبلغ إيراده السنوي ثلاثة آلاف جنيه والقطر في أشد الحاجة إلى الاستكثار من امثال هذه الكتاتيب المنظمة المتقنة ولو كأنت البلاد مستعدة لإنشاء مدرسة جامعة لرأينا الأمة تقوم قومة رجل واحد للبذل في السبيل ويقال أن عدم مد الايدي بالاعانة لإنشاء مدرسة جامعة ناتج من الضائقة الماليةالتي اهتزت لها اعصاب القطر هذه السنة ولم تتجاوز الاعانة التي جمعت حتى الأن السبعة والعشرين الف جنيه ماعدا المئة فدان التي وقفها عليها احد أغنياء الغربية. ومما ييذكر في باب ارتقاء مصر الاجتماعي قيام عدة أحزاب سياسية فيها من أهلها. وفي ذلك دليل بأن القوم بدأوا يعرفون الاجتماع وأن قوى الفرد ضائعة إذا لم تكن مجموعة كما أنشأ المتخرجون من دار العلوم ناديا في القاهرة واختاروا أناسا ومن غيرهم من الافاضل ليتولوا من الأعمال مايرقي اللغة العربية فيكون مجمعهم هذا نسخة مصغرة من المجامع العلمية في أوروبا فالرجاء أن تكون الفائدة من اجتماعهم لمجموع الأمة أكثر من نادي المدارس العليا الذي أسس في القاهرة منذ ثلاث سنين ولم بأت بفائدة عامة حتى الان. ومن هذا القبيل مجيء اسماعيل بك غصبرنسكي صاحب جريدة ترجمأن التركية في باغجة

سراي من بلاد القريم ومن رجال النهضة التترية إلى القاهرة وخطبته في نزل كنتننتال أمام مئات من العلماء والكتاب والاعيان يدعو مسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى عقدمؤتمر إسلامي عام ينظر فيما طرأ على المسلمين من الأمراض الاجتماعية فجعلهم في مؤخرة الأمم على استعداد فيهم ومالهم من التاريخ المجيد. ومما يعد خسارة على الآداب العربية هذه السنة وفاة حسن باشا عاصم والمطران يوسف الدبس ورشيد أفندي الشرتوني والسيد محمد ابن الخوجة والشيخ طه محمود خليل أفندي الخوري ونجيب أفندي حبيقة وكانوا اخلف الله علينا من يقوم مقامهم أعضاء نافعة في جسم المجتمع خدموه جهد طاقتهم بعقولهم. أما البلاد العربية الأخرى فلم يحدث فيها هذه السنة ماهو جدير بالدوين هنا. العلم في ألمانيا ساعد على ارتقاء ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر أن التعليم العام فيها انتشر انتشارا لايكاد يتصوره العقل فبعد أن كان فيها سنة 1882 - 20440 مدرسة ابتدائية تحتوي على 1427045تلميذا أصبح فيها سنة 1901في المدن 4413مدرسة فيها 35733فرقةوفي القرى32332مدرسة فيها 68349 فرقة وفي مجموعها كلهازهاء5680000تلميذا وهكذا الحال في التعليم الثانوي فقد كان فيها سنة1835 - 136مدرسة عالية فغدا فيها سنة 1905 - 363 مدرسة يضاف إليها 335 مدرسة يسمونها المدارس الحقيقية المجردة وزاد عدد طلاب الكليات فكان فيها سنة1830 - 15870طالبا فصار عددهم سنة 1905 - 37677وبعد أن كانت نظارة المعارف والأديأن في بروسيا تنفق في سنة 1850عشرة ملايين مارك أصبحت تنفق سنة 1905 - 185 مليون مارك ماعدا مانشيء فيها من المدارس العالية الفنية والزراعية والتجارية ومدارس الكبار وكليات الشعب وقاعات الخطب والمحاورات المجانية والمكاتب المجانية والمتاحف وغيرها فإن ألمانيا أكثر البلاد اصداراللكتب وتجارتها عندهم رائجة إلى التي لابعدها فلم يكن في أوائل القرن الماضي عدد المصنفات الجديدة التي تصدر في ألمانيا سوى 3900 - 24792وسنة1904 - 28886 على حين لم يصدر سوى 12139 مصنفا وإذا فرضنا أنه يطبع من كل كتاب في ألمانيا الف نسخة فيصيب كل اثنين من سكانها مجلد واحد هذا على أقل تعديل وكان في ألمانيا سنة 1905 - 7152 محلا لتصريف الكتب اصدرت إلى البلاد الخارجية كتبا

بمائتين وتسعين مليون مارك والكتب والصحف والمجلات في ألمانيا كثيرة جدا ففي أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر كان في ألمانيا 845 جريدة فارتفعت سنة 1869إلى 2127 جريدة وفي سنة 1891 صارت 7082 جريدة يزيد ماتطبعه شهرا عن شهر وبعد أن كان الاشخاص الذين يعيشون من التمثيل والموسيقى والمعارض الصناعية سنة 1882 - 46508 اشخاص أصبح سنة 1899 - 65565 استحالة الطماطم بلغ من تفنن بوربانك مؤلف كتاب الفواكه أن اخرج من الطماطم (البندورة) عنبا واجاصا وكمثرى وتفاحا ودراقا وغيرها من الفواكه مما إذا رأيته ظننته أصليا. وكان من اجود اختراعته في ذلك الطماطم بالعنب والطماطم بالكمثرى ومنها الأصفروالأحمر ويستخدم الأصفر في المربيات لجودة رائحته وكأنت الطماطم بهذه الأنواع من الفاكهة تخرج كل نبتة منه من مئة إلى مائتين وخمسين وتعطي أرباحا عظيمة وهي تنبت من شهر يوليو إلى اكتوبر بعد أن تزرع من ابريل إلى مايو. الاستصباح الصناعي نشر احد مهندسي الأمريكان بحثا في هذا المعنى قال فيه أن الاستصباح بالاضواء الصناعية المتعارفة يجب أن يكون إلى الانوار الطبيعية اقرب وأن يجمع بين الفائدة والجمال وأن الطريقة المتبعة الأن في تنوير المساكن والمحال العامة في الليل سواء كان بالاضواء الكهربائية أو الغازية أو الزيتية أو غيرها ليست من الاضواء الطبيعية في شئ وينبغي أن يستعمل من مواد الإنارة مايقربها من الطبيعي لئلا تتضرر العيون ورأى أن الاجدر بالنور الصناعي أن يكون مستورا او معتدلا وبذلك يجب التخلي عن المصابيح الشائعة بالاستعمال الآن وإن اضواء المسكن يجب أن تكون متناسبة مع أثاثه وفرشه كما تكون متوأفقة مع عدد الاشخاص الساكنين فيه وهو يحاول ابدال الطريقة المستعملة في الإنارة بغيرها. طول العمر نصح أحد الأطباء لمن أراد أن يطول عمره مئة سنة أن يقوي حواس جسمه وانسجته برياضات يومية في الهواء الطلق وذلك باستعمال الالعاب الجسدية أو التنفسية وأن يعتدل

في اكله وشربه ولذائذ الطبيعة وأن يهوي المساكن ويقيم ماامكن في العراء وأن يقاوم الأمراض والاستعداد لما ورثه من آبائه وأن يباكر النوم ويباكر اليقظة ولاينام أقل من ست ساعات ولاأكثر من ثماني وأن يعزز القوى العقلية بعمل منظم وأن يحتفظ بأسباب الصلاح والسرور وسكون الروح والأمل في الحياة وأن ينبه في نفسه الشعور بالواجب كل وقت من أوقات الحياة ويقوي العزيمة في مجاهدة المصائب وينشطها على فعل الخير واتقاء الصبر. قال أحد الظرفاء وعندي شرط عاشر لطول الحياء وهو أن لايشتغل المرء بالسياسة فإن الاشتغال بها يقصر الاعمار. دواء الكلب اخترع احد أطباء نيويورك دواء جديد للكلب. وقد زاد عدد المصأبين بهذا الداء الذي ينسب انتشاره لرداءة الأسباب الصحية التي تعيش فيها الكلاب في العادة فيحبس بعضها في الدور ويغذى باخبث المآكل. ولاحظ بعضهم أن الكلاب تعيش ستين ايسلاند وهي جزيرة واقعة بين لون ايسلاند وجون راريتأن في المحيط الاتلانتيكي اهنأ عيشة ويعنى بأمرها من وراء الغابة ومع هذا فهي تصاب بالكلب. ورد بعضهم على هذه الحجة قائلا أن الكلب ينتقل إلى تلك الكلاب المرفهة بالعدوى. ويقول الأميركيون أن الدواء الذي اخترعه باستور الفرتسوي لمعالجة الكلب يطول به الشفاء ولايهتدى لمعالجة المصاب لأول أصابته به أما الطبيب النيويوركي فإنه يفحص رأس الحيوأن لأقل شبهة تقع في النفس من ناحيته فحصا ميكوسكوبيا ليعرف بذلك فيما إذا كان فيه بعض الأجسام النيجرية نسبة للبكتريا ومتى وجدت هذه الأجسام في الكلب فهو مصاب بالكلب لامحالة وبذلك لايعتمد إلى استعمال الطريقة المتبعة الأن في كشف حال الكلب يحقن عين ارنب والانتظار خمسة عشر يوما لتحقيق إلأصابة بل أن المصاب يعرف في اليوم الذي يشتبه فيه. دواء للصمم منذ خمسة عشر سنة اكتشف دواء يعين بعض الشيء على الشفاء من الصمم سموه التيوزينامين ولم يثبت نفعه الافي هذه السنة بفضل محلول مائي منه اخترع حديثا ويؤكدون أن هذا الدواء يسكن بعض التسكين ولايفيد كل الفائدة. أعظم ضوء

هو الذي ينبعث من الكرة المعلقة في أعلى برج من المحطة الجديدة في مدينة لاكاوانا في ولاية نيوجرسي من أعمال الولايات المتحدة فقد جعل داخل هذه الكرة التي يبلغ قطرها مترين 49 مصباحا ذا اقواس يكون منها نور يعادل مليون ونصف مليون من الشموع وينير الضواحي والاقاصي. مكتبة العميان اغتنت مكتبة العميأن في نيويورك المؤسسة من اعانات المحسنين بقائمة جديدة من كتبهم مؤلفة من ثلاثة آلاف كتاب جعلت في جرار خاصة يكفي الأعمى أن يمر يده على احدها حتى يفهم موضوعه وهذه الكتب تساعد الاكمة كثيراً على التعلم وعدد العميأن في الولايات المتحدة نحو سبعين الفا. نبوغ الكاتبات قالت إحدى المجلات الفرنسوية من الصعوبة أبداً أن يبدأ المرء في عمل ويبرز فيه والبداءة بالأدب من جملة الأمور المتعذرة وقد كان شأن القصصية هانري كريفيل شأن غيرها من الكاتبات والكاتبين في ذلك فطافت لأول عهدها إدارات تحرير الجرائد والمجلات فلم تقبل لها شيئا من رواياتها فاضطرت أن تعيش في مسكنة وتسكن مسكنا حقيرا وقد قبلت (مجلة العالمين) وهي من أهم مجلات فرنسا ذات يوم من هذه الكاتبة أن تنشر لها إحدى قصصها بعد أن فحصتها وماهي الاعشية او ضحاها حتى اختلف إلى المؤلفة الطابعون في باريز يسألونها أن تخصهم بشيء من مؤلفاتها وإذ كانت هي على ثقة من نفسها ويقين من جودة منثورها خطر لها أن تشترط على أولئك الطابعين بان تتقاضى منهم ضعف ما اتفقت معهم عليه عند ما يتجاوز المطبوع من قصصها الطبعة العاشرة وكأن ذلك كما خطر لها إذ أنها لم تمت حتى رأت معظم ما كتبت وقد طبع أربعين مرة فاتاها بثروة عاشت فيها في خفض وسعة. الراحة الأسبوعية نشرت جريدة الاقتصاديين مقالة في فضل الراحة يوماً في الأسبوع وشيء من تاريخها وأوردت صورة المحضر الذي وقع عليه في لندن سنة 1851 بقلم 640 طبيباً وما كتبته

الفلاسفة في هذا الشأن مثل روسو علماء الاجتماع مثل ما كولي ولنكلن والاقتصاديون مثل برودون ورجال السياسة مثل بالمرستون وروبرت بيل وكلهم يثبتون ضرورة راحة يوم في الأسبوع ومنافعها الطبيعية والأخلاقية وحسناتها الاقتصادية والاجتماعية. نساء أميركيا بحثت إحدى المجلات الألمانية في حالة النساء في الولايات المتحدة فقالت أن عددهن فيها بالنسبة لعدد الرجال يقل نحو مليون نسمة أما التعليم فإن عدد المتعلمات منهن هو ضعفا عدد الرجال ولذلك يقوى الميل كل يوم في تلك البلاد في تقليل تربية البنات مع الصبيان وإنشاء مدارس للبنات خاصة. حب الوطن أسف أحد المفكرين المجلات الألمانية من أن محبة الوطن لا تلقن الناس إلا بتجميد أبطال الحروب فيعلم التلميذ الإعجاب بالغالب في ساحة الوغى وما المجد الحقيقي إلا لتلك الأجيال من الفلاحين والعملة ممن عملوا بسلام على إغناء بلادهم وراحة أفرادها ولاسيما أولئك العلماء ممن تجردت نفوسهم عن الأغراض فنفعوا بما أتوا من أعمالهم الجليلة أبناء البشر عامة ولا يحتفظ بحب الوطن الحقيقي إلا بإلقاء النظر على أعمال السواد الأعظم من الأمة. وقد قال الاشتراكي فولمار منذ أيام: أن محبة الإنسانية لا تمنعا مطلقاً من أن تكون من أحسن الألمان عراقة في الوطنية. استعارة الكتب نشرت مجلة التعليم الدولية مقالة ف نظام إعارة الكتب من مكاتب باريز وجميع أنحاء فرنسا وكلياتها وبلدتها سواء كان لأبناء البلاد أو لمن يطلبها من العلماء في الخارج لقاء رهن وشروط تشترط نظارة معارف فرنسا على المستعير وعلى دولته المتوسطة في الأمر فقالت أن الحكومة هناك بذلت ومازالت تبذل منذ ثلاثين سنة كل ما يساعد المؤلفين والعالمين على الانتفاع بالكتب أيا كانت جنسيتهم وبلادهم والقيود التي وضعتها سهلة ولم تستثن إلا بعض المخطوطات التي كتبت على الورق قبل اختراع الطباعة وقال أن في مكتبة الأمة بباريز من المخطوطات 108500 وذلك عدا ما في الولايات المتحدة وخزائن الكليات والبلديات وأن الفرنسيس مقصرون في الاستعارة من مكاتب الأمم الأخرى مع أن

مكاتب الأمم المتمدنة مفتحة أبوابها لهم ماخلا مكاتب إنكلترا واسبانيا فإن هاتين الحكومتين لم تريا من العقل أن تخرجا الكتب الثمينة وتعرضها لخطر الضياع والحوادث باعارتها. أما الأمم الغربية فتستفير من فرنسا أكثر مما يستعير علماء الفرنسيس من غيرهم وقد كان عدد الكتب التي أعارتها مكاتب باريز والولايات سنة 1906 - 488 وما اعارته فرنسا للخارج 121 اما عدد ما استعارته من الخارج فهو 11 كتاباً. الشعر والثورة ألف احد علماء الفرنسيس مجلداً ضخماً أثبت فيه بالبرهأن التاريخي تأثير الثورة الفرنسوية الأولى في عقول بعض الشعراء الإنكليز المعاصرين لها حتى صارت روحها تظهر على أسلات أقلامهم وتتجلى في إبداعهم ونظامهم ولاسيما ورتسورت وسوتني وكولريج وقال أن الاضطرابات والشعور الذي نالهم من ذاك الحادث قد ساعدهم على تجليد حياة الشعر الإنكليزي المعروف بالرومانتك أي الجديد الخالي من التقليد. وبين المؤلف تأثير الثورة الفلسفي أي الأفكار الأدبية والاجتماعية التي نتجت منها ورددها أولئك الشعراء وتغنوا بها بين قومهم. محصول السكر كان محصول السكر في العالم سنة 1870 - 2. 600. طن فبلغ سنة 1905 10. 086. طن. مسكرات العالم في إحصاء أخير إنه كان مجموع الوارد من المشروبات على أوروبا سنة 1906 633566 هيكتولتر منها 4764 على البلاد العثمانية في أوروبا و 979 على بلادها في آسيا والهيكتولتر مئة ليتر. مدارس الأجانب بلغ عدد التلاميذ الذين يدرسون اللغة الفرنسوية في مدارس فرنسوية 90 ألفا في البلاد العثمانية و16753 في مصر. وإيطاليا وألمانيا تحأولان أن تتقدما على فرنسا في هذا الباب ولاسيما بعد فصل فرنسا الدين عن السياسة وإعلانها الحرب على الدين وأهله فقد

بلغ ما خصصته إيطاليا سنة 1904 لإنشاء مدارس لها في اسكوب واشقودرة والاستانه وسلانيك وازمير 1112000 لير واللير معاملة طليانية قدرها فرنك وبلغ ما خصصته ألمانيا 650 ألف مارك للانفاق على مدارسها في فلسطين وغيرها والمارك فرنك وربع. الخطوط الحديدية بلغ ما مد إلى الآن من السكك الحديدية في السلطنة العثمانية 6100 كيلو متر وبلغ طول السكك الحديدية في الديار المصرية5252 كيلو متراً. شاعر مضحك عثروا في إحدى القرى التي غابت عن الأنظار في ضفة النيل على أربع قطع للشاعر اليوناني الهزلي مياندر المتوفي قبل 2200 سنة وقد فرح أهل الأدب بهذا الاكتشاف لأنهم لم يروا مما خلفه مياندر حتى الأن الا محاورات طفيفة والمأثور عنه أنه ألف ثمانمائة رواية ويقول مؤرخو الأدب إن مياندر جاء العالم بقصائده المضحكة قبل ترأس الشاعر الهزلي وقبل شعراء اللاتين. التلغراف اللاسكي من أهم ما وفق إليه العلم في الأيام الأخيرة ربط أوروبا بأميركا بالتلغراف اللاسكي الذي اخترعه ماركوني الإيطالي وبه ينقل الكلام بأسرع مما كان ينقل بواسطة الأسلاك البحرية وبه يمكن إرسال رسالتين في آن واحد ومعنى مختلف وهذا الاختراع سيغير أحوال المخابرات بعض التغيير.

بسم الله الرحمن الرحيم تعالى جدك اللهم خلقت الجماد والنبات والحيوان. وكرمت ابن آدم بنور العقل وفضل البيان، فاستخدم عناصر الأرض وجواهر السماء، وأدرك سر الفلك وسير الفلك ودقائق الماء والهواء، طوى البحار، بالبخار، والبيداء، بالكهرباء، وسوى الأوطاد، والأنجاد، فأصبحت بعد الجهاد، بعض الوهاد، وأحال اليابسة بحراً، والبحر براً، وصير من المجاهل الخالية، معالم نافعة، ومن القفار الخاوية، رياضاً ممرعة، فجمع بعلمه إلى المخلوق مصنوعاً، وغدا الوجود من مادتي الطبيعة والعقول مجموعاً. سبحانك أبدعت نظام الكون والفساد، وجعلت لكل شيء سبباً من المعاش والمعاد، فلم تفقر فقيراً إلا لحكمة، ولم تغن غنياً إلا بتيسيرك له أسباب النعمة، ولا أهلكت من الأمم إلا الظالمة لنفسها، ولا رفعت منها إلا الناظرة في يومها وأمسها، فمن قانونك أن يسعى كل حي لبقائه بالفطرة، وأن لا يكون النشوء لساعته بالطفرة، ومن استهان بالجزئيات لا يحرز الكليات، ومن لم يعمل الفكر السليم لا يعرف حقائق الكائنات، ناموس مطرد لا تغيره الأزمان، ولا يبليه الجديدان، فتقدست أسماؤك ما أعظم سلطانك في السماء والأرض، وما أبهر آثار هديك في الرفع والخفض. وبعد هذا المقتبس على رأس عامه الثالث يدعوا إلى ما أنشيء للأخذ به من مذاهب التعليم والتهذيب، والعلم والعمل مقدمة الإصلاح وبغيرهما كل سعي ضائع والسلم لا يصعد إليه من رأسه، والبناء لا يقوم على غير أسسه فلسان حاله ومقاله ربو البنين، تصلح لكم الحكام والحكومات وقوا الوجدانات، وحسنوا الملكات، تصح الآداب وتسلم الديانات. يتوفر على إحياء القديم القويم، واحتذاء مثال الجديد المفيد، ويقتبس من كل نافع كيف كان قائله، ويمثل بعض ما جدَّ للأنظار وإن تشعبت مسائله، يورد الحاضر ويذكر بالغابر زيادة في الاعتبار والاستبصار، وينشر ما انطوى مما فيه حياة اللغة وجدتها، واللغة مبدأ سيادة الأمة ومفتاح سعادتها، يخاطب الأفراد قبل المجموع، ويقدم تعليم الصغار على الكبار، يقين أن الضعيف لا يتغلب على القوي بغير سلاح، ولا يكتب النصر لمن لا يستحقه، والأجسام تتكون من الذرات، كما تقوم المجتمعات بقوى أفرادها، وبصرهم مما ينمي الثروة ويحفظ البيضة ويجود على الأخلاق. ولقد أرادنا بعض المفكرين على أن نتمحض في هذه المجلة لفرع خاص تعرف به،

وموضع معين لا تتعداه، ليكون ذلك أجمع للفائدة. وأنفع في الأثر. وعذرنا إليهم بأن الإخصاء في علم واحد والبحث فيه من عامة أطرافه يستدعي مواد كثيرة وقراء يتلون ما يكتب بالقبول ليرجى معها حياة العمل طويلاً، ولو اقتصرنا على البحث في آداب اللغة مثلاً كما أشار بذلك بعض النبهاء لاقتضى لنا مادة واسعة يكاد يكون أكثرها مفقوداً وأن نستعين بخمسة على الأقل من المؤازرين المتمكنين في هذا الفن. ثم أين مجامعنا العلمية وخطب العلماء ومحاوراتهم في هذا الموضوع ليتسنى لنا نقلها أو تحصيلها كل مدة فإنا نرى مجلات الأخصائيين في الغرب ينشئها على صغر حجمها عشرات من المشتغلين المنقطعين وهناك الجمعيات والمجامع تعد منها ولا تعدها. هذا ما نقوله لمن نصحوا لنا بالتمحض لفرع من الفروع التي تخوض فيها المجلة الآن في جملة ما تخوض فيه بقدر ما تسمح به الحال. وأنا على يقين من أنه متى كثر سواد المنورين على الأساليب الصحيحة تصدر لهم بطبيعة الحال عشرات من أمثال تلك المجلات المنشودة باللسان العربي وإذ ذاك يعرف الناس أن للمطبوعات ثمناً لابد من قضائه في أوقاته ولا يقع لأربابها مثل ما وقع لنا في السن الغابرة من حذف أربعمائة اسم من سجل المشتركين وكان نصفهم طلبوا الاشتراك برسائل منهم فلما ذكروا بوفاء ما عليهم سكتوا اللهم إلا بضعة عشر واحداً منهم. على أن طلبات الاشتراك ما زالت ترد علينا من بلاد ما كنا نظن أهلها يقرأون العربية ويرغبون في المجلات مصحوبة بقيمتها على الطريقة الغربية يشترك بعضهم عن رغبة من تلقاء أنفسهم وبعضهم بإرشاد بعض الغيورين وعددهم لا يزال في نمو. ولا نكتم القراء أن مجموع ما ورد على الإدارة في الحولين الماضيين لم يوف حتى الآن ثمن ما صرف في الورق والطبع والبريد فقط. كل هذا ونحن نعد ما لقيناه ضرباً من ضروب الرقي في الأفكار ونرى المقتبس ينجح نجاحاً كبيراً يوم يقوم بنفقاته. إذ من العبث الاعتماد على العلميات الآن وما عداها مذهباً من مذاهب المعاش الطبيعي ما دام الشرق العربي متأخراً بمعارفه هذا التأخر المحسوس لاسيما وأن المتصدين للتأليف في الغرب قاسوا قبلنا من أممهم ما لم نقاس نحن بعضها وما زال حال من ينقطعون عندهم للأبحاث التي يقتضي فهمها شيئاً من العلم بالنسبة لمن

يشتغلون بالموضوعات الساذجة الهزلية دون ما نوهم بكثير فلا فضل لنا إذاً فيما نفادي به. وهنا نتقدم إلى من يتناولون المجلة في هذا القطر وغيره من الأقطار أن يعودوا أنفسيهم إرسال اشتراكاتهم في أول السنة بدون مطالبة على نحو ما تجري عليه الأمم المتمدنة خصوصاً وكلهم الآن من أهل الرغبة المختارين. وقد زدنا من حجم المقتبس بحيث يقع مجلده آخر السنة في ثمانمائة صفحة جيدة الطبع والورق وكان في السنتين السالفتين ستمائة واثنتين وسبعين صفحة واستكثرنا من المواد التي نقتبس منها أو نعرب عنها من مجلات وموسوعات أفرنجية وأسفار ممتعة عربية مع إبقاء قيمة الاشتراك بحالها. والله نسأل أن يحقق آمالنا لنقوم ببعض الواجب وهو يهدي السبيل.

الأدب الصغير

الأدب الصغير لابن المقفع عني بنشره الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري توطئة الناشر من أعظم ما تدعو الحاجة إليه علم تهذيب الأخلاق لتوقف نجاح الأمم عليه وهو فن ذو أفنان تحتاج إليه الأفراد على اختلاف طبقاتها. ومع قلة ما انتشر من كتبه ففي جلها من عدم التنقيح وانسجام العبارات ما يصد كثيراً من الطالبين عن الإقبال عليها. ومن ثم كثر بحثنا عن كتب تفي بهذا المطلب مع رشاقة مبانيها لتكون الفائدة مزدوجة وهو أقصى آمال الذين يسعون في إحياء اللغة العربية وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهدها الأول. ولما ذهب إلى مدينة بعلبك سنة 1233 رأيت عند بعض الأفاضل الواردين عليها مجموعاً استعاره من بعض أعيانها فرأيت فيه الضالة المنشودة وهي رسالة الأدب الصغير لعبد الله بن المقفع الكاتب الذي يضرب ببلاغته المثل فكتبتها بخطي في نحو يوم وأرجو أن ييسر لنشرها من عرف بحسن الطبع ليعم بها النفع والله الموفق. وهذا بيان الرسائل التي في المجموع المذكور: 1 ـ كتاب عجائب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في نحو ثلاث كراسات يشتمل على ما نقل عنه من بدائع الأحكام. 2 ـ ذكر الخلائف وعنوان المعارف تأليف الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أوله الحمد لله الواحد العدل وصلى الله على النبي وخيرة الأهل وقد أسعفنك بالمجموع الذي التمسته في نسب النبي عليه السلام وبنيه وبناته وأعمامه وعماته وجمل من غزواته وسائر ما يتصل بذلك وهو إثنتا عشرة ورقة وفي آخره. وكتب في رجب سنة عشرين وأربعمائة. 3 ـ رسالة إلى أحمد بن أبي داؤد في فضل العلم وهي 3 أوراق وفي آخرها: وكتب في شهر ربيع الأول سنة عشرين وأربعمائة. 4 ـ ويتلوها كتاب الأدب الصغير الذي نقلناه وهو في الصفحة اليسرى من آخر ورقة من الرسالة السابقة بخط كاتب واحد فتكون كتابتها في التاريخ المذكور ولم يذكر في آخرها تاريخ.

5 ـ ويتلوه كتاب ذخائر الحكمة تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي وهو في نحو ثلاث وعشرين ورقة. 6 ـ مختصر من كتاب جاويدان خرد في حكم الفرس والهند والروم والعرب تأليف أحمد بن مسكويه وهو أكثر من كراس. بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن لكل مخلوق حاجة ولكل حاجة غاية ولكل غاية سبيلاً والله وقت للأمور أقدارها وهيأ إلى الغايات سبلها وسبب الحاجات ببلاغها فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد. والسبيل إلى دركها العقل الصحيح. ومارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر. وتنفيذ البصر بالعزم. وللعقول سجيات وغرائز تقبل الأدب وبالأدب تنمي العقول وتزكو فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر على أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها ونضرتها وريعها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها في القلب لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدب الذي هو نماؤها وحياتها ولقاحها. وجلُّ الأدب بالمنطق وكل المنطق بالتعلم ليس حرف من حروف معجمه ولا اسم من أنواع أسمائه غلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم. فإذ خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم وإن أحسن وأبلغ ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل ووضع كل فص في موضعه وجمع إلى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسناً فسمي بذلك صائغاً رفيقاً. وكصاغة الذهب والفضة صنعوا فيها ما يعجب الناس من الحلي والآنية. وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً فصار ذلك شفاء وطعاماً وشراباً منسوباً إليها مذكوراً به أمرها وصنعتها فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع فإنه إنما اجتباه كما وصفناه. ومن أخذ كلاماً حسناً عن غيره فتكلم به في موضعه على وجهه فلا يرين عليه في ذلك

ضؤولة فإنه في أعين على حفظ قول المصيبين وهدي للاقتداء بالصالحين ووفق للأخذ عن الحكماء فلا عليه أن لا يزداد فقد بلغ الغاية وليس بناقصه في رأيه ولا بغائضه من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه وإنما حياة العقل الذي يتم به ويستحكم خصال ست: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه قولاً وعملاً. أما المحبة فإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته فلا يكون شيء أمرأ ولا أحلى عنده منه. وأما الطلب فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه ولا يدرك لهم بغيهم نفاستها في أنفسهم دون الجد والعمل. وأما التثبت والتخير فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه فكم من طالب رشد وجده وألغي معاً فاصطفى منهما ألذ منه هرب وألغى الذي سعى فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد وهو لا يشك بالظفر فما أحقه بشدة التبيين وحسن الابتغاء. وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته. وأما الحفظ والتعهد فهو تمام الدرك لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجة شديدة فإننا لم نوضع في الدنيا موضع غناء وخقض ولكن موضع فاقة وكد ولسنا إلى ما يمسك بأرماقنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول وليس غذاء الطعام بأسرع من نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضر والعيلة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا. وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق إن شاء الله. الواصفون أكثر من العارفين. والعارفون أكثر من الفاعلين، فلينظر امرؤ أين يضع نفسه فإنه لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيباً من اللب يعيش به لا يحب أن له به من الدنيا ثمناً. وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي اللباب ولا أن يوصف بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلاً فليأخذ له عتاده وليعد له طول

أيامه وليؤثره على أهوائه فإنه قد رام أمراًُ جسيماً لا يصلح على الغفلة ولا يدرك بالمعجزة ولا يصير عليه الأثرة وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم. وليعلم أن على العامل أموراً إذا ضيعها حكم عليه بمقارنة الجهال. فعلى العامل أن يعلم أن الناس مشتركون مستوون في الحب لما يوافق والبغض لما يؤذي وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطإ وعندهن تفرقت العلماء والجهال والحزمة والعجزة. الباب الأول في ذلك أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره فيعلمك أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره أطوله وأدومه وأبقاه فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا وفضل سرور المروءة على لذة الهوى وفضل الرأي الجامع العام الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمع به قليلاً ثم يضمحل وفضل الأكلات على الأكلة والساعات على الساعة. والباب الثاني هو أن ينظر فيما يؤثر من ذلك فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف ولا رجاءه في غير المدرك فيترك اللذات طلباً لآجلها ويحتمل قريب الأذى توقياً لبعيده فإذا صار إلى العاقبة بدا له أن فراره كان تورطاً وأن طلبه كان تنكباً. والباب الثالث من ذلك هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانه محروم. وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها والإبانة لها والتنكيل بها. أما المحاسبة فيحاسبها بما لها فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهب منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول وإذا حال والشهر إذا انقضى واليوم إذا ولى فينظر فيما أفنى من ذلك وما كسب لنفسه فيه وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا فيجمع ذلك في كتاب فيه

إحصاء وجد وتذكير وتبكيت للنفسي وتذليل لها حتى تعترف وتذعن. وأما الخصومة فإن من طباع النفس الأمارة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى والأماني فيما بقي فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها. وأما القضاء فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة فبأنها فاضحة مردية موبقة وللحسنة بأنها زائنة منجية مربحة. وأما الإبانة والتنكيل فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات ويرجو عواقبها وتأمين فضلها ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات والبشع بها والاقشعرار منها والحزن لها. فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذاً وأقلهم عنها فترة ولى العاقل أن يذكر الموت كل يوم وليلة مراراً ذكراً يباشر القلوب ويقذع الطماح فإن كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر وأماناً بإذن الله من الهلع. وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الرأي وفي الأخلاق وفي الآداب فيجمع ذلك كله في صدر أو في كتاب ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها صلاحه ويوظف ذلك عليها توظيفاً في إصلاح الخلة أو الخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر فكلما أصلح شيئاً محاه وكلما نظر إلى ثابت اكتأب. وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس ويحفظها ويحصيها ويصنع غي توظيفها على نفسه وتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي. وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس ما استطاع إلا ذا فضل في الدين والعلم والأخلاق فيأخذ عنه أو موافقاً له على صلاح ذلك فيؤيد ما عنده وإن لم يكن له عليه فضل وإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على الخصال فزاده وثبته ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال. وعلى العاقل أن لا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى وأن ينزل ما أصاب من ذلك ثم انقطع عنه منزلة ما لم يصب وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها ولا يبلغن سكراً ولا طغياناً فإن مع السكر النسيان

ومع الطغيان التهاون ومن نسي وتهاون خسر. وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها حتى يصيروا حرساً على سمعه وبصره ورأيه فيستنيم إلى ذلك ويريح له قلبه ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه. وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على نفسه أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يقضي فيها إلى أخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل لغة وعلى العاقل أن لا يكون راغباً إلا في إحدى ثلاث خصال تزود لمعاد أو مرمة المعاش أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين مختلفتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقي في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء. وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئاً في الخطأ والزلل في العلم والإغفال في الأمور فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيراً وصغيراًَ فإذا الصغير كبير وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق ولم نر شيئاً قط قد أتى إلا من قبل الصغير المتهاون به. قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به وأقل الأمور احتمالاً للضياع الملك لأنه ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيراً وإلا اتصل بآخر يكون عظيماً. وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقاً وإن ظن أنه على اليقين، وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى فيخالف ذلك ويلتمس أن لا يزال هواه مسوفاً ورأيه مسعفاً.

وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره. من نصب نفسه للناس إماماً في الدين فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه فإنه كما أن كلام الحكمة يونق الأسماع فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم. ولاية الناس بلاء عظيم. وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه التي بها يقوم وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير ـ والمبالغة في التقدم ت والتعهد الشديد ت والجزاء العتيد. أما التخير للعمال والوزراء فإنه نظام الأمر ووضع مؤونة البعيد المنتشر فإنه عسى أن يكون بتخيره رجلاً واحداً قد اختار ألفاً لأنه من كان من العمال خياراً فسيختار كما اختير ولعل عمل العامل وعمل عماله يبلغون عدداً كثيراً فمن تبين التخير فقد أخذ بسبب وثيق ومن أسس أمره على غير ذلك لم تجد لبنيانه قواماً. وأما التقديم والتوكيل فإنه ليس كل ذي لب وذي أمانه يعرف وجوه الأمور والأعمال ولو كان بذلك عارفاً لم يكن صاحبه حقيقاً أن يكل ذلك إلى عمله دون توقيفه عليه وتبيينه له والاحتجاج به عليه وأما التعهد فإن الوالي إذا فعل ذلك كان سميعاً بصيراً وأن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصداً حريزاً وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن والراحة من المسيء. لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف وأعمال السلطان كثيرة وقلما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد وإنما الوجه في ذلك والسبيل إليه الذي يستقيم به العمل أن يكون صاحب السلطان عالماً بأمور من يريد الاستعانة به وما عند كل رجل من الرأي والغناء وما فيه من العيوب فإذا استقر ذلك عنده عن علمه وعلم من يأتمن وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة والأمانة ما يحتاج إليه فيه وإن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك ويتحفظ من أن يوجه أحداً وجهاً لا يحتاج فيه إلى مروءة إن كانت عنده ولا يأمن عيوبه وما يكره منه. ثم على الملوك بعد ذلك تعهد عمالهم وتفقد أمورهم حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا

إساءة مسيء. ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسناً بغير جزاء ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على الإساءة والعجز فإنهم إن تركوا ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وفسد الأمر وضاع العمل. اقتصاد السعي أبقى للجمام ومن بعد الهمة يكون النصب ومن سأل فوق قدرة استحق الحرمان. سوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحاً وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرهاً وعار الفقر أهون من عار الغنى والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة. والدنيا دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك وماكان عليك لم تدفعه بقوتك. إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وأبين في المعنى وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث. أشد الفاقة عدم العقل وأشد الوحدة وحدة اللجوج ولا مال أفضل من العقل ولا أنس آنس من الاستشارة مما يعتبر به صلاح الصالح وحسن نظره للناس أن يكون إذا استعتب المذنب ستوراً لا يشيع وإذا استشير سمحاً بالنصيحة مجتهداً بالرأي وإذا استشار مطرحاً للحياء ومعترفاً بالحق. القسم الذي يقسم للناس ويمتعون به نحوان فمنه حارس ومنه محروس فالحارس العقل والمحروس المال. والعقل بإذن الله هو الذي يحرز الحظ ويؤنس الغربة وينفي الفاقة ويعرف النكرة ويثمر المكسبة ويطيب الثمرة ويوجه السوقة عند السلطان ويستنزل للسلطان نصيحة السوقة ويكسب الصديق وينفي العدو. كلام اللبيب وإن كان نزاراً أدب عظيم ومقارفة المآثم وإن كان محتقراً مصيبة جليلة ولقاء الأخوان وإن كان يسيراً غنم حسن. قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثيراً أما الصالح فمدعو وأما الطالح فمقتحم وأما ذو الأدب فطالب وما من لا أدب له فمحتبس وأما القوي فمدافع وأما الضعيف فمدفوع وأما المحسن فمستثيب وأما المسيء فمستجير فهو مجمع البر والفاجر والعالم والجاهل والشريف والوضيع. الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مدخولون في أمورهم فقائلهم باغ ـ وسامعهم عياب ـ

وسائلهم متعنت ـ ومجيبهم مكتف ـ وواعظهم فغير محقق لقوله بالفعل ـ وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف ـ والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة ـ وذو الصدق غير محترس من حديث الكذبة ـ وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة ـ والعازم منها غير تارك لتوقع الدوائر ـ يتناقضون البنى ـ ويترقبون الدول ـ ويتعاطون القبيح ـ ويتعاينون بالغمز ـ ويرعون في الرخاء بالتحاسد ـ وفي الشدة بالتجاذب. ثم قد انتزعت الدنيا ممن قد استمكن منها واعتكفت له فأصبحت الأعمال أعمالهم والدنيا دنيا فغيرهم وأخذ متعهم من لم يحمدهم وخرجوا إلى من لا يعذرهم فأصبحنا خلفاً من بعدهم نتوقع مثل الذي نزل بهم فنحن إذا تدبرنا أمورهم أحقاء أن ننتظر ما نغبطهم به فنتبعه وما نخاف عليهم منه فنجتنبه. كان يقال أن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيت ولا تترك من الشر إلا ما كرهت فقد أطلعت الشيطان على عورتك وأمكنته من أزمّتك فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير فيكرهه إليك وفيما تكرهه من الشر فيحببه إليك. ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما تحب منه. للدنيا زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الألباب والحكيم من لم يغض عليه طرفه ولم يشغل به قلبه أطلع من أدناه فيما وراءه وذكر في بدئه لواحق شره فأكل مره وشرب كدره ليحلولي له ويصفو في طول من إقامة العيش الذي بقي ويدوم غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه ولم يأته من طريق هواه. ولا تألف المستوخم ولا تقم على غير الثقة. فقد بلغ فضل الله على الناس من السعة وبلغت نعمته عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظاً وأقلهم منه نصيباً وأضعفهم علماً وأعجزهم عملاً وأعياهم لساناً بلغ من الشكر والثناء عليه بما خلص إليه من فضله ووصل إليه من نعمته ما بلغ له منه أعظمهم حظاً وأوفرهم نصيباً وأفضلهم علماً وأقواهم عملاً وأبسطهم لساناً لكان عما استوجب الله عليه مقصراً وعن بلوغ غاية الشكر بعيداً ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتمجيد له فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله

والقربة عنده والوسيلة إليه والمزيد فيما شكره عليه خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة. أفضل ما يعلم بع علم ذي العلم وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله وحب حكمته والعمل بطاعته والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه وأن يتبين الذي لهم من الأخذ بذلك والذي عليهم في تركه وأن يورث ذلك أهله ومعارفه ليلحقه أجره بعد الموت. الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه وأعظمها منفعة وأحمدها في كل حكمة فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنة الجهال على جهالتهم بهما وعماهم عنهما. أحق الناس بالسطان أهل الرأفة وأحقهم بالتدبير العلماء وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديباً وأحقهم بالغنى أهل الجود وأقربهم من الله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله تعالى وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفاً وأقواهم أحسنهم معونة وأشجعهم أشدهم على الشيطان وأفلجهم بالحجة أغلبهم للشهوة والحرص وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حياء وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالاً وأقلهم دهشاً أرحبهم ذرعاً وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي وأخفضهم عيشاً أبعدهم من الإفراط وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة. وآمنهم في الناس أكلهم ناباً ومخلباً. وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم. وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم. وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها. أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والأخوان الصالحون. فصل ما بين الدين والرأي أن الدين يسلم بالإيمان وأن الرأي يثبت بالخصومة فمن جعل الدين خصومة فقد جعل الدين رأياً ومن جعل الدين رأياً فقد صار شارعاً ومن كان هو يشرع لنفسه الدين فلا دين له. قد يشتبه الدين والرأي في أماكن لولا تشبههما لم يحتاجا إلى الفصل.

(للكتاب بقية).

الخاصة والعامة

الخاصة والعامة قال الراغب: الناس ضربان خاص وعام فالخاص من قد تخصص من المعارف بالحقائق دون التقليدات ومن الأعمال ما يتبلغ به إلى جنة المأوى دون ما يقتصر به على الحياة الدنيا والعام إذا اعتبر بأمور الدين فالذين يرضون من المعارف بالتقليدات ومن أكثر الأعمال بما يؤدي إلى منفعة دنيوية وإذا اعتبر بأمور الدنيا فالخاص ما يتخصص بأمور البلد مما ينخرم من افتقاده إحدى السياسات المدنية والعام ما لا ينخرم بافتقاده شيء منها. وهم من وجه آخر ثلاثة خاصة وعامة وأوساط والأوساط هم المسمون في كلام العرب بالسوقة فالخاص هو الذي يسوس ولا يساس والعام هو الذي يساس ولا يسوس والوسط هو الذي يسوسه من فوقه وهو يسوس من دونه. ومن وجه آخر ثلاث أضرب أصحاب الشهوات وهمهم الجدة واليسار والأكل والشرب والبعال وأصحاب الكرامة والرياسة وهمهم المدح واستجلاب الصيت والمحمدة وأصحاب الحكمة وكل واحد منهم يستعظم من هو من جنسه. قال بعض الحكماء: ما من إنسان إلا وفيه خلق من خلاق بعض الحيوانات وبعض النبات لكون الإنسان مشاركاً لها في الجنسية وإن كان مبايناً لهما في النوعية فمن الناس غشوم كالأسد وعائث كالذئب وخب كالثعلب وشره كالخنزير وجامع كالنمل ووقح كالذباب وبليد كالحمار وألوف كطير الوفاء وصنع كالسرفة وآنف كالأسد والنمر وغيور كالديك وهادئ كالحمام ومنهم حسن المنظر والمخبر كالأترج ومنهم بخلاف ذلك كالعفص والبلوط ومنهم قبيح المنظر حسن المخبر كالجوز واللوز ومنهم حسن المنظر قبيح المخبر كالحنظل والدفلى والمؤمن الخير هو في الحيوانات كالنحل يأخذ أطايب الأشجار ولا يقطف ثمراً ولا يكسر شجراً ولا يؤذي بشراً ثم يعطي الناس ما يكثر نفعه ويحلو طعمه ويطيب ريحه وهو في الأشجار كالأترج يطيب حملاً ونوراً وعوداً وورقاً والمنافق الشرير هو في الحيوانات كالقمل والأرضة وفي الأشجار كالكشوت فلا أصل له ولا ورق ولا نسيم ولا زل ولا زهر يفسد الثمار وييبس الأشجار وكالشجرة التي قل ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها. هذا ما ذكره الأصفهاني في وصف طبقات الناس وما يرجى منهم من المنافع وما يخشى من مضارهم قاله منذ زهاء ثمانمائة سنة ويقال مثله بعد قرون كما يصح إطلاقه على ألوف من السنين من قبل. ويرى الناظر في هذه الحياة الدنيا من سلطان الأوهام الكثيرة تأثيراً في دفع الناس بعضهم عن بعض ولولا ذلك لاختل النظام أو كاد. وكان معظم تأثير الأوهام في

خلال القرون الوسطى أيام انتشار الإقطاعات وتسلط الأشراف ورؤساء الديانات في الغرب أما في الشرق ـ ونريد به البلاد العربية ـ فإن الأوهام كانت تتسلط على الناس بعد الإسلام بحسب حال الحكومات المتغلبة من العقل والجهل والدين والإلحاد ولذلك أتت على العامة أدوار كانوا يعتقدون أن الخاصة من طينة غير طينة البشر فهم أحق بالتقديس فقدسوهم ورفعوهم فوق أقدارهم ولم تكن نفوس الطبقة العالية من التهذيب بحيث تحسن استعمال هذه الامتيازات التي امتازت بها بل استعملتها ذرائع إلى الاستكثار من الثروة من غير حلها وللتبجح بالباطل بما لم يأمر به شرع إلهي ولا عقل إنساني ولذلك صرت ولا تزال ترى بين الطبقة العليا والدنيا من الفروق ما لا تراه في أكثر الأمم اللهم إلا الهنود والصينيين فإن مسافة الخلف بين طبقات الناس هناك مما يعجب منه أيضاً. انتبه أهل الغرب لسر الاجتماع البشري أكثر منا. والغالب أن سلطة الأشراف أو أهل الطبقة العالية بلغت عندهم قبيل نهضتهم مبلغاً لا تطيقه نفس بشرية فكان القيام على نزع تلك السلطة من أول الإصلاح عندهم ثم بقيت الطبقات تتقارب بعضها مع بعض وإلى اليوم لم يبلغ هذا التقارب أشده عندهم ولكنه لو قيس بما بين مختلف الطبقات في شرقنا لعد غاية الارتقاء. إذا تقارب الخاصة من العامة وعرف كل حقه ولم يتعده تستقيم أحوال المجتمع وتقوى دعائمه وتثبت في نفوس أبنائه روح التضامن الحقيقي وإذا بقيت كل طبقة مقتصرة على أهل طبقتها يحدث بين الطبقات سوء التفاهم ما لا يكون منه حضارة ولا غبطة والعامة هم سواد كل أمة وهم القائمون على الزراعة والصنائع المختلفة والأعمال الصعبة والخاصة أفراد قلائل وقوتهم بأفكارهم وعقولهم في الأعم الأغلب من أحوالهم. والعاقل ينبغي له أن يحسن الانتفاع من كل شيء في هذا الوجود فما الحال بانتفاعه من مخلوق مثله لو علمه بعض الضروريات لكان عمله له ولغيره أتم وأعم. مضى العهد الذي كان العلم فيه مقصوراُ على أهل طبقة خاصة ككهنة قدماء المصريين وأشراف اليونان والرومانيين ورهبان الأديار والصوامع في القرون الوسطى. مضى ذلك الزمن وما نظن يعود مثله على البشر بعد وقد أخذت حضارة الغرب تنفذ أنوارها حتى إلى القفار ويستنير بها المتمدن والمتوحش بحسب ما رزق من قوة بصر وبصيرة. طوي ذلك

البساط بما عليه جملة ولن يعود إلى سالف حاله بعد أن توفر جمهور كبير من علماء الغرب يخطبون العامة في مجالسهم بما لا يعلو عن أفكارهم ويعلمونهم في مدارس ليلية أقاموها لتعليم من لم يسعده الحظ بالتعليم وبعد أن أنشؤا جرائد خاصة ووضعوا المجلات والكتب ليلقنوهم الأفكار الصحيحة والمعارف اللازمة من أيسر الطرق وأخصرها وبعد أن فتحوا لهم المعارض والمتاحف ودور التمثيل لتكون منهم مقومات العقول على طرف الثمام وبعد كل ما أقاموه لمنفعتهم من أسباب التعليم يستحيل أن يغالط عامتهم في حقائق الأشياء بعد اليوم وقد غولطوا فيها زمناً طويلاً. قال سيايل: لا غنية للديمقراطية عن خيرة رجال كما لا يسعها إلا أن تقدر الذكاء والعلم والفضيلة حق قدرها. ولا مشاحة في أن الديمقراطية تأتي على الحواجز التي كانت تحول بين الطبقة العالية وجمهور الأمة فتدكها من أساسها وذلك لأن المجتمع يختار كبار الرجال من جمهور أهل البلاد ممن ينشؤون أبداً بين ظهراني عامة الناس ولا يزالون ينمون ويتجددون بما يصدر إليهم من حوض القوة والنشاط وأعني بهذا الحوض العامة. فإذا اعتزل أولئك الرجال واقتصروا على الاجتماع بأبناء طبقتهم محتقرين ما عداها فإنهم يقضون على أنفسهم بالضعف وعلى أمرهم بالفشل. ليس الشعب هو الجمهور بل هو الأمة وهو الحاكم المتحكم. والفكر لا يكون إلا مجردات ونظريات إذا لم يكن له كيان وحقيقة تؤثر في عقول أبناء الأمة وإرادتهم. وعلى الطبقة الخاصة من الناس وهي في الأصل ممتزجة بجهلاء الأمة وأهل الوضاعة منهم أن يكون لها اتصال بالشعب وعليها أن تعمل على إقناعه لتنال ثقته تتصل به وتشركه في معرفة الحقيقة السامية التي تخضع لناموسها الإرادات مختارة وعلى مجموع من يتألف من هم المجتمع الديمقراطي أن يشتركوا في الحياة الوطنية. أهـ. ولقد وقر في نفوس خاصتنا زمناً طويلاً بأن اجتماعهم بالعامة يعد منقصة وسبة لذلك كانوا وأكثر من يتطاولون إلى التشبه بهم من أهل الطبقة الوسطى في العقول يشمئزون من الاختلاط بغير طبقتهم كأن العلم بزعمهم يفسد إذا ألقي على من ينتفع به أو أنه تذهب بركته ويزول بهاؤه ورواؤه وقد كان هذا الخلق يقوى في الشرق على عهد ضعف الوازعين الديني والسياسي وانحلال التربيتين البيتية والمدرسية.

وما مجالس الوعظ أيام الحضارة الإسلامية إلا من بركة تلك العقول الكبيرة والتربية الراقية فكنت ترى أمثال الحسن البصري والفخر الرازي وابن الجوزي ومئات غيرهم في المساجد والمنابر يعظون العامة ليعلموهم ما حرموا منه فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم. بدأ ذلك على عهد الخليفة الرابع فكان يأتي بواعظ العامة ويسأله فإن رآه متمكناً من العلم بحيث لا يضل الناس بكلامه أذن له بالوعظ وإلا منعه وما كان جلة العلماء يبستنكفون من تفهيم العامة كما كانوا يعلمون الخاصة. وظاهر أن ما كانوا يلقونه على مسامع جمهور الناس من أنواع العلوم لم يكن في صعوبته كالذي يلقونه على خواصهم ولذلك قلما كان يتأتى العبث بعقول العامة في القرون الستة الأولى للإسلام فقربوا من الخير والسلامة من أكثر خاصة العصور المتأخرة ممن جعلوا الدين سلماً إلى الدنيا وقشور العلم للمباهاة. ومقادير الخاصة والعامة في كل أمة نسبية في الغالب فقد يكون رجل من طبقة الخواص في أمة فإذا قيس بغيرها من الأمم الراقية لا تنزله إلا منزلة العوام. قال الصفهاني: لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم فمن الإخلال بها ينتشر الشر وتكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم والولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة والوعظة وحكمهم على بواطن العامة وصلاح العالم بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة وفساده في عكس ذلك ولما تركت مراعاة المتصدي للحكمة والوعظ ترشح قوم للزعامة بالعلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلها بدعاً استغووا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم: فكل قرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب وفتحوا بذلك طرقاً منسدة ورفعوا بها ستوراً مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيها من الشره فبدعوا العلماء وكفروهم اعتصاباً لسلطانهم ومنازعة لمكانهم وأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام.

أهـ. ولقد بقي من دروس الوعظ أو القصاصين كما كانوا يدعون قديماً أثر ضئيل في بعض البلاد الإسلامية ولكن ضررها يربو على نفعها لأن من يتولون أمرها في الأكثر قلما يدركون مبلغ أقوالهم وتأثيراتهم ومعظمهم ممن تزييوا قبل أن يتحصرموا فراحوا على قلة علمهم وعملهم يدعون إلى الخرافات في الأغلب يستسهلون الكلام في الزهد في الدنيا وذكر فضائل الأيام والمواسم وأكثر خطب الجمع من هذا القبيل أو هي أدهى وأمر. وأما الخاصة الحقيقيون في الأمة فقد اضطرتهم الفوضى في العلم والنظام إلى أن يقبعوا في بيوتهم ويكونوا أحلاسها واقتصروا اليوم في تعليم العامة على من يلوذون بهم من أهلهم وأصحابهم وجيرانهم والعشرة تعدي جراثيمها. القيام على تعليم العامة عندنا ليس بالأمر الحديث كما هو في الغرب ولكن أصوله بليت بين أظهرنا ونمت أي نمو عندهم شأن الأمم الراقية والنازلة هذه يمسخ فيها كل شيء حتى جمال وجوه أهلها وتلك يرتقي فيها كل شيء حتى موبقاتها وشرورها. ولا نقصد بتعليم العامة أن نعلمهم ما يصدهم عما هم بسبيله من أمور المعاش ولكننا نقصد أن يعلموا كعامة أبناء اليابان القواعد الأساسية القليلة ليستحيل بعدها التلاعب بأهوائهم ويكونوا عوناً للخاصة في كل عمل نافع لا عثرة في سبيل كل مشروع ينهضون بلا سبب معقول ويسكنون كذلك. نريد أن يعلم العامة القراءة والكتابة البسيطة ومبادئ التاريخ والجغرافيا والحساب والاقتصاد والصحة وتدبير المنزل وشيئاً من آداب الدين التي لا تعلو عن أفهامهم وعندما يشاركون الخاصة في الفهم إن لم يكن في معظم مسائل الوجود ففي بعضها وهناك من الفائدة للخاصة ما لا ينكره عاقل ويكفي أنهم لا يعدون غرباء كأنهم من عالم أخر إذا نزلوا بين قوم في الأرياف والقرى والدساكر إذ يجدون فيها من يزيل عنهم موجبات الوحشة ويقدرهم قدرهم في الجملة. هذه الطبقة من العامة إذا كثرت في الشرق العربي مثلاً تكون حاله أحسن مما هي عليه بما لا يقاس ويقل تبرم المتعلمين النورين من عشرة الأميين العاميين ولاسيما في المدن الصغرى حيث لا عقل يفكر إلا في الأمور البسيطة من المعاش وقل من يشارك في الشؤون العامة.

قال الجاحظ تقول العرب: لولا الوئام لهلك الأنام وقال بعضهم في تأويل ذلك لولا أن بعض الناس إذا رأى صاحبه قد صنع خيراً فتشبه به لهلك الناس وقال الآخرون إنما ذهب إلى أنس بعض الناس ببعض كأنه قال إنما يتعايشون على مقادير الأنس الذي بينهم ولو عمتهم الوحشة عمتهم الهلكة. وإذا لم يتيسر لبلادنا الآن أن نؤسس لها مجامع ومدارس لهذا الضرب من التعليم فما أحرى كل من رزق علماً خرج به عن العامية أن يجمع حوله طائفة من أهله وجيرانه يرشدهم ويلقنهم بحسب ما يعرف ويصحح لهم أفكارهم إلقاءً ويعلمهم ما لم يسعدهم الحظ بتعلمه في كتاب. ولا أعلم في بلادنا أحداً يهتم لتعليم العامة وتصحيح الأفكار مثل الشيخ طاهر الجزائري على اتساع مادته في العلوم المختلفة اتساعاً لم أره في عالم عربي وقد انتبه بعض علماء فارس لهذه النكتة فأخذوا ولاسيما في العهد الأخير يخدمون العامة بما ينفعهم ويطبقون لهم المدنية على حسب عقولهم وهم هناك بضعة عشر رجلاً ورأسهم المجتهد السيد جمال الدين فقد قرأت له خطباً في هذا الموضوع لا تقل في جودتها عن خطب أرنست لافيس وجبرائيل سيايل وغيرهما من فلاسفة فرنسا المعاصرين ممن لا يرون حطة في أقدارهم أن يتنزلوا لتعليم العامة لاعتبارهم إياهم عمد أخبية المجتمع وقواعد بنيان بني الإنسان. إن يوماً نرى فيه هذه البلاد مملوءة بخزائن كتب يختلف إليها العامة فيتناولون فيها ما شاؤوا من المطبوعات والأسفار البسيطة النافعة ومدراس ليلية أو نهارية ابتدائية لتعليم الكبار والصغار والبنات والصبيان ومعارض ومتاحف في كل مديرية أو متصرفية أو عمالة لهو يوم سعيد يسوغ بعدها لأمتنا أن تدعي أنها راقية تستحق استقلالها في سياستها إذ حررت العقول من ظلمتها.

الرياضة المعقول

الرياضة المعقول قل استعمال الألعاب الرياضية في هذه البلاد لأن الفقير لا يقدر فوائدها قدرها ويروض جسمه من حيث لا يشعر بأعماله اليدوية وحركاته اليومية أما الغني فيرى في الأكثر أن اللعب لترويض الجسم منقصة وسبة لا ينطبق مع الوقار والرزانة. ولما كان أجدادنا ينصرفون إلى الألعاب المختلفة آونات فراغهم كانت أجسامهم أصح وأمراضهم أقل. دام ذلك إلى عهد قريب وضعفت اللعاب الرياضية بيننا بضعف العلوم ويدلك على عناية قومنا بالرياضة قديماً أنهم أفردوها بالتأليف وعددوا ضروبها وأساليبها. ولقد كان صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي إذا استراحا قليلاً من جهاد الصليبيين يصرفون شطراً من أوقاتهما في ركوب الجياد والسباق في سهل اللوان بظاهر دمشق ولا يريان ذلك نكيراً. ولما أنكر أحد علماء ذاك العصر على احدهما ما يأتيه من هذه المسليات المضيعة للأوقات قال له: إننا نستعين على تقوية أجسامنا لئلا نضعف عن النزال ومقارعة الأبطال. ولم يزل في بعض بلاد الشام أثر من آثار هذه الألعاب بين أبناء الطبقة المتوسطة والدنيا ومن أهمها ركوب الجياد للسباق والركض والوثب والسبحة ولعب العصا والصراع كما ترى منها بعض الشيء في هذا القطر. بيد أن الغربيين سبقونا أشواطاً إلى كل محمدة ومن جملة ما يمتاز به خاصتهم وعامتهم عن خاصتنا وعامتنا الألعاب الرياضية يأتونها كأنها من الضروريات كالأكل والشرب والنوم حتى قال بعضهم أن على نسبة ارتقاء الألعاب الرياضية في أمة تقوي أجسامها وتطول أعمارها وتصح عقولها والعقل السليم في الجسم السليم. أدركوا أن غاية الحركات الطبيعية بث القوة في عامة الجسم لا جعلها قاصرة على بعض الأعضاء فانبساط القلب المفرط ينشأن من الإفراط في إنهاك أحد الأعصاب بالعمل وإفناء قوى بعض الحواس. فترى الجبار ممن اعتاد رفع الأثقال قوي العضلات ولكنه ضعيف الساقين إذا أريد على الجري انقطع نفسه وخانته رجلاه ولئن كانت أعضاؤه متينة فآلته التنفسية سيئة السير ولا يعالج هذا النقص إلا بتمرينات منظمة حتى أن المصارع نفسه ليحتاج إلى الرشاقة في حركاته إذا عرض له أوتوموبيل في سكته أو حريق في داره ليتأتى له أن يقفز ويصعد الدرج ويزحل على الحبل. أما عامة الناس فهم كلما استحكمت قوتهم وزادت خفة أجسامهم يستعدون لتسلق الجبال وحمل الأحمال والقفز والسباق. وهذا الميل إلى كل ضرب من

ضروب الرياضة وإن أريد به التسلي فهو من الضروريات لقوام البنية حتى يكون من الناس كما يقول الفيلسوف هربرت سبنسر (حيوانات صالحة) أي أناس لهم في تراكيبهم الطبيعية ومن أعصابهم وحواسهم الباطنية ما يؤهلهم للقيام بما في طاقتهم بدون أن ينقص عضو من عضو شيئاً أو يقوى عصب بضعف أخيه. ولذلك كثرت أساليب الرياضة وكلها تدور على قوانين طبيعية مبنية على علم التشريح والحياة والميكانيك. وممن قام يدعو إلى طريقته في الرياضة رجل من أهل السويد اسمه لنج نظر في الطرق المتبعة في التريض فخالف المتبع منها في التربية الطبيعية التي من شأنها إعداد أناس منبسطة قلوبهم فاستعاض عما كان أهل الرياضات يستعملونه من قبل بالتجارب من الألعاب بأساليب له معقولة معتقداً أن أحسن رياضة لتحسين الجنس الإنساني في مجموعه تقليل أسباب الضعف وتقوية الأبدان تقوية تامة. تعلم هذا الرجل التعليم العالي وانصرف إلى اللاهوت والأدب لأول أمره فصنف فيهما وألف فشغله ما هو فيه من الأشغال العقلية عن النظر في الألعاب الرياضية إلى أن التقى بمهاجرين فرنسويين في كوبنهاغ أوائل القرن الماضي فعلماه المسايفة لعب السيف والترس فمهر فيها حتى عين معلماً لحمل السلاح في كلية لوند وكان حاد الفكر والتصور صعب المراس لا يقف في أمر يتعاطاه عند حد التوسط فاهتدى بذكائه إلى أن وراء المسايفة وإحسان الكر والفر مقصداً أسمى فأخذ نفسه بدرس منافع هذا الفن ونظر في التشريح وعلم النفس وتوغل في التاريخ فرأى أن السكنديناويين كانوا يستعملون الرياضة واليونان من قبلهم كذلك وتبين له أن ما هو ماثل في مصانع اليونان وتماثيلهم من جمال الوجوه وتناسب الأعضاء وصحة الجسوم إنما كان بفضل الرياضات التي يرتاضونها وثبت له أن تحسين النسل وجماله وجودة الصحة الطبيعية والأخلاقية تنشأ من استعمال الرياضة المعقولة. قام هذا الخاطر في ذهنه ولم يرتح وجدانه إلا عند ما تعدم إلى حكومة السويد أن تمنحه شيئاً من المال يستعين به على نشر طريقته فردته رداً غير جميل وعدته ممخرقاً أخرق فسخط من ذلك وهو غضوب عبوس إلا أنه لم ييأس. وكان نجاحه في ثباته على المطالبة فصدر الأمر الملوكي سنة 1813 بإنشاء مجمع علمي للألعاب الرياضية في استوكهلم عهد إليه إدارته ووفق إلى تحقيق الأفكار التي كانت تخالج صدره وإن كانت تلك الأفكار

مشوشة مرتبكة لأول أمرها إلا ا، العمل يجليها والبحث يهذب أصولها وفروعها وساعده على نياته ما تم للعلم من الاكتشافات الحديثة وزيادة انتشار فن الطب ومعرفة ما بين أعضاء الجسم من الصلات. أما طريقته فهي في الحقيقة مجموع أعمال صحية غايتها تقوية الأعصاب وأن يقاوم المرء المؤثرات المضرة ويستعد لدفع الأخطار التي تحيق به. وبفضل الجهاد الذي جاهده لنج في أعماله زاد في مدة نصف قرن معدل قامات الجنود في تلك البلاد ثلاثة سانتيمات وطالت الأعمار فصار معدل الزيادة تسع سنين عن ذي قبل. ولما بت ذلك بالبرهان والإحصاء أرادت بعض دول الغرب أن تجري على طريقة السويديين فأدخلت طريقة لنج إلى المدارس الجامعة وثكن الجند ولكن العنصر اللاتيني لم يفلح كثيراً في الجري على تلك الخطة لأن أهل شمالي أوروبا أرقى منه في معنى التوفر على الواجب والمبالغة في الخضوع لضروب السخرة المملة فلا يتبرمون من تكرار حركات واحدة وحضور جلسات طويلة على نمط واحد كما يتبرم أهل العنصر اللاتيني. وبعد فإن من فوائد السباق وفضائله في التربية أنه يضطر صاحبه إلى تعلم النظام ويعده للقيام بالفروض الجندية ولذلك ترى الجدافين في القوارب وهم مضطرون إلى تطبيق حركاتهم بعضهم على بعض وأن يسيروا بنظام تام يأتون في ذلك مثالاً من أمثلة النظام والتكافل وكذلك الحال في لاعبي الكرة بخضوعهم لأمر زعيمهم. هذه الألعاب أحسن مدرسة للشبان كل يوم لأنها لا تبقي عضلة لا تتحرك في خلالها وتثير الحركات التنفسية مع رفع الأعضاء وبذلك يقوى الصدر وتكبر رقعته وتتحسن ضربات القلب وتتصلب الأعصاب وتمرن المفاصل. ولكن هذه الطريقة في الألعاب على ما هي عليه من النفع بحيث جرى العمل بها في الثكن والمدارس يصعب أن يجري عليها من يتعلمونها بعد لأن الثكنة أو المدرسة إذا خصصت للجندي والتلميذ ساعة كل يوم للرياضة فمن الصعب على من يدخل في مدرسة هذا العالم أن يصرف هذا القدر من وقته كل يوم. بيد أن القوم اخترعوا صوراً من الألعاب لا يحتاج معها المرء إلى شيء من الأدوات ولا تأخذ له من الوقت أكثر من عشر إلى خمس عشرة دقيقة.

وقد كثر تحدث الناس في إسكاندينافيا مهد طريقة لنج بطريقة اخترعنها موللر الدانيمركي وما وفق إلى إتقانه في كل فرع من فروع الألعاب وهذا الرجل يحسن تعاطي المجداف والسباحة والتزحلق والصراع والمشي وحمل الأثاقل والقفز والملاكمة والسير السريع وقد نال في ذلك 123 جائزة حتى قال فيه أحد المصورين: إنك يا هذا أجمل مخلوق رأيته في حياتي. بل أنه كتب مؤخراً أنه سيزيد نفسه جمالاً ورقة مع أنه الآن في الأربعين من سنه. وتاريخ هذا الرجل غريب في بابه وذلك أن أباه كان مختل الصحة مبتلى بعدة أمراض وهو كان في صغره كثير الأمراض أيضاً وقد قال عن نفسه: إني لما ولدتني أمي لم يكن وزني أكثر من ثلاث لبرات ونصف بحيث كانت علبة لفائف تسعني وفي السنة الثانية أصبت بزحير كدت أهلك عقيبه كما أصبت في تلك السن بجميع أمراض الأطفال. ولما دخلت المدرسة أصبحت أمرض كل سنة مرتين أو ثلاثاً بالحمى والبرداء والإسهال وغيرها فأنت ترى أن مالي من الصحة والقوة الآن لم أرثهما وأني لم أكن من أهل العافية والسلامة في طفولتي. ففي سنة 1874 وكان عمره إذ ذاك ثماني سنين وقعت إليه كتب بالألعاب الرياضية مترجمة من الإنكليزية والألمانية ولما قرأها ربت فيه ذوق التمرينات الطبيعية وأخذ يتمحض لها وترك دروس اللاهوت التي كان أخذ بدراستها لأول أمره وتعلم الهندسة العسكرية صم صار مهندساً ملكياً وبعد أن قضى عشر سنين في هذه الصناعة عين مديراً لمصح في جوتلاند شبه جزيرة دانيمركية وهناك نشر كتاباً في الأعلاب الرياضية سماهطريقتي انتشر انشتاراً غريبلاً فطبع منه في 3 أغسطس سنة 1904 إلى شهر مايو من السنة التالية ثلاثون ألف نسخة هذا وسكان الدانيمرك نحو مليونين ونصف فقط. وترجم إلى الألمانية فطبع منه 70 ألفاً وإلى الإنكليزية فطبع منه 25 ألفاً وإلى السويدية 20 ألفاً وإلى الإفرنسية 20 ألفاً. ولئن كان لنشر هذا الكتاب يد في التفنن بالإعلان عنه فإن سهولة طريقته كانت أعظم سبب لانتشاره إذ ليس فيها قيود ولا تعقيد بل أن الربع ساعة يقضيها المرتاض في غسل جسمه ومحن جلده (دعكه) وتغمير بدنه تكفي فيمحن جسمه وهو يستلقي على قفاه ويتلوى ويتوتر ويتثنى بحيث لا ينتهي من اغتساله إلا وقد تحركت جميع أعضائه وأعصابه ويكون قد نظف جسمه وبشرته.

وهذه الطريقة نافعة أكثر من غيرها من الألعاب الرياضية لأنها تجعل تنعيم البشرة وغسلها من الأعمال الرئيسية وتلين أعصاب البطن وتجعل لتنفيس الجلد شأناً عظيماً وقد كتب موللر إني ضحكت من أناس في أرباب المسابقات والصراع يغتبطون بأن أجسامهم لا ترشح عرقاً عندما يتعاطون أعمالهم مع أني موقن بأن مسام أجسامهم متسخة بالأدران والأدهان البشرية وصفرة وجوههم واكمداد ألوانهم أكبر دليل على سوء صحتهم. وقد علق موللر على ترويض البطن شأناً كبيراً في تحسين الهضم والعون على انتظام وظائف الأحشاء وتحسين حالة الكلى والكبد. وسواء شاعت طريقة لنج أو طريقة موللر أو طريقة الجيوجيتسو اليابانية في الألعاب الرياضية فإن ما يهم في هذا الباب انتشار الرياضة البدنية بين جميع الطبقات لا أن تبقى محصورة في طبقة خاصة فيجب أن يتعلم الطفل اعتياد العناية بجسمه وغسله وتقويته ومحنه وأن يواظب على ذلك ما دام حياً. ومن أجل هذا تجد الحكومات الأوروبية تنشط جمعيات الألعاب الرياضية. وقد كتب وزير حربية فرنسا إلى جمعية اتحاد الألعاب الرياضية في العهد الأخير يقول: يجب أن لا تبقى بعد الآن غير طريقة واحدة في التعليم الطبيعي تستعمل في الثلاثة أدوار من أدوار التربية الوطنية وهي المدرسة والمجتمع والجندية وهذه الطريقة هي كبر الصدر وسلامة الرئتين والقلب وتقوية الساقين طريقة تحسن جسم المرء أدبياً وصحياً وتعده كأحسن الناس للحياة والعمل والقتال إذا اقتضت الحال.

رب إسرائيل في جزيرة أسوان

رب إسرائيل في جزيرة أسوان جزيرة أسوان هي أول الجزر العظيمة الواقعة في مصب الشلال وتدعى أيضاً الجزيرة وكانت قديماً مأهولة بجماعة من النوبيين وهي عبارة عن قريتين تابعتين لأسوان وتعد عاصمة تخونت (التخوم) ومدينة (أبو) أو (كوبهو) العظمى قال لاروس في معجمه الأوسط: وكان أمراؤها نحو آخر السلالة الخامسة أو السادسة يغزون الصحاري المجاورة أو شواطئ البحر الأحمر ويتجرون معها وكانت ملوك السلائل المنفية تنزلها عندما تريد الإشراف على أحوال التخوم واستعمر سكان هذه الجزيرة بلاد النوبة الشمالية بين السلالة السادسة والحادية عشرة. ولقد ضعفت مكانتها عندما توسعت في التخوم نحو الجنوب على عهد ملوك الثيبيين وأصبحت مدينة يرحل إليها للتجارة والزيارة ولما جاء المصريون إلى جوار الشلال عندما انفصلت الحبشة عنهم في الدولة الثانية عشرة استعادت مركزها الحربي إلا أن ارتقاء أسوان المعدودة من جملة أحيائها على الحدود بين الحبشة ومصر على عهد الدولة الفارسية ثم على عهد الدولة اليونانية قد أضر ضرراً بليغاً بحالتها كما سقطت على عهد الرومان ولم تكن على عهد الفتح البيزنطي والعربي غير أنقاض وقد بقي من المعبد الكبير قطعة من بابه أنشأها توتموسيس الثاني وجددت على عهد الإسكندر الثاني ولا يرى من عادياتها إلا صخور مشتتة بين خرائب المدينة أو مسدودة بالرصيف القديم ومقياس النيل الذي جدد على عهد القياصرة وعني بأمره أحد علماء الفلك من العرب محمود باشا الفلكي سنة 1870 وقال بوليه في معجمه التاريخي والجغرافي أنه كان في جزيرة أسوان قديماً معبدان جميلان يرد عهدهما إلى زمن أماناهوبتو الثالث وقد خربا سنة 1818 لتبنى بأنقاضهما ثكن في أسوان. وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان وأسوان بالضم ثم بالسكون وواو وألف ووجدته بخط أبي سعيد السكري بغير الهمزة وهي مدينة كبيرة وكورة في آخر صعيد مصر وأول بلاد النوبة على النيل في شرقيه وهي في الإقليم الثاني طولها سبع وخمسون درجة وعرضها اثنان وعشرون درجة وثلاثون دقيقة وفي جبالها مقطع العمد التي بالاسكندرية. قال أبو بكر الهروي وبأسوان الجنادل ورأيت بها آثار مقاطع العمد في جبل أسوان وهي حجارة ماتعة ورأيت هناك عموداً قريباً من قرية يقال لها بلاق أو براق يسمونها الصقالة وهو ماتع مجزع بحمرة ورأسه قد غطاه الرمل فذرعت ما ظهر منه فكان خمسة وعشرين ذراعاً

وهو مربع كل وجه منه سبعة أذرع وفي النيل هناك موضع ضيق ذكر أنهم أرادوا أن يعملوا جسراً على ذلك الموضع. وذكر آخرون أنه أخو عمود السواري الذي بالاسكندرية وأشار ياقوت إلى ما بأسوان من التمور المختلفة وأنواع الأرطاب وقد ذكرها البحتري في مدحه خمارويه ابن طولون بقوله: هل يلقيني إلى رباع أبي الجي ... ش حظار التغوير أو غرره وبين أسوان والعرا ... ق رعية ما يغبها نظره ونسب إلى أسوان قوم من العلماء وقال المقريزي في الخطط ما يقرب من هذا القول في أسوان وبتطويل أكثر. هذه هي أسوان وقد قرأنا في جريدة الطان للمسيو كلرمون كانو من أعظم علماء الآثار الشرقية في الغرب فصلاً وصف فيه ما عثر عليه من آثار تلك الجزيرة الأزلية فرأينا تعريبه مع مراعاة الأصل قال: إن مجموع الاكتشافات الحديثة التي ظفرنا بها في هذه الجزيرة قد وقعت بين العلماء أعظم موقع وهي تهم تاريخ التوراة في الغاية. هذه الاكتشافات اليهودية لم يعثر عليها في طور سيناء مهد اليهودية ولا في القدس مقرها بل عثر عليها فيما وراء ذلك من البلاد على تخوم مصر والنوبة على بضع دقائق من دائرة الانقلاب في جزيرة للشلال الأول على النيل في مكان لم يكن يتوقع أن يرى فيه رب إسرائيل يهوه بعيداً إلى هذا الحد ويرد عهده إلى خمسة قرون قبل المسيح. وقد قام يقول لنا بلسان من يتعبدون به ممن رافقوه إلى تلك البلاد من أبناء إسرائيل أموراً جديدة ربما تغير بها تفسير الكتاب المقدس وبذلك صح لنا أن نقول أن النور جاءنا من الجنوب اليوم ولم يكن ينتظر أن يجيئنا بعد منه شيء. ومعلوم أن بلاد الفراعنة ما زالت قديماً وحديثاً مخصبة بضروب الاكتشافات الأثرية فهي البلاد التي أزهر فيها ورق البردي فكانت ميداناً مباركاً لعلم الآثار آتانا ولم يبرح يأتينا بكتابات قديمة خطت على هذه المدارج الرقيقة من ضروب الكتابات المصرية واليونانية واللاتينية والقبطية والعربية وغيرها فكان لنا منها كنوز أدبية حقيقية في صورة أوراق من البردي ولنا منها كل يوم قطعة جديدة ومادة ندهش بها ونسر. فبالأمس اكتشفت قطع من روايات مياندر الشاعر الهزلي ففرح بها أهل الأدب. وقبلها بقليل كان اكتشاف آثار للمسيح تصل بنا إلى أصول النصرانية وما يدرينا ماذا خبأته لنا مصر غداً من الآثار ولعل

اكتشاف اليوم سيكون توراة أقدم من التوراة المعهودة وإن ما اكتشف حتى الآن ليدعو إلى الأمل في ذلك. ولكي نمثل للأنظار طبيعة الصكوك اليهودية وخطارتها التي ظهرت للوجود في أسوان تقضي الحال بأن نرجع قليلاً إلى البحث في المسألة من أصلها. فقد كانت مصر عجيبة بما اكتشف فيها من أوراق البردي التي كتبت عليها لهجات أجناس من البشر مختلفة كثيرة ممن تعاقبوا احتلالها فيما سلف إلا أنها ضنت إلى اليوم كل الضنانة بإخراج كتابات باللغات السامية القديمة اللهم إلا بضعة عشر قطعة من البردي كتبت بحروف آرامية عثر عليها منذ نحو ثلاثين سنة. ولئن اختلف علماء المشرقيات في أمر هذه الكتابات لصعوبة حلها فالرأي المجمع عليه يكاد يكون متفقاً على أمر واحد وهو أن تلك الأوراق هي من عهد البطالسة اليونان كما هو الحال في بعض المنقوشات على الخزف والمزبورات على الحجر المخطوطة بلغة وحرف مشابه لها مما عثر عليه حتى الآن في مصر. وإذ سنح لي الزمن منذ سنين بالتوفر على البحث في هذا الموضوع تبين لي حل آخر يخالف رأي غيري واستندت على أمور مختلفة استنتجت منها بأن جميع هذه الصكوك الآرامية يجب الرجوع بها إلى أقدم مما قدر لها من العمر أي إلى عهد الفرس الحجمانيين وعهد دارا وكسركس وأرتاكسركس. وإذا صح أن الأمر كذلك فيكون منها أثر تاريخي لأنها لم تقف عند إبدال شيء من التاريخ بل يكون منها تغيير تام في المحيط السياسي والديني. تبين لي هذا الرأي المخالف للآراء كلها من تأويل إحدى قطع تلك الأوراق من البردي المكتوبة بالآرامية المعرفة ببردي تورين فقد قرأت فيها رأس محضر رسمي أرسل إلى أحد المرازبة في مصر وعليه اسم ميتراوهيشت وهو اسم آرامي لا محالة. ورأيت تناسباً في التعبير المستعمل بين هذا المعروض وبين الذي أرسله إلى الملك أرتاكسركس حاكم بلاد السامرة بشأن منع إعادة بناء معبد القدس الذي شرع فيه اليهود ثم تم على يد نيحيميا وهو المعروض الذي حفظ بنصه الآرامي في كتاب أسترادس المتعلق بالتوراة. وظاهر أن هذا الاستنتاج التاريخي يتناول مجموع النصوص الأخرى المماثلة لها التي صدرت في تلك البلاد ولم تلبث أن تحقق أمرها بما تهيأ لها من الاكتشافات المتعاقبة في مصر وغير ذلك من الكتابات والرقوق

الآرامية التي كتب عليها التاريخ بحروف جلية من عهد كسركس ودارا وأرتاكسركس فثبت ما قلناه بالبرهان. ومن جملة أوراق البردي المكتشفة مؤخراً ورقة ذكرت فيها بعض الحوادث التي حدثت سنة أربع عشرة لعهد الملك دارا الثاني الموافقة لسنة 411 قبل التاريخ المسيحي وقد غلط المسيو أوتنج أحد علماء الألمان الذي عهد إليه نشر هذه الأوراق في قراءة عدة فقرات منها وإذ أخذت أنظر فيها بعده تبين لي أنها عبارة عن شكوى عامة أو معروض عام أرسله إلى المرزبان في مصر جماعة من غير المصريين وربما كانوا من اليهود لإقامة الحجة على اعتداء مدرسة الكهنة المصريين وعبثهم بقبور الرب خنوم في جزيرة أسوان وبذلك عرفت هذه الجزيرة بأنها مركز سامي آرامي جليلة القدر جداً من العهد الفارسي لاسيما وقد أسعد الحظ باكتشاف صكوك مماثلة لها. وقد أرادت الحكمة إذ ذاك علي المبادرة في الحفر والبحث في تلك الرجاء التي هي كالمعدن المملوء بالخيرات ولكني كنت كمن يعظ في قفر أو يصرخ في واد. وما جاء ربيع سنة 1904 حتى تبين أني لم أكن ضالاً فيما دعيت إليه فعثر بالعرض بعض الوظنيين ممن كانوا يحفرون في خرائب أسوان في تربة نشادرية يسمونها سباخاً ويستعملونها في تسميد الزرع على نحو عشر قطع من أوراق البردي مطوية مختومة فابتاعها في الحال المسيو موند واللادي ويليام سيسيل وكانا إذا ذاك في مصر وبعد مدة نشرها المستر كولي في كلية أكسفورد. وكان فيها نصوص سالمة عظيمة بحروف آرامية لطيفة تشبه القطع المعروفة حتى الآن من كل وجه وكلها بلا شك من صنع اليهود النازلين في جزيرة أسوان ومدينة أسوان الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل أمام الجزيرة. لا جرم أن هذا الحادث مهم في ذاته ولكنه ليس مما يدهشنا لأننا نعرف بأن اليهود في سفر الخروج تركوا لغتهم العبرانية القديمة الوطنية وتعلموا اللغة الآرامية وكتابتها وكانت هذه اللغة شائعة في مديريات المملكة الفارسية. كما ترك اليهود أموراً كثيرة أخرى ليس هذا محل ذكرها. هذه الخطوط المكتوبة على البردي هي حجج حقيقية مسجلة غريبة للغاية يرد عهدها بالتدقيق إلى كسركس وأرتا كسركس ودارا بالسنين والشهور والأيام مع بيان موافقة حساب السنين الآرامية والمصرية وهي مرتبة على ستين سنة مضت بين سنة 470 إلى سنة

410 قبل المسيح وقد دونت بطلب الأحزاب بمعرفة أحبار اليهود ووقع عليها توقيعات جمة للتصديق عليها بشهادة كثيرين وهي تدور على مسائل كثيرة في التعامل كالبيوع والشراء والهبة في العقارات والأراضي ومسائل الأسواق والأحكام وحل الاختلافات أمام المحاكم أو على طريقة ودية وعقود زواج ونظر في مسائل الطلاق مع خلاصتها الشرعية سواء كان للمتزوجين أولأولادهما ووصف من أدق ما يكون وأفيد لجهاز المتزوجين وتقدير أثمانه قطعة قطعة والمواريث وقسمة العبيد المنتقلين بالإرث إلى غير ذلك. وبعد فإن مجموع هذه المستندات المنقطعة القرين التي ظهرت سالمة في بعض دفاتر بعض البيوت قد أتتنا بجملة من الفوائد هي غاية في مكانتها وذلك لأنها دلتنا على وجود شعب عظيم من الإسرائيليين في أسوان قبل المسيح بخمسة قرون وعرفتنا بلغته وكتابته وأخلاقه وأوضاعه ومعتقداته وصلاته مع الحكومة الفارسية والشعب المصري وغير ذلك. ومن جملة المسائل التي تنحل بواسطة هذه الأوراق أو توضع موضع البحث مسألة دونها كل المسائل ألبا وهي التي لها علاقة برب إسرائيل وما له في تلك البلاد من الشأن. فقد رأينا اسمه مذكوراً فيها عدة مرات بدون حرج كما صار ذكره بعد. فكان القوم هناك يقسمون برب إسرائيل كما يقسم بالأرباب المصرية (كانت ساتي ربة جزيرة أسوان) عندما يراد القسم ثم أنهم لم يبالوا بالحظر التقليدي عليهم وأنشئوا في ذاك الرجا البعيد معبداً لرب إسرائيل غير مبالين أن ينافس معبد القدس وليس المعبد الذي أقاموه عبارة عن كنيس بسيط أو مصلى صغير بل هو معبد حقيقي مستوفٍ للشروط وفيه مذبح تراق فيه دماء الضحايا ويصعد منه دخان البخور كأن اليهود إذ ذاك في هاتيك الجزيرة هم في عهد عزهم واسعد أيامهم كما كانوا في صهيون. أصغت الحكومة الفرنسوية لطلبي وأرسلت بعثة علمية تحت رئاستي إلى أسوان في السنة الماضية للبحث عن حارة اليهود فيها أو لتحديد موقع معبد رب إسرائيل إن أمكن وكانت هذه المسألة من أعقد المسائل لأن معرفة موقع المعبد كانت معلقة على معرفة ما إذا كان موجوداً في مدينة أسوان المنفصلة عن الجزيرة بذراع من النيل أو على العكس كما كنت أظنه في الجزيرة نفسها. وأنا أقطع مذ الآن أن المسألة مبتوتة في هذا الشأن.

ولقد دامت الحفريات أربعة أشهر يعاونني فيها أخلص تلاميذي وأقدمهم المسيو كليدا فقاسينا في عملنا عرق القربة وكانت أعمالنا لأول عهدها تدعو إلى اليأس ولاسيما فيما يتعلق بغايتي الخاصة. وذلك أنا لما وصلنا الجزيرة رأينا بعثة ألمانية قد سبقتنا إليها منذ سنة واختصت دوننا بطبيعة الحال بالموقع الحسن لإجراء الحفر واختارت أقدم بقعة يرجى أن يكون فيها خير كثير ويسعل على المعاول أن تحفر فيها. فاكتفينا بما أغفلته تلك البعثة من الأراضي وأخذنا نجيل فيها قداح أنظارنا ونضرب فيها معاول عمالنا ولم يأتنا الحفر مدة شهرين بغير بعض الآثار المصرية واليونانية ولكنها كانت بكثرة ونادرة بنوعها ومنها عدة مسلات فرعونية وتمثالان جميلان لتوتمس الثالث مصنوعة من حجر الكرانيت الأسود ولاسيما قبر الرب خنوم أوشنوب أكبر أرباب أسوان وهو الذي لم يكن على اتفاق مع اليهود الذين وقعوا على الشكوى المذكورة آنفاً. وعثرنا على قاعة تحت الأرض لم تمس بأذى تحتوي على نواويس من الكرانيت والحجر الرملي جعلت عليها أغطية مذهبة وجملت بأجمل زينة من الصور والنقوش وهناك خمسة عشر كبشاً محنطاً مقدمة للثور أبيس على نحو ما اكتشف مثالاً من ذلك قديماً ماريت الفرنسوي في مدينة منفيس. كل هذا حسن ونافع في ذاته ولكنه لم يقف دونه غرضي. لأني لم أتحمل مشقة السفر إلى أسوان للبحث عن العاديات المصرية بل للبحث عن الآثار اليهودية. وبعد أن كدنا نصل إلى أخريات وقت بعثتنا عثرنا بعد الجهد الجهيد على حارة اليهود الآرامية وظفرنا بكمية من النقوش المزبورة على الفخار مغشاة بكتابات آرامية يهودية. وقد كتب معظمها في وجهين. وهذه الكتابات النادرة على كثرة الخرق فيها قد أطلعتنا على جزء من المراسلات الودية اليومية التي جرت بين يهود جزيرة أسوان وأخوانهم يهود مدينة أسوان وقد كتبت في زمن واحد هي وأوراق البردي الآنف بيانها وبخط واحد ولغة واحدة حتى أن جملة الموقعين عليها نفس الأشخاص الذين عرفناهم بتلك الأوراق البردية، وذكر فيها اسم رب إسرائيل بصورة من الإملاء خاصة لم تكن تعهد. ولاشك أنه متى تمت قراءة هذه الآثار الفخارية نطلع على أمور جديرة بالنظر وكبيرة الخطر والقيمة. وقد كان داهمنا الحر بخيله ورجله فأوقفت العمل في شهر أبريل وسنعادوه بعد أسابيع

بفضل ما جاد به المجمع العلمي ووزارة المعارف من المال وما مد به يده من المساعدة رصيفي المسيو أدمون روتشيلد وإني على ثقة من أننا نوفق هذه المرة إلى الظفر بموقع معبد رب إسرائيل وقد اكتشفت البعثة الألمانية التي كانت تعمل بالقرب منا برئاسة المسيو روبنسون أوراقاً من البردي الآرامية اليهودية ووكل أمر قراءتها للمسيو ساشو من برلين وقد نشر كلامه على ثلاثة منها. وأهمها صك رسمي ذو شأن عظيم يفيد فوائد كثيرة في تاريخ اليهود والتوراة وهذا الصك عبارة عن محضر مؤرخ في اليوم العشرين من شهر مارهزوان من السنة السابعة عشرة لحكم دارا (408 قبل المسيح) بعث بها إلى السيد باكوهي والي الفرس في بلاد فلسطين أرسلها إليها يدوناه ورصفاؤه من كهنة أسوان باسم جميع تلك المدينة من اليهود ولقد أتى الموقعون على ذلك المحضر بعبارات تكاد تكون بمعناها مشاكلة لما في ورقة البردي المعروفة باسم تورين وكلها دائرة على الدعاء له بأن يمنحه رب إسرائيل بركاته ودعاء له أن يحفظ عليه رضا دارا مولاه ورضى الآل الملوكي وقد ذكروا له أن الكهنة المصريين للمعبود خنوم في أسوان قد كادوا لهم مكيدة عندما تغيب مرزبانهم في مصر المدعو أرسام الذي كان قصد الملك بدعوة منه وتربصوا بهم الدوائر عند واليها المدعو ويدانج الذي رشوه بالمال فحصلوا منه على أمر يوعز إلى قائد أسوان العسكري أن يذهب لتخريب معبد رب إسرائيل في جزيرة أسوان قائلين أن هذا المعبد كان أنشئ قديماً على يد آبائهم وكان موجوداً قبل أن يفتح كمبيز مصر فلم ير بداً من احترامه على حين خرب سائر معابد المصريين ويفهم من ذلك ضمناً أن المعبد كان بناءً هائلاً مبنياً بالحجر النحيت وهو ذو سبعة أبواب أثرية وعمد من الحجارة وسقف من خشب الأرز. وقد نفذ أمر الوالي ويدرانج بلا شفقة في الحال وأعان الجند جمهور من المصريين فخربوا المعبد المقدس وحرقوا ما فيه وحطموه ونهبوا الأواني الذهبية والفضية وسائر الأعلاق النفيسة. فعم الحزن سكان أسوان بأسرهم رجالهم ونسائهم وأولادهم من أجل خراب معبدهم ولبسوا الحداد وأخذوا ينتحبون بكاءً وصاموا وضرعوا إلى رب إسرائيل أن ينتقم من الظالمين. واضرب القوم عن التزين وتعاطي الخمر فأصبح النساء كالأيامى. وبعد حين نكب الوالي زيدرانج وجاد بنفسه مضطراً وهلك جميع من نفذوا أمره ف يخراب معبد أبناء إسرائيل فكفروا بذلك عما جنت أيديهم بيد أن أصحاب المحضر لم ينالوا إلى ذاك

اليوم على كثرة ما بذلوا من المساعي رخصة بإعادة بناء معبدهم بحيث قضوا ثلاث سنين في حزن لأنهم لا يتمكنون من تقديم الضحايا الدينية وإيقاد البخور وعرض الذبائح على معبد رب إسرائيل. وعبثاً توسلوا أيام نكبتهم بخراب معبدهم بباكوهي والي بلاد اليهودية ويوهوهان الكاهن الأعظم في القدس وبسائر الكهنة رصفائه وبأخيه أستان أناني وأمراء اليهود في فلسطين فلم يأتهم جواب ولذلك وضعوا آمالهم ثانية في باكوهي أن يرضى عنهم ويجعلهم في حل من إعادة بناء معبدهم في أسوان كما كان من قبل وهم لقاء هذا المعروف الذي يسديهم إياه يقدمون لاسمه الضحايا إلى رب إسرائيل على المذبح الذي يقيمونه لتمجيده وعبادته قالوا وأن جميع يهود أسوان رجالاً ونساءً وأولاداً لا ينفكون يباركون على باكوهي ويدعون له ثم هم زيادة على الضحايا والذبائح يقدمون له دخلاً قدره ألف بدرة من الفضة خل عنك الذهب الذي أخبروه بأنهم سيؤدونه إليه إذا رضي بإجابة طلبهم (ما أقدم البخشيش في الشرق) وذكروا في الختام بأنهم أطلعوا على ذلك كله كلاً من دلاياح وشلماياح ابني سانالايات حاكم بلاد السامرة وأن الكاهن أرسام لا يعرف من ذلك شيئاً. أما الصك الثاني فيكاد يكون مخرقاً كله ويحتوي مع بعض اختلاف على صورة ثانية من هذا المحضر الذي احتفظ مرسلوه بصورته ومسودته. وفي الصك الثالث عبارات كثيرة تشير إلى أن يهود أسوان رخص لهم بإعادة معبدهم بفضل توسط باكوهي ودلاياح فأعادوه إلى ما كان عليه وعمروه بالعبادة ومما لا شك فيه أن بعض الأوراق التي لم تقرأ قد ذكرت فيها أكلاف المعبد ونفقات بنائه. وهنا لا أرى بيان فائدة هذه الأوراق وموقعها من نفوس العلماء فقد أحيت في نظرنا رجالاً اشتهر أمرهم في التاريخ وهم من الطراز الأول وذكر فيها اسم يوهوهانان الكاهن الأعظم في بيت المقدس وسانابالات والي السامرة وهما مذكوران في التوراة ووالي اليهودية باكوهي وقد ذكره فلافيوس جوزيف المؤرخ اليهودي باسم محرف عن اليوناني وهو باكواس وهذه الورقة هي صفحة صحيحة من عهد حوادث ينبغي إضافتها إلى سفر نيحيميا. فهل يكون من حظ البعثة الإفرنسية أم من حظ البعثة الألمانية يا ترى الظفر هناك بتوراة يرد عهدها إلى ما قبل المسيح بخمسة قرون في حفرياتنا الجديدة؟.

مطبخ الفقير

مطبخ الفقير من مبحث للدكتور فيليكس رينيول في المجلة الباريزية طعام المتوحش غليظ كبنيته أصبح أفقر البائسين لعدنا في مأمن من الجوع على أن المتوحش لا يزال عرضة للمجاعة لا لأن الطعام المدخور عنده قليل بل لأنه يجهل الزراعة وتربية الماشية وتختلف موارد عيشة من الصيد والقنص كثيراً إذ ليست أبداً منه على طرق الثمام. وما مثل المتوحش إلا كالجوارح الكبيرة من النمر والفهد يصيد الصيد تلذذاً بالقتل وهو لا يحسب للغد حسابه ولما كان على جهل بطريقة تجفيف اللحم والتقديد أصبح من الصعب عليه أن يدخر اللحوم لأوقات القلة. وهناك أمورمن الخرافات المضحكة تزيده بلاء وذلك أنه يرى بعض الحيوانات مقدسة ويعتقد أنها اجداد قبيلته فإذا رآها اتخذها طوتمه وحاميه ويعد نفسه إذا قتلها كلها بأنه خرق الحرمة وعبث بأقدس المقدسات. يتقزز المتوحش من جميع الأطعمة التي لم يعتد تناولها قد فإن تغذى بلحوم الصيد تأنف نفسه من تناول السمك وإن اغتذى من السمك يعاف اللحم. ومع هذا تراه يعمد إلى اختيار الأطعمة الغليظة. إن جاع عمد إلى الحبوب البرية والجذوع الخشبية واسترط الحشرات والديدان وأخذ القمل عن أخيه يقضمه. ومعلوم أن لا شيء يخلو من صوالة مغذية حتى التربة الصلصالية التي تغتدي منها ديدان الأرض أحسن تغذية والإنسان يسير على مثالها فيكون من أكلة التراب ولكن أمعاءه لا تهضمها فينتفخ بطنه ويحدث التهاب في الأحشاء يكون منه الموت. إذا أسعد المتوحشين الحظ فقتلوا حيواناً كبيراً أو صادوا سمكة ضخمة يقعون عليها كالحيوانات الجائعة. فقد وصف لنا أرباب الرحلات شراهتهم الحيوانية فإن الصانيين من قبائل الهوتنوت في أفريقية الشرقية إذا ضربوا فرس بحر يفتحون جثته وهو حار ويأكلون أحشاؤه كما تأكلها الكلاب. وإذا سقط حوت على الشاطئ يخف سكان أوستراليا الجياع عراة كيوم خلقوا وينغمسون في الدهن ويبلعون قطع الحوت الكبير بلعاً ولا يرجعون عنه إلا وقد امتلأت كراشهم وشبعوا وانتفخت بطونهم فينامون بعد ذلك طويلاً. بيد أنه لا يجب علينا أن نسخط مما يبلغنا عن أولئك المنحطين في سلم المدنية فإن فلاحينا يأتون في ولائمهم من الإكثار من الطعام والشراب ما لا يقفون فيه عند حد ولولا أن أنواع الأطعمة

تختلف لقلنا أنهم المتوحشون بعينهم. المتوحش إذا لم يتخير رديء الأطعمة فهو لا يعرف الطبخ ولا أعني بذلك أنه لا يجيد طبخ طعامه بل أنه لا يعرف كيف ينضجه ولا شك أنه لم يعهد إلى الآن قوم مهما انحطوا في دركات التقهقر يجهلون إيقاد النار. ولكن من القبائل من لا تحسن الانتفاع بها وهي توقد جذوة على الدوام لتظل النار عندها بلا انقطاع. ولا عهد لهم بأواني الطبخ لما ثبت من أن بعضهم يجهلون صنع الفخار فيلقون حجراً محمى في الماء إذا أرادوا تسخينه وهم على جانب من الكسل بحيث يؤثرون أن يأكلوا معظم المآكل النيئة كالديدان والهوام والأسماك ويقضمون بفكوكهم القوية الجذوع القاسية والأثمار الليفية. قال المترفه بيريللا سافارين الفرنسوي مؤلف كتاب فسيولوجيا الذوق (1755 ـ 1826) قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت. وهذه الحكمة يتيسر لعلماء الإنسان أن يطبقوا عليها أبحاثهم وذلك أن طعامه قلما يكون صالحاً للأكل وأن للمتوحش فكوكاً ضخمة مستطيلة وأضراساً غليظة وأعصاباً للمضغ قوية. وعندما يتحضر تتحسن أطعمته وتخف قوة شدقيه وأسنانه. يقول المسيو حنا فينو أنه ليس بين الأجناس المتمدنة من البشر فروق كثيرة وعلى العكس في الأجناس المتوحشة فإن بينها وبين المتمدنة اختلافاً كثيراً في الصور الظاهرة والحواس الباطنة وظن بعض علماء الإنسان بأن هذه الاختلافات هي على إطلاقها على أنها مما يمكن تعديله وبذلك يتسنى لنا تعليلها. ولقد كانت أول الاكتشافات في أول عهد الحضارة هي اكتشافات الطبخ فقد رفع القدماء إلى مصاف الأرباب الأذكياء الذين علموهم زراعة الأرض وتدجين الحيوان وصنع الخبز وتخمير المشروبات. إفراط المتمدنين في المآكل الأطعمة التي يتقزز منها والتر يرغب عنها: قلنا أن المرء اليوم يكاد يكون في مأمن من الجوع ولكن الشر الذي عجز الوجود أن يسومه إياه أصبح خاضعاً له بواسطة الحروب مختاراً. فإذا حوصرت مدينة يعمد الجياع من أهلها إلى تناول الأطعمة القذةر كالكلاب والقطط وجرذان المجاري وسائر أصناف الحيوان ويذكرون أن الجلد والعشب والخشب لها بعض الخصائص في التغذية وللضرورة أحكام. تجد مائدة الفقير في الأوقات المعتادة مغشاة بالأطعمة التي هي أكثر تغذية والطف طعوماً

مما يقنع به أخوه الفقير الحقير ولذلك يستهين بالأغذية التي تطيب بها نفس أخيه المتوحش فتعاف نفسه الحبوب وجذوع الأشجار والحشرات والديدان وكل ما يدب ويطير علماً منه بأن مثل هذا الغذاء لم يخلق له. على أن جودة التحضير قضت على الفرنسيس أن يتناولوا أفخاد الضفادع والحلزون. والإنكليز يتقززون من الفرنسيس مع أنهم لا يستنكفون من تناول فطير الغراب. الفقير كالمتوحش عدو التجديد في كل ما له علاقة بغذائه يأبى تناوله أحسن طعام لم يعتده منذ طفولته. ولم ننس ما قاساه بارمانتيه في القرن الثامن عشر حتى صير البطاطا مألوفة بالاستعمال بين الناس. وقد مضت أعوام قبل أن يقبل الفقير باستعمال لحوم الخيل مع أنها مغذية جداً ولا نزال إلى الآن في جهاد حتى يألف الناس استعمال السمن النباتي المستخرج من الجوز الهندي على أن في استعماله اقتصاداً وهو سهل الهضم لذيذ الطعم يأبى العملة الاعتماد عليه وبعض أهل الطبقات الوسطى تقبل عليه. نحن كالمتوحش نسرف في الطعام ويصعب تقدير كمية الطعام التي تلقى كل يوم في علبة الفضلات وليتنا نحسب الأرغفة البائتة التي تطرح طرح الزوائد وليت جمعيات الإحسان تتمكن من جمعها لتعمل بها ثريداً أو حساءً لألوف الفقراء. ولا يخلو واحد فينا من الإسراف في الطعام حتى الجند في ثكنهم فإنهم يلقون بفتات الخبز الأسمر. أما سائر الأطعمة فلا ينتفع بها لكثافتها على أن فيها ما لا يزدري به وينفع كل النفع. تملأ كل صباح في أسواق باريز عجلات الصوالات والفضلات بمواد يسهل استعمالها وذلك أن القوم يطرحون رؤوس الأسماك ولا سيما (الكابيلو) و (الكولين) ولو أخذت لصنع بها حساء لطيف. وربما اعترض معترض فقال إن هذه الفضلات قليلة وإذا صارت تباع ترتفع أثمانها على أننا لو فرضنا أن رأس سمكة الكولين بيع بخمسة وعشرين سنتيماً وصرف في الرز والطماطم والبصل والبقدونس والصعتر والملح والثوم والنار فرنك يكفي الحساء المستخرج من هذه الصورة بفرنك واحد لإطعام ثمانية أشخاص. نعمل سلاطة مقبلة بأوراق القضبارون (سفورجنة) وإن سفير (الأوراق الذابلة) الفجل إذا استعملت كما يستعمل السبانخ تطيب وتلذ وإن الجزء الأخضر من الكراث الذي يطرح في

العادة يمكن الانتفاع به في الحساء حتى أن الأوراق الخارجية وبقايا (قرمية) الملفوف تحتوي على مواد مغذية. نعم إن الناس يخشون من أليافها الصلبة ولكن إذا أجيد طبخها وأطيل الإطالة اللازمة وسحق سحقاً كافياً لا يخشى منها. والناس يلقون أيضاً فضلات رؤوس البقر على حين تستخدم في زيادة طعم حساء البقول ولكن العامل يصنع منها مرقاً بالخضر وهو لا يعرف إلا المرق المطبوخ بالبقول الناشفة المقسمة أحسن تقسيم ويأبى إباؤه أن يغتذي بمثل هذه الفضلات. وهناك بعض المواد يمكن الانتفاع بها في الغذاء على شرط أن تحضر تحضيراً خاصاً ولطالما بحث الباحثون من أجل الانتفاع بالألياف العظمية فإن الكلب يأكلها جيداً وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري على مثاله فذلك لأن ماضغيه وأحشاؤه ضعيفة. ولقد حاول كثيرون منذ قرون أن ينتفعوا بالعظام أو بالهلام (الجلاتين) المستخرج منها ليطعمها الفقير واستعملت طريقة الكيماوي (أبرت) في استخراج الهلام من العظام لحفظ المأكولات ولكن الجلاتين أقل تغذية مما كان يذهب إليه الناس من قبل فهو يزيد الحرارة في الجسم ولكنه لا يقوى على تقوية أنسجتنا ولا تجد فيه خاصية اللحم والألبومنيد وإذا تغذى الكلب بالجلاتين خاصة يموت لساعته. جمود الفقراء وغيرهم على أحسية واحدة يقول علماء الاقتصاد حيثما يخرج رغيف يولد إنسان. يريدون بذلك أن سكان كل بلد على نسبة غناها في غذائها وإذا كان الجمهور يزهدون في جميع هذه المواد النافعة في التغذية التي تكثر سواد الناس أما في طاقة دور الإحسان أن تستخدمها وتحسن استعمالها كانت العقيلة روبرت أول من فكر سنة 1840 في تحضير وجبة طعام لفقراء باريز لقاء أربعة فلوس وطعامها مؤلف من حساء بالملفوف وقطعة من الثريد والخبز وقدح من الحمر. ثم كان عقيب ذلك أن صار يقد حساء بلا مقابل للفقراء وكان بريبان أول رجل من أصحاب مطاعم الفقراء أخذ يوزع الطعام على المساكين. ومع ما دخل هذه المطاعم من الأدوات التي تهيئ الأطعمة أسرع من ذي قبل وعلى صورة أحسن مثل أدوات القطع والفرم والسحق فإن هذه المطاعم لم ترتق الارتقاء المطلوب وأمثال هذه الأدوات تستخدم للانتفاع بالمواد التي تطرح ولا تستعمل بالنظر لصلابتها وذلك بأن تحيلها إلى ثريد يسهل تشبيهه

بالثريد المعروف وهكذا الحال في أنواع الأطعمة فإن مطاعم الشعب لا تبحث لصنع حسائها عن الحبوب التي تكثر تغذيتها وتقل قيمتها كالأرز والشعير والقرطمان. ولعل هذا ناتج من أن للفقير من عزة النفس ما يجعله يأنف من بعض الأطعمة حتى أنك لو قدمت له طعاماً مؤلف من الفضلات اللذيذة لرأى في المسألة نظراً. وكثير من الفنادق توزع بقايا الطعام على الفقراء. وقد قال أحدهم يوماً وخدام أحد الفنادق يريدون أن يطعموه: إنهم أكلوا الأطايب ولم يتركوا إلا الأخابث. وأظهر من هذا صراحة ما قاله الدكتور فيرون: أريد أن أعرف ماذا جرى للكمأة فإنني لا أجدها قط. إلا وأن كل اختراع في هذا السبيل ليصعب ويسوء قبوله بين هؤلاء الزبن وما أظن أنه لو قام أحد المحسنين في هذا القرن وأنشأ يطعم الفقراء من الفضلات التي تطرح في الأزقة على طريقة علمية إلا ويكون شأنه شأن سويه الفرنسوي منذ ستين سنة. وهذا الرجل كان من أعظم الطهاة اشتهر في وقته وله شراب منسوب إليه كما له مرق اشتهر به فقد كان مديراً لمطابخ ريفورم كلوب في لندن فزعم أنه اكتشف طريقة لمكافحة القحظ في إيرلاندا وأسس في أحد شوارع دوبلين بأمر الحكومة مطعماً للشعب واحتفل بافتتاحه فحضر الاحتفال جمهور كبير من الناس ومنهم رئيس أساقفة دوبلين ونائب ملك إيرلاندا وقدم للناس سبعة أنواع من الطعام على أخونة لطيفة وفي أوان حسنة وكانت نكهة أنواع الحساء تنبعث كالعطر واستطاب الناس تلك الأحسية وأقبلوا على محله إقبالاً غريباً يفدون خماصاً ويروحون بطاناً. دام الحال على هذا المنوال شهراً وأولمت الولائم لسويه في المدينة حتى أن نائب الملك دعاه لتناول الطعام على مائدته. وأخذ الفقراء يباركون اسمه لأنه كان لهم بمثابة المسيح الذي أنقذهم من مخالب الجوع والمخمصة وفي خلال ذلك عزمت دار الندوة أن تقرر إنشاء مطابخ للشعب تشبه مطاعم سويه في بلاد الأقاليم إنقاذاً للناس من فتكات الجوع وعندما خطر لسوئه أن ينشر كراسه يكتب فيها كيفية تحضيره هذه الأنواع من الأحسية قائلاً أن لحومها قليلة وكثير منها خال من اللحم بالمرة فقامت الجرائد المعارضة تشهر عليه حرباً عواناً قائلة أن أنواع هذا الحساء لا تغذي طاعمها وتفسد بنية الإنسان وينشأ عنها أمراض شديدة بل مهلكة وذهبوا إلى أن انكلترا رأت في هذا الطعام القتال أحسن واسطة لإلقاء السلام في إيرلاندا للتخلص بصور شريفة من ألوف البائسين

المعربدين لأن وجودهم كان على الدوام سبب القلق على سياستها وحملاً ثقيلاً على الميزانية، فاضطر صاحبنا سويه إلى السفر خلسة توقياً مما يلحقه من الأذى وربما كان صلب. تعليم العامل كيف يحسن ابتياع طعامه وإجادة طبخه لسنا ندعو المحاويج وحدهم إلى الانتفاع من علم التغذية بل أن العامل والمتوسط على اختلاف طبقاتها بل جميع أبناء الوطن يتيسر لهم أن يستفيدوتن منه فقد أجاد لاسال أحد زعماء الاشتراكية في ألمانيا (1825 ـ 1864) بقوله أن المسألة الاجتماعية هي أولاً مسألة طعام وأكل. وقد أثبت الأطباء لاندوري ولابي وروم هذه النظرية التي قال بها ذاك الاشتراكي فإذا كان السل منتشراً في المدن الكبرى فهو ناشئ في الأكثر من قلة التغذية ويضاف إليها أسباب أخرى من البؤس كالتعب والإدمان على الشراب والعادات الرديئة. والذي يظهر لمن ينظر في الأمور نظراًُ سطحياً أن العامل يغتذي أحسن تغذية ويختار أجود أنواعها وأن امرأته تبتاع للبيت يوم يقبض زوجها أجرته أحسن الحاجات البيتية فيكثر أهل البيت من الأكل ومن الغد تنقلب وليس عندها شيء فتحمل زوجها على الاقتراض ريثما يقبض عمالته ومن أجل هذا تجد في حي الفقراء في باريز أجود أنواع البطاطا وأحلاها وأحسن أجناس السمن والسمك فتبتاع زوجته ما شاءت منها بدون حساب وكيفما اتفق لها على حين لو اشترت بالجملة ودققت في حسابها لكان ما يكلفها بالمفرق فرنكاً وربعاً لا يكلفها أكثر من خمسة وثمانين سانتيماً في الجملة. ثم أن العامل معتقد بأن كل طعام رخيص الثمن فيه ربح له وهو لا يحسب تلك الفضلات التي لا تؤكل. فمن وزن اللحم يجب إسقاط العظام والجلود الجلاميط والعراقيب ومن السمكة أحشاءها وحسكها ومن البيض فشره ومن الجبن قشرته ولكل خضرة نفاية ولكل ثمرة قشرة أو بزرة أو ساق عقب ثم ينبغي أن تلاحظ كمية الماء الموجودة في المواد وأن لا ينسى أن البقول الناشفة ولو كان ثمنها أغلى فإنها خير من الطرية لقلة المائية فيها ولحم العجل وإن كان أرخص من لحم البقر فليس هو أحسن منه لما فيه من المائية وقلة التغذية وهكذا لكل بقل ولحم فضلات وحثالات وعندي أن تجمع هذه المعلومات في شكل قائمة تنشر في كراسة ليعرف الناس أن مئة غرام من أضلاع العجل تعادل في تغذيتها 129

غراماً من صدره ولا يفوت الناظر قيمة التتبيل والوقود. على أن علماء الاقتصاد لا يحسبون في العادة حساب هذه النفقات ويعدونها طفيفة مع أن لها شأناً في تحضير الطعام. وهناك شيء آخر لا يحفل به عيال العملة وأعني به الوقت وذلك أن نساء العملة يشتغلن أيضاً في المعامل حتى إذا جاء المساء يضررن لأن يسرعن في تحضير الطعام فلا يجدن أيسر من البفتيك والأضلاع والمشوي ولذلك يكثر استعمال هذه الأنواع في أحياء العملة وربما ابتعن اللحم المقدد والثريد المصنوع والبقول المطبوخة الحاضرة. أما وإنه يصعب فصل النساء الفقيرات عن معاطاة الأعمال فمن العبث أن يعلمن أساليب الطبخ والتفنن فيه فما أجدر أن يعنى الطباخون بتحضير أطعمة خاصة بالطبقات النازلة بثمن بخس ومؤلفة من مواد جيدة. من المتبلات اللذيذة التي ذقتها واستطبتها وهي من تحضير المسيو مونتانيه ولا تكلف الإنسان أكثر من عشرة سانتيمات مربب التفاح وكيفية صنعه أن تأخذ 500 غرام من التفاح من الجنس المعروف برينت و200 غرام من الخبز البائت و25 غراماً من السمن و50 غراماً من السكر و3 ديسلترات من الماء. وهذه الماء لا تكلف أكثر من خسيم سانتيماً بالجملة وتكفي لطعام ستة أشخاص. وكيفية تحضيرها أن تقشر التفاح وتقطعه قطعاً كبيرة وتقع الخبز قطعاً ناعمة وتلت أسفل الصفحة الطبق أو الصحن بعشرة غرامات من السمن وترش ملعقة صغيرة من السكر ثم تضع سافاً من الخبز وسافاً من التفاح وهكذا إلى أن تأتي عليهم ثم تضيف إليهما ما بقي من السكر والسمن وتقسمه إلى قطع وتبله بالماء وتضع الصفحة عشرين دقيقة في الفرن وتتناول ما فيها في الحال. ثم أنه يمكن أن يجود هذا المريب أكثر من ذلك بزيادة نفقة قليلة وأن يجعل دسيلتران من اللبن بدل الماء ويضاف إليه بيضة محلولة ويمكن زيادة كمية السكر وأن تحسن رائحته بأن يوضع فيه قشرة من الليمون أو البرتقال أو القرفة. يجب تغيير الطعام بحسب العمل وما يجب على العامل معرفته هب أن العامل يعرف أن يبتاع طعامه ويطبخه فإن المسائل الاقتصادية والصحية ليست وحدها هي التي تطلب حلها بل أن الأهم منها هي المسألة الفيزيولوجية التي يجب أن يكون لها مبدأ صريح إذا أراد العامل أن يضمن صحته وعمله. فإن الفيزيولوجي يعلمنا بأن

الطعام يجب تنويعه بحسب نوع العمل بحيث يكون منه ثلاث منافع: إصلاح الأنسجة التي تبليها أعمال الحياة وإعطاء الحرارة التي تحفظ على الجسم حرارته وإيراث القوة اللازمة لكل عمل عضلي. فنحتاج للقيام بهذه الحاجيات الثلاث إلى ثلاث عناصر أولية الألبومنيد من اللحم والبيض والبقول والدهن الحيواني أو النباتي وهيدرات الكربون أو الدقيق الذي يكثر في البقول فالألبومنيد يصلح من أنسجتنا والدهن يعطي الكالوري والدقيق يعين على العمل ويعطي المرء كمية من الحرارة. ولجعل التغذية على نظام مخصوص يجب أن يوضع موضع العناية لا المناخ والفصل (إذ من البين أن في الشتاء يحتاج الجسم إلى كمية من الكالوري أكثر من الصيف) ولا اختلاف أحوال الأحياء (إذا أن المرأة الحبلى أو التي ترضع والولد الذي ينمو يحتاجان إلى إنشاء أنسجة جديده فيهما) بل ينبغي أن ينظر إلى نوع العمل. ومنذ مدة بحث الدكاترة لاندوزي وهنري ومارسل لابي في تغذية مئة من العملة والمستخدمين في باريز فكان لبحثهم رنة كبرى وذلك أنهم قسموا العملة إلى أربع طبقات جعلوا في الأولى جميع العملة الذين يعملون أعمالاً بدنية كالنجارين والحفارين والنقالين والحمالين وصناع الحديد الخ. هؤلاء العاملون يكثرون من تناول اللحم فيأكلون مئتي غرام في اليوم وقلما يتناولون المعجنات المغذية والبقول ونصف لتر من الحساء ولا يتناولون سكراً مكعباً من الإنسنت و40 سانتمتراً مكعباً من الكحول على درجات مختلفة. والطبقة الثانية العملة الذين يعملون أعمالاً معتدلة كمن يشتغلون في المصانع أو المعامل الميكانيكية والنجارة الخفيفة والقفالين وغيرهم فهؤلاء يتناولون أيضاً لحماً كثيراً فيأكلون 225 غراماً منه وقليلاً من المواد النشوية والمعجنات المغذية والأحسية والبقول والأطعمة المعمولة بالسكر فيأخذون 400 غراماً من الخبز و7 غرامات من السكر وربع لتر من الحساء ولتراً من الخمر و50 سانتمتراً مكعباً م الكحول في درجة خمسين. والطبقة الثالثة من العملة الملازمون للجلوس ككتاب الإدارات ومستخدمي المخازن وعملة المكاتب التجارية وغيرهم فهؤلاء يكثرون من كل شيء ولاسيما من اللحم والألبومين النباتي والبيضي فيأكلون 510 إلى 540 غراماً من الخبز و40 غراماً من السكر والشوكولاتا ولا يأخذون حد الكفاية من البقول الطرية والمأكولات العمولة بالسكر ويكثرون

من المقبلات الكحولية والمشروبات فيأخذون ثلثي لتر من الخمر و80 سانتمتراً مكعباً من الكحول على خمسين درجة وعلى العكس ن ذلك فإنهم لا يشربون ماءً نقياً بقدر ما يجب ومعلوم أن الماء ينفع في تنقية الأنسجة غير العاملة في الجسم. والطبقة الرابعة عبارة عن العملة والمستخدمين كالخياطات وبائعات الأزياء ومستخدمات المحال التجارية وغيرهن فإنهن أيضاً يرتكبن أغلاطاً كبيرة تخالف قواعد صحة الغذاء فيأكلن أطعمة كثيرة قليلة التغذية والأدام كالسلاطة والفجل والمرق المخلل والقثاء والثمار الرديئة وأثل من حد الكفاية من كل نوع فيتناول الفرد منهم 250 غراماً من الخبز و7 غراماً من اللحم و80 غراماً من لابقول وربع لتر من الخمر. ولا يفوتك أن المستخدمين الملازمين للجلوس وحدهم يأكلون في الصباح قبل تعاطي أعمالهم وما عداهم فإنهم يبدأون بأشغالهم على الريق. ويرى الأطباء المشار إليهم أنه يلزم العامل الذي يبذل من قوة جسمه 3600 من الكالوري كل يوم وللعامل المعتدل 12600 وللعاملين الجالسين على كراسيهم 2100 ولبائعي الأزياء 2090 وهو حد الوسط الكافي ولا ينبغي تطبيقه بالحرف بل أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص وقاماتهم ووزنهم وأعمالهم. فإذا أحب العامل الألبومين لتغذيته فغلبه بسمك الأرنكة والجبن وفخذ الخنزير والبقول الناشفة فإنه فيها بغيته بثمن معتدل على العكس من اللحم والبيض فإنها مواد غذائية تعد من نعيم البطون. ولكي يحصل على الهيدروكربون عليه أن يستعمل البطاطا فإنها في الدرجة الأولى برخصها ثم الرز والخبز والسكر والبقول والثمار الناشفة. وإذا أراد الأدهان فليعمد إلى دهن الخنزير وشحمه وأنواع الجبن والشوكولاتا. هذا وقد عرف جميع المشرعين مكانة تنظينم التغذية وقد حرم موسى على العبرانيين لحم الخنزير والحيوانات المقدسة لفكر ديني كما حظر ما نوي على الهنود لحم البقر. وما زالت معتقدات المتوحشين بشأن الحيوانات التي يعدونها أجدادهم واعتقادهم بالطوتمية موجودة إلى اليوم عند أبناء هاتين النحلتين وتجعل لهذا الحظر وجهاً من الشرع. وقد كان ليكورك أول من سن للإسبارطيين أن يتخذوا أطعمة عامة يعتمد عليها كالحساء الأسود أما الآن فإن الأفكار أكثر حرية في هذا المعنى فلا تقدر الحكومة أن تستعبد أرادة المحكوم عليهم في

طعامهم فليس أحسن من أن نعمد إلى طريقة الامتناع من طريق الخطابة والكتابة وعلى أندية كليات الشعب خاصة أن تبين أمثال هذه الموضوعات وأن تنشر كراريس رخيصة لنشر هذه الأفكار والتعليم الديني الذي يعلم في المستقبل هو تعليم التغذية في الحقيقة.

الأسرة

الأسرة قامت الاجتماعات البشرية الأولى على مناسبات طبيعية منشؤها روابط عصبية وميل إلى أرض واحدة واتحاد في العادات واجتماع على أسباب المعاش ولم تتألف لأول أمرها إلا من أسرات منفردة ثم تقارب بعضها من بعض فتألفت جماعات جدد. وما احتيج في العقود الزوجية بادئ بدء إلى أقامة الحفلات لأن الرجل والمرأة كانا يعملان كلاهما أعمالاً شاقة تضطرهما إلى جهاد متواصل ويختلطان أكثر من اختلاطهما اليوم. وما كان يطلب من النساء ما يطلب منهن على عهد التمدن الحديث أو ما يطلبنه لأنفسهن فيه من أساليب الظرف والكمال فإن هذا كله لم يكن في تلك الأدوار معروفاً كما لا يشاهد الآن في العناصر المنحطة من البشر. وكان بين الرجال والنساء من التماذج الذي يسقط دونه التمايز والنساء هن صلة القربى والأبناء ينسبون لأمهاتهم. ثم حدثت رغبة التزاوج بزوجة فنشأ من ذلك الزواج بالبيع أي ببيع حقيقي عند الشعوب الأولى وبالبيع في الظاهر فيما بعد ثم نظم الزواج بأنواع التنظيم المختلف. فتيسر بذلك للأغنياء وزعماء القبائل أن يأخذوا عدة زوجات ونشأ من أجل ذلك الضر بعد أن كان الأبناء يدعون لأمهاتهم. وما زال الضر أي تعدد الزوجات شائعاً في آسيا وأفريقية وذلك للعادة المتبعة في تسليم الأعمال اليدوية للنساء بحيث يكون منهن أعظم مساعد وينتفع بجهادهن أحسن انتفاع. الطر وإن كان من طبيعته جائراً فهو خطوة نحو التقدم إذا قيس بما كان البشر يألفونه من قبل من نسبة الابن لأمه وذلك لأن الأب والأم معروفان فيه. فقويت درجات القرابة أكثر من ذي قبل وغدا من السهل على الناظر إذا رجع إلى الماضي أن يأتي بسلسلة متصلة من الأبناء ونشأت من احترام الأجداد ولاسيما في الشرق عبادة خاصة ما زالت في بعض أنحائه على قوتها. جرت عادة الشعوب الآرية منذ عهد بعيد أن تقتصر على زوجة واحدة وكان من نتائج هذه العادة إكرام المرأة واحترام حريتها ورضاها كل الاحترام وحل الشعور بالحب محل توحش القرون الأولى وأصبحت المرأة ملكة في بيت زوجها وإن تكن مستعبدة من حيث الأخلاق. وحدث من عواقب الاقتصار على واحدة من النساء في أوروبا نظام الأسرات ففرضت على كلا الزوجين واجبات كثيراً ما كانت موضع المناقشة وقد تعدل فيقبلها الرأي العام

والقانون. وهكذا جرى عقد تبادل الواجبات بين الزوجين على غير قاعدة المساواة فاليونان والرومان لم يقولوا بتعدد الزوجات ولكنهم لم يمنعوا التسري ولطالما رأوا أن لا مانع من التزوج بامرأة غير المرأة الأصلية على طريقة نصف شرعية ولذلك لم تكن الفتاة اليونانية محررة من قيود العبودية كل التحرير فهي في طفوليتها طوع إرادة أبيها وإذا تزوجت أصبحت تحت حكم زوجها وإذا ترملت يكون أمرها بيد أقربائها أو بكر أولادها. ولم تمتز العقيلة الرومانية على ما كان لها من الحرمة عن الرجال بأمر ولا خلصت من وصايتهم عليها. وكان نفوذ المرأة في شمالي أوروبا بين البرابرة ضئيلاً وكذلك عند أمم السلت والغاليين وحالها أحسن بقليل عند الجرمانيين ولذلك اقتضى لها حركة عقلية قوية للاستمتاع بحريتها ولقد كانت النصرانية بتمجيدها الأمومة عوناً على رفعة شأن المرأة الأدبي وإعلاء مقامها وتكريمه أكثر مما كانت. ومع هذا فتكاد لا تخلو حالها من نقد ويوشك أن لا يكون موقفها معه بعيداً عن الحرج. ويكفي للاقتناع في هذا الباب أن يدرس المرء ما يتعلق بالمرأة من مواد القانون درساً موجزاً ليعرف حالها إذ ذاك. على أن هذه القوانين ما برح حكمها إلى اليوم نافذاً في معظم الممالك الأوروبية. فقد جاء في تلك القوانين بشأن المرأة بأن عليها أن تطيع زوجها وتفقد بعقدها عليه جنسيتها واسم أسرتها واسم بلدها وحرية التمتع بحقوقها وليس للزوج أن يتنازل عن الحقوق التي منحه القانون إياها ويحظر على المرأة أن توقع على عهد مدني أو شرعي بدون إذن من زوجها أو ممن يرجع إليه أمرها. وتفضل القانون عليها فمنحها حق الإيصاء وهي لا تستطيع وإن تجردت عن مالها أن تكون لها صفة أمام المحاكم ولا أن تمنح مالها وتبيع وترهن وأن تأخذ شيئاً بثمن أو بلا ثمن دون توسط زوجها فيه وإذا لم يكن لها زوج فالشرع يتولى ذلك منها وإذا كان الزوج يشرك زوجته في الأموال ساغ له أن يتصرف لا بريع أملاكها فقط بل أن يملك في بعض الأصقاع وارداتها الناتجة عن عملها بالذات. ولا يحق للمرأة أن تنظر في مستقبل أولادها. ويحظر عليها إذا كانت أميرة ملكية أن تجلس على سرير الملك في كثير من الممالك وإن دل تاريخ بعض الملكات في إنكلترا وألمانيا وروسيا على أن صولجان الملك في أيدي النساء لم يكن دونه في أيدي الرجال قوة

وسطوة وقد بذلت العناية من وراء الغاية ولاسيما في العهد الأخير في تعديل القانون الذي لا يمنح الزوجة وهي في حجر الأسرة إلا شطراً محدوداً من العمل فسوغ المعارضون تلك القيود الموضوعة وعللوها بقلة حنكة المرأة وتجاربها وما يعتريها من التأثرات النفسية والبواعث المحركة لها بدون أن ينظروا إذا كانت هذه الدواعي من الخطأ والأعمال النابية عن التدبر كثيراً ما أثرت أثرها وإن معظمها ناتج عن ذاك القانون نفسه الذي يزعم بأنه غير جائر. ولا جرم أن التعليم الذي تتعلمه المرأة اليوم على قلة كفايته وغنائه إذا توسع فيه جرى تحسينه بحسب سنة العقل لا يلبث أن تظهر نتائجه في الحال. وإذا ربي عقل أم البيت المقبلة وأشعر قلبها الإحساس بما لها من المكانة ينشأ عن ذلك أساس تربية الولد الذي يطلب إليها أن تراقب تأثراته الأولى ويديرها بيدها. يجب أن تكون المرأة رفيقة الزوج لا خادمته. وإذ أنها شاركته في نعيمه وبؤسه فلها الحق أن تشركه في حياته وأعماله وأمانيه في المستقبل وأن تستند إلى معونته وحمايته في جميع الأحوال وإذا احترمت في ذاتها تظل أمينة معه فهي حاؤرسة التقاليد البيتية فإذا خانت وأدخلت عنصراً أجنبياً إلى بيتها في وقت ضعفها فتكون قد ارتكبت عملاً شائناً توبخها نفسها عليه ويؤدي ذلك بها إلى نفاق وكتمان لا ينطبقان مع طبيعتها الشريفة وتضطرب نفسيها أي اضطراب كلما تمثلت لها فعلتها. فالزواج على ما يتمثل لفكر عادل مستقيم يفرض أن هناك حساساً حقيقياً بين الزوجين المقبلين وأنهما على كمال الاستمتاع بقواهما في المال والقدرة على العمل ليضمن بقاء الأسرة وهذا الشرط الأخير كثيراً من يصعب تنفيذه ويا للأسف ومنه ينتج أن بعضهم قد يطيلون أمد عزوبيتهم إلى أجل غير مسمى مع ما في امتناعهم عن الزواج من الاستهتار والشذوذ. ويعقد بعضهم من العقود الزوجية كل ضعيف ضئيل يكون الداعي الأعظم فيها مصلحة خاصة وأغراض ذاتية. ومن هناك أتت المفاسد وهي ناشئة من عادات رديئة وكثيراً ما تكون هي الجرائم بعينها. وقد ظهر في بعض الزواج من التنافر في الطباع والأخلاق ما اقتضى معه أن يتلافى أمره بالسماح بحل رابطته. وما الإذن بطلاق الزوجين المتنافرين إلا إقرار شرعي على أمر ثابت أصبح دوامه لا يطاق. وكل ما يفصم عرى عهود الزواج وإن كان معقولاً في ذاته لا يخلو من حسرة تلحق الأبناء

الذين ولدوا من أبوين يريدان الطلاق والانفصال. وبهذا النظر تعين على زوجين يرغبان في الطلاق أن لا يقدما عليه إلا بعد التأمل الكثير ليتحاميا الوقوع في مصائب تربو آلامها على ما صارت إليه حالهما. ولقد دعا تعدد الزواج المتسرع في عقده دون النظر في المستقبل والتدبر في قلة ملائمته إلى القدح في نظام الزواج نفسه في صورته الحاضرة وتعظيم أمر الزواج المدني الحر إذا ضمنت فيه حالة الأولاد الذين يولدون منه ببعض ضمانات خاصة فلا يقوم الزواج بعد ذلك بإجراء شعائره المدنية أو الدينية بل بإنشاء صك بسيط تكون شروطه معلقة على إرادة المتعاقدين. ولعله يأتي من هذا التغيير المتطرف ضرر بالطريقة المستعملة الآن في الزواج. على أني قلت آنفاً أن الزواج الذي لا يفكر في عاقبته ويتم الرضى فيه دون العناية بما يحدث عنه من المسؤوليات قد أصبح سائغاً فليس من العبث إذن أن يجعل للمراسيم الزوجية بعض الشروط ليفهم المتعاقدان أن كل الفهم خطارة ما عقد لهما عليه. وبذلك يصبح احترام المرأة على أساس راهن. فإذا كانت الوعود التي تسبق الزواج الحر هي بحيث تضمن للمرأة مكانة اجتماعية فلا تعرضها لاحتمال أهواء النفوس التي يصعب الاعتذار عنها فإنها لا تختلف عن الشروط الزوجية الشائعة ولا موجب إذ ذاك للتغيير وإذا نقص من حرية الطرفين شيء يلحق المرأة من ذاك القسط الأعظم. فهي التي تستفيد في الواقع من الزواج خاصة لأن الزواج يعود منه في الغالب على الرجل زيادة موارد ثروته. وإن المرأة لا تتمتع بجمالها وتستوفي شروط التحبب إليها زمناً طويلاً فماذا تكون حالها يا ترى إذا شاخت ولم يكن لها بمقامها الطويل في بيت زوجها والتمتع بما تستحقه من الحقوق في يحاتها ما يجعلها موضوعه الحب الدائم والاحترام من زوجها؟ فكل عقد لا يوليها حالة ثابتة لا يتأتى لها معه مهما بلغ من جمالها وطهارة أخلاقها أن تأمل الوصول إلى أنواع سعادات الأمومة التي هي خاصة بالزوجة الشرعية. تستدعي حالة الولد عناية فائقة من الأب والأم حتى ينمو النمو القانوني في طبيعته وأخلاقه على أنه لا يستطيع أن يسير بما أمكن من الحكمة والتعقل ليجعل قياده بيده إلا إذا بلغ أشده أو كاد. فالمصلحة الاجتماعية تقضي أن يعيش أبواه معاً حتى يبلغ تلك السن ويستلزم ذلك قضاءهما أعواماً معاً فإذا انقضى ذاك الدور أيمكن النصح للزوجين بأن يفترقا ليبدأ حياة جديدة بعد فوات

الوقت. وإنه ليرجى حرصاً على مصلحة الزوج وزوجه أن يكون الزواج دائمياً ولا ينحل عقده إلا في أحوال نادرة. قلت أنه يجب أن يفرض في الزواج وجود عواطف في الحب متبادلة بين الراغبين فيه مصحوبة بحرية التمتع بمال يكفي لإعالة الأسرة ولا يلزم أكثر من ذلك في الحقيقة للأفراد حتى يكون الزواج شرعياً. وهنا سؤال وهو أنه هل تكفي هذه الشروط من حيث الاجتماع ألا يلزم النظر في صحة الزوجين لمصلحة الأولاد الذين يولدون منهما؟ أيسمح لبعض من أصيبوا بأمراض تنتقل بالوراثة أو معدية أن يعٍدوا زواجاً وينقلوا بأثرتهم وسوء غفلتهم العدوى إلى أسرة جديدة أخرى؟ هذه مسألة حرية بأن توضع محل النظر لأنها من أدق المسائل ولا يتعذر حلها لو جرى فيها كما يجري في دور تربية الحيوانات حيث يعزل السقيم عن السليم لأول وهلة أما في المبدأ الذي يستلزم أولاً العناية بتحسين النوع فإنه تحذف منه بحسب القياس الأعضاء الضعيفة الكثيرة أو السيئة التركيب لما في وجودها من الضرر الذي يلحق بالمجموع. لك أن ترجع إلى القواعد الطبيعية الظاهرة لتبرير هذا العمل فترى قاعدة الانتخاب الطبيعي تجري مجراها حولنا في ذوات الأعضاء فتشاهد أبداً في طبقة الكائنات النباتية والحيوانية فناء كمية عظيمة من الجراثيم لقلة غنائها في المحيط الذي تظهر فيه أو لضعف تركيبها عن المقاومة. ألا يكون المرء قد عمل بسنة العقل وبما يقضي به الواجب إذا أرجأ بذاته ومحض إرادته وإخلاصه عدم إيلاد أشخاص يصبحون عرضة لعامة المصائب الطبيعية منذ ولادتهم. ومن المحقق أن المرء لم يتأثر وجدانه من هذا القبيل. فكان الحق للأب في الأزمان السالفة أن يستحبي من يولد من البنين والبنات أو يقتلهم ومتى رأى ولده ضعيفاً ضئيلاً يقدمه للموت بلا شفقة. ولقد نشأ في القرون الحديثة شعور وإن لم يكن حديثاً في الناس إلا أن ارتقاء التمدن جعله عاماً ونعني بهذا الشعور (الرحمة) في اليوم تعارض ما كان يجري سالفاً من قتل الأحياء الساقطة. لأن من لا يعجبك ظاهر حاله لفساد تركيبه الطبيعي لا يجب أن تحكم عليه بإسقاطه من المجتمع بل يتيسر أن يشغل من أعمال الاجتماع الكثيرة حيزاً يعمل فيه عملاً. فالحال تقتضي إذا إيجاد وسائط أخرى تكون إلى الاعتدال لتحسين أجناس الناس. وقد اقترح بعضهم أن يفحص المرشحون للزواج فحصاً طبياً تفادياً من سوء الاستعمال ولو

أمكن تطبيق هذه الطريقة الواقية لنشأ عنها نتائج حسنة إذ الظاهر أن تطبيق القول على العمل لا يخلو من شبهة. وذلك لأن الأهواء البشرية إذا ضيق عليها على هذه الصورة لا تلبث أن تخرج عن حد ما رسمه القانون وتعمد إلى التزويد وإلى الشهادات الطبية التي تنال بالشفاعات لتتجنب هذه القيود والأوامر. ومتى أصبحت هذه القوانين معمولاً بها وتعذر الزواج الشرعي على بعض الناس لا يلبثون أن يعمدوا إلى الزواج الحر فيخلصون على هذا الوجه من كل قيد وسلطة. ولا دواء لهذه الأدواء إلا التربية إذا سارت على سنة العقل وكانت الغاية منها ترقية العواطف الشخصية بالآداب العالية. فالتربية هي التي تعلم أولئك الذي حظر عليهم الزواج لضعف فيهم أنه إذا جاز القانون عليهم ولم يرض لهم الاشتراك في النسل والحب فهو يوجب عليهم إذا أرادوا الخضوع لما أوصى به الشرف والواجب أن يمتنعوا عما يجعل العاهات فيهم دائمة. أتجد تناقضاً في هذا الاستنتاج وفي شعور الآداب العالية التي دعوت إليها؟ لا أظن ذلك بل إني أعتقد أيضاً في بعض الأحوال الخاصة مثل قلة أسباب معاش الأسرة أنه يستحب لربها أن يتجنب زيادة عدد أولاده بدون روية لعلمه بأنه يحكم عليهم بالحرمان والفقر منذ ولادتهم. وليس معنى هذا أن نقبل رأي مالتوس كأنه حقائق في قوله بعدم التناسب بين نمو السكان ومواد معاشهم وأن نقص التوازن بين الأحياء وما يحيون به لا بد من وقوعه على أنه إذا ظهر ذلك فيكون من عدم التساوي في توزع الأجناس البشرية على سطح الكرة الأرضية. ترى العناصر الإنسانية تتكاثف في بعض المحال بحيث يؤدي بها ضيق مضطربها إلى النزاع على صغر قطعة من الأرض التي كادت تفقد قوتها الإنباتية على حين أن هناك أراضي واسعة نادرة بخصبها وهي لا تزال بوراً. بيد أن مصاعب كثيرة تحول دون الإفراط في الإكثار من الجنس الإنساني. وبعد فإن للطبيعة أسباباً ملطفة ما زالت نواميسها غير معروفة حق معرفتها ولكن لها عمل لا يسع أحداً إنكاره على ضروب التناسل في عالم النبات كما في عالم الحيوان. وقد ذكرت بعض الحوادث النادرة فيجب الآن أن أدخل في التعميم بأن أصور سلطة الأب

على نحو ما ذكر ما هي معروفة عند أرباب الأفكار الحديثة. كانت سلطة الأب على أولاده مطلقة في القديم وجعلت الوصايا العشر بر الوالدين من أقدس واجبات الأبناء فإذا قال الولد لأبيه أفٍ وخرج عن طاعته يعاقب بالموت. ومثل هذا القانون كان نافذاً في أثينة وإن كان بشدة أقل. وكان لرب الأسرة في رومية الحق المطلق أن يقمع ما ارتكب أبناؤه وأهله من الأغلاط ولم تكن صلة القربى منظور لها بأنها نتيجة عقد بين الزوجين ولا يتيسر حلها اللهم إلا عند الجرمان والصقالبة (السلافيين) وما كان الابن حراً بالخروج من أسرته بمحض إرادته بل من الضروري استحصال رضى والده يمنحه إياه في صورة كأنه يحرره من رقه. وغير نكير أن الطفل على جهله في كل شيء محتاج للتعليم والتهذيب فيجب عليه الطاعة لوالديه ويجب عليهما أن يحباه كثيراً ويحترماه بما بينهما من الصلات وبما يعاملانه به من المعاملة الحسنة لتكون تلط الطاعة مبنية على العطف والطبيعة. يجب أن تقوى فيه الرغبة في التعليم والعادة على الافتكار والشعور بالعدل وطيب السريرة تلك الصفات التي تضيق الخناق على أهوائه وتجعله عضواً نافعاً في حياته المستقبلية. فإذا اعتاد ذهنه الاشتغال يقوى ويجود كما يقوى الشعور بالمسؤولية. يجدر أن تترك له حريته وأن يستعاض عن إخضاعه لأوامر والديه بنصائح فيها العطف والحنان. فإذا طلب إلى الولد وقد استكملت سنه أن يحتفظ كل الحفظ بما يلزم من الطاعة وهو على كمال الاستحكام في قواه فيعد ذلك إجحافاً بحقوقه وإحراجاً لصدره. وعلى الوالد في تلك الحال أن لا يكون إلا بمنزلة صديق يؤخذ كلامه بالإجلال لا أن يكون بمنزلة معلم يسيطر على مستقبل ليس له منه ناقة ولا جمل. كان التبني يسهل كثيراً في القديم فوضعت له القوانين اليوم قيوداً وشروطاً. وأخذت الصلات العائلية في الانحطاط عند الطبقات التي هي أكثر من غيرها انغماساً في الحضارة في أوروبا وأميركا فكان للحياة الخاصة في سالف الأزمان صفة ثابتة نتجت من النظام الاجتماعي الموضوع الذي فقد في المدن الكبرى لهذا العهد. وكان من ازدياد صلات الأمم بعضها مع بعض وتمازج العناصر المختلفة تعديل كثير من العادات المتأصلة والآراء التي كانت تتخيل سابقاً فزاد الارتباط بين الأفراد والمجموع الذين هم بعضه ودعت سهولة

التنقل إلى حدوث تغييرات في المحيط فنشأ عن ذلك بحكم الطبع تأثرات جديدة أثرت في الحركة العقلية فاتسع مداها وانصبغت بصبغة الإنسانية. على أن موازنة الأخلاق القديمة قد سرت إليها أمور كثيرة ألقت فيها الاضطراب وزعزعت منها الأركان وستصلح بالضرورة. إذا لا يقوم مبدأ الأسرة على أساسه الطبيعي بدون شيء من التضامن. وكل اجتماع بشري عرض للزوال يعد عقيماً ولا ثمرة فيه بتاتاً.

نبأ مصر

نبأ مصر (وحالة الاجتماع فيها للسنة الماضية) نسيمٌ بوادي النيل غير بليلِ ... وظلٌّ بهذا الروض غير ظليل فلا الأرض تلك الأرض خصباً لأهلها ... ولا النيلُ في أرض البلاد بنيل نفضنا يدينا وانزوينا مذلةً ... وأضيع ما في الناس حقُّ ذليلِ لنا كل يوم ألفُ رأي وما لنا ... عليها من الأفعال فرْدُ دليل نقلد ألفاظ السياسة عمرَنا ... ونذهل عند الحزم أيَّ ذهولِ ويا بعد ما بين (الصليل) وهوله ... وإن قربا لفظاً وبين (صهيل) فلاسفةٌ فيما نقول فلم نزل ... نصول على الدنيا ببعض ما نقول وما من حديث بات غير مشقق ... ولا من جدال بات غير فصول أفي كل يوم كاتبٌ يشرع القنا ... ليقلب جنب الأرض بعد قليل أفي كل يوم صارخٌ ذو حميةٍ ... يضجُّ بقال في البلاد وقيل أفي كل يومٍ شاعرٌ ذو حفيظةٍ ... يخط سطوراً من دماء قتيل أيحسب ميزان السياسة في الورى ... كميزان مفعولاته وفعول وأنبئتهم يستصرخون ليوقظوا ... نياماً بليلٍ في المطال طويل فيا باذخ اليمّ اضطربت ولم تزد ... على نزوات أُعقب بخمول أألآن والغرس والذي تمطرونه ... ملايين لم تثمر ببعض عقول صغارٌ وجبنٌ خالعٌ في كبارهم ... وأصغرهم غالته لفظة غول ... كما خال قصراً ناظرٌ لطلول ولا طول فينا غير نوع تطاولٍ ... ولا فضل فينا غير بعض فضول بكل سبيل نزمع السير للعلى ... ونرتدُّ للسفلى بكل سبيل تآدوا لغايات المنى بأداتها ... فما جلَّّّ لا يبغيه غير جليل ألا إنما الداءُ الغميض عقولنا ... وما شجرٌ ينمو بغير أصول وأهون بتفريج الأمور ولفها ... إذا لقيت يوماً لغير جهولِ تباين ما بين الرجال وكلهم ... على زعمه بالأمر خير كفيل

فيا عصبة الأحزاب ردوا حلومكم ... وجرُّوا على غير الثرى بذيول فقد سطعت في مصر منك عجاجة ... ولكنها لاحت بغير صليل عجاجة صيفٍ قد أثارت قتامها ... خيول سباقٍ لا ضراغم غيل وما أنتم في أمر شيءٍ من الهوى ... فما بال واشٍ بينكم وعذول وأحييتموها سنةً جاهليةً ... عداء أصيل فيكم ودخيل تخلوا بأمر العلم واستجمعوا له ... قواكم فإن العلم خير دليل ولا تخلطوه بالنفاق تقيةً ... وجبناً فظهر الحق غير ذلول فما لكم إلا الذي تعملونه ... وإن تبدلوا منه قشر بديل ألما تزالوا قاصرين فأمركم ... ضياعٌ إذا لم يعتصم بوكيل تقوا عارها من سُبةٍ تتركونها ... لجيلٍ ويلقيها الزمان لجيل أرى فئةً كالغانيات تدللاً ... تميل مع الأهواء كل مميل تخال الفتى منهم على ظلمة النهى ... لألوان ثوبيه سماء أصيل ملولٌ كما شاء الهوى واقتداؤه ... بمن حوله من خلةٍ وخليل وما وجد الأعمال يوماً إنما ... ليستحسنوا فيه دلال ملول وظن الفتى أن التمدن أثوي ... فتابع فيه كل ذات حليل تماجن في أشكالها من صبغٍ ... إلى كل مجلوٍ وكل صقيل إلى اللفظ حتى ما تكاد شفاهه ... تبين بلفظٍ منه غير نحيل دلال جميل بالجمال مهنا ... فآهٍ عليه من دلال جميل أولئك هم شبابنا لو عرفتم ... وهم كل من في مصر غير قليل مظاهر نبلٍ نافقوا في اصطناعها ... ألا قبحت من صنعة لنبيل أحلنا على غيب القضاء همومنا ... وأية سلوى في القضا لمحيل وما نحن أهل الحكم ندفع دفعهم ... فإن لم ينيلونا فأيّ منيل هم عوَّدونا الذل ثم تطوّلوا ... فمنّوا علينا بين كل قبيل ومن عوَّد الذل الرجال حلاله ال ... فخار إذا ما قابلوا بقبول فيا مصر أنت السيف صقلاً وجلوةً ... ولكن بلا حدّ (ولو بفلول)

ويا كفَّ مصر ذلك السيف والوغى ... فإن تستطيعي بعد ذاك فصولي فجعنا بما لا تضمرون حِذارَهُ ... وأكثرنا من عالةٍ ومعيل فيا شؤمها من أزمة تركتكم ... وأولاكم بالفخر كل بخيل وكم أسرةٍ تمسي المضاجع منهم ... تقلب طول الليل كل هزيل يعدُّ رغيف الخبز فيهم وليمة ... لدى كل منضم هناك ضئيل أخاف على أرض البلاد ونيلها ... ذهابهما رهناً لكل نزيل فنمسي على نيل البلاد وأرضها ... كأنا على ماء (وبعض وحول) جربتم سراعاً للغنى تطلبونه ... بكل طريق فاهنأوا بوصول وإما أراد المقعدون سلامةً ... فما لصعود بينهم ونزول تصيحون بالمحتل تستعبدونه ... مراغمة ما أنتم بعدول ألا فاطلبوا إثباتنا في بلادنا ... فإن ضياع الملك بدءُ رحيل ومن يطلب الأمر البعيد ويهمل ال ... قريب يُضع أمريه بعد حصول أتظما نفسي الآن والماء في يديّ ... وأترك للأنهار بلَّ غليلي فلا تتوانوا إنما الوقت فرصةٌ ... تمرُّ ومرُّ الوقت غير ثقيل مصطفى صادق الرافعي

على رمل الاسكندرية

على رمل الاسكندرية إيه أيتها الأمواج الخالدة كم شاهدنا من أمواج الإنسانية ومن بحورها الفانية. أمام عيونك الزرقاء وفي ظل ابتسامتك الفضية كم تبخر بحر ونضب وكم تبددت تحت أقدامك موجة هادرة شامخة من أمواج البشرية. على هذا الساحل الذهبي الجميل قاتلت الملوك قديماً فتغنت بأخبار مواقعها أرباب الفنون ورددت صدى غزاتها ألسن الشعراء. بالقرب من صدى هديرك الهائل هاجت أمواجهم وماجت فعادت إلى حيث لا تبلغ مدك ولا تبصر عيونك الرمل والصخور. عادت أمواج أنفسهم المضطربة إلى حيث لا نبع إلا نبعك الدافق من ميازيب ذهبية في بساتين من النور الأزلي الروحاني هناك نبعك أيتها الأمواج وهناك أيضاً نبع الإنسانية. أنت هجت قديماً في صدر الإسكندر فجئت به إلى هنا ليبنى لك هذه المدينة الزاهرة. أنت حملت أنطونيوس إليها ليطفئ لوعة غرامه. أنت منحت القيصر قسطاً من عظمتك فخاض عبابك طمعاً بملك عظيم بل شغفاً بوجه وسيم. وأراك الآن هائجة في قلوب الصغار والأذلاء كما هجت قديماً في قلوب الملوك والأمراء. أراك مضطربة مبتسمة معاً إذ تشاهدين على ساحلك هذه الأمواج المزدوجة من بحر الإنسانية. هي تتمازج على الرمل في كنف الصخور تمازجك في بطن أمك. هي أمواج من النفس يحن بعضها إلى بعض ويهيج بعضها على بعض ويختفي زبد الواحدة تحت زبد الأخرى ويذوب زجر الهائجة تحت مدّ المدبرة. الحب أيتها الأمواج يؤيدك. والحب يحمل إليك هذه الأمواج القلقة الفانية. ومهما عظم اضطرابها على سواحلك الذهبية فراحتها أخيراً تحت ابتسامتك الفضية الأزلية. لا تعجبني من هياج هذا الإنسان واضطرابه فما هو سوى طوائف من الأسماك والحيوانات البحرية تختبط في بحر النفس لا يرى مدينتنا من المدن الكائنة تحت أمواجك.

أيها البحر العائل أيها الرقيب الأزلي وفيها من الحيتان والدلافين ما يزري بحيتانك ودلافينك. فيها يهدر بحر من هذه الإنسانية المتكالبة. . لكل موجة صوت لا يشبه أخاه. لكل موجة شكل ومنهج وعبوسة وابتسامة. هذه الاسكندرية وفي بحرها تشاهدين الآن ما لم تشاهديه فيما مضى من الزمان. أمامك الآن أمواج مزبدة من نهر التايمس الهادئ. . وأمواج هادئة من نهر المسيسبي المتدفق وأمواج كرواسي الحبال من نهر الرون والرين والدانوب والسين. . وأمواج عليلة لطيفة من بحر الأحمر وبحر الهند وبحر فارس. هي الأمواج يتلاطم بعضها ببعض ويمتزج بعضها ببعض ويبتلع بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً أو يعطف بعضها على بعض والكل يهلك نفسه في هذه الحركة الدائمة. في هذا العراك الشديد والضجيج المديد. يشيدون الصروح ويهدمونها. ويؤسسون الممالك ويبيدونها. فيتلاشون أخيراً تحت أقدامك. وأنت باسمة ضاحكة تسخرين منهم وأمواج منك كالظلل تحمل إليهم نبأ الأبدية. بحر الإنسانية يفيض ويزبد ويهيج ويهدأ ويتبخر ويتصبب ويعكر ويرسب ويتلاشى وأنت باقية إلى الأبد. تشاهدين هذا الزمان كما شاهدت أباطيل الأزمنة الغابرة. تسمعين ضجيج أبطال هذا الجيل في البورص كما سمعت صليل رماح أبطال الأجيال الماضية في ساحات القتال. وتستقبلين الشمس كل مساء كما تستقبلينها يوم لم يكن على سواحلك مدن ولا عمران ولا نبت ولا حيوان. لبنان أمين الريحاني

نحن على منطاد

نحن على منطاد نحن من أرضنا على منطاد ... جائل في شواسع الأبعاد طائر في الفضاء عرضاً وطولاً ... بجناح من القوى غير باد أيها الأرض سرت سيرك مثنى ... ذا نتاجين في زمان أحاد فتقلبت في نهار وليل ... ذا مضل وذاك للناس هاد في بلاد يكون سيرك تأوي ... باً على أنه سرىً في بلاد فيك دفع وفيك يا أرض جذب ... لك ذا سائق وذلك حاد فلك دائر على الشمس طوراً ... في اقتراب وتارة في ابتعاد ليت شعري وما حصلت في الآ ... راء إلا على خلاف السداد لبقاء تقلنا الأرض في تس ... يارها أم تقلنا لنفاد نحن في عالم تقصف فيه ... عارض النائبات بالأرعاد شأننا العجز فيه نوجد أنى ... قذفتنا يد الخطوب الشداد ضاع جذر الحياة عنا فخلنا ... أنها كالأصم في الأعداد شغلتنا الدنيا بلهو ولعب ... فغفلنا والموت بالمرصاد ضلَّ من رام راحة في حياة ... نحن منها في معرك وجلاد كلما قد أجلت في أم دفر ... فكر مستبصر بها نقاد قلت قولاً أفاد من قبل فيه ... فيلسوف القريض غير مفادي إذا نجحا في اسعة الموت أضع ... اف خيار في ساعة الميلاد إنما هذه الحياة جروح ... أثخنتنا والموت مثل الضماد كل أسر يهون إن أطلقت أر ... واحنا الموثقات بالأجساد لا تلمني إذا جزعت فإني ... ما ملكت الخيار في إيجادي طال عتبي على عدات الليالي ... مثلما طال مطلها بمرادي كدرت عيشي الحوادث حتى ... لا أرى الصفو غير وقت الرقاد صاح ما دلّ في الأمور على الأش ... كال إلاَّ تفحص الأضداد فاعتبر بالسفيه تمس حليماً ... وتعرّف بالغيّ طرق الرشاد واللبيب الذي تعلم إتيا ... ن المعالي من خسة الأوغاد

أيها الغرّ لا تغرك دنيا ... ك بكون مصيره لفساد خفَّ من غاص في الغرور كما في ... لجة الماء خف ثقل الجماد يا خليليَّ والخليل المواسي ... منكما من يقوم في إسعادي خاب قوم أتوا وغى العيش عُزّلاً ... من سلاحي تعاون واتحاد قد جفتنا الدنيا فهلاَّ اعتصمنا ... من جفاء الدنيا بحبل وداد لو عقلنا لما اختشى قط محسو ... دون وقع الأذاة من حساد فمتاع الحياة أحقر من أن ... يستفز القلوب بالأحقاد أنا والله لا أريد بأن أو ... قع شراً ولو على من يعادي أنّ لي إن سمعت أنة محزو ... نٍ أنيناً مرجعاً في فؤادي إن نفسي عن همها ذات شغلٍ ... بهموم العباد كل العباد لا أحب النسيم إلا إذا هـ ... بّ على كل حاضر أو باد أيها الناس إنّ ذا العصر عص ... ر العلم والجدّ في العلى والجهاد عصر حكم البخار والكهربائي ... ة والماكنات والمنطاد بنيت فيه للعلوم المباني ... وأقيمت للبحث فيها النوادي فاض فيض العلوم بالرغم ممن ... ضربوا دونهن بالأسداد إن للعلم من الممالك سيراً ... مثل سير الضياء في الأبعاد اطلع الغرب شمسه فحبا الشر ... ق اقتباساً من نورها الوقاد إن للعلم دولة خضعت دو ... ن علاها عوالم والأضداد ما استفاد الفتى وإن ملك الأر ... ض بأعلى من علمه المستفاد لا تسابق في حلبة العز ذا العل ... م فما للهجين شأو الجواد إن أموات أمة العلم أحيا ... ء حياة الأرواح والأجساد وكأين في الناس من ذي خمول ... صار بالعلم كعلة القصاد ربَّ يوم وردت دجلة فيه ... مورداً خالياً عن الوراد حيث ينصبُّ في سكوت عميق ... ماؤُها لاثماً ضفاف الوادي وهبوب النسيم يكتب في الما ... ء سطوراً مهتزة في اطراد

ينمحي بعضها ويظهر بعض ... فهي تنساب بين خافٍ وباد وتئن المياه لي بخرير ... كأنين السقيم للعُوَّاد قمت في وجهها أردّد طرفي ... ساكناً والضمير مني ينادي واقفاً تحت سرحة ناح فيها ... طائراً فوق غصنها المياد منشداً في النواح شعراً غريزي ... اً حزيناً كأنه إنشادي جاوبته أفنانها بأنين ... من حفيف الأوراق والأعواد أيها الطائر المرجع فوق ال ... غصن هل أنت نائح أم شاد بين ماء جارٍ ولحن شديّ ... منك يا طائر استطار فؤادي يا مياهاً جرت بدجلة تجتا ... ز مروراً بجانبي بغداد إن نفسي إلى الحقيقة عطشى ... أفتشفين على من صاد كنت تجرين والرصافة والكر ... خ خلاءٌ من رائح أو غاد أيها الماء أين تجري ضياعاً=وحواليك قاحلات البوادي فمتى تفطن النفوس فيحيا ... بك سقياً موات هذي البلاد لو زرعنا بك البقاع حبوباً ... لحصدنا النضار يوم الحصاد أفيدري خليج فارس ماذا ... فمه منك بالع بازدراد أنت والله عسجد ولجين ... لو أتينا الأمور باستعداد فاجر يا ماءُ ' ن جريت رويداً ... بأناة ومهلة وأتاد علنا نستفيق من رقدة الفق ... ر فنغنى بفيضك المزداد سلكتك السما ينابيع في الأر ... ض أمدّتك أيما إمداد فتفجرت في السفوح عيوناً ... نبعت من مخازن الأطواد وإذا ما نتهيت في جريان ... عدت للبدءِ في متون الغوادي = هكذا دار دائر الكون من حي_ث انتهى عاد راجعاً للمبادي بغداد معروف الرصافي

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الحياة الاجتماعية وتقلباتها هذا كتاب أخرجه مؤلفه للناس باللغة الفرنسية في الشهر الماضي في نحو أربعمائة صفحة وقسمه إلى عشرة أجزاء ذكر في الأول الأسرة ومقر الأسرة وفي الثاني طوائف الناس وتاريخهم وحالة العالم الحاضرة وفي الثالث العواطف الدينية ومظاهرها وتأثير المعتقدات الدينية الاجتماعي وفي الرابع الأوضاع القانونية وتعديل تنظيم القانون وفي الخامس المصالح المادية واتساعها ومكانتها بين الأمم والحملات البحرية والاستعمارية ونتائجها وفي السادس الصنائع والفنون والهندسة والنقش والتصوير والموسيقى وفي السابع الآداب وانتشار القديم والحديث منها وفي الثامن نظرة في العلوم وما نتج من الأخطاء فيها على التوالي وفي التاسع طريقة التعليم على اختلاف العصور وفي العاشر نشوء الأفكار السياسية والمنازع الاجتماعية. هذه فصول الكتاب وكلها مفيد نافع توخى مؤلفه بعد التجارب الطويلة أن يجعله معلماً للقارئ يتناول تعليمه لا أن يلقى عليه مسائل قد لا يفهمها إلا كبار العلماء. فجاء كتابه نافعاً للخاصة والعامة جامعاً العمليات إلى النظريات قال المؤلف في مقدمته: كنت في قرطجنة على شاطئ البحر والظلام ملق سدوله على السماء فلا ترى فيها إلا ما ازدانت به من زينة الكواكب والسكون يحف بي وقد ملئ أسراراً وساد الآكام والسهل حيث كانت هذه المدينة الفينيقية في سالف العصور محاطة بأسوارها الثلاثة وفيها معابدها وقصورها وأرصفتها الزاهية واليوم لا يرى فيها إلا بضعة حوائط مبعثرة يرد عهدها إلى العصر الروماني وأكوام من الأنقاض يحدق بها فلاح عربي بمحراثه وقباب باهتة وأحواض نصفها مملوء وقبور مدنسة وقطع من عمد ملقاة بين باقات نبات البرواق والفحم. رأيت ثمة صورة لا تنسى فذكرت بتلك الخرائب المبعثرة ما طرأ من التبديل العظيم على الحياة الاجتماعية فكان منه انحلال في بعض الأصقاع وتحسين في أخرى وما برح قابلاً للتحول بما فيه من النقص الظاهر لاتساعه وانبساط محيطه فأدى بي التأمل إلى أن أخذت أفكر في القوانين التي لا تتبدل أحكامها في هذا الوجود ولم يبرح أمرها مجهولاً في الأغلب.

وما تاريخ الإنسانية في الحقيقة لا سلسلة من الحوادث لو بحثنا فيها بحثاً منطقياً لرأينا بعضها متشعباً من بعض فإذا أوردت هذه الحوادث الغزيرة فلا ترى فيها إلا إتعاباً للذاكرة بدون أن يستنير بها الفكر وإذا جمعت على ترتيب حسن بقطع النظر عن تفاصيلها العديدة فتكون مملؤة بالفوائد. إلا وأن الاشتغال في إتمام هذه الباكورة العامة التي تتضمن درس المجتمعات البشرية منذ ابتدائها وتتبعها في نشوئها التدريجي وتضعها موضع التطبيق والعمل بحيث تصف ما فيها من المنازع والمناحي لمما يساعد على نشر هذه الأفكار الكثيرة ويدعو إلى التوفر على أبحاث أهم وأحدث. خطر لي هذا الخاطر وأنا في خلوة وأمامي ماضي البشر الذي يوحي إلى القلب ما يوحي. فأهاب بي أن أشرع بمثل هذا العمل على حين لم أجهل صعوبته وذلك لأنه اقتضى أن أوضح فيه مجموع ما ظهر من بدائع عقول البشر في السياسة والعلوم والفنون والأدب وهو متوقف على جميع أنواع البحث على صورة تكاد تكون مكدائرة المعارف بما تجمع وتضم. وفي هذا التأليف من الفائدة ولو لم يستوف حقه أنه يسهل تقويم كثير من المشاكل الاجتماعية التي لا تزال موضوع البحث وأن يرسم قانوناً صريحاً لمجموع الأعمال العقلية أمام الناظر لأحدث الاضطرابات الدنيوية الحديثة والإخلاص رائد القول في الاستنتاج بحرية فكر فلا تورد إلا بعد تمحيصها كل التمحيص. هذه الأمور حملتني على أن أتمم ما قام في ذهني وأن أضم نتائجه في الصفحات التالية أهـ. وقد عربنا منه في غير هذا المكان مبحث الأسرة وسننقل للقراء أهم مباحثه. المزهر للسيوطي كتب لا تحصى أفردها بمؤلف خاص ومنها الجيد ككتاب المزهر وكتاب الإتقان في علوم القرآن. أجاد في المزهر كل الإجادة فأفاض في متعلقات علم اللغة وكتب فيه فصولاً بديعة انتقاها من الكتب المعتمدة فجاء الكتاب مفرداً في بابه وقل من كتب فيه من المتأخرين مع أنه من أجل الفنون التي أعني بها المتقدمون. وقد تعرض فيه للكثير من أسرار اللغة العربية وهو من أهم ما يعنى به المستشرقون في هذا العصر. وهنا كلمة ينبغي أن تقال وذلك أن كثيراً من المؤرخين ومنهم أناس من مؤرخي عصر السيوطي قد بخسوه بعض حقه فزعموا أنه نقال غير نقاد يجمع بين الغث والسمين وهذا

على إطلاقه مما ينتقد عليهم لأنه قد أجاد الانتقاء في مثل هذا الكتاب على أنه قد أظهر أعظم اجتهاد في أصول اللغة العربية وذلك في الاقتراح في أصول النحو. (ناظر) طبع هذا الكتاب الشيخ محمد سعيد الرافعي على أجمل شكل وحرف بعد أن طبعت الطبعة الأولى في المطبعة الأميرية منذ زمن وقد اختار له ورقاً صقيلاً رقيقاً فوقع الجزآن منه في قدر سبعمائة صفحة متوسطة القطع خفيفة الحمل ويباع في المكتبة الأزهرية بالقاهرة بعشرة قروش مجلداً وهو من الأمهات التي لا يسع أحداً من المشتغلين بالعلم أن يزهد فيها. الأضداد بلغت عناية العلماء باللغة أن أفردوا كل فرع من فروعها بكتاب وهو غاية ما يتصور في العناية ومن ذلك الأضداد وهي الكلمات التي تدل على الشيء وعلى ضده كالحون فإنهم قالوا أنه يطلق على الأبيض والأسود. وقد أنكر ذلك ابن دستوريه والف كتاباً في إنكار بناه على أن ذلك مناف لحكمة الوضع وخالقه الأكثر في ذلك وألفوا فيه ومنهم قطرب والتوزي وأبو بكر ابن الأنباري وأبو البركات ابن الأنباري وابن الدهان والصاغاني فإنهم أثبتوا ذلك وألفوا فيه وكتاب الأضداد لابن الأنباري المتوفى سنة 318 هـ من أنفس ما ألف في هذا النوع وقد تعرض في نوله لسبب وقوع مثل هذا في اللغة ودفع اعتراض المعترضين وأفاض في هذا الموضوع إفاضة واسعة وكتابه من أهم ما كتب (ناظر) طبع هذا الكتاب الشيخ محمد سعبد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية وكان طبع في أوروبا من قبل وقد عني الشيخ أحمد الشنقيطي بضبطه وشكله وتصحيحه فجاء في 380 صفحة متوسطة جيد الطبع وهو يطلب من طابعه بمصر بإثنى عشر قرشاً فنحض على اقتنائه. رسائل الفارابي هي ثمان رسائل منسوبة للحكيم أبي نصر الفارابي المشهور بالمعلم الثاني الأولى في الجمع بين رأيي إفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس فيما يظن أنهما اختلفا فيه وذلك في مسألة حدوث العالم وقدمه وفي إثبات المبدع الأول وفي وجود الأسباب منه وفي أمر النفس والعقل وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية

والمنطقية والرسالة الثانية في الإبانة من غرض أرسطاطاليس في كتابه المعروف بما بعد الطبيعة أشار فيه إلى الغرض الذي وضع فيه هذا الكتاب النبيل المقصد. والرسالة الثالثة في معاني العقل قال في أولها اسم العقل يقال على أشياء كثيرة الأول الشيء الذي يقول به الجمهور في الإنسان أنه عاقل الثاني العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقول هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه العقل الثالث العقل الذي يذكره أرسطاطاليس في كتاب البرهان الرابع العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق الخامس العقل الذي يذكره في كتابه النفس السادس العقل الذي يذكره في كتابه ما بعد الطبيعة ثم أفاض في بيان كل واحد منها ناهيك ببيان مثل أبي نصر. والرسالة الرابعة فيما ينبغي أن يقدم قبل الفلسفة ذكر فيها الأشياء التي يحتاج إلى تعلمها ومعرفتها قبل تعلم الفلسفة قال فيه: أصحاب أفلاطون يرون أنه عم الهندسة ويستشهدون على ذلك بقول أفلاطون (لأنه كتب على باب هيكله من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا) وذلك أن البراهين المستعملة في الهندسة أصح البراهين كلها وأما آل أثوفرسطس فيرون أن يبدأ بعلم إصلاح الأخلاق وذلك ن من لم يصلح أخلاق نفسه لم يمكنه أن يتعلم علماً صحيحاً والشاهد على ذلك أفلاطون في قوله من لم يكن نقياً ذكياً فلا يدن من نفي ذكي وبقراط حيث يقول أن الأبدان التي ليست بنقية كلما غذوتها زدتها شراً وأما بواتيس الذي هو من أهل صيدا فيرى أن يبتدأ بعلم الطبائع لأنها أعرف وأقرب عنده وألف وأما أنرونيقس تلميذه فيرى أن يبتدأ بعلم المنطق إذ كان الآلة التي تمتحن الحق من الباطل في جميع الأشياء. قال أبو نصر وليس ينبغي أن يرذل واحد من هذه الآراء ومنها الحال التي يجب أن يكون عليها الرجل الذي يؤخذ عنه علم أرسطو قال فيه: هي أن يكون في نفسه ما قد تقدم وأصلح الأخلاق من نفسه الشهوانية كيما تكون شهوته للحق فقط اللذة وأصلح مع ذلك قوته الناطقة كيما تكون إرادته صحيحة. والرسالة الخامسة في مسائل مهمة في علم الحكمة عبر عنها بأوجز عبارة قال في آخرها عناية الله تعالى محيطة بجميع الأشياء ومتصلة بكل أحد وكل كائن فبقضائه وقدره. والرسالة السادسة فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم ومما قال فيها: التجارب إنما تنفع في الأمور الممكنة على الأكثر فأما الممكنة في الندرة والممكنة على التساوي فإنه لا منفعة للتجربة فيها وكذلك الروية وأخذ التأهب والاستعداد إنما ينتفع بها في الممكن على الأكثر لا

غيره وأما الضروريات والممتنعات فظاهر من أمرهما أن الروية والاستعداد والتأهب والتجربة لا تستعمل فيهما وكل من قصد لذلك فهو غير صحيح العقل وأما الحزم فقد تنفع به في الأمور الممكنة في الندرة والتي على التساوي. والسابعة في مسائل متفرقة سئل عنها الحكيم الثاني ومنها أي أفضل الحفظ أم الفهم فقال: الفهم أفضل من الحفظ وذلك لأن الحفظ فعله إنما يكون في الألفاظ أكثر وذلك في الجزئيات والأشخاص وهذه أمور لا تكاد تتناهى ولا هي تجدي وتغني لا بأشخاصها ولا بأنواعها والساعي فيما لا يتناهى كباطل السعي والفهم فعله في المعاني والكليات والقوانين وهذه أمور محدودة متناهية وواحدة للجميع والذي يسعى في هذه الأمور لا يخلو من جدوى ثم قال: فإذا كان معوله على الأصول والكليات وعرض له أمر من الأمور أمكنه أن يرجع بفهمه إلى الأصول فيقيس هذا بهذا وقد تبين أن الفهم أفضل من الحفظ. والرسالة الثامنة في فصوص الحكم وهو كتاب من كتبه المهمة شرحه السيد محمد بدر الدين النعساني ومنه: إذا عرفت أولاً الحق عرفت الحق وعرفت ما ليس بحق وإن عرفت الباطل أولاً ولم تعرف أحق على ما هو حقه فانظر إلى الحق فإنك لا تحب الأفلين بل توجه بوجهك إلى وجه من لا يبقى إلا وجهه. هذه هي الرسائل كما ترى وللفارابي كتب كثيرة مهمة من أهمها بالنسبة إلينا كتاب إحصاء العلوم وترتيبها وبلغنا أنه طبع في أوروبا وشرح كتاب الخطابة لأرسطاطاليس وكتاب الألفاظ والحروف وكلام في الملة والفقه المدني جمعه من أقاويل النبي صلى الله عليه وسلم وكلام له في الشعر والقوافي وكتاب في اللغات وكتاب شرائط اليقين ورسالة في ماهية النفس. وقد قدم له طابعه محمد أمين أفندي الخانجي مقدمة ثناها بترجمة الحكيم أبي نصر وترجمة أفلاطون وأرسطاطاليس وهو يطلب من مكتبته بالقاهرة بقرشين ونصف وعدد صفحاته 176 صفحة صغيرة. أمالي السيد المرتضى من أشهر كتب الأمالي أمالي السيد المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين المتوفى سنة 436 وهو في التفسير والحديث والأدب طبع في بلاد فارس فأعاد طبعه أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخوه في مصر في أربعة أجزاء من قطع الوسط وبلغت صفحاته نحو سبعمائة صفحة. وقد سبق لنا أن وصفنا هذا الكتاب ببيان

أطول عند صدور الجزء الأول منه وقد كانت قيمته بالاشتراك عشرين قرشاً وهي الآن بعد تمام طبعه بخمسة وعشرين يطلب من مكتبة الخانجي بالحلوجي. الإيمان كل ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 738 في الشريعة والفقه والرد على المخالفين هو آية في حسن أسلوبه وغنائه وكتاب الإيمان هذا من جملتها طبع في الهند للمرة الأولى وأعاد طبعه هذه الأونة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخوه بمصر وهو يباع عندهم بستة قروش وعدد صفحاته 190 صفحة من القطع الكبير. منجم العمران في المستدرك على معجم البلدان عني محمد أفندي الخانجي بطبع معجم البلدان لياقوت الحموي الذي كان طبع في أوروبا وأرخص ثمنه فأقبل على ابتياعه المغرمون بآثار السلف وقد جمع مجلدين جاءا في نحو 750 صفحة ما فات المؤلف من ذكر الممالك الأوروبية والأميركية لأن تقاسيمها حدثت بعد زمنه كما اكتشفت أميركا بعده بسنين طويلة مستنداً في ذلك من كتب المتقدمين على كتاب جزيرة العرب للهمداني وكتاب معجم ما استعجم للبكري وكتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي وكتاب الأشراف للمسعودي وكتاب البلدان لابن الفقيه وغيرها من الكتب القديمة كما اعتمد في الجمع على زهاء ثلاثين كتاباً من كتب المحدثين في الجغرافية والتاريخ ولم يتعرض لذكر القرى والمحال والهضاب والجبال لأن المؤلف الأصلي بالغ في البحث عنه وإنما عمد إلى ما للناس فيه فائدة من حادثة تاريخية أو أثر جميل أو شيء غريب من أحوال الصناعات والتجارات والمنتزهات وغير ذلاك. وكنا نود لو صرف العناية أكثر من ذلك في تمحيص المنقول فإني في أكثر المؤلفات الحديثة في العربية في هذا الشأن من الأغلاط ما يكاد يرفع الثقة إلا قليلاً. وعلى كل فنشكر لأمين أفندي توفره على إحياء الكتب النافعة للخاصة والعامة ونرجو أن يكثر في طابعينا وكتبيينا من ينظرون إلى منفعة المطالعين نظرهم إلى منفعتهم الخاصة ليستفيدوا بذلك ويفيدوا. ويطلب معجم البلدان وذيله من الطابعين بمئة وعشرين قرشاً بدون تجليد. الركوسية عرف الأب أنستاس الكرملي في بغداد بسعة الفضل وبعد الغور في المباحث اللغوية

والتاريخية بما نشره حتى الآن في المجلات العربية والإفرنجية. وأمامنا الآن من قلمه هذه النبذة التاريخية بالإفرنسية نشرت في مجلة الأنتروبوس (الإنسان) الصادرة في النمسا في الركوسية وهم فئة قال بعض علماء العرب أنهم طائفة بين النصرانية والصابئة وقال آخرون والحق معهم وعليه الأب أنستاس أنهم كانوا طائفة نصرانية فقط بدون أن يعرفوا ما هي معتقداتهم. ومن رأي المؤلف أن الركوسيين ليسوا إلا كروسيين قلب اسمهم من كبروس بطريرك الإسكندرية الذي أعلن سنة 633 للمسيح عقيدة وحدة الإرادة في السيد المسيح عليه السلام وإذا صح رأيه في هذه الطائفة وهو ما نسلمه له فإنا نرى استنتاجه بأن عدي بن حاتم الطائي هو من أبناء هذه الطائفة وهو ما نسلمه له فإنا نرى استنتاجه بأن عدي بن حاتم الطائي هو من أبناء هذه النحلة كما استشهد ببعض الأحاديث في ذلك مردود لما أن الحديث المستشهد به غير معروف. وكيف يمكننا أن نقول أن عدياً كان كروسياً أو ركوسياً قبل وفاة النبي (عليه السلام) أي قبل سنة 632 وهي قبل إعلان المجمع الاسكندري لهذا المذهب بسنة. وكذلك الحال في الأخطل فليس لدينا ما يثبت أنه كان من أهل هذه الطائفة بمجرد أنه كان يلبس لباس عدي. مخطوطات إسبانية هي رسالة بالإفرنسية كتبها المسيو لوسين بوفا أحد علماء المشرقيات الذي عرف القراء بعض فضله بما نشرناه معرباً من بعض أبحاثه وقد امتاز بالشرقية منها عامة والإسلامية خاصة. تكلم في هذه الكراسة على بعض كتب عربية كان أهداها اللورد كينغسبورغ الإيرلندي للجمعية الآسياوية سنة 1824 أي بعد تأسيسها بسنتين في جملة ما أهدانا من الكتب الإسبانية والعربية والفارسية والتركية والهندية واليابانية. وقدم المؤلف مقدمة في ذكر المتبرع بتلك الكتب فقال أنه طبع كتاباً ضخماً في العاديات في المكسيك لم يتمه أنفق عليه لا أقل من اثنين وثلاثين ألف جنيه فكان فيه إفلاسه وموته سجيناً لعجزه عن قضاء دينه وأثبت فيه أن التمدن المكسيكي انتشر بفضل أناس من مستعمري الإسرائيليين. وأفاض الناشر في وصف تلك المخطوطات العربية التي لها علاقة بإسبانيا وأكثرها مطبوع في أوروبا ونقل منها شذرات بالعربية وقد نشرتها المجلة الإسبانية وأخرجت منها نسخاً على

حدة فجاءت ناطقة بفضل مؤلفها وتحقيقه فيما يخوض عبابه من الأبحاث. تقرير المجمع العلمي السمشوني انتهى إلينا تقرير هذه الدار العلمية في واشنطون وهي التي أسست سنة 1846 بـ 515169 دولاراً أوصى بها لها أحد أهل الخير من الأميركان المدعو سميشون لتنفق في مشروع علمي يكون منه زيادة انتشار العلوم بين الناس ومساعدة رجال العلم على البحث ونشر مباحثهم في مجلدات وإرسالها إلى كل مكتبة مهمة في العالم والعلوم التي يجيز هذا المجمع عليها في الأكثر هي الحيوان والنبات والجيولوجيا وعلم الآثار والفلك وقد وقفت عليه أموال أخرى فجاوز رأس ماله الآن زهاء مائتي ألف جنيه. ونسبت الجمعية لواضع أساسها الأول. وأعضاء هذه الجمعية المؤسسون رئيس الولايات المتحدة ونائبه وقاضي القضاة ورؤساء الدوائر التنفيذية وقد وقع هذا التقرير في 576 صفحة متوسطة مطبوعاً أجود طبع وفيه خلاصة أعمال الجمعية ونفقاتها ومقالات العلماء وأبحاثهم كما أن فيه رسوماً كثيرة ومصورات جميلة جدير بأن تزدان به المكاتب ليكون من جملة العبر للشرق تنعي عليه توانيه عن اللحاق بالغرب في العلم والعمل.

سير العلم

سير العلم التمتمة عنيت لجنة التعليم الابتدائي في مدينة لانكاستر بإنكلترا بالبحث في أحوال الأولاد الذي يتلجلجون في إلقاء دروسهم فثبت لمن عهدت إليه النظر في ذلك أن الأطفال يتمتمون ولا سبيل إلى نزع هذه العادة منهم إلا بالتمرين ورياضة الصوت وتعويده على عدم التردد في الكلام فجمع لذلك صفاً مؤلفاً من أربعين من البنات والبنين وأخذ يعلمهم على أساليبه في تقوية التنفس وتحسين التلفظ وبعد عناية ستة أسابيع طفق الأولاد يقرؤون بصوت جهوري ساعات بدون تلعثم ثم زودهم الأستاذ بنصائح يجرون عليها في بيوتهم بمراقبة أهلهم. وهذه الطريقة تستدعي عناية فائقة من المعلم والمتعلم وكثيراً من الثبات ولا بد من التوفر على ترويض الصوت على هذا النحو حتى تزول التمتمة كل الزوال وقد ارتأت اللجنة المشار إليها أن تنشأ فرق خاصة في كل مدرسة لهذه الغاية كما تؤسس فرق استعدادية في جميع مدارس المعلمين. حواس النبات قال علماء النبات منذ نحو خمسين سنة أن للنبات حياة كحياة الحيوان وقام اليوم أحدهم في هولاندة ليثبت أن للنبات كما للحيوان حواس وإن خفيت عن الأنظار فلها حاسة الذوق وحاسة السمع وحاسة اللمس. فالنبات على ما يقول بحسب الفصيلة التي ينسب إليها يتغذى بمواد يؤثرها على غيرها لأنه يرى فيها لذته ويستطيبها. وللنبات حاسة الذوق والدليل على ذلك الطحلب فإن نموه معروف بتزاوج الذكر بالأنثى وهكذا أيد مدعاه في قوله أن للنبات ذوقاً وسمعاً ولمساً. الانحطاط البشري نشر الدكتور إميل كنج أحد علماء الفسيولوجيا في برلين كراسة ليس فيها علامة خير على مستقبل البشر فقال إن الإنسان قد أنهك قواه وتركيبه الفسيولوجي فأصبح عرضة للأمراض حتى أنك لترى هذا الانحطاط بادياُ على كثير من الناس وإذ كانت هذه الحال تنتقل من أجيال إلى أخرى فقد نشأت عنها تغير عام في النوع الإنساني يؤدي ذلك تعدد الإصابات بالسرطان الذي نسبه في الأكثر لحياة الإنسان على هذا العهد الحديث وزاد بأن أمراض

القلب قد كثرت وإن معظمها ناشيء عن ضغط الدم على الأوعية الدموية الناتج عن الإفراط في العمل والجهاد والإسراع والتعب على اختلاف ضروبه. وأثبت بأن معدة الإنسان تسوء حالها من حين إلى آخر وأن سوس الأسنان وسقوطها قبل الأوان مما يزيد من ضعف المعد زيادة محزنة. وزاد بأن الناس إذا ظلوا يعيشون كما يعيشون وسط هذا التمدن الموهوم فسيجيء يوم ليس ببعيد كما يظن الظانون فيكثر فيه الانتحار كل يوم بسبب ما يلقاه المنتحرون من الأوصاب والأوجاع التي لا تطاق. وقالت المجلة التي عربنا عنها المقال: لا شك أن رأي العالم الألماني لا يخلو من مبالغة وغرابة ولكن فيه شيئاً من الحق أيضاً وذلك لأن حياة البشر في تناقص وتشوه ما عدا أحوال استثنائية فبعد أن أدرك المرء أن خير ما له صحة يتمتع بها تراه مع هذا يسرف فيها أي إسراف كولد طائش ورث من أهله مالاً فتوفر على إنفاقه بكلتا يديه. وقد جرت عادة الصينيين أن يضعوا جوائز سموها جوائز الفضيلة يمنحونها لمن يحس الخلاص من الأمراض فهلا اقتدت أوروبا بهم في هذا السبيل؟. البيوت الغريبة اخترع شيخ الكهربائية في هذا العصر المستر أديسون الأميركي قوالب تكلف ثمانية آلاف جنيه وتبنى بها مساكن ذات ثلاث طبقات لا يكلف واحدها أكثر من مائتي جنيه ويتم في أربع وعشرين ساعة في أرض رملية يستعمل ما يستخرج من رملها في بناء حوائط الدار وأسسها كالسمنت وبهذا الاختراع قد خدم الإنسانية أجل خدمة خصوصاً وهو يقول أنه لا يريد أن يربح من اختراعه بل يجعله وقفاً على نفع البشر فبارك الله به وباختراعه وإنسانيته. حاصلات البن بلاد البرازيل أعظم الممالك إخراجاً للقهوة في الأرض والبن المعروف بالسانتوس مشهور في جميع الأسواق التجارية في العالم. وسانتوس مرفأ تجاري من مرافئ تلك البلاد تجيء إليها القهوة من أطراف الجمهورية البرازيلية ومنها تصدر إلى أقطار المعمور فتنسب القهوة إليها. وقد قدر محصول القهوة في العالم سنة 1901 إلى 1902 بنحو تسعة عشر مليون كيس وبـ 17685000 كيس من سنة 1902 إلى 1903 وبـ 15730000 كيس

من سنة 1903 إلى 1904 وبـ 14900000 كيس من سنة 1904 إلى 1905 وكان حظ البرازيل من هذا المحصول أكثر من حظ الأمم جمعاء فأصدرت سنة 1902 أربعة عشر مليوناً ونصف مليون من الأكياس التي يبلغ واحدها ستين كيلو وسنة 1903 1، 12380000 كيس وسنة 1904، 10300000 كيس وسنة 1905، 9640000 كيس. البحرية الألمانية من القاعدة التي اتخذتها إنكلترا في استعمارها أن تكون بحريتها موازية لبحرية دولتين عظيمتين من دول أوروبا إلا أن ألمانيا قد كادت تخل لها تلك القاعدة فقد قررت أن تبني سنة 1908 ثلاث دراعات كبرى وفي كل من سنة 1909 و 1910 ثلاثاً مثلها ومدرعتين سنة 1911 ومن سنة 1912 إلى 1917 كل سنة دارعة عظمى وطراداً عظيماً فيكون مجموع ما ستبنيه في تسع سنين 17 دارعة و6 طرادات عظمى و29 طراداً صغيراً وقد بلغت ميزانيتها البرية والبحرية زهاء مليار مارك أي ما يربو على 1200 مليون فرنك فزادت 122 مليون مارك عن السنة الماضية ولا تزال الزيادة تزيد سنة عن سنة وألمانيا تريد أن يكون لها المقام الأول ببحريتها كما لها المقام الأول ببريتها وهناك مؤتمر السلام في مدينة الهاي ينادي أعضاؤه بنزع السلاح والاجتماعيون ينادون بالسلم والسياسيون ولا يرتاحون إلا للحرب. تجارة كريت في إحصاء أخيراً أن واردات هذه الجزيرة المعروفة عند كتاب العرب بجزيرة أقريطش قد بلغت في السنة الماضية 15185073 فرنكاً وصادراتها 11224449 فرنكاً وأهم ما يرد إليها الدقيق والأنسجة وأهم ما يصدر منها زيت الزيتون ثم الخروب والزبيب والصابون. قالت مجلة الاستعمار أن تجارة هذه الجزيرة وزراعتها وعدد سكانها ليست متناسبة مع سعتها وخصب أرضها وجودة مناخها وموقعها الجغرافي فإن مساحته تبلغ نحواً من عشرة آلاف كيلومتر مربع وليس فيها من السكان أكثر من ثلثمائة ألف نسمة. لغة الجغطاي كتب المسيو لوسين بوفا في مجلة العالم الإسلامي بحثاً في هذه اللغة قال فيه: إن معنى جغطاي في الأصل المحتشم الشجاع وهذا الاسم إذا أطلق على إنسان عند الترك في آسيا

الوسطى يراد به مدحه ولذلك دعي جنكيز خان بجغطاي وسميت هذه اللغة باسم المملكة العظمى التي شاعت فيها وقد قسمها بيرسين منذ ستين سنة في كتابه البحث عن اللهجات التركية إلى ثلاث فصائل الأولى الجغطائية الشرقية أو التركستانية وهي عبارة عن لغة الويكور والكومان والجغطائي والأوزبك والتركمان والتركستاني ولغة قازان المكتوبة والفصيلة الثانية هي التتارية أو المشالية (كيشاك) وهي عبارة عن لغة القرغيز والباشكير والنوجاي والكوموك والكاراتشاي والشيرياك والبيري والفصيلة الثالثة التركية أو الغربية وهي عبارة عن اللهجات الداغستانية والأزيرية المنتشرة في بلاد القرم والأناضول والروم إيلي. وقسمها أرمنيوس فمبري المستشرق المجري بعد عشرين سنة من ذاك التاريخ إلى ثلاث فصائل رئيسية وهي الصيني التاتاري الترك الكشغري والجغطاي الصرف أو الأوزبكي والتركماني يضاف إليها في الدرجة الثانية لغة القبشان والقرغيز والقره قالباق كما يضاف إليها لغتان قريبتان من التركية كل القرب وهما اللغة الياقوتية والشوفاشية. قال وقد اعتبرت لهجة الويكور أقد ضروب اللهجات التركية واكتشف بعضهم مخطوطات نادرة في أورخون من بلاد المغول منذ نحو عشرين عاماً كتبت بلغة تركية أقدم من جميع تلك اللهجات خالية من الألفاظ العربية التي طرأت على اللهجات التركية عقيب أن دان أهلها بالإسلام. ومن الغريب أنها أقرب إلى التركية العثمانية من لغة الويكور واللهجات التركمانية ويقال على الجملة أن لهجات سكان الشرق من الأتراك تمتاز عن لهجات سكان الغرب بما فيها من الألفاظ العويصة المهجورة ولها ألفاظ خاصة بها استعاض عنها الترك العثمانيون بألفاظ عربية وفارسية أو أفرنجية (إفرنسية وإيطالية وإنكليزية ويوناينة وصقلية وغيرها) ولفظ سكان الشرق شديد حلقي وبعض اللهجات كلغة القرم وآذربايجان مثلاً هي رابطة بين اللهجات. ثم وصف اللغة البخارية واللغة الخوقندية واللغة الأوزبكية الشائعة في خيوة وما تمتاز به كل منهن وقال أن الأحوال السياسية التي جرت في آسيا الوسطى في القرون الأخيرة كان من نتائجها التأثير في كل لهجة من تلك اللهجات فلم تحفظ كيانها كما كانت. أما الجغطاي اليوم فهو اللغة الأوزبكية يتكلم بلها ثلاث إمارات تحكم عليها الآن روسيا وهي خوقند وبخارة وخيوة ما عدا من نزح ممن يتكلمون بلغتهم إلى الأفغان. ولئن ساغ تحديد البلاد

التي يتكلم فيها بتلك اللهجة فإن عدد من يتكلمون بها كثيرون وقد قدر فمبري عدد من يتكلمون بالأوزبكية بمليوني نسمة منهم مليون في بخارى وحواليها وسبعمائة ألف في خيوة ومائة ألف تحت حكم الأفغان. وقدره آخرون بثلاثة ملايين وثلثمائة ألف ولكن بدون أن يذكر فيه العناصر واللغات. وقد وصف الأستاذ فمبري أخلاق الأوزبكيين وعاداتهم فقال أن سكان المدن منهم ما برحوا إذا نظرت فيهم ترى عليهم آثار المدنية الزردشتية ومن ذلك أنهم ما زالوا محافظين كل المحافظة على عيد النوروز وهو أول يوم في السنة عند الفرس الموافق للاعتدال الربيعي وما برح أوزبك بخارى كمجوس الفرس في يزد وكرمان يرقصون حول نار يوقدونها من القش ويجب على العروس عندهم أن توقد ناراً لطرد الأرواح الشريرة عندما تدخل للمرة الأولى إلى بيت زوجها ولا يسوغ لها أن تستدبر تلك النار. ويتوقى أهل البادية منهم أن يبصقوا في النار أو يلقوا في قاذورات ويعزون للشمس كما يعزون للنار أن فيها خاصية شفاء الأمراض كما يعتقدون معتقدات قدماء الإيرانيين في الرواح والجن. وذكر من عاداتهم في مآكلهم ومشاربهم وقال أن التدين يغلب عليهم كثيراً بدون تعصب ولا يكادون يعرفون الرياء وهم يقدسون الأولياء ولكن أقل من خيوه وبخارى وخوقند وقلما يحجون وهم أشبه بأتراك الأناضول منهم بأتراك بخارى. ثم قال أن الترك العثمانيين كانوا يحتقرون قديماً المتكلمين بلغة الجغطاي أو الأوزبك أي التركية الأصلية القديمة ويصفونها بالغلظة ويسمون لغتهم بالجفاء على أن تجافيهم عن أصل لغتهم لم يزدهم إلا انهيال الألفاظ الدخيلة عليهم حتى صارت اللغة التركية العثمانية مزيجاً من لغات أمم شرقية وغربية ولو احتفظوا بأصول لغتهم لكان لهم من ألفاظها مادة يمكنهم أن يعبروا بها عن أفكارهم ومع هذا انتبهوا في العهد الأخير وأخذ بعض علمائهم يبحثون في الرجوع بها إلى أصولها ونشروا نصوصاً قديمة من اللغة الجغطائية كما ينشر علماء المشرقيات آثار الشرق القديمة. ثم وصف مملكة الخوجة في تلك البلاد وما تعاقب عليها من الملوك وكيف سقطت الآن في يد الروس وقال أنه لا يرجى لأهلها بعد الآن نفوذ ديني ولا سياسي. نظر الوقادين

قدم أحدهم إلى جمعية أمراض العيون في باريز رسالة قال فيها أن كثيراً من الوقادين في الأتومبيل والأومنيوس مصابون بأمراض في عيونهم فينشأ منهم لضعف أبصارهم ضرر على الراحة العامة وخطر على حياة الركاب والمارة ومن العجب أن يطلب من الميكانيكي أن يكون حاد النظر وتفحص عيناه فحصاً طبياً دقيقاً ولا يطلب مثل ذلك من الوقاد والسواق وأبت أن 8 في المئة من الوقادين ضعاف البصر. وصادف أن رأى وقادين كانت مقلهم (قرنيتهم) كثيفة بحيث لا يبصرون وبعضهم مصابون بتغبش النظر وبلغ الحسر أي قصر النظر ببعضهم أنهم إذا رأوا في رابعة النهار قطيع غنم ظنوه غباراً وإن وقع نظرهم على جبل اتخذوه سحاباً ومنهم من لا يبصرون إلا بعين واحدة فإذا أصيبت الصحيحة بعارض يصبحون كالعميان لا محالة. وفي رأيعه أن تفحص عيون الوقاد والسواق قبل أن يناط بهم العمل فلتجعل هذه الرسالة موضع التنفيذ لأن الحوادث التي نشأت من ضعف الأبصار من هذا القبيل طالما جلبت المضار والأخطار. تلفون جديد اخترع الأخوان لوريمة اللذان لهما في تاريخ التلفون يد طولى آلة تخاطب بها الإنسان من يريد من تلقاء نفسه بدون أن يخاطب مركز إدارة التلفون أولاً لتفتح له طريق من يحب مخاطبتهم. وقد جعلت الآلة بحيث لا يحدث منها لبس في التخاطب ولا انقطاع ولا يفهم أحد ما يدور بين المتخاطبين كما هو الحال الآن وذلك على طريقة تسهل على المتخاطبين وتوفر م العاملين وتكون سرعة التخاطب بهذا التلفون في الليل أكثر من سرعتها في النهار وقد جرب اختراعهما في كندا فظهرت نتائجه الحسنة. طباعة العميان كان العميان في أكثر مدارس الغرب يتعلمون القراءة في كتب جعلت لهم خاصة بحروف ناتئة عرفت بحروف برايل أما الآن فقد اخترع أحدهم اختراعاً جديداً بحيث يمكن للعميان أن يقرؤا الخطوط التي تطبع بحروف كالعادة إلا أن نصف الحرف الأول يجعل بطبع ناتئ ونصفه الآخر بطبع عادي غير ناتئ وبذلك يمكن للمبصرين والعميان أن يقرؤا الكتب المطبوعة على هذا النحو. ورق النرد الطبي

ثبت بالفحص الطبي أن جراثيم العدة يكثر انتقالها بورق النرد لتنقلها من يد إلى أخرى خصوصاً وبعض الناس يبلون أصابعهم بريقهم ليتناولوا الورق ويناولوه بسرعة فتساعد على نقل جراثيم النزلات والسعال وأمراض الحلق وغيرها رطوبة الأماكن التي يلعب بها اللاعبون والرطوبة من أشد المعينات على نماء الأحياء الضارة. وقد ارتأى أحد الأطباء الإنكليز أن يجعل ورق اللعب من القماس ليمكن تطهيره وتعقيمه بعد كل لعبة وربما كان باستعمال هذه الأوراق الصحية شيء من النفع لصحة الأجسام. إنقاذ السفن اخترعت آلة لتعويم السفن الغرقى وذلك بجعل الهواء مضغوط في جدران السفينة الغارقة ضغطاً اشد مما يقابله من العمق وقد جربت في تعويم الغواصات وربما نفعت في تعويم البوارج. حوادث الخطوط الحديدية جربت حكومة ألمانيا من مدينة برلين إلى ستيتين عدة طرق لتعريف سائق القطار ما أمامه من الإشارات أثناء الضباب توقياً من الأخطار فلم تر أحسن من وضع كل مئة متر صفارة من الكهربائية تجعل على علو ثلاث مترات فتصفر وتنبه السائق إلى الإشارات التي أمامه. عدو المحار أصيب المحار والسمك البدلان في شواطيء فرنسا ولاسيما في بحر المانش بعدو أزرق من الخث (نبات الماء) الذي يعلق بالحصا فلا يرتفع عنه كما يعلق على المحار فإذا امتلأ هذا الخث ماء بلغ بحجم البيضة وأحياناً بحجم اليد فإذا علق بالمحار لا يتركها حتى يقتلها وقد قدر ما فسد من هذا السمك في شهر مايو من سنة 1906 بأربعمائة ألف سمكة وذلك في (بارك بروتون) وحدها ولم يجدوا طريقة للخلاص من هذا العدو إلا إلقاء حرم من الشوك في الماء تمزق الخث. ألمانيا والسل يؤخذ من تقرير الصحة في ألمانيا أن فيها 87 مصحاً للشعب فيها 8647 سريراً منها

5772 للرجال و2658 للنساء و292 للرجال والنساء بدون استثناء وفيها 35 مصحاً خاصاً يحتوي على 2118 سريراً و17 مصحاً للأولاد المسلولين فيها 650 سريراً و67 مصحاً للأولاد المصابين بداء الخنازير فيها 6092 ويعمر فيها اليوم 11 مصحاً للأمة فيها ثمانمائة سرير وعشر دور خاصة بمداواة هذا المرض وداران آخران تشيدان حديثاً هذا ما عدا دور النقاهة التي أقامتها ألمانيا وجمعياتها في الغابات وغيرها. سماعة جديدة اخترع أحد جراحي لندن سماعة جديدة استعاض فيها عن المعدن بالمطاط وكان المعدن يتأثر منه حاسة السمع بعض التأثر والمطاط يسهل مسه ويلطف وضعه. أهم الكتب قيل أن الصاحب ابن عباد كان يستصحب في سفره أحمالاً من الكتب للتسلية والاستفادة فلما ظفر بكتاب الأغاني استغنى عنها كلها واكتفى بحمله معه والغالب أن الناس في أوروبا سئمت نفوسهم من كثرة الكتب أو كادت وخافوا أن تكون لهم كما قال ابن خلدون عائقة عن التحصيل فعرضت إحدى المجلات الدولية التي تخوض المباحث الحرة على المعاصرين من العالمين أن يبينوا لها آراءهم فيما يختارونه من الأسفار التي تؤلف مكتبة يعتمد عليها المرء في خلوته وجلوته ولا تكون أكثر من أربعين كتاباً تبحث في الفلسفة والأخلاق والفنون والأدب. التصوير عن بعد هذا اللفظ الإفرنجي معناه التصوير عن بعد اخترع مسماه أحد علماء الألمان منذ مدة فقام مخترع فرنسي اليوم يتمم ما بدأ به السابق فتمكن من نقل مسودة فوتغرافية بالفحم إلى مسافة بعيدة وأخرج صورة منها في صورة تشبه الصل وليس في القيام بذلك أدنى صعوبة. تلوين الجوهر ثبت أن الحجر اللطيف المعروف بالكوروندون المعتبر بعد الماس بقيمته يتأتى تلوينه حتى يصير جوهراً لطيفاً وكذلك بعض الأحجار الكريمة ولكن الأحجار الكريمة تبقى على

نفاستها وغلائها ويمكن تلوين الياقوت الأحمر بلون آخر وإن كان من الثابت أن الأحجار تعيش وتموت كالنباتات فإن ذلك مما يسر السبيل على المخترع أن يلون الأحجارة الكريمة ألواناً غريبة. غذاء الإنسان نشر شبتدن من أساتذة كلية يال الأميركية كتاباً في الإكثار من التغذية ولاسيما في الإكثار من تناول اللحوم وأورد أمثلة كثيرة في هذا الباب. وأثبت الآن أن التغذية المعتدلة هي من الشروط المهمة في حسن الصحة ومتانة الأعضاء ومرونتها. وقد استعمل هذا الأستاذ بذاته مع بعض رصفائه من الأطباء طريقة التقدير في الطعام ولا سيما في الألبومين اللازم كل يوم فجادت صحتهم ايما جودة وطبقت هذه القاعدة على جنود في الخدمة مضطرين كل يوم إلى معاناة الأعمال الصعبة فثبت أن أعصاب ظهورهم وسوقهم وصدروهم وأذرعهم قد قويت أي قوة وأن خير طريقة لاتقاء الأمراض أن تقدر كمية الطعام على ما ينبغي ولاسيما اللحم. الديكتوغراف آلة اخترعت مؤخراً في أميركا تمنع أن يسمع أحد صوتك وأنت تكلم أحداً بالتلفون أو يفهم كلامك أو يجعل الهواء التباساً في حديثك وحديث من تكلم. تقهقر إنكلترا قالت المجلة الباريزية أن إنكلترا لم يعد لها المقام الأول في التجارة والصناعة كما كانت منذ مئة سنة فقد بلغ ما أصدرته سنة 17820 من المصنوعات مليار فرنك أي أنه يعادل ما أصدرته فرنسا والولايات المتحدة معاً والنمسا وألمانيا أو يوازي مصنوعات العالم أجمع إذا أخرجت منه تلك الدول الأربع. ونزل ما أخرجته سنة 1880 إلى خمس الحاصلات الصناعية وفي سنة 1894 إلى السدس ولم تبلغ الصادرات الإنكليزية منذ سنة 1894 إلى 1903 سوى ثلاثة عشر في المئة. وكانت اليابان قديماً من أحسن الزبن للمصنوعات القطنية الإنكليزية إلا أنها أخذت تصنع مثلها في بلادها من ذاك العهد وتقدمت صنائعها تقدماً غريباً فكانت تنسج سنة 1886 ستة ملايين لبرة من القطن فأصبحت تنسج سنة 1895، 135 مليون لبرة أي أن مصنوعاتها زادت أربعة وعشرين ضعفاً في تسع سنين

وغدت اليابان التي كانت تبتاع سنة 1884 بثمانية ملايين دولار من المصنوعات القطنية لا تشتري سنة 1895 سوى نصف ذلك. الجزائر والصحراء نشرت مجلة العلم في القرن العشرين مقالة بحث فيها كاتبها في أصول سكان جنوبي الجزائر والصحراء فقال أن أهم عنصر في سكان الجزائر هم البربر والعرب والأول زارع والآخرون يقيمون على تربية المواشي وكثيراً ما كان هذان العنصران يتمازجان وقد أثر هناك الدم الزنجي أيضاً قال ومنذ استولت فرنسا على تلك الأنحاء أخذ كثير من قبائل الطوارق يعتاشون من رعي الماشية أو يسيرون القوافل وأصبح بعضهم زراعاً يحرثون ويفلحون. الدين في الصين نشر أحد الباحثين من الإنكليز مقالة قال فيها أن الدين يرجع القهقرى في الصين فلا يقل فيها المتدينون بالكونفوشيوسية والبوذية والطاوسية بل أن النصرانية هناك لا مستقبل لها أيضاً. أولاد الفقراء بحث بعض العلماء في السنين الأخيرة في قامات أولاد الفقراء ووزنهم ونسبتهم مع أولاد الأغنياء فثبت أن الأغنياء أعظم وأقوى (المقتبس 2 ـ 444) وقد عينت الحكومة الإنكليزيية نخبة من الأطباء والعلماء ففحصوا 72848 صبياً في المدارس العامة في غلاسكو سنة 1905 ـ 1906 فنظروا إليهم من حيث مساكنهم لأن سعة المسكن دليل على سعة العيش في الغالب فثبت لهم أن 8 في المئة يعيشون في مسكن ذي غرفة واحدة و58 في المئة في مسكن ذي غرفتين و24 في المئة في مساكن ذات ثلاث غرف و10 في المئة في مساكن ذات غرف كثيرة وأثبتوا أن قامات البنين والبنات من الخامسة إلى الثالثة عشرة تضعف بحسب صغر المساكن التي يسكنونها وأيدوا بالبرهان أن عظم المساكن إذا كانت دليلاً عاماً واضحاً على حالة الثروة فإن قامات الأطفال ووزنهم تضعف بحسب ضعف الأسرة في السعة وبسطة العيش. ترجمة التوراة

قالت المجلة: ترجمت التوراة الآن إلى أربعمائة لغة وقد أورد الباحث فيزجيرالد بعض المصاعب العظيمة التي تحول دون نقلها إلى اللغات الهمجية التي كثيراً ما تعوزها أهم الكلمات اللازمة. مثال ذلك أن أهل تاهيتي ليس عندهم لفظ يعبر عن الحشمة ولعلهم لا يعرفون هذا المعنى ومتوحشو الماوريس في زيلاندا الجديدة ليس عندهم كلمة شريعة والبلاد التي لم تدخل إليها التوراة بعد هي بلاد العرب والفرس والسودان. مطاط جديد اكتشف في التونكين شجر جديد من المطاط من النوع الجيد وهو كثير في عدة ولايات من تلك المستعمرة ولم يكن يعرف من شجره في الهند الصينية غير نوع كان يصعب استثماره كثيراً وقلما يأتي بمطاط جيد. ضرائب فرنسا كان سكان فرنسا سنة 1808 يدفعون ضرائب للحكومة 21 ملياراً فأصبحوا يدفعون سنة 1896، 142 ملياراً من الفرنكات ولم يتضاعف في خلال تلك الحقبة من القرن عدد سكانها على حين أنشؤوا يدفعون سبعة أضعاف ما يدفعون وزاد عدد الدفاتر التي أخذت من صناديق التوفير منذ سنة 1869 ـ 1898 من ثلثمائة ألف إلى ستمائة ألف وبلغت المبالغ المودعة 148 مليوناً وكانت 52. تشغيل الأولاد عدوا من دواعي الخجل على القرن التاسع عشر أن ينصرم ويخلف للقرن العشرين مسألة من أصعب مسائله الاجتماعية ألا وهي تشغيل الأطفال من البنين والبنات في المعامل والمصانع والمناجم بأيديهم وهم ضعاف الأجسام ولما يبلغوا نموهم المطلوب فتستولي عليهم الأمراض المختلفة. وقد دلت الإحصاءات في فرنسا سنة 1905 على أن عدد العاملين من الأولاد بلغ ثلثمائة ألف وعدد العاملات من البنات مائتين وستين ألف عاملة وأن بعض المعامل يكتفي أصحابها بعامل كبير لقاء ثلاثين من هؤلاء الصغار لرخص أجورهم وشدة همتهم ولطالما أظهرت تقارير مفتشي المعامل أن بعضها يستخدم في السر أولاداً من ابناء الثمانية إلى العاشرة وتطعمهم خسيس الطعام وتشغلهم عشر ساعات ولذلك

صدق ما قاله أحد أساتذة العلم في المجمع الطبي الباريزي من أن 141 من كل 896 ابناً وابنة يموتون بالسل الظاهر. نفقات الكليات أحصى أحد أساتذة التعليم العالي ما تنفقه فرنسا وألمانيا على كلياتهما فتبين أن ألمانيا تصرف 31 مليون فرنك على التعليم العالي في السنة وفرنسا تنفق 21 مليوناً على حين يبلغ سكان الأولى 56 مليون نسمة والثانية 39 مليوناً هذا ما خلا بعض الكليات القديمة في ألمانيا التي لها واردات سنوية تبلغ خمسة ملايين فرنك فمعدل ما يصيب المكلف في ألمانيا نفقة على التعليم العالي 54 سنتيماً ومعدل ما يصيب الفرنسوي 56 سنتيماً ونصف. وقد قالت بعض المجلات وليس هذا مما يعاب على الفرنسيس ولكن الحقيقة أنه ينشر كل سنة في ألمانيا ثلاثة أضعاف ما ينشر في فرنسا من المطبوعات في التاريخ الحديث وينشر في ألمانيا خمسون ضعف ما ينشر في فرنسا من المطبوعات في التاريخ القديم ولكن ترى هل ما تنشره ألمانيا عقود ودرر. عمال التجارة رأى سفير فرنسا في لندن أن خير واسطة لنشر تجارة أمته في بريطانيا أن تبعث إليها بأناس من بينها تدربهم على الأعمال التجارية على الأسلوب الإنكليزي وعندها تعهد إليها أن يكونوا وكلاء عع بيوتها التجارية وإن نقل الأشخاص الذين يصرفون المصنوعات ينفع أكثر من الاعتماد على أناس من الإنكليز لتصريف المصنوعات الفرنسوية وما حك جسمك مثل ظفرك. ولذلك بدأ المجمع التجاري في باريز بإرسال كثيرين إلى ليفربول يدرسون الأعمال على الأسلوب الإنكليزي وسيكون ذلك مقدمة لنشر البضائع بين أمة أخرى. تجارة الكتب لم تكن فرنسا تصدر إلى إيطاليا من الكتب سنة 1903 سوى نصف ما تصدر ألمانيا إليها أي أن الأولى تصدر إلى إيطاليا بأربعمائة ألف فرنك وألمانيا تصدر إلى إيطاليا بثمانمائة فأصبحت فرنسا تصدر إلى إيطاليا في السنة الماضية 636 ألف فرنك وألمانيا 916 وورد على فرنسا في السنة الماضية 7817 قنطاراً من الكتب المغلفة ومثل هذا القدر ورد على ألمانيا وفرنسا وألمانيا في مقدمة بلاد أوروبا بإصدار الكتب.

المعتوهون تبين أن أحسن طريقة في اختبار المعتوهين ممن وقعت لهم عوارض وقتية وليسوا من العته في شيء هي التي جرت عليها مدينة غلاسكو في بلاد الإنكليز فإنهم هناك قبل أن يلقوا المصاب في مستشفى المجاذيب يجعلونه تحت المراقبة بضعة ايام وبذلك كان يظهر أن خمسين في المئة لا يصلحون للبيمارستانات وستجري أكثر مدن أوروبا على هذه الطريقة في استثبات حال المجانين. الملكة فكتوريا نشر في العهد الأخير في إنكلترا كتاب ضخم في ثلاثة مجلدات وهي رسائل الملكة فيكتوريا والدة الملك إدوارد السابع ملك الإنكليز الحالي التي تولت الملك 64 عاماً مما لم يعهد لملك في تاريخ إنكلترا أن تولى أمر الناس هذا الزمن الطويل وكان ابنها هو وكاتم أسراره مساعدين في إعداد هذه المفكرات ليكون منها الشعب الإنكليزي صورة حقيقة من قلب الملكة فكتوريا وأفكارها بدون تغيير الحقيقة التاريخية أو تعديلها وبدون أن يغفلوا عن ذكر الأوهام التي كانت مستحكمة فيها لأول عهدها وهذه المجلدات هي عن الخمس والعشرين سنة الأولى من حكمها. الانتحار والتربية ألف أحد علماء الإفرنج كتاباً في التربية وانتحار الأولاد فأثبت أن عدد المنتحرين من الأطفال يزداد سنة عن سنة وأن الداعي إلى الانتحار هو الغيرة والغضب والكبر والخصومات الأهلية ومضادة الأميال والإجهاد العقلي وسوء معاملة الوالدين وفي تضاعيف ذلك ما يبدو في المنتحر من ضعف الإرادة الناتج من مجتمع قليل المتانة وبالجملة فإن القرف من الحياة يأتي أبداً من ضعف المزاج ولا وسيلة لدفع الأولاد عن الانتحار إلا بإطعامهم جيداً وتنويمهم طويلاً وتقوية أعصابهم بالجري على التدابير الصحية والمعالجة بالماء البارد وإدخال السرور على قلب من كان فيه استعداد لذلك والتخفيض عليه إذا ضاق صدره. ومن رأيه أن تاثير المعتقدات الدينية والقراءة في الكتب الصحيحة من أحسن المؤثرات في عقل المستعد للانتحار وأبان بالأمثلة والشواهد ما ينال الشبيبة من المخاطر إذا حشيت عقولهم بالمعارف فوق طاقتها.

أخطار المسكرات ذكرت مجلة المعين الاجتماعي أنه أحصيت محال بيع المسكرات في فرنسا سنة 1905 فكانت 476593 محلاً وما برحت آخذة بالزيادة منذ قرن قالت: وإن الحكومة لا تجهل أن جميع إصلاحاتنا الاجتماعية تكون من العبثيات وجميع تربيتنا لجمهور الأمة وحرياتنا السياسية والمدنية ونظامنا الدستوري تصبح أبهة باطلة وأثراً بعد عين إذا ظل بائعو المسكرات يسممون الناس عندنا كما هم الآن. وقد أمر وزير الداخلية بأن تحقق أحوال دور المجانين فأثبتت اللجنة التي عهد إليها النظر في ذلك في 36 ولاية أنه زاد عدد المعتوهين بتعاطي المسكرات منذ عشر سنين 57بالمئة وأن نصف المصابين بالجنون كان لتعاطيهم الإبسنت والأشربة المقبلة. وفرنسا ساعية في إبطال المشروبات الضارة وإغلاق معظم محال بيعها جرياً على مثال معظم الأمم الراقية في الغرب. القرى والمدن تشكو معظم بلاد الغرب من كثرة زهد الفلاحين في قراهم وانقلابهم إلى المدن يتعاطون فيها الأعمال الصناعية وغيرها وقد وضعت فرنسا إحصاءً لذلك فظهر لها أن سكان الأرياف كانوا فيها سنة 1846، 75 في المئة من مجموع الأمة فنزل معدلهم اليوم إلى ستين في المئة هذا مع أن فرنسا أرقى البلاد الأوروبية بزراعتها. وقد غادر الحقول من سنة 1872 إلى 1891 نحو أربعة ملايين ونصف من الريفيين ولحقوا بالمدن والعواصم وفي الإحصاء الذي تم سنة 1891 كان سكان باريز 2300000 منهم 800000 باريزيون أصليون والباقون ريفيون. غلاء المعيشة يقول الاقتصاديون أن السبب في غلاء الحاجيات هذه الأيام كثرة الذهب في الأيدي فقد زاد محصول الذهب في العشر سنين الأخيرة ضعفي ما كان عليه فكان مجموع ما في العالم من الذهب سنة 1896 عشرين ملياراً فأصبح في العام الماضي ثمانية وثلاثين ملياراً من الجنيهات فالجنيه وقيمته قيمته ولكن ما كان يتيسر للمرء أن يبتاع به من البضاعة لا يتيسر له أن يبتاعها به الآن لأنها قلت وعلى هذه النسبة تضاعفت أثمان اللحوم والفراخ أو زادت الثلث عما كانت عليه منذ عشر سنين. والمتأخر في هذا الباب آخذ باللحاق بالمتقدم.

الدعوة إلى السلم أول من دعا إلى السلام هو الفيلسوف الهولاندي إيراسم المدعو فولتير اللاتين فرأى سنة 1517 أن يجتمع ملوك الأرض إلى مؤتمر عام في مدينة كامبري الفرنسوية تحت زعامة الإمبراطور ماكسيميليان وفرنسيسن الأول وهنري الثامن ملك إنكلترا. مطاعم الشعب كانت مدينة ليون سنة 1892 أول من فتح مطاعم للشعب تبيع الوجبة بأربعين سنتيماً وهي تحوي على لحم وبقول وجبن وخمر فيربح المطعم من كل وجبة سنتيمين ونصف ويربح من يقومون بهذا العلم ستة في المئة إلا أن سويسرا أرادت أن تفوق فرنسا في هذا السبيل فأنشأ بعض أهلها في مدينة زوريخ مطعماً ونزلاً للشعب مطلين على رابية هناك من أجمل المناظر البديعة وجعلت الأجرة عن كل يوم ثلاث فرنكات ونصفاً عن الطعام والشراب والمنام ومن أراد أن يمسك له محلاً يجب عليه أن يخابر إدارة الفندق قبل ستة أشهر. العلم والإحسان تبين بالإحصاء أن النفوس رغبت في الثلاث سنين الأخيرة عن مد يد المعونة لدور الإحسان فقد كان ما جادت به النفوس في فرنسا سنة 1904، 24 مليون فرنك من الوصايا والمنح في سبيل الخير فنزلت سنة 1906 إلى ثمانية عشر مليوناً ولكن ثبت أن من يوصون لدور العلم والمجاميع العلمية يكثر عددهم وما تجود به ايديهم فقد كان ما جادت به نفوس الفرنسيس في هذا السبيل سنة 1905 مليوناً ونصفاً من الفرنكات فبلغ سنة 1906 مبلغ 2. 389. 000. الأميون في بولونيا ثبت بالإحصاء ان سكان فارسوفيا عاصمة بولونيا قديماً التي هي اليوم من أعمال روسيا يكثر عدد نفوسها كثرة غريبة فقد بلغوا مليوناً من النفوس ولكن الأميين فيهم كثار بلغ معدلهم 41 في المئة من الرجال و51 من النساء وإن عدد الأميين في بولونيا أكثر منه في جميع الولايات الروسية في أوروبا الغربية فإن صح ما قالوا فما تقول مصر والأميون فيها تسعون في المئة والبلاد العثمانية وما نظن الأميين فيها يقلون عن ثمانين في المئة.

الإحسان العام ذكر بعض المحققين من الإنكليز أن إنكلترا في مؤخرة الشعوب الراقية من حيث جودها بالمال على البائسين فإن فينا من هذا القبيل خيرا من لندرا وبرلين خير من فينا وكوبنهاغ خير من برلين فترى الشيخ العاجز في بلاد الدانيمرك موضوع العناية العظمى ولا يكلف أكثر من سبعة فرنكات على صناديق الإحسان على حين أن الرجل في إنكلترا يموت جوعاً إذا لم يمد يده فيشحذ ويكلف العاجز فيها على المكلفين من الأهلين زهاء عشرة فرنكات. الورق في أميركا أكدت مجلة المجلات النيويوركية أن مجاعة من الورق ستنتشر في الولايات المتحدة بعد بضع سنين وذلك أن صنع الورق من الأشجار قد كاد يفنيها فإذا دامت الحال على هذه الصورة في قطع الأشجار لصنع الكاغد لا يمضي ربع قرن حتى لا يبقى شجر ولا ورق وقد أوردت مثالاً لذلك إحدى جرائد نيويورك التي تطبع ثمانمائة ألف نسخة في اليوم على ثمانين صفحة كبيرة قالت أن هذه الكمية من الورق التي تصرفها جريدة واحدة تحتاج إلى 9779 شجرة من علو عشرين متراً ثخينة وطلب الكاتب من الحكومة أن تنظر في حال الغابات التي تحطم لتصنع منها تلك الورقات والصفحات. معامل اللبن رأى أحد المفكرين أن مراقبة الحكومات لمعامل اللبن (الحليب) من أهم الخدم التي تخدمها لأممها وذلك لأن اللبن يستعمله الناس عامة فإذا لم يكن سليماً يزيد في عدد الوفيات وقد ظهر بالإحصاء أن معدل وفيات الأطفال قد نزل في روشتر من أعمال ولاية نيويورك إلى أربعين في المئة لأن حكومتها راقبت اللبن مراقبة صحية دقيقة. سياح اليابان ينتشر ميل اليابانيين إلى السياحة في الأرض ولم يقصروا سياحاتهم على بلاد الصين والشرق الأقصى بل هم يقصدون بلاد الغرب أيضاً وقد رأى أحد عظماء مفكريهم أن السياحة تطلب لكل من يشتغل طوال السنة بالأشغال العقلية وإن في المدن اليابانية المنقطعة كمدينة كيتو ونيكو وهاكون غنية عن ارتياد البلاد البعيدة إلا أنه ينقصها فنادق

من الطراز الحديث ومحال للسماع ومحال للسباق وقال أن اليابان من هذه الوجهة متقهقرة فرثى لها من أجل ذلك. المدنية الحديثة بحثت إحدى المجلات اليابانية عن الطرق الحقيقية التي يجب سلوكها للأخذ بأهداب هذا التمدن الحديث فقالت كل ما يسلك في هذا السبيل لغو وإثم إن لم ينظر فيه لسعادة البشر وهذه السعادة لا تنال إلا بترقية الأخلاق الشخصية وتحسين الذوق وهذا لا يتأتى إلا بنشر التعليم والتهذيب. خطب ومحاضرات أخذ حديثاً نادي المدارس العليا في هذه العاصمة يدعو بعضاً من المشتغلين بالعلم والأدب لإلقاء خطب ومحاضرات على بعض أعضائه فممن خطبوا فيه رفيق بك العظم وأحمد بك كمال وأحمد بك زكي وعمر بك لطفي وهم من أساطين النهضة المصرية اليوم. فقد خطب الأول في التدوين في الإسلام خطبة قال فيها: إذا قيل أن العرب أمةأمية فليس هذا القول على إطلاقه بل ربما طلق هذا الوصف على عرب البادية إطلاقاً أعم من إطلاقه على غيرهم من سكان المدن والدول البائدة كسكان اليمن ومدن نجد والحجاز والعراق والجزيرة وأطراف الشام الذين عرفت لهم دول ذات حضارة ومجد كالتبايعة في اليمن والمنادرة في العراق والحوارث في أطراف الشام الذين منهم ملوك تدمر في شرقي سوريا وإليهم تنسب الزباء زنوبيا وزوجها أذينة (أوزينوس) ومنهم ملوك غسان في جنوب سوريا وتاريخهم مشهور معروف. فهؤلاء الشعوب لا يجوز أن يطلق عليهم وصف الأمية إلا بالنسبة لحالة كل عصر كانوا فيه وإنما غموض تاريخهم وطموس آثارهم أضاف تاريخهم إلى التاريخ القديم فكان مجهول الحقيقة إلا قليلاً مما وقف عليه الباحثون من الآثاؤ الكتابية للحميريين في اليمن والكتابات النبطية في شمال الحجاز وسيكشف دؤوبهم على البحث وتتبع الآثار أكثر من ذلك. وحسبكم شاهداً على أن الأمية لا يجوز إطلاقها على كل العرب ما كان موجوداً من كتب أهل الحيرة إلى أوائل القرن الثالث الهجري بدليل ما قاله هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأنساب وهو إني كنت أستخرج أخبار الغرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن

ربيعة ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة. أما عرب الحجاز فالمعرف عن الكتابة عند سكان المدن منهم قبيل البعثة أنها كانت موجودة ولو مع الندرة يدلك عليه كتابة المعلقات السبع التي كانت على الكعبة والصحيفة التي عاقدت فيها قريش على رد حقوق وإنصاف المظلوم وعلقوها على الكعبة والمعروف أنهم كانوا يكتبون العربية تارة بالخط النبطي وأخرى بالخط الحيري الذي عرف بعد ذلك بالكوفي ومرة بالخط العبري. ثم ذكر أن الحديث كتب إن لم يكن كله فجله على عهد الرسول وأصحابه والحديث يشمل أكثر تاريخ الخلفاء وكذلك كتب فن النحو الذي أملاه علي بن أبي طالب على أبي الأسود الدؤلي وأما في عصر التابعين وتابعيتهم فقد كانت العناية بكتابة الأخبار أكثر وأقبل الناس على اقتناء الكتب وجمع المكتبات ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة وكان يقول وددت لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين في خلافة يزيد بن معاوية وكان ابن شهاب الزهري إذا جلس في بيته وضع الكتب حوله فشغلته عن كل شيء وهو من أهل المئة الأولى ولم يأت القرن الثاني حتى كثرت الكتب في فنون شتى خصوصاً فنون العربية والأدب فإذا كان ذلك كذلك هل يبقى مجال للريب في أن العرب دونوا علومهم في الصحف من ابتداء القرن الأول وهل يستراب في صحة هذه العلوم على ما ثبت معنا من أنها كتبت مدعومة بالرواية لتكون أبعد عن سهو الكاتبين وتحريف الناسخين. قال وهذه الطريقة في النقل لا تعد ثلمة في تاريخ الإسلام يتطرق منها إليه الوهن والتجريح بل تعد تحقيقاً للأخبار بالغاً حد الأمانة والتمحيص لم تسبق إليه أمة من الأمم غير المسلمين أما تلك الكتب التي دونت في الصدر الأول فإنها أدمجت في الكتب الجامعة التي ألفت بعد ارتقاء التأليف كما يرى في كتب الفنون التي اشتغل بها العرب ودونت بعد القرن الثاني معزوة لقائليها. وخطب أحمد بك كمال في التوحيد عند قدماء المصريين وتكوين أرض مصر والنيل وفي أصل الخليقة وأصل المصريين فقال أن صيغة التوحيد عند المسلمين موافقة تقريباً للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت

في أوراق البردي القديمة فترجم صورة هذه الصيغة عندهم بما يأتي: الله وحده لا ثاني له يودع الرواح في الأشباح أنت الخالق تخلق ولا تخلق خالق السموات والأرض وقال أن علماء الآثار المصرية كانوا يعتقدون إلى ما قبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة وإن التوحيد أتاهم من نوح عليه السلام بدليل قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً إذا قيل أن الشرك كان شائعاً عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار فيقال أن يوسف كان سجيناً عند فرعون مصر وأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع الرعاة (الهكسوس) الذين دخلوا مصر قبل عصر الأسرات ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية وقال أنه جمع أسماء الأصنام بالعربية فرأى أسماء تشابهها بالهيروغليفية واستطرد إلى ذكر البردي فقال أنه كان يزرع في الوجه القبلي وأن اللوتس (له ثمر كالشعير يقتات به) كان ينبت في الوجه البحري وأن المصريين سطروا علومهم من طب وهندسة وحساب على أوراق البردي واللوتس. وهذا النباتان رمزان على من يحكم الوجه البحري والقبلي فإذا رأيت كرسياً مرسوماً عليه صورة البردي واللوتس فاعرف أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين القبلي والبحري. وقال أن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن النيل ينبع عند أسوان ثم علموا أنهم مخطئون في اعتقادهم وأن منبع النيل أبعد مما كانوا يتوهمون فلما وصلوا إلى بحيرة نو اعتبروها أصلاً وأطلقوا عليها هذا الاسم ومعناه ماء والمصريون هم الذين عرفوا الجهات الأربع فكانوا يطلقون على الجهة التي يأتي منها النيل قرن الأرض أي طرفها ولذلك قيل عن ذي القرنين أنه ملك المعمور ولكونه أخذ بطرفيها ويطلقون على المقابلة لها بحري والشرق على مطلع الشمس وقالوا عنه بخ أي الميلاد. وعرف المصريون الجنة والنار لأنه وجدت رسوم للنار والزبانية والحساب الأخروي في آثارهم. وأن النيل لم يكن له مجرى ثابت بل كان يفيض سيحاً وكان منحصراً بين جبال برقة وليبيا. والبحر الأبيض يضرب إلى الفيوم واسم الفيوم بالهيروغليفية بيوم ومعناه الماء وكان هناك للنيل خزان كبير وما زال طمي النيل يرسب في قطعة الدلتا ويتقدم نحو البحر حتى تكون الوجه البحري وكان يتفرع عند

أكاسور أمام أنبابة إلى فرعين فيذهب إحداهما إلى دمياط والثاني إلى أبي قير وكان يتولد عند بنها فرع ثالث يسمى فرع سمنود الذي طم بعد ذلك فتكون من الفرعين الباقيين والبحر شكل الحرف اليوناني المسمى دلتا وأول بلد أنشئت في مصر لصلاحية أرضها للزرع هي أسيوط. وكان موضوع محاضرة أحمد بك زكي هل تخيل العرب اكتشاف أميركا قبل كريستوف كولومب فقال أن نقطة تاريخ ليست عربية وأن الهرمزان الفارسي الذي كان في مجلس عمر بن الخطاب عندما جمع هذا الصحابة يشاروهم في أمر التوقيت قال أننا معاشر الفرس نأخذ مبدأً معلوماً نجعله بداية التوقيت ونسميه ماه روز فاصطلح العرب على هذا وجعلوا يوم الهجرة النبوية أول التوقيت الإسلامي وخرج لفظة ماه روز بأن الهاء حرف صامت أو ناطق عند الإفرنج وكذلك عند العرب فتسقط الهاء على أنها حرف صامت فتصير ماروز ونسمح لأنفسنا في إبدال الزاي خاء فتصير ماروخ ويتصرف منها أرخ يؤرخ تأريخاً. ثم تكلم على شغف العرب بنقل كتب الفلسفة والعلم وكيف كان المأمون يحارب فتزهد نفسه في أخذ البلاد أو تكثير الجزية ولا يريد من المغلوبين على أمرهم من الملوك والأقيال إلا كتب العلم وإن هذا مما لا يعهد له نظير في فتوح العصور المتأخرة وذكر كيف أن هذا الخليفة انتدب يوحنا ابن البطريق المصري إلى بلاد الروم ليبحث له عن كتاب أرسطو في السياسة فأخذ يتنقل من دير إلى دير ومن عالم إلى عالم حتى عثر عليه ونقله إلى العربية وقال أن البحر المتوسط كان على عهد المأمون بحيرة محاطة بملكه وجزيرة صقلية من جملة ملك العباسيين ثم استطرد على عادة محاضرات العرب إلى ذكر صقلية لما ملكها روجر الثاني وقال أن عماله كلهم كانوا من المسلمين وبهم كان يقتدي ويهتدي كما نحن اليوم نأخذ عن الإفرنج كل شيء. وتكلم عن الأخوة المغرورين أو المغرورين وهم جماعة من قبيلة واحدة من العرب قاموا من لشبونة معتمدين على الصبا وعددهم ثمانون عربياً للبحث عن أرض جديدة في المحيط فلم يتمكنوا إذ هاجمهم في الطريق عدد لا يحصى من البواشق فرجعوا وقصوا أشياء غريبة فسموا بالمغرورين وسمى دربهم في لشبونة بدرب المغرورين وهذا ما أيده الشريف الإدريسي في جغرافيته. وفي رواية ثانية أن المغرورين

كانوا ثمانية رجال كلهم أبناء عم ركبوا البحر في أول هبوب الريح فجروا بها نحواً من 11 يوماً فوصلوا إلى بحر كريه الرائحة كدر الماء كثير الطروش قليل الضوء فعادوا ونزلوا بجزيرة كثيرة الأغنام وأخذوا لملكها فأكرمهم ولما سألهم عن حالتهم قصوا عليه ما حدا بهم فلم ير إلا أن يركبهم في سفينتهم ويصحبهم بجماعة من عنده عصبوا عيونهم أياماً فلما توسطوا البحر تركوهم لشلوهم عن الطريق ولما وصلوات إلى مكان هناك سألوا جماعة من البرابرة عن المسافة بينهم وبين لشبونة فقال الزعيم مسيرة شهرين فقال القوم وا أسفي وسمي المكان أسفي والمغاربة يحذفون منها الألف. وبذلك تبين أن الثمانية أو الثمانين المغرورين قد ساورا أحد عشر يوماً حتى وصلوا إلى جزيرة آسور سنة 1433م وأن العرب لم يستطيعوا مواصلة سيرهم لضعف الوسائل. وكانت محاضرة عمر بك لطفي في أصل البنوك والمصارف فقال كان في القرون الوسطى في إيطاليا أناس يحترفون بإبدال العملة يجلسون في الطرقات العامة وأمامهم منضدة (ترابيزة) موضوع عليها نقود للصرف وتلك المنضدة تسمى بالإيطالية (بانكا) ثم ترقت وظيفة هذه الطائفة واتسعت فأخذ الناس يحفظون نقودهم عند هؤلاء الصيارف وصارت مصارفهم محلاً للودائع والأمانات ثم أخذوا سكة (عملة) وهمية بدل السكة الحقيقية التي كانت معرضة للتلف فأصبحت كأوراق البنوك اليوم وأول مصرف حاز اسم بنك مصرف مدينة البندقية سنة 1157 والصين أول البلاد التي أحلت حكومتها سنة 807 م العملة الاصطلاحية محل عملة النحاس ورأى ابن بطوطة هذه العملة الاصطلاحية كما وصفها الرحالة جون مورفيل سنة 1427م ولم يظهر أثر للعملة الاصطلاحية في البلاد الغربية إلا في سنة 1122 أثناء حصار أهل البندقية لصور فإن الدوق ميكيلي الذي كان قائماً بأعمال الحصار أصدر إذ ذاك عملة من الجلد عليها علامات الدوقية ورسومها فصرفت بالنقد لأربابها عند ما وردت على البندقية وسنة 1240 أصدرت مدينة ميلانو لأول مرة في أوروبا أوراقاً لها حكم العملة الحقيقية. ولعل النادي يطبع خطبه ومحاضراته تعميماً لفائدتها.

الأدب الصغير

الأدب الصغير لابن المقفع عني بنشره الشيخ طاهر الجزائري العجب آفة العقل واللجاجة قعود الهوى. والبخل لقاح الحرص والمراء فساد اللاسان والحمية سبب الجهل والآنف توأم السفه والمنافسة أخت العداوة. وإذا هممت بالخير فبادر هواك لا يغلبك وإذا هممت بشر فسوّف هواك لعلك تظفر فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم. لا يمنعنك صغر شأن امريء من اجتباء ما رأيت من رأيه صواباً واصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريماً فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها. من أبواب الترفق والتوفيق في التعليم أن يكون وجه الرجل الذي يتوجه فيه من العلم والأدب فيما يوافق طاعة ويكون له عنده محمل وقبول فلا يذهب عناؤه من غير غناء ولا تفنى أيامه من غير درك ولا يستفرغ نصيبه فيما لا ينجح فيه ولا يكون كرجل أراد أن يعمر أرضاً تهمة فغرسها جوزاً ولوزاً وأرضاً جلساً فغرسها نخلاً وموزاً. العلم زين لصاحبه في الرخاء ومنجاة له في الشدة. بالأدب تعمر القلوب وبالعلم تستحكم الأحلام فالعقل الزاكي غير الصنيع كالأرض الطيبة الخراب. ومما يدل على معرفة الله (وهو) سبب الإيمان أن وكل بالغيب لكل ظاهر من الدنيا صغير أو كبير عيناً فهو يصرفه ويحركه فمن كان معتبراً بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فيعلم أن لها رباً يجري فلكها ويدبر أمرها. ومن اعتبر بالصغير فلينظر إلى حبة الخردل فيعرف أن لها مدبراً ينبتها ويزكيها ويقدر لها أوقاتها في الأرض والماء يوقت لها زمان نباتها وزمان تهشمها. وأمر النبوة والأحلام وما يحدث في أنفس الناس من حيث لا يعلمون ثم يظهر منهم بالقول والفعل ثم اجتماع العلماء والجهال والمهتدين والضلال على ذكر الله تعالى وتعظيمه واجتماع من شك في الله تعالى وكذب به على الإقرار بأنهم أنشؤوا حديثاً ومعرفتهم أنهم لم يحدثوا أنفسهم فكل ذلك يهدي إلى الله ويدل على الذي كانت منه هذه الأمور مع ما يزيد ذلك يقيناً عند المؤمنين بأن الله حق كبير ولا يقدر أحد أنه

باطل. إن للسلطان المقسط حقاً لا يصلح خاصة ولا عامة أمر إلا بإرادته فذو اللب حقيق أن يخلص لهم النصيحة ويبذل لهم الطاعة ويكتم سرهم ويزين سيرتهم ويذب بلسانه ويده عنهم ويتوخى مرضاتهم ويكون من أمره المواتاة لهم والإيثار لأهوائهم ورأيهم على هواه ويقدر الأمور على موافقتهم وإن كان ذلك مخالفاً. وأن يكون منه الجد في المخالفة لمن جانبهم وجهل حقهم ولا يواصل من الناس إلا من لا تباعد مواصلته إياه منهم ولا تحمله عدواة أحد له ولا إضرار به على الاضطغان عليهم ولا مواتاة أحد على الاستخفاف بشيء من أمورهم والانتقاص لشيء من حقهم ولا يكتمهم شيئاً من نصيحتهم ولا يتثاقل عن شيء من طاعتهم ولا يبطر إا أكرموه ولا يجترئ عليهم إذا قربوه ولا يطغى إذا سلطوه ولا يلحف إذا سألهم ولا يدخل عليهم المؤونة ولا يستثقل ما حملوه ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه وأن يحمدهم على ما أصاب من خير منهم أو من غيرهم فإنه لا يقدر أحد أن يصيبه بخير إلا بدفاع الله عنه بهم. مما يدل على علم العالم معرفته بما يدرك من الأمور وإمساكه عما لا يدرك وتزيينه نفسه بالمكارم وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخر ولا عجب معرفته بزمانه الذي هو فيه وبصره بالناس وتحريه العدل في كل أمر ورحب ذرعه فيما نابه واحتجاجه بالحجج فيما عمل وحسن تبصيره من أراد أن يبصر شيئاً من علم الآخرة فبالعلم الذي يعرف ذلك. ومن أرادج أن يبصر شيئاً من علم الدنيا فبالأشياء التي هي تدل عليه. ليكن المرء مسؤولاً وليكن فصولاً بين الحق والباطل وليكن صدوقاً ليؤمن على ما قال وليكن ذا عهد ليوفى له بعهده وليكن شكوراً ليستوجب الزيادة وليكن جواداًُ ليكون للخير أهلاً وليكن رحيماً بالمضرورين لئلا يبتلى بالضر وليكن ودوداً لئلا يكون معدناً لأخلاق الشيطان. وليكن حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه لئلا يؤخذ بما لم يجترم وليكن متواضعاً ليفرح له بالخير ولا يحسد عليه وليكن قنعاً لتقر عينه بما أوتي وليسر للناس بالخير لئلا يؤذيه الحسد.

وليكن حذراً لئلا تطول مخافته. ولا يكن حقوداً لئلا يضر بنفسه إضرارً باقياً. وليكن ذا حياء لئلا يستذم للعلماء فإن مخافة العالم مذمة العلماء أشد من مخافته عقوبة السلطان. حياة الشيطان ترك العلم وروحه وجسده الجهل ومعدنه من أهل الحقد والقساوة ومثواه من أهل الغضب وعيشه من المصارمة ورجاؤه في الإصرار على الذنوب. وقال: لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذوو الألباب ولم يجامعوه عليه فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد. أعدل السير أن تقيس الناس بنفسطك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. وأنفع العقل أن تحسن المعيشة فيما أوتيت من خير وألا تكترث من الشر بما لم يصبك. ومن العلم أن تعلم أنك لا تعلم ما لا تعلم. ومن أحسن ذوي العقول عقلاً من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديراً لا يفسد عليه واحد منهما الآخر فإن أعياه ذلك رفض الأدنى وآثر عليه الأعظم. وقال: المؤمن بشيء من الأشياء وإن كان سحراً خير ممن لا يؤمن بشيء ولا يرجو معاداً. لا تؤدي التوبة أحداً إلى النار ولا الإصرار على الذنوب أحداً إلى الجنة. من أفضل أعمال البر ثلاث خصال الصدق في الغضب والجود في العسرة والعفو عند القدرة. رأس الذنوب الكذب وهو يؤسسها وهو يتفقدها ويثبتها ويتلون ثلاثة ألوان بالأمنية والجحود والجدل يبدأ صاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من المسوآت فيشجعها عليها بأن ذلك سيخفى فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة فإن أعياه ذلك ختم بالجدل فخاصم عن الباطل ووضع له الحجج والتمس به التثبت وكابر الحق حتى يكون مسارعاً للضلالة ومكابراً بالفواحش. لا يثبت دين المرء على حالة واحدة أبداً ولكنه لا يزال إما زائداً وإما ناقصاً. من علامات اللئيم المخادع أن يكون حسن القول سيء الفعل بعيد الغضب قريب الحسد حمولاً للفحش مجازياً بالحقد متكلفاً للجود صغير الخطر متوسعاً فيما ليس له ضيقاً فيما

يملك. وكان يقال إذا تخالجتك الأمور فاستقل أعظمها خطراً فإن لم يستبن ذلك فأرجاها دركاً فإن اشتبه ذلك فأجدرها أن لا يكون له مرجوع حين تولي فرصته. وكمان يقال الرجال أربعة اثنان يختبر ما عندهما بالتجربة واثنان قد كفيت تجربتهما فأما اللذان يحتاجان إلى تجريبهما فإن أحدهما برٌّ كان مع أبرار والآخر فاجر كان مع فجار فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفجار أن يتبدل فيصير فاجراً ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل فيصير براً فيتبدل البر فاجراً والفاجر براً. وأما اللذان قد كفيت تجربتهما وتبين لك ضوء أمرهما فإن أحدهما فاجر كان في أبرار والآخر براً كان في فجار. حق على العاقل أن يتخذ مرآتين فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها ويصلح ما استطاع منها وينظر من الأحرى في محاسن الناس فيحليهم بها ويأخذ ما استطاع منها. احذر خصومة الأهل والولد والصديق والضعيف واحتجج عليهم بالحجج. لا يوقعنك بلاء تخلصت منه في آخر لعلك أن لا تخلص منه. الورع لا يخدع والأريب لا يُخدع. ومن ورع الرجل أن لا يقول ما لا يعلم ومن الإرب أن يتثبت فيما يعلم. وكان يقال عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى والهوى آفة العفاف وتركه العمل بما يعلم أنه صواب تهاون والتهاون آفة الدين. وإقدامه هلى ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح والجماح آفة العقل. وكان يقال وقر من فوقك ولِن لمن دونك وأحسن مواتاة أكفائك وليكن أثر ذلك عند مواتاة الأكفاء فإن ذلك هو الذي يشهد لك أن إجلالك من فوقك ليس بخضوع منك لهم وإن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم. خمسة مفرطون في خمسة أشياء متدمون عليها الواهن المفرط إذا فاته العمل والمنطقع من أخوانه وصديقه إذا نابته النوائب والمستمكن منه عدوة لسوء رأيه إذا تذكر عجزه والمفارق الزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحة والجريء على الذنوب إذا حضره الموت. أمور لا تصلح إلا بقرائنها لا ينفع العقل بغير ورع ولا الحفظ بغير عقل ولا شدة البطش

بغير شدة القلب ولا الجمال بغير حلاوة ولا الحسب بغير أدب ولا السرور بغير أمن ولا الغني بغير جود ولا المروءة بغير تواضع ولا الخفض بغير كفاية ولا الاجتهاد بغير توفيق. أمورٌ هن نبعٌ لأمور فالمروءات كلها تبع للعقل والرأي تبع للتجربة والغبطة تبع لحسن الثناء والسرور تبع للأمن والقرابة تبع للمودة والعمل تبع للقدر والجدة تبع للإنفاق. أصل العقل التثبت وثمرته السلامة. وأصل الورع القناعة وثمرته الظفر. وأصل التوفيق العمل وثمرته النجح. لا يذكر الفاجر في العقلاء ولا الكذوب في الأعفاء ولا الخذول في الكرماء ولا الكفور بشيء من الخير. لا تؤاخين خباً ولا تستنصرن عاجزاً ولا تستعينن كسلاً. إن من أعظم ما يروّح به المرء نفسه أن لا يجري لما يهوى وليس كائناً إلا لما لا يهوى وهو لا محالة كائن. اغتنم من الخير ما تعجل. ومن الأهواء ما سوّفت. ومن النصب ما عاد عليك. ولا تفرح بالبطالة ولا تجبن عن العمل. من استطعم من الدنيا شيئاً فبطر واستصغر من البر شيئاً فتهاون واحتقر من الإثم شيئاً فاجترأ عليه واغتر بعدوّ وإن قل فلم يحذره فذلك من ضياع العقل. لا يستخف ذو العقل بأحد وأحق من لم يستخف به ثلاثة الأتقياء والولاة والأخوان فإنه من استخف بالأتقياء أهلك دينه ومن استخف بالولاة أهلك دنياه ومن استخف بالأخوان أفسد مروءته. من حاول الأمور احتاج فيها إلى ست الرأي والتوفيق والفرصة والأعوان والأدب والاجتهاد وهن أزواج فالرأي والأدب زوج لا يكمل الأدب إلا بالرأي ولا يكمل الرأي بغير الأدب. والأعوان والفرصة زوج لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة ولا تنفع الفرصة إلا بحضور الأعوان. والتوفيق والاجتهاد زوج فالاجتهاد سبب التوفيق وبالتوفيق ينجح الاجتهاد.

يسلم العاقل من عظام الذنوب والعيوب بالقناعة ومحاسبة النفس. لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد ما لا يجد إنجازه ولا يرجو ما يعنف برجائه ولا يقدم على ما يخاف العجز وهو يسخي نفسه عما يغبط به القوالون خروجه من عيب التكذيب ويسخي نفسه عما ينال به السائلون سلامته من مذلة المسألة. ويسخي نفسه عن فرح الرجاء خوف الأكداء. ويسخي نفسه عن محمدة المواعيد براءته من مذمة الخلف. ويسخي نفسه عن مراتب المقدمين ما يرى من فضائح المقصرين. لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجده من لذة دنياه وليس من لا عقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها. حاز الخير رجلان شسعيد ومرجو والسعيد الفالج والمرجو من لم يخصم والفالج الصالح ما دام في قيد الحياة وتعرض الفتن في مخاصمة الخصماء من الأهواء والأعداء. السعيد يرغبه الله في الآخرة حتى يقول لا شيء غيرها فإذا هضم دنياه وزهد فيها لآخرته لم يحرمه الله بذلك نصيبه من الدنيا ولم ينقصه من سروره فيها والشقي يرغبه الشيطان في الدنيا حتى يقول لا شيء غيرها فيعجل الله له التنغيص في الدنيا التي آثر مع الحزن الذي يلقى بعدها. الرجل أربعة جواد وبخيل ومسرف ومقتصد فالجواد الذي يوجحه نصيب آخرته ونصيب دنياه جميعاً في أمر آخرته. والبخيل الذي لا يعطي واحدة منهما نصيبها. والمسرف الذي يجمعهما لدنياه. والمقتصد الذي يلحق بكل واحدة منهمات نصيبها أغنى الناس أكثرهم إحساناً. قال رجل لحكيم: ما خير ما يؤتى المرء قال: غريزة عقل قال: فغن لم تكن قال فتعلم علم قال: فإن حرمه، قال: صدق اللسان، قال فإن حرمه، قال: سكت طويل، قال: فإن حرمه، قال: ميتة عاجلة.

من أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه فإنه من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره ومن خفي عليه عيب نفسه ومحاسن غيره لم يقلع عن عيبه الذي لا يعرف ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصرها أبداً. خصال يسر بها الجاهل كلها كائن عليه وبالاً منها أن يفخر من العلم والمروءة بما ليس عنده ومنها أن يرى بالأخيار من الاستهانة والجفوة ما يشمته بهم. ومنها أن يناقل عالماً وديعاً منصفاً له في القول فيشتد صوت ذلك الجاهل عليه ثم يفلجه نظراؤه من الجهال حوله بشدة الصوت وكثرة الضحك. ومنها أن يفرط منه الكلمة والفعلة المعجبة للقوم فيذكر بها. ومنها أن يكون مجلسه في المحفل أو عند السلطان فوق مجالس أهل الفضل عليه. من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون ما يُرى من ضحكه ليس على حسب ما عنده من القول أو يجاذب الرجل الكلام وهو يكلم صاحبه ليكون هو المتكلم أو يتمنى أن يكون صاحبه قد فرغ وأنصت له لم يحسن الكلام. فضل العلم في غير الدين مهلكة وكثرة الأدب في غير رضوان الله ومنفعة الأخيار قائد إلى النار. والحفظ الذكي الواعي بغير العلم النافع مضر بالعمل الصالح والعقل غير الوازع عن الذنوب خازن للشيطان. لا يؤمننك شر الجاهل قرابة ولا جوار ولا ألف فإن أخوف ما يكون الإنسان لحريق النار أقرب ما يكون منها وكذلك الجاهل إن جاورك أنصبك وإن ناسبك جنى عليك وإن ألفك حمل عليك ما لا تطيق وإن عاشرك آذاك وأخافك مع أنه عند الجوع سبع ضار وعند الشبع ملك فظ وعند الموافقة في الدين قائد إلى جهنم فأنت بالهرب منه أحق منك باهرب من سم الأساود والحريق المخوف والدَّين الفادح والداء العياء. كان يقال قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك عدوك وتذل نفسك ويرغب عنك ناصرك ومثل ذلك العود المنصوب في الشمسي إن أملته قليلاً زاد ظله وإذن جاوزت الحد في إمالته نقص الظل. الحازم لا يأمن عدوه على كل حال إن كان بعيداً لم يأمن من معاودته وإن كان قريباً لم

يأمن مواثبته فإن رآه متكشفاً لم يأمن استطراده وكمينه وإن رآه وحيداً لم يأمن مكره. الملك الحازم يزداد برأي الوزراء والحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار. الظفر بالحزم. والحزم بإجالة الرأي. والرأي بتكرار النظر وبتحصين الأسرار. إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً فهو يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالودك ضوءاً وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى والرفق به في تبصير خطأ إن أتى به وتلقيب الرأي فيما شكا فيه حتى يستقيم لهما مشاورتهما. لا يطمعن ذو الكبر في حسن الثناء ولا الخب في كثرة الصديق ولا الشيء الأدب في الشرف ولا الشحيح في المحمدة ولا الحريص في الأخوان ولا الملك المعجب بثبات الملك. صرعة اللين أشد استئصالاً من صرعة المكابرة. أربعة أشياء لا يستقل منها قليل النار والمرض والعدو والدين. أحق الناس بالتوفير الملك الحليم العالم بالأمور وفرص الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والمعاجلة والأناة الناظر في الأمر يومه وغده وعواقب أعماله. السبب الذي يدرك به العاجز حاجته هو الذي يحول بين الحازم وبين طلبته. إن أهل العقل والكرم يبتغون إلى كل معروف وصلة وسبيلاً والمودة بين الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها ومثل ذلك مثل كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار هين الإصلاح والمودة وبين الأشرار سريع انقطاعها بطيء اتصالها كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث ثم لا يوصل له أبداً. والكريم يمنح الرجل مودته عن لقاءة واحدة أو معرفة يوم واللئيم لا يصل أحد إلا عن رغبة أو رهبة وإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما ذات النفس وذات اليد فأما المبتذلون ذات اليد فهم المتعاونون المستمتعون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع متاجرة ومكايلة. ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال ولا يُظهر المروءة إلا للمال ولا الرأي والقوة إلا بالمال ومن لا أخوان له فلا أهل له ومن لا أولاد له فلا ذكر له ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة ومن لا مال له فلا شيء له والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس وهو مسلبة للعقل والمروءة ومهذبة للعلم والأدب ومعدن للتهمة ومجمعة للبلايا ومن نزل به الفقر

والفاقة لم يجد بداً من ترك الحياء ومن ذهب حياؤه ذهب سروره ومن ذهب سروره مقت ومن مقت أوذي ومن أوذي حزن ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا له فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً واساء به الظن من كان يظن به حسناً فإذن أذنب غيره أظنوه وإن كان للتهمة وسوء الظن موضعاً وليس خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب. فإن كان شجاعاً سمي أهوج. وإن كان جواداً سمي مفسداً. وإن كان حليماً سمي ضعيفاً. وإن كان وقوراً سمي بليداً. وإن كان لسناً سمي مهذاراً. وإن كان صموتاً سمي عيباً. وكان يقال من ابتلى بمرض في جسده لا يفارقه أو بفراق الأحبة والأخوان أو بالغربة حيث لا يعرف مبيتاً ولا مقبلاً ولا يرجو إياباً أو بفاقة تضطره إلى المسألة فالحياة له موت والموت له راحة. وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره فلا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بلية وتعب لأنه بخلة الحرص والشره. وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق ولا غنى كالرضا وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره. وأفضل البر الرحمة ورأس المودة الاسترسال ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون وطيب النفس وحسن الانصراف عما لا سبيل إليه وليس في الدنيا سرور يعدل صحبة الأخوان ولا فيها غم يعدل غم بفقدهم. لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل كالمريض الذي قد علم دواء نفسه فإذا هو لم يتداو به لم يغنه والرجل ذو امروءة قد يكرم على غير مال كالأسد الذي يهاب وإن كان عقيراً والرجل الذي لا مروءة له يهان وإن كثر ماله كالكلب الذي يهون على الناس وإن طوق وخلخل. ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلاً فإنك إن فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما

يطلب الماء السيل إلى الحدور. إن أولى النسا بفضل السرور وكرم العيش وحسن الثناء من لا يبرح رحله من أخوانه وأصدقائه من الصالحين موطوءاً ولا يزال عنده منهم زحام يسره ويسرونه ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم فإن الكريم إذا عثر لم يستقلل إلا بالكرام كالفيل إذا وحل لم تستخرجه إلا الفيلة. لا يرى العاقل معروفاً صنعه وإن كثر كثيراً ولو خاطر بنفسه وعرضها في وجوه المعروف لم ير عيباً بل يعلم أنه أخطر الفاني بالباقي واشترى العظيم بالصغير. وأغبط الناس عند ذوي العقول أكثر سائلاً منجحاً ومستجيراً آمناً. لا تعد غنياً من لم يشارك في ماله ولا تعد نعيماً ما كان فيه تنغيص وسوء ثناء. ولا تعد الغنم غنماً إذا ساق غرماً ولا الغرم غرماً إذا ساق غنماً ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة. ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثه وإذا فرق بين الليف وألفه فقد سلب قراره وحرم سروره. وقال: ما نرانا نخلف عقبة من البلاء إلا صرنا في أخرى لقد صدق القائل الذي يقول: لا يزال الرجل مستمراً حتى يعثر فإذا عثر مرة واحدة في أرض الخباء لج به العثار وإن مشى في جددلان. هذا الإنسان موكل به البلاء فلا يزال في تصرف وتقلب لا يدوم له شيء ولا يثبت معه كما لا يبدوم لطالع النجوم طلوعه ولا لأفلها أفوله ولكنها في تقلب وتعاقب فلا يزال الطالع يكون آفلاً والآفل طالعاً. (انتهى)

الأخصاء في العلوم

الأخصاء في العلوم المخصي هو الذي يتفرد بدراسة فن واحد من أخصى الرجل إذا تعلم علماً واحد والنتفة (كهمزة) من ينتف من العلم شيئاً ولا يستقصيه قال في التاج: وكان أبو عبيدة إذا ذكر له الأصمعي يقول ذاك الرجل نتفة قال الأزهري: أراد أنه لم يستقص كلام العرب إنما حفظ الوخز والخطيئة منه أي القليل. فالأخصاء هو موضوع بحثنا هنا يتوقف عليه نجاح العلم وارتقاؤه ولا يقال عن أمة أنها مرتقية في علومها إلا إذا كثر فيها الأخصائيون في كل علم من علوم الحياة والاجتماع وكل من تفردوا في الغالب وطار ذكرهم في الآفاق وتناقلت أعمالهم الأجيال بعد الأجيال والعصور غبَّ العصور وكانوا بلا مراء من أهل الأخصاء صرفوا وكدهم إلى معاناة علم واحد والنظر في دقائقه وخفاياه ودرسه من عامة أطرافه. وَهِم قوم أن الأخصاء في العلوم يرتجل ارتجالاً فالمهندس يتعلم الهندسة وحدها والأثري يدرس علم الآثار والمؤرخ التاريخ والكيماوي الكيمياء والطبيعي الطبيعيات والفلكي الأفلاك فيبرزون وترتقي مداركهم. ولكن دل تاريخ العلم في الأمم القديمة والحديثة على أن لا يخصي في علم إلا من سبق له أن شارك في علوم كثيرة ولو مشاركة بسيطة لأن للعلوم علاقة بعضها ببعض كعلاقة البشر بعضهم ببعض فكما أنه لا يتيسر النفع لأمة أن تبقى وراء تخومها منعزلة عن جاراتها فكذلك العلم الواحد وهو ثمرة عقول العالمين لا يتقن إلا إذا قدمت له المقدمات وشدا صاحبه شيئاً من أكثر ما ينفع وقلما سمع بأن رجل أثر في إنهاض أمة أو خدم علماً أنفع نفعاً بذكر وكان ما تميز به وحده هو كل رأس ماله العلمي والعقلي حتى أن نفس علماء الدين في الإسلام الذين أثروا تأثيراً كبيراً كانوا مشاركين في علوم الدنيا مشاركة تامة والغزالي والماوردي والفخر الرازي وابن تيمية وابن حزم وابن القيم وأبو حاتم الرازي والجاحظ وغيرهم كثيرون لم يؤثروا في قومهم ولم يزالوا مؤثرين لا لأنهم سعوا في تنمية ملكات عقولهم بالعلوم الرياضية والتاريخية فعرفوا كيف يسلكون ولذلك ترى لكلامهم قبولاً لا تراه لغيرهم ممن لم يشاركوا مشاركتهم في العلوم الدنيوية. وكذلك الحال فيمن عرفوا بالعلوم المدنية كنصير الدين الطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وعبد اللطيف البغدادي وابن الهيثم والبتاني والبيروني ومئات غيرهم لم ينفعوا في علومهم التي تفردوا فيها إلا بعد أن عرفوا من علوم الدين ما حسنت معه سيرتهم وسريرتهم.

وإذا أمعنا النظر في تاريخ هذه الأمة نجدها لم تعهد الأخصائيين في العلوم المدنية إلا في أواخر القرن الثاني أو في منتصف الثالث على حين بدأت بالنقل وتعلم علوم الحضارة منذ القرن الأول للهجرة ولما عمت هذه العلوم وخصوصاً الفلسفية نشأ بحكم الطبع أناس متفردون ودام هذا التفرد على أشده إلى أواخر القرن السادس ثم أخذ يضعف بضعف طرق التعليم وزهد الحكومات في العلم إلا ما كان منه تحت ستار الآخرة تمويهاً على عقول السذج وفساد السياسة فساد العالم فكيف بالعلم وهو الذي لا تنفق سوقه إلا في أرض الراحة والطمأنينة ولا يقوى إلا بالبواعث والدواعي. وكأن العقول في أهل هذه البلاد ضعفت بعد اشتغالها الطويل قروناً فأخلدت إلى الراحة طوعاً أو كرهاً في القرون الخمسة الأخيرة التي لم تبق منها إلا حثالة من فروع الدين واللغة فقط وقلَّ في كبار المشتغلين من أهلها بعقولهم من أصبح يدعى نتفة من علم فضلاً عن أخصائي. أو كأن ضعف أمة قوة أخرى كما قال بعضهم: حياةُ بعض ممات بعضٍ ... حياةُ كلّ محالُ فرض فقد كنا هنا كلما ضعفت عقولنا وزهدنا في ترقية مداركنا وانصرفنا إلى التافه الذي لا يؤبه له قويت الأمم الغربية بعلومها ومدارك أهلها وطفق العلم يعم أفرادها جيلاً بعد جيل حتى جاء القرن الثامن عشر الميلادي وقد كثر الأخصائيون فيهم وزادوا في القرن التاسع عشر أي زيادة وأتى هذا القرن العشرون وقد كاد يعم العلم قضهم وقضيضهم وذكورهم وإناثهم. ومن جمهور المتعلمين يخرج في العادة الأخصائيون وهم إما مسوقون بنابل من طبيعتهم إلى إتقان فن أو فنين والتبريز فيهما على الأقران أو أن أحدهم ينمي في نفسه الميل إلى فن ينفع الناس نفعاً حقيقياً. قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: من أراد أن يكون عالماً فليطلب فناً واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فليتفنن في العلوم. وقال احد الحكماء: اقصد من أصناف العلوم ما هو أشهى لنفسك وأخف على قلبك فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له وسهولته عليك. ما ظهر في الغرب أمثال نيوتن ولابلاس وكيتي وشيلر وهيكل وهيجل وفيختي وماكولي ولايبنز وسبينوزا وكانت وكونت وديكارت وشوبنهور وروسو وفولتير وديدر ودروين وهاكسلي ومئات غيرهم إلا بعد أن نظم التعليم عندهم تنظيماً حسناً وعم الإصلاح أصوله

وفروعه فصار الأخصاء في أفراد منهم الآن على ما يعجب منه بل أصبح العلم الواحد ينقسم إلى فروع كثيرة ويشتتغل في كل فرع منه عدة أفراد. فواحد للميكروبات وآخر للعدسيات وبعضهم للأجواء وآخرون للأضواء وغيرهم للماء وفريق للسماء وافراد للكهرباء وطائفة للكيمياء وآخرون للعيون وبعضهم للجنون وهكذا تجد لكل ما يخطر ببالك وما لا يخطر من فروع المعرفة مئات من الأخصائيين ومئات من المجامع العلمية الخاصة بها والمدارس الموقوفة عليها. وبحق ما قال أحد أساتذة كلية أكسفورد في مأدبة أقيمت لجماعة من أساتذة الإنكليز في كلية السوربون بباريز منذ شهور أن كانت القرون الوسطى هي قرون التعميم في التعليم فإن هذا العصر عصر الأخصاء فيها. أما هذه البلاد على ما دخل إليها حتى الآن من قشور علوم الغرب فليست إلا كأوروبا في قرنها الخامس عشر أو السادس عشر تحتاج الآن إلى تعلم ما يخرجها عن حد الأمية ثم أن تتعلم البسائط من أوليات العلوم واللغات فإذا تمت لها هذه الأمنية ينشأ فيها بحكم الطبع أولئك الأخصائيون الذين تتطالُّ نفوسنا إلى الاستكثار منهم بين أظهرنا لقيام جامعتنا وأحكام ملكات العلوم فينا والانتفاع بحقائقها ودقائقها في العمليات لا الاقتصار على النظريات منها كما نحن فيها حتى اليوم اللهم إلا الطب والهندسة والحقوق. إن من يقول بأن الأخصائيين اليوم بيننا ينبغي أن يكثروا بين أظهرنا وجمهور الأمة في التعليم كما ترى هو كمن يريد أن يعلم التعليم العالي لمن لم يتعلم مبادئ القراءة والكتابة. فحالنا الآن إذا قست ما أخذناه من بحور العلوم الزاخرة إلى ما عليه حقيقتها حال من لم يعرف القراءة البسيطة وأهله يريدون أن يعلموه الفلسفة التي هي علم العلوم أو كمن هو في سفر بعيد وتريده أن يقطع في اليوم في دقيقة وأن يعدي من سيف البحر إلى سيفه الآخر ولا سفينة لديه أو كمن تريده على أن يخطب في علم ما وراء الطبيعة في صحراء أفريقية. قال لاروس في معجمه الكبير: اتسعت معارف البشر النظرية والعملية بعد استقرار أمرها فاحتاج الناس ن يقسموها بحسب استعدادهم وحاجاتهم إلى أقسام لا آخر لها ينقطع إليها أفراد ويبحثون في مضامينها فالأصول من المعارف هي المعلومات العامة وتفرعاتها هي الأخصائيات. لقد كان بادئ بدءٍ كل شيء مفهوماً في الفلسفة فكانت لفظة عام عند الأمم

الجاهلة تتناول جميع العلوم وتنقسم إلى قسمين المحسوسات والمعقولات ودعيت علوم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة. أما الصنائع اليدوية فلم تكن منظمة تنظيماً معقولاً ولا جارية على طريقة معقولة وكان أرباب الأفكار يحتقرونها فلا يمارسها إلا الصعاليك ينصرفون إليها تقليداً ويخلفون في تعلمها آباءهم بدون وقوف على القوانين الميكانيكية أو الطبيعية التي كانوا يعملون بها على الدوام. ثم حسنت حال الإنسان بالتدريج ودخلت الأعمال في طور نظام وانتظمت العلوم الرئيسة لاسيما الآداب والفنون وعلوم النظر والعلوم العملية أي التجارة والصناعة والحرف ونشأ الأخصاء في كل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبيب مضطر إلى تعلم أمور كثيرة ولا يخصي في تعاطي فرع واحد إلا في المدن أما في القرى فيمارس كل فرع من فروع الأمراض الباطنية والخارجية. وهكذا الحال في الأعمال التجارية والصناعية فإن كل حرفة أو مهنة تنقسم على أقسام تدعى تقسيم الأعمال. وقد دخل كل علم اليوم في دائرة الأخصاء حتى ما يلزم الطاهي والبائع والسوقي في المعارف فأصبح من الضروري بالنظر لتكاثر أعمال البشر وانتشارها أن يزيد أبداً الأخصاء في كل علم وشأن. وإذا نظرت إلى الأخصاء من حيث العلم فإنه دليل الكفاءة وبدونه لا يكون عالم فإن المبادئ الأولية من جميع العلوم هي ولا شك نافعة لكل الناس حتى العامة ومتى حاز المرء قسطاً من هذه العلوم السطحية ورأى أن يتبحر فيها يجب عليه تعيين الموضوع الذي سينصرف إليه وبدون ذلك يتقدم المرء في علمه تقدماً بطيئاً ويخلط فيه ويبقى متوسطاً إلى الضعف. والأخصاء ضروري أيضاً في العلم العملي أي في المعامل والأعمال اليدوية وذلك للإسراع فيها ويرى أرباب معامل الأبر والخياطة في لندرا أن في تقسيم الأعمال اقتصاداً كبيراً. إذا قسمت الأعمال وأخصى المشتغلون بالعلوم وتوسعوا فيها فالأخصاء يؤدي ولا جرم إلى الضعف الأدبي. وذلك أن العاملات مثلاً إذا قضين نهارهن في عملهن السهل اللطيف في الظاهر كأن يتوفرن على إدخال الخيوط في أبرهن فإنهن لا يفقدن شيئاً من حواسهن ولكن ثبت بالإحصاء أنهن يفقدن حاسة النظر في أقرب وقت أما القوى العقلية والقوى المماثلة لها فإنها تتأذى أيضاً. أما في العلم المحض فإن من ينصرفون إلى الأخصاء ككثير من الرياضيين والمهندسين والفلكيين يعيشون في العالم كأنهم ليسوا منه ويدهشون معاصريهم

بغرابة أخلاقهم وتشتت أفكارهم التي جرت مجرى الأمثال. وبالجملة فيقضى على كل مخص في العلم أو في الصناعة أن يحرز حظاً من المعارف لأول أمره وأن يخصي في علمين أو ثلاثة فإذا مارس أحدها أراح غيره أهـ. وقال الراغب الأصفهاني في الذريعة: حق الناس أن لا يترك شيئاً من العلوم أمكنه النظر فيه واتسع العمر له ألا ويخبر بشمه عرفه وبذوقه طيبه ثم أن ساعده القدر على التغذي به والتزود منه فيها نعمت وإلا لم يصر لجهله بمحله وغباوته عن منفعته إلا معادياً له بطبعه فمن يكُ ذا فم مرّ مريض ... يجد مراً به الماَء الزلالا فمن جهل شيئاً عاداه والناس أعداء ما جهلوا بل قال الله تعالى وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم. وحكي عن بعض الفضلاء أنه رؤي بعد ما طعن في السن وهو يتعلم أشكال الهندسة فقيل له في ذلك فقال: وجدته علماً نافعاً فكرهت أن أكون لجهلي به معادياً له ولا ينبغي للعاقل أن يستهين بشيء من العلوم بل يجعل لكل حظه الذي يستحقه ومنزله الذي يستوجبه ويشكر من هداه لفهم وصار سبباً لعلمه. ولقد حُكي عن بعض الحكماء أنه قال: يجب أن نشكر أيادي الذين ولدوا لنا الشكوك إذ كانوا سبباً لما حرك خواطرنا لطلب العلم فضلاً عن شكر من أفادنا طرفاً من العلم ولولا مكان فكر نم تقدمنا لأصبح المتأخرون حيارى قاصرين عن فهم مصالح دنياهم فضلاً عن مصالح أخراهم. فمن تأمل حكمة الله تعالى في أقل آلة يستعملها الناس كالمقراض حيث جمع سكينين مركباً على وجه يتوفى حداهما على نمط واحد للقرض أكثر تعظيم الله تعالى وشكره ويقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. ومن أجمل ما يروى في باب الانفراد بعلم والإلمام بعلوم أخرى ما قاله أبو حاتم السجستاني قال: قدم علينا عامل من أهل الكوفة لم أر في عمال السلطان أبرع منه فدخلت عليه مسلماً قال: يا سجستاني من علماؤكم بالبصرة قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الصمعي والمازني أعلمنا بعلم النحو وهلال الرازي أفقهنا والشاذكوني أعلمنا بالحديث وأنا أنسب إلى علم القرآن وابن الكلبي أكتبنا للشروط فقال لكاتبه: إذا كان غداً فاجمعهم لي فجمعنا فقال: ايكم المازني فقال أبو عثمان أنا. فقال: هل يجزئ في كفارة الظهار عتق عبد أعور. فقال المازني: أنا صاحب عربية لست بصاحب فقه. فقال: يا زياد كيف تكتب بين رجل وامرأة خلعها

زوجها على الثلث من صداقها، فقال: ليس هذا من علمي هذا من علم أبي حاتم. فقال لي: يا أبا حاتم كيف تكتب إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة وما أصابهم في الثمرة من الجوائح وتسأل النظر لهم فقلت: أنا صاحب قرآن لست بصاحب بلاغة وكتابة فقال: أقبح بالرجل يتعاطى العلم خمسين سنة ولا يعرف إلا فناً واحداً حتى إذا سئل عن غيره لم يجر فيه جواباً لكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا لأجاب. ومن استقرى تاريخ العرب يجد من أمثال الكسائي مئات كما قلنا ممن كتب لهم التقدم في علوم كثيرة فقد ذكر ابن خلكان وابن أبي أصيبعة في ترجمة كمال الدين بن يونس المتوفى سنة 639 وهو ممن لم يشتهروا كثيراً بيننا أنه تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة وكان الفقهاء يقولون أنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة منها المهب والخلاف العراقي والبخاري وأصول الفقه وأصول الدين والحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي والصب وفنون الرياضة من إقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والرثماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً مستوفياً وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد طولى وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان أهل الذمة يقرؤن عليه التوراة والإنجيل وشرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما له مثله وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه قال صاحب وفيات الأعيان: وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه قال أبو بشر ثمامة بن الأشرس الخميري المعتزلي وكان خصيصاً بالمأمون: رأيت رجلاً يتردد على باب المأمون ورأيت عليه أبهة أديب فجلست إليه فناقشته في اللغة فوجدته بحراً فاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم وبالنجوم ماهراً وبالطب خبيراً وبأيام العرب وأشعارها فقلت له من تكون وما أظنك إلا الغراء فقال: أنا هو.

وكان القاضي أبو الفرج المعافي النهرواني فقيهاً أديباً شاعراً عالماً بكل فن قال ابن خلكان ذكر أحمد بن عمر بن روح أن أبا الفرج المذكور حضر في دار لبعض الرؤساء وكان هناك جماعة من أهل الأدب فقالوا: في أي نوع من العلوم نتذاكر فقال: ابو الفرج لذلك الرئيس خزانتك قد جمعت أنواع العلوم وصناف الأدب فإن رأيت أن تبعث غلاماً إليها فتأمره أن يفتح بابها ويضرب بيده إلى أي كتاب منها فيحمله ثم يفتحه وينظر في أي العلوم فنتذاكره ونتجارى فيه وقال ابن روح: وهذا يدل على ان أبا الفرج كان له أنسة بشائر العلوم وكان أبو محمد الباجي يقول إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها. وقال: لو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يدفع إلى أبي الفرج المعافى وكان ثقة مأموناً في روايته. هذا ما حضرنا من أمر الأخصاء والأخصائيين ولعل بعض مؤازرينا يكتبون فصلاً واسعاً في حالة الأخصاء عند الغربيين والطرق التي يعتمدون إليها بتفصيل أوسع وأشفى.

تاريخ ابن الساعي

تاريخ ابن الساعي وقفنا على قطعة من كتاب الجامع المختصر في عنوان التاريخ وعيون السير قال في كشف الظنون أنه تأليف الشيخ تاج الدين علي بن أنجب بن الساعي البغدادي المتوفى سنة 674 (خازن الكتب المستنصرية) وهو تاريخ كبير في خمسة وعشرين مجلداً بلغ فيه إلى آخر سنة 656 والتاريخ مرتب على السنين وهذا الجزء وهو مخروم من أوله وآخره ويبدأ من حوادث سنة 595 وينتهي في حوادث سنة 606 أي أن فيه حوادث عشر سنين تامة ذكر فيه ما وقع فيها من الكوائن السياسية والطبيعية وترجم كثيراً ممن توفوا في تلك الحقبة من الزمن ولاسيما القاضي الفاضل والعماد الكاتب والفخر الرازي وأبو السعادات ابن الأثير الجزري صاحب النهاية وهو موجز العبارة سهل الإنشاء. ومعلوم أن الدولة العباسية كانت على ذاك العهد آخذة في الضعف ولذلك تقرأ نموذجاً من هذا الضعف في مسطور هذا التاريخ منها أن ابن ليون صاحب أرمينية أغار على أطراف حلب وغنم ونهب وقتل ومنها أن صاحب الكرج كان يغير على بلاد المسلمين ومنها أن ملوك الطوائف كصاحب غزنة وهراة والشام ومصر كانوا يتقربون لبغداد تقرباً ظاهرياً وفي تلك المدة بدأ الصوفية يرد ذكرهم مع الفقهاء والوعاظ والقراء. وأخذت العادة تسري بتقبيل العتبة الشريفة بباب النوبي الشريف حتى أن نظام الدين محمد بن عبد الكريم السمعاني لما أنفذ رسولاً من علاء الدين محمد خورازمشاه وتلقى بموكب الديوان العزيز ونزل بباب النوبي الشريف وأريد على تقبيل العتبة امتنع عن تقبيلها فأهين ألزم بتقبيلها مكرهاً ولما جاء رئيس علماء بخارى قبل تلك العتبة أسوه غيره من العامة والخاصة. وفي هذا التاريخ ألفاظ واصطلاحات لذاك العصر منها ما ورد في ترجمة بي منصور بن نقطة المشحبر وأنه كان مجيداً في صنعة الغناء وعمل الكانو منها ما ذكره في ترجمة الأمير قيصر العوني نسبة إلى الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة كان مملوكاً إفرنجي الجنس إلا أنه كان موصوفاً بالحسن والملاحة واللطف فقدمه على جميع مماليكه وكان يخرج في الأعياد في صدور موكبه بالقباء والعمامة القصب الكحلية وإلى جانبه خادم له من خدم الوزير بالأهبة أيضاً. وقد كذر فيه ما وقع سنة 597 في مصر من الغلاء العظيم الذي أهلك معظم أهلها وهو جملة من كتاب الاعتبار في أخبار الديار المصرية لموفق الدين عبد اللطيف البغدادي.

وهذا الكتاب طبع قديماً في مصر وترجم كثيراً من المسيحيين والإسرائيليين وغيرهم من غير أهل الإسلام ووفاهم حقهم وإليك مثالاً على ذلك بالحرف: أبو سعيد الحسن ابن خالد بن المبارك بن محضر النصراني المارديني الملقب بالوحيد كان مؤثراً للوحدة والانقطاع واظب على الاشتغال بالعلم في أول شبابه وأتقن علم الأوائل وبرز فيه ثم رفض الاشتغال وكان بينه وبين قطب الدين بن إيلغازي بن ارتق ملك ديار بكر صحبة في سن التربية فكان يعاتبه على الانقطاع عنه ويندبه إلى خدمته إلى أن أجاب فتقدم عنده وصارت له المنزلة الرفيعة والاحترام والتقدم وندبه بارق شاه بن قلج لوزارته فأبى ثم قصد بغداد وأقام بها مدة عند الجاثليق أبي حكيم ماري بن إيليا بن الحديثي ثم عاد إلى بلده وكان قد رزق طبعاً في نظم الشعر فمن ذلك قوله: ومعتدلٍ ساجي الجفون كأنما ... بعينيه سيفٌ سُلَّ للقتل والفتك إذا رام عند الوصل ترك دلاله ... ترد عليه طبعه صولة الترك وما عذل العذال إلاّ جهالة ... إذا لم أزل معزى الحشاشة بالهلك وما تركت مني الصبابة في الهوى ... سوى جسد مثل الخلال أم السلك أشفعه فيما يريد بحسنه ... ولا أتعدى في الهوى طاعة النسك ولكنني أرعى مباسم ثغره ... وألثم لآلئها موضع الضحك وقوله: لقد أثرت صدغاه في لون خده ... ولاحا كفيءٍ من وراء زجاج ترى عسكراً للروم في الزنج قد بدت ... طلائعه تسعى ليوم هياج أم الصبح بالليل البهيم موشح ... حكى أبنوساً في صفيحة عاج لقد غار صدغاه على ورد خده ... فسيجه من شعره بسياج وقوله في جواب كتاب: وقفت على فحوى كتابك معلناً ... بشكرك أني بالثناء خليق وما خلته إلا كأكناف روضة ... تناثر فيها لؤلؤ وعقيق وراق بسمعي منه لفظ كأنما ... معانيه سحر للقلوب وثيق وإن تك أفعال الجميل تقدمت ... فإنك في بحر الوفاء غريق

فلا تولني فوق الوداد تفضلاً ... فليس بأعباء الثناء أطيق ولم يك لبدعاً ما قصدت من العلى ... فإنك بالطبع الكريم خليق وقوله في مثله: أتاني كتاب أنشأته أنامل ... حوت أبحراً من فيضها يغرف البحر فواعجباً أنَّى التوت فوق طرسه ... وما عودت بالقبض أنمله العشر وكان مولد أبي سعيد هذا في سنة سبع وأربعين وخمسمائة وتوفي في سنة ستمائة وللمؤلف عناية بأخذ التقاليد الصادرة عن الملوك وغيرها من الصكوك الرسمية ولو كتب لكتابه كله البقاء لانتفع به كثيراً في هذا الباب لأن فيه ولا شك ما يغفله أكثر المؤرخين. ومما ذكر تقليد فخر الدين أبي الحسن محمد بن محمد المختار الكوفي نقابة الطالبين ببغداد قال المؤرخ: وقد وقفت عليه وهو بخط لنكين أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي كاتب ديوان الإنشاء المعمور حينئذ ومن إنشائه ومن خطه نقلت. وهنا أورد العهد وهو في أربع ورقات ولولا أن في بعض الكتب المطبوعة ما يماثله من التقاليد وربما فاقه بأسلوبه وبلاغته لاقتبسناه. ومن فصول الكتاب المهمة ما ذكره في نقل الفتوة وما تجدد فيها سنة أربع وستمائة والفتوة كما في التاج لغة الكرم والسخاء وفي عرف أهل التحقيق أن يؤثر الخلق على نفسه بالدنيا والآخرة وصاحب الفتوة يقال له الفتى ومنه لا فتى إلا علي وقول الشاعر: فإن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوٍّ أو نفع صديق وعبر عنها في الشريعة بمكارم الأخلاق ولم يجيء لفظ الفتوة في الكتاب والسنة وإنما جاء في كلام السلف وأقدم من تكلم فيها جعفر الصادق ثم الفضيل ثم الإمام أحمد وسهل والجنيد ولهم في التعبير عنها ألفاظ مختلفة والمآل واحد. قلنا والفتوة فيما نرى كما يظهر من هذا التقليد الصادر عن الناصر أشبه بجمعية سياسية. والعهد الصادر عن الخليفة الناصر لدين الله الذي نحن بصدده هو في هذه السنة أهدرت الفتوة القديمة وجُعل أمير المؤمنين الناصر لدين الله رضي الله عنه القبلة في ذلك والمرجوع إليه فيه وكان هو قد شرف عبد الجبار بالفتوة إليه وكان شيخاً متزهداً فدخل في ذلك الناس كافة من الخاص والعام وسأل ملوك الأطراف الفتوة فنفذ إليهم الرسل وقد ألبسهم سراويلات الفتوة بطريق الوكالة الشريفة

وانتشر ذلك ببغداد وتفتى الأصاغر إلى الأكابر واتفق أن الفاخر العلوي كان رفيقاً للوزير ناصر بن مهدي وكان له رفقاء فاختصم أحد رفقائه مع رفيق لعز الدين نجاح الشرابي وصار بذلك فتنة عظيمة بمحلة قطفتا حتى تجالدوا بالسيوف فانتهى ذلك إلى الإمام الناصر لدين الله رضي الله عنه فأنكره وتقدم إلى الوزير يجمع رؤوس الأحزاب وأن يكتب في ذلك منشور يؤمرون فيه بالمعروف والألفة وينهون عن التضاغن ويقرأ بمحضر منهم ويشهد عليهم بما يتضمنه فمن خالفه أخذ سراويله وأبطلت فتوته وعوقب بما يرى من العقوبة وأحضر الفاخر العلوي وقال الوزير للحاضرين اشهدوا عليّ أني قد نزلت عنه وقرأن المنشور عليهم لنكين أبو الحسن محمد بن محمد القمي كاتب ديوان الإنشاء المعمور وهو من إنشائه وهذه نسخته: بسم الله الرحم الرحيم، من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته ولا يرتاب في وضوح براهينه وأدلته أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها وعنه تروى محاسنها وآدابها ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها وإليه دون غيره ينسب الفتيان وعلى منوال مؤاخاته الشريفة النبوية نسج الرفقاء والأخوان وأنه كان عليه السلام مع كمال فتوته ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف مراتبها ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها ومللها ومذهبها غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وقدره ولا مراقب فيما رتبه من الحدود وقرره امتثالاً لأمر الله تعالى في إقامة حدوده وحفظاً لمناظم الشرع وتقويم عموده فإنه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع ومشهد من أخيار الصحابة ومجمع فلم يسمع أن أحداً من الأمة لامه ولا طعن عليه طاعن في حد أقامه وحقيق بمن أورثه الله مقامه وناط به شرائع الدين وأحكامه وانتمى إليه عليه السلام في فتوته واقتفى شريف شيمته وكريم سجيته أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح مثاله غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة ولا شرعاً فيما يورده ويصدره وقد رسم الله على المراسم العلية المقدسة النبوية الإمامية وزادها نفوذاً معضوداً بالصواب وتأييداً ممتد الأطناب محكم الأسباب على كل من تشرف بالفتوة برفاقة الخدمة الشريفة المقدسة المعظمة الممحدة المكرمة الطاهرة الزكية الإمامية الناصرة الدين الله تعالى شرف الله مقامها وخلد

أيامها وأعلى كلمتها ونصر رايتها أن من قتل له رفيق نفساً نهى الله تعالى عن قتلها وحرمه وسفك دماً حقنه الشرع المطهر وعصمه وصار بذلك ممن قال الله تعالى في حقه حيث ارتكب هذا المحرم واحتقب عظيم هذا المأتم ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ثلاثة أن ينزل عنه في الحال في جميع الفتيان عند تحققه لذلك ومعرفته ويبادر إلى تغيير رفقته مخرجاً بذلك عن دائرة الفتوة التي كان متسماً بها مسقطاً له عداد الرفاقة التي لم تعم نواحيها ذلك خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وإن كل فتى يحوي قاتلاً ويخفيه ويساعده على أمره ويؤويه تنزل كبيرة عنه ويغير رفاقته ويتبرأ منه وأن من حوى ذا عيب فقد عاب وغوى ومن آوى طريد الشرع فقد ضل وهوى والنبي عليه السلام يقول من آوى محدثاً فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا حدث أكبر من قتل النفس عدواناً وظلماً ولا ذنب أعظم منه وزراً وإثماً فإن الفتى متى قتل فتى في حزبه سقطت فتوته ووجب أن يؤخذ منه القصاص عملاً بقوله وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص وإن قتل غير فتى عوناًُ من الأعوان أو متعلقاً بديوان في بلد سيدنا ومولانا المفترض الطاعة على كافة الأنام الناصر لدين الله أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين فقد عيب هذا القاتل في حرم صاحب الحرب بالقتل فكأنما عيب على كبيرة فسقطت فتوته بهذا السبب الواضح واجب القصاص منه عند كل فتى راجح وليعلم الرفقة الميمونة ذلك وليعملوا بموجبه وليجروا الأمر في أمثال ذلك على مقتضى المأمور به وليقفوا عند المحدود في هذا المرسوم المطاع ويقابلوه بالانقياد والاتباع إن شاء الله تعالى وكتب في صفر من سنة أربع وستمائة وسلم إلى كل واحد من رؤوس الأحزاب منشور بهذا المثال فيه شهادة ثلثين من العدول ثم كتب تحت كل مرسوم ومنشور ما هذا صورته: قابل العبد بما تضمنه هذا المرسوم المطاع وقابله بما يجب عليه من الانقياد والاتباع والامتثال وهو الذي يجب العمل به فتوة وشرعاً وهذا المعروف من سيرة الفتيان المحققين نقلاً وسمعاً وقد ألزمت نفسي إجراء الأمر على ما تضمنه هذا المرسوم الأشرف فمتى جرى ما ينافي المأمور به المحدود فيه كان الدرك لازماً لي والمؤاخذة مستحقة على ما يراه صاحب الحرب ثبت الله دولته وأعلى كلمته وكتب فلان بن فلان في تاريخهأهـ.

ومن العهود ما صدر عن الخليفة العباسي لرئيس اليهود قال ابن الساعي: وفي تاسع ذي القعدة المذكور ولي ابن وهبة رأس مثنية اليهود وكتب عهده بذلك وسلم إليه فقرأه على اليهود في الكنيسة وهذه نسخته: بسم الله الرحمت الرحيم الحمد لله الواجب شكره الغالب أمره العلي شأنه القوي سلطانه السابغة نعمته البالغة حكمته المتفرد بالجلال والاقتدار والمصرف على مشيئته مجاري الأقضية والأقدار الدال على وحدانيته ببديع فطرته المانع لعجائب صنعته من أن تتعذر في الأوهام كنه معرفته الهادي إلى سبيل الرشاد من شاء من خلقه الهاي سحاب فضله على كل مقر بربوبيته عارف بحقه الذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وعلى آله من أكرم أرومة وأعلى محتد وجرثومة وأشرف العرب منصباً وأمجدها أماً وأباً وأعزها قبيلاً وأوضحها في المكارم سبيلاً وأرسه إلى الأحمر والأسود نبياً اختاره من أصناف الأمم عربياً وأيده بالحكم أمياً وجعله منصوراً بملائكته محمياً وابتعثه بالبرهان الساطع والدليل القاطع ونسخ بشريعته المطهرة مالل السالفة والشرائع فلم يزل صلى الله عليه وسلم وعلى آله بأمر الله صادعاً ولأنف الباطل جادعاً ولما أنزل الله مبلغاً ولجهده في نصح الأمة مستفرغاً فصلى الله عليه وعلى آله وعلى سلالة عمه ووارثه وصنو أبيه العباس الذي طهره من الأدناس وفرض مودتهم وطاعتهم على جميع الناس الخلفاء الراشدين وأئمة الحق المجتهدين صلاة لا انقشاع لغمامها ولا انقطاع لتوصل دوامها والحمد لله الذي أصار إلى خليقته في أرضه ونائبه في خلقه الإمام المفترض الطاعة على سائر الأمم الناصر لدين الله أمير المؤمنين ووارث الأنبياء والمرسلين حجة الله على الخلق أجمعين من مواريث أنبيائه ومآثر خلفائه في أرضه وأمنائه ما هو أحق بحيازة مجده وارتداء علائه وأخذ ميثاق طاعته على الأمم في الأزل ألزم أواخر منهم ما ألزم الأول وفرض على خلقه الاقتداء به والائتمام وحاز له وراثة الخليفة عن الخليفة والإمام عن الإمام زاده الله شرفاً إلى شرفه وأدام على العالمين ما منحهم به من شمول عدله وحصانة كنفه فالمسلم والذمي والمعاهد في ظل أياديه الشريفة وادعون وفي رياض الآمنة راتعون ومما يكلأهم من عين رأفته اليقظى هاجعون لا يكدر لهم شرب ولا يذعر لهم سرب وحكم عدله يوجب النظر العام في مناظر أمرهم وجوامع مصالحهم ورعاية جمهورهم لما وطله الله تعالى إليه من سياسة عباده وناطه بشرف آرائه واجتهاده. ولما ضرع دانيال بن ألعازر

بن هبة الله في ترتيبه رأس مثنية عوضاً عن ألعازر بن هلال بن فهد الدارج على قاعدته وجاري عادته وانتهى ما يتحلى به عند أهل نحلته ويتصف به واستحقاقه لما ضرع فيه بحسن طريقته فيهم وسلامة مذهبه رسم أعلى الله تعالى المراسم الشريفة المقدسة المعظمة الممجدة المكرمة النبوية الإمامية الطاهرة الزكية الناصرة لدين الله زادها الله إجلالاً ممتد الرواق ونفاذاً في الأقطار والآفاق ترتيبه رأس مثنية على عادة الدارج المشار إليه حيث كان ابن الدستور رأس مثنية أيضاً وأن يكون له النظر في الولاية عليه في جميع الأماكن التي جرت عادته بتوليها والتصرف فيها وأن يتميز عن نظرائه وأشكاله باللبسة التي عهدت لأمثاله وسبيل طوائف اليهود وحكامهم بمدينة السلام وكناف العراق الانتهاء في ذلك إلى المأمور به والرجوع إلى قوله في توسط أمورهم والعمل بموجبه وأن يخرجوا إليه من الرسوم التي جرت عادة من تقدمه بها بالأماكن التي كان يتصرف فيها من غير معارضة له في ذلك مع قيامه فيما يأتيه ويدبره بشرائط الذمة والتزامه ومحافظته بالامتثال وبواجب الاعتصام والإجلال إن شاء الله تعالى وبه الثقة وكتب في تاسع ذي القعدة من سنة خمس وستمائة والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الذي ختم النبيين وهو سيد المرسلين المصطفى على سائر الخلق أجمعين. والخليفة الناصر لدين الله هذا هو الذي تقدم كما قال ابن الساعي بإنشاء دور ضيافة لفطور الفقراء في شهر رمضان في سائر محال بغداد شرقيها وغربيها فوقع الشروع في ذلك على يد قوام الدين نصر بن ناصر صدر المخزن المعمور وسلم إلى كل ثقة أهل محله مقدار من العين وأمر بإثبات فقراء أهل كل محلة وأن يجري لكل واحد في كل يوم رطلين من الخبز الفائق وقدح طبيخ فيه نصف رطل لحم ضأن فأثبت في كل دار مقدار خمسمائة نفس زائداً وناقصاً فعم الفقراء والضعفاء هذه الصدقة وانتفعوا بها وتفرغ بالهم في هذا الشهر واستراحوا من السعي في تحصيل القوت والاهتمام به فالله تعالى يجعل ذلك نوراً يسعى بين يديه هذا سوى ما يفرق على الفقهاء في جميع المدارس والصوفية في سائر الربط والمنقطعين في الجوامع والمساجد والزوايا م الغنم والدقيق والذهب أجزل الله بذلك ثوابه وخفف به حسابه.

كيف كانوا يسيحون

كيف كانوا يسيحون كتب أحد الباحثين فصلاً إضافياًُ تحت هذا العنوان في المجلة فآثرنا تحصيله لجمعه بين الفائدة والفكاهة قال: إن السفر اليوم لا يتعدى حد السباق السهل اللطيف فهو قليل النفقة وفي مكنة كل إنسان أن يقوم به ولم يكن كذلك في الأزمان السالفة. بل كان التنقل ولا تدعو إليه إلا الحوادث والأشغال لا اللذة وحب الانتقال يستلزم صنوفاً من المتاعب والمصاعب والمخاطر يصعب علينا الآن تصورها. لم تكن وسائط النقل في القديم لتتعدى الحمار والحصان والجمل والعجلات والهوادج فينزل المسافرون في فنادق لم تكن وافرة العدد. ولقد كان عند العبرانيين فنادق غير مستوفية لشروط النزول فيها حتى أن أرباب الحشمة كانوا يربأون بأنفسهم عن قصدها فكان لهم في كل مدينة أحباب يستقبلونهم فينزلون عليهم وهم يقابلونهم بالمثل وينزلونهم في بيوتهم عندما يسافر هؤلاء أيضاً. دام هذا الحق بين الأسرات مرعياً معمولاً به وأصبح القرى عندهم من أقدس الفروض ولكنه لم يلبث أن اعتوره القلب والإبدال. ولم يمض زمن حتى انقلبت كيفية الضيافة في بلاد اليونان والرومان والعبرانيين وذلك لأنه من الصعب أن يؤوي الإنسان كل قادم واقتصروا في إنزال الضيوف على معارفهم وأصحابهم ومن لهم مقام سام في قومهم أو يحملون وصية لا بد من تنفيذها وكانوا يرسلون بمن عداهم إلى الخانات على نحو ما يقوم اليوم أبناء القرى في إيواء الجند وضباطهم خلال الحرب. وعمت هذه العادة على عهد الفيلسوف اليوناني تيوفراست (374 ـ 387 ق. م) وقد وصف المؤرخ توسيديد هذه الخانات أو المضافات بأنها دور كبيرة طولها مائتا قدم وهي مقسومة إلى مساكن عالية وسفلية مفروشة فيها سرر من حديد وقلز. لم تكن تعرف الفنادق في أرض اليهودية ولكن كان منها على طريق مصر رأى بعضها موسى وامرأته صنورة على أنها لم تكن ذات بهجة ونيقة بل هي عبارة عن مرابط للبهائم وبالقرب منها آبار فيقضي على المسافر أن يأتي معه بجميع ما يلزم لغذائه. ولا تزال الخانات في المدن والمضافات في الأرياف ببلاد الشرق إلى عهدنا هذا على هذه الصورة لا تفوق القديمة بوضعها ولا باستعدادها. وكانت فنادق الأجرة عند العبرانيين سيئة السمعة وقد صرح بلوتارك المؤرخ اليوناني بأنه لا يجب أن يتعب المرء نفسه بل عليه أن يعمل ما يهوى ولا يحفل بجيرانه فكنت ترى

فيها محلاً للمائدة واصطبلاً للبهائم ومكاناً للمركبات. وقد وصف أفلاطون أصحاب الخانات في عصره بأنهم لصوص متجبرون أهل قحة وسلاطة يزدرون بمن يعطيهم قليلاً من الأجرة وهي صورة تصدق ولا جرم على بعض أصحاب الفنادق في عصرنا. من كان يظن أن البلاد التي تفردت في تلك الأعصر براحة السائحين فيها هي بلاد فارس؟ فقد كان البريد ينقل فيها (ولا يزال كذلك) مع السعاة على الخيل فينقلون من محطة إلى أخرى الأوامر وقد توفرت أسباب الرفاهية في تلك الفنادق الفاخرة. وعهد عند الرومانيين ضربان من الفنادق منها الفاخر وهو ما كان ينزل فيه السائحون والجند وكانت تحت مراقبة الحكومة وقد ذكر مسيو كالي بأنه رأى مثالاً عنها عندما أقام في البوسنة والهرسك. والحكومة النمسوية تلاحظ تلك الفنادق وتشرف عليها ولكن كانت تلك الفنادق للطبقة العالية من الناس وربما حل فيها الملوك فهل يسوغ أن ينزل هؤلاء مع الصعاليك وربما وصل إليهم منهم أذى. أما الفنادق العامة فكانت منازل حقيرة قال فيها هوراس الشاعر اللاتيني: إذا رغب المرء أن ينزل في أحد هذه الفنادق التي يراها على طريقه من كابو إلى رومية فالعقل أن يترجل وإذا لارضي لنفسه النزول أحياناً فلا ينزلها إلا ذا بلغت به الحال أن تلوث بالوحل إلى ظهره وتبلل بالمطر إلى عظمه وكنت ترى أمثال هذه الأكواخ على الطريق في إيطاليا بكثرة وهي ممقوتة حتى لقد شكا بلين العالم الروماني من أن الفراش لم تكن وثيرة بل كانت محشوة بعيدان القصب على مثال الريش وكان طعامها غليظاً. ومن أجل ذلك كان الأغنياء السائحون يحملون معهم أدوات مطابخهم وبعض أرباب الشرف يصحبون معهم عجلات تحمل البطيخ والثمار التي لم تنضج لئلا يحرموا الفاكهة ويحمل كل منهم معه أواني السفرة كما لا تزال العادة في روسيا إلى اليوم أن يأتي المسافر معه بأدوات الفراش لنومه. وكانت فنادق رومية وخاناتها كثيرة ولاسيما من طريق إبين وهي كأمثالها في بلاد الغاليين سكان فرنسا الأقدمين من حيث قلة العناية وسوء الخدمة. وعلى عهد المؤرخ بوليب اليوناني (204 ـ 122 ق. م) أحدثت طريقة أخذ شيء من الدراهم من كل مسافر أجرة مبيته في أحد الخانات وكان ثمن غذاء الرجل ومبيته يعادل في اليوم ثلاثة سنتيمات بسكة زماننا. وفي القرن السابع للميلاد بدأ المسيحيون في الغرب يحجون إلى الأرض المقدسة وفي

تأليف أدمان وويلبالد أسقف أشتياد سنة 730 إشارات كثيرة تدل على ما كانت عليه أسباب التنقل في القرن السابع والثامن على أن الحج إلى البيت المقدس بدأ قبل ذلك العهد ببرهة طويلة فقد كتب كاهن لم يذكر اسمه منذ سنة 333 جدولاً ذكر فيه الطريق من بوردو إلى القدس ذكراً مجرداً. وفي خلال تلك المدة كان للنورمانديين فضل السبق على سائر الأمم الأوروبية بتحمسهم في مثلب هذه الزيارات يضاف إليها في الغالب رغبتهم في جمع المال والإتجار فكانوا يتحاشون تجسم أهوال البحر ولذلك كنت تراهم يقطعون المسافة براً فيمرون بفرنسا وبجزء عظيم من إيطاليا ثم يركبون البحر من نابولي أو كايت أو سالرنا وهي المواني التي كانت تتقايض المتاجر مع سورية. وفي السنين الأولى من القرن الحادي عشر للميلاد اجتمع أربعون سائحاً من النورمانديين وردوا العرب على أعقابهم عندما أغاروا على سالرة وأشؤوا لهم دولة نورماندية في جنوبي إيطاليا. وكانت الحملات الصليبية الأولى على الشرق تسير براً في طرق متعددة. وقد ساعدت العادة في الحملة الثالثة على إدخال تسهيلات كثيرة في تسفير تلك الحملات الضخمة فأنشؤوا يؤثرون الرحيل من البحر. وكانت المدن أو بعض أفرادها تتعهد بتقديم لوازم السفر فقد قال ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنكليز في حرب الصليب ميناء مارسيليا على أن تقدم له عشرين سفينة وثمانية مراكب متوسطة الحجم لتقله وتقل أتباعه إلى الأرض المقدسة وكان قد تقدم فن الملاحة وكثر التفنن في إحداث السفن الكبيرة والصغيرة وبلغ عدد الأسطول الذي اجتمع في إيكومورت في الحملة الصليبية السابعة ألفاً وخمسمائة سفينة وقد قضى الصليبيون الذين سافروا إلى فلسطين من طريق الأستانة ثمانية أشهر. وما لنا ولتلك الحملات وما قاسته من المتاعب في قطع المساوف فإن أخبار الأفراد الكبراء ومنهم من كانوا يسيحون لأشغال لهم أو للزيارة أحق بالتدوين. فقد كانت الهوادج والمحفات مألوفة لكبار الأغنياء يركبونها في أسراتهم ولهم عجلات ضخمة خاصة بهم غريبة في شكلها وبطئها ومهما كانت البقر التي تجرها قوية فإنها لا تكاد تجتاز بضعة كيلومترات في النهار إلا بشق الأنفس وذلك لوعوثة الطرق وكثرة البطائح ولطالما اضطرت السائحين أن يحملوا على ظهورهم ما كان يحملهم. وقد كثرت الأديار والصوامع في القرون الوسطى في أوروبا فكنت تراها حيثما انقلبت في

المدن والقرى تؤوي المسافرين وتطعمهم (على نحو أديار جبال سورية لى اليوم) وإذا دفع المرء من تلقاء نفسه شيئاً من الدراهم للدير الذي أطعمه وآواه فإنما يدفع ما لا يتجاوز القدر الذي كان يلزمه لو نزل في خان أو فندق بعد أن ينزل على الرحب والسعة. ويكفي المؤونة بفضل أصحاب الدير وهذه الأديار على الصورة التي وصفناها تعد والحق يقال أعظم حسنات القرون الوسطى تأتيها تلك الأدباؤ ضاحكة مستبشرة وهي لا تريد ممن تسدي إليهم معروفها جزاءاً ولا شكوراً. ولقد كان الحاج إلى البيت المقدس يدفع في القرون الوسطى خمساً وخمسين دوكاً (سكة ذهبية تختلف باختلاف البلاد) ليركب البحر من مدينة البندقية إلى يافا وذلك ثمن الطعام. وكان المترفون من الفرنجة يتزودون باللحوم والمآكل المغذية كما يحملون الحصر والفرش والخمور والماء وتحمل السفينة مائة راكب. وقد صرفت إحدى السفن سنة 1481 خمسين يوماً في البحر للسفر من البندقية إلى يافا وفي هذه المدينة يتلقاهم العرب وبعد أن يبقوهم خمسة أيام في مكان رديء يركبونهم الحمير إلى القدس ويحمونهم من البدو ومن الباعة. قال أحد الرهبان ممن رافقوا تلك العصابة ولم يكن العرب يعتدون إلا على المأكولات والمشروبات يطيلون أيديهم عليها ليملؤوا بطونهم. وقد كثر التأنق في السياحات خلال القرن الخامس عشر على كثرة الاضطرابات التي حدثت فيه بحيث أصبحت أساليب النقل أكثر رفاهية من القرون التالية. وشاع على عهد الملك شارك السادس (1380 ـ 1422) استعمال الجياد والبغال وكان النساء يركبن رديفات للرجال ومن بعده كثر ولوع الناس بالبغال منذ سنة 1540 وصار الناس يسيحون على ظهورها لا فرق في ذلك بين الأساقفة ورؤساء الأديار والحكام ومستشاري المملكة والزعماء. وسهل على الناس إنشاء محطات كثيرة للبريد بين البلاد أن يسيحوا بسرعة. والأثقال (العفش) يحملها الخدم على ركائب أخرى يتبعون ساداتهم وعلى ذلك العهد قل الأمن في الطرق وشاعت الخرافات في فرنسا بما حملت إليها ألمانيا من الأفكار فأصبح القوم يكثرون من الاعتقاد بالسحر والسحرة والطوالع السيئة وشاع أن أصحاب الفنادق على وفاق مع الشياطين ومع ذلك كان القتل يكثر في الفنادق وتزورها الأرواح فيفزع السياح ولا يسع أصحابها أن يأخذوا النازلين فيها إلى دورهم ويوهمونهم بأنهم ما داموا

معهم فلا تسطو عليهم الشياطين ويتلاعبون بهم ويستعملون من أساليب الدهاء والجربذة ألواناً فصار القوم يعتقدون أن الفنادق مسكونة بالجن. وفي أواخر القرن الخامس عشر عنيت الحكومة الفرنسوية بالسائحين وأخذت توعز إلى أرباب الفنادق أن يرفقوا بمن ينزل عليهم فحددوا أسعار المآكل والنوم وكتبوها على واجهات نزلهم وكانت الأجور غالية بالنسبة لذاك العصر وكانت فنادق إسبانيا سيئة الحال إذا قيست بالفنادق الفرنسوية وذلك من حيث الوساخة وسوء الخدمة وكآبة الداخل من بنائها والخارج منه. أما فنادق ألمانيا وإيطاليا فكانت أحسن من فنادق تينك المملكتين لكثرة اختلاف السائحين إليها. جاء القرن السادس عشر وقد اشتهرت أوروبا بنهضة الآداب والفنون ولكن الأخلاق بقيت على توحشها على المبالغة في التنطس في إبداء الأفكار. وكلما كان ينتشر الأدب والعلوم والفلسفة واللاهوت والتصوير بين الناس وتصفو النفوس وتسمو لى قمم الحقائق والعظمة والكمال كانت العادات تنحط إلى دركات التوحش فتكثر الحروب والسلب والقتل من أجل أمور تافهة وكل اختلاف في الأذواق يسوى بحد الخناجر وأقل نزاع ديني يكفي لنشوب ثورة في البلاد. يلبس الرجال ثياب الديباج والمخمل ويزين الظرفاء آذانهم بأقراط ويعطرون شعورهم ويمسكون بأيديهم الخناجر وهم يلبسون القفافيز (الكفوف) بسرور يوازي سرور من يحمل آنية الملبس أو يروح بمروحة. أما النساء فكن يكتسين الألبسة الحريرية والأطواق الغليظة اللؤلؤ والزنانير المحلاة بالجواهر ولم تكن تلك الأبهة لتخفي أخلاق الرجولية فيهن بل كن يطلقن العيارات النارية كما يطلقها فرسان الألمان ممن جعلوا إطلاق النار صناعة لهم وعندئذ أخذت الأذواق تتحسن في فرش الدور والقصور وتسير نحو الرفاهية والملائمة بيد أنه لم ينشأ من ذلك تحسين في أسباب السياحة ولا في موارد الفنادق والخانات وظلت على حقارتها على نحو ما كانت عليه في القرون الماضية أو أكثر. وقد كثر إقبال الفرنسيس على السياحة في القرن السادس عشر ومن أهم السياحات التي تؤثر عن ذاك القرن سياحة الرحالة الجسور آرامون فإنه خلف إيضاحات نافعة عن زيارته للأستانة سنة 1518 ومما أدهشه ما شاهده من حذق بعض أبطال العثمانيين إذ ذاك ورشاقة

أيديهم فقال أنه رأى أحدهم بلع بيضة بدون أن يكسرها وبعد ربع ساعة أخرجها سالمة. ووصف القافلة عند منصرفه إلى فارس فقال أنه كان معهم عشرة أعلام وأربعون جملاً وثمانية عشر بغلاً وإحدى عشر دابة أخرى وهودج يقله بغلان وكانوا خمسة وخمسين سائحاً راكبين على أحسن صورة مسلحين سافروا من الأستانة سنة 1548 فرجعوا إلى فرنسا في أوائل سنة 1550 بعد أن زاروا البلاد العثمانية والفارسية والقدس ومصر. ورحل الرحالة فيليب دي فرسن سنة 1572 إلى الأستانة فرأى سوق النخاسة قائمة فيها والإماء والعبيد من أطراف الأرض يعرضون للبيع ومن أراد ابتياع أمة يكشف عن وجهها القناع ولكي يتمكن من معرفة سحنتها وصباغها لا يستنكف عن البصاق عليه ليتأكد فيما إذا كان صبغة أم هو خلقة بلا تصنع. وقد سار في الطريق التي كانت متبعة في القرن السادس عشر للذهاب من فرنسا إلى الشرق براً وهو راغوس ـ نوي بازار ـ اسكوب ـ تاتار بازارجق. ولا يذهبن الفكر إلى أن جميع السائحين كانوا يصرفون وقتاً طويلاً لقطع المسافات فلم يكن جميع الناس كالرحالة مونتين في رفاهيته وبطئه يسيرون على هواهم فإن البارودي لا كارد قضى اثنين وعشرين يوماً للذهاب من الأستانة إلى فونتينبلو في فرنسا وقد عدت هذه السرعة من الغرائب التي يفتخر بها. وبعد أن زار برتراندون دي لابروكيير القدس رجع راكباً من الأستانة إلى فرنسا من طريق بلاد الفلاخ وبلغراد وبست في خمسين يوماً وقف في الطريق أياماً كثيرة. وكثرت على ذاك العهد الرحلات العظيمة فرحل يعقوب كارتيه ثلاث رحلات متوليات إلى كندا وطاف دراك الإنكليزي الهند الغربية وطاف الهولنديان بارنتز وهمسكرك للبحث عن منفذ إلى بلاد الهند من شمالي أميركا وفي رحلتهما أمور نافعة فقد كتبا رحلتهما سنة 1596 وكأنهما دوناها أمس بل أنك إذا تلوت ما كتباه يتجليان لك كأنهما الرحالتان المتأخران نوردا لسكيولد ونانسن فقد أعربا فيها آمال كآمال هذين الرحالتين وقاسيا مثل ما قاسيا من قلة الجوع وبرد ونصب. كل هذا والمركبات قليلة فلم يكن في أوائل سنة 1600 في باريز سوى أربع مركبات منها واحدة للملك والفنادق فيها مما يضحك ومضى قرنان بعدها والقوم في أوروبا عدتهم البغال

والخيل والمركبات وسياحتهم تختلف باختلاف أغراض السائحين ومبلغهم من الشجاعة حتى جاء البخار والكهرباء فقصروا المساوف وسهلا السفر بعد أن كان قطعة من العذاب وبعد أن كانت تصرف الأيام الطويلة في الرحلات ويتعارف الناس إلى بعضهم ويقضون الأيام والليالي في المحادثات أصبحوا الآن يصلون أسرع من البرق الخاطف ولعل الأتوموبيل الذي رغبت النفوس في السفر فيه اليوم بدل السكك الحديدية سيبطل بعد حين كما بطلت العربات والهوادج والمحفات ويرى أبناء أبنائنا ما لا يخطر لنا ببال فقد أصبحت الخانات قصوراً فيها كل ما لذ وطاب والحوافل بعد أن كانت يجرها البقر والخيل أصبحت تجر بقاطرة بخارية.

القضاء على الشقاء

القضاء على الشقاء كتب فريديك بياسي أحد أعضاء مجمع العلوم الأدبية والسياسية في باريز مقالة في الشقاء الإنساني وتخفيف ويلاته أو نزع شأفاته فقال أنه على كثرة الباحثين في تخفيف ويلات الإنسان والكاتبين فيه ما زال الناس يقولون بأن الشقاء إن لم يزد عما كان فهو لم ينقص ولم يوفق أحد من أولئك العالمين إلى فتح دور النعم والرضى العام. ومهما كان من حسن نية واضعي القوانين وواضعي الأدوية فليس من السهل الاهتداء إلى طريقة تنهض الإنسانية من كبوتها المزمنة في يوم وليلة ولا من الهين اللين القضاء على ما يحف بالبشر من الآلام والأوصاب. ومع هذا فلا أزال أقول أن هذه المعضلة ليست مما يتعذر حله وهذا الداء لا بد من شفائه وهو مما يجب على كل ذي ذمة يحترم طبيعته ويهتم لما يلقى عليه من أعباء المسؤولية أن يسعى إلى بلوغ تلك الضالة المنشودة سعيها ويعقد ناصية الأمل بشفاء الداء. ولا يتم ذلك بسن القوانين واتخاذ الذرائع الخارجية للحيلولة دون هذه الويلات لتقف عند حد القشور دون النفوذ إلى اللباب بل لا يرجى الفوز بهذه الأمنية إلا إذا غيرت الأفكار والأخلاق ولا يدخل التغيير والإصلاح اللذان يقللان من الشر ويدفعانه إلا إذا أدخل الإصلاح من الداخل لا من الخارج على من يتألف منهم المجتمع. وما على من يود الوقوف على أسباب هذا الشر والشقاء إلا أن يبحث ويستقصي وعندها يتجلى له فيما إذا لم تكن الأسباب كلها اختيارية ومعظمها مما يدخل في طوقنا ويصدر عن إرادتنا. فإذا صحت إرادتنا وطردنا شيطان الجهل الذي يضل عقولنا وابتعدنا عن الشهوات المفسدة والسيئات والخطيئات المهلكة وكلها مولدة للشقاء فنكون قد قضينا على الداء في موطنه واجتثثنا عرق الفساد من أصله. لا ينبغي الخلط بين لفظتي الشقاء والفقر واختلاف طبقات الناس فالفقر نسبي وليبس من لوازمه أن يكون مضنياً. قد قال البارون روتشيلد الغني المشهو في نحو النصف من القرن الماضي عندما بلغه موت أغادو من أغنياء الإسبان: يا حسرتا على أغادو فقد كنت أظنه في سعة من العيش أكثر من ذلك. وذلك لأنه بلغه أنه لم يترك سوى ستين مليوناً من الفرنكات. وقالت عجوز للفيلسوف جول سيمون عندما زار منازل مدينة ليل للبحث في حالة ساكنيها: الحمد لله على أن لنا أحذية من قش. تريد ذلك تشبيه نفسها بجيرانها الذين

قضي عليهم أن يضطجعوا على الأرض بلا غطاء ولا وطاء. ومن المحقق أن الفقر يحالفنا من بعض الوجوه إذ ليس من الناس إنسان إلا ويحرم من الاستمتاع بلذة شريفة ولا يصد عن أمنية مطلبوة. ولكن هذا الحرمان إذا لم يبلغ حده فينا وفي الموجودات التي نعزها لا يمس جوهر الحياة ومتى حصلنا بفضل العمل والعناية الكثيرة اليومية على ما يبلغنا الضروريات إلى حد محدود وأخذنا بحظ من الطعام واللباس والمسكن والمنام لنا ولذوينا. متى حصلنا بفضل الكد على ما نقدر به قدر كفاية أنفسنا بأنفسنا ونستحق به أن نحيا فلا يحق لنا أن نتكلم في الشقاء وإذا فعلنا فنكون قد جلبنا على أنفسنا الإهانة. وما على المرء إلا أن يغتبط وهو في ثيابه القليلة بل وعليه أن يفاخر بها ويباهي بسعادتها إذا كان غنياً عن مسألة أحد على حين لا يظفر بزخارف الحياة الدنيوية والبذخ العالمي إلا بإراقة ماء الوجه ومقاساة الهموم والغموم. الشقاء حالة تصيب المرء بغلطات ارتكبها هو مباشرة أو هو نتيجة سيئة لأغلاط ارتكبها من يلوذ به أو هو عقبى سوء سلوك سببه الجهل والفساد والشهوة والمطامح السيئة وانحلال عرى التضامن فيصير به الإنسان كلاً على غيره عاجزاً مادياً أو أدبياً عن كفاية نفسه وآله تنقطع حيله عن المقاومة وتحرير النفس من ربقة العبودية والانحطاط الذي أصابه أو قبل به فأمسى غريقاً في لجة مزبدة بالنقص الإنساني وما هو إلا الفضيحة والألم والخطر على مجتمعاتنا. بيد أني أكرر ما قلت بأن هذا الانحطاط وذاك التسفل الذي يصيب كثيرين من البشر يسهل تعيين تأثيراته المضنية التي كانت سبباً فيه وإن من السهل وضع الدواء لداء هذه العوارض ما خلا الحوادث والنكبات التي قد يتأتى تخفيف ويلاتها أيضاً. قال الكاتب لابولاي إذا أردت أن تنزح بحر الآلام البشرية فلا تحاول أن تأتي ذلك باتخاذ بعض الكؤوس الكبيرة تجعلها سلاحاً في يد المشرّع فإن البحر تجري إليه المادة على الدوام وخير ما تأتيه أن تحول دون تلك المصادر التي تأتي إليه بالمياه. أصلح الغلط وافثأ سورة الغضب وسدد الأميال الفاسدة واجعل الحكمة عوضاً عن الجنون وحسن الألفة بدل الشقاق وعندها ينزل ذاك البحر اللجي عن معدله بالطبع وتتحسن الحالة العامة. ولنفهم هذه النصيحة ولننظر ما هي تلك المجاري والأنهار التي تجري إلى ذاك البحر الذي لا يغاث الناس فيه ويهلك من يهلك.

فالحرب هي أول المدمرات والمهلكات. أما الحرب فلا أحاول أن أقضي عليها بعد الذي علم من تنافس الأمم فيما تتخذه من أسباب الحذر والحيطة. وما دام يخشى شر الحريق فلا أحسن من الاستسلام الآن على أصحاب المضخات ودفع مبالغ لضمانة البيوت والمحال وإذا لم نؤد إليهم ما يلزم لإعالتهم فلا نلومن إلا أنفسنا ولعله يقال بأن المال الذي يصرف في هذا السبيل فاحش ولكن إذا توصلنا إلى إلغاء الخطر فلا معنى إذ ذاك للإنفاق على الضامنين وأرباب المضخات وإذ أن خطر الحرب صعب تقليله وهي مخاطرة يمكن توقي الوقوع فيها أكثر من خطر الحريق لأن الحرب توقد نارها الحكومات والأمم فهي ذاً شر لا يجري دائماً بالرضى لأن كثيراً ما يتحمل الناس مصائبها مكرهين وما الحرب إلا صناعية تضمحل ذات يوم فتصل الأمم بكثرة ما تعلمها التجارب إلى درجة تعلم معها أنها لا تربح شيئاً من تحاسدها وإلحاق الأضرار وأن الأريح لها أن تحترم أنفسها وتتعاون وما يقال في تحاسد الأم ومنافستها وتباغضها يقال أيضاً في الأحقاد الاجتماعية وشدتها وما سبب ما نرى من بوادي الحرب وبواردها مهما كان من تجليها أو خفائها بين الأمم والجماعات إلا أننا نعتقد في الغالب بأن الأغراض والحقوق متغايرة ويصعب بث روح السلام فيها لأن عظمة الأمة وقدرتها وثروتها تتجلى لنا كأنها غنائم قضي علينا أن نتضارب من أجلها وليست إرثاً عاماً عهد إلينا تنميته بحسن العشرة والمعونة المتبادلة فبدلاً من أن نفتح تخومنا للتجارة لتأتينا بما ينقصنا من الغلات ونفتح لنا مصارف نصرف فيها ما يزيد عندنا منها لا نفكر إلا في وضع العقبات في تلك التخوم لأنا موقنون بأن الواحد إذا كسب يلزم عليه أن يخسر الثاني وهذا لأننا لا تعلم أن رأس المال هو ثمرة العمل وبذر لا يحفظ وينمو إلا إذا استجال إلى أجور وبذلك يضم إلى العمل المنتج قوة أخرى تقضي قضاءها على الهموم والأحقاد. ألا فلنصلح الأفكار والعدل والإحساس لنحكم الرضا والمعونة المتبادلة بدلاً من التخوف والحسد. ليس ثمة غير الخطيئات العامة كعداوة الأجناس بعضها لبعض وعداوة أهل اللغات المتباينة وعداوة الدين وعداوة الطبقات وهناك خطيئات شخصية كلما زادت تصبح خطيئات عامة ولا تبقى قاصرة على فاعليها. كان علماء الأخلاق هم المتشددين سابقاً في النقمة على انتشار المسكرات والموبقات ولكن من منا اليوم لا يشعر بما شعروا هم به من قبل ونددوا

بسيئاته. ليست الحكومات وحدها هي التي تبوء بتبعة إكثار الضرائب على الناس كما قال فرنكلين بل هناك ضرائب كثيرة وضعناها بأنفسنا على عواتقنا وذلك إن كسلنا يتقاضانا مما يعادل تلك الضرائب وشراهتنا تسلبنا ضعفي ذلك وعُجبنا ثلاثة أضعافه. وهناك سلسلة من سلاسل المصائب الإنسانية هي هي سبب البلاء واللأواء وأعني بها الخصومات وضروب القسوة وسوء معاملة النساء والأولاد والأمراض التي تنجم عن الخصومات وقلة العفة وضعف البصر ورجفان اليد وأعمال تؤدي بفاعلها إلى الجنون وتضعف الجنس وتورث الأبناء بجهل الآباء أمراضاً يجنيها عليها آباؤهم. ولا تنس أن تذكر في تلك السلسلة نهب الوقت والمال وصرفهما في الملاذ والبذخ والإسراف وما يصرف في الحفلات والأعياد مما جمع بعرق القربة وإنهاك القوى وكذلك ما يجري في سباق الخيل فإن أدعى قوم بأن السباق نافع للجياد فهو ولا جرم غير نافع للناس. وسواء كان المرء بيده شقاؤه أم لم يكن وهو به جدير أم لم يكن فينبغي النظر إلى الأصل فيه فإن من الناس من يقولون بأن للأقدار أيضاً يداً في الشقاء وإسعاد السعيد وذلك لأن العوارض والأمراض والمصائب هي التي تحمل على البيوت فتخربها وتعبث بالنفوس فتشقيها. أما أنا فأقول أن معظمها صادر عنا ونتيجة لازمة لسيئاتنا نحن لا نحسن تناول الغذاء وجعل نسبة بين طبيعة الأغذية اللازمة للقوة العضلية والعصبية والدماغية وبين كميتها. نحن لا نحسن لبس الثياب ولا نجيد التصرف ولا نُعنى بأمور الصحة والنظافة المطلوبة واستجادة الهواء والمسكن الذي يقينا التعرض لضروب الأدواء نحن وعيالنا. لا نحسن انتخاب دور نسكنها وأهلنا بحيث تضمن لنا الهواء النقي والتعرض المطلوب للنور الذي يلقي الحياة. ولا تحفل بالأسباب المختلفة اللازمة للرفاهية كل حين وبدونها تهزل الحياة ولا تنمو ويصبح المرء عرضة للأمراض على اختلاف أنواعها كالحميات الطفحية والرمد والخناق والسل. ومتى دققنا النظر في الشؤون وأعملنا العناية معملها نجد أننا لو أحسنا العناية والحذر والعلم لكنا نجونا من تلك السيئات والنزلات. بقي هناك شيء لا ينبغي لنا أن نغلو فيه لأنه قليل وأعني به المصائب التي لا ضامن من الوقوع فيها كالأمراض التي تصيب أعقل العقلاء وأكبر أرباب الانتباه. هناك الموت الذي

لا ينجو منه إنسان والحريق الذي لا يكون أبداً نتيجة سوء التدبير. والغرق والفيضانات والمقذوفات وسقوط السكك الحديدية. فهذه المصائب لا ينفع فيها إلا التسليم وهذا ما أعنيه بتولي القضاء على الشقاء لا تلك الضروب من الحوادث التي ليست في الحقيقة مادة الشقاء وأس أساس كل بلاء. على أنها ليست كلها مما يتعذر شفاؤه بل أن العلم بما بلغه من الارتقاء قد أحدث أساليب كثيرة لاستئصال شأفة تلك المواد فإذا لم تستطع أن تمنعها كلها ففي وسعك على الأقل أن تقلل صدماتها وتعدل من نتائجها. نعم إن الحذر قد لا يمنع من قدر. ولكن ليس هناك ما يمنع من التوقي منه بأن يبذل في سبيله ما لا بد منه من العناية ما أمكن. والضمان إذا لم يحل دون حرق العقار وضياع السفينة والموت بأخذ المرء من وسط أشغاله وعياله فهو على الأقل يهيئ السبل لإعادة بناء البيت وفتح المعمل والاستعاضة عن تلك السفينة فلا يدخل المرء إلى داره مع الحزن والخراب والفضيحة فيكون قد أتى بحشف وسوء كيلة. وما أسباب الشقاس في الحقيقة إلا نتيجة أغلاط ناشئة من الجهل وأغلاط ناشئة من سلوك إذا تدبرنا مصيرها وتعلمناه وكانت لنا إرادة في إصلاح النفس كان في الإمكان الخلاص من الشقاء. فالمسألة متوقفة على قليل من المعرفة وقليل من الإرادة فعلينا أن نثير بصائرنا وبصائر غيرنا. والإرادة الثابتة تحول دون الشقاء. وجماع النجاح في ثلاث كلمات: المعرفة والإرادة والقدرة. والعلم والإرادة تولدان القدرة. ويقول تولستوي: إن داء الدواء لا يخرج عنا وليس هو محصوراً في تدابير الإدارة التي تتخذها الحكومات ولا في إدخال الإصلاح على المجتمع بطريقة عرفية قاسية وما الدواء إلا بيدنا بل القسم الأعظم منه فينا فإذا أريد تحسين حالة الإنسانية فالواجب أولاً تحسين حالة الإنسان. وربما قام المشككون وقالوا وهل في الاستطاعة تغيير الناس فنقول لهم نعم نحن نستطيع تغييرهم بتأن ويجب علينا أن نسعى إلى تغييرهم وهذا في الإمكان.

الرومان

الرومان وصف إيطاليا شعوبها القديمة: سكنت إيطالي عدة أجناس من الأمم لم يتحدوا في عاداتهم ولغاتهم فكان يعتبر السه لالعظيم الشمالي بين جبال الألب والأبنين جزءاً من إيطاليا وهناك نزل شعوب من الغاليين أتوها من الشمال. فكان الأتروسكيون ينزلون في البلاد الواقعة بين جبال الأبنين والبحر (هو إقليم توسكانيا) إلى نهر التيبر وفي جنوبه ينزل اللاتين. ولقد سكنت قبائل كثيرة في جبا الأبنين الوعرة وراء السهول الرومانية في الشرق والجنوب ولم تدع كل هذه الشعوب باسم واحد ولم تؤلف أمة واحدة بل كانت تنقسم لى أومبريين وصابنيين وفولسكيين وإيكيين وهرنكيين ومارسيين وسامنتيين ولكنهم يكادون كلهم يتكلمون بلغة واحدة ويعبدون أرباباً واحدة ولهم عادات واحدة. يتكلمون كالفرس والهنود واليونان بلغة آرية ولبعدهم وراء جبالهم عن الاختلاط بغيرهم احتفظوا بعاداتهم القديمة وعاشوا عصابات مع قطعانهم مشتتين في الخلاء ولم يكن لهم مدن ولا حواضر بل كانوا يلجؤن زمان الحرب إلى حصون أقيمت في الجبال وقد عرفوا بالشجاعة والقتال وبسلامة الأخلاق ومتانتها وكان منهم بعد حين أعظم قوة للجيش الروماني وفي أمثالهم: من يستطيع أن يتغلب على المارسيين أو أن يغلب بدونهم. جاء في إحدى أساطيرهم أن الصابنيين نزل بهم خطب فادح فاعتقدوا أن الأرباب ساخطون عليهم فعقدوا العزم على أن يسكنوا غضبها وأن يقدموا ضحية إلى رب الحرب والموت كل من يولدون من الأولاد في إحدى فصول الربيع. ودعيت الضحية الربيع المنذور فأصبح جميع الأطفال الذين وضعتهم أمهاتهم تلك السنة ملكاً للرب حتى إذا بلغوا سن الرجال غادروا البلاد وبعدوا عنها إلى القاصية فتألفت عصابات فاختارت كل عصابة أحد حيوانات إيطاليا المقدسة دليلاً من مثل الصرد والذئب والثور وهي تتبعه كأنها تتبع مرسلاً من الرب وحيثما وقف الحيوان تنزل العصابة وتتخذه موطناً لها. وقيل أن عدة شعوب من إيطاليا كان أصلها من تلك الأسرات من النازحين وما زالت محافظة على اسم الحيوان الذي كان أجدادها اتبعوا آثاره في القديم وذلك مثل الهربينيين (شعب الذئب) والبيسانتينيين (شعب الصرد) والسامنتيين وكانت عاصمتهم تسمى بوفيانوم أي مدينة

البقرة. السامنتيون: كان السامنتيون من أقدر تلك الشعوب وقد سكنوا في إقليم الأبروز وهو معصى حقيقي فينزلون إلى السهول المخصبة في نابلي وبويل وينهبون المدن الأتروسكية والمدن اليونانية. جاهدوا قرنين في الرومانيين فكانوا كل مرة يردون على أعقابهم خاسرين إذ لم يكن لهم موطن ولا نظام ثم يعاودون القتال. وكان جهادهم الأخير شديداً. ولقد أتى شيخ إلى زعماء الجيش بكتاب مقدس كتب على نسيج من الكتان فأقاموا داخل المعسكر سوراً من نسيج الكتان وجعلوا في وسطه مذبحاً والجند واقفين من حوله شاهرين سيوفهم فيدخل أشجع المحاربين إلى السور وتؤخذ عليه العهود أن لا يهربوا من الزحف أمام العدو وأن يقتلوا المنهزمين فأخذ من أقسموا الإيمانات المغلطة وكانوا ستة عشر ألفاً ألبسة من الكتان فتألف منهم (كتيبة الكتان) وشرعت في القتال فقتلت عن آخرها. يونان إيطاليا: سكن إيطاليا الجنوبية طواريء من اليونانيين كما سكن بعضهم مدينة سيباريس وكروتون وتارانت وقوي فيها أمرهم وكثر سوادهم. بيد أن اليونانيين لم يلقوا بأنفسهم قط إلى الوقوع في التهلكة إذ لم يقصدوا رومية خوفاً من الأتروسكيين وما عدا مدينة كومس فإن المستعمرين من أبناء يونان كانت لهم إلى القرن الثالث صلات قليلة مع الرومانيين. الأتروسكيون: أطلق اسم الأتروسكيين إلى الآن على أقليم توسكانيا فسمي تروسكي وهو إقليم حار رطب مخصب للغاية. وظلت حال الأتروسكيين إلى الآن طلسماً من الطلاسم لم نفكه فهم لم يكونوا يشبهون جيرانهم ولا يعلم من أين أتوا بل أننا لا نعرف اللغة التي كانوا يتكلمون بها إلا أن أبجديتهم تشبه أبجدية اليونان ولكن الآثار التي عرفت عن هذا الشعب قصيرة لا نتمكن معها من استثبات لغتهم. كان الأتروكسيون يحسنون استخدام أرضهم في الزراعة على أنهم عرفوا بالبحارة والتجارة أيضاً وكانوا يذهبون كالفينيقيين إلى البلاد القاصية للبحث عن عاج الهند وعنبر البلطيق وعن القصدير والأرجوان الفينيقي والحلي المصرية المكتوب عليها حروف هيروغليفية وعن بيض النعام. وإنك لتجد من جميع هذه الأشياء في قبورهم. وكانت سفنهم تتقدم نحو الجنوب حتى جزيرة صقلية. وقد كان اليونان يكرهونهم ويدعونهم (التيرينيين المتوحشين)

أو القرصان الأتروكسيين. وكل بحار في تلك العصور ساعدته الأحوال يأتي منه قرصان بحر فكان من مصلحة الأتروسكيين خاصة أن يردوا البحارة اليونان ويصدوهم ليخلوا لهم الجو في الشاطيء الغربي من إيطاليا ويستأثروا بتجارته. ولم يبقوا من آثارهم إلا حوائط حصينة وقبوراً وعندما فتح قبر أحد الأتروكسيين تشاهد وراء باب ذي عمد غرفاً فيها سرر وقد امتدت عليها جثث وحواليها حلي من الذهب والعاج والعنبر وأقمشة الأرجوان وفرش وأوان كبيرة منقوشة ما الجدران فيرسمون عليها صور حروب وألعاب وولائم ومشاهد غريبة. وإن ما استخرج من القبور بالألوف هومن صنع الأتروسكية فازدانت به متاحفنا وصنع على مثال الأواني اليونانية هو من صنع الأتروسكيين أنفسهم وفيها مشاهد ميثولوجية يونانية ولا سيما صور الحروب التي جرت حول طروادة والأشخاص ناتئة حمراء على صفيح أسود وقد أسس الأتروسكيون فقي طوسكانيا اثنتي عشرة مدينة ولكل منها ملكها وحكومتها وكان لهم من الجانبين مستعمرات فلهم اثنتا عشرة مستعمرة في إقليم كامبانيا في جوار نابولي واثنتا عشرة في سهل البو. ديانتهم: اعتقد التروسكيون بأرباب جبارين وربما كانوا أشرارً وأرقى أولئك الأرباب الأرباب المستورون المجهول أمرهم ثم يجيء بعدهم الأرباب الذين يرسلون الصاعقة وعددهم اثنا عشر رباً يؤلفون مجلساً لهم ويعتقدون أنه يقيم تحت الأرض في مدافن الأمواب أربائب مشائيم وكثيراً ما كانوا يمثلون صورهم على أوان من صنع أيديهم فيمثلون ملك الجحيم المدعو مانتوس في صورة جبار مجنح جالس وتاج على رأسه ومشعل بيده كما يمثلون شياطين آخرين مسلحين بسيف ومطرقة والحيات يقبضون عليها بأيديهم وهم يتلقون أرواح الموتى وأهمهم الشيطان شارون المعروف عند اليونان بهذا الاسم أيضاً وقد تخيلوه على صورة شيخ ذي هيئة قبيحة يحمل مطرقة ثقيلة ليضرب بها ضحاياه. ويعتقدون أن أرواح الموتى وتسمى (المان) تخرج ثلاثة أيام في السنة من مقرها في عالم الظلمات وتطوف الأرض تروّع الأحياء وتؤذيهم فيقدم لهم الأتروسكيون ضحايا بشرية تسكيناً لغضبهم لأنهم يحبون الدم. وكانت معارك المصارعين المشهورة التي اصطلح عليها الرومان ضحايا دموية إكراماً للميت في أصل نشأتها وكان للعرافين الأتروسكيين الذين

دعوا بالهاروسبيسيين أو أهل الفل قواعد يجرون عليها للتنبؤ عن المستقبل فيرصدون أحشاء الضحايا كما يرصدون الصاعقة وطيران الطير فيقف العرف ويدير وجهه نحو الشمال ماسكاً بيده عصا معقوفة ويخط خط يقطع به السماء شطرين فشطر الشرق وهو على اليمين يكون فأل خير وفأل الشمال يكون فأل شر ثم يقطع الشطر الأول على قطع الصليب ويؤلف خطوطاً متوازية يكون منها في السماء شكل مربع يدعونه المعبد فيرمي العرّاف ببصره إلى الطيور التي تمر في ذاك المربع فبعضها كالنسر علامة خير وأخرى كالبومة طالع شؤم. ولقد تنبأ الأتروكسيون عن مستقبلهم بأنفسهم فهم الشعب الوحيد من بين الشعوب القديمة الذي لم يعتقد بأنه خالد وكانوا يقولون أن بلادهم يدون أمرها عشرة قرون وهذه القرون لم يكن كل واحد منها مؤلفاً من مئة سنة ولا تعين مدة القرن إلا بعد أن يجري له فأل. ففي سنة 44 وهي سنة وفاة قيصر ظهر في السماء نجم مذنب فقال أحد العرافين من الأتروسكيين في رومية في جمع من الأمة أن هذا النجم يشير إلى نهاية القرن التاسع وابتداء القرن العاشر وهو آخر قرن يستقيم فيه أمر الأتروسكيين. نفوذ الأتروسكيين: كان الرومان أمة نصف متوحشة فاقتدوا كثيراً بالأتروسكيين وهم أكثر منهم تمدناً وأخذوا عنهم بعض المصطلحات الدينية خاصة مثل ألبسة الكهنة والحكام والشعائر الدينية وعلم معرفة الغيب وزجر الطيور وعندما كان الرومانيون يؤسسون مدينة يجرون على شعائر الأتروسكيين فيخط المؤسس لها بالمحراث سوراً مربعاً وللمحراث سكة من النحاس يجرها ثور أبيض وبقرة بيضاء فيتبع الناس المؤسس ويلقون بمزيد من العناية جميع مدر الأرض من ناحية السور وتصبح كل الهوة التي يشقها المحراث مقدسة لا يستطيع أحد أن يتعداها للدخول في السور ولذلك اقتضى أن يقطع المؤسس تلك الأثلام أو الهوى المقدسة من عدة مواقع فكل مكان يتخطاه المحراث يفتح فيه باب وكل فرجة لم تمسسها السكة تبقى غير مقدسة وتكون باباً يسوغ منه الدخول. ولقد أسست رومية بحسب هذه المراسيم الدينية وكانت تسمة رومية المربعة ويقولون أن مؤسسها قتل أخاه عقاباً له عن تجاوزه السور المقدس الذي خطه ثم جرى الاصطلاح أن تخطط أسوار المستعمرات والمعسكرات الرومانية بل وحدود المساكن بحسب هذه القواعد الدينية وبخطوط نصف

هندسية. وكان دين الرومانيين من أصل أتروسكي فنقلوه إلى أرجاء العالم القديم بأسره ولذلك حق لآباء الكنيسة أن تسمي بلاد الأتروسكيين أم الخرافات. اللاتينيون: نزل اللاتينيون في بلاد الآكام والشعاب الواقعة جنوبي نهر التيبر وهي يطلق عليها اليوم اسم برية رومية وكانوا قليلاً عددهم ولم تكن مساحة البقعة التي يسكنونها أكثر من 270 كيلومتراً مربعاً وكانوا من عنصر واحد كسائر الطليان يشبهونهم باللغة والدين والأخلاق ولكنهم يفوقونهم بالتمدن بعض الشيء يزرعون الأرض ويبنون المدن الحصينة وينقسمون إلى شعوب صغيرة مستقلة ولكل شعب أرضه الخاصة به ومدينته وحكومته وتدعى تلك المملكة الصغيرة مدينة. ولقد قامت ثلاثون مدينة لاتينية فألفت منها مجتمعاً دينياً يشبه مجتمع الأمفكتيون اليوناني وأخذوا كل عام يحتفلون احتفالاً عاماً بعيد لهم وتندب كل مدينة عنها من يمثلها في مدينة ألب فيذبحون صوراً ضحية للرب المشترك بينهم وهو كوكب المشتري اللاتيني.

وقفة في الأجداث

وقفة في الأجداث حاطت بليل اليأس مني غياهب ... تضيءُ من الآمال فيها كواكب وجاءت أخيراً من همومي سحائب ... فحجبت الآمال تلك السحائب فما بان لي إلاّ شبحاً متكاثف ... ولا لاح لي إلاّ دجلاً متراكب فيا لك من ليل هناك حالكٍ ... بأهواله ضاقت عليّ المذاهب وطال إلى أن لاح لي في سمائه ... على الأفق فجرٌ من رجائي كاذب قول لعيني حين جفت دموعها ... أأمسكت لما أفجعتنا النوائب لقد غاب من تهوين مرأى وجوههم ... كأنهم زهر النجوم الغوارب وما كان ظني أنه بعد ساعة ... تجف كذا منك الدموع السواكب جمودك يا عيني وقد وقع النوى ... على غير ما وعدٍ لهم لا يناسب وأني على هذا الجمود وطوله ... ألومك يا عيني وإني عاتب فلست براض عنك يا عين بعدهم ... لأنكِ ما أديتِ ما هو واجب وللقلب مني بعد أن كرّ راجعاً ... وقد رحلت أظعانهم والركائب عهدتك تمشي أيها القلب خلفهم ... فقل لي لماذا أنت يا قلب آيب سألتك يا قلبي عن السبب الذي ... رجعت له إني لعودك عاجب فما لك تجثو راجفاً متغيراً ... وما لك ترنو ساكتاً لا تجاوب أجئت تعزيني لأني آسفٌ ... وإني مفجوعٌ وإني خائب فقال بصوت هزَّ أوتاره الأسى ... فرنت رنيناً أكبرته المصائب تبعتهم حتى ثووا في حفائر ... وحجبهم عني من الترب حاجب وقفت على الأجداث حيث تغيبوا ... وصحت فما ردَّ الجواب مجاوب فجئتك كيما أخبر الحال أنها ... شجتني فمرني بالذي أنت طالب ورأيي أن نسعى معاً لقبورهم ... فقلت له يا قلب رأيك صائب أصبت نعم يا قلب فيما رأيته ... فلي بني هاتيك القبور مآرب تقدَّم أمامي ماشياً لتدلني ... عليهم فسرنا والحنين مصاحب فلما وصلنا ساء عيني أن ترى=هنالك أجداثاً عفاهن حاصب سطور قبور في العراء تناسقت ... كما نمق العنوان في الطرس كاتب

قبورٌ بها نامت أوانس خرَّدٌ ... ونامت بها في جنبهن الذوائب فجاشت هناك النفس من لاعج الجوى ... وقلت لهاتيك القبور أخاطب هنا فيك قد غابت حسان كواعب ... فما فعلت تلك الحسان الكواعب وما فعلت تلك السوالف في الثرى ... وما فعلت في الترب تلك الترائب إلى من تشير اليوم فيك عيونها ... وفوق العيون النجل تلك الحواجب نجوم جمالٍ أمعنت في غروبها ... وأنت لهاتيك النجوم المغارب وكانت مشيدات القصور بروجها ... فمن أين جاءتها تصيب المعاطب لقد كنّ أما ودهن فحاضرٌ ... قريبٌ وأما صدهن فعازب وفي كل يوم كان للزي مطلبٌ ... لهن تجلى منه فيما يناسب ولكنكما اليوم انتهت لتعاستي ... بثوب الأكفان تلك المطالب وكنَّ كأزهار الربيع مبادياً ... أهذي لهاتيك المبادي عواقب قد انتزعتها من حياتي يبد الردى ... كما ينهب العقد المفصل ناهب هنالك جادت أعيني بدموعها ... فهن على الخدين مني سوارب هنالك من نفسي وصدق طويتي ... تمنيت لو أن المنون تقارب نظرت إلى قلبي وكان بجانبي ... إذا هو من فرط الكآبة ذائب فلملمت ذوب القلب ثم سكبته ... على جدث فيه حبيبي غائب وألفيت في نفسي العزاء كمعبدٍ ... قد انهدَّ منه جانب ثم جانب وفارقني لبي لهيبة مصرعي ... فأبعد عني في الفلا وهو هارب وجدت على الأيام والطب والغنى ... وقلت لهم إني عليكم عاتب وأوحشت الدنيا كأن بيوتها ... بعيني وإن كانت قصوراً خرائب مكثت إلى أن أقبل الليل زاحفاً ... وأظلم منه في عيوني الجوانب فأبت لي داري وفي شعب الحشى ... لهيبٌ من الحزن المبرّح لاهب وليس معي في أوبتي لا نهىً ولا ... عزاءٌ ولا قلب لشخصي صاحب سوى نفس في الصدر مني مردد ... فذلك طول الليل آت وذاهب ستبسم في وجهي المنون كأنّها ... محب يسي أو صديق يراقب

وتدركني قبل الصباح ونهضه ... فأنجو من الهمّ الذي هو ناصب بغداد ج. ص

الصديق المطاع

الصديق المطاع علام حرمنا منذ حين تلاقيا أَفي سفرٍ أم كنت لاهيا عهدناك لا تلهو عن الخلّ ساعةً ... فكيف علينا قد أطلت التجافيا ومالي أراك اليوم وحدك جالساً ... بعيداً عن الخلان تأبى التدانيا أنابك خطبٌ أم عراك تعشق ... فإني أرى حزناً بوجهك باديا وما بال عينيك الاتين أراهما ... تُديران لحظاً يحمل الحزن وانيا وأي جوىً قد عدت أصفر فاقعاً ... به بعد أن قد كنت أحمر قانيا تكلم فما هذا الوجود فإنني ... عهدتك غرّيداً بشعرك شاديا تجلد تجلد يا (سليم) ولا تكن ... بما ناب من صرف الزمان مباليا ولا تبتئس بالدهر إن خطوبه ... سحابة صيف لا تدوم ثوانيا فقال ولم يملك بوادر أدمع ... تناثرن حتى خلتهن لئاليا لقد هجبتني يا (أحمد) اليوم بالأسى ... وذكرتني ما كنت بالأمس ناسيا أتعجب من حزني وتعلم أنني ... قريع تباريج تشيب النواصيا لقد عشت في الدنيا أسيفاً وليتني ... ترحلت عنها ولا عليّ ولا ليا لقد كنت أشكو الكاشحين من العدا ... فأصبحت من جور الأخلاء شاكيا وما رحت أستشفي القلوب مداوياً ... من الحقد إلا عدت عنها كما هيا وداريت حتى قيل لي متملق ... وما كان من داء التملق دائيا وحتى دعاني الحزم أن خلّ عنهم ... فإن صريح الرأي أن لا تداريا وربّ أخٍ أوقرت قلبي بحبه ... فكنت على قلبي بحبيه جانيا أراد انقيادي للهوان وما درى ... بأني حر النفس صعبٌ قياديا إذا ما سمائي جاد بالذل غيثها ... أبيت عليها أن تكون سمائيا ألا فابك لي يا (أحمد) اليوم رحمة ... ودعني وشأني والأسى وفؤاديا فإن أحق الناس بالرحمة امرؤٌ ... أضاع وداداً عند من ليس وافيا وما كان حظي وهو في الشعر ضاحكٌ ... ليظهر إلاّ في سوى الشعر باكيا ركبت بحور الشعر رهواً ومائجاً ... وأقحمت منها كل هول يراعيا وسيرت سفني في طلاب فنونه ... وألقيت في غير المديح المراسيا

وقلت اعصني يا شعر في المدح إنني ... أرى الناس موتى تستحق المراثيا ولو رضيت نفسي بأمرٍ يشينها ... لما نطقت بالشعر إلاّ أهاجيا وكم قام ينعي حين أنشدت مادحاً ... إليّ الندى ناع فأنشدت راثيا وكم بشرتني بالوفاء مقالةٌ ... فلما انتهت للفعل كانت مناعيا فلما بكى أمسكت فضل رداءه ... وكفكفت دمعاً فوق خديه جاريا وقلت له هون عليك فإنما ... تنوب دواهي الدهر من كان داهيا وما ضر أن أصفيت ودك معشراً ... من الناس لم يجنوا لك الود صافيا كفى مفخراً إن قد وفيت ولم يفوا ... فكنت الفتى الأعلى وكانوا الأدانيا لعلَّ الذي أشجاك يعقب راحةً ... فقد يشكر الإنسان ما كان شاكيا ألا رُبَّ شر جرَّ خيراً وربما ... يجر تجافينا إلينا التصافيا فلو أن ماء البحر لم يك مالحاً ... لرحنا من الطوفان نشكو الغواديا ولولا اختلاف الجذب والدفع لم تكن ... نجومٌ بأفلاكٍ لهن جواريا وكيف ترى للكهرباء ظواهراً ... إذا هي في الإثبات لم تلق نافيا تموت القرى إن لم تكن في تباين ... ويحيين ما دام التباين باقيا فلا تعجبن من أننا في تنافر ... ألم تر في الكون التنافر ساريا وهبهم جفوك اليوم بخلاً بودهم ... ألم تغن عنهم إن ملكت القوافيا فطرْ في سموات القريض مرفرفاً ... واطلع لنا فيها النجوم الدراريا فأنت امرؤٌ تعطي القوافي حقها ... فتبدو وإن أرخصتهن غواليا يجيئك عفواً إن أمرت شرودها ... وتأتيك طوعاً إن دعوت العواصيا فقال وقد ألقى على الصدر كفه ... فشدّ بها قلباً من الوجد هافيا لقد جئتني بالقول رطباً ويابساً ... فداويت لي سقماً وهيجت ثانيا فإني وإن أبدى لي القوم جفوة ... أُمني لهم مما أحب الأمانيا وما أنا عن قومي غنياً وإن أكن ... أطاول في العز الجبال الرواسيا إذا ناب قومي حادث الدهر نابني ... وإن كنت عنهم نازح الدار نائيا وما ينفع الشعر الذي أنا قائلٌ ... إذا لم أكن للقوم في النفع ساعيا

ولست على شعري أروم مثوبة ... ولكن نصح القوم جل مراميا وما الشعر إلا أن يكون نصيحة ... تنشط كسلاناً وتنهض ثاويا وليس سري القوم من كان شاعراً ... ولكن سري القوم من قام هاديا فعلمهم كيف التقدم في العلى ... ومن أي طرق يبتغون المعاليا وأبلى جديد الغي منهم يرشده ... وجدد رشداً عندهم كان باليا وسافر عنهم رائداً خصب نفعهم ... يشق الطوامي أو يجوب المواميا وإن أفسدتهم خطة قام مصلحاً ... وإن لدغتهم فتنة قام راقيا بغداد معروف الرصافي

التربية والتعليم

التربية والتعليم تهذيب البنات كنا منذ مدة نقرأ في إحدى المجلات الفرنسوية المصورة أن في فرنسا خمسة آلاف كاتبة وأديبة ما منهن إلا وقد ألفت كتاباً أو كتابين وخاضت عباب الأدب إلى الركب وقلبت القلم بيدها كل مقلب وما كدنا ننسى هذا الارتقاء الغريب ونتمنى لو كان لهذه البلاد جزء من مئة جزء منه فقط حتى وافتنا مجلة التعليم الدولية تحمل في صدرها بحثاً ضافياً لإحدى تلكن الأديبات العالمات العقيلة هيلانة مونيز أفاضت في وظائف المرأة الفرنسوية وقصورها فقالت: من الأسف أن بعض النساء يذهبن إلى أنهن لا يعملن عملاً نافعاً في المجتمع إلا إذا خرجن عما قدر لهن من الأعمال ودخلن في سلك أعمال الرجال وتعاطين الصنائع الحرة. يزيد كل سنة عدد الأديبات والعالمات ومتعاطيات الصنائع الحرة فنفقد بهن ما كان يرجى منهن أن يأتينه في الحياة الاجتماعية من المساعدة على تبديل حال البلاد أحسن مما هي عليه. إن نساءنا لا يدركن في العادة معنى الحياة الاجتماعية ولا خطارتها فيتخيلن أنهن لا يقدرن على الاشتراك فيها إلا إذا دخلن غمار السياسة فأصبحن منتخبات ومنتخبات ونائبات ووزيرات وكان عليهن أن يتخلين عن هذه التصورات وينصرفن إلى حماية الأطفال وبذلك يخدمن جنسهن ويسهرن عل مستقبله ويمددن يد معونتهن للبائسين وفي هذا حل للمسألة الاجتماعية. ليس من الغريب أن أقول أن تهذيب البنات من حيث الوجهة الاجتماعية هو أهم من تربية البنين وذلك لأن الشاب إذا خرج من المدرسة يستطيع إتمام دروسه بإعداد نفسه للأعمال التي يتعاطاها ويقوي عقله بدروس التجارب التي تأتيه بها الحياة وعلى العكس في الفتاة إذا تعلمت وأتمت دروسها وقد تكون من بنات العملة أو من أهل اليسار فلا تعود تتعلم شيئاً إلى حين زواجها والغالب أن أسرتها وزوجها تتضرران من قلة اختبارها إذا انقطعت سلسلة تعلمها. إن الدروس التي تلقتها في المدرسة تشبه الدروس التي يتعلمها الفتى ولكن ما يقضي عليها تعلمه أكثر من غيرها لم تتعلمه ونعني به كيفية إرضاع الطفل وحفظ صحة المولود فإذا

رزقت ولداً لا تحسن تربيته لنقص في مواد تعليمها وإذا كانت موسرة فإنها لا ترضع ابنها في الغالب وكثيراًً ما تخالف القانون الذي يقضي عليها بأن ترضع طفلها إلى الشهر السابع من عمره فتجلب له مرضعة عتق لبنها فتؤذيه لا محالة. البنات عندنا يتعلمن في المدارس واجباتهن نحو آبائهن وأمهاتهن أسرهن ووطنهن ولكنهن لا يلقن أن أهم واجباتهن الأدبية أن يرضعن أولادهن ويربينهم ليقينهم من العوارض بتقوية أبدانهن وبذلك يخدمن البلاد بأن يعطينها قوة أخرى زيادة على قوتها. فإن كان تهذيب الفتيات لا يعدهن عندنا إلى أن يشغلن في بيوتهن العمل الذي خلقن له فمن المتعذر أن يرجى أن يعنين بغير أبنائهن فإن ما جرى عند ما أريد إشراك النساء في حماية الأولاد يسجل بالأسف وكان على النساء أن يدركن أن محبة الوطن ليست بالأعمال الحماسية بل أن تنوب المرأة ولو ساعة واحدة مناب أم طفل طرحته أمه أو ماتت عنه. ولا أنكر أن ما جبل عليه قلب المرأة من الشفقة هو غريب وإخلاصها لا حد له. ومن عني المربيات والمعلمات والتلميذات والفتيات والأمهات بالمسائل الاجتماعية الكبرى ومددن أيديهن للبذل في الأمور الخيرية العامة أو الخاصة وشاركن في الخيرات والمقومات نستطيع أن نقاوم جميع الأخطار التي تتهدد عنصرنا كالضعف من البؤس وكثرة موت الأطفال والسل والكحول. برنامج التعليم عندنا غير ناقص ليزاد فيه مواد أخرى ولكنه يجب تخفيفه وحذف بعضه فإن العناية في مدارسنا متوفرة اليوم لتوسيع حواس بناتنا العقلية ولم تصرف لتحسين ملكاتهن الأخلاقية. نعم إن فلسفة الأخلاق هي أساس تعليمهن ولكن هذه الأخلاق هي بالنظريات أشبه منها بالعمليات وهي أرقى من أن تتغلب على ما يستولي على نفوس الفتيات في سني الدراسة الأولى من أنواع التعاليم فينبغي إشراب قلوبهن الشفقة فإن الشفقة كما قال أحد علماء الأخلاق من الألمان تزيد وتتضاعف. يجب أن نعلم بناتنا أن كل فلسفة تؤدي إلى إنكار فعل الخير فلسفة كاذبة خطرة وإن تطبعهن على حب المرحمة. الرحمة مخصبة الرباع وبها تقوى الأمة بإنقاذ ألوف من المخلوقات وهي تسكن أحقاد الطبقات أو تقللها. ألا وإن المخلوقات التي رزقن جمال الطبع وحسن الخلق هي المحسنة الحقيقية للإنسانية

فإن أهل الخير الذين عملوا الإحسان منذ كان العالم قد ساعدوا على سعادة البشر أكثر من أرباب العقول السامية الذين تتمثل أسماؤهم في التاريخ فلو كانت ارتقت أخلاقنا منذ أوائل القرن الماضي كما ارتقت علومنا ولو كملت قلوبنا كما كملت قوانا العقلية لكنا منذ زمن خففنا مصائب الناس إلى أدنى ما يمكن. وإن يوماً نتوصل فيه إلى تأليف إنسانية كاملة لا يرى السواد الأعظم من أعضائها بؤس فرد بدون أن يعينه من تلقاء نفسه نكون قد ظفرنا فيه بالسعادة على هذه الأرض وحللنا بالسلم الأزمة الاجتماعية التي تقودنا إلى المهالك. وعندي أن يعمم تعليم تربية الأطفال ويتعلم بنات المدارس ما ينبغي للمرضعات وأن يعلمن كيف يغاث البائسون وأرباب الأدواء يطلعن على تاريخ الجمعيات الخيرية ودور الإحسان وإن عمل الفرد وحده ضعيف في نتائجه وإن لم يضم عمله إلى عمل غيره فيكون للمجتمع أعمال منظمة بنظام الذكاء والتعقل وأن لا يعود البنات على الاعتقاد بفعل الخير نظرياً بل أن يعملن بأنفسهن الخير في المدارس ويشتركن في إعانة المجتمع. مدح التأني كتب هنري لافدان أحد أعضاء المجمع العلمي الباريزي في جريدة (الآنال) يذم العجلة ويمدح التأني قال: لو كنت غنياً ما تأخرت عن أن أوصي بمبلغ يخصص ريعه كل سنتين أو ثلاث جائزة لم يجيد في مدح التأتي وذلك لأنا نرى هذه المحمدة آخذة ويا للأسف بالتناقص فمن اللازم اللازب أن تعاد إليها الثقة الماضية والشرف الدراج لأنا إذا ظللنا على هذه الحال نهلك بالعجلة لا محالة. كلما قضى أحدنا بضعة أشهر في الضواحي وعاد إلى باريز يأخذه العجب من تموجها في أعمالها ويشعر بالقلق والاضطراب والسرعة والحركة والآلام ويدهش من السرعة الجديدة المنظمة الممرضة في جميع أعمال الحياة. ولا يزال هذا الجنون يزداد على نسبة مخوفة ويكثر ويزيد سخط القادم من العجلة المتضلة التي تطوح بنا في هذه المهاوي المنوعة التي نكاد لا نراها لسرعة مرورها على بصرنا ولأن وقتنا لا يسمح لنا بإمعان النظر. نحن نسرع في كل أمر وكلما حركنا جنون السرعة أثبتنا أن الحكمة تقودنا فلا يقنعنا إلا أن نصل قبل أن نسافر وآراؤنا مضطربة تود السباق وتتضارب أولئك السذج الذين يتدافعون ليلقوا قبل غيرهم رسائلهم في صندوق البريد وقد كتبوا عليها معجلة وهماً منهم أنهم إذا

سارعوا إلى وضعها وكتبوا عليها تلك الكلمة تصل إلى مقصدها قبل غيرها على أن البريد والقدر لا يعطيان على الخاطر ولا يعملان لرضى الناس. ولكن من يتطالّ إلى نيل كل شيء لا ينال شيء وماذا تجديه السرعة الفائقة للعادة التي تؤذيه وتضعف قيمة كل ما ينوي القيام به. وبعد فلا يفوتنا أن قاطرة بخارية إذا تركت على سرعتها الفائقة تنتهي بها الحال أن لا تمس قضبان الحديد ولا تكاد تقف على الأرض كأنها في الخلاء وهكذا الحال في الأعمال فإن الرجل بكثرة إسراعه في الذهاب يطير ويعثر بالحوادث ويقع فيها وهكذا شأنه في أوجاعه وأفراحه وكل ما يناله. فهو لا يحفل بتأثراته وشعوره ولا يتوسع فيهما بل يمسها مساً خفيفاً لا يأخذ منها ولا يترك ولا يستفيد الدرس النافع الذي يفيده عبرة وحكمة فهو كالريشة بل كالقذيفة الطائشة العمياء تطير على العماية في الفضاء الذي يتقاذفها ويخمد أنفاسها في جميع المحطات التي تقف فيها من الحب والبغض والشر والخير فلا يميز بينها ويخلط فيها إلى أن يناديه داعي الأجل المحتوم فلا يجعل له من الوقت متسعاً يتنفس فيه. ولا يقولن قائل أني أغالي فيما أقول فالحوادث تؤيد قولي: نحن نأكل سراعاً فلا نهضم. قال مونتين أن الحياة تمضغنا ونحن لا نمضغها بل نبلعها فنختنق أحياناً. نشرب سراعاً ونرسل الطعام إرسالاً إلى معدنا وما الغذاء إلا عمل مقدس نأتيه ونحن جلوس على طرف المائدة في أغلب الأوقات لا نفتح فانا فنتكلم ولا نقول كلماً طيباً ولاسيما في البيوت فإنا نتغدى ونتعشى بأسرع ما يمكن كأننا في مقصف محطة سكة حديدية والمنادي ينادي لم يبق إلا دقيقتان لسير القطار فنأكل ونحن سكون لا نتكلم وقد استغرقتنا الصفحة قبل أن نستغرقها نفكر فيما يهمنا ونحلم فيه وقد عبست جبهتنا وسدت معدتنا وألقينا الطرف إلى أبعد مما نحن فيه بدون أن نأخذ مقعدنا ونتناول الحلواء والفاكهة بل نقوم سراعاً ونهب خماصاً أو بطاناً. سقى الله أزماناً كان الناس يرتاحون فيها إلى الجلوس على الموائد يتناولون طعامهم وهم يتضاحكون ويتمازحون ويقصون من الأحاديث ما يكون تسلية لقلوبهم وراحة لنفوسهم. سقى الله أياماً كان أحدنا يسير وأنفه في الهواء وقد تأبط كتاباً. ما هذا الوقاد في القطار الحديدي ألا مهلك المتنزهين في الحقيقة بما خفف عليهم من مؤونة المشي فقد بطلت عادة

النزهة في الشوارع والأزقة وباليد عصا وبطلت المظلات أو كادت كما بطلت العصي وبطلت عادة السير على الأقدام وعادة الراحة والغداء على العشب. فأصبحنا والفرد منا إذا جلس على الأرض يصعب عليه النهوض بحيث تخدرت على التوالي أرجلنا ووهنت قوانا. خل عنك تلك المصعدات التي تحملنا من الأدنى إلى الأعلى فقد نزعت من سوقنا قوتها على العمل ومن رئاتنا ما ينفعها في تصعيد السلالم. ولا أكتمكم أنني كلما زرت بيتاً من البيوت القديمة التي لا تزال محافظة على إدراجها وسلالمها الرخام أجد في الصعود عليها نشأة وتجلى لي الحكمة الغريبة التي اهتدى إليها المهندسون وأنشؤوا تلك الأدراج ليصعد عليها بين الزهور بدون هزة وعلى مهل. وما أحلى ذلك وأنفعه. لا جرم أنه يعينك على أن تجمع فكرك وحواسك قبل أن تقرع جرس دارك أو دار من تزوره وتختلف إليه. ولم يقف الأمر في سرعتنا عند هذا الحد بل تعداها إلى كلامنا فصرنا نتكلم بإيجاز ولا إيجاز صغار الزنوج في كلامهم. وأمسينا نسرع في نومنا ونقوم مذعورين ونحلم والضغط آخذ منا فنحن في المساء كالصباح لا نحسن الاضطجاع على سريرنا ولا نقرأ والقلم بيدنا نشير إلى ما يجدر نقله واقتباسه ولا نفكر الأفكار النافعة بل نسرع في الراحة أي سرعة. وإذا رجعنا البصر في الأمور العقلية فإنك تجدنا نفاخر بما يعرض لأفكارنا كل يوم بل كل ساعة من التنوع فقد غدا الكاتب لا يعيد نظره فيما يكتب فنحن مضطرون إلى أن نجيد فيما نكتب كل يوم وكل من لا يؤلف روايتين في السنة أو ثلاث روايات مضحكة يعد مقلاً جاف القريحة. الكتب اليوم لا تؤلف بل تتساقط كما يتساقط الجوز. والغاية أن نكتب ولا عبرة بما نكتب ونتائجه. ومهما كان من اعتبار الإكثار والإخصاب فمن العقل أن نتحرز ونأخذ من عنان الأقلام مخافة أن نمسي للحال كالأم الضعيفة التي تأتي بالأولاد ضعافاً محتقرين. وما كل عمل جميل عظيم إلا ابن التأمل والصبر والجلادة ولطالما كان للوقت تأثير في تجويد الأعمال. فالوقت جائزة تنال بأسرها والجمال أعظم العوامل فيها. فكما أن الوقت يوجد الجمال وينميه ويقيه العوادي وينحو به مناحي الكمال فكذلك الخرائب لا تكون خرائب إن لم يأت عليها الزمن ويمتد لها إلى ما شاء الله والأيام والشهور لا تكفيها بل يقتضي لها عدد لا

يحصى من السنين لتستحق أن تذكر بين الخرائب وأن تخفق فيها الرياح ويثار عليها الغبار ويعبث بها الهواء وينزل عليها الماء والشمس وينبت فيها الطحلب والسندر المعرش وكل ذلك من عوامل البطء والجلادة. ثم أن الناس أصبحوا يريدون الاستمتاع والانتفاع في الحال وإن يكون لهم أكثر من الدخل قبل أن يضعوا رأس المال وأن يجنوا بعد عشر دقائق من البذر. نقرأ مسرعين هذا إذا تظاهرنا بأننا نقرأ ونلقي نظرة على العنوان والفهرس ونقلب الطرف في بعض صحفات من الكتاب وهذا كل ما نقرؤه أغرقنا في حب العجلة حتى صرنا لا نقطع أوراق كتابنا بيدنا بل نوعز إلى الخادم أو كاتب سرنا أن يقطعها لنا. أنا لا أجهل ما يجيبني به القارئ فيقول بأن الكتب كثرت وكذلك الجرائد والملاذ والسخرات والواجبات وإن الحياة قصيرة وإن الحال تقضي بأن نسترط الثلاث أو الأربع لقم في لقمة ولكن الحقيقة ليست كذلك فإن الحياة كلما تضاعفت وكثرت بحيث تجزأت كان علينا أن نقتصرها ونضم شملها. فها إنه تصدر كل صباح أربعون جريدة وهذا من جملة الأسباب الداعية إلى أن نزهد في قراءتها وكل أسبوع يصدر خمسون كتاباً ونحن لا نعرف منها إلا عشرها نعرفه أحسن معرفة فإن المفكرين أصبحوا يفكرون بسرعة ففدوا خاصية التفكر. أصبح الواحد يحب ويبغض سريعاً ويسرع في التصديق كما يسرع في الجحود ويعطي ويمنع كذلك غير مكترث بنصائح الليل ومواعظ النهار. وأخذ الغضب يسارع إلينا ونحن لا نعرف كيف نغضب وعلى من نصب جام غضبنا. وليت شعري من يحتفل بالحب البطيء الصادر من أعماق القلب المتأني؟ ومن يحيكه أحسن حياكة وأمتنها ويبالغ في أحكامها خيطاً خيطاً باليد لا بآلة؟ ومتى نرضى الوقوف والتريث لنذوق طعم المواقف ونجني برسيم السعادة ونجلس هنيهات في الواحات؟ الحياة أقصر طريق يسلك من نقطة إلى أخرى ونحن نريد أن نقتصرها أيضاًَ؟

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات غياث الأمم في التياث الظلم تصنيف إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478 وضعه في الإمامة وإن قدمه_كتب سنة أربع وأربعين وسبعمائة) ليحملنا على ذكر موضوعه. ومعلوم أن هذا المبحث خاتض فيه الخائضون ومنهم الإمام الماوردي. وكتاب الجويني هذا في مثل موضوعه وقد حمل فيه على الماوردي حملة غريبة واستفدنا منه ما كنا نعرفه عن حرية عصر المأمون قال إمام الحرمين: وقد اتفق للمأمون وكان من أنجد الخلفاء وأقصدهم خطة ظهرت هفوته فيها وعسر على من بعده تلافيها فإنه رأى تقرير كل ذي مذهب على رأيه فنبغ النابغون وزاغ الزائغون وتفاقم الأمر وتطوق خطباً هائلاً وانتهى زلله وخطله إلى أن سوغ للمعطلة أن يظهروا آراؤهم ورتب مترجمين ليردوا كتب الأوائل إلى لسان العرب وهلم جراً إلى أحوال يقصر الوصف عن أدناها ولو قلت أنه مطالب بمغبات البدع والضلالات في الموقف الأهول في العرصات لم أكن مجازفاً. قال فيه: الحمد لله القيوم الحي الذي بإرادته كل رشد وغي وبمشيئته كل نشر وطي كل بيان في وصف جلاله وحصر وعي بين عيني كل قيصر وكي من قهر تسخيره وسم وكي فاطر السموات والأرض جعل لكم أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيءٌ فالعقول عن عز جلاله معقوله ومعاقد العقود في نعت كماله محلوله. وبعد أن بالغ في وصف كتابه وقدمه لنظام الملك الوزير صاحب المدرسة النظامية ببغداد وغيرها ذكر فيها أبياتاً منها: وأني لغرس أنت قدماً غرسته ... وربيته حتى علا وتمددا لأنك أعلى الناس نفساً وهمةً ... وأقربهم عرفاً وأبعدهم مدى وأوراهم زنداً وأرواهم ظبا ... وأسجاهم بحراً وأسخاهم يدا وما أنا إلاَّ دوحة قد غرستها ... وأسقيتها حتى تمادى بها المدى فلما اقشعر العود منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى وقال في موضوع كتابه: أقسام الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام في مباغي الشرع ومقاصده ومصادره وموارده يحصرها قسمان ويحويها متضمن هذا المجموع نوعان أحدهما

ما يكون ارتباطه وانتياطه بالولاة والأئمة وذوي الأمر من قادة الأمة فيكون منهم المبدأ والمنشأ ومن الرعايا الاتسام والتتمة والثاني ما يستقل به المكلفون ويستبد به المأمورون المصرّفون. والكتاب من 130 ورقة تغلب عليه الصحة في الجملة والغالب أنه وقع في يد عالم فصححه. التلميذ رسالة في معنى التلميذ للفاضل عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب بحث فيها عن لفظ التلميذ ومعناه في أمهات كتب اللغة فلم يجد فيها ما يشفي فرجع إلى تتبع بطون الدفاتر فوجده في كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري فإنه ساق فيه شعراً للبيد بن ربيعة وفيه هذا البيت: فالماءُ يجلو متونهن كما ... يجلو التلاميذ لؤلؤاً قشباً قا التلاميذ غلمان الصناع ووجده أيضاًَ في شعر أمية بن الصلت في قصيدة له قال فيها: والأرض معقلنا وكانت أُمنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد وبها تلاميذ على قذفاتها ... حبسوا قياماً فالفرائص ترعد قال شارح ديوانه التلاميذ الخدم وقال أمية في هذه القصيدة: فمضى وأصعد واستبد إقامة ... بأُولي قوى فمبتل ومتلمذ قار لشارحه يردي متلمذ أي خادم من التلاميذ وتلمذ جعل للخدمة قال البغدادي ويؤخذ مما مضى أن تاه أصلية وإن له فعلاً متصرفاً هو تلمذه تلمذةً فهو متلمذ بمعنى خادم وذاك متلمذ أي جعل خادماً فأطلق التلميذ على المتعلم صنعة أو قراءة لأنه في الغالب يخدم أستاذه وقول الناس تلمذ له وتلمذ منه خطا. الكون والمعبد أو الفنون الجميلة والكنيسة نظم الخورفسقفوس جرجس شلحت السرياني الحلبي وهي أرجوزة في 34 صفحة مطبوعة طبعاً نفيساً بالشكل الكامل وثمنها فرنك تطلب من بيروت. الطرف الأدبية هي رسائل كثيرة في اللغة والأدب لمشاهير أئمة العربية عزم محمد أمين أفندي الخانجي

الكتبي أن ينشرها تباعاً في أجزاء صغيرة وقد انتهى إلينا منها الآن الجزء الأول وهو يحتوي على كتاب فصيح اللغة لأبي العباس ثعلب وشرحه لأبي سهل الهروي وذيل الفصيح لعبد اللطيف البغدادي وكتاب فعلت وأفعلت لأبي إسحاق الزجاج وهذا لم يطبع حتى الآن فيما نعلم عني بتصحيحها السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعساني وشكل محل الأشكال منها وقد جاءت في 188 صفحة متوسطة الحجم حرية بأن ينتفع بها المتأدبون في هذا الوضع الجديد وثمنها مجلدة سبعة قروش وتطلب من طابعها. محو الألفاظ العامية رسالة جمع فيها محمد الحسني أفندي مائتين وعشرين كلمة من الكلمات العربية المقابلة لبعض الألفاظ العامية مثل بوفيه فقال أنها الخورنق وسماها بعضهم بالمقصف وسكرتير ناموس وشكمجية فسماها مسفط أو عكم وأورد ألفاظاً مشهورة في الجرائد أو بين كتب الغابرين أو المعاصرين مثل صيدلاني للأجزاجي ومستشفى أو مارستان للاسبتالية وقفاز للكف وبالتركية الدون وغرفة أو حجرة لأودة ومرفأ أو ميناء للأسكلة وقمطر لدولاب الكتب ورتاج لخوخة الباب وسماد للسباخ وفرلسان للسواري ورجالة للبيادة وحبذا لو يكثر استعمال من نشر مثل هذه الألفاظ بكمية أوفر ينشرها في الجرائد والمجلات ليثبت صحيحها بالاستعمال أو يسقط.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع عرب الدنادشة يبحث بعض العلماء عن أصل قبيلة الدنادشة الساكنة في متصرفية طرابلس الشام فتشوقت لمعرفة أخبار حقيقية عنهم فأتحفني بعض سكان تلك الجهات بالتفصيلات الآتية فالرجاء إدراجها في مجلتكم خدمة للعلم. كان جد عشيرة الدنادشة من اليمن جاء البلاد الشامية ونزل بحوران منذ نحو ثلاثمائة سنة وساد على تلك البلاد حتى لقب بالفحيلي وأكره العربان الضاربة خيامها هناك أن يدفعوا له خوة ومنع العرب من غير حيه من المرور بأراضيه إلا إذا دفعوا له رسوماً مقطوعة من المواشي ولقد أهان مرة أحد مشايخ عشيرة من العرب يدعى المساليخ من الحسيني فاغتاظ هذا وعمل على كيده فأتى يوماً وعرض عليه حضور جميع شيوخ عشيرة الحسين ليعطوه عهداً بالخضوع له فقبل بذلك ولما وصل القوم هجموا عليه وذبحوه في بيته وفتكوا بجماعته ونهبوا متاعهم وفر من بقي منهم وأتى إلى جهات قضاء حسن الأكراد وسكنوا في مكان يدعى الآن برج الدنادشة وهو فق تل كلخ مسكنهم الحالي وكان إذ ذاك مأهولاً بجماعة من المتاولة والتركمان فطردوهم واستولوا على محالهم ورئيسهم على ذاك العهد رجل يدعى الشيخ إسماعيل على جانب عظيم من البسالة والشجاعة فأعطته الحكومة لقب آغا ووهبته خمس قرى وهي الفتايا والحوز ومدان وحير البصل والموح التابعة لقضاء حمص وبموجب فرمان من السلطان محمد خان الرابع عهد لإسماعيل آغا وجماعته بالمحافظة على تلك النواحي. أما لقب دندشلي فقد سماه التركمان ممن لا يزال لهم إلى الآن بعض قرى يسكنونها في القضاء المذكور وذلك أن إسماعيل كان يتقن زينة خيوله ويجللها بأقمشة لها أطراف ودنادش فلذلك أطلق عليهم هذا الاسم ولم يبرحوا يلقبون به حتى اليوم وبعد أن سكنوا مدة قرن في تل كلخ رجع أحد أخوان إسماعيل آغا مع قسم من قبيلته إلى حوران وبقي فيها واسم عشيرته الفحيلية وفي كل سنة يأتي من حوران جمع من الفحيلية لزيارة الدنادشة في ديارهم ويتوجه آخر من تل كلخ إلى حوران. والدنادشة الساكنون في جهات الهرمل ليس لهم قرابة مع دنادشة تل كلخ هؤلاء سنية وأولئك شيعة.

ثم ظهر ثلاثة أخوة من الدنادشة لهم شهرة مستفيضة واسم أحدهم حمزة آغا والثاني إبراهيم آغا والثالث حمود آغا فأحبوا تقسيم أملاكهم لمنع الشقاق بينهم فألقوا قرعة وتفرقوا فبنى حمزة محلاً وسكن فيه فدعاه باسمه أي مشتى حمزة وسكن إبراهيم قرية تل كلخ وسكن حمود في محل سماه مشتى حمود وأسماء هذه المحال التي أصبحت الآن عامرة بذ ريتهم ما فتئت باقية إلى اليوم وكل من هؤلاء الثلاثة أصبح مديراً ولكل قرية الآن من هذه القرى رئيس من نسل الأخوة الثلاثة الأكبر فالأكبر ورئيس الجميع يسكن تل كلخ لأنها أهم منازلهم وهي واقعة إلى جنوبي قلعة الحصن مركز القضاء الآن تبعد عنه نحو ساعة ونصف على طريق العجلات الممتد من طرابلس إلى حمص وأما مشتى حمزة ومشتى حمود فموقعهما شرقي تل كلخ وعلى مسافة زهاء ساعتين منه. ورئيسهم في تل كلخ اليوم هو على جانب عظيم من الكرم ودماثة الأخلاق محب للفقراء والمحاويج بيته مفتح أبواب لكل من قصده وهو عبد الله آغا وله من العمر نحو الستين أو أكثر ومنازل الآغوات مبنية على نسق الجديد ومنها ما كلف ألوف الليرات وأملاك الدنادشة كثيرة ومتسعة لاسيما أراضيهم في سهل البقيعة المشهور بخصبه وأكثر خبزهم من طحين الذرة الصفراء وقلما يستعملون دقيق الحنطة. ولكل من الأغوات مضافة لقبول الزائرين ومن عاداتهم أن لا يتناولوا طعام الصباح والمساء مع حريمهم بل يأكلون في مضافاتهم وجد فيها ضيوف أم لم يوجد. ولهم ولع عظيم بركوب الصافنات الجياد يعنون كثيراً بتربيتها وقل فيهم من لا يركبها ويتفنن فيها وعند محمد بك صاحب بيت تل كلخ فرس أصلها حمدانية زرقاء اللون لا يبيعها ولو دفع له فيها خمسمائة ليرة وعند ركوبهم يحملون الرماح والسيوف وفي أعراسهم يدقون الطبول وينفقون على خيولهم وأفراحهم نفقات باهظة. وفي منتصف حكم السلطان محمد خان الرابع الذي جلس على تخت السلطنة سنة 1059 منحهم فرماناً بملك القرى المذكورة آنفاً. بيروت جرجي ديمتري سرسق تحريف الأعلام كتب الأستاذ نالينو مدرس اللغة العربية في كلية بلرمة حاضرة صقلية رسالة بالإفرنسية

في نشرة الجمعية الجغرافية الخديوية في مصر سماها (إعلام البلاد في بلاد الإسلام) أتى فيها بأمثلة كثيرة على تحريف بعض الأعلام في كتب الجغرافية والتاريخ والمصورات الحديثقة تحريفاً يلتبس به وجه الصواب ويضيع به تصور مواقعها وتاريخها وأصلها على وجه الصحة وقال أن المشتغلين بالعربية من الإفرنج قد لا يهتدون إلى كثير من المواقع إذا نظروا في تلك المصورات الحديثة وقابلوها بما كان كتاب العرب يطلقونه عليها فذكر من ذلك أمثلة غلط فيها بعض علماء المشرقيات فادعى أن لفظ المولوية المستعمل في حكومة مراكش مضافاً كالحضرة المولوية أو المقام المولوي جاءت من ملويا وهو أهم نهر في بلاد مراكش يخرج عن حكم السرة المالكة ولذلك يطلق سلاطين المغرب على أنفسهم الأمراء المولوية ليؤيدوا حكمهم على تلك البلاد التي يجتازها النهر. وقال والحقيقة أن قولهم الحضرة المولوية مشتق من المولى ولفظ النهر ملوية وذكر كيف أن بعضهم حرف لفظ (تل العمارنة) فجعلها (تل أمرنا) عند الترجمة وأنه وقع في كتاب في التاريخ والأدب قررته نظارة المعارف المصرية سنة 1893 من الأغلاط الشائنة في أسماء الأعلام ما حرف التاريخ ولا سيما فيما تيعلق بجزيرة العرب ومثل ذلك بأنه جاء فيه (زادة) بدل (صعدة) و (دراما) بدل (ظرما) و (زهاد) بدل (صحار) و (بجا) بدل (بيشة). ثم ذكر أمثلة لذلك من المصورات الجغرافية فقال أنهم حرفوا اسم ذوي متيع وهي قبيلة مشهورة في المغرب الأقصى وجعلوها دوي منية وحرفوا لفظ نهري صا ومسون فقالوا زا ومصون وحرفوا اسم قبيلة بني يزناسن فقالوا بني سناسن وقالوا عن سهل تفراته تافراطا وحرفوا أبت سغروشن وأيت شخمان في بلاد المغرب فقالوا أيت سورشن وأيت شكمان نقلاً عن المصورات الفرنسوية ولفظة ضاية مستعملة في الجزائر للقيعان التي يجتمع فيها ماء المطر في الشتاء بلفظ داية وكيكو بجيقو وغياثة برياطة ومكس بمكاس والنجاة بنجا وارضم بردم وبهت ببجط وصفر بسفر ومدينة وازان بوزان وقبيلة غصاوة بغزاوة وتافيلالت بتفيللت وتعلالن بتيالالين والرتب بالرطب ومرغاد بمراد وتادغوست بتدروشت وتدغة بطدرة وعطة بأطا وتيزيمي بتزيمى. وقال أنهم حرفوا في الأعلام المغربية بششاون وتسنت بتيسينت وسكتانة بسقطانة ومجاط بأمجات وكليميم بأوقليميم وسكسيوة بسقصاوة والشياظمة بالشيادمة ورهونة برحونة وكرفط بقرفيت وتسول بتصول وزيان بزايان

ووزغت بواويزت وكرط بقرط وشالة بشلة وقرباطة ببرج غربالة وسيدي صيد عقارب (محل في تونس) بسيدي العقاربة ويونقا بعنقا وبلاد الحضر ببلاد الحيدر وتبلبو وكتانة وعرام بطبلبو وكتنة والعرم وهداج وشعبة السماعلة وغنوش بحديج وشابة الزمالة وقنوش وطبرقة بتبرئة وتوكابر بتكابر ومكتار بمثر وجبل ساغرو بجل سارو والخيثر بالكريدر وخنق النطاح بكاركنتا والسوارقية بالسويرجية والأكرة بالعكرة والشرفة بالشرفا والخضيراء والصفينة بالخضيرة والسفينة. وقال أن المصورات الجغرافية والكتب المطبوعة في علم تقويم البلدان المترجمة حديثاً في الأستانة وسورية مملوءة بالأغلاط الشائنة ولذلك تجافى عن نقل شيء منها لتفاهتها وأن خير طريقة يعمد إليها لإصلاح هذه الأعلام ورد كل شيء إلى أصله العربي عند الترجمة أن تنظر مصر في ذلك لأنها مجمع العالم الإسلامي وفيها صفوة من رجال العلم من المسلمين الذين يساعدون بمعارفهم في هذا السبيل كما أن فيها المجمع المصري والجمعية الجغرافية الخديوية التي ساعدت كثيراً على ارتقاء المعارف الجغرافية. الحكومات والأوبرات تعطي حكومة برلين للأوبرا الألمانية 1. 125. 000 فرنك وتعطي حكومة باريز 800. 000 وحكومة درسد 600. 000 وحكومة فيينا 600. 000 وتعطي حكومة مصر 125. 000 لجوق الأوبرا ولكنه أوروبي يمثل في الشتاء لتفكهة السياح فقط. جرائد العالم تبين أن في إيطاليا 3330 جريدة وجلة منها 134 يومية تقسم إلى أقسام في مبادئها منها 3232 من حزب رجال الدين و295 من المحافظين و260 من الاشتراكيين وفي ألمانيا 5500 جريدة ومجلة وفي فرنسا 2819 وفي إنكلترا نحو 2500 وفي النمسا والمجر 1200 وفي روسيا 800 وفي سويسرا 450 وفي الولايات المتحدة 50000 (كذا) جريدة ومجلة. عاصمة الألمان يطعم المجلس البلدي في برلين الأولاد الفقراء ويكسوهم ولذلك لا ترى في شوارعها شحاذين فتيان يدعون كما في بعض عواصم أوروبا أنهم يبيعون جرائد أو زهوراً وإذا

شاهد الشرطي ولداً يدخن يتقطع له اللفافة وهي في فمه. العمل بالأيدي أبان تقرير العمل في الولايات المتحدة الفرق بين ما تكلف بعض أصناف التجارة إذا صنعت بالأيدي أو بالأدوات فظهر لها أن عشرة محاريث زراعية إذا أريد صنعها بالأيدي يشتغل فيها عاملان يعملان فيها أحد عشرة نوعاً من الأعمال ويصرفان 1180 ساعة وتكلف 272 فرنكاً أما بالآلات فإن هذه العشرة محاريث يعمل فيها 52 عاملاً يتعاطون 97 عاملاً مختلفاً يصرفون في صنعها 37 ساعة فتكلف 39 فرنكاً. وأن المئة زوج من النعال ليصنعها عاملان بأيديهما فتكلفتهما ألفي فرنك ولكن إذا صنعت بالآلات يعمل في صنعها 113 عاملاً فتكلف 117 فرنكاً وهكذا فإن تقسيم العمل بفضل الأدوات والآلات الحديثة أعظم وفر ودخل. العلم في مصر صدر الأمر الخديوي بأن يخصص من الأوقاف الخيرية مبلغ خمسة آلاف جنيه مسانهة لمشروع المدرسة الجامعة المصرية المزمع إنشاؤها في القاهرة. ووقف الأمير حسين باشا كامل زهاء 76 فداناً من أطيانه في البحيرة على مدرسة دمنهور الصناعية وإيراد كل فدان ثمانية جنيها في السنة فيكون قيمة ما أعطاه عشرة آلاف جنيه كما أن قيمة العقارات والأطيان التي خصصت مداخيلها للجامعة تساوي مئة ألف جنيه بحسب وارداتها. ولا يزال الأربعة عشر مديراً من مديري القطر يتفننون في تشويق علية القوم لإنشاء الكتاتيب على أساليب مختلفة فبارك الله بهذه النهضة العلمية المنتجة. السياح ونفقاتهم كثير من البلاد تنتفع بالقادمين عليها كل سنة للسياحة ومنها سويسرا في أوروبا ومصر في أفريقية فإن القطر المصري يربح كل سنة نحو مليون وربع من الجنيهات من المال الذي يصرفه فيه السياح. وقد ذكرت مجلة المجلات النيويوركية أن السياحة من أعظم المساعدات على انتقال المال من يد إلى أخرى فقدرت ما يصيب فرنسا كل السنة من القادمين عليها ن السياح بمليارين ونصف مليار فرنك ويصيب إيطاليا خمسمائة مليون فرنك وقد زار سويسرا سنة 1906 أربعمائة ألف سائح فصرفوا فيها مائة وخمسين مليون

فرن. وقدر عدد الأميركيين الذين كانوا في أوروبا هذه السنة بمئة وخمسة وعشرين ألفاً على مئة وخمسين ألفاً نالت من مالهم إنكلترا 125 مليون فرنك ونالت فرنسا ثلاثة أضعاف ذلك ونال ألمانيا 125 مليوناً وإيطاليا 250 مليوناً فالارتحال هو من الدواعي الكبرى في نقل المال ومن أعظم المنافع في الحياة الاقتصادية. البيض قدر بعضهم أن محصول البيض في أوروبا يبلغ في السنة أربعة مليارات وأربعمائة مليون بيضة وزعم أن ما تخرجه إنكلترا هو أحسن بيض ثم يجيء بالجودة بيض فرنسا فالدانيمرك وقال أن مجموع ما يتجر به في إنكلترا وخارجها من البيض الإنكليزي يبلغ مليارين ومائتين وسبعين مليون بيضة تساوي ستة ملايين جنيه وترسل روسيا إلى إنكلترا كمية وافرة من البيض إلا أن بيضها دون بيض بريطانيا بجودته ومح بيض إسبانيا من أجمل بيض في العالم والرديء من البيض يدخل المعجنات. المسكرات ثبت أن المسكرات في أوروبا هي السبب في موت ثلث الوفيات وقد قدم بعضهم إلى المجمع الطبي الباريزي رسالة يقول فيها أن الكحول هو السبب الرئيسي في عشر الوفيات والسبب المساعد على أكثر من اثنين في العشر الآخر فهو من المجانين سبب هلاك نصفهم وتأثيره في الرجال أكثر منه في النساء. الضرائب والموظفون ترى بعض المجلات الباريزية أن فرنسا إذا ألغت وسام جوقة الشرف توفر عليها ملاً يوازي ما تتقاضاه من الضريبة على الثقاب (عيدان الكبريت) فإن عندها 45 ألفاً يحملون هذا الوسام منهم 30 ألفاً من رجال الجندية يتناول الفرد منهم راتباً يختلف بين 250 إلى 3000 فرنكاً والباقون ملكيون. وقد بلغ عدد الموظفين في فرنسا 870589 موظفاً وقريباً يبلغون المليون فماليتها محتاجة لمئة ألف موظف وحربيتها لمئة وخمسين ألفاً منهم 35 ألفاً من الضباط الموجودين وإدارات البريد والبرق لمئة ألف والمعارف لمائة وثلاثين ألفاً وفي نظارة الخارجية 918. زيت البترول

لم يكثر منذ عشرين سنة من المواد الأولية غير صنف واحد وهو زيت البترول فقد كان محصوله سنة 1888 في العالم أجمع ستة ملايين طن فصار سنة 1897 خمسة عشر مليوناً وارتقى في السنة الماضية إلى ثمانية وعشرين مليوناً ويرجى أن يكون الاعتماد على البترول أكثر من غيره إذا ظلت العناية بالأتوموبيل متوفرة حيناً بعد آخر. أشد البقاع حرارة قالت إحدى المجلات الباريزية أن أشد الأصقاع حرارة في العالم هو مدخل الخليج الفارسي في جزيرة كشم العظمى لا يكاد الإنسان يستطيع أن يسكن هناك لشدة الحرارة إلا أن فيها أناساً مشتتين هنا وهناك لا يكادون يخرجون من أكواخهم المبنية بالطين ويتغذون بالأسماك خاصة ويمكن لسكان تلك البلاد أن يسكنوها من شهر نوفمبر إلى مارس وقد كان أقيم فيها محطة للسلك البحري فترك بعد ذلك لأن جميع المستخدمين قضوا نحبهم حرقاً بالشمس وبعضهم فروا ولكنهم جنوا. وقد جرى البحث في خلال المفاوضات التي جرت مؤخراً بين إنكلترا وروسيا على أن تنشأ فيها إصلاحية إلا أنه لم يتيسر تحقيق هذا الفكر إذ لم يرض أحد أن يحكم على نفسه بالموت في تلك النار المحرقة ولو مهما كانت مشاهرته. الحيوانات البائدة بادت عدة أجناس من الحيوانات في بعض أصقاع الكرة الأرضية بعد أن كانت فيها كثيرة ومن العجيب أن العلماء يبحثون عن الحيوانات النافعة فلا يجدون لها أثراً واختلفت آراؤهم فيما إذا كانت تنسب هذه الإبادة للإنسان أم لفطرة الوجود ومعظمهم على أن للسببين يداً في قرض الحيوانات فقد كان في جزيرة سان توما إحدى جزائر الأرخبيل التابعة للدانيمرك أربعة عشر نوعاً من الأيائل لم يبق منها الآن غلا ثمانية ولم يبق من البائدة غير وصفها الذي وصفها به السائحون إلى تلك الجزر، وقد كان شأن قارة أفريقية من هذا القبيل أتعس من شأن القارات الأربع الأخرى كما كان شأنها في استيلاء الغريب على معظم أصقاعها. فقد كان من أمر الملعب الروماني المدعو كوليزة في رومية أن كانت تعرض فيه الحيوانات الكاسرة خصوصاً فكان بذلك انقراض بعض الأجناس التي كانت في هذه القارة السوداء. أما قارة آسيا فقد نجت حيواناتها أكثر من أفريقية اللهم إلا جنساً واحداً من الحيوانات وهو الفرس الوحشي ذو اللون الشهب. ومنذ عهد شارل الأول لا يرى أثر للخنزير البري ومنذ

سنة 1860 لا يرى أثر للذئب في إيكوسيا وكان آخر ذئب وجد في إيرلاندا منذ ثلاثين سنة. المال في أمريكا اشتدت العسرة المالية في أميركا حتى أقفلت معامل كثيرة وأفلست بيوت تجارية ومالية بالمئات واضطر كثير من الأوروبيين إلى العودة إلى بلادهم حتى بلغ عدد من هاجروا منها في الشهور الأخيرة نحو مليون رجل وقد نسب بعض الاجتماعيين هذه الأزمة لاجتماع رؤوس الأموال في أيدي أفراد وهو ما توفر الرئيس روزفلت في عهد رئاسته الثانية على مكافحته أشد كفاح على ما يظهر لمن يطلع على الجرائد السيارة ويؤخ1ذ في إحصاء جرى سنة 1903 أن إثني عشر في المئة من مجموع ثروة الولايات المتحدة بيد مديري احتكار الفولاذ أو ملوكه فهم يديرون نصف الخطوط الحديدية في أميركا الشمالية ولهم أهم سلك تلغرافي وهم مديرو خمس شركات كبرى للضمان ويملكون كثيراً من المناجم والمقالع وغيرها ويديرون احتكارات يتجاوز رأس مالها التسعة مليارات دولار أي ما يوازي الدين العام في إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة إذا أضيف معاً وهؤلاء المديرون أو المحتكرون هم أربعة وعشرين رجلاً زعيمهم مورغان وهو وركفلر صاحبا القول الفصل ومن أكبر قادة الأموال وهكذا الحال في انضمام السكك الحديدية واحتكارها فقد كان عدد الشركات في الولايات المتحدة سنة 1904 اثني عشر ألف وعشرين شركة فيها 327851 مساهماً منهم ثمانون ألفاً من الأهالي فقط، وفي الولايات المتحدة سبعة آلاف رجل يملك كل فرد منهم زهاء مليون ريال ويدعون أصحاب الملايين. الأعمال في إيطاليا تشكو إيطاليا من دائين كثرة المحامين عندها وقلة المهندسين فقد بلغ طلاب الحقوق فيها هذه السنة نحو عشرة آلاف طالب وطلاب الطب نحو خمسة آلاف وبلغ طلاب الأدب ألفاً وخمسمائة طالب ومثلهم طلاب الهندسة. وتطلب نظارة الأشغال هناك مهندسين وميكانيكيين فلا تجدهم حتى تعطلت هذه السنة بعض المسابقات التي فتحتها لطالبي الدخول لقلة الأكفاء المتعلمين. أفكار في الشقاء

كتب فريدريك باسي الذي عربنا له مقالة القضاء على الشقاء في هذا الجزء مقالة افتتاحية في مجلة الاقتصاد الاجتماعي العامية فآثرنا تعريبها وضمها إلى أختها السالفة بياناً لتفنن الإفرنج في الكتابة في موضوع واحد قال فيها ما ترجمته: يقول علماء الأخلااق المتدينون أن كل شر ينشأ من الخطيئة فهم على سداد إذا أريد بالخطيئة كل ما من شأنه الخروج عن القوانين التي يجري عليها نظام الأخلاق ونظام الماديات في العالم. ومن المحقق أن ثمت شروراً لسنا نحن السبب فيها كالعواصف والزلازل والفيضانات والحرائق والأوباء وآفات الفلك التي تأتي على الغلات وتنقص الثمرات. ومن هذه المصائب الطبيعية ما نستطيع التوقي منه أو من تقليل أثره فينا إلى حد محدود. وأن كثيراً من الحرائق والأمراض وأنواع الهلاك هي نتيجة غفلتنا فإذا لم نستطع أن نعرفها قبل وقوعها ففي وسعنا أن نقلل من تأثيرها إذا ضمننا الضامنون وتعهد لنا المتعهدون فاتقاء الفيضانات يكون على الجملة بإقامة السدود وإصلاح مجاري المياه وتمكن الوقاية من الأنواء بالدخول إلى المرفأ او بالابتعاد عن الشواطئ الخطرة عملاً بما تنقله الأسلاك البرقية والأسلاك البحرية من الأخبار الواجب تصديقها. وتحمي الغلات والثمرات من بوائق الجو بما يعلم من الإشارات التي تؤخذ عن المراصد الجوية المؤذنة بقرب الزعازع وتتقى الأمراض بالامتناع عن التعرض لموجبات العدوى على غير ضرورة. وتتأتى النجاة من معظم أسباب الفاقة والألم إذا صحت عزيمة المرء وقويت إرادته لأن أغلبها صناعي غير طبيعي فالكسل هو الذي يضيع الوقت والفراغ وهو الذي يسيء استعماله ويصرفه فيما لا ينتج وأعظم من ذلك استعماله فيما يؤذي النفس والغير ولا يعود منه فائدة على عامل أخرق جاهل لا نفاذ في بصيرته ولا مضاء في عزيمته فقد يصرف بعضهم في المشروبات الضارة التي تنهك الصحة والعقل بقدر ما يدفعون إلى خزانة الحكومة من الضرائب عن يد وهم صاغرون متململون بل أكثر بكثير. وقد يقضون أوقاتهم وهم يتفرجون على الخيل تعدو مسرعة وهم لا يعرفون منها أعيانها ولا أعيان أصحابها ويحضرون تمثيل روايات أو يستمعون لشتائم وسباب ويصرفون أياماً وليالي كان في وسعها أن يقضوها في عمل مثمر. ترى بعضهم يلقون بما لهم من المضاربات والمراهنات التي كثيراً ما تكون ضرباً من

ضروب السرقات المدبرة. يأتي المرء هذه المنكرات بسائق الجهل ويرمي بنفسه في هذه المهالك التي كان في وسعه اتقاؤها فلا يظلم نفسه فقط بل يظلم المجتمع بما يرتكب من سخف ليس هو إلا اعتداءً عاماً هائلاً يورث تلك المجتمعات التي هو أحد أفرادها ضعفاً في رفاهيتها ونقصاً في ثروتها بل إنهاكاً لقواها ودفناً لحياتها. ليس من العقل في شيء أن يسوق المرء نفسه إلى مواطن الهلاك ويفادي بروحه وروح جيرانه بما يبذله من أحسن موارده المالية وقواه الكثيرة فيروح بعد ذلك ينفق على سعة على الجيوش المؤلفة من شجعان الشبان يرابطون على الحدود ويعهد إليهم أن يطردوا عن تخطيها كل وطني أو غريب يريد دخولها وهو يحمل أطعمة للجائعين وألبسة للعريانين وأدوات وآلات لمن لا سلاح لهم مواد أولية لمن يستخدمونها وسماداً للأراضي التي ضعفت قوة إنباتها ومواد كيماوية للأعمال الصناعية المختلفة. ولو حسن استخدام تلك الساعات الضائعة أو التي تصرف في الباطل والمواد أو الثروة المبددة للقضاء العام على بني الإنسان وبذل ذاك النشاط الكثير ووجهت وجهة العلم نحو الغاية المقدسة التي تطلب من تحسين حالة البشر والبعد بهم عن فساد الأخلاق والتباغض ـ لو تم كل ذلك لما صعب أن يقدّم لعامة من خانهم دهرهم ما يتبلغون به بل ما يصل بهم إلى الرفاهية والاحترام والسعة. نعم ادعُ ما تقدم بما شئت من خطيئة أو جهالة أو جنون فالشر كل الشر الذي ابتلينا به إنما جاءنا من قبل أنفسنا إلا ما حدث بحسب الظاهر قضاء وقدراً ولكن يمكن على الجملة التعديل من حاله أو ما نشأ من البوائق الخارجية التي هي مناط عملنا وبيدنا أمرها. قالوا قديماً أن المرء لا يموت إلا إذا كانت له إرادة في الموت يريدون بذلك إثبات قوة الجهاد الأدبي. الشعوب لا تتألم إلا بسيئات ترتكبها وهي تنزع الشقاء من أساسه متى عرفت أو أرادت أن تقاتله بالفعل. صناعات الملوك رأى بعض ملوك الأرض أن الحكمة تقتضي عليهم بأن يتجروا لأنفسهم ويدخروا المال للطوارئ ولذلك كان مما يملك ملك إنكلترا سكة حديدية في الكندا ولإمبراطور ألمانيا معظم الأسهم في مجلتين تأتيانه بواردات وافرة ولملكة هولاندة مزرعة واسعة في قصرها في لو وللبابا مبالغ جسيمة وضعها في مصرف إنكلترا لحين الحاجة. ولكن بعض ملوك الإسلام

الفولاذ والحديد

كانوا لا يرون أن يتجر الملك ويزارع فكان أدنى فرد في حواشيهم يملك مالاً أكثر منهم لأن هذا من شأن الرعية ومن ملك الرقاب يعاب عليه أن يملك المال والعروض ومن أخذ الممالك لا يجمل به أن ينلك قطعة أرض منها. هكذا كان شأن كثيرين ومنهم صلاح الدين يوسف ونور الدين محمود بن زنكي. وفي التذكرة الحمدونية أنه كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعها وهو واليها فحدثه محمد بن كعب القوطي عن النبي عليه السلام أيما عامل تجر في رعيته هلكت رعيته فأمر بما في السفينة فتصدق بها وفكها وتصدق بخشبها على المساكين. الفولاذ والحديد إذا برد الجو كثيراً ونزلت درجة الحرارة إلى 20 تحت الصفر تقل مقاومة الفولاذ خمسة أسداس ما كانت عليه من قبل وقد ثبت في الجليد الأخير أنه تتحطم الخطوط في السكك الحديدية والتراموايات فيتكسر الحديد المصفح كما يتكسر الزجاج ولا سبيل إلى ملاقاة ذلك إلا بإحماء الخطوط كأن يصب عليها ماء حار للغاية وإلا كانت حياة الركاب في القطارات التي تمر بعد ذلك عليها في خطر مبين. مضار التدخين ثبت أن الدخان أو التدخين يضر بالنساء أكثر من ضرره بالرجال ولاسيما في أبان حملهن وحبلهن فكثيراً ما كان بعضهن يسقطن الحمل من رائحة الدخان حتى ن بعض النساء المستخدمات في معامل الدخان كن يسقطن حملهن قبل الأوان وإذا ولدن فلا يولدن إلا أولاداً مشوهة صورهم وكثيراً ما يموتون صغاراً جداً قبل غيرهم من الأولاد قال العالمان اللذان أثبتا ذلك وعلى هذا فيجب على الأطباء أن ينبهوا الحبالى ألا يدعن أثناء الحمل إن كن ممن يدخن. فقر الشعراء مات في لندرا منذ ثلاثة أشهر في مستشفى المجاذيب شاعر اسمه فرنسيس طومسون كانت حياته على أدب فيه أشبه بالشاعرين جيلبر الفرنسوي وشاترتون الإنكليزي فقد كان أبوه طبيباً في منشستر فأراد أن ينصرف لتعاطي الكتابة وقد تخلى عنه أبواه فعاش في لندن

عيشة ضنكى فتعاطى أولاً بيع الثقاب (عيدان الكبريت) ثم صار بواباً ثم خادماً في أبواب دور التمثيل وقد عزم ذات ليلة أن يسمم نفسه إلا أنه ذكر قصة شاترتون الشاعر الذي سمم نفسه وما جرى له فعدل عن ذلك ولم يعلم أن السعادة كانت في انتظاره في الغد وقد تناول جائزة عن قصيدة نشرتها مجلة إنكليزية وبعثت له بها وبعد ذلك أخذ يكتب وينظم ونظم أغنية سماها غروب الشمس لم ينظم أحسن منها منذ عهد شيلي كما قال بذلك كبار النقاد إلا أن عقله قد أصيب بشيء من الخلل فقضى في مستشفى المجاذيب. وبعد هذا فلا يحسبن أحدٌ أن جميع الشعراء والكتاب ينامون في الغرب على فرش من ورد كما يقول الفرنسيس بل طالما أقض مضجعهم وخوى مربعهم. العملة كتب أحدهم في مجلة إنكليزية أن العملة يزداد اتحادهم في القيام على أرباب الأموال في الغرب فالنازعون إلى هذه الثورة هم ثلاثة ملايين عامل في ألمانيا ومليون في فرنسا وثمانمائة ألف في النمسا وأربعمائة ألف في روسيا وثلثمائة ألف في البلجيك ومائتان وخمسون ألفاً في إيطاليا ومائة ألف في إنكلترا ومئة ألف في سويسرا وخمسة وثلاثون ألفاً في الدانيمرك وخمسون ألفاً في السويد وأربعون ألفاً في هولاندة وثلاثون ألفاً في إسبانيا. الكبراء وما يشربون طلب أحد كتاب الفرنسيس إلى كبار كتاب بلاده وعلمائها وشعرائها والمتفننين فيها يسألهم ما يعولون عليه من المشروبات فكان معظمهم على أن الماء هو خير ما يتعاطاه الإنسان وقد نشرت المجلة الباريزية أجوبتهم فجاء في اجوبة العازفين عن المشروبات الروحية كلمات حري بكل شرقي يقلد الغربيين فيما يشكون منه في العادات أن يعتبر به فمن لا يتعاطون الكحول إلا في الندر: جول كلارسي فهو لا يرى أنها تفيد في فتح القرائح وتوقد شعلة الذكاء كما يدعي من يتعاطون المسكرات ومثله أرنست هربرت وكاميل فلاماريون وأميل زولا وسولي برودوم وماسنيه وجول لميتر وهنري لافدان وفيكتورين ساردو وموريس بولينا وبول بورجه وأدمون هاركور ودالو وبول وفيكتور مارغريت وبنيامين كونستان وبيرلوتي وأوجين كاريير وأميل أوليفييه. ويكاد أن يكونوا كلهم مجمعين على أن الكحول مضر حتى القليل منه والأحسن الامتناع عنه دفعة واحدة.

الصينيون واليابانيون كتب أحدهم في بعض المجلات الإفرنجية الكبرى مقالة قابل بها بين الصينيين واليابانيين فقال أنهم ليسوا من عنصر واحد فالأول من عنصر مغولي والآخرون من عنصر ماليزي واختلافهم في الأصول كان سبب اختلافهم في الفروع أي العادات والأخلاق وكان من اليابانيين أن تحرروا من قيودهم وقبلوا المدنية العربية لأنه لم يكن لهم مدنية أما الصينيون فهم ما زالوا يتناغون بمدنيتهم ويعتمدون على قوتهم ولهم من معتقداتهم ما يتفانون معه في الخضوع للكبير والفناء فيه. ومن القواعد المتبعة في شريعة كونفشيوس أن تكون الشفقة الأخوية أساس كل عمل فالشفقة تجمع بين الأب وأولاده والشفقة تربط بين الملك ورعيته والشفقة تجمع بين الزوج وزوجته والشيخ والفتى والصاحب وصاحبه. والصينيون يرضون بالقليل ضعاف الإرادة لا شجاعة فيهم ولا يحبون أن يلقوا بأنفسهم في المخاطر والمخاوف ولئن أخذوا الآن يعملون في تقليد الأوروبيين في الجندية فإن أمر تشبههم بالأوروبيين يطول ويصعب دخول المدنية الغربية عليهم. وعلى العكس في اليابانيين فإنهم من عنصر منوع فكرياً يفكر الياباني فيما تعرضه عليه من الأفكار ويحاول أن ينقل عنك ما يليق بالمتمدنين أن يعملوه من العادات والأخلاق والأفكار وهو يتروى في كلامه فيزنه في ميزان التعقل ولا سيما أمام الغريب عن جنسه واليابانيون ليسوا خفافاً في حركاتهم فلا ييأسون ولا تسمع لهم صوت تألم وقد يموت الياباني ولا تسمع له ركزاً بل تراه باسماً والرضا هو أساس طبيعته ولا ترى الياباني متجبراً غضوباً وإذا غضب فلا يغضب إلا عن سبب قوي جداً ولا يهرق في سيبيل غضبه دماً. ولئن أخذ بعض العملة في بلاد اليابان يعتصبون الآن إلا أن اعتصابهم ليس كاعتصاب العملة الأوربيين قد يؤدي إلى الخصام وتجريد الحسام بل أنه ينفض في يومه. الياباني فرح مسرور في حاله يعتاد كل عيش مهما كان فيه من الشظف والقلة والتعب والنصب هذا ولا يفوته أن هناك مطالب سامية وعيشة راضية أكثر مما هو فيه ولا ترى الياباني ينتحر من أجل شيء إلا إذا أصيب بما يثلم شرفه فيختار أن ينتحر على صورة لا يسمع به أحد. واعتقاد اليابانيين بتناسخ الأرواح هو سبب غلبتهم الروس في كوريا ومنشوريا والتناسخ عندهم بعد موت الإنسان يكون على ست صور فإذا كان الميت ممن

عاش في تقى في الحياة الدنيا تنتقل روحه أو تتقمص في جسم أمير أو شريف أو رئيس أو وزير وإذا لم تكن سيرته حسنة في الدنيا تتقمص روحه في أجسام أيامى ويتامى وعميان وعجزة وإذا كان رجلاً شريراً تتقمص روحه في جسم حصان أو حمار أو دابة تكفيراً عن سيئاته وإذا كان بين بين في الشر والخير يتقمص كالطيور الداجنة أو سمكاً أو غيره من حيوانات الماء أو هواماً وحشرات. المطبوعات الاشتراكية للاشتراكيين جرائد ومجلات في عامة مدن أوروبا وأميركا ودعوتهم ما برحت في انتشار متزايد سنة عن سنة حتى أن جريدة من جرائدهم اسمها الدعوة إلى العقل في مدينة جيرارد من أعمال الكنساس في أميركا قد بلغ المطبوع منها كل يوم 350 ألفاً فأصبحت أكثر الجرائد الاشتراكية انتشاراً وقد أسست سنة 1895 ولا تزال في نمو. نفقات الجيوش زار أحد قواد الأميركان بلاد الألمان والفرنسيس وحضر مناورات الجيوش فعاد يقول لأمته أن جيشها من أضحك جيوش العالم أكثرها نفقة وأقلها فائدة قال: خمسمائة ألف جندي فرنسوي يكلفون أمتهم في السنة خمسمائة مليون فرنك وستمائة ألف جندي ألماني يكلفون حكومتهم خمسمائة وخمسين مليون فرنك وستون ألف جندي أميركاني يكلفون الولايات المتحدة أربعمائة مليون فرنك وإذا أضيف إلى ذلك ما تنفقه أميركا في الشؤون العسكرية الأخرى يبلغ سبعمائة مليون مسانهة. تنفق كل هذا من أجل جيش يبلغ معدل من يفرون منه في السنة ستة آلاف جندي. نساء أميركا يؤخذ من إحصاء سنة 1900 أن النساء في الولايات المتحدة أقل من الرجال فقد كن 33 مليون امرأة مقابل 34 مليوناً وثلثمائة ألف رجل وأن نحو خمسة ملايين ونصف من النساء يضطررن إلى الكدح لمعاشهن وأن عدد العاملين من الرجال 23 مليوناً وبلغ النساء هناك نحو نصف الرجال في معاطاة الأشغال العقلية فهن 430 ألفاً لقاء 820 ألفاً من الرجال وعدد المعلمات منهن ثلاثة أضعاف عدد المعلمين فهناك 27 ألف معلم و115 ألف معلمة والقاعدة العامة في المدارس الأميركية تربية البنين مع النبات.

محصول النحاس كان النحاس غالي الثمن في السنة الماضية وقد زاد محصوله ثلاثة أضعاف ما كان عليه منذ عشرين سنة فصار سنة 1906، 700 ألف طن بعد أن كان سنة 1886، 217 ألف طن كما أن استعماله في الأمور الصناعية كثر على تلك النسبة على أن بعض مناجمه كادت تنضب مادتها منه فكانت قديماً كورنوايل في إنكلترا تصدر أكبر كمية من النحاس أما الآن فالولايات المتحدة هي أكبر مصدرة له وكذلك المكسيك وبيرو أما مناجم إسبانيا فإنها إلى الضعف. صنع الألبان تبين أن الطريقة المستعملة في بلادنا لصنع الجبن والسمن من الألبان المختلفة قد تخلصت منها بلاد الغرب كل الخلاص بفضل الأدوات الجديدة فلم يبق أحد هناك يعاني الألبان كما يعانيها فلاحنا وراعينا بيده ويد ذويه. الجرائد الأميركية ذكروا أن عدد الصحف الأسبوعية في الولايات المتحدة بلغت الخمس والعشرين سنة الأخيرة مبلغاً من الارتقاء لم يسمع به فمنها ما يباع بقرش واحد ولا يكون أقل من مئة صفحة كبيرة حوت ضروب الإعلانات كل غريب وكل ما يهم القارئ معرفته من أخبار البورصة والفضائح والهذر والإفادات العالمية والحوادث المنوعة محلية كانت أو خارجية والقصص والصور الهزلية وألعاب الأولاد وصفحات تقطع لتكون كتباً فهي غذاء رواح الملايين من الناس وكثيراً ما تملأ بالسخيف ولكن الأمة ترغب فيها وتجعلها سمرها ولذتها. الإنسان والمحيط رأت إحدى المجلات الروسية أن حالة الإنسان آخذة بالتعدل في كل مكان بفضل أساليب الارتقاء التي تكاد تكون متحدة في الأمم حتى أن أهل البلد الواحد يقلُّ بينهم الشبه إذا تعاطوا صناعات مختلفة بخلاف ما يكثر الشبه بين أهل البلاد المتنائية ممن يتعاطون أعمالاً متشابهة فلذلك تجد رجال الطب والمحاماة في إنكلترا وألمانيا وفرنسا يشبه بعضهم بعضاً في منازعهم وعيشهم أكثر مما يشبه الإنكليزي الإنكليزي والألماني الألماني

والفرنسوي الفرنسوي وهي ترجو أن يجيء على العالم زمن أحسن من هذا تنتشر فيه الحضارة في جميع أنحاء الأرض فترتفع من بين أهلها العداوة والبغضاء والإنسان ابن محيطه لا ابن طبيعته. خزانة أديسون أهم ما أعلنه أديسون مخترع الفونوغراف أنه وفق إلى اختراع خزان للكهربائية سيوضع عن قريب موضع العمل فيغير نظام المواصلات الكهربائية لأنه يرخص سعرها بنقلها من ممكلة إلى اخرى ويقول أهل العلم أن عجلات الأتوموبيل ستقل أثمانها فيتيسر لأهل الطبقة الوسطى أو الدنيا أن يقتنوها ويركبوها وهكذا أقسم العلم أن يسوي بين طبقات الناس في الاستمتاع بملاذ هذا الوجود ومنافعه. مطبوعاتنا في أميركا يسرنا أن نبشر القراء أن علماء المشرقيات من الأميركان أخذوا في العد الأخير يعنون بطبع مؤلفات العرب فقد طبع ريشاردس كوتهيل أحد أساتذة كلية كولومبيا في نيويورك كتاب تاريخ قضاة مصر تأليف أبي عمر محمد بن يوسف ابن يعقوب الكندي مع شروح لأبي الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن برد عن نسخة وجدت في المتحف البريطاني وهو في 150 صفحة وثمنه ثمانية فرنكات. الفحم الحجري نشرت إحصائية المجلس التجاري في أنفرس إحصاء بحاصلات الفحم الحجري في العالم من سنة 1850 إلى سنة 1906 فدلت على أن محصوله كان في منتصف القرن الماضي 89881357 طناً وما برح ينمو حتى بلغ سنة 1906، 1893249557 طناً أي أنه زاد عشرة أضعاف عما كان يستخرج من الولايات المتحدة 375397000 طن وتجيء بعدها بريطانيا العظمى فتستخرج 25105000 ثم ألمانيا تخرج 136480000 ثم فرنسا فالبلجيك. مقاومة السكيرين سويسرا من أكثر البلاد الأوروبية مقاومة للمسكرات ومما رآه الأستاذ فوريل أحد أطباء

المجاذيب فيها لمقاومة السكيرين وتحقيرهم أن تجعل إدارة السكك الحديدية مساء كل أحد مركبة أو مركبتين تكتب عليهما (للركاب السكارى) فكل من شوهد أنه سكران أو شرب مسكراً يدعى إلى الجلوس في تينك المركبتين إن أراد السفر وهي طريقة تندى لها وجوه من لهم إحساس من الركاب الذي يتعاطون المسكرات فيقلعون عنها. سكة حديد بغداد كثر الباحثون في هذه السكة ومستقبلها وجلهم يحسنون الظن بها ويعلقون الآمال الواسعة على ما سيتم من العمران في البلاد التي تجتازها. وهذا الخط هو أعظم خط حديد أنشيء في البلاد العثمانية بل أهم خط قام لأنه يربط أقصى المملكة بأقصاها ويمر في أصقاع كان لها مجد قديم وحضارة زاخرة وطوله ألفان وثمانمائة كيلومتر ويكلف خمسمائة مليون فرنك أو أمكثر ويقتضي له العمال والأعمال والأدوات والآلات الجسور والقاطرات وغيرها ما لا يكاد يقع عليه الحصر ويتيسر أن تقطع المسافة بين الأستانة وبغداد في خمسة أيام وهي الآن لا تكاد تقطع في خمسين يوماً لراكب المطايا. يقولون أن بلاد بابل وآشور ستحيا بعد مواتها بهذا الخط الحديدي وأن آسيا الصغرى سيرجع لها ما فقدته من أسباب العمران وسيكون من العراق مصر جديدة تزرع القطن والحنطة على شطوط الرافدين ودجلة والفرات فتخسر بذلك مصر بعض وارداتها ولاسيما أن السكة البغدادية ستتولى نقل البريد إلى الهند وتختصر الطريق من البحر فتفقد السويس بعض مكانتها لأن البريد الهندي ينقل عن طريق الأستانة فبغداد فالكويت فبمباي في عشرة أيام وهو الآن لا ينقل من طريق السويس بأقل من أربعة عشر يوماً. وتقول مجلة العالمين أن مخبآت مدينة هارون الرشيد وما يروى عنها من الأقاصيص الشعرية ويجري في مخيلات العامة من ذكرى عظمتها الغريبة على عهد الخلفاء ومساجدها العربية ذات القباب والتيجان وأسواقها وفنادقها ـ كل ذلك أثر في عقول كبار ملتزمي مد هذا الخط الحديدي فحلموا بتمديده إلى بغداد وما أكثر المطامع التي أخرجت هذا المشروع من القوة إلى الفعل. وقد نشأت فكرة الملاحة في نهر الفرات وربط الهند ببغداد منذ ستين سنة فنالت شركة إنكليزية سنة 1851 امتيازاً بإنشاء خط حديدي من السويدية أي سيلوسيا القديمة في خليج الإسكندرونة إلى الكويت على الخليج الفارسي وإذ لم تحصل على رهن

للضمانات الكيلومترية سقط امتيازها. وفي سنة 1872 عاد مشروع سكة السويدية والكويت إلى الحياة وقدرت نفقاته بعشرة ملايين جنيه وطوله بألف وأربعمائة كيلومتر ولكن قلة ما في طريقة من البلاد العامرة التي يرجى الانتفاع منها صرفت القلوب عنه. وتحدث الناس في لندن بعد فتح ترعة السويس أن تربط الإسماعيلية بالكويت بخط حديدي يمر بصحارى بلاد العرب وكان هذا الفكر من الأحلام ولا يبعد أن يتحقق أمره بعد زمن. وحاولت روسيا أن تمد سكة من طرابلس الشام إلى الكويت مع إنشاء ناشطة (فرع) منها إلى كربلا بحيث يجتاز بادية الشام وطوله ثمانمائة كيلومتر فسقطت أماني الشركة التي تألفت بطبيعة الحال ثم تعاقب نيل الامتيازات في آسيا الوسطى فأنشأت شكرة إنكليزية سنة 1856 سكة حديد أزمير ـ دينار وقامت بعدها شركة إنكليزي أخرى فنشأت سكة حديد أزمير ـ قصبة وهي ساردس عاصمة كيريزوس ثم امتدت إلى مدينة الأشهر وتعاقبت الشركات الفرنسوية والبلجيكية والعثمانية في الأناضول والروم إيلي. ولقد شبه بعضهم البلاد التي مر بها خط إسكي شهر ـ قونية بمضايق سويسرا إذ ضل فيها الصليبيون بزعامة غودفري دي بوليون وقاسوا الأمرين من الجوع والعطش ولذلك تحامى الدخول فيها كونراد الثالث أحد ملوك الصليبيين من الألمان وفريدريك الأول الألماني الملقب ببربروس وقيل أنهما خفا إلى الخروج منها. فمشروع السكة البغدادية اليوم ألماني وفي ألمانيا نشأ وكبر حتى أخرج من القوة إلى الفعل ولا سيما بعد أن كثرت صنائع الألمان وصادراتهم وهم يلوبون على مصرف يصرفونها فيه فنظروا ذات اليمين وذات الشمال فلم يروا أحسن من هذه البلاد وخصوصاً وقد نالت الشركة احتكار مخازنها ومستودعاتها والانتفاع بالشلالات والمعامل الكهربائية والمناتجم المختلفة على طول هذه السكة وما يتفرع منها على مسيرة عشرين كيلومترً من كل جهة عن يمين الطريق وشماله. فاستفاد التجار الألمان وسيستفيدون من هذا الخط كثيراً لأن الأقطار التي سيجتازها ما زالت بكراًُ لم تمس فآسيا الصغرى لم تستثمر إلا من جهتها الغربية على يد شركات إنكليزية وفرنسوية. أما أرمينية وبين النهرين والعرق فإنها لم يدخلها إلى الآن غير علماء الآثار فقط وما أشبه آسيا الصغرى ببلاد إسبانيا فهي محاطة بجبال شاهقة وحيث يقل

المطر فهناك القفر. والسكان بادية رحالة يقتاتون بمواشيهم وينتجعون لها الكلأ فهذه القطعة من تلك البلاد هي أشبه بمملكة قشتالة لقلة خصبها وأمراعها ولكنك ترى فيما يحيط بتلك الشبه جزيرة في سفوح تلك الجبال وما يتخللها حيث تنساب المياه على أعلى قمم الأطواد وتتحلل من ثلوجها الحدائق الغلب والحقول العامرة بالذرة والحنطة والشعير والكرمة والرمان والزيتون والبرتقال والنخيل فهذه البلاد أشبه ببلاد الأندلس. ولقد عرف الرومان واليونان أن يحسنوا الانتفاع من تلك الأصقاع الغنية قديماً وسيكون من نصيب الخط البغدادي اليوم أن يعيد إليها بهاؤها فهو سيجتاز مملكة كريزوس أي قونية وقيصرية وأرغلي وما دامت البلاد قريبة من الساحل فبشرها بالرخاء وبشر حاصلاتها بالتصريف وكلما بعدت عنه فهناك الشقاء المبين. ومنذ سنين كنا نسمع بأن بعض العمال يحرقون الحنطة التي يأخذونها عشوراً لأنهم لم يجدوا سبيلاً على نقلها إلى البلاد التي تحتاج إليها وكذلك قل عن الفلاحين وزهدهم فيما تخرج أرضهم من الغلات والثمار بعد أن يفيض عنهم أضعاف أضعاف ما يلزمهم. هذا ما كان من آسيا الصغرى أما بلاد أرمينية وآشور وبابل فستحيا حياة طيبة بعد أن حربت منذ خمسة آلاف سنة وزيادة وبعد أن دام عمرانها الغريب ثلاثة آلاف سنة فعدت من أعظم الممالك تمدناً وحضارة. هذا وشمس تلك البلاد شمسها ومياهها مياهها وارضها أرضها. والبلاد من حلب إلى الموصل ينبت فيها القطن وفي الموصل كان يعمل الشاش الرفيع وإليها نسب اسمه الغربيون كما نسبوا اسم الدمقس عندهم إلى دمشق. وقال بعض الباحثين في هذا الخط أن العراق كان على عهد العباسيين يغل عشرة ملايين طن من الحنطة ويطعم ستة ملايين من السكان وليس فيه اليوم أكثر من نصف مليون نسمة يعيشون في مسكنة وأن السكة البغدادية ستضمن الأمن والتجارة في تلك الربوع فتعود غليها حياتها السالفة وتكون بقطنها ونخيلها وحبوبها مصراً ثانية وتستثمر مناجم الحمر الموجودة على الضفة الشمالية من دجلة في سفوح سلاسل جبال فارس ومنابع زيت البترول التي يعبث بها الآهلون فيوقدون فيها النار للتسلية إذا مر بهم سائح عظيم ويقتضي ذلك عشرين سنة من الزمن فيأتي الماليون بأموالهم ليستثمروها في تلك البلاد كما استثمروها في عبر القافقاس وتركستان وإسبانيا ومصر وتأتي البضائع الألمانية لتصرف

على أهل تلك البلاد وينهال علماء الألمان للبحث عن آثارها وعظمتها ويخلدون لأمتهم من المفاخر مثل ما خلد ماريت وشامبليون الفرنسويان في مصر من الآثاؤ والمحامد. إن الألمان في مدهم الخط الحديدي في بلاد يكاد يكون أكثرها خراباً الآن قد تعلموا بما استفادوه من دروس ملوك السكك الحديدية في الولايات المتحدة أمثال فندربلت وهاريمان ممن أثبتا لأوروبا بأن السكة الحديدية ولو مدت في قفر تكفي لأن تحيله روضاً ممرعاً آهلاً بالسكان وآية من آيات العمران. قدر العمر تحت هذا العنوان نشرت مجلة الحياة البيتية الفرنسوية مقالة لطيفة قالت فيها ما تعريبه: قال طبيب إنكليزي اسمه أوسلر منذ عهد ليس ببعيد في خطاب فاه به أمام طلاب إحدى المدارس الجامعة في أميركا رأياً أحدث بعض الهياج في الأفكار وهو أن الرجل إذا بلغ سن الأربعين يقل الانتفاع به على الجملة وإنا لو تأملنا مجموع الاكتشافات والأعمال البشرية وأسقطنا منها ما تم للناس بعد بلوغ هذه السن لتجلى لنا أن عمل الناس بعد الأربعين لا يعد شيئاً مذكوراً. فالعظائم قام بها العظام قبل أن يتجاوزوا الأربعين من أعمارهم والعمر الحقيقي الذي ينتج فيه المرء ويبني به المجد هو ولا جرم بين الخامسة والعشرين إلى الأربعين وإن المرء إذا جاوز الستين ينقطع عمله ولا يستفاد منه بتة. قال وقد نرى من بلغوا هذه السن من الأمم الراقية يعهد إليهم بإدارة الحياة السياسية والتجارية أو الصناعية ولكنهم قلما أغنوا الغناء المطلوب وأثمروا ثمرة جنية. على أن بعض المناصب قد يعهد بها إلى أناس من أبناء الستين ولو وسدت إلى أقل منهم سناً لحسن أثرها أكثر ولكن أناساً كثيرين أتوا بعد الستين من جلائل الأعمال ما هو من مفاخر الدهر أمثال غلادستون وبسمرك ومولتكه. وبديهي أن ذلك لا يثبت أن أعمال الشيوخ أرقى من الرجال الذين استكملوا قوتهم وفي ذلك ما يدل على أن الرجل قد ينيف على الستين وهو حافظ لقواه العقلية في معاناة المطالب العالية. لا جرم أن دعوى الأستاذ أوسلر منقوضة برجال جاؤوا والنفع تم على أيديهم بعد أن شابوا ووهن العظم منهم. ومن هذه الفئة كانت ملك الفلاسفة فإنه لما نشر كتابه (فقد العقل المحض) كان ابن سبع وخمسين سنة ولو صحت قضية أوسلر لكان كانت معدوداً في

الغابرين منذ سبع عشرة سنة. ومن المحقق أن كانت قضى حياته كلها في التأمل بفلسفته وليس ثمت دليل على أنه قضى عمرها بعد سن الأربعين منقطعاً عن كل عمل ولا يتأتى أن ندعي أن كانت لو مات في الأربعين لما خسر العالم بموته شيئاً من كتاباته. وإذا بحثنا في حياة لابلاس الفلكي فإنا نجده قد قال رأيه في نظام العالم حوالي سن الخمسين ولم ينجره إلا عندما أناف على السبعين. وكذلك الحال في حياة ليل العالم بطبقات الأرض مجدد هذا العلم فإنا نراه قد أتم معظم أعماله بعد سن الأربعين ولم يتخلص من قيود تقليد ما تعلم غلا بعد أن جاوزت سنة الربعين ودخل في دور التجديد. وهكذا قل في داروين فإنه لما بلغ التاسعة والأربعين لم يكن قد أتى غير البحث وجمع الحوادث ففي سن الخمسين طتب كتابه (صل الأنواع) وكلنا نعلم أنه نشر أهم أعماله من سن الخمسين إلى السبعين وكان عمره اثنتين وستين سنة عندما كتب كتابه (أصل الإنسان) ويصدق على هربرت سبنسر ما يصدق على داروين في قوة العقل في الشيخ وقتها في الكهل والشاب أو أكثر فقد بلبغ الحكيم الأربعين من عمره ولم يعمل غير استعداد لما يريد القيام به وهو لا يهتدي إلى السبيل المؤدية إليه. أتت عليه أربعون سنة وهو لم يرسم (فلسفته التأليفية) إلا رسماً خفيفاً وفي الثانية والأربعين نشر المبادئ الأولية وفي الثانية والخمسين نشر مبادئ علم النفس وفي السادسة والخمسين نشر كتابه (علم الاجتماع) وفي الحادية والستين نشر كتاب (العدل) ولما أتم أعماله كانت قد بلغت سنه الثمانين. وذا تخطينا رجال العلم والحكمة إلى النظر في تراجم الساسة وأرباب الرجل نجد كثيراً أمثال بسمارك وتيرس بل وفرنطكلين الذي خدم بلاده في السبعين من عمره وكان سبباً في تأسيس الوحدة الأميركية كما نجد خريستوف كولمب قد اكتشف أميركا في السادسة والخمسين من عمره وطاف ماجلان حول الأرض وهو في التاسعة والربعين ولعل صاحب تلك الدعوى يقول أنه لو كان غير هؤلاء واصغر منهم سناً مكانهم لعمل عملهم ولكن من الثابت أن من كانوا قبلهم وعلى عهدهم أصغر منهم عمراً ولم يأتوا ما أتوا. ولا يفوتنا هنا ذكر العالم الألماني هومبولد فإنه كتب أهم كبته (الكوسموس) وهو في السادسة والسبعين ولو صح قول الأستاذ المشار إليه لكان هومبولد منذ 36 سنة قليل الفائدة على الجملة. وقليل في أسفار العلماء يحوي ما حواه كتاب هومبولد من بعد النظر وسعة

المدارك. وكذلك كان شأن كيتي فإنه كان ينيف على الستين عندما رسم نظريته في الألوان وفي الخامسة والستين انصرف إلى أعمال علمية ولم يكن يعانيها من قبل وبرَّز فيها وكان في الثمانين عندما أنجز كتابه (فوست) وأحسن فصوله ما كتبه في آخر أمره. ومن جملة علماء الموسيقى وانيير الألماني فإنه لم يبلغ قمم مجده إلا في الخمسين ومعظم كتبه النافعة نشرها بعد الستين وكذلك الحال في هايدن الموسيقي الألماني وهاندل وفيكتور هوغو كان في الخمسين غيره قبلها وكذلك باستور. وبهذا رأيت أن رأي الأستاذ أوسلبر لا يخلو من غرابة كان فيه بعض الحق. فالأمر موقوف على نوع العمل الذي يُعمل والصفات التي يحرزها العامل. ومن الثابت أن كثيرين يعجلون كثيراً في الانقطاع عن تنمية قوتهم العقلية ويدخلون في مضمار فيعلمون في الحال ما يلزم له دون أن يتمكنوا من زيادة شيء يذكر بعد ذلك فهؤلاء هم من الفئة التي يعجل لها قلة الفائدة. ولكن الرجال الذين يثابرون على التعلم إلى الخمسين أو الستين ويظلون يبحثون ويوجدون الحقائق أو يخزنون الأفكار والقضايا وينسقون وضعها ـ الرجال الذين لا ينفكون عن تنمية عقولهم على الدهر بما يعانونه من الأعمال التي تستدعي اهتمام الذهن وانصراف القلب هؤلاء يدوم أمد الانتفاع بهم ولو بلغوا أرذل العلم وكثيراً ما يتأخرون في الإبداع والإيجاد إلى الربعين والخمسين ويظلون يبدعون إلى خاتمة أعمارهم أي السبعين والثمانين. وما رأيناه من أعمال بسمرك وغلادستون ومولتكه في تغيير حال السياسة في أيامهم أكبر دليل على أن المعمرين ليسوا بنتائج عقولهم دون من لم يعمروا مثلهم في النشاط والفضل وأن الشيوخ لا يلزمون بيوتهم بدون استثناء ويجلسون إلى مواقد النار للدفء وقضاء الوقت في التسلية.

نفاضة الجراب

نفاضة الجراب ويل للمطففين قامت مدينة أييري التجارية الصغيرة في جزيرة أيسلاندا في مكان بهيج على لسان من اليابسة يدخل في البحر ويتمثل للأعين ضيقاً يكتنفه من التلعات والمنحدرات العالية ولم يكن في هذه المدينة قديماً غير محل تجاري واحد وجواز تجاري صادر عن ملك الدانيمرك وهذا المحل يعرف من النظر إليه لأول وهلة. والمعروف في تلك البلاد أنه ملك رجل اسمه كريمور أنشأ هذا البيت التجاري في دار قديمة العهد على ما تشهد بذلك أعلامها وراياتها وكانت تمتاز بقلة ارتفاع حوائطها المتناسبة مع علو السقوف وكان في الشبابيك السفلى ألواح صغيرة من الزجاج وفي الطبقة العليا غرف صغيرة وزوايا صغرى كأن الظلمة من مميزاتها. أما الآن فإن كريمور التاجر كان قد شاخ وابيضت لحيته كلها وكان ابن زهاء سبعين سنة ولكنه لم يكن في الحقيقة يعرف عمره على وجه الصحة إذ قد مضى عليه زمن طويل وهو لا يحسب أيامه وأعوامه لأنه قضى حياته في حساب أمور أخرى أهم في نظره من غيرها. مضى عليه نحو نصف قرن عندما فتح مخازنه في آييري ولم يصرف ساعة من هذا الزمن إلا في ادخار المال بكل الوسائط وكان ذلك من السهل عليه إذ لم يكن ثمة أحد يباريه في تجارته بل لم يخطر على بال أحد أن يناهضه. وتعاقب جيلان من الناس بدون أن يحاول فرد فذ أن يقيم في تلك البلدة لينازعه في زبنة (زبائنة). فكان وحده مستأثراً بحلواء الأرباح عرف من أين تؤكل كل الكتف فلم يراع في جميع أعماله إلا مصلحة نفسه فكان الحاكم المتحكم في مدينته يقنن قوانينها ويتصرف بحلوها ومرها. فكل شيء يباع في محلة بضعفي قيمته أو بثلاثة أضعاف والبضائع التي يبيعها من الناس تساوي ثلاثة أضعاف أقل مما تساوي في أي محل من المحال التجارية في أيسلاندا وكان مع هذا لا تأنف نفسه من غش زبنه في كمية البضائع وكيفيتها ويتقاضى عند الحساب ثمن بضائع لم يبعها ولا استلمها المبتاع. ولذلك لم يكن مما يدعو إلى العجب أن تقل البركة في آييري وضواحيها ولا يجد أهلها فلاحاً. كل ذلك وكريمور لا يهتم لما يجني

على الناس ويكفيه على الدوام أن يزيد أعماله وأرباحه. وبديهي أن كريمور لم يكن محبوباً في بلدة آييري إذ كان زبنه يعرفون كيف يعاملهم قبل أن يدخلوا مخازنه التي كانت قطعة من جهنم. ولقد شكا الناس كلهم من حاله إلا أن الفقراء كانوا أحق بالرثاء من غيرهم من السكان. وزد على ذلك فإن كريمور تولى منذ زمن طويل زمام جمعية الإحسان العام وأصبح يجز صوف الفقراء ويختلس الأموال المجموعة لإعالتهم والإدرار عليهم حتى لقد شاع على الألسن بأن ليس في آييري بائس يلجأ إليه إلا ويرجع من لدنه أفقر مما أتاه وكان من مبدأ كريمور أن الفقر مفسدة أبداً وأن المحاويج كلهم من الكسالى والمسرفين وكل من يطلب معونته يعامله أسوأ معاملة فلا يعود إليه بعدها مهما برحت به تباريح الفقر المدقع. ومن أخباره أن بعض البائسين مدوا أيديهم إليه يستنجدون نواله فضربهم عليها ضربة كسرها وبقي أثر الكسر بادياً عليها. بيد أن المضروبين ما قط شكوا أمرهم لأحد. وذلك لما وقر في نفوسهم من أن دعواهم عليه لا تسمع لأنه غني وتجارته ناجحة. فالقضاء إن لم يكن له فلا يكون عليه من أجل مظهره. ومما لا شك فيه أن كريمور كان آية في نشاطه لا ينازعه في ذلك منازع يعمل حتى يكاد يتصبب عرقاً كما يعمل الوحش الضاري وقد قبض بكلتا يديه على فريسته. فيباكر بكور الزاجر إلى مخزنه قبل جميع مستخدميه ويخرج منه بعدهم كلهم ويتعب تعباً لا مزيد عليه بحيث لو جمع تعبه وقيس بتعب بضعة أفراد من مستخدميه لرجح تعبه لات محالة. فكان يضع بيده المعاجين ويكيل بيده الخمر ويزن القهوة ويخاطب الفلاحين ويمسك دفاتره بيده ليقيد فيها ولم يكن بحاجة إلى التقييد والحساب لأنه يأخذ ما يشاء وهو لم يتعلم ولا يحسن الكتابة إلا قليلاً. ولا يمنعه ذلك من أن يضع بيده الصوف والشحم في ميزان ويدفعه بيده قليلاً ليرجح ومن العادة أن يطالب المبتاع أن يحسن الكيل والوزن ولكنه إذا طالب بذلك يضحك منه كريمور ويجيبه باسماً رافعاً كتفيه أو مردداً بعض الألفاظ، فإذا ذهب الزبون يلتفت كريمور إلى مستخدميه ويوعز إليهم أن يستعملوا الكيل والميزان كما يستعملهما هو ويريدهم على أن يطففوا ويتلاعبوا ويقول لهم أن مهارتهم في ذلك متوقفة على حسن التخلص بلباقة. ومع هذا فقد كان قاسياً من وراء الغاية في معاملة مستخدميه وقد يقعد أحد منهم عنده زمناً مع أنه من الصعب إيجاد تجار آخرين يخدمونهم إذا خرجوا من محله وما

كان يناديهم بغير الفظاظة والألفاظ الفجة الوحشية ويطعمهم أردأ طعام ولا يمتنع في الأحايين من صفعهم ليثبت لهم بأن يده خفيفة في الضرب خفتها في النشل والنهب. وما كان كريمور يعنى بطعامه ولكنه قد يتأنق بعض الأيام ويتناول قطعة من اللحم المحمر وقدحاً من الشراب وفي ذلك اليوم يدعو بعض أغنياء الفلاحين من أهل تلك الناحية لتناول الطعام معه ولكن هذه المآدب الخارقة للعادة تنتهي في الغالب على أسوأ حال وذلك أن الفلاح يذكر له في خلال الحديث الغلط الذي وقع في ورقة الحساب الذي كان بعث به إليه التاجر فيجيبه كريمور بحدة وتنتهي حالهما من الكلام إلى الشتائم ومن الشتائم إلى الملاكمة وينهال الضرب على المدعو ويطرد من بيت التاجر طرداً. ومن المحقق أنه لم يلتئم أحد معه قط وقد تزوج أربع مرات وماتت أزواجه الأربع سأماً من الحياة معه. وكان كريمور يتعزى عن فقدهن في الحال إذ لم تأت السنة على فقد الواحدة حتى يكون عروساً في آخرها. دام ذلك إلى أن ترمل للمرة الرابعة وقد رزق ولدين من زوجه الأولى ماتا كلاهما واسم البكر آرني كان ساقطاً حقيراً شريباً خميراً يكره كل عمل حتى انتهت الحال بوالده أن طرده من بيته فأخذ يقرع البيوت ويستجدي الأكف في آييري وهو يسكر حيثما نزل وكيفما اتجه. ثم سدت في وجهه جميع الأبواب فرجع إلى دار أبيه طافحاً سكراً فطرده أبوه ولما لم يقدر أن يقف على رجليه زحف إلى السرب (قبو) وكان غير مقفل كما ينبغي فشوهد في الغد ميتاً وهو ملقى على كوم من الصوف أما ابنه الثاني المدعو يوحنا فكان على العكس من أخيه حسن السلوك ذكياً للغاية لا يكل ولكنه غرق بينا كان يسبح في البحر في العشرين من عمره في آخر سنة له في المدرسة فكان فقده على كريمور أول يوم حزن فيه مدة حياته. فقد تلقى مصابه بفقد زوجاته الأربع غير مكترث لما أصابه ولكنه لما كان يذكر أمامه ابنه يوحنا كان وجهه يتغير على أن حزنه عليه لم تبد في وجهه إماراته بكثرة واكتفى بأن يقول أن دفن الميت يكلف كثيراً وأن جميع الشعائر التي تقام في الجنازة لا تفيد الميت شيئاً ومن رأيه أن يجعل الميت في تابوته وأن يحمله أهله إلى المقبرة بدون توسط أحد من رجال الدين لما في ذلك من الاقتصاد في النفقة والتخفيف عن الميت وآله. وكان اسم زوجته الأخيرة كودرون وهي أنشط نسوانه الأربع ولما بنى بها كريمور شعر

بالشيخوخة وضعف الذاكرة وتقهقر الأشغال. ولكنها عندما استلمت إدارة بيته وضعت كل شيء موضعه وسار كل شيء على نظامه وأخذت تجارته حياتها السالفة وذلك أنها كانت منتبهة للغاية فتدخل مرات كل يوم إلى المخازن على غفلة لتفاجئ المستخدمين وتنظر في الدفاتر وتحقق الحسابات وتكلم الزبن إذ كان لسانها فصيحاً كما كانت يدها رشيقة وحركتها خفيفة. على أن الشيخ كريمور لم يرض عن زوجه لأنها كانت تتراءى له بأنها تكلفه من النفقة أكثر ممن تقدمها من زوجاته. ويعتقد أنها مسرفة لأنها تريد أن يكون لزوجها ما يجب أن يكون له وأن يقبض كل واحد أجرته وهو مما يسميه جنوناً وقلة تدبر. وعندما كانت تطلب منه دراهم كان يردد أبداً عليها نغمة واحدة وهي: أن القليل الذي استطعت أن اقتصده سيبذر في الحال عندما أقضي نحبي. . بيد أنه ما تنبأ به لم يتحقق قط فماتت كودرون ولداً فانحصرت ذرية كريمور في طفل اسمها ماركوس وهو ابن ابنه يوحنا المتوفى وكان ولداً متعقلاً ولكن صورته مزرية وقليل النشاط والحركة فتبناه جده بعد أن فكر زمناً أن يتركه عالة على المدينة ولم يرض بقبوله في بيته غلا تخلصاًُ من أن يكون فريداً وحده لا عقب له. (2) ماتت كودرون فكان موتها فاتحة سوء الطالع على كريمور فاتخذ خادمة بعد أخرى وكلما غير خادمة تزداد حال بيته اختلالاً فهن لا يعرفن إلا الإنفاق ولم تجرأ واحدة منهن أن تعمل له عملاً نافعاً لأن الشيخ كان كثير الظنون والسارقات والسارقون يعبثون بأمواله في كل مكان. على أن حذره لم يحل دون دخول فساد على أعماله فأخذ المستخدمون لا يخافون بأسه وكل منهم يسرق من المخازن ما يروقه ناسياً بالقصد أن يقيده فدخلت تجارته في دور الانحطاط وأصبح كريمور إذا غضب وأراد أن يعاقب المتلاعب من كتبته وخدامه يمسكون بذراعيه ويديه فلا يفلتونها إلا إذا رضي بأن يعود إلى السكون ولا يعود إلى العربدة. وحدث في غضون ذلك حادث كان فيه القضاء المبرم على هذا التاجر ومحله وذلك أن تاجرين غريبين جاءا ذات يوم إلى آييري وأنشأا محلاً تجارياً فأخذ زبن كريمور يتخلون عنه واحداً بعد واحد فخفض أسعار بياعاته إلى أرخص مما يبيع ذانك التاجرين وزاد في رواتب مستخدميه إلا أن ما أتاه لم يأته بفائدة وارتفعت ثقة الناس من محله منذ زمن

وأصبح في الحور بعد الكور وفي الخسران بعد الربح حتى لم يعد يرض أحد من الفلاحين أن يعامله مخافة أن يعود ثانية فينشب فيه مخالبه ولكن كريمور بذل جهده في مقاومة سوء البخت فكان يدفع كل سنة من ماله عجزاً كبيراً. وكان من هذا الجهاد أن قل ماله بالتدريج وكل ما يصرفه من ثروته على هذه الصورة كان في الحقيقة من لحمه ودمه فاستولى الضعف على قواه الطبيعية وحل الوهن محل القوة التي كانت عضده في شؤونه خلال خمسين سنة وأقام عنه وكيلين لإدارة أعماله ولم يكن منهما إلا أن زادا الطين بلة وأخذا بسوء سلوكهما يبعدان الفلاحين عن معاملة المحل كما كانوا من قبل وكانا يصرفان معظم النهار في ملاطفة صاحب المحل ليحلا من قلبه مكاناً يتذرعان به إلى نيل مآربهما منه ومن ماله فيحتالان على مدح جميع أعماله ليحرزا ثقته ولم يكن إلى ذلك العهد قد وضعها في إنسان وما اقتربا منه إلا ودعواه بيا صديقي العزيز ويقال أنهما كانا يسرقان من الصندوق أكثر مما يضعان فيه من الدراهم. وبعد ذلك وفق كريمور إلى الظفر بخادمة على هواه تتولى أمور بيته اسمها مريم جاوزت الخمسين من سنها وتمرنت في خدمة البيوت ومعاناة الرجال وكان ما يرضيه من طبعها في الأكثر هو أنها تمقت كل المقت ما كان يسميه بالنظافة والنظام اللذين لا فائدة منهما فلا تمسح أرض الدار إلا في الأعياد الكبرى ولا تكنس الغرف إلا صبح الأحد ولا تعنى بزينتها إلا إذا بقي لها وقت فكانت (فرشات) الثياب يطول عمرها معها لأنها قلما تستعملها في نفض الثياب. تخف أبداً إلى الاقتراب من ذاك الشيخ وتطيعه لأول كلمة يفوه بها وتقص عليه ما يجري في الدار والمخزن والمدينة وما يقال فيها وما لم يقل وتنسب سوء القصد لكل من كان لكريمور بعض الثقة فيه وتزيف أقوالهم وتوردها في قالب لا يفهم منه لا عكس ما يراد منها ثم تعرض عليه بأن الناس كلهم يسرقونه إذا لم يعهد إليها بأن تراقبهم. فوقع كلامها من قلب الشيخ موقع التصديق حتى زادت ثقته بالناس ضعفاً واقتنع بأنه محفوف بفئة لا غاية لها إلا أن تنهب ماله حاشا مريم فإنها الوحيدة التي ما عراه شك في أمانتها ولم تكن مريم تسرق مالاً بل توفر من جميع النفقات ولاسيما من الطعام وخصوصاً طعام المستخدمين فبدخولها بيت التاجر دخله الجوع. ومن المميزات التي اختصت بها

مريم أنها كانت تحسن الانتفاع بكل شيء وما قط طرحت بقية من بقايا اللحم ولذلك كانت تستنشق في غرفة كريمور التي يقف فيها عندما يترك مراقبة المستخدمين روائح كريهة منبعثة من تلك اللحوم المدخرة. عرفت مريم كيف تحسن معاملة زوجها وتستولي على عقله كما تحسن معاملة الناس وتخدعهم وكان صوتها رقيقاً تتلطف مع الزبن وتلاطف الأولاد وتوهم كل من يكلمها لتتوسط له أمام كريمور أنها مساعدته فيما يريد وأنها مبرأة من كل غاية إلا من النفع العام على أنه لم يحدث من أثر هذه الغيرة كلها ما يعود على محل التاجر بالفلاح وأخذ الانحطاط يزادا في أشغاله يوماً فيوماً على ما تبذله هذه الخادمة من وسائط نجاحه. وكان لكريمور في غرفة مجاورة للغرفة التي ينام فيها خزانة من شجر الكابلي جعلها صندوقاً لوضع ماله ولما كانت أعماله سائرة على قدم لنجاح كنت ترى جرار الزانة طافحة بالنقود الذهبية والفضية وفي وسطها أكياساً ملأى فأخذت هذه الأكياس تنقص شيئاً فشيئاً منذ انحطت تجارته حتى لم يبق واحداً منها بل قل ما كان في الجرار من النقود وفرغ كثير منها بتة. (3) حدث ذات يوم من أيام الخريف بعد أن عادت القطعان من المراعي أن منافسي كريمور في تجارته باعوا من فلاحي آييري كثيراً من البضائع أتتهم بأرباح وفيرة ولما نمي الخبر إليه انزعج انزعاجاً شديداً وأصابته سكتة دماغية فوقع في مخزنه لا حراك فيه فنقل إلى غرفته وأضجعوه في سريره واستدعوا الطبيب. وكان هذا شاباً لم تمض بعد سنوات قليلة على نيله الشهادة سكن في تلك البلدة حديثاً. فخف لفحص المريض فرآه غائباً عن رشده فقضى الليل كله بالقرب من سريره وهو يمرضه ولما طلع النهار رجع إلى الشيخ كريمور صوابه. ودام دور نقاهته طويلاً وأنشأ كريمور يسير على رجليه قليلاً حتى استطاع أن يطوف محله زاحفاً وكان الطبيب يعنى بصحته كثيراً. وكان هذا الطبيب قد حاز ثقة الجمهور لا لحذقه بل أنه اشتهر بالنضج. وما مكان للشيخ كريمور اعتقدا كبير في الطب لأن صحته القوة قد أعفته من اتلالتجاء إليه

على ان الدكتور توردور قد استولى في الحال على عقله وكلما كان يزوره يتهلل وجه الشيخ كريمور بشراً وطلاقة. فكان الناقه ينتظره وهو جالس على كرسيه الكبير طول النهار ساكتاً لا يتكلم كالحجر الأصم وكانت الضربة قد أصبته في جانب فمه فأفلجته فلم يعد يتكلم إلا ببطء شديد ولا يلفظ في الأحايين إلا بعض مقاطع من الحروف كثيراًُ ما تكون مبهمة لا تفهم. أشار كريمور ذات يوم بعد أن انصرف الطبيب من غرفته إلى خادمته مريم أن تقترب منه وسألها أن تقرأ له شيئاً فأخذت من صندوقها التوراة وكانت الكتاب الوحيد الذي احتفظت به طول حياتها ففتحت باب رؤيا القديس يوحنا الإنجليلي وقرأت الآيات التي ورد فيها ذكر تعذيب من يعذبون في النار والكبريت لا تنالهم الراحة ليلاً ولا نهاراً. فقاطعها كريمور والغضب آخذ منها قائلاً: ما أنحس هذا النبي يوحنا يتكلم عن هذه النار وهذا الكبريت اللذين ليس لهما أساس. وحدق بها بعينيه اللتين كانت تبرقان بشرر الغضب فذعرت منه حتى ارتجفت كلها وعادت فأخذت بيدها الجورب الذي كانت تحيكه قبل أن تشرع في القراءة له. أما كريمور فلم يرفع نظره منها وظل ساكتاً لا يتكلم وأخذ وجهه يتغضن أبشع تغضن من هنيهة إلى أخرى ويحرك ذراعيه وكأنه يريد طرد أحداً يهدده بالقبض عليه. . وكانت غرفة الخادمة متصلة بغرفة سيدها فذهبت إليها عندما رأته قد نام إلا أن النوم لم يجئه في تلك الليلة ولم يتمكن من إغماض جفنيه وترك نظره يسرح وهو في قلق يبدو عليه في غرفته وأخذ من وقت إلى آخر يتنهد ويلفظ كلمات متقطعة. وكان بالقرب من سرير كريمور منضدة صغيرة يضيء عليها مصباح في الليل منذ وقع مريضاً ومن عادة مريم أن تنزل الفتيل للاقتصاد من الزيت وهكذا رسمت ظلالاً مشوشة على الحائط. وفي تلك الليلة أراد كريمور مخالفة عادته في ترك الفتيل صغيراً بحيث لا ينطفئ فقد وأراد أن يكون يكبره ليكون ضوءه كثيراً لأن الظلام كان يخيفه. فظنت مريم أن الشيخ راقد وأخذت تسير نحو غرفته سيراً لطيفاً فلما سمع وقع قدمها صاح والذعر آخذ منه: مريم مريم. فأجابته فقال لها أتظنين بأن الموت سيأخذني؟ فقالت له: إن الموت بعيد عنك لأن صحتك تحسنت كثيراً عن ذي قبل وعما قريب ستشفى كل الشفاء فأجابها بقوله: نعم صحتي أحسن وقريباً اشفى ولا أموت.

ثم سكت وخفت مريم بالانصراف من غرفته فناداها قائلاً: أتعتقدين يا مريم أنني سأذهب إلى النار متى حل بي ريب المنون؟ فأجابته: أنت تروح إلى النار سامحك الله على مثل هذا الفكر أما أنا فلا أعتقد بأنه يخشى عليك من النار. ولما سمع ذلك أجابها: نعم لن أذهب إلى النار. ثم غاص في بحر السكوت من جديد وعاد فقال لخادمته: هل عملت شراً وارتكبت كبيرة أعاقب عليها؟ فقالت له: كلا إنك كنت سليم الصدر أبداً وما قط أسأت إلى إنسان وعلى العكس فإن كثيرين قد أساءوا إليك فنهبوا منك مالك وخدعوك بكل حيلة من أحاييلهم. فأجباها بقوله: نعم إن الناس أساءوا لي. أساءوا لي هؤلاء الملاعين. ثم استولى السكوت عليه وقال بعد لحظة: أتظنين أن من خدعوني يروحون إلى جهنم. فقالت له: إذا نجا أحدهم من النار فيكون في نجاته وجه الغرابة. فأجابها: إن المسألة ظاهرة وسينتقم المولى لي منهم إذ يرى أنني عاجز عن الانتقام بنفسي لنفسي وإلا لما كان ثمت عدل. فنهضت مريم ورتبت وسادتي كريمور ووضعتهما وضعاً حسناً تحت إبطيه ليتمكن من الجلوس وتسريح النظر في الغرفة وبعد ذلك انصرفت لتنام وأطبق كريمور جفنيه ولم يعد يتحرك حتى ظنته قد رقد. إلا أنه لم يلبث هنيهة أن فتح جفنيه وأخذ منه الهلع وهو يحدق في زاوية الشباك ويصرخ هناك في تلك الزاوية ضوء أنجدوني فقفزت مريم إلى الأرض وأسرعت فأوقدت المصباح فبدد النور غياهب الظلمة وصارت الغرفة كأنها في رابعة النهار. وكان العرق يكلل وجه كريمور ويحاول أن يمسحه وهو يفيض عليه وعيناه تشخصان إلى كل ناحية من أنحاء الغرفة ذات اليمين وذات الشمال وفي اعلاها وأسفلها وشعره الأبيض كالثلج مسترسل على جبهته وعيناه تنظران وتحدقان والهلع آخذ من قلبه مأخذه. فأخذ يسأل مريم قائلاً: يا مرين أتعتقدين أن هناك جهنم؟ فأجابته أن سؤالك عن النار أشبه بمن يسأل عن وجود الله تعالى. فقال لها: إذاً فأنت أيتها المجنونة المقدسة تروحين إليها والناس كذلك لا سبيل إلى النجاة منها. فلم يسع مريم إلا أن قالت له: لا تفكر في هذا ليس ثمت مسمى لهذا الاسم (جهنم). فأجابها نعم ليس ثمت جهنم. والتفت كريمور إلى الحائط وأطبق جفنيه وقال لها: تسهرين هنا طوال الليل ولا تطفئين المصباح بل اتركيه موقداً يسطع بنوره. قال هذا وهو ينظر إلى السقف ثم تقلب وعندما رأى مريم قد جلست بالقرب من سريره وأنها أضاءت المصباح وأوقدت مصباحاً آخر بدا عليه

الاطمئنان واستغرق بعد ذلك في النوم فنام حتى الصباح. ولما استيقظ أجلسته مريم في كرسيه حضر الطبيب فسأله عن صحته ثم كلمه في شؤون وشجون إلا أن كريمور كان مشغول القلب فلم يجب الطبيب بغير لا ونعم ثم انقطع الطبيب عن كلامه فأنشأ المريض ينظر إلى الطبيب وحاول أن يضحك من شق فمه الذي لم يُفلج وقال له: يقال أيها الدكتور أنك لا تعتقد بشيء. فأجابه الدكتور قائلاً: ما من أحد وهو لا يعتقد بشيء يا عزيزي كريمور. فقال هذا: أعني بقولي يا حكيم أنك لا تعتقد أي أنك لا تعتقد بالشيطان. فاستضحك وقال وهو يدرك ما يجول في خاطر صاحبه: أو تعتقد بأن للشيطان وجوداً؟ فقال كريمور: كلا لا وجود للشيطان. قال هذا وحاول أن ينهض من كرسيه وأمسك يد الطبيب فقال: كنت أعرف حق المعرفة بأن ليس ثمت وجود شيطان ولا جهنم أيضاً. فقال الطبيب: نعم أنا على ثقة من أن الشيطان وجهنم لا وجود لهما. فأجاب الشيخ المريض: إنك تعرف ذلك وأنت الذي درست العلوم وأحكمتها. فقال الدكتور لا يعترف العلم بوجود شيطان ولا جهنم. فقال الشيخ إذا كان العلم لا يعترف بوجودهما فذلك لأنه صحيح. قال هذا وقد أخذ مقعده من كرسيه وأطبق جفنيه وسطع في وجهه بريق الفرح ثم همس قليلاً بصوت يكاد لا يفهم قائلاً: نعم ليس في الوجود شيطان ولا جهنم العلم يعرف ذلك ومن أعرف من العلم بمثل هذه الأمور. ثم فتح عينيه وأخذ يحدق في الطبيب وإمارات الشك تقرأ في وجهه كأنه يريد أن يبحث في ذهنه عن أمر لا يعثر عليه وينتظر الطبيب أن يعينه عليه. إلا أن الطبيب سكت وهو يتأمل في كريمور ويتلو في جبهته ما ينمُّ به قلبه الذي لا يكتم السر كالصبي. ثم ظهر كريمور مظهر من زال عنه همه وأخذ يد الطبيب وقال له: وماذا يقول العلم عن الحياة الثانية؟ فأجابه الطبيب العلم لا يستطيع أن يبين حقيقة العالم الثاني فإن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية. ثم سأهل: وهل أنت يا دكتور تعتقد بالآخرة؟ كلا لا أعتقد. فقال المريض الظاهر أن ليس هناك آخرة إذ العلم لا يعترف بها ولا يثبتها. ثم ملكت على الشيخ كريمور مشاعره وسكت وأخذ يهز رأسه وفتح فاه وأغلقه ثم فتحه ثانية وأغلقه. وبدا على سحنته أن في قلبه سراً يريد أن يحل مشكلته وحاول الابتسام وإن منعته شفته المفلوجة منه فقال: من البلاهة بل غاية في البلاهة ما يذكرونه عن الجزاء بعد

الموت وهل للجزاء من حقيقة؟ فاه بهذا السؤال وهو محتاج لجواب إيجابي فكان جواب الطبيب له: إذا عنيت بالجزاء أن على المرء أن يذكر ما قدمت يداه وأن هذا هو الجزاء فإنني لا أرى فيه شيئاً من البلاهة ولطالما اعتقدت بأن كل امرء في ذاته بل الإنسانية بمجموعها يجب عليهما أن يحاسبا عاجلاً أم آجلاً عما أتياه من الأقوال والأفعال في هذه الحياة الدنيا. ولما سمع الشيخ هذه العبارة قال: إنني لا أفهم. فأجابه الطبيب: ومع هذا فأنت مدرك ما أعتقده من أنه لا بد من وقت يجيء في هذه الحياة أيضاً ويكافأ فيها الخير ويعاقب الشر. فقال الشيخ يجازى في هذه الحياة بالذات هذا غير ممكن بل متعذر كل التعذر. ولما فاه الشيخ كريمور بهذه الكلمات فاه بها بلهجة الفزع وقد تمسك بذراعي الكرسي وهو يحدج الطبيب ببصره وقالا: كلا أنك لا تقول ما تفكر فيه وما أنت إلا مردد لما كنت سمعته فقل لي ماذا يقول العلم وما أظن العلم يقول بما أنت تدعيه فما يعلمك العلم؟ فأجابه الطبيب: ليس للعلم في هذا الموضوع شأن وما أنا مصرح لك باعتقادي بعد تجاربي الخاصة ومعرفتي في الحياة. فلما سمع المريض ذلك حاول ان يقلل الشدة لأنه لاحظ أن ما صرح به من معتقداته قد أثر تأثيراً شديداً في المريض فاستلقى على ظهره في الكرسي من جديد وأخذ يطبق عينيه ويفتحهما ويطوف الغرفة والفزع الشديد آخذ منه واصفر وجهه أكثر من ذي قبل وأصبحت يديه بلا حراك على ذراعي المقعد وقال: تجاربك أيها الطبيب تجاربك تقول بذلك؟ فقال الطبيب: نعم هذا هو اعتقادي أعتقده وأكرر وأقول غير هياب ولا وجل أن كل امرء في هذه الأرض يجازى عما قدمت يداه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر وتؤخذ منه الفائدة (الربا) وفائدة الفائدة أضعافاً مضاعفة. فلما فاه الطبيب بهذه الجملة نظر إليه كريمور نظرة من يحب الاقتناع بأن هذه الأفكار هي من الأفكار الخاصة للدكتور ليس إلا وقال: مع الفائدة وفائدة الفائدة ولكن هذا القول فظيع وهو معتقد غير مقبول. وهنا أدرك الطبيب أن هذا الحديث لا يزيد المريض إلا ضيق صدر فقاطعه وقال: عليك يا صاح أن تطرد من ذهنك الأفكار السيئة وأن لا تفكر إلا في شفاء جسمك وأن تساعد على نقاهتك ما أمكن وها قد أصبحت أحسن صحة من ذي قبل فما عليك إلا أن تعنى بالشفاء كل العناية. ثم سلم وانصرف.

فنظر إليه كريمور حتى إذا غاب عن نظره عاد يحدق في كل مكان محاولاً أن يجلس في كرسيه بحيث كان ينظر إلى الغرفة بمجموعها وأنه لكذلك دخلت عليه الخادمة فقال لها أريني ماركوس فقد تاقت نفسي إلى رؤيته. فنادت مريم هذا الولد وكان في غرفة في الطبقة العالية يستعد للذهاب إلى المدرسة وكاد يأتي على صفحة من كتاب النحو اللاتيني ويستظهرها كلها. فخف إلى غرفة جده وكتابه مفتوح في يده وأخذ مقعده في زاوية من زوايا الغرفة. ولما سمع كريمور بقدوم حفيده سكنت نفسه بعض الشيء وأغمض عينيه ليحاول أن ينام ولكن استيقظ مرتجفاً قائلاً: يا ماركوس هل أنت عندي؟ فأجابه الولد نعم يا جداه أنا هنا. ومنذ ذاك اليوم أصبح يجيء الولد إلى غرفة جده كل يوم ولم تنعكس صحة هذا ولكنها لم تتحسن أيضاً وعلى هذا النحو مضى الأسبوع. والطبيب يعود مريضه كل يوم وقد ظهر له أن كريمور يكاد لم يستعد قواه إلا ببطء شديد ولم يعودا يبحثان فيما بينهما عن المعتقدات وقد حاول المريض أن يعود إلى الخوض في هذه الموضوعات ولكن الطبيب كان يقاطعه ويدخل في شؤون أخرى. مضت على ذلك أيام والعجوز لا يترك كرسيه إلا للنوم في سريره وقد حدث أنه جر نفسه مرة وحده وساقاه ضعيفتان إلى المخزن وكان متصلاً بداره ولم يلتفت في الحقيقة إلى ما كان يجري فيه أمامه وقد هدد بيده المستخدمين الذين كان يعتقد أنهم يزنون ويقيسون على الصول وعاد فاستشاط غضباً منهم على نحو ما كان يغتاظ أيام صحته عندما دار في خلده بأنهم يحسنون الكيل والوزن والقياس. وأتت عليه ساعات وهو يردد ما قاله لبعض مستخدميه عندما رآهم يزنون بالميزان ويقيسون بالمقياس: لا تزنوا هكذا بل أقل من ذلك وإلا فأنا. . وبقي يردد هذه النصيحة بدون أن يكلم أحداً بعينه ولكن هذا التهديد كان ينبعث من فؤاده كنه عام لجميع من يخالفوه إرادته. ولم يطل مقامه في غرفته وهو يشعر بأنه أحسن حالاً فيها من حيث الصحة وأخذ يطوف غرفته ويتماسك وكان عليه لما فيه من الضعف أن لا ينهض من سريره ولكنه كثيراً ما يمشي في ألبسته الرثة ويقف أمام الشباك ويهز رأسه ويقول وهو صموت بل يحنق ويقول همساً: مع الفائدة وفائدة الفائدة! يقول هذا ثم يهز رأسه هزة غريبة وينظر إلى كرسيه

الكبير فيقع فيه ويطبق أجفانه وينام ولكن نومه لا يطول فيستيقظ في الحال كأن قلقاً عظيماً أخذ من نفسه مأخذاً ويسحب نفسه متثاقلاً نحو الشباك ويطل على ما وراء غرفته ويعاود تلمك الكلمات التي طالما رددها وهي: الفائدة وفائدة الفائدة. وكان حفيده ماركوس يتالم من أخلاق جده أكثر من غيره لأنها كانت في الغالب سيئة وكان جده إذا استغرق في أفكاره يكلم نفسه ثم ينايد: يا ماركوس يا ماركوس أين أنت يا مضحك؟ فيجيبه ما أنذا يا جداه. ويقب منه وفرئضه ترتعد فيسأله الشيخ الهمُّ ماذا تعمل يا كسلان؟ فيقول أتعلم النحو يا جدي. فيجاوبه: تتعلم النحو ومن هذا يا متوان ذهب وزن لي سكراً ناعماً. يقول هذا وكأنه يمد يده إلى الولد ليصفعه ولكن هذا يغطي أذنيه بيديه لينجو من الصفع. ويذهب إلى المخزن كالسهم المرسل فيأتي جده في أسرع من لمح البصر بالسكر الذي طلب منه إحضاره ويجيء به حاملاً كيساً منه بكل قوته ومعه أكياس صغيرة ويأخذ يملؤها بأن يزنها في ميزان صغير وضع على منضدة فما هو إلا أن يقول له جده لا تكثر يا نحس واجتهد بأن تعطي أبداً قليلاً فالناس لا يدركون الكمية التي أنت تضعها. ثم تكمد جبهة الشيخ وبعد هنيهة يعود هذا فيصرخ: أين أنت يا ماركوس يا غبي؟ فيخف إليه الولد وهو خائف يترقب وقد وضع يديه على أذنيه ويتقدم نحو كرسي جده قائلاً هاأنذا يا جداه فيسأله ماذا تصنع؟ فيقول له إنني أزن سكراً. فيعود ويقول ومن قال لك ذلك؟ وأين كتابك في النحو؟ فأنت تزن سكراً بدل أن تتعلم دروسك يا كسلان وتتظاهر بأنك تتعلم مع أنك لا تصلح لشيء. وعند ذلك يجر الولد الكيس إلى المخزن ويرجع على زاويته ولكن كريمور لا يتركه زمناً مستريحاً فتارة يطلب منه وزن السكر وأخرى يوعز له بدروسه وهكذا بدون تسلسل في أفكاره ولا رابطة في أوامره. (4) ولما نقه كريمور ذات يوم بعض النقاهة طرد ماركوس من غرفته وأغلق الباب إغلاقاً محكماً ثم أخرج من جيبه حزيمة من المفاتيح وكانت مفاتيح خزانة الكابلي وما كان يفارقها قط. حتى كان يذكرها في أضيق حالات مرضه. ويضعها تحت مخدته. فذهب إذ ذاك نحو الخزانة وفتحها وأخرج منها الجرار بعد الآخر وقد أصبحت معظمها فارغة غلا قليلاً وكان

بعضها فقط يحوي القليل من النقود الذهبية فجردها كلها بيده ثم وضعها وهو يهمس قائلاً: قد ذهبت كلها ولم يبق إلا القليل! ثم عالج صندوق كبير فأخرج غطاؤه ولم يكن فيه غير كتاب متوسط الحجم فلما رآه وقف قليلاً وهو يحدق فيه ثم أخرج القفاز من يديه وتقدم من الشباك ورفع طاقيته فوضعها على المنضدة وفتح الكتاب ولم يفتحه ليقرأ فيه بل إنه لم صفحة اسمه وهذا الكتاب هو تفسير الكتاب المقدس باللاتيني وكان لابنه الصغير عندما كان في المدرسة. ولم يقرأ ما فيه ولكن نظره وقع على الصفحة التي كتب عليها بيد طفل مبتدئ هاتان الكلمتان يوحنا كريمور وبقي ينظر في الكتاب ملياً وهو يمسكه بيده وعيناه ناظرتان لهذا الاسم وهما لا تريان غيره وعندها فاضت بالعبرات فتساقطت على الاسم وعلى الصفحة وحاول أن يكفكفهما بكم قميصه الممزق. وعند ذلك أطبق الكتاب ووضعه في الصندوق وأدخله في الخزانة وأغلقها ووضع طاقيته على رأسع وقفازه بيده وراح يخطر في الغرفة وسرموجه (شبشب أو صرماية) في رجله ليسمع صوته ووقف جاعلاً رجله على الأخرى بالقرب من النافذة ونظر إلى خارج وتنهد وهو يكلم نفسه قائلاً: مع الفائدة وفائدة الفائدة ولعل هذا صحيح. ثم علت وجهه الكآبة والحزن. (5) وفي بعض الأيام دخل ماركوس الصغير وهو يبكي إلى المطبخ حيث كانت مريم قائلاً: إن جدي مات في كرسيه. فقالت له وكيف ذلك ولم تكن حالته في خطر لم يكن وجوده حملاً ثقيلاً علينا ثم قصدت الغرفة فوجدته ملقى على الدف وقد ظهر لها أنه جاءته نوبة وهو في كرسيه وأدركت في الحال أنه لم يمت فحملته إلى سريره واستدعت الطبيب فحضر ورأى كريمور غائباً عن رشده وعيناه مغمضتان وقد فلجت جميع أعضائه. فوقع الطبيب في حيرة ولما سألته مريم بأن يوضع على رأسه خرق تجعل في ماء فاتر وأن يفصد إلا أن كريمور قضى الليل كله وجميع نهار الغد بدون حركة. وعند المساء فتح عينيه قليلاً ورجفت يداه وكان ماركوس جالساً على صندوق بالقرب من سرير كريمور وعيناه تفيضان بالدمع وهو ينظر إلى جده ومريم واقفة بالقرب من الشباك ترتب الكراسي ففتح كريمور شفتيه قليلاً كأنه يريد أن يتكلم وتنفس الصعداء فلم يبن منه إلا مقطع واحد من مقاطع الحروف وهو الفا الفا أي الفائدة وهي الكلمة التي طالما رددها بقوله الفائدة وفائدة الفائدة ثم

أغمض عينيه وعاد الفالج فاستولى عليه فجأة وارتعشت أعصابه وأخذت عينه تتجه صوب حفيده قائلاً: مار. . . مار. . ماركوس! فأجابه الطفل: ها أنذا يا جدي فقال وما تصنع؟ فأجابه: لا شيء يا جدي. ثم ظهر كأن عينا كريمور خرجتا من محجرهما وأكمد وجهه وقال بصوت لا يفهم: الفا. . . حنا! ثم عانى كثيراً وحشرجت روحه وتقلصت شفتاه وحدق بعينيه في السقف وراح لا حراك به. فتقدم كل من مريم وماركوس نحو سريره. فقالت المرأة: لقد مات! فوقع الولد من الصندوق الذي كان جالساً عليه ووضع يديه على وجهه وشهق بالبكاء كأن صدره أوشك أن يتصدع. ما مريم فكانت تنظر إلى تلك الجثة الهامدة ولا فكر لها إلا أن تطمئن وتتأكد أنه مات حقيقة. ولما ثبت لديها موته ألقت بيدها إلى تحت مخدته وتناولت حزيمة المفاتيح ثم أغلقت باب المسكن ودخلت على حين غرة إلى الغرفة التي كانت فيها الخزانة وفتحتها. وصرفت وقتاً في معرفة كل مفتاح وجراره إلا أنها تمكنت من ذلك بعد العناء ولما فتحتها قالت والغضب آخذ منها: فارغة كلها فارغة لعنة الله عليها كلها فارغة. ورأت في أسفل إحدى الجرار بضعة نقود ذهبية وفضية فأخذتها ووضعتها في جيبها وهي تنظر إلى خلفها مخافة أن يباغتها أحد. ثم نظرت ذات اليمين فبصرت بصندوق فبرقت لرؤيته أسارير جبهتها وقالت كنت على أن أنساه ولعل فيه الخير الكثير وبعد أن عاجلته طويلاً فتح لها ولكنها لم تجد فيه غير كتاب التفسير. فقالت وقد استشاطت غضباً ما هذا الكتاب العتيق وما السر يا ترى في إخفاء هذا الكتاب في الصندوق الكبير فما عتمت أن أخذته وألقته طعاماً للنار وأغلقت الخزانة وعادت إلى غرفة الميت فرأت ماركوس ينتحب ويبكي فوضعت حزيمة المفاتيح تحت مخدة كريمور وخرجت تاركة الباب وراءها مفتوحاً قليلاً وذهبت إلى المخزن تنادي المستخدمين قائلة أن معلمكم قضى نحبه فتعالوا أعينوني حتى نقوم بما يجب إكراماً له فهبوا إلى غرفة الميت أما هي فاقتربت من ماركوس وانحنت عليه بحنان وأخذته إلى ناحية وقالت له: لا تبك يا بني ثم أنشأت تمر يدها على خديه وجعل الولد يتمسك بعنقها فقال له بصوت كئيب: مات المحسن إلينا فيا له من خطب جسيم يا ماركوس عزاؤنا في أننا سنراه في السماء فالله رحيم وهو سيتفضل علينا ذات يوم أن نشاهد من أسدى إلينا أياديه. وما جدك يا ولدي إلا مع الأبرار في السموات العلى!

المعتزلة

المعتزلة من العادة أن كل فرقة أو أهل مذهب إذا أرادت أن تصف الفرقة المخالفة لها تبخسها حقها وربما نسبت إليها ما لم تقله اعتقاداً منها بأن تنفير الناس عن المخالف والدعوة إلى المذهب لا يتيسران إلا بهذه الطريقة الغثة الباردة حتى أن بعضهم جوزوا الكذب على المخالف وما ندري أي دين سماوي أو مذهب فلسفي يجوز الكذب في أمثال هذه المسائل. والمعتزلة ما خلوا ممن يرميهم بما ليس فيهم خصوصاً أيام استحرت المجادلات بينهم وبين الفرق الأخرى من أهل الإسلام أيام كانوا ممتعين على عهد أوائل الدولة العباسية بحريتهم الدينية على أصولها ولم يلاقوا من أرباب السلطة شدة ولا عنتاً. وقد كثر بحث الغربيين في العصر الأخير عن المعتزلة ومنشأهم حتى قال بعضهم أن من سوء طالع المسلمين أن ينقرض المعتزلة فإنهم كانوا معدلين لأمزجة الحكومات وأرباب المذاهب الأخرى إذ جروا مع العقل وطبقوا المنقول على المعقول ونظروا إلى الجوهر أكثر من العارض ومن حكم العقل في أقواله وأفعاله يحترمه أحبابه وخصومه على السواء. ولقد استطلعنا رأي أحد كبار علماء الإسلام في أمر المعتزلة فأملى علينا الجملة التالية فكانت خلاصة أحوالهم وغاية الغايات في الإفصاح عنهم. قال دام نفعه: في أواخر عصر الصحابة ظهرت ثلاث فرق من فرق الإسلام أولاها الخوارج وهذه الفرقة من الفرق التي اعترضت على علي بن أبي طالب في تجويزه التحكيم بأمر الخلافة وكانت تحكم بكفر الفاسق صريحاًُ كشارب الخمر ونحوه فضلاً عمن يسعى في سفك دماء المسلمين لأجل مأرب دنيوي ومذهبها مبني على هذه القاعدة وكان في ذلك العصر قد دخلت الناس أفواجاً في دين الإسلام بسبب الفتوحات العظيمة وأكثرهم ممن لم يتهذب بمكارم أخلاق الدين فكان الناس يسمون المتساهل في الدين فاسقاً ويجعلونه من المسلمين البتة وكان كثير من الناس يصرح بأن الأمور كانت مقدرة عليهم تخفيفاً عنهم من الملام وفي خلال ذلك هبت فرقة لهم شدة تمسك بالدين وتحلاٍ بآدابه فأنكروا ذلك وصرحوا بأن الإنسان مختار في أعماله وأن الله تعالى لو أجبر الإنسان على عمله لم يؤاخذه عليه وجعلوا الناس ثلاثة أقسام مؤمن وكافر وفاسق فالمؤمن من يقوم بجميع شروط الدين والكافر الجاحد مطلقاً والفاسق من أتى بكبيرة ومنعوا من تسمية الفاسق باسم المؤمن واعتزلوا مجلس الحسن البصري لأنه لم يرض بالتصريح بسلب اسم المؤمن عن الفاسق فسميت هذه الفرقة المعتزلة. وفي

أثناء ذلك ظهرت فرقة هي بالفرقة السياسية أشبه منها بالفرقة الدينية وهي فرقة الشيعة المشايعة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب والشيعة حزبان حزب منهم كانوا يقولون أنه هو الأحق بالخلافة غير ان عوارض الأحوال أوجبت تأخيره لكثرة أعدائه من المنافقين وغيرهم وكانوا لا يطعنون في الذين أخروه عنها وقسم آخر يقولون إنما أخروه لعداوة في أنفسهم لا رعاية لمصلحة الأمة ثم أخذ كل مذهب دوراً من الأدوار كما يعلم من التواريخ المفصلة.؟ وإذا كان الخوارج أرباب حرب وضرب وتحمس في الدين وعبادة ونسك ولم يكن لهم بصيرة في العلم كانت أمورهم العلمية بسيطة جداً وأكثر ما يقابلون به السيف. أما المعتزلة فكانوا في أمرهم أرباب توخي وتأن واستبصار بما يقتضيه الوقت وكان مقتضى مذهبهم القيام بإنكار المنكر ولو أفضى الأمر إلى سل السيف إلا إن كان ذلك مشروط فيه الإمكان فكان المعتزلة بغيضين إلى فريقين العامة والأمراء أما الأمراء فلما يشترطونه في الإمارة من الشروط التي إذا انتشرت في أفكار العامة لم يتيسر لأمير أن ينطلق في أمر الأمة بما يشاء وأما العامة فلأنهم ينفرون ممن يخرجهم عن الدين بمجرد إتيان المنكرات التي أطلق لهم العنان من طرف خفي أمراء السوء الذين يهمهم أن تكون العامة ممن يعينونهم على مقاصدهم وكانت هذه الفرقة أعظم الفرق في المفاضلة عن الدين ورد شبه الملحدين وكان الجمهور يقولون لا حاجة لنا إلى الجدل فإن كل من خالفنا استتبناه فإن تاب فيها ونعمت وإلا طهرنا الأرض بسفك دمه عليها ولم يزل الأمر كذلك حتى أفضت النوبة إلى المأمون وكان ممن خالط ناساً منهم وكان لهم دهاء عظيم في مخالطة الطبقات العالية مع انكماشهم وشدة ورعهم فتلقف المأمون أفكارهم فقويت في نفسه فلما أفضت الخلافة إليه بادر إلى إعلانها وكان مقتضى الحال أن يدعو إلى مذهبهم كما يقتضيه حال كل من أخذ بمذهب إلا أن المأمون للمبدأ الذي كان عليه وهو إطلاق الحرية للموافق له والمخالف وجد من الواجب أن يطلق العنان لكل الفرق فالتي أخطأت يتيسر إقناعها بالحجة والبرهان والتي معها الحق ينبغي أن تتبع على ما معها منه فانطلقت في عصره جميع الفرق وجعل في داره مجالس للمناظرات بين أرباب الملل والنحل وكان العصر المفرد في ذلك. ثم لما أفضى الأمر من بعده خف إطلاق العنان لهم. غير أنه بقيت في ذلك بقية حتى

أفضت النوبة إلى المتوكل فقام في اضطهاد الفرق المخالفة للجمهور رعاية لمشرب العامة وخلاصاً من فرقة إذا قوي أمرها في مشارق الأرض ومغاربها كان فيها الخطر على أمر الخلافة لأنها شرطت فيها شروطاً يصعب القيام بها على كثير ولم تزل حالة المعتزلة بين انخفاض وارتفاع حتى انحطت الأمة انحطاطاً زائداً وقبل انقراضها كان كثير من الملوك يسعى إلى إبادتهم بالسيف كما يعلم من التاريخ ولم يبق لهم ملجأ غير اليمن فإن فيه تكون حزب ذو عدة وعدة يصعب محوه وهم المسمون: الزيدية فما الزيدية إلا فرقة من فرق المعتزلة يخالفون جمهورهم في بعض مسائل الإمامة ونحوها. ومذهب المعتزلة في كون الإنسان مختاراً ليس كما ينقله عنهم المخالفون لهم فإنهم ينقلونه على صيغة مستبشعة ينفر منها العوام فضلاً عن الخواص فمن ثم وافقهم عليه كثير من علماء أهل السنة كما وافقهم على كثير مسائلهم الفرعية التي استخرجوها وكانت هذه الفرقة كثيراً ما تذكر في التاريخ بأنها معتزلة مع أن المترجم يكون من المخالفين للمعتزلة في باقي مسائلهم أشد المخالفة فكان يقع للناظر في التواريخ اضطراب وحقيقة الأمر تفهم مما ذكر التاج السبكي في الطبقات فقد نقل في ترجمة القفال عن الحافظ ابن عساكر أنه قال في القفال: بلغني أنه كان مائلاً عن الاعتدال قائلاً بالاعتزال في أول أمره ثم رجع إلى مذهب الأشعري. قال السبكي وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة وحسيكة في الصدر جسيمة فإن مذاهب تحكي عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة وطال ما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي واستند الوهم إلى ما نقل أن أبا الحسن الصفار قال سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير الإمام أبي بكر فقال قدسه من وجه ودنسه من وجه أي دنسه من جهة نصرة مذهب الاعتزال. والقفال هو أستاذ عصره قرأ عليه الأشعري علم الفقه وقرأ هو عليه علم الكلام وهو معدود من كبار أئمة الشافعية وعلل السبكي ذلك بقوله اعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم. والمعتزل هم الذين أحدثوا علم الكلام وكان الأولون ينهون عنه إلا أن النفوس لما كانت مولعة بالعلم مطلقاً تابعهم عليه غيرهم وألفوا كثيراً وأوهموا اللائمين لهم بأن الكلام انتهى

عنه إنما هو الكلام على طريقة المعتزلة غير أن الكتب التي ألفت على طريقة المعتزلة أمتن جداً لما كان في أصولهم من منع التقليد البتة ولذلك لم يكن بعضهم يقلد بعضاً وإن كل إنسان مكلف بقدر ما أداه إليه اجتهاده ووسعه ولا يخفى الفرق بين المقيد والمطلق. وهم الذين وسعوا أصول الفقه حتى أن أكثر المسائل المذكورة فيه هي من مبتكراتهم غير أن الأصوليين لم يحبوا أن يتركوها لهم وهذا ظاهر لمن يتتبع فن الأصول عصراً فعصراً وأما ما يرميهم به خصومهم من أن الاعتزال نشأن من انتشار كتب الفلسفة فهي فرية لأن الاعتزال وقواعده الأصلية نشأت قبل ترجمة كتب الفلسفة المتعلقة بالإلهيات بلا خلاف وكثير مما قالوه كمسألة الاختيار المطلق ومسالة خلود العاصي مؤبداً ونحو ذلك كان يستعين خصومهم في الرد عليهم بها بكلام الفلاسفة وإنما كان دأب المعتزلة بمقتضى متانتهم أن يخوضوا في أي شيء كان من العلوم التي كانت قبل وأن يجرؤوا على ما يظهر لهم لاعتقادهم وجزمهم بأنه لا توجد حقيقة تختلف عن الدين فكانوا أشد الناس إسراعاً للخوض في الفنون وأكثر المؤلفات النهمة في العلوم المنوعة ما عدا الفقه يدهم فيها أطول من يد من يخالفهم إجمالاً. والتاريخ يظهر ذلك بأجلى مظاهره وأما الفقه فإنهم أخذوا فيه بما أخذ به غيرهم لاعتقادهم أن الخطب فيه سهل غير أن لهم في الفقه دقائق غريبة يجدها الإنسان في تضاعيف الكتب هم منشئوها وأما الحديث فإنهم رأوا كثرة الوضع وظهر لهم أن التمييز بين الصحيح وغيره يعسر ولاسيما ما وري من طرق غيرهم فإنهم لا يطمئنون إليه لاعتقادهم أن كثيراً من أهل الورع والصدق من غيرهم ربما يجوزون وضع الحديث للمصلحة وشاهدوا في عصرهم أحاديث وضعت في حقهم مثل القدرية مجوس هذه الأمة فنفروا من المحدثين وثلبوهم أشد ثلب ولما كان علم الحديث أهم علوم الدين وهم أشد الناس ولوعاً به ذهبوا إلى قاعدة غريبة وهي أن كل حديث لا يخالف القرآن وهو قريب من مقاصد الشارع أو كان مما يدل على مكارم الأخلاق سلموا به إجمالاً بدون نظر في رواته وما وجدوه مخالفاً لذلك ردوه البتة ومن هذا نشأ كثرة ما تراه من ذكر الأحاديث في كتب مثل الجاحظ والزمخشري وغيرهما من أئمة المعتزلة فهم يبحثون عن القول لا عن الرواية. غير أنهم يعتقدون أن من أخذوا بقوله كان على مذهبهم ومشربهم. وقد وقع في التواريخ

مناقشات كثيرة في مسألة نحل كثير من المشهورين في العلم والفصل والسبب في ذلك أن كثيراً من المتقدمين كانوا لا يصرحون بما يصرح به المتأخرون فكان كل فريق يدعي أن فلاناً منهم ويظهر لمن راجع كتب مناقب المشهورين على طريقة المتقدمين فإنهم كانوا يفيضون في كل شيء على طريقة المتأخرين الذين يطوون كل شيء لا يوافق مآربهم الخاصة ظناً منهم أنهم بذلك يحسنون صنعاً وكثيراً ما يذكرون منقبة وهي في الباطن مثلبة وربما كانت موضوعة. ما يبلغ العاقل من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه هذا ما قاله ننقله بلفظه ومعناه من لسان ذاك الإمام الكبير وقد قال المرتضى وإماما أجمعوا عليه فقد أجمعت المعتزلة إلى أن للعالم محدثاً قديماً قادراً عالماً حياً لا لمعنا ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر عيناً واحداً لا يدرك بحاسة عدلاً حكيماً لا يفعل القبيح ولا يريده كلف تعريضاً للثواب ومكن من الفعل وأزاح العلة ولابد من الجزاء وعلى وجوب البعثة حيث حسنت ولا بد للرسول صلى الله عليه وآلة من شرع جديد أو إحياء مندرس أو إفادة لم تحصل ن غيره وأن آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن معجزة له وإن الإيمان قول ومعرفة وعمل وأن المؤمن من أهل الجنة وعلى المنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً إلا من يقول بالإرجاء إنه يخالف في تفسير الإيمان وفي المنزلة فيقول الفاسق يسمى مؤمناً وأجمعوا على أن فعل العبد غير مخلوق فيه وأجمعوا على تولي الصحابة واختلفوا في عثمان بعد الأحداث التي أحدثها فأكثرهم تولاه وتأول له وأكثرهم على البراءة من معاوية وعمرو بن العاص وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي تعداد علمائهم مصنفات عدة كالمصابيح لابن يزداذ وغيره. أهـ. هذا ما قاله واحد منهم في حقيقة ما أجمعوا عليه. وإليك ما قاله الشهرستاني صاحب الملل والنحل وهو ليس منهم: والمعتزلة ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى احترازاً عن وصمة اللقب إذ كان الذم به متفقاً عليه لقول النبي عليه السلام القدرية مجوس هذه الأمة وكان الصفاتية تعارضهم بالاتفاق على أن الجبرية والقدري متقابلتان تقابل التضاد فكيف يطلق لفظ الضد

على الضد وقد قال النبي عليه السلام القدرية خصماء الله في القدر والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على فعل الله وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم والمحكوم فالذي يعم طائفة المعتزلة م الاعتقاد القول أن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف لذاته ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا هو عالم بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة وهي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في الدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فإنما وجد في المحل عرض فقد فني في الحلل واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته ولكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ونفي التشبيه عنه من كل وجه جهة ومكاناً وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها وسموا هذا النمط توحيداً واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير ويحب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم وسموا هذا النمط عدلاً واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام امتحاناً واختباراً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة واختلفوا في الإمامة والقول فيها نصاً واختياراً. وهنا ذكر الشهرستاني مقالة كل طائفة من طوائف المعتزلة مثل الوصلية أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء والهذيلية أصحاب أبي الهيل حمدان بن أبي الهذيل العلاف

والنظامية أصحاب إبراهيم بن سيار بن هاني النظام والحائطية أصحاب أحمد ابن حائط والحدثية أصحاب فضل بن الحدثي والبشرية أصحاب بشر بن المعتمر والمعمرية أصحاب معمر بن عباد السلمي والمزداربة أصحاب عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى الملقب بالمزدار والثمامية أصحاب ثمامة بن أبي أشرس النميري والهشامية أصحاب هشام بن عمرو الفوطي والجاحظية أصحاب عمر بن بحر الجاحظ والخياطية أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط والجبائية والبهشمية أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام. ومن ورجال المعتزلة الحسنان عليهما السلام ومحمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب وأبي الأسود الدؤلي وعلقمة والأسود وشريح من أصحاب عبد الله بن مسعود والحسن البصري وعبد الله بن عمر وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري وعبد الله بن عباس وغيلان بن مسلم الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه صالحاًَ في أبشع صورة لأنه أنكر على بني أمية سوء سياستهم في الرعية وواصل بن عطاء وهو الذي أنفذ أصحابه إلى الآفاق وبث دعاته في البلاد فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير وبعث إلى خراسان حفص بن سالم وبعث القاسم إلى اليمن وبعث أيوب إلى الجزيرة وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة وعثمان الطويل إلى أرمينية ومنهم عمرو بن عبيد وكان المنصور العباسي يبالغ في تعظيمه ورثاه وقلما عهد أن الخليفة رثى رعية بقوله: صلى الإله عليك من متوسد ... قبراً مررت به على مُرَّان قبراً تضمن مؤمناً متخشعاً ... عبد الإله ودان بالقرآن وإذا الرجال تنازعوا في شبهة ... فصل الحديث بحجة وبيان ولو أن هذا الدهر أبقى صالحاً ... أبقى لنا عمراً أبا عثمان ومنهم أبو الهذيل العلاف الذي قال فيه المأمون أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام. ومنهم إبراهيم النظام وهو الذي يقول فيه الجاحظ. الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحاً فهو أبو إسحاق النظام وبشر بن المعتمر الهلالي وأبو عمرو بن بحر الجاحظ وعبد الرحمن بن كيسان الأصم وأحمد بن أبي داؤد وثمامة بن الأشرس ومنهم الجعفران اللذان يضرب المثل بعلمهما وزهدهما كما يضرب

المثل في حسن السيرة بالعمرين وهما أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي وأبو الفضل جعفر بن حرب ومنهم أبو جعفر الإسكافي وأبو عبد الله الدباغ وأبو علي الجبائي ومنهم أبو العباس الناشيء ومحمد بن عمر الصيمري والسيرافيان أبو القاسم وأبو عمران وقاضي القضاة عبد الجبار الهمداني ومنهم الصاحب بن عبدا والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني والجوهري صاحب الصحاح والشريف المرتضى وأبو بكر الرازي وأبو بكر الدينوري. ومما يؤثر في أخلاق أئمة المعتزلة وورعهم ما قاله الواثق لأحمد بن أبي داؤد لم لا تولي أصحابي (أي المعتزلة) القضاء كما تولي غيرهم فقال يا أمير المؤمنين إن أصحابك يمتنعون من ذلك وهذا جعفر بن مبشر وجهت إليه بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها فذهبت إليه بنفسي واستأذنت أن يأذن لي فدخلت من غير إذن فسل سيفه في وجهي وقال الآن حلَّ لي قتلك فانصرفت عليه فكيف أولي القضاء مثله. وروي أن أحد أئمتهم جعفر بن مبشر أضرت به الحاجة حتى كان يقبل القليل من زكاة أخوانه فحضره يوماً بعض التجار فتكلم بحضرته في خطبة نكاح فأعجب به ذلك التاجر فسأل عنه فأخبر بمسكنته فبعث إليه بخمسمائة دينار فردها فقيل له قد عذرناك في رد مال السلطان للشبهة وهذا تاجرماله من كسبه فلا وجه لردك فقال جعفر إنه استحسن كلامي افتراني أن آخذ على دعائي إلى الله تعالى موعظتي ثمناً لو لم أكن فعلت هذا ثم ابتدأني لقبلت. وروي أن بعض السلاطين وصله بعشرة آلاف درهم فلم يقبل وحمل إليه بعض أصحابه بدرهمين من الزكاة فقبل فقيل له في ذلك فقال: أرباب العشرة أحق بها مني وأنا أحق بهذين الدرهمين لحاجتي إليهما وقد ساقهما الله إلي من غير مسألة وأغناني بهما عن الشبهة والحرام. وفي طبقات السبكي: قال ابن الصلاح هذا الماوردي عفا الله عنه يتهم بالاعتزال وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منهما وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل ولهذا يورد من أقوال المشبهة أشياء مثل هذا الإيراد حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة ومن ذلك مصيره في الاعتراف إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان

قال في قوله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن وجهان في جعلنا أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحوناً بتأويلات أهل الباطل تلبيساً وتدليساً على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هولهم فيه موافق ثم هو ليس معتزلياً مطلقاً فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرن كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وغير ذلك ويوافقهم في القدر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديماً. انتهى. . هذا ما سمح به الوقت الآن من الكلام على هذه الفرقة وعسانا نوفق إلى درس كتبهم وما قيل فيهم فنعود إلى موضوعهم بأجلى بيان وأوسعه برهان.

إكرام الشعراء

إكرام الشعراء ما ندري متى نشأت في العرب الإجازة على الشعر في المديح. والغالب أن هذه القاعدة قديمة في أمرائهم رؤسائهم قبل الإسلام ولما جاء كعب بن زهير إلى الرسول عليه السلام وأنشد بين يديه قصيدته المشهورة خلع عليه خلعة سنية. حتى إذا كان عهد الحضارة أخذ بعض الكبراء يغالون في عطاء الشعراء لما وقر في نفوسهم من تأثير أقوالهم في الناس. والشعراء يقولون كلما زدتمونا عطاءً زدناكم مديحاً وثناءً. حتى اصبح الشعراء على عهد بعض الخلفاء والملوك والأمراء أشيبه بجماعة من ولاة الأمر وقوام الدولة تطلق لهم الجرايات والمشاهرات ويأخذون الجوائز والأعطيات ويرجع إليهم في المهمات ويثيرون النفوس في الملمات. وكم من ملك لولا أماديح شعرائه لكان خامل الذكر لا نسمع به إلا في الندر وكم من شاعر شرَّف ممدوحه بما صاغ له من عقود الثناء. إلا أن الشعراء في هذه الأمة قد ابتذلوا في العصور المتأخرة شعرهم حتى أصبحت تستنكف من سماعه. والأمة إذا ضعفت سياستها يضعف فيها كل شيء على نسبته فكيف يتأتى للشعراء أن يضعوا أماديحهم في محلها ومحيطهم كما رأيت من الانحطاط نعم ضعفت ملكة الشعر وقلت قيمته بقلة أقدار الأمراء وشعرائهم حتى أصبح الشعراء والحال لم يزل لها بقية في بعض البلاد أشبه بشحاذين يستوكفون الأكف بما ينظمون ويضعون من المعاني والألفاظ ما يعد غلواً لو أطلق على أعظم رجل في الأرض فما الحال بممدوحيهم ولو أنصفوهم لهجوهم بدل أن يمدحوهم. نعم هزلت حالة الشعر واشمأزت نفوس المتأدبين الحقيقيين من الأماديح فأصبحوا لا يجوزون المديح حتى على من يستحقونه وعدوه من سخف القول وهجره. ولقد رأينا الشعراء في القرن الرابع والخامس والسادس مثلاً يصونون الشعر عن الابتذال فكانت له قيمة عند الناس ولاسيما عند من يرجون نوالهم فكنت ترى أبا الطيب المتنبي لا يجوّز أن يمدح غير أرباب الدولة والزعامة وقل أن قال شيئاً يذكر فيمن دونهم مع أنه طالما أريد على ذلك، وأن رجلاً استنكف بداءة بدءٍ أن يمدح الصاحب بن عباد وهو في الفضل ما هو لجدير بأن يوقر شعره والقول يشرف بشرف قائله والمقول فيه. ولو ابتذل المتنبي شعره في عصره ومدح به كل من يعطيه لما كان له هذا الرونق والطلاوة ولما أجزل الأمراء له العطاء على ما رأينا في سيرته. فقد رأينا أبا شجاع فاتكاً يبعث إليه بألف

دينار عندما هبط مصر بعد أن فارق سيف الدولة بن حمدان فلم يسعه إلا مدحه. واتصل بكافور ملك مصر فأعطاه ومدحه ثم لما أراده على أن يوليه ولاية صيدا وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم هجاه أقبح هجو لما لم يرضه ورحل عن مصر فبعث على أثره من يقبض عليه ولكنه كان خلص إلى بلاد أخرى. وهكذا لو استقريت أحوال الشعراء في تلك العصور لوجدت شعرهم يعلو على حسب أقدار من يمدحونهم من معاصريهم من الملوك وكلما اقترب الشاعر من كبير كبر كما قيل جاور السعيد تسعد. ومن أعظم الشعراء الذين اشتهروا وصار لشعرهم موقع لقربهم من الكبراء وأخذهم الجوائز على قصائدهم عمارة اليمني من أهل القرن السادس وهذا الرجل كان كالمتنبي غريباً في أطواره. كان كما قال عن نفسه من قحطان ثم الحكم بن سعد العشيرة المذحجي من مدينة في تهامة في اليمن يقال لها مرطان من وادي وساع وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً وكان أهلها بقية العرب في تهامة لأنهم لا يساكنهم حضري ولا يناكحونه ولا يجيزون شهادته ولا يرضون بقتله قوداً بأحد منهم ولذلك سلكت لغتهم من الفساد وإذ كان من أهل بيت مجد وعلم انتدبه صاحب الحرمين إلى السفارة عنه والرسالة منه إلى المصرية فقدمها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة والخليفة بها يومئذ الإمام الفائز بن الظافر الفاطمي والوزير له الملك الصالح طلائع بن رزيك فلما أُحضر للسلام عليهما في قاعة الذهب في قصر الخليفة أنشدهما قصيدة أولها: الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أولت من النعم لا أجحد الحق عندي للركاب يدٌ ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم قرّين بُعد مزار العزّ من نظري ... حتى رأيت إمام العصر عن أمم ورحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم فهل درى البيت أني بعد فرقت ... ما سرت من حرم إلاّ إلى حرم حيث الخلافة مضروب سُرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم وللإمامة أنوار مقدسةٌ ... يجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم

وللنبوة آيات تنص لنا ... على الخفيين من حُكم ومن حِكم وللمكالارم أعلام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلى ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم وراية الشرف البذَّاخ ترمقها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم إلى آخر مدح به الخليفة ووزيره فأفيضت عليه الخلع المذهبة وأعطي خمسمائة دينار من مال الخليفة وأخرج له مثلها من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ وأطلقت له من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبله وتهاداه أمراء الدولة على منازلهم للولائم وانثالت عليه صلات الخليفة فمن بعده من الوزراء ومكبار عماله وقضى في مصر تسع عشرة سنة والدولة الفاطمية في أواخر أيامها تضعف وتقوى وتسفل وتعلو وكلما مدح كبيراً نال جزيلاً وجميع شعره وفيه المعاني الجيدة المصورة أحسن تصوير يدور على غرض مديح الكبراء وأغراض من السياسة تقتضيها حال من يدخل في غمارها. جاء عمارة سفيراً إلى ملك مصر فطاب له المقام فيها وأوسعه أرباب السلطان براً لا على أنه شاعر يطلب الجوائز بل على أنه سياسي له ضلع في أحوال اليمن والحجاز وقد كان الفاطميون على عهده يملكون الحجاز وتطمح نفوسهم إلى امتلاك اليمن فحري بمن كان مثل عمارة أن يؤمل منه أن يسهل لهم أسباب فتحها ولذلك انهالت عليه الصلات أي انهيال وعاش عيشة أمير لا عيشة شاعر. ذكر ذلك في كتاب النكت العصرية وكثيراً ما يذكر مقدار ما تجود به عليه أيدي الأمراء من الأرزاق والأموال حتى صار إذا تأخروا عنه حفزهم بنابل من شعره فيعودون إلى ما عودوه عليه. قال عمارة في مدح شاور وزير الفاطميين: حمي الوطيس فخاضه بعزائم ... علمن حسن الصبر من لم يصبر ضجر الحديد من الحديد وشاورٌ ... في نصر آل محمد لم يضجر حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفِّر يا فاتحاً شرق البلاد وغربها ... يُهنئك أنك وارث الاسكندر قال وكانت هذه الأبيات من أحد السباب التي قوت عزمي على الاستغناء عن عمل الشعر لأن الناس فيما تقدم كانوا يغنون الشعراء بما ليس فوقها في الجودة إلى أن يقول: ورأيته

(شاور) يوماً وقد انشرح صدره فقلت له أن لي مدة تنازعني النفس في الحديث معك في حاجة وقد عزمت أن اقولها لك فإن قضيتها وإلا كنت قد أبليت عن نفسي عذراً قال: وما هي؟ قلت: تعفيني من عمل الشعروتنقل الجاري على الخدمة راتباً على حكم الضيافة فإني أرى التكسب بالشعر والتظاهر به نقيصة في حقي قال: ما منعك أن تستعفي في ايام الصالح وابنه قلت: كانت لي أسوه وسلوة بالشيخ الجليس ابن الحباب وبابني الزبير الرشيد والمهذب وقد انقرض الجيل والنظراء. قال: تعفى ثم أمر بإنشاء سجل بإعفائي وأخذ عليه خط الخليفة وخطه بذلك. وبهذا عرفت أن أخلاق عمارة كانت لأول أمرها تأبى الدخول في زمرة الشعراء والارتزاق من طريق الشعر ولكن عاد يتناول الجوائز من الخليفة فمن دونه من أرباب الدولة إلا أنه لم يكن في أخلاقه كالشعراء في العادة بل كان كثيراً ما ينصح للعظماء من الفواطم ولا يخاف بأسهم وسطوتهم قال: ولما عاد (شاور) من حصار الإسكندرية أكثر من سفك الدماء بغير حق وكان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار فسألني الجماعة أن أعمل قصيدة في هذا المعنى فقتل: ألا أن حد السيف لم يبق خاطراً ... من الناس إلا حائراً يتردد ذعرت الورى حتى لقد خاف مصلح ... على نفسه أضعاف ما خاف مفسد فأغمد شفار المشرفيّ وعُد بنا ... إلى عادة الإحسان وهي التغمد فإن بروق الماضيات وصوتها ... رواعد منهن الفرائص ترعد وإن صليل السيف أفحش نغمة ... تظل تُغني في الطلى وتغرد تجاوز وإلا فالمقطم خيفةً ... يذوب وماء النيل لا شك يجمد ومع ما كان يقرّع به رجال الفاطميين ويخوفهم من ارتكاب الظلم كانوا يرتاحون إليه هذا وهو سني قح وهم شيعة محض حتى أراده بعض أمرائهم وهو الصالح بن زريك أن يعود متشيعاً ويأخذ منه ثلاثة آلاف دينار فأبى. ولطالما كانوا يطلقون له الرواتب ويخلعون عليه الخلع ويرسلون إليه بإردبات من الحنطة والشعير وأباليج من السكر ودكاكيج كبار من الزيت الطيب وخرفان رضع سمان وله قصائد ومقطوعات يصح أن تدرج في باب الشعر الاجتماعي لما فيها من المعاني الغريبة

ففما قاله في مدح شمس الدولة: العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم وخير خليك إن صاحبت في شرف ... عزم يفرق بين الساق والقدم إن المعالي عروس غير واقعة ... إن لم تخلق رداءيها برشح دم ترى مسامع فخر الدين تسمع ما ... أملاه خاطر أفكاري على قلمي فإن اصبت فلي حظ المصيب وإن ... أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم ومنها: لا يدرك المجد إلا كل مقتحم ... في موج ملتطم أو فوج مضطرم لا ينقض الخطوة الأولى بثانية ... ولا يفكر في العقبى من الندم كأنما السيف أفتاه وقال له ... في فتح مكة حل القتل في الحرم ولم يراعوا لعثمان ولا عمرٍ ... ولا الحسين ذمام الشهر الحرم فما تروم سوى فتح صوارمه ... يضحكن في كل يوم عابس إليهم حتى كأن لسان السيف في يده ... يروي الشريعة عن عاد وعن إرم هذا المحدَّث عنه في ثيابك يا ... شمس الهدى والعلى يصغي إلى كلمي هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحماً على وضم وقد ترامى إلى أن أمسكت يده ... من الكواكب بالأنفاس والكظم وكان أول هذا الدين من رجل ... سعى لى أن أدعوه سيد الأمم والغيث فهو كما قد قيل أوله ... قطر ومنه خراب السد بالعرم والبدر يبدو هلالاً ثم يكشف ... الأنوار ما سترته شملة الظلم تنمو قوى الشيء بالتدريج إن رزقت ... حظاً ويقوى شرار الزند بالضرم حاسب ضميرك عن رأي أتاك وقل ... نصيحة وردت من غير متهم وقال في قصيدة: هل القلب إلا بضعة يتقلب ... له خاطر يرضى مراراً ويغضب أم النفس إلا وهدة مطمئنة ... تفيض شعاب الهم منها وتنضب فلا تلزمن الناس غير طباعهم ... فتتعب من طول العتاب ويتعبوا

فإنك إن كشفتهم ربما انجلى ... رمادهم عن جمرة تتلهب فتاركهم ما تاركوك فإنهم ... إلى الشر مذ كانوا من الخير أقرب ولا تغترر منهم بحسن بشاشة ... فأكثر إيماض البوارض خلب واصغ إلى ما قلته تنتفع به ... ولا تطرح نصحي فإني مجرب فما تنكر الأيام معرفتي بها ... ولا إنني أدرى بهن وأدرب وإني لأقوام جُذيلٌ محكك ... وإني لأقوام عذيق مُرَّجب عليم بما يرضي المروءة والتقى ... خبير بما آتي وما أتجنب حلبت أفاويق الزمان براحة ... تدر بها أخلافه حين تُحلب وصاحبت هذا الدهر حتى لقد غدت ... عجائبه من خبرتي تتعجب ودوخت أقطار البلاد كأنني ... إلى الريح أعزى أو إلى الخضر أنسب وعاشرت أقواماً يزيدون كثرة ... على الألف أو عد الحصا حين يحسب فما راقني في ارضهم قط مرتع ... ولاشافني في وردهم قط مشرب تراني وإياهم فريقين كلنا ... بما عنده من عزة النفس معجب فعندهم دنيا وعندي فضيلة ... ولا شك أن الفضل أعلى وأغلب على أن ما عندي يدوم بقاؤُه ... عليَّ ويفنى المال عنهم ويذهب أناسٌ مضى صدرٌ من العمر عندهم ... أصعد ظني فيهم وأصوب رجوت بهم نيل الغنى فوجدته ... كما قيل في الأمثال عنقاءُ مغرب وكسل عزم المدح بعد نشاطه ... لذي ذمه عندي من المدح أوجب كان القوافي حين تدعى لشكرهم ... على الجمر تمشي أو على الشوك تسحب أفوه بحق كلما رمت ذمهم ... وما غير قول الحق لي قط مذهب وأصدق إلا أن أريد مديحهم ... فإني على حكم الضرورة أكذب ولو علموا صدق المدائح فيهم ... لكانت مساعيهم تهش وتطرب وله في الوصف أشعار منها قصيدة يذكر فيها حريق منظرة بدر بن رزيك على الخليج ويذكر داره الأخرى وما فيها من الستور وتصاويرها ومقاطعها قال فيها: لم تحترق دار الخليج وإنما ... شبت لمن يسري بها نار القرى

طلبت يفاع الأرض دون وهادها ... فتوقدت في رأس شامخة الذرى أو هل تزور النار ساحة جنة ... أجريت فيها من نداك الكوثرا أنشأت فيها للعيون بدائعاً ... زفت فأدخل حسنها من أبصرا فمن الرخام مسيراً ومسهماً ... ومنمنماً ومدرهماً ومدنرا والعاج بين الأبنوس كأنه ... أرض من الكافور تنبت عنبرا قد كان منظرها بهياً رائقاً ... فجعلتها بالوشي أبهى منظرا وكذاك جيد الظبي يحسن عاطلاً ... ويروقك البيت الحرام مسترا ألبستها بيض الستور وحمرها ... فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا فمجالس كسيت رقيماً أبيضاً ... ومجالس كيت طميماً أصفرا لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصورا فيها حدائق لم تجدها ديمة ... أبداً ولا نبتت على وجه الثرى والطير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها لم تستطع أن تنفرا لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثاً ولا ظبياً بوجرة أعفرا أنست نوافر وحشها بسباعها ... فظباؤها لا تتقي أسد الشرى وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا نوبية المنشي تريك من المها ... روقاً ومن بُزل المهارى مشفرا جبلت على الإقعاء من أعجابها ... فتخالها للتيه تمشي القهقرا دارت الأيام دورتها وكتب لصلاح الدين يوسف أن يقلب الدولة الفاطمية ويديل منها الأمر للعباسية فأصبح شاعرنا بعد أن كانت عطايا الفاطميين تغدق عليه إغداقاً مقتراً عليه في الرزق يسأل فلا يجاب ويهز الأكف فلا تندى ويعرض حاله ويعرّض بنواله فلا يؤبه له وبقي أشهراً على هذه الحال وقد انقطعت عنه النعم السالفة فلم يجد له أهل الحل والعقد في مصر من يعوضه عن بعض ما كان يتناوله فصار إلى الحور بعد الكور ونعوذ بالله من زوال النعم. فكتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف قصيدة لم ينشدها وقد ترجمها بشكاية المتظلم ونكاية المتألم وهي تعرب عما لقي من الألاقي والشدائد قال: أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي ... لنفثة مصدور وأنة موجع

وعي كل صوت تسمعين نداءه ... فلا خير في أذن تنادي فلا تعي تقاصر بي خطب الزمان وباعه ... فقصر عن ذرعي وقصر أذرعي وأخرجني من موضع كنت أهله ... وأنزلني بالجود في غير موضعي بسيف ابن مهدي وأبناء فاتك ... أقض من الأوطان جنبي ومضجعي فيممت مصراً أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما في ظل عيش ممنع وزرت ملوك النيل إذ واد نيلهم ... فأحمد مرتادي وأخصب مرتعي وفزت بألف من عطية فائز ... مواهبه للصنع لا للتصنع وكم طرقتني من يد عضدية ... سرت بين يقظي من عيون وهجع وجاد ابن رزيك من الجاه والغنى ... بما زاد عن مرمى رجائي ومطمعي وأوحى إلى سمعي ودائع شعره ... لخبرته مني بأكرم مودع وليست أيادي شاور بذميمة ... ولا عهدها عند بعهد مضيع ملوك رعوا لي حرمة صار نبتها ... هشيماً رعته النائبات وما رُعي وردت بهم شمس العطايا لوفدهم ... كما قال قوم في على وتوسع مذاهبهم في الجود مذهب سنة وإن خالفوني في اعتقاد التشيع فقل لصلاح الدين والعدل شأنه ... من الحكم المصغي إليّ فادعي سكت فقالت ناطقات ضرورتي ... إذا حلقات الباب علقن فاقرعي فدللت إدلال المحب وقلت ما ... أبالي بعفو الطبع لا بالتطبع وعندي من الآداب ما لو شرحته ... تيقنت أني قدوة ابن المقفع أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهر ... أقول لصدري كلما ضاق وسع أعلل غلماني وخيلي ونسوتي ... بما صغت من عذر ضعيف مرقع ونوابكم للوفد في كل بلدة ... تفرق شمل النائل المتوزع وكم من ضيوف الباب ممن لسانه ... إذا قطعوه لا يقوم بإصبع مشارع من نعمائكم زرتها وقد ... تكرر بالاسكندرية مشرعي وضايقني أهل الديون فلم يكن ... سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي فيا راعي الإسلام كيف تركته ... فؤقي ضياع من عرايا وجوًّع

دعوناك من قرب ومن وبعد فهب لنا ... جوابك فالباري يجيب إذا دُعي إلى الله أشكو من ليالي ضرورة ... رجعنا بها نحو الجناب المرجع قنعنا ولم نسألك صبراً وعفةً ... إلى أن عدمنا بلغة المتقنع ولما أغص الريق مجرى حلوقنا ... أتيناك نشكو غصة المتوجع فإن كنت ترى الناس للفقه وحده ... فمنه طرازي بل لثامي وبرقعي ألم ترّعني للشافعني وأنتم ... أجلُّ شفيع عند أعلى مشفع ونصري له في حيث لا أنت ناصر ... بضرب صقيلات ولا طعن شرع ليالي لا فقه العراق بسجسج ... بمصر ولا ريح الشآم بزعزع كأني بها من أهل فرعون مؤمن ... أصارع عن ديني وإن حان مصرعي أمن حسنات الدهر أم سيئاته ... رضاك عن الدنيا بما فعلت معي ملكت عنان النصر ثم خذلتني ... وحالي بمرأى من علاك ومسمع فحالك لم توسع عليّ وتلتفت ... إليّ التفات المنعم المتبرع فأما لأني لست دون معاشر ... فتحت لهم باب العطاء الموسع وإما لما أوضحته من زعازع ... عصفن على ديني ولم أتزعزع وردي ألوف المال لم ألتفت لها ... بعيني ولم أحفل ولم أتطلع وإما لفن واحد من معارفي ... هو النظم إلا أنه نظم مبدع فإن سمتني نظماً ظفرت بمغلق ... وإن سمتني نثراً ظفرت بمصقع طباع وفي المطبوع من خطراته ... غني عن أفانين الكلام المصنع سألتك في دين لياليك سُقنه ... وألزمتنيه كارهاً غير طيع وهاجرت أرجو منك إطلاق راتب ... تقرر من أزمان كسرى وتبع وليتك فيمن أطلق الشرق مطلعي ... لتعلم نبعي إن عجمت وخروعي وما أنا إلا قائم السيف لم يعن ... بكفٍ ودر لم يجد من مرصع وياقوتة في سلك عقد مداره ... على خرزات من عقيق مجزع وكم مات نضناض اللسان من الظما ... وكم شرقت بالماء أشداق الكع فيا واصل الأرزاق كيف تركتني ... أمد إلى نيل المنى كف أقطع

أعندك أني كلما عطس امرؤٌ ... بذي شمم أقنى عطست بأجدع ظلامة مصدوع الفؤاد فهل له ... سبيل إلى جبر الفؤاد المصدع وأقسم لو قالت لياليك للدجى ... أعد غارب الجوزاء قال لها اطلعي غدا الأمر في إيصال رزقي وقطعه ... بحكمك فابذل كيف ما شئت وامنع كذلك أقدار الرجال وإن غدت ... بحكمك فاحفظ كيف شئت وضيِّع فيا زارع الإسلام في كل تربةٍ ... ظفرت بأرض تنبت الشكر فازرع فعندي إذ ما العرف ضاع غريبه ... ثناء كعرف المسكة المتضو وقد صدرت في طيّ ذا النظم رقعة ... غدا طمعي فيها إلى خير مطمعي أريد بها إطلاق ديني وراتبي ... فأطلقهما والأمر منك ووقع وبيني وبين الجاه والعز والغنى ... وقائع أخشاها إذا لم توقع وما هي إلا مدة نستمدها ... وقد فجت الأرزاق من كل منبع إلى هاهنا أنهي حديثي وأنتهي ... وما شئت في حقي من الخير فاصنع فإنك أهل الجود والبر والتقى ... ووضع الأيادي البيض في كل موضع هذا ما قاله عمارة لما ضاقت عليه الدنيا والغالب أنه في تلك الحال نظم قصيدته المشهورة يرثي بها الفاطميين ويعرض بصلاح الدين التي يقول في مطلعها: رميت الدهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلي الحسن بالعطل وفي ذاك الحين أخذ يدبر مكيدة على صلاح الدين يريد وجماعة من رجال الفاطميين الوثوب به واتفق رأيهم كما قال ابن الأثير على استدعاء الفرنج من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد فإذا قصدوا البلاد فإن خرج صلاح الدين بنفسه إليهم ثاروا هم في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية وعاد من معه من العسكر اللذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقابل الإفرنج وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه باليد لعدم الناصر له وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفاً أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده وارسلوا إلى الإفرنج وصقلية والساحل في ذلك وتقررت القاعدة بينهم ولم يبق إلا رحيل الفرنج وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا الواعظ والقاضي

المعروف بابن بحية ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقضاة إلا أن بني رزيك قالوا يكون الوزير منا وبني شور والقاضي قالوا يكون الوزير منا. فلم علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر فأمره بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون يفعلونه وتعريف ما يتجدد أولاً بأول ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه ثم وصل رسول ملك الفرنج بالساحل بهدية ورسالة وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال فوضع صلاح الدين على الرسول من يثق به من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة ومنهم عمارة. وذكر صاحب الكامل أنه كان بين عمارة والقاضي الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها فلما أراد صلاح الدين صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه وظن عمارة أنه يحرضه على هلاكه فقال لصلاح الدين: يا مولانا لا تسمع منه في حقي فغضب الفاضل وخرج وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان يشفع فيك فندم ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة: عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب

الدرة اليتيمة

الدرة اليتيمة لابن المقفع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلواته على نبينا محمد وآله الطاهرين. قال عبد الله بن المقفع: وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساداً وأوفر مع أجسادهم أحلاماً وأشد قوة وأحسن بقوتهم للأمور إتقاناً وأطول أعماراً وأفضل بأعمارهم للأشياء اختباراً فكان صاحب الدين منهم أبلغ من أمر الدين علماًُ وعملاً من صاحب الدين منا وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة فكتبوا به الكتب الباقية وكفونا به مؤونة التجارب والفطن وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبد غير المأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده. فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال والعقد إرادة أن لا تكون عليهم مؤونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمن أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسنينا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتحل في آرائهم والمنتقى من أحاديثهم ولم نجدهم غادروا شيئاً يجدوا بليغٌ في صفة له مقالاً لم يسبقوه إليه لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم أقسامها وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها وتبيين مآخذها ولا في وجوه الأدب وضروب الأخلاق فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس. يا طالب الأدب اعرف الأصول والفصول فإن كثيراً من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول فلا يكون دركهم دركاً ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.

فاصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب وتجتنب الكبائر وتؤدي الفريضة فالزم ذلك لزوم من لا غناء به عنه طرفة عين ومن يعلم أنه إن حُرِمه هلك ثم إن قدرت أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل. وأصل الأمر في إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافاً وإن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد ومضاره والانتفاع بذلك فهو أفضل. وأصل الأمر في البأس ألا تحدث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبلون على عدوهم ثم أن قدرت أن تكون أول حامل وآخر منصرف من غير تضييع للحذر فهو أفضل. وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق عن أهلها ثم إن قدرت أن تزيد ذا الحق على حقه وتطول على من لا حق له فافعل فهو أفضل. وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط بالتحفظ ثم إن قدرت على بارع الصواب فهو أفضل. وأصل الأمر في المعيشة أن لا تني عن طلب الحلال وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفق ولا يغرَّنك من ذلك سعة تكون فيها فإن أعظم الناس في الدنيا خطراً أحوجهم إلى التقدير والملوك أحوج إلى التقدير من السوقة لأن السوقة قد يعيش بغير مال والملوك لا قوام لهم إلا بالمال ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب فهو أفضل. وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة التي لو حنكتك سن كنت خليقاً أن تعلمها وإن لم تخبر عنها ولكن أحببت أن أقدم إليك فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادة مساويها فإن الإنسان قد تبتدر إليه في شبيبته المساويء وقد يغلب عليه ما يبدر إليه منها. إن ابتليت بالإمارة فتعوذ بالعلماء واعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بها فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه وعمله فيزيدها في ساعات دعته وشهوته وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه فإذا تقلدت شيئاً من الأعمال فكن فيه أحد رجلين إما رجلاً مغتبطاً به فحافظ عليه مخافة أن يزول عنك وإما رجلاً كارهاً فالكاره عامل في سخرة أما للملوك إن كانوا هم سلطوه وإما لله إن كان ليس فوقه غيره.

إياك إذا كنت والياً أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها باباً يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منها. اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه والمرء جدير ن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فإن الراد له محمود والقابل له معيب. لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال رضا ربك ورضا سلطان إن كان فوقك ورضا صالح من تلي عليه ما عليك إن تلهى عن المال والذكر فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب واجعل الخصال الثلاث بمكان ما لا بد لك منه والمال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بداً. اعرف أهل الدين والمروءة في كل كورة وقرية وقبيلة فيكونوا هم أخوانك وأعوانك وبطانتك وثقاتك ولا يقذفن في روعك أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك فإنك لست تريد الرأي للافتخار به ولكن تريد للانتفاع به ولو أنك مع ذلك أردت الذكر كان أحسن الذاكرين وأفضلها عند أهل الفضل أن يقال لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي. إنك أن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك وكيف يتفق لك رأي المختلفين وما حاجتك إلى رضا من رضاه لجوروالي موافقة من موافقته الضلالة والجهالة فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤونة ما سواه. لا تمكن أهل البلاء من التذلل ولا تمكن من سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم. لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها. احرص الحرص كله على أن تكون خبيراً بأمور عمالك فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك وإن لمحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك. ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي. عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم ولا تسهلن سبيل ذلك إلاّ لأهل العقل والسن والمروءة لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخف له شأنٌ.

لا تتركن مباشرة جميع أمرك فيعود شأنك صغيراً ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعاً. اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاختص به ذوي الحقوق وأن كرامتك لا تطيق العامة فتوخ بها أهل الفضائل وإن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة فأحسن قسمتها بين دعتك وعملك. واعلم أنك ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى بالمهم وما صرفت من مالك بالباطل فقدته حين تريده للحق وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرَّ بك من العجز عن أهل الفضل وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة. اعلم أن من الناس ناساً كثيراً يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه وسوء اللفظ لمن لا ذنب له والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك ثم يبلغ به الرضا إذا رضي أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده ويعطي من لم يكن أعطاه ويكرم من لا حق له ولا مودة فاحذر هذا الباب كله فإنه ليس أحد أسوأ حالاً من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم فإنه لو وصف بصفة من يتلبس بعقله أو بتخبطه المس من يعاقب في غضبه غير من أغضبه ويحبو عند رضاه غير من أرضاه لكان جائزاً في صفته. اعلم أن الملك ثلاثة ملك دين وملك حزم وملك هوى فأما ملك الدين فإنه إذا أقيم لأهله دينهم وكان يدنهم هو الذي يعطيهم مالهم ويلحق بهم الذي عليهم أرضاهم ذلك ونزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم وأما ملك الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والتسخط ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر إذا كان سلطانك عند جدَّة دولة فرأيت أمراً استقام بغير رأي وأعواناً جزوا بغير نيل وعملاً أنجح بغير حرم فلا يغرنك ذلك فلا تستنم إليه فإن الأمر الجديد مما تكون له مهابة في أنفس أقوام وحلاوة في أنفس آخرين فيعين قوم بأنفسهم ويعين قوم بما قبلهم ويستتب بذلك الأمر غير طويل ثم تصير الشؤون إلى حقائقها وأصولها فما كان من الأمر بني على غير

أركان وثيقة ولا عماد محكم أوشك أن يتداعى ويتصدع. لا تكونن نزر الكلام والسلام ولا تفرطن بالهشاشة والبشاشة فإن إحداهما من الكبر والأخرى من السخف. إذ كنت لا تضبط أمرك ولا تصول على عدوك إلا بقوم لست منهم على ثقة من رأي ولا حفاظ من نية فلا تنفعك نافعة حتى تحولهم إن استطعت إلى الرأي والأدب الذي بمثله تكون الثقة أو تستبدل بهم إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد ولا تغرنك قوتك بهم وإنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه وهو لمركبه أهيب. ليس عملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته. وليس له أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد. وليس له أن يبخل لأنه أقل الناس عذراً في تخوف الفقر وليس له أن يكون حقوداً لأن خطره قد عظم عن مجازاة كل الناس. وليتق أن يكون حلافاً فأحق الناس باتقاء الإيمان الملوك فإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخلال إما مهانة يجدها في نفسه وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه وأما عيٌّ بالكلام حتى يجعل الإيمان له حشواً ووصلاً وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل منه قوله إلا بعد جهد اليمين وأما عبث في القول أو إرسال اللسان على غير روية ولا تقدير. لا عيب على الملك في تعيشه وتنعمه إذا تعهد الجسيم من أمره وفوض ما دون ذلك إلى الكفاة. كل الناس حقيق حين ينظر في أمر الناس أن يتهم نظره بعين الريبة وقلبه بعين المقت فإنهما يريان الجور ويحملان على الباطل ويقبحان الحسن ويحسنان القبيح وأحق الناس باتهام عين الريبة وعين المقت الملك الذي ما وقع في قلبه لاربا مع ما يقبض له من تزيين القرناء والوزراء وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمراً نافذاً غير مردود. ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود فليكابد نقض قولهم وليبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يوصفون بها. ليتفقد الوالي فيما يتفقد من أمور الرعية فاقة الأحرار منهم فليعمل في سدها وطغيان السفلة

منهم فليقمعه وليستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم جاع واللئيم إذا شبع. لا يحسدن الوالي من دونه فإنه في ذلك أقل عذراًُ من السوقة التي إنما تحسد من فوقها وكلٌّ لا عذر له. لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهم على الحرص على رضاه إلا لوم أدب وتقويم ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحداً فإنهما إذا اجتمعا في الوزير أو الصاحب نام الوالي واستراح وجلبت إليه حاجاته وإن هدأ عنها وعمل فيما يهمه وإن غفل. لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيباً موفوراً يروّح به عن قلبه ويصدر به أعماله. لا يضيعن الوالي التثبت عندما يقول وعندما يعطي وعندما يفعل فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه وكل الناس محتاج إلى التثبيت وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع وليس عليهم مستحث. ليعلم الوالي ن الناس على رأيه إلا من لا بال له منهم فليكن للبر والمروءة عنده نفاق فيكسد بذلك الجور والدناءة في آفاق الأرض. جماع ما يحتاج إليه الوالي رأيان رأي يقوي سلطانه ورأي يزينه في الناس ورأي القوة أحقهما بالبداءة وأولاهما بالأثرة ورأي التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعواناً مع أن القوة من الزينة والزينة من القوة لكن الأمر ينسب إلى أعظمه. إن شغلت بصحبة الملوك فعليك بطول الرابطة من غير معاتبة ولا يحدثن لك الاستئناس غفلة ولا تهاوناً. إذا رأيت أحدهم يجعلك أخاً فاجعله أباً ثم إن زادك فزده. إذا نزلت في ذي منزلة أو سلطان فلا ترين أن سلطانه زادك له توقيراً وإجلالاً من غير أن يزيدك وداً ولا نصحاً وأنك ترى حقاً له التوقير والإجلال وكن في مداراته والرفق به كالمؤتنف ما قبله ولا تقدر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه فإن الأخلاق

مستحيلة مع الملك وربما رأينا الرجل المدِلّ على ذي السلطان بقدمه قد أضر به قدمه. لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عذراً ولا تستعينن إلا بمن يحب أن يظفر لك بحاجتك. لا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنماً ما لم يغلبك الاضطرار. إذا غرست من المعروف غرساً وأنفقت عليه نفقة فلا تضنن بالنفقة في تربية ما غرست فتذهب النفقة الأولى ضياعاً. إذا اعتذر إليك معتذر فتلقه بوجه مشرق وبشر طليق إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة. اعلم أن أخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا. زينة في الإخاء. وعدة في الشدة. ومعونة في المعاش والمعاد فلا تفرّطن في اكتسابهم وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم. اعلم أنك واجد رغبتك في الإخاء عند أقوام قد حالت بينك وبينهم بعض الأبهة التي قد تعتري أهل المروآت فتحجز منهم كثيراً ممن يرغب في أمثالهم فإذا رأيت أحداً من أولئك قد عثر به الزمان فأقله. إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة إلا أن تكلمه على رؤوس الناس فلا تأل عما عظمه ووقره. إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على شُعبة من قرابة أو مودة فافعل فإن أخطأك ذلك فاعلم أنك تعمل على عمل السخرة وإن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل. إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته فأما إذا ولي الناس فكل الناس يلقاه بالتزيين والتصنع وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه غير أن الأرذال والأنذال هم أشد لذلك تصنعاً وعليه مكابرة وفيه تمحلاً فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثيرٌ من الأشرار بمنزلة الأخيار وكثيرة من الخانة بمنزلة أمناء وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء ويغطي عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع. لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلدة من البلدان ولا قبيلة من القبائل فيوشك أن تحتاج فيها إلى

حكاية أو مشاهدة فتتهم في ذلك وإذا أردت أن يقبل قولك فصحح رأيك ولا تشوبنه بشيء من الهوى فإن الرأي يقبله منك العدو والهوى يردُّه عليك الولي وأحق من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة فإنها خديعة وخيانة كفر. إن ابتليت بصحبة والٍ لا يريد صلاح رعية فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار إما ميلك مع الوالي على الرعية وهذا هلاك الدين وإما الميل مع الرعية على الوالي وهذا هلاك الدنيا ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب. واعلم أنه لا ينبغي لك إن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلاً. تبصر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب والتي تكره وما هو عليه من الرأي الذي يرضى له والذي لا يرضى ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره إلى ما تحب وتكره فإن هذه رياضة صعبة تحمل على التنائي والقلى. اعلم أنك قلما تقدر على رد رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة والمناقضة وإن لم يجمح عن السلطة ولكنك تقدر أن تعينه على أحسن رأيه وتسبب له منه وتقويه فيه فإذا قويت منه المحاسن كانت هي التي تكفه عن المساوي وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب كان ذلك هو الذي يبصره الخطأ بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك في نفسه فإن الصواب يردي بعضه بعضاً ويدعو بعضه إلى بعض فإذا كانت له مكانة اقتلع الخط فاحفظ هذا الباب وأحكمه. ولا يكونن طلبك ما عند الوالي بالمسألة ولا تسبطئه وإن أبطأ ولكن اطلب ما قبله بالاستحقاق واستأن وإن طالت الأناة فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب وإن لم تستبطئه كان أعجل له. ولا تخبرن الوالي أن لك عليه حقاً وأنك تعتد عليه ببلاء وإن استطعت أن ينسى حقك وبلاءك فافعل وليكن ما تذكره من ذلك تجديدك له النصيحة والاجتهاد ولا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره أول بلائك. واعلم أن ولي الأمر إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول وأن الكثير من أولئك رحامهم مقطوعة وحبالهم مصرومة إلا عمن رضوا عنه وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم. إياك أن يقع في قلبك تعتب على الوالي أو استزادة له فإنه إن أنست أن يقع في قلبك بدا

في وجهك إن كنت حليماً وبدا على لسانك إن كنت سفيهاً وإن لم يزد ذلك على أن يظهر في وجهك لآمن الناس عندك فلا تأمنن أن يظهر ذلك للوالي فإن الناس إليه بعورات الأخوان سراع فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبه هو أسرع إلى التعتب والتعزز من قلبك فمحق ذلك حسناتك الماضية وأشرف بك على الهلاك وصرت تعرف أمرك مستدبراً وتلتمس مرضاته مستصعباً. اعلم أن أكثر الناس عدواً مجاهراً حاضراً جريئاً واشياً وزير السلطان ذو المكانة عنده لأنه منفوس عليه بما ينفس على صاحب السلطان ومحسود كما يحسد غيره غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على ذلك أن من محاسديه أحباء السلطان الذين يشاركونه في المداخل والمنازل وهم وغيرهم ما عدوه الذين هم حضاره ليسو كعدو من فوقه التنائي عنه المتكتم منه وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به فلا يغفلون عن صب الحبائل فاعرف هذه الحال وألبس هؤلاء القوم الذين هم أعداؤك سلاح الصحة والاستقامة ولزوم الحجة فيما تسر وتعلن ثم روح من قلبك كأنه لا عدو لك ولا حاسد وإن ذكرك ذاكر عند ولي الأمر بسوء في وجهك أو في غيبتك فلا يرين منك الوالي ولا غيره اختلاطاً لذلك ولا اغتياظاً ولا يقعن ذلك موقع ما يكرثك فإنه إن وقع منك ذلك الموقع أدخل عليك أموراً مشتبهة بالريب مذكرة لما قال فيك الغائب وإن اضطرك الأمر في ذلك إلى الجواب فإياك وجواب الغضب والانتقام وعليك بجواب الحجة في حلم ووقار ولا تشكن في أن القوة والغلبة للحليم أبداً. لا تحضرن عند الوالي كلاماً لا يعني ولا يؤمر بحضوره إلا لعناية به أو يكون جواباً بالشيء سئلت عنه ولا تعدن شتم الوالي شتماً ولا إغلاظه إغلاظاً فأن ريح العز قد تبسط اللسان بألفاظ في غير سخط ولا بأس. جانب المسخوط عليه والظنين به عند الولاة ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا تظهرن له عذراً ولا تثنين عليه خيراً عند أحد من الناس فإذا رأيته قد بلغ من الإعتاب مما سخط عليه فيه ما ترجو أن يلين له الوالي واستيقنت أن الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدتك عليه فضع عذره عند الوالي واعمل في إرضائه عنه في رفق ولطف. ليعلم الوالي أنك لا تستنكف عن خدمته ولا تدع مع ذلك أن تقدم إليه القول عند بعض حالات رضاه وطيب نفسه في الاستعفاء من الأعمال التي يكرهها ذو الدين وذو العرض

وذو المروءة من ولاية القتل والعذاب وأشباه ذلك. إذا أصبت الجاه والخاصة عند الملك فلا يحدثن لك ذلك تغيراً على أحد من أهله وأعوانه ولا استغناء عنهم فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم فيها وفي تلون الحال عند ذلك من العار ما فيه. ليس مما تحكم من أمرك أن لا تسار أحداً من الناس ولا تهمس إليه بشيء تخفيه عن السلطان فإن السرار مما يخيل إلى كل من رآه أنه المراد به فيكون ذلك في نفسه حسيكة ووغراً وثقلاً. لا تتهاونن بإرسال الكذبة عند الوالي أو غيره في الهزل فإنها تسرع في رد الحق وإبطال الصدق مما تأتي به. تنكب فيما بينك وبني الوالي خلقاً قد عرفناه في بعض الأعوان والأصحاب في ادعاء الرجل عندما يظهر من صاحبه من حسن أثر أو صواب رأي أنه هو عمل في ذلك أو أشار به وإقراره بذلك إذا مدحه مادح بل وإن استطعت أن يعرف صاحبك أن تنحله صواب رأيك فضلاً عن أنك تدعي صوابه وتسند ذلك إليه وتزينه فافعل فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معطٍ بأضعاف. إذا سأل الوالي غيرك فلا تكونن أنت المجيب عنه فإن استلابك الكلام خفة بك واستخفاف منك بالمسؤول والسائل. وما أنت قائل إذا قال لك السائل ما إياك سألت أو قال لك المسؤول عند المسألة يعاد له بها دونك فأجب. وإذا لم ينصب السائل في المسألة لرجل واحد وعم بها جماعة من عنده فلا تبادر بالجواب ولا تسابق الجلساء ولا تواثب الكلام مواثبة فإذن في ذلك مع شبن التكلف والخفة أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء فيتعقبونه بالعيب والطعن وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخليته للقوم اعترضت أقاويلهم على عينك ثم تدبرتها وفكرت فيما عندك ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جواباً رضياً واستدبرت به أقاويلهم حتى تصيخ إليك الأسماع ويهدأ عنك الخصوم وإن لم يبلغنك الكلام حتى يكتفي بغيرك أو ينقطع الحدي فيل ذلك فلا يكون من العيب عندك ولا من الغبن في نفسك فوت ما فتك من الجواب فإن صيانة القول خير من سوء وضعه وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خيرٌ من مئة كلمة أمثالها في غير فرصها

ومواضعها مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير وإن ظن صاحبه أن قد أتقن وأحكم. واعلم أن هذه الأمور لا تنال إلا برحب الذرع عندما قيل وما لم يقل وقلة الإعظام لما ظهر من المروءة أو لم يظهر وسخاوة النفس عن كثير من الصواب مخافة الخلاف والعجلة والحسد والمراء. إذا كلمك الوالي فأصغ إلى كلامه ولا تشغل طرفك عنه بنظر ولا أطرفك بعمل ولا قلبك بحديث نفسك واحذر هذا من نفسك وتعهد ما فيه. أرفق بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه واتخذهم أخواناً ولا تتخذهم أعداء ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها والعمل يؤمرون به فإنما أنت في ذلك أحد رجلين إما أن يكون عندك فضل على ما عند غيرك فسوف يبدو ذلك ويحتاج إليه ويلتمس منك وأنت مجمل وإما أن لا يكون ذلك عندك فما أنت مصيب من حاجتك عندهم بمقاربتك وملاينتك وما أنت واجد في موافقتك إياهم ولينك لهم من موافقتهم إياك ولينهم لك أفضل مما أنت مدركه بالمنافسة والمناظرة. لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي ثقة باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك فإنا قد رأينا الناس يعرفون فضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه وهم أخلياء فإذا حضروا ذا السلطان لم يرض أحد منهم أن يقر له وأن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل فاجترؤوا عليه بالخلاف والنقض فإن ناقضهم كان كأحدهم وليس بواجدٍ في كل حين سامعاً فهماً وقاضياً عدلاً وإن ترك مناقضتهم صار مغلوب الرأي مردود القول. إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك أو هوى يكون له فيك فلا تطمحن كل الطماح ولا تزينن لك نفسك المزايلة له عن أليفه وموضع ثقته وسره قبلك بأن تقتلعه وتدخل دونه فإن هذه الدخلة خلة من خلال السفه قد يبتلى بها الحكماء عند الدنو من ذي السلطان حتى يحدث الرجل منهم نفسه أن يكون دون الأهل والولد لفضل يظنه في نفسه أو نقص يظنه بغيره ولكل رجل من الملوك أو ذي هيئة من السوقة أليف وأنيس قد عرف روحه واطلع على قلبه فليست عليه مؤونة في تبذل بتبذل له عنده أو رأي يستنزله منه أو سر يفشيه إليه غير أن تلك الأنسة وذلك التبذل يستخرج من كل واحد منهما ما لم يكن

ليظهر منه عند الانقباض والتشدد ولو التمس ملتمس مثل ذلك عند من يستأنف ملاطفته ومؤانسته إن كان ذا فضل من الرأي والعلم لم يجد عنده مثل ما هو منتفع به ممن هو دون ذلك في الرأي ممن قد كفي مؤانسته ووقع على طباعه لأن الأنسة روح القلب والوحشة روع عليه لا يلتاط بالقلوب إلا ما لان عليها ومن استقبل تأسيس الوحشة استقبل أمراً ذا مؤونة فإن كلفتك نفسك السمو إلى منزلة من وصفت فاقذعها عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس وإذا حدثتك نفسك أو غيرك ممن لعله يكون له فضل في الموءة أنك أولى بالمنزلة عند الكبير من بعض دخلائه وثقاته فاذكر الذي عليه من حق أليفه وثقته وأنيسه في التكرمة والذي يعينه على ذلك من الرأي أنه يجد عنده من اللف والأنس ما ليس واجداً عند غيره فليكن هذا مما تتحفظ فيه على نفسك وتعرف فيه عذر الرجل ورأيه والرأي فيه لنفسك في مثل ذلك إن أرادك مريد على الدخول دون أنيسك وأليفك وموضع ثقتك وجدك وهزلك. اعلم أنه تكاد تكون لكل رجل غالبة حديث أما عن بلد من البلدان أو ضرب من ضروب العلم أو صنف من صنوف الناس أو وجه من وجوه الرأي وعندما يغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف ويعرف منه الهوى فاجتنب ذلك في كل موطن ثم عند أولي الأمر خاصة. لا تشكون إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطلعت عليه من رأي تكرهه له فإنك لا تزيد على أن تفطنهم لميله وتغريهم بتزيين ذلك له والميل عليه معه. اعلم ا، الرجل ذا الجاه عند الوالي والخاصة لا محالة أنه يرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناسي والأمور فإذا آثر ذلك يكره كل ما يخالفه أو يمتعض من الجفوة يراها في المجلس أو النبوة في الحاجة أو الرد للرأي أو الإدناء لمن لا يهوى إدناءه والإقصاء لمن يكره إقصاءه فإذا وقعت في قلبه الكراهية تغير لذلك وجهه ورأيه وكلامه حتى يبدو ذلك للوالي وغيره وكان ذلك لفساد منزلته سبباً فذلل نفسك باحتمال ما خالفك من رأي الولاة وقررها بأنهم إنما كانوا أولياءك لتتبعهم في أرائهم ولا تكلفهم إتباعك وتغضب من خلافهم إياك. اعلم أن الملوك يقبلون من وزرائهم التنجيل ويعدونه منهم شفقة ونظراً ويحسدونهم عليه وإن كانوا أجواداً فإن كنت مبخلاً غششت صاحبك بفساد مروءته وإن كنت مسخياً لم تأمن

أضرار ذلك بمنزلتك عنده فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها والتماس المخرج فيما تترك من تنجيل صاحبك بأن لا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلاً إلى شيء من هواك ولا طلباً لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه. لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك وعلى أن لا تكتمهم سرك ولا تستطلع ما كتموه وتخفي ما أطلعوك عليه من الناس كلهم حتى تحمي نفسك الحديث به وعلى الاجتهاد في رضاهم والتلطف لحاجاتهم والتثبت لحجتهم والتصديق لمقالتهم والتزيين لرأيهم وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا وترك الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا وكثرة النشر لمحاسنهم وحسن الستر لمساويهم والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيداً والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا أقرباء والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به والحفظ له وإن ضيعوه والذكر له وإن نسوه والتخفيف عنهم لمؤونتك والاحتمال لهم كل مؤونة والرضا عنهم وبالعفو وقلة الرضا من نفسك لهم بالمجهود فإن وجدت عنهم وعن صحبتهم غنى فأغن عن ذلك نفسك واعتزله جهدك فإن من يأخذ عملهم بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة ومن لا يأخذ بحقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة. إنك لا تأمن أنفهم إن أعلمتم ولا عقوبتهم إن كتمتم ولا تأمن غضبهم إن صدقتم ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم. إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم بك وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم، إنك إن تستأمرهم حملت المؤونة عليهم وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم. إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق فإن كنت حافظاً إن بلوك جلداً وإن قربوك أميناً وإن ائتمنوك تشكرهم ولا تكلفهم الشكر بصيراً بأهوائهم مؤثراً لمنافعهم ذليلاً إن ظلموك راضياً إن أسخطوك وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر كل الحذر باب الصديق ابذل لصديقك دمك ومالك ولمعرفتك رفدك ومحضرك وللعامة بشرك وتحننك ولعدوك عدلك واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد. إن سمعت من صاحبك كلاماً أو رأيا يعجبك فلا تنتحله تزيناً به عند الناس واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته وتنسبه على صاحبه. واعلم أن انتحالك ذاك سخطة

لصاحبك وإن فيه مع ذلك عاراً فإن بلغ ذلك بك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمع جمعت مع الظلم قلة الحياء وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس. ومن تمام حسن الخالق والأدب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك وتنسب إليه رأيه وكلامه وتزينه مع ذلك ما استطعت. لا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثاً ثم تقطعه وتقول سوف كأنك روأت فيه بعد ابتدائه وليكن ترويك فيه قبل التفوه فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سخف. اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع فإنه ليس في كل حين يحسن كل الصواب وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة على عملك حتى تأتي به إن أتيت به في غير موضعه وهو لا بهاء ولا طلاوة له. لتعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إن آثرت أن تفاخر حداً ممن تستأنس إليه لهو الحديث فاجعل غاية ذلك الجد ولا تعدونّ أن تتكلم فيه بما كان هزلاً فإذا بلغ الجد أو قاربه فدعه ولا تخلطن بالجد هزلاً ولا بالهزل جداً فإنك إن خلطت بالجد هزلاً هجنته وإن خلطت بالهزل جداً كدرته غير أني قد علمت موطناً واحداً إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي وظهرت على الأقران وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب فتجيبه إجابة الهازل المداعب برحب من الذرع وطلاقة من الوجه وثبات من المنطق. إن رأيت صاحبك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك فإنما هو أحد رجلين إن كان رجلاً من أخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أرقبها من عدوك لشر يكفه عنك وعورة يسترها منك وغائبة يطلع عليها لك فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك وإن كان رجلاً من غير خاصة أخوانك فبأي حق تقطعه عن الناس وتكلفه أن لا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى. تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب وطب نفساً عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مدارة لئلا يظن أصحابك أن ما بك التطاول عليهم. إذا قبل إليك مقبل بوده فسرّك ألا يدبر عنك فلا تنعم الإقبال عليه والتفتح له فإن الإنسان طبع على لؤم فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به ويلصق بمن رحل عنه. لا تكثرن ادعاء العلم في كل ما يعرض فإنك من ذلك بين فضيحتين إما أن ينازعوك فيما

ادعيت فيهجم منك على الجهالة والصلف وإما ألا ينازعوك ويخلوا الأمور في يديك فينكشف منك التصنع والمعجزة. استحي الحياء كله من أن تخبر صاحبك أنك عالم وأنه جاهل مصرحاً أو معرضاً وإن استطلت على الأكفاء فلا تثقن منهم بالصفاء. إن آست من نفسك فضلاً فتحرج أن تذكره أو تبديه فاعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل واعلم أنك إن صبرت ولم تعجل ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف ولا يخفين عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده وقلة وقاره في ذلك باب من البخل واللؤم وأن من خير الأعوان على ذلك السخاء والكرم. إن أحببت أن تلبس ثوب الوقار والجمال وتتحلى بحلية المودة عند العامة وتسلك الجدد الذي لا خبار فيه ولا عثار فكن عالماً كجاهل وناطقاً كعي. فأما العلم فيرشدك وأما قلة ادعائه فينفي عنك الحسد وأما المنطق إذا احتججت إليه فسيبلغ حاجتك وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار. إذا رأيت رجلاً يحدث حديثاً قد علمته أو يخبر خبراً قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تتعقبه عليه حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمته فإن في ذلك خفة وشحاً وسوء أدب وسخفاً. ليعرف أخوانك والعامة أنك إن استطعت أن تكون إلى ان تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل فعلت فإن فضل القول على الفعل عار وهجنة وفضل الفعل على القول زينة وأنت حقيق فيما وعدت من نفسك أو أخبرت صاحبك عنه أن تحتجن بعض ما في نفسك إعداداً لفضل الفعل على القول وتحرزاً بذلك عن تقصير فعل إن قصر وقلما يكون إلا مقصراًُ. إحفظ قول الحكيم الذي قال لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل وفيما بينك وبين صديقك الرضا وذلك أن العدو خصم تضربه بالحجة وتغلبه بالحكام وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض فإنما حكمه رضاه. اجعل عامة تشبثك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل ووطن نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك وإن ظهر لك منه ما تكره فإنه ليس كالمرآة التي تطلقها إذ شئت

ولكنه عرضك ومروءتك فإنما مروءة الرجل أخوانه وأخدانه فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلاً من أخوانك وإن كنت معذراً نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال وإن أنت صبرت مع ذلك على مقارنة على غير الرضا عاد ذلك إلى العيب والنقيصة فاتئاد الاتئاد والتثبت التثبت. إذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك فإن كان من أخوان الدين فليكن فقيهاً ليس بمراء ولا حريص وإن كان من أخوان الدنيا فليكن حراً ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير ولا مشنوع فإن الجاهل أهل لأن يهرب منه أبواه وأن الكذاب لا يكون أخاً صادقاً لأن الكذب الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه وإنما سمي الصديق من الصدق وقد يتهم صدق الكلب وإن صدق اللسان فيكف إذا ظهر الكذب على اللسان وأن الشرير يكسبك العدو ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة وأن المشنوع شانع صاحبه. تحرز من سكر السلطة وسكر العلم وسكر المنزلة وسكر الشباب فإنه ليس من هذا شيء إلا وهو ريح جنة تسلب العقل وتذهب الوقار وتصرف القلب والسمع والبصر واللسان عن المنافع. اعلم أن انقباضك عن الناس يكسبك العداوة وأن تفرشك لهم يكسبك صديق السوء وفسولة الأصدقاء أضر من بغض الأعداء فإنك إن واصلت صديق السوء أعيتك جرائره وإن قطعته شانك اسم القطيعة وألزمك ذلك من يرفع عيبك ولا ينشر عذرك فإن المعايب تنمى والمعاذير لا تنمى. البس للناس لباسين ليس للعاقل بد منهما ولا عيش ولا مروءة إلا بهما لباس انقباض واحتجاز تلبسه للعامة فلا تلفين إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً ولباس انبساط واستئناس تلبسه للخاصة من الثقات فتتلقاهم ببنات صدرك وتفضي إليهم بموضوع حديثك وتضع عنك مؤونة الحذر وتحفظ فيما بينك وبينهم وأهل هذه الطبقة الذي هم أهلها قليل لأن ذا الرأي لا يدخل أحداً من نفسه هذا المدخل إلا بعد الاختبار والسبر والثقة بصدق النصيحة ووفاء العقل. اعلم أن لسانك أداة مغلبة عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك فكل غالب عليه مستمتع به وصارفه في محبته فإذا غلب عليك عقلك فهو لك وإذا غلب عليه شيء من أشباه ما سميت

لك فهو لعدوك فإن استطعت أن تحتفظ به فلا يكون غلا لك ولا يستولي عليه أو يشاركك عدوك فيه فافعل. إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية فاعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فشاركه في البلية وإما بالخذلان فتحتمل العار فالتمس المخرج عند اشتباه ذلك وآثر مروتك على ما سواها فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها فأحمل فلعل الإجمال يسعك لقلته في الناس. إذا أصاب أخاك فضل فإنه ليس في دنوك منه وابتغاؤك مودته وتواضعك له مذلة فاغتنم ذلك واعمل فيه. إذا كانت لك عند أحد صنيعة أو كان لك طول فالتمس إحياء ذلك بإماتته وتعظيمه بالتصغير له ولا يقتصرن في قلة المن على أن تقول لا أذكره ولا أصغي بسمعي إلى من يذكره فإن هذا قد يستحي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كرم ولكن احذر أن يكون في مجالستك إياه وما تكلمه به أو تستعينه عليه أو تجاريه فيه شيء من الاستطالة فإن الاستطالة تهدم الصنيعة وتكدر المعروف. احترس من سورة الغضب وسورة الحمية وسورة الحقد وسورة الجهل وأعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهد بها من الحلم والتفكر والروية وذكر العاقبة وطلب الفضيلة واعمل أنك لا تصيب الغيبة إلا بالجهاد وأن قلة الإعداد لموافقة الطبائع المتطلعة هو الاستسلام وأنه ليس أحد إلا فيه من كل طبيعة سوء غريزة وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء فإما أن بسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز فليس في ذلك مطمع إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمع لهالكها كلما تطلعت لم يلبث أن يميتها حتى كأنها ليست فيه وهي في ذلك كامنة كمون النار في العود فإذا وجدت قادحاً من غير علة أو غفلة استورت كما تستوري عند القدح ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها كما لا تبدأ النار إلا بعودها التي كانت فيه. ذللك نفسك بالصبر على جار السوء وعشير السوء وجليس السوء فإن ذلك ما لا يكاد يخطئك فإن الصبر صبران صبر الرجل على ما يكره وصبره عما يحب فالصبر على المكروه أكثرهما وأشبههما أن يكون صاحبه مضطراً واعلم أن اللئام أصبر أجساداً والكرام أصبر نفوساً وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقحاً أو رجله قوية على المشي

أو يده قوية على العمل فإنما هذا من صفات الحمير ولكن أن يكون للنفس غلوباً وللأمور محتملاً وفي الضر متجملاً ولنفسه عند الرأي والحفاظ مرتبطاً وللحزم مؤثراً والهوى تاركاً وللمشقة التي يرجو عاقبتها مستخفاً وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظباً ولبصره بعزمه منفذاً. حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه ويكون هو لهواك ولذتك وسلوتك وبلغتك. واعلم أن العلم علمان علم للمنافع وعلم لتزكية العقل وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير ان يحرض عليه علم المنافع وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضل في الألباب. عود نفسك السخاء واعلم أنهما سخاآن سخاوة نفس الرجل بما في يديه وسخاوته عما في أيدي الناس وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما واقربهما من أن تدخل فيه المفاخرة وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم وأنزه من الدنس فإن هو جمعهما فبذل وعف فقد استكمل الجود والكرم. ليكن من تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسوداً فإن الحسد خلق لئيم ومن لؤمه أن يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والخلطاء فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير منك وأن غنماً يكون أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من علمه وأفضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته وأفضل منك في المال فتفيد من ماله وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه وأفضل منك في الدين فتزداد صلاحاً بصلاحه. ليكن ما تنظر فيه من أمر عدوك وحاسدك أن تعلم أنه لا ينفعك أن تخبر عدوك أنك له عدو فتنذره نفسك وتؤذنه بحربك قبل الأعداء والفرصة فتحمله على التسلح لك وتوقد ناره عليك. اعلم أن أعظم خطرك أن تري عدوك أنك لا تتخذه عدواً فإن لك غرة له وسبيل لك إلى القدرة عليه فإن أنت قدرت فاستطعت اغتفاراً لعداوته عن أن تكافئ بها فهنالك استكملت عظيم الخطر وإن كنت مكافئاً بالعدوة والضرر فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية وعداوة الخاصة بعداوة العامة فإن ذلك هو الظلم والعار واعلم مع ذلك أنه ليس كل العداوة

والضرر يكافأ بمثله كالخيانة ولا تكافأ بالخيانة والسرقة لا تكافأ بالسرقة ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه وتؤاخي أخوانه فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتجافي فإنه ليس رجل ذو طرق يمتنع عن مؤاخاتك إذا التمست ذلك منه وإن كان أخوان عدوك غير ذوي طرق فلا عدو لك. لا تدع مع السكوت عن شتم عدوك إحصاء معايبه ومثالبه وإتباع عواراته حتى لا يشذ عنك من ذلك صغير ولا كبير من غير أن تشيع عليه فيتقيك به ويستعد له أو تذكره في غير موضعه فتكون كمستعرض الهواء بنبله قبل إمكان الرمي. لا تتخذ اللعن والشتم على عدوك سلاحاً فإنه لا يجرح في نفس ولا في مال ولا دين ولا منزلة. إذا أردت أن تكون داهياً فلا تحبن أن تسمى داهياً فإنه من عرف بالدهاء خاتل علانية وحذره الناس حتى يمتنع منه الضعيف وإن من إرب الأريب دفن إربه ما استطاع حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة والطريقة في إربه ألا يؤارب العاقل المستقيم له الذي يطلع على غامض إربه فيمقته عليه. إن أردت السلامة فاشعر قلبك الهيبة للأمور من غير أن تظهر منك الهيبة فيفطن الناس لهيبتك ويجرئهم عليك ويدعو ذلك إليك منهم كل ما تهاب فأشعب لمداراة ذلك من كتمان المهابة وإظهار الجراءة والتهاون طائفة من رأيك. وإن ابتليت بمجاراة عدو مخالف فالزم هذه الطريقة التي وصفت لك في استشعار الهيبة وإظهار الجراءة والتهاون وعليك بالحذر في أمرك والجراءة في قلبك حتى تملأ قلبك جراءة ويستفرغ عملك الحذر. إن من عدوك من تعمل في هلاكه ومنهم من تعمل في البعد عنه فاعرفهم على منازلهم ومن أقوى القوة لك على عدوك وأعز أنصارك في الغلبة أن تحصي على نفسك العيوب والعورات كلما أحصيتها على عدوك وتنظر عند كل عيب تراه أو تسمعه لأحد من الناس هل قارفت مثله أو مشاكله فإن كنت قارفت منه شيئاً فأحصه فيما تحصي على نفسك حتى إذا أحصيت ذلك كله فكابر عدوك بإصلاح عيوبك وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك وخذ نفسك بذلك ممسياً مصبحاً فإذا آنست منها دفعاً لذلك أو تهاوناً به فأعدد نفسك عاجزاً ضائعاً جالياً معوراً لعدوك ممكناً له من رميك وإن حصل من عيوبك بعض ما لا تقدر على

إصلاحه من أمر من حسبك أو مثالب آبائك أو عيب أخوانك ثم اجعل ذلك كله نصب عينيك واعلم أن عدوك مريدك بذلك فلا تغفل عن التهيؤ له والإعداد لقوتك وحجتك وحيلتك فيه سراً وعلانية فأما الباطل فلا تروعن به قلبك ولا تستعدن به ولا تشتغلن به فإنه لا يهولك ما لم يقع وإذا وقع اضمحل. اعلم أنه قلما بده أحد بشيء يعرفه من نفسه وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس فيعيره به معير عند السلطان أو غيره إلا كاد يشهد به عليه وجهه وعيناه ولسانه للذي يبدو منه عند ذلك والذي يكون من انكساره وفتوره عند تلك البداهة فاحذر هذه وتصنعها وخذ أهبتك لبغتاتها. اعلم أن من واقع الأمور في الدين وأنهكها للجسد وأتلفها للمال وأضرها بالعقل وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار الغرام بالنساء ومن البلاد على المغرم بهن أن لا ينفك يأجم ما عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن. وإنما النساء أشباه وما يرى في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه وإنما المترغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس كالمترغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء. ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس في لبه يرى المرأة من بعيد ملتففة في ثيابها فيصور لها في قلبه الحسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة فلا يعظه ذلك عن أمثالها ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق وهذا هو الحمق والشقاء ومن لم يحم نفسه ويظلفها ويجلها عن الطعام والشراب والنساء في بعض ساعات شهوته وقدرته كان أيسر ما يصيبه من وبال أمره انقطاع تلك اللذات عنه بخمود نار شهوته وضعف عوامل جسده وقل من تجد إلا مخادعاً لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحمية والدواء وفي أمر مروءته عند الأهواء والشهوات وفي أمر دينه عند الريبة والشبهة والطمع. إن استطعت أن تنزل نفسك دون غايتك في كل مجلس ومقام ومقال ورأي وفعل فافعل فإن

رفع الناس إياك فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك وتقربهم إياك في المجلس الذي تباعدت عنه وتعظيمهم من أمرك ما لم تعظم وتزيينهم من كلامهم ورأيك ما لم تزين هو الجمال. لا يعجبنك العالم ما لم عالماً بمواضع ما يعلم. إن غلبت على الكلام وقتاً فلا تغلبن على السكوت فإنه لعله يكون المراء واعرفه ولا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة واعلم أن المماري هو الذي لا يحب أن يتعلم ولا يتعلم منه فإن زعم زاعم أنه إنما يجادل في الباطل عن الحق فإن المجادل وإن كان ثابت الحجة ظاهر البينة فإنه يخاصم إلى غير قاض وإنما قاضيه الذي لا يعدو بالخصومة إلا إليه عدل صاحبه وعقله فإن آنس أو رجا من صاحبه عدلاً يقضي به على نفسه فقد أصاب وجه أمره وإن تكلم على غير ذلك كان ممارياً. إن استطعت أن لا تخبر أخاك عن ذات نفسك بشيء إلا وأنت محتجن عنه بعض ذلك التماساً لفضل الفعل على القول واستعداداً لتقصير فعل إن قصر فافعل واعلم أن فضل الفعل على القول زينة وفضل القول على الفعل هجنة وإن أحكام هذه الخلة من غرائب الخلال. إذا تراكمت الأعمال عليك فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالروغان منها فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها وأن الصبر عليها هو يخففها وأن الضجر منها هو يراكمها عليك فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال أن الرجل يكون في أمر من أمره فيرد عليه شغل آخر ويأتيه شاغل من الناس يكره تأخيره فيكدر ذلك بنفسه تكدير يفسد ما كان فيه وما ورد عليه حتى لا يحكم واحداً منهما فإن ورد عليك مثل ذلك فيكن معك رأيك الذي تختار به الأمور ثم اختر أولى الأمرين بشغلك فاشتعل به حتى تفرغ منه ولا يعظمن عليك فوت ما فات وتأخير ما تأخر إذا أعملت الرأي معمله وجعلت شغلك في حقه. اجعل لنفسك في كل شيء غاية ترجو القوة والتمام عليها واعلم أنك إن جاوزت الغاية في العبادة صرت إلى التقصير وإن جاوزتها في حمل العلم صرت من الجهال وإن جاوزتها في تكلف رضا الناس والخفة معهم في حاجاتهم كنت المصنع المحشود. اعلم أن بعض العطية لؤم وبعض البيان عي وبعض العلم جهل فإن استطعت أن لا يكون

عطاؤك خوراً ولا بيانك هذراً ولا علمك جهلاً فافعل. اعلم أن ستمر عليك أحاديث تعجبك إما مليحة وإما رائعة فإذا أعجبتك كنت خليقاً بأن تحفظها فإن الحفظ موكل بما راع وستحرص على أن تعجب منها الأقوام فإن الحرص على ذلك التعجب من شأن الناس وليس كل معجب لك معجباً لغيرك وإذا نشرت ذلك مرة أو مرتين فلم تره وقع من السامعين موقعاً منك فازدجر عن العود فإن العجب من غير عجيب سخف شديد وقد رأينا من الناس ن يعلق الشيء ولا يقلع عن الحديث به ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود ثم يعود. إياك والأخبار الرائعة وتحفظ منها فإن الإنسان من شأنه الحرص على الأخبار لاسيما ما راع منها فأكثر الناس من يحدث بما سمع ولا يبالي ممن سمع وذلك مفسدة للصدق ومزراة بالرأي فان استطعت ألا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق وألا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل. ولا تقل كما يقول السفهاء أخبر بما سمعت فإن الكذب أكثر ما أنت سامع وإن السفهاء أكثر من هو قائل وأنك إن صرت للأحاديث واعياً وحاملاً كان ما تعي وتحمل عن عن العامة أكثر مما يخترع المخترع بأضعاف. انظر من صاحبت من الناس من ذي فضل عليك بسلطان ومنزلة ومن دون ذلك من الخلصاء والأكفاء والأخوان فوطن نفسك في صحبته على أن تقبل منه العفو وتسخو نفسك عما اعتاص مما قبله غير معاتب ولا مستبطئ ولا مستزيد فإن المعاتبة مقطعة للود وإن الاستزادة من الجشع وأن الرضا بالعفو والمسامحة في الخلق مقرب لك كل ما تتوق ليه نفسك مع بقاء العرض والمودة والمروءة. اعلم أنك ستبتلى من أقوام بسفه وأن سفة السفيه سيطلع لك منه فإن عارضته أو كافأته بالسفه فكأنك قد رضيت ما أتى به فاجتنب أن تحتذي مثاله فإن كان ذلك عندك مذموماً فحقق ذمك إياه بترك معارضته فأما أن تذمه وتمتثله فليس ذلك لك. لا تصاحبن أحداً وإن استأنست به أخاً قرابة وأخا مودة ولا والداً ولا ولداً إلا بمرة فإن كثيراً من أهل المروءة قد يحملهم الاسترسال أو التبذل على أن يصبحوا كثيراً من الخطباء بالإدلال والتهاون ومن فقد من صاحبه صحبة المروة ووقارها أحدث له في قلبه رقة شأن

وخفة منزلة. لا تلتمس غلبة صاحبك والظفر عليه بكل كلمة ورأي ولا تجترئن على تقريعه وتبكيته بظفرك إذا استبان وحجتك إذا وضحت فإن أقواماً يحملهم حب الغلبة وسفه الراي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعدما تنسى فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيلوا بها على الصحاب وذلك ضعف في العقل ولؤم في الأخلاق. لا يعجبنك إكرام من يكرمك لمنزلة أو سلطان فإن السلطة أوشك أمور الدنيا زوالاً ولا يعجبنك إكرامهم إياك للنسب فإن الأنساب أقل مناقب الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا ولكنم إذا أكرمت على دين أو مروءة فذلك فليعجبك فإن المروءة لا تزايلك في الدنيا والدين لا يزايلك في الآخرة. اعلم أن الجبن مقتلة وأن الحرص محرمة فانظر فيما رأيت أو سمعت أمن قتل في القتال مقبلاً أكثر أم من قتل مدبراً وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو إليك نفسك بطلبته أم من يطلب إليك بالشره. اعلم أنه ليس كل من كان لك فيه هوى فذكره ذاكرٌ بسوء وذكرته أنت بخير ينفعه ذلك أو يضره فلا يستخفنك ذكر أحد من صديق أو عدة إلا في موطن دفع أو محاماة فإن صديقك إذا وثق بك في موطن المحاماة لم يحفل بما تركت مما سوى ذلك ولم يكن له عليك سبيل لائمة وأن الأحزم في أمر عدوك أن لا تذكره إلا حيث يضره وألاَّ تعد يسير الضرّ ضراً. اعلم أن الرجل قد يكون حليماً فيحمله الحرص على أن يقال جليدٌ والمخافة أن يقال مهين على أن يتكلف الجهل وقد يكون الرجل زميتاًً فيحمله الحرص على أن يقال لسنٌ والمخافة أن يقال عيٌّ على أن يقول في غير موضعه فيكون هذراً فاعرف هذا وأشباهه واحترس منه كله. إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى. ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم فيكون افتقارك إليهم في لين كلمتك وحسن بشرك ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك. لا تجالس امرءً بغير طريقته فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم والجافي بالفقه والعيّ بالبيان

لم تزد على أن تضيع عقلك وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف وغمك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له ونقضوه عليك وحرصوا على أن يجعلوه جهلاً حتى أن كثيراًَ من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به. ليعلم صاحبك أنك حَدِبٌ على صاحبه وإياك إن عاشرك امرؤٌ ورافقك أن لا يرى منك بأحد من أصحابه وأخدانه رأفة فإن ذلك يأخذ من القلوب مأخذاً وإن لطفك بصاحب صاحبك أحسن عنده موقعاً من لطفك به بنفسه. اتق الفرح عند المحزون واعلم أنه يحقد على المنطلق ويشكر للمكتئب. اعلم أنك ستسمعه من جلسائك الرأي والحديث تنكره وتستجفيه من محدث عن نفسه أو عن غيره فلا يكونن منك التكذيب ولا التسخيف لشيء مما يأتي به جليسك ولا يجرئنك على ذلك أن تقول إنما حدث عن غيره فإن كل مردود عليه سيمتعض من الرد وإن كان في القوم من تكره أن يستقر قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يُعقد عليه أو مضرة تخشاها على أحد فإنك قادر على أن تنقص ذلك في سر فيكون أيسر للنقض وأبعد للبغضة. واعلم أن البغضة والخوف والمودة أمن فاستكثر من المودة صامتاً فإن الصمت يدعوها إليك وناطقاً بالحسنى فإن المنطق الحسن يزيد من ود الصديق ويسل سخيمة الوغر. واعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودة إذا لم يخالط ذلك بأوٌ ولا عجب أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن. تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ون حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه وقلة التلفت إلى الجواب والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول. واعلم أن المستشار ليس بكفيل والرأي ليس بمضمون بل الرأي كله غرر لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة ولأنه ليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز بل ربما أعيا الحزمة ما أمكن العجزة فإذا أشار عليك صاحبك برأي فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل فلا تجعل ذلك عليه لوماً وعذلاً تقول أنت فعلت هذا بي وأنت أمرتني ولولا أنت ولا جرم لا أطيعك فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة وإن كنت أنت المشير معمل برأيك أو ترك فبدا صوابك فلا تمتن ولا تكثرن ذكره إن كان نجاح ولا تلم عليه إن كان استبان

في تركه ضرراً تقول: ألم أقل لك ألم أفعل فإن هذا مجانب لأدب الحكماء. اعلم فيما تكلم به صاحبك أن مما يهجن صواب ما تأتي به ويذهب بهجته ويذري بقبوله عجلتك في ذلك قبل أن يفضي إليك بذات نفسه. ومن الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه والاعتراض فيه والقطع فيه ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها إذا حدث الرجل حديثاً تعرفه ألا تسابقه إليه وتفتحه عليه وتشاركه فيه حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم من مثل الذي يعلم وما عليك أن تهنئه بذلك وتفرده به وهذا الباب من أبواب البخل وأبوابه الغامضة كثيرة. إذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء فدع عنهم التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة. اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر وإن شدة الاتقاء يدعو إليك ما تتقي. إن رأيت نفسك تصاغرت إليها الدنيا ودعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر منها عليك فلا يغرنك ذلك من نفسك على تلك الحال فإنها ليست بزهادة ولكنها ضجر واستخذاء وتغير نفس عند ما أعجزك من الدنيا وغضب منك عليها مما التوى عليك منها ولو تممت على رفضها وأمسكت عن طلبها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشد من ضجرك الأول بأضعاف ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا وهي مقبلة عليك فأسرع إجابتها. اعرف عورتك وإياك أن تعرّض بأحد فيما شاركها وإذا ذكرت من أحد خليقته فلا تناضل عنه مناضلة المدافع عن نفسه فتتهم بمثلها ولا تلحَّ كل الإلحاح وليكن ما كان فلا تعمن جيلاً من الناس أو أمة بشتم ولا ذم فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك ولا تعلم. ولا تذمن مع ذلك اسماً من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول أن هذا لقبيح من الأسماء فإنك لا تدري لعل ذلك موافق لبعض جلسائك في بعض أسماء الأهلين والحرم ولا تستصغرن من هذا شيئاً فكله يجرح القلب وجرح اللسان أشد من جرح اليد. اعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح فلا تكونن من ذلك في غرور ولاتجعلن نفسك من أهله. إني مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني وكان رأس ما أعظمه عندي صغر

الدنيا في عينه كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر ذا وجد وكان خارجاً من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤونة ولا يستخف له رأياً ولا بدناً وكان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة وكان أكثر دهره صامتاً فإذا قال بذَّ القائلين كان يُرى متضعفاً مستضعفاً فإذا جاء الجد فهو الليث عادياً وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراءٍ ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضياً عدلاً وشهوداً عدولاً وكان لا يلوم أحداً على ما فقد يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره وكان لا يشكو وجعاً إلا إلى من يرجو عنده البقرء ولا يصحب إلا يرجو عنده النصيحة لهما جميعاً وكان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشهى ولا يتشكى ولا ينتقم من الولي ولا يغفل عن العدو ولا يخص نفسه دون أخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت ولن تطيق ولكن أخذ القليل خيرٌ من ترك الجميع وبالله التوفيق.

يتيمة ثانية

يتيمة ثانية لابن المقفع وقعت شبهة لبعض أهل العلم فيما إذا كانت هذه الرسالة المنشورة قبل هي اليتيمة بعينها أم هي يتيمة ثانية لابن المقفع ويزول هذا التناقض إذا لوحظ ما قاله إمام المتكلمين أبو بكر الباقلاني البصري المتوفي سنة ثلاث وأربعمائه فإنه ذكر في كتابه إعجاز القرآن أن الدرة اليتيمة كتابان أحدهما يتضمن حكماً منقولة والآخر في شيء من الديانات. غير أنه يبقى هناك إشكال في أنه ليس في إحدى الرسالتين ما يتعلق بالديانات كما قال الباقلاني وإذا رضينا بالظن فنقول أن هذا الاسم وضعه أناس لبعض رسائل ابن المقفع ومن هنا نشأ الاشتباه فعددها الناظرون. ويبعد أن يقال أن ابن المقفع سمى الرسالتين معاً باسم واحد لمخالفته في الظاهر لمقتضى الحكمة. ولو قلنا أنه سمى إحدى الرسائل فيبعد مع قرب عصر الناقلين عنه وقوع الاشتباه في المسمى مع شدة عنايتهم بجميع ما قال. أما الرسالة الثانية فمنقولة عن كتاب المنثور والمنظوم المحفوظ في دار الكتب المصرية لمؤلفه أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور من أبناء خراسان ولد كما جاء في فهرستها سنة 204 وتوفي سنة 280 وهاك ما أورده ولم نحذف منه إلا بعض جمل أسرنا إليها بحرف (فـ) لأنها محرفة جداً ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: ومن الرسائل المفردات اللواتي لا نظير لها ولا أشباه وهي أركان البلاغة ومنها استقى البلغاء لأنها نهاية في المختار من الكلام وحسن التأليف والنظام الرسالة التي لابن المقفع وهي اليتيمة فإن الناس جميعاً مجمعون أنه لم يعبر أحد عن مثلها ولا تقدمها من الكلام شيءٌ قبلها ومن فصولها قوله في صدرها ولم نكتبها على تمامها لشهرتها وكثرتها في أيدي الرواة فمن فصولها قوله في صدرها: وقد أصبح الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مدخولين منقوصين فقائلهم باغ وسامعهم عياب وسائلهم متعنت ومجيبهم متكلف وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل وموعوظهم غير سليم من الهزء والاستخفاف ومستشيرهم غير موطن نفسه على إنفاذ ما يشار به عليه ومصطبر للحق مما يسمع ومستشارهم غير مأمون على الغش والحسد وإن يكون مهتاكاً للستر مشيعاً للفاحشة مؤثراً للهوى والأمين منهم غير متحفظ من ائتمان الخونة والصدوق غير محترس

من حديث الكذبة وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة ويتقارضون الثناء ويترقبون الدول ويعيبون بالهمز يكاد أحزمهم رأياً يلفته عن رأيه أدنى الرضا وأدنى السخط ويكاد يكون أمتنهم عوداً أن تسخره الكلمة وتنكره اللحظة وقد ابتليت أن أكون قائلاً وابتليتم أن تكونوا سامعين ولا خير في القول إلا ما انتفع به ولا ينتفع به إلا بالصدق ولا صدق إلا مع الرأي ولا رأي إلا في موضعه وعند الحاجة إليه فإن خير القائلين من لم يكن الباطل غايته ثم لزم القصد والصواب وخير السامعين من لم يكن ذلك منه سمعة ولا رياءً ولم يتخذ ما يسمع عوناً على دفع الهدى ولا بلغة إلى حاجة دنيا فإن اجتمع للقائل والسامع أن يرزق القائل من الناس مقةً وقبولاً على ما يقوله ويرزق السامع اتعاظاً بما يسمع من أمر دنياه وقد صلحت نياتهما في غير ذلك فعسى ذلك أن يكون من الخير الذي يبلغه الله عباده ويعجل لهم من حسنة الدنيا ما لا يحرمهم من حسنة الآخرة كما أن المريد بكلامه أن يعجب الناس قد يجتمع عليه حرمان ما طلب مع سوء النية وحمل الوزر. وقد وافقتم في مسارعة فيما سألتموني فطمعاً في أن ينفع الله بذلك من يشاء فإنه ما يشاء يقع. أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان الناس. والناس رجلان والٍ ومولى عليه. والأزمنة أربعة على اختلاف حالات الناس فخيار الأزمنة ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية فكان الإمام مؤدياً إلى الرعية حقهم في الرد عنهم والغيظ على عدوهم والجهاد من وراء بيضتهم والاختيار لحكامهم وتولية صلحائهم والتوسعة عليهم في معايشهم وإفاضة الأمن فيهم والمتابعة في الخلق لهم والعدل في القسمة بينهم والتقويم لأودهم والأخذ لهم بحقوق الله عز وجل عليهم وكانت الرعية مؤدية إلى الإمام حقه في المودة والمناصحة والمخالطة وترك المنازعة في أمره والصبر عند مكروه طاعته والمعونة له على أنفسهم والشدة على من أخل بحقه وخالف أمره غير مؤثرين في ذلك آبائهم ولا أبنائهم ولا لابسين عليه أحداً. فإذا اجتمع ذلك في الإمام والرعية تم صلاح الزمان وبنعمة الله تتم الصالحات ثم أن الزمان الذي يليه أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس ولا قوة بالإمام مع خذلان الرعية ومخالفتهم وزهدهم في صلاح أنفسهم على أن يبلغ ذات نفسه في صلاحهم وذلك أعظم ما تكون نعمة الله على الوالي وحجة الله على الرعية بواليهم فبالحري أن يؤخذوا بأعمالهم وما أخلقهم أن لا تصيبهم فتنة أو عذاب أليم.

والزمان الثالث صلاح الناس وفساد الوالي وهذا دون الذي قبله فإن لولاة الناس يداً في الخير والشر ومكاناً ليس لأحد وقد عرفناه فيما يعتبر به أنه ألف رجل كلهم مفسد وأميرهم مصلح أقل فساداً من ألف رجل كلهم مصلح وأميرهم مفسد. والوالي إلى أن يصلح أدبه الرعية أقرب من الرعية إلى أن يصلح الله بهم الوالي. وذلك لأنهم لا يستطيعون معاتبته وتقويمه مع استطالته بالسلطان والحمية التي تعلوه. وشر الزمان ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية (فـ) فقولي في هذا الزمان أنه ألا يكن خير الأزمان فليس على واليكم ذنب وألا يكن شر الأزمان فليس لكم حمد ذلك غير أنا بحمد الله قد أصبحنا نرجو لأنفسنا الصلاح بصلاح إمامنا ولا تخاف عليه الفساد بفسادنا وقد رأينا حظه من الله عز وجل في التثبت والعصمة فلم يبرح الله يزيده خيراً ويزيد به رعيته مذ ولاه فعندنا من هذا وثائق من عبر وبينات ونحتسب من الله عز وجل أن لا يزال أمامنا يسارع في مرضاة ربه بصلاحه لرعيته والصبر على ما يستنكر منهم وقلة المؤاخذة لهم بذنوبهم حتى يقلب الله له بصلاحه قلوبهم ويفتح له أسماعهم وأبصارهم فيجمع ألفتهم ويقوم أودهم ويلزمهم مراشد أمورهم وتتم نعمة الله على أمير المؤمنين بأن يصلح له وعلى يده فيكونوا رعية خير راع ويكون راعي خير رعية إن شاء الله وبه الثقة. والذي يحمد من أمير المؤمنين أنا ذاكر ما تيسر منه (فـ) وقلما نلقى من أهل العقل والمعاينة منكراً لنعمة الله بأمير المؤمنين على المسلمين (فـ) ومن أشد جهلاً وأقطع عذراً ممن لم يعرف النعمة ولم يقبل العافية نعوذ بالله أن نكون من الذين لا يعقلون فتفهموا ما أنا ذاكر لكم وتدبروه بالحق والعدل فإن المرء ناظر بإحدى عيون ثلث وهما الغاشتان والصادقة وهي التي لا تكاد توج=د. عين مودة تريه القبيح حسناً. وعين شنآن تريه الحسن قبيحاً. وعين عدل تريه حسنها حسناً وقبيحها قبيحاً. فتفكروا فيما جمع الله لأمير المؤمنين في معدنه وفي سيرته وفيما ظاهر عليكم من النعمة والحق والحجة بذلك فيما عسى القائل أن يبتغي فيه المغمز والمقال فلعمري أن الشيطان من أهواء الناس وألسنتهم في الأمر لمصيب وأن له لمستراحاً حين يستوفي أمنيته ويصدق عليهم ظنه ويوحي إليهم بمكايده فيجعل الله كيده ضعيفاً وحزبه مغلوباً وجعله وإياهم نصيباً لجهنم من أجزائه المقسومة لأبوابها وحطبها ووقودها وحصيها ليعدَّ لها فمن كان سائلاً عن حق أمير المؤمنين في

معدنه فإن أعظم حقوق الناس منزلة وأكرمها نسبة وأولاها بالفضل حق رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة وإمام الهدى ووارث الكتاب والنبوة والمهيمن عليهما وخاتم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بعثه الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ثم هو باعثه يوم القيامة مقاماً محموداً شرع الله به يدنه وأتم به نوره على عهده ومحق به رؤوس الضلالة وجبابرة الكفر وخوَّله الشفاعة وجعله في الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.

الصنائع الإسلامية

الصنائع الإسلامية نشرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية فصلاً مهماً للمسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات في الأدوار التي تقلبت على الصنائع الإسلامية قال: أصدر كل من المسيو سالادين والمسيو ميجون مختصراً في الصنائع الإسلامية وقع في مجلدين ضخمين أحدهما في الهندسة الإسلامية والآخر في فن التصوير والنقش. ولقد لفت أنظار الناس معرض الصنائع الإسلامية الذي أقيم في قسم مرسان سنة 1903 والمعرض الذي وافق وقته زمن انعقاد مؤتمر المستشرقين الدولي في الجزائر سنة 1905 لأعلاق الصنائع الإسلامية التي كانت حتى الآن مزهوداً فيها اللهم إلا عند بعض الغلاة في جمعها ممن حصلوا على مجاميع بديعة منها. ففي البحث في هذا الموضوع تتجلى لنا القرون الوسطى في الشرق وتحيا أمامنا على مثل ما كانت عليه. وما من أحد يصدق اليوم بأن العاديات القديمة تستحق إعجاب أرباب الصنائع والمولعين في اقتنائها فقط بل أن ارتقاء فن الآثار ارتقاءً خارقاً للعادة بفضل الاكتشافات المدهشة في السنين الأخيرة والبحث في آثار القرون الوسطى اليونانية والغربية قد وجه أنظار المتعلمين. فمن الواجب من ثم أن يجعل حظ عظيم من البحث للقرون الوسطى الإسلامية لأنها من أجمل الأدوار التي يتأتى للإنسانية أن تفاخر بها وكانت مراكز الحضارة التي أنشأتها قديماً تلك المدنية في آسيا حلقة ضرورية لنا تربط أوروبا بالشرق بل تقرب بين القرون الحديثة والقرون القديمة وتصل عمران البحر المتوسط بتمدن آسيا العليا. إن درس الصنائع المصورة اليوم هو من المتممات الضرورية للتاريخ كما كانت الجغرافية ولا تزال كذلك فدرسها نافع للنظر في الآثار القديمة التي عرفناها منذ القدم كما هو ألزم بالشرق مما هو موضوع الأبحاث الأخيرة وقبل أن يبدأ بها لم يكد يعرف عنها شيء. وقد جعل المؤلفان النبيهان المشار إليهما من التصوير الشمسي أكبر مساعد لهما في كتابهما الوجيز فجاء الأول من نوعه وكان من هذين المجلدين مجموعة تصاوير إذا فتحها المرء تتمثل لعينيه مصانع الشرق وشؤونه عياناً إن لم يكن رآها من قبل ويتذكر بأعيانها إذا كان أتيح له متع نظره فيها ذات يوم. سهلت أسباب التنقل وأصبحت قريبة المنال فغدت الأستانة والقاهرة والهند غير بعيدة المزار كما كانت. وربما غدت كذلك طهران وأصفهان عما قريب ولذلك جاء الزمن الذي تعرض فيه على الجمهور في صورة كتاب مجموع

الأطراف زبدة ما يعرف عن ارتقاء الصنائع وترتيب المصانع الإسلامية. لم يتأت والإسلام في مبدأ ظهوره وشعشعته الأولى محصور في حدود شبه جزيرة العرب ولم ينتشر بعد في البلاد المجاورة أن ينشأ شيء من الصنائع في تلك الأصقاع المقفرة التي تطوفها العرب الرحالة على قلة مدنها وبلدانها ويقضي فيها التجار عيشة بسيطة خالية عن أبهة الحضارة. وكان المعبد العظيم في الحجاز عبارة عن مكعب من الصخر خال من الزينة وقد بقي زمناً طويلاً بدون سقف ثم غطي بسقف من الخشب على يد عامل من القبط نجا من سفينة يونانية غرقت فألقته الأقدار في بلاد العرب وجذبته مكة إليها لأحوال فغير معلومة. وكانت القوافل عند عودتها من سورية وقد سرحت الطرف في المصانع العظيمة فيها على العهد الإمبراطوري تقص أحاديث عجيبة مما رأت فأشربت نفوس الشعب تلك القصص وكان منها أن أنشئوا في صحاري شمالي بلاد اليمن جنات النعيم وهي إرم ذات العماد الغريبة وقد بًنيت في غالب الظن على مثال دمشق وتدمر وبعلبك وكانت العرب الرحالة ترى أن القبور التي نحتها في الصخر في مدائن صالح جماعة من المستعمرين الآراميين في صميم بلاد العرب أنها بيوت الثموديين وذكرها محمد (عليه السلام) بأن الغضب الإلهي نالها لأنها أنكرت لأأن ناقة صالح غير مقدسة. وكانت المصانع التي خلفتها الشعوب القديمة البائدة تنسب إلى عاد ممن بادوا فلم يبقوا من الآثار غير ما خلفوه من أعمالهم التي حيرت عقول البدو. أما الآن فليتمثل القارئ الفاتحين العرب يجولون في أكناف سورية ومصر وفارس وافريقية الشمالية وإسبانيا وكلها بلاد متحضرة مملوءة ببدائع الصنائع وأعمال الهندسة. ولكم كان العربي الرحالة يندهش عندما كان يقع نظره على بيوت ذات ثلاث طبقات في مكة ويثرب فتترآى له أنها قلاع وهو لا عهد له من قبل إلا بخيمته السوداء أو الدكناء المصنوعة من وبر العنز. وبعد أن كان المسجد البسيط الذي يسع النبي وأصحابه وهو عبارة عن كوخ خال من الزخرف مبني باللبن وجذوع النخل ليس فيه ساف من الحصا على التراب المرصوص ظهر للحال بأنه غير كاف لاستيعاب جمهور من دانوا بالإسلام وغير لائق بأن يكون بيت الواحد الأحد. وزد على ذلك فإن الفاتحين من المسلمين كانوا يشاهدون الكنائس الجميلة التي أنشأها المتقون من النصارى ويقابلون بين التأنق فيها وبين شقائهم في سكنى

البادية. اكتفى الخلفاء الأول بأن سكنوا بيوتهم التي يأوون إليها كما فعل أباطرة رومية الأول لأن المسجد كان لهم ميداناًُ ومحكمة وندوة. ولما صار الأمر إلى معاوية طمحت بهم نفوسهم إلى اتخاذ القصور يعمدون إليها ليستروا فيها غفلتهم وبذخهم وزهوهم. فبالهندسة بدأ نمو الصنائع التي دعا إليها الفتح الإسلامي وما كان للعرب صنائع خاصة بل استخدموا باديء بدء من المهندسين وأرباب الصنائع من وجدوهم في البلاد التي افتتحوها فكان أسلوب البناء الإسلامية في الأمر سورياً في سورية وقبطياً في مصر وبيزنطياً في آسيا الصغرى ورومانياً بربرياً في أفريقية ورومانياً أيبرياً في إسبانيا وبارتياً وساسانياً في فارس وبين النهرين. رأينا صوراً من الهندسة الآسياوية تنقل إلى البلاد المغلوبة على أمرها عند ما كان الشرق أولاً ميداناً للفاتحين. وأنك لتشاهد في أقدم المصانع المنقوشة المزينة فقي المغرب والمسجد الأعظم في قرطبة ومسجد سيدي عقبة في القيروان مسحة من الزينة الشرقية نقلها إليها صناع صحبوا الفاتحين أو نسجت على مثال صور الأقمشة والزرابي المطرزة والبسط المجلوبة من الشرق. ومن مميزات الهندسة الإسلامية القبة ذات الشكل البيضوي وهي منقولة بلا مراءٍ عن أصل جاء من بين النهرين أي آشوري بابلي. وقد بقي منها نموذج سالم من الصورة البارزة في قيونجق زمن الدولة الساسانية كما هو المشاهد في صور أقواس المدائن وساروستان وفيروز آباد فتبين بهذا أن ماضي الهندسة الإسلامية كان عظيماً والتمدن الإسلامي جدد استعمالها. وإنا لنجد منارات جوامع سامر وابن طولون في القاهرة أبراجاً ذات أدراج على شكل حلزوني وبعيد أن لا نعترف فيما رأيناه بأنها بقايا من معابد رصد الأفلاك الكلدانية التي نجد برج بابل مثالاً مشهوراً منها. رأت العرب في سورية ومصر الصناعة البيزنطية ودرسوها عن أمم وما هي إلا تشويه آسياوي للصناعة الرومية الرومانية أهم آثارها جامع أيا صوفيا في الأستانة. وبقيت الصناعة اليونانية آخذة في التبدل بعد فتوحات الاسكندر وظلت كذلك على أن خطر للملك قسطنطين أن ينقل عاصمة المملكة إلى ضفاف البوسفور ولا يخفى ما حدث من السرعة

في تمازج العنصر اليوناني بالعناصر اللاتينية واللغة اللاتينية. فالتقاليد العسكرية والقضائية والإدارية فقط بقيت زمناً قصيراً بحالها أما الصلات المتصلة التي كانت لمملكة الروم بيزانس مع المملكة الفارسية فقد كان منها أن بدلت الصنائع بتأثيرات آسياوية وتقدمت فيها تقدماً هائلاً حتى أن الألبيسة وتزيين الأبنية الداخلي وقصور الأباطرة وأدوات تنعمهم وبذخهم كلها لم يكن فيها شيء يشير إلى أنه روماني. سلمت عهدة مصانع ومعاهد من أوائل الهندسة الإسلامية وأعجبها المسجد الأقصى في القدس وإن شئت فقل قبة الصخرة إذا أردت أن تسميها باسمها الحقيقي. وليس هذا المسجد في الواقع جامعاً لأن هذا النوع من الأبنية معروف بما يماثله مثل مسجد عمرو بن العاص في القاهرة الذي أنشأ سنة 642م وهو عبارة عن حائط له عدة محاريب لضبط سمت القبلة التي توجه إليها الوجوه للصلاة. وكانت القبلة إلى القدس أولاً فأصبحت منذ ألف وثلاثمائة وخمس وعشرين عاماً إلى مكة ثم هناك صفوف من الأعمدة ومكان مربع مكشوف وفي وسطه صهريج ماء للوضوء. وعلى العكس من قبة الصخرة كان يستفاد من اسمها على ما هو المعروف فإنها تشغل فسحة المعبد. وهذا الشكل وطني جعل على رسم كنيسة العذراء في إنطاكية في شكل بيت مدور ذي قباب وعده المسعودي المؤرخ من أعاجيب الدنيا. ويوجد من هذا الشكل أيضاً في أواسط سورية وحوران وآسيا الصغرى وقد أنشئ هذا البناء على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي سنة 684 ولما رمم بعضه الوليد سنة 707 جعل من خارجه الفسيفساء صنعها له صناع يونان بعث بهم إليه إمبراطور القسطنطينية. وعلى عهد السلطان سليمان القانوني استعيض عن أحجار الفسيفساء بكاشاني محلى بالمينا. فالقبة والحالة هذه هي صوان أو وعاء مقدس للصخرة والمسجد الحقيقي هو الذي يشرف على حوائط المكان في الجنوب ويدعى بالمسجد الأقصى وقد أشير إليه في القرآن والمراد به معبد سليمان. بُنيت المساجد في المغرب على مثال جامع عمرو فجامع الزيتونة في تونس المؤسس سنة 732 مؤلف من أفنية موازية لحائط المحراب وفناء (صحن) أوسط كبير وصفوف من العمد مؤلفة من مواد قديمة أو بيزنطية جاءت من قرطاجنة الرومانية وأنشئ المسجد الأعظم في قرطبة سنة 785 على ذاك المثال ولكن زينته تختلف عن غيره من المساجد

اختلافاً كلياً فإن القطع العديدة التي بقيت من آثار الغوط الغربيين واستخدمت في البناء تدلنا على أن المصانع المسيحية في إسبانيا قبل القرن الثامن كان لها أثر كبير في الهندسة العربية الأصلية. والبحث في الهندسة الفارسية نافع على وجه خاص وذلك لأنها حفظت لنا تقاليد قديمة لها علاقة بالهندسة فأحسنت الانتفاع بها ورقتها وأكملتها. فإن بناء القباب كانت الطريقة التي اختيرت من بين أساليب البناء لقلة الخشب الذي يصلح للبناء في معظم أقطار تلك البلاد. وبلغ من حذق الفرس الغريب أنهم يتمثلون لعينيك ذا نظرت إلى أبنيتهم كأنهم يلعبون بالمصاعب لعباً. ولم تبلغ أمة من الأمم مبلغهم في إيجاد طرق متنوعة غريبة في القباب على أشكال غير متناسقة إلا فرنسا فإنها قلدتهم في القرون الوسطى. وإلى الفرس يرجع الفضل في اختراع المقرنصات وهي من الصنائع الغريبة ذات النقوش التي تستر البناء البارز المشبك. وأكثر ما فاقت به فارس تفننها في تزيين الأبنية بالكاشاني (القيشاني وهو نقش رائع إلا أنه سريع العطب تبتهج العيون به ما دام الملاط (المونة) الذي يلصقه بالبناء الأصلي على حاله متماسكاً فإذا قلع لقلة العناية به وسقط وتناثر من آفات أصابته ودفن في الأرض نبت العيون عنه واستوحشت من النظر إليه. وصناعة الكاشاني قديمة جداتً في البلاد الإيرانية فقد زين ملوك الأخمانيين قصورهم بنقوشها البديعة التي جعل بعضها في قاعات متحف اللوفر المظلمة ولا يزال يأسف على الهواء المضيء والشمس المشرقة في سهول فارس. وبدأ استعمال الكاشاني في فارس بعد ظهور الإسلام فيها فجعل القرميد أولاً محلى بالمينا في أطراف الأحجار مفصولاً من داخله بآجر أو بملاط من الجير والرخام ثم استعملوا نوعاً من البناء ملوناً مؤلفاً من قطع صغيرة مجزءاً موضوعاً بعضه بجانب بعض. كما فعلوا في أبنية الرخام أو الخشب في إيطاليا توصلاً إلى تزيينها بصفائح من الكاشاني على سطوح متسعة وقد شوهدت منذ القديم عندهم بنايات بارزة داخلها أزرق كالفيروز وأبيض كالعاج ويكثر انعكاس الأشعة التي تلمع فيها كلمعان السيوف كما تشهد في إمام زاده يحيى وفي ورامين وهو فقي القرن الثالث عشر. وأبنية أصفهان التي أنشئت على عهد الشاه عباس الأول أجمل مثال من هذه النقوش العجيبة وتتمة ارتقاء طويل في الصناعة. ويتيسر تتبع أدوار هذه الصناعة إذا بحث في

مصانع السلجوقيين في قونية التي أنشئت في القرن الثالث عشر وفي البنايتين اللتين أنشئتا على الطراز الفارسي في مدينة بورصة وفي المسجد الأخضر وقبر محمد الأول اللذين أسسا في القرن الخامس عشر. بنيت جميع المساجد التي أنشأها سلاطين بني عثمان على مثال كنيسة أياصوفيا. وقد كثر البناء على هذا الشكل في جميع المساجد التي أسست في المملكة العثمانية بعد القرن السادس عشر فالصورة الأصلية من هذا البناء هي إذاً بيزنطية ولكن الأسلوب الفارسي يظهر في بعض أنواع الزينة كالأبواب والكوى المقرنصة مثلاً. ومسجد بايزيد أقد أسلوب من هذا النوع عمره المهندس خير الدين. ومسجد محمد الثاني الغازي أنشأه خريستو دولو محل كنيسة الحواريين وخرب كله في زلزال سنة 1763 ثم أعيد بناؤه على عهد السلطان مصطفى الثالث إلا أنه لم يرجع إلى ما كان عليه من أسلوب البناء. وأقدم المصانع الإسلامية في الهند مسجدا دهلي وأجمير اللذان أنشئا في القرن الثالث عشر. وهما من المصانع التي قامت على أسلوب جينا كما أثبت ذلك الرحالة فرغوسن والرسم العام منه ندي ثم أثرت فيه الأساليب الإيرانية والغربية وظهرت فيه النقوش المشجرة وهي تذكر بقصر ماشيتا وهو ساساني أو ببعض محال من أيا صوفيا. وقد كان أول سلطان لبيجابور (كذا) ابن السلطان العثماني مراد الثاني الذي ارتقى من رتبة ضابط في الحرس إلى عرش الملك فأنشأ له دولة وبنى حفيد حفيده عادل شاه أجمل مصانع تلك المدينة. وطرز بنائها مأخوذ من أسلوب غربي حتى لقد ذهب الرحالة فرغوسن عندما ذكر أصل هذه الدولة وكيفية نشأتها إلى أنها اختارت من الصناع فرساً وأتراكاً. ودخل التمدن الإيراني والصناعة الفارسية إلى الهند على عهد فتح بابر (ظاهر الدين محمد من أحفاد تيمورلنك) وتأسيس مملكة المغول العظمى. وعلى عهد السلطان أكبر انتشر الأسلوب الهندي في البناء فظهر بمظهر بديع مع المحافظة على أشكاله الغربية وعرف كيف يمزج في المصانع التي لها صورة خاصة الظرف والبهجة عن الفرس ويضمها إلى متانة الأسلوب الجيني والأفغاني. فقد قال مؤرخ فنون البناء الهندية (فرغوسن) أنهم كانوا يبنون كالجبابرة وينقشون كالصياغ. ولا يفوتنا النظر هنا بأن استعمال الكاشاني على طريقة عامة لم يبق له أثر في تلك البلاد بل أخذت الهند تبني بالحجارة والرخام وهو أدل على البراعة

في الصناعة وأمتن وأفخم. وأما النقش الفارسي على جماله فقليل البقاء ويا للأسف أشبه بزينة مسرح التمثيل تزول إذا صفر لها من عهدت إليه إدارة حركة التمثيل ليجعل غيرها مكانها. ولا يعلم لأي أمة ينسب مهندس بناء تاج محل في آكرا (الهند) ولكن المعلوم أن السلطان محمد الرابع بعث إلى شاه جنان مهندساً يبني له في أحمد آباد قبة نور محل ولا ينبغي العجب إذا رأينا من بعد هذا العصر الأشكال الفارسية مطبقة على البناء من الرخام في حجم كبير. ويقال أيضاً أن رجلاً فرنسوياً من بوردو اسمه أوستين أو أوغوستين الذي لقب نادر العصر قد عهد غليه النظر في أعمال ترصيع الحجارة الكريمة التي ازدان بها تاج محل من داخله وخارجه. ولذلك كان الحق مع المسيو سلادين في قوله بأنه يظهر بأن يد مهندس أوروبي قد رسمت الصور الواضحة ورسوم جانب البناء الكثيرة التدقيق في هذا المصنع ولعل هناك أثراً من التأثير الغربي. أما في الصين فإن هندسة الجوامع صينية محضة ولم تقتبس شيئاً عن البلاد التي يتكلم أهلها بالعربية ولا عن فارس ولا الهند. لم يكن للنقش إذا قيس بالهندسة شأن ظاهر. ولا يسعنا هنا أن نبحث في استعماله للتزويق فإن ما لدينا منه قليل لا يعتد به وقد ازدانت حوائط قصر عمراً بالنقوش ولكنها بيزنطية وكان ملوك الفاطميين يزوقون قصورهم في القاهرة بصور ذات أرواح كما قال المقريزي. وجلب اليازوري وزير المستنصر بالله إلى مصر ابن العزيز والقصير وهما نقاشان مشهوران الأول من البصرة والثاني من العراق فكانا يمثلان بما ينقشان نساءً يرقصن ومشاهد مأخوذة من التواريخ المنقولة عن التوراة على نحو ما أوردها القرآن ولكن لم يبق شيء مما نقشاه. وما على من أرد أن يتمثل كيف كان النقش عند العرب إلا أن ينظر إلى نقش المخطوطات ولا سيما الصور المصغرة التي تستعمل فيها رسوم الأشخاص والحيوانات دليلاً. ويرتقي عهد أقدم المخطوطات العربية من هذا النوع إلى صلاح الدين وبعبارة ثانية إلى الدولة الأيوبية وهي من أصل بيزنطي على ما يتجلى كمها كل التجلي. ومن أهم الأمثلة في هذا الباب كتاب مقامات الحريري المخطوط وهو مما ملكه شفر (العالم الفرنسوي) وألحق بمجامع خزانة كتب الأمة بباريز كتب كاتبه اسمه في آخر ورقة منه واسمه يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن نشأ في واسط من بلاد ما بين النهرين.

ومما حواه صفحة تمثل جيشاً للعباسيين يحملون العلم الأسود ويضربون بأبواق ضخمة فارسية كما رسمت أيضاً مشاهد من غير هذا الشكل وتجد فيها كلها أثراً ظاهراً من تأثيرات الرسم البيزنطي وذلك للتوسع في صنعها الذي يشبه رسوم الحيطان على الكنائس الكبرى. إن ما كتب في مصر من المصاحف هو من الصنائع البديعة فتراها محلاة بالعناوين المزوقة والنقوش المدورة الموضوعة في الحواشي من أجمل ما تخط يد وهي من زمن المماليك ولا يعرف المرء بما يعجب في صناعة مزج الذهب بالأولوان بدقة الرسم ولطفه أو بالذوق العظيم الذي أوجد ألوفاً من التراكيب المزينة الهندسية. وقد انتشر الرسم المصغر في فارس أكثر من غيرها فظهرت الكتب المزينة بالرسوم بظهور دولة المغول التي أسسها هولاكو حفيد جنكيز خان. وربما كان هذا النقش قد ظهر بتأثير الصنائع الصينية (لأنه كانت للساسانيين كتب مزينة بصور لم يذكر عنها كتاب مجمل التواريخ غير أخبار ركيكة) أما الاكتشافات الحديثة في خوقند التي لم يطلع عليها المؤلفان المشار إليهم (ظهر مصنف المسيو ستين حديثاً) فقد أوردت لنا أمثلة من الصناعة البوذية والفارسية معاً ويجب أن يبحث فيها عن الأصل الذي أخذت منه فارس طريقتها في النقش وعلى هذا فتكون تركستان الصينية هي الطريق التي دخل منها إلى إيران تأثير آسيا الشرقية. ومهما يكن من منشأها فمن المحتمل أن فارس نقلت طريقة التصوير المصغر عن مملكة إيلخان. وبذلك ساغ لنا أن نجعل الرسم ثلاث طرق أو ثلاثة مذاهب وهي المغولي والتيموري والصفوي ومن الجنس الأول الصورة المصغرة الوحيدة التي رسمت في تاريخ جهان خوشاي لعلاء الدين الجويني (المحفوظة في مكتبة الأمة بباريز) وهي تمثل المؤلف يقدم نسخة من كتابه إلى آراغون. وقد تجلى تأثير الصين كل التجلي بعد عهد تيمور بحيث أن النفس لتحدث المرء إذا نظر إلى رسوم ذاك الدور فيما إذا كان هناك أناس من أرباب الصنائع من الفرس تخرجوا على أيدي أناس من الصينيين أو أن هؤلاء النقاشين هم صينيون في الأصل جيء بهم إلى فارس فرسموا ما رسموا. بين العصر الماضي وهذا العصر بون بعيد لأنه دور التوسع الصناعي الموافق للعهد الذي كانت فيه بلاد فارس وتركستان غاصة ببدائع المصانع. ولقد غصت بخارى وخيوه

وطاشقند بالصناع الذين ازدانت بمصنوعاتهم دور الكتب في أوروبا ثم أن عصر الصفوية السعيد قد أزهرت فيه صناعة بديعة غريبة تعلم أربابها في سمرقند وبخارة ولما انتقلت إلى الهند مع سلاطين المغول همايون وأكبر وجهانكير وأورنك زيب أنشأت فيها بدائع في الرسم والنقش بأسلوب يتنافس الناس في أوروبا في الحصول عليه. وما هذه الرسوم إلا مستندات ثمينة لا تقدر بقيمة سواء كان من حيث التاريخ أو للوقوف على الأحوال الاجتماعية في الهند في القرن السابع والثامن عشر. والصناعة الصفوية لينة سهلة تتجلى فيها العواطف الرقيقة ذات بهجة فاتنة. واشتهرت النقوش التي كتبت بقلم رصاص بوضوح التقاطيع وثبات الشكل والصورة. وانتقل النقش على عهد الشاه عباس الأول الذي كان يحب الأبهة وهو على شيء من الأفكار العالية والمدارك الواسعة من الكتب المخطوطة إلى حوائط القصور في أصفهان وما زال من هذه النقوش بقايا في قصر علي قبو وقصر الأربعين عموداً. وقد كان السائح الروماني بيترو دلافال استصحب معه نقاشاً في رحلته إلى بلاط فارس فمن الممكن أن يكون الشاه أخذ رأي النقاش وباحثه في الرسوم الكبرى التي اعتاد الطليان رسمها على الجدران فنبه فكره إلى أن يزوق قصوره على مثالهم. ولكن هذا القياس الفرضي وكان على بيترو وقد أطال رحلته بوصف ما عمل ورأى أن لا يقصر في ذكر ذلك. على أن كثيراً من النقوش الفارسية تشعر بتأثيرات النقش الإيطالي. وكثيراً ما تكون جلود الكتب غاية في الجمال ومن الخسارة أن مؤلفي كتاب الوجيز المشار إليهما لم يدخلا في تفصيل ذلك. ولقد شاهدت في الأستانة بعض المولعين بالآثار يأخذون الجلود القديمة كافة ليجعلوها في المتاحف مثالاً من أمثلة الحذق في الصنائع. والجلود المصمغة عند الفرس غاية في الجمال ويتألف من بعضها جداول حقيقية. (الباقي للآتي).

اللغة والدخيل

اللغة والدخيل في مصر اليوم حركة فكرية مدارها الائتمار فيما وصلت إليه اللغة العربية في هذا العهد من العجز والتقصير والنظر فيما ينشطها من عقالها ويخرج بها من هذا المأزق الحرج بعد ما استحدث من المخترعات والمكتشفات والمصطلحات العلمية وما ضاق عطنها عن قبوله. فكتب الكاتبون في ذلك ما كتبوا وذهب كلٌ مذهبه وأبان عن رأيه حتى أوشكت هذه الفكرة أن تتعدى حد القبول فيؤذن مؤذن الفلاح بحي على خير العمل. ولنا في النهضة الكريمة التي قام بها رجال نادي دار العلوم خير شاهد على ما نقول. وقد كنت ممن خاض هذا الغمار وأجال القلم في هذا المضمار فنشرت صحيفة المؤيد عشرين كلمة من العامي والدخيل أردفتها بما يرادفها من العربي الفصيح وقصدت بذلك عرضها للنقد والتمحيص حتى يتبين الصحيح من الزائف إذ لا ينبغي للفرد الواحد أن يستبد بمثل هذا العمل. ثم عنَّ لي أن أضم إليها عشراً أخرى وأنشرها في المقتبس الأغر ليطلع عليها أفاضل العلماء والكتاب في الأنحاء العربية فيمدونا بآرائهم فيها خدمة لهذه اللغة الشريفة وهي: (مُدة القلم): المدة بضم أوله وهي ما يعلق بالقلم من المداد بعد غمسه في الدواة. (بوية الجزم أو طلاء الأحذية): اليرندج أو الأرندج بفتحتين وهو السواد يسود به الخف. (صحبة الورد): الطاقة وهي الحزمة من الريحان ونحوه ولعلها أقرب لفظة لمعنى الصحبة وقد اصطلح الكتاب على تسميتها بالباقة وهو خطأ لأن الباقة خاصة بحزمة البقل. (نشان التعليم): الدريئة بفتح فكسر وهي الحلقة يتعلم الرامي عليها. (الكشك): أصله بالفارسية كوشك وهو القصر الصغير وقد عربوه بالجوسق. (العطفة): الردب بفتح الراء وسكون الدال وهو الطريق الذي لا ينفذ. (العديل): السلف أو الظأب من المظابة وهي أن يتزوج إنسان بامرأة ويتزوج آخر باختها. أما التجاب بتشديد الباب من باب التفاعل فهو أن يتزوج كل من الرجلين بأخت الآخر. (قشرة الجرح): الجلبة بضم فسكون وهي القشرة تعلو الجرح عند البرء. (الطاقية): السكبة بفتح فسكون وهي خرقة تقور للرأس كالشبكة. (ناظر العمارة أو مقدم الفعلة): الوهين كأمير وهو الرجل يكون مع الأجير يحثه على العمل.

(اليشمق): اللفام بكسر أوله وهو النقاب يكون على طرف الأنف فإن كان على الفم فهو اللثام. (السردين): الصير بكسر أوله وهو كما في القاموس السمكيات المملوحة يعمل منها الصحناة وفسر الصحناة بأنه أدام يتخذ من السمك الصغار مشه مصلح للمعدة. فعلى هذا يجوز إطلاق الصحناة على كل ما يقدم أمام الطعام من المشهيات كالصير وحوه والمسمى عند الأعاجم ويمكن أن يسمى السردين أيضاً بالطريخ كسكين وهو سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل. (العزبة): كأنها محرفة عن العزوبة بالفتح وهي الأرض البعيدة المضرب إلى الكلأ وصوابها الضيعة وهي الأرض المغلة وقد استعملت قديماً بمعنى (العزبة) وأظنها مستعملة إلى الآن بهذا المعنى بالبلاد الشامية. (مضرب الكورة): الطبطابة بفتح فسكون وهي خشبة عريضة يلعب بها بالكرة ويقال لها أيضاً الميجار بكسر أوله وهو كما في المخصص الصولجان الذي تضرب الكرة. (المزَّة) النقل بالفتح او بالتحريك وهو ما يعبث به الشارب أو ينتقل به على شرابه من فاكهة ونحوها. والعامة تقول نقل بضم فسكون وهو خطأ قديم نبه عليه أئمة اللغة. (اللباس الرسمي) السواد وهو لون اتخذه بنو العباس شعاراً لهم ثم أطلق عندهم على لباس أسود خاص بالأمراء والعلماء وذوي الأخطار وكان الرجل إذا أراد الذهاب إلى ديوانه أو مقابلة خليفته قال لغلامه عليَّ بسوادي وسيفي. (ثياب الحزن): السلاب بكسر أوله وهي ثياب سود تلبسها النساء في المآتم واحدتها سلبة بفتحتين وتسلبت المرأة وسلبت بتشديد اللام إذا لبستها وهو مثل أحدّت إلا أن الإحداد يكون على الزوج خاصة والتسلب على الزوج وغيره. (الحبل الحاجز في الطريق): عند إصلاحها أو في احتفال كبير. الماصر وهو كما في مختصر العين للزبيدي حبل على الطريق أو نهر تحبس به السفن أو السابلة. واقتصر في اللسان على أنه الحبل يلقى في الماء لمنع السفن عن السير. (المعدية): المعبر كمنبر وهو المركب الذي يعبر به. (عقدة أو شنيطة): الأنشوطة بضم فسكون وهي عقدة يسهل انحلالها إذا مددت بأحد طرفيها

انحلت. وتقول نشطت الأنشوطة من باب نصر إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها. (الحصان البوني أو المكبون والأنثى المكبونة وهو الفرس القصير القوائم الرحيب الجوف الشخت العظام ولا يكون المكبون أقعس ومعنى القعس في الخيل المطمئن الصهوة المرتفع القطاة. (الشال): الطيلسان وقد فسره اللغويون أنه ضرب من الأكسية واقتصروا على ذلك إلا أن الشيخ إبراهيم السجيبيني فسره في كتابه المسمى بالعمى الأكبر في عين من أنكر ليس الأصفر بأنه ثوب طويل عريض كالرداء يجعل على الرأس فوق نحو عمامة ويغطي أكثر الوجه ثم يدار طرفه تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة ثم يلقى طرفاه على الكتفين أهـ وهو كما نرى قريب جداً من معنى الشال. (رخو الكرباج): الشيب بكسر أوله وهو سير السوط. وفي اللسان وشيبا السوط سيران في رأسه وشيب السوط معروف عربي فصيح أهـ. (الجرسون أو السفرجي): لم أقف على لفظ مرادف مفرد يدل على دلالة تامة على (الجرسون) وقد ذكر اللغويون الندل بضمتين وفسروه بخدم الدعوة قالوا سمو نُدُلاً لأنهم ينقلون الطعام إلى من حضر الدعوة وأصله من ندلا يندل إذا تناول أهـ. إلا أنهم لم يذكروا مفرده فأرجو ممن وقف على لفظة أخرى أو على مفرد الندل أن يتفضل بنشره للجمهور. على أني رأيت بهامش اللسان أن هذا اللفظ وجد مضبوطاً بخط الصاغاني بفتحتين وعليه فلا يبعد أن يكون اسم جمع لنادل كخادم وخدم إلا أن مثل هذا لا ينبغي الحكم فيه غلا بالنصر الصريح. (القطن الزهر): اصطلح المصريون على تسمية القطن قبل حلجه بالزهر وعربيته الفصيحة المكمهل بصيغة اسم المفعول وهو كما في القاموس القطن ما دام فيه الحب والقطن الحليج كأمير هو ما استخرج حبه ويسميه المصريون بالشعر. أما شجرة القطن فتسمى الزعبل بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه. (السنارة) الشص بفتح أوله أو مكسره وهي حديدة عقفاء يصاد بها السمك. وأما بالصنارة بكسر الصاد المهملة وتخفيف النون ومنع في اللسان تشديدها فهي الحديدة الدقيقة المعقفة التي في رأس المغزل فاستعارتها العامة لمصيدة السمك وأبدلوا صادها سيناً ولا داعي

للاستعارة متى وجدت الكلمة الموضوعة. (الجاكيتة اصطلح الكتاب على تسمية البالطو بالمعطف ومن المعلوم أن الجاكيتة كالبالطو الصغير فلا حرج إذا سميناها بالعطيف تصغير ترخيم للمعطف. (البيرة السوداء): البيرة خمر الشعير وعربيتها الجعة وزان هبة فيجوز أن يقال الجعة السوداء إلا أن العرب سمت الخمر السوداء بأم ليلى فما المانع من إطلاقها على هذا النوع من البيرة. (عمود الغاز): الماثلة وهي منارة المسرجة كما في القاموس. (البونية الجمع بضم فسكون وهو من الكف حين تقبضها قال طرفة بن العبد: بطيءٍ عن الجلى سريعٍ إلى الخنا ... ذلولٍ بأجماعِ الرجال مُلهدِ ويقال فيه أيضاً الصقب بفتح فسكون وصقبه أي صربه بجمع كفه. والله أعلم. القاهرة أحمد تيمور

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كتاب البدء والتاريخ لم نكد نقرأ مبحث الصنائع الإسلامية الذي نقلناه إلى العربية في هذا الجزء حتى جاءنا البريد من باريز يحمل الجزء الرابع من كتاب البدء والتاريخ لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي الذي نشره المسيو كلمان هوار كاتب تلك الرسالة وأحد أساتذة مدرسة الألسنة الشرقية الحية في باريز مترجماً بقلمه إلى الإفرنسية. أخذه عن نسخة وحيدة في مكتبة الداماد إبراهيم باشا بالأستانة وطبع الأجزاء الأربعة التي صدرت منه إلى الآن نحو ثلثيه وبقي الثلث الآخر. وقد كان ناشره العلامة يرى أولاً أن الكتاب للبلخي لأن النسخة المنقول عنها كتب عليها اسمه ثم تبين من بعض القرائن التي ذكرها في مقدمة الجزء الثاني والثالث أن الكتاب للمطهر بن طاهر المقدسي المقيم ببست من أعمال سجستان. ساعد على هذا الشك أمور منها أن ابن النديم صاحب الفهرست لم يذكر كتاب البدء والتاريخ في جملة مصنفات البلخي ومنها أن كتاب خريدة العجائب المنسوب لابن الوردي الذي اقتطع منه بعض فقرات من البدء والتاريخ وإن قال انه للبلخي إلا أن أبا منصور الثعالبي في كتابه الغرر في سير الملوك وأخبارهم ذكر كتاب البدء والتاريخ مرتين وقال أنه للمطهر بن طاهر. والثعالبي ثقة لقدمه. فقد كان بعد تأليف البدء والتاريخ بخمسين سنة وابن الوردي كان في القرن التاسع للهجرة. وأن ياقوت الرومي يقول في كتابه معجم الأدباء أن البلخي توفي سنة 322 على حين انتهى هذا الكتاب إلى سنة 355 بيد أن من نسب إليه الكتاب مشهور بين أهل العلم في عصره بالفضل والفلسفة وأحكام النجوم والرحلة وله مصنفات في الجغرافية وغيرها والمطهر بن طاهر غير معروف ولم يعثر له على ترجمة. وكيفما كان الحال فقد بذل ناشره جزاه الله خيراً من العناية بتصحيحه ما وصل إليه ذرعه مستعيناً ببعض أئمة التاريخ والأدب العربي من علماء المشرقيات في أوروبا أمثال كوي الهولاندي وغولدسير المجري ومرجليوث الإنكليزي ودارنبورغ وبارييه دي مينار الفرنسويين. كل هذه العناية وقد اعتذر عن نفسه وعدّ منها الجرأة أن ينشر كتاباً من القرن الرابع منقولاً عن نسخة مخطوطة واحدة فقال أنه لم يرَ بداً من نقل العبارة بنصها وعلى

علاتها بل على أغلاطها النحوية وأن يقتصروا على التصحيح الظاهر مشيراً في الحاشية للأصل وكيف ورد. قال المؤلف في المقدمة: تسلق الزائغون عن المحبة في التلبيس على الضعفاء وتعلق المنحرفون عن نهج الحق في إفساد عقيدة الأغبياء من طريق مبادئ الخلق ومبانيه وما إليه مآله تعلقاً به ينبهون غرة الغافل ويحيرون فطنة العاقل وذلك من أنكى مكايدهم للدين وأثخن لبلوغهم في انتقاص الموحدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته ويفلج حجته ولو كره الكافرون وأن من أعظم الآفة على عوام الأمة تصديهم لمناظرة من ناظرهم بما تخيل في أوهامهم وانتصب في نفوسهم من غير ارتياض بطرق العلم ولا معرفة بأوضاع القول ولا تحكك بأدب الجدل ولا بصيرة بحقائق الكلام ثم إلقاؤهم بأيديهم عند أول صاكة تصك أفهامهم وقارعة تقرع أسماعهم ضارعين خاشعين مستجدين مستقلين إلى ما لاح لهم بلا إجالة روية ولا تنقير عن خبيئة وعلى أهل الطرف والشرف منهم التخصيص بالنادر الغريب والرغبة عن الظاهر المستفبض والإيجاب بغوامض الألفاظ الرائقة والكلم الرائعة وإن كانت ناحلة المعاني نحيفة المغاني ضعيفة الضمائر واهية القواعد فقصارى نظرهم الاستخفاف بالشرائع والأديان التي هي وثاق الله تعالى في سياسة خلقه وملاك أمره ونظام الألفة بين عباده وقوام معاشهم والمنبه على معادهم الرادع لهم عن التباغي والتظالم والمهيب بهم إلى التعاطف والتواصل والباعث لهم على اعتقاد الذخائر من مشكور صنائع العاجل ومحمود ثواب الآجل. إلى أن قال: وجمعت ما وجدت في ذكر مبدأ الخلق ومنتهاه ثم ما يتبعه من قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبار الأمم والأجيال وتواريخ الملوك ذوي الأخطار من العرب والعجم وما روي من أمر الخلفاء من لدن قيام الساعة إلى زماننا هذا وهو سنة ثلاثمائة وخمس وخمسين من هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما حكي أنه واقع بعد من الكوائن والفتن والعجائب بين يدي الساعة على نحو ما بين وفصل فقي الكتب المتقدمة والأخبار المؤرخة من الخلق والخلائق وأديان أصناف الأمم ومعاملتهم ورسومهم وذكر العمران من الأرض وكيفية صفات الأقاليم والممالك ثم ما جرى في الإسلام من المغازي والفتوح وغير ذلك الخ. ويشتمل الكتاب على اثنين وعشرين فصلاً يجمع كل فصل أبواباً وأذكاراً من

جنس ما يدل عليه. قدمه مؤلفه إلى احد ملوك عصره إلا أنه لم يذكر اسمه ويرى الناشر أن المقدم إليه ربما كان وزير المنصور بن نوح الساماني. والجزء الرابع الذي أهدي إلينا يبدأ من الفصل الثاني عشر بذكر أديان أهل الأرض ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم من أهل الكتاب وغيرهم وانتهى بالسادس عشر لسنة إحدى عشرة من الهجرة قال في ذكر المعطلة والملاحدة أو الدهرية أو الزنادقة أو المهملة: وقط ما انتشروا في أمة من الأمم ولا أقروا في وقت من الأوقات انتشارهم في هذه الأمة لإعطائهم الإقرار بالديانة ظاهراً (وهو ما نسميه اليوم بحرية الأديان) وحقن الشريعة دم من أجاب إليها وهم هؤلاء الباطنية الباطلية الذين تخلعوا عن الأديان ومرجوا نفوسهم في ميادين الشهوات فحظوا عند الظلمة بترخيصهم لهم في ارتكاب ما يهوون وتهوينهم عليهم عواقب ما يحذرون حتى ترى المظالم قد فشت والقلوب قد قست والمنكرات قد ظهرت والفواحش قد كثرت وارتفعت الأمانة وغلبت الخيانة وعطلت المروءة واستخف بالربانيين واهتضم المستضعفون وأميت العدل وأحيي الجور فظهر ما لم يذكر في عهد ملك من الملوك في قديم الدهر وحديثه ولا في زمن نبي من الأنبياء عليهم السلام. . . وفي الكتاب فوائد كثيرة جغرافية وتاريخية واجتماعية وعمرانية وهو من أهم الكتب في النحل والملل وخوضه فيها يدل على أن المؤلف هو البلخي لما عرف من ترجمته أنه طالما اجتمع بزعماء أرباب الملل واستوصفهم معتقداتهم قال في طورسينا: يخرج الرجل من مصر إلى قلزم في ثلاثة أيام ومن قلزم إلى الطور طريقان أحدهما في البحر والآخر في البر وهما جميعاً يؤديان إلى فاران وهي مدينة العمالقة ثم يسير منها إلى الطور في يومين فإذا انتهى إليه صعد ستة آلاق وستمائة وستاً وستين مرقاة وفي نصف الجبل كنيسة لإيليا النبي وفي قلة الجبل كنيسة مبنية باسم موسى عليه السلام بأساطين من رخام وأبواب من صفر وهو الموضع الذي كلم الله عز وجل فيه موسى وقطع منه الألواح للتوراة ولا يكون فيها إلا راهب واحد للخدمة ويزعمون أنه لا يقدر أحد أن يبيت فيها فيهيء له بيت صغير من خارج بناء فيه. والكتاب كما رأيت لطيف الأسلوب في إنشائه. وإنشاء القرن الرابع مهما انحط أرقى من إنشاء الأعصر التي تليه. وقد اتضح أن مؤلفه معتزلي من نسبة الاختيار المطلق للإنسان

ورعاية الأصلح لله سبحانه وتعالى ونحو ذلك مما ذكره في المعراج النبوي فإنه قال: والوجه في هذا وما أشبهه أن لا يجاوز فيه نص الكتاب ومستفيض السنة مع المخالف المنكر المستعظم لما يخرج عن العادة المعهودة والطبع القويم وقال أن المسرى قد يكون بالروح والجسم وأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الرؤيا في المنام لا غير وإن كان جاء في التفسير أنه رؤية العين فحكم العقل أن يخاطب كلاً على قدر فهمه. فهذا الكلام يدل على أن المؤلف معتزلي فإن كان المطهر الذي نسب إليه التأليف معتزلياً تقوى الشبهة في أن الكتاب له وإلا فيبقى هناك مجال للقول في أنه للبلخي. ولعل الذي أحيا هذا الكتاب الذي كاد يدفن يوفق إلى تصفح بعض ما يعثر عليه من مصنفات البلخي فيقابل بين أسلوبه فيها وأسلوبه في كتاب البدء والتاريخ ليتجلى له إن كان هذا المؤلف له أو نسب إليه وهو لغيره. فإن المدقق لا يلبث أن يدرك من بعض الألفاظ والتعابير أن المؤلف واحد ولكل كاتب ألفاظ تكاد تكون خاصة به يستعملها في معظم ما تخطه يراعته. وقد تصفحنا جملة صالحة من الترجمة الإفرنسية فرأيناها موافقة للأصل العربي اللهم إلا إذا كان في هذا بعض التباس فهناك المترجم يعذر لا محالة. ومهما يكن فإنا نهنيء المسيو هواء على إحياء هذا الأثر النفيس وما أحرى أن تكون مبالغته في العناية بما نشر معلمة لطابعينا ومؤلفينا كيف نطبع الكتب إذا أريد بها النفع الحقيقي لا مجرد النسخ والإلقاء للطبع كيفما اتفق. ونشكر لمدرسة اللغات الشرقية على طبعها هذا السفر الجليل ونرجو أن يوفق أمثال المسيو هوار وغيره من رصفائه الجهابذة إلى نشر كثير من آثار الشرق على النحو الذي طبع به هذا الكتاب من الإتقان والجودة. وكل جزء منه يباع بعشرين فرنكاً. فنحث طلاب العلم والأدب على اقتنائه فإنه من خير الكتب التي تزين المكاتب والقماطر ويسر بوضعها وطبعها الخاطر والناظر ومن جملة فوائده أنه يعين من أراد أن يتعلم الترجمة من الإفرنسية إلى العربية وبالعكس. بلاغات النساء هو كتاب حوى طرائف كلام النساء وملح نوادرهن وأخبار ذوات الرأي منهن وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام تأليف أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المتوفى سنة 380 هـ نقله عن نسخة مخطوطة في خزانة الكتب الخديوية أحمد أفندي الألفي من أفاضل أدباء

مصر وقدم له مقدمة رشيقة وصف فيها الأصل الذي اهتدى إليه وحافظ على كلام المؤلف فلم يحذف منه ما لا ينطبق مثلاً على عادات هذا العصر في التآليف فأبقى قسم المجون بحاله لأنه داخل في أنواع الأحوال الاجتماعية والبلاغات اللغوية المروية عن النساء ليتم للمطالع الإشراف على هذه الأحوال والبلاغات في قسميها الجدي والفكاهي وقد يستغرق المطالع في مطالعة هذا الأثر النفيس فيحار في التفضيل ولا غرو فإن كلام عائشة وفاطمة وزينب وأم كلثوم وحفصة وأروى بنت الحارث وسودة بنت عمارة والزرقاء بنت عدي وبكارة الهلالية وأم الخير لبنت الحريش البارقية والحجانة بنت المهاجر وأم معبد ورقيقة بنت بنانة وامرأة أبي الأسود الديلمي وصفية بنت هشام المنقرية وجمعة وهند بنتا الحسن وآمنة بنت الشريد وأم سنان بنت خيثمة بن خرسة ونائلة بنت القرفصة وعائشة بنت عثمان بن عفان وفاطمة بنت عبد الملك وعكرشة بنت الأطش والدارمية الجحونية وجروة بنت مرة بن غالب وأم البراء بنت صفوان إلى غيرهن من الأديبات الحكيمات هو للبلاغة معين وعلى الأدب أكبر معين يقل وقوع مثله للرجال دع عنك ربات الحجال. وقد جاء الكتاب في زهاء مئتي صفحة مطبوعة جيداً وعلق عليه ناشره بتفسير بعض الألفاظ العويصة وبذل الجهد في إرجاع النصوص إلى الصواب ما أمكن لأن النسخة الأصلية محرفة تحريفاً مشيناً فجزاه الله خيراً والكتاب يطلب من المكاتب الشهيرة بمصر وثمنه عشرة قروش.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع قوة الحياة في العالمين ادعى جون بورغوس من مشاهير علماء الطبيعة في أميركا أن الأحياء من الإنسان والحيوان في أوروبا أقوى وأعظم وأكثر نسلاً مما عي في أميركا فأثبت الرئيس روزفلت عكس هذه القضية ونشر كل من المدعي والمنكر مجلدات في هذا الصدد فقال روزفلت: إن كثيراً من الحيوانات والطيور التي تنسب بأن أصلها من أوروبا قد وردت عليها في الحقيقة من بلاد أخرى كما هاجرت إلى الولايات المتحدة وأوستراليا مثال ذلك الأرنب والجرذ والفأرة فإنها كانت تأوي باديء بدء إلى شمالي أفريقية أو جنوبي آسيا. واستنتج من ذلك أن الضعف في هذه الحيوانات إذا قيس بالحيوان الأميركي لا تكون منه قاعدة عامة كما يكون وجه الشبه بين الحيوانات المتوحشة التي ما زالت في فرنسا وألمانيا وإنكلترا. أما ذوات الثديين من الحيوانات فلا يعرف فيما إذا كانت في أميركا تمتاز عن بنات نوعها في مكان آخر من حيث القوة والنشاط. فترى الوعل والإيل في أميركا أعظم جثة مما هما في أوروبا وزهكذا الحال في كلب الماء وجرذ الحقل فإنك تشاهد أعظمهما جثة ما كان أصفر أبقع وهو يكثر في جون هدسون ولئن كان الأرنب الأميركاني في الشمالي أحط بقوته وجرأته من الأرنب في شمالي أوروبا وآسيا فإن الدب الأميركي أرقى من الدب الأسفع الأوروبي. وإذا بدا البقر الوحشي في أوروبا وآسيا وأفريقية أنه أضخم من البقر الذي من جنسه في أميركان فالأيل في أميركا أعظم من الذي من جنسه في غيرها. ويكاد الثعلب الأميركي يكون مساوياً في قده للثعلب الفرنساوي وأصغر من الأرنب الأيكوسي ولكن هذا دون الأرنب في أعالي ميسوري. وما من شيء يدعو للاعتقاد بأن الثعلب الأحمر جيء به من أوروبا إلى أميركا لأن سكان كندا كانوا يصيدون الثعالب منذ أزمان متطاولة ويتجرون بقروها. هذا رأي الرئيس روزفلت في الحيوانات وأما في الإنسان فقد استعان على صحة مدعاه بالإحصاءات الطبية من عهد حرب الرقيق لأنه اشتركت فيها أمم من جميع أهل أوروبا وعامة أقطار الولايات المتحدة وجرى البحث في أجسامهم على طريقة طبية تشريحية فنتج من البحث أن الجسم الإنساني في شرقي الولايات المتحدة قد فسد فساداً محسوساً. فقامات

سكان ولاية نيويورك مثلاً أصغر من قامات الإنكليز والإيرلنديين واتساع صدورهم أقل وأجمل الناس صورة هم سكان ولايتي كنتكي وتنيسي ثم السويديون والإيكوسيون والأميركيون في ويسكنسن ومينوستا ويليهم الإيرلنديون والألامان والإنكليز ثم الفرنسيس اللهم إلا سكان كندا منهم. وأكثر الناس نسلاً سكان كنتكي وتنيسي وفيرجينا وكرولينا وكندا. واستنتج الرئيس من ذلك أن ليس ثمت قاعدة مطردة يتأتى السير عليها للحكم على قوة الحياة في الحيوان والإنسان إذا كان الاستناد في ذلك على هواء البلاد فقط. ونحن نستنتج معجبين بالرئيس روزفلت الذي يباري العلماء ويبذهم في علمهم كما هو أعظم سياسي. فسبحان من خص الرئيس روزفلت بعد أن كنا نقول الرئيس ابن سينا. مزارع النعام لئن كان أصل النعام من سهول أفريقية وبلاد العرب الرملية فقد ربي في الناتال سنة 1874 وكثرت الاستفادة منه حتى بلغ رأس المال المخصص لتربيته سنة 1879 ثمانية ملايين جنيه ويصدر منه كل سنة زهاء خمسة وعشرين مليون ريشة إلا أن حرب الزولو لاند وغيرها من الحوادث قضت بتخريب تلك المزارع فانتقل بعض أصحابها إلى زلاندا الجديدة فأخذوا يربون النعام وقد أنشئت شركة سويسرية لتربية النعام فيها أتت بأرباح وافرة واقتدى بهم بعض الناس في أوستراليا فأصبح فيها زهاء ألف نعامة وتباع الواحدة التي يبلغ عمرها ثلاثة أشهر بخمسة جنيهات ويباع زوج من ذكر النعام وأنثاه بمئة جنيه وما زال في نمو. والنعام ثروة لمربيه ولكن لا في أفريقية. المستعمرات الفرنسوية كتب أحد أعضاء مجلس النواب الفرنساوي تقريراً قال فيه أن المستعمرات الفرنسوية أخذت تزيد بأراضيها وسكانها وغناها فلم يكن لفرنسا سنة 1870 ما خلا الجزائر وتونس غير مستعمرات لا يتجاوز سكانها الميونين ونصفاً أما اليوم فسكانها يبلغون خمسة وثلاثين مليوناً نصفهم في الهند الصينية وهي أكثر البلاد الآهلة بالسكان وأفريقية الغربية والكونغو أوسع المستعمرات الفرنسوية وذكر ما قصرت فيه الحكومة في مدغسكر من تعليم سكانها على حين أخذ مرسلو البرتستانت من الإنكليز والفرنسيس يكثرون من المدارس وفيها من يحنق على من يأتي الخير لأنه أتاه باسم الدين وما على الطبيب الطيب إلا أن يقول في

نفسه ماذا يهم من الدواء إذا كان فيه الشفاء. دعاة الدين يقولون أن إيطاليا اليوم تحارب رجال الدين كما حاربتهم فرنسا من قبل ولكن الدين مع هذا لم يبرح منتحلوه يكثرون في عدة جهات وإن قلوا في بعضها فقد كان عدد من دانوا بالبرتستانتية في النمسا 3431 في السنة الماضية وبلغ مجموع من انتحلوها هناك في تسع سنين 45 ألفاً وفي فيينا دان سنة 1907، 227 إسرائيلياً بالنصرانية منهم بالبرتستانتية ومنهم بغيرها. وذكروا أن في البلجيك اليوم 2474 جمعية دينية على حين ليس فيها سوى 2623 مركزاً. حجر السماء اكتشف بالعرض حد سكان كاليفورنيا جوهراً جديداً معدنياً لم يكن من قبل معروفاً وسينافس عما قريب أحجار الياقوت والزمرد وهو أزرق كالصفير أو الياقوت الأزرق وزرقته كزرقة السماء في الصيف. وقد كتم المكتشف سر اكتشافه إلا أنه عرض بعض الأحجار فتنافس فيها غلاة الجواهر من كبار أغنياء الأميركان. وفي تلك الناحية من كليفورنيا اكتشف منذ عشر سنين زمرداً أخضراً كما اكتشف حديثاً في تلك البقعة نفسها حجر الكونزيت الذي يختلف بلونه من الأرجوان إلى الوردي. أكبر باخرة أكبر باخرة تسير في الأنهار هي التي صنعتها أميركا وتستخدم للملاحة قريباً من جون هدسون وهي تقل خمسة آلاف راكب وطولها 120 متراً وعمقها 13 ومجموع علوها 24 وتقطع 38 كيلومتراً في الساعة ويزيد قطر دواليبها على سبعة أمتار. تجارة تونس أحصيت تجارة الصادرات والواردات معاً فقي القطر التونسي سنة 1906 فبلغ مجموعها 170 مليون فرنك منها 90 مليوناً للواردات والباقي للصادرات وقد كانت الواردات سنة 1901، 65 مليوناً والصادرات 105 ملايين وما برح الارتقاء في الواردات آخذاً في النمو وأهم الممالك التي تعامل تونس فرنسا وإيطاليا وإنكلترا والجزائر ثم البلجيك وألمانيا

والولايات المتحدة. يصيب كل مملكة منها بحسب نشاط أفرادها وما لديهم من الغلات والمصنوعات. تطهير الكتب اخترعت عدة طرق لتطهير الكتب من الجراثيم التي يلحقها بها المطالعون من أرباب الأمراض المعدية ولكنها لم تأت بالغرض المقصود وقد اخترع الدكتور برليوز الفرنسوي آلة جديدة أسهل على العمل وأضمن للنتيجة من جميع ما اخترع من نوعها وذلك بأن تبخر الكتب بسيائل خاص على درجة من الحرارة لا تقل عن 75 وبدون ضغط على الكتاب ولا فتح لأوراقه ولا ضرر على جلده وورقه والكتب المجلدة تجليداً نفيساً يكتفى بتغليفها بورقة رفيعة فيذهب بذلك من الكتب كل جرثومة ضارة بلى إن هذا العمل بها يساعد على زيادة بقائها وحفظها. الزراعة في إنكلترا انحطت الزراعة في إنكلترا انحطاطاً هائلاً فكانت سنة 1870 تقوم بإطعام نصف الأمة ولم تعد تكفي سنة 1900 لغير طعام عشر سكانها وقلت الأراضي التي تزرع حبوباً قلة محسوسة فأصبحت إنكلترا عالة على مستعمراتها إذا قطعت عنها مادة حياتها وحدث ما أخر بريطانيا عن الاستئثار بسلطة البحار يسوء حالها لا محالة. أثبتت ذلك اللجنة الزراعية الإنكليزية في العام الماضي فقالت أن عدد العاملين في الزراعة كان سنة 1871، 1685000 فأصبحوا سنة 1901، 900000 وأكدوا أن زراعة إنكلترا أحط الزراعات في أمم الأرض كلها.

رسالة ابن المقفع في الصحابة

رسالة ابن المقفع في الصحابة أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرحمة فإن أمير المؤمنين حفظه الله يجمع مع علمه المسألة والاستماع كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستغناء ويستوثق لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته فيما يلطف له في الفحص عن أمورهم كما كان أولئك يكتفون بالدعة ويرضون بدحوض الحجة وانقطاع العذر في الامتناع أن يجترئ عليهم أحد برأي أو خبر مع تسليط الديان. وقد عصم الله أمير المؤمنين حين أهلك عدوه وشفى غليله ومكن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها من أن يشغل نفسه بالتمتع والتفتيش والتأثل والإخلاد وأن يرضا ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفسي منه وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه وذلك من أبين علامات السعادة وأنجح الأعوان على الخير وقد قص الله عز وجل علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث وجمع له شمله وأقر عينه بأبويه وأخوته أثنى على الله عز وجل بنعمته ثم سلا عما كان فيه وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. وفي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبرة فيما ظن أنه لم يسبغه إياه غيره وبالتذكير بما قد انتهى إليه ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مخبراً ومذكراً. وكلٌّ عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله. مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطاً إلى إعمال ذوي الرأي فيما يصلح الله به الأمة من يومها أو غابر دهرها الذي أصبحوا قد طمعوا فيه ولعل ذلك أن يكون على يدي أمير المؤمنين فإن مع الطمع الجد ومع اليأس القنوط وقلما ضعف الرجاء إلا ذهب الرخاء. وطلب المويس عجز وطلب الطامع حزم. ولم ندرك الناس نحن وآباؤنا إلا وهم يرون فيها خلاً لا يقطع الرأي ويمسك بالأفواه من حال والٍ لم يهمه الإصلاح أو أهمه ذلك ولم يثق فيه بفضل رأي أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صون بصرامة أو حزم أو كان ذلك استئثاراً منه على الناس بنشب أو قلة تقدم لما يجمع أو يقسم لو حال أعوان ينيل بهم الولاة ليسوا على الخير بأعوان وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر ومخافة الدول والفساد إن هو هاجهم أو انتقص ما في أيديهم أو حال رعية متزرة ليس لها من أمرها النصف في نفسها فإن أُخذت بالشدة حميت وإن أُخذت باللين طغت. وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين فآتاه الله

ما آتاه في نيته ومقدرته وعزمه ثم لم يزل يرى ذلك من الناس حتى عرفه منه جهالهم فضلاً عن علمائهم. وصنع الله لأمير المؤمنين في رأيه وأتباعه مرضاته وأذل الله لأمير المؤمنين رعيته بما جمع له من اللين والعفو فإن لان لأحد منهم ففي الأثخان له شهيد على أن ذلك ليس بضعف ولا مصانعة وإن اشتد على أحد منهم ففي العفو شهيد على أن ذلك ليس بعنف ولا خرق مع أمور سوى ذلك يكفُّ عن ذكرها كراهة أن يكون كأنا نصبنا المدح. فما أخلق هذه الأشياء أن تكون عتاداً لكل جسيم من الخير في الدنيا والآخرة واليوم والغد والخاصة والعامة. وما أرجانا لأن يكون أمير المؤمنين بما أصلح الله الأمة من بعده أشد اهتماماً من بعض الولاة بما لا يصلح رعيته في سلطانه وما أشد ما قد استبان لنا أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية ولها نظراً وتقديراً من الرجل منا بخاصة أهله ففي دون هذا ما يثبت الأمل وينشط العمل ولا قوة إلا بالله ولله الحمد وعلى الله التمام. فمن الأمور التي يذكر بها أمير المؤمنين أمتع الله به أمر هذا الجند من أهل خراسان فإنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام وفيهم منعة بما يتم فضلهم إن شاء الله. أما هم فأهل بصر بالطاعة وفضل عند الناس وعفاف نفوس وفروج وكف عن الفساد وذل للولاة فهذه حال لا نعلمها توجد عند أحد غيرهم. وأما ما يحتاجون فيه إلى المنعة من ذلك تقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم فإن في ذلك اليوم اختلاطاً من رأسي مفرط غال وتابع متحير شالٍ. ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلاً. فلو أن أمير المؤمنين كتب لهم أماناً معروفاً بليغاً وجيزاً محيطاً بكل شيء يجب أن يقول فيه ويكفوا عنه بالغاً في الحجة قاصراً عن الغلو يحفظه رؤساؤهم حتى يقود به دهماءهم ويتعهد به منهم من لا يؤبه له من عرض الناس لكان ذلك إن شاء الله لرأيهم صلاحاً وعلى من سواهم حجة وعند الله عذراً. فإن كثيراً من المتكلمين من قواد أمير المؤمنين اليوم إنما عامة كلامهم فيما يؤمر الأمر ويرغم الرغم أن أمير المؤمنين لو أمر الجبال أن تسير سارت ولو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فعل ذلك وهذا كلام قلما (يرتضيه) من كان مخالفاً وقلما يرد في سمع السامع إلا أحدث في قلبه ريبة وشكاً. والذي يقول أهل القصد من المسلمين هو أقوى للأمر وأعز للسلطان وأقمع للمخالف

وأرضا للموافق وأثبت للعذر عند الله عز وجل. فإنا قد سمعنا فريقاً من الناس يقولون لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق. بنوا قولهم هذا بناءً معوجاً فقالوا إن أمرنا الإمام بمعصية الله فهو أهل أن يعصى وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع. فإذا كان الإمام يعصى في المعصية وكان غير الإمام يطاع في الطاعة فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء. وهذا قول معلوم يجده السلطان ذريعة إلى الطاعة والذي فيه أمنيته لئلا يكون للناس نظائر ولا يقوم بأمرهم إمام ولا يكون على عدوهم منهم ثقل. سمعنا آخرين يقولون بل نطيع الأئمة في كل أمورنا ولا نفتش عن طاعة الله ولا معصيته ولا يكون أحد منا عليه حسيباً هم ولاة الأمر وأهل العلم ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم. وليس هذا القول بأقل ضرراً من توهين السلطان وتهجين الطاعة من القول بالذي قبله لأنه ينتهي إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهاراً صراحاً. وقال أهل الفضل والصواب: قد أصاب الذين قالوا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولم يصيبوا في تعطليهم طاعة الأئمة وتسخيفهم إياها وأصاب الذين أقروا بطاعة الأئمة لما حققوا منها ولم يصيبوا ما أبهموا من ذلك في الأمور كلها فأما إقرارنا فإنه لا يطاع الإمام في معصية الله فإنما ذلك في عزائم الفرائض والحدود التي لم يجعل الله لأحد عليها سلطاناً. ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج أو منع الحدود وأباح ما حرم الله لم يكن له في ذلك أمراً. فأما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه غيره فإن ذلك في الرأي والتدبير والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بأيدي الأئمة ليس لأحد فيه أمر ولا طاعة من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والترك والحكم بالرأي فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة ومحاربة العدو ومخادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عليهم. وهذه الأمور وأشباهها من طاعة الله عز وجل الواجبة وليس لأحد من الناس فيها حق إلا الإمام ومن عصى الإمام أو خذله فقد أوتغ نفسه. وليس يفترق هذان الأمران إلا ببرهان من الله عز وجل عظيم. وذلك أن الله جعل قوام الناس وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين الدين والعقل. ولم تكن عقولهم وإن كانت نعمة الله عز وجل عظمت عليهم فيها بالغة معرفة

الهدى ولا مبلغة أهلها رضوان الله إلا ما أكمل لهم من النعمة بالدين الذي شرع لهم وشرح به صدر من أراد هداه منهم ثم لو أن الدين جاء من الله لم يغادر حرفاً من الأحكام والرأي والأمر وجميع ما هو وارد على الناس وجار فيهم مذ بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى يوم يلقونه إلا جاء فيه بعزيمة لكانوا قد كلفوا غير وسعهم فضيق عليهم في دينهم وآتاهم ما لم تسمع أسماعهم لاستماعه ولا قلوبهم لفهمه ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغواً لا يحتاجون إليها في شيء ولا يعلمونها إلا في أمر قد أتاهم به تنزيل ولكن الله من عليهم بدينهم الذي لم يكن يسعه رأيهم كما قال عباد الله المتقون: ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ثم جعل ما سوى ذلك من الأمر والتدبير إلى الرأي وجعل الرأي إلى ولاة الأمر ليس للناس في ذلك الأمر شيءٌ إلا الإشارة عند المشورة والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب. ولا يستحق الوالي هذه الطاعة إلا بإقامة العزائم والسنن مما هو معني في معنى ذلك. ثم ليس من وجوه القول وحده يلتمس فيه ملتمس إثبات فضل أهل بيت أمير المؤمنين على أهل بين (من سواه) وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى ذكره ألا وهو موجود فيه من الكلام الفاضل المعروف مما هو أبلغ مما يغلو به الغالون فإن الحجة ثابتة والأمر واضح بحمد الله ونعمته. ومما ينظر فيه لصلاح هذا الجند ألا يولي أحدا منهم شيئاً من الخراج فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة. ولم يزل الناس يتحامون ذلك منهم وينحونه عنهم لأنهم أهل ذاك ودعوى بلاء وإذا خلا بالدراهم والدنانير اجترأ عليهما وإذا وقع في الخيانة صار كل أمر مدخولاً بنصيحته وطاعته فإن حيل بينه وبين رفعته أمرضته الحمية مع أن ولاية الخراج داعية إلى ذلة وعقوبة وهوان. وإنما منزلة المقاتل منزلة الكرامة واللطف. ومما ينظر فيه من أمرهم أن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم فلو التمسوا وصنعوا كانوا عدة وقوة وكان ذلك صلاحاً لمن فوقهم من القادة ومن دونهم من العامة. ومن ذلك تعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه. ولا يزال يطلع من أمير المؤمنين ويخرج منه القول ما

يعرف مقته للإتراف والإسراف وأهلهما ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه بخلاً أن ينفقه سرفاً في العطر واللباس والمغالات بالنساء والمراتب فإن أمير المؤمنين يؤثر بالمعروف من وجهه المعروف والمؤاساة. ومن ذلك أمر أرزاقهم من يوقت لهم أمير المؤمنين فيها وقتاً يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له وأن يعلم عامتهم العذر الذي في ذلك من إقامة ديوانهم وتحمل أسمائهم ويعلموا الوقت الذي يأخذون فيه فينقطع الاستبطاء والشكوى. فإن الكلمة الواحدة تخرج من أحدهم في ذلك أهل أن تستعظم فإن باب ذلك جدير أن يحسم مع أن أمير المؤمنين قد علم كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم وأن هذا الخراج إن يكن رائجاً لغلاء السعر فإنه لا بد من الكساد والكسروان وأن لكل شيء درة وغزارة وإنما درور خراج العراق بارتفاع الأسعار وإنما يحتاج الجند اليوم إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر فمن حسن التقدير إن شاء الله أن لا يدخل على الأرض ضرر ولا بيت المال نقصان من قبل الرحمن إلا دخل ذلك عليهم في أرزاقهم مع أنه ليس عليهم في ذلك نقصان لأنهم يشترون بالقليل مثل ما كانوا يشترون بالكثير. فأقول لو أن أمير المؤمنين ما خلا شيئاً من الرزق فيجعل بعضه طعاماً ويجعل بعضه علفاً فأعطوه بأعيانهم فإن قومت لهم قيمة فخرج ما خرج على حسابه قيمة الطعام والعلف لم يكن في أرزاقهم لذلك نقصان عاجل يستنكرونه وكان ذلك. . نزالهم لحمل العدو وإنصاف بيت المال من أنفسهم فيما يستبطئون مع أنه إن زاد السعر أخذوا بحصتهم من فضل ذلك. ومن جماع الأمر وقوامه بإذن الله أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبارهم وحالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف وأن يحتقر في ذلك النفقة ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فتصير جُنة للجهالة والكذب. ومما يذكر به أمير المؤمنين أمتع الله به أمر هذين المصرين فإنهم بعد أهل خراسان أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه مع اختلاطهم بأهل خراسان وأنهم منهم وهامتهم وإنما ينظر أمير المؤمنين منهم. . صدق ولرابطتهم أو ما أراد من أمورهم معرفته استثقال أهل خراسان ذلك لهم من أمر مع الذي في ذلك من جمال الأمر واختلاط الناس بالناس العرب

بالعجم وأهل خراسان بالمصرين. إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئاً لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل الطبقة من الناس رجونا أن يكون ذلك فيهم موجوداً. وقد أزرى بأهل العراق في تلك الطبقة أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرا الولاة وأن أعوانهم من أهل أمصارهم (كذلك) فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب مما دنا منهم أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيث ما وقعوا في صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا فأبطأ ذلك بهم أن يُعرفوا وينتفع بهم وإن كان صاحب السلطان لمن لم يعرف الناس قبل أن يليهم ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم ولم يستثبت في استقصائهم فزالت الأمور عن مراكزها ونزلت الرجال عن منازلها لأن الناس لا يلقونه إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام غير أن أهل النقص هم أشد تصنعاً وأحلى السنة وأرفق تلطفاً للوزراء أو تمحلاً لأن يثني عليهم من وراء وراء. فإذا آثر الوالي أن يستخلص رجلاً واحداً ممن ليس لذلك أهلاً دعا إلى نفسه جميع ذلك الشرح وطمعوا فيه واجترأوا عليه وتوردوه وزحموا على ما عنده وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه وباعدوا منه وكرهوا أن يروا في غير موضعهم أو يزاحموا غير نظرائهم. ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ حد اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكون. ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب بما في أيد يهم والاستخفاف ممن سواهم فأقحمهم ذلك في الأمور التي يشفع بها من سمعها من ذوي

الألباب. أما من يدعي لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس له سنة سنة حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجة الأمر الذي يزعم أنه سنة وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول هُريق فيه دم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى من بعده. وإذا قيل له أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء وإنما من يأخذ بالرأي فيبلغ به الاعتزام عن رأيه أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولاً لا يوافقه عليه أحد من المسلمين ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه وهو مقر أنه رأي منه لا يحتج بكتاب ولا سنة. فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه القضية والسير المختلفة فترفع إليه كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً صواباً واحداً ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله. فأما اختلاف الأحكام إما شيءٌ مأثور عن السلف غير مجمع عليه يدبره قوم على وجه ويدبره آخرون على وجه آخر فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل. وأما رأي أجراه أهله على القياس فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة وابتدأ أمر على غير مثاله. وإما لطول ملازمته القياس فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبداً في أمر الدين والحكم وقع في الورطات ومضى على الشبهات وغمض على القبيح الذي يعرفه ويبصره فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس. وإنما القياس دليل يستدل به على المحاسن فإذا كان ما يقود إليه حسناً معروفاً أُخذ به وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك لأن المبتغى ليس غير القياس يبغي ولكن محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق ألحق بأهله. ولو أن شيئاً مستقيماً على الناس ومنقاداًَ حيث قيد لكان الصدق هو ذلك أولى أن يعتبر بالمقايس فإنه لو أرد أن يقوده الصدق لم ينقد إليه. وذلك أن رجلاً لو قال: أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة أبداً لكان جوابه أن يقول نعم ثم لو التمس منه قود ذلك فقال: أتصدق في كذا

وكذاب حتى يبلغ به أن يقول الصدق في رجل هارب استدلني عليه طالب ليظلمه فيقتله لكسر عليه قياده وكان الرأي له أن يترك ذلك وينصرف إلى المجمع عليه المعروف المستحسن. ومما يذكر به أمير المؤمنين أهل الشام فإنهم أشد الناس مؤونة وأخوفهم عداوة وبائقة. وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة ولا يطمع منهم في الاستجماع على المودة فمن الرأي في أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحاً أو يعرف منه نصيحة أو وفاءً فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق الذين استدخلهم أهل الشام وليس أحد من أمر أهل السلم على القصاص حرموا كما كانوا يحرمون الناس وجعل فيئهم إلى غيرهم كما كان فيء غيرهم إليهم ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة. فإن رغب أمير المؤمنين لنفسه عن هذه السيرة وما أشبهها فلم يعارض ما عاب ولم يمثل ما سخط كان العدل أن يقتصر بهم على فيئهم فيجعل ما خرج من كور الشام فضلاً عن النفقات وما خرج من مصر فضلاً عن حقوق أهل المدينة ومكة بأن يجعل أمير المؤمنين ديوان مقاتلتهم ديوانهم أو يزيد وينقص غير أنه يأخذ أهل القوة والغناء وخفة المؤونة والعفة في الطاعة ولا يفضل أحداً منهم على أحد إلا على خاصة معلومة ويكون الديوان كالغرض المستأنف ويأمر لكل جند من أجناد أهل الشام بعدة من العيال يقترعون عليها ويسوي بينهم فيما لم يكونوا أسوة فيه فيمن مات من عيالاتهم ولا يصنع بأحد من المسلمين. وأما ما يتخوف المتخوفون من نزواتهم فلعمري لئن أخذوا بالحق ولم يؤاخذوا به أنهم لخلقاء أن يكون لهم نزوات ونزقات ولكنا على مثل اليقين بحمد الله من أنهم لم يشركوا بذلك إلا أنفسهم وأن الدائرة لأمير المؤمنين عليهم آخر الدهر إن شاء الله. فإنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.

ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر أصحابه فإن من أولى أمر الوالي منه بالتثبيت والتحيز أمر أصحابه الذين هم بهاء فنائه وزينة مجلسه وألسنة رعيته والأعوان على رأيه ومواضع كرامته والخاصة من عامته فإن أمر هذه الصحابة قد عمل فيه من كان وليه من الوزارة والكتاب قبل خلافة أمير المؤمنين عملاً قبيحاً مفرط القبح مفسداً للحسب والأدب والسياسة داعياً للأشرار طارداً للأخيار فصارت صحبة الخليط أمراً سخيفاً فطمع فيه الأوغاد وتزهد فيه من كان يرغب فيما دونه حتى إذا التقينا أباب العباس رحمه الله وكنت في ناس من صلحاء أهل البصرة ووجوههم فكنت في عصابة منهم أبوا أن يأتوه فمنهم من تغيب فلم يقدم ومنهم من هرب بعد قدومه اختياراً للمعصية على سوء الموضع لا يعتذرون في ذلك إلا بضياع الكتب والدعوة والمدخل يقولون هذه منزلة كان من هو أشرف من أبنائنا يرغبون فيما هو دونها عند من هو أصفر أمراء ولاتنا اليوم وقد كانت مكرمة وحسباً إذ الناس ينظرون ويسأل عنهم فأما اليوم ونحن نرى فلاناً وفلاناً ينفر بأسمائهم على غير قديم سلف ولا بلاء حدث فمن يرغب فيما هاهنا يا أمير المؤمنين أكرمك الله أما يصير العدل كله إلى تقوى الله عز وجل وإنزال الأمور منازلها فإن الأول قال: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقال: هم سودوا نصراً وكل قبيلة ... يُبين عن أحلامها من يسودها وإن أمر هذه الصحابة قد كان فيه أعاجيب دخلت فيه مظالم. أما العجب فقد سمعنا من الناس من يقول ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور من أهل مصر قد غبر علامة دهره صانعاً يعمل بيده ولا يعتد مع ذلك ببلاء ولا غناء إلا أنه مكنه من الأمر صاغ فاحتوى حيث أحب فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل بيوتات العرب ويجري عليهم من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش ويخرج له من المعونة على نحو ذلك لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم ولا فقه في دين ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة ولا غناء حديث ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء ولا عدة يستعد

بها وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة إلا أنه خدم كاتباً أو حاجباً فأخبر أن الذين لا يقوم إلا به حتى كتب كيف شاء ودخل حيث شاء. وأما المظلمة التي دخلت في ذلك فعظيمة قد خصت قريشاً وعمت كثيراً من الناس وأدخلت على الأحساب والمروءات محنة شديدة وضياعاً كثيراً فإن في أذن الخليفة والمدخل عليه والمجلس عنده وما يجري على صحابته من الرزق والمعونة وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حكماً عظيماً على أن الناس في أنسابهم وأخطارهم وبلاء أهل البلاء منهم وليس ذلك كخواص المعروف ولطيف المنازل أو الأعمال التي يختص بها المولى من أحب ولكنه باب من القضاء جسيم عام يقضي فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين وأهل البلاء والغناء بالعدل أو بما يجال فيه عليهم فإن أحق المظالم بتعجيل الرفع والتغيير ما كان ضره غائباً وكان السلطان شائناً ثم لم يكن في رفعة مؤونة ولا شغب ولا توغير بصدور عامة ولا للقوة ولا أضرار سبب. ولصحابة أمير المؤمنين أكرمه الله مزية وفضل وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفاً لأهلها وحسباً لأعقابهم وحقيقة أن تصان وتخطر ولا يكون فيها إلا رجل بدر بخصلة من الخصال ومن رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة أو بلاء أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلاً لمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته أو صاحب نجدة يعرف بها ويستعد لها يجمع مع نجدته حسباً وعفافاً فيرفع من الجند إلى الصحابة ورجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها فإما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف والبر فيما لا يهجن رأياً ولا يزيل أمراً عن مرتبته ثم تكون تلك الصحابة المخلصة على منازلها ومداخلها ألا يكون للكاتب فيها أمر في رفع رزق ولا وضعه ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره. ومما يذكر به أكير المؤمنين أمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس فإن فيهم رجالاً لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهاً وكانوا عدة لأخرى. ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر الأرض والخراج فإن أجسم ذلك وأعظمه خطراً وأشده مؤونة وأقربه من الضياع ما بين سهله وجبله ليس لها تفسير على الرساتيق والقرى فليس للعمال أمر ينتبهون إليه ولا يحاسبون عليه ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض

بعدما يتأنقون لها في العمارة ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم. فسيرة العمال فيهم إحدى اثنتين إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع ويترك من لم يزرع فيعمر من عمر ويسلم من أخرب مع أن أصول الوظائف على الكور لم يكن لها ثبت ولا علم وليس من كورة إلا وقد غيرت وظيفتها مراراً فخفيت وظائف بعضها وبقيت وظائف بعض فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة وتدوين الدواوين بذلك وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها لرجونا أن يكون في ذلك صلاح للرعية وعمارة للأرض وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال. وإذا رأي مؤونته شديدة ورجاله قليل ونفعه متأخر. وليس بعد هذا من أمر الخراج غلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به ولم نره من أحد قبله من تخير العمال وتفقدهم والاستعتاب لهم والاستبدال بهم. ومما نذكر به أمير المؤمنين جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة وما سوى ذلك أن يكون من رأي أمير المؤمنين إذا سنحت نفسه عن أموالها من الصدقات وغيرها أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور. إن الناس من الاستخراج والفساد ما قد علم أمير المؤمنين وبهم حاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون يذكرون ويبصرون الخطأ ويعظون عن الجهل ويمنعون عن البدع ويحذرون الفتن وينتقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهم ثم يستصلحون ذلك ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم مأمونين على سير ذلك وتحصينه بصراء بالرأي حين يبدو أو أطباء باستئصاله قبل أن يتمكن. وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صُنعوا لذلك وتلطف لهم وأُعينوا على رأيهم وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطهم له. وخطر هذا جسيم في أمرين

أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح وأهل الفرقة إلى الألفة والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه. وإذا كان ذلك لم يقدر أهل الفساد على تربيص الأمور وتلقيحها وإذا لم تلقح كان نتائجها بإذن الله مأموناً. وقد علمنا علماً لا يخالطه شك أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها. وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها وأنها لم يأتيها الصلاح إلا من قبل إمامها. وذلك لأن عدد الناس في ضعفتهم وجهالهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم ولا يحملون العلم ولا يتقدمون في الأمور فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون غليهم ويسمعون منهم اهتمت خواصهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة جعل الله ذلك صلاحاً لجماعتهم وسبباً لأهل الصلاح من خواصهم وزيادة فيما أنعم الله به عليهم وبلاغاً إلى الخير كله. وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك فبالإمام يجمع الله أمرهم ويكبت أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم ويبين لهم عند العامة منزلتهم ويجعل لهم الحجة والأيد والمقال على من نكب عن سبيل حقهم. فلما رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض وعرفنا من أمر أمير المؤمنين ما بمثله جمع الله خواص المسلمين على الرغبة في حسن المعاونة والمؤازرة والسعي في صلاح عامتهم طمعنا لهم في ذلك يا أمير المؤمنين وطمعنا فيه لعامتهم ورجونا أن لا يعمل بهذا الأمر أحد إلا رزقه الله المتابعة فيه والقوة عليه. فإن الأمر إذا أعان على نفسه جعل للقائل مقالاً وهيأ للساعي نجاحاً. ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو رب الخلق وولي الأمر يقضي في أمورهم يدبر أمره بقدرة عزيزة وعلم سابق فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد ويحصنه بالحفظ والثبات والسلام ولله الحمد والشكر. تحميد لابن المقفع الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة الذي لا يعجزه شيءٌ ولا يمتنع منه ولا يُدفع قضاؤه ولا أمره وإنما يقول إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه ودبر الأمور بحكمه وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها وملكة منه لها لا معقب لحكمه ولا شريك له في شيء من الأمور يخلق ما يشاء ويختار ما

كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم سبحان الله وتعالى عما يشركون. والحمد لله الذي جعل صفوا ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده فقام به ملائكته المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه ويذكرون ويذكرون آلاءه لا يتحسرون عن عبادته ولا يستكبرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه يطيعون أمره ويذبون عن محارمه ويصدقون بوعده ويوفون بعهده ويأخذون بحقه ويجاهدون عدوه وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاحه حجتهم وإعزازه دينهم وإظهار حقهم وتمكينه لهم وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعد هم من خزيه وإحلاله بأسهم وانتقامه منهم وغضبه عليهم مضى على ذلك ونفذ فيهم قضاؤه فيما مضى وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتم نوره ولو كره الكافرون ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور ولا يدبرها غيره ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته وهو وليها ومنتهاها وولي الخبرة فيها والإمضاء لما أحب أن يمضي منها يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون. والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقدرة والحول الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته ولا ردّ لأمره في ذلك وقضائه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه والمنعم بشكره وعليه جزاؤه والمثني بالإيمان وهو عطاؤه. كتب ابن المقفع إلى صديق ولدت له جارية: بارك الله لكن في الابنة المستفادة وجعلها لكم زيناً وأجرى لكم بها خيراً فلا تكرهها فإنه الأمهات والأخوات والعمات والخالات ومنهن الباقيات الصالحات. وربَّ غلام ساء أهله بعد مسرتهم وربَّ جارية فرَّحت أهلها بعد مساءتهم. تعزية لابن المقفع عن ولد: أعظم الله على المصيبة أجرك وأحسن على جليل الرزء ثوابك وعجل لك الخلف فيه وذخر لك الثواب عليه. وله: وإنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه فلا تجمعن إلى ما فجعت به من ولدك

الفجيعة بالأجر عليه والعوض منه. فإنما أعظم المصيبتين عليك وأنكى المرزيتين لك. أخلف الله عليك بخير وذخر لك جزيل الثواب. وتعزية له عن بنت: جدد الله لك من هبته ما يكون خلفاً لك بما رزئته وعوضاً من المصيبة به ورزقك من الثواب عليه أضعاف ما رزأك به منها فما أقل كثير الدنيا في قليل الآخرة مع فناء هذه ودوام تلك. وتعزية له أيضاً: أعظم الله أجرك في كل مصيبة وأوزعك الشكر على كل نعمة. اعرف لله حقه واعتصم بما أمر به من الصبر تظفر بما وعد من عظيم الأجر. وتعزية لابن المقفع: أما بعد فإن أمر الآخرة والدنيا بيد الله هو يدبرهما ويقضي فيهما ما يشاء ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فإن الله خلق الخلق بقدرته ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة لئلا يطمع أحد من خلقه في خلد الدنيا ووقت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فليس أحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت لا يرجو بأن يخلصه من ذلك أحد. نسأل الله خير المنقلب. وبلغني وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا فعليك بتقوى الله والصبر وحسن الظن بالله فإنه جعل لأهل الصبر صلوات منه ورحمة وجعلهم من المهتدين. ولابن المقفع في السلامة: أما بعد فقد أتاني كتابك فيما أخبرتنا عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك وفي الذي ذكرت من ذلك نعمة مجللة عظيمة نحمد الله عليها وليها المنعم المفضل المحمود ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها. وسألت أن أكتب إليك بخبرنا ونحن على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاءٌ للنعمة ولا اعتراف لكنه الحق فنرغب إلى الذي تزداد نعمه علينا في كل يوم وليلة تظاهراً ألا يجعل شكرنا منقوصاً ولا مدخولاً وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءها من المعرفة بفضله فيها والعمل في الأداء إليه حقها إنه ولي قدير.

وله كتاب للثقفي في السلامة: أما بعد فإن مما نمق الله به مناقبك الكريمة المحمودة الغانية عن القول والوصف أنك موضع المؤونات عن أخوانك حمال عنهم أثقال الأمور مما وضعت عنه المؤونة ارتفاعك عن الأمور التي يطأطأ إليها الكلام على ألسنة الناس إذا أباحوه وبهرجوه وضيعوا القول ونسوا القصد فيه وأخذوا به في كل فن وأصفوا بصفوته غير أهلها فيما لا ينبغي لهم من التشبيه والتوفير والتفضيل. كان من خبري بعدك أني قدمت بلد كذا فتهيأ لي بعض ما شخصت له والمحمود على ذلك الله عز وجل وأنا على أن يأتيني خبرك محتاج فأما جملة خبري في فراقك فقلبي مكة كل ما سواك حرام فيها. وله جواب في السلامة: أما بعد فقد أتاني كتاب الأمير رجعة كتابي إليه فكان فيه تصديق الظن وتثبيت الرأي ودرك البغية والله محمود فأمتع الله بالأمير وأمتعه بصالح ما آتاه وزاهدة من الخيرات مستعمراً له فيه مستعملاً بطاعته التي بها يفوز الفائزون والذي رزق الله من الأمير فهو عندي عظيم نفيس وكل الذي قبلي عن مكافأته فمقصر إلا أنه ليس في النية تقصير ولا بلوغ لشيء من الأمور إلا بتوفيق الله عز وجل ومعونته والسلام. وله في السلامة جواب أيضاً: أما بعد فقد أتاني كتابك فيما أخبرتني عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك وفي الذي ذكرت نعمة مجللة عظيمة نحمد عليها الله المنعم بها المحمود ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها نحن من عافية الله وكفايته ودفاعه على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة ولا اعتراف لكنه الحق فنرغب إلى الذي يزيد في نعمه علينا تظاهراً ألا يجعل شكرنا منقوصاً ولا مدخولاً وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءً من المعرفة بفضله فيها والعمل في أدءا حقها. وفي السلامة أيضاً (ولم يقل أنها له): كتبت إليك وأمير المؤمنين وما يأتيه من لين الطاعة واتساق الكلمة عمت في الداني والقاصي من بلدانه وحواشي سلطانه على ما يحمد الله عليه فإن نعمة الله على أمير المؤمنين تجري على أذلالها وتنقاد في أسهل سبيلها.

قال المؤلف: ومن مختار ما كتب به من باب الشكر ولم أعرف إن كانت له أو لغيره لأنه أورد كتب بضم أولها ومع هذا فهذه هي الرسالة: أما بعد فقد أعجز تعدادي عما أتعرف منك وأتعرف بك دانياً ونائياً وما أدري ما ابتدأني به من معروفك أرهن لشكري أم ما ثنيت به من برك لبدئك بعنايتك على نأيك أم ما ألبستني جماله على لسانك بإطرائك وثنائك أم ما عقدته لي عند غيرك بتلطيفك وتأتيك غير أني أعلم أنك لم تقصر في استحقاق شكر علي وأرجو ألا أكون مقصراً في معرفة ذلك منك ومن لم يقصر علمه ولم يؤت في شكره إلا من أعظم المعروف عنده مع جهده فقد دخل بالعلم والجهد في الشاكرين. غير أن الذي آنستني به من رفدك وتوطيدك قد زادني وحشة إليك وإن حفظ من حفظني فيك وإن لم يكن مقصراًُ وقد جدد لي المعرفة بوثارة مكاني عندك ولقد بلغت ن اصلحت لي الأمور والرجال وأصلحتني إلى صلاحي لنفسك فليس كتابي هذا باستبطائي لأحد حتى يستبطئه ولا شكري حتى يكون البدء منك ولكن روحت عن نفسي بذكرك وزينتها بشكرك وزكيتها بالإقرار بفضلك. ولابن المقفع: إن الناس لم يعدموا أن يطلبوا الحوائج إلى الخواص من الأخوان وأن يتواصلوا بالحقوق ويرغبوا إلى أهل المقامات ويتوسلوا لى الأكفاء وأنت بحمد الله ونعمته من أهل الخير وممن أعان عليه وبذلك لأهل ثقته المصافين وإن بذل النفوس فيه وإعطاء الرغيب ليس منك ببكر ولا طريف بل هو تليد أتلده أولكم لآخركم وأورثه أكابركم أصاغركم ومن حاجتي كذا وأنت أحق من طلبت إليه واستعنته على حوادث الدهر وأنزلت به أمري لقرب نسبك وكريم حسبك ونباهتك وعلو منزلتك وجسيم طبائعك وعوام أياديك على عشيرتك وغيرها فليكن من رأيك ما حملتك من حاجتي على قدر قسم الله لك من فصله وما عودك من مننه ووسع غيري من نعمائك وإحسانك. ولابن المقفع أيضاً: أما بعد فإن من قضى الحوائج لأخوانه واستوجب بذلك الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم. والمعروف إذا وضع عند من لا يشكره فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبة من بعده. وكتبت إلينا ولحالنا التي نحن بها نذكرك حاجة أول ما فيها معروف تستوجب بد

الشكر علينا وتدخر به الأيادي قبلنا. ولعبد الله بن المقفع إلى يحيى بن زياد (الحارثي) ابتداءً في المؤاخاة: أما بعد فإن أهل الفضل في اللب والوفاء في الود والكرم في الخلق لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم ويخبر عن صحة ودهم وثقة مؤاخاتهم فيتحير إليهم رغبة الأخوان ويصطفي لهم سلامة صدورهم ويجتبي لهم ثمرة قلوبهم فلا مثني أفضل تقريضاً ولا مخبر أصدق أحدوثة منه. وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة نسبت إلى مزيتها في الفضل وجمل بها ثناؤك في الذكر وشهد لك بها لسان الصدق فعرفت بمناقبها ووسمت بمحاسنها فأسرع إليك الأخوان برغبتهم مستبقين يبتدرون ودك ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافس في حظ رغيب نصبت لهم غاية يجري إليها الطالبون ويفوز بها السابقون. فمن أثبت الله عندك بموضع الحرز والثقة وملأ بك يده من أخي وفاء وصلة واستنام منك إلى شعب مأمون وعهد محفوظ وصار مغموراً بفضلك عليه في الود يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع ويطلب من أثرك في ذلك غاية بلوغها شديد. فلو كنت لا تؤاخي من الأخوان إلا من كافأ بودك وبلغ من الغايات حدك ما آخيت أحداً ولصرت من الأخوان صفراً ولكن أخوانك يقرون لك بالفضل وتقبل أنت ميسورهم من الود ولا يجشمهم كلف مكافأتك ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم فإنما مثلك في ذلك ومثلهم كما قال الأول: ومن ينازع سعيد الخير في حسب ... ينزع طليحاً ويقصر قيده الصعد ولم أرد بهذا الثناء عليك تزكيتك ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك ولكن تحريت فيما وصفت من ذلك الحق والصدق وتنكبت الإثم والباطل فإن القليل من الصدق البريء من الكذب أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل. ولقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك وإني لأخاف الفتنة عليك حين تسمع بتزكية نفسك وذكري ما ذكرت من فضلك لأن المدح مفسدة للقلب مبعثة للعُجب. ثم رجوت لك المنعة والعصمة لأني لم أذكر إلا حقاً والحق ينفي من اللبيب العُجب وخيلاء الكبر ويجمله على الاقتصاد والتواضع. وقد رأيت إذ كنت في الفضل والوفاء على ما وصفت منك أن آخذ نصيبي من ودك وأصل وثيقة حبلي بحبلك فيجري بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد وعلمت أن

تزكي ذلك غبن وإضاعتي إياه جهل لأن التارك للحظ داخل في الغبن والعائد عن الرشد موجف إلى الغي فارغب من ودي فيما رغبت فيه من دوك فإني لم أدع شيئاً أستتلي به منك الرغبة وأجتر به منك المودة إلا وقد اقتدت إليك ذريعته وأعملت نحوك مطيته لترى حرصي على مودتك ورغبتي في مؤاخاتك والسلام. جواب من يحيى بن زياد في صفة الإخاء: أما بعد فإنا لما رأينا موضع الإخاء ممن يحتمله في تأنيسه من الوحشة وتقريبه لذي البعدة ومشاركته بين ذوي الأرحام في القربة لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى الصبر فوجدناه محتوياً على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة والزكانة وسائر ما لا يأتي عليه العدد من المحامد ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب فعدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه. ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها رأينا أن نتخير له المواضع في صواب التوزير وأحكام التقدير وعلمنا أن الاحتباس به أحسن من الندم بعد بذله واستوجب إذا كان جماع المحامد أن نتخير له محامله التي كان يحمل عليها فكان الناس فيما احتسبنا به عنهم من الإخاء على صنفين فصنف عذرونا بالتحبس للتخير إذ كان التخير من شأنهم وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء وسرعة في الانتهاء فقدموا اللائمة واستعجلوا بالمودة وتركوا باب التروية واستحلوا عاجل المحبة ولهوا عن آجل الثقة فكانوا بذلك أهل لائمة ولم يجد المعذورون إلا الصبر على تلك والاستعمال الرأي والاستعداد بالعذر عند المحاجة. وقد فهمت كتابك إليّ بالمودة واسحثاثك إياي في الأخوة وما دنوت به من حرمة المحبة فنازعت إليك نفسي بمثل الذي نازعت به إليَّ نفسك فواثبتني عادة الاستعمال للتروية في الخبرة والتخير للمغبة فجلت عن كتابك جولة غير نافرة ثم راجعت مقاربتك فقلت ألقى إليَّ أسباب المودة قبل كشف الغطاء بالخبرة فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم وتحدث الزهادة للتعسف بالجهالة عند الخبرة فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى ثم عاودت إسعافك وطاعة التشوق ومعصية التحيز ثم قلت ما حال من جعل الظن دون اليقين والتقدم قبل الوثيقة فلما كان الرأي لي خصماً تنكبت الوقوع في خلافه فلم أجد إلا الإدبار عن إقبالك سبيلاً ولا مع ذلك في طاعة الشوق حجة

فتغيبت السبيل بين ذلك إلى إعطائك طرف حبل الإخاء في غير الخروج من سبيل التخير وكرهت أن تستعبدني بالإخاء قبل أن أعرفك بحسن الملكة وأن تستظهرني على الأعداء قبل أن أعرفك بعدل السيرة وأن تستضيء بي في ظلم الجهل قبل أن أعرفك بعقد اللب وأن تستمكن بي في المطالب قبل أن أعرفك بقصد الهمة فقدمت إليك الترحيب والعدة وأحسنت عنك المفاوضة والثقة وتنظرت أن تثمر لي فأذوق جناك فأعرفك بالمذاقة في الطعم إما لافظاً وإما مستبلغاً فإن كان اللفظ لم أكن من الرأي في قلبه وإن كان الاستبلاغ ذوقتك ما تشوقت إليه مما ادعيت مني به الخبرة وأول ما أنا معتبر به منك المواظبة على استنجاح ما سألت أو السآمة له فإن كانت المواظبة فأحد الشهود المعدلين وإن كانت السآمة فأنت عن حمل ما تعطي أضعف منك عن جميل ما تطلب. طالعني بكتبك فإنك قد حللت قبلي عقداً من التحفظ وعقدت عقداً من التقرب والسلام.

الصنائع الإسلامية

الصنائع الإسلامية (تابع ما قبله) إذا أطلق لفظ النقش عند المسلمين فلا ينبغي أن يفهم منه أنه يراد به تمثيل صورة ذات روح بل قد تكون تلك الصور نقوشاً يراد بها أمر آخر. ومما يعجب له أنه يوجد في هذا الكتاب الوجيز إشارة ضعيفة لصورة فارس يمسك رمحه بيده نُقش على القبة في مسجد ببغداد. ولم يزد المسيو ميجون بأن هذا الفارس يشير إلى الناحية التي يجيء منها الهواء. فكان هذا التمثال ضرباً من دوارة على الهواء صنعت من الحديد المصفح وجعلت في الهواء تمثل فارساً والرمح بيده وقد ذكروا أسطورة بشأنها. فكان العامة يعتقدون أن هذا الفارس يدل بقوة تعويذة معه على الناحية التي تنشأ فيها ثورة من مملكة الخلفاء العباسيين. وليس النقش عند المسلمين إلا خادماً خاضعاً للهندسة على نحو ما كانت الفلسفة من علم الكلام في القرون الوسطى. والأسود التي رآها ابن بطوطة قد صنعت من الرخام المستخرج في أفروجيافرجيا في آسيا الوسطى حيث يكثر فيها. وبلغ من احترام السلاجقة للنقش أن كانوا ينزلونه في الحوائط. وليس للتمثال من الخشب التي صنعها صناع من المسلمين بأمور الطولونيين علاقة بالصنائع الإسلامية بل هي فرع متأخر من فروع الصناعة الوطنية. وقد بدأت في مصر صناعة النقش للزينة باستعمال الكلس والرخام غير المسحوق بالآلة بل بيد صنع الأيدي وأقدم ما وجد من ضروبها شكل مهندس ممزوج بعروق خيالية ظريفة. أما الحجر للزينة فقلما يوجد إلا في المساجد التي يرد عهدها إلى القرن الرابع عشر وعلى العكس في إسبانيا فإنا نرى هذه الصناعة مزهرة فيها منذ أوائل الخلافة الأموية. وقد بقي لنا شاهد واحد منها وهو مغسل الوضوء المصنوع من الرخام ولا يزال محفوظاً إلى الآن في متحف الآثار في مدريد وجرن الرخام وحوض الأسود في قصر الحمراء معروفان موصوفان. إلا أن تزيين المصانع ما كان إلا من الجبس موضوعاً في القوالب وضعاً محكماً مما يبدو في هيئة بديعة تفوق أجمل نموذجات الهندسة. وإن قصر الحمراء على جماله لم يعمل إلا من معجون الجبس. لا يأخذنا العجب إذا رأينا السلجوقيين في آسيا الوسطى قد أبقوا لنا صوراً تمثل الصورة الإنسانية. ولئن كان المهندسون في زمنهم سوريين أو روميين فإن الأفكار السائدة في بلاط

قونية أن منشأها إيراني زادت انتشاراً بما كان لشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي الصوفيين العظيمين من النفوذ وكان الأول صاحب السر والثاني مؤسس طريقة الدراويش المولوية. وكان سلاطين السلجوقيين مهوسين أشد التهوس بكل ما هو من أصل فارسي حتى أنهم كانوا يدعون أبناءهم بأسماء استخرجوها من قصص البطال في الملاحم. وظلت الصناعة التي انتشرت بهذا التأثير محصورة في آسيا الصغرى ولم تنتشر في سائر البلاد الإسلامية. أخذت العرب صناعة الفسيفساء عن البيزنطيين فاستجلب من الأستانة الخليفة عبد الرحمن إلى قرطبة صناعاًُ من الروم ليزين مسجدها. وخابر الوليد ملك القسطنيطينية ليبعث له بالعملة والمواد اللازمة لتزويق المسجد الأموي في دمشق وهي كنيسة القديس يوحنا الدمشقي القديمة. تغير هذا المسجد ولم يبق منه حريق 1893 ما كان سلم من آثاره. وفي سنة 418 هـ (1027م) جرى إصلاح فسيفساء قبة الصخرة كما قرأت ذلك في الصورة الشمسية من الصفحة الثالثة والثمانين من الجزء الثاني الرسم 73 وقد كسي داخل المصانع الإسلامية في القاهرة بأنواع من الزينة صنعت من الرخام على أبهج صورة وأزهاها. إن ما يرى في مصر من الخشب المنفقوش لا يتأتى إلا أن يكون مجلوباً من سوريا أو من آسيا الصغرى. ومعلوم أن في مصر صناعة خاصة بها لا يرى لها أثر في غيرها من الأقطار ألا وهي صناعة المشربيات وهي أقفاص نوافذ على طنف بارزة بحيث تكون للنوافذ التي تطل على الشوارع أقفاص لئلا يتطلع إلى ما وراءها متطلع ولو بدون قصد. من أجل هذا يستعمل القوم (شعريات) من أقفاص خشب رقيق. وفي مصر يستعمل خشب غليظ خرط بالمخرطة وجعل على صورة يتفنن فيها كل التفنن. وفي المتحف العربي في القاهرة حشوات منقوشة غاية في الجمال ومن جملتها ثلاثة محاريب توفر المسيو رافيس على البحث فيها وهي من عهد الفاطميين وقد كانت الحشواتفي القرن الثالث عشر أصغر مما هي الآن وخطوطها أدق وأشكالها أكثر تنويعاً وصورها التزويقية مطلقة. وصورت على أبواب البيمارستان القلاووني صور ذات أرواح. والفرق ظاهر بين طريقة هذه المصانع في الصنع والحشوات التي جعلت على القبور الفارغة في ذاك العهد والصورة العامة مربعة في هذه وذات خطوط مستدير في أبواب البيمارستان. ويتجلى الفرق للأنظار

بالمقابلة بين النقوش الصغيرة التي وردت في صفحة 100 و 101 الموضوعة إحداها بجانب الأخرى فإن الحشوات صنعة عربية مصرية أما الأبواب فصنعة فارسية. ومن هنا أتت الصور ذات الأرواح. وظاهر أنه كان في ذاك العهد في القاهرة طريقة فارسية في النقوش جاءت زيادة على ما كان فيها من الصناعة الوطنية وليس ذلك من ارتقاء الصناعة المحلية كما لاحظ ذلك المسيو ميجون. وارى أنه لم يبن رأيه على صورة باتة كافية وإن شئت فقل على صورة ظاهرة. المنبر في المسجد من المواد التي لا يستغنى عنها فمنه ما يبنى بالحجر مثل منبر مسجد يرقوق في الصحراء بالقرب من القاهرة ومن العادة أن يعمل المنبر من الخشب. وقد عرفت من المنابر نموذجات بديعة كمنبر مسجد ابن طولون الذي أمر ببنائه أحد سلاطين المماليك السلطان لاجين ولا تزال حشواته العمودية محفوظة في لندرا ومثل منبر قاتيباي ومسجد علاء الدين الأول قاي قوباد في قونية وجامع الزيتونة في تونس وغيرها. وهناك شيء آخر خاص بمساجد مصر وأعني به الكرسي أو الخزانة المسدسة الزوايا والأضلاع كانوا يضعون عليها المصاحف للتلاوة فإذا فرغوا خبؤوها في داخلها وكانت حشواتها مزينة بتطعيم (تنزيل) من العاج ومن خشب ملون. ويوضع المصحف في المساجد العثمانية مفتوحاً أو مطبوقاً على دعامة تطبق على شكل تسمى رحلاية. وقد فات المسيو ميجون أن يذكر هذا المتاع الذي يعمل من خشب الجوز المتين ويطعم بأشكال من عرق اللؤلؤ والعاج (صنع الأستانة) على نمط الأخونة الواطئة التي يقال لها اسكملة. وفي إسبانيا أجمل إنموذجات من النقش على العاج أخذها المسلمون عن الغوط الغربيين ولم يستطع أحد أن يوفق بين معامل هذه الصناعة ومراكز إخراجها بل ثبت من فحص هذه المصنوعات التي لا تزال محفوظة بكمية وافرة أنها صناعة محكمة تدل على فرط مهارة فنية تقلبت عليها الأحوال بأهوالها ومنها الشرقي ومنا البيزنطي. واللوحان البديعان من العاج اللذان لم يبرحا محفوظين في مجموعة كاران في متحف بارجللو في فلورنسة هما من أصل يختلف أحدهما عن الآخر ولا نعلم من أمرهما شيئاً يذكر. بيد أن النسور والأسود المرسومة على اللوحين هي من أصل آشوري وقد رسمت عليها رسماً دل على مهارة تحملنا على المقارنة بينها وبين نحاس الموصل وشواطئ دجلة حيث بقية التقاليد الصناعية

القديمة محفوظة بحالها خلال القرون الوسطى. أما الصياغة فقديمة العهد رأى الشاعر الرحالة الفارسي ناصر خسرو في مدينة صور ثريات من الذهب والفضة وفي القدس أبواباً مغطاة بألواح من النحاس بديعة الصنع وفي القاهرة عرش المستنصر الفاطمي معمولاً من الذهب والفضة الخالصة وقد نقشت عليه كتابات وصورت صور صيد وقنص. وإن سفط العاج في كنيسة بايو (فرنسا) الملبسة بالفضة المنقورة (المخرمة) وأسفاط كنيسة كوار (سويسرا) وسان سيرفي (فرنسا) ومايسترخت (هولاندة) وسان مارك في البندقية لتمثل لأنظارنا ما كانت عليه صناعة الصياغة من البهاء في القرن الثاني عشر. وإلى ذلك العهد يرتقي صنع النحاس الجميل الملبس الذي حفظ على اليوم ولكن مما لا شك فيه أن ازدهار هذه الصناعة أقدم من ذلك وأن ما نعثر عليه من ذاك التاريخ من الأعلاق النفيسة ليس إلا زبدة قرون طويلة وأبحاث متصلة. ولقد تساءل بعضهم عن السبب الرئيسي في انتشار صناعة النحاس المحفور ببلاد ما بين النهرين ولاسيما الموصل. ويوشك أن يكون ذلك من ومجاورة معادن أرغني والخابور بالقرب من مناجم الخابور جبل مغارات الذي يستخرج منه النحاس الخام ويذوب ثم ينقل إلى جميع بلاد آسيا قديماًَ. وتبين من عرض هذه المصانع بعضها في جانب الآخر أن التزويق المحفور في صور بارزة هو أقدم طرق النقش على المصنوعات النحاسية. أما تنزيل الذهب والفضة فلم يحدث إلا مؤخراً. وقد تغلبت صور البشر والحيوانات في الموصل مما يدل على أن الصناعة فارسية الأصل حفظ فيها الساسانيون تقاليدهم الصناعية التي يرد عهدها كما قال لونكبريه إلى عهد الصور البارزة الآشورية. وقد ساق البحث المسيو ماكس فان برشم فحلّ الكتابات التي كتبت على أجمل هذه المصنوعات وقسمها قسمين رئيسيين أو مجموعتين أساسيتين إحداهما شرقية انتشرت في خراسان كما انتشرت في الموصل والثانية غربية أي سورية مصرية وهي عبارة عن نحاس صنع في زمن اليوبيين في أوائل القرن الثالث عشر. وكان من غارات المغول أن قطعت زمناً قصيراً سلسلة هذه الأعمال وجاء المماليك في القرنين التاليين فوقوا هذه الصناعة بأعمال اتصل بنا علمها وهي كثيرة. وما صناع الشام ومصر إلا تلاميذ صناع

الموصل وبهم تخرجوا. وإذا بحثنا في القلز (النحاس الأحمر) نذهل من رؤية المصانع المنحطة بجمالها مثل صورة العنقاء في بيز التي جلبت من مصر على عهد الصليبيين وصورة الأيل من صنع الفاطميين الموجود في متحف امة في ميونيخ والجواد المحفوظ في متحف قرطبة والطسوت المعمولة على شكل الأوز والمباخر على شكل الببغاء المحفوظة في متحف اللوفر. وما أعجب مصابيح المساجد المصنوعة من القلز والحديد كالتي لا تزال محفوظة في المتحف الأثري في مدريد وقد جيء بها من غرناطة ومثل الموجودة في دارة الآثار العربية بالقاهرة المأخوذة من جامع السلطان حسن وكثير أمثالها. أما الأسلحة فلم يجر حتى الآن تنظيم تاريخها ولم يذكر هذا المختصر الذي نحن بصدده سوى إشارات موجزة بشأنها. ويرجى أن يطلعنا المسيو موزر ذات يوم على ما وقف عليه وجمعه من الإيضاحات بشأن صنع الفولاذ فتكون أعماله مساعدة لنا على تنظيم المعلومات المبهمة التي حصلنا عليها حتى الآن. ولطالما تكلم الناس عن فولاذ دمشق لغرابة سقايته. ولما أرسل السلطان بيبرس من سلاطين المماليك هدايا سياسية على باراق سلطان المغول في تركستان لبعث إليه بأسلحة دمشقية. ولما استولى تيمورلنك على دمشق أخذ معه إلى سمرقند صناع الفولاذ الدمشقي. وقد كان في القاهرة في شارع النحاسين الحالي بين القصرين سوق للسلاح رائجة كثيراً إلا أننا لا نعلم شيئاً عن أصل الأسلحة التي كانت تباع فيها. وليس ثمة ما يدل على أنه كان في مصر معامل لصنع نصال الفولاذ وربما كانت تصنع فيها مقابض السيوف وأغمادها ويصلحونها على النحو الذي اختاروه وهذا عمل غير عمل نصال الفولاذ ويجب أن يميز عند تنسيق هذه الآثار في المستقبل بين معالم صنع النصال ومعامل تركيبها. ولم يتعرض لذلك كتاب الوجيز ولا يستطيع أن يتكلم الآن إلا على المعامل المتأخرة. ومع هذا فقد توصل المسيو بوتين بعد البحث في المقابلة بين الصنال إلى أن المعمول منها في دمشق هو مزيج من الحديد والفولاذ وأنه في الأغلب من سكب بلاد الفرس وإذا كانت النصال في الهند ذات لمعة بذوبانها فهي منقوشة بالطرق. وقبل الفتح العربي كانت طليطلة في إسبانيا مشهورة بسقي نصالها. وفتح عبد الرحمن الثاني معملاً لها (822 ـ 852) ولم يبق ولا حسام إسباني مغربي من قبل القرن الخامس

عشر وما بقي منها مما يرد صنعه إلى ذاك العهد جيء به من غرناطة وتاريخ الأسلحة في بلاد فارس والمملكة العثمانية غريب والمعلومات عنه أغرب. وكنا نود أن تكون أغزر مما وصلنا ولكن تاريخ الأسلحة كما قلت سابقاً لم يوضع بعد. يعرف من يسيحون في الشرق اسم الخنجر والقامة ومع هذا لا تجد لها ذكراً بين الأسلحة العثمانية والفارسية. ولم يقولوا كلمة عن الزمان والمكان الذي استعيض فيه عن السيف القديم المستقيم بنصل معوج. وإن أسنة لارماح والبنادق والطبنجات وقطع الخيل (كوباناتها) على خطارتها عند الساسانيين والمصورين بالخطوط اللطيفة من الفرس مما بقي كثير من أمثالها في طي الخفاء قد كان يرجى أن نعرف عنها شيئاً يركن إليه لخطارتها وفائدتها للتاريخ على أنه قد أطيل البحث في صنع الأواني الخزفية وهي صناعة جديرة بأن يفاخر بها. أصلها من فارس وإن لم يذكر المسيو ميجون ذكراً تاماً. وتدل مصانع الأخمانيين في سوس على ذلك دلالة صريحة وربما كانت هذه المصانع موروثة لهم عن الصنائع الآشورية. وتمتاز مساجد وارمين وأصفهان بما جعل على جدرانها من الطلاء الذي يعكس أشعة ذهبية ولكنها عبارة عن قشرة رقيقة من النحاس. ولقد جلبت المربعات الموضوعة للزينة من مساجد سيدي عقبة في القيروان من مدينة بغداد (وهي المدينة التي أنشأهنا العباسيون بتأثيرات فارسية وكان الفرس الذين أتى بهم أبو مسلم هم سبب رفعتها) جلبها إلى أفريقيا مؤسسة دولة الأغالبة سنة 894 وصنعت معامل مدينة الرقة على الفرات بضع قطع سلمت إلى هذا العهد وكثيراً من بقايا الخزف. وقد الف المسيو فاليس عدة كتب للتوسع في البحث عن الأواني المجلوة في فارس واصلها من الري التي كانت تعرف قديماً باسم راجيس. وإذ كثر البحث في هذا الموضوع ساغ لنا أن نبين تاريخ حدوث هذه الصناعة فقد ذكر أحد الباحثين في هذا الشأن واسمه المسيو أوتوفون فالك في كتابه صناعة الكاشاني القديم أن ألواح الزجاج الملونة البراقة التي بقيت من القرن الثلاث عشر في إيران هي دهان على سطح مستو وإن المصفحات التي كتبت عليها كتابات بارزة لم تظهر إلا في القرن الرابع عشر. ودامت صناعة التلميع خلال القرون الثلاثة التالية وبلغت درجة من التفنن غريبة. وإن طبخ بعض القطع برفع الحرارة فيها إلى درجة عالية قد جعلها كالصيني على ما

يتجلى ذلك فيها. وقد بدت على عهد المغول تأثيرات الصناعة الصينية فانتشرت صور التنين وأبي الهول وغصن الخوخ وهو مزهر وكل ذلك من أصل صيني. دلنا ما عثر عليه في مصر في سهل الفسطاط أو مصر العتيقة على ما كانت عليه صناعة الخزف على عهد الفاطميين. وأصل نقوشها على الأقل فارسية وإن كان صنعها يختلف على أن المواد الأولية هي من مصر نفسها. وقد أثبت الرحالة ناصر خسرو أمراً غريباً من الأواني الخزفية ذات الألوان المتغيرة التي شاهدها في القاهرة وهذه الألوان هي من صفات الكاشاني الذي يلمع كحد النصال وعليه فيفهم من ذلك أن نظر هذا السائح الفارسي لم يقع في بلاده على ما يماثلها ون ما وجد منها في الري لا يرتقي عهده في الحقيقة إلا إلى أواخر القرن الثاني عشر. على أن ناصر خسرو رحل في الحادي عشر. وتوجد في هذا النوع صناعة شامية مصرية. وفي داخل مساجد السلجوقيين في قونية وكلها من القرن الثلاث عشر صور متأنق في صنعها من المربعات على الكاشاني. وكان محمد بن عثمان المعلم الذي كسا الحوائط بهذا النوع من الفسيفساء (أي الخزف المطلي والكاشاني المقطع) في مدرسة صرت شالو في مدينة طوس في خراسان وهي المدينة التي أصبحت مدينة المشهد وبقي من ذاك العهد هذا الضرب من الزينة في بورصة والأستانة من البلاد العثمانية. بدء بالبحث في الكاشاني الإسباني المغربي منذ عهد طويل وفي سنة 1844 أظهره ريو كرو أمين متحف السيفر للمرة الأولى. أما اليوم فقد أثبت تاريخه أحسن ثبوت. والظاهر أن هذه الصناعة جاءت من بغداد. وربما كان ذلك عن طريق القيروان لا تواً وتعد أواني قصر الحمراء من بدائع صناعة مالقة. ويظهر أنها نشأت في القرن الرابع عشر وهو العهد الذي زار ابن بطوطة في هذه المدينة المعامل التي كانت تصنع فيها الأواني الخزفية الجميلة أو الصيني المذهب. والزينة بتصوير الوعول تدل على بقاء شكل قديم لا يتأتى صدوره إلا من الشرق. أما صناعة الأقداح المزينة بالمينا فلا يليق إغفال الكلام عليها لخطرها. وقد كانت هذه النموذجات من الأقداح في أوائل الفتوحات العربية تستعمل للعيار على صورة أقراص المعجون الكبير كتبت عليها التواريخ ودرسها المسيو كازانوفا للوقوف على حقيقتها. ثم

أنك تجد أكواباً ملونة بضروب الألوان كقوس قزح لطول بقائها في الأرض. وربما اختلطت أحياناً بالأكواب القديمة والأكواب التي نقشت عليها صور مطبوعة يرغب فيها أرباب الفن رغبة خاصة مثل الكأس الصغيرة المرسوم عليها أسود ووعول وقد اقتناها مؤخراً متحف اللوفر. وتشير الأقداح المزينة بالمينا ولاسيما مصابيح المساجد المصنوعة من الزجاج التي ربما كانت مأخوذة عن مملة الروم البيزنطية إلى مهارة صناعها الغريبة على حين تدل مادة الزجاج المملوءة بالفقاقيع والعيوب على أنها ما كانت بجودتها ابداً من الطراز الأول. ومن هذه المصابيح مجموعة فيها ستون قطعة في متحف الآثار العربية في القاهرة وهي أتم مجموعة وجدت. ومن المحتمل أن هذا الزجاج لم يصنع في مصر حيث اخترع الزجاج على قول سياح الروم. وتكلم مؤلفو العرب على زجاج صور وذكر الرحالة بنيامين دي توديل أيضاً شيئاً عنها وقال أنه صادف أيضاً عشرة معامل للزجاج في إنطاكية كما قال يعقوب دي فيتري أنه رأى منها في عكا. وقد نقلت هذه الصناعة من صور إلى دمشق وفيها رأى الرحالة بوجيبومي سنة 1346 معامل الزجاج تشغل على طول المسجد الأموي وقد أخذ تيمورلنك صناع الزجاج إلى سمرقند كما فعل بصناع الفولاذ. وأثبت كتاب العرب والفرس أنه كان في حلب والعراق معامل للزجاج أيضاً. يتبين من الأقمشة العربية أنها كنت بديء بدء مصنوعة على طراز ساساني أو قبطي أو رومي ويستفاد من حفريات الصنا أن الأقمشة الرومية والقبطية طارت كلها شيئاً واحداً بعد وكان التأثير الساساني فيها مستحكماً فإن صور الحروب والصيود وصور الفرسان الذين يعدون مسرعين ويرمون الأيائل والظباء بالنشاب هي من الكتابات الفارسية. وقد امتلأت ذخائر كنائسنا بقطع من الأقمشة بقيت زماناً لم تعرف البلد التي صنعت فيه وما هي في الحقيقة إلا من صنع الشرق في القرون الوسطى. ثم اشتهرت فارس بعد حين بالأطلس والمخمل (القطيفة) المقطع وقد رسمت عليه صور أشخاص وسط الأزاهير المتكاثفة واشتهرت مدينة كاشان بصنع الاستبرق والحبر. ولما فتح السلطان سليمان طوريس أخذ نساج الحرير إلىالبلاد العثمانية وأنشؤا فيها معامل صنعت هذه الأقمشة الحريرية والمخمل الكتب واشتهرت باسم حرير بورصة. وانتقلت هذه

المصنوعات من آسيا الصغرى إلى البندقي وفلورنسة وجين وفرنسا ولم يعودوا يرسمون عليها صور أشخاص واقتصر في تزيين الأقمشة على الأزهار جعلوها بلا معنى وضعي كما في قطع الأواني الخزفية ويستفيد مما قاله عماري (العالم الإيطالي) أنه كان في صقلية قبل الفتح النورماندي فندق فرش بالوشي وكان ملاصقاً لقصر الأمراء الذين كانوا يحكمون على الجزيرة باسم الفاطميين. ودعت حملات روجر الثاني على بلاد اليونان إلى أن يجلب معه إلى بلومة صناع الحرير واسم مانيانري الذي يطلق بالإفرنسية على معامل الحرير جاءنا في الأصل من مدينة مان إحدى مدن جنوبي بلاد المورة اليونانية. ولما غلب هرقل خسرو الثاني عثر الجيش الروماني في قصر يزدجرد (داسكارات الملك) على طنافس مطرزة بالإبرة ووقع في أيدي العرب عندما فتحوا المدائن بسط منسوجة بالذهب والفضة ومرصعة بالأحجار الكريمة. ويعتقدون أن البسط ذات الوبر الكبير من أصل فارسي ومن فارس يجب أن تطلب إلا أنه لم يبق شيء من تلك العصور المتوغلة في القدم. ولأجل تنسيق تاريخ البسط رأوا أن يرتبوها بحسب أشكالها والتواريخ التي اهتدي إليها من صور أساليب التصوير الفلامندي والهولاندي والإيطالي. واخترع هذه الطريقة البديعة المسيو لسينج سنة 1877 وكانت أوروبا إذ ذاك غاصة بالبسط التي تجلبها البندقية وبروج فافتتن المصورون بلطافة ألوانها وجودة نقشها وبادروا إلى إدخالها في نقوشهم ورسومهم. ويظهر أن البساط القديم المزين بالصور على أسلوب بديع الذي دخل مؤخراً في ملك متحف الإمبراطور فريدريك في برلين واهتم به كل من المسيو كاراباسيك والمسيو ريجل كان أصله من قونية من مخلفات سلاطين السلجوقيين الذي حكموا فيها فهو مما صنع في القرن الثالث عشر. أما البسط العجمية المرسوم عليها صور الطيور فإنها من بدائع ما حاكه كبار صُنع الأيدي. وكذلك الحال في البسط المنقوشة بالأزهار الكبيرة ومصابيح المساجد والأواني فإنها تؤلف طبقة بديعة أيضاً وعلى العكس في البسط المزينة بصورة مهندسة فإنها من مصنوعات آسيا الصغرى وما زالت إلى اليوم كل من مدينتي جورودس وعشاق من مراكزها العظيمة. وبعد فهل من الممكن أن نشير إلى ما أثرته الصناعة الإسلامية في صنائع الغرب. نعم إذا أريد بذلك جمع الصنائع الماضية صبرة واحدة وتوحيدها كلها معاً على محو ما كانت على

عهد الفتح العربي وكما يحدث أبداً عندما تنشأ ممالك كبيرة متسعة. وإذ بدل هذا الفتح وجه الشرق كان الداعي إلى اختلاط آسيا العليا بالغرب في عدة أماكن. وإنك لتجد النقوش المسماة (هوم) بلا داع وقد رسمت عليها الشجرة المقدسة أو حياة الآشوريين على نحو ما اقتبسها الساسانيون سواء كانت وحدها أو جعل على جانبيها حيوانات قائمة أو رابضة وكذلك الطريقة القديمة في صراع الحيوانات. ولقد كانت سفن العرب تتقدم إلى البحر الأتلانتكيكي منذ عهد الأسرة الكاروتنجية فحملت نقود الأمويين بواسطة الصلات التجاري إلى روسيا وبولونيا والدانيمرك والسويد ووجدت أنسجة مكتوب عليها كتابات كوفية محرفة في أطر أبواب الكنائس في نوتردام في بوي نفالي وفي كنيسة فوت شيهان الفرنسويتين وعلى كثير من المصانع وفي بعض المحال كما عثر على مثل ذلك في أبراج كاتدرائية شارتر وتقل المصورون بعض الصور الشرقية بالحرف. يرى المسيو ميجون أن يدرس صناعنا تلك الصنائع لأنها بقوة جمال أشكالها ودقة وضعها وصنعها المعقول ولمعان ألوانها ليس لها ما يشبهها بكثرة الصور واللطف السامي. وقد جرب بعضهم تقييد تلك الصنائع فأفلحوا في اقتباسها على نحو ما فعلوا في قباب زاوية قصر المعرض العام سنة 1889 فوضعوا فوق الحديد الذي يحول بين الأقسام واتخذوه حيطاناً مصفحات من الكاشاني ذي النقوش الفارسية فكانت بذلك أو تجربة نجحت في هذا السبيل. كان بذخ ملوك المسلمين من الدواعي للصناع أن يرقوا الأساليب التي كانوا يأخذونها تقليداً عن أجدادهم شفاهاً فجددوها وتفننوا فيها فارتقت مع عدة أشكال قديمة بعضها من أصل بيزنطي وهي وارثة اليونان ورومية والآخر ساساني من أخلاف الدولة الأخمانية ولا سيما (في الأمور الصناعية) أو آشوري أو بابلي. ارتقت عدة فروع من الصنائع الإسلامية المنوعة الأساليب وهي ليست من أصل بيزنطي ولا فارسي فيفضل بعضهم التزيين المهندس أو النقوش التي تجعل على هيئة النباتات والأوراق وهو النمط الوحيد الذي بقي في الحقيقة حيث تأصل مذهب أهل السنة. ويمزج بعضهم فيه صور حيوانات ذات روح وهذه ينبغي نسبتها في أكثر الأحوال إلى تأثير فارس. ومن درس الصنائع القابلة للتشكل

والتحول كالهندسة والصنائع اليدوية تتمثل لعينيه القرون الوسطى في الشرق بما أتى به من تمدنه الخاص وما هو إلا مثال المجتمع الذي أوجده القرآن في صورة ظاهرة مؤثرة. فإذا أضيفت إلى ذلك أقوال المؤرخين والجغرافيين لا تلبث أن تطلع على هذا النظام الاجتماعي الذي يختلف من عدة وجوه عن نظامنا وكان ثقلاً على أوروبا كما كان صلة بين العصور القديمة والعصور الحالية.

المسلمون والذميون والمعاهدون

المسلمون والذميون والمعاهدون الإحساس دليل الحياة التضامن رائد العمران يا بني أمي! ويا بني عمي! تدبروا رعاكم الله فيما ترونه عن أيمانكم. وتبصروا فيما تبصرونه عن شمائلكم وتفكروا فيما بين أيديكم ثم خبروني ماذا تجدون؟ تجدون الشعور القومي قد تجسم معناه حتى كادت اليد تتقراه والعين تراه والإحساس لعمري دليل على الحياة. ثم ثوبوا إلى أنفسكم وانظروا كيف كنا إلى عهد قريب متنافرين متفككين لا نستمسك بحبل متين من جهة الدنيا أو من جهة الدين حتى قال فينا فيلسوف المشرق: أننا اتفقنا على أن لا نتفق. فاليوم أحمد الله إليكم يا بني مصر فقد أراد بكم الخير إذ وفقكم إلى سبيل الاتفاق. اليوم بدأنا نطرح تلك الأهواء التي جعلتنا شيعاً متفرقة. أستغفر الله! بل جعلت كل فرد منا مستقلاً بنفسه منفصلاً عن سائر بني جنسه. اليوم بدأنا نخالف ما ألفناه من تلك الاختلافات التي علمتنا أفانين العداوات وعبثت بكيان الأمة. اليوم بدأ الأفراد يتضامنون بعضهم إلى بعض فتألفت منهم أفواج وجماعات بحسب المشار والأميال والغايات. اليوم بدأت هذه الجماعات تتجاذب وترتبط بما فيه توثيق عرى الجامعة القومية وإظهار الأمة في مظهرها الصحيح. اليوم أخذت تلك الجماعات في وضع الحجر الأول من هذا البنيان. بلي. فلأن اجتماعنا الآن دليل على أننا قد أدركنا أن التضامن رائد العمران. أيما أمة تولد فيها الإحساس وسعى أفرادها إلى التضامن فبشرها بخير قريب وفلاح عاجل. ولكن هنالك شرطاً لا مندوحة عنه: وهو أن يتعهد أهل الرأي فيها وأولو العزم منها هذا المظهر الجديد حتى لا يتغلب الشوك فيقتل النبت الصالح الذي يأتي بالثمر الشهي النافع.

ذلك واجب مقدس يتحتم علينا جميعاُ أن نقوم به لخيرنا جميعاً: فكل فرد منا هو في الحقيقة خادم للمجموع كما أن المجموع يتكفل بخدمة كل فرد على السواء. دعاني ولو الفضل الدين تتألف منهم هذه الجمعية جمعية الرابطة المسيحية لأقف خطيباً بينكم وتركوا لي اختيار الموضوع كما أشتهي وأريد. فلم أر أفضل من المثول بين قومي وهم بنو أمي وبنو عمي داعياً إلى انضمام العنصرين اللذين يتألف منهما كيان الأمة المصرية راجياً أن يقوم غيري من الخطباء المفوهين فينسجون على هذا المنوال حتى نتوصل لتقويض دعائم التفريق التي جعلتنا مضغة في الأفواه وصيرتنا عبرة للناظرين. لا ينبغي لي أن أقول أن المقام ضيق وأن المركز حرج لأني وجدت مجال القول ذا سعة ولكن هذه السعة كانت سبباً في حيرتي فصرت أتردد وأردد المثل السيار الذي ضربه الفرنساويون وهو: إنما الحيرة في الاختيار. بيد أني بعد إنعام النظر رأيت أن أجعل خطابي على شكل محاضرة في صور مفاكهة أجاذبكم بها الحديث بذكر نوادر وأخبار حفظها التاريخ. وليس لي من أمل سوى أن نتوصل لجعل الأخلاف يرددون عنا شيئاً شبيهاً بما سأذكره من مآثر الأسلاف فيكون لنا لسان صدق في الآخرين: إذ يشتركون مع أرواحنا بسلام واغتباط في تحية هذا اليوم الذي هو باكورة الارتباط بين المسلمين والأقباط. المسلم والقبطي: وإذا شئتم قلت لكم القبطي والمسلم. فالأولون الآخرون والآخرون الأولون. ليس لهما إلا أم واحدة: هي مصر. وليس لهما إلا أب واحد: هو النيل. فهما صنوان بل شقيقان قد فرق بينهما الزمان حينما فسدت الأخلاق وتنكرت المعارف في هذه البلاد فتحكم فيهما الأجنبي والطاريء والدخيل سواء كانوا من هذا الدين أو من ذلك الدين. بل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: أن لا نقول بغير الوطن وأن لا نفزع لغير الجامعة القومية. هذا تاريخنا وتاريخكم يشهد لأجدادنا وأجدادكم ويشهد علينا وعليكم. فما بالنا لا نرجع لسنة الأسلاف وقد كان فيها مجدنا ومجدكم؟. سيقولون أن المسلمين اضطهدوا الأقباط. كبرت كلمة تخرج من أفواههم فكلها أغلاط في أغلاط.

هلموا يا بني أمي ويا بني عمي إلى قاضي التحقيق أو على قاضي الإحالة ليأمر بحفظ هذه القضية لأنها لم تتوفر فيها أقل دلالة بل لأنها مبنية على الضلالة لا محالة. من هم المضطهدون ومن هم المضطهدون؟ أولئك نفر قليل من الحكام الغرباء الذين لم يرعوا إلاًّ ولا ذمة لا في المسلمين ولا في أهل الذمة. والمضطهدون (بفتح الهاء) هم المسلمون والأقباط على السواء: اللهم إلا أن يقال على سبيل البسط أن الاضطهاد والضغط كانا أشد وقعاً على رهط الأقباط: لأن اسمهم جاء على حرف الطاء. كان الحاكم الظالم إذا تولى مصر (والظالم لا دين له) يستنزف الأموال ويستعبد الرجال لا يفرق بين فريق وفريق ولكن أثره لا يظهر ظهوراً واضحاً في المسلمين لأنهم أكثر مالاً وأعز نفراً بخلاف الأقباط فإن أقل حيف يقع عليهم يكون أثره أشنع وأفظع لقلة عديدهم. فلو كان لي تسعون نعجة وكان لأخي عشرة ثم وقع وباء أهلك ثلثي ما أملك وخمس ما لأخي لكانت مصيبتي أجل وأكبر وإن كانت لا تذكر ولا تظهر في جنب ما حاق بأخي الأصغر إذ يبقى لي ثلاثون ويبقى له ثمان. ولو كان لي ثوب ذرعه عشرة أشبار في عشرة أشبار وله ثوب قدره شبر في شبر ثم وقعت نقطة زيت على كل من الثوبين لكان وقعها على ثوبه أعظم أثراً وإن كنا قد تساوينا ضرراً. تلك هي حقيقة الحال وإن كان هنالك بعض شذوذ نادرة فالنادر لا حكم له. فما بالنا لا نتناسى الأضغان إن كان هنالك أضغان؟ بل ينبغي لنا أن لا نكون أقل في العقل وأحط في الإدراك من ذلك الشرطي وذلك الحوذي: إذ أخذ الأول نمرة الثاني ليحرر فيه محضر مخالفة فأخذ الثاني نمرة الأول ليشكوه إلى العظيم الذي استوقفه. فقال له: إمسح وأنا أمسح إليكم الآن أحاديث الرسول وما ورد في شريعة المسلمين مشفوعة بنتفٍ من أخبار الماضين علها تكون عبرة وتذكرة وعسى أن يكون من ورائها ما نرجوه من الرجوع إلى توثيق علائق الارتباط بين المسلمين والأقباط. ورد في الآثار الثابتة الصحيحة أنه قال: (1) ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها فإن لهم ذمة ورحمة. (2) إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً

(3) إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم صهراً وذمة. (4) استوصوا بالقبط خيراً فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم. (5) اتقوا الله في القبط لا تأكلوهم أهل الخضر. (6) أن الرسول مرض فأغمي عليه ثم أفاق فقال استوصوا بالأُدُم الجعد ثم غمي عليه الثانية ثم أفاق فقال مثل ذلك ثم أغمي عليه الثالثة فقال مثل ذلك. فقال القوم لو سألناه من الأُدُم الجعد؟ فأفاق فقال: قبط مصر (7) قبط مصر أكرم الأعاجم كلها وأسيمحهم يداً وأفضلهم عنصراً وأقربهم رحماً بالعرب عامة وبقريش خاصة ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنوّر ثمارها. (8) أنه قال عند وفاته: الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله. (9) وفي الحديث عن شفي بن عبيد الأصبحي مصر بلد معافاة من الفتن لا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله. (10) وفي الحديث أيضاً: أهل مصر الجتند الضعيف ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته تلك هي أحاديث الرسول. وهل بعد هذه الوصايا المتكررة من حفاوة ظاهرة. اللهم إنها آية تجعل المسلمين أنفسهم يغبطون عليها أخوانهم الأقباط ولننظر الآن على ما جاء في الشرع وقرره الفقهاء: وجه أهل المصيطة سؤالاً إلى الإمام مالك فقالوا إنا نخرج في بلاد الروم (_ آسيا الصغرى) فنلقى العلج منهم مقبلاً إلينا فإذا أخذناه قال: إنما جئت أطلب الأمان فهل نصدقه؟ فقال مالك: هذه أمور مشكلة أرى أن يرد إلى مأمنه. وبناءً على ذلك أفتى علماء الإسلام بأن الرومي إذا حلَّ يساحل المسلمين تاجراً ونزل قبل أن يعطى الأمان وقال: ظننت أنكم لا تعرضون لمن جاءكم بتجارة حتى يبيع تجارته وينصرف عنكم: فقالوا بأن يقبل منه قوله أو يرد إلى مأمنه. (مدونة جزء3 صفحة10). فهل بعد هذا بيان في مبالغة المسلمين بالحرص على التجارة وحماية أصحابها ولو اتخذوها حيلة بل أفلا يقال بأنهم السابقون إلى فتح سياسة الباب المفتوح قبل أن يفتحه أهل أوروبا

في هذه الأيام. إنهم توسعوا في سياسة هذا الباب المفتوح فقد ورد عن الإمام مالك أيضاً (في الجزء المذكور صفحة 11) في حق الروم ينزلون بساحل المسلمين بأمان معهم التجارات فيبيعون ويشترون ثم يركبون البحر راجعين إلى بلادهم فإذا أمعنوا في البحر رمتهم الريح إلى بعض بلدان المسلمين غير البلاد التي كانوا أخذوا فيها الأمان. قال مالك: أرى لهم الأمان أبداً ما داموا في تجرهم حتى يرجعوا إلى بلادهم ولا أرى أن يهاجموا. وأفتى بأن الذمي إذا أسره المحاربون المسلمين ثم غنمه المسلمون فلا يكون فيئاً بل ترجع له حريته كما كانت ويردّ إلى ذمته وأهله وماله. وقد قرر أيضاً بأن أموال أهل الذمة وأموال المسلمين سواء غنم المحاربون شيئاً من أموال الفريقين ثم تغلب المسلمون وغنموا هذه أموال في جملة مغانمهم وأدركها صاحبها قبل القسمة سواء كان مسلماً أو ذمياً كان هذا أولى بها بغير شيء وإذا أدركها بعد القسمة أخذها بالثمن وإن عرف أهل الإسلام أنها أموال أهل الذمة لم يقسموها في الغنيمة ويردونها إليهم إذا عرفوها فمثلهم في ذلك مثل المسلمين سواءٌ بسواء. (راجع المدونة في الجزء المذكور صفحة 13 و14). ورأيت في كتاب الذخائر الشرقية في ألغاز الحنفية المطبوع على هامش كنز البيان صفة 126: إذا ماتت أم الولد وهو رضيع فأعطاه أبوه ليهودية ترضعه مع ابن لها وغاب أبوه وماتت اليهودية واشتبه الحال أيهما ولد المسلم ولم يحصل التمييز بوجه وبلغا على اليهودية فابن المسلم مسلم تبعاً وقد ارتد ولا يلزم أحدهما بالإسلام للاشتباه فأحدهما مرتد ولا يلزم بالإسلام لعدم تعيينه. وفيه أيضاً أنه إذا كان للعدو حصن وفيه واحد من أهل الذمة لا يعرف وقد افتتحه المسلمون عنوة ولم يؤمنوا من فيه لا يحل لهم قتلهم بسبب هذا الذمي الواحد الذي لا يمكن تعيينه وذلك لقيام المانع بطريقة يقينية وهو وجود رجل غير معين له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وله في عنقهم عهد وذمة. ولا يلزم اليهودي بالحضور إلى مجلس القضاء في يوم السبت إلا اضطراراً بحيث لا يكون المقصود إيقاع الضرر به تعمداً بهذه الوسيلة ومن المقرر أيضاً أنه إذا دعت الحال لتغليظ اليمين فيكون ذلك في المحل المعظم وهو المسجد الجامع للمسلم ولا يقوم مقامه مطلق مسجد ويحلف اليهودي في بيعته والنصراني في كنيسته والمجوسي في بيت النار

وقال الشيخ سراج الدين عمر الحنفي قارئ الهداية إذا بنى الذمي داراً عالية بين دور المسلمين وجعل لها طاقات وشبابيك تشرف على جيرانه هل يمكن من ذلك. فأجاب بقوله: أهل الذمة في المعاملات كالمسلمين وما جاز للمسلمين جاز لهم وإنما يمنع الذمي من تعلية داره إذا حصل لجاره ضرر من منع ضوء أو هواء هذا هو ظاهر المذهب. انتهى. وحكم المسلم كذلك أيضاً في حكم الضرر بالجيران. وحسبي هذه الشواهد الآن لأنني لست بمتفقه ولا متشرع كما أنني لا أبغي اغتنام هذه الفرصة لإلقاء درس في الشريعة الإسلامية الصريحة السمحاء فاسمحوا لي إذن بأن أطرق باب التاريخ وفيه غناء وكفاء بل هو الموعظة البالغة والحجة الدامغة. لا حاجة للإشارة إلى العهود الكريمة والمنح الجليلة التي أتحف بها نبي الإسلام كثيراً من النصارى. فأمرها مقرر معلوم وهي أشسهر من أن تذكر. قال المؤرخ القبطي الشهير بالمكين ما نصه: ورد في تواريخ النصارى أنه كان مؤثراً لهم رؤوفاً بهم. . وقال لعمر أن نفوسهم كنفوسنا وموالهم كأموالنا وأعراضهم كأعراضنا. ذكر هذا الحديث صاحب كتاب المهذب وأسلمه (اسنده) إلى مسلم وهو حجة الإمام أبي حنيفة في قتل المسلم بالذمي. وفد عليه بعض أكابر النصارى فقام له وأكرمه. فقالوا له في ذلك فقال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وهذا كبير قومه. . وقال من ظلم ذمياً كنت خصمه يوم القيامة. وقال من آذى ذمياً فقد آذاني. ولكني لا أرى أبداً من التلميح إلى العهد العمري الذي حعله عمر بن الخطاب في رفقبة المسلمين والكتابيين ما داموا مرتبطين بعروة الوطن التي لا نفصام لها. فإن ثاني الخلفاء الراشدين هو أول من اشتبكت في أيامه مصالح المسلمين وغير المسلمين. فقد روى المقريزي عن علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أماناً على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأمالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن. وأنه جلس وسط صحن كنيسة القيامة ولما حان وقت الصلاة خرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده ثم جلس وقال للبطرك. لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي من النصارى وقالوا هنا صلى عمر. وكتب كتاباً يتضمن أنه لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلا واحداً واحداً. ولا يتجمع المسلمون للصلاة فيهلا ولا يؤذنوا عليها. وانه أشار عليه البطرك باتخاذ

موضع الصخرة مسجداً وكان فوقها تراب كثير فتناول عمر رضي الله عنه من التراب في ثوبه فتبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة. ثم أن عمر رضي الله عنه أتى بيت لحم وصلى في كنيسته عند الحنية التي ولد فيها المسيح. وكتب سجلاً بأيدي النصارى: أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلا رجل بعد رجل ولا يجتمعوا فيه للصلاة ولا يؤذنوا عليه. وكثيراً ما يشير المؤرخون إلى العهود العمرية وقد ألف أبو العباس أحمد بن محمد بن العطار الدنيسري المتوفى سنة 715 كتاباً سماه العهود العمرية في اليهود والنصارى ولم أظفر بشيء سوى اسمه في كشف الظنون الذي أفادنا صاحبه أيضاً هو والسخاوي في التبر المسبوك أن المقريزي له كتاب اسمه شذور العقود وأكمل صاحب الكشف اسمه في موضع آخر بأنه عقود في تاريخ اليهود وجلها لم تصلنا لسوء الحظ. فلما ظهر الإسلام وارتفعت كلمته كانت مصر في يد الروم روم الدولة الشرقية وكان عددهم فيها ثلثمائة ألف نفس توزعوا وظائف الدولة فيما بينهم وكانت الأمة كلها مهضومة الحقوق ليس لها سوى الاحتراف بالكتابة في الدواوين والتجارة والبيع والشراء والزراعة والفلاحة والخدمة والمهنة هذا فضلاً عن خدمة الدين فكان الأساقفة والقساوسة وغيرهم من الأقباط فلما قدم عمرو بجيوش المسلمين قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعاً لهم عن بلادهم حتى غلبهم عمرو على أمرهم فطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها وصاروا معه عوناً للمسلمين على الروم وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أماناً في سنة عشرين من الهجرة فسره ذلك وقدم على عمرو وجلس على كرسي بطركيته. ولما توجه عمرو لفتح الاسكندرية خرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا للمسلمين الطرق وأقاموا لهم الجسور (القناطر) والأسواق وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم حتى تم فتح الاسكندرية ورجع عمرو قاصداً الفسطاط فجاز بناحية الطرانة فاستقبله بها سبعون ألف راهب خرجوا من وادي النطرون وبيد كل واحد عكاز وطلبوا منه الأمان على أنفسهم وأديارهم فكتب لهم بذلك أماناً بقي عندهم وكتب أيضاً بجراية الوجه البحري فاستمرت بأيديهم وقد بلغت في إحدى السنين على خمسة آلاف

أردب. قال علي باشا مبارك أنها لا تزيد الآن عن مائة أردب. . وقال المقريزي أن دير أبي قمار الموجود بوادي النطرون فيه الكتاب الذي كتبه عمرو بن العاص لأولئك الرهبان بجراية نواحي الوجه البحري على ما أخبره من أهبر برؤيته فيه. وقد توجهات إلى تلك الجهة في شهر يوليو سنة 1894 بعناية الأب الجليل المثلث الغبطة كيرلس الخامس بابا الكنيسة المرقسية وبمساعدة المطران النبيل يوأنس مطران البحيرة والإسكندرية وزرت هذه الديارات كلها ونقبت فيما بها من الغرائر والزكائب والجوالق الموضوعة فيها الأوراق والكتب والمصاحف أملاً في العثور على ذلك الكتاب فلم أظفر به مطلقاً والغالب على الظن أنه ضاع أو تلقطه أحد سياح الإفرنج. فكان مثل الأقباط مثل المسلمين في التفريط بذخائر الأجداد. فأهل مصر كلهم سواء في ذلك. وإلا فأين المعاهدات والمكاتبات الدولية التي تبادلها ملوك مصر مع أمثالهم في أوروبا وغيرها؟ إننا إذا أردنا لعثور على شيء من هذا القبيل كنا عالة في أخص خصائصنا عن الإفرنج الذين حافظوا على ما وصلهم منا وقد نشره بعض علمائهم في القرن الماضي. فالتفريط والإفراط يستوي فيهما المسلمون والأقباط. فما بالهم لا يتساوون في أحكام علائق الارتباط؟. اتسع بعد ذلك ملك الإسلام وانتشرت أعلامه في سائر الآفاق. فمان الخلفاء والسلاطين حماة المسيحيين يدفعون عنهم الأذى ويحوطونهم بأصناف الرعاية والإكرام ويعاملونهم مثل المسلمون بتمام المساواة بل ربما زادوا في تعظيمهم وتقريبهم بما لا يكاد يصل إليه سراه المسلمين. هل أتاكم حديث عمرو بن العاص داهية العرب مع يحيى المعروف عند النصارى بغراماطيقوس أي النحوي؟ دخل هذا الفيلسوف على الأمير وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به. قال المؤرخ النصراني الفاضل غريغوريوس أبو الفرج المعروف بابن العبري في كتاب مختصر الدول كان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه. وعندي أن يحيى كان يحسن التكلم بالعربية دون عمرو فقد أثبت لنا التاريخ جهله باللغة الرومية وذلك في حادثة الأرطبون التي وقعت له بالشام وفي حديث أسره بالإسكندرية وسنذكره فيما بعد فإنه لم يفطن للمكيدة التي دبرها الروم لاغتياله لولا معرفة صاحبه في

الأول ومولاه في الثاني بتلك اللغة وحسن تلطفهما في إنقاذه من التهلكة. هل أتاكم حديث الحجاج بن يوسف ذلك الداهية الثاني فقد كان ملازماً لتيادوق وثيادون النصرانيين ولهما مكرماً. دخل الثاني عليه يوماً فقال له الحجاج: أي شيء دواء أكل الطين. فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير. فرمي الحجاج بالطين ولم يعد إلى أكله بعدها. وهل أتاكم حديث الدواوين في صدر الإسلام؟ فقد كان القيمون عليها كتاباً من النصارى وكانوا يكتبون الدفاتر باللغة الرومية حتى جاء عبد الملك بن مروان فألزمهم باستخدام اللغة العربية. وهل سمعتم في دولة من الدول أو هل جاءكم نبأ عز ملة من الملل بمثل ما حصل للأخطل؟ فإن هذا الشاعر النصراني كان في خصام مستديم مع شعراء المسلمين بل خاض في حق الهاشميين وتهجم عليهم بالمثالب والمطاعهن وهو على نفسه وماله آمن. هذا بعض ما أمكنني استحضاره الآن فيما يتعلق بالدولة الأموية. أما الدولة العباسية فحدث عن البحر ولا حرج فقد كان لها في هذا الباب ما هو أعجب وأغرب. انظروا ماذا جرى للخليفة المنصور وبخله مشهور حتى سماه التاريخ بأبي الدوانيق وبالدوينيقي أكرم طبيبه جيورجيس بن جبريل بن يختيشوع وأمر له بخلعة جليلة وأنزله في أجمل موضع من دوره وأكرمه كما يكرم أخص أهله. فلما مرض الرجل خرج الخليفة بنفسه ماشياً إليه وتعرف خبره. ولشدة شغفه به وتفانيه في حبه قال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة. فقال: قد رضيت حيث آبائي في الجنة أو في النار. فضحك المنصور وأمر له بعشرة آلاف دينار. والمنصور كان حازم الرأي قد عركته الدهور وخافت الأيام سطوته وروى العلم وعرف الحلال والحرام لا يدخله فتور عند حادثة ولا تعرض له ونية عند مخوفة يجود بالأموال حتى يقال هو أسمح الناس ويمنع في الأوقات حتى يقال هو أبخل الناس ويسوس سياسة الملوك ويثب وثوب الأسد العادي لا يبالي أن يحرس ملكه بهلاك وخلف من الأموال ما لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده وهو تسعمائة ألف ألف وستون ألف ألف ففرق المهدي جميع ذلك حين أفضى الأمر إليه.

وشبيه ذلك ما حدث بمصر في القاهرة سنة 385 فإن الطبيب أبا الفتح منصور بن مقشر القبطي كان له منزلة سامية من أصحاب القصر واتفق أنه اعتل وتأخر عن الركوب فلما تماثل كتب إليه العزيز بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. طبيبنا سلمه الله سلام الله الطيب وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه. والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته. وقد دخل ابن مقشر في خدمة الحاكم بأمر الله وكان مكيناً في دولته وبلغ معه أعلى المنازل وأسناها وكان له من الصلات الكثيرة والعطايا العظيمة فلما مرض عاده الحاكم بنفسه ولما مات لم يقبض على تركته كما جرت العادة على كبار المسلمين والنصارى بل أبقاها كلها لورثته وأطلق لهم مالاً وافراً من خزينته. وشبيه ذلك بل أبلغ منه ما وقع للمعتصم العباسي مع طبيبه سلمويه فإنه مرض فعاده الخليفة وبكى هذا الهمام الجبار عنده وهو الرجل الذي لا يقاس به الرجال قوة بدن وشدة بأس وشجاعة قلب وكرم أخلاق وقال له: أشر عليَّ بعدك بمن يصلحني فقال عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه وإذا وصف لك شيئاً فخذ أقله أخلاطاً. فلما مات سلمويه قال المعتصم: سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبر جسمي. وامتنع عن الأكل في ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته إلى الدار وأن يصلى عليها بالشمع والبخور على رأي النصارى ففعل ذلك وهوي راه وهو خليفة لامسلمين. فهل سمعتم بمثل ذلك عند غير أهل الإسلام. نعم سمعنا في هذه الأيام بأن ملك الإنكليز وهو مسيحي بروتستانتي قد انتقل إلى الكنيسة الكاثوليكية في لوندره لحضور الصلاة عن نفس ملك البرتغال فقامت عليه القيامة من جمهور الإنكليز وسوادهم الأعظم وكادوا يجاهرون بخلع طاعته لأنه خالف الدستور. نرجع بالحديث إلى المنصور العباسي فقد كان في خدمته نوبخت المنجم الفارسي النصراني فطلب ما نسميه الآن الإحالة على المعاش فسأله الخليفة عمن يخلفه فأشار بولده فاستقدمه فاستسماه فقال اسمي خرشاذماه طيماذاه مابازار خسروانشاه فقال المنصور كل ما ذكرت فهو اسمك؟ قال: نعم. فتبسم الخليفة وقال: اختر مني إحدى خلتين إما أن أقتصر بك من كل ما ذكرت على طيماذ وإما أن تجعل لك كنية تقوم مقام الاسم وهي أبو سهل. فقال

رضيت بالكنية. فبقيت كنيته وبطل اسمه. ومن ذلك العهد إلى قرب دخول الدولة العثمانية في مصر كان النصارى واليهود والصابئة يكنون بأبي علي وأبي الحسن وأبي الفضل وأبي النجم وأبي الخير وأبي الفرج وأبي الكرم وأبي البقا وأبي بشر وأبي الحسين وأبي الفضل وأبي العلاء وأبي المكارم وأبي النصر وأبي الفتح وأبي المنا وأبي الحجاج وأبي العشائر وأبي المجد وأبي المعالي وأبي البركات وأبي الفخر وأبي الرجاء ويتلقبون بموفق الدين وجمال الكفاة وصنيعة الخلافة وعماد الرؤساء وأمين الملك وصنيعة الملك وسيف الدولة وشمسي الرياسة وركن الدين وكريم الدين وفخر الدين وشرف الدين وأوحد الدين وأمين الدولة وفخر الدولة وغرس النعمة ويتسمون بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي. ونحو ذلك من عنوانات الشرف التي نظن نحن وأنتم أنها وقف على المسلمين على أنها أسماء لرجال ورد تاريخهم في عيون الأنباء وفي طبقات الحكماء وفي مختصر الدول وفي الكامل والمقريزي وغيرها من المؤلفات المعتبرة. ومن ألطف ما يدل على دلال أهل الفضل في تلك الدولة ولو كانوا من غير الملة أن المهدي العباسي هم بالخروج إلى ماسبذان (من إقليم الجبل بفارس) فتقدم إلى حسنة حظيته أن تخرج معه. فأرسلت إلى رئيس المنجمين وهو توفيل بن توما النصراني الماروني قائلة له: أنك أشرت على أمير المؤمنين بهذا السفر فجشمتنا سفراً لم يكن في الحساب فعجل الله موتك وأراحنا منك. فقال للجارية التي أتته بالرسالة: ارجعي إليها وقولي لها أن هذه الإشارة ليست مني. وأما دعاؤك عليَّ بتعجيل الموت فهذا شيء قد قضى الله به وموتي سريع فلا تتوهمي أن دعوتك استجيبت. ولكن أعدي لنفسك تراباً كثيراً فإذا أنا مت فاجعليه على رأسك. فما زالت متوقعة تأويل قوله منذ توفي حتى توفي المهدي بعده بعشرين يوماً. وتوفيل الرهاوي هذا هو الذي نقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة أيليون (تروادة) في قديم الدهر من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة وقد نقل العلامة سليمان البستاني أحدهما في أيامنا هذه إلى اللغة العربية فجاء آية في بابه. ولما جاء زمن الرشيد كان من أطبائه يوحنا بن ماسويه السرياني وخدم ابنه المأمون إلى أيام المتوكل وكان معظماً ببغداد جليل القدر وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل

نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة وكان يدرس ويجتمع إليه تلاميذ كثيرون. وكان فيه دعابة شديدة يحضره من يحضره لأجلها في الأكثر. وكان من ضيق الصدر وشدة الحدة بحيث تصدر عنه ألفاظ مضحكة شكا إليه رجل علة فأشار عليه بالفصد فقال لم أعتده فقال يوحنا: ولا أحسبك اعتدت العلة في بطن أمك. وصار إليه قسيسه وقال: قد فسدت معدتي عليّ فقال له استعمل جوارش الخوزي فقال له: قد فعلت، فقال: فاستعمل الكموني قال: استعملت منه أرطالاً. فأمره باستعمال البنداذسقون فقال: قد شربت منه جرة. قال: استعمل المروسيا فقال: قد فعلت وأكثرت فغضب يوحنا وقال له: يا أبانا يا قسيس إن أردت أن تبرأ فادخل في دين الإسلام فإنه يصلح المعدة. وفي أيام المأمون وهي الأيام البيض التي يفتخر بها الإسلام كان الحكماء والعلماء وكلهم مقربون لديه ولا يفرق بين أحد وآخر بسبب دين أو مذهب. والإفاضة في هذا الموضوع تطول ولكنني أقتصر على أمر واحد يدل على عداوة أهل الفن. فقد كان في زمنه من الأطباء سهل بن سابور فارسي نصراني في لسانه لكنة خوزية وكان إذا اجتمع مع يوحنا بن ماسوية وجيورجيوس بن يختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري قصر عنهم في العبارة ولم يقصر في العلاج. ولكنه كان يأخذ بثاره بطريق الدعابات فمن ذلك أنه تمارض وأحضر شهوداً يشهدهم على وصيته وكتب كتاباً أثبت فيه أولاده وجعل أولهم جيورجيس بن يختيشوع والثاني يوحنا بن ماسوية. وأرجو إعفائي من السبب الذي انتحله لذلك فعرض لجيورجيس زمع من الغيظ وكان كثير الالتفات فقال سهل: صري وهك المسيه أخرؤا قي أذنه آيه خرسي أراد ابالعجمة التي فيه: صرع وحق المسيح اقرؤا في أذنه آية الكرسي. ومن دعاباته أنه خرج يوم الشعانين يريد المواضع التي تخرج إليها النصارى فرأى يوحنا بن ماسويه في هيئة أحسن من هيئته فحسده على ذلك فصار إلى صاحب مسلحة الناحية أي القره قول وقال له إن ابني يعقني وإن أنت ضربته عشرين درة موجعة أعطيتك عشرين ديناراً ثم أخرجها فدفعها إلى من وثق به صاحب المسلحة. ثم اعتزل ناحية إلى أن بلغ يوحنا الموضع الذي هو فيه فقدمه إلى صاحب المسلحة وقال: هذا ابني يعقني ويستخف بي فجحد أن يكون ابنه وقال يهذي هذا. قال سهل انظر يا سيدي فغضب صاحب المسلحة ورمى يوحنا من دابته وضربه عشرين مقرعة ضرباً موجعاً مبرحاً.

تلك أمور مما يتعلق بالأفراد وسنعود إلى شيء منها فيما بعد ولكن لا بأس من توجيه النظر إلى المجموع ففي أيام الرشيد خطب وزيره الفضل بن يحيى البرمكي بنت خاقان الخزر فأرسلها في تجمل عظيم ولكن منيتها وافتها في مدينة برذعة فأهم أعداء الخلافة أباها أن ذلك كان بدسيسة عليه للتنكيل به فخرج في سنة 183 من مدينة باب الأبواب في جيوش كثيفة من قومه فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف نفسي وانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع بمثله في الخافقين. والتاريخ يحدثنا أن بابكاً الخرميّ خرج على خلفاء الإسلام وأبلى في المسلمين ومثل بهم وكاد يهدم خلافتهم ويمحي أثرهم من الوجود. وكان أصحابه لا يدعون رجلاًُ ولا امرأة ولا صبياً ولا طفلاً مسلماً أو ذمياً غلا قطعوه وقتلوه وأحصي عدد القتلى بأيديهم فكان 250500 إنسان. فوجه المعتصم بالله عنايته لاستئصال شأفته وقطع جرثومته حتى ضيق في وجهه المخانق وأخذ عليه المنافذ وسد دونه المسالك. فخرج الخارجي إلى بلاد الروم هارباً في زي التجار ومعه أهله فعرفه سهل بن سنباط الأرمني البطريق فأسره فافتدى نفسه منه بمال عظيم فلم يقبل وبعثه إلى قائد جيوش المسلمين بعدما ما ركب الأرمن من أمه وأخته وامرأته الفاحشة بين يديه وكذا كان يفعل الملعون بالناس إذا أسرهم مع حرمهم فكان أهل الذمة يجدون منه بقدر وجد أهل الإسلام. إذ كانوا سواسية عنده يرتكب فيهم المحارم والآثام. ولولا إخلاص الذمي ما تخلص من هذا الفاسق الكافر لأهل الإسلام. وكان المسلمون إذا حاربوا أعداءهم في الملك والسياسة وهم الروم لا يستهينون بمعاونة أهل الذمة فكان هؤلاء يصيبهم ما يحل بالمسلمين من ظفر أو نكاية. ولطالما أخذ الروم من أهل الذمة أسارى وعاملوهم بنفس القسوة التي يعامل بها أسارى المسلمين ولكن إذا وقع الفداء بين المتحاربين كان أول ما يشترطه المسلمين استخلاص النصارى الذميين أيضاً. فقد روى التاريخ أنه في سنة 231 هجرية في أيام الواثق ابن المعتصم كان الفداء بين المسلمين والروم على يد خاقان خادم الرشيد. فاجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يبوم من طرسوس وأمر الواثق بأن يكون فداء أهل الذمة مطلقاً وبلا قيد ولا شرط وأما فداء المسلمين فقد أمر خليفتهم بامتحانهم قبل فكهم من الأسر فمن قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به بأسير رومي وأعطي ديناراً. ومن لم يقل ذلك ترك

في أيدي الروم. فاسمعوا واعجبوا. فلما كان يوم عاشوراء أتت الروم ومن معهم من الأسارى فكان المسلمون هم البادئون بهذا الخير فيطلقون الأسير فيطلق الروم أسيراً فيلتقيان في وسط الجسر فإذا وصل الأسير إلى المسلمين صاحوا: الله أكبر وإذا وصل الرومي إلى قومه صاحوا كيرياليسون حتى فرغوا فكان عدة أسارى المسلمين أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفساً والصبيان ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة نفس. وفي سنة 238 هجرية هجم الروم على دمياط في ثلثمائة مركب فنهبوها وأحرقوا دورها وجامعها وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمائة امرأة فلم تشف للذميات مقولتهن بالأقانيم الثلاثة عند أولئك الذين قالوا أنا نصارى. بل كن والمسلمات سواء في البؤس والشقاء. وفي سنة 283 سارت الصقالبة إلى الروم فحاصروا القسطنيطينية وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وخربوا البلاد. فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوهم وأزاحوهم عن القسطنطينية وانظروا مكافأته لهم على هذه النجدة العربية والشهامة الإسلامية. لما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فأخذ سلاحهم وفرقهم في البلدان حذراً من جنايتهم عليه فدعا ذلك الخليفة العباسي وهو المعتضد بن الموفق إلى السعي في الفداء فتم الأمر وبلغ جملة من فودي به من المسلمين منن الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس. وهل يصح لنا أن نقابل تلك النخوة الشرقية لما فعله الإفرنج المقيمون (لا الأسارى) بالقسطنطينية؟ ففي سنة 600 هجرية حاضرها ملك الإفرنج فروى ابن العبري أن الإفرنج المقيمون بها وكان عددهم ثلاثين ألفاً فتواضعوا مع الإفرنج المحاصرين لها ووثبوا في البلد وألقوا فيه النار فاحترق نحو ربع البلد فاشتغل الروم بذلك ففتح الإفرنح الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام وقتلوا حتى الأساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة أيا صوفيا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسلون بها ليبقوا عليهم فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. فأين فعلهم من فعل عمرو بن العاص مع رهبان النطرون.

هذا وقد كانت الفتن توالت ببغداد فخربتها فشرع عضد الدولة سنة 369 في عمارتها فعمر المساجد والأسواق وأدر الأموال على الأئمة والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها. ولكن هل وقف ذلك الأمير المسلم عند هذا الحد في عاصمة عواصم الإسلام؟ كلا فقد ذكر ابن الأثير في الكامل أنه أذن لوزيره نصر بن هاردن (وكان نصرانياً) في عمارة البيع والأديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم. فكان المسلمون والنصارى في هذا الرخاء سواء. بل أن المجوس أنفسهم وهم لا ذمة لهم ولا كتاب نالوا من عدل الرجل وإنصافه ما خلدته الدفاتر مع الثناء الوافر. فقد وقعت في تلك السنة فتنة في شيراز بين عامة المسلمين وعامة المجوس فنهب الأولون دور مواطنيهم وضربوا وقتلوا جماعة منهم. فسير عضد الدولة من جمع له كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم لأنهم لم يراعوا حرمة الوطن والجوار. ومما يدل على ارتباط المسلمين بأهل الذمة عند حلول الشدائد بهم جميعاً ما وقع سنة 640 في ملطية بآسيا الصغرى عند هجوم التتار وتوالي نكباتهم بالأرض وبأهل الأرض. فإن المسلمين والنصارى اجتمعوا في البيعة الكبرى وتحالفوا أن لا يخون بعضهم بعضاً ولا يخالفوا المطران في جميع ملا يتقدم إليهم من مداراة التتار والقيام بحفظ المدينة والبيتونة على أسوارها وكف أهل الشر عن الفساد. وفي حدود سنة 656 هجرية أزاح التتار أميراً مسلماً عن ملطية فلما رحلوا عنها رجع هذا الأمير إليها واسمه علي بهادر. فأغلق أهلها الأبواب في وجهه ولم يمكنوه من الدخول خوفاً من التتار. فشدد عليها الحصار حتى ضجر الناس وضاقت بهم الحيلة. ففتح له العوام أحد البواب فدخل المدينة عنوة. وكان أول همه أنه لم يتربص حتى يجيء الصباح فأصعد بالليل على المنابر جماعة ينادون ويقولون: إن الأمير قد أمن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحد إلى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام. ولنرجع إلى ذكر الأفراد لنشير إلى مقدار عناية ملوك الإسلام بفضلاء النصارى واحتمالهم منهم ما لا يمكن أن يتصوره عقلنا في هذه الأيام. فقد روى التاريخ أن يوحنا بن ماسويه الذي أشرنا إليه فيما سبق كان مع الخليفة العباسي الواثق في دكان (أي دكة مبنية للجلوس

عليها) وكان مع الواثق قضبة فيها شص وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك فحرم الصيد. فالتفت إلى يوحنا وكان على يمينه وقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال يوحنا: يا أمير المؤمنين لا تتكلم بمحال. يوحنا أبوه ماسويه الخوزي. وأمه رسالة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة درهم وأقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء وسميرهم وعشيرهم حتى غمرته الدنيا فنال منها ما لم يبلغه أمله. فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوماً. ولكن إن أحب الأمير أن أخبره بالمشؤوم من هو أخبرته فقال من هو؟ فقال: من ولده أربعة خلفاء ثم ساق الله إليه الخلافة، فترك الخلافة وقصورها وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعاً في مثلها في وسط دجلة لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه. ثم تشبه بأفقر قوم في الدنيا وشرهم وهم صيادو السمك فماذا فعل الخليفة؟ نجع فيه الكلام ولكن تشاغل مدة ثم قال ليوحنا وهو على ذلك الدكان: يا يوحنا ألا أعجبك من خلة؟ قال: وما هي؟ قال: إن الصياد ليطلب الصيد مقدار ساعة فيصيد من السمك ما يساوي ديناراً وما أشبه ذلك وأنا أقعد منذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهماً فقال يوحنا: يا أمير المؤمنين وضع التعجب في غير موضعه. إن الله جعل رزق الصياد من صيد السمك. فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله. ورزق أمين المؤمنين بالخلافة فهو غنيٌ عن أن يرزق بشيء من السمك. فلو كان رزقه من الصيد لوافاه مثل ما يوفي الصياد. ومثل ذلك ما حدث للمتوكل الذي تولى الخلافة بعد الواثق هذا. فقد جرى على سنة أسلافه في تعظيم أهل الفضل مهما كانت عقيدتهم. كان الطبيب يختيشوع إذا دخل عليه في داره الخاصة جلس بجانبه على السدة: وهي منزلة لم يصل إليها وزير من المسلمين. فاتفق يوماً أن الخليفة رأى فتقاً في ذيل دراعة الطبيب وكانت من ديباج رومي. فأخذ يحادثه ويعبث بذلك الفتق حتى بلغ حد النيفق (وهو الموضع المتسع في السراويل والقميص) ودار بينهما كلام اقتضى أن سأل المتوكل يختيشوع: بماذا تعملون إن الموسوس يحتاج إلى السد. فقال يختيشوع: إذا بلغ في فتق دراعة طبيبه إلى حد النيفق شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره وأمر له بخلعة حسة ومال جزيل. وكان يختيشوع هذا قد بلغ في أيام المتوكل العباسي من الجلالة والرفعة وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال مبلغاً يفوق الوصف مع كمال المروءة حتى أنه كان يباري

الخليفة في اللباس والزي والطيب والفرش والضيافات والتفسح في النفقات. وهل سمعتم بمرتبة لمسلم في مسلم أو لنصراني في مسلم مثل المرثية البارعة التي نظمها الشريف الرضي في أبي إسحاق إبراهيم الصابيء المتوفى في شوال سنة 384 ومطلعها: عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياءِ لا نتفرق ما بيننا يوم العلاء تفوت ... أبداً كلانا في العلاء معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق وكان للنصارى واليهود في بغداد كلمة نافذة وقول مسموع في شؤون الدولة والعامة والسياسة ويشهد بذلك ما حدثنا به صاحب تاريخ الزوراء عن يوسف بن فيجاس أوبنخاس اليهودي وزكريا بن يوحنا وأبي عمرو سعيد بن الفرُّخان النصراني وهرون بن عمران اليهودي وبشر بن علي النصراني وأبي سهل نصر بن علي النصراني وأبي نصر بن بشر بن عبد الأنباري النصراني وابي الفضل بنان بن بنان النصراني وعلي بن عيسى الزنداني النصراني بل النساء النصرانيات كان لهن يد في سياسة الملك مثقل فرج النصرانية فقد مكان الخليفة المقتدر العباسي ينفذها في أمور الدولة ويعمل برأيها ويرسل خاتمه معها إلى من يريد تقليده الوزارة. وأمثال ذلك كثيرة حتى أن الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه والمعتضد بالله ملك ابن الوليد النصراني كاتب بدر الولاية العامة على الجيش. وكذلك فعل الوزير الكبير ابن الفرات فإنه قلد الولاية العامة على جيش المسلمين لرجل نصراني وجعل أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره بسبب هذه الوظيفة. وكان بيت مال المسلمين تخرج منه الإنعامات السنية لأكابر الكتاب من النصارى وتقديرها بالمائة ألف دينار كما وقع لأصطفن بن يعقوب كاتب بيت مال الخاصة في أيام ابن الفرات وليعقوب ابنه حتى بلغت ثروتهما ألف ألف دينار. وكان ابن الفرات قد رسم بأن يدعى في كل يوم إلى طعامه خمسة من أصحابه المسلمين وهم: أبو الحسن موسى بن خلب وأبو علي محمد بن علي بن مقلة وبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح وأبو عبد الله الذي روى ولده هذه القصة وهو أبو القاسم ابن زنجي. وأربعة من أخصائه النصارى وهم: أبو بشر عبد الله الفرُّوخان

النصراني وأبو الحسين سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وابو منصور عبد الله بن جبير النصراني وأبو عمر سعيد بن الفرخان النصراني. وفكانوا يحضرون مجلسه في وقته من جانبيه وبين يديه ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في كل وقت من خير كل شي ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف وكل طبق فيه سكين يقطع به صاحبه ما يحتاج إلى قطعة من سفرجل وخوج وكمثرى ومعه طست زجاج يرمي فيه الثفل فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم شيلت لأطباق وقدمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم واحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها وحواليها مناديل الغمر من الثياب المعصور. فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية وأخذ القوم في الأكل وأبو الحسن ابن الفرات يحدثهم ويباسطهم ويؤانسهم. فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين. ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه ويغسلون أيديهم والفراشون قيام يصبون الماء عليهم والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبيقية ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم. وقد ذكرت هذه العبارة لأظهر ما كان للقوم من رفاهة وتأنق في داخليتهم كما كان لهم من عظمة وجلال في خارجيتهم فمصل هذا النظام لو حدثنا به أحد لاتهمناه بأنه يصور لنا شيئاً مما يجري في منازل عظماء أوروبا وأميركا ولولا أنه منقول بالحرف الواحد من كتاب تحفة الأمراء في تاريخ الزوراء للصابيء. ومن المقرر في الشريعة الإسلامية بناءً على ما جاء في القرآن وسنة الرسول وعمل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود ومن ابتعهم من أئمة الهدى أن ذوي الأرحام ترد عليهم مواريثهم. وقد كان العمل في ذلك جارياً على هذه القاعدة بصرف النظر عن ملة الورث سواء أكان مسلماً أو ذمياً. ولكن السنة قد تختفي في بعض الدول فيبطلها الحكام وظلماً وعدواناً. فقد وقع أن بيت المال اغتصب حقوق هؤلاء الوارثين من مسلمين وذميين فأمر المعتضد بالله ثم المستكفي بالله بالرجوع إليها في حق كل منهما ثم تنكرت هذه السنة الشريفة فأعادها المقتدر بالله وأصدر منشوراً جليلاً أمر بإظهاره وقراءته على الناس في المسجدين الجامعين بمدينة السلام وأرسله إلى جميع

أصحاب الأعمال في الآفاق ومما ورد فيه بنوع التخصيص قوله: وإن يرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثاً على أهل ملته. وكان النصارى وأئمتهم يعرفون حق المسلمين عليهم ويؤازرونهم في الشدة كما يستفيدون منهم في الرخاء فقد اتفق في أيام المقتدر بالله في أوائل القرن الرابع للهجرة أن القسطنطينية تولى على ملكها حدثان فعسفا أسارى المسلمين وشددا في التنكيل بهم وأجاعهم وأعرياهم وطالباهم بالتنصر ولم ير الوزير علي بن عيسى مساعدة من جانب الخليفة على إنفاق الأموال وتجهيز الجيوش. فأشار عليه بعض جلسائه لتصريف الهم عنه بأن يوسط عظيم النصارى بإنطاكية وهو البطرك وعظيمهم بالقدس وهو الجاثليق أو القاثليق لأن أمرهما ينفذ على ملوك الروم ولا يتم لهم أمر إلا بهما والطاعة لا تلزم جمهور رعيتهم إلا بقولهما وربما حرم الواحد منهم فيحرم عندهم فما هو إلا أن أرسل إليهما الوزير على يدي عامليه في إنطاكية والقدس حتى بادر عظيما النصرانية إلى إنفاذ رسول عنهما مع رسول من العامل إلى ملكي الروم وكتبا لهما ما نصه: إنكما قد فعلتما بأسارى المسلمين عندكما ما هو محرم عليكما ومخالف لوصية المسيح عليه السلام في أمثالهم وأمره فيمن جرى مجراهم. فإما زلتما عن هذه الطريقة وعدلتما عنها إلى ما تقتضيه السنة المأثورة وأحسنتما إلى من في أيديكما وتركتماهم على أديانهم ولم تكرهاهم على خلاف آرائهم وإلا لعناكما وتبرأنا منكما وحرمنا كما فلما وصل الرسولان إلى القسطنطينية أوصل رسول البطرك والقاثليق إلى الملكين وحجب صاحبه. وبعد أيام أذن له الملكان في المثول بين يديهما وقالا له: الذي أدى إلى ملك العرب من فعلنا بأسارى المسلمين كذب وشناعة وقد أذنا في دخولك دار البلاط لتشاهدهم وتسمع شكرهم وتعلم استحالة ما ذكر لكم في أمرهم. فذهب فرآهم كأنما هم خارجون من القبور وقائمون إلى النشور ووجوههم دالة على ما كانوا فيه من الضر والعذاب إلا أنهم في حالة صيانة مستأنفة ورفاهة مستجدة. قال الرسول: فتأملت ثيابهم فكانت جدداً كلها فتبينت أنني أخرت ذلك التأخير حتى غُير أمرهم وجدد زيهم. وقالوا لي: نحن شاكرون للملكين. فعل الله بهما وصنع مع إيمانهم إلي بأن حالهم على ما تأدى إلينا وإنما خفف عنهم وأحسن إليهم بعد حصولي هناك. وقالوا لي في عرض قولهم: كيف عرفت صورتنا ومن تنبه على مراعاتنا حتى أنفذك من أجلنا. فقلك: ولي الوزارة

والوزير أبو الحسن علي بن عيسى. فبلغه خبركم فأنفذ وفعل كذا وكذا فضجوا بالدعاء له. وسمعت امرأة منهم تقول: مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك ذلك الفعل. فعند ذلك بكى الوزسير بكاءً شديداً ثم سجد لله تعالى شاكراً حامداً. والبلاط المذكور هنا هو دار كانت بالقسطنطينية مخصوصة لأسارى المسلمين ذكره المتنبي وأبو فراس في أشعارهم وقد ذكره أبو العباس الصفوي شاعر سيف الدولة وكان محبوساً وضربه مثلاً: أراني في حبسي مقيماً كأنني ... ولم أغزُ في دار البلاط مقيم ومجمل القول أن أفاضل الروم والسريان والكلدان واليعاقبة والفرس وسائر النصارى على اختلاف مللهم واليهود والمجوس والصابئة كانوا في أيام خلفاء بني العباس موضع التجلة والإعزاز والاحترام ووصلوا بعناية الخلفاء وأكابر الدولة من المسلمين إلى مقام محمود ودرجة لم يكن لها نظير في دولة أخرى شرقية أو غربية ولا حتى في هذه الأيام التي انتشرت فيها أعلام الحرية وانطلقت الأفكار من قيودها القديمة التقليدية. فكان الخلفاء وملوك المسلمين وأمراؤهم يجعلون ثقتهم فيهم ويسلمون إليهم طبهم وطب نسائهم ويأتمنونهم على حريمهم وأموالهم ويفضون غليهم بأسرار الدولة الإسلامية ويودعون عندهم أموالهم وذخائرهم ولا يجعلون بينهم وبينهم حجاباً بل يستقبلونهم في كل وقت وبغير إذن مثل المسيحي نزيل بغداد وإسحق بن حنين بن إسحق ويختيشوع بن جورجيس وأبي الكرم صاعد بن توما المعروف بأمين الدولة وأشباههم ممن لا نرى حاجة لسرد أسمائهم. وكان أكابر علماء المسلمين يتلقون العلم عن أفاضل النصارى وغيرهم عملاً بالحديث الشريف كما كان النصارى واليهود وغيرهم يتلقون العلوم الفلسفية وغيرها من علماء الإسلام فإن محمد بن موسى بن شاكر الذي كان أوفر الناس حظاً في الهندسة والنجوم في أيام المأمون كانت له دار في بغداد ككعبة لطلاب الفضل وعشاق العلم وقد تعلم فيها كثيرون ممن جعلوا لتلك الدولة بهاءً ورواءً وعطروا اسم الشرفق والإسلام. نكتفي الآن بذكر ثابت بن قرة بن مروان الصابئ الحراني نزيل بغداد فإن ابن شاكر المسلم لم يكتف بتخريجه في العلم بنفسه والإنفاق عليه من ماله حتى أكمل دروسه في داره عن الأساتذة

الذين كان يدر عليهم الأرزاق لتنوير الأذهان بل رأى أن لهذا الصابئ حقاً عليه بهذا الجوار فوصله بالخليفة المعتضد وأدخله في جملة المنجمين فظهر فضله حتى بلغ عنده أجلَّ المراتب وأعلى المنازل وكان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلاً ويضاحكه والخليفة يقبل عليه دون وزرائه وخاصته. وقريب من ذلك ما وقع في مصر إذ التجأ إليه موسى بن ميمون اليهودي المشهور بعد ما أكره في الأندلس على الإسلام فأظهره وحفظ القرآن واشتغل بالفقه وأسرًّ اليهودية حتى إذا ما تحين الفرصة خرج إلى مصر في أواخر أيام الفاطميين فلما استقر الأمر فيها لصلاح الدين الأيوبي أخذه القاضي الفاضل (عبد الرحيم بن علي البيساني) تحت حمايته واشتمل عليه وقدر له رزقاً من خزينة الدولة لما رآه فيه من العلم الواسع والفضل الكامل. فإنه كان أوحد زمانه في صناعة الطب علماً وعملاً وكان متفنناً في العلوم وله معرفة جيدة بالفلسفة وكان الناصر صلاح الدين وولده الملك الأفضل يجلان قدره كثيراً ويعتمدان على رأيه في الطب وقد تولى الرياسة العامة على جميع اليهود بديار مصر. ولقد ابتلي موسى هذا في آخر زمانه برجل من الأندلس فقيه يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر وحاققه على إسلامه وإلزام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له: رجل يُكره على الإسلام لا يصح إسلامه شرعاً. وقد مدحه القاضي السعيد بن سناء الملك فقال: أرى طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم فلو أنه طبَّ الزمان بعلمه ... لا يراه من داء الجهالة بالعلم ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم وأفادنا التاريخ أن الفارابي وهو المعلم الثاني (لأن المعلم الأول هو أرسطو طاليس) دخل العراق واستوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان النصراني وأنه هو أقرأ يحيى بن عدي النصراني اليعقوبي الذي انتهت إليه رياسة أهل المنطق في زمانه. وقيل أن ابا سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني وهو معلم الشيخ الرئيس ابن سينا صناعة الطب وإن كان الشيخ الرئيس بعد ذلك تميز ومهر فيها وفي العلوم الحكمية حتى صنف كتباً للمسيحي وجعلها باسمه. هذا وأنتم تعلمون أن يحيى بن عيسى بن جزالة

النصراني قرأ الطب على النصارى وأراد قراءة المنطق فلم يكن فيهم من يقوم بهذا الشأن وذكر له أبو علي بن الوليد شيخ المعتزلة بأنه عالم بعلم الكلام ومعرفة للألفاظ المنطقية فلازمه لقراءة المنطق ثم حسن الشيخ له الإسلام حتى استجاب وكان يطب أهل محلته وسائر معارفه بغير أجرة ولا جعالة بل احتساباً ومروءة ويحمل إليهم الأدوية بغير عوض. وممن درس على شيوخ الأدب المسلمين يحيى بن سعيد ابن مالك النصراني فقد برز في هذا الفن حتى صنف ستين مقامة على مثال البديع والحريري فأحسن فيها وكان فاضلاً في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطب. وهذا باب كبير جداً يتسع فيه المجال لعشرة أمثال هذا المقال غير أنني ألتمس الإذن من حضرات السامعين لأقص نبأ عليهم من أغرب الأنباء: أعرف في باريس رجلاً يهودياً من الذين توفروا على درس المشرق وآدابه وتواريخه وعنوا بالتنقيب عن كل شؤونه ونشروا كثيراً من مآثره الخالدة وأسفاره الممتعة وترجموا بعضها إلى اللغات الأجنبية. ذلك الرجل هو زميلي وصديقي العلامة الفاضل هرتويغ درنبوغ ولست الآن في مكان تقريظه وتعديد حسناته وإنما أقول لكن أنني رأيته في باريس قائماً بتفسير القرآن الكريم على جماعة من الطلبة الفرنساويين في مدرسة اللغات الشرقية فعجبت في نفسي من أمر هذا اليهودي الذي يشرح للنصارى في باريس وبلسان الفرنسيس كتاب المسلمين. ولكنني تذكرت تاريخ أجدادي وبه سيبطل عجبكم كما بطل عجبي. فقد كان الشيخ المؤرخ تقي الدين أبو العباس المقريزي المشهور صاحب كتاب الخطط المتوفى سنة 845 من الهجرة له إلمام تام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان أفاضلهم يترددون إليه للاستفادة منه فيما يتعلق بأمور دينهم وشرح مذاهبهم ومعرفة أسرار ملتهم وقد ألف كتاباً سماه شارع النجاة يشتمل على جميع ما اختلف فيه البشر من اصول ديانتهم وفروعها مع بيان أدلتها وتوجيه الحق منها وهذا بخلاف ما نراه في البيانات المفيدة الكثيرة في كتابه المشهور بالخطط الذي طبعه الخواجة روفائيل عبيد القبطي وقد أخذ الفرنساويون يترجمونه في هذه الأيام إلى لغتهم بمعرفة العلامة أوريان بوريان وبمعرفة العلامة كازانوفا المقيم بين ظهرانينا الآن لإكمال هذا العمل الجليل الذي برز في عالم المطبوعات قسم كبير منه.

ولكن أين المقريزي وأين علمه من الفقيه الشافعي كمال الدين ابن يونس الذي ثقفه في الموصل ثم توجه إلى بغداد ثم رجع إلى الموصل ومات بها رابع عشر شعبان سنة 639 فقد كان آية ولا كالآيات وأعجوبة ولا كالأعاجيب وموسوعة ولا كالموسوعات تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة واتفق الفقهاء على القول بأنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة فمن ذلك مذهب الشافعي فكان فيه أوحد الزمان وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور وكان يتفنن فن الخلاف العراقي (أي على مذهب الشافعي) والبخاري (أي على مذهب الحنفي) وأصول الفقه وأصول الدين ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه وكذلك كتاب الإرشاد للإمام ركن الدين العميدي لما وقف عليه حل اصطلاحاته في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوه وكان يدري فن الحكمة والمنطق (أي كتب أرسطو طاليس المنطقية الثمانية) والطبيعي والإلهي وكذلك فنون الرياضة من إقليدس (أي كتبه الرياضية) والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي (أي الفلك) وأنواع الحساب: الحساب منه (أي علم العدد) والجبر والمقابلة والأرتماطيقي وطريقة الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في طواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد جيدة وكان يحفظ من التاريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه وبالجملة فإن مجموع ما يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه جمعه ولقد كان كبار المشايخ الذين لهم القدم الراسخة في العلوم يأخذون الكتاب ويجلسون بين يديه ويقرؤون عليه مع أنه لهم من الكتب الفائقة ما يشتغل به الناس والطلاب بل كانوا يتركون بلادهم وتدريسهم ويحضرون إليه للتلقي عليه ولقد تخرج عليه خلق كثير في كل فن. وليس كل ذلك شيئاً يذكر بجانب أمر صغير كبير اشتهر عنه وهو الذي أردت أن أتخلص إليه بهذه المناسبة. وذلك أن علماء النصارى واليهود كانوا يقرؤون عليه الطب والفلسفة

وغيرها من العلوم التي اعتاد أهل ذلك العصر عصر النور أن يقرؤوها لأهل الكتاب ولا يمنعوهم منها. فليس في هذا شيء من الغرابة وإنما الغريب أنه مع كونه معدوداً من الفقهاء والمفسرين كان كما رواه ابن خلكان وهو حجة ثقة يجيء إليه أهل الذمة من اليهو والنصارى ويقرؤون عليه التوراة والإنجيل وقد شرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. ولو وقع مثل هذا في عصرنا لعد غريباً جداً. وممن قرأ عليه الحكيم تاذري الإنطاكي اليعقوبي الذي أحكم اللغة السريانية واللاطينية بإنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل ثم هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين بن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحل أوقليدس والمجسطي. ثم عاد إلى إنطاكية ولم يطل المكث فيها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استنهأ من علمه وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطب وقيد أوابده وتصيد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه ولم يقبل عليه فرحل إلى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للإمبرور ملك الفرنج وهو (فريدريكوس الثاني) فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه مدينة بأعمالها. فلم صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله فلم يؤذن له بالتوجه فأقام إلى أن مكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلد المغرب فضم أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد أعدها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون بر عكة. فبينا هم سائرون إذ هبت ريح رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سم كان معه ومات خجلاً لا وجلاً لأن الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله. وممن جرى على هذا النحو العلامة برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885 فإنه فسر القرآن في كتاب له اسمه نظم الدرر في تناسب الآي والسور وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه أسرار القرآن ما تحار فيه العقول وهو محفوظ بالمكتبة الخديوية وفي كثير من مكاتب القسطنطينية ولكي يكون هذا المفسر المحقق على بصيرة من أمره استمد كثيراً من الأمور والبيانات من التوراة والإنجيل وقد أشار في أوله إلى التوراة التي اعتمد عليها فقال ما نصه: واعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم

أدر اسم مترجمها وعلى حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها والظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جداً فكان في الورقة الأولى منها محوٌ في أطرف الأسطر فكملته من نسخة السبعين ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعيد الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق اللفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب. وسعيد هو المشهور باسم سعديا. وقد ذكره صاحب كتاب الفهرست. وكان البقاعي كلما ذكر قصة مما ورد في القرآن تتعلق بأهل الكتاب شرح أمرها من التوراة غيرها من صحف الملل المتقدمة مثال ذلك أنه أشار في بعض المواضع إلى إحدى القصص فشرح أمرها من التوراة فقال ما نصه: في آخر السفر الرابع منها في النسخ الموجودة بين أظهر اليهود الآن في هذا القرن التاسع فيما قرأته من نسخة مترجمة بالعربية وخطها كذلك وعليه آثار قرءتهم لها وبيان الأوقات التي يقرأ فيها كل فصل منها ثم قابلتها بالمعنى مع شخص منهم وكان هو القارئ منهم ما نصه: وهذه مظاعن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر بأجنادهم على يدي موسى وهارون وكتب موسى مخارجهم ومراحلهم عن قول الرب: ظعنوا من رعمسيس (وفي نسخة من عين شمس) في خمسة عشر يوماً من الشهر الأول. ولذلك قام عليه بعض الجهلة من أهل عصره وقبحوا طريقته قبحهم الله وأهانوه وسعوا به لدى الحكام ونفوه واضطهدوه بكل ما في وسعهم ولكن الرجل ثبت غي عمله حتى أتم تفسيره وصنف أيضاً بسبب ذلك كتابين أحدهما مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور والثاني: الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة وهو محفوظ بالكتبخانة الخديوية. تأتي البقية

حكم منوعة

حكم منوعة حكم في سيرة الحياة ملخصة من كتب ديانة الهنود القديمة تتطهر النفس بمعرفة الذات وضبطها عن الشر وبالاستقامة والأدب والدين. الأم أثقل من الأرض والأب أعلى من السموات والعقل أسرع من الريح والأفكار أكثر عدداً من العشب. صديق رب البيت الزوجة وصديق الغريب في بلاد بعيدة الرفيق وصديق المريض الطبيب، وصديق المشرف على الموت الصدفة. أعظم خير للفضل الكرم. وللشهرة العطاء وللسماء الحق، وللسعادة السيرة الحسنة. الابن هو نفس الإنسان، والزوجة عطية من الله، وأخص معيشة الإنسان من الغيوم. خير ما يمدح الحذق وخير ما يُقنى العلم وخير ما يكسب العافية وخير أنواع السعادة القناعة. أعظم ما يجب على الإنسان الامتناع عن الإضرار بالناس. إذا أبى الإنسان الكبرياء كان محبوباً وإذا أب الغضب فلا يندم وإذا أبى الهوى صار غنياً وإذا أبى الطمع كان سعيداً. زجر النفس أحق الزجر، الصفح يقوم بالصبر على العداوة، والابتعاد عن كل عمل معيب يخلص من الخجل والعار. والرحمة قائمة بطلب الخير للكل. والبساطة راحة القلب. الغضب عدوٌ لا يغلب والطمع داء لا دواء له، والصادق من يريد الخير للخلق عامة وغير الصادق من لا رحمة فيه. الجهل الحقيقي هو الجهل بما يجب عمله. والكسل عدم القيام بما يجب عمله. الغسل الحقيقي غسل القلب من أوساخه. والصدقة مساعدة كل مخلوق محتاج. العالم من علم ما يجب عليه. والحسد ليس إلا حزن للقلب. الجهل الأعمى هو الكبرياء. ونشر كلام السوء في الغير. من يعد ولا يفي والغني الذي لا يعطي ولا ينفق على نفسه بخلاً كلاهما في النار الخالدة. من يقول قولاً شهياً صار شهياً عند الكل ومن عمل بالحزم نال ما طلب ومن كان له خلان

كثيرون كان سعيداً ومن تابع الفضل كان له نصيب سعيد في الآخرة. السعيد من لا دين عليه ومن يلازم بيته. يذهب اليوم بعد اليوم أناس لا يحصى عددهم إلى منازل الموتى وأما الأحياء المتأخرون فيظنون أنفسهم خالدين في الحياة. خبر العمل الصالح يبلغ عنان السماء وينتشر في الأرض فما دام هذا الخبر كائناً يدعى الرجل رجلاً. من استوى عنده الطيب والمكروه والخير والشر والماضي والحاضر فهو المالك لعامة أنواع الثروة. من أقوال الفلاسفة القدماء الحواس كالشمس فكما أن الشمس تخفي السموات وتجلي رؤية الأرض هكذا الحواس تخفي الأشياء السماوية وتظهر الأشياء الأرضية. الاسم الحسن كالنار إذا اشتعلت مرة سهل دوام اشتعالها وإذا انطفأت لم تسهل إعادة اشتعالها. الحب الذي لا نهاية له هو الحب الذي لا غرض دنيّ منه. أحوج ما في العلم لفائدة الحياة نسيان ما هو غير صحيح. يتعلم الحكماء من الجهال أكثر مما يتعلم الجهال من الحكماء. ليست الرحمة صفة مغصوبة بل هي آتية من السماء كالمطر الرذاذ إلى ما تحتها وبركتها بركتان، بركة للمعطي وبركة للآخذ، وهي أجدر بالملك الجالس على عرشه من تاجه. وهي صفة ذات الله فتصير القوة الأرضية أشبه بقوة الله متى لطفت الرحمة العدل. وإن كان العدل حجتك فاعلم أن من هذا الوجه لا يرى أحد منا نجاة عند الله إلا أننا نلتجيء إلى رحمته وهذا الالتجاء يعلمنا جميعاً أعمال الرحمة. (شكسبير). بيروت يوحنا ورتبات حكم عصرية للمأسوف عليها العقيلة أنيسة كريمة الشيخ سعيد الخوري الشرتوني

أحقر الناس جاهل ابن عالم وفقير ابن غني. ميراث كبير تعويد الولد العمل واجتناب المحرمات. من أحرز العلم بلغ ذروة الشرف. أجلّ الناس من جمع بين العلم والمال والفضيلة. أفضل رجال الدين من نمت في جوارهم الفضائل وانتشرت في معاشريهم نفحات الصلاح. معاشرة العلماء ضياءٌ ومعاشرة الجهال ظلام. جرائد كل عصر أصدق شاهد على أخلاق أهله وطبقاتهم في العلم. لا مؤونة للقلم واللسان بعد اللغة كالتاريخ والجغرافية. حافظ التاريخ والجغرافية ولطيف الشعر والأمثال والحكم زينة المجالس وفاكهة المحاضر. لا يضعف العدل والدين إلا متى كان زمامهما في أيدي أعدائهما. ما نظر الحكيم في شيء غلا استخرج منه فائدة. لا يسعد إلا من اعتصم بحبل الله. الفضلاء في الناس كالجواهر في الحجارة. قيمة العلماء في الأمم الشائخة قيمة المصابيح عند العميان. لا يغلب الحق وإن قل أنصاره. من أفظع العار أن يخالف الديانة من يسود باسم الديانة. الوعظ في فم الشرير كالماء الطاهر في المجرى النجس. أفضل ما تعمله المدارس اختيار الفضلاء البارعين للتربية والتعليم. أثمن الهدايا نصائح الحكام. مجاورة الصالحين كمجاورة النباتات العطرية. أملك الناس للقلوب مهذب حميد السيرة. من أحكم علماً عاش به. أولى الناس بالتزام السيرة الصالحة الحاكم والكاهن والطبيب فكل منهم مقتدى. استخدام الفقير أنفع من التصدق عليه. جدَّة المبادئ كالشباب وقدامتها كالشيخوخة فأصحاب المبادئ الجديدة ذوو همم قوية

وأصحاب المبادئ القديمة ضعاف الهمم. من أحسن وسائل التقويم الترغيب في حسن الذكر. من أفضل الكتب التي تسمن عليها الآداب كتاب تليماك. الدين كاللوزة اجتناب المحرمات لبه والتكاليف قشره والمحافظة على القشر بعد إتلاف اللب رياء. أفضل المنشئين من لا تبلي الدهور كلامهم. جوامع الكلام منقولة عن الإنكليزية خشية الله أصل المعرفة والمجنون من يزدري بها (رأس الحكمة مخافة الله). فطرنا على حب الحياة ولو أنها قليلة اللذات. (جبلنا على حب الحياة وإنها ... مخيفة أحلام أطافت بحالم) جانب الشرير ولا تسر في سبيل أهل الدعارة فهم لا يأكلون غير الطعام الخبث ولا يكرعون إلا من نبيذ القسوة. لكل إنسان أن يعيش الدهر إذا كانت حياته روحية لا جسدية: إذا كانت حياته في طلب الحكمة وتخليد المآثر. وهذه حياة العظماء تؤكد لنا ذلك. الناس دون جهادهم موتى ول ... كن الأُلى عملوا المدى أحياء وفي هذا المعنى قال الرافعي أيضاً: وما غير العظائم باقيات ... يكرر ذكرها في كل آن يعمل المرء في حياته إما أعمالاً حسنة أو سيئة وعلى قدر ذلك يترتب هناؤه أو تعسه في الوجود. النجاح لا يقع اختياره إلا على رجل واحد من الناس لا يصاحب سواه وهذا الرجل هو الذي لا يعمل عملاً قبل أن يُعمل فكره فيه. قال وليم شكسبير: إنما العالم مسرح والناس من رجال ونساء ليسو سوى ممثلين يظهر كل عليه ويختفي. والمرء في حياته يمثل سبعة أدوار. فالدور الأول وهو زمن الطفولة إذ

يكون رضيعاً يصرخ ويقيء بين ذراعي مرضعه. والثاني حين يصبح تلميذاً يحمل قمطره ووجهه يفيض بشراً وسناءً في الصباح يقفز كطير البجع ويتظلم من الذهاب إلى المدرسة. والثالث دور الهوى وهو الزمن الذي يكون فيه عاشقاً يتنهد تنهدات حارة تحكي زفرات الأفران وهو ينشد أغاني مطربة يخاطب بها لحاظ مالكة فؤاده. والدور الرابع وهو دور الشجاعة والإقدام حين يكون جندياً يقسم الإيمانات ولحيته تشبه لحية النمر: يغار على الشرف ويقتحم الغارات بخفة باحثاً عما يجديه فخاراً ولو في فوهات المدافع. هذا الفخار الذي أراه كجبب الماء لا يدوم ولا يلبث. والخامس وهو الدور الذي يجلس فيه على سرير الأحكام ويقضي بين الناس وبطنه ممتلئ مستدير وبصره حاد ولحيته مقصوصة قصاً مخصوصاً: عقله راجح وفكره ملم بكثير من الحوادث واعٍ لما صدر فيها من الأحكام. والسادس يبدأ باكتسائه الأردية الرفيعة القماش الواسعة الحجم ووضعه المنظار أمام عينيه وتعليقه كيساً بجانبه وقد غدت جواربه التي كان يلبسها وقت الصغر غير ملائمة لرجليه لكبر حجمهما وصوته ضئيلاً متلعثماً يحاكي صوت الأطفال. أما المنظر الأخير الذي ينتهي به هذا التاريخ المحزن الغريب فهو الطفولة الثانية يعني الشيخوخة والخبل المتناهي يتبعه فقد السنان والبصر والذوق بل وتضعضع جميع الجسد وقال كذلك على لسان ماكبيث: انطفئ يا ذا السراج انطفئ ... فإن الحياة خيال يسير وقال أيضاً: تأمل كثيراً وتكلم قليلاً ولا تشرع في تحقيق رأي يعجز عقلك دونه. عامل الناس بالعرف وراع واجبات الصداقة وضم من صادقتهم وتحققت إخلاصهم إلى قلبك وعلقهم بأطواق من الحديد ولاتضع كل إنسان حديث العهد بالمعرفة بك موضعاً علياً فتعلق بيدك الأكدار. حاذر من التشاجر مع أحد وإذا قدر لك هذا فاجتهد في إرهاب خصمك. أعر كل إنسان سمعك ولا تدع صوتك يقرع إلاّ آذان فئة قليلة من الناس. وقال يوحنا رسكن: خلق الإنسان لثلاثة دواع وهي العمل والأسى (الحزن) والسرور وكل من هذه الثلاثة له درجتان: وضيعة ورفيعة. فهناك عمل وضيع وعمل رفيع. وهناك حزن هين وآخر شديد. وكذاك فرح قليل وسرور مفرط فيلزمك أن لا تنأى عن الجمع بين هذي الثلاث ظناً منك أنه يتأتى لك أن تحيا بدونها فليست هناك نفس خلت من التشبث بها

فانجبر وهيها. والعمل بدون السرور رديء وهو بدون الحزن كذلك. والحزن من غير العمل قتال وكذلك الحبور بدون العمل. وقال: تواضع على قدر ما ترغب فليس التواضع بمؤذ لإنسان ولكن خلّ شرفك في المحل الأول. وقال: لا يتقدم في سبيل الحياة إلا من كان قلبه آخذاً يزداد ليناً ودمه حرارةً وخاطره سرعة ونفسه رغبة في العيش مع السلام وأولئك الذين يوجد فيهم هذا الشعور هم هم ـ لا غيرهم ـ الأمراء والملوك الحقيقيون في الأرض. القاهرة أ. ز. أ

الساعة وخرساَء لم ينطق بحرفٍ لسانها ... سوى صوت عرق نابض بحشاها حكت لهجة التمتام لفظاً ولم تكن ... لتُفصح إلاَّ بالزمان لُغاها لها ضربانٌ في الحشا قد حكت به ... فؤاداً تغشاه الهوى وحكاها جزت حركات الدهر في ضربانها ... وبانت مواقيت الورى بعماها على وجهها خُطت علائم تهتدي ... بها الناس في أوقاتها لمناها مشت بين آنات الزمان تقيسه ... وما هو إلاَّ مشيها وخُطاها بها يتقاضى الناس ما يوعدونه ... ويرشد ضُلاّل الزمان هداها غدت كأَخي الإيمان تأكل في عاً ... وما أكلها إلاَّ التواءٌ مِعاها تدور عليها عقرب دور حائر ... بتيهاَء غُمت في الظلام صُواها تريك مكان الشمس في دورانها ... إذا حجبت عنك الغيوم ضياها فأعجب بها مصحوبةً جاء صنعها ... نتيجة أفكار الورى وحجاها بَنتها النهى في الغابرين بسيطةً ... فتمَّ على مرّ الزمان بناها تنادي بني اليام في نقراتها ... أن اسعوا بجدّ بالغين مداها ولا تهملوا الأوقات فهي بواترٌ ... تقطع أوصال الحياة شباها بغداد معروف الرصافي

الشرق

الشرق رعى الله عهداً بالحمى يرجع ... وهل راجع ما فات والقوم هجع وقد كان فيه من أقاموا بجدهم ... أراكين مجدٍ دونها القوم خشع وشادوا قصور المكرمات واطلعوا ... بدور علوم ما لها اليوم مطلع وقد غربت في الغرب شمس علومهم ... فهل بعد ما تقضي اللبانة تطلع فإنا عهدنا الشمس تحجب ليلةً ... ولو لبثت عنا ليالي نجزع فما بالها تمضي القرون ولا نرى ... جمال محياها على الشرق يسطع فهل لك يا نور الوجود ضغينة ... على أهله أم هم إلى اللهو نُزَّع سلوك فأسلوك المرابع بعد ما ... سفرت لهم دهراً ومالك برقع وما الشرق إلا منزل نام أهله ... طويلاً فما يدرون ما الناس تصنع فيا علماء العصر أشكو إليكم ... فهل عندكم للشكو يا قوم موضع فإن لم يجيبوا داعي الله للعلى ... فللصبر إن لم ينفع الشكو أوسع بيروت الغلاييني

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات مبادئ اللغة للشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 421 هجري مع شرحه له عني بتصحيحه السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي وطبع على نفقة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخيه بمصر عن نسخة جيء بها من بغداد وقد وجد في الأصل المنقول عنه: هذا الكتاب أعني مبادئ اللغة مستخرج من كتاب العين للخليل ونوادر ابن الأعرابي وحروف أبي عمرو الشيباني ومصنف أبي زيد وجمهرة ابن دريد الأزدي. وفي الكتاب كثير من الفصيح الذي أخذه صاحب فقه اللغة وهو مما ينتفع به المترجمون والمؤلفون في هذا العصر وفيه فصح كثيرة وردت في أبواب منه مثل باب الكسوة ويدخل تحتها أصناف الثياب والملابس وباب البسط والفرش ونحوهما وباب الحلي والجواهر وباب الأواني والسراج وأبواب الطعام والطبخ والألبان والشراب وآلات البيت والأدوات وآلات الكتابة والزراع والسلاح وغير ذلك مما يلزم المتخاطبين في سفرهم ومقامهم وليلهم ونهارهم وبيوتهم وأعمالهم وحضارتهم وتأخرهم. وحبذا لو أضاف إليه طابعوه فهرساً بأسماء أبوابه وبيان فوائده وشوراده وأوابده. وقد وقع في 204 صفحات وثمنه سبعة قروش مجلداً. توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية هي رسالة للمرحوم الشيخ محمد الشطي المتوفى سنة 1307 ذكر فيها مادة مما وافق فيها القانون العثماني الشرع الإسلامي قال في مقدمته: ولما نشأ من تضييق بعض العلماء على الملوك السابقين جعل الحكم على قسمين شرعي ونظامي تبادر إلى الأذهان أن الحكم النظامي مخالف للشريعة المطهرة المأخوذة من القرآن والسنة ومن تتبع أقوال الأئمة المجتهدين وأحكام الصحابة والتابعين وجد أن الأحكام كلها مأخوذة عن سيد المرسلين والرسالة مطبوعة طبعاً جيداً في مطبعة الشيخ فرج الله زكي بمصر. تقويم المؤيد صدر تقويم المؤيد عن سنة 1326 وهي السنة الحادية عشرة له تأليف محمد أفندي مسعود المعروف بسعة اطلاعه وعلمه وأدبه حافلاً بأجل الفوائد التي يحتاج إليها الخاصة والعامة

والرجال والنساء والمصريون والغرباء ولا عجب إذا قلنا أنه صورة مصغرة من تاريخ مصر وما يلزم لساكنها خصوصاً بل لساكن البلاد العربية عامة من المعلومات الفلكية والفنية والأدبية وأخبار الملوك والممالك والحوادث والمعاهدات الدولية والمسائل السياسية وأحوال الزراعة وتدبير المنزل وما تم من أساليب الارتقاء المادي والأدبي في مصر في السنة الماضية وقد طبع في مطبعة المؤيد طبعاً جميلاً ويطلب من إدارتها وثمنه خمسة قروش فنحث على اقتنائه ونرجو أن يوفق مؤلفه إلى إصداره سنين كثيرة ليزيده ارتقاءً فوق ارتقائه خدمة للغة وأهلها. مجموعة خطب للشيخ جمال الدين القاسمي وهي خطب جمعية منبرية مقتبسة من خطب نبوية وصحابية وأئمة مشاهير موضوعها العقائد والعبادات والمعاملات والشمائل والأوامر والزواجر والآداب والأخلاق والمواعظ وأحوال المعاد وهي في نحو 130 صفحة صغيرة جميلة الوضع والانتخاب وكنا نود لو كانت كلها مما كتب قبل القرن السادس لتجمع الفائدتين كما هي نافعة في الدارين. تطلب من طابعها محمد أفندي هاشم الكتبي في دمشق. سياحة في التبت ترجم عن التركية حكمت بك شريف سياحة مختصرة في بعض مجاهل آسيا كما ترجم من قبل تاريخ زنجبار وسيام فعساه يترجم أو يؤلف لنا رحلة أو تاريخاً عن هذا الشرق الأدنى أو القريب فيكتب بعد تبت عن العراق ونجد والحجاز واليمن ويحدثنا بعد زنجبار وسيام بأخبار آسيا الصغرى وبلاد الشام. تطلب الرحلة من المكتبة الرفاعية في طرابلس الشام. دليل السلام أصدرت إدارة جريدة السلام التي تطبع بالعربية في بونس أيرس عاصمة الأرجنتين (الجمهورية الفضية) دليلاً يحتوي على أهم الفوائد التجارية والإحصائية والتاريخية والحسابية والأخبار والفكاهات بالعربية والإسبانيولية جاء فيه أن عدد السوريين في تلك البلاد يربو عن 45 ألفاً وأن عدد الجرائد والمجلات التي صدرت بالعربية منذ سنة 1891 في أميركا الشمالية والجنوبية قد بلغت إلى الآن أربعين بقي منها حياً 21 وفي هذا الدليل فهرس عام لتجار السوريين في الأرجنتين وفيه صور كثيرة وفرائد غزيرة وإعلانات جمة

وجاء فيه أن أحوال الجالية هناك على أحسن ما يكون من الارتقاء فمنذ بضعة سني كان يندر أن تجد محلاً تجارياً قائماً بما يتطلبه نظام التجارة من ضبط دفاتر وحسابات واليوم نرى مثل هذه المحال مئات ومنذ بضع سنوات كان تنقضي السنوات ولا تسمع بجمعية أسست أو مشروع قام وفي أيامنا لا تخلو سنة من عشرات المشاريع يقوم بها المتنبهون عن كفاءة وشعور. اللباب هي مجلة علمية فلسفية طبية زراعية تصدر في القاهرة في أول كل شهر لصاحبها م. ا. ا. ن ومديرها خليل أفندي مولود جاءتنا الأجزاء الثلاثة الأولى منها فقرأنا فيها عدة مقالات مختصرة في المعنى الذي ترمي إليه قالت في مقدمته: إننا نرمي في كلامنا على بطء مسير حركة العلم ونضوب معين الأقلام في التنقير على استجلاء الحقائق والقحط الذي أصاب أدمغة رجال الأقلام وأرباب الكتابة والتأليف ولم يتناول جميع المطالب العصرية التي عقمت بها أرحام الأقلام وأجدبت عن إنباتها رياض الإفهام وغدت بها مجلات العلم والأدب عالة على النقل والتعريب عن منشآت أوروبا حالة أن مجال الكتابة أرحب من الفضاء وموضوع عمراننا أغزر من الدماء ولم الألسنة قد انفتقت إلا لتزيين التقليد والتقاعد عن ركوب خطة التوليد ولم نر الخواطر قد انفدحت إلا لاختراع ضروب النقل والمسخ مكاثرة لهذا النوع من الكتابة الذي جر على العربية وآدابها معرة النقص وأورث صناعة الأدب كساداً وأي كساد. وإنا لندعو أن توفق رصيفتنا الجديدة إلى سد هذا النقص المحسوس في اللغة العربية ونعني به التوليد والاختراع والبعد عن مواطن التقليد والجمود من نقل وتعريب. وفي كل جزء من الأجزاء الثلاثة مقالة للأمير شكيب أرسلان الأولى في الانتقاد والثانية في حقيقة التعريب والثالثة في تركة الفضل أخلد الآثار. والمجلة سلسة العبارة لطيفة المنزع تصدر في 56 صفحة في حرف واضح جلي وطبع سليم نقي وقيمة اشتراكها في القطر خمسون قرشاً وسبعون في سائر القطار فنرحب بها ونتمنى لها الثبات في خدمة اللغة والآداب والإقبال الذي تستحقه. شورا

هي مجلة علمية أدبية فيها بعض أبحاث تصدر مرتين في الشهر باللغة التركية في مدينة أورنبورغ من أعمال روسيا لصاحبيها محمد شاكر أفندي ومحمد ذاكر أفندي رامبيف ومحررها رضاء الدين أفندي بن فخر الدين صدر منها إلى الآن ستة أجزاء فتلوناها مسرورين من نشاط أخواننا الروسيين في خدمة المعارف والآداب وعبارتها تركية تترية يسعى كابتها إلى تقريبها من التركية العثمانية ليعم الانتفاع بها وفي هذه الأجزاء مقالات لطيفة تدل على سلامة ذوق الكاتب وأدبه الجم وفيها بعض صور لمشاهير الروسيين المسلمين ممن كان لهم أثر في نهوضهم الاجتماعي والعلمي مثل الشيخ شامل وغيره وتراجم موجزة لهم وقيمة اشتراكها أربعة روبلات وإذا اشترك المشترك بها مع جريدة وقت يؤخذ منه سبعة روبلات ويا حبذا لو جعلت هذه المجلة ملزمة واحدة منها باللغة العربية تنقل فيها أهم ما يهم الأمة من أخبار تلك البلاد ونهضتها العلمية والأدبية تجعلها ملحقاً في كل جزء من أجزائها فيكون لها شأن بين قراء العربية كما لها شأن بين قراء التتارية والتركية. المفضليات طبع الشيخ أبو بكر بن عمر داغستاني والشيح حمزة أمين حلواني مختارات المفضل الضبي التي اختارها من شعر العرب للمهدي بطلب من أمير المؤمنين المنصور فجاءت في نحو مئتي صفحة متوسطة مشكولة كلها ما خلا الشرح الخفيف الذي علقه عليها الشيخ أبو بكر الموما إليه والمفضليات غنية عن التعريف وهي تطلب من مكتبة مصطفى أفندي البابي الحلبي وأخويه في مصر بستة قروش. تقرير المجمع العلمي الشمثوني السنوي من أعظم المجامع العلمية في الولايات المتحدة المجمع الشمثوني الذي أُسس في نيويورك سنة 1846 بمال جاد به رجل اسمه سمثون ولا تزال أعماله في نجاح سنة بعد سنة كما يفهم من تقاريره السنوية وأمامنا الآن تقريره عن سنة 1906 شرحت فيه الجمعية ميزانيتها التي بلغت مئات الدولارات وذكرت أسماء من تبرعوا لها بالأموال وفيه مقالات كثيرة لمشاهير كتاب الطبيعة والكيمياء والفلك والحيوان والنبات من أميركان وفرنسيس وغيرهم مما تنشر مثله كل سنة ليكون عوناً للناس على التعلم والاستنارة والتقرير يقع في

نحو 550 صفحة جيد الطبع جداً نفيس الورق وهو حاو لرسوم علمية ومصورات جغرافية كثيرة فنثني على رجال هذا المجنمع بما هم أهله ونتمنى لشرقنا المسكين ولو مجمعاً واحداً من مثل مجمعهم النافع. نادي دار العلوم أحسن هذا النادي بأن طبع ما ألقي فيه من الخطب هذا الشتاء في موضوع اللغة العربية وتسميته المسميات الحديثة فإن فيها من المباحث ما هو جدير بأن تتناقله كل يد فقي كل بلد وقد قرر النادي حلاً لهذا الإشكال أن يبحث في اللغة العربية عن أسماء المسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة فإذا لم يتيسر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية. فنرجو أن يوفق القائمون بهذا المشروع إلى تأليف المجمع الذي ينوون تأسيسه للنظر في هذا الغرض الشريف.

سير العلوم والاجتماع

سير العلوم والاجتماع التعليم والذكاء من المعروف الشائع أن التعليم يزيد الذكاء حدة ويقوي الذهن إلا أن طبيبين نطاسيين قد بحثا بحثاً طويلاً في ذلك فتبين لهما أن الولد ينسى بعد خمس سنين من سنه ما تعلمه من قبل نسياناً تاماً فالذاكرة كما يتوفر على تنميتها في المدارس لا يبقى فيها شيء بل أن العقل لا يحاول أن يعرف ما يجهل وقليل من الأولاد من حازوا من العارف قسطاً مما لم يتعلموه في المدارس وما يعرفونه كله مبادئ ويزول أثره من الذهن في الغالب. وقد سأل أحد الدكتورين تسعة وثلاثين تلميذاً من الصفوف العالية وتسعة وثلاثين تلميذاً من الصفوف الواطئة وثمانية وخمسين تلميذاً من الكليات أسئلة كلها بسيطة فلم يكن الجواب إلا التسجيل عليهم بالجهل المطبق وفي المسائل التي كان ينبغي لها شيء من صحة الحكم كان سكوتهم عليها محزناً فاستنتج من ذلك أن التعليم لا يساعد إلا قليلاً جداً على تقوية العقل وينبغي إصلاحه على صورة عملية أكثر من الآن. وهذا الرأي موافق لرأي هارون غورست الذي يرى المعارف المدرسية للذكاء أشبه بسم حقيقي ولذلك يطلب أن يكون الامتحان محدوداً معيناً وأن كل من يعاني صناعة بموجب شهادة بيده يجب عليه أن يفحص أمام جماعة من المحكمين كل خمس سنين وما هذا إلا لأن التعليم اليوم يقتصر فيه على الإكثار من الكتب والإكثار من الامتحان الشفاهي وتعلم الألفاظ والجمل وإهمال التزود من الأفكار وتمرين العقل على التفنن فيها وإيجادها. التفروزين هو نبات ينبت في جزيرة سيلان وكولومبيا وأميركا الوسطى وهو يستعمل للصباغ ويخرج منه نوع صباغ من النيلة ويكون منه مسهل ويستعمله الأميركان لتدويخ السمك ليسهل صيده وقد قرأ أحدهم في مجمع العلوم الباريزي تقريراً جاء فيه أن هذا النبات من السموم الشديدة وأن الصيادين لا يسكرون به السمك بل يسممونها ورأى أن يناقشوا الحساب في استعماله ويمنع بيعه إن أمكن. بعد الشمس ثبت أن الشمس بعيدة عن الأرض أكثر مما كان معروفاً فبعد رصدها 2600 مرة

بالتلسكوب و11000 مرة بالصور الشمسية تبين أن الشمس بعيدة عنا 149471000 كيلومتر وكانوا يقولون منذ عهد كبلر أنها بعيدة 148500000 كيلومتر والفضل في هذا التحقيق يرجع إلى ما اكتشفه المرصد الفلكي في برلين سنة 1898 من نجم مذنب صغير لم يكن معروفاً من قبل سموه (ايروس) وهو يقترب من الأرض بعد الأحايين فساعد هذا النجم على حساب بعد الشمس. الأرق أثبت أحد روّاد الإنكليز خلال صعوده جبل كون كون في بلاد كشمير شمالي الهند أن النوم على علو سبعة آلاف متر يقل ويحالف السهاد المقل لأن الأوكسجين يندر والتنفس يصعب فلا يلبث المرء أن يغفى حتى يستيقظ كالمذعور. أغنى كلية أغنى كلية في العالم هي كلية هارفرد الجامعة في الولايات المتحدة فإن رأي مالها خمسة وعشرون مليون جنيه فإذا أضيف إليها ثمن أراضيها وأماكنها وخزائن كتبها ومستشفياتها بلغ مجموعها نحو ثمانية وثلاثين مليوناً وهذه المدرسة بعيدة عن مدينة نيو كبردج. وفي هذه الولاية يُحظر بيع المشروبات الروحية. ويقبض رئيسها راتباً في السنة ستة آلاف دولار وكل أستاذ ثمانمائة جنيه وكل مساعد أستاذ أربعمائة جنيه وفيها نحو 500 أستاذ و 4000 طالب. تبرج النساء كتب باولو لومبروزو العالم الإيطالي مقالة في هذا الموضوع قال فيها أنه ثبت أن أصل التبرج المشهود في النساء كان في أول الأمر مألوفاً لهن فأخذن يعمدن إليه استمالة لقلوب الرجال وما زلن في تفنينهن حتى صار فيهن على كرور الأعصار عادة وجبلة. فقد شوهد أن النساء المجنونات يفقدن لأول عهدهن بالجنون الرقة والحشمة والطهارة على أن حب التبرج يبقى مغروساً فيهن فيحرصن عليه. والتبرج مما عمت به البلوى كل النساء بدون استثناء فتراه عند الأميرة الكبيرة كما تراه عند الزنجية الحقيرة ولهن في التفنن بذلك أساليب حتى أن إحدى الغنيات الكبيرات في أميركا أراد أن يزورها ذات يوم أحد الأمراء من بعض الأسرات المالكة فتأهبت لذلك بأن أوصت على قفطانين جميلين إحداهما وردي

والآخر أبيض صرفت فيهما ألفي جنيه. ولكن كيف السبيل إلى أن تظهر أمام الأمير بالقفطانين في آن واحد فأوعزت إلى خادم لها وهي على المائدة أن يلقي عليها شيئاً من المرق من صفحة يحملها فعندها انسلت إلى غرفة تبرجها ولبست القفطان الآخر فتم لها ما أرادت من الظهور أمام الأمير في ثوبين ثمينين في آن واحد. وليست المرأة محبة للتبرج في جميع طبقات المجتمع الآن بل كانت كذلك منذ العصور المتطاولة في زمن يكاد يكون فيه اختراع السكة والمحراث جديداً أي في العصر الذي كان الإنسان يسكن فيه المغاور. فقد عثروا في بعض الكهوف على أقراط وحلق وأساور. وترى النساء المتوحشات لا يبالين بالألم ويفادين بكل عزيز في سبيل تبرجهن فيضعن الوشم على أكثر أطراف أجسمهن تأثراً كالفم والصدر ويثقبن الآذان وأنوفهن وشفاههن ويدخلن في لثاتهن قطعة من الخشب ويقلعن أسنانهن ويضغطن على رؤوسهن لتكون مستطيلة ويصغرن أرجلهن تساوي في ذلك الشابات والعجائز وإنك لترى بنات الستين يذكرن أيام شبابهن ولا يقصرن في التبرج كما ترى الطفلة الصغيرة أول ما تفتح عينها عليه أنواع التبرج والزينة. ومن غريب ما شاهد في تبرج النساء أن امرأتين في إحدى مستشفيات المجاذيب توصلن إلى أن يضعن على وجهيهما الأبيض والأحمر مع أن يُحظر على المجذوبات كثيراً أن يُؤتى إليهن بشيء من الذرور البيض والعطور وغيرها من أدوات الزينة فأخذت إحداهن أو بعضهن ينحتن بأسنانهن كلس حيطان غرفهن وجمعنه فصبغن به وجوههن أبيض ناصعاً أما الحمرة فعمدت إحداهن إلى قميص وهو قميص المستشفى وكان فيه بعض خيوط حمر فأخذت تنسلها حتى أتت عليها ثم وضعتها في إناء وصبت عليها ماء فانحل صباغه فصبغت وجهها وقد توصلت إحدى مختلات الشعور إلى أن صنعت لنفسها مشداً من أسلاك الحديد تشد به خصرها فكانت تذنب مرات عمداً حتى تسجن في مكان بعيد عن رفيقاتها وراء حائط من أسلاك الحديد فتنسل كل مرة سلكاً حتى تجمع لها ما أرادت. وقد جرب بعضهم إدخال ثلاث أصناف من الألبسة إلى إحدى مستشفيات المجذوبات أعلى وأوسط وأدنى وقرر أن من كانت منهن حسنة السلوك تعطى الثوب الأعلى فما كان منهن كلهن إلا أن أحسن سلوكهن ليأخذن ثياباً من النمط الجديد. النساء وإن يكن لا يرين في التبرج حرجاً عليهن إلا أنهن لا يردن أن يقال عنهن

متبرجات ويتظاهرن بأنهن لا يصرفن في التبرج أوقاتاً كثيرة مع أن أكثر أوقاتهن تصرف في إعداد معدات التبرج وما شأنهن في ذلك إلا شأن أولئك الشعراء الذين يحذفون ويثبتون من قصائدهم عشرين مرة ثم يدعون أنهم ارتجلوها ارتجالاً. ولطالما تحمل النساء صنوف الأوجاع في سبيل ما يورثهن بهجة ويعددنه من آيات التبرج مثل أولئك الصينيات اللائي يضعن أرجلهن في قوالب خاصة ليصغر حجمها ولكن ذلك يورثهن أمراضاً وإصابات أقلها أنهن يمشين قفراً مشية الكركي الأشل. وكذلك النساء في شبه جزيرة ملقة فإنهن يرين من آيات الجمال أن يكون عنق المرأة طويلاً فصنعن لذلك كلابات يضعن فيها رؤوسهن ليورثن بذلك طولاً لأعناقهن حتى تصير كأعناق الزرافة. والنساء الزنجيات في غانية الجديدة وبريطانيا الجديدة في المحيط الكبير يقعلن أسنانهن ليظهرن أكثر جمالاً بزعمهن بل أن النساء في تونس يطعمن الأرز ليصبحن كالأوز السمين بحيث لا يستطعن الحركة وكذلك نساء الإفرنج يتحملن كل مشقة في سبيل وضع المشد على خصورهن. وعلى كثرة تحذير الأطباء لهن عاقبة ضغط المشد ما برح أكثر النساء يستعملنه ويصبن بأمراض الكبد وتشوه الجسم وأحياناً يفضي بهن إلى الموت وهن لا ينتهين بل يصبرن على آلام المشد صبر أيبوب على بلواه ويكدن لا يتنفسن طول ليلة بأسرها وهن مع الرجال في الأندية. كل هذا مما يستدل به على ضبط النساء لهواهن وقمعن أنفسهن. وهذا استنتج بأن التبرج مطلوب للنساء وأنهن في حل مما يقمن به ولأأنهن كن قبل ستمائة سنة لا يقرأن ولا يكتبن في أوروبا ومع هذا كن يعنين بالتبرج ولهن فيه أساليب اخترعنها وتقلبن فيها بحسب الأزمان شأن النساء الموغلات إلى اليوم في التوحش من الأمم فإنك تراهن قد يغيرن أساليب التبرج وإن كانت آنيتهن وماعونهن وخرثيهن على الصورة الأصلية. فالتبرج ضروري للاجتماع يورثه بهجة ونشأة ولولا النساء وتبرجهن ما تجلت لعينيك البيوت والقصور ذات بهجة فالنساء بتبرجهن يدخلن السرور على القلوب والنظام على الأماكن وإذا قارنت بين بيت لا نساء فيه يزدنه بهجة ويزينن غرفه ومقاعده وحوائطه وبين دير ليس فيه إلا الضروريات من لوازم الحياة تجد الفرق بين التبرج وعدمه وزينة النساء ونقيضها مثل الشمس ظاهراً فالتزين والتبرج مطلوبان على كل حال في حياتنا

الاجتماعية ولها نفع عظيم لأن فيهما من اللذة وسعادة العيش الخضال. مآكل العظماء ومشاربهم بحثت المجلة الباريزية فيما يأكله العلماء والكتاب وارباب الفنون في إنكلترا فقالت أن من صفات الإنكليز والإيكوسيين والغاليين والإيرلانديين ممن تتألف منهم بريطانيا العظمى في الأكثر الثبات وتحمل شدة الهواء فيرون في الأغلب التنزه في الهواء الطلق من الواجبات الصحية مثال ذلك اللورد أفبوري المعروف باسم السير جون لوبوك فإن قوة جسمه ناشئة عن جمعه الرياضات الطبيعية والسياحة إلى الاعتدال والتقلل وقال إن سبب طول حياته عنايته بقواعد فن الحياة فيأكل مآكل بسيطة قليلة ويتناول شيئاً قليلاً من الكحول وأنه يكاد لا يتناولها ولا يدخن وهو مشهور بالسياسة والعلم يتعب كثيراً في أعماله وعمره أربع وسبعون سنة. وقال السير ويليام كروكس وهو من كبار العلماء الذين لا ينفكون عن البحث والدرس والتأليف والاختراع وهو الآن في الخامسة والسبعين من عمره أنه يأكل بسرور كل ما يستطيبه على المائدة ولكن باعتدال ويشرب الخمر ويدخن وكانت صحته في جميع أطوار حياته جيدة جداً. ومثله غي عدم الكلال من العمل فريدريك هاريسون العالم المؤرخ الفيلسوف وهو اليوم في السابعة والسبعين من عمره يقتصر مأكله على اللحم ولكنه مقل في تناوله كما يأكل البقول واللبن والبيض. قال وأرى أن سبب الهرم العاجل الذي يصيب الطبقة العالية الغنية هو ما يتناولونه من المآكل لا ما يتناولونه من المشارب من بلغوا سن السبعين يجب عليهم أن يقللوا كمية طعامهم إلى النصف مما كانوا يأكلونه في فتوتهم. وأول قاعدة في الصحة جربت عليها هي أن أخرج من المائدة بدون أن تكون قابليتي للطعام قد سكنت. وأنا مسلم من حيث تناول الشربة الروحية فلا أتناولها طول نهاري اللهم غلا في المساء فإني أتناول قدحاً أو قدحين من خمر ألمانيا الأبيض أو غيره ولكن لا على أنه يعين القوى الطبيعية أو العقلية. ولا يسعني إلا ن أمدح الاعتدال في تناول الشاي والقهوة في النهار لا في الليل أو المساء. وأنا لا أدخن وأمقت هذه العادة وأعدها مما يتقزز منه ويضر بالحاضرين. فالتدخين كاستعمال السعوط والسكر وحلف الأيمانات كلها من العادات الفاسدة الضارة. وأنا أعرف كثيراً من الناس أثرت في صحتهم عادة استعمال التدخين. أنا اليوم في السابعة والسبعين من عمري لم أمرض في حياتي منذ كنت في التاسعة وقد أصبت

بالحميراء وما قط عزفت نفسي عن العمل والكتابة فأنا اليوم أقدم المفروض علي للمطابع من الكتابة بنشاط أكثر من نشاطي أيام حياتي الماضية وعندي أن طول حياتي كان لتقللي وعنايتي بالرياضة كل يوم في الهواء الطلق وربما صعدت الجبل إذا اتسع لي الوقت وما قط تعبت من العمل ولا عملت بدون سرور. وقال الكونت روبرتس وهو الآن في السادسة والسبعين خدم الجندية وقاسى الأهوال في حياته وأكل الخشب وشرب العكر وتعرض للملاريا والأمراض وحضر حصار المدن ومعاركة الأبطال ومع هذا فهو في أجود صحة: إن سبب طول حبل أجله ناشئ من أنه يدخن قليلاً أو لا يدخن وأنه يأكل ويشرب باعتدال. والسير ويليام ميكايل روزتي هو الآن في التاسعة والسبعين من عمره عالم وأديب سئل عن القواعد التي يراها لدوام الصحة فقال أن الاعتدال في مأكله ومشربه هو سبب صحته وقد اعتدت التدخين منذ صباي وأنا أعد مكثراً منه وأرى أنه يشوش علي الهضم في الأحايين ولكني لست مصاباً بسوء الهضم وقال السير شارل ستانلي وهو من كبار الممثلين والمغنين وعمره الآن 74 سنة أنه يأكل كل ما يشتهي ويشرب ويدخن كذلك لكن باعتدال. قال المستر جورج برنارشواف وهو في الثانية والخمسين من عمره خطيب كاتب أديب ناقد قصصي وهو ممن يركب الدراجات ويعاني السياحات والسباحات: إني لم أتناول اللحم منذ 27 سنة وإني لا أشرب الكحول وأرى أنها ضارة في أرباب الأقلام فهي ليست مقوية على العمل بل مخدرة وشاربها لا يُفتح عليه بالأفكار بل يضيع منها أما التدخين فلا أتعاطاه وأراه فقذراً. وترى العقيلة الين تري الممثلة وهي الآن في الستين ولكنها إذا ظهرت على محل التمثيل فلا تظن إلا أنها في السابعة عشرة من عمرها إن أحسن قاعدة للصحة أن يأكل الإنسان في أوقات معينة قالت حاولت أن أنقطع مرة عن اللحوم فضعف جسمي بعد شهر ثم حاولت مرة أن أمتنع عنها فلم أقدر فظهرت لي صحة ما يقال من أن ما ينفع واحداً قد يكون سماً لغيره ولا أتناول مشروباً على الطعام وأنا على ثقة من أن الماء أحسن شراب ولكني أشرب كمية قليلة من الخمر والويسكي على أنني أراهما أضر على الإنسان من طبيخه المملوء بالخرطوش في أيدي أناس لا يحسنون أن يضبطوا أنفسهم ولا أدخن وإن حاولت التدخين. وقال الأستاذ الفرد روسل والاس وهو من أبناء التسعين وخصيم داروين في مذهب النشوء اشتغل بمذهب الانتخاب الطبيعي والجغرافية الجيولوجية وبحث

في المادة والصحة الاجتماعية والتنويم المغناطيبسي فقال أنه إلى السبعين من سنه كان يأكل كما يهوى وكان هضمه جيداً ثم ضعف هضمه فاضطر أن يغير نظام طعامه ويقلل من كميته فاتقى بذلك مرض الربو المزمن وكان لأول أمره يشرب المشروبات الروحية باعتدال وفي الخامسة والعشرين من عمره امتنع عنها كل الامتناع فجادت صحته وقال أن التجارب والنظر دلته على أن المرء إذا قرب أن يشيخ ينبغي له أن يمتنع عن الكحول كل الامتناع لأنها تضر به لا محالة وأن يقلل من الطعام وأنا أتناول الشاي والقهوة وأحسن أوقات عملي في الصباح والمساء بعد أن أتناول كأساً من الشاي ومدة صباي لم أدخن قرفت من التدخين لما رأيت من سوء أثره في المدخن. نوم النباتات ويقظتها يختلف ميعاد نوم النباتات بحسب أجناسها فاللبلاب الأحمر يفتح عند الغسق ونبات زهر الربيع يزهر في الشمس عند مغيبها وأزهار النوفر (عرائس النيل) تطبق زهرتها الملونة في آخر النهار وتغوص في الماء في الليل. الثقاب في يابان يشتغل في صنع الثقاب أو الكبريت في بلاد اليابان 130 ألف نسمة فتصدر اليابان منه ما قيمته ستة وعشرون مليوناً وربع مليون فرنك هذا مع أن المواد الأولية لصنعه لا توجد في يابان ومع تشدد اليابانيين في أن لا يوقدوا المصابيح التي يوقدونها لأجدادهم إلا من شعلة نار صافية ما برح استعمال الثقاب يزداد في الاستعمال بين اليابانيين. الممثلون في أميركا يشكو الممثلون في أوروبا من قلة أرباحهم بالنسبة للممثلين في أميركا فإن كاروزو يتناول خمسمائة ألف فرنك للتمثيل ثماني ليال وأكثر من مائتي ألف فرنك لأغان تغنى أمام آلة الغرامافون ومثل ذلك في الليالي الخاصة ثم أنه يأخذ في الأسبوع ربع مليون فرنك لنفقته الخاصة في الفندق والمطعم ويربح الممثل بادرفسكي في كل شتاء 625 ألفاً وكويليك نصف مليون وبالنظر لكثرة المتفرجين في أميركا ولغلاء أجور التمثيل فالليلة تربح في العالم الجديد عشرة أضعاف ما تربح في العالم القديم. تفاحة هائلة

عرف علماء النبات أكبر شجرة تفاح في العالم وهي في شسهير من ولاية كنتكتيت في أميركا الشمالية غلظتها خمسة أمتار وعلوها خمسة وعشرون متراً وعمرها مائتا سنة وهي تعطي اثنين وخمسين هيكتولتراً من الثمر في السنة وخمسة من أغصانها تعطي ثمراً سنة واحدة والثلاثة أغصان الباقية تعطي في السنة التالية إلا أن تفاحها صغير ويكاد يكون خالياً من الطعم. سمن قديم عثر أثنءا الحفر في إحدى المحافر في إيرلاندا على عدة أواق من السمن تبين بالفحص أنه قديم جداً ظاهره أبيض وكأن فيه حبوب وباطنه استحال كتلة شمعية وإن ما وجد ثمت من جلود البقر أزال كل شك في أن السمن أصلي لا شائبة فيه. أطباء يابان راجت صناعة الطب في يابان وأي رواج فبينا تجد في فرنسا وهي عش الأطباء خمسين طبيباً لكل مئة نسمة ترى في اليابان تسعين طبيباً لكل مئة ألف وقد زاد أطباء يابان في سنة 1907 وحدها 750 طبيباً. وقف على العلم وقف حسن بك زايد من سراة مصر زهاء خمسين فداناً من أجود أطيانه في المنوفية على مشروع الجامعة المصرية. وهذه الأطيان تساوي أحد عشر ألف جنيه بارك الله بمانحها وأكثر فينا من أمثاله. هبة محمودة تبرع أحد محسني الأجانب في مصر بخمسمائة جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية ولم يحب أن يذكر اسمه مثل الذي كان تبرع لها في السنة الماضية بخمسة آلاف جنيه ولم يحب أن يذكر اسمه. مدرسة صناعية بالفيوم نجز بناء مدرسة صناعية للبنين في الفيوم كلفت عشرة آلاف جنيه جمعها الأهلون ومنها ألف جنيه إعانة من الأوقاف ومدة الدراسة فيها ست سنين ثلاث للقسم العلمي وثلاث

للصناعي والصنائع التي تعلم فيها النقش والتجارة والبرادة والخراطة والحدادة والسروجية وستدفع المعارف 850 جنيهاً إعانة سنوية لإدارتها ويدفع الأهلون 350 جنيهاً لهذا الغرض. مناجم البترول مناجم البترول كمناجم الفحم الحجري آخذة بالنضوب شيئاً فشيئاً فقد نزل معدل ما يستخرج من مناجم أبالاش وأوهيو وفيرجينيا والتكساس ولوزيانا في الولايات المتحدة كما قل معدله في غاليسيا في بلاد النمسا وكذلك الحال في القافقاس من بلاد الروسي فإن ما يستخرج منه نزل إلى ثلث ما كان يستخرج منه باديء بدء. ألياف الخشب أخذوا ينسجون من ألياف الخشب نسيجاً يقوم مقام القطن والكتان ويكلف أقل منهما في الثمن بل أقل من الحرير كما أخذوا ينسجون قماشاً أشبه بالصوف من بعض مواد يمزجونها بماء البحر. الزرنيخ والحمى أثبت أحد الأخصائيين من الأطباء أن الزرنيخ هو الدواء الوحيد الذي يقي من الحمى الصفراء فقال أن ألفي شخص في أورليان الجديدة استعملوا الزرنيخ سنة 1905 فنجوا كلهم من هذه الحمى الخبيثة وهم معرضون للعدوى من كل جانب. مجهر جديد اخترع مجهر (ميكروسكوب) جديد ترى فيه أدق الدقائق بحيث يكون الانتفاع به ضعفي المجهر الحالي فيه ترى كيف تكبر الجراثيم وكيف تسير العدوى وكيف يسري اللقاح في الجسم. التصوير البارز اخترع أحدهم طريقة للتصوير الشمسي البارز يقولون أنها ستكون داعية لتغيير التصوير ظهراً لبطن إلا أن الصور التي ترسم على هذا النحو لا تصور الطبيعة في منظرها الحقيقي كله.

عداد جديد كان باسكال أول من اخترع العداد وما زال المشتغلون فتوفرين على تحسينه وآخر عداد اخترع كان لمهندس روسي ظهرت فوائده العديدة لأنه يعد من الأرقام من عشرة إلى عشرين في وقت واحد ولا يحصل فيه خطأ ولا يتعب عقل المشتغل به. القطط والكلاب أخذت المحاجر الصحية منذ مدة تتوفر على إبادة الجرذان والفيران في السفن لأنه تبين أنها ناقلة لعدوى الأوبئة للبشر وقد انتبه أحد أطباء نيويورك إلى الضرار التي تلحق من القطط والكلاب بنقلها في وبرها بعض الجراثيم والديدان التي تجلب الضرر على الصحة وأورد على ذلك عدة أدلة منها أنه حدث سنة 1887 وباء كبير بين القطط في لندرا فكان القط يحمل إلى أخيه العدوى وبالتالي تسري إلى الأولاد الذين يلعبون مع تلك القطط وحدث في سنة 1901 أن الطاعون اشتد في الإسكندرية وما كانت جراثيمه تنتقل أولاً من ملاح إلى ملاح على الباخرة إلا بواسطة قط كانوا يدللونه ويحبونه. وترى بعض الأمم المتمدنة الآن أن تعدل عن حب القطط والكلاب حباً بالتوقي وحرصاً على الصحة وقد بدأن ألمانيا فحظرت دخول والكلاب والقطط إلى الصيدليات ويا حبذا لو حظر دخولها إلى المجازر والمخابز والصيدليات والمطاعم. بطائح أميركا ستوافق حكومة الولايات المتحدة على تجفيف البطائح في ولاياتها فيكون منها من الأرض القابلة للزراعة ما يكفي لإعالة اثني عشر مليوناً من النفوس على أن يكون لكل واحد منهم ستة عشر هكتاراً من الأرض وتساوي هذه الأطيان ملياراً من الجنيهات ويستلزم ذلك إنفاق عشرة ملايين فرنك. حفظ المخطوطات بعد أن احترقت مكتبة تورين في إيطاليا وذهبت فيها ألوف من المخطوطات النادرة أخذ أهل العلم في أوروبا وأميركا يفكرون في طريقة لحفظ المخطوطات لأنها تكون في الغالب غير متعددة فإذا وجد في إحدى المكاتب مخطو يعد في نظر العلماء كنزاً لأنه لا مثيل له

وقد ارتأى بعضهم في نقل صورة من كل مخطوط نادر تطابق الأصل بشكلها وخطها إلا أن هذا العمل يحتاج إلى نفقات طائلة وتقدم المستر غولي إلى حكومة الولايات المتحدة مؤخراً أن يجعل مصفحات (كليشهات) المخطوطات وأمهات الطوابع والنقود في مكان واحد وأن يجعل منها مسودات (بروفات) يتناولها العلماء ويستعيرونها للاستفادة منها لقاء ثمن بخس والغالب أن مكاتب أوروبا تضطر بعد حين إلى الجري على هذه الطريقة لحفظ الكتب النادرة. مرض جديد اكتشف مرض في إفريقية جديد اسمه البالري ما يشبه النوام أي مرض النوم وهو عبارة عن نقاعيات تصيب الحيوانات كالخيل والكلاب والحمير والقطط والخنازير فيصاب الحيوان بنزلة في أنفه وأذنه فيضعف في الحال. ويشتد هذا المرض بالقرب من الأنهار بحيث لا يتيسر تربية هذه الحيوانات إلا على بعد خمسة عشر كيلومتراً من المياه ولم يجدوا له حتى الآن دواء. سرعة البواخر يتبارى كل من إنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة في سرعة البواخر والبوارج التي تنشئها كل واحدة منهن بحيث يتساءل العارفون قائلين: أما لهذه المباراة في السرعة من حد تقف عنده. أما زيادة السرعة فلا تتأتي إلى بزيادة القوة المحركة فإن قطع اثنتي عشرة عقدة وحمل ستة عشر ألف طن تقتضي قوة 4500 حصان وسرعة خمس عشرة عقدة تقتضي قوة 8700 حصان و20 عقدة يلزم لها 20000 و22 عقدة يقتضي لها 25000 وهكذا يزيد معدل الإنفاق زيادة هائلة. آلة للكتابة اخترع أحدهم آلة سماها الستينوتبيا وهي تنقل الكلام بدون استعمال إشارات الاختزال المعروفة وهذه الطريقة تلغي عدة آلات اخترعت من هذا القبيل لنقل الكلام فيقرأ الإنسان الكلام فيها بسرعة كأنه يقرأ إملاءً صحيحاً أو طبعاً حجرياً عادياً. خسائر مصر

فقدت مصر في الأشهر الثلاثة الأخيرة ثلاثة رجال كان لهم أثر مهم في الخطابة والكتابة والتأثير وهم إبراهيم بك اللقاني ومصطفى باشا كمال وقاسم بك أمين. زوجان معمران احتفل في إحدى قرى بلاد المجر بمرور مائة سنة على زواج رجل عمره الآن 126 سنة وامرأة عمرها 116 سنة وقد بلغ عدد أولادهما وأحفادهما وأحفاد أحفادهما 712 نفساً وهنأهما الإمبراطور فرنسيس يوسف بعيدهما المئوي. الكلاب والكلب أحصيت الكلاب في باريز وضاحيتها فكان عددها 163352 كلباً أصيب بالكب منها 30 عضت 308 أشخاص لم يمت منهم أحد وبذلك ثبت أن العضات البشرية تشفى بأقل سرعة مما تشفى عضة الكلاب. أشجار أميركا قدروا أنه لا تمضي خمسون سنة حتى لا يبقى في أميركا الشمالية صقع مشجر لأن المقطوع منها يربى على المغروس فمعدل النمو 23 ونصف في المئة ومعدل النقص 94 في المئة وبعد خمس وعشرين سنة يفنى الصنوبر الأصفر ذو الورق الطويل كل ذلك لما تقتضيه الصناعة هناك من الأخشاب. الحمى التيفوئيدية كان الأطباء يقولون أن إغلاء الماء قبل شربه خير وقاية من الحميات والأوبئة إلا أن أبحاث اللجنة الصحية في نيويورك أدت إلى أن الحمى التيفوئيدية فيها قد انتشرت في الناس بواسطة الذباب إذ ثبت أن ظهور الذباب يسبق انتشار هذه الحمى كل سنة بأيام قلائل وثبت لديها أن هذا المرض الخبيث يكثر حيث يكثر الذباب في المستودعات البحرية الكبرى وعلى الأرصفة ورأت بالمجهر (الميكروسكوب) على رجل كل ذبابة وفمها ألوفاً من الجراثيم الخبيثة فإذا زارت ذبابة وجهك أو طعامك ولو قليلاً تترك فيه أثراً لها وذكرى سيئة وتبقى جرثومة معدية تتبعها حمى مهلكة. الجراد في أفريقية

ذهب أحد الإنكليز في إفريقية الجنوبية إلى بعض الأماكن التي انتشر فيها الجراد انتشاراً هائلاً فعمي عليه طريقه ولم يعد يعرف أين يذهب وقد حسب الجراد الذي سقط على ساق شجرة واحدة فكان خمسمائة جرادة فإذا انتشر الجراد في قطر بهذه الكثرة لا ينقضي نصف نهار حتى يجرد جميع غلاتها وثمراتها ويجعل حاصلاتها وخيراتها أثراً بعد عين. مدرسة للأمهات أسس بعض أعيان الإنكليز وأطبائهم لجنة ناطوا بها تعليم الأمهات الفقيرات اللاتي لم يسعدهن الحظ أن يتعلمن في صغرهن ما ينفعهن في كبرهن. والتعليم الذي يعلمنه تعليم عملي يلقى عليهن خطباً تدور على تربية الأطفال وحفظ الصحة وتدبير المنزل وتفصيل ثياب أزواجهن بحيث تصلح ليلبسنها أبناؤهن ثم أن الآباء يذهبون أيضاً على تلك المدارس مرة في الأسبوع وتلقى عليهم دروس تنفعهم وتنفع ذويهم كالتي تلقى على أزواجهم وقد أسفرت هذه المدارس عن نفع عظيم في التربية وقللت من الوفيات بين الأطفال ويفكر رجال الإنكليز أن يكثروا من هذه المدارس في جميع أصقاع إنكلترا. صحافة ألمانيا وأميركا بلغت الصحافة في ألمانيا أرقى درجات الارتقاء ففيها بحسب إحصاء أخير 8668 جريدة ومجلة منها 2894 صحيفة تنشر باللغات الأجنبية وأقدم جريدة في ألمانيا هي جريدة فرانكفورت وأنشئت سنة 16145 وجريدة ماكوبورغ أنشئت سنة 1626. ويعجب المراقبون للحركة الاجتماعية اليوم من ارتقاء الصحافة الأسبوعية في الولايات المتحدة وهي الجرائد التي تصدر أيام الآحاد فإن ما تطبعه كل واحدة منها يختلف من نصف مليون نسخة إلى مليون وفي نيويورك وحدها من هذا الضرب من الجرائد 15 جريدة وفي فيلادلفيا 11 ومثلها في شيكاغو وهي من أحسن المجلات في الحقيقة لأنها تصدر في مئة صفحة وتحتوي على أربعين صفحة إعلانات والباقي مواد علمية واقتصادية واجتماعية وسياسية وأدبية وغيرها من كل ما يرقي العقل ويهدي السبيل. محاكم الأطفال تألفت في روسيا لجان لحماية الأطفال تقوم بوظيفة مستنطق وهي مؤلفة من أساتذة وقسس

فإذا ارتكب طفل ذنباً تنظر في جرمه لتحقق فيما إذا كان ارتكبه عن جهل أو خبث فإذا رأته مسؤولاً عما جنت يداه تحيله إلى المحاكم وإذا كان ارتكب ما ارتكب بدون تمييز ترسله إلى الإصلاحية على أن حكومة ألمانيا تفكر في إنشاء محاكم نظامية للأطفال. الكحول والجرائم ثبت لأحد قضاة فرنسا أن الجرائم تزيد في أكثر مقاطعاتها على نسبة ازدياد المشروبات الروحية وأن معدل السن التي كانت ترتكب فيها الجرائم كان ثلاثين فأصبح اليوم عشرين سنة وأن عدد الانتحار يزيد وأن كثرة الجنون زادت زيادة هائلة فكان منذ خمسين سنة في فرنسا 33 مختل الشعور في كل مئة ألف ساكن فأصبح سنة 1905 يبلغ 142 بل بلغ في بعض المقاطعات 234 والسبب في ذلك أنه كان في فرنسا خمارة واحدة لكل 113 ساكناً سنة 1880 فأصبح هذه السنة خمارة لكل 78 شخصاً.

رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد

رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتابه المنثور والمنظوم ومن الرسائل المفردات رسالة عبد الحميد بن يحيى إلى عبد الله بن مروان حين وجه لمحاربة الضحاك الخارجي في تعبية الحروب فإنه يقال أنها لا مثل لها في معناها: أما بعد فإن أمير المؤمنين عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي المتسكع في حيرة الجهالة وظلم الفتنة ومهاوي الهلكة ورعاعه الذين عاثوا في الأرض فساداً وانتهكوا حرمه لاستخفافاًُ وبدلوا نعم الله كفراً واستحلوا دماء أهل سلمه جهلاً أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك وعوام شؤونك ودخائل أحوالك ومضطر تنقلك عهداً يحملك فيه أدبه ويشرع لك عظته وإن كنت والحمد لله في دين الله وخلافته بحيث اصطنعك الله لولاية العهد مخصصاً لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك. ولولا ما أمر الله به دالاً عليه بتقدمة المعرفة لمن كانوا أولي سابقة في (الدين) وخصيصي في العلم لاعتمد أمير المؤمنين منك على اصطناع الله إياك بما يراك أهله في محلك من أمير المؤمنين وسبقك إلى رغائب أخلاقه وانتزاعك محمود شيمه واستيلائك على تشابه تدبيره. ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم ولقنوه إلهاماً من تلقائهم ولم يتعلموا شيئاً من عند غيرهم لنحلناهم علم الغيب ووضعناهم بمنزلة خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته وفردانيته في إلاهيته واحتجاجاً منهم لتعقب في حكمخ وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته على سابق مشيئته ولكن العالم الموفق للخير المخصوص بالفضل المحبو بمزية العلم ادركه معاداً عليه بلطيف بحثه وإذالال كنفه وصحة فهمه وهجر سآمته. وقد تقدم أمير المؤمنين إليك آخذاُ بالحجة عليك مؤدياً حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك وما ينظر الوالد المعني الشفيق لولده. وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل شيء قبيح يهش له طمع وأن يعصمك عن كل مكروه حاق بأحد وأن يحصنك من كل آفة استولت على أمريء في دين أو خلق وأن يبلغه فيك أحسن ما لم يزل يعوده ويريه من آثار نعمة سامية بك إلى ذروة الشرف ومنجحة لك ببسطة الكرم لائحة بك في أزهر معالي الأدب. والله استخلف عليك وأسأله حياطتك وأن يعصمك من زيغ الهوى ويحضرك دواعي التوفيق معاناً على الإرشاد فيه فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو.

اعلم أن للحكمة مسالك تقضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكاً وركب خيارها قاصداً إلى سعة عاقبتها وأمن سرحها وشرف عزها وأنعها لا تعاف بسخف الخفة ولا تنسى بتقريظ الغفلة ولا يتعدى فيها بأمن حد وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها من غير تعب البحث في إدراكها ولا متطاول المنال لذراتها بل تأثلت منها أكرم معانيها واستخلصت منها أعتق جواهرها ثم شمرت إلى لباب مصاصها وأحرزت منفس ذخائرها فأقعدها ما أحرزت ونافس فيما أصبت. واعلم أن احتوائك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك مؤثراً لها واصطبارك على طاعته وإعظام ما أنعم به عليك شاكراً لها مرتبطاً للمزيد بحسن الحياطة له والذب عنه أن تدخلك منه سآمة ملال أو غفلة أو ضياع أو سنة تهاون أو جهالة معرفة فإذ ذلك أحق ما بديء به ونظر فيه معتمداً عليه من القوة والآلة والانفراد من الصحاب والحلمة فتمسك به لاجئاً إليه واعتمد عليه مؤثراً له والتجيء إلى كنهه متحرزاً به أنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة وأجزله ثواباً وأعوده سعياً وأعمه صلاحاً وأرشدك الله لحظك وفهمك وسداده وأخذ بقلبك على محموده. ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه ويظهر منك السلامة في إشراقة من نفسك نصيباً تجعله لله شكراً على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة وعافية بدن وسبوغ نعمٍ وظهور كرامة وأن تقرأ من كتاب الله عز وجل جزءاً تردد رأيك في أدبه وتزين لفظك بقراءته ويحضره عقلك ناظراً في محكمه وتفهمه متفكراً في متشابهه فإن فيه شفاء القلوب من أمراضها وجلاء وساوس الشيطان وسفاسفه وضياء معالم النور تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهد نفسك لمجاهدة هواك فإنه مغلاق الحسنات ومفتاح السيئات. واعلم أن كل أعدائك لك عدو يحاول هلكتك ويعترض غفلتك لأنها خدع إبليس وحبائل مكره ومصائد مكيدته فاحذرها مجانباً وتوقها محترساً منها واستعذ بالله من شرها وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية فيه وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره عليك وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه ومضاءة صارمة لا أناة معها ونية صحيحة لا خلجة شك فيها فإن ذلك ظهري صدق لك على ردها وقطعها دون ما تتطلع إليه منك وهي واقية لك سخطة ربك داعية لك رضا العامة ساترة عليك عيب من دونك فازدن به ملتحفاً وأصب

بأخلاقك مواضعها الحميدة منها وتوق عليها التي تقطعك عن بلوغها وتقصر بك عن ساميها فحاول بلوغ غايته محرزاً لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع محصناً لأعمالك من العجب فإنه رأس الهوى وأول الغواية ومقاد الهلكة حارساً أخلاقك من الآفات المتصلة بمساويء العادات وذميم إيثارها من حيث أتت الغفلة وانتشر الضياع ودخل الوهن فتوق الآفات على عقلك فإن شواهد الحق ستظهر بإماراتها تصديق رأيك عند ذوي النهى وحال الرأي وفحص النظر. فاجتلب لنفسك محمود الذكر وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين متحرزاً من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلة ثقتك بمحكمها. ومنها أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان وتداري جندك بالإنصاف وتذلل نفسك للعدل وتحصن عيوبك بتقويم أودك. وأناتك فوقها الملال وفوت العمل ومصابك فدرعها رؤية النظر واكتنفها بأناة الحلم وخلواتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة وصمتك فأنف عنه عيّ اللفظ وخف عليه سوء القالة واستماعك فأرعه حسن التفهم وقوه بإشهاد الفكر وعطاءك فانهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب وتحرز فيه من السرف وحياءك فامنعه من الخجل وحلمك فزعه عن التهاون وأحضر قوة الشكيمة وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط وتعمد بها أهل الاستحقاق. وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق وخذ به واجب المفترض وأقم به أود الدين. واستئناسك فامنع منه الذاءة وسوء المنافثة وتعهدك أمورك فخذه أوقاتاً وقدّره ساعات لا يستفرغ قوتك ويستدعي سآمتك. وعزمتك فأنف عنها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام. وفرحاتك فاشكمها عن البطر وقيدها عن الزهو وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستسلام الخضوع وحذارتك (فاصرفها) عن الجبن واعمد بها لمحزم ورجاءك فقيده بخوف الفائت وامنعه من أمن الطلب. هذه جوامع دخائل النقص منها واصل إلى العقل بلطائف الله وتصاريف حوله فأحكمها عارفاً وتقدم في الحفظ لها معتزماً على الأخذ بمراشدها والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله. ثم ليكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك ودخلاؤك في سرك أهل الفقه والورع من أهل بيتك وعامة قوادك ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور وخبطته فاصلها بين قرائن البزل وقلبته الأمور في فنونها وركب أطوارها عارفاً بمحاسن الأمور ومواضع الرأي مأمون

النصيحة مطوي الضمير على الطاعة. ثم أحضر من نفسك وقاراً تستدعي منهم بك الهيبة واستئناساً يعطف إليك منهم بالمودة وإنصافاً يغل أقاصيهم عما تكره أن ينتشر عنك من سخافة الرأي ويقطعك دون الفكر. وتعلم إن خلوت بسر فألقيت دونه ستورك وأغلقت عليه أبوابك فذلك لا محالة مكشوف للعامة ظاهر عنك وإن استترت بما ولعل وما أرى إذاعة ذلك. فاعلم بما يرون من حالات من ينقطع به من تلك المواطن فتقدم في أحكام ذلك من نفسك وسد خلله عنك فإنه ليس حد أسرع غليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت فيه من دين الله والأمل المرجو المنتظر. وإياك أن يغمز فيك أحد من عامتك وبطانة خدمك بضعفة يجد بها مساغاً إلى النطق عندك بما لا يعتزلك عيبه ولا تخلو من لائمته ولا تأمن سوء القالة فيه إن نجم ظاهراً وعلن بادياً ولن يجترؤا على تلك عندك إلا أن يروا منك إصغاء إليها وقبولاً لها وترخيصاً بها. ثم إياك أن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يستخف بها أهل البطالة ويتسرع نحوها ذوو الجهالة ويجد فيها أهل الحسد مقالاً لعيب يرفعونه ولطعن في حق يجحدونه مع ما في ذلك من نقس الرأي ودرن العرض وهدم الشرف وتأثيل الغفلة وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم كمون النار في الحجر الصلد فإذا قدح لاح شرره ولهب في وميضه ووقد تضرمه. وليست في أحد أقوى سطوة وأظهر توقداً أو أعلى كموناً وأسرع إليه بالعيب منها إلى من كان في سنك من إغفال الرجال وذوي العنفوان في الحداثة الذين لم يقع عليهم سمات الأمور ناطقاً عليهم لائحها ظاهراً عليهم وسمها ولم تمحضهم شهامتها مظهرة للعامة فضلهم مذيعة حسن الذكر عنهم ولم يبلغ بهم الصمت في الحركة مستمعات يدفعون به عن أنفسهم نواطق السن أهل البغي ومواد إبصار أهل الحسد. ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة من أقطار الذرع ونخوة التيه فإنها تسرع بهم إلى فساد رأيهم وتهجين عقولهم في مواطن جمة منها قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة. فمن مقلقل شخصه يكثر الالتفات تزدهيه الخفة ويبطره إجلاب الرجال حوله ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمصاحبة له

والتضاحك إليه والإيجاف في السير مهمرجاً وتحريك الجوارح مستسرعاً يخال له أن ذلك أسرع له وأخف لمطيته فلتحسن في ذلك هيئتك ولتجمل فيه رعيتك وليقل على مسائلك إقبالك إلا وأنت مطرق للنظر غير ملتفت إلى محدث ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته ولا مخف في السير تقلقل جوراحك بالتحريك. فإن حسن مسايرة الوالي وابتداعه في تلك من حالة دليل على كثير من غيوب أمره ومستتر أحواله. واعلم أن أقواماً سيسرعون إليك بالسعاية ويأتونك من قبل النصيحة ويستميلونك بإظهار الشفقة ويستدعونك بالإغراء والشبهة ويوطئونك عشوة الحيرة ليجعلوك لهم ذرعة إلى استئكال العامة بموضعهم منك في القبول منهم والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة ولا معروف بتهمة ولا منسوب إلى بدعة فيعرضك لابتداع في دينك ويحملك على رعيتك ما لا حقيقة فيه ويحملك على إعراض قوم لا علم لك يدخلهم إلا بما قدم به عليهم ساعياً وأظهر لك منهم متنصحاً. ليكن صاحبك شرطك ومن أحببت أن يتولى ذلك من قوادك إليه انتهاء ذلك وهو المنصوب لأولئك والمستمع لأقاويلهم والفاحص عن نصائحهم ثم لينه ذلك إليك على ما يرتفع إليه من تأمره بأمرك فيه وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامة فإن كان صواباً () حظوته وإن كان خطأ أقدم به جاهل أو فرطة يسعى بها كاذب فنالت الباغي منها أو المظلوم عقوبة وبدر من واليك إليه نكال لم يعصب ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تقريضه وخلوت من موضع الذم فيه. فافهم ذلك وتقدم إلى من تولى فلا يقدم على شيء ناظراً فيه ولا يحال أخذ أحد طارقاً له ولا يعاقب أحداً منكلاً به ولا يخل سبيلاً أحد صافحاً عنه لإظهار براءته وصحة طريقته حتى يرفع إليك أمره وينهي إليك قضيته على جهة الصدق ومنحى الحق. فإن رأيت عليه سبيلاً لمحبس أو مجازاً لعقوبة أمرته ذلك من غير إدخال له عليك ولا مشافهة منك له فكان المتولي لذلك ولم يجر على يدك مكروه ولا غلظ عقوبة وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلاً وكان مما قرف به خلياً كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله والصفح عنه بإطلاق أسره فتوليت أجر ذلك وذخره ونطق لسانه بشكرك فقرنت خصلتين ثواب الله في الآخرة ومحمود ذكره في العاجلة.

ثم إياك وأن يصل إليك أحد منن جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك أو حاجة يبدهك بطلبها حتى يرفعها قبل إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له فيعرضها عليك منهياً لها على جهة صدقها ويكون على معرفة من قدرها فإن أردت إسعافه ونجاح ما سئل منها أذنت له في طلبها باسطاً له كنفك مقبلاً عليه بوجهك مع ظهور سرور منك بما سألك بفسحة رأي وبسطة ذرع وطيب نفس. وإن كرهت قضاء حاجته وأجبت رده عن طلبته وثقل عليك إسعافه أمرت كاتبك فصفحه عنها ومنعه من مواجهتك بها فخفت عليك في ذلك المؤونة وحسن لك الذكر وحمل على كاتبك لائمة أنت منها بريء الساحة. وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك وعلم ما قدم له عليك وجهة ما هو مكلمك وقدر ما هو سائلك إياه إذا هو وصل إليك فأصدرت رأيك في جوابه وأجلت فكرك في أمره وأنفذت مصدر رويتك في مرجوع مسألته قبل ما دخوله عليك وعلمه بوصول حاله إليك فرفعت عنه مؤونة البديهة وأرخيت على نفسك خناق الروية فأقدمه على رد جوابه بعد النظر والفكرة فإن دخل عليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك دفعته عنك دفعاً جميلاً ومنعته جوابك منعاً ودفعاً ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة ومنعه من الوصول إليك فإن ضبطك ذلك مما يحكم لك تلك الأشياء صارفاً عنك مؤونتها إن شاء الله. احذر تضييع رأيك وإهمال أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما وإياك فلا يزدهينك إفراط عجب تستخفك روائعه ويستهويك منظره ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه وإن حل بك أو حادث وإن طرأ عليك. وليكن لك من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى وتستعهده في مهم نازل وتتعقب به أمورك في التدبير فإن احتجت إلى مادة من عقلك وروية من فكرك أو انبساط من منطقك كان انحيازك إلى ظهريك مزداداً مما أحببت الامتيار منه وإن استدبرت من أمورك بوادر لمهل أو مضي زلل أو معاندة حق أو خطأ تدبير كان ما احتجنت من رأيك عذراً لك عند نفسك وظهري قوة على رد ما كرهت وتخفيفاً لمؤونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر وحصناً من غلوب الآفات على أخلاقك إن شاء الله.

وامنع أهل بطانتك وخاص خدمك وعامة رعيتك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة والتقرب إليك بالسعاية والإغراء من بعض ببعض والنميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة. فإنه ابلغ سمواً إلى منال الشرف وأعون لك على محمود الذكر وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمة وقوة التدبير. واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانقهاق وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله فإن ذلك ضعف في سورة الجهل وخروج من انتحال اسم الفضل. وليكن ضحكك تبسماً أو كبراً في أحايين ذلك وأوقاته وعند كل مرأى ملهي ومستخف مطرب وقطوبك إطراقاً في موضع ذلك وأحواله بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة دون أن يكنفها روية الحلم وتملك عليها بادرة الجهل. إذا كنت في مجلس ملاك وحضور العامة مجلسك فإياك والرمي ببصرك إلى خاص من قوادك أو ذي أثرة من حشمك. وليكن نظرك مقسوماً في الجميع وإعارتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة ووقار حسن وحضور فهم مستجمع وقلة تضجر بالمحدث ثم لا يبرح وجهك إلى بعض قوادك وحرسك متوجهاًَ بنظر ركين وتفقد محض فإن وجه أحد منهم نظره محدثاً أو رماك ببصرك ملحاً فاخفض عنه إطراقاً جميلاً بإبداع وسكون. وإياك والتسرع في الإطراق والخفة في تصاريف النظر والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقاً بنظره. واعلم أن تصفحك وجوه قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب فتفقد ذلك عارفاً بمن حضرك وغاب عنك عالماً بمواضعهم في مجلسك ثم أعد بهم عن ذلك سائلاًُ عن أشغالهم التي منعتهم من حضورك وعاقتهم بالتخلف عنك إن شاء الله. إن كان أحد أعوانك وحشمك تثق منه بغيب ضميره وتعرف منه لين طاعة وتشرف منه على صحة رأي وتأمنه على مشورتك فإياك والإقبال عليه في حادث يرد أو التوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك أو أن تريه أو أحداً من مجلسك أن بك إليه حاجة موحشة وإن ليس بك عنه غنى في التدبير أو أنك لا تقضي دونه رأياً إشراكاً له في رويتك وإدخالاً له في مشورتك واضطراراً إلى رأيه فإن ذلك من دخائل العيوب المنتشر بها سوء القالة عن

نظرائك وأنفها عن نفسك خائفاً لإغفالها ذكرك واحجبها عن رؤيتك قاطعاً أطماع أولئك عن مثلها عندك أو غلبتهم عليك منك. واعلم أن للمشورة موضع الخلل وانفراد النظر فابغها محرزاً لها ورمها طالباً لبيانها وإياك والقصور عن غايتها والإفرط في طلبها. احذر الاعتزام بكثرة السؤال عن حديث إما أعجبك أو أمر إما ازدهاك والقطع لحديث من أرادك بحديثه حتى تنقضه عليه بالأخذ في غيره أو المسألة عما ليس منه فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة لمساوئها وأنصت لمحدثك وأرعه سمعك حتى يعلم أنك قد فهمت عهنه وأحطت معرفة بقوله فإن أردت إجابته فعن معرفة حالة وبعد علم بطلبته وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعلل من حديثه بالتبسم والإغضاء فأجرى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب. إياك وأن يظهر منك تبرم بمجلسك وتضجر بمن حضرك وعليك بالتثبت عند سورة الغضب وحمية الأنف وملال الصبر في الأمر تستعجل به العمل تأمر بإنفاذه فإن ذلك سخف سائر وخفة مريدي وجهالة بادية. وعليك بثبوت المنطق ووقار المجلس وسكون الريح والرفض لحشو الكلام وترديد فضوله والاعتزام بالزيادات في منطقك والترديد للفظك من نحو اسمع أو اعجل أو ألا ترى أو ما يلهج به من هذه الفصول المقصرة بأهل العقل المنسوبة إليهم بالعي المردية لهم في الذكر. وخصال من معايب الملوك والسوقة عيبها. عن النظر إلا من عرفها من أهل الأدب وقلما حامل لها مضطلع بثقلها أخذ لنفسه بجوامعها فأنفها عن نفسك بالتحفظ منها واملك عنها اعتقادك معنياً بها كثرة التنخم والتبزق والتنحنح والتثاؤب والجشاء والتمطي وتنقيض الأصابع وتحريكها والعبث باللحية والشارب والمخصرة وذؤابة السيف والإيماض بالنظر والإشارة بالطرف إلى أحد من خدمك بأمر إن أردته والسرار في مجلسك والاستعجال في طعمك وشربك. ليكن مطعمك مبتدعاً وشربك أنفاساً وجرعك مصاً وإياك والتسرع في الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور أو الشتيمة باين الهيبة أو العمرية لأحد من خدمك وخاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بمحضرك أو في دارك وبنائك فإن ذلك مما يقبح ذكره ويسوء موقع القول فيه ويحمل عليك معايبه وينالك شينه وينشر عنك سوء نبأه فاعرف ذلك متوقياً له واحذر

مجانباً لسوء عاقبته. استكثر من فوائد الخير فإنها تنشر المحمدة وتقيل العثرة واصطبر على الغيظ فإنه يورث العز ويؤمن الساحة. وتعهد العامة بمعرفة دخلهم وبنظر أحوالهم واستثارة دفائتهم حتى يكون على مرأى العين ويقين الخبرة فتنعش عديمهم وتجبر كسيرهم وتقيم أودهم وتعلم جاهلهم وتستصلح فاسدهم فإن ذلك من فعلك يورثك العزة ويقدمك في الفضل ويبقى لك لسان صدق في العامة ويحرز لك ثواب الآخرة ويرد عليك عواطفهم المستنفرة وقلوبهم المستجنة عنك. (وميز) بين منازل أهل الفل في الدين والحجى والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله والجمود عنه تناها (؟) بأهل الحسب والنظر نصيحة لهم تنال مودة الجميع وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل وتبلغ درج الشرف في الأحوال المتصرفة بك فاعتمد عليهم مستدخلاً لهم وآثرهم بمجالستك مستمعاً منهم وإياك وتضييعهم مفرطاً لهم وإهمالهم مضيعاً. هذه جوامع من خصال قد لخصها لك أمير المؤمنين وجمع شواهدها مؤلفاً وأهداها لك مراشد تقف عند أوامرها وتنتهي عند زواجرها وتثبت في مجامعها وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الردى وتنل أنفس الحظوظ ومزية الشرف وأعلى درج الذكر وأنه يسأل لك أمير المؤمنين حسن الرشاد وتتابع المزيد وبلوغ الأمل وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها وعافية يحلك أكنافها ونعمة يلهمك شكرها فإنه الموفق للخير والمعين على الإرشاد وبه تمام الصالحات وهو مؤتي الحسنات عنده مفاتيح الخير وبيده الملك وهو على كل شيء قدير. فإذا قضيت نحو عدوك واعتزمت على لقائهم وأخذت أهبة قتالهم فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها وثقتك التي تأمل النجاة بها وركنك الذي ترتجي به منال الظفر وتكتهف به لمغالق الحذر تقوي الله عز وجل مستشعراً له بمراقبته والاعتصام بطاعته متبعاً لأمره والاجتناب لمساخطه محتذياً سنته والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده وتعدي شرائعه متوكلاً عليه فيما صمدت له واثقاً بنصره فيما وجهت نحوه متبرئاً من الحول والقول فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز راغباً فيما أهاب بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد ورمى بك إليه من محمود الصبر عند الله عز وجل من قتال عدو الله للمسلمين أكلبهم عليهم وأظهرهم عداوة

لهم وأفدحهم ثقلاً لعامتهم وأخذة بربقهم وأعلاه عليهم بغياً وأظهره فيهم فسقاً وجوراً على فيئهم الذي أصاره الله لهم مؤونة. ثم خذ من معك من جندك بكف معرتهم ورد مستعلي جورهم وإحكام خللهم وضم منتشر قواصيهم ولم شعث أطرافهم وخذهم بمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة (وعفة) الطعمة ودعة الوقار وهدي الدعة وجمام (النفس) محكماً ذلك منهم متفقداً الهم فيه تفقدك إياه من نفسك. ثم اصمد بعدوك المتسمي بالإسلام خارجاً من جماعة أهله المنتحل ولاية الدين مستحلاً لدماء أوليائه طاعناً عليهم راغباً عن سنتهم مفارقاً لشرائعهم يبغيهم الغوائل وينصب لهم المكايد أضرم حقداً عليهم وارصد عداوة لهم من الترك وأمم الشرك وطواغي الملل يدعو إلى المعصية والفرقة والمروق من الدين إلى الفتنة مخترعاً بهواه إلى الأديان المنتحلة والبدع المتفرقة خساراً وتخسيراً وضلالاً وإضلالاً بغير هدى من الله ولا بيان ساء ما كسبت يداه وما الله بظلام للعبيد وبئس ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء والله من ورائه بالمرصاد وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. حض جندك واشكم نفسك في مجاهدة أعداء الله وارج نصره وتنجز موعده متقدماً في طلب ثوابه على جهادهم معتزماً في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم فإن طاعتك إياه فيهم ومراقبتك له ورجاءك لنصره مسهل لك وعوده وعاصمك من كل سيئة ومنجيك من كل هوة وناعشك من كل صرعة ومقيك من كل كبوة وداريء عنك كل شبهة ومذهب عنك لطخة كل شك ومقويك بكل أيد ومكيدة ومؤيدك في كل مجمع لقاء وحافظك من كل شبهة مردية والله وليك وولي أمير المؤمنين فيك. اعلم أن الظفر ظفران أحدهما أعم منفعة وأبلغ من حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة وأتمه عافية وأعوده عاقبة وأحسن في الأمور مورداً وأصحه في الرواية حزماً وأسهله عند العامة مصدراً ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة ويمن النقية بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب ومنازلة الفرسان في معترك الموت وإن ساعدك (الحظ) ونالك مزية السعادة في الشرف ففي مخاطرة التلف ومكروه المصائب وعضاض السيوف وألم الجراح وقصاص الحروب وسجالها بمعاورة أبطالها على أنك لا تدري لأي الفريقين

الظفر في البديهة من المغلوب في الدولة ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص فحاول أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك وأشهرهما. . . في بادء رأيك واجمعهما لألفة وليك وعدوك وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل ملتك وأقواهما في حربك وأبعدهما من وصم عزمك وأجزلهما ثواباً عندك. وابدأ بالأعذار والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعرى الألفة آخذاً بالحجة عليهم متقدماً بالإنذار لهم باسطاً أمانك لمن لجأ غليه منهم داعياً لهم إليه بألين لطفك وألطف حيلتك متعطفاً عليهم برأفتك مترفقاً بهم في دعائك مشفقاً عليهم في غلبة الغواية لهم وإحاطة الهلكة بهم منفذاً رسلك إليهم بعد الإنذار تعدهم كل رغبة يهش إليها طمعهم في موافقة الحق وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم من تبعهم موطناً نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بوعدك والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عهدك قابلاً توبة نازعهم عن الضلالة ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة مرصداً للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوتهم إليه وبصرته من حقك وطاعتك بفضل المنزلة وإكرام المثوى وتشريف الحال ليظهر من أثرك عليه وإحسانك إليه ما يرغب من مثله لصارف عنك المصر على خلافك ومعصيتك ويدعو إلا الاعتلاق بحبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام به عاجلاً أو أنجى لك له من العقاب آجلاً وأحوط على دينه ومهجته بدءاً وعاقبة فإن ذلك يستدعي نصر الله عز وجل به عليهم وتعتصم به في تقدمة الحجة إليهم معذراً ومنذراً إن شاء الله. ثم اذك عيونك إلى عدوك متطلعاً لعلم أحوالهم التي ينتقلون فيها ومنازلهم التي هم بها ومطامعهم التي مدوا بها أعناقهم نحوها. وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح وأقودها لرضاهم إلى العافية ومن أي الوجوه ما أتاهم من قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإبعاد والترغيب والإطماع مستناً في أمرك متخيراً في رويتك متمكناً من رأيك مستشيراً لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم التجربة ونجذتهم الحروب متسرباً في حربك آخذاً بالحزم في سوء الظن معداً للحذر محترساً من الغرة كأنك منزل كله ومنازلك جمع واقف لعدوك رأي عين تنظر حملاتهم وتخوف غاراتهم معداً أقوى مكيدتك وأجد تشميرك وأرهب عتادك معظماً لأمر عدوك لأكثرهما. . . بفرط تبعة له (؟) من الاحتراس عظيماً من المكيدة قوياً من غير أن يفثأك عن إحكام أمورك وتدبير رأيك وإصدار رويتك والتأهب

لحربك مصغ له بعد استشعار الحذر واطمئنان الحزم وإعمال الروية وإعداد الأهبة فإن لقيت عدوك كليل الحد ونم النجوم نضيض الوفر (؟) لم يضررك ما أعددت له من قوة وأخذت به من حزم ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه وتسرعاً على لقائه وإن ألفيته متوقد الجمر مستكشف التبع قوي الجمع مستعلي سورة الجهل معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعراً ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعاً كنت لأخذك بالحزم واستعدادك بالقوة غير مهين الجند ولا مفرط في الرأي ولا متلهف على إضاعة تدبير ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك وخوفاً يقلقك ومتى تعزم على ترقيق التوقير وتأخذ بالهوينا في أمر عدوك لتصغر المصغرين ينتشر عليك رأيك ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك وإهمال الحزم في جندك وتضييع له وهو ممكن الإصحار رحب المطلب قوي العصمة فسيح المضطرب مع ما يدخل رعيتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أسرارهم وضبط مراكزهم لما يرون من استنامتك إلى الغرة وركونك إلى الأمن وتهاونك بالتدبير فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف وضياع الأحكام ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره ولا يدفع مخوفه. احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه أو سؤت ظناً عليه وأتاك غيره بخلافه وأن تكذبه فيه وترده عليه أن يكوم من محضك النصيحة وصدقك الخبر وكذبك الأول أو خرج جاسوسك الأول متقدماً قبل وصول هذا من عند عدوك. ولقد أبرموا أمراً وحاولوا لك مكيدة وازدادوا منك غرة وإن دفعوا إليك في الأمر ثم انتفض بهم رأيهم واختلف عنه جماعتهم فازدادوا رأياً وأحدثوا مكيدة وأظهروا قوة وضربوا موعداً وأموا مسلكاً لعدد أتاهم أو قوة حدثت لهم أو بصيرة في ضلالة شغلتهم فالأحوال منتقلة بهم في الساعات وطوارق الحادثات ولكن ألبسهم جميعاً على الانتصاح وأرجح لهم المطامع فإنك لم تستعيبدهم بمثله. وعدهم جزالة المثاوب في غير ما استنامة منك إلى أمر عدوك والاغترار بما لم يأتوك به دون أن تعمل رويتك في الأخذ بالحزم والاستكثار من العدة واجعلهم أوثق من يقدر عليه إن استطعت ذلك وآمن من تسكن إلى ناحيته ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت فتنقض عليهم بتدبيرك ورأيك ما لم يرموا وتأتيهم من حيث أقدموا وتستعد لهم بمثل ما حذروا.

واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك وربما كانوا لك وعليك فنصحوا لك وغشوا عدوك ونصحوا عدوك وكثير مما يصدقونك ويصدقونه فلا يبدرن منك فرطة في عقوبة إلى أحد منهم ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك وابسط من آمالهم فيك من غير أن تري أحداً منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه أو رددته عليه رد المكذب له والمتهم المستخف بما أتاك منه فتفسد بذلك نصيحته وتستعدي غشه وتجتر عداوته. احذر أن يعرف جواسيسك في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك ويكون هو الموجه لهم والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم واعلم أن لعدوك في عسكرك عيوناً راصدة وجواسيس كامنة وأن رأيه في مكيدتك مثل ما تكايده به وسيحتال لك كاحتيالك له ويعد لك كاعتدادك له فاحذر أن يشعر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه فيعد له المراصد ويحتال له المكايد فإن ظفر لبه وأظهر عقوبته كسر ذلك ثقات عيونك وحوله عن تطلب الأخبار من معادنها واستقصائها من عيونها حتى يصيروا إلى أخذها عن عُرض من غير الثقة ولا معاينة لغطائها (؟) بالأخبار الكاذبة والأحاديث المرجفة. واحذر ان يعرف بعض عيونك بعضاً فإنك لا تأمن تواطئهم عليك وممالأتهم عدوك واجتماعهم على غشك وكذبك وأن يورط بعضهم بعضاً عند عدوك واحكم أمرهم فإنهم رأس مكيدتك وقوام تدبيرك وعليهم مدار حربك وهو أول ظفرك فاعمل على حسب ذلك وجنب (؟) رجاءك به نيل أملك من عدوك وقوتك على قتالهم وانتهاز فرصته إن شاء الله فإذا أحكمت ذلك وتقدمت فيه واستظهرت بالله وعونه فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك وآمنهم نصيحة وأقدمهم بصثيرة في طاعتك وأقواهم شكيمة في أمرك وأمضاهم صريمة وأصدقهم عفافاً وأجرأهم (جناناً) وأكفاهم أمانة وأصحهم ضميراً وأرضاهم صبراً وأحمدهم خلقاً وأعطفهم على جماعتهم رأفة وأحسنهم لهم نظراً وأشدهم في دين الله وحقه صلابة ثم فوض إليه مقوياً وابسط من أمله مظهراً عنه الرضا حامداً منه الابتلاء. وليكن عالماً بمراكز الجنود بصيراً بتقديم المنازل مجرباً ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة

له نباهة في الذكر وصيت في الولاية معروف البيت مشهور الحسب وتقدم إليه في ضبط معسكرك وإذكاء الحراسة في آناء ليلة ونهاره ثم حذره أن يكون له أذن لجنوده في الانتشار والاضطراب والتقدم للطائفة فيصاب منهم غرة يجترئ بها عدوك ويسرع إقداماً عليك ويكسر من أفئدة جنودك ويوهن من قوتهم فإن إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك وعبيدك مطمع لهم منك مقوٍ لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك وتوهينهم تدبيرك فحذره ذلك وتقدم إليه فيه ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم والحصر لهم فيعمهم أزله ويشملهم ضنكه يسوء عليه حالهم وتشتد به المؤونة عليهم وتخبث له ظنونهم. وليكن (موضع) إنزاله إياهم مستديراً ضاماً جامعاً. ولا يكون منتشراً ممتداً فيشق ذلك على أصحاب الأحراس ويكون فيه النهزة للعدو والبعد من المادة إن طرق طارق في فجاآت الليل وبغتاته. وأوعز إليه في أحراسه ومره فليول عليهم رجلاً ركيناً مجرباً جريء الأقدام ذكي الصرامة جلد الجوارح بصيراً بموضع أحراسه غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهة والسعة وتقدم العسكر والتأخر عنه فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك وأمنه به على جيشه. واعلم أن موضع الأحراس من موضعك ومكانها من جندك بحيث الغناء عنهم والرد عليهم والحفظ لهم والكلاءة لمن بغتهم طارقاً وأرادهم مخاتلاً ومراصدها المنسل منها الآبق من أرقائهم وأعبدهم وحفظ العيون والجواسيس من عدوهم (؟) واحذر أن يضرب على يديه أو يشكمه على الصرامة لمواصرتك في كل أمر حادث وطارق إلا في الملم لالنازل والحدث العام فإنك إذا فعلت ذلك به دعوته إلى نصحك واستوليت على محض ضميره في طاعتك واجهد نفسيه في تربيتك وإغاثتك وكان ثقتك وزينك وقوتك ودعامتك وتفرغت لمكايدة عدوك مريحاً نفسك من عم ذلك والعناية به ملق عنك مؤونة باهظة وسلفة فادحة إن شاء الله. ثم اعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيئاً من الأحكام ولا يمثله أحد من الولاة لما يجري على يديه من مغالظ الأحكام ومجاري الحدود فليكن من توليه القضاء بين أهل العسكر من ذوي الخير والقناعة والعفاف والنزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع والبصر بوجوه القضايا ومواقعها قد حنكته السن وأيدته التجربة وأحكمته الأمور ممن لا

يتصنع للولاية ويستعد للنهزة ويجتريء على المحاباة في الحكم والمداهنة في القضاء عدل الأمانة عفيف الطعمة حسن الإنصات فهم القلب ورع الضمير متخشع السمت هادي الوقار محتسباً للخير ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه وفرغه لما حملتهوأعنه على ما وليته فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وثواب الآخرة أو شرف العاجلة وحظوة الآجلة إن حسنت نيته وصدقت رويته وصحت سريرته وسلط حكم الله على رعيته منفذاً قضاءه في خلقه عاملاً بسنته في شرائعه آخذاً بحدوده وفرائضه. واعلم أنه من جندك ومعسكرك بحيث ولايتك وفي الموضع الجارية أحكامه عليهم النافذة أقضيته بينهم فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه إن شاء الله. ثم تقدم في طلائعك فإنها أول مكيدتك ورأس حربك ودعامة أمرك فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالاً ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة وحماة كفاة قد صلوا بالحرب وتذاوقوا سجالها وشربوا من مرارة كؤوسها وتجرعوا غصص درتها وزينتهم بتكرارها وحملتهم على أصعب مراكبها ثم اتبعهم على عينك واعرض كراعهم بنفسك وتوخ في انتقالهم مهور الجلد وسجاحة الخلق وجمال الآلة وإياك أن تقبل من دوابهم إلا إناث الخيول مهلوبة فإنها أسرع طلباً وأنجى مهرباً وأبعد في اللحوق غاية وأصبر في معترك الأبطال إقداماً ونجذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد شاكة السنخ متقاربة الحلق متلاحمة المسامير وأسوق الحديد مموهة الركب محكمة الطبع خفيفة الصوغ وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي رقاق المعطف بأكف واقية وعمل محكم ويلق البيض مذهبة ومجردة فارسية الصوغ خالصة الجوهر سابغة الملبس وافية اللين مستديرة الطبع مبهمة السرد وافية الوزن كتريك النعام في الصنعة معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ فإنها أهيب لعدوهم وأفت لأعضاد من لقيهم والمعلم مخشي محذور له بديهة وادعة معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسنونة الشحذ غير كليلة المشحذ مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولا عابها أمت الصوغ ولا شانها خفة الوزن ولا فدح حاملها بهور الثقل وقد أشرعو لدن القنا طوال الهوادي زرق الأسنة مستوية الثعالب وميضها متوقد وشحذها متلهب معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم. أجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة. وعقدها حنكة شطبة الأسنان محكمة الجلاء مموهة الأطراف

مستحدة الجنبات دقاق الأطراف ليس فيها التواء أود. ولا أمت وصم. ولا لها سقط عيب. ولا عنها وقوع أمنية مستحقب كنائن النبل وقسي الشوحط والنبع أعرابية التعقيب رومية النصول فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع وأشك في الحديد سامطين حقائبهم على متون خيولهم مستخفين من الآلة والأمتعة إلا ما لا غناء بهم عنه. واحذر أن تكل مباشرة عرضهم إلى أحد من أعوانك أو كتابك فإنك إن وكلته إليهم أضعت موضع الحرم وفرطت حيث الرأي ووقفت دون الحزم ودخل عملك ضياع الوهن وخلص إليك عيب المحاباة. وناله فساد المداهنة وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين. ولا عدة ولا حصناً يدرؤون به ويكتنفون بموضعه. واعلم أن الطلائع عيون وحصون للمسلمين فهم أول مكيدتك وعروة أمرك وزمام حربك فليكن اعتناؤك بهم بحيث هم من مهم عملك ومكيدة حربك ثم انتخب لهم رجلاً للولاية عليهم بعيد الصوت مشهور الفضل نبيه الذكر له في العدو وقعات معروفات وأيام طوال وصولات متقدمات قد عرفت نكايته وحذرت شوكته وهيب صوته وتنكب لقاؤه أمين السريرة ناصح الغيب قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته من لين طباعه وخالص المودة ونكاية الصرامة وغلوب الشهامة واستجماع القوة وحصافة التدبير ثم تقدم إليه في حسن سياستهم واستنزال طاعتهم واجتلاب موداتهم واستعداد (؟) ضمائرهم وأجر عليهم أرزاقاً نسعهم وتمد من أطماعهم سوى أرزاقهم في العامة وفي ذلك من القوة لك عليهم والاستنامة إلى ما قبلهم. واعلم أنهم في أهم الأماكن لك وأعظمها غناء عنك وعمن معك وأقمعها كمناً (؟) وأشجى لعدوك ومتى يكون في البأس والثقة والجلد والطاعة والقوة والنصيحة حيث وصفت لك وأمرتك به تضع عنك مؤونة الهم وترخي عن خناقك دروع الخوف وتلتجيء إلى أمر متين وظهر قوي وأمر حازم تأمن به فجاآت عدوك ويصير إليك علم أحوالهم ومتقدمات خيولهم فانتخبهم رأي عين وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علامتك (؟) وحصانة كهوفك وقوة سيارة عسكرك وإياك أن تدخل فيهم أحداً بشفاعة أو تحتمله على هوادة أو تقدمه منهم لآثرة وأن يكون مع أحد منهم بغل نقل أو فضل من الظهر أو ثقل فادح فيشتد عليهم مؤونة أنفسهم ويدخلهم

كلال السآمة فيسما يعالجون من أثقالهم ويشتغلون به عن عدوهم لإإن دهمهم منه رائع أو فاجأهم لهم طليعة. فتفقد ذلك محكماً له وتقدم فيه آخذاً بالحزم في إمضائه. أرشدك الله لإصابة الحظ ووفقك ليمن التدبير ولِّ دراجة عسكرك وأخراج أهلها إلى مصافهم ومراكزهم رجلاً من أهل بيوتات الشرف محمود الخبرة معروف النجدة ذا سن وتجربة لين الطاعة قديم النصيحة مأمون السريرة له بصيرة في الحق تقدمه ونية صادقة عن الإدهان تحجزه وأضمم إليه عدة من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه ثم تقدم إليه في إخراج المصاف وإقامة الأحراس وإذكاء العيون وحفظ الأطراف وشدة الحذر ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم كل قائد بإزاء موضعه وحيث منزله قد شد ما بينه وبين صاحبه بالرماح شارعة والتراس موضونة والبرجال راصدة ذاكية الأحراس وجلة الروع خائفة طوارق العدو وبيانه ثم مره أن يخرج كل ليلة قائداً من أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيراً على غلوة أو غلوتين من عسكرك محيطاً بمنزلك ذاكية أحراسه قلقة التردد مفرطة الحذر ومعدة للروع متأهبة للقتال آخذة على أطراف العسكر ونواحيه متفرقين في أخلافهم كردوساً كردوساً يستقبل بعضهم بعضاً في الاختلاف ويكسع متقدماً في التردد فاجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوباً معروفة وحصصاً مفروضة لا يعد منه مزدلفاً بمودة ولا يتحامل على أحد فيه بموجدة إن شاء الله. فوض إلى أمراء جندك وقوادهم أمور أصحابهم والأخذ على أيديهم رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم والأتباع لأمرهم والوقوف عند نهيهم وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها والأعمال التي استنجدتهم لها والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم واحذر اعتلال أحد من قوادك عليك بما يحول بينك وبين جندك وتقويمهم لطاعتك وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم فإن ذلك مفسدة للمجند معيّ للقواد عن الجد والمناصحة والتقدم في الأحكام. واعلم أن استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمرهم دخول الضياع على أعمالك واستخفاف بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي وأوعز إلى القواد أن لا يتقدم أحد منهم على عقوبة أحد من صحابة إلا عقوبة تأديب وتقويم ميل وتثقيف أود فإما عقوبة تبلغ تلف

المهجة وإقامة الحد في قطع أو إفراط في ضرب أو اخذ مال او عقوبة في سفر فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك ومتى لم تذلل الجند لقوادهم وتضرعهم لأمرائهم يوجب عليك لهم الحجة بتضييع (؟) وإن كان منهم لأمرك خلل إن تهاونوا به من عملك أو عجز إن فرط منهم في شيء وكلتهم إليه أو أسندته إليهم ولم تجد إلى الإقدام عليهم باللوم وعض العقوبة مجازاً تصل به إلى تعنيفهم بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم وإفسادك إياهم عليهم فانظر في ذلك محكماً وتقدم فيه تقدماً بليغاً وإياك أن يدخل حزمك وهن أو عزمك إمارا (؟) من رأيك ضياع. والله أستودع ديناً في نفسك. إذا كان من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر وكان من عسكرك مقترباً قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته فتأهب أهبة المناجزة وأعد إعداد الحذر وكتب خيولك وعبّ جنودك وإياك والمسير إلا مقدمة وميمة وميسرة وساقة قد شهروا بالأسلحة وشنروا البنود والأعلام وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال واستعدوا للقاء ملحين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم من مسيرهم ومعسكرهم. وليكن ترجلهم وتنزلهم على رايات وأعلامهم ومراكزهم وعرّف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة لازمين لها غير مخلين بما استنجدتهم له ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه حتى يكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها كأنه عسكر واحد في اجتماعها على العدة وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها إن أضلت دابة موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها. فإن تقدمك في ذلك وأحكامك له إطراح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة. ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذاً ورضا في العامة وإنصافاً من نفسه للرعية وأخذاً بالحق في المعدلة مستشعراً تقوى الله وطاعته آخذاً بهديك وأدبك واقفاً عند أمرك ونهيك معتزماً على مناصحتك وتزيينك نظيراً لك في الحال وشبيهاً بك في الشرف وعديلاً في المواضع ومقارباً في الصيت ثم اكشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن رخفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة من غير أن تأذن

لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة ثم تقدم إليه محذراً ومره زاجراً وأنهه مغلظاً بالشدة على من مرَّ به منصرفاً عن معسكرك من جندك بغير جوارك شاداً لهم أسراً وموقرهم حديداً ومعاقبهم موجعاً أو موجههم إليك فتنهكم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة. واعلم أنه لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقاً بنصيحته عارفاً ببصيرته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه وصرامة تؤمنك مهانته ونفاذاً في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته لم آمن تسلل الجند عنك لواذاً ورفضهم مراكزهم وإخلالهم بمواضعهم وتخلفهم عن أعمالهم آمنين تغيير ذلك عليهم والشدة على من اخترمه منهم ما. . . ذلك في وهنك وأخذ من قوتك وقلل من كثرتك. اجعل خلف ساقتك رجلاً من وجوعه قوادك جليداً ماضيا عنيفاً صارماً شهم الرأي شديد الحذر شكيم القوة غير مداهن في عقوبة ولا مهين في قوة في خمسين فارساً من خيلك تحشر إليك جندك ويلحق بك من يتخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنهك لهم والتنكيل بهم وليكن لعقوبتك في المنزل الذي ترتحل عنه والمنهل الذي تتقوض منه مفرطاً في النقض والتبع لمن تخلف عنك مشيداً في أهل المنهل وساكنه بالتقدم موعزاً إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم وإخراجهم من مكانهم وإبعاد العقوبة الموجعة والنكال المنيل في الأشعار وإصفاء الأموال وهدم العقار لمن أوى منهم أحدهم أو ستر موضعه وأخفى محله وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد والمحاباة لذي قرابة والاختصاص بذلك لذي أثرة أو هوادة. وليكن فرسانه منتخبين في القوة معروفين بالنجدة عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وحب الاستحثاث (؟) متقلدين سيوفهم سامطين كنائنهم مستعدين لهييج إن بدههم أو كمين إن يظهر لهم وإياك أن تقبل في دوابهم إلا فرساً قوياً أو برزوناً وثبجاً فإن ذلك من أقوى القوة لهم وأعون الظهير على عدوهم إن شاء الله. ليكن رحيلك أباناً واحداً ووقتاً معلوماً لتخف المؤونة بذلك على جندك ويعلموا أوان الرحيل فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم وتسكن أفئدتهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه ويطمئن دوو (الحاجات) أبان الرحيل ومتى يكون رحيلك مختلفاً تعظم المؤونة

عليك وعلى جندك ويخلوا بمراكزهم ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالأرجاف وينزلون بالتوهم حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة. إياك أن تنادي برحيل من منزل تكون فيه حتى يأمر صاحب تعبيتك بالوقوف على معسكرك أخذاً بفوهو جنبتيه بأسيلحتهم عدة لأمر إن حضر ومفاجأة من طليعة للعدو إن اراد نهزة أو لمحت عندكم غرة. ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة وأهبتك معدة وجنتك وافية حتى إذا استقللتم من معسكركم وتوجهتم من منزلكم سرتم على تعبيتكم بسكون ريح وهدوء وحملة وحسن دعة. فإذا انتهتيم إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر فيه فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأن تعرف لك أحواله أو يسير علم دفينه ويستبطن أموره ثم ينهيها إليك وما صارت إليه لتعلم كيف احتمال عسكرك وكيف مأواه وأعلامه وكيف موضع عسكرك منه وهل لك إذا أردت مقاماً به أو مطاولة عدوك ومكايدته فيه قوة تحملك ومدد يأتيه فإنك إن لم تفعل ذلك لم تأمن أن يهجم على منزل يزعجك منه ضيق مكانه وقلة مياهه وانقطاع مواده إن اردت بعدوك مكيدة واحتجت من أمرهم إلى مطاولة فإن ارتحلت منه كنت غرضاً لعدوك ولم تجد إلى المحاربة والإخطار سبيلاً. وإن أقمت به أقمت على مشقة حصر في أزل وضيق فاعرف ذلك وتقدم فيه. فإذا أردت نزولاً أمرت صاحب الخيل التي رحلت الناس فوقف متنحية من معسكرك عدة لأمر إن راعك ومفزعاً لبديهة إن راعتك قد أمنت بإذن الله وحوله فجأة عدوك وعرفت موقعها من حربك حتى يأخذ الناس منازلهم وتوضع الأثقال مواضعها ويأتيك خبر طلائعك وتخرج دباباتك من عسكرك دباباً محيطين بعسكرك وعدة لك إن احتجن إليهم. وليكن دباب جندك بعسكرك أهل جلد وقوة قائداً أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم في كل ليلة ويوم نوباً بينهم فإذا غربت الشمسي وجب نورها اخرج إليهم صاحب تعبيتك أبداً لهم عسساً بالليل في أقرب من مواضع دباب النهار ويتعاور ذلك قوادك جميعاً بلا محاباة لأحد منهم فيه ولا إدهان إن شاء الله. إياك أن يكون منزلك إلا في خندق أو حصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدته. إذا وضعت الثقال وخططت أبنية أهل العسكر لم يمد خباء ولم ينتصب بناء

حتى يقطع لكل قائد ذرع معلوم من الرض بقدر أصحابه فيحتفروه عليهم (ويبنون) بعد ذلك خنادق الحسك طارحين لها دون أشجار الرماح ونصب الترسة لها بابان وقد وكلت بعد بحفظ كل باب منهما رجلاً من قوادك في مائة رجل من أصحابه فإذا فرغ من الخندق كان ذلك القائدان أهلاً لذلك المركز (ومو) ضع تلك الخيل وكانوا هم البوابين والأحراس لذينك الموضعين نداً إلى (؟) الرفاهة والسعة وتقدم العسكر أو التأخر عنه فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى نمن ولاه ذلك وأمنه بد على جيشه. واعلم أنك إذا أمنت بإذن الله طوارق عدوك وبغتاتهم فإذا رموا ذلك منك كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالجد فيه وتقدمت في الإعداد له ورتقت مخوف الفتق منه إن شاء الله. إذا ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعاً في. . . حذراً معداً مشمراً عن ساقك مسرياً لحربك قد قدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفت لك. . التي قدرت لك وطلائعك حيث أمرتك وجندك حيث عبأت قد خطرت عليهم بنفسك وتقدم إلى جندك إن (طرق) طارق أو فاجأهم عدو ألا يتكلم أحد منهم رافعاً صوته بالتكبير مستغفراً (؟) في أجلاب معلناً للإرهاب إلا أهل الناحية (التي) يقع بها العدو طارقاً وليشرعوا رماحهم مادين لها في وجوههم ويرشقهم بالنبل ملبدين ترستهم لازمين لمراكزهم. . . قدم عن موضعها ولا منحازين إلى غير مركزين وليكبروا ثلاث تكبيرات متوليات وسائر الجند هادون. . . عدوك من معسكرهم فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطك ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد وتدس لهم النشاب والرماح وإياك أن يشهروا سيفاً يتجالدون به وتقدم إليهم فلا يكون قتالهم بالليل في تلك المواضع من طرقهم إلا بالرماح مسندين غليها صدورهم والنشاب راشقين به وجوههم قد ألبدوا بالترسة وساتجنوا بالبيض وألقوا عليهم سوابغ الدروع وحباب الحشو فإن صد العدو عنهم حاملين على ناحية أخرى كبر أهل تلك الناحية الأولى وبقية العسكر سكوت والناحية التي صدر عنها العدو لازمة لمراكزها فعلت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم وإياك أن تخمد نار رواقك وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعراً لها وأوقدها حطباً جزلاً يعرف بها أهل العسكر مكانك وموضع رواقك ويسكن نافر قلوبهم ويقوى واهن قوتهم ويشتد منخذل ظهورهم ولا يرجفون فيك بالظنون ويجيلون لك آراء السوء وذلك من فعلك رد عدوك بغيظه ولم يستقل منك بظفر

ولم يبلغ من نكايتك سروراً إن شاء الله. فإن اتنصرف عنك عدوك ونكل عن الإصابة من جندك وكان بخيلك قوة على طلبه أو كانت لك خيل معدة وكتيبة منتخبة قدرت أن تركب بهم أكتافهم وتحملهم على سننهم فاتبعهم جريد خيل عليها لاثقات من فرسانك وأولوا النجدة ن حماتك فإنك ترهق عدوك وقد أمن بيتك وشغل بكلاله عن التحرز منك والأخذ بابواب معسكره والضبط لمحارسه موهنة حملتهم لغبة أبطالهم لما ألفوكم عليه من التشمير والجد وقد عقر الله فيهم وأصاب منهم وجرح من مقاتلتهم وكسر في أماني ضلالتهم ورد من مستعلي جماحهم. وتقدم إلى من توجه في طلبهم وتتبعه (أن يكونوا و) هم في سكون الريح وقلة الرفت وكثرة التسبيح والتهليل واستنصار الله عز وجل بقلوبهم وألسنتهم سراً وجهراًُ فلا لجب ضجة ولا ارتفاع ضوضاء دون أن يردوا على مطلبهم وينتهزوا فرصهم ثم يشهروا السلاح وينضوا السيوف فإن لها هيبة رائعة وبديهة مخوفة لا يقوم لها في بهمة الليل إلا البطل المحارب وذو البصيرة المحامي يستميت المقاتل وقليل ما هم عند تلك المواضع إن شاء الله. ليكن أول ما تقدم به في التهيؤ لعدوك والاستعداد للقائه انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجد والصرامة ممن قد (اعتا) د طراد الكماة وكشر عن ناجذة الحرب وقام على ساق في منازلة الأقران ثقف الفراسة مستجمع القوة مستحصد المريرة صبوراً على أهوال الليل عارفاً بمظاهر الفرص لم تمهنه الحنكة ضعفاً ولا أبلغت به السن ملالاً ولا أسكرته غرة الحداثة جهلاً ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفاً جريئاً على مخاطرة التلف متقدماً على أدراع الموت مكابراً لمرهوب الهول متقحماً مخشي الحتوف خاتئضاً عمرات المهالك برأي يؤيده الحزم ونية لا يخلجها الشك وأهواء مجتمعة وقلوب موقنة عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين ثم أعرضهم رأي عين على كراعهم واسلحتهم ولتكن دوابهم أناث عتاق الخيول وأسلحتهم سوابغ الدروع وكمال آلة المحارب متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجواهر وصافي الحديد والمتخيرة من معادن الأجناس هندية الحديد أو بدنية يمانية الطبع رقاق المضارب مستوية الشحذ مشطبة الضريبة ملبدين بالترسة الفارسية صينية التعقيب معلمة المقابض بحلق الحديد أنحاؤها مربعة ومحارزها بالتجليد مضاعفة ومحملها مستخف وكنائن النبل

وجعاب القسي قد استحقبوها وقسي الشريان والنبع أعرابية الصنعة مختلفة الأجناس محكمة العمل ونصول النبل مسمومة وتركيبها عرافي وترييشها بدوي مختلفة الصوغ في الطبع شتى الأعمال في التشطيب والاستزادة ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض منبسطة السنة سهلة الانعطاف مقربة الإنحناء ممكنة المرمى واسعة الأسهم فرضها سهلة الورود معاطفها غير معنون (؟) المواتاة. ثم ولِّ على كل مائة رجل منهم رجلاً من هل خاصتك وثقاتك ونصائحك وتقدم إليهم في ضبطهم وكف. . . واستنزل نصائحهم واستعداد طاعتهم واستخلاص ضمائرهم وتعهد كراعهم وأسلحتهم معفياً لهم من النوائب التي تلزم أهل العسكر وعامة جندك ثم اجعلهم عدة لأمر إن فاجأك أو طارق بيتك. ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة وحذرهم فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك فليكونوا كرجل واحد في التشهير والتردف وسرعة الإجابة فإنك عنيت أن لا تجد عند جماعة جندك مثل تلك الروعة والمباغتة إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية ولا أهبة معدة بل ذلك كذلك فاذكرها ولي الذين نبحث (؟) عدتك وقوتك ثقوباً قد قطعتها على القواد الذين وليتهم أمورهم فسميت أولاً وثانياً وثاتلثاً ورابعاً وخامساً إلى عشرة فإن اكتفيت فيما يبدهك ويطرقك لبعث واحد كان معداً لم تحتج فيه إلى امتحانهم في ساعتهم تلك وقطع البعث عليهم عندما يرهقك وإن احتجت إلى اثنين وثلاث وجهت منهم إرادتك إن شاء الله. وكل بخزائنك ودواوينك رجلاً أميناً صالحاً ذا ورع ودين فاضل واجعل معه خيلاً يكون مسيرها ومنزلها وترحلها مع خزائنك وتقدم إليه في حفظها والتوفر عليها واتهام من يستولي على شيء منها على إضاعته والتهاون به والشدة على من دنا منها في مسير أوضامها في منزل. وليكن عامة الجند والجيش إلا من استصلحت للمسير معها متنحين عنها مجانبين لها فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل حفزظ لها وذب عنها أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها حتى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير وإنما همتهم الشر فإياك وأن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع أو يجدوا إلى اغتيالها ومررته (؟) إن شاء الله.

اعلم أن أحسن مكيدتك أثراً في العامة وأبعدها صوتاً في حسن القالة ما نلت فيه الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة فلتكن رويتك في ذلك وحرصك على إصابته لا بالقتال وأخطار التلف. وادسس إلى عدوك وكاتب رؤوسهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراب وضع عنهم الأحن واقطع أعناقهم بالمطامع واملأ قلوبهم بالترهيب وإن أمكنتك منهم الدوائر وأصار بهم إليك الرواجع وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتباً كأنها جوابات كتب لهم إليك وتكتب على ألسنتهم كتباً إليك يدفعها إليهم ويحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التهمة فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم وتشتيت جماعتهم واحش قلوبهم سوء الظن من واليهم فيوحشهم منه خوفهم إياه على انفسهم إذا يقنوا بأنهامناياهم فإن بسط يده بقتلهم وأولغ في دمائهم سيفه واسرع في الوثوب بهم أشعرهم جميعاً الخوف وشملهم الرعب ودعاهم إليك الهرب وتهافتوا نحوك بالنصيحة وإن كان متأنياً محتملاً رجوت أن تستميل إليك بعضهم وتستدعي بالطمع ذوي الشر منهم وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم إن شاء الله. إذا تدانى الصفان وتوقف الجمعان واحتضرت الحرب فعبأت أصحابك لقتال عدوهم فأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله والتوكل على اللته والتفويض إليه ومسألته توفيقك وإرشادك وأن يعزم لك على لارشد والعصمة الكالئة والحيطة الشاملة. ومر جندك بالصمت وقلة التلفت إلى المشار ليه وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم وألا يظهروا تكبيراً غلا في الكرات والحملات وعند كل زلفة يزدلفونها فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن. وليكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل. اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي واكفنا شوكته المستحدة وأيدنا بملائكتك الغاليين واعصمنا بعونك من الفشل والعجز يا أرحم الراحمين. وليكن في عسكرك مكبرون بالليل والنهار قبل المواقعة يطوفون عليهم يحضونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم ويذكرونهم الجنة ورخاء أهلها وسكانها ويقولون اذكروا الله يذكركم واستنصروه ينصركم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبية جندك ووضعهم من راياتك ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو

سن وتجربة ونجدة على التعبية وأمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابه هذا إن شاء الله أيدك الله بالنصر وغلب لك على القوة وأعانك على الرشد وعصمك من الزيغ وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ومن الرسائل المفردات في الشطرنج رسالة عبد الحميد أما بعد فإن الله شرع دينه بإنهاج سبله وإيضاح معالمه وإظهار فرائضه وبعث رسله على خلقه دلالة لهم على ربوبيته واحتجاجاً عليهم برسالاته ومقدماً إليهم بإنذاره ووعيده ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ثم ختم بنبيه صلى الله عليه وحيه وقفى به رسله وابتعثه لإحياء دينه الدارس مرتضياً له على حين انطمست له الأعلام مختفية وتشتت السبل متفرقة وعفة آثار الدين دراسة وسطع رهج الفتن واعتلى قتام الظلم واستنهد الشرك وأسدف الكفر وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق واستطرق الجور واستنكح الصدوف عن الحق واقمطر سلهب الفتنة واستضرم لقاحها وطبقت الأرض ظلمة كفر وغيابه فساد فصدع بالحق مأموراً وبلغ الرسالة معصوماً ونصح الإسلام وأهله دالاً لهم على المراشد وقائداً لهم إلى الهداية ومنيراً لهم سبل الغواية زاجراً لهم عن طريق الضلالة محذراً لهم الهلكة موعزاً إليهم في التقدمة ضارباً لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخضون وما غليه يسارعون ويطلبون صابراً نفسه على الأذى والتكذيب داعياً لهم بالترغيب والترهيب حريصاً عليهم متحنناً على كافتهم عزيزاً عليه عنتهم رؤوفاً بهم رحيماً تقدمه شفقته عليهم وعنايته يرشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما بقاء النعمة عليهم وسلامة أديانهم وتخفيف أواصر الأوزار عنهم حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه ناصحاً متنصحاً أميناً مأموناً قد بلغ الرسالة وأدى النصيحة وقام بالحق وعدَّل عمود الدين حين اعتدل ميله وأذل الشرك وأهله وأنجز الله له وعده واراه صدق أسبابه في إكماله للمسلمين دينه واستقامة سنته فيهم وظهور شرائعه عليهم قد أبان لهم موبقات الأعمال ومفظعات الذنوب ومهبطات الأوزار وظلم الشبهات وما يدعو إليه نقصان الأديان وتستهويهم به الغوايات وأوضح لهم أعلام الحق ومنازل المراشد وطرق الهدى وأبواب النجاة ومعالق العصمة غير مدخر لهم نصحاً ولا مبتغ في إرشادهم غنماً. فكان مما قدم إليهم فيه نهيه وأعلمهم سوء عاقبته وحذرهم أصره وأوعز إليهم ناهياً وواعظاً

وزاجراً الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج والمواصلة عليها لما في ذلك من عظيم الإثم وموبق الوزر مع مشغلتها عن طلب المعاش وإضرارها بالعقول ومنعها من حضور الصلوات في مواقيتها مع جميع المسلمين وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناساً ممن قبلك من أهل الإسلام قد ألهجهم الشيطان بها وجمعهم عليها وألف بينهم فيها فهم معتكفون عليها من لدن صبحهم إلى ممساهم ملهية لهم عن الصلوات شاغلة لهم عما أمروا به من القيام بسنن دينهم وافترض عليهم من شرائع أعمالهم مع مداعبتهم فيها وسوء لفظهم عليها وإن ذلك من فعلهم ظاهر في الأندية والمجالس غير منكر ولا معيب ولا مستفطع عند أهل الفقه وذوي الورع والأديان والأسنان منهم فأكبر أمير المؤمنين ذلك وأعظمه وكرهه واستكبره وعلم أن الشيطان عند ما يئس منه من بلوغ إرادته في معاصي الله عز وجل بمصر المسلمين ومجمعهم صراحاً وجهازاً أقدم بهم على شبهة مهلكة وزين لهم ورطة موبقة وغرهم بمكيدة حيله إرادة لاستوائهم بالخدع واجتيالهم () بالشبه والمراصد الخفية المشكلة وكل مقيم على معصية الله صغرت أو كبرت مستحلاً لها مشيداً بها مظهراً لارتكابه إياها غير حذر من عقاب الله عز وجل عليها ولا خائف مكروهاً فيها ولا رعب من حلول سطوته عليها حتى تلحقه المنية فتختلجه وهو مصر عليها غير تائب على الله منها ولا مستغفر من ارتكابه إياها فكم قد أقام على موبقات الآثام وكبائر الذنوب حتى مد به مخرم أيامه. وقد أحب أمير المؤمنين أن يتقدم إليهم فيما بلغه عنهم وأن ينذرهم ويوعز إليهم ويعلمهم ما في أعناقهم عليها وما لهم من قبول ذلك من الحظ وعليهم في تركه من الوزر فآذن بذلك فيهم وأشده في أسواقهم وجميع أنديتهم وأوعز إليهم فيه وتقدم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع غليه من أهل الاعتكاف عليها والإظهار للعب بها وإطالة حبسه في ضيق وضنك وطرح اسمه في ديوان أمير المؤمنين وأفطمهم عما بهجوا به من ذلك والتمس بشدتك عليهم فيه وإنهاكك بالعقوبة عليه ثواب الله وجزاءه وإتباع أمير المؤمنين ورأيه ولا يجدن حد عندك هوادة في التقصير في حق الله عز وجل والتعدي لأحكامه فتحل بنفسك ما يسوءك عاقبة مغبته وتتعرض به لغير الله عز وجل ونكاله واكتب إلى أمير المؤمنين ما يكون منك إن شاء والله والسلام. وله تحميد في أبي العلاء الحروري:

الحمد لله الناصر لدينه وأوليائه وخلفائه المظهر للحق وأهله والمذل لأعدائه وأهل البدعة والضلالة الذي لم يجمع بين حق وباطل وأهل طاعة ومعصية الأجعل النصرة والفلج والعاقبة لهل حقه وطاعته وجعل الخزي والذلة والصغار على أهل الباطل والخلاف والمعصية حمداً يتقبله ويرضاه ويوجب به لأمير المؤمنين وأهل طاعته الزيادة التي وعد من شكره والحمد لله على ما يتولى من إعزاز أمير المؤمنين ونصره وإفلاجه وإظهار حقه على ما وقع بأعدائه وأهل معصيته والخلاف عليه من سطواته ونقماته وبأسه فيما ولي أمير المؤمنين من موالاة من والاه وعداوة من بغى عليه وعاداه لا يكله في شيء من الأمور إلى نفسه ولا إلى حوله وقوته ومكيدته فإنه لبا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به. تحميد لعبد الحميد في فتح: الحمد لله العلي مكانه المنير برهانه العزيز سلطانه الثابتة كلماته الشافية آياته النافذ قضاؤه الصادق وعده الذي قدر على خلقه بملكه وعزّ في سماواته بعظمته ودبر الأمور بعلمه وقدرها بحكمه على ما يشاء من عزمه مبتدعاً لها بإنشائه إياها وقدرته عليها واستصغاره عظيمها نافذاً إرادته فيها لا تجري إلا على تقديره ولا تنتهي إلا إلى تأجيله ولا تقع إلا على سبق من حتمه كل ذلك بلطفه وقدرته وتصريف وحيه لا معدل لها عنه ولا سبيل لها غيره ولا علم أحد بخفاياها ومعادها إلا هو فإنه يقول في كتابه الصادق وعنده مفاتح الغيب إلى آخر الآية. ولعبد الحميد في فتح يعظم فيه أمر الإسلام: أما بعد فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام ديناً رضي شرائعه وبين أحكامه ونور هداه ثم كنفه بالعز المؤيد وأيده بالظفر القاهر وآزره بالسعادة المنتجبة وجعل من قام به داعياً إليه من جنده الغالبين وأنصاره المسلطين كلما قهر بهم مناوئاً أورثهم رباعهم المأهولة وأموالهم المثرية ودارهم الفسيحة ودولتهم المطولة أمراً حتمه على نفسه ثم جعل من عاندهم وابتغى غير سبيلهم مسلماً قد استهوته ذلة الكفر بظلمها وحيرة الجهالة بجوارها وتيه الشقاء بمغاويه وكلما ازدادوا لدعوة الحق إباءً ازداد الحق إليهم ازدلافاً وعليهم عكوفاً وفيهم إقامة إلى أن يحل بهم عز الغلبة ونجاة المتجاوز داعين فيما شوقهم إليه محافظين على ما ندبهم له قد بذلوا في طاعة الله دماءهم وقبلوا المعروض عليهم في مبايعة ربهم لهم بأنفسهم الجنة

محمود صبرهم مسهل بهم عزمهم إلى خير الدنيا والآخرة. والحمد لله الذي أكرم محمداً صلى الله عليه بما حفظ له من أمور أمته أن اختار لمواريث نبوته ما أصار إلى أمير المؤمنين من تطويقه ما حُمل بحسن نهوض به وشج عليه ومنافسة فيه إن فعل وفعل (؟). والحمد لله الذي تمم وعده لرسوله وخليفته في أمة نبيه مسدداً له فيما اعتزم عليه والحمد لله المعز لدينه المتولي نصر أمة نبيه المتخلي عمن عاداهم وناوأهم حمداً يزيد به من رضي شكره وحمداً يعلو حمد الحامدين من أوليائه الذين تكاملت عليهم نعمة فلا توصف وجلت أياديه فلا تحصى الذي حملنا ما لا قوة بنا على شكره غلا بعونه وبالله يستعين أمير المؤمنين على ذلك وإليه يرغب إنه على كل شيء قدير. ولعبد الحميد أيضاً: أما بعد فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وارتضاه ديناً لملائكته وأهل طاعته من عباده وجعله رحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدى به من خلقه وأكرمهم وفضلهم وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين وحزبه الغالبين وجنده المنصورين وتوكل لهم بالظهور والفلج وقضى لهم بالعلو والتمكني وجعل من خالفه وعزب عنه وابتغى سبيل غيره أعداءه الأقلين وأولياء الشيطان الأخسرين وأهل الضلالة الأسفلين مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار. فأعجل لهم فيها من الخذلان والانتقام إلى ما أعد لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم والعذاب الأليم إنه عزيز ذو انتقام. وكتب عبد الحميد إلى أخ له في مولود ولد له وهو أولو مولود كان: أما بعد فإن مما أتعرف من مواهب الله نعمة خصصت بمزيتها وأُصفيت بخصيتها كانت أسرََّ لي من هبة الله ولداً أسمته فلاناً وأملت ببقائه بعدي حياة وذكرى وحسن خلافة في حرمتي وغشراكه إياي في دعائه شافعاً لي إلى ربه عند خلواته في صلاته وحجه وكل موطت من مواطن طاعته فإذا نظرت على شخصه تحرك به وجدي وظهر به سروري وتعطفت عليه مني أنسة الولد وتولت عني به وحشة الوحدة فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي أحاول مس جسده بيدي في الظلم وتارة أعانقه وارشفه ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد ولا منفسات الرغائب. سرني به واهبه لي على حين حاجتي فشد به أزري وحملني

من شكره فيه ما قد آدني بثقل حمل النعم السالفة إلي به المقرونة سراؤها في العجب بتارات ما يدركني به من رقة الشفقة عليه مخافة مجاذبة المنايا إياه ووجلاً من عواصف الأيام عليه. فأسأل الله الذي امتن علينا بحسن صنعه في الأرحام تأديبه بالزكاء وحرسه بالعافية أن يرزقنا شكر ما حملنا فيه وفي غيره وأن يجعل ما يهب لنا من سلامته والمدة في عمره موصولاً بالزيادة مقروناً بالعافية محوط من المكروه فإنه المنان بالمواهب والواهب للمنى لا شريك له. حملني على الكتاب إليك لعلم ما سررت به علمي بحالك فيه وشركتك إياي في كل نعمة أسداها إلي ولي النعم وأهل الشكر أولى بالمزيد من الله جل ذكره والسلام عليك. وكتب عبد الحميد عن هشام بن عبد الملك إلى يوسف بن عمر وهو باليمن في السلامة: فإن أمير المؤمنين كتب إليك وهو في نعمة الله عليه وبلائه عنده في ولده وأهل لحمته والخاص من أموره والعام والجنود والقواصي والثغور والدهماء من المسلمين على ما لم يزل ولي بالنعم (؟) فتولاه من أمير المؤمنين حافظاً له فيه ومكرماً له بالحياطة لما ألهمه الله فيه من أمر رعيته وعلى أعظم وأحسن وأكمل ما كان يحوطه فيه ويذب له عنه والله محمود مشكور إليه فيه مرغوب. أحب أمير المؤمنين لعلمه بسرورك به أن يكتب إليك بذلك لتحمد الله عليه وتشكره به فإن الشكر من الله بأحسن المواضع وأعظم المنازل فازدد منه تزدد به وحافظ عليه وتحفظ به وارغب فيه يهد إليكم مزيد الخير ونفائس المواهب وبقاء النعم فاقريء على من قبلك كتاب أمير المؤمنين إليك ليسر به جندك ورعيتك ومن حمله الله النعم بأمير المؤمنين ليحمدوا ربهم على ما رزق الله عباده من سلامة أمير المؤمنين في بدنه ورأفته بهم واعتنائه بأمورهم فإن زيادة الله تعلو شكر الشاكرين والسلام. ولعبد الحميد إلى مروان في حاجة: إن الله بنعمته علي لما رزقني المنزلة من أمير المؤمنين جعل معها شكرها مقروناً بها فهي تنمي بالزيادة والشكر مصاحب لها فليست تدخلني وحشة من أبناء حاجتي وأنا أعلم أنه لو وصل على أمير المؤمنين علم حالي أغناني عن استزادته ولكني تكنفتني مؤن استنفضت ما في يدي وكنت للخلف من الله منتظراً فإني إنما أتقلب في نعمه وأتمرغ في فوائده

واعتصم بسالف معروفه كان عندي. ولعيد الحميد في وصف الإخاء: فإن أولى ما اعتزم عليه ذوو الإخاء وتوصل إليه أهل المودات ما دعا أسبابه صدق التقوى وبنيت دعائمه على أساس البر ثم انهد إلينا حزين (؟ *) التواصل وشيده مستعذب العشرة فادعم قوياً وصفى مرنقاً وبخاصة (؟) الحقة منعطفة وسكنت به القلوب أنيسة وسمت من مواصلته الهمم مستعلية عن كل زائغ معتاف ومخوف عارض يحترم مسكة الإخاء ويختار مربوب المقة ضناً بما استعذبوا من محمود وثائقه وازدياداً فيما تمطقوا به من حلاوة جناه فإذا استخحكم لهم مدخور الصفاء بثبات أواخيه وظهور أعلامه ومحصول مخبره وثقة مواده كان سرورهم باعتلاقه وابتهاجهم بوجدانه وإنما هم صلته وبذلهم رعايته وحياطتهم محمودة بحيث نالوا من معرفته حظوته واستولوا عليه من مزية كرمه وتعرفوا من ذخيرة عائدته ومأمون حفاظه وكشف لهم عن نفسه مظهراً أعلامه مبدياً دفينته طارحاً قناع سره معلناً مكنون ضميره في نأي الدار وجدان (؟) المجتمع بإظهار ما استتر من المحاسن وبث في الحقب من المكارم قياماً لهم بالنصرة وحياطاً للمودة وترغيباً في العشرة فكان أكهف لجاء وأحرز حصن وأحصف جنة وأعون ظهير وأبقى ذخيرة وأعظم فائدة وأشرف كنز وأفخر صنيعة وآنق منظر وأينع زهرة أكثر الأشياء ريعاً وأنماها وصلاً وأمدها سبباً وأقواها أيداً وأحلاها ذوقاً وأدعمها ثباتاً وأرساها ركناً لا يدخل مستحقها سآمة ملال ولا كلال مهنة ولا تثبيط ونية ولا ضعف خور لنزول بائقة أو طروق طارقة من عوارض الأقدار وحوادث الزمان بل مواسياً في أزمها متورطاً غمرات قحمها متدرعاً هائل بوائقها مستلحماً نواظر مقاطعها حتى تصير به الأقدار إلى تناهيها ويبلغ به القضاة مقداره غير منان النصرة ولا برم التعب يرى تعبه غنماً ونصبه دعة وكلفة فائدة وعمله مقصراً وسعيه مفرطاً واجتهاده مضيعاً عدل الولد في بره والوالد في شفقته والأخ في نصرته والجار في حفظه والذخر في مكه فأين المعدل عن مثله أو كيف الإصابة لشبهه أو أنى عوض من فقده جمعها الله وإياك على طاعته وألفنا بمجاتبه وجعل أخوتنا في ذاته. قد حددت لك أي أخي الإخاء متشعباً ووصفته لمك مخلصاً وانتهيت بك إلى غاية أهل العقل منه وما تواصل أهل الرأي عليه ودعا إليه الإخاء من نفسه منتطقاً به ضامناً له ما

فرط في ذلك تقصير من أهله وداخله تضييع من حملته أو حاطه أحكام وكنفه حفاظ من رعاته. وافاني كتابك بما سألت من ذلك وعقلي محصور ورأيي منقسم وذهني فيما يتأهب به الأمير. . . والله من خزر الترك واختلاف رسله إلى جبال اللان والطبران وما والاهما بنوافذ أمره ومخارج رأيه فأنا مصيخ السمع للفظه عقل العقل عن سوى أمره محتضر الذهن في تدبيرهم ذهل القلب عن تفنين القول وتشعيب الكلام في تصنيف طبقات الرجال ومن أين دخل عليهم نقص الإخاء وكيف خانهم مونق الصفاء وقد صرحت لك عن رأي ذوي الثفاء وكشفت لك خباء الإخاء وجمعت لك ألف مودة أهل الحجى فتلق ما وصفت لك بقلب فهم عقول ذي ميزة يقظان وذهن جامع حافظ ذي ثقافة راع أحضرك الله عصمة التوفيق وسددك الله لإصابة الرشد ومكن لك صدق العزيمة والسلام. ومن رسائل عبد الحميد ما كتب عن مروان على هشام يعزيه بامرأة من حظاياه: إن الله تعالى أمتع أمير المؤمنين من أنسيته وقرينته متاعاً مده إلى أجل مسمى فلما تمت له مواهب الله وعاريته قبض إليه العارية ثم أعطى أمير المؤمنين من الشكر عند بقائها والصبر عند ذهابها أنفس منها في المنقلب وأرجح في الميزان وأسنى في العوض فالحمد لله وإنا إليه راجعون. وكتب موصياً بشخص يقول: حق موصل كتابي إليك كحقه علي إذ جعلك موضعاً لأمله ورآني أهلاً لحاجته وقد أنجزت حاجته فصدق أمله. وكتب في فتنة بعض العمال من رسالة: حتى اعتراني حنادس جهالة ومهاوي سبل ضلالة ذللاً لسباقه وسلماً في قياده إلى نزل من حميم وتصلبية حجيم سوى ما أنتجت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسك وقدحت الفتنة في قلبه من نار الغضب مضادة لله تعالى بالمناصبة ومبارزة لأمير المؤمنين بالمحاربة ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة على أن أصبح بفلاة قفر ونية صفر بعيدة المناط يقطع دونها النياط وكذلك الله يفعل بالظالمين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون. وكتب رسالة أخرى إلى أهله وهو منهزم مع مروان:

أما بعد فإن الله تعالى جعل الدنيا مخحفوفة بالكره والسرور فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها ومن عضته بنابها ذمها ساخطاً عليها وشكاها مستزيداً لها وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولية فملح عذبها وخشن لينها فأبعدتنا عن الأوطان وفرقتنا عن الأخوان فالدار نازحة والطير بارحة. وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعداً وغليكم وجداً فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم نرجع غليكم بذل الإسار والذل شر جار. نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين. وله من رسالة كتب بها عن آخر خلفاء بني أمية وهو مروان الجعدي لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية: فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية في يد الفئة العجمية واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة فسينضب السيل وتمحى آية الليل والله مع الصابرين والعاقبة للمتقين.

الحماسة البصرية

الحماسة البصرية نقدم أبو تمام الطائي فيما نحسب غيره من زعماء القريض وحملة رايات الأدب فجمع ما وقع اختياره عليه من شعر العرب العرباء وسماه (الحماسة) وحذا حذوه غيره من ضم شتيت شعر العرب ولكل اختياره ومنهم الشيخ أبو الحسن صدر الدين علي بن أبي الفرج بن الحسن البصري ألف حماسته برسم الملك الناصر صلاح الدين بن الملك العزيز بن الملك الظاهر سنة 647 هجرية وسماها الحماسة البصرية. قال في مقدمته: توخيت في تحرير مجموع محتوٍ على قلائد أشعارهم (العرب) وغرر أخبارهم مجتنباً للإطالة والإطناب بما تضمنته أبواب الكتاب كأمالي العلماء وحماسات الأدباء ودواوين الشعراء من فحول المحدثين وجواهر الكلام غير أهم قد نسبوا فيها أشياء إلى غير قائلها ولم يقيدوا الكتاب بترجمة أبواب فغدت فرائده متبددة الانتظام مستصعبة على الحفظ والإفهام فجاء مشتملاً على غرائب البديع وملح التصريف والترصيع ثم أن الشعر على اختلاف معانيه وأصوله مبانيه ينقسم إلى نعوت وأوصاف فما وصف به الإنسان من الشجاعة والشدة في الحرب والصبر في مواطنها يسمى حماسة وبسالة وما وصف به من حسب وكرم وطيب محتد سمي مدحاً وتقريظاً وفخراً وما أثني عليه بشيء من ذلك ميتاً يسمى رثاءاً وتأبيناً وما وصفت به أخلاقه المحمودة من حياء وعفة وإغضاءٍ عن الفحشاء ومسامحة الأخلاء سمي أدباً وما وصف به النساء من حسن وجمال وغرام بهن سمي غزلاً ونسيباً وما وصف به من إيقاد النيران ونباح الكلاب سمي قرى وضيافة وما وصف به من بخل وجبن وسوء خلق ونميمة سمي هجاءً وما وصفت به الأشياء على اختلاف أجناسها وأنواعها سمي نعتاً ووصفاً وملحاً وما ذكر به الإنابة إلى الله تعالى ورفض الدنيا سمي زهد وعظة وهاك نموذجات منه قال رجل من لخم يحرض الأسود اللخمي وذلك أنه كانت حرب بين ملوك غسان وملوك العراق وهم لخم فظفر الغسانيون باللخميين وقتلوا جماعة منهم ثم في آخر السنة التقوا في ذلك الموضع وكان قد جمع اللخميون جمعاً عظيماً فظفروا بالغسانيين وأسروا منهم جماعة وأراد ملكهم ابن المنذر الأسود البقاء عليهم فقام رجل من قومه وكان قد قتل له أخ يحرضه على قتلهم فقال: ما كل يوم ينال المرءُ ما طلبا ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا واحزم الناس من أن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا

وأنصف الناس في كل المواطن من ... سقا المعادين بالكأس الذي شربا ومنها: لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فالحق رأسها الذنبا ومنها: وهم أهلة غسان ومجدهم ... عال فإن حاولوا ملكاً فلا عجبا وعرضوا بفداء واصفين لنا ... خيلاً وإبلاً تروق العجم والعربا أيحيلون دماً منا ونحيلهم ... رسلاً لقد شرفونا في الورى حلبا

المتحفان المصريان

المتحفان المصريان المتحف المصري القديم من طاف في أرجائه وتجول بين معروضاته وحدق نظره في عادياته وغرائب آثاره ـ أدرك لأول وهلة عجزه عن أن يفي تلك الآثار حقها من الوصف وبيان المعنى الذي وضعت له والغرض الذي اتخذت من أجله. وإن ذلك المتحف بما حواه من الآثار الجمة التي كادت تفوق الحصر كالبحر الزاخر المتلاطم الأمواج: ففيه أدوات وهناك (خرداوات) لا يكاد يتبينها الطرف لدقتها وصغر حجمها كما أن فيه من المحاريب والتماثيل الهائلة والعمد الممدة أو الماثلة ما ينوء بالعصبة أولي القوة ويحتلاج في زحزحته من مكانه إلى تعضيد الآلات وأعمال الماكينات فكيف يتسنى للكاتب أن يودع أوصافاً وملاحظات غير محدودة في مقالة محدودة. ذات سطور معدودة سئل بعض الوعاظ عن معنى قوله تعالى {والسماء ذات الحبك} فأحاب بقوله: السماء التي نشاهدها فوق رؤوسنا وأما الحبك فهو شيء لا نعرفه لا نحن ولا أنتم. وهكذا أراني عاملاً في الاعتذار لأديب كلفني وصف المتحف وآثاره: فأقول: المتحف بناء جليل بجوار قصر النيل وأما العاديات التي فيه فشيء لا أعرفه ولا يتيسر لي وصفه: المتحف المصري مكتبة تاريخ ومعجم هيروغليف ومعرض صناعة وهيكل عبادة. والباحث في عادياته يلزمه أن يعرف ـ عدا عما ذكر ـ التاريخ الطبيعي والكيمياء والهندسة وأن يكون له ذوق خاص في الفنون الجميلة كالنحت والنقش والتصوير وإلا كان شأنه أن يدخل فيرى كل شيء ثم يخرج فلا يبقى في ذهنه شيء اللهم إلا وقفة على رأس رعمسيس الثاني تنتزع المرء من عالم الشهادة فغلى عالم الغيب وتقذفه فيها أمواج اليقين على صخور الريب. إذا دلنا النيل بصراحة على أن الأمة المصرية القديمة أمة زراعية بطبيعتها فإن هذا المتحف يدلنا أكثر صراحة أنها كانت أيضاً أمة صناعية ضربت في إتقان الصنائع وأحكامها بسهم وافر. أما الكهانة والديانة والعبادة وسر الروح والموت والحساب والعقاب فهذا يكاد ينطق به كل أثر تقع عينيك عليه في هذا المتحف. وقد راعت الحكومة النظير في البناء الذي شيدته لتلك الآثار. فكان فخماً مفخماً مثلها: بل

ربما قاسمها إعجاب الزائرين ولفت إليه عنها أنظار المتفرجين. والمتحف قسمان: وقد وضع في القسم السفلي العاديات الضخمة الهائلة: ففيه ألواح وصفائح حجرية كبيرة جداً وقد رسم عليها بالخط البربائي صور طيور وحيوانات وإشارات ورموز أخر يتخللها صور شخوص أيضاً. وهذه النقوش تراها منبثة على ظاهر التوابيت والنواويس والتماثيل وقلما يخلو أثر منها. وأكثر ما يرى بين تلك النقوش من الحيوانات صور الجعلان والعجول والغربان ثم القرود والبواشق وبنات آوى. ولا أذكر أني رأيت ما بين تلك الصور صورة فرس أو فارس فكأن المصريين القدماء ما كانوا يقتنون الخيول ولا يزاولون الفروسية. وقد ترى في ظاهر التابوت الحجري صورة بقرة يحلبها رجل وقد ربط عجلها من مقوده بإحدى قوائمها كيلا يفلت ويضل. والفرق بين التابوت والناووس أن الأول على هيئة صندوق من الحجر أو الخشب ويوضع على الأرض كما يوضع الصندوق. أما الناووس فوضعه عامودي وفتحته على طول الإنسان المقابل له بحيث يمكنه أن يدخل تلك الفتنحة كما يدخل من باب الدار. وترى بين المعروضات موائد من حجر على أشكال مختلفة وهي كمذابح يضع عليها كهنة المصريين الأدوات التي يمارسون بها طقوس عبادتهم. وترى تماثيل حجرية هائلة جداً منها ما هو على اسم المعبودات ومنها ما هو على اسم الملوك والفراعنة. وشأن المصريين كشأن اليونان الأقدمين من حيث أن القبيلين مزجوا بين معبوداتهم وملوكهم حتى اختلط حابلهم بنابلهم. وقد نحتوا من حجر الغرانيت سفينة سموها مقدسة. وكأن المقدسة عندهم هي التي يتخذونها للجنائز ونقل الموتى من شاطيء إلى آخر. ويوجد في تلك السفن زورقان كبيران كالزوارق الاعتيادية وباقيها مثل صغيرة تمثل الكبيرة في سواريها وأشرعتها وملاحيها. وعي في الدور العلوي وليس الأكثر من التوابيت الحجرية والخشبية والأولى مغطاة بأحجار منحوتة على شكل الإنسان تمثل الميت المودع فيها أما الأخرى الخشبية فيرسم على غطائها صور ذات ألوان وأصباغ تمثل الميت أيضاً. وفي هذا القسم كثير من الأحجار المختلفة في الحجم والشكل فمنها العمودي ومنها الهرمي وكثير منها شظايا حفظت لتجمع مع ما يوائمها ويأتلف معها.

أما الدور العلوي ففيه معظم العاديات وأنفس ذخائرها وأثمن كنوزها: ومن ذلك مجموعة الحلي والمصوغات ومجموعة المومياوات البشرية وأخرى للمومياوات الحيوانية. ومجاميع للنسيج والخزف وأجناس المعبودات والتوابيت والأمتعة والأدوات والخرثي ـ في نظير ذلك مما كان المصريون القدماء يرتفقون به في منازلهم ويعتمدون عليه في قضاء مصالحهم ومزاولة مختلف مهنهم وأعمالهم. والمومياء كناية عن جثة الميت تعالج بالأدوية والعقاقير ثم تشد وتلف بقطع ولفائف من النسيج شداً ولفاً محكمين على شكل خاص فتحفظ بذلك من البلى وتصل سليمة إلى الدار الأخرى. ويوجد في المتحف من تلك المومياوات زهاء عشرين مومياء ما بين ملوك وملكات وقواد وكهان وأطفال صغار. وفيها مومياء أعظم وأجل ملك قام في تاريخ مصر القديم وهو رعمسيس الثاني من ملوك العائلة التاسعة عشرة وإذا نظرت إلى تلك الجثث رأيت عجباً وباعثاً على التعاظ والدهشة إلى حد الذهول وانفعال المشاعر. ولم يبق من تلك التجاليد الأرق من جلد على فخ من عظم وقد تترآى لك مزع (قطع) اللحم محمرة أو كامدة اللون لكنها لاطئة على الأعضاء والأفخاذ حتى عادت كالجلد اليابس. ومن تلك الجثث ما هو سليم تام الجوارح ومنها ما تشوه بهتم أسنانه وصلم آذانه أو سمل عينيه أو هشم أنفه ومنها ما أمسى لونه أسود كالزنجي ومنها المحمر والرصاصي اللون وما استولت عليه الكمدة. وقد قال أبو النجم الشاعر العربي أن جذب الليالي وكرور الأيام عليه حلتت شعر رأسه وميزت عنه قنزعاً عن قنزع فماذا يقول هؤلاء الفراعنة وقد كرت عليهم آلاف السنين فوق الأرض وتحتها ثم فوقها مرة ثانية وإذا رأينا شعورهم مدلاة خصلاً وقنازع ذات ألوان منكرة لا يدري هل هي طبيعية أو نشأت عن جذب دهر الدهارير أو تأثير الأدوية والعقاقير. وإذا رأى المرء هذه المومياوات تذكر ما قاله ابن خلدون من أن الأقدمين ما كانوا أضخم منا جثة ولا أطول قامة إلى الحد الذي وصفه القصاص والممخرقون وإنما هم أمم أمثالنا بدليل تلك المومياوات التي عثروا عليها في المدافن والنواويس. كما أنتقليب الفكر في هذه الجثث يوحي إلى النفس بأن العذاب الذ أوعد به الكافرون في برازخهم لا يصيب إلا الروح. وإلا فيلزمنا القول بأن أموات المصريين الأقدمين كانوا على عقيدة صحيحة تنجيهم

من عذاب البرزخ. أو أنهم لم تبلغهم دعوة رسول فما كانوا معذبين. أو يقال أن صناعة التحنيط المصرية كانت تحول بين القدرة افلهية وبين التنكيل بهذه الموميات فلا يصيبها شر ولا يلحقها أذى اللهم غفراً. أما المومياوات الحيوانية فلها مستودع خاص بها. وترى هناك تمساحين طول الواحد زهاء أربعة أمتار. وسمكة طولها أكثر من متر وطيور ماء ودجاج وأفراخ وكلاب وقطط وقرود وغزلان ووعول وخرفان وهذه الأجناس الأخيرة ماثلة أمام النظارة هياكل عظام مجردة عن اللحم. كما أن بعض الطيور والقرود لها نواويس تناسب حجمها قد أودعت فيها. وبين هذه المومياوات كثير من الأصداف والأبواق والقواقع البحرية وعدة قطع من الذبل (عظم السلاحف) ومن بيض الدجاج وبين آخر أكبر منه وأصغر من بيض النعام. وقد ألحقوا بهذه المومياوات الحيوانية موميات نباتية فترى غصوناً وأورقا شجر وأثماراً وضروباً أخرى من النبات وحبوباً وبذوراً وعدة أقراص من الخبز وقرص عسل من شمع النحل. وكلها معالجة بالأدوية والعقاقير ومحفوظة بذلك من الاندثار. وإذا حفظ المصريون أجساد أمواتهم من البلى لتقوم سليمة ساعة الحشر والنشر فلا بدع إذا تداركوا لهم من أطايب الزاد وشهي الأثمار ما يقوون به على تحمل أعباء الحساب. ولكن ما الغرض من حفظ جثث الكلاب والقطط والقرود يا ترى؟ وقد خصصوا في المتحف مكاناً للحلي وأدوات الزينة وإنك لترى فيها قطعاً نفيسة جداً. وإذا أدركت كنه بعضها وفقهت الغرض الذي تتخذ لأجله كالأسورة والعقود والخواتيم ـ فإنك ترى منها ما لا تعرف له مغزى ولا تفقه له غرضاً بل إذا حاول المرء وصفه بقلمه أو لسانه فلا يقدر عليه. ومن ثمة كانت الزائرات من نساء الإفرنج يصورون ما يستحسنونه من تلك القطع في مذكراتهن تصويراً. وقد رأيت فتاة تصورا خنجراً له مقبض جميل مطوق بالذهب ومرصع بالأحجار الكريمة. وأخرى تصور عقداً مؤلفاً من عدة أسلاك نظزمت فيها الأحجار الكريمة وفصلت بالجمان وخيوط الذهب تفصيلاً. وليست الأحجار الكريمة مما نعهده بيننا اليوم كالماس واللؤلؤ والياقوت والمرجان وإنما هي أجناس أخر ليست منها وليس لها بريقها وبصيصها. ثم إذا طفت في أرجاء ذلك المتحف وقلبت طرفك بين عادياته وذخائره بصرت بأشياء ودوات كثيرة: منها ماله مثال في مرافقنا وتكاليف مدنيتنا كالجرار

والأسرة والمسارج. ومنها ما ليس له مثال كقطع من خزف أو طين على هيئة مخروط لا يعرف المرء منفعتها مهما قلب فيها الطرف وأخرى متخذة من الخزف والإبريز والزجاج والمرمر والحجر والعاج وغير ذلك بحيث لا يدري إن كانت تستعمل في مرافق منزلية أو صناعية وترى أواني خزفية عليها كتابة فينيقية مما يدل على اتصال المعاملة والمتاجرة بين تيك الأمتين القديمتين وزوارق من خشب لها سواء وأشرعة على غير الوضع المعهود في زماننا وفي تلك الزوارق صور رجال تمثل الملاحين والنواخذة وشراذم الجنود بأيديهم الدرق والرماح وآخرون بأيديهم السهام والسيوف. وهناك تمثال شخص منحن على ركبتيه ويداه في إجانة أو وعاء أمامه كأنه يعجن أو يغسل وآخر بيده حجر كأنه يسحق به عقاراً. وخدم على رؤوسهم كهيئة الصناديق يمشون بها. ونعال من جلد أو خوص ومراوح من خوص وقماش. وكراسي ومقاعد وعربات على شكل غير معهود عندنا وصحاف وأزيار وأسرة لوضع الموميات في الاحتفالات الجنائزية وأمتعة وأوان غريبة الشكل منقوشة ومكتبة بالقلم البربائي. وأدوات وآلات للصناع وأرباب الحرف كالبنائين والنجارين وموازين ومقاييس ومكاييل ومثاقيل ومغازل وصناديق صغيرة من خشب مطعمة بالعاج والعظم. كما أن أخشاب التوابيت والزوارق مجموعة على طريقة التحشية المعروفة لدى أرباب هذه الصناعة اليوم. ورقوق وأدراج من البردي عليها نقوش وتصاوير ملونة بالأصباغ الزاهية ودمى وتماثيل صغيرة من مواد مختلفة من مثل الذهب إلى مثل الخزف تمثل موميات الأموات كأنهم يحفظونها كتذكار لأمواتهم. وأكثر ما ترى بين التماثيل المبثوثة في جنبات المتحف تمثال الجعل والعجل. وهناك تماثيل أخر على شكل الغراب والباشق وابن آوى والقرد وهم تارة ينحتونها من الخشب والحجر وطوراً يصنعونها من المعادن والفلز وآونة من اللازورد والجزع واليشب. وإنك لترى الحجر الضخم بحجم الرحى الكبيرة وقد نحت فيه من أعلاه صورة جعل كبير طوله نصف ذراع أو أكثر. وقد ينقشون الجعل تذكاراً لبعض الحوادث والأمور كالجعل الذي نقش تذكاراً لاقتران أمنوتس الثالث بتي. أما العجل أبيس فقد أبدعوا في تمثيله وتصويره وتفننوا في الرمز إلى أحواله وأطواره: أبيس وقف ـ أبيس رابض ـ أبيس على شكل رجل برأس ثور ـ أبيس على يمينه

أسيس وخلفه نفتيس إلى غير ذلك. وتماثيل المعبودات مختلفات الهيئات متعددات الأشكال: فمعبودة صا الحجر يخالف شكلها معبودة عين شمس وتملاثيل المعبودة سلكيت على وضع غير وضع تماثيل المعبودة صاتحور وغير تماثيل المعبودة نفتيس هنا معبودة في حجرها طفل ترضعه. وهناك معبود له جناحان وقد نجم في رأسه قرنان كقرني الشيطان وقد أشرق من بينهما مثال الشمس والقمر. وثمة آخر يرفع يديه إلى السماء يمنعها أن تسقط على الأرض وأمامه معبود رأس رأس كبش ووراءه آخر برأس سبع. وما هذا المعبود الذي أمسك بكل يد \ من يديه ثعبانين وعقرباً وغزالاً وأسداً وقد وطيء بأخمصيه رؤوس تمساحين. وما هذه المعبودات الأخرى التي نصفها الأسفل أفعى والأعلى امرأة ولها مكان اليدين جناحا نسر وكأن قد بسطهما؟ هذا ما وعته الذكرة أيها الأديب من أمر ذلك المشهد العجيب فإن كان مما يعجبك وإلا فإني قائل ما قاله الواعظ الحبك. دار الآثار العربية يتوقف التمكن من علم أو صناعة على معرفة تاريخ 1ذلك العلم أو هذه الصناعة. فإن هذه المعرفة ما يدعو المرء إلى التوسع في علمه أو تحسين صناعته وزيادة البصيرة فيها. وكان التاريخ في القديم مسطوراً ومقروءاً. أما الآن فقد تنبه الإفرنج إلى نوع من التاريخ أقرب تناولاً من الأول وأكثر فائدة منه. ويصلح أن نسميه التاريخ الماثل المنظور ـ ذلك التاريخ هو ما يعرض على طلبة صناعة الكاشاني مثلاً كان عليه أن لا يقتصر على قراءة ذلك في السطور والأسفار بل يزور ما حفظ منها ونضد في دور الآثار: فهي تعرض عليه ما وجد من آثار تلك الصناعة من أول نشأتها وكيف تدرجت إلى أن وصلت إلى حالتها الحاضرة. وهذا النوع من التاريخ أتقنعه الأوروبيون وشادوا له المباني الفخيمة. والدور العظيمة. وقد تنبهنا نحن إلى ذلك في الأزمنة المتأخرة. فكان في الأستانة وفي القاهرة بعض الشيء من ذلك. ومن الأسف أن دار الآثار العربية في القاهرة كأنما أنشئت للأوروبيين وللمشتغلين يبالتاريخ والصناعة منهم: فهم الذين يزورونها ويتفقدون معروضاتها ويستفيدون منها وقلما

نرى زائراً لها من أهل البلاد أو من أهل الحرف والصناعات فيها. وإذا سألت عن السبب في وضع فهرست لتلك الآثار الإفرنجية من دون العربية اعتذروا إليك بما قلناه من أن الإفرنج هم الذين يتداولن الفهرست ويحرصون على الاستفادة مما فيه. أما ابناء العرب فإذا وجد منهم بضعة آحاد يحذون حذو أولئك فهم في الغالب على معرفة من اللغة الأجنبية تمكنهم من الانتفاع بما سطر في الفهرست. ومعظم الآثار الموجودة في دار الآثار العربية يرجع عهده إلى القرن السابع والثامن والتاسع من الهجرة: أي هي من مخلفات أمراء المماليك والجراكسة الذين عاشوا الدولتين الصلاحية والعثمانية. فمن نظر في آثار تلك القرون الثلاثة تبين له من حسنها ونفاستها وإتقان العمل فيها ـ ما يحكم معه بأن عصر أولئك المماليك كان عصر عمران وترق في الصناعة والذوق والترف. وأنه امتاز عن العصور التي سبقته وخلفته في ذلك. ويمكن تقسيم الآثار إلى خمسة مجاميع: 1) مجموعة الحجر والرخام: ومعظمها يتألف من شواهد القبور وأزيار ماء بينها صفيحة حجر ضخمة عثروا عليها في الإسكندرية. ومكتوب عليهاما يفيد أن البناء التي كانت فيه مما أمر بإنشائه السلطان صلاح الدين. وشاهدة قبر محمد بك أبي الذهب مملوك محمد بك الإلفي. وهي مذهبة ومكتوب عليها شعر يدل على اسمه ووفاته في سنة 1189. ومعظم الأزيار من رخام. ولها أحواض خاصة بها ترتكز عليها. ومما هو من الغرابة بمكان أن ترى حجراً ضخماً من الرخام نحت منه زير كبير مستطيل أو كروي الشكل. وقد جوف تجويفاً تاماً يحار العقل في الطريقة التي اتخذها صانعوه في تجويفه ثم نحت على ظاهره أشكال نافرة ورسوم متناسبة أو أضلاع مستوية كلها غاية في الحسن ودقة الصنعة. وأحد تلك الأزيار النفيسة اصطنع برسم الخاتون تاتار ابنة السلطان قلاوون وهناك صفائح من الرخام كبيرة حفر على سطوحها نقوش متعرجة متناسبة. وتسمى الصفيحة من تلك الصفائح السلسبيل والغرض منها أن يسيل الماء عليها من أنبوبة فوقها وفي أثناء سيلانه يتكسر بسبب ما تحته من التعاريج ويكون ذلك وسيلة إلى امتزاجه بالهواء ثم يصل إلى حوض رخامي صغير في أسفل الصفيحة فيكون ماء صحياً صالحاً للشرب كذا قالوا. وعندي أن السلسبيل وتحدر الماء عليه مما اتخذ لترويح النفس وإمتاع النظر كما اتخذوا

لذلك الفساقي ونوافرها. والسلسبيل في اللغة يوصف به الماء والشراب السائغ السهل المدخل في الحلق. 2) مجموعة الأخشاب: وهي تحتوي على محاريب ومنابر وأبواب وشبابيك ورواشن وكراسي للمصاحف وغيرها منها ما هو جاف غليظ ومنها ما بلغ منتهى الدقة والحسن. وقد ترى أغلاق الأبواب والنوافذ مؤلفة من قطع صغيرة من الخشب ذي الألوان المختلفة بحيث يقوم اختلاف تلك الألوان مقام الدهن بالأصباغ. وتلك القطع متناسقة ومرتبة على أشكال وأوضاع هندسية كصناعة الفسيفساء في الزجاج والرخام. وهي متماسكة الأجزاء لا بالمسامير وإنما بطريق الجمع والتحشية. فهل كانت المسامير أو مادة الحديد عزيزة وقليلة الوجود في تلك الأعصر إلى هذا الحد؟ أو أن الصناع يريدون أن يظهروا مهارة وبراعة في صناعتهم بحيث يستغنون عما لا غنية عنه في العادة. 3) مجموعة المعدن والبرونز: وهي تتضمن أدوات كثيرة وأشياء مختلفة من ذلك ـ الثريات النحاسية التي قد تحمل الواحدة منها زهاء 360 مصباحاً،. ومنها كرسيان عاليان من نحاس شغل تفريغ مكتب بالذهب والفضة وهما مما صنعهما الصناع برسم ابن قلاوون. ومن الآثار النفيسة في هذه المجموعة مقلمة الغزالي وهي علبة مستطيلة من النحاس كان الإمام يضع فيها دواته وأقلامه ومكتوب على ظاهرها شيخ الإسلام محمد الغزالي الخ وهناك قطعة من الحلي ضخمة محدبة الشكل على هيئة نصف كرة من فضة وذهب ومرصعة بالياقوت والماس أهداها إلى دار الآثار حضرة محمد مجدي بك مستشار الاستئناف بمصر ويقال أن صاحبها في القديم كان يعيرها أو يؤجرها إلى أهل العرس يزينون بها عروسهم ليلة إهدائها إلى زوجها. 4) مجموعة الكاشاني والزجاج: ومعظم هذه المجموعة يتألف من مشكاوات (جمع مشكاة) وقطع آجر منقوشة ومكتبة وملونة بالأصباغ المختلفة. وقد اختلفوا في معنى المشكاة في القرآن اختلافاً كثيراً وأشهر الأقوال فيها أنها الكوة غير النافذة أما المشكاة في دار الآثار فلا خلاف في أنها وعاء من زجاج منتفخ البطن مخصر العنق له عرى حول عنقه يشد منها بالسلاسل إلى السقف ويوضع في جوفه الزجاجة التي يكون فيها المصباح. والمشكاوات

في دار الآثار تبلغ المئة. وإنك ترى ظاهرها منقوشاً ومصبغاً بالألوان وبعضها مكتباً بالآيات مثل الله نور السموات إلى قوله تعالى المصباح في زجاجة. ومن نفائس هذه المجموعة قطعة من الكاشاني نصف ذراع في مثله ـ صورت عليها مكة وحرمها ومعاهدها وضواحيها فهي بمثابة خارتة جغرافية لتلك البقاع المباركة وقد نقشت بالأصباغ والألوان المختلفة وعليها كتابات تنبئ بأسماء المعاهد ومكتوب عليها اسم صانعها ـ كل ذلك بمادة المينا أو بالدهان الملون الذي يشوى على سطح الخزف شياً. وفي هذه المجموعة زير من خزف ضخم كروي الشكل مدهون بدهان قاتم شديد اللمعان وقد عثروا عليه وهم يحفرون في بعض جدران الأزهر وهناك أواني لوضع الزهور (زهريات) وهي كالزير الصغير ولها أعناق مستطيلة على شكل الزهريات التي تصنع في شرقي آسيا وقد صنعت برسم السلطان حسن صاحب الجامع المشهور. ومما تتضمنه تلك المجموعة هنات مدورة من زجاج كانوا يستعملونها في الموازين مكان الصنوج المعدنية أن هذه يركبها الصدأ أو يأكلها فتزيد أو تنقص وأما تلك فلا تزيد ولا تنقص. 5) مجموعة النسيج: فيها قطعة من ثوب مكتوب عليه اسم قلاوون. وأنفس ما في هذه المجموعة بل أثمن تحفة تنافس بها دار الآثار العربية سائر الدور الأخرى ـ قطعة من حاشية نسيج كان حيك في مصر برسم الخليفة الأمين العباسي ابن هارون الرشيدي المتوفى في أخريات القرن الثاني من الهجرة وقد كتب على هذا النسيج بخيوط السدا واللحمة ما نصه بسم الله بركة من الله لعبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه مما أمر بصنعته في طراز العامة بمصر ـ الفضل ابن الربيع مولى أمير المؤمنين والفضل هذا كان وزيراً للأمين. وقد أريد بطراز العامة دار الطراز التي كان يصنع بها. والطراز من شارات الخلفاء وشعائرهم وهو أن ترسم أسماؤهم أو علامات يخصون بها أنفسهم ـ في حواشي أثوابهم التي يلبسونها ـ بخيوط من ذهب أو حرير ملون فيدل الطراز على لابسه كما تدل شرائط القصب والحرير الملون على مراتب ضباط الجند لهذا العهد. وكان لنسيج الطراز مصانع خاصة به تسمى دور الطراز والقيم الذي يشرف عليها يسمى صاحب الطراز. ويؤخذ مما كتب على قطعة النسيج المذكورة أن دار طراز الخلفاء

العباسيين في زمن الأمين ـ كانت في مصر. هذا مثال مما يمكن أن يقال عن دار الآثار العربية ومن حسن عناية ولاة الأمور بتلك الدار أن اختاروا لها من أبناء البلاد ذوي الكفاءة ممن يعرف كيف يرتب تلك الآثار ويقرأ الكتابات المختلفة التي عليها ويهتم بحل الرموز التي تتراءى فيها ثم يشرح كل ذلك للوافدين فيكثر إن شاء الله ترددهم إليها وانتفاعهم بها. (المغربي)

الفقر والسقام

الفقر والسقام أيّ مضنى يمدها باكتئاب ... أنة تترك الحشا في التهاب يتشكى والليل وحف الإهاب ... ضمن بيت جثا على الأعقاب صفعته فمال كفّ الخراب تسمع الأذن منه صوتاً حزيناً ... راجفاً في حشا الظلام كمينا يملأ الليل بالدعاء أنيناً ... ربّ كن لي على الحياة معينا ربّ إن الحياة أصل عذابي وجع في مفاصلي دق عظمي ... ودهاني ولم يرق لعدمي عاقني عن تكسبي قوت يومي ... ربّ فارحم فقري بصحة جسمي إن فقري أشد من أوصابي يا طبيباً وأين منّي الطبيب ... حال دون الطبيب فقر عصيب لا أصاب الفقير داء مصيب ... إن سقم الفقير شيء عجيب بطلت فيه حكمة الأسباب رجل معسر يسمى بشيرا ... كان يسعى طول النهار أجيرا كاسباً قوته زهيداً يسيرا ... مالكاً في المعاش قلباً شكورا راجياً في المعاد حسن المآب وله أخت حكته خلقاً نزيهاً ... عانس جاوز الزواج سنيها لزمت بيت أمها وأبيها ... مع أخيها تعيش عند أخيها مثله في طعامه والشراب كل يوم له ذهاب ومأتى ... في معاش من كدّه يتأتى هكذا دأبه مصيفاً ومشتى ... فاعتراه داء المفاصل حتى عاقه عن تعيش واكتساب بينما كان في قواه صحيحاً ... ساعياً في ارتزاقه مستميحا إذ عراه الضنى فعاد طليحا ... ورمته يد السقام طريحا جسمه من سقامه في اضطراب بات يبكي إذا له الليل آوى ... بعيون من السهاد نشاوى

فترى وهو بالبكا يتداوى ... قطرات من عينه تتهادى كشهاب ينقض أثر شهاب إن سقماً به وعدماً ألما ... تركاه يذوب يوماً فيوما فهو حيناً يشكو إلى السقم عدما ... وهو يشكو حيناً إلى العدم سقما باكياً من كليهما بانتحاب ظلّ يشكو للأخت ضعفاً وعجزاً ... إذ تعزّيه وهو لا يتعزى أيها الأخت عزّ صبري ... إن للداء في المفاصل وخزا مثل طعن القنا ووخز الحراب قد تمادى به السقام وطالا ... وتراءى له الشفاء محالا إذ قلاباً به السقام استحالا ... كان هيناً فصار داء عضالا ناشباً في الفؤاد كالنشاب ظل ملقى وأعوزته المطاعم ... موثقاً من سقامه بالأداهم منفقاً عند ذاك بعض دراهم ... ربحتها من غزلها الأخت فاطم قبل أن يبتلى بهذا المصاب قال والأخت أخبرته بأن قد ... كربت عندها الدراهم تنفد أخبري السقم عله يبتعد ... أيها السقم خل عيشي النكد لا تعقني في عيشتي عن طلابي مرضيني شقيقتي مرضيني ... وعلى الكسب في غد حرضيني وإذا مسك الطوى فارفضيني ... أو على الناس للمبيع اعرضيني علهم يشتروني مما بي رام خبزاً والجوع أزكى الأوارا ... في حشاه فعللته انتظارا ثم جاءت بالماء تبدي اعتذارا ... وهل الماء وهو يطفيء نارا يطفئ الجوع ذاكيا في التهاب خرجت فاطم إلى جارتيها ... وهي تذري الدموع من مقلتيها فأبانت برقة حالتيها ... من سقام ومن سعار لديها

وشكت بعد ذا خلوّ الوطاب فانثنت وهي بين ذل وعز ... تحمل التمر في يد فوق الخبز وبأخرى دهناً وبعض أرز ... منحوها به وذو العرش يجزي من أعان الفقير حسن الثواب ليلة تنشر العواصف ذعراً ... في دجاها حيث السحاب اكفهرا ذا هزيم في الأذن وقرا ... حين تبدي صوالج البرق تترى كهربائية سرت في السحاب مدّ فيها ذاك المريض الأكفا ... في فراش به الموت أوفى طرفه كالسها يبين ويخفى ... حيث يغطي طرفاً ويفتح طرفا عاجزاً عن تكلم وخطاب فدعته والعين تذري الدموعا ... أخته وهي قلبها قد ريعا يا أخي أنت ساكت أفجوعاً ... ساكت أنت يا أخي أم عجوعا فاشفي يا أخي برجع الجواب قرأت منه أنه لا يجيب ... فتدانت والدمع منها صبيب ثم أصغت وفي الفؤاد وجيب ... ثم هابت والموت شيء مهيب ثم قامت بخشية وارتياب خرجت فاطم من البيت ليلا ... حيث أرخى الظلام سدلا فسدلا وهي تبكي والغيث يهطل هطلا ... مثل دمع من مقلتيها استهلا أو كماء جرى في الميزاب ربّ أدرك باللطف منك شقيقي ... وامنع الغيث أن يكون معيقي ومر البرق أن يضيء طريقي ... ببريق أثر بريق فعسى أهتدي في ذهابي قرعت في الظلام باب الجار ... وهي تبكي الأسى بدمع الجار ثم نادت برقة وانكسار ... أم سلمي ألا بحق الجوار فافتحي إنني أنا في الباب

فأتتها سعدى وقد عرفتها ... وعن الخطب في الدجى سألتها ثم سارت من بعد ما أعلمتها ... تقتفيها وبنتها تبعتها فتخطين في الدجى بانسياب جئن والسحب أقلعت عن حياها ... وكذاك الرعود قل رغاها حيث يأتي شبه الأنين صداها ... غير أن البروق كان ضياها مومضاًَ في السماء بين الرباب فدخلن المحل وهو مخيف ... حيث أن السكوت فيه كثيف وضياء السراج نور ضعيف ... وبه في الفراش شخص نحيف دب منه الحمام في الأعصاب قالت الأخت أم سلمى انظريه ... ثكلت روح أمه وأبيه فرأت منه إذ دنت نحو فيه ... نفساً مبطئ التردد فيه ثم غاله الردى باقتضاب وجمت حيرة وبعد قليل ... رمقت فاطماً بطرف كليل فيه حمل على العزاء الجميل ... فعلا صوت فاطم بالعويل وبكت طول ليلها بانتحاب فاستمرت حتى الصباح توالي ... زفرات بنارها القلب صال فأتاها ودمعها في انهمال ... بعض جاراتها وبعض رجال من صعاليك أهل ذاك الجناب وقفوا موقفاً به الفقر ألقى ... منه ثقلاً به المعيشة تشقى فرأوا دمع فاطم ليس يرقا ... وأخوها ميت على الأرض ملقى مدرج في رثائث الأثواب فغدت فاطم ترن رنيناً ... ببكاء أبكت به الواقفينا ... أيها الواقفون هل ترحمونا من مصاب دها وأيّ مصاب أيها البواقفون لا تهملوه ... دونكم أدمعي بهن اغسلوه

ثم بالثوب ضافياً كفنوه ... وادفنوه لكن بقلبي ادفنوه لا تواروا جبينه بالتراب بعد أن ظلّ لافتقاد المال ... وهو ملقى إلى أوان الزوال جاد شخص عليه بعد سؤال ... بريال وزاد نصف ريال رجل حاضر من الأنجاب كفنوه من بعد ما تم غسلا ... وتمشوا به إلى القبر حملا فترى نعشه غداة استقلا ... نعش من كان في الحياة مقلا دون ستر مكسر الأجناب ناحت الأخت حين سار وصاحت ... أختك اليوم لو قضت لاستراحت ثم سارت مدهوشة ثم طاحت ... ثم قامت ترنو له ثم راحت تسكب الدمع أيما تسكاب أيها الحاملوه لأمشي ركض ... إن هذا يوم الفراق الممض فاسألوه عن قصده وأين يمشي ... إنه قد قضى ولم يك يقضي واجبات الصبا وشرخ الشباب إن قلبي على كريم السجايا ... طاح والله من أساه شظايا قاتل الله يا ابن أمي المنايا ... أنا من قبل مذ حسبت الرزايا لم يكن رزء موتكم في حسابي إن ليلي ولست من راقديه ... كلما جاءني وذكرنيه قلت والدمع قائل لي إيه ... يافقيداً أعاتب الموت فيه ببكائي وهل يفيد عتابي رحت يوماً وقد مضت سنتان ... أتمشي بشارع الميدان مشي حيران خطوة متدان ... أثقلته الحياة بالأحزان وسقته كأساً بطعم الصاب بينما كنت هكذا أتمشى ... عرضت نظرة فأبصرت نعشا بادياً للعيون غير مغشى ... نقش الفقر فيه للحزن نقشا

فبدا لوح أبؤس واكتئاب قلت سراً والنعش يقرب مني ... أيها النعش أنت أنعشت حزني للأسى فيك حالة ناسبتني ... إن بدا اليوم فيك حزن فإني أنا للحزن دائماً ذو انتساب رحت أسعى وراءه مذ تعدى ... مسرعاً في خطاي لم آل جهدا مع رجال كأنجم النعش عدا ... هم به سائرون سيرا مجدا فتراه يمرّ مرّ السحاب مذ لحدنا ذاك الدفين وعدنا ... قلت والدمع بلّ مني ردنا إن هذا هو الذي قد وعدنا ... فأبينوا من الذي قد لحدنا فتصدى منهم فتى لجوابي قال إن الدفين أخت بشير ... أخت ذاك المسكين ذاك الفقير بقيت بعده بعيش عسير ... وبطرف باك وقلب كسير وقضت مثله بداء القلاب قلت أقصر عن الكلام فحسبي ... منك هذا فقد تزلزل قلبي ثم ناجيت والضراعة ثوبي ... ربّ رحماك ربّ رحماك ربّ ربّ رشداً إلى طريق الصواب ربّ إن العباد أضعف أن لا ... يجدوا منك ربّ عفواً وفضلا فاعف عن أخذهم وإن كنت عدلا ... أنت يا ربّ أنت بالعفو أولى منك بالأخذ والجزا والعقاب قد وردنا والأرض للعيش حوض ... واحد كلنا لنا فيه خوض فلماذا به مشوب ومحض ... عظمت حكمة الإله فبعض في نعيم وبعضنا في عذاب أيها الأغنياء كم قد ظلمتم ... نعم الله حيث ما إن رحمتم سهر البائسون جوعاً ونمتم ... بهناء من بعد ما قد طعمتم من طعام منوّع وشراب

كم بذلتم أموالكم في الملاهي ... وركبتم بها متون السفاه وبخلتم منها بحق الله ... أيها الموسرون بعض انتباه أفتدرون أنكم في تباب بغداد معروف الرصافي

الفتوة والفتيان

الفتوة والفتيان قرأت ما نقلتموه عن تاريخ ابن الساعي من أمر الفتوة والفتيان وذهبتم إلى أنها بجمعية سياسية والأليق أن يقال أنها جمعية للإنسانية تعاهد المنتظمون في سلوكها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويم المعوج وإغاثة الملهوف وقرى الضيف وما أشبه ذلك من مكارم الأخلاق ولما كان لا بد لمن نصب نفسه للقيام بهذه المقاصد من فرط القوة والنجدة وتوفر الحمية والحفيظة فكان لا بد في هذه الحالة من أن تثور تلك الحمية التي قد تنقلب أحياناً حمية جاهلية وتدخل فيها المنافسات والمناظرات والتساجل بقوة الساعد ووثاقة العضل أو حسن الرماية أو إتقان المضاربة والمطاعنة مما قد يبعد بالجمعية عن أصل وضعها ويصيرها نوعاً مما يقال له مشيخة شباب في بلادنا فيلبس الفتيان سراويلات مخصوصة ويتنافسون في أمور هي محض جهالة ودعارة وإن كان أصل المقصد سامياً شريفاً فقد احتوت هذه الجمعية في وقتها على ما يمدح ويذم شأن سواها من الجمعيات وقد كان يعاب على الخليفة الناصر العباسي اشتغاله بهذه المسائل فقرأت في تاريخ أبي الفداء صاحب حماه في حوادث سنة سبع وستمائة أنه وردت في تلك السنة رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا لها سراويلها وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم أهـ لا جرم أن هذا مما يترفع عنه الخلفاء ولا يليق بأصحاب هاتيك المقامات ثم أنه يقول عند ذكر وفاة الخليفة المذكور أنه كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة ومنع رمي البندق لا من ينسب إليه فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام أهـ ثم أننا وجدنا آثار هذه الجمعية في القرون المتأخرة فقد أخبر ابن بطوطة من أهل القرن الثامن بوجودها في الأناضول وهي متلونة هناك بلون أبنائها من كرم الخلق وحسن السريرة فإن الجمعيات تدخل كل البلاد فتتلون في كل بلد بأخلاق أهله وتحمل طباعهم ولهذا امتدحها السائح الطنجي امتداحاً فائقاً في رحلته الشهيرة فقال: ذكر الأخية الفتيان واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته

وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضاً ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافة لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدو وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل من أفعالهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر وأعظمهم إكراماً له وشفقة عليه وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي ولم أكن يومئذ أفهمه وكان عليه أثواب خلقة وعلى رأسه قلنسوة لبد فقال لي الشيخ: أتعلم ما يقول هذا الرجل فقلت: لا أعلم ما قال فقال لي: إنه يدعوك لضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه وقلت له: نعم فلما انصرف قلت للشيخ: هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه فضحك الشيخ وقال لي: هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية وهو من الخرازين وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدموه على أنفسهم وبنوا زاوية للضيافة وما يجتمع لهم بالنهار أنفقوه بالليل فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته فوجدناها زاوية حسنة مفروشة باليسط الرومية الحسان وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي وفي المجلس خمسة متن البياسيس والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب وإلى جانبه آنية من نحاس ملآنة بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل وأحدهم موكل بها ويسمى عندهم الخراجي (الجراغجي) وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم وعلى وسطه سكين في طول ذراعين وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها في طول ذراع وعرض إصبعين فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردحاني وسواه حسنة

المنظر وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين ولما استقر بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم وطال عجبنا من سماحهم وكرم أنفسهم وانصرفنا عنهم آخر الليل وتركناهم بزاويتهم. بيروت ش

طبوعات ومخطوطات

طبوعات ومخطوطات العمدة نص ابن خلدون في المقدمة عند كلامه على صناعة الشهر ووجه تعلمه أن كتاب العمدة لابن رشيق (المتوفى سنة 463) مستوفى في هذه الصناعة وتعلمها وفيه البغية من ذلك. وقد كان طبع الجزء الأول منه في تونس فأعيد طبعه الآن وأضيف إليه الجزء الثاني مصححاً بقلم الشيخ محمد بدر الدين النعساني وذكر في الصفحة الأولى منه أنه قوبل على ثلاث نسخ وكنا نود لو عرفنا هذه النسخ بأعيانها وتواريخا ليظهر فضل العناية. والكتاب شهل الإنشاء آخذ بطرف الموضوع الذي طرقه ابن رشيق والأدب غضّ والنفوس مولعة به. نشأ مؤلفه في مدينة القيروان خامس مدينة في الإسلام ولما خربت رحل عنها إلى صقلية وناهيك بمن يقول فيه الصلاح الصفدي وفي مصنفاته وأكثرها في الشعر والأدب. وقد وقفت على هذه المصنفات والرسائل المذكورة بجميعها فوجدتها تدل على تبحرة في الأدب وإطلاعه على كلام الناس ونقله لمواد هذا الفن وتبحره في النقد. والكتاب لا يسأم المطالع من النظر فيه خصوصاً مع جودة طبعه الآن لأن مؤلفه لا يطيل الأبواب والفصول وينتقل فيه الناظر من فكاهة إلى أطروفة إلى أدب وعلم وشعر وكله مما يروّح به الإنسان عن نفسه وفيه قصص لطيفة تصور حالة العرب في اجتماعهم وتنافسهم في الشعر والأدب قبل الإسلام وبعده وقد وقع الكتاب في مجلدين ويطلب من مكتبة طابعه أمين أفندي الخانجي بالحلوجي. ديوان الخليل أتحفنا خليل أفندي مطران الشاعر المشهور في خدمة الأدب والصحافة بنسخة من الجزء الأول من ديوانه الذي طبعه مؤخراً في زهاء ثلثمائة صفحة في الغزل والنسيب والمديح والرثاء والتهنئة ووقائع أحوال وأحسن ما يقال فيه أن نورد للقراء نموذجاً من هذا الشعر العصري المنسجم قال في وصف قلعة بعلبك: همّ فجر الحياة بالإدبار ... فإذا مرّ فهي في الآثار والصبي كالكرى نعيم ولكن ... ينقضي والفتى به غير داري يغنم المرء عيشه في صباه ... فإذا بان عاش بالتذكار

إيهِ آثار بعلبك سلام ... بعد طول النوى وبعد المزار ووقيت العفاء من عرصاتٍ ... مقوباتٍ أو أهل بالفخار ذكريني طفولتي وأعيدي ... رسم عهد عن أعيني متواري مستطاب الحالين صفواً وشجواً ... مستحب في النفع والأضرار يوم أمشي على الطلول السواجي ... لا افترار فيها إلا افتراري نزقاً بينهن غراً لعوباً ... لاهياً عن تبصر واعتبار مستقلاً عظيمها مستخفاً ... ما بها من مهابة ووقار يوم أخلو بهند نلهو ونزهو ... والهوى بيننا أليف مجاري نتبارى عدواً كأنا فراشاً ... روضةٍ ما لنا من استقرار نلتقي تارة ونشرد أخرى ... كل ترب في مخباءٍ متواري فإذا البعد طال طرفة عين ... حثنا الشوق مؤذناً بالبدار وعداد اللحاظ نصفو ونشقى ... بجوار ففرقة فجوار ليس في الدهر محض سعد ولكن ... تلد السعد محنة الأكدار كلما نلتقي اعتنقنا كأنا ... جِدُّ سفر عادوا من الأسفار قبلات على عفاف تحاكي ... قبلات الأنداء والأسحار واشتباك كضم غطن أخاه ... بأياد غرّ من النوار قلبنا طاهر وليس خلياً ... أطهر الحب في قلوب الصغار كان الهوى سلاماً وبرداً ... فاغتدى حين شب جذوة نار حبذا هند ذلك العهد لكن ... كل شيءٍ إلى الردى والبوار هدَّ عزمي النوى وقوض جسمي ... فدمار يمشي بدار دمار خرب حارت البرية فيها ... فتنة السامعين والنظار معجزات من البناء كبار ... لأناس ملء الزمان كبار ألبستها الشموس تفويف در ... وعقيق على رداء نضاء وتحلت من الليال بشاما ... ت كتنقيط عنبر في بهار وسقاها الندى رشاش دموعٍ ... شربتها ظوامئ الأنوار

زادها الشيب حرمة وجلالاً ... توجتها به يد الأعصار رب شيب أتم حسناً وأولى ... واهن العزم صولة الجبار معبد للأسرار قام ولكن ... صنعه كان أعظم الأسرار مثل القوم كل شيء عجيب ... فيه تمثيل حكمة واقتدار صنعوا من جماده ثمراً يج ... نى ولكن بالعقل والأبصار وضروباً من كل زهر أنيق ... لم تفتها نضارة الأزهار وشموساً مضيئة وشعاعاً ... باهرات لكنها من حجار وطيوراً ذواهباً آيبات ... خالدات الغدوّ والإبكار في جنان معلقات زواه ... بصنوف النجوم والأنوار وأسوداً يخشى التحفز منها ... ويروع السكوت كالتزأر عابسات الوجوه غير غضاب ... باديات الأنياب غير ضواري في عرانينها دخان مثار ... وبألحاظها سيول شرار تلك آياتهم وما برحت في ... كل آنٍ روائع الزّوار ضمها كلها بديع نظام ... دق حتى كأنها في انتثار في مقام للحسن يعبد بعد ال ... عقل فيه والعقل بعد الباري منتهى ما يجاد رسماً وأبهى ... ما تحج القلوب في الأنظار أهل فينيقيا سلام عليكم ... يوم تفنى بقية الأدهار لكم الأرض خالدين عليها ... بعظيم الأعمال والآثار خضتم البحر يوم كان عصياً ... لم يسخر لقوة من بخار وركبتم منه جواداً حروناً ... قلقاً بالممرس المغوار إن تمادى عدواً بهم كبحوه ... وأقالوه إن كبا من عثار وإذا ما ظغى بهم أوشكوا أن ... يأخذوا لاعبين بالأقمار غير صعب تخليد ذكر على الأر ... ض لمن خلدوه فوق البحار شيدوها للشمس دارة صلاة ... وأتم الرومان حلي الدار هم دعاة الفلاح في ذلك العص ... ر وأهمل العمران في الأمصار

نحتوا الراسيات نحت صخور ... وأبانوا دقائق الأفكار وأجادوا الدمى فحاز عليهم ... أنها الآمرات في الأقدار سجدوا للذي هم صنعوه ... سجدات الإجلال والإكبار بعد هذا أغاية فترجى ... لتمام أم مطمع في افتخار نظرت هند حسنهن فغارت ... أنت أبهى ياهند من أن تغاري كل هذي الدمى التي عبدوها ... لك يا ربة الجمال جواري رواية هملت رواية هملت من الروايات التمثيلية منسوبة لشكسبير شاعر الإنكليز كان نقلها إلى العربية نثراً ونظماً الشيخ أمين الحداد المشهور بشعره ونثره وجرى تمثيلها مرات كثيرة وقد طبعت الآن في 70 صفحة جاء فيها على لسان عملت ما ننشره نموذجاً من شعر الحداد قوله: نجدُّ والدهر بنا يلعب ... لا مانع منه ولا مهرب والحب يقتاد الفتى مكرهاً ... فكيف ما يكره يستعذب تحلو الأماني وتحقيقها ... وهي إذا ما حققت تعطب ضاعت حقيقات المنى في الورى ... فلم تعد تعرف إذ تنسب والوحش لو أنصفت درى بها ... إذ أنها عند الظما تشرب ونحن نستأني بحاجاتنا ... والحس لا يمهل إذ يطلب فاترك غداً إن غداً مدة ... بعيدة فيها الردى الأقرب واقض الذي تهوى بدنياك لا ... يمنعك الجاه ولا المنصب ولا تبت مدخراً فالمنى ... تراح ما بتَّ بها تتعب إن أنت أعيتك سؤالات من ... ترى فسل في القرب من غيبوا وقل لمن بات غداً ناظراً ... يرقب الموت له يرقب المس بكفيك تصدق متى ... شككت أن الحس لا يكذب أجدادنا هذي واماتنا ... تلك وذا الابن وهذا الأب لا حلقة مفقودة بينهم ... يطرحها في الجمع من يحسب

كانوا دليلاً في سبيل الردى ... لنا على آثارهم نذهب إذا ذوى الأصل غدا فرعه ... يضحك منه المطر الصيب وقل لمن تاه على غيره ... بنعمة من غيره تسلب تحت الثرى المثري غدا واغتدى ... في التربة التارب والمترب هذا هو الحق الذي ما اقتضى ... تفلسفاً ذا العجب الأعجب دعني أطلب غايتي جاهداً ... أنهبها من قبل أن تنهب وخذ حياتي وابق لي منه ما ... يمنع ضرَّ الناس إذ أرغب لو منع الضر الحيا في الورى ... إذن تساوى الكف والمخلب يا أيها الرأس الذي في يدي ... هل كنت رأساً في الورى ترهب أم كنت جباراً تذل العدى ... أم كاتباً ينقل ما تكتب أم فيلسوفاً نافعاً علمه ... تغضبه الدنيا ولا يغضب أم جاهلاً ما اهتم في دهره ... يخسر فيما عاش أم يكسب حقيقة الأشياء مجهولة ... كلٌّ على مذهبه يذهب حقيقة تاهت عقول الورى ... في كنهها واستعجم المعرب جماجم في التراب مزروعة ... يحصدهن النمل والجندب بل أنفس في التراب مغروسة ... أثمارها موعظة تخطب لصورة أخرى تحولتم ... قد كان ماءً في الثرى الطحلب ثم استحال الكرم حتى اغتدى ... خمراً لأرباب الورى تسلب دائرة لا ينتهي حدها ... نمشي عليها الدهر ولا نتعب أعلام الموقعين للعلامة شمس الدين أبي بكر محمد بن قيم الجوزية المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة شهرة فائقة بقوة البيان والميل للأخذ بالحجة والبرهان حتى كثر انتفاع الموافق والمخالف بكتبه وله مؤلفات كثيرة في فنون شتى. وكتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين من أهم كتبه أورد فيه علم الفقه على أسلوب قلًّ أن يعهد في كتاب آخر وذلك أنه نقل المسائل المشهورة واختلاف العلماء فيها ثم رجح فيه ما قام عليه الدليل بحسب ما ظهر له بدون

التزام مذهب معين وقد أكثر من إيراد العلل وكان مولعاً برعاية المصالح. وكتابه هذا أصبح نادر الوجود فسعى في إحيائه أناس من أهل العند قاموا بجمع أجزائه وطبعها غير أن نسخه مع قلة ورودها إلى هذه البلاد منسوجة على الأسلوب المعروف في طبع أهل الهند فتصدى الشيخ فرج الله زكي الكردي بمصر لإعادة طبعه فطبعه على ورق جيد مع استحضار نسخ خطية ليتم تصحيح الكتاب على طريقة حسنة فجاء وافياً بالمراد ظاهرة عليه علائم الجد والاجتهاد وقد جعله في ثلاثة أجزاء تقع في زهاء 1400 صفحة كبيرة بحرف واضح جلي وأضاف إليه كتاب حادي الرواح للمؤلف فنثني على الطابع بما تستحقه عنايته وهو يطلب منه بخمسين قرشاً. تاريخ آداب اللغة العربية هذا الكتاب في موضوع صعب يحتاج في إلى إطلاع وافر وتضلع من فنون الأدب تصدى لجمعه محمد بك دياب المشهور بالفضل والأدب. في مصر فأودعه من بدائع الفوائد ما تقر به عين المطالع وضمنه مطالب شتى يحتاج إليها طالب الأدب. قال المؤلف في بيان سبب تأليفه أن أحد أصدقائه أخبره أن مستشرقي الألمان وكذلك فعل مستشرقو (الإنكليز والفرنسيس والطليان والروس وغيرهم) عنوا بتاريخ آداب لغتنا فوضعوا فيه كتاباً ذا أسفار مطبوعاً بلغتهم وود لو يؤلف بالعربية مثله فلاح بخاطري أن اشق عباب هذا الموضوع الجليل فسرت في سبيله متجشماً الصعاب بضعة أعوام إلى أن اهتديت إلى وضع مؤلف جامع لأشتاته المتفرقة في بطون مئين من أمهات الكتب ذات الاعتبار وقد شرحت فيه نشأة العلوم الأدبية وسيرها في مختلف العصور والكتب التي ألفت فيها وأزمانها وحياة مؤلفيها وذكرت فصولاً في كل فن اقتضاها سير التأليف. والكتاب يقع في نحو 440 صفحة جعلت في مجلدين ويطلب من مؤلفه بالقاهرة فنشكر له هديته وهمته. أجنيل برنابا اعترفت الكنيسة بأناجيل أربعة وهي إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا وأبطلت ما عداها من الأناجيل أو عدته مزوراً ومن جملة الأناجيل التي أبطلها البابا في القرن الخامس للمسيح إنجيل برنابا. وبرنابا هذا يهودي من ساكني قبرص دان بالنصرانية وكان من أتراب بولس الرسول طاف آسيا الصغرى وسوريا وبلاد اليونان وقتل في

قبرص نحو سنة 63 للمسيح. وقد وجدت نسخة من إنجيل ينسب إليه في مكتبة فيينا الإمبراطورية كتب كما رجح العارفون في القرن السادس عشر باللغة الإيطالية القديمة وعليه حواش بالعربية فقال بعضهم أن لهذا الإنجيل أصلاً عربياً نقل عنه إلا أن العارفين من المستشرقين أمثال الأستاذ مرجليوت وغيره نفوا ذلك وقالوا أنه ليس في العربية كتاب من هذا القبيل ولا إشارة إليه. وقد ترجم في السنة الماضية باللغة الإنكليزي ونقله إلى العربية الدكتور خليل بك سعادة ووضع له مقدمة مطوله ونشره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر بمصر وقد أحسن المترجم بنقله بالحرف وإن خالف الأسلوب العربي أحياناً لأن اللغة العربية يجب أن يكون فيها كل شيء ولا سيما مثل هذا السفر الذي رددت الألسن ذكره وتشوفت النفوس إلى الوقوف عليه. وقد جاء في 225 صفحة مطبوعاً طبعاً حسناً في مطبعة المنار ومنها يطلب بخمسة عشر قرشاً فنشكر للمترجم والناشر همتهما.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع لغات العالم أحصي عدد المتكلمين باللغات الرئيسية في العالم فكان المتكلمون بالإنكليزية 136 مليوناً من البشر أي 27 بالمئة من مجموع سكان العالم والمتكلمون بالألمانية 83 ملوناً أي 16 في المئة. ويتكلم الصينية 14 في المئة والمتكلمون بالإفرنسية 28 مليونا (كذا يجيء عدد المتكلمين باللغات الأخرى فتجيء الروسية والعربية والإيطالية والإسبانية والهولندية). جهنم الحروب كتب أحد أطباء نيويورك مقالاً يصف فيه الأمراض الكثيرة التي تسطو على أجسام المتحاربين أكثر من أدوات القتال وأسلحة النزال فأثبت أنه مات في الحرب الروسية العثمانية ثمانون ألفاً بالأوبئة على حين لم يمت سوى عشرين ألفاً مجروحين وأنه هلك في حرب الرقيق في الولايات المتحدة أربعمائة ألف بالأمراض على حين هلك مئة ألف في القتال وأهلك المرض في حرب جنوبي أفريقية عشرة أضعاف ما أهلك المدفع وكان معظم الأسباب التي دعت إلى كثرة الهالكين في الحرب الإسبانية الأميركية قلة العناية الطبية على العكس في الحرب الروسية اليابانية فإن اليابانيين لم يفقد منهم سوى سبعة وعشرين ألفاً في المستشفيات لقاء سبعة وخمسين ألفاً قضوا في ساحة الوغى. مصور الزمن أسست ألمانيا منذ سنة 1906 ديواناً خاصاً تنقل إليه من أطراف الإمبراطورية الألمانية أخبار الجو والهواء فيؤلف بينها وينشرها في نشرة توزع في أطراف البلاد كما تنشر الأنباء البرقية المهمة وتوزع خاصة على الجرائد وبذلك يتيسر للفلاحين أن يعرفوا أحوال الجو يوماً فيوماً. بريد الهند سينتقل بريد الهند عما قريب من البر ليكون أقصد في الوقت منه عن طريق البحر فتتصل لندرا بكلكوتا بالسكك الحديدية عن طريق فرسوفيا في بولونيا فيسافر هذا الخط من كلكوتا حيث تصل صادرات أستراليا بالسفن إلى مدينة دهلي فقندهار فهرات فكوتشكا فسمرقند فمرو فكراسنوفودسك فباكو فكييف ففارسوفيا فبرلين فكالي فلندرا وغندما تصل الركاب

والبضائع إلى كراسنوفودسك تنقل على سفن سريعة إلى العدوة الثانية من باكو. السخاء الأميركي بلغ ما جاد به الكرماء من الأميركان سنة 1907 على العلم والتربية 354 مليون فرنك وما جادوا به على المعاهد الدينية 41 مليوناً وما منحوه للمتاحف ودور الكتب 100 مليون ولا شك أن هذا السخاء متناسب مع تلك الثروة الهائلة. مبرة مصرية وقف مصطفى بك الجوربجي عشرة منازل في كفر الزيات في الوجه البحري لمدرستيه اللتين أنشأهما بماله وبلغ ما أنفق على تشييدهما نحو خمسة آلاف جنيه فلهما الآن إيراد سنوي يربي على ألف جنيه كما أنشأ مدرستين في بريد ووقف عليهما أملاكاً تعيشان به. ناد للمعارف تبرع الأمير يوسف كمال بألف ومائتي متر في المنيرة إحدى أحياء القاهرة لينشأ فيها ناد للمعارف يختلف إليه أهل العلم وطلابه وجاد لإنشائه بألفي جنيه وبمكتبة عربية وإفرنجية وهذه المنحة لا تقل عن ثمانية آلاف جنيه. رواج الكتب معدل ما يبع سنوياً من كتب شكسبير الشاعر الإنكليزي ثلاثة ملايين نسخة ومن غريب ما يدل على رواج الكتب في ألمانيا أن إحدى جرائد ليبزيك الأسبوعية ستحتفل في أكتوبر المقبل بمرور السنة الخامسة والعشرين على تأسيسها فوضع مديرها ثلاثين ألف مارك جائزة لمن يكتب أحسن رواية ومعلوم أنه إذا لم يكن موقناً بالرواج ما جاد هذا الجود المحمود على أرباب الأقلام والذين يحكمون في الجائزة بعض كبار النقاد من أدباء الألمان. السلك البرقي النظار يجرب أحدهم معدن السالانيوم بأن يجعله يتأثر بالنور فإذا تمت تجاربه كما يريد أصبح الإنسان يخاطب صديقه على لسان البرق وهو يراه ويسمعه. بسطة العيش افتتح مؤخراً ناد للنساء في نيويورك ليس له مثيل في أندية الأرض ببذخه بل برخاء الحياة

فيه فإن كل شيء فيه حتى المائدة وما يتبعها تدار بواسطة الكهربائية ففيه غرف باردة توضع فيها الفراء وقد جعلت حشوات المواضع التي تناط بها الثياب من خشب تقتل رائحته العث. ديون الممالك تزيد ديون الممالك أوروبية يوماً عن يوم فدين فرنسا أكثر من جميع الممالك فهي مدينة بتسعة وعشرين ملياراً من الفرنكات وتجيء بعدها روسيا تبلغ ديونها 23 ملياراًُ ودين ألمانيا 21 ملياراً ودين بريطانيا 19 ودين إيطاليا 13 ودين النمسا 10 مليارات ودين إسبانيا9. مدراس الفلاة فتحت في مدينة شارتونبرغ في ألمانيا منذ بضع سنين في الضواحي أشبه بأن تكون مدارس تشتغل في العطلة المدرسية فهي لا تفتح إلا سبعة أشهر في السنة فقط وتقبل البنين والبنات وتعلمهم معاً كل ما يلزمهم لقاء قرشين في النهار ويأكلون بها ويشربون فيركبون الترامواي الساعة السادسة صباحاً ويعودون بهم في المساء وأكثر الأولاد من الفقراء والغالب أن بعض مدن ألمانيا وغيرها ستنسج على منوال هذه المدرسة. حركة العالم التجارية أحصي مجموع الحركة التجارية والبحرية في العالم مدة العشر سنين الأخيرة فكان مجموع صادرات ألمانيا ووارداتها 11603000000 فرنك سنة 1897 فبلغت سنة 1906 18222000000 وأنفقت وزارة البحرية لحماية هذه الحركة سنة 97 ـ 109400000 فرنك وبلغ ما أنفقته سنة 1906 ـ 331300000 فرنك وكان مجموع حركة الصادرات والواردات معاً في فرنسا سنة 1897 ـ 10782150000 فرنك وأنفقت بحريتها 265250000 فرنك وبلغ مجموع تلك الحركة فيها سنة 1906 ـ 44800750000 فرنك وما أنفقته البحرية في تلك السنة 4123525000 فرنك وبلغ مجموع تجارة إنكلترا سنة 97 ـ 25304725000 فرنك وارتقى سنة 1906 إلى 47656900000 وكان مجموع نفقاتها البحرية سنة 1897 ـ 556775000 فأصبحت سنة 1906 ـ 839375000 وبذلك تبين أن التجارة الألمانية تضاعفت في عشر سنين في حين نفقاتها

البحرية زادت ثلاثة أضعاف وأن إنكلترا كانت سنة 1897 تنفق على بحريتها خمس مرات ما تنفقه ألمانيا ولكنها في سنة 1906 لم تنفق في هذا السبيل بالنسبة إلا ثلاثة أضعاف ما كانت تنفقه فزادت من ثم نفقاتها البحرية خمسين في المئة على حين زادت نفقات ألمانيا ثلاثمائة في المئة ولا يزال النمو في ألمانياتزايد وأي زيادة كل سنة.

صدور المشارقة والمغاربة

صدور المشارقة والمغاربة عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي وناهجي طريقة الكتابة المرسلة فكانا مناراً يهتدى به إلى يوم الناي هذا ونعني بهما عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ وزادت شهرتهما مساعد لهما على النبوغ وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما فيخوضان عبابها مجليين مبرزين. نشأ ابن المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار وكان والده ينتحل نحلة مجرس الفرس ولي خراج فارس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأموية. ولقب المقفع لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده أي تشخبت لمدها لأخذ الأموال على ما يقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية وأولع بالعلم وهو مكفي المؤونة فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثله لأبناء الأربعين والخمسين. واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس وكاتب له واختص به وأراد أن يدين بالإسلام فجاء إلى عيسى ابن علي وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجس فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام فقال: أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح اسلم على يده فسمي بعبد الله وكني بأبي محمد. أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب كليلة ودمنة الذي نقله عن الفارسية ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور وترجم كتب أرسطو طاليس المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس وكتاب باري أرمينياس (أوبارميناس) وكتاب أنا لوطيقا وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجح أنه نقل هذه الكتب عن الفارسية

أو نقلها له ناقل عن اليونانية وصاغها هو في قالب عربي فنسبت له إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات. وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تشبه قول القفطي في تراجم الحكماء والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما. قال ابن النديم واسمه بالفارسية روزبة وهو عبد الله بن المقفع ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو فلما أسلما اكتنى بأبي محمد والمقفع بن المبارك إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضرباً مبرحاً فتقفعت يده وأصله من خوز مدينة في كور فارس وكان يكتب أولاً لداود بن عمر بن هبيرة ثم كتب لعيسى بن علي على كرمان وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة شاعراً فصيحاً وهو الذي عمل شرط عبد الله ابن علي على المنصور وتصعب في احتياطه فيه فاحفظ ذلك أبا جعفر فلما قتله سفيان بن معاوية حرقاً بالنار وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثاره وطل دمه وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي مضطلعاً باللغتين فصيحاً بهما وقد نقل عدة كتب من كتب الفرس منها كتاب خداينامة في السير كتاب آيين نامة في الإصر وكتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك كتاب التاج في سيرة أنوشروان كتاب الآداب الكبير ويعرف بماقراحسيس كتاب الأدب الصغير كتاب اليتيمة في الرسائل. وقال أن أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابي كان يفد البصرة على آل سليمان بن علي وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له وقال: بلغاء الناس عشرة ابن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، محمد بن حجر، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم بن مسعدة الهرير، عبد الجبار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء الكتاب فقال أنه مقل وقال وقد كانت الفرس نقلت في القديم شيئاً من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية فنقل ذلك إلى العربي عبد الله بن المقفع وغيره وقال في الكتب المصنفة في السماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم. والراجح أن الحسد غلت مراجله في صدور بعض معاصريه والمعاصرة كما قيل حرمان فنسبوا إليه ما نسبوا من الزندقة لقصورهم عن بلوغ شأوه أو لغرض في أنفسهم قال ابن

خلكان نقلاً عن الجاحظ: أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه. قلنا وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تشير إلى قصوره في علم الكلام فقط فإنه قال: فصلٌ ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع ويكنى أبا عمرو وكان يتولى لآل الأهتم وكان مقدماًُ في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير وكان جواداً فارساً جميلاً وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلاً ولا كثيراً وكان ضابطاً لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت في خلص المتكلمين ومن النظارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم. وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن نفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء غلا بعد به. أهـ. لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يصدر عليه هذا الحكم الغريب ولكن الجاحظ أيضاً على ثبوت تدينه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وأن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء وإلا فكيف تسجل الزندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزندقة بحثاً عما يضمره الإنسان في نفسه لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى ويكفي أن يقال هلاّ شققت عن قلبه. بل الزندقة التي تذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام ويسوء أن يقال عن فلان أنه زنديق أمور تقوم عليها بينات ظاهرة من أقوال وأفعال وكلام ابن المقفع في الدين يدل على شدة تمسكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله. ولو كان ثم سبيل لما ينسب إليه لاسيما مع غضب المنصور عليه لكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك وفيه ما فيه من إرضاء العامة وشفاء الغليل من العدو بحيث ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهاراً بهذه التهمة. أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فتنصرف على القاعدة في اتهامه بالزندقة وما نظن القاضي عياض والباقلاني إلا ناقلين عن أناس من أهل السذاجة ومع ذلك فإنهما قالا أنه أناب. التهمة بالزندقة أمر نشأت منه مضار كثيرة حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان

أعظم أنصار الدين فانظر إلى كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا فإن فيه الفناء وأغرب من ذلك القيام على أبي حاتم ابن حيان السبتي إمام المحدثين في عصره وصاحب الصحيح المشهور به والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينج من ذلك بعوارض لا تخطر في البال. ومعارضة القرآن أكثر ما تنسب للزنادقة المشهورين بالأدب والفضل يشيع ذلك أناس يقصدون إهلاك عدوهم بأي وسيلة كانت أو ناس هم أقرب إلى الزندقة ممن ينسبونهم إليها حتى أن أبا العلاء المعري على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما علم به من أحواله قد عزي إليه كتاب كان معروفاً في بلاد المغرب يسمى بالفصول والغايات ولا يتوقف من كان قريب العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السور والآيات وكان كثير ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحط عن جميع كلامه المعروف مع أنه ليس له يد في الكتابة كما علم من كتاب سر الفصاحة وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك. وعلى الجملة فإن نسبة الزندقة إلى ابن المقفع لا تثبت بوجه من الوجوه التي تعقل في إثباتها وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب فالحكم الشرعي أنه هو والناسبون إليه جميعاً في معرفة ما ينطوون عليه سواء لأنه لم يذهب أحد إلى أن الإيمان يتيسر إثباته بالبرهان إلا إذا ورد عن الشارع في شخص معين إثبات الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه. وتهمة الزندقة الشنعاء كثيراً ما يتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي وابن الصائغ وابن سينا ونسب هذا أنه عارض القرآن وقد كتب رسالة في رد افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون لأن فتح باب البحث عن الزنادقة وقد أوجب من المضار ما لا يحصى كما يعلم من التواريخ وربما كان عصر المأمون أقرب إلى قلة الزندقة في الحقيقة من العصور التي كثر اتهام معظم المفكرين بها وغيرهم ممن يراد الانتقام منهم. عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع مع ما عرف من كلامه هو من ذاك الباب. قال المرتضى في أماليه روى ابن شبة قال: حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه وتمثل:

يا بيت عاتكة الذي أتعزَّل ... حذَر العذى وبك الفؤاد موكل لإني لأمنحك الصدود وأنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل وقال صاحب الأغاني نقلاً عن الجاحظ: كان والبة بن الحباب ومطيع بن إياس ومنقذ ابن عبد الرحمن الهلالي وحفص بن أبي وردة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الاوية وابن الزبرقان وعمارة بن حمزة ويزيد بن الفيض وجميل بن محفوظ وبشار المرعث وإبان اللاحقي ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون ويهجو بعضهم بعضاً هزلاً وعمداً وكلهم متهم في دينه. قلنا واجتماع المتشاكلين قديم في الناس والغالب أنهم يتحرجون من إدخال من ليس على شاكلتهم في زمرتهم فيتهمون بما هم منه براء كما اتهم جماعة أبي حيان التوحيدي الذي نقل بعض مجالسهم الفلسفية في مقابساته وكانوا من أهل النحل المختلفة تجمع بينهم جامعة العلم والفلسفة كما جمعت بين ابن المقفع وأصحابه جامعة الأدب فقالوا أنهم كانوا يجتمعون على شراب واتهموهم بالمروق. وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ذكر أناس كانوا شديد التصافي والالتحام مع شدة التباين في المذاهب. أما كيفية مقتل ابن المقفع فقد اجمع مترجموه أنه كان بسبب كتابته أماناً لعبد الله ابن علي قال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طواليق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي وهو أمير البصرة من قبله فقتله وكان سفيان شديد الحنق عليه لأن ابن المقفع على ما يقال كان ينال منه ويستخف به حتى عزم على أن يغتاله فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله سراً في داره ويقال أنه عاش ستاً وثلاثين سنة وسأل سليمان وعيسى فقيل أنه دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضره إليه مقيداً وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج فأقاموا الشهادة عند المنصور فقال لهم المنصور: أنا أنظر في الأمر. ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى باب خلفه وخاطبكم ما تروني صانعاً بكم أأقتلكم بسفيان. فرجعوا كلهم عن الشهادة واضرب عيسى وسليمان عن ذكره وعلموا أن قتله كان برضا المنصور.

ولابن المقفع شعر قليل ولكنه جيد نقل له صاحب الحماسة ثلاثة أبيات يقال أنه رثى بها يحيى بن زياد وقال الأخفش والصحيح أنه رثى بها ابن أبي العوجا وهي: رزئنا أبا عمرو ولا حيّ مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع لقد جر نفقاً ففقدنا لك أننا ... آمنا على كل الرزايا من الجزع قال ثعلب البيت الأخير يدل على أن مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير ـ فتأمل. ومما يذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحب الأغاني وغيره قال حدثني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أحمد قال سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقى الخليل ابن أحمد فيقول لي أحب ن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع فجمعت بينهما فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علماً ثم افترقنا فلقيت الخليل فقلت له يا أبا عبد الرحمن كيف رأيت صاحبك قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله. ثم لفيت ابن المقفع فقلت له: كيف رايت صاحبك: قال ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى أن من جمعهما كان عباد بن عباد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن. قال الأصمعي: قيل لابن المقفع من أدبك قال: نفسي إذا رأيت من غيري حسناً أتيته وإن رأيت قبيحاً ابيته. ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير لست يومي للكرام أكيلاً قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. ومن كلامه شربت من الخطب رياً ولم أضبط لها روياً ففاضت فلا هي نظاماً وليس غيرها كلاماً. ومما يؤثر عنه وهو ما يدل على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة فإن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة. وقيل له ما البلاغة فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها. وفي البيان والتبيين عن إسحق بن حسان بن فوهة أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط. سئل ما البلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة. فمنها

ما يكون في السكوت. ومنها ما يكون في الاستماع. ومنها ما يكون في الإشارة. ومنها ما يكون في الحديث. ومنها ما يكون في الاحتجاج. ومنها ما يكون جواباً ومنها ما يكون ابتداءً. ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون في هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار من غير خطل والإطالة من غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك كا أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته. كأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك ولا يشير إلى مغزاك. وإلى العمود الذي غليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت. قال فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك لامقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنهما لا يرضيهما شيء وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله وقد كان يقال رضاء الناس شيء لا ينال. وقال عبد العظيم بن أبي الإصبع في تحرير التحبير في البديع في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم واثقة وفصولهم متقابلة وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء. وقال الأمين المحبي فيما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع ـ يضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها وهي رسالة في نهاية الحسن تشتمل على محاسن من الأدب وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلاً في قوله للحسن ابن وهب: ولقد شهدت والكلام لآلئٌ ... تؤم فبكر في الكلام وثيب فكأن قساً في عكاظ يخطب ... وكأن ليلى الأخيلية تندب

وكثير عزّة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب وقال جلال الدين في المزهر نقلاً عن أبي الطيب عبد الواحد اللغوي في مراتب النحويين قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع. وقال المعري في عبث الوليد: كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض وروى الأصمعي أنه قال كلاماً معناه قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً غلا في موضع واحد وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض. وروي أن بعضهم ذكر ابن المقفع فقال: ألفاظه معان ومعانيه حكم فصل خطابه شفاء وخصل بيانه كفاء. وسمع أبو العيناء بعض كلام ابن المقفع فقال: كلامه صريح ولسانه فصيح وطبعه صحيح كأن بيانه لؤلؤ منثور وروض ممطور. وقال جعفر بن يحيى: عبد الحميد أصل وسهل بن هارون فرع وابن المقفع ثمر وأحمد بن يوسف زهر. وعبد الحميد هذا هو الذي يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائل عبد الحميد الفاظ محككة وتجارب محنكة. قال صاحب الوفيات وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماماً وهو من أهل الشام وكان أولاً معلم صبية ينتقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا وهو الذي سهل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة. وقال ابن نباتة: أنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة يقال أنه كان في أول عمره معلم صبيان بالكوفة ثم اتصل بمروان الجعدي قبل أن يصل إلى الخلافة وصحبه وانقطع إليه فما جاء الأمر بالخلافة سجد مروان وسجد أصحابه غلا عبد الحميد فقال له مروان: لم لا سجدت فقال: ولمَ أسجد على إن كنت معنا فطرت عنا يعني بالخلافة فقال: إذاً تطير معي قال: الآن طاب السجود وسجد وكان كاتب مروان طول خلافته. وهو أول من أخذ التحميدات من فصول الكتب واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ وفي بعضها الإسهاب المفرط على اقتضاه الحال. فمن افيجاز أن بعض عمال مروان أهدى إليه عبداً اسود فأمره بالإجابة ذاماً مختصراً فكتب: لو وجدت لوناً شراً من السواد وعدداً أقل

من الواحد لأهديته. وأما الإسهاب فإنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه مروان كتاباً يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم وكان من كبر حجمه يحمل على جمل ثم قال لمروان: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره فإن يك ذلك وإلا فالهلاك فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه وأمر بنار فأحرقه وكتب على جزازة منه إلى مروان: محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب ولما اشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه المشهورة قال لعبد الحميد: القوم محتاجون إليك لأدبك وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي فقال عبد الحميد: أُسر وفاءً ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره ثم قال يا أمير المؤمنين إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين إليك وأقبحهما بي ولكني أصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك فلما قتل مروان استخفى عبد الحميد فغمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع وكان صديقه وفاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا: أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما: أنا خوفاً على صاحبه إلى أن عُرف عبد الحميد فأخذ وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل أنه قتل مع مروان في مصر قال المسعودي أنه رأى عقباً بفسطاط مصر يعرفون ببني مهاجر وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. وكان أبو جعفر المنصور يقول: غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي. وقيل لعبد الحميد: ما الذي مكنك من البلاغة قال: حفظ كلام الصلع يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل له أيما أحب إليك أخوك أم صديقك قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي. وقال أكرموا الكتاب فإن الله تعالى أجرى الرزاق على أيديهم. وقال: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. ومن كلامه خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً. قال صاحب وفيات الأعيان وكان كثيراً ما ينشد: إذا خرج الكتاب كانت دويهم ... قسياً وأقلام الدوي لها نبلا

ومما نقله عنه أنه ساير يوماً مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك فقال: يا أمير المؤمنين إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها فقال له: فكيف سيرها: فقال: همها أمامها وسوطها عنانها وما ضربت قط إلا ظلماً. ولعبد الحميد كصديقه وضريعه عبد الله بن المقفع شعر نادر فمنه: كفى حزناً إني أرى من أحبه ... قريباً ولا غير العيون تترجم فأقسم لو أبصرتنا حين نلتقي ... ونحن سكوت خلتنا نتكلم هذا ما وصلنا من أخبار هذين الإمامين ونحن نعلم أن ترجمتهما على ما أثبتناها هنا ليست مستوفاة من عامة وجوهها ولكن تلاوة كلامهما أحسن مترجم عنهما إذ كلام المرء قطعة من عقله.

رسالة عبد الحميد الكاتب

رسالة عبد الحميد الكاتب أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات اللع وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملائكة المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب رزقهم فجعلكم معشر الكتاب من أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون ولسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم. فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون مليحاً موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجاماًُ في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف كتوماً للأسرار وفياً عند الشدائد عالماً بما يأتيمن النوازل يضع المور مواضعها والطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار من الحسن واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت جموحاً لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوباً اتقاها من بين أيديها وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً ولا تعرف صواباً ولا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر واعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيرون منه إلى

المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى. ولا يجازون الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعكتم خدمة لا تُحملون في خدمتكم على التقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصنه عليكم واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما ولاسيما الكتاب وأرباب الآداب. وللأمور أشباه بعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقة وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره. وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل أن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقول أحد منكم أنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيء لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناءة واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أصل الجهالات وإياكم والكبر والسخف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير أحنة وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من

سلفكم وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحداً منكم الكبر عن مكسبه ولقاء أخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه وليحذر السقطة والزلة والملل عن تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لها. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك تبعاً له عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسراء والضراء فنعمت التسمية هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة. وغذا ولي الرجل منكم أو صير إليه أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقه بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكماً وللأشراف مكرماً وللفيءموفراً وللبلاد عامراً وللرعية متألفاً وعن أذاهم متخلفاً وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه التدبير في مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته. فإن أعقل الرجلين عند ذوي اللباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه وأجمل في طريقته وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره. وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النصيحة يلزمه العمل. وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل فلذلك جعلته آخره وتممته به تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العامية في الفصحى

العامية في الفصحى كثر بحث الباحثين هذه الأيام في المقارنة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وقد ظفرنا بكتاب اسمه القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب تأليف الشيخ محمد ابن أبي السرور الصديقي من أهل القرن الحادي عشر قال مؤلفه في مقدمته: وبعد فإني لما طالعت كتاب رفع الإصر عن كلام أهل مصر للعلامة الكامل شيخ أهل الأدب الراقي منه إلى أعلى الرتب الشيخ يوسف المغربي رأيته أتى فيه بالعجب العجاب غير أنه أسهب فيه غاية الإسهاب باستطراده (إلى) بعض الألفاظ اللغوية التي ليست من شرط الكتاب مع ذكره أشعاراً وحكايات من قسم الاستطراد لا معنى لها في هذا التصنيف ولا مدخل لذكرها في هذا التأليف فخطر لي أن ألخص من محاسنه وألتقط درة من مكامنه ولم أذكر فيه من اللغة إلا ما له أصل في اللغة العربية الناطق بها أهل الديار المصرية مرتباً ذلك على ترتيب القاموس كأصله وسميته القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب. والكتاب مرتب على حروف المعجم وهو في بضعة كراريس وهاك نموذجاً منه نقلناه وبعضه لا يخلو مما ينتقد. يقولون أومى قال في المجرد لا يقال أومى وإنما يقال أومأ أي أشار إليه (قلنا ويقول العامة في الشام فلان كلم فلاناً بالومى أي بالإشارة) ويقولون لقاصد القلعة باباً وفي اللغة العربية بابا الرجل إذا أسرع فيمكن أن يكون البابا منه لأنه يسرع لقضاء الحاجة. ويقولون للولد الصغير إذا أراد المشي تاتا قال في القاموس تاتا الطفل مشى والتبختر في الحرب. ويقولون عند سقي القهوة جبا وهي قرية باليمن يصير فيها البن الصبري وهو عجيب في الحسن فكأن الساقي إذا قال جبا أي هذه قهوة من جبا. ويقولون في سوق الحمار حاحا قال في القاموس حاحا إذا دعي الحمار للشرب وأهل مصر تقول ذلك له إذا أرادوا مشيه وتصحيفه جأجأ (؟) قال في القاموس معناه حمار وثاب، ويقولون لا تتكأ كاد أي لا تتأخر عن السير. ويقولون هاها بالإبل أي زجرها عند ورودها الماء وهأهأ رجل ضحاك، ويقولون يا ما عمل له أصل في اللغة وهو من باب التعجب. ويقولون الأب والأخ مثلاً فيشددون الباء وليس هو خطأ بل له أصل في لغات العرب. ويقولون بيه قال المجدي هو حكاية صوت الصبي والشاب الممتلئ لحماً وصفة الأحمق. ويقولون حوبة ثقال المجدي ومعناه الضعيف عن الشيء والحوبة البعنت والأخت ورقة فؤاد الأم والهم والحاجة والمرأة

والسرية كل ذلك يقال له حوبة. ويقولون دُرّاربة وهو كناية عن أحد ألواح الدكان وله أصل في اللغة كذا نقله صاحب الكتاب المجرد في اللغة. ويقولون رجب الموجب أي المعظم وهو صحيح. ويقولو سبب قال بعض أئمة اللغة أي باع واشترى في الشيء. ويقولون شقلبه أي غيره من حال إلى آخر. ويقولون طاب وهو اسم لما يلعبون به واسم الكرة أيضاً ويقولون عرقب في حق الدابة إذا قطع عرقوبها وله أصل في اللغة. ويقولون عِلب قال في القاموس العلبة بالكسر آنية من الشجر غليظة يتخذ منها وعاء للشيء. فائدة: العلبة بالضم النخلة الطويلة وقدح ضخم من جلود الإبل أو من خشب يحلب بها. ويقولون قب جلدي منه إذا اقشعر وله أصل في كتب اللغة. ويقولون قطب له المزين وهو في صحيح كتب اللغة ويقال قطب الشيء قطعه ثم جمعه وقطب فلان أي غضب. ويقولون للمنعزل عن الناس قطرب وهو صحيح لأنه من جنس الأمراض السوداوية صاحبه يحب الانفراد من الناس وله معان كلها قبيحة وهو بالضم اللص والفأرة والذئب والأمعط والجاهل والجبان والسفيه والمصروع وصغار الكلاب ودويبة لا تستريح نهاراً سعياً. ويقولون فلان أكرب علينا قال في القاموس أي أمرنا بالسرعة. ويقولون كركبة قال المجدي معناه الحركة ويقولون تت قال المجدي معناه اقعد وهو صحيح ورد في بعض كتب اللغة. ويقولون ضربته حَته معناه حتى اكتفيت فله معنى في كتب اللغة والحت الجواد من الخيل والسريع من الإبل وما يلتزق من التمر والميت من الجراد كل ذلك معناه حته. ويقولون الشيت وهو من الأقمشة قال المجدي والشيت نوع من الأقمشة الهندية. ويقولون فلان يشخت مرادهم وينهر من شدة غيظه وهو صحيح. ويقولون غت عليّ بمعنى أدخل عليّ سوءاً وهو صحيح وارد في كتب اللغة. ويقولون للملاح النواتي قال في الزاهر النواتي الملاحون بالبحر الواحد نوتي. ويقولون هتّ علي وهو صحيح في كتب اللفة معناه أسرع في الكلام أو سرد كلامه. ويقولن فلان هفت من الجوع أي سقط ومنه تهافت الفراش على الفتيلة أي تساقط عليها فكأنه لكثرة جوعه يسقط كذا نقله بعض أئمة اللغة. ويقولون هيّت علينا أي خوفتنا وهو صحيح ورد في بعض كتب اللغة هيت به صاح به ودعاه وهيت قرية بالعراق تنسب إليها الخمرة الطيبة ومنه قول أبي نواس:

هات اسقني قهوة صفراء صافية ... منسوبة لقرى هيت وعانات ويقولون على لون من الطعام عجة قال بعض أئمة اللغة العجة بالضم طعام من البيض. ويقولون لآلة الدراس نورج وهو صحيح لغوي ويقال ذلك أيضاً لآلة الحرث والنورجة والنيرجة الاختلاف إقبالاً وإدباراً والنيرج التمام. ويقولون إذا أُلقي إنسان على وجهه بطحه وهو صحيح لغوي ويردا منه أيضاً الضرب والغيبوبة عند ذلك. ويقولون طرحة قال في القاموس الطرحة الطيلسان وأما لفظ طراحة فليس له أصل في اللغة. ويقولون بربخ للشيء الذي توضع عليه الجرة وهو صحيح لغوي أيضاً هو اسم لمجرى الماء والبالوعة يقال لها بربخ قال ذلك في القاموس. ويقولون في المريض صار مثل الفخ والفخ المصيدة وهو مثل القوس وهو لين فشبه به المريض أي صار مثل القوس اللينة. ويقولون للأطفال بمنى الزجر كخ نقل حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء أن الإمام الحسين عليه السلام أخذ تمرة من تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ فرمى بها من فيه. ويقول زرد عليه إذا خنقه وهو صحيح وارد في كتب اللغة. ويقولون زرد اللقمة إذا ابتلعها وزرد كنصر خنقه والزرد الدرع. ويقولون فلان سرد إذا حصل له النعاس قال في الزاهر السرد يطلق على النعاس في بعض الأحيان. ويقولون همر علينا إذا وثب وصاح وهو صحيح لغوي. ويقولون فلان واكر عند فلان إذا كان ملازماً له وهو صحيح لغوي مأخوذ من وكر الطائر اتخذ له وكراً وكذلك هذا الرجل اتخذ صاحبه مثل وكر الطائر في الملازمة. ويقولون راز الشيء ويروزه يعرف قدره وله أصل في اللغة راز الشيء روزاً جربه ليعرف قدره والراز رئيس البنائين. ويقولون أكلنا عند فلان بسيسة قال في القاموس البسيسة اتخاذ السويق أو الدقيق أو الأقط بالسمن والزيت ويقولون فلان دحس قال المجدي الدحس هو الذي يخفي الأشياء مكراً وقال في القاموس الدحس الدساس شيء في التراب. ويقولون فلان عنده عترسة أي شدة قال في القاموس العترسة الأخذ بالشدة والجفاء والعنف والغلظة. ويقولون ناموسية لشيء يعمل من القماش يدخلون فيه زمن الشتاء وهو صحيح لغوي والناموس عريسة الأسد والناموس جبريل عليه السلام ويقولون فلان هلس وهو صحيح لغوي ومعناه إذا تكلم كلاماً غير منتظم ويطلق على سلب العقل وعلى الهزال. ويقولون فلان خربشني بأظافره أي آذاني بها وهو صحيح قال في مختصر الصحاح

الخربشة والخرفشة والخرمشة كلها بمعنى واحد. ويقولون طواشي على الخصي وهو صحيح لغوي وارد في بعض كتب اللغة والذي في القاموس الطوش خفة العقل. ويقولون عفش وهو صحيح لغوي يقال عفشه يعفشه جمعه ومن الناس من لا خير فيهم. ويقولون نتش وهو صحيح لغوي قال في الزاهر النتش كالصرب استخراج الشوكة ونحوها ونتشت اليوم كذا وكذا أي اكتسبت. ويقولون فلان بصبص لي أي نظر إليّ نظراً بعد نظر وهو صحيح لغوي قال في الزاهر البصاصة العين لأنها تبص وبصبص الكلب حرك ذنبه والجرو فتح عينيه. ويقولون فلان ممصوص قال في القاموس الممصوص الرجل المهزول والممصوصة المرأة المهزولة. ويقولون ساباط قال في مختصر الصحاحا الساباط سقيفة بين حائطين تحتها طريق والجمع سوابيط وساباط (في لغة أهل الشام الآن سيباط وبلغة مصر سباط). ويقولون فوط قال في القاموس الفوط الشيء يجلب من بلاد السند وهي مآزر مخططة فصار يطلق على غيرها مجازاً ويقولون فلان فطفاطي قال بعض أئمة اللغة هو الأعوج القليل الثبات أو الذي يتكلم بكلام لا يفهم. ويقولون فلان عنده دلاعة قال في القاموس الدلاعة الغاية في الحمق والغفلة والتصاغر وخروج اللسان. ويقولون أخضر مرعرع قال في الزاهر المرعرع الكامل الحسن في الاعتدال والرعرعة أي عنده عدم في قوته قال في القاموس النعنعة ضعف العزيمة بعد قوة والرتة في اللسان والنعناع نبت معروف. ويقولون وكثيراً ما يقع في الأروام غوغا قال بعض أئمة اللغة الغوغا الشر والحرب والغوغا الجراد وشيء يشبه البعوض لضعفه وبه سمي الغوغاء من الناس. ويقولون فلان مغمغ في كلامه إذا لم يبينه قال في القاموس مغمغ اللحم مضغه ولم يبالغ وكلامه لم يبينه. ويقولون فلان شلام قال المجدي الشلاف هو الذي يأخذ الشيء من غير حساب. ويقولون شاف الشيء أي نظره قال في القاموس شافي الشيء أي نظره وشفته شوفاً جلوته ودينار مشوف مجلو. ويقولون فلان نتيف وأعطاني نتفة وكلاهما صحيح لغوي إلا أنهم يحرفونها فيكسرون النون والصحيح الضم قال بعض أئمة اللغة نتف ما تنتفه بإصبعك من شعر أو نبت والنتفة الشيء اليسير. ويقولون شقة قماش قال في القاموس الشقة من الثياب المستطيلة. ويقولون عفقه قال في المجرد عفقه بمعنى أمسكه ويقولون عفلق قال في مختصر الصحاح العفلق الرجل الطويل المسترخي والعفلق الضخم

المسترخي والمرأة الخرقاء السيئة العمل والمنطق والرجل الأحمق. ويقولون فلان ربى على قلي دبلة قال في مختصر الصحاح الدبل الطاعون ويطلق على الداهية وعلى الجمل الصغير. ويقولون فلان زال قال في المجرد الزول الهيبة العظيمة والزول العجب والجواد والكلأ والخفيف الطريف الفطن ويقولون حزام قال في المجرد الحزام ما يشد به الوسط. ويقولون طارمة قال في مختصر الصحاح الطارمة بيت من خشب والغالب أن يكون ذلك في المراكب وحارة بمصر يقال لها اصطبل الطارمة أي الإصطبل الذي فيه بيت من الخشب. هذا غيض من فيض أوردناه على سبيل المثال فعسى أن يبادر القائمون بخدمة اللغة العربية إلى نشر هذا الكتاب بالطبع.

الكتاب

الكتاب إذا بلغت الحضارة أوجها في أمة يتفنن أهل العلم في التأليف المفيد فيضعون المصنفات في الموضوعات التي لا تخطر على بال أحد في مجتمع غير راق ومن كان يظن أن أبا عمرو بن عمر الجاحظ البصري يؤلف كتاباً في مدح الكتب والحث على جمعها عدا ما وقع له من ذكرها مرات في كتبه قبل زهاء ألف سنة ولكن ما كتبه الجاحظ في تلك الأزمان يكتبه مؤلف هذه الأيام ببيان أشفى ومادة أوسع لارتقاء هذه العصور باختراع الطباعة التي عمت بها المطبوعات وسهل بها التأليف والنشر ولاسيما على من كان مثل مؤلف الكتاب الذي صدر هذا الشهر في خمس مجلدات للمسيو البرسيم قيم مكتبة نظارة البريد والبرق في باريز. قسم كتابه إلى أقسام فتكلم على حب الكتب والمطالعة والكتب في الأزمان السالفة والقرون الوسطى منذ اختراع الطباعة إلى عصرنا هذا وتمييز بعض المؤلفين على بعض وما يجب أنيطالع من الكتب وكيف يجب أن يطالع أو يتصفح وتؤخذ مفكرات بالخط على بعض الكتب وهل ينبغي الاستكثار من الكتب أو افقلال منها وكيف نختار الكتب وهل يجب الإكثار من المطالعة أو الإكثار من إعادة المطالعة. وتكلم على الكتب المزينة والكتب البسيطة والقديمة والحديثة والاستشفاء بالكتب وتاريخ الكتب وذكر الروايات والصحف وتكلم على المجانين بالكتب والهائمين بالكتب وممزقي الكتب وأعداء الكتب وعدّ النساء من أعداء الكتب وأطال في إعارة الكتب وفي ورقها وقطعها وطبعها وتصويرها وتجليدها وابتياعها وترتيبها في قماطرها والعناية بفهرستها وتنسيقها وكيفية استعمالها وحفظها وطبعها واختصارها. هذه أهم ما تدور عليه أبحاث هذه المجلدات الخمسة الممتعة ويرى مؤلفها أن لا يقتصر في الكتاب على إلباسه لباس الظرف وحفظه في الزجاج والنظر إليه بإعجاب وانعطاف بل أنه خلق ليقرأ أو يتدبر ما فيه ويتلذ1 به قال: فأنما أتخذه بمثابة أداة للدرس والتسلية والتعزية وقرة العين بل هو واسطة للكمال العقلي والأدبي فأنا من ثم لا أفصل بين محبة الكتب ومحبة الآداب بحال وإن شئت فقل بين محبة الجمال والخير والعدل والحق فبين هذه الأمور تشابه. وقد اعتذر المؤلف عن أن معظم كتابه ليس من قلمه بل هو عبارة عن استشهاد بأقوال أئمة

العلم والأدب في كل عصر ومصر وذلك لأن الاستشهاد بكلام الرجل بعينه يصوره كما هو وله وقع في النفس أكثر من إحالة المطالع على الرجوع إلى ما كتبه المؤلف كما قال سانت بوف العالم. وقال شاتوبريان الفرنسوي الكاتب: لا يجب الاعتقاد بأن معرفة إيراد الشواهد هو مما يسع كل أحد من أرباب العقول الضعيفة أن يفعله ممن فرغ وطابهم من كل علم فيستقون من موارد غيرهم ما راقهم وما الاستشهاد حيث يجب غلا دليل العلم. فالذاكرة التي تدخر الشواهد لحين الحاجة هي في الحقيقة قرينة الذكاء بل هي أم الذكاء وجودة الذهن. وقد غذى كبار كتاب عصر لويس الرابع عشر عقولهم بالشواهد وكان شيشرون الخطيب الروماني الذي لم تكن له إلا لهجة واحدة يلهج بها ويتوفر عليها يكثر من الاستشهاد وأنا أيضاً (شاتوبريان) لا أقصر في هذا السبيل. ولذا سار مؤلفنا في مصنفه الاجليل على هذه الطريقة شأن معظم الكتاب الذين لا يكتبون إلا بتصحيح وإيراد الشواهد والشوارد فيقرأ القارئ فيه من أسماء الكتب المؤلفة بالإفرنجية في هذا المبحث ما يدل على أن الغربيين اليوم سابقون في كل محمدة ويسجل بما بذله بنفسه من الدرس والبحث حتى جاء كتابه آخذاً من كل شجرة ثمرة ومن كل حديقة زهرة. قال في تاريخ الكتب أنه لم يعرف في الحقيقة إلا منذ ثلاثة آلاف سنة وإن قال أحد علماء الألمان بوجود الكتب قبل الطوفان ووضع لذلك مصنفاً فتاريخ الكتب يرد إلى عهد ملك مصر أوسيماندياس الذي يرى علماء الآثار المصرية اليوم أنه هو رعمسيس الثاني أو سزسترويس وكان له خزانة كتب جعلها في قصره في ثيبة كما قال المؤرخ ديودور الصقلي وقد حكم هذا بوجودها من أثر كان مزبوراً على الحجر في أعلى باب هذه المكتبة وهو قوله: هنا أدوية النفس. فوصف بذلك الكتب أجمل وصف وأوجزه عرف ولا يتأتى أن يقال أحسن منه. ومضت على هذا الوصف الأزمان حتى جاء الفيلسوف مونتسكيو في القرن الثامن عشر فقال: ما قط حزنت إلا وتبدد حزني بساعة من المطالعة أروّح بها عن نفسي ثم جاء بعده القصصي الإنكليزي بولور ليتون في القرن التاسع عشر ووصف مطالعة بعض المصنفات لشفاء بعض الأمراض فرأى المداواة بالكتب كأنها بعض العقاقير والعناصر. وكل من قال كلمة في هذا الباب لم يخرج في وصفه للأسفار عن حد الحكمة التي علقها ملك مصر على مكتبته أو شرحها أو المبالغة فيها. وأسس الظالم بيزايسترات

(561 ـ 527 ق. م) مكتبة عامة في آثينة وهي أول مكتبة من نوعها جمع فيها أشعار هوميروس ولم تكن تعيها من قبل إلا ذاكرة القصاصين والمتشاعرين ويؤخذ من بيت للشاعر أريستوفان (قبل المسيح بخمسة قرون) أن الكتب كانت منتشرة جداً في زمنه بمدينة آثينة. وقال كسينوفون في تذكرة سقراط شيئاً عن الكتب والمجاميع وتجارتها. واستعمل السبيادس على نحو ذلك الزمن (450 ـ 404 ق. م) طريقة لا تخلو من قلة ذوق ليحبب أبناء وطنه في الكتب فدخل مدرسة خاصة بدراسة النحو وسأل المعلم أن يأتيه ببعض كتب لهوميروس فأجابه أن ليس عنده ولا واحد منها فصفعه وخرج. وكان الإسكندر الكبير (356 ـ 325 ق. م) مولعاً من وراء الغاية بدرس أشعار هوميروس وبعد أن هزم دار ملك الفرس وقع كان بين أسلاب المغلوبين فسأل خاصته ماذا ينبغي أن يجعل فيه من مال أو متاع فاختلفت آراؤهم أما هو فقال لهم: أنه يضع فيه إلياذة هوميروس لتحفظ فيه حفظاً جديراً بها. وكان الإسكندر أثنءا رحلته إلى آسيا أمر بأن تجلب له تواريخ فيليست وفاجعات أوربيدس وسوفقلس وأشيل وغيرهم ويحب ستاذه أرسطو كما يحب أباه لأن هذا سبب حياته وذاك سبب سعادته. وأنشأ بطليموس سوتر أحد خلفاء الإسكندر الذي استأثر بملك مصر عندما قسمت المملكة اليونانية مكتبة الإسكندرية وهي أشهر وأغنى مكتبة في الأزمان السالفة وكان ذلك بإشارة ديمتريوس دي فالير (345 ـ 283 ق. م) النحوي المؤرخ البياني حاكم آثينة الذي غدا أول قيم على هذه المكتبة وجرى خلفاؤه من البطالسة على العناية بهذه المكتبة ولاسيما بطليموس الثاني فيلادلفيس (285 ـ 247 ق. م) وبطليموس الثالث أفرجيتس. وكانوا ينشطون زراعة ورق البردي ليتوفر الورق لديهم ويستخدمون كثيراً من النساخ وربما لم يكونوا يستنكفون من السرقة لزيادة ما عندهم من الكتب كما فعل أحدهم فاستعار من مكتبة آثينة كتباً لشعرائهم وفلاسفتهم فاستنسخها ولم يرجع الأصل بل أرجع نسخاً ثانية منها وبطليموس الثاني فيلادلفس ـ لعله لقب بذلك استهزاء به لأنه قتل أخوته أو لأنه تزوج أخته ـ هو الذي أمر بترجمة كتب العبرانيين المقدسة إلى الرومية بمعرفة سبعين من علماء بني إسرائيل وكانت ترجمتهم السبعينية من أهم حوادث التاريخ لأنها سهلت السبيل إلى انتشار اليهودية ومعدت للنصرانية. ولم تحرق مكتبة الإسكندرية التي قال بعضهم أنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد

الإمام عمر ولا بأمره كما جاء في بعض التقاليد فإن هذه الدعوى من الأغلاط التاريخية العظيمة إذ لم يكن أثر لهذه المكتبة عندما فتحت العرب مدينة الإسكندرية سنة 640 وعلى عهد البطالسة أصبح أمر المكتبة إلى ضعف فقسمت شطرين جعل كل منهما في مكان مستقل فحرق القسم الأول قضاءً وقدراً عندما استولى يوليوس قيصر على الإسكندرية سنة 47 قبل المسيح وذهب القسم الثاني وكان جعل في معبد سيرابيس على يد الأسقف تيوفيل بعد ذاك التاريخ بأربعمائة سنة عقيب الأمر الصادر عن تيودوس بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها. ومن المكاتب الشهيرة في القديم مكتبة فرغامس برغامة في آسيا الصغرى أسسها أومينوس الثاني إبن آتال الأول قبل المسيح بمائتي سنة ويقول بلوتارك أنه كان فيها مائتا ألف مجلد بسيطة أهداها أنطونيوس أحد حكام اليونان إلى كلوبطرة ملكة مصر من نسل البطالسة. وقد نقل كثير من الكتب من مكاتب آثينة والشرق إلى إيطاليا وكانت المكاتب عند الرومان تبنى بالقرب من معابدهم وأول مكتبة أنشئت في رومية على يد أزينوس بولنيوس. ولطالما تنافس ملوكهم في الإكثار منها وفيهن من جعلوا خزائن الكتب العامة في قصورهم. تاسوى في الغلو بحب الكتب عالمهم وجاهلهم وعادلهم وظالمهم. وتكلم عن الكتب على عهد البرابرة والهونس والغوط والغوط الغربيين والفنداليين وعلى غلاتهم من الإفرنج في القرون المتأخرة وأجاد ما شاء وشاء بيانه في اختيار المصنفات وانتقاء الأجود منها فأتى على ذلك بشيء مما قاله أهل العلم والحكمة منذ الزمن القديم إلى عهدنا هذا فقال أن توسيديد حضر مجلساً لهيرودتس المؤرخ اليوناني يتلو فيه بعض أهل آثينة شيئاً من تاريخه فاهتز وطرب ولم يتمالك أن بكى وكان عمره خمس عشرة سنة وكان ديموستين يغالي في الولوغ بتاريخ توسيديد نسخه بخطه الجميل ثماني مرات ليرسخ إنشاؤه في ذهنه ويطبع عليه. وكان الإسكندر الكبير مهووساً بإلياذة هوميروس يصبحها معه حيث ذهب ويضعها تحت المخدة مع سلاحه عندما ينام وكان شيشرون يرى ديموستين أخطب خطيب في كل ضرب من ضروب الخطابة ويعنى بما كتبه أرسطو وأفلاطون وتيوفراست كل العناية. وكان شارلمان (742 ـ 814) ملك فرنسا مولعاً بتلاوة كتاب مدينة الله للقديس

أوغسطينس كما أن الفريد الكبير ملك إنكلترا (849 ـ 900) يؤثر مطالعة قصص أزوب وترجمتها شعراً إلى اللغة السكسونية وكان يرى تيودور كازا النحوي اليوناني المشهور (1398 ـ 1478) أن كتب القدماء لو ألقي كلها في النار لاختار أن يخلص منها كتب بلوتارك. وجعل شارلكان (1500 ـ 1558) كتب توسيديد رفيقته في أعماله وكان يقرأ تذكرات كومين المؤرخ بولع شديد. وكان كاتم السر فرنسيس باكون (1561 ـ 1626) يقول ليست الكتب إلا تكراراً فابحث في كتب اليونان والرومان والعرب وجميع مؤلفي القرون الحديثة فلا ترى فيها كلها شيئاً يتعدى ما قاله الفلاسفة أرسطو وأفلاطون وإقليدس وبطليموس. وكان ملتون الشاعر الإنكليزي (1608 ـ 1674) الأعمى يقرأ في الصباح شيئاً من التوراة بالعبرية ثم يدرس شعر هوميروس ويقال أنه استظهره كله وعلم بناته الثلاث ثماني لغات يقرأن فيها عليه بدون أن يفهمنها وكان يقول أن البنت تكفيها لغة واحدة ولكنه لم ير بداً من تعليمهن ليقرأن له ما يحب. وكان كورنيل الشاعر الفرنسوي (1616 ـ 1684) يؤثر مطالعة تاسيت وتيت ليف المؤرخين اللاتينيين ويعنى عناية خاصة بلوكين الشاعر اللاتيني وسينيك الفيلسوف وسمع لافونتين الشاعر الفرنسوي (1621 ـ 1692) وهو في الثانية والعشرين نشيداً للشاعر مالريب فأخذ العجب بأقوال هذا الشاعر ثم انصرف إلى مطالعة هوراس وفرجيل وتيرانس وكنتيلين واختار من مؤلفي الفرنسيس رابلي ومارو ودورفي وفواتور وقرأ من الإيطاليين أريوست وبوكاس وماكيافيل وتاس. وشغفت العقيلة دي سيفنية الكاتبة الفرنسوية (1626 ـ 1696) بمطالعة أدب نيكول ثم كورنيل وبردالو. وكان الأخلاقي لابرويير (1669 ـ1696) يرى أن موسى وهوميروس وأفلاطون وفرجيل وهوراس لا يفوقون غيرهم من الكتاب والشعراء إلا بجودة تعابيرهم وتصوراتهم. وكان الشاعر راسين (1639 ـ 1699) استظهر وهو في السادسة عشرة أو السابعة عشرة أشعار سفوقلس وأربيدس وقرأ أفلاطون وبلوتارك على الأصل اليوناني وكان وهو في المدرسة يقرأ رواية تيوجين وشاريكله لهيلودور اليوناني ففاجأه معلمه فتناول الكتاب من يده وألقاه في النار ثم اجتهد راسين أن يحصل على نسخة ثانية من هذه الرواية فعامله

أستاذه بمثل ذلك ثم استحصل نسخة ثالثة وأخذ يحفظها سراً ولما أتى عليها حمل النسخة إلى معلمه وقال له: لك أن تحرق هذه كما حرقت أختيها لأني لا حاجة بي إليها. وقال الكاتب الفرنسوي سان أفرموند (1613 ـ 1703) أن رواية دون كيشوت لسرفانتس هي من المصنفات التي أستطيع تلاوتها طول عمري دون أن أمل ساعة وكنت أود أن أكون مؤلف دون كيشوت من بين جميع الكتب التي طالعتها ومن رأيي أنه ليس من كتاب يساعد كثيراً على تحسين ذوقنا في كل الأمور مثله. ويظهر أنه كوفيدو من حذاق المؤلفين وأني لأعتبره زيادة لأنه أراد أن يحرق جميع كتبه عندما قرأ دون كيشوت وكان يؤثر لو لم يؤلفها قال ثم إني رأيت مما يلذني طول حياتي كتب مونتين وأشعار مالريب وفاجعات كورنيل ومصنفات فواتور. سئل الشاعر بوسويه (1627 ـ 1704) عن المصنفات التي يتمنة لو قدر له أن يؤلف مثلها فقال كتاب الرسائل الولايات لباسكال وكان يؤثر شعر هوراس وكان بوالو (1636 ـ 1711) يجعل لشعر هوراس المقام الأول ثم لتيرانس ويفضل مشاهير القدماء على مشاهير المحدثين ما خلا باسكال فإنه عده في مصاف العظماء وكانت مكتبة لايبنر الفيلسوف الألماني (1646 ـ 1716) عبارة عن مصنفات أفلاطون وأرسطو وبلوتارك وسكتوس أمبيريكوس وإقليدس وأرخميدس وبلين وشيشرو وسنينك وقد درس منذ نعومة أظفاره اللغات القديمة وآثر التوفر على الأخذ من الشاعرين تيت ليف وفرجيل حتى أنه كان في شيخوخته يسمعك ما قاله فرجيل بالحرف الواحد. وكان مونتسكيو (1689 ـ 1755) جعل قراءة كتابات تاسيت هجيراه وقال من نفسه: إني لأعترف أن ذوقي أن ذوقي في القدماء وأن الزمن القديم يبهجني وأنا أقول أبداً ما قاله بلين أنكم يا هؤلاء تذهبون إلى آثينة فاحترموا الأرباب. وكان يحتفل من وراء الغاية بكتاب تليماك كما يأنس بكتب آسيل وأربيد وسوفقلس وبلوتارك وأرسطو وأفلاطون وشيشرون وسويتون وفرجيل ويختار من المحدثين كربيليون ومونتين ولاروشفوكولد ويعتقد أن أعظم الشعراء أفلاطون ومالبرنش وشافتز بوري ومونتين. وكنت ترى على منضدة فولتير (1694 ـ 178) رواية أتالي لراسين وكتاب الصوم الصغير لماسيليون وقال الفيلسوف ديدرو الفرنسوي (1713 ـ 1784) في كلامه على

القصصي الإنكليزي ريشارسون أن مطالعة كتبك هي سلوتي في جميع أوقاتي فلو قضت علي الضرورة أن أبيع كتبي لأعلم بثمنها أولادي لاستثنيتك منها وأبقيتك لي أنت وأسفار موسى وهوميروس وأربيدس وسوفقلس وأتناوب قراءتك مرات. وكان العالم بوفون (1707 ـ 1788) يوصي بقراءة أعاظم أرباب القرائح والعقول وقد حصرهم في خمسة وهم نيوتن وباكون ولايبز ومونتسكيو وهو في جملتهم. وكان كانت الفيلسوف (1724 ـ 1804) يرى أن الأرق إذا استولى على امرئ فليس لصاحبه إلا أن يحصر فكره في موضوع واحد أما هو فكان يجلب النعاس إلى عينيه بأن يتصور شيشرون وحياته وكتاباته وكان كيتي (1749 ـ 1834) يرى أن هي ما يقرأ ما خطته أنامل مولير وفولتير وقال عن هذا أنه صفوة أمته كما أنه لويس الرابع عشر صفوتها في السياسة وذلك لأن الأسرة إذا طال عليها العهد يتسلسل منها فرد يجمع جميع صفات أجداده وكمالاتهم وهكذا كان فولتير أعظم كاتب كانت بينه وبين أمته مناسبة وهو أعظم أديب على اختلاف العصور وأعجب مؤلف في الطبيعة. وسنحث القراء بشيء من فوائد الكتاب بعد.

مجامع الغرب

مجامع الغرب اشتقت لفظة المجمع التي هي تعريب أكاديميا الإفرنجية من أكاديموس بطل آثينة فكانت الأكاديميا هناك عبارة عن بيت خاص أو ملعب محاط بالأشجار حوى عدة محال لتقديس الأرباب ومنها محراب لربة الشعر أنشأه الفيلسوف أفلاطون فكان يتنزه تحت ظلال أشجاره مع تلاميذه ويذاكرهم في المسائل العلمية ولما هلك دفن في حديقة مجاورة لذاك المكان فتولى سبوزيين بعده أمر المجمع ثم توسع في معنى الأكاديميا فصار يطلق على فريق رجال الأدب والعلم وأرباب الفنون يجتمعون للبحث في موضوعات عامة نافعة. هكذا كان شأن مجمع البطالسة في الإسكندرية ومجمع الإسرائيلين ومجمع الخلفاء العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس ومجمع شارلمان والفرد الكبير الفرنسويين. وكانت بعض هذه المجامع أشبه بمدارس منها بمجامع علمية كما ترى المجامع اليوم. نشأت في أوروبا خلال القرن الثالث عشر والرابع عشر مجامع علمية نظرية مثل مجمع فلورنسا إحدى مدن إيطاليا (1270) ومجمع المناظرات البديعة في طولوز في فرنسا (1323) ولم يعن في ذينك المجمعين بغير الشعر لما أن ألشعر والأدب هو أول ما تعانيه الأمة وتحرص عليه ليكون سلماً إلى سائر العلوم التي هي قوام المجتمعات البشرية. أما الحركة التي أدت إلى إحداث المجامع الحالية في الغرب فيجتمع إليها خاصة أهل كل بلد وتنظر في المكتشفات والمخترعات المهمة فتقر سليمها وتنبذ سقيمها فترجع إلى عهد النهضة التي نشأت من إيطاليا والنهضة إذا أطلقت في أوروبا يراد بها دخول الآداب في طورها الجديد والقيام على الصنائع والعلوم التي نشأت فيها في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر. ومما ساعد على إحيائها اكتشاف الطباعة واختراع النقش وهما الاختراعان اللذان عمما الآداب والصنائع. نشأت تلك الحركة من إيطاليا فكثرت فيها المجامع العلمية أي كثرة فلم تكن فيها مدينة غلا وفيها مجمعاً واحد على الأقل وربما كان في المدن الكبرى عشرون مجمعاً أو تزيد. ومن المجمعات الإيطالية التي أشبهت المجمع العلمي الفرنسوي الحالي مجمع كروسكا ولم يكتب البقاء لما عداه من المجامع العلمية الإيطالية التي نشأت في القرن السادس عشر والسابع عشر وقلما كانت تلك المجامع تدوم بعد مؤسسيها. وفي القرن السابع عشر حذت فرنسا حذو إيطاليا في مجامعها فكثرت فيها المجامع وحسنت حالها لأن الحكومة في فرنسا أخذت

بيدها فكانت نشأتها في بلاد عني فيها بأمرها. فأنشأ ريشليو الوزير الفرنساوي المجمع العلمي وأنشأ لويز الرابع عشر مجمع العلوم والآثار وفروعه التي نشأ منها مجمع الفنون الجميلة. اختلف بعضهم في فوائد المجامع العلمية ومما قاله رينان الفيلسوف الفرنسوي كثيراً ما يضعف صوت العلم النافع ويتضاءل أمام هجمة المهاجمين وقحة الدجالين. وللعلم صوت متى سكن ضجيج تلك الظواهر يظل ذلك الصوت يسمع فلا يعود أحد يسمع غيره ومن أجل هذا ترى المجامع العلمية على كثرة شكوى أهل الأفكار المنحطة منها فائزة بفضل الغلبة لأأنها حارسة حسن الترتيب الحقيقي وهي قليلة ولكنها مفلحة وليس لغير العقل سلطة تبقى. أهـ. كانت المجامع العلمية الفرنسوية من أعظم المجامع التي نشأت في عواصم أوروبا وعليها نسج الناسجون وبمثالها اقتدى المقتدون. نشأ المجمع العلمي الباريزي الذي هو مفخر من مفاخر الفرنسيس سنة 1629 على يد بضعة أشخاص من أهل الطبقة الوسطى كانوا يجتمعون مرة أو مرتين في الأسبوع في منزل لافانتين كونرار أمين سر الملك فيتباحثون كأنهم في زيارة عادية في الأخبار والآداب وإذا ألف أحدهم كتاباً يعرضه على غيره عن طيب خاطر فيقولون فيه رأيهم بحرية وكانوا ثمانية رجال ومعظمهم من أهل الأدب ومن أرباب الذوق وأهل الشعور كما تدل عليه مصنفاتهم فمضى عليهم نحو أربع أو خمس سنين وهم يوالون اجتماعاتهم على هذا النحو والسرور شامل لهم والفائدة يقتطفون من ثمراتها كل جني هني فاتصل خيرهم بريشليو وقد نم على جمعيتهم الصغيرة أحد أصحابه ولعل هذا الوزير أراد أن يكون مرجعاً في كل شيء شأن كبار المستبدين فعرض عليهم إذا كانوا يحبون أن يجتمعوا اجتماعاً عاماً ويتألفوا جماعة وكان ذلك في أوائل سنة 1634 فتردد أولئك المجتمعون أولاً ثم أجابوا دعوة ريسليو فدعاهم أولاً على تكثير سوادهم فبعد أن كانوا من تسعة إلى اثني عشر رجلاً أصبحوا ثمانية وعشرين ثم تفاوضوا في الشكل الذي يجري عليه المجمع وفي مواده وعمله وهو عبارة عن تحسين اللغة الفرنسوية وتأليف معجم لها وكتاب نحو وشعر وبيان لتعم اللغة الإفرنسية ويكون لها من الشأن كما كان في القديم للغتين اللاتينية واليونانية.

مات ريشيلو وخلفه في الرئاسة سيكيوه من أصحاب السلطان وأخذ المجمع العلمي صورة من صور ديوان رسمي ثم أخذوا بعد حين ينشرون محضر جلساته واصطلحوا على أن يلقي كل منتخب من زمرة أعضائه خطاباً. وفي سنة 1702 قرر المجمع قبول النساء العالمات فيه. وفي رواية أن النساء كن يقبلن في مجمع التصوير والنقش الملوكي في باريز بصفتهن أعضاء منذ عهد بعيد ولكن لا يقبلن في المجمع العلمي الأدبي أكثر من غيره. ولطالما كافأ هذا المجمع النساء على ما جادت به قرائحهن من الكتب والرسائل ولم يفكر في إيجاد بعض كراسي لهن يجلسن عليها وكان النساء في مجمع التصوير والنقش وما زلن ممتعات بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال. وكان العقلاء يشتكون في بعض الأحايين من دخول بعض الأعضاء في المجمع العلمي بالشفاعة والوساطة لعظم أقدارهم ولكن كانت الأكثرية في الغالب لأرباب العلم النافعين ممن امتازوا بشيء أو كتبوا آثار نافعة ولم يحرم من الدخول في هذا المجمع من رجال العلم إلا أفراد قلائل امتنعوا هم عن الدخول أو كان المانع من دخولهم سبباً ظاهراً. نفع المجمع العلمي اللغة الفرنسوية بقاموسه فكانت أقواله محترمة معمولاً بها من الأمة ولطالما أسف الإنكليز والألمان أنفسهم على عدم توفقهم لإيجاد مثل هذا المجمع فكانت لغتاهم لعدم المسيطرين عليهما مادة رخوة قابلة لكل تغير يتصرف فيها على ما يشاء. وعلى ما يشتغل به المجمع من تنقيح اللغة وتهذيبها ينظر في المصنفات التي تعرض عليه ويكافئ عليها المحسنين بالجوائز. وله الآن ثلاث وعشرون جائزة يعطيها كل سنة. منها سبع عشرة جائزة أدبية وما عداها جوائز سموها جوائز الفضيلة. أما مجمع الآثار الفرنسوي فقد أنشء سنة 1663 من أربعة أعضاء من أهل المجمع العلمي السالف ذكره وجعل أعماله النظر في حل الآثار والشعار والأيقونات وأن تجعل للعاديات القديمة بساطة وذوق تعظيم بها قيمتها الحقيقية وفي سنة 1701 نظم قانون ذاك المجمع مؤلفاً من أربعين عضواً يقسمون إلى أربع طبقات. ويجتمع هذا المجمع مرتين في الأسبوع وأهم عمله البحث في الآثار الفرنسوية والتاريخ الفرنسوي كما يعنى بالآثار الشرقية والغربية كالأشورية والبابلية والسامية والمصرية وغيرها وفيه فحول من الأعضاء المخصين في كل علم من هذه العلوم وهو يعطي جوائز كسائر الأكاديميات الفرنسوية

وينتخب رئيسه لسنة كما في سائر المجامع ما عدا العلمي الكبير ويعاونه كاتم أسرار دائم وهو محسوب من جملة الأعضاء الأربعين. أما مجمع العلوم في فرنسا فمنشؤه مجهول ولم يعرف له تاريخ في الحقيقة إلا سنة 1666 أيام رخص له الوزير كولبر بأن يجتمع في خزانة كتب الملك لما رأى في أعماله من خدمة الأمة وفي هذا المجمع الفلكيون وعلماء التشريح والنبات والكيماويون والمهندسون والميكانيكيون والطبيعيون. زاره لويس الرابع عشر فوقعت زيارته له موقعاً حسناً. وقد خصصت له فرنسا منذ ألو نشأته اثني عشر ألف ليرة إفرنسية لابتياع الأدوات والآلات اللازمة للتجارب الكيماوية والطبيعية وغيرها وعدد أعضائه أربعون أيضاً كالمجمعين السالفين وهم يقسمون أقساماً. أما مجمع العلوم الأدبية والسياسية فلم يكن له كيان قبل الثورة الفرنسوية وغاية ما في الأمر أنه أسس نادي الأنترسول للبحث في هذه العلوم على يد الراهب دي لونكور في سنة 1720 فكان يجتمع أعضاؤه وهم مائة من العلماء كل سبت ثلاث ساعات يقضون الساعة الأولى في تلاوة بعض أوراق مقتطعة من الجرائد ويتباحثون في الساعة الثانية في الشؤون السياسية ويصرفون الساعة الثالثة في قراءة مفكرات. فظنت الحكومة الفرنسوية فيه سوءاً فأمرت بإلغائه سنة 1731 حتى إذا كانت سنة 1795 سن قانون لهذا المجمع ينقسم على أقسام قسم العلوم الطبيعية والرياضية وقسم العلوم الأدبية والسياسية وقسم الآداب والفنون الجميلة. وينقسم قسم العلوم الأدبية والسياسية إلى ستة أقسام لكل منها ستة أعضاء في باريس وستة مشتركين في الولايات يشتغلون في تحليل الأفكار والعواطف وهم قسم الفلسفة. والثاني قسم الأخلاق وقسم العلوم الاجتماعية والتشريعية كالتقنين والحقوق العامة والفقه. وقسم الاقتصاد السياسي كالمسائل المالية والإحصائية. وقسم للتاريخ العام والفلسفي وقسم للجغرافيا. ولما قبض نابليون بونابرت على قياد المملكة الفرنساوية أراد أن يلغي هذا المجمع مخافة أن يثير حركة في القلوب الجامدة إلا أنه عاد بعد فتجددت حياته ولما تغيرت أنواع الحكومات في فرنسا تغيرت الأحوال على جميع العلوم الأدبية والسياسية ثم انحصرت أعمال هذا المجمع بعد اللتيا والتي في الاشتغال بخمسة أقسام وهي الفلسفة والأخلاق والتشريع (الحقوق العامة والفقه) والاقتصاد السياسي والإحصائيات والتاريخ

العام والتاريخ الفلسفي. وقد كثر ما جاد أهل الخير له بالأموال ومن رصدوا له الأوقاف فضلاً عما وضعته الحكومة الفرنساوية من الاعتمادات من أجله فصار يتأتى له بذلك أن يكافيء المحسنين من المؤلفين. أما مجمع الفنون الجميلة في فرنسا أيضاً فإنه قام مقام عدة مجامع قبله أنشئت منذ عهد لويز الرابع عشر فأضيف إلى مجمع التصوير والنقش مجمع للموسيقى ومجمع للرقص. ومن المجامع الفرنساوية مجمع التصوير والنقش الملوكي أنشء سنة 1468 وألغي سنة 1793. وهناك الكثير من المجامع مثل أكاديمية سان دوك المؤسسة سنة 1649 والملغاة سنة 1777 ثم المجمع الملكي للرسم الذي أسس سنة 1671 في باريز وألغي سنة 1792 ثم مجمع الفنون الجميلة وقد أسس سنة 1795 ولا يزال حياً. وفي ولايات فرنسا كثير من المجامع العلمية للتصوير والنقش كما فيها مجمع علمي للموسيقى ومجمع للرقص وآخر للجراحة وغيره للطب وهناك جمعيات علمية أيضاً. قلنا أن إيطاليا كانت مبعث المجامع الأدبية والعلمية على الطراز الحديث وأنها كثرت كثرة عظيمة وكانت هذه المجامع لأول أمرها عبارة عن اجتماع أشخاص انصرفوا إلى العلوم والآداب والفنون وظهرت بأسماء غريبة دام بعضها وبعضها انفض أعضاؤه والزمن جامع ومفرق. وأهم مجمع قام في إيطاليا المجمع الإفلاطوني في مدينة فلورنسا بسعد كوسم دي ميديس كبير دوقات طوسكانيات في عصره وكان هم هذا المجمع درس فقوال أفلاطون ثم تفرق أعضاؤه أيدي سب عقب حوادث سنة 1521 ولم يعودوا يجتمعون ثم أسست مجامع في نابولي ورومية عنيت بالآداب والتمثيل والشعر وأول جمعية أسست في إيطاليا للبحث في العلوم الطبيعية نشأت في نابولي سنة 1560 على يد باتيست بورتا وكانت داره أول مجمع لاجتماع المتحابين في العلم وهم كانوا سداه ولحمته وقد عنيت بالبحث في الطب والفلسفة الطبيعية. ثم اتهم هذا المجمع بالسحر فاضطر مؤسسه أن يذهب إلى حضرة البابا لويز الثالث ويبرئ نفسه مما عزي إليه وانحل المجمع وخلفه في رومية سنة 1603 مجمع لنسي وكان من جملة أعضائه غاليله صاحب الرأي المشهور في دوران الأرض الذي أرداه الجهل في عصره. ثم أنشأ البابا بيوس التاسع سنة 1847 مجمعاً علمياً في رومية سماه المجمع البابوي النيسي الجديد وبعد سنة 1870 نظم هذا المجمع وأطلق عليه اسم القديم

المجمع النيسي وهو الآن تحت حماية الحكومة الإيطالية ويتناول نحو عشرين ألف جنيه في السنة من الحكومة وهو قسمان قسم العلوم الأدبية والسياسية وفرع العلوم الطبيعية والظواهر الجوية. وفي سنة 1657 أنشأ الأمير ليوبولد ميديسي في فلورنسا مجمع سيمنتو للبحث في العلوم الطبيعية ثم انحل وأنشئ في مدينة فلورنسا مجمع كروسكا سنة 1582 وهو مجمع الأدبي أسسه أشهر شعرائها وعني بتصحيح قاموس اللغة الإيطالية وهذا المعجم هو حجة الطليان في لغتهم كمعجم المجمع العلمي الباريزي باللغة الإفرنسية. وقد ضعف هذا المجمع بعض الضعف ولكنه ما زال موجوداً وأعضاؤه على قلتهم نشروا الآن الطبعة الخامسة من معجمه وفي كل من بولونيا وتورين وميلان والبندقية مجامع علمية أدبية كما فيها مجامع خاصة من أمهات المدن الإيطالية ومنها ما يرد تاريخه إلى سنة 1500. أما مجامع الفنون الجميلة فهي بلا شك وافرة في بلدان إيطاليا وكيف وهي أم الصنائع النفيسة والتفنن والذوق وأهم المجامع من هذا النوع مجمع ميلان أسس سنة 1483 ومجمع الفنون الجميلة في ميلان ومجمع بولونيا المعروف بالمجمع الكليمنتي نسبة للباب كليمان ومجمع جين اللغوي أسس سنة 1751 ومجمع تورين ومجمع البندقية ومجمع نابولي ومجمع بارم ومجمع مودين ومجمع لوك ومجمع سين وأهم المجامع المجمع الروماني لسان دوك أسس سنة 1588 ومجمع الفنون والتصير أسس سنة 1860 في فلورنسا وكان أسس على عهد كوسم الأول أمير ميديسي وغيرها من المجامع الصغيرة وفيه بعض أعضاء من الأجانب ولاسيما من الإسبانيين. أما مجامع إسبانيا فهي مهمة أيضاً. فقد أسس الدوق إسكالونا في مدريد سنة 1713 مجمعاً علمياً على نسق المجمع العلمي الفرنسوي والإيطالي وذلك لنشر اللغة الإسبانية وحفظها فكان أعضاؤه باديء بدء ثمانية ثم أصبحوا أربعة وعشرين وله رئيس ينتخب كل سنة وكاتم أسرار دائم وقد نشر معجماً. وهناك المجمع التاريخي أسس سنة 1738 وكان لأول مرة جمعية خاصة جعلها الملك تحت حمايته وهو يعني بالمباحث التاريخية وعاديات البلاد الإسبانية وكان أسس في مدريد مجمع للطبيعيات وانفض بعد سنين فخلفه مجمع العلوم الذي أسس سنة 1847 وقد جروا فيه على مثال مجمع العلوم في باريز وهو ينقسم على

ثلاثة أقسام العلوم الرياضية والطبيعية والظواهر. وفي سنة 1858 أنشئوا في مدريد مجمعاً على مثال المجمع العلمي الفرنسوي للعلوم الأدبية. وفيها مجمع للفنون الجميلة أيضاً. ولحكومة البرتقال في لشبونة عاصمتها مجمع للبحث في التاريخ البرتقالي أسس سنة 1720 على يد الملك يوحنا الخامس وأضافت إليه الملكة ماري سنة 1779 مجمعاً للعلوم الزراعية والفنون والتجارة والاقتصاد العام. وقد نظم المجمع العلمي سنة 1851 وهو قسمان أحدهما للعلوم الصرفة والثاني للأدب والتاريخ والحقوق والعلوم الأدبية والسياسية وأخذ منذ سنة 1879 ينشر مذكرات أدبية برتقالية ومجاميع تاريخية مخطوطة ومفكرات اقتصادية. وتجد في أميركا الجنوبية مجامع علمية في كل عاصمة من عواصم جمهورياتها وأهمها مجمع الفنون الجميلة في ريو دي جانيرو وعاصمة البرازيل أسسها الملك يوحنا السادس البرتقالي وكان مديره وأساتذته من الفرنسيس أولاً. وأسست البلجيك سنة 1772 المجمع الملكي البلجيكي في بروكسيل على يد الإمبراطورة ماري تريز ملكة بلاد القاع وهو يبحث في العلوم والأدب وما زال إلى اليوم سائراً على قدم النجاح وقد ضم إليه كل ما في بلاد البلجيك من أهل العلم وحملة لواء أدب وفي كل سنة يعين الملك رئيساً للمجمع من أحد أقسامه الثلاثة في الأدب والفنون الجميلة والعلوم. وبينا كانت أوروبا بأسرها تزهر بالعلوم والآداب على عهد النهضة والإصلاح كانت البلجيك وهي تدعى إذ ذاك بلاد القاع الإسبانية قد خربت ومني سكانها بالحروب الدينية ونزلت من أوج السعادة على حضيض الذلة المحزنة. دامت على ذلك طول القرن السابع عشر وفي تلك الحال التي كانت فيها بلاد البلجيك على جانب من ضعف القوى الطبيعية والعقلية سلمت ولاياتها للنمسا بموجب معاهدة أوترخت سنة 1713 وكانت الآداب والفنون قد اضمحلت فيها ولم يبق فيها أثر للعلم إلا في كلية لوفين والتعليم فيها على ضعف. فارق الغنى تلك الأمة وإن لم يفارقها نشاطها واحتفظت بتقاليدها وبفضل الملكة ماري تريز هبت البلاد من رقدتها وانعكس ذاك السبات الطويل إلى يقظة تامة وأعضاء ذاك المجمع 48. وفي البلجيك مجمع طبي أسس سنة 1841 أعضاؤه أربعون ويقبل أعضاء شرف بقدر ما

يستنسبه وأعضاء مراسلين يبلغ معدلهم مائة رجل منهم 40 بلجيكياً و60 أجنبياً. كما أن مجمعاً علمياً للفنون الجميلة من مدينة أنفرس وفيها مجامع للصنائع النفيسة في أمهات المدن البلجيكية. ولكن لمجمع أنفرس فضل التقدم على سائر المجامع التي من نوعه لأن تلك المدينة نفسها امتازت بالصنائع والتفنن فيها منذ خمسة قرون وقد اصبح هذا المجمع بفضل الدروس التي يلقيها في التصوير والنقش والحفر والهندسة كعبة القصاد من مئات من الطلاب في بلاد البلجيك وغيرها. وفي هولاندة مجمعان أحدهما يدعى مجمع بلاد القاع أسسه سنة 1808 الملك لويز بونابرت واستحال سنة 1852 إلى مجمع العلوم والثاني مجمع ليدن أنشئ سنة 1766. ومن أعظم المجامع العلمية في ألمانيا المجمع الذي أسس في فيينا سنة 1652 على مثال المجامع الإيطالية وليس له مدينة معينة يجتمع فيها بل يغير مقره بحسب إرادة رئيسه ولكن خزانة كتبه لم تزل باقية في درسد عاصمة سكسونيا وقد نشر منذ سنة 1895 سلسلة مفكرات تحت أسماء شتى كلها فيس العلم والطب. ومع انتشار العلم في بلاد الألمان وكثرة الكليات فيها لم يشعر فيها بالحاجة إلى المجامع العلمية لأول ارتقائها فلم تؤسس المجامع في قواعد بلادها إلا في القرن الثاني عشر على مثال المجامع الفرنساوية وذلك في مدن برلين وميونيخ وليبزيك وغوتنغن. أسس الفيلسوف الألماني لايبنز في برلين بمساعيه وفضل صوفيا شارلوت حامية الآداب والعلوم في عصرها مجمعاً للعلوم. فصد الأمر بإنشائه سنة 1700 ولم يرض فريدريك الأول أن يعد هذا المجمع من جملة دواوين الحكومة إلا بعد اللتيا والتي وإجابة لرغائب زوجته حامية الآداب والعلم فجرى المجمع منذ ذاك العهد على مثال مجمعي لندن وباريز وذلك بجمع المعارف المتفرقة في العالم وتقريبها من الأذهان وتنظيمها وجعل مجموعة لها واضحة سديدة وأن تنمى ويزاد عليها وتوضع موضع الاستعمال ويعم أمرها وتتشربها النفوس على طريقة أمينة مشروعة. قال لايبنز الحكيم في قانون هذا المجمع وهو من إنشائه إن الأسباب التي تبلغ بنا هذا الغرض الذي نرمي إليه هي التأمل ومراقبة صنع الله وعجائبه في الكون ووصف الاكتشافات والاختراعات وما صاغته يد الإنسان من النفائس والعناية بما عني به الناس واعتقدوه من عقائدهم وعلى الجملة النظر في جميع هذه

الدروس وتطبيقها على العمل فهي كنز العلم والعمران الاجتماعي وهي المادة التي تساعد على الخير العام والتوفر على الفضيلة وبث الحقيقة وتمجيد الخالق إلى أن قال: ألا وأنه يجب تطبيق العلم على العمل وتكميل الصنائع والعلوم بأساليبها والعناية بكل ما ينفع البلاد والشعب في الزراعة والصناعة والتجارة بل في الطعام والآدام ويعلي شأن ألمانيا. وما برحت حال هذا المجمع في ارتقاء وملوك ألمانيا يعضدونه مدفوعين إلى ذلك بدافع طبيعي من حبهم للعلم أو بدافع حب الظهور والتباهي في الكمالات حتى جاء زمن على المجمع في القرن الثامن عشر أبدل فيه اللغة اللاتينية التي كان يكتب بها أعماله باللغة الفرنسوي لأن هذه كانت لغة العلم إذ ذاك ولكن استعمال الفرنسية لم يدم غير عشر سنين ثم خلفتها الألمانية وكثرت واردات المجمع كثرة مهمة بما نفحته الحكومة إلا أن كلية برلين قد غطت على شهرته بما قامت به من الأعمال العلمية ومع هذا دام له شأن يذكر بين الخاصة ولا سيما عند علماء الأرض الذين يقدرون أعماله العلمية قدرها وهو اليوم أهم مجمع للمباحث اللغوية والتاريخية وله عناية خاصة بالعربية والسنسكريتية. وفي برلين مجمع للصنائع الجميلة أنشئ سنة 1703 وكان مديروه فرنسويين باديء بدء. وفي بافيرا مجمع للعلوم اسمه المجمع الملكي وهو في الدرجة الثانية عن الأكاديميات إلا أنه ثقة محترم أسس في ميونيخ سنة 1759 واشتغل لأول أمره بالمباحث التاريخية وفي سنة 1809 نظم شؤونه تنظيماً حسناً وعهد برئاسته إلى الفيلسوف جاكوبي وقسم أعماله إلى ثلاثة أقسام وهي الفلسفة وأصل اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية والتاريخية. وفي ميونيخ مجمع للفنون الجميلة. وفي إمارة ساكس مجمع للعلوم أنشيء في درسد عاصمتها إلا أن مدينة ليبزيك مركزه الحقيقي وقد أنشيء سنة 1846 وعدد أعضائه سبعون عضواً ينقسمون على قسمين القسم الرياضي والطبيعي والقسم التاريخي واللغوي. وفي كل من ليبزيك ودرسد مجمع للفنون الجميلة. وأنشيء في غوتنغن مجمع للعلوم انتظم أمره سنة 1770 وهو ذو ثلاث شعب: الرياضيات والطبيعيات والتاريخيات وللشعبة الطبيعية فيهم أثر مهم في الحركة العلمية الألمانية. ويمكن أن يلحق بمجامع ألمانيا مجمع فينا عاصمة النمسا اليوم ولغته الألمانية. وفي فينا ما عدا ذلك مجمع علمي إمبراطوري وضع مشروعه لايبنز الفيلسوف ولكنه لم

يؤسس إلا سنة 1846 على يد الإمبراطور فرديناند الأول وهو شعبتان شعبة الرياضيات والطبيعيات وشعبة التاريخ والله وله 60 عضواً مواظبين و24 عضواً بالشرف و120 عضواً مراسلين وكان أول رئيس له المستشرق الكبير هامر بورجستال. وأسس في فيينا سنة 1704 مجمع للفنون الجميلة. وفي بريطانيا العظمى وإيرلندا تطلق لفظة مجمع على المحال التي تعنى بالفنون الجميلة وما عداها من الجمعيات التي يشترك فيها كثير من رجال العلم والأدب لمقصد يقصدونه وعلم ينمونه وأدب ينشدونه يدعى جمعيات فالجمعية الملكية في لندن لا تقل عن المجمع العلمي في باريز وبرلين ويرد عهد تأسيسها إلى سنة 1616 وقد كان شأن هذه الجمعية على عهد جان الأول وشارل الأول من الضعف على جانب. وكان باكون الفيلسوف اعتاد أن يجتمع هو وأصحابه من أهل العلم والحكمة في أكسفورد على الدوام للبحث في الموضوعات التي لها علاقة بالعلوم العلمية ولما ارتقى شارك الأول إلى عرش إنكلترا أصدر إليهم أمراً يعترف بجمعيتهم وعندها بدأ أمرها بالظهور وما زال شأن هذه الجمعية العلمية زاهراً طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر واشترك فيها كثير من نبلاء البلاد الإنكليزية وجميع علمائها ولكن بدون أن يعطى النبلاء لقباً علمياً. وما برحت منذ سنة 1665 تنشر كتباً تحت عنوان القضايا الفلسفية وقد بلغت إلى الآن زهاء مائتي مجلد. وفي لندن مجمع للتصوير اسمه مجمع أدمبرغ وفي دوبلين عاصمة إيرلندا مجمع اسمه المجمع الملكي الإيرلندي أسس سنة 1786 بجانب كليتها وفيها مجمع للفنون الجميلة. وفي بعض المستعمرات الإنكليزية مجامع علمية مثل المجمع العلمي في مدينة فكتوريا بأوستراليا. وفي بلاد السويد والنرويج مجامع علمية كثيرة جروا فيها على قدم المجامع الفرنسوية وهي ناجحة للغاية. وفي استوكهلم ثلاثة مجامع فيها ثلاث شعب كالمجمع العلمي الباريزي وفيها مجمع علمي للفنون الجميلة أسس سنة 1733 وهو كمعظم المجامع التي من شكله عبارة عن مدرسة للفنون الجميلة مع متحف وأساتذة وتلاميذ معدل عددهم أربعمائة. وفي استوكلهم مجمع علمي على مثال مجمع العلوم في باريز وبرلين أسس سنة 1735 على يد العالم تريوالد المشهور في عصره إجابة لدعوة أحد رجال تلك البلاد وعلى نفقاته وكان دعاه إلى إلقاء محاضرات عامة في الطبيعة العلمية فحذا حذو تريوالد كثير من أهل

الأدب حتى إذا كانت سنة 1739 أنشأ هؤلاء العلماء في استوكهلم جمعية صغرى غايتها البحث في المباحث العلمية وتعميمها ثم انتظموا في شكل مجمع علمي يجتمع في أوقات معلومة ولا يكتفي بالمحاضرات فنجح في شؤونه ونشر كما تنشر المجامع العلمية خلاصة بأعماله ونمي خبره إلى فريدريك الرابع ملك السويد فجعله تحت حمايته ودعاه مجلس العلوم الإمبراطوري في السويد وإذ لم يغدق الملك على هذا المجمع شيئاً من مال الحكومة بقي حراً في حكم نفسه بنفسه وإدارة شؤونه مستقلاً عن الحكومة وهو الآن يتناول وارداته من الوصايا وممن يحسنون عليه بالأموال ويمنحونه المنح من أهل الخير. ويتعاقب الأعضاء المقيمون في استوكهلم رئاسة المجمع كل ثلاثة أشهر وأعضاؤه من السويديين وغيرهم من الأجانب. وكان هذا المجمع ينقسم سنة 1799 إلى سبعة أقسام وهي الاقتصاد السياسي والزراعي والتجارة والصنائع الميكانيكية والطبيعية والتاريخ الطبيعي والوطني والطبيعة والتاريخ الطبيعي الأجنبي والعلوم الرياضية والطب والأدب والتاريخ واللغات. وفي أوبسال أحد مدن السويد مجمع اسمع مجمع العلوم الإمبراطوري أسس سنة 1710 ولكنه لم يعترف به رسمياً إلا سنة 1728 وكانت كيفية إنشائه غريبة وذلك أن طاعوناً جارفاً انتشر في أوبسال سنة 1710 فانفض طلاب مدرستها الجامعة وانقطعت ألسنالمدرسين عن التدريس وخلت المنابر من أصوات الخطباء وساد الهلع والقلق في أربجاء البلاد فرأى أحد علماءها المدعو أريك برزيلوس خازن كتب الكلية وهو مؤرخ وفقيه مشهور في قومه أن يجتمع أساتذة الكلية في المدرسة مرة في الأسبوع في قاعة المكتبة ليقضوا الوقت في المحاورات الودية ويخوضوا في الموضوعات الأدبية ويطردوا عنهم كما قالوا شيطان الهموم ويقضوا الوقت بلا ملل فاجتمعوا لأول مرة وسموا مجمعهم مجمع الفضوليين وكان هذا الاجتماع أساس المجمع العلمي الحالي. ثم غيروا اسمه وأخذ بفضل أعضائه ينشر كسائر المجامع مذكراته وأعماله ورسائله ولكن باللغة اللاتينية أولاً وما برحت تصدر مذكراتهم باللاتينية إلى اليوم وإن كان معظم الأعضاء يكتبون مقالاتهم بالألمانية أو بالإنكليزية أو بالإفرنسية. وفي بلاد النروج مجامع علمية وإن لم تكن في الغاية بموقعها فهي مفيدة وحرية بأن يشار إليها. ففي كرستيانيا مجمع أسس سنة 1857 ومثله في دورنتيم أسس سنة 1760 يعنى

بالبحث في الصنائع والتجارة لا بالعلم المحض. وفي كوبنهاغ مجمع العلوم الإمبراطوري أيضاً أسس سنة 1742 على عهد كرستيان السادسي. وهو شعبتان الفلسفة والتاريخ والعلوم الرياضية الطبيعية وينشر مذكرات من أمتع ما يؤلف وينشر. وفيها أيضاً مجمع للفنون الجميلة أسس سنة 1738. وفي بطرسبرج عاصمة روسيا مجمع للعلوم كان الباديء بإنشائه بطرس الأكبر تأسس سنة 1724 من ثلاث شعب وهي الرياضيات والتاريخ الطبيعي والتاريخ والفقه ويقضي على أعضائه أن ينصرفوا للتعليم ويعنوا بتخريج تلاميذ يختارونهم من شبان الصقالبة السلافيين الأجانب. وكان جميع أعضائه من غير الروسيين لأول أمره أي من السويسريين والألمان. وقد خدم تاريخ روسيا وعلم آثارها أجلّ خدمة في منتصف القرن الثامن عشر وكان أول عضو روسي فيه الشاعر لومونوروف ورأسته الأميرة داشكوف من سنة 1883 إلى 1894 وهي التي نظمت جلساته وجعلتها باللغة الروسية وشرعت في نشر عدة مجلات بالروسية. وأنشئت فيه شعب للعلوم التاريخية والإحصائية والسياسية وقسم للغات الشرقية وقد خدم العلم أعظم خدمة ونشر عدة كتب ولاسيما قاموسه السلافي الروسي وقل بعد ذلك عدد الأعضاء الروسيين فيه وقام بعدة بعثات علمية مهمة. وفي بطرسبرج أيضاً مجمع للفنون الجميلة أسس على عهد الإمبراطورة إليزابيت سنة 1757 وكان أساتذته من الأجانب لأول عهده. ولقد أنشأت الأمم النازلة في الجنوب الغربي من أوروبا في القرن التاسع عشر وهي الأمم التي أحرزت الاستقلال أو تحاول نيله مجامع علمية لتدل بها على وطنيتها وتجمع شمل العلماء الذين يخاطبون أوروبا في امرها ومن تلك المجامع المجمع المجري أسس سنة 1831 وعاقته حوادث سنة 1848 فلم يصبح عاماً غلا في سنة 1858 ثم قام دعاة الوطنية وأخذوا يستوكفون الأكف فاشترك في الجود له رجال تختلف طبقاتهم من البارون سينا الذي تبرع بثمانين ألف فلوريني إلى الخدام والخادمات الذين كانوا يجودون بالقروش الصغيرة فأنشيء المجمع من جديد وافتتح بناؤه سنة 1865 في بقعة من أجمل بقاع الأرض على ضفاف الطونة بين مدينتي بود وبست. وهو خمسة أقسام قسم في أصل اللغات وآخر في التاريخ الأدبي وثالث في التاريخ والرابع في الاقتصاد السياسي وخامس

في الرياضيات والتاريخ الطبيعي وعلم الآثار وله دخل وافر يمكنه من السخاء على العلم وهو يعين ثلاث مجلات مجرية بقدر من المال. منها مجلة بودابست وهي أشبه بالمجلات الإفرنسية تقوم على نشر العلم بين الطبقات المختلفة وتعطي جوائز كبعض المجامع العلمية لمن يبرز في الأدب والعلوم. وقد أسس سنة 1767 في آغرام مجمع دعي المجمع الجنوبي السلافي في آغرام نشر كثيراً من لالكتب المهمة لقدماء كتاب الكرواسيين والصقلبيين. وفي بلغراد من بلاد الصرب مجمع أسس سنة 1846 يعنى بالتاريخ والعلم واللغة ولاسيما تاريخ بلاد الصرلب وجيولوجيتها وفي كراكوفيا مجمع لهم أنشيء سنة 1816 وجعل سنة 1872 مجمعاً على مثال المجامع العلمية. وأسست في بولونيا عدة مجامع في القرن الثامن عشر ولكنها لم تقم لها قائمة لأسباب سياسية وكانت تنحل بعد اجتماعها بقليل. وفي رومانيا مجمع علمي أنشأه الوطنيون من الرومانيين لبيان الآداب الرومانية ووضع حدود لهذه اللغة وقواعد ثابتة لها ولاسيما بعد أن انضمت إمارتا مودلافيا إلى الأفلاق واشتغل هذا المجمع زمناً بتحسين اللغة الرومانية وتصفيتها من الشوائب والبحث في اللغة القديمة واللغة الحديثة. وفي الولايات المتحدة عدة مجامع علمية مهمة منها مجمع نيويورك ومجمع الفنون الجميلة ومجمع الموسيقى.؟ وأول مجمع علمي أنشيء فيها كان على يد العالم فرنكلين سنة 1743 ارتأى تعميم المعارف الزراعية فأسس المجمع الفلسفي الأميركي وقد انضط إليه مجمع آخر فتقوى به وما زال فرنكلين رئيسه يجدد انتخابه كل سنة حتى مات وللمجمع مكتبة فيها زهاء ثلاثين ألف مجلد وأسس سنة 1812 مجمع العلوم الطبيعية في فيلادلفيا. وهو من أهم المجامع الأميركية وقد جمع له متحف ومكتبة لا نظير لهما وفي خزانة كتبه زهاء ثلثمائة ألف مجلد وفيها كثير من الكتب في التاريخ الطبيعي للولايات المتحدةو ومتحفه مفرد في بابه. وأسس في بوستون مجمع للفنون والعلوم سنة 1780 سموه المجمع الأميركي وغايته تنشيط الدروس الأثرية ودرس التاريخ الطبيعي وتطبيق المواد الطبيعية على صنائع البلاد وعلومها وله مكتبة فيها عشرون ألف مجلد وأقيم في بوستون أيضاً سنة 1874 مجمع للتاريخ الطبيعي ثم خلفه مجمع آخر سنة 1830 وله مكتبة مهمة ومتحف

وينشر كتباً ومفكرات وفي نوهافن مجمع للعلوم والفنون وفي نيويورك مجمع للعلوم. وفي سالم من ولاية مساشوست مجمع للعلوم أنشأه الكريم بابودي فمنحه مائة وأربعين ألف دولار. وفي سان لوي مجمع للعلوم وفي شيكاغو كذلك كما في سنيناتي مجمع للتاريخ الطبيعي وفي كليفورنيا كذلك ومجمع هذه يكبر بكثرة ما يمنح من عطايا الأسخياء. وفي أيوفا مجمع للعلوم الطبيعية أسسته عقيلات دافانبور بمالهن. وفي فلادلفيا مجمع لترقية العلوم غرضه أن يطوف أعضاؤه في البلاد ويتباحثوا ويتبادلوا الأفكار. وفي أميركا أيضاً مجمع للعلوم اسمه مجمع العلوم الوطني أعضاؤه مائة يجتمع في واشنطون وفي هذه المدينة المجمع السميثوني أسس سنة 1846 بما وقفه عليه جايمس سيمثون المتوفى سنة 1829 وهو من أهم مجامع الولايات المتحدة وله متحف طبيعي من أعظم متاحف العالم قام بفضل سخاء الأسخياء عليه وهناك عشرات من الجمعيات والمجامع في أمهات المدن الأميركية سواء كان في الكليات أو غيرها تنشر الكتب وتعنى ببث العلم والإفراد يمنحونها المنائح السنية. هذه نبذة من المجامع على اختلاف مقاصدها في العالم المتمدن لخصناها عن دائرة المعارف الفرنسوية الكبرى وربما زاد عددها الآن أكثر من ذلك فعسى أن يكون فيها للشرق درس نافع.

كلمة معتبر

كلمة معتبر أقوى مصيق القوم والمربع ... فالدار قفر بعدهم بلقع سارت بنا الأرض إلى غاية ... لنا وللأرض هي المرجع ونحن كالماء جرى نابعاً ... لكن علينا خفي المنبع والعلم قد أنكر منها جنا ... ولم يبن أين هو المهيع خرقت يا علم رداء لنا ... كنا ارتديناه فهل ترقع فجعتنا يا علم في أمرنا ... أمعتب أنت إذا نجزع لقد طغت حيرة أهل النهى ... هل فيك يا علم لها مردع كم نشرب الظنّ فلا نرتوي ... ونأكل الحدس فلا نشبع والناس ويل الناس في غفلة ... ترتع والموت بهم يرتع والكون قد لاح بمرآته ... للعيش وجه شاحب أسفع وإن في البدر لخطباً به ... في البدر لاحت بقع أربع فالعين ما يورث حزناً ترى ... والأذن ما يزعجها تسمع والأرض في منقلب بالورى ... والشمس من مشرقها تطلع حتى إذا ما بلغت شوطها ... لاحت نجوم في الدجى تلمع وهكذا الظلمة تتلو الضيا ... والضوء للظلمة يستتبع ونحن في ذاك وفي هذه ... بالنوم واليقظة نستمتع ما بين مسعود يميت الدجى ... نوماً ومنكود فلا يهجع ومسرع يسبقه مبطيء ... ومبطيء يسبقه مسرع وشامت يضحك من حادث ... حلّ بباك قلبه موجع لو كان للقسوة عين وقد ... رأته كانت عينها تدمع والكل في شغب لهم دائم ... لم يقلعوا عنه ولن يقلعوا والماء يمسي وشلاً تارة ... وحوضه آونة مترع والريح تجري وهي ريدانة ... حيناً وحيناً عاصف زعزع وبعضهم تمرع وديانه ... وبعضهم واديه لا يمرع قد يحسب الإنسان آماله ... والموت مصغ نحوه يسمع

حتى إذا أكمل حسبانها ... وافاه ما ليس له مدفع فخرّ للجنب صريعاً به ... وأي جنب ماله يصرع وظلَّ فوق الأرض في حالة ... يزوّر عنها الحسب الأرفع لا تعمل الأقلام في كفه ... وكان من قبل بها يصدع ولم تعد تقطع أسيافه ... من بعد ما كان بها يقطع فاستل مثل السيف من مطرف ... طرائق الوشي به تلمع ولف في ثوب له واحد ... ليس له رقم ولا ميدع واهاً له ثوب البلى إنه ... يبلى مع الجسم ولا ينزع ودس حيث الأرض أمست له ... ملحودة ضاق بها المضجع حيث البلى يرميه حتى إذا ... لم يبق في قوس البلى منزع خالط التراب جثمانه ... مطحونة منها بها الأضلع لله در الموت من خطة ... فيها استوى ذو العي والمصقع يخون فيها القول منطيقه ... كما تخون البطل الأدرع ما أقدر الموت فمن هوله ... لم ينج لا كسرى ولا تبع يا رافع البنيان كم للردى ... من سلم يدرك ما ترفع ويا طبيب القوم لا تؤذهم ... إن دواء الموت لا ينجع لا بد للمغرور من مندم ... بالعض تدمى عنده الإصبع وما عسى تغني وقد حشرجت ... ندامة ليست إذاً تنفع يا برقع الخلقة واهاً لما ... فيك واهاً منك يا برقع قد زاغت الأبصار فيما ترى ... إذ فات عنها سرك المودع وليس في الإمكان عند النهى ... أبدع مما خلق المبدع بغداد معروف الرصافي

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع مستقبل علم الاجتماع نشرت إحدى المجلات الاجتماعية آراء خمسة عشر عالماً من كبار علماء الاجتماع في أوروبا وأميركا سألتهم عن مستقبل هذا العلم الحديث الذي نشأ في الحقيقة منذ ثلاثة أرباع قرن عندما نشر أوغست كونت الفيلسوف الفرنسوي فلسفته الحسية وكان بها واضع أسس علم الاجتماع فكانت أجوبتهم على أن هذا العلم ما زال في حداثته الأولى ويرجى أن يكون له بعد أجيال أساس راسخ وأن القرن التاسع عشر أورث هذا القرن فيما أورث من تركته الضخمة مشكلة كبيرة فإن ترك له ما تم من الارتقاء في العلوم الطبيعية واكتشاف قوانين النشوء التي تشمل العالم فإن أهم مشكلة علمية ترك للقرن العشرين حلها هي تحديد الصلات بين الأسباب وقوانين النشوء السارية على الإنسانية وإن تقسيم العلوم التي يقوم عليها علم الاجتماع والتوفر على خدمتها سيجعل لهذا العلم شأناً غير شأنه الحاضر ويكون كفيلاً بأعظم النتائج وأخص هذه العلوم هي تاريخ الحقوق وعلم الاقتصاد السياسي وعلم الأديان والصنائع والفنون والتاريخ قال أحدهم أن الغاية من علم الاجتماع أن نفهم منه النظامات الاجتماعية الحاضرة بحيث يتجلى لنا ما يكون من أمرها بعد وما نريد أن نحولها إليه ولا بد أولاً لفهم قانون من القوانين من معرفة كيفية تركيبه فالنظام الاجتماعي مركب من أجزاء فيتحتم حل هذه الأجزاء بمفرداتها ليتأتى الحكم على كل منها على حدته ولا يكفي في إظهار ذلك أن ننظر إلى القانون من حيث انتهى غليه حاله فإنه بذلك لا تعرف العناصر المختلفة المؤلف منها كما أنا لا نرى بالعين المجردة الخلايا التي تتألف منها الأنسجة من الأحياء والذرات التي تتألف منها الأجسام فيقتضي أداة للبحث لإظهار ذلك ولا سبيل إليه إلا بالتاريخ فبه تعرف تلك القوانين التي تألفت قطعة قطعة وكيف جاء بعضها أثر بعض وللتاريخ مقام في نظام الحقائق الاجتماعية يشبه مقام الميكروسكوب في نظام الحقائق الطبيعية. سم الدخان أنشأ باعة الدخان في فرنسا يبيعون دخاناً خالياً من النيكوتين أي المادة السمية الموجودة فيه وقد جرب أحد علمائهم هذا الدخان في اللفافات والغلايين فتبين له أنه لا يضر أصلاً

كالدخان الإنكليزي الذي حقن بمنقوعه بعض الحيوانات فأصيبت بعد 38 إلى 56 يوماً بالتهاب الشريان (الأبهر الشمالي) المزمن أما المحقونة بالدخان الفرنسوي الخالي من النيكوتين فحقنت ستين مرة فلم تزد به إلا سمناً ولم يظهر عليها عرض من أعراض الأمراض. لغة الاسبرانتو قبلت مدرسة فرنسا في باريز هذه اللغة التي اخترعها الدكتور زمنهوف الروسي منذ نحو عشرين سنة بصفتها لغة مساعدة عامة وقد أصبح الذين قبلوا هذه اللغة 307 جمعيات علمية وغيرها كما تعلمها 1011 عالماً من علماء الأرض على اختلاف جنسياتهم ولغاتهم. حدائق الأطفال أنشئت في منشستر حدائق من الرمل يلعب فيها صغار الأطفال الضعاف البنية فيحضرون إليها يحملون محافر وسطولاً (كرادل) يحفرون ويسقون وتلاحظهم إحدى النساء وفي الأيام الممطرة ينتقلون إلى مكان مسقوف وقد رأى الباحثون أن هذه الطريقة نافعة لتقوية أجسام الضعاف. التمثيل في آسيا قال أحد علماء الاجتماع أن الأمم الكبرى المتمدنة في آسيا ترتاح إلى التمثيل ارتياح الأمم الأوروبية إليه ومع هذا فإن رواياتها التمثيلية منحطة عن روايات الغرب اللهم إلا اليابان ففي الهند والصين لا ترى في الروايات التمثيلية أثراً من الآثار التي تشير إلى المطامع الكبيرة التي تسوق أصحابها إلى الفتن ولا أبطالاً يقدمون على المصاعب ويعاندون الأقدار في أحكامها بل أنهم يكتفون هناك بتمثيل فاجعات عامية تصور اضطرابات الحياة اليومية أو عيشة العملة إلا أن الروايات الأوروبية قد أثرت الآن في الهند وإن كان بعض أدبائها يريدون حباً بوطنيتهم أن يحيوا ما كاد يندثر من آدابهم القديمة مما يدعو إلى الأمل بأن التمثيل الهندي سيرجع عما قريب إلى صورته السالفة التي كان عليها أهل الصين فإن الذي يغلب عليها في التشخيص ذكر الحياة اليومية وأحوالها والفقر ومشاكله المؤثرة وتصوير الصدق والخديعة ويرجى للتمثيل في الصين ارتقاء لاسيما إذا دخلت البلاد بفضل الحركة الثورية التي تهز الآن عصابها في فتن وطنية كبرى. والتمثيل في سيام يجمع إلى

تمثيل الحقائق كما تمثلها الصين والأفكار الدينية والفنية كما هي في الهند. وكوريا ممتازة بموسيقاها. أما يابان فإن التمثيل فيها صورة صحيحة من صور المطامع التي تجول في صدور اليابانيين والأعمال التي تدور فليها حياتهم فتجده مثالاً من تقاتل الأفكار وعراك الرجال وتأثيرات الجمال والشرف يظهر كل مرة بمظهر أمام المتفرجين. قال ومتى أكثر المترجمون في أوروبا من روايات يابان كثر مما ترجموا تتمثل للأنظار شعور ذاك العنصر وشعره وتمدنه فنرى ذاك العنصر الذي هو أعظم مثال في استقلاله كيف يقترب من تمدننا وشعرنا وشعورنا. مقاومة الكحول قدم أحد علماء الألمان إلى مؤتمر مقاومة المشروبات الروحية الأخير تقريراً قال فيه أن الناس كانوا على أن قليلاً من المسكرات لا يضر إن لم ينفع أما هو فقد بين أن تناولها حتى باعتدال مضر جداً بالنسل وذلك بتجارب كثيرة أجراها على الأرانب والكلاب وكان كل حيوان منمها يتعاوره بالاختبار ويحقنه بالكحول من مائتين إلى ثلثمائة يوم فتبين أن نسلها يضعف عقيب ذلك ضعفاً محسوساً الجمال في الأمم كتب أحد الباحثين رسالة فيما يراه كل عنصر من عناصر الأرض من أسباب الجمال فقال أن الجمال يختلف الحكم عليه وإن مما أجمع الناس على استحسانه قوة الرجال ومرونتهم فقبائل الهوتنوت يرون أن من كانت وجناتها أكثر نتوءاً من غيرها تعد ربة الجمال عندهم وزنوج أفريقيا يعتبرون الأثداء المستطيلة الرخوة والزنجيات في شواطيء بحيرة تنغانيكا يحاولون نفخ صدروهن ليكن بذلك محل الإعجاب ومن العادة أن تكون شفاه السود مبرطمة ولكي تزيد قبائل الكاسونيكي والسيرير شفاهها برطمة يدخلن شوكاً فيحدث فيها التهاب يؤدي إلى انبساط القلب المقرط. والفكوم في قبائل الولف في السنغال ناتئة كثيراً ويزيدها نساؤهم نتوءاً بأن يكرهوا الثنايا عندما تطلع أن تكون بارزة للأمام وذلك بأن يضغطن عليها بألسنتهم. ومع أن أنوف قبائل المالايو والقرغيز والهوتنوت والبوسهمين مفلطحة يزيدها نساؤهم فلطحة وقبائل الآينوس في جزيرة يزو على كثرة شعورهم فإن نساؤهم يزدن إنماء شعور وجوههن بواسطة خضاب لتكون لهن شنبات غزيرة وهنود أميركا على

أن معظمهم جرد قليلو الشعر يتوفرون على نتف شنباتهم وسبلانهم ولحاهم على ما تفعل الأمم المتمدنة من الإفرنج. وأنف الفارسي أقنى رقيق ومع هذا يزيده من ذلك بالضغط عليه كثيراً وللمصريين القدماء عيون نجل ومع هذا كانوا يزيدون شرطتها بطلاء مخصوص والسياميون أرباب أهداب مقوسة ولا تعد المرأة جميلة عندهم إلا إذا كانت أهدابها كهلال القمر. المعارف في روسيا عرفت روسيا منذ خمسين سنة أنها كلما فتحت مدرسة في بلادها أغلق سجن من سجونها لأن المعارف خير ذريعة إلى التقوى وإصلاح النفس ثم أدركت أن الغلب الحقيقي في معركة سادوفا بين الألمان والفرنسيس كان بفضل معلم المدرسة الجرماني فالمعلم يكوّن الأمة في سياستها واجتماعها ولذلك بدأت في الإنفاق على المعارف ولكن سكانها الآن 144 مليون وبلادها متنائية الأطراف واسعة المعالم والمجاهل يصعب إعداد معدات تعليمها في بضع سنين وعشرات ولا بد من أيام تمر وأجيال تنقرض حتى يأتي من جمهور الأمة بأناس منورون على النحو الذي تريده الحكومة. كانت روسيا لما بدأت في عدد أمييها دون إسبانيا وإيطاليا وعلى مستوى البلاد العثمانية فكانت مدارسها الابتدائية والثانوية قليلة جداً وإن تكن كلياتها ومدارسها العالية غاصة بطلابها. فكانت روسيا في تعليمها أشبه ببيت زينت ظاهره وبهرجت أدراجه وحوائطه وموهت سقوفه ولكنها لم تنظر إلى أساس الطبقة السفلى منه. بلغت المبالغ التي خصصتها روسيا للمدارس الابتدائية حتى سنة 1897 مبلغ 1484673 روبلاً وهو مبلغ زهيد جداً بالنسبة لذاك الملك الضخم فأصبحت سنة 1907 مبلغ 8285000 روبل ما عدا الاعتمادات التي تفتحها في الأحايين لإقامة المدارس وصار عدد مدارسها الابتدائية سنة 1904 تسعين ألف مدرسة فيها نحو مائتي ألف معلم ومعلمة بين كهنة وعامة (علمانيين أو عالميين) ومجموع ما فيها من التلاميذ خمسة ملايين وثلثمائة وتسعون ألفاً. ومع هذا فإذا حسب حساب المتعلمين بالنسبة للسكان كان الواجب أن يكون عددهم نحو ثلاثة عشر مليوناً. وقد طلب ناظر المعارف من مجلس الأمة الآن أن يقرر في الميزانية ستة ملايين وتسعمائة

ألف روبل زيادة على ميزانية الكتاتيب لتكون أساسً في جعل التعليم إجبارياً في روسيا كما أن المجمع المقدس يصرف في السنة عشرة ملايين روبل على مدارسه الدينية ويقول الخبيرون أن روسيا إذا ارادت جعل التعليم إجبارياً في بلادها كألمانيا وفرنسا مثلاً كان عليها أن تصرف كل سنة 120 روبلاً وهو ما لا تقوى ميزانيتها على تحمله هذا عدا ما يلزم لها من الأراضي وإقامة تلك المعاهد اللازمة والألوف من المعلمين ممن يقلون في أبنائها. وكيفما دارت الحال فإن روسيا تلوب على طرق تجبر الأفراد فيها على التعلم قضهم وقضيضهم وذكورهم وإناثهم. حبوب العالم أصدرت الغرافة التجارية في لندرا إحصاءً ذكرت فيه ما يستخرج من الحبوب في العالم فقالت أن محصول الحنظة 3160 مليون مكيال تعادل 86000000 طن (والمكيال عبارة 36 لتراً و35 ووزنه في الحنطة 27 كيلوغراماًَ وكسر قليل) ونصف هذا القدر تخرجه ثلاث ممالك فتغل الولايات المتحدة 660 مليون مكيال وتغل أملاك روسيا في أوروبا 541 مليوناً وتغل فرنسا 328 مليوناً وأهم البلاد التي تغل النصف الآخر هي الهند تغلب 286 مليوناً وإيطاليا تغل 159 مليوناً وألمانيا تغل 128 مليوناً والمجر تغل 120 مليوناً وإسبانيا 115 مليوناً والجمهورية الفضية 101 مليون والباقي تغله الممالك الأخرى. ويقدر محصول الذرة في العالم بـ 2896 مليون مكيال أو 73500007 طنات تغل الولايات المتحدة ثلاثة أرباعها أي 2286 مليون مكيال ويغل الهرطمان 3371 مليون مكيال أو 49000000 طن تخرج الولايات المتحدة منها 871 مليوناً وروسيا 825 مليوناً وألمانيا 494 وفرنسا 268 وكندا 204 والنمسا والمجر 196 وتغل روسيا من الشعير 297 مليون مكيال وألمانيا 145 والولايات المتحدة 114 واليابان 80 وتغل الصين من الأرز 24500000 طن والهند 12700000 ومحصول الأرز في العالم قريب من محصول الحنطة ويخرج من الدخن من بلاد الهند 542 مليون مكيال ومن الصين نحو 500 مليون ومن بلاد روسيا في أوروبا 78 ومن بلاد روسيا في آسيا 15 ومن اليابان 12 ومن الولايات المتحدة 5 وفي هذا الإحصاء لم يذكر لمصر والشام والعراق وآسيا الصغرى ولا لتونس والجزائر لأن محصولاتها في بعض هذه الحبوب تعد حقيرة جداً

بالنسبة لتلك المكاييل الضخمة في تلك الممالك الضخمة. ثلاثة علماء فقدت ألمانيا المستشرق إدوارغلازر المعروف بالآثار الكتابية التي استخرجها من جنوبي جزيرة العرب وفقدت فرنسا الأستاذين باربيه دي مينار وهرتويغ دارنبورغ من علماء المشرقيات المعروفين بخدمة اللغة العربية وآدابها. الموسيقى والحيوانات كان ميشله المؤرخ إذا أراد ذكر الحيوانات قال أخواننا المنحطون وقد كتب كاتب مقالة في تأثير الموسيقى في الحيوانات قال من توغل في البحث في التاريخ والسير يشهد بأن الموسيقى طالما كانت تؤثر آثارها في الحيوانات. ومن فتح سفر أيوب يجد أن جواد الحرب يحفر الأرض في حركته واضطرابه ولا يتمالك إذا ضرب البوق. كما يقرأ فيه أيضاً: متى ضرب البوق يصهل الجواد ويشعر بالحرب من بعيد وبقيادة الرؤساء وصوت الأدوات. ومن الأساطير اليوناينة أخبار عن الحيوانات وتأثراتها بالنغمات والألحان. وقد ثبت غير مرة أن العنكبوت تتأثر بالألحان ومن لا يذكر عنكبوتة بيليسون الأديب الفرنسوي الذي سجن في الباستيل فكان يتسلى بضرب الكمنجة فتقترب منه وتتعزى به حتى أنها لكثرة طربها ذات يوم أغمي عليها فجاء السجان وسحقها. ويظهر أن الحشرات وإن تكن قليلة التأثر بألحاننا البشرية إلا أن لها ألحاناً فللجنادب والصراصر والجراد ألحان خاصة بها لا يلذ سماعها لأنها متساوقة الألحان ولا نظام فيها ولكنها تستجيدها وتستلذ بها وكذلك تسمع للنحل في خلاياها دوياً لطيفاً متصلاً ذا نغمات يدعوه المتوفرون على تربيتها صوت الخلية. أما الأسماك فلم يتحقق أمرها فيما إذا كانت تطرب بالموسيقى وادعى أحد المؤلفين أن سمك الشبوط يطرب لسماع نغمات الرباب. وأثبت المؤلف شاتوبريان في قصة رواها أن الدبابات تطرب لنغمات الموسيقى وأن بعض الأمم المتوحشة تستخدم الأغاني لتجلب بها الحيات فتأكلها كما يفعل الهنود في صيد نوع من الزحافات يستطيبون لحمها. والضب يتلذذ كثيراً بصوت الموسيقى ولاسيما الغناء الصغير. وسلحفاة البحر تبتهج للصفير وبه يتأتى صديها. والطيور تطرب كثيراً للأنغام ولا نعني بالطيور تلك التي هي مغنية من طبعها كالشحرور

والبلبل والعصفور المعدودة بهجة الغابات والحدائق بل هناك كثير من ضروبها تطرب إذا سمعت أنغامنا كالببغاء ومنها أجناس لا تستطيع محاكاة الأصوات البشرية ولكنها مع ذلك تقلد صوت الآلات التي تسمعها. والحباشة الذي يألف البيوت إذا سمع نغماتنا لا يلبث أن يهيج وينفخ صوته ويكرهه كأنه يريد أن يتمكن من الصوت الذي يسمعه وربما أمكن تعليمه بعض الألحان. والزرزور سماع للأنغام وقد علمه أحدهم نشيد المارسليز فلما نقل الزرزور إلى مكان آخر علمه لرفاقه الزرازير. وذوات الأربع من البهائم كالبقر مثلاً تطرب للنغمات. والثور يطرب لصوت الحراث عليه فيمشي على نغماته متلطفاً كما أن الجمل يطرب للحداء. ولا يقتصر الطرب فيها على تموجات صوت الإنسان بل إن أي نوع من الأصوات إذا ردد كثيراً يكون سبب السرور وكذلك الحال في الجواد والخيول فإنها تتقحم المهالك إذا سمعت الأصوات ثم أنها تميز بين أصوات أصحابها وغيرهم. والحصان يتألم من الأصوات الرديئة وهو سريع السمع جداً وإذا عود سماع الصوات الرديئة اعتادها وهو يؤثر نغمات الرباب على نغمات الكمنجة ويطرب جداً للبوق. فإن خيول الجند تظهر الفراهة والنشاط عندما ترى أبواق الأجواق الموسيقية والحمار يحسن السماع والاستماع حتى لقد روي أن حماراً سمع صوت امرأة أطربه فما زال يقترب منه حتى دخل الدار ليسمعها عن أمم. والفيل سماع للأنغام. وقال بعضهم أن الجرذان تستهويها الأنغام وأن الكلب البحري قد يصاد بسماع الموسيقى والذئب لا يطرب للصوت. وربما فزع ولعله يهرب إذا سمع نغم الكمنجة أو بوق مبوق صوتاً شديداً. ومن الدببة ما يرقص على نغمات الأوتار ولكن ليست هذه هي التي تطربها بل تخاف السياط التي تنهال عليها ممن يضربها فترفع قوائمها على ضخامتها وقلما تخربط إلا عن غير قصد. أما الأسود فيقال أنها تطرب للأنغام وفي إنكلترا أسد جال البلاد وكان من أكثر المخلوقات تأثراً بنغمات البيانو وكانت تظهر منه أعاجيب حين يشرع صاحبه في الضرب على هذه الآلة فيزمجر وتقذف عيونه شرراً حتى يخاف المتفرجون ويضطر صاحبه إلى الكف عن الضرب على آلته. والهر قليل التأثر بالموسيقى وقيل أن بعض الهررة تموء عندما تسمع الأنغام. والكلب كثير

التأثر بالألحان الموسيقية. والقرد يطرب للأنغام بل هو يتعلم الضرب بالآلات فيطرب بها كالإنسان. وقد قال أحد من يكرهون الموسيقى أن الموسيقى هي الصناعة الوحيدة التي يتأثر بها الحيوانات والمجانين والبله. وبالجملة فإن تأثر الحيوانات بالأنغام دليل واضح على أن الموسيقى عامة لجميع من له سمع.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات معجم الأدباء هو كتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب أو طبقات الأدباء تأليف ياقوت الرومي من أهل القرن السابع وهو صاحب الكتب الكثيرة في التاريخ والجغرافية وأهم كتبه معجم البلدان الذي نشره الأستاذ وستنفيلد الألماني لأول مرة في ألمانيا وهذا الكتاب معجم الأدباء نشره الأستاذ مرجليوث الإنكليزي. فبأي لسان نشكر علماء المشرقيات لخدمتهم لغات المشرق عامة واللغة العربية خاصة فإنهم بفضل بيض أياديهم على لغتنا نزعوا من أذهان الغربيين أن اللغة العربية قاصرة عن مجاراة غيرها من اللغات الحية وعرّفوهم بأنها لغة فنون وحكمة وتاريخ وأدب كما هي لغة دين وفقه وكلام. لا جرم أن نفوس أهل العلم اليوم تهتز سروراً لبشرى طبع الجزء الأول من معجم الأدباء لما يعلمون من إجادة ياقوت في تآليفه وذوقه الغريب في الحكم على بلاد الإسلام وسكانها وتواريخها والمادة الواسعة التي توفرت له في عصره فاغترف منها اغتراف حكيم لا يسقط إلا على الدر ويطرح الخرز والصدف جانباً. وهذا الجزء الأول هو من مخطوطات مكتبة بودلين في أكسفورد وأصله من كتب المطران بارتس في بومبي كتب بخط أعجمي لا يحسن العربية فجاء محرفاً تحريفاً كثيراً وصححه الأستاذ مرجليوث على قدر الإمكان على الأصول المعروفة من دواوين وكتب وأدب ومحاضرات وتاريخ وغيرها فجاء شاهداً بفضله وعلمه وما هي أول حسنة من حسناته في خدمة اللغة العربية ونشر ما نطوى من أقلام مؤلفيها الغابرين وشعرائها المجيدين. وما قولنا لمن يرون في مثل هذه المطبوعات التي ينشرها علماء المشرقيات بعض تحريف خفيف من نقط أو كلمات قد تدرك بالبداهة أنكم إذا توليتم من هذه الكتب ما يتولاه أولئك الأعاجم الغيورون منها لجاءت أكثر تحريفاً وتصحيفاً من مطبوعاتهم وأحرى بمن يبادرون إلى النقد أن ينشروا للناس ولو كتاباً واحداً يكون في صحته على الرسم الذي يرسمونه ليصدقهم أهل العلم. في هذا الجزء نحو 130 ترجمة لمن اسمهم إبراهيم أو أحمد منهم المشاهير الذين ترجموا في الكتب المطبوعة التي بين أيدينا ومنهم من لم نعثر على تراجم إلا فيه وقد صورهم

المؤلف تصويراً بديعاً لا يقل عن تصوير ابن خلكان وابن أبي أصيبعة وابن بسام والقفطي والسخاوي لمترجميهم إن لم نقل أنه يمتاز على بعضهم. قال المؤلف: جمعت في هذا الكتاب ما وقع إليّ من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة وكل من صنف في الأدب تصنيفاً أو جمع في فنه تأليفاً مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز ولم آل جهداً في إثبات الوفيات وتبيين المواليد والأوفات وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم والأخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم فأما من لقيته أو لقيت من لقيه فأورد لك أخباره وحقائق أموره ما لا ترى لك بعده تشوفاً إلى شيء من خبره وأما من تقدم زمانه وبعد أوانه فأورد من خبره ما أدت الاستطاعة إليه ووفقني النقل عليه في تردادي إلى البلاد ومخالطتي للعباد إلى أن قال: ولم أقصد أدباء قطر ولا علماء عصر ولا إقليم معين ولا بلد مبين بل جمعت للبصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان وتفاوت الأزمان. وهذا الجزء في 424 صفحة مطبوعة بمطبعة هندية بمصر طبعاً نفيساً وقد طبع باسم جيب المستشرق وقد كانت العقيلة جيب أم الياس جون ولكنسن جيب وقفت وقفاً بعد موت ابنها هذا وكان مغرماً بدرس علوم الشرق وفلسفته وتاريخه ليطبع بريعه ما يعلي شأن المباحث الفلسفية والتاريخية والأدبية سواء كانت تلك المصنفات للترك أو للفرس أو للعرب وقد طبعت منذ سنة 1901 ستة كتب ومنها معجم الأدباء وهي تعد سبعة عشر كتاباً آخراً للطبع. لا جرم أن إحياء معجم الأدباء مما يقفنا على أمور كثيرة كنا نجهلها من قبل وفيه من الشعر والنثر والمحاضرات والنكات ما هو مسرة للقلب وقرة للعين وإنك لترى ياقوتاً يأتيك بما قيل في المترجم ذماً ومدحاً ويترك للقارئ الحكم في ذلك. فمعجم الأدباء كوفيات الأعيان كلاهما متمم لصاحبه فنشر لأسرة جيب هذه المبرة الخالدة كما نشكر للأستاذ مرجليوت عنايته وغيرته. تقرير مصر والسودان

صدر تقرير السير ألدون غورست معتمد إنكلترا في هذا القطر عن سنة 1907 وهو في المالية والإدارة والحالة العامة في مصر وفي السودان وفيه فوائد كثيرة عن القطرين في السنة الماضية لا يظفر بها الإنسان إلا في المظان البعيدة المنال ويؤخذ منه أن إيرادات الحكومة المصرية زادت في مدة عشرين سنة نحو ستة ملايين جنيه ولكن ثلثي الزيادة حدث في السنوات الخمس الأخيرة والسبب الأكبر في هذا النمو الارتفاع المستمر في أسعار القطن التي تضاعفت في السنوات العشر الأخيرة وكان متوسط قيمة الصادرات 30920000 ج م والواردات 25066000 ج م ومتوسط زيادة الوارد على الصادر من النقود 5061000 ج م ودفع أربعة ملايين ونصف جنيه للأجانب من فوائد الدين المصري يدخل في خراج الدولة العلية ونفقات الخزان ونفقات جيش الاحتلال وكانت إيرادات الحكومة 16368000ج م ومصروفاتها الاعتيادية 13231000 والخصوصية 1049000 ومعظم الإيرادات في زيادة كما أن معظم النفقات كذلك. وبلغ مجموع الدين المصري 96. 181000 ج م في 31 ديسمبر سنة 1906 ومال الفائدة والاستهلاك 3699000 ج م وسدد من أصل الدين 347000 ج م فيكون الدين الباقي على مصر 95834000 ج م ومال الفائدة والاستهلاك السنوي 3641000 ج م وعند الحكومة وصندوق الدين سندات من أصل هذا الدين بقيمة 836000 فائدتها 317000 فمجموع الدين الذي كان الجمهور يتداول سنداته في آخر السنة بلغ 87448000 ج م والفائدة التي يدفعها سكان القطر 3324000 ج م. ومما يدل على ميل الناس إلى التعلم والاستنارة أن عدد من زاروا حديقة الحيوانات في القاهرة بلغوا إلى آخر نوفمبر سنة 1907، 228924 أي بزيادة 24228 عن مثله في السنة التي قبلها ومعظم الزائرين مصريون وكثيرون منهم من أهل الأرياف وبلغ عدد الذين دخلوا غرف القراءة في دار الكتب المصرية 18830 معظمهم مصريون. وبلغت جملة الواردات التجارية 26120777 ج م بعثت منها إنكلترا إلى مصر 8492847 وجاء من أملاكها في البحر المتوسط 213070 ومن أملاكها في الشرق الأقصى 1086818 وجاء من فرنسا 3166890 ومن البلاد العثمانية 2973108 ومن النمسا والمجر 2059423 ومن ألمانيا 1392381 ومن إيطاليا 1361457 ومن البلجيك

1027590. وبلغت جملة الصادرات 28013185 أصاب بريطانيا منها نحو 54. 3 في المئة ويختلف نصيب كل من ألمانيا وأميركا والنمسا والمجر وفرنسا وروسيا من الصادرات بين مليون ومليونين وقد زادت جميعها إلا فرنسا فإنها نقصت قليلاً عن السنة التي قبلها. وفي التقرير فوائد لا يستغنى عنها ابن هذا القطر خصوصاً. وهو يطلب من إدارة المقطم بعشرة قروش.

غرائب القصاص

غرائب القصاص لعل بعض النفوس تتأذى بقراءة هذا الموضوع لأنه يدور على التفنن في إزهاق الأرواح على أنه لا بأس بشيء من القسوة يقوون بها قلوبهم للنظر في موضوع علمي تاريخي كان الإفرنج بعد الحروب الصليبية يستعملون من أساليب القتل كل غريب عجيب وخصوصاً في عهد ديوان التفتيش الديني في البلاد اللاتينية التوتونية حتى إذا كانت سنة 1792 أخذت بعض البلاد ولاسيما فرنسا عن إيطاليا استعمال آلة يسموها المقصلة تحز رأس المجرم في أقل من ثانية ثم أخذوا يبطلون هذه العادات ولما جاء دور الكهربائية أنشأت بعض بلاد الغرب ولاسيما الولايات المتحدة تعمد إلى إصعاق المجرمين بها ولكن تبين مؤخراً أن المصعوق بإجراء مجرى كهربائي عليه لا يقتل في الحال بل أنه يقاسي أشد العذاب عقيب إصعاقه ولا تزهق روحه حقيقة إلا بعد أن تشرح جثته. وقد قامت الدكتورة روبينوفيتش وحملت حملة منكرة على القتل بالكهرباء قالت: إن كان لا بد من استعمال هذه الطريقة الوحشية فلا أقل من أن يكون فيها شيء من روح الإنسانية بمضاعفة القوة الكهربائية خمسة أضعاف ما يجري الآن ليتم القتل في أقل من لحظة وقد جربت هذه الطريقة في الأرانب فوقع الاستحسان عليها وأخذوا يستعملونها ولكن في عقاب المجرمين والأعضاء المؤلفة من الناس لتسلم بلادهم من شرور الأشرار. وبعد فما برح البشر منذ عرف تاريخهم يقتل كبيرهم صغيرهم ويأكل قويهم ضعيفهم يعاقب في التنازع على المحمدة والمجد والمال والدين والعروض بعضهم بعضاً وآخر عقوباتهم ونتيجة إرهاقاتهم الموت اخترعوا إلى الوصول إليه طرقاً ترتعد لسماع أخبارها اليوم الأعصاب وتاريخ الشرقيين والغربيين على غرار واحد من هذا القبيل ترى كلما فتحت صفحاته دماء أبرياء تعج من جور الأقوياء على الضعفاء فتبلغ عنان السماء وتتمثل لعينيك الأمم في ذلك كأسنان المشط في الاستواء قلما يختلف شرق عن غرب أو أسود عن ابيض. فمن خنق إلى حرق إلى شنق إلى ضرب بالعصي والأكف ورمي بالنبال وهبر بالسيف ودسر بالرمح والحراب والقذائف والبارود والديناميت إلى سم وإجاعة وحز رؤوس وبقر بطون وسمل عيون واستلال لسان وصلم آذان وشتر شفاه وقضقضة أعضاء وجذم أكف وقطع أيد وأرجل وأكحل إلى غير ذلك مما يرجع إلى معنى واحد ألا وهو الإرهاق في العقوبة وبلوغ المرء بأخيه ما يقال له الموت. فكما أن للموات عشرات المترادفات في

العربية كذلك تجد في كل لغة ألفاظاً تدل على تلك المسميات التي تهدم الهيكل الإنساني وتطفئ سراج الحياة. فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التعذيب والتمثيل ومشى بعض أصحابه على هديه زمناً ولكن كان بعض أهل الصدر الأول يرجعون إلى التوحش وإرضاء الشهوات الغضبية فلا يدخرون وسعاً إذا ظفروا بعداتهم في أن يصبوا عليه سوط العذاب فكان معاوية بن أبي سفيان أول من فتح هذا الطريق كما ابتدع بدعاً كثيرة أتى بها على غير مثال احتذاه ممن سلفه فقد ذكر الثقات أنه كان يقرب ابن أثال الطبيب منه ويفتقده كثيراً لأنه كان خبيراً بتركيب الأدوية ومنها سموم قواتل حتى مات في أيامه كثير من أكابر الناس والأمراء المسلمين بالسم وممن قتل في عهد أتباعه عبد الله بن عمر بعثوا إليه من رماه بسهم مسموم في عقبه. والتاريخ طافح بما قام به من ضروب التنكيل والتمثيل وكذلك فعل بعض ملوك دولته من بعده. ولقد قابل بنو العباس الأمويين ببعض ما عاملوا به غيرهم وعمل السفاح بقول سديف في وصف بعض بني أمية لما ذهب ملكهم. لا يغرََّنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دويا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا قال ابن الأثير ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية تسعين رجلاً على الطعام فأقبل عليه شبل فقال: أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس لا تُقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها ... الله بدار الهوان والإتعاس واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس = والقتيل الذي بحران أضحى=ثاوياً بين غربة وتناسي

فأمر بهم عبد الله فضربوا جميعاً بالعمد وبسط عليهم الإنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنبن بعضهم حتى ماتوا جميعاً. وأمر عبد الله بن علي بنبش قبور بني أمية في الشام فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه فضربه بالسياط وصلبه وأحرقه وذراه مع الريح وتتبع بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس. وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة جماعة من بني أمية عليهم الثياب الموشية وأمر بهم فجروا بأرجلهم والقوا على الطريق فأكلهم الكلاب. وفي مروج الذهب أن الهيثم بن عدي روى عن معمور بن هانئ الطائي قال: خرجت مع عبد الله بن علي وهو عم السفاح والمنصور فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك فاستخرجناه صحيحاً ما فقد منه إلا خرمة أنفه فضربه عبد الله ثمانين سوطاً ثم أحرقه فاستخرجنا سليمان ابن عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئاً إلا صلبه وأضلاعه ورأسه فأحرقناه وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية وكانت قبورهم بقنسرين ثم انتهينا إلى دمشق فأخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره لا قليلاً ولا كثيراً واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شؤون رأسه ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا منه إلا عظماً واحداً ووجدنا خيطاً أسود كأنما خط بالرماد بالطول في لحده ثم تتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم. وكان سبب فعل عبد الله ببني أمية هذا الفعل أن زيد بن زين العابدين علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب سمت نفسه إلى طلب الخلافة فحاربه يوسف بن عمر الثقفي فانهزم أصحاب زيد وانصرف هذا مثخناً بالجراح ولما مات دفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجروا الماء على ذلك فدل يوسف على موضع قبره فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عرياناً وبني تحت خشبته عمود ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وتذريته في الرياح وكان ذلك.

وهكذا تجد ضروباً من المنية في تاريخ هذا القسم الصغير من الأرض فقد قتل أبو الجيش أحمد بن طولون أخاه المسمى بالأمين خنقاً بماء مغلي حتى مات. وقتل نصر بن أحمد صاحب خراسان أخاه زكريا بعصر خصاه. وقتلت أم خالد بن يزيد بن معاوية زوجها مروان بن الحكم أبو عبد الملك بأن أمرت خدمها أن يضعن المخاد على فمه حتى مات. وكم من رجل سم في كمثرى أو رمي الزئبق في أذنه أو فصد بمبضع مسموم قيل أن أحمد بن الموفق ابن أخي المعتمد بن المتوكل قتل عمه في حفرة ملأها من ريش ورماه فيها فمات بها. وقتل الشهاب السهروردي جوعاً. وألقي رفيع الدين الجبلي من أعلى مغارة في بعلبك فتعلق في بعض جوانبه فبقي المبصرون ذلك يسمعون أنينه نحو ثلاثة أيام وعذب أعوانه وكان قاضي قضاة دمشق. ولما غضب الراضي على الوزير أبي علي بن مقله سلمه إلى الوزير أبي علي عبد الرحمن بن عيسى فضربه بالمقارع وأخذ خطه بألف ألف دينار فجرت عليه منه من المكاره والتعليق والضرب والوهق أمر عظيم وقطعت يده اليمنى وكان يقول في سجنه يد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة خلفاء وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم زيد في إخفائه وجعل في محبس وقطع لسانه. ولما خرج المصعب بن الزبير في عهد عبد الملك بن مروان في العراق سنة 71 ورأى تحيز الجفرية لعبد الملك أرسل إليهم فنسبهم وسبهم قال ابن جرير ثم ضربهم مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وهدم دورهم وصهرهم في الشمس ثلاثاً وحملهم على طلاق نسائهم وجمر أولادهم في البعوث وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر. ولما دخل مراكش مأمون الموحدين إدريس بن يعقوب أمر بتقليد شرفاتها بالرؤوس فمتها على اتساع الساحة. ولما استولى الغز على نيسابور أخذوا أبا سعد محي الدين النيسابوري ودسوا في فمه التراب حتى مات. وقبض عز الدولة بن بويه على وزيره ابن بقية وسمل عينيه ولما ملك عضد الدولة طلبه وألقاه تحت أرجل الفيلة فلما قتل صلبه. وكان الوزير ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد وأطراف مساميره المحدودة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال في أيام وزارته وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين والمطلوبين بالأموال فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك نمن حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه

فيجدون ذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة وكان إذا قال له أحد منهم أيها الوزير ارحمني فيقول له: الرحمة خور في الطبيعة. فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد فقال يا أمير المؤمنين: ارحمني فقال له: الرحمة خور في الطبيعة كما كان يقول للناس. قاله ابن خلكان. ولما استولى أبو عبد الله الشيخ على فاس سنة 961 قتل الفقيهين أبا محمد الزقاق وأبا علي حرزوز ويحكى أنه لما مثل أبو محمد بين يديه قال له: اختر بأي شيء تموت فقال له الفقيه: اختر أنت لنفسك فإن المرء مقتول بما قتل به فقال لهم السلطان: اقطعوا رأسه بشاقور فكان من حكمة الله وعدله في خلقه أن قتل هذا السلطان به أيضاً. قاله في الاستقصا. وقال فيه: لما كان من السلطان أبي عبد الله الشيخ ما كان من غزوة تلمسان مرتين وكان يحدث نفسه بمعاودة غزو تلك البلاد جرت المخابرة بينه وبين حكومة السلطان سليمان ولما لم يلتزم الأدب اتفق رأي الوزراء على أن عينوا اثني عشر رجلاً من فتاك الترك وبذلوا لهم اثني عشر ألف دينار لاغتيال الشيخ فما زالوا حتى وصلوا إليه وتعلقوا بخدمته ثم اغتالوه وضربوا رأسه بشاقور ووضعوه في مخلاة فأوصلوا الرأس إلى الصدر الأعظم وأدخله على السلطان فأمر به أن يجعل في شبكة من نحاس ويعلقه على باب القلعة فبقي هناك إلى أن شفع في إنزاله ودفنه ابنه عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور. ومما روى لسان الدين بن الخطيب من فظاظة محمد بن محمد بن يوسف ثالث الملوك من بني نصر أنه هجم لأول أمره على طائفة من مماليك أبيه كان سيء الرأي فيهم فسجنهم في مطبق الري من حمرائه وأمسك مفاتيح قفله عنده وتوعد من يرمقهم بقوت بالقتل فمكثوا أياماً وصارت أصواتهم تعلو بشكوى الجوع حتى خفتت ضعفاً بعد أن اقتات آخرهم موتاً بلحم من سبقه وحملت الشفقة حارساً كان يرأس المطبق على أن طرح لهم خبزاً يسيراً تنقص أكله مع مباشرة بلواهم ونمي إليه ذلك فأمر بذبحه على حافة الجب فسال عليهم دمه. قال ابن الخطيب وقانا الله مصارع السوء وما زالت المقالة عنها شنيعة. والله أعلم بجريرتهم لديه. وقتل يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقيين خالد بن عبد الله القسري على طريقة غريبة

قيل أن وضع قدميه بين خشبتين وعصرهما حتى انقصفتا ثم رفع الخشبتين إلى ساقيه وعصرهما حتى انقصفتا ثم إلى وركيه ثم إلى صلبه فلما انقصف مات. وقال المقري دخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734 وجاء به في الكبل لفاس ثم قتله بالفصد والخنق. ولقد كان رؤساء الناس وولاة الأمر منهم هم الذين لا يبالون بإرهاق النفوس وإزهاق الأرواح وكثيراً ما يكون ذلك لغير سبب سوى الطيش والجهالة وكان بعضهم يلتذ بإراقة الدماء مثل المعتضد بالله العبادي أحد ملوك الأندلس الذي دانت له الملوك من جميع أقطارها وكان قد اتخذ خشباً في ساحة قصره جللها برؤوس الملوك والرؤساء عوضاً عن الأشجار التي تكون في القصور وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه. وهو من الملوك الذين هابهم القريب والبعيد خصوصاً بعد أن قتل ابنه وأكبر ولده المرشح لولاية عهده صبراً لأن ابنه كان يريد الوقيعة به. قال لسان الدين وكان المعتضد بالله ابن عباد أبعد ثوار الأندلس صيتاً وأشدهم بأساً وأنجحهم أثراً جمع خزانة مملوءة برؤوس الملوك البائدين بسيفه وكانت وفاته سنة إحدى وستين وخمسمائة. وفي رواية المقري أن بني الأحمر لما ظفروا بأعدائهم من ملوك الإفرنج في الأندلس سلخوا دون بطرة وحشوا جلده قطناً وعلق على باب غرناطة وبقي معلقاً لسنوات. ذكر ابن سعيد أن التتار قتلوا المظفر قطز وخلعوا عظم كتفه وجعلوه في أحد الأعلام على عادتهم في أكتاف الملوك. ولما قتل مروان بن محمد الأموي استخفى عبد الحميد الكاتب بالجزيرة فغمز عليه فأخذ ودفعه أبو العباس السفاح إلى عبد الجبار بن عبد الرحمن صاحب شرطته فكان يحمي له طستاً بالنار ويضعه على رأسه حتى مات وقيل أن ابن المقفع قتله عامل البصرة للمنصور بأن جعله في تنور. ودخل أبو الحسن الملك العادل سيف الدين وزير الظافر العبيدي قبل وزارته بزمان على الموفق أبي الكرم بن معصوم التنيسي وكان مستوفى الديوان. فشكا إليه حاله من غرامة لزمته بسبب تفريطه في شيء من لوازم الولاية بالغربية بمصر فلما أطال عليه الكلام قال له أبو الكرم: والله أن كلامك ما يدخل في أذني فحقد عليه فلما ترقى إلى درجة الوزارة

طلبه فخاف منه واستتر مرة فنادى عليه في البلد وهدر دم من يخفيه فأخرجه الذي خبأه عنده فخرج في زي امرأة بإزار وخف فعرف وأخذ وحمل إلى العادل فأمر بإحضار لوح من خشب ومسمار طويل فألقي على جنبه وطرح اللوح تحت أذنه ثم ضرب المسمار في الأذن الأخرى فصار كلما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك بعد أم لا ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح ثم عطف المسمار على اللوح ويقال أنه شنقه بعد ذلك. وروى التاريخ ن أخبار من تلقوا نكباتهم بالصبر العجيب ومن أنباء شجعان الزمان ما لا يكاد يصدق إلا أن أهل الأباء منهم كانوا يؤثرون الموت في الزحف ويتفادون من الوقوع في أيدي عداتهم لئلا يمثلوا بهم فقد جاء عبد الله بن الزبير إلى أمه أسماء ذات النطاقين لما خذله أصحابه في مكة فقال: ما ترين يا أمة فقد خذلني الناس. فقالت: لا يلعب بك صبيان بني أمية عش كريماً أو مت كريماً. فقال: أخشى أن يمثل بي بعد الموت فقالت له: إن الشاه لا تألم بالسلخ بعد الذبح فقبل بين عينيها وودعها وخرج يقاتل إلى أن كان من أمره ما كان. وقلب باسيل الثاني الملقب بقاتل بلغاريا بعد حرب 37 سنة مملكة بلغاريا ومقدونية سنة 1018 وأسر خمسة عشر ألف بلغاري وسمل عيونهم وكان أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النديم خصيصاً بالمتوكل ونديماً له غضب عليه المتوكل فأمر بقطع أذنه فقطعت من غضروفها من الخارج. واستعمل القتل بوضع من يراد قتله تحت أرجل الفيلة كما أمر أحد بني بويه بأبي إسحق الصابي لما غضب عليه أن يجعل تحت أرجل الفيلة ولكنهم شفعوا به لديه. وكانوا يعلقون من يريدون قتله أيضاً في ذنب الخيل ويجرونها كما فعل أزدشير بضيزن ابنة الساطرون إذ أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ثم ركض الفرس حتى قتلها. ومما ذكر في قانون الصين من أنواع القتل المعروف بلغتهم بالباشب وهو تقطيع الأعضاء إرباً غرباً وصفته أن يشد الذي يراد به ذلك بين خشبتين قائمتين وتربط يداه ورجلاه ووسطه ربطاً محكماً ثم تجزأ أنامله وأصابعه أنملة أنملة وعقدة عقدة ثم تفصل يداه من الرسغين ثم من المرفقين ثم من الكتفين ويفعل برجليه مثل ذلك فإذا قطعت الأطراف جدع

أنفه وصلمت أذناه وأخرجت عيناه ثم برش لحمه وجلده بأمشاط من الحديد حتى يفرق بين عظمه ولحمه ويصير كالشاة التي جرد القصاب لحمها ويفعل ذلك به حياً وقد أبطل الإمبراطور هذا العقاب مؤخراً. وبالجملة فإن أنواع القتل كثيرة وهذا أهمها فيما انتهى إلينا معرفته وذكر ياقوت في معجم الأدباء أن صولاً جد إبراهيم بن العباس الصولي شهد الحرب مع يزيد بن المهلب وأن يزيد وجد مقتولاً بلا طعنة ولا ضرب انسدت أذناه ومنخراه وامتلأ فمه بغبار العسكر فمات فلا يعرف مثله قتيل غبار. قلنا ومثله قتيل الدخان ونمن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد

المسلمون والذميون والمعاهدون

المسلمون والذميون والمعاهدون الإحساس دليل الحياة التضامن رائد العمران يا ابن أمي! ويا ابن عمي! نحن صنوان ضمنا عاطف القر ... بى جميعاً في مصر ضم النطاق فوق هام الأهرام منك ومني ... غرّة طكوكبية الإشراق فتقدم يا أخي وصافح أخاً ير ... جو صفاء العيش في رضا واتفاق إنما النجح في اتحاد قلوبٍ ... بولاءٍ ونبذ كل شقاق عرفكم الله حلاوة الانضمام بعد طول الانقسام وأنعم عليكم ببركة الائتلاف والوئام بقدر ما عرَّفتموني لذة الكلام في هذا المقام وبقدر ما أنعمتم عليّ بالتشجيع والاستحسان! فلقد رأيت من التفافكم حولي لاستماع قولي ورأيت من قومي حينما أبلغتكم الصحف كلمي أن نغمتي صادفت منك هوىً في الفؤاد وإن صداها قد تردد في جوانب هذه البلاد حينما جهرت بدعوة أهل الشرق على طريق الحق وناديت على رؤوس الأشهاد بتوثيق علائق الارتباط بين المسلمين والأقباط. نعم نعم! فلقد اهتزت الأمة دانيها وقاصيها وردّدت هذه الكلمة بملء فيها وأصبح شعار كل حي في كل حي: إننا مصريون قبل كل شيء. لم أكن وحقك! َ أنتظر هذا الإقبال من ابن أمي وهذا القبول من ابن عمي ولم يكن يحدثني به وهني حتى ولا في حلمي أثناء نومي. ولكن كان من حظي أن هذه الكلمة تجسدت وقد تنبهت الأمة بعد استسلمت للجمود وأخلدت للخلود في الخمود بحيث كان الناظر لأبنائها وهم في همود يحسبهم أيقاظاً وهم رقود فحيا الله هذا الشعور! الذي جاء آية على استئناف البعث والنشور. وحبذا هذا اليوم الذي سيبقى غرة في جبين الزمان! فلقد علمنا فيه أن الإحساس دليل الحياة وأن التضامن رائد العمران! يقول العرب في أشعارهم: إن المهم لمقدم ويقول الفرنساويون في أمثالهم: الأمير أولى بالتصدير. وأي شيء أولى بالتصدير والتقديم من كلام القديم والتقديم كمن كلام القدير القديم؟ قال

تعالى في كتابه العزيز: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} فجعل الوفاء بالقنطار والغدر بالدينار إشارة إلى أن الوفاء أمكثر شيوعاً في أخلاق أهل الكتاب. وحسبهم ذلك مدحاً وفخاراً. وليس لي أن أتوسع في التفسير وإنما أستشهد على صدق هذه الآية بحادثتين وقعتا في بغداد وفي مصر: فمصداق الشطر الأول: أن ابن الفرات وزير العباسيين المشهور كان يودع أمواله عند كثيرين من صنائعه المخلصين له استعداداً للطوارئ واستظهاراً من غدر الأيام. أخبر في إحدى نكباته بأن له عند يوسف بن فيجاس (أو بنجاس) وهرون بن عمران الجهبذين اليهوديين سبعمائة ألف دينار فأقرا في الحال بالمال ودفعاه وقدره 420 ألف جنيه مصري. ومصداق الشطر الثاني: أن زوجة الأخشيد كانت قد أودعت عند رجل من اليهود جرة من النحاس وضعت فيها ثوباً منسوجاً بالذهب وبدائره من الجوهر شيء كثير. فلما زالت دولة الإخشيديين واستولى الفاطميون على مصر ذهبت المرأة بعد زوال عزها إلى ذلك الذي جعلته موضع ثقتها واستأمنته على ذخيرتها فأنكر. فقالت: خذ بعض الثوب فلم يفعل. فالتمست أن ينعم عليهم بكم واحد ويأخذ الباقي حلالاً فلم يقبل وكان في الثوب تسع وعشرون درة من الدرر الغوالي فأتت إلى قصر المعز تتعثر في أطمارها وهي أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء ولسان حالها ينشد بيت بنت ملك العرب التي أخنى عليها الدهر مثلها وهي حُرقة بنت النعمان بن المنذر: فبينا نسوس الناس والأمر مرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف حتى إذا أتت قصر المعز وهي ذليلة بعد ذلك العز. عرضت عليه قصتها. فأحضر الرجل فأنكر. فبعث إلى داره من خرَّب عض حيطانها. فظهرت الجرة في أحد الجدران ورأى المعز الثوب وتعجب من الجوهر واللؤلؤ الذي فيه. ووجدوا أن اليهودي أخذ من صدره درتين فاعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار فسلم الخليفة الثوب إلى صاحبته فحمدت الله الذي أظهر صدقها واجتهدت في أن يأخذه ويعطيها مهما أراد فلم يفعل. فقالت: يا سيدي هذا الثوب كان يصلح لي وأنا زوجة صاحب مصر فأما الآن فلا حاجة لي به وهو لا يليق

بي فأبى أن يأخذه واستلمته صاحبته. وبهذا التقدير يكون ثمن ما فيه من اللؤلؤ فقط نحواً من ثلاثين ألف جنيه مصري. ومن المعلوم أن العلم من أجلّ الأمانات بين الناس وقد وقف بنا المقال في الجلسة الماضية عند نظرية جديرة بالاعتبار: وهي أن العلم مشاع وأنه ليس له وكن ولا دين بل هو مورد سائغ لكل الأفراد ولجميع الأمم. وقد أطرفتكم بشيء يسير مما وقع في تلك العصور وعصور الحكمة والنور إذ كان المسلمون يأخذون النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى وهؤلاء يأخذون عنهم ويتلقون عليهم ما يكسبون به أجراً وفخراً. رأينا علماء النصارى واليهود يأخذون شرائع دياناتهم عن رجلين من فقهاء المسلمين ورأينا أفاضل المسلمين يسعون في طلب الحكمة والفلسفة والطب من نوابغ الذميين. وننتقل الآن على الفقهاء من الطوائف الثلاث الذين استبدلوا علوم الأبدان بعلوم الأديان كما سبق أعشى همدان إلى استبدال الشعر بالفقه فمنهم الإمام العالم الشيخ موفق الدين عبد العزيز بن عبد الجبار بن أبي محمد السلمي المتوفى سنة 604 فقد كان أول أمره فقيهاً في المدرسة الأمينية بدمشق عند الجامع الأموي ثم بدا له الاشتغال بالطب فأعاد نفسه دارساً بعد أن كان مدرساً ورجع تلميذاً بعد أن كان أستاذاً. واشتغل على الياس بن المطران بصناعة الطب حتى أتقن معرفتها وحصل علمها وعملها وصار من المتخرجين السابقين بين أربابها والمشايخ الذين يقتدى بهم فيها وأصبح هذا الفقيه سابقاً وله بعد تلك المجالس الفقهية مجلس عام للطب يحضره المشتغلون عليه بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود. وقد اشتهر رجل من فقهاء صقلية (من أعمال إيطاليا اليوم) بالطب بقدر ما اشتهر بالفقه حتى كان الناس يفزعون إليه بالفتيا في الطب كما كانوا يفزعون إليه بالفتيا في الفقه. هذا هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي التميميم المازري نسبة إلى مدينة مازر (بفتح الزاي والراء) من مدن جزيرة صقلية وقد اشتهر باسم الإمام. لأنه كان متقناً للعلوم مقدماً في علم المنطوق والمفهوم. وكان آخر المشتغلين بإفريقية (تونس) بتحقيق العلم ورتبة الاجتهاد ودقة النظر. توفي سنة 536 وقد نيف على الثمانين. يحكى أن سبب اشتغاله بالطب أنه مرض فكان يطبه يهودي فقال له: يا سيدي أمثلي يطب مثلك فاشتغل الشيخ حينئذ بالطب وبرع فيه براعة لا يدانيه فيها أحد. فأين الآن هذه الأيام؟ وهل لنا بمثل أولئك الرجال

الذين يفتخر بهم الإسلام. ولما كان أنشئ بالشيء يذكر فلا أرى بأساً من أن أذكر لكم بمناسبة هذا المسلم المسمى بموفق الدين رجلين يسمى كلاهما بالشيخ موفق الدين أحدهما إسرائيلي والثاني نصراني. فأما الأول: فهو الشيخ الموفق شمس الرئاسة أبو العشائر هبة الله بن زين بن حسن ابن إفرائيم بن جميع الإسرائيلي المصري. نشأ بفسطاط مصر وانقطع لإتقان العلوم وتفرغ لصناعة الطب وألف فيها كتباً نفيسة مفيدة. كان جالساً يوماً في دكانه بالفسطاط وقد مرت عليه جنازة. فلما نظر إليها صاح بأهل الميت وذكر لهم أن صاحبهم لم يمت وأنهم إن دفنوه فإنما يدفنونه حياً. فبهت القوم من قوله وتعجبوا من أمره ولم يصدقوه في خبره ثم أن بعضهم قال لبعض: هذا الذي يقوله ما يضرنا أننا نمتحنه؟ فإن كان حقاً فهذا الذي نريده. وإن لم يكن حقاً فهو الذي يريده الورثة فأمرهم بالمسير إلى البيت وحمله إلى الحمام بعد نزع الأكفان ثم سكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه ونطله بنطولات (أي رش عليه سوائل وكمده بالمكمدات) فعطس الميت فرأوا فيه أدنى حس وتحرك حركة خفيفة فقال ابن جميع: أبشروا بعافيته. ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصلح. ثم أنه سئل بعد ذلك عن هذه الكرامة: من أين علمت أن الروح لا تزال فيه وهو محمول وعليه الأكفان. فقال إني نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى تكون منبسطة فحدست أنه حي وكان حدسي صائباً. ومن ذلك الوقت اشتهر بجودة الصناعة والعلم فأقبل عليه الناس للتحصيل فكان له مثل ذلك الموفق المسلم مجلس عام يحضره المشتغلون بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود. وكان في مجلسه هذا لا يفارقه كتاب الصحاح فلا تمر كلمة لا يعرفها حق المعروفة إلا ويكشفها منه ويعتمد على ما أورده الجوهري. فبرع حتى صار من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين والأكابر الذين يشار إليهم بالبنان. وأقبلت عليه الدنيا بهذين السببين حتى تقدم في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده جليل القدر نافذ الأمر عالي الهمة. ولما كان الشعراء هم الغاوين قد دبت عقارب الحسد إلى شاعر اسمه ابن المنجم المصري. وكان مشهوراً خبيث اللسان فانبرى يهجوه بكل قبيح فمن ذلك قوله فيه: لابن جميع في طبه حمق ... يسب طب المسيح من سببه

وليس يدري ما في الزجاجة من ... بول المريض ولو تمضمض به وأعجب الأمر أخذه ابداً ... أجرة قتل المريض من عصبه دعوا ابن جميع وبهتانه ... ودعواه في الطب والهندسه فما هو إلا رقيع أتى ... وإن حل في بلد أنحسه وقد جعل الشرب من شأنه ... ولكن كما تشرب النرجسه وقال: كذبت وصحفت فيما ادعيت ... وقلت أبوك جميع اليهودي وليس جميع اليهودي أباك ... ولكن أبوك جميع اليهود ولما كانت العدواة في الأهل وفي أرباب الحرفة الواحدة فقد هجاه يهودي تجمعه وابن جميع رابطة الفضل والعلم والدين وهو موفق الدين ابن سوعة الإسرائيلي المصري قال: يا أيها المدعي طباً وهندسة ... أوضحت يا ابن الجميع واضح الزور إن كنت بالطب ذا علم فلم عجزت ... قواك عن طب داءٍ فيك مستور وبقية الأبيات لا أستطيع إيرادها في هذا المقام ولا في غيره. ولكن هذه الخبائث الشعرية لم تمنع أفاضل المسلمين من مدح ابن جميع والاعتراف بحقه والتنويه بذكره حتى أنه لما مات رثاه الشيخ يوسف بن هبة الله بن مسلم بقصيدة غراء في ستة وثلاثين بيت أولها: أعيني بما تحوي من الدمع فاسجمي ... وإن نفدت منك الدموع فبالدم فحق بمن تذري على فقد سيد ... فقد نابه فضل العلا والتكرم ومنها: وأنجد من يممته لملمة ... وأنجد من أملته لتألم ولو كان يفدى من حمام فديته ... بنفسٍ متى تقدم على الموت تقرم ومنها: فقل معلناً الشامتين بموته ... ذروا الجهل إن الجهل منكم بمأتم ومنها أما عجب إذ غاله الحتف رامياً ... وقد كان أرمى الخطوب بأسهم فويح المنايا ما درت كنه حادث ... رمت سيداً يحيا به كل منعم

أما الثاني: فهو الحكيم الإمام العلامة الفاضل الشيخ موفق الدين أبو بصر أسعد ابن أبي الفتح الياس بن جرجس المطران المتوفى سنة 587 فقد كان سيد الحكماء وأوحد العلماء سافر إلى بلاد الروم لإتقان الأصول التي يعتمد عليها في علم النصارى ومذاهبهم. ثم ذهب إلى العراق متشبهاً بموفق الدين المسلم وترك علوم الدين المسيحي واشتغل بعلم الطب على أمين الدولة ابن التلميذ (الذي سنورد شيئاً من أخباره فيما بعد) ثم رجع إلى دمشق وخدم بصناعة الطب السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي فقربه وأدناه وكان عنده رفيع المنزلة عظيم الجاه بحيث كان يقضي حوائج الناس ولا يفارق السلطان في سفر ولا في حضر ولذلك كان الطبيب يدل بمكانته لديه ويتكبر حتى على ملوك المسلمين بل على نفس صلاح الدين وكان صلاح الدين قد عرفها عنه ورضيها منه. ومن أغرب ما تضمنته بطون الدفاتر في هذا الموضوع أن السلطان صلاح الدين بينا كان يحارب الإفرنج ويرد غوائلهم عن سواحل الإسلام كان يستعين بأهل الذمة في مدافعتهم ويستخدمهم في تطبيب جنوده وتقويتهم على رد أعدائه وأعدائهم. وقد فهم أهل الوطن الواحد في عصره المجيد أنهم لا بقاء لهم ولا جاه إلا بالتفاف حول راية واحدة هي راية الوطن. ومما يتعلق بعجب موفق الدين وإدلاله على صلاح الدين أنه كان معه في بعض غزواته وكانت عادة صلاح الدين في وقت حروبه أن ينصب له خيمة حمراء وكذلك دهليزها وشقتها ليتميز عن سائر العسكر وهذا من أبلغ ما يكون من الشهامة في الحروب فاتفق أنه ركب ذات يوم ليتفقد الجيش فإذا بخيمة تشابه خيمته كل الشبه فبقي متأملاً لها وسأل لمن هي؟ فأخبر أنها لابن المطران الطبيب فقال السلطان: والله لقد عرفت هذا من حماقة ابن المطران. وضحك. ثم قال: فلو جاء رسول من الإفرنج ومر بهذه الخيمة أفلا يخطئ ويظنها لي. بل لو جاء باطني للفتك بي أفلا يجوز أن يتخطاني إلى طبيبي. فإذا كان ولا بد فلا أقل من تغيير مستراحها. ثم أمر به فأزيل. فلما رأى موفق الذين صعب عليه الأمر وامتنع عن خدمة السلطان أياماً حتى استرضاه السلطان ووهب له مالاً. وكان في خدمة السلطان طبيب نصراني آخر يقال له أبو الفرج فاحتاج إلى تزويج بناته وتجهيزهن فطلب من صلاح الدين أن يطلق له ما يستعين به على ذلك، ولما كان السلطان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا حتى أنه عند موته لم يترك في خزانته (بشهادة المؤرخ

أبي الفرج العبري النصراني) غير دينار واحد وأربعين درهماً. فلذلك أمر أبا الفرج أن يكتب كشفاً ببيان جميع ما يحتاج إليه في تجهيز بناته النصرانيات فكتب من الحلي والقماش والآلات وغير ذلك ما بلغت قيمته ثلاثين ألف درهم. فدفع السلطان هذا الكشف إلى الخزنة دار وأمره بأن يشتري من بيت مال المسلمين جميع ما طلبه أبو الفرج ولا يخل بشيء منه فما هو إلا أن بلغ صاحبنا موفق الدين حتى أخذته الغيرة من زميله فقصر في ملازمة الخدمة وهجر السلطان هجراً ثقيلاً فلم ير صلاح الدين حيلة لاستصلاح موفق الدين سوى إرضائه أيضاً. فأمر الخزنه دار بأن يصرف له من بيت مال المسلمين يوازي جميع النفقة التي صرفت في تجهيز بنات أبي الفرج مهما بلغت قيمتها. ففعل الخزنه دار ورضي صاحب ذلك الدلال. ومن عجيب أمر موفق الدين هذا أن العجب والتكبر الذي كان يغلب عليه كان يفارقه حينما يذهب لطلب العلم. فكان في هذه الحالة آية في التواضع والخشوع شأن ذوي العقول الصحيحة والأحلام الرجيحة. كان هذا المختل الفخور متى تفرغ من الخدمة في دار السلطان ركب في موكب حافل تحف به جماعة كثيرة من المماليك الترك وغيرهم وذهب بهذه الأبهة الفائقة وهذه العظمة الشائقة إلى جامع المسلمين. فإذا اقترب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب الذي يشتغل به في يده أو تحت إبطه. ولم يترك أحداً من الغلمان يصبحه. لا يزال ماشياً والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه النحو والأدب واللغة وهو الشيخ الإمام تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي. فيقرؤه السلام ويقعد بين الجماعة بأدب واحتشام إلى أن يفرغ من الدرس والتحصيل فيعود إلى ما كان عليه الأبهة والعظمة والشموخ على الكبير قبل الصغير. وقد كان موفق الدين قدوة في هذا الأمر للملك الناصر داود ابن الملك المعظم ابن الملك العادل ابن أيوب صاحب الكرك. فقد حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق أن هذا الملك كان يتردد إلى شمس الدين الخسروشاهي المتوفى سنة 652 يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة لابن سينا. وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ إلى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم. ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفاً بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم

ولم يمكن الشيخ من القيام له. ولله در بني أيوب يرد الله مضاجعهم وطيب ثراهم. فإنهم في هذا الباب خير قدوة لملوك الزمان وخصوصاً ملوك الإسلام. فقد أخذ الحديث برقاب بعضه وجرنا إلى ذكر صاحب مصر وعم الملك المعظم المذكور وأعني به الملك الكامل بن الملك العادل ابن أيوب المتوفى سنة 635. وفد عليه أبو العباس ابن دحية من أكابر علماء المسلمين بالأندلس فاتخذه الملك أستاذاً له في العلم والأدب وجعل له من الإكرام والإجلال غاية ليس وراءها مطلب. وبالغ في تعظيمه وتبجيله حتى كان يسوي له بنفسه مداسه حين يقوم. وهو هو الذي خشي بأسه الصليبيون فتقربوا إليه وهادنوه وخطب وده الإمبراطور فريدريك بعد أن أسر القديس سان لوي وأعاده مكرماً معظماً. وكان هذا الملك يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من فضلاء المسلمين والنصارى واليهود ويشاركهم في مباحثهم كأنه واحد منهم. ومما يؤثر عنه أنه لما تولى سلطنة مصر خفض من ضرائبها بما يقارب الثلث فأفاد بذلك رعيته المسلمين والأقباط على السواء. نرجع إلى صاحبنا موفق الدين ونقول أنه أسلم وحسن إسلامه وأن صلاح الدين زوجه إحدى حظايا داره المقربة لدى زوجته خوند خاتون فأعطتها الكثير من حليها وذخائرها ومولتها وخولتها. فرتبت أمور موفق الدين وهذبت أحواله وحسنت زيه وجملت ظاهره وباطنه. . وصار له ذكر سام في الدولة وتنافس الأمراء في الإنعام عليه وتوقت حاله حتى كاد يكون وزيراً ولكنه ما زال يتعهد زملاؤه فكان يقدمهم ويتوسط في إدرار الأرزاق عليهم. وكانت له دار بدمشق على غاية من الحسن في العمارة والتجميل وفيها بركة يبرز منها الماء من أنابيب ذهب على غاية ما يكون من حسن الصنعة وفيها مكتبة تحتوي على نحو عشرة آلاف مجلد عدا ما استنسخه. فقد كانت له عناية بالغة باستنساخ الكتب وتحريرها وكان في خدمته ثلاثة يكتبون له أبداً ولهم منه الجامكية والجراية المتصلة. وقد كتب بخطه كتباً كثيرة في نهاية حسن الخط والصحة والإعراب. وصحح بنفسه أكثر الكتب التي عنده وأتقن تحريرها. وذلك كله غير الكتب التي كان يهبها لتلاميذه فضلاً عن الإحسان إليهم والاعتناء بأمرهم. وكان أجل تلاميذه الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم ابن علي المسلم ومن أخص أصدقائه الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني.

قال الحكمي أوحد الدين عمران الإسرائيلي أنه حضر بيع كتب ابن المطران المذكور فوجدهم قد أخرجوا أجزاء صغيرة من الكتب الصغار أو المقالات المتفرقة في الطب مما استنتسخه أو نسخه ابن المطران بخطه وكان عددها كثيراً جداً بلغ الوفا كثيرة وأن القاضي الفاضل بعث يستعرضها فأرسلوا له بملء خزانة صغيرة منها فنظر فيها ثم ردها. فبلغت في المناداة ثلاثة آلاف درهم واشترى الحكيم عمران أكثرها. وقال أنه حصل الاتفاق مع الورثة أنهم أطلقوا بيعها كل جزء بدرهم. فاشترى الأطباء هذه الأجزاء الصغار على هذا الثمن بالعدد. وهذا الحكيم عمران الإسرائيلي توفي بعد المطران بسنتين وقد أخذ الطب عن الشيخ رضي الدين الرحبي أستاذ أو أستاذ أساتذة الأطباء جميعاً بالشام وتلميذ ابن جميع الإسرائيلي المصري. وقد جرى الحكيم عمران على مذهب شيخه في عدم خدمة الملوك والسفر معهم. ولكنهم (وخصوصاً بني أيوب) غمروه بالإحسان السني والعطايا الجزيلة. حتى حاز من الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف. ولقد حرص الملك العادل أبو بكر بن أيوب أن يستخدمه في الصحبة فما فعل. واجتهد الملك الناصر داود الذي ذكرناه قبل هذا بأن يجعل له في كل شهر ألفاً وخمسمائة درهم وقدم له مرتب سنة ونصف مقدماً فلم يقبل فوهبه مالاً كثيراً وتركه على حريته. وكان السلطان الملك العادل لم يزل يصله بالأنعام الكثير وله منه الجامكية الوافرة والجراية وبقي مرتبه محفوظاً له بعد موت الملك العادل في سلطنة المعظم وليس عليه سوى أن يتردد على الدور السلطانية بالقلعة وإلى البيمارستان الكبير لمقابلة المرضى. وقد بلغ من إكرام اليوبيين لأهل الفضل أن الحكيم موفق الدين أبا شاكر النصراني حظي عند الملك العادل حظوة عظيمة وتمكن منه ومن دولته تمكناً كثيراً فأنعم عليه بضياع كثيرة وغيرها ولم يزل يفتقده بالهبات الوافرة والصلات المتواترة. وجرى الملك الكامل معه على سنة أبيه وزاد فإنه أباح له الدخول راكباً في جميع قلاعه مثل قلعة الكرك وجعبر والرها ودمشق والقاهرة وكان ذلك منتهى التشريف في تلك الأيام خصوصاً لمن كان متمتعاً بالصحة والعافية مثل ذلك الموفق. ولقد بلغ من أمره أن العادل حينما ترك دار الوزارة التي كانت مقراً لبني أيوب بعد ذهاب دولة الفاطميين واستقر بقصر القاهرة في القلعة أنه

أسكن موفق الدين هذا معه في قصره. ركب السلطان مرة بغلة النوبة وخرج إلى بين القصرين (بالجهة التي بها المشهد الحسيني الآن) فركب فرساً آخر وأرسل البغلة التي كان راكباً عليها إلى دار الحكيم بالقصر وأمر بركوبه عليها وخروجه من القصر راكباً،. ولم يزل واقفاً بين القصرين إلى أن وصل إليه فأخذ بيده وسايره يتحدث معه وسائر الأمراء يمشون بين يدي الملك الكامل. والشيء من معدنه لا يستغرب. فقد كان الكامل كاملاً بأكمل معاني الكلمة لا يفرق بين مسلم وذمي ممن تحلى بالفضيلة والكمال. ذكرت لكم قصة اليهودي الذي أحيا الميت. وبما أنيي في معرض التوفيق بين العناصر المختلفة التي تجمعها راية واحدة هي راية الوطن فأخشى أن يكون المسلمون والنصارى قد نقموا على هذا العاجز أن لا يذكر منهم رجالاً أحيوا الموتى. فاسمحوا لي إذن بذكر حادثتين.؟ وأبدأ بالمسلم لتقدمه في الزمن ليس إلا وأثني بالمثلث وإن كان دينه جاء أولاً. جلس هارون الرشيد في بعض الأيام وقدمت بين يديه الموائد وجبرائيل بن يختيشوع غائب فامتنع أمير المؤمنين عن الأكل حتى يحضر جليسه وسميره. وأمر بطلبه ليحضر الأكل مع صحابته على عادته. فبحثوا عنه في جميع منازل الحرم والأمراء ولم يقع القوم له على أثر. فتكدر الرشيد وطفق يلعنه ويقذفه وإذا بجبرائيل داخل عليه وقد سمع سبه بأذنه فلم يهلع ولم يتروع بل قال: لو اشتغل أمير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه إبراهيم بن صالح وترك ما هو فيه من تناولي بالسب كان أشبه فاستفهم الخليفة عن الواقع فأعلمه أنه خلفه وبه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة فاشتد جزع الرشيد وأمر برفع الموائد وأقبل على البكاء حتى رحمه جميع من حضر. فقال جعفر البرمكي: يا أمير المؤمنين إن طب جبرائيل رومي وعندنا صالح بن بهلة وهو في العلم بطريقة أهل الهند مثل جبرائيل في العلم بمقالات الروم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره وتوجهه إلى إبراهيم بن صالح لنفهم ما يقول مثل ما فهمنا عن جبرائيل. فأمر الرشيد ورجع صالح الهندي المسلم بعد هنيهة وسأله جعفر وشدد في معرفة الخبر فأبى صالح بن بهلة وأصر على القول بأنه لا يكاشف بما ره غير أمير المؤمنين فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين أنت الإمام وعاقد ولاية القضاء للحكام ومهما حكمت به لم يجز لحاكم فسخه. وأنا أشهدك يا أمير المؤمنين وأشهد على نفسي من حضرك أن إبراهيم بن صالح إن توفي في هذه الليلة أو في

هذه العلة إن كل مملوك لصالح بن بهلة حر لوجه الله وكل دابة له فحبس في سبيل الله. وكل مال له فصدقة على المساكين. وكل امرأة فطالق ثلاثاً بتاتاً فقال الرشيد: حلفت ويحك يا صالح على غيب والغيب لا يعلمه إلا الله. فقال صالح: كلا يا أمير المؤمنين. إنما الغيب ما لا علم لأحد به ولا عليه دليل له. ولم أقل ما قلت إلا بعلم واضح ودلائل بينة. فسري عن الرشيد ما يجحد وأكل وشرب وطرب. ولما كان وقت صلاة العتمة ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام يخبر بوفاة إبراهيم بن صالح. فاسترجع الخليفة بالبكاء والعويل وأقبل على جعفر باللوم على إرشاده إلى صالح بن بهلة وأقبل يلعن الهند وطبهم ويقول: واسوأتاه من الله! أن يكون ابن عمي يتجرع غصص الموت وأنا أتحين فرص اللهو والقصف. ثم دعا بمقيءٍ فقذف به ما في جوفه من طعام وشراب وبكر إلى دار إبراهيم بكور الغراب ولم يرض الجلوس على النمارق والمساند بل وقف متكئاً على سيفه. وقال للفراشين: لا يحسن الجلوس في المصيبة بالأحبة على أكثر من البسط. وأمر برفع الفرش والنمارق وجلس بعد ذلك على البساط. فصارت سنة في المآتم لبني العباس ولا يزال أثرها باقياً على اليوم في مصر وغيرها من بلاد الشرق خصوصاً في دور الحريم. وبقي القوم في سكوت وسكون كأنما على رؤوسهم الطير حتى إذا سطعت روائح المجامر صاح صالح ورفع عقيرته وهو يقول كالمجنون: الله الله يا أمير المؤمنين أن تحكم بطلاق زوجتي وهي حلال لي وحرام على غيري. الله الله أن تخرجني من نعمتي ولم يلزمني حنث. الله الله أن تدفن ابن عمك حياً فوالله يا أمير المؤمنين ما مات. فأطلق لي الدخول عليه والنظر إليه. وهتف بهذا القول مرات أزعجت الخليفة والحاضرين. فأمر بالإنعام عليه بما يريد. فدخل وحده ولبث الحاضرون يسمعون ضرب بدن بكف ثم كف. وإذا بتكبيرة ارتجت لها جوانب الدار وخرج صالح يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثم قال: قم يا أمير المؤمنين حتى أريك العجب الأكبر. فدخل الرشيد وخواصه فأخرج صالح إبرة كانت معه فأدخلها بين ظفر إبهام يد الميت ولحمه فجذب الميت يده وردها إلى بدنه. فقال صالح: يا أمير المؤمنين هل يحس الميت بالوجع؟ فقال الرشيد: لا. فقال له صالح: لو شئت أن يكلم أمير المؤمنين الساعة لكلمه. فقال له الرشيد: فأنا أسألك أن تفعل ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين أخاف إن عالجته وأفاق وهو في كفن فيه رائحة الحنوط أن ينصدع قلبه فيموت. ويكون الموت حقيقياً ولا

تكون لي حيلة في إحيائه. ولكن يا أمير المؤمنين تأمر بتجريده من الكفن ورده إلى المغسل وإعادة الغسل عليه حتى يزول رائحة الحنوط عنه ثم يلبس مثل ثيابه التي كان يلبسها في حال صحته ويطيب بمثل ذلك الطيب ويحول إلى فراش من فرشه كالتي كان يجلس وينام عليها حتى أعالجه بحضرة أمير المؤمنين فإنه يكلمه من ساعته فأمر الرشيد بامتثال أمر الطبيب ثم دخل على ابن عمه فدعا صالح بكندس (وهو جذر نبات يشبه الخرشوف) ومنفخة ونفخ في الكندس في أنفه فمكث الميت مقدار سدس ساعة (10 دقائق) ثم اضطرب بدنه وعطس وجس قدام الخليفة وقبل يده. فسأله الرشيد عن قصته فذكر أنه كان نائماً نوماً لا يذكر أنه نام مثله قط طيباً إلا أنه رأى في منامه كلباً قد أهوى إليه فتوقاه بيده فعض إبهام يده اليسرى عضة لا يزال يحس بوجعها. وأراه إبهامه التي كان صالح أدخل فيها الإبرة. وعاش إبراهيم بعد ذلك دهراً وتزوج العباسة بنت المهدي وولي مصر وفلسطين وتوفي بمصر وقبره بها لأنه لم يدفن ببغداد حياً. ومن كانت منيته بأرضٍ ... فليس يموت في أرض سواها أما الحكيم النصراني الذي أحيا الموتى فهو رشيد الدين أبو الوحش بن الفارس أبي الخبر ابن أبي سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فإنه الذي اشتهر فيما بعد باسم أبي حليقة. كان أبوه الفارس أبو الخير من رؤساء الجيش العاملين فكان يلبس ولده لباس الجندية مثل لباسه ويرشحه للخدمة في العسكرية مع المسلمين في محاربة الصليبيين كما جرت عادة الآباء في الشرق من جعل أبنائهم على حرفتهم. وذلك مصداق لما قاله الإمام النووي في التحفة وللإمام أو نائبه الاستعانة بأهل الذمة والاستئمان على العدو بشرط أن تؤمن خيانتهم بأن يعرف حسن رأيهم فينا. ويشترط في جواز الاستعانة بهم الاحتياج إليهم ولو بنحو خدمة أو قتال لقلتنا. ونفعل بالمستعان بهم الأصلح في إفرادهم أو تفريقهم في الجيش وكانت دار الفارس أبي الخير ملاصقة لدار السلطان العادل بمدينة الرها فاتفق أن الملك الكامل الأيوبي وهو ولي العهد دخل فيها الحمام فأعطى الفارس لولده رشيد الدين فاكهة وماء ورد وأمره بحمله إلى الملك الكامل. فلما خرج من الحمام وقدم الغلام بين تلك الألطاف أخذه معه وفرغ الأطباق من الفاكهة وملأها شققاً سنية وسيرها لوالده. ثم أخذ الكامل بيد الغلام النصراني وعمره يومئذ ثماني سنين ودخل به على السلطان الملك العادل ولم يكن رآه من

قبل فلما أبصره قال للملك الكامل: يا محمد هذا ابن الفارس لأنه أخذه بالشبه فقال: نعم. قال: هاته فحمله الملك الكامل ووضعه بين يدي السلطان فلاعبه ولاطفه وتحدث معه حديثاً طويلاً ثم التفت إلى والده وقد كان قائماً في خدمته مع جملة القيام وقال له: ولدك هذا ولد ذكي لا تعلمه الجندية فالأجناد عندنا كثير وأنتم بيت مبارك وقد استبركنا بطبكم أرسله إلى الحكيم أبي سعيد (أي عمه مهذب الدين الذي ذكرناه في غير هذا الموضع) ليقرأ عليه الطب بدمشق فامتثل والده فتخرج بها ثم جاء إلى القاهرة وكانت كعبة العلوم فأكمل دروسه بها وبرع حتى صار يشار إليه بالبنان هذا مع مواظبته على العبادة وتفقهه في دينه المسيحي وقرض المرقص المطرب من الشعر الرقيق المعجب ثم تولى السلطنة الملك الكامل واستقر بمصر فقرب رشيد الدين أبا الوحش وكان كثير الاحترام له فحظي عنده كثيراً حتى نال منه الإحسان الكثير والأنعام المتصل وأقطعه على سبيل الجراية نصف بلد عامرة بالشرقية تعرف بالعزيزية والخربة (وتعرف الآن بالعزيزية بمركز مينا القمح وهي منسوبة للعزيز الفاطمي) ولم يزل في خدمة الكامل حتى مات فخدم ولده الملك الصالح ثم ولده الملك المعظم تورانشاه حتى قتل وجاءت دولة المماليك واستولوا على البلاد واحتووا على الممالك الأيوبية فأجروه على ما كان باسمه ثم خدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي وبقي في خدمته على عادته المستمرة وقاعدته المستقرة وله منه الاحترام التام وجزيل الأنعام والإكرام حتى وفاه الحمام. كانت له اليد الطولى في الطب فقد أمره الملك الكامل بعمل الترياق الفاروقي المشهور فسهر عليه الليالي حتى حتق مفرداته بشهادة أئمة الصناعة أبقراط وجالينوس ولما تعذر عليه حضور أدويته الصحيحة من الآفاق ركب مختصر ترياق توجد أدويته في كل مكان ونوى أن لا يقصد به قرباً من ملك ولا طلب مال ولا جاه في الدنيا ولا يقصد به سوى التقرب من الله بنفع خلقه أجمعين وبذله للمرضى مجاناً فكان يخلص به المفلوجين ويقوم به الأيدي المتقوسة ويسكن وجع القولنج ويفتت الحصى ويزيل ألم الأسنان لوقته وساعته فشاع أمره وتحدث به الخاص والعام حتى سأله السلطان وقال له: يا حكيم إيش هذا الترياق الذي عملته ولم تعلمني به فقال: يا مولانا المملوك لا يعمل شيئاً إلا لمولانا وما تأخرت عن العرض إلا لتجربته أما وقد أصبح هذا لمولانا فصار على ثقة منه فقد حصل المقصود

فأمره بإحضاره فلم يكن عنده منه إلا شيء يسير لأن الخلائق كانت قد تهافتت عليه فمضى إلى أصدقائه الذين أهداهم منه حتى جمع من وهناك أحد عشر درهماً وجعله في برنية من الفضة فاحتفظ عليها السلطان وكان يشكو من نزلة في أسنانه فما هو إلا أن وضع جزءاً صغيراً منه حتى زايله الألم وكأنه لم يكن. أما إحياؤه الميت: فقد مرضت دار من بعض الآدر السلطانية (أعني إحدى حظايا السلطان فإن السر في السكان) وكانت مقيمة بناحية العباسية وكان الملك الكامل لا يشرك مع هذا الطبيب أحداً في مداواته وفي مداواة من يعز عليه من دوره وأولاده فانقطع للعناية بها أياماً. ثم عرض له ما أوجب عليه الرجوع إلى القاهرة لمدة ثمانية عشر يوماً ثم عاد لعيادة مريضته بالعباسية فوجدها قد تولى علاجها جماعة من الأطباء فاشترك معهم فحكموا بأنها تموت والمصلحة تقضي بإعلام السلطان قبل أن يفجأه أمرها بغتة فقال: إنها ليست عندي في مرض الموت فقال أكبرهم سناً (وكان رشيد الدين شاباً): إنني أكبر منك وقد باشرت من المرضى أكثر منك فتوافقني على كتابة هذه الرقعة. فأبى فقرَّ رأي الأطباء على كتابة الرقعة. فقال: لا أضع اسمي على هذه المطالعة. فلما وصل الخبر للسلطان بعث رسولاً ومعه بجار ليعمل لها تابوتاً تحمل فيه جثتها إلى القاهرة. فقال له الحكيم ما هذا النجار؟ قال لعمل التابوت. قال: تضعونها فيه وهي في الحياة؟ قال: بل بعد موته. قال: ارجع بهذا النجار وقل للسلطان عني خاصة أنها في هذه المرضة لا تموت. فلما كان الليل أرسل إليه السلطان بورقة بخطه يقول فيها: ابن الفارس يحضر إلينا (لأنه لم يكن بعد سمي بأبي حليقة) فلما وصل إليه قال له: أنت منعت من عمل التابوت؟ قال نعم. قال بأي دليل ظهر لك من دون الأطباء كلهم. قال: لمعرفتي بمزاجها وبأوقات مرضها على التحرير من دونهم وليس عليها بأس في هذه المرضة. فقال: امض وطبها واجعل بالك لها. فذهب وداواها حتى عوفيت ثم أخرجها للسلطان فزوجها وولدت من زوجها أولاداً كثيرين. هؤلاء هم الثلاثة الذين أحيوا الموتى على ما وصل إليه علمي. أحدهم مصري وهو يهودي وثانيهم هندي استوطن بغداد وهو مسلم وثالثهم شامي استوطن مصر وهو نصراني. ولعلكم يا بني أمي ويا بني عمي ترشدونني إلى مسلم وقبطي في مصر قاما بهذه الكرامة أو أن يقوم فيكم من يجدد لنا ذكرها والافتخار بها.

لعل الشام ترضى؟ كأني بها تقول: مني خرج المسيح وهو الذي أحيا الموتى! أفلا تذكر لي طبيباً واحداً من هذا القبيل حتى لا أكون بين الفسطاط والزوراء لا في العير ولا في النفير. كان بها فلاح يرتزق وراء المحراث في قرية يبرود صار اسمه فيما بعد أبا الفرج جرجس اليبرودي. رأى فاصداً قد التوى عليه سد العرق فتوالى الرُّعاف على المفصود. فقال له: يا هذا إني أرى أبي في وقت سقي الكرم إذا نفتح شق في النهر لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحاً آخر ينقص به الماء الأول الواصل إلى ذلك الشق ثم يسده بعد ذلك. ففعل الجرائحي بهذه الإشارة وانقطع الرعاف. ثم قال للفلاح: لو أنك تشتغل بالطب لجاء منك طبيب حاذق. فوقرت هذه الكلمة في صدره واقبل على التعلم بدمشق وما كفاه ما حصل عليه حتى أخذ سواراً كان لأمه وذهب إلى بغداد فأنفق ثمنه على استكمال العلم وصار من أكبر النوابغ في هذا الفن. رأى يوماً في سوق جيرون بدمشق إنساناً راهن على أن يأكل أرطالا من لحم فرس مسلوق مما يباع في السوق فوقف ورآه قد أمعن في الأكل بأكثر مما تحتمله قواه ثم شرب بعده فقاعاً كثيراً وماءً بثلج فاضطربت أحواله وتفرس إنه لابد أن يغمى عليه فيصير إلى حالة يكون الموت أقرب إليه أن لم يتلاحق فتبعه إلى منزله واستشرف إلى ماذا يؤول أمره فلم يكن إلا أيسر وقت وأهله يصيحون ويضجون بالبكاء ويزعمون إنه قد مات. فأتى إليهم وقال: أنا أبرئه وما عليه من بأس. ثم أنه أخذه إلى حمام قريب من ذلك الموضع وفتح فكيه كرهاً ثم سكب في حلقه ماءً مغلياً وقد أضاف إليه أدوية مقيئة لطيفة وقيأه برفق ثم عالجه وتلطف في مداواته حتى أفاق وعاد إلى صحته. ولليبرودي هذا كرامة ثانية من هذا القبيل حكاها الطرطوشي في سراج الملوك: مر رجل يبيع المشمش على خباز في دمشق فاشترى منه وجعل يأكله بالخبز الحار فلما فرغ سقط مغشياً عليه فنظروا فإذا هو ميت وقضى الأطباء كلهم بموته فغسله أهله وكفنوه وصلوا عليه. ثم خرجوا به إلى الجبانة فاستقبلهم اليبرودي صدفة على باب البلد وسمع الناس يلهجون بقضيته فقال: حطوه ثم أخذ يقلبه وينظر في إمارات الحياة التي يعرفها. ثم فتح فمه وسقاه أو حقنه فاندفع ما هناك فإذا الرجل قد فتح عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى حانوته وأظنه تاب عن أكل المشمش ولو في المشمش. ولا شك أنه يصح لنا أن نقول عن

اليبرودي أنه فلاح وفلح. وبما أننا طرقنا باب الحياة بعد الموت فاسمحوا أن أنتقل بكم بطريق المجاز إلى عالم هو خير وأبقى. ثم نعود إلى هذه الدار بغاية التعجيل. فإنما كلامنا من باب المحاضرة والتمثيل ونحن اليوم في دار التمثيل. كثيراً ما يمتعض النصارى إذا قال جهال المسلمين عن أحدهم أنه هلك أو أنه هالك وكأني بهم أشبه الناس بعلي بك كشكش. إذ رأى صغار العامة أنه يحرن ويحرد إذا قالوا له: كشكش فصاروا كلما رأوه يقولون له: كشكش كشكش كشكش حتى ضرب أحدهم بحجر فأدماه فأخذه الثؤر والثآرير على رأي الأستاذ البرقوقي والجلواز والجلاوزة على رأيي والشرطة على رأيكم والبوليس على رأينا جميعاً وساقوه كلهم إلى الحاكم فأخذ في تقريعه فقال له: لست بملوم يا سعادة الباشا. فقال: كيف ذلك. قال: صلّ على النبي. قال المحافظ: اللهم صل عليه. قال: زد النبي صلاة. قال: عليه الصلاة والسلام. قال: ثم زده صلاة: قال: صلى الله عليه وسلم. قال: كرر الصلاة فهي عبادة. فانفعل المحافظ وانتهر علي بك. فقال له: ويحك يا مولاي أنت حزنت من الصلاة على النبي وهي خير ما يتقرب به العبد إلى الرب فكيف بي وكلما مشيت خطوة سمعت كشكش كشكش كشكش. تعلموا يا بني عمي أن كل حي إلى الممات يصير وأن هذا الانتقال إما أن يكون بفعل فاعل أو بحكم انتهاء الأجل. ففي الحالة الأولى يستعمل اللفظ الموافق لإزهاق الروح مثل قُتل، صلب، شُنق، خوزق، الخ. . أما في حالة الجهاد والاضطهاد عند المسلمين والنصارى فيقال: استشهد وتنيح. وفي الحالة الثانية يقالك مات وقبض وتوفي وهلك وحضرته الوفاة وغير ذلك من التعبيرات التي تتحلى بأنواع الكنايات. نقطة الخلاف في هلك. ولا أكتمكم أنني مع هذه النقطة مثل بعض علماء النحو مع حتى: أعني أنني أهلك وفي نفسي شيء من هلك بل اللهم شيئان أولهما فلسفي اجتماعي وهو الذي نحن بصدده الآن فإنه أوجب انفراج الخلف وسوء التفاهم بين أبناء الوطن الواحد وثانيهما لغوي إذا أزحنا الريب العالق بسببه تبدد الأول وزال. يقول أهل اللغة في هلك ويهلك (من باب منع وضرب) ثم تكرموا وسوغوا لنا أن نقول في الملك هلك بكسر اللام بشرط أن يكون المضارع مفتوحاً (يهلك) أي من باب علم. ثم

أمرونا أن نقول في المصدر هلكاً (بضم الهاء) وهلاكاً (بفتحها) وتُهلوكاً وهُلوكاً (بضم أولهما) ومهلكة ومهلكاً وتهلكة (بتثليت اللام في الثلاثة) واللغة مثل العلم لا دين لها ولكنها قد تكون أيضاً وسيلة للتنطع والحذلقة والسفسطة. ما هو معنى هلك بهذه التقعرات المتراكمة؟ قال الفيروز أبادي في القاموس. مات. وقال السيد مرتضى في تاج العروس ما نصه: مات تفسير لقوله هلك ولم يقيده بشيء لأنه الأكثر في استعمالهم. واختصاصه بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به بدليل ما لا يحصى من الآي والحديث أهـ. هذا هو المقر في متون اللغة وبطونها ولا أنكر أن اللغة شيء والاستعمال شيء آخر. فلننظر فيه أيضاً. فهذا كتابنا يشهد علينا فقد جاء فيه: {كل شيء هالك إلا وجهه} {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك من بعده حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله رسولاً}. والأحاديث كثيرة وليس هذا محل إيرادها. أما استعمال العرب فأكثر من أن يحصر ولكنني أمكتفي بشاهدين فذين أُعززهما بثالث. قال النابغة الجعدي في ملك العرب المنذر بن النعمان المكنى بأبي قابوس (تعريباً للفظة كيكاوس الفارسية): فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... جميع الناس والبلد الحرام وقال شاعر الإسلام في قيس بن عاصم وهو من أكابر الصحابة: فما كان قيس هُلكة هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما والوزن يساعد على قول موته موت واحد وهذا أحد المرشحين للخلافة من بني أمية يقول عن نفسه والأنانية طبيعة في الإنسان فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا وكان له مندوحة إذا قال: فإن أُقبض وهذا أبو نواس يقول عن سائر الناس: ألا كل حيّ هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وكان له مندوحة واسعة أن يستعمل: ميت وميت ومائتين. وبعد فها هي كتب السلف الصالح بين أيدينا جميعاً. نرى المسعودي في مروج الذهب والتنبيه والإشراف يقول هلك

(بالهاء واللام والكاف) عن خلفاء المسلمين فضلاً عن كثير من الصحابة والتابعين وأكابر الأمة الإسلامية ومثله ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد. وها هو ابن قتيبة في كتاب المعارف يقول هلك (بالهاء واللام والكاف أيضاً) عن الحارث بن كلدة طبيب العرب وعن عبد الله بن أبي بكر الصديق وعن بلال مؤذن الرسول عن عبد الله وسالم وواقد وبلال أبناء عمر بن الخطاب وعن عمرو وعبد الله وعبد الملك أبناء عثمان بن عفان وعن محسن بن علي بن أبي طالب وعن طلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعن عروة ومصعب ابني الزبير بن العوام وعن معاذ بن جبل وابنيه وعن حذيفة بن اليمان وكلهم من جلة الصحابة وأكابرهم. وهذا مؤرخ المحدثين ومحدث المؤرخين ابن عساكر يروي في تاريخه عن عمر بن الخطاب (وحسبي ن أقول عمر بن الخطاب) ما قاله العباس أخو عمر بن الخطاب. قال سألت الله حولاً بعد ما هلك عمر أن يريني عمر بن الخطاب وقال ابن عساكر في موضعين آخرين: فلما كان اليوم الذي هلك فيه عمر بن الخطاب وهلك عمر بن الخطاب فهذا اللفظ شائع مستفيض ولكن اصطلاح المتنطعين هو الذي جعل في النفوس حزازات لا أصل لها. فإذا رجعنا إلى اللغة الصريحة والسنة الصحيحة زال ما في القلوب من غل فأصبحنا أخواناً على سرر متقابلين. فما أحرانا يا بني أمي ويا بني عمي بعد هذا البيان أن نقول لمن يؤذيه هذا اللفظ من الأقباط وسائر الذميين: كشكش! وأن نقول للمتنطع باستعماله من المسلمين. صل على النبي! ما يحلو الكلام إلا بالصلاة على النبي. فإن الشيخ المكين جرجس ابن عميد بن أبي المكارم بن أبي الطيب السرياني النصراني المصري كلما ذكر النبي أعقبه بقوله: صلى الله عليه وسلم وبقوله عليه الصلاة والسلام ولما ذكر وفاته قال: انتقل إلى رحمة الله ورضوانه وإذا جاء في سياق الحديث اسم واحد من الصحابة أو الأئمة أو الخلفاء أو شيوخ الإسلام دعا لهم بالرحمة والبركة والرضوان وذلك في كتابه المشهور عند غيرنا المجهول عندنا فقد طبعه أهل أوروبا باللغة العربية مع ترجمته باللاتينية بمدينة ليدن من أعمال هولاندة سنة 1625 ثم نقلوا ترجمته اللاتينية إلى اللغة الفرنساوية في سنة 1675 ولا يزال العرب والمصريون إلى الآن محرومين من ورود مورده الأصلي مع أنه مكتوب بلغتهم وقد جاراه في هذا السبيل ابن العبري في كتاب

مختصر الدول الذي طبع مع ترجمته اللاتينية في أكسفورد بإنكلترا أولاً في سنة 1663 ثم ترجموه إلى الألمانية في سنة 1783 وبقي عزيزاً على العرب حتى تفضل بطبعه اليسوعيون في بيروت بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1890. جرنا الكلام بمناسبة أو بغير مناسبة إلى ذكر الشيخ المكين والإشارة إلى تأليفه المفيد الذي سماه تاريخ المسلمين وهو من سوء الحظ عندنا في مصر من أندر النوادر. صدَّر هذا الفاضل كتابه بهذه الديباجة: بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيقي الحمد لله المقدس بجميع اللغات الممجد في سمو عرشه من سائر المخلوقات المتميز بوجوب الوجود عن جميع الكائنات المتفرد ببديع السماء وشريف الصفات المتعالي في عز عزه وجلال كبريائه عن الأشباه والنظراء بماله من الجبروت والعظمة والكبرياء أحمده حكم شاكر على ما أولى من النعماء وأجزل من العطاء. والمكين إنما جاء بكتابه متمماً ومكملاً ومصدقاً لكتاب نظم الجوهر الذي ألفه البطريرك القبطي ابن البطريق المتبحر في فنون الطب وفي مقالات النصارى والاختلافات الديانين الكائنة بين فرقهم المتشعبة. وقد رأيت كتابه في دير النطرون أثناء رحلتي إلى ذلك الوادي في سنة 1894 وتركت عند بعضهم دراهم يسيرة لاستنساخه ثم تولاني وتولى صاحبي القبطي نسيان إلى الآن فلست أذكره ولا هو يذكرني ولن أذكره فإنه لم يذكرني. ولا بأس علينا في بقاء هذا الكتاب في تلك الجوالق والأعدال إذ قد سبقنا الإفرنج فطبعوه مع ترجمة اللاتينية بمدينة أكسفورد إحدى عاصمتي العلم بإنكلترا في سنة 1659 وإن كانت مصر وأهلها لا تزال محرومة منه. ألف البطريرك هذا الكتاب لأخيه عيسى وصدَّره بمخاطبته فقال: بسم الواحد الأحد السرمدي وبه نستعين ألهمك الله يا أخي من الأمور البهية أحسنها وأوفقها وصرف عنك من المحزنات الردية أعظمها وأوبقها وجللك من الستر أعمه وأدام لك من العز أعظمه وافاء بالدارين سهمك وفي الحالين قسمك وفهمك جميع ما يرضيه ولا أفرزك من حوله بما يستقصيه فهمت ما أمرت برسمه لك أسعدك الله بلبوس الفضيلة وطهرك من التردي بأطمار الرزيلة. . إلى أن قال أول ما نبتدئ بحمد ربنا ويا ربنا وخالقنا ومحيينا جل ثناؤه إذ كان حمده تقدس اسمه مفتاحاً

لجميع الكتب والرسائل نسأله عز وجل العون لنا على ذلك بجميل عاداته والمجد لله أهل المجد ووليه الراجي به شكراً من عباده مقدر الأشياء من قبل كونها ومدبرها من بعد حدوثها الذي جعل الرحمة والعدل من سنن الحق وأمر بهما وجعل الفسق والجور من سبيل الباطل ونهى عنهما. فالحمد لله المتفرد بالوحدانية فهو عز وجل بجوهره الأدبي وحكمته القديمة وحياته الأزلية مستحق الحمد والثناء ومستوجب المحبة والثنا الذي لم يجعل في ناموسه شبهة تقتضي شكاً ولا في شريعته ارتياباً يوجب اختلافاً بل جعله واضحاً بيناً للشعوب على اختلافهم بالأسباب والجهات وعلماً ظاهراً لسائر الأمم على تباينهم في الكلام واللغات بما أظهر على يدي أنبيائه ورسله وما بعثه إليهم من المعجزات ومهولات الآيات ودعا إلى دينه ووعد بجميل النظر لمن آمن به وأوعد بسوء المنقلب لمن انحرف عنه وجحده حمداً يمتري من المزيد لإحسانه ويقتضي الزلفى لديه وإياه أسال وإليه أرغب في خلوص نياتنا لقبول ما يرضيه وصرف طوياتنا إلى ما يعود إلى العمل بطاعته. أفرأيتم هذا الإنشاء البديع وهذا الدبيج الجميل الذي يرتضيه أكابر العلماء والأدباء من المسلمين؟ بل فما بال أخواننا الأقباط هجروا العناية باللغة وأنزلوها إلى ما هو متعارف في الدواوين وجرونا وراءهم في التدلي حتى إذا حاولنا إعادة بهجتها في الرسميات لم يتفاهموها ولم نتفاهمها؟ أفيظنون أنها من الدين؟ كلا وربكم وقد أتيتكم بشاهد مكين من ابن المكين وعززته بشاهد آخر عن طريق ابن البطريق. فهي الآن لغتهم شاؤوا أو لم يشاؤوا وليس لهم عنها من محيد بل شأنها في رقبتهم وفي لسانهم شأن ذلك الرجل القادم على القطار من الصعيد إذا قال لجماعة من الأقباط المتحذلقين: أسقف على قلبكم. وسأسرد لكم شيئاً عن المكين وابن البطريق فيما يتعلق بعلائق الارتباط بين المسلمين والأقباط لتعلموا أنهم كانوا سواء في الشدة والرخاء. وسأذكر لكم عنها أشياء كثيرة في عرض هذه الخطبة الطويلة أبدأ بالفتح الإسلامي فهو مفتاح كلامي ثم أشرق وأغرب وأصوب وأصعد وأنجد وأتهم وبعد ذلك أكر على مصر حتى أصل إلى هذا العصر. روى ابن البطريق أن أبا عبيدة بن الجراح خرج من القدس إلى حمص ومنها إلى قنسرين فكتب إليه بطريقها يطلب الموادعة على نفسه سنة حتى يلحق الناس بهرقل الملك ومن أقام فيها فهو ذمة وصلح. فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك فسأله البطريق وضع عمود بين الروم

والمسلمين بحيث لا يجوز لأحد من الفريقين أن يتعداه إلى الآخر. وقد صور الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه. فرضي أوب عبيدة، واتفق أن نفر من المسلمين كانوا يتمرنون على الفروسية إذ مر أحدهم وهو أبو جندل سهل بن عمر على العمود. فوضع زج رمحه في عين تلك الصورة غير متعمد لذلك ففقأ عين التمثال. فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين ونقضتم الصلح وقطعتم الهدنة التي كانت بيننا وبينكم. فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ قال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم. فقال لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر. فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك. فصورة الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود. واقبل رجل ففقأ عين الصورة برمحه. فقال البطريق: قد أنصفتموه وبعد سنة أقاموا على الصلح والذمة وبهذه المثابة استبقى أبو عبيدة بسياسته أهل البلد فلم ينزحوا عنها. وقرأت في كتاب الدروس الجغرافية لتلامذة المدارس الابتدائية لسيدي وأخي رشاد بك المطبوع في سنة 1889 أن مدينة بلبيس هي ثاني موضع قاتل فيه عمرو بن العاص بأرض مصر نحواً من الشهر ولما فتحها ورأى في جملة سباياها ابنة المقوقس ردها في جميع مالها مكرمة إلى أهلها. وروى المكين أنه حينما كان عمرو بن العاص محاصراً للإسكندرية اقتحم حصناً منها فجاشت الروم عليهم وأخرجوا العرب منه وفي أثناء ذلك أسروا عمر بن العاص ومسلمة ابن مخلد ووردان مولى عمرو ورجلاً آخر. ولم يعرف الروم من هم فقال لهم البطريق: إنكم قد صرتم أسارى فعرفونا ما الذي تريدون منا؟ فقال لهم عمرو: إما أن تدخلوا في ديننا وإما أن تعطوا الجزية وإما أن نقاتلكم إلى أن نفيء لأمر الله. فقال واحد من الروم للبطريق: أتوهم أن هذا الرجل أمير القوم فاضرب عنقه. ففطن وردان لكلامه وكان يحسن الرومية وعمرو بن العاص لا يعرف شيئاً منها. فجذب عمراً جذبة شديدة ولكمه. وقال له: ما لك ولهذا القول وأنت أدنى من الجماعة وأقل فاترك غيرك يتكلم فقال البطريق في نفسه. لو كان هذا أمير القوم ما كان يفعل به هكذا. وقال مسلمة أن أميرنا قد كان عزم على أن ينصرف عن قتالكم وبهذا كتب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأراد أن يوجه

إليكم بعشرة قواد من أكابر القوم من يتفق معكم على شيء تتراضون عليه. فإن أحببتم ذلك فأطلقونا حتى نذهب إلى أميرنا ونعلمه بما صنعتم بنا من الجميل ويتفق الأمر بينكم على ما نحب وتحبون وننصرف عنكم. فتوهم البطريق أن هذا الكلام حق فأطلق سبيلهم رجاءً أن يأتي العشرة قواد فيقتلهم ويتمكن حينئذ من العرب. فلما خرجوا قال مسلمة لعمرو يا عمرو لقد خلصتك لكمة وردان. أقول وشبيه بذلك ما رواه ابن العبري من أن حاتماً ملك الأرمن خرج عن مدينة سيس قاصداً معسكر المغول ليؤدي الطاعة لملكهم. فخرج متنكراً مع رسوله له بزي بعض الغلمان وأخذ على يده جنيباً يجذبه خلف الرسول لأنه كان خائفاً من السلطان صاحب الروم. وكان الرسول كلما مر ببلد من بلاد الروم (آسيا الصغرى) يقول أن الملك حاتم أرسله على ملك التتار ليأخذ له الأمان فإذا أمنه توجه هو بنفسه إلى حضرته. قال ابن العبري: حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين من عودته من خدمة مونككاقاآن. قال عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني أحد من أهلها قط غلا لما دخلنا مدينة أرزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا. فقال: إن كانتا هاتان عيني فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت إلي ولطمني على خدي وقال: يا نذل صرت تتشبه بالملوك فاحتملت اللطمة لأزيل بها ظن من كان ظنه يقيناً. (للكلام صلة)

تهذيب الكلام

تهذيب الكلام قال زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد المشهور بابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654 في كتابه تحرير التحبير الذي فرغ من تعليقه بمصر في مستهل سنة أربعين وستمائة وهو من أجمل كتب البديع ومن أهم مخطوطات دار الكتب المصرية في باب التهذيب والتأديب: التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل فيغير منه ما يجب تغييره ويحذف ما ينبغيب حذفه ويصلح ما يتعين إصلاحه ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه حتى تتكامل صحته وتروق بهجته. فإن رزق من ارباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن وغوص فكر وكمال عقل واعتدل مزاج وحسن اختيار ووقف على أقوال النقاد في حقيقة لابلاغة وكنه الفصاحة وما عُدَّ من محاسن الكلام وعيوبه ووقي شح نفسه بحيث يطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه فإن كلامه موصوفاً بالمهذب منعوتاً بالمنقح وإن قلَّ ابتكاره للمعاني. وقد كان زهيراً معروف بالتنقيح فإنه يروى أنه كان يعمل الفصيدة في شهر وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمي شعره الحولي المحلى ولا جرم أنه قلما سقط منه شيء ولهذا أشار أبو تمام بقوله: خذها ابنه الفكر المهذًَّب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب فإنه إنما خص بتهذيب الفكر في الدجى لون الليل أنه تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعاً والخاطر خالياً ولاسيما في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من راحة وتنال قسطها من النوم ويخف عليها ثل الغذاء فحينئذ يكون الذهن صحيحاً والصدر منشرحاً والقلب منبسطاً. واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهماً من الراحة لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الضوء وببعض ذلك يتقسم الفكر ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب ويتفرق مجتمع الهم ووسط الليل خال عما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل. قال وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر. كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها وإيضاح ما أشكل منها

وزيادات يفتقر إليها فحررت منها ما يجب تحريره وأضفت غليها ما يتعين إضافته وذكرتها في كتابي المنعوت بالميزان في الترجيح بين كلام قدامة وخصومه. وعلمت أن هذا الباب من هذا الكتاب أحوج غليها من ذلك فأثبتها ها هنا بعد أن رأيت تقديم مقدمة يحتاج إليها ويجب الاعتماد عليها وهي أن الذي يجب على كل من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يعتبر أولاً نفسه ويمتحنها بالنظر في المعاني وتدقيق الفكر في استنبطا المخترعات إذا وجد لها فطرة سليمة وجبلة موزونة وذكاءاً وقاداً سمحاً وفكراً ثاقباً وفهماً سريعاًً وبصيرة مبصرة وألمعية مهذبة وقوة حافظة وقدرة حاكية وهمة عالية ولهجة فصيحة وفطنة صحيحة. ولو كانت بعض هذه الأوصاف غير لازمة لرب الإنشاء ولا يضطر إليها أكثر الشعراء لكنها إذا أكملت الشاعر والكاتب كان موصوفاً في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفسية التي إذا أضيفت لها الصفات الدرسية تكمل وتجمل من حفظ اللغات العربية وتوابعها من العلوم الأدبية كالنحو والتصريف والعروض والقوافي وما سومح به الشعراء من الضرورات التي يلجيء إليها ضيق الوزن والتزام التقفية ليعلم بما يجوز له استعماله وما يجب عليه إهماله ولينعم النظر في كتب البلاغة ليعرف محاسن اللفظ مفرداً وتركيباً ومعانيه ويحيط بما يتفرع من أصول النقد في البديع الذي هو رقوم الكلام ونتائج مقدمات الإفهام. وليجعل عمدته على كتاب الله العزيز وليميز إعجازه وأدق تمييز فإنه البحر الذي لا تفنى عجائبه ولا يظمأ فيه راكبه. منها استخرجت درر المحاسن واستنبطت عيون المعاني وعرف كنه البلاغة وتحقق سر الفصاحة وكذلك سنة الرسول عليه السلام. . وليحفظ أشعار العرب وأمثالها وأنسابها وأيامها وسائر أخبارها ومحاسن آثارها ومقاتل فرسانها الأنجاد ونوادر سمحائها الأجواد ولا غنى به عن معرفة النجوم والأنواء وعلم هيئة السماء وتعقل الآثار العلوية والحوادث الرضية والمشاركة في الطب والطبائع والحساب وما يحتاج إليه الكتاب من الفقه والحديث ونقل التاريخ الصحيح. ويكون ذلك المكتسب من وراء أشياء لا تكتسب ولا تحصل بالطلب بل هي مما يجبل عليه الإنسان من مواهب الرحمن من عقل راجح وذهن صاف ورأي سديد ينتج ذلك مزاج معتدل فيحسن اختياره

ويجود انتخابه فيتخير الألفاظ الرقيقة والمعاني الرشيقة ويتقن تأليف الكلام وتركيب الألفاظ وما بإيراد أبيات قلتهن في هذا المعنى من بأس وهي: انتخب للقريض لفظاً رقيقاً ... كنسيم الرياض في الأسحار فإذا اللفظ رق شفَّ عن ال ... معنى فأبداه مثل ضوء النهار مثل ما شفت الزجاجة جسيماً ... فاختفى لونها بلون العقار هذا إن أراد أن يُنعت فاضلاً أو يسمى أديباً كاملاً فتعلو بين العلماء درجته وتطير بين الفضلاء سمعته ويقل فتوره في لفظ الكلام ومعناه. وليحذر من أن يقف خاطره بسبب معاندة الزمان وتواتر ضروب الحدثان وتعذر المكسب وعز المطلب وتقدم الجهال واختصاص الأرزال بالأموال فيكون ذلك داعياً له إلى ترك الاشتغال وسبباً في فتور عزمه عن تحصيل العلوم وذريعة لقعوده عن رياضة نفسه واستعمال خاطره فيلحق بالأخسرين أعمالاً والمخطئين أفعالاً وأقوالاً. بل يكون اجتهاده في ذلك اجتهاد راغب في الأعمال شديد الأنفة من مساواة الجهال عاشق في تزكية نفسه مايل للتقدم بنفس العلم على أبناء جنسه وما أحسن قول القائل: تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس علم كمن هو جاهل وإن كبير العلم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل ولا بد للمجتهد من يوم يحمد فيه عاقبة اجتهاده ويحصل فيه على مراده وإن كان قصير الهمة مهين النفس قد أوتي طبعاً في العمل سليماً وذهناً مستقيماً فظن أنه يستغني بذلك عن الاشتغال ويبعد عن مماثلة الجهال إدلالاً بطبعه واتكالاً على حذقه واتكالاً على حذقه كأكثر شعراء زماننا وكتابه المنتظمين في سلك آدابه حاشا من احتفل بالأدب احتفالاً أوجب لذوي الآداب الانتفاع بهذا الكتاب فلا يأنف من عرض ما يسمح به خاطره على من يحسن الظن بمعرفته ويتحقق أن مرتبته في العلم فوق مرتبته ولا يهمل ذلك فإن خطره عظيم وفوق كل ذي علم عليم. وإن كنت في ذلك كمن يصف الدواء ولا يستعمله ويأمر بالمعروف ولا يمتثله غير أني أنهج الطريق وأحض على التوفيق لتحصل لي مثوبة الدلالة وأكسب أجر الهداية فإن الدال على الخير كفاعله والمحرض على العمل كعامله. ويعتمد الراغب في نظم الشعر وإنشاء النثر في وقت العمل على وصية الإمام أبي تمام

الذي وعدت سلفاً بنشرها وهذا أوان ذكرها وهي ما أخبر به الثقة عن أبي عبادة البحتري الشاعر أنه قال: كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع فيه على طبع سليم ولم أكن وقفت على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت على تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حصتها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسلبت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم وتغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يحسن فيه. اجتهد في الإيضاح فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم بالعذال والعواذل والوقوف على الطلل الماحل. وإذا أخذت في مدح سي ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقاومه وأرهف من عزائمه ورغب في مكارمه وتقاض المعاني واحذر المجهول منها. وإياك أن تشوب شعرك بالعبارة الزرية والألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح خاطرك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر لشعرك بما سلف من أشعار الماضين فما استحسنه العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى. وكنت قد جمعت فصولاً يحتاج إليها العاقل في البلاغتين والراضع في الصناعتين من عدة كتب من كتب البلاغة وصرفت منها ما لا يحتاج إليه ونقحتها وحررتها وها هي: ينبغي لك أيها الراغب في العمل السائر فيه من أوضح السبل بأن تحصل المعنى عند الشروع في تحبير الشعر وتحرير النثر قبل اللفظ والقوافي قبل الأبيات ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص وروي مقصود وتوخ الكلام الجزل دون الرذل والسهل دون الصعب والعذب دون المستكره والمستحسن دون المستهجن. ولا تعمل نظماً ولا نثراً عند الملل ولا

تؤلف كلاماً وقت الضجر فإن الكثير معه قليل والنفيس معه خسيس. والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت وإذا عُنف عليها نزحت. واكتب كل معنى يسنح وقيد كل فائدة تعرض فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق ولمعة الطرف إن لم تقيد شردت وندّت وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت والترنم بالشعر مما يعين عليه قال الشاعر: تغنَّ بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار وقد يكلُّ الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر عليَّ الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً فإن كان كذلك فأتركه حتى يجيئك عفواً وينقاد إليك طوعاً. وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ واعمل في أحب الأغراض إليك وفيما وافق طبعك والنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطي على الرهبة. واعمل الأبيات متفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر ثم انظمها في الآخر واحترس عند جمعها من عدم الترتيب. وتوخ حسن النسق عند التهذيب ليكون كلامك آخذاً بعضه بأعناق بعض فهو أكمل لجنسه وأمتن لرصفه. واجعل المبدأ والمخلص والمقطع فإن ذلك أصعب ما في القصيد. واجتهد في تجويد هذه المواضع وتجنب معاريض أرباب الخواطر وتعاودهم عليها وميز في فكرك محط الرسالة ومصب القصيدة قبل العمل فإن ذلك سهل عليك واستعدها أولاً ونقحها ثانياً وكرر التنقيح وعاود التهذيب ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر. فقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين وينقحها في شهرين اقتداء بزهير فإنه كان راويته. وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل حتى قيل لشعره المنقح الحولي أو الحولي المحلى. واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً. ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله فتظهر عليه الكلفة ويبين فيه أثر المشقة وتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني واجتهد في تقويم المباني فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان وإن عسر ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه وتباينت في التقفية مقاطعه فقد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام

واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم رائقة وفصولهم متقابلة وجمل كلامهم متماثلة. وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء. ولا تجعل كل الكلام عالياً شريفاً ولا وضيعاً نازلاً بل فصله تفصيل العقود فإن العقد إذا كان كله نفيساً لا يظهر حسن فرائده ولا يبين كمال واسطته. وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع صفات البلاغة الثلاث ليظهر فضل كل طبقة في بابها ويبين محكم أسبابها ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها تعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء ويربي عليها فإن الكلام إذا كان منوعاً افتتنا الأسماع فيه ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه. واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواح. فإذا قويت الألفاظ فق المعاني وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام وتتناسب في الإفهام. واقصد القوافي السهلة المستحسنة دون المستصعبة المستهجنة والأوزان المستعملة الحلوة دون المهجورة الكزة فإن الشعر كالجواد والقوافي حوافره والألفاظ صورته والمعاني سرعته والأوزان جملته. واجعل كلامك كله كالتوقيعات وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل وفي المحاسن أرشق وأجول وبالأسماع أعلق وبالأفواه أعبق. وإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت أو معظمها وغير القافية والوزن وزد في معناه وانقص من لفظه واحترس مما طعن عليه به لتكون أملك له من قائله وإذا تقربت الديار تقاربت الأفكار. ولهذا قيل الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر. واعلم أن من الناس في شعره في البديهة أبدع منه في الروية ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة وقلما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع وإذا كاتب قصر. ومنهم ن بضد ذلك. ومن قوي نظمه ضعف نثره ومن قوي نثره ضعف نظمه وقلما يتساويان. وقد يبرز الشاعر في معنى من معاني مقاصد الشعر دون غيره ولهذا قيل أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب وعنترة إذا كلب والأعشى إذا طرب. وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب واستعمال اللفظ الوحشي فإن خير الكلام ما سبق معناه

القلب قبل وصول جلته إلى السمع. وليكن كلامك سليماً من التكلف بريئاً من التعسف. وليحظ لفظك بمعناك وتشتمل عبارتك على مغزاك. واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه فإن البلاغة لمحة دالة. وقيل سرعة جواب في صواب. وقيل أن تقول فلا تبطئ وأن تصيب فلا تخطئ. والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق وأسهلها. والعي إكثار من مهذار وأخطء بعد إبطاء كما جاء في في المثل سكت ألفاً ونطق خلفاً وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانية. وقيل في آخر: كان إن أخذ شبراً كفاه وإن أخذ طوماراً أملاه. واستعمل التطويل في مكانه والتقصير في مكانه فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً كان التطويل عياً وإذا كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً. وإياك أن تفرط فإن فرطت قصرت أو تفرط فإن أفرطت كثرت وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت وجيزة ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت رسول الله صلى الله عليه وسلم: به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد وطوراً بإيجاز تبث لذي حجى ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد وفي الجملة مهما كان الإيجاز كافياً والمعنى به واضحاً فالإحاطة إن لم تكن عياً كانت عبأ ولم يزل إجلاء المتقدمين يحمدون ذلك ويذمون ما سواه ويدل على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى. ويصعد فيه نظره ويصوبه وقال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلي وقال: يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه مني فقلت: نعم وقى الله أمير المؤمنين المكاره وأعاذه من المخاوف فقال: إنه لا مكروه في الكتاب ولكن قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله بقوله في البلاغة فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة والقرب من البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى. وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إليّ وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا قال: فقرأته فإذا فيه: كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند حُزنت أرزاقهم وانقياد كافة تراخت أعطياتهم فاختلت لذلك أحوالهم والتأثت معه أمورهم. قال: فلما قرأه قال لي: يا

أحمد إن استحسان هذا الكلام بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطياتهم لسبعة أشهر وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه محله في صناعته. وروي أيضاً عن المأمون أنه أمر عمرو بن مسعدة الكاتب هذا أن يكتب لرجل يُعنى به إلى بعض العمال بالوصية عليه وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد فكتب عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه معني بما كتب به ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله إن شاء الله تعالى. وقد كان جعفر بن يحيى مع تقدمه في هذه الصناعة يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيعات فافعلوا. وأما قول قيس بن خارجة لما قيل له ما عندك من حمالات داحس فقال عندي قرى كل نازل ورضى كل ساخط وخطبة من له من طلوع الشمس إلى ا، تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع فإن ذلك لم يخرجه مخرج المدح للإطالة المذمومة لأن الإطالة المذمومة هي إطالة العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة. وإنما أراد قيس الإكثار من المعاني فإذا كثرت المعاني احتاج المتكلم إلى كثرة الألفاظ للعبارة عنها ولإيضاحها وليوفي بمقصوده فيها. ومتى أطال الكلام لذلك كانت إطالته بلاغة لا عياً فإن حقيقة البلاغة إيجاز من غير إخلال وإطناب من غير إملال لاسيما خطب الإملاكات والسجلات التي تقرأ على رؤوس الجماعات. أهـ.

أقسام التاريخ

أقسام التاريخ التاريخ فرع واسع من أهم فروع الأدبيات المنثورة ينتهي بوقائعه المتسلسلة إلى درجة المشاهدات من حيث التحقيق والبحث. وعليه فتكون كلمة استوريا التي يقصد بها الروم البحث عن الحقيقة ـ منطبقة كل الانطباق على هذا العلم وموافقة كل الموافقة لموضوعه. وبعد فإنا نرى أن التاريخ تلك الأقاصيص والنقول التي تأتي في عرض أناشيد الملاحم وعلى ألسن الفصحاء بل لا بد للحوادث التي يرويها التاريخ من الاستناد على أبحاث علمية معروفة وشهادات مزكاة وثيقة فله في البحث عن الوقائع وتثبيت الحادثات مقاصد كما أن لأصول ضبطه شرائط عامة كثيرة. ليس للتاريخ أن يوغل في زوايا هذه الطبيعة الغنية فيضبط من حوادثها ما يتجلى كل يوم في مئات من ألوانها وصورها والألوف من أشكالها وهيئاتها بل أن غايته الوحيدة تدوين حياة الأفراد المتميزين بقوة ذكائهم وقوة إرادتهم أولئك الذين تقدموا أشواطاً في سبيل النشوء ولو عادت ثانية مضت من الزمان لرأتهم أرقى مما كانت تعهدهم. أما الكائنات التي لم تمنحها العوامل والمؤثرات خاصة التدبير والذكاء فتسير وقائعها بسائق طبيعي متأثرة بمؤثر واحد سارية على مجرى واحد وماثلة في صورة واحدة. وإن البحث في ماضي هذه لا يجدي التاريخ نفعاً لأن هذا القسم من الخليقة متساوي النسق والأسلوب في كل زمان ومكان. فإن أفاد البحث فيها فالفائدة تعود على العلم وليس للتاريخ منها شيء ولعل بعضهم يسأل هنا قائلاً: إذا كان التاريخ لبا يبحث في حوادث الطبيعة المطردة فلماذا دعي القسم الكبير من علومها ـ الحيوان والنبات والجماد ـ بالتاريخ الطبيعي وأي علاقة للتاريخ بهذه الحوادث القانونية المطردة؟ والجواب عن ذلك أنه لا محل لهذه التسمية هنا وليس للتاريخ فيها دخل البتة وإنما هو اسم اصطلح عليه خطأ في هذا القسيم من العلم فحادثات تكون الكائنات ونشوؤها وتبدل المواسم وفصولها وكل قطعة محدودة من الأرض وكل ما عظم أو دق مقياسه ومقداره من سيارات السماء وثوابتها الزاهية وصفحات الفضاء ومناظرة البهجة كل هذه ليست من التاريخ في شيء ولئن دخل قليل منها في التاريخ فإنها تدخل بعض أحوالها المتعاقبة ومكتشفاتها المهمة التي لا تزال أدوارها مجهولة عندنا. وعلى هذا فالتاريخ يبدأ من حيث ينتهي العلم وليس في أقسام التاريخ (تاريخ إلهي) لأنه لا ماضي للألوهية فيسطر ولا حال لها فيحرر بل هي هي المتجلية في كل شيء وما أجمل

قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وبذلك استبان أن مجال التاريخ هو (ساحة التبدل الاختياري) ليس إلا. وإن للنوع البشري قوة إرادة وإن اختلفت قوة وضعفاً لا تكون فيما هو عامل فيه من النواميس العامة بل في غير ذلك من حركاته وسكناته. من أجل ذلك ترى هذا النوع معرضاً للبحث التاريخي من حيث علم أجناس البشر والبحث العلمي من حيث علم النفس. هذا يبحث في الإنسان من حيث العوامل الناشئة عن القوانين العامة المنقاد لها وذاك يشتغل بفحص ما في حركاته الاختيارية من الأسباب المتحولة من السباب المتغيرة ونتائجها ويظهر لنا ما قرب إلى التوفيق من هذه الحركات وما لم يقرب وما كان مصيباً منها وما كان مخطئاً وهو يضبط الروابط الموجودة بين هذه الحركات كلها. كانت الأمم فيما مضى تجل التاريخ وتعظمه حتى فتحت لتقدمه السبل وأزالت من طريق رقيه الموانع قال شيشرون الخطيب الروماني الشهير التاريخ شاهد الأزمنة ونور الحقيقة وحياة الذكرى وحاكم العمر وبريد القرون وكان هذا الخطيب ينظر إلى التاريخ بأنه ظهير الفلسفة وأنه مدرسة الفضيلة. وكان يعد التاريخ منهجاً من مناهج البيان وقسماً من أقسام الفصاحة لعظمة الدروس التي ألقاها التاريخ وفخامة موقعها ولطالما قال: لا خطيب أكثر عظمة وأوفر احتشاماً من التاريخ. بمثل كلمات شيشرون هذه انتشر بين أهل العلم في العصور الموغلة في القدم أن التاريخ محل البلاغة وأدخله تلاميذ أيزوقراط في عداد العلوم التي يجب على الخطيب أن يعنى بها فكان بذلك ركناً للأدب. كان الأقدمون من المؤرخين يتعمدون في التاريخ إجادة البيان من جهة والمحافظة على الواجبات الوطنية والنتائج الأخلاقية من جهة أخرى. أما الحقائق الواقعة في نفس الأمر فقلما كان يبحث عنها فكانت مصنفاتهم إذن تزدان في نظرهم إذا خدمت الفلسفة أو ذبت عن شرف القومية والوطنية ليس إلا. هم يسلكون في التاريخ طريقاً توصلهم إلى الذروة القصوى من الفصاحة فيفرغون أضخم كلمات المجد وأكبر ألفاظ الفخفخة كما هو الحال في نقلهم حياة الرؤساء والأمراء وأنهم

لينسبون إليهم جملاً وقطعاً ما قالوها ولن يقدروا على أن يأتوا بمثلها وأنك لترى المؤرخ منهم يفادي بالحقيقة التاريخية سعياً وراء كلمة جميلة يلذ له طنينها في أذنيه ناسياً أو متناسياً أن ما يسمى بالتاريخ هو علم الكوائن وتصوير الحقائق وأنه في حاجة قبل كل شيء على مظان صحيحة ومستندات موثوق بها وأسس راسخة فيجب من ثم على المؤرخ مهما كانت نحلته وشعوره ومقصده أن يبحث في مثل المظان من غير تطرف ولا تعصب. وذلك لأن التطرف والتعصب والذلاقة ليست من حاجيات المؤرخ ومذهبه في شيء وإنما البلاغة والتأنق في القول من صنعة الأدباء والشعراء والمطالبة بالفضيلة من وظائف الأخلاقيين والدفاع عن شرف الوطنية والمكانة القومية من واجبات رجال السياسة فيها وما المؤرخ إلا الذي يمحص الحقيقة ويتمحض لإثباتها. ولقد التزم فنيلون أحد فلاسفة لويس الرابع عشر أسلوب شيشرون الخطابي في كتابه مبحث الوجود الإلهي فاتخذ ذلك دليلاً على أن التاريخ كان على عهد فينلون في دور صباه ولا يكون المؤرخ مؤرخاً حتى يثبت الوقائع التي يناقش في صحتها مناقشة منطقية ويفحصها فحصاً علمياً مدققاً ببيان سلس ونثر مرسل وسليقة معتدلة. قال المسيو باتان المشهور بمباحثه في أصحاب الملاحم من الروم المتوفى سنة 1876: ليس التاريخ عبارة عن سرد بعض القصص وذكر الأيام المشهورة والحوادث المأثورة ولا تلفيق ما يسقط عليه الرجل عرضاً من الأقوال عن حياة المشاهير بل التاريخ هو ذلك الميدان الذي تظهر فيه الأمم بعاداتها وأخلاقها ومزاياها ومعايبها مشروحة تتجلى بكل وسائل العلم حتى كأن القارئ من أهل البلد الذي يكتب تاريخه أو من معاصري من يدون ماضي حياتهم وكذلك يجب التاريخ أن يكون. وإنك لتعلم أن مدون هذا التاريخ تعوزه المواهب النادرة والنظر البعيد وسبر غور الأمور. لا يبحث التاريخ اليوم عن طرز معيشة الأمم والبيوت فقط بل يتجاوز ذلك إلى تعريف درجة الرقي العام في الأشياء أيضاً فإذا بحث المؤرخ في ماضي شعب يجتهد في أن لا يجمد أمام وقائعه المهمة وحوادثه الكبيرة بل ينتقل من ذلك بغتة إلى وزن أخلاقه وعاداته ومشاربه وإلى ذكر روابطه مع سائر الأمم الأخرى. هذه المباحث هي ألياف النسيج الحيوي في الأمم المتحضرة وغير المتحضرة.

ومن هنا يتجلى للقارئ أن هذه المواد المنوعة في حاجة إلى ترتيب حسن وفكرة نافذة دقيقة وحكم عقلي متين قادر على البحث عن الأسباب المتضاربة ووضعها موضع النظر وإلى قلم بعيد عن الأغراض كأنه جلمود إذا كان سبيل لتغلب العواطف عليه ومثل هذه المزايا متوقفة على مقدار قابلية أولئك المؤرخين الذين جمعوها في نفوسهم فاستخرجوا من كتلة الحوادث المتسلسلة سديماً نقياً وأرسلوها نفثة البيان والوضوح النوراني على العالمين. وإن للتاريخ من حيث موضوعه وأصوله أقساماً عديدة أهمها انقسامه إلى عام وخاص يبحث الأول في أدوار البشر الثلاثة المعلومة ويشمل تاريخ عامة الشعوب والدول. أما الثاني فلا يعنى إلا بأمة واحدة أو بلدة معينة أو بأسرة معروفة ووقعة مشهورة. ويسمون التاريخ الذي يذكر الحوادث مرتبة حسب زمن حدوثها كرونولوجيا وإذا بحث في نشوء شعب واحد وانتشاره يقال له أيتنوكرافيا وإذا أفاض في كوائن الأمم كلها الحادثة في زمن معين يدعى سينكروفيا. وإذا قايس بين وقائع مختلفة ظهرت في أزمنة متباينة سمي التاريخ القياسي وإذا أظهر الأشياء في صورتها الأصلية فهو التاريخ المصور وإذا توحى إرجاع نتائج الوقائع إلى أسبابها يقال له براكماتيك وإذا ربط الأسباب بالنواميس العامة في البشر والطبيعة يسمى التاريخ الفلسفي وهكذا تختلف أسماء المصنفات التاريخية باختلاف موضوعها فتسمى تقويماً ومذكرة وترجمة حال وما أشبه. ولا نقصد هنا إلى أن نطيل القول فنكتب تاريخ التاريخ. على أننا لو بحثنا في مبدأ التاريخ لوجدناه ممزوجاً بالشعر كما هو الحال في جميع أنواع الأدبيات المنثورة فابتداء التاريخ إذن هو الملاحم التي هي من أنواع الشعر وذلك هو ابتداؤه في الأدوار القديمة عند الهنود واللاتين والفرس ولم يتجرد كثيراً عن هذه الكسوة القصصية عند بعض أمم المشرق إلى يوم الناس هذا لأن التاريخ لم ينسلخ عن منظومات الملاحم عندهم إلا قليلاً وأن ذبالة التاريخ الحقيقي لم تكد تضيء عندهم حتى أطفئت وكذلك هيرودتس وتوسيديدس وكسنوفون كلهم لم ينجوا من دس الأساطير بين طيات الحقائق التاريخية في كتبهم الثمينة وإن كانوا كلهم استحقوا لقب المؤرخ. الأول بذكائه النقاب والآخران بتجاربهما ومتانة بيانهما. أما دانيس داليكارناس فلا أثر للتحقيق في مصنفاته وإن كان قد تلافى هذا النقص بتتبع بعض الأخبار. وكذلك شأن تيودورس من وجه هذا النقص وما يسده وان دروس

بلوتارك في الأخلاق لتستر أيضاً نقائض تاريخية أخرى وقع فيها. ثم جاء بعد هؤلاء أزمان ظهر فيها مؤرخون مدرسيون مثل كيشاردن وماكيافيل فإنهما كانا في زمانهما مقلدين خالص التقليد للأسلوب القديم. 3 وعلى هذا بقيت المصنفات التاريخية كتب بلاغة ولكنها عارية عما يؤهلها للدخول في علم التاريخ إلى فجر القرن السابع عشر حتى أن المؤرخ المشهور بوسويه نفسه كان على مثل تلك الحال ولو تناولنا أحد مصنفاته كخطبته في التاريخ العام لوجدناها نموذجاً للآداب ولكنها بعيدة كل البعد عن التاريخ. ثم جاء فولتر ووضع كتابه كارلوس الثاني عشر وكتابة لويس الرابع عشر فأظهر نموذج التاريخ الصحيح. وعندما عرف حق المعرفة أن أكثر الذين كانوا يسمون في فرنسا مؤرخين إلى القرن الثامن عشر براءٌ من هذه النسبة. وعلى العكس ترى بعض رهبان ديكتن الذي لم يكن ذكر اسمهم بتلك الدبدبة والعظمة قد تحقق اليوم أنهم هم الشيوخ الذين طرحوا بين أيدينا أصول التاريخ صامتين ساكتين. ومن هؤلاء الرجال المؤرخ جيبون الإنكليزي مشيد القصر التاريخي على الأساس المتين. عصرنا الحاضر هو مؤسس التاريخ ومحييه فعلم الآثار وعلم الألسنة والجغرافيا، وكل هذه العلوم أخذت بيد التاريخ وصعدت به درجات عالية وإن التحقيقات الصحيحة التي وضعها حكماء هذا العصر وعلماؤه قد نفحت الوقائع الماضية روحاً حية وكستها حلة ثابتة حتى تمثلت الذراري القديمة بعاداتها وأخلاقها ومطامعها وأفكارها على أسلوب أقلام تيرس وتييري وميشله وكيزومينيه. فعصرنا هذا ولا مراء عصر التاريخ قبل كل شيء. الحديدة (جزيرة العرب) محب الدين الخطيب

إصلاح التعليم في الصين

إصلاح التعليم في الصين كتب أحد الباحثين من الأوروبيين رسالة في معنى نهضة الصين إلى إصلاح التعليم القديم عندها فقال أن هذه المملكة كانت لها طريقة تامة في التعليم منذ القرن الرابع والعشرين قبل التاريخ المسيحي على عهد حكم ملوك هيا فكان لكل أسرة قاعة للدرس ولكل كورة كتاب ولكل مقاطعة مدرسة فيمتحن المتعلمون كل سنة ويرتقي الأكفاء إلى مناصب الحكومة وفي القرن الثمن قبل المسيح بطلت طريقة إعطاء الوظائف بالاستحقاق العلمي وأصبحت وراثية إلا أن كنفوشيوس حكيم تلك الأمة جاء في القرن التالي وأحيا معالم التعليم على الأصول القديمة ونظمها فأحسن تنظيمها حتى أصبحت بعده محترمة في أقطار المملكة وما زالت تعاليمه معمولاً بها وتختلف لضعف أنصارها وقوتهم في بعض القرون وبقوة البوذية والتاوستية حتى كانت سنة 1904 فأصدر الإمبراطور أمره بإلغاء الأوامر القديمة الصادرة بشأن التعليم التقليدي وبذلك ألغى نظاماً اجتماعياً جرت عليه أمته منذ خمسة وأربعين قرناً. وقد شعرت الصين منذ حروبها الأولى مع أوروبا بقلة التعليم في موظفيها وتبين للبلاط الإمبراطوري أن ذلك كان السبب الرئيسي في ضعف المملكة ولذلك عزم الإمبراطور منذ سنة 1898 أن لا يمنح الوظائف إلا لمن اطلعوا على العلوم الحديثة الأوروبية فأصدر أمره بإنشاء مدارس على الطراز الحديث وإقامة كلية في بكين على مثال كليات أوروبا وفي سنة 906 ألف نظارة معارف عمومية وكان من أثر ذلك أن توفرت العناية بتعليم البنات وكانت النساء من قبل مقصورات في بيوتهن معتبرات في نظر الصينيين أحط من الرجال وأهم ما يعلمنه في المدارس الكثيرة التي أنشئت لتخريجهن الأخلاق والمالية وأعمال البيوت والرياضيات الجسدية ويمنعن من تضييق أرجلهن منعاً قطعياً. وكثر عدد المدارس الخاصة والعامة التي أنشئت مؤخراً لتعليم الفنون المختلفة كالفصاحة والملاحة وعمل الخطوط الحديدية والبحرية والشرطة وعلم التربية واللغات الأجنبية. وساعد الأدباء والعلماء والصحافيون على خدمة أفكار الحكومة في هذا الشأن وأخذوا يؤلفون الكتب والمعاجم ويترجمون من لغات أوروبا كل مفيد لكيانهم وأخذت الحكومة والأهالي يحاولون إيجاد الأموال لهذه المشاريع ومن جملة الذرائع التي عمدوا إليها ضربهم الضرائب على محال تناول الشاي لتصرف في سبيل تعليم الأمة. وقد خطر على الأساتذة أن يهينوا التعاليم القديمة فجاء في لوائح المدارس بهذا الصدد إن للنظام الاجتماعي

والسياسي في ممالك أوروبا وأميركا واليابان صيغة خاصة به كما أ، إدارة الصين وأخلاقها لها صفة خاصة بنا فعلى كل أستاذ صيني أن لا يتفوه بكلام يعد مروقاً وكفراً ليدك بما يثبت من أفكاره بناء الصين الاجتماعي والسياسي فإذا انتقد الفضائل الأصلية والصلات العامة مع الفلسفة المشهورة (فلسفة علماء الأدب وكنفوشيوس) يحقق أمره فإذا ثبتت إدانته يحكم عليه بحسب ذنبه وحظر على التلاميذ أن يشتغلوا بالأمور السياسية ويعقدوا اجتماعات وينشروا جرائد. ولا يخطرن على بال أحد أن التعاليم القديمة سقطت في الصين بالمرة بل بالعكس زادت العناية بها على قدر العناية بالعلوم الغربية الجديدة ولا تأتي سنة 1900 حتى ينتظم أساس الإصلاح الذي وضعته مملكة ابن السماء وهي تأخذ العلم الآن عن أربع دول اليابان والولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا ولكن اليابان أقدموا على تعليم الصينيين إقداماً غريباً وفتحوا لهم المدارس في عاصمتهم بكين بالذات وغيرها من الحواضر وكل يوم يزداد عدد الطالبين والطالبات من الصينيين الذين يأتون كليات اليابان ويدرسون فيها كما أن المعلمات اليابانيات والمعلمين اليابانيين يفدون بالعشرات على المملكة السماوية ولا سيما على جنوبها.

الكتاب

الكتاب حدثنا القراء في النسخة الماضية بشيء مما عربناه من الكتاب الذي صدر حديثاً للمسيو البرسيم وها نحن ننقل لهم بعض فوائده جديرة بالنظر والاعتبار فقد قال في تأثيرات المطالعة في المرء ولاسيما ما يطالعه في صغره نقلاً عن كتاب عشاق الكتب لألفرد دي ماترون العارف بالتآليف والتصانيف: إن المرء في صباه لا يهتم بشكل الكتاب جميلاً كان أو بشعاً حسن التجليد أو سيئه بل يضحك ممن يقول له أن طبعة هذا الكتاب أصبحت نادرة وأن هذه الفقرة غريبة وأن هذه الأسفار نال مؤلفوها الجوائز عليها ولا يحتفل إلا بالفكر ولاسيما بما فيه شعور وعواطف ولا يعبأ إلا بما يرضي فؤاده ويثير عواطفه ويحركها. فأف من الفكر والجمال والتذهيب الجميل. ولذلك لا ترى مولعاً في الكتب وهو في سن العشرين لأن المرء في صباه لا يستطيع أن يعاود قراءة كتاب قرأه فلا يكاد يحسن القراءة حتى يأتي على آخر ما يقرأ ولا سبيل إلى الحكم جيداً على كتاب إلا بمطالعته ثانية وفي أدوار مختلفة من الحياة ومن ثم كان من الكتب ميزان حرارة للعقل أو للقلب. قال ألفرد دي ماترون: إن المرء في العشرين من عمره لا يكون من غلاة الكتب وأحبابها وما قاله يصح أن يكون قاعدة في هذا الباب لأن العواطف في سن العشرين تحكم على العقل بل تحكم على كل شيء فيسرع المرء في تلك السن إلى الوقوف على كل شيء ويعرف كل شيء ويقرأ كل شيء ون شئت فقل يقلب صفحات كل كتاب. ويندر في تلك السن السعيدة من يستطيعون أن يعادوا قراءة كتاب ثانية بدون أن يكرههم مكره فيأتون ذلك إما مدفوعين برغبة منهم أو لقلة ما لديهم من الكتب الجديدة أو كتب لم يقرأوها بعد ولم يتصفحوها. وقال آخر: لا يشرع المرء بمعرفة القراءة إلا بعد خروجه من المدرسة. وفتيان المطالعين لا يحبون من الكتب إلا ما حدث وضعه وقلما يرجعون إلى الكتب المؤلفة قديماً. وأورد المؤلف أسماء كثيرين أولعوا بالمطالعة منذ عرفوا القراءؤة بل منذ فطموا عن أثداء أمهاتهم مثل أسقف دافرانش هويه (1630 ـ 1721) والفيلسوف جان جاك روسو (1712 ـ 1778) والشاعر يوحنا أنطون بوشه (1745 ـ 1794) وبنيامين فرنكلين (1706 ـ 1790) وهنري بيل القصصي النقاد الفرنسوي (1783 ـ 1842) ولامارتين الكاتب الفرنسوي (1790 ـ 1869) وسيلفيو بلليكو الأديب الإيطالي (1789 ـ 1854)

وجورج ساند قصصية الفرنسوية (1804 ـ 1876) وشارل ديلون وكلهم ما كادوا يفتحون عيونهم إلا والكتاب بأيديهم بفضل تربية آبائهم وأمهاتهم الذين كان بعضهم يقرأ لهم ليسمعهم سير العظماء وأقوال الحكماء فانغرست البذور الصالحة في عقول أبنائهم وجاء منهم فلاسفة وكتاب متفردون وتبين مما استشهد به لهم من تذكراتهم أن معظمهم كانوا يعيشون الخلاء بين الرياض والغياض يطربهم صوت العندليب ويؤرقهم صوت القمري ويستفزهم خرير الماء وعليل الهواء. وقال في فصل المطالعة والتصفح: جعل سلس الطبيب الروماني في القرن الأول قبل المسيح القراءى بصوت عال من جملة الرياضيات النافعة للصحة وأن المطالعة على هذه الصورة ضرورية للفهم والذوق وذلك لأن جرس الصوت يساعد كل المساعدة على تعليق الجمل في الذهن. وقد قال العالم أرنست لوكوفه أنه لا شيء ينير عقلنا مثل القراءة بصوت جهوري ويقفنا على ضعف الإنشاء إن كان ضعيفاً وقوته إن كان قوياً وفساد الشعور المصور فيه. ففي الكلام تنشيط وفيه للأفكار إيضاح بل تحقيق وكل من يتعاطون عملاً شاقاً كالحطابين والخبازين يتحمسون بما يلقيه بعضهم على بعض من الأصوات ولا يرى دودان أن يقرأ قارئ للإنسان بل أن يقرأ بنفسه ويرى أن الطريقة الأولى أجدر بالمرضى والعميان لأن لكل قارئ نغمة يكون بها التأثير في عقله وله طريقة في الفهم والتمعن لا يقوم بها سواه. ومن العادة في بعض المدارس والأديار أن يقرأ قارئ شيئاً من الأدب والقصص والتلاميذ جلوس على المائدة وكان ذلك شأن شارلمان يتلى على مسامعه وهو على الخوان كتاب القديس أوغسطينس وكان الفيلسوف فولتير يؤثر أن يقرأ له وقال: إنني أحب هذه الطريقة لأنها كانت مألوفة للقدماء وأنا منهم. وكان الكردينال موري (1746 ـ 1718) يقول أن المرء إذا خلا بنفسه يجب أن يطالع كتباً تفيده حقيقة وإذا كان مع أخوانه فالأجدر أن يتلى عليه ما يحمسه ويهيجه لأن الناس في انفرادهم غيرهم في اجتماعهم. قال مؤلفنا: أما كتب الحكم والآراء فالأحرى بل الأفيد بأن تتلى قطعة قطعة لا دفعة واحدة وأن ترسخ بكميات قليلة فكما أن المرء لا يبلع أقراص المعاجين إلا واحداً واحداً هكذا يجب عليه أن يسير في الأخذ من كتب الحكماء. وقال الأميرلين (1735 ـ 1814) أن

الطريقة الوحيدة في مطالعة كتاب من الحكم بدون أن يمل هو أن يفتح كلما سنحت الفرصة وبعد أن يسقط فيه على ما يهمه منه يطبقه بعد تصفه صفحة أوص فحتين ويأخذ يفكر فإذا تصفحا كلها يكون أشبه بمن قلب مجموعة صور دفعة واحدة فلا يرتسم بمخيلته واحدة منها. وتختلف طريقة المطالعة بسرعة أو بتأن بلا فاصلة أو بفاصلة بقلة أو بكثرة وهذا تابع لحالة القارئ وما يقرأ وحالة بصره وقوة انتباهه وأوقاته وخطر ما يتلوه وتأثير الكتاب فيه. وإن كتاباً في الفلسفة لا يقرأ كما تقرأ قصة وخير في الكتب المملة أن تتصفح تصفحاً وكل من يعيشون بين الكتب والمطبوعات والمخطوطات ويبحثون كثيراً فيما بين أيديهم لا يسعهم إلا أن يتصفحوا تصفحاً. وكان لما كليابشي العالم الفلورنسي قيم الكتب (1633 ـ 1714) طريقة خاصة في المطالعة فإذا وقع له تأليف جديد ينظر في عنوانه ثم يرجع إلى الصفحة الأخيرة منه ويتصفح المقدمات والفهارس والتقدمات. ويلقي نظرة على كل التفاصيل الرئيسية وكان له من الوقوف على التأليف ما يتمكن معه من معرفة حقيقة المصنف في لحظة بل أنه يعرف المصادر التي أخذ منها المؤلف. ومن أرباب الاختبار في معرفة القراءة من يعرفون ماهية الكتاب من تقليب أوراقه ويدركون ما في صفحة منه من الفوائد بمجرد إلقاء النظر عليها ومنهم من يعرفون كيف يتصفحون الجرائد فلا يقع نظرهم إلا على ما يهمهم منها ولا يضيعون ثانية من أوقاتهم في النظر بما لا يفيدهم. ورأى بعض أهل العلم أن الذهن مهما بلغ من حدته يخون صاحبه في تذكر الفوائد التي قرأها فالأولى له أن يقيدها ولذلك كانت الفهارس مما يعين كثيراً على الرجوع إلى مضامين الكتاب. ومن عشاق المطالعة من لا يكتفون بتقييد الفوائد في تذكراتهم بل هم يكتبون على كل صفحة تهمهم كتابة تعلمهم على الكتاب نفسه ولكن أكثر باعة الكتب يرون هذه الطريقة مما يعوق الكتب عن بيعها إلا أن المؤلف ومحبي الاستفادة لا يهمهم إلا أن ينتفعوا من كتبهم ولو بتمزيقها وتشويهها وما الكتاب إلا أداة للتعلم يجب استخدامها على النحو الذي ينتفع به نفعاً حقيقياً بل هو رفيق وصديق تحب معارضته ومناقشته أحياناً وأن لا يسلم له كل ما يورده.

يقول الفيلسوف سينيك والأديب بلين لجون أن الإكثار من الكتب يشتت الفكر وأن عادة القراءة كثيراً تفضل قراءة أشياء كثيرة وقال لبعضهم: لا نهاية للاستكثار من الكتب ومعلوم أنه في هذا العصر الذي دعي بعصر الورق بل في هذا العصر الذي اشتدت فيه تباريح مرض جديد أي الجنون في الطبع والنشر أن الكتب تنمو وتتضاعف من يوم إلى يوم. وما أجمل ما قالت أريستيب الفيلسوف اليوناني (390ق. م) أحد تلاميذ سقراط وصاحب المذهب الأبيكوري المنسوب لمدينة سيرين: ليس من يأكلون كثيراً هم أسمن من غيرهم وأصح منهم أجساداً بل السمان هم أولئك الذين يهضمون. وهنا استشهد المؤلف بإحصاء غريب لبعض المشتغلين منذ اخترع الطباعة على القرن الماضي فقال أنه طبع في جميع أنحاء الأرض من سنة 1436 إلى سنة 1536، 42 ألف مجلد وفي سنة 1536 إلى سنة 1636، 575 ألفاً وفي سنة 1636 إلى سنة 1736 مليون و225 ألفاً وفي سنة 1736 إلى سنة 1822 مليون و839960 فيكون مجموع ما طبع زهاء ثلاثة ملايين ونصف مليون مجلد وإذا قدر معدل هذه المصنفات بثلاثة مجلدات وإن أقل ما يطبع من كل كتاب 300 نسخة فيكون قد خرج من المطابع كلها في نحو أربعة قرون 3313764000 وقدر أن ثلثيها حرق أو استعمل صرراً عند البدالين والباعة فلم يبق منها إلا ثلثها. وزيف بعضهم قوله بأن التوراة وحدها طبع منها زهاء 36 مليون نسخة وأن كتاب الاقتداء بالمسيح طبع منه وحده ستة ملايين وأنه إذا كان كتب على تاريخ فرنسا وحده ثمانون ألف مجلد فكم تكون كتب الأرض. وقدر أحد الأميركان عدد المجلدات في الولايات المتحدة كما يأتي 420 مليوناً في البيوت و150 مليوناً عند العلماء والكتاب والمخترعين و60 مليوناً عند الكتيبة والطابعين و50 مليوناً في خزائن الكتب العامة و12 مليوناً في مكتب المدارس والجامعات و8 ملايين عند التلاميذ وأن في أوروبا الغربية ملياراً وثمانمائة مليون مجلد وفي أوروبا الشرقية أربعمائة وستين مليون مجلد و240 مليوناً في سائر أقطار العالم. قال المؤلف: وبينا أهل الإحصاء يحصون ترى المطابع تصدر الكتب بالألوف فيقدر الآن ما يصدر كل سنة من الكتب في الشرق والغرب بخمسة وسبعين ألف كتاب جديد منها 25 ألفاً في ألمانيا و13 ألفاً في فرنسا و10 آلاف في الولايات المتحدة و7 آلاف في إنكلترا فلو فرضنا أن معدل ما يطبع منها ألف نسخة تكون كتب العالم قد زادت كل عام 75 مليون

مجلد. قال مؤلفنا في اخاتيار الكتب وهل تفضل القديمة أم الحديثة فرأى أن الشبان ومن قل علمهم وأدبهم يؤثرون الجديد على القديم وإن كان الجديد في الغالب غثاً بارداً والقديم سميناً مملوءؤاً بصحيح الفكار ومتين الإنشاء. وفي كتب القدماء كنوز قديمة لا مثيل لها في آثار المحدثين. قال: وعندي أن يختار من الكتب العلمية أحدثها التي أخذت بأطراف ارتقاء العلم عامة وآخر ما وصل إليه كماله أما في الأدب فيختار أحسن كتابه مهما قدم عهدهم فالآداب القديمة كما قيل كلما قدمت تتجدد. ولا مراء في أن المطالعة تؤثر في عقولنا واضطراباتنا وتورثنا القلق والحزن فمن الفضول أن نزيد على ذلك ما تدخله علينا من السرور والنفع قال جول لبتي في كتابه علم خب الكتب ومعرفتها ما أكثر من يبرؤون أمراضهم بفضل الكتب التي يطالعونها ولو عرف الناي ذلك حق معرفته لزاد عدد المولعين بالكتب زيادة عظمى. وتكلم المؤلف على الروايات وقال أن بعضهم يراها سموم الهيئة الاجتماعية وذكر كيتي الفيلسوف النقاد الألماني أنه من العبث أن يقول القائلون أن من الكتب ما يؤثر في إفساد الأخلاق وما الفساد إلا متوفر كل يوم في هذا المحيط وعندي أنه لا يجب التحرس كثيراً من ذكر ما لا يجدر أمام الأولاد من الأحاديث فإن الأولاد كالكلاب لهم حاسة قوية في الشم ويكتشفون كل شيء ولاسيما ما كان من أمور الشر. وللعلماء أراء مختلفة في هذا الشأن والأكثر على أن الروايات خيرها أقل من شرها وقشرها أضعف من لبها أما مطالعة الجرائد فهي لا تعد في باب مطالعة الكتب لأنهها تكتب بسرعة دون أن ينظر فيها النظر البليغ وما الجريدة كما قال بايل إلا فاكهة الفكر. وقال سانت بوف: يجب بادئ بدء أن نتزود من الخبز واللحم الطيب قبل أن نضع الفاكهة والحلواء. كتب تيوفيل غوتيه الكاتب الصحافي الفرنسوي أن مطالعة الجرائد تحول دون نبوغ القرائح القوية الشكيمة التي لا تريد غلا عشاقاً اقوياء في جدة الشباب فالجريدة تقتل الكتاب كما أن الكتاب قتل الهندسة وكما قتلت المدفعية الشجاعة وقوة الأعصاب. وقال جبرائيل هانوتو العالم: إن الجريدة هي المنافس الحقيقي للكتاب وما النجاح الذي أحرزته الجريدة غلا لرخص أثمانها وعندي أن الديمقراطية يجب أن يرخص فيها كل شيء لمداواة أمراض النفوس وأن المستقبل لا يبقى إلا على نوعين من الكتب

المزخرف والمبهرج الذي تطبع منه كميات قليلة ليقتنيها أرباب القصور والغنى والكتب البسيطة التي تباع بأرخص ما يمكن من قيمة ليسوغ للجمهور اقتناؤها من أيبسر سبيل وبهذا الضرب من الكتب يحفظ للعلم رونقه وتبقى له حياته فالفلاح والعامل يجب أن يقرأ شيئاً وأن يخرج لهما ما يقرأان وحاجتهما ماسة إلى غير كتب التقاويم وبهذا تبين أنه لا يخشى على الكتب من قلة عشاقها في المستقبل بل أن النفوس تظل عليها مقبلة ما بقي الدهر. وقال مؤلفنا في الفصل الذي عقده للكلام على ممزقي المكتب وأعدائها أن أعظم ما عرف من المصائب التي أصابت المكاتب على ما ذكر بيروز المؤرخ الكلداني من أهل القرن الثالث قبل المسيح (عليه السلام) واسكندر بوليستور الكاتب العالم اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد أن ملك بابل بختنصر الذي أرخ به منذ سنة 747 ق. م قد أمر بإحراق جميع تواريخ أسلافه ليسدل بذلك حجاباً كثيفاً على الماضي ويكون عهده مبدأ يجرون على التاريخ به في جميع العالم. وأحرق الإمبراطور شي هونغ تي الصيني سنة 213 ق. م جميع الكتب التي في مملكته ولم يستثن منها إلا المصنفات التي فيها تاريخ أسرته وعلم النجوم والطب وذلك بغضاً منه للمتعلمين والمتأدبين. قال المؤلف: وأعظم ما أصاب الكتب نمن البلايا في التمزيق والتحريق الفتن الدينية وذلك لأن الكتاب خير ناطق عن الإنسان. له من الصفات ما يخوله المثول في كل مكان ومن القوة والجرأة ما لا نظير له فاقتضت الحال أن يبدأ بإسكاته قبل كل لسان أي أن يحرق لأنه الناطق الذي لا يسأم كما يسأم المخالفون والمناهضون. فقد أحرق الرومان كتب الإسرائيليين والمسيحيين والفلاسفة وأحرق الإسرائيليون كتب المسيحيين والوثنيين وأحرق المسيحيون كتب الوثنيين والإسرائيليين وأحرق المسيحييون معظم كتب أوريجين أحد زعماء الكنيسة في القرن الثلاث للمسيح وكتب قدماء الملاحدة وأحرق الاردينال كسيمنيس (وزير إسبانيا والمفتش الديني 1436 ـ 1517) عندما استولى الإسبان على غرناطة خمسة آلاف مصحف وأحرق أهل المذهب البروتستانتي من البروتانيين في إنكلترا على أوائل عهد الإصلاح ما لا يحصى من الأديار والآثار القديمة وأحرق كرمفل مكتبة أوكسفورد وكانت من أعجب خزائن الكتب في أوروبا.

ثم عاد المؤلف إلى الكلام على نمكتبة الإسكندرية ثانية وبرأ المسلمين من إحراقها فقال: تكلمنا على مكتبة الإسكندرية التي شاع بأنها أحرقت بأمر الخليفة عمر عند استيلائه على الإسكندرية سنة 640 وقلنا أن هذه المكتبة لم يكن لها وجود في ذاك العهد البتة وأن أحد قسميها حرق قضاء وقدراً سنة 47 قبل المسيح عند هجوم جند يوليوس قيصر وأن القسم الآخر حرق بعد هذا التاريخ بنحو أربعة قرون أي سنة 360 على يد الأسقف أو البطريرك تيوفيل الذي كان يرمي إلى إبادة الوثنية في أبرشيته. ولم يعثر على كلمة واحدة قالها مؤرخوا ذاك الزمن من عهد حريقها إلى قدوم عمرو بن العاص عامل الإمام عمر ما يستدل منه ويحمل على الفرض بأنه أنشئت في الإسكندرية مكتبة ولا ينبغي أن يعجب من ذلك إذ من أسبابه أن الآداب والفلسفة الوثنية كانت في تلك الحقبة من الدهر قد حكم عليها بالتبديد في كل مكان حتى أن جوستيناينوس أمر بإغلاق مدارس آثينة. ومعلوم أن ما ينسبونه لعمر من الجواب الذي أجاب به عمرو بن العاص وقد سأل عما يعمل بمكتبة الإسكندرية فقال له: انظر فإذا مكان ما فيها من الكتب يوافق ما في كتاب الله فلا فائدة منها وإذا كانت مخالفة له فليس لنا بها حاجة فأحرقها. وعلى الجملة فقد قال من أورد هذه القصة أن عمرو بن العاص وزع هذه المكتبة على حمامات الإسكندرية فاستعانت بها على إحماء حماماتها ستة أشهر مع أن الورق دع عنك الرق إذا صلح لإشعال النار فلا يصلح لأن تدون به طويلاً. ثم استشهد بقول جان جاك روسو في خطابه في العلوم والفنون: ولو كان غريغوريوس الكبير مكان عمر والإنجيل محل القرآن لكانت مكتبة الإسكندرية بدأت أيضاً على أن البابا غريغوريوس المشار غليه (540 ـ 604) متهم بإحراق كتب القدماء ظلماً كما اتهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكلن التاريخ لا يظلم أحداً. وقال في كلامه على ما يكتب عليه الكتاب أن الرق هو من اختراع فرغامس (برغامة) في آسيا الصغرى والمطنون أنه عرف قبل خمسة عشر قرناً أما الورق فالأرجح أن الصينيين هم الذين اخترعوه وأن العرب نقلوه إلى أوروبا كما قال الدكتور غستاف لبون في كتابه حضارة العرب: إن الكتاب المخطوط العربي الذي عثر عليه القصيري (الطرابلسي) في مكتبة الإسكرويال مكتوب على ورق من القطن ويرد تاريخه إلى سنة 1009 هو أقدم مما

عرف من المخطوطات المحفوظة في مكاتب أوروبا تدل على أن العرب كانوا أول من استعاضوا عن الرق بالورق وذلك أن الصينيين كانوا يصنعون الورق من الحرير منذ أزمان بعيدة فدخلت صناعته إلى سمرقند منذ أوائل الصدر الأول للهجرة حتى إذا جاءت العرب تلك المدينة فاتحة رأت فيها معملاً للورق ولكن هذا الاختراع الثمين يصعب الانتفاع به في أوروبا لأن الحرير كان غير معروف فيها اللهم إلا إذا استعيض عن الحرير بمادة أخرى. وقد ظهر من البحث في مخطوطات العرب القديمة أنهم وصلوا في الحلال من صنع الورق إلى درجة من الكمال لم يتجاوزوها ويظهر أنه من الثابت أيضاُ أن صنع الورق من الخرق هو من اختراع العرب على ما في صنعه من التعب وما يحتاج إليه من المهارة وذلك لأن ورق الخرق عرف عند العرب قبل أن يعرفه المسيحيون بأزمان أهـ. وبعد فهذا ما ساعد المقام عليه من الاقتباس من فوائد الكتاب وكنا نود لو عربنا أكثر ما عربنا مما يفيدنا في اجتماعنا وتاريخنا ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله وهذا القدر الذي أوردناه كاف في الدلالة على فضل مؤلفه. والكتاب يطلب من مكتبة أرنست فلاماريون في باريز وثمنه كله اثنان وعشرون فرنكاً ونصف ملا عدا أجرة البريد فنحول أنظار من يعرفون الإفرنسية إلى اقتنائه.

رسالة رشيد الدين الوطواط

رسالة رشيد الدين الوطواط فيما جرى بينه وبين الإمام الزمخشري من المحاورات عني بنشرها أحمد بك تيمور بسم الله الرحمن الرحيم كتب العلامة رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري المشهور بالوطواط إلى الإمام سديد الدين بن نصر الحاتمي: طلبت مني زينك الله تعالى بأنوار المزايا وحماك من كل حادثة ملمة وكل طارقة مهمة ولا أخلاك من فخر تجتليه وجميل ذكر تكتسيه وجزيل أجر تحتسبه وأثر جهل تجتنبه أن أهدي إليك وأملي عليك ما قاله جار الله سقى الله ثراه في كتاب الكشاف في وجه انتصاب شهر رمضان وما قلته من الاعتراض على كلامه واستبعاد مدعاه عن مرامه مما جرى بيني وبين أعز أصحابه أفضل القضاة يعقوب الجندي من السؤال والجواب وها أنا مطبق فيما أقوله مفصل السداد والصواب وقد ذهب من عندي إلى جار الله وأخبره بما قلت فأنصف وأنصت وأبدى خضوعاً لاستماع الصدق وإتباع الحق وقال له: ذكرني هذا الأمر بعض أيام فراغي حتى أصلح من كتابي هذا الفصل وأغير هذا القول فإنه غلط شنيع وخطأ فظيع إلا أنه مرض في تلك المدة ونزلت به المنية وما حصلت تلك الأمنية وقد علم كل من شاهد أحوالي مع جار الله أني كنت عند معظم القدر مفخم الأمر مقبول الكلمات متبوع الإشارات لم يرمني كلمة في أي علم إلا قيدها ببنانه وضبطها في جنانه وأثبتها في دفاتره وأحكمها في خواطره وعدها غنيمة من غنائم عمره وتميمة من تمائم نحره وقد جرى بيني وبينه في حياته وأوقات راحاته مما يتعلق بفنون الأدب وأقسام علوم العرب مسائل أكثر من أن يحصى عددها أو يستقصى أمدها رجع فيها إلى كلامي ونزل على قضيتي وأحكامي فالسعيد من إذا سمع الحق سكتت شقاشق لجاجه وسكنت صواعق حجاجه فمنها مسألة الظبي التي هي جمع ظبة فإنه كتب بخطه أنها من ذوات الياء وأصلها ظبية فقلت أنا أنها من ذوات الواو وأصلها ظبوة فلما امتدت المناظرة واشتدت المذاكرة بعثت إليه كتاب الصحاح يصدق قولي فهجن الكتاب وقال أنه محشو بالتحريفات مشحون بالتصحيفات فبعثت إليه سر الصناعة لابن جني فقال هو رجل وأنا رجل فبعثت إليه كتاب العين فوضع للحق عنقه وسلك مناهج الإنصاف

وطرقه واسترد خطه ومزقه تمزيقاً وخرقه تخريقاً بمرأى ومسمع من صدر الأئمة ضياء الدين أدام الله إجلاله وزاد إقباله. ومنها مسألة كلا الرجلين إذ كتب في حالة الجر والإضافة للمظهر بالألف فقلت الصواب أن يكتب بالياء وأيدت قولي بنص ابن دستورية في كتابه الموسوم بكتاب الكتاب وجرى هذا بحضرة الإمام الأجل زين المشايخ البقالي أدام الله سعادته وحرس سيادته ومنها مسألة نسر وفرقد في تثبيتهما بغير ألف ولام في شعري فأنكره وقال لا يجوز هذا في الشعر ولا في غيره فأريته ذلك في شعر المعري وأبي تمام فقال أخطآ حتى أراه سلمان بيته وصدى صوته الإمام فخر الإسلام المؤذني ذلك في شعر الأعشى فعند ذلك لانت خشونته وسهلت حزونته ومنها مسألة الضرب بين المحذوف والضرب الصحيح في شعر واحد من الطويل وقع له في ديوانه في قوله: جوار فريد العصر خير جوار ... ودار فريد الدهر أكرم دار ثم قال: فلله من جار حمدنا جواره ... ولله من فرد ولله من دار فضرب الأول محذوف وضرب الثاني صحيح ولا يجوز اجتماعهما في هذا البحر باتفاق العروضيين فلما نبهته على لسان تلميذه المحسن الطالقاني طلب ديوانه وغيره هكذا ولله من نار وموقد نار فاستقام وزنه ومنها مسألة الحادي عشرة والثانية عشرة ومنها مسألة التحية ومنها مسألة تجريد الإمالة ومنها مسألة إدخال الوليد بن الوليد في جملة الكفرة من أولاد الوليد ابن المغيرة وسيأتي ذكره في رسالته إلى الحاتمي. ولو نقلت ما في كنانتي من المكنونات ونثرت ما ادخرته في خزائن المخزونات طال الكلام وكلت الأقلام وإنما ذكرت هذا القدر اليسير ليعلم فتيان هذه الخطة أن هذا الإمام كان صبوراً على مرارة الحق وحرارة الصدق مع أن رب هذه البضائع وصاحب هذه الوقائع. فصل قوله قرأ أبي شهر رمضان بالنصب على تقدير صوموا أو على الإبدال من أياماً معدودات أو على انه مفعول أن تصوموا وأوله قولاه الأولان صحيحان ولا مطعن فيهما وأما الثالث فموضع بحث إذ لا يجوز مثله البتة لأنه لو كان كما زعم كان شهر رمضان تتمة لأن تصوموا ولكن مجموعها في حكم مبتدأ واحد وصار تقديره صوم رمضان خير لكم وليس بجائز أن تجعل المبتدأ

نصفين وتفصل بينهما وتدخل الخبر في وسطهما أما يكون خبر المبتدأ متأخراً عن المبتدأ وهو الأصل أو مقدماً عليه بشرط التعريف وغيره من الشروط وهذا هو الفرع وأما أن يكون واقعاً بين شرط من المبتدأ فليس من كلام العرب كقول القائل لمن ينفعه اللحم أن تأكل اللحم خير لك صحيح وقوله خير لك أن تأكل اللحم صحيح فأما قوله أن تأكل خير لك اللحم فغير صحيح وهذا قولي استحسنه جار الله والله أعلم بكتابه وأعرف بأسرار خطابه. وقد كتبت هذه الرسالة فعليك بحفظها عن هؤلاء الذين لا يفهمون الدقائق ولا يعلمون الحقائق فإني حررتها لأمثالك من ذوي الفهم والهداية وأشكالك من أولي العلم والدراية لا لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وبصائرهم وصدئت أفكارهم وخواطرهم فإن رياض العلم لا تفتق للمجانين وحياض الرحمة لا تدفق للشياطين والسلام.

وقفة في الروض

وقفة في الروض ناح الحمام وغرّد الشحرور ... هذا به شجن وذا مسرور في روضة يشجي المشوق ترقرق ... للماء في جنباتها وخرير ماء قد انعكس الضياء بوجهه ... وصفا فلاح كأنه بلور قد كاد يمكن عند ظني أنه ... بألماس يوشر منه لي موشور وتسلسلت في الروض منه جداول ... بين الزهور كأنهن سطور حيث الغصون مع النسم موائل ... فكأنهن معاطف وخصور ماذا أقول بروضة عن وصفها ... يعيا البيان ويعجز التعبير عني الربيع بوشيها فتنوعت ... للعين أنوار بها وزهور مثلت بها الأغصان وهي منابر ... وتلت بها الخطباء وهي طيور متعطر فيها النسيم كأنما ... جيب النسيم على الشذا مزرور للنرجس الملطلو ترنوا أعين ... فيها وتبسم للأقاح ثغور اتخذت خزاماها البنفسج خدنها ... وغدا يشير لوردها المنثور وكأن محمر الشقيق وحوله ... في الروض زهي الياسمين يمور شمع توقد في زجاج أحمر ... فغدا حواليه الفراش يدور وتروق من بعد بها فوارة ... في الجو يدفق ماؤها ويفور يحكي عمود الماء فيها آخذا ... صعداً عمود الصبح حين ينير ناديت لما أن رأيت صفاءه ... والنور فيه مغلغل مكسور هل ذاك ذوب الماس يجمد صاعداً ... أم قد تجسم في الهواء النور تتناثر القطرات في أطرافها ... فكأنما هي لؤلؤ منثور ينحل فيها النور حتى قد ترى ... قوس السحاب لها بها تصوير كم قد لبست بها الضحى من روضة ... فيها علتني نضرة وسرور فأجلت في الأزهار لحظ تعجبي ... ولفكرتي بصفاتهن مرور فنظرتهن تحيراً ونظرنني ... حتى كلانا ناظر منظور فكأن طرف الزهر ثمة ساحر ... لما رنا وكأنني مسحور إن الزهور تكنهن براعم ... مثل العلوم تجنهن صدور

وتضوع النفحات منها مثله ... تبيينها للناس والتقرير وبتلك قلب الجهل مصدوع كما ... ثوب الهموم بهذه مطرور والزهر ينبته السحاب بمائه ... كالعلم ينبت غرسة التفكير إن كان هذا في الحدائق بهجة ... يزهو فذلك في النهى تنوير أو كان هذا لا يدوم فإن ذا ... ليدوم ما دامت تكر عصور بغداد معروف الرصافي

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات سياحة في تركستان أو بلاد كشغر نشر الأستاذ هارتمان من علماء المشرقيات الألمان سياحة له بالألمانية إلى بلاد كشغر أو تركستان وصف فيها جغرافية تلك البلاد وحكوماتها السالفة وطرقها وعلائقها مع الأمم وتاريخها القديم والحديث وإدارتها الصينية وما كان له من الصلات مع موظفيها وعلاقة الكشغربين بالأجانب ولغتهم وآدابهم ودينهم وتعليمهم ودروسهم وارتقاءهم العقلي. والسارتيين والمبشرين الأوروبيين من الإنكليز والسويديين والألمان وصادرات تلك البلاد ووارداتها وتجارتها وما يرجى لها من التقدم وقد جعل كتابه هذا لخدمة أمته في سياستها وتجارتها فوجه أنظار حكومته ومواطنيه لبلاد خاضعة بالاسم للصين ولكنها تخالفها من حيث أصول سكانها ولغتها ودينها. وبلاد تركستان الصينية أو كشغر أتى عليها زمن كانت مستقلة منذ بضعة قرون على عهد سلاطين ويغور أما اليوم فإن الإسلام قتل فيها على رأيه حالتها العقلية والصناعية فليس فيها ما تستطيع أن تنهض به وحدها وتستعيد سالف استقلالها. فأصبح من اللازم إنشاء مملكة حسنة الإدارة في تلك البلاد بين آسيا الشرقية وآسيا الغربية أي في طريق الحرير وما من دولة أوروبية تحدثها نفسها في الاستيلاء على تلك البلاد لأن روسيا ضعيفة وإنكلترا لها من المشاغل بغيرها ما يصدها عن اكتساحها والصين ليس في وسعها أن ترمي بقسم من شعبها ثمت وأن تجعل لها جيشاً ضخماً من أبنائها يكون على قدم الدفاع عنها وهي عارفة بأن مركزها مقلقل. ولذلك احتاجت بلاد كشغر إلى الغريب لينهضها من كبوتها. ولو كان فيها بعض الأهلين من المسيحيين لكان المرسلون المسيحيون ينفعون البلاد كما هو الحال في سورية ولكن الشعب هناك مسلم كله فليس في الإمكان أن يدعى إلى النصرانية لما أن ذلك يهيج تعصبه ولا يأتي بنتيجة. ومن خرج من الإسلام فجزاؤه القتل عند المسلمين. فليس إذاً غير المرسلين البروسيين يعرفون من أين تؤكل الكتف ويتخذون طريقة توصل إلى المقصود فلا يدعون إلى الدين بل يتوفرون فقط على تقوية التجارة والصناعات. وستجد ألمانيا في تلك البلاد مصارف مهمة لتجارتها تنتفع بها كل الانتفاع ولاسيما إذا

كانت كل ذاهبة إليها على شرط أن تؤسس فيها مملكة مستقلة تحت حماية الصين ولا يكون الإسلام دين حكومتها الرسمي بل تكون على الحياد تجري فيها الحرية المطلقة على أصولها لجميع النحل والملل وتتعاهد الدول بينها على ضمانة ذلك كله. والترك والتاتار هناك قد أفسدهم الحشيش والقمار فلا يستطيعون إدارة البلاد بيد القرغيز هم أكثر عدداً وأكثر متانة وقوة وليس عندهم أثر للتعصب. أ. ج الترغيب والترهيب طبع هذا الكتاب الجيد التأليف في الهند وهو من تأليف الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المتوفى سنة 656 وأعاد طبعه الآن أحمد ناجي أفندي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وأخوه فجاء في مجلدين من القطع الكبير تبلغ صفحاتهما معاً زهاء 660 صفحة وقد قسمه مؤلفه إلى أبواب كثيرة تدور على ما ورد في الترغيب والترهيب صريحاً بدون ذكر الأسانيد المطولة وميز بين الأحاديث الصحيحة والحسنة أو ما قاربها وبين ما كان إسناده ضعيفاً وإن كان من تقدم من العلماء أساغوا التساهل في أنواع الترغيب والترهيب حتى أن كثيراً ذكروا الموضوع ولم يبينوا حاله وقد استوعب فيه جميع ما كان متداولاً في كتب الحديث لعهده. وهو يطلب من طابعيه بالحلوجي بمصر. لا مساسية الأستاذ أغناس غولدسهير المجري من أفراد علماء المشرقيات في أوروبا اليوم عرف بأبحاث كثيرة كتب بعضها بالألمانيبة وبعضها متلق بالملل والنحل وأمامنها الآن من أبحاثه الأخيرة رسالة في مسألة السامري وعجل الذهب وروايات الكتب السماوية والتاريخية فيها وقد نشرها في المجلة الإفريقية باللغة الإفرنسية أولاً ثم أفردها على حدة فجاءت شاهدة بسعة اطلاعه. دروس القراءة أهدينا القسم الأول والقسم الثاني من هذه الدروس للشيخ محي الدين الخياط محرر جريدتي

بيروت والإقبال وفي القسم الأول خمسة فصول الفصل الهجائي والأخلاقي والفكاهي والحكمي والديني وفي القسم الثاني الفصل الأخلاقي والحيواني والفكاهي والحكمي والديني وكلها مشكولة بالشكل الكامل مطبوعة على نفقة محمد شاكر أفندي ياسين طبعاً متقناً تسهل على الصغار القراءة من أيسر السبل فعساها تلاقي في المدارس إقبالاً. كشف الستار صنف السيد أحمد بك الحسيني الفقيه الأصولي المشهور نبذة من حكم القابض على المستجمر بالأحجار وأنه لا تبطل صلاة حامل الصبي إلا إن تحقق نجاسة ثوبه وأتى على ذلك بنصوص المتقدمين والمتأخرين عراقيين وخراسانيين وما رجحه في هذا الباب فجاءت رسالة مستوفاة في بابها ترفع الحرج عن المصلين وتشهد لمؤلفها بالفضل المبين وهي في نحو 180 صفحة مطبوعة طبعاً متقناً بمطبعة كردستان العلمية بالقاهرة على ورق جيد. الإنشاء العصري طبع محمد عمر أفند نجا من أدباء بيروت كتابه الإنشاء العصري طبعة ثانية مضيفاً إليها زيادات لم تكن في الأصل فتوسع في القسم التجاري منه فمثل أكثر قواعد كتاب التجارة في معاملاتهم وأتى على جدول الأوزان والقياسات فكانت الزيادة في صفحات الكتاب 171 فأصبح أربعمائة صفحة متوسطة الحجم مطبوعاً في المطبعة الأهلية طبعاً متقناً وفي الكتاب رسائل تجارية وأخوانية ورسمية وغيرها وأنموذجات من المعاملات وأكثرها في اصطلاح سورية بالطبع وهذا الكتاب في بابه مستوفى الشروط فنثني على همة مؤلفه وهو يطلب من المكاتب الشهيرة بمصر والشام وثمنه هنا سبعة قروش. المقصور والممدود هذا الكتاب تأليف أبي العباس أحمد بن محمد بن الوليد بن ولاد النحوي المتوفى سنة 332 طبع للمرة الأولى في اوروبا وأعاد طبعه الآن محل محمد أمين أفندي الخانجي وشركائه. ذكر مؤلفه فيه من المقصور والممدود ما كان منه مقيساً وغير مقيس وألفه على حروف المعجم مثال ذلك الثر فإنها تكتب على وجهين فالثرى من الندى مقصور يكتب بالياء لأنهم يقولون في تثنيته ثريان ويقال كأنه مطر التقى منه الثريان يريدون الظاهر والثرى الباطن

وثري الكثيب يثرى فهو ثريان والثرء في كثرة المال ممدود. والكتاب نافع للمشتغلين باللغة لأنه يوفر عليهم عناء الرجوع إلى المعاجم للتمييز بين المقصور والممدود من الأسماء إذا اشتبهت عليهم. فن الرسم نظم الشيخ حسين محمد الجمل أرجوزة من 160 بيتاً ضمنها قواعد فن الرسم والإملاء ليسهل حفظها على المبتدئين بالعربية قال إنه أقرأها التلاميذ حفظاً وفهماً فلم يقعوا بعد ذلك فيما كانوا يتخبطون فيه من الخطأ فنشكر له همته.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الجمعية الخيرية الإسلامية أصدرت هذه الجمعية تقريرها عن سنه 1908 جاء فيه أن أملاكها بلغت 518 فداناً و18 قيراطاً و4 أسهم ودفعت كل ما كان باقياً عليها من ثمن أطيانها وبقي معها 7555 ج. م وبلغ ريع أطيانها 3539 ج. م وإيرادها من أوقافها 509 ج، م وخصص لها في السنة ألف جنيه من الأوقاف الخيرية إعانة وعدد مدارسها في القطر المصري ثماتن فيها 1338 تلميذاً منهم 648 يتعلمون بالمجان وصرفت على مدارسها 6744 ج. م وستنشئ مدرسة لتعليم الفقيرات الخدمة المنزلية وتربيهن التربية الأدبية للخدمة في بيوت الأغنياء ووزعت في السنة الماضية 945 ج. م إعانات وعدد أعضائها الآن 546 عضواً والمساعدين 122 وبلغ إيرادها من احتفالها السنوي 2448 وما تبرع به المحسنون 5970. وقف خيري وقف أحمد مظلوم باشا ناظر المالية المصرية وقرينته 1750 فداناً من أجود أطيانهما وقصرهما برمل الإسكندرية على ذوي قرباهما ومن بعدهم إلى جمعية العروة الوثقى لتصرف ريعه في شؤون التربية وخصصا للجمعية حصة يقدر ريعها بألف جنيه سنوياً تتناولهما وبعدهما. مدرسة الفنونالجميلة فتحت مدرسة للفنون الجميلة التي أنشأها في القاهرة من ماله الأمير يوسف كمال لتعليم التصوير والنقش وهي تسع ثلثمائة طالب وطالبة وقد دخل هذا القدر منهم لتعلم هذهالفنون التي هي بنت الحضارة والارتقاء. ورق من تراب النفط يصنعون الآن في ضواحي كاباك من أعمال ولاية مشيغان في الولايات المتحدة نوعاً من الورق بحيث لا تمضي ساعتان على وضع المادة المؤلف من هذا الورق حتى يخرج ورقاً للصر أرقى من الورق المصنوع من الخشب وأل منه كلفة وهو لا ينفذ ولا يرشح ويصلح لوضع الفراء والأصواف فيقيها العث وغيره من الحشرات وقد أخذوا يصنعون منه علباً

ومقويات يتطلبها باعة الفرو والثياب ولكن لونه أزرق وهم يحاولون أن يجعلوا منه نوعاً أبيض. معدن جديد اكتشف أحد الفرنسيس معدناً جديداً اسمه البلانشييت وهو مركب من حامض الصوان ومادة أخرى نحاسية أزرق اللون وهو موجود في بلاد الكونغو. اساقفة الكثلكة يبلغ عدد الكرادلة الكاثوليك الآن 561 كردينالاً منهم 36 إيطالياً هذا مع أن إيطاليا ليس فيها سوى 30 مليوناً ممن ينتحلون الكثلكة من مجموع 230 مليوناً من الكاثوليك في العالم وللكثلكة 605 أساقفة من الأوروبيين منهم 258 إيطالياً على حين ليس من كاثوليك ألمانيا وفيها 22 مليوناً منهم سوى 25 أسقفاً. ثروة روسيا أحصى أحد المدققين ما دخل على روسيا من المال وما خرج منها في خلال السنة الماضية فكان مجموع ما دخل عليها من أموال القروض وغيرها من الواردات غير المقررة عشرة مليارات ومائتين وأربعة ملايين روبل صرفت مشرة مليارات وأربعمائة وخمسة عشر مليوناً. وتبلغ ديونها تسعة مليارات وثمانمائة مليون روبل أي 26 مليار فرنك أنفقتها في ثلاثة فروع منها أربعة مليارات وستمائة مليون في سبيل الحروب الخارجية وأصاب الحرب اليابانية منها مليارين ومنها ثلاثة مليارات على إنشاء الخطوط الحديدية وابتياع بعض ما في بلادها منها وأسلفت المصارف العقارية للأشراف والفلاحين 1225 مليون روبل كما أعطت مليارين ثمن أراضي في سيبيريا إلى أصحابها المستعبدين وفي بلاد روسيا 44 الف كيلومتر من السكك الحديدية ريعها السنوي 65 مليون روبل وتعطي 2. 12 في المئة من أصل المبلغ المستقرض لإنشائها والباقي تدفعه الخزينة وتزيد واردات سككها حيناً عن آخر بزيادة سكانها وكثرة تنقلاتهم وجودة المستغلات. وتبلغ مساحة أراضيها الزراعية في أوروبا 430 مليون هكتار منها 165 مليون للحكومة والمدن والإقطاعات وغيرها والأراضي في روسيا كثيرة والناس لا يشكون من قلتها بل من قلة توفر بعض الفلاحين على حسن الانتفاع بها. والفلاح الروسي أغنى فلاحي العالم بكثرة ما

يملك من الأراضي وأقلهم ثروة. تربية الجنسين مضت الشهر الأخيرة والنزاع على أشده في الولايات المتحدة بين المعلمين والمعلمات للبحث عما إذا كان الإنصاف يقضي بأن ينال المعلمات من المشاهرات بقدر ما يقبض المعلمون. ومعلوم أن الولايات المتحدة تصرف القسم الأعظم من واردات بلدياتها على التعليم. فقد كان سكان مدينة نيويورك سنة 1900، 3437202 وميزانيتها 118740596 ريالاً تنفق منها على المدارس 19731629 والباقي على الدين العام والشرطة ورجال المطافئ والمستشفيات والملاجئ الخيرية وغيرها هذا ما عدا الخمسة ملايين ونصف ريال التي أنفقتها تلك السنة على إنشاء مدارس جديدة وكانت ميزانية فيلادلفيا في تلك السنة 34605948 وعدد سكانها 1293697 أنفقت منها 4186000 على المدارس وكان سكان بوسطون في تلك السنة 580893 وميزانيتها عشرين مليون ريال خصصت منها ثلاثة ملايين للمدارس وعلى هذا فتنفق نيويورك التي ثار فيها النزاع بين المعلمين والمعلمات أكثر من جميع الولايات على المعارف فهي تصرف واحداً من ستة من وراداتها وبوسطون واحداً من سبعة وفيلالفيا واحداً من ثمانية. ثم أن عدد المعلمات في أميركا أكثر من عدد المعلمين وما زال عددهن آخذاً بالازدياد أكثر فقد كان عدد المعلمين في الولايات المتحدة سنة 1870، 77529 معلماً وعدد المعلمات 122986 فأصبح المعلمون في سنة 1904، 113744 والمعلمات 341498 وعدد المعلمين إن لم يكن في نقص فهو لا ينمو على العكس من عدد المعلمات فقد كان عددهن منذ ثلاث سنين يربي على عدد المعلمين ثلاثة أضعاف. قامت إنثا عشر ألف معلمة في نيويورك يطالبن بحقوقهن قائلات: إذا تساوى العمل وجب أن تتساوى أجرته فليس من العدل أن يعمل النساء في هذا المعنى كالرجال ولا ينلن من الأجور إلا ثلث ما ينال الرجل وإذا قدر لهن أن بلغن إحداهن الدرجة الأولى تقبض 2500 دولار على حين يقبض الرجل 3000 فاضطرت حكومة نيويورك إلى أن يجيبهن إلى مطالبهن وزادت ثلاثة ملايين دولار على ميزانية معارفها وكانت عشرين مليون دولار في نيويورك وحده كما تقدن وقد تلكأ مجلس الأمة أولاً على الموافقة على هذه الزيادة للمعلمات

ورأى رفضه من الحكمة مخافة أن يتدرج ذلك إلى الأعمال الأخرى التي تشارك فيها المرأة الرجل في تلك الديار ويقوم النساء يطالبن بزيادة فيختل نظام البلاد الاقتصادي غلا أنه لم يسعه بعد الإقرار على زيادة ميزانية المعارف إلا أن يأخذ الرجال والنساء بحظ منها على السواء. كتب مفوض الولايات المتحدة في الإشراف على العمل والعمال سنة 1896 تقريراً على 1069 مركزاً في ثلاثين ولاية من ولايات أميركا جاء فيه أن النساء يربحن في المغاسل أقل من 23 في المئة من الرجال مع أنهن يعملن عملاً واحداً وأن النساء يقبضن 24 في المئة أقل من الرجال في المطاعم و28 في المئة في معامل الأحذية و46 في صنع العلب و61 من صنع الفرش والأثاث وفي معامل السكاكين 116 في المئة والورق 117 ومثلها في المخازن والمكاتب وفي مكاتب الضمان 29 في المئة وفي مكاتب الوكالات عن أدوات الخياطة 66 في المئة. ولئن كانت الولايات المتحدة تزيد ميزانيتها في المعارف سنة عن سنة فإن هذه الزيادة تصرف في الغالب في بناء مدارس فخيمة وابتياع أدوات فاخرة فقد بلغ ما صرفته الحكومة هناك على المصارف سنة 18903، 7105999190 ريالاً ولم يأخذ المدرسون والمدرسات سوى نحو 36 مليون دولار. وتبين بالإحصاء أن إقبال الرجال على التعليم قل بعد حرب أميركا مع إسبانيا ولم يعد يتمحض للتعليم إلا من شغفوا به ورغبت النفوس عن اتخاذه حرفة للارتزاق بها وذلك لأن المتعلم من الطراز الأول كألئك الأساتذة قد يربح أضعاف ما يتناول من التدريس إذا انصرف للأعمال الحرة. وقلق رجال العلم في أميركا من دوام إقبال النساء على التعليم وانصراف وجوه الرجال عنه وقالوا بأنه سيجيء زمن ينحصر التعليم في أميركا بأيدي النساء وقال رؤساء الكليات ومديرو المدارس ونظارها أن تدريس الرجال أرقى من تعليم النساء. وأثبتوا أن من الضروريات في التعليم البيان والنظام وأن صبر المرأة ووجدانها وإدراكها ربما كانت أرقى من طبيعة الطفل المتعلم ولكن كل هذه الصفات لا تجبر النقص المحسوس في أسلوبها في التعليم وذلك لأن ضعفها المحسوس عن التفصيل يزيد هذا النقص استحكاماًُ ويجيء ضغثاً على إبالة فيما يتجلى في دروسها من الإبهام. تقوم المدرسات في المدارس الابتدائية بأعمالهن خير قيام لما أن الموضوع واضح في ذاته

وما هو إلا حروف وأرقام ولكن إذا عهد إليهن تدريس النحو يوردن القاعدة وشواذها ويضعفن عن التبيان وتخونهن أساليب التفهيم وبيان الروابط بين الموضوعات وقد ظهر أن الفتيات يفضلن الأخذ عن المعلمين إذا أردن تعليماً سليماً بسيطاً والفتيان لا يؤثرون التخرج بالمعلمات وغذا كانت الكتب المدرسية واضحة الأسلوب لا يقتضي لها إلا تقرأها المعلمة فتقوم قراءتها مقام الشرح والعبارات المنطقية. ولكن كتب التدريس في أميركا إذا قوبل بينها وبين أمثالها في ألمانيا وفرنسا يتبين أنها أحط بكثير. ولا يجب أن يؤخذ من هذا بأن الواجب إيصاد أبواب التعليم في وجوه النساء فإن المرأة يحق لها أن تعيش كالرجل. ولكن ظهر أن النساء في البلاد الإنكليزية السكسونية حيث صحت عزائمهن على منافسة الرجل لا يصلن إلى المناصب السامية إلا نادراً وهذا مما يثبت ما هن عليه من الانحطاط العقلي. وإنا نرى المرأة تنجح أحياناً أكثر من الرجل في الأعمال التي يكون الدافع غليها الغرام والهوى أكثر من إعمال الفكر والقوى كأن يكون منهن ممثلات ومغنيات يفقن الممثلين والمغنين ومنذ استولين على هذين الفرعين في أميركا وإنكلترا أنزلن درجة فن الأدب فيهما وسبب نجاحهن بل تفردهن بهذين الفرعين ناشئ في الأغلب من درجة مالية وذلك لرضاهن بالقليل من المال على ما هو العكس في الرجال. ومستحق ألمانيا وإنكلترا وأميركا في هذا الشأن فيكون نساؤها قابضات على أزمة التمثيل والغناء فيها بعد قليل من الزمن. والعلوم التي تبرز فيها النساء حقيقة على صورة مدهشة هي الرياضيات لأن موضوعها يعصمهن من الغلط وتدقيقهن فيها ناشئ من نفس الموضوع لا من قوة عقل المرأة. وحري بالرجال في الشؤون العقلية على الأقل أن لا يحرموا من حقوقهن ولا دليل ينهض على هذه القضية أكثر من أن الأميركي فإنه لم يأت بشيء خارق للعادة حتى الآن في عالم العلم وذلك لأن المرأة تعده للسير في هذا السبيل قبل دخوله الكليات. وليس النساء مسئولات عن الميل في إهمال التهذيب المنظم للذاكرة ولكنهن لم يخلقن على ما نرى ليعلمن الولد طريقة صالحة في تصحيح الأفكار أما من حيث الأخلاق فإن تعليم النساء للرجل ليس طالع خير فمنذ سنين ذهب بضع مئات من الأساتذة والمعلمين الإنكليز إلى أميركا على نفقة المستر موسلي أحد أغنياء الإنكليز للبحث عن طريقة التربية في الولايات

المتحدة ومما لاحظوه ملاحظة خاصة في تقريرهم تأثير التربية التي تربيها النساء الرجال وأثرها المدهش في المجتمع الأميركي ونعني بهذا التأثير قلة أخلاق الرجولية فيه وما كانت ملاحظة تلك اللجنة هي الأولى من نوعها بل أن غير الأميركيين كثيراً ما كانوا يدهشون مما يبدو لأنظارهم من هذا القبيل. رجال الأميركان يعنون من وراء الغاية في المحافظة على الست وثلاثين ألف قاعدة في مصطلحات المدنية الاجتماعية فيبالغون في التأنق بلباسهم مبالغة مفرطة ويدققون كل التدقيق في القيام بأقل ما تقتضيه سنة الأزياء ويرققون ألفاظهم ترقيقاً يقربها أبداً من التكلف ولا ينسب ذلك غلا لتسليم مقاليد التربية للمرأة. ولو استطاع المرء أن يكون تاماً في هذا المعنى لما كان ذلك بأس بل قد يحدث كثيراً أن المبالغة في التزيي والمنافسة في الحصول على صفات الظرف الذي لم تجعله الطبيعة من خصائص الرجل تعبث بمروءته ولكن إذا كانت أخلاقه من المتانة بحيث لا تفسد رجوليتها لا تلبث الرجولية أن تزيد فيه مستقلة عن كل تأثير من تأثيرات الحضارة ولا يكون تكلف الظرف واللطف إلا ظواهر خداعة ويبعد عن درك علاقة التمدن والتجمل في الحياة الاجتماعية بحياة الأعمال. وقد أدرك بعض الأميركان نتيجة هذه التربية النسائية وسجلوا شيئاً من سيئاتها متى جاوزت حد القراءة والكتابة والحساب. ومن سوء أثر هذه التربية في الأميركان أن الرجل يرى نفسه أحط من المرأة مهما تصنع لها ويرى من كرمها أن تعطف عليه وهكذا حتى أصبح المجتمع الأميركي أنثوياً فيه من ضروب التكلف والغرابة أشكال وألوان. انتهى ملخصاً من مقالة لأحد علماء فرنسا.

صدور المشارقةوالمغاربة

صدور المشارقةوالمغاربة مومسن حدث في أوروبا منذ عام 1825 بما تجدد في الحياة الاقتصادية من النواميس انقلاب هائل بفضل تمديد الأسلاك البرقية وتمهيد الطرق الحديدية وتكاثر الآلات الميكانيكية واستخدامها في العمليات أكثر من النظريات فقامت الصناعة والتجارة والطرق البحرية والسكك الحديدية والبواخر والمرافئ والترع والمعامل والمصنوعات والمستودعات بل وكل ما يدعى بلسان الاقتصاد الصناعات الكبرى وأخذت كلها تظهر على الولاء بظهور الأفكار والآثار. حدث هذا الانقلاب في ألمانيا بعد أن تأخر قليلاً أي بعد عام 1840 قال هنري تريشك: كانت الانتخابات في ذلك الزمن والمناقشات في الأمور الإدارية مطمح أنظار الرجال وموضوع تأملهم حتى جفت الحياة العائلية أو كادت. . أما النساء فإنهن أخذن بالإشرئباب إلى الدخول في الأعمال التي كان قبض عليها الرجال إلى ذاك الحين وتتطاللن للتنقيب عن السبيل المؤدية بهن إلى مضارعتهم ضاربات صفحاً عن دعوى ما يحدث مما تصفن به من صفات الأنوثة وحدها فقط من التأثير في حياة المجتمع الإنساني وقد كانت أيقظت المطبوعات العامة والآداب في الخلق لذة العمل والهمة والثبات حتى إن ميزات ذلك الزمن العظيمة قد تمثلت في الأثاث والرياش. وقع هذا الانقلاب في حياة الشعب العلمية والفكرية والصناعية أيضاً أيام كانت ألمانيا مدينة الفلسفة والأدبيات والعلوم التاريخية فقط ومكان لها بعض الصيت في فروع العلوم الطبيعية الأخرى. فلم يمض على الألمانيين بعد أن وجهوا نحو هذه العلوم وجهة السعي والتفكير حقبة من الزمن حتى أخذوا منها السهم الأوفر فبزوا بها وبرزوا وأتيح لفريق منهم بعض ما هو جدير بالدهشة من المخترعات والمكتشفات: فما ظهر من مستحضر وأعني بذلك المكتشف المهم في تحولات المادة العضوية بدل نواميس الحياة وما وجده دود من ناموس سير الرياح في الفلسفة الطبيعية كان أساً لعلم الظواهر الجوية الجديد. وتبدلت الفلسفة أيضاً تبدلاً كلبيراً فقد بدأت أولاً بتعديل نمظريات الفيلسوف هيكل بعض التعديل بإخراجها من دائرة الفلسفة المحضة على أيدي تلاميذه الأفاضل وتطبيقها على

الحياة العامة. وعلى أثر هذا أخذ ملشوت ينظر في قوى الدماغ وحركاته حتى وفق إلى تحليله تحليلاً كيماوياً وقام العالم كارل فوغت وأسس قبل داروين مذهب التحول ترانسفورميزم في كتابه أوقيانوس والبحر بينا كان داو سارتاوس يحدث ثورة هائلة بمصنفه حياة عيسى وتناول نظريات ديدرو وهلوشيوس المادية وانفرد ناظراً في الجزء الفرد والهيولى وأثار العالم فورباخ في ذاك الزمن عالم البابوية بمؤلفه المسمى حقيقة النصرانية. هذه هي نسمات الأفكار التي كانت تهب في عامة أنحاء ألمانيا والآداب أول ما استهدفت لمؤثراتها فقد حل محل ذلك الجيل الخيالي جيل مفتتن بالحقائق غير المجردة مولع بالوقائع والحادثات الطبيعية وهو الجيل المادي الذي لا يعرف غير التحقيق مشرباً. وإنك لترى حينئذ الأدبيات الخيالية أشيه بأُلهية بسيطة يما هي بها الفتيات وقد نضبت مياه الشعر المترقرقة وجف نبعه السيال. أعظم أدباء هذا الدور غستاف فريتغ الذي كان نابغة في بث روح الحقيقة على ما هي عليه فيما كان يرويه عن سذاجة حياة الطبقة الوسطى من الناس في قصصه الهزلية ورواياته وكثيراً ما كان يكافح مذهب الخياليين. ولقد هم فريتغ بالقضاء على هذا المذهب فقام وأسس في ليبسيك بمعونة صديقه جوليان أشميد مجلة تدعى: كرازتدن وكان صبغة هذه المجلة سياسية ونزعتها بروسية علناً. دخل غستاف فريتغ عالم الكتابة عام 1844 بمؤلفه القصصي المسمى العالم وهو عبارة عن سلسلة أبحاث في التربية العامة. وكان رجلاً من أقوياء الفكر وعباد الحقائق غيوراً ليس في نفسه أثر للرحمة في مقاومة ما بطل من الأفكار والخيالات وبه أصبحت بلدة ليبسيك مركزاً نارياً لإذاعة الدعوة البروسية ونشرها في الأنحاء فاجتمع حول مجلته عام 1848 شرذمة من أولي الفضل الواسع ممن يحبون بروسيا وأوضاعها حباً جماً. ومنهم فؤدالب وكاتوليك اللذان شهرا على مذهب الخياليين حرباً عواناً أدارت رحاها الأقلام وأزمعا كما قال أشميد أن يبترا تلك القطع الفاسدة من آداب الألمان وينبذاها نبذ النواة فكان يجدان في أن يكتب القول الفصل للسياسة البروسية في كل صقع آتيين على كل ما فيه أثر التصنع ومسحة التكلف والتعمل وغير ذلك مما كانا يعدانه من الآفات المجتاحة لعواطف

الجرمان وأخلاقهم ومبايناً لسعادة الأمة وحسن نظامها. وعندهما أن لبروسيا فكراً سيحمل إلى ماضيها تاريخ مجد مؤثل بالرغم من مقاطعاتها الناقصة وحدودها المتنائية. ولهذا فإن الألمانيين راغبون من أجل سعادتهم عامة وسلامتهم في إعلاء اسم الجرمان باتحادهم تحت لواء تقدم بروسيا نابذين امتيازاتهم وشعورهم الشخصي ظهرياً. ولما أثنى فريتغ لأول مرة في ليبسيك على مهمة بروسيا وموقعها من ألمانيا حول قسم كبير من منوري الأفكار في ألمانيا أنظارهم نحو بروسيا التي كانت جندية الحلية أريستوكراتية المنزع غير مفكرين فيما يتخلل نظرياتهم السياسية ومذاهبهم من التناقض على أن الفرق طفيف جداً بين عالم الألمان ـ ذلك الجيل الناشئ على أفكار داروين واستراوس الفلسفية وبين جنود بروسيا: فكلاهما مولع في التقاط الحقيقة ومن ذوي القوة والبطش والاقتدار. أما بروسيا فقد كانت هيئة مسيطرة على ضروب المذهب الحقيقي: على السياسات والإدارة والجندية والاقتصاد وبالجملة فقد كانت متشبعة الروح بجميع أنواع مذهب الحقيقيين. وامتازت بخصلة هي فوق ذلك كله وهي أنها كانت تحس بوجود ميل خارق لسحق الفرنسيس كلما اقتربت منهم. ذلك هو الفكر الذي جال في خاطر طلاب كلية ألمانيا الجديدة بروسيا منذ عام 1850 وأول من كان موفقاً لإيفاء هذه الوظيفة على غاية ما يمكن أن يكون من الإتقان والكمال المؤرخ مومسن: تيودور مومسن من أغرب الألمانيين خُلقاً وخَلقاً اجتمعت في نفسه الأضداد بأجمعها فهو عالم كبير كما هو خيالي كبير ومع هذا فقد كان يوصي الناشئة الجديدة في أن يتلقوا ماله من الخيالات نموذجاً ليس من ورائها فائدة تذكر. وهو ديمقراطي على حين لم يوفق أحد إلى خدمة المذهب القيصري سراريزم تماثل ما عمله في مصنفه تاريخ رومية. ولد عام 1817 ومات سنة 1903 في مقاطعة غاردينغ من أعمال شلزويق حيث كان أبوه راهباً. ونشأ على هذه القطعة الساحلية الغريبة التي كانت ترى بمراعيها الواسعة وحقولها الشاسعة ذات غضار ونضارة من الداخل أشبه بلون بحيرة تضطرب بأمواج كالجبال من الخارج وإذا عمنا بآراء أحد القائلين بمذهب تين من المؤرخين كان من تنفجر عنهم الحياة في محيط كهذا مكتئبين مكدرين في حين كان مومسن من أبدع أنموذجات الإبداع البشري حياة وابتهاجاً وابتساماً. والصحيح أن هذه النموذجات غير نادرة في ألمانيا.

يظن الفرنسيس أن إقليم البلاد الشمالية البارد الذي يتخلل سكوته حزن مهيب يلد أناساً قد لعبت بهم الهموم وتقسمتهم الغموم على العكس في إقليم البلاد الجنوبية الزاهر المستنير بأشعة الشمس المشرقة فإنه يلد عنصراً خفيفاً أرعن. والحال أن عكس هذا في الغالب واقع في ألمانيا ولا سيما في الجنوب فإن في صحاري سواب الخصبة المعشبة وفي الكروم التي تروى بنهري الرين وموزل قد نشأت عقول واسعة رصينة وفي وسعها أن تحيط بالعالم بأسره. والشعراء الذين نبغوا ثمة قد تغنوا بماهية حياة الجرمان وحقيقتها بأناشيد لطيفة خفيفة غير أنها ثقيلة الأوزان. أما في الأنحاء الشمالية فإن صحاري بوميوراينا وبراندنبورغ المبتورة حدودها قد أنشأت قادة عاملين وساسة جسورين وكانت هنا حتى الأدبيات تلعب بها أميال الحرب والجدال وسرعان ما كانت تدخل في شكل المعارضة. مومسن هذا من نابته ذاك الجنس إذا رأيته رجلاً مقداماً إن تحرك فكأنما يتهيئ لعمل جديد. وإنه بسيمائه العصبي الذي ينم عن كل خير وعينيه اللتين تبرق منهما أشعة الحيلة والمكر وشفتيه اللتين ترتسم عليهما ابتسامة الاستخفاف والاستهزاء يذكر بفولتير العظيم وهو ببعض أطواره المنبعثة منها عوامل القسوة والغدر حتى في حالة السرور والنشاط وبوجهه الذي نال منه المقراض فلم يبق ولم يذر أشبه بمولتكه القائد حذو القذة بالقذة. أما سيماؤه الذي يتراءى من خلال مصنفاته فهو عبارة عن شخصية غريبة مؤلفة من طبيعة متسرعة منفعلة متوقدة أي من حدة المزاج ممزوجة بطبيعة أخرى حقيقية ماهرة في استخراج المغالطات المادية العملية ونفخ المناطيد التي وسع نطاقها حب التفاخر والغرور. في مومسن شخصان لا يجتمعان كل الاجتماع ولا يفترقان: عالم وصانع. ولا شبهة في أن العالم مومسن هو من خوارق القرن التاسع عشر ومن أعظم من هم جديرون بالتجلة والاحترام فإن معارفه وسعة اطلاعه منوعة تنوعاً غريباً وإنك لترى مجلته التي رأسها خمسين سنة وطاباً حفل بما لا يكاد يتناهى من الكتابات في تلك الموضوعات المختلفة كآثار رومية القديمة وعلم الألسنة وعلم المخطوطات وعلم المسكوكات والحقوق وعلم الأساطير هذا عدا () العظيم الذي جمع فأوعى من التدقيق والتحقيق العلمي الواسع وغزارة المادة وجودة المصادر مما أهله لبلوغ أقصى درجات الارتقاء. ولقد كانت للمترجم به ملكة كبيرة وقدرة باهرة في قراءة الألسنة القديمة الميتة ومؤلفاته برمتها شهادة ناطقة بالبرهان

على أنه كان موسوعة من موسوعات العلوم. كان مومسن يرى مع من يرى أن العلم غير منحصر في دائرة محدودة وأنه علم مشاع لهذا كان لا يستحسن تهافت الألمانيين على تعميم فكر الإخصاء ولا يقيم لتهالكم على انتشاره وزناً. فقد فقد قال في خطاب أورده في مؤتمر برلين العلمي في اللغة اللاتينية: الإخصاء في فرع من العلوم فقط واجب ولكن ليس من الواجب الاقتصار على ذلك الفرع والضرب دون غيره بإسداد بل يجب على الطالب لسعي لأن تتوفر لديه المعارف في هذا الفرع وأن يصيب حظاً من كل شيء. . فما أصغر هذه الكرة الرضية وأحقرها في نظر من لا يرون غير كتاب اليونان واللاتين وطبقات الأرض والمسائل الرياضية في هذا العالم الفسيح. . . ومن غريب التضاد كون مومسن مفنناً خيالياً مع سعة اطلاعه العلمي المدهش. وإنك لتذهل عندما ترى هذا الرجل في نفس الأمر الذي يحمل تلك الجبهة ذات القوة والتؤدة والوقار من الشعراء المتأثرين غير أنه ليس نظير ميشله المؤرخ الفرنسوي الشهير تأخذه الهزة والانفعال لكل جميل فهو لا تأخذه رحمة ولا شفقة لآلام من يفترشون الأرض ويلتحفون السماء من بني آدم ولكنه صاحب عقل متأثر لا يتبين غلا بمتانته وقوة دهائه فقط في هذا العالم وهو من أجل الأشياء التي تنثر ضياءً وشرراً أشد ما يكون احتداماً هياماًَ. كان من المحتمل بقاء غرائز مومسن في العلم والصناعة طي الخفاء لولا أن قيض الله لها رجلاً في برلين عام 1850 يعنى بنشر المؤلفات فرغب إليه كتابة تاريخ لرومية إذ كان يبحث عن كاتب يشغله في كتابه أمهات التاريخ. فأصاب ذلك الرجل المرمى في اختياره هذا لأن المترجم من المشاهير الباحثين المدققين أرباب الاطلاع على تاريخ رومية. ومن المعلوم أن أساطين العلم لا يقدمون في الغالب على تأليف كتب تتناولها الأيدي عامة وتتداولها الطبقات كافة. وقد حصلت له ملكة سامية جداً عندما كان يعاني من صناعة الصحافة ما يعاني ولهذا ظهر تاريخ رومية مؤلفاً ثميناً. وليس مومسن من تلك الطائفة الشائخة أساتذة الجرمان التي اتخذت العلوم المنتسبة إليها ديدنها وقضت حياتها وقفاً خالصاً عليها بل هو أشد ما يكون تأثراً وانفعالاً للمسائل العامة. ربى مومسن في كلية كيل فجهزته بجهاز حب بلاده حباً جماً ولطالما قرّع أولئك الذين يقولون أنه يجري في عروقه الدم الدانيماركي بقوله: إن من يدعون أن مدينتي شلزويق

وهولستاين ليستا من تراب ألمانيا هم في الحقيقة معتوهون مفتونون. ولم يدخل مومسن في السياسة خلال سنة 1848 وهو وإن لم يحضر بصفة عضو رسمي في مؤتمر فرانكفورت فقد كان من أدهش المحامين عن حقوق الأفراد في ذلك الحين. فقد دافع أشهراً عن قواعد السياسة الحرة وانقطع هو ورفيقان له في مدينة زوريخ من أعمال سويسرا عندما نحي عن منصب تدريس حقوق رومية وكان أستاذاً له في كلية ليبسيك عام 1851 ولم يعتم أن أعيد كرسي التعليم ثمة وأصبح يشتغل بتدريس ذلك الدرس نفسه زهاء سنتين. وفي عام 1854 غادر سويسرا بدعوة من حزمة بروسيا إلى كلية برسلو. وكان يرجو دائماًُ تقدم شبان هذه المملكة ولطالما قال: إن حياة بروسيا تتوقف كل التوقف على سلوكها سبيل التقدم الذي مهده لها فريديك الكبير. هذا وإن بين مومسن وبين أبناء صناعته فرقاً بعيداً وذلك أنه ظل صادقاً مستقيماً حتى نهاية زهو شبابه ولم يكن ليحفل مثلهم بفخفخة ما أتاه من إمارات النصر ولا عظمة ما ناله من بوارق التوفيق. كان بدء احتفاظ مومسن بأفكاره على ما شوهد أشد الاحتفاظ بين سنة 1866 و1870 الأمر الذي كان يتطلبه هو أن تكون ألمانيا عظيماً سلطانها منيعاً جانبها تضيء بأشعتها العلمية العالم المتمدن بأسره. ومما حكاه: إن تلك الشؤون السياسية قد شغلت حتى علماء المملكة سنين كثيرة. وهذا وإن كان يستند على أسباب معقولة مشروعة غير أنه حان زمن الإقدام والرجوع إلى الأعمال بعد ما تبينت نتيجة كل شيء. . . وكان يقول: من الواجب معالجة ينابيع قوى ألمانيا بالقوة وتوسيع نطاق علوم الألمان وكشف غطائها بالعمل. ولطالما حقر مومسن أولئك المتعصبين الذين كانوا يناهضون الموسويين بأبلغ ما يمكن تصوره من عبارات التحقير عاداً أنواع المبارزات الجنسية والدينية من رجوع القهقرى لأظلم أيام القرون الوسطى وأشدها أسى وبؤساً. فمن ثم ندد ببعض ضعاف الفكر من حسدة حزب الوطنيين مبيناً بطلان دعاوي تلك الفئة الواهية الواهنة ممن ادعوا بأن الموسويين عقبة كؤد في سبيل تكوين أمة قوية المنعة مصونة الحمى ويبين بمستندات تاريخية جمة أنهم مستعدون لكل ضروب التقدم والارتقاء وأنهم على العكس مما يظنون وانتقد سياسة بسمرك انتقاداً شديداً فحاكمه الوزير إلى المحاكم فحكمت ببراءة ساحته وكان عضواً في

مجلس الأمة. ليس بين المؤرخين من يقاس بمومسن في تحبير الصفحات التاريخية العظيمة أو تحريرها غير أرنست رنان فقط. فتلك التصورات الواسعة واحدة والنسبة فيما بينهما واحدة كما أن قوتهما في البيان والأداء سواء. أما المهارة في إشراب روح الحياة للأشياء كما كانت بإظهار دقائق التفاصيل والفروع الواسعة التي من شأنها أن تبقى في الحافظة منقوشة فواحدة أيضاً في المؤرخين مومسن ورنان. ولما كان مومسن أيضاً كسائر مؤرخي الألمان المتفرغين عن نيبور يهتم كثيراً بحياة الأمم الشخصية وكيفية نشوئها وانتشارها فإنه وجد تاريخ رومية مساعداً كثيراً لإيفاء هذا المقصد الذي يتوخاه. ولما حل مسألة الوطنية ووضعها رغب في تعليمها معاصريه وكان مثل هيبولت تين يستمد من المخترعات العلمية والمكتشفات الفنية بأجمعها لأن تقدم العلوم ولا سيما ما يتعلق منها بعلم الحياة قد ساعد التاريخ كثيراً. فقد نقب مومسن أولاً عن بعض ما لخصت به ولم يقبل ما في مذهب تين من المادية البحتة بل ولا جميع أفكار المؤرخين في هذا الباب ومن جملتها إمكان استخراج خصوصيات أمة من أخلاقها الخاصة بها بل من الأمور التي هي من قبيل الأسباب المادية كالتراب والهواء ونمط الغذاء. وكان نظره متجهاً نحو الحجرة الابتدائية للأمة الرومانية لأن بها فقط أمكن لرومية أن تحكم إيطاليا فالعالم أجمع. فاجتهد في كشف أسرار الرومانيين وسبب تفوقهم على الأمم القديمة متخذاً ذلك له أساساً متيناً فإذا أراد تعليل فوز الرومانيين وغلبتهم يبدأ في إظهار ذكاء هذا الجنس البراق وما فطر عليه من حب الإقدام والعمل وما يشعر به من تقديس الواجبات والقيام بها حق القيام وهكذا بعد أن تتبع كما رأيت أحوال الأمة الروحية في سائر مظاهرها أيام كانت عروق الحياة تنبض في جسمها وهو راغب في أن يجلو تاريخه على هذه الأفكار كلها ثم يزفه للناظرين. على هذه الأصول نفسها جرى تين أيضاً في عامة مؤلفاته الانتقادية المهمة ولاسيما تاريخ أدبيات إنكلترا. وهذا الأسلوب من جياد الأساليب غير أنه له محذوراً واحداً وهو أن الحادثات تلد طبيعية والرابطة التي في خلالها تأخذ شكلاً منطقياً متسلسلاً بحيث يخيل أن هذه كلها قد أعدت من ذي قبل والنصر المتولي الذي بدأ من أبواب رومية ثم وقف في

أقصى تخوم العالم المتمدن يشبه مصوراً خارطة قد رسمت بداءة بدء وعول فيها بعد على إدخالها إلى حيز العمل. فالمترجم نظر إلى تاريخ رومية من نقطة سياسية تماماً ويشاهد ما بذله من العناية في جماع مظاهر الحياة اليومية للنظرة الأولى. وفصول كتابه في الزراعة والتجارة والصناعة والآداب أجمع ما كتب في مصل هاته الموضوعات حتى الآن. ومما كان يرتئيه أن السياسة هي أهم واسطة لبيان أحوال حياة الأمم وهي التي تحدث تجديداً وانقلاباً في جميع الشؤون. لتتبع التاريخ السياسي وتدقيقه خطتان الأولى: خطة توكفيل الفلسفية وهي عبارة عن اتخاذ أوضاع الأمة وقوانينها المادية والفكرية أساساً والعمل على كشف أسرار تولدها ونتائجها أكثر من النظر في حوادثها وكائناتها ويصح أن يقال أن هذه الخطة علمية لأن الكاتب لا يظهر نفوره أو ارتياحه لحالة سياسية معينة. ومن ثم كان ذلك المؤلف غيرياً لا أنانياً. والثانية تعليل الحوادث التاريخية ببعض أفكار تنطبق على آراء سياسية واجتماعية أو دينية وبها يختلف التاريخ حسب المنظر ووجهته. ولقد وقى مؤرخو الألمان أنفسهم في الربع الأول من القرن التاسع عشر من هذا الأسلوب التاريخي الذي اتخذه كتاب الإنكليز والفرنسيس مثالاً يحتذونه. وهذا نيبور ورانك المؤرخان الألمانيان يصفان الوقائع التاريخية ويصورانها دون أن تشتم من تضاعيف سطورهما رائحة تحزب أو تعصب بتاتاً. وفي عام 1850 نشأ صنف من المؤرخين على غير تلك الطريقة والسبب في ذلك اجتماع طائفة من الأساتذة الأفاضل في مؤتمر فرانكفورت واشتغالهم بالسياسة بعض الاشتغال حتى إذا ما نقلوا مشاغلهم الخارجية إلى أرائك تدريسهم أخذوا يضعون موضع المذاكرة والبحث هاته الأحوال السياسية الحاضرة التي أورثت المسائل السياسية الغابرة تلك أطماع وذلك هو نتيجة الثورة السياسية سنة 1848. هذا هو مومسن قد حاز الأولية بين فريق هؤلاء المؤرخين هذا الرجل الذي كان يتخيل حينما يكتب تاريخه أن تعليلاته تنطبق على التجارب الماضية على حين أن القسم الأعظم منها كان ناشئاً في الغالب من شعوره الذاتي وتابعاً لأحوال محيطه وقوته المخيلة.

زبده فلسفة تاريخ مومسن براز في سبيل الحياة براز دائم من أجل تكوين جامعة سياسية وضمان عظمة قومية. وعنده أن تاريخ رومية يمكن تلخيصه بعدة فتن وحروب بدأت فيما فرط بإعداد الجيوش وسوقها كما بنيت على أساس تجاري ودولة رومية الزراعية التجارية التي تحيط بها قبائل الأعداء من كل ناحية وجهة تحارب أولاً صوناً لتجارتها من أن تبور حتى إذا انصبغت السياسة إذ ذاك بصبغة حكومة مطلقة تعمل على القيام على التهام ما حولها مما لا يزال فتياً. وكثيراً ما تجد مومسن يرجع إلى هذا ناموس حياة الأمم فيتعبره بمثابة ناموس الثقل في موقعه ومساس الحاجة إليه. وكان يقول: لما كان المقصود الأعظم من التاريخ المدنية والمدنية تعمل على تشذيب ما ليس فيه قابلية للنمو واستعداد للنشوء من الأغصان كما ينبغي كانت الحرب عبارة عن آلة جسيمة من الإصلاح لإنشاء الرقي العام وإن سعادة مملكة ليتوقف على تبدل مبارزاتها إلى حروب!. . . . إلا وأن فلسفة تاريخ كهذي تناسب جداً حال أمة بروسيا تحارب نفسيها بنفسها مرات ثلاثاً متتالية وتساعد كثيراً على تعميم الرقي والتقدم في ألمانيا أولاً ثم في أوروبا والعالم أجمع. ومع هذا فالمترجم لا يضم صوته إلى صوت الفيلسوف هيكل في قوله: إن وراء كل حرب فكراً أخلاقياً والقوة والفضيلة (لفظتان مترادفتان) ولا هو أيضاً من أرباب الاشتغال بالأخلاق. وكان يقول بهذا الناموس التاريخي: الحق مع القوة والتاريخ يكسر في مهب عواصفه العاتية الأمم التي لا صلابة فيها ولا مرونة كسر الفولاذ دون أن يشعر بأثر رحمة أو شفقة مطلقاً. هذه هي نظرياته التاريخية التي يظل الإنسان حائراً حينما يرى أنها وأمثالها يدافع عنها ويحامي في وطن رجل مثل ذلك الفيلسوف كانت. لكن مظهر ألمانيا عام 1850 تغير عما كان عليه على عهد الفيلسوفين العظيمين فيختي وكانت. إذ أن فلاسفتها المحدثين أروها أن الأحوال والمواقع في تبدل دائم وأن قيمة الحقوق نسبية والقابض على أزمتها هي القوة فقط. ذلك هو ناموس العام الذي ليس في إمكاننا مهما أحسنا النقد نقضه أو تبديله. وناهيك بناموس كانت فلسفة بسمارك بأسرها عبارة عنه. أول درس رغب مومسن في إلقائه على مواطنيه وصيته العظيمة: لا تكونوا بلهاً أغراراً

ولقد تحققت أمنيته تلك. فإن الجنس الذي أوجد بسمارك لا يمكن أن ينسب إليه بله أو غباوة في حال من الأحوال. وإن تقدم أمة الجرمان ليصادم النظر في أغلب فصول كتابه فبينا هو يبحث عن الغاليين مثلاً إذ يشرع في وصفهم بقوله: إنهم شعراء أذكياء ذوو قلوب صافية سرائرها وليس بهم قوة ولا طاقة غير أنهم طائشون يرتاعون من العمل في الحقول والمزارع ويرتاحون للحانات والعربدة ويعتبرون قسيسهم أباً ومنه يرجون النصح في كل شيء. وكان مومسن لا يحب الفرنسويين بتة ومن أجل هذا فإنه أحيا تلك المعركة التي نشبت سنة 1870 على أنها للألمانيين مخلصاً لهم يحررهم من داء تقليد فرنسا. وقد بحث في كتاب كتبه لإرجاع الإيطاليين عن فكر اتفاقهم مع فرنسا في اضمحلال بابل الجديدة (باريز) وسقوط أدبيات فرنسا التي هي أشبه بنهر السين اتساخاً ودنساً. هذا الميل الذي كان يشعر به مومسن نحو بلاده كان يجول في خلال كل سطر من تاريخه وفوق ذلك فإنه كان يرى العناصر الأخرى بجاني العصر الجرماني منحطة جداً. ولم يكن يميل للأمة اللاتينية وإن كان يتظاهر بذلك أحياناً ولم يكن مصدر ذلك هو حب حقيقي وزد على ذلك فإنه كان لا يرتاح إلى أفكار هذه الأمة مع ما أوتيه من المواهب الطبيعية وما فيه من المبادئ السامية وما أتيح له من معرفة العظماء ومما قاله في ذلك إن الإيطاليين لا يمكن أن يدخلوا في مصاف الأمم التي تلعب في طبائعها الغرائز الشعرية لفقدان تأثر أفئدتهم إنما لا تقاس أمة الإيطاليين في البلاغة والفاجعات. . . . وأنت لتجد لسانه الجائل في تلك الأبحاث وهو يحكم حكماً باتاً قاطعاً مرتبطاً بفكره وشعوره تمام الارتباط. فهو مثل تين حذو القذة بالقذة لا ينحرف عن الأسلوب الذي تمسك به فيد شبر. وفيما هو يكتب في التاريخ يبين الآراء ويثبت ما أتى به من نظرياته الخاصة تراه يطرح من الوقائع كل ما يوشك أن يوقع في هذه الآراء والنظريات خللاً. فهو يريد أن تكون الأمة الرومانية سالكة السبيل الذي اختطه لها لا تحيد عنه ذات اليمين أو ذات الشمال. خذ إليك مثلاً ذهابه إلى أن الدهاء في غير السياسة لا أثر له في الرومانيين وجزمه بما ذهب إليه جزماً باتاً تجده يعزز هذا الحكم باستنتاجات قوية وبراهين جلية متينة. وأن الألمان ليتراؤن له من جهة الانتظام أتم من الرمانيين الذين هو وألئك في السياسات والمعارك سواء وكذلك يشعر المطالع من طرف خفي بمدحه الألمان من خلال

حطه من العنصر اللاتيني وأنه ليفاخر قائلاً: إن القسم الذي وقف سداً منيعاً بكل ما فيه من قوة ورابطة جأش أمام هجمات المغول على رومية كان مؤلفاً من جماعة الوطنيين فقط الذين يجري في عروقهم دم الجرمان. وهكذا جاء الكتاب من أوله إلى آخره على هذا المنوال فهو أشبه بقصيدة نظمت للذب عن ألمانيا والألمانيين. وبعد فليس بالنزر التافه القليل الذين استفادوا من تلك الدروس التي ألقاها مومسن في تاريخه وأفادوا بما جمعوا من المؤلفات الجمة في أحوال عصر الجرمان الروحية التي دعت أساتذة التاريخ والجغرافيا وأهل الإخصاء في علم الحيوان إلى أن بينوا أفضل عنصر الجرمان على رؤوس الأشهاد فعلت الضوضاء حتى في الكتب الجغرافية المدرسية بأن ألمانيا قلب أوروبا حقيقة وأن ما في فرنسا من كل شيء جميل إنما هو مدين لعنصر الجرمان. معربة عن التركية دمشق ص

المسلمون والذميون والمعاهدون

المسلمون والذميون والمعاهدون الإحساس دليل الحياة التضامن رائد العمران (تابع لما قبله) جاء في عرض كلامي عن الأقباط في الجلسة الماضية أنهم يعاقبة واعتمدت على المقريزي وابن خلدون وسائر المؤرخين. فلم ترق هذه الكلمة في عين حضرة صاحب المجلة القبطية فاستدركها وقال أنهم أرثوذكس. ولكن رأي المقريزي في ذلك يؤيده العلامة القبطي ابن البطريق وقد اعترف حضرته بذلك. فليكن الأقباط أرثوذكساً أو ملكيين أو ملكانيين أو نساطرة أو كاثوليك أو بروتستانت أو يعاقبة أو موارنة أو مرقولية وليقولوا ما شاؤوا في اللاهوت والناسوت والحلول والاتحاد والمشيئة والأقنوم والطبيعة فإنما هم مصريون قبل كل شيء وتلك أمور داخلية وعقائد تعبدية ليس لها مساس بموضوعنا الذي نحن فيه اليوم. ولكنني لا أترك هذه الفرصة دون الوقوف معه ومناقشته في قوله كان عددهم عند الفتح الإسلامي ثلاثين مليوناً. وغاية ما أقول أن عبارته عليها مسحة من المبالغة الشرقية التي لا مصداق لها سوى الخيال. أنا لا أحب المناظرة لأنني أعتقد أن تولع الشرقيين بها قد أوجب ما نراهم عليه من التقهقر والانحطاط. ولكنني لا يسعني أن أمر على هذه الكلمة بدون احتجاج ولو كانت من غيره لكانت مما لا يؤبه له ولا يعتد به أما وقد صدرت من فاضل مشهور بالتدقيق والتحقيق ومعروف بسعة الاطلاع وكثرة التنقيب فليس له أن يرسل القول جزافاً دون أن يعززه بدليل أو بشبه دليل. وقال ابن البطريق القبطي أن المقوقس اجتمع مع عمرو بن العاص على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر من أعلاها إلى أسفلها من القبط دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ الحلم وليس على الشيخ الفاني ولا على الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النهى شيء وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة ممن بلغ منهم فكان جميع من أحصي ستة آلاف ألف إنسان فكانت فريضتهم إثني عشر ألف ألف دينار وفرض عليهم هذين الدينارين ودفع ذلك عن رقابهم بالأيمان المؤكدة.

وقد أجمع المؤرخون من المسلمين وغير المسلمين على أن رجال مصر البالغين لم يزيدوا في ذلك العهد عن ستة ملايين. وليس يصح في الأحلام أن يقال أن النساء والأطفال والشيوخ الفانين كان عددهم أربعة وعشرين مليوناً أي أربعة أضعاف هذا العدد. وأنا أقول أن الأقباط أهل ذمة ووفاء فلا يصخ أن يقال أن دلسوا في الحساب وخانوا في الإحصاء فضلاً عن قيام العرب عليهم لأن مصلحة الفاتحين كانت تقضي بزيادة عدد الرؤوس لتتضاعف لهم الأموال وتبلغ الجزية ستين مليوناً من الدنانير بدلاً من اثني عشر ألف ألف دينار. فنحن اليوم في عصر النور والتحقيق ويا حبذا لو أننا نربأ بأنفسنا عن تلك المبالغات الشرقية. وسعيد بن البطريق هذا هو قبطي مصري قال المكين أنه تولى بطريركية الأقباط فكان في أيامه شقاق كثير وشر متصل بينه وبين شعبه أدى بمحمد بن طغج صاحب مصر إلى إرسال قائد من قواده إلى تنيس فخيم على الكنائس وما بها وكان فيها شيء كثير من الذخائر حتى أن ذهبها وفضتها وزنت بالقبان لكثرتها وعبى القائد جميعها في الأقفاص وتوجه بها إلى مصر فمضى أسقف تنيس على جماعة الكتاب فتوسلوا لدى الأمير سنقر واستقر الرأي على إعادة كل هذه الذخائر في نظير خمسة آلاف دينار فباعوا من الأوقاف والعقارات التي للكنائس بقيمة المبلغ وحملوه إليه وبلغ الأخشيد أن الأسقف باع الأملاك بدون قيمتها فأرسل إلى تنيس وطالب المشترين بفرق الثمن. فلما علموا أن شقاقهم أوجب هذا اصطلحوا واجتمعوا في كنيسة واحدة. كان مولده في يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 263 وفي أول سنة من خلافة القاهر العباسي صار بطريركاً على إسكندرية وسمي أتوشيوس وذلك في 8 صفر سنة 321 وبقي في الكرسي والرئاسة سبع سنين ونصفاً ثم أصابه إسهال بمصر فحدث أنها على موته فصار إلى كرسيه بالإسكندرية وأقام به عدة أيام عليلاً وتنتح في آخر رجب سنة 328. والبطريرك تعريب للفظ رومي معناه أبو الأسرة أو رب البيت قال المسعودي في كتاب التنبيه والإشراف أنه بالرومية بطرياركس تفسيره رئيس الآباء ثم خفف وقد سماه المسعودي والإسلاميون بطريرخ ثم بطريرك ثم خفف في الاستعمال فصرنا نقول بطرك ونكتبها بطريرك كما نقول جنبية ونكتب جنباواي وكانوا يكتبون جنبويه وكما نقول أبشيه

وأبشاي ونكتب أبشواي وكانوا قبلنا يكتبون أبشويه وكما نقول بيه ونكتب بك وهكذا. وأما البطريق فهو تعريف للفظة رومية هي كما جاء في دائرة المعارف البستانية فإن لفظة هي خاصة بفريق الأعيان عند الرومان أهل رومية وأما فهي عنوان على المتقلد بوظيفة كبرى في الإدارة أو في العسكرية عند الروم أهل القسطنطينية وهم الذين كان لهم بالعرب اشتباك واختلاط وعنهم عربوا هذه الكلمة بلفظة البطريق. وإن كانت اللفظتان مشتقتين من مادة واحدة لكن الاصطلاح لم يكن واحداً عند الأمتين. فإذا جمعوا اسم أصحاب الوظيفة الدينية فقالوا بطاركة وإذا جمعوا اسم أصحاب الوظيفة المدنية أو العسكرية قالوا البطارقة. وقد يخلطون بينهما في الجمع كما قال المستهترون بحقيقة الألفاظ المعربة اسم أعجمي إلعب به كيف شئت. وقد كان ابن البطريق صاحبنا معاصراً للإمام المسعودي وصديقاً له وقد اجتمعا معاً بالفسطاط. وقال في التنبيه والإشراف ما نصه: وأحسن كتاب رأيته للملكية في تاريخ الملوك والأنبياء والأمم والبلدان وغير ذلك كتاب محبوب بن قسطنيطين المنبجي وكتاب سعيد بن البطريق المعروف بابن الفراس المصري بطريرك كرسي مارقس بالإسكندرية وقد شاهدناه بفسطاط مصر انتهى تصنيفه إلى خلافة الراضي. وقد اشتهر بين المسلمين كثير من النصارى بهذا الاسم فأولهم ابن بطريق النصراني الذي كان أمين سر سليمان بن عبد المكل الخليفة الأموي بدمشق. كما كان سرجون بن منصور الرومي النصراني أمين سر من قبله للخلائف معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم. وكان في أيام أبي الدوانيق المنصور العباسي رجل اسمه البطريق أمره بنقل أشياء من الكتب القديمة. واشتهر في أيام المأمون رجل اسمه يحيى بن البطريق كان في جملة الحسن بن سهل وتحت رعايته وكان لا يعرف العربية حق معرفتها ولا اليونانية وإنما كان عليماً باللغة اللاتينية وهو من جملة الوفد الذي أرسله المأمون إلى ملك الروم عندما غلبه واستظهر عليه وتوالت بينهما المراسلات فكتب غليه المأمون يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلاد الروم فأجاب الملك إلى ذلك بعد امتناع فأخرج لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر ومسلمة (سلم صاحب بيت الحكمة) وغيرهم فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل وقيل أن صاحبنا يوحنا بن ماسويه

الذي وصف أحسن دواء لأوجاع المعدة كان من جملة ذلك الوفد. وقد نقل ابن البطريق هذا واسمه يحيى من مؤلفات أرسطوطاليس إلى العربي كتاب السماء والعالم وهو في أربع مقالات وكتبا لحيوان وهو تسع عشرة مقالة ولخص جوامع كتابه في النفس وصله في ثلاث مقالات ثم نقل إلى العربي أيضاً كتاب البرسام للاسكندروس الطبيب الذي كان قبل جالينوس. وقد أرسله المأمون في مهمة أخرى للبحث عن كتاب لأرسطو. وعندي نسخة من كتاب بخط اليد عنوانه كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار وهو من الكتب المنسوبة لأرسطو وقد ترجمه ابن البطريق هذا على اللغة العربية وإليكم ما قاله في مقدمته مخاطباً المأمون: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأيده على حماية الدين والرعاية لأحوال المسلمين فإن عبده امتثل أمره والتزم ما حده عن كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار الذي ألفه الفيلسوف الحكيم الفاضل أرسطو طاليس لتلميذه الملك الأعظم الإسكندر المعروف بذي القرنين حتى كبر سنه وضعفت قوته عن الغزو معه. وكان الإسكندر استوزره واصطفاه لما كان عليه من صحة الرأي واتساع العلم وقوة الفهم وتفرده بالخلال السنية والسياسة المرضية والعلوم الإلهية مع التمسك بالورع والتقى والتواضع وحب العدل وإيثار الضمير. . . فلم يدع الترجمان يحيى بن البطريق هيكلاً من الهياكل التي أودعت الحكماء فيها أسرارها إلا وأتاه ولا عظيماً من عظماء الرهبان الذين لطفوا (انقطعوا) لمعرفتها إلا أتاه وقصده وانتحاه حتى وصل هيكل عبدة الشمس الذي كان بناه هرميس الأكبر لنفسه فظفر فيه بناسك مترهب ذي علم بارع وفهم ثاقب فتلطف به واستنزله وأعمل الحيلة حتى أباح له المصاحف المودعة فيه فوجد في جملتها الكتاب المطلوب الذي كان أمره أمير المؤمنين بطلبه مكتوباً في رق مصبوغ بالفرفير بالذهب المحلول منقوطاً بالفضة البيضاء المحلولة. فرجع إلى الحضرة المنصورة ظافراً بالمراد. فسعى بعون الله وبسعد أمير المؤمنين وجدّ في ترجمته ونقله من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي. أفرأيتم كيف تطرق بنا الحديث والحديث ذو شجون من ابن البطريق المصري إلى سميه البغدادي إلى الخليفة المأمون. وهل علمتم أن هذا الخليفة ورد على وادي النيل وكان له في

رحلته بها شؤون يا لها من شؤون. ففي سنة 217 هجرية وقع أمران عظيمان اضطرب لهما بال المأمون ولم ير في أحد من أهله ولا من ذوي عمله الكفاءة لهما فندب نفسه وعزم على الخروج من بغداد. وذلك أن ملك الروم كتب إليه يسأله الموادعة والمهادنة وبدأ في كتابه بنفسه وكانت قد حصلت بمصر فتنة عظيمة واضطرب أمرها. فعزم المأمون على الخروج لغزو ملك الروم ولإصلاح ذات البين بمصر. فأمر بعقد الألوية السود وهي شعار بني العباس كما تعلمون (ونقول بهذه أن بني العباس كان لهم لوآان فابيض يعقدونه لمن يولونه الأعمال والحكومات وأما الأسود فهو خاص يعقدونه لولاية العهد على الخلافة) ثم أمر بجمع المسودة وهم جيوش بني العباس وشعارهم السواد. وقبل أن أسوق إليكم الحديث عما جمعته من شوارد هذه الرحلة العجيبة أخركم يا بني أمي ويا بني عمي بأمر هو من باب تحصيل الحاصل فأنتم تعلمون جميعاً أن أهل مصر عموماً يهيمون بالبصل غراماً تستوي في ذلك الطائفتان الصغرى والكبرى، بل إن بني إسرائيل حينما هاموا في التيه ولم يجدوا عن البصل من بديل ولم يعثروا على شبيه حردوا على موسى الكليم. وبما أننا سنحضر ركاب المأمون فلا بأس من ذكر نادرة من نوادره الكثيرة في إكرامه للعلماء حتى ولو كانوا ممن يأكلون البصل والثوم ويشربون النبيذ ويقومون للحنزير الحنيذ. فقد كان بلغه قبل ذلك أن الشيخ كلثوم بن عمرو العتابي قد توفي ثم بلغه أنه لا يزال على قيد الحياة وهو من أكابر الشعراء المرسلين وأفاضل البلغاء المطبوعين فأرسل إليه لينادمه قبل سفره حتى لا تفوته مجالسته إذا مات الرجل وهو في الغزاة أو في مصر فلما دخل عليه أدناه وقربه حتى قرب فقبل العتابي يده ثم أمره بالجلوس فجلس وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي نديم الخلفاء ونادرة زمانه حاضراً فقال له المأمون: بلغتني وفاتك فساءتني ثم بلغتني وفادتك فسرتني. فقال العتابي: يا أمير المؤمنين لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاها فضلاً وإنعاماً وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ولا يبسط لسواه أمل لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا غلا معك. فقال له: سلني. فقال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال. فوصله صلات سنية وبلغ به التقديم والإكرام أعلى

محل. ثم أقبل عليه يسائله عن حاله وهو يجيبه بلسان ذلق طلق فاستظرفه المأمون وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح فظن العتابي وكان شيخاً جليلاً نبيلاً أنه استخف به. فقال: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس. وهذا مثل مشهور ولكن المأمون اشتبه عليه قول الرجل فنظر إلى نديمه إسحاق مستفهماً فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهم. فقال: يا غلام ألف دينار. فأتى بالذهب وصبه بين يدي الأديب. ثم أخذوا في المفاوضة والحديث وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم الموصلي عليه فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه إسحاق وزاد عليه. وبقي العتابي يزداد عجبه من إسحاق حتى لم يطق صبراً. فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ فقال: نعم. فقال: يا شيخ من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كل بصل فتبسم العتابي وقال: أما النسبة فمعروفة وأما الاسم فمنكر. وما كل بصل من الأسماء؟ فقال إسحاق: ما أقل إنصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم وكل ثوم من السماء؟ أو ليس البصل أطيب من الثوم. فقال كلثوم العتابي: لله درك فما أحجك! يا أمير المؤمنين ما رأيت كالشيخ قط. أتاذن لي في صلته بما وصلتني به فقد والله غلبني. فقال المأمون: بل ذلك موفر عليك فنأمر له بمثله. فقال إسحاق: أما إذا قررت بهذه فتوهمني تجدني. قال: ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق ويعرف بابن الموصلي. قال: أنا حيث ظننت فأقبل العتابي عليه بالتحية والسلام فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا قد اتفقتما على المودة فانصرفا سالمين. وخرج المأمون من بغداد بجيوشه وجحافله حتى دخل بلاد الروم غازياً لينتقم من ملكها الذي قدم نفسه عليه في المخاطبة وهنالك تناهت إليه الأخبار باستفحال الثورة في مصر وتعاظم الخطب وتفاقم الأمر حتى خرج أهلها من مسلمين وأقباط عن طاعة الخليفة لما نابهم على السوء من ظلم عامله عليهم وهو عيس بن منصور الرافعي. فامتنع المصريون كافة عن وزن الخراج وطردوا العمال. فترك الجنود ببلاد الروم لمحاصرة القلاع وتتميم الغزوة وسأتبعه في طريقه خطوة خطوة وأذكر ما فعله ببلادنا لخير الأقباط والمسلمين وما أبقاه فيها من المآثر التي دوى ذكرها وطمس خبرها وتنوسي أمرها على أن يخرج من وادي النيل مرموقاً بالعيون مشيعاً بالقلوب محموداً من جميع الشعوب.

ذهب المأمون إلى الشام فاشتاق للمنادمة فطلب رجلاً شامياً لمجانسته ومحادثته فأدخل له خواصه أديباً منهم وقالوا له: يا شامي أنت داخل على أمير المؤمنين فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك فإننا أعرق الناس بمسألتكم يا أهل الشام. فقال: لا أتجاوز أمركم. فلما استدناه المأمون وكان على شغله من الشراب قال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي فقال الشامي: يا أمير المؤمنين إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة فأمر له بخلعة. فداخل الذي أدخله غضاضة ورعدة شديدة من هذا التهجم. فلما لبس الشامي الخلعة ورجع إلى مجلسه قال يا أمير المؤمنين: إن قلبي إذا كان متعلقاً بعيالي لم تنتفع بمحادثتي. قال الخليفة: احملوا إلى منزله خمسين ألفاً. فقال الشامي ولي عليك يا أمير المؤمنين خصلة ثالثة أرجو أن تنعم بها أيضاً. قال: وما هي؟ قال قد دعوت بشيء يجول بين المرء وعقله فإن كانت مني هنة فأغتفرها. قال: حباً وكرامة. فكانت الثالثة برداً وسلاماً على الذين أدخلوه وعجبوا من حلم المأمون وكرمه. وقد اغتنم الخليفة فرصة وجوده بالشام لتحقيق مقدار السنة الشمسية فرصد ذلك بدار الرصد بدمشق المعروف بالشماسة وكانت له دار رصد أخرى ببغداد. فلما كان في دمشق قل المال عنده حتى أضاق فشكا ذلك لأخيه المعتصم الذي تولى الخلافة بعده وكان المعتصم قد ورده خبر بأن ثلاثين أل ألف قد حملت إليه من خراج الأعمال التي يتولاها للمأمون فقال له: يا أمير المؤمنين كأنك بالمال قد وافاك بعد جمعة. فلما ورد خرج المأمون والقاضي يحيى ووجوه خاصته وسائر الناس لاستشرافه فوردت الصناديق محمولة على أباعر بأحلاس موشاة وجلال مزوقة وعليها شقق الحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر فكان منظرها يروق العيون ويأخذ بمجامع القلوب فضلاً عن العجب بما عليها من الذهب. فقال المأمون ليحي: هل يصح أن ينصرف أصحابنا هؤلاء خائبين على منازلهم وننصرف نحن بهذه الأموال قد تمسكناها دونهم إنا إذا للئام. ثم دعا كاتبه فقال: وقع لآل فلان بألف ألف ولآلا فلان بمثلها ولآل فلان بخمسمائة ألف وما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألفاً ورجله في الركاب ثم أمر بدفع الباقي للجند. وكان رجل من الكتاب حاضراً وهو العيشي صاحب إبي إصحاق النديم فأخذ ينظر للمأمون ولا يرد طرفه عنه بحيث كان الخليفة لا يحول نظره إلى جهة ولا يلتفت إلى شيء إلا وقعت عينه عليه فقال لكاتبه وقع

لهذا بخمسين ألف من الستة آلاف الألف لا يختلس ناظري. ثم أتى مصر فكان كلما دخل قرية أو مدينة ينزل على دكة قد بنيت لأجله ليكون مقامة مرتفعاً عن رطوبة الأرض فتضرب له على الدكة قبة بسرادق عظيم وتقيم العساكر حوله وكان يقيم في القرية يوماً وليلة فجاء عن طريق الفرما وفيها حضره الشعر فقال: لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما والسدم هو الهم مع الندم والحزن والغيظ والميدان موضع ببغداد اسم لبلد بكورة سابور من أعمال فارس ولا شك أنه تفكر أثناء وجوده بها في فتح قنال السويس الموجود فقد روى أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الشطيبي (كذا) الأندلسي وقيل شهاب الدين أحمد المقري الفاسي في كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان المحفوظ منه نسخ متعددة بمكتبة باريس الأهلية أنه سعى في توصيل البحر الأحمر (بحر القلزم) بالبحر البيض المتوسط (بحر الروم) ولكنهم صرفوه عن هذه العزيمة خوفاً من الروم على مكة والمدينة كما خوفوا عمر بن الخطاب من قبله وهو أول من فكر في ذلك في الإسلام. ومر على دمياط ونزل عند قرية صغيرة اسمها بوره (وهي التي تنسب إليها العمائم البورية والسمك البوري وقد انحلت هذه العمائم باندثار القرية ولا يزال السمك باقياً يستطيبه المصريون إلى اليوم) فدخل عليه بكام القبطي من أهلها وكان ذا ثروة واسعة فخطب من المأمون عمارة بورة فقال له أسلم فتكون مولاي وأوليك فقال بكام: لأمير المؤمنين عشرة آلاف مولى مسلم أفلا يكون له مولى نصراني. فضحك منه المأمون وولاه عمالة بورة وما حولها. فبنى الرجل بها كنائس كثيرة حساناً وكان على باب داره المسجد الجامع فقال لأهل بورة من المسلمين أنا أبني لكم مسجداً جامعاً غير هذا واهدموا هذا المسجد من على باب داري فقالوا له ابن المسجد ونحن نصلي في هذا حتى إذا فرغت من بنيان ذاك صلينا به وهدمنا هذا المسجد. فبنى مسجداً كبيراً حسناً فلما فرغ منه ثقال لهم: فوالي بما وعدتموني فقالوا لا يجوز لنا في ديننا أن نهدم مسجداً قد صلينا فيه وأذنا وجمعنا فبقي المسجد على حالة وصار في بورة مسجدان تقام فيهما الجمعة فكان المسلمون يصلون جمعة في هذا وجمعة في ذاك. وكان بكام في يوم الجمعة يلبس السواد شعار بني العباس ويتقلد السيف والمنطقة ويركب برذوناً وبين

يديه أصحابه فإذا بلغ المسجد وقف ودخل خليفته وكان مسلماً فيصلي بالناس ويخطب باسم الخليفة. ثم استمر الخليفة في سيره حتى جاء إلى قرية حقيرة فلم ينزل بها وهي طا النمل من مديرية الدقهلية وقد حرفنا اسمها تبعاً لأهلها فصار المشهور الآن (طنامل) وهما قريتان إحداهما شرقية والأخرى غربية وكلتاهما تبعدان عن مدينة المنصورة نحو ثلاث ساعات ولم تكن المنصورة موجودة في عهد المأمون لأن بناءها كان بعد ذلك في أيام الملك الكامل الأيوبي أثناء هجمات الصليبيين على مصر. فلما مر على القرية لم يدخلها لحقارتها فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح. فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها وكان لا يمشي أبداً إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكر له ان القبطية قالت: يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي والقبط تعيرني بذلك، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ولعقبي ولا تشمت الأعداء بي. وبكت بكاءً كثيراً فرق لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله: كم تحتاج منم الغنم والدجاج والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة وغير ذلك مما جرت به العادة. فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة. وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن أبي داؤد فأحضرت القبطية لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ولم تكل أحداً منهم ولا من القواد إلى غيره. ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئاً كثيراً حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشرة وصائف مع كل وصيفة طبق فلما عاينها المأمون من بعد قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف: الكامخ والصحناه والصير فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب. فاستحسن ذلك ومرها بإعادته. فقالت لاوالله لا أفعل. فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله. فقال: هذه والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك فقالت يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا فقال: إن في بعض ما صنعت كفاية ولا نحب التثقيل عليكي فردي مالك بارك الله فيك فأخذت قطعة من الأرض وقالت يا أمير المؤمنين هذا (واشارت للذهب) من هذا (واشارت للطين) ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها وقطعها

ضياع وأعطاها من قريتها طا النمل مائتي فدان بغير خراج وانصرف متعجباً من كثرة مروءتها وسعة حالها. ثم سار حتى وصل الفسطاط عن طريق المطرية وعين شمس متبعاً في ذلك خط السير الذي اتبعه الجيش الإسلامي مع عمرو بن العاص في أيام الفتح في سنة 20 هجرية فدخل الفسطاط يوم الجمعة 9 المحرم سنة 217 وكانت قد بنيت له قبة على الجبل المقطم فنزل فيها وكانت تسمى قبة الهواء وكان مع المأمون فراشون من النصارى فبعدت عليهم الكنائس التي في القصر فاستأذنوا المأمون في بناء كنيسة يصلون بها تكون بالقرب من قبة الهواء فإذن لهم فبنوا من فضلات قبة الهواء كنيسة مرتمريم التي في القنطرة وهي التي عرفت في ما بعد بكنيسة الروم. وفي أثناء إقامته في الفسطاط أرسل ملك النوبة وفداً إلى المأمون ذكروا عنه أن ناساً من مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم لمن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيده ولا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه تملك العبيد العاملين فيها فحول المأمون على عامله بأسوان تحقيق هذه المسألة وأمره بالاستئناس بمعلومات من بها من الشيوخ وأهل العلم فوصل الخبر إلى أهل أسوان الذين اشتروا تلك الضياع وعلموا أن عدل المأمون سينزعها من ايديهم ويردها على صاحبها فأعملوا الحيلة حتى لا يضيع عليهم الثمن الذي دفعوه وتذهب عليهم الأعيان التي تملكوها فتقدموا إلى البائعين من أهل النوبة واتفقوا معهم على أنهم إذا أحضرهم الحاكم المولى من قبل المأمون يقولون بأنهم ليسوا عبيداً لملك النوبة وأن يقولوا بحضرته وبحضرة الشيوخ والشهود والعدول: سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم ويجب علينا طاعته وترك المخالفة له فإن كنتم أنتم عبيداً لملككم وأموالكم له فنحن كذلك. فلما جمع حاكم أسوان بين البائعين وبين رسول ملك النوبة والنائب عنه في هذه القضية المهمة اعتمدوا على هذه الحجج ونحوها مما لقنها لهم أصحاب الحظ والمصلحة في ثبوت البيع ونفاذه فصح البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم. هذا وقد أنشأ المأمون أثناء مقامه بمصر جسراً (كوبرياً) يصل بين مصر القديمة وبين جزيرة الروضة وانتقل إلى المنيل فأعجبته هذه الجزيرة الجميلة فبنى بها جامعاً ومقياساً كما ذكره عبد الرشيد صالح بن نوري الباكوبي المولود في مدينة باكو من بلاد الروسيا

وهو من أعيان القرن التاسع للهجرة في كتابه المسمى بتلخيص الآثار في عجائب الأقطار المحفوظ منه نسختان في مكتبة باريس الأهلية ولم يتم هذا المقياس في أيام المأمون فأتمه المتوكل العباسي وهو الباقي إلى اليوم. وقد كان القبط يتولون مقاييس النيل إلى أيام المتوكل في سنة 247 فتولاه المسلمون بعد تمام مقياس الروضة وأولهم أبو الرداد المعلم الذي كان مؤذناً في جامع عمرو يعلم الصبيان القرآن واستمرت هذه الوظيفة في ذريته حتى سنة 938 ويقول الموكلون به في أيامنا هذه أنهم من عقبة. ثم عدا المأمون إلى بر الجيزة وذهب إلى الأهرام. قال شيخ الربوة الصوفي الدمشقي في كتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر المطبوع في بطرسبورغ ما نصه: ولم تزل همم الملوك قاصرة عن تعرف ما في هذين الهرمين إلى أن ولي المأمون الخلافة وورد مصر فأمر بفتح واحد ففتح بعد عناء طويل واتفقن له لسعده المعين على تحصيل عرضه أن فتح في مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب فانتهى بهم الطريق إلى موضع مربع في وسطه حوض من رخام مغطى بالكف عما سواه. ويا ليت لو كان أمر بفتح هرمين أو ثلاثة من الأهرام الصغار المبثوثة فيرهما لكي يبين الأمر جلياً له وللناس. وروى المقريزي عن صاحب تحفة الألباب أن المأمون أصعد بعضهم لتعرف ما بداخله وبعضهم لذرعه من الخارج. فأفضى الذين صعدوا إلى القبة التي في أعلى الهرم من الداخل إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج فأخرجت على المأمون فإذا هي منطبقة فلما فتحت وجد فيها جسد آدمي عليه درع من الذهب مزين بأنواع الجواهر وعليه حلة من ذهب قد بليت ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب وكان على هذه الموميا طلاء بمقدار شبر من المر والصبر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون وقال هذا خير من خراج الذهب. وقال كثير من المؤرخين أن هذا التمثال الأخضر لم يزل معلقاً عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة 611 هجرية. أما الذين صعدوا فوقه فقد انتهوا إلى قمته بعد ثلاث ساعات فوجدوا رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال. وبناءً على أمر أمير المؤمنين أرسلوا إلى أسفله حبلاً فكان طوله ألف ذراع

بالذراع الملكي وهو ذراع وخمسان. وقد قاس المأمون تربيع الهرم فكان أربعمائة ذراع في مثلها. ولقد أجمع مؤرخو العرب على أن المأمون توصل إلى فتح هذا النقب الموجود إلى يومنا هذا بعد جهد شديد وعناء طويل فكان بداخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها وأن النفقة على نقبه كانت عظيمة والمؤونة شديدة. هذه هي الحقيقة التاريخية مجردة من المبالغات الشرقية. ولما كان أمر الأهرام قد بقي مكتوماً على الخاص والعام حتى فتحه المأمون فلا غرابة إذا رأينا أهل الشرق وهم مغرمون بالأوهام شطحوا مع تيار الخيال فلفقوا على ذلك أقاصيص وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان ولكنها لعمر الحق فيها عبرة وحكمة كبيرة لقوم يفقهون. ذلك أن كتاب العرب أرشدوا أرباب الألباب إلى أن السعيد بن السعيد هو الذي يتوصل للعثور على ما يوازي نفقته عند تطلبه الكنوز والدفائن ولذلك قالوا بأن المأمون وجد وراء الباب حوضاً من حجر مغطى بلوح من رخام وهو مملوء بالذهب وقالوا أن المأمون أمر بحسبان ما صرف على النقب فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص. ولعل هذا الرمز البديع يكون راجعاً لمن ينفق العمر والمال في تطلب الدفائن والكنوز والمطالب والخبايا فليس لكل الناس سعد كسعد المأمون وقد رأيناهم جميعاً يعودون بصفقة المغبون فلعلهم بعد هذا البيان يفكرون ويتدبرون ويسعون لاكتساب المال من طريقه المشروع وسبيله المأمون. ثم توجه المأمون إلى الصعيد فأحل ركابه بمنف حضره الشعر في الحال فقال على سبيل الارتجال: سألت أطلال مصر ... عن عين شمس ومنف فما أحارت جواباً ... ولا أجابت بحرف وفي السكوت جواب ... لذي الفطانة يكفي ثم استمر حتى وصل إلى مدينة فقط من أعمال الصعيد بمديرية قنا. ومن لفظة فقط اشتق اسم القبط. ومنه أخذ الروم لفظة إيجيبتوس للدلالة على مصر والمصريين.

اتقاء الشقاء

اتقاء الشقاء نشر المسيو نوفيكوف العالم الاجتماعي الروسي هذا الشهر كتاباً سماهالظواهر الاقتصادية والطبيعية ومسألة شقاء الناس قال في بعض فصوله أن أمر بؤس البائسين وغنى الموسرين قد شغل بال كثيرين وهي من المسائل المعقدة ذات الأطراف والتضاعيف. فيرى بعضهم أن الشقاء من الأمور الطبيعية كالفيضانات والزلازل وقلة الأمطار وأن من يحاول إبطاله من لاعالم كالذي يتخيل أن يجري أنهاراً من اللبن ويغرس أشجاراً تأتي بأرغفة من العجين مخبوزة. ومنهم من يقول أنه ليس ثمت شقاء على حين تثبت الإحصائيات أن تسعة أعشار الناس لا يأكلون عندما تطلب معدهم الأكل أو هم فقراء مقتر عليهم في أرزاقهم ويرى بعض أرباب الأديان أن الشقاء أمر تقضي به المشيئة الربانية ولكنهم لم يستطيعوا أن يدعوا أن الشقاء حسنة من الحسنات لئلا ينسبوا إلى المولى تعالى الظلم لعباده بل أنهم وقفوا عند حد الجنات التي وعد بها البائسون وأن العالم دار محن وأكدار وغربة لا دار قرار وراحة وأن الحياة الحقيقية السعيدة يتمتع بها المرء بعد وفاه. بيد أن كثيرين من رجال الدين وإن قالوا بأن الشقاء مما يثاب عليه صاحبه إلا أنهم ينعمون ويترفهون يأكلون الأطايب ويسكنون القصور ويلبسون الوشي والديباج ولذلك ما قط منع رجال الدين الناس من السعي في الخلاص من مخالب الشقاء وتحسين معاشهم وتكثير أرزاقهم. وأرى أن الأنفع أن يقضي المرء حياته في هذه الدنيا في رفاهة لأن ذلك لا يمنعه من ممارسة الفضائل ثم إذا كتبت له الجنة يذهب إليها ويتمتع بما وعد فيها من النعيم وهذا خير له من أن يعيش في دنياه شقياً لينعم باله في الآخرة. ولكن من لا يقولون بخلود النفس وعددهم آخذ بالنمو يرون هذه الفلسفة خيالية. ويرى بعضهم أن الشقاء آت من استئثار بعض أشخاص بأموال طائلة وحرمان الفقير منها وأنه لو كفت أيدي الأغنياء عن احتكار القسم الأعظم من الثروة ولم يحرم منها السواد الأعظم بل قسمت بينه قسمة عادلة لأصبح الناس كلهم في سعة وفارق الشقاء بين بني آدم أخر الدهر. وليس احتكار أولئك الأفراد لثروة المجموع هو الحل الوحيد لهذه المعضلة بل أن الفقر ناشئ على الأرض من قلة الأرزاق اللازمة للحياة وإذا كانت هذه القلة ناشئة من أسباب المحيط والبيئة يصح أن يقال أن البشر في شقاء لأنهم لم يحسنوا استخدام الأرض وتسخيرها لحاجياتهم.

لا يبطل البؤس بتقسيم الأموال على السوية لأن تلك الأموال غير كافية لرفع الشقاء كما علم بالإحصاء فقد تبين بأنه إذا حجزت جميع الأرباح والمداخيل التي تزيد عن خمسة آلاف ليرة لتوزع على من تقل مداخيلهم عن هذه القيمة لا تزيد مداخيلهم أكثر من 12 بالمئة عما هي عليه الآن ولذلك اقتضى زيادة الثروة عشرة أضعاف ما هي عليه اليوم لإنقاذ البائسين من بؤسهم ونحسهم. ولعمري أي رفاهية ينالها العامل الذي يربح الآن ثمانية قروش في يومه إذا صار يربح تسعة وهل بهذا القرش يكون مرفهاً من أهل الطبقة الوسطى؟ وبعد فلا سبيل إلى حل المسألة الاجتماعية لا بزيادة الأرباح ألفاً في المئة والسبب الثاني في سقوط دعوى من يدعون بأن في تقسيم ثروة الأغنياء تفريجاً لكربة البائسين أن ثروة الأغنياء ليست بحراً لا ينضب وبراً لأحد له فلو فرضنا أن مورغان المثري الأمريكي له دخل سنوي قدره 38 مليون فرنك ووزعه على أهل الولايات المتحدة لما أصاب الفرد سوى فرنك على أن هذا الغني لا يتأتى له أن يوزع على أهل بلده هذا القدر من الملايين إذا صودرت أمواله في السنة السابقة. وهكذا العمل بجميع الثروة فإنها إذا حجزت دفعة واحدة ووزعت دفعة واحدة لا يكون منها دواء مسكن لهذا الجرح المؤلم إلا مؤقتاً لما عرف من أن مطالب الحياة غير متناهية وغنى يوم لا يعد غنى لأيام. ويغلط الاشتراكيون في خلطهم بين الثروة والمال وما الثروة إلا نتيجة تغيير المحيط بأن يقوم عمل الإنسان على قاعدة معقولة. وجمهور الناس يخطئون في تصورهم الثروة أنها ليرات وجنيهات موضوعة في صناديق أرباب المال فكما أن هذه النقود لا تحتاج إلى التجديد كل سنة وكما أنها كمية معروفة لا يمكن زيادتها يتوهم الناس أن الثروة كذلك وأنها إذا حصلت في اليد تبقى أبد الدهر. الثروة مؤلفة من بعض الوجوه من مجموع الغلات التي جعلت في الأسواق وينبغي أن تستخرج على الدوام من المحيط الطبيعي. لنفرض أن محصول القطن في سنة بلغ 12 مليار كيلو وأن هذه الكمية تسد حاجة البسر فليس هذا بشيء بل يقتضي أن تغل السنة التالية مثل هذه الكمية لأن محصول السنة السابقة قد استهلك وفني ولنفرض بأن في الإمكان توزيع الغلات على مساواة غلات السنة السالفة فإن مسألة الثروة العامة لا تنحل أيضاً إذ يلزم إعداد كمية مثلها للسنة التالية ولكن إذا لم يجر تقسيم السنة الماضية بحسب أدق قواعد العدل ومن غير أقل شدة تقل غلة السنة التالية

ويعدو الشقاء فيبدي نواجذه. وما المسألة في الحقيقة متوقفة على توزيع الأموال بين الناس بل أن المسألة آتية من عدم كفاية ما تنتج الأرض من الضرورات ولو غلت ما يسد عوز الناس لما عادت الغلات تساوي شيئاً بل تصبح إذ ذاك كالماء في الأنهار والحصا في شواطئ البحار. وعلى ذلك فالواجب أن نحسب ما ينبغي لنا من بر وأرز ولحم وقطن وغير ذلك لنضع ميزانية مدققة لموارد البشر وهذا لا يتيسر الآن في دور الفوضى والطفولة الذي نحن فيه. ويؤخذ من أحدث الإحصائيات أن على الحنطة سنة 1907 بلغت 1086 مليون هكتو لتر موزونها 87 مليار كيلو وإذا فرضنا أن في كل هيكتو لتر 80 غراماً فلو فرضنا كل إنسان يحتاج لغذائه إلى مائتي كيلو في السنة لاقتضى لنا ثلاثمائة مليار كيلو في السنة. وبهذا ترى أن على الحنطة أقل مما يلزم بثلاثة أضعاف. ولعلك تقول أن بعض الشعوب تتغذى بالجاودار والذرة والأرز والمانيوك (شجيرة في أميركا يستخرج من جذعها دقيق مغذ) والموز وغيره ولكن تلك الشعوب لو تيسرت لها الحنطة ما اتخذت عنها بديلاًُ ولو اعتبرنا شعوب أوروبا وأميركا وحدها وهم نحو ستمائة مليون نسمة لاقتضى لهم على هذا المعدل 120 مليار كيلو مع أن محصول الحنطة في العالم 87. وهكذا في سائر لوازم الحياة فالسكر مثلاًُ لا يحصل منه إلا على نحو 12 مليون كيلو في السنة ويقتضي 50 كيلوغراماًَ في السنة لكل إنسان تمكنه حالته من استعماله أي أنه يقتضي للبشر 75 مليار كيلو منها لأوروبا وحدها 30 ملياراً. فما لدينا من السكر لا يكفي سدس البشر إذا حسبنا مجموعهم وإذا حسبنا أهل أوروبا فعندهم ثلث ما يلزمهم منه. ثم أن محصول القطن في العالم أربعة مليارات كيلو فتجد من مليار وخمسمائة مليون نسمة وهم سكان الأرض خمسمائة مليون مكتسون كسوة تامة و75 مليوناً نصف كسوة و250 مليوناً عراة بالمرة. ولكي نكسو البشر عامة يقتضي تسعة مليارات وخمسمائة مليون كيلو من القطن. ومتى تأملنا أن القطن لا يستعمل فقط في الثياب بل أنه يدخل في ألف صنف من الحاجيات المنزلية والصناعية يسوغ لنا أن نحكم بأن محصوله غير كاف وربما لا يبلغ ثلث ما ينبغي لنا منه. وهكذا لو نظرت في جميع المواد اللازمة لجاء الحساب بمثل هذه النتيجة.

وتدل الإحصاآت أن 401 من كل ألف ألماني يربح الفرد منهم 246 فرنكاً في السنة و538 يربحون 345 و48 يربحون 1120 و13 يربحون زهاء 3476 و93 في المئة من النمساويين يربحون أقل من 1266 فرنكاً في السنة. ويبلغ معدل ميزانية الأسرة الموسع عليها في رزقها 1150 فرنكاً في السنة هذا ووربا بالنسبة لسائر الكرة تعد غنية فقد حسبوا دخل الهندي فكان سبعة سنتيمات في اليوم على حين يحتاج إلى مائتي فرنك لمعاشة في السنة على أقل تعديل وهو لا يربح فيها إلا 23 والحال في الصين أتعس وأنحس فلو عدلنا بين ثروة الفرد في البلاد الغنية كالولايات المتحدة مثلاً والبلاد الفقيرة كالصين والهند لا يصيب الأسرة أكثر من ألف فرنك وهذا القدر على قلته في عصر مثل هذا العصر يصعب نيله ولو كان لكل أسرة ألف فرنك في السنة وهو بعيد الحصول لما ساغ لها أن تأكل ما يغذيها فقط دع عنك بقية لوازم الحياة. وقد انتهت بنا الحال أن صرنا نعد الهواء في هذا العصر إذا كان مباحاً من النعم وكذلك الماء بعد أن أصبح 12 مليون كيلومتر مربع من أصل ثلاثة وثمانين مليوناً محرومة في أوروبا من الهواء وأصبحت تباع زجاجة الماء القراح في كولكاردي في أستراليا الغربية في أول أيام تعدين مناجم الذهب بسبعين سنتيماً وأصبح الماء العذب في باكو على ضفاف بحر الخزر مما يفاخر به ويعد من دواعي الرفاهية. وليست الإنسانية سعيدة بمساكنها أيضاً فالروسي يسكن في كوخ مغطى بالقش أضيق من أفحوص القطا ولو اقتضى له أن يبدل هذا المسكن بمسكن مغطى بالقرميد مصنوعاً بالحديد لوجب على روسيا صرف ستة عشر ملياراً من الفرنكات وهذا لا يتيسر إلا بعد أن تمر الأجيال أثر الأجيال. وبعد فليس الشقاء حادثاً منن قلة موارد الأرض ولو كان كذلك لما تطالت نفوسنا إلى الخلاص منه وكان علينا كالموت قدراً مقدوراً ولكن الأرض إذا أحسن استخدامها تعطينا عشرة أضعاف ما تعطينا الآن ويعيش الناس في بلهنية وسعادة فإن موارد هذه الكرة لا حد لها إذا عملنا لها عملها كما قال لي اليزة ركلوس الجغرافي الفرنسوي الكبير. فلو أتقنت الطرق الزراعية باستعمال الأسمدة الكيماوية وتطبيق الزراعة على العلم أي بسقيا الأراضي الجافة المياه وتجفيف الأراضي المغمورة بها لأتت الأرض من الغلات والثمرات ما تعد معه غلات اليوم وثمراته مضحكة من حيث كمياتها. هذا وفي الأرض منابع للثروة

غير ما ذكرنا ففيها معادن لم تمسسها يد البشر. وإنك لتجد في جبال الأورال بروسيا من المعادن كميات وافرة لم يقم في فكر أحد أن يستخرجها ومثل ذلك في أفريقية وأميركا بحيث يصح أن نقول أن ما استخرج من ركاز الأرض ومناجمها أقل بقليل مما لم يزل مدفوناً في صدرها وبطنها فنحن لسنا في شقاء إلا لسوء تصرفنا في استخراج خيرات الأرض والانتفاع بنعم السماء لأن طريقتنا في أعمالنا ليست موافقة لمصلحتنا ومتى تعلمنا معرفة تطبيق أعمالنا على المصلحة الحقيقية فالشقاء يرحل عن هذه الكرة. وإذا نظرنا إلى حقيقة الشقاء نراه يرجع إلى ثلاثة أصول رئيسة وهي المصائب الطبيعية والفساد والأحوال الاجتماعية فالأولى وهي من الغرق والشرق والحرق والزلزال وانفجار بركان والموت يمكن تلافي خطرها باقتصاد كل فرد عشرة أو عشرين في المئة من دخله يدخرها لحين الحاجة وبذلك إن لم يرفع عنه ثقل المصيبة فإنه يخففها على الأقل ويأمن تغييرات الفلك وسوء الطالع. والفساد يمكن تلافيه أيضاً كتلافي المصائب الطبيعية بأن يزيد الصالح من عمله قليلاً وينفق ما يفيض منه على أخيه. فرفع المصائب وتخفيف ويلات الفساد هو إذاً مناط بكثرة الإنتاج. وما الخطأ الذي يحول دون الانتفاع بثمرات الأرض وثروتها إلا ناشئ مما يذهب إليه أكثر الناس من أنه لا يغتني مغتن بسرعة إلا إذا طالت يده لسلب مال أخيه لا بأن هو بنفسه. وهذا الفكر هو الذي جعل السرقة والغش واللصوصية والتعدي والامتياز وبعبارة أوجز جعل الاختلاس نافعاً لمن يأتيه. فإذا قدر للإنسانية أن تنجو من هذا الخطأ الفادح فالرفاهية العامة مضمونة للكافة. وما دام البشر ينظرون إلى الاختلاس على ضروبه بأنه نافع فسوف يبقون في شقاء وعلى العكس يكونون أغنياء سعداء متى اعتبروا الاختلاس ضاراً ومتى زاد التناسب حدة أورث الحياة ضعفاً تاماً أي موتاً. والتناسب بين المخلوقات والمحيط من حيث علم النفس هو الحقيقة وعدم التناسب هو الخطأ. ومن هنا كانت الحقيقة مولدة للاستمتاع والخطأ آتياً بالتألم فالخطأ هو مثل مرض عقلي ونتيجته بالطبع ضعف التركيب النامي إفرادياً كان أو إجماعياً قال بوهن: أليس الذكاء الإنساني الذي يراه كثيرون حاسة من شأنها الإحاطة بالأمور هو الأحرى بأن يكون قلة الكفاءة في إدراك الحقائق وذلك لأن الحيوانات تعرف أموراً قليلة ولكنها تسقط في أمور أقل منا فهي تفوقنا على ما فينا من

ذكاء لأنا معشر البشر نعرف أموراً كثيرة ولكننا نخترع نظريات كثيرة حشوها الخطأ والخطل. فحالة الإنسان من بعض الوجوه أتعس من حال الحيوان لأن المصائب الناتجة من سوء تأويل الحوادث أعظم ن المصائب التي يكون منشؤها الجهل مباشرة فكما أن الصحة والمرض أمران متوازيان متعاقبان في هذه الحياة يسيران كنهرين يمزجان مياههما بعضها ببعض هكذا الحياة الطبيعية تمشي مع الحقيقة والباطل كتفاً إلى كتف منذ قرون وسنين وسوف تسير كذلك إلى آخر الأزمان. والخطأ الأساسي في الاقتصاد أن فكر الاختلاس والنفع المرجو منه هو في الحقيقة روح الشر ويحول دون سعادة البشر فإذا تمكنا من شفاء نفوسنا من هذا المرض العقلي فالمسألة الاجتماعية تنحل لساعتها. ودواء الباطل بالدعوة إلى الحق. فالباطل يشفى لأنا نرى منه جزءاً يضمحل كل يوم بفضل انتشار العلم فلا ينبغي اليأس من القضاء عليه ولا بد من أن يأتي يوم تتغلب فيه الحقائق الاقتصادية على الناس ويرون الاختلاس ضاراً فيجندل الشقاء أبد الدهر.

المنازل الرخيصة في الغرب

المنازل الرخيصة في الغرب قال اللورد روزبري: إن من يبعمل لما فيه إنهاض تلك الجماعات من الناس الذي قضي عليهم أن تصفر وجوههم وتذل نفوسهم وتنحط مداركهم في المساكن القذرة التي ينزلونها هو بلا شك عامل على ما فيه نفع الجنس البشري عامة. ولقد نشأت الفكرة الأولى لإنشاء بيوت العملة حوالي سنة 1810 وزادت حركتها سنة 1835 على يد شركات المناجم بني الحدود الفرنسوية البلجيكية واحتذى أحد أرباب المعامل الألمانية سنة 1835 حذو الشركات الفرنسوية فأنشأ في مولهوس إحدى مدن ألمانيا مسكناً كبيراً في حديقة تشمل على 36 منزلاً فتم عمله على أحسن الأساليب واقتدى به كثير من أهل المقاطعات في الشرق والشمال في فرنسا. وفي سنة 1851 توسع أحد الفرنسيس في هذا الفكر وأنشأ شركة عمرت لألف ومائتي أسرة ألفاً ومائتي مسكن منفرد بعضها عن بعض ولكل منها حديقة يصبح ساكنها مالكاً لها وللمنزل بعد مدة يدفع ثمنها على نجوم مقررة. وبدأت إنكلترا في سنتي 1841 و1848 بالاقتداء بالفرنسيس والألمان في هذا السبيل وأنشأت إحدى شركات فرنسا مساكن طيبة للعملة كل منها مؤلف من حديقة وطبقة أرضية ومطبخ وغرفتين وفي الطبقة الثانية ثلاث غرف وبيت مؤونة وقبو ولم يكلف المسكن أكثر من 293 جنيهاً يضاف إلى ذلك ثمن الأرض التي لم يكلف مترها أكثر من خمسة إلى ستة فرنكات وجعلت إيجارها الحقيقي كل سنة 230 فرنكاً أي أقل من فرنك كل يوم عن مسكن يؤوي عائلة مؤلفة من خمسة إلى ستة أشخاص وإذا أراد الساكن أن يملك المسكن في خمس وعشرين سنة يجب عليه أن يؤدي زيادة عن الأجرة 169 فرنكاً فإذا كان الساكن من العملة الذين يربحون في الساعة 60 إلى 80 سنتيماً أي لا أقل من ستة فرنكات في اليوم يتأتى له أن يسكن في مثل هذه الدار ويملكها بعد ذلك إن أراد بتوفير شيء قليل من نفقاته. وكانت هذه البيوت في ضاحية باريز ولما ارتفعت أسعار الأراضي هناك أحبت الشركات أن تبتعد عن العاصمة أكثر فأصبحت تبني بيوتاً لا يكلف الواحد منها أكثر من خمسة آلاف فرنك. كما أنشأت أيضاً بيوتاً لم تكلفها أكثر من 3200 فرنك وبيوتاً لم تكلفها أكثر من 2800 جعلت إيجار الأخيرة منها 140 فرنكاً في السنة وفيها معظم ما يحتاج إليه من الغرف والمطبخ والأنبار وحديقة لطيفة.

وأنشأ الإنكليز بيوتاً رخيصة في جنوبي لندن كما أنشئوا منذ سنة 1867 في شمالي إنكلترا في بعض المدن الصناعية بيوتاً يقل ثمن الواحد منها عن ستة آلاف فرنك جعلوها درجات فالدرجة الأولى لا تتجاوز أجرتها في اليوم فرنكين وهكذا في الدرجة الخامسة. وسكان هذه البيوت أو مستأجروها لا يقبضون في يومهم أكثر من عشرة فرنكات ولا أقل من سبعة. وأقيم في وسط تلك الحدائق التي أنشئت البيوت عليها منتزه عام تكون فيه الاجتماعات وتقام فيه الشعائر الدينية وخصص محل منه للسماع والمراقص والمجامع وفي جانب ذلك خزانة كتب عامة وغرفة كبرى للمطالعة وغرف للعب البلياردو وحذا حذو هذه الشركات كثير غيرها في جميع الأقطار الإنكليزية وبعضها يدفع نحو خمسة في المائة فائدة الأموال التي يستخدمها في هذا السبيل. قال اللورد بيكنسفيلد سنة 1874 عندما رأى حياً من تلك الأحياء التي أنشأتها إحدى الشركات ليقيم فيها العملة: إنني لم أشعر في حياتي بدهشة أشد من دهشة عرتني عندما زرت هذه المدينة الصغرى (شهافتسوبورغ بارك) وقد تجلى لناظري نجاح ساكنيها الذي هو ولا شك ضمان لارتقاء الأمة. ولطالما جال في خاطري أن لا شيء يحمي حمى المدينة مثل البيت فهو مدرسة جماع الفضائل الأهلية وبدون مسكن لطيف الباطن يتعذر عليها في الحقيقة الوصول إلى هذه الفضائل. وكان يقتصر في أمثال تلك المساكن سابقاً على الضروري من الحجرات ويعني بأسباب الراحة فقط أما الآن فقط ارتقت الحال في تلك الشركات شأن كل حي في الوجود فصارت لا تقتصر في بنائها على الضروري بعض الشيء بل رأت التأنق والزخرف لازم لحياة الساكنين أيضاً. جرت عادة بعض السكك الحديدية أو التراموايات في أوروبا أن تسقط كثيراً من أجورها لمن يشترك بها من العملة لأن الدور الرخيصة التي بنيت لهم تكون في الغالب بعيدة عن المدن الكبرى وحالتهم المالية لا تساعدهم على اداء أجورها كسائر الناس فكان من شركات تلك البيوت أن عقدت مع إدارات السكك الحديدية مقاولات لمراعاة الساكنين في بيوتها مراعاة لا تكاد تصدق. ومن لم تساعدهم حالهم من العملة والفقراء في الغرب للابتعاد عن المدن كثيراً فقد جعلوا لهم مساكن متلاصقة بعضها ببعض. وكل ساكن حر في منزله وفيه يجد ما يلزم للبيوت

فيتيسر بذلك للساكن أن يجيء نصف النهار إلى بيته ليتناول الطعام مع أهله وفي ذلك من الاقتصاد ما فيه إذ يمتنع رب الأسرة عن الذهاب على المطاعم أو الحانات وكلها مما تضر بصحته وكيسه معاً وبذلك لا يصعب عليه أن يدفع أجرة أغلى من الأجرة التي يدفعها البعيد عن مسكنه. وقد أسست شركات عظمى غنية في لندن منذ سنة 1845 وكثرت في المدن البريطانية ورأس مال كل شركة من هذه الشركات لا يقل عن مليوني جنيه وتدعى أمثال هذه الدور دور الثكن (القشلاقات) وهي أبنية عظمى ذات خمس طبقات كل طبقة منفردة عن بعض يفصل بينها فناء متسع يلعب فيه الأولاد وقد فتحت فرج في الأدراج وجعلت في بعضها ممرات ومنافذ يدخل إليها النور والهواء وليس فيها دهاليز مظلمة وهي على غاية النظافة على أنواعها مستوفاة شروط الصحة كل الاستيفاء. ومعدل أجرة مسكن ذي ثلاث غرف من مثل هذه المساكن هو 400 فرنك وأجرة الغرفة الواحدة نحو 137 فرنكاً ومعدل أجحرة من يسكنون في أمثال هذه المنازل ستة فرنكات في النهار يدفعون أجورها صباح كل إثنين من كل أسبوع. وتسأل الشركة عن سلوك من يريد السكنى في بيوتها وعن مسكنه وذمته في أداء الحقوق وهي تؤثر الأسرة التي لها أولاد على غيرها على حين أن أكثر المؤجرين لا يرضون أن يكروا بيوتهم لمن كثر أولادهم فكان ذلك في فرنسا من جملة الأسباب في قلة النسل فيها. وقد أوصى المستر بابودي الأميركي سنة 1862 باثني عشر مليون فرنك لإنشاء دور من هذا النوع في وسط مدينة لندن ينفق ريعها كل سنة لإنشاء بيوت جديدة وقال في وصيته أنه بعد انقضاء قرن يكون الريع السنوي الناتج من الإيجارات قد بلغ مبلغاً عظيماً فلا يكون في لندن عامل فقير واحد لا يحصل على مسكن صحي موافق له ولأسرته بأجرة تناسب ما يقبضه. ولو لم ينزل كما قال الخبيرون معدل الفائدة بعد مرور مائة سنة على موت هذا الكريم لجاوز ما جاد به مليارين وأسكن 350 ألف أسرة. وقد ظهر بالإحصاء أن الوفيات ولاسيما وفيات الأطفال تقل في بيوت المحسن بابودي أكثر من غيرها وأن المواليد فيها أكثر وأن مساكنه كان لها تأثير حسن في الصحة. والغالب أن هذه المساكن ناجحة في إنكلترا أكثر من غيرها في البلاد الأخرى وفي مثل

هذه البيوت بقليل من الذكاء والعمل يمكن للأمم التي تقول عن نفسها أنها متمدنة وأنها تتقي ذاك الجذام الخبيث من المساكن الضيقة التي تموت فيها الصحة وتفنى القوى بما ينبعث من روائحها الخبيثة وما يتزاحم فيها من الأقدام والأنفاس وما يتجلى عليها من الوحشة والبشاعة وما تكون سبباً له من الأمراض والاختلاط الضار والانحطاط الطبيعي والأدبي. ولم تكتف إحدى الشركات في لندن بإنشاء بيوت رخيصة بل أنشأت مطاعم رخيصة للعملة. وأنك لتدخل تلك البيوت والمطاعم فلا تشهد أثراً للفاقة والفقر. وقد نظرت بعض تلك الشركات إلى مصلحتها المادية وإلى مصلحة الساكنين ورأت أن أعمالها لا تدوم غلا إذا كان ربحها معتدلاً فكان معظمها يعطي أرباحاً ثلاثة ونصف في المائة وبعضها أكثر من ذلك أي بقدر ما يعطي القنصليد الإنكليزي أو غيره من أوراق بعض الحكومات وفي ذلك من الفائدة للعملة البائسين ما يخفف عنهم شقاء الحياة وفيه خدمة المجتمع بأسره وأي فائدة له أكثر من أن يرى الشقاء يقل فتقل معه الأحقاد والحسد والثورات ويكون أرباب الأموال آمنين على أموالهم من الضياع وهم يتجرون في غرض شريف. وقد أسفرت مشاريع إنشاء هذه الدور عن ربح معتدل لمن قاموا بها ولذلك أقبل عليها هناك من لا يحبون المخاطرة بأموالهم في المضاربات وغيرها. وما عدا هذه المنازل والدور الخاصة بالأسرات فإن القوم أقاموا غرفاً مفروشة للإيجار يسكنها رجل واحد أو امرأة واحدة أو فتاة أو فتى. فقد أنشأت جمعية الإحسان في باريز نزلاً أو حياً في مثل هذا وأخذت تؤجر الغرفى الكبرى بفرنك في اليوم والغرفة الصغرى بستين سنتيماً وهذا النزل عبارة عن خمس طبقات نظيفة يكثر فيها النور والظرف وغرفة المائدة متصلة بأحد المطاعم بشروط عقدتها معه وتقدم لها الأطعمة الجيدة بثمن بخس ومثل ذلك تجد في شيكاغو بأميركا وغلاسكو في إنكلترا وغيرها في غيرها. ومما تفننوا بإنشائه من المساكن منازل للعزاب أقامها في لندن اللورد روتون فبلغت اليوم نحو خمسمائة مسكن يسكنها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مستأجر ينزلون فيها ما أحبوا ثم يغادرونها. وهذه المساكن أشبه بثكن جميلة آخذة من القوانين الصحية بنصيب وافر وكل مقصورة أو غرفة منها أشبه بمربط الحصان يسكنها الفرد وتكون مفتوحة من أعلاها. والمغاسل وغرف الاجتماع والطعام مشتركة بين الساكنين وهي معرضة للهواء النقي

والنور الذي ينعكس عليها من القرميد الأبيض المعمول بالمينا على السطوح وغرف الاجتماعات فيها مزدانة بالصور ومزخرفة أي زخرف ويباع فيها الطعام والثياب بأثمان بخسة وأجرة الغرفة في اليوم ستون سنتيماً. ومع كل هذا الرخص لا تخلو الشركة القائمة بأمر هذه المساكت من ربح تجنيه. وبالسكنى في تلك البيوت يتخلص العامل أو المستخدم من قسوة المؤجرين وطمعهم الأشعبي وينزل غرفة لا أوساخ فيها ولا أقذار بعيدة عن منهكات الصحة. وأمثال هذهالشركات كثيرة في إنكلترا وتفوق ما هو من نوعها في فرنسا وقد أنشئ معظمها وأدير بيد مشاهير من النبلاء كان لهم البرنس ألبرت والبرنس دي غال أحسن قدوة يقتدون بها وقد حملتهم على الاستكثار منها أسباب كثيرة منها الخوف من ازدياد البؤس هناك وما أحدث في قلوب العقلاء من القلق ولا سيما كثرة السكان في لندن ونمو طبقات العملة. بلغ رأس المال الموضوع في إنكلترا لإنشاء بيوت رخيصة للعملة ملياري فرنك وفي فرنسا مائة مليون فرنك ومعظم تلك الأموال تدفعها الحكومة كما هو الحال في ألمانيا وتدفع أحياناً من دوائر البلديات كما يجري في ألمانيا وإنكلترا وروسيا. وتقوم بذلك في بعض الأحوال شركات مختلفة النوع والصفة. وما أحلى ما تقوم به ألمانيا وتسلفه لعملتها ومستخدميها المساكين من الأموال لتقيم لهم بيوتاً رخيصة ما أمكن. وما عملها هذا لو دققنا النظر إلا الاشتراكية العملية على ما تتجلى في العادة الاشتراكية في شمال أوروبا الاشتراكية ليس سداها ولحمتها كلاماً ولا خصاماً قلما ينتفع بها إلا نافخو ضرامها ثم خصومهم ثم العدو القريب. قال جان لاهور وإني وإن رأيت أن تسير الأمور أولاً بمعونة الحكومة وحمايتها ولكني أوثر أن تعمل عزائم الأفراد عملها مستقلة فإن العزائم إذا جمعت عظمت بالاشتراك وإنكلترا أعظم مثال في هذا الباب. نعم إن الإقدام الشخصي والشركات الخاصة أنفع للأمة في هذا الشأن. لأن إلقاء المسئولية على عاتق الحكومة لا يكون منه إلا سوء إدارة وقلة اقتصاد وعمل متوسط وأكلاف مفرطة فيما تتولاه. ثم أن الاعتماد أبداً على الحكومة يورث الأمة عادات ضارة تنزه منها الشعور بالاستقلال الذي هو أحرص ما تحرص عليه نفوس العقلاء ويعبث بالتربية الحرة ولا سيما في بلاد دستورية.

إن معنى مطالبة الحكومة أن تعمل كل شيء أو مطالبتها بمعظم شؤون الأمة هو تعويد الأمة على أن لا تعلم لنفسها بنفسها شيئاً أو أنها تعمل التافه والحقير من الأعمال ولا يجب أن تدخل الحكومة إلا حيث يضعف عمل القوة الفردية ويخفق اتحاد الشركات. الحكومة إذا نافست الأفراد توشك أن تنزع منهم الهمة وتضعف فيهم الجهاد وإذا تولت إدارة مثل هذه الدور تنتهي بأن تعين لها عمالاً كثيرين من لدنها على أن كثرة الموظفين هي اليوم الضربة القاضية على الأمم كانتشار المشروبات الروحية وربما كانت من مفاسد عصرنا وأمراضه الوبيلة وفيها الخطر كل الخطر علينا. الكحول سم الإرادة والاحترام الشخصي والتوظيف كما هو الآن عندنا لا يقل عنها ضرراً. وما التوظيف في الحكومة لقاء رواتب تدفعها لموظفيها إلا صورة من صور الرق والعبودية القديمة في مظهر جديد يضطر فيه صاحبه أن يطلق حرية روحه وفكره على حين ترى الخدام ممتعين بها. ولقد نرى حكومات في الغرب كحكومة ألمانيا مثلاً فد انتبهت لهذا النقص فما أحبت أن تكثر من جيوش الموظفين كما هو الجاري في فرنسا وأن تنهك ميزانيتها بالملايين للإدرار عليهم بل خصصت ملايين في ميزانيتها لأعمال من مثل هذه مصبوغة بصبغة الديمقراطية والاشتراكية العملية. وأما إنكلترا فلحسن طالعها أن نفوذها في رعاياها قليل والقول الفصل فيها لهمة الأفراد. وقد قررت دار الندوة الإنكليزية سنة 1890 أن تمنح المجالس البلدية حق نزع ملكية البيوت القذرة وأن تمديد معونتها للشركات وتسلفها أموالاً في مقابلة رهن لإعادة تلك البيوت إلى حالة حسنة تجمع إلى النظافة الرخص ويعود الفقراء فيسكنوها فكان في ذلك من المنافع الصحية العامة ما ظهر أثره في وجوه السكان وصحتهم. ولا معنى لتساهل الحكومة وقلة عنايتها وهي المسيطرة على القانون أن تترك الناس وشأنهم إذا بلغت بهم الحال إلى هذه الدرجة من البؤس على أن هذا البحث كان موضوع المناقشة في المؤتمر الدولي سنة 1900 وانقسمت الآراء فيما إذا كان يجب صرف أموال الضرائب في إقامة بيوت رخيصة كما يجري في لندن وبرمنغهام من بلاد الإنكليز وفي فريبورغ وأولم في ألمانيا وفي غوتسبورغ في السويد على يد المجالس البلدية إلا أن الرأي العام كان مناقضاً لهذه الاشتراكية.

وإنك لتجد الممالك الصغرى في أوروبا من العناية بأمثال هذه المشاريع ما للممالك الكبرى وزيادة. فإذا كنا نسمع بنور المدينة ينبعث من ألمانيا وانكلترا وفرنسا في أوروبا فإن سويسرا والدانيمرك والسويد والبلجيك وهولاندة لا تقل عنها في المشاريع العامة الخيرية إن لم نقل تفوقها في أكثر حسنات المدينة لأن اللقمة الصغيرة يسهل ازدرادها أكثر من الكبيرة كما يقولون ولأن الصغير المدبر يتيسر له ضم أطرافه أكثر من الكبير المتوسع في أملاكه. وخذ مثلاً لذلك البلجيك فإنها بفضل صندوق التوفير العام فيها قد أصبح خمسة عشر ألف عامل فيها يملكون بيوتاً يسكنونها وذلك في مدة عشر سنين أسلف هذا الصندوق في خلالها اثنين وثلاثين مليوناً من الفرنكات للعملة والشركات وبواسطتهم عمرت هذه البيوت الرخيصة على أن مثال فرنسا وألمانيا وغيرهما من الممالك الكبرى مهما عنين بإعانة البائسين وإيواء المساكين فلا يبقين إلا مقصرات فإن شركات ألمانيا وغيرها من الأفراد سلفت العملة ثمانمائة مليون مارك لمثل هذه الأعمال الاجتماعية وكذلك فعلت إنكلترا وأقرضت عملتها. فترى بعض شركات كشركة البناء فيها لا تبين بيوتاً بل تقرض مالاً للعملة يبنون لأنفسهم به فيؤذي العامل كل يوم اثنين عشرة فرنكات مثلاً أي 520 فرنكاً في السنة بحيث يجتمع له بعد ثلاث سنين 1600 فرنك وبذلك يبين بأنه يستطيع أن يقتصد وعند ذلك يعمد إلى شركة من شركات بناء الدور الرخيصة ويطلب إليها أن تقرضه مالاً لإنشاء مسكن فيؤدي إليها أولاً الـ 1600 فرنك التي اقتصدها وثانياً مبلغ 2400 فرنك يدفعها بعد فتكون مكلها أربعة آلاف فرنك ويظل على تأدية عشرة فرنكات كل يوم اثنين من الاستهلاك وقد كثرت أنواع هذه الشركات وكان عددها في إنكلترا 2243 شركة لا يقل رأس مالها عن مليار فرنك حتى أن بعضهم رأى أن بعض تلك الشركات تقبض من العملة المشتركين معها كل يوم اثنين مليون فرنك. كل هذه الأعمال لا ترى فيها الحكومة إلا أثراً ضئيلاً ما عدا ذلك فالأفراد والشركات سيديرون ما يديرون وكذلك رؤساء المعامل فإن منهم من يهتمون هناك بمصالح من يعملون عندهم اهتمامهم بمصالح أولادهم ولاسيما في البلاد الجبلية التي لا ترى فيها إلا صخوراً أو مضايق وأودية. وقد استعمل بعضهم البيوت النقالة التي اخترعها الأميركان لتكون عوناً على استعمار

بعض الأطراف البائرة والأصقاع المتنائية في الولايات المتحدة وهي مصنوعة من خشب الصنوبر وتختلف فيمتهات بحسب ما فيها من الغرف من 2500 فرنك إلى 9500 فرنك ينقله الإنسان حيث أراد وكذلك البيوت الخشبية التي اصطلح عليها في بلاد النرويج والسويد والروس وكلها من أحسن النموذجات في البيوت الرخيصة. رأى بعض الاجتماعيين أن تولي رؤساء المعامل من أمر عملتهم ما يتولون في بعض بلاد الغرب فيقتطعون جزءاً من أجورهم لسداد ما عليهم من أثمان مساكنهم التي يكون ملكاً لهم بعد قليل من السنين ـ أن هذا العمل يفقد العملة استقلالهم بعض الشيء فيضطرون أن يعملوا في معامل رؤسائهم ريثما يوفون ما عليهم أو يخرجون منها قبل وفاء ما عليهم فيلقون المشاكل وما عدا هذا المحذور فإن تولي الرئيس أو المعلم أمر عملته والنظر في مستقبلهم وإنشاء بيوت لهم أو حملهم على الاقتصاد هو السداد بعينه. وفي بعض البلاد لا يتأتى إلا أن يتداخل رؤساء المعامل في أحوال مستخدميهم كبلاد روسيا مثلاً. ولذلك كانت مساكن العملة في أكثر أرجائها بديعة مستوفاة شروط الصحة ولا سيما في الأماكن البعيدة عن السكان والعمران مثل معمل (داغوكردل) لصاحبه البارون إدنجرن ستمبرغ فإنه أنشأ لكل عامل داراً منفصلة عن دار جاره فبلغ عددها 237=داراً فيها عامة مرافق البيوت وحديثة للثمار وأخرى للبقول وغيرها يقتطع من أجرة العامل خمسة وعشرين في المائة فما هو إلا كلا ولا حتى يصبح العامل صاحب دار فسيحة وحديقة أنيقة ويشرب السكان من آبار ارتوازية طاهرة بحيث تكاد لا تجد للحمى التيفوئيدية بينهم أثراً مع أن هذه الحمى يكاد يكون انتشارها عاماً في البلاد الروسية وأعمار من يعيشون في هذه المساكن أطول من أعمار من يسكنون في غيرها. وكم للعملة من بيوت لا يفتحون عيونهم عليها بعد حين إلا وهي ملك لهم يخلفونها لذراريهم جيلاً بعد آخر. وأن أفاضل الروس وأجدادهم لم يفتهم أن يبسطوا أيديهم بالعطاء للمساكين ينشئون لهم به دوراً حسنة يؤويهم فقد أوصى سولودفنكيوف لمدينته باثني عشر مليون روبل لإنشاء بيوت يسكنها البائسون المحاويج. ومن المعامل التي وسعت على عملتها ونظرت في رفاهيتهم معمل كروب الألماني فإنه مثال المشاريع العظيمة ونموذج من حماية صاحب المعمل لعملته وعدم احتفاله ب المال

في سبيل راحة من يقومون بأعمالهم لنفعه ونفعهم. فإن هذا المعمل وإن شئت فقل المعاملة المعروف بمدافعه وعدده الحربية صعب عليه أن يرهق العاملين فيه كما يرهق البشر بمصنوعاته فأنشأ لعملته في ميدنية أسبين الجميلة على نهر الروهن ثماني مدن وخمسة مستعمرات وبيوتاً منفردة يسكنها العاملون آمنين مطمئنين. فهناك زهاء خمسة آلاف مسكن يقطنها زهاء ستة وعشرين ألف نسمة وقد ازدانت بالنباتات المعرشة والزهور البديعة واستوفت من داخلها وخارجها أسباب الظرف والزينة وكل ما يملأ العين قرة والصدر مسرة وأقامت إدارة المعمل بالقرب من تلك البيوت بيوتاً أخرى جميلة فسيحة للعملة العاجزين والأيامى من نساء العملة. ويتصل بالمعمل شركة تبيع المأكولات كما تتصل به مستشفيات تامة العدة وبيوت للنقاهة وقاعات الاجتماع والمطالعة وقد صرفت إدارة المعمل على إنشاء هذه الدور نحو مليون جنيه. وتفوق دور معامل كروب دور معامل الصابون في بورت سونلخت وقد عرضت إدارة هذا المعمل أنموذجاً من الدور التي تؤجر في الأسبوع من أربعة إلى خمسة فرنكات في معرض باريز سنة 1900 فكانت محل العجب وربما كانت هي المعول عليها في المستقبل لإيواء العملة وراحتهم ففيها جماع مرافق الحياة وفي كل منها حديقة للبقول تؤجر على حدة بأجرة طفيفة جداً. وهذه الحدائق يمكن زرعها على أيسر سبيل بما أنشأته عقيلة من عقيلات الكرم والعقل من شركة تؤدي للعملة ما يلزمهم من الأرض والبذور (التقاوي) والنباتات لغرسها في حدائقهم أو لتزيين بيوتهم بها. في إنكلترا قرية لا تقل في الغرابة عن معامل كروب ومعامل الصابون المذكورة آنفاً وهي القرية التي أنشئت في تورنفيل على يد طائفة الكواكز البروتستانتية أعني بها معامل الشوكولاتا فإن هذه الشركة رأت أن جمال مناظر المساكن مهما كان نازلوها فقراء مطلوب لذاته فبذل أفراد من هذه الطائفة مالهم لإنشاء هذه المدينة النادرة في شكلها وأقامت لها أندية وألعاباً وخزائن كتب ومحال للسباحة وبيوتاً تحف بها الخضرة والنضرة على طريقة جميلة ليس فيها مظهر من مظاهر الزخرف الكاذب بل فيها جميع ما يلزم الحياة وبعضها مزين مبهرج منقوش ولا يكلف السكنى فيها كل أسبوع أكثر من 8 إلى 11 فرنكاً. وقد قال مدير المعمل لأحدهم بمناسبة إنشاء هذه الدور أن المذاهب السياسية لا تأثير لها

ولو كنا كلنا نقوم بالواجب علينا لبطلت الحروب بين طبقات الناس وليت شعري إذا لا تقوم المجالس البلدية بمثل ما جرأنا نحن على القيام به؟ وإن الشرح ليطول لو عددنا المدن التي أنشأها أرباب المعامل في الولايات المتحدة لعملتهم حتى أن حي العملة في شيكاغو يعد من أهم أحياء تلك المدينة الصناعية العظيمة وأجملها. ولا تنس البيوت التي أقامها بعض أرباب المعامل في فرنسا ولا سيما شركة معادن لانس فإنها أحدثت أربعة آلاف مسكن وأجرة الواحد منها 150 فرنكاً. وبعض المعامل تقرض عملتها الدراهم لابتياع أرض وبناء مسكن فيكونون في الحال مالكين لها ويختارون الهندسة التي يريدونها وبعضهم يؤجر كل بيت في الشهر من فرتك وربع إلى ثمانية فرنكات وربما أعطوه بالمجان في بعض الأحوال وقد استلف عملة منجم كرونري مليوناً وستمائة ألف فرنك لإنشاء بيوت لهم كما اقترض عملة مونسوليمين زهاء مليون. وفي مدينة سوشار من أعمال نوشاتل في سويسرا في معمل الشكولاتا حي عظيم لعملة المعمل ومستخدميه جاءت بيوته على صور مختلفة منها ما أجرته سبعة عشر فرنكاً ونصف ومنها ما أجرته ثمانية عشر فرنكاً ونصف تدفع الشركة نصف أجرتها من عندها. ومن بيوت العملة التي استحقت الثناء مدينة فيلبرون من أعمال البلجيك في معمل الزجاج وفي مدينة ولفت في هولاندة وغيرها. وكلها بيوت إن أمعنت النظر فيها تقضي بالثناء على الكثير للساعين بها على خدمتهم الحقيقية للإنسانية والوطن والاشتراكية العملية. وما عدا دور العملة والعناية بأمرهم تجد في أوروبا جمعيات إحسان أخذت على نفسها إنشاء بيوت رخيصة يسكنها كل فقير بدون استثناء. وقد بلغ عددها في فرنسا 67 جمعية وأقدمها جمعية باريز التي أنشئت سنة 1780 فأنشأت بيوتاً مشتركة لا يكلف السكنة فيها كل أسبوع أكثر من ثلاثة فرنكات وربع إلى سبعة وربع في مساكن فيها ثلاث غرف ومطبخ وقد استوفت شروط الراحة من هواء طلق ونور كثير ومحال يسرح فيها النظر وماء كثير طاهر يجري لمن يريد وكان للمنافسة القائمة بين تلك الجمعيات أثر مهم في نجاحها وسعيها كل حين لتحسين حالتها. والمنافسة أساس عظيم من أسس النجاح. وقد بلغ رأس مال بعضها زهاء مليون من الجنيهات ومائة ألف مشترك وبعضها يبيع طعاماً وثياباً بثمن بخس وما تربحه الشركة من ذلك تعود فتبني به بيوتاً. وقد ثبت بالإحصاء في بضع

سنين أن عدد الوفيات في الألف من سكان هذه البيوت دون عدد الوفيات في غيرها من المساكن غير الصحية. ومثل هذه البيوت في نظامها وفائدتها كثير من الممالك الصغرى في أوروبا فتجد في كوبنهاغ شركة بيوت العملة وقد أقامت ألوفاً من المساكن للعملة والشركة مؤلفة من العملة أنفسهم وهي لهم بمثابة صندوق اقتصاد فيدفع كل عامل في الأسبوع قرشين أي نصف فرنك حتى يبلغ ما جمع من ذلك سنة 1900 مقدار 5769930 كورونا (الكورون فرنك وأربعون سنتيماً) فيشغلون هذه الدراهم ويعملون يانصيب فيجتمع من ذلك عشرون كوروناً في ستة أشهر لكل عامل وبعد عشر سنين يعطى إذا أراد ما دفعه مع أرباحه أو يأخذ داراً وإذا مات يأخذ ورثته هذا المبلغ ومما هو حري بالنظر في كوبنهاغ بيوت البحارة ومستخدمي البحرية التي أنشأها الملك كريستيان الرابع. وشركة تحسين المنازل في سويسرا وميلان ونابولي ونيويورك حرية بالذكر أيضاً وكلها تدور على تحسين مسكن الفقير وبعضها يعنى بالتدفئة أيام الشتاء وبإعطاء الماء الساخن لمن شاء من الساكنين بلا مقابل وإلقاء الحرارة المعتدلة في مساكنهم وقد قامت بعض تلك الشركات بيد النساء فنجحت كما تنجح شركات الرجال. مثل شركة الآنسة كولنس في نيويورك التي أنشأتها على مثال شركة الآنسة أوكتافيا في لندن لتطهير المساكن القذرة من قذارتها وتطهير نفوس ساكنيها من حمأة الرذيلة فنجحت كلتا الشركتين وأتتا بأرباح حسنة. وقد بدأت حكومة البرازيل منذ سنة 1882 تساعد في إنشاء البيوت الرخيصة فأصبح عددها في ريودجانيرو وحدها سنة 1897، 5000 مسكن. ومن تلك الشركات جمعيات أخذت على نفسها نشر الدروس الاجتماعية والدعوة إلى تعلمها فكانت من أنفع ما يكون من الإصلاحات العظيمة التي أدخلت على بيوت الفقراء وجعل بعضها غايته درس الأسباب التي تنشأ الأسرة على أساس طبيعي وهو تمليكها أرضاً تحرثها وداراً تسكنها. تتذرع للوصول إلى هذا الغرض بكل وسيلة ممكنة تمكنها من نشر المطبوعات ودعوة الحكومات أو البلديات أو أرباب الغنى إلى إنشاء صناديق لإيجار بيوت بثمن بخس وتطالب بسن قانون تعفي الحكومة فيه من الضرائب ما يملكه الفقراء من المساكن والأراضي وتتخذ كل سبب ليتيسر للناس اقتناء مثل هذه البيوت أو بقاؤها أو انتقالها ومنها ما يعطى للمحاويج

بيوتاً يسكنونها وتحميهم بدون واسطة الحكومة مما يصيبهم من الفاقة أيام عطلتهم ومن الشقاء وموت رب البيت قبل الأوان وهكذا تجد الحركة قائمة في جميع البلاد الفرنجية لتعميم هذه المبادئ وتحسين حال البائس الفقير وهي كل يوم في انتشار وكثرة بحيث ينسلخ هذا القرن العشرون في أوروبا إلا وقد انحلت فيها المسألة المعروفة بالمسألة الاجتماعية وإن شئت فقل أهمها إذ يكون جميع العملة ممتعين ببيوت يسكنونها والشركات والجمعيات تحميهم من الفقر المدقع بعض الحماية وتقل بذلك الأمراض كما يرى الباحثين في أحوال تلك المجتمعات إذ استدلوا على ذلك بأن المساكن الطاهرة الصحية قد قلت فيها الوفيات عن المساكن القذرة والأكواخ الحقيرة التي هي في الحقيقة منبعث السل وغيره من الأدواء المنهكة لجسم المجتمع وقد قال الدكتور روم أن المسكن والطعام والمعمل هي السبب في كثرة الوفيات بين العملة فالواجب الإسراع في إصلاحها وبغيرها لا إصلاح ولا فلاح وكل ذلك متوقف على الإرادة إذا صحت والأفراد إذا أقدمت وتكاتفت. ولم تكتف الجمعيات في أوروبا وأميركا بإنشاء المساكن للفراء ونقشها والاستكثار لها من مرافق الراحة وأسباب الصحة بل أحبت تنجيدها وتزييبها والتأنق في داخلها وخارجها لأنهم رأوا السكنى في بيوت رخيصة لا تغني الغناء المطلوب وحده. أرادت من الدور أن تكون معرضة للهواء محببة إلى القلوب وأن لا يكون أثاثها وفرشها كئيباً قذراً بل أن تكون مائلة إلى البساطة تجمع إليها حسن الذوق والظرف لأن عصر البيوت القذرة الضارة قد انقضى كما ينبغي القضاء على المساكن البشعة من داخلها الكئيبة التي تهزل الساكنين فيها من البائسين وهم لا يشكون كالدود الذي يعيش في القاذورات. أرادت تلك الشركات أن تستعيض عن الأثاث البشع السيئ الصنع بأثاث يكون بسعره أو أقل ولكن على صورة حسنة وتزيين ضروري وأن لا يفرشوا بيوتهم فرشاً رديئاً كما هو الحال في بيوت الفقراء في أكثر بلاد الشرق. وذلك لأن النظر إلى هذه البشاعة مما تضيق به الصدور ويجرح القلوب كما تتأذى به العيون وتتقزز منه النفوس ولأن لتحسين الذوق دخلاً كبيراً في نهضة الأمة. ترى في البلاد الديمقراطية أن الفقراء من الرجال والنساء يحاولون أن يكونوا في ملابسهم كأهل الطبقة الوسطى على أن الألبسة التي كانوا يألفونها فيما مضى لها من الرونق ما

ليس لما يلبسونه اليوم على تكلفهم التقليد. وقد رأت بعض الجمعيات إنشاء ألبسة لأهل الطبقة الدنيا خاصة يشاركها في لبسها أهل الطبقة الوسطى وتكون رخيصة الثمن نافعة في صحة الأجسام وصحة الأكياس وأن يكون لمنزل أهل الطبقات النازلة ما لأهل منازل الطبقات الوسطى حتى لا ينكسر خاطر الفقير ولا ينقصه شيء من راحة الأجسام ولذلك كان أول عمل يعملونه إيجاد طريقة لتنجيد البيوت الفقيرة وتزيينها كما تنجد بيوت الأغنياء وتزين. خذ مثلاً لذلك الجدران فإنهم رأوا أن تزين أو يوضع عليها ما يزينها من البسط. وقانون الصحة يقضي أن يتيسر غسل الجدران وقد رأوا أن الورق الذي يجعل على الحيطان ويغسل لا ينفع الفقراء لأنه غالي الثمن وأن الأحسن أن تنقش بالزيت وربما كان هذا النقش غالياً ولكنه أثبت وأفرح للنظر ولا يصعب تطهيره كل مدة ويجعل الساكن عليها صوراً ورسوماً ومصورات وأصونة للثياب وغيرها مما لا يتعذر في أوروبا اقتناؤه لرخصه وهو يزيد المكان رونقاً وبهجة. ورأوا أن النوافذ ينبغي أن تكون ستائرها من قماش يمكن أن ينفض أو يغسل بسهولة فيكون من البفتة لا من الحرير والأطلس أو الشاش المزين بأنواع النقش والزينة أما النوافذ التي في أعلى المنازل فتترك بلا ستائر والأولى أن تكون الستائر متناسبة مع نقش الغرفة وتعلق بسيخ وحلقة. أما سرر النوم فيجب أن تكون بحسب رأي بعض أهل الصحة مكشوفة بدون كلة (ناموسية) من أعلاها لأنه ثبت أن هذا القماش الموضوع يحبس نفس النائم ويحفظ الجراثيم الضارة بل يساعدها على النمو والتعشيش وينبغي أن تناط من عند رأس السرير قطعة من القماش تنزل وترفع بحيث تمنع مجرى الهواء عن رأس النائم فقط ولا تكون هذه القطعة طويلة وتكون من ناحيتين بحيث أن النائم حيثما انقلب لا تؤذيه أشعه النور إذا اتجهت نحوه. وينبغي التقليل من الفرش ما أمكن بحيث يسهل نفضه أو غسله. كل هذا ويراعي في الأثاث الاقتصاد والجودة فيكون متناسباً مع نقش المنزل. وتخبر الأشياء المنطبقة على الذوق لا يكلف إلا بعض عناية وبذلك تعود بعض العادات في بساطة البيوت التي كانت مألوفة. وليس الجمال في الأثاث والرياش المتكلف في صنعه والمزين من وراء

الغاية بل الجمال في الفرش البسيط الاقتصادي النافع المناسب. وإنا لنرى أحسن زينة في البيوت بإنكلترا هي ما كان منها من أصل ريفي مألوفاً في القرى والدساكر إلا أنه يجمع إلى البساطة نظافة وحسن ذوق. وقد حسب ما ينبغي لفرش بيت الفقير على هذه الصورة وهو أن تفرش غرفة المائدة وغرفة الاستقبال صغيرة وثلاثة غرف للنوم فرشاً بسيطاً كما يكون البناء رخيصاً بألف وخمسمائة فرنك إما أن يدفعها الساكن دفعة واحدة وإما أن يستلفها من الجمعيات والشركات التي أخذت على نفسها في أوروبا تقديم أحسن الفرش للبيوت بأثمان متهاودة فيدفع عن هذا المبلغ فائدة طفيفة وهي خمسة بالمائة. وإذا استأجر العامل أو الفقير داراً من مثل هذه فلا تتجاوز أجرتها وهي مفروشة أحسن فرش صحي فرنكاً وثلاثين سنتيماً. وبهذا رأيت أن لفرش البيوت في أوروبا جمعيات كما أن فيها شركات وجمعيات لتقديم الطعام الرخيص والألبسة الرخيصة والمساكن الرخيصة بحيث آلى بعض أرباب العقول في أكثر الممالك الإفرنجية أن لا يتركوا بيتاً قذراً ولا بشعاً وأن تكون بيوت الفقراء كبيوت الأغنياء لطيفة الداخل والخارج فمتى يا ترى ينسج الشرق على مثال الغرب في مثل هذه الأعمال النافعة والحضارة الرافعة.

مثال الأمة الراقية

مثال الأمة الراقية جرت العادة أن تقتدي الأمم بعضها ببعض ولا سيما فيما فيه إعلاء كلمتها وتمام سعادتها فتطرس الأمم النازلة على آثار الأمم الناهضة. قال هنري ليشتنبرجه أحد أساتذة كلية باريز في خاتمة كتابه ألمانيا الحديثة ونشوئها ما تعريبه: لم يكن لألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر كيان يدل على أنها دولة عظمى بل كانت أشبه ببناء يتداعى والناس من حوله لا يعبؤن بما يجري له. فلم يكن هناك دولة يضخ أن تسمى ألمانيا بلا كان أمراء من الألمان منشقين على أنفسهم يتحاسدون وقلما يحرصون إلا على مطامعهم السافلة في الحكومة وهم أهل لكل تسفل لا يتحامون ارتكاب الخيانات على ضروبها للاحتفاظ بسلطتهم الثمينة وتقوية أمرهم وليس لهم من الكفاءة ما يستطيعون معه توجيه مطامعهم المنبعثة عن أناينتهم المجسمة نحو ما فيه نفع الأمة بل كانوا يؤهلون بالغريب ويحالفونه لقضاء مآربهم يعلنون الحرب على أبناء وطنهم إذا سما له أمل بحلب بعض النفع من غدرهم وخيانتهم. وبين ظهراني مثل هذه الأمة المنقسمة الضعيفة لا يرجى أن تقوم قائمة للحياة السياسية وأنى يكون لها ذلك ونظام الحكومة المطلقة فيها ضارب بجرانه وكثيراً ما يستحيل إلى استبداد يبيد الخضراء والغضراء والناس مع هذا خاضعون وخانعون حتى كادوا يقربون حد الرق والعبودية. ابتعد الفلاحون وسكان المدن وأرباب الصنائع وأهل الطبقة الوسطى عن الاشتراك في الشؤون العامة واستسلموا لظلم الحكومة وطبقة الأشراف على ما فيه من النكد وهم ضعاف الحول والقوة لا قبل لهم برد عاديتهم عنهم ولم يعودوا يبالون بتة بالحياة الوطنية بل تنحوا إلى دائرة أشغالهم الخصوصية. كل هذا الحياة الاقتصادية في الأمة ضيقة النطاق حقيرة الشأن والشعب مشتت مبعثر والبلاد فقيرة والمال قليل والصناعة تكاد تكون عدماً. فلم يبق للخروج من مأزق هذا الشقاء إلا مخرج واحد وهو تنمية العقل والصناعة فنزلت طبقة الخاصة المتعلمة إلى هذا الميدان وهبت هبة حماسية صالحة. وفي تلك البلاد الألمانية المشتتة المغلوبة على أمرها التي كاد بوم الخراب ينعق فيها بما تواتر عليها من الحروب والغارات أزهر التهذيب الأدبي والفلسفي الذي ربما كان أجم سطور بحد الذي تفاخر به هذه الأمة. ودخلت ألمانيا من ذاك العهد في ميدان العمل وتخلت

عن عالم الخيال والأحلام. وإذ كانت إنكلترا استولت على البحر وفرنسا على البر لم يبق لألمانيا كما جاء في بعض أقوالهم المعروفة إلا أن تؤسس لها ملكاً في الهواء فأنشئت مملكة لا نظير لجلالها ولا قرين لعظمتها. ولم تلبث هذه الأمة المتقهقرة الساقطة من حيث إدراك الحقائق الأرضية المولعة على ما يظهر بالخيالات والترهات أن نشأت فيها فكرة الإقدام على الأعمال وظهر للحال بأن الشعب الألماني ربما كان الوحيد بين شعوب أوروبا في استعداده للتقدم في الجهاد الاقتصادي. فهو لم يقتصر في نهضته الغريبة على اللحاق بالأمم اللاتينية التي سبقته زمناً إلى طريق الارتقاء المادي بل تقدم عليها حتى جعلها وراءه. وكاد يهدد اليوم إنكلترا أيضاً فيما كانت لها المكانة المكينة فيه منذ القديم في الأمور الصناعية والتجارية. فبدا هذا الشعب البطيء الثقيل بعض الشيء القوي في ذاته السالم في نفسه أنه مستعد لترقية المدنية وأن بلاده صالحة لغرس بذورها. وهو لا يعشق مثلها البطالة والفراغ ولا يرغب في العيش في التغزل بالجمال وحسن العشرة بل أنه يميل من فطرته إلى الجد وهو قوي الشكيمة عامل لا يعرف الملل سليم الطوية. سار منذ القديم على نظام دقيق في الأخلاق. وخضع منذ أزمان لقانون قاس في التدريب على الجندية. وفي مثل من كانت هذه طيبته خالية من الزهو والظرف ولكن فيها المتانة وطول الأناة كبرت إرادة قوية صبورة منظمة لها من الكفاءة ما تستطيع معها أن تأخذ سبيلها الذي سلكته والغاية التي قصدت إليها من دون أن يلهيها الهوى والشهوة وبغير أن يثنيها ثان من صعوبة أو تحول دون أمانيها عقبة. تطمح ألمانيا إلى بسطة سلطانها مدفوعة إلى ذلك لا بعامل الرغبة في أن تكون في مقدمة الأمم وأن تظهر شأنها وأمرها ولا من أجل المنافع المادية التي تحاول نيلها بل أنها تريد رفعة الشأن لذاتها لأنه مقياس حقيقي لما يساويه رجل أو جماعة أو حزب أو أمة. ألمانيا مسوقة إلى المشاريع التجارية بنابل من ناموسها الاقتصادي تضطرها إليه ضرورة ملازمة لها ملازمة محتمة. الألماني كثير النسل للغاية. فقد ازداد سكان ألمانيا من نحو 25 مليوناً سنة 1846 إلى زهاء 36 مليوناً سنة 1855 إلى 60 مليوناً سنة 1905 وأنت أعلم بأن هذه الزيادة تزيد في عدد الأسر والبيوت.

وهذا النمو من الأمور التي ساعدت على نماء الثروة بينهم لأن الزائد كل سنة من أبناء الأمة ينشأ منهم لألمانيا جيش من العاملين الذين تحتاج إليهم الصناعة في ترقية شؤونها وقد انتشر فكر الإقدام على الأعمال في الطبقة الغنية من الأمة انتشاراً كثيراً. وإنك لترى رب الأسرة منهم غير طامع أن يترك لأبنائه كما هو الحال عند الفرنسيس مقاماً كريماً يعده لهم ودخلاً مضموناً يتمتعون به بعده بل أنه يربيهم تربية متينة ويجهزهم لجهاد الحياة بأقوى جهاز ثم يتركهم وشأنهم يجدون في الأرض مرتزقاً. فيروح الشاب يتعب ويفرغ الجهد مخافة أن يسقط عن المكانة التي بلغها أهله. وهكذا كانت كثرة النسل في هذه الأمة مهمازاً قوياً يحث ألمانيا على النهوض إلى طلب الثروة والشوكة. وهذا الجهاد في سبيل العظمة يكبر ويضخم في عامة شؤون الحياة الألمانية وفي جميع فروع الجهاد البشري. فتراه متجلياً في الأفراد وفي الأحزاب السياسية وفي الطوائف الاجتماعية وفي الحكومات المتحدة وثابتاً بمجموع الأمة الألمانية بأسرها فيما تظهر فيه من مظاهر بسط السلطة وما حازته من الاشتراك في سياسة العالم. هذا الجهاد يرمي إلى رفعة شأن الجندية والبحرية والنفوذ السياسي والقوة الاقتصادية والصناعية والتجارية والتقدم العلمي. لأن العلم أيضاً صورة من صور السلطة البشرية ولا شك أن ألمانيا حازت قسطاً كبيراً من نجاحها بواسطة علمها. صحت العزائم على التدريج وقويت إرادة السيادة وأُشربتها روح الألماني فمال إلى التهذيب بكليته. ولم يكن ميل الألمانيين إلى الفنون ميلهم إلى القوة لأن الفنون كالدواء المتمم لدواء أفعل منه فهي لا تقصد من ثم لذاتها. على أنه مما يجب أن يعرف أن رغبتهم في القوة لم تكن رغبة في القوة الوحشية الظالمة ذات الأهواء والأحكام العرفية التي تظلم عن تغفل وهوى وهي منافية للحق والعدل بل أن رغبتهم كانت مصروفة إلى القوة الذكية المفكر فيها التي تقبل لأنها مشروعة بفضيلتها الذاتية لا لأنها نافعة عاقلة. ومن العادة أن تقوى القوة على الضعف وأن تخضع الطبقة النازلة للطبقة العالية. الألمان احترموا القوة التي هي حق أيضاً ولأنها تعبر عن تقدم حقيقي يقضي العدل بأن يعترف به ويحترم. جهاد الألمانيين لبسط سلطانهم يجري على ترتيب وتنسيق ما أمكن فإن نظام حرية المنافسة وهي عبارة عن محاربة الفرد للمجموع وتحريك الأنانية الشخصية يحتوي في مطاويه ولا

شك مبدأً فوضوياً أقرب إلى الانحلال منه إلى التماسك. فيتأتى له أن يكون كما كان سابقاً في إيطاليا على عهد النهضة مثاراً للشخصيات الساخطة التي تنازع غيرها للتفوق عليه واليأس آخذ مأخذه ويهلك بعضها بعضاً بلا شفقة. بيد أنه من الثابت أن ارتقاء مبدأ حرية العمل في ألمانيا لم يؤدي إلى نتائج من هذا القبيل. فإن المنافسة بين الأفراد وبين المجموع على كثر ما تكون من الشدة ولكن لا يستحيل أبداً إلى فتن لا نظام فيها. طال جهاد ألمانيا في سبيل الوحدة السياسية واستعر النزاع بين حكوماتها في أمره فانتهت حالة بحرب. ولما أصدر المحكمون من النائبين عن الأهلين حكمهم في هذا الشأن سكنت الكراهية وزالت الأحقاد ورضيت الأمة في الحال بما وضع لها من نظام جديد وبدلاً من أن تضيع الوقت في شحناء لا فائدة منها وتنهك قوتها في الانتقاض العبث راحت تجمع قواها لدفع غارة الحروب السياسية التي يشتد بينها الخصام ويدوم ولكنه لا ينتهي في الغالب بفتن شعواء. وربما كان بين الطبقات المختلفة عندهم أشد مما هو عند غيرهم ولكنك لا تجد فيه ما يستشم منه ريح الثورة حتى أن الفكر الإصلاحي يقوى شيئاً فشيئاً بين الحكومات التي ترى التوسع في جمع رؤوس الأموال وبين الاشتراكيين الألمان ممن آلوا على أنفسهم ألا أن ينافروا الحكومات فتراهم يقضون بدون تقية على كل ما من شأنه أن يدعو إلى القسوة ويتحامون الوقوع فيما يؤدي إلى اتخاذ سلاح القوة ولو كان فيه تحقيق أمانيهم وإبلاغهم غاياتهم وهم يصرحون جهاراً بكرههم لمقاومة روح الجندية وللاعتصاب العام. ترى المنافسة الصناعية والتجارية مشتد \ ة كل الاشتداد وهمم الأفراد بالغة أقصى الشدة والجرأة ولكن ألمانيا وهي مهد الشركات العظمى المؤلفة من أرباب المعامل أو العملة هي على التحقيق من البلاد التي بذل فيها الجهد لتنظيم أسباب الإنتاج ووضع المراقبة على أسواق المقايضات ليكون من ثم للمنافسة حد محدود ويقلل من معاودة الأزمات وإضعاف شدتها إذا حدثت. وعلى الجملة الجهاد الشخصي على أشده في ألمانيا ولكن لا يؤدي فيها إلى فوضى الأفراد وربما كان ذلك من الصفات التي اختص بها هذا العنصر. اللماني يقلى شعوره بالنسبة لغيره من الأمم الأخرى في الحاجة إلى ترقية شخصيته ترقية تامة فيختار برضاه أن يحشر نفسه في بعض أعمال خاصة ينصرف إليها بجملته. ويؤثر

عن طيب خاطر أن يفادي بجزء من شخصيته وذاتيته ويكتفي كما يقول التعبير الألماني بأن يكون منه جزء من إنسان بل أن يكون منه أخصائي يقوم أحسن قيام بعمل اختص به كل الاختصاص دون أن يعني بما يخرج عن الدائرة التي وضع نفسه فيها وآلى أن لا يتعداها. ومن أجل هذا السبب يختار أن يشرك غيره معه وأن يكون تبعاً له ولا يرى حرجاً في الانضمام إلى الجماعات التي تكثر في ألمانيا. يؤثر الألماني أن يجعل نفسه جزءاً متمماً لبناء متسع تتألف منه آلة تختلف الحاجة إليها والاستغناء عنها. وهو يسعد بأن يفادي بحظ نفسه من أجل منفعة تأتي ببعض الأعمال الكبرى ويخلص في سبيل نجاحها. وبالجملة إن في الألمان غريزة التهذيب بنظام واحد فيحسن الألماني الطاعة كما يحسن الأمر ويعرف كيف ينفذ الأوامر الصادرة إليه على غاية التدقيق كما يعرف بذل الهمة في الدائرة المختصة به. الشعب الألماني يخرج الأعضاء النافعة الرائعة من بنيه ممن هم عمد أبنية المجتمع الضخمة اللازمة للقيام بالأعمال المهمة من جيوش وطنية وإدارات كبرى ومشاريع متسعة من مالية وصناعية وتجارية ونقابات. الألماني لا ينفك عن الانضمام والتآلف حتى في الفنون التي من شأنها الانفراد وإنك لتراه حتى في الموسيقى يجري على نغمة واحدة. وهذا الذوق في الاشتراك والخضوع طبيعي فيه فهو لا يكره على الخشوع للنظام صاغراً بل يقوم به والسرور ملء جوانحه. هو أخصائي يلذه ما هو فيه ولا يأسف على ما يبقى خارج أفقه على الدوام. نعم هو يقتنع بالوقوف دون حدود كفاءته والسرور يبدو عليه ممزوجاً بالزهد وربما ظهر عليه شيء من الاحتقار والاستهزاء بالذي يعرف القشور ويحشر نفسه فيما لا يعلم ويدعي أنه يناقش بل يحل المسائل السياسية والدينية والفنون والأخلاق. صاحب الجد في الألمان يحتقر بفطرته المرتجلين والمقتنصين الذين يخبطون ويخلطون ومعلوماتهم ناقصة وسطحية ممن يعانون كل موضوع ويتسلقون عليه وليس لهم سلاح ماض من الكفاءة ومن خلق اللماني أن لا يلقي بنفسه خارج المحيط الذي يعرفه وإن شئت فقل أنه يقل فيه الفضول ويرى ن غاية العالم هو ما اختص به وتفرد بعلمه. كان من نتائج هذه الغريزة في الألمان من الخضوع للنظام وترتيب طبقات المجتمع عندهم

أعظم حافظ للأمة. الفكر الشخصي في ألمانيا ثاقب للغاية ولا يتلكأ أمام مشكلة مهما كانت ويبحث فيها كلها مستقلاً كل الاستقلال. على أنه يكره التطرف في حلها. فليست ألمانيا من حيث الأمور الدينية مثلا جاحدة ولا كهنوتية ولا تنبذ اكتشافاً من مكتشفات من ينكرون الوحي من طريق العلم بل ترى أبداً إبداء شيء من الاحترام للحكمة الغريزية الظاهرة في الشعور الديني في الإنسانية وهي تحاول أن توفق ما أمكن بين العلم والإيمان والحقيقة العقلية الحقيقة التقليدية كما أنها في الشؤون السياسية تقصد إلى أن تمتع رعاياها بمبدأ السلطة ومبدأ الديمقراطية فلا تقبل أصلاً السلطة الاستبدادية المطلقة بل ترى احترام الحكومة المطلقة لما فيها من ترتيب الطبقات. فالديمقراطية الألمانية لا تطلب أن بيدها وحدها سعادة الأمة بل ترى عن رضا أن يشترك في السلطة معها زعيم عالي المقام لا توجده هي بل يكون مما أوجدته التقاليد. وبعد فنه يتجلة أن ألمانيا بفضل معنى النظام والترتيب المغروس في أبنائها آخذة في الترقي لإدراك معنى التكافل في الحياة الذي هو على التدريج مهذب بل متمم لمذهب حرية المنافسة ومن هذا على ما أرى كان ارتقاءها موضوع إعجابنا في الأكثر. فإن انتشار الأحزاب السياسية والعصابات الاجتماعية ونقابات أرباب الأعمال والمعامل والعملة واتساع دائرة أعمال الضمانات الاجتماعية كلها تدل على ما تم لفكر التكافل من النجاح النامي. فحل بالتدريج الشعور بضرورة الجهاد في التكافل لإحراز القوة محل هيجان المنافسة العامة والحرب التي يثيرها الفرد على المجموع. فألمانيا تتوقع وترجو أن يكون لها بعد دور الانقلابات العظيمة والتقلقل وقلة الأمن الناشئين من ارتقاء مذهب حرية العمل ما تدخل معه في دور النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يكون إلى السلامة مرتباً على قانون ثابت وإيمان وخلق أقل تردداً. فهي تطمح بذاك الجهاد العظيم في سبيل الوحدة السياسية والثروة المادية أن تنهض نهضة الشمير نحو الكمال في التهذيب والتكمل في التفنن. ولا شك ن هذا مما تقرأ في صفحته جمال المستقبل. ويكفي في هذه الآمال على ما يتسرب إليها من الريب أنها لا تبدو غير ممكنة التحقيق في عيون الألمان فينظرون الطريق التي قطعوها بما يحق لهم من الإعجاب ويرون المستقبل الذي إليه يسيرون بشيء من حسن الظن فيه.

بقي علينا الآن أن نثبت أن الشعور التكافلي لم يبرح وطنياً صرفاً عند الألمان فالألماني يشعر بأن مسئوليته في التكافل مع ابن جنسه لا تزال في زيادة أما مع سائر الأمم فإنه لا يرى بأساً من الانطلاق في حريته ومنافستها.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع خرائب منفيس قدم الأستاذ فليندرس بتري تقريره عن أعمال البعثة الإنكليزية الثرية في مصر وقد جاء فيه أن هذه السينة صرفت كلها في البحث في خرائب منفيس القديمة فعنيت البعثة أولاً أن تعين مواقع الأبنية المهمة المختلفة التي ذكرها كتاب الروم ولاسيما هيرودتيس فوجدت مذبح معبد باتا العظيم وبيت الحياة الذي كان سطحه عبارة عن ستمائة متر طولاً وأربعمائة وخمسة وستين متراً عرضاً. وعثروا على عدة شهادات تدل على ارتقاء التمدن ولا سيما على مصانع ترجع إلى الدولة الثامنة عشرة (1800 سنة قبل الميلاد) ومن جملة هذه المصانع رفوف لتوضع عليها النذور يشاهد عليها آذان نقشت عليها هذه العبارة: يا بانا اسمع لدعوة من يدعونك ممن يعبدونك وأهم اكتشاف في هذه المصانع اكتشاف الحارة التي كان التجار الغرباء مقيمين فيها وموضع معبد الزهرة الآسياوية هاتور. وفي هذه الأماكن ظفروا بأوان خزفية والظاهر أنها مما صنع في غير مصر ومنها يستدل على ما كان بين سكان منفيس والأمم القاصية من الصلات كما عثروا هناك على تماثيل لملوك الفرس وعساكر الفرس وقبائل السيتيين وعلى تمثال لا شك في أنه هندي الصل وهو يمثل رجلاً بوذياً. وعثروا أيضاً على رؤوس يونانية مختلفة الأشكال. وكل هذه الآثاؤ وغيرها تثبت أن سكان منفيس كانوا أخلاطاً من النزلاء والدخلاء واكتشفوا ما لم يكونوا يتوقعونه وهو مصنع جميل أنشأه آخر ملك من السلالة التاسعة عشرة المصرية واكتشف بالحفر في ضواحي سوهاج في مكان مدينة أتيبري القديمة بقايا معبد للبطالسة الذي أنجزه بعد زمن كلود وهاردين ثم اكتشفوا بقايا كنيسة كاتدرائية أنشئت على عهد قسطنطين. العدوى من الحمى كان المقرر عند الأطباء أن ن يصاب الحمى التيفوئيدية ويبرأ منها لا يحمل جراثيمها إلى غيره ويبقى جسمه مطعماً بها ولكن ثبت في إنكلترا الآن أن من تصيبه هذه الحمى الخبيثة وينجو من أخطارها يبقى مدة ولو عوفي كل المعافاة والاقتراب منه ينقل العدوى إلى السليم المستعد لقبول جراثيمها فرأت إنكلترا أن تسن قانوناً يمنع الناقهين من الحمى التيفوئيدية من الاختلاط بغيرهم وقد كانت ألمانيا سبقت منذ بضع سنين وقضت على من يسلمون من

فتكات هذه الحمى أن يخضعوا زمناً لنظام التطهير وتفحص أجسيامهم في محطات بكترولوجية تقام في جميع البلاد المصابة بالحمى. إصلاح الساعات أجرى الأستاذ بيكوردان الفرنسوي في فيينا تجارب بالتلغراف اللاسلكي لأجل إصلاح الساعات الدقاقة والكبيرة بحيث يتيسر بعد الآن حتى على من لم يسعدهم الحظ بمعاناة صناعة الساعات أن يصلحوا بأنفسهم ساعاتهم. جرذان الماء هذا الجرذ يسمونه يشبه جرذان الماء وهو في الأصل من جبال نروج وكثير التناسل جداً ولذلك يضطر إلى الهجرة فينزل من الأعالي أسراباً أسراباً يخرب ما في طريقه من الغلات حتى ينتهي إلى شاطيء البحر فيقذف نفسه فيه حتى يغرق أحياناً وكثير منه تسطو عليه أثناء مسيره العقبان والبواشق والنسور والبوم أو غيره من الكواسر ولكن منه ما يصل إلى السويد ويتناسل فيها أي تناسل على كثرة محاربة السكان له لإبادته ومن المحتمل أن هذا الجرذ ينقرض بعد بضع سنين من تلك البلاد إن لم يهرب على بلاد أخرى في أوروبا وينتشر بين أهلها على غرة منهم. غرفة ساكتة أنشؤوا في مدينة أوترخت غرفة مبنية على صورة تمنع وصول الأصوات من خارج مهما بلغت من الشدة وتؤلف جدرانها من حائطين جعل كل منهما من عدة طبقات من المواد المنفصلة بعضها عن بعض بفراغ والحائط الداخلي منها قد جعل ظاهره وباطنه من القش والطباشير والحائط الخارجي من الخشب والرمل وحجر الكذان والجبس فيكون مجموع الطبقات ستاً ما عدا طبقات الهواء وكذلك يصنعون سقف تلك الغرفة وأرضها وطولها متران وربع ويدخل إليها من بابين وهي لأجل التجارب الفسيولوجية. فسيفساء رومية وفق المسيو تورنو المهندس في سلانيك إلى تنظيف قطع من الفسيفساء البيزنطية في كنيسة سالت صوفي (ايا صوفيا) في سلانيك وكانت مغطاة بدهان من الزيت وأرجعها إلى

حالتها الأولى وقد تبين له أن صورة العذراء الموضوعة في صدر الكنيسة قد صنعت في القرن الثامن للميلاد. وهذه القطعة ثمينة جداً لأنها من صنع ذاك العصر. رواتب الملوك يقبض قيصر روسيا أربعين مليون فرنك راتباً سنوياً ويقبض إمبراطور النمسا والمجر ثلاثة وعشرين مليوناً وإمبراطور ألمانيا عشرين مليوناً وملك إنكلترا اثني عشر مليوناً وملك إيطاليا عشرة ملايين أما رئيس جمهورية الولايات المتحدة فيأخذ ربع مليون ورئيس جمهورية فرنسا مليوناً ومائتي ألف فرنك. الخادمات الفرنسويات تشكو فرنسا من قلة خادماتها مع أن فيها سبعمائة ألف امرأة تخدم في البيوت إلا أن عدد الخادمات كان فيها منذ عشرين سنة ضعفي ما هو عليه الآن ولذلك كثر الخادمات الألمانيات والسويسريات في فرنسا حتى أصبحن عشر الخادمات من أبناء البلاد لأن أكثر بنات الفقراء في فرنسا أصبحن يؤثرن الخدمة في المعامل ليكون لهن أوقات يصرفنها في الراحة على النحو الذي يرون بدون تقيد في الخدمة. البرتستانت أحصى أحد علماء كوتنغن عدد من يدينون بالمذهب البرتستانتي فقال ان الولايات المتحدة 65 مليون من أهلها الذين يبلغ مجموعهم 79 مليوناً وفي إنكلترا 37 نمليوناً من أصل 42 مليوناً وفي ألمانيا 35 مليوناً من أصل 56 مليوناً وفي فرنسا سبعمائة ألف فقط وعددهم لم ينم منذ قرن فمجموع من ينتحلون البرتستانتية في العالم 180 مليوناً منهم 114 مليوناً يتكلمون الإنكليزية. أرباح الأمم معدل ما يصيب الفرد في إنكلترا من الأرباح نحو 28 غرشاً في اليوم وفي الولايات المتحدة 24 وفي فرنسا والبلجيك نحو 22 وقد قدر أحد علماء الاقتصاد من الألمان مجموع ثروة العالم بألف ومائتين وخمسين ملياراً من الفرنكات أي بنحو ثلاثين ضعفاً مما يستخرج كل سنة من مناجم الذهب منذ عرف فن الإحصاء. والحبوب والمواشي من أعم عوامل

الثروة. اتقاء الانتحار أنشأ جيش السلام في لندرا منذ سنة مكتباً للانتحار أتى بفوائد جليلة فجاءه 1125 رجلاً و90 امرأة شكوا غليه أمرهم وباحوا إليه بما انطوت أنفسهم عليه من اليأس فخفف عليهم ما نابهم. وهذا المكتب لا يوزع على من تحدثهم أنفسهم بالانتحار مالاً بل نصائح وحكماً فقد كان منه أن أعان كثيراً من السوداويين على الخلاص مما نالهم فهو يقوي الأمل في القلوب الميتة وأعضاؤه يدلون على شعور إنساني وفراسة في أحوال النفس ولذلك نبه أولئك الأعضاء راقد الشجاعة وتلافوا مصائب كثيرة. أكلة الأعشاب وأكلة اللحوم أظهرت أبحاث أحد علماء الصحة في الولايات المتحدة في التفضيل بين أكل الأعشاب وأكل اللحوم وأيهما أنفع للإنسان فتبين منها أنه ربى إوزاً باللحوم وإوزاً بالحبوب فأثبت الاختلاف الذي نتج عن تربيته في تراكيبها التشريحية وأن ما غذاه منها باللحوم أصبح أسفل معدها رقيقاً جداً وما غذي بالحبوب أضحت غليظتها وأن الأحشاء تطكول بحسب نوع الغذاء الذي يتناوله الحيوان فالإوز الذي غذي باللحم كانت أحشاؤه أطول من غيره وقد تناقل العلماء تجارب العالم الأميكي وقالوا أنها فتحت لهم باباً جديداً للنظر في أيهما أسلم التغذية بالأعشاب والبقول أم التغذية باللحوم والشحوم. التماسيح والنوام يهلك بالنوام أو مرض النوام كل سنة ألوف من البشر في أفريقية ولذلك تتحد الحكومات التي لها أملاك في هذه القارة جميع الذرائع لاستئصال هذا المرض وقد استبان من تجارب لافران أن هذا المرض ينشأ من دخول جرثومة في الدم يحملها البعوض المسمى تسي تسي وأن هذه الجراثيم تختار النزول في فك التمساح فتنمو فيه أولاً. الصينيون في يابان أصبحت بلاد اليابان في الشرق مثل برلين وباريز في الغرب مدرسة ترسل النور إلى الأقطار فلم يدن في مدارسها منذ ثماني سنين غير ثمانية تلاميذ من أبناء الصين وأصبح

فيها الآن عشرة آلاف وزاد فيها تلاميذ الهنود ثلاثة أضعاف ما كانوا منذ حرب الروس الأخيرة. مركبة ضخمة أنشؤا في إنكلترا مركبة ضخمة تجرها الخيول فتطوف القرى والمدن وتبيع المشروبات والمأكولات وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسم قاعة كبرى وغرفة للنوم وغرفة تعرض فيها النموذجات والأمثلة وهي مفروشة أحسن فرش فهناك يكرعون المشروبات ويدخنون ويقصفون على ما يشتهون. إبادة الجرذان لم تجد نظارة المالية في إنكلترا المال اللازم لإعانة الشيوخ المعدمين وقد اقترح عليها أن يجبي رسماً تستخدمه في هذا السبيل من إبادة الجرذان لأنها تخرب كل سنة ما يقدر بعشرة ملايين جنيه وقد ثبت أن ميكروب نومان يبيدها فلا يبقى منها ولا يذر فإذا خلصت إنكلترا من جرذها تستطيع حكومتها أن تضرب ضريبة تعادل ما كانت الجرذ تخضمه وتقضمه في العام فتستعمله في إعالة البائسين من الهرمين. فراش موسيقي اخترع أحد العملة في جنوة فراشاً لا يكاد يستلقي عليه الإنسان حتى يأخذ بضرب موسيقى متساوقة الألحان تطرب سامعها ولاسيما من كان مؤرقاً فيزور الكرى مقلتيه. وعلى العكس فيمن كان كسلاناً لا يريد فراق فراشه فإن ذاك العامل المخترع ابتكر فراشاً آخر ذا ساعة دقائقه توقظه من نومه في الساعة المعينة على نغمات منكرة فلا يسعه إلا أن يبادر بالنهوض. تعليم الفلاحين ارتقى التعليم كثيراً في شمالي أوروبا ولاسيما في الدانيمرك فإنك تجد فيها مدارس خاصة للمزارعين فيختلف الرجال والنساء منهم إليها يتعلمون فيها الكيمياء وفن الطبخ وكل ما له علاقة بالزراعة وتربية المواشي ويلقى كل شهر محاضرات عليهم جماعة من المحامين أو من الطلبة الدارسين وهكذا بلغ الفلاحون درجة من الارتقاء العقلي تفيدهم في أعمالهم.

البيوت في أميركا تقول إحدى المجلات الأوروبية أن مساكن أهل الطبقة الوسطى في أميركا أحسن حالاً ونظاماً مما هي في أوروبا والسبب في ذلك أنها مبنية على شكل لا يحتاج معه إلى عمل زائد فلا ترى فيه أشياء تعلق على الجدران ولا غرفاً للتزين والتبرج وأن سر هذا الانتظام ناشئ عن أن كل فرد في البيت يعمل فغي ترتيبه بحسب حاله وشأنه حتى أن رب الأسرة نفسه يتعاطى في إصلاح فرش داره وأثاثه ما تتعاطاه زوجته. مدفع سريع صنع أحد مخترعي الإنكليز مدفعاً تقطع قذائفه ثلاثين ألف قدم في الثانية بحيث أنه يتأتى للإنكليز أن يحاصروا باريز من لندرا وهم في بلادهم فيرسلون على أعدائهم القذائف فتسير بقوة الكهرباء كالبرق الخاطف. السمك النافع قالوا أن جزائر بارباد هي السالمة وحدها من بين جور الأرخبيل من حمى الملاريا فليس فيها البعوض ذو الجناحين الذي ينقل عدوى هذهالحمى وقد بحث أحد ضباط الإنكليز في تلك الجزائر عن سر نجاة بارباد من هذه الحمى فتبين له أن في جميع بطائح تلك الجزائر أسماكاً كثيرة يسميها السكان لكثرتها الملايين وهذا السمك يأكل ديدان البعوض الناقل للحم، وقد نقلت كمية وافرة من هذه الأسماك إلى جزائر الجامايك وكولون وكوبان وغيرها من جزر أفريقية فعساها تأتي على تلك الديدان فلا تبقى للملاريا أثراً وتوفر الأنفس بحسناتها وقدومها الميمون. التنويم والجرائم أعلن الدكتور هبرت خلاصة أبحاثه في الاستهواء بالتنويم المغناطيسي فاستنتج بأنه في عدة أحوال في الجرائم يجب البحث عن التأثيرات التي تأثر بها القاتل بإرادة أقوى من إرادته والنظر فيما دعاه إلى ارتكاب ما ارتكب وفيما إذا كان المجرم في أول أمره حسن المنازع ففسد بالقدوة أو بقوة الاستهواء المغناطيسي الآتية عليه من غيره ودلت التجارب التي جرت مؤخراً في باريز على أناس متهمين بالاشتراك ببعض الحوادث الكبرى

بواسطة تنويمهم لتعديل حالتهم النفسية كل التعديل على أن التأثيرات ممكنة كما دلت أيضاً بأنه كان كثيراً ما يصعب جداً إرجاع المنومين على هذه الصورة إلى حالتهم الطبيعية الاعتيادية. وقد ثبت من بحث الدكتور هبرت بأن عصابة من اللصوص أو القتلة مثلاً يؤثر فيها زعيمها تأثيراً يخضع إرادات أصحابه لسلطانه فيحركهم كما يحرك نوابض (زنبلكات) ساعة دقاقة فتطيعه وتجري طوع يديه. ثبت ذلك بعدة حوادث في تاريخ الجرائم. وأورد الباحث المشار إليه عدة أمثلة غريبة جداً في الاستهواء فقال أن فتاة كانت تطرب الناس بالضرب على الكمنجة مع جوق موسيقى ولكنها لم تكد تستطع أن تبرهن على اقتدارها وذكائها إلا إذا انفردت وحدها بدون أن يختلط ضربها بضرب رفيقاتها وعندما كان يخلو لها الجو ولا ينغص عليها عملها منغص ولا تخضع لإرادة إرادتها لأحد كانت آية في ضربها وكلما كانت تشعر بأن رفيقاتها مسلطات عليها كان يستحيل عليها أن تبدي مواهبها فكانت من ثم ضرباً من ضروب الاستهواء ومن أهم ما لاحظه الدكتور بأن بين الرجل والمرأة عداوة طبيعية في تنازع البقاء فإن أحدهما يحاول بدون شعور منه أن ينزع من صاحبه أو يقلل من اقتداره الشخصي والعقلي ومن رأيه أن هذا أحد نتائج قانون بقاء الأنسب واستدل من ذلك بأنه يجب على كل امرئ أن يحذر من الاستسلام لغيره في مقاصده وعمله على غير روية وسعة نظر. مخدر جديد جرب المستشفى الوطني في لندرا مخدر جديد اسمه نوفوكايين ويظهر أنه سينافس مادة الكوكايين المخدرة المعروفة وذلك لأن تأثيره مثلها ولكنه يدوم التخدير به أكثر والتسمم به أقل وثمنه ارخص وهو ينفع في تخدير الأسنان كما ينفع في غيرها. الذهب الأبيض اكتشف في كولومبيا منجم جديد من البلاتين أو الذهب الأبيض وكان لا يعدن في تلك الأقطار حتى الآن غير الذهب المعروف ومعلوم أن كولومبيا غنية بمناجمها المختلفة وأن كثيراً منها لم يجر تعدينه بهد وأن ندرة هذا النوع من الذهب وكثرة استعماله قد زادت في قيمة هذا الاكتشاف. الإلحاد في ألمانيا

تنادي الصحف المعتدلة في ألمانيا الآن بالويل والثبور على تسرب الإلحاد إلى نفوس الطبقة المستنيرة من الأمة حتى كاد أهل هذه الطبقة في ألمانيا يشبهون بأمثالهم في فرنسا قائلة أن الإلحاد يودي بالأمم ويجعلها أسفل سافلين وقد نسب أحد علمائهم انهيال الزندقة على الألمانيين لمجلة شهرية اسمها طريقة العالم الجديدة جعلت ديدنها الاكتفاء بذكر النظريات الجديدة التي اكتسبتها العقول والشبان من ارتقاء العلم ولاسيما علم الباليانتولوجيا (علم المطمورات من نباتات وغيرها) والجيولوجيا (طبقات الأرض) ومذهب النشوء وهذه المجلة انتشرت في كليات الألمان ومدارسهم انتشاراً كان منه تأثيرها السيء في الأفكار. وشتان بين أمة تدخل إليها الزندقة فتسعى إلى مداواتها والنظر في أسبابها وبين أخرى تدخل إليها فتعدها من دواعي المدنية والارتقاء. مكتبة الجيب يتحدثون في أوروبا بطبع كتب على صور مصغرة جداً لا يتمكن من قراءتها إلا بالمجهر ولهذه الطريقة من تصغير حجم الكتب فوائد كثيرة أقلها أنك تستطيع معها أن تحمل في جيبك مكتبة برمتها. فلله در التفنن. الجمال عند المالايو يرى أهل شبه جزيرة مالايو في الهند الصينية أن الجمال بطول العنق على العكس مما يراه بعض أمم الشرق وأكثر أمم الغرب بقدود ممشوقة وعيون دعج وتناسب في الأعضاء ولذلك يضع أهل المالايو في أعناق بناتهم منذ ولادتهن أغلالاً من الحديد تضطرهن إلى أن يجعلن رؤوسهن مستقيمة. إطالة الشباب يرى الطبيب تراسي الأميركي أن الإنسان لا يعاجله الهرم إذا لم يعش هذه العيشة الحديثة التي تخل بتركيب جسمه وأن معظم الهرم العاجل يجيء من الإفراط في المأكل واستعمال الكحول فيمتزج الدن بمواد سامة لا تفرز منه وتتفقد الشرايين مرونتها وتتصلب بما يتوالى عليها من الضغط ولا يخفف هذا الضغط عن المجاري إلا بالتدقيق في الأكل والشرب واستعمال الكهربائية وبذلك يطول أمد الشباب لأن هذه المجاري تقلل من ضغط الدم وتقوي

الإفرازات وتؤثر تأثيراً ميكانيكياً في الأنسجة. رعاية الأطفال اسفت مجلات إنكلترا لفقدها رجلاً كبيراً اسمه بنيامين وغ كان الحركة الدائمة في جمعية رعاية الأطفال في إنكلترا فبفضله قويت قوة عظيمة ولها الآن في إنكلترا 1137 مأوى للبنات وترعى مائة ألف طفل وتحميهم من بوائق الأيام وأنواع الفظائع والآثام. الخيول ظهر إحصاء بعدد الخيول في العالم المتمدن فتبين منه أن الجمهورية الفضية أكثرها خيولاً ففيها 4762340 أي 112 حصاناً لكل مئة ساكن ثم تجيء سيبريا وفيها يصيب كل مئة ساكن 85 حصاناً ثم الولايات المتحدة وفيها 62 في المئة ثم إنكلترا وفيها 13 في المئة ثم فرنسا 7 وألمانيا 5. وادي موسى عني المسيو ألوا موزيل العالم النمساوي بالرحلة إلى وادي موسى في بلاد العرب المعروفة عند الإفرنج ببترا أي العربية الصخرية وقد أصدر الجزء الثالث من رحلته الآن فجاء فيه أن مجموع سكان تلك البلاد يبلغ سبعين ألف نسمة ينقسمون إلى 48 بطناً يجمعها جد واحد يحترمون قبره. وكان من انقطاع هؤلاء السكان عن الاختلاط بغيرهم أن حفظت لهم أخلاقهم الأصلية حتى أن كثيراً من الأشياء التي لا تفهم من شعر الجاهلية إذا درس المرء ما كتبه هذا العالم عن أخلاق سكان وادي موسى وآثارهم وأصولهم ولغتهم وشعائرهم الدينية تتجلى له كل التجلي فقد بقي في أعمالهم الدينية وفي ذبائحهم وضحاياهم خاصة علامات جوهرية من الأديان السامية القديمة حتى أن تاريخ الخرافات عندهم يرد إلى عهد قديم جداً فمنها أنهم يعتقدون بأم المطر عندما يضر الجفاف بمزروعاتهم فيعمد النساء إلى اتخاذ عصاوين يجعلونهما على شكل صليب ينطن به قميصاً ويطفن الأرض التي تشكو قلة المطر منشدات أغاني أوردها المؤلف. ولم يقف تأثير عادات الجاهلية فقط عند هذا الحد في عادات سكان وادي موسى ومعتقداتهم بل أن النصرانية أثرت في مسلمي الكرك آثاراً لم تبرح بادية للأعين فمنها أنهم يعمدون أولادهم على يد قسيس مسيحي ليضمنوا لهم بذلك صحة جيدة وقد أثنت المجلات العلمية على مؤلف هذا الكتاب وقالت أنه منجم فوائد

ولم تكن للغربيين معرفة بها من قبل. أندية العملة جعلت للعملة في بلاد الإنكليز منذ سنة 1862 أندية خاصة يأوون إليها آونة فراغهم ولا يكونون فيها عرضة لتعاطي المشروبات الروحية وما برح المشتركون فيها ينمون حتى غدت وارداتها تكفيها. وفي إنكلترا 1100 ناد ينفق الفرد فيها كل أسبوع ثمن مشروبات ودخان ومياه معدنية شليناً واحداً ومنها مائتا ناد لها صفة سياسية وجميع هذه الأندية تمثل عامة الآراء والمذاهب وتنشئ محاضرات ومسامرات وسماعاً ومعارض زهور وأعياد إحسان ولكل ناد مال خاص ينفق منه على فقراء المقاطعة التي هو فيها. وأهم ما تمتاز به أندية العملة الامتناع عن المشروبات الروحية والإحسان لمن جار عليه الزمان من أبناء بلادهم ولبعضها خزائن كتب سيارة تطوف البلاد ليطالع فيها الناس مجاناً. أخلاق المالغاشيين المالغاشيون سكان جزيرة مدغسكر لهم أخلاق وعادات غريبة من حيث عفة لنساء وإليك ما وصفهم به أحد علماء الإفرنج قال: إن ما يطلب من المرأة المالغاشية هو أن تطبخ في أوقات معينة الأرز والمرق الذي يؤكل معه في العادة وعلى ما ينبغي وأن ترتب شؤون البيت وترتب الثياب وتدير بحكمة أملاك بيتها وهذا في الغالب من خصائصها وأن تلد لزوجها أولاداً كثيرين هذه وظيفة ربة المنزل الأساسية وما عدا ذلك فإنها إذا حافظت على عفتها فبها ونعمت ويعد كمالها نوراً على نور مع أنه قلما يلتفت إليه أو يقلق من أجل فقده. الفتاة المالغاشية حرة باستخدام جسمها على النحو الذي تريده. وليس في اللغة المالغاشية لفظ مرادف للعفة والبكارة حتى المرسلين في بعض أنحاء تلك البلاد التي دانت حديثاً بالنصرانية اضطروا إلى أخذ كلمة بكارة من اللغة الإفرنجية يستعملون جملة للدلالة على لفظها فيقولون طهارة السلوك وطهارة القلب للتعبير عن العفة. ولم يستطع أولئك المرسلون أن يعبروا عن تبتلهم إلا بأنهم قالوا أن الله بعث بهم ليكون آباء للمالغاشيين فلا يجدر بالأب أن يتزوج من بناته. يبلغ الولد سن الحلم هناك في الثامنة أو العاشرة من عمره والبنت قبل هذه السن أحياناً. ولا سبيل إلى تحديد وقت يرتكب فيه الأولاد ما يرتكبون من الخطيئة للمرة الأولى والأم

تنظر إلى بنتها إذا أتت منكراً نظرة المسرورة المغتبطة كما أن الأب ينظر لابنة إذا فعل ذلك نظرة تفاخر إلا أن بعض الأمهات يدفعن عن بناتهن عشرة الصبيان الذين هم أكبر سناً منهن. وإنك لتجد هناك في مدارس القرى والمدن النبات والصبيان المتزوجين يتعلمن معاً والزوج في العاشرة والمرأة دون ذلك فإذا جاء المساء تهيء الزوجة لزوجها طعامه وهو يكدح لها بأن يجلب الرز واللحم ويحتطب أو يكتسب بعض دريهمات. وعبثاً حاول المرسلون والمعلمون ورجال الحكومة والإدارة هناك أن يعدلوا من هذه العادات في المالغاشيين ولكنها ما تزال راسخة. على أن هذا الاقتران قليل البقاء وكلا لازوجين متقلب وكل أمر سائغ بدون أن يمس شرف أحد الزوجين. وتحسن المرأة سلوكها بعض التحسين عندما تلد أولاً وليس من العار أن ترزق أولاداً من آباء مختلفين بل أن زوجها لا يرى من الشنار أن يقبل أولاد غيره مع إيقانه بذلك ويعاملهم كما يعامل من تلدهم زوجته منه من الأولاد. وهذه الحال في أخلاق المالغاشيين وإن كانت أقل مما هي عفي أوروبا ولكنها غير مموهة وليس فيها رياء كما في أوروبا حيث تحتقر الابنة التي تلد من السفاح ويحتقر ابنهم ويستنكف الناس من الاقتراب منه أما المالغاشي فيرى أن الوليد غير مسئول عما نقص من عدم مراعاة أبويه لشروط الزوجية وهي التي ينبغي أن تسبق ولادته في العالم المتمدن بيد أن كثيرين من الأوروبيين على ما فيهم من التقى جديرون بأن يأخذوا في هذا المعنى عن المالغاشيين المتوحشين. والداعي إلى هذه الحالة في المالغاشيين هواء بلادهم الذي يحرك النفوس منذ الصغر ثم أن الأزواج لا يرون بأساً في أن يناموا مع أولادهم ولو كبروا في محل واحد بل على حصير واحد. فيتعلم الطفل ما يتعلم منذ يأخذ في الإدراك. والجنود الأوروبيون المقيمون هناك لا يسعهم إلا أن يتزوجوا المالغاشيات ويلد لهم منهن. والبنت إذا حملت قبل أن يعرف لها زوج تفرح بما تلد هي وأهلها ن الناس في تلك الأصقاع يرون أن الغاية من الزواج تكثير النسل فلا بأس بالأطفال من أي الطرق جاؤوا. ثم أن المعيشة هناك سهلة للغاية، فطعام الجميع الأرز ملتوتاً بشيء من مرق اللحم أو اللحم أو السمك والبقول المعروفة عندهم والماء الصرف يتساوى في ذلك الفقير والغني ولماذا يهتم المالغاشيون إذا كثر أولادهم ما دامت غاباتهم مملوءة بالشمع والمطاط بحيث لا تنضب

مهما نقلوا منها وباعوا وبيعها ميسور لهم ثم أن الأولاد لا يلبسون ثياباً غلا بعد السنة الثانية من أعمارهم ويظلون كما ولدتهم أمهاتهم عراة فإذا جاوز الولد هذه السن يعطى قطعة من الخيش أو الجنفيس يلبسها أوي فتقتطع له قطعة من ثياب أمه وأبيه. وإنشاء البيوت هناك سهل للغاية ففي الغابات متسع ليقطع منها خشب البناء وفي المروج من جذوع أشجارهم ما يجعلونه حواجز وحيطاناً ومن الخيزرو ما يفرشونه حصيراً. ثم أن القوم لا يهتمون بمسألة المواريث وقل أن يهتم الآباء أن يتركوا لأولادهم إرثاً قل أو كثر لأن هؤلاء لا يعرفون كيف يتصرفون به فالدراهم نادرة جداً عندهم والأرض لا قيمة لها وأراضيهم تكثير فيها البقاع التي تصلح لزراعة الأرز والمراعي. والماشية وحدها هي من العلائم الظاهرة على الثروة ولكنها شائعة بين أهل القرية لا يقسمونها ولا يدعى الأولاد لآبائهم بل على العكس يطلق على الأب والأم اسم والديهم وليس بينهم أثر للأسماء التي تنقل خلفاً عن سلف ويطلق على كل إنسان اسم خاص وله أن يغيره على ما يشاء متى شاء. وبالجملة فإن أخلاقهم وعاداتهم على غرابتها أقرب إلى الطبيعة. هكذا قال الكاتب

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كتاب تأويل مختلف الحديث للإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ مصنفات كثيرة قبل أنها تربى على ثلثمائة مصنف وهذا الكتاب من أجودها. الفه بعد أن رأى ثلب أهل الكلام لأهل الحديث وإسهابهم في ذمهم ورميهم برواية المتناقض حتى كثر الاختلاف بين الأمة وقد تعرض في مقدمته لجل ما قاله علماء الكلام في حق رواة الحديث من الجمهور ومراده بأهل الكلام علماء المعتزلة إذ لم يكن هذا اللقب يطلق قديماً على غيرهم وأجاب عن اعتراضاتهم فيها بجواب مجمل وجعل تتمة الكتاب لتأويل الأحاديث التي ادعوا عليها التناقض أو المخالفة للكتاب العزيز أو المخالفة لصريح العقل الذي دل على اعتباره صحيح النقل. وأكثر في ذلك وأظهر ما اشتهر عنه من البراعة والإجادة فيما ينحو إليه ولكلامه وقع في النفوس وناهيك بمن قيل فيه أنه لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة. وهذا الكتاب يجدر بكل من له ميل إلى علم الحديث أن يطلع عليه. وهنا نكتة مهمة وهو أن ابن قتيبة كغيره من العلماء قد كثر الناقدون عليه في أكثر كتبه شأن كل عالم أطلق لقلمه العنان فينبغي للمطالع في كتبه أن يكون ممن له قوة في النظر (نظار) والكتاب وقع في 464 صفحة صغيرة مطبوع طبعاً في الغاية من الصحة والإتقان مقابلاً على ثلاث نسخ إحداها بغدادية والثانية دمشقية والثالثة مصرية وقد علق عليه مصححه الشيخ إسماعيل الخطيب السلفي الإسعر دي شرح بعض الألفاظ اللغوية وطبع علىنفقة محمود أفندي شابندر من تجار بغداد بمطبعة كردستان العلمية بمصر لصاحبها الشيخ فرج الله زكي الكردي فجاء من إنموذجات الكتب المعتنى بها فنشكر للقائمين بالإنفاق عليه وتصحيحه وطبعه كل الشكر. المنهج المسلوك في سياسة الملوك ألف علماء العرب عشرات من الكتب والرسائل أهدوها ملوكهم وبعضها لم يزل محفوظاً في خزائن الكتب ومن هذه الأسفار التي لم تمثل بعد بالطبع كتاب المنهج المسلوك لمؤلفه عبد الرحمن بن عبد الله من علماء القرن السادس ألفه برسم خزانة الملك الناصر صلاح الدين يوسف وقسمه على عشرين باباً منها بيان افتقار الرعية إلى ملك عادل وافتقار الملك إليه ومعرفة قواعد الأدب وأركان المملكة ومعرفة الأوصاف الكريمة والحث عليها ومعرفة

الأوصاف الذميمة والنهي عنها وكيفية رتبة الملك مع أوليائه حال جلوسه وفضل المشورة وأوصاف أهلها وأصول السياسة والجلوس لكشف المظالم وسياسة الجيش ومصابرة المشركين واستماع المواعظ بعبارة سلسلة وأمثلة كثيرة. والكتاب في 140 صفحة متوسطة الحجم مطبوع بمطبعة الظاهر طبعاً نظيفاً متقناً على نفقة أحمد زكي أفندي أبو شادي ومحمد أفندي رشدي وثمنه خمسة قروش ويطلب من إدارة هذه المطبعة ومن المكاتب الشهيرة. رسائل البلغاء جردنا ما نشر في المقتبس من رسائل عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى الكاتب وحكمهما المثقفة ولكماتهما المأثورة حباً بأن تتناول جميع الأيدي من معين بلاغتهما وتنطبع الملكات بطابع الكتابة العربية البحتة فجاءت في مائة صفحة من مثل هذه الصفحات وبحرف كحرفها فعساها تنفع طلاب الآداب العربية والباحثين في الاجتماع والتاريخ والأخلاق وهي تطلب من إدارة المقتبس في القاهرة ومن وكلائه من الجهات ومن المكاتب الشهيرة في مصر والشام والعراق وثمنها فرنك واحد يضاف إليه ربع فرنك أجرة بريد.

الحسبة في الإسلام

الحسبة في الإسلام وأربعة مخطوطات فيها عني المسلمون في القرون الأربعة الأولى خاصة بإقامة شعائر الدين على أصوله لتكون مدنيتهم فاضلة كما عنوا بوضع القوانين المدنية استخرجوها من روح الكتاب والسنة ليعملوا بها في معاشهم ومدنيتهم واجتماعهم. وكان يتولى ذلك في الأكثر ولاة الأمر بمعونة العلماء العاملين فإذا ما ضعفوا في بلد أو ناحية يتولى علية القوم من عامتهم ما يصدهم عن خرق سياج الشريعة وإخلال قواعد المدنية الفاضلة حتى لا يجوز قويهم على ضعيفهم ولا يجاهر أحد بمنكر ولا يعتدي على حق ولا يعمل عملاً من شأنه أن يجعل المدينة فاسقة فاجرة لئلا تهلك كما هلك القوم الفاسقون. وقد سموا هذا العمل الحسبة بالكسر وهو الأجر وهو اسم من الاحتساب أي احتساب الأجر على الله تقول فعلته حسبة واحتسب فيه احتساباً والاحتساب طلب الأجر. وقد وردت في الكتاب العزيز عدة آيات صريحة في وجوب الحسبة وورد عن الشارع الأعظم آثار كثيرة وكذلك عن السلف الصالح والعلماء والعاملين من أهل الصدر الأول. والحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً قسمت كما قسم الأمر بالمعروف إلى ثلاثة أقسام أحدها يتعلق بحقوق الله تعالى والثاني ما يتعلق بحقوق الآدميين والثالث ما يكون مشتركاً بينهما ويمكننا أن نقسمها إلى دينية ومدنية فالديني منها بطل من بلاد الإسلام منذ أصبحت حكوماتها لا تحافظ على جوهر الدين بالذات. والمدنية بقي أثر ضئيل منها في مصر خصوصاً إلى نحو أواسط القرن الثالث عشر للهجرة واستعيض عنها في بعض البلاد العثمانية بمجالس البلديات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن أصل الحسبة أن يعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون. وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة غلا بالاجتماع والتعاون والتناصر فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم والتناصر لدفع مضارهم ولهذا يقال الإنسان مدني بالطبع فإذا جمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة وأمور يجتنبونها لما

فيها من المفسدة ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد فجميع بني آدم لا بد لهم من إطاعة آمر وناهٍ فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ومنهم من لا يؤمن وما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت ولكن الجوزاء في الدنيا متفق عليه من أهل الأرض فإن الناس لم يتنازعوا إن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا روي أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة. قال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية فذوو السلطان اقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم فإن مناط الوجوب هو القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته أن يقول وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر وأولو الأمر أصحاب الأمر وذوو القدرة وأهل العلم والكلام فلهذا كان أولوا الأمر صنفين العلماء والأمراء فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس كما قال أبو بكر رضي الله عنه للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الأمر قال: ما استقامت لكم أئمتكم. ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر. أهـ. وقال ابن الأخوة: الحسبة من قواعد الأمور الدينية وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن منكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية والكشف عن أمورهم ومصالحهم وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقاتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وقال الماوردي: الحسبة واسطة لين أحكام القضاء وأحكام المظالم فما ما بينها وبين القضاء فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين ومقصورة عنه من وجهين وزائدة عليه من وجهين فأما الوجهان في موافقتهما لأحكام القضاء فأحدهما جواز الاستعداء إليه وسماعه دعوى المستعدي علىالمستعدى عليه في

حقوق الآدميين وليس هذا على عموم الدعاوي وإنما يختص بثلاثة أنواع من الدعوى أحدها أن يكون فيما يتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن والثاني ما يتعلق بغش أو تدليس في مبيع وثمن والثالث فيما يتعلق بمطل وتأخير لدين مستحق مع المكنة وللناظر في الحسبة من سلاطة السلطة واستطالة الحماة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة لأن الحسبة موضوعة على الرهبة فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزاً فيها ولا خرقاً والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أحق وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق أن موضوع كل واحد من المنصبين يختلف فالتجاوز فيه خروج عن حده. وقال ابن خلدون أن الحسبة وظيفية دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها من الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين. ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع غليه. وليس له إمضاء الحكم فغي الدعاوي مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره ثم لما تفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاماً في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية. قلنا أن الناس كانوا يتولون الحسبة بأنفسهم عندما تضعف الحكومات لأن مصلحة أهل كل بلد لا تتم إلا بذب ذي بعضهم عن بعض والتواصي بالحق والجري من العدل على عرق.

قال ابن الأثير في حوادث سنة إحدى وثمانين ومائتين أن المتطوعة تجردت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان سبب ذلك أن فساق بغداد والشطار آذوا الناس أذى شديد وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية وكانوا يأخذون ولد الرجل وأهله فلا يقدر أن يمتنع منهم وكانوا يطلبون من الرجل أن يقرضهم ويصلهم فلا يقدر على الامتناع وكانوا ينهبون القرى لا سلطان يمنعهم ولا يقدر عليهم لأنه كان يغريهم وهم بطانته وكانوا يمسكون المجتازين في الطريق ولا يعدي عليهم أحد وكان الناس معهم في بلاء عظيم وآخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطر بل وانتهبوها علانية وأخذوا العين والمتاع والدواب فباعوه ببغداد ظاهراً واستعدى أهله السلطان فلم يعدهم فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا إنما في الدروب الفاسق والفاسقان إلى العشرة وأنتم أكثر منهم فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفساق ولعجزوا عن الذي يفعلونه فقال رجل فدعا جيرانه وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابوه إلى ذلك فشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم وامتنعوا عليه وأرادوا قتله فقاتلهم فهزمهم وضرب من أخذه من الفساق وحبسهم ورفعهم إلى السلطان إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئاً ثم قام بعده رجل من الحريبة من أهل خراسان فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بالكتاب والسنة وعلق مصحفاً في عنقه وأمر أهل محلته وهاهم فقبلوا منه ودعا الناس جميعاً الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك وعلى القتال معه لمن خالفه وطاف ببغداد وأسواقها. إليك مثالاً مما حدث في حكومة الشرق الإسلامية عندما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض الشيء ومثله جرى في الغرب في مثل هذه الحالة فقد قال ابن خلدون أنه كانت لعهده في القرن التاسع للهجرة بالمغرب نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر ويعتني بذلك ويكثر تابعه وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعةا إلا أن الصيغة الدينية فيهم لم تستحكم لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة

والنهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم فتجد ذلك المنتحل للدعوة القائم بزعمه بالسنة غير متعمق في فروع الاقتداء والاتباع وإنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم. انتهى. هذا غاية ما يقال في تعريف الحسبة وشيء من تاريخها ولمعة من حالتها وقد ألف علماؤنا ما يربي على عشرين كتاباً في الحسبة المدنية خاصة أظفرنا البحث بأربعة منها حتى الآن وها نحن نتكلم على الكتاب الأول منها قال مؤلفه في مقدمته بعد البسملة والحمدلة والصلولة: أما بعد فقد رأيت أن أجمع في هذا الكتاب ما يستند من الأحكام إلى الأحاديث النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام مما ينتفع به هذا المنفذ لمنصب الحسبة والنظر في مصالح الرعية وكشف أحوال السوقة وغير ذلك على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرياسته فاستخرت الله تعالى في ذلك وضمنته طرفاً من الأخبار وطرزته بالحكايات والآثار ونبهت فيه على غش المبيعات وتدليس أرباب الصناعات مما يستحسنه من تصفحه من ذوي الألباب والمعلوم المشهور أن الكتاب عنوانه عقول الكتاب وجعلته سبعين باباً يشتمل كل منها على فصول شتى. الباب الأول: في شرائط الحسبة وصفة المحتسب الثاني: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثالث: في الخمر والآلة المحرمة الرابع: في الحسبة على أهل الذمة الخامس: في الحسبة على أهل الجنائز السادس: في المعاملات المنكرة السابع: فيما يحرم على الرجال استعماله وما لا يحرم الثامن: في الحسبة على منكرات السواق التاسع: في معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم العاشر: في معرفة الموازين والمكاييل والأذرع الحادي عشر: في الحسبة على الطحانين والعلافين

الثاني عشر: في الحسبة على الفرانين والخبازين الثالث عشر: في الحسبة على الشوائين الرابع عشر: في الحسبة على النقانقيين الخامس عشر: في الحسبة على الكبوديين والبواريين السادس عشر: في الحسبة على الجزارين السابع عشر: في الحسبة على الرواسين الثامن عشر: في الحسبة على الطباخين التاسع عشر: في الحسبة على الشريجيين العشرون: في الحسبة على الهراسيين الحادي والعشرون: في الحسبة على قلائي السمك الثاني والعشرون: في الحسبة على قلائي الزلابية الثالث والعشرون: في الحسبة على الحلاويين الرابع والعشرون: في الحسبة على الشرابيين الخامس والعشرون: في الحسبة على العطارين والشماعين السادس والعشرون: في الحسبة على البياعين السابع والعشرون: في الحسبة على اللبانين الثامن والعشرون: في الحسبة على البزازين التاسع والعشرون: في الحسبة على الدلالين الثلاثون: في الحسبة على الحاكة الحادي والثلاثون: في الحسبة على الخياطين والرفائين والقصارين الثاني والثلاثون: في الحسبة على الحريريين الثالث والثلاثون: في الحسبة على الصباغين الرابع والثلاثون: في الحسبة على القطانين الخامس والثلاثون: في الحسبة على الكتانيين السادس والثلاثون: في الحسبة على الصيارف

السابع والثلاثون: في الحسبة على الصاغة الثامن والثلاثون: في الحسبة على النحاسين والحدادين التاسع والثلاثون: في الحسبة على الأساكفة الأربعون: في الحسبة على البياطرة الحادي والأربعون: في الحسبة على سماسرة العبيد والجواري والدواب والدور الثاني والأربعون: في الحسبة على الحمامات الثالث والأربعون: في الحسبة على السدارين الرابع والأربعون: في الحسبة على الفصادين والحجامين الخامس والأربعون: في الحسبة على الأطباء والكحالين والمجبرين السادس والأربعون: في الحسبة على مؤدبي الصبيان السابع والأربعون: في الحسبة على القومة والمؤذنين الثامن والأربعون: في الحسبة على الوعاظ التاسع والأربعون: في الحسبة على المنجمين الخمسون: فصول تشتمل على معرفة الحدود والتعزيرات وغير ذلك الحادي والخمسون: في القضاة والشهود الثاني والخمسون: في الولايات والأمراء وما يقلدونه من حالهم وما يتعلق بهم من أمور العباد الثالث والخمسون: فيما يلزم المحتسب فعله الرابع والخمسون: في الحسبة على أصحاب السفن والمراكب الخامس والخمسون: في الحسبة على باعة قدور الخزف والكيزان السادس والخمسون: في الحسبة على الفاخرانيين والغضاريين السابع والخمسون: في الحسبة على الأبارين والمسلاتيين الثامن والخمسون: في الحسبة على المردانيين التاسع والخمسون: في الحسبة على الحناويين وغشهم الستون: في الحسبة على الإمشاطيين

الحادي والستون: في الحسبة على معاصر السيرج واللزيت الحار الثاني والستون: في الحسبة على الغرابليين الثالث والستون: في الحسبة على الدباغين والبططيين الرابع والستون: في الحسبة على اللبوديينن الخامس والستون: في الحسبة على الفرانين السادس والستون: في الحسبة على الحصريين والعيداني والكركر السابع والستون: في الحسبة على التبانين الثامن والستون: في الحسبة على الحشاشين والقشاشين التاسع والستون: في الحسبة على النجارين والنشارين والبنائين السبعون: يشتمل على تفاصيل من أمور الحسبة لم تذكر في غيره هذه أبواب الكتاب ومنه يفهم ما بني عليه ولا بأس بإيراد فصول منه للدلالة على أسلوبه قال في الباب الأربعين في الحسبة على البياطرة: البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم ووضعوا فيها تصانيف وهي أصعب علاجاً من أمراض الآدميين لأن الدواب ليس لها نطق تعبر به عما تجد من المرض والألم وإنما يستدل على عللها بالجس والنظر فيحتاج البيطار لى حسن بصيرة بعلل الدواب وعلاجاتها فلا يتعاطى البيطرة إلا من له معرفة وخبرة فالتهجم على الدواب بفصد أو قطع أو كي أو ما أشبه ذلك بغير مخبرة يؤدي إلى هلاك الدابة أو عطبها فيلزمه أرش ما نقص من قيمتها من طريق الشرع ويعزره المحتسب من طريق السياسة. فصل وينبغي للبيطار أن يعتبر حافر الدابة قبل تعليمه فإن كان أحفاً أو بلا (كذا) نسف من الجنب الآخر قدراً يخ \ حصل به الاعتدال وإن كانت الدابة قائمة جعل المسامير المؤخرة صغاراً والمقدمة كباراً وإن كانت يدها بالضد من ذلك صغر المقدمة وكبر المؤخرة ولا يبالغ في نسف الحافر فتغمز الدابة ولا يرخي المسامير فيحرك النعل ويدخل تحته الحصا والرمل ولا يشد الحافر بقوة فتزمن الدابة واعلم أن النعال المطرقة ألزم للحافر واللينة أثبت للمسامير الصلبة والمسامير الرفيهة خير من الغليظة وإذا احتاجت الدابة إلى تسريع أو فتح عرق أخذ المبضع بين إصبعيه وجعل نصابه في راحته وأخرج من رأسه مقدار

نصف ظفر ثم فتح العرق تعليقاً إلى فوق بخفة ورفق ولا يضرب العرق حتى يحبسه بإصبعه سيما عروق الأوداج فإنها خطرة لمجاورتها للمري فإن اراد فتح شيء من عروق الأوداج خنق الدابة خنقاً شديداً حتى تندر عروق الأوداج فيتمكن حينئذ مما أراد. فصل وينبغي للبيطار أن يكون خبيراً بعلل الدواب ومعرفة ما يحدث فيها من العيوب ويرجع الناس إليه إذا اختلفوا في الدابة وقد ذكر بعض الحكماء في كتاب البيطرة أن علل الدواب ثلثمائة وعشرون علة تذكر ما اشتهر منها فمنها الخناق الرطب والخناق اليابس والجنون وفساد الدماغ والصداع والحمر والنفخة والورم والمرة الهائجة والديبة والخشام ووجع الكبد ووجع القلب والدود في البطن والمغل والمغص وريح السوس والقطاع والصدام والسعال البارد والسعال الحار وانفجار الدم من الدبر والذكر والنحل والحلق وعصار البول ووجع المفاصل والرهصة والرحس والداحس والنملة والنكب والجلد واللقوة والماء الحار في العين والناحر ورخاوة الأدنين والضرس وغير ذلك مما يطول شرجه فيفتقر البيطار إلى تحصيل معرفة علاجه وسبب حدوث هذه العللل منها ما إذا حدث في الدابة صار عيباً دائماً ولولا التطويل لشرحت من ذلك جملاً كثيرة وتفاصيل فلا يهمل المحتسب امتحان البيطار بما ذكرناه ومراعاة فعله بدواب الناس والله أعلم. وقال في فصل في الحسبة على الحمامات وقوامها وذكر منافعها ومضارها: وقد ذكر عن بعض الحكماء أنه قال خير الحمامات ما قدم بناؤه واتسع هواؤه وعذب ماؤه وأعلم أن الفعل الطبيعي للحمام التسخين بهوائه والترطيب بمائه فالبيت الأول مبرد مردب والبيت الثاني مسخن مجفف والحمام يشتمل على منافع ومضار فأما منافعها فتوسع المسام واستفراغ الفضلات وتحلل الرياح وتحبس الطبع إذا كانت سهولته عن هيضة وتنظيف الوسخ والعرق وتذهب الحكة والجرب والإعياء وترطب البدن وتجود الهضم وتنظج النزلات والزكام وتنفع من حمى يوم ومن حمى الدق والربع بعد نضج خلطها عند طول المقام فيها وتسقط شهوة الطعام وتضعف الباه وأعظم مضارها صب الماء الحار على الأعضاء الضعيفة وقد تستعمل على الريق والخلاء فتجفف تجفيفاً شديداً أو تهزل وتضعف وقد يستعمل الحمام على قرب عهد بالشبع بعد الهضم الأول فإنه يرطب البدن ويسمنه ويحسن بشرته.

فصل وينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل الحمام وكنسها وتنظيفها بالماء الطاهر غير ماء الغسالة ويفعلون ذلك مراراً في اليوم. ويدلكون البلاط بالأشياء الخشنة لئلا يتعلق ماء السدر أو الخطمى فينزلق الناس عليها ويغسلون كل يوم حوض النوبة من الأوساخ المجتمعة فيه وكذلك الفساقي والقدور من الأوساخ المجتمعة من المجاري والعكر الراكد في أسفلها في كل شهر مرة لأنها تركت أكثر من ذلك تغير الماء فيها في الطعم والرائحة ولا يسد الأنابيب بشعر المشاطة بل يشدها بالخرق الطاهرة أو الليف الطاهر ليخرج من الخلاف ويستعمل فيها البخور في اليوم مرتين بالحصالبان الذكر أو المصطكى أو اللادن ولا يدع الأساكفة وأصحاب اللبد يغسلون شيئاً من اللبد ولا من الأديم في الحمام فإن الناس يتضررون برائحته ولا ينبغي أن يدخل الحمام مجذوم أو أبرص وينبغي أن يكون للحمامي ميازر يؤجرها للناس وتكون عريضة حتى تستر ما بين السرة والركبة ويأمر بفتح الحمام في السحر لحاجة الناس إليه للتطهر قبل وقت الصلاة ويلزم الوقاف حفظ أقمشة الناس فإن ضاع منها شيء لزمه ضمانة على الصحيح. ويتخذ بالحمام زيراً كبيراً برسم الماء الحلو أو عذباً إن كان يشرب برسم شرب الناس لاسيما في زمن الحر فإن ذلك من المصالح وكذلك فليكن عنده السدر والادلوك فقد يحتاج الإنسان له ولا يمكنه الخروج مإلى ظاهر الحمام ولو رتب سداراً دائماً على الباب الحمام لبيع السدر وآلة الحمام كان ذلك حسناً. فصل ويلزم صاحب النوبة باستعمال الأمواس الجيدة الفولاذ حتى ينتفع الناس بها وينبغي أن يكو المزين خفيفاً رشيقاً بصيراً بالحلاقة ويكون حديده قاطعاً كما ذكرناه ولا يستقبل الرأس ومنابت الشعر استقبالاً ولا يأكل كل ما يغير نكهته كالبصل والثوم والكراث وغيره في يوم نوبته لئلا يتضرر الناس برائحة فيه عند الحلاقة ولا يحلق شعر صبي إلا بإذن وليه ولا عبداً غلا بإذن سيده ولا يحلق عذار أمرد ولا تحت مخنث. فصل ويلزم المحتسب أن يتفقد الحمام في كل وقت ويعتبر ما ذكرناه وإن رأى أحداً قد كشف عورته عزره على كشفها لأن كشف العورة حرام وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناظر والمنظور والنساء في هذا المقام أشد تهاتكاً من الرجال ولهن محدثات من المنكر أحدثها الآن من الملابس ما لم يخطر للشيطان في حساب وتلك لباس الشهرة التي لا يستتر منه أسبال مرط وأدنى جلباب ون جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثال الأسنمة

ويخرجن من جهارة أشكالها في الصورة المعلمة. وقال في الحسبة على الأطباء الطبائعية والكحالين والجرايحيين والمجبرين: الطب علم نظري وعلم أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة ودفع العلل والأمراض عن هذه البنية الشريفة وقد ورد في ذلك أحاديث منها ما ورد عن عطاء بن السائب قال دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي أعوده فأراد غلام له أن يداويه فنهيته فقال: دعه فإني سمعت عبد الله بن مسعود يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء. وربما قال: سفيان شفاء علمه من علمه وجهله من جهله إلى أن يقول: والطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عما لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها ليساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها ويخالف بينها وبين كيفياتها فمن لم يكن كذلك فلا يحل له مداواة المرضى ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرض لما لا علم له فيه وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم. فقد حكي أن ملوك اليونان كانوا يجعلون في كل مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثم يعرضون عليه بقية أطباء البلد ليمتحنهم فمن وجده مقصراً في محله أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة. وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سب مرضه وعما يجد من الألم ثم يرتب له قانوناً من الشربة وغيرها من العقاقير ثم يكتب نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض فإذا كان من الغد حضر ونظر إلى دائه ورفع قارورته وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ورتب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال وكتب له نسخة وسلمها لأهله وفي الثالث كذلك وفي اليوم الرابع كذلك وهكذا إلى أن يبرأ المريض أو يموت فإن برئ من مرضه أخذ الطبيب أجرته وكرامته وإن مات حضر أوليائه عند الحكيم المشهور وعرضوا عليه النسخ التي كتبها الطبيب فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب من غير تفريط ولا تقصير من الطب قال: هذا قضى بفروغ أجله وإن رأى الأمر بخلاف ذلك قال لهم خذوا دية صاحبكم من الطبيب فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه. فكانوا يحتاطون

على هذه الصورة الشريفة إلى هذا الحد حتى لا يتعاطى الطب من ليس من أهله ولا يتهاون الطبيب في شيء منه. وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط الذي أخذه على سائر الأطباء ويحلفهم أن لا يعطوا أحداً دواءاً مضراً ولا يركبوا له سماً ولا يصفوا السموم عند أحد من العامة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى ولا يفشوا الأسرار ولا يهتكوا الأستار ولا يتعرضوا لما ينكر عليهم فيه. فصل وأما الكحالون فيمتحنهم المحتسب بكتاب حنين أعني العشر مقالات في العين فمن وجده قيماً فيما امتحنه به عارفاً بتشريح طبقات العين وعدد السبعة وعدد رطوباتها الثلاثة وما يتفرع من ذلك من الأمراض وكان خبيراً بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس ولا يفرط في شيء من لات صنعته مثل صنانير النشل والظفر ومباضع الفصد ودرج المكاحل وغير ذلك وأما كحالو الطرقات فلا يوثق بأكثرهم إذ لا دين لهم يصدهم عن التهجم على أعين الناس بالقطع والكحل بغير علم ومخبرة بالأمراض والعلل الحادثة ولا ينبغي لأحد أن يركن إليهم في معالجة عينه ولا يثق بأكحالهم وأشيافهم فإن منهم من يضع أشيافاً أصلها النشا والصمغ ويصبغها ألواناً مختلفة فيصبغ أحمر بالسيلقون والأخضر بالكركم والنيل والأسود بالقافيا والأصفر بالزعفران ومنهم من يجعل أشيافاً من مائها ويعجنه بالصمغ ومنهم من يعمل كحلاً من نوى الإهليلج المحرق والفلفل وجميع غشوش أكحالهم لا يمكن حصرها فيحلفهم المحتسب على ذلك إذ لا يمكنه منعهم من الجلوس. فصل وأما المجبرون فلا يحل لأحد أن يتصدى للجبر إلا بعد أن يعرف المقالة السادسة من كتاب قوانين الجبر وأن يعلم عدد عظام الآدمي وهي مائتا عظم وثمانية عظام وصورة كل عظم منها وشكله وقدره حتى إذا انكسر منها شيء أو انخلع رده إلى موضعه على الهيئة التي كان عليها فيمتحنهم المحتسب على ذلك. فصل وأما الجرايحيون فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس المعروف بفاطاجالس في الجراحات والمراهم وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان وما فيه من العضل والعروق والشرايين والأعصاب ليتجنب بذلك في وقت فتح المواد وقطع البواسير ويكون معه دست

المباضع فيه مباضع مدورات الرأس والموربات والحربات وفاس الجبهة ومنشار القطع ومخرقة الأذن ورد السلع ومرهمدان المراهم ودواء الكندر القاطع للدم ومنهم من يتهرجون على الناس بعظام تكون معهم فيدفنونها غي الجرح ثم يخرجونها منه بمحضر من الناس ويزعمون أن أدويتهم القاطعة أخرجتها. ومنهم من يضع مراهم الكلس المغسول بالزيت ثم يصبغ لونه أحمر بالمغرة وأخضر بالكركم والنيل والأسود بالفحم المسحوق فيعتبر عليهم ذلك. وقال في الحسبة على الزعاظ: يجب على المحتسب أن ينظر في أمر الوعاظ ولا يمكن أحداً ممن يتصدى لهذا الفن إلا من اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة عالماً بالعلوم الشرعية وعلم الأدب حافظاً للكتاب العزيز ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار الصالحين وحكايات المتقدمين ويمتحن بمسائل يسأل عنها من هذه الفنون فإن أجاب وإلا منع كما اختبر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الحسن البصري وهو يتكلم على الناس فقال له: ما عماد الدين، قال: الورع. قال: فما آفته. قال: الطمع. قال: تكلم الآن إذا شئت. ومن كانت هذه الشرائط فيه مكن من الجلوس على المنبر في الجوامع والمساجد وفي أي بقعة أحب ومن لا يدري ذلك كان جاهلاً بذلك أمنع من الكلام فإن لم يمتنع ودام على كلامه عزر ومن عرف شيئاً يسيراً من كلام الوعاظ وحفظ من الأحاديث وأخبار الصالحين مثل ذلك وقصد الكلام يسترزق به ويستعين على وقته فسح له بشرط أن لا يصعد المنبر بل يقف على قدميه فإن رتبة صعود المنبر رتبة شريفة لا تليق أن يصعد عليه إلا من اشتهر بما وصفناه وكفى به علواً وسمواً أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد عليه والخلفاء الراشدون من بعده والعلماء والأئمة وكان العصر الأول لبا يصعد فيهم المنبر إلا أحد رجلين خطيب في جامع يوم جمعة أو عيد أو رجل عظيم الشأن يصعد المنبر يعظ الناس ويذكرهم بالآخرة وينذرهم ويحذرهم ويخوفهم ويحثهم على العمل الصالح وكان للناس بذلك نفع عظيم. وفي زماننا هذا لا يطلب الواعظ إلا لتمام شهر ميت أو لعقد نكاح أو لاجتماع هذيان ولا يجتمع الناس عنده لسماع موعظة ولا لفائدة وإنما صار ذلك من نوع الفرح واللعب والاجتماع وتجري في المجلس أمور لا تليق من اجتماع الرجال والنساء ورؤية بعضهم

لبعض وأشياء لا يليق ذكرها وهذا من البدع المضلة وكان الأولى حسم الباب في ذلك والمنع منه وإن تعذر فلا يمكن (المحتسب) من ذلك إلا رجلاً مشهوراً بالدين والخير والفيلة كما تقدم من شرطه ن يكون عاملاً لله مجتهداًُ قولاً فعالاً. قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} والفقهاء والمتكلمون والأدباء والنحاة يسمون أهل الذكر والوعاظ قصاصاً. قال بعض العلماء: مجالس الوعاظ خير المجالس وملابسها أفخر الملابس فيها ترق قسوة القلوب وفيها يتاب عن الذنوب ويعترف بالعيوب. وقال في معرفة القنطار والأرطال والمثاقيل والدراهم: لما كنت هذه المعاملات وزنها اعتباراً للمبيعات لزم المحتسب معرفتها وحقيقتها لتقع المعاملة بها على الوجه الشرعي وقد اصطلح أهل كل إقليم على أرطال تتفاضل في الزيادة والنقصان ونحن نذكر من ذلك ما لا يسع المحتسب جهله ليعلم تفاوت الأسعار أما القنطار الذي ذكره الله العظيم في كتابه الكريم فقد قال: معاذ بن جبل هو ألف ومائتا أوقية وهو قول ابن عمر ورواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك ألف ومائتا مثقال ورواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو نصره هو ملء مسك ثور ذهباً أو فضة وعن أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم القنطار ألف دينار وعن ابن عباس والضحاك إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية الرجل المسلم وعن أبي صالح مائة رطل وهو المتعارف بين الناس. والرطل اثنتا عشر أوقية والأوقية اثنا عشر درهماً وهذا لا خلاف فيه لكن الرطل فيه اختلاف كثير في الأمصار والبلدان فالرطل الحجازي مائة وعشرون درهماً والرطل المصري مائة وأربعة وأربعون درهماً والرطل البغدادي مائة وثلاثون درهماً والرطل الدمشقي ستمائة درهم والرطل الحلبي سبعمائة وعشرون درهماً والرطل الحموي ستمائة وستون درهماً والرطل الحمصي سبعمائة وأربعة وتسعون درهماً والرطل الليتي مائتا درهم والجروي ثلاثمائة واثنا عشر درهماً والرطل الحراني سبعمائة وعشرون درهماً والعجلوني والرومي ألف ومائتا درهم والرطل الغزاوي سبعمائة وعشرون درهماً والرطل المقدسي والخليلي والنابلسي ثمانمائة درهم والرطل الكركي تسعمائة درهم. وفي المحلات أرطال مختلفة فالمتعامل بها في الأسواق ما يذكر: مدينة قوص ولها أحوال

رطل اللحم والخبز والخضر ثلاثمائة وخمسة وعشرون درهماً وباقي الحوائج مائتا درهم. مدينة أسيوط بمختلف الأحوال فالخبز واللحم ألف درهم ويسمى مناً وباقي الحوائج ليتي مائتا درهم. ومنفلوط اللحم والخبز ليتي مائتا درهم وباقي الحوائج مصري مائة وأربعة وأربعون درهماً. أخميم مدينة مختلفة احوال: الخبز واللحم ألف درهم ويسمى منا والباقي ليتي مائتا درهم. منية بني خصيب على رطل مصر مائة وأربة وأربعون درهماً. ديروط الصربان على رطل مصر مائة وأربعة وأربعون درهماً. مدينة المحلة رطلان وثلثا رطل يكون أربعمائة درهم. ثغر الإسكندرية رطلان وأوقيتان ثلاثمائة واثنا عشر درهماً. ثغر دمياط رطلان وربع ونصف أوقية ثلاثمائة وثلاثون درهماً. البلبيسي رطل وربع مصري مائة وثمانون درهماً. منية سمنود رطلان وسدس ثلاثمائة درهم. مدينة الفيوم مائة وخمسون درهماً ولم أسمع أن بلدة وافق رطلها البلدة الأخرى إلا نادراً أو قرية لقرية لا يؤبه بهما والأوقية م نسبة رطلها جزء من اثني عشر جزءاً. وأما المثقال فاتفق على أنه درهم ودانقان ونصف وهو أربعة وعشرون قيراطاً والقيراط ثلاث حبات أو أربعة أسباع حبة وهو خمسة وثمانون حبة وخمسة أسباع حبة ووزن كل حبة منها مائة حبة من حبوب الخردل البري المعتدل قال بعض العلماء: الدرهم خمسون حبة وهمسا حبة من حب الشعير كما ذكرنا. ووزن كل حبة من الدرهم سبعون حبة من حب الخردل البري المعتدل والدينار مثل الدرهم وثلاثة أسباعة والدرهم ثم الدينار بنصفه وخمسه وهذا يفيد تقريباً على ما ضبطه الأئمة فإن عرف الدرهم الإسلامي بطريق غير هذه الطريق وتحقق قدره كان ذلك معتمداً في معرفة المثقال وإلا فلا ضابط إلا بما تقدم ذكره من حب الشعير. واختلفت في سبب استقراره على هذا الوزن فذكر أن عمر بن الخطاب رضي اللهعنه لما رأى اختلاف الدراهم وأن منها البغلي وهو ثمانية دوانيق ومنها الطبري وهو أربعة دوانيق ومنها ما هو ثلاثة دوانيق ومنها اليمني وهو دانق قال: انظروا الأغلب مما يتعامل فيه الناس من أعلاها وأدناها فكان الدرهم البغلي والطبري بينهما فكانا اثنى عشر دانقاً فأخذ نصفها فكان ستة داوانيق فجعل الدرهم الإسلامي ستة دوانيق ومتى زدت عليه ثلاثة أسباعه كان مثقالاً ومتى نقصت من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهماً وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهماً وسبعان والله أعلم.

وحكى سعيد بن المسيب أن أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان وكانت الدنانير ترد رومية وكانت الدراهم ترد كسروية وحميرية قليلة فأمر عبد الملك الحجاج بضرب الدراهم بالعراق فضرب بها سنة أربع وسبعين وقيل خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها الله أحد الله الصمد. وحكة يحيى بن النعمان الغفاري أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة وعليها بركة من جاني والله من جانب ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب بسم الله الحجاج وهذه فائدة ذكرت هاهنا لتعلقها بذكر الدراهم فيجب على المحتسب أن لا يهمل أمر هذا الباب وينظر فيه كل وقت والله أعلم. وقال في معرفة الموازين والمكاييل والأذرع: أصبح الموازين وما استوى جانباه واعتدلت كفتاه وكان ثقب علاقته في وسط العمود ويحدد الثقب ويجعل المسمار فولاذاً حتى تكون سريعة الجريان فمتى لم يفعل ذلك كانت تسكن فيضر بالمشتري. فصل ويأمر أصحاب الموازين بمسحها وتنظيفها من الأدهان والأوساخ في كل ساعة فإنه ربما يجمد شيء من جرمها فيضر كما ذكرنا وينبغي إذا شرع في الوزن أن يسكن الميزان ويضع فيها البضاعة من يده في الكفة قليلاً قليلاً ولا يهمز الكفة بإبهامه فإن ذلك كله بخس وتكون موازين الباعة معلقة ولا يمكن لأحد من الباعة أن يزن بميزان الأرطال في يده ومن البخس الخفي في ميزان الذهب أن يرفعه بيده تلقاء وجهه ثم ينفخ في الكفة التي فيها المتاع نفخاً خفيفاً فيرجح بما فيه وذلك أن المشتري يكون عينه على الميزان لا إلى فم صاحبه. ولهم في الميزان صناعة يحصل بها البخس مثل أن يلصق شمعة تحت أحد كفتي الميزان أو يشكل رزة الميزان العليا بخيط شعر رقيق لا ينظره المشتري فيحصل له في ذلك تفاوت. ولهم أيضاً العلاقة التي تسمى الموى وهو أن يكون عمود الميزان فولاذاً ويعمل لسانه أرمهان أو يعوج رأس اللسان إلى الجانب الذي يردي أن يأخذ به فيحصل له ذلك القدر الحرام فيلزم المحتسب مراعاة ذلك في كل وقت. واعلم أنك وليت من الكيل والميزان أمراً من أجله هلكت الأمم السالفة فباشرهما بيدك مباشرة الاختبار ولا تقل أهلها عثرة فإن الإقالة لا تنهى عن العثار وكل هؤلاء من سواد الناس فمن لم يفقه نفسه وليس همته إلا

فرجه أو ضرسه فحدهم التعزير التي هي نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى. فصل والقبان القبطي فينبغي للمحتسب أن يختبره بعد كل حين فإنه يفسد بكثرة استعماله في وزن الحطب والبضائع الثقيلة ويتخذ عنده عيارات من حصى في خرائط ليف هندي أو خيش ويضعها في موضع لا تصل إليها النداوة ولا الغبار ويعين لعيار القبانين رجل يوثق بدينه وأمانته ولا يشوبه في ذلك رياء ولا محاباة لأحد من أبناء جنسه ويلزم المحتسب أن لا يمكن أحداً من الوزن بالقبان إلا من ثبتت أمانته وعدالته ومعرفته بالعدول من أهل الخبرة في مجلسه فإنها صناعة عظيمة والبائع والمشتري واقفان لا يعلمان صحة ذلك من سقمه إلا من لفظه فيعتبر فيه ما ذكرناه. فصل وينبغي أن يتخذ الأرطال من حديد ويعتبر المحتسب ويختم عليها بختم من عنده ولا يتخذوها من الحجارة لأنها إذا قرع بعضها ببعض فتنقص فإذا دعت الحاجة إلى اتخاذها لقصور يده عن اتخاذ الحديد أمره المحتسب بتجليدها ثم يختمها بعد العيار ويجد النظر فيها بعد كل حين لئلا يتخذوا مثلها من الخشب ورؤوس اللفت ولا يكون في الحانون الواحد دستان من ارطال أو صنج من غير حاجة لأنها تهمة في حقه ولا يتخذ عنده إلا ما جرت العادة باتخاذه مثل ثلث الرطل وثلث أوقية وثلث درهم لمقاربة النصف وربما اشتبه ذلك عليه بالنصف في حال الوزن عند كثرة الزبون والله أعلم. فصل وينبغي للمحتسب أن يتفقد عيار المثاقيل والصنج والرطال والحبات على حين غفلة من أصحابها فإن في الصيارف من يأخذ حبات الحنطة فينقعها في الماء ثم يغرز فيها رؤوس الأبر الفولاذية ثم تجفف فتعود إلى سيرتها الأولى ولا يظهر فيها شيء ويأمرهم أن يجعلوا لون صنج الفضة مخالفاً للون صنج المثاقيل فربما وضعوا صنجة النصف درهم عوض الرباعي وبينهما تفاوت وكذلك صنجة الثمن عوض صنجة القيراطين والله اعلم. فصل في المكاييل قال الله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} وقال صلى الله عليه وسلم: المكيال على مكيال المدينة والوزن على وزن مكة. والمكيال الصحيح ما استوى أعلاه وأسفله في الفتح والسعة من غير أن يكون محصور الفم ولا يكون بعضه داخلاً وبعضه خارجاً وينبغي أن يشده بالمسامير لئلا يصعد

فيزيد أو ينزل فينقص وأجود ما عيرت به المكاييل الحبوب الصغار التي لا تختلف في العادة مثل الخردل والبرسيم والبزرقطونا والكسفرة وما أشبه ذلك يكون في كل حانوت من المكاييل الصحيحة مكيال وربع مكيال وثمن مكيال مختوم عليها بختم الحسبة لأن الحاجة تدعو إلى اتخاذ ذلك. وينبغي للمحتسب أن يجدد النظر في المكاييل فإن من الحمصانيين والفوالين والعلافين من يأخذ قطعة خشب يحفرها مكيالاً فيكون طولها شبراً مثلاً والمحفور في داخلها أربع أصابع فيغتر الناس بسعتها وطولها ولا يعلمون المقدار المحفور وهذا تدليس لا يخفى ويراعى أيضاً ما يلصقونه في أسفل المكيال فإن منهم من يلصق في أسفله الجبر أو الجبس الأسود فيلصقونه لصقاً لا يكاد يعرف منهم من يلصق في جوانبه الكسب فلا يعرف لهم ولهم في مسك المكيال صناعة يحصل بها البخس فلا يدع الكشف عليهم في كل وقت وأما الكيالون فلا خير فيهم ولاسيما في هذا الزمان فإن أكثرهم يكتال ما يقبضه زائداً ويسمى عندهم الفرز والطرح وعند الصرف يجعله ناقصاً ويسمى عندهم المسفق وقد ذمهم الله تعالى بما ذكرنا في أول الفصل فينبغي للمحتسب أن يحذرهم ويخوفهم عقوبة الله تعالى وينهاهم عن البخس والتطفيف في ذلك كله ومتى ظهر له من أحدهم خيانة عزره على ذلك وينهره حتى يرتدع به غيره. وخرّج أبو داو عن أحمد بن حنبل قال صالح بن أبي ذئيب: خمسة أرطال وثلث واسند البخاري إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل ذكر لي أبي أنه عير مد النبي صلى الله عليه وسلم فوجده رطلاً وثلثاًوفي كتاب عقد الجوهر أن أهل المدينة لا يختلف اثنان أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يؤدى به الصدقات ليس أكثر من رطل ونصف ولا أقل من رطل وربع وقال بعضهم: رطل وثلث وهو الذي عليه أكثر العلماء. والولبة ستة عشر قدحاً من نسبة كيل البلد. فصل الأذرع سبع أقصرها القاضية ثم اليوسفية ثم السوداء ثم الهاشمية الصغرى وهي الثلاثية ثم الهاشمية الكبرى وهي الزيادية ثم العمرية ثم الميزانية فأما القاضية وهي تسمى ذراع الدور وهي أقل من ذراع السوداء بإصبع وثلثي إصبع وأول من وضعها ابن أبي ليلى القاضي وبها يتعامل أهل كل وادي وأما اليوسفية إلي يذرع بها القضاة الدور بمدينة

السلام وهي أقل من ذراع السوداء بثلثي إصبع وأول من وصفها القاضي أبو يوسف وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بإصبع وثلثي إصبع وأول من وصفها الرشيد وقدرها بذراع خادم أسود على رأسه وهي التي يتعامل بها النسا في ذراع البز والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر. وأما الذراع الهاشمية الصغرى وهي البلالية فهي أطول من الذراع السوداني بإصبعين وثلثي إصبع وأول من أحدثها بلال ابن أبي بردة وذكر أنها ذراع جده أبو موسى الأشعري وهي أنقص من الزيادية بثلاثة أرباع عشر وبها يتعامل الناس بالبصرة والكوفة وأما الهاشمية الكبرى فهي ذراع الملك وأول من نقلها إلى الهاشمية المنصور وهي أطول من الذراع السوداء بخمس أصابع وثلثي إصبع ويكون ذراعاً وثمناً وعشراً بالسوداء وينقص منها الهاشمية الصغري بثلاثة أرباع عشر وسميت زيادية أن زياداً مسح بها أرض السواد وهي التي تذرع بها أهل الأهواز أما الذراع العمرية وهو ذراع عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي مسح بها السواد قال موسى بن طلحة: رأيت ذراع عمر بن الخطاب التي مسح بها أرض السواد وهو ذراع وقبضة وإبهام قائمة قال الحكم: إن عمر عمد إلى أطولها وأقصرها وأوسطها فجمع منها ثلاثة وأخذ الثلث منها وزاد عليها قبضة وإبهاماً قائماً ثم ختم طرفيه بالرصاص وبعث ذلك على حذيفة وعثمان بن حنيف حتى مسحا بها أرض السواد وكان أول من مسح به بعده عمر بن هبيرة وأما الذراع الميزانية فيكون بالذراع السوداء ذراعاً وثلثي ذراع وثلثي إصبع وأول من وضعها المأمون وهي التي يتعامل بها الناي في ذراع البريد والسكور والسوق وكري الأنهار والحفائر والذراع المقدر الشرعي الذي ذكره الإمام الغزالي وغيره فهو أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست شعيرات بطن حبة لظهر أخرى والشعيرة ست شعرات بشعر البغل الناعم والله أعلم. وقد وردت أسماء في الأبواب المتقدمة في أول هذا المبحث نسيت لطول العهد بها وكثرة دخول الألفاظ الأعجمية بدلها مثل البوارديين الذين يطحنون السدر وهو من المطهرات كالصابون إذا غش يضر ولا ينفع والفاخرانيين والغضاريين وهم الذين يصنعون الزبادي السلطانيات من الحصا المطحون والغضارون باعة الكيزان والمسلاتيين صناع المسلات والمرادنيين الذين يعملون المرادن آلات الغزل القديمة تعمل من خشب السماسم أو من

السنط الأحمر، وتمثيل المؤلف بالكيل المصري بدل غيره كما رأيت فيالحسبة على الموازين والمكاييل وكما جاء في الحسبة على الهراسين فيه دلالة على انه مصري من أهل القرن السابع ومما يستأنس به أن الكتاب ألف لمصر ما ورد أيضاً في الحسبة على الكتانيين فقال إن أجود الكتان المصري الجنوبي الغض وأجوده الناعم المؤرق وأردأ القصير الخشن الذي يتقصف ولا يخلطون جيده برديئه ولا الكتان البحري بالصعيدي ولا الصعيدي بالكوري وقال في الحسبة عل معاصر السيرج والزيت الحاروعيارة الجرة بالركل المصري ستة وعشرون رطلاً وربع الرطل وسكت وكذلك مثل بالرطل المصري في عصر الزيت وفي غيره. للبحث صلة

الرومان

الرومان معربة من كتاب تاريخ الحضارة لشارل سليوبوس رومية الأصلية رمية: على تخوم قطر اللاسيوم من ناحية بلا الإيتروسكيين يمتد سهل ذو بطائح تتخلله أكمات وتامات هناك على ضفة نهر التيبر أشئت مدينة رومية مقر الشعب الروماني المتفرق في الخلاء. ولقد كانت الحميات تنتاب تلك البلاد وحالتها من الكآبة والبؤس على جانب ولكن كان موقعها جميلاً ونهر التيبر بمثابة هوة قائمة في وجه الإيتروسكيين كما كانت تلك الآكام كالحصون وبين تلك المدينة والبحر ستة أميال وهو بعد لا يكاد ينجيها م سطوة قرصان البحر ويقربها قليلاً من تناول البضائع الواردة إليها. وكان مرفأ أوستي عند مصب نهر التيبر حياً من أحياء رومية كبير مثل بيرة مرفأ آثينة. فموقع رومية كان والحالة هذه مناسباً لحال أمة حربية تجارية. تأسيس رومية: لا نعرف من حال القرون الأولى لرومية غير أساطير. والرومانيون أنفسهم لا لم يعرفوا عنها شيئاً مثلنا. قد اعدوا أن رومية كانت لأول أمرها مدينة صغيرة مربعة المساحة قائمة كلها على رابية بالاتين ويدعى مؤسسها رومولوس وهو الذي اختط سورها بمحراث مراعياً تخطيطها الشعائر الإيتروسكية. وكان الرومانيون يحتفلون كل سنة يوم 21 ابريل (نيسان) بعيد هذه المدينة فيطوفون حول سورها الأصلي فيدق أحد الكهنة مسماراً في بعض المعابد تذكاراً للحفلة. وكان يقدر أن الاحتفال بتأسيس تلك المدينة قد وقع في سنة 754 قبل المسيح. أنشئت على الروابي الأخرى قبالة جبل بالاتين عدة مدن صغرى ونزلت عصابة من سكان الجبال من السابنيين في معبد الكابيتول كما حلت عصابة أخرى من متشردي الأيتروسكيين في جبال سليوس وربما كان ثمة أيضاً شعوب أخرى. وانتهت الحال بجميع أولئك الجماعات الصغيرة أن يجتمعوا في مدينة رومية الواقعة على رابية بلاتين ثم أنشئ سور جديد أحاط بالسبع أكمات. أما ساحة المريخ حيث يقف الجيش فكانت ممتدة إلى نهر التيبر من الشاطئ الآخر من النهر خارج السور فكان الكابيتول في رومية مثل الأكروبول في آثينة. ولقد قامت على هذا الصخر معابد الأرباب الثلاثة حامية المدينة وهي المشتري

وجونون ومنيرفا وهنالك القلعة التي حوت خزانة الحكومة وسجلات الأمة. وفي أساطيرهم أنهم عثروا عندما حفروا أسس المدينة على رأس رجل قطع حديثاً فكان هذا الرأس فألاً حسناً أولوه بأن رومية ستغدو رأس العالم. تقاليد بشأن الملوك وإنشاء الجمهورية: جاء في هذه التقاليد أنه حكم رومية ملوك مدة قرنين ونصف ولم تذكر فيها أسماؤهم وتاريخ وفياتهم بل ذكرت تراجمهم وقيل أنهم كانوا سبعة ملوك خرج الأول وهو رومولوس من مدينة آلب اللاتينية فأنشأ مدينة بالاتين وقتل أخاه الذي ارتكب محرماً بأن قفز من فوق خندق سور المدينة ثم حالف أحد ملوك السابنيين المدعو تاتيوس. وفي تقليد آخر أنه أنشأ في سفح المدينة حياً محاطاً بسياج حشر إليه جميع المتشردين الذين أحبو الانضمام إليه. أما الملك الثاني وهو نومابومبيليوس فقد كان سابنياً وهو الذي رتب الديانة الرومانية آخذاً برأي إحدى الربات إيجري التي كانت تسكن في غابة وكان الملك الثالث المدعو تولوس مارتيوس حفيد نوما الموما إليه بنى جسراً من خشب على نهر التيبر وأنشأ جسر أوستي وعليهما كانت تمر تجارة رومية منذ ذاك الحين. وكان الملوك الثلاثة الآخرون من الإيتروسكيين وحدث من أمر تاركين القديم أن توسع المملكة الرومانية وأدخل الاحتفالات الدينية الشائعة في بلاد إيتر وريالو الإيتروكسكيين ونظم سرفيوس توليوس الجيش الروماني بان أدخل فيه جميع أهل البلاد بدون تمييز في موالدهم وأعمارهم. ووزعهم مئات مئات بحسب ثروتهم أما الملك الأخير المدعو تاركين الباهر فقد ظلم الأسرات الكبرى في رومية فتآمر عليه بعض الأشراف ووفقوا على طرده. ومذ ذاك العهد (51) لم يملك الرومانيين ملك فكان البلاد الرومانية أو كما يقال الملك العام يحكم عليها حاكمان يختاران كل سنة ويسميان (القناصل). وليس من الممكن أن نعلم ما في هذا التقليد من الحقيقة لأنه نشأ قبل أن يبدأ الرومان في وصف تاريخهم بزمن طويل وفي هذا التقليد من الأساطير ما لا يسعنا قبوله برمته. وقد حاول بعضهم أن يفسر أسماء هؤلاء الملوك ويستدل منها بأنها رمز إلى جنس أو على طبقة خاصة كما حاول بعضهم أن ينشئ تاريخ رومية في عهده الأول على ضروب من الصور ولكن كلما بذلت العناية للنظر فيه صعب الاتفاق بين المشتغلين في ذلك على تقرير أمر وكثر الخلاف بينهم.

وصف ترتيبات الرومانيين على سبيل الإيجاز: كان في رومية نحو القرن الخامس قبل المسيح طبقتان من الناسي وهما الباترسين والبلبين (أي الأشراف والعامة) فكان الباترسيون من نسل قدماء الأسرات المقيمة منذ القدم في البقعة الضيقة في ظاهر مدينة رومية وكان لهم وحدهم الحق أن يظهروا في مجمع الأمة وأن يحضروا الحفلات الدينية وأن توسد غليهم الوظائف. ويعتقدون أن أجدادهم أسسوا المملكة الرومانية أو كما يقال المدينة الرومانية وأوصوا بها لهم فكانوا هم من ثم الشعب الأصلي في رومية أما البلبين فهم من نسل الغرباء النازلين في المدينة ولاسيما من المغلوبين من سكان المدن المجاورة إذ أن رومية أخضعت بالتدريج جميع المدن اللاتينية وضمن سكانها إليها بالقوة فأصبحوا رعايا لرومية لكنهم ظلوا غرباء عنها يخضعون لحكومة رومية دون أن يشركوها في شيء من الأمر فلا يدينون بالدين الروماني ولا يسوغ لهم أن يحضروا الحفلات الدينية ولا أن يتزوجوا من الأسرات الشرئفة وكانوا يدعون بالبلب أي الجمهور ولا ينظر إليهم بأنهم جزء من الشعب الروماني. وقد وجدت في الصلوات القديمة هذه العبارة لخير الشعب وخير البلبين في رومية. وكان يجتمع أبناء البلاد وعليهم أسلحتهم كل سنة خارج المدينة في ساحة المناورات (ساحة المريخ) ينتخبون زعيمين يطلقون عليهم لقب القضاة أو القناصل. وكان هؤلاء القناصل في خلال السنة التي يتوظفون بها يحكمون رومية ويقودون جيشها وبيدهم حياة جميع أفراد الأمة وموتها. يرافقهم إثنا عشر رجلاً من حملة الفؤوس إشارة لما لهم من السلطة فيحمل كل منهم فأساً وحزمة قضبان لجلد المجرمين أو ضرب رقابهم. فيجلس القناصل على عادة قدماء الملوك على دكة تشبه العرش وهي كرسي عال من العاج. ويستعاض في أوقات الحروب الخطرة عن القنصلين بحاكم واحد يلقون إليه بزمام السلطة فيصبح الحاكم المتحكم والآمر الناهي وحده ويكون في قبضته الأربعة والعشرون جلاداً ولكن سلطته لا تدوم إلا ستة أشهر. فيجمع القناصل مجلس الشيوخ وهو مؤلف من رؤساء الأسرات وكبار أرباب الأملاك للمفاوضة في المسائل المهمة ويدعى هؤلاء بالآباء ويدعى نسلهم بالأشراف فكان مجلس الشيوخ يصدر رأيه ويطلقون عليه رأي الشيوخ ومن العادة أن يلتزم القناصل امتثاله

فكانت من ثم رومية محكوماً عليها من القناصل ومجلس الشيوخ في آن معاً. النزاع بين طبقات الشعب: كان العامة وأهل الطبقة الوسطى عبارة عن شعبين متبايني سادة ورعية. ومع هذا كان حال أهل الطبقة الوسطى يشبه كثيراً حال الأشراف فهم يخدمون في الجندية مثلهم ويخدمون في الجيش على نفقتهم ويفادون بأرواحهم في خدمة الشعب الروماني وهم مثلهم من أهل الفلح والكرث يعيشون في قراهم وأماكنهم وكان كثير من أهل الطبقة المتوسطة أغنياء ومن أسرة قديمة والفرق بين الطبقة المتوسطة وبين الأشراف أن الأول كانوا من نسل أسرة عظيمة من بعض المدن اللاتينية المغلوبة على حين كان الأشراف من نسل أسرة قديمة من سكان المدينة الغالبة. ولم ترض نفوس أهل الطبقة الوسطى أن تظل ساكتة على ما قضي به عليها من المهانة بل ثار بينهم وبين الأشراف نزاع دام قرنين من نحو 293 إلى سنة 500 وإليك كيف بدأ ذلك على نحو ما ورد في أساطيرهم. رأى أهل الطبقة الوسطى ذات يوم أنفسهم مهانة فاعتصموا في جبل هناك وعليهم أسلحتهم وعزموا أن يناوئو الشعب الروماني فهال عزمهم جماعة الأشراف فبعثوا إليهم بالقائد منينوس أغريبا ليقص عليهم قصة الأعضاء والمعدة فرضيت الطبقة الوسطى بالدخول في الطاعة وعقدت محالفة مع الشعب فمنح رؤساء هذه الطبقة الحق في أن يمدوا يد المساعدة لأهل الطبقة الوسطى للأخذ بيدهم من حيف خحكام الأمة ولأجل أن يحولوا دون قيام أمر يخالف رغائبهم. وقد كان يكفي أن يلفظ أحدهم قوله فتو أي إني أعارض فيتوقف البت في الأمر. وقد كان الدين يحظر الانتقاض على المدافع عن حقوق الشعب ومن فعل ذلك استحق العقاب من أرباب الجحيم. فضل أرباب الطبقة الوسطى آخذين أنفسهم بمجاهدة خصومهم من أهل الطبقة العالية وإذ كانوا أعز منهم نفراً وأكثر غنى وأيداً انتهت بهم الحال أن ظفروا بهم فتوصلوا أولاً إلى وضع قوانين عامة للجميع وأن يسمح بالزواج بين أهل الطبقة العالية والطبقة والوسطى وكان أصعب ما في هذا التغيير نزع الاستئثار بسلطة الحكم أو الذهاب بفضل الشرف وقد كان الدين يأمر بأنه يجب قبل ن يعين رجل حاكماً أن يطلب من الأرباب فيما إذا كانت توافق على انتخابه أم لا. فيسألون الأرباب عن رأيها في ذلك بزجر الطيور ويسمونه أخذ

الفأل. بيد أن الديانة الرومانية القديمة لم تكن تسمح بأخذ الفأل إلا على اسم رجل من أهل الطبقة العليا وما كان يخطر في بال القوم بأن الأرباب يقبلون بحاكم من أهل الطبقة الوسطى. وكان ثمت أسر كبرى من الطبقة الوسطى تحرص على أن تصبح مساوية لأسر الأشراف في تولي المناصب كما كانت تساويها في الغنى والمكانة فاضطر أهل الطبقة الأولى إلى أن تفتح لهم جميع المناصب شيئاً فشيئاً فبدأوا يدخلون في مجلس القناصل سنة 366 وفي مجلس الحكم 355 والقضاء سنة 337 والمراقبة سنة 331 وزعامة الدين الكبري سنة 302 ومن ذاك العهد امتزج الأشراف أهل الطبقة العليا بأهل الطبقة الوسطى وأصبحوا شعباً واحداً. الديانة أرباب الرومان: اعتقد الرومان كاعتقاد اليونان بأن كل ما يحدث في هذا العالم هو مما قضت به إرادة خالق ولكنهم لم يعتقدوا بإله واحد يدبر العالم بل قالوا بتعدد الرباب بتعدد المظاهر المختلفة التي تتجلى فيها أوامرهم ونواهيهم. فهناك رب ينبت البذر وآخر يحمي حدود الحقول وثالث يحرس الثمار. ولكل رب اسمه وجنسه وعمله. وأهم الأرباب المشتري رب السماء وجانوس ذو الرأسين والمريخ رب الحرب وعطار رب التجارة وفولكان رب النار ونبتون رب البحر وسريس ربة الحصاد والأرض والقمر وجونون وومنيرفا. ثم يجيء الأرباب من الدرجة الثانية فكانت تتجسد في بعض تلك الأرباب صفة من الصفات كالفتاء والاتحاد والراحة والسلام ويشرف بعضها على عمل من أعمال الحياة فعندما يولد المولود يأتيه رب يعلمه النطق وربة تعلمه الشرب وأخرى تقوي عظامه وربان يرافقانه إلى المدرسة وآخران يرجعان به وبالجملة فإنهم كانوا يعتقدون بوجود جيش من الأرباب من الدرجة الثانية. ويعتقدون بأن هناك أرباباً تجمي مدينة وحارة وجبلاً وغابة. ولكل نهر ولكل نبع ولكل شجرة رب خاص بها حتى لقد قالت امرأة صالحة في إحدى القصص من تأليف بترون الكاتب اللاتيني: إن بلادنا غاصة بالأرباب بحيث يسهل عليك أن تلقى فيها رباً من أن تصادف رجلاً. ولم يتمثل الرومانيون كاليونان أربابهم على صورة مخصوصة فقد مضى زمتن طويل ولم

يكن في رومية صنم فكانوا يعبدون المشتري في صورة حجر ومارس على صورة سيف. ولم يقتدوا إلا مؤخراً باتخذا الأصنام من الخشب على مثال أصنام الإيتروسكيين وأصنام الرخام على مثال أصنام اليونان ولم يتصوروا على العكس في اليونان أن بين الأرباب صهراً ونسباً ولا عزواً إليهم قصصاً كما كان يفعل اليونان مع أربابهم ولا يعرفون لهم جنة يعقدون فيها مجالسهم. وكان في اللغة اللاتينية لفظة مشهورة للتعبير عن الأرباب وهي (التجليات) فكانوا يعتقدون أنها تجليات قوة إلهية مجهولة. ولذلك لم يصورهم الرومان في صورة من الصور ولا نسبوا إليهم رحماً ولا صهراً ولا تاريخاً وكل ما كان يعرف عن الأرباب الرومانيين هو أن كل واحد منهم يسيطر على قوة من قوى الطبيعة ويستطيع أن يعمل للناس الخير والشر على ما يحب ويهوى. العبادة: قلما يحب الروماني أولئك الأرباب المجهولين الصفر الباردين. والظاهر أنه كان يخاف منهم فيخبأ وجهه عندما يتوسل إليهم وربما أتى ذلك لئلا يقع بصره عليهم ولكنه يذهب إلى أن الأرباب قادرون وأن من يرضيهم يخدمونه. قال بلوت (الشاعر الهزلي اللاتيني) إن الرجل الذي يرضى عنه الأرباب يكسبونه مالاً. ويعتقد الروماني بأن الدين عبارة عن مقايضة المنافع فيقدم المرء للرب نذوره وقرابينه ويمنحه هذا بعض المنافع فإذا ثقدم المرء ما يجب تقديمه للرب ولم يظفر بمتمناه يعتبر نفسه قانطاً مخدوعاً. ولقد قدم الشعب للأرباب من خلال مرض القائد جرمانيكوس نذوراً لتمن عليه بالشفاء ولما ذاع خبر موته سخط العامة وقلت المذابح وألقت في الشوارع بتماثيل الأرباب لأن هذه لم تعمل ما كان يرجى منها أن تعمله وهكذا فإنا نرى الفلاح الإيطالي لعهدنا هذا يشتم القديس الذي لم يعطه ما طلبه منه. فالعبارة إذاً عبارة عن القيام بما يرضى عنه الأرباب من الأعمال والشعب يأتيهم بالثمار واللبن والخمر ويضحى لهم بالحيوانات. وفي بعض الأوقات يخرجون تماثيل الأرباب من معابدهم ويجعلونها على سرر ويولمون لها وليمة ويقومون بما يقوم به الشعب في بلاد اليونان فيبنون لهم دوراً جميلة وهي المعابد ويحتفلون بأربابهم. ولم يكن يكفي في تعظيم أرباب الرومانيين أن ينفق الناس مالاً في سبيل إكرامهم بل كانت تنظر إلى الصور التي يقوم بها ذلك الإكرام فتقضي إرادتها أن تجري جميع أعمال التعبد

والنذور والألعاب بما رسمته القواعد القديمة (الطقوس) فمتى أريد تقديم ضحية للمشتري كان عليهم أن يختاروا حيواناً أبيض وأن يذروا على رأسه دقيقاً مملحاً وأن يضرب بفأس وأن يقف المقدم لهذه الضحية على قدميه ويداه مرفوعتان إلى السماء حيث يقيم المشتري وأن يلفظوا بجملة تقديساً لاسمه. فإذا غلط المقدم بما يقول فمعنى ذلك أن الضحية لا تساوي شيئاً ويذهب القوم إلى أن الرب لا يرضى عما يقدم له. ولقد قام أحد الحكام بألعاب إكراماً للأرباب الحامية لرومية فقال شيشرون: إذا غيرت عبارة وإذا وقف اللاعب بالشباب أو انقطع الممثل فتكون الألعاب غير موافقة للشعائر الدينية فيجب إذ ذاك إعادتها. ولذلك كان أهل الرأي من الناس يحضرون كاهنين أحدهما يتلو الصلاة والآخر يتابعه فيما يقول. يجتمع الكهنة وهم يدعون أخوة رافال كل سنة في معبد بجوار رومية فيرقصون رقصاً مقدساً ويتلون الصلوات وهي مكتوبة بلغة قديمة لا يفهم منها أحد شيئاً ويقتضي في أوائل الصلاة أن يدفع إلى كل كاهن مجموع قوانين مكتوبة في أول الجلسة. وظل الرمانيون بعد أن نسيت هذه اللغة بقرون يتلونها كل سنة دون أن يغيروا منها حرفاً. ومما يدل على أن الرومانيين كانوا يرمون إلى الوقوف عند حد ما رسمه أربابهم هو أنهم كانوا يقومون أحسن قيام بقواعد الدين. ولذلك يرى الرومانيون أنفسهم من أكثر البشر تديناً. قال شيشرون: إننا أحط من جميع الأمم أو مساوون لهم من كل وجه ولكننا نفوقهم من كل وجه في أمور الدين أي بعبادة الأرباب. الصلاة: إذا صلى الروماني فليست صلاته لتزكية نفسه ومناجاة ربه بل ليطلب منه معونة ويسأل حاجة له. فمن ثم تراه قبل كل شيء عن الرب الذي يستطيع أن ينيله رغبته. قال فارون (الشاعر اللاتيني): يلزمنا أن نعرف أي الأرباب يتيسر له أن يعيننا في أحوال مختلفة كما نعرف أين يقوم النجار والخباز وهكذا قضت الحال بأن يعمد إلى سيريس للحصول على زروع جيدة وإلى عطارد لاكتساب المال وإلى نبتون للمعونة على ركوب البحار. فيلبس المستغيث ألبسة نظيفة لما وقر في الأذهان من أن الأرباب يرغبون في النظافة. ويقدم بين يدي نجوه ضحية لأن الأرباب لا يحبون أن يجيء وأيديه فارغة ويقف المستغيث ويكشف رأسه فينادي الرب إلا أن لا يعرف اسم الرب الذي يناديه ويقول

الرومانيون أنه ما من أحد يعرف أسماء الأرباب الحقيقية. بل يكتفى بأن يقول له مثلاً: أيها المشتري الأعظم الرحيم أو بأس الأسماء التي تحب أن تدعى بها ثم يعرض عليه ما يريد عرضه متوقياً استعمال جمل صريحة كل الصراحة حتى لا ينخدع الرب فإذا قدم له خمر يقال له: تقبل طاعة هذا الخمر الذي أهرقه لأنه يسهل على الرب الاعتقاد بأنه يقدم له خمر آخر غير الذي قدم له وأن يعاقب به. ولذلك كانت صلواتهم مطولة كثيرة الحشو مملوءة بالمترادفات. الفأل: يعتقد الرومان كاليونان بالفأل فيذهب إلى الأرباب يعرفون المستقبل ويرسلون للناس آيات يدركونها فيستنصح الروماني الأرباب قبل أن يشرع في عمل فإذا ما أزمع القائد فيهم أن يهجم على عدوه يبحث في أحشاء الموتى والحاكم قبل أن يجمع لديه مجلساً ينظر إلى الطيور السائرة (وهذا ما يدعونه أخذ الطالع والفأل) فإذا كان فيها إشارة موافقة يدركون بأن الأرباب استحسنت المشروع وإلا فمعناه أنهم غير راضين عنه. وكثيراً ما يرسل الأرباب آيات من قبلهم ومن دون أن يسألوا إرسالها. وكل ظاهرة لم تكن متوقعة تعد فألاً على حادث غير منتظر. فقد ظهرت نجمة مذنبة قبل موت قيصر فذهب القوم إلى أنها إشارة إلى نعيه وإذا أرعدت السماء عندما كانت الأمة تجتمع للمفاوضة في أمر فمعنى ذلك أن كوكب المشتري لا يحب أن يبتوا أمراً ذلك اليوم ولذلك يبغضونه كل حادث طفيف ويؤلونه بأنه رمز إلى أمر يقع. فإذا أبر البرق أو سمعت كلمة من متكلم أو وقف جرذ في الطريق أو شوهد عراف فكل ذلك يأخذون منه العبر حتى أن مارسلوس كان إذا عزم على البداءة بعمل أمر بأن يحمل في محفة مغلقة ليكون على ثقة من أنه لا يرى شيئاً يتفاءل به. وما كان ذلك مجرد خرافات للعامة بل كان للجمهورية الرومانية ستة طوالع تتنبأ لها بالمستقبل فكان لها كتاب للنبؤات تبالغ في العناية به دعته كتاب سيبيلين وكان لها فراخ مقدسة يقوم على تربيتها الكهنة وما كان يجري عمل عام ولا تلتئم جمعية ولا يشرع بانتخاب ومفاوضة بدون أن يعمدوا إلى أخذ الطالع أي أنهم ينظرون إلى السارح والبارح. وقد شاع سنة 195 أن الصاعقة انقضت على معبد للمشتري وأنه نبتت شعرة على رأس تمثال هركول فكتب أحد الولاة بأنه ولدت فرخة ذات ثلاث أرجل فاجتمع مجلس الأمة

للمفاوضة في هذه الفؤل. الكهنة: لا يقوم الكاهن في رومية بما يقوم به في بلاد اليونان من الأعمال الروحية بل كان ينقطع فقط لخدمة الرب فيلاحظ معبده ويدير شؤون أملاكه ويقوم بالاحتفالات لإكرامه وهكذا كانت جمعية الساليبن (الرقاصين) تحتفظ بترس سقط عليها من السماء كما زعموا وكان يعبد كما يعبد الصنم وكانت تقيم تلك الجمعية كل سنة حفلة رقص بالسيوف وهذا ما كان يتوفر عليه أعضاء تلك الجمعية. والأحبار يراقبون الحفلات الدينية فيضعون تقويماً للسنين ويحددون أوقات الأعياد التي يجب الاحتفال بها في أيام مخصوصة من السنة ورئيسهم هو الحبر الأعظم. وما كان الكهنة ولا العرافون ولا الأحبار يؤلفون طبقة خاصة بهم بل كان يجري اختيارهم من كبار الرجال ويبقون على القيام بجميع وظائف الحكومة فمنهم من يتولى القضاء ومنهم رئاسة الجمعيات ومنهم قيادة الجيوش. ولذلك لم يتألف من الكهنة الرومانيين على قوتهم كما تألف من الكهنة المصريين طبقة كهنوتية فقد كان لحكومة رومية دين خاص بها ولم يكن للكهنة حق الحكم فيها. عبادة الموتى: اعتقد الرومانيون كما اعتقد الهنود واليونان بأن الروح تبقى بعد موت الجسد فإن عنوا بدفن الجثة بحسب العادات فقد اعتقدوا بأن الروح تذهب لتحيا تحت الأرض وتصبح ربة وإلا فالروح ليس في استطاعتها الدخول إلى عالم الأموات بل كانت تعود إلى الأرض تدخل الرعب في قلوب الأحياء وتعذبهم ليدفنوها. حكى بلين لجون قصة شبح كان يختلف إلى أحد البيوت ويهلك سكانه هلعاً فاكتشف أحد الفلاسفة ممن كان له قوة قلب تمكنه من اقتفاء أثره إلى المكان الذي وقف فيه ذاك الطيف ـ عظاماً لم تدفن بحسب العادات المتبعة. وهكذا كانت روح الإمبراطور كاليجولا تطوف في حدائق القصر فاقتضى إخراج جثته ودفنه ثانية على ما رسمته الشعائر الدينية. فمن ثم كان مما يهم الأحياء والأموات على السواء المحافظة على العادات الدينية فكانت أسرة الميت تنصب كومة من الحطب يحرقون فيها الجسد ويجعلون الرماد في صندوق يضعونه في القبر. وكان لهم معبد خاص بدفن الأرباب أي الأرواح التي أصبحت أرباباً فيأتي أهل الميت في أوقات معينة إلى زيارة القبر حاملين طعاماً. ولا جرم أنهم اعتقدوا

قديماً أن الروح محتاجة إلى الغذاء لأن القوم كانوا يهرقون الخمر واللبن على الأرض ويحرقون لحم المنكوبين ويتركون في الأواني لبناً وحلويات. وكانت هذه الاحتفالات بالموتى تدوم ما شاء الله أن تدوم وما كان لأهل بيت أن يتخلوا عن أرواح أجدادهم بل يظلون على العناية بقبورهم ويأتونهم بالغذاء لإطعامهم. ثم أن تلك الأرواح التي تتأله أو تصبح في عداد الأرباب تحب ذريتها وتحمي أحفادها من البوائق وهكذا كان لكل أسرة أرباب يحمونها يدعونهم آلهة البيت. عبادة البيت: اعتقد الرومان كاعتقاد الهنود بأن اللهيب رب كما أن البيت مذبح فكان لكل أسرة بيت تعبده وتقوم على العناية به ليل نهار تحمل إليه الزيت والشحم والخمر والبخور فيتصاعد اللهب ويسطع كأنه منبعث من الضحية. فكان الروماني قبل أن يبدأ بتقديم الطعام للميت يشكر لرب البيت ويدفع له جزءاً من الأطعمة ويصب له قليلاً من الخمر وهذا ما يدعونه بالصب والإهراق حتى أن هوراس نفسه على قلة اعتقاده كان يتعشى أمام بيته مع خدمته ويصب الطعام ويصلي الصلاة المعتادة. وكان لكل أسرة رومانية في بيتها قبر يجعل فيه أرباب البيت وأرواح الأجداد ومذبح البيت. وكان لمدينة رومية بيت مقدس في قبر الآلهة فستا وهي عبارة عن أربع عذارى من أعظم الأسرات الرومانية عهد إليهن حراسته وذلك لأنهم يرون أن لا ينطفئ اللهيب المقدس مطلقاً ولا يعهد بالقيام عليه إلا الأناس من الأطهار فإذا أبت إحدى تلك العذارى أن تقوم بما فرض عليها التوفر عليه من هذه الخدمة يدفنونها حية في قبو لأنها ارتكبت عملاً طالحاً وأوقعت الشعب الروماني في خطر. الجيش الروماني الخدمة العسكرية: لم يكن يكفي لقبول الرجل في خدمة الجيش الروماني أن يكون وطنياً رومانياً بل يجب أن يكون له بعض الموارد ليجهز نفسه بالسلاح على نفقته لأن الحكومة لم تكن تعطي الجندي سلاحاً حتى أنها لم تكن تعطيه جراية يأكلها إلى سنة 403 وعلى هذا فلم يكن يجند من الوطنيين إلا من كانوا يملكون بعض ثروة أما الفقراء فكانوا يعفون من الخدمة العسكرية وبعبارة ثانية ليس لهم الحق في خدمتها ويحق لكل وطني له بعض الغنى أن يقبل في الجيش بعد أن يكون أبلى بلاء حسناً في عشرين حملة وإذا لم يقم بذلك فهو

تبع للقائد أي منذ سن السابعة عشرة إلى السادسة والربعين فكل فرد في رمية كما في المدن اليونانية وطني وجندي في آن واحد والرومان أمة مؤلفة من صغار أرباب الأملاك المدربين على القتال. التجنيد: متى احتاجت الحكومة إلى جند يصدر القنصل أمره إلى جميع الوطنيين اللائقين للخدمة بأن يجتمعوا في معبد الكابيتول وهناك يلتئم ضباط تختارهم الأمة وهم يختارون من ينبغي لهم من الجند لتأليف جيش وهذا هو التجنيد عند الرومانيين ويسمونه الاختيار. ثم يجري التحليف العسكري فيبدأ الضباط أولاً يقسمون اليمين المألوفة ثم الجند وكلهم يقسمون الطاعة للقائد وأن يقاتلوا دون أعلامهم حتى يكونوا في حل من إيمانهم في نضره. فيتلو رجل عبارة ويتقدم كل فرد في نوبته فيقول: وأنا أيضاً فيرتبط الجيش إذ ذاك بالقائد ارتباطاً دينياً. دعي الجيش الروماني أولاً الفرقة أو التجنيدة ولما نما الشعب أصبح يؤلف بدل الفرقة فرقاً والفرقة الرومانية عبارة عن 4200 أو 5000 رجل كلهم من أبناء البلاد. وكان أصغر جيش على الأقل عبارة عن فرقة وكان كل جيش بقيادة قنصل عبارة عن فرقتين على الأقل. ويتألف نحو نصف الجيش من هذه الفرق وكان على جميع شعوب إيطاليا الخاضعة لرومية أن تبعث إليها ببعوثها ويدعى هؤلاء الجنود المحالفون وهم تحت قيادة الضباط الرومانيين. وكنت ترى المحالفين في الجيش الروماني أكثر عدداً من كتائب الوطنيين. وجرت العادة أن يبعثوا مع كل أربع فرق (16800 جندي) عشرين ألف راجل من المحالفين وهكذا كان الشعب الروماني في حروبه يستخدم رعاياه أكثر من مواطنيه. التسليح: اعتاد الرومان كاليونان أن يحاربوا مترجلين متدرعين بالدروع والخوذ والمسامي (الطماقات) قابضين بأيديهم اليسرى على ترسة ليدفعوا بها الضربات. مضى عليهم زنمن وهم يقاتلون بالرمح والسيف فكانوا إذا تلاقوا بالعدو يجتمعون كتيبة واحدة على نحو ما كانت تجتمع الكتائب الرومية ثم عمدوا إلى استعمال ضرب آخر من ضروب الكر والفر. وتقسم الفرقة على سرايا صغيرة كل سرية مؤلفة من 120 جندياً مانييول أي الفريقة لأن علمهم عبارة عن حزمة من الحشيش فتصطف كل فرقة منفصلة عن جارتها بحيث يكون المجال أمامها متسعاً للعمل على حدتها فيضرب جنود فرق الصفوف الأولى بحرابهم

ويضعون سيوفهم في أيديهم ويبدؤون القتال. فإذا اندحروا يتراجعون إلى الفضاء الذي وراءهم فيزحف الصف الثاني من الفرق في نوبته إلى القتال فإذا ما دحر ينكفئ راجعاً نحو الخط الثالث وهذه الفرق هي خيرة رجال الجيش يحملون الرماح وهم واسطة لقيادة أخوانهم الآخرين لقتال الأعداء بهم. وبعد فإن الجيش الروماني لا يتألف جملة واحدة للقتال في آن واحد بل أن القائد يعبئ جنوده مراعياً حالة الأرض التي يتخذها ساحة لقراع الأعداء. ولما التقى كتائب جنود الرومانيين وفرق المكدونيين في جبال سينوسيفال في تساليا للمرة الأولى وهما أشهر ما عهد من الجيوش في العهد القديم كان ميدان القتال عبارة عن أكمات وتلعات فلم يكن في إمكان الستة عشر ألف محارب من المكدونيين أن يظلوا متماسكين متجمعين بل كان صفوفهم ذات فروج فزحفت الفرق الرومانية ودخلت الفضاء الذي كان يتخلل صفوفهم ومزقت شملهم كل ممزق. التمرينتا: لم يكن لرومية محال للألعاب الرياضية فكان الجنود يتمرنون في ساحة المناورات أي في ساحة المريخ في الضفة الثانية من نهر التيبر وهناك كان الشاب يسير ويعدو ويقفز وعليه العدة الكاملة من السلاح يلعب بسيفه ويضرب بحربته ويستعمل معوله فإذا ما علاه الغبار والعرق يجتاز نهرالتيبر عائماً. وكثيراً ما كان الرجال المدربون بل والقواد يشاركون فتيان الجند في تمريناتهم إذ كان من دأب الروماني أن لا ينقطع عن التمرين حتى كانت القاعدة المتبعة إذ ذاك أن لا يترك الجنود حتى في الحرب بلا عمل فيمرنون مرة في اليوم على الأقل فيشغلونهم بإنشاء الطرق والجسور والمجاري إذا لم يكن أمامهم عدو يقاتلونه ولا متاريش يقيمونها. المعسكر: يحمل الجندي الروماني حملاً ثقيلاً مؤلفاً من سلاح وأوان وأطعمة تكفيه أياماً ووتد يبلغ وزن مجموعها ستين رطلاً رومانياً وإذا تلاقى الجيش بجيش العدو يسهل عليه الحرب بسرعة إذ لا يكون له من الأثقال ما يشغله. وكل مرة كان يريد الجيش الروماني الوقوف ليعسكر يخط المساح نطاقاً مربعاً ويحفر الجند في محيط ذاك النطاق هوة عميقة ويبقون التراب في ناحيتهم في الداخل يكون منحدراً ويضربون فيه أوتاداً وهكذا يكون المعسكر محمياً بنطاق من أوتاد وأرض ذات وهاد وفي

داخل هذه القلعة المؤقتة يضرب الجنود خيامهم ويجعلون سرادق القائد في الوسط ويبقى العيون والحراس طوال الليل يحرسون المعسكر وهكذا يكون الجيش في مأمن من كل عدو مفاجئ. تعليم الجند: يعلم الجيش الروماني تعليماً قاسياً فيحق للقائد أن يميت جنده أو يبقي عليهم والجندي الذي يترك محله أو يركن إلى الفرار في الزحف يحكم عليه بالموت فيربطه حملة الفؤوس بعمود ويضربونه بالعصي ويقطعون رأسه أو يقع عليه الجند فيضربونه بالعصي. وإذا تمردت كتيبة من الجيش يقسم القائد المجرمين إلى عصابات كل عصبة مؤلفة من عشرة أشخاص يقترعون في كل عصابة على واحد يكون نصيبه الإعدام ويسمون هذا التعشير أي أخذ واحد من عشرة أما الباقون فيقضى عليهم أن يعطوا خبز شعير ويزكوهم يعسكرون خارج المعسكر ليكونوا أبداًُ على خطر من مفاجأة العدو لهم. لا يقبل الرومانيون أن يغلب جندهم ولا أن يؤسروا فقد سلم من القتل ثلاثة آلاف جندي بعد وقعة كان وراحوا يهيمون على وجوههم إلا أن مجلس الشيوخ أرسلهم يخدمون في صقلية بدون جرايات ولا ألقاب شرف ريثما يخرج العدو من إيطاليا وبقي ثمانية آلاف جندي في المعسكر فقبض عليهم وقد عرض هانيبال أن يعيدهم إلى الحكومة لقاء فدية طفيفة تدفعها عنهم فأبى مجلس الشيوخ أن يفتديهم. الغلبة: متى كتب الظفر لأحد القواد يصدر مجلس الشيوخ أمره إليه بأن يحتفل بما تم له من الغلبة دليلاً على تشريفه فيحتفل بذلك احتفالاً دينياً في معبد المشتري فيسير في المقدمة الحكام والشيوخ ثم تأتي العجلات مملوءة بالغنائم والأسرى مقيدين من أرجلهم وفي المقدمة عربة مذهبة تجرها أربعة جياد يأتي القائد الغازي متوجاً بالغار وجنده يتبعونه مترنمين بأدوار دينية يرددون فيها اسم الظفر فيجتاز هذا الموكب المدينة بهذا الاحتفال ويطلع إلى معبد الكابتول وهناك يضع الغازي أغصان الغار على أرجل المشتري ويحمده على أنه كان سبباً في نصرته وعند انتهاء الحفلة تضرب أعناق الأسرى كما فعلوا مع الزعيم الغالي فرسختوركس أو أن يلقوا الأسير في مطبق (حبس مظلم) يموت جوعاً كما فعلوا مع جوكورتا ملك فوميديا أو أنهم يكتفون بأن يسجنوا الأسير. وقد دام ظفر بولس أميل الذي تغلب على ملك مكدونية (167) ثلاثة أيام مرت في اليوم الأول 250 مركبة تحمل لوحات

وتماثيل وفي الثاني ما غنمه من الأسلحة و75 برميلاً من المال وفي اليوم الثالث 120 ثوراً من ثيران الضحايا والملك البرسي في المؤخرة لابساً السواد يحف به خاصته مقيدين وثلاثة أولاد له مدوا أيديهم للأمة يضرعون إليها وأخذوا يحركون شفقتها. فتح إيطاليا: كان في رومية معبد خاص بالرب جانوس تبقى أبوابه مفتحة ما دام الشعب الروماني في الحرب. ولم يغلق هذا المعبد إلا مرة واحدة دامت بضع سنين في خلال خمسمائة سنة التي طال فيها عمر الجمهورية الرومانية وعليه فإن رومية عاشت في حرب دائمة وإذا كان جيشها أقوى جيش ي عصره انتهت بها الحال أن تتغلب على جميع الشعوب الأخرى وأن تفتح العالم القديم. فبدأت بإخضاع جيرانها أولاً فأخضعت اللاتينيين أولاً ثم الشعوب الأخرى النازلة في الجنوب مثل الفولسكيين والإيكيين والهريكيين ثم الإيتروسكيين والسامنتيين ثم المدن اليونانية. وكان هذا الفتح من أشق الفتوح وأبطئه. بدأ على عهد الملوك ولم ينتهي إلا في سنة 266 أي بعد قرون ذلك لأنه كان على الرومانيين أن يقاتلوا شعوباً هم وإياهم من عنصر واحد على شاكلتهم في القوة والنجدة والشجاعة. ومن هذه الشعوب من أبى إباؤها أن تخضع للرومان فما كان من رومية إلا أن أبادتهم فأصبحت سهول فولسكا الغنية قفراً ذات بطائح ومستنقعات ولم تعد بطائح بونتين صالحة للسكنى حتى يوم الناس هذا وقد كانت بلاد السامنتيين تعرف بعد ثلاثمائة سنة من الحرب التي وقعت فيها بما بقي فيها من بقايا المتاريس أكثر مما تعرف بخلو جوارها من السكان وكان فيهخا 45 معسكراً للإمبراطور دسيوس و86 للقائد فابيوس. الطرق العسكرية: أقام الرومانيون في جميع إيطاليا طرقاً عسكرية ليتسنى لهم أن يبعثوا بالبعوث القاصية وكان هذه الطرق عبارة عن طرق مستقيمة مرصوفة بالجير والحجر والرمل وبلغ من متانتها أنها صبرت على اليام خلال ذلك العهد برمته. وقد أكثر الرومان منها في عامة بلاد إيطاليا فليس فيها بقعة لا ترى فيها إلى اليوم أثراً من آثار تلك الطرق الحربية وكانوا يسمونها باسم الوالي الذي أمر ببنائها وأهم هذه الطرق طريق أبين الممتد إلى الجنوب إلى البطائح بوتين حتى ترانتا وبرندس ثم طريق فلامنين الذي يجتاز طريق أبنين ويصل إلى بحر الإدرياتيك وطريق أورلين الذي يقطع إقليم طوسكانيا آخذاً إلى

الشمال على طول الشاطئ حتى بلاد الغول ثم طريق أملين الممتد من بحر الإدرياتيك مجتازاً جميع سهل بو.

مثنيات شعرية

مثنيات شعرية أشر فعل البرايا فعل منتحر ... وافحش القول منها قول مفتخر إن التمدح من عجبومن أشرٍ ... والمرء في العجب ممقوت في الأشر يا راجي الأمر لم يطلب له سبباً ... كيف الرماية عن قوس بلا وتر ليس التسبب من عجز ولا خورٍ ... وإنما العجز تفويض إلى القدر دع الأناسي واسنبني لغيرهم ... إن شئت للشاء وإن شئت للبقر فإن في البشر الراقي بخلقته ... من قد أنفت به أني من البشر ألبس حياتك أحوال المحيط وكن ... كالماء يلبس ما للظرف من جُدر وإن أبيت فال تجزع وأنت بها ... عارٍ من الأنس أو كاسٍ من الضجر إن رمت عزّاً على فقر تكابده ... فاستغن عن مال أهل البذخ والبطر فإنما النفس ما لم تنأ عن طمع ... فريسةٌ بين ناب الذل والظفر إذا نظرت إلى الجزئي تصلحه ... فارقبه من مرقب الكلي في النظر فإن نفعك شخصاً واحداً ربما ... يكون منه عموم الناس في الضرر قد يقبح الشيء وضعاً وهو من حسن ... كالنعش يدهش مريء وهو من شجر فالقبح كالحسن في حكم النهى عرض ... وليس يثبت إلا عند معتبر لا تعجبن لذي عقل يروح به ... لينتج الشر خبراً غير منتظر فإنما لمعات الخير كامنة ... بين الشرور كمون النار في الحجر سبحان من أوجد الأشياء واحدة ... وإنما كثرة الأشياء بالصور هب منشأ الكون يبقى مبهماً أبداً ... فهل ترى فيه عقلاً غير منبهر الحب والبغض لا تأمن خداعهما ... فكم هما أخذا قوماً على غرر فالبغض يبدي كدوراً في الصفاء كما ... أن المحبة تبدي الصفو في الكدر وأشنع الكذب عندي ما يمازحه ... شيءٌٌ من الصدق تمويهاً على الفكر فإن إبطال هذا في النهى عسرٌ ... وليس إبطال محض الكذب بالعسر قالوا عشقت معيب الحسن قلت لهم ... كفوا الملام فما قلبي بمنزجر ما العشق إلا العمى عن عيب من عشقت ... هذي القلوب ولا أعني عمى البصر قالوا ابن من أنت يا هذا فقلت لهم ... أبي امرؤٌ جده الأعلى أبو البشر

قالوا فهل نال مجداً قلت واعجبي ... أتسألوني بمجدٍ ليس من ثمري لا درَّ درّ قصيد راح ينظمه ... من ليس يعرف معنى الدرّ والدرر يبكي الشعور لشعر ظل ينقده ... من لا يفرق بين الشعر والشعر قالت نوار وقد أنشدتها سحراً ... ممن تعلمت نفث السحر في السحر فقلت من سحر عينيك الذي سحرت ... به المشاعر من سمع ومن بصر بغداد معروف الرصافي

مآكل العرب

مآكل العرب الأطعمة في الأمم تابعة لحضارتها تكون بسيطة في الأمة البدوية ومركبة منوعة في الأمة الحضرية كما هي إلى السذاجة في الريف والتنوع في المدن. ولما كانت البداوة أصلاً والحضارة فرعاً وكانت القرى هي المعول عليها في حياة المدن كان الناس يطعمون في أيام خشونتهم ورفاهيتهم مما تنبت لهم الأرض من بقل وثمر وتنتج من مواشيهم من ألبان ولحوم وتقذف أجواؤهم وسهولهم وأجبلهم وبحيراتهم وأنهارهم وبحارهم من طيور وأسماك وصيود ولا يكادون يعدون ذلك بحال. فأطعمة العرب في جاهليتها على النزر القليل الذي انتهى إلينا من أخبارها قبل الإسلام كانت إلى السذاجة والفطرة خصوصاً في البلاد التي هي إلى الإجداب أقرب منها إلى الإخصاب لقلة أمطارها وعصيان تربتها على الاستنبات. ونعني بالعرب هنا سكان جزيرة العرب من تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن وكلها قاحلة إلا بعض بلاد اليمن التي سميت الخضراء لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها وفي بعض كورها ما هو كبلاد الشام باعتدال أهويته وزكاء تربته. قال الصمعي جزيرة العرب أربعة أقسام اليمن ونجد والحجاز والغور وهي تهامة فمن جزيرة العرب الحجاز وما جمعه وتهامة واليمن وسبأ والأحقاف واليمامة والشجر وهجر وعمان والطائف ونجران والحجر وديار ثمود والبئر المعطلة والقصر المشيد وإرم ذات العماد وأصحاب الأخدود وديار كندة وجبال طيء وما بين ذلك. ومتى أطلقنا العرب هنا فإنا نريد بهم سكان الحجاز ونجد وتهامة وهم صميم العرب العاربة ومن بلادهم انبعثت النبوة وفي الحجاز قريش أشرف القبائل ومن قريش بني هاشم أكثر من كانوا يطعمون الطعام ويقرون الضعيف وكنا نود أن يتناول بحثنا أهل كل قبيلة وأهل كل كورة من كور العرب ولكن ليس في الكتب التي بين أيدينا ما يدعونا إلى التوسع في القول. وغاية ما اتصل بنا علمه أن الإسلام وإن أصلح من نفوس العرب فإن طبيعة بلادها لم تتغير منذ قرون ولذلك كان بعض العرب يأكل اليربوع والضب والجراد والرنب ويعدها نعمة وبسطة في العيش حتى قال مديني لأعرابي: أي شيء تدعون وأي شيء تأكلون. قال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين فقال المديني: لتهن أم جبين العافية. ولذلك كنت ترى العرب ولا تزال تراهم إذا أصابتهم سنة مجاعة وعالة على جيرانهم من سكان الشام

والحيرة واليمن وقد عيرهم بذلك ملك الفرس لما جاؤه فاتحين يوم القادسية وذكر لهم كيف كان يوسع عليهم عندما كانوا ينزلون بلاده منتجعين مستطعمين. وقول المديني أن العرب يأكلون ما دب ودرج لا يؤخذ منه أنهم كلهم لأن منهم من كانوا يتقززون من أكثر الدويبات والصيد قال الجاحظ: ومن الطعام المذموم الخزيرة التي تعاب بأكلها مجاشع بن دارم وكنحو السخينة التي تعاب قريش والسخينة كانت من طعام قريش وتهجى الأنصار وعبد القيس وعذرة وكل من كان يقرب النخل بأكل التمر وتهجى أسد بأكل الكلاب وبأكل لحوم الناس والعرب إذا وجدت رجلاً مت القبيلة قد أتى قبيحاً ألزمت ذلك القبيلة كلها كما تمدح القبيلة بفعل جميل وإن لم ذلك إلا بواحد منهم فتهجو قريشاً بالسخينة وعبد القيس بالتمر وذلك عام في الحيين جميعاً وهما من صالح الأغذية والأقوات كما تهجو بأكل الكلاب والناس وإن كان ذلك إنما كان رجلاً واحداً فلعلك إذا أردت التحصيل تجده معذوراً وتهجى أسد وهذيل والعنبر وباهلة بأكل لحوم الناس. وقال قد يصيب القوم في باديتهم ومواضعهم من الجهد ما لم يسمع به في أمة من الأمم ولا في ناحية من النواحي وإن أحدهم ليجوع حتى يشد على بطنه الحجارة وحتى يعتصم بشدة معاقد الإزار وينزع عمامته من رأسه فيشد بها بطنه وإنما عمامته تاجه والإعرابي يجد في رأسه من البرد إذا كان حاسراً ما لا يجده أحد لطول ملازمته العمامة ولكثرة طيها وتضاعف أثنائها ولربما اعتم بعمامتين ولربما كانت قلنسوة خدرية. ومهما يكن فإن العقل يحكم بأن عرب الشام كغسان كانوا لمجاورتهم للروم يأخذون عنهم كل شيء طريف ولقمة كريمة ومضغة شهية أكثر من عرب الحجاز وإنه كان لعرب الحيرة من المطاعم ما ليس لأهل نجد لقرب بلاد الأولى من بلاد الأكاسرة وأخذهم عنهم رفاغة العيش والناعم من الطعام ومطاعم العرب في جملتها لا تتعدى اللحوم والالبان والبر والتمر. والإبل عندهم أفضل من عامة الذبائح إذا ضاف أحداً رجلاً من أهل السعة ولم ينحر له عدَّ ذلك إهانة. نزل عمرو بن معدي كرب برجل من بني المغيرة وهم أكثر قريش طعاماً فأتاه بما حضر وقد كان فيما أتاه به فضل فقال لعمر بن الخطاب وهم أخواله: لئام بني المغيرة يا أمير المؤمنين قال: وكيف. قال نزلت بهم فما قروني غير قريين وكعب ثور قال عمر: إن ذلك

لشعبة وكم قد رأينا من الأعراب نزل برب صارمة فأتاه بلبن وتمر وحيس وخبز وسمن سلاء فبات ليلته ثم أصبح يهجوه كيف لم ينحر له وهو لا يعرف بعيراً من ذوده أو من صرمته ولو نحر هذا البائس لكل كلب مر به بعيراً من مخافة لسانه لما دار الأسبوع إلا وهو يتعرض للسابلة يتكفف الناس ويسألهم العلق. وإذا اعتبرت أسماء الأطعمة عندهم تجدها دائرة على تلك المواد الأولية ومتى رأيت تكرر المعنى الواحد بألفاظ كثيرة فمنشأ ذلك والله أعلم تعدد لغات قبائل العرب لأن ما عرفته قبيلة باسم تعرفه أخرى بآخر. فمن أطعمتهم (الوشيقة) وهو لحم يغلى إغلاة ثم يرفع و (الصفيف) مثله ويقال هو القديد قال ابن السكيت: إذا شرح اللحم وقدد طوالاً فهو القديد فإذا شرح عراضاً فهو الصفيف والوشيق يجمعهما إذا جفا (والتثمير) أن يقطع صغاراً ثم يجفف و (الوزيم) المجفف و (العفير) لحم يجفف على الرمل في الشمس و_الجبجبة) كرش البعير يغسل بالماء والملح ثم يشرح أعلاه ثم ينفخونها ويحشونها بالشجير أو بعر افبل اليابس ثم تعلق حتى تضربها الريح وتجفف ثم يأخذون اللحم فيقددونه ويجعلونه على حبال حتى يذبل ذبله ويذهب ماؤه وكذلك يفعلون بالشحم ثم يطبخون لحمها بشحمها جميعاً ثم يفرغونه في القصاع حتى يبرد ويصفون الإهالة على حدة فإذا برد كثبوا اللحم والشحم في الجبجبة وصبوا عليه الودك ثم بردوه حتى يجمد ويصير كالحجر ثم يلقى في جوالق (أكياس) ويستر من الحر أن يفسد فيأكلون منه جامداً ومن شاء أذاب منه على القرص. و (الأرة) لحم يطبخ في كرش و (الهلام) طعام يتخذ من لحم عجلة بجلدها. والشبارق الألوان من اللحم المطبوخة فارسي معرب. والخضيعة طعام يتخذ بالشام والقلية مرقة تتخذ من أكباد الجزور ولحومها. والحنيذ الشواء الذي لم يبالغ في نضجه وقد حنذت أحنذ حنذاَ قال ابن السكيت: الحنيذ أن يؤخذ اللحم فيقطع أعضاء وينصب له صفيح الحجارة فيقابل يكون ارتفاعه ذراعاً وعرضه أكثر من ذراعين في مثلهما ويجعل له بابان ثم يوقد في الصفائح بالحطب فإذا حميت واشتد حرها وذهب كل دخان فيها ولهب أدخل فيه اللحم وأغلق البابان بصفيحتين قد كانت قدرتا للبابين ثم صربتا بالطين وفرث الشاة وأدفئت شديداً بالتراب فيترك في النار ساعة ثم يخرج كأن البسر قد تبرأ العظم من اللحم من شدة نضجه. والحند أيضاً أن يأخذ الرجل الشاة فيقطعها ثم يجعلها في كرشها ويلقي مع كل

قطعة من الكرش رضفة وربما جعل في الكرش قدحاً من لبن حامض أو ماء ليكون أسلم للكرش من أن تنقد ثم يخلها بخلال وقد حفر لها بؤرة أحماها بها فيلقي الكرش في البؤرة ويغطيها ساعة ثم يخرجها وقد أخذت من النضج حاجتها. و (شواء ملعوس) إذا أكل بالسمن وهو العلس و (الصلائق) اللحم المشوي المنضج وقيل الرقاق الخبز وفي حديث عمر رضي الله عنه لو شئت أمرت بصلائق وصناب. قال ابن سيده في باب ما يعالج من الطعام ويخلط نقلاً عن أبي علي أن أكثر هذا الباب على فعيلة أما بناؤهم على هذا البناء فلأنه في معنى مفعول ألا ترى أن البسيسة في معنى مبسوسة وكلها مطبوخ ملتوت أو مليون أو متمور أو مسمون أو معسول والجنس الغالب العام له قولنا مخلوط ودخلت الهاء للمبالغة. وذلك مثل (الضبيبة) وهي سمن وربٌّ يجعل للصبي في العكة يطعمه يقال ضببوا لصبيكم. (والربيكة) شيء يطبخ من بر وتمر وقد ربكته أربكه ربكاً مثل غراثان فأربكوا له. قال ابن السكيت الربيكة تكر بعجن بسمن وأقط فيؤكل وربما صب عليه الماء فشرب شرباً. والبسيسة كل شيء خلطته بغيره مثل السويق يلت بالسمن أو الزبد ثم يؤكل ولا يطبخ وهو أشد من اللت بللاً والأقط يدق ويطحن ثم يلبك بالسمن المختلط بالرب و (البكيلة) السويق والتمر يؤكلان في إناء واحد وقد بلا بللبن وقد بكل الدقيق بالسويق خلطه. و (الغثيمة والغبيثة) طعام يطبخ ويجعل فيه جراد و (الفريقة) شيء يعمل من البر ويخلط فيه أشياء للنفساء و (الفئرة والفؤارة) حلبة وتمر يطبخ للمرض أو النفساء و (الرغيدة) اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق لعقاً و (الحريرة) الحساء من الدسم الدقيق و (السريطاء) حساء شبيه بالحريرة أو نحوها و (الصية) طعام كالحساء يصنع بالتمر وقد يقال له الرغيغة و (العكيس) الدقيق يصب عليه الماء ثم يشرب و (الوجيئة) التمر يدق حتى يخرج نواه ثم يبل بلبن أو سمن حتى يتدن ويلزم بعضه بعضاً فيؤكل والوجيئة أيضاً جراد يدق ثم يلت بسمن أو بزيت فيؤكل و (الخزيرة أو الخزير) الحساء من الدسم أو الدقيق والخزيرة مرقة تصفى بلالة النخالة ثم تطبخ تسميه الفرس سيوساب والخزيرة أن تنصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم و (العصيدة) السمن يطبخ بالتمر و (الرهيدة) برٌ يدق ويصب عليه الماء و

(الوديكة) دقيق يساط بشحم شبه الخزيرة و (اللهيدة) الرخوة من العصائد ليست بحساء يحسى ولا غليظة فتلقم و (الخطيفة) الدقيق يذر على اللبن ثم يطبخ فيلعقه الناس لعقاً و (اللفيتة) العصيدة المغلظة من لفت الشيء ألفته لفتاً إذا لويته و (النحيرة) ماء وطحين يطبخ وقيل هو لبن حليب يجعل عليه سمن و (الحسيلة) حشف النخل إذا لم حلا بسره فيبسونه فإذا ضرب أنفت عن نواه ويدفونه باللبن ويمردون له تمراً حتى يحليه فيأكلونه لقيماً وربما ودن بالماء و (النهيدة) أن يغلى لباب الهبيد وهو حب الحنظل فإذا بلغ أناه من النضج والكثافة ذرت عليه قميحة من دقيق ثم تحل و (الفهيرة) مخض يبقى فيه الرضف فإذا ذر عليه الدقيق وسيط به ثم أكل و (السخينة) التي ارتفعت عن الحساء وثقلت عن أن تحسى وهي دون العصيدة و (النفيتة والحريقة) أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب حتى ينفت تتجبس من نفتها وهي أغلظ من السخينة يتوسع فيها صاحب العيال إذا علبه الدهر و (الخضيمة) حنظة تؤخذ فتنقى وتطيب ثم تجعل في القدر ويصب عليها الماء فتطبخ حتى تنضج و (الوهية) جراد يطبخ ثم يجفف ثم يدق فيقمح أو يبكل ويخلط بدسم و (الصحبرة) من المحض إذا أسخن يقال اصحروا لنا لبناً وربما جعل فيه دقيق وربما جعل فيه سمن إذا سخن فيه الحليب خاصة حتى يحترق فهو صحيرة وقد صحرته أصحره صحراً و (الغميم) اللبن يسخن حتى يغلظ و (القطيبة) لبن المعزى والضأن و (الأخينخة) دقيق يصب عليه ماء بر بزيت أو سمن ويشرب ولا يكون إلا رقيقاً و (الوظيئة) تمر يخرج نواه ويعجن بلبن و (العجة) دقيق يعجن بسمن ثم يشوى و (الوليفة) طعام يتخذ من دقيق وسمن ولبن و (اللوقة) زبد ورطب و (الألوقة) كل ما لين من الطعام وفي الحديث لا آكل إلا ما لوَّق لي. و (الرهية) بر يطحن بين حجرين ويصب عليه لبن و (الحيس) تمر وأقط وسمن و (الغذيرة) دقيق يحلب عليه لبن ويحمى بالرضف و (المجيع) التمر واللبن و (الصعقل) التمر ايابس ينقع في اللبن الحليب و (القشيمة والقميشة) هبيد يحلب عليه لبن و (الوضيعة) حنطة تدق ثم يصب عليها سمن فتؤكل و (القفيخة) طعام من تمر وإهالة و (البغيث) الطعام المخلوط بالشعير و (الشقدة والقشدة) حشيشة كثيرة الإهالة واللبن يصبخ مع دقيق وأشياء تؤكل و (الدليك) طعام يتخذ من الزبد واللبن شبه اللبن. إذا أخذ الحليب فأنقع فيه تمر برني فهو (طكديراء) و (الرض) التمر يدق فينقى عجمه

ويلقى في المحض و (الوغيرة) اللبن محضاً يسخن حتى ينضج وربما جعل فيه السمن. وفي لغة الكلبيين الإيغار أن تسخن الحجارة ثم تلقى في الماء لتسخنه وفي اللبن أيضاً لينعقد ويطيب و (الحليجة) عصرة نحي أو لبين أنقع فيه تمر و (غنية) هي السمن على المحض و (الدبوس) خلاص التمر يلقى في مسلا السمن فيذوب فيه وهو مطيبة للسمن و (الرضيف) اللبن يصب على الرضف وهي حجارة تحمى فيوغر بها اللبن. و (الحميمة) المحض يسخن وقد حممته وأحممته. مش الشيء يمشه مشاً إذا دافه في ماء حتى يذوب. و (العجال والعجول) تمر يعجن بسويق و (العمص) ضرب من الطعام تقول عمصت العامص وأمصت الآمص وهي كلمة تجري على ألسنة العامة وليست فصيحة يعنون الخاميز وربما قالوا العاميص و (العويثة) قرص يعالج من البقلة الحمقاء بزيت و (العلهز) وبر مخلوط بدماء الحلم كان يؤكل في الجدب و (المجدوح) دم يخلط بغيره كان يؤكل في الجاهلية وأصله من الجدح والتجديح وهو الخوض بالمجدح وهي خشبة في رأسها خشبتان معترضتان و (الخردق) طعام يعمل شبيه الحساء والخزيرة و (الوزين) حب الحنظل المطحون يبل باللبن فيؤكل و (الفرني) واحدته فرنية وهي خبزة مسلكة مصغنة تسوى ثم تروى سمناً ولبناً وسكراً قال ابن سيده وأهل الشام يتخذون الخبزة الفرنية على صنعة كير الزجاجين يخبزون فيه الفرنية ويسمون ذلك المخبز فرناً و (الطعام مبروت) مصنوع بالمبرت وهو السكر الطبرزد و (البهط) فارسي وهو الأرز يطبخ باللبن والسمن خاصة واستعملته العرب تقول بهطة طيبة و (سويق مقنود ومقند) مخلوط بالقند والقنديد وهو عصير قصب السكر و (البريقة) وجمعها برائق وهي التباريق وهي شيء قليل من الدسم ولم يسفسفوه أي لم يوسعوه دسماً. و (المشنق) العجين الذي يقطع ويعمل بالزيت واسم كل قطعة منه فرزدقة وجمعه فرزدق (وعامة أهل الشام يقولون الآن جردقة وجرادق) و (الفرفور والفرافر والفرافل) سويق يتخذ من ثمر الينبوت و (الحلواء) من الطعام ما عولج بحلاوة يمد ويقصر ومنها الفولذ والفالوذق وهو فارسي معرب زعم الفارسي أن معناه حافظ للدماغ بالفارسية وهو الفالوذج والطائفة منه فالوذجة وهو الصفرق. و (القبيطي) الناطف و (اللمص) كالفوذ معرب ولا حلاوة له يأكله الصبيان بالبصرة بالدبس و (الكامخ) من الأدم منهم من خصصه بالمخللات التي تستعمل لتشهي الطعام و (الصير والصحناءة) ضربان

من الكامخ وفي القاموس والصحناء والصحناة ويمدان ويكسران أدام يتخذ من السمك الصغار مشه مصلح للمعدة قال في التاج الصحناة فارسية تسميها العرب الصير وقال ابن الأثير الصير والصحناة فارسيتان و (الصير) السميكات المملوحة تعمل منها الصحناة ومن أطعمتهم (الدرامك) وهي الحواري أي الدقيق الخالص قال زياد بن فياض: فأطعمها شحماً ولحماً ودرمكاً ... ولم يثننا عنه النسيم الحنادس ومن مآكلهم (المضيرة) مريقة تطبخ باللبن المضير أي الحامض وهي مثل اللبنية المعروفة في بلاد الشام عقد لها البديع مقامة ولعنها أبو الفتح الإسكندري عندما دعاه وأصحابه بعض تجار البصرة فرفعوها عن الخوان مجارة له: فارتفعت لها الأفواه تلمظت لها الشفاه واتقدت لها الأكباد ومضى في أثرها الفؤاد و (السكباج) معربة كما في التاج عن سركة باجة وهو لحم يطبخ بخل مثل (السكرجات) وهي التوابل والسكرجة قصاع يؤكل فيها صغار وليست يعربية وهي كبرى وصغرى وفي حديث أنس لا آكل في سكرجة ومعناه أن العرب كان تستعملها في الكوامخ وأشباهها من الجوارش على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل على هذه الصفة. ومنها (الفانيد) قال في التاج ضرب من الحلواء معرب بانيد و (الهلياثا) وردت في كلام الجاحظ فقال: إذا أطعمتهم اليوم البرني أطعمتهم غداً السكر وبعد غد الهلياثا. والغالب أن الهلياثا طعام ثمين عندهم. و (الطفيشل) كسميدع نوع من المرق و (الهريسة والفجلية والكرنبية) أولان ولعل أسماء البقول المطبوخة تسمى بالاسم الذي صنعت منه مثل الباقلاء والقرع والفول والملفوف والسلق وغيرها مما كان معروفاً للعرب وينبت في بعض بلادهم. سئل بعضهم عن حظوظ البلدان في الطعام وما قسم لكل قوم منه فقال ذهبت الروم بالجشم والحشو وذهبت فارس بالبارد والحلو وقال عمر لفارس الشبارق والحموض فقال دوسر المديني: لها الهرائس والقلايا ولأهل البدو اللباء والسلاء والجراد والكمأة والخبزة في الرائب والتمر بالزبد وقال الشاعر: ألا لبت خبزاً قد تسربل رائباً ... وخيلاً من البرنيّ فرسانها الزبد ولهم البرمة والخلاصة والحيس والظطيئة. وقد علم بهذا أن الحلويات عند العرب ما يعملونه بالدقيق والتمر ويدخل أكثرها الدبس أو العسل أو السكر وهذا كان نادراً في الجملة

عندهم لأنه يأتيهم من فارس كما دل عليه اسمه عندهم إذ أخذوا عن جيرانهم الاسم ونقلوا المسمى. ويحكى أن عبد الله بن جدعان أحد اشراف قريش ذهب مرة إلى كسرى فأطعمه الفالوذج فاستطابه وسأل كيف يصنع فقيل له أنه لباب البر يلبك بالعسل فابتاع غلاماً يصنعه له ورجع إلى مكة وصنع الفالوذج ودعا إليها أصحابه وممن أكلها أمية بن أبي الصلت فقال يمدحه: لكل قبيلة رأس وهادي ... وأنت الرأي تقدم كل هادي له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزى ملاءٍ ... لباب البر يلبك بالشهاد قال الجاحظ ومن اشرف ما عرفوه من الطعام ولم يطعم الناس أحد منهم ذلك الطعام إلا عبد الله بن جدعان وهو الفالوذق. هكذا كانت الأطعمة في الجاهلية وأما في الإسلام فكان فيها في أخبار أهل الصدر الأول وخصوصاً في أخبار أبي بكر وعمر وعلي وعمر بن عبد العزيز من الزهد والتقشف ما يعجب منه كل من عرف أنهم فتحت لهم كنوز الأرض فعفوا عنها. ولما اشتدت حاجة عمر بن الخطاب أراد بعض الصحابة ومنهم عثمان وعلي وطلحة والزبير أن يزيدوه في رزقه فعزموا أن يأتوا حفصة ويسألوها ويستكتموها فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمي له أحداً إلا أن يقبل وخرجوا من عندها فلقيت عمر في ذلك فعرفت الغضب في وجهه وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك. فقال: لو علمت من هم لسوءت وجوههم أنت بيني وبينهم. أنشدك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع فقالت: خبزنا خبزة شعير نصيبنا عليها وهي حارة أسفل عكة لنا فجعلناها هشة دسمة فأكل كنها وتطعم منها استطابة لها قال: فأي مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ قالت كساء لنا ثخين كنا نربعه في الصيف فنجعله تحتنا فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه قال: يا حفصة فأبلغيهم عني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالترجية وإني قدرت فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ

ثقم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه ثم أتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. ولقد كان عمر بن الخطاب يشدد على عماله حتى لا يسترسلوا في التنعم بالأطايب فتقسى قلوبهم ويكونوا قدوة في الترف للرعية قال الربيع بن زيادة الحارثي: كنت عاملاًً لأبي موسى ألشعري على البحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن بيستخلفوا جميعاً قال: فلما قدمنا أتيت يرفأ فقلت يا يرفأ مسترشد وابن سبيل أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله: فأومأ إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين ولثت عمامتي على رأسي فدخلت على عمر فصففنا بين يديه فصعد فينا وصوب فلم تأخذ عينه أحداً غيري فدعاني فقالك من أنت. قلت: الربيع بن زياد الحارثي قال: ما تتولى من أعمالنا. قلت: البحرين. قال: كم ترزق قلت: ألفاً. قال كثير فما تصنع به قلت: أتقوت منه شيئاً وأعود على أقارب لي فما فضل عنهم فعلى فقرءا المسلمين قال: فلا بأس ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي في الصف فصعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال: كم سنك قالت: خمس وأربعون سنة قال: الآن حين استحكمت ثم دعا بالطعام واصحابي حديث أمرهم بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز وأكسار بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال: كيف قلت فقال: أقول يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز ليناً واللحم غريضاً فسكن من غربه وقال: أههنا غرت قلت نعم: فقال ريا ربيع أنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي. نعم لو أراد عمر أن يملأ داره من هذهالطيبات التي عدها وهي أتقن شيء في نظره وأغلاه لما تعذر عليه بعد أن فتح المسلمون فارس والشام في عهده ولكن نفسه العظيمة أبت إلاالتقشف ومثله بعض عماله حتى أن أبا عبيدة لما هزم الفرس في كسكر من أعمالهم جمع

الغنائم فرأى من الأطعمة شيئاً عظيماً فبعث بمن يليه من العرب فاقتسموا خزائنها وجعلوا يطعمونه الفلاحين وبعثوا بخمسه لعمر وكتبوا أن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها وأحببنا أن تروها ولتذكروا إنعام الله وأفضاله. ثم أن بعض الفرس حملوا إلى أبي عبيد بآنية فيها أنواع أطعمة فارس والألوان والأخبصة وغيرها فقالوا هذه كرامة أكرمناك بها وقرى لك فقال: أأكرمتم الجند وقريتوهم مثله قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون قالوا فرده وقال: لا حاجة لنا فيه بئس المرء أبو عبيدة إن صحب قوماً من بلاده أهرقوا دماءهم دونه أو لم يهرقوه فاستأثر عليهم بشيء يصيبه لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم غلا مثل ما يأكل أوساطهم. قال زياد بن حنظلة في فتح عمر بن الخطاب لإيلياء من أبيات: وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشاً خصيباً ما تعد مآكله وبذلك عرفت أن معظم الأطعمة الشهية فارسية أو رومية استعملها العرب في البلاد التي نزلوها ومنها ما عربوه ومنها ما أبقوه على حاله ولكل بلد خصائصه في مآكله ومن تعمد استقصاءها يضطر بعد البحث الشديد إلى وضع مصنف فيها يكون من أنفع الدروس الصحية والاجتماعية لا محالة. ومن المجالس الغريبة المجلس الذي عقده المستكفي بالله ليتذاكر مع ندمائه أنواع الأطعمة وما قال الناس في ذلك منظوماً وقد أورد المسعودي في مروج الذهب هذه القصائد ومنها قصيدة لابن المعتز يصف سلة سكارج كوامخ وأخرى لكشاجم في صفة سلة نوادر وثالثة لابن الرومي في صفة وسط ورابع لإسحاق الموصلي في صفة سنبوسج وأخرى لكشاجم في وصف هليون وغيرها للحافظ الدمشقي في وصف إدريسة وغيرها في وصف المضيرة ولغيرة قصيدة في جوزابة. ومن القصائد التي ورد فيها ذكر بعض الأطعمة الدمشقية حوالي القرن الرابع للهجرة قصيدة أبي القاسم الحسين بن الحسين بن واسانه بن محمد المعروف بالواساني الذي كان في زمانه كما قال الثعالبي في اليتيمة كابن الرمي في أوانه وصف ما جرى عليه في الدعوة التي عملها في قرية جمرايا من أعمال دمشق وقد أخذها صاحب اليتيمة برمتها: فقال أنه أحسن فيها غاية الإحسان وأبان فيها عن مغزاه أحسن بيان وتصرف فيها وأطال وأمكنه القول فقال وإذا تخلص الشاعر عن الإطالة والوصف هذا التخلص وسلم مما يؤديه إلى التكلف والتلصص فهو الذي لا يدرك غوره ولا يخاض بحره.

جيران الفراعنة

جيران الفراعنة نشر المسيو جبرائيل مدينا في المجلة التونسية فصلاً إضافياً في أصول شعوب الأرخبيل في البحر الرومي وأحلافهم الليبيين الأفريقيين مستنداً فيه إلى ما عرف من الآثار المصرية والمصانع المصورة في آسيا الصغرى قال فيه ما تعريبه: عرض المسيو إيفانس في مؤتمر الجمعيات العلمية الدولي الذي التأم في موناكو سنة 1907 نتيجة أعمال الحفر التي قام بها في كنوس عاصمة جزيرة كريت القديمة وهي حفريات ظهر بها مواد كثيرة يرجع عهدها إلى قدم الأزمنة في تاريخ كريت ويستدل منها على أمور كانت غير معروفة عن حال مدينة قامت في تلك البقاع. وقد أطلق هذا المكتشف على ما عثر عليه من بقايا الآثار اسم المينوئية وإن دلت كلها في الجملة على أنها صنعت على مثال الآثار الليبية المصرية دلالة لا يتمارى فيها اثنان. وقد نشر الآن المسيو هوغو ونكلر أستاذ كلية برلين كراسة صغيرة ذكر فيها ما عثر عليه أثناء حفرياته في بوغاز كوي وهي مشهورة بنقوشها البارزة الهيتية وكان من حظ هذا العالم أن يضع يده على السجلات السياسية لملوك الهيتيين مما يرجع على الأقل إلى خمسمائة سنة قبل الميلاد. وبين الألواح التي ظفر بها الأستاذ ونكلر الصور الأصلية من الرسائل التي بعث بها ملك الهيتيين إلى الأمراء الخاضعين له ونسخة من المعاهدة التي عقدت بينه وبين رعمسيس الثاني بعد موقعة قادش وهي المعاهدة التي عرفناها من الترجمة البديعة التي ترجمها المسيو ماسبرو منقولة عن الأصل المصري الذي وجد في الكرنك. ولقد عثر المسيو ونكلر أيضاً على نحو مائة قطعة من القرميد محفورة من أطرافها فيها بضع مئات من السطور المكتوبة بحروف المسند ولكنها كتبت باللغة الآشورية والهيتية وهي اللغة التي لم تنحل حتى الآن. وقد ظهر من حال بعض الألواح الآشورية أن بليدة بوغاز كوري كانت عاصمة المملكة الهيتية على عهد عظمتها وارتقائها أي في القرن السادس عشر إلى القرن الثلاث عشر قبل المسيح لا مدينة كركميس كما كان يظن من قبل. وأن تلك العاصمة كانت تسمى خاتي وبهذا استبان مقر تلك الأمة وعليه فإنا نقول أنها كانت في إقليم كابودسيا لا في الوادي الغربي من الفرات الأوسط كما كانوا يزعمون حتى الآن.

وإذا اغتبطنا بهذين الاكتشافين فذلك لأنهما يقفان بنا على حقيقة تاريخية في منشأ الليبيين وأصولهم كما عرف تاريخ مصر عندما انجلت الكتابة التي كانت كتبت بها مدارج البردي والكتابات المزبورة على مصانعها وعادياتها. ذكرنا في كتابنا مملكة البحار المصرية على عهد توتيمس الثالث كيف كانت حال مصر من حيث جنديتها على عهد الدولة الثامنة عشرة من الارتقاء والعظمة ولاسيما في زمن توتيمس هذا. أما في زمن الدولة التاسعة عشرة والدولة العشرين فقد انحطت جندية مصر. وتبعث الكتابات المصرية القديمة التي كتبت على ذاك العهد على التخمين بأنه لم يكن للفراعنة إذ ذاك أساطيل في استطاعتها أن تؤيد سلطان مصر على البحر المتوسط وتحاول أمم الأرخبيل (بحر ' يجي) في الشمال أن تهاجم مصر من طريق الدلتا. والهيتيون من الشرق والليبيون من الغرب والعنصر القوشي نسيب الليبيين من الجنوب وكلهم يحاولون الإغارة على وادي النيل. والظاهر أن هذه الأساطيل وهذه الجيوش وإن كانت تعمل كل منها منفصلة عن الأخرى لكنها كانت تعمل بإشارة خاتي عاصمة مملكة هيت وهي العدوة الزرقاء لملوك مصر منذ سقوط ملوك الرعاة. وقبل درس حال هؤلاء المتحالفين أو الأمراء التابعين لمملكة هيت جماعة جماعة يجب أن نبين عناصرهم وأصولهم أولاً. فإذا أخذنا شعوب الأرخبيل وهذا الجزء من قارة آسيا فإنك لا تراهم إلا مزيجاً من الشعوب البحارة الذين كان يطلق عليهم في القديم البلاسج فكان أصل بعضهم من كريت وبعضهم من الشوطئ الغربية في آسيا الصغرى فهذا الشعبان بحسب رأي الباحث أربوا دي جونيفيل من أصل واحد بيد أن التاريخ اليوناني إذا طبقناه على الاكتشافات الأثرية الحديثة يداخلنا الشك في صحته وكذلك المكتوبات المصرية المزبورة على المصانع والمعاهد فإنها تميز الشعب الأول باسم بلست والثاني باسم تورسها ويظهر أن الأول كان من الفيلستينيين الذين هم معدودون من سلسلة النسب بحسب رواية سفر التكوين من أخلاف مصرائيم ومن فرع كسلوحيم. ويظهر لنا أنهم ليسو سوى ليبيين مصريين الذين قال المؤرخ بلين والجغرافي بومبينوس ميلا أنهم نازلون على التخوم الغربية من مصر وسماهم المؤرخ هيرودوتس بالأدرماشيديين. وبهذا عرفت أن أصل الكريتيين والفيلستينيين ليبي مصري على ما ثبت من الحفريات الحديثة التي حفرها

المسيو إيفانس في جزيرة كريت إثباتاً لا يحتمل الأخذ والرد. ولكن هل نشأن احتكاك ليبيا ببلستا في زمن سبق عهد أمم البيلاسج بما كان بين القطرين من لاصلات أو هو ناشئ من صلات تجارية ليس إلا؟ أما نحن فلا نسلم بهذا الفرض بل نقول فقط أنه ناشئ من وحدة أصولهما واتحادهما في المعتقدات وتذكرهما بأن لهما أصلاً واحداً بين السكان المتاخمين للآريين في الشاطئ الشمالي من آسيا الصغرى وكريت وليبيا. فالبيلاسج الكريتيون يمتازون عن البيلاسج التورسانيين بأخلاقهم النابية عن الآداب والحشمة مثل مخالفتهم الفطرة في الشهوات وتصويرهم أعضاء التناسل في كل مكان فترى في ليبيا وكريت وآسيا الصغرى أن هذه العادة شائعة في كل مكان وقد ذكر هيرودتس أن في كل مكان انتشرت فيه عبادة الكابيريين الكنعانية سواء كان في كريت وساموتراس ولمنوس كنت ترى أن رمز أعضاء التناسل معروضة على صورة تعبدية. ويقول المؤرخ سترابون أن مثل هذه الصور كانت تنقش على الحجر في أبواب مدينتي لامبساك بانوبوليس احتراماً لها وإكراماً. وقد ذكر المسيبو ستارك فيما جمعه من الساطير عن صقع جبل سيبيل أن الملك تانتال الذي كانت عاصمته على خمسة كيلومترات من أزمير تجاسر في خلال إحدى الحفلات أن ينازع الرب زيوس في النعم التي أسداها إلى الأميرة جانيد فأهلكه المشتري عقوبة له ولأمته. وقد زرت بلاد سيبيل منذ بضع سنين وتعهدت خرائب تانتاليس وقبر ملكها تانتال وكلها تدل على قدمها وتدل جميع القبور التي كشفت بالحفر على عبادة آلات التناسل كما أن أديم الأرض يدل على حقيقة لا جدال فيها وهي أن تلك البلاد كانت عرضة للحوادث الأرضية. وفي التقاليد اليونانية أن أصل تانتال هذا من جويرة كريت وهو مننسل الرب زيوس وأبوه زحل رب ليبيا وهذه القصة أشبه بما ورد في التوراة من قصة قوم لوط في سدوم الذين غضب الله عليهم فأهلكهم ولم نذكر قصة تانتال للدلالة على أن أقدم تقاليد مبونيا (وأليديا) تشعر بأن ما أتاه قوم لوط قد انتقل إلى سكان هذه البلاد وليس هو من اختراعهم. أما البلاسج التورسانيون الذين يمتازون كما قلنا عن البلاسج الكريتيين فالظاهر أن العبادة المألوفة عند الكريتيين كانت مألوفة أيضاً عند التورسانيين بدون أن يصوروا الرجال عراة

وكانت الصور عندهم على جانب من الوقار والطهر وسلامة الأدب على أنهم لم يستنكفوا عن تعرية النساء وقد اكتشفت في جزائر الأرخبيل من مدينة تارس مئات من تماثيل النساء عاريات وقد جعلن أيديهن على صدورهن. وهذه التماثيل ليست من التماثيل الفينيقية فكان على ما يظهر من طبيعة هذا الشعب أن يعنى كثيراً بجنس النساء ولذلك وجد في بلادهم ويظهر أنها سيلسيا عدة بيوت خاصة بالنساء كما وجد في أقليم كابادوسيا مدن مثل زليا وكومونا وبسينونت سكانها كلهم من أهل الفاحشة من الجنسين وكهنتها خصيان والفجور فيها مقدس وشائع. وأكد الجغرافي سترابون الذي ولد في أمازا في وسط بلاد البحر السود أنه مكان في عصره في مدينة فنازا من أعمال موريمينيا معبد كان فيه ثلاثة آلاف فاحشة ومثل هذا القدر في مدينة بسينونت وفي مدينة كونا ستة آلاف. أما زيليا فإنها كانت مأهولة خاصة بالمقدسات من المومسات وهذه المدينة معتبرة بأنها مقر هذه العبادة حيث كان يقيم حبرها الأعظم تحيط به خدمة كثيرون ويحكم حكماً مطلقاً على اولئط الفاشقات المعروضات لكل قادم. وكانت هذه المعابد منتشرة فيالخمس ممالك الآسياوية يعني في جميع آسيا السالفة ومنها أودية ما وراء سلسلة جبال طوروس وطوروس أمازيوس ويظهر أن وجود هذه المعابد في جميع الطريق الآخذة من تارس إلى خليج فارس ومنها إلى البحر الأسود يدل على وجود هذه الأسواق الكبرى من النساء المستعبدات الفاسقات اللائي كن يقربن التجار من جميع الأمم الذين يأتون مع القوافل أو في البحار وربما نشأ من هنا ما نراه الآن من الأسواق العامة والخانات التي لم يزل لها أثر حتى اليوم في آسيا الصغرى. أما البيلاسج التورسانيون فقال هيرودتس في سبب أصلهم أنه حدثت مجاعة هائلة خربت إقليم ليديا على عهد الملك أتيس ابن مانيس فاستسلمت الأمة لها زمناً ولكنها ما فتئت تفتك بهم ولما لم يجدوا سبيلاً للخلاص منها أخذ كل واحد يفكر في طريق لنجاته وعلى ذلك العهد اخترعوا زهر النرد والكعاب والكرة وسائر اللعاب فكانوا يتراوحون كل يومين بين اللعب والأكل فيقضون اليوم الأول بطوله في اللعب لئلا يفكروا في الطعام وفي اليوم التالي يتوقفون عن اللعب ويأكلون. وبفضل هذه الواسطة دام القحط ثماني عشرة سنة وهي بحالها لا تزداد إلا شدة فعندها نادى الملك في قومه فقسمهم شطرين ثم اقترع بينهما فقسم

وقعت عليه القرعة بالسفر وقسم بقي في البلاد. أما الملك فبقي مع المقيمين وأقام ابنه تورسينوس ملكاً على المهاجرين فذهب هؤلاء إلى أزمير وأنشئوا سفناً جعلوا فيها كل ما يحتاجون إليه من الزاد في رحلتهم الطويلة وأقلعت سفنهم تطلب أرضاً تطعمهم وشطأوا (حاذوا شواطئ) أمماً كثيرة حتى بلغت بهم خاتمة مطافهم إقليم أومبيريا (من إيطاليا وهي ولاية بروز اليوم) فأنشئوا فيها بيوتاً لم يزالوا ساكنين فيها حتى الآن وغيروا اسمهم وتسلموا باسم ملكهم فدعوا التورسانيين. هذه القصة التي أوردها هيرودتس على حقيقتها لا تقبل بجمالها وذلك لأن هذه المجاعة التي دامت ثماني عشرة سنة وهذه الحيلة الصبيانية من اختراع الألعاب ليدفعوا عنهم آلام الجوع قد ظهرت للعلماء من العبث وتجلى أصل الإيتروسكيين الليدي من أساطير الأقدمين للقدماء والمحدثين. وللوقوف على ذلك لا يرجع إلا التقاليد القديمة بل إلى ما ظهر من المكتوبات والآثار المحفورة في مصر وآسيا الصغرى وبالمقابلة بينها يستنتج بأن أتيس الذي ذكر خبره هيرودتس لم يكن ليدياً بل أن الآثاؤ التي وجدت في مدينة خاتي عاصمة الهيتيين ومدينة عبو والألواح التي اكتشفها ونكار في بوغاز كوي كلها تدل على أن أتيس لم يكن ملكاً لميوبيا فقط بل ملكاً على مملكة واسعة كانت ليديا بأجمعها من جملتها وتدجل الكتابات المصرية والرسوم البارزة في آسيا الصغرى على ذلك كل الدلالة. والمصانع المرسومة كتاب من التاريخ لا يكذب ولا تجد له مثيلاً في الأساطير القديمة والتقاليد المتعارفة عن الأمم البائدة بواسطة هذا الكتاب تضمحل النظريات والأفكار الواهية المبنية على تخمينات لا يمكن الجمع بينها وتنجلي الحقيقة كالشمس رأد الضحى. في الطريق الموصلة من ساردس إلى أزمير قرية معروفة عند الروم اليوم باسم نينفي ويسميها الأتراك قره بكلي وهناك ساعد من سواعد نهر الهرموز يخرج من صخرة ويشرف على مجرى طوله خمسون متراً وترى داخل تلك الصخرة كوة علوها متران ونصف وفيها صورة تمثل محارباً يلبس على رأسه تاجاً مقرناً على مثال قبعات ملوك الهيتيين وهو لابس قميص قصير على مثل ما نراه في المصانع المصورة في أيوك أو بوغاز كوي وهذا التمثال يحمل بيده قوساً وفي الأخرى رمحاً ويلبس في رجله حذاءً ذا رأس طويل منحن. وقد كتبت من جانب رسم الصورة ستة حروف باللغة الهيتية إلا أنها لا

تقرأ ولم يستطع أحد أن يحلها. وقد قال هيرودتس نقلاً عما ذكره له كهنة المصريين من غزوات رعمسيس الثاني الموهومة في آسيا الصغرى أن هذه النقوش البارزو هي رسم سروستريس ملك مصر أما اليوم فلا يتردد أحد من الاعتراف بأن هذا الرسم هو رسم مجاهد هيتي وربما كان تي خاتي بالذات أو أتيس الذي ذكره هيروديتس وهما وليست هذهالصورة وحيدة في بابها بل أن المسيو هومان اكتشف واحدة مثلها في أفيس وهاتان الصورتان هما صورتان مزورتان لسروستريس خدع بهما هيرودتس وهما شاهدتان للأعقاب بامتداد سطوة الهيتيين العسكرية في آسيا الصغرى. ويستفاد من تطبيق تاريخيهما أن هذين النقشين البارزين يرد تاريخهما إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح. وقد ذكر في الآثار المصرية التي وجدت في مدينةعبو في ذاك التاريخ نفسه خبر ثورة عظمى بين الشعوب في تلك البلاد من قارة آسيا واسم هذه الشعوب الثائرة المنيريون والميونيون والليسيون والموشيون والدرادانيون والكاريون الببدارزيون. وقد قيل أن جميع هذه الشعوب كانت من تراسيا أو فرغانة على أنه لميجر ذكر للبريج أو التراسيين بين تلك الأسماء ويحق ما لاحظه المسيو جورج برو بقوله: أليس من المحقق أن الفرغانيين لو سكنوا شبه الجزيرة الشرقية (بين الإدرياتيك والأرخبيل) لكانوا انجذبوا طوعاً أوكرهاً بالحركة العظمى بين تلك الأمم وأكرهوا أو أغووا على الانضمام إلى النزول إلى سورية على أنه ليس في قائمة الشعوب التي دعاها الهيتيون إلى مساعدتهم ولا في تسمية كهنة الهيتيين لهم فيما بعد بشعوب البحار ذكر لاسم الفرغانيين. وإذا لم نجد في كتابات تلك الأعصر إشارة للهيتيين ألا نستنتج من ذلك أن التراسيين لم يجتازوا بوغاز الدردنيل وأن أحلاف الخاتيين لم يكونوا أوروبيين ولا تراسيين؟ وغذا تركنا الكتابات المصرية جانباً ونظرنا في كتابات التوراة التي هي أحدث منها فإنا نبدأ بحسب الطريقة التي اختارها كاتب الإصحاح العاشر من سفر التكوين أي بأن نتتبع أجيال الناس من الغرب إلى الشرق فيتجلى لنا أنه جعل في مقدمة أولاد يافث الشعوب التي هي نمن بلاد الشمال وفي سكان الجنوب الجافانيين أو الروم وقد أتى بهم بجانب التيرانيين والموشيين الذين ذكرهم هيرودتس. ولم نر للفرغانيين أو الكومريين ذكراً لهم وهم شعوب وسط بين سكان الأرخبيل والآسياويين. ويرى أحبار اليهود أنالتراسيين هم الإسكينازيون

إلا أن هذا مجرد فرض منهم لا يفهم من نصوص العهد القديم وإذا أطلق هنا على إقليم فرغانة اسم أفريقية فهذا أيضاً ري من الآراء لا حقيقة من الحقائق الثابتة. ثم أن بعض الشراح من الربانيين قالوا بأن الترشيشيين هم من التراسيين بدون أن يدركوا أن التوراة قد جعلت ترشيش بن جافانا واسكنار بن كومر على أن هذين الفرضين لا يمكن تطبيقهما من الوجهة الجغرافية والشعبية على نصوص شرح التوراة. وليس في الكتابات اآشورية شيء بشأن التراسيين أو البيرجيين سكان آسيا الصغرى. جاء في التواريخ الآشورية المحفورة على اسطوانات من الأجر (الطوب) المحفوظة في المتحف البريطاني ذكر ملك مداس أوميتا وورد على صورتين (ميتا) ملك الموسخو وميتا ملك الموسخاي أي ميداس ملك الموشيين أو ميداس الموشيني لا ميداس الفرغاني كما يزعم ذلك كتاب اليونان. وقد طاف المسيو بيرو إقليمي ليديا وكابادوسيا طواف عالم أثري وقابل بين مصانعها المختلفة فرأى أن هذه التناقضات لم تنشأ إلا من ضعف إرادة هوميرس في نسبة أصل أبناء وطنه إلى فرع أوروبي لا إلى فرع آسياوي. ومن تأمل فرأى أن ليس من أحد بين اليونان كان يود مناقضة هوميروس كما أن الباحثين في أوروبا قديماً عن أصول التاريخ كانوا يعنون قبل كل أمر بتوفيق أقوالهم على نصوص التوراة ـ يدرك في الحال السب الذي دعا إلى التفاسير القديمة والحديثة لم يتيسر لها أن تخلص من هذه الوجهة المهمة من سلطة التقليد. وكذلك الحال في البيتيتيين والتينييين والميزيين والذيم أرادوا أن يلصقونهم بالأصل التراسي. وإنما نكتفي هنا فقط بأن نقول أن في اللواح الآشورية ذكراً لبلاد في آسيا الصغرى اسمها بيت أني أو أنو وهي على التحقيق ليست من أصل تراسي وقد رسم أنو هذا في الأساطير الكلدانية على صورة رب سمكة أو رب السواحل البحرية. على أن الأثري شلمان اكتشف في اليسيرليك على بضعة كيلومترات من المكان الذي يزعمون أنه مقر الفرغانيين على عمق ستة عشر متراً في الأساس الذي دعاه قصر بريان على عدد كثير من الأواني والصحاف عليها صورة سواستيكا أوالصليب (المقلوب) الذي يرى بريخ مدير المتحف البريطاني أنه رمز أنو. وأنت ترى أن في مسائل أصول الشعوب صعوبات

جمة واختلافات كثيرة في التأويل أما نحن فلا نجزم فيما نقول بل نقول بأنه من المحتمل كل الاحتمال أن الشعوب البائدة كان بينها قرابة ويجب التوفيق في ذلك بينها إلا فإذا خانتنا النصوص الموروثة عن عصورهم وظهورهم في التاريخ أو إذا رأيناها تسكت عنهم فإن الشك يسمح به والتأكيد المطلق غير مقبول.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع تعليم الشعب كثرت مدارس الشعب في أوروبا كثرة زائدة بفضل المنورين من أهلها. ومدارس الشعب هي مدارس تعليم عامة الناس في المدن والأرياف ما فاتهم أن يتعلموه في المدارس في صباهم تنوع فيه التعليم على أساليب كثيرة وقد كانت انتشرت أول الدعوة إلى إنشاء مدارس العشب أو العامة في الممالك الصغرى سنة 1810 في الدانيمرك على يد رجل منها اسمه كرواندويك وما برحت المدارس فيها تكثر حتى أصبح فيها نحو تسعين مدرسة عالية لتعليم العامة يتخرج منها كل سنة نحو سبعة آلاف طالب وطالبة وكلهم لا تقل سنهم عن 18 ولا تزيد عن 25 ولو لم يتعلم أبناء الفلاحين هذا التعليم العالي بعد فوات السن ما تيسر لهم تصدير حاصلات بلادهم ومصنوعاتها إلى الخارج والغاية الأولى التي يرمي غليها السائرون على خطة كرواندويك أن ينشروا المعارف بين جميع الطبقات وقد انتقلت طريقتهم هذه من الدانيمرك إلى نروج والسويد وإلى فنلندا وكل بلد من هذه البلاد تحاول صبغ مدارس الشعب بصبغة تلائمها وتلقى فيها من العلوم ما له مساس بقيام عمرانها واجتماعها كأن تعلم فنلندا مثلاً الموسيقى لأنها محبوبة من الأمة وفيها أربعمائة جمعية لتعليم العامة فن الموسيقى وفي فنلندا ونفوسها لا تتجاوز الثلاثة ملايين 35 مدرسة عالية لتعليم الكبار من عامة الشعب ما يلزمهم من هذه الحياة مما لم يسعدهم الحظ بتعلمه صغاراً. الأولاد الفاسدون استعمل الدكتور بريللون طريقة جميلة في التربية لإصلاح نفوس الأولاد الفاسدين كالذين اعتادوا السرقة دون أن يستفيدوا مما يسرقون ويسمي الأطباء عملهم كبتوماني أو الذين يألفون بعض العادات الضارة كقضم الأظافر وغيرها فعمد إلى تنويم من أراد إصلاحه تنويماً مغناطيسياً وألقى إليه قطعة من النقود وأوعز إليه أن يتناولها فيسرقها ثم يقول له أن يرجعها فيرجعها ويوبخه على عمله ويقول له عليك أن لا تعود إلى مثل عملك هذا. . وهكذا يتعلم السارق بالاستهواء أن يكف عن عادته قال وهذه الطريقة أنجع من جميع الطرق الأدبية والطبيعية التي اتخذت في إصلاح مثل هذه النفوس حتى الآن. الزجاج في مصر

كتب أحد علماء الآثار في المجلة الثرية الفرنسوية يقول أنه كان من التقاليد الشائعة أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الزجاج ومنذ حل الخط المصري القديم تبين أن كثيراً من الأواني الزجاجية الملونة التي اشتهرت بأنها فينيقية قد نقش عليها اسم فراعنة مصر وقد أبان أحدهم أنه وإن ثبت وجود أواني زجاجية مصرية أو يونانية صنعت قبل الإسكندر فلم يثبت وجود معمل فينيقي في فينيقية وبذلك تبين أنه لم تنتشر صناعة الزجاج في سورية إلا على عهد السلوقيين خلفاء الإسكندر ولاسيما على عهد الرومانيين وقد ثبت الآن أن سورية وبلاد دجلة والفرات لم تعرف الزجاج قبل العهد اليوناني وأن الآنية الآشورية الوحيدة التي نقش عليها تاريخ وحفظت في المتحف البريطاني وكتب عليها اسم سراغون الثاني هي بدون ريب من أصل مصري كما ثبت ذلك من شكلها ووضعها. وكما يؤخذ من علبة مرصعة بالزجاج الأسود والأخضر وجدت في حفريات أبيدوس. وقد اقتنى متحف برلين مؤخراً عصا قائمة الزوايا طولها بضعة سنتمترات نقش على وجهها بالأبيض اسم لامار أحد فراعنة الدولة الثانية عشرة ولامار لقب له واسمه الأصلي أمنيس الثالث وكان يعبد في الفيوم. وما وجد في هذه المدينة من الزجاج القديم يدعو إلى الجزم بأنها كانت في القديم مصنع الزجاج وإن صنع الزجاج بلغ درجة عالية في مصر على عهد الدولة الثامنة عشرة وأقدم ما وجد من الأواني الزجاجية ثلاث قطع حفظت فإحداها في القاهرة والأخرى في لندرا والثالثة في ميونيخ. وقد استدل الكاتب بأن ما لاحظه يتري من أنه كان في تل العمارنة هي عاصمة أمينوفيس الرابع معمل للزجاج على أن هذه الصناعة كانت فيها على أتم الرواج في الدولة الثامنة عشرة الفرعونية وأن المصريين كانوا يصنعون الأقداح والتعاويذ من الزجاج. ومعمل تل العمارنة دليل واضح على أنه كان في مصر معامل كثيرة للزجاج والعقل يقضي بأن ما عثر عليه من الزجاج أقدم من هذا التاريخ وهو من صنع مصر أيضاً كالزجاج الذي عثر عليه في قصر أمينوفيس الثالث في ثيبة. وقد بيعت مصنوعات مصر الزجاجية في شواطئ البحر الرومي فنسبت للفينيقيين لأنهم هم الذين كانوا يحملونها على سفنهم ثم أثبت أن صناعة الزجاج ازدهرت في زمن الدولة الساميتية وكانوا ذاك العهد يفضلون التعاويذ الصغيرة والتمويه والتزيين بأنواعه على الأواني الملونة يتخذون من ذلك ما يزينون به

بيوتهم وفرشهم بل ويتزين به صاحب الدار نفسه. ومن الصعب التمييز بين عصر البطالسة وعصر الرومان. ومن رأيه أن نفخ الزجاج اخترع في معامل فينيقية بعد عهد الإسكندر وهذا السبب في أرجحية معامل فينيقة على غيرها. وتكلم عن الزجاج المعمول بالفسيفساء فقال أن ما وجد منه قد كتبت عليه كتابات مصرية ويونانية وكثير منها من صنع الإسكندرية والفيوم وواحة سيوة ومنها نقلت إلى بلاد اليونان وإيطاليا وغاليا ولا يبعد أن تكون أوروبا نسجت على منوال صناع الزجاج المصريين وهؤلاء علموا الأوروبين على عهد الإمبراطورية الرومانية صنع الزجاج وقد كانت مدينة أكيلة القديمة على شاطيء الإدرياتيك مركزاً في أوروبا لصناع الزجاج ومنها هاجر البنادقة الذين صنعوا الزجاج للشرق الإسلامي وأصبحت مصنوعاتهم نموذجاً تقلده جميع معامل أوروبا وكانت الصلات مستحكمة بين أكيلةومصر. وظل الزجاج يصنع في مصر حتى في عهد استيلاء الرومان وفتح العرب وهذهالثناعة رائجة فيها كما أن العرب عنوا بالكاشاني وتغيرت طرق صنعه وأشكاله،. واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت إلى معامل البندقية وأصبحت تطرس على آثارها ثم كتب التقدم لمعامل البنادقة وعرفت تقلد النموذجات الشرقية أحسن تقليد وما زالت معامل الشرق في انحطاط حتى زالت جملة واحدة واليوم بعد أن كان الشرق يصنع لأوروبا منذ عهد الرومان أوانيه الزجاجية أصبح يجلب من إيطاليا وألمانيا وفرنسا ما يلزمه من الأواني في حاجاته اليومية. التربية الحرة لكل أمة ضرب من التربية فالأمة الديمقراطية أو الجمهورية لا تشبه تربية الأمة الدستورية المقيدة أما تربية الأمة المطلقة فنمطها مختلف عن تينك التربيتين وقد كتب أحد علماء الفرنسيس مقالة في التربية الديمقراطية فقال أن الديمقراطية وهي كمال الحياة التي سعى إليها الكل لفائدة الكل يجب أن تعتبر التربية أس أساسها ولا تحصل الغاية من التربية في أمة ديمقراطية بكثرة المواد التي يتعلمها أبناؤها فقد اختلف مشاهير علماء الأخلاق في النوع اللازم للديمقراطية من التربية وإن كانت مبادئهم بحسب الظاهر تؤدي إلى غرض واحد.

الناس يخلطون بني التربية والتعليم فيرونهما شيئاً واحداً على أن التربية غاية والتعليم واسطة فالغرض من التربية أن تربي في الطفل شعور مكارم الأخلاق فتكون سلماً يصعد به على ذرى التعلم فتصرف وكدها في إنارة عقله وحكمه عندما يتجليان وتكون أخلاقه رقيقة متينة فيصبح الطفل على ثقة من تنبه الشعور والعقل والعمل عندما يبلغ سن الرجولية ويتعلم عمل الخير والإدراك والتأمل كما يتعلم الإرادة وصحة العزيمة فتربية الوجدان تهم كما تهم تربية العقل وكثر المدارس لا تعنى بالتربية الأولى فتأتي أمراً أداً يجب أن يعلم الأطفال مكارم الأخلاق فإن صلاح المرء بأن يكون عادلاً وحكيماً ويجب أن يربى في المرء قوة التمييز وتنمى فيه قوة الانتباه وهي القوة التي تنفع أكثر من تحصيل المعارف الجديدة كما يجب تربية دائرة العقل وإمداده بالأدوات الأولى التي يهيء أمامه سبل العمل فالأرض الزراعية مهما بلغت من الخصب تحتاج أن تعد لها المعدات وإلا فلا تنبت فيها البذر الذي يبذر فيها. ثم أن حسن العشرة والسلوك في المجتمع مناطان بأخلاق الفرد وعلى قدر أخلاقه في الغالب تكون أعماله وجهاده. ومتى ظهرت في الطفل علائم إرادته الأولى كان منها توجه نفسه إلى العمل فإن لين أخلاقه ومضاءها تعلمانه أن يعنى بالضروريات الخارجية بدون أن تؤثر فيها كل التأثير. فحربتنا الأدبية هي عبارة عن اعتمادنا على أنفسنا. فإن قيل هل يجب أن تكون التربية عامة أم أهلية أي أن تربية الأطفال في المدارس العامة خير أم تربيتهم في بيوت أهليهم فقد ذكر الفيلسوف ديدرو كلمات في هذا الصدد هي جماع الحكمة في التربية وهي على اختصارها أجمل جواب على هذا السؤال قال: لقد قضيت السنين الأولى من حياتي في المدارس العامة ورأيت أربعة أو خمسة تلاميذ من الطبقة العالية يتناوبون في غضون السنة المكافآت ويتناولون الجوائز فيدخلون بتقدمهم اليأس على نفوس رفاقهم وتأخر هؤلاء عن اللحاق بهم، رأيت عناية الأستاذ مصروفة إلى تخريج هذا العدد المختار القليل من الطلبة ويهمل من عداهم ورأيت معظم هؤلاء الأولاد يخرجون من المدرسة بلهاً مغفلين وجاهلين فاسدين فقلت في نفسي: يا لشقاء أب يستطيع أن يربي ابنه في بيته فيرسله إلى مدرسة عامة. ليت شعري من أين أخذ البشر المعارف التي تميز بها في الآداب بعض الرجال الذين ربوا في المدارس ومن السبب في وصولها إليهم؟ لا جرم

أنها ابنة دروسهم الخاصة. ولطالما أسفوا وهم في حجراتهم للوقت الذين قضوه على دكات المدرسة. فكيف السبيل إذاً؟ هل تصلح الحال بتغيير طريقة التعليم العام ومتى اغتنى المرء يربي ابنه في منزله. أنا لا أستحسن تربية الدير للبنات إلا إذا كانت أخلاق الأمهات فاسدة ولا أستحسن المدرسة للبنين إلا إذا كان الآباء مسرفين يعطون ألف ريال للحوذي الذي يسوق مركباتهم وألفي ريال للطاهي الذي يطبخ طعامهم. هذا ما قاله ديدرو وقال مونتين يجب أن تصرف خمس عشرة أو ست عشرة سنة للدرس والباقي للعمل. وما قطبا الحياة في الحقيقة إلا الفكر والعمل فالأول يولد الثاني والثاني متمم للأول. ويقول بعضهم أن التربية لا ينتهي دورها إلا بانقضاء أجل الحياة على أنه من اللازم أيضاً أن ينظر بأن التجربة التي يحرزها المرء كل يوم يكون لها عمل لتنوب مناب التربية كلما تفهمها ولا تربي إلا إنساناً ناقصاً. أما فيما يتعلق بالمواد التي يجب تعليمها فيجب أن يتوسع فيها ما أمكن فمن الميسور تلقين الطفل أموراً كثيرة إذ القوة الحافظة فيه على أتمها وقد أخطأ روسو في كتابة (أميل) في رأيه أن الاستظهار يضعف الذاكرة على أن الذاكرة ليست خزانة يحشر إليها الطفل صنوفاً من المبادئ يرجع إليها الطفل فيما بعد. فبعد أن يلقن الطفل واسطة للحصول على معارف حقيقية بتعليمه القراءة والكتابة يجب أن يعلم لغة بلاده ومبادئ العلوم الطبيعية والظواهر الجوية والرياضيات وذلك إما بدرسها في كتاب أو في نقشها ورسمها والعلم ينزع الخرافات ويودع في النفس فكر الارتقاء الثابت والنشوء البطيء المنظم بنواميس. يصدق هذا على الحالة الاجتماعية والسياسية كما يصدق على الحالة الطبيعية والجيولوجية. ويعلم الطفل الأعمال اليدوية والرياضية. ويعلم التاريخ لا التاريخ المملوء بالشوائب بل التاريخ الحقيقي. فبالتاريخ يتجلى له بأن الكمال ممكن وأن الناس آخذون في السير نحوه فيحب المتعلم طريقة الحكم الديمقراطي ويؤثرها على غيرها من أنواع الحكم كما يعلم أن يحب كل من قضوا نحبهم في سبيل ترقية البشر وكل من نقلوا إلينا حرية الوجدان. ويجب أن يعلم الطفل مع هذه المواد فن الآداب حتى لا يكون غريباً عن مظهر من مظاهر الجمال ويمتزج في روحه الفتية حب الكمال قال بول برت: من الواجب أن يتعلم الطفل اللغات الأجنبية بل اللغات الميتة حتى لا يفوته شيء مما أنتجته المدارك البشرية ولا يكون بعيداً

عما مر على أسنة اقلام العظماء في تبيانهم وبيانهم وأرى أن هذه المعارف توسع ذهنه وتفتح أجنحة تصوره فبالآداب وحدها تهتز القلوب وتحيا الوجدانات ولقد كانت مصنفات اليونان واللاتين مؤثرة في أجيالنا معاشر الإفرنج وفي مصنفاتنا منها مسحة خاصة فنحن واللاتين واليونان من فصيلة عقلية واحدة. ويضاف إلى المعلومات التي يعلمها الطفل أمور يجب أن تنضجها الحياة والعمل وهناك تعليم وطني أدبي ينبغي أن يشرب الطفل حبه ألا وهو معرفة قوانين بلاده السياسية وحالة الطريقة التي تدار بها شؤونها وتراعى في كل تعليم أميال الطفل قابليته فقد قيل أن في الإنسان وفي أعماله المختلفة في الحياة ألف نوع من التفنن ولكل ذوقه. وأمانينا لا ينطبق بعضها على بعض. وتجب العناية بتقوية جسم الطفل ووقاية صحته وأن لا يكون حظ النبات في التربية كحظ البنين ويكون التعليم عامياً (علمانياً) لا دخل للدين فيه يكون كذلك في المدرسة كما يكون في البيت وأن يجد الطفل في بيت أبيه متمماً لدروسه في المدرسة. وخير ما ينفع الطفل أن لا تكون المدرسة والبيت وهما مبعث التربية متناقضتين غي المبادئ بل متحدتين فيها وأن تدرس الفنون بحيث يتمكن التلميذ من إظهار عواطفه بواسطتها فتقوى بها شخصيته وميزته ويعنى بتنمية ملكته في الشعر والتصوير والموسيقى فقد قالب شوبنهور الفيلسوف الألماني: إن استماع الأنغام الجميلة هو حمام يغسل أدران العقل. نعم إن الموسيقى تغسل كل وسخ وتنبذ ما يحط بالنفوس ويشقيها فالموسيقى ترفع مقام الإنسان وتجمع بينه وبين الأفكار النبيلة التي هو أهل لها فيشعر إذ ذاك كل الشعور بما يتأتى له أن يساويه في هذه الحياة. هذا ما قاله العالم الغربي وفيه درس لكل شرقي وجدير بنا أن نجعل قوام تربيتنا على تقوية الإرادة والاحتفاظ بالقديم والأخذ بحظ وافر من المعارف البشرية اللازمة وتربية روح الوطنية والعواطف السامية بالفنون الجميلة فهي وحب الجمال والكمال من العوامل القوية في أسباب الرقي المادي والمعنوي. حماه وحمص اكتشف المسيو بونيون من علماء الآثار أربعة أحجار كانت في عمود كتبت بلغة آرامية

ممزوجة بالكنعانية والعبرية وذلك في خلال رحلته إلى سورية منذ خمس سنين وهذه الأحجار هي عبارة عن تقدمة قدمها زاكير الملقب بملك حماه ولانش أولاعوش وقالوا أنها مدينة حمص إلى الرب آلور يتضرع إليه فيها أن يكتب له النصر على الملوك الذين اتحدوا وحاصروه في مدينة خرزك وكان أكبر أعدائه ملك آرام (دمشق) المدعو بارحداد ابن خزائيل وقد تولى هذا الملك منذ سنة 805 إلى نحو 780 ق. م أي على عهد ملك إسرائيل جوهاشاز ابن جيهو وقد كتب المسيو دوسو من علماء الآثار في المجلة الأثرية بحثاً في مملكة حمض وحماه قبل المسيح بثمانية قرون فقال أن مملكة حماة لم تكن تتناول فقط السهول الغنية التي كانت تؤدي الجزية من بلاد نهر العاصي الوسطى بل كانت تمتد أحياناً في وادي هذا النهر إلى البقاع بحسب ما كانت دمشق وهي الخصيمة القوية تتركها تتنفس الصعداء. وفي القرن الثالث أضافت مملكة حماه إليها بلاد لاعوش أو أرض خزرك فأعادت بذلك مملكة أمورو (الأمهوريين) العظمى التي كان خربها الهيتيون في القرن الرابع عشر قبل المسيح وقد كتم المكتشف اسم المحل الذي اكتشف فيه تلك الحجارة واكتفى بأن قال في كتابه الذي نشره حديثاً في المزبورات السامية في سورية وبين النهرين وكور الموصل أنه عثر عليها في سورية على مائتي كيلومتر من البحر الرومي وأنه يأمل أن يذهب ذات يوم لإكمال الحفر فيكتشف ما ينقصه من هذه الآثار إلا أن كاتب المقالة أدرك من حل الكتابات المزبورة على الأحجار أنها آتية من مدينة خزرك فقال أن المكتشف وفق إلى كشف محل هذه المدينة القديمة وهذا الأثر التاريخي العظيم وخزرك مدينة شرقي العاصي بين حماه ودمشق وقد كانت مملكة حماه وهي عبارة عن بلاد لاعوش وأراضي خزرك وكانت في القرن الثامن قبل الميلاد أقوى مملكة في سورية وقد حاول الملك زاكير وأخلافه أن يحصنوا مملكة خزرك لتكون منيعة الحمى حتى أصبحت من بعد سنة 772 مدة خمسين سنة والآشوريون لا يغيرون إلا عليها أثناء غاراتهم على سورية وقد عزم توغلات بالازار الثالث ملك آشور سنة 730 أن يقسم مملكة حماه فجعلها مقاطعات كثيرة تابعة لمملكة آشور مباشرة ثم دثرت هذه المدينة (خزرك) وفقد اسمها من التاريخ ثم انتفضت مملكة حماه فأمر الملك سراغون الثاني أن ينزع جلد ملكها إيلوبيدي وهو حي وجعل في هذه المدينة حامية آشورية كبرى.

سر الجنسين قضت مصاعب الحياة أن أصبحت كثير من الأسر في الغرب تتمنى لو ترزق بنين بدل البنات ولكن الخالق تعالى لم يمنح سر كثرة البنات وقلة البنين أحداً من المشتغلين بعقولهم من خلقه. وكانالرأي الشائع من قبل أن أقوى الأبوين هو الذي يولد الولد ذكراً كان أم أنثى. وقد كتب الدكتور روم أن من القضايا التي لا تكاد تختل في جميع العالم بأن في كل مئة طفل يولد 105 أو 106 بنات ولا يختل هذا التعديل غلا في الحرب فثبت بالإحصاء أن بعد الحروب يولد للمحاربين ذكوراً أكثر من الإناث فقد زاد عدد البنات في سنة 1869 في بروسيا وبعد حرب سنة 1871 زاد عدد الذكور وفي ثناء حروب الإمبراطور نابليون الأول حدث نقص في البنات وزيادة في الأولاد في فرنسا حتى خيف على مستقبل البلاد من ذلك، وقد ثبت جميع أرباب الرحلات والباحثين بأن جميع القبائل التي لا تفتأ تحارب غيرها يزيد عدد مواليدها من أولادها أكثر من بناتها فمواليد القبائل الماوري في زيلاندا الجديدة هم في الأكثر ذكور ومعلوم أن قلة النساء هي من أعظم السباب في انتشاب الحروب بين القبائل ولذلك كان المحلفون الذين لا يذهبون إلى دار الحرب في الغالب أقل قوة وصحة ونشاطاً ممن حملوا السلاح وذهبوا لقتال العدو فيجيء الأولاد الذين يولدون لهم ذكوراً. وقد شوهد منذ زمن أن سكيراً طاعناً في السن إذا تزوج امرأة شابة يكون أولاده في الأكثر ذكوراً على العكس مما يحدث إذا كانت الزوجة أسن من زوجها. قال سادلير في إحصاء له أنه مقابل كل ألف بنت يوجد 865 صبياً يكون أبوه أفتى من أمه و948 صبياً يكون أبواه في سن واحدة و1037 صبياً يكون أبوه أسن من أمه من سنة إلى ست سنين و1267 صبياً يكون أبوه أسن من أمه من ست عشرة فأكثر. وإذا أرضعت الأم ولدها الأول فتلد بعده بنات وكذلك الأمهات اللائي يحبلن في أوقات متقاربة فإنهن يلدن البنات لأن تكرار الرضاع والحمل هو من أسباب ضعف الأم ومتى حبلت تكون في حالتها الطبيعية أضعف من الزوج فتلد بنتاً وتكون شبيهة بصورتها. وقد لوحظ بأن المرأة إذا حملت عقيب العادة أو في خلالها فتلد إناثاً في الغالب وهذا الضعف المؤقت فيها لا يرزقها إلا بنات. وقد جرت عادة من يربون المواشي أن يفصدون في أوقات خاصة البقرة إذا أرادوا أن تلد لهم عجلة وأن يفصدوا الثور إذا أرادوا أن يلقح

مطبوعات ومخطوطات

عجلاً. ولاحظ أحدهم بأن المولود الأول يكون طفلاً في الزواج غير الشرعي وعلل ذلك بأن الأم تكون في تلك الحالة أفتى من الأب وتكون منهوكة القوى مضطرة إلى إتيان ما أتت بإغواء الرجل. وقد ذكر الدكتور بيلون أن إحدى قبائل مصر القديمة سبت مئات النساء فحمل في الطريق معها 482 ولما وضعن كان عدد الذكور 79 وعدد الإناث 403 وذلك لما كن عليه من الضعف والإعياء مدة الحمل. قال الكاتب رلوكان ثمت ميزان توزن فيه العناصر التي تتكون منها الصحة والنشاط في كل من الزوجين لتيسر أن يتنبأ المرء تنبؤاً صحيحاً فيما إذا كانت الأم تلد ذكراً أم أنثى ولكن القوة والصحة وشدة الحب لا توزن بميزان ولا تقاس بمقياس. ثم أن العناصر التي تتركب منها تختلط وتتداخل على شكل ملتبس حتى أن أدق بحث في صحة الزوجين وعمرهما ونوع معيشتهما ووراثتهما لا يأتي إلا بفرضيات وظنيات لا بحقائق ثابتة ولو عرف المرء حقيقة الأسباب التي بها يستطيع أن يعرف ما يولد له أما كان يخشى أن يقل البنات لأن أحدنا إذا بشر بها ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. مطبوعات ومخطوطات تاريخ الأمم والملوك اشتهر هذا التاريخ بأنه من أعظم الأمهات الصحيحة التي يرجع إليها في دراسة تاريخ الإسلام في القرون الثلاثة الأولى وهو من تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وقد طبع للمرة الأولى في ليدن طبعه المستشرق كوي وأعاد طبعه ع \ هذه الآونة بالمطبعة الحسينية المصرية محمد أفندي عبد اللطيف الخطيب وشركاؤه فجاء متقن الطبع مشكولاً محال الإشكال منه وأحلق به كتاب صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي المنتخب من كتاب ذيل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين تصنيف أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري فتم التاريخ الأصلي في 11 جزءاً والذيل في جزئين وهو يطلب من طابعه بمئة وأربعين قرشاً صحيحاً فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه فإنه أصبح الآن قريب المنال على كل مطالع لرخص ثمنه بالنسبة لطبعة أوروبا. أما وصف الكتاب وفوائده والكلام على مؤلفه فسنعقد له هنا فصلاً إضافياً بحول الله. وهنا نثني الثناء الطيب على

الطابع ونرجو له أن يوفق لطبع أمثاله من أمهات كتب العرب فينتفع وينفع. التصحيف والتحريف هو من الكتب المنسوبة لأبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري شرح فيه الألفاظ والأسماء المشكلة التي تتشابه في صورة الخط فيقع فيها التصحيف ويدخلها التحريف مما يعرض في ألفاظ اللغة والشعر وفي أسماء الشعراء وأيام العرب وأسماء فرسانها ووقائعها وأماكنها وما يعرض في علم الأنساب وغيرها من الأشكال فيصحفها عامة الناس ويغلط فيه بعض الخاصة وقد جعله أبواباً فمنها ما جاء في قبح التصحيف وبشاعته وذم المصحفين ونكد التصحيف ومن ابتلي به ونوادر من التصحيف وما وري من أوهام علماء البصرة ومن أوهام علماء الكوفة وما روي من تصحيفات شتى فجاء في أحد وأربعين باباً تجمع إلى الفائدة العلمية اللذة الفكاهية والأدبية طبعته مطبعة الظاهر طبعاً متقناً وجعلته في ثلاثة أجزاء نجز منها الجزءان الأولان إلى الآن. ونعماً تفعل إدارة مطبعة الظاهر في إحياء الكتب العربية النفيسة فمن أعظم الأيادي التي يسديها امرء لأمته إحياء ما كاد يندثر من آثارها ومفاخرها وقيمة اشتراك الكتاب قبل الطبع 15 قرشاً وبعد الطبع 20 قرشاً فنتقدم إلى كل متأدب في اقتنائه. سر تقدم الإنكليز أعاد خليل بك صادق صاحب مجلة مسامرات الشعب طبع هذا الكتاب النفيس لمؤلفه أدمون ديمولان من علماء التربية في فرنسا ومترجمه أحمد فتحي باشا زغلول من علماء الحقوق بمصر فتأنق ما شاء وشاءت الإجادة في طبعه وتخير له الورق والحروف فجاء بديعاً شكلاً ووضعاً وتعريباً وأصلاً. وهذا الكتاب من أحسن ما أخرج للغة العربية من اللغات الأوروبية وما قرأه رجل بإمعان إلا وتغير فكره في الحياة وأصلح من أخلاقه وعاداته ما يقدر عليه وفيه من وصف الإنكليز والأميركان والألمان في أخلاقهم ومناحيهم ما هو حري بأن يدرسه كل شرقي المرة بعد المرة. وقد قدم له معربه مقدمة من أبدع ما كتب في حالتنا حاءت والكتاب في النفع سواء فنثني على المعرب والطابع بما هما أهله والكتاب يطلب من مكتبة مسامرات الشعب في باب الخلق بمصر بعشرين قرشاً صحيحاً. مبادئ الاقتصاد السياسي

ألف محمد أفندي فهمي حسين هذا الكتاب المفيد ـ والذي نقل إلى العربية من كتب هذا الفن قليل لا يفي بالحاجة ـ فتوسع في أبوابه مستنداً إلى ما كتب باللغات الإفرنجية في هذا الفن وقد كتبه بعبارة سهلة وأسلوب قربه من الأذهان على من لم يسبق لهم أن قرؤا فيه كتاباً. ودرس كتب الاقتصاد لأهل هذه البلاد أنفع من إلقاء ألف خطبة سياسية خيالية وتلاوة ألف رواية غرامية وهو يطلب من مكاتب القاهرة الشهيرة ومن نادي المدارس العليا بعشرة قروش صحية فنحث الأدباء على اقتنائه والاستفادة منه ونثني على غيرة مؤلفه الأديب ونرجو له التوفيق إلى إتمامه. عقود الجوهر من ترجمة من لهم خمسون تصنيفاً فمائة فأكثر وضع هذا الكتاب جميل بك العظم من أفاضل أدباء دمشق وموضعه كما يدل عليه اسمه جليل نافع يبعث الهمة في صدور الناشئة ويطلعهم على ما قضاه أسلافنا من العناء في النفع وفي هذا الجزء أربعون ترجمة لأربعين عظيماً من عظماء الإسلام واليونان والقدماء والمحدثين فمن القدماء الغزالي وابن تيمية والرازي وابن الجوزي وحنين بن إسحق ويعقوب الكندي وثابت بن قرة والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وابن الخطيب والزمخشري والمعري ومن المحدثين السيوطي وابن كمال باشا وابن طولون والمناوي ومنلا علي القاري ونوح أفندي وأحمد مدحت أفندي والعيدروس. فيترجم المؤلف ترجمة موجزة ثم يسوق كتبه على حروف المعجم ليسهل الاهتداء إليها في الحال. ويشتمل الجزء الثاني وهو الآن تحت الطبع على فهر س عام في الكتب والرسائل التي ذكرت أسماؤها في الكتاب وما يوجد منها في خزائن الكتب العمومية مما لم يطبع. وهمي همة للمؤلف تدل على فضله وغيرته. وقيمة الاشتراك بالجزئين معاً ريال وربع ريال مجيدي ويضاف إليها أجرة البريد وقد طبع في المطبعة الأهلية ببيروت طبعاً متقناً نظيفاً كسائر مطبوعاتها وهذا الجزء من 340 صفحة صغيرة فنحث المتأدبين على اقتنائه. افسلام روح المدنية كتاب في 288 صفحة صغيرة ألفه الشيخ مصطفى الغلاييني من أفاضل ادباء بيروت رداً على ما جاء في كتاب (مصر الحديثة) تأليف لورد كرومر معتمد إنكلترا في مصر سابقاً

من الحمل على مدنية افسلام أورد فيه أقوال الغربيين أنفسهم وأتى من الشواهد والحجج الكثيرة ما يناقض ما ذهب إليه مؤلف (مصر الحديثة) ولو عرف لورد كرومر اللغة العربية ودرس تاريخ افسلام درس المجرد عن النزعات السياسية والأهواء الاستعمارية لما كتب ما كتب ولو أعطي وادياً من ذهب. قال الفاضل البيروتي: وإني أعتقد اعتقاداً جازماً أن جميع الأديان تأمر بالخير والسلام وهي وإن اختلفت في بعض اعراض فهي متفقة في الجواهر إذ الغاية منها تهذيب النفس ورفعها من وهاد الشرور والفساد فمن يسعى بهدم أركان الأديان هو كمن يسعى لتقويض العمران لأن في المدنية الحديثة من المفاسد ما لا يحصى ولولا سلطان الأديان القاهر لأبيحت الأعراض والدماء والأموال وفي ذلك من الخراب والدمار ما لا يصلحه الدرهم والدينار فبقاء الإنسان في جهل بعلوم الدنيا مع التمسك بأي دين خير من حياته عالماً طبيعياً مهندساً الخ وهو لا دين له. وقد غلبت الحدة على صاحب الرد فظهرت آثارها على أسلة قلمه أحياناً وكنا نود أن تحذف من كتابه بعض ألفاظ أدعى إلى القبول وإنا نثني على غيرته وفضله ويطلب كتابه من المكاتب الشهيرة بالقاهرة بخمسة قروش. أبو العلاء المعري كراسة في 72 صفحة باللغة التركية التاتارية فيها ترجمة مستوفاة لأبي العلاء المعري من قلم رضاء الدين أفندي بن فخر الدين من علماء أورنبورغ في روسيا وقد تصفحناه فرأيناه قد نسق كلامه على هذا العظيم ورتبه ترتيباً مقبولاً صوَّره للقارئ أحسن تصوير وتطلب من طابعها صاحب مكتبة الشرق في أورنبورغ. اللزوميات اختار موسى أفندي بيكييف من أفاضل قازان أبياتاً كثيرة من لزوميات أبي العلاء المعري ونقلها إلى التركية كما فعل أمين أفندي الريحاني فاختار أبياتاً منه ونقلها شعراً إلى اللغة الإنكليزية. فجاءت في زهاء مائتي صفحة مطبوعة طبعاًُ متقناً على نفقة مكتبة الشرق في أورنبورغ وترجمة أمثال هذه الكتب يساعد أبناء تلك البلاد على تعلم العربية فعسى أن يكثر القائمون بنهضة أهلها من نقل بعض الكتب العربية المفيدة إلى لغتهم وينشروها مع أصلها كما فعل مترجم اللزوميات.

ليالي سطيح نشر حافظ أفندي إبراهيم الشاعر الاجتماعي الكبير قصة نثرية رواها عن لسان سطيح الكاهن فجاء فيه كلام لطيف على العادات المصرية والأحوال الاجتماعية والسياسية في مصر والسودان صورها تصويراً بديعاً وأودعها من أفكاره ودرر نثاره ما رآه نافعاً وثميناً ومما ننتقده عليه اعتماده على التسجيع في بعض محال من كتابه بحيث كاد يخل بأسلوب البلاغة والفصاحة ولم يناسب العبارات المهذبة التي جاءت في عرضه. أما مرامي الكتاب فكانت أعم نفعاً لو خلت من الغلو في مدح أشخاص والإيغال في الحط من آخرين وكتاب بكتب لينفع الناس في اجتماعهم لا يصح أن يظهر فيه شيء من هذا القبيل. ومنتقدنا عليه من الألفاظ ما يقع مثله لأكثر كتابنا وشعرائنا مثل قوله التنكيت وهولم يرد في اللغة. وقوله كنتم منذ بضع سنين لا تجارون ستة آلاف عداً وعداً هذه ليست من التراكيب الفصيحة وقد وقعت في كلامه أربع مرات وهي من عبارات الجرائد واستعمل لفظة منتزه والضمائر والقواميس والتكتيك والظروف والنقط وحصل بها وجهاراً نهاراً وضحى مصلحة أمة وصوالح القوم وصوالحنا والصواب أن يقول متنزه والقلوب والمعاجم وعلم التعبية والمصافات والأحوال وكان يمكن الاستعاضة عن النقط في قوله نقط تنفيذ الحكم بتركيب آخر ومثلها حصل بها جهاراً نهاراً. وله أن يقول بدى ضحىة فادى بمصلحة أمة ومصالح القوم بدل صوالحهم. وهذه الخرزات لا تقدح في فضل هذا العقد النفيس. فالنقد لا يوجه إلا إلى الثمين والركاكة لا تعاب إلا في كلام أهل البيان والتبيين. النظرات أصدر مصطفى صادق أفندي الرافعي الشهير الجزء الأول من ديوان جديد له سماه النظرات أودعه مثالاً مما وعاه ديوانه المعروف بديوان الرافعي الذي كان أصدره في ثلاثة أجزاء ـ من ضروب الشعر في الاجتماع والرقائق والمديح والغزل والوصف وقدم له مقدمة في حقيقة الشعر لم يكرر فيها ما أودعه من معناها كل جزء من أجزاء ديوانه السابق. ومعظم قراء المقتبس يعرفون طبقة شعر الرافعي مما نشر له فيه. ومما انتقدناه عليه تسرعه في إخراج الشعر للناس حتى أن بعض أبياته يظهر فيها شيء من الغموض لا يكاد يهتدي إليه القارئ إلا بإعمال النظر كما أنا لا نستحسن إكثاره من الاستعارات

والمجازات على طريقة أكثر الشعراء المحدثين وكتابهم على حين نراها قليلة في شعراء الصدر الأول وكتابه وإن جاءت فإنما تجيء عرضاًُ اعتبر ذلك بكلام ابن المقفع والجاحظ وأبي تمام والمتنبي وغيرهم. ومن الاستعارات البعيدة قوله أشبه شيء بالنور الذي يتألق فيه ماء الصورة وماء الصورة أشبه بماء الملام التي انتقدها البيانيون على أبي تمام ومثلها أجنحة الخواطر وقوله فما أحسن الوجه وهو روضة مصورة وزجاجة منورة وشهادة على الله مزورة وينتقد عليه من الألفاظ الوحشية لفظ مختشب أي غير منقح ومرسل. واختيار لفظ واحد لمعنى واحد لا يحرص عليه في كل اللغات لا في أسماء الفنون والصناعات ونحوها فلا يصح مثلاً أن نقول هات الأداة التي يكتب بها بل نقول هات القلم ومختشب مثل مخشلب التي وردت في شعر المتنبي وسواءٌ في الثقل والوحشية. ومثله قوله رجع بمقصر مما كان يحاول ولنا عن مقصر هذه مندوحة في الاستعمال وكذلك تأنيثه البلد وهو مذكر. وجمعه عادة على عوائد والصواب عادات وعاد وقوله ينطقونها والصواب ينطقون بها وتوريق الشجر والصوب غيراق الشجر والروضة الشجية بمعنى مطربة والشجي المحزن والجرائد تغلط في قولها وكانت الموسيقى تطرب الأسماع بألحانها الشجية والأولى أن يقال المطربة أو ما إليها. وفي الديوان من جيد المنظوم ما يجدر بالأدباء الأخذ منه والنظر فيه خصوصاً والرافعي من الشعراء الذين تفاخر بهم العربية. المسألة الاجتماعية في سورية كتب خير الله أفندي خير الله من أساتذة بيروت هذا الكتاب باللغة الإفرنسية وصف فيه الحالة الاجتماعية وطرق التدريس في سورية قال فيه وإذا كانت الضرورة تقضي بأن نخرج من مدارسنا سوريين لا إفرنسيين ولا إنكليز ولا أميركانيين قضي علينا أن نخرج من النساء كذلك وإلا كانت البيوت جحيماً لا نعيماً. والمدرسة الحسنة التنظيم هي المجتمع المنظم بعينه فإذا لم يكن للمدرسة نظام نافع يجب علينا أن نعمل يداً واحدة على تقويضها من أساسها فخير لنا أن نكون بلا مدارس جملة واحدة من أن تخرج مدارسنا من لا نريدهم من الرجال والنساء. سعت مدارسنا فقد فينا دائرة التعليم ولم تنفحنا مثل ذلك من التهذيب على أن ذاك التعليم نفسه سطحي غير موافق لحاجاتنا. وأجمل الكلام على المعلمين في المدارس والدروس وقال أن المجتمع غير عادل في معاملة

المدرسين وكان عليه أن يعطيهم من الأجر أكثر مما يعطيهم ويرفع مقامهم أكثر مما رفعهم. كما تكلم على إدارة المدارس وترتيباتها وأصولها الصحية وقال أن الواجب أن لا نستسلم للأجانب ونأخذ عنهم قضية مسلمة كل ما يدعون أنه لازم لقوام حياتنا العملية. وأننا يجب أن نضع نظام دروسنا بأيدينا وإلا فإن الدروس التي نتلقاها في المدارس لا تخرج رجالاً تامة أدواتهم بل كثيراً ما تضطرهم إلى الهجرة ولا يكون منهم خير لبلادهم. ومن رأيه أن يعقد مؤتمر وطني أو عام للنظر في إصلاح التعليم حتى لا يسوغ لكل قادم علينا بحجة تعليمنا أن يعبث بعقول فتياتنا على هواه ليجعلهم على مثاله ويقتل في عقولهم الحمية والشجاعة والشعور بالوطنية وعزة النفس لتأتي منهم رؤوس فارغة من التعليم والإحساس مملوءة بالعجب والإعجاب ويجب أن يقرن تعلم اللغة العربية بلغة أجنبية على أن لا يعلم من لغة البلاد إلا ما يتمكن معه التلميذ من الكتابة فيها بسهولة على نحو ما يكتب بالإفرنجية وأن يعلم الأخلاق بأصولها على طريقة موجزة متينة تكون الوطنية شعارها حتى إذا خرج التلميذ من المدرسة يكون عارفاً بحقوقه وواجباته وتاريخ بلاده مجسماً وله فكر إجمالي في التاريخ العام متقناً جغرافية بلاده مع إجمال عن الجغرافية العمومية وبعض مبادئ العلوم لئلا تستولي عليه الخرافات. ورأى أن تعلم العربية بدراسة كتب المتأخرين لأن إنشاءهم وشعرهم أحسن مما كتبه المتقدمون من العرب. وهذا رأي لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم لما عرف من أن المتأخرين هم سبب فساد اللغة والرجوع بالمتعلمين إلى كتبهم رجوع القهقرى وعنده أن يعتني باللغة العامية السورية ويقابل بينها وبين اللغة الفصحى لأن في العامية أشياء لا ينبغي الزهد فيها وأن الواجب تدريس العلوم العربية لتقوى ملكتها في المتعلمين. وتكلم على ما ينبغي للسوري أن يتعلمه من اللغات فجعل المقام الأول للإفرنسبة ثم للإنكليزية فالألمانية فالإيطالية. وأجاد الكلام على التربية وتلقين العادات النافعة وختم بقوله أن مجتمعنا متألم مما صارت إليه حاله وحاجته ماسه على الشفاء مما أصابه والدواء هو الإصلاح وأحسن أداة له إصلاح المدرسة. وقد تجلى لنا من تصفح الكتاب أن مؤلفه ذو خبرة بأمور المدارس ومواد التدريس وحالة المدرسين فنشكر له حسن أدبه في بيان أفكاره وكنا نود أن يكتبه باللغة

العربية ليستفيد منه من كتب لهم أولاً بالذات وعساه أن يقله إليها قريباً ليعم نفعه لأن موضوعه جديد مفيد.

الطالع السعيد

الطالع السعيد من المخطوطات النفيسة التي كادت تعبس بها يد الضياع كتاب الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد لكمال الدين أبي الفضل جعفر بن تعلب الأدفوي المولود في نصف شهر شعبان سنة 685 والمتوفى في سابع عشر شهر صفر سنة 748 ألفه بإشارة من شيخه أثير الدين أبي حيان النحوي الأندلسي وقصره على تراجم النابغين من إقليم قوص وما يتبعه من البلدان والقرى وهو أول ما ألف من نوعه خاصاً بأهل الصعيد. ولم يكن بمصر من نسخ هذا الكتاب غير اثنتين بدار الكتب الخديوية كلتاهما ناقصة وما زلت في شوق إليه وبحث عنه حتى ظفرت بنسخة منه كاملة كتبت سنة 880 برسم الفقيه مجد الدين أبي عبد الله بن شرف الدين حمزة الخطيب الواعظ وهي كغالب المخطوطات لا تخلو من التحريف والتصحيف خصوصاً في مواضع أهمل الناسخ إعجامها فلا تتيسر قراءتها إلا بضرب من العنت وتدقيق النظر. افتتح المصنف كتابه بمقدمة تشتمل على مسافة هذا الإقليم وتفصيل ما اختص به من المزايا فذكر أن مسافته تبلغ في الطول اثني عشر يوماً بسير الجمال السير المعتاد وتبلغ في العرض ثلاث ساعات وأكثر أو أقل تبعاً للأماكن العامرة وأنه ينقسم إلى كورتين يفصل بينهما النيل فالشرقية منهما تتصل شرقاً بالبحر الملح (هو بحر القلزم المسمى الآن بالبحر الأحمر) وأولها من الشمال أرض أفنو وآخرها من الجنوب أبهر الشرقية بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة وضم الهاء ومن مدنها قنا وقفط وقوص وهي قاعدة الإقليم في عصره وكان بها أربعون مسبكاً للسكر وست معاصر للقصب وبها قباب بأعالي دورها قيل أن من ملك عشرة آلاف دينار يجعل له قبة في داره وإليها تكاتبه ستة ملوك. ومنها الأقصر وأسوان قال وأهلها يوصفون بالمحك في المعاملة وشدة المخاصمة وفيها يقول دعبل بن علي الخزاعي وكان أقام بها والياً كما نقل أهل التواريخ: وإن امرأ أمست مساقط رأيه ... بأسوان لم يترك له الحزم معلما حللت محلاً يقصر الطرف دونه ... ويعجز عنه الطيف أن يتجسما ولهم لغة يجعلون الطاء تاء فيقولون التريق في الطريق والتاق في الطاق ويبدلون الفاء بالباء والباء بالفاء فيقولون ضربته في هذا بعنوان بهذا أهـ. والكورة الغربية أولها شمالاً برديس وآخرها جنوباً أبهر الغربية ومن مدنها أدفو بلد المصنف وعشة الذي درج منه. ثم

أفاض في محاسن هذا الإقليم من عذوبة ماءٍ وطيب هواءٍ ووفرة غلةٍ وكثرة فاكهة قال وأظن مساحة أرض بساتينه ونخله تقارب عشرين ألف فدان ونقل غرائب في حمل أشجاره قد يعد بعضها من المبالغة والغلو ولا غرو فكل فتاة بأبيها معجبة. وذكر في معادنه معدن البروم بالقرب من قنا ومعدن الزمرد وحجر البازهر والنفط والنطرون والرخام ومن معاهد العلم ست عشرة مدرسة بقوص وثلاثاً بأسوان واثنتين بأسنا وواحدة بالأقصر وأخرى بأرمنت واثنتين بقنا وواحدة بهو وأخرى بقمولا. أما ترتيب الكتاب فعلى حروف المعجم ابتدأه بإبراهيم وختمه بيونس وذيله بباب في الكنى ذكر به من كنيته اسمه وغالب تراجمه مختصرة يقتصر فيها على المولد والوفاة وشيء من أخبار المترجم وروايته إن كان من المحدثين. على أنه خالف ذلك في البعض فأطال فيهم كالنويري صاحب نهاية الإرب والرشيد بن الزبير وأخيه المهذب الشاعر والتاج بن المفضل وعبد الرحمن النخعي وذكر من سعة تبحره في الفقه أن الفتوى كانت ترفع إليه ورجله في الركاب فيكتب عليها بدون توقف وابن الحاجب مؤلف الكافية وقيصر المعروف بتعاسيف العالم الرياضي الذي عمل لسلطان حماه كرة عظيمة صور عليها الكواكب المرصودة وصنع له طاحوناً على العاصي وبنى له أبراجاً وتحيل فيها بحيل هندسية ومجد الدين بن دقيق العيد وابنه تقي الدين الإمام المشهور وترجمته أطول ترجمة في الكتاب والقفطي صاحب التاريخ وغيرهم ممن استحقت أعمالهم إطالة الكلام فيهم. ولم يهمل النساء فذكر منهم من اشتهرن بالعلم والفضل كتاج النساء ابنة عيسى القوصية وأختها مظفرية وخديجة بنت علي بن وهب ورقية بنت محمد بن علي بن وهب وكلهن من أسرة بني دقيق العيد. وأعجبني منه التزامه الصدق وميله مع الحق فيما كتب فترجم كل إنسان بما له وعليه حتى تقي الدين بن دقيق العيد لم يمنعه ذكره لمناقبه وحسناته وشهادته له ببلوغ رتبة الاجتهاد من أن يقول فيه: ولكنه تولى القضاء في آخر عمره وذاق من حلوه ومره وحط ذلك عند أهل المعارف والأقدر من قدره وحسن الظن ببعض الناس فدخل عليه إلباس وحصل له من الملامة نصيب والمجتهد يخطئ ويصيب ولو حيل بينه وبين القضاء لكان عند الناس أحمد عسره ومالك دهره الخ. . وترجم عبد القادر بن المهذب وهو ابن عمه فوصفه بالذكاء

النادر وسعة الإطلاع إلا أنه أنحى عليه لسوء عقيدته وقال في آخر ترجمته ومرض فلم أصل إليه ومات فلم أصلِّ عليه. وفي الكتاب رسائل وخطب وقصائد ومقطعات لا تخرج عن الأسلوب المألوف لأهل ذلك العصر ومنها وصية لجلال الدين الدشنائي كتبها لابنه تاج الدين يقول فيها: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً. يا بني أرشدك الله وأيدك أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها وحافظت عليها رجوت لك السعادة في دينك ومعاشك بفضل الله ورحمته إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله. أولاها وأولاها مراعاة تقوى الله تعالى تحفظ جوارحك كلها من معاصي الله عز وجل حياء من الله والقيام بأوامر الله عبودية لله. ثانيتها لا تستقر على جهل ما تحتاج إلى علمه وثالثتها أن لا تعاشر إلا من تحتاج إليه في مصلحة دينك ومعاشك. وراعتها أن تنصف من نفسك ولا تنتصف لها إلا لضرورة وخامستها أن لا تعادي مسلماً ولا ذمياً وسادستها أن تقنع من الله بما رزقك من جاه ومال وسابعتها أن تحسن التدبير فيما في يديك استغناء به عن الخلق وثامنتها أن لا تستهين بمنن الرجال عليك وتاسعتها أن تقمع نفسك عن الخوض في الفضول بترك استعلام ما لم تعلم والإعراض عما قد علمت وعاشرتها أن تلقى الناس مبتدئاً بالسلام محسناً في الكلام منطلق الوجه متواضعاً باعتدال مساعداً بما تجد إليه السبيل متحبباً إلى أهل الخير مدارياً لأهل الشر متبعاً في ذلك السنة اللهم أهله لامتثالها. وغالب ما ورد فيه من المنظوم أشبه بشعر العلماء منه بشعر الشعراء على أنه لا يخلو مما يستجاد كقول الأمير مجير الدين بن تميم اللطمي: أعيذك أني بين أهلي وجبرتي ... وحيد لديهم عادم ودٍّ مشفق اقلب طرفي لا أرى لي مؤنساً ... لعمرك فيهم غير طرس منمق يحدثني عن حسن أحوال من مضى ... ويخبرني عن قبح أحوال من بقي وقول تفي الدين بن دقيق العيد: تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرَّب مني في صباي مزاره لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره وقول فتح الدين القنائي:

بعادم علم الطرف السهادا ... ونفر عنه في الليل الرقادا وبات بليل أرمد ليس يرجو ... لليل بات يشهره نفادا كأن الليل فارقه حبيب ... فلم ينزع لفرقته الحدادا فما للدهر لا ينفك يهوى ... مخالفة الذي أهوى عنادا يباعد من أريد له دنواً ... ويدني من أريد له بعادا كأن عليه ميثاقاً ووفى ... به أن لا يبلغني المرادا ومن طريف ما رواه أن ناظم هذه الأبيات ادعى أنه كان ينظم القصيدة ويجعلها في ديوان أبي تمام ثم يعرضه على الناس فلا يميزون بين الشعرين فقال له أحد الأدبلاء أنت لا تمدح شعرك وإنما تذم الناس. وقول أنجب الدين الإسنائي: ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود هكذا نسبهما لأنجب الدين نقلاً عن العماد في الخريدة. قلت وقد وهم الشيخان فالبيتان لولادة بنت المستكفي لا يكاد يختلف في ذلك اثنان وقد وقفت على أوهام من هذا القبيل فرطت من بعض الأئمة فنسبوا أشياء لغير قائليها أما لاشتباه في الأسماء أو لسهو عرض وحلّ من لا يسهو وربما أفردت نبذة لذكرها إن شاء الله. ومن غريب ما رأيته فيه من المنظوم نوع من الزجل تكرر ذكره سماه المصنف (بليقة) وجمعها على بلاليق مما يدل على أن اللام في المفرد مشددة ولا أدري أكانت البليقة تطلق عندهم على كل ما نسميه اليوم زجلاً أو هي خاصية بنوع منه فمنها قول هبة الله الأفودي وقد سئم من قراءة الفصول لابن معظ في النحو: يا قوم واش هذا الفضول ... نقرا الفصول الملحة نقرا يا فلا ... أو مختصر شيت والبيان=هذا يجنن بالضمان لسائر أرباب العقول من قوله معد يكرب ... القلب أضحى منكرب=وبيت عقلي قد خرب وشرح حالي فيه يطول

من صحروات مع حبليات ... ومد وشد مع حات بات=من الذي عنده ثبات يفهم مفاعيل مع فعول ومنها مطلع بليقة لبعضهم في هجو قاض: قاضي القضاة أعزل نفسه ... لما ظهر للناس نحسه ولا يستقيم الوزن إلا بإسكان آخر الكلم كما تنطق العامة. ومما استفدته من هذا الكتاب عثوري فيه على كلمات عامية مستعملة إلى الآن بمصر أدمجها المصنف في عبارته مما يدل على أنها أقدم في الاستعمال من عصره حتى صارت من المألوف عندهم وإلا لما جرى بها قلم مثل هذا الإمام في مثل هذا التأليف. وبالجملة فمحاسن الكتاب كثيرة وفوائده غزيرة فلعل أحد المشتغلين بالطبع من الوراقين يتنبه له فيطبع ليعم نفعه. القاهرة أحمد تيمور

جالينوس العرب

جالينوس العرب أو أبو بكر الرازي ألا لفتة منا إلى الزمن الخالي ... فنغبط من أسلافنا كل مفضال تلونا أناساً في الزمان تقدموا ... وكم عبرة فيمن تقدم للتالي ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم ... فقد درست ألا بقية أطلال تتطلبتمو صفو الحياة وأنتمو ... بجهل وهل تصفو الحياة لجهال وما أنتمو إلا كسكران طافح ... تحسى من الصهباء عشرة أرطال مشى بارتعاش في الطريق فتارة ... يقوم وأخرى ينهوي فوق أوحال يمد إلى الجدران كف استناده ... فتقذفه الجدران قذفة إذلال ويفتح للطراق مقلة حانق ... فيغمضها خزيان عن شتم عذال رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم ... وأوسعتهم عذلاً فلم يجد تعذالي فهاج البكا يأسي فلما بكيتهم ... بدمعي حتى بلَّ دمعي سربالي نظرت إلى الماضي وفي العين حمرةٍ ... كأن على آماقها نضج جريال فشمت بروق الأولين منيرةً ... على أفق من ذلك الزمن الخالي تنورتها في أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال وقلبت طرفي في سماء رجالها ... وهم فوق عرش للجلالة محلال فآنست آثاراً وهم سلك درها ... وأبصرت أعمالاً وهم جيدها الحالي ولما طويت الدهر بيني وبينهم ... على بعد أزمان هناك وأجيال قعدت بأوساط القرون فجاءني ... (أبو بكر الرازي) فقمت لإجلال فتى عاش أعمالاً جساماً وإنما ... تقدر أعمار الرجل بأعمال حكيمٌ رياضيٌ طبيبٌ منجمٌ ... أديب وفي الكمياء حلال إشكال أتى فيلسوفاً للنفوس مهذباً ... بأفضل أفعال وأحسن أقوال لقد طبب الأرواح من داء جهلها ... كما طبب الأجسام من كل إعلال مولده

تولد عام الأربعين الذي انقضى ... لثالث قرن ذي مآثر أزوال إلى زكريا ينتمي أنه له ... أب تاجر في الريّ صاحب أموال على حين كانت بلدة الريّ غادةً ... إلى العلم يعطو جيدها غير معطال مدارس بالشبان تزهو ودونها ... كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال بها جل درس القوم طب وحكمة ... وفلسفة فيها لهم أي إيغال وكانت نفيسات الصنائع عندهم ... يحاولها ذو الفقر منهم وذو المال وما كان هذا الحال في الريّ وحدها ... بل الحال في البلدان طر كذا الحال فإن هدى الإسلام أنهى فتوحه ... وأوصلها للحد أحسن إيصال وبدل أبطال الحرب من الورى ... بأبطال علم للجهالة قتال فدارت رحى تلك العلوم وقطبها ... ببغداد مركوز بربوة إجلال وكانت يد المأمون في ذاك أخجلت ... لسنا العلى في شكره أي إخجال منشؤه تدرج في تلك المدارس ناشئاً ... مترجمنا يسعى بجد وإقبال تعلم فن الصوت بديء بدئه ... ومارس تفضيلاً به بعد إجمال فكانت بموسيقى اللحون دروسه ... تغني بإهزاج وتشدو بإرمال وقد جاوز العشرين سناً ولم يكن ... لشيء سوى فن الغناء بميال فرام أبوه منه تحويل عزمه ... بجذب إلى شغل التجار وإدخال غفال له دعني مع العلم إنني ... إذا ما أمتُّ الجهل أحييت آمالي وهل يستطيع المرءُ شغلاً إذا غدا ... له شاغل بالعلم عن كل إشغال هناك استقى الرازي من العلم شربة ... فجاد بإعلال له بعد إنهال سعى سعيه نحو التعلم بادئاً ... بعلم لدى أهل التفلسف ذي بال وقد كان مفتاح العلوم تفلسف ... تفك به من جهلهم كل أغلال فزاول أنواع العلوم تنقلاً ... بابين أوضاح لها غير أقفال نضا همة في العلم مشحوذة الشبا ... جلت ما لحرب الجهل من ليل قسطال وقد أكمل الطب المفيد قراءة ... على الطبري الحبر أحسن إكمال

سياحته ومذ جاوز الرازي الثلاثين واغتدى ... مدلاً على أقرانه أي إدلال رأى في تمام العلم للمرء أنه ... يسيح بضري في البلاد وتجوال ما العلم إلا بالسياحة إنها ... لمن علموا في علمهم درس أعمال فقام وشد الرحل والغرز وامتطى ... لقطع الفيافي متن هوجاء شملال فجاء بلاد الشام تواً وجازها ... إلى مصر في وخد حثيث وأرقال وخاض عباب البحر للغرب قاصداً ... مواطن للإسلام لم يسلها السالي ففيها اجتلاه العز مذ لاح طالعاً ... لها كهلال يجتلى عند إهلال وحل حلول البدر في السعد نائلاً ... بقرطبة آماله ناعم البال وهب هبوب الريح ثمة ذكره ... يطير على صيت من العلم جوال وودعها من بعد ذلك راجعاً ... إلى مصر لا توديع مستكره قال ومنها إلى بغداد سافر قاطعاً ... إليها الفلا ما بين حل وترحال فألقى عصا التسيار في عرصاتها ... بمغرس عرفان ومنبت أفضال وبغداد كانت وهي إذ ذاك جنة ... بها العلم أجرى منه أنهار سلسال كأن رجال العلم في غرفاتها ... بلابل تشدو غدوة بين أدغال فكم محفل للكتب فيه خزانة ... وكم مرصد دان وكم مرقب عال ولما غدا الرازي ببغداد باسطاً ... من العلم أبواعاً له ذات أطوال أقيم لمارستانها عن كفاءة ... رئيساً بتطبيبي وتدبير أحوال فرتب مرضاه وأصلح شأنه ... بما كان لم يخطر لسابق أجيال وظل به يسعى طبيباً ممرضاً ... ويبذل جهداً لم يكن فيه بالآل ويلقي السريريات وهي مسائل ... لدى سُرر المرضى تقرر في الحال قثد كان يلقيها على القوم ناطقاً ... بأوضح تبيان وأحسن إملال مآثره العلمية لقد أشغل الرازي ببغداد شغله ... عدا الطب فغي الكمياء أعظم أشغال فقضى بها أيامه في تجارب ... وواصل أبكاراً لهن بآصال

فلقب فيها بالمجرَّب حرمةً ... تفرد مخصوصاً بها بين أمثال وأصبح مشهوراً بأسنى مآثرٍ ... من العلم لم يسبق إليها وأعمال فإن أبا بكر لأول مفصح ... إلى الناس بالدرس السريري مقوال وأول من أبدى لهم كيف يبتني ... ويفرش مارستانهم قصد إبلال وألف في المستشفيات مؤلفاً ... تقصى به وصفها دون إغفال ولا تنسى للرازي الكحول فإنه ... يجدد طول الدهر ذكراه في البال ومن عمل الرازي انعقادٌ لسكر ... وما كان في محصوله غير سيال أخلاقه أرى العلم كالمرآة يصدأ وجهه ... وليس سوى حسن الخلائق من جال أخو العلم لا يغلو على سوء خلقه ... وذو الجهل أن أخلاقه حسنت غال ولو وازن العلم الجبال ولم يكن ... له حسن خلق لم يزن وزن مثقال وإن المساوي وهي في خلق عالم ... لا قبح منها وهي في خلق جهال ولكنما الرازي قد ازدان علمه ... بأحسن أخلاق وأشرف أفعال خلائق غرّ إن أردت بيانها ... بدأت بحرف الحاء والميم والدال فتى كان مملوء الجوانح رحمة ... بكل هزيل الجسم من سقم إقلال يزور بيوت البائسين بنفسه ... ويفتقد المرضى بفحص وتسآل ويأتيهم بالمال والعلم مسعداً ... لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال وما كان يقنو المال إلا لبذله ... لتعليم علم أو لإعطاء سؤال وكان حليف الجد لم يأل جهده ... بدحض خصوم العلم من كل هزال فكم راح مخذولاً به متطبب ... سعى كاذباً في طبه سعي إضلال وكان سليماً غي العقيدة ينسبونه ... لزيغ فقد أغناك عنهن إجمالي عوده إلى الري ولما قضى الرازي ببغداد برهة ... مضى قافلاً للريّ شوقاً إلى الآل فلما أتى تلك البلاد غدا بها ... طبيباً لدى المنصور صاحبها الوالي وألف للمنصور إذ ذاك باسمه ... كتاباً حوى في الطب أحسن أقوال

ولم تصف للرازي أواخر عمره ... وعاد أخا همّ شديد وبلبال فقد عميت عيناه من بعد واغتدى ... يجول من الفقر بأسمال وإن عداء الدهر شنشنة له ... يصول بها قهراً على كل مفضال ولما انتهى نحو الثمانين عمره ... قضى نحبه من غير مال وأنسال ولكنه في الناس خلف بعده ... من العلم آثاراً قليلة أمثال فكم كتب أبقى بها الذكر في الورى ... وألفها نسجاً على خير منوال وما ضرّ من أحيا له العلم بعده ... على الدهر ذكراً أنه ميت بال وإني إن أطنبت في بحر علمه ... لمقتصرٌ منه على بعض أوشال وها أنا أنهي القول لا لتمامه ... ولكن لعجزي عن نهوض بأجبال وأجعل هذا الشعر مسكاً ختامه ... بما قال في بيتين معناهما حال لعمري وما أدري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إلى أين ترحالي وأين محل الروح بعد خروجه ... من الهيكل المنحل والجسد البالي بغداد معروف الرصافي

الحسبة في الإسلام

الحسبة في الإسلام وأربعة مخطوطات فيها وصفنا في الجزء السالف المخطوط الأول الذي عثرنا عليه في فن الحسبة وما نحن أولاء نصف المخطوط الثاني. قال في مقدمته: نحمد الله الحسيب الرقيب على نواله إيماناً واحتساباً والصلاة على رسوله محمد الحبيب النسيب وآله ما لا يحصى كتاباً ولا حساباً أما بعد فقد جمع عبده الغريق في بحر فضله الطامي عمر بن محمد بن عوض الشامي ألهمه الله تقواه فيما يكتسب ويجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب في تصنيف هذا الكتاب وهو نصاب الاحتساب مسائل اختصت بالنسبة إلى منصب الحسبة من كتب معتبرة بين الفقهاء معول عليها عند العلماء بعدما تحمل في جمعه نصباً وكمل في قيده نصباً وصرف إلى تنقيحه وتصحيحه مدة وتكلف في ترتيبه وتهذيبه شدة شديدة ليكون للمبتلى آية يعرف بها فيما يحتاج إليه غاية وهو مرتب على أبواب الأول في تفسير اللفظين المتداولين في هذا الكتاب أحدهما الاحتساب والثاني الحسبة فالاحتساب لغة يطلق على معنيين أحدهما من العد والحساب ذكر في المغرب احتسب بالشيء اعتد به وجعله في الحساب ومنه احتسب عند الله خيراً إذا قدمه ومعناه اعتده فيما يدخر عند الله وعليه حديث أبي بكر الصديق رضي اله تعالى عنه إني أحتسب خطاي هذه أي أعتدها في سبيل الله وقول النبي عليه السلام من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه أي صام وهو يؤمن بالله ورسوله ويعتقد صومه عند الله والثاني الإنكار على الشيء ذكر في الصحاح احتسبت عليه كذا إذا أنكرته عليه قاله ابن دريد والحسبة معنيين أيضاً أحدهما بمعنى الحساب مصدر كالعقدة والركعة والثاني التدبر يقال فلان حسن الحسبة في الأمر أي حسن التدبير له وفي الشرع هما الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله في كتاب أحكام السلطان ووجه الاستعارة أما الاحتساب فلأنه إن كان من الاحتساب بالمعنى الأول وهو يتعدى بالباء فهو يحتسب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الله أجراً فكان من قبيل تخصيص العام وإن كان من قبيل الإنكار فهو من قبيل تسمية المسبب بالسبب لأن الإنكار على الغير سبب للأمر بإزالته وهو الاحتساب لأن المعروف إذا ترك فالآمر بإزالة تركه آمر بالمعروف والمنكر إذا فعل فالأمر بإزالته هو النهي عن المنكر.

أما الحسبة فلأنه إن كان بمعنى الاحتساب فهو نظير الأول من الاحتساب وإن كان بالمعنى الثاني فهو كذلك وإن كان التدبير عاماً ولكنه أريد به تدبير خاص وهو تدبير إقامة الشرع فيما بين المسلمين وإنما سمي به لأنه أحسن وجوه التدبير فصار كتسمية القود به ثم الحسبة في الشريعة عام يتناول كل مشروع يفعل الله تعالى كالآذان والإقامة وأداء الشهادة إلى كثرة تعدادها ولهذا قيل القضاء باب من أبواب الحسبة وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب وفي العرف اختص بأمور أحدها إراقة الخمور كلها والثاني كسر المعازف والثالث إصلاح الشوارع وذلك باب كبير فيه مسائل إحداها أمر الميزاب والثانية أمر الأوحال والأرداغ والثالثة أمر الدكانجة على الباب والرابع منع جلوس الباعة عليها والخامسة منع سوق الحمير والبقر للخشابين والآجريين ونحوهم والسادسة منع ربط الناس دوابهم فيها والسابعة منع عمارة الحيطان في شيء من الشوارع والثامنة منع شغل هواء الشارع بالجناح ويسمى بون داشت والتاسعة منع المبرز في الجدار بحيث يكون إزالة النجاسة منه بالوقوف في الشارع والعاشرة منع الظلة والرابع في التقسيم الأول النظر بين الجيران في التصرفات المضرة كالنظر وسد الضوء إلا فيما يرجع إلى الملك كغصب قطعة من الأرض والخامس تقويم الموازين والسادس تفحص الصنجات والسابع تنقية دكان الطباخين والخبازين ونحوهم والثامن تفحص نظافة الفقاع ودكانه والتاسع منع إسبال الإزار ونحوه على الكعبين والعاشر زجر الناس عن الغناء والنوحة والحادي عشر منه الرجال من التشبه بالنساء ومنع النساء عن التشبه بالرجال والثاني عشر أمر التنبوليين بطهارة مائهم وثيابهم وتنقية نورتهم عن الحصاة والثالث عشر إحراق المعازف وكسرها يوم الأضحى في المصلى وغيرها والرابع عشر منه الناي عن تطيير الحمامات والخامس عشر منع البغايا وتعزيرهن ومنع أوليائهن ومواليهن وأزواجهن والسادس عشر أمر أهل الذمة بتطهير الأواني التي يبيعون فيها المائعات من الدهن واللبن والسابع عشر أمر الغسالين بإقامة السنة واجتناب البدعة في غسل الموتى وحفر القبور والحمل وزجرهم عن الغلاء في أخذ الأجرة ونصب الصلحاء وذوي الخبرة بهذه الأمور في هذه المصلحة والثامن عشر تفحص الجامع يوم الجمعة والمصلى يوم العيدين وإخلاؤهما عن البيع والشراء ومنع الفقراء عن التخطي ومنع القصص المفتراة ومنه النساء السائلات عن الدخول ومنع الصبيان

والمجانين فيه والتاسع عشر دفع الحيوانات المؤذية عن العمرانات كالكلاب العقور والعشرون النهي عن النجس (والأمر بالتنظيف) والحادي والعشرون منع الناس عن الوقوف في مواضع التهم كتحدث الرجال مع النساء في الشوارع والثاني والعشرون منع النقاشين والصباغين والصواغين عن اتخاذ تماثيل ذات الروح وكبر الصور. والثالث والعشرون منع المسلمين عن الاكتسابات الفاجرة كاتخاذ الأصنام والمعازف والصنج وبيع النبيذ والبختج والرابع والعشرون منع الطباخين والخبازين في أول نهار رمضان عن بيع الطعام على مثال غير رمضان والخامس والعشرون منع الناس عن اتخاذ القبور الكاذبة وخروج الناس إلى زيارة بعض المتبركين أو بعض المساجد على مشابهة الخروج إلى الحج والسادس والعشرون منع النساء عن التبرج والتفرج بالخروج إلى النظارات وزيارة القبور والسابع والعشرون منع الناس عن التصرفات في المقابر بلا ملك والثامن والعشرون منع المطلسمة والسحار والكهان عن منكراتهم والتاسع والعشرون نهي أصحاب الحمام عن منكراتهم وأمرهم بتطهير المياه وإخلاء الحمام عن المرد ودخول العراة فيه ونهي الحجام عن حلق العانة واللحية وأمرهم باتخاذ الحجاب بين الرجال والنسار الثلاثون منع أهل الذمة عن الركوب بهيئة المسلمين ولباس الصالحين واتخاذهم معابدهم في بلاد المسلمين الحادي والثلاثون منع المسلمين عن الدخول في معابدهم للتبرك والتماس الحوائج من نساكهم والثاني والثلاثون منه الناس عن الترسم برسوم الكفار في ولادتهم ومرضهم وصحتهم وصحة صبيانهم وعماراتهم وزراعاتهم وركوبهم في البحر والثالث والثلاثون منه الناس عن تعلم علم النجوم مما لا يحتاج إليه في الدين وتصديق الناس للكهنة والمنجمين والرابع والثلاثون منع الناس عن بدعة ليلة البراءة. والخامس والثلاثون منع أهل الذمة عن إظهار شعائرهم في مواسمهم في بلاد المسلمين والسادس والثلاثون منه الناس اللعابين بالنرد والشطرنج وتفريق جمعهم وأخذ بساطهم وتماثيلهم السابع والثلاثون منع القوابل عن إسقاط جنين الحوامل والثامن والثلاثون منع الجراحين عن الجب والخصاء في الناس والتاسع والثلاثون منع الحجامين عن مس الأجنبيات إلا لضرورة لا بد منها وعن حجامة الحبالى في أوان مضرتها بالحجامة والأربعون منع الناس من الإقامة في المساجد ووضع الأمتعة فيها والحادي والأربعون منع الذي مسه الشيطان باللمم عن التكلم بالغيب واجتماع

الناس عنده زاعمين أنه صادق في أخباره بالغيب وهو كفر واستحل له والمصدق به مرتد والثاني والأربعون منع الخطاط ومعلم القرآن ومعلم النحو بأجر عن الجلوس في المساجد الثالث والأربعون منع المعلم ونحوه عن أخذ شيء باسم النيروز والمهرجان والرابع والأربعون تعزير الآبق وإن كان من باب الاحتساب لإجماع الصحابة رضي الله عنهم. هذه أبواب الكتاب الثاني وهي كما تراها مخالفة للأول من وجوه وموافقة له من أكثر الوجوه. أما الكتاب الثالث فهو: نهاية الرتبة في طلب الحسبة تأليف الشيخ عبد الرحمن ابن نصر بن عبد الله بن محمد الشيزري الشافعي قال في أوله بعد البسملة والحمد له والصلاة: وبعد فقد سألني من استند لمنصب الحسبة وقلد النظر في مصالح الرعية وكشف أحوال السوقة وأمور المتعيشين أن أجمع له مختصراً كافياً في سلوك نهج الحسبة على الوجه المشروع ليكون عماداً للسياسة وقواماً للرياسة فأجبته إلى ملتمسه ذاهباً إلى الوجازة لا إلى الإطالة وضمنته طرفاً من الأخبار وطرزته بحكايات وآثار راجياً بذلك ثواب المنعم يوم الحساب واقتصرت فيه على ذكر الحرف المشهورة دون غيرها لمسيس الحاجة إليها وجعلته أربعين باباً يجري المحتسب على مثالها وينسج على منوالها وهي نهاية الرتبة في طلب الحسبة. وقد جعل في الأول الكلام فيما يجب على المحتسب من شروط الحسبة ولزوم مستحباتها والثاني النظر في الأسواق والطرقات والثالث معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم قال فيه: لما كانت هذه أصول المعاملات وبها اعتبار المبايعات لزم المحتسب معرفتها وتحقيق كميتها لنفع المعاملة بها من غير غبن على الوجه الشرعي وقد اصطلح أهل كل إقليم وبلد في المعاملة على أرطال تتفاضل في الزيادة والنقصان سيما أهل الشام خاصة وسأذكر من ذلك ما لا يسع المحتسب جهله ليعلم تفاوت الأسعار أما القناطير القنطار الذي ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم فقد قال معاذ بن جبل هو ألف ومائتا أوقية وقال أبو سعيد الخدري ذهباً وأما القنطار المتعارف عليه فهو مائة رطل والرطل ستمائة وأربعة وثلاثون درهماً وهو اثنا عشر أوقية والأوقية سبعة وخمسون درهماً هذا رطل شيراز (شيزر) الذي رسمه فيها بنو منقذ وأما رطل حلب فهو سبعمائة وأربعة وعشرون درهماً وأوقيتها ستون درهماً ورطل دمشق ستمائة درهم وأوقيتها خمسون درهماً ورطل حمص

سبعمائة درهم وأربعة وتسعون درهماً وأوقيتها سبعة وستون درهماً وحبة وثلثا حبة ورطل حماه ستمائة وستون درهماً والرطل البغدادي نصف المن والله اعلم. فصل وأما المثقال فهو درهم ودانقان ونصف وهو أربعة وعشرون قيراطاً وهو خمسة وثمانون حبة والدرهم الشامي ستون حبة وقد اختلف صنج الشام أيضاً فالمثقال بمحروسة شيزر يزيد على مثقال حلب نصف قيراط ومثقال حماه مثل الشيرزي ومثقال دمشق يزيد على الشيزري ومثقال المعرة مثقال الدمشقي. فصل وقفران المكيلات ومكاكيكها مختلفة أيضاً فالقفيز بمحروسة شيزر ستة عشر كيلاً وهو مكيال متعارف فيها يسمع رطلاً ونصفاً بالشيزري والقفيز الحموي ينقص عن الشيزري شنبلان والقفيز الحمصي مثل الحموي والمكوك الحلبي يزيد عن القفيز الشيزري ثلاثة شنابل والمعري مثله وهو أربع مرازب من كل مرزبان أربعة أكيال بالحلبي والغرارة ثلاثة مكاكي بالحلبي وجميع ما ذكرته غير مستقر في جميع الأزمان وإنما اصطلح كل قوم على شيء في زمن كل سلطان ثم يغير ذلك بتغير السلطان. وتكلم في الباب الرابع على معرفة الموازين والمكاييل وعيار الأرطال والمثاقيل وفي الخامس على الحسبة على الحتويين والدقاقين والسادس في الحسبة على الخبازين ثم الفرانين فصناع الزلابية فالجزارين والقصابين فالشوايين فالرواسين فقلايي السمك وفالطباخين فالهرايسيين وفالنقانقيين فالحلوانيين فالصيادلة فالعطارين فالشرابيين فالسمانين فالرزازين فالدلالين والمنادي فالحاكة فالخياطين فالقطانين فالكتانيين فالحريريين فالصباغين فالأساكفة فالصيارف فالصاغة فالحدادين فالبياطرة فنخاسي العبيد والدواب فالحسبة على الحمامات وقوامها وذكر منافعها ومضارها ثم الحسبة علا الفصادين والحجامين والأطباء والكحالين والمجبرين والجرايحيين ومؤدبي الأطفال والحسبة على أهل الذمة. وفي الباب الأربعين جمل وتفاصيل من الحسبة ذكر فيها ميالزم المحتسب فعه من أمور الحسبة في مصالح الرعية غير ما ذكره فمن ذلك السوط والدرة والطرطور أما السوط فيتخذه سوطاً لا بالغليظ الشديد ولا بالرقيق اللين بل يكون سوطاً بين سوطين حتى لا يؤلم الجسم ولا يخشى منه غائلة وأما الدرة فتكون من جلد البقر والجمل محشوة بنوى التمر وأما الطرطور فيكون من اللبد منقوشاً بالخرق الملونة مكللاً بالخرز والودع والأجراس

وأذناب الثعالب والسنانير وتكون هذه الآلة كلها معلقة على دلبة ليشاهدها الناس فترعد منها قلوب المفسدين وينزجر بها أهل التدليس. وعدد أوراق هذا الكتاب 33 صفحة وهو بخط مقروء لم تكتب سنة كتابته ولا تاريخ تأليفه والصحة تغلب عليه بالجملة. أما الكتاب الرابع فهو المعروف باسم نهاية الرتبة في طلب الحسبة أيضاً تأليف محمد بن أحمد بن بسام المحتسب قال في مقدمته بعد البسلمة والحمد له والصلاة: قال الله تعالى الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور فأمر بذلك مع القدرة عليه والتمكن منه ومن الأمر بالمعروف أيضاً نصفح أحوال السوقة في معاملاتهم واعتبار موازينهم وغشهم ومراعاة ما تجري عليه أمورهم وقال تبارك وتعالى ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وقال عز من قائل حكاية عن بيه شعيب عليه السلام ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين وقد رأيت المؤلفين من المتقدمين سبقوا إلى ذكر كثير مما يحتاج إليه وينتفع به ولم أجد أحداً منهم ذكر ما ينبغي ذكره من الغبن والفحش والخيانة بين الناس في المعاملات والمبايعات. وقد قسم كتابه إلى مئة وأربعة عشر باباً: (1) فيما يجب على المحتسب من أمور الحسبة، (2) في النظر في الأسواق والطرقات (3) في الخبازين والخبز (4) في السقايين والماء (5) في الشسوقية وغشهم (6) في جزاري الضأن والمعز وغيرهم (7) في الشوائين وتدليسهم (8) في الهرايسيين وغشهم (9) في الزلبانيين وغشهم (10) الرواسين وغشهم (11) الطباخين وغشهم (12) الحلوانيين وغشهم (13) هرايسي التمر وغشهم (14) الباقلانيين وغشهم (15) السماكين وحماليه (16) الملح والصبر والبوري (17) قلائي السمك (18) الطيور وصياديها (19) الطحانين وغشهم (20) الفرانين (21) الحطابين (22) القصابين (23) الجبانين (24) الجبارين (25) الحمامات (26) الغزالين (27) الكتانيين (28) الحريريين (29) القطانين (30) القلانسيين (31) الخياطين (32) سماسرة البز (33) البزازين (34) الغسالين (35) القصارين (36) المرزين (37) الرفائين (38) الصيادلة والعقاقير (39) الأشربة والمعاجين (40) العطر والعطارين (41) الصيارف

(42) الصباغ والصباغين (43) الأطباء والفصادين (44) الكحالين والكحل (45) المجبرين (46) الجرايحيين (47) البياطرة (48) صباغي الحرير والغزل (49) الخزازين وصناع الشراك (50) الأساكفة وصناع الخفاف (51) عمل الإسقاط وغيره (52) عمل البطط (53) الحناطين والعلافين (54) صنعة السرابات (55) الزتهار وغشه (56) الأبزار والإبزاريين (57) السماسم وبايعيه (58) الخشب وباعته (59) الزفاتين (60) الحدادين (61) السامريين وغيرهم (62) النحاسين وسباكي النحاس (63) النجارين والبنائين والفعلة والنشارين (64) نجاري الضبب (65) نجاري المراكب (66) النخاسة باعة العبيد (67) النخاسين باعة الدواب (68) الطوابين وغشهم (69) الدلالين ودلالي العقارات (70) تقديرات المراكب (71) باعة الفخار (72) سقائي البرام (73) الزجاجين وغشهم (74) معلمي الصبيان من الفقهاء ومعلمات البنات (75) الدهانين وغشهم (76) المكارية وغشهم (77) النحاتين والمصولين في التراب (78) كساحي السماد وحمالته (79) الغرابيل ومناخل الشعر (80) حافري القبور (81) الوراقين والمبهرجين (82) فيمن يكتب الرسائل على الطرق والرقاع والدروج (83) كتاب الشروط (84) الوكلاء بأبواب القضاة وتدليسهم (85) الميازين ومضرتها (86) إصلاح الجوامع والمساجد (87) قراءة القرآن قدام الموتى (88) غسالي الموتى (89) المراصد والمراقب (90) طباخي الولائم (91) معرفة الموازين (92) معرفة المكاييل (93) معرفة مثاقيل الذهب (94) معرفة الأرطال والقناطير (95) معرفة الأقساط (96) معاصر الزيت وغشها (97) التبن والتبانين (98) القرط والقراطين (99) الأنماط (100) صناع الأخمرة (101) الحصر العبداني (102) اللبود واللبادين (103) الأرجوان وصباغه (104) العصارة (105) الأبارين (106) الحلفاء (107) المحامل وصناعها (108) الروايا والقرب (109) الدباغين (110) في أهل الذمة (111) التعزير (112) مجالس الحكام (113 مجالس الولاة والأمر لهم بالمعروف والنهي عنالمنكر. هذا فهرست كتاب الحسبة وأنت ترى فيه كما رأيت في الكتاب الأول بعض أسماء صناعات لا عهد لنا بها اليوم مثل عمل البطط ونجاري الضبب وغيرهما وهناك عشرات من الفصح والمفردات التي نكاد لا نجد له مرادفاً في العربية اليوم إذا عربنا أو كتبنا في

مثل هذه الموضوعات كضروب الآنية والماعون. قال في الفصل الرابع من السقايين وغشهم: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ويعرفه أنه لما كانت الأمواج تجيب الأوساخ والأقذار إلى الشطوط وجب أن تكون يدخل السقاؤن في الماء إلى أن يبعدوا عن الأوساخ وأن لا يستقوا من مكان يكون قريباً من سقاية ولا مستحم ولا مجراة حمام ومن اتخذ منهم راوية جديدة فلينقل بها الماء إلى الطين أياً فإن ماءها يكون متغير الطعم والرائحة من أثر الدباغ فإذا زال التغير أذن له المحتسب في بيع مائها وينبغي أن يكون في أوساطهم التبابين ليستروا عوراتهم وسقاة الماء بالكيزان أصحاب القرب يؤمرون بنظافة أزيارهم وصيانتها بالأغطية وتغطية قربهم التي يسقون منها في الأسواق بالميازر ويمنعهم أن يسقوا بكيزانهم المجذم والأبرص وأصحاب العاهات والأمراض الظاهرة وجلاء الكيزان النحاس كل ليلة وتطيب شبابيكها بشمع المسك واللادن الطيب العنبري وافتقاد الخوابي بالبخور والغسل كل ثلاثة أيام. وقال في جزاري الضأن والمعز والإبل والقصابين وغشهم: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ثقة من أهل معيشتهم ثم بعد ذلك يستحب أن يكون الجزار مسلماً بالغاً عاقلاً يذكر اسم الله على كل ذبيحة وأن يستقبل القبلة وأن ينحر الإبل معقوله من قيام والبقر والغنم مضجعة على الجانب الأيسر لأن ذلك وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأمرهم أيضاً أن لا يجر الشاة برجلها جراً عنيفاً وأن لا يذبحوا بسكين كالة فإن في ذلك تعذيباً للحيوان وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان ويلزمه في الذبح أن يقطع الودجين والمري والحلقوم ولا يشرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرأ الشاة وتخرج منها الروح لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر منادياً ينادي في المدينة أن لا تسلخ شاة مذبوحة حتى تبرد وتجوز الزكاة بكل شيء إلا الألسن والظفر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزكاة بهما ويمنعهم أيضاً أن لا يذبحوا جملاً يكون مقرح الجسم إلى أن يبرأ جميع ما فيه من القروح وقد كان أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله في سجل مجلد في ديوان الإنشاء بأن لا يذبح من البقر إلا المخلوع الورك والأعور والأعمى والمقلوع السن والمريش العين والمجفون والجرب وكل مشقوق الحافر والمقطوع والمكوي كل شيء كانت عيونه ظاهرة والصحيح الرقاد والمعلوفة إذا كان بها شيء من هذه العيوب المذكورة

فينهاهم المحتسب عن ذلك جميعه وينهاهم أن لا ينفخوا شاة بعد السلخ فإن نكهة ابن آدم تغير اللحم وتزفره ومنهم من يشق اللحم من السفاقين وينفخ فيه الماء ولهم أماكن يعرفونها في اللحم ينفخون فيها الماء فيجب مراعاتهم في ذلك ومنهم من يشهر في الأسواق البقر السمان ثم يذبح غيرها وهذا تدليس وأما القصابون فيمنعهم من إخراج توالي اللحم على حد مصاطبه والركبتين فلا يلاصقوا ثياب الناس فيضرون بها ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز من لحوم الضأن وأن لا يخلطوا بعضها ببعض وينقطوا لحوم المعز بالزعفران ليتميز عن غيره وتكون أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع ولحم المعز يعرف برقة لحمه وعظمه وبياض شحمه ويأمرهم أن لا يلصقوا على شيء من سائر اللحوم شيئاً من القزدير فإن الحكماء قد ذكروا بأنه يسمه ولا يخلطوا اللحم السمين بالهزيل بل يباع كل واحد منهما على حدته ويمنعهم أيضاً أن لا يخلطوا شحم المعز بشحم الضأن وعلامة شحم المعز صفو لونه وبياضه وشحم الضأن تعلوه الصفرة وكذلك بطون المعز لا تختلط ببطون الضأن وكذلك الأليات تباع مفردة لا يخالطها جلد ولا لحم وإذا فرغ من البيع وأراد الانصراف أخذ ملحاً مسحوقاً ونثره على القرمة لئلا تلحسها الطلاب أو يدب عليها شيء من الهوام فإذا لم يجد ملحاً وإلا الأشنان والمصلحة أن لا يشارك بعضهم بعضاً لئلا يتفقوا على واحد ويمنعهم أيضاً من بيع اللحم بالحيوان وهو أن يشتري الشاة بأرطال لحم معلومة ويدفع إليه كل يوم ما يتفقان عليه من اللحم فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. وقال في عمل البطط: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً يمنعهم أن يعملوا من جلود الجمال الميتة ويحلفون بما لا كفارة لهم منه أنهم لا يعملونها من الميتة ويفتش دكاكينهم كل وقت وبيان ذلك عليهم أنهم إذا عملوها من الميتة كان لونها مائلاً إلى السواد ويعتبر عليهم بالرائحة وخشونة اللمس وأيضاً أنه لا بد أن يبقى عليه اليسير من الشعر لأن الصانع لا يقدر على إنقاء الشعر من الميتة وما عمل من جلود الميتة يمكن عند جفافه والصواب أن يمنعوا من عمل المصاصات لأن كل من يمص بها لا بد ينزل شيء من بصاقه في أطعمة الناس من الزيوت والعسل وغيرهما وذلك ضرر ووسخ ولاسيما إن كان الفاعل أبخر فالصواب أن يمنعوا من ذلك. وقال في الزتهار وغشه: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً عارفاً بغش صناعاتهم فقد يغش

بالسبك بتربة تعرف بالشمعة تكون إلى الحمرة مائلة بدقيق الرمل حتى ينقل وقد يغش العصفر بالتراب الأحمر وهو يزيده المثل أو قريباً منه فينبغي أن يحلف من يبيعه بما لا لهم منه كفارة أنهم لا يخلطون فيه شيئاً مما ذكرنا ولا يخلطوا دقيق الفول وأيضاً قد ندق قشور الرمان ويغش به الكركم المطحون ويغش أيضاً بالتربة المصرية وقد يغش بالحناء وبالرمل. وقال في نجاري الضبب ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ثقة عارفاً بمعيشتهم بصيراً بهذه الصناعة وينشر جواسيسها وهو باب جليل يحتاج إلى ضبطه لأن فيه حفظ أموال الناس وصيانة حريمهم فينبغي أن يراعي حفظ أموال الناس ويحلفوا بحضرة عريفهم بما لا كفارة لهم منه أن لا يعملوا لرجل ولا امرأة مفتاحاً إلا أن يكونا شريكين مشهورين ويؤمرون أن لا يثقبوا رأس الأبيات لطرح الأسنان التي فيها سريعة الرؤوس مدورة الأسافل مبرودة مجلسة وكذلك أسنان المفتاح مبرودة مجلسة حتى لا يخرب ذكر الغلق لا من فوقه ولا من تحته ويؤمروا أن يغمسوا الأغلاق بالجواسيس المختلفة حتى لا يعمل مفتاح على مفتاح ومن خالف ذلك أدب. هذا ما ساعد عليه المقام من البحث في هذه المخطوطات النادرة وفيها فوائد كثيرة غير التي ذكرناها فعسى أن يتصدى بعض من يهمهم إحياء آثار السلف إلى تمثيلها كلها بالطبع لتستفيد بها اللغة والتاريخ والمدنية والاجتماع والغيض لا يغني عن الفيض والجملة لا تنفع مع التفصيل والله أعلم.

الرومان

الرومان فتح حوض البحر المتوسط صبغة السياسة الرومانية: لم يخطر للرومان أن يفتحوا العالم أولاً حتى أنهم تمهلوا بعد أن بسطوا حكمهم على إيطاليا وقرطاجنة مدة مئة سنة قبل أن يخضعوا الشرق إلى سلطانهم والظاهر أنهم فتحوا فتوحاتهم دون أن يختطوا لها خطة من قبل لأن مصلحتهم كلهم كانت بأن يفتحوا الفتوح ويدوخوا الممالك. فكان يرى الحكام وهم قواد الجيوش من الفتوحات فرصة لنيل علائم التشريف بالظفر الذي يكتب لهم ويكونون على ثقة من الاشتهار بين أمتهم والتأثير فيها. وكان أعظم رجال الحكومة في رومية مثل بابيرويوس وفابيوس وسيبيون الأول والثاني وكانوا من القواد الذين فتحوا الفتوح وكتب الظفر لأعلامهم ويربح الأشراف الذين يتألف منهم مجلس الشيوخ إذا كثر سواد رعايا رومية فيذهبون كما يذهب الحكام لقبول احتراماتهم وهداياهم. وأما الفرسان أي الصيارف والتجار وأرباب المشاريع فإن كل فتح حديث كان لهم بمثابة مشروع جديد يستثمرونه. والأمة نفسها تنتفع من الغنائم التي تؤخذ من العدو وقد رفعت الضرائب بصورة دائمية بعد أن دخلت خزانة الدولة الرومانية كنور ملك مكدونية. أما الجنود فكانوا يقبضون رواتب عالية من قوادهم وقد أخذوا يحاربون البلاد الغنية دع عنك ما كانوا يمدون إليه أيديهم من مال المغلوبين. وعلى هذا فقد فتح الرومان العالم للفوائد المادية أكثر من المجد. قرطاجنة: لما امتد سلطان روية إلى جزيرة صقلية حملت على قرطاجنة وعندئذ بدأت الحروب الفينيفية فحدثت ثلاثة حروب فكانت الحرب الأولى من سنة 264 ـ 241 حرباً بحرية ولا نعرف عنها شيئاً إلا ما روته الأساطير بعد زمن من حدوثها. فذكروا أن الرومانيين لم يملكوا سفناً حربية قط وأنهم جعلوا سفنهم على مثال سفينة قرطاجنة وقامت بالعرض على الشاطئ فأخذوا يمرنون فجذفيهم على استعمال المجاذيف في اليابسة هذه القصة لا أساس لها لأن بحرية رومية قديمة أما الرومان فقد نقلوا أخبار هذه الحرب كما يلي: غلب القنصل دوبليوس الأسطول القرطاجني في ميلي (260) وكان نزل إلى أفريقيا من البحر جيش روماني على عهد الحاكم رجولوس فغلب وتمزق شذر مذر (255) وأشر

رجولوس وأرسل إلى رومية ليعقد الصلح وقرر مجلس الشيوخ إباء الصلح فرجع هذا إلى قرطاجنة حيث قضى نحبه في العذاب ثم حمي وطيس الحرب في صقلية فكتبت الغلبة للأسطول القرطاجني أولاً (249) ثم دمر بالقرب من جزائر إيغات (241) وبعد ذلك حوصر هامليكار في جبل أركيس فوقع على الصلح ودخلت صقلية في حوزة رومية. ونشبت الحرب الثانية من سنة (218 ـ 201) وكان قائدها هنيبال من نسل الأسرة القرطاجنية صاحبة الحول والسطوة في بادكاس وكان قاد أبوه هاميلكار إلى صقلية جيشاً قرطاجنياً في الحرب الفينيقية الأولى ثم عهد إليه أن يفتح أسبانيا وكان هانيبال إذ ذاك طفلاً فصحبه أبوه. وكانت العادة أن تقدم الضحايا للأرباب عندما يغادر الجيش البلاد ويقال أن هاكليكار بعد تقديم الضحايا حلف ابنه أن يكون أبداً عدواً أزرق للرومان. ربي هانيبال وسط الجند فأصبح أحسن قائد وأمهر راجل في حرب. ولم يكن يعرف من الحياة إلا أنه محارب وكانت عنايته منصرفة إلى تعهد حصانه وأسلحته واشتهر أمره كثيراً حتى إذا هلك القائد اسدروبال الذي كان يقود الجيش الإسباني انتخبوه قائداً عليهم دون أن ينتظروا أوامر مجلس الأعيان القرطاجني في ذلك، وهكذا أصبح هانيبال في الحادية والعشرين من عمره قائد جيش لا يطاع أحد سواه فدخل غمار الحروب على الرقم من مجلس الشيوخ في قرطاجنة وراح يحاصر ساغونت حليفة رومية فاستولى عليها وخربها. ومما كتب به المجد لهانيبال أنه عوضاً عن أن ينتظر الرومانيين جرأ على أن يقتحمهم في عقر دارهم في بلاد إيطاليا ولم يكن له أسطول يحمله وجيشه إليهم فعزم على اجتياز البلاد إليهم فقطع جبال البيرنيه ونهر الرون وجبال الألب وضمن لنفسه محالفة الشعوب الغالية وقطع جبال البيرنيه دون أن يلقى فيها مقاومة في جيش مؤلف من ستين ألف مقاتل من الجنود المستأجرة من الفريقيين والأسبانيين ومعه سبعة وثلاثون فيلاً مدربة على الحرب وقد طمع بع الشعب الغالي أن يحولوا بينه وبين المسير في نهر الرون فأرسل فرقة من جيشه تقطع النهر على مسافة بضعة أميال من أعلاه وتهاجم الغاليين من ورائهم على حين يجتاز معظم جيشه النهر على زوارق وتجر الفيلة على أرماث كبيرة. ثم صعد وادي أيزر وانتهى إلى جبال الألب في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) فقطعها على ما كانت مغشاة به من الثلوج وعلى الرغم من غارة السكان الجلبليين عليه فوقع الكثير من الرجال

والخيول في الهاويات. وقضى تسعة أيام لبلوغ قمة جبل الألب وصعب عليه النزول لأن المضيق الذي كان يجب عليهم السير فيه غطته الثلوج فاقتضى لجيشه أن يتخذ له طريقاً يحفره في الصخر ولم يصل إلى السهل إلا وقد أصبح جيشه نصف ما كان. ثم لقي هانيبال ثلاثة جيوش رومانية في مسافة متدانية على شاطئ نهر تيسين وضفة نهر ترييا بالقرب من بحيرة ترازيمين في أوترويا فهزمها كلها وكان كلما تقدم إلى الأمام يزداد جيشه وينضم المحاربون من الغاليين (إيطاليا الشمالية) تحت لوائه ليخدموه وينصروه على الرومانيين. فاجتاز هانيبال إيطاليا واتخذ لنزوله إقليم أيوليا في الجهة الثانية لرومية فهاجمه فيها الجيش الروماني. وكان جيشه نصف جيش ولكن كان معه فرسانه الغريقيون يركبون خيولاً سريعة وقد رابط في سهل (كان) بحيث جعل الرومانيين يقابلون بوجوههم الشمس والتراب الذي تثيره الريح فأحاط الفرسان بالجيش الروماني إحاطة السوار بالمعصم وذبحوه عن آخره (216) وكان يظن أن هانيبال سيزحف على رومية إلا أنه لم يكن على تعبية تامة. وهكذا ظل هانيبال في إيطاليا الجنوبية تسع سنين يحاول أن يفصل عن رومية الشعوب المحالفة لها ولم ينجح إلا بالاستيلاء على بضع مدن حاصرها الرومان وخربوها. وبعد ذلك سافر أخور أسدروبال في جيش أسبانيا للالتحاق به فوصل إلى أوساط بلاد إيطاليا فسار الجيشان القرطاجنيان أحدهما على الآخر يقابل كلاً منهما جيش روماني بقيادة أحد حكام الرومان وكان نيرون محاذياً لهانيبال فجرأ على قطع إيطاليا الوسطى لينضم إلى رصيفه مقابل أسدروبال. ولقد سمع أسدروبال في صبيحة ذات يوم الأبواق تبوق مرتين في المعسكر الروماني وكان في ذلك إشارة إلى أنه كان في المعسكر قنصلان أو حاكمان فوقع في نفسه أن أخاه غلب وانهزم وأن الرومان يطاردونه وأنه قتل وذبح جيشه عن بكرة أبيه ثم رجع نيرون إلى الجيش الذي غادره أمام هانيبال وألقى في معسكر قرطاجنة رأس أسدروبال (207) فلم يبق لهانيبال غير قوته يعتصم بها وأقام خمس سنين في إقليم كالابرا وما أكره على الخروج من إيطاليا إلا لما علم أن جيشاً رومانياً كان نزل إلى أفريقية وأخذ يهدد قرطاجنة فذبح هانيبال الجند الإيطالي الذي أبى الالتحاق به وركب البحر إلى أفريقية (203) وانتهت الحرب بواقعة زاما (203) وكان هانيبال اعتمد بحسب عادته أن يسوق الجيش الروماني إلى الدخول في صفوفه ولكن القائد الروماني سبيون ثبت مع جيشه وما

طكانت إلا هجمة وأختها حتى ركب هذا أكتاف عدوه وهزم جيشه شر هزيمة. فاضطرت قرطاجنة إلى عقد الصلح وتنازلت عن كل ما تملكه خارج أفريقية وتركت أسبانيا للرومانيين. واضطرت زيادة على ذلك إلى تسليم سفنها وفيلتها وأن تدفع مبلغاً من المال يربو عن خمسين مليوناً من الفرنكات وتعهدت بأن لا تعلن حرباً قبل الاستئذان من رومية وكانت عاقبة الحرب الثالثة من سنة 149 إلى 146 القضاء على قرطاجنة فطال حصار الرومان كثيراً لها حتى أخذوها عنوة وجعلوا عاليها سافلها وفتحوا إقليمها وأعمالها وجعلوها ولاية أفريقية خاضعة لسلطانهم. مكدونية والشرق: كان ملوك اليونان أخلاف قواد الاسكندر اقتسموا الشرق وحارب أعظهم سطوة مملكة رومية وغلبوا مثل ملك مكدونية فيليب سنة 197 وابنه برسي سنة 168 وملك سورية أنطيوشوس سنة 190 وهكذا خلا الجو للرومانيين فأخذوا يفتحون البلاد التي يرونها تناسبهم واحدة بعد أخرى فافتتحوا مكدونية سنة 148 ومملكة فرغانة 129 وبقية آسيا من سنة 74 إلى 64 بعد هزيمة ميترايداتس ومصر 30 وما عدا مكدونية لم يندب الشرق لقتالهم غير جنود مستأجرة أو برابرة غير منظمين يتفرقون أيدي سيا لأول صدمة يلقونها. ولم يقتل في الغلبة العظمى على أنطيوشوس في مانيزيا سوى 350 جندياً رومانياً وافتخر سيللا بأنه لم يفقد من جيشه في شيرونيا سوى اثني عشر جندياً. ودخل الرعب قلوب سائر الملوك فخضعوا لسلطان مجلس الشيوخ من دون مقاومة فإن أنطيوشوس العظيم ملك سورية بعد أن فتح جزء من ديار مصر جاءه بوبيليوس مندوباً من قبل مجلس الشيوخ يأمره بالجلاء عما بسط يده عليه من البلاد فتردد أنطيوشوس وكان بيد بوبيليوس مجنة فاختط بها في الأرض خطوطاً حول ملك سوريا وقال له أجب مجلس الشيوخ قبل أن تخرج من هذه الدائرة التي رسمها لك. فلم يسمع أنطيوشوس إلا الخضوع وألقى حبل مصر على غاربها وجاء بروزياس ملك بيتنيا وقد حلق رأسه ولبس ثياب العبد المطلق وركع أمام مجلس الشيوخ الروماني. وحاول ميترايدتس ملك بون أن يقاوم وحده فطرد من بلاده بعد حرب خمس وعشرين سنة (63 ـ 89) واضطر إلى أن يتناول السم ويقول بيدي لا بيد عمرو. إسبانيا وغاليا الجنوبية: لم يستطع الرومان أن يتغلبوا على الشعوب البربرية والمحاربين

في الغرب بأدني سبب كما تغلبوا على غيرهم فقضوا قرناً لإخضاع إسبانيا لسلطانهم. وقد ناوشهم الحرب في جبال البرتقال رجل من الرعاة اسمه فيرياث (149 ـ 139) وهزم خمسة جيوش وأكره أحد قناصل الرومان على عقد الصلح معه ولم يتخلص مجلس الشيوخ من شره إلا بقتله. وأهلك الأريفاكيون وهم شعب صغير في الشمال الشرقي عدة جيوش رومانية واقتضى لرومية أن ترسل أحد قوادها سبيون للاستيلاء على عاصمة تلك البلاد وهي المدينة الصغرى المسماة نومانس. وكانت الشعوب الصغيرة الخاملة في صيتها المعتصمة في جبال جين كثيراً ما تناوش الرومانيين القتال. وكان الغاليون أشد الأعداء على رومية وهم منتشرون في جميع سهل بو ويزحفون على إيطاليا الجنوبية وقد استولت إحدى عصاباتهم على رومية سنة 390 فكان جندهم يدخل الذعر في قلوب الجند الروماني بأجسامهم الضخمة البيضاء وسبلاتهم الطويلة الشقراء وعيونهم الزرقاء وأصواتهم التي تعج فيبلغ صداها عنان السماء. والخوف يستولي على رومية عندما يبلغها مجيء العسكر الغالي فيصدر مجلس الشيوخ أمره بجمع عامة الجند. وكانت هذه الحروب شديدة جداً ولكنها تضع أوزارها في الحال ففي الحرب الأولى استولى الرومان على إقليم غاليا المعروف بسيزالبين أي إيطاليا الشمالية ونشبت الحرب الثانية (120) للدفاع عن مارسيليا حليفة رومية فدمر الجيش الغالي وأخضعت رومية بلاد الرون وشاطيء البحر الرومي (إقليم لانكدوك وبروفانس ودوفينه) عواقب الفتوح سريان الإصطلاحات اليونانية: إن الفتوح هي التي دعت الرومان إلى رؤية الروم والمشارقة عن أمم فاستوطن رومية ألوف من اليونان جاؤوها أسرى أو للإتجار وتعاطى بعضهم الطب وآخرون التعليم وغيرهم العرافة وغيرهم التمثيل. وكان القواد والضباط والجنود الرومانيون يعيشون في آسيا وسط الشعوب التي تتكلم اليونانية فتخلقوا بأخلاق اليونان وهكذا عرف الرومان عادات حديثة ومعتقدات جديدة لم يكن لهم عهد بها وأخذوا يعملون بها على التدريج وقد بدأ هذا التبدل بعد الحرب المكدونية الأولى (200) ودام إلى أواخر المملكة الرومانية. القائدان كاتون وسيبون: بينا كانت الأخلاق تتغير اشتهر أحد رجالهم كاتون باحتفاظه

بعادات أسلافه. ولد هذا الرجل سنة 252 في بلدة توسكولوم وقضى شبيبته في الحرث والكرث وفي السابعة عشرة من سنه دخل في الجيش بحسب العادة المتبعة واشترك في عامة الحملات على هانيبال. ولم يكن من الأشراف ولكنه اشتهر بقوته واستقامته وزهده وقد انتخب مرات وزيراً للمالية وناظراً للأبنية والملاعب وقاضياً وقنصلاً ووكيلاً للإحساء وشغل مناصب الشرف عامة وكان في جميع حالاته على قدم قدماء الرومان قاسياً جافاً محتشماً وقد وبخ قنصله عندما كان وزيراً للمالية وكان القنصل سبيون غالب هانيبال فأجابه لست في حاجة إلى ناظر مدقق مثلك إلى هذا الحد. ولما عين ناظراً للأبنية والملاعب في ساردينيا أبى أن يمس المال الذي دفعته إليه تلك الولاية للنفقة. ولما صار قنصلاًَ تكلم بشدة عن قانون أوبيا القاضي بالحظر على النساء الرومانيات بأن لا يتزين بالحلي الثمينة فظفر النساء بمطلبهن وألغي ذلك القانون. ولما ذهب لقيلدة الجيش الروماني في إسبانيا أتى بأموال طائلة ودفعها إلى خزانة الإمبراطورية وباع حصانه عندما ركب البحر ليقتصد في نفقات نقله ولما عين وكيلاً للإحصاء أسقط من قائمة مجلس الشيوخ عهدة من الأعاظم لما عرفوا به من الترف والبذخ وأحال جباية الأموال الأميرية بثمن عال وقدر حلي النساء وزينتهن وعرباتهن بعشرة أضعاف ما تساوي وبعد أن خفقت له أعلام النصر لم يستنكف من الخدمة في الجيش الروماني ضابطاً بسيطاً. صرف كاتون حياته في مناهضة الأشراف والبغض من بذخهم وترفهم وتجملهم وحمل خاصة على أمثال القائد سبيون متهماً إياه بالاختلاس إلا أنه لم ينج هو أيضاً من إلصاق التهم به فاتهم أربعاً واربعين مرة ولكنه كان يبرأ كلما اتهم. وكان يحرث أرضه مع عبيده ويواكلهم ويضربهم بالعصي منى رآهم يحيدون عن جادة الصواب وقد ذكر في رسالته في الزراعة التي كتبها إلى ابنه جميع ما كان يأتي الفلاحين الرومانيين من الإيرادات ويرى أن من الواجب على المرء أن يغتني وكان يقول: للأرملة أن تصرف من مالها وعلى الرجل أن يزيد وكل من شهدت دفاتر حساباته بعد موته بأنه ربح أكثر مما ورث جدير بالشهرة وملهم من الأرباب ولما رأى أن الزراعة لا تأتيه بأرباح طائلة أخذ يقرض ماله ليجهز به سفناً تجارية واتخذ له خمسين شريكاً جهزوا كلهم معاً خمسين سفينة ليتقاسموا بينهم الأخطار التي تنال سفنهم والأرباح التي تأتيهم بها. وعلى هذا كان كاتون زارعاً

ماهراً وجندياً عظيماً عدواً للبذخ حريصاً على الكسب فهو مثال الروماني الأصيل وأنموذج الفضيلة والثبات. وعلى العكس منه كان القائد سبيون مثالاً للاهتمام بالفنون والأفكار الفلسفية وهو صديق المؤرخ اليوناني بوليب الذي أمسك رهينة في رومية. ولم يكن يهتم بجمع المال وقد دفع إلى شقيقاته دفعة واحدة من المال كان عليه أن لا يدفعه إليهن إلا في أوقات مختلفة وتنازل لأخيه وكان أقل منه مالاً عن حصته في إرث أبيه ولم يخلف سوى كمية قليلة جداً من الأواني الذهبية والفضية. الأخلاق القديمة: مضى زمن طويل على قدماء الرومانيين وهم يتوفرون على زرع حقولهم وقتال عدوهم والقيام بفرائض دينهم حتى كانوا حقاً الريفيين العاملين والجفاة. فكانوا يزرعون جانباً صغيراً منن إقليم لاتيوم ولاسابين وهم من نسل اللاتين والإيطاليين الذين تغلبت عليهم رومية وقد صور لنا الشيخ كاتون في كتاب له في الزراعة شيئاً من أخلاقهم بقوله: كان أجدادنا إذا أرادوا الثناء على رجل يصفونه بأنه زارع ماهر وحراث مجيد وهذا غاية ما يمدح به الإنسان. فكان هؤلاء الزراع أشداء في أعمالهم وأهل طمع في مكاسبهم وتنظيم في شؤونهم واقتصاد في نفقاتهم وبذلك كانوا قوة الجيوش الرومانية. ولطالما تألف منهم مجلس الأمة أيضاً وكانت لهم القوة العظمى في الانتخابات. . فيجيء الأشراف الذين يطمعون في أن ينتخبوا حكاماً إلى ساحة السوق ليهزوا أيدي هؤلاء الفلاحين. رأى أحد المرشحين أنفسهم للانتخابات يد أحد الزراعين وهي شثنة غليظة فسأله: هل تمشي على يديك؟ وكان السائل من الأشراف ينتسب إلى أسرة كبيرو ولكنه لم ينتخب. سكن الرومان بيوتاً ضيقة ذات طبقة واحدة لا نظام في بنائها وكان الأتريوم أهم ناحية من الدار وفيه المكان المقدس وهو مكشوف من أعلاه ينزل منه ماء المطر. والأثاث عبارة عن بضعة صناديق ومقاعد من الخشب. طعامه بسيط مؤلف خاصة من حساء معمول بالبر ومن خبز وبعض بقول وما كانوا يتناولون اللحم إلا في الأعياد وما شرب النساء الخمر قط والرجال يتناولون منه على الندرة. ولباسهم عبارة عن قميص يلبسون فوقه رداء من صوف زمن البرد. ويلبس الوطنيون في أيام الأعياد حلة من الصوف مزينة من جهة العنق

ويلبسون في أرجلهم نعالاً منوطة بسيور. ويقضون حياتهم في التوفر على أعمالهم فالرجال يصطادون دون أن يحرثوا أو النساء يغزلن الصوف وينسجن الأقمشة ويطحن الحبوب ليجعلنها براً. ولم يكن للرومانيين من ضروب التسلية إلا أن يذهبوا كل تسعة أيام إلى السوق أو يحضروا الأعياد التي تقام إكراماً للأرباب. كان يرى قدماء الرومان أن الرجل الشديد هو غاية ما تطمح إليه الآمال ويقال أن سينسيناتوس كان يسوق محراثه بنفسه عندما أتاه نواب الأمة من قبل مجلس الشيوخ يدفعون إليه الأمر بتنصيبه. ولم يكن عند فابريسيوس من الأواني غير كأس ومملحة من فضة. وكان كوريوس وأنتاتوس وهو غالب السامنتيين جالساً على مقعد يأكل بقولاً في قصعة من خشب عندما أتاه مندوبو السامنتيين ليقدموا له المال فقال لهم: اذهبوا وقولوا للسامنتيين أن كوريوس يؤثر أن يقود من عندهم ذهب أكثر مما يؤثر أن يكون هو مالكاً له. هذه هي بعض الأقاصيص التي يروونها عن قواد الأزمنة القديمة وسواء أكانت حقيقة أو ملفقة فإنها تدل على ما كان الرومانيون بعد يذهبون إليه بشأن قدماء أجدادهم. الأخلاق الجديدة: أخذ كثير من الرومانيين بعد القرن الثاني ولاسيما طبقة الأشراف يقلدون الأجانب. وكان زعماؤهم قواداً رأوا بلاد اليونان والشرق عن أمم فكتبت الغلبة لسبيون على ملك سورية ولفلامنيوس وبولس أميل على ملوك مكدونية ثم للوكلوس على ملك أرمينية. فعزفت نفوسهم عن الحياة القاسية الصعبة التي كان عليها أجدادهم وأخذوا يسيرون في حياتهم على البذخ والرفاهية وما زال الحال كذلك حتى نسج على منوالهم عامة النبلاء والأغنياء بحيث لم يطلع فجر القرن الأول حتى لم يعد في إيطاليا إلا سادة عظام يعيشون المعيشة الشرقية أو اليونانية. يرى الشرقيون من دواعي العجب أن يعرضوا للأنظار الأقمشة البديعة والأحجار الكريمة وأثاث الفضة وأواني الذهب وأن يستكثروا في بيوتهم من الخدم على غير طائل وأن ينشروا على الشعب المجتمع دراهم ليدهشوهم فكانوا يرغبون في الأعلاق النفيسة النادرة أكثر من رغبتهم في النفائس الجميلة المناسبة. وأصبح للرومان على شدة عجبهم وضعف استعدادهم في الصناعات ذوق في هذا الضرب من البذخ فكانوا قلما يحفلون بالجمال أو بالموافق ولم يعرفوا قط إلا الأبهة والفخفخة

فأنشؤوا لهم بيوتاً ذات حدائق واسعة وحشروا إليها التماثيل وأقاموا فيها المصايف الزاهية التي تمتد إلى البحر وسط الحدائق المتسعة واستكثروا من الخدم والحشم وأخذوا هم ونساؤهم يعتاضون عن ألبستهم المعمولة من الصوف بالشفوف (بزنجك ـ أكريشة) وأكسية الحرير والقصب. ويفرشون في ولائمهم بسطاً مطرزة ودثارات من الأرجوان وأواني من ذهب وفضة (وكان عند الحاكم سيللا مئة وخمسون صحفة من الفضة ووزن ما عند ماركوس وروزوس من الأواني الفضية عشرة آلاف ليرة وإذا ظل العامة يأكلون قعوداً بحسب عادة الشعوب الإيطالية القديمة فالخاصة من الأغنياء اتبعوا العادة الشرقية في الأكل مضطجعين على سررهم ثم سرت عادة التأنق في المآكل على الأسلوب الشرقي والاستكثار من المطاعم من الأباريز والصباغ (سلسا) والصيد والسمك الغريب ومخاخ الطواويس وألسنة الطيور. واستحكم فيهم السرف حتى لقد مات أحد الحكام سنة 152 وقد ذكر في وصيته قوله لما لم يكن الإكرام الحقيقي عبارة عن أبهة باطلة بل هو لتذكر أقدار المتوفى وأجداده فأنا آمر أولادي أن لا ينفقوا على جنازتي أكثر من مليون آس (مئة ألف فرنك). العلوم الأدبية اليونانية: رأى الرومانيون في بلاد اليونان المصانع والتماثيل والألواح التي كانت منذ قرون تغص بها المدن وعرفوا الأدباء والفلاسفة فصار لبعضهم ذوق في الصنائع النفيسة وأولع آخرون بالحياة العقلية فجعل أمثال القائد سبيون حولهم أناساً من اليونان المنورين ولم تطمح نفس بولس أميل من جميع الغنائم التي غنمها جيشه من مكدونية إلا إلى الاستيلاء على مملكة الملك برسي وعهد بتربية أولاده إلى أساتذة يونان وبذلك صارت الكتابة والتكلم باللغة اليونانية من الأمور المستحسنة في رومية. وأراد الأشراف أن يظهروا في مظهر العارفين بالتصوير والنقش فجلبوا بالألوف التماثيل وقلز كورنت المشهور وملؤوا بها بيوتهم. ودخل في ملك الحاكم فريس شيء كثير من النفائس والأعلاق جعلها في رواق وكانت مما نهبه من صقلية وهكذا أخذ الرومان على التدريج من الفنون ظواهرها ومن الآداب اليونانية قشورها وسمي هذا التهذيب الجديد فن الأدب معارضة للخشونة التي كان عليها أهل الريف من الرومان ومع هذا لم تكن إلا قشوراً فقط فلم يعرف الرومان أن الجمال والحقيقة يرغب فيهما لذاتهما

بل كانت الصناعات والعلوم عندهم أموراً يقصد بها الزينة والبذخ ليس إلا. ولم يكن الرومان على عهد شيشرون يعتبرون من أهل الأعمال غير الجندي والحراث والسياسي والناجر أو المحامي أما الكتابة والتأليف والاشتغال بالعلم والفلسفة والنقد فكل ذلك يسمى عندهم بطالة. وما قط أصاب أرباب الفنون والعلماء من الاعبار في رومية ما يسويهم بتاجر غني. قال لوسين أحد كتاب اليونان: متى صرت مثل فيدياس النقاش اليوناني تصنع ألف قطعة بديعة من النقوش لا يرغب أحد أن يتقبل مثالك لأنك مهما بلغت من الخدمة لا يطلق عليك إلا لقب صانع ولست إذ ذاك غير رجل يعيش بكد يمينه. لوكلوس: ولد لوكلوس وهو مثال الروماني الحديث سنة 145 من أسرة شريفة وغنية جداً ولذا سهل دخوله في سلك أرباب المناصب والشرف واشتهر في غزواته الأولى بأنه يعطف على المغلوبين ويعاملهم باللطف ثم عين قنصلاً وقاد الجيش الذي انتدب لقتال ميترايدانس. وقد رأى سكان آسيا ساخطين من كثرة السرقة وفظاعة العشارين فعني بجعل حد لتلك الأعمال وحظر على جنده أن ينهبوا المدن المغلوبة وبذلك جلب لنفسه حب الآسياويين الباطل وبغض العشارين والجنو الخطر. فدست الدسائس لتستدعيه حكومته وكان قد هزم ميترايدانس وأخذ يطارده وهو سائر إلى حليفه ملك أرمينية وقد هزم جيشاً من البرابرة بجيشه الصغير المؤلف من عشرين ألف مقاتل فسلبت منه القيادة وسلمت إلى نديم العشارين وحبيبهم بومبي. وإذ ذاك اعتزل لوكلوس الأعمال للاستمتاع بما جمعه في آسيا من الثروة وأصبح يملك في أحياء رومية حدائق غلبا وله في نابولي مصيف قام في البحر مبنياً بالحجر الصلد. وفي توسلكولوم قصر صيفي وفيه متحف للأعلاق والنفائس فكان يقضي الصيف في توسكولوم بين أصحابه وجماعة العلماء وأهل الأدب يطالع مصنفات اليونان ويبحث في الأدب والفلسفة. وتروى عن بذخه حكايات كثيرة منها أنه كان ذات يوم يتغدى وحده فرأى مائدته أكثر بساطة من العادة فوبخ الطاهي فاعتذر بقوله أن عدم وجود الضيوف هو الذي دعاه إلى تقليل المآكل فأجابه لوكلوس: أما علمت أن لوكلوس يتغذى اليوم عند لوكلوس؟ ودعا يوماً قيصر وشيشرون فقبلا دعوته على شرط أن لا يغير شيئاً من عادته فاكتفى لوكلوس بأن

يقول لأحد الخجمة فقط اجعل الطعام في قاعة أبولون وكانت المأدبة على غاية من التأنق بحيث عجب منها المدعوان. ولما سئل عن إخلاله بشرط الضيافة قال أنه لم يأمر بشي وإن نفقات طعامه محددة بحسب القاعة التي تجعل فيها وإن بسط الموائد في قاعة أبولون لا يمكن أن يكلف أقل من خمسين ألف فرنك. وظل لوكلوس في رومية ممثل الأخلاق الجديدة كما كان كاتون يمثل الأخلاق القديمة. ويرى قدماء الرومان أن كاتون هو الروماني الصالح وأن لوكلوس هو الروماني الفاسد ومع هذا فقد كان لوكلوس يبتعد عن عادة الأجداد ولذلك كان واسع المدارك حسن التربية لطيف المأتى مفطوراً على العطف على الخدم والرعايا. الانقلاب الديني والعقلي العبادات الجديدة: لم يكن بين أرباب الرومان وأرباب اليونان من الشبه حتى في الأسماء ومع هذا اعتقد اليونان بأن معظم الأرباب المعبودة في رومية كانت أربابهم أحبوا أن يعترفوا بأنها كذلك. وإلى ذاك العهد لم يكن للأرباب الرومانية شكل خاص ولا تاريخ معين وهذا ما دعا إلى الارتباك في حالتها فجرى تمثيل كل رب روماني على صورة رب يوناني واخترعوا له تاريخاً وحكايات. فخلطوا بين المشتري اللاتيني وزيوس اليوناني وجونون مع هيرا ومنيرفا ربة الذاكرة مع بالاس ربة الحكمة وديان زوجة جانوس مع أرتيمس الصيادة البديعة وزجوا هركول رب السواد بهيراكليس الغالب على الغيلان. وهكذا دخلا المثولوجيا اليونانية تحت أسماء لاتينية واستحال أرباب رومية إلى أرباب اليونان. وامتزجت الأرباب بعضها ببعض حتى اعتدنا أن نطلق على الأرباب اليونانية أسماء لاتينية فلا نزال نقول أرتيمس ديان وبالاس منيرفا. وبالميثولوجيان اليونانية اعتاد الرومان أن يصوروا أربابهم في تماثيل كما اقتبسوا بعضاً من الاحتفالات اليونانية وكانت الحكومة الرومانية أدخلت إلى بلادها عبادة أبولون وبدأ بعض الأفراد يعبدون باخوس رب الكرمة. ويحتفل من يعبدون باخوس بعبادته في الليل سراً ولا يطلعون أحد على خفايا العبادة الباخوسية وأخذ المجلس يحقق فرأى المتعبدين بهذه العبادة سبعمائة شخص بين رجال ونساء اشتركوا معاً في هذه الأسرار فقضى عليهم بالموت.

ثم أن الرومان أخذوا أيضاً يعبدون ما يعبد شعوب الشرق فقد كان سنة 320 في رومية معبد للرب سبريبس المصري فأمر مجلس الشيوخ بهدمه فلم يجسر أحد الفعلة على ذلك وبقي المعبد لا يمس بسوء حتى جاء القنصل بنفسه فضرب أبوابه بالفأس. وبعد سنين أي في سنة 204 خلال حرب هانيبال بعث مجلس الشيوخ إلى آسيا الصغرى بوفد للبحث عن المعبودة سيبيل وكانت هذه الأم الكبرى كما كانوا يدعونها مصورة على حجر أسود فأتى بها مندوبو مجلس الشيوخ باحتفال حافل وجعلوها في رومية وقد لحق بها كهنتها وأخذوا يطوفون الشوارع على أصوات المزامير والصنوج لابسين ألبسة شرقية يستوكفون الأكف على الأبواب. ثم غصت بلاد إيطاليا بالسحرة من الكلدان ولم يكن العامة يعتقدون وحدهم بهؤلاء العرافين. ولما هدد برابرة السمبر مدينة رومية سنة 104 تقدمت عرافة من سورية اسمها مارت فعرضت على مجلس الشيوخ الروماني بأن تتوسط في غلبة رومية على عدوتها فطردها مجلس الشيوخ ولكن النساء الرومانيات بعثن بها إلى المعسكر فأبقاها مازيوس القائد العام لديه وما فتئ يأخذ رأيها إلى أن وضعت الحرب أوزارها. ورأى سيللا في نومه ربة كابودسيا فعمل بنصيحتها وسار إلى إيطاليا. السفسطائيون: لم يكن يأتي إلى رومية كهنة وعرافون فقط بل كان ينزل فيها فلاسفة يحتقرون الدين القديم. ومن أشهرهم كارنياد سفير الآثينيين فإنه كان يصرح بأفكاره في رومية أمام الجمهور فيخف شبان الرومان إلى سماع أقواله حتى أراده مجلس الشيوخ على الخروج من المدينة إلا أن الفلاسفة ظلوا على بث مبادئهم في رودس وأثينة حتى أصبح من السنن المألوفة أن يبعث الرومان بفتيانهم إلى تينك المدينتين يتعلمون فيها الفلسفة. وفي القرن الثالث قبل المسيح ألف إيفهمير اليوناني كتاباً ينفي وجود الأرباب وأنها ليست إلا رجالاً ألههم الناس حتى أن المشتري نفسه كان ملكاً على كريت فانتشر كتابه أي انتشار ونقله الشاعر أنيوس باللاتينية. وعلى هذا النحو أخذ أشراف رومية يسخرون من أربابهم ولم يبقوا من الدين القديم إلا على مراسيمه وظواهره. وكان أهل الطبقة العالية في المجتمع الروماني مدة زهاء قرن يعتقدون بالخرافات اعتقاد سفسطائيين لا يؤمنون بشيء. الحياة العقلية: كان غاية ما يعلم اليونان الأقدمون أولادهم القراءة فقط في الزمن الذي كان

فيه بوليب في رومية (قبل سنة 150) ويعهد المحدثون من الرومان بتعليم أبنائهم إلى مربين من اليونان ولذلك افتتح أناس من اليونان في رومية مدارس لتعليم الشعر والبلاغة والموسيقى. وكانت الأسرات الكبرى تنقسم إلى أنا س يتعلمون على الطريقة القديمة وآخرين على الحديثة. ولكن بقي في الأذهان شيء من الموسيقى والرقص فكانوا ينظرون إليهما بأنهما من الصناعات المهينة بمن يتعاطاها إذا كان كريم المحتد. قال سبيون أملين حامي اليونان في كلامه على مدرسة رقص كان يختلف إليها بنون وبنات من الخاصة: ما كنت أتوهم عندما ذكر لي ذلك أن أناساً من الأشراف يعلمون مثل هذه الأمور لأولادهم ولما أخذوا بيدي إلى مدرسة الرقص رأيت فيها زهاء خمسمائة صبي وبنت وفي جملتهم ولداً شريفاً في الثانية عشرة من عمره وهو أحد المرشحين للانتخابات يرقص على نغمات البوق كروتال وقال سالست في كلامه على عقيلة رومانية قليلة الاعتبار أنها كانت تضرب على الطنبور وترقص أحسن مما يليق بامرأة محتشمة. التربية: استهوى نساء الرومان حب الأديان الشرقية والبذخ الشرقي في أسرع ما يكون فكن يذهبن زرافات زرافات إلى معابد باخوس ومساجد إيزيس. وقد سنت لهن قوانين ليمنعهن من لبس الألبسة الثمينة وركوب العجلات واتخاذ الحلي والجواهر ولم تلبث أن ألغيت فصار النساء في حل من أن يلبسن كالرجال ما يشأن وانقطع النساء النبيلات عن العمل والجلوس في بيوتهن وأنشأن يخرجن في أبهة ويختلفن إلى دور التمثيل والملاعب والحمامات والمجتمعات وإذ كن بلا عمل ومن الجهل على جانب سرى الفساد إليهن في الحال حتى أصبح النساء الطاهرات في طبقة الأشراف ن النوادر. سقط النظام القديم في تربية الأسرات وجعل القانون الروماني الزوج سيد زوجته وابتدعوا ضرباً جديداً من الزواج يجعل المرأة تحت تصرف أبيها ولا يكون للزوج أدنى سلطة عليها وكان الآباء يجهزون بناتهم بجهاز وصداق ليجعلوهن أكثر استقلالاً. وكان من حق الزوج وحده أن يطلق امرأته ومن العادة أن لا يحاد عن هذا الحق إلا في أحوال استثنائية شديدة فصار للمرأة الحق أن تترك زوجها وأصبح مذ ذاك العهد من الهين اللين أن يفصم الزوجان عرى ارتباطهما ولم يعودا يحتاجان إلى حكم حاكم ولا إلى سبب مشروع ويكفي أحد الزوجين متى استاء من زوجه أن يقول له: احمل ما يخصك وأعد لي

ما أملكه. وبعد الطلاق يتيسر لكل منهما بل للمرأة أيضاً أن يتزوجا في الحال. وبلغت الحال في الطبقة الرومانية العالية أن تعتبر الزواج عقداً مؤقتاً فقد تزوج سيللا بخمس نساء وقيصر بأربع وبومبي بخمس وأنطونيوس بأربع وتزوجت ابنة شيشرون من ثلاثة رجال وطلق هورتانسيون زوجته ليزوجها من أحد اصدقائه. بيد أن هذا الفساد لم يصب غير أشراف رومية ومن حذا حذوهم من أهل النعمة الحديثة أما في أسر رومية والولايات فقد حفظت قروناً آداب الدور القديم القاسية الشديدة وأخذت تربية الأسرة ترق شيئاً فشيئاً والمرأة تحرر من استبداد الرجل ببطء. التبدل الاجتماعي زوال الطبقة الوسطى: كان الشعب الروماني القديم مؤلفاً من صغار أرباب الأملاك وهم يتعاطون زراعة حقولهم بأنفسهم ومن هؤلاء الفلاحين الصالحين الأقوياء يتألف الجيش والمجلس. وكان عددهم كثيراً سنة 221 خلال الحرب الفينيقية الثانية. وفي سنة 133 لم يبق منهم أحد. لا جرم أنه هلك منهم كثيرون في الحروب التي أعلنتها رومية على البلاد القاصية ولكن هلاكهم يحمل في الأكثر على أنه كان من المتعذر عليهم البقاء. فقد كانوا يعيشون من زراعة القمح عندما أخذت ترد على رومية حبوب صقلية وأفريقية فسقطت أسعار الحنطة بحيث لم يتيسر للحراثين الإيطاليين أن يستخرجوا من غلاتهم ما يغذون به أسراتهم ويتحملوا أعباء الخدمة العسكرية فقضي عليهم من ثم أن يبيعوا حقولهم فيبتاع كل غني من جاره الفقير أرضه فغدت الحقول الصغيرة ملكاً عظيماً لواحد وصير أرباب الأملاك من تلك الأراضي مروجاً يقيمون فيها ماشيته وإذا عن لهم أن يزرعوها فيبعثون إليها برعاة وحراثين من العبيد بحيث لم يمض قليل حتى لم يبق على أرض إيطاليا إلا بعض كبار الأملاك وجماعات من العبيد وكان بلين القديم يقول أن الأملاك العظيمة قد أخطأت إيطاليا ومع هذا فالدوائر العظمى هي التي قضت في الأرياف على أحرار الفلاحين. فصاحب الأرض القديم الذي باع حقله لم يستطع أن يبقى أجيراً بل قضي عليه أن يتخلى عن مكانه ليحل محله العبيد وبذا أصبح هائماً على وجهه لا عمل له ولا شغل قال فارون في رسالته في الزراعة أن معظم زعماء الأسرات دخلوا بيوتنا تاركين المنجل والمحراث وآبوا يؤثرون التصفيق بأيديهم في الملاعب على العمل في حقولهم

وكرومهم. الطبقات الاجتماعية: ليس الشعب في رومية كما هو في يونان عبارة عن مجموع السكان بل هو مجموع الوطنيين ولا يعد وطنياً كل رجل ينزل بأرض البلاد بل الوطني هو الذي له حق التمتع بحقوق الوطنية. وللوطني عدة امتيازات فله الحق وحده أن يكون عضواً في الهيئة السياسية وله الحق وحده أن يقترع في مجالس الشعب الروماني وأن يخدم في الجيوش الرومانية ويحضر احتفالات رومية المقدسة وينتخب حاكماً رومانياً وهذا ما يسمونه بالحقوق العامة وللوطني الحق وحده أن يحميه القانون الروماني ويحق له فقط أن يتزوج على طريقة مشروعة ويكون رب أسرة أي حاكماً مطلقاً على زوجته وأولاده وأن يوصي بما يشاء ويبيع ويبتاع ممن يشاؤ وهذا ما يسمونه بالحقوق الخاصة. ولا يحرم من لم ينالوا حق الوطنية الرومانية من الخدمة في الجيش والمجلس فقط بل لا يسوغ لهم أن يكونوا أزواجاً ولا آباء ولا أصحاب أملاك مشروعة ولا أن يتقاضوا إلى القانون الروماني ويحاكموا في المحاكم الرومانية ولذا تألفت من الوطنيي طبقة من الأشراف بين سواد الأمة من غير طبقتهم وهم لا يتساوون بينهم أيضاً. وبينهم فرق في الطبقات أو كما يقول الرومان في الصفوف. النبلاء: النبلاء هم في الصف الأول من الأمة فكل وطني يعد في النبلاء إذا سبق لأحد أجداده أن تولى شيئاً من أمر الأمة لأن الحكم في رومية من علائم الشرف ينبل به من تولاه كما يكون بضعة شرف لا خلافه من بعده. إذا أنصب أحد من الوطنيين ناظراً للملاعب والأبنية أو قاضياً أو قنصلاً تخلع عليه خلعة مطرزة بالأرجوان ويمنح كرسياً كالعرش ويحق له أن يرسم ويصور. وهذه الصور عبارة عن تماثيل صغيرة تعمل من الشمع أولاً ثم تطلى بالفضة وتجعل في مزار الدار (أتويوم) بالقرب من الكانون وأرباب البيت وتجعل في مخادع خاصة بها كما تجعل الأصنام ويعبدها الذرية من أهل البيت. ومتى مات أحد في الأسرة يخرجون الصور ويجرونها على مركبه في موكب ويأخذ أحد أنسباء المتوفى يعدد صفاته ويرثيه. وهذه الصور هي التي تشرف الأسرة كلما احتفظت بها وكلما كثرت الصور في أسرة تزداد شرفاً فيقولون فلان شريف بصورة أو شريف بعدة صور. والأسر الشريفة في رومية قليلة جداً (ولم يكن فيها أكثر من ثلثمائة أسرة لأن

المناصب التي تولي صاحبها شرفاً توسد في الغالب إلى أناس حازوا الشرف من قبل. الفرسان: تجيء طبقة الفرسان بعد طبقة النبلاء وهم أغنياء الوطنيين الذين لم يعد لهم جدود من الحكام فتقيد ثرواتهم في سجلات الإحصاء وينبغي أن لا يقل ما يملكه أحدهم عن أربعمائة ألف سترس (أو مئة ألف فرنك) منهم التجار والصيارف والملتزمون وهم لا يحكمون بل يغتنون. ولهم في التمثيل أماكن خاصة بهم تقع إلى ما وراء مقاعد طبقة الأشراف. وربما ساغ للفارس منهم أن ينتخب حاكماً وعندها يدعونه الرجل الحديث النعمة ويصبح ابنه شريفاً. العامة: العامة هم غير طبقة الأشراف والفرسان فهم جمهور الأمة ويكونون من نسل أبناء البلاد في إيطاليا ويتنقلون من فلاحين أصحاب أملاك إلى وطنيين رومانيين ويعد في طبقتهم العبيد المعتوقون أو قدماء العبيد وأبناؤهم. ويحافظون على مميزات أصولهم ولا يقبلون في خدمة الجيش الروماني ولا ينتخبون إلا بعد غيرهم. ولقد مضت أزمان وصغار أرباب الأملاك يؤلفون السواد الأعظم من الأمة. وبينا كانت الأرياف تصفر من قلة الناس غصت رومية بالواردين عليها فانهال عليها اليونان والسوريون والمصريون والآسياويون والأفريقيون والإسبانيون والغاليون ممن أخذوا من بلادهم وبيعوا بيع العبيد ثم أعتقهم مواليهم وأصبحوا وطنيين ضاقت بهم المدينة فهم كانوا شعباً جديداً ليس له من الرومانية غير اسمها. خطب سيبون غازي قرطاجنة ولومانس جمهوراً من الناس في إحدى الساحات فقاطعه العامة بأصواتهم فقال لهم: صه أيها الأبناء الأدعياء المنتسبون لإيطاليا زوراً فمن العبث ما تفعلون لأن من جلبتهم إلى رومية مقيدين لا أهابهم ولو حلت قيودهم وهذه الطبقة الجديدة من السوقة تعيش بكدحها أو يقضي على الحكومة أن تطعمها وقد أخذت الحكومة سنة 125 تقدم لعامة الوطنيين حنطة بنصف ثمنها المعتاد تأتي بها من صقلية وأفريقية ومنذ سنة 63 أخذت توزع الحنطة مجاناً وتشفعها بزيت. ورأى قيصر سنة 46 أن من كانوا يتناولون هذه الجراية بلغوا 320 ألفاً. العبيد: جميع الأسرى وسكان البلد المفتوح ملك الفاتح يتصرف فيهم فإذا أبقى عليهم ولم يقتلهم يستعبدهم له. هكذا كان الحق القديم. وقد ظل الرومان يعملون به بالحرف يعاملون

الأسرى كأنهم بعض الغنيمة يبيعونهم من النخاسين الذين يتبعون الجيش وإذا حملوهم إلى رومية فإنهم يحملونهم ليبيعوهم في المزاد وهكذا كان يبيعون عقيب كل حرب ألوفاً من الأسرى رجالاً ونساءً والأولاد الذين يولدون من أسيرات يكونون أسرى كأمهاتهم فالأمم المغلوبة للرومانيين هي مادة لرقيق الروماني. العبد ملك صاحبه فهو لا يعتبر اعتبار شخص بل اعتبار متاع فمن ثم ليس له حق من الحقوق فلا يكون وطنياً ةلا ملكاً ولا زوجاً ولا أباً. قال أحد الأبطال في رواية هزلية رومانية: أي شيء هذا أعرس عبيد! ما أعجب عبد يتزوج! إن هذا مخالف لعادة جماع الأمم. وللمولى جميع الحقوق على عبده يرسله حيث يريد ويشغله على ما يرى بل شغله أكثر من طاقته ويطعمه أخشن طعام ويضربه ويعذبه ويقتله دون أن يسأله أحد عما جنى وعلى العبد أن يخضع لرغائب سيده كلها. ويقول الرومان أن العبد لا وجدان له وأن الواجب عليه أن يطيع مولاه طاعة عمياء فإذا قاوم أو أبق من بيته فالحكومة تعاون سيده على قمع جماحه والقبض عليه وكل من يؤوي عبداً آبقاً تجري علبه أحكام اللصوص كأنه سرق بقرة أو حصاناً لغيره. والعبيد في المملكة الرومانية أكثر من الأحرار ويملك أغنياء الوطنيين من عشرة إلى عشرين ألف عبد وعند بعضهم منهم ما يكفون لتجنيد جيش كامل. وكان لسليوس إيزدوروس أحد قدماء العبيد زهاء أربعة آلاف عبد وكان عند هوراس سبعة أعبد فكان يشكو من فقره. ومن علائم الفقر في رومية أن لا يملك المرء سوى ثلاثة أعبد. وإذا كان العبيد يعملون أشق الأعمال أو يسترسلون في البطالة مكرهين وهم ابداً عرضة للضرب بالسياط والتعذيب أصبحوا بحسب فطرهم إما متوحشين أغبياء أو أ، ذالاً مستعبدين ومن كان منهم على شيء من الشهامة ينتحرون وغيرهم يعيشون كالآلة الصماء. وكان الشيخ كانتون كثيراً ما يقول: على العبد دائماً أن يعمل أو ينام. ومعظم العبيد يفقدون الإحساس والشرف ولذلك كانوا يقولون هذا عمل عبيد يريدون به أنه دنيء ورذل. الحياة السياسية لحكام: ينتخب الشعب كل سنة رجالاً يتولون أمره ويفوض إليهم السلطة المطلقة ويطلق

عليهم اسم الحكام أي ولاة الأمر فيسير أمامهم حملة الفؤوس يحملون حزمة من القضبان وفأساً ومعنى هذا الرمز لأأن للحاكم أن يضرب ويقتل على ما يراه مناسباً ومن حق الحاكم أيضاً أن يرأس مجلسي الأمة والشيوخ وأن يكون له محل في المحكمة ويقود الجيوش وهو السيد المسود في كل مكان فيجمع المجلس ويفضه بحسب ما يرى ويصدر الأحكام برأيه وحده. وفي زمن الحرب يفعل ما يشاء بالجند ويقتلهم دون الرجوع إلى رأي ضباطه. وقد كان مافيوس القائد الروماني في إحدى الحروب التي أعلنت على اللاتين حظر على الجنود الخروج من المعسكر فدعا أحد المقاتلين من جيش العدو ابنه إلى المبارزة فخرج لبرزه وقتله فلم يعتم مافيوس أن قبض على ابنه وأعدمه في الحال. وللحاكم بحسب التعبير الروماني سلطة ملك ولكن هذه السلطة قصيرة موزعة وذلك لأنه لا ينتخب إلا لسنة واحدة وله رصفاء لهم مثل سلطته ففي رومية قنصلان أو حاكمان يتوليان أمر الأمة وقيادة الجيش وفيها عدة قضاة يتولون الحكم أو القيادة بالنيابة ويصدرون الأحكام وهناك كثير من الحكام ومراقبان واربعة نظار للأبنية والملاعب للنظر في الطرق العامة والأسواق وعشرة محامين عن حقوق السوقة وصيارفة يتولون النظر في خزائن المملكة. الإحصاء: أرقى الحكام هما الوكيلان المسيطران وهما مكلفان كل خمس سنين بتنظيم إحصاء للشعب الروماني فيتمثل أمام المكلفين بإحصاء جميع أبناء البلاد ليذكروا لهما وهم يقسمون الإيمانات أسماءهم وعدد أولادهم وعبيدهم ومقدار ثرواتهم ويقيد كل ذلك في سجلات خاصة. والقائمان بإحصاء الأمة هما اللذان يكتبان قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان والوطنيين ويحددان لكل واحد مقامه في المدينة ثم هما مكلفان أيضاًَ بأن يحتفلا احتفال الثريا وهي حفلة عظمى تقام للتزكية كل خمس سنين فيجتمع ذاك اليوم عامة الوطنيين في ساحة المريخ اجتماعهم في حرب ويطوفون ثلاث مرات حول المجلس يحملون ثلاث ضحايا لتكفر عن السيئات وهي عبارة عن ثور ونعجة وخنزير يخنقونها ويرشون المجلس بدمها وبذلك تصبح المدينة مزكاة مطهرة وسلماً مع الأرباب. وللقائمين على الإحصاء الحق أن يقدان وأن يسجلا كل إنسان في المنزلة التي يريدانها ولهما أن يجردا أحد الشيوخ بإسقاطه من قائمة مجلس الشيوخ وأن لا يحسبا أحد الفرسان

في جملة أهل طبقته أو يحرمان أحد الوطنيين بأن يحذفا اسمه من سجلات القبائل. ويسهل عليهما عقاب من يرونهم مجرمين ويتجاوزان عن السيئات التي لا تقدح بمنطوق القانون. ولطالما رأوهما يجردان الوطنيين لأنهم لم يحسنوا التوفر على مقولهم ولصرفهم كثيراً على خدمهم وسجنوا أحد الشيوخ لأنه كان يملك عشر ليبرات من الأواني الفضية وآخر لأنه أهمل تعهد قبور أجداده. وغيره لأنه طلق زوجته هذه السلطة المفرطة هي ما يطلق الرومان عليه حكومة الأخلاق فوكيلا الإحصاء عما سيدا المدينة على الجملة. جلسة مجلس الشيوخ: يتألف مجلس الشيوخ من نحو ثلثمائة رجل يعينهم وكيل الإحصاء إلا أن هذا لا ينصبهم كيفما اتفق فلا ينتخب من أبناء البلاد إلا الأغنياء أصحاب المكانة وسلالة الأسرات الكبيرة ومعظمهم من قدماء الحكام ويختار على الأغلب دائماً أناساً كانوا في المجلس من قبل بحيث أن عضو مجلس الشيوخ يبقى في هذا المنصب طوال حياته فمجلس الشيوخ هو محل اجتماع أهم رجال رومية ولذلك كانت لهم سلطة وسطوة. فإذا حدث أمر يجمع أحد الحكام أعضاء الشيوخ في أحد المعابد ويعرض عليهم المسألة ثم يسألهم رأيهم فيها فيجيبه كل واحد بمفرده مراعين في ذلك مراتبهم في الشرف وهذا ما يدعى أخذ رأي مجلس الشيوخ ويسطر الحاكم بعد ذلك رأي الأكثرية وهذا ما يسمونه مرسوم ديوان الأعيان أو الشيوخ ويكون قرارهم عبارة عن رأي لأن ليس من حق مجلس الشيوخ أن يقنن القوانين. بيد أن رومية تعمل بهذا الرأي عملها بأمر مفروض. وللشعب ثقة بشيوخه لعلمه أنهم أكثر خبرة منه ولا يجرأ الحكام على مقاومة مجلس مؤلف من أكفاء يساوونهم في الشرف. ولذلك كان المجلس يفض جميع المسائل فيقرر الحرب ويعين عدد الجيوش ويقبل السفراء ويعقد السلم ويفرض الدخل والخرج فيصدق الشعب على مقراراتهم والحكام ينفذونها. وفي سنة 200 قرر مجلس الشيوخ إعلان الحرب على ملك مكدونية فأوجس الشعب خيفة ولم يوافق على ذلك فصدر أمر مجلس الشيوخ بجمع المجامع من جديد وأن يلقى عليهم خطاب يكون أبلغ في إقناعهم من الخطاب الأول وعندها لم يسع الشعب إلا الموافقة. وبذلك رأيت أن الشعب في رومية كان يحكم كما يحكم الملك في إنكلترا ولكن كان الحكم لمجلس الشيوخ. المجالس والانتخابات: تسمى حكومة رومية الجمهورية أي متاع الشعب وجماعة الوطنيين

المدعوين شعباً كأنهم سادة مستقلون في المملكة فمنهم الذين ينتخبون الحكام ويوافقون على الحرب والسلام ويسنون الشرائع ويقول الفقهاء أن القانون هو ما أمر به الشعب والشعب في رومية كما في أثينة لا يعين نواباً عليه أن يوافق على كل شيء بنفسه حتى أن حكومة رومية بعد أن قبلت في المدينة زهاء خمسمائة ألغ رجل كانوا مشتتين في أطراف إيطاليا كلها اضطر الوطنيون للحصول على حقوقهم أن يحضروا بالذات إلى رومية. ويجتمع الشعب في الساحة ويسمى المجلس المجتمعات يدعوه الحاكم إلى الالتئام برئاسته وكثيراً ما يدعى الوطنيون للاجتماع بصوت البوق فيذهبون إلى ميدان العمل (ساحة المريخ) يصطفون فرقاً تظللهم أعلامهم وعندما يتألف منهم مجتمعات ذات فرق وكثيراً ما يجتمعون في ساحة السوق (الفوروم) منقسمين إلى 35 جماعة يسمونهم القبائل فتدخل كل قبيلة في نوبتها إلى مكان مسور بسدود لتوافق على ما تقرر به وتسمى المجتمعات بحسب القبائل. والحاكم الذي جمع المجلس يبين له المسألة التي يجب عليه الموافقة عليها ومتى فعل ذلك ينفض. فمن ثم كان الشعب حاكماً ولكنه اعتاد الخضوع لزعمائه. والمجلس أيضاً هو الذي يختار كل سنة الحكام فينتخب بحسب الفرق جميع الحكام الذين كان انتخبهم الشعب قديماً مثل القناصل والقضاة ووكلاء الإحصاء ونظار الأبنية والملاعب ومجلس القبائل ينتخب حكام أهل الطبقة المتوسطة ومحامي الشعب ونظار أبنية الشعب. وقد ضاقت ساحة الفوروم منذ القرن الثاني فأخذت تجتمع جميع مجالس الانتخابات في ساحة المريخ تنقسم الرحبة بحواجز ذات مرابض صغيرة تلقب بحدائق الغنم فتنقطع كل قبيلة إلى إحدى تلك الرحاب وتلاحظ كل قبيلة أكثرية الوطنيين في التصويت إذ ليس لكل قبيلة غير صوت واحد. سلك المناصب: ليس تولي الحكم أو المشيخة عن الأمة في رومية صناعة من الصناعات فإن الحكام والشيوخ يصرفون وقتهم ومالهم دون أن ينالوا أجراً فمنصب الحكم في رومية يعد من دواعي الشرف فلا يتطال إليه غير الأشراف او الفرسان على الأقل على شرط أن يكونوا أغنياء ثم لا يطمع امرؤ أن يبلغ أرقى مناطب الحكم إلا بعد أن يتقلب في المناصب الأخرى. ومن أراد يوماً أن يحكم على رومية يجب عليه أولاً أن يكون له في الجيش عشر وقائع

وحملات وبعدها يسوغ له أن ينتخب صرافاً فيعهد إليه النظر في إحدى خزائن المملكة. ثم يصير ناظراً للأبنية والملاعب فينظر في أمور الشرطة والبياعات وبعد ذلك ينتخب قاضياً فيجري أحكام العدل وعقيب ذلك يصبح قنصلاً فيقود جيشاً ويرأس المجالس وعندئذ تحدثه نفسه بأن يكون وكيل إحصاء وهذه هي الدرجة التي دونها في العلو كل درجة لا يبلغها المرء قبل أن يبلغ الخمسين من العمر فترى بهذا أن رجلاً واحداً يكون مالياً إدارياً وقاضياً وقائداً وحاكماً قبل أن يتولى وظيفة وكيل الإحصاء الغريبة وهي عباة عن تنظيم المجتمع وتسمى سلسلة هذه الوظائف سلك المناطب ولا تدوم كل وظيفة من هذه الوظائف إلا سنة واحدة للارتقاء للوظيفة التالية يقتضي انتخاب جديد. ويجب على الموظف في خلال السنة التي تتقدم انتخابه أن يظهر في الشوارع بلا انقطاع ويسير كما يقول الرومان أو يطمع في امتياز المنصب أن يلتمس أصوات الشعب والعادة في خلال هذه المدة أن يلبس حلة بيضاء وهذا معنى مرشح باللغات الإفرنجية أي المكتسي بالبياض. إدارة الولايات الشعوب الخاضعة: ما انقضى القرن الأول قبل المسيح إلا وقد أخضعت رومية عامة الأقطار الواقعة حول البحر الرومي من إسبانيا إلى آسيا الصغرى ولم تضف هذه البلاد إلى المملكة الرومانية ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين ولم تغد أرضهم أرضاً رومانية بل ظلوا غرباء وانضموا فقط إلى هذه المملكة أي أنهم أصبحوا تحت استيلاء الشعب الروماني كما أن الهنود اليوم ليسوا وطنيين إنكليز بل هم رعايا إنكلترا والهند جزء لا من إنكلترا بل من المملكة الإنكليزية فقط. فلا يصبح سكان البلاد المغلوبة وطنيين في رومية بل يبقون غرباء أجانب ولكنهم رعايا الشعب الروماني يؤدون إليهم الجزية وعشر غلاتهم وأتاوة من المال ورسماً على كل رأس وعليهم أن يخضعوا لجماع ما يأمرونهم به إذا ليس في استطاعة الشعب أن يحكم بالذلات ليبعث بحكام ينتدبهم لأن يحكموا عنه وكل بلد خاضع لوال كان يسمى ولاية ومعناها المهمة. كان في أواخر عهد الجمهورية (في سنة 46) 17 ولاية منها عشر في أوربا وخمس في آسيا واثنتان في أفريقيا ومعظمها متنائية الأطراف جداً فلم تكن بلاد الغال كلها سوى أربع

ولايات وإسبانيا ولايتين. قال شيشرون أن الولايات أملاك الشعب الروماني فإذاً أخضع هذه الشعوب بأسرها فذلك طمعاً في فائدتها لا لأجل منفعتهم ولذلك لا يتوخى أن يدير تلك الولايات بل يحرص على استثمارها. الولاة: يتخذ الشعب حاكماً لإدارة كل ولاية وهو إما أن يكون قنصلاً أو قاضياً خرج من الوظيفة فيطيل أمد سلطته وليس هذا الموظف الكبير قنصلاً بل هو وال ينوب عن القنصل. وللوالي كما للقنصل سلطة مطلقة يسير فيها على هواه لأنه وحيد في ولايته وليس لديه حكام آخرون ينازعونه السلطة ولا محامون عن الطبقة الوسطى ليصدوه عما يريد ولا مجلس شيوخ يسيطر على أعماله فهو وحده يقود الجيوش ويحملهم على القتال وينزل بهم حيثما يشاء فيتخذ له مقاماً في محكمته حاكماً بالغرامة والسجن والموت ويصدر أوامر تكون قانوناً متبعاً وله وحده السلطة العالية لأنه فيه يتجسد الشعب الروماني. وكان هذا الحاكم الذي لا يقاومه مقاوم مستبداً حقيقياً فيقبض على من يريد ويحبس ويضرب بالعصي ويعدم من لا تروقه حالتهم وإليك مثالاً من ألوف الأمثلة التي كان الحكام يجرون فيها مع الهوى كما رواه أحد الخطباء الرومان قال: جاء القنصل مؤخراً إلى تيانوم فخطر لامرأته أن تتلذذ بالاستحمام في حمامات الرجال فأخرج من الحمام الرجل الذين كانوا يستحمون فيه فشكت المرأة من إبطائهم وقلة استعداد الحمام فنصب القنصل عموداً في الساحة العامة وأحضر أشهر رجل في المدينة ليجعل عليه فجرد من ثيابه وضرب بالعصي. والوالي يأخذ من ولايته ما يستطيع من المال وينظر إليها كأنها ملك له ولا تعوزه الوسائط لاستثمارها بل يمد يديه إلى خزائن المدن وينزع التماثيل والحلي الموضوعة في المعابد ويجبي من السكان الأغنياء أتاوات من المال أو البر. وإذا كان له الحق أن ينزل جنوده حيث أراد فالمدن تقدم له المال لتعفى من قبول جنوده وإذا كان فغي حل من أن يعدم كل من يترآءى له فالأفراد يعطونه المال ليأمنوا غائلته. وإذا طلب شيئاً نفيساً أو مبلغاً من المال يجاب في الحال إىل ما طلب ولا يجرأ امرؤ أن يأبى عليه طلبه. وأتباعه يسيرون على مثاله وينهبون باسمه بل بحمايته ويسرع الوالي في جمع المالي إذ الواجب عليه أن

يغتني في سنة وبعدها يعود إلى رومية ويخلفه آخر يعود بمثل ما بدأ فيه سلفه. على أن هناك قانوناً يحظر على كل وال أن يقبل هدية ومحكمة مخصوصة (منذ سنة 149) تنظر في دعاوي الاختلاس. بيد أن هذه المحكمة تؤلف من طبقة الأشراف والفرسان الرومانيين فلا يرون أن يحكموا على ابن بلدهم والعاقبة المهمة في هذه الطريقة كما قال شيشرون أن يضطر الوالي إلى بسط يده في السلب من ولايته ليتسنى له ان يرشي المحلفين في المحكمة ولا ينبغي العجب إذا رأينا اسم الوالي مرادفاً لاسم مستبد ومن أشهر هؤلاء اللصوص فيريس والي صقلية وقاضيها وقد خطب في بيان أعماله الخطيب شيشرون لأسباب سياسية فطباً اشتهر بها ومن المحتمل أن كثيرين مثله قد أتوا ما أتاه. العشارون: كان للشعب الروماني في كل ولاية مواد مهمة من الجمارك والمناجم والضرائب والحقول الصالحة لزرع الحنطة والمراعي يؤجرونها من شركات متعهدين يسمونهم العشارين فكان هؤلاء مثل المزارعين العموميين في فرنسا قديماً يبتاعون من الحكومة حق جباية الخراج ويجب على سكان الولايات أن يطيعوهم كأنهم وفود الشعب الروماني. وكان في كل ولاية عدة شركات من العشارين ولكل شركة مستخدمون من الكتاب والجباة يظهرون في مظهر السادة ويتناولون أكثر مما يأخذون في آسيا حتى السكان بدون سبب ولما طلب ماروس من ملك بيتينا أن يقدم له جنداً أجابه الملك أن العشارين لم يبقوا عنده م الرعايا غير النساء والأطفال والشيوخ وقد عرف الرومان هذه المظالم حق معرفتها وكتب الخطيب شيشرون إلى أخيه وكان هذا حاكماً إذ ذاك: إذا وفقت إلى طريقة ترضي بها العشارين بدون أن تهلك سكان الولايات فتكون قد رزقت مهارة رب بيد أن العشارين كانوا قضاة في محاكمهم حتى أن الولاة أنفسهم خاضعون لهم. وقد أراد سكاروس والي آسيا المشهور بالإفراط في العفة أن يمنع العشارين من إطالة يد الأذى في ولايته فلما عاد إلى رومية رفعوا عليه شكوى وحكموا عليه. ولطالما أثار العشارون سخط سكان الشرق الخاضعين الساكنين فقد ذبحوا بأمر ميتيريداتس في ليلة واحدة مئة ألف روماني وبعد قرن أي على عهد المسيح كان اسم عشار مرادفاً لاسم لص. الصيارف: جمع الرومان في بلادهم ثروة الأمم المغلوبة ولذلك كانت الدراهم كثيرة جداً في

رومية ونادرة جداً في الولايات فكان في رومية يمكن الاقتراض بفائدة أربعة أو خمسة في المئة أما في الولايات فلا يجد المستدين مالاً يقترضه بأقل من اثني عشر في المئة. وكان الصيارف الرومان يقترضون مالاً من رومية ويقرضونه للولايات ولاسيما باسم الملوك او المدن. وإذا لم يستطع المستدين أن يوفي رأس المال ورباه يعمد الصيارف في تقاضي أموالهم إلى الطرق التي يستعملها العشارون فقد اقترضت مدن آسيا سنة 84 على نية ان تدفع مبلغاً كبيراً لتستعين به على الحرب فبعد أربع عشرة سنة فقط أي في سنة 70 صار المبلغ بفوائده ستة أضعاف ما كان فاضطر الصيارف مدن آسيا أن تبيع حتى التحف والطرف وقد شوهد أبوان يبيعان أبناءهما وبناتهما. وبعد بضع سنين أقرض برونوس من حكماء الرواقيين ومن أشهر رجال عصره من الرومان وأعلاهم كعباً ومكانة لمدينة سلامينة في قبرص مبلغاً من المال بفائدة 48 في المئة (أي 4 في المئة كل شهر) فلما طالب وكيله سكابتبوس بالمال مع فائضه تعذر على المدينة أن تؤدي إليه مطلوبه فقصد سكابتبوس الوالي أبيوس فأصبحه هذا بفرقة من الفرسان فجاء إلى سلامينة وحاصر مجلس شيوخها وكان أعضاؤه في قاعة الجلسات فمات خمسة منهم جوعاً. رعايا رومية: كان سكان الولايات لا حول لهم ولا طول مع هؤلاء الظالمين بأسرهم وذلك لأن الولاة كانوا يمالئون العشارين والصيارف على رغائبهم ويأخذون بأيديهم في كل ما يطلبونه ووراء الوالي الجيش والشعب الروماني يعضدانه فكان يسمح للوطني الروماني أن يشتكي السلابين في الولايات ولكن لا يمس الوالي بأذى ولا تتأتى شكايته إلا مرة واحدة عندما يخرج من الخدمة فيصبر عليه الرعايا يسلبهم ويعتدي كما يشاء ريثما تنقضي مدته وإذا اتهم عند عودته إلى رومية فتكون محاكمته أمام محكمة مؤلفة من الأشراف والعشارين ممن تكون مصلحتهم في معاضدته لا في إحقاق الحق ورفع ظلامة أهل الولاية التي كان فيها وإذا صادف أن حكمت عليه المحكمة يستعيض عن الحكم بالنفي فيذهب إلى إحدى مدن إيطاليا يتمتع بها بما نهبه أيام ولايته وهذا القصاص لا يوازي ما أتاه بتة ولا يعد انتقاماً ولذلك كنت ترى سكان الولايات يؤثرون أن يقمعوا ولاتهم بخضوعهم لهم فيعاملونهم كما يعاملون الملوك وينافقونهم ويهادونهم ويقيمون لهم التماثيل وربما نصبوا للوالي في

آسيا هياكل وبنوا لهم المعابد وعبدوهم كما يعبد الرب. ولئن عامل الشعب الروماني رعاياه بقسوة فلم يكن يأبى عليهم الانضمام إليه كما كان شأن المدن اليونانية بل أن الغرب يصبح وطنياً رومانياً بإرادة الشعب الروماني والشعب يمنح هذه العاطفة أحياناً وكثيراً ما يمنحها إلى شعب برمته فمنح حق الوطنية الرومانية إلى اللاتين أولاً سنة 89 ومنح هذا الحق للطليان في سنة 46 ومنحه لأهل غاليا فأصبح سكان إيطاليا والرومانيين سواء حتى أن العبد الذي يعتقه سيده يسوغ له أن يكون وطنياً في الحال. وكلما عرضت للشعب الروماني عوارض الضعف ونقص في الأنفس يزيد عدده برعايا جدد وعبيد جدد فكان عدد الوطنيين يزيد في كل إحصاء ولا ينقص فبلغ عددهم في قرنين من 250 ألفاً إلى 700 ألف. وهكذا ظلت رومية غاصة بالسكان ولم تخل منهم كما خلت إسبارطة بل كانت تمتلئ بالقادمين إليها من المغلوبين على التدريج. قانون الأراضي الأملاك العامة: متى طلب شعب غلبته رومية على أمره أن يعقد معها الصلح يجب على نوابه أن يلفظوا الجملة التالية: نتخلى لكم عن الشع والمدين والحقول والمياه وتماثيل الأرباب الحامية للحدود والأثاث وجميع ما يملكه الأرباب والناس قد جعلناه بيد الشعب الروماني وبهذا التسجيل تصبح الأمة الرومانية مالكة لما يملكه المغلوبون لهم بأسره بل مالكة حتى لأشخاصهم. وكثيراً ما يبيعون السكان وقد باع بولس أميل مئة وخمسين ألفاً من أهل أبير على هذه الصورة كانوا استسلموا إليه. ومن العادة أن تمنح رومية لمن تتغلب عليهم حريتهم وأن تبقي أملاكهم ملكاً للشعب الروماني يجعلونها ثلاث حصص متساوية فيعطى للأهالي قسم من أراضيهم على أن يدفعوا شيئاً معلوماً من المال أو الحبوب عنها وتحفظ رومية لنفسها الحق أن تأخذ منها كما تشاء. وتؤجر الحقول والمراعي إلى أناس من الملتزمين وتترك الأراضي البائرة شاغرة يأخذها من يريد ويحق لكل وطني روماني أيقيم فيها ويزرعها. قوانين العقارات: شملت قوانين الأراضي التي اختل بها نظام رومية الأملاك العامة وما كان لأحد الرومان أن يخطر في باله نزع الأملاك من أربابها لأن حدود تلك الأملاك نفسها كانت أرباباً يدعونها آلهة التخوم والدين يمنع من نزعها. إلا أن الشعب كان يستولي

بموجب قانون الأرضي على أرض من الأملاك العامة فقط ويوزعها بصفة ملك على مواطنيه وللشعب من حيث الشرع الحق في ذلك لأن الأراضي كلها ملكه إلا أن الرومانيين تسامحوا قروناً بأن تركوا أناساً من رعاياهم أو ابناء وظنهم يتمتعون بغلات تلك الأراضي وقد انتهت بهم الحال أن صاروا ينظرون إلى تلك الأراضي كأنها ملكهم يحبسونها ويبيعونها ويبتاعونها ولو أخذت منهم لقضي على جمهور عظيم من الأمة بالإفلاس في الحال. وقد حدث في إيطاليا خاصة أن ينزع من أهل المدينة بأسرها جميع ما يملكون. هكذا نزع أغسطس جميع أراضي مانتو من سكانها وكان الشاعر فرجيل من جملة المنكوبين فتوصل بفضل شعره إلى أن تعاد أملاكه ولكن سائر الشعب الذي لم يكن شاعراً كفرجيل بقي مسلوباً من أملاكه. وتوزع هذه الأراضي المأخوذة على تلك الصفة أحياناً على أناس من فقراء الوطنيين في رومية وفي الأغلب على جماعة من قدماء الجند وقد وزع سيللا أراضي أهل إيتروريا على 20 ألفاً من قدماء الأجناد. الأخوان الاشتراكيان: كان الشقيقان تيبريوس وكايوس غراشوس من أشرف أسرات رومية ولكن حاول أحدهما بعد الآخر وقد تولى زعامة السوقة أن ينزع الحكومة من يد الأشراف الذين يتألف منهم مجلس الشيوخ. وكان في ذلك العهد في رومية بل في إيطاليا جمهور كبير من الوطنيين لا سيد لهم ولا لبد يطمحون إلى إحداث ثورة ومنهم الأغنياء ومعظمهم من طبقة الفرسان الذين يشكون من حرمانهم من الحكومة. فعرض تيبريوس غراشوس نفسه على أن يتولى الدفاع عن العامة وسعى إلى وطيد سلطته هذه وكان في قلق مما يراه في بلاد الأرياف في إيطاليا من إقامة الرعاة العبيد يخلفون قدماء أصحاب الأملاك الفلاحين ومن رؤية رومية غاصة بأناس من الوطنيين لا يملكون فتيلاً ولا نقيراً. قال مرة في خطاب له يخاطب به العامة: للوحوش البرية في إيطاليا مغاور تأوي إليها والرجال الذين يهرقون دماءهم في الدفاع عن بيضة إيطاليا ليس لهم إلا النور والهواء الذي يستنشقونه يهيمون على وجوههم مع أزواجهم وأبنائهم لا بيوت تؤويهم ولا منازل يسكنونها. إلا وأن القواد الذين يحرضونهم عل الدفاع عن مدافنهم ومعابدهم ليكذبون في أقوالهم. وليت شعري هل ملك واحد منهم حتى الآن مذبحاً مقدساً في بيته ومدفناً يضم

رفات أجداده، يدعونهم سادة الأرض وهم لا يملكون مدرة منها. فاقترح على الشعب سن قانون للأراضي وذلك بأن تأخذ الحكومة من الأفراد جميع الأراضي التي هي من المنافع العامة فتضع يدها عليها ويترك لكل فرد منهم خمسمائة فدان ويوزع الباقي من الراضي حصصاً صغيرة على فقراء الوطنيين فوافق المجلس على هذا القانون فحدث بذلك اضطراب عام في نظام الثروات لأن معظم أراضي المملكة على التقريب كانت من الأملاك العامة ولكن وضع الواضعون أيديهم عليها واعتادوا أن يعتبروا أنفسهم مالكيها. على أنه كان كثيراً ما يصعب التمييز بين الملك الخاص والملك العام إذ لم يكن للرومانيين سجلات للأراضي. فأقام تيبريوس ثلاثة مفوضين عهد إليهم قسمة الأراضي كما أن الشعب أعطاهم سلطة مطلقة. وكان هؤلاء المفوضون هم تيبريوس نفسه وأخوه وعمه. فقام خصوم تيبريوس يتهمونه بأنه سن قانون الأراضي ليتخذ من ذلك حجة لتكون له بها السلطة. فمضت سنة وهو السيد المتحكم في رومية ولكنه لما أراد أن ينتخب محامياً من العامة عن السنة التالية أقام أعداؤه الحجة (وهذا كان منافياً للعادات المتبعة) فنشأت من ذلك فتنة انتهت باستيلاء تيبريوس وأصحابه على معبد الكابتول فنهض أنصار مجلس الشيوخ وعبيدهم مسلحين بالدبابيس وخشب المقاعد وطاردوا تيبريوس وأتباعه وضربوهم. وبعد عشر سنين انتخب كايوس أصغر الأخوين غراشوس محامياً عن الشعي وجدد التصديق على قانون الأراضي وقرر توزيع حنطة على فقراء الوطنيين وقرر أن يجري انتخاب القضاة ن طبقة الفرسان ليتوصل بذلك إلى هدم سلطة الأشراف فكانت كلمته هي العليا مدة حولين كاملين ولكنه لما قصد قرطاجنة ليسكن فيها جماعة من الطوارئ (المستعمرين) الوطنيين تخلى الشعب عنه مدة غيابه جتى إذا عاد لم يتيسر له أن يعاد انتخابه إذ كان أعداؤه اغتنموا تلك الفرصة للتخلص منه وعندها أمر الحاكم بتسليح أشساع مجلس الشيوخ وزحف على كايوس وأحبابه وكانوا اعتصموا في جبل أفنتين فقتل كايوس بيد أحد العبيد وذبح أشياه أو أعدموا في السجون ونقضوا بيوتهم من أسسها وصادروا أملاكهم. ماريوس وسيللا

لم يكن النزاع بين الشقيقين غراشيوس ومجلس الشيوخ إلا عبارة عن هرج في شوارع رومية ينتهي بفتنة تنشأ بين العصابات المسلحة على عجل أما الفتن التي حدثت بعد فكانت حروباً حقيقية بين جيوش منظمة وكان رؤساء الأحزاب من القواد. الحروب المدنية: ليس الشعب الروماني سوى مجموعة فقراء لا عمل لهم وما الجيش إلا حفنة من المتشردين نزاع الآفاق فلا المجلس ولا الكتائب خاضعة لمجلس الشيوخ لأن الأشراف الفاسدين فقدوا كل سلطة أدبية فلم يبق ثمة سوى قوة حقيقية واحدة نعني بها الجيش ولم يبق سطوة إلا للقواد وقد أبى القواد أن يخضعوا فتعذر الحكم بواسطة مجلس الشيوخ حتى أصبح بيد القائد. وغدت الثورة لا مناص منها ولكنها لم تنشأ دفعة واحدة بل تخمرت زهاء مئة سنة وكان مجلس الشيوخ يقاوم وقد أمسى من الضعف بحيث لا يتيسر له أن يجري الأحكام بذاته على أنه ما زال على شيء من القوة تحول دون غيره من القبض على قياد الأمة والقواد يتنازعون بينهم فيمن يكون السيد المتحكم وهكذا قضى الرومانيون قرناً يتخبطون في الفتن والحروب المدنية. ماريوس: كان أصل ماريوس القائد الأول الذي جعل جيشه تحت أمرة في رومية من أربينوم وهي مدينة جبلية صغيرة ولم يكن من سلالة شريفة واشتهر بأنه ضابط وانتخب محامياً عن العامة ثم قاضياً بمساعدة الأشراف له. ثم انقلب عليهم وانتخب قنصلاً وعهد إليه محاربة جوكورتا ملك النوميديين الذي بدد شمل عدة جيوش رومانية. وعندها جند ماريوس جماعة من فقراء الوطنيين ممن أصبحت الخدمة العسكرية صناعتهم فتغلب ماريوس بجيشه على جوكورتا وأهلك الشعوب البربرية كالسمبريين والتوتون ممن أغاروا على غاليا وإيطاليا الشمالية. وإذا لم يكن للشعب ثقة من غيره لقيادة الجيش انتخبه قنصلاً ست مرات متولية خلافاً للقوانين المتبعة. عاد إلى رومية بعد هذه الانتصارات فأصبح مطلق اليد في الحكومة وعندئذ تألف في تلك العاصمة حزبان دعيا أنفسهما باسم حزب الشعب (وهو حزب ماريوس) وحزب الأشراف (وهو حزب مجلس الشيوخ). الحرب الاجتماعية: ارتكب أشياع ماريوس من الفظائع ما انتهى بتلويث شهرته بين الناس فاغتنم أحد الشراف من أسرة كورنيوليوس الكبيرة واسمه سيللا هذه الفرصة لينازعه

السلطة وكان هو أيضاً من جملة القواد. وفي خلال ذلك استشاط الطليان غيظاً من قيامهم بمثل ما يقوم به الرومانيون من التكاليف دون أن يكون لهم مثل امتيازاتهم فنزعوا إلى مقاومته لينالوا حقوقهم المدنية وهذا ما دعوه بالحرب الاجتماعية أي حرب مقاومة المتحالفين فجيشوا جيوشاً كبيرة قدمت إحداها على مقربة من رومية وكان سيللا هو الي أنقذ رومية بقتاله الطليان أشد قتال. وبعد حرب دامت سنتين (91 ـ 89) خضع الطليان بيد أنهم نالوا ما طلبوه وغدوا وطنيين رومانيين. سيللا: طارت شهرة سيللا في هذه الحرب فنصب قنصلاً وعهد إليه أن يزحف على ملك بحر الخزر ميتريدانس الذي أغار على آسيا الصغرى وذبح فيها الرومانيين عن بكرة أبيهم (88) فحمل الحسد ماريوس على أن يثير فتنة في رومية فخرج سيللا للالتحاق بجيشه الذي كان ينتظره في إيطاليا الجنوبية وعاد معه وكان الدين الروماني يحظر على الجنود الدخول إلى المدينة وعليهم أسلحتهم وعلى الحاكم نفسه قبل أن يجتاز الباب أن يخلع عنه رداء الخرب ويلبس الحلة الرومانية فكان سيللا القائد الأول الذي جسر على خرق سياج هذا المنع ودخل إلى رومية فانهزم ماريوس أمامه. ولما وصل سيللا إلى آسيا عاد ماريوس في جيش له من المتشردين ودخل رومية بالقوة (87) وعندئذ بدي بقتل المعتدين قبل محاكمتهم وجعل خاصة أشياع سيللا تحت الأحكام العرفية بل صدرت أوامر الحكومة أن يقتلوا حيثما وجدوا وصودرت أموالهم ومات ماريوس بعد بضعة أشهر وظل سين أهم أنصاره يجري أحكامه في رومية ويقتل كل من لا تروقه حالته وكان سيللا في خلال هذه المدة قد تغلب على ميترايداتس وضمن إخلاص جنده له بأن أباح لهم نهب آسيا على ما يشاءون. وقد عاد (83) في جيشه إلى إيطاليا فبعث عليه خصومه بخمسة جيوش فانهزم بعضها وانحاز الآخر إليه ثم دخل سيللا إلى رومية وذبح الأسرى وخنق أنصار ماريوس. الأحكام العرفية: بعد أن مضت بضعة أيام في المذابح شرع سيللا ينفذ الأحكام العسكرية على الأصول وعلق ثلاث قوائم بأسماء من يريد إهلاكهم قال: أعلنت أسماء جميع من ذكرتهم وقد نسيت كثيراً منهم وسأعلن أسماءهم كلما خطروا في بالي. وكل من علق اسمه في قائمة المحكوم عليهم كان معداً للقتل ومن أتى برأسه ينال مكافأة وتصادر أموال القتيل

وكان يقتل الواحد بدون محاكمة بل بمجرد هوى القائد وبدون أن ينذر بالقتل. وعلى هذا الوجه لم يكتف سيللا بذبح أعدائه فقط بل قتل الأغنياء الذين كان يطمع في ثروتهم ويرى أحد الوطنيين البعيدين عن السياسة نظر وهو مار إلى قائمة المحكوم عليهم بالقتل فرأى اسمه مسطوراً في أول القائمة فهتف قائلاً: ما أتعسني فقد قتلني بيتي في آلب ويقال أن سيللا قتل ألفاً وثمانمائة ألف فارس. قوانين سيللا: بعد أن تخلص سيللا من خصومه حاول أن ينظم حكومة تكون الكلمة فيها لمجلس الشيوخ، فعينوه حاكماً مطلقاً (ديكتاتور) ويطلق هذا اللقب قديماً على القواد في أيام الشدة والخطر ممن تكون لهم السلطة المطلقة فاستخدم سيللا هذه السلطة ليسن قوانين تغير النظام الدستور القديم وذلك بأن ينتخب القضاة بموجب هذا القانون من مجلس الشيوخ ولا تجري المناقشة في قانون قبل أن يوافق عليه مجلس الشيوخ ولا يحق لمحاميي الشعب بتة أن يقترحوا شيئاً وبعد هذه الإصلاحات التي خولت مجلس الشيوخ سلطة مطلقة استقال سيللا من منصبه وأخذ نفسه بالانقطاع إلى داره والعيش في العزلة (79) وكان يعرف بأنه في مأمن إذ كان له مئة ألف من جنوده في إيطاليا. بومبي بومبي: عاد مجلس الشيوخ فقبض على السلطة لأنه حسن في رأي سيللا أن يعيدها إليه ولكنه لم يكن له من القوة ما يستطيع معه المحافظة على تلك السلطة متى قام أحد القواد ينازعه إياها. ودامت حكومة مجلس الشيوخ أيضاً في الظاهر أكثر من ثلاثين سنة وذلك لأنه كان ثمة عدة قواد وكل منهم يحول دون خصمه أن يستأثر بالحول والطول. ولما هلك سيللا كان في البلاد أربعة جيوش على قدم الاستعداد اثنان منها خاضعين لقائدين من أنصار مجلس الشيوخ وهما كراسوس وبومبي والآخران بقيادة قائدين خصمين لمجلس الشيوخ وهما لبيدوس في إيطاليا وسرتوريوس في إسبانيا. والمأثور أنه لم يكن أحد في تلك الجيوش على استعداد ونظام وإن ليس في أولئك القواد حاكم له الحق بقيادة الجند. وكان القواد إلى ذاك العهد أبداً من القناصل أما الآن فأصبحوا من الأفراد ينضم إليه الجند لا ليخدموا الجمهورية الرومانية بل ليغتنوا بسلب الأهلين. ولقد انهزمت جيوش خصوم مجلس الشيوخ وبقي القائدان كراسوس وبومبي وحدهما واتفقا

بينهما على الزعامة وجرى انتخابهما قنصلان. سبارتاكوس: تكرر حدوث عصيان العبيد مرات (حروب العبيد) وكان ذلك في الأغلب في جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا حيث كان العبيد يحملون السلاح لحراسة القطعان. وبعد أن ولي الولاية القائدان كراسوس وبومبي بدأت أشهر تلك الحروب وذلك أن عصابة مؤلفة من 70 مصارعاً هربت من كابو ونهبت عربة تحمل أسلحة وأنشأت تحمل على البلاد حملاتها فخف العبيد وانضموا إليها زرافات زرافات فلم تلبث تلك العصابة أن أصبحت جيشاً. وقد هزم هؤلاء العبيد على الولاء ثلاثة جيوش رومانية أرسلت لتأديبهم وكان سبارتكوس زعيمهم أسر في الحرب وهو من إقليم تراسيا جيء به إلى إيطاليا ليستخدم في الصراع فحدثته نفسه أن يجتاز بلاد إيطاليا كلها للعود إلى تراسيا بلده. بيد أن جيش كراسوس قاوم عصابات سابرتاكوس مؤخراً وكانت مختلة النظام فقتلها عن آخرها وبعدها حظرت رومية على العبيد أن يحملوا سلاحاً. ويحكى أنه أعدم راع من العبيد لأنه قتل خنزيراً برياً بحربة كانت معه. حروب في الشرق: عهد مجلس الأمة لبومبي أن يتولى قيادة الجيوش في حربين متعاقبتين في الشرق الأولى (67) كانت مع قرصان البحر في شواطئ آسيا الصغرى وقد غزوا شواطئ إيطاليا ونهبوها والثانية (66) كانت مع ميترايداتس الذي لم يبرح على ما أصابه من الفشل يدافع عن حوزته في أطراف آسيا الصغرى. ولقد عاد بومبي من آسيا في جيش يتفانى في الإخلاص له وكان في بضع سنين السائد المسود في رومية وإذ كان ينظر إلى الشرف أكثر منه إلى السلطة لم يدخل أدنى تعديل في الحكومة. وفي خلال ذلك نال الحظوة في الأمة شاب الأشراف اسمه قيصر فاتفق بومبي وكراسوس وقيصر بينهم على اقتسام السلطة (60) فانتخب قيصر قنصلاً ثم والياً على غاليا وتولى كراسوس قيادة الجيش الذي أرسل إلى آسيا للحملة على البارثيين ولقي حتفه سنة 53 وبقي بومبي في رومية. كاتالينا: بينما كان بومبي يحارب في الشرق حدثت في رومية أزمة كادت تؤدي إلى ثورة وذلك أن أحد الأشراف من قدماء أنصار سيللا واسمه كاتالينا كان فقد ثروته لاسترساله في الشهوات فحاول أن يسترجع ماله بالقبض على أزمة الأحكام وكان رجلاً قوي الشكيمة

جريء النفس مقداماً لا يتطرق إلى قلبه وسواس وله أصدقاء كثيرون من أشراف الشبان المستهترين الفاسقين أخلصوا في حبه إذ كان يقضي معهم أوقات صفائه ويقرضهم مالاً ويهديهم خيولاً وكلباب صيد. وله من الأنصار قدماء أشياع سيللا وقدماء الجنود الذين أسكنهم سيللا في إيطاليا ممن باعوا أراضيهم وأخذوا يبحثون عن مورد يعيشون منه. فاتفق كاتالينا مع جمهور من هؤلاء الساخطين على أن يذبحوا في آن واحد القنصلين يوم يذهبان معاً على معبد الكابتول فلم يفلحوا فيما دبروه لأن الخبر ترامى إلى القنصلين غلا أن كاتالينا احتفظ بأنصاره وظل يدس الدسائس وكان أعداء مجلس الشيوخ وربما قيصر أيضاً يعضدونه سراً فقدم نفسه لينتخب قنصلاً فكان خصمه في هذا الانتخاب شيشرون أشهر محام وأعظم خطباء الرومان وكان هذا توصل إلى ينتخب حاكماً لأن الأسرات الشريفة غدت منذ عهد ماريوس لا تسمح إلا بانتخاب أناس من الأشراف. وساعد أشياع مجلس الشيوخ الخطيب شيشرون فجرى انتخابه وسقط كاتالينا إلا أن القنصل الآخر رصيف شيشرون وهو أنطونيوس كان ممالئاً سراً للحانقين، فدر كاتالينا مكيدة أخرى على أن يذبح أصحابه شيشرون وأعضاء مجلس الشيوخ في رومية ويحرقوها بينا يكون قدماء أجناد سيللا المقيمين في أتروريا زاحفين على رومية فبلغ الخبر شيشرون فلم يخرج إلا في كوكبة من الفرسان محدقة به إلا أنه لم يكن عنده جيش لقتال قدماء الأجناد الذين شرعوا يتجمعون ويتسلحون والعبيد الذين أخذوا يسلحونهم في كابو فقضى جزءاً من السنة التي تولى فيها القنصلية وهو في قلق مستمر. وأخيراً رجع واليان يقودان جنوداً فشعر شيشرون بقوة تمكنه من الدفاع فاستدعى مجلس الشيوخ ليوافق على قيام القناصل بما فيه سلامة الجمهورية الرومانية وأن يعطي القناصل سلطة ليتخذوا عامة الأسباب التي يرونها مناسبة وأدخل الجند إلى رومية يرابطون في الساحات ودعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع ثانية وفي هذه الجلسة ألقى خطبته الأولى في مقاومة كاتالينا وسأله مشعراً إياه بما دبره من المكيدة التي افتضح أمرها وأنذره بالانصراف. فغادر كاتالينا رومية وذهب للالتحاق بقدماء الأجناد المتمردين في أتروريا وظل أشياعه في المدينة فاتفقوا سراً مع وجود الألوبروج بأن يقدموا لهم فرساناً ثم غيروا آراءهم وأفشوا

سر المتآمرين. فطلب شيشرون خمسة من رؤوس زعماء المؤامرة واضطرهم إلى الإقرار. ثم أخذ رأي مجلس الشيوخ فيما يجب أن يعاملوا به فأجاب بأنه يجب إعدامهم ولكن أحد المجرمين واسمه لاتنتولوس قاضياً، ولا يحق لأأحد أن يوقفه إلا حاكم له مقام أرقى من مقامه فذهب شيشرون بذاته لتوقيف المجرمين الخمسة وأخذهم إلى سجن الكابتول وخنقهم وعاد ليقول لمجلس الشيوخ: لقد عاشوا. فأعلن كاتالينا الحرب ولم يكن سوى جزء من رجاله يحملون سلاحاً ومعظمهم انفضوا من حوله وزحف عليه جيش بقيادة القنصل أنطونيوس آتياً من الجنوب وزحف آخر من الشمال ولم يبق لكاتالينا سوى ثلاثة آلاف رجل حاول بهم الفرار نحو الشمال فرأى جبال ابنين في وجهه مسدودجة فانفض على جيش أنطونيوس وهاجمه وقتل مع أصحابه جملة واحدة (63) فنال إذ ذاك شيشرون من مجلس الشيوخ لقب أبو الوطن دلالة على أنه أنقذ رومية من مخالب العدو ولكن لما انتهت سنة حكمه لم يعهد له بسلطة. فتح بلاد الغال دخول قيصر إلى غاليا: اتفق قيصر مع بومبي وكراسوس أن يتولى كل منهم القيادة في إحدى الولايات العظمى على أن يكون له الحق في أن يجيش جيشاً فوضع كراسوس يده على سورية وبومبي على إسبانيا وقيصر على الثلاث ولايات المجاورة لغاليا وذلك لمدة خمس سنين. وقد ذهب قيصر لما انقضت سنة حكمه بصفته والياً إلى مقر ولايته لينشيء فيها جيشاً ويكون هو قائده ودخل في الحال في عدة حروب وظل عشر سنين بعيداً عن رومية (ولم يدم حكمه أكثر من خمس سنين إلى سنة 53 ولكنه جدده دفعة ثانية إلى سنة 48). وكانت رومية إلى ذلك العهد لم تخضع غير جزء من البلاد التي تنزلها الشعوب الغالية بل لم يكن لها سوى ولايتين غاليتين: غاليا سيزالبين وهي مؤلفة من البلاد الواقعة بين جبال البنين والألب (وهي اليوم إيطاليا الشمالة) والبروفانسيا وهي عباورة عن شواطئ البحر المتوسط وبلاد الرون من جبال الألب إلى جبال البيرنيه. وكانت هذه البلاد مع إقليم إيبيريا (الجبال الواقعة في شرقي الإدرياتيك) هي الثلاث ولايات التي تولاها قيصر. أما باقي بلاد فرنسا الحالية التي دعاها الرومانيون غاليا فكانت مستقلة بعد يسكنها ثلاث

عناصر من الناس، أحدهم الغاليون وهم يشغلون القسم الأعظم من البلاد أي جميع فرنسا الواقعة بين نهر الغارون ونهر السين ويصفهم اليونان والرومان بأن هؤلاء السكان من الرجال العظام بيض البشرة شقر الشعور زرق العيون طوال السبلات يأكلون اللحوم ويسكرون بنبي السرفواز (ضرب من الجعة) أو بشراب الأيدرومل وهم أشد شبهاً بالجرمانيين منهم بالفرنسيس اليوم. وكان السواد الأعظم من هذه الأمة يعيش شقياً في الأكواخ لا شأن لهم في إدارة شؤون بلادهم يخضعون لكبار أرباب الأملاك الذين يقاتلون راكبين صهوات خيولهم ويدعوهم قيصر بلافرسان ويذكرهم كما يذكر محاربين شجعاناً للغاية ولا يبعد أن يكون هؤلاء الفرسان الغاليون شبيهين بالجرمانيين هم من الفاتحين نزلوا وسط شعب أصغر منهم أجساماً أشقر أصهب يشبه الشعب النازل اليوم في البلاد الغربية أي فرنسا وإيرلاندا وبلاد الغال. والقسم الثاني من تلك العناصر الثلاثة هم البلجيكيين نزلوا البلاد الواقعة في شمالي السين إلى نهر الرين وهم يشبهون كما كان يقول الرومان الجرمانيين النازلين في الشاطئ الآخر من نهر الرين والظاهر أنهم كانوا أقل اختلاطاً بالشعب القديم من الغاليين وأحسن الفرسان فيهم كانوا يقاتلون راكبين. والقسم الثالث من تلك العناصر هم الآكيتيون نزلوا في جنوبي نهر الغارون وهم ضئال الأجسام شجعان يشبهون الإيبريين في إسبانيا ويتكلمون بلغة إيبرية ويعتبرون سائر شعوب غاليا كأنهم غرباء وهؤلاء خضعوا لقيصر أول الأمر. وبعد فلم يكن الغاليون والبلجيكيون والآكتيون أمماً معدودة بل لم يكن ثمة غير شعوب صغيرة يسمو إلى قدرها على نحو ثلاث أو أربع من مقاطعاتنا اليوم وكل مقاطعة تؤلف حكومة مستقلة ودعاها قيصر سيفيتا أي التي يحكمها كما يشاء وتحارب غيرها. وكان لبعض تلك الحكومات ملك ويحكم معظمها مجلس من الأشراف (الفرسان) وكان للكهنة عند الغاليين سلطة كبرى. لم تبرح تلك الشعوب على حالة من التوحش بعد تعيش بما تنتجه لها ماشيتها وما مدنها إلا أسوار صغيرة محصنة يجعلون فيها مواشيهم وعيالهم إبان الحرب ولئن كان معظم البلاد غابات وحراجاً فقد بدؤا يزرعون حنطة ليتيسر أن تطعم جيشاً رومانياً بأسره. جاء قيصر ينوي فتح غاليا في جيش اختاره من سكان الولايتين الغاليتين والخاضعتين

لرومية خاصة وكان مؤلفاً بحسب العادة الرومانية من مشاة منظمين كتائب وعليهم أسلحتهم وهم مدربون أكثر من جيوش الشعب الغالي ولقد عني قيصر بذكر خبر الفتح في مفكراته فأوهم القارئ بأن الغاليين ساقوا عليه جيوشاً أكثر عدداً من جيشه ومن المحتمل بأنه لم يقل الحقيقة إذ لم يكن في استطاعة غاليا أن تطعم غير عدد قليل من الناس ومعظم سكانها ليسوا محاربين. غارة الهيلفتيين والسويفيين: عندما وصل قيصر إلى بلاد الغال كان الإيدوانيون النازلون في جبال مورفان أشد شعوب أواسط غاليا بأساً وعاصمتهم بيبراكت بالقرب من أوتون وبلادهم واقعة بين نهر السون واللوار. ومن أشداء البأس الأرفرنيون النازلون في البلاد الجبلية التي أطلق عليها اسم (أوفرنيا) وكانوا حاكمين على الأمم النازلة في البلاد الصخرية الوسطى. فحارب الإيدوانيون السكانيين النازلين في جبال جورا لاختلاف طرأ بينهم على الملاحة في نهو سون فاستدعى السكيانيون من ألمانيا زعيماً سويفياً وهو الملك أريوفيست فأتى بعصابة من خيرة المحاربين مؤلفة من العامة خاصة وهم السويفيون. وبعد أن تغلب الأيدوانيين طلب الملك أيوفيست إلى السيكانيين جزءاً من أرضهم لينزل فيها جيشه. وكان السكيانيون صالحوا الإيدوانيين لقتال أريوفيست الذين نزلوا عليهم وعندما استنجد الإيدوانيون برومية ولما قاد قيصر جيشه إلى بلاد سون تقدم على أنه حليف شعب غالي لمقاومة غارة جرمانية وفي غضون ذلك أخذ الهيلفتيون وهم شعب غالي يسكن سويسرا بالهجرة من بلادهم فانقلبوا منها يحملون أسراتهم ومواشيهم وأمتعتهم محمولة على مركبات قائلين أنهم يريدون مهاجمة بلاد الغال ليستوطنوا شواطيء المحيط. وربما كان ذلك حيلة منهم ليذهبوا لنصرة الأيدوانيين على أريوفيست وتقدموا إلى قيصر أن يسمح لهم باجتياز تلك الولاية الرومانية فأبى عليهم ذلك فلم يبق أمام الهيلفتيين إلا أن يقطعوا وادي سون فداهمهم قيصر بالقرب من نهر سون وحمل أولاً على ساقة جيشهم ثم هاجم مجموعهم فذبح منهم جزءاً عظيماً واضطر من أفلتوا من القتل إلى الرجوع إلى بلادهم ثم ارتد على أعقابه لقتال أريوفيست وأسرع حتى بلغ في جيشه إلى فيرونوسيو (بزانسون) وحاذر جنده من هول هذه الحرب وهم في بلاد جبلية مغشاة بالغابات يهاجمون برابرة أشداء على أهبة تامة

فجمع قيصر قواد المئة من جنده (يوزباشية) وقال لهم على ن يوجسون خيفة أن يسافروا مع الفرقة العاشرة فأجابه قواد المئة بأنهم يتبعونه حيثما ذهب. وقطع الجيش الروماني مجاز جبال الفوسج ونزل إلى سهل الإلزاس وجاء يعسكر أمام العدو. وألف أريوفيست معسكره من مركباته وتحصن وراءها وكان قيصر يمرن جيشه في السهل ويعبيه للقتال ثم صحت عزيمة أريوفيست على الخروج من المعسكر فداهم الجيش الروماني في فرسانه فجرح وفر جنده فطارده العدو حتى نهر الرين. وكان المهاجمون الجرمان يطردون إلى خارج غاليا ولكن قيصر لم يأت مع جيشه إلى ولايته بل رابط معه ي وادي سون حيث قضى الشتاء وقد أخذ يعامل بلاد غاليا كالبلاد المغلوبة فاضطرت الشعوب الغالية أن تحالف رومية. فتح شمال غاليا: أبى البلجيكيون النازلون بين نهري السين والرين وهم أشجع شعوب غاليا كافة أن يدخلوا في محالفة رومية فتعاهدوا بينهم وتحالفوا وجمعوا جميع المحاربين من أبنائهم في بلاد لاون. فجاء قيصر في الربيع في ثماني فرق من الجند وعقد محالفة مع أحد هذه الشعوب وهم الريمسيون ونزل في معسكر حصين على رابية يفصلها عن معسكر البلجيكيين واد ذو بطائح وظل الجيشان زمناً أحدهما قبالة الآخر وإذ كان الجيش الروماني منظماً كانت تأتيه النجدات من الطعام تباعاً أما البلجيكيون فشق عليهم أن يتغذوا في تلك الأدغال والحراج فأنفذ قيصر الإيدوانيين أحلافه يخربون بلاد الييلوفاكيين أهم تلك الشعوب المتحالفة ولما بلغ البلجيك ذلك انفضت جموعهم ليذهبوا للدفاع عن بلادهم فتخلص قيصر من جيش العدو بدون قتال وراح يطوف بلاد البلجيكيين ويهاجم مدنهم الواحدة بعد الأخرى مكرهاً كل أمة أن تكون حليفة لرومية وأن تعطيها على سبيل الرهن رجالاً من الأسر النبيلة في بلادها. وقد داهم النيرفيون (أهل بلاد السامبر) أحد هذه الشعوب الجيش الروماني في غابة على شاطيء نهر السامبربينا وكان يبني معسكره وهزم الفرسان الغاليين أحلاف الرومان وعساكر الرجالة الخفيفة إلا أن الكتائب حمت المؤخرة وحالت دون الهزيمة فأخذ قيصر يحارب النيرفيين حرباً يريد بها إبادتهم عن آخرهم. ولما أخضع الجيش الروماني الشعوب البلجيكية قضى الشتاء في وسط بلاد غاليا على شاطيء اللوار.

فتح الغرب: قبلت الشعوب النازلة على ضفاف البحر المحيط أن تحالف رومية وتقدم لها رهائن وما جاء الشتاء حتى تحالفوا بينهم وأبوا أن يرسلوا حنطة لإطعام الجيش الروماني وأسروا عندهم مندوبي الرومان الذين جاؤوهم في طلب ذلك ليكرهوا قيصر على أن يعيد إليهم من استبقاهم عنده من رجالهم رهينة. وكان للفنتيين (سكان فان) وهم من الشعوب الخطير في ذاك الحلف سفن حربية صنعوها من شجر البلوط وجعلت بحيث تسير على إرادة ربانها ولها مقدم مرتفع يقاوم الأمواج وطبقات سفلى منبسطة تستطيع أن تبحر على قيعان الشاطيء وفي البحار الصغيرة فأنشأ قيصر سفناً ذات قلوع في مصب نهر اللوار هاجم بها أسطول الفنتيين. وصعب عليه أن يحطمه لأن سفنه لم يكن لها من العلو ما يكفي للوصول إلى ساماة تلك السفن الفنتيية وكانت مراكبه داخلة في الماء كثيراً بحيث لا يتسنى لها أن تطارد مراكب عدوه في وسط الصخور والقيعان وبعد اللتيا والتي صنع الرومان مناجل ذات مقابض وعصي طويلة قطعوا بها الحبال التي كانت تمسك قلوع سفن الفنتيين فلما سقطت القلوع من هذه السفن. ولم يكن عندها مجاديف تقذف بها وقفت لا تبدي حراكاً فداهمها الجيش الروماني وأخذها عنوة فطلب الفنتيون الصلح إلا أن قيصر أمر بأشرافهم فضربت أعناقهم وباع سائر الشعب بيع العبيد. وفي تلك السفن أيضاً كان اقتطع قيصر فرقة صغيرة من جيشه لتخضع لسلطان رومية جميع الشعوب النازلة في الإقليم المعروف اليوم بإقليم نورمانديا وهناك فرقة أخرى له تحارب شعوب الأكتيين في جنوب نهر الغارون وعلى هذا فقد أخضع قيصر في ثلاث حملات (58 ـ 56) عامة بلاد غاليا واغتنم فرصة الشتاء للعودة إلى ولايته في إيطاليا المعروفة بسيزالبين. وفي العام التالي (56) ضرب موعداً للقائدين الآخرين اللذين كانا يقاسمانه الحكم وهما بومبي وكراسوس فاجتمع ثلاثتهم على تخوم ولايته في ولاية لوكس وقرروا تجديد حكومتهم لخمس سنين أخرى. حملات إلى خارج غاليا: حارب قيصر خارج ولاية غاليا دلالة على سطوته وإشغالاً لجيشه وكان شعبان جرمانيان اجتازا نهر الرين وهاجما بلاد البلجيك فسار قيصر في جيشه وفرسان شعوب غاليا على نهر الرين بالقرب من ملتقى نهر الموز وهاجم الجرمان وذبحهم مع نسائهم وأولادهم ثم بنى على الرين جسراً من جذوع الأشجار وذهب لتخريب الشاطيء

الأيمن. ولما عاد إلى غاليا ركب البحر مع فرقتين (55) واجتاز بحر المانش ونزل إلى بريطانيا (إنكلترا) ولما أنشأ في السنة التالية سفناً متسعة قليلاً لنقل الأثقال والخيول عاد إلى بريطانيا في جيش كبير واجتاز الغابات التي دافع عنها المحاربون البريطانيون حتى بلغ نهر التيمس (54). قيام الغاليين: كان الأشراف في معظم الشعوب الغالية من أشياع رومية يقاتلون في الجيش الروماني على أنهم رديءٌ من الفرسان ويعاشرون الضباط الرومانيين وكان بعضهم من اصحاب قيصر إلا أن السواد الأعظم من تلك الأمم كانوا يتبرمون بأولئك الجنود الغرباء الذين يسيرون سير السادة فانشق بعض الزعماء من حزب الأشراف واتفقوا بينهم سراً على تهييج الشعب. وكان قيصر قد وزع جيشه على شعوب كثيرة لقضاء فصل الشتاء وذلك لأن القمح كان نادراً في تلك السنة فقرر زعماء الغاليين أن يغتنموا هذه الفرصة لمهاجمة الفرق المنعزلة وقطع مواصلاتهم فانتظروا ريثما يبتعد قيصر إلى ولاية سيزالبين حيث ذهب لقضاء الشتاء. إلا أن شعب الكارلوت (شارتر) أبدى نواجذ العصيان قبل أن يتم ما دبروه مستشيطاً غضباً من ملكه الذي نصبه قيصر وحاكمه فحكم عليه بالإعدام وقتل. فبلغ قيصر هذا النبأ فاستعد للحرب ولما أزمعت الفرقة الرابطة في بلاد السامبر الخروج من معسكرها داهمها الأيبورون وذبحوها. ورأت فرقة رومانية أخرى أن تبقى في معسكرها فأحاط بها الغاليون فأسرع قيصر وتمكن من إنقاذها وعند ذلك استراحت الجنود الرمانية إلى آخر الشتاء. ولما طلع الربيع أبى عدة شعوب غالية من الشمال أن يبعثوا وفودهم إلى قيصر فجمع جيشه برمته وسحقهم واحداً بعد واحد فانتقم من الأيبوريون بتخريب زروعهم وحرق قراهم وبح السكان وطارد المنهزمين إلى غابات آردن وما جاء الخريف إلا وقد خضعت غاليا الشمالية بأسرها. الفارس فرسنجتوريكس: أجمع شعوب أواسط البلاد في خلال الشتاء أمرهم بينهم على العصيان ثانية وبدأ الكارنتيون أولاً فداهموا مدينة سنابوم على نهر اللوار فقتلوا فيها تجار الطليان كافة. وفي هذه المرة تسلح عامة الشعوب النازلين بين نهر السين والغارون لقتال

الرومان وبقي الأكتيون على الحياد. وبدأت الشعوب المحالفة لرومية تنزع السلطة من يد الأشراف أشياع قيصر وأقاموا زعماء جدداً ودخل هؤلاء في التحالف الغالي. وكان زعيم الثورة شاباً من أسراف أرفرنا اسمه فرسنجتوريكس وهو فارس يحسن الفروسية خدم في الجيش الروماني وكان صديق قيصر وأحدث ثورة في بلاده أولاً وما هاج سكان القرى حتى نزع السلطة من أيدي الأشراف وأصبح ملكاً على أرفرنا ثم بعث برسل إلى الشعوب الأخرى وجمع جيشاً وجعل من نظامه أن يحرق الخائنين ويصلم آذان الآبقين ويسمل عيونهم، فداهم الغاليون الرومانيين في آن واحد في الجنوب من ولاية بروفنسيا (من إقليم لانكدوك) وفي الشمال من البلاد الواقعة بين هري السين والسون حيث كانت ترابط الفرق الرومانية، واضطر قيصر أن يجتاز جبال سيفين وهي مكللة بالثلوج وأكره فرسنجتوريكس من رجاله أن يعود للدفاع عن بلاده فاتسع الوقت لقيصر أن يجمع جيشه بالقرب من سانس ويذهب فيه إلى إقليم اللوار فخرب فرسنجتوريكس جميع البلاد وجعل المدن قاعاً صفصفاً لتكون قفراً لا يجد فيها العدو سيئاً يطعمه بيد أن البيتوريجيين لم يقبلوا بتخريب مدينتهم أفاريكوم ودافعوا قيصر عنها زمناً. بعث قيصر في الربيع (52) فيلقاً لمباغتة شعوب السين وذهب بنفسه في معظم جيشه للهجوم على جركوفيا قلعة الأرفرنيين فرد على أعقابه وحرج موقفه إذ لم يكن لديه طعام (لخراب مخازن ذخائره في نرفر) وهو محصور بين شعورب الأرفرنيين والأيدوانيين الذين ذبحوا التجار الطليان ومع ذلك أصر على عدم إخلاء غالياً وتمكن من الوصول إلى سانس. وفي خلال ذلك عين المجلس المؤلف من مندوبي جميع الشعوب الغالية الزعيم فرسنجتوريكس قائداً عاماً على الجيوش الغالية. فاستدعى قيصر من جرمانيا فرساناً أخذهم لحساب رومية وقاد جيشه من ناحية سون ولعله فعل ذلك ليتمكن من مراسلة بروفنسيا فتبعه فرسنجتوريكس في جيشه وحاول أن يقطع عنه مواد الطعام ورمى الجيش الروماني وهو في مسيره بفرسانه الغاليين فهزمهم فرسان الجيش الغالي ورجع فرسنجتوريكس على أعقابه إلى مدينة أليزيا الحصينة في بلاد الآكام بين نهر السون ومصب نهر السين فتبعه قيصر وحاصره فيها جاعلاً حول أليزيا سوراً تعلوه دائرة مجنحة ذات أبراج يحميها بخندق.

وصل جيش من الغاليين لرفع الحصار عن جيش فرسنجتوريكس وداهم الرومانيين ولكن حال دون الوصول إليه ذاك السور الذي أقامه قيصر من ناحية الخلاء. وبعد اشتباك القتال بين الجيشين رد الجيش الغالي على أعقابه وتفرق شذر مذر فلم يبق عند الجيش المحاصر في أليزيا شيء من الزاد فسلم فرسنجتوريكس (52) فبعث به قيصر إلى رومية حيث قضى ست سنين سجيناً ثم شهد حفلة انتصار قيصر وضرب عنقه. وهكذا انتهى العصيان العام. وقضى قيصر سنة أخرى في إخضاع الشعوب التي كانت تقاوم واحداً بعد الآخر فأبادها. وكان يفاخر بأنه ذبح في ثماني سنين مليوناً من السكان وأنه أسر منهم مليوناً آخر باعه بيع العبيد وقضى سنة أخرى لتنظيم شؤون حكومة غاليا وبعد ذلك صفا الجو لرومية بهلاك أعدائها. وقد وسد قيصر الحكم إلى الأشراف أشياع الرومان وألف فرقة من الغاليين لقبوها بالسنونو وكان جيشه المدرب يحبه فحدثته نفسه أن يستخدمه في الاستيلاء على المملكة الرومانية بأشرها فخضعت غاليا لرومية مباشرة وتقسمت ولايات ولكن تنظيمها لم يتم إلا على عهد أغسطس.

جيران الفراعنة

جيران الفراعنة بقية ما في الجزء السالف تقدم أن اكتشافات المستر ونكلر في بوغاز كوي كانت ذات شأن سام لعلاقتها بالتاريخ القديم لشعوب البحر المتوسط وها نحن أولاء نشرح نظريتنا من هذه الوجهة المهمة ونبينها على قدر الطاقة. لما كان من المسلم أن عاصمة مملكة الهيتيين ليست كما ظن حتى الآن جرابيس في شمال الفرات الأوسط بل هي بوغاز كوي من أعمال كابادوسيا لم يبق صعوبة في أن نقول بأن ملك الهيتيين امتد سلطانه إلى ليديا. وهذا التغلب على الساحل الآسياوي من بحر إيجي ظاهر في نفسه لا يحتاج إلى شرح بعد أن عرف بأن كابادوسيا كانت متاخمة لإقليم ميونيا أو تكاد. وإذ ضاق ذرع الهيتيين من اتصال اعتداء الفراعنة على أملاكهم الجنوبية أجمعوا أمرهم بينهم على إشهار الحرب على مصر وطرد الفراعنة منها وإذ لم يتأت كتم استعدادهم للغارة في وسط بلادهم فقد أصبح هجومهم على الفراعنة بحراً ضربة لازب ليحولوا دون اعتداء الفينيقين وهم تابعون لمصر لئلا يكونوا السبب في إخفاقهم في غزوتهم. فبدلاً من أن يستخدموا ثغر تارس مرفأهم الحربي العظيم لإرسال أسطول ضخم اختاروا ثغر أزمير وهي تقع في وسط خليج مشيعين بأنهم رأوا من الضرورة أن يهاجروا لأن السكان نمو كثيراً فضاقت بهم البلاد. ولئن لم يكتب لثغر تارس أن يجتمع المحاربون فيه فإن بحارته وربابنته وفيهم وحدهم كالهيبينيين الثقة التامة تولوا أمرة الأساطيل وإبحارها. ومن هنا جاء اسم تورسها الذي أطلقوه على غارتهم على مصر. ولا شك أنهم بعد انكسارهم قصدوا إيطاليا لاستيطانها مع بقائهم مرتبطين ارتباطاً محكماً ببلادهم الأصلية وذلك لأن دخول السادرسيين والسيكوليين بعد قرن في اتحاد شعوب البحر يحمل على هذا الظن. وليس التناسب الظاهر بين رواية هيرودتس وآثار الكرنك المزبورة هو من فعل الاتفاق. فقد قال هيرودتس أن عهد أتيس أو الأتيين قد تقدم عهد أرغون مؤسسة الدولة الهيراكلية وفي ذلك مجال إلى القول بأن استيلاء الهيبتيين سبق استيلاء الآشوريين على آسيا الصغرة وأهم نقطة جوهرية في رواية هيرودتس المؤرخ اليوناني هي الصفات المميزة للعمل الذي قام به تورسنوس في توليه زعامة الأسطةل الذي أقلع من أزمير فقد ورد في نصوص

الآثار المصرية أن التورسهانيين كانوا عقدوا العزم على أخذ أساطيل شعوب البحر المتجمعة تحت حمايتهم. وهنا ننتقل إلى الكلام على شعب آخر جعله بانتاور في شعره في مصاف الهيتيين على عهد رعمسيس الثاني. وهذا الشعب هو الدرداني الذي تنسب إليه كتابات الكرنك التقدم على جيرانه لأنه قبض على قياد الجيوش للالتحاق بملكهم الخاضعين له في سورية. والظاهر أن هؤلاء الدردانيين الذين ورد ذكرهم في شعر هوميروس وجاء في تقليد صحيح منذ القدم بأنهم سكنوا شاطيء الدردنيل وأنهم كانوا من أصل تراسي. ولا نكتم ما يخالج ضميرنا من التردد إذا أردنا أن نحيد عن هذه الوجهة عن تأثيرات التقاليد ولا سيما إذا جاءت متوافقة متناصرة. ومع ذلك فإن اعتقادنا بعدم قبول مثل هذا الأصل راسخ ولكن لا نستنكف من جعله قيد النظر والبحث على ضعف فيه. وبعد فيظهر لنا أن دخول التراسيين أو الفرغانيين في أصل جميع الشعوب الصغيرة التي كانت تسكن إذ ذاك الشاطيء الآسياوي من بروبوتيد ناشيء كما قلناه من رغبة الآسياويين بالاتصال باليونان عندما أتوا لاستعمار هذا الجزء من آسيا الصغرى بعد حرب تروادة بمئة وأربعين سنة ومن هنا دخل في علم أصول سكان هذه البلاد وامتزاجهم تقليد أصبح له مع الزمن صبغة تاريخية وإن تطرق الشك إليه كثيراً. نحن نرى أن الدردانيين ليسو تراسيين ولا كربتيين بيلاسجيين بل كانوا إيرانيين ودليلنا على ذلك ما رواه هيرودتس. وفي الحقيقة أن هذا المؤورخ لا يعرف إلا اسم مدينة واحدة باسم الدرداني كانت في عهده على الشاطيء الآسياوي من الدردنيل أما الدردانيون الصرف فقد ذكر أنهم في أودية جبال ماتين التي يجري فيها نهر جينديس الذي يصب في دجلة الوسطى وهو أهم مصب له. ويسوقنا هذا الموطن الأصلي للدردانيين إلى الجزم إلى الجزم بأنهم فرع من العنصر البروتو الأرمني. ويقول ماسبر أن الماتيين الذين ورد ذكرهم في الكتابات الأكادية أو الماتيين الذين ذكرهم هيرودوتس كانوا أنسباء الدردانيين سكنوا أولاً في جنوبي بحيرة أورومية بين أرمينية قديماً وميديا فحدا الميل إلى اقتحام المخاطر بالماتيين وجيرانهم إلى مغادرة جبالهم وأوديتهم منذ القدم وأن يضربوا في شواطئ قزل إيرمق حيث استوطنوا منذ ألفي سنة قبل المسيح. وإن ما يدعونا إلى أن نرتئي بأن تاريخ

ذلك قديم هو أنه ورد في الكتابة التي ذكرت فيها نصرة توتيمس الثالث أحد الفراعنة فإنه بعد أن نكل بقبرص والآز أرعد أرض ماتان في مرافئها وأنحائها كما ورد في تلك الآثار. إذاً فأي معنى للفظ ماتان إن لم يكن الماتانيون من الذين ذكرهم هيرودتس. إذا صح هذا فيكون الماتيون منذ الزمن الأطول قد اجتازو نهر قزل إيرمق وضربوا إلى البحر المتوسط وذلك قبل أن ينشأ التراسيون حتى في أوروبا. وربما جاء من هناك خلط قدماء المؤلفين في دعواهم بوجود قرابة بين الفرغانيين والأرمن وهي قرابة ينفيها مؤرخ الأرمن موسى بن خورين لأنه يرى أن أصل الأرمن من تيراس لا من كومر. ومن المحتمل كثيراً أن تشابه النطق بتراس وتيراس قد أوقع في الخلط بهذا التفسير وبحسب العلم الحاضر تكون تيراس في إقليم طوروس لا في تراسيا. ولقد أقمنا زمناً في أزمير كانت لنا في خلالها خلاصات دائمة مع الآباء الميخيتاريستين ولذلك ألفنا اللغة الأرمنية فلم نتبين في هذه اللغة تناسباً لغوياً بين اللسان الفرغاني الذي كتبت به المكتوبات الآسياوية واللغة الأرمنية. وإذا كان ثمة بعض الألفاظ سرت فمنشأوه من وحدة البلاد التي سكنوها بعد عهد نزول التراسيين إلى آسيا الصغرى بزمن طويل بيد أن المصانع الأرمنية كثيرة في أيامنا هذه في هذا الجزء من قارة آسيا وقد قيل أيضاً أن اللغة الأرمنية المدرسية الحديثة قد نشأت في القرن الخامس للميلاد وبذلك كان من المتعذر معرفة أي لغة يتكلم بها البوروتو الأرمن. وهناك خطأ آخر وهو أن اللغة الأرمنية ليست وحدها معروفة في القرن الخامس ب. م بل أن حروف هجائها واللغة الأرمنية متشابهة الأصوات بحيث يعسر أن تكتب بحروف أوروبية ولذلك واقتضى لها إيجاد حروف خاصة للاستعمال. ومن المحقق أنه لا توجد كتابة صخرية يرد عهدها إلى العهد البورتو الأرمني وجميع الكتابات التي وجدت في مدينة وإن قد رسمت بالخط المسند ولما أراد مسروب في القرن الخامس أن يؤلف لأمته آداباً وطنية لم يجد المواد لتأليفها من أصولا حروف الهجاء الأوروبية كلغة الروم وآسيا الصغرى وإيطاليا بل وجد الأصول لتأليفها في فرع اللغة الآرامية مثل البهلوية والزندية والكرجية وإذ كانت هذه اللغات أيضاً غير كافية للتعبير عن الأصوات الأرمنية اضطر أن يزيد سبعة حروف صوتية وسبعة حروف ساكنة ليمثل بها

الأصوات التي لا توجد في حروف الهجاء المعروفة من أصل آرامي وبذلك تبينت أن لا علاقة للغة الأرمنية مع اللغة الفرغانية لأن هذه لغة لم يكن لها غير تسعة عشر حرفاً وكانت غير كافية للإعراب عما فيها. بقي علينا الآن أن نشرح الداعي إلى الاستعمار الإيراني لتروادة وعلاقة هذه مع الدولة التي حكمت في أليون وهي علاقة كانت السبب في تقدم ذاك الاستعمار على غيره من المستعمرات الكريتية البيلاسجية في هذا الجزء من آسيا الصغرى. وليس غير الاستدلال نعمد إليه في بحثنا في هذا الماضي الذي لا تاريخ له ولا ندعي بأننا نضع نظرية لعرضها كأنها حقيقة أساسية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ويتيسر لنا الحكم على ذاك الماضي بما تدل عليه بقايا ما عثر عليه من الكتابات التي ورد فيها خبر الانتصارات في الكرنك وفي النصوص اليونانية والظاهر أن أهل الطبقة الحاكمة من الهيتيين كانت لا تنظر إلى تطبيق المبادئ السياسية بالحرف بل تتوخى تطبيقها مع الأحوال والزمن ولذا كان يسكن جزءاً من بلادهم شعب ضعيف كان في إخلاصه له نظر فأدى ذلك إلى خلع ربقة دولتهم الحاكمة وتسليم مقاليد الحكومة إلى دولة أخرى يتيسر الاعتماد على إخلاصها أكثر. ومن صعب مراسهم من الشعوب يطردونهم من بلادهم وهذه السياسة تشرح كيف تنقل الشعوب في بلاد الهيتيين من ناحية إلى أخرى من أنحاء مملكتهم. وبهذه الحجة دخل اللوكوسيريون إلى كابادوسيا لمعاضدة الدولة الهيتية الحاكمة التي هي من جنسهم ودخل الميونيون الذين ردهم الهيتيون على أعقابهم واستعاضوا عنهم بالعنصر السامي اللودي ومثلهم التركريانيون الذين طردوهم للاستعاضة عنهم بادردانيين للمحافظة على ممر الدردانيل ومنع أساطيل الأعداء والمزاحمين من الدخول في البحر الأسود وهو مركز تجارة كبرى لمنافسة الفينيقفيين. كل ذلك يحمل على الظن بأن قبيلة أولية اجتازت خليج الدردنيل على عهد الملك توسر لأن المؤرخ هيرودتس يؤكد أنه رأى في كولشوس مستعمرة مصرية حبشية كانت هناك منذ الزمن الأطول. وإذا توسعنا في البحث في أصول الشعوب التي تبعث الجيش الهيتي إلى سورية مكن طريق البر نجد ثمة جماعات أخرى وإن كان قدومها آخر الآمر من كريت فليست على ما يظهر كالفيلستيين من أصل ليبي مصري. وهؤلاء الجماعات هم الكاريون والليسيون

والكوكونيون الذين يظهر أن بينهم قرابة ونسباً. قال هيرودتس فيهم أن الكاريين والكوكونيين والليسيين غادروا الجزائر ليستوطنوا القارة الآسيوية وكانوا في القديم رعايا مينوس (ملك كريت) ولم يكونوا يدفعون خراجاً ولهم في ميلاسا معبد قديم للمشتري الكاري وهو بينهم مشترك لما بينهم من القرابة ولذلك كانوا مستأثرين بهذا المعبد وحدهم دون جيرانهم الذين ليسو وإياهم من أصل واحد. وكانت لهم عادة قلما توجد عند غيرهم من الناس وهو أنهم يدعون الأبناء إلى أمهاتهم لا إلى آبائهم وإذا سئل أحدهم عن نسبه ذكر والدته وسلسلة نسبها. وعندهم إذا تزوجت امرأة وطنية بعبد يجيء أولادها أحراراً أشرافاً وأما إذا تزوج وطني ولو كان سيد قومه من امرأة أجنبية أو من سبية فأولاده ساقطون لا شرف لهم وليسو أحراراً. وقد ألف البارون دي كستين كتاباً مستوفى في الكاريين قديماً فبحث في أصل حكم المرأة في الأسرة وفي تأثيرها في المجتمع المدني ونفوذها في المملكة وأثبت بأن هذه العادة كانت مستحكمة عند الأمم الليبية القديمة وعند قسم عظيم من شعوب آسيا الصغرى وقد جمع بين هاته الشعوب ليرجعها إلى أصل واحد هو في رأيه الجنس الأسمر النازل في أوساط آسيا المعرف باسم العنصر الطوشي. وقد كانت عبادة الكوشيين عبادة أرباب البحار كما كانت عبادة الفوتيين والإيبريين ونشأت هذه العبادة عغلى شواطئ المحيط الهندي وانتشرت في عامة أنحاء الخليج الفارسي وبلاد العرب الجنوبية ومن هناك انتقلت إلى بلاد الحبشة ومنها سرت إلى أطراف موريتانيا في المحيط الأطلانطيكي وانتقل مكار وهو معبود الليبيين والإيبريين إلى اليونان مع تعديل كثير فيه وكان حيثما انتشرت عبادته تؤوي المعابد المعمورة باسمه من يمر بها من البحارة. ومن الصعب أن نصور كيف عمت عبادة مكار في البلاد ذات الأنهار والجزائر الواقعة في البحر المتوسط حتى بلغت جزائر مكار في المحيط الإطلانطيقي. فقد ترك الكاريون والماريون حيثما نزلوا بنايات متسعة صبرت على الدهر بمتانتها. فإذا سرنا من ليبيا نجتاز أولاً واحة عمون الذي سمي أولاً باسم مكارونيسواو جزيرة مكار. وقد كان في برقة نهر اسمه نهر مكار وفي خليج قابس بحيرة مكار وفي زوجيتانيا نهر آخر اسمه نهر مكار.

وعلى الشاطئ الإطلانطيقي في موريتانيا (شمالي مراكش وغربي الجزائر) نهر وبحيرة باسم مكار. وقد اكتشف هانون القرطاجني في تلك الأصقاع في القرن السابع قبل المسيح نهر لوكوس وخرائب مدينة أسوارها كارية ولا تزال هذه الأسوار موجودة إلى يومنا هذا وإذا تركنا وراء ليبيا ومررنا بأوروبا نجد في مدخل الأرخبيل اليوناني جزيرة لمكار. ونعني بها جزيرة كريت وربما جاء من هنا اسم كانتور أو جزيرة سيفين الكبرى على ما قال ذلك إيبرس الأثري الألماني وإذا تقد إلى الأمام نجد نهراً لمكار في إقليم تساليا وآخر في بيوسيا وثالثاً في بروبوتيدا. ويؤخذ من قول هوميروس أن لسبوس (جزيرة مدللي) كانت مقراً لمكار. ولا يقف إنشاء عبادجة مكار وراء تخوم بلاد اليونان بل كانت شائعة في إقليم أومبريا بإيطاليا وساردينيا وإبيريا (الأندلس) ولا شك أن أسواء جزيرة تارتاسوس لم يستطع أهل صيدا أن يدكوها إلا باختراع المنجنيق وما تعاصت عليهم إلا لأنها بنيت معبداً لمكار. وإذا سألت عن مكار هذا الذي يكاد يكون أثراً خالدجاً في كل مكان فهو بحسب الألواح الآشورية المحفوظة في المتحف البريطاني مكار أوانو ـ كما جاء في أحدها ـ سيد المياه ورب الأنهار وسلطان البحار وزعيم الأعماق وربها وحاكمها. وفي الأساطير البابلية أنه أحد الأرباب التي بدت في صورة أسماك يحرس منازله الرجال الذين خلقوا على هيئة أسماك ويتصل نسب مكار كما في الأساطير الهندية بفرع الكوشيين. وإذا عرفت هذا فلا يسوغ لك أن تخلط بين مكار بعد ما ذكرت لك من وصفه وبين بوسيدون وهو رب ليبي صرف رآه اليونان في جميع الحار واتخذوه وصبغوه بصبغتهم. وكان على الشاعر هوميروس أن يعرف تلك الأرباب القديمة التي كان تعبد في ليبيا لأنه كثيراً ما يذكر في الأوديسية اسم الحبشان الآسياويين والحبشان الأفريقيين. ولغة الكاريين هي لغة البربر وهي لغة أحد الفروع القديمة للجنس البشري كان يطلق عليهم جيرانهم في آسيا وإفريقية بارباروئي. وهذا الاسم القديم (البربري) لم يطلقه على عمومه إلا اليونان واللاتين أما هوميروس فإنه يعني ببربر ذاك الفرع الليبي من الناس المعروف باسم بربر حتى اليوم. وبين بارباروئي كما أطلقه هوميروس بعض ألفاظ تقرب كل القرب من اللغات السامية حتى لقد قال أحد العلماء أنه إذا كان النحو اليوناين يدل على

تراكيب تشبه النحو السنسكريتي واللاتيني والسلافي فإن معجمه وإن حوى مفردات كثيرة جداً ولاسيما في المصادر الصوتية وهي آرية بالطبع قد أطلعنا على قليل من المعاني الغريبة عن جميع اللغات الهندية الأوروبية والألفاظ السامية. وليست هذه التعابير مقصورة على الألفاظ الدالة على حيوانات ومعادن ونباتات بل أن منها ما يدل على المبادئ الضرورية للحياة المدنية والسياسية وفيها خالف اليونان وحدهم إجماع الأمم الأوروبية. أهـ وقد تبين أن بين خط ميونيا وخط ليبيا القديم تناسباً وأن هذا الخط ليس له علاقة بالحروف الهيتية أو الحروف الفرغانية في آسيا الصغرى بل هو مشتق من الخط الهندي الحميري. والظاهر على ما قاله نورمان أن الخط الهندي الحميري جاء في الأصل من جنوبي بلاد العرب ومن هناك انتقل إلى أفريقية ـ حيث كان الخط الحبشي والليبي فرعاً خاصاً برأسه ـ مع الخط الحميري أو هجاء سكان اليمن القدماء. وهذا التعريف الذي عرفه لنورمان من تعيينه سير هذه الحروف الهجائية هو مثل تعريف البارون دي كوستين للخط الكوشي في تنقله إلى أن بلغ البحر المتوسط فساغ لنا من ثم أن نقول أن اللغة الحميرية اشتقت منها الغسانية والغزية والليبية والكريتية والإمحرية والتيفنغية.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات العرب قبل الإسلام ألف جرجي أفندي زيدان منشيء الهلال هذا الكتاب وهو يبحث في أصل العرب وتاريخهم ودولهم وتمدنهم وآدابهم وعاداتهم من أقدم أزمانهم إلى ظهور الإسلام ويدخل هذا الجزء الأول تاريخ دول العمالقة في بابل ومصر وفي بطرا وتدمر وغيرهما وتاريخ العرب القحطانية في اليمن ودولها المعينية والسبأية والحميرية وتمدنهم في مآرب وظفار وحضرموت وفيه أخبار عرب الشمال وعدنان وما كان لهم من الدول في الحجاز ومشارف الشام والعراق وحروبهم وغير ذلك. وقد زينه ببعض الرسوم والخرائط وجعله هدية لمشتركيه عن السنة السادسة عشرة فجاء في زهاء 250 صفحة يشهد بطول باع المؤلف وبحثه فنحث على اقتنائه. فلسفة العمر قل فينا المؤلفون الذين يؤلفون للذة والفائدة فقط وقل فينا من يحبون العلم للعلم ولا سيما من أهل السعة. وصالح بك حمدي حماد من أهل هذه العاصمة هو من الكتاب الذين وقفوا أيامهم ولياليهم على هذا الغرض الشريف نقل حتى الآن عدة كتب من اللغة الفرنسوية إلى اللغة العربية ولو كان يعمل عمله كل من تعلموا لغة أجنبية منا فينقلون لنا ما يلزمنا لغنيت لغتنا بآداب الأمم الغربية وتاريخها واجتماعها وآخر ما نشره رسالة في فلسفة العمر في أدوار الحياة الأربعة أي الطفولية والشبيبية والكهولة والشيخوخة وما في طيها بحسب الأحوال الاجتماعية الراقية من عبر وحكم أضاف إليها بعض تراجم المشاهير الوردة أسماؤهم في الكتاب وطبعه طبعاً جميلاً في 141 صفحة ويطلب منه. نور اليقين في سيرة سيد المرسلين هو كتاب في السيرة النبوية لمؤلفه الشيخ محمد الخضري من أفاضل هذه العاصمة طبعه للمرة الثالثة أجمل طبع حسنين أفندي محمد صاحب مكتبة المؤيد في 334 صفحة. وهذه السيرة على إيجازها من أنفع ما كتب في هذا الموضوع الشريف ولذلك راجت وطبعت ثالثة. عفة الأولاد

عرب سليم أفندي خوري هذه الرسالة من الإنكليزية فيما يجب على الأولاد معرفته وعي في صورة مخاطبات ورسائل حوت نصائح كثيرة لطيفة وتطلب من معربها بمصر وهذا هو الجزء الأول ويليه ثلاثة أجزاء وفقه الله تعريبها ونشرها. رحلة ابن جبير من أجمل الرحلات وأنفعها رحلة ابن جبير الأندلسي من أهل القرن السابع طبعت في أوروبا مرتين وأعيد طبعها ثالثة الآن ونطلب من طابعها مصطفى أفندي فهمي الكتبي بالحلوجي بخمسة قروش أميرية وشهرة ابن جبير تغني عن التنويه بكتابه الذي طار صيته وحلت في الأسماع نغمته. الدرر السنية ألف حسين أفندي فتوح ومحمد علي أفندي عبد الرحمن هذه الرسالة باللغة العامية وما يقابلها من العربية وقد اعتمدا على لغة العامة في مصر وقابلاها بما استحسناه وعرفاه من الفصيح فجاءت في 64 صفحة فنثني على همتهما ونرجو أن يتوسعا في هذا الموضوع الجليل هما وسائر المشتغلين به. الحمويات هو ديوان الشيخ محمد الحسن الحموي فيه ضروب من شعره وأكثره في المديح وقد صدره بترجمة نفسه وحلاه ببعض الرسوم وهو في زهاء مائتي صفحة صغيرة ويطلب من طابعه بمصر فله الشكر على هديته.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع بنات أميركا أزهر تعليم البنات في الولايات المتحدة ففيها 179 مدرسة تضم وراء جدرانها 30 ألف طالبة يعلمهن 2600 معلم ومعلمة وينسب الفضل في تأسيس معظم هذه المدارس لعقائل وأوانس من ربات الخير جدن في هذا السبيل بملايين الريالات دفع إلى ذلك بعضهن دافع علمي وبعضهن دافع إنساني أو ديني أو مدني. قال بعض الاجتماعيين ومن عيوب هذه المدارس كثرة البذخ والإنفاق فيها حتى أنك لا تجد في المتخرجات من مدرسة ولسلي منذ خمس وعشرين سنة وعددهن إثنا عشر ألفاً سوى سبعمائة تعاطين مهنة الصحافة والتدريس والباقيات عانسان ينتظرن أن يتزوجن من رجل غني. وفرة الأطباء تشكو ألمانيا الآن من كثرة أطبائها ففيها بحسب التقرير الطبي السنوي 21416 طبيباً وفي بروسيا وحدها 19 ألف وفي فرنسا 20 ألفاً ومثلها في كل من إيطاليا وروسيا. وعدد الأطباء في أوروبا 162334 طبيباً وعددهم في العالم كله 230 ألفاً قالت المجلة التي ذوي عنها والظاهر أن هذه الصناعة في أكثر البلاد لا تقوم بنفقة صاحبها. أوقات الزواج بحسب إحصاء أخير يتزوج الشبان في ألمانيا وفرنسا نحو السنة التاسعة والعشرين وفي الدانيمرك والسويد نحو الثلاثين ويتزوج الصربيون في الرابعة والعشرين وهم أسرع أعل أوروبا للزواج الباكر. أما أهل المشرق فأسرع بكثير إلى الزواج. عناصر الولايات المتحدة في هذه الولايات 15 مليون غريب ومعظمهم بقيت بينهم وبين أهلهم في أوروبا صلات مستحكمة فيرسلون إليهم بما يقتصدونه من المال ليعيشوا به وقد قدروا على وجه التقريب ما يخرج من مال أمريكا إلى أوروبا كل سنة بخمسين مليون جنيه تأخذ إيطاليا القسم الأعظم من المال فيصيبها 70 مليون دولار في السنة ويصيب النمسة 65 ويصيب بريطانيا العظمى 25 وروسيا 25 وألمانيا 15 مع أن في أميركا مليونين من الطليان وأربعة ملايين من الألمان ولعل الطليان يطول عليهم الأمد حتى ينسوا أهلهم كما ينسى

الغريب أهله وخلانه إذا طال عهده بهم في العادة أو ينسونه. المداواة بالجوع قال الأستاذ كارنجتون من علماء النفس أن عامة الأمراض يتيسر شفائها بالجوع ومن رأيه أن جميع الأسقام على اختلاف أشكالها ونشوئها متشاكلة من حيث أسبابها وعللها وما عدا بعض الأوجاع الناتجة عن جراحات فإن أسباب الأمراض هي انحباس مواد لم تفرغ في التركيب الإنساني لانسداد المصارف الطبيعية أمامها. وما المرض نفسه إلا عمل يجري في الجسم لعمل هذا الدفع وعلى هذا فإذا أزيل السبب زال المسبب. والشياء الضارة تدخل الجسم من طريق الرئة باستنشاق هواء فاسد أو من طريق المعدة بتناول أو شرب ما يضر وينتج من ذلك بأنه ليس ثمة سوى واسطة واحدة لإخراج المواد الضارة ألا وهي إسقاط الفضلات. فيقتضي ترك الرئتين والمعدة لتتخلص من تلقاء نفسها مما يعوقها أو يلقيها في خطر وليس ما نسميه مرضاً في الحقيقة سوى تنظيف طبيعي نقوم به ولا بد من فعله ومن الخطأ أن نعتقد أنه يجب مكافحة المرض بأدوية وعقاقير وغاية ما يجب علينا في تلك الحالة أن لا ندخل على الجسم مواد أخرى تزيد الكثافة فيه من حيث الهواء أو من حيث الغذاء. وليس من سبيل إلى ذلك إلا بأن يدفع المرض عن المريض بأن لا يستنشق هواءاً فاسداً وأن يمتنع عن الأكل البتة. ولم يصف الأستاذ المشار إليه طريقته للأصحاء بل وصفها للمرضى فلا يتناول المريض طعاماً أياً كان نوعه فيقل فيه ثقل الرأس الذي يصحبه ثقل المعدة ويصبح بصره حاداً وسماعه أحد وذاكرته أحد فيشعر المريض بالتدريج بأن صحته أحسن. أعمال الفلاسفة سئل بعض الفلاسفة كيف يكتبون فقال تيودور ريبو من فلاسفة فرنسا أن يجمع المواد اللازمة ثم يستخرج منها الموضوع الذي يريده ولكنه بطيء في الإنشاء فلا يكاد يكتب أكثر من ساعة في اليوم وعلى العكس لا يفتأ يعمل عقله في النزهة والسكة الحديدية. وقال الفرد فوليه الفيلسوف الفرنسوي أنه سريع الكتابة فإذا جمع معه الفكر يندفع يكتب ساعات طويلة ولكنه لا يحتمل حصر الذهن طويلاً فيسرع إلى مغادرة مقصورته ويسير

في الخلاء ركضاً. ويكتب الفيلسوف هوفدنغ الألماني في أوقات متقطعة فيسهل عليه التأليف في الخريف والشتاء أكثر من الصيف والربيع وفي المدينة أكثر من الريف ولا يستطيع الفيلسوف كوميرز الألماني أن يكتب إلا إملاءً إذ يستطيل المسافة بين التفكر والكتابة. الهند الإنكليزية بلغت مساحة الهند مع عدن وجزائر أندمان ونيكوبار 4592505 كيلومترات مربعة وكان عدد سكانها 1906، 294361000 أي أن كل كيلومتر مربع 640 ساكناً وقد كان فيها 1881، 129941890 رجلاً و123951010 امرأة فأصبح فيها سنة 1901، 149902599 رجلاً و144389834 امرأة ولا يدخل في ذلك سكان عدن وجزائر أندمان ونيكو بار وهم 68683 بل تدخل فيها الممالك الوطنية وأكثر العناصر هناك العنصر الهندي وهو يبلغ 20735037 ثم المسلمون وعددهم 62420291 والبوذويون والجنيون 10808652 والمسيحيون 2918786 ومن هذا العدد العظيم 195666845 نسمة يتعاطون الزراعة و 17953230 من طبقة العملة في الأعمال الزراعية و45719645 يعيشون من الصناعة و7725737 من التجارة وفي الهند 78 مدينة يتجاوز سكان كل منها خمسين ألفاً منها 27 مدينة فيها زهاء مئة ألف وتسع مدن فيها مائتا ألف. تحسين الأذواق في أميركا مئات من أرباب النقد والأساتذة آلوا على أنفسهم أن يصرفوا أوقات فراغهم في تحسين أذواق الشعب وغرس الميل فيه إلى الفنون فيزورون خاصة المتاحف ويشرحون للزائرين من العامة ما يجهلونه ويتعرضون لحل سؤال كل من يسأل عن أمر غامض لم يفهمه فيذكرون للسائلين في بضع كلمات تاريخ الفن ويتوسعون في ذكر محاسن الأثر المعروض بحيث يفتح عيون الجاهلين. وفي المدارس ولاسيما الابتدائية منها يعرضون من المصورات وغيرها ما يربي في الأولاد ملكة الميل إلى الفنون والطرائف فيشركون غيرهم فيما تعلموه عند الحاجة. كل هذا يقوم به أهل أميركا لتكثير سواد النوابغ في الفنون الجميلة والصناعات النفيسة. تماثيل قرطاجنية

ظفر الباحثون في عرض البحر على سبعة كيلومترات من قرطاجنة بعدد عظيم من التماثيل المصنوعة من القلز وهذا الاكتشاف مهم لأنه يكشف القناع عن أشياء مجهولة في الحضارة القرطاجينية. معدة غريبة قدم أحد الأطباء لمؤتمر الجراحة الألماني معدة من أعجب المعد. وهي معدة رجل مريض استخرج منها 1670 قطعة من حديد مثل مسامير وكلابات وأسلاك وغيرها. درس السعادة قال أحد علماء الألمان في بحث له أن من أحب الاقتراب من معاهد السعادة يجب عليه أن يحسن كيف يستقي من مصادر الحياة الأربعة وهي السعادة الأخلاقية والسعادة العقلية مادة الشعور وسعادة الحواس وأن يكون حراً في باطنه أي يعرف كيف يتخلص من الأفكار والأوهام الموروثة. والتقوى والصلاح والإخلاص مصدر السعادة الحقيقية وعلى منن طالت بنفسه إلى بلوغها أن يهذب نفسه بنفسه.

المجلس العمومي

المجلس العمومي يا شرق بشراك أبدى شمسك الفلك ... وزال عنك وعن آفاقك الحلك أضحى بك القوم أحراراً قد اعتصموا ... من النجاة بحبل ليس ينبتك ماذا أقول وقد فزنا بمؤتمر ... في جانبيه ترى الآراء تشتبك نادٍ] به القول من أهليه مستمع ... والحق متبع والأمر مشترك نادٍ إذا نفرت عنا الأمور به ... لهنَّ يمتد من نسج النهى شرك يصطاد فيه شرود الحق عن كثب ... كالماء يُصطاد في ضحضاحه السمك إن السحائب لم تظهر بوارقها ... ما لم يكن للقوي فيهن معترك وللتدابير حرب لا يخيب بها ... قوم بمستنقع الآراء قد بركوا هذا هو المجلس الرحب الذي وسعت ... أحكامه الناس من عاشوا ومن هلكوا هو السماء التي تعلو السما بها ... تبدو من العدل في آفاقها حبك دارت بها شمس عز الملك حيث لها ... حرّية العيش برج والنهي فلك قد أصبح الأمر شورى بيننا فيه ... على الرعية لا يستأثر الملك وأصبح الناس في قربى وإن بعدت ... أديانهم ما بهم حقد ولا حسك هذا الذي جاءنا الدين الحنيف به ... وحياً من الله مبعوثاً به الملك هذا به نهض الإسلام نهضته ... من قبل إذ قام يستولي ويمتلك يا قوم قد حان حين تسخرون به ... ممن بكم سخروا من قبل أو ضحكوا مات الزمان الذي من قبل كان به ... يحيى امرؤٌ لم يكن في السعي ينهمك هلاَّ نظرتم ما في الغرب من سنن ... كلٌ به سائرٌ طلقاً ومسلك لم تلق للحق وجهاً فيه محتقراً ... ولم تجد حرمةً للعلم تنتهك في الغرب أصوات علم يبعثون بها ... من القبور فهل في سمعكم سكك فشمروا يا رجال الشرق عن همم ... حجابها عند أهل الغرب منهتك ولست أطلب منكم فعل ما فعلوا ... ولا أحاول منكم ترك ما تركوا بل فاذكروا أوليكم كيف قد سلفوا ... ثم اسلكوا في المعالي أية سكوا واستخلصوا عسجد المجد الذي بلغوا ... سبكاً على قالب العلم الذي سبكوا لا عذر للشرق عند الغرب بعدئذٍ ... إن لم يتم له في شأوه الدرك

واستنجدوا العلم إن العلم شكته ... في حومة العيش تبلى دونها الشكك ما المدارس فلترفع قواعدها ... حتى تقوم وطود الجهل مؤتفك منابع العلم إن غاضت بمملكةٍ ... فاضت بسيل الدواهي حولها برك من شاد مدرسةً للعلم هدَّ بها ... سجناً لمن أفسدوا في الأرض أو فتكوا وكم أثارت رياح الجهل من سحب ... تهطالهن دمٌ في الأرض منسفك فالعلم والجهل كل البون بينهما ... هذا الفسوق وذاك الفوز والنسك ضدّان ما استويا يوماً ولا اجتمعا ... وهل ترى يتساوى النور والحلك نادوا البدار البدار اليوم إنكم ... يا قوم ساهون حيث الأمر مرتبك كم رددت كلمات الناصحين لكم ... حتى لقد ملّ من مضغ لها الحنك يا قوم قد طلعت شمس الهدى وبها ... للناس قد وضحت من رشدهم سكك وأنشد الشرق مسروراً يؤرخها ... حرية الملك أهدى شمسها الفلك بغداد معروف الرصافي

منتخب من عبد أزدشير بن بابك الملك

منتخب من عبد أزدشير بن بابك الملك في السياسة عني بنشره أحمد بك تيمور منقولاً عن نسخة كتبت سنة هـ. بسم الله الرحمن الرحيم من ملك الملوك أزدشير بن بابك إلى من يخلف من الملوك السلام عليكم إن من أخلاق الملوك الأنفة والجراءة والبطر والعبث وكلما دامت سلامة الملك في ملكه قويت هذه الأخلاق عليه حتى يغلب عليه سكر الملك الذي هو أشد من سكر الخمر فيظن أنه قد أمن من النكبات والعثرات فيبسط يده ولسانه بالقبيح فيفسد باعتماده جميع ما أصلحه قبله فتعود المملكة خراباً. وأفضل الملوك الذي يتذكر في عزّه الذل وفي أمنه الخوف وفي قدرته العجز فيجمع بين بهجة الملوك وحذر الرعية ولا خير إلا في جمعهما فإن رشاد الملك خير من خصب الزمان. الدين أساس الملك. والملك حارس الدين فلا يقوم إحداهما إلا بالآخر. إياكم أن تتهاونوا بمن يطلب الرئاسة بإظهار الزهد والغضب للدين فما اجتمع الناس على رئيس في الدين إلا انتزع ما في يد الملك من ملكه فإن الناس إلى رئيس الدين أميل. فتعهدوا طبقات الناسي وتفقدوا جماعاتهم فإن فيهم من قد حقرتم وجفوتم. وإذا آذن الملك للعقلاء من مناصحي دولته في إنهاء ما يتجدد عندهم من النصائح التي لا يعلمها خواصه أو يعلمونها ويكتمونها انفتحت له أبواب من الأخبار المحجوبة عنه فيحذر وزراءه وخواصه من الاتفاق على ما يسترونه عنه ولا يقدمون على أمر يكرهه خوفاً من أن يطالع به فيأمن مكايدهم وتسلم الرعية من ظلمهم. ومن غلبت عليه خواصه حتى منعوا عنه الناس فلا يصل إليه إلا من يحبون أطبقت ظلم الجهالة عليه. ولا ينبغي للملك أن يعتقد أن تعظيم الناس له هو بترك كلامه ولا أن إجلالهم له هو بالتباعد عنه ولا أن محبتهم هي بموافقته على جميع ما يحبه. وإنما تعظيمهم له بتعظيم عقله وصواب سياسته وإجلالهم له إجلال منزلته من الله بما يجريه على يده ولسانه من

العدل ومحبتهم له بما يتألفهم بكريم خلقه وصادق المحبة هو الذي يعينه على العدل وحسن التدبير بمحض النصيحة. إن في الرعية وحملة السلاح من الأهواء الغالبة والفجور ما لا بد للملك معه من أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة وباب الأنعام بباب الانتقام فإن القصاص من المفسدين حياة لبقية الأمة. ومن لم يقم حدود الله تعالى في من له فيه هوى لم تثبت هيبته في قلوب الخاصة والعامة ولن يستطيع الملك أن يقوّم العامة حتى يقوّم الخاصة. وإن من كان من الملوك قبلنا قد رتبوا الناس أربع طبقات فالأمراء والجند صنف والعباد والفقهاء صنف والكتاب ولحكماء صنف والتجار والفلاحون صنف فلم يمكنوا صنفاً منها أن يدخل في الصنف الآخر لتتفرغ كل طبقة للقيام بما يلزمها. وليس أضر على الملك من رأس صار ذنباً أو يد مشغولة وجدت فراغاً من شغلها. وخير الملوك من بعث العيون على نفسه ليعلم عيوبها فيكون أعلم بعيون نفسه من غيره ثم يجتهد في مداواة عيب بعد عيب حتى لا يجد أحداً فيه مطعناً فهذا الذي تمت سيادته. وإن ابتهاج الملك المسدَّد الرأي القاهر لهواه بوفور عقله وشرف نفسه بارتفاعها من النقائص أعظم من سروره بملكه. ومن الرعية من يقارب الملك في مأكله وملبسه وشهوته وليس فيهم من يقدر كقدرته على اجتناء المحامد وإصلاح الرعية بالعدل عليها وتأمين السيل وصيانة الحريم وكف أيدي الظالمين فاجتهدوا معشر الملوك في بسط العدل الذي لا تقدر عليه الرعية وتنافسوا في اقتناء الذكر الجميل. وليس للملك أن يبخل فإنه لا يخاف الفقر وإذا عرف بالبخل انقطع الرجاء من خيره فانسلت الأيدي من طاعته ولا يجتهد أحد في خدمته وانحلت النيات عن مناصحته. ولا ينبغي له أن يغضب لأن الغضب مع القدرة يوجب السرف في العقوبة ثم يعقب الندامة مع ما فيه من الطيش والخفة وقبح السمعة. ولا ينبغي له أن يلعب لأن اللعب والعبث من أعمال الفراغ والفراغ من عمل السوقة وفي ذلك من ذهاب الوقار وإسقاط الهيبة ما ينافي جلال السيادة. وليس له أن يحسد إلا ملوك الأمم على حسن التدبير وإصابة السياسة ومكارم الأخلاق ولا

ينبغي له أن يجبن عند وجوب الإقدام فإن الشجاعة عز وهي من أهم شروط الملك. زين الملك أن يحفظ نظام أوقاته المقدرة لأشغاله وركوبه وراحة بدنه فتكون معينة لا تختلف فإن في اختلافها خفة وليس للملك أن يخف. وينبغي أن يكون حذره لمن بعد عنه أكثر من حذره لمن قرب منه وأن يتقي بطانة السوء أشد من اتقائه لعامة السوء. ومن الناس صنف أظهروا الزهد في الجاه ولم يتقربوا بالخدمة وادعوا التواضع وهم قد أسروا التكبر واستدعوا إلى أنفسهم الجاه بوعظ الملوك وقد ينفعهم ذلك عند المغفلين فيقربون منهم من حسن ظاهره وتلطف حتى اعتقد خواصهم تعظيمه وإن كان ناقصاً في عقله عبداً لشهوته متهافتاً على الرئاسة فإن أسكته الملك قيل قد استقل الموعظة وإن أطلق لسانه قال بوعظه بين الملأ ما أفسد حال الدولة فالرأي أن لا يهمل الملك أمر هذه الطائفة فإنهم أعداء الدولة وآفات قوية على الملوك. اعلموا أنه لا بد لكم من سخطة على بعض أنصاركم ونصاحكم وأعوانكم ولا بد من رضا يحدث لكم عن بعض أعدائكم المعروفين بالغش لكم إذا فعلتم ذلك فلا تنقبضوا عن المعروف بالنصيحة ولا تسترسلوا إلى المعروف بالغش وقد خلفت عليكم رأيي إذ لم أقدر على تخليف بدني فاقضوا حقي بالتمسك بعهدي والسلام على أهل الموافقة من يأتي عليه هذا العهد من الأمم.

الرومان

الرومان عاقبة الجمهورية كاتون الأوتيكي: بينا كان القواد يتنازعون بينهم فيمن يستأثر بالسلطان على العالم الروماني اشتهر رجل بتعلقه بالدستور الجمهوري القديم الذي أخذ يمزق لما رآه آخذاً في التداعي لم يلبث أن انتحر وكان كاتون هذا هو الملقب بكاتون الأوتيكي باسم المدينة التي انتحر فيها. كان هذا الرجل من أسرة شريفة من أخلاف كاتون وزير الإحصاء الشهير والمدافع عن الأخلاق الرومانية القديمة كتب له أن يكون صاحب ثروة طائلة وهو شاب بعد. وكان قد تعلم فلسفة الرواقيين وجرى عليها فأنشأ يعيش عيش الزهاد يأكل قليلاً ويشرب قليلاً ولا يتطيب وعوّد نفسه احتمال الحر والبرد الشديد يسافر ماشياً في كل فصل من فصول السنة حتى مع أصحابه الراكبين خيولهم ولا يلبس إلا ثياباً بسيطة رثة وقد وقع له أن خرج بدون حذاء. ولما أرسل قائداً لأحد الجيوش إلى إحدى الحروب (بموجب امتياز فتيان الأشراف) أحبه جنده واحترموه إذ رأوه يعيش مثلهم عيشاً بسيطاً ولما وسدت إليه نظارة المالية عُني بالنظر في الحسابات بنفسه على العكس فيمن كان قبله من الأشراف يتولون هذه النظارة فإنهم كانوا يتركون للكتاب ينظرون في شؤون المالية وحدهم وبذلك اكتشف تزويرات الكتبة وحاكم المرتكبين واشتهر بغيرته وكان لا يتأخر عن جلسة من جلسات مجلس الشيوخ أو مجلس الأمة فصار يضرب المثل بشرفه وأصبح القوم يقولون عن الأمر المتعذر لا يمكن تصديق هذا ولو قاله كاتون. وكان كاتون يقوم بما يعتقد أنه واجب عليه دون أن تأخذه رأفة أو تناله رهبة. وحاول أن يحكم على مورينا لأنه ابتاع أصوات الأمة حتى انتخبته قنصلاً فبرأه شيشرون وكان إذ ذاك قنصلاً بخطاب سخر فيه من فلسفة الرواقيين فقال كاتون: حقاً أن لنا قنصلاً مضحكاً واقترح قيصر في مسألة المشتركين في قتل كاتالينا أن يتأخر إعدامهم لأنهم رفعوا قضية فاشتد كاتون على قيصر وأشار إلى مجلس الشيوخ أن يأمر بإعدام الجناة في الحال فلم يسع المجلس إلا أن يقرر قتلهم. ولما اقترح بومبي سن قانون يسمح له بإدخال جيشه إلى رومية خلافاً لما رسمه الدستور

استشاط كاتون غضباً في جلسة مجلس الشيوخ من المحامي متلوس الذي اقترح وضع القانون وصرح بأنه ما دام حياً لا يدخل بومبي إلى المدينة مسلحاً ولما جاء متلوس إلى الساحة في جيش العبية المسلحين للموافقة على القانون اخترق كاتون صفوف جماعة وقعد بالقرب من متلوس ومنعه من قراءة مشروعه فجاء العبيد إذ ذاك صارخين يرمون بالحجارة ويضربون بالعصي فهرب الشعب وبقي كاتون فأنقذه مورينا بأن جره إلى أحد المعابد وعاد الشعب فصعد كاتون على المنبر وخطب في سيئات هذا القانون فأبى متلوس أن يعرضه وذهب إلى آسيا ليلحق ببومبي. ولما التق قيصر وبومبي وكان قيصر اقترح سن قانون لم يجرأ غير كاتون على قتاله فأنزله قيصر من المنبر بواسطة رجال الشرطة وبعث به إلى السجن وظل كاتون يتكلم في الطريق وقد تبعه جمهور من أعضاء مجلس الشيوخ فعزم قيصر أن يخلي سبيله وللخلاص منه أرسلته الحكومة إلى قبرص ليطرد منها الملك بطليموس دون أن يعطوه جيشاً وإذ كان هذا الملك انتحر لم يبق على كاتون إلا أن ينظم قائمة بما خلف الملك من الكنوز فأتى إلى رومية بمبلغ كبير فاستقبله مجلس الشيوخ أحسن استقبال وتقدم للانتخاب قاضياً وكانت القبيلة الأولى وافقت على انتخابه وإذ كان بومبي رئيس المجلس لم ير بداً من أن يدعي أن السماء ترعد وأعلن بانفضاض الجلسة (والرعد طالع شؤم كما عرفت في بعض الفصول السابقة). وعندما اقترحوا أن يعطوا لقيصر جيشاً تقدم كاتون إلى بومبي ولطالما شغل الأول بقتال الثاني وحضه على الحذر من قيصر فبقي بومبي عدواً لهذا. وهذا لم يمنع كاتون عندما رأى المنافسين في الحكومة يقتتلون في المدينة من معاضدة اقتراح المقترحين أن يعينوا بومبي وحده قنصلاً عندما اقترب أحدهما من صاحبه ولما زحف قيصر على رومية بجيشه نصح كاتون لمجلس الشيوخ أن يلقي إلى بومبي بمقاليد الحكم بأجمعه على من عمل الشر أن يتلافاه. وتبع بومبي إلى خارج إيطاليا ومنذ ذاك العهد أطلق شعره ولحيته علامة على الحزن وأشار بإطالة زمن الحرب وكان يخاف من عاقبة قتال يقتل فيه الرومانيون بعضهم. ولما بلغته هزيمة فارسال سافر إلى مصر يريد الالتحاق ببومبي ووقف في إفريقية حيث كان لأحد أشياع بومبي جيش وتولى الدفاع عن مدينة أوتيكيا.

وإذ هزم قيصر جيش إفريقيا اقترح كاتون على الرومانيين النازلين في أوتيكيا أن يحاصروا فأبوا فأطلق كاتون جميع أعضاء الشيوخ الذين لجؤوا إليه ثم استحم وتعشى مع أصحابه وأخذ يخوض في المباحث الفلسفية ولما حان وقت النوم طالع محاورة أفلاطون في خلود النفس والتمس سبفه الذي كان نزعه ابنه عنه مغاضباً فأحضروه إليه فجعل على مقربة منه ونام فاستيقظ عند الفجر ثم طعن نفسه في صدره وكان عمره 48 سنة. فارسال: لم يبق في البلاد بعد وفاة كراسوس غير بومبي وقيصر وكلاهما يود الاستئثار بالسلطة وكان من تقدم بومبي على صاحبه أنه كان في رومية مستولياً على أزمة مجلس الشيوخ وكان مع قيصر جيش غاليا المدرب على الحروب منذ ثماني سنين قضاها في الحملات. فاتخذ بومبي خطة الهجوم واستصدر من مجلس الشيوخ أمراً بأن يترك قيصر جيشه ويجيء إلى رومية فعقد قيصر إذ ذاك عزمه على اجتياز حدود ولايته (وكان الحد هو نهر ريبكون) وزحف على رومية. ولم يكن عند بومبي جيش في إيطاليا للدفاع فركن إلى الفرار مع أكثر الشيوخ من الشاطئ الآخر من بحر الأدرياتيك وكان له عدة شيوخ في إسبانيا واليونان وأفريقية شتت قيصر شملهم واحداً بعد الآخر فهزم جيش إسبانيا سنة 48 ثم جيش اليونان في فارسال سنة 48 فجيش إفريقية سنة 46 ولما غلب بومبي في فارسال لجأ إلى مصر فقتله ملكها. حكم قيصر: ولما رجع قيصر إلى رومية عهد إليه بالأمر لمدة عشر سنين فصار الحاكم المطلق ثم حارب جيوش أشياع بومبي في إفريقية وساد جميع البلاد الخاضعة للرومان واحتفل في رومية بظفره بأربعة أعداء الغاليين والمصريين وملك بحر الخزر في آسيا الصغرى وملك النوميديين حليف البومبيين في أفريقية (لم يكن من اللياقة بأن يفاخر بتغلبه على جيش روماني). فقام مجلس الشيوخ لقيصر بالتشريفات الدينية فأعطاه أولاً كرسياً أعلى من مقاعد القناصل ولقبه بالأول ثم خوله الحق بأن يحمل تاجاً من الغار (وكان ذلك من حق الأرباب) ومنحه لقب أبو الوطن وابتدع احتفالات وألعاباً إكراماً له وأقام له تمثالاً خطوا فيه ألفاظ التعظيم وعهدوا إلى الكهنة للاحتفال بعبادة رب يوليوس قيصر. ومن الممكن أن يكون قيصر طمع

في لقب ملك ومع هذا دعا نفسه بالإمبراطور وقبل أن يلبس ثوباً أرجوانياً وأن يجلس على عرش من ذهب ويرسم خوذته على النقود. واحتفظ قيصر بمجلس الشيوخ وجميع المناصب وهو الذي كان يعين المرشحين الذين يقضي على الشعب انتخابهم وهو الذي وضع قائمة بمجلس الشيوخ وكان هلك كثيرون من الشيوخ فأبلغ عدد الأعضاء إلى تسعمائة ومعظمهم من انتخابه وكثيرون منهم من الغاليين ولم يقض في رومية غير خمسة عشر شهراً من حيث المجموع فما اتسع له الوقت أن يقوم بالإصلاحات التي كان ينويها (ما عدا تقويم السنين) ثم قتله ندماؤه الذين كانوا يرغبون في إعادة حكومة مجلس الشيوخ. أحد الحكام الثلاثة: اضطر الشعب الروماني وكان يحب قيصر زعيمي قتلته وهما بروتوس وكاسيوس أن يهربا فتنحيا إلى الشرق حيث جيشا جيشاً عظيماً وظل الغرب تحت حكم أنطونيوس الذي اعتمد على جيش قيصر فحكم رومية حكماً استبدادياً. وكان قيصر تبنى ابن أخته أوكتاف وعمره ثماني عشرة سنة بوصية أوصى بها فسمي بحسب العادة الرومانية باسم متبنيه ودعا نفسه يوليوس قيصر الأوكتافي. فضم إلى حزبه جند قيصر وعهد إليه مجلس الشيوخ أن يحارب أنطونيوس وبعد أن تغلب عليه آثر الاشتراك معه لاقتسام السلطة فاتحدا مع لبيدوس ودخلا ثلاثتهم إلى رومية واستولوا على الأمر استيلاءً مطلقاً مدة خمس سنين تحت اسم الحكام الثلاثة المعهود إليهم تنظيم المسائل العامة. وشرعوا في نفي خصومهم وأعدائهم الخاصة (فأمر أنطونيوس بضرب عنق شيشرون) ثم ذهبوا إلى الشرق لتشتيت جيوش المتحالفين وبعد ذلك اقتسموا المملكة بينهم. ولم يدم الوفاق بينهم طويلاً بل قاتل بعضهم بعضاً في إيطاليا حتى توسط جندهم في الأمر واضطروهم إلى العودة لما كانوا عليه من الاتفاق ثم جرى تقسيم المملكة من جديد فأصبح أنطونيوس ملك الشرق وأوكتاف ملك الغرب. حرب الأكتيوم: دام السلم بضع سنين فأخذ أنطونيوس يعيش عيش ملك شرقي مصاحباً لكلوبطرة ملكة مصر وشغل أوكتاف بقتال ابن بومبي الذي كان تحت أمره أسطوله يخرب به شواطئ إيطاليا. وانتهت الحال بهذين الملكين بانقطاع علائقهما فنشبت آخر حرب بينهما وكانت حرباً بين الشرق والغرب تمت بحرب أكتيوم البحرية وأسلم أطول كلوباطرة

أنطونيوس صاحبها فلجأ إلى مصر وانتحر وبقي أوكتاف وحده صاحب المملكة المطلق وكان قد انتهى أمر حكومة مجلس الشيوخ. تقرير السلطة المطلقة: شكا الناس كلهم من هذه الحروب وكان سكان الولايات يؤخذون فداءً ويسيء الجنود معاملتهم ويقتلهم تقتيلاً يضطرهم كل فريق من الحكام أن ينحازوا إليه ويعاقبهم الغالب على انضمامهم للمغلوب. وكان القواد يعدون الجند بأن يكافئوهم بإعطائهم أراض يستغلونها فيطردون منها عامة سكان مدينة ليحل محلهم قدماء الأجناد. وكان أغنياء الرومان يخاطرون بثرواتهم وحياتهم ومتى غلب حزبهم يصبحون ألعوبة في يد الغالب يتصرف بعم بما يشاء. فقد وضع سيلا مثلاً من المذابح المدبرة (81) وبعد أربعين سنة (43) جدد أنطونيوس أوكتاف أمر القتل بدون محاكمة. ولقد كان شعب رومية نفسه يشكو من سوء هذه الحالة فلا تصل إلى رومية الحبوب التي هي مادة غذائه على طريقة مطردة بل كانت تقع في يد قرصان البحر أو ينهبها أسطول العدو فبعد أن مضى قرن على طريقة هذا الحكم لم يعد للجميع من الرومان وسكان الولايات والأغنياء والفقراء رغبة في غير السلام وعندها تقدم إلى ذاك الشعب المنهوك بالفتن الأهلية وارث قيصر ابن أخته أوكتاف أحد الحكام الثلاثة تقدم إليهم بعد أن تغلب على رصيفيه قال المؤرخ تاسيت وقبض بيده على جميع سلطات الأمة ومجلس الشيوخ والحكام ولم تمض بضع سنين إلا وقد أصبح سيداً على رومية وليس بعد هذا من لقب فلم يعد يفكر أحد في مقاومته وقد أغلق معبد جانوس ونشر في العالم ألوية السلام وهذا ما كان يطلبه العالم بأجمعه وذلك لأن حكومة الجمهورية بواسطة مجلس الشيوخ لم تكن تمثل غير النهب والحروب المدنية فكانت النفوس تطمع في رجل يكون من القوة بحيث يحول دون الحروب والثورات وعلى هذا الوجه أسست الإمبراطورية الرومانية. أغسطس تنظيم الحكومة الملكية: يقضي نظام الحكم الجديد الذي وضعه وريث قيصر أن يكون الحكم المطلق بيد رجل واحد يدعى الإمبراطور أي الرجل المدبر الآمر وله الحق أن يتولى السلطات بأسرها التي كانت موزعة بين الحكام القدماء فيرأس مجلس الشيوخ ويجمع الجيوش كلها ويقودها ويضع قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان والظنيين

ويجبي الضرائب وهو القاضي الأكبر والحبر الأعظم وله سلطة القضاة. ولبيان أن هذه السلطة قد جعلته رجلاً فوق الرجال من البشر لقبوه بلقب ديني وهو أغسطس أو أغست ومعناه المحترم. لم تنتظم شؤون المملكة بثورة أتت على كل اصطلاح قديم ولم يلغ اسم جمهورية وانقضت ثلاثة قرون وأعلام الجنود لا يزال يكتب عليها أربعة حروف من أول أربع كلمات ومعناها مجلس الشيوخ والشعب الروماني ولكن اجتمعت السلطة التي كان يتقاسمها أشخاص كثيرون في يد واحد وبدلاً من أن يتولاها سنة فقط أصبح يتولاها طول حياته فالإمبراطور هو الحاكم الفرد مدى حياته في الجمهورية وفيه يتجسد الشعب الروماني ولذلك كان له مطلق التصرف. مجلس الشيوخ والشعب: بقي مجلس الشيوخ الروماني على ما كان عليه قديماً مجلس أعيان الأغنياء وأكثر الوجوه حرمة في المملكة فكانت عضوية المجلس تعد من الشرف المرغوب فيه فإذا أرادوا أن يقولوا الأسرة الفلانية كبيرة يقولون هي أسرة شيوخ ولكن مجلس الشيوخ على حرمته لم تعد له سلطة لأنه لا يتأتى للإمبراطور أن يستغني عنه ولم يبرح مع هذا أول قوة حاكمة في الحكومة وإن لم يكن المسيطر عليها وكان يتظاهر الإمبراطور أحياناً بأنه يريد أخذ رأيه ولكنه لا يعمل بمشوراته. فقد الشعب كل سلطة إذ ألغيت مجالسه منذ عهد تيبر. وأصبح جمهور الأمة المزدحم في رومية لا يتألف إلا من بضعة ألوف من كبار السادة مع عبيدهم ومن خليط من الشحاذين وكانت الحكومة قد تعهدت بإطعامهم ودام الإمبراطرة يوزعون عليهم الحنطة ويرضخون لهم بشيء من النقود فأعطى أغسطس سبعمائة فرنك عن كل رأس سبع مرات وأعطى نيرون 250 فرنكاً ثلاث مرات عن كل رأس. ثم أن الحكومة كانت تقيم مشاهد لتسلية هذا الغوغاء. وكان عدد المشاهد النظامية 66 يوماً في السنة على عهد الجمهورية فبلغت بعد قرن ونصف على عهد مارك أوريل 135 يوماً وفي القرن الخامس وصلت إلى 175 يوماً دع عنك الأيام الإضافية. وتدوم هذه المشاهد منذ شروق الشمس إلى غروبها فيتناول المتفرجون طعامهم في الساحات. وهذا ما كان الإمبراطرة يتخذون منه طريقة أمينة لإشغال العامة. قال أحد

الممثلين لأغسطس: لفائدتك يا قيصر يعتني الشعب بنا. بل كانت تلك المشاهد واسطة لاستمالة قلوب الأمة للإمبراطور فكثيراً ما كان أقبح الإمبراطرة أكثرهم حظوة عند الشعب فكان نيرون الظالم يعبد لأنه قام بألعاب لطيفة فلم يصدق العامة بأنه مات وكان ينتظر قدومه بعد ثلاثين سنة من موته. وما كان العامة في رومية يبحثون عن تولي الأمور بل غاية ما تطال إليهم نفوسهم أن يتسلوا أو يأكلوا كما قال جوفينال في عبارة له شديدة: خبز وألعاب الميدان. التأليه: الإمبراطور وحده سيد المملكة ما دام حياً لأن الشعب الروماني يتخلى له عن كل سلطة ومتى مات يبحث مجلس الشيوخ فيما أتاه في حياته ويحاكمه باسم الشعب فإذا حكم عليه تبطل جميع أعماله وتتحطم تماثيله ويمحى اسمه من المصانع والآثار وإذا أقر على أعماله (وهو يحدث غالباً) يقرر مجلس الشيوخ بأن الإمبراطور مات وقد ارتقى إلى مصاف الأرباب. وقد غدا معظم الإمبراطرة أرباباً بعد موتهم على هذه الصورة فكانت تقام لهم معابد وعهد إلى كاهن أن يقيم لهم الشعائر الدينية وقد كان في جميع أجزاء المملكة معابد رسمت باسم الرب أغسطس والربة رومية واشتهر عن أشخاص أنهم قاموا بوظائف كاهن للآلهي كلو وللآلهي فنزبازين وهذه العادة في تأليه الإمبراطور المتوفى كانت تسمى التأليه والكلمة يونانية. وانتقلت عادتها من يونان الشرق على ما يظهر. إدارة الولايات: كان ثلثمائة أو أربعمائة أسرة شريفة في رومية تحكم البلاد وتستثمر باقي المعمورة منذ الفتح الروماني فجاء الإمبراطور ينزع منهم الحكومة ويخضعهم لسلطان ظلمه. حتى أصبح كتاب الرومان يثنون من فقد حريتهم المسلوبة ولم يكن لسكان الولايات ما يأسفون عليه بل ظلوا رعايا ولكن بدلاً من أن يرأسهم عدة مئات من الرؤساء يتناوبون الحكومة على الدوام ويجيئونهم نهمين للغنى أصبح لهم رئيس واحد وهو الإمبراطور يهتم بالنظر في أمرهم. ولقد أوجز تيبر السياسة الإمبراطورية بما يأتي: الراعي الصالح يجز صوف غنمه ولا ينتفه فمضى زهاء قرنين وقد اكتفى الإمبراطرة بجز سكان مملكتهم يسلبون منهم كثيراً من الأموال ولكنهم يحمونهم من العدو الخارجي بل من عمالهم أنفسهم. وعندما كان سكان الولايات يشكون من الفظائع ومن سرقات حكامهم كانوا يستعدون

الإمبراطور فيعديهم. وكان من المعروف عند القوم أن الإمبراطور يقبل الشكوى على ضباطه وهذا كان يكفي لإدخال الرعب على قلوب الولاة الفاسدين وإدخال الطمأنينة على رعاياهم. الولايات كلها ملك الإمبراطور لأنه يمثل الشعب الروماني فهو قائد جميع الجنود وسيد الناس طراً ومالك الأراضي كافة (قال الفقيه كايوس ليس لنا في أراضي الولايات إلا التمتع بها والإمبراطور وحده مالك لها. وإذ كان من المتعذر أن ينصب الإمبراطور في كل ولاية عنه الوكلاء الذين يختارهم بنفسه يرسل إلى كل ولاية ضابط يسمونه مندوب أغسطس لتولي وظيفة القضاء) وهذا المندوب يحكم البلاد ويقود الجيش ويطوف في ولايته ليقض المصالح المهمة وبيده الحياة والموت كالإمبراطور. ويبعث الإمبراطور أيضاً بمحافظ لجبي الخراج وإدخال المال في صندوق الإمبراطور (ويسمونه نائب أغسطس). فالضابط والمحافظ يمثلان الإمبراطور ويحكمان على رعاياه ويقودان جنده ويثبتان ملكيته. ويختارهم الإمبراطور من الفرسان ولهؤلاء العمال مراتب للتشريف على نحو ما كان الحكام في رومية القديمة يتدرجون من ولاية إلى أخرى ذاهبين من طرف المملكة إلى طرفها (فمن سوريا إلى إسبانيا ومن إنكلترا إلى إفريقيا) وإنك لتقرأ في الكتابات المكتوبة على قبور رجال ذاك العهد جميع المناصب التي شغلوها مبينة أحسن بيان وكتابة قبورهم تكفي لبيان تراجمهم وما تولد من أعمالهم. الحياة البلدية: وكان تحت هؤلاء العمال الكبار الذين يمثلون الإمبراطور وهم لا يسألون عما يفعلون أناس من العامة الخاضعين يديرون شؤون أنفسهم بأنفسهم وللإمبراطور الحق في أن يتداخل في شؤونهم الداخلية إلا أنه لا يسيء في العادة استعمال هذا الحق. فيطلب إليهم فقط أن لا يحاربوا وأن يدفعوا على وتيرة واحدة ما يفرض عليهم من الأموال وأن يحاكموا أمام محكمة الوالي. وكان في كل ولاية كثير من الحكام المحكومين ويسمون أهل المدينة أو البلديون ومن هنا جاءت كلمة الحكم البلدي والمجلس البلدي. تجري كل مدينة خاضعة للإمبراطورية في ترتيباتها على مثال رومية نفسها فيكون لها مجلس الشعب وتنتخب حكامها لسنة ويقسمون إلى فرق في كل فرقة عضوان ومجلس الشيوخ مؤلف من كبار أرباب الأملاك والأغنياء وأرباب الأسر القديمة وفي الولايات كما

في رومية ليس مجلس الأمة إلا صورة والحكم لمجلس الشيوخ أي للأشراف. من العادة أن يكون مقر الولاية مدينة أي مثل مدينة رومية مصغرة ولها معابدها وأقواس نصرها وحماماتها العامة وأحواضها ودور تمثيلها وميادين قتالها والعيشة فيه عيشة مصغرة من عيش رومية فتوزع الحنطة والدراهم على الفقراء وتولم الولائم العامة وتقام الحفلات الدينية الكبرى والألعاب الدموية. إلا أن رومية تقوم بما يجب لذلك من النفقات تأخذه من مال الولايات أما في الولايات فإن الأشراف يقومون بالإنفاق على حكومتهم وأعيادها. والخراج الذي يجيء لحساب الإمبراطور يحمل كله إليه ولذلك يقضى على أغنياء كل مدينة أن يقوموا بما يقتضي من النفقات للاحتفال بالألعاب وإحماء الحمامات وتبليط الشوارع وبناء الجسور والمجاري والساحات. قاموا بذلك مدة تزيد عن قرنين وأنفقوا عن سعة شهدت بذلك المصانع المنبثة في أرض المملكة وألوف من المكتوبات على الأحجار. المستعمرات: تقيم رومية في البلاد التي تشك في خضوعها جيشاً صغيراً تسكنه فيها فيبني مدينة تكون حصناً حصيناً وتبعث إليه بأناس من الوطنيين الرومانيين يكونون جنداً وفلاحين في آن واحد ويجزئ الجيش الأراضي المجاورة إلى حصص متساوية توزعها عليهم وهذا ما يسمونه مستعمرة. ويبقى المستعمرون وطنيين رومانيين ويخضعون لجميع ما تأمر به رومية. وتختلف المستعمرة الرومانية عن المستعمرة اليونانية ـ التي كانت كثيراً ما تشق عصا الطاعة حتى أنها لتحارب آثينة نفسها بأن تكون أبداً ابنة خاضعة لأمها فليست المستعمرة إلا حامية رومانية مرابطة بين الأعداء. وكانت أكثر هذه المحطات العسكرية في إيطاليا ولكن كان منها في مكان آخر مثل مستعمرة فاربون وليون وآرك فإنها كانت مستعمرات رومانية. جيش التخوم: لم يكن في المدن الداخلية جيش روماني لأن سكان المملكة لا يرون الانتقاض على الحمومة فلم يكن للملكة أعداء إلا على الحدود وكان الأجانب أبداً على استعداد من مهاجمتها فالجرمان وراء نهري الرين والطونة ورحالة الصحراء وراء رمال أفريقية ووراء الفرات جيوش المملكة الفارسية. ولذا كان من اللازم اللازب إقامة جند يكون على قدم الاستعداد على تلك التخوم المعرضة أبداً للتهديد، أدرك أغسطس ذلك فأنشأ جيشاً دائماً فلم يكن جنود الإمبراطورية من أصحاب

الأراضي يؤخذون من حقولهم ليخدموا في الجندية بعض حملات بل كانوا أناساً من الفقراء جعلوا الحرب صناعة لهم فيدخلون الجندية ليخدموا فيها ست عشرة سنة أو عشرين سنة وربما جددوا هذه المدة. وعلى هذا كان للإمبراطورية في رومية ثلاثون فرقة من الوطنيين أي 180 ألفاً ولهم بموجب العادة الرومانية مساعدون فيبلغ مجموعهم نحو 400 ألف رجل على التقريب وكان هذا الجيش قليلاً بالنسبة لعظم تلك المملكة. ولكل ولاية على الحدود جيش صغير بعيد في معسكر دائم يشبه قلعة يجيء الباعة ينزلون بقربها فلا يعتم المعسكر أن يصبح مدينة وهكذا يعسكر الجند بإزاء العدو فيحفظون شجاعتهم ودربتهم. مضت ثلاثة قرون والجند الروماني يدخل في كل حرب زبون مع البرابرة المتوحشين ولا سيما على ضفاف الرين والطونة في بلاد ندية قاحلة مغشاة بالغابات والمستنقعات. وربما بذل الجند الروماني في هذه الحروب التي لا نتيجة لها من الشجاعة والشهامة أكثر مما بذل قدماء اليونان في فتح العالم. الآداب: لم يكن الرومان بالطبع أمة فنون وقد أصبحوا كذلك فيما بعد مقتفين فيها أثر اليونان. فمن يونان أخذوا نموذجاً من فاجعاتهم وقصصهم الهزلية وملاحمهم وأناشيدهم وأشعارهم الفلسفية والعامية والتاريخية. واقتصر بعضهم على ترجمة الأصل اليوناني (كما فعل هوراس في أناشيده) وكلهم اقتبسوا من اليونان أفكارهم ومناحيهم ومزجوها عندما احتذوا مثالها بما عرف فيهم من صفات الصبر والشهامة حتى صارت بعض آثارهم غريبة الغرائب في أسلوبها. واتفق الرومان على أن العهد الذي أزهرت فيه الآداب اللاتينية حقيقة كانت الخمسين سنة التي قضاها أغسطس في الحكومة فهو الوقت الذي نبغ فيه فرجيل وهوراس وأوفيد وتيبول وبروري وتيت ليف ولكن عصر أغسطس (كما يسمونه) قد سبقه ولحقه قرنان ربما عادلاه في إخراج النوابغ ففي الجيل الأول (القرن الأول قبل المسيح) ظهر الشاعر الغريب المدهش لوكريس وقيصر رانير ناثر وشيشرون أخطب خطيب وفي الجيل اللاحق كتب سينيك ونوكين وتاسيت وبلين وجوفنال ما كتبوا. وبعض هؤلاء المؤلفين العظام فقط من أسرة رمانية ومعظمهم إيطاليون وكثيرون من

الولايات مثل فرجيل من مانتو وتيت ليف من بادو (في غاليا) وسينيك إسباني. وكأن الفصاحة هي الفن الوطني حقاً في رومية فكان الرومان كالطليان في أيامنا يحبون الكلام. وكان الخطباء يأتون إلى ساحات الاجتماع حيث تلتئم مجالس الأمة في أواخر عهد الجمهورية يخطبون ويكثرون من الحركات وسط دوي القوم وشيشرون أعظم أولئك الخطباء وهو الوحيد الذي بقيت بعض قطع من خطبه. ولما سقطت الجمهورية انقضت أيام المجالس ففقدت الفصاحة لقلة المادة. اللغة اللاتينية: انتفعت آداب اللغة اللاتينية بفتوحات رومية فنقلها الرومان مع لغتهم إلى رعاياهم المتوحشين في الغرب فتناسى جميع شعوب إيطاليا وغاليا وإسبانيا وإفريقية وضفاف الطونة لغاتهم الخاصة وتعلموا اللغة اللاتينية. ولما لم يكن لهم آداب وطنية خاصة اقتبسوا آداب حاكميهم فتكلم أهل الإمبراطورية إذ ذاك بلغتي الشعبين الكبيرين القديمين فظل الشرق يتكلم اليونانية وأخذ الغرب بأجمعه يتكلم باللغة اللاتينية. فلم تكن اللاتينية اللغة الرسمية للوطنيين وكبار الرجال فقط كما هي الإنكليزية لعهدنا في الهند بل أن الأمة نفسها تتكلم بها ما أمكن من الصحة بحيث أن القوم في أوروبا اليوم وبعد انقضاء ثمانية عشر قرناً ما برحوا يتكلمون إلى اليوم بخمس لغات مشتقة من اللاتينية وهي الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والفرنسوية والرومانية. وانتشرت الآداب اللاتينية مع اللغة اللاتينية في عامة أنحاء الغرلاب فما كانت يدرس في القرن الرابع في مدارس بوردو وأوتون غير شعراء اللاتين وخطبائهم وظل الأساقفة والقسيسون بعد هجوم البرابرة يكتبون باللغة اللاتينية ونقلوا هذه العادة أيضاً على شعوب إنكلترا وألمانيا الذين احتفظوا بلغتهم الجرمانية. فبللاتينية كتبت في القرون الوسطى السجلات والعقود والشرائع والتواريخ والكتب العلمية. وفي الأديار والمدارس لا تقرلاأ ولا تنسخ ولا تعتبر غير الكتب اللاتينية ما عدا كتب العبادة لم يعرف غير مؤلفي اللاتين أمثال فرجيل وهوراس وشيشرون وبلين لجون وما كانت النهضة العصرية الأوروبية إلا عبارة عن إحياء ما فقد من آثار أقلام كتاب اللاتين وأصبح النسج على منوالهم أكثر من ذي قبل. فكما أن الرومان أنشؤا لأنفسهم آداباً خاصة لتقليدهم اليونان هكذا صار المحدثون من الأوروبيين ينسجون على مثال كتاب اللاتين. وليت شعري هل عاد ذلك بخير أم بشر؟

ومن يجرؤ أن يفوه بذلك؟ فمما لا جدال فيه إذاً أن لغاتنا الرومانية الأضل في بنات اللاتينية وأن آدابنا طافحة بالأفكار والمنازع الأدبية الرومانية وأن العالم الغربي بأسره مصبوغ بصبغة الآداب اللاتينية. الصناعات: عثر الباحثون بكثرة على تماثيل وصور بارزة رومانية أبقتها الأيام من عهد تلك الحكومة منها ما نقل عن الآثار المصرية ويكاد يكون معظمها تقليداً لها ولكنها أقل من الأصل لطفاً وذوقاً. ومن أغرب الأنموذجات الباقية النقوش البارزة والصور النصفية. فالنقوش البارزة كانت تزدان بها المصانع (كالمعابد والعمد وأقواس النصر) والقبور والنواويس تمثل بها أحسن تمثيل مشاهد حقيقية وحفلات ونذور وحروباً ومآتم وكل ما يحيطنا علماً بالحياة السالفة. وأن النقوش البارزة التي جعلت حول أعمدة تراجان ومارك أوريل لتجعلنا كأننا نشاهد مشاهد حروبها العظيمة وبتلك الرسوم تتمثل لك الجنود تقاتل البرابرة ويحاصرون قلاعهم ويأتون بالأسرى كما تشاهد النذور العامة والإمبراطور يخطب شعبة. والصور النصفية هي في الأكثر صور الإمبراطرة ونسائهم وأولادهم وإذ كثرت تماثيلهم في أطراف المملكة بأسرها وعثر على كثير منها حتى أن عند جميع المتاحف اليوم مجموعة من الصور النصفية الإمبراطورية وهي صور حقيقية وربما كانت شبيهة بأصحابها كل الشبه نرى فيها سيماء كل إمبراطور واضحة أي وضوح وكثيراً ما تكون بشعة مستكرهة بحيث لم يحاول النقاشون أن يزينوها ويخفوا من سحنات المصورين. فعلم البناء هو الفن الروماني الحقيقي لأنه يقوم بحاجة عملية وفيه أيضاً قلد الرومان اليونان باتخاذ الأروقة والعمد ولكن كانت لهم طريقة لا يستعملها اليونان وهي العقود (الأقبية) أي فن وضع الأحجار المنحوتة تدعم بعضها بعضاً على شكل قوس مربع. فبالعقود تسنى لهم أن ينشئوا أبنية أوسع وأكثر تفنناً من أبنية اليونان. المصانع: إليك أهم أنواع المصانع الرومانية منها المعبد وهو كثيراً ما يشبه المعبد اليوناني وله دهليز متسع ويكون أحياناً أكثر سعة تعلوه قبة. ومن هذا النوع معبد البانثيون الذي بني في رومية على عهد أغسطس. ومنها الكنيسة الكبرى وهي بناء مستطيل طويل يعلوه سقف وتحيط بها أروقة وفيها يتصدر الحاكم يحيط به نوابه وفيها يجتمع التجار لتيجادلوا

في ثمن البضائع فالكنيسة هي بورصة ومحكمة معاً. وفي الكنائس الكبرى أقيمت بعد ذلك مجالس المسيحيين وظلت الكنائس النصرانية قروناً محتفظة بأسماء الكنائس الرومانية وأشكالها. ومنها المرازح (المرسيح) ذات الدرجات (انفتياير) والملعب وهي مؤرلفة من عدة طبقات وأروقة وضعت بعضها فوق بعض تحيط بالملعب وكل طبقة من هذه الأروقة يعلوه عدة صفوف من الدريجات وذلك مثل الكوليزة في رومية ويمادين أرل ونيم. ومنها قوس النصر وهو باب شرف له بعض سعة بحيث يكفي لمرور مركبة منه وهو مزين بعمد ومزخرف بنقوش كثيرة ومن هذا النوع قوس النصر في أورانج. ومنها الجسر وهو يبنى على صف من الحنايا وسط النهر. ومنها المجاري التي تجلب فيها المياه وكثيراً ما تكون على شكل جسر لتمر فوق دار ومن هذا الضرب من المجاري القطعة من الجسر المسماة كارد. وقد كان الإمبراطور أغسطس يفاخر أنه افتتح في رومية زهاء ثمانين معبداً قال: لقد وجدت مدينة من القرميد وهاآنذا أترك مدينة من الرخال وعمل أخلافه كلهم على زخرفة رومية وقد ازدحمت المصانع حوالي الفوروم (الميدان) خاصة وأصبح الكابتول مع معبده المعروف بمعبد المشتري أشبه شيء بالأكروبول في أثينة. وفي ذاك الحي أنشئوا عدة ساحات ذات مصانع مثل ساحة قيصر وساحة أغسطس وساحة نرفنا وساحة تراجان وهي أزهاهن. استخدم الرومان في أبنيتهم الحجارة التي وقعت تحت أيديهم في البلاد يرصفونها بملاط متين صنع بالكلس والرمل بحيث أتت عليه آلف وثمانمائة سنة وهو لم يتحتت بما أصابه من الرطوبة. ولا تقرأ في مصانع الرومان تلك البهجة التي تتجلى في المصانع اليونانية بل إنها متسعة متينة راسخة القواعد شأن الفتح الروماني. وما زالت أرض البلاد إلى يومنا هذا طافحة بأنقاض تلك المصانع. ولم يبرح الباحثون يعثرون حتى في قفار أفريقيا والدهشة آخذة منهم على مصانع رومانية محفوظة سالمة. ولما أريد جلب الماء إلى تونس لم يعملوا إلا أن أصلحوا مجرى النهر الذي أنشيء بالعهد الروماني. التجارة: أصبحت رومية أعظم مدينة في العالم (ويذهبون إلى أن أنه جاء عليها زمن كان فيها مليون نسمة) فكانت بالطبع مركز تجارة المملكة. ولقد مضت العصور القديمة

والمتاجر تنقل في الماء أي في البحار وفي الأنهار أكثر من الطرق التي يقتضي لها عجلات ثقيلة لنقل تلك المتاجر. فكانت المتاجر تنقل إلى رومية من طريق البحر خاصة فتقلها السفن إلى مرفأ أوستي عند مصب نهر التيبر ومنها توسق في قوارب تصعد النهر حتى تصل إلى سفح جبل أفنتين وتنزل شحنها في مرفأ رومية. وكانت البضائع الخاصة ببقية إيطاليا تفرغ في مرفأ بوزول في خليج نابولي ومنها يرسلونها في الطرق وإذا تيسر لهم يرسلونها في قوارب تسير على الشاطيء أو تجري صعداًَ في الأنهار تجرها الخيول. وكانت رومية وأيطاليا تصرفان أكثر مما تنتجان فتجارتهما خاصة تجارة واردات وكان تجار من الطليان ينزلون في أهم مرافئ العالم يجمعون فيها حاصلات كل بلد ليبعثوا بها إلى رومية. وكنت تجد في كل بلد مركزاً للتجارة مثل بلرمة في صقلية وقرطاجنة في أفريقية والإسكندرية في مصر ومن هذه البلاد كانت تجلب إلى رومية الحبوب والزيت والفاكهة والقول الناشفة ومن المراكز التجارية أفيز في آسيا الصغرى وإنطاكية في سورية ومنها كانوا يرسلون الأصواف والأقمشة والحنطة التي تخرجها البلاد الداخلية. ومن هذه المراكز أولبيا على شاطئ البحر الأسود وإليها كانت تأتي حنطة روسيا. ومنها قادش في إسبانيا كانت ترسل إلى رومية فضة المناجم وأوباربتنكيا (في الأندلس) ومن هذه المراكز ناربون وأرل في غاليا كانا يجلب إليهما من نهر الرون جلود بلاد الغال وأخشابها (أما مارسيليا فكانت سقطت منزلتها القديمة ومرسى فريجوس أصيح ميناءً حربياً). وكان الرومانيون يجلبون أيضاً بضائع من خارج فيبعث إليهم الشرق بأدوات الزينة والرفاهية كالعطور والباريز (الفلفل وجوز الطيب والزنجبيل) والنيلة والعاج والأحجار الكريمة وأقمشة الصوف والحرير والعبيد السود والحيوانات النادرة (ولا سيما القرود فكانت تجلب إلى افسكندرية من طريق البحر الأحمر أو في النيل وتأتي إلى إنطاكية من طريق الخليج الفارسي وبادية الشام (مع القوافل) أو إلي أولبيا من طريق بلاد فارس وبحر الخزر وكان الرومان يستخرجون من بلاد الشمال المواد التي لم تهذبها يد الصناعة مثل عنبر البلطيق وقصدير إنكلترا وكان يأتي من طريق غاليا الجلود والأديم والشمع وشعور النساء والعبيد. أغسطس: مات أغسطس ولم يخلف وريثاً يرثه مباشرة فخلفه ابن زوجته تيبر وهو الذي

تبناه ومضى نصف قرن والإمبراطور أبداً رجل من أسرة أغسطس وأدرك الرومان منذ ذلك فساد هذه الطريقة. فكان للإمبراطور مدة حياته سلطة متناهية لا حد لها فهو الحاكم على هواه في الأشخاص والأحوال يحكم بالقتل ويصادر الأموال ويهلك من يريد إهلاكه بدون رقيب ولا يقف أمام إرادته حاجز من نظام ولا قانون. حتى قال المشرعون الرومان: إن لأمر الإمبراطور قوة القانون. وبذلك عرفت رومية الاستبداد الذي لا نهاية له على نحو الاستبداد الذي كان يجري في المدن اليونانية استبداداً لم ينحصر في سور ضيق من مدينة بل كان عظيماً كالمملكة. فكما كان في يونان ظالمون أهل حشمة ووقار كان في رومية إمبراطرة حكماء محتشمون ولكن قل في هؤلاء من لم يستهوهم دوار السلطة عندما يرون أنهم بلغوا أرقى رتبة يصل إليها إنسان. ومن إمبراطرة رومية من لم يستخدموا سلطتهم التي لم يسمع بمثلها إلا لترسل أسماؤهم كالأمثال فضرب المثل بنيرون وظلمه وبكلود خليفة تيبر وسخافته وكاليجولا وجنونه المطبق وتقليده حصانه رتبة قنصل وتطاوله إلى أن يعبد كالأرباب. فكان الإمبراطرة يضطهدون الأشراف خاصة ليحولونهم عن كيد المكايد ويضغطون على الأغنياء ليصادروا أموالهم. وكانت هذه السلطة المتناهية سيئة النظام وهي تتمثل كلها في شخص الإمبراطور ومتى هلك يبحث فيما أتاه من الأعمال. كان القوم عارفين بأن العالم لا يستغني عن سيد ولكن ليس في شريعة ولا عادة ما يستدل به على ماهية ذاك السيد. فكان من حق مجلس الشيوخ وحده أن يعين الإمبراطور ولكنه يختار أبداً بالقوة من اختاره الإمبراطور السالف أو رضي عنه الجند. ولقد عثر حراس القصر الإمبراطوري بينا كانوا يبحثون فيه عقيب وفاة الإمبراطور كاليجولا على رجل اختبأ وراش الفرش وهو ترتعد فرائصه فرأوا أنه من أنسباء كاليجولا فعينه الحرس إمبراطوراً وكان هو الإمبراطور كلود. الحرس الإمبراطوري: كان يحظر زمن الجمهورية على القائد أن يأتي في جيشه إلى المدينة فأصبح الإمبراطور رئيس الجيوش كلها وله في رومية حرس عسكري مؤلف من نحو عشرة آلاف رجل أقاموا منذ عهد تيبر في ثكنة حصينة بالقرب من المدينة. وينتخب

هذا الحرس من قدماء الأجناد وتدر عليهم الرواتب الكثيرة وتتوالى عليهم الإحسانات وبهؤلاء الجنود يعتز الإمبراطور فلا يخاف بائقة تصيبه من الناقمين عليه من أهل رومية بيد أن الخطر كان يأتي من الحرس نفسه وإذ كانت القوة معهم اعتقدوا بأنه يحل لهم أن يأتوا كل شيء وكان زعيمهم أوسع سلطة من الإمبراطور. الثورات والحروب: استشاط أشراف الرومان غضباً مما أتاه نيرون من الفظائع وضروب الجنون فحدا سخطهم ببعض الولاة إلى الانتفاض وخلع الطاعة فشعر إذ ذاك مجلس الشيوخ بقوة يستند إليها فأعلن بأن نيرون عدو عام فلم يسعه إلا الهرب ثم الانتحار. وبعد موته وقع اختيار مجلس الشيوخ على والي إسبانيا المدعو غاليا فعينوه إمبراطوراً ولكن الحرس الإمبراطوري لم يره كريماً جواداً فذبحه ونصب مكانه أحد ندماء نيرون واسمه أُتون ثم أن الجنود المرابطة في تخوم جرمانيا أرادت أن تنصب بنفسها إمبراطوراً فدخلت فرق نهر الراين إلى إيطاليا فصادفوا الحرس الإمبراطوري بالقرب من كريمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة في وقعة شعواء أخذت بطرفي الليل ثم نصبوا الإمبراطور الذي اختاره مجلس الشيوخ وهذا القائد فينليوس. وفي ذاك الحين انتخب جيش سورية زعيمه فسباسين الذي قاتل فيتليوس وعين مكانه (69) وهكذا نصبت رومية ثلاثة أمبراطرة في سنتين وأنزل الجند ثلاثة أمبراطرة عن عروشهم. وفي خلال هذه الحروب نهب جنود جرمانيا مدينة وحرق معبد الكابتول. الفلافيون: نصب فسباسين إمبراطوراً فوطد أركان السلم وكان إيطالياً وهو حفيد أحد الفلاحين حافظ على عادات له في الاقتصاد والسذاجة في عيشه. فرأى القسم الأعظم من مجلس الشيوخ قد تمزق شملهم والأسرات القديمة قد بادت أو هلكت فاستعاض عنها بأسرات إيطالية أو من أهل الولايات ولما تجدد مجلس الشيوخ على هذه الصورة كفَّ عن إبداء العداء للإمبراطور فخلف فسباسين أولاً (79) ابنه تينوس الذي مات للحال ثم ابنه دومنسين (81) الذي كان قاسياً غداراً مثل ظلمة اليونان. الأنطونيون: اشتهر الخمسة الإمبراطرة الآتون وهم نرفاوترا جان وأدريان وأنطونين ومارل أوريل (96 ـ 180) بالحشمة والحكمة ويدعونهم الأنطونيين (وهذا الاسم لا يوافق في الحقيقة إلا الآخرين مهمم) ولم يكونوا من نسل البيوت القديمة في رومية بل كان

تراجان وأدريتن إسبانيين وولد أنطونين في نيم ولم يكونوا أمراء من أسرات إمبراطورية خلقت لكي تتولى رقاب الناس منذ ولادتها. وقد تولى الحكم أربعة أمبراطرة وهم عقيمون فلم يتسن نقل الحكم بالوراثة. وكان الإإمبراطور يختار كل مرة من قواده وولاته أقدر رجل يخلفه ويتبناه ويعينه باختيار مجلس الشيوخ له وهكذا لم يبلغ عرش الإمبراطورية إلا أناس محنكون يخلفون آباءهم في مركزهم بدون قال وقيل. ولقد كان عصر الأنطونيين أهدأ العصور التي عرفها العالم القديم والحروب تنشب بعيدة عن تخوم المملكة ولم يحدث في الداخلية شغب عسكري بتاتاً ولا مظلمة ولا أحكام جائرة فكبح النطونيون جماح الجند بتدريبهم على النظام ونظموا المحاكم ومجل الإمبراطورية وهو مؤلف من الفقهاء والمشرعين واستعاضوا عمن حرروهم من العبيد الذين طالما سخط الرومانيون عليهم على عهد الاثني عشر قيصراً بأناس من الموظفين النظاميين اختاروهم من أشرف الطبقة الثانية (يعني الفرسان) وما عاد الإمبراطور ظالماً يخدمه جند بل كان حقاً الحاكم الأول في الجمهورية لا يستعمل سلطته إلا لما فيه نفع شعبه. حارب الأنطونيون حروباً كثيرة ليدفعوا الشعوب المحاربة التي كانت تحاول مهاجمة الإمبراطور من ناحيتين. فحاربوا في أسفل نهر الطونة الداسيين وهم شعب بربري سكن البلاد الجبلية ذات الغابات التي نسميها الآن ترانسلفانيا كما حاربوا على الفرات حكومة البارثيين العسكرية الكبرى التي جعلت المدائن عاصمتها قرب بابل وكان مملكتهم تمتد على طول بلاد فارس. ولقد حمل تراجان على الداسيين عدة حملات واجتاز الطونة وربح في ثلاثة مواقع واستولى على عاصمة ملك الداسيين (101 ـ 102) وتفضل عليهم بالصلح ولما عاود الداسيون الحرب عمد تراجان أن يأتي عليهم فأنشأ على نهر الطونة جسراً من حجر وهاجم ولايتهم فضمها إلى المملكة الرومانية (106) وأنزل فيها طوارئ \ ومستعمرين أنشئوا فيها مدناً وأصبحت ولاية داسيا بلاداً رومانية تكلم أهلها باللاتينية وتخلقوا بالأخلاق الرومانية. ولما انجلت الجيوش الرومانية في أواخر القرن الثالث كانت قد استحكمت اللغة اللاتينية من الداسيين وظلت شائعة في بلادهم خلال القرون الوسطى على الرغم من غارات برابرة

الصقالبة. وقد أطلق على الشعب الذي يسكن اليوم السهول في شمالي الدانوب اسم رمية فيدعى الروماني ويتكلم بلغة مشتقة من اللاتينية كالإفرنسية والإسبانية. حارب تراجان البارثيين أيضاً فجاز الفرات واستولى على المدائن وهي عاصمتهم وتوغل في إحصاء البلاد إلى فارس ودخل إلى سوس وأخذ منها عرش ملوك فارس المعمول من الذهب الأصم. وأنشأ أسطولاً على دجلة ونزل في النهر حتى مصبه وأبحر في خليج فارس واستخلص من البارثيين البلاد الواقعة بين بلاد الفرات ودجلة وجعلها ولايتين رومانيتين بيد أن هاتين الولايتين انتفضتا بعد سفر الجيش الروماني. أما الأنطونيان الأخيران وهما أنطونين ومارك أوريل فقد شرفا الإمبراطورية بفضائلهما وكان كلاهما يعيش ببساطة كما يعيش الأفراد على غناهما دون أن يكون لهما ما يشبه قصراً أو سراياً وأن يشعرا بأنه كانت لهم سلطة وسيادة. ولقد لقب مارك أوريل على العرش بالحكيم وكان يحكم البلاد مدفوعاً بعامل الواجب على غير إرادته ومع أنه كان يؤثر هذا قضى حياته في الحكم وقيادة الجيوش. وإنك لترى فيما خطه في تذكرته البيتية من أفكاره صورة الفيلسوف الرواقي الصالح الزاهد العازف عن العالم وهو على جانب من اللطف والحلم قال: أحسن الأساليب في الانتقام من الأشقياء هو أن لا يعمل المرء عملهم والأرباب أنفسهم يعطفون على الأشقياء فلك أن تقتدي بالأرباب. ولقد كان مارك أوريل يأخذ برأي مجلس الشيوخ في عامة المسائل ويحضر جلساته بدون انقطاع. ولقد وقف في وجه كثير من الشعوب البربرية الجرمانية يرد غاراتها ويدفع عادياتها تلك القبائل التي اجتازت الطونة على الجليد ودخل إلى شمالي إيطاليا واقتضى له أن يؤلف جيشاً فجند عبيداً وبرابرة (172) فانسحب الجرمانيون ولكن بينا كان مارك أوريل مشغولاً في سوريا بقتال أحد القواد المتمردين عادوا على أعقابهم وهاجموا الإمبراطورية ومات مارك أوريل على ضفاف الطونة (180). ولما وقفت الفتوح (بعد تراجان) كانت الإمبراطورية تمتد على طول جنوبي أوروبا كلها وعلى طول الشمال من إفريقية والغرب من آسيا ولا يقف في سبيلها إلا الحدود الطبيعية فمن الغرب البحر المحيط ومن الشمال جبال إيكوسيا ونهر الرين والطونة وقافقاسيا ومن الشرق بوادي الفرات وبلاد العرب من الجنوب شلالات النيل والصحراء الكبيرة. فكانت

الإمبراطورية الرومانية عبارة عن البلاد التي تتألف منها اليوم كل من إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبلجيك وسويسرا وبافيرا والنمسا والمجر والبلاد العثمانية في أوروبا ومراكش والجزائر وتونس ومصر وسوريا وفلسطين والأناضول أي أنها ضعفا مملكة الإسكندر. السلم الروماني: أبطل الرومان الحروب في داخلية بلادهم بإخضاع جميع الشعوب لسلطانهم فتوطد السلم الروماني الذي وصفه أحد كتاب اليونان بما يأتي: لكل فرد أن يذهب حيث يشاء فالمرافيء غاصة بالسفن والجبال أمينة على سالكيها أمن المدن لساكنيها ولم يبق داع للخوف وقد طرحت الأرض سلاحها الحديدي القديم وتجلت في ثياب الأعياد وها أنتم أولاء قد حققتم قول هوميروس بأن الأرض ملك للجميع. وأصبح الناس في الغرب للمرة الأولى في حل من إنشاء بيوتهم وزرعه حقولهم والاستمتاع ب أموالهم وأوقاتهم دون أن يكونوا كل ساعة عرضة لمهدد يتهددهم باستلابها منهم أو أن يذبحوا ويقادوا كالأسرى والعبيد. وهذا أمان قلما نقدره قدره إذ قد تمتعنا به منذ الصغر ولكن الظاهر أنه كان يعد من حسنات الأمور النادرة عند القدماء. سهلت الرحلة في تلك الإمبراطورية المسالمة وأنشأ الرومان طرقاً في كل مكان مع محطات ومواقف وصنعوا مصورات (خرائط) لطرق المملكة وكان كثير من أرباب الصناعات والتجار يرحلون من طرف إلى طرف آخر من المملكة. ويرحل علماء البيان والفلسفة في بلاد الإمبراطورية ذاهبين من مملكة إلى أخرى وهم يلقون المحاضرات. وكان ينزل في كل ولاية أناس من أهل الولايات القاصية فقد دلت الكتابات على الأحجار أنه كان في إسبانيا أساتذة ومصورون ونقاشون من اليونان وفي غاليا صياغ وصناع آسياويون. وجميع هؤلاء كانوا ينقلون عاداتهم وصناعاتهم وأديانهم ويمزجونها بما يرونه عند الأمم التي ينزلون عليها ثم يعتادون بالتدريج على التكلم باللغة الرومانية وما انبلج فجر القرن الثالث عشر حتى غدت اللاتينية لغة بلاد الغرب المشتركة كما أصبحت اليونانية لغة الشرق منذ قام خلفاء الإسكندر. فنشأت في رومية كما نشأت في الإسكندرية حضارة مشتركة سموها الحضارة الرومانية ولم تكن كذلك إلا باسمها ولغتها واجتمعت حضارة

العالم القديم في قبضة الإمبراطور. الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث السيفيريون: بدأت الفتن الأهلية بعد عهد الإمبراطرة الأنطونيين فذبح الحرس الإمبراطوري سنة 193 الإمبراطور برتيناكس ورأوا أن يضعوا المملكة في المزاد فتقدم طالبان يريدان ابتياعها أحدهما سولبسين تقدم على أن يعطي كل جندي خمسة آلاف فرنك والثاني ديديوس رفع ما يدفعه لكل جندي إلى ستة آلاف فرنك فحمله الحرس إلى مجلس الشيوخ وعينوه إمبراطوراً ثم لم يستطع القيام بما تعهد به فذبحوه. وفي خلال ذلك بويع بالملك ثلاثة قوادة لثلاثة جيوش وهما قائد برتانيا وقائد إيليريا وقائد سوريا وسار هؤلاء الثلاثة المتنافسون إلى رومية فوصلت فرق إيليريا قبل غيرها فعين مجلس الشيوخ القائد سبستم سيفير إمبراطوراً على رومية فنشبت عند ئذ حربان سالت فيهما الدماء أنهاراً إحداهما لمدافعة جيش سوريا والأخرى لمدافعة جيش برتانيا وظلت لسيفير الكلمة النافذة مدة سنتين وهو الذي أوجز سياسته في كلمتين فقال أيها الأبناء ارضوا الجند واهزؤوا بمن بقي. الفوضى والغارة: مضى قرن ولم يكن قاعدة في الحكومة غير إرادة الجند وكان في الإمبراطورية ما خلا جيش الحرس الصغير في رومية عدة جيوش كبيرة على نهر الرين والطونة والشرق وإنكلترا. وكل جيش يود أن يجعل قائده إمبراطوراً والمتنافسون يتقاتلون حتى كتبت الغلبة لواحد فحكم بضع سنين ثم قتل وإذا أسعده الحظ بنقل السلطة إلى ابنه من بعده فالجيش يتمرد على ابنه ذاته وتعود نار الحرب تستعر. وفي ذاك الحين نشأن أمبراطرة غرائب في أطوارهم فكان إيلاجابال كاهناً سورياً لبس ثياب امرأة وترك أمه تؤلف مجلس شيوخ من النساء (مجلس شيخات وعجائز) ومنهم الإمبراطور ماكسيمان وهو جندي بالعرض وجبار قاس وسفاك كان يأكل على ما يقال 30 لبرة من اللحم ويشرب عشرين لبرة من الخمر. وجاء زمن على هذه المملكة والذين يدعون الإمبراطوية ثلاثون إمبراطوراً انقطع كل منهم إلى ناحية من المملكة (278 ـ 360) وسمى كل واحد نفسه إمبراطوراً فدعي هؤلاء الثلاثون بالثلاثين ظالماً. وبينا جند البلد مشغولون بقتال بعضهم كان يرى البرابرة أن التخوم خالية من الحامية

فيجتازون أرض الإمبراطورية ويخربونها. وكان إقليم غاليا خصوصاً هو الذي يقاسي الأمرلاين من هذه الغارات في القرن الثالث فتجتازها عصابات من المحاربين الجرمان كالألمان والفرنك وإذ لم يجدوا فيها مدناً حصينة ولا جيوشاً نهبوا المدن وحرقوها وأخذوا ما شاؤوا من أهلها أسرى معهم وذبحوا الباقين. وقرصان الساكسون يخربون شواطئ بحر المانش. كان هذا القرن الذي انقضى في حروب قرن خرافات فكنت تجد في كل مكان أناساً يعبدون أرباب المشرق مثل الرب إيزيس وأوزيريس والربة الكبرى ولكن ميترا وهو رب فارسي رب عام أكثر من الأرباب قاطبة في الإمبراطورية. وميترا الشمس وهي مصورة في المصانع النس أنشئت إكراماً لها وهي تصرع ثوراً وقد كتب عليه ما يأتي: للشمس التي تغلب للرب ميترا وقد عثر على مثل هذه الرسوم في جميع أجزاء الإمبراطورية. وعبادة الشمس ملتبسة مبهمة فهي أحياناً أشبه بالشعائر النصرانية فيكون فيها عماد وولائم مقدسة ومسحة وتوبة وشموع ولأجل أن يقبل المرء في جملة أهل هذه العبادة يجب القيام بأعمال من صوم ومحن مخوفة. وقد كان دين ميترا في أواخر القرن الثالث الدين الرسمي في المملكة ودان الإمبراطرة والجيش بهذا الرب القهار ولهذا الرب في كل مكان معابد على شكل مغاور ذات مذابح ونقوش بارزة وكان في رومية أيضاً معبد فخيم أنشأه الإمبراطور أورليان. وكان من أشد الحاجات الماسة في ذاك العهد البقاء مع الأرباب على صلح ووئام فاخترعوا حفلات لتزكية النفس فيلبس المؤمن ثوباً أبيض مزيناً بالذهب ويقعد في أسفل هوة فيطبقونها على رأسه بلوح من الخشب مثقوب ويأتون بثور يقفونه على هذا اللوح فينخره الكاهن فيجري دمه من الثقوب على أثواب المؤمن ووجهه وشعره. وكانوا يعتقدون أن هذا التعمد بالدم يطهر المرء من السيئات كافة ومن يجري له يكون كيوم ولدته أمه في حياة جديدة ويخرج من الحفرة بشع الصورة ولكنه سعيداً مغبوطاً. اختلاط الأديان: أخذت الأديان كلها في هذا القرن الذي تقدم فيه فوز النصرانية على غيرها بالاختلاط فتعبد الشمس تحت أسماء منوعة (وهي التربية وهليوس وبعل وإيلكابال وميترا) وجميع هذه العبادات منسوخة بعضها عن بعض وكثيراً ما تجري على مثال العبادات

النصرانية ومن أعظم الأمثلة في هذا الاختلاط الديني ما كان يتوفر عليه اسكندر سيفير الإمبراطور المحتشم الطيب ذو الذمة فقد كان في قصره مصلى يعبد فيه المحسنين للإنسانية وهم إبراهيم وأورفيه ويسوع وأبولونيوس دي تيان. ديوكسين: بعد مرةر زمن في الحروب الأهلية قام أمباطرة تمكنوا من وضع حد للشغب وكانوا قساة عاملين وجنداً ترقوا في درجات الجندية حتى أصبحوا زعماء وقواداً ثم صاروا أمبراطرة. ويكاد يكون منشأ معظم أولئك الإمبراطرة من ولايات نصف متوحشة كولايات الطونة وإيليريا وبعضهم كانوا في طفولتهم رعاة أو مزارعين. وكان في سذاجة أخلاقهم على مثال قدماء قواد الرومان ولما طلبت وفود ملك فارس أن يروا الإمبراطور بروبوس رأوه شيخاً أصلع يلبس عباءة صوف ويضطجع على الأرض ويتناول حمصاً وشحم خنزير وكانت هذه سيرة كوريوس دانتاتوس قبل خمسة قرون. ولقد كان هؤلاء الأمبراطرة أشداء على الجند فأحدثوا في الجيش نظاماً وفي البلاد أماناً ولكنه بشأت بحكم الضرورة ثورة أضرم نيرانها الإمبراطور ديوكسين الذي تدرج من الجندية إلى تولي مقام الإمبراطورية (285) وتنازل عن الملك بعد أن نظم شؤون الإمبراطورية. ولم يعد يكفي رجل واحد لتولي شؤون الحكم في تلك البلاد المتسعة والدفاع عنها فاتخذ كل إمبراطور له كما اتخذ ديوكسين من أنسبائه وأصحابه اثنين أو ثلاثة يؤازرونه وعهد إلى كل واحد النظر في جزء من مملكته. وفي العادة أن يدعوا باسم قيصر ويحدث أحياناً أ، يتولى إمبراطوران متكافئان يدعى كلاهما باسم أغسطس ومتى هلك أحدهما يخلفه أحد القياصرة أما الجيوش فلا تستطيع أن تنصب أمبراطرة. واتسعت الولايات أي اتساع حتى أدى ذلك بديوكلسين إلى تقسيمها فكان عددها 48 ولاية في القرن الثاني فأصبحت زهاء 90 ولاية (وغدت غاليا سبع عشرة ولاية بعد أن كانت سبعاً) وأمسى الحرس الإمبراطوري في رومية خطراً على البلاد فاستعاض الإمبراطور ديوكلسين عنه بفرقتين سماهما فرقتي القصر. المدنية الرومانية على عهد الإمبراطورية مدينة بومبي: ذكر بلين الفتى في كتاب له قصة ثوران بركان فيزوف (سنة 79) الذي هلك

فيه خاله بلين القديم. وكان المعلوم أن هذا البركان أخرب مدينتين صغيرتين نزهتين وهما هركولانوم وبومبي ولكن لم يعرف أحد موقعهما. واكتشفت في القرن الثامن عشر بالعرض مدينة هركولانوم مغشاة بطبقة من الحمم ثم كشفت مدينة بومبي مدفونه تحت طبقة من الرماد وحجر الكدان. وبدئ البحث في هركولانوم فعثر فيها على تماثيل صغيرة جميلة ومدارج مخطوطة محروقة توصل العلماء إلى حل بعضها ولكن حالت صعوبة العمل في الحمم فوقف الباحثون عن التوافر على ما كانوا بدؤوا به. وآثروا أن يبحثوا في بومبي حيث يسهل نزع الرماد وقد مضى القرن التاسع عشر بأجمعه والهمم متوفرة على نزع الرماد عن المدينةحتى كادت تظهر بأسرها الآن كما كانت. ظهرت بومبي للأنظار على ما كانت عليه قديماً وقد سقطت السقوف من ثقل الرماد وفر السكان من كثير من البيوت عند وقوع هذا البلاء ثم عادوا يفتشون عن أهم الأعلاق وأنفس النفائس. وما برحت الحيطان قائمة ولم تمح منها الإعلانات المكتوبة بالحمرة بل ما زلت ترى فيها الخطوط التي خطها المارة بالفحم وسلمت الشوارع وبلاطها المحفور بسير المركبات والعجلات. وقد وجدوا أيضاً على الرماد ما تركته جثث الذين هلكوا اختناقاً من الرسوم وقد توصلوا بأن جعلوا جبساً مائعاً في تلك الرسوم وأخرجوها فكانت قوالب لتلك الأجساد الميتة. العيشة الرومانية: تصور بومبي للفكر كيف كانت العيشة في مدينة رومانية صغيرة فقد كانت هذه المدينة حديثة البناء ذات شوارع مصفوفة مقطوعة إلى زوايا قائمة ومبلطة ببلاط محكم الأجزاء ولها أرصفة إلا أن الشارع الأعظم كان معرجاً وبلغ من ضيقه أن كان يتعذر على مركبتين أن تلتقيا في وسطه. ولم يكن للمساكن غير نوافذ صغيرة وقليلة تطل على الشارع بل كانت للغرفة كلها نوافذ من وسط الدور يدخل إليها النور. وبهذا عرفت أن الشوارع كانت محاطة بحيطان ما عدا الشوارع الرئيسية وعلى طولها صفوف من الحوانيت يستأجرها السوقة والباعة. وساحة المدينة متوسطة الحجم تحيط بها المباني والمصانع مثل ديوان مجلس شيوخ المدينة ومعابد صغيرة ومحاكم وسوق مسقوف ورواق ذو عمد وفيه كان يجتمع أهل البطالة وفيها داران للتمثيل حفر القسم الأعظم من الكبير فيهما في أكمة وهو يسع خمسة آلاف متفرج

والصغير يسع ألفاً وخمسمائة وفيها مشهد ذو درجات على شكل نصف دائرة إنفيتياتر تقام فيه الألعاب ويتصارع فيه المصارعون. وفيها ثلاثة حمامات عامة (على الأقل) لأصغرها وهو الذي حفظ أكثر من غيره مقصورة للاستحمام وأخرى للحمام السخن وثالثة للبارد وصوان (محل الثياب) وليس في الدور غير أخونة ومقاعد وصناديق وسرر وشمعدانات وكثير من المصابيح إذ لم يكن القدماء يكثرون من الأثاث. أما الغرف فصغيرة ويجعلون الزينة كلها في قاعة الاستقبال الكبرى إلا أن مصايف أغنى أغنياء السكان مبلطة بالفسيفساء والجدران مغشاة بصور جميلة فيها مشاهد اساطير وتزيينات من أكاليل وأزهار أما الحوانيت فحالتها تشعر بضعف التجارة ولحوانيت باعة المشروبات إشارات مصورة وقد صورت في إحداها صورة باخوس (رب الكرمة) يعصر عنقوداً. وكتب على حانوت آخر: هنا فندق يؤجر غرفة ذات ثلاثة سرر وقد عثروا في تلك المدينة على مخبز فيه رحيان اداران باليد وعلى معمل لقصر الثياب ودكان حلاق وبيت جراح وأدواته من القلز (النحاس الأصفر) ومعمل نقش ودباغة. المشاهد: كان للمشاهد في حياة هذا الشعب العطل من الأعمال في رومية شأن يصعب علينا تصوره فكانت المشاهد كما في يونان عبارة عن ألعاب أي حفلات دينية وتتعاقب المشاهد طول النهار وتعود من الأيام التالية مدة أسبوع على الأقل. والمشهد عبارة عن موعد تتواعد عليه الأمة الحرة بأسرها وهناك كانت تقام المظاهرات ففي خلال الحروب المدنية سنة 196 أخذ المتفرجون بلسان واحد يهتفون: السلم والمشهد (الفرجة، كان يحسب ما تميل إليه النفوس في ذاك الزمن فقد مثل فيه ثلاثة أمبراطرة فمثل كاليجولا في هيئة حوذي ونيرون ممثلاً وكومود مصارعاً. وللمشاهد ثلاثة أضرب وهي المرزح أو المسرح (المرسح) والملعب وشكل نصف الدائرة (أنفيتياتر). وكان المرزح على الأسلوب اليوناني والممثلون يمثلون وقد جعلوا أوجهاً مستعارة على وجوههم يشخصون قصصاً أخذوها من اللغة اليونانية. وقلما كان الرومان يقدرون مثل هذه الروايات قدرها لأنها تعلو من عقولهم وكانوا يؤثرون الروايات المضحكة الجافة المعروفة بالميم ولاسيما البانتوميم التي يشخصها المشخص دون أن يتكلم ويظهر عواطف الأشخاص الذين يمثلهم بحركاته وسكناته. تمتد بين أكمتين من جبل أفانتين وبالاتين ساحة السباق

تحيط بها أروقة علتها مراق وأدراج. وهذا المكان هو الملعب الأعظم أصبح يسع منذ وسعه نيرون 250 ألف متفرج. ثم وسع في القرن الرابع حتى صار صالحاً لإجلاس 385 ألف شخص وهناك كانوا يمثلون الفرجة التي يحبها الشعب الروماني وهي سباق المركبات ذات الأربعة خيول فالمركبة الواحدة تطوف الملعب من أقصاه إلى أقصاه ثلاث مرات وعليها أن تقطع 25 شوطاً في اليوم الواحد. وسائقو المركبات تبع لشركات تزاحم كل منها الأخرى ويلبسون لوناً من الألبسة خاصة بشركتهم فكانت الشركات أربعاً بادئ بدء ثم استحالت اثنتين وهما الزرقاء والخضراء ولكليهما شهرة في تاريخ التمرد. ولقد أولع القوم في رومية بسباق المركبات كما يولع الناس اليوم بسباق الخيل حتى كان موضوع الحديث النساء والأولاد أيضاً كثيراً ما يتعصب الإمبراطور لفريق دون آخر في السباق وتتكون من النزاع بين الزرق والخضر مسألة سياسية. أنشأ الإمبراطور فسبازين على أبواب رومية بناء الكوليزة وهي عمارة ضخمة ذات طبقتين تسع سبعين ألف متفرج كانت عبارة عن ملعب مستدير حول ميدان يصطادون فيه ويتقاتلون فإذا أرادوا الصيد يجعلون الميدان غابة يطلقون فيها الوحوش الكاسرة فيجيء رجال مسلحون بحراب يصيدونها. وكانوا ينوعون المشهد بجعل الحيوانات الكثيرة في هذا المكان ولاسيما النادر منها كالأسود والفهود والفيلة والدببة والجواميس والكركدن والزرافة والنمور والتماسيح. وظهر في الألعاب التي احتفل بها الإمبراطور بومبي 17 فيلاً و500 أسد في الميدان وكانت لبعض الأمبراطرة دار لغرائب الوحوش. ثم رأى القوم بدلاً من أن يجعلوا الرجال المسلحين أمام الحيوانات أن يطلقوا الحيوانات على الرجال وهم عراة مقيدون. وشاعت العادة في جميع مدن الإمبراطورية باستخدام المحكوم عليهم بالإعدام في هذه التسلية فافترست الحيوانات ألوفاً من الناس من كل جنس وسن ومنهم كثير من شهداء المسيحيين على مرأى من الحضور. المصارعون: كان قتال المصارعين (رجال بأيديهم سيوف) من أجل المشاهد الوطنية عند الرومانيين فينزل رجال مسلحون إلى الميدان يتبارزون حتى يقتل بعضهم بعضاً وبلغ الحال بالرومانيين على عهد قيصر أن صاروا يفتلون 320 زوجاً من المصارعين في آن واحد وقد قتل أغسطس في حياته كلها عشرة آلاف رجل وقتل تراجان مثل ذلك في أربعة

أشهر. وكان المغلوب يذبح في الحال إلا إذا عفا الشعب عنه. وكثيراً ما يأتون بأناس من المحكوم عليهم في ميدان الصراع ولكن المتصارعين يكونون في الغالب من العبيد وأسرى الحرب. وكل انتصار يجلب إلى ميدان الصراع عصابات من البرابرة يقتل بعضهم بعضاً ليتلذذ المتفرجون وكان في رومية مصارعون من كل بلد فمنهم الغاليون والجرمان والتراسيون وربما كان منهم الزنوج فيقتتلون بأسلحة مختلفة عن أسلحتهم الوطنية عادة. وكان يحب الرومان أن يرو هذه المقاتلات في صورة مصغرة. وكنت ترى بين هؤلاء المقتتلين في الملعب أناساً من المتطوعة الأحرار حدا بهم حبهم للخطر أن يقدموا أنفسهم للصراع وقواعده القاسية. وأن يقسموا لزعمائهم بأنهم يقدمون ليضربوا بالعصي ويحرقوا بالحديد المحمى ويقتلوا تقتيلاً. وقد تجند غير واحد من أعضاء مجلس الشيوخ في هذه العصابات من العبيد والمتشردين بل تجند في زمرتهم الإمبراطور كومود ونزل إلى الميدان بذاته. ولا تقام هذه الألعاب الخطرة في رومية فقط بل في جميع مدن إيطاليا وغاليا وإفريقيا (أما اليونان فقد استنكفوا من قبول هذه الألعاب). وإليك صورة كتبت على تمثال أقيم لأحد أعيان بلدة منثورة: قد أظهر في أربعة أيام أحد عشر زوجاً من المصارعين ما برحوا يقتتلون حتى بعد أن سقط نصفهم في الميدان وصاد عشرة دببة هائلة ولا شك أنكم تذكرونهم أيها الوطنيون الأشراف. كان العشب يهوى إهراق الدماء على نحو ما يجري اليوم بإسبانيا في سباق الثيران. وينبغي للإمبراطور كما ينبغي لملك إسبانيا أن يحضر هذه المجازر. ولقد فقد الإمبراطور مارك أوريل ثقة العامة في رومية لأنه أظهر مللاً من مشاهدة تلك الألعاب فكان يقأ ويتكلم ويقابل الناس بدلاً من التفرج. ولما صحب معه المصارعين ليستخدمهم في قتال البرابرة الذين هاجموا إيطاليا أوشكت الغوغاء أن تتمرد وصرخوا قائلين: أنه يريد أن يسبنا تسليتنا ليضطرنا إلى التفلسف. المدارس: لم يخطر للقدماء قط أن يعلموا الأولاد كلهم فليس العبيد وحدهم بل السواد الأعظم من سكان الإمبراطورية لم يتعلموا القراءة. على انه لم يكن في المملكة غير مدارس الأغنياء والوطنيين الرومانيين. وقلما نعرف المدارس التي يتعلم فيها أبناء الوطنيين والأجناد القراءة والكتابة. وقد كان راتب معلم المدرسة قليلاً جداً وآباء الأولاد هم

الذين يؤدون إليه راتبه. وطريقة التعليم عبارة عن ضرب الأولاد بمقرعة أو بالعصي. وقد مثلوا في صورة وجدت في مدينة بومبي ولداً يمسكه أترابه بينا كان المعلم يضربه بالسوط. وتعلم الأسرات الغنية أولادها عند مؤدب يكون رومياً في الغالب فيعلمهم النحو واللغة اليونانية. والمدارس العامة تقبل الشبان الأغنياء خاصة يرسلهم آباؤهم إليه ليتعلموا فيها الخطابة. وإلغاء المنابر لم ينزع من الناس ذوقهم للخطابة ومرانهم عليها. وعلى ذاك العهد بدأ المفوهون أو الخطباء يكثرون ويعلمون الناس كيفية الأداء فافتتحوا منذ القرن الأول في رومية مدارس يقبلون فيها الفتيان الأغنياء. وكان بعضهم يمرن تلاميذه على إنشاء المرافعات في موضوعات خيالية في الخطابة وقد حفظ لنا الخطيب سليك عدة من هذه الدروس الخطابية وموضعها أولاد مخطوفون ولصوص ومتشردون على أساليب مختلفة. أسست على الولاء مدارس من هذا الطراز في جميع أقطار المملكة فكان في غاليا مدرسة قديمة في مدينة مارسيليا اليونانية يقصدها الطلاب من إيطاليا. وأصبحت مدرسة أوتون منذ زمن أغسطس عامرة أكثر من غيرها بالطلاب وهي التي بقيت عامرة إلى آخر أيام الإمبراطورية. ثم أنشئت مدارس من هذا النوع في الشمال منها مدرس في ريمس وأخرى في تريف. وكانت في الجنوب لعدة مدن مدارس من مثل هذه وأشهرها هي التي أصبحت مدرسة بوردو بعد ذلك. تنفق المدن على هذه المدارس فتيعين لها الأساتذة وتدفع لهم أجورهم والمقصد الأول منها تعليم أبناء الأسرات الغنية التكلم باللاتينية واليونانية وأن يكتبوا فيهما ليتمكنوا من أن يكونوا موظفين. ويعلم فيها النحو البيان خاصة. وكان أشهر أستاذ في مدرسة أوتون في القرن الرابع الخطيب أومين أرسله الإمبراطور قسطنطين وكان مدحه. وأعظم رجل في مدرسة بوردو هو أوزون مربي ابن الإمبراطور (369) ومؤلف عدة مقاطيع شعرية لاتينية متكلفة. الأشراف: دثرت الأسرات القديمة الغنية في رومية إلا قليلاً ولكن قام غيرها من الأسر الحديثة التي أغتنت بالصيرفة والتجارة والتزام الجباية واستثمار الأراضي المفتوحة. وكلما تمكن غني من أرباب الأملاك من أن يعينه الإمبراطور حاكماً تشرف أسرته وبذلك شرفت

جميع الأسرات الغنية في إيطاليا والولايات (حتى لم يبق في أواخر القرن الثالث أسر من الفرسان العاديين) وكان كل عظيم من كبراء هؤلاء الملاك يعيش بين عبيده ملكاً صغيراً لا عمل له إلا إتباع الشهوات وداره في رومية أشبه بقصر تغص غرفة التشريفات (لاتريوم) كل صباح بأناس من الزبن (الزبونات) وهم أناس من الوطنيين يختلفون إليه لأمور طفيفة صباح كل يوم يسلمون عليه بالسيادة ويسايرون موكبه في الشارع. لأن الاصطلاح يطلب أن لا يظهر الغني أبداً أمام الجمهور إلا ويحيط به جماعة. وقد ضحك هوراس من أحد القضاة لمروره بشوارع تيبور في خمسة من العبيد فقط. وللكبراء خارج رومية مصايف بهجة على شواطئ البحر أو في الجبال ينتقلون فيها لا عمل لهم والضجر آخذ منهم. ولم تكن واجهات لبيوت هؤلاء الأغنياء من الرومانيين على العكس من بيوتنا الحديثة بل كانت كلها دائرة من داخل أما الخارج فلم تكن سوى حيطان عارية لا شيء فيها والغرف صغيرة وفرشها قليل وهي مظلمة لا يدخلها الضوء إلا في قاعة التشريفات وهي في وسط البيت وفيها نصب تماثيل الأجداد وفيها يستقبل الزوار ويدخل إليها النور من شق في السقف ووراءها البيريستيد وهي حديقة محاطة بصفوف من العمد وعليها تطل غرف الطعام المزينة أفخر زينة وفيها سرر لجلوس الضيوف ويتناولون فيها الطعام لأن ذلك كان من عادة أغنياء الرومان كما كان من عادة اليونان في آسيا. وكثيراً ما يكون بلاد الدار معمولاً بالفسيفساء. الأخلاق: وصف سينيك في رسائله وجوفنال في أهاجيه الرجال والنساء في عهدهما وصفاً مزعجاً حتى أصبح فساد رومية القياصرة مثلاً سائراً في الغابرين. على أن هذا ناشئ من دواء اضطرابات القرون الأخيرة للجمهورية مثل بذخ الأغنياء الغليظ وقسوة السادة مع عبيدهم وطيش النساء الممزوج بجنون. فلم يأت الشر من طريقة الحكم الإمبراطورية بل من الإفراط في جمع ثروات العالم أجمع بيد بضعة ألوف من الأشراف أو أدعياء الشرف وتحتهم بضع مئات من الأحرار يعيشون عيشاً سافلاً وملايين من العبيد يظلمون ظلماً هائلاً. وكانت الأسرة الكبرى تندثر بسرعة حتى هال الإمبراطور أغسطس ما رأى من نقص عدد الرجال الأحرار فسن قوانين لحمل الناس على الزواج والعقاب على العزوبة وإذ كان تأثير

هذه القوانين يحتاج إلى زمن لم تنجع أصلاً. ولقد كثر عدد العزاب من الأغنياء حتى غدت مداهنتهم من الصناعات الرابحة وذلك ليوصي لهم من يدهنون لهم بشيء من المال يأخذونه بعدهم. ون حسن التدبير أن لا يرزق الغني ولداً فيكون محاطاً بالمرائين والمتقربين. قال أحد القصصيين الروحانيين: ينقسم الناس في هذه المدينة إلى طبقتين منهم من يصطاد ومنهم من يصاد. وقال سينيك: إن في حرمان الأولاد زيادة نفوذ المرء. الطبقات النازلة: فقد التمييز بين الوطنيين الرومانيين والغرباء موقعه ومكانته إذ لم يعد في رومية انتخابات وشمل حق التملك على التدريج سكان الولايات. وجاء زمن عهد كراكالا (212) صدر فيه أمر بمنح حق الوطنية لجميع سكان الإمبراطورية ولم يشعر بهذا الأمر كثيراً لأن العمل كان جارياً عليه من قبل بالفعل. ويمتاز الرجل امتيازاً خاصاً بثروته التي يملكها ويقسم الناس إلى طبقتين: الأغنياء ويدعون اشرف الشرفاء وهم أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان وأعضاء مجالس الشيوخ في المدن وتتألف منهم طبقة القواد العشرة أما بقية الشعب وهم العامة فيتألف منهم الفقراء المدقعون والسوقة الحقيرون. فأشرف الأشراف وحدهم يحسبون في المجتمع وهم يقومون بعامة الوظائف المدنية وجميع موظفي الإمبراطورية من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ أو طبقة الفرسان وجميع حكام المدن من قواد العشرة. ولهم كلهم إمتيازات رسمية ومحال خاصة بهم في دور التمثيل وحضور الحفلات وإذ حكم عليهم بالإعدام لا يصلبون ولا يلقى بهم للوحوش في الملعب لأن هذه العقوبات المخزية كانت خاصة بالغوغاء والعامة. ولقد عاش الفقراء في هذا المجتمع الأرستوكراسي عيشة ضنك فيعيش فقراء رومية من الصدقات العامة أو بالاختلاف إلى الأغنياء ومداهنتخم وهذه العيشة كانت ضرباً مستوراً من الشحاذة. ويصبح الفقراء في القرى مستعمرين في أراضي كبار الأملاك الذي يعاملونهم معاملة تقرب من معاملة العبيد. وترى الفقراء في المدن صناعاً أو مرتزقة ومنزلتهم منزلة المعتقين من العبيد. وإذا حسنت حال المدينة يكون لهم نصيب فيما يوزعه الحكام من الصدقات ويدخلون دون أجرة إلى مشاهد التمثيل والألعاب والحمامات العمومية وكنت ترى في جميع المدن حمامات حارة مؤلفة من مقاصير للاستحمام ذات أحواض تأتيها الحرارة

من موقد جعل تحت الأرض. والحمامات في مدينة رومية كمحال الرياضة في المدينة اليونانية هي مكان اجتماع من لا عمل لهم. بل كانت الحمامات في مدن الرومان أعظم من محال الرياضة عند جيرانهم اليونان مئات من المقاصير على اختلاف أجناسها فمن مقصورة باردة إلى فاترة إلى حارة إلى صوان للثياب ومقصورة لدلك البدن بالزيت ومحل للمحادثة ومقاصير للرياضة وحدائق يحيط بكل ذلك سور عظيم. وقد شغلت خرائب حمامات كاركالا بالقرب من رومية مساحة عظيمة من الأرض. العبيد: ويأتي تحت طبقة الأحرار الفقراء الطبقة الأخيرة وهي طبقة العبيد الذين هم في بعض البلاد معظم السكان. والسادة من الرومانيين كالشرقيين لعهدنا كانوا يحجبون أن يحيط بهم جمهور من العبيد. ففي البيت الكبير الروماني يعيش مئات العبيد ينقسمون بحسب خدم التي يتولونها فمنهم الموكلون بالفرش وتعهد الأواني الفضية والأعلاق والتحف ومنهم حفظة للثياب ومنهم وصائف ووصيفات ومنهم القيمون على المطبخ والحمام ومنهم رئيس المتكأ ومعاونوه ومنهم عبيد الموكب الذي يرافق سيد البيت وسيدته في الشوارع ومنهم حملة المحفة (المحارة) ومنهم الحوذيون والسواس ومنهم أمناء السر والثراء والنساخ والأطباء والمربون والممثلون والموسيقيون وأرباب الصناعات من كل صنف لأنهم في كل بيت كبير يطحنون الدقيق ويحيكون الصوف وينسجون الثيابي. ومن هؤلاء العبيد من حبسوا أنفسهم في المعامل يصنعون أشياء يبيعها سادتهم ويكون ربحها لهم ومنهم من يؤجرهم أصحابهم إلى الخارج على أنهم بناؤون أو بحارة فقد كان لكراسوس خمسمائة عبد من المهندسين. وكل هؤلاء يدعون عبيد المدن. عبيد الريف: كل ملك (تفتيش) كبير يتوفر على زراعته عصابته من العبيد فهم الحراثون والرعاة والكرامون والبستانيون والصيادون ويجعلون شراذم تؤلف كل شرذمة من عشرة أشخاص. ويلاحظهم وكيل منهم يهيمن عليهم. ويرى صاحب الملك أن من دواعي إعجابه أن تخرج أرضه كل شيء فهو لا يبتاع شيئاً وكل حاجياته تنبت في أرضه وهذا مما يجعلونه من جملة الثناء على الأغنياء فصاحب الأرض يؤوي إليه عدداً عظيماً من عبيد الريف كما يسمونهم والملك الروماني أشبه بقرية ويسمى مصيفاً (فيلا) وقد بقي اسمها فأطلق عليه اسم مدينة (فيل) منذ القرون الوسطى وهو الملك الروماني القديم مكبراً.

معاملة العبيد: يعامل العبيد بحسب أخلاق سيدهم فمن السادة المنورين الذين اشتهروا بالإنسانية شيشرون وسينيك وبلين فقد كانوا يطعمون عبيدهم طعاماً جيداً ويحادثونهم وربما أجلسوهم معهم على موائدهم ويسمحون أن يكون لهم أسرة وثروة صغيرة. وهناك سادة علىالعكس من هؤلاء عاملوا عبيدهم معاملة الحيوانات وعاقبوهم أشد العقوبات بل ربما قتلوهم لهوى في النفس. والأمثلة على ذلك كثيرة فقد كان فويوس بوليون عيتق أغسطس يطعم السلور البحري (سمك مرينة) في بركته فكسر له أحد عبيده آنية على غير قصد فما هو إلا أن ألقاه في البركة ليكون طعماً لسمكه. وصف الفيلسوف سينيك فظائع السادات بهذه العبارة: إذا سعل أحد العبيد أو عطس خلال المأدبة أو طرد الذباب متهاوناً أو رمى مفتاحاً وسمع له صوت لكلب في الاقتصاص منه وأي كلب فإذا أجاب رافعاً صوته قليلاً ودلت تلاميح وجهه على سوء خلق أيحق لنا أن نضربه بالسياط؟ وكثيراً ما نبالغ في الضرب ونقطع له عضواً ونقلع سناً. وهكذا رأينا الفيلسوف أيبكيت وكان عبداً كسر مولاه ساقه. أما النساء فلم يكن أيضاً على شيء من الشفقة وإليك كيف امتدح أدفيد إحدى العقائل قال: مشطوا رأسها أمامي مرات وما قط غرزت الأبة في ذراع العبد الذي يمشطها. وما كان الرأ ي العام ليحول دون هذه الفظائع فقد مثل جوفنال عقيلة غضبى على أحد عبيدها وهي تقول اصلبوه ـ وأي جريمة أتاها العبد حتى استحق هذا العذاب؟ ما أنحسه وهل العبد من البشر؟ وسواء أتى أمراً أم لم يأت فإني أريد عقابه وآمر به وإرادتي هي الحجة في هذا الباب. أما الشريعة فلم تكن ألطف من الأخلاق فكانت في القرن الأول قبل المسيح توجب بأن صاحب البيت إذا ذبح يقتل عبيده كلهم به. ولما أريد إلغاء هذا القانون خطب ترازيا أحد معتبري الفلاسفة في مجلس الشيوخ مطالباً ببقاء هذا القانون. وللعبيد مطبق تحت الأرض يدخله النور من نوافذ ضيقة بعدية بحيث لا يتيسر الوصول إليها فإذا أتوا ما يغضب ساداتهم يسجنونهم فيه بالليل وفي النهار يبعثون لهم ليشتغلوا مقيدين بسلاسل من حديد ثقيلة. وكثير منهم من وسمت وجوههم بحديدة محماة. لم يعرف القدماء المطاحن الميكانيكية بل كانوا يطحنون الحنطة بمطاحن باليد يديرها العبيد

وكان ذلك من أشق الأعمال يندبون إليها عقوبة لهم في العادة. وكانت المطحنة قديماً مثل محبس (لومان) وقال بلوت: كان يبكي أشقياء العبيد الذين يطعمون البولانتا (سويق من دقيق الذرة) وهناك يرن دوي الأسواط وقعقعة السلاسل والأغلال. وبعد ثلاثة قرون أي في القرن الثاني بعد المسيح وصف القصصي أبوليه داخل مطحنة بقوله: أيها الأرباب ما أتعس هؤلاء المساكين من البشر فقد اسودت جلودهم وتبرقشت من ضرب السياط ولا تستر أبدانهم غير خرق من قميص مدموغة جباههم محلوقة رؤوسهم مقيدة أرجلهم مشوهة أبدانهم من النيران مقروضة جفونهم من الدخان وقد علاهم غبار الدقيق. ولم يكن العبيد يكتبون لذلك لا نعرف ما هو رأيهم بأنفسهم في معاملة ساداتهم لهم. إلا أن الموالي أنفسهم كانوا يشعرون بحقد عبيدهم عليهم. ولما انتهى إلى بلين لجون ما أصاب أحد أرباب الأملاك من ذبحه في حمام بيد عبيده قال ملاحظاً: أصبح كثير من الرومان عرضة لحقد عبيدهم أكثر من حقد الظالمين. الشركات: كان في جميع بلاد الإمبراطورية في الشرق اليوناني أكثر من الغرب اللاتيني عدد كبير من الشركات مختلفة الضروب والأشكال. فمنها شركات لأرباب الصناعة الواحدة وشركات للممثلين والمصارعين وشركات أدبية وشركات لاجتماع السكيرين على الشراب ولبعض هذه الشركات أعضاء من الرجال الأغنياء مقل جمعيات الجباة وكان أعضاؤها يلتزمون الأموال الأميرية. ومثل جمعيات التجار الذي يتجرون بين إيطاليا وغاليا ولكن معظم تلك الجمعيات كان مؤلفاً من صعاليك القوم. ولقد طال منع الحكومة الرومانية لهذه الجمعيات والشركات ثم تسامحت بها حتى إذا كان القرن الثالث أخذت تمد إليها يد مساعدتها ولكن الحكومة لم تمنع قط الجمعيات لدفن الموتى وكانت هذه الجمعيات تتألف من أناس مساكين لا يستطيعون أن يقتنوا أرضاً لتكون لهم قبراً فكانوا يشتركون ويدفعون أقساطاً للحصول على سرب يكون مشتركاً بينهم ليدفنوا فيه أمواتهم. فالمغارة أو السرب المعد لدفن الموتى هو عبارة عن بناء مقبب وفيه صفوف كثيرة من المقاصير يجعل في كل واحدة منها رفات ميت ويسمونها برج الحمام بسبب شكلها. وعلى هذا كان أعضاء جمعية الموتى على ثقة من الحصول على مدفن لائق بعد موتهم

وقبر دائم لهم على الدهر وهو ما كان القدماء يحرصون عليه كل الحرص ويسمون هذه الشركات لا بأسماء حزن لئلا تكون شؤماً بل يسمونها بأسماء أرباب ويسمونها شركات الصغار وكان يدخل فيها كثير من العبيد. وتجعل جميع الشركات إلا قليلاً تحت حماية أحد الأرباب يحميها (مثل جمعيات الأطباء التي أطلقوا عليها اسم أسكولاب) وما كان لكثير من هذه الشركات من غاية إلا أن يتعبدوا كلهم جماعة. والحكومة لا تدر الأرزاق إلا على المعابد والكهنة وبعض الشعائر الرسمية. وجميع الأديان الأخرى كانت منظمة على هيئة جمعيات. ولأهلها صندوقهم وكاهنهم ومصلاهم ومذبحهم وحفلاتهم. وكانت الكنائس النصرانية أولاً شركات من هذا النوع. وأهم الشركات شركات أرباب الصناعات فكان منها في عامة المدن حتى أن العواصم كان فيها عدة شركات من نوعها وأعضاؤها في العادة من أرباب الصناعة الواحدة وتسمى كل شركة بأسماء صناعات أعضائها فقد كان في أفيز شركة حلاجي الصوف وفي جنيف شركة الملاحين وفي ليون شركة عملة البناء. وتقبل كل شركة في أعضائها أناساً من أهل صناعة أخرى. ومن العادة أن يكون لكل شركة عبادة فتعبد رباً وتقيم عيداً للاحتفال ويحملون فيه علمه ودامت هذه العادة في القرون الوسطى في شركات الصناع المسيحيين وهذه الشركة تقوم بدفن أعضائها متى ماتوا في مدافن لائقة ولكل شركة مديران يختاران من المعلمين ويكونان في العادة وكيلاً وأمين صندوق ينتخبهما الأعضاء كلهم إلا أنه لم يكن لهما أدنى سلطة على أرباب الصناعة وما كان أحد يكره أحد على الدخول معهم. الحقوق الرومانية دين البيوت: يعبد أعضاء كل أسرة بأجمعهم أجدادهم ويجتمعون حول مزار واحد فأربابهم واحدة ولهم وحدهم أن ينظروا إليها ولا يحق لأحد أن يعبد أجداد أسرة غلا إذا كان من فرع أولئك الجدود. ويقام المزار الذي يجعل فيه أرباب البيت في مكان منفرد م الدار لا يقترب منه غريب. والأسرة الرومانية تختلف كثيراً عن الأسرة الحديثة لأن نظامها ديني. الزواج: أخذ الزواج الروماني يصير احتفالاً دينياً فيسلم الأب ابنته المخطوبة إلى خارج الدار فتحمل في موكب إلى دار زوجها ويقدمون لها الماء والنار وهناك يقتسم الزوجان بحضور أرباب الأسرة قطعة من الحلواء معمولة من الحواري وكان يسمى الزواج إذ ذاك

شركة الحلواء. وقد اخترع الرومان منذ الزمن الأطول ضرباً من لازواج يسوغ للطبقة الوسطى فقط وهو إما أن يبيع المخطوبة أحد أوليائها واقربائها بحضور شهود من قبل زوجها ويصرح هذا بأنه ابتاعها على أن تكون زوجة له وهذا زواج البيع وإما أن تجيء الزوج فتساكن زوجها ومتى قضيا سنة معاً يعتبران متزوجين وهذه الزواج بالعادة. الرومان كاليونان يرون الزواج فرضاً دينياً والدين يأمر بأن لا تندثر الأسر. وعند ما يتزوج الروماني يصرح بأنه اتخذ زوجته ليكون له منها أولاد. وقد \ لق أحد أشراف الأغنياء زوجته وكان يحبها حباً جماً لأنه لم يرزق منها أولاد. المرأة: ليست المرأة الرومانية حرة أصلاً فهي في شبيبتها ملك أبيها يختار لها زوجاً وإذا تزوجت يصير أمرها بيد بعلها ويقول الفقهاء أنها في يده وأنها مثل ابنته وبالجملة فللمرأة سيد على الدوام بيده موتها وحياتها. ومع هذا لم يعاملوا المرأة قط معاملة الرقيق وهي مساوية في المكانة لزوجها ويدعونها أم الأسرة كما يدعون الرجل أباً لأسرة فهي سيدة في البيت كزوجها تسيطر على النساء الرفيقات فتكلفهن بجميع الأعمال الشاقة كطحن الحب وخبز الخبز وعجنه. وتجلس في قاعة التشريفات من الدار تنسج وتحيك وتوزع الأعمال بين الإماء وتلاحظ الأولاد وتدبير شؤون البيت وليست المرأة الرومانية كالمرأة اليوناينة بعيدة عن الرجال بل تتناول الطعام على المائدة مع زوجها وتستقبل الزائرين وتذهب لتناول الطعام في المدينة وتظهر أمام الناس في الحفلات وفي دور التمثيل وأمام المحكمة. إلا أنها في العادة تكون جاهلة أمية وذلك لأن الرومانيين لا يهتمون بتعليم بناتهم. وأهم صفة يعتبرونها في المرأة أن تكون زاهدة فإذا ماتت يكتبون على قبرها إشارة إلى مدحها: أنها التزمت بيتها ولم تخرج منه وغزلت الصوف. الأولاد: الولد الروماني لأبيه بمثابة ملك له وللوالد الحق في أن يعرضه في الشارع فإذا أخذه يربيه في بيته أولاً والبنات يبقين في البلاد ريثما يتزوجن وهن يغزلن ويحكن تحت ملاحظة أمهاتهن والبنون يعملون في الحقول مع آبائهم ويتمرنون على استعمال السلاح. ليس الرومان شعباً مفنناً في الصناعات وغاية أمانيهم أن يعرف أبناؤهم القراءة والكتابة

والحساب وهم لا يطلبون على ذلك مزيداً فلا يعلمونهم الموسيقى ولا الشعر ويلقنونهم القناعة والصمت والحشمة في مآتيهم والطاعة في منازعهم. أبو العائلة: إن من يطلق عليه اسم سيد البيت يدعوه الرومان أبا الأسرة فأبو الأسرة مالك للأملاك وكاهن في عبادة الأجداد وسلطان الأسرة فهو الحاكم المتحكم في بيته يحق له أن يطلق زوجته ويطرد أبناءه وأن يبيعهم ويزوجهم بدون أن يأخذ رأيهم. ويحق له أن يستأثر بما يملكونه لنفسه بل وكل ما تحمله إليه زوجه وكل ما يكسبه أولاده. إذ لا يسوغ للمرأة ولا لأولادها أن يملكوا شيئاً وبالجملة فبيده حياتهم ومماتهم أي أنه قاضيهم الوحيد وإن ارتكبوا جريمة فرب الأسرة يحكم عليهم لا الحاكم. أصدر مجلس الشيوخ 186 الروماني أمره ذات يوم بإعدام جميع من اشتركوا في الاحتفال بعبدة باخوس فنفذ الحكم على الرجال أما النساء اللائي اشتركن في الحفلة مع المجرمين فعمد المجلس إلى آباء الأسرات في أمرهن وهم الذين أعدموا نسائهم وبناتهم وكان الشيخ كاتون يقول: إن الزوج قاضي امرأته له أن يعمل بها ما يشاء فإذا ارتكبت غلطاً يعاقبها وإذا تناولت الخمر يحكم عليها بالإعدام وإذا خانت يقتلها ولما كان كاتالينا يكيد المكايد لمجلس الشيوخ لاحظ أحدهم أن ابنه اشترك في المدية فأوقفه وحاكمه فحكم عليه بالموت. وتدوم سلطة أبي السرة بدوام حياته والابن يخلص من عبوديته له حتى أنه إذا أصبح قنصلاً يظل خاضعاً لسلطة أبيه. ومتى مات الأب يصبح الأولاد أصحاب بيوت أما امرأته فلا تكون حرة أصلاً بل تكون تحت سيطرة وريث زوجها بل تخضع لابنها نفسه. التملك: كانت الثروة في القرون الأولى لرومية عبارة عن ماشية وعبيد خصوصاً واللفظ الذي دل بعد على الدراهم معناه قطع ويسمى المالك رب الأسرة. ومن المحتمل أن الأرض لم تكن تنتقل بالإرث لأن لفظة إرث عندهم تدل على أرض مساحتها فدانان وهو المكان الذي يكفي لإنشاء بيت وحديقة. ولم يلبث الرومانيون أن قبلوا عادة اعتبار المالك لحقل صاحباً له وعندئذ وضع حق التملك للماشية والعبيد والأراضي والبيوت وكانوا يعرفونه بأنه حق الانتفاع والتخريب (الاستعمال وسوء الاستعمال). ثم صار لهذا الحق أن يتناول كل شيء من الحاجات والأثاث والدراهم والعقود والديون وحقوق الاستمتاع. ويجب على من أراد أن يملك شيئاً أن يملكه على الصورة التي عينتها

العادة. وإليك مثلاً كيف يجري صفقة المبيع: يضع البائع أمام خمسة من الوطنيين ينوبون عن مجمع ومعهم سادس يمسك الميزان بيديه قطعة من النحاس في هذا الميزان تعادل ثمن المبيع. فإذا كان هذا حيواناً أو عبداً يمسكه البائع بيده ويقول: هذا لي بموجب القانون الروماني ابتعته بهذا النحاس الموزون وزناً حسناً. ثم ابتدعوا طرقاً أسهل لنقل الملك من يد إلى يد فصاروا يكتفون بدفع المبيع إلى المبتاع. وهذه الطرق لا تملك تمليكاً رسمياً بل يكون المقتني للملك متمتعاً به ولكن هذا التمتع يخوله نفس الحقوق كما لو كان مالكاً رسمياً له. ولصاحب الملك الحق في أن يعطي أملاكه من بعده لمن يشاء وإذا لم يوص بشيء من هذا القبيل يقتسم أولاده ثروته وإذا أراد أن يغير نظام الوراثة يكتب وصيته. وكان يجري ذلك بمحفل أمام مجلس الأمة زمناً طويلاً ثم اصطلحوا على صورة متكلفة في البيع كأن يبيع المالك ماله لمن يريد أن يجعله وريثاً له وانتهت الحال بأن أصبحوا يكتفون بوصية مسطورة وكان يحق لصاحب الملك خلال القرون الأولى أن يوصي لمن يشاء وأن لا يترك شيئاً لأولاده ثم أكره القضاة آباء الأسر بالتدريج على أن يوصوا لكل واحد من أولادهم بقسم من ثروتهم فأخذ ينال كل ولد قسماً من الإرث. ألواح الوصايا الاثنتا عشرة: لم يكن عند الرومان في مبدأ أمرهم كسائر الشعوب القديمة شرائع مكتوبة بل كانوا يجرون على عادات الأجداد أي أن كل جيل يجري في كل شأن من شؤونه كما جرى السجيل السالف. وقد سن حوالي سنة 450 عشرة حكام منتخبين شرائع كتبوها في اثنتي عشرة لوحة من الحجر. وكانت هذه شريعة الاثنتي عشرة لوحة أنشئت أحكاماً موجزة شديدة وقطعية وما هي إلا تفنين جاف قاس مثل الشعب النصف البربري الذي وضع له. فبموجب هذه الشريعة يعاقب الساحر إذا تلا كلمات سحرية ومر على حقله بغلة جاره. وإليك حكم هذا القانون في المدين الذي لم يؤدي ما عليه من دين: إذا لم يدفع يرفع أمره إلى القضاء وإذا عاقه المرض أو السن عن الحضور يركب حصاناً أو محفة وتهل ثلاثين يومً فإذا لم يوف ما عليه يربطه الدائن بسيور أو سلاسل وزنها 15 لبرة وبعد ستين يوماً يبيعه فيما وراء نهر التيبر وللدائنين إذا تعددوا أن يقطعوا المدين إرباً إرباً ولا غبن إذا قطعوا منه قليلاً أو كثيراً. قال شيشرون كانت شريعة الاثنتي عشرة لوحة

منبع التقنين الروماني بأسره وكان الأولاد في المدارس يستظهرونها بعد أربعة قرون من وضعها. الإشارات في الدعاوي: لا يكفي بموجب هذا القانون الروماني القديم اتفاق الأشخاص في مسائل البيع والشراء والإرث فلا يكفي لأجل أخذ حكم المحكمة الرومانية أن يعرض الإنسان قضية بل يجب عليه أن يلفظ عدة كلمات ويقوم ببعض إشارات تقضي بها العادة وكل قضية تقام أمام المحكمة يجري تمثيلها بالإشارات. فللمطالبة بشيء يمسكه المدعي بيده وللاحتجاج على جار رفع حائطه على جاره يرمون بحجر على الحائط. وهاك ما يجري إذا اختلف اثنان في ملكية حقل. يأخذ الخصمان بأيديهما كأنهما يريدان أن يتضاربا ثم يفترقان. ويقول كل منهما: أصرح بأن هذا الحقل لي بموجب حقوق الرمانيين فأنا أدعوك باسم محكمة القاضي إلى مكان الحقل ليفصل فيه بيننا فيأمرهما القاضي أن يذهبا إلى الحقل قائلاً لهما: اذهبا فهذا طريقكما أمام الشهود الحاضرين. فيخطوا المتخاصمان بضع خطوات كأنهما ذهبا وفي ذلك رمز إلى ذهابهما. فيقول لهما أحد الشهود: ارجعا. وبذلك إشارة إلى أنهما ذهبا إلى الحقل فيقدم كل من الخصمين مدرة من التراب وهي إشارة للحقل. وهكذا تبدأ الدعوى وعندئذ يستمع القاضي للمتخاصمين. والرومانيون كسائر الشعوب القديمة لا يحسنون فهم غير ما يقع تحت أنظارهم فبالماديات يتمثلون الحق الذي لا يرى. ولقد كان الرومان يحترمون هذه الأشكال القديمة من الأحكانم من وراء الغاية فكانوا في القضاء كما هم في الدين يطيعون نص القانون دون أن يهتموا بالبحث عن معناه وعندهم أن كل دستور مقدس تجب المبالغة في تنفيذه ومن الحكم الجارية في قضاياهم أن كل ما يفوه به اللسان يكون حقاً. فإذا غلط صاحب الدعوى في إيراد مدعاه يخسر قضيته وإذا أقام رجل قضيته على جاره لأنه قطع له كرمة يجب أن تكون الصورة التي يوردها أمام المحكمة حاوية لكلمة (شجرة) فإذا استعاض عنها بكلمة (كرم) لا يحكم له. واحترام هذه المراسيم على إطلاقها فتح للرومانيين سبيل الوفاق الغريب في أمور كثيرة فالشريعة تقول أن الأب إذا أباع ابنه ثلاث مرات يحرر الولد من سلطة أبيه ومتى أراد روماني تحرير ابنه يبيعه ثلاث مرات متوالية وهذا العمل المضحك في بيعه يكفي

لتحريره. وكانت الشريعة تقضي قبل البداءة بحرب أن يرسل مناد ينادي بها على تخوم العدو. ولما أرادت رومية إعلان الحرب على بيروس ملك إبير الذي كانت مملكته في عبر الأدرياتيك رأت الحكومة الرومانية القيام بهذه المصطلحات أن يبتاع أحد رعايا بيروس وربما كان من الآبقين من الجندية حقلاً من رومية فأوهموا بأن هذا الحقل أصبح أرضاً من بلاد أبير وراح المنادي يلقي فيها حربة ويدعوا فيها للحرب علناً. وكان الرومانيون مثل جميع الأمم الفتية يعتقدون باطلاً أن للمراسيم المقدسة فضيلة سحرية. الفقه: كانت شريعة الاثنتي عشرة لوحة والشرائع التي وضعت بعد موجزة ناقصة فكانت تعرض مسائل كثيرة لا حل لها في قانون من القوانين الموضوعة. ففي مثل هذه الأحوال الصعبة كانت العادة متبعة أن يعمد إلى الأخذ برأي بعض أشخاص اشتهروا بمعرفتهم في مسائل الحقوق. وكانوا من أهل الاعتبار ومنهم قناصل قدماء أو أحبار فيكتبون آراءهم كتابة وتسمى فتاويهم أجوبة العقلاء. ومن العادة أن يكون لهذه الأجوبة شأن وقيمة لأن أصحابها الحكماء على جانب من الاعتبار والحرمة. وقد زاد الإمبراطور أغسطس بأن عين بعض هؤلاء الحكماء وقرر أن تكون أجوبتهم قانوناً يعمل به. وعلى هذا صار الحقوق علماً وعلماء الحقوق أو الفقهاء المشرعون يضعون القواعد الجديدة التي أصبحت سارية فنشأ بذلك علم الفقه. أمر القاضي: دعت الحال في رومية إلى نصب حاكم أعلى لينفذ قواعد الحقوق المقدسة وللقنصل أو القاضي فقط أن يديرا شؤون محكمة أو يحقان الحقوق. وإذ كان القناصل يعنون بقيادة الجيش فهم يعهدون في العادة بالنظر في الحقوق إلى القضاة. وكان في رومية قاضيان حاكمان على الأقل يبفصل أحدهما في المسائل التي تحدث بين الوطنيين ويسمى قاضي المدينة وينظر الآخر في الدعاوي التي تنشأ بين الوطنيين والأجانب ويسمى قاضي الأجانب وهناك محكمتان لأن الغريب لا يحاكم أمام محكمة الوطنيين. وهذا القاضيان بالنظر لما لهما من السلطة المطلقة يفصلان القضايا على ما يتراءى لهما. بل أن قاضي الأجانب لم يكن مقيداً بقانون لأن الشرائع الرومانية لم توضع غلا للوطنيين الرومانيين. ولما كان كل قاض يتولى منصبه في القضاء سنة واحدة فهو يكتب عند دخوله

أمراً يبين فيه القواعد التي ينوي اتباعها في الأحكام ويسمون هذا الأمر أمر القاضي. وبعد سنة عندما تنتهي مدة القاضي يسقط قانونه فيحق لخلفه أن يسن قانوناً مخالفاً لقانون سلفه جملة واحدة ولكن جرت العادة أن يحتفظ كل قاضي بما صدر عن أسلافه من الأوامر فيدخل فيها بعض التبديلات ويضيف إليها بعض الزيادات. وهكذا تجمعت أوامر القضاة قروناً ثم أنشأ الإمبراطور هاردن في القرن الثاني براءة القاضي وجعلها قانوناً مرعي الإجراء. وإذا كان هناك محكمتان منفصلتان أحداهما عن الأخرى وضعت قاعدتان متباينتان وقانونان مختلفان فتتألف من القواعد المتبعة التي يجري عليها قاضي المدينة في مسائل الوطنيين الحقوق المدنية أي حقوق المدينة ومن القواعد التي يجري عليها قاضي الأجانب تتألف حقوق الناس أي الشعوب (الغريبة عن رومية) فأدرك القوم إذ ذاك أن عدل هذه القواعد في الحقوق وأبسطها وأعقلها وبالإجمال أفضلها الحقوق الأجنبية وأن حقوق الوطنيين المأخوذة ضمن قواعد محصورة عن قدماء الرومان كان فيها خشونة وقواعد بربرية. أما حقوق الناس (الأجانب) فكان أساسها على العكس عادات التجار وعادات أناس من بلاد مختلفة نزلوا رومية وهي عادات سالمة من كل شائبة ووهم وطني أخذت بكرور الأيام وأقرها الاختبار قروناً كثيرة. ورأى القوم كيف كانت الحقوق القديمة مخالفة للعقل. فقد جاء في بعض الأمثال الرومانية أن الحق الناصع هو الذي تفضه سلطة عليا ظالمة وعلى هذا أنشأ قضاة الوطنيين نفس القواعد التي كان قاضي الأجانب يجري عليها في محكمته. مثال ذلك أن القانون الروماني يقضي أن يرث الأقارب من الذكور فقد إلا أن القاضي دعا الأقارب من النساء أن يشتركن في الإرث. ويقضي القانون القديم بأن لا يكون المرء صاحب ملك إلا إذا قام بالاحتفال في المبيع فاعترف القاضي بأنه يكفي المبتاع أن ينقد البائع ثمن ما ابتاعه وأن يضع يده على الملك حتى يعد مالكاً ـ وأنت ترى أن حقوق الأجانب تغلبت على الحقوق المدنية وأبطلتها. القانون المسطر: أنشئت الحقوق الرومانية على عهد الإمبراطرة خاصة فأصدر الإمبراطرة الأنطونيون كثيراً من الأوامر واللوائح وكانت هذه رسائل تصدر عن الإمبراطور جواباً

عن الموظفين الذين يستطلعون طلع أرائهم فيساعدهم على القيام بهذا الإصلاح القضائي أناس من المتشرعين عندهم وظل بعض المشرعين في أوائل القرن الثالث زمن من حسنت سيرتهم أو ساءت من الإمبراطرة يضعون القوانين الجديدة في الحقوق ويصلحون ما وجدوه منها قديماً ومن أشهرهم بابنين وأوليين ومودوستين وبولس فإن تآليفهم هي التي كانت أساساً للحقوق الرومانية بعد. وهذه الحقوق التي نظمت في القرن الثالث لا شبهة بينها وبين الحقوق الرومانية القديمة بحال من الأحوال إذ القديمة لمن تكن ترحم الضعفاء فاقتبس المتشرعون أفكار فلاسفة اليونان ولا سيما الرواقيين منهم وذهبوا إلى الحرية حق طبيعي لكل من يولد حراً أي أن العبودية مخالفة للطبيعة ولذلك رأوا أنه يحق للعبد أن يطلب إنصافه حتى من سيده وأن هذا إذا قتل عبده يجب أن يعاقب عقاب القاتل وكذلك حموا الولد من ظلم أبيه. وهذا القانون الجديد هو الذي سموه بعد بالقانون المسطور وهو الحقيقة في قانون جروا فيه مع الفلسفة على نحو ما يأمر به العقل الناس كافة ولذا لم يبق في أثر للقانون الجائر المعروف بقانون الاثنتي عشرة لوحة. فليس القانون الروماني الذي حكمت به بلاد الإمبراطورية بأسرها زمناً طويلاً ذاك القانون الذي لم يبرح بعضه داخلاً في قوانيننا بل هو قانون قدماء الرومان وضع بحسب عادات جميع الشعوب القديمة ونسج فيه على مثال الحكم المأثورة عن حكماء اليونان ثم مزج كل ذلك مزيجاً واحداً وكتبه أناس من الحكماء والفقهاء الرومانيين قروناً طويلة. النصرانية تعليم المسيح (عليه السلام): كان الإسرائيليون ينتظرون المسيح من نسل داود ملكاً لهم ومخلصاً فظهر عيسى في الناصرة في ولاية صغرى في الشمال اسمها الجليل لا تكاد نعرف بأنها يهودية. ولد من أسرة وضيعة تحترف بالنجارة. فسماه أتباعه من الروم المسيح أي الممسوح يعنون الملك الممسوح بالزيت المقدس كما دعي السيد والرب المخلص. كلنا نعرف الديانة المسيحية. فيكفي إذاً أن نبين ما هي التعاليم الجديدة التي نشرتها في العالم. فقد أوصى المسيح أولاً بالمحبة فقال: إنك تحب الرب إلهك من كل جوارحك وفكرك وستحب قريبك كما تحب نفسك فجماع الشريعة وتعاليم الأنبياء داخلة في هاتين الوصيتين.

فمن الواجب محبة الغير وإسعافهم ومتى قضى الله بين عباده ويجعل على يمينه من أطعموا الجياع وسقوا العطاش وكسوا العراة. ويقول المسيح لمن يريد ابتاعه أولاً: إذهب فبع مالك وادفعه للفقراء ولقد كان القدماء يعتبرون الشريف والغني والشجاع هو الرجل الصالح إلا أن هذا الاسم تغير معناه منذ جاء المسيح فأصبح الرجل الصالح هو الذي يحب غيره. فعمل الخير هو محبة الغير والسعي في نفعهم. والإحسان (وهو باللاتينية مرادف للحب) أساس التقوى. وغدت لفظة محب مرادفة للفظة محسن. وضع المسيح تعليمه في الإحسان بدلاً من التعليم الإسرائيلي القديم في الانتقام فقال: عرفتم بأنه قيل العين بالعين والسن بالسن أما الآن فأقول لكم إذا ضربكم أحد على خدكم الأيمن فقدموا له الأيسر. وقيل أحبوا بعضكم وابغضوا عدوكم أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وافعلوا الخير مع من يبغضونكم وباركوا لمن يضطهدونكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي ينزل المطر على العادلين والظالمين. حتى أن المسيح وهو على الصليب استغفر لجلاديه فقال: اعف عنهم يا رب فإنهم لا يعرفون ما هم فاعلون. أحب المسيح الناس قاطبة ومات لا من أجل شعب واحد بل من أجل الإنسانية كلها. وما قط ميز بين الأشخاص فكلهم سواء أمام الله. ولقد كانت الأديان القديمة حتى دين إسرائيل دين شعب يحتفظ به ويكتمه بعناية احتفاظه بكنز ثمين دون أن تحدثه نفسه في تبليغه شعباً آخر فقال المسيح لتلاميذه اذهبوا إذاً وعلموا جميع الأمم. وبعد ذلك قام بولس أحد الحواريين وقرر تعليم المساواة النصرانية بقوله: لم يبق أولون ولا آخرون كما لم يبق روم ولا يهود ولا مطهرون ولا قلف ولا برابرة ولا عبيد ولا أحرار فقد أصبح المسيح هو الكل في الكل. كان القدماء يذهبون إلى أن الثروة تعلي شأن الإنسان وينظرون إلى أن الكبر عاطفة شريفة فقال المسيح: طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السموات من لم يتنازل عما يملكه لا يكون تلميذاً لي حتى أنه هو أيضاً كان ينتقل من مدينة إلى مدينة ولا سبد له ولا لبد وعندما كان تلاميذه يهتمون للمستقبل كان يقول لهم: لا تقلقوا لما تأكلون ولا لما تلبسون وألقوا بأنظاركم إلى الطيور في السماء فهي لا تزرع ولا تحصد ومع هذا فإن أباكم السماوي متكفل برزقها. فعلى المسيحي أن يحتقر الثروة وأن يشتد في الازدراء بالعظمة. كان تلاميذه يتنازعون

ذات يوم فيمن يكون له المقام الأول في السماء فقال: إن أعظمكم هو الذي يخدم غيره لأن من يرتفع يسقط ومن يسقط يرتفع وما زال البابا إلى اليوم وهو خليفة القديس بولس يدعى بخادم خدمة المولى. كان المسيح يؤثر أن يجتذب إليه المساكين والمرضى والنساء والأولاد بل والضعاف والمحرومين واختار حواريه من عامة الناس وكان يكرر على مسامعهم تلطفوا وألينو قلوبكم. ملكوت الله: كان المسيح يقول أنه جاء إلى الأرض ليؤسس ملكوت الله. فظن أعداؤه أنه طامع في ملك وعندما صلب كتبت على صليبه هذه العبارة: يسوع الناصرة ملك اليهود وهذا كان خلاف ما يقصده. فقد صرح المسيح نفسه بأن ملكوتي ليس في هذا الأرض فلم يجيء ليقلب الحكومات ولا ليصلح المجتمع وأجاب من سأله فيما إذا كان يجب أداء الجزية للرومانيين بقوله: ادفع لقيصر ما لقيصر وأد ما لله لله. ولذا رضي المسيح بما رآه موجوداً وعمل على تهذيب نفسه وتكميلها لا على إصلاح المجتمع. ولأجل أن يفوز المسيحي بمرضاة الله ويكون أهلاً لبلوغ ملكوته لا يقتضي له أن يقدم النذور ويقف عند حد ما رسمته الشريعة كما فعل الفريسيون اليهود أو عبدة الأرباب القديمة فإن المتعبدين الحقيقيين يعبدون أباهم بالفكر وبالحقيقة وكلمة المسيح هي جماع آدابهم وهي: كونوا كاملين مثل أيكم الذي في السموات فإنه كامل. الحواريون ـ عهد إلى الاثني عشر حوارياً الذين كانوا ملتفين حول المسيح أن يبشروا بتعاتليمه في الأمم بأسرها. فدعوا بالحواريين المرسلين) سكُن معظمهم القدس ودعوا إلى ديننهم فقي أرض اليهودية. زكان المنتصرة الأول من الإسرائيليين. وكان شاول أول من دان بالنصرانية وخف يحمل تعاليم هذا إلى أمم الشرق فقضي بولس (هو الاسم الذي اتخذه) حياته يطوف المدن اليونانية في آسيا الصغرى وبلاد اليونان ومكدونية داعياً إلى الدين الجديد لا الإسرائيليين فقط بل أبناء الأمم الأخرى قائلاً كنتم فيما سبق بدون المسيح بعيدين عن المحالفات والوعود وها قد التأم شملكم بدم المسيح لأنه هو لا يميز بين الشعبين وينظر إليهما كأنهما شعب واحد. ولم يعد من حاجة أن يكون المرء إسرائيلياً حتى ينتحل النصرانية فإن الأمم الأخرى التي نبذتها شريعة موسى قد تقاربت فيما بينها بفضل شريعة المسيح. وهذا الامتزاج هو بصنع القديس بولس ولذا سمي رسول

الأمم. كان المنتحلون للنصرانية بادئ بدءٍ من يونان آسيا الصغرى ثم تنصر كثيرون في جميع المدن الكبرى وأتى زمن طويل والطائفة المسيحية في رومية أيضاً مؤلفة من أبناء يونان. فاتنتشر دين المسيح أولاً ببطء على نحو ما بشر بذلك المسيح بقوله: يشبه ملوك الله حبة من الخردل فهي أصغر الحبوب ومع هذا يييينبت منها نبات أطول من جميع البقول فتؤدي طيور السماء إلى ظلها. الكنيسة الأصلية ـ كان المسيحيوين في جميع البلاد التي نزلوها يجتمعون للصلاة جماعة وإنشاد أماديح المولى وللاحتفال بالعشاء السري وهي أكلة يتناولونها بالاشتراك تذكاراً الآخر أكلة للمسيح وتسمى اجتماعاتهم الكنيسة (المجلس). ومن العادة أن يعامل المسيحيون في كنيسة واحدة بعضهم بعضاً معاملة الأخوة ويأتون بالعطايا لينفقوها على الأرامل والفقراء والمرضى. وأكثر رجالهم احتراماً بينهم الرهبان ومعنى ذلك القدماء يديرون شؤون الطائفة ويقومون بالفروض الدينية. ويتولى آخرون النظر في أملاك الطائفة وكانوا يدعون الشمامسة (الملاحظون) ثم كثرت أعمال الكنيسة حتى انقسم سواد المسيحيين إلى فرقتين إحداهما جماعة المكلفينة بالنظر في وظائف الطائفة وسموهم رجال الكهنوت (أي خدمة الرب) والباقون المؤمنين سموهم العامة (العلمانيين) كان لكل مدينة كنيسة مستقلة فيقولون كنيسة أنطاكية وكنيسة كورنت وكنيسة رومية وكلها في الحقيقة كنيسة واحدة وهي كنيسة المسيح حيث كان يربط الجميع الاعتقاد بإيمان واحد. فالاعتقاد العام أو الكاثوليكي كان هو المعول عليه دون سواه أما الآراء الخاصة (الهرطقات والإلحاد) فكان يحكم عليها بأنها أوهام وأغلاط. وبقي الكتاب المقدس عند اليهود أي العهد القديم مقدساً عند المسيحيين وصار لهؤلاء كتب أخرى جمعتها الكنيسة في مصحف واحد وسمتها العهد الجديد. فالأناجيل الأربعة تقص حياة المسيح والبشارة لما حمله من السلام وأعمال المرسل تذكر كيف انتشرت هذه البشارة في العالم. ورسائل الرسل هي رسائل أرسلها الحواريون إلى مسيحي العهد الأول والأبوكاليبسيس (رؤيا القديس يوحنا الإنجيلي أو الجليان) هو ما أوحاه

القديس يوحنا إلى السبع كنائس في آسيا. كتبت جميع كتابات العهد الجديد باليونانية وهي اللغة التي كانت لغة المسيحيين إلى أواخر القرن الثاني وقد انتشر بين المسيحيين كثير من الكتب زعموا أنها مقدسة فرفضتها الكنيسة كلها وسموها بالمزورة. الاضطهادات ـ اضطهدت الديانة المسيحية منذ ظهورها فكان اليهود أعداءها الأول واضطروا الحاكم الروماني في بلادهم إلى صلب المسيح ورجموا القديس اتين (الشهيد الأول) واشتدوا في طلب القديس بولس وكادوا يقتلونه ثم وقع الاضطهاد على النصرانية من الرومان فإن هؤلاء كانوا يتسامحون مع جميع الأديان لأن عبدة اوزيريس وميترا والربة الصالحة كانوا يعترفون بالأديان الرومانية مع أربابهم إلا أن المسيحية عبدة الله الحي كانوا يزدرون بالمعبودات الصغيرة القديمة بل أن الجريمة الكبرى التي تعد على المسيحيين في نظر الرومانيين أنهم كانوا يأبون عبادة الإمبراطور كما يعبدوا رب وأن يحرقوا البخور على مذبح ربة رومية. وقد أصدر الكثير من الأباطرة أوامر إلى ولاتهم يأمرونهم بالقبض على المسيحيين وإعدامهم. وقد كتب بلين وكان والياً في آسيا إلى الإمبراطور تراجان كتاباً يدل على الطريقة التي كان يعامل بها المسيحيون قال: جربت الآن مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية وهي أن أسألهم عما إذا كانوا مسحيين فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهدداً إياهم بالقتل فإن أصروا أنفذ عقوبة الإعدام عليهم مقتنعاً بأن غلطهم الذين يعترفون به مهما كانت فظاعته وإن عنادهم الشديد وعدم طاعتهم يستحقان العقوبة. وقد وجهت الشكوى إلى كثيرين بكتب لم تذيل بأسماء أصحابها فأنكروا بأنهم نصارى وكرروا الصلاة على الأرباب الذين ذكرت أسماءهما أمامهم وقدموا الخمر والبخور لتمثال أتيت به عمداً مع تماثيل الأرباب بل إنهم شتموا المسيح. ويقال أن من الصعب إكراه النصارى الحقيقي. ومنهم من اعترفوا بأنهم نصارى ولكنه كانوا يثبتون بأن جريمتهم وخطأهم محصوران في أنهم اجتمعوا بضعة أيام قبل طلوع الشمس على عبادة المسيح على أنه رب وعلى إنشاد الأناشيد إكراماً له وتعاهدوا بينهم مقسمين على الإيمانيات لا على ارتكاب جريمة بل على أن لا يسرقوا ولا يقتلوا ولا يزنوا ويوفوا بوعودهم. ورأيت من الضرورة للوقوف على الحقيقية أن أعذب امرأتين أمتين

دعوهما خادمتي الكنيسة بيد أني لم أقف على شيء اللهم إلا ما كان من خرافة سخيفة مبالغ فيها. وعلى هذا فقد كانت الحكومة هي المضطهدة إلا أن العامة في المدن الكبيرة كانوا أكثر اضطهاداً للمسيحيين فلم يكونوا يتسامحون مع هؤلاء الذين يعبدون إله أخر غير أربابهم ويحتقر هذه الأرباب. وكنت تسمع القوم إذا وقع قحط ومجاعة ووباء يهتفون هتافهم الذي اشتهر آمره النصارى للأسود والشعب يكره الحكام على البحث عن المسيحيين ومطاردتهم. الشهداء ـ هلك ألوف من المسيحيين في خلال قرنين ونصف نالهم فيها الاضطهاد في طول المملكة الرومانية وعرضها وكان الهالكون من كل سن وجنس وطبقة. فالوطنيين الرومانيين تضرب أعناقهم كما جرى للقديس بولس والباقون يصلبون ويحرقون وكثيراً ما يلقون للوحوش الكاسرة تنهشهم. وإذا أبقوا عليهم يبعثون بهم إلى الأعمال الشاقة في المناجم وكثيراً ما كانوا يبالغون في عقاب النصارى بإيجاد وسائل لإهلاكهم من كل نوع. ففي المقتلة العظمى التي وقعت في ليون سنة 177 أخذ المسيحيون بعد أن عذبوا وسجنوا في مطبق ضيق إلى الملعب فأخذت الحيوانات الكاسرة تمزق أوصالهم ولا تقتلهم ثم أجلسوهم على كراسي من حديد محماة بالنار. وإذ قاومت فتاة من الإماء اسمها بلاندين أن تعذب على هذه الصورة جعلوها في شبكة ووضعوها أمام ثور غضبان. وكان المسيحيون يتلقون بسرور هذا التعذيب الذي يفتح لهم أبواب السموات ويرون فيه وسيلة إلى الإستشهاد علناً في حب المسيح ولذلك كانوا يسمون أنفسهم بالشهداء أي الشهود لا بالمنكوبين وعقوبتهم شهادة. بل أنهم كانوا ينظرون إلى تعذيبهم نظرة نظرهم إلى قتال الألعاب الأولمبية ويرون أنهم كالمصارع الظافر ينالون الفخار والتاج. وما برحوا حتى اليوم يحتفلون بعيد الشهداء وأعيادهم موافقة للأيام التي قتلوا فيها وكثيراً ما كان أحد من يحضرون تعذيب أحد الشهداء يكتب قصته وكيفية توقيفه واستنطاقه وتعذيبه وعقوبته وهذه الكتابات على اختصارها طافحة بالعبرة وكانت تسمى أعمال الشهداء وتنتشر حتى بين الطوائف البعيدة من أقصى المملكة إلى أقصاها وما هي إلى مرددة المجد الذي أحرزه المعترفون بالإيمان الصحيح وداعية إلى الترغيب في الجري على مثالهم. ولقد حدا حب الشهادة بألوف المسيحيين بأن يعلنوا أمرهم بأنفسهم ويطالبون بالحكم عليهم

وأمر أحد حكام آسيا ذات يوم بإلقاء القبض على بعض مسيحيين فجاء جميع منتصرة المدينة يتقدمون للمحكمة طالبين إليها محاكمتهم. فاستشاط الوالي غضباً فقتل بعضهم وطر الآخرين قائلاً: ارجعوا أيها الأسافل إن كنتم تحرصون كثيراً على الموت فهل عندكم قبور تسعكم وحبال تقيدكم. وكان بعض المسيحيين يدخلون المعابد ويقلبون فيها أصنام الأرباب ليكونوا على ثقة أنهم يشنقون حتى قضت الحال أن تمنع الكنيسة مرات تعرض النصارى لنيل الشهادة. الدياميس ـ كان المسيحيون ينكرون العادة القديمة في إحراق الموتى فأخذوا يدفنون موتاهم كاليهود في نواويس بعد أن يكفنوهم في أكفان فاحتاجوا إلى قبور. وإذا كانت الأرض غالية الثمن جداً نزل المسيحيون إلى تحت الأرض وحفروا في الأرض الرخوة التي كانت رومية قائمة عليها دهاليز طويلة وغرف أرضية وهناك كان المسيحيون في مقاصير حفروها على طول الحواجز يدفنون موتاهم وإذا أخذ كل جيل يحتفر لنفسه دهاليز جديدة صارت مع الزمن مدينة أرضية سموها الدياميس. ومثل هذه الدياميس كان نابولي وميلان والإسكندرية إلا أن أشهرها كان في رومية. وقد فتحت في أيامنا فرأوا فيها ألوفاً من القبور والكتابات النصرانية وباكتشاف هذا العالم المدفون تحت الأرض نشأ فرع جديد من فروع العلوم التاريخية وهو علم الكتابات والآثار النصرانية. وقد شوهد أن قاعات المدافن في الدياميس منقوشة برسوم بسيطة وصور ولكنها تمثل مشاهد واحدة إلا قليلاً وهي أن تصور المؤمنين من المسيحيين في الصلاة أو الراعي الصالح وهو رمز للمسيح. وكانت بعض هذه القاعات أشبه بالمعابد وفيها دفنوا جثث القديسين الشهداء والمؤمنين الذين رغبوا في أن يدفنوا في جوارهم وكانوا يأتون كل سنة لتناول الأسرار. وكثيراً ما التجأ المسيحيون في رومية خلال اضطهادات القرن الثالث إلى هذه الكنائس الأرضية للقيام بصلواتهم أو للفرار من الطلب عليهم. قسطنيطين تغلب النصرانية ـ مضى القرنان الأولان للميلاد والمسيحيون ضعاف الشأن في الإمبراطورية الرومانية وجمهورهم من السوقة والعملة والعبيد المعتقين والعبيد ممن يضعون في غمار الناس بالمدن الكبرى وقد مضى زمن والطبقة العالية تنكر وجودهم حتى

أن سويتون في القرن الثاني لما تكلم في تاريخ القياصرة على المسيح قال أنه رجل اسمه كريستوس يلقي الاضطراب بين سكان رومية. ولما أخذ الأغنياء والأدباء يعنون بأمر الدين الجديد لم يكن ذلك منهم إلا ليهزؤوا به ولا يذكرونه إلا أنه دين فقراء وجهلة. وإذ جاء النصرانية لمساكين هذا العالم بأن وعدتهم الجزاء عن هذه الحياة في الآخرة كثر أشياعها والقائلون بالتدين بها ولم تحل الاضطهادات دون انتشارها بل قوتها وبعثت كلمتها فقد كان المسيحيون يقولون بأن دم الشهداء بذر للمسيحيين ولقد ظل الاهتداء إلى النصرانية ينتشر خلال القرن الثالث كله بين رجال الأسرات الكبيرة لا بين الفقراء فقط وما جاءت أوائل القرن الرابع إلا وقد أصبح الشرق كله أي البلاد التي تتكلم باليونانية مسيحياً بأسره. وكانت هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين مسيحية فجعلتها الكنيسة في مصاف القديسات ولما زحف هذا الإمبراطور على مزاحمه ملك رومية وصغ على علمه شارة الصليب وشعار المسيح وكانت الغلبة التي كتبت له غلبة للنصرانية فسمح للنصارى أن يقوموا بشعائر دينهم دون أن يعارضهم أحد بأمره الصادر سنة 313 ثم أخذ يعطف عليهم جهاراً. ومع هذا لم يتخل عن الدين القديم (الوثنية) فحينناً كنت تراه يرأس مجلس أساقفة المسيحيين كان يلقب بلقب الحبر الأعظم ويحمل على خوذته مسماراً من الصليب الحقيقي ونقوده منقوش عليها صورة رب الشمس. وقد أنشأ في القسطنطينية كنيسة نصرانية كما أنشأ معبداً تذكاراً لهذه الغلبة. ومضى نصف قرن كان فيه من الصعب معرفة دين المملكة الرسمي في الإمبراطورية. تنظيم الكنيسة ـ لم يخطر في بال المسيحيين حتى في الأزمان التي نالهم فيها الاضطهاد أن يقلبوا كيان الإمبراطورية ومنذ بطل اضطهادهم أصبح أساقفتهم حلفاء للإمبراطور وعند انتظمت حالة الكنيسة بصورة قطعية على الصورة التي بقيت عليها إلى يومنا هذا. فصار لكل مدينة أسقف يقيم في الحاضرة ويقيم على المسيحيين التابعين لهل وتسمى الأرض الخاضعة لأسقف أبرشية. وكان في أقطار الإمبراطورية الرومانية أبرشيات وأساقفة على قدر ما فيها من مدن وهذا هو السبب الذي أجله كان الأساقفة كثيرين والأبرشيات صغيرة في الشرق وفي ايطاليا حيث كثر عدد المدن. وعلى العكس في مدن غاليا فإنه لم يكن بين الرين والبيرنيه سوى 120 أبرشية ومعظمها ما عدا أبرشيات الجنوب في الجسامة كولاية.

أصبحت كل ولاية مقاطعة كنائسية وسمي أسقف العاصمة وأسقف المركز بعد رئيس الأساقفة. وكثيراً ما ينظر إلى أسقف أعظم مدينة في بقعة بأنه أرقى الأساقفة في تلك الأرجاء وكان أساقفة المدن الرئيسية بالشرق في القدس وانطاكية والإسكندرية والأستانة يدعون بالبطاركة وفوقهم كلهم البابا أسقف رومية وهو الرئيس الأعظم في الكنيسة. وفي هذا القرن أنشئت المجامع الدينية الكبرى فكان في آسيا الصغرى أولاً مجامع خاصة يجتمع فيها أساقفة ناحية من النواحي وكهنتها. وفي سنة324 دعا قسطنطين للمرة الأولى مجمعاً دينياً عاماً من أهل الأرض إلى مدينة نيقية في آسيا الصغرى فحضره 318 رجلاً من رجال الكنيسة فتناقشوا في المسائل اللاهوتية وانشؤا لاعتراف بإيمان الكاثوليك الذي سموه قانون نيقية وما زال المسيحيون ينشدونه إلى اليوم في قداس كل أحد. ثم كتب الإمبراطور إلى عامة الكنائس أن تتمثل إرادة المولى التي تجلت فيما أجمع عليه المجامع العام وكان هذا هو المجمع المسكوني الأول. وأصبحت القرارات التي تقررها المجامع شريعة ويجب على المسيحيين قاطبة أن يعملوا بها وسموها القوانين أو القواعد. ويتألف من مجموع هذه القواعد القوانين الكنائسية. الملاحدة (الهراطقة) ـ نشأ منذ القرن الثاني بيم المسيحيين ملاحدة يخالفون في أرائهم السواد الأعظم من أبناء الكنيسة. وكثيراً ما اجتمع الأساقفة في بلد ليعلنوا للمؤمنين بأن المذهب الجديد باطل ويكرهوا مبتدعيه على الرجوع عنه وإذا أبى يخرجونه من الوحدة المسيحية. وقد يستجيش صاحب البدعة أعواناً يقتنعون بصحة دعوته فلا يرون الرجوع عما وافقوه علية ويظلون يدينون بمحاكم المجمع برده من الآراء. ومن هنا نشأت العداوات والفتن الشديدة بينهم وبين المتعلقين برأي الكنيسة (الأرثوذكس) وإذا كان المسيحيون ضعافاً ومضطهدين لم يتنازعوا بينهم إلا بالكلام والكتابة ولكن لما أصبحت البلاد مسيحية كلها استحال النزاع بين المسيحيين والمخالفين منهم في بعض الآراء إلى اضطهاد الملاحدة وكثيراً ما تنشب منه حروب أهلية. وتكاد تنشأ جميع البدع في ذلك العهد بين يونان آسيا ومصر على يد أناس من الأذكياء والسفسطائيين والمجادلين وقد نشأت تلك البدع في العادة من محاولة فهم أسرار التثليث والتجسيد. وكانت بدعة آريوس أقوى جميع البدع فمن مذهبه أن الله الأب خلق المسيح

وليس هو مثله فحكم المجمع النيقي بتبديعه ولكن مذهبه انتشر في بلاد الشرق عامة. ومنذ ذاك العهد ظل الكاثوليك والآريوسيون يتنازعون بينهم أيهم يستأثر بالسلطة في الكنيسة والحزب الأقوى يعزل وينفي ويحبس وأحياناً يذبح زعماء الحزب المخالف. ومضى زمن والقوة للآريوسيين وتحزب لقولهم عدة من الأباطرة ثم أن الآريوسية كانت تقوى بكثرة دخول البرابرة في الإمبراطورية وتمذهبهم بهذا المذهب ومعاضدتهم لأساقفته. فقضى الكاثوليك زهاء مائتي سنة حتى قضوا على هذا المذهب المبتدع. أواخر أيام الإمبراطورية لما ذبح الجنود أخوة قسطنطين وأبناء أخته سنة 328 أفلت منهم طفل في السادسة من عمره اسمه جولين فجعله الإمبراطور نسيبه في أقاصي آسيا الصغرى ورباه على يد قسيسين مسيحيين فبعث به هؤلاء إلى قبر الشهداء ينشد المزامير ويتلو الكتاب المقدس أمام الشعب ولما شب رخص له بالقدوم إلى الأستانة فانشأ يدرس كتب بلغاء الروم وفلاسفتهم وأولع بأحد الفلاسفة الأفلاطونيين فانصرفت نفسه عن النصرانيين. وأتم دروسه في أثينا وتعلم فيها أسرار معبد أوزيس بأنه من أشياع الدين القديم علناً وأخذ يحتفل بعبادة الأرباب فلقبه المسيحيون بالمرتد. كان جولين أخر من بقي حياً من الأسرة الإمبراطورية وإذ لم يكن للإمبراطور قسطنطين وارث يرثه غير هذا أجمع أمره على أن يلقبه باسم قيصر وبعث به قائداً على جيش غاليا (355) وكانت البرابرة قد هاجمت هذه البلاد وجاءت عصابة من الألمانيين على مقربة من مدينة أوتون. وإذ لم يكن لجولين خبرة بالحرب انصرفت همته إلى درس الفلسفة فصرف شتاءً بطوله في تعلم صناعة الكر والفر وأنشأ يريض نفسه ويتمرن ويتلو سيرة مشاهير الغزاة فلما تم له ذلك حمل على الألمان في جيش صغير من المشاة الرومانيين والفرسان البرابرة فكتب له الظفر في حملته الثانية في سهل بالقرب من مدينة ستراسبوغ وركب أكتاف الألمان ورجعوا يجتازون نهر الرين (357) وقضى جولين في غاليا ثلاث سنين أخرى وجعل مشتاه في بلدة لوتيس حاضرة الشعب الباريزي وهي مبنية في جزيرة من جزر السين وكان يدعوها (لوتيس المحبوبة) وهو أول من وصفها. وفي هذه المدينة أتاه أمر الإمبراطور أن يبعث إليه بقسم من جيشه إلى الشرق ليقاتل

البارثيين الذين داهموا بلاد الإمبراطورية فلم يرد الجند أن يبتعدوا عن بلادهم إلى مثل تلك القاصية وأبوا أن يقاتلوا ثم أخذوا جولين ورفعوه على ترس (وكان هذا الأسلوب هو الذي يجري عليه المحاربون الجرمانيون في مبايعة ملوكهم) وحملوه وهم ينادون جولين أغسطس. فكتب جولين إلى الإمبراطور يريده على أن يرتضيه رصيفاً له فأبى قسطنطين عليه ذلك فزحف جولين في جيشه على القسطنطينية وكان قسطنطين قد قضى نحبه قبل وصوله. ولما خلا الجو لجولين وأصبح إمبراطور وحده أقام في الشرق وحاول أن يعيد الدين القديم (الوثنية) فأرجع إلى الكهنة أملاكهم ومناصبهم وأعاد تقديم النذور الأرباب بل أصدر أمره إلى المسيحيين بأن يرجعوا المعابد التي كانوا حولوها إلى كنائس. وأنشأ يناهض النصرانية مباشرة وأبى أن يعين بعض المسيحيين في الوظائف وطرد المعلمين المسيحيين من المدارس قائلاً أنه لا يحق لهم أن يدرسوا كتباً يذكر فيها اسم الأرباب وهم لا يعتقدون فيها. وسعى إلى إعادة الدين القديم إلى حاله بأن عهد إلى الكهنة أن يقرؤوا على العامة مواعظ ودروس دينية إلا أن الزمن خانه فسافر في حملة على البارثيين وغلبهم وأصيب بسهم في إحدى المعارك. وقيل انه صرخ وهو يجود بنفسه (لقد غلبت يا غاليي). القضاء على الوثنية ـ لم يقض على دين السوقة القديم لأول مرة فقد اهتدى الشرق في الحال أما في الغرب لم يبقى مسيحيين إلا في المدن بل أن الأمة ظلت هنا تعبد الأصنام وذلك لأن الإمبراطورة الأولى المسيحيين لم يريدوا أن يقضوا القضاء الأخير على دين المملكة القديم بل كانوا يحمون القسيسين المسيحيين كما يحمون كهنة الأرباب يرأسون المجامع الدينية ويبقون أحباراً عظاماً. وكان الإمبراطور فراسين سنة 384 أول من أبى بأن يلقب بالحبر الأعظم وإذ عم التسامح في ذاك القرن بدئ باضطهاد الدين الروماني منذ غدا غير رسمي. وأطفئ الموقد المقدس الذي كان يشتعل في رومية منذ أحد عشر قرناً وطردت الكاهنات اللاتي كن في معبد فستا يوقدون النار كلما خمدت. واحتفل أخر مرة بالألعاب الأولمبية في بلاد اليونان سنة 394 وعندئذ خرج النساك في مصر من الصحراء لينقضوا مذبح

الأرباب المزورة ويجعلوها بقايا في قبور أنوبيس وسيرابيس. وقام وأرسل الأسقف السوري في مقدمة عصابة من الجند والمشعوذين فخرب معبد المشتري في أفامية. وأنشأ يجوب البلاد ويخرب المزارات فقتله الفالحون فجعلته الكنيسة من القديسين. فما هو إلا قليل حتى لم يبقى عبدة أوثان إلا في القرى يأوون إليها فراراً من المراقبة وهم فلاحون ممن بقوا يعبدون الأشجار المقدسة والينابيع ويجتمعون في المزارات البعيدة. وأخذ المسيحيون يطلقون اسم الوثنيين (الفلاحين) على من كانوا سموهم إلا ذلك العهد بالظرفاء وبقي ذلك الاسم يطلق عليهم. وهكذا اشتدت الحال على الوثنية في ايطاليا وغاليا واسبانيا إلى أواخر القرن الرابع وطوي بساطتها تحت طي السكوت. التنظيم الجديد في الإمبراطورية رومية والقسطنطينية ـ خرب الغرب وقل سكانه في القرن الثالث بما تواتر عليه من الحروب والغارات فأصبح الشرق اليوناني القسم المهم من الإمبراطورية. وكان ديوكلسين قد تخلى عن رومية وجعل عاصمته في نيكوميديا في آسيا الصغرى. أم قسطنطين فتوسع في الأمر أكثر من ذلك فأنشأ رومية جديدة في الشرق وكانت القسطنطينية على رأس من البحر لا يفصل أوربا عن آسيا غير خليج البوسفور الضيق في أرض كثيرة الكروم والغلات وتحت سماء صافية وأنشأ طواري من الروم مدينة بيزانس وكان لها من الإحكام ما يجعلها سهلة على الدفاع ومرفأها المعروف بقرن الذهب من أحسن مرافئ العالم يؤوي 1200 سفينة ويمكن سده بسلسة طولها 250 متر لئلا تتخطاه أساطيل العدو. فهناك أنشأ قسطنطين مدينته الجديدة القسطنطينية (مدينة قسطنطين) وجعل في أطرافها أسواراً عالية وأنشأ فيها ساحتين تحيط بهما أروقة. وأنشؤوا فيها قصراً وملعباً ودور تمثيل وأقنية وحمامات ومعابد وكنيسة مسيحية. ونزع قسطنطين من المدن الأخرى ما كان فيها من التماثل والنقوش البارزة المشهورة ليزين بها مدينته ولأجل إسكانها نقل إليها سكان المدن المجاورة بالقوة وقدر مكافأت وألقاب تشريف للأسر الكبرى التي تنتقل إليها وقرر كما كان الحال في رومية توزيع الحنطة والخمر والزيت على الناس وتوفير المشاهد والفرج لهم. فكان تأسيس تلك العاصمة من السرعة الغريبة على نحو ما يحب القوم في الشرق فبدأ

العمل بذلك في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 326 واحتفل بافتتاحها في 11 أيار (مايو) سنة 330 ولكن أسست بحيث تبقى على الدهر فقد صبرت القسطنطينية على هجمات المهاجمين عشرة قرون وبقيت بمقام عاصمة أبداً والمملكة الرومانية تمزق ولا تزال إلى اليوم أول مدينة في الشرق. ولما ترك الإمبراطور رومية لم تعد مقر للحكومة وظل فيها مجلس أعيانها وإن لم تعد له سلطة وبقيت مزاراتها واحتفالاتها كما بقيت إلى أواخر القرن الرابع مركز الحزب الديني القديم. القصر ـ أخذ الإمبراطورة الذين نزلوا الشرق في التعود بعادته وأنشؤوا يلبسون ثياباً إضافية من الحرير والقصب ويجعلون على رؤوسهم تاجاً مرصعاً باللؤلؤ ويتحجبون في قصورهم حيث كانوا يجلسون على عرش من ذهب يحف بهم وزرائهم ويفصلهم عن الناس جمهور من الحشم والخدم والموظفين والحرس. وعلى من ينال شرف الحظوة من مواجهتهم أن يسجد أمامهم ويمرغ وجهه في الأرض علامة العبادة والخضوع ويطلقون عليهم ألقاب المولى والجلالة ويعاملونهم معاملة الأرباب وكل ما يمس أشخاصهم مقدس فيقولون القصر المقدس والغرفة المقدسة. ومجلس الإمبراطور المقدس والخزانة المقدسة. فكان عيش الإمبراطور في الإمبراطورية الغربية (ايطاليا) من القرن الأول إلى الثالث شبيه بحياة حاكم أو قائد أما قصر الإمبراطور في الإمبراطورية الشرقية (القسطنطينية) فهو أشبه بقصر ملك فارس. وقد أطلق على طرقة الحكم في الإمبراطورية الشرقية اسم الإمبراطورية الواطئة معارضة لطريقة الحكم السالفة في القرون الثلاثة التي لقبوها بالإمبراطورية العالية. الموظفون ـ أصبح الموظفون أكثر عدداً مما كانوا ويحف بالإمبراطور جيش صغير من الخاصة يحرسون قصره وهناك حرس ووكلاء وخدم ومجلس عالي وحجاب وسعاة وأمناء سر ينقسمون إلى أربع مكاتب. وأصبح الموظفون في الولايات أكثر سواداً إذ رأى الإمبراطور ديوكلسين الولايات متسعة فقسمها إلى عدة قطع ففي غاليا مثلاً قسم ولاية ليون إلى أربع واكيتين إلى ثلاث. وبعد أن كان في الإمبراطورية 46 والياً أصبح فيها 117 ثم

فصلوا الوظائف فجعلوا مع الولاة والوكلاء قواداً عسكريين من دوقات وكنتية في الولايات الواقعة على التخوم. وأصبح جميع الموظفين لا تصلهم أوامر الإمبراطور مباشرة فلا يخاطبون إلا كبار الموظفون رؤسائهم فيخضع الولاة لقائدي حرس القيصر والموظفون في الأشغال العمومية لحرس المدينة. وجباة الأموال إلى الكونت الذي يتولى الأعطيات المقدسة. والوكلاء للكونت المشرف على الأملاك والضباط إلى موالي الأجناد وجميع موظفي القصر يرجعون إلى مولى التشريفات وخدمة القصر إلى رئيس الخدمة المقدسة. وهؤلاء الرؤساء كالوزراء. وهذه الطريقة لا يصعب علينا فهمها فقد اعتدنا أن نرى موظفين وقضاة وقواداً وجباة ومهندسين على اختلاف في أعمالهم التي يتولونها ولكل واحد عمله الخاص ويرجع أمرهم إلى ناظر هو رئيس ديوانه بل إن عندنا من النظارات أكثر مما في الأستانة. إلا أن هذه الإدارة الإدارية التي ألفناها لأننا نعرفها منذ الطفولة ليش فيها التباس ولا خروج عن حد الطبيعة. فقد كانت الإمبراطورية الشرقية أنموذجاً في هذا الباب واحتفظت به المملكة البيزنطية ومن ذلك العهد حاولت جميع الحكومات المطلقة أن تنسج على منوالها لأن في ذلك من التسهيل في العمل ما ينتفع به من يتولون أعمال الحكم. المجتمع في الإمبراطورية الشرقية ـ كانت هذه الإمبراطورية هي الحد الفاصل في تاريخ الحضارة اجتمعت فيها سلطة الحاكم الروماني المطلقة مع فخفخة ملوك الشرق يتألف منها سلطة لم يكن بها عهد إلى ذلك العهد. وهذه السلطة التي لم يسمع بمثلها تأتي على كل شيء في يدها فلم يعد سكان الإمبراطورية وطنيين رومانيين منذ القرن الرابع بل صاروا يدعون باللاتينية الرعايا (الخاضعين) وبالرومية العبيد فكانوا كلهم من ثم عبيد الإمبراطورية ولكنهم يختلفون بالمقام وهم درجات في الشرف الذي يوليهم إياه مولاهم ويورثونه أبنائهم وإليك تلك المناصب حسب درجاتها. 1 ـ أشرف الأشراف وهم لأسرة الإمبراطورية. 2 ـ المشاهير وهم وزراء ورؤساء الدواوين 3 ـ المعتبرون وهم كبار أرباب المناصب.

4 ـ الممجدون وهم كبار الموظفين (ويدعون الأعيان). 5 ـ أهل الكمال. ولكل صاحب شأن مقامه ولقبه ووظائفه. وأكثر الناس احتراما الندماء والموظفون حتى صح أن يدعى ذلك العهد عهد الألقاب والتشريفات. وما قط شوهد إلى حد تبلغ السلطة المطلقة إذا دعمها الجنون في الألقاب والميل إلى ترتيب كل أمر بالإكثار من القوانين وعليه فقد كانت الإمبراطورية الشرقية مثالاً تاماً لمجتمع يدار بالآلة الصماء ولحكومة فنيت في إرادة قيصرها فحازت أقصى ما يتطال إليه حتى اليوم أنصار السلطة المطلقة وسيكافح بعد أشياع الحرية زمناً طويلاً تلك التقاليد التي أبقتها إمبراطورية الشرق. حكومة المدينة ـ لم يعتن الرومان بجباية الأموال الرعايا بأنفسهم بل كان الإمبراطور يكتفي ببيان الخراج المطلوب من كل ولاية (وذلك كل خمس سنين في الغالب) ويحدده كما يرد. ويعلم الوالي كل مدينة ما يجب عليها أداؤه. فحكومة المدينة هي التي تقدم المبلغ المطلوب. وما دامت المدينة غنية يجبي الوالي خراجها موزعاً له بين السكان فإذا عجزوا عن الدفع يتحتم على من تولوا الخراج أن يسددوا العجز لأنهم مسئولون عن الخرج وخزانة الإمبراطورية لا تتنازل عن حقوقها. ولقد كان منصب الجباية حتى القرن الثالث مرغوباً فيه كأنه من أسباب الشرف فيعد الجابي في مدينته كأنه كعضو الشيوخ في رومية. وإذا افتقرت البلاد يعود منصب الجباية من المناصب التي تكسر متوليها فترهق النفوس في توليتها. فرأى الإمبراطرة أن يسنوا قانوناً لعقاب من يأبى جباية الخراج فصار الجابي يتولى ذلك رغم أنفه ويجب على كل من يملك خمسة وعشرين فداناً من الأرض أن يكون أحد الجباة طوعاً أو كرهاً. وكثير من الجباة كانوا يؤثرون أن يخرجوا عما يملكون من الأراضي ويهربوا ويدخلوا في سلك الرهبنة والخورنة أو الاستخدام والجندية. أصدر الأباطرة أوامرهم بالبحث عن هؤلاء الفارين وأن يعادوا إلى مدنهم بالقوة. وقد جاء في أحد القوانين المسئولة أنهم عبيد الإمبراطورية. فكانت الحكومة تحاول أن تبقي محابس الشيوخ في المدن على هذه الكيفية وإذا كانت

تخرب بيوتهم بخراجها أصبح عدد الجباة أبداً في قلة. وكان مجلس الشيوخ يتألف على عهد الإمبراطورية الغربية من مئة عضو. وفي القرن الرابع نشبت فتن في إحدى الولايات فأمر أحد الأباطرة أن يأتوه برؤوس ثلاثة من الجباة من كل مدينة فكتب إليه الوالي (ليسع حلمكم أن يقرر ما الذي يجب أن نعمله في المدينة التي ليس فيها ثلاثة من الجباة). المستعمرون ـ وقع في الإمبراطورية الرومانية مثلما وقع في عامة المجتمعات القديمة مثل إسبارطة ويونان وايطاليا وهو أن يضمحل الأحرار ويخلفهم العبيد ويبقى في القرى ما يكفيها من الحراثين. لا جرم أن المدينة الرومانية لم تخرب بل كانت أخذة بالنماء. فقد كان عدد الوطنيين في القرن الأول زهاء مليون نسمة وفي القرن الثالث صدر أمر الإمبراطور بمنح جميع سكان الإمبراطورية حق الوطنية فصار الوطنين الرومانيين يعدون بالملايين ويبدءون باضمحلال سائر سكان العالم بيد أن الحكم الروماني كان سبباً في اضمحلال شعوب المملكة كما اضمحل به من قبل أهل ايطاليا وكان يقتضي له كثير من الجنود وكثير من العبيد. وبهذا الحكم يفلح الأغنياء ويصعب على صغار أرباب الأملاك أن يقفوا أمام الكبراء فيستخدمون في الجندية أو يخربون بيوتهم بأيديهم. ويقتني صاحب الأملاك الواسعة أراضيهم حتى أتى زمن لم يبقى في بعض البلاد غير أملاك واسعة يحرثها العبيد. وهؤلاء السكان من العبيد لا يتجددون فإذا عرض عارض من العوارض المألوفة إذ ذاك من مثل وباء وحرب وغارة برابرة وهلك جمهور من الحارثين في إحدى الأملاك تبقى الأرض بوراً. فخلت القرى على التدريج ولا سيما ما كان على التخوم من الناس ولم بيقى سكان إلا في المدن بل صار في عدة أنحاء من المملكة قفار حقيقية خلت من السكان والعمران. فانشأ الأباطرة يسكنون فيها عصابات من البربر ممن ضربوهم وأسروهم ليحيوا بهم موات تلك القرى. إلا أن هؤلاء البرابرة لا يملكون الأراضي بل يستعمرونها فقط مثل الهيلوتبين في إسبارطة ويقضى عليهم أن يبقوا في الأرض التي أنزلوا فيها لا يفارقونها ولا أولادهم بحال يؤدون إلى صاحب الأرض مالاً مقرر فمن ثم كانوا مستأجرين إلى الأبد بالقوة. وليس هذا النظام جديد بل كان في ايطاليا على عهد الإمبراطورية الشرقية أناس من

الطوارئ من الأحرار الفقراء قيدوا أنفسهم في خدمة صاحب ملك عظيم لينالوا منه أرضاً يزرعونها. وزاد سواد الطوارئ زيادة كبرى لما ضموا إليهم الأسرى من البربر. وهذه الطريقة الشديدة لم تكف في إحياء أمة لأن أولئك الحراثين كانوا يفرون أو يهلكون. وفي القرن الخامس بعد مرور الجيوش العظيمة من المخربين (داكيز وأتيلا) كان في أراضي المملكة فراغ كبير تعذر على الأباطرة أن يسدوه. وبقي في غاليا واسبانيا وايطاليا وفي الغرب كله جزء من الأراضي بوراً لقلة العاملين فيها وأقفرت ولايات التخوم وقد اضمحل الشعب الروماني في جميع حوض الطونة من سويسرا إلى البلقان منذ القرن السادس فلم يكن في تلك البلاد إلا الأمم الجرمانية أو السلافية. حتى أن الفرنك لم يجدوا في البلجيك غير قفر. البرابرة في الجيش الروماني ـ هذه الأراضي الخالية تستدعي سكاناً جدداً فكان البرابرة يحاولون على الدوام أن يتخطوها وما دام للحكومة الرومانية بعض جيش لا يصعب عليها أن تردهم على أعقابهم. إلا أن الأمر في التجنيد صار كالصعوبة كإيجاد المال. وألف سكان الإمبراطورية حياة السكون ولم يعودوا يهتمون بخدمة الجندية. حتى اضطرت الحكومة أن تطلب جنداً من كبار الأملاك فيأخذ هؤلاء بعض الطوارئ الذين يعملون في أراضيهم فكان هؤلاء المساكين المأخوذين بالقوة من وراء محاريثهم جنداً غير كفؤ للقتال. وغدت الجنود منذ القرن الرابع من الضعف بحيث لا تستطيع حمل الدروع واستعاضت عن الخوذ بالقبعات. وبسلاحهم وزعمائهم ويدعون المحالفين وبلغ الإمبراطور أنه أخذ يقبل منهم في جيشه شعوباً برمتها مثل الوزيغوت والبورغند وكانوا اجتازوا التخوم بالقوة أحياناً ثم أثروا أن يكونوا في خدمته على أن يقاتلوه. فأصبحت إذ ذاك جيوش رومية مؤلفة من شعوب بربرية يقودها قائد بربري. ولفد كان الجيش الروماني الذي رد غارة أتيلا سنة 451 مؤلفا من الزيغت والبورتمند صار كثير من القواد الرومان منذ القرن الرابع سيلفانوس واريوكست أو معظمهم ف القرن الخامس (مثل ستيلكون ورسيمير وادواركو) من أصل بربري ولم تعد الإمبراطورية الرومانية محمية إلا بأناس من المحاربين البرابرة فاحتلها بعدهم أبناء جنسهم.

طبقات الأطباء

طبقات الأطباء من الكتب ما لو ظفر به المرء أغناه وكم من مكتبة لا تغني عن كتاب. والكتب كالناس واحد بألف وألف لا يساوي واحد. ومن الكتب التي تعد بألف كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لمؤلفه موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668 بصرخد من أعمال جبل الدروز في بلاد الشام ألفه في دمشق برسم أمين الدولة بن غزال بن أبي سعيد وزير الملك الصالح ابن الملك العادل. صاحب هذه الطبقات من الأطباء العلماء منقح الفكر والعبارة منظم الأسلوب حسن الطريقة ذكر في كتابه كما قال نكتاً وعيوناً في مراتب المميزين من الأطباء القدماء ونوادرهم ومحاوراتهم وشيئاً من أسماء كتبهم ليستدل بذلك على ما خصهم الله تعالى به من العلم قال فإن كثير منهم وإن قدمت أزمانهم وتفاوتت أوقاتهم فإن لهم علينا من النعم فيما صنفوه والمنن فيما قد جمعوه في كتبهم من هذه الصناعة ما تفضل المعلم على تلميذه والمحسن على من أحسن إليه. وقد أودع كتابه جماعة من الحكماء والفلاسفة ممن لهم نظر وعناية بصناعة الطب وجملاً من أحوالهم ونوادرهم وأسماء كتبهم وجعل ذكر كل واحد منهم في الموضوع الأليق به على حسب طبقاتهم ومراتبهم وقسمه إلى خمسة عشر باباً. الباب الأول في كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها. الثاني في طبقات الأطباء الذين ظهرت لهم أجزاء من صناعة الطب وكانوا المبتدئين بها وهم ثلاثة. الثالث في الأطباء اليونانيين الذين هم من نسل اسقيلبيوس وهم ستة. الرابع في الأطباء اليونانيين الذين أذاع أبقراط فيهم صناعة الطب وهم تسعة. الخامس في الأطباء الذين كانوا من زمان جالينوس وقريباً. والسادس في الأطباء الاسكنداريين ومن كان في أزمنتهم من الأطباء النصارى. السابع الأطباء الذين كانوا في أول ظهور الإسلام من أطباء العرب وغيرهم وهم عشرة. الثامن في الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العباس وهم أربعة وثلاثين. التاسع الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي وذكر الذين نقلوا لهم وهم سبة وثلاثون. العاشر الأطباء العراقيين وأطباء الجزيرة ودياربكر وهم اثنان وثمانون طبيباً. الحادي عشر الأطباء الذين ظهروا في العجم وهم

ثلاثة وعشرون. الثاني عشر الأطباء الذين كانوا في الهند وهم ستة. الثالث عشر الأطباء الذين ظهروا في بلاد المغرب وأقاموا بها وهم تسعة وثمانون. الرابع عشر الأطباء المشهورون من أطباء مصر وهم سبعة وخمسون. الخامس عشر الأطباء المشهورون من أطباء الشام وهم تسعة وخمسون. ورتبهم المؤلف على سنين وفياتهم. كل من استعملوا عقولهم جادت والأطباء هم ممن يستعملون عقولهم ولذلك كان في ما كتبه ابن أبي أصيبعة برهان على صحة العقل وجودة التأليف بحيث أنك تقرأ كتابه وهو في ستمائة صفحة فلا تكاد تجد فيه مغمزاً اللهم إلا بعض ألفاظ وأشعار قليلة بذيئة رواها لبعض المترجم بهم ولعل ذلك لم يكن نكراً في عصره أو إطالة في إيراد بعض التراجم مثل إطالته في ترجمة أبي الحكم الأندلسي ونقل شعره وسديد الدين ابن رقيقة وشعره وأكثر ما رواه من الشعر لأبي القاسم هبة الله ابن الفضل وغيرهم ممن جاد شعرهم ولكنه لا يخلو من بعض سخافات وعذره في ذلك أنه يريد التنويه بالأطباء كيف كان حالهم ويود لو أتى لهم بكل ما قالوه. قلت مرة لأحد أساطين العلم ما بال ابن أبي أصيبعة استعمل بعض أشعار ونوادر سخيفة نقلها كأنه راضٍ عنها على حين أنه غاية في الكمال والعلم الصحيح فقال إن المؤلف أراد أن يجعل كتابه مرجعاً كبيراً ومورداً فائضاً في كل أطروفة وأطروبة وذلك لما أهدى نسخاً لبعض من يغلب عليهم الوقار حذف هذه الزائدات ومن رآهم يحبون الأشياء على أصلها استنسخ لهم من كتابه نسخة تامة وهذا هو السبب في اختلاف النسخ التي ظفر بها طابع الكتاب. وقصارى القول أن هذه الطبقات هي من الكتب الممتعة فلا تعد كتاباً للطب والأطباء بل هي كتاب في الحكمة والحكماء والمفننين من العلماء يتمثل فيه المطالع طرفاً من مدنية الإسلام ويقرأ فيه براهين دامغة على إن الناس في تلك القرون السبعة الأولى كانوا سواء على اختلاف مللهم ونحلهم يصف المؤلف المخالف بأنه أوحد العلماء فاضل كامل ويذكر له من الصفات ما يتراءى معه لقليل الخبرة بإخبار تلك الأزمنة أن المؤلف ينقل عن أهل دين المترجم بهم ويأتي بصفاتهم مجردة دون أن يلحقه شيء من تبعتها على أن ذلك كله من

بنات أفكار المترجم. ساوى العلم في نظره بين ابن دينه ومخالفه مساواة لم يغم طبها حقاً لمخالف ولم يبالغ بمن يود ويحالف كما يرى في ترجمة جبرئيل بن بختشيوع ويحنا بن ماسويه ومفق الدين بن مطران وأمين الدولة ابن التلميذ وحنين بن اسحق وهناك تجد كثير من تراجم العلماء ممن كان الطب بعض علومهم مثل الرئيس ابن سينا وأبي نصر الفارابي وابن الهيثم ويعقوب ابن اسحق الكندي وثابت بن قرة وكمال الدين ابن يونس وأبي بكر الرازي وأبي بكر ابن زهر وأبي الوليد ابن رشد والسهروردي وعبد اللطيف البغدادي وغيرهم من الأعلام الذين ترجمهم فأحسن ترجمتهم حتى لم يبق حاجة في النفس من أمرهم. تقرأ في هذا السفر تعريب التراجمة الأول في الإسلام مشفوعاً بنبذة من أخبارهم وتتراوح بين تلاوة الحكم المستعذبة والأشعار اللطيفة والنثر البديع بحيث تحكم بين الطبقات هي كتب أدب ومحاضرة كما هي كتاب حكمة وطب تتنقل بين الاستفادة من هذا وترويح النفس بتلك فمن الحكم ما أوصى به أبقراط الأطباء فقال: ينبغي أن يكون المتعلم للطب في جنسه حراً وفي طبعه جيداً حديث السن معتدل القامة متناسب الأعضاء جيد الفهم حسن الحديث صحيح الرأي عند المشورة عفيفاً شجاعاً غير محب للفضة مالكاً لنفسه عند الغضب ولا يكون تاركاً له في غاية ولا يكون بليداً وينبغي أن يكون مشاركاً للعليل مشفقاً عليه حافظاً للأسرار لأن كثير من المرضى يوقفونا على أمراض بهم لا يحبون أن يقف عليها غيرهم وينبغي أن يكون محتملاً للشتيمة لأن قوماً من المبرسمين وأصحاب الوسواس السوداوي يقابلونا بذلك وينبغي بنا أن نحتملهم عليه ونعلم أنه ليس منهم وأن السبب فيه المرض الخارج عن الطبيعة وينبغي أن يكون حلق الرأس معتدلاً مستوياً لا يحلقه ولا يدعه كالجمة ولا يستقصي قص أظافر يديه ولا يتركها تعلو على أطراف أصابعه وينبغي أن تكون ثيابه بيضاً نقية لينة ولا يكون في مشيه مستعجلاً لأن ذلك دليل على الطيش ولا متباطئ لأنه يدل على فتور النفس وإذا دعي إلى المريض فليقعد متربعاً ويختبر منه حاله بسكون وتأن لا يقلق واضطراب فإن هذا الشكل والزي والترتيب عندي أفضل من غيره. هذا ما قاله أبو الطب ولو عمل الأطباء طراً بمشورته لما ساءت ظنون العامة والخاصة ببعضهم. ومن مواعظ أفلاطون: إذا هرب الحكيم من الناس فاطلبه وإذا طلبهم فهرب من.

وقال من لا يواسي الإخوان عند دولته خذلوه عند فاقته. وسئل من أحق الناس أن يؤتمن على تدبير المدينة فقال من كان في تدبير نفسه حسن المذهب. وقال الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغيرة فإن كان عذباً عذبن وإن كان ملحاً ملحت وإذا أردت أن تدوم لك اللذة فلا تستوف الملتذ أبداً بل دع فيه فضلاً تدم لك اللذة. وقال لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس ليس يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنام يسألون عن جودة صنعته وقال إذا طابق الكلام نية المتكلم حرك نية السامع وإن خالفها لم يحسن موقعه مما أريد به. وقال رجل جاهل لأفلاطون كيف قدرت على كثرة ما تعلمت فقال لأني أفنيت من الزيت بمقدار ما أفنيته من الشراب. وقال إذا صادقت رجلاً وجب عليك أن تكون صديق صديقه وليس يجب عليك أن تكون عدو عدوه. وقال الإفراط في النصيحة يهجم بصاحبها على كثير من الظنة. ومن حكم أرسطو أن من علامة تنقل الدنيا وكدر عيشها أنه لا يصلح منها جانب إلا بفساد جانب أخر ولا سبيل لصاحبها لعز إلا بالإذلال ولا استغناء إلا بافتقار وأعلم ربما أنها أصيبت بغير حزم في الرأي ولا فصل في الدين فإن أصبت حاجتك منها وأنت مخطئ أو أدبرن عنك وأنت مصيب فلا يستخفك ذلك إلى معاودة الخطأ ومجانبة الصواب. وقال لا تبطل لك عمراً في غير نفع ولا تضع لك مالاً في غير حق ولا تصرف قوة في غير غناء ولا تعدل لك رأياً في غير رشد فعليك بالحفظ لما أتيت من ذلك والجد فيه وخاصة في العمر الذي كل شيءٍ مستفاد سواه وإن كان لا بد لك من إشغال نفسك بلذة فلتكن في محادثة العلماء ودرس كنب الحكمة. وقال: العالم أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعاً لك. وقال: العلم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً والجاهل يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً. وقال من نازع السلطان مات قبل يومه. وقال أي ملك نازع السوقة هتك شرفه. وقال أي ملك يسف إلى المحقرات فالموت أكرم له. كتب إلى الإسكندر في وصايا له أن الأردياء ينقادون بالخوف والأخيار ينقادون بالحياء فميز بين التطبيق واستعمل في أولئك الغلظة والبطش وفي هؤلاء الأفضال والإحسان. وكتب أيضاً أن الأمور التي يشرف بها الملوك ثلاثة سن السنن الجميلة وفتح الفتوح المذكورة وعمارة البلدان المعطلة.

ومن كلام عبد اللطيف البغدادي: اجعل كلامك في الغالب بصفات أن يكون وجيزاً فصيحاً في معنى مهم أو مستحسن فيه الغاز ما وإيهام كثير أو قليل ولا تجعله مهملاً ككلام الجمهور بل رفعه عنهم ولا تباعده عليهم جداً. وقال وإياك والهذر والكلام فيما لا يعني وإياك والسكوت في محل الحاجة ورجوع النوبة إليك إما لاستخراج حق أو اجتلاب مودة أو تنبيه على فضيلة وإياك والضحك مع كلامك وكثرة الكلام وتبتير الكلام بل اجعل كلامك سرداً بسكون بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه وأنه عن خميرة سابقة ونظر متقدم. وقال: وإياك والغلظة في الخطاب والجفاء في المناظرة فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويسقط فائدته ويجلب الضغائن ويمحق المودات ويصير القائل مستثقلاً سكوته أشهى من السامع من كلامه ويثير النفوس إلى معاندته ويبسط الألسن بمخاشنته وإذهاب حرمته وقال لا تترع بحيث تستثقل ولا تتنازل بحي وتستحقر. ومن كلام رشيد الدين بن خليفة: احترم المشايخ ولو سكتوا عن جواب سؤالك فلعل ذلك لبعد العهد وكلال القوى أو لأنك سألت عما لا يعنيك أو معرفتهم بعجز فهمك عن الجواب أو إن فوائدك أكثر من ذلك. وقال: اشتغل بكلام المشهورين الجامعة أولاً فإذا حصلت الصناعة فاشتغل في الكتب الجزئية من كلام كل قائل. وقال: خذ كلام كل قائل عارياً عن محبة أو بغضة ثم زنه بالقياس وامتحنه إن أمكن بالتجربة وحينئذ اقبل الصحيح وإذا أشكل فأشرك غيرك فيه فإن لكل ذهن خاصية بمعان دون معان. قال: الأمراض لها أعمار والعلاج يحتاج لمساعدة الأقدار وأكثر صناعة الطب حدس وتخمين وقلما يقع فيه اليقين وجزآها القياس والتجربة لا السفسطة محب الغلبة ونتيجتها حفظ الصحة إذا كانت موجودة وردها إذا كانت مفقودة وفيهما يتبين سلامة الفطر ودقة الفكر ويتميز الفضل من الجاهل والمجد في الطلب عن المتكاسل والعمال بمقتضى القياس والتجربة عن المحتال على اقتناء المال وعلو المراتب. وقال ما أكثر الملتذين بالآمال من غير الشروع في بلوغها. وقال: الآمال أحلام اليقظان وكنب بعضهم إلى شيخه يشكو إليه تعذر أموره فكتب إليه أنك لن تنجو مما تكره حتى تصبر عن كثير مما تحب ولن تنال ما تحب حتى تصبر على كثير

مما تكره ومما كاد يخلص إليه كتاب الطبقات أنك قد تأتي على ترجمة الرجل والرجلين لا تفهم مذهبه إذا لم يكن في اسمه أو كنيته أو لقبه ما يشعر بأنه مسلم من غير مسلم وربما اشتبه الاسم أيضاً فإن من الصابئة من اسمه حسن ومن المجوس من اسمه عثمان وعلي والعباس والنصراني يكنى بموفق الدين وقطب الدين. ومن عجب ما قرأت أن قسطا بن لوقا البعلبكي وكان مسيحي النحلة كتاباً له في علة الموت فجأة لأبي الحسن محمد بن أحمد كاتب بطريقة البطارقة والغالب أن اسم هذا أبو غانم العباس بن سنباط. وقد استفدت منه ألفاظ لم تكن مألوفة لزمننا مثل الجوارشنات للحبوب لمستعمله والأقراباذينيات أي تركيب الأدوية والساعور وهو مقدم النصارى في الطب وفي التاج وأن أصله ساعوراً ومعناه متفقد المريض وقد اشتق منه فعلاً فقال: كان جميعاً يسعران المرضى أي يتفقدانها إلى غير ذلك من الفصح والشوارد مثل قوله عن اسم كتاب لأحد مشاهير (المنمس) أي المحتال بالدين ونحوه على شيء يستره. والغلاب إن المؤلف لم يدخر وسعاً في تنقيح كتابه وتصحيحه إلى أن هلك فجاء زبده في موضوعه فيه كل ما طالب وحلا فمن منظومة وهو مما تأخذه فيه وخير الشعر ما زاد معناه على لفظه وقصدت به غاية كما قال يعقوب بن اسحق الكني أناف النابي على الاروس=فغمض جفونك أو نكس وضائل سوادك واقبض يديك=وفي قعر بيتك فاستحلس وعند مليكك فبغي العلو=وبالوحدة اليوم فاستأنس فإن الغني في قلوب الرجال=وأن التعزز بالأنفس وكائن ترى من خي عسرة=غني وذي ثروة مفلس ومن قائم شخصه ميت=على انه بعد لم يرمش فإن تطعم النفس ما تشتهي=تقيك جميع الذي تحتسي وكما وصى يحيى بن عدي أن يكتب على قبره رب ميت قد صار حيا ... ومبقى قد مات جهلاً وعيا فاقتنوا العلك كي لا خلودا ... لا تعدوا الحياة في الجهل شيا وكما قال أبو طاهر بن البرخشي وقد رأى إنساناً يكتب كتاباً إلى صديق له فكتب في

صدرة العالم. لما انمحت سنن المكرم والعلى ... وغدا الأنام بوجه جهل قاتم ورضوا بأسماء ولا معنى لها ... مثل الصديق تكاتبوا بالعالم وكما قال العنتري الحق ينكره الجهول لأنه ... عدم التصور فيه والتصديق فهو العدو لكل ما هو ... فإذا تصوره يعود صديقا أو كما قال كن غنياً إن استطعت وإلا ... كن حكيماً فما عدا ذين غفل إنما سودد الفتى المال والعمل ... لم وما ساد قط فقر وجهل وقوله ومن نكد الدهر الغشوم وصرفه ... يجاور رغماً فيلسوف لأحمق وكقول أبي بكر الرازي نهاية أقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في غفلة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبان ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال وكقول أمية بن عبد العزيز مارست دهري وجربت الأنام فلم ... احمدهم قط في جد ولا لعب وكم تمنيت أن ألقى به أحداً ... يسلي من الهم أو يعدي على النوب فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب وكان لي سبب قد كنت أحسبي ... أحظى به وإذا دائي من السبب فما ملقم أظفاري سوى قلبي ... ولا كتائب أعدائي سوى كتبي وكقول عبد المنعم الجلياني من لم يس عنك فلا تسألن ... عنه ولو كان عزيز النفس

وكن فتى لم تدعه حاجة ... إلى امتهان النفس إلا نفر وكقوله قالوا نرى نفراً عند الملوك سموا ... وما لهم همة تسمو ولا روع وأنت ذو همة في الفضل عالية ... فلم ظمئت وهم في الجاه قد كرعوا فقلت باعوا نفوساً واشتروا ثمناً ... وصنت نفسي فلم أخضع كما خضعوا قد يُكرم القرد إعجاباً بخسته ... وقد يهان لفرط النخوة السبع ومثل قول أمين الدولة بن التلميذ سق النفس بالعلم نحو الكمال ... تواف السعادة من بابها ولا ترج ما لم تسبب له ... فإن الأمور بأسبابها وكقوله لا تحقرن عدواً لان جانبه ... ولو يكون قليل البطش والجلد فللذبابة في الجرح المدّ يد ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد وكقوله وأرى عيوباً العالمين ولا أرى ... عيباً لنفسي وهو من اقرب كالظرف يستحلي الوجوه ووجهه ... منه قريب وهو عنه مغيب وكقول سعيد بن عبد ربه وكان جميل المذهب معبضاً عن الملوك أمن بعد غوصي في علوم الحقائق ... وطول انبساطي في مواهب خالقي وفي حين إشراف على ملكوته ... أرى طالباً رزقاً إلى غير رازقي وأيام عمر المرء متعة ساعة ... تجيء حثيثاً مثل لمحة بارق وقد أذنت نفسي بتقويض رحلها ... وأسرع في سوقي إلى الموت ساقي وإني وأن أوغلت أو صرت هارباً ... من الموت في الآفاق فالموت لاحقي وكقول أبي فرج بن هندو قوض خيامك من أرض تضام بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب ورحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فمندل الهند في أركانه حطب وكقوله

أطال بين البلاد تجوال ... قصور مالي وطول آمالي إن رحت عن بلدة غدوت إلى ... أخرى فما تستقر أحمالي كأنني فكرة الموسوس لا ... تبقى مدى لحظة على حال وكقوله وكتبها على عود رأيت العود مشتقاً ... من العود بإتقان فهذا طيبٌ أناف=وهذا طيب آذان وكقوله لا ملك ما فيه كملوك آلة ... سوى أنه يوم السلاح متوج وقيم لإصلاح الورى وهو فاسدٌ ... وكيف استواء الظل والعود أعوج وكقول الرحبي: إذا تقضى شباب المرء في نغص ... فما له في بقايا العمر من إرب وهناك من المنظومات الطويلة ما هو السحر الحلال. أما المنثور فطريقته طريقة التسجيع التي غلبت على أهل اقرن الخامس فمن بعدهم إلا أن فيه المرسل مثل كلام لأمين الدولة ابن التلميذ كتبه في ضمن رسالة على ولده وكان يعرف برضي الدولة أبي نصر قال والتفت هناك عن هذه الترهات إلى تحصيل مفهوم لتميز به وخذ نفسك من الطريقة بما كررت بذهنك عليه وإرشادك إليه واغتنم الأماكن واعرف قيمته وتشغل بشكر الله تعالى عليه وفز بحظ نفسي من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته لأقرته ورويته فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه ومن طلبه من دونه فإما أن لا يجدها وإما أن لا يتعمد عليها إذا وجدها ولا يثق بدوامها وأعوذ بالله أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعول همته وشدة أنفته وغيرته على نفسه ومما قد كررت عليك الوصاة به على أن لا تحرص على أن لا تقول شيئاً لا يكون مهذباً في معناه ولفظه ويتعن عليك إيراده فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للاغمار وأهل الجهالة نزهك الله عن طبقتهم فإن الأمر كما قال أفلاطون الفضائل مرة الورود حلوة الصدر والرذائل حلوة الورد مرة الصدر وقد زاد أرسطوطاليس في هذا المعنى فقال: عن الرذائل لا تكون حلوة الورود عند ذي فطرة فائق بل يؤذه تصور قبحها إذا يفسد عليه ما

يسلتذه غيره منها وكذلك الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار فلا ترض لنفسك حفظك الله إلا بما تعلم انه يناسب طبقة مثالك واغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين واطمح بنفسك إليها تتركك في طاعة عقلك فإنك تسر بنفسك وتراها في كل يوم مع اعتماد ذلك في رتبة عليا ومرقاة من سماء. ومن رسالة في السعادة كتبها المؤلف إلى رشيد الدين الصوري وقد أهدى إليه تأليفاً له يحتوي على فوائد ووصايا طبية وهي من السجع على خلاف عادته: أدام الله أيام الحكيم الأجل الأوحد الأمجد العالم العامل الفاضل الكامل الرئيس رشيد الدنيا والدين معتمد الملوك والسلاطين خالصة أمير المؤمنين بلغه في الدارين نهاية سؤله وكبت حسدته وأعاديه ولا زالت الفضائل مخيمة بفنائه والفواضل صادرة منه إلى أوليائه والألسن مجتمعة على شكره وثنائه والصحة محفوظة بحسن مرعاته والأمراض زائلة بتدبيره ومعالجاته المملوك ينهي ما يجده من الأشواق إلى خدمته والتأسف على الفائت من مشاهدته ووصلت المشرفة الكريمة التي وجد بها نهاية الأمل والإرشاد إلى المطالب الطبية الجامعة للعلم والعمل وقد جعلها المملوك أصلاً يعتمد عليها ودستوراً يرجع إليه لا يخليها من فكره ولا يخص بما تتضمنه في سائر عمره ومال المملوك ما يقابل به إحساناً مولانا إلا الدعاء الصالح والثناء الذي يكتسب من محاسنه النشر العطر الفائح وكيف لا أشكر أنشر محاسن من لا أجد فضيلة إلا به ولا أنال الراحة إلا بسببه فالله يتقبل من المملوك صالح أدعيته ويجزي مولانا كل خير على كمال مروءته إن شاء الله. وأما فوائد الكتاب الطبية والاجتماعية فما ينبغي أن يفرد بالبحث ولا يسع الطبيب والأديب جهله فمن ذلك ما قال به ثابت بن سنان قال ولما كان سنة تسع عشرة ثلاثمائة اتصل بالمقتدر إن غلطاً جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل فأمر إبراهيم بن محمد___بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه والدي سنان بن ثابت وكتب له رقعة بخطه بما يطلق له من الصناعة فصاروا إلى والدي وامتحنهم وأطلق لكل واحد ما يصلح أن يتصرف فيه وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجلاً ونيفاً وستين رجلاً سوى من استغنى عن محنته باشتهاره بالتقدم في صناعته وسوى من كان في خدمة السلطان. قلت وهذه الشهادة الطبية نالها من أطباء بغداد بعد العلم والعمل ولا عجب

أن يكون لبغداد هذا العدد الدثر من الأطباء والقاهرة على ما بلغت إليه من الحضارة في هذا العهد لا يتجاوز أطباءها نصف هذا القدر. وقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وما والاها كان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطي علمين ومن يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم. ونقل المؤلف من كلام لأبي نصر الفارابي في معنى اسم الفلسفة قال اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية وهو على مذهب لسانهم فيلسوفياً وعناه إيثار الحكمة وهو في لسانهم مركب من فيلا ومن سوفيا ففيلا الإيثار وسوفيا الحكمة والفيلسوف مشتق من الفلسفة وهو على مذهب لسانهم فيلسوفوس فإن هذا التغيير هو تغير كثير من الاشتقاقات عندهم ومعناه المؤثر للحكمة والمؤثر بالحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة. وحكى أبو نصر الفارابي في ظهور الفلسفة ما هذا نصه: قال إن أمر الفلسفة اشتهر أيام الملوك اليونانيين وبعد وفاة أرسطوطاليس إلى أخر أيام المرأة وأنه لما توفي بقي التعليم فيها على حاله إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكاً وتوالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنى عشر معلماً أحدهم معروف باندرنيقوس وكان هؤلاء الملوك المرأة فغلبها أوغسطس الملك من أهل رومية وقتلها واستحوذ على الملك فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعها فوجد فيها نسخاً لكتب أرسطوطاليس قد نسخت في أيامه وأيام ثاوفرسطس ووجدوا المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتباً في المعاني التي عمل فيها أرسطو وتلاميذه وأن يكون التعليم منها وأن ينصرف عن الباقي وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك وأمره أن ينسخ نسخ يحملها معه إلى رومية ونسخاً يبقيها في موضع التعليم في الإسكندرية وأمره أن يستخلف معلماً يقوم مقامه بالإسكندرية ويسير معه إلى رومية فصار التعليم في موضعين وجرى الأمر على ذلك إلى أن جاءت النصرانية فبطل التعليم من رومية وبقي بالإسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم وما يبطل فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى أخر الأشكال الوجودية ولا يعلم ما بعده لأنهم أن في ذلك ضرراً على النصرانية وإن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان به على نصرة دينهم فبقي الظاهر من هذا التعليم هذا المقدار وما ينظر فيه من الباقي مستوراً إلى كان الإسلام بعده بمدة طويلة فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية وبقي بها زمناً طويلاً إلى أن

بقي معلم واحد فتعلم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب فكان أحدهما من أهل حران والآخر من أهل مرو فأما الذي من مرو تعلم منه رجلاً. أحدهما إبراهيم المروزي والأخر يوحنا بن حيلان وتعلم من الحراني إسرائيل وسارا إلى بغداد فتشاغل إبراهيم بالدين وأخذ قدري في التعليم وأما يوحنا فإنه تشاغل أيضاً بدينه وانحدر إبراهيم إلى بغداد وأقام بها وتعلم منه متى بن يونان وكان الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى أخر أشكال الوجودية. وكان ما يسمى ما بعد الأشكال الوجودية الجزء الذي لا يقرأ إلا أن قرأ ذلك وصار الرسم بعد ذلك حيث صار الأمر إلى معلمي المسلمين أن يقرأ من الأشكال الوجودية إلى حيث قدر الإنسان أن يقرأ فقال أبو نصرانه قرأ إلى أخر كتاب البرهان. ومن فوائد التاريخية في الكتاب ما ذكره صاعد بن بشر في مقالته في مرض البراقيا ما عاينه في ذلك الزمان من أهوال وجدها ومخاوف شاهدها. هذا نصه وقال وأنه عرض لنا من نضايق الزمان علينا والتشاغل بالتماس الضروري ولما قد شملنا من الخوف والحذر والفزع واختلاف السلاطين وما قد بلينا به مع ذلك من التنقل في المواضع وضياع كتبنا وسرقتها ولما قد أظلنا من الأمور المذعرة المخوفة التي لا نرجو من كشفها إلا الله نقدس اسمه قال ابن أبي أًصيبعة هذا ما ذكره أي صاعد وما كان في أيامه إلا الاختلاف ملوك الإسلام بعضهم مع بعض وكان الناس سالمين في أنفسهم آمنين من القتل والبغي فكيف لو شاهد ما شاهدناه ونظرا ما نظرناه في زماننا من التتار الذين أهلكوا العباد وخربوا البلاد وكونهم إذا أتوا إلى مدينة فما لهم إلا قتل جميع من فيهم من الرجال وسبي النساء والأولاد ونهب الأموال وتخريب القلاع والمدن لكن استصغر ما ذكره واستقل ما عاينه وحقره ولكن ما الطامة إلا ما فوقها طامة أعظم منها ولا حادثة إلا غيرها تكبر عنها والله الحمد على السلامة والعافية ومن فوائده التاريخية أيضاً ما ذكره في ترجمة ابن بطلان قال إن مشاهير الوباء في زمانهم وباء سنة ست وأربعين وأربعمائة فإنه دفن في كنسية لوقا بعد أن امتلأت جميع المدافن التي في القسطنطينية أربعة عشر ألف نسمة في الخريف فلما توسط الصيف في سنة سبع وأربعين لم يوف النيل فمات في الفسطاط والشام أكثر أهلهما وجميع الغرباء إلا ما شاء الله وانتقل الوباء من العراق فأتى على أكثر أهله واستولى عليه الخراب بطرق

العساكر المتعادية واتصل ذلك بها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة وعرض للناس في أكثر البلاد قروح سوداوية وأورام الطحال وتغيير الترتيب نوائب الحميات واضطراب نظام البحارين قال وتكامل خراب العراق والموصل والجزيرة واختلت ديار بكر وربيعة ومضر وفارس وكرمان وبلاد اليمن والمغرب والفسطاط والشام واضطربت أحوال ملوك الأرض وكثرت الحروب والغلاء والوباء. ومن فوائده الاجتماعية ما ذكر في ترجمة اسرائيل بن الطيفوري أن الوزير الفتح ابن خاقان كا كثير العناية به فقدمه عند المتوكل ولم يزل حتى انس به المتوكل وجعله في مرتبة بختيشوع وعظم قدره وكان متى ركب إلى دار المتوكل يكون موكبه مثل موكب الامراء وأجلاء القواد وبين يديه أصحاب المقارع. قلت ولعل أصحاب المقارع مثل الذين يمشون أمام عجلات الأعيان والامراء ومركباتهم في هذا القطر وهذه العادة من أبشع العادات التي أبقتها الأيام. كما أنه كان يحمل بين يدي الكبراء مشاعل في الليل كما ذكره في ترجمة أبي الفرج بن توما ومن فوائده الأدبية قوله: ذكروا أن الأصل كان في اسم جالينوس غالينوس ومعناه الساكن او الهادي وقيل أن ترجمة اسم جالينوس معناه بالعربي الفاضل وقال أبو بكر محمئد بن زكريا الرازي في كتاب الحاوي أنه ينطلق في اللغة اليونانية ان ينطق بالجيم غينا وكافا فيقال مثلا جالينوس وغالينوس وكالينوس وكل ذلك جائز وقد تجعل الالف واللام لاماً مشددة فيكون ذلك أصح في اليونانية أقول وهذه فائدة تتعلق بهذا المعنى وهي حدثني القاضي نجم الدين عمر بن محمد الكريدي قال حدثني ابنا غانوس المطران بشوبك وكان أعلم أهل زمانه بمعرفة لغة الروم القديم وهي اليونانية إن في لغة اليونان كل ما كان من الأسماء الموضوعة من أسماء الناس وغيرهم فآخرها سين مثل جالينوس وديسقوريدس وانكساغورس وأرسطو طاليس وديوجانيس واريباسيوس وغير ذلك وكذلك مثل قولهم قاطيغورياس وبارينتياس ومثل اسطوخودس واناغالس فان السين التي في آخر كل كلمة حكمها في لغة اليونان مثل التنوين في لغة العرب الذي هو في آخر الكلمة مثل قولك زيد وعمرو وخالد وبكر وكتاب وشجر فتكون النون التي تتبين في آخر التنوين مثل السين في لغة أولئك أقول ويقع لي أن من الالفاظ التي في لغة اليونانيين وهي قلائل ما لا يكن في آخره مثل سقراط وأفلاطون وأغاثاذيمون واغلوقن

وتامور وياغاات وكذلك من غير أسماء الناس مثل انالوطيقيا ونيقوماخيا والريطورية ومثل جند بيدستر وترياق فإن هذه الاسماء تكون في لغة اليونانيين لا يجوز عندهم تنوينها فتكون بلا سين وذلك مثل ما عندنا في لغة العرب وأن من الأسماء ما لا ينون وهي الأسماء التي لا تتصرف مثل إسماعيل وإبراهيم وأحمد ومساجد ودنانير هذه كتلك إما فوائد الكتاب الطبية فكثيرة جداً فمنها ما رواه عن جالينوس إن كل بيت لا تدخله الشمس يكون وبيئاً وهو مثل قول الفرنسيس في أمثالهم حيث لا تدخل الشمس يدخل الطبيب ومما ذكره ابن بختويه في كتاب المقدمات صفة لتجميد الماء في غير وقته زعم أن إذا أخذ الشب اليماني الجيد رطل ويسحق جيداً ويجعل في قدر فخار جديدة ويلقى عليه ستة أرطال ماء صافي ويجعل في تنور ويطين عليه حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث لا يزيد ولا ينقص فإنه يشتد ويرفع في قنينة ويسد رأسها جيداً فإذا أردت العمل به أخذت تلجية جديدة وفيها ماء صافي الماء عشرة مثاقيل من الماء المعمول بالشب ويترك ساعة واحدة فإنه يصير ثلجاً وكذلك أيضاً زعم بعض المغاربة في صنعة تجميد الماء في الصيف. قال: اعمل إلى بذر الكتان فانقعه في خل خمر جديد ثقيف فإذا جمد الماء فألقه في جرة أو اوجب مليء ماء قال فإنه يجمد ما كان فيه من الماء ولو انه في حزيران أو تموز. بقي في الكتاب كثير من النكات المضحكة ننقل بعضها للأحماض وترويحاً للنفوس فمما رواه يوحنا بن ماسويه العالم الطبيب المشهور وكان فكهاً ادعابة وظرف قال: شكا إليه رجل جرباُ قد اضرّبه فأمره بقصد إلا كحل من يده اليمنى فأعمله أنه قد فعل فأمره بقصد الأكحل أيضا من يده اليسرى فذكراه قد فعل فأمره بشرب الطبوخ فقال قد فعلت فأمره بشرب الاصطمخيقون فاعلمه انه قد فعل فأمره بشرب ماء الجبن أسبوعاً وشرب مخيض البقر أسبوعين فأعلمه انه قد فعل فقال له لم يبق شيءٌ مما أمر به المتطيبون إلا وقد ذكرت انك فعلته وبقي شيءٌ مما لم يذكره بقراط ولا جالينوس وقد رأيناه يعمل على التجربة كثيراً فاستعمله فغني أرجو أن ينجح علاجك إن شاء الله فسأله ما هو فقال ـــــ زوجي قراطيس وقطعهما رقاعاً صغاراً واكتب في كل رقعة رحم الله من دعا لمبتلى بالعافية والق نصفها في المسجد الشرقي بمدينة السلام والنصف الآخر في المسجد الغربي وفرقها في

المجلس يوم الجمعة فأني أرجو أن ينفعك الله بالدعاء إذ لم ينفعك بالعلاج. وعلى الجملة فالكتاب مادة واسعة في علوم واسعة في علوم الحضارة فنشكر لناشره العالم الألماني الذي سمى نفسه امرأَ القيس الطحان وهذا الاسم ترجمة اسمه الحقيقي ماكس ماللر فقد طبعه في مصر وصححه على عدة نسج وأمهات صحيحة وألحقه بفهرس الإعلام بحيث جاء مفيداً يكاد غلطه لا يذكر وبذل وقته وماله فيه حتى نفع العلم والأدب وجلا كثيراً من الحقائق التي كانت مستورة وها قد اخذ الألمان اليوم يترجمونه إلى لغتهم وسيتم طبعه قريباً وأني لأوصي كل طالب علم وعاشق معرفة أن يقتنيه فهو من الكتب التي لا يليق بمنضدة أن تكون خالية من نسخة منه يأخذ كل مطالع منها ما يغلب عليه دع عنك ما هنالك من تاريخ يلقح كل حين فكراً جديداً ولو كان في موضوع هذا المصنف المفيد مئة كتاب من أمهات كتبنا جميلة الطبع والوضع لعدت العربية في التاريخ والسير من أغنى لغات العصر.

سيرة العلم والاجتماع

سيرة العلم والاجتماع تربية الحواس لم يعن علماء التربية حتى الآن بأن يجعلوا من جملة تربية الحواس ولايعلمون الولد في المدارس الابتدائية كيف يبصر ويسمع ويلمس ويشم ويميز الطعوم فيأتي الطفل من ذلك ما يروقه ويكون الجهل من هذا القبيل عاماً. فقد يبصر المبصرون بدون مبصر فسيعيشون البصر وليس غير العادة من قاعدة للمشمومات والمطعومات ولا يعرف الناس استعمال أصابعهم لتمييز الأشياء بمجرد لمسهم. وقد عني الأستاذ المرغاتس من أعضاء المجمع العلمي السميثوني في أميركا منذ بضع سنين بتلاقي هذا النقص في تربية الحواس فوضع طريقة جربها في أولاده البنين منهم والبنات فجمع إلى تمرين الحواس تهذيب العقل وهو مقر الحواس بل المركز العام لكل باصرة وسامعة ولامة وأخذ يعلم الأطفال على التفكر بسرعة وأن يستخدموا كل حاسة بسرعة فرلي خلايا الدماغ وأول ماكان يعلم الطفل التمييز بين الألوان فإنه استعمل لذلك أطر لذلك منوعة الألوان واطراً من ألوان واحدة تختلف بعض الشيء ويكرر من هذه الأُطر نحو ثلاثين ألف لون على نظر الطفل يعلمه التمييز بين ألوانها بأعيانها بحيث تتربى فيه ملكة النظر فلا يرتكب خطأ بعد في التمييز بينها. ويبدأ بتعليم الطفل تمييز الألوان وهو في الثانية أو الثالثة عند ما يأخذ يتكلم وينتهي من التعلم في السابعة أو الثامنة وفي الرابعة من عمره تربى فيه ملكة السمع بواسطة آلة الاستماع التي تحقق الأصوات وتقيها الارتجاجات ولتقوية العقل يضعون بين أيدي الطفل ألعاباً عملية من نحو خشبة مثقوبة ثقوباً كثيرة يدخل فيها مسامير مختلفة الحجم على أسرع ما يكون فيتربى بصره على التمييز في الحال بين المسار الصالح للثقب الذي يريده وأن تتناوله يده بسرعة وتدخله في محله. وهناك لعبة الخاتم وهي عبارة عن هدف تجعل فيه كلابات فيقضى على الولد أن يرمي بالخواتم بحيث تعلق في الكلابة الخاصة بها. وقد ذكر الأستاذ غرائس بأن قوة العضلات يمكن إنقاصها وزيادتها بزيادة الحرارة والبرودة في الأعضاء بل بواسطة المنبهات كالشاي والقهوة وذكر أن الصباح خير الأوقات للرياضة العضلية بعد أن يكون الإنسان استوفى حظه من نوم الليل وأنه لابد من أن يعقب تلك الرياضة بعد أن يكون الإنسان استوفى حظه من نوم الليل وأنه لابد من أن يعقب تلك

الرياضة شيءٌ من الراحة. وقد أخذت هذه الطريقة تسري في الولايات المتحدة وأخذوا هناك يزهدون في أنواع الرياضيات القليلة الجدوى ليستعيضوا عنها بتربية الحواس والقوة فكانت النتيجة باهرة. الاستقامة في الخط تألفت في باريز جمعية من كبار العلماء والأطباء تدعو الناس إلى تعليم أولادهم الخط وهم على وضعه مستقيمة في أجسامهم لأن اعوجاج الجسم وانحناء مضران بصحة الكاتبين وهم يرون أن يلاحظ الولد الذي يكتب وهو منحن مستنداً على طرف واحد وذراعه اليسرى بعيدة وذراعه اليمنى قريبة ملصوقة بالجسد ورجله اليسرى موضوعة أمام اليمنى فبدلاً من أن يحمل ثقل الجسد على طرفي الإنسان ينزل على الذراع وحق الفخذ الأيسر وإذ كانت سلسلة الظهر سريعة العطب في الطفل لا تلبث أن تخرج عن اتجاهها الأفقي فتلوى وتنحني ويصيب الفقرات التواء ويقع اليسار من الصدر على طرف المنضدة فيضغط على الرئتين فيتولد من ذلك تشويه في الأعضاء وقص الصدر. وبهذا الوضع المائل يضطر الرأس إلى الانحناء إلى اليسار وإلى الأمام وتقترب العينان من الورق فيضعف البصر فأخط باحناء الجسم يورث انحراف سلسلة الفقار والحسر (ضعف البصر). أما الخط يجعل الجسم مستقيماً والورق أمام الكاتب مستقيماً فتستقيم به بالطبع وضعة الجسم والرأس وسلسلة الفقار ولاينشأ عن ذلك ضيق ولا انحراف ولاعائق يضر بالصدر وقد كاد هذا الرأي يعم الأساتذة والتجار والصناع ولذلك قامت هذه الجمعية تدعو إلى تعليم الكتابة والأجسام مستقيمة والاستقامة شرط في كل شيء لا في الكتابة فقط. فائدة الدموع ادعى أحد الأطباء أن إرسال العبرات مفيد لصحة الباكي فكتب أحد مشاهيرهم مقالة في تأييد رأي صاحبه قال فيها: أن الدموع تجري في حالتين متناقضتين الحزن الشديد والفرح العظيم ففي الحزن يصحبها صراخ وعويل وفي السرور يشفعها ضحك وقهقهة وإذا نظرنا في طبيعة الإنسان الضاحك وطبيعة الباكي يتجلى لنا كيف يضحك ويبكي من خد واحد. ليس الضحك الشديد من حيث النظر الفسيولوجي إلا تأثيراً وجهداً ففي حالتي الجهد والضحك تنقبض الأعصاب فتطبق فتحة الحنجرة ثم تخفض الحجاب الحاجز وتقف حركة

الأعصاب التي يكون من تحركها تحريك الترقوة ثم يزيد الضحك فنستعين بتحريك أعصاب أخرى فتنثني سوفنا وأفخاذنا وننكث بأرجلنا الأرض. ويتخلل التنفس شيء من الوقوف ولكنه لايزيل حالة الإغماء التي تحدث في الضاحك ويكفيك أن تنظر إلى عروق جبهته كيف تنتفخ وإلى شفتيه كيف تكلح وإلى وجهه كيف يحمر لتدرك الانقباض الشديد الذي يصيب دماغه وعندما تنقبض الأوداج الخارجة بكثرة الضحك وينقلب الدم من الودج الأصلي إلى الودج الداخلي ويتراكم على الدماغ فيطفح هذا بالدم الذي لايجري بما يحول دونه ودون التنفس وينفجر بما يدفق الدم الشرياني الواصل إليه بواسطة عصب البصر الواقع بين الودجين يتجه الدم نحو الدماغ من جهة العيون ويحقن الملتحمات والغدد الدمعية وعندها تفيض الدموع بتواتر الدم على تلك الصورة بمعنى أن الغدد الدمعية تحيل الدم الذي ينهال عليها إلى دموع لأن تركيب الدموع كتركيب الجزء السائل من الدمع. وفي تلك الحال يؤثر جريان الدمع في الدماغ المحتقن على صورة فصد أبيض يفصل دماغ الضاحك الذي يوشك أن يغمى عليه بما يتواتر إليه من الدم. والدموع نافعة في حالة الحزن ولكن عملها في تلك الحالة مخالف لعملها في حالة السرور فإن كان الدماغ يحتقن في حالة الضحك فإنه يقل دمه في حالة الحزن فجريان الدموع على صورة فصد لايزيد الدم إلا فقراً في المراكز العصبية ولكن هذا الفقر في الدم ينتج ضرباً من ضروب السبات في الدماغ ونوعاً من الكسل الطبيعي وقلة المبالاة والإحساس في الدماغ فيقل بذلك التأثر من المصاب أو الألم. وقلة الإحساس هذه في تخفيف ما أصاب المرء أشبه بمخدر صناعي كالكلوروفورم والإثير والكحوا فيضيع الحزن في العبرات كما يضيع في الكحول. ومن العجيب أن التقطيب الذي نقطبه عندما نبكي يحدث من انقباض الأعصاب الذي تفعل فعلها في الغدد الدمعية والشرايين البصرية وجميع أعصاب الجفون والأهداب وغيرها إذا انقبضت تؤثر في الغدد الدمعية وهكذا كانت الدموع فرجاً للمحزون كما هي فرج للطفل وسلامة دماغه فهو لها نعم المخدر وأحسن مداوٍ من الاضطرابات كما يرى في النساء أيضاً وهن لا يقللن عن الأطفال بتأثراتهن.

مكتبة الاسكندرية

مكتبة الاسكندرية لما ظهر (الكتاب الذي تكلمنا عليه في فصلين إضافيين (صفحة 376 و 457) من مقتبس هذه السنة أُعجبنا به وبما ظهر من أنصاف مؤلفة في كلامه على حريق مكتبة الاسكندرية الذي نسبه بعضهم وزراً لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فبادرنا إلى كتابة كلمات للمؤلف العالم نشكر له حسن صنيعه فجاءنا منه الكتاب الآتي ننشره بحرفه تتمة لهذا المبحث الذي خبط فيه بعضهم تقليداً وبعضهم تعصباًُ قال حفظه الله: وهذا تعريبه باريز في 14 أغسطس (آب) 1908 سيدي كان لما أظهرتموه في كتابكم وأبديتموه من عواطف ودكم موقع كبير من نفسي على نحو ما كان لما تفضلتم به عليّ في رسالتكم من الثناء على تأليفي (الكتاب) فثقوا كل الثقة من أني أعد هذا المديح أحسن مكافأة على عملي وأغلى باعث على التنشيط الذي أطال إلي نيله. لشد ما استحكم الوهم التاريخي زمناً بشأن عمر ومكتبه الاسكندرية وهاهو آخذ بالاضمحلال. أما أنا فقد اغتبطت بماسخ لي من الفرصة فكنت من العاملين على مكافحة هذا الوهم وأثبت بالبراهين التي وصلت يدي إليها مااعتقدت أنه هو الحقيقة. وتفضلوا إلخ التوقيع البرسيم

الحافظة والحفاظ

الحافظة والحفاظ أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه وتدخره إلى ساعة حاجة للانتفاع به. الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها لانا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله كنا أشبه بمن يريد أن يبني له يوم بناء وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب إذ يكون كل امرىء وما يختار. والذاكرة والحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أموراً مضت وتأثرت وقعت فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (1532 ـ 1592) وعاء العلم وصوان الحكمة. وقال لارشفوكلد الكاتب (1615 ـ 1680) جميع الناس يشكون من حافظتهم وما قط شكا أحد من عقله. وقال آخر: إن الذكاء بدون حافظة أشد بغربال لايكاد يمسك ما تضعه فيه. وقال أحدهم: الحافظة واسطة من وسائط الكمال وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئاً وينسج على منواله. وقال لاكورنيل الشاعر: يجب لمن يعتمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة. وهذا مثل قولهم إذا كنت كذوباً كم ذكوراً. وقال بيكته الأديب السويسري (1799ـ 1875): لقد كان للحافظة شأن مهم جداً عند الناس في العصور الأولى أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة. كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة هي التي تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية وعامة القوانين والعادات والشعر ولذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه. اختلفت مذاهب الفلاسفة فيما إذا كانت الحافظة حاسة قائمة بذاتها أو فيما إذا كان لكل حاسة فينا ذاكرة معينة ومعظم الحكماء وعلما النفس على أن الحافظة حاسة مستقلة عن بقية حواس الإنسان ولا يكاد أحد يدرك كيف تعي الحافظة الأرقام والأعداد وتحفظ العبارات والمفردات وتحكم اللغات واللهجات وتردد الألحان والأصوات. ويقول علماء النفس أن الشروط النفسية اللازمة لجودة الذهن متوقفة على جودة تركيب أنسجة الدماغ وحسن تغذية هذه الأنسجة. والتعب والشيخوخة من العوامل المؤثرة في ضعف الحافظة لأنهما ملازمان لضعف تغذية هذه الأنسجة ولذلك قالوا درجة الحافظة لا تختلف بحسب الأشخاص بل تختلف في الشخص الواحد في أدوار مختلفة من حياته وإذا صرفنا النظر عن الآفات العضوية التي تضر بها فمن هناك أيضاً

أحوالاً أقل منها تزيدها ضعفاً إلى ضعفها مثل اضطرابات المعدة وسوء الهضم والشقيقة فإن جميع هذه العوارض على الجسم تغيرها تغييراً محسوساً. ولتركيب الدماغ وحالته تأثير ظاهر في الحافظة فقد ذكر بلين الطبيعي الروماني أن رجلاً نسي حتى رسائله بعد أن أصيب بشجة في رأسه. وزعم البابا كليمان السادس أن حافظته قويت قوة عجيبة عقب أن أصيب برضة شديدة في دماغه. وكيفما كانت الحال فللتمرين يد طولي في تخصيص الحافظة بشيء معين فالممثلون تقوى فيهم الملكة الحافظة الشفاهية وهي من اللوازم لهم في صناعتهم ورجال الشرطة تقوى فيهم الحافظة في تذكر صور الأشخاص وليس البشر كلهم سواء في الحفظ والاستظهار فمنهم من يحفظون الأشكال الهندسية وهم اللذين خلقوا رياضيين بالفطرة ومنهم من يرزقون حافظة قوية في الأنغام كالموسيقيين. وغيرهم في ذلك من الناس من يذكرون الكلمات بسرعة غريبة ومن الأطفال من تقرأ لهم بصوت عال عدة صفحات فيستظهرونها في الحال ويتلونها على مسامعك لأول مرة. وتذكر الألفاظ خاصة يمتاز بها الأولاد في العادة أكثر من الكبار في السن ممن لا تكون قويت فيهم حاسة التفكر فيحفظون الكلمات التي يسمعونها على أيسر وجد بدون أن يفهمونها والسبب في سهولة الحفظ عليهم فقدان قوة التفكر فيهم وعندما يبدأ التفكر في معظم الناس تضعف الحافظة فيهم وقد تزول من بعضهم. والحافظة الشفاهية إذا كانت هي وحدها في الإنسان لا تكون له سبيلاً إلى التفكر ومن فقد الأولى فلا يأسف لحاله لأنه يستطيع بقوة التفكر أن يأتي بالجيد من الأفكار ولكن الحافظة وحدها قد تكون من أكبر العوائق عن جودة التصور. وبعد فإن للحافظة شأناً عرقية الفكر الإنساني وبدونها يكون كل شيء عقيماً لا ثمرة لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة ولم يعرف القانون الذي تسير عليه كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته وغاية ما عرف من أمرها أنها بالانتباه والتمرن وأن الكسل ابن الترف والكسل يجرح الحفظة أن لم نقل يقتلها. ذكر التاريخ كثيرين من رباب الحافظة النادرة فمنهم في القديم ميتر يدانس الكبير ملك شمالي غربي آسيا الصغرى (123ـ 63 ق. م) فقد كان يحكم على اثنين وعشرين أمة مختلفة ويخطب أمام كل منها بلغتها ويدعو كل واحد من جنده باسمه. وذكروا مثل ذلك عن

قورش ملك الفرس وليموسنقلس وسيبيون الآسياوي وإلا إمبراطور أدريان ويقال أن مزية الحافظة هيأت لاوتون الروماني تولي الملك. وتعلم ليموسنقلس اللغة الفارسية في سنة وكان ليبس اللغوي الأديب البلجيكي (1547ـ 1606) يحفظ تاريخ تاسيت المؤرخ اللاتيني بألفاظه حرفاً بحرف وقد قال أنه يرضى أن يقف جلاد وبيده سيف على رأسه وهو يتلو هذا التاريخ فإذا أخل بحرف واحد يضرب عنقه. وكان لرينودي بون حافظة سعيدة يذكر جميع الأبيات اللاتينية واليونانية التي قرأها في صباه ويتلو صفحات برمتها من ديوان هوميروس وان كان مضى عليه أربعون سنة وهو لم ينظر فيه نظرة واحدة. وكان هوج دونو الفقيه المشهور في القرن السادس عشر يستظهر القوانين المعروفة في عصره بالحرف الواحد. وحفظ يوسف سكاليجة الأديب (1540ـ 1609) الإلياذة والاوذيسية في أحد وعشرين يوماً. ومن ألطف ما يروى في باب الحافظة أن أحد الفلاحين في فرنسا جاء إلى باريز يقصد صاحباً قديماً له قد استلف منه خمسة فرنكات منذ خمسة عشرة وطلب إليه أن ينقده ماله فتركه وعاد فدفع إليه ليرة واحدة وخمسة فرنكات وقال له: هذا يا صاح قد كنت نلت وأنا في المدرسة ليرة جائزة عن حافظتي فرأيتك أحد مني ذاكرة وأنك أحق بهذه الجائزة مني. ليس في الدنيا خير محض فقد اخترعت الطباعة منذ نحو خمسمائة سنة فعم نفعها أهل الأرض كافة ولكن ما عتمت أن نتج عنها بعض شر إذ أصبح الناس يعتمدون على الكتب في جماع علومهم وآدابهم بعد أن كان جل اعتمادهم على محفوظاتهم ومخطوطاتهم. والغالب أن الاعتماد على الحافظة والحفاظ كان في الإسلام على أشد قبل تدوين الكتب وتأليف الرسائل والمصنفات ولما بلغ بعض الأئمة تدوين الكتب أسفوا وعدوه من دواعي تقهقر العلم وانقطاع سند الرواية وما زالت الحال ترتقي بعض الشيء في بعض الأعوام ثم يزهد في الحفظ حتى انتشرت الطباعة في بلادنا بانتشار الصناعات الفكرية فأمسى الناس يستندون إلى السطور بدل الصدور والقراطيس والأسفار بدل الحفظ والاستظهار فضعفت بهذا الضعف الحافظة وان قويت المفكرة وقلت الرواية وان لم تقل الدراية. انقطع سند الحفظ إلا في بعض ما لا يسع الأمة جهله من القرآن وعلومه فأخذ بعضهم يفتاتون على من عرفوا قديماً بسعة محفوظهم ويزيفون ولكن بدون برهان ما رواه طائفة

الراوين من أبناء الأذكياء الحافظين. ولو صح الاعتماد على إلقاء الكلام على عواهنه في هذا الباب إذاً لسقط التاريخ وارتفعت الثقة من كل خبر حتى من مجيء الرسم وحروب الملوك ودثور الشعوب والمدن وما إليها. وما أشبه من يكذب بادىء الرأي بلا دليل قاطع بمن يؤثر الهدم على البناء. وشتان بين المخرب والمعمر والمتلف والمخلف والمفسد والمصلح. ما عُنيت امة بتدين دينها وحفظه ولغتها وضوابطها عناية المسلمين بدينهم ولغتهم فكان أمر حفظة الكتاب العزيز ما اشتهر في كل مصر وعصر ولا يزال في البلاد اثر من آثر تلك العناية. أما الأحاديث فقد عنوا بها قديماً وجمعوا أشتاتها وبينوا صالحها من موضوعها وضعيفها من قويها مما يدركه كل من كان له إلمام بالمراجعة ونظر في كتب القوم. لم يكن العلم في القرون الأولى للإسلام بالإرث ولا بالمظاهر ولا بالوساطات والشفاعات بل كان بالاستحقاق وكدّ القرائح سير على قوانين بقيود وروابط ولذلك لم يكن ينال لقب حافظ من لم يحفظ ألوفا من الأحاديث بأسانيدها فقد كانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد رواية ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعاً والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد والحافظ على من يعرف الإسناد ولا يعرف المتن والراوي على منة يعرف المتن ولا يعرف الإسناد. وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى. والمحدث من عرف الإسناد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين. وكان السلف يستمعون فيقرون فيرحلون ويحفظون فيعملون قال بعضهم. إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتب كصخرة تنبع أموالها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب سأل تقي الدين السبكي الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل الذي جاز له أن يطلق عليه الحافظ قال: يرجع إلى أهل العرف فقلت وأين أهل العرف

قليل جداً قال: اقل ما يكون الرجال اللذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من اللذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب فقلت له: هذا عزيز في هذا الرمان أدركت أن أحداً كذلك فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة. قال فتح الدين بن سيد الناس وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل في الحديث رواية ودراية وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من علل طبقته أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك بحسيب أزمنتهم. وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث قيل له وما يدريك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب: احفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. وقال الحاكم في المدخل: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث سمعت أبا جعفر الرازي يقول سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول كنت عند اسحق ابن إبراهيم بنيسابور فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبعمائة ألف وكسروا هذا الفتى يعني ابا زرعة قد حفظ سبعمائة ألف حديث. قال البيهقي: أراد ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين وقال غيره: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث قال لا. ثم قال: احفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد وفي المذاكرة ثلثمائة ألف حديث وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان يحفظ مائة وأربعين ألفاً في التفسير والقرآن. وكان اسحق بن راهوية يملي سبعين ألف حديث حفظاً وأسند ابن عدي عن ابن شبرمة عن الشعبي قال: ما كتبت سواداً في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط الا حفظته فحدثت بهذا الحديث اسحق بن راهوية فقال: تعجب من هذا قلت: نعم قال: ما كنت لأسمع شيئاً إلا حفظته وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث او قال أكثر من سبعين حديث في كتبي. واسند عن أبي داود الخفاف قال: سمعت اسحق ابن راهوية يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي

وثلاثين ألفاً أسردها. وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال: سمعت اسحق بن راهوية يقول: أعرف مكان مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي. حفظ أربعة آلاف حديث ضرورة وقال عبد الله أحمد بن حنبل قال أبي الداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: كان يحدثكم إسماعيل بن عباس هذه الأحاديث بحفظه قال: نعم ما رأيت معه متاباً قط قال له: لقد كان حافظاً كم كان يحفظ قال شيئاً كثيراً قال: كان يحفظ عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف فقد كان أبي هذا كان مثل وكيع. وقال يزيد بن هرون احفظ خمسة وعشرين ألف حديث وقال الآجري: كان عبد الله بن معاذ العنبري يحفظ عشرة آلاف حديث. قال السبكي لم تر عيناي احفظ من أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي والوالد وغالب ظني أن المزي يفوقهما في العلل والمتون والجرح والتعديل مع مشاركة كل منهم لصاحبه فيما يتميز عليه المشاركة البالغة سمعت شيخنا الذهبي يقول: ما رأيت أحداً في هذا الشأن حفظ من الأمم أبي الحجاج المزي وبلغني عنه أنه قال ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد والدمياطي وابن تيمية والمزي فالأول أعرفهم بالعلل وفقه الحديث والثاني بالأنسب والثالث بالمتون والرابع بأسماء الرجال. وكان الدمياطي يقول: ما رأى شيخنا أحفظ من زكي الدين عبد العظيم وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي بن المفضل ولا رأى ابن المفضل أحفظ من الحافظ عبد الغني ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني ألا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر ولا رأى ابن عساكر والمديني أحفظ من أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفاضل محمد بن طاهر المقدسي ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر بن ماكولا ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبين بكر الخطيب ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبو نعيم ما لرأى أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندة ومعهما الحكم مكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي اسحق بن حمزة الأصبهاني وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحي بن زهير القشيري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي وأما الدارقطني فما رأى أحفظ من نفسه وأما الحاكم فما رأى أحفظ من الدارقطني بل وكان يقول الحاكم ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر ابن الجعابي وما رأى الثلاثة أحفظ من

أبي العباس بن عقدة ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي ولا رأى النسسائي مثل اسحق بن راهويه ولا أرى أبو زرعة احفظ من أبي بكر أبي شيبة وما رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة وما رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري ولا رأى البخاري فيما ذكر مثل على بن المديني أولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل ولا مثل يحيى بن معين وابن راهويه ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطان ولا أرى هو مثل سفيان ومالك وشعبة ولا رأوا مثل أيوب السختياني نعم ولا رأى مالك مثل الزهري ولا رأى الزهري مثل ابن المسيب ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين ولا رأى مثل أبي هريرة نعم ولا رأى الثوري مثل منصور ولا رأى منصور مثل إبراهيم ولا رأى إبراهيم مثل علقمة ولا رأى علقمة كابن مسعود. هذا كان مبلغ القوم في حفظ الحديث وروايته على كثرة المتشابه فيه وتوفر الأسانيد والرواة بحيث لو أراد أحد لهذا العهد أن يحفظ شيئاً مما كانوا يحفظونه لاختار استظهار اللغة الصينية واستسلها أكثر وذلك لضعف الحافظة من هذا المعنى وانقطاع سند هذه العلوم الجليلة إلا قليلاً. كان الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون من أعيان حفاظ الإسلام قال ابن عساكر أنه أحفظ شيخ لقيه وشيوخ ابن عساكر زهاءُ ألف ومائتي شيخ وكان الفقيه أعلم الدين القمني يحفظ ما يسمعه من مرة واحدة. وكان الشافعي من أحفظ أهل دهره قضى عشرين سنة في تعلم الأدب والتاريخ وقال ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه ويروى أنه نظر في دريد صاحب المقصورة من علماء اللغة كان آية من آيات الله في اتساع صدره للرواية تقرأ عليه دواوين العرب فيسارع إلى إملائها من محفوظه. وقيل أن أحمد بن حنبل إمام المحدثين كان يحفظ ألف ألف حديث. قال سعيد بن جبير من أعلام التابعين قرأت القرآن في ركعة البيت الحرام وقال اسمعيل بن عبد الملك كان سعيد بين جبير يؤُمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءَة غيره هكذا أبداً ولا عجب وهو الذي قال فيه أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا هو مفتقر إلى علمه.

وكان على الرازي يقول من فهم الكتاب (يعني الجامع الصغير لمحمد) فهو من أصحابنا ومن حفظه كان أحفظ أصحابنا وأن المتقدمين من مشايخنا كانوا لا يقلدون أحداً القضاءَ حتى يمتحنوه فإن حفظه قلدوه القضاء وإلا أمروه بالحفظ. وذكر صاحب نفح الطيب أنه كان خارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكن الفتيا في الأحكام والشرائع له وكان لا يجعل القالص منهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث والمدوّنة. كان بديع الزمان الهمذاني يحفظ خمسين بيتاً بسماع واحد ويؤديها من أولها إلى آخرها وينظر في كتاب نظراً خفيفاً ويحفظ أوراقاً ويؤديها من أولها إلى آخرها وينظر الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها عن ظهر قلبه هذّا ويسردها سرداً وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها. وكان أبو رياش أحمد بن إبراهيم من رواة الأدب يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة وعشرين ألف بيت شعر إلا أن أبو محمد المافروخي بزَّ عليه لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة فتذاكرا أشعار الجاهلية وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها فيقول أبو محمد إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها فينشد معه ويتناشدان إلى آخرها ثم أتى أبو محمد بعدة قصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما ـ قاله ياقوت في معجم الأدباء. وكان الحفظ في كل فن شائعاً بين أهل الأدب وطلاب العلم على اختلاف ضروبه عند العرب على نحو ما يتضح من تصفح سير رجالهم ولو لم يكن استناد المؤلفين في الأغلب الأعلى ما في لوح محفوظهم لما تيسر لهم أن يؤلف أحدهم عشرات من المجلدات يعجز العالم اليوم عن نسخها وعن تصفحها. فقد كان العرب قبل البعثة يروون قصائد شعرائهم وأغاني حداتهم كما يؤخذ من اجتماعاتهم في سوق عكاظ ومِربد البصرة ولم تكن بضاعتهم من ذلك كثيرة لأن أمراء الكلام لم ينبغوا إلا في الإسلام بظهور نور النبوة وفصاحة الكتاب العزيز. ولقد كان الراوية والنسابة ينشد عشرات بل مئات من القصائد كما يحفظ أحدنا لها العهد الأبيات القليلة غير متعلثم ولا متردد. خذ مثالاً لذلك حماد الرواية المتوفى سنة 155 فقد كان على قلة بضاعته من

العربية يروي المئات من القصائد للجاهلين والمخضرمين كما يروي فاتحة الكتاب ويذر أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم ولغاتهم كأنه يروي قصة وكان ملوك بني أمية يرجعون إليه في هذا المعنى ويحلونه منزلة عالية من الآجلة والإكرام روى الوليد ابن يزيد الأموي قال له يوماً وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث فقال: ثم فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال: كثير ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال سأمتحنك في هذا ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفى عليه فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم ونوادره كثيرة. وكان الأصمعي المتوفى سنة 211 أو قبلها صاحب لغة ونحو وإماماً في أخبار العرب وملحهم وغرائبهم قال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة وقال اسحق الموصلي: لم أرَ إلا الأصمعي يدعي شيئاً من العلم فيكون أحداً أعلم به منه وحضر يوماً عند الفضل بن الربيع هو وأبو عبيدة معمر بن المثنى فقال له: كم كتابك في الخيل فقال الأصمعي مجلد واحد فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلدة فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمه فقال: لست بيطاراً وإنما هذا شيءٌ أخذته عن العرب فقال للأصمعي: قم وافعل أنت ذلك فقام الأصمعي وامسك ناصيته وشرع يذكر عضواً عضواً ويضع يديه عليه وأنشد من قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه قال: أبو حمدون الطيب بن إسماعيل شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريباً من ألف جلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة ويكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة لأن تقدير الجلد عشر ورقات. قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهم الخنساءُ وليلى فما ظنك بالرجال. قلت ولذلك جاء شعر أبي نواس أحسن شعر المولدين كما شهد له بذلك أصحاب الشأن في هذه الصناعة وفي مقدمتهم الجاحظ الذي فضل شعره على شعر العرب

العرباء قال اسمعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علماً من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو. قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب دخل أبو عمرو اسحق بن مراد الشيباني البادية ومعه دستجيتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب وكان أبو عمرو علاماً بأيام العرب جامعاً لأشعارها ويروي عن عمرو بن أبي عمر وقال: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفاً وثمانين قبيلة وكان كما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً بخطه ويحكى أنه أخذ عن المفضل الضبي ودواوين العرب وسمعها منه أبو حيان وابنه عمرو بن أبي عمرو وحكى أبو العباس قال كن مع أبي عمرو والشيباني من العلم والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم قال سلمة: أملى الفراءُ كتبه كلها حفظاً لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة وكان مقدار الكتابين خمسين ورقة. ويقال أن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة وكان الخليل يحفظ نصف اللغة وكان أبو فيد يحفظ الثلثين وكان أبو مالك يحفظ اللغة كلها وكان الغالب على أبي مالك حفظ الغريب والنوادر. وكان ابن الأعرابي أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي سمعت من ألف إعرابي خلاف ما قاله الأصمعي. وكان قتادة عالماً نحريراً وأجمع الناس في أشعار العرب وأنسابهم وقال أبو عبيدة: ما كنا نفقد في كل يوم راكباً من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر وكان من أنسب الناس. وكان ابن الكنبي النسابة واسع الرواية من أعلم النسب بالنسب وكان من الحفاظ المشاهير قال: حفظت ما لم يحفظه أحد ونسيت ما لم ينسه أحد. كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن فحفظته في ثلاثة أيام وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفاً وتوفي سنة 204. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارهم وأشعارهم قال

الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه ومع أن كان يلحن ويخطي: إذا قرأ القرآن وإذا أنش بيتاً لا يقيم وزنه وإذا تحدث أو قرأ لحن اعتماداً منه لذلك فقد صنف قرابة مائة مصنف وكان يرى رأي الخوارج ولذلك كثر الطاعنون في نسبه ومشربه ومذهبه وتوفي سنة 209. كان أبو المحاسن الرُّوياني المتوفى سنة 502 من رؤوس الأفاضل في أيامه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري. وقال أبو بكر النحوي: لما قد أحسن بن سهل العراق قال: أحب أن أجمع قوماً من أهل الأدب فأحضر أبا عبيدة والأصمعي ونصر ابن علي الجهضمي وحضرت معهم وأفضنا مرة في ذكر الحفاظ فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا فالتفت أبو عبيدة فقال: مال الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول ما قرأ كتاباً قط فاحتاج إلى أن يعود فيه ولا دخل قلبه شيءٌ فخرج عنه فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير والأمر في ذلك على ما حكى وأنا أقرب إليك قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع ـ وكان نظر قبل أن يلتفت إليهم في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها فكانت خمسين رقعة ـ وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة قال فأمر وأحضرت الرقاع قال: الأصمعي سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل ابقِ على نفسك من العين فكف الأصمعي. ومالي وتعداد الأسماء على هذا النحو فكتب القوم طافحة بها وإنما يكفي منا التمثيل والقليل يغني. ولقائل أن هذا القدر من الحفظ كان بعضه شائعاً في القرنين الأولين والقرون الثلاثة وقد بالغ فيه الرواة حتى اتصل بنا على هذه الصورة وما حجتي في نقض هذا إلا وقوع أمثال أمثاله في كتب أهل القرون المتأخرة مما تواطأ الثقات على نقله وتحرزوا في إثباته. ولقد كان الغرب في هذه المزية كالشرق إذ قد حذا المغاربة في حضارتهم وعلومهم حذو المشارقة. فقد كان ابن عبدون أحد فحول شعراء الأندلس وكتابها متكثراً من الحفظ. قال الوزير أبو بكر بن زهر فبينما أنا قاد في دهليز دارنا وعندي رجل شيخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني فجاءَ الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلتُ له: أين الأصل الذي كتبت عنه لأقابل معك به قال: ما أتيت به معي فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل رجل بذ الهيئة عليه

ثياب غليظة أكثرها صوف وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان وقال لي: يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان فقلت له: هو نائم هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف حملتين على ذلك نزوة الصبا وما رأيت من خشونة هيئة الرجل ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بيديكم فقلت له: ما سؤالك عنه فقال: أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب. فقلت هو كتاب الأغاني فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه قلت: بلغ موضع كذا وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه فقال: وما لكاتبك لا يكتب قلت: طبعت الأصل منه الذي يكتب من لأعارض به هذه الأوراق فقال: لم أجيء به معي فقال: يا بني خذ كراريسك وعارض قلت: بماذا وأين الأصل قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي قال: فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال يا بني أمسك عليّ قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ فو الله إن أخطأ واواً ولا فاءً قرأ هكذا نحواً من كراسين ثم أخذت له في وسط السفر وآخره فرأيت حفظه في ذلك كله سواءً فاشتد عجبي وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره وكان ملتفاً برداءٍ ليس عليه قميص وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه ويقول: يا مولاي اعذرني فو الله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة وجعل يسبني والرجل يحفض عليه ويقول: ما عرفني وأبي يقول: هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأب. ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلاً ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت وحلف عليه ليركبنها ثم لا ترجع إليه أبداً فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا العظيم قال لي: اسكت ويحك هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الأدب هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني ـ رواها المراكشي. وروى أيضاً قصة تشبهها قال: أنه لزم أبا جعفر الحميري آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس المتوفى سنة 610 نحواً من سنتين فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة من أدرك جلة من مشايخ الأندلس فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب وأعانه على ذلك طول عمره وصدق محبته وإفراط شغفه بالعلم قال لي ولده عصام وقد رأيت عنده نسخة من

شعر أبي الطيب قرئت عليّ أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة فقلت له: لقد كتبتها من أصل صحيح وتحرزت في نقلها فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصح من الأصل الذي كتبت منه فقلت له: أين وجدته قال هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا وكنا في المسجد في زاوية فقلت له: أين هو فقال لي: عن يمينك فعلمت أنه يريد الشيخ فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ فقال لي: هو أصلي وبإملائه كتبت كان يملي عليَّ من حفظه فجعلت أتعجب فسمع الأستاذ حديثنا فالتفت إلينا وقال: فيم أنتما فأخبره ولده بالخبر فلما رأى تعجبي قال: بعيداً أن تفلحوا يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي والله لقد أدركت أقواماً لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظاً ولا يرونه مجتهداً. ومن نظر فيما أُثر عن الأندلسيين وحدهم من هذا القبيل يكتب أوراقاً كثيرة وكنت قرأت في الاستقصا أن من جملة من غرق مع السلطان أبي الحسن لما قصد المغرب في البحر بأسطوله الغريق وكان مؤلفاً من نحو ستمائة قطعة مع من غرق من الفقهاء والعلماء والكتاب والإشراف أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا أبا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة. وقيل أن صدر الدين بن الوكيل ويعرف عند المصريين بابن المرجل من أئمة الشافعية حفظ المفصل في مائة يوم ويوم والمقامات الحريرية في خمسين يوماً وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة. وذكر المقريزي عن حكايات أهل الأندلس في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ اشبيلية بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية لأشعار والأخبار قال ابن سعيد: أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساءِ اشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل فقال لهم: إن شئتم تخبروني أجبتكم فقالوا له: بسم الله إنا نريد أن نحدث عن تحقيق فقال اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا فاختاروا القاف فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن (أرق على أرق ومثلي يأرق) وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما فارق قافية القاف وقال أبو عمران بن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الإشراف باشبيلية وحوله أدباءٌ ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكورة فمنعه من أحد الأدباء فقال:

يا أبا عمران أواجب أن يمنعه منى وما يحفظ منه بيتاً وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة فقال اسمعوني. وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ وكان آية في سرعة البديهة مشهوراً بذلك قال أبو الحسن ابن سعيد: عهدي به في اشبيلية يملي على أحد الطلبة شعراً وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلاً كل ذلك ارتجالاً. ل ابن خلكان: كان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أرَ قط من يحفظ مثله ويحفظ دون ذلك من علوم آخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وذكر صاحب الصبح المنبي أن العلم الفرد في قوة الحافظة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ولقد شرط الملك المعظم عيسى لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه لهذا السبب جماعة. قال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون عليَّ الغريب المصنف فقلت انظروا من يقرأ لكم وأمسكت أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده (وهو صاحب المخصص في اللغة الذي طبع مؤخراً) فقرأه عليَّ من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه. ولقد لازمن ثعلب ابن الإعرابي فما رآه نظر في كتاب. وأخبار الأصمعي في الحفظ والرواية أشهر من أن تذكر وكذلك خلف الأحمر والكلبي وعبيد ودعبل. وكان أبو تمام لا يلحق في محفوظاته وقيل أن كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع. قال أبو الحسن محمد بن علي العنوي كان المتنبي يلازم الوراقين فأخبرني وزان كان يجلس إليه: قال ما رأيت أحفظ من هذا الفتى بن عبدان السقا (المتنبي) قلت له: كيف قال اليوم كان عندي وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي يكون نحواً من ثلاثين ورقة لبيعه فأخذه فنظر فيه طويلاً فقال له الرجل أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون إن شاء الله تعال بعد شهر قال فقال له ابن عبدان: فإن كنت قد حفظته في هذه المدة فمالي عليك قال: أهب لك الكتاب قال: فأخذته من يده فأقبل يهذه عليَّ إلى آخره ثم استلمه فجعله في كمه وقام فتعلق به صاحبه طالباً بماله فقال ما إلى ذلك سبيل وقد وهبته لي قال: فمنعناه منه وقلنا: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه

عليه. والأمثلة كثيرة في هذا الباب والله أعلم.

حماسة الخالديين

حماسة الخالديين الخالديان أخوان شقيقان من أهل القرن الثالث كتبا بعض المؤلفات ونسبت إليهما آداب وغرر ولم يكونا يفترقان في حال من الأحوال ولا نعرف في أدباء العرب شقيقين آخرين اتفقا على إخراج بنات أفكارهما في مجلد واحد كما اتفقا على الخروج من بطن واحد إلا أولئك الأدباء الأخوة المشهورون عند الفرنسيس باسم كونكور وبول وفيكتور مارغريت ورسني. قال الثعالبي في اليتيمة: أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان: أن هذان الساحران يغربان بما يجلبان ويبدعان فيما يصنفان وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوة النسب فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة ويشتركان في قرض الشعر وينفردان ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك كما قال أبو تمام: رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاءِ بل كما قال البحتري كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد بل كما قال أبو اسحق الصابي فيهما: أرى الشاعرين الخالديين سيرا ... قصائد يفنى الدهر وهي تخلد جواهر من إبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصر تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومر جدال بينهم يتردد فطائفة قالت سعيد مقدم ... وطائفة قالت لهم بل محمد وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلا بالتي هي أرشد هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد كذا فرقدا الظلماء كلا ... علاً أشكلا هل ذاك أم ذاك أمجد فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقدا الأرض فرقد وما أعدل هذه الحكومة من أبي اسحق فما منهما إلا محسن ينظم في سلك الإبداع ما فاق وراق ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الإفراد من شعراء الشام والعراق وقد ذكرت ما شجر بينهما

وبين السري في شأن المصالتة والمسارقة وما أقدم عليه من دس أحسن أشعارهما في شعر كشاجم وكان أفضل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين إحداهما وهي في شق الرجحان تتعصب عليه لهما لفضل ما رزقاه من قلوب الملوك والأكابر والأخرى تتعصب له عليهما. ثم أورد صاحب اليتيمة من أشعارهما ما هو السحر الحلال وما اتفق لهما من التوارد مع السري أو التسارق في زهاء عشرين صفحة. وقد ظفرنا للخالديين بكتابهما الحماسة أو الأشباه والنظائر فرأيناه جمع فأوعى من شعر الجاهليين واستشهد عليه بما أخذه عنهم المولدون أو زادوه عليهم من المعاني والتصورات قالا في مقدمته: الحمد لله بلا كيفية تقع بها الإحاطة عليه والأزلي بلا وقت تنسب الصفات إليه حمداً يورد من حليل نعمه وجزيل قسمه مشرباً عذباً ومسحباً رحباً وصلى الله على سيدنا محمد ما أورق شجر وأينع ثمر وعلى الطاهرين من عترته وسلم تسليماً وبعد فسبح الله لنا في مدتك ووفقنا لما نؤثره من خدمتك فإنا ك بأشعار المحدثين كلفا وعن القدماءِ والمخضرمين منحرفاً. وهذان الشريجان هما اللذان فتحا محدثين باب المعاني فدخلوه ونهجوا لهم طريق الإبداع للمعاني فسلكوه أما زاد الله قدرك علواً ورفعة وسمواً قول الشاعر: فهو قبل مبكاها بكيت صبابة ... إليها شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم ومن أمثالهم السائرة ما ترك الأول للآخر شيئاً إلا أن أبا تمام لم يرض بهذا المثل حتى قال يصف قصيدة له: لا زلتَ من شكري في حلة ... لابسها ذو سَلب فاخر يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر ومن المعنى الأول قول عنترة هل غادر الشعراء من متردم أي ما تركوا كلاماً لمتكلم فإذا كان عنترة وهو في الجاهلية الجهلاء وما لهم من فصاحة الفصحاء يقول مثل هذا القول فما ظنك بهذا العصر وقبله بمائتي سنة فلسنا بقولنا هذا أيدك الله نطعن على المحدثين ولا نبخسهم تجويدهم ولطف تدقيقهم وطريف معانيهم وإصابة تشبيههم وصحة استعاراتهم إلا إنا نعلم أن الأوائل من الشعراء رسموا رسوماً تبعها من بعدهم وعول عليها من قفا أثرهم وقلَّ شعر من أشعارهم يخلو من معان صحيحة وألفاظ فصحية وتشبيهات مصيبة

واستعارات عجيبة ونحن أطال الله في العز بقاك وكبت بالذل أعداك نضمن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومن تبعهم من المخضرمين ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي الناس ولا نذكر منها إلا الشيء اليسير ولا نخليها من غرر ما رويناه للمحدثين ونذكر أشياءَ من النظائر إذا وردت والاجازات إذا عنت وتتكلم على المعاني المخترعة ولا نجمع نظائر البيت والمتبعة في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع بل نجعل ذلك في موضع ذكره وإن كنا نعلم أنك أدام اله تأييدك أعلم بما نحمله إليك ونعرضه منا عليك ومن أين لنا قرائح تنتج ما لا تزال تريناه وتسألنا عنه من دقيق المعاني وبعده في النوعين من دقة النظر ولطيف الفكر ما لا يتوهم أنه يطرد لسواك ولا يغن لغيرك وهو أنك أيد الله عزك قلت لنا من أين أخذ البحتري قوله: ركبنا القنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر فإن يكن عندنا فيه شيءٌ من الاستحسان والتقريظ فعرفتنا أيدك الله أنه مأخوذ من قول أبي تمام: رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماءُ الروض ينهلُّ ساكبه ولا نعرف في النظر أدق من هذا ولا ألطف إلا إنا نوفي الخدمة حقها بما نتكلفه من الاختيار والكلام على ما ذكرناه وبالله التوفيق. هذه هي المقدمة ومنها تفهم العرض وتدرك صعوبة ما سلكه المؤلفان وما يحتاج إليه هذا البحث من بعد النظر وسعة الاطلاع ولقد تتصفح الصفحات الكثيرة من هذا الكتاب فتقرأ فيها أشعاراً لم تكن معهودة لنا لقلة ما طبع من شعر العرب العرباء قالا بعد المقدمة. قال المهلهل بن ربيعة: بكره قلوبنا يا آل بكر ... نغاديكم بمرهفة النصال لها لون من الهامات جون ... وإن كانت تغادي بالصقال ونبكي حين نذكر كم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي أبيات المهلهل هذه هي الأصل في هذا المعنى ومثله قول الحصين بن الحمام المري. نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما فأخذه بعضهم فقال

قومي هم قتلوا ميم أختي ... فإذا رميت أصابني سهمي ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن رميت لأوهنن عظامي وأخذه مالك بن مطفوف السعدي فقال: قتلنا بني الأعمام يوم أٌوارة ... وعز علينا أن نكون كذلكا هم أخرجونا يوم ذاك وجردوا ... علينا سيوفاً لم يكن بواتكا وأخذه حرب بن مسعر فقال: ولما دعاني لم أجبه لأنني ... خشيت عليه وقعه من مصمم فلما أعاد الصوت لم أك عاجزاً ... ولا وكلاً في كل دهياَء صيلم عطفت عليه المهر عطفة محرَج ... صؤول ومن لا يعشم الناس يعشم وأوجرته لدن الكعوب مقوماً ... وخر صريعاً لليدين وللفم وغادرته والدمع يجري لقتله ... وأوادجه تجري على النحر بالدم فأخذ هذا المعنى ديك الجن فقال في جارية كان يحبها فقتلها: قمر أنا استخرجته من دجنة ... لبليتي وجلوته من خدره فقتلته وله عليّ كرامة ... ملَء الحشا وله الفؤاد بأسره عهدي به ميتاً كأحسن نائم ... والحزن ينحر عبرتي في نحره وإلى المعنى الأول نظر أبو تمام فقال: قد انثنى بالمنايا في أسنته ... وقد أقام حياراكم على اللقم جذلان من ظفر حران أن رجعت ... أظفاره منكم مخضوبة بدم ومن هذا المعنى أخذ البحتري قوله: إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها وبيت البحتري أظرف وأبدع من بيت المهلهل إلا أنه هو الذي أرشده إلى المعنى ودله عليه ومثله لقتال الكلابي: فلما رأيت أنه غير منته ... أملت له كفي بلدن مقوَّم فلما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم ولبعضهم:

أتتني آية من أم عمرو ... فكدت أغص بالماء القراح فما أنسى رسالتها ولكن ... ذليل من بنوا بلا جناح قول ذليل من يبوء بلا جناح الأمثال الجياد المختارة. وقال جران العود النميري ولا يعرف في نسيب الأعراب وغزلهم أحسن ألفاظاً من هذه القصيدة ولا أملح معاني والمختار منها قوله: ذكرتَ الصبا فأنهلت العين تذرف ... وراجعك الشوق الذي كنت تعرف وكأن فؤادي قد صحا ثم هاجه ... حمائم ورقٌ بالمدينة تهتف فبت كأن العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الطل ينطف أراقب لوحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف فلا وجد إلا مثل يوم تلاقحت ... بنا العيس والحادي يشل ويعطف وفي الحي ميلاءُ الخمار كأنها ... مهاة بهجل من ظباءٍ تعطف تقول لنار العيس صعر من السرى ... فأخفافها بالجندل الصم تقذف حمدت لنا حتى تمناك بعضنا ... وقلنا أخو جدّ عن الهزل يصدف وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مراراً وما نهوى الذي يتعجرف فموعدك الوادي الذي بين أهلنا ... وأهلك حتى نسمع الديك يهتف ويكفيك آثار لنا حين تلتقي ... ذيول نعفيها بهن ومطرف فنصبح لم يشعر بنا غير أنه ... على كل حال يحلفون ونحلف فأقبلن يمشين الهوينا تهاديا ... قصار الخطا منهن راب ومزحف (؟) فلما هبطن السهل واحتلن حيلة ... ومن حيلة الإنسان ما يتخوف حملن جران العود حتى وضعنه ... بعلياَء في أرجائها الجن تعزف فبتنا قعوداً والقلوب كأنها ... قطاً شرع الإشراك مما تخوف علينا الندى طوراً وطوراً يرشنا ... رذاذ سرى من آخر الليل أوطف ينازعنا لذاً رخيماً كأنه ... عوابر من قطر حداهن صيف رقيق الحواشي لو تسمع رهاب ... يبطنانَ قولاً مثله ظل يرجف ولما رأين الصبح بادرن ضوَءه ... كمشي قطا البطحاء أوهن أقطف

وما بنَّ حتى قلن بالبيت إننا ... تراب وإن الأرض بالناس تخسف فأصبحن صرعى في الحجال كأنما ... سقاهن من ماء المدامة قرقف يبلغهن الحاج كل مكاتب ... طويل العصا أو مقعد يتزحف رأى ورقاً بيضا فشد جزيمه ... لها فهو أمضى من سليل وألطف ولن يستهيم الخرد البيض كالدمى ... هدان ولا هلباجة الليل مقرف ولكن رقيق بالصبا متطوف ... خفيف لطيف سابغ الذيل أهيف يلم كإلمام القطامي بالقطا ... وأسرع منه لمة حين يخطف فأصبح في التقينا غدية ... سوار وخلخال وبرد مفوف أما قوله: فبت كأن العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الليل ينطف فمن أحسن ما قيل في الدمع وأجوده وشبيه به قول الآخر لعينك يوم البين أسرع وأكفا ... من الفنن الممطور وهو مروَّح وقيل هذا البيت قد جوّد أيضاً وزاد على من تقدمه وأتى بعده وذاك أنه لم يرض أن يكون دمعه مثل الفنن وهو الغصن الذي يقطر المطر على ورقه فهو يجري حتى قال وهو مروح أراد أن الريح تحركه فهو لا يهدأ من القطر وليس بعد هذا نهاية في تحاور الدمع وسرعته وقوله: أراقب لوحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف مليح التشبيه صحيح لأن من تأمله رآه كأنه عين تطرف وقوله يصف قولها له وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مراراً وما نهوى الذي يتعجرف يقال أن النساء يملن إلى من كان فيه دعابة ولهو ولا يملن إلى غير ذلك فذكر جران العود عنهن أنهن قلن له لست على ما وصف لنا لأن فيك عجرفية وقد وصفت لنا بغيرها حتى تمنيناك وما نحب الذي يتعجرف ويذكر أن كثيراً أنشد بعض نساء الأشراف قوله: وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأعرضن عنه هيبة لا تجهما يحاذرن مني نبوة قد عرفنها ... قديماً فما يضحكن إلا تبسما فقالت له يا ابن أبي جمعة أبهذا القول تدعى الغزل والله لا نال وصلنا وحظي بودنا إلا من

يجري معنا كما نريد ويجعل الغي إذا أردناه رشدا قم لعنك الله فقام منقطعاً وإلى قولها نظر البحتري فقال: ولا يؤدي إلى الملاح هوى ... من لا يرى أن غيه رشد وقوله: ويكفيك آثار لنا حين تلتقي ... ذيول نعفيها بهن ومطرف معنى مليح وقد اشترك فيه جماعة من الشعراء فأول ذلك أمرؤ القيس في قوله: فقمت بها أمشي تجر وراءنا ... على أثرنا أذيال مُرط مرجل وقال ابن المعتز: فقمت أفرش خدى في الطريق له ... ذلاً وأسحب أكماماً على الأثر ولابن المعتز في هذا المعنى زيادة حسنة على من تقدمه وقوله: فنصبح لم يسعر بنا غير أنه ... على كل حال يحلفون ونحلف كلام ظريف ومعنى مليح لأنه قال لابد من تهمة تلحقنا فنحلف أنا لم نفعل ويحلفون أنا قد فعلنا وقوله: فأقبلن يمشين الهوينا تهاديا ... قصار الخطا منهن راب ومرجف من أحسن ما يكون في صفة المشي وقد أكثرت الشعراءُ في هذا الباب فمن مليحه قول بعضهم: يمشين مشي قطا البطاح تأدوا ... قب البطون رواجح الأكفال وإنما شبهوا مشية المرأة بمشية القطاة لأن فيها سرعة وتأيدا قال المنخل: ودفعتها وتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير وللأعشى في المشي شيءٌ حسن وأشياءٌ يفرط فيها فمن الجيد قوله: غراءُ فرعاءُ مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل وقد شبه بشار بن برد خفقان القلب بالكرة في تدورها وهو قوله: كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين إن نفع الحذار وهذا لعمري تشبيه جيد ومعنى صحيح وقال آخر وهو غير هذا المعنى فجود

كأن فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرت ليلي يشد به قبضا هذا ذكر أن فؤاده إذا ذكرت عشيقته قبض عليه ولم يذكر أنه شديد الخفقان وهو يدخل في هذا المعنى أو يقاربه فجود وأحسن وزاد وأورد معنى ثانياً وهو قوله: من (757_767) غير مكتوبين رجعا فسار أبو دلامة ظاهراً ... والمهر يجفل تحته أجفالا حتى إذا وافي الأمير وقام عن ... كثب ترجل دونه إجلالا وغدا يقول وكان روح ضاحكاً ... إني كفيتك قرني الرئبالا وقتلته بالقول لا بمهندي ... والحرب أحرىى أن تكون مقالا وأخذت في الهيجا عليه مواثقاً ... أن لا يعود ينازل الأبطالا إن الهواتف لا تزال بمسمع ... مني تقول إذا شكوت الحالا لا تيئسن فللزمان تنفس ... فأرقبه أن يتبدل الإبدالا والدهر طاه سوف ينضج أهله ... بالحادثات يزيدها إشعالا إن الدهور وهن أمهر سابك ... سترد أضداد الورى أشكالا حتى كأني بالطباع تبدلت ... غير الطباع وزلزلت زلزالا وكأنني ببني الملاحم أصبحوا ... لأبي دلامة كلهم أمثالا معروف الرصافي

حكومة الشورى في المملكة العثمانية

حكومة الشورى في المملكة العثمانية من أدق المسائل وأعضلها مسألة توليته الملك واختيار الأصلح لحكم الناس بالعدل والعقل. مسألة شغل بها البشر في كل دور من أدوارهن فقضت ولا تزال تقضي في تأييد سلطة الملوك ملايين من الناس. على هذا كان الحال في حكومات العرب بعد الإسلامية في القرون الوسطى والحكومات الإفرنجية في القرون الحديثة. الناس بخير ما حافظ ملوكهم على النظام في الجملة فإذا استرسلوا في شهواتهم وأهوائهم واستهانوا بمن تولوا رقابهم فعاملوهم معاملة الأنعام التي يرثها الابن عن أبيه ويتصرف فيها بما يشاء يفسد الأمر وتنتشر الفوضى ويتراجع ىالعمران ويذعر السكان. سنة من سنن هذا الكون مذن قامت المجتمعات الأولى وما من شيء بدل الآن على زوالها من العالم كل الزوال. لابد للناس من طاعة زعيم يرجعون إليه ببعض أمور دنياهم ولو صورة فإذا استقام هذا الزعيم وسار بمشورة أهل الرأي من قومه استقامت شؤونهم مراميهم. وقد كان من الخلافة الإسلامية وهي تجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية أثر عظيم من الجري على هذه الطريقة بإشراك الخليفة أصحابه وسروات بلاده في حربه وسلمه وغنمه وغرمه إلا أن هذه الصورة من الحكم لم يطل عهدها كثيراً فانقلبت بعد زمن قليل إلى ملك عضوض بسعي معاوية بن أبي سفيان وغدا يتقلدها صاحب القوة بل كل ابن يوصي له بها أبوه مهما كانت أخلاقه وكفاءته وسنه. قال ابراهيم الأنصاري وهو ابراهيم بن محمد المفلوج من ولد زيد القاري: الخلفاء والأئمة وأمراء المؤمنين ملوك وليس كل ملك يكون خليفة وأماماً قال: ولذلك فصل بينهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في خطبته فإنه لما فرغ من الحمد والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة فرفع الناس رؤوسهم فقال: ما لكم أيها الناس أنكم عجلون أن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير ويسأم الرخاء وتنقطع عنه لذة الباه لا يستعمل العبرة ولا يسكن إلى الثقة فهو كالدرهم القسي (الرديء) والسراب الخادع جذل الطاهر حزين الباطن فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحي ظله حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه إلا أن الفقراء هم المرحومون وخير

الملوك من آمن بالله وحاكم بكتابه وسنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة النبوة ومفرق المحجة وسترون بعدي ملكاً عضوضاً وملكاً عنوداً وأمة شعاعاً ودما مفاحا فإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو بها الأثر ويموت لها البشر فالزموا المساجد واستشيروا القرآن والزموا الطاعة ولا تفارقوا الجماعة وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة بعد طول التناظر أي بلاد كمخرسة (إن الله سيفتح عليكم إفصاحاً كما فتح عليكم أدناها). وبعد فإن معاوية مبدأ شقاء هذه الأمة بملوكها أفسد أمرها كما قال الحسن البصري ليحقق أطماع نفسه ولم يكفه سفك دماء المسلمين في وقعة صفين حتى قام يعهد بالخلافة لابنه يزيد من بعده وفي العرب وقتئذٍ من رجالات قريش والصحابة بقية صالحة اضطرهم إلى مبايعة يزيد والسيوف مصلته على رقابهم في مسجد المدينة واحتال لذلك بكل حيلة تأبى النفس الشريفة أن تأتيها. فأصبح خلفاء الإسلام بعد أن كانوا مساوين للرعية أرباباً يتحكمون بالأموال والدماء والأعراض تحكم الحر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل يقومون بضعف الناس ويغتنون بإفقارهم ويعتزون بإذلالهم. جاء خلفاء من بني أمية وبني العباس عقلوا معنى الخلافة وأدركوا حقوق الرعية وعرفوا أن الشورى لا تستقر إلا إذا كان الخليفة كاملاً في ذاته وصفاته فأحبوا أن يجعلوا الملك بانتخاب الأصلح بعدهم كعمر بن عبد العزيز الذي مثل الخلافة الإسلامية على قاعدة الشورى أحسن تخيل ولطالما قال وقد رأى محمد بن أبي بكر: لو كان لي من الأمر شيء لقلدته أخلاقه بعدي. ولكن بني مروان يشق عليهم أن تخرج الخلافة عن رسمها القيصري الذي رسمه كبيرهم لتكون كالبقرة الحلوب ينتفع بها الأقرب فالأقرب من خليفة. وكذلك فعل المأمون وقد رأى على بن موسى الرضا أعقل أهل السنة بالتشيع والشيعة بالاعتزال وهو المفرد العلم في عدله وسيرته وإيثار مصلحة الأمة على مصلحة نفسه، ىلة. ومنذ ضعف أمر بني العباس واستولى ملوك الطوائف ضعف أمر الخلافة بن ذهب رسمياً جمعة وأصبح الملوك بحسب الاتفاق أن صلح واحد من مئة يجيء أخلاقه يفسدون ما وضعه. ساعد على ذلك في الأكمثر ضعف الآداب والأخلاق وزهد المتأخرين بعلوم الدنيا

فصح فينا قول ذي عمرو من أمراء اليمن لجرير بن عبد الله إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتمة إذا هلك أمير مرت تم في أواخر فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوكثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب وضربهم بالفاقة وملأ قلوبهم رعباً. ولقد كتب لبني عثمان أن يتغلبوا على معظم بلاد الإسلام ويبنوا دولتهم على أنقاض حكومات كثيرة فدان لهم المغرب الأوسط ومصر وبلاد اليونان ورومانيا والصرب والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكريت وقبرص فانسلخت عن جسم الدولة بمساعدة أوروبا لها من الخارج ومناعي سكانها من الداخل. والسبب الأعظم في ذهاب القاصية من بلاد الدولة كونها ما برحت منذ أول تأسيسها دولة سيف وسنان لا دولة علم وعرفان. وضخامة الملك لا تجدي إذا لم تنظم شؤونه بنظام الاجتماع والعلم الصحيح. فجربت البلاد بسياسة التفريق بين العناصر والأجناس بيد أن دوام الحال على ذلك محال مادامت أوروبا شاخصة أبصارها نحو الشرق تتحفز كل ساعة لاكتساحه منذ زهاء مئة سنة وتتطال إلى استعماره القطعة بهد القطة. عرف وخامة العاقبة أهل الرأي في الأمة العثمانية فقاموا منذ نحو أربعين سنة ينادون في الدعوة إلى لم التعث ومجاراة الحكومات الأوروبية في نظامها فدعا شناسي وكمال ومدحت وفاضل وسعاوي وهم طليعة الأحرار الأبرار إلى نبذ الحكم المطلق والاستعاضة عنه بالحكم المقيد أي ترك الحكومة الاستبدادية الشخصية والأخذ بسنن الحكومة المدنية الثورية لتشارك الأمة سطلنها في إدارة شؤون البلاد وهو يشرف عليها إشرافاً وينفذ ما تقرره تنفيذاً كما هو حال أعاظم ملوك الأرض لهذا العهد إمبراطور الألمان وملك الإنكليز وميكاد واليابان ورئيس جمهورية أميركا على اختلاف طفيف في كيفية تأليف مجالسهم وإشراك ذوي الرأي من أهلهم في سلطانهم. وما فتئ الأحرار ينشرونة دعوتهم في جرائد لهم أنشؤها وجمعيات الفوها وكلمتهم تزيدم انتشاراً كلما اشتدت الحكومة في إرهاقهم ولاسيما في المدارس العالية في الاستانة. والمدارس العالية مجمع شمل أذكياء الطلاب من الترك والعرب والجركس والأرناؤود واللاز والروم والأرمن حتى إذا عادوا إلى بلادهم وتفرقوا في الولايات يضيفون إلى تذمر

الأهلين من فساد الأحكاتم تذمراً ويكثرون سواد الحانقين على ذاك النظام الرث القديم. ولما أوشكت الدولة العلية أن تسقط سنة 1293 باجتماع كلمة أوروبا عليها أعلن القانون الأساسي بسعي مدحت باشا وأعوانه ولم تتمتع الأمة أربعة أشهر بافتتاح مجلس قبل ففسدت النيات والتأثت الأحوال وتنتكرت الأخلاق وهزلت الفضيلة وباب القول الفصل للرشى والمحاباة والشفاعات وراجت سوق النفاق رواجاً سوق النفاقات رواجاً لم تعهده آثينة في آخر أيامها ولا رومية عند زوال سلطانها بل ولا فروق لما تأذن الله بانحلال الدولة البيزنطية منها وكثر الغش والخديعة وغلوا في التجسس والوقيعة وكثرت الهجرة من البلادم فهجرها قسم عظيم من العاملين والمفكرين من أهلها وتقهقهر عمرانها فوصلت بعض أقطارها إلى درجة من الفقر لم يعرف التاريخ أنها بلغتها في وقت من الأوقات وأمسى العاقل يعجب من بقاء الدولة العثمانية لم يعرف التاريخ أنها بلغتها في وقت من الأوقات وأمسى العاقل يعجب من بقاء الدولة العثمانية على هذه الحال وما بقي منها إلى اليوم هو من أخصب بقاع الأرض جمعت أطيب الكور من القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقية وهي الصلة والعائد بين شرق المعمور وغربه وأهلها من أقوى العناصر ذات الحضارة القديمة المستفيضة كأن لها أيامها الغر العجلة وفيها العرب والفينيقيون والحيثيون والروم والبابليون والآشوريون والكلدانيون والأرمن واليهود.

بين العرب والفرس

بين العرب والفرس من أشهر القصائد الاجتماعية العربية قصيدة لقيطو بن يعمر الأيادي ينذر قومه غزو كسري إياهم وكان لقيط كاتباً في ديوان كسرى فقطع لسان لقيط وغزا إياداً. قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق الذي نشره سنة 1854: ومن رجالهم لقيط بن معبد صاحب القصيدة التي أنذر بها إياداً لما غزتهم الفرسي وهي: كتاب في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد يعني جزيرة العرب وله قصيدة أخرى على العين مشهورة. وقد تيسرت لنا عدة مظان ومنها بعض مخطوطات فعارضنا القصيدة عليها منها هنا أصح الروايات وأضفنا إليها بعض زيادات وها هي بنصها المعجب: يادار عمرة من محتلها لجزعا ... هاجت لي ألهم والأحزان والجذعا تامت فؤادي بذذات الجذع خرعبة ... مرت تريد بذات العذبة البيعا بمقلتي خاذل أدماء طاع لها ... نبت الرياض تزجي وسطه ذرعا وواضح أشنب الأنياب ذي شر ... كالأقحوان إذا ما نوره لمعا جرت لما بيننا حبل الشموس فلا ... يأساً مبيناً ترى منهما ولا طعما طوراً أراهم وطوراً لا بينهم ... إذا تواضع خدر ساعة لمعا يا أيها الراكب المزجي على عجل ... نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا أبلغ إياداً وخلل في سراتهم ... إني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا يا لهف نفسي إن كانت أموركم ... شتى وأحكم أمر الناس ما اجتمعا إني أراكم وأرضاً تعجبون بها ... مثل السفينة تغشى الوعث والطبعا إلا تخافون قوماً لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا أبناء قوم تآووكم على حنق ... لا يشعرون أضر الله أم نفعا أحرار فارس أبناء الملوك لهم ... من الجموع جموع تزدهي القلعا فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكاً وآخر يجني الصاب والسلعا لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشمايخ من ثهلان لا تصدعا في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غفى شجعا خزر عيونهم كأن لحظهم ... حريق نار ترى منه السنا قطعا

ويحققون حيال الشول آونة ... وتنتحون بدار القلعة الرتعا وتلبس ثياب إلا من ضافية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا أنتم فريقان هذا لا يقوم له ... عصر الليوث وهذا هالك صقعا وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هم له ظلل تغشاكم قطعا مني أراكم نياماً في بلهينة ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا فأشفوا غليلي برأي منكم حسن=يضحي فؤادي له ريان قد نقعا ولا تكونوا كمن قد بات مقتنعاً ... إذا يُقال له أدفع غمة كنعا يسعى ويحسب أن المال تخلده ... إذا استفاد طريفاً زاده طمعاً فقنوا جيادكم واحموا ذماركم ... واستشعروا الصبر لا تشتشعروا الجزعا وشروا تلادكم في حرز أنفسكم ... وحرز نسوتكم لا يهلكوا هلعاً ولا يضع بعضكم بعضاً لنائبة ... كما تركتم بأعلى عيشة نجعا اذكوا العيون وراء السرح واحترسوا ... حتى ترى الخيل من تعدائها رجعا فإن علبتم على ظن بداركم ... فقد لقيتم بأمر حازم فزعا هيهات لا مال من زرع ولا أبل ... يرجى لغابركم أن أنفكم جدعا لا يلهكم أبل ليت لكم أبلا ... أن الغدور بخطب منكم قرعا لا تثمروا المال للأعداء أنهم ... أن يظفروا يحتووكم واليلاد معاً والله ما أنقلب الأموال منذ بدا ... لأهلها أن أصيبوا مرة تبعا يا قوم إن لكم من قوم أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا ماذا يردّ عليكم عزّ أولكم ... مجداً قد أشفقت أن يفنى وينقطعا فلا تغرنكم دنيا ولا طمعٍ ... أن تنعشوا بزماع ذلك الطمعا يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا يا قوم بيضتكم لا بها ... أني أخاف عليها الأزلم الجذعا هو العناء الذي تبقى مذلته ... إن طار طائركم يوماً وإن وقعا هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا قوموا قياماً على أمشاط أرجكم ... ثم أفزعوا قد ينال الأمن من فزعا

وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفاً أن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... همّ تكاد حشاه تحطم الضلعا مسهد النوم تعنيه أموركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما أنفك يحلب در الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا قد أثمر على شزر مريرته ... مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا كمالك بن سنان أو كصاحبه ... زين القنا يوم لاقى الحارثين معا إذ غابه غائب يوم فقال له ... دمث لجنبك قبل النوم مضطجعا فساوروه فألفوا أخا علل ... في الحرب يحتمل الرئبال والسبعا مستنجداً يتحدى الناس كلهم ... لو قارع القوم عن أحسابهم قرعا هذا كابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى مثل ذا رأباً ومن سمعها فقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا أن خير العلم ما نفعا

الاكتشافات الحديثة في القطب الشمالي

الاكتشافات الحديثة في القطب الشمالي قالت مجلة مستندات الترقي ما مثله: كانت أول حملة أرسلت لاكتشاف القطب الشمالي سنة 1553 فقام شانسلور ودورفورث وويلوغبي من الإنكليز يحاولون الاهتداء من طريق الشمال إلى طريق بحري للوصول إلى آسيا الشرقية ودعي هذا الطريق بطريق الشمالي الشرقي. وما برح حب اكتشاف القطب آخذا بمجامع العقول حتى ساق كثيرين إلى تقحم تلك الصحاري الجامدة في الشمال لكشف ما وراءها من أسرار. ولئن فترت الهمم في سبيل اكتشاف القطب من سنة 1650إلى 1750 بالنسبة لبقية الأدوار إلا أن الرغبة في اكتشافه لم تنقطع منذ ذاك العهد ومهما أعتقد الناس بأن ما ورد في أسطورة قديمة من أن في بحار الشمال جبلاً من المغناطيس كان يدعو السفن والملاحين إلى اكتشافه فتهلك فيه ـ وهي أسطورة من الأساطير الخيالية العارية من كل حقيقة ـفان القطب الجغرافي من الأرض وإن لم يره أحد حتى الآن قد أثر في العقول تأثير ذاك الجبل من المغناطيس وكان من قوة الجاذبية إن كانت السبب في هلاك أرواح كثيرة من البشر. وظل ذاك اللغز القديم بدون حل بعد جهاد لا يوصف مدة من ثلاثة قرون ونصف ووقعت مصائب هائلة في القطب والقطب نفسه لم يكتشف على أن هذه المسألة قد فقدت في العهد الأخير شيئاً كثيراً من شأنها العملي ومع هذا فلم يفلت الباحثين علم ما يصادفونه في القطب ونزعوا من الأفكار ما كان علق فيها مدة قرون من أن وراء تلك الأسوار الكالحة من الجليد مناخاً معتدلاً وعدوه من باطل التقدير وقالوا ليس فيها إلا الجليد والثلوج وبحر عميق فيه بعض جزر تختلف كبراً وصغراً ولا تزال مجهولة وهذا ما يرونه في جوار القطب كما رأوا مثله حتى الآن في الأصقاع القطبية. ولا يرجى من اكتشاف القطب الشمالي حل متكل ينفع العلم وما يتنافس فيه الذاهبون في هذا السبيل لبلوغ القطب ليس سوى عبارة عن ضرب من ضروب الأرتياض اللهم إلا ما كان من حيث الفائدة الجغرافية الصرفة. بيد أن الإنسانية لا يقر لها قرار إن لم يكتب لأحد شجعان الزمان أن يدوس ذلك الطرف الآخر من محور الأرض والظاهر أن هذا اليوم وإن طال العهد على قدومه غير بعيد الآن فإن ما تم من تقدم اكتشافات القطب في الخمس عشرة سنة الأخيرة قد بلغ حداً لم يكن يظن بلوغه حتى قري الأمل بأن ستكافئ تلك الهمم الماضية على جهادها قريباً والزمن حلال كل معضل. يعلم ذلك بأدنى نظر يلقي ببصره

على تاريخ القطب والبعثات إليه وما بلغه الباحثون من العرض الشمالي. قام المقدام بارنتس الهولاندي فبلغ المرة الأولى سنة 1596 الدرجة الثمانيين من العرض ومضى الناس زهاء مائتي سنة حتى تيسر لهم أن يتقدموا إلى الإمام ثلاث درجات أخرى وكان الصياد سكورسبي أول من وصل في الحقيقة إلى الدرجة الثالثة والثمانين من العرض سنة 1822ولم يصل الرحالة مارخام الأميركي إلا في سنة 1876 إلى شمالي غرانلاندا أي إلى درجة 20/ 83وبعد ستة سنين بلغ وطنية سوكفود الدرجة 24/ 83 وهكذا مضت ثلاثة قرون ولم يصل البشر إلى أكثر من الدرجة 83 في التقدم نحو القطب ولكن لم تمض أقل من خمس عشرة سنة حتى كثر التقدم في أصقاع القطب وزاد شأنه أكثر من القرون الثلاثة الأخيرة فكان الرحالة نانسن أعظم فاتح فتح عهد سيؤدي ولاشك إلى الاهتداء للقطب وافتتاحه افتتاحا أخيراً فوصل مع رفيقه جوهانسون في 7نيسان (أبريل) إلى درجة 14/ 86في شمال الأرض المعروفة بأرض فرنسيس يوسف ولكنه أضطر إلى الرجوع على أعقابه وتقدمت بعثة الدوق دي زلبروز إلى أبعد من ذلك نحو الشمال فبلغ بعض أعضائها الدرجة 33/ 86إلى شمالي أرض فرنسيس يوسف وقليلاً نحو الغرب من الجهة التي وصل إليها نانس. ووصل الأميركي في مارس 1906 إلى الدرجة 6/ 86وكان بلغ سنة 1902 إلى درجة 17/ 87 وهذا جدول بأسماء البعثات إلى القطب وما تم فيها من التقدم منذ بديء بإرسالها إلى عهدنا. تاريخ البعثة أسم رئيس البعثة جنسيته أقصى ما وصلت إليه من درجات العرض الجهة 1553 شانسلوردورفورثوويلوغبي إنكليزا 70/ 71 شمالي أوروبا 1587 دافيس إنكليزي 20/ 72 بحر بافين 1594 بارنتس هولاندي 55/ 77 زامبل الجديدة 1596 بارنتس هولاندي 11/ 80 سبيتزبرغ 1607 هودسون إنكليزي 28/ 80 شرقي غرانلاندا 1773 فيبس إنكليزي 48/ 80 سبيتزبرغ 1806 سكورسبي البكر إنكليزي 30/ 81 شرقي غرانلاندا 1817 سكورسبي الفتى إنكليزي نحو82 شرقي غرانلاندا

1822 سكورسبي الفتى إنكليزي 83 شرقي غرانلاندا 1834 غراه دانيمركي إلى ما بعد83 شرقي غرانلاندا 1876 ماركام أميركي 20/ 83 شمالي غرانلاندا 1882 سوكود أميركي 24/ 83 1895 نانسن نروجي 14/ 86 أرض فرنسيس يوسف 1900 كاني إيطالي 33/ 86 أرض فرنسيس يوسف 1906 بري أميركي 6/ 87 شمالي غرانلاندا ومن الفوائد التي حدثت من السعي في اكتشاف القطب للعلوم ولاسيما للجغرافية أننا عرفنا من بعثة نانسن أن رأس القطب الشمالي ـ ربما كان مقابلاً من الجهة الثانية للقطب الجنوبي. مغشى من كل مكان يبحر قليل العمق ليس فيه إلا بعض جزائر وأرض عظيمة ذات اتساع كبير هي غرانلاندا. وقد أثبت سفردروب وهو صديق نانس المخلص بعد بضع سنين أن الشاطئ الشمالي من غرانلاندا لوم يكن يعرف منه إلى ذاك العهد غير قسم صغير ـ لا يمتد نحو الشمال. وقد قط ع الدوق دورليان سنة 1905 جزءاً من الشاطئ الشرقي الذي لم يعرف في شمال رأس بسمرك. وأحدث الاكتشافات اكتشاف بري الذي أبان أنه يوجد في شمالي غرانلاندا بحر عميق وتيار عظيم يذهب إلى الشرق. وتبين من البعثات إلى أرجاء شمالي القارة الأميركية بأن الشاطئ الشمالي الأميركي من الغرب متصل كل الاتصال ببحر القطب الذي يسمى هناك بحر بوفور على حين أن مجموع الجزائر الغربية الموجودة في الشرق تمتد ولا شك إلى أبعد من ذلك نحو الشمال نحو أكصر مما كان يظن حتى الآن. إذ قد شوهدت في شمالي أرض اكل هبرغ في المحل الآخذ نحو الشمال جزيرة جديد سموها أرض كروكر. وبينما كانت الفوائد كثيرة مهمة من السعي في ارتياد الأرجاء القطبية خلال السنين الأخيرة في شمالي أميركا كان ما بذل من الجهاد في شمالي آسيا للوقوف على أسرار المحيط المتجمد غير مثمرة أدنى ثمرة. وقد هلك سنة 1903 البارون تول الروسي الألماني ولم يبقِ أثراً وهو يحاول بلوغ أرض سانيكوف والغالب أنه هلك وأتباعه جوعاً. ولقد حصرت دائرة الأرجاء القطبية التي لا تزال غير معروفة في دائرة ضيقة في غضون

السنين الأخيرة بفضل الرحالتين نانسن وبري خاصة. وما برح القطب يغر كثيرين من أرباب الرحلات فقد مضت على الرحالة أندره الذي سافر يوم 11 يوليو 1897 من سبيتزبرغ في منطاده إحدى عشر سنة ولم يأت خبر عنه وربما لم يتعد أكثر من الدرجة الثالثة والثمانين من العرض وهو الذي ساق نفسه إلى الحتف هذا لم نقل إلى أن إقدامه على ما أقدم عليه كان من الجنون المطبق إن لم يكن الانتحار بعينه. وليس هو وحده الذي حاول أن يقطع ثلوج القطب في منطاد تخلصاً من ركوب البحر والمركبات التي لا عجل لها فقد حاول ذلك غيره كالأميركي ولمان الذي أخفق في المرة الأولى ويحاول في الثانية بلوغ النجاح. والآمال معقودة الآن بأن النجاح ينال بري وامندسون وتكتب أسماؤهم في سجل أعظم العاملين في خدمة العلم باكتشاف القطب وكلاهما الآن يُعد بعثة إلى تلك الأرجاء المتجمدة وسيسافر الأول هذه السفرة للمرة السابعة على باخرته ليبحث عن طريق ليبزغ القطب والناس يؤملون له الخير لأنه إبان رحلاته السابقة عن حذر عظيم وهمة عالية وكانت رحلاته مفيدة فكاد يبلغ الدرجة التي يرمي إليها لو لم يداهمه الشتاء وتيارات الثلوج وإذا أسعده الحظ وبدونه لا يستطيع أكبر الرجال عقلاً أن يعمل عملاً يذكر ـ فإن سفرته ستكون بعد سنة مسفرة عن افتتاح القطب وإذا خانه الحظ أيضاً في رحلته هذه فإن رصيفه أمندسون النروجي الذي يعمل لهذا القصد منفرداً سيجني ثمار هذا الظفر أول الجانين من الناس. وللأميركان والنروجيين في الثلاثين سنة الأخيرة يد في السعي لاكتشاف القطب. ويرجى أن يكون لامندسون ثمرة النجاح بعد بري إذا أخفق هذا. وبعثتا هذين الرجلين هما أهم البعثات الأخيرة وأغناها وأنفعها ويؤمل أن تنحل بهما هذه المشكلة التي شغلت بال الناس أعواماً وقروناً.

التأليف في الملوك

التأليف في الملوك كان لكثير من الملوك رغبة في العلم لإشراف نفوسهم الملكية على علو قدره وجلالة أمره فمنهم من كان يرغب فيه ويقرب أهله ويسعى في نشره. ومنهم من اشتغل به وسعى في تحصيله حتى فاز بحظ وافر منه. ومنهم من زاد على ذلك فألف فيما عُني به من العلوم غير أن المؤلفين فيهم قليلون لمنع شواغل تدبير المملكة والقيام بأعباء أمورها في أكثر الأوقات من التفرغ للتأليف. ومن الملوك الذي ألفوا عمر بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن. وفي الكثير من خزائن الكتب شيءٌ من مؤلفاته وأغرب مؤلفاته كتاب عثرنا عليه في هذه المدة ألفه في صنع الإصطرلاب بعد أن زاول عمله مدة وأتقنه وقد أجاد في هذا الكتاب إجادة وافرة بحيث قرب هذه الصناعة على الراغبين فيها ولم يستعمل الإيهام الموجب للإيهام. فأحببنا أن نورد منه ما ذكره في المقدمة لنقف على أسلوب الكتاب والغرض منه قال: بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون والثقة يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عمر بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول غفر الله له الحمد لله الذي لا يبلغ أداء حمده الحامدون وشكراً على نعمه فوق ما شكره الشاكرون فهو الواحد الذي لا تحيط به الظنون جعل النجوم دلائل يهتدي بها المهتدون فقال سبحانه وعلامات وبالنجم هم يهتدون. أحمده حمد مقصر واستهديه إلى طريق الصواب واستنصر وصلواته على محمد النبي الكريم الذي أثنى عليه في كتابه العزيز الحكيم فقال مادحاً له: وإنك لعلى خلق عظيم. وعلى آله المنتخبين صلوة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين ورضي الله عن الصحابة أجمعين. وبعد فلما كان الاصطرلاب أشرف آلة وضعت في علم الفلك وطريقه أوضح طريق بين في هذا الفن سُلك أحببت أن أجمع في علمه رسالة موضحة قريبة المسلك بطريقة مصححة فما زلت أداخل أصحاب هذا الفن واستحلب درَّهم بالبحث المستحسن لنعرف من منهم بورد من فنونه ويُبين ويصوّر خلاف غيره ويبرهن حتى آيست النفس بما مثلوه وعرفت نقل الأصل الذي أصلوه فتشجعت بأن كررت التعلم والتحرير والتصوير لأشكاله الموضوعة والتقدير إلى أن حسنت ما لم يحسنوا من آلته وعرفت ما يختار من عمله وصناعته ولم يذكروا في علمهم بالتحقيق سوى المقنطرات والبروج والكواكب بالتدقيق واستكفوا فيا عداها بحسن الروية من غير تقدير فلم أزل أفكر فيما أهملوه حتى وضعت له المقادير تابعاً

لما رسمه الأولون من الحساب مكتسباً ما أمكنني منه الاكتساب فوضعت على غاية ما بلغ الاجتهاد إليه ووقع عن التخير الاختيار عليه ما يغني الصانع في تيسير المعرفة ويكفيه عن كثير من الكتب المصنفة وعليه في وضع المقنطرات والكواكب المعول والعمدة على وضعها وتحريرها على المصنف الأول مع معرفتي بفك حروفها وإعدادها وإبعاد مراكزها وأنصاف أقطارها ولست بالمدعي في معرفة هذه الصناعة ولا ممن يتخذها حرفة وبضاعة بل اجتهدت فيها والتمست واحتذيت من ضوء سناها واقتبست فألفت هذه الرسالة لتكون للصانع أوضح دلالة وسميتها معين الطلاب على عمل الاصطرلاب فمن وقف عليها فليتسامح عما فرط وليكن أو من لعذر بسط فإن الحليم إذا رأى حسناً مخفياً أظهره وإذا رأى قبيحاً منشوراً ستره ونسأل الله الهداية في الصلاح والبلوغ إلى أفضل المقاصد والنجاح أنه العظيم الحنان والكريم المنان. فاعلم أن الاصطرلاب يعمل بمجالات فمنها ما يكون تاماً وعدد مقنطراته تسعون منها ما يكون ثنائيا وعدد مقنطراته خمسة وأربعون ومنها ما يكون ثلثاً وعدد مقنطراتها ثلثون ومنها ما يكوون خمساً وعدد مقنطراته ثمانية عشر ومنها ما يكون سدساً وعدد مقنطراته خمسة عشر ومنها ما يعمل عشراً لصغره وضيق مداراته وعدد مقنطراته عشرة فالتام هو الذي يكون درج بروجه ومقنطراته مقسومة على درجة درجة والنصف ما كان بروجه ومقنطراته مقسومة على درجتين ودرجتين والثلث ما كان درج بروجه ومقنطراته مقسومة على ثلاثة ثلاثة والخمس ما كان درج مقنطراته وبرجه مقسومة على خمسة خمسة والسدس ما كان عشرة عشرة وأما الرسوم التي لا يقع فيها اختلاف في جميع الاصطرلابات فهي دوائر المدارات أعنى مدار السرطان والحمل والجدي وخط نصف النهار وخط الاستواء فإن هذه الخطوط كلها في جميع الاصطرلابات لا يقع فيها خلاف التبة وإنما تختلف دوائر المقنطرات وهذا الذي اتصل إلى علمنا من أعمال الإسطرلابات وأعمال التارجهار فإنه لا يمتنع أن يكون قد زيد على هذه الأقسام التي ذكرناها ولم نطلع عليه فليس لنا أن نقطع بأن هذه الأقسام التي ذكرناها هي التي تعمل فقط فعلى هذا ما كان صغيراً وقسم على درجة أو درجتين أو ثلاث تزاحمت خطوط المقنطرات لاسيما عند المركز فلا جل ما صغر منها على عشر عشر وأصحها ما كانت مقنطراته مقسومة على

درجة درجة ليتحقق منها الصحة لأن ما كبر منها وكان فتحه ذراعاً بالحديد خلص نصف درجة يا تقسم درجته الواحدة بنصفين لسعة ما بينها وبين المقنطرة الثانية وما كان فتح ذراعين جديد خلص عشر دقائق أي تقسم درجته الواحدة بستة أقسام كل قسم منها عشر دقائق وما كان منه أربع أذرع أو خمسة بالحديد خلص دقيقة أي تقسم الدرجة الواحدة بسنين قسماً كل قسم منها دقيقة لأن كل ما اتسعت الآلة صح تقسيمها ويؤدي إلى الصواب لإحاطة النظر وإحاطة الصانع بالصنعة والتمكن من قسمة الدقائق بين الدرجات لكبر الآلة فيؤدي ذلك إلى الضبط وإلى الصحة فقد قيل أن الحاكم من خلفاء المصريين عمل ذوات الحلق وهي تسع حلقات الحلقة يدخل فيها الفارس راكباً برمحه فيكون وزن الحلقة الواحدة نفسها ألفي رطل وكانت جوانبها محزوزة مربعة على زوايا قائمة حتى إذا ركب بعضها في بعض كان كصفيحة واحدة فيرصد بها وبها حققوا طول مصر وعرضها ثم أن التتر لما طلبوا الرصد صنعوا دائرة بناءٍ طول حلقة سعتها عشرون ذراعاً فاستخرجوا ربع دائرة من محيطها ثم بنوا جداراً طوله مائة ذراع ونصبه مائة ذراع مربع وضعوا عليه ربع دائرة طول قائمها على زوايا قائمة ستون ذراعاً وطول القطر الآخر الممتد على الأرض مثل ذلك والقوس تسعون درجة كل درجة ذراع قوسية أي قطعة من قوس هذا الربع ودرجوه درجاً كدرج القطر من أسفله إلى أعلاه ليعملوا أشغالهم لأخذ الارتفاع وأنفقوا على ذلك أموالاً طائلة وقيل أن هلاوون أخذ آلة الحمالين وجعلها على رأسه ليرد عنه ألم الحجر وحمل حجراً كبيراً فلم يبق أحد إلا وحمل وبهذه الآلة الارتفاعية حصل الارتفاع بدقائقه وربما بثوانيه فقوس كل درجة هي ذراع فتمكنوا بهذه الآلة واستخرجوا بها أعمال الرصد وطوله وما ارادوا من باقي الأعمال. وأوردنا هذه الحكاية ليعلم منها فائدة كل ما كبر من الاصطرلابات وزيادتها فائدة في التحقيق ومع ذلك إذا كان الاصطرلاب سعته كما قلنا في فتح ذراعين وما فوقه إلى خمسة فلا يمسك باليد وقت أخذ الارتفاع لكبره هو عظمه بل يرفعه شخص بيديه وآخر يأخذ به الارتفاع فإن عظم عُلق على سيبا بقدر ما يتمكن منه الناظر وهو معلق بالسيبا فعند أخذ الارتفاع يرفع الناظر العضادة ويخفضها حتى يصبح له أحد ارتفاعه من الشمس أو الكواكب وأول ما يبتدئ به الراسم من العمل يخط خطاً بأي قدر شاء ثم يقسمه بتسعين قسماً أجزاءً صحيحة محكمة بقدر الجهد والطاقة فإن صحة

العمل موقوفة على قسمة الخط المذكور فمتى كان في القسمة خلل لم تصح بها الأعمال والخط هو المسطرة المقسومة وهذا مثالها (وهنا أورد صورتها) وإن كانت هذه المسطرة بخلاف المسطرة الستينية التي ذكرها الفرغاني في كتابه فإن تلك مقسومة بستين قسماً فإذا أردت عمل هذه المسطرة الستينية التي يقاس منها أعمال الاصطرلاب فإنك تبدأ أولاً بعمل مسطرة صحيحة من خشب صلب. إلى أن قال: فإذا أردت عمل الاصطرلاب كبيراً كان أو صغيراً على أي قدر شئت عمله من الأقدار فإنما يكون كبره وصغره من حساب هذه المسطرة لأنه متى أراد الاصطرلاب كبيراً كبر في طول المسطرة ليتباعد ما بين أقسامها ومتى أراد الاصطرلاب صغيراً صغر المسطرة ليتقارب ما بين أقسامها لأن فتح نصف قطر دائرة الاصطرالاب بقدر الثلث من طول المسطرة المقسومة بتسعين جزءاً ويكون قسمة هذه المسطرة إما في مسطرة من خشب صلب كالأبنوس والعاج أو ما كان في صلابتهما من الخشب والعاج وماشا كله في الصلابة واللون والعاج أجود من الأبنوس لكونه أسود لا تتبين فيه أجزاء المسطرة وإن كانت من نحاس كانت أجود من الجميع إذ المراد بالصلابة أن لا ينزل شيءٌ من رأسي البيكار في الخشب فيخل العمل فإذا أراد قسمة الصفائح فإنه يبدأ أولاً بفتح البيكار بقدر ما يغلب على ظنه أنه نصف قطر الصفيحة أهو في آخر الكتاب شهاداتان من أهل هذه الصناعة تشهدان له بإتقانها والبراعة فيها وهذه الصورة الأولى منها: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي در مقادير الكواكب وظهر من مكنونات الغيب أسرار العجائب وسير النيرين كتهادي الكواعب وأجرى المتحيرات كجري القواضب وقدر بروجها بين السابق واللاحق والطالع والغارب وجعل النجوم السبعة متحيرة بالقواعد والمراتب فنسبة الشمس كالسلطان والقمر كولي العهد والصاحب وزحل كالقهرمان والمشتري كالحاكم والمريخ كصاحب الجيوش والكتائب والزهرة كالخادم والمطرب وعطارد كالوزير والكاتب فسبحان خالق هذه المحاسن والغرائب ووصفها في كتابه المنزل على سيد الأنباء والشهداء والأباعد والأقارب فقال عز وجل: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الكرام وأصحابه الأطايب وبعد فأقول وأنا أقل عباد الله وأصغرهم إبراهيم بن ممدود الحاسب الملكي

المظفري الأشرفي: إني لما شاهدت الاصطرلابين قسمة السدس من عمل مولانا الملك الأشرف عمر بن مولان ومالك رقنا السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول خلد الله ملكهما وطول عمره من سنة 689 وصحة جميع ما عمله بهما من صحة الدوائر والمقنطرات والمراكز وأنصاف الأقطار والكواكب والحجرة والصفائح سبكاً وضرباً قسمة ووضعاً وصحة قسمة دائرة البروج وصحة العضايد وعيار المجموع فيهما ولم أجد فيهما مأخذاً إلا أن كان اليسير من جهة الصانع الخراط ومولانا خلد الله ملكه عارف به وبإصلاحه فشهدت له بالفضيلة وبتجويده في صناعة الاصطرلاب ووضعت له خطي هذا شاهداً على صحة ذلك وأجزت له أن يعمل ما شاء من ذلك أي من الاصطرلابات بم استقريته من إتقانه ومعرفته وذكائه وخبرته واختباري له في ذلك وامتحاني إياه وكذلك في اصطرلابين عملهما في سنة 689 أحدهما أصغر من الآخر قسمة السدس والأكبر فيهما قسمة الثلث أجزته وشهدت له بالصحة في الأربع اصطرلابات المذكورة وكذلك أجزته في عمله لساعات مستوية يستخرجها بترجهار يعمله علماً وعملاً وأن يعمل منها ما شاءَ لوثوقي بعلمه وعمله فيما استقريته من أعماله في جميع ما ذكرته عنه نفعه الله بما استفاده ونفعنا بما أفدناه وكتب أقل العبيد المظفري الأشرفي إبراهيم بن ممدود الجلاد الموصلي الحاسب في شهور سنة 690 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وشرف وعظم ثم أقول وأنا أقل عباد الله إبراهيم الحاسب الملكي المظفري الأشرفي أن مولانا الملك الأشرف بن مولانا السلطان الأعظم الملك المظفر خلد الله ملكهما جدد اصطرلاباً قسمة السدس سنة 691 هجرية صحيحة وتحرير بالغ أعظم مما قبله مما استدللت على زيادة فضائله فالله تعالى يزيده من فضله وينور باطنه بعلمه بمنه وكرمه وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم. وأقول أيضاً أن مولانا الملك خلد الله ملكه أوقفني على سموت باصطرلاب قسمه الثلث سنة 692 والسموت لعشرات فاستقريت الكثير منها أعني من السموت التي عملها بالآلات الصحيحة وبالحساب فوجدتها في غاية الصحة والتناسب مما استدللت بصحة يده وجودة ذهنه وتمكنه في العمل فحكمت بصحة ما يعمله من السموت وأجزت له أن يعمل بعد ذلك

ما شاء من الاصطرلابات المسمتة وكذلك مما يعمله من الساعات الزمانية والمستوية وخطى الفجر والشفق بأي اصطرلاب شاء وذلك من جمادى الآخرة سنة 692 والحمد لله حق حمده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه كتب ذلك أقل العبيد المظفري الأشرفي إبراهيم الحاسب في التاريخ المذكور. وهذه صورة الشهادة الثانية مهما: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعى آله وصحبه وسلم تسليما وكذلك يقول العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن علي الفهري المظفري أني شاهدت الاصطرلابات التي أتقن إحكامها ووضعها مولانا ومالكنا السيد الأجل العالم الأنبل الملك الأشرف ممهد الدنيا والدين عمر بن مولانا ومالكنا السلطان الأجل السيد الأوحد العالم العادل الملك المظفر شمس الدنيا والدين يوسف بن عمر بن رسول خلد الله مملكتهما فمنها اثنان قسمه السدس عملا في سنة تسعين وستمائة واثنان أحدهما قسمة السدس والآخر أكبر منه قسمة الثلث عملا في سنة تسع وثمانين وستمائة واصطرلابان قسمه السدس أيضاً عملا في سنة إحدى وتسعين وستمائة وشاهدت جميع ما عمل بها من صحة الدوائر والمقنطرات والمراكز وأنصاف الأقطار والقطرين المتقاطعين على ظهورها وامتحنت حروف العضائد المستعملة واعتبرت كل واحد من ربعي الارتفاع فيها وأدراجها من الواحد إلى التسعين ومربعات الظل وأصابعها الإثني عشر وإقدام الظل واعتبرت أرباع الحجرة في جميعها وأدراجها الثلاث مائة وستين وخط وسط اسماء مع وتد الأرض وخط المشرق والمغرب وانتهاء أطراف كل واحد من هذين القطرين إلى محاذاة أرباع الحجرة ودوائر المقنطرات ودائرتي مداري المنقلبين ودائرة مدار أول الحمل وأول الميزان وخط العصر وخط الفجر ومغيب الشفق والساعات الزمانية وفي الاصطرلاب السداسي الصغير المعمول في سنة تسع وثمانين وستمائة خطوط للساعات المستوية متقاطعة مع خطوط الزمانية ثم بعد أيام قريبة شاهدت الاصطرلاب قسمه الثلث المعمول في سنة تسع وثمانين وستمائة وقد سمت صفائحه الثلث لست عروض وهي عرض يج. . وعرض يج. وعرض يد هـ وعرض يد ل وعرض. . وعرض كاه فوجدت سموتها متقنة العمل صحيحة محققة قسمتها بعشر قسي عشر قسي من قسي السموت ووجدت الجميع من الاصطرلابات المذكورة بقسمتها وتاريخها كاملة الجودة والتحقيق والصحة وأجزتُ له صناعة

الاصطرلاب ووضعها سبكاً وضرباً ورسماً مما استقريته من إتقانه ومعرفته وذكائه وفطنته واختباري لأعماله التي أحكمها وامتحاني إياها ثم أجزي له أن يعمل ما شاء من الساعات المستوية يستخرجها بطرجهار بحكمه علماً وتحقيقاً وشاهدت جهازين من إحكامه وعمله أحدهما فضة والثاني نحاس فوجدتهما في غاية التحقيق فليعمل ما شاء منها فقد وثقت بما استقريته منه في جميع ما ذكرته في خطي هذا ووثقت بثقوب معرفته وفطنته نفعه الله بالعلم والعمل آمين وذلك بتاريخ اليوم الثاني من رجب الأصب سنة اثنتين وتسعين وستمائة أحسن الله خاتمتها وصلى الله على سيدا محمد وعلى آله أجمعين. وفي الكتاب تساهل كثير في المواضع واللغة والإعراب وهو مما يغمض عنه في مثل هذه الكتب لاسيما إن كان من طبقة الملوك الذين لا يساعدهم الوقت على التنقيح والمهم في مثل هذا هو تعليم الصناعة بأي عبارة كانت.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة طبع أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخوه هذا الكتاب للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 وجلال الدين هذا من المكثرين من التأليف وبعضها جيد ممتع. أما هذا الكتاب فهو ظاهر من اسمه جمع فيه تراجم مختصرة للنحاة في كل عصر مستنداً فيه على ما انتهى إليه من كتب طبقاتهم على اختلاف العصور وقد تبين من الكتب التي سردها في المقدمة أن معظم كتب التاريخ المفقودة الآن كانت في عصره موجود بكثرة فاستدللنا على أن الزهد في الفن كثر بعد التسعمائة. والأربعة القرون الأخيرة هي عصور الظلمات لا محالة. وقد بدأه بالمحمديين ثم ذكر الأحمديين ثم ساق أسماء الرجال على حروف المعجم ووقع في 461 صفحة بالقطع الكبير وهو يطلب من مكتبه محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي الشهير في الحلوجي باثني عشر قرشاً ورقاً وخمسة عشر قرشاً مجلداً وهو من الكتب التي يجدر بكل طالب نحو أن يقتنيه ليعرف رجال فنه ويطلع على أحوالهم ونكاتهم وآدابهم. وقد اعتمد الطالبون في طبع هذا الكتاب على نسخة دار الكتب المصرية وصححوها بقدر الإمكان على ما ظهروا به من النسخ وأجادوا انتقاء حروف طبعها فشكراً لهم. نهضة الأمة وحياتها هي مقالات كانت دبجتها براعة الشيخ طنطاوي جوهري المشهور بكتبه العصرية ونشرها تباعاً في جريدة اللواء الغراء فحازت استحسان القراء وهي في موضوعات شتى اجتماعية وعلمية. وقد قدم له صالح بك حمدي حماد من أرباب الأقلام في هذه العاصمة مقدمة ذكر فيها ما حواه الكتاب فقال أنه ضم ثلاثاً وخمسين رسالة أو بحثاً جمعت فأوعت مما يهمنا معاشر المسلمين في جميع أقطار المعمور معرفته والإطلاع عليه فصور رجال الأمة أجمل تصوير وارشد الحكام أيما إرشاد ووصف الأمم المظلومة أحسن وصف وقال في المدنية وعلومها ما شاء أن يصوغ قلمه البليغ وجال جولة في علوم الإسلام والأزهر ورجال الدين وأفاض في شرح المجالس النيابية ببيان لم ينسج على منواله وذكر تأليف الكتب وتصنيف الأسفار وبيان التأليف عند الأمم ويكف يؤلف التاريخ ثم الشعر ودرجاته وذكر نظام الجندية

والقرعة العسكرية إلى غير ذلك من الأفكار العالية التي تدل على علو كعبه في البيان والتبيين وقد وقع هذه السفر في 284 صفحة ويطلب من إدارة اللواء والمكاتب الشهيرة فنثني على مؤلفه وناشره وطابعه بما هم أهله ونشكرهم على هذه الهدية النفيسة. تاريخ الحضارة للمسيو شارل سنيوبوس أحد أساتذة كلية السوربون في باريز كتاب في ثلاث مجلدات سلسل فيه تاريخ الحضارة فالأول في الحضارة عند الأمم القديمة والثاني في الحضارة في القرون الوسطى والعصور الحديثة والثالث في الحضارة العصرية. وقد عرب صاحب هذه المجلة الجزء الأول منه الآن وبعد أن نشر في المقتبس تباعاً أفردناه في كتاب على حدة وهذا المجلد فيه ذكر الحضارة عند أمم الشرق القديمة من المصريين والكلدانيين والأشوريين والبابليين واليهود والفينيقيين والفرس وأمم الغرب القديمة وهم اليونان والرومان وقد توسع المؤلف كثيراً في الكلام على هاتين الأمتين حتى لم يبق في النفس شيءٌ من أمرهما كل ذلك على أسلوب لطيف وتنسيق في الغاية من الجودة وقد التزمنا فيه التعريب بالحرف مخافة أن يضيع شيءٌ من معانيه وإن كان هذا النوع من الترجمة لا يُحمد في الأغلب. وهو في زهاء 220 صفحة من صفحات المقتبس ويطلب في القاهرة بستة قروش أميرية من مكتبة المؤيد بشارع محمد علي بالقاهرة ومكتبة هندية بالموسكي ومكتبة البابي الحنبي. ومن دمشق من مكتبة محمد أفندي هاشم الكتبي. الدين الإسلامي والتمدن كراسة ألفها باللغة الإفرنسية السيد أبو بكر عبد السلام بن شعيب من تلمسان أتى فيها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تثبت أن الإسلام موافق كل الموافقة لروح التمدن الحديث فضلاً عن منافاته للمدنية كما يدعي بعضهم في أوروبا وقد أورد بما أورده خلاصة الشرع الإسلامي رداً على من يصوّرونه في صورة تغاير حقيقته وقيل أن فرنسا إذا أحبت أن لا يعود المسلمون من أهل الجزائر إلى ما كان عليهم أجدادهم العرب من الهمجية قبل الإسلام وجب عليها أن تضاعف عدد المدارس وتسهل على أبنائهم دخولها وتجعلهم بحيث يكونون على استعداد لإدراك مبادئ دينهم والتسامح رائدهم. وقد نشرت هذه الرسالة في المجلة الوطنية بباريز أولاً فنشكر لغيرة كاتبها وأدبه الغض وهي تطلب منه في تلمسان

إحدى ولايات الجزائر.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع آثار خوزستان إقليم خوزستان في فارس من الأقاليم التي رخصت حكومتها لفرنسا أن تأخذ منها جميع ما تعثر عليه من الآثار كما عقدت معها عقداً سنة 1900 يكون بموجبه لفرنسا حق استخراج العاديات من فارس كلها دون غيرها وقد حفر المسيو مورغان العالم الأثري في سوس عاصمة ذاك الإقليم فظفر بآثار مهمة حملها في ثمانين صندوقاً وراح يعرضها في متحف اللوفر بباريز وقد كتب عنها بعضهم في جريدة الآنال فصلاً إضافياً قائلاً أن الحفر ما زال في سوس قائماً على ساق وقدم منذ بضع سنين برئاسة هذا العالم الأثري وسوس هي المدينة الغريبة التي خربت مراث وأعيد بناؤها فأنشأ بالآجر المستخرج من أنقاض الأسوار في تلك المدينة قصراً حصيناً أشبه بقلعة ليكون في مأمن للقيام بمهمته وقد نجز بناءُ هذا الحصن وكانت هذه البعثة الأثرية من قبل عرضة لنهب الناهبين من سكان البوادي. واكتشف في الحفريات الحديثة بقايا المدينة الأولى التي كانت قبل المسيح بخمسة آلاف سنة واكتشفوا كمية من الخزف والأواني المنقوشة التي رسمت على مثال الصناعة اليونانية مما استدل منه على أن الصناعة الكلدانية أساس الصناعة اليونانية فإن ملوك خوزستان بعد أن خربوا بلاد الكلدان أخذوا إلى عاصمتهم سوس كل ما كان عند المغلوبين من الأعلاق والنفائس وزينوا به قصورهم. وأنك لتجد هذه الأعلاق المذكرة بتلك الحضارة في سوس أكثر مما تجد منها في بابل نفسها. وقد جمعت تلك البعثة ما طالت إليه يدها من الخزف المنقوش الذي كانت جعلت منه جدران قصر ملوك الإخمانيين ومتى جمعت كلها يكون منها صورة تامة يتأتى الوقوف بها على واجهات ذاك القصر وكيف كانت. قال ولقد دهشنا بما شاهدناه من تلك الأواني والأكواب والصحاف المنقوشة بالمشجر اللطيف وبصور الحيوانات التي جُعلت على نسق دلَّ على ذوق أكيد وذكاءٍ حقيقي وتحققنا أن هذا الخزف صنع بحذق يوازي حذق صناعنا في صنع الصيني وقد جعلوا منه أشكالاً كثيرة فمنه تماثيل دينية أو ألعاب للأولاد أو عجلات صغيرة أو غير ذلك من التحف والطرائف. وفي هذه المجموعة النفيسة تماثيل لمشاهير منها بعض رجال معروفين مثل تمثال الملك مونيشتوزو الذي أتى المسيو مورغان بقانونه الذي كتبه منذ أربعين قرناً قبل المسيح وقد

كتبت على التمثال كتابة تؤكد أن ملك سوس بعينه. الانتحار أثبت الأستاذ قيصر لومبروز الفيلسوف الطلياني أن الحب هو أول باعث على الانتحار وإذ أن الرجال في العادة أكثر إقداماً على الانتحار من النساء في الغالب فقد بلغ عدد المنتحرين في إيطاليا في سنة 1875 و77 و78 ـ 2516 مقابل 569 منتحرة وإن عدد المنتحرات بعوامل الحب هو من 70 إلى 75 في المئة. وعدد الرجال من 20 إلى 40 في المئة وكذلك الحال في فرنسا فإن عدد المنتحرين 17000 مقابل 6000 من النساء فينتحر بدواعي الغرام 28 في المئة من النساء وسبعة في المئة من الرجال فقط وبهذا صدق المثل الإفرنجي القائل (فتش عن المرأة) إشارة إلى أنها السبب في كل بلية. مساوئ الملح ثبت بالتجارب الكيماوية والفسيولوجية مؤخراً أن الملح المستعمل في المطابخ لأجل تحضير الأطعمة يأتي في بعض الأحوال بأضرار شبيهة بالتسمم. ويكفي أن الكلى لا تفرز الفضلات من كلور الصوديوم بكمية كافية وتبقى في الجسم فتحدث فيه اضطرابات. وكان الأطباء يصفون لمن يصاب بهذا التسمم الاقتصار على اللبن لأن فيه راحة للكلى ولا ينشأُ من تناوله أقل تأثير في إخراج الفضلات. فيقل بالتدريج معد الألبومين الذي يخرج في البول بواسطة استعمال اللبن ويزول التورم والاستسقاء. إلا أن الناس لا يروقهم تناول اللبن ويريدون إبدال غيره به ويسوغ لهم استعمال اللحوم والخبز والسكر والأرز والمعجنات على شرط أن لا يكون فيها ملح قبل الطبخ ولا بعده. وقد قال الدكتور فندال القائل بحذف الملح من الطعام أن أحدهم أصيب بانتفاخ في كعبه ثم سرى إلى ساقه فكان يألم كثيراً فوصف له استعمال الخبز واللحم والبطاطا والزبدة ولكن بدون ملح فأسرع شفاؤه أكثر من اللبن ولكن ما أضافوا إلى الطعام شيئاً من الملح عاود المرض المريض. فمن ثم يرى الطبيب المشار إليه أن يمتنع تماماً عن أخذ الملح في بعض الأمراض. الكنس رأت بعض المجلات العلمية أن خير واسطة لدفع مضار الغبار من الدخول عند كنس الشوارع من النوافذ والأبواب بل من السريان إلى أنوف المارة وأفواههم هو أن لا يكنس

الكناسون إلا بعد أن يرش الرشاشون وكذلك الحال في نفض البسط والأثاث فإن على من أراد أن لا يضر بصحة الناس أن لا ينفضها قبل أن يرشها بماءٍ لتصبح ندية وأن من الواجب على البلديات أن لا تغفل هذا الأمر الصحي. اللبن الحليب منذ تبين أن في بعض البقر جراثيم السل تنقل عدواها بواسطة لبنها أخذ الغربيون وهم أئمة في الوقاية يحترزون من أخذ الحليب من بقرة مريضة ويبالغون في التوقي إلا أن النفوس ما زالت على كثرة النظافة التي أصبحت طبيعية في الفلاحين وأهل المدن في الغرب غير مطمئنة في هذا السبيل فأنشأت مدينة روبيه في فرنسا محلاً لتربية البقر يعني فيه بصحتها ونظافتها عناية لا يكاد يصدقها العقل كما يعنى بصحة من يحلبونها ونظافة أجسامهم وأطرافهم. أجور الكتاب فرنسا من أكبر بلاد الحضارة كتاباً ولذلك قلت فيها أجورهم حتى لا تكاد تقوم بنفقات الطبقات الوسطى منهم أما في انكلترا فإن الكتاب قلائل وهم يعيشون في سعادة أكثر فقد ذادت أجورهم خمسين في المائة منذ خمس عشرة سنة. ونسب بعضهم ذلك لوجود نقابات للكتاب تنظر في مصلحتهم كما تنظر في مصلحة أرباب المطابع. ويقال أن تسعين في المئة من المسائل المادية في لندرا تفض بواسطة ست نقابات تمخضت هذا الغرض فتدفع المجلات ثمن القصة في الغالب من ثلاثة جنيهات إلى خمسة في كل ألف كلمة وممن يربحون كثيراً من كتاباتهم كبنغ الكاتب فإنه يأخذ شلناً عن كل كلمة تخطها يده ويأخذ كونان دويل ثلاثة فرنكات عن كل كلمة من سلسلة رواياته شارلوك هولمز. أما في هذا الشرق الأدنى فقد ارتق أجور الكتاب في السنتين الأخيرتين فابتدأت مصر تدفع للطبقة العالية من كتاب الجرائد رواتب متناسبة مع ثروة الصحف وحالة البلاد وتتبعها الأستانة الآن التي تنسج على منوال الصحف الأوروبية في محرريها ومؤازريها ومكاتيبها. غلاء المنازل ارتفعت أجور المنازل في جميع عواصم الأرض في هذا القرن الازدحام والاجتماع وقد نشرت نظارة الأشغال في باريز إحصاءً جاء فيه أن المنزل الذي كان يؤجر بثمانين فرنكاً

سنة 1810 أصبح يؤجر بمئة وعشرين سنة 1850 وبمائتين وعشرين سنة 1870 وبثلثمائة وعشرين سنة 1900 وبثلثمائة وخمسين سنة 1903 ومثلها قواعد الولايات وإن تكن بنسبة أقل. النساء والأطفال قررت فرنسا أن يمنع العاملات إذا كانت سنهن أقل من 14 من حلم رزم وزنها أكثر من خمسة كيلو غرامات والأولاد أن لا تتجاوز حمولتهم أكثر من عشرة كيلو غرامات. كما حظرت على الفتيان والفتيات أن لا يستعملن الدراجات الحمالة التي تسير بالبترول إلا إذا تجاوزن سن الثامنة عشرة. المواليد يولد في كل ألف امرأة تختلف أعمارهن من 25 إلى 50 في برلين 47 مولوداً من عائلة غنية و157 من عائلة فقيرة وفي باريز يولد في طبقة الأغنياء 37 مولوداً و108 أولاد في الطبقة الفقيرة ويولد في فيينا 71 مولوداً في كل بيت غني و200 في الألف في البيوت الفقيرة وفي لندرا 63 مولوداً غنياً في الألف و147 مولوداً فقيراً. الهواء حملت بعض الصحف الباريزية حملة صالحة على قلة الهواء الذي يتخلل الأحياء والشوارع وقالت أن الفراغ آخذ بالقلة مع الزمن وأن قلة الساحات العامة والحدائق هو الذي يكثر من الأمراض ولاسيما السلُّ وأنه ثبت أن الأحياء القليلة الساحات والفسحات كانت أكثر تعرضاً لهذا الداءِ الوبيل. وللندرا 1168 هكتاراً من الأرض البراح ما عدا إحدى عشرة حديقة في وسطها وفي باريز 214 هكتاراً من الفراغ ما عدا غابة بولونيا التي تحسب ضاحية فالواجب الإكثار من الحدائق لأن الهواء هو الصحة. التمثيل للأولاد رأى مارك توين الكاتب الأميركي المشهور أن تقام دار للتمثيل خاصة بالأطفال والشبان فلبي طلبه وأنشئوا دار تمثيل سموها مسرح تربية البنين والناشئةت ولا يمثل فيها إلا المولعون بفن التمثيل ويقتصرون في تمثيلهم على الروايات المدرسية وبذلك يمتنع كثير

من الشبان عن غشيان دور التمثيل التي لا تمثل فيها إلا الخلاعة والرقاعة. جيش المتمردات قال أحد كتاب الانكليز لا يزال عدد المتمردات من العاملات الانكليزيات في ازدياد ففي انكلترا زهاءُ خمسة ملايين ونصف من النساء العاملات وهو جيش أضخم من جيش كسركس ملك الفرس بل أكثر من سكان لندرا. فمنهن 867000 عاملة في معامل القطن و903000 في المصنوعات اليدوية و80500 في التجارة ونحو مئة ألف في الزراعة و55784 حاسبة و200000 معلمة و44000 موسيقية وممثلة و79000 مرضعة و292 طبيبة. ومن هؤلاء النساء ثلاثة ملايين لم يتزوجن وإن كن جاوزن العشرين من العمر ومنهم مليون رضين أن يبقين عانسات بعد بلوغهن الخامسة والثلاثين وعدد الأيامى منهن 124647 أيامى. العامل العظيم تبين أن أديسون مخترع الكهربائية. . ساعة أي أنه عمل ما يوازي عمل العامل الهم في مئة سنة بيد أن المرء لا يعجب من عظمة أعمال كبار الرجال بقدر ما يعجب من مقدرتهم على معاناة العمل. مطاعم الشعب أي امرئٍ فيه ذرة من الإنسانية يمر بجماعة من العملة وقت الظهر هو يتغذون ولا تأخذه الشفقة عليهم ويتأثر لجور هذه المجتمعات في قوانينها. تعطي الغني حتى تتخمه وتمنع الفقير حتى تميته. ولكن ابن هذه البلاد جبل على القناعة من طبعه إذا حاز الخبز القفار عده نعمة وإن تيسر له أن يلته بشيء من مرق المخلل أو يجمع معه الزيتون أو البصل أو الفجل اغتبط وعد ذلك سعادة. واليوم الذي يتناول فيه اللحم والأرز والبقول والفول هو يوم عيده وهنائه. بيد أن ابن الغرب ليس كابن الشرق في هذه الحال وذلك لأن مناخ الغرب يقتضي من جيد الأطعمة ما يقدر معه العامل أن يقاوم هواءَ بلاده ويتحمل مشاقها ولاسيما عملة المعامل. وهناك جمعيات وأفراد كثيرون ممن أسبغ الله عليهم نعمه يفكرون للبائس الفقير أكثر مما يفكر لنفسه ويأسفون لحرمانه فيسعون لتنعيمه حتى يساوي أهل السعة في بعض ما يجب

لقوام جسمه من المطعم والمسكن لتستفيد بلاده منه إذا جادت صحته وسلمت آدابه. هناك من يتأثر المحسن إذا رأى أولاداً يأكلون قليلاً لفقرهم ويطعمون أردأ الأطعمة ويشفق الفسيولوجي على الفتيات العاملات لقلة ما يدخل معدهن من الطعام المغذي ويهتم الأخلاقي إذا رأى ابنة تهيم في الشوارع على وجهها لتملأ بطنها. ولذلك قام فيهم أمثال الأميرة دي غال (الملكة فيكتوريا) في لندره ومرغريتا مورجانستين في برلين وروتشيلد في باريز وغيرهم أو غيرهن في عواصم الغرب وقواعده حيث تصعب المعيشة لازدحام أقدام السكان. ولم يرَ القوم هناك أحسن من إنشاءِ مطاعم الشعب على النحو الذي أسسه جماعة من محسني اليونان في الإسكندرية يأكل كل فيها العامل أو العاملة هنيئاً مريئاً لقاءَ دريهمات تمكنه حالته من أدائها كل يوم. وكانت سويسرا هي السابقة إلى إنشاء أمثال هذه المطاعم والاستكثار منها وبعضها مما أنشأه النساء. وكم للنساء في الغرب من يد في الخبرات كما لهن أيد في غيرها. رأى أصحاب المعامل هناك أن مصلحتهم تقضي عليهم بأن يتغذى عملتهم تغذية جيدة فأنشئوا لهم مطاعم يبيعونهم فيها جيد الطعام بثمن بخس وذلك لأن هذه المطاعم لا يقيد من أربابها ربحاً كثيراً بل يطلبون أن تقوم بنفقاتها فقط وتسر عملتهم وتقتصد لهم من أوقاتهم ومالهم وتنفعهم في صحتهم وتدفع عادية الأمراض عنهم. وقد أسست في باريز مدرسة عالية أشبه بكلية للشعب وفي جوارها مطاعم للتلاميذ يتناولون طعاماً جيداً بثمن بخس كما يتعلمون مجاناً. وزاد عدد هذه المطاعم في أوروبا في العهد الأخير ولاسيما في انكلترا والسويد والنروج وسويسرا وألمانيا وفرنسا بسبب كثرة المدارس التي يتعلم فيها الفتيات فن الطبخ وتدبير المنزل فيعانين صنع ألوان الطعام ليتعلمن بالعمل وكل ما زاد منه ترسله إدارات المدارس إلى مطاعم أنشأتها في الجوار لتبتاعها العملة والعاملات ولاسيما العاملات بثمن قليل. ولا تتوخى معظم تلك الشركات والجمعيات الربح من تأسيس مطاعم الشعب وقد رأت بعضها أن تحدد القدر المقتضي لرأس المال من الأرباح وما زاد عنه وهو قليل أيضاً يستعين به على إنشاء مطاعم أخرى في أحياء أخرى أو مدن أخرى. وكانت انكلترا بدأت

بإنشاء هذه المطاعم على عهد الملكة فيكتوريا أميرة دي غال قبل توليها عرش أجدادها ففتحت هي وزوجها المطعم بيدها وأكلت منه وجبة كلفتها أربعة بني ونصفاً (45 سنتيماً) ثم كثرت المطاعم على هذا النحو في انكلترا وأكثرها لا يكلف زيادة عن نصف فرنك كل وجبة تحتوي على بقول ولحوم وجزءٍ من لبن. وفي ألمانيا جمعيات كثيرة من النساء أنشأت في أمهات المدن الألمان ولاسيما الصناعية مطاعم كثيرة تكلف الوجبة فيها أربعين سنتيماً والطاهيات والخادمات هناك من النساء. وقد أنشئ فيها محال لبيع اللبن والشاي والزبدة والقهوة بأثمان رخيصة لتقاوم أعمال المحال التي تبيع المسكرات. وتفردت ألمانيا وحدها بإنشاء مطاعم للمرضى الناقهين تقدم أطيب الأطعمة بحسب وصية الطبيب بأثمان لا تزيد الوجبة منها على ستين سنتيماً. والفضل في ابتكارها أولاً لمعمر كروب المشهور ثم عمت هذه الطريقة معظم أقطار ألمانيا. وللنساء السويسريات يد طولى في إنشاء مطاعم للشعب. ومن جملة الفنادق التي أنشأتها فنادق ينام فيها المرء ويأكل ويشرب ولا يدفع أكثر من ثلاثة فرنكات ونصف وترى فيها النظافة على أتم ما يمكن أن يكون والمواد جيدة ولا تجد في معظم هذه المطاعم أثراً للمشروبات الروحية وفي بعضها محال للمطالعة والتسلية المشروعة. وقد نجحت مطاعم الشعب في ولايات فرنسا أكثر من نجاحها في باريز لغلاء الأجور فيها وارتفاع أسعار مواد الأجور وثبت بالاستقراء للباحثين أنه لا يتأتي إطعام شاب في مطعم طعاماً كافياً بأقل من فرنك و15 سنتيماً إلى فرنك وربع. ويرى بعض الاجتماعيون أن مطاعم الشعب يجب أن لا تحصر عملها في إطعام الطعام الجيد للفقراء ممن ينتابونها بل أن تعلمهم وتربيهم وأن لا يكتفى فهيا فقط بحظر بيع المشروبات الروحية بل أن يستعاض عنها بالأشربة والحواء المحللة الصحية ما ينسى معها الذين اعتادوا تناول الكحول أن لا يعاودوا احتساءها. والسكر أحسن مولد للحرارة في الجسم ومعين على الهضم ولذلك رأت ألمانيا أن تدفع كل يوم ستين غراماً من السكر لكل جندي يتناوله مع الماء والقهوة والشاي. وأن البلاد التي لا يطيب ماؤها حريٌّ بها أن تغلي الماء على النار في الأوقات التي إلا تنتفع بها وتمزجه بقشر البرتقال أو الأقحوان فإذا جاء المستطعمون يتناولون منه فيجمعون فيه سكراً أو يكرعونه صرفاً وهو يغنيهم عن كل

شراب وينشط أجسامهم. وظهر من فوائد مطاعم الشعب أن الأمراض كانت تقل من يطعمون فيها لأنهم يكرهون على غسل أيديهم قبل الجلوس إلى الموائد. ومعلوم أن طريق الفم هو الواسطة العظمى في العدوى من الأمراض ولاسيما الهواءُ الأصفر فكان من هذه المطاعم أن علمت المختلفين إليها أن يطهروا أيديهم طوعاً أو كرهاً. هكذا يعمل الغربيون وعلى هذه السنة جرى بعض النزالة اليونانية في الإسكندرية منذ أشهر ففتحوا مطاعم لأمتهم يصرف فيها القليل وينتفع فيها بالجزيل. فهل الأفراد في أمتنا أن ينهضوا بدافع الشفقة على مثال الأمم الناهضة فيؤسسون مطاعم للبائسين ولاسيما في العواصم ومدن الأقاليم الكبرى حيث الغلاء ضارب بجرانه بما يعد معه غلاءُ أكبر مدينة في أوروبا رخصاً وسعة. آداب الجرائد كتب الدكتور رنيول في مجلة مستندات الترقي مقالة في الجرائد السياسية وآدابها قال فيها وهو يقصد في الأكثر صحف فرنسا: إن المرء يقع اختياره في الغالب على مطالعة جريدة من الجرائد تطلعه على الشؤون السياسية والحوادث المنوعة والعلوم والآداب بل على كل مطلب من المطالب اللازمة ولذلك كانت الجرائد هي المهذبة العظمى للأمة إلا أنها تستعمل مالها من التأثير في الشر أحياناً فمن جرائدنا من جعلت همها الوحيد لغت الأنظار إلى مطالعتها فهي تبذل في هذا السبيل كل شيءٍ فتدعو من أجل ذلك أشرف العواطف وتقلبها إلى شهوات ضارة فتجعل الوطني مهووساً والمؤمن متطرفاً والمتسامح مبتدعاً والمنتخب المتعقل سياسياً ناقصاً وتوقد النيران التباغض بين الأجناس والطبقات والأديان والآراء وبفضل الجرائد تنقسم الأمة إلى شطرين متعاديين يوشك أن يحمل أحدهما على الآخر في المسائل العادية كإعادة النظر في إحدى القضايا. هذه الجرائد تعظم الحوادث الساذجة لتستكثر من القراء. أن دعت إلى الاجتماع لسباق الخيل تقلب علم الفروسية ظهراً إلى بطن وإن أحبت عقد مؤتمر من التجار تضاعف ثروة الأمة عشرة أضعاف ما هي عليه وأن اقترحت الاحتفال بسباق السيارات تزعم أنها أحيت هذه الصناعة. نعم هي تدعي أيضاً أنها تظهر المحكوم عليهم من الأبرياء وتشهر الصناعات السامة وتشرف على المطاعم المغشوشة.

للاستكثار من القراء تقيم الجرائد مسابقات سخيفة فهي تقترح عدَّ حبات الدخن الموجودة في زجاجة وأن تحزر الكلمات المحذوفة من رفرف (قصة في أسفل الجريدة) تافه وأن يعثر على كنز مخبوء في إحدى المتنزهات العامة وذلك بأن تعلن بأنها تدفع جوائز تقدرها بمئات الألوف من الفرنكات. هي تعمل ذلك ولا حرج عليها لأنه لا يكلفها غير الوعد فإذا ما انحل الإشكال المطلوب حله فلا يكون إلا على يد شريك لها تقاسمه الربح أو لا تعطيه منه شيئاً. لأجل أن تحبب الجرائد قراءتها تغرس فيهم الميل إلى قلة الرصانة وسماع اللغو والعبث فتقص عليك كيف أن إحدى الممثلات تلبس قفازيها (كفوفها) وتركب في المركبة وتذكر كل تفصيل عن غانية اشتهرت وتورد لك أسماء أشأم الأشرار مورية أنهم من الأبطال تستجلب عليهم الرحمة وتفاوضهم بعناية. لإكثار هذه الجرائد قراءها تستخدم رقة القلب الكاذبة في العامة بأن تأتيهم بحوادث غريبة منوعة ومدهشة تقيم وتقعد. فإن مخبري الجرائد يجتمعون كل مساءٍ في القهوة فإذا لم تحدث في المدينة حوادث خصام ولا توقيف أحد بالقوة ولا انتحار ولا فجائع عشق ولا غيرها مما يقضي عليهم أن ينشروه في جرائدهم يخترعون شيئاً منها بالاتفاق بينهم اتفاقاً لا يخرج عنه أحد. هذه الجرائد تدعو الناس إلى قراءتها بنشر أنباء الاكتشافات الكاذبة والمبالغة في رفع أقدار أدعياء العلم إلى السماكين وتتملق للمتأدبين المنحطين والموسيقيين الساقطين. نعم هي تساعد على نمو الفضائح مدعية أنها مولعة بالحق ولكنها تتحرز من إفشائها إذا كان فيه مس إحساس بعض الشركات الكبرى. وحدث ما شئت أن تحدث عن تلطفها في ذكر نقابات باعة الخمر فهي تتوقى من ذكر اسم سكير وتستعيض عنه عندما يأتي في باب الأخبار المنوعة بلفظ المغضوب أو فاقد الصواب. ومتى أفلحت تلك الجرائد بكثرة سواد قرائها لا تستنكف من بيع أعمدتها للإعلان عن أرباب الموبقات وبائعي السميات واللصوص. لا تراعي فيما نشر إلا ولا ذمة ما دام المعلنون يدفعون لها أجور إعلاناتهم. وليس أحسن من الجرائد للرقيق إلا بيض يطلب على لسانها أحدهم على صفة أنه رجل في بلد بعيد يريد فتاة لتكون في بيته وصيفة أو معلمة أو مؤنسة فإذا حُملت إليه لا تجد المسكينة غير بيوت الريبة تنتظرها وكذلك الحال في

المتجرات بالأعراض من النساء فإنهن يعمدن إلى الصحف فيجعلنها وسيطة بينهن وبين زبونهن مقترحة بأنهن يعطين دروساً في اللغة أو يعرضن تحفاً ونفائس. ولقد يجعل باعة الترياق والأدوية الشافية من الصحف واسطة لممارسة طبهم ولا ينالهم عقوبة فيوصون باستعمال العقاقير الضارة مثل خلاصة التيروييد والمسهلات السريعة وغيرها. وكذلك يفعل الماليون فيها للإعلان عن مسائل لهم تحوي في مطاويها الغش والخديعة وتخرب بيوت السذج من الناس. وكثيراً ما تبلغ الحال بتلك الجرائد أن تهدد بعض الناس أو يرضونها بما تريد وتنشر خبر فضيحة وقعت واعدة أن تأتي من الغد بشرح واف على ما جرى والله أعلم متى يجيء هذا الغد إذا خف إليهم المفضوح فرشاهم ليسكتوا. أيها القارئ أنك إذا ابتعت الجريدة الفلانية تعتقد بأنها لا تكلفك غير فلس واحد فانزع هذا الوهم من نفسك فكثيراً ما يكون منها أضرار بصحتك وثروتك وشرفك فما تدفعه من ثمنها يجعلك شريكاً في جرائمها. ولقد سرى فساد هذه الجرائد ولصوصيتها في الأخلاق حتى أن القوم لم يعودوا يفكرون في لومها. ولما اتهم في قضية برزخ باناما أناس من مشاهير كبار رجال السياسة طالب الصحافيون منهم بأجرة المقالات المنشورة كأنهم يطلبون بحق ولكن تلك المبالغ التي قبضوها تجاوزت الأجرة المعتادة بما لا يقال. هذا والحكومة تعين الجرائد على ما هي في سبيله فهي لا تكتفي بإعطائها مبالغ من المال سراّ بل توافقها على جميع مطالبها فتساعدها حين الحاجة بجندها لتستخدمها إعلاناً عن نفسها وتضع قسماً من أسطولها تحت أمر أرباب الجرائد ليجعلوا صفة رسمية لسباق القوارب الذي يقومون به وتسحب الحكومة يانصيب باسمها إكراماً للصحف. قال لي أحد مديري الجرائد ذات يوم: أنا لا أدعو إلى الفنون ولا إلى الآداب ولا إلى العلم إنني تاجر وأريد أن أنظر في مصلحتي وما جريدتي إلا حائط يعلق إعلانه عليه كل من يؤدي أجرته. قال هذا ولكن فإنه أن هذا الحائط متحرك يدخل في كل مكان ويزيد عدده إلى ما لا نهاية له يبيعه من القارئ. فأنت أيها الصحافي مسمم لعقول العامة لا تقل في ضررك عن ذاك (البدّال) الذي يغش المأكولات.

سأل أحد كبار الأغنياء الأميركان ذات يوم عن أحسن الطرق التي يتيسر له أن يصرف فيها جزءاً من ثروته في عمل خيري ولو سمع مني لرأى حاجتنا الماسة كل المساس إلى تأسيس جريدة سياسية ذات وقار وحشمة وأعني بها جريدة تقول الحقيقة أبداً أو ما تعتقد أنه الحقيقة ولا تنشر إلا الإعلانات التي تعترف بصحة ما فيها.

صدور المقتبس

صدور المقتبس نحمد الله على ان وفقنا إلى الجري على سنة النمو الطبيعي في هذه المجلة وهدانا إلى سبيل التسهيل في اقتباس الفوائد وأقباسها جهد الطاقة على صورة مقبولة في الجملة ولم يزين لنا الخوض إلا فيما درسناه واعتقدنا فيه الغناء. ونشكر لمؤازرينا من أهل العلم وحملة الأقلام الذين جعلوا من المقتبس مباءة لبنات أفكارهم وخزانة لخلاصة أبحاثهم كما نثني على من نشطونا على أطراد الخطة التي سلكناها ونوهوا بها ولاسيما تلك الفئة الفاضلة العاقلة من علماء المشرقيات من الغربيين سواءٌ كان بما نشروه في مجلاتهم أو بتفضلهم بمكاتبنا بما يشف عن حسن ظن بضعفنا وفضل أدب فطرت عليه نفوسهم. ولقد لقينا في عامنا هذا من إقبال القراء في كل قطر تقام فيه للعربية سوق ما اغتبطنا به فزاد الطلب على السنتين السالمتين حتى اضطررنا إلى إعادة طبع عدة أجزاء كانت نفدت من عندنا فاستقام بذلك حسابنا ووازى الدخل الخرج في نفقات الطبع والنشر. ونرجو من المشتركين أن يعذرونا على إسراعنا في إصدار الأربعة الأجزاء الأخيرة من السنة الثالثة دفعة واحدة. . فقد اضطررنا بسبب ارتفاع الضغط عن العقول وانتشار حرية المطبوعات في البلاد العثمانية إلى مغادرة هذا القطر السعيد وسيصدر المقتبس إن شاء الله في غرة محرم القادم من مدينة دمشق قاعدة بلاد الشام بعد أن صدر في عاصمة القطر المصري ثلاث سنين آخذين على النفس أن لا نحيد قيد شبر عن الخطة المرسومة فنصرف العناية في تمحيص المسائل بقدر ما تسمح به الحال ونتخير الموضوعات التي تفيد وتلذ. وفي الختام نودع وادي النيل ونهدي سلامنا لأهل علمهم الله علماً يحفظون به كيانهم ويعلي بين المتحضرين شأنهم. ونستغفره عز سلطانه مما طغى به القلم وزلت به القدم أنه أكرم مسؤول.

سنتنا الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم سنتنا الرابعة يفتتح المقتبس عامه الرابع بحمد الله ثناؤه والشكر على ما وفق إليه من نشر الحقائق التي يهديه إليها البحث والدرس لاهجاً بالدعوة التي طالما دعا إليها مجملاً ومفصلاً من أن مقصده نبث دفائن المدينة العربية وبث خزائن الحضارة الغربية مع ما يقتضي لذلك من النظر في تاريخنا وتاريخ الغربيين وآدابنا وآدابهم ومناحينا وأعمالنا وأعمالهم ناعياً عَلَي الجامدين عَلَى القديم إذ الاقتصار عليه وحده هو العقم بعينه داعياً إلى تناول الضروري من الحديث لأن القديم وحده يبلى ولا حديث لمن لا قديم له ومن لم يحرص على جديده فهو أقرب إلى الزهد كل حين بقديمه. ندعو إلى الأخذ بمعارف الغربيين لأن ما أصاب هذا الشرق من ضعف العقول والملكات نشأ عن انصراف القلوب عن الاهتداء بهديهم ونهج سبيلهم في مادياتهم ومعنوياتهم والوقوف عند حد ما رسمه المخرفون والمخرقون فصدونا عن سبيل الانتفاع بالماضي وبالحاضر وحرموا بالتعصب الممقوت ما لم يحرمه عقل ولا نقل وسدوا الآذان عن سماع داعي المدنية وغضبوا عن الإبصار عن النظر في بدائع العلم والصناعة. وإن المقتبس ليغتبط اليوم بصدوره من ضفاف بردى بعد أن انتشر عَلَى ضفاف النيل ثلاث سنين ولئن كان بردى بعض جداول النيل وترعه فإن المسك بعض دم الغزال ولئن قدر لمصر اليوم أن تسبق الشام في قوتها الأدبية والعلمية فليس ذلك من الجديد لما عرف به قديمها وإن كان وادي النيل أفسح وأخصب فوادي جلق الفيحاء أثمر وأعشب والسر في السكان لا في المكان. فعسى أن لا تكون أرض الشام أقل استعداداً لقطف ثمرات العلوم والمعارف وأن يظل مؤازرونا على إتحاف هذه المجلة بنتائج عقولهم فلا تعظم فائدة العمل إذا استقل به الفكر الواحد ولا تتنزع بفرد أفانين الفنون والآداب ونسأله تعالى تسديدنا وهدايتنا.

الشام والحرية

الشام والحرية سادتي الفضلاء أحمد إليكم الله الذي آخى بينكم فجمعكم في صعيد واحد بعد أن كانت كلمتكم متفرقة وأشكره تعالى الذي جعل لي لساناً ناطقاً في هذه الدار الكريمة المشرقة بأنواركم المتألقة وأتقدم إليكم بالثناء الصادر من صميم الفؤاد على تنازعكم بإجماعكم على طلب مقولة مني في هذا المقام وقد سئمت الكلام فهربت من مصر إلى الشام ولكنني أظن أن الله كتب عليّ الكلام حتّى يوم الحمام فليس من مفر والسلام. بيد أني أسألكم بالصفح يا نجوم الفيحاء عما تجدونه في محاورتي لكم من التقصير فعذري ظاهر وأنتم أنتم الكرام. لعل هذه تكون أول محاضرة في ربوع هذه الحاضرة بعد أن هبت عليها نسمات الحرية العاطرة وقد طال عليها الاستعباد. والحرية خلق شريف يجاهر بسلطانها الإنسان بما يريد ما دام داخلاً في حدوده المرسومة له ولا يتعدى على دائرة غيره فلذلك أردت أن أتكلم عن شيءٍ من حضارات الإسلام التي توطدت دعائمها في دمشق الشام وفي دار السلام وفي القاهرة الفاطمية وفي قرطبة الأموية. فلأجدادكم في هذه الحاضرة الباهرة فضلان بدمشق وبقرطبة وأنتم البقية الصالحة لهؤُلاء الأسلاف الأشراف والأمل معقود بكم أن تقتدوا بهم وتزيدوا عليهم كما هي سنة الترقي وكما هو شعار الاتحاد. فلم يبق لكم عذر بعد اليوم في وضع دعائم النهضة الحديثة بدياركم الشجراء الزهراء وقد كمنت فيكم تلك البذرة الصالحة على ما شاهدته بعيني وخبرته بنفسي. ألا ترون من الفضول أيها الفضلاء أن يقوم فيكم نزيل من النزلاء ويناجيكم بما أنتم أهله بلا مراء. لعمري هذا منتهى الفضول من الواقف بينكم وهو ضعيف وصوته أضعف لأنه لا يتكلم أمام مائة ألف إذ يعتقد أن كل واحد منكم بألف. فأنتم إن لم يكن لكم عذر بعد اليوم في النهوض بأمتكم وبلادكم فلي ألف عذر في هذا المقام وأنتم أنتم الكرام. خصوصاً إذا اعترفت لكم بأنني من الطائفة الثالثة التي أشار إليها الخليل بن أحمد في قوله أن الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك جاهل فعلموه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك مائق فاحذروه. لا أريد الافتخار بقولي لا أدري لأنني لا

أرضى بذلك المذهب الذي يزعم أصحابه أن من قال لا أدري فقد دري أصف العلم وإنما أرتضي مذهب إبراهيم بن طهمان الخراساني فإنه ولد بهراة ونشأ بنيسابور ورحل في طلب العلم ونال منه قسطاً وافراً حتى كان له ببغداد جراية فاخرة من بيت المال فسئل يوماً في مجلس الخليفة فقال لا أدري فقالوا تأخذ في كل يوم كذا وكذا ولا تحسن مسألة فقال إنما أخذت على ما أحسن ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أدري. فأعجب أمير المؤمنين جوابه وأمر له بجائزة وزاد في جرايته. فلذلك أرى في إجماعكم عليّ إلزامي بمحاضرتكم على ما أنا فيه من تشتت البال بالأسفار والحنين إلى الديار إنكم إنما قصدتم أن تشجعوا القائمين بالعمل على إحياء حضارة الإسلام وشد أزر الطالبين للعلم فلذلك امتثلت أمركم لئلا أخرق الإجماع ولئلا أكون شاذاً عن رأي الجماعة وتمثلت بما قاله الخليل أيضاً فقد قال ثلاثة تيسر المصائب سهر الليالي والمرأة الحسناء ومحادثة الرجال. فقد جئت لأحادثكم وأستفيد منكم فأردتموني على الخطابة بينكم فكان مثلي معكم كمن يحمل الصدف إلى عمان ولا أقول الدرر أو كمن يحمل الغرض من علوم الشرق إلى أهل دمشق ولا أقول الجوهر. سادتي الكرام مصر والشام توأمان ربطتهما الطبيعة والأخلاق قبل الإسلام وبعد الإسلام بعروة وثقى ليس لها انفصام فلا عجب إذا كانت كل منهما تحن للأخرى وتشاركها بعاطفة الود والقربى فيما يحل بها من سعد ورخاء أو ما ينزل عليها من نحس وشقاء لهذا تروني يا أبناء الأكرمين لا أستغرب منكم هذا الحنين لرجل من أبناء النيل أتاحت له الأيام أن يحل بركابه في أرض الشآم وقد كان آلى على نفسه أن لا يضع قدماً في أرض سورية ولا في غيرها من أرجاء السلطنة لما لاقاه من صنوف الحيف حينما غرر بنفسه في أحد فصول الصيف فولى وجهه شطر قبة الإسلام منذ بضعة أعوام. أما الآن قد تفككت قيود الاستعباد ودالت دولة الاستبداد وزالت سلطة الفرد وقامت شورى الأمة على أساس ثابت كالجبال الرواسي وأعني به القانون الأساسي فأشرق نور الدستور على الجمهور فقد انفك عنه قسمه وصار في حل من العهد الذي أخذه على نفسه فلم يتمالك من الشخوص في أول فرصة إلى تلك الربوع التي خفقت عليها رايات الحرية في صدر

الإسلام فمرحت تحت ظلالها ونالت بها أقصى آمالها ونثرت ثمراتها في الشرق ثم أرسلت فروع هذه الشجرة الزاكية النامية إلى ما وراء البر فصادفت خير مغرس في رياض الأندلس فإن الحرية الإسلامية أينعت لأول مرة في الفيحاء فتأرجحت بأريجها الأرجاء وأنبتت حضارة الإسلام في أرض جلق فازدهى بها المغرب كما اختال بها المشرق. امتازت دولة العرب القائمة في دمشق على عهد معاوية ومن تلقى صولجانه بنعمة الحرية التامة حتى كانت هذه البقعة المباركة عروس الدنيا وقرارة المجد وكهف الشرف وأشرق سناها على الدنيا من أدناها إلى أقصاها. غير أن الإنسان جبل على الاندفاع مع التيار وعدم الوقوف عند الحدود فلم تلبث هذه الحرية أن انقلبت إلى الإباحة فصار الناس فوضى وكان رؤوس الدولة أول من أسرف في الإساءة إلى الحرية فتابعتهم الأمة والناس على دين ملوكهم فانهار هذا الملك العظيم وغاضت عيون الحضارة في دمشق التي تزدان على الدهر بعيونها الفياضة. لذلك أناشدكم الله أن تتعهدوا الحرية التي عادت إلى ربوعكم في هذا العهد السعيد فتحافظوا عليها ولا تفرطوا في العناية بها حتى لا تعود إلى الذبول فكفاكم ما حاق بكم من الخمول بسبب الانحراف عن صراطها المستقيم وهذه نصيحة خالصة أنحضكم إياها يا وجوه العرب لئلا تضيع منكم الحرية بتجاوز الحدود الذي يجعلها إباحة فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وكفاكم موعظة ما قاله مروان آخر الأمويين حينما ضاع ملكه في الشام وفر إلى وادي النيل فالتجأ هو وأهله وشيعته إلى كنيسة في قرية بوصير من صعيد مصر فلحقه المسودة أي جنود بني العباس وشعارهم السواد وكانوا في نفر قليل جداً بحيث كان من أسهل الأمور على مروان ومن معه أن يبيدهم عن آخرهم لولا أن دولته كانت في أدبار ودولتهم في إقبال فلم يمهلوه حتى يطلع النهار فلجأُوا إلى شجر ونخل ثم ناوشوه القتال فخرج إليهم وهو يقول: كانت لله علينا حقوق فضيعناها ولم نقم بما يلزمنا فحلم عنا ثم انتقم منا. ثم فكر في كثرة جيوشه بالشام فقال: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. وذلك أنه كان عندما استفحل أمر بني العباس استعرض جيوشه بالرقة فمر به من العرب وحدهم ثمانون ألف فارس على ثمانين ألف فرس عربي. ثم احتزوا رأسه وأخرجوا أكبر بناته من الكنيسة وهي ترعد فقيل لها لا بأس عليك فقالت أي بأس أعظم من إخراجي حاسرة من حيث لم

أر رجلاً قط. ثم أجلسوها ووضعوا الرأس في حجرها. فصرخت واضطربت. فقيل لهم ما حملكم على هذا. قالوا كفعلهم بيزيد بن علي حين قتلوه فإنهم جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي (صاحبة المقام المشهور في القاهرة) ثم أرسلوا الرأس إلى مدينتكم هذه فنصب على باب المسجد الأموي ثم بعثوا به إلى الكوفة فخر السفاح ساجداً لله وتصدق بعشرة آلاف دينار. هذا الذي قاله مروان شبيه بمقوله هرقل حينما جاء أهل الإسلام وأجلوا الأروام عن بلاد الشام. ركب البحر وهو ينظر إلى الشام ويقول الوداع يا سوريا يا سلام عليك يا سوريا. ويشبه أيضاً قول أم أبي عبد الله آخر سلاطين بني الأحمر بغرناطة حينما أجلاه الإسبنيول عن تلك البقعة الباقية للعرب في ديار الأندلس. فإنه بعد أن سلم البلاد إلى فرديلند وإيزبلا وخرج في حاشيته وأهل بيته. أعاد نظرات كلها حسرات وأرسل رائد الطرف بمزيد الأسف وهو يتلهف على الحمراء فتهاطلت دموعه على خديه فقالت له أمه: أبك مثل النساء ملكاً مضاعاً ... لم تحافظ عليه مثل الرجال إن الذكرى تنفع المؤمنين لذلك أردت أن أسرد عليكم هذا النبأ الذي كان فيه ضياع الملك من دمشق ونزولها عن درجتها السامية التي لم تعد لها إلى الآن لئلا يتجاوز الناس حدود الحرية وقد أشرقت عليهم وعلينا في هذا العهد النوراني المجيد فيقعوا في شر أعمالهم كما وقع الأولون والعاقل من إذا مرت به العبرة ازدجر أو قيلت له الموعظة ادكر. فلقد بلغ ملك بني أمية ما بين قرني الشمس ثم زال لأنهم أساؤا إلى الحرية التي نشروا أعلامها ورفعوا منارها حتى بلغت دولتهم من المجد أعلا ذراه فتقرب إليهم ملك الروم بإرسال مائة عامل من مهرة الصناع وأرسل إليه مائة ألف مثقال من الذهب الأحمر وبأربعين حملاً من الآلات حينما أراد الوليد تجديد الروضة الشريفة والزيادة فيها فبعث بهم إلى واليه عمر بن عبد العزيز فاستخدمهم وأنتم تعلمون ورع عمر بن عبد العزيز الذي لا يشبهه ورع مع ما تعلمون من شدة الخلف بين العرب والروم على امتلاك آسيا الصغرى التي كانت بين الفريقين حاجزاً حصيناً يرد العرب عن امتلاك فروق وهي كانت ولا تزال مطمح الأنظار. ومما يدل على بلوغ الحرية في دمشق نهاياتها دون أن تتجاوز حدودها أن معاوية كان يمد

الأسمطة للعامة ويؤاكلهم وأن الوليد بن عبد الملك بنى في مدينتكم دار الضيافة العامة وهو أول من فعل ذلك في الإسلام وذلك للتحبب إلى الرعية بمخالطتها وتعرف أحوالها وكان الخلفاء يسائلونهم في العلم والسياسة بهذه الوسيلة وها هو التاريخ وها هي كتب الأدب تخبرنا بكثير من الإصلاحات التي حدثت بهذه الواسطة الشريفة التي كانت تربط الأمة بالخليفة وسرت من الأمويين إلى العباسيين فكان الرشيد يجالس الناس على المائدة فكانت حكومة المسلمين في الصدر الأول وفي أيام السلف الصالح أشبه بشيء بالحكومة الديموقراطية أي حكومة الأمة بالأمة كما هو الحاصل الآن في دولتنا العثمانية فلم يكن فيها من القاب الشرف ولا رتب ولا يكون التعظيم إلا بالكنية وهي من المفاخر التي استأثر بها العرب دون سائر الأمم إلى هذا الزمان فكانوا يقولون أبو فلان فإن لم يكن له ولد قيل أبو فلان باسم أبيه هكذا كان الناس في أيام بني أمية مهما بلغت درجاتهم وعلت مناصبهم كما هو الشأن الآن في بلاد الأميركان التي هي بلاد الحرية الحقيقية بأكمل معانيها فليس منهم إلا مستر فلان حتى رئيس الجمهورية فنازلاً من الوزراء إلى كل أرباب الوظائف إلى عامة الناس وكذلك الحال في بلاد سويسرة التي تتفجر منها ينابيع الحرية الصحيحة في أوربا فلا يمتاز فيها ولا في أميركا رجل بأي لقب اللهم إلا باللقب الذي يطابق رتبته في العسكرية فقط. فأما أول من تلقب من الخلفاء فهو عبد الله أبو جعفر وقد غلب لقبه حتى أنني لو اكتفيت بهذه الإشارة عنه لما عرف من هو إلا الأقلون وأما ما ذكرت لكم اللقب الذي اشتهر لعرفتموه لأنه أصبح له علماً في التاريخ وهو المنصور ثاني الخلائف من بني العباس ثم تغلغلت الدول الإسلامية في الألقاب فكثرت وتنوعت وتعددت حتى صرنا إلى ما ترونه الآن فصار الجوهر تغشاه أعراض براقة خلابة ضغطت عليه وطمست معالمه حتى كاد يضيع إن لم نقل ضاع فصرنا ولنا الألقاب نتهافت عليها ونتطلبها من سبيل الحرام أكثر مما نتطلبها من سبيل الحلال بل أصبحنا وعدم الالتقاب هو اللقب فيا حبذا الرجل منا الذي يشابه الحرف عند النحاة فيكون عدم العلامة له هو العلامة. أما وقد تنبهنا من رقدتنا وأخذنا بأسباب الرجوع إلى الحياة فقد أشار إلى محو الرتب وإلغائها كاتب مجيد في جريدة شوراي أمت التي تطبع بالتركية في عاصمة الإمبراطورية العثمانية فأستميحكم أن أقول كلمة في هذا الموضوع.

فقد جاء الوقت الذي نجاهر فيه بضمائرنا وأميالنا ونقول الحق ونصدع به فقد كان هذا العاجز يقول لكثير من أصدقائه في مصر أنني والله أحب أن أتخلى عن هذا اللقب الذي نلته بجدي واجتهادي ولطالما جاهدت بالتأفف منه استنكافاً منه لأنني أراه فوق قدري ولكن استنكافاً لكثيرين ممن حازوه أو حازوا أعلا منه وهم إنما شروه بفضل الدراهم أو ببعض المساعي الممقوتة. كثيرون من أصدقائي وهم أحياء يرزقون يشهدون لي بأنني طالما تمنيت على الله أن يزول عني هذا اللقب لا بالتجريد فإنه مشين ولكن بالتسليم فإنه شريف بحيث أرجع إلى اسمي أحمد أفندي أو أحمد بن إبراهيم أو أبو إبراهيم أحمد زكي فأتكنى باسم والدي إذ قد جعلني الله في نعمة وافية من عدم الحصول على خلف لي ولكن الآن يجب أن نشير في محو الألقاب بطريقة معقولة مقبولة فلا نلغيها مرة واحدة من الحاصلين عليها لأنهم ربما لا يرضيهم ذلك وهم إن لم يعبروا عن عدم رضاهم جهراً فربما يكون فيهم كثيرون لا يرضون به سراً ونحن في عصر الحرية ينبغي أن نحترم إرادة كل إنسان وأن لا يقتات البعض على البعض ولو في الألقاب. وأحسن وسيلة هي أن لا نسلك في هذا الموضوع شططاً بل نسير فيه سيراً وسطاً وذلك في رأيي هو تخبير أصحاب الألقاب في التنازل عنها فمن رضي فيها ونعمت ولا ريب أن الأكثرين يرضون التجرد من هذه الألقاب التي قد ترهقهم عسراً أما الذين يريدون حفظها فأمرهم إليهم. ولكن الدولة تقرر أنها من الآن فصاعداً تلغي الرتب فلا ألقاب عندها منذ اليوم بحيث لا يأتي زمن طويل حتى تنقرض الألقاب ويبقى الناس كلهم أفندي أو سيد أو خواجه أو شيخ أو أبو فلان وتصبح الأمة كلها سواء تحت هلال الدستور لا يتميز بعضهم على بعض إلا بالعمل النافع للمجموع فتكون الأمة كلها راقية لأن كل فرد يتطلب النبوغ ويسعى إلى التفوق بكده وجده وحسبنا ذلك فخاراً. بهذه الوسيلة يزداد سواد أهل الفضل في هذه البلاد فيكون لأهل العلم والعمل دلال على أرباب الدولة كما كان لأمثالهم في أيام عز الإسلام فإن الخليل بن أحمد الذي ذكرته في صدر هذه المحاضرة كتب إليه سليمان بن علي الهاشمي يستدعيه لتعليم ولده بالنهار ومنادمته بالليل وبعث إليه بألف دينار ليستعين بها على حاله فأخرج للرسول زنبيلاً فيه كسر بالية وقال: إني ما دمت أجد هذه الكسر غني عنه وعن غيره ورد الألف دينار على

الرسول وقال أقرأ على الأمين السلام وقل له أني قد ألفت قوماً وألفوني أجالسهم طول نهاري وبعض ليلي وقبيح بمثلي أن يقطع عادة عودها إخوانه وإني غنيّ عنه وعن غيره وكتب إليه بهذه الأبيات: أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال وأن بين الغنى والفقر منزلةً ... معروفة بجديد ليس بالبال سما بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال والفقر بالنفس لا بالمال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال والرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال والخليل هذا كان يقسم الأيام إلى ثلاثة: معهود ومشهود وموعود وكان دائماً يتمثل بقوله: يكفيك من دهرك هذا القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت ولم ينفرد الخليل بهذه المزية الفاخرة في التكبر والدلال على أهل الدولة وأرباب المال فأمثاله كثيرون أذكر منهم من يحضرني ذكره في هذا المقام فمنهم حماد بن أبي سلمة دخل عليه مقاتل بن صالح الخراساني فإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه وبيده مصحف يقرأُ فيه وبجانبه حراز فيه علمه ومطهرة يتوضأُ فيها. قال مقاتل فبينا أنا عنده جالساً دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا قالت: رسول محمد بن سليمان قال قولي له يدخل وحده فدخل فناوله كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن أبي سلمة أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فإنا نسألك عنها والسلام. فقال يا صبية: هلمي بالدواة. ثم قال لي اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت صبحك الله بما صبح أولياءه وأهل طاعته. إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً فإن كانت وقعت مسألة فأتنا وسلنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي والسلام. فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي انظري من هذا قالت: محمد بن سليمان قال: قولي له ليدخل وحده فدخل فسلم ثم جلس بين يديه. فقال مالي إذ نظرت إليك

امتلأت رهباً قال: سمعت عن ثابت الغسائي عن مالك أن رسول الله قال: أن العالم إذا أراد وجه الله هابه كل شيء فإذا أراد أن يكنز الكنوز هاب كل شيءٍ. فقال أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه قال ارددها على من ظلمته قال: والله ما أعطيك إلا ماورثته قال: لا حاجة لي فيها ازوها عني زوى الله عنك أوزارك قال فتقسمها قال فلعلي أن عدلت أن يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل ازوها عني وزى الله عنك أوزارك. هذه السنة الصالحة انتشرت بين علماء المشرق فارتقت بهم الأمة وكان لها شأن كبير لأنهم كانوا يطلبون العلم للعلم وقد انتشرت هذه السنة الحميدة في عامة أمصار الشرق وشاعت أيضاً في بلاد الأندلس حتى في أيام تقهقرها. فقد ألف أحد العلماء الأندلسيين كتاباً في اللغة فبلغ ذلك مجاهداً العامري صاحب الجزائر جزائر ميورقة ومنورقة المعروفة الآن بجزائر الباليار فوجه للعالم بألف دينار وبكسوة وخلعة وتحف كثيرة وطلب منه أن يتكرم بوضع اسمه في صدر الكتاب وأنه ألفه برسمه. فرد المال وهو في حاجة إلى أقله وقال: كتاب صنفته لله ولنفع الناس لا أفرده لواحد منهم. ويقرب من هذا مالك من دينار فإنه ترفع عن الملوك ونصح اللصوص. دخل اللصوص داره فلم يجدوا شيئاً يسرقونه. ولما هموا بالخروج قال لهم ماذا عليكم لو صليتم ركعتين فتابوا وأنابوا وقد كان لهذه السجية في مصر شأن كبير فلا أحدثكم إلا بحادثة واحدة من هذا القبيل. فأنتم تعلمون من هو شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقد كان أهل الدولة يتسابقون إليه ويقبلون عليه وهو عنهم معرض أيما إعراض. مع أنه كان يقتات بقشور البطيخ الملقاة في الطريق ولا يكفيه النهار للدوس وليس لديه شيءٌ من الدنيا يقتني به مصباحاً لنفسه فكان يأخذ الكراريس ويدرس على ضوءِ القناديل المعلقة على أبواب البيوت. وأمثال شيخ الإسلام كثيرون في مصر وغير مصر يطول بذكرهم المقام وربما كان في إيرادها ما يدعو إلى الملل والسآم غير أني أستميحكم الآن في ذكر نادرتين وأقول نادرتين لأنه بعد ذلك السلف قد خلف من بعدهم خلف فصار شمم العلماء وترفعهم بعلمهم في هذا الزمان الأخير كالكبريت الأحمر بل هو أندر. فالأولى تقضي عليّ صلة الرحم أن أغتنم هذه الفرصة لإذاعتها ولست أخشى تكذيباً لها لأن الذين رأوها أو علموا بها علم اليقين لا يزالون أحياء يرزقون وهم في مصر كثيرون.

وذلك أن جدي لأمي الشيخ ابراهيم سويدان حضر إليه برشيد والي مصر عباس الأول وقد انتهى إليه عمله وصلاحه وزهده وانعطافه على المساكين فأعطاه مالاً كثيراً فلم يرضَ فألح عليه وقال له أهل البطانة خذ هذا المال فإنه حلال وهو يساعدك على نفع المساكين فامتثل بشرط أن يضع الأمير المال في كمه فرضي الوالي وأخذ جدي المال فطاف به في الأسواق يفرقه بواسطة غلامه على هذا وذاك حتى فرغ المال كله ثم ذهب إلى النيل فغسل هذا الكم الذي لامسته دراهم الوالي. وأما الثانية فهي معلومة لكم جميعاً وهي واقعة بينكم هنا وبيننا في مصر. ذلك أستاذ الشام على الإطلاق العلامة الشيخ طاهر الجزائري فهو يضم بين طمريه العلم الجم والخلق الأشم. أنا لا أدري كيف يعيش هذا الرجل في بلد مثل مصر قد اشتد فيه الغلاء حتى شكا منه الأغنياء وقد بذلت ما في وسعي كما يعلم الأستاذ كرد علي صاحب المقتبس وأمام المقتبسين ورب هذا البيت الكريم في أن يناله شيءٌ من الأوقاف الخيرية على أن يكتب عريضة لذوي الحل والعقد وقد تلطفت معه كثيراً بواسطة رب هذه الدار فلم يرض إلى الآن. فماذا أقول عن هذه البقية الصالحة. لا أقول سوى كلمة واحدة تخرج من صميم الفؤاد بحب وإخلاص فليعش الشيخ طاهر الجزائري هذه الحرية وهذا الشمم هما جرثومة من ذلك الماضي المجيد وقد صادفت في عصر الدستور المنير أرضاً خصيبة فلعلها تتأصل في نفوسنا ونفوس الناشئين ليكون لقومنا ما كان للأسلاف من العز الذي ضرب رواقه في المشرقين وفي المغربين. هذه الحرية هي التي جعلت الأخلاف من بني أمية يحتملون الكلم الشديد والقول المر من العلويين ومن سائر الناس. لو فرضنا أن احتمالهم للعلويين كان من قبيل المداراة ومن باب المحافظة على الملك فماذا نقول عما سجله التاريخ من معاملتهم للعامة. أفليس أبو صخر الشاعر الخزاعي المشهور بكثير عزه هو الذي كان يجاهر بالتشيع لعلي وبنيه وقد كانوا يسبونه على المنابر بأمر الخلفاء الأمويين. أفليس هو الذي قام في يوم من الأيام فصعد المنبر في بيت الله الحرام وأخذ بأستار الكعبة وقال: لعن الله من يسب علياً ... وبنيه من سوقة وإمام أيسب المطهرون أصولاً ... والكرام الأخوال والأعمام

يأمن الطير والحمام ولا يأمن آل الرسول عند المقام فأنزلوه من المنبر وأثخنوه ضرباً بالنعال وغيرها فقال: إن امرأً كانت مساوئه ... حب النبي لغير ذي عتب وبني أبي حسن ووالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب أترون ذنباً أن أحبهم ... بل حبهم كفارة الذنب ومع أنه سب الإمام جهاراً وفي الكعبة وضربه القوم خوفاً من الخلافة فقد دعاه عبد الملك ليستوزره ثم ازدراه لدمامته وقال تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين فإنما الرجل بأصغريه قلبه ولسانه فإن نطق نطق ببيان وإن قاتل قاتل بجنان ثم أنشد: وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور وما تخفى الرجال عليّ إني ... بهم لأخو مثابته خبير ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاة نزور لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير فيركب ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرف لديه ولا نكير فناشده عبد الملك الأشعار في الإخوان ثم قال: إن كنا أسأنا اللقاء فلسنا نسيء الثواء. حاجتك. قال: زوجتي عزة فأراد أهلها على ذلك فقالوا: هي بالغ وأحق بنفسها فقيل لها فقالت: أبعد ما شبب بي وشهرني في العرب ما لي إلى ذلك سبيل ولعلها أحسنت في التنصل والاعتذار وتلطف فلم تذكر أن سبب امتناعها هو دمامة خلقه. وبقي كثير مع تشيعه للطالبين مرعي المقام نافذ الكلمة على خلفاء بني أمية مع أنه سبهم ولعنهم في البيت الحرام فإن يزيد بن عبد الملك حينما جاؤا إليه بأسارى بني المهلب أمر بضرب أعناقهم وكان من حسن حظهم أن الأمر صدر بحضرة كثير فقام وأنشأ يقول: فعفواً أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب

أساؤا فإن تعفوا فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب هذه الحرية التي اشتهرت بها الدولة الأموية في دمشق هي التي جعلت الناس أحراراً في أعمالهم وفي اعتقاداتهم فقد كان كثير هذا يقول بالرجعة على مذهب الهنود ويخالف الملة الإسلامية كلها في ذلك كما كان يخالف سنة الدولة ويتشيع لعلي ولكن الخلفاء عرفوا فضل الحرية فتركوا الناس يعتقدون كما يشاؤون ويكتفون منهم بتوحيد الكلمة من جهة السياسة. إنني أيها السادة أرى الدين لم يخلق إلا ليقرب المخلوق من الخالق فلا يمكن ولا يجوز أن يكون الدين سبباً في ابتعاد المخلوق من المخلوق فالدين لله وللأمة الوطن فعلينا أن نتمسك بعروة الوطن ليعود لأمتنا فخارها السابق وتكون لنا منزلة سامية بين الخلائق. وقد بدت علينا علائم هذه النعمة المباركة فالواجب يقضي بتعهدها وإنمائها ليكون المسلم والمسيحي والإسرائيلي أخوة في الوطن فإنهم أخوة في الإنسانية أبوهم آدم والأم حواء أفنكون في هذا العصر الزاهر أقل احتمالاً وتسامحاً من أجدادنا الكرام في صدر الإسلام فقد وسعت صدورهم أهل الملل والنحل ووضعوا أيديهم في أيدي بعضهم بعضاً فكان منهم سور منيع لحفظ الدولة ورفع راية الوطن. هذا صدر الدولة العربية قد وسع كثيراً من أمثال كثير وقد كان يقول بالتناسخ والرجعة ومع تشيعه كان يخالف جمهور أهل الشيعة فكان مخالفاً لأهل السنة ولأهل الشيعة ومع ذلك كان له في الدولة العربية ذلك المقام الكريم. كان يقول بإمامة محمد بن الحنيفة وأنه أحق من الحسن ومن الحسين ومن سائر الناس وأنه حي مقيم بجبل رضوى لا يموت. وكان يقول عن نفسه أنه يونس بن متى بمعنى أن روح هذا الذي التقمه النون نسخت فيه فصار هو هو. ولقد سأل يوماً ماذا تقول الناس عنه فقيل يقولون إنك الدجال فقال إني لأجد في عينيّ ضعفاًَ منذ أيام (إشارة إلى أن الدجال أعور كما يقال) وحينما حضرته الوفاة كان يقول لا تبكوا عليّ لأني بعد أربعين يوماً أرجع إليكم. كل هذه الأقاويل لم تمنع الناس عن القول حينما مات هو وعكرمة في يوم واحد بعد الظهر: لقد مات أفقه الناس وأشعر الناس. لم يكن كثير وحيداً في القول بالرجعة والتمتع بالحرية في الرأي فقد تمسك بمذهبه بعده كثيرون منهم السيد الحميري الشاعر المجيد وهو أبو هاشم اسمعيل بن محمد بن يزيد بن

ربيعة كان يقول أيضاً بإمامة محمد بن الحنيفة وأنه لم يمت بل هو مقيم بجبل رضوى وقال في ذلك: إلا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما أضر بمعشر والوك منا ... وسموك الخليفة والإماما فعادوا فيك أهل الأرض طرا ... مقامك فيهم ستين عاما وما ذاق ابن خولة طعم موت ... ولا ذاقت له أرض عظاما لقد أمسى بمورق شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكراما هدانا الله إذ حزتم لأمر ... به ولديه نلتمس التماما تمام إمامة المهدي حتى ... يروا آياتنا تترى نظاما وكان الحميري يشرب الخمر جهاراً ويقول بالرجعة ليلاً ونهاراً. قال لرجل تعطيني ديناراً بمائة دينار إلى الرجعة قال إن وثقت لي بمن يضمن لي أنك ترجع إنساناً إنما أخشى أن ترجع كلباً أو خنزيراً فيذهب مالي. هذه الحرية في الفكر والاعتقاد كانت لذلك السيد الحميري في أيام الأمويين فلما دالت الدولة وتغيرت الأيام وانتقل الملك إلى بني العباس بقي الرجل على حريته في نحلته ولم يعارضه أحد من أهل الدولة الجديدة لأن الحرية كانت شعار الدولة العربية فإن انتقل السلطان من بيت إلى بيت فالحرية ثابتة الدعائم هنا وهناك والناس بفضلهم لا بمذهبهم ورأيهم. انظروا إلى السيد الحميري ودلاله على أهل الدولة الناشئة كما كان لأمثاله في الدولة البائدة ذلك لما استقام الأمر لأبي العباس السفاح خطب يوماً فأحسن في خطبته. فلما نزل عن المنبر قام إليه السيد الحميري فأنشد: دونكموها يا بني هاشم ... فجددوا من آيها الطامسا دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا دونكموها لأعلا كعب من ... أمسى عليكم ملكها نافسا خلافة الله وسلطانه ... وعنصراً كان لكم دارسا لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا والملك لو شور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا

فقال له السفاح: سل حاجتك فقال ترضى عن سليمان بن حبيب بن المهلب وتوليه الأهواز فكتب له منشوراً بالولاية ودفعه إليه فأخذه وقدم به على سليمان بالبصرة فلما وقعت عينه عليه أنشده: أتيناك يا قرم أهل العراق ... بخير كتاب من القائم أتيناك من عند خير الأنام ... وذاك ابن عم أبي القاسم أتينا بعهدك من عنده ... على من يليك من العالم يوليك فيه جسام الأمور ... فأنت صنيع بني هاشم فقال له سليمان شريف وشافع ووافد وشاعر ونسيب سل حاجتك فقال: سأحكم إذ حكمتني غير مسرف ... ولا مقصر يا ابن الكماة الأكارم في أبيات طلب بها جارية فارهة جميلة ومن يخدمها وبدرة ومن يحملها وفرساً رابعاً وسايسه وتختاً من صنوف الثياب وحامله قال قد أمرت لك بجميع ما سألت ولك عندي في كل سنة مثله. هذه هي الحرية التي جعلت هشاماً الخليفة الأموي يعطي الكميت وقد أنشده مائة ألف درهم وقد كان الكميت مجاهراً بحب العلويين وبذم الأمويين. هذه هي الحرية التي أشرقت اليوم شمسها على دولة آل عثمان وهي التي نرجو بها ارتفاع الدولة ومجد الوطن لا نفرق بين دين ودين ولا نعرف شيئاً آخر سوى أننا نستظل كلنا براية الهلال. فحذار حذار من التهاون بها أو الاستهتار في سبيلها حتى لا تعود تلك الأيام السود وما فيها من ظلم وظلام. إن الأمة العثمانية قد أثقلتها المظالم وأخنت عليها يد الاستبداد حتى كادت تقضي عليها ولكن العناية الربانية تداركتها بنفحة من نفحات الحرية فعادت إليها الروح ودب في جسمها الانتعاش فظهرت بهذا المظهر البديع الذي يعجب به من في الأرض ومن في السموات. فاحرصوا يا رعاكم الله على الحرية فإنها ملاك السعادة. إياكم ثم إياكم أن تنقلب هذه الحرية إباحة فتتدهور الأمة في هاوية ليس لها قرار. يقولون أن هذا الانقلاب سلمي لم تسفك فيه قطرة من الدماء. نعم ولكن المقامات التي

أوصلت الأمة العثمانية إلى هذه الغاية المجيدة كانت محفوفة بالحبس والكبس. بالتشريد والتجريد. بالإحراق والإغراق. بالتيتيم والتلطيم. أفلم يكن في هذه الشناعات وفي تلك الدماء الزاكيات وفي ذلك الصراخ الذي بلغ عنان السماوات ما يكفي لشراء هذه الحرية الثمينة بأغلى الأثمان يا آل عثمان. وفي هذا المقام أتقدم إلى أهل الأدب منكم وكلكم أهل الأدب في تدوين تلك الحوادث التي هي أشبه بالخرافات لأنها لا تكاد تدخل في دائرة المعقولات دونوها ولكن بالصدق والإخلاص ليعرف المعاصرون لكم والناشئون بعدكم أنكم اشتريتم هذه الحرية بأغلى الأثمان ودونوا هذه النكت وتلك النوادر مع الأمانة والصدق حتى لا تنعكس النتيجة فكل شيء جاوز الحد انتهى إلى الضد. لا تكتفوا بروايتها فإن الذاكرة أصبحت في هذه العصور ضعيفة والمطالب كثيرة وإنما هو التدوين عرفنا به مفاخر الأولين وإن كان لم يصل إلينا منه إلا القليل. أصبحنا في عصر تشعبت فيه المعارف وكثرت أمامنا الحاجيات فلا مناص لنا من التدوين الذي يحفظ الحوادث للدهور الآتية والأجيال المستقبلة. نعم نحن في حاجة إلى تدوين كل شيء إذ قد صار من المستحيل علينا أن نضارع الحفاظ الذين اشتهرت بهم حضارة الإسلام. بل أين لنا لن نكون مثل عامر بن شراحيل أو ابن إدريس الشافعي أو ابن حزم الظاهري وأمثالهم ممن يعدون بالألوف هذا عامر بن شراحيل كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته وما أحببت أن يعيده عليّ. وما أدري شيئاً أقل من الشعر ولو شئت لأنشدتكم شهراً ولا أعيد ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان عالماً. وهذا الشافعي يقول: علمي معي حيثما يممت ينفعني ... صدري وعاءُ له لا بطن صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق وهذا ابن حزم الظاهري الأندلسي أحرق القوم تواليفه فقال: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل أن أنزل ويدفن في قبري ومع ذلك فقد دون الناس من أجدادنا في كل فن وفي كل شيء حتى أننا بفضل القليل الذي خلص إلينا من مدونات الأقدمين عرفنا أموراً خصوصية لا يمكننا أن نبدي شيئاً مما يماثلها

في عصرنا هذا فمثال ذلك أننا عرفنا أن السيدة سكينة المدفونة بمصر القاهرة كان مهرها ألف ألف درهم (خمسين ألف ليرة فرنساوية تقريباً) وعلمنا أنها ولدت الرباب فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول ما ألبسها إياه إلا لتفضحه. وكان مجلسها بالمدينة كعبة للأدباء والشعراء وأخبارها معهم أشهر من نار على علم وخصوصاً مع الفرزدق. هذا من الأمور الخصوصية الداخلية وأما الأمور العمومية فقد علمنا منها مثلاً أن الخليفة الأموي هشام كان إذا صلى الغداة بجامع دمشق فلول من يدخل عليه صاحب حرسه فيخبره بما حدث في الليل. ثم يدخل عليه موليان له مع كل واحد منهما مصحف فيقعد أحدهما عن يمينه والآخر عم شماله حتى يقرأ عليهما جزأه ثم يقومان فيدخل الحاجب فيقول فلان بالباب وفلان فيقول ائذن فلايزال الناس يدخلون عليه حتى إذا انتصف النهار وضع الطعام ورفعت الستور ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه قاعد خلف ظهره فيقوم أصحاب الحوائج فيسألون حوائجهم فيقول لا ونعم والكاتب خلفه يوقع ما يقول حتى إذا فرغ من الطعام وانصرف الناس صار إلى قائلته فإذا صلى العصر دعا بكتابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس فإذا كانت العشاء الآخرة ثم اختلى بسماره من رجال العلم والأدب. واتفق أنه بعد أن صلى العشاء الآخرة وأقبل سماره كعادتهم جاءه الخبر بأن خاقان ملك الترك خرج بأرمينية فنهض في الحال وحلف لا يؤويه سقف حتى يفتح الله عليه. بمثل هذا التدوين عرفنا أيضاً كيف كان الخليفة العباسي يجلس للناس ويشتغل بأمور الدولة فقد كان المنصور العباسي مثلاً يشتغل صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات وشحن الثغور والأطراف والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف وشاور سماره وكان ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدام وسائر المأكولات. ويحيطونه علماً بكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم وبما يرد إلى بيت المال وعلى العموم بما يتجدد من الحوادث في دائرة إدارتهم. فينظر في كتبهم بعد صلاة المغرب فإن رأى تغيراً في الأسعار كتب إلى العامل يسأله عن العلة ومتى ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله. وإن شك في شيءٍ مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك فإن أنكر شيئاً كتب إليه يوبخه ويلومه فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فتوضأ وتبوأ

المحراب حتى يطلع الفجر فيعود إلى عمله في الأمس. ومشى العباسيون على هذه السنة حتى أن المعتصم عندما جلس مع سماره في أواخر الثلث الأول من الليل ومعه كأس يشربها قال أحد سماره: أنه سمع من رجل قادم من الثغور ثغور الروم أن في عمورية امرأة مسلمة في الأسر قالت وامعتصماه فختم على الكأس وقام من فوره وأخذ الجند حتى استولى على عمورية وخلص الأسيرة ثم شرب كأسه. ومثلهما المنصور بن أبي عامر في الأندلس فقد بلغه أن بأرض الجلالقة أسيراً يستنجد به فقام من مجلس سمره لا يلوي على شيء حتى فتح تلك الحصون وخلص الأسير. بهذه العناية من العلماء على طلب العلم ومن الرؤساء على حفظ بيضة الدولة كان للأمة الإسلامية مقام كبير حتى إذا ما تولاها التراخي فأهملت شؤونها سقطت إلى الحضيض. أما وقد رأيناها وهي تتأهب بفضل الدستور وفي ظل الهلال المنير لاسترجاع مجدها فقد وجب علينا أن نتعاون قلباً وقالباً على العمل فيما يرفع شأنها فبإعمال الإفراد يرتقي المجموع وترتفع منزلة الدولة. وكيف لا نصل إلى هذه الغاية من أيسر طريق وفي أقرب وقت وقد رجعت دولتنا إلى السنة القديمة المجيدة تلك السنة التي قامت بفضلها الدولة العربية في أبهى المظاهر وأبهر المناظر ـ تلك السنة يا سادتي هي سنة الشورى التي أمر الله بها المسلمين وقامت بها دولتهم فعنت لها المشارق والمغارب. فإن الدين الإسلامي يأمر بالشورى فإذا نظرنا إلى التاريخ نجد أن دولة الإسلام بعد أن ذهب صاحب هذا الدين إلى الرفيق الأعلى قد قامت بالشورى وبالمبايعة من الجماعة فقد اتفقوا كلهم على أبي بكر ثم تسلسلت الحوادث وصارت الخلافة ملكاً عضوضاً يتوارثها الأبناء أو الأعمام أو أبناء الأعمام في الشرق والغرب في دمشق وفي بغداد وفي القاهرة وقرطبة في المغرب الأقصى وفي القسطنطينية يتوارثونها بالبيعة ولكنها بيعة مزدوجة تكون أولاً من الخاصة الذين يتفقون على الخليفة ثم من العامة الذين يقرون على ما أقره الخاصة ولا نجد لذلك استثناء إلا في دمشق فإن عمر بن عبد العزيز بعد أن جاءته الخلافة عفواً تنازل عنها وقصة ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما مرض كتب كتاب العهد لابنه أيوب ولم يكن بالغاً فرده عن ذلك رجاء ابن حياة فقال له ما ترى في ابني داود فقال له

بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت فقال فمن قال رأيك يا أمير المؤمنين قال ما ترى في عمر فقال أعلمه والله صالحاً فاضلاً خيراً فقال إن وليته ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه فكتب له وجعل من بعده يزيداً أخاه وختم الكتاب وأمر بجمع أهل بيته فقال لهم هذا عهدي فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا على من فيه فغفلوا. فجاء عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حياة فقال يا رجاء قد كان لي عند سليمان حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إليّ من هذا الأمر شيئاً فإن كان فأعلمني أستعف فقال رجاء والله لا أخبرك بحرف واحد فمضى. ثم جاءه هشام فقال لي حرمة وعندي شكر فأعلمني فقال لا والله لا أخبرك بحرف فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من. ثم جددت البيعة ومات سليمان. فقرأ رجاء بن حياة الكتاب فلما ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام والله لا نبايعه. فقال له رجاء والله إذن اشرب عنقك. قم فبايع. فقام يجرر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه هذا الأمر وعمر يسترجع إذ وقع فيه. ثم جيءَ بمراكب سليمان بن عبد الملك مراكب الخلافة فقال عمر قربوا إليّ بغلتي ثم خطب فقال: أيها الناس قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني ولا مشورة وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين تلي أمرنا باليمين والبركة. فقال أوصيكم بتقوى الله خلف من كل شيء ليس من تقوى الله خلف وبعد أن أتم خطبته نزل فدخل داره فأمر بالستور فهتكت وبالثياب التي كانت قسطاً للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال. ولما بلغ الخوارج سيرته وما رد من المظالم قالوا ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل. وقد حدثنا التاريخ بأن عمر بن عبد العزيز اشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير فأرضاهم وجعل لدولته سداً منيعاً دونهم فكانت أيامه كلهاً سلاماً في سلام فانظروا إلى ما جرى في هذه الأيام فقد قامت النمسا بالتهام البوسنة والهرسك غنيمة باردة وبغير ثمن فهل عندها مائة ألف أسير أو أسير واحد فقط. ولعمري ما كان أغناها عن الدخول في هذه الورطة التي أوقعت نفسها فيها بلا طائل ولا فائدة معجلة أو مؤجلة ظاهرة أو باطنة لأنها تحتل هاتين الولايتين بمقتضى معاهدة برلين فأي فائدة لها في هذا التملك الذي لا يرضى به حر عاقل أو ذو ضمير حي ولذلك قابلتها

الأمة العثمانية بحرب سلمية ولكنها كانت على النمسا شراً من امتشاق الحسام تلك هي المقاطعة التجارية التي نرى آثارها في طول البلاد وعرضها هذه المقاطعة ليست من مستحدثات هذا الزمان فإن أول من سنها هو نبي الإسلام عليه السلام. فقد غضب على رجل من أهل المدينة فأمر الناس بمجافاته فما كان أحد يتعامل معه على الإطلاق ولا كان أحد يقرؤه السلام حتى تاب واهتدى فعسى أن تكون النتيجة في هذه الأيام الأخيرة مثل ما كانت في تلك الأيام الأولى وليست المقاطعة هي السنة الشريفة الوحيدة التي أحياها بنو عثمان في هذا الزمان. فإننا إذ تصفحنا التاريخ وجدنا أن الدول تقوم على ربوات من الجثث والهامات وإذا اقتصرنا على ذكر الإسلام نرى أن دولة الأمويين قامت بالسيف والنار فحروب صفين وغيرها معلومة للخاص والعام وكل الناس يعلمون أن الحجاج قتل 120 ألف نفس في توطيد دعائم الدولة المروانية. كذلك دولة العباسيين قامت على قتل الأمويين وقد سفك أبو مسلم الخراساني دم 60 ألف إنسان. وكذلك دولة الأمويين في الأندلس قامت على أطلال الحرب وأشلاء القتلى. ومثل هذا وقع بمصر حينما دالت دولة الفاطميين فإن صلاح الدين رحمه الله وأكرم مثواه اضطر بحكم السياسة لارتكاب هذا الأمر ولكنه تلطف فلم يدع للوم سبيلاً وذلك أن حبس الفاطميين والفاطميات في قصر كبير ومنع الرجال عن النساء وصبر عليهم حتى قضوا نحبهم حتف أنفهم. وكذلك حدث في القاهرة حينما تبوأَ محمد علي سريرها فإنه أخذ في مداراة المماليك واكتساب ثقتهم فلما أعيته الحيل اضطر لإبادتهم في وقعة القلعة المشهورة. هذه الأمثال وقد ذكرت منها القليل تدلنا على صحة قولهم أن الملك عقيم وأن تأسيس الدول لا يقوم إلا على الدماء. حتى جاءت هذه الأيام فرأينا دولة الشورى قد قامت بسلام على سلام في سلام فعليها ألف تحية وسلام. لعمري إنها معجزة غريبة في بابها. نعم رأينا معجزة المعجزات فكيف لا نصدق بما رواه لنا التاريخ من المعجزات. بلاد الشام هي موطن المعجزات ففيها قام الأنبياء. بلاد العرب كانت لها أكبر معجزة بظهور أحمد. بلاد أوربا وأميركا جاءتنا بمعجزات العلوم والصناعات والفنون. بلاد اليابان في أقصى الشرق كانت لها في هذه الأيام نهضة تفوق المعجزات. فلم يبق إلا آل عثمان

وكأنهم عجزوا عن المعجزات حتى أتونا بالأمس بمعجزة هي نهاية ما يصل إليه أهل الأرض فقيامهم بإقامة دولة الشورى هو معجزة المعجزات. لذلك حضرت إليكم لأهنئكم أيها السادات بمعجزة المعجزات. بأعجوبة الأعاجيب وإنني أرجو لدولتنا بقاء ليس له انتهاء والسلام عليكم ورحمة الله.

القديم والحديث

القديم والحديث لم يأت على هذه الأمة دور مثل هذا اشتد فيه النزاع بين القديم والحديث وانهزم القديم بضعف القائمين وقوة أنصار الحديث. عنينا بذلك أرباب التقليد ممن يرون السعادة في الاكتفاء بما تعلموه من آبائهم وورثوه عن أجدادهم من العلوم والآداب ويعدون ما عداها ضرراً يجب البعد عنه ومحاربته بكل وسيلة كما عنينا أرباب التجديد الذين يزعمون أن الاكتفاء بعلوم أهل الحضارة الحديثة وحدها كافية في رفع شأننا. نشأت للأمة ناشئة بعد أن كثر احتكاكنا بأوربا في أواسط القرن الماضي عادت القديم معاداة خرجت فيها عن طور التعقل وذلك نكاية بما رأته من دعاة ذلك القديم وأكثرهم مثال الجمود والبلاهة وأنموذج الفساد وسوء التربية فقامت تزهد فيهم وفيما يدعون إليه تحمل عليهم حملاتها وتتحامل عليهم بحملاتها وكذلك كان شأن أنصار القديم مع دعاة الحديث يرمونهم بكل كبيرة ويسلبونهم كل فضيلة ويطعنون بعلومهم إلا قليلاً ويعدون النافع منها مما لا يضر ولا ينفع. لا خلاف في أن ملكة الدين والآداب ضعفت في البلاد الإسلامية لضعف حكوماتها والعامل الرئيسي في كل البلاد هو السياسة إذا ضعفت يتبعها كل شيء فجهل الحكام والملوك منذ نحو ألف سنة هو الذي رفع شأن المنافقين من العلماء الرسميين فصار العلم الديني يتعلمه المرء لا لينال السعادتين ويكون عضواً مهما في جسم المدينة الفاضلة بل ليخدم به أغراض أمراء السوء ويستولي على عقول العامة وتقبل يداه ويكرم بالباطل وهذا ما حدا بحجة الإسلام الغزالي وإضرابه في عصره وبعده أن ينحوا على فقهاء السوء أنحاءهم على أمراء السوء لأنهم يتعلمون علوم الفقه والفتيا ليتقربوا بها فقط من السلاطين ويجعلوا من الدين سلاحاً يقاتلون به من يناصبهم في شهواتهم وأهوائهم. ولقد فضل الغزالي في الإحياء وتهافت الفلاسفة من يتعلمون الطب على الفقهاء وقال أن من يقولون أن علوم الدنيا تنافي الدين يجني على الدين. شغلت الأمة زمناً بنفسها فضعفت ملكاتها وكانت الحروب الصليبية وغارات التاتار من العوامل المنهكة لقواها ثم قام ملوك الطوائف وفرقوا الشمل بعد اجتماعه إلى أن جاءت الدولة العثمانية وهي تاتارية لا تقيم للمدينة وزناً ولا تعرف لعلوم العمران لفظاً ولا معنى قوتها بجندها وعلمها في أرهاف حدها وعظمتها ببطشها ومجدا باكتساح البلاد وإخضاع

النفوس لسطوتها فحاول محمد الفاتح أحد ملوكها أن يجعل من القسطنطينية دار علم كما هي دار ملك مجاراة لدولة الجراكسة في مصر والشام وأعظم لذلك الأعطيات والهبات وأنشأ المدارس وحبس الأوقاف ولكن ذلك لم يدم إلا بدوامه حتى إذا مضى لسبيله عادت الحكومة إلى زهدها في العلوم وقد صارت رسمية على عهد المفتي أبي السعود الذي سعى لجعل العلم وراثياً وصار ابن العالم يرث أباه ووظائفه ورواتبه وإن كان أجهل من قاضي جُبَّل. وعالم هذه حاله هو الجناية الكبرى على الدين والدنيا والبلاء العمم على البلاد. ومع أن الفرس والترك سواءٌ في العجمة فالفرس أقدر من الترك على تلقف اللغة العربية منذ القديم. والعربية لغة الدين لا يبرز في علومه من لم يتعلمها ولا يفهم الكتاب والسنة من لم يحكم بيانها. وما تراه من حال علماء فارس اليوم وإتقانهم العربية وارتقاء علومهم الشرعية وانحطاط العربية في بلاد الترك وضعف ملكة العلوم الدينية فيها لا يرجع إلا إلى أن ميل أبناء فارس إلى إحكام العربية قديم فيهم وأن الترك بأمرائهم المتبربرين جمدوا على فروع قليلة من الفقه والكلام وزهدوا فيما عداها فجنوا على البلاد جناية كبرى. لما أرادت الدولة أن تنهض وتتشبه بأوربا وأخذت على عهد سليم الثالث تتعلم فنون الحرب والبحر والسياسة وما ينبغي لها من الطبيعة والرياضة والاجتماع أخذت روح التفلسف تسري إلى الأستانة ومنها سرت إلى الولايات ومصر فلم يعبأ أنصار القديم بما رأوه أولاً واحتقروا ذاك السيل الجارف الآتي عليهم من أوربا وارتأى بعضهم أن خير ما يقابل به المتزندقون أن يكفروا أو يحرموا أو يضربوا أو يحبسوا أو يهددوا بالقتل أو يقتلوا ولم يعدوا لذلك من العدد اللازمة لبث دعوتهم وحفظ ملكة الدين في القلوب لتسير مع علوم الدنيا كتفاً إلى كتف وجاءت أدوار أصبح الوزراء وولاة الأمر إلا قليلاً من الطائفة التي نزعت ربقة القديم فلم يبق عليها إلا اسمه بل كان بعض المتطرفين في انحلالهم يدعون سراً وجهراً إلى عدم التأدب بآداب الدين محتجين بما هو مائل للعيان من فساد القائمين عليه وانحطاط المنتسبين إليه. وها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين والدنيا والأمة شطرين شطر هو إلى البلاهة والغباوة وشطر إلى الحمق والنفرة وبعبارة أخرى نسينا القديم ولم نتعلم الجديد. ومن الغريب أن معظم المستنيرين بقبس العلوم الأوربية منا لا يرجعون إلى آداب دينهم

ويميلون في الظاهر والباطن إلى أن يكون الدين فقط جامعة تجمع الأمة على مثال الجامعات السياسية والجنسية وإذا سألتهم عن الحلال والحرام وعما شرعته الأديان صعروا إليك خدودهم وقالوا لك أن الأمة تعيش بحديثها دون قديمها وأن ذاك القديم إن لم يضرنا الأخذ به فهو لا ينفعنا والعاقل لا يقبل إلا على ما ينفعه ويعلي قدره. تلك هي شنشنة أصحاب الحديث أو الملاحدة والزنادقة الطبيعيون كما يطلق عليهم المتدينون وهذه حالة هؤلاء مع أولئك وستكون الغلبة لأنصار الحديث إذا لم يقم خصومهم لهم شعثهم على صورة معقولة مقبولة وبين هذين الفريقين فريق ثالث اختار التوسط بينهما فلم ير طرح القديم كله ولا الأخذ بالحديث بجملته بل آثر أن يأخذ النافع من كل شيء ويضم شتاته وهذا الفريق المعتدل على قلته لا يقاومه العقلاء من أهل الفريقين الآخرين مقاومة فعلية وعامتها غير راضين عنهم بالطبع لأن أكثر الناس يحبون أن تكون معهم أو عليهم ولا وسط بين ذلك. ولقد كتب إلينا أحد علماء الشرقيات في برلين وهو ممن طافوا بلاد المشرق وسكنوا فيه زمناً وانقطعوا لدرس أحواله الاجتماعية وعلومه الإرثية كتاباً بالعربية فيه المقتبس وما يجب للمسلمين أن يقوموا به لقيام أمرهم بعد ذاك السبات الطويل قال: أما الرسائل التي هي لبها (المجلة) فرأيتها تدور أبداً على حث الناس على درس العلوم المدنية التي تركت في العالم الشرقي منذ نحو خمسمائة سنة واقتباس الآثار الإفرنجية الحديثة فيها وإحياء الأدبيات العربية وهذا مطابق بحسب اختياري للطريقة الصحيحة لسعادة الأمم إذ لا فائدة من تقليد الأجانب وحده ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية (الوطنية) وحده بل الخير كل الخير في الأخذ من هنا وهناك وتعميم الدرس والبحث مع إضرام تلك الشعلة العظيمة التي هي ذات نور وذات حرارة وذات إنبات وأعني بها المبدأ الشعبي ولنا أن نسميه الشعوبية على شرط أن نجرده من الرائحة غير المقبولة. اجتهد الإسلام والنصرانية أن ينشأآ جمعية تقوم بالدين وحده ليكون أصل الشهادة بذلك الدين ظاهرين على الدين كله إلا أنهما فشلا. ولقد تنبأ بعض المسلمين بأن الجامعة الإسلامية التي ستكون في أواخر هذه السنة لن تأتي بما يرجوه أكثرهم من تقوية عروة الدين بل ستقوي الأحزاب الشعبية وربما يتسع الخرق بين الجماعات من جهة المذهب

الديني. أما أنا فأقول أن تقوية روابط المسلمين مع من حولهم من غير المسلمين المبنية على وحدة التربية والأخلاق والعادات وعلى وحدة اللسان لا تخلو حقيقة من تقوية الدين نفسه لأن هذا الاجتماع من شأنه أن يدعو إلى نمو عامة القوى فيزيد من له ميل إلى الحياة الدينية اعتقاداً وعملاً كما يزيد من له ميل إلى غير الدين قوة فيما اختاره وعلى هذا فمن مصلحة كل دين أن يكون نصف منتحليه مجتهدين مخلصين من أن يكون الجميع فاترين غير مكترثين بشيء. هذا ما كتب لنا به العالم الغربي الشرقي منذ أشهر نشرناه ليطلع عليه أنصار القديم والحديث فيعلم الجامدون على مسطور القديم أن لا قيام لأمرنا بغير الأخذ من مدينة أوربا ويدرك أنصار الحديث بأن هذه المدنية الجديدة التي بهرتهم بزخارفها وسفاسفها لا تنفعهم وتنفع بني قومهم إلا إذا رافقها ما يجملها من علوم الأسلاف وآدابهم والأمة التي تنزع ربقة قديمها جملة واحدة وتنتقل إلى طور آخر دفعة قد ينعكس عليها الأمر ويلتوي عليها القصد ولم تنجح اليابان إلا لكونها اقتبست المدنية الغربية ومزجتها بأجزاء مدنيتها وهذا سر قول العالم المشار إليه لا فائدة من تقليد الأجانب وحده ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية أي ما ورثناه عن أجدادنا من التشبث بأهداب الوطنية وذكر القديم والحرص عليه. ولنا في الغرب دولتان كبريان هما مثال في اقتباس الجديد والحرص على القديم. فقد شهدنا ألمانيا إلى اليوم تجري في مدارسها وكلياتها على آداب النصرانية المنقحة فلا توسد التدريس فيها إلا لرجل عرفت ترجمته وحياته مخافة أن يفسد عليها تربية أبنائها فتكون مدنية دينية أما فرنسا فناهضت الدين منذ زهاء مئة سنة وزادت مناهضتها له في السنين الأخيرة حتى نزعت لفظ الجلالة من المعاهد العامة وأخذت تضيق الخناق على أهل التدين من حملة العلم والأقلام حتى صار المتدين سراً يتجاهر بالانحلال جهراً ليأمن على معاشه ورزقه وسموا هذا حرية ولكن الله يحصي على الأمم ذنوبها كما لا يغفل عن الأفراد وها قد أخذت المدنية الإفرنسية التي بهرت العيون في الزمن الماضي ترجع القهقهرى وعلماء الأخلاق فيها يبكون دماً على انبتات شملهم وتراجع عمرانهم حتى روى بعض الإحصائيين أن عدد الفرنسيس سينزل في أواخر القرن العشرين إلى ثلاثة ملايين لأن المواليد أخذت تنقص عن الوفيات أما في ألمانيا فبفضل التربية الدينية والحرص على الأخلاق قبل

الحرص على تلقين العلوم فإن النفوس تتزايد سنة عن سنة بحيث خيف من تكاثر نسلهم على البلاد المجاورة لهم مع ما هم عليه من المدنية الصحيحة والعلم بالصناعات والفنون ولا غرو فإن من خلق الألماني أن يترك من القديم كل ما ينفع منه أما الفرنسوي فيجرف منه النافع مع الضار وشتان بين الخلقين والمدنيتين وها هي النتيجة قد ظهرت للعيان مذ الآن. وبعد فإن كل عاقل عرف تاريخ هذه الأمة يرى الخير كل الخير في احتفاظها بقديمها وضم كل ما ينفع من هذا الجديد على أن يكون للدين والعلم حريتهما فتكون المعتقدات بمأمن من طعن الطاعنين بها كما تجري المدنية على الشوط الذي تستنسبه وإذا رأى بعضهم في بعض المعتقدات ما لا ينطبق على روح الحضارة والعلوم العصرية فالأولى أن يطبقوا العقل على النقل كما هو رأي كبار علماء الإسلام منذ القديم. وإذا عجزت عقولهم عن ذلك فالأجدر بهم أن يأخذوا بعض القضايا بالتسليم ويتركوا العالم حراً يسير وجده دون أن يعوقه عائق وما نخال وكل عاقل إلا ويعتقد أن صحيح النقل لا يخالف صريح العقل والله أعلم.

التربية والأمهات

التربية والأمهات هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات تقوم إذا تعهدها المربي ... على ساق الفضيلة ثمرات وتسمو للمكارم باتساق ... كما اتسقت أنابيب القناة وتنعش من صميم المجد روحا ... بأزهار لها متضوعات ولم أر للخلائق من محل ... يهذبها كحضن الأمهات فحضن الأم مدرسة تسامت ... بتربية البنين أو البنات وأخلاق الوليد تقاس حسناً ... بأخلاق النساء الوالدات وليس ربيب عالية المزايا ... كمثل ربيب سافلة الصفات وليس النبت ينبت في جنان ... كمثل النبت ينبت في الفلاة * * * * فيا صدر الفتاة رحبت صدراً ... فأنت مقرّ أسنى العاطفات تراك إذا ضممت السفل لوحاً ... يفوق جميع ألواح الحياة إذا استند الوليد عليك لاحت ... تصاوير الحنان مصورات لأخلاق الصبي بل انعكاس ... كما انعكس الخيال على المرآة وما ضربان قلبك غير درس ... لتلقين الخصال الفاضلات فأول درس تهذيب السجايا ... يكون عليك يا صدر الفتاة فكيف نظن بالأبناء خيراً ... إذا نشأوا بحضن الجاهلات وهل يرجى لأطفال كمالٌ ... إذا ارتضعوا ثدي الناقصات فما للأمهات جهلن حتى ... أتين بكل طياش الحصاة حنون على الرضيع بغير علم ... فضاع حنوّ تلك المرضعات * * * * أأم المؤمنين إليك نشكو ... مصيبتنا بجهل المؤمنات فتلك مصيبة يا أم منها ... نكاد نغص بالماء الفرات تخذنا بعدك العادات ديناً ... فأشقى المسلمون المسلمات فقد سلكوا بهن سبيل خسرٍ ... وصدورهن عن سبل الحياة

بحيث لزمن قعر البيت حتى ... نزلن به بمنزلة الأداة وعدّ وهن أضعف من ذباب ... بلا جنح وأهون من شذاة وقالوا شرعة الإسلام تقضي ... بتفضيل الذين على اللواتي وقالوا إن معنى العلم شيء ... تضيق به صدور الغانيات وقالوا الجاهلات أعف نفساً ... عن الفحشا من المتعلمات لقد كذبوا على الإسلام كذباً ... تزول الشم منه مزلزلات أليس العلم في الإسلام فرضاً ... على أبنائه وعلى البنات وكانت أمنا في العلم بحراً ... تحل لسائليها المشكلات وعلمها النبي أجل علم ... فكانت من أجل العالمات لذا قال ارجعوا أبداً إليها ... بثلثي دينكم ذي البينات وكان العلم تلقيناً فأمسى ... يحصل بانتياب المدرسات وبالتقرير من كتب ضخام ... وبالقلم الممد من الدواة ألم نر في الحسان الغيد قبلا ... أوانس كاتبات شاعرات وقد كانت نساء القوم قدماً ... يرحن إلى الحروب مع الغزات يكنّ لهم على الأعداء عوناً ... ويضمدن الجروح الداميات وكم منهن من أُسرت وذاقت ... عذاب الهون في أسر العداة * * * * فماذا اليوم ضر لو التفتنا ... إلى أسلافنا بعض التفات فهم ساروا بنهج هدىً وسرنا ... بمنهاج التفرق والشتات نرى جهل الفتاة لها عفافاً ... كأنّ الجهل حصن للفتاة ونحتقر الحلائل لا لجرم ... فنؤذيهن أنواع الأذاة ونلزمهن قعر البيت قهراً ... ونحسبهن فيه من الهنات لئن وأدوا البنات فقد قبرنا ... جميع نسائنا قبل الممات حجبناهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتكات ولو عدمت طباع القوم بؤماً ... لما غدت النساء محجبات

وتهذيب الرجال أجل شرط ... لجعل نسائهم متهذبات وما ضر العفيفة كشف وجه ... بدا بين الأعفاء الأباة فدى لخلائق الأعراب نفسي ... وإن وصفوا لدينا بالجفاة فكم بزرت بحيهم الغواني ... حواسر غير ما متربيات وكم خشف بمربعهم وظبي ... يمرّ مع الجداية والمهاة ولولا الجهل ثمّ لقلت مرحي ... لمن ألفوا البداوة في الفلاة معروف الرصافي

الشعوبية

الشعوبية يقوى تفاخر أهل كل عنصر بعنصرهم وأهل كل جنس بجنسهم كلما كانوا أقرب إلى الهمجية والعصبية الجاهلية. جاء الإسلام فكان من أعظم إصلاحه إسقاط دعوى الجنسيات والقضاء على التفاخر بالآباء والأجداد فساوى بين العربي والفارسي والأحمر والأصفر والأبيض والأسود وكانت قاعدته العامة لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. والظاهر أن دعوى الشعوبية أي عدم الاعتداد بالعرب وتفضيل العجم عليهم دخلت بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية فنشأت منها العداوات بين العرب أهل الدولة وبين العجم كما كانت تنشأ في هذه البلاد بين تركي وعربي كلما اشتد الأول في إرهاق الثاني. سألنا أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري عن الشعوبية فكتب إلينا ما يأتي: أما الزمن الذي ظهرت فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء. والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها. ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أوائل الأمة زال عنه الشك في هذه المسألة ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس مما يقصد به الوقوف على الحقائق فإن هذا نوع آخر إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة. وأظن أنه لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم وكتب في خصائص البلاد كما أُلفت كتب في خصائص اللغات وتجعل من الفنون التي يعنى بها وتميز عن غيرها ولا نذكر بطريق العرض إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره إلا أن كل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار المغالط فيه. هذا وكما حدث بعد عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية وهما الفريقان اللذان يجمعهما اسم العرب ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار ولم يزل أثر ذلك باقياً في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا وقد رأيت في بعض البلاد أناساً يقولون إلى الآن نحن قيسية وآخرين يقولون نحن يمانية. هذا ما قاله أستاذنا وفيه من كشف الغامض ما لم نظفر في كتاب. والشعوبي بالضم محتقر

أمر العرب. قال ابن منظور وقد غلبت الشعوب بلفظ الجمع على جيل العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبي أضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد كقولهم أنصاري وهم الشعوبية وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم وأما الذي في حديث مسروق أن رجلاً من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فأمر عمر أن لا تؤخذ منه قال ابن الأثير الشعوب ههنا العجم ووجهه أن الشعب ما تشعب من قبائل العرب أو العجم فخص بأحدهما ويجوز أن يكون جمع الشعوبي كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي. قال شارح المفصل في شرح قول الزمخشري الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية وجبلني على الغضب للعرب وللعصبية وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز والشعوبية مصدر الشعوبي بضم الشين وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم على العجم فضلاً إذ الفضل بالتقوى وهو منسوب إلى قوله تعالى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال ابن الحاجب في شرح المفصل أيضاً والشعوبية بضم الشين قوم متعصبون على العرب مفضلون عليهم العجم وإن كان الشعوب جيل العجم إلا أنه غلبت النسبة إليه لهذا القبيل ويقال أن منهم معمر بن المثنى وله كتاب في مثالب العرب وقد أنشد بعض الشعوبية للصاحب بن عباد يمدحه: غنينا بالطبول عن الطلو ... وعن عنس عذافرة ذمول فلست بتارك إيوان كسرى ... لتوضح أو لحومل فالدخول وضب بالفلا ساع وذئب ... بها يعوي وليث وسط غيل إذا نحروا فذلك يوم عيد ... وإن ذبحوا ففي عرس جليل يسلان السيوف لرأس ضب ... هراشاً بالغداة وبالأصيل بأية رتبة قدمتموها ... على ذي الأصل والشرف الأصيل أما لو لم يكن للفرس إلا ... نجار صاحب العدل الجليل لكان لهم بذلك خير عز ... وجيلهم بذلك خير جيل فقال له الصاحب قدك ثم قال لبديع الزمان أجبه فأجابه مرتجلاً:

أراك على شفا خطر مهول ... بما أودعت رأسك من فضول طلبت على مكارمنا دليلاً ... متى احتاج النهار إلى دليل السنا الضاربين جزي عليكم ... فإن الجزي أقعد بالذليل متى قرع المنابر فارسي ... متى عرف الأغر من الحجول متى علقت وأنت بها زعيم ... أكف الفرس أعراف الخيول فخرت بملء ما ضغينتك فخراً ... على قحطان والبيت الأصيل فخرت بأن مأكولاً ولبساً ... وذلك فخر ربات الحجول تفاخرهن في خد أسيل ... وضرع من مفارقة رسيل فقال الصاحب للشعوبي: كيف ترى فقال: لو سمعت ما صدقت ثم قال له: جائزتك جوازك إن وجدتك بعدها في مملكتي شربت عنقك. وفد النعمان بن المنذر على كسرى فوجد عنده وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارساً ولا غيرهم فقال كسرى وأخذته عزة الملك يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم فرأيت الروم كذا ووصف من حالهم وجعل يثني عليهم ورأيت الهند التي لها كذا وكذا ثم قال مثل ذلك في الترك والخزر والصين متى ذكر قبيلة أثنى عليها ووصف ما يفتخرون به ثم قال ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير وجعل يصف شأنهم وهو يحقرهم ويصغرهم فقال النعمان: أصلح الله الملك وجعل يثني عليه ثم قال: إلا أن عندي جواباً في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له فإن آمنني من غضبه نطقت به قال كسرى فأنت آمن فقال النعمان أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به في عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها قال كسرى: بماذا قال النعمان بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وينها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجنود لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيولهم مهادهم الأرض وسقفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر إذ غيرها من الأمم إنما

عزها الحجارة والطين وجزائر البحور. وأما حسن وجوهها وألوانها فقد تعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المتحرقة والصين المحنتمة والترك المشوهة والروم المقشوة وأما أحسابها وأنسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها وآخرها حتى أن أحدهم يسأل عما وراء أبيه دنياً فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أباً أباً حفظوا بذلك أحسابهم وضبطوا أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعي إلى غير أبيه وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي يكون عنده البكرة أو الناب عليها بلاغة في حمولته وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزي بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج له من دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الثناء. وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيءٍ من ألسنة الأجناس ثم خليهم أفضل الخيول ونساؤهم أعف النساء ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة والحجارة جبالهم الجزع ومطاياهم التي لا يبعد عن مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر. وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون بها حتى يبلغ أحدهم من تمسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلداً حراماً وبيتاً محجوباً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك دمه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بالأذى وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومي الإيماء فهي اللب وعقد لا يحلها إلا خروج نفسه وإن أحدهم ليرفع عدداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب فلا يرضى حتى تفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره وأنها ليلجأ إليهم المجرم المحروب من غير معرفة ولا قرابة لتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله وأما قولك أيها الملك أنهم يئدون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا آنست من نفسها ضعفاً

وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون إليهم بأزمتهم. فأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف فعجب كسرى مما أجابه النعمان به وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في إقليمك ولما هو أفضل ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقيص العرب وتهجين أمرهم بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة وجماعة من رؤوس العرب سماهم فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم وقد سمعت من كسرى مقالة أتخوف أن يكون لها غدر واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد علبه فقالوا: وفقك الله أيها الملك ما أحسن ما رددت عليه وأبلغ ما حجته به فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت قال النعمان: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وبما يتخوف من ناحيتكم وليس شيءٌ أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى فإذا دخلتم عليه نطق كل واحد منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته به نفسه ووصاهم بوصايا فذهبوا وقد ساق القصة صاحب العقد وأوردها أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي في كتاب ألف باء. ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت أنا ذهبنا إلى العدل والتسوية وأن الناس كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد واحتججنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمنين أخوة لتكافأ دماؤهم ويسعى أدناهم وهم يد على من سواهم. وقوله في حجة الوداع وهي خطبته التي ودع فيها أمته وختم نبوته: أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى. وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام موافق لقول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فأبيتم إلا فخراً وقلتم لا تساوينا وإن تقدمتنا إلى الإسلام ثم صليت حتى تصير كالحني وصمت حتى تصير كأوتار ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أبيتم إلا خلافه وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حديثه وما أمر به صلى الله عليه

وسلم فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكاً أو نبوة فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخرت له الأنس والجن والطير والريح وإنما هو رجل منا أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها وبنى ردماً من حديد ساوى به بين الصدفين وسجن وراءه خلقاً من الناس تربي على خلق الأرض كلها كثرة لقول الله عز وجل (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا أو ليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية التي أسسها في قعر البحر وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته بنت ألف ملك والذي في مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والفوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني أردت أن تبعث إليّ رجلاً يعلمني الإسلام ويوفقني على حدوده والسلام. وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة هوداً وصالحاً واسماعيل ومحمداً ومنا المصطفون من العالمين آدم ونوح وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر فنحن الأصل وأنتم الفرع وإنما أنتم غصن من أغصاننا فقولوا بعد هذا ما شئتم وادعوا. ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم فيكل شق من الأرض ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والإسطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به علم الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف لم يكن للعب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها ويقمع ظالمها وينهى سفيهها ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم وذلك إن للروم أشعاراً عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية والوحوش

النافرة يأكل بعضها بعضاً ويغير بعضها على بعضٍ فرجالها موثوقون في حلق الأسر ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي. قال بجير يعير العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء: زعمتم بأن الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر وديلم من نسل ابن ضبة ناسل ... وبرجان من أولاد عمر وبن عامر فقد صار كل الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر أتطمع في صهري دعياً مجاهراً ... ولم تر ستراً من دعي مجاهر وتشتم لؤماً رهطه وقبيله ... وتمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر وقال الحسن بن هانئ على مذهب الشعوبية: وجاورت قوماً ليس بيني وبينهم ... أواصر إلا دعوة وبطون إذا ما دعا باسمي العريف أجبته ... إلى دعوة مما عليَّ يهون لا زد عمان بن المهلب نزوة ... إذا افتخر الأقوام ثم تلين وبكر يرى أن النبوة أنزلت ... على مسمع في البطن وهو جنين وقالت تميم لا نرى أنا واحداً ... كأحنفا حتى الممات يكون فلا لمت قيساً بعدها في قتيبة ... إذا افتخروا أن الحديث شجون قال ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب: وأما أهل التسوية فإن منهم قوماً أخذوا ظاهر بعض الكتاب والحديث فقضوا به ولم يفتشوا عن معناه فذهبوا إلى قوله عز وجل: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقوله: إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم. وإلى قول النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب. وقوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم وإنما المعنى في هذا أن الناس كلهم من المؤمنين سواءٌ في طريق الأحكام والمنزلة عند الله عز وجل والدار الآخرة لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا فاضل ولا مفضول فما معنى قوله صلى

الله عليه وسلم إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه وقوله صلى الله عليه وسلم أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم وقوله صلى الله عليه وسلم في قيس بن عاصم هذا سيد الوبر. وكانت العرب تقول لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا. تقول لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار فإذا حملوا كلهم جملة واحدة هلكوا أو إذا ذمت العرب قوماً قالوا: سواسية كأسنان الحمار وكيف يستوي الناس في فضائلهم والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله ولكن لبعضها الفضل على بعض وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس وقالوا القلب أمير الجسد ومن الأعضاء خادمةٌ ومنها مخدومةٌ. قال ابن قتيبة: ومن أعظم ما ادعت الشعوبية فخرهم على العرب بآدم عليه السلام وبقول النبي عليه الصلاة والسلام لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنةٌ من حسناته ثم فخرهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العجم غير أربعة هود وصالح واسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام واحتجبوا بقول الله عز وجل إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ثم فخروا بإسحق بن إبراهيم وأنه لسارة وأنا إسماعيل لأمة تسمى هاجر قال شاعرهم: في بلدة لم تصل عكن بها طنباً ... ولا خباء ولا عك وهمدان ولا لجرم ولانهد بها وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان أرض تبنى بها كسرى مساكنه ... فما بها من بني اللخناء إنسان فبنو الأحرار عندهم العجم وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد هاجر وهي أمة وقد غلطوا في هذا التأويل وليس كل أمة يقال لها اللخناء من الإمام الممتهنة في دعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وإنما أخذ من اللخن وهو نتن الريح يقلل لخن السقاء إذا تغير ريحه فأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وارتضاها للخليل فراشاً وللطيبين إسماعيل ومحمد أماً وجعلهما سلالة فهل يجوز لملحد فضلاً عن مسلم أن يسميها اللخناء. قال بعض من يرى رأي الشعوبية فيما يرد به على ابن قتيبة في تباين الناس وتفاضلهم والسيد منهم والمسود إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاشلم ولا السيد منهم والمسود والشريف والمشروف ولكننا نزعم أن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم

ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم ألا ترى أنه من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها ومن أمية في أرومتها ومن قيس في أشرف بطن منها إنما الكريم من كرمت أفعاله والشريف من شرفت همته وهو معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وقوله في قيس بن عاصم هذا سيد أهل الوبر إنما قال فيه لسؤدده في قومه بالذب عن حريمهم وبذله رفده لهم ألا ترى أن عامر بن الطفيل كان في أشرف بطن في قيس يقول: وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل مركب فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب وقال آخر: أنا وإن كرمت أوائلنا ... لسنا على الأحساب ننكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال قس بن ساعدة لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي أيما رجل رمى رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم وأيما رجل ادعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له. ومثله قول عائشة أم المؤمنين كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤم دونه كرم فالكرم أولى به. تعني بقولها أن أولى الأشياء بالإنسان طبائع نفسه وخصالها فإذا كرمت فلا يضره لؤم أوليته وإن لؤمت فلا ينفعه كرم أوليته. وقال الشاعر: نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما=وجعلته ملكاً هماما وقال آخر: ما لي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي إن انتمى منتم إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي روى أبو العيناء الهاشمي عن الفخذمي عن شبيب بن شبة قال كنا وقوفاً بالمربد موضع بالبصرة وكان المربد مألف الأشراف إذ أقبل ابن المقفع فبششنا به وبدأناه بالسلام فرد علينا السلام ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل وسورها المديد ونسميها العجيب

فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض وأرحتم دوابكم من جهد الثقل فإن الذي تطلبونه لم تفلتوه ومهما قضى الله لكم من شيءٍ تنالوه. فقبلنا وملنا فلما استقر بنا المكان قال لنا: أي الأمم أعقل فنظر بعضنا إلى بعض فقلنا: لعله أراد أصله من فارس فقلنا: فارس فقال: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيراً من الأرض ووجدوا عظيماً من الملك وغلبوا على كثير من الحق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئاً لعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم قلنا: فالروم قال: أصحاب صنعة قلنا: فالصين قال: أصحاب طرفة قلنا فالهند قال: أصحاب فلسفة قلنا السودان قال: شر خلق الله قلنا: الخزر قال: بقر سائمة قلنا: فقل قال: العرب قال: فضحكنا قال: أما أني ما أردت موافقتكم ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة أن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة ويفعله فيصير حجة ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم فلم يزل حياء الله فيهم وحياؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم فقال سبحانه أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فمن وضع حقهم خسر ومن أنكر فضلهم خصم ودفع الحق باللسان أكبت للجنان أهم. أما عناية الإسلام بإسقاط الجنسية فتراه ماثلاً من حسن معاملتهم للموالي فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش موتة زبداً مولاه وقال إن قتل فأميركم جعفر وأمر رسول اله أسامة بن زيد فبلغه أن قوماً قد طعنوا في إمارته وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار فقال عليه السلام إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله ولقد كان أهلاً وإن أسامة لها لأهل. وقالت عائشة لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة عليّ وأنا وهو سيان فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك وكان أحب إلى رسول الله منك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب فكأنها تكرهته فتولى منه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال لو يوماً ولم يكن أسامة من أجمل الناس لو كنت

جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك وفي بعض الحديث أنه قال أسامة من أحب الناس إليَّ. وكان صلى الله عليه وسلم أدى إلى بني قريظة مكاتبه سلمان منا أهل البيت ويروى أن المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة فقال له عمارة انتظرت أنه يقول: ومولاي فانفض والله يدك من يدي فتبسم أمير المؤمنين المهدي ولم يكن الأكرام للموالي في جفاة العرب. زعم الليثي أنه كانت بين جعفر بن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة وبين يدي مسمع مولى له بهاء ورواء ولسن فوجه جعفر إلى مسمع له لينازعه ومجلس مسمع حافل فقال أن أنصفني والله جعفر أنصفته وإن حضر حضرت معه وإن عند عن الحق عندت عنه وإن وجه إليَّ مولى مثل هذا وأومأ إلى مولى جعفر فقال مولى مثل هذا عاضاً لما يكره وجهت إليه وأومأ إلى مولاه فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه ذلك الموضع الذي تباهي بمثله العرب وقد قيل الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وفي بعض الأحاديث أن المعتق من فضل طينة المعتق. ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا عبد الله إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا. ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن يقال له عبد الله بن سليمان وكان من جلة الرجال نازع عمرو بن هداب المازني وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره فأدخل الفعلة دار عمرو فلما قلع من سطحه سافاً كف عنه ثم قل يا عمرو قد أريتك القدرة وسأريك العفو وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة. كان نافع بن جبير أحد بني نوفل بن عبد مناف إذا مر عليه الجنازة سأل عنها فإن قيل قرشي قال واقوماه وإن قيل عربي قال وامادتاه وإن قيل مولى أو عجمي قال اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت. ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمور بن تميم كان يقول في فصصه اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. ومثل ذلك ما كان بعضهم يقولونه لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى وكانوا

لا يكنونهم بالكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا يمشون في الصف معهم ولا يتقدمونهم في الموكب وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم وإن أطعموا المولى لسنه وفضله وعمله أجلسوه في طريق الخبار لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان الذي يحضر عزيزاً وكان الخاطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها وإنما يخطبها إلى مواليها فإن رضي زوج وإلا رد فإن زوج الأب والأخ بغير رأي موليه فسخ النكاح وإن كان قد دخل بها كان سفاحاً غير نكاح. وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الموالي والعرب أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود ولقي ما لقي من قراء أهل العراق وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا فأقبل على الموالي وقال أنتم علوج وعجم وقراؤكم أولى بكم ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب وصيرهم كيف شاء ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل بن لجين يقال له حراش وقال شاعرهم: وأنت من نقش العجلي راحته ... توفر شيحك حتى عاد الحكم يريد الحكم بن أيوب التميمي عامل الحجاج على البصرة. ولد أورد ابن بسام في الذخيرة في ترجمة الأديب أبي جعفر أحمد الدودين البلنسي رسالة ابن غرسية يخاطب بها أبا جعفر بن الجزار في فضل الشعوبية وذم العرب ابتدأها بقوله: يا ابن الأعارب ما علينا بأس ... لم نجك إلا ما حكاه الناس ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوث بحيث يستمع الحداء وقال فيها في وصف العجم: هم ملكوا شرق البلاد وغربها ... وهم منحوكم بعد ذلك سؤددا حلم وعلم ذوو الآراء الفلسفية الأرضية والعلوم المنطقية الرياضية حملة الأسترلوميقا والجومطريقا والعلمة بالأرتماطيقا والأنولوطيقا والقومة بالموسيقى والطوبيا والنهضة بعلوم الشرائع والطبائع والنفرة في علوم الأديان والأبدان ما شئت من تحقيق وترفيق حبسوا

أنفسهم على العلوم الدينية والبدنية لا على وصف الناقة العدنية فعلهم ليس بالسفاف كفعل نائلة وإساف أصغر بشأنكم إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غسانكم وإذا أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستئصالكم. والرسالة كلها على هذا النسق استغرقت مع الردود عليها سبع عشرة ورقة من الذخيرة ولولا غلبة التحريف الكثير عليها لأوردناها برمتها وقد رد عليها كثيرون من أدباء الأندلس في عصر كاتبها ومن جملتهم المخاطلب بها أبو جعفر وردودهم كلها إلى السفاهة والبذاءة أقرب وكتابة ابن غرسية أمتن وحججه أوضح. وكنا نود أن نشبع الكلام على الشعوبية أكثر مما أشبعناه واكتفينا الآن بمالدينا من النقول الصحيحة ولعل أحد مؤازرينا يكتب في هذا الموضوع ليجلوه أكثر مما جلوناه وفوق كل ذي علم عليم.

اللسان

اللسان كلُّ حرفٍ تعطي عليه جواباً ... خطأ كان لفظه أو صوابا فتمعن قبل الإجابة تسلم ... من جواب يجني عليك عذابا بين فكيك ليث غابٍ إذا ما ... فهت جهلاً في القلب أنشب نابا من يفه عن روية يقضب الغيظ فتغدوا أعداؤه أصحابا مقول المرء مثل حانوت عطار حوى ما قد مرَّ طعماً وطابا فإذا ما أراد يقطر أَريا ... وإذا ما أراد يقطر صابا رب سهم إن أوترته أناة ... فلج القصد واستقادا الرغابا وإذا ما رماه طائش فكر ... يتعدى المنى فقاد الصعابا كم قتيل للفظةٍ لو عداها ... ما عداه برد الصفا جلبابا غادرته تحت التراب إذا لم ... تلفها غادرت بفيه الترابا كان قبلا يسقي من المسك كأساً ... صار يروي من الصديد شرابا أيها اللين الذي هو ذو اللبدة قد حل داخل الفم غابا قل لنا ما صنعتَ بالناس قدماً ... فلقد قيل قد صنعت عجابا * * * لفظ الكيسُ اللطيف أنا من ... ساد أهل العروش والأربابا أوضح القلب كاشفاً ما حواه ... مطفئاً فيه ثائراً لهابا بكلام مثل الندى فاق في جلب الأماني هاطلاً سكَّابا سقطه في السماع خير ونعمى ... مرجعٌ للشيخ العتيّ الشبابا تجد الملك والمملك في قبضة كفي وما رجوت استجابا أفتن الكلَّ بافتتاني ومن تلفيه مثلي محبباً خلاَّبا بي بصبي الملك الرعايا فتبدي ... آي حب إذا دنا أو غابا ويسوس الشعب الوزير فيحا ... ز المرجي ويبلغ الآرابا وأخو المتجر الوسيع بي أسلس ... قي الأماني فأمطرته سحابا كم دعوتُ ابن خيشة في نعيم ... يكتسي فاخر الدمقس ثيابا كم مني دونها الثريا دنت بي ... فجنت قطفها إلا كفُّ اقتصابا

* * * وإذا ما أطلقتُ من حكماتي ... ضيقت شرتي المغاني الرحابا ودعوت الصبح المنير ظلاماً ... واعتبرت الحق المبين كذابا وأطرحت الخل الصفي قصيا ... بعد ما كان يستزيد اقترابا واتخذت الرأي الضلال دليلا ... وتركت الراضين عني غضابي واجتلبت الألوف تلقى ألوفاً ... مرويات مناصلاً وحرابا ناطقات الكرات متقداتٍ ... حاصدات كهولها والشيابا كم صباح تكسي النهار كستها ... شرتي بردة الظلام إهابا وبنوها الفراخ أمسوا بيتم ... يتلوَّون حيرة واكتئابا اترك المعلم الأغن وقد بات بمسعايَ شر مسعى يبابا فأنا من أُدير خمراً وغسليناً وأجني الزقوم والعنابا وأنا من يجيب شأني أَني ... انشرُ الميت أو أبين الرقابا وقصارى أمري مبين ببيت ... لذوي النبل مشرع أبوابا من تخطي بي الروية أخطا ... من حدا بي نهج الصواب أصابا دمشق أمين ظاهر خير الله

الحاكي أو الفنغراف

الحاكي أو الفنغراف بقلم عيسى أفندي اسكندر المعلوف (نظم هذه الأبيات ونقشها على أسطوانة بصوته تلبية لاقتراح صديق له) صوت السلام أميركا حياك ... وبكشفه كولمبسٌ أحياكِ إن الصحائف والمطابع والمدارس والمعامل زينت مغناكِ وكذا الزراعة والصناعة والتجارة ... عززت في نجمها مبداكِ سميت نصف الأرض عن ثقة وقد ... فاخرت كل الأرض في أنباكِ فعلى أَديسن أَلف أَلف تحية ... وبه اجتنيت من الفنون مناكِ يكفيه إيجاد الفنغراف الذي ... قد شاع بين العرب والأتراك أَلفى بنفخ البوق بعثة ميتنا ... فأقامه من قبره الفتاكِ وتصيد الأصوات من بحر الهوا ... بشباكه كصيد الأسماكِ فيعي بإذنٍ ما يقال كسامع ... ويعيده بلسانه كالحاكي هو صادق في نقل أخبار وفي ... حفظ الكلام وليس بالأفاكِ يتقلد الأصواتَ كيف تلونت ... بفصاحة وهو الضحوك الباكي ونراه ينطق باللغات كأَنه ... متلقن بالروح وحي ملاكِ ويدور كالدولاب وقت تكلم ... فكأنه سيارة الأفلاكِ ومحل حفظ الصوت شبه دماغنا ... في شدة الإحساس والإدراكِ ولسانه بعد الفكر ناطق ... بعواطف القلب الشكور الشاكي هذا عجيبة عصرنا وأديسن ... مبدي العجائب فيه كل رجاكِ لا زال بالعمر الطويل ممتعاً ... ما شنف الآذان صوتُ (الحاكي)

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع حياة النبات يرى أوسونسكي أحد كبار علماء روسيا أن حياة النبات تشبه بجملتها حياة الإنسان فلها مزاج وشهوات وميل وكراهة كالآدميين وكان علم الزراعة من قبل يرى أن النباتات عارية من هذه القوى فيكتفي الزارعون بزرعها وسقيها أو بتغذيتها وذلك بوقايتها من أخطار رداءة الهواء وتحسين ما يلائم طبيعتها من الأجواء ولكن هذا العالم رأي الآن أن لا سبيل إلى الانتفاع من النباتات واستنبات الجيد منها إلا بمعاملتها معاملة من يعقل ويحس وقد مثل لذلك بنبات البطارس (الخنثار) والفطر والطحلب وقال أنها تنقبض إذا أخذت ووضعت على قطعة من خشب مغشاة بالجلاتين واستدل من تأثر هذه النباتات على أنها حساسة كالحيوان ومن رأيه أن النباتات تتأثر بالنور والهواء أكثر من جميع الحيوانات فمنها ما يتجه نحو الشمس ومنها ما يوجه وجهه قبل المشرق ومنها ما يغلق نفسه عند الغروب ومنها ما يسهر في الليل وينام في النهار نوماً أشبه بالموت. ومن أنواع البقول ما ينام على سوقه ومنها ما يقي نفسه من حرارة أشعة الشمس بأن تجعل أوراقها على صورة لا تتعرض بها للنور مباشرة وأنا لنرى الأزاهير في الأصاصي (أواني الزهور) توجه وجهها نحو النافذة كما نرى الهندباء تتنبأ بسقوط المطر ولا تفتح ونبات المسحية تخاف من الضجة بل قد يغشى عليها متى أطلق أمامها مدفع. ومعظم النباتات تتأثر بالأثير والمورفين والكوكايين. وعلى هذا فقد استنتج العالم بأن أرسطو كان على صواب في قوله أن للنباتات روحاً فقال أن معرفة ذلك من حال النبات يدعو إلى إحسان تربيته وتعهده فإذا فعل المزارعون الفلاحون وأرباب الحدائق ذلك فهناك الغلات الجيدة في الكمية والكيفية. المجموع العصبي يحثوا في المؤتمر الطبي في جنيف مؤخراً في ضعف المجموع العصبي (نوراستينيا) والحمر فقال بعضهم أن المكثرين من تناول الماء أكثر عرضة لهذا الضعف من غيرهم ومعلوم أن هذا الضعف لا يتناول القوى الطبيعية فقط بل يتناول القوى العقلية والحماسة الأدبية ويشعر المصابون باضطراب في الوظائف العضوية وجميع هذه الأسباب تؤثر تأثيراً مضعفاً في الجسم والعقل. وجرى البحث فيما إذا كان الاعتماد على المنعشات في

مثل هذه الحال لا يفيد المصاب بهذا الداء إذا شفعها بتحسين أصول غذائه لا شك أن المصاب بضعف الأعصاب يشكو من سوء الهضم في الغالب فمن الاحتياط أن لا يعطى من الأطعمة المائعة والسائلة ما يهيج معدته وليس معنى هذا أنه ينبغي حذف جميع المنعشات من طعامه وقد تبين أن الخمور على أنواعها تضر بالمصاب بهذا الضعف كما ثبت أن المكثرين من تناول الماء مصابون بالسوداء وسريعو الانفعال والسخط. الماء المقدس لفت راهب إيطالي من المشتغلين بعلم الجراثيم والطب الأنظار للأخطار التي تحدث من أجران الماء المقدس في الكنائس فثبت لديه أن في كل مئة سنتمتر من الماء المقدس في كنيسة القديس كروس في تورين مئة وخمسين ألف جرثومة إذا أخذ الماءُ من سطح الجرن وإذا اغترف من داخله يحتوي على ستة ملايين جرثومة. وقد حقن بهذا الماء حيوانات فكان سبباً في قتلها بالسل أو الخناق أو غيرهما من الأمراض العضالة وقد بين الطرق الواقية من تناول الماء على الصورة المألوفة وأخذ رجال الدين هناك يبحثون في واسطة تدفع الجراثيم عن الماء لا بغسل الأجران بالسليماني فقط بل بالنظر في كيفية تناول الماء. طهارة برلين أصبحت مدينة برلين بالنظر للارتقاء الذي ما زال متواصلاً فيها وفضل العناية في تطهيرها ووقايتها من أطهر مدن العالم إن لم نقل أنها أطهر مدينة في العالم فأصاب الصحة من هذه الطهارة حظ وافر فقد كان معدل الموت فيها سنة 1876ـ29 فأصبح سنة 1900ـ35 وصار هذه السنة 38. الحكم بالإعدام نسمع الكثيرين من أصحاب الرأي يقولون حينما يبلغهم أن الأشقياء كمنوا لفلان فسلبوه متاعه وقتلوه شر قتلة لو نفذ الحكم بالإعدام لوقف الأشقياء عند حدهم ولما تجرأوا تلك الجرأة على قتل النفوس التي حرم الله قتلها قال أحد نواب الفرنسيس ما جعل الأسافل يغتالون الكرام إلا عدم الشدة في العقوبات وها نحن أولاً نعربه بالحرف الواحد: كل جمعية لها الحق أن تتخذ جميع الوسائل الضرورية لحفظ كيانها وإني لا أظن أنه يمكن أن تعاقب المجرمين كافة لأنه يوجد منهم من يستحيل وجود عقاب يناسب فظاعة جرمهم وإني لست

من الذين يقولون أن السبب في كل الجرائم البؤس فلا محل لتلك الأعذار التي ينتحلها لهم بعضهم قبل أن نلغي حكم الإعدام يجب أن نتحقق من أمر العقاب الذي يحل محله. قد لطف قانون السجون ولكل الجرائم لم تخفف بل لا تزال في ازدياد وزاد على ذلك أن الجرائم التي ترتكب اليوم أفظع من التي كانت ترتكب أمس نعم إن البشر ليسوا بمعصومين وقد يغلطون ولكن طرق التحقيق المتبعة اليوم بفرنسا والمرافعات القضائية تجعلنا نقول أن الخطأ أقل من القليل. وأرجو من زملائي أن يشملوا بنظرهم القوم الصالحين أكثر من أن يشملوا به المجرمين. فالجاني الذي يدخل تحت جنح الليل إلى بيت فيه أسرة آمنة مطمئنة شاهراً بيده مسدساً لا شك أنه يستحق عقاباً على هذه الجريمة الفظيعة بالأشغال الشاقة المؤبدة فإذا لم يجر عليه الحكم بالإعدام فلا شك أن هذا الأثيم يقتل كل من يقع تحت يديه كي لا يكون شاهداً عليه. الحكم بالإعدام وحده كفيل بغل أيدي سفاكي الدماء فأرجو من زملائي أن يزنوا هذه الفكرة بميزان النصفة ولا يسلبوا الهيئة الاجتماعية سلاحها. مزرعة المستقبل جربوا الكهربائية على شواطئ البحر المحيط الهادي بأميركا في تعهد المزارع وحرثها وزرعها وحصادها فاستعملوا لذلك أدوات دافعة ورافعة لتحرك بشلالات مجاورة فتحدث منها القوة المطلوبة فأتى ذلك بنتائج مهمة. ولئن كانت النفقة على هذا العمل تستدعي صرف مئات من الريالات إلا أنه يتوفر بها ثلاثة أرباع ما ينفق في العادة على مثل هذه المزارع لاستثمارها واستنباتها فضلاً عما في ذلك من الاقتصاد في الوقت والذين يتبرمون من المزارعين من كثرة النفقات والأيدي العاملة في مزارعهم يعلقون الآمال الكبيرة على أن تكون الكهربائية أعظم عاملة في مزارع المستقبل. الصحة في السويد اتفقت المجتمعات كلها على أن الرياضة البدنية من أسلم الرياضات النافعة حتى أن بلاد السويد تعتبر هذه الرياضة اعتبارها للفروض الدينية وتقضي على السكان عامة أن يعمدوا إليها فالرياضة البدنية إجبارية في المدارس على كل طفل منذ صغره فتبعث الحكومة بأساتذة من قبلها إلى كل مدرسة ليشرفوا فيها على تعاطي هذه الرياضة كما أنها تقضي

على كل تلميذ أن يسبح سواء خاف من الماء أم لم يخف كمدرسة تكره على. والحكومة هناك تدفع للأطباء المنتشرين في الأقاليم المختلفة من البلاد رواتب من خزانتها لأن ما يتناوله الطبيب في القرى من زبنه لا يكتفيه في معاشه. ومن العادة في البلدان المأهولة بالسكان أن لا يتناول الطبيب أجرة عيادته بل يترك معاشه لذمة زبنه فيدفع له كل زبون بقدر طاقته بحيث يسمن كيسه بدون طلب ولا إبرام ويعيش كالأغنياء أو أحسن. اللبن الحليب استبان لأرباب الإحصاء أن الغرام باللبن الحليب في العالم يزيد ولا ينقص فقد بلغ ما يصرف كل يوم منه في العالم كله مليوناً وثلاثمائة وثمانين ألفاً وخمسمائة طن منها خمسمائة ألف طن في الولايات المتحدة. واللبن هو الغذاء الطبيعي المغذي والشافي واللذيذ والبسيط. احترام الآراء خطب أرنست لافيس في إحدى المدارس الفرنسوية في معنى احترام الآراء والمذاهب فقال أن القضاء والشرطة لم يجعلا إلالدفع الناس بعضهم عن بعض وإن الأسباب التي تدعوا كبار الرجال إلى أن يتباغضوا بغضة شديدة جداً ترجع إلى أمر واحد ألا وهو الاختلاف في الآراء السياسية والدينية وينشأ عن هذا الاختلاف أحياناً بغض وكراهية. فالناس يختلفون في العقائد فمنهم الملحد ومنهم المحافظ الذي يرى بقاء القديم على قدمه في السياسة وأن الاحتفاظ بالتقاليد من الضروريات في الحياة العامة ومن دافع عنها فيقوم بالواجب عليه وكأنه يدافع عن مصلحة الوطن نفسه ومنهم الثوري الذي لا يرى السعادة في غير إهراق الدماء وأن الخير معقود بنواصي الفتن ولا تستقيم الأمور بدونها أما أنا فأقول أنه من الممكن أن يتخالف الناس بدون أن تسوء حالهم وأنه قد يتأتى للخصوم أن يحب بعضهم بعضاً ويحترم بعضهم بعضاً فإذا قدروا على ذلك فإنه يجب عليهم ولا سبيل إلى أن يعيش الناس بعضهم مع بعض في سلام إلا إذا جعلوا التسامح رائدهم وإذا قضي على أحد الرجلين أن يحكم عليه فمن يفصل بينهما؟ لا شك أن القوة هي الحكم ولكن استعمال القوة في مصادرة الأفكار هو من الأغلاط التي نلوم المستقبل عليها ولكم حكموا بإسقاط بعض الآراء في القدم فما زالت على انتشارها إلى اليوم ولكم حكم القضاة في الأمور الذهنية

فعدنا نحن اليوم نحكم عليهم بل ننقم عليهم سوء حكومتهم ولكم أقيمت التماثيل اليوم لرجال ذهبوا بيد الغدر والقهر ورموا في النار فأضحت الساحات التي أعدموا فيها مزدانة اليوم بتماثيلهم التي نصبت لتمجيدهم. يقول قوم ليس أشق من إرادة المرء أن لا يعمل مع غيره ما لا يريد أن يعملوه معه وأن أنصار الحرية إذا قبضوا على القياد يمنعونها غيرهم فيخالفون بذلك قاعدة الحرية كما يقولون أن الحكم بين المتناقضات ليس له إلا حاكم واحد يخضع له العالم بأسرهم صاغرين ونعني به العالم ولكن من يدعون إلى العلم يجهلون ماهيته فإن الفضيلة الكبرى في العالم هو أنه يبحث على الدوام وربما ضلَّ في أبحاثه ضلالاً بعيداً ولكن من فضيلة العالم هو أنه يجد بنفسه الأغلاط التي ارتكبها وأنه يرجع عن الأوهام التي جاء عليه زمن فأعجبته وأخذت بمجامع قلبه ثم يعود إلى البحث وما موضوع بحثه إلا الحوادث ففي الحوادث التي اكتشفها يتخذها الناس حججاً وبراهين فهم ينظرون مثلاً في حوادث تاريخ الأرض والإنسان التي أبرزها العلماء إلى عالم الوجود خلال القرنين الأخيرين ويتناقشون بما تجدد لهم من هذه الحوادث في معتقداتهم الموروثة ويعزمون إما على رفضها أو على قبولها ولكن العلم لا يكتب الغلبة لدين على آخر بل يأخذ في سبيله باحثاً مستقصياً ولا يعرف أحد إلى أي طريق ينتهي به البحث وما عظمته وجماله وإنسانيته إلا بما يبدو على معاطفه من الشك والريبة. ولا أرى مخلصاً للناس من تعليل فيها للمباحث الدينية صوتاً وأن الحرية إذا لم تكن متأصلة في الأخلاق لا تجدي بنيها نفعاً. النوم كتب أحد الباحثين في المجلة الباريزية بحثاً في النوم وما ينبغي للإنسان منه حتى تجود صحته فقال أن النوم هو أحد نواميس الكون وجميع البشر على اختلاف في أعمارهم خاضعون له وأن الرجل العادي يموت من قلة الهواء في خمس دقائق ومن قلة الماء في أسبوع ومن قلة النوم في عشرة أيام أما الإكثار من النوم فيجعل في الرأس ثقلاً وفي الجسم كسلاً. قالت لعقيلة مريم ماناسين في كتاب لها نشرته حديثاً أنه لا ينام نوماً طويلاً إلا من فرغ ذهنه وقلّ فكره وأن أناساً يسترسلون إلى النوم عندما يتفرغون من مشاغلهم لأن طبائعهم مفتقرة بحيث يتعذر عليهم أن يجدوا من أفكارهم الخاصة مادة يهتمون بها وقد أكد

سارس من علماء الأخلاق أن أرباب السخافة ينامون طويلاً. وقد سأل صاحب المبحث جلة من كبار أرباب العلم والفنون في فرنسا في معنى ما يلزم للرجل المفكر من النوم فكانت أجوبتهم متفقة في الجوهر وإن اختلفت في العرض فقال أحدهم: إني متى تعبت يستحيل عليَّ أن أتعاطى أي عمل كان فأراني مفتقراً إلى الراحة. وعليه فالواجب أن ينام المرء ليعيش لا أن يعيش لينام وقال آخر: إنني في حاجة لأن أنام ثماني ساعات على الأقل ولكن كيفية النوم تهم أكثر من كميته ومن رأيي أن لا يعمد طالب النوم إلى استعمال المنومات والمخدرات وقال جول كلارسي أحد أعضاء المجمع العلمي: إني في حاجة إلى النوم كثيراً ويقلُّ تعي عندما أنام وأنام سبع ساعات على الأقل على أني أعمل بلذة إن نمت قليلاً أو كثيراً وأنا لا أشكو إلا من الأرق فإن التفكر في أشغال الغد هي التي تؤرقني حتى السحر. وقال كورمون من مجمع العلوم: أنام من ثماني ساعات إلى تسع ساعات وأتأثر لأقل حركة تحدث أمامي وكثيراً ما أقضي الليل ساهراً كأني ملسوع فإن نمت ليلتي أتعاطى عملي من الغد وإذا أفرطت في نومي لا أحسن العمل أيضاً ومتى تمت لي ثماني ساعات تكون صحتي إلى الاعتدال وقال الأستاذ ديولافوا: أن النوم كالغذاء فبعض الناس يحتاجون لطعام كثير وبعضهم يتبلغون بالقليل كما أن بعضهم ينامون طويلاً وبعضهم يكتفون بقليل من السهاد ومن القواعد العامة أن قلة النوم والأرق يجلبان التعب ويقللان الميل للأشغال العقلية وعلى العكس في النوم الكافي والسهاد المصلح المعوض فإنهما من شروط العمل أما أنا فأنام سبع ساعات. وذكر آخر أنه إذا نام يتضاعف عمله ويجود عشر مرات عما إذا لم ينم وتسهل أموره وأنه على ثقة من أن بلزاك الشاعر لو كان نام القدر اللازم له لجاد شعره أكثر وخلدت آثاره فقد ظن أنه بسهره يقتصد وقتاً وفي الحقيقة أنه أضاعه ويقال أن نابوليون لما أنهك السهر قواه نام في معركة واترلو وهو واقف. وذكر الكاتب أسباب الأرق فقال أنها قد تكون أدبية مثل الاهتمام بالأشغال والقلق للمستقبل والتعب العقلي وتعب الوجدان والحزن وتبكيت القلب وقد ينشأ الأرق من أمراض طبيعية صرفة وفي الغالب أن المرء يحرم النوم بتساهله لأنه يحسن الاضطجاع على فراشه ولا يتخذ الأسباب اللازمة فلقد اهتدينا إلى أفضل الطرق في الأكل وأفضلها في الشرب ولم

نهتد إلى الطريقة المثلى في النوم فإن أردت يا هذا أن تنام فعليك أن تتخذ لك غرفة بعيدة عن الضجة خالية من الأنوار الصناعية والحيوانات والزهور والأثاث والبسط وأن تكون معرضة كل التعرض للتهوية حتى في الشتاء وأن يكون الفراش منحنياً قليلاً من الرأس إلى الأقدام بحيث ترتاح فيها الأعضاء جيداً وأن يتخذ الفراش من الصوف وتكون المخدة لا رخوة ولا يابسة وأن يختار من الغطاء الخفيف ومن الوسائد القليلة التضاعيف والنعومة وعليك أن تنام بعد الأكل بساعتين أو ثلاث فالأولى أن لا تغفي الجفون إلا بعد أن يتم الهضم على أن الأستاذ هالوبو ينصح للمشتغلين بالأشغال العقلية أن يناموا بعد الأكل ومن رأيه أن الواجب ترك الدماغ يستريح خلال الهضم. وخير طريقة يعمد إليها الفيلسوف والشاعر في نومهما هو أن يقطعا الليل شطرين وذلك بأن يناما بعد العشاء حتى الساعة الواحدة صباحاً (بعد نصف الليل) ثم يأخذان في الاشتغال ثلاث ساعات قبل أن يعاودا النوم وينبغي لهما أن لا يتخليا عن القيلولة في خلال أيام القيظ ويفضل النوم منفرداً وعلى النائم أن يختار وسط الفراش لينام هنيئاً وترتاح أعصابه وتنبسط وأن لا ينهض وذراعاه فوق رأسه كما يفعل بعض النساء تدللاً لأن ذلك مما يخالف نواميس الفسيولوجيا فإذا صدر النائم صفحة وجهه كثيراً يتعب أعصاب ذراعيه وأعصاب صدره وينقبض عنقه ويهز تنفسه فلا يمتد طويلاً وعليه فالواجب أن يكون الرأس واطئاً ما أمكن حتى يتسرب الدم إلى الدماغ على صورة منتظمة وأن يتمدد الجسم كل التمدد وأن لا ينثني الساقان وأن لا يشبك أحدهما مع الآخر وأن لا ترفع الركبتان ولا ينفع النوم مستلقياً على الظهر ويؤكد بعض الأطباء أن هذا الضرب من النوم بالاستلقاء يحدث أرقاً مضنياً أو كابوساً أو أضغاث أحلام والنوم على الشق الأيسر أصعب حالاً من الاستلقاء أيضاً لأنه يوقف الهضم ويؤدي إلى ضيق التنفس والاختناق وإلى حدوث حركات في القلب تضغط عليه وتؤذيه. وعلى النائم أن لا ينام وبطنه منبسط فالأفضل أن ينام المرء على جانبه الأيمن لما في ذلك من النفع للحواس وعلى هذه الطريقة ينبغي لنا تعويد أولادنا وأن نقتصر نحن أيضاً أن ننام مثلهم. وإذا حدث لنا أرق فالواجب علينا أن نعمد إلى الطرق البسيطة لجلب الكرى إلى العيون وذلك بالمشي والاستحمام قبل النوم ولا ينبغي أخذ شيءٍ من العقاقير والمخدرات لأنها ضارة وتأثيرها مؤقت لا يلبث أن يزول هذا وعلى كل إنسان أن لا يغفل أمر النوم فقد قال

ليبسول أن في النوم لصحيحي الجسم قوة وفرحاً وللمريض شفاء وهناء. البنون والبنات خطب المسيو أرنست لافيس أحد أعضاء المجمع العلمي الباريزي في معنى وجوب المساواة بين البنين والبنات في إحدى مدارس البنات في فرنسا قال ما محصله: علمت المدرسة أنكن أيتها الفتيات لم تخلقن لتعشن عيشة أصحاب القناطير المقنطرة من المال بل هي تعلمكن استعمال أدوات العمل وأعني بها المقراض والإبرة وتعلمكن مبادئ الاقتصاد المنزلي أي تدبير المنزل وليس من منزل مهما كان صغيراً إلا هو محتاج إلى ربة تدبر أمره وتصلح شأنه وتقوم على تعهده. فالنظام والنظافة والذوق والراحة كلها تدعر المرء لأن يزيد المكث في داره ويحل منزله محلاً رفيعاً من سويداء قلبه ومن حسنت إدارة بيته وكان فيه اللطف والظرف يحسن هندام نفسه. وحسن تدبير المنزل هو من أكبر الدواعي لإدخال النظام على ثروة البنت وإن قلت ومعنى القيام على تدبير المنزل التفكر للغد والنظر في المستقبل أبداً وحسن استعمال الوسائط التي تدفع اليوم عنا عوادي الحياة وتصرف عنا السوء. وهذه الذرائع هي التي تعلمنا المدرسة. إلا فاستمعن لقولي واليحط علمكن بأنه ما من بيت وإن صغر إلا وفي المكنة أن يكون كبيراً. فالأم المتوسطة الحال إذا قامت بالواجب عليها وراعت قواعد الاقتصاد في دخلها وخرجها ونظرت أبداً في لوح المستقبل يتأتى لها في البلاد الديمقراطية أن ترفع أبناءها مكاناً علياً وتنيلهم من الرغائب ما كان قصياً وعندها لا يلبث ذلك البيت الصغير أن يكبر بفضل السعي والانكماش. لا تكتفي المدرسة اليوم كما كانت أمس بأن تعلمكن القراءة والكتابة والحساب فإن معرفة الإشارات وتقليدها وإتقان وضع الأرقام هو من الأمور التافهة البسيطة تود المدرسة أن تفهمن ما تقرأن وأن تتعلقن في ما تكتبن وأن تتلقن في حساباتكن حتى تفهمن في حياتكن بعد حين ما يقال لكن وما تقلن وما تعلمن. فالمدرسة تعلمكن واجباتكن وهي تعتقد كما تعتقد الإنسانية منذ زمن طويل أن هناك شراً وخيراً فالخير هو نتيجة عمل العامل وهذا العمل شريف في ذاته والمدرسة تعلمكن الجمالي فهي تدرسكن تاريخ بلادكن وتملي عليكن بالتعليم الوطني ما هي معاهدنا وتقاليدنا

وقوانيننا. ولقد رأى بعضهم أن تعليم البنات هذا القدر من التعليم ليس فيه لهن غناء ولكننا لو تابعناهم على آرائهم لظللنا بدل التقدم إلى الأمام متأخرين إلى الوراء. وأي بلاهة أعظم من أن نترك نصف الشعب الفرنسوي جاهلاً بلاده ونقضي بهذا الجهل على النساء والأمهات أن يخرجن من عداد أبناء الوطن. المدرسة توسع دائرة أبصاركن بتعليمكن الجغرافيا فتدرسكن المبادئ اللازمة في تصور العالم والنواميس الكبرى في الطبيعة وهي تريد أن تعرفن مسكن الجنس البشري والتخوم الفاصلة بين أقطاره وعرضه وطوله وقرب البلاد من الحرارة والبرودة. تتوخى المدرسة بل تجعل من أهم واجباتها الضرورية أن ترفع الغشاوة عن ذكاء الفتيات وتشركهن ما أمكن بتسهيل طرق التعليم في معرفة الأعمال العظيمة التي يقوم بها الفكر في جميع ضروب المعرفة وأن تنبه فيهن الشعور بالآداب السامية وتعدهن إلى الاطلاع على حقائق الحياة كما هي الآن. المدرسة هنا لا تميز بين البنات والبنين فقد رأيت في كلية السوربون في إحدى الأيام الآحاد في هذا الربيع مشهداً أخذ بمجامع قلبي. شهدت مئات من العذارى الأوانس وقد تزين وأخذن ينشدن الأناشيد وكن عبارة عن تلميذات المدارس العالية في باريز أقمن حفلة لأسراتهن ولعمري من كان يظن منذ خمسين سنة أن يكون لفرنسا مدارس عالية للبنات. كنت في سنة 1869 أمين سر المسيو دروي ناظر المعارف العمومية فحاول هذا الأستاذ الشهير العظيم وكانت آراؤه كلها صائبة سديدة أن يؤسس مدارسة ثانوية للبنات فوافقه بعضهم على ما ارتأى ولكن ما لبثت الفكرة أن انتشرت بين الناس بأن الأخوات لسن كالأخوة في التساوي وأن المذكر أفضل من المؤنث كما جاء في كتب النحو التي ألفها الرجال. فكان القوم يظنون أنه يكفي الإبنة قليل من التعليم وأن هذا التعليم من خصائص الكنيسة فقط أن تعلمه ولذلك قاوم رجال الدين في إنفاذ مشروع الناظر المشار إليه. أتت أيام وأزمان فأصبح عدد المدارس العالية للبنات 42 مدرسة جامعة و5 مدرسة داخلية و69 مدسة ثانوية وبلغ عدد المتعلمات فيها 30831 بعد أن كان أقل من النصف قبل عشر سنين وهم يؤسسون هذه السنة أربع جامعات أخرى وربما خمساً وتسع مدارس داخلية وربما عشراً ولم يكن في أول سنة 1903 غير 30 مدرسة داخلية فزادت إلى هذه السنة

ثلاثة أضعاف. النساء فقط هن المعلمات في هذه المدارس يستعددن لهذا العمل الشريف بالدرس والتربية الكثيرة فيعملن ناصحات بإخلاص ونشأة وإنك لتجد مفتش المعارف والرؤساء ونظار المجامع العلمية يمتدحون بلسان واحد المعلمات والمتعلمات لأنهن يتوفرن على تعليم البنات أحسن تعليم بل أقول ولا أخشى من الحق أنهن يعلمن أحسن من تعليم المعلمين من الرجال وقد كان الناس يقولون من قبل أن النساء لا يستطعن أن يفهمن العلوم ولا أن يعلمنها وها هن اليوم يتبحرن في هذه العلوم ويعلمنها كأحسن معلم. إلا وأن في منافسة البنات للرجال في مضمار العلم لأكبر دليل على صحة ما أقول فقد رأيناهن ينصرفن إلى الدراسة أكثر من الشبان فأصبحن بفضل السهر والدرس وصيفات في الكليات للأساتذة من الرجال وقد خلفت العقيلة كوري زوجها في كلية العلوم الباريزية وكانت شريكته في اختراع الراديوم. كل هذا يدل دلالة صريحة أن النساء مستعدات كل الاستعداد للتعلم وأن من حقهن أن يتعلمن. اعتقد صغار الفتيان منذ خلق العالم بأن البنات من جنس غير جنسهم وأن الرجال أسمى مقاماً وأكبر عقلاً وأقوى جناناً إذا قيسوا بالجنس اللطيف. وما قول الناس هذا من الجنس اللطيف أي النساء وهذا من الجنس القوي أي الرجال إلا من الأوهام في المرأة نشأت من التوحش وما كتب للرجال من قوة العضلات وكانت الأنانية والمصلحة هما المساعدتين على انتشار هذا الفكر. وها قد ضعف اليوم هذا الوهم وانتشرت الحقيقة كالشمس الساطعة وما أسهلها وأبسطها ولكن الحقائق البسيطة هي التي يطول عهد اكتشافها. الحقيقة التي أعنيها هو أن للبنت كما للصبي ذكاء وإن كانت الكفاآت وأميال الذكاء في الذكور والإناث متفاوتة الدرجات فليس معنى ذلك أن الذكاء الأنثوي أضعف من الذكاء الرجلي بل إن معنى ذلك أن كلاً من ذكاء الفريقين متمم لصاحبه ليتألف من مجموعه ذكاء الإنسانية. والحقيقة بأن للابنة كما للصبي قلباً يحب ويفرح ويحزن بل أن حظ البنات من الأحزان في هذه الحياة أعظم وأشد وفي قلوب الزوجات والأمهات من بنات المستقبل مادة عظيمة من الدموع سيفرغونها في حياتهن المستقبلية. الحقيقة بأن معظم البنات كمعظم البنين مضطرات إلى الكدح لمعاشهن وأنهن يصعب عليهن السير في هذا السبيل ومعزى ذلك أن الواجب يقضي على البنات

والبنين أن يجتمعن ذات يوم ليؤسسن معاً أسرة جديدة ويحدث من هذه الحقيقة البسيطة أن البنات كالبنين متساويان في حقوق الإنسانية فلا مسوغ والحالة هذه إلى أن يعاملن معاملة مختلفة في سبيل إعداد الجنسين لجهاد الحياة. وبعد فإن النساء لا يصبحن كلهن عالمات كما لا يكون المتعجرفات فيهن بقدر المتعجرفين من الرجال والعجرفة من الأمور البشعة والنساء لا يحببن أن يكن بشعات كما أنهن لا يتولين الأعمال كلها لما يقوم في وجوههن من منافسة الرجال منافسة شديدة ولأن الطبيعة تقضي بأن تكون للنساء صناعات خاصة بهن وللرجال كذلك فإذا جاء فيهن النساء المخرفات تضطرهن الحال إلى الاعتدال بيد أن الحقوق المخولة للنساء اليوم لا تكفي لتغيير حالتهن الاجتماعية. ولقد عنيت دائماً في حياتي الطويلة أن أشوق أفكار الشبان بل الأطفال إلى الحياة وأن أطلعهم على ما عساهم يطلعون عليه في حياتهم وأرى الآن أنه من الواجب أن ألقنهم محبة حب الوقت إذا كان للوقت ثمن عندهم. أنا مقتنع بأن الناشئة متى عرفوا بعد حين الوقت الذي عشنا فيه يعترفون له بالفضيلة الجميلة من أنه عمل على تقوية كل نوع من أنواع الضعف كضعف الولد وضعف المرأة وضعف الشيخ وضعف الفقير وضعف العاجز والزمن. وهذا العمل الشريف الذي تممته الأزمان لا نلحظه كما أن المتحاربين لا يلحظون في معمعان الحرب كل ما يجري بينهم بل يرون من خلال التراب والدخان حركات لا يميزونها وهجمات وأناساً يفرون وآخرين يركضون وغيرهم يسقطون وهذا الاضطراب العظيم يبعدهم عن تصور ما تم ومع هذا يتم في ساحة الوغى ما انصرف إليه المقاتلة وتخفق أعلام النصر على من كتب لهم. ولكن قوماً يقولون أن إنهاض الضعيف من كبوته يضعف من قوة الحاكم وسطوته ويرى ولاة الأمر أن هذه السطوة ضرورية مشروعة وأنها إذا فقدت فهناك القضاء على المجتمع وعلى العالم. ولكن الناس لم يسمعوا هذه النبوآت إلا عندما تمس آراءهم أو عاداتهم القديمة أما أنا فأعتقد بأن هذا المجتمع في تبدل ولن يزول فإذا ذهبت صورته يبرز في صورة أخرى.

لغة البلاد كانت اللغة البلجيكية الشائعة هي الإفرنسية مع أن أكثر من نصف أهلها يتكلمون باللغة الفلامندية وقد علم من إحصاء أخير أن 2744000 من أهل البلجيك يتكلمون باللغة الفلامندية و2145000 يتكلمون بالإفرنسية و700000 يتكلمون بكلتيهما والسواد الأعظم من السكان يطلبون فقط أن تكون اللغة الفلامندية اللغة الرسمية للنصف الشمالي من البلجيك وقد صرح النائب الحر المسيو جورج لوراند بأنه يحق لكل فرد أن تدار شؤونه بلغته وأن الموظفين وهم خدمة الناس يجب عليهم أن يكلموا الأمة بلغتها. قالت المجلة التي نقلنا عنها هذا الخبر وهذا من المعقول بمكان وهو الذي سيكون عليه القرار. الجامعة المصرية افتتحت المدرسة الجامعة يوم 15 كانون الأول الماضي حساباً غربياً وهي المدرسة التي أنشأها بعض رجال النهضة المصرية وجمعوا لها الإعانات الطائلة من أرباب الخير لتعليم الناشئة تعليماً أوربياً عربياً وطنياً. والدروس التي تلقى فيها الآن محاضرات على الحضارة الإسلامية يلقيها الأستاذ أحمد زكي بك ومحاضرات على الحضارة القديمة في مصر والشرق إلى ظهور الإسلام يلقيها الأستاذ أحمد كمال بك ومحاضرات على آداب اللغتين الإنكليزية والإفرنسية يلقيها الأستاذان مللر وبوفيليه ومحاضرات على أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب وعلاقتها بأوربا يلقيها الأستاذ دي كوبه. غرف القراءة افتتح مساء 24 ذي القعدة الماضي بضعة عشر أديباً من شبان دمشق وأعضاء جمعية النهضة السورية غرفاً للقراءة مجانية ووضعوا فيها ما يلزم للمراجعة والمطالعة من الكتب والمجلات والجرائد. وهذه الغرف من أحسن المشاريع الأدبية في هذه الحاضرة بعد إعلان الحرية. هجرة الإسبانيين شغلت مسألة هجرة الإسبانيين رجال البحث فيها إذ رأوا أن عدد المهاجرين تضاعف في خمس سنين فكان الراحلون عنها سنة 1900 حسب الإحصاء الرسمي 62482 فغدوا سنة

1906 ـ 127000 وهذا القدر فيه نظر لأن كثيرين يفرون بدون أن يأخذوا جوازاً من الحكومة فيسافرون سراً فراراً من وجه رجال الشرطة والذين يعودون من المهاجرين إلى أميركا فقلما يرجعون إلى بلادهم وترى الآن 24 مليون هكتار من الأرض الإسبانية بوراً لا زرع فيها ولا ضرع لقاء 22 مليوناً قابلة للزراعة. جرائد الهند تصدر في أقطار الهند 774 جريدة يومية بتسع عشرة لغة مختلفة وأكثرها انتشاراً جريدة كورالدري تصدر في بومباي ويطبع منها كل يوم خمسة آلاف نسخة وفي كلكتا جريدة بازوموتي وهي أسبوعية يطبع منها خمسة عشر ألف نسخة. الجنون في أميركا يزداد فقد العقل في الولايات المتحدة بصورة مخيفة. ففي ولاية نيويورك ستة وعشرون ألف وثلاثمائة وسبعة وخمسون مجنوناً وذلك واحد في الثلاثمائة وأغلبهم من المهاجرين. بيان وإيضاح نبهت في كلامي عن الطالع السعيد على نوع من الزجل سماه المؤلف بالبليقة ولم أدر إن كان يراد به مطلق الزجل في ذلك العصر أو نوعاً مخصوماً منه ثم وقفت أخيراً على بيان وافٍ لهذا النوع في كتاب الأقصى القريب لأبي عبد الله محمد التنوخي وهو من مقتنياتي الحديثة أحببت أن أتحف به المقتبس الأغر. قال عند كلامه على الموشحات والأزجال ما ملخصه ومنها قرقيات المصريين وبليقاتهم والفرق بينهما وبين الزجل أن الزجل متى جاء فيه الكلام المعرب كان معيباً والبليقة ليست كذلك فيجيء فيها المعرب وغير المعرب ولذلك سميت بليقة من البلق وهو اختلاف الألوان وتفارق البليقة في أن البليقة لا تزيد على خمس حشوات غالباً وقد تنتهي إلى السبع قليلاً والقرقية تزيد كثيراً على حكم الزجل في ذلك وسميت القرقية قرقية من القرقة وهي لعبة يلعب بها صبيان الأعراب انتهى. قلت وهذه اللعبة ذكرها صاحب القاموس ورسم صورتها إلا أنه سماها قِرقاً لا قِرقةً والخطب سهل. أحمد تيمور قصيدة للمعري

نشر المقتبس قصيدة لأبي العلاء المعري لا توجد بديوانه عثر عليها أحد علماء المشرقيات في كتاب الوافي للصفدي وقد عثرت له على أبيات لامية أيضاً لا توجد بالديوان في كتاب التذكرة لابن العديم وهو من كتب دار الكتب الخديوية وهذه النسخة بخط ابن العديم نفسه ونصها: قرأت بخط الشيخ أبي الفضل عبد الواحد بن محمد بن العطار الربعي الحلبي على ظهر كتاب أنشد أبو العلاء المعري في من قتل وصلب. أَبدْرَ دُجى غالته الغوائل ... فأصبح مفقوداً وليس بآفل أتته المنايا وهو أعزل حاسر ... خفىَّ غرار السيف بادي المقاتل غلام إذا عاينت عاتق ثوبه ... رأيتَ عليه شاهداً للحائل يمسّح المسك الزكيّ مرَجلاً ... يرفّ على المتنين مثل السلاسل سواءٌ عليه في السوابغ جرْأَةً ... ثنى عطفه أو في رقاق الغلائل وعزّ عَلَيّ العلياءِ إن حيل بينه ... وبين ظبي أسيافه والعوامل وعريّ من برديه والسيف لم يكن ... ليخضب إلا من دماءِ الأفاضل أَحلوُّك من أعلى الفضاء محلةً ... نأَت بك عن ضنك الثرى والجنادل وليس بعارٍ ما عراك وإنما ... حمال اتساع الصدر ضيق المنازل انتهى إلا أن قول ابن العديم أنشد أبو العلاء يحتمل أنه أنشدها لغيره وليست له ويتحمل عكسه على أني أرجح كونها له لما عليها من المسحة المعرية وقد عرضتها عَلَى الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري فصوب رأيي فيها وزاد أنه لم يعهد في الغالب أن أبا العلاء ينشد لغير العرب فالراجح أنها من كلامه وقد أعجب بها كثيراً. القاهرة ـ أحمد تيمور

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات التربية الاستقلالية أو أميل القرن التاسع عشر لالفونس اسكيروس ترجمه عبد العزيز أفندي محمد وطبع بمطبعة المنار بمصر سنة 1326: ص466 هذا السفر من أجل كتب التربية عند الإفرنسيس جرى فيه مؤلفه على أسلوب أميل القرن الثامن عشر لجان جاك روسو وصاغه في قالب رسائل ملذة حوت خزانة أفكار ترقي في المرء أدب النفس وأدب الدرس. وقد قدم له رصيفنا صاحب المنار مقدمة ذكر فيها غرض المؤلف وفائدة كتابه وكذلك فعل مترجمه الأديب. وكان نشر هذا الكتاب تباعاً في أجزاء كثيرة من مجلة المنار فأفرد الآن ليعم نفعه فهو من أفضل ما يقتنيه أرباب البيوت ويتلونه على صبيانهم وبناتهم ونسائهم لتنطبع في القارئ والسامع ملكة التربية العملية وصورة من صور الآداب العالمية في المدنية الغربية فعسى أن ينتفع بالفرع كما انتفع بالأصل وأن يلهم العارفون لغات الأجانب منا إلى تعريب مثل هذه الأسفار النافعة. دلائل التوحيد تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي طبع بمطبعة الفيحاء بدمشق (ص207) عرف مؤلف هذا الكتاب بالهمة العالية في التأليف والنشر والنظر في الفنون الإسلامية واللسانية. وكتابه هذا حوى من أدلة الكلاميين والفلاسفة الإلهيين ما تدحض به حجج المبطلين والسفسطائيين ولنحل به شبهات الجامدين من الماديين وقد التزم في حجاجهم جانب الأدب والحكمة فلا يدفع الشبهة إلا بالحجة ولا يدفع الباطل إلا بسلطان الحق عازياً بعض الشواهد لأربابها مغفلاً الآخر على حسب المال. دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف تأليف عيسى أفندي اسكندر المعلوف. طبع في المطبعة العثمانية في بعبدا (لبنان) سنة 1907 ـ 1908 (ص749)

هذا المؤلف من كتاب العربية وشعرائها المجيدين ترجم وكتب كثيراً فعد من جملة من خدموا الآداب العربية وقد اختص هذا التأليف بوصف أسرته الكبرى خاصة وبعض الأسر السورية ولاسيما المسيحية عامة وألمَّ بتاريخ معظم أصقاع سورية قديمها وحديثها ومناشئ سكانها وأصولهم وعاداتهم وحكوماتهم آخذاً عن الشيوخ مشافهة ومن بطون الدفاتر والكتب المطبوعة والمخطوطة مما يصعب وصول كل باحث إليه فجمع شتيتاً من الحوادث والكوائن خدم بها تاريخ البلاد خدمة يشكر عليها وتاريخ الأفراد هو تاريخ السياسة. تقرير جمعية العروة الوثقى سنة 1906 ـ 1907 في القطر المصري جمعيتان إسلاميتان قامتا بأجل الأعمال النافعة من تربية البنين والبنات إحداهما الجمعية الخيرية الإسلامية في القاهرة والثانية جمعية العروة الوثقى الخيرية الإسلامية بالإسكندرية. وأمامنا الآن تقرير الثانية الأخير وفيه أن عدد مدارس الذكور التي أسستها كان في السنة الماضية 11 مدرسة فيها 910 أولاد ومدارس البنات 6 عدد تلميذاتها 557 بنتاً وقد تبرع لها المحسنون في خلال السنة الماضية بألف جنيه بعضها من محسني اليونان وغيرهم كما تبرع المسيو موريوندو وحده بألف ليرة إفرنسية وأعطى ورثة المسيو نقولا آبيت إلى الجمعية ألف جنيه وهي مما خصها من توزيع الخمسة آلاف جنيه التي كان أوصى بها لتصرف على الأعمال الخيرية في الإسكندرية وذلك عدا الأوقاف التي وقفت عليها وهي تساوي بضعة ألوف من الجنيهات. وكان المرصد لنفقات التعليم 5646 فبلغت النفقات الحقيقية 5730ج و86م. رحلة الحبشة لصادق باشا المؤيد وتعريب رفيق بك العظم وحقي بك العظم. طبعت بمطبعة الجريدة بمصر سنة 1326 ـ 1908 (ص335) المؤلف والمعربان ممن اشتهروا بالآداب وخدمة الأقلام. والمؤلف هو أحد أفراد أسرة تعلم معظمهم التعليم العصري وبرزوا في الفنون التي أحكموها. وقد كانت الحكومة العثمانية انتدبته في مهمات السياسة فرحل إلى جغبوب مقر الشيخ السنوسي كما رحل إلى كفرة

وآسيا الصغرى والحجاز وآخر رحلاته رحلته إلى بلاد الحبشة في مهمة من السلطان العثماني إلى الإمبراطور منليك الحبشي فلم يشأ أن يضيع رحلاته في الطعام والمنام والسلام والكلام بل قيدها بالورق ونشر بعضها بالتركية فعز على نسيبه أن لا ينتفع برحلته إلى الحبشة عند العرب فعرباها تعريباً متقناً وفيها وصف بلاد النجاشي وصورة مصغرة من تاريخها الحاضر والغابر واجتماعها وأصول سكانها وعاداتهم وإدارتها وصلاتها ببلاد الإسلام ومشاهيرها أمس واليوم بحيث جاء الكتاب مرجعاً لأبناء هذه اللغة وسوف تنتفع به الأجيال المقبلة كما ننتفع نحن الآن برحلة ابن جبير وابن بطوطة وغيرهما من رحالة العرب والعجم. وكتب الرحلات من أنفع كتب العمران والحضارة وفي هذا الكتاب صور بعض المشاهير من الأحباش وغيرهم وبعض الرسوم والمصورات على نحو الرحلات الإفرنجية. تركيا الجديدة لجميل أفندي معلوف طبع بمطبعة المناظر في سان باولو من بلاد برازيل (ص 154) كتاب أجاد مؤلفه في وضعه أتى فيه على أسباب الانقلاب العثماني وتاريخه وقسمه إلى ستة كتب الكتاب الأول في أسباب الانحطاط في الشرق والثاني في تفرنج الشرقيين والثالث في التعليم والرابع في القانون الأساسي والخامس في الديانة السياسية والسادس أبقاءٌ أم فناء. كل ذلك مكتوب بقلم يدل على أن للمؤلف جولة في المسائل السياسية والاجتماعية وذوقاً في التأليف والتأثير في الأفكار ومن رأيه أن الثورة الأخيرة في السلطنة كانت لقلب مبدأ لا للانتقام من شخص ولو كانت شخصية لفشلت لأن كثيراً من ملوك بني عثمان قتلوا ولم ينتج من قتلهم فائدة للبلاد بخلاف هذه الثورة التي أشبهت ثورتي فرنسا وأميركا اللتين أريد بهما قلب المبادئ لا نقل السلطة من مستبد إلى يد مستبد آخر. قال ولا بد أن يعقب هذا الانقلاب السياسي الصغير ثورة أدبية عظيمة ضد المبادئ القديمة كلها فيثور الابن عَلَى أبيه والمرأة على زوجها والخادم على سيده والرعية على كاهنها وشيخها ورجال الدين على كتبهم وأبناء اليوم جميعاً سيثورون على خرافات أجدادهم ويبرزون أمام العالم أمة جديدة مجردة من كلا علاقة مع الأجيال الماضية.

الفتاوى والنظم تأليف محمود أفندي الحمزاوي طبع بمطبعة روضة جلق بدمشق سنة 1326 هـ (ص86) هي رسالة منظومة في قسم المعاملات من الفقه الحنفي فيها فوائد كثيرة لا يستغني عنها مستفت. ونظم المؤلف وسط ولعله أرقى من كثير من منظوم الفقهاء والمحدثين والمؤلف أحد مفاتي دمشق الذين تفاخر بهم لم يشتهر بالنظم اشتهاره بالفقه والحديث وله رسائل وكتب طبع بعضها وبعضها لم يطبع. نخبة عقد الأجياد في الصافنات الجياد تأليف الأمير محمد باشا الحسني الجزائري طبع على نفقة المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1322 (ص304) هو كتاب موجز من سفر مطول بهذا الاسم ذكر فيه المؤلف نشأة الخيل ونضلها وتكريمها والقول في لحومها وأنواعها وألوانها وأعضائها وصفاتها وتقفيزها وأطوارها وخدمتها والإنفاق عليها وتأديبها وكيفية تضميرها والسباق وما يتعلق به إلى غير ذلك من الفوائد المهمة التي لا يستغنى عنها في هذا الباب فنشكر للأمير المؤلف هديته ونرجو أن ينسج على منواله معظم الأعيان والأمراء فيصرفون شيئاً من أوقاتهم في خدمة الآداب والمعارف. أبحاث باحث نشر المسيو لوسين بوفا من المتضلعين من العلوم المشرقية والعارفين بالعربية والفارسية والتركية كراسة أشار فيها إلى أبحاثه ومقالاته في المجلات الإفرنجية مثل مجلة العالم الإسلامي والمجلة الآسياوية ومجلة السجلات المراكشية والمجلة الإسبانية ومعظم هذه الأبحاث مما اشتهر بين أهل الأدب والعلم وقدره الباحثون حق قدره فنثني على نشاط صديقنا المشار إليه. مجلات وجرائد لم يكد الكمام الذي وضع على الأفواه والألسن منذ زهاء عشرين سنة في السلطنة يرتفع

عن الناس بفضل القانون الأساسي حتى ظهرت جرائد ومجلات كثيرة بلغات مختلفة في قواعد البلاد بل في كورها الصغيرة. ومن الجرائد اليومية التي ظهرت في بيروت جريدة الاتحاد العثماني لمنشئها أحمد أفندي حسن طبارة من قدماء الصحافيين وجريدة الثبات لصاحبها إسكندر أفندي الخوري ورئيس تحريرها خليل أفندي زبيّة من قدماء الكتاب وجريدة الوطن لمنشئيها شبلي أفندي ملاط ونجيب أفندي شوشاني من الأدباء الشعراء وحديقة الأخبار وهي أقدم جريدة سورية صدرت يومية أيضاً لمنشئيها وديع أفندي الخوري وحنا أفندي الخوري وبيروت لصاحبيها عبد القادر أفندي الدنا وأمين أفندي الدنا صدرت يومية أيضاً والحقيقة للشيخ أحمد عباس الأزهري ومديرها حسن أفندي الناطور والمفيد لعبد الغني أفندي العريسي من الأدباء الكاتبين ومدير سياستها حسن أفندي بيهم من قدماء الكتاب. وبهذه الجريدة أصبحت جرائد بيروت ولبنان اثني عشرة جريدة. وصدرت في حلب جريدة يومية لصاحبها حكمت ناظم بك اسمها صدى الشهباء نصفها بالعربية والنصف الآخر بالتركية. وأصدر صاحب هذه المجلة جريدة يومية باسم المقتبس أيضاً في مدينة دمشق. ومن المجلات الحديثة مجلة المباحث في طرابلس الشام لصاحبها جرجي أفندي يني وصموئيل أفندي يني من قدماء الكتاب المشتغلين بالآداب وهي علمية أدبية سياسية فكاهية تصدر مرتين في الشهر وصدرت في بيروت مجلة النبراس وهي شهرية تبحث في الاجتماع والعمران والعلم والأدب والتاريخ والانتقاد والسياسة لمنشئها الشيخ مصطفى الغلاييني من الكتاب الأدباء. وصدرت في بيروت مجلة المنتقد وهي عمرانية اجتماعية انتقادية فكاهية تصدر مرتين في الشهر لمنشئها محمد أفندي باقر ومديرها كمال أفندي بكداش. وصدرت فيها أيضاً مجلة روضة المعارف لصاحبها محمد علي بك القباني ورئيس تحريرها الشيخ عبد الرحمن سلام الشاعر الأديب وهي تصدر مرتين علمية أدبية فكاهية. وصدرت في مصر عدة جرائد ومجلات أيضاً منها مجلة الجامعة المصرية وهي نصف شهرية لأصحابها محمود أفندي فيضي وعبد الله أفندي أمين وهما من أدباء القاهرة وهذه المجلة تنشر دروس الجامعة المصرية. والذي يلاحظ على معظم هذه الصحف أنها تكاد تكون متشابهة في موضوعاتها فلو تفننت

كل واحدة وخاضت عباب موضوع يخالف أختها لنفعت البلاد نفعاً أكثر وصادفت من الرواج والإقبال ما تستحق. المنجد للأب لويس معلوف اليسوعي طبع بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت (ص737) هو معجم عربي مدرسي موجز مرتب على الأسلوب الحديث مزين بصور بعض الحيوانات والنباتات والأدوات والأعضاء قدم له المؤلف الاصطلاحات التي اختارها وفيها فوائد كثيرة وكنا نود لو كان هذا المعجم أوسع مما هو عليه لئلا تفوته بعض الفصح وأن تكون بعض ألفاظه معززة بالشواهد الخفيفة لتكون اعلق في الذهن. وقد تحرى المؤلف كما قال المحافظة على عبارات الأقدمين ما أمكن وأغفل ذكر ما يمس حرمة الآداب من الكلمات المبذوءة التي لا يضر جهلها وقلما أفاد علمها. قال وإذا شئت البحث عن كلمة فإن كانت مجردة اطلبها في باب أول حرف منها وإن كانت مزيدة أو فيها حرف مقلوب عن آخر جردها وأوردها إلى الأصل ثم اطلبها في باب الحرف الأول من حروفها الأصلية وقد جعل أول كل مادة في صدر السطر بين هلالين وعد اليمين نقطة مربعة الشكل وإن كانت الكلمة من الدخيل فنقطة مستديرة. والكتاب من أجود طبع عهد باللغة العربية وأصغر حرف وأوسط حجم حتى يسهل على الطالب نقله كما ينقل المعاجم الصغيرة الإفرنجية فنشكر للمؤلف عنايته بخدمة اللغة والآداب ونرجو أن يكون مصنفه نافعاً للمدارس والطلاب.

إيقاظ الرقود

إيقاظ الرقود إلى كم أنت تهتف بالنشيد ... وقد أعياك إيقاظ الرقود فلست وإن شددت عرى القصيد ... تجد في نشيدك أو مفيد لأن القوم في غي بعيد إذا أيقظتهم زادوا رقادا ... وإن أنهضتم قعدوا وئآدا فسبحان الذي خلق العبادا ... كأن القوم قد خلقوا جمادا وهل يخلوا الجماد عن الجمود أطلت وكاد يعييني الكلام ... ملاماً دون وقعته الحسام فما انتبهوا ولا نفع الملام ... كأَن القوم أطفال نيام تهز من الجهالة في مهود إليك إليك يا بغداد عني ... فإني لست منك ولست مني ولكني وإن كبر التجني ... يعز علي يا بغداد أني أراك عَلَى شفا هول شديد تتابعت الخطوب عليك تترى ... وبدل منك حلو العيش مرّا فهلاّ تنجبين فتى أغرّا ... أراك عقمت لا تلدين حرا وكنت لمثله أزكى ولود أقما الجهل فيك له شهودا ... وسامك بالهوان له الجسودا متى تبدين منك له جحودا ... فهلا عدت ذاكرةً عهودا بهن رشدت أيام الرشيد زمان نفوذ حكمك مستمر ... زمان سحاب فيضك مستدرّ زمان العلم أنت مقر ... زمان بناء عزك مشمخر وبدر علاك في سعد السعود برحت الأوج ميلاً للحضيض ... وضقت وكنت ذات عليّ عريض وقد أصبحت فيجسم مريض ... وكنت بأوجه للعز بيض فصرت بأوجه للذل سود ترقى العالمون وقد هبطنا ... وفي درك الهوان قد انحططنا

وعن سنن الحضارة قد شحطنا ... فقطنا يا بني بغداد قطنا إلى كم نحن في عيش القرود ألم تك قبلنا الأجداد تبني ... بناءً للعلوم بكل فن لماذا نحن يا أسرى التأَني ... أخذنا بالتقهقر والتدني وصرنا عاجزين عن الصعود كأن زحل يشاهد ما لدينا ... لذاك أحمر من حنق علينا قال موجهاً لوماً إلينا ... لو أني مثلكم أمسيت هينا إذاً لنضوت جلباب الوجود وكنتم في الجهالة وهي تعشي ... وعشتم كالوحوش أخس عيش أما فيكم فتى للعز يمشي ... تبارك من أدار بنات نعش وصفدكم بأصفاد الركود حكيتم في توقفكم جديَّا ... فصرتم كالسها شعباً خفيا ألا تجرون في مجرى الثريا ... تؤم بدورها فلكاً قصيا فنبرز منه في وضع جديد حكومة شعبنا جارت وصارت ... علينا تستبد بما أشارت فلا أحداً دعته ولا استشارت ... وكل حكومة ظلمت وجارت فبشرها بتمزيق الحدود حكومتنا تميل لباخسيها ... مجانبةً طريق مؤسسيها فلا يغررك لين ملابسيها ... فهم كالنار تحرق لامسيها وتحسن للنواظر من بعيد لقد غص القصيم بكل نذل ... وأمسى من تخاصمهم بشغل فريقاً خطتي غيّ وجهل ... كلا الخصمين ليس له بأهل ولكن من لتنكيل المريد إليهم أرسلت بغداد جندا ... ليهلك ثم عن عبث ويفدى لقصد ابن الرشيد أضاع قصدا ... فلا يا ابن الرشيد بلغت رشدا

ولا بلغ السعود ابن السعود مشوا يتحركون بعزم ساكن ... ورثة حالهم تبكي الأماكن وقد تركوا الحلائل في المساكن ... جنود أرسلت للموت لكن بفتك الجوعِ لا فتك الحديد قد التفوا بأسمالٍ بوال ... مشاةً في السهول وفي الجبال يجدون المسير بلا نعال ... بحال للنواظر غير حال وزيّ غير ما زي الجنود مشوا في منهج جهلوه نهجاً ... يجوبون الفلا فجاً ففجاّ إلى حيث السلامة لا ترجى ... فيا لهفي على الشبان تزجى عَلَى عبث إلى الموت المبيد وكلٌ مذ غدوا للبيت أما ... فودع أهله زوجاً وأما وضم وليده بيد وشما ... بكى الولد الوحيد عليه لما غدا يبكي على الولد الوحيد تقول له الخليلة وهو ماش ... رويدك لا برجت أخا انتعاش فبعدك من يحصل لي معاشي ... فقال ودمعه بادي الرشاش وكلتكمو إلى الرب الودود عساكر قد فضوا عرياً وجوعاً ... بحيث الأرض تبتلع الجموعا إلى أن ضار أغناهم ربوعاً ... لفرط الجوع مرتضياً قنوعا بقدر لو أصاب من الجلود هناك قضوا وما فتحوا بلادا ... هناك بأسرهم نفدوا نفادا هناك لحيرة عدموا الرشادا ... هناك لروعهم فقدوا الرقادا هناك عروا هناك من البرود أناديهم ولي شجن مهيج ... وأذكرهم فينبعث النشيج ودمع محاجري بدم مزيج ... إلا يا هالكين لكم أجيج ذكا بحشاي محتدم الوقود

سكنا من جهالتنا بقاعا ... يجور بها المؤَمر ما استطاعا فكدنا أن نموت بها ارتياعا ... وهبنا أمة هلكت ضياعا تولى أمرها. . . . . أيا حرية الصحف ارحمينا ... فأنا لم نزل لك عاشقينا متى تصلين كيما تطلقينا ... عدينا في وصالك وامطلينا فأنا منك نقنع بالوعود فأنت الروح تشفين الجروحا ... يحرّج فقدك البلد الفسيحا رأس لبلدة لم تحو روحا ... وإن حوت القصور أو الصروحا حياة تستفاد أقول وليس بعض القول جداً ... لسلطان تجبر واستبدا تعدى في الأمور وما استعدَّا ... ألا يا أيها الملك المفدى ومن لولاه لم نك في الوجود أنم عن أن تسوس الملك طرفاً ... أقم ما تشتهي زمراً وعزفا أطل منكم الريمة خل عرفاً ... سم البلدان مهما شئت خسفا وأرسل من تشاء إلى اللحود فدتك الناس من ملك مطاع ... ابن ما شئت من طرق ابتداع لا تخش إلا أنه ولا تراع ... فهل هذي البلاد سوى ضياع ملكت أو العباد سوى عبيد تنعم في قصورك غير دار ... أعاش الناس أم هم في بوار فإنك لم تطالب باعتذار ... وهب أن الممالك في دمار أليس بناء قصرك بالمشيد جميع ملوك هذي الأرض فلك ... وأنت البحر فيك ندى وهلك فأين لهم علاك وذاك أنك ... لئن وهبوا النقود فأنت ملك وهوب للبلاد وللنقود

التجارة والإسلام

التجارة والإسلام يا كرام الشام أراني كمن هو في المنام يتنقل من أمر غريب إلى أمر أغرب وكل ما أراه من هذه المظاهر يزيدني في كل ليلة سروراً على سرور حتى لا يكاد يوجد موضع لزيادة السرور. رأيت في هذه الليلة مشهداً حافلاً ومثالاً يدل على الوطنية الحقيقية في هذه المعاهد فلذلك لم أتمالك أن أبتدأ كلامي بالإشارة إلى حكمة من رجل قديم وهي أنه جمع أحد الرجال أولاده وأوصاهم بالرمز لأنه وجد الإشارة أفضل من كل عبارة فقدم لهم أعواداً من أغصان الشجر وأعطى لكل واحد منهم عوداً وقال له إقصم هذا فكان ما أسهل عليه من كسره. ثم ضم الأعواد بعضها إلى بعض وأعطاها للقوي من أولاده فالثاني فالثالث فالرابع فكانت النتيجة سلبية فقال بهذا الاتحاد يكون نيل المراد. لذلك أحييكم بوجود هذه العاطفة عاطفة الود والاتحاد التي تربطكم بعضكم ببعض وما افترق عضو إلا وكان مشلولاً والاتجاه ممدوح ويد الله مع الجماعة. من دواعي السرور التي رأيتها في هذا البلد الأمين أنني اجتمعت بنفر من الخاصة ثم بالعامة أمس واليوم اجتمعت بالوسط وهم التجار وخير الأمور الوسط اجتمعت بهؤلاء في نادي التجارة وهي أساس الملك وركن العمران ولا أطيل الكلام في فوائدها فكلكم أدرى بها مني وتعرفون مزاياها. على التجارة قامت الأمم وارتقت الممالك حتى قيل في الأمثال: إذا كان مجد العالم بكراريسه فمجد التاجر بكيسه ولكن مجد العالم لا يكون له شأن في ترقية الوطن إلا إذا أمده التاجر بكيسه. العلماء قوم يشتغلون بالعلم ولو اشتغل الناس كلهم بالعلم لكانوا في غير هذه الدنيا أو من غير هذا العالم إذ ما الفائدة من الورق المكتوب إن لم ينضمَّ له الورق المضروب وما الفائدة من الطمامير إن لم تؤيدها الدنانير. أم تروا أن سيد الخلق كان تاجراً وأن كثيراً من علماء الإسلام اشتغلوا بالتجارة والعلم لما في التجارة من سعادة الدنيا وحياة الأمم وما في العلم من سعادة الآخرة. إذا نظرنا إلى المسلمين رأينا الخلفاء وأرباب الدولة منهم يتجرون بأمتعة الدنيا ليكتسبوا قوتهم من الحلال لأن التجارة هي المكتسب الحلال الصافي من كل قذر. تعلمون أن علوم العرب قد أخفى عليها الزمان ولكن بقي لنا شيءٌ من ذلك البحر الزخار. كان ابن جبير الأندلسي وابن حوقل البغدادي والمسعودي يطوفون البلاد للتجارة والمكسب ويدونون كل ما يشاهدونه من المعارف ليفيدوا أبناء جنسيتهم بكل ما استفادوا من التجارة

بهذه الوسيلة تملك العرب في أيام مجدهم أطراف الدنيا وارتقى لديهم العلم ولذلك كان الإسلام ذلك المظهر البديع في الدين والسياسة الذي ضمن له كل درجة في ارتقاء العلم. ما هي الأسس التي قامت عليها الحياة؟ هي الزراعة والصناعة والتجارة. فالزراعة أول مصدر حقيقي لمعيشة الإنسان حتى أخذ في التحضر والتمصر ولكنها كانت قاصرة فجاءتها الصناعة فاشتغلت بما تنتجه الأرض من الخيرات واستحصلت منها خيرات أخرى صناعية. بقيت هذه الحالة في دور الطفولية في أدوارها الأولى فجاءت التجارة وصلةً بين الزارع والصانع سبباً في تقدم العلوم وارتقاء المدارك وحسب التجارة فضلاً أن سيد البشر ونبي العرب والعجم قد اشتغل بها كما ذكرنا. ليست كل البلاد زراعية بل منها ما هو جبل أو واقع في سفح البحر فلا يمكن أن تنبت لها الأرض شيئاً ونرى الإنسان في مكان كهذا ليس للزراعة فيه أثر ومع ذلك يعيش بفضل التجارة ولهذا يمكن للإنسان أن يستغني عن الزراعة والصناعة ولا يمكنه الاستغناء عن التجارة لأنها تنقل له المحصولات الزراعية والصناعية من البلاد التي تمتاز بهما ولكن إذا بارت التجارة عدمت الزراعة والصناعة فالتجارة والأمر على ما ذكر سيدة المعايش. كان تجار الشام ملوك التجارة وأعني بالشام تلك البلاد التي يحدها من الشرق العراق ونهر الفرات ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) ومن الشمال بلاد آسيا الصغرى المعروفة عند العرب بأرض الروم ومن الجنوب بادية الشام أو بادية السماوة أو بادية النفود ولا أدري معنى النفود فأغتنم الفرصة لفهم معنى هذه الكلمة: رأيت في كتب الإفرنج وخرائطهم تسمية هذه البادية ببادية النفود قائلين أن النفود معناه الرمل ولكني بحثت في هذه الكلمة وحورتها وقلبتها فلم أعثر في كتب اللغة على اسم يوازي هذا الاسم الذي هو شبيه بالعربي ونقله جغرافيو الألمان والإنكليز. وكلامي يسمعه بالطبع كثير من التجار الذين تمر قوافلهم بتلك البادية فعسى أن يحققوا معنى هذه الكلمة حتى لا يقال أن الإفرنج يأتوننا بكلمة عربية ولا نعرف معناها. وبهذه المناسبة أقول أنا نجد لبلادنا مصورات باللغة الإفرنجية واللغة العربية وإذا نظرنا للعربية نجدها كلها مترجمة عن الإفرنجية وربما كان المترجم يتحرج في بعض الأسماء فيتركها.

في أحد دروسي أردت أن أشرح للتلاميذ حالة بلاد العرب عند ظهور الإسلام فرأيت خرائط مصر ودار السعادة كلها خلواً من أسماء البلاد والأماكن لذلك دعوت تلامذتي لأن يتلافوا هذا النقص ويستعينوا بالذي أبقاه لنا مثل ابن خرداذبة والأصطخري والمسعودي لنسد هذا النقص حتى إذا قرأنا شيئاً عن أخبار العرب عرفنا مواطن القبائل والشعوب وقلت لهم إن الذي يساعدنا على العمل الأكبر لهذا المقصد أن نسأل التجار وتلاميذ الجامعة الإسلامية الكبرى وهي الأزهر الذين يأتوننا من سائر البلاد الإسلامية فإنهم إذا سألوا أهل العلم والتجار الوافدين إلى مصر يمكننا أن نرسم خريطة وافية لبلاد العرب كافة أحسن من التي عملها الإفرنج وأضاعوا في سبيلها كثيراً من الأموال والأرواح ثم نعمل خريطة لبلاد العراق والشام وأتمنى من الذين يهمهم ذلك أن يستعينوا بأهل البلاد سواء كانوا من أهل العلم أو التجار لأنا بمجرد انقطاعنا عن طلب العلم والكسب قد نزلنا إلى الحضيض ووقفنا في طريق الجمود بينما كان الإفرنج يكدون. أنا إذا أردت أن أعرف مواقع دمشق لا أقدر على ذلك إلا بالخرائط الإفرنجية وأما خرائط مصر ودار السعادة فكلها خلو من ذلك. هذا نقص يجب أن نتعاون على سده حتى لا نكون عالة على الإفرنج لا في العلوم فقط بل في مواقع بلادنا. أول خريطة رسمت في العالم رسمها نفر قليل من أهل الشام وهم الفينيقيون وبلادهم جزر صغيرة متواصل بعضها ببعض ولم يكن لديهم قوة غير التجارة فملكوا بها العالم كله ووصلوا في ذلك الزمان المظلم إلى مضيق جبل طارق ومنه إلى بلاد الإنكليز وهم أول من عرف تلك البلاد وقد ملكوا منها كثيراً كما أسسوا كثيراً من البلاد في إسبانيا وكانت لهم المستعمرات في صقلية وغيرها. ثم نزحوا إلى تونس وأقاموا في قرطاجنة تلك المدينة الكبيرة ولقد كانت هذه المدينة تاج ملك الفينيقيين والدهر تارة لها وتارة عليها. أولئك هم آباء الشام حتى دار الدوروغار منهم الروم واليونان فأتوا أيضاً بطريق التجارة والملاحة وصاروا يأخذون أملاك القرطاجنيين وحينئذ تقدمت رومية وأزالت أثرهم من الوجود لكنا لا ننسى أن آنيبال بفضل التجارة مر من الجزائر ومراكش إلى إسبانيا ومنها إلى فرنسا فإيطاليا ووقف حتى صاح الرومانيون ببعضهم: ما لكم قاعدون والعدو على الأبواب وحينئذٍ لم يتمكن آنيبال من إتمام مقصده ولو كانت عنده السفن الحربية لكان محق رومية ولكنه

أبعد عنها كثيراً ولم يأته المدد فذهب فريسة إقدامه الهائل ولا شك أنه فخر لأهل الشام لأنه فينيقي والفينيقيون من الشام. دار الزمان دورته وجاء المجد للعرب فابتدأت تجارتهم بالصعود وكانوا يقصدون الفتوح والتوسع في الملك بواسطة التجارة ولذلك كان الخليفة العباسي يهدد أهل الهند إذا أقفلوا باب التجارة أمام تجار بغداد والشام. لكن الهنديين حرفوا اسم الكوفيين وسموهم (كوكل) وكذلك أتاها جماعة هربوا من الحجاج أيام تجبره على الذين يرغبون في مناوأة السلطة المروانية وذلك أنه أجلى نفراً من قريش وكان فخر قريش قبل النبوة بالتجارة كما قال تعالى (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) فلما أجلاهم ذهبوا عن طريق البحر إلى الهند فسماهم أهلها بالنوائت (النوتية) وبقوا فيها زمناً طويلاً حتى انتشروا انتشاراً هائلاً وهم الذين أسسوا الإسلام هناك. فللتجارة إذن فضل كبير في انتشار الدين الإسلامي أيضاً. كان التجار يذهبون إلى شطوط أفريقية فيرى أهلها من حسن معاملتهم وعظم أخلاقهم ما يزهدهم في دينهم رغبة في انتحال الإسلام ولذلك لم ينجح كثير من النصارى كما نجح تجار الإسلام. فالتجارة هي أساس العمران والتاجر أساس نجاحه الأمانة والصدق في الأخذ والعطاء. لما دالت الدولة في دمشق وانتقلت إلى بغداد اختار المنصور الموقع التجاري لبناء العاصمة الكبرى وهي بغداد التي قال عنها علماء العرب: إن العراق سرة الدنيا وبغداد سرة العراق فبغداد سرة الدنيا. كان كرسي الدولة العباسية عند أول قيامها في الكوفة ثم صار في الهاشمية ثم في الأنبار لكن الخليفة رأى عاصمة بلاده في موقع غير تجاري فأراد أن يجعلها في أهم مركز تجاري لتكون مضمونة البقاء على الدوام ولذلك أرسل الرسل ليقفوا على الجهة المطلوبة فاختاروا البقعة التي أقيمت فيها بغداد قائلين للخليفة: هنا تجيئك الميرة من المغرب وطرائف مصر والشام عن طريق الفرات وتجيئك في السفن من الصين والهند عن طريق دجلة. وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة وتجيئك الميرة من أرمينية فما فوقها عن طريق الزاب وأنت بين أنهار لا يصل عدو إليك إلا على جسر أو قنطرة فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لا يصل إليك عدوك وهو محتاج لعبور دجلة

والفرات وهما خندقان طبيعيان لبلدة أمير المؤمنين. فأمر بحشر الصناع والفعلة من الشام والموصل وفارس والكوفة وواسط والبصرة واختار قوماً من أهل الدين والعدالة والمعرفة والهندسة فوكل إليهم أمر العمال وكان فيهم الحجاج بن أرطاة المهندس وأبو حنيفة ابن ثابت الفقيه (وإنما اختار أبا حنيفة لأن المنصور أراد أن يولي أبا حنيفة القضاء فامتنع فضربه فامتنه فحلف أنه لا بد أن يوليه عملاً ولذلك أمره بأن يتولى الطوب واللبن ليبرّ بقسمه) وأمر بتخطيط المدينة كلها فلما تم تخطيطها بالرماد أقبل يدخل من كل باب ويمر في طرقاتها ورحابها فرآها وافية بما تميل إليه النفس فوضع أول حجر بيده قائلاً: بسم الله وبالله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال للعمال: ابنوا على بركة الله. وعند البناء أمر بطبخ الطوب الأحمر (الآجر) وكان يعد على يد أبي حنيفة بالملايين فاستدعى لذلك وزيره جعفر البرمكي وقال له ما رأيك في هدم إيوان كسرى لجلب أنقاضه واستعمالها في البناء فأجابه الوزير: إنه رأي غير صائب لأن الإيوان من آثار الفرس وهذا البناء الذي تقيمه الآن من آثار الإسلام ينبغي أن لا يدخل فيه أثر لغيرهم. فقال له الخليفة: أخذتك النعرة لقومك وحننت إلى العجم فأردت أن تمنعني عن ذلك. ولم يعبأ بقول وزيره وأرسل فعله فنقضوا بغضه وأتوا به إلى بغداد فحسبوا النفقة فوجدوها تزيد بكثير على استحضار أدوات جديدة ولذلك رأى الخليفة أن الأولى جلب الطوب الأحمر الجديد وحينئذٍ استدعى جعفر ثانياً وسأله في ذلك قائلاً: أريد أن أجلب الأحجار من الجبال لا من أنقاض الإيوان فأجابه الوزير: لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين بل ثابر على ما باشرت به لئلا يقال أن ملك الإسلام عجز عن نقض ما بناه ملوك الأكاسرة رأى المنصور أن الكلام صواب ولكن لا يمكنه العمل به لأن المدينة تجارية اقتصادية فلم يسمع قول وزيره. استمرت دولة العرب على هذه الحال من الترقي في العلم والتجارة في آن واحد والتجارة من فرنسا وروسيا وبريطانيا إلى الهند وغيرها كلها عن طريق بغداد حتى دالت الدولة منها وانتقلت إلى الأندلس فكان للتجارة فيها رقي عظيم لكن أهلها أصبحوا بعد مدة مثل الأعواد التي ذكرتها لكم فدالت دولتهم بسبب التفرق والانقسام. قامت على أنقاضهم دولة إسبانيا وسعت حتى رقيت بما اكتسبته من علوم الشرقيين وكذلك

أخذت في الترقي دولة البرتغال وليس في وسعها التوسع في الملك فهجم أرباب الأقدام فيها على المخاطر ولما كانت الهند أعظم محل تجاري بما ترسل من البهارات والأباريز والفلفل والأفاوية إلى بغداد وأوربا أرادوا أن يذهبوا إليها ليستعمروها وتولدت عندهم رغبة جديدة في أن يصلوا إلى الهند عن طريق آخر لأن الإسلام في المغرب الأقصى ومصر واقفون لهم بالمرصاد لذلك استغنوا عن طريق البر وسلكوا طريق البحر فاكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وتملكوا موزامبيك وزنجبار ووصلوا إلى الهند وعاملوا تجارهم قائلين لهم لا نزيد سوى الفلفل بهذه الوسيلة صار لهم مع أهل العند معاملة قوية لكن تفرق تجار الهند جعل لهم عليهم كلمة فاستغاثوا بملوك مصر وآل عثمان فلم يجيبوهم لأن العداوة كانت متأصلة بين السلطان سليم والغوري ملك مصر. وذلك أن الغوري أرسل طائفة من الجند إلى الهند عَلَى سفن (ويسمونها أغربة) صنعها في السويس فلما وصل قائده إلى اليمن حدثت بينه وبين أهلها مناوشات اضطرته لأن ينسى الوظيفة التي أرسل إليها وهي إنقاذ البلاد من البورتقال فبقي في اليمن وفي أثناء ذلك كانت القاهرة في اضطراب شديد أنساها الهند أيضاً لمحاربتها مع السلطان سليم وانتصاره في واقعة (مرج دابق) التي قتل فيها الغوري واستولى هو على حلب ومصر والشام ثم اشتغلت الدولة العثمانية بمحاربة السلطان اسماعيل الصوفي ونسيت الهند فكان هذا التفرق والاضطراب أعظم وسيلة لامتلاك البورتقال تلك البلاد الغنية بتربتها ومحصولاتها. رأينا بلاد الهند فتحت على يد التجار كما امتلكها الإنكليز اليوم بواسطة التجارة أيضاً لما أصبحت إنكلترا ملكة البحار وأهلها ملوك التجار. في ذلك الوقت قامت إسبانيا لتوسع دائرة ملكها فرأت أنها لا يمكنها طلب الهند من طريق البورتقال والمنافسة التجارية أساس الاستعمار فقام خريستوف كولمب وجرى في البحر من جهة الغرب ليملك بلاد الهند. بهذه الوسيلة اكتشف أميركا وسماها الهند الغربية. وارتقت إسبانيا حتى كانت كلمتها هي العليا خصوصاً في أيام شارلكان فإنها اغتنت وتدفقت إليها الأموال من جهات الدنيا ولكنها تضعضعت أخيراً بإخراج المسلمين وبالتراخي فألهاها التكاثر حتى دخلت في عداد أهل المقابر. في هذه الآونة كانت أوربا جارية نحو التمدن والشرق قد أخلد إلى النوم والسكون إلى الموت والجمود. وهنا أذكر لكم كلمةً عن تمدن

الأوربيين: كانت أوربا في منتهى التوحش حين كانت بغداد في أوج الحضارة حتى أن تجار العرب لما ذهبوا لاستحضار العنبر من شلسويج وصفوا أهلها بأنهم وحوش عراة لا يسترون عوراتهم إلا بقطع من الجلود (ذكره القزويني في آثار العباد وأخبار البلاد) هذا وصف أحد سياح العرب لتلك الدولة التي هي اليوم في أرقى درجات الحضارة. تنبهت أوربا من رقدتها باختلاطها مع العرب شرقاً في الشام وغرباً في الأندلس فجمعت الزبدة والخلاصة النافعة من مدنية اليونان والرومان وضمت إلى ذلك ما أخذته من احتكاكها بالشرق أيام الحروب الصليبية فتولدت لديها الحضارة. دخل أحد أمرائها في زمن الحرب الصليبية أحد الحمامات في فلسطين (صور أو صيدا) فاستعمل معه الحمامي النورة فاستعجب الأمير من ذلك وخرج في الحال فأتى بامرأته وقال له افعل معها كمافعلت معي. في تلك الأيام كان تعليمهم مبنياً على أسس العرب مثل كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرها مما ترجموه إلى لغاتهم. كانت هذه الحركة أول مبدأ لترقيهم بعد أن كانوا عبيداً لقليل من السادة وكانت أوربا ملكاً لأفراد من الملوك. كان السكان عبيداً لهؤلاء السادة فإذا بيعت الأرض بيعت رجالها وحيواناتها وكل شيء معها حتى كان للسادات حق التفخيذ أي أن لا تزف العروس حتى يأخذها الرئيس. فباختلاطهم بأهل الشرق دفعوا هذه الوصمة عنهم وقامت لديهم شبه حكومات ابتدائية في تلك البلاد ثم عثروا على مصنفات اليونان فصاروا يأخذون عنها مباشرة بعد ما كانوا يأخذون عن العرب واستمروا على هذه الحالة لكن هبت عليهم نفحة من الأفكار الصائبة التي اكتسبوها من المسلمين فأخذوا بالتجارة مع القوم ودرس علومهم بإتقان غير أن ضغط الملوك وخصوصاً الباباوات باسم الدين كان سبباً لتفرقهم على بعضهم إذ كان التعصب آخذاً منهم مبلغاً عظيماً. ومع ذلك فقد أوجدت شدة الضغط أفراداً نوابغ كسروا قيود الاستعباد وفكوا أغلال الجمود مجاهرين بالحرية فكان من أجل ذلك ما كان من أمر ديوان التحري القسيسي وواقعة القديس برثلماوس بين البروتستانت والكاثوليك وواقعة صلاة العصر في صقلية حيث قام الناس بعضهم على بعض. ولذلك اضطر أرباب الأفكار الحرة

وهم البروتستانت إلى المهاجرة من ألمانيا وفرنسا إلى إنكلترا وهولاندة حيث نشروا العلوم ووسعوا دائرة الأفكار فترقت بهم البلاد وأفاضت المعارف منها على باقي بلاد أوربا. سعى القوم وراء العلم والمعارف كثيراً فكان ذلك أسهل طريق لتأصيل دعائم التمدن بينهم حتى أن غاليله لما قال بدوران الأرض وأنكروا قوله وحكموا عليه بالإعدام قدم إلى النطع والسيف وهو يقول: ومع ذلك تدور. وكذلك قام في إيطاليا (جوردانو برونو) فأحرقوه بالنار لأنه نشر أفكاراً حرَّة وأما اليوم فكم له في بلاد أوربا من تماثيل لأنه كان من الذين سعوا في تفكيك الرقاب من ربقة الجهل والعبودية. ثم قام ميرابو بنشر الأفكار الحرة بين الشعب حتى أن الملك أرسل من قبله إلى هذا الحزب رجلاً يقول لهم (اخرجوا من هذه الدار) فأجابوه نحن هنا نواب الشعب بإرادته فلا نخرج إلا بأطراف الحراب وكذلك قام (دانتون) وكان يخطب بالقوم ويقول: من أراد الظفر فعليه بالجرأة والإقدام وليكن شعاره على الدوام الجرأَة والإقدام ـ جاء فولتير وروسو فأقاموا هذا الصرح العظيم فوق ذلك الأساس المتين وكانت إحدى الجمعيات العلمية حينئذٍ اقترحت وضع كتابٍ في الاجتماع والعمران جاعلة مكافأة كبيرة لمن يسبق في هذا المضمار ويجيد في التأليف فألف عندها جان جاك روسو كتابه (عقد الاجتماع) إلا أنه لم ينل الجائزة المعينة وإنما أخذها رجل آخر لأغراض في النفوس لكن الأفكار لم تستنر إلا بهذا الكتاب ولذلك أسبل الدهر ستره على ما سواه. انتشرت بهذه الوسيلة روح الحرية في فرنسا فكانت سبباً لتقويض أركان الاستبداد ورفع منار الحرية على تلك البلاد وصار كل واحدٍ يقول ما يريد لأن الأفراد أصبحوا أحراراً في أقوالهم وأفكارهم وبذلك بلغت أوربا ما نراه اليوم من التقدم المدهش وخوارق الأعمال. انتشرت الحرية من فرنسا إلى أمم أوربا فترتب على ذلك وجود المجالس النيابية وهي حكومة الشعب بالشعب التي كانت السبب لرقي دول أوربا كلها. وهم اليوم على هذه الدعامة الإسلامية فالحمد لله الذي أعاد لنا الشورى في هذه الأيام. في تلك الآونة انفسح المجال أمام التجار وبات لهم طريقان طريق من الشرق وهو طريق رأس الرجاء الصالح وطريق من الغرب وهو طريق أميركا لكن بعد الشقة وطول المدة التي تزيد عن سبعة عشر يوماً ألجأتهم إلى فتح ترعة السويس فكانت أكبر ممهدٍ للتجارة وترقيها على ما نشاهده

اليوم بالعيان. ولكن لدينا طريق أهم وأكثر فائدة وهو طريق بغداد فمتى تمت السكة الحديدية في هذا الطريق تعود لنا التجارة. والسكك الحديدية في الأرض كالشرايين في الجسم فإذا لم يجر شريان في البلد كان ذلك سبباً لهدم الحياة فيه وكلما انتشرت السكك في البلاد كان فيها زيادة الخير. من أجل هذا أرجو من أهل الشام وخصوصاً التجار أن يسعوا في هذه البلاد التي هي من أغنى أقطار الدنيا على الإطلاق ولكن تنقصها السكك الحديدية وأناشدهم أن يهبوا للتعاون على تأليف الشركات الوطنية حتى تبقى ثروة البلاد في البلاد ولا يتمتع بها الأجنبي وأنتم منها محرومون. أؤمل كم أهل الشام أن يضعوا الميامين بعضها في بعض لنقل خيرات البلاد إلى البلاد وبذلك ترقي دور التجارة والصناعة وتنال كثيراً من الفوائد دون أن يشترك فيها الأجنبي إلا بما لا مندوحة عنه. رأَيت القسم الأعظم من التجارة هنا بيد الأهلين فحذار حذار أيها الكرام من أن تذهب من أيديكم وعليكم بالسعي في إصلاح طرق المواصلات كيلا تكون بيد الشركات الأجنبية. نحن نسمع في مصر أن التفاح في الشام يعطى بصورة علف للدواب لما في سبيل نقله من الصعوبة، نسمع ذلك ونأسف كل الأسف لأننا نستجلبه من البلاد الأخرى بقيمة غالية. فإذا أصلحت طرق المواصلات تجدون مورداً للرزق واسعاً وبه تنالون الفوائد الجسام وتعيدون للشرق مجده إن شاء الله.

الجباية في الإسلام

الجباية في الإسلام العشر العشر: لغة جزوء من عشرة وجمعه أعشار وعشور وفي اصطلاح الفقه ما أخذ عن أرض العشر وأما أرض العشر فكل أرض أسلم أهلها عليها وهي من أرض العرب أو أرض العجم فهي لهم وهي أرض عشر بمنزلة المدينة حين أسلم أهلها وبمنزلة اليمن وكذلك كل من لا تقبل منه الجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل من عبدة الأوثان من العرب فأرضهم أرض عشرأفكارهمأ وإن ظهر عليها الإمام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر عَلَى أرضين من أراضي العرب وتركها فهي أرض عشر حتى الساعة: وأيما دار من دور الأعاجم ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي أرض خراج وإن قسمها بين الذين غنموها فهي أرض عشر وكل أرض من أراضي الأعاجم صالح عليها أهلها وصاروا ذمة فهي أرض خراج. وأما أرض الحجاز ومكة والمدينة وأرض اليمن وأرض العرب التي افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزاد عليها ولا ينقص منها لأنه شيء قد جرى عليه أمر رسولا لله صلى الله عليه وسلم وختمه فلا يحل للإمام أن يحوله إلى غير ذلك كذا فسودا العراق وأرض الشام وأرض مصر وغيرها مما فتحه الإسلام على عهد أو ذمة فهي أراض خراجية يجب عليها الخراج غير أن أبا يوسف رجمه الله جوز للإمام الخليفة أن يصير الأرض الخراجية عشرية فقال: فكل أرض أقطعها الإمام مما فتحت عنوة ففيها الخراج إلا أن يصيرها الإمام عشرية. . . إلخ ومن ثم يتضح أن الخليفة يحق له أن يحول أرض العراق وأرض الشام وأرض مصر وكل أرض خراجية إلى أراضٍ عشرية. وأما مقدار العشر الشرعي فهو واحد من عشرة عن محصول الأراضي العشرية التي تسقى بماء المطر أو بماء الأنهر سحاً سقياً أو نصف واحد من عشرة عن محصول الأراضي العشرية التي تسقى بالدلو أو الدولاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء أو سقي سحاً العشر وفيما سقي بالغرب أو السواني والنضوح نصف عشر. وأما العشر النظامي فقد جاء في المادة الأولى من نظام الأعشار الصادر في 9 حزيران سنة 321 ما تعريبه بالحرف يؤخذ العشر عن المحصولات الأرضية ولم يعرفه بغير هذا

التعريف لأن ما كان يؤخذ من العشر حينئذٍ اثني عشر وثلاثة وستين سانتيماً من المائة عن المحصول وهذا لا يعبر عنه بالعشر وكانت الدولة عقيب التنظيمات الخيرية تجبي العشر واحداً من عشرة باسم الخزينة ثم أضافت عليه واحداً من المائة باسم المنافع ـ من أجل الأشغال العمومية ـ ونصفاً من المائة باسم المعارف فصار العشر يومئذ 11. 5 من المائة وفي سنة 313 مالية ضمت الدولة نصفاً آخر باسم الخزينة فبلغ العشر اثني عشر: 10. 5للخزينة 1باسم المنافع 0. 5باسم المعارف ـــــــــ 12 فكانت هذه الزيادة من أجل سد العجز المالي يوم أخذت الجواسيس تتكاثر والاستبداد تشتد وطأته وفي سنة 316 صدرت الإرادة السنية قاضية بأخذ ستة في المائة عن بدل العشر يعني أن تؤخذ الستة عن الاثني عشر من المائة فبلغ العشر يومئذ 12. 63 اثني عشر وثلاثة وستين سانتيماً فصار هذا الكسر سبباً لشدة ظلم ملتزمي الأعشار إذ أصبحوا يأخذون ثلاثة عشر في المائة تفادياً من تشويش الحساب على زعمهم وبعد سنتين أصدرت نظارة المالية أمراً عاماً مبنياً على إرادة سلطانية قاضياً بإسقاط 13 سانتيماً من الشعر تخفيفاً عن الأهالي ودفعاً لتشويش الحساب فأصبح العشر اثني عشر ونصفاً عن المائة وهذا عبارة عن الثمن ولذلك لو أردنا أن نعرف العشر نظاماً لقلنا أن العشر النظامي ثمن أي واحد من ثمانية من عامة المحصول على حصص الأعشار ولذلك وضعت دائرة الديون العمومية دستوراً قاعدة من أجل حساب الحصص فعممته نظارة المالية في جميع دوائرها كي يطبق العمل عليها وهذه صورتها: ميليم سانتيم عدد تام 60 17 79حصة العشر القديم 00 96 3الضم الجديد الذي وضع سنة 313 ــــــــــ

60 13 83حصة العشر القديم والجديد معاً 10. 5 ـ 100 40 98 4حصة التجهيزات العسكرية (المعدات الحربية) 00 88 11حصة المنافع والمعارف ــــــــــ 00 00 100 وبذلك صارت بدلات الأعشار تحال دفعة وتوزع على هذه القاعدة مثلاً لو أحيلت قرية ببدل قدره أربعون ألفاً يوزع على نسبة الحصص المذكورة أعلاه وهذه أقسام من المائة فلذلك يجب ضرب القسم ببدل القرية وتفريق عددين من حاصل الضرب من أجل المائة فيظهر مقدار الحصة وهذا مثاله: العشر القديمالضم الجديدالتجهيزات العسكريةالمنافع والمعارف 79. 1763. 96 4. 984 11. 88 4000040000 40000 40000 ـــــ ــــــ ــــــ

_ 31670. 40. 0001584. 00. 001993. 60. 0004752. 00. 00 المجموع 31670. 4 العشر القديم 1584الضم الجديد 1993. 6 التجهيزات العسكرية 4752المنافع والمعارف

00. 5 العشر المضموم 1. 5 المعارف والمنافع 0. 5 التجهيزات ـــ 2. 5 فكرت ملياً فلم تتجل لي الحكمة في المحافظة على ذلك التشويش وعلى ما أظن أن هذا التشويش إما حفظاً لأحكام الإرادة السنية أو لمقصد خفي يراد به حفظ زيادة واردات إحدى الحصص والله أعلم. عرفنا العشر فيما سلف تعريفاً لغوياً وشرعياً ونظامياً وإليك العشر وحالة تلزيمه وإلزامه وجبايته وضرره الذي تئن منه الأمة العثمانية. يؤخذ العشر عن عامة المحصول بموجب القانون إلا من الحطب والفحم وما فسد بعد زوال الطراوة من الخضر والبقول كالخبازة والباقلاء والخس والكراث والسبانخ وأما ما حفظ بالملح أو الكبيس بماء الملح من الخضر فيؤخذ عنه العشر (أي الثمن). اختلف الأئمة الفقهاء في جواز أخذ العشر عن الخضر فيجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه على أنه عند أبي حنيفة يجب العشر في الخضروات ويخرج حقها يوم الحصاد أي القطع ـ ابن عابدين. وقد خالف ذلك الإمام أبو يوسف فقال حدثنا الوليد بن عيسى قال: سمعت موسى بن طلحة يقول لا صدقة في الخضر الرطبة والبطيخ والقثاء والخيار. وعن علي رضي الله عنه قال ليس في الخضر زكاة البقل والقثاء والخيار والبطيخ وكل شيءٍ ليس له أصل. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ليس في البقول زكاة اه وفي الخانية لا يجب العشر فيما كان من الأدوية كالموز والهليلج. ومن هذه العبارة يظهر أن واضع النظام راعى القوانين ولكنه لم يترك ما وجد منه ريعاً مهماً للخزينة ولو كان فيه رحمة للأمة. وقد يجب العشر في كل ما أخرجته الأرض فالعشر الشرعي الحقيقي هو كما ذكر في الكتب الفقهية قال وحدثنا أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه

وسلم أنه قال فيما سقت السماء أو سقي سيحاً العشر وفيما سقي بالقرب (دلو) أو السواني أو النضوح نصف العشر اه كتاب الخراج. وفسره بقوله إنما جعل العشر في السيح ونصف العشر في الدالية لمؤنة الدابة والسانية: يجب العشر في الأول ونصفه في الثاني بلا رفع أجرة العمال ونفقة البقر وكري الأنهار وأجرة الحافظ ونحو ذلك (درر). قال في الفتح لا يقال بعدم وجوب العشر في قدر الخارج الذي بمقابلة المؤنة بل يجب العشر في الكل لأنه عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت الواجب بتفاوت المؤنة ولو رفعت المؤنة كان الواجب واحداً وهو العشر دائماً في الباقي لأنه لم ينزل العشر إلى نصفه إلا للمؤنة والباقي بعد رفع المؤنة لا مؤنة فيه فكان الواجب دائماً العشر لكن الواجب قد تفاوت شرعاً فعلمنا أنه لم يعتبر شرعاً عدم عشر بعض الخارج وهو القدر المساوي للمؤنة أصلاً اه حاشية ابن عابدين. فقد فهم مما تقدم أن صاحب الشرع عليه السلام نظر إلى حالة الزراع وفرض عليهم العشر بالنسبة لريعهم الحقيقي ولا يخفى أن الأرض التي تشرب بالدلو والدولاب ليست كالأرض التي تشرب من الأنهار سيحاً (يعني سقياً) أو من ماء المطر فالأولى تحتاج إلى عمل ودراهم أكثر من الثانية ولذلك عد صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم نصف عشر الأولى بمثابة عشر الثانية اه. وقد اعتبروا الضم على العشرة أمراً لازماً مشروعاً لاحتياج الحكومة من أجل المعدات الحربية ولتعمير الطرق وإنشائها وتعميم المعارف على أنهم خصصوا نظارة ومستخدمين من أجل المعدات الحربية ليموهوا على الأمة زاعمين أنهم بعملهم هذا يدخرون هذا الضم للمعدات الحربية ويدفعون عنه سوء الاستعمال فهيهات هيهات! أتدري ماذا كانت النتيجة؟ لم تكن إلا تزييد الضريبة على الأمة وإيجاد وظائف للمقربين والملتمسين وصرف الواردات في غير ما وضعت له ومن أغرب تصوراتهم ظنهم أن حصة التجهيزات إذا دخلت الخزينة تبعت قانون الفوضى في نظارة المالية فكأن الحكومة أرادت أن تعترف بعجزها عن تنظيم أمور ماليتها وحفظ إيرادها من سوء الاستعمال. وأما حصة المنافع فلم نر ولم نسمع بأنها صرفت في تعمير الطرق أو الجسور وأما ما صرف على الطرق والجسور فهو من بدلات العملة المكلفة التي كانت مأكلاً للولاة

والمتصرفين والقائمقامين والمهندسين. وأما حصة المعارف فكان القسم الأعظم منها يصرف لأولئك الجواسيس الذين تصدروا على كراسي العالم ليمنعوا الجرائد والكتب المفيدة ويلقبوها بذلك التعبير الذي ترتعش لذكره الفرائص وهو (مضرة) كأنهم كانوا نافعين! ويصرفون هذه المبالغ على السفاهة والبذخ. ويحتجون بجواز هذه الضمائم بما يوجد في الضرائب من الضمائم في بلاد الغرب وقد فاتهم أن تحميل أعظم الضرائب على عاتق الفلاح ظلم وضرره في عمران البلاد واضح. أشرت إلى أن الشرط في وضع الضرائب حفظ النسبة بين إيراد الأشخاص الحقيقي فإن حسبنا ريع الفلاح السالم ألغينا ريعه أقل من ثلث ما تأخذه الحكومة باسم العشر وزد عليه أن بذاره وبقره ولباسه ومؤنته قد استدانها بفائض يتجاوز الخمسة والعشرين إذا ما قلت الخمسين في المائة فأي أرض تضمن لفلاحنا التعس هذا العشر الفاحش وهذا الفائض المدهش؟ تلزيم العشر يعلم العثمانيون كافة أن العشر يؤخذ بطريق البدل إلا في بعض الأنحاء كحوران تدفعه للحكومة عيناً وبدل الأعشار يباع مزايدة وللمزايدة وإلا حالة أوقات محدودة تحددها مجالس الإدارة وعندما تطرح بدلات الأعشار للمزايدة تستدعي الحكومة شيوخ القرى وتكلفهم بوضع بدل عشر قريتهم بزيادة عن بدلها السابق فإن أجابوا تخلصوا ورجعوا إلى قريتهم وإن أبوا أو اعتذروا لقلة المحصول عندهم ضربوا وأهينوا وأدخلوا السجن وهذا العمل مغفور في نظر أولي الأمر لأنه به تزيد واردات العشر. ولا ينكر أن بعض الأهالي أيضاً يسعون في تخفيف بدل الأعشار فيهضمون حقوق الخزينة فإن كان في قريتهم ربح تهاجم عليها الملتزمون وإن كان فيها خسارة أحيلت على أهلها بالكفالة المتسلسلة بالرغم من أنوفهم في كل قضاء وفي كل مركز متصرفية أو مركز ولاية. في جميع أنحاء المملكة العثمانية أعيان من أرباب النفوذ يلتزمون ضيعهم ويختصون بقرى عدوها من مستعمراتهم وعندما يضع هؤلاء أختامهم في قائمة المزايدة لا يستطيع أحد من الملتزمين أن يزيد عليهم فإن زاد حل به البلاء لأن ذلك الوجيه يستطيع بسيطرته أن يسجنه أو يتهمه بجناية فيتوب عن الالتزام هذا إذا صادف من يرحمه

ويخلصه من ذلك الافتراء. وأرباب النفوذ لا يتعدى بعضهم على بعض لأنهم تقاسموا الغنيمة وكل منهم رضي بما اختص بع واعتاد الملتزمون أيضاً أن يتقاسموا القرى أو يتشاركوا في بدلات القرى التي تربح ربحاً عظيماً ومنهم من جعل السفه مسلكه فتراه يهدد الذين لا نفوذ لهم ولا سيطرة عندهم في التزام ضيعهم ويأخذ منهم دراهم معدودات تحت اسم حق السكوت لئلا يزيد على بدلها وخوفاً من أن يصير البدل قانوناً يطلب الزيادة عليه في السنة الآتية وقد يلتزم ملتزم بدل أعشار قرية من أجل دين له على أهاليها على أمل استيفاء ديونه حتى ولو كان محصولها لا يعادل بدلها. والمهارة والشطارة التي تطلب من القائمقام والمتصرف أو الوالي الغيرة على تزييد بدلات الأعشار ولو كان فيه ظلم الأهالي وخرابهم وقد تبلغ قرى الأهالي فوق بدلها الحقيقي وربما يدفعون 20 في المائة ويرضون بهذه الخسارة لما صادفوه أثناء الإحالة من الضغط والتضييق والضرب وأما المتوسطون فيكون بدل بلادهم معتدلاً ولكن قرى أرباب النفوذ تحال بأبخس الأثمان فقرية يبلغ بدلها مائة ألف قرش مثلاً تحال عليه بخمسة أو عشرة آلاف قرش فالفقراء يظلمون والأغنياء والوجوه وأرباب النفوذ يظلمون الخزينة ويأكلون حقوقها فإن نظرنا إلى أنحاء المملكة بأسرها نجدها منقسمة بين أولئك المستبدين ولذلك نجد ما خسرته الخزينة بسببهم أعظم مما تستوفيه بالضرب والحبس من أولئك الفقراء المدقعين. جباية العشر فبعد إحالة الأعشار يتهاجم الملتزمون على اختلاف طبقاتهم إلى القرى ويستخدمون الأشقياء والمحكومين والفارين من وجه الحكومة ويتخذونهم آلة الجباية وحقهم من العشر ولما يصل الملتزم في جنوده إلى القرية يجمع المختار والشيوخ ويعدهم بأن يترك لهم قسماً مما يترتب عليهم من العشر على شرط أن يقدروا البساتين والصحاري والكروم والخضر بأضعاف أضعاف أثمانها الحقيقية ولذلك ترى الفلاح يدفع عن بساتينه وكرومه وخضره نصف ما أخذه من الثمن إذا لم نقل كله ويعطون الملتزم دفتراً بما رفع قبل الإحالة ويتفقون معه على إعطائه 14 من المائة بدل 12. 5 وهو العشر النظامي والباقي عوضاً عما أكله

الدواب ويسمونه إطعامية وتلفية. وهذا المقدار يختلف بحسب رضا الشيوخ ومن البلاء المبرم إذا صاروا شركاء فترى الملتزم يتحكم في الأهالي تحكم النمرود ولذلك تدخل المملكة في حرب داخلية أيام الأعشار فيفتح باب الرزق للمحاكم فيعذبون الزراع حينئذ أنواع العذاب وإن أحيلت القرية على الأهالي فالبلاء الأعظم يأتيهم من شيوخهم ووجوههم والمطلع على أحوال الفلاحين أيام الأعشار وما يقاسونه بعلم منه ومما فصلناه أن إحالة بدلات الأعشار على هذه الصورة مضرة بالأهالي والخزينة أيضاً. مضرات الالتزام صاحب المال أي الفلاح يصبح كالمحكوم عليه ريثما تحال القرية ويأتي الملتزم فلا يستطيع الأكل من ماله ولا إطعام دابته فبينما هو يعرف أنه مكلف بدفع العشر للحكومة التي قامت بحفظه وحفظ ماله وعرضه يرى نفسه محكوماً عليه لرجل مثله من أفراد الرعية وهذا ما يصعب على الطبع والإحساس ولما كان إخراج الغلة متوقفاً على الإحالة والمساعدة من الملتزم وقد تمضي شهور ريثما تجري الإحالة فيضيع على الزراع السعر وربما يخسرون ألوفاً وقد تنقص البيادر في هذه البرهة بسبب أكل الدواب والعصافير والطيور وهذه لا تأكل سوى الحبوب ولا ترجح على القمح والشعير شيئاً ومن غرائب الالتزام أن الفلاحين يجبرون على نقل الغلة من مسافة ساعة بحسب المادة 9 من نظام الأعشار وهناك أناس من أصحاب النفوذ أهل البطالة ينتظرون موسم الأعشار ليلتزموا قرية أو قرى باعتبار قيم أراضي آبائهم وهؤلاء قلما تجد في قلوبهم رحمة فيستبدون بالأهالي ويظلمونهم ظلماً لا مزيد عليه والأهالي لا يستطيعون الشكوى فلو تجاسر أحدهم واشتكى من تعدى عليه وغصب ماله الذي أحرزه بعرق جبينه بين شدة الحر وزمهرير البرد كان البلاء عليه من الحكومة ومن ذلك الملتزم. وإن أرادت الحكومة أن تجبي الأعشار بنفسها (أمانةً) تحتاج إلى استخدام مأمورين ويصعب عليها أن تجد مستخدمين صادقين يحفظون حقوقها وتكون قد سلطت على الأمة أناساً يظلمونها ويسومونها سوء العذاب ويخونونها معاً فتكون حينئذ ظلمت الأهالي وأضاعت إيرادها. وقد يستحسن بعضهم تلزيم الأعشار لما فيه من الزيادة من سنة أخرى وفاته أن كان ثمة

زيادة فذلك من شدة الضغط وإن من نتائج الترقيات التي أخذت تنتشر رويداً رويداً وأن حالة الفلاح أحسن من قبل ولا ننسى أن الزيادة بجانب النقص والخسارة بجانب الربح وخلاصة الكلام أن تلزيم بدلات الأعشار وإحالته على ما ذكرنا وجبايته مضر بالأهالي وببيت المال ايضاً. ماذا تفعل الحكومة؟ تجعل العشر ضريبة على الأراضي (لا تخميناً كما يظن الناس) وإليك التفصيل. أما أراضي الحجاز والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب فكلها عشرية لا يجوز تحويلها إلى غير ذلك ولا يزاد عليها ولا ينقص منها لأنه أمر جرى عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه فأصبح أمراً دينياً لأنه ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول أي يفترض لقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده فإن عامة المفسرين قالوا أنه العشر أو نصفه وهو مجمل بيّنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بقرب أو دالية ففيه نصف العشر. . إلخ. حاشية ابن عابدين ص53 وعد العشر من العبادة قال ابن عابدين في حاشيته إذا أدى بنفسه فله ثواب العبادة وإذا أخذه الإمام يكون له ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى ـ بدائع. وفي البزازية لا يحل الأكل من الغلة قبل أداء الخراج وكذا قبل أداء العشر إلا إذا كان المالك عازماً على أداء العشر اه وقد عد العشر زكاة أو صدقة اه. فأهل تلك البلاد المباركة الذين عرفوا بالتدين والمحافظة على العهود والأقوال لا يتأخرون عن أداء العشر الشرعي بل إنما يأتون به إلى بيت المال ليحل لهم الأكل من المحصول فيجب استيفاء العشر فيها كما وضعه صاحب الشرع عليه السلام ولا يجوز تحويله أو تزييده أو تنقيصه وتجب العناية بتفهيم أهاليها أن العشر فرض ديني لا يجوز أكله والحيلة فيه. وأما ما كان في الأهالي من الخيانة فهو من سوء تأثير الاستبداد وظلم المأمورين وفساد أخلاقهم. وأما أرض الشام وأرض مصر وسواد العراق وغيرها فأرض خراج يحق للإمام أن يحولها إلى أرض عشرية ويضع عليها العشر كما يشاء وقد سبق ذكره غير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مسح سواد العراق سأل عماله على الخراج حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان حملت الأرض أمراً هي له

مطيقة ولو شئت لأضعفت وقال حذيفة وضعت عليها أمراً له هي محتملة فقال: انظرا ألا تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق أما لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعهن لا يحتجن إلى أحد بعدي. فتأمل ومن هذا يتضح أن الإمام لا يجوز له أن يحمل الأرض فوق طاقتها من العشر أو الخراج. هل يجوز جعل العشر الجاري الآن ضريبة على أراضي الخراج؟ جاء في كتاب الخراج أن عمر رضي الله عنه مسح سواد العراق فبلغ ستة وثلاثين ألف جريب وأنه وضع على جريب الزرع درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة دراهم وعلى الرطبة خمسة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب السمسم خمسة دراهم وعلى الخضر من غلة الصيف على كل جريب ثلاثة دراهم ومن جريب القطن خمسة دراهم وجاء في كتاب الخراج أيضاً أن عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أمية حمل الأموال على قدر قربها وبعدها فجعل على كل مائة جريب زرع مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي جريب مما بعد ديناراً وعلى كل ألف أصل كرم مما قرب ديناراً وعلى كل ألفي أصل مما بعد ديناراً وعلى الزيتون على كل مائة شجرة مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي شجرة مما بعد ديناراً وكان غاية البعد عنده مسيرة اليوم أو اليومين وأكثر من ذلك وما دون اليوم فهو في القرب وحملت الشام على مثل ذلك وحملت الموصل على مثل ذلك نتبين مما تقدم ذكره أن الخراج كان عبارة عن ضريبة مقطوعة على الأرض تنوعت بالنسبة للإيراد الصافي وقد سبق أن أرض الشام والعراق ومصر وغيرها كالأناضول والروم أيلي وطرابلس الغرب مما افتتحه المسلمون عنوة كانت أراضي خراجية وقد جوز الإمام أبو يوسف تحويلها لأراضي عشرية وجوز تزييد مقدار العشر وتنقيصه فيها فيتضح لك مما تقدم ومما تقتضيه المصلحة العامة أن تحويل العشر الجاري حتى الآن إلى ضريبة عادلة تطرح على الأراضي الخراجية على شرط أن تطيق حملها وتكون متناسبة مع الريع الحقيقي جائز بل واجب. ما هي القاعدة في تحويل العشر إلى ضريبة؟ تتألف لجنة قوامها رجال ممن لهم خبرة بفن الزراعة واقتدار بتخمين القيم ويصحبهم

مهندس ويرأسهم رجل ذو خبرة واطلاع على أحوال البلاد والفلاحين دارس في المدارس العالية ويشترط في الجميع أن يكون ممن تحلى بشرف النزاهة والصدق والاستقامة فيتجولون في أنحاء الولاية ويفحصون قوة إنبات الأراضي ويقسمونها إلى ثلاثة أو أربعة أقسام أعلا وأوسط وأدنى وضعيفة (يعني قلما تعطي ريعاً) ثم ينظرون في بدل أعشار عشر سنين أو خمس عشرة سنة عن قرية ما على شرط أن ينظروا إلى حقيقة البدلات السابقة فإن كانت للأهالي فلا شك بأنهم يجدون بدلاتها فاحشة فيجب عليهم التخفيف وإن كانت لأرباب النفوذ فلا شك بأنهم يجدون بدلاتها ناقصة فيجب عليهم التزييد وربما وجدوا قرية من قرى الأهالي محفوظة من الغدر الفاحش لاتفاقهم وتيقظهم كما أنهم يجدون بعض قرى الأعيان مظلومة لتجاوز بعض أرباب النفوذ أو لغضب أولي الأمر عليهم ثم يقسمون مجموع البدلات على عشر سنين أو خمس عشرة سنة وبعد ذلك يوزعون خارج القسمة على حسب درجات الأراضي من حيث قوة الإنبات وهكذا يفعلون في الولايات التي هي من الأراضي الخراجية ولا بد من النظر إلى نوع الأراضي إن كانت مشجرة أو غير مشجرة ويجب تفريق الأراضي التي تسقى بماء المطر أو بماء النهر سيحاً من الأراضي التي تسقى بالدلو أو الدولاب وتفريق الأراضي التربية من المدن والمرافئ الأساكل عن الأراضي البعيدة. وخلاصة الكلام يجب على اللجنة أن تحمل الأرض ضريبة تطيقها ولا تتجاوز عشر محصولها فإن فعلوا أراحوا الأمة وتزايدت واردات الخزينة ودخلت تحت قاعدة الانتظام وخف الظلم وصار إيراد الدولة معلوماً فلا تخطئُ في تنظيم ميزانيتها وإن ظلم رجل بضريبة فله أن يراجع ويدفع ظلمه والآن قد فتح باب العدل فلا يبقى مظلوم على غدره إن شاء الله. منافع الضريبة على الأراضي يعرف الإنسان ما عليه من الضرائب فيحسب مصروفه على أراضيه وريعه الحقيقي فيسعى في عمارة أراضيه ليخفف عنه ألم الضرائب ويضمن ربحاً عظيماً فإن وصل إلى مرغوبه عمر الأرض فتعمر البلاد وإن خسر ترك الزراعة وانصرف إلى التجارة وعلى ما أظن أن الحكومة الدستورية ستسعى في تخفيف الضرائب عن عاتق الأمة وأخص منهاضرائب الزراع وإذا خفت عنهم أغنتهم وجعلتهم يتزوجون ويعملون الولائم ويكتسون

ويصرفون المبالغ في اللبس والفرش فيزيد واردات البلاد مع واردات الخزينة وأكرر قولي أن الحكومة لا تغنى إلا بغنى الأمة والأمة لا تغنى إلا بتخفيف الضرائب. وحينئذ ترى فلاحنا قد أصبح حراً وتخلص من استبداد الملتزمين ومن أسرع في إخراج محصوله فأدرك الأسعار في غلائها ربح الأرباح وصارفي رغد من العيش وهذه النعم لا نجدها في تلزيم بدلات الأعشار وكفى بذلك عبرة. شكري العسلي

عبث الوليد

عبث الوليد أبو تمام حبيب الطائي وأبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وأبو عبادة البحتري هم الشعراء المعول على شعرهم في المولدين جمعوا إلى جزالة الألفاظ وحسن السبك معاني الحضارة وأساليب الحكمة ولذلك كانت دواوينهم من جملة ما يقضي على طالب الأدب أن يتدارسها ويستظهرها وكانت مما أوصى بتعلمه ضياء الدين بن الأثير صاحب المثل السائر كل مشتغل بالمنظوم والمنشور لأنها حوت عامة المزايا اللغوية والأدبية. ومن أجل هذا ترى هذه الدواوين قد خدمت أجل خدمة منذ القديم ولاسيما ديوان أبي تمام وديوان أبي الطيب فنظر فيهما مشاهير اللغويين والعلماء وتعاورتهما الأقلام بالشرح والنقد إلا ديوان أبي عبادة البحتري لم نسمع بأن أحداً من العلماء تصدى لنقده غير أبي العلاء المعري. فإن هذا العلامة الحكيم اللغوي أبى أن يغفل كلام البحتري من وضعه على محك انتقاده بعد أن ألف في ديواني الطائي والمتنبي كتابين مستقلين دعا الأول ذكرى حبيب والثاني معجز أحمد ـ فألف في الثالث كتاباً سماه عبث الوليد قال في مقدمته: أثبت ما في ديوان البحتري ما أصلحُ من الغلط الذي وجد في النسخة المكتوب في آخرها أنها بخط ظفر بن عبد الله العجلي وإنما أثبت ذلك ليكون مولاي الشيخ الجليل أدام الله عزه كأنه حاضر للقراءة ولم يمكن إثبات جميع الأغلاط لأن أكثرها غير محيل وقد وُصل بذكر شيء مما جرى إليه أبو عبادة من الضرورات وما بجنبه أمثاله وبالله التوفيق. قال أبو العلاء في الكلام على قول أبي عبادة: إذا تشاكلت الأخلاق واقتربت ... دنت مسافة بين العجم والعرب إذا وقعت بين في هذا الموقع فالاختبار خفضها وكذلك ترفع إذا وقعت في موقع وقع كما جاء في الكتاب العزيز لقد تقطع بينكم أكثر القراء على الرفع ويجوز النصب فقال قوم يكون الاسم مضمراً كأنه قال لقد تقطع الوصل بينكم وقال قوم يضمر ما كأنه قال لقد تقطع ما بينكم وحسن حذف ما ههنا كما حسن حذف لا إذا قيل والله أفعل أي والله لا أفعل قال امرؤ القيس: كلاَّ يمين الإله يجمعنا ... شيءٌ وإخواننا بني جُشما أي لا يجمعنا. وهذا البيت ينشد بخفض بين ونصبها. يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم

فالخفض على الإضافة والنصب وعلى تقدير ما وقال المعري في مكان آخر: وكان في النسخة هذه الأبيات التي أولها: يا أمتا أبصرني راكب ... يسير في مسحنفر لاحب والأبيات الثلثة منها مذكورة في أمالي قوم من العلماء المتقدمة ويجوز أن يكون غلط بها على أبي عبادة فنسبت إليه أو ظنها بعض الناس من شعر العرب فألحقها بما يحكى عنهم والبيت الثالث الثابت في هذه النسخة لا يوجد في الحكاية المتقدمة وقد اختلف في أشياء من هذا الجنس وربما حسد بعض فنسب شعره إلى المتقدمين ليُكاد بذلك وينقص من قدره. وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتاباً قديماً قد كتب على ظهره أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب من الجآذر في زي الأعاريب. وذكر خمسة أبيات من أول هذه القصيدة وهذا كذب قبيح وافتراء بيّن. وإنما فعله مفرط الحسد قليل الخبرة بمظان الصواب غرضه أن يلبس على الجهال. وقد رويت أبيات أبي عبادة التي في صفة الذئب لبعض العرب ويجب أن يكون ذلك كذباً مثل ما تقدم في حديث البائية التي لأبي الطيب. وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من بني الترك راشد بن وبرة ولا ريب أن ذلك باطل والرواية التي يرويها أصحاب اللغة يجيئون بالبيتين الأولين فيجعلونهما من قول الجارية ثم يقول فأجابتها أمها: الحصن أدنى لو تأَييته على أن هذه الأبيات بعيدة من نمط أبي عبادة وإن كان الشاعر المغزر يجوز أن يأتي بكل فن من القول. وقال المعري في الكلام على بيت البحتري الذي هو: والحدود الحسان يبهى عليها ... جلنار الربيع طلقاً وورده جلنار من أطراف كلام العامة وليس هو اسماً موجوداً في الكلام القديم ويجب أن يكون المراد به جل نار أي ما عظم من الجمر ثم كثر في كلام العامة حتى جعلوه كالاسم الواحد وأجروه مجرى الأسماء العربية غير المركبة. والشعراء والمولدون يعربون الراءَ فيقولون كأنه جلنار ورأيت جلناراً ولو أضافوه وقالوا جلَّ نار لكان أقيس ولو أنهم جعلوه بمنزلة حضرموت لوجب أن يقول هذا جلنار ورأيت جلنار ومررت بجلنار فلا يصرفون ولم

يأخذوا به في هذا المنهاج بل أدخلوا عليه الألف واللام فقالوا الجلنار واجتروا على توحيده فقالوا جلنارة فأجروه مجرى تمر وتمرة وقال بعض المحدثين: غدت في لباس لها أخضر ... كما تلبس الورق الجلنارا ولا أعلم هذا الاسم جاء في شعر فصيح وإنما هو لفظ محدث وكأنه في الأصل جاء على معنى التشبيه شبهوا حمرته بحمرة الجمر وهو جل النار ثم تصرفوا فينقله وتغييره وقالوا في تسمية الطعام الفارسي نيرباج وزعموا أن نير بالفارسية رمان وفارس تنطق بالياء كأنها ألف والألف كأنها ياء فيجوز أن يكون نار في جل نار من هذا النحو فكأنهم أرادوا جل الرمان ويجوز أن يكون جل بلسانهم في غير هذا المعنى على أن لغتهم اختلطت بالعربية وصارت فيها حروف كثيرة من كلام العرب وهم يسمون الفارسية الخالصة الفهلوية والذين يتكلمون بها اليوم قليل تفتقر إليهم الملوك في تفسير سير المتقدمين. وقال في كلامه على بيت: أسند صدور اليعملات بوقفة ... في الماثلات كأنهن المسند أشبه ما يجعل المسند ههنا أن يكون في معنى خط حمير لأن مذهب الشعراء في ذلك معروف وإياه قصد أبو عبادة كما قال ذؤيب: عرفت الديار كرقم الدواة يزبرها الكاتب الحميري وكانوا يسمون خطهم المسند وسموا هذا الخط العربي الجزم لأنه جزم من ذلك الفن أي قطع وقد يحتمل أن يعنى بالمسند الحديث المسند أي هذه المنازل قد صار حديثاً يذكر. وقال في الكلام على بيت: يغضون دون الاشتيام عيونهم ... فوق السماط للعظيم المؤَمر الاشتيام كلمة لم يذكها المتقدمون من أهل اللغة فإذا سئل من ركب البحر عنها قال البحريون الذين يسلكون بحر الحجاز يسمون رئيس المركب الاشتيام فإن كانت هذه الكلمة عربية فهي الافتعال من شام البرق لأن رئيس المركب يكون عالماً بشؤون البروق والرياح ويعرف من ذلك ما لا يعرفه سواء فكأنه سمي بالمصدر من اشتئام كما قيل رجل زور وهو مصدر زار ودنف وهو مصدر دنف وفي البحر سمكة تعرف بالاشتيام وهي عظيمة ويجوز أن يكون سميت برئيس المركب كأنها رئيسة السمك وإذا أخذ بهذا القول فهمزة

الاشتيام همزة وصل وإن صار في البيت زحاف قد جرت عادته باستعمال مثله وإن كان الاشتيام كلمة أعجمية فألفه ألف قطع كألف إبريسم وإبرهيم ونحو ذلك. وقال في قوله: إن أتبع الشوق أزراءً عليه فقد ... جافى من النوم عن عيني ما جافا قوله أزراءً عليه رديءٌ وإنما المعروف أزريت به وزريت عليه وقد عابوا على ابن دريد قوله في رسالة الجمهرة إلى الأزراء على علمائنا وقد حكى بعض أهل اللغة أزريت عليه وليس بمعروف وإنما الفصيح أزري به كما قال الأعشى: فإن تعهدي لامرئٍ ملةً ... فإن الحوادث أزرى بها ومثل هذا ما صححه للبحتري في قوله: إذا استقلته جرد الخيل فقال أنها غير مستعملة وإنما المعروف إذا استقلت به ويقولون استقل القوم إذا ساروا غير متعد وإنما أراد بقوله استقلته أقلته ولو قال أقلته لاستقام الوزن ولعل أبي عبادة كذلك قال: كما أنكر عليه لفظة البرطيل الذي تستعمله العامة في معنى الرشوة وقال أنه لا يعرف في الكلام القديم وكذلك وردت لفظة الأطروش فيشعر البحتري فأنكرها المعري وقال أنه لا أصل لها في العربية وقال في: أخواله للرستمين بفارس ... وجدوده للتبعين بموكل يروى للرمسين على الجمع وكذاك التبعين ويروى بالتثنية والجمع أشبه لأنه قال أخواله فجمع وكذلك قال جدوده فإن تكون الأخوال والجدود لملوك كثيرة أشبه من أن تكون لملكين وموكل اسم موضع باليمن ويقال أنها دار مملكة جمير وهو مفتوح الميم والكاف وكذلك نقل أهل اللغة وكان أبو عمرو والزاهد يقول الموكل قبة الملك فإن كان ذلك شيئاً قديماً سمعه فقد يجوز أن يكون حمل على أن هذا الموضع يقال له موكل وهو مقر مملكة القوم والذي يتهم به أبو عمرو يتخرج كثير منه على هذا النحو وكأن قبة الملك تسمى موكلاً لأنه يقعد فيها ويكل أموره إلى الخدم والحشم وقدم هذه البلاد رجل من أهل نجران ممن يسكن في البادية فصيح ينتمي إلى زبيد من مذحج فسمع فتى في المكتب ينشد هذه القصيدة فلما انتهى بموكل كسر الكاف فقال النجراني موكل وكذلك حكاه أهل العلم. وقال في كلامه على: وكنا نرى بعض الندى بعد بعضه ... فلما انتجعناه دفعنا إلى الكل

كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض وروى الأصمعي أنه قال كلاماً معناه قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً إلا في موضع واحد وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض وكان أبو علي الفارسي يزعم أن سيبويه يجيز إدخال الألف واللام على كل لا أنه لفظ بذلك ولكنه يستدل عليه بغيره والقياس يوجب دخول الألف واللام على كل وبعض وقد أنشد بعض الناس قول سحيم عند بني الحسحاس: رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكلى معمدا هذه نموذجات من كتاب عبث الوليد وقد وقع في 94 ورقة وحوى فوائد لغوية وأدبية قلما يعثر عليها في الكتب المتداولة وقد جاء في آخره تم الإملاء المعروف بعبث الوليد وهذه السمة موقوفة بين أمرين أحدهما أن يراد عبث الوليد الذي هو البحتري والآخر أن يعني الوليد الذي هو الصبي وكون الرجل سمي بالوليد يحتمل هذه التسمية.

وصف الأسطول

وصف الأسطول كلما زهت طبيعة قطر وحف بضروب النعيم الصناعي والطبيعي تنفتق ألسن أبنائه في وصفه والميل إلى رباعه ولذلك تجد للشاميين في وصف إقليمهم من الأماديح ما لا تجده للعراقيين وما تجده للأندلسيين لا تراه لأدباء المصريين. والأندلس هي من البلاد التي زهت بنضرتها وتاهت بفطرتها ولذلك ترى شعراءها وكتابها أشبه بالأوربيين في مناحيهم الأدبية لهذا العهد ينطقون بوصف ما تقع عليه أبصارهم وما كانت تقع إلا على أثر في الحضارة وشيءٍ من العمران وإذ قد اضطرتهم الحال أن يخوضوا غمرات البحار كالفينيقيين أيام عزهم والبريطانيين في أيامنا كان لهم من أساطيلهم ما وصفه شعراؤهم فيما يلي. قال ابن هانئ يصف الأسطول: معطفة الأعناق نحو متونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعيا إذا ما وردنا الماء شوقاً لبرده ... صدرن ولم يشربن غرقي صواديا إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة ... يُرى عقرباً منها على الماء ماشيا وقال أبو عمرو يزيد بن عبد الله اللخمي الأشبيلي الكاتب: ويا للجواري المنشآت وحسنها ... طوائر بين الماء والجو عوماً إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيتَ به روضاً ونوراً مكمما وإن لم تهجه الريح جاء مصالحاً ... فمدت له كفاً خضيباً ومعصما مجاذف كالحيات مدت رؤوسها ... على وجل في الماء كي تروي الظما كما أسرعت عداً أنامل حاسب ... بقبض وبسط ينسبق العين وإنما هي الهدب في أجفان أكحل أوطف ... فهل صنعت من غندم أو بكت دما قال ابن الأبار وقد أجاد ما أراد في هذا الوصف وإن نظر إلى قول أبي عبد الله ابن الحداد يصف أسطول المعتصم بن صمادح: هام صرف الردى بهام الأعادي ... إن سمت نحوهم لها أجياد وتراءت بشرعها كعيون ... أبها مثل خائفيها سهاد ذات هدب من المجاذيف حال ... هدب باك لدمعه إسعاد حمم فوقها من البيض نار ... كل من أرسلت عليه رماد

ومن الخط في يدي كل رد ... ألف خطها على البحر صاد قال ومن حسن قول شيخنا أبي الحسن بن حريق في هذا المعنى من قصيد أنشد فيه: وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح خشية الطوفان فإذا رأين الماء يطفح نضنفت ... من كل حرق حية بلسان قال ولم يسبقهم إلى الإحسان وإنما سبقهم بالزمان على بن محمد الإيادي التونسي في قوله: شرعوا جوانبها بجاذف أتعبت ... شادي الرياح لها ولما تتعب تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طوراً وتجتمع اجتماع الربرب والبحر يجمع بينها فكأنَه ... ليل يقرب عقرباً من عقرب وعلى جوانبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب وكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع: ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب يعلو بها حدب العباب مطارة ... في كل لج زاخر مغلولب يسمو بآخر ذي الهواء منصب ... عريان منسرح الذوَّابة شوذب يتنزل الملاح منه ذؤَابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب وكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب وكأنما جن ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا ... منها بالسن مارج متلهب من كل مسجون الحريق إذا انبرى ... من سجنه أنضلت أنضلات الكوكب عريان يقدمه الدخان كأَنه ... صبح يكر على ظلام غيهب ومن أولها: أعجب بأسطول الإمام محمد ... وبحسنه وزمانه المستغرب لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجب من كل مشرفة عَلَى ما قابلت ... أشراف صدر الأجدل المتنصب ومنها: جوفاء تحصر موكباً في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بموكب وقال أبو عمر القسطلي:

وحال الموج بين بني سبيل ... يطير بهم إلى الصوب ابن ما أفر له جناح من سباح ... يرفرف فوق جنح من سماء وأخذه إسحاق بن خفاجة فقال: وجارية ركبت بها ظلاماً ... بطير من الصباح بها جناح إذا الماء اطمأن ورقّ خصراً ... علا من موجه ردف رداح وقد فغر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح قال المقري ولا يخفاك حسن هذه العبارة الصقيلة المرآة وقال ابن الأبار وقد قلت أنا في ذلك: يا حبذا من بنات الماءِ سابحة ... تطفو لما سبّ أهل النار تطفئه تطيرها الريح غرباناً بأجنحة الحمائم البيض للإشراك ترزؤه من كل أدهم لا يلغى به جرب ... فما لراكبه بالقار يهنئوه يدعى غراباً وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماءٍ وللشاهين جوء جوءه وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأسطول: يا حسنها يوماً شهدت زفافها ... بنت الفضاءِ إلى الخليج الأزرق ورقاءُ كنت أيكة فتصورت ... لك كيف شئت من الحمام الأورق حيث الغراب يجر شملة عجبه ... وكأنه من غرة لم ينعق من كل لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصانع المتأنق شهدت لها الأعيان أن شواهناً ... أسماؤها فتصفحت في المنطق من كل ناشيرةٍ قوادم أجنحٍ ... وعلى معاطفها وهادق سودق زأرت زئير الأسد وهي صوامت ... وزحفن زحف مواكب في مأزق ومجاذفٍ تحكي أراقم ربوة ... نزلت لتكرع من غدير متألق وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة: تحمل منه البحر بحراً من القنا ... يروع بها أمواجه ويهول بكل محالات الشراع كأنها ... وقد حملت أسد الحقائق غيل إذا سابقت شأو الرياح تخيلت ... خيولاً مدى فرسانهن حيول

متحالب تزجيها الرياح فإن وقت ... أطافت بأجياد النعام فيول ظباء فلاة ما لهن مفاحص ... وورق حمام ما لهن هديل سواكن في أوطانهن كأن سما ... بها الموج حيث الراسيات نزول كما رفع الآل هوادج بالضحى ... غداة استقلت بالخليط حمول أراقم تحوي نافع السم ما لها ... بما حملت دون العداة مقيل

العربية والتركية

العربية والتركية أصيبت الأمة بعد سقوط دولة بني العباس بفتور غريب في العلم والآراء لما عايشته من أهاويل الحروب والفتن. ولما قامت الدولة العثمانية فجمعت تحت لوائها الأقطار المختلفة نظرت إلى الأقطار العربية من الوجهة السياسية ولم تعن بها ولا بغيرها من الوجهة العلمية الاجتماعية شأنها في عامة أدوارها وأقطارها ولم يشذ عن ذلك إلا مصر فكانت أشبه بمملكة مستقلة حتى بعد استيلاء العثمانيين عليها. وبعيد أن قامت الدولة تؤسس لها مدارس في العاصمة والولايات لتعلم العلوم الحديثة وتستبدل النور بالظلمة والعلم بالجهل قام محمد علي والي مصر فنزع القطر المصري من المماليك في الظاهر ومن الدولة في الباطن وأنشأ فيه مدارس عربية وتوفر بدلالة جماعة من مستشرقي الفرنسيس النبهاء على ترجمة الكتب العلمية من اللغات الأوربية فانتعشت اللغة العربية في مصر فقط وظلت كهف العرب عنها يأخذون علومهم وموطن الطباعة والكتب والصحف وبأنوارها يستضيئون وذلك لغناها العظيم وتاريخها المجيد القديم. بقي الأمل في نهوض العربية محصوراً في مصر لأن الشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش أمست في فتور. وقد أنشئت في تونس وسورية بعض المدارس والمطابع تدرس بالعربية وتطبع اللازم من الكتب العربية لكنها لم يمضِ على تأسيسها بضع سنين حتى أطفئت شعلتها بما أصاب سورية من بلاء المراقبة وما أصاب تونس من الاحتلال الفرنسوي. والمراقبة واحتلال الغريب مما يقتل روح العلم وينزع حياة النهضة القومية. وقد أوشكت مصر أن تصاب بضعف لغتها لما احتلها الإنكليز لولا أن قامت الأمة وطلبت جعل العربية لغة المدارس الابتدائية والثانوية فلم تر الحكومة بدّاً من إجابة طلبها. أما هذه الديار فكان أول ما انصرفت إليه الوجوه بعد إعادة القانون الأساسي العثماني مسائل التعليم فالتركية لسان الدولة الرسمي تريد أن تعلمه جميع العناصر العثمانية ليجيء منهم في المستقبل مزيج واحد وتقوي وحدتهم السياسية. وقد نشرت نظارة المعارف برنامجها ولم نشهد فيه ذكراً للعربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية بل قالت أن تعليم العلوم التركية للذكور والإناث وللصغار والكبار وللعرب والترك والروم والأرمن والبلغار والأرناؤد حتى أن المبادئ البسيطة التي سمحت تعلمها من العربية تدرس في كتب

ألفها أتراك باللغة التركية. فأدرك بعض الباحثين في أحوال البلاد والعناصر أن غرض الحكومة من هذه الخطة (تتريك) العرب وغيرهم وهو عمل إذا كان نافعاً من حيث السياسة فلا نفع فيه من حيث الاجتماع والعلم خصوصاً بعد أن رأينا أصغر الشعوب الأوربية تحافظ على لغتها الأصلية محافظتها على أعراضها وأموالها وأرواحها. لا بد للحكومة أن تجعل التعليم إجبارياً في المملكة فإذا جعتله باللغة التركية ولم تراع حالة كل قطر ولغة أهله تسوء العاقبة ولا تأتي الشجرة التي تريد غرسها الآن بثمرة جنية بل يكون شأن البلاد العقم في العلم والفكر ومن لم يتعلم العلوم بلغته هيهات أن يأتي منه عضو يفيد أمته وبلاده. وإذا فعلت الدولة ذلك الآن فتكون في عهدها الدستوري أظلم منها في عهدها الاستبدادي وتكون حكومة مصر أرفق بأهل مصر من حكومتنا بنا لأنها منا فينتظر عن يدها الكثير وتلك ليست منهم وكل شيء تأتي به يعد كبيراً. وبعد فإن كانت الحكومة العثمانية لم تنشط اللغة العربية في الماضي مع أنها لغة الدين والآداب والحضارة فهي لم تضع العقاب في سبيلها مباشرة ولكن الغلطة الفظيعة التي ارتكبتها ولا يغفرها لها التاريخ هو أن القائمين بأعبائها منذ البدء جعلوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية خلافاً لما جرت عليه دول الإسلام السالفة كدولة المصامدة البربر في الغرب الأقصى والأدنى ودولة الجراكسة في مصر والشام ودولة آل سلجوق التركية في العراق وشبه الجزيرة ودولة بني بويه الفارسية ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها من الدول التي طرحت لغاتها وعمدت إلى اتخاذ اللغة العربية لغة الحكومة والدولة الجراكسة والبربر والفرس والأكراد والأتراك يتخلون عن لغاتهم مختارين ولا يستعملون في الرسميات غير العربية لغة البيان والعلوم أما الترك فجروا على غير سنة الدول السالفة فلم يروا من المصلحة تعلم لغة عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها واكتشفوا بلغة ملفقة بدوية ما برحوا يتوفرون منذ قرون على إصلاحها وهيهات أن تكون كما يحبون. ولما جاء السلطان سليم الفاتح مصر والشام وكان على شيء من المعرفة يحسن العربية كما يحسن الفارسية والتركية أحب أن يتلافى الغلط الذي سارت عليه دولته وأن يجعل اللغة العربية لغتها الرسمية أسوة الدول الإسلامية البائدة فقام عليه بعض ضعاف العقول من أهل

دولته وأرادوه على العدول عن رأيه مخافة أن تندثر لغتهم بل تخلصاً من أن يتعلموا لغة غيرها فكان عملهم هذا من جملة السدود التي حالت دون آل عثمان وبسط أيديهم على الممالك الإسلامية المجاورة لهم واللغة العربية أعظم رابطة بين المسلمين. ولقد كانت الدولة ولا تزال تعلم في مدارسها الرسمية العربية كما تعلم الفارسية وذلك لأن التركية مزيج من هاتين اللغتين وبدون معرفة قليل من اللغتين لا يتأتى لتركي أن يكتب كتابة صحيحة في لغته فكان شأنها من بعض الوجوه شأن المدارس في أوربا لا تزال إلى اليوم تعلم اللاتينية واليونانية لأنهما أصل لغات أوربا وإن كانتا بادتا أو كادتا. ولكن مدارس أوربا أخرجت كتاباً بهذين اللغتين ولم نعهد من مدارس الحكومة العثمانية كاتباً بالعربية أو الفارسية. هذا والتركية ليست لغة دين ولا لغة علم ولا لغة حضارة قديمة ولا مدنية معروفة كالعربية التي شهد أهل الأرض بأمجاد أهلها وحضاراتهم. ومن الغريب أنه لم ينبغ في الدولة العثمانية كاتب عربي من أصل تركي على حين نبغ وينبغ من الفرس والأكراد وغيرهم أناس يؤبفون بالعربية فتحسبهم عرباً خلصاً. وإنك لتقرأ العجمة في كلام ابن كمال باشا وكاتب جلبي وطاشكو بربلي وغيرهم من الأتراك الذين عانوا القلم العربي وعدوا في المصنفين ما لا تقرأوه في كلام الراغب الأصفهاني وأبي بكر الخوارزمي وحجة الإسلام الغزالي بل إن هؤلاء على منشأهم الفارسي كانوا أئمة الإنشاء العربي. إذا تعلم أبناؤنا اليوم على الطريقة التركية لا يلبثون أن يجيئوا أتراكاً ويتقنوا التركية كأرقى أبنائها وبذلك لا يخدمون أبناء لغتهم أدنى خدمة وقد رأينا معظم الذين تعلموا من أبناء سورية والعراق في المدارس الرسمية لا يحسنون التكلم بالعربية العامية فضلاً عن أن يكتسبوا سطرين صحيحين بلغتهم بل ربما رأيتهم يمزجون المصطلحات التركية وبعض الألفاظ التركية بينما هم يكلمونك بالعربية فكأن شأنهم في هذا شأن أكثر التوانسة والجزائريين من سكان المدن يتكلمون بعربية تكاد تكون أقرب إلى الإفرنجية لما خالطها من الألفاظ الإفرنسية والإسبانيولية والطليانية. وقد رأى بعض العقلاء أن أحسن حل لمسألة اللغة العربية في المدارس الرسمية وسلمه عاقبة على أجيال الدولة المختلفة هو أن يجعل تدريس العلوم المادية كلها باللغة العربية كالطبيعيات والرياضيات والفلك والكيمياء والطب وأن تجعل العلوم السياسية كلها باللغة

التركية كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحقوق والاجتماع وبذلك لا يقع حيف على العرب وهم نصف الدولة أو يزيدون ولغتهم أفضل لغات سائر العناصر العثمانية. والمستقبل كفيل بحل هذه المعضلة العلمية.

ضراء العلماء

ضراء العلماء يلد الإصلاح بادئَ بدءٍ غريباً لا يأنس به إلا ذوو الاستعداد الفطري للمبادئ العالية وأبناء العلم والتهذيب من رجال الأمة والبقية منهم يناهضونه إما بدافع جهلهم وتعصبهم أو لعدم انطباقه مع ما ينزعون إليه من التقاليد التي وجدوا عليها آباءهم ولهذا تعترضه قبل أن يدرج من عشه قوتان متناقضتان: الواحدة تسعى لإنمائه والأخرى تعمل على تلاشيه ويساعد الثانية في الغالب مال وخول في ملك ضخم البنيان وجاء منبسط الظلال. . . بين هاتين القوتين تشهر حرب شعواء يضطرب لها فلك الإصلاح ولا بد أن تنجلي وقد أزهق الحق الباطل لأن القوة الحقيقية بجانبه. ولقوة الحق حركة كبرى في ميدان تنازع البقاء. إلا وأن أنصار الباطل كانوا وما زالوا في كل عصرٍ ومصر يوقظون الفتنة ويضرمون جذوة الثورة فيقومون بدعوى الغيرة على الدين مرة وخدمة النفع العام تارة أخرى وما يريدون بذلك كما يشهد الحق إلا منافعهم الشخصية فهي قبلة آمالهم التي يولون شطرها وكعبة أميالهم التي يسوقون نحوها مطايا همهم وهممهم. وليس أضر شيئاً على العلم والدين من هؤلاء فبمثلهم كسد سوق العلم وراجت بضاعة الجهل المزجاة وهم بما يختلقونه من الأوهام مثلوا الدين بأقبح صورة مشوهة يفر منها الناظر فرار السليم من الأجرب وفسحوا للدين مجالاً واسعاً أمام الأغيار فأخذوا يسلقونه بالسنة حداد وينزلونه في غير المنزلة التي وضعها السلف الصالح أيام كانوا على بيضاء نقية لا يضرهم من خالفهم إذا كانوا هم المهتدين. منيت الأمم الإسلامية جمعاء بمثل هؤلاء منذ ثلاثة عشر قرناً أو ما يزيد. بيد أنه مع وجود هذه الطغمة بين ظهرانيهم وارتفاع جلبتهم وضوضائهم وعملهم على إطفاء شعاع الأماني الذهبية في مهب تلك العواصف لم تعدم رجالاً توفرت على الأخذ بناصر الحق وسلبت قرارها رغبة فيشد أزره ممن تمحضوا للعلم الخالص واغترفوا من معينه وشلا فكانت القوة بجانبهم ينافحون بها أعداء العلم الألداء ويكافحونهم والغلبة لهم وإن تألبت عليهم الجموع الكثيفة وتحلقت أمامهم الصفوف كالبنيان المرصوص ممن تجمعهم جامعة الجهل تحت لواء الحسد اللئيم. شهد شيخنا التاريخ منذ نشأ الفكر البشري هذه الأعمال البربرية ولم تزل صفحاته ندية بعد

فلم يجف ما أريق من الدماء في سبيل نصرة الحق ولم يتبخر ما أذرف من الدموع الصافية المصدر والمورد على تلك العقول الرصينة التي بينما ترصد فضاء السماء الفسيح إذا بها تفحص أعماق هذه الأرض وتجتهد في استكناه أسرار الحياة المطوية طي كتل تلك الطبقات الصماء. وها هو قد حشد في صدره ألوفاً مؤلفة ممن ذهبوا ضحية الجهل والحسد ما لو جمع وأُفرد بمؤَلفات خاصة لأخرجت للناس مجلدات ضخمة في محكمة التفتيش الإسلامية الكبرى. وليس بالنزر القليل ما نال الأئمة المصلحين من النكبات التي يسود لها وجه الإنسانية فكم كفر من هو أشد تمسكاً بدين الله وأتوا على من هو أعظم اعتصاماً بحبله المتين وحكم بالزندقة على من كان يحارب الدهريين وضلل من كان يجاهد في سبيل الشرك واضطهد من كان يعمل فكرته للاجتهاد والعمل في كتاب الله وسنة رسوله. ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد فلم يتخطوا دائرة الإنسانية بتمثيلهم عباد الله المصلحين أقبح تمثيل وضربهم بالأسواط حتى تشل الأطراف أو تعتل إحدى الأعضاء فتفقد وظيفتها وسلخهم جلودهم وهم أحياء مما لم يعهد نظيره إلا بين ظهراني الأمم العريقة في التوحش والعمجية. وأمامي الآن كثيرٌ من أمثال تلك الحوادث في بطون عدة من التواريخ التي تضم تراجم مشاهير المشارقة والمغاربة آتي على شيءٍ منها مقتصراً على رجال الفريق الأول ممن ذاقوا الأرم ولقوا من معاصريهم إلا لاقي لقآء بث فكرةٍ إصلاحية أو القيام بمشروع جديد ليعلم أن التاريخ هو المحشر الذي ينسل إليه الناس من كل حدب وأنه لا يفلت أحداً دون أن يناقشه الحساب: هذا مالك بن أنس سعي به إلى جعفر بن علي بن عم أبي جعفر المنصور فدعا به وجرده وضربه سبعين سوطاً ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وذلك جزاء قوله الحق حين سئل عن مبايعة محمد بن عبد الله بن حسن وقولهم له: إن في أعناقنا مبايعة أبي جعفر فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضرب لذلك. قال صاحب الفلاكة: ثم لم يزل بعد في علو ورفعة كأنما تلك السياط حلياً تحلى بها. وهذا أبو حنيفة النعمان الفقيه الكوفي ضربه يزيد بن عمر بن هبيرة الفرازي وكان أمير

العراقيين مائة سوط وعشرة أسواط وكل يوم عشرة أسواط أيضاً وذلك لما أراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فأبى وبقي على الامتناع وسجنه فتوفي في السجن في أحد القولين. وقيل: أن سبب سجنه الأبدي ما ذكره الزمخشري وهو من كبار الحنفية في تفسير آية: لا ينال عهدي الظالمين إن أبا حنيفة رحمه الله كان يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على بناء آجره لما فعلت اهـ. وحينئذ بعلم الباحث المدقق أن سبب سجنه أمر سياسي. ومثله أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ثم البغدادي أمر المعتصم بضربه فأخذ وجيء بالعقابين والسياط وضربه ضرباً مبرحاً حتى أغمي عليه وغاب عقله ثم أمر بإطلاقه إلى أهله فنقل وهو لا يشعر وذلك أنه أبى أن يقول خلاف ما يعلم أو يعتقد حين أجلسه المعتصم ودعاه إلى القول بخلق القرآن فامتنع وقال للمعتصم ما قال ذلك ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن القرآن علم الله ومن علم أن علم الله مخلوق فقد كفر. فناظره أحمد بن أبي دؤاد وغيره وأنكروا عليه الآثار التي أوردها وقالوا للمعتصم هذا كفرك وأكفرنا وقال له إسحق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين فعند ذلك حمي واشتد غضبه وكان ما كان. وكذلك يوسف بن يحيى البويطي صاحب الإمام الشافعي كان الشافعي يسأل عن الشيء فيحيل عليه فإذا أجاب قال: هو كما أجاب وقال عنه الشافعي هو لساني حمل إلى بغداد في أيام الواثق بالله من مصر وفي عنقه غل وأرادوه على القول بخلق القرآن فامتنع ومات بالسجن في قيوده. وضم إلى هؤلاء الأئمة من أساطين العلم والعمل من لم يرفعوا الأعمال المفسدين رأساً ولم يقيموا لها وزناً وليس ما أصابهم من المصائب بأقل مما نال الأغمار من معاصري الأخير أن تألبوا عليه وكادوه واستظهروا عليه بالأمراء فأحرقوا كتبه الثمينة ومصنفاته وفي ذلك

قال: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القطراس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل أن أنزل ويدفن في قبري إلخ. وإنك لترى العجب العجاب حينما تأتي على تراجم المشاهير وما تجد في غضونها من المحن والإحن التي قصد من إيقاعها بهم غمط فضلهم والحط من كرامتهم ووضعهم أمام سيل شهرتهم الجارف سوراً من الجمود أركانه التعصب الأعمى ودعائمه الجهل المطبق. ولقد أفضت ضراء العلماء والوقيعة بهم إلى الطعن بالمذاهب وقيام طائفة على أخرى كلما لاح لها من الفرصة بارق. ومن ذلك قيام الأكابر على محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الملقب بلقب أبيه جمال الإسلام وحدهم له فإنهم خاصموه واستظهروا بالسلطان عليه وعلى أصحابه وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس وعزلوا من خطابة المجامع وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع فخيلوا إلى ولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عموماً وبالأشعرية خصوصاً قال السبكي: وهذه هي الفتنة التي طار شررها وطال ضررها وعظم خطبها وقام في أهل السنة خطيبها فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح يلعن أهل السنة في الجمع وتوظيف سبهم على المنابر وضار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه واستعلى أولئك في المجامع فقام أبو سهل في نصر السنة قياماً مؤَزراً إلخ. . . ومما يجدر ذكره في هذا الباب من المتأخرين الشيخ عبد الغني النابلسي فإن أهل الشام تألبوا عليه ووصموه بوصمات لم تكن من الشيخ رحمه الله في شيء. وما دعا أولئك الرعاع إلا حسدهم لمنزلة الشيخ حتى اضطروه إلى مغادرة دمشق والسكنى بالصالحية حيث دفن ثمة. وفي ذلك يقول من قصيدة مطلعها: يا من تكلم فينا بالذي فيه ... وقعت في كف ضرغام وفي فيه إلى أن قال: فقد جحدت الغيور الحق ملته ... هيهات أنك تنجو من أياديه وإن جهلت فما بالكفر يعذر ذو ... جهل لذي الشرع والشيطان يطغيه دم في ظنونك مفتوناً فسوف ترى ... من الذي منه قبح الفعل يرديه

ولا تقل أي جاهٍ للضعيف يرى ... فإن للبيت رباً سوف يحميه يا مستبيحين أعراضاً محرمةً ... بسوء ظن وتلبيس وتمويه أهكذا ملة الإسلام تأمركم؟ ... أم قد سلكتم عن الإسلام في تيه؟ تباً لكم ولمن قد عاد يتبعكم ... والعبد مولاه في الأعداء يكفيه وبعد فإن التاريخ يعيد نفسه والحوادث لا تفتأ تتعاقب على ممر الأيام وإن الحال صورة من الماضي وإن طرأ عليه من مؤثرات التجديد ما أدخله في طور جديد ولا يخلو كل عصر من شرذمة نفاق واختلاق حتى في هذا العصر يعترضون كل عمل نافع يقوم به المصلحون في مصر وسورية والعراق ويعينهم فيما يطلبون تلكم الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق. ألا فليعلم أولئك الأغرار أن موت المصلحين في سبيل نصرة الحق بعث ونثور وأن رمي الآخرين بالكفر والزندقة هو حياة لهم وذكرى. ولقد كانت لأولئكم الجهلة الأغمار حياة مادية ولكن كانوا يتجرعون منها الحنظل ويموتون في كل يوم مراراً. وكانت لهؤلاء العلماء المصلحين شعلة حياة مادية أطفأها الحسدة فحلت محلها حياةٌ أدبية مملوءةٌ ضياءً ونوراً! دمشق ـ صلاح الدين القاسمي

شرف الموسيقى

شرف الموسيقى كل شيءٍ يشرف ويوضع بشرف القائمين به ووضاعتهم وكل علم يشرف ويوضع على نسبة اعتبارية من فائدة تتوقع منه وغاية تكون وراءه وصناعة الموسيقى هي من إمارات الظرف تعدُّ عند الأمم الحديثة المتحضرة من الفنون الجميلة كما كان يعهدها العرب إبان حضاراتهم من الكماليات. قال ابن خلدون والغناء يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفتنوا فتحدث هذه الصناعة لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجياته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفتناً في مذاهب الملذوذات وكان فيسلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم وكان ملوكهم يتخذو ذلك ويولعون به حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها. قال وأما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاءً متساوية لم يزل هذا شأنهم في بداوتهم وجاهليتهم فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته فيترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك كثيراً ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وجادوا فيه وطار لهم ذكر ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم وابنه إسحق وابنه حماد. قال وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأثنى له الجوائز

والإقطاعات والجرايات وأحله من دولته وندمائه بمكان فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. وطما منها بإشبيلية بجر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد الغدوة بإفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح وهو أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. وقال ابن خلدون أيضاً: ولقد عذلت يوماً بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك فقال لي أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه فقلت له يا سبحان الله وهلا تأسيت بأبيه وأخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصم عن عذلي وأعرض. هذه زبدة تاريخ الغناء أو الموسيقى في العرب وطرف مما كان من عناية ملوك الإسلام بها أيام الحضارة ولقد انتشرت بعد حتى صار يتعلمها بعض أهل العلم من غير نكير وشرفت بإقبال الكبراء عليها بحيث لم تكن في شرفها دون غيرها من العلوم. فقد ذكر بن أبي أصيبعة أن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى وعملها إلى غاياتها وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحاناً بديعة يحرك بها الانفعالات وله كتاب الموسيقى الكبير ألفه للوزير أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي وكتاب في إحصاء الإيقاع وكلام له في النقلة مضافاً إلى الإيقاع كلام في الموسيقى. ويحكى أن القانون الذي يضرب عليه للطرب هو من وضعه وأنه كان أول من ركب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم. وألف يعقوب بن إسحق الكندي فيلسوف العرب في الموسيقى فكتب رسالة في ترتيب النغم الدالة على طبائع الأشخاص العالية وتشابه التأليف ورسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى ورسالة في الإيقاع ورسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى ومختصر الموسيقى في تأليف النغم وصنعة العود ألفه لأحمد بن المعتصم ورسالة في أجزاء جبرية الموسيقى. وألف أحمد بن الطيب السرخسي العالم الحكيم كتاب الموسيقى الكبير ولم يعمل

مثله كما ألف كتاب نزهة النفوس ولم يخرج باسمه وكتاب اللوم والملاهي ونزهة المفكر الساهي في الغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة وأنواع الأخبار والملح صنفه للخليفة. وألف ثابت بن قرة كتاباً في الموسيقى ورسالة إلى علي بن يحيى المنجم فيما أمر بإثباته من أبواب علم الموسيقى ورسالة إلى بعض إخوانه في جواب ما سأله عنه من أمور الموسيقى. وكان أبو بكر محمد بن طفيل من فلاسفة المسلمين في الأندلس يأخذ رواتب كثيرة مع الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد وغيرهم ويقول لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم. وكان ابن باجة الفيلسوف الأندلسي على جلالة قدره متقناً لصناعة الموسيقى جيد اللعب بالعود قال ابن سعيد أن ابن باجة في الموسيقى بالمغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد. وكان ابن يونس المنجم المشهور يضرب بالعود على جهة التأدب. وكان أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين يعرف الموسيقى ويلعب بالعود ويجيد الغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات وعمل أرغناً وبالغ في إتقانه. وكان أبو زكريا يحيى البياسي من أفاضل العلماء جيد اللعب بالعود وعمل الأرغن أيضاً وحاول اللعب به وكان يقرأ عليه علم الموسيقى. وكان أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي العالم الرياضي الطبيب متقناً لعلم الموسيقى وعمله جيد اللعب بالعود. وكان أبو الحكم الأندلسي الطبيب الشاعر يعرف الموسيقى ويلعب بالعود. وكان الحرث بن كلدة الثقفي أحد أطباء العرب يضرب بالعود تعلم ذلك بفارس واليمن. وكان قسطاً بن لوقا البعلبكي العالم الفيلسوف بارعاً في علم الموسيقى. وكان أمين الدولة بن التلميذ يحب صناعة الموسيقى وله ميل إلى أهلها. وكان صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر العالم المفنن عالماً بالموسيقى. وكان نجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة لأنه أمه كانت عالمة بدمشق وتعرف ببنت دهين اللوز فاضلاً في الأدب والطب وله معرفة بالضرب بالعود استوزره الملك مسعود صاحب آمد وحظي عنده. وكان فخر الدين بن الساعاتي الفلكي الفيلسوف الطبيب خدم بني أيوب وتوزر للملك العادل والملك المعظم وكان ينادم هذا ويلعب بالعود. وكان رشيد الدين بن خليفة الطبيب العالم أعرف أهل زمانه بالموسيقى واللعب بالعود وأطيبهم

صوتاً ونغمة حتى أنه شوهد من تأثر الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي فكثر إعجاب الملك المعظم به جداً وبعد ذلك أخذه إليه واستمر في خدمته. وذكر ابن خلكان أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور كان في شبيبته يضرب بالعود ويغني فلما التحى وجهه قال كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستظرف فنزع عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة. وكان أبو الحسين علي بن الحمارة آخر فلاسفة الأندلس آخر من برع في الألحان وعلمها وهو من أهل غرناطة قال في نفح الطيب واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء فيقطع العود بيده ثم يصنع منه عوداً للغناء وينظم الشعر ويلحنه ويغني به فيطرب سامعيه. وكان الفاضل أبو الحسين بن الوزير أبي جعفر الوقشي آية في الظرف والموسيقى والتهذيب وشيخه في هذا الفن أبو الحسين بن الحسن بن الحاسب كان ذا ذوق فيها مع صوت بديع أشهى من الكأس للخليع قال أبو عمران بن سعيد ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي: ومطارح مما تجس بنانه ... لحناً أفاض عليه ماء وقاره يثني الحمام فلا يروح لوكره ... طرباً ورزق بنيه في منقاره وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف اهل الأندلس بالعلوم القديمة المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب فيلسوفاً طبيباً ماهراً يقريء الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها ولما تغلب الإفرنج على مرسية عرف له حقه فبنى له مدرسة يقريء فيها المسلمون والنصارى واليهود قاله في النفح. وعلى الجملة لم تكن صناعة الموسيقى بالمنزلة التي يصورها أهل جيلنا من الغضاضة والضعة بل عرف بها أناس من أهل الصيانة والعلم وما كان كل من تعاطى صناعة الغناء عارياً من سائر العلوم فقد كان إسحق بن ابراهيم الموصلي نديم الخلفاء وشيخ الغناء ومع هذا كان من العلماء باللغة والشعر وإخبار الناس وله يد طولى في الحديث والفقه والكلام وكان المأمون يقول لولا ما سبق لإسحق على ألسنة الناس واشتهر بالغناء لوليته القضاء فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة ولكنه اشتهر بالغناء وغلب على جميع علومه مع أنه أصغرها عنده. ومثل هذا ما وقع لقاضي إشبيلية أبي بكر القاضي أبي الحسن الزهري فإنه كان كثير

اللعب بالشطرنج لم يكن من يلعب به مثله في بلده قال فكانوا يقولون أبو بكر الزهري الشطرنجي فكان إذا بلغني ذلك أغتاظ ويصعب عليَّ فقلت في نفسي لا بد أن أشتغل عن هذا بشيءٍ غيره من العلم لا نعت به ويزول عني وصف الشطرنج وعلمت أن الفقه وسائر الأدب ولو اشتغلت به عمري كله لم يخصني منه وصف أنعت به فعدلت إلى أبي مروان عبد الملك بن زهر واشتغلت عليه بصناعة الطب وكنت أجلس عنده وأكتب لمن جاء مستوصفاً من المرضى الرقاع واشتهرت بعد ذلك بالطب وزال عني ما كنت أكره الوصف به وهذا هو السبب والله أعلم في إخفاء كثير من أهل الوقار والعلم أنهم على جانب من علم الموسيقى والضرب على العود وغيره من أنواع الملذوذ ولولا التقية لانتهى إلينا أسماء كثير ممن تبلغنا عنهم سوى أخبار العلوم المتعارفة على أن الشرف كله اعتباري ولا مانع من الغناء والتلحين إذا لم يتبعهما التلطخ بحمأة السفاهة والرذيلة. أما الملوك والأمراء الذين عنوا بالموسيقى قديماً فأكثر من أن يحصوا منهم يزيد ابن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك وأبو عيسى بن الرشيد وعبد الله بن موسى الهادي وابراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور ومحمد بن جعفر المقتدر والمتوكل والمهدي والمؤيد وطلحة الموفق والطائع والمقتدر وابن المعتز وغيرهم من الملوك المتأخرين والله أعلم.

قوى النساء

قوى النساء كتب باولو لومبروز العالم الإيطالي مقالة في المجلة الباريزية قال فيها ما تعريبه: حكم الناس منذ قرون بأن الرجل من الجنس القوي والمرأة من الجنس الضعيف. فجميع مظاهر النشاط والمتانة والقوة الطبيعية من امتيازات الرجل. عضلاته كالفولاذ ويحمل السيف ويحارب ويتسلق الجبال الخطرة ويتحشم البحار وهي في أشد أنوائها ويرى الموت وجهاً إلى وجه. أما المرأة اللطيفة المزاج فإنها ترى أن قصم ساق زنبقة يعد منها قوة فهي التي يغمى عليها وهي جالسة على الكرسي وتصرخ مذعورة إذا رأت عنكبوتاً أو فأرة. فلذا يسأل السائل من أين تنبعث قوتها أي جوهر شجاعتها ومقاومتها ورباطة جأشها على أن المرأة في الغالب تظهر بمظهر الغيرية والإخلاص وسلامة العقل وإنكار النفس والمفاداة وكل ما يعرف به الإنسان الخارق للعادة. القوة والمتانة الطبيعية هما أساس القوة الأدبية وشرط لازم لهما وقد أبان التاريخ والإحصاء والبحث بأن المرأة ليست دون الرجل في المقاومة الطبيعية للأمراض والأوجاع والأتعاب فإنا نرى النساء المتوحشات البربريات يقمن بأشق الأعمال فيحرثن الأرض ويطحنّ الحب ويحملن الأثقال بيناهن مرضعات أو حاملات. ومن الغريب إنا نرى الضعف في النساء والقوة في الرجال عند بعض الشعوب المتوحشة على صورة معكوسة فنرى المرأة عندهم تضع ولداً فلا تلبث أن تنهض وتتولى في الحال أعمالها على حين يبقى زوجها في الفراش كالنفساء وهذا مما دلّ على مضائها الغريب. وإنا لنرى النساء في بلاد الهرسك يقرنَّ بالسكة بدل البقر كما نراهن في بلاد الألب ينقلن أحمال العلف عوضاً عن البغال. وليس من رياضة مهما صعبت واقتضت صاحبها من الجرأة والثبات والشجاعة إلا قامت به المرأة بنشاط وبرزت في مضاميره أي تبريز. فنراها تركب الخيل وتسبح وتلعب بالسيف وتركب الدراجة وترتاض في الجبال وكل ذلك مما يقتضي له عدا أعصاب من حديد ومقاومة فائقة حضور ذهن وحذر واحتقار للموت أي ما لا يمكن القيام به إلا إذا اتفقت القوة الطبيعية مع القوة الأدبية. وهناك أحوال كثيرة لا ندعوها رياضة لما يقتضي لها من النشاط والشجاعة والثبات في

المرأة ونعني بذلك اكتشاف البلاد الجديدة لما فيها من المخاطر وما ينبغي لدخولها من الجرأة. ومن الناس من يظن أن مجد الاكتشاف لا يحرزه إلا الرجال على حين هناك عدد كبير من النساء المكتشفات والسائحات اللائي لم يهبن الأخطار واستهنّ بكل ما ينبغي للنجاح. فقد رأينا العقيلة كودرو طافت مع زوجها أقطار غويانا الموبوءة واجتازت نهر البرازيل المأهول بالهنود ومات زوجها سنة 1899 فلم تكن أقل منه مثابرة على السياحة وحدها. وليفنكستون وهو أعظم سائح إفريقي في عصرنا كانت ترافقه زوجته في أكثر رحلاته وهي التي أنقذته من الهلاك في شوبانكا وقضت كالأبطال وهي لا تريد أن تغادره في الزامبين. وقد اكتشف بكير سنة 1864 نهرت ألبرت نيانزا وكانت زوجته اكبر مساعدة له بجرأتها ونشاطها. وصحبت جوزفين بري زوجها سنة 1902 إلى القطب الشمالي وهي على قلة ما لقيته من الرفاهية في تلك الرحلة استطاعت أن تربي لها ولداً. ورافق كنود رامومسين أخواته في رحلته إلى غروانلاندا. وطاف بوتانين الروسي وأجفالفي المجري مع زوجتيهما في آسيا الوسطى وكانت زوجة الثاني باريزية الأصل والرتبية فكتب لها السيد أن تعود إلى أوربا فوضعت لها كتاباً بديعاً في رحلتها أما زوجة الأول فبقيت إلى الآخر وقضت وهي لا تخاف دركاً ولا تخشى. وإن ما حدث لرينهارد زوجة السائح المبشر كان من المدهشات حقيقة فقد كانت ترافق زوجها مع ولد لها في بلاد التبت وكانت سياحتهما خطرة وشاقة من وراء الغاية. ولقد داهمهما لصوص من أهل التبت بالقرب من لاهاسا فهرب جميع من كانوا معهما. وبعد أن بقي المبشر كامناً مع زوجته في السياج خرج قاصداً أحد المساكن القريبة يطلب معونة من فيه وظلت زوجته في انتظاره فلما نفذ صبرها عرفت أن اللصوص قتلوه وعندئذ قامت تسير وحدها عائدة من حيث أتت مع زوجها وهي تتوقع الموت في كل دقيقة وبعد أربعة أسابيع قضتها ماشية في صعبات وآلام لا تصدق بلغت مدينة قاتسين لو ناجية هي وطفلها. هذا ولا تشارك المرأة الرجل في مخاطر الرحلات والوحدة والحميات المؤذية والجليد والحر والمخاوف بل إن لها في الدفاع عن حياض البلاد يداً طويلة يدعوها إلى ذلك حبها لوطنها أو لأولادها. فقد عرفت جان دارك المحاربة الفرنسوية المشهورة بأيامها الغر

المحجلة كما عرفت كاترين سفورزا في القرن الخامس عشر في إيطاليا فإنها بعد أن رأت زوجها يذبح تحصنت في قلعة فورلي وقاومت حصار قيصر بورجيا ثلاثة أسابيع وبقيت في مقدمة رجالها ليل نهار راجلة وراكبة وهي لم تترك سلاحها ولما أعيتها الحيل أرادت أن تقتل نفسها بنسف الحصن ولكنها بقيت حية مع زمرة من أصحابها وعادت تقاتل بين أشلاء القتلى إلى أن أسرت وعندها صاحت إني أسلم نفسي لملك فرنسا. والتاريخ لا ينسى نساء مدينة سين وقد ضيق الحصار عليها الملك شارلكان فهببن يتألفن ثلاثة توابير مؤلفة من بنات جنسهن خاصة لا يقل عددهن عن ثلاثة آلاف فلبست قائدة التابور الأول لباساً بنفسجياً وقائدة الثاني لباسر حرير أحمر والثالثة اكتست بالبياض. وبمثل هذا قامت حنة هاشيت يصحبها نساء بوفي للدفاع عن مدينتهن وجاكلين روبنس عرضت حياتها للخطر لتخبأ في قاربها الذخائر اللازمة سان أومار خلال حرب انتقال الملك الإسباني. ولكم من امرأة اشتهرت بإقدامها وشجاعتها بحيث يكاد ينكر عليها المرء ما يصدر عنها وهي التي عرفت بالضعف ووصفت بكثرة التأثر وكان الذي يحملهن فيالغالب على تقحم المهالك تعصب ديني أو كراهة للظلم أو حب للحرية يقيمهن ويقعدهن. وعلى هذا رأينا شارلوت كورداي فأدت بنفسها وقتلت مارات المظالم وحدها ولما سئلت عما أتت أجابت: إن حب الحرية علمني أسباب الوصول إلى الظالم لأقتله. وقالت: ما أتعس بلاد كفرنسا يعجب فيها من امرأة تفادي بحياتها دفاعاً عن بلادها. ومن النساء صاحبات القوة الأدبية يخرج أولئك الروسيات بالمئات متخليات عن ثروتهن وراحتهن ورفاهيتهن في قصورهن الآمنة الوادعة منذرات على أنفسهن الدعوة إلى الثورة. يعرف الناس اسم صوفيا بوروفيسكايا التي مشت إلى المشنقة هادئة دون أن يبدو عليها الضعف ساعة. ويذكرون فيراساسولتش التي قتلت القائد تريبوف جلاد العدميين في روسيا وبرأتها محكمة المحلفين فأقرت بأنها كانت تؤثر أن يحكم عليها لأنها تكون إذ ذاك آمنة من أنها عملت ما تقدر عليه للدفاع عن حقيقتها. وقضت الفتاة فيرافنير البديعة الطلعة المحببة إلى النفوس ست سنين وهي روح جميع المكائد التي حدثت في روسيا فتجتاز البلاد من أقصاها إلى أقصاها وهي تحمل قذائف في مشدها وتختبئ متوارية عن أنظار رجال

الشرطة ولإنقاذ أوراق ومستندات محظورة. وقد سجنت هذه الفتاة الفتانة التي خلقت للحركة والاضطراب والشجاعة والثورة عشرين سنة في سجن شلوسبورج وخرجت منه بحماستها الأولى ومراميها التي طالما سعت لها سعيها. ويرى العدميون (نيهيلست) أن من الأخلاق التيفطر عليها النساء فكانت من قلواههن الأدبية أنهن إذا سجن والرجال في الحبوس أو نفين إلى سيبيريا يعشن أكثر من الرجال ولا ييأسن كالرجال على حين يموت الرجال أو ينتحرون أو يجنون لا قليلاً أو يغضبن من وحدتهم ومن بعدهم إلى الأبد عن عالم الأحياء. ولعل أحدهم يقول أن أمثال هؤلاء النساء هن من النادرات يرزقن عاطفة الحب والمفاداة والمقاومة وأنه قد ينشأ مثلهن وكم ترى في النساء من النابغات في الأدب فجورج ساند وأليصابات بروفنيك وجورج أليوت وبشير ستاف ومدام هومفري وأرد كلهن من الأديبات اللائي يقلُّ أمثالهن في الرجال على أن النساء والرجال أيضاً الذين اشتهروا بقواهم الأدبية وأفكارهم السياسية لا ينبغن إلا في مجتمع أو في دور يكون فيه مستوى المكارم والآداب راقياً جداً. وقد أظهر البحث أن نصف النساء من الشجاعة على جانب عظيم إذا نميت فيهن هذه القوة أتين بالأعاجيب ولكن من ينظر إلى النساء نظراُ مجرداً من التدقيق يراهن إلى الوناء والضعف والجبن والتعلق بأهداب الأمور التافهة والألاعيب الصبيانية. والفرق عظيم بين القوة الأدبية في الرجل وبينها في المرأة فالرجل ينشأ على ذلك بالفطرة أو بالتربية ويبقى كذلك مهما شقيت حياته أو سعدت بيد أن الرجال الأقوياء من حيث الطبيعة بل من حيث الأدب هم أندر مما نتصورهم. والمرأة لا تعنى بقوتها الأدبية عندما تكون حياتها سعيدة أو عادية إلا أن الحاجة إذا مست وأصابها شقاءٌ وبؤسٌ ومرض في أسرتها ينقلب كيانها في الحال ويصبح المتوسطات والرخوات منهن قويات شديدات يقاومن المصاعب أي مقاومة ويطعن صدور العوائق بسلاح قد يكون غير ماضٍ ولكن له من نار الحمية الموقدة ما يشحذ غراره ولا يطفأ أواره. ولكم شهدنا النساء يأتين من ضروب الشجاعة حين الحاجة ما لم يخطر ببال فكم رأينا عقائل كان أزواجهن على جانب عظيم من سوء الأخلاق والعشرة معهن وكن صابرات

على الأذى حتى إذا فقد بعولتهن ثرواتهن وسيقوا إلى السّجون والمطابق يعطفن عليهم ويأخذن في الإنفاق عليهم من كدهنّ وعملهن. ورأيت امرأة أخرى كانت شرسة الطباع تناكد زوجها وتسيء عشرته فلما أضاع ماله راحت وهي في سن الأربعين تراجع دروسها التي تعلمتها وتقدمت لنيل شهادة التعليم وأخذت منذ ذاك الحين تصرف على زوجها وأولادها من كسبها القليل وتعمل أعمال المطبخ والبيت بيدها وتشتغل من الصبح إلى المساء وكانت من قبل لم تتنزل لتبل يدها بالماء ولا لترفع ثيابها بنفسها أما زوجها فبقي سنين يعيش من كدح زوجته يلعن الزمان ويدخن الدخان ولا يفارق داره إلا للنزهة. ورأيت امرأة أخرى كان زوجها أحد رجال الإدارة وكانت مرفهة تعيش عيش الأميرات فأصيب زوجها بالروماتيزم فأخذت تمرضه وتعنى به بنفسها ثماني عشرة سنة ليل نهار حتى أنها لم تنزع عنها لباسها خلال العشر سنين الأخيرة لتكون على مقربة من سرير زوجها وتقوم بخدمته حق القيام بل إنها قضت بعض السنين الأخيرة ولم تخرج إلى الشوارع حتى صار منظر المركبات والقطارات في عينها غريباً. كلمتها ذات يوم وأنا أعجب بها فقالت لي أنها لم تسأم قط لأنها أدركت أنها تقوم بواجب وكانت كل ساعة من ساعاتها ولها ما يشغلها فيها وأنها لم تمرض منذ أخذت في تمريض زوجها وكانت تغتبط عندما ترى زوجها يشكر لها بعينيه عنايتها به قالت وكنت سعيدة أن أتوفر على إطالة حياته فلما قضى نحبه لم يبق لي مطمع في الحياة وأسفت عليه كثيراً وإن أدركت أن آلامه انتهت بالموت. وغريب أمر النساء في مفاداتهن بكل عزيز عليهن في سبيل ما يوطدن النفس على القيام به فإذا انصرفت أذهانهن إلى عمل من مثل ما تقدم يزهدن في الملاذ والبنين والبنات وينسين أن جمالهن ظل زائل وأنهن يضعن حياتهن بمفاداتهن ولكن ما يلذهن هو أن يغنين فيما صرفن وكدهن له وليس الرجال كذلك ولعلهم يؤثرون الانصراف إلى عمل عام أكثر من الميل إلى عمل خاص. أعرف أسرة غنية كان لها ابن كف بصره فأرادت أن تصحبه برفيق فاختارت له ابن بستانيها وجعلته له ترباً يغدوان ويروحان معاً فدرسا الحقوق معاً وصرفا على هذه الحال

منذ كان الأعمى ابن عشر سنين إلى أن صار ابن أربع وعشرين سنة ولما أتما دراسة الحقوق افتتحا لهما مكتب محاماة وقضيا فيه سنتين ولكن ابن البستاني ضاق ذرعه من تحمل صاحبه وانفصل عنه وإن كان طيب السريرة ولم ينس أيادي أسرته عليه قائلاً أن السأم أصابه فلا يتحمل عشرة صاحبه. كما أعرف رجلاً غنياً فقد زوجته وهي تضع له ابنة فلم تحدثه نفسه يوماً أن يعنى بتربية هذه مع أنه كان يحبها حباً جمّاً وما ذلك إلا لأن الرجل بما فيه من قوة أدبية يأتي من الأعمال ما يزيد بنتائجه الاجتماعية أكثر مما تقوم به المرأة مع شخص. وعلى ذلك فالواجب على الرجال أن يشفقوا على النساء إذا رأوهن يعشن في الأحايين عيشاً طيباً المرأة لا تنزع بها نفسها إلا أن تكون خادمة خاضعة تقوم بوظائفها اليومية المحدودة ولكنها حين الحاجة يكون شأنها أن تنقل فتكون ملكة وليس غير المصائب تحملها على تغيير كيانها فعلى الرجل أن يحترمها في حال بؤسها وسعادتها.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الحروب الإسلامية قال أحمد زكي بك أستاذ الحضارة في الجامعة المصرية أن الحروب الإسلامية كانت استعمارية أكثر منها دينية: أن الحرب الشرعية هي التي تقام لإعلاء كلمة الله وليس المراد من إعلاء كلمة الله الدعوة إلى الإسلام بالسيف فإن هذا مما لا يكون أبداً وإنما المراد منها ما عرف في تاريخ صاحب الشريعة الإسلامية وبعض خلفائه وذلك أن الدين بني على الدعوة إليه بالحسنى ولكن زعماء المشركين وسائر الممالك وقتئذ كبر عليهم أن يدينوا لدين جاء به يتيم عربي ويسوي بين الملوك والسوقة ويسيغ للخليفة الثاني أن يأمر مثل جبلة ابن الأيهم أن يرفع رأسه لجلف من أجلاف العرب ليثأر لنفسه فيلطمه كما لطمه. كبر عليهم الإذعان فقاوموا القائمين بنشره وشنوا عليهم الغارات يريدون صدهم عن سبيل الله وإطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فجاز للمسلمين وقتئذ بل وجب عليهم ان يذودوا عن حياضهم ويذبوا عن أعراضهم وإلا لكانوا أخساء جبناء فأعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل وصدوا هجماتهم وانتقموا لأنفسهم ممن آذاهم وكذلك الله يفعل بالمعتدين: فكانت تلك الحروب لدفع من يقف في سبيل المسلمين فيمنعهم من نشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة لذلك سميت حروباً شرعية وحق لها أن تسمى كذلك. ولا يفهم من قول المسلمين للمحاربين: الإسلام أو الجزية أو الحرب: إن حربهم إياهم كان لحملهم على الإسلام فإن الذي اضطر المسلمين إلى الحرب إنما هم المحاربون أنفسهم فلما كانت تشتد الأزمة بالمحاربين كانوا يحقنون دمائهم من المسلمين الذين نصرهم الله بقوة حقهم وبعدم اعتدائهم إلا على من اعتدى عليهم وكان حقن الدماء بأحد أمرين أما الإسلام ليصيروا إخوانهم وأما الجزية التي لا بد منها لأية أمة مغلوبة في كل عصر من العصور وإلا لو كانت هذه العبارة الإسلام أو الجزية أو الحرب لحمل الناس على الإسلام لما خيروهم بين الجزية والإسلام ولم يرضوا منهم دون الإسلام شيئاً. إن الذي يتأمل في مثير الحروب الإسلامية بادئ الأمر يعلم علماً ليس بالظن أن المسلمين لم يحاربوا إلا من أراد صدهم عن سبيل الله فحاربهم وآذاهم فمن ذلك أن أول الغزوات كانت مع قريش فنتركها ونترك سائر غزواتهم كذلك لما هو معروف من أمر قريش

وإيذائها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإخراجهم من ديارهم. ونذكر من بعد ذلك غزوة بني قينقاع من يهود المدينة. فقد حاربهم المسلمون لنقضهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى وهتكهم حرمة سيدة من نساء الأنصار ثم غزوة بني غطفان ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة دعثور المحاربي للإغارة على المدينة ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري وكانوا مع رهط عضل والقارة الذين خانوهم ودلوا عليهم هذا بلا قوم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس. ثم سرية المنذر بن عمرو وهم سبعون رجلاً يسمون القراء أخذهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم فلم يرع قومه جواره وقتلوا القراء ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة وذلك لنقضهم العهد وإلقائهم صخرة على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه لما كان في ديارهم. ثم غزوة دومة الجندل ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعراباً يقطعون الطريق على المارة ويريدون الإغارة على المدينة. ثم غزوة بني المصطلق وهؤلاء ممن ساعدوا المشركين في أحد ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة. ثم غزوة الخندق وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة. ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب ثم غزوة بني لحيان لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غزوة الغابة لإغارة عيينة بن حصن في أربعين راكباً على لقاح للنبي صلى الله عليه وسلم كانت ترعى الغابة. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القصة (موضع) لما بلغ المسلمين أن بذلك الموضع ناساً يريدون الإغارة على نعم المسلمين التي ترعى بالهيفاء (موضع) ثم سرية زيد بن حارثة لمعاكسة بني سليم الذين كانوا من الأحزاب يوم الخندق. ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني ثعلبة الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة. ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني فزارة الذين تعرضوا له. ثم سرية عمر بن الخطاب لما بلغ المسلمين من أن جمعاً من هوازن يظهرون العداوة للمسلمين. ثم سرية بشير بن سعد لما بلغهم من أن عيينة بن حصن واعد جماعة من غطفان مقيمين بقرب خيبر للإغارة على المدينة. ثم سرية غالب الليثي ليقتص من بني مرة بفدك لأنهم أصابوا سرية بشير بن سعد. ثم غزوة مؤتة وكانت لتعرض شرحبيل بن عمرو الغساني للحرث

بن عمير الأزدي رسول للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى يحمل كتاباً وقتله إياه ولم يقتل رسول للنبي صلى الله عليه وسلم غيره حتى وجد على ذلك وجداً شديداً. ثم سرية عمرو بن العاص لما بلغهم من أن جماعة من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء القرى للإغارة على المدينة. ثم سرية علي بن أبي طالب لما بلغهم من أن بني سعد بن بكر يجمعون الجموع لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين. ثم غزوة خيبر لأن أهلها كانوا أعظم محرض للأحزاب. ثم سرية عبد الله بن رواحة لما بلغهم من أن ابن رزام رئيس اليهود يسعى في تحريض العرب على قتال المسلمين. ثم سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان جزاء إرساله من يقتل النبي صلى الله عليه وسلم غدراً. ثم حرب العراق لما ارتكبه كسرى عندما أرسل إليه كتاب عرض فيه عليه الإسلام فإنه مزق الكتاب وكتب إلى باذان أمير له باليمن يقول له بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إليّ برأسه يكتب إلي هذا الكتاب (أي الذي بدأ فيه بنفسه فقال من محمد الخ. .) وهو عبدي فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع فارسيين وبعث بهما يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى فقدما عليه وقالا له شاهنشاه بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك فليس بعد ذلك عذر للمسلمين في امتناعهم عن حرب الفرس. وخصوصاً وقد كان للعرب ثارات كبيرة في ذمة العجم ثم غزوة تبوك لما بلغ المسلمين من أن الروم جمعت الجموع تريد غزوهم في بلادهم. وقد أعقبها فتوح الشام والقسم الأعظم من دولة الروم. هذه بعض الغزوات الإسلامية بادئ الأمر سردناها غير مرتبة ومنها يرى القارئ ما قصدناه من ذكرها وهو أن الحروب الإسلامية لم تقم لحمل الناس على الإسلام وإنما أقيمت لأسباب أخرى تجلت فيها بأجلى بيان. غير أن أناساً ممن يحطون من قدر الإسلام ويقعون فيه يقولون أن الإسلام لم ينتشر هذا الانتشار في مثل هذا الزمن الوجيز إلا بالسيف فهو دين توحش وهمجية وحجتهم في ذلك غزوات النبي صلى الله عليه وسلم والحروب الإسلامية ورأى ناس من المسلمين آيات في القرآن تحض المسلمين على قتال المشركين والكفار والمنافقين وأمثال هذا كقوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ

عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير. وقاتلوا المشركين كافة واعلموا أن الله مع المتقين. قاتلوهم أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم أملهم ينتهون. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. واقتلوهم حيث تقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم.) ولم يفكروا في سياق الكلام ومواضعه وأسباب نزوله فظنوا أن القتال شرع في الإسلام لحمل الناس على الاعتقاد به فكان ذلك الظن أكبر جرم على ذلك الدين الحنيف الذي تنزه عن مثل هذه الخشونة وتلك القسوة وذلك أن الأمور الاعتقادية لا تقبلها الناس إلا بالبرهان لا بالقوة والسلطان فمن قبلها منهم مكرهاً مرغماً لا يطمئن لقلبه وإذن لا فائدة من قبوله إياها. وإنما كان يتعرض المسلمون لمن آذاهم بسبب الأمور الدنيوية المدنية أو بسبب ظهورهم بدين جديد كانوا يدعون الناس إليه بالحسنى والموعظة الحسنة وليس عليهم هدى الناس وإنما الله يهدي من يشاء فمن آمن بالله فله إيمانه ومن كفر فعليه كفره وليس لهم على أحد من سلطان. هذه حال المسلمين مع من يدعونهم إلى الإسلام ولكن رؤساء بعض المدعوين ضنوا برياستهم على الزوال وأبوا ألا أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله التي تسهل على مرؤوسيهم وعبادهم الفرا من مظالمهم إلى فضاء العدل والإحسان. غير أن هذه الحروب قد أفادت الأمة العربية الإسلامية فوائد جمة من أجلها الغنائم التي أغنت المهاجرين عما فقدوه بالهجرة والأنصار عما ذهب في إكرامهم إخوانهم المهاجرين فشغل بذلك الرعب عن غزو بعضهم بعضاً وعن إثارة الفتن الداخلية فلما فتروا عن الحرب هنيهة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع كثير منهم عن دفع الزكاة فاستباح أبو بكر رضي الله تعالى عنه قتالهم فردهم إلى الإسلام عنوة ورأى أن يتم بعد ذلك ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من غزو الفرس والشام ليشغل العرب عن التفرق والخصومات والنزاع الداخلي والرجوع إلى التفرق ديناً ودنيا فأنفذ جيش أسامة ليضرب الأعداء بالعرب فإن ذلك خير من أن يضرب بعض العرب ببعض إذا لم يشغلهم بحرب غيرهم وكذلك رأى عمر رضي الله تعالى عنه من بعده فدوخ بجيوشه وأبطالهم خالد والمثنى وأبي عبيدة وعمرو الأعداء وفتح البلاد لتكون موارد خير للأمة العربية وليرفع عن تلك البلاد التي فتحها الإسلام ظلم الرومان والفرس الذي بلغ إذ ذاك أشده كما كانت حاله في فتح مصر وأمرها معروف وأباح له ولأبي بكر حرب الروم وفتح لذانهم ما أباح

للنبي صلى الله عليه وسلم من قبلهما وهي التراث التي للمسلمين عند الروم ومعلوم أن المسلمين لما فتحوا مصر وغيرها لم يحاربوا إلا أهل الدولة وهم الروم وذلك لأمرين أولهما إخراجهم من تلك البلاد وذلك كان خيراً للمحكومين وقد كان أهل مصر والشام يساعدون العرب على الروم وكذلك أهل العراق على الفرس. وثانيهما انتفاع العرب بالبلدان التي فتحوها انتفاعهم في الحضارة والمعايش والعلوم وغيرها. لأجل ذلك يمكننا أن نقول أن حروبهم كانت استعمارية ويتضح ذلك بأجلى وضوح في حروب من بعد عمر من الخلفاء والأمراء. يظهر ذلك لمن ينظر نظراً سطحياً إلى أسباب هذه الحروب وما جرته من الفتوح التي أوجبت نشر الدين وتعميمه بالمخالطة ومظاهر الفضيلة والكمالات التي امتاز بها المسلمون في أيام السلف الصالح والصدر الأول وقد دوّن المسلمون في تلك الأيام الخوالي كل دقيقة وكبيرة مما يتعلق بهذا الموضوع ولا نرى فيها أمراً واحداً يدعونا إلى القول بخلاف مذهبنا وهو أن الحروب كانت حروب مسلمين لا حروب إسلام وأنها كانت حروب توسع في الملك واستعمار للبلدان. الشمس وطول الحياة للشمس دخل كبير في إطالة العمر فقد ثبت أن الأعمار تطول في الأصقاع المشمسة أكثر من غيرها كما هو الحال في بعض قرى سويسرا واشتهرت مقاطعة لوكارنو على بحيرة ماجور ومقاطعة لوكانوا ومقاطعة ماجليازو على نهر تيسين في سويسرا بأنها البلاد المشمسة وقد تطلع الشمس في بعضها 331 يوماً في السنة ولذلك ترى أهلها والنازلين فيها أطول الناس أعماراً واختارها المترفون لقضاء فصل الشتاء وربيعها من أعظم المساعدات على طول حبل الحياة في الشيوخ وكثير في أهل مقاطعة تيسين يبلغون المئة سنة من العمر أما أبناء التسعين والثمانين فهم من الحوادث العادية والاستشفاء بالشمس من أفضل أنواع الوقاية الصحية. تعليم الزنوج أقام أحد أساتذة كلية هوفارد بأميركا الحجة على من يقول أن الزنجي غير قابل للتربية فقال أن الهمة التي بذلت في سبيل تعليمه منذ أربعين سنة قد أتت بأحسن النتائج حتى جاء من الزنوج أطباء وأساتذة وقضاة ومحامون وطابعون وغيرهم ممن يسعون السعي الحثيث

لإنهاض بني جلدتهم بحيث قلّ فيهم عدد الأميين إلى النصف. أعمال المرسلين تمتد أعمال المرسلين من دعاة الدين المسيحي كل يوم امتداداً غريباً ولاسيما دعاة البرتستانتية منهم فقد كانت إنكلترا مبعث المرسلين بما يدره عليهم أهل الخير وأنصار الدين من الأموال الطائلة واليوم أخذت الولايات المتحدة تنافسها في هذا السبيل فترسل بمبشر لها إلى الهند الإنكليزية خاصة فالأميركان ينفقون على 1350 مبشراً في الهند وحدها. وبحسب الإحصاءات الأخيرة بلغ عدد المبشرين للولايات المتحدة 6500 ولإنكلترا 8000 ولأوربا كلها 3000 أما الرهبان والراهبات فقد كانوا في أوربا على عهد فولتير ستمائة ألف فقط وما ندري عددهم الآن. دار الصناعة في إنكلترا ثبت أن دار الصناعة في برورتثموت هي أقدم وأعظم دار صناعة في العالم كلفت 400 مليون فرنك فقد صرف لارتفاع بنائها زهاء ألف ألف ألف آجرة ويبلغ علوها 600 قدم إنكليزي وأعظم عمارة حربية لا تبلغ ثلث ارتفاعها. فيها من الأدوات والآلات الكهربائية ما لا يوجد في غيرها كما أن فيها 18 ألف عامل يشتغلون 48 ساعة في الأسبوع أي 7 ساعات في النهار وينفكون عن العمل ظهر كل سبت إلى الاثنين. والعامل الذي يغيب 14 يوماً في السنة يطرد. وقد دفع للعملة سنة 1907 ثمانية عشر مليون فرنك وليس للعملة ناظر أو مفتش يراقبهم أثناء العمل إلا ملاحظ خفيف يأتي من حين إلى آخر فمن رأى إحسانه في عمله أعطاه جائزة ثمينة. ومع مكانة هذه الدار تضطر إدارتها أن تصرف بعض عملتها أحياناً وقد اضطرت مرة إنكلترا إلى نزع سلاح مئة بارجة فصرف المعمل أربعة آلاف عامل دفعة واحدة حتى لا يعطيهم رواتبهم بدون عمل ولما طالبوا بحقوقهم قيل لهم أن البحرية الإنكليزية شركة مساهمة فلا سبيل إلى إجابة طلبكم إلا إذا رضي كل إنكليزي بأن تقعدوا وتأخذوا مشاهراتكم بدون عمل. ولكل فرد في هذا المعمل عمله الخاص ومديره نائب أميرال دار الصناعة ببورتثموت وهو في معمله كالملك في قصره. وتقدر إنكلترا أن تستصنع البارجة الحربية في هذا المعمل في سنتين على أن ألمانيا لا تقدر على إيجاد مثلها في أقل من ثلاث سنوات وفرنسا في أقل من خمس.

كهربائية الإنسان كل قوة في حاسة من حواس الجسم البشري فيها شيءٌ من الكهربائية لا تدرك حق الإدراك إلا بآلتين حساستين جداً وهما الإلكتروسكوب والإلكتروميتر وقد اخترع أحد علماء الألمان آلة جديدة تفوق تينك الآلتين بتأثرها وتعريفها المجاري الكهربائية في عمل القلب البشري خاصة وبهذه الآلة يتأتى تشخيص طبيعة مرض القلب. آلة الكذب اخترع عالمان من علماء النفس أحدهما ألماني والثاني أميركي آلة سموها البسيكومتر الكهربائي إذا وضعت على الإنسان يتبين بها كلام المرء صدقه من كذبه. وتتركب هذه من كالفانومتر وآلة خاصة تفيد اختلاف الأفكار والإحساس والكالفانومتر مناط بمصباح يرتفع لهيبه وينخفض على حساب قوة المجرى الكهربائي ويقاس ارتفاع هذا اللهيب بواسطة مرآة تعكس اللهيب. فإذا أريد اختبار درجة صدق الرجل توضع إحدى يديه على عمود من الزنك والأخرى على عمود من الفحم فينشأ من ذلك مجرى كهربائي يختلف تأثيره باختلاف قوة الأحوال النفسية التي تحدث في الشخص المفحوص بهذه الآلة فإذا كان يكذب أي إذا فرط منه تناقض بين الفكر المفكر فيه وبين الإرادة التي تغير ذاك الفكر يقوى المجرى ويدل ارتفاع اللهيب على شدته. بندقية جديدة لبنادق مكسيم الجديدة خاصة نافعة وهي أنه يكاد لا يسمع لها صوت عند إطلاقها ومهما سمع فلا يسمع إلى مسافة أكثر من 150 قدماً وقد أظهرت التجارب أن هذا الاختراع يعدل في حالة الحركات العسكرية أكثر من البارود بلا دخان فيصعب به معرفة مواقع نزول الأعداء كما أنه يخدم قطاع الطريق واللصوص فيتمكن القاتل بهذه البندقية التي يمكن أن يكون منها مسدس أن يطلق النار في شارع ولا يحس به رجال الشرطة على أن الصياد ينتفع من هذه البندقية إذ أنه يقتل برصاصة قنيصة واحدة بدون أن يفزع أخواتها فتفر. وبهذا صح أن نقول أن فن إطلاق الرصاص آخذ بالانقلاب وهذا الانقلاب له عوائق وله منافع ويصعب في الدنيا إيجاد خير محض. عمران كريت

نشرت مجلة العالم الإسلامي الباريزية مقالة في هذا المعنى قالت فيها ما تعريبه: يبلغ سكان جزيرة كريت 303543 ساكناً منهم 33496 من المسلمين وكان من نتائج ثورة سنة 1896ـ97 أن هاجر المسلمون زرافات من الجزيرة فتضررت كريت من حيث الأمور الاقتصادية كثيراً فقد كان عدد المسلمين فيها بحسب إحصاء سنة 1881ـ73234 فنزل عددهم بحسب الإحصاء الأخير إلى 33496 ولا يزال المسلمون يهاجرون منها ومعظمهم من الزراع إذا غادروا الجزيرة يبيعون أملاكهم أو يتخلون عن أراضيهم تاركيها بوراً حاملين معهم رؤوس أموالهم وقد بلغ ما أباعه المسلمون من المسيحيين من الأملاك منذ سنة 1898 إلى 1902ـ9. 442. 429 فرنكاً على حين بلغت الدراهم التي اقترضها المسيحيون لابتياع هذه الأراضي زهاء ستة عشر مليون فرنك. وكان نزول الجيش العثماني والأسطول العثماني أيام ارتفاع علم الهلال عليها يوسع على الجزيرة فينفق فيها نحو 95 ألف ليرة عثمانية مسانهة فتغيير حكومتها أخر بتجارتها كثيراً وكان مداخيل الجزيرة قبل الاستقلال تصرف فيها على حكم العهد العثماني وربما صرفت فيها مداخيل غيرها من الولايات أيضاً ثم إن الجزيرة لم تبرح تدفع ما عليها للديون العمومية وشركات الفنارات في المملكة العثمانية. وترى المسيحيين الكريتيين ناقمين من الحكم الاستقلالي لأنه أضر بهم أضراراً مالية واقتصادية والمسلمين ناقمين لما يلحقهم من الاضطهاد في عهد الحكم الحالي ومنذ أصبحت الجزيرة مستقلة لم ترتق خطوة إلى الأمام حتى إن حظ ولاية بعيدة من ولايات الأناضول العثمانية أرقى من حظ كريت من حيث الزراعة والصناعة والتجارة والإدارة. الهند الشرقية الهولاندية يقدرون عدد المسلمين في جزائر جاوه بـ27. 781. 671 وفي صومطرا بـ3. 275. 000 وفي بورنيو بـ985. 440 وفي سيليب بـ1. 140. 000 وفي بانكا وأعمالها بـ86. 540 وفي ريو وأعمالها بـ93434 وفي بيلينسون بـ34200 وفي أصبهان وأعمالها بـ71204 وفي ترنات وغانة الجديدة وأعمالها بـ108240 وفي تيمور وأعمالها بـ34650 وفي بالي وكومبوك بـ368418 منهم كلهم 33931606 من الوطنيين و33860 من العرب و7531 من الصينيين و5061 من الهنود وغيرهم و774

من الأتراك والسوريين وهكذا فقد بلغ عدد سكان جزائر الأرخبيل الهندي التي يخفق عليها العلم الهولاندي أربعين مليون نسمة وبلادهم كنز ثمين لأهل بلاد القاع (هولاندة) وسيكون مستقبلها زاهراً عندما يتم تنظيم شؤونها فتأمل كيف يستولي عدد قليل متعلم كالأمة الهولاندية على عدد كبير متوحش كسكان جزائر ذاك الأرخبيل.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الأجوبة المرضية تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي طبع بمطبعة روضة الشام بدمشق ص37. هذه الرسالة وضعها المؤلف جواباً عما أورده كمال الدين ابن الهمام على المستدلين بثبوت سنة المغرب القبلية ولعل بعض المعاصرين ينكرون على بعضهم إذا ناقشوا بعض المتقدمين على عصرهم على حين أن ذلك مألوف معهود منذ القديم فقد ناظر ـ كما قال مؤلفنا المنوه بقدره ـ الإمام الشافعي الإمام محمد بن الحسن وحاور الكناني بشر المرسي وغيرهم وحاور البيهقي الطحاوي وابن حزم الأشاعرة وغيرهم والمازري أمام الحرمين والطبري الطالقاني والنووي الرافعي والأسنوي النووي وشمس الأئمة الكردري الغزالي وابن عبد الهادي السبكي وابن حجر العيني والسيد السعد والفيروز أبادي الجوهري وابن الأثير الصابي وابن عباد وابن أبي الحديد ابن الأثير وأبو حيان ابن مالك والعز ابن عبد السلام ابن الصلاح ومعضد الجار بردي وفضل الله الرومي ابن الملك والناصر ابن المنير الزمخشري وزين العرب الشيرازي والسيوطي السخاوي وابن الجوزي والمؤلفات في هذا الموضوع لا تحصى. أسباب الانقلاب العثماني لمؤلفه محمد روحي بك الخالدي ومصححه السيد حسين وصفي رضا طبع بمطبعة المنار في القاهرة سنة 1326 ص182. مرلف هذا الكتاب من أفاضل سورية عانى صناعة القلم والسياسة ورسالته هذه تدل على علو كعبه في تاريخ الدولة الأخير وحسن مراقبته للحركة الإصلاحية التي قام بها أحرار العثمانيين ووصفها أوجز وصف يرسخ في الأذهان. تحفة الأنام للشيخ عبد الباسط الفاخوري طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت ص286 هو مختصر في تاريخ الإسلام فيه مقدمة في أصل العرب وأحوالها قبل الإسلام وبعده وسير الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والملوك العثمانيين وغيرهم بعبارة مختصرة وكلام المؤلف في الغلو بالملوك المتأخرين من بني عثمان يرفع الثقة من كلامه كله فعسى

أن يرفع الطابع تلك المبالغات من آخر التاريخ في طبعة ثانية. أعظم تذكار للعثمانيين الأحرار أو الحرية والمساواة والمبعوثان لمؤلفه الشيخ عبد الله العلمي طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1326 ص190 كتاب وضعه مؤلفه لما رأى كثيراً من العامة يسألون عن مجلس النواب المبعوثان الشوري هل هو شرعي أم لا وعن الحرية هل هي موافقة للشرع الشريف ولتزييف من قال بأن الإسلام وجد وبجانبه سلطة مطلقة مستدلاً على كل نوع منها بآيات كثيرة من الكتاب. ومما جاء فيه ـ وهو مما ننقله نموذجاً على أسلوبه ـ في باب المساواة وبين المسلم واليهودي والنصراني في أنهم بشر وأن التمسك من كل منهم بالأرومات غلط جاء في الكتاب الكريم خطاباً للعرب (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) الموسويين والمسيحيين إنما (من يعمل) من الطوائف الثلاث (سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى) من الطوائف الثلاث وهو مؤمن بالله ورسله (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً) وأورد آيات كثيرة استنبط منها أموراً من هذا القبيل. وقال في حرية المساواة بين المسلم واليهودي والنصراني في الحكم عليه أو له بالحكم الشرعي: المساواة في الأحكام الشرعية المحكوم بها على الناس على اختلاف عناصرها هي شريعة الله تعالى في كتابه وهي سنته في خلقه جاء في سورة النساء (إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس) جميعاً المسلم وغيره (بما أراك الله ولا تكن للخائنين) المخالفين لك (خصيماً) بل انهج منهج المساواة والشورى على أسلوب عصري لا يستند فيه إلا على الكتاب واستنتاجه من الآيات الكريمة دل على بعد غوره وحسن الإمعان بمعانيها وتطبيقها على حالة الزمن فتثني على المؤلف لفضله وغيرته ونحث كل من يخامرهم الشك في الحكم الدستوري ومخالفته لروح الإسلام أن يقتنوا كتابه وينصفوه وينصفوا الشريعة المدنية والشريعة الدينية.

وداع وعتاب

وداع وعتاب للسلطان السابق عبد الحميد الله أكبر فالظلاَّم قد علموا ... لأيّ منقلب يفضي إلا لي ظلموا لقد هوى اليوم صرح الظلم وانتقضت ... أركانه وتولت أهلهُ النقمُ وحصحص الحق في عزٍّ وفي ظفرٍ ... يحفه خادماه السيفُ والقلمُ ثارت له عصبةٌ كانت مشردةً ... وقد تهددها الإرهاق والعدمُ من كل أروع في حيزومة حنقٍ ... في نفسه عزة في أنفه شممُ عبد الحميد استمع منهم مناقشةً ... فطالما صبروا بل طالما كظموا غادرت أمتك المنكود طالعها ... تغض مقلتها إن عدَّت الأممُ أطلقت فيها سيوف الغادرين وقد ... كانت بحبلك بعد الله تعتصمُ الله الله يا راعي القطيع فقد ... لاقت مصارعها في رعيك الغنمُ حماتنا ما تنوءُ الراسيات به ... كيف الصنيع وأنت الخصم والحكم فكم شكونا ولم تسمع شكايتنا ... وكم دعونا وحظ الدعوة الصممُ وليَّ نعمتنا قل لي أما بطلت ... تلك الولاية لما ضاعت النعمُ فلو رفقت أمير المؤمنين بنا ... ما كان أنفث مصدور وسال دمُ محافظ الحرمين أعدل فهل آمنت ... في ظلمك الكعبة الزهراء والحرمُ أم حج حجاج بيت في دعةٍ ... بدون أن يرهقوا فيه ويهتضموا وليته فاسقاً لم يرع حرمة من ... في ذمة الله ضاعت عنده الذممُ كم استجاروا عليه فازدريت بهم ... إن لم تكن ناقماً فالله منتقمُ رب الهلال أجب هل كنت تمنحه ... ما اعتاد من نصرات ذلك العلم ماذا فعلت بأحرار البلاد وما ... جنوا على الدين والدنيا وما اجترموا حتى قسمتهم شطرين فازدحمت ... على جسومهم النينان والرخم مزقت شملهم في كل ناحية ... فأرغموك بحول الله والتأموا ويا سلالة عثمان أما اتصلت ... منه إليك الصفات الغر والهمم أين الغطاريف أرباب العزائم من ... أسلافك الصيد من بالعدل قد عظموا

شادوا لك العزة القعساء من قدم ... فجئت تهدم ما شادوا وما رسموا كانت لهم دولة بالسيف ناهضة ... وفي زمانك لا سيف ولا قلم حصدت ما زرعوا فرقت ما جمعوا ... هدمت ما رفعوا بعثرت ما نظموا ملكتنا فرأينا منك طاغية ... لم يدر ندَّاً له المشهود والقدم نيرون عندك أو فرعون قد غفرت ... زلاته واستحبت شاهها العجم حجاج عصرك بل تولي العقاب بلا ... ذنب ومزَّاك عنه الجمع والنهم قد اخترعت ضروباً للمظالم والتنكيل ما فطنوا فيها ولا حلموا خليفة الله قد خالفت ما أمرت ... به الشريعة والتنزيل والكلم وسيرة الخلفاء الراشدين بها ... خير المواعظ للظلام لو فهموا ركبت مركب جوزٍ ليس يقبله ... ممن يخلفه في قومه الصنم دمرت بيتك يا هذا فأنت إذن ... عدو نفسك أو قد مسك اللمم حشدت زمرة غدارين كم سفكوا ... واستنزفوا ثم لا قيدوا ولاغرموا المخلصون تولوا منك وانهزموا ... والخائنون على أبوابك ازدحموا أسرفت في نهب بيت المال فاستلبت ... منه الجواسيس ما شاؤوا وما غنموا عصابة ثقلت في الناس وطأتهم ... صموا عن الحق في أغراضهم وعموا اخترتهم واختيار المرء شاهده ... يا ليتهم رفقوا بالخلق أو رحموا خانوك لما رأوا منك الخيانة في ... بنيك والمرء موسوم كما يسم حبست آلك حتى بعضهم هلكوا ... كأنما لم تكن قربى ولا رحم حاولت إطفاء نور الحق وهو لظى ... تثور أفواهه إن سد منه فم طال الزمان على جور تعالجه ... وعيل صبر الورى واستحوذ السأم ضيقت دارتهم في الأرض فاتسعت ... والمرءُ مستبسلٌ إن عضه الألم قد جمع الظلم منهم كل مفترق ... وشدّ ما استتروا في الأمر واكتتموا وكلما نام عنهم رهطك انبعثوا ... يدبرون وإن لاحظتهم جثموا وعند ما اكتملت الموثب عدتهم ... توكلوا واستخاروا بالذي عزموا سلوا عليك سيوف العدل مرهفة ... كأنها شهب في الأفق أو رجم

شقوا بها جلابيب الدجى شفقاً ... بشت له الأرض وانجابت به الظلم وطالبوك بحق كنت هاضمه ... وحاكموك إلى البتار واختصموا فأدوا بأرواحهم حباً بأمتهم ... فلتحي تلك السجايا الغر والشيم قد كان ما كان والرحمان ناصرنا ... فالعدل منتصرٌ والجور منهزم دبرت فتنة سوءٍ تستعيد بها ... من مجدك الباطل الغرار ما هدموا مجد كبير طوته ظلمة كثفت ... ثم انجلت فإذا ما تحتها ورم كروا بعزمة حر جاء منتصراً ... لنفسه واستباحوا منك ما احترموا فأنزلوك عن العرش الرفيع وما ... كانوا يريدونها لكنهم رغموا تأبى الشريعة أن تبقيك حافظها ... وأنت بالغدر والإغواء متّهم فاليوم تعلم عقبى من يخون ومن ... يطغى وتندم إذ لا ينفع الندم هبطت من قمة الأمجاد منحدراً ... كصخرةٍ حطها من شاهق عرم ففي هبوطك عاد الملك مرتفعاً ... وفيهلاكك كل الخلق قد سلموا كانت بإقبالك الأقدار عابسةً ... فأصبحت بعد ما أدبرت تبتسم دمشق: ف

السلطان عبد الحميد المخلوع

السلطان عبد الحميد المخلوع قلما جاء في الملوك من ترضيك أخلاقه وأعماله لضعف التربية الدينية والمدنية ولأن الملك يسكر فيقتضي له عقل كبير يحسن به صاحبه التصرف ويراعي فيه حقوق الخالق والخلائق. ولذا ندر في ملوك بني عثمان والملك متسلسل فيهم منذ زهاء ستة قرون من تأهل بالفعل للجلوس على عرش السلطنة فقد رأيناهم وفيهم الأخرق والأحمق والمنتهك والمسرف على نفسه والسفاك ولكن لم يأت فيهم على التحقيق مثل السلطان الخامس والثلاثين عبد الحميد الثاني. نقول فيهم وما أخلقنا أن نقول في غيرهم من ملوك الإسلام بل وفي الأمم الأخرى فقد تدبرنا تراجم ألوف من الملوك والعظماء ولم نشهد لعبد الحميد مثيلاً في أخلاقه وأعماله. بل رأيناه يشبه الناصر لدين الله العباسي بتجسسه وحرصه والحاكم بأمر الله الفاطمي بهذيانه وتلونه والحجاج بن يوسف الثقفي ببطشه وسفكه والسلطان إبراهيم العثماني بسفاهته وإسرافه. ومن جمع في شخصه هذه الصفات مجسمة كان جديراً بأن يدعى طاغية الملوك والسلاطين. تولى عبد الحميد زمام السلطنة وكيلاً عن أخيه مراد الخامس لمرض طرأ على عقله وكتب على نفسه عهداً دفعه لمدحت باشا ناشر أعلام الحرية في المملكة العثمانية ثم أرسل على ما يقال من أحرق دار مدحت باشا وحرق العهد في جملة ما حرق وأخذ يستجلب قلوب أهالي الأستانة مدة وكالته حتى اجتمع الصدر محمد رشدي باشا ومدحت باشا فقررا دعوة رجال الدولة إلى الباب العالي للنظر في توسيد السلطنة إلى عبد الحميد أصالةً فاجتمع نحو ألف شخص من الكبراء وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه فأفتى شيخ الإسلام بحل إمامته وبويع لعبد الحميد الذي أظهر أولاً بأنه يميل إلى الحكم الدستوري ومنح القانون الأساسي ثم سلبه وأقفل مجلس الأمة وأتعب مدحت باشا في معاناة أخلاقه وكان أول عهد نكثه معه أنه أخذ على نفسه أن يعين لرئاسة كتاب امابين نامق كمال بك الكاتب الشاعر الشهير وضياء بك رئيس المابينية فعين غيرهما ثم أخذ يدس الدسائس ونفى مدحت باشا ثم أرسل به إلى الطائف فسجن في حبسها مدة ثم أمر بخنقه. وأخذ السلطان يكثر من التضييق على أخيه السلطان مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولاسيما ولي عهد السلطنة السلطان الجديد محمد خان الخامس الحالي ويشرد كل

من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة ورجال سياستها فأصبحوا يسيرون على رغباته وكل من خالفها ولو فيسره أقصاه وسجنه وعذبه وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الفعال ويبالغ في الاحتياط لنفسه وغدا يتولى كل أمر بذاته ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم وما يصطنع إلا الأسافل من كل جنس من أجناس الدولة لعلمه بأنهم يفادون بكل مبدأ في سبيل نصرته على الباطل حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي السفلة من أعوانه الجهلاء الطغاة إلا قليلاً. وإذ كان مفطوراً على الطمع ويحسب أن المال يعمل كل شيء أخذ يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يحتال لأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد ثم ألف الشركة الخيرية لتسيير السفن في مواني الأستانة وشركة أخرى لحسابه بين البصرة وبغداد وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع ومعامل لصنع السجاد وغيره وضارب بالأوراق المالية وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً لا يهتم بشيءٍ من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بها خزينة الأمة وكلهم أمناؤه إن أخطأ وأفلهم الأجر وإن أحسنوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. حتى لقد قلَّ جداً في عماله من لم يتجسس له لاسيما بعد أن رأى الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية. وبهذا استنزل غضب عقلاء الأمة وأحرارها وكان كلما بالغ في الضغط عليهم واشتد في إرهاقهم وإعناتهم ينمو عددهم بنمو الميل إلى التعلم. فكانت مدارس الدولة ولاسيما العالية منها على شدة المراقبة عليها لا يتصور العقل أكثر منها وعلى إصدار إراداته تترى لجعل المعارف صورية لا حقيقية ـ منبعث تلك الشعلة التي قضت على استبداده الذي لم يكد يعهد له مثيل في تاريخ الأمم فزحزح المتخرجون فيها أسس الحكومة المطلقة المدمرة وأقاموا مكانها على التقوى أساس الحكومة المقيدة المعمرة. عرف عبد الحميد أن بالمدارس والمطبوعات تستنير العقول فيقل الراضون عن حكمه

فأنشأ يضيق الخناق على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ وعلوم السياسة والاجتماع لأنها ترقي العقل وتلقح الأذهان وتدعو الأمة إلى سبل الرقي والأمان. ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء خصوماً يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد حتى أصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر أو أموراً عادية لا ترقي عقلاً ولا تزيل جهلاً. ووصلت المراقبة على المطبوعات في أيامه إلى درجة من الهزل لم تصل إليها في أمة مغلوبة على أمرها فرفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل وأصبحت الجرائد أبواقاً تضرب بتقديسه وتأليهه والعياذ بالله أو تكتب في التافه من الأخبار والأفكار. جرى كل هذا برأيه ورضاه لا كما يزعم بعض من يريدون أن يتفحلوا له الأعذار الباردة من أنها كانت من عماله ووزرائه وهو لا علم له بما يأتون. كثرت في الأيام الحميدية أنواع المظالم وأصبح كلما طال عهده يشتد في إعنات من يخالف له فكراً أو يعرض له في الإصلاح أمراً حتى صار بعض العقلاء من عماله يتظاهرون بالبله أو ينقطعون عن الخدمة لأن سلطانهم لا يرضيه إلا أن يكونوا على قدمه في الظلم وارتكاب المنكرات. ولقد نصح به بعض سفراء الدول منذ بضع سنين أن يكف من شرور بعض العمال لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها فقا لهم وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي أي إنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من العسف في الأمة ما داموا يظهرون له الحب ويخدمون أغراضه. اشتهر عبد الحميد بالحقد الشديد والحرص الأكيد والحدة المتناهية والاحتيال الذي ينطلي على ضعاف العقول فيقولون أنه الدهاء والحكمة. وكانت هذه الأخلاق بادية عليه قبل أن يلي أمر الأمر حتى قال نابوليون الثالث فيه يوم رآه مع عمه السلطان عبد العزيز في باريز أن هذا الفتى سيجيء منه داهية باقعة فما هو إلا أن قيض الله له الجلوس على سرير آل عثمان حتى صحت فراسة نابوليون فيه بل برز في هذا المضمار. كان السلطان عبد المجيد يحب ابنه مراداً أكثر من عبد الحميد لأن هذا كان يبدو عليه

الخبث منذ الصغر ولما ترعرع شرع يتجسس لعمه السلطان عبد العزيز على أخوته وآل بيته لينال منه الإحسان ويغلو فيكشف عورات أخيه ماد خاصة وكانت تقاريره للسلطان عبد العزيز متصلة كتقارير جواسيسه في عهد سلطنته ولطالما كدره السلطان عبد العزيز على تشاغله بالسفاسف ويكفي في بيان الفرق بين أخلاق السلطان مراد وأخلاق السلطان عبد الحميد أن الأول كان يعنى في صباه بالشعر والموسيقى ودرس مدنية أوربا وتاريخها على حين كان أخوه لا همَّ له إلا درس السحر والطلسمات وضرب المندل وأخذ الفأل ويتقرب لذلك من المشايخ والبله والدجالين. مضى ثلث قرن على الأمة العثمانية وهي تفنى في سلطانها فناء جنون لا فناء عقل وكنت إذا خلوت حتى بخاصته وصنائعه يحدثونك من تلاعبه وأخلاقه ما تسأل الله معه السلامة وتسجل على فساد أخلاقنا أكثر من فساد أحكامنا وأعمالنا وكل منهم يورد لك من أسباب اضطراره إلى الصبر على هذه الخدمة ما هو العجب العجاب. فبالإسراف في مال الأمة استمال عبد الحميد قلوب الأغمار ممن تزيوا بزي العلماء وهم جاهلون فكانوا يكذبون على الله والناس ويذكرون لهم من صفات سلطانهم ما هو الزور البحت وإذا فتح المنصفون أفواههم بالنقد أسكتوهم وحرموا إنكار المنكر عليهم. وبالجواسيس اطلع على الدقيق والجليل من نيات الأمة وما كان يهتم إلا للأمور الصغيرة ولاسيما ما كان منها متعلقاً بشخصه أما عمران البلاد وترقية معارفها وصناعاتها وزراعتها وتجارتها فلم يكن لها قيد في سجل أعماله. وكفى في عدم احتفاله بأمور الرعية وإصلاح البلاد أنه انسلخت عن جسم الدولة في أيامه المشؤومة بلغاريا والروم أيلي الشرقية ودوبروجه في رومانيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وانضمت بعض الألوية للصرب ولليونان تساليا وابيروفارتا ولفرنسا تونس ولروسيا القوقاس وباطوم وأردهان وقارص ونال الجبل الأسود استقلاله وانفصلت قبرص وكريت لو كادتا واحتل الإنكليز مصر وهكذا انفصل من جسم الدولة نحو ثلثيها بعدد النفوس والعمران. ماذا تعدد هذه الأمة من سيئات الدور الحميدي ونزع سلطة الحكم من الباب العالي وكانت من قبل فيه على شيء من العقل والقانون وانتقالها إلى المابين يعبث بمصالح الأمة

الخصيان والجواري والجواسيس والدجالون والمرتشون والمنافقون والمنطبعون بطابع السياسة الحميدية. فقد كانت الوظائف والرتب والأوسمة ومظاهر التكريم تباع بالمزاد كما يباع العقار والدار ويقتنيها في الأغلب من لا يهمهم إلا حظوظ أنفسهم وإملاء جيوبهم وبطونهم حتى هلكت البلاد ليغتني عبد الحميد والمنفذون لرغائبه وافتقر الفلاح والصانع وهما مادة حياة الوطن واغتنت تلك الطائفة الفاسدة من الموظفين الذين سماهم غلادستون كبير وزراء إنكلترا جماعة من اللصوص تألفوا في صورة حكومة. ولكم كان عمال عبد الحميد سبباً في إهراق دماء الأبرياء ونزع روح الحياة الوطنية من الناس وما ننس لا ننس سياسة المابين في المذابح الأرمنية والحروب اليمانية والكريتية وغيرها من الوقائع الأهلية التي ألقى بها السلطان الشقاق بين أبناء هذا البيت الواحد وفرق مجتمع القلوب عملاً بالقاعدة الباردة فرق تسد ولو عقل لجرى على قاعدة اعدل تسد. نعم كانت المدارس منبعث تلك القوة التي قضت على السلطة الحميدية بل على السلطة الاستبدادية في السلطنة العثمانية. وناشئة الأمة الذين كان يحتقرهم السلطان المخلوع ويغويهم بالمال ويطعمهم بالمراتب والرواتب هم الذين دبروا بسلطان العقل أسباب الانقلاب الأخير في المملكة وغلبوا سلطان الجهل فكان يوم 10 تموز الماضي مبدأ سعادة العثمانيين وتاج الأيام وغرة الشهور والأعوام. كان الصدر محمود نديم باشا يقول للسلطان عبد العزيز أن بعض الوزراء يخوفونك بالأمة وما الأمة الأكمن تراهم يمشون هناك (وأشار إلى جماعة من فلاحي الأناضول) ومثلهم لا يميز ولا يعقل فاصنع ما بذلك فانتهى الأمر بخلع ذاك السلطان وقتله. وكان أحمد عزت باشا العابد يحقر للسلطان عبد الحميد أمر الأمة ويزين له البطش ويقول له أن المسلمين لا يعرفون غيرك خليفة وسلطاناً ورباً صغيراً فاحكم فيهم بحكمك فهم عبيدك لا ينازعك في التصرف فيهم منازع الأحرار أفراد طائشون. صم أذنك عن سماع خيالاتهم ودعهم يعوون ولا يضر عواء الكلاب بالسحاب. أما حكومات أوربا فأمرها إلى التفاشل إن اتحدت كلمتهن لأقبل لنا بدفعها وما دمن متخاذلات فنحن في مأمن. وهكذا جرى السلطان المخلوع في دوره الأخير على هذه السياسة الخرقاء فكانت سبباً في نزع السلطة الاستبدادية من يده يوم

10 تموز الماضي وإنزاله عن العرش يوم 14 نيسان. يئس الناس من الخلاص من جور هذا السلطان إلا بموته ولكن تلك النفوس الكبيرة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي التي احتك معظم أعضائها بالأوربيين وبلادهم قطعة من أوربا أبت أن تضيع ملك بني عثمان بالإهمال والتواكل فاضطرت عبد الحميد إلى إعلان القانون الأساسي في الصيف الماضي مرغماً ولما لم تطب نفسه لما جرى وأنشأت تحدثه بإعادة الدور السالف لتكون الأحكام طوع أمره ونهيه وهو الحاكم المتحكم في الأموال والأعراض والأرواح يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل أخذ يوقد نيران الفتن بين الأمة ليقول لها وللأجانب أن العثمانيين لا يليق لحكمهم إلا الحكم الاستبدادي. ثم احتال للتفريق بين عناصر الدولة أولاً وإغواء بعض الخونة من رجاله بالمال ليبثوا دعوته فتألفت جمعيات عناصر بعد إعلان الحرية ولكل منها نزعة خاصة. يريد الأرمن توسيع الاختصاص المأذونية أو الاستقلال النوعي بعبارة أخرى والعرب ينادون بأن الترك غمطوهم حقوقهم وهم يريدون أن يشاطروهم الوظائف أو ينفصلون عن الدولة وبعض الأرناؤود يدعون إلى مثل دعوة الأرمن. ولما رأى السلطان أن الأمة انتبهت لرد هذه الترهات وقام العقلاء يحاربونها شرع يسلك سبيلاً آخر ويحرك عامة المسلمين باسم الدين بواسطة جمعية ألفها في الأستانة دعت نفسها بالجمعية المحمدية تطالب بالشريعة الإسلامية ولا تريد القانون الأساسي لأنه بزعمها مخالف للإسلام ومن قواعده الحرية والحرية ليست من شأن الدين المحمدي. وهكذا أَلفت الجمعية فروع في الولايات تهيج العامة باسم الدين وتربطهم بالسلطان وذلك على يد زعانف كان للمال الذي بذله تأثير عظيم في نفوسهم ونفوس الغوغاء. كاد عبد الحميد لأمته بتدبير الفتنة المحمدية بل بالفتنة العسكرية فعصت جنود الأستانة إلا قليلاً بما بذله لهم من الذهب الوهاج ولم ير أعوانه الذين أثاروا الجند واسطة لإضاعة رويتهم أحسن من إسكارهم فأسكروهم ليلة الفتنة وفرقوا عليهم الذهب الكثير الذي جمعه من دماء الفقير ليقوموا بالمطالبة بإعادة الشرع المحمدي أو يوقدون نيران مذبحة عامة يقتل فيها أحرار الأمة أولاً ثم الأقرب فالأقرب من رجال الإصلاح والتجديد ولو وفق عبد الحميد لاستعادة سلطته الاستبدادية وتمت له مكيدته الشيطانية لما هلك في هذه الفتنة

الأهلية في أنحاء السلطنة أقل من مليوني رجل كما وقع في ثورة فرنسا الأولى. ولكن الله أراد لهذه الأمة الخير وقيض لها من رجال الدستور والمتفانين في الاحتفاظ به من كان إخلاصهم الداعي الأكبر في نجاحهم فقامت بعض ولايات الروم إيلي على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور وهب جند الفيلق الثاني والثالث أي أدرنة وسلانيك ـ ومنهما انبعثت جذوة الحرية أول مرة ـ وزحفا في جموع المتطوعة على الأستانة بقيادة البطل المغوار محمود شوكت باشا الفاروقي البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع وقبضوا على المنتفضين والعصاة من الجند المشاغب وخلعوا السلطان عبد الحميد مدبر تلك المكايد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة ومخالفة الشرع وحرق كتب الإسلام والإسراف في مال الأمة وبايعوا باتفاق مجلس النواب والأعيان لولي عهده السلطان محمد الخامس وساقوا ذاك الذي عبث بمصلحة العثمانيين إلى قصر الأتيني في ضاحية سلانيك ليجري عليه ما جرى على كل سلطان مخلوع خان أمته ودولته بدون أن يلحقوا به إهانة. فحق للدولة والأمة أن تدعو بدوام نصر الجيش العثماني المظفر لأنه كان سبب حياتنا اليوم ولطالما كان هذا الجيش سبب رفع هذه الدولة العلية كما كان في بعض الأدوار سبب خفضها. أعلن جيش الدستور الأحكام العرفية أي عطلت القوانين الموضوعة وجعلت العاصمة تحت الأحكام العسكرية ريثما يستتب الأمر لجيش الفاتح محمود شوكت باشا ويفتك بمن أضاعوا دينهم ودنياهم بممالاة السلطان المخلوع على رغائبه فشنق كثيرون ممن كان لهم ضلع في تشويش نظام الأمة وإهاجة العامة باسم الشريعة وحكم على بعضهم بالأشغال الشاقة وعلى البعض الآخر بالنفي وهكذا تمت الغلبة لكلمة الحق على الباطل وكتب البقاء للحكم النيابي في السلطنة آخر الدهر إن شاء الله. فكرنا ملياً في أمر عبد الحميد وأردنا أن ننصفه في الترجمة فما رأينا له مزية يذكر بها ويرحم. بلى وجدناه حسوداً يحسد حتى خصيانه وأشق خبر يترامى إليه أن يعلم بأن في إحدى أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً فإن لم يقدر فلا أيسر عليه من التقول عليه وتزوير حيلة للانتقام منه والحط من كرامته. وكان إذا عزّ لا يلحق غباره نمرود وفرعون وإذا ذل وذله يكون للأدنياء غالباً ينسى

منزلته ومقامه. وكان يلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته ويلقي بينهم العداوة والبغضاء. وفي أيامه كثر اختلاف النساء إلى قصره حاسرات متبرجات بدعوى أنه خليفة وللخليفة أن ينظر إلى المحارم ولا حرج عليه وعليهن ولهذا اخترع لهن وسام الشفقة. ولعل بعض من درسوا الأخلاق الحميدية عن أمم يكتبون كتاباً مفصلاً فيها ليقرأ الأخلاف عن الأسلاف ما فعلته في ذلك المخلوع قلة التربية والعلم وفساد الفطرة والله أعلم.

في سلانيك

في سلانيك لقد سمعوا من الوطن الأنينا ... فضجوا بالبكآء له حنينا وناداهم لنصرته فقاموا ... جميعاً للدفاع مسلحينا وثاروا من مرابضهم أسوداً ... بصوت الاتحاد مزمجرينا شباب كالصوارم في مضآء ... يرون وكالشموس منورينا سلانيك الفتاة حوت ثراءً ... يهم فقضت عن الوطن الديونا لقد جمعوا الجموع فمن نصارى ... ومن هود هناك ومسلمينا فكانوا الجيش ألف من جنود ... مجندة ومن متطوعينا تراهم فيه متحدين عزماً ... وما هم فيه متحدين دينا هي الأوطان تجعل في بنيها ... إخاءً في محبتها رصينا وتتركهم أولي أنف كبار ... يرون حياة ذي ذل جنونا وإن الموت خير من حياة ... يظل المرء فيها مستكينا * * * مشوا والوالدات مشيعات ... خرجن وراءهم والوالدونا يقلن وهن من فرح بواكٍ ... وهم من حزنهم متبسمونا على الباغين منتصرين سيروا ... وعودوا للديار مظفرينا ولا تبقوا الذين قد استبدوا ... وراموا كيدنا وتخونونا فإن لم تنقذوا الأوطان منهم ... فلستم يا بنين لنا بنينا فقد هاجوا على الدستور شراً ... بدار الملك كي يستعبدونا هم الأشرار باسم الدين قاموا ... فعاثوا في المواطن مفسدينا فما تركوا من الدستور (شورى) ... ولا أبقوا لنغمته (طنينا) * * * وكم قلن من قول شجيّ ... لهم فتركنهم متهيجينا ومذ حان الوداع دنون منهم ... فقبلنا الصوارم والجفونا وما أنسى التي برزت وقالت ... وقد لفتوا لرؤيتها العيونا إلا يا راحلين لحرب قوم ... لئام ضيعوا الوطن الثمينا

خذوني للوغى معكم خذوني ... ممرضة لجرحاكم حنونا وإن لم تفعلوا فخذوا ردائي ... به شدوا الجروح إذا دمينا * * * ولما جد جدهم استقلوا ... على ظهر القطار مسافرينا فطاروا في مراكبه سراعاً ... بأجنحة البخار مرفرفينا وظل الجيش صبحاً أو مساءً ... تسير جموعه متتابعينا فلم يتصرّم الأسبوع إلا ... وهم بربى فروق مخيمونا هنالك قمت مرتحلاً إليهم ... لأبصر ما أؤمل أن يكونا * * * وباخرة علت في البحر حتى ... حكت بعبابه الحصن الحصينا يؤثر جريها في البحر إثراً ... تكاد به تظن الماء طينا فتترك خلفها خطاً مديداً ... بوجه البحر يمكث مستبينا ركبت بها على اسم الله بحراً ... غدا بسكون لجته رهينا فرحنا منه ننظر في جمال ... يعز على الطبيعة أن يهونا ومرأى البحر أحسن كل شيء ... إذا لبست غواربه السكونا كأنك منه تنظر في سماء ... وقد طلعت كوكبها سفينا * * * أتينا دار قسطنطين صبحاً ... وقد فتحت لهم فتحاً مبينا وظل الجيش جيش الله يشفي ... بحد سيوفه الداء الدفينا فأرهق أنفس الطاغين حتى ... سقاهم من عدالته المنونا ورد الخائنين إلى جزاء ... أحلهم المقابر والسجونا وحطوا قصر يلدز عن سمآء ... له فانحط أسفل سافلينا وأصبح خاشع البنيان يغضي ... عيوناً عن تطاوله عمينا خلا من ساكنيه وحارسيه ... فلم تر فيه من أحد قطينا هوى عبد الحميد به هوياً ... إلى درك الملوك الظالمينا

ونزل عن سرير الملك خلعاً ... وأفرد لا نديم ولا قرينا فسيق إلى سلانيك احتباساً ... له كي يستريح بها مصونا ولكن كيف راحة مستبد ... غدا بديار أحرار سجينا يراهم حول مسكنه سياجاً ... ويعجز أن ينيم لهم عيونا وموت المرء خير من مقام ... له بين الذين سقوه هونا * * * لقد نقض اليمين وخان فيها ... فذاق جزاء من نقض اليمينا وقد كانت به البلدان تشقى ... شقآءً من تجبره مهينا فكم أذكى بها نيران ظلم ... وكم من أهلها قتل المئينا وكان يدير من سفه رحاها ... بجعجعة ولم يرها طحينا وقد كانت به الأيام تمضي ... شهوراً والشهور مضت سنينا ولما ضاق صدر الملك يأساً ... وصار يردد الوطن الظنونا وأضحى سيف قائده المفدى ... على الدستور محتفضاً أمينا حماه من العداة فكان منه ... مكان الليث إذ يحمي العرينا وأسقط ذلك الجبار قهراً ... وأنباه بصارمه اليقينا فقرت أعين الدستور أمناً ... وشاهت أوجه المتمردينا معروف الرصافي

الجباية في الإسلام

الجباية في الإسلام الصدقات ورسم التعدد لما كانت الحكومة متعهدة بحفظ راحة الأمة وحياتها ومالها وعرضها حق لها أن تأخذ من الأمة أجرة خدمتها وقياسها بما تعهدت به نحوها باسم ضرائب وتكاليف أميرية غير أن الحكومة المطلقة كحكومتنا قبل إرجاع الدستور إلى أحكامه اعتبرت الضرائب من حقوقها الاستعبادية وعلى ذلك بنت قواعدها واستحلت أي ضريبة كانت وإذا أزالت ضريبة من ضرائبها تأخرت واعتبرت عملها كرماً منها على الرعية وكانت الأراضي يومئذٍ تعد من جملة الغنائم التي غنمها السلاطين والأمراء ولذلك ادعت الحكومة العثمانية أن جميع الأراضي ملك لبيت المال إلا ما كان ملكاً صريحاً فقسمت الأراضي على خمسة أنواع وهي أراضٍ مملوكة وأراضٍ موقوفة وأراضٍ أميرية وأراضٍ متروكة وأراضٍ موات. فأما الأراضي المملوكة فهي التي يتصرف بها مالكها كيفما شاء فيبيعها ويقفها ويرهنها ويوصي بها ويحولها إلى بناء ورياض وكروم من غير أن يستأذن فيها أحداً وتجري عليها أحكام الشفعة وغيرها من أحكام الملك وهي على أربعة أنواع: النوع الأول العرصات في القرى والأراضي التي عدت من تتمة السكنى. النوع الثاني الأراضي التي أفرزت من الأراضي الأميرية وجعلت ملكاً صحيحاً على أنواع وجوه الملكية الصرفة وبني تمليكها على المساغ الشرعي. النوع الثالث الأراضي العشرية. النوع الرابع الأراضي الخراجية فرقبة هذه الأراضي الأربعة بملك مالكها وهي كالأموال والعروض يرثها الورثة الشرعيون وتوقف وترهن وتجري عليها الهبة والشفعة وسائر أحكام الملك كما هو مصرح في مجلة الأحكام الشرعية والكتب الفقهية. وأما الأراضي الأميرية فهي التي أحيلت وفوضت للأشخاص على شروط أن تبقى رقبتها لبيت المال كالأراضي والمروج والمحال التي يقال لها يايلاق منزل صيفي وقيشلاق منزل شتوي والحراج التي تركت للاحتطاب والمراعي أما المنازل الصيفية والمنازل الشتوية والغابات والمراعي والبيادر التي تركت لقرية أو قرى متعددة أو قصبة فهي من الأراضي المتروكة. وأما الأراضي الموقوفة فهي قسمان القسم الأول الأراضي المملوكة التي وقفت على الوجه

الشرعي ويقال لها أوقاف صحيحة فجميع أحكامها تابعة لسرط الواقف والقسم الثاني الأراضي المفرزة من الأراضي الأميرية التي وقفها السلاطين العظام أو وقفت بإذن سلطاني فهذه كالأراضي الأميرية في جميع أحكامها ولم يمش الوقف إلا على أعشارها ومنافعها الأميرية. وأما الأراضي المتروكة فهي قسمان القسم الأول: الأراضي التي تركت للناس كافة كالطريق العام والأسواق والمرافئ والمساجد والمتنزهات والميادين العامة. والقسم الثاني الأراضي التي تركت لأهالي قرية أو قصبة أو لعامة الأهلين في القرى أو القصبات المتعددة كالمراعي والمنازل الصيفية والمنازل الشتوية والحراج للاحتطاب. وأما الأراضي الموت فهي الأراضي الخربة التي لم تحرث ولم تزرع وبعيدة عن أقصى العمران. ولو نظرنا قانون الأراضي ومعاملات الطابو وما تجري عليه المعاملات لوجدنا الحكومة العثمانية تدعي أن جميع الأراضي الخراجية والعشرية والأميرية والوقفية (ما عدا الأوقاف الصحيحة والأراضي المملوكة) والمتروكة والموات كلها ملك بيت المال وليس لمتصرفها إلا التصرف بها والانتفاع منها غير أنها سمحت بتناقلها على حسب قانون الانتقال ولم تحدد مدة التصرف والانتفاع بها فأمنت على عمرانها ولهذه الأسباب عدت الأعشار وضرائب الأملاك أجرة أراضيها وأملاكها لا أجرة خدمتها للشعب وعلى هذا النظر أنشأت القواعد والقوانين على أن أكثر البلاد وأخص بالذكر منها سورية لم تفتحها الحكومة العثمانية عنوةً بل إن أهلها استقبلوا السلطان سليماً بالترحاب وأقروا له بالملك لما كانوا يرون من ظلم ملوكها حينئذٍ. ولقد أبنت في المقدمة أن مؤسسي الدولة الإسلامية لما فتحوا البلاد وصالحوا أهلها تركوا الأراضي بأيديهم واقتصروا على الخراج أجرة القيام على ذمتهم ومن هنا يتضح أن الأراضي السورية والعراقية أراض خراجية أي من الأراضي المملوكة إلا ما ملكه غزاة المسلمين في صدر الإسلام وتقاسموه أيام الفتوحات الإسلامية وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أن السبب في جعلها أراضي أميرية لأن أصحابها ماتوا بلا وارث وأصبحت محلولة فتملكها بيت المال وجعلها أراضي أميرية على أن العاقل يستبعد موت

أهالي العراق قاطبة وأهالي سورية طراً وما شاكلهما عن غير وارث يرثهم فتغدو الأراضي محلولة بأجمعها ولم يكتب لنا المؤرخون عن ذلك شيئاً ولذلك أعتقد أن أراضي سورية والعراق وما شاكلها من الأراضي الخراجية أراض مملوكة يجب أن تكون ملك صاحبها ولا يسعني التفصيل هنا لئلا أبعد عن الموضوع وسبب ذكر أنواع الأراضي تمهيداً لجرح ما قيل من جواز أخذ الضريبة عن المواشي. وذلك أن الحكومة العثمانية لما كانت مالكة لرقبة الأراضي والغنم والدواب ترعى في بقعة من تلك الأراضي التي تنبت عشباً وإن محصول الأراضي الأميرية تدفع العشر من محصولها غير أن الشب تأكله الدواب وأن الدواب تثمر ولها ريع وثمرها وريعها يتوقفان على الرعي فقد لزم أخذ عشر العشب ضريبة على المواشي وعليه رفع العشر ومنعت الضرائب عن المراعي على أن المراعي والبيادر والحراج المتروكة للاحتطاب ومحال الأسواق والطرق العامة عدت من الأراضي العمومية المتروكة للرعية التي لا يجب أخذ ضريبة عنها إلا ما كان مقيداً بالدفتر الخاقاني بأن يدفع ضريبة وما كان من الأماكن التي تعد يايلاقاً أوقيشلاقاً وخصص لقرية أو قرى متعددة فتؤخذ على ذلك ضريبة يقال لها يايلاقية وقيشلاقية بحسب قانون الأراضي. بيد أن المواشي التي ترعى في المراعي العمومية والتي لم تكن عليها ضريبة والتي ترعى في المنازل الصيفية والمنازل الشتوية وما شابهها بل حتى التي ترعى في أراضي صاحبها تدفع ضريبة التعداد وقيل أيضاً لما كان تعيين عشر العشب صعباً رأوا أن يؤخذ العشر ممن رعى الأرض بصورة ضريبة على المواشي فجعلوا في بادئ الأمر رسم التعداد عشر الدواب أي نعجة عن كل عشر نعاج أو شاة عن كل عشر شياه فلوا ردنا أن نعرّف ضريبة المواشي على حسب هذه التفصيلات لقلنا أنها عشر العشب غير أن السبب الحقيقي في أخذ هذه الضريبة غير ما ذكرناه لأن الأصل في دعوى ملك الأرض فاسد وعلى ذلك يكون الفرع فاسداً. ولما كانت الحكومات تحمل الأمة ما تحتاج إليه من نفقة وتأدية ديون وأرادت أن توزع تلك النفقات والديون على ضرائب متنوعة ليخف حملها على الأمة جعلت على المواشي قسماً بدعوى أن المواشي وأصحابها تستفيد من خدمة الحكومة في حفظها من الغارة والنهب

وإليك التفصيل: لو كان لرجل أرض لا تعادل قيمتها أكثر من ألف قرش وليس عنده سوى عشرين رأساً من الماعز وحسبنا ما يدفعه للحكومة سنوياً حسب الجدول الآتي لبلغ مجموع ما يدفعه ستمائة وثمانية وثلاثين قرشاً صحيحاً. الجدول غروش 010 خراج أرض إذا كان متساهلاً معه 012 خراج الدار 212 عشر الأراضي إذا كانت مقبلة 108 رسم تعداد الماعز مع ورق طوابع 050 رسم كمرك ملابسه وملابس عائلته 016 بدل طريق 010 رسم باج بقر أو خيل 100 إعانة غير مقننة على الأقل 050 مختارية للمختار 050 رسم دخان إذا كان يدخن دخاناً مهرباً 010 ورق طوابع 638 المجموع فلو أضفنا مقدار الربا والفوائض الفاحشة التي يدفعها صاحبنا هذا لعلمنا السر في بقائه مديناً أبد الدهر وإن أرادت الحكومة أن يأخذ من كل فرد من الرعية ما أصابه ففلو طلبت من صاحبناً هذا مثلاً (638) قرشاً دفعة واحدة لطار عقله وصرف ذهنه إلى الامتناع واستعد للعصيان وإذا استعدت النفوس لذلك قامت في وجه الحكومة وشقت عصا الطاعة ولكن لما كانت هذه الضرائب موزعة بين أن تؤخذ من الأفراد مباشرة تحت أسماء منوعة وبين أن تؤخذ بالواسطة كرسم المكوس كمرك والدخان والملح فلا يشعر بثقلها أحد وهذه الحكمة في أخذ ضريبة المواشي ولهذا تؤخذ هذه الضريبة تحت اسم خدمة الحكومة لحفظها

من التعدي والنهب والسلب وهذا ما أصاب المواشي من نفقات الحكومة وديونها وبعد ذلك أرى أن المراعي والأراضي لا للحكومة لأن الحكومة هي الأمة فلا فرق بين الأمة والحكومة والخزينة هي خزينة الأمة ويظهر مما تقدم أن للحكومة أن تطرح ضريبة على الماشية. بقي علينا أن نبحث في كيفية تلك الضريبة لتكون عادلة: سمى الإمام أبو يوسف رضي الله عنه الضريبة المذكورة بالصدقات أي الصدقة في المواشي فقال سمعنا حديثاً عن الزهري عن سالم بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً في الصدقة فقرنه بسيفه أو قال بوصيته فلم يخرجه حتى قبض صلى الله عليه وسلم فعمل به أبو بكر حتى هلك ثم عمل به عمر قال فكان فيه في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة (40 ـ 120) فإذا زادت فشاتان إلى مائتين فإذا زادت فثلاثة شياه إلى ثلاثمائة فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة وفي خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياة وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين فإن زادت ففيها ابنة لبون إلى خمسة وأربعين فإن زادت ففيها حقة إلى ستين فإن زادت ففيها جذعة إلى خمس وسبعين فإن زادت ففيها بنتا لبون إلى تسعين فإن زادت ففيها أربعين بنت لبون ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع اهـ وعن علي رضي الله عنه وإبراهيم النخعي وأبي حنيفة أنه إذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وكذلك الغنم عنه إذا كثرت ففي كل مائة شاة شاة وليس في أقل من ثلاثين بقرة من البقر السائمة شيء فإذا كانت ثلاثين ففيها تبيع جذع إلى تسع وثلاثين فإذا كانت أربعين ففيها مسنة فإذا كثرت ففي كل ثلاثين تبيع جذع وفي كل أربعين مسنة ولعل معاذ في اليمن مثله وأما الخيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفوت لأمتي عن الخيل والرقيق وقال أبو يوسف قد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نقله إلينا رجال معروفون أنه قال تجاوزت لأمتي عن الخيل والرقيق وقال عن سفيان بن عبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تجاوزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق وقال أبو يوسف فأما الإبل العوامل والبقر العوامل فليس فيها صدقة وشرط أبو يوسف في أخذ الصدقة

شروطاً فقال وأما ما يؤخذ في الصدقة من الغنم فلا يؤخذ إلا الثني فصاعداً ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا عمياء ولا عوراء ولا ذات عوار فاحش ولا فحل الغنم ولا الماخض ولا الحوامل ولا الربي وهي التي معها ولد تربيه ولا الأكيلة وهي التي يسمنها صاحب الغنم ليأكلها ولا جذعة فما دونها فإن كانت فوق الجذع وما دون هذه الأربع أخذها المصدق وليس لصاحب الصدقة أن يتخير الغنم فيأخذ من أخيارها ولا يأخذ من شرارها ولا من دونها ولكن يأخذ الوسط من ذلك على السنة وما جاء فيها ولا تؤخذ الصدقة من الإبل والبقر والغنم حتى يحول عليها الحول والمعز والضأن في الصدقة سواء. فتبين مما تقدم أن الشارع عليه الصلاة والسلام نظر في قيم المواشي الحقيقية وإيرادها الحقيقي لتكون الصدقة متناسبة مع الإيراد الحقيقي ثم إن الصدقة (أو رسم التعداد) هي شرعاً واحد من أربعين أي اثنان ونصف من مائة فلو نظرنا إلى ريع الغنم وريع البقر وريع الإبل وحسبنا الصدقات لم نجد تفاوتاً بين قيم الصدقات مثلاً فقد جعل عليه السلام شاة على الأربعين شاة وشاة على الخمسة من الإبل المتوسطة بحسب السوق نحو الأربعين ليرة فتكون الصدقة في الإبل والضأن ليرة من أربعين على أن الشارع لم يأخذ الصدقة من دون الأربعين شاة والخمس من الإبل رحمة بالفقراء. اهـ وأما رسم التعداد النظامي الذي قام مقام الصدقات الشرعية فقد كان من قبل واحداً من عشرة ثم انقلب إلى الرسم فصار أربعة قروش صحيحة عن كل دابة من معز وضأن فإن كان عند رجل مائة وعشرون رأساً من الضأن وجب عليه دفع أربعمائة وثمانين قرشاً صحيحاً رسم تعداد وتسعة وعشرين قرشاً صحيحاً ونصفاً للتجهيزات العسكرية وقرشاً صحيحاً ثمن ورقة سكة حجاز ونصف قرش ثمن طوابع فتبلغ الصدقة عن المائة والعشرين رأساً (511) قرشاً صحيحاً أي نحو خمس ليرات ونصف ريال مجيدي وأما الصدقة الشرعية في هذه المائة والعشرين فهي شاة متوسطة لا تعادل قيمتها ليرة فصار رسم التعداد ستة أضعاف الصدقة الشرعية في الضأن وأما الماعز فعلى المائة وعشرين رأساً منها كذلك (511) قرشاً صحيحاً وهذا بمقام شاة من الماعز المتوسط وثمن الماعز المتوسط لا يتجاوز الثلاثة ريالات أي 57 قرشاً صحيحاً فيكون رسم التعداد عشرة أضعاف الصدقة في الماعز وهذا منتهى الظلم فقد اتضح لنا أن الفرق بين الصدقة الشرعية

والضريبة الرسمية عظيم جداً وكنا ذكرنا في المقدمة أنه يجب على الحكومة أن تستوفي رسم التعداد عندما يكبر نسلها ويبيعه صاحبها ليدفع الرسم من ريع ماله غير أن القانون الجاري حتى الآن يجبر أصحاب المواشي على دفع الضريبة في آذار أو نيسان أو قبل آذار حينما تكون الخراف والحملان صغيرة لا تباع فيضطر صاحب المواشي إلى الاستدانة بأرباح فاحشة فيكون تحمل الضريبة مضاعفة ضريبة التعداد وفائضها فيصبح رسم التعداد عشرين ضعفاً من الصدقة الشرعية وهذه الضريبة الفادحة دفعت الأهالي إلى الاحتيال وتهريب الغنم والماعز لأنهم استكثروا الرسوم واعتقدوا أنها ظلم صراح لا صدقة شرعية فأثار هذا التهريب طمع القائممقامين والمتصرفين ومأموري المال فصاروا يبيعون مأموريات التعداد بدراهم معدودات ولا يخفى على أولي البصيرة أن مأمور التعداد الذي لا تزيد أجرته على أربعمائة قرش لا يدفع خمسين ليرة من أجل أن ينال تلك الوظيفة إلا إذا كان يعتقد تحصيل مائة ليرة والمائة لا تؤخذ إلا من أفراد متعددين فيضيع على الخزينة أكثر من مائتي ليرة وعلى ذلك فقس المملكة بأجمعها تجد الحكومة قد أضاعت مبالغ تعادل ما أخذته فوق الصدقة الشرعية ولم تربح إلا شيئاً قليلاً غير أنها حملت الأمة أثقال الضرائب والظلم هذا إذا صرفنا النظر عما يذبحه الموظفون من الخراف فتخسر الأمة مبالغ غير مشروعة بسبب انحراف الحكومة عن أحكام الشريعة انحرافاً كلياً. ولما كانت القاعدة المشئومة تزييد واردات الخزينة بأي صورة كانت من أجل أن تصرف على بذخ الظالمين في الأستانة وكان بعض القاممقامين والمتصرفين يخشون النقص عن البدل السابق أنشأوا يضيقون على مستخدمي التعداد ليأتوا بزيادة الواردات يحملون الفقراء العاجزين ما ينقصونه عن الأغنياء فتبلغ ضريبة أغنام الفقراء أضعاف أضعاف ضريبة أغنام الأغنياء وأرباب السطوة والصولة ولهذا فقد نقص رسم تعداد الأغنام على توالي الأيام نحو أربعمائة ألف ليرة في المملكة كما أنه قل الخير وهجر الغنم أصحابها وقل اعتناؤهم وقلت المواشي فارتفعت إبان اللحم والسمن وضاق أمر المعاش. ولو نزلت الضريبة إلى حد الصدقات وفرقت الحكومة بين الضأن والماعز وعدلت في رسم تعداد البقر والإبل المسومة لتنفس الأهالي وهانت عليهم الضريبة واعتقدوا أنها فرض ديني فلا يخفون ولا يهربون مواشيهم بسبب قلة الضريبة وأداء الفريضة فحينئذٍ يرغب

الناس في تكثير الغنم والمعز وإصلاحها لكثرة ريعها ووفرة أرباحها فيكثر السمن والصوف والشعر فتسهل المواد الصناعية الابتدائية ويخرج ذلك إلى الممالك الأجنبية فتستفيد الخزينة من تمنع التجار والصناع ورسم الكمرك (المكوس) ويرخص السمن واللحم فتتسع على الناس معايشهم وتقوى على العمل أجسامهم وقد وقفت عند هذا القدر ريثما يتم النظام الجديد وسأعود إلى البحث إذا دعت الحاجة والله الموفق. شكري العسلي

ضراء العلماء

ضراء العلماء 2 بين هذا الجيل الناشئ نفرٌ لم يكتب لهم الوقوف على حضارة المشرق وآدابه بل غاية ما وصلت إليه أفهامهم من البحث والتدقيق أخذهم بغشاء العلوم الغربية الحديثة فقط فراحوا وهم ثملون بحثالة تلك الثمالة يهرفون بما لا يعرفون زاعمين أن المشرق وحده منبعث الأعمال البربرية كما أن البعض حتى من علماء المغاربة يصورون الشرقي ذلك الغر المجرد والعربي ذلك الذي يخوض بحاراً من رمال محرقة وأشعة الشمس المذابة قطراتها تتصبب عليه فتصهر رأسه في فضاء صحاري جرداء تكاد لا تتناهى. . . ولو تهيأ لذلك العربي ما تهيأ للغربي من التربية والبيئة (المحيط) وتكاثر الوسائل والوسائط ما كان مدعاةً للتأثير في أخلاقه وأفكاره وخيالاته وقوته العقلية وطبيعته الحيوية الخ. . . . لاستعاض عن ظلال الخيام التي كان يستحضر في زواياها بدور الكيمياء ذات البنيان الضخم والمعامل الكبيرة ولكانت له ضفاف الأنهار مباءة يتفيؤ ظلالها الخضراء. ولقد رأينا العرب لما اختلفت عليهم مؤثرات التربية والبيئة وأنشاؤا يدوخون الممالك ويمصرون الأمصار أمة ناهضة بلغت في التحضر والتمصر شأواً بعيداً وضربت في المدنية والعمران بسهم وافر. ونبغ بين ظهرانيهم من الدهاة من ألفوا في العلم والاجتماع والأدبيات على اختلاف ضروبها فبرز الكندي وجابر الكوفي والطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وابن أبي أصيبعة والسمرقندي في الرياضيات والطب والفلسفة والغزالي والرازي وابن حزم وابن باجة وابن خلدون والمتنبي والمعري في الاجتماع والتاريخ والأخلاق والشعر وأخذ العظماء من الأمراء يسرفون في إنشاء معاهد العلم في بغداد وسمرقند والشام والأقطار الأخرى وعهدوا وظيفة التعليم إلى من تأفقت شهرتهم في العلم في ذلك العصر مما يدل على نهضة علمية كبرى نشأت في المشرق بقي من آثار القائمين بها أطلال بالية ومن نتائج قرائحهم بقايا ملئت بها مكتبات المشرق والمغرب على كثرة ما عداها من عوادي الأيام. ألا وإن الأمم تسير في تقدمها وتأخرها على نواميس عامة قد لا تختلف في الغالب إلا بقدر الاستعداد الفطري وتأثير الإقليم. وما يصح أن يقال عن تلك الأمم من الأعمال البربرية أن

هو إلا أمر طبيعي لا بد من وقوعه بين أي شعب أسفَّ للانحطاط في العلم وأخلد للجمود في الدين. مر على أوربا من أدوار الظلم والظلمات ما سجل لنا التاريخ من آثارها في الأمم الغربية ما يصح أن يكون عبرة همجية وذكرى سوء. وذلك في الغالب يرجع إلى عوامل ثلاثة كانت علة العلل لما نجم عنه من سقوط وصعود: الملوك ورجال الكنيسة والنبلاء. أما النبلاء: فلم يؤثر عنهم في الأعم الأغلب من حالهم سوى أنهم كانوا يسعون وراء تأييد نفوذهم ونيل مشتهايتهم وملذوذاتهم بأية طريقة كانت سواءٌ دعا سعيهم هذا إلى إهراق دماءِ الشعب وابتزاز أمواله واكتساح الأراضي الشاسعة من مستعمراته أو إلى مقاومة الملوك إذا آسوا منهم مالا ينطبق على ما ينزعون إليه من حب السلطة والجار الذي كان دينهم وديدنهم حتى أتيح لهم نفوذ قوي كان لهم عوناً في عامة ما تذرعوا به من الذرائع لحفظ سلطتهم وإحرازهم ميزةً على غيرهم من بني البشر حتى في المحاكم ومسائل القضاء. وأما الملوك: فإن استئثارهم في الملك وإغراقهم في البذخ والترف خملهم على مبالغتهم في الإرهاق والعسف وإتيانهم كل امرء منكر لمطاردة قادة الأفكار من رجال الأمة فكان الملك يذيب أيامه ولياليه التي كان يجب أن يقضيها فيما يعود على الأمة والوطن بالمصلحة العامة في اختراع صنوف الحيل والدسائس تارة وفي أحلام الموبقات مرة أخرى فمن طنطنة أقداح إلى إزاقة ابتسامات بين وصيف وبغا وكثيراً ما كانت الحرب بالباب والسلطان في لعب. ومما ساعدهم على عملهم هذا غفلة الشعب واتخاذهم من اعتقاده بالملوك والقياصرة والأقيال والأكاسرة إنهم آلهة الأرض والآمرون الناهون في العالمين آله صماء لتنفيذ آمالهم وأعمالهم. فكان الشعب مغلول اليد والفكر واللسان ليس له من الأمر شي إلا الطاعة العمياء. وفوق هذا كله فإنه كان يرى في هذه الطاعة خيراً يصيبه أو ثواباً يناله. ولم يكن من الشعب الغافل إلا أن وسمهم بالألقاب السماوية ووصفهم بعامة صفات الربوبية. وأما رجال الكنيسة: فكانوا يبالغون أيضاً حفظاً لسلطتهم واستبقاء لعزيز جبروتهم في اضطهاد العلم والعلماء. وتم لهم ذلك بما أسدلوه على الأبصار من السجف المبرقشة التي هي ليست سوى خيالات خداع وختل ونفاق وتلاعب قالوا عنها أنها الدين وليست منه في

شيء حتى كان منهم أن كانوا يقسمون الممالك ويوزعونها ويخلعون من الملوك من يشاؤن وكانوا كما قال أحمد شعيب بك حكام أوربا المطلقين (ديكتاتور). غضب مرة الأب (هيلدي بران) على هنري الرابع وأصحابه فحرمهم جميعاً حتى اضطر الإمبراطور هو وزوجته إلى أن يقصدوه ليغفر لهم سيئاتهم فقطع جبال الألب في أيام الشتاء وقد ارتدى قميصاً أبيض أعد للمجرمين ووقف أمام القصر الذي كان جالساً في صدره ذلك الأب ثلاثة أيام وهو يرتجف من صبارة القر وأخيراً أذن له بالحضور فتمثل بين يديه وقبل قدميه وهكذا استطاع أن يظهر بمظهر العفو. وإن أعمال رجال الكنيسة في محكمة التفتيش لا تكاد تمحى آثارها من صفحات الوجود فقد كان الغرض من إنشاء هذه المحكمة مقاومة العلم والفلسفة عندما خيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد وتلامذة تلامذته خصوصاً في جنوب فرنسا وإيطاليا. وفي مدة ثماني عشرة سنة من سنة 1481 ـ 1499 حكمت على عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصاً بأن يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير فشهروا وشنقوا وعلى سبعة وتسعين ألفاً وثلاثة وعشرين شخصاً بعقوبات مختلفة فنفذت ثم أحرقت كل توراةٍ بالعربية. وقد قرر مجمع لاتران سنة 1503 أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه من ينظر في كلامه شيئاً من الصناعة والعبادة. قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: لكن ذلك لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيءٍ من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره ثم قال: وأوقعت هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه شيءٌ من نور الفكر إذا نظر حوله والتفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه وأن السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه من ورود الفكرة العلمية إليه. هذا ولا تنس ما كان للحروب والثورات باديء بدء من التأثير السيء في الحركة العلمية في المدارس فالثورة الفرنساوية دعت إلى إلغاء دار الفنون الذي ظل يختلف إليها الطلبة منذ زمن مديد. وألغيت بالقرار المؤرخ في 10 آذار عام 1794 كلية باريس وثلاث وعشرون جامعة في الولايات الأخرى وصودرت أوقافها وأملاكها وإن حروب التتار

الشعواء أغارت على الجامعات التي أُنشئت في مدينة (نوفوغوردو) و (كرسون) و (موسقو) من بلاد روسيا لما فتحها التتار بحد سيوفهم. ولما دب في بولونيا دبيب الحياة وقامت تطالب باسترداد حريتها أنشأت الحكومة الروسية تتذرع بكل جليل وتافه لصد هجماتهم وأول ما بدأت به إغلاق الجامعات والمدارس ومن ذلك جامعة (فارسوفيا) الشهيرة التي أغلقت عام 1832 وظلت كذلك موصدة سنين وأعواماً. وإنه وإن أذن للجامعات بعدئذٍ أن تفتح أبوابها بيد أنه لم يعد يراعى فيها أصول الحرية في التربية والتعليم في حال من الأحوال. وإنك لترى الجامعات والمدارس بعد ما توالى على أوربا من الأزمات العلمية والفكرية في حالة النزع والاحتضار إدارة وتعليماً. فأما ما كان من أمر التعليم فأنها كانت تسلك الخطة التي كانت متبعة في القرون الوسطى وكان المتطفلون على موائد العلم يتصافقون الرتب العلمية على رؤوس الأشهاد ولم يكن من المعلمين الحقيقيين من يستطيع أن يدرب التلاميذ على أصول التربية الحديثة وإن كان يوجد فإنهم كانوا يتقاضون مرتباً نزراً يسيراً. في ذلك الزمن الذي اشتدت فيه الأزمة كانت أوربا تتمخض بالثورات السياسية والدينية. بيد أنها لم تستطع أن تضع حملها إلا بعد أن نبغ فيها فريق من أهل العلم والأدب فبدأوا يجدون بما في طوقهم وطاقتهم وراءَ مكافحة أولئك الخونة المارقين ومنافحتهم في القلم واللسان ليستردوا لبني البشر حقوقهم المغصوبة فكان فيهم العلماء والحكماء والأدباء والقصصيون والشعراء أمثال نيوتن وباكون ويكارت وهيكو وفولتر ولامارتين وتولستوي ولوك وفيختي وكانت وميرابو وموليير وغيرهم من رجال الإصلاح وكذلك كان بين هؤلاء من رجال الإصلاح الديني كثيرون ومن أشدهم جهاداً وجلاداً لوثيروس زعيم المذهب البروتستانتي في البلاد الأوربية والأميركية جمعاء. فسد هؤلاء العظماء العجز في تربية الشعب وتعليمه واغتنت النفوس بما تجدد في البلاد من الأوضاع وما ظهر في عالم المطبوعات من المصنفات العلمية والأدبية واكتسبت بما اكتسته من الحلل القشيبة ميلاً خاصاً من القلوب فتهافت الناس عليها وهم في أشد الحاجة إلى ما يمحو ما تلطخ على صفحات الأفكار من الشوائب المبهمة. وكان أول انقلاب وقع في نظام الأسرة (العائلة) والمعتقدات. وتمثل هذا الانقلاب بأكمل مظاهره في المبادئ

والأفكار وعلم الشعب حق العلم أنه مهضوم الجانب مهيض الجناح وأن الملوك والأمراء بأجمعها ليست سوى إجراء له وآنئذٍ نزع استرداد حقوقه بما مازج روحه من قوة الحرية في القول والعمل. شعر الملوك ورجال الكنيسة لما آنسوا من الشعب ميلاً إلى الإصلاح ورجاله بالخطر الذي يتهدد سلطتهم الملطقة فأخذوا يضيفون على مظالمهم الأولى ضروباً من الجنايات والخيانات. ألا وإن قيصر الباستيل والآلة المدعوة المقصلة (كيلوتين) ومحكمة التفتيش وفيافي سيبريا وسراي التويليري أعظم شاهد على ما أتوا به من الفظائع والفجائع لمناهضة العلماء والحكماء ورجال الإصلاح: هذا لافوازيه العالم الكيماوي المشهور الذي عني بهذا الفرع من العلم عناية خاصة واكتشف عناصر جديدة لم تكن معروفة من قبل ووضع نواميس عامة أبان فيها ما خفي تعليله على المتقدمين حتى دعي بـ (واضع الكيمياء الجديدة) ـ هذا الرجل على فضله وعلو كعبه في العلم وخدمته الإنسانية جمعاء حكم عليه بالإعدام وسيق إلى ساحة القتل حيث ذهب ضحية الجهل والغدر والخيانة. وهذا غاليله العالم الإيطالي الفلكي المشهور عقدت من أجله جلسات متوالية في إيطاليا ضمت أهم رجال الكنيسة وغيرهم وأجمعوا بخروجه عن أوامر الدين في قوله بحركة الأرض ثم حكموا عليه بالإعدام فالتفت إلى الجمهور وهو جذل فرح وقال: هي تدور وفوق ذلك هي كروية. وكذلك دانتي حكيم إيطاليا وشاعرها أمر الكردينال بورجينو عام 1339 بإحراق بعض مؤلفاته في بولونيا جهاراً وطلب إخراج جثته من القبر وإحراق عظامها انتقاماً من على إلحاده ثم لم تمضِ على هذه الأحكام عشر سنين حتى شعر الشعب الإيطالي بمنزلة هذا الجرل ففي سنة 1350 قررت جمهورية فلورنسا أن تدفع مبلغاً من النقود إلى ابنة له راهبة تدعى بتريس وفي عام 1396 قررت أن يبنى له ضريح ويقام له تذكار في فلورنسا على أنهم ما زالوا يحاولون بذلك إلى أوائل هذا القرن فابتنوا له ضريحاً وقد احتفلوا بافتتاحه في 14 تموز عام 1865 وهو تذكار مضي ستمائة سنة من يوم ولادته. ومثله فولتر حكيم الأدباء في فرنسا نظم قصيدة هجا بها لويس الرابع عشر ملك فرنسا

فحكم عليه بالسجن فسجن في الباستيل سنة نظم أثناءها قصيدة سماها التعاهد (ليبج) ورواية دعاها (أوديبوس) قالوا أنها أحسن ما كتبه من حيث شرح العواطف الحقيقية وذلك عام 1718 ثم أطلق سراحه بدعوى أنه مريض يحتاج إلى تبديل الهواء في (بلومبيار) فسار وقد عول على أن لا يعود إلى فرنسا ولكن قلمه ثنى عزمه فعاد إلى مثل ذلك فأعيد إلى السجن مهاناً بالضرب واللكم عام 1726 فلبث هناك ستة أشهر ثم أطلق سراحه والتجأ إلى إنكلترا لعله يتخلص من دسائس الفرنسويين. ولقد كتب مقالات فلسفية قيل أنه تعرض فيها للدين والسياسة فأحرقت بأمر مجلس الأمة (البرلمان) واضطر إلى مغادرة باريس خوفاً على حياته وقد ذهب بعضهم إلى أنه ملحد لأن الكهنة لم تأذن بدفنه على العادة المألوفة وإن أحد أبناء أخيه كان رئيساً لدير فأخذ الجثة سراً إلى ديره ودفنها في الكنيسة وفي سنة 1791 نقلت الجثة إلى البانتيون مدفن الملوك والعظماء والكبراء. وكذلك روسو فإنه نال من نبال الطعن والاحتقار ما لا يكاد يخطر على بال وما ذنب هذا الرجل الكبير ـ كما قال أحد حكماء فرنسا ـ سوى أنه خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتمادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجه خطاباً إلى الوالدات والأطفال وهو أمر هداه إليه ما فطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة ثم قال: وإن أردت أن أبين لك كيف خدم روسو الأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار لهم قلت أن ذلك إنما كان بما ألقنه تلك الكتب في نفوس الفرنسيس من بذور الثورة وهيأتها به لها. ومثله لوتيروس المصلح الديني الألماني فإنه قام بالدعوة إلى ما صح عن المسيح فطبق ما ورد في الإنجيل ضارباً بتلك الأوهام التي تعلقوا فطفوا بها عرض الحائط. وأول ما ناهضه هو مسألة الغفران ولم ير داعياً للأبوة فألغى الرتب الروحانية وشركات الدنيا والقاعدة التي تخول الرهبان عدم الزواج ظهرياً. وحملته طبيعة الحال على أن يدعي ويثبت مدعاه بأن كنائس الكاثوليك جمعاء تناقض أحكام الدين المسيحي على خط مستقيم وقد دعا الإمبراطور شارلكان المجلس العام في ألمانيا إلى الالتئام فالتئم وطلب المجلس بأكثرية الأصوات إحراق لوثيروس وقد كاد يقع

ذلك لولا أنه أقام سنة كاملة في دار نبورج مختفياً عن أعين الرقباء وأتم خلال هذه المدة ترجمة الإنجيل الذي كان شرع بترجمته بادئ بدء وأحدث انقلاباً كبيراً في الأدبيات الإنكليزية والأفكار. وبلغ بالقسيسين التعصب في إسبانيا على عهد سكسيمون الثالث مبلغاً هذا حده ولم يكن منهم إلا أن أبعدوا عامة من كانت تهزهم أريحية الوطنية أيام كان القسم الأعظم من واردات الحكوممة مخصصاً لصندوق الكنيسة. وإن شعور التعصب قد بلغ في أوربا أشده حتى كان الوباء إذا فشا نسب إلى الموسويين ومن ثم ترى هؤلاء المساكين يستهدفون لضروب الإيذاء والجفاء ما الله به عليم. وبعد فإن سلطة العلم لا تقاوم ومن قاومها كان خليقاً بكل أذى يلحقه إن لم يكن عاجلاً فآجلاً. وصوت العلم النافع ـ كما قال رنان ـ كثيراً ما يتضاءل أمام هجمة المهاجمين وقحة الدجالين وللعم صوت متى سكن ضجيج تلك الظواهر يظل ذاك الصوت يسمع فلا يعود أحد يسمع غيره قال: ومن أجل هذا ترى المجامع العلمية على كثرة شكوى أهل الأفكار المنحطة منها فائزة بفضل الغلبة لأنها حارسة حسن الترتيب الحقيقي وهي قليلة ولكنها مفلحة وليس لغير العقل سلطة تبقى. وإن رجال الإصلاح كلما أغرقوا في الدعوة إليه صموا آذانهم عن جلبة الوشاة والمشائين ولم يحفلوا بما ينزل بساحاتهم من الكوارث وإنهم ليعدون ما يصيبهم من إهانة واحتقار شرفاً لهم وفخراً كما قال الكتاب الفرنسوي: كل قبضة من الوحل تلقى في جبهة صاحب صناعة فهي إكليل من الفخار وقد سيق من سيق من هؤلاء المصلحين إلى القتل وعلى شفاههم تلوح ابتسامة السرور ولسان حالهم يقول كما قال لازوروس: نحن نموت الآن لأن الشعب نائم وتموتون أنتم غداً متى استيقظ الشعب. هذه آثار الأدوار السوداء ونتائجها ولقد كان للأمم الشرقية من آثار مثل هذه الأدوار حظ وافر ولو لم يزل فيهم من القوة بقية ومن الذكاء الذماء لأودت بحياتهم الأدبية منها والمادية. ومما يقوي آمال رجال الإصلاح ويشد عزائمهم ما رأوه من نهضة المشارقة في هذه القرون الأخيرة فقد تناولت الحركة الإصلاحية الشمس المشرقة (اليابان) ففارس فالأمة العثمانية مما يدل على أن الاستعداد كامن في نفوس البشر التربية تظهره والإهمال يخفيه.

ولا بدع إذا قامت تلكم الأقوام بنهضة حديثة اهتزت لها الأرض من أقصاها إلى أقصاها وهم الذين كانت لهم فيما مضى حضارة ضخمة فخمة قضت عليها النواميس الطبيعية بالاندثار والعفاء وقيضت من رجال الغرب عني بأمرها فبزوا بها وبرّزوا. وما على الأمم الشرقية اليوم إلا أن تطرس على آثار الغربيين في العلم والاجتماع وتأخذ بالأمور المعقولة من حضارتهم ومدنيتهم ليكتب لها عمر مديد وتاريخ مجيد!. . دمشق: صلاح الدين القاسمي

الرتب والأوسمة

الرتب والأوسمة كانت الرتب والأوسمة العامل الأقوى في إفساد الأخلاق على عهد الحكومة الاستبدادية الماضية فاستعملها الظالم ذريعة لرفع من شاء ولو كان وضيعاً وتصغير من أراد ولو كان كبيراً وفي تقلد الأوسمة ونيل علائم الرتب كم خربت بيوت وشتت شمل أسرات وكانت أقل الوسائط إليها وأقربها تناولاً أن يعمد من يرغب في التشرف بها إلى التجسس على الأحرار وإيجاد السبل لإرهاق من يطالب الحكومة السالفة بإصلاح المختل ومداواة المعتل. ومن نظر في التاريخ يجد الألقاب عند العرب والإفرنج من بقايا القرون الوسطى قرون الهمجية والانحلال. فمنشأوها عند العرب كما قال ابن الحاج في المدخل الترك فإنهم لما تغلبوا على الخلافة تسموا هذا شمس الدولة وهذا ناصر الدولة وهذا نجم الدولة إلى غير ذلك فتشوقت نفوس بعض العوام ممن ليس له علم بتلك الأسماء لما فيها من التعظيم والفخر فلم يجدوا سبيلاً إليها لعدم دخولهم في الدولة فرجعوا إلى أمر الدين فكانوا أول ما حدثت عندهم هذه الأسماء إذا ولد لأحدهم مولود لا يقدر أن يكنيه بفلان الدين إلا بأمر يخرج من السلطنة فكانوا يعظمون على ذلك الأموال حتى يسمى ولد أحدهم بفلان الدين فلما أن طال المدى وصار الأمر إلى الترك لم يبق لهم بالتسمية بالدولة معنىً إذ أنها قد حصلت لهم فانتقلوا إلى الدين ثم فشا الأمر وزاد حتى رجعوا يسمون أولادهم بغير ما يعطوه على ذلك ثم انتقل إليه بعض من لا علم عنده ثم صار الأمر متعارفاً متعاهداً حتى أنس به العلماء فتواطأوا عليه. قال أبو بكر الخوارزمي: مالي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا ولقبوا رجلاً لو عاش أولهم ... ما كان يرضى به للحش بوابا قلّ الدراهم في كفي خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقابا أما في الغرب فكانت الرتب العلمية والجندية في القرون الوسطى تباع بيع العروض والعقار يمنحها الملك لمن يريد من حاشيته أو لمن يرى هو ورجاله أنه قام بخدمة لبلاده وربما ورثها عنه أبناؤه وأحفاده من بعده على نحو ما أصبح أولاد العالم في العهد الأخير في هذه الديار يرثون وظائفه ومقامه كما يرثون أرضه ومتاعه وتطلق عليهم ألقاب هي العجب العجاب وأسماءٌ ما أنزل الله بها من سلطان كأن يقال لا جهل الجاهلين أعلم العلماء المحققين وللخالع المارق ناصر السنة والدين.

الرتب على النحو الذي يعهد في الشرق والغرب اليوم لم يكن لها ما يماثلها في الدولة اليونانية ولا الرومانية وغاية ما في الأمر أن الظافر في الألعاب الأولمبية في آثينة كان يذكر بالمحمدة ذكراً يورثه الشرف هو وأهل بلاده وينال جائزة سنية وكذلك من كتب به النصر على أعداء رومية ولكن لا يرث أبناؤه وأهله ما كان هو أبا عذرته وداعية مفخرته. ولما انتظمت حكومات الغرب ألغيت الرتب من معظم الممالك الأوربية ولا يزال لها أثر في بعضها ولكنه ضئيل لا ينمُّ عن شرف ولا ينبئ عن فضيلة ورجع الناس هناك أو كادوا إلى عادة السذاجة التي كانت عليها دولة العرب ثلاثة قرون وأكثر فكان يدعى الكبير باسمه أو بكنيته ولم يكن للألقاب سوق معروفة. كان براد بالرتب والأوسمة وعلائم التشريف في الأصل تحريك نفوس الناس إلى مباراة بعضهم بعضاً في طلب الكمال والمجد الحقيقي لأن من واجبات الحكومة أن تنشط العامل وتأخذ بيد صاحب الكفاءة ليكون مثالاً صالحاً لغيره والرتب والأوسمة من الأمور التي قد تساعد على هذا الشأن ولكن المتأخرين من أهل الغرب شاهدوا كما شاهد المتأخرون في الشرق أيضاً رداءة تلك الطريقة فأسقطوا بعض تلك الرتب والأوسمة وبقي غيرها عضواً أثرياً من حكومات القرون الوسطى يدل بأصرح بيان على أن من الصعب جداً على حكومة لها بعض التقاليد وإن كانت غير معقولة أن تنسفها جملة واحدة اللهم إلا إذا كانت كحكومة الولايات المتحدة لم تبن أصول حكومتها على أنقاض غيرها بل جعلت فيها العلم قائداً والعقل مرشداً ورائداً ولذلك تساوى بها العامل الصعلوك مع رئيس الجمهورية في الألقاب والتشريف. قال أحد علماء الفرنسيس: ومن الواجب الاقتصاد في منح الأوسمة والألقاب وأن يتوخى المنعم بها لا يهبها إلا لمن يستحقها ممن لا ينكر عليهم استئهالهم لها أبعد الناس عن معرفة الحقيقة ومن الخطأ الفادح أن يذهب بعضهم إلى أن عدد الراضين يزيد بمضاعفة علائم الشرف إذ الأمر بخلاف ذلك وكلما خفضت المطالب والقيود درجة زادت الدعاوي الطويلة العريضة وما أنت بصاحبها في هذا المطلب إلا كأنه يتقاضى حقاً وأمراً مشروعاً وكلما زاد إعطاء الأوسمة وقعت الحكومات في شر أعمالها فتصبح في ذلك بين أمرين ما أن تعطيها لأناس لأخلاق لهم ولمن لهم علم واقتدار ولكنهم معروفون بالأخلاق السافلة وكلا الحالتين

قبيح وأقبح. وما حال الشعب إذ ذاك إلا حال الأطفال في المدرسة يطمحون إلى المكافآت المدرسية ويحرصون عليها أكثر من طموحهم إلى التقدم الحقيقي. قلنا أن الظافر في الألعاب الأولمبية بآثينة كانت تنظم له الجوائز وكذلك الظافر في البر أو البحر يجازى أحسن الجزاء في رومية ويقلد أوسمة أشبه بأوسمة هذه الأيام علاوة على المكافآت المالية ومنها تيجان للجنود وأكاليل من ورق الزيتون وأكاليل من أغصان البلوط وأسورة وقلائد من الذهب والفضة تناط في الصدور أو في قرون صغيرة تجعل في أطراف الخوذ. ولم تكد ترفع عن الأفواه والأقلام في البلاد العثمانية كمائم الاستبداد والحجر هذه ألسنة حتى قام عقلاء العثمانيين يكتبون في إسقاط الرتب والأوسمة لأن في إسقاطها رفع شأن أرباب الكفاءآت وتوعوا لذلك الأساليب وفي مقدمة الكاتبين المتخرجون من المدرسة الملكية العالية في الأستانة وهي من أرقى مدارس الدولة فقام من تعلموا فيها وفيهم الولاة وكبار العمال وتجردوا عن رتبهم مختارين قائلين أن الرتب من قبيل الامتيازات الشخصية المخلة بقاعدة المساواة وأن البلاد الشوروية لا يجوز أن يكون فيها فريق من الناس محكوماً لفريق آخر من أجل هذه الامتيازات الوهمية التافهة. وبعد فإنه لا أثر لهذه الرتب الشخصية في البلاد المتمدنة ولا وجود لها إلا في بلادنا وفي بلاد إيران على أننا نعد هذه المسألة قد حلت حلاً نهائياً لأن مجلس الأمة مصمم على إلغائها بتاتاً وبما أن آخر الشيء ينبه إلى أوائله أحببنا أن نبحث في نبذة من تاريخها ليبقى حسرة في قلوب عشاقها المولعين بوضع القصب على الصدور وفوق العمائم. كان الرومانيون واليونانيون يوجهون المناصب لغير طبقة العسكرية ولكن لا يوجهون عليهم رتباً شخصية. أما العرب فكانت الرتبة عندهم هي الفضيلة والمزية الشخصية وكانوا يوجهون الرتب العسكرية عند الحاجة مؤقتاً. وإنا إذا تصفحنا التاريخ نرى النبي صلى الله عليه وسلم عين وزيره ورفيقه في الغار أبا بكر الصديق رضي الله عنه جندياً في الجيش الذي عقد لواءه لأسامة بن زيد وكان هذا ابن أمة ولكن خبرته في أمور الحرب وشجاعته أهلته لقيادة جيش فيه مثل أبي بكر الصديق ونرى عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد وجعله تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح وكان

جندياً في جيش خالد بن الوليد لما عهده عمر في أبي عبيدة من التأني والاحتياط في أمور الحرب. وأخذت الحكومات في القرون الوسطى بأوربا على عهد الإقطاعات توجه الرتب والألقاب على المأمورين الملكيين قياساً على رتب الرهبان فرتبة فارس (شفالية) كانت شخصية ولها درجات معينة وليس عند الأوربيين اليوم رتب شخصية توجه بالإنهاء بها. كانت الدولة العثمانية في أول أمرها توجه لقب باشا بمعنى الأخ الأكبر على من يخدم الدولة والدين خدماً فائقة ولقب جاويش وآغا على من يخدم خدماً صغيرة ولما أصلحت الأمور العسكرية والملكية والعلمية في زمن السلطان أورخان ومن يليه من السلاطين أحدثت بعض رتب خاصة بالمناصب لا يتجاوز عددها الأربعة وهي (خوجكانلق) و (قهوجي باشيلق) و (ميرميرانلق) و (الوزارة) ولا يتجاوز أصحاب هذه الترب السبعين أو الثمانين في الغالب فرتبة الوزارة كانت توجه على الصدر الأعظم وعلى (توقيعئ ديوان همايون) وعلى (دفتر دار الشق الأول) يعني ناظر المالية وتوجه نادراً على عامل الولايات الكبرى المهمة وتعلو أقدار رجال الدولة (خواجكان) و (قهوجي باش) وتوجه رتبة (الروم إيلي بكلربكي) التي كانت لها صبغة عسكرية على المتخرجين من أصحاب رتبة (ميرميران). كان لقب (سعادتلو) خاصاً بالسلطان إلى عهد سليمان القانوني ويخاطب الصدر رجال الدولة بلقب (عزتلو) ومع هذا كله كانت الرتبة توجه وقتئذ في مقابل خدمة مهمة. وفي سنة 1248 أدخل بعض التغيير في الرتب والألقاب رتبة (أولى) مع لقب (سعادتلو) على (كتخدابكي) ناظر الداخلية أو مستشار الصدارة اليوم وعلى (رئيس الكتاب) وهو ناظر الخارجية وعلى ناظر (الضربخانة) وتوجه الرتبة الثانية مع لقب (عزتلو) على (أمين الترسانة) و (أمين دار المدافع) وعلى (الباش جاويش) يعني ناظر العدلية والضبطية وأمثالهم. والرتبة الثالثة مع لقب (فنوتلو) على أمناء المكوس وبقية رؤساء المأمورين. والرتبة الخامسة مع لقب (حميتلو) على مديري الأقلام ومميزيها. وقسمت بعد ذلك التربة الثانية والثالثة إلى قسمين وجه أول منها على رجال الباب العالي والثاني على أرباب اللياقة من مأموري الولايات وقد أهملت منذ ربع قرن فروع الرتبة

الثالثة كما أهملت في زماننا رتبة (خواجكان) و (قهوجي باشى) و (الخامسة). وفي سنة 1255 سمي القسم الأول من الثانية متمايزاً وقسمت الرتبة الأولى إلى قسمين وسمي القسم الأول (أولى أولي) بالإضافة مع زيادة (حضرتلري) على الألقاب و (المشار إليه) بين العبارات وسمي القسم الثاني (أولى ثانيسي) وبالنظر لتكاثر سواد أصحاب الرتب الأولى وتجاوز عددهم الأربعين شخصاً أحدثت في سنة 1261 رتبة (بالا) مع لقب (عطوفتلو) ليكون خاصة بالرجال المحلين والممتازين على شرط أن لا يزيد عدد أصحابها على السبعة. اهـ

إسبانيا والعمران العربي

إسبانيا والعمران العربي نشر المسيو كاباتون ن علماء المشرقيات بحثاً إضافياً في مجلة العالم الإسلامي الباريزية جاء فيه ما تعريبه: كتب لإسبانيا من دون ساتر بلاد أوربا أن تكون مبعث أشعة التمدن الإسلامي وكهف اللغة العربية على حين ليست هذه الشبه الجزيرة متصلة من حيث موقعها الجغرافي بالشرق الإسلامي مباشرة كما هي حال الممالك البلقانية واليونان مثلاً. وأقرب البلاد بها مساساً وأقربها منها حمى بلاد أفريقية التي كانت منذ قرون ثانوية في النشوء الإسلامي فشغلت إسبانيا مكانة عظمى في تاريخ الإسلام أكثر مما جاور آسيا الصغرى من بلاد الطونة واليونان التي لم تشهد من الإسلام إلا العهد الموغل في التوحش الكثير الفتن القليل المنافع ونعني به عهد الأتراك على حين ذاقت إسبانيا أجمل عهود الإسلام وأخصبها وأعني به عهد العرب فتأصلت مدنيتهم في إسبانيا وأزهرت فيها أي إزهار. فتح طارق بن زياد وموسى بن نصير إسبانيا من سنة 711 إلى 714 وكانت مستعدة لهذا الفتح لأن الفوضى كانت رافعة عليها أعلامها فاستولى العرب على عرش تلك البلاد من ملكها رودريك الذي هلك في المعركة وأظهر الأشراف ورجال الدين من الإسبانيين من الجبن والنذالة شيئاً كثيراً فهربوا من إشبيلية وقرطبة عندما سقطتا في أيدي العرب ولم يفكروا في الدفاع عنها وبلغ بهم الخوف في طليطلة أن بعضهم هرب إلى غاليسيا ومن رجال الدين من لم يقفوا إلا في رومية لأنهم كانوا يخشون على حياتهم وأموالهم على أن حكومة إسبانيا إذ ذاك كانت مكروهة من العبيد واليهود لأن هؤلاء كانوا مضطهدين. خدم العبيد باديء بدء الدولة الإسبانية قبل دخول العرب ثم قلَّ إخلاصهم لها حتى أن قرطبة سلمها للعرب راهب من العبيد وتمت على أيديهم خيانات أخرى. وكان اليهود أكثر ضرراً على حكومة إسبانيا الغربية ولا يتأتى تقدير عددهم بالتدقيق بل هم فيما يظهر عنصر مهم للغاية انتشروا في قرطبة وإشبيلية والبيرة وغرناطة وطليطلة وغيرها من المدن ولا سيما لوسنا. وكان اليهود في الأندلس على جانب عظيم من الغنى وحسن معرفة بالتجارة وأرقى علماً من جيرانهم واستحكمت بينهم الصلات حتى أصبحوا حكومة وسط حكومة فخاف الملك ورجال الدين الكاثوليكي من امتداد سلطانهم وأخذوا يضطهدونهم بتحامل شديد فربي الخوف والاضطهاد في نفوسهم البغضاء وحب الانتقام. وفي سنة 694 قبل مجيء طارق

والعرب بسبع عشرة سنة دبر الإسرائيليون مكيدة بمعاونة قبائل البربر اليهود من أهل إفريقية وكادوا يستولون على زمام المملكة الإسبانية. فاكتشفت المكيدة التي دبروها وأخذ المسيحيون يعاملون الإسرائيليين معاملة العبيد الأرقاء وكاد يقضى على العنصر اليهودي عندما بدت طلائع الفاتحين من العرب. اعتبر اليهود العرب مخلصين لهم فاطمأن المسلمون إليهم وأخذوا يعاملونهم معاملة حلفاء لهم وكلما كان يفتح العرب مدينة يجعلون نصف حاميتها من اليهود والنصف الآخر من المسلمين ولم يستثن من ذلك إلا مدينة مالقة حيث قصراليهود فلم يتداخلوا في أمرها. وكان لليهود شأن وأي شأن مع العرب فكان من يناله اضطهاد المسيحيين على أوائل الفتح العربي يدخل في الإسلام ويتحرر من قيود العبودية فمن ثم أصبح اليهود حلفاء المسلمين يتمتعون بأراضيهم وأموالهم وحريتهم في عبادتهم وغدت لهم مكانة في تنظيم شؤون إسبانيا ولاسيما في غرناطة التي ازدهرت بمساعيهم وغدت تسمى في أواخر القرن العاشر مدينة اليهود ثم حدثت م1بحة سنة 1066 فقتل فيها من الإسرائيليين أربعة آلاف رجل في غرناطة وحدها. ولم يكن المسيحيون الأحرار في الأندلس مثل العبيد واليهود من أعوان الفتح العربي بل كانوا خصومه ومع هذا كنت تراهم على حالة حسنة مع الفاتحين ممتعين بحريتهم المذهبية ومحتفظين بالقسم الأعظم من كنائسهم وكثير منهم دانوا بالإسلام سياسة أو اعتقاداً لاسيما وقد رأوا المسلمين نالوا النصر المؤزر الباهر. والسبب في تسامح العرب مع نصارى إسبانيا أن مركز العرب كان إلى التقلقل وكلمتهم مختلفة وذلك لأن العرب والبربر يكره بعضهم بعضاً. ثم إن العرب بطبيعتهم مفطورون على التسامح الديني وكان النصارى وحدهم يدفعون الجزية حتى إذا أخذوا يدينون بالإسلام فرغت خزائن الحكومة العربية لقلة الجزية الواردة إليها ثم إن المسلمين أخذوا يتزوجون من الإسبانيات اللائي كن بجمالهن أعظم صلة للامتزاج بين الفاتحين وخصومهم. وكانت تجري على سادات الإسبانيول أحكام الإسلام فيختلطون بأشراف العرب ومن ظل محتفظاً بدينه منهم نسي مبادئه فصار يحجب نساءه كالمسلمين ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم وخلاعتهم ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة

العربية وآدابها ويسعى في نيل وظيفة في الجيش الإسلامي أو التعلق بخدمة الخليفة أو أحد رجاله. ولقد كان القشتاليون والليونيون والنافاريون من سكان إسبانيا المسيحيين يأتون بكثرة للانخراط في خدمة الخليفة المنصور وكان هذا مؤقتاً بأن حب الكسب هو الذي يحمل هؤلاء على الإخلاص له أكثر من أشراف العرب الطائشين فيجري عليهم لذلك الأرزاق والجرايات الوافرة ويشملهم برعايته. وإذا شجر اختلاف بين مسيحي ومسلم من جنده يعطي الحق غالباً للمسيحي. وكانت أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع. ولما انقسمت بلاد الأندلس بين الطوائف أمسى ملوك المسيحيين يتزوجون من بنات الأمراء المسلمين فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية. وإن إسبانيا على ما كان بين العنصرين المسيحي والإسلامي في الأندلس من الاختلاف الذي لا مناص منه قد أصبحت مدة قرنين ونصف أي منذ الفتح العربي إلى زوال الخلافة الأموية (774 ـ 1031) تحت السلطة العربية والمدنية العربية برضاها لا بالرغم منها وقد مزجت تلك المدنية بالمدنية الإسبانية اللاتينية واليهودية التي كانت هناك قبل الفتح الإسلامي وكان ذلك بفضل العقل العربي. من الظلم أن يقال أن إسبانيا كانت قبل إغارة العرب عليها في حالة الهمجية فقد كانت المدنية اللاتينية زاهرة فيها بفضل رجال الدين فأصبحت إشبيلية بواسطة أسقفها القديس إيزيدورس مركزاً علمياً قوي الدعائم لم يقو الفتح العربي على زعزعته وأنقذت مدرسة إشبيلية التقاليد اللاتينية من الحركة الشرقية فأصبحت البيع والأديار محال الاعتقادات والمعارف ولاسيما طليطلة وقرطبة وإشبيلية فكان يدرس فيها علم العروض والآداب اللاتينية مع علم اللاهوت. وعلى الرغم من سعي الأساقفة انتشرت المدنية العربية بسرعة وكادت تقضي على الوطنية الإسبانية وانحلت تلك المدنية الأصلية حتى ظلت معاهدها من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر مباءة الانحلال والتنبت. دان كثير من الإسبانيين بالإسلام فأخذوا يتناسون أصولهم ويستعربون بحضارتهم وأخلاقهم وأنشؤا يتكلمون بالعربية بفصاحة لا غبار عليها وتمكنوا من آداب العرب حتى صار الخلفاء يختارونهم فيما بعد عمالاً لإداراتهم وأمناءَ لمشورتهم وأسرارهم أي في جميع الوظائف التي تقتضي أن يكون لصاحبها معرفة واسعة باللغة العربية ومتى قبل أحدهم

مدنية الفاتحين لا يلبث أن يعترف بأنها أرقى من غيرها. كانت مدنية العرب في إسبانيا محسوسة في الأمور المادية وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البور في إسبانيا بالأساليب العلمية التي اتخذوها لريها وهي أساليب إن لم تكن اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها وأحسنوا استخدامها كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبلور وغزل الصوف والقطن والكتان والقصب وأقاموا ما لا يحصى من البنايات العمومية من مثل الجوامع والحمامات ومنها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من تأسيسه مثل جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة. ثم خدموا العمران بتخطيط المدن الآهلة بالسكان الغنية الرباع التي لم تسترجع بعد الرعب ما كان لها في أيامهم من الحضارة وما برحت أنقاضها وما فيها من جمال رائع وصناعة محكمة ولاسيما في قرطبة وغرناطة شاهدة أبد الدهر بتلك المدنية باعثة على التأسف لزوالها. نعم إن العرب فاقوا في تقدمهم في شبه جزيرة الأندلس بعلوم الطب والنبات والفلك والطبيعيات سواء كان بالعمليات أو بالنظريات فكيف لا يبتزون في علم البلاغة والفلسفة والشعر وهي العلوم التي كان لهم القدح المعلى فيها. وقد اجتذب حب هذه الحضارة حتى المسيحيين ومنهم من تناسى الأحقاد والمبادئ وما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العبرية وما مضي نصف قرن إلا وقد دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنائسية إلى اللغة العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها. ولقد اتخذ المسيحيون اللغة العربية ترجماناً لعواطفهم وقلوبهم حتى شكاالفار والقرطبي صديق الشهيد ألوج كما قال دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا من أن المسيحيين في الأندلس قد أفرطوا في حبهم للعربية حتى صاروا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم لا ليردوا عليها بل ليحلوا بها منطقهم. قال وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة ومن منهم يتدارس الأناجيل والأنبياء والرسل ومن الأسف أن جميع صغار المسيحيين الذين اشتهروا بقرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يقرؤن الأسفار العربية

ويتدارسونها بنشاط لا مزيد عليه ويقتنونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها خزائن نفيسة ويذكرون في كل مكان أن آداب العربية مما يعجب به وإذا حدثتهم بالكتب المسيحية يجيبونك بازدراء أن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم. وأي ألم أعظم من أن ينسى المسيحيون حتى لغتهم ولا تجد في ألف واحد منهم من يستطيع أن يكتب كتاباً مناسباً باللغة اللاتينية إلى صديق له وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهوراً يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم. واللوم في قصور الإسبانيين عن شأو العرب أن الحضارة الإسبانية اللاتينية قد نضب معينها وذهبت نضارتها على حين كانت الحضارة العربية على أشد نضرتها على عهد خلفاء بني أمية في الأندلس ولاسيما زمن عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني وفي أيامهما كان الأمويون في إبان عزهم. فكان في قرطبة وسكانها نصف مليون نسمة ثلثمائة مسجد جامع وأحواض ماء وحدائق وفيها الآكام المزروعة المعروسة والحدائق الأنيقة وعلى نحو فرسخ من قرطبة قصر الملك الزهراء ودائرة الحريم منها تسع ثمانية آلاف امرأة فكانت قرطبة تنازع بغداد الأولية ببهجتها ونضارتها. وقد عرف عبد الرحمن الثالث أذكى ملوك عهده جناناً وأكثرهم استدارة وأغناهم وكان في خزانته عشرون مليون ذهب (كذا) ـ بسخائه المتناهي في اجتلاب الشعراء وأرباب الموسيقي ومشاهير العلماء يقتدي في ذلك بأسلافه عامة. وإن المتوسطين من هؤلاء الخلفاء ليدرون النفقات الطائلة على أناس لهم في الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد وكل إليهم أن يوقفوه على الحركة العقلية فيبعثون إليه بأهم المصنفات وأجمل الآثار. مثال ذلك أن إمبراطور القسطنطينية لم ير أحسن من أن يهدي مصنفاً بديعاً من ديوز كوريد مكتوباً بالذهب وقد حمله مع راهب عهد إليه بتعريبه للملك استجلاباً لرضاه. فاق الحكم الثاني أباه بولعه بالآداب والكتب النادرة فكان يغص قصره بالنساخ والمجلدين والنقاشين وبلغت فهرست كتبه بحسب رواية معاصريه أربعة وأربعين جزءاً وكل جزءٍ عشرون صفحة وقال آخرون أن في كل جزء خمسين صفحة. ولم يكن فيها غير اسم

الكتاب ووصفه. وقد قرأ الحكم هذه المصنفات وشرحها وحشاها وعلق عليها تعليقات تدل على طول باعه في تاريخ الأدب العربي. وبذل لأبي الفرج الأصفهاني من علماء العراق خمسة آلاف دينار ليخص الأندلس بتأليفه وهو عبارة عن دائرة معارف حوت أخبار الشعراء والمغنين. وكان العلماء من إسبانيا وغيرها ينهالون على قصره فيحسن فيه لقاءهم ويفرق عليهم الإحسان واشتهرت كلية قرطبة في العالم بأسره وإن لم تكن معروفة بأنها معهد رسمي للخلفاء أكثر من جميع الكليات العربية. وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني يحميان العلماء فيها من تعصب المتنطعين في العبادة. فيأتي الجامع الأعظم ألوف من الأندلسيين والأجانب من كل البلاد لاشتهاره بأنه معهد علمي وذلك من مدينة الأستانة إلى جرمانيا حيث كان هروفستا بقرطبة وهو فيديره. وفي ذاك الجامع كان أبو بكر بن معاوية القرشي يقريءُ الحديث النبوي وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه المشهورة الغنية بالنكات اللغوية والشعرية المأثورة عن العرب القدماء وابن قوطية أعلم نحوي في عصره يدرس النحو. ورأى الحكم قبيل وفاته أن من الصعب على من بعده نشر المعارف بين الفقراء فأنشأ فيقرطبة سبعة وعشرين مدرسة ينفق على مدرسيها من ماله. ولئن كانت هذه المدارس الصغرى كالكليات لا تنطبق على ما نريده منها اليوم فكانت المدارس الابتدائية لتعليم القراءة وتفسير بعض آيات من القرآن ومع هذا كانت تشهد بما فطر عليه رعاياه من حب المعارف والتعليم. وإن ذهاب الخلافة من الأندلس سنة 1031 وتقاسمها بين ملوك الطوائف سواء كانوا من أشراف الأسر العربية أو حذاق البربر لم يقف عثرة في سبيل هذه الحمية بل كان شأن عامة ملوك الطوائف شأن أولئك الأمراء في إيطاليا على زمن النهضة يحاولون أن يبرروا مظالمهم بحمايتهم للعلماء ولاسيما للشعراء الذين كانت أماديحهم وأهاجيهم عند العرب ذات شأن كبير حتى كان أعظم الخلفاء في بغداد ودمشق يحاول أن يسالمهم ليسالموه ويحسن إليهم ليمدحوه. وتقدمت إشبيلية في تلك القصور الخالعة المتحضرة فكان المعتضد ابن عباد ابن القاضي أبي القاسم محمد مؤسس الدولة العبادية من الأمراء الظالمين المتهتكين يزرع الورد في

جماجم أعدائه الكثار ويسرح طرفه بالنظر إلى هذه الحديقة ويدمن الخمر ولكنه ينظم الغزل الرقيق ويمنح الأدباء وظل ابنه المعتمد المحبوب الذي هلك في غارة المرابطين أحد المشاهير بنظم الأغاني في الأدب الإسباني العربي وقد أعطى من أجل بيتين فذين لعبد الجلال ألف دينار. وكان ابن عمار رفيق صباه وحاجبه زمناً شاعراً أيضاً ويساوي مولاه برقة الشعر ورشاقته وكانت رومابيكا السلطانة المحبوبة التي استولت طول حياتها على عقل المعتمد وقلبه مشهورة ببديهتها وهكذا كانت غاية هؤلاء المفتونين الظرفاء من الحياة أن ينصموا ويترفهوا ولو لم يضيفوا إليه محبة الآداب والصنائع الفكرية لكانت حقيرة ومريرة. ولقد نافست مملكة المرية على صغرها مملكة إشبيلية وكان ابن عباس الوزير الجبار لزهير (1028 ـ 1038) يفاخر ببيانه المبرأ من العيوب وما اقتناه في خزانة كتبه التي تبلغ أربعمائة ألف مجلد أكثر من مفاخرته بغناء العظيم بالنسبة لعصره. ذكر المعتصم الذي طرده المرابطون كما طردوا المعتمد بأنه أحسن الملوك العلماء وأعدلهم في بلاد الأندلس فكان سخاؤه على الشعراء متناهياً حتى وهب ابن شرف قرية برمتها لبيت من الشعر قاله. وكانت قطعة من الشعر أو قصيدة من المدح الرقيق تمطر على ناظمها العطايا. وهو يرغب في سماع الأهاجي ولاسيما إذا دلت على صناعة وخلت من رميه بالبخل ولذا كان الأدباء يهرعون إلى قصره ويخدعونه ويبرمونه بمطالبهم التي لا تطاق فخف إليه في المرية طائفة من الشعراء يتبعهم أناس هاجروا إليه من البلاد الأخرى ومن جملتهم أبو الوليد النحلي الذي أغدق عليه المعتصم عطاياه فضحك منه ولكن المعتصم عفا عنه لا بالحط من قدره بل أنه أتبع العفو بالإحسان والإنعام. ومثله ابن شرف وابن أخت غانم من مالقة وهو ابن أخت اللغوي المشهور وغانم غرناطة وابن الحداد من قادش الذي اشتهر بأنه أعظم شاعر أندلسي. وكان في الأندلس مثل أبي عبيد البكري ابن أحد ملوك الطوائف وهو أعظم جغرافي عربي في إسبانيا وكان له أيضاً حظ وافر من الشعر وله صداقة أكيدة مع المعتصم وكان هذا أو جميع أسرته يتعاطون الشعر ولاسيما ما كان منه في الغزليات والخمريات ومازال غزل أبيه وابنته أم الكرام معروفاً إلى اليوم عند كل من اطلعوا على الآداب العربية.

رسخت قواعد الحضارة العربية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر وبهرت العقول على ما كان من الفوضى السياسية في جميع إسبانيا الجنوبية بحيث تؤثر تأثيراً شديداً حتى على أعدائها الألداء أي الأمراء النصارى في شمالي إسبانيا. فانتشر هنا استعمال اللغة العربية بكثرة حركة فرسان ليون وأراغون الذين كانوا يذهبون للغزو مع المسلمين. وما كان يراه ملوك نافار وغاليسيا وليون وأراغون من ضرورة الاتحاد مع جيرانهم في الجنوب (العرب) فكانوا يؤدون إليهم الجزية على عهد خلفاء الأندلس وغدا العرب على عهد ألفونس السادس ملك غاليسيا وقشتالة وليون ونافار بعض إقطاعاته فكان في قصر ألفونس السادس ملك أهل الدينين كما كانوا يسمونه أناس من المدققين في اللغة المطلعين كل الاطلاع على دقائق اللسان العربي بحيث تسهل عليهم مكاتبة أمراء الطوائف من المسلمين فقد كان السيد كمبادور يجيد التكلم بالعربية لا فرق بينه وفي العقل والأخلاق وبين مسلمي بلنسية. ولما دخل ألفونس السادس إلى طليطلة سنة 1085 وكانت هذه المدينة عاصمة ألوزغوت القديمة قوي نفوذه من وراء الغاية باستيلائه عليها ولم يأت عملاً يصر بشهرتها بالعلوم الإسلامية وفاءً بعهد تعهده في هذا الشأن وكان نقض العهد من المألوفات في عصره لأن المسيحيين في الشمال ما زالوا متوحشين ينتفعون من الاحتكاك بالعنصر العربي المحط في أخلاقه الراقي بعقله وسار خلفاؤه على قدمه. ناول مدرسة أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر هي عربية اشتهر أمرها على عهد ملوك قشتالة أي زمن أبي عبد الله محمد بن عيسى المغامي وأحمد بن عبد الرحمن بن المطهر الأنصاري وغيرهما من الأساتذة ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب. وفي سنة 1130 أنشأ ريمون رئيس أساقفة طليطلة في هذه المدينة مدرسة للتراجمة وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية (للبحث صلة).

تاريخ الأمم والملوك

تاريخ الأمم والملوك هو أوسع تاريخ عربي أبقته الأيام لصاحبه أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة عشر وثلاثمائة قال ابن خلكان في ترجمته هو صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير كان إماماً في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحداً. . . وكان ثقة في نقله وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها. هذه خلاصة حال هذا العلامة الكبير وقد أصابه ما أصاب كبار العلماء في الإسلام من الحط من شأنه وإيذائه قال ابن الأثير وفي هذه السنة (310) توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين ودفن ليلاً بداره لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد وكان علي بن عيسى يقول والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب تجارب الأمم وحاشا ذكر الإمام عن مثل هذه الأشياء وأما ما ذكره من تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقهياً وإنما كان محدثاً فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداءٌ له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً أنه لدميم وقال الإمام أبو بكر الخطيب كان الطبري أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظاً لكتاب الله عارفاً بالقرآات بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الأحكام ومسائل الحلال والحرام خبيراً بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك والكتاب الذي في التفسير لم يصنف مثله وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة وأخبار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه. وقال ابن خزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبري ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي

جعفر ولقد ظلمته الحنابلة وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني بعد أن ذكر تصانيفه وكان أبو جعفر ممن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين إلى باطل لرغبة ولا رهبة مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد وأما أهل الدين والورع نغير منكرين علمه وفضله وزهده وتركه الدنيا مع إقبالها عليه وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة. يعد هذا التاريخ من المطولات بل هو أطول وأجمع تاريخ للقرون الأولى الثلاثة وقد كان مؤلفه يريد أن يتوسع فيه أكثر مما توسع حتى عرض على تلاميذه قبل الشروع في تأليفه أن يريد أن يملي عليهم تاريخاً فقالوا له كم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فقالوا تفنى الأعمار ولا يستوفي مطالعة فقال حسبي الله ماتت الهمم وأملاه في ثلاثة آلاف ورقة كما انتهى إلينا. فجاء تاريخ ابن جرير مأخذاً للمؤرخين وطالبي التوسع في الوقوف على أخبار القرون الراقية في الأمة وقد كبر حجمه بالأسانيد والروايات على طريقة المحدثين إلا أن الحوادث بادية من خلال سطوره تنال بأدنى نظر. مثال ذلك ما رواه في الجزء الأول من الكلام على خلق العالم نقلاً عن الإسرائيليات فإنه بعد أن نقل الموضوعات كلها قال ابن صح ما روي عن رسول الله (ص) بحيث يتوهم المطالع قبل أن يصل إلى هذا الكلام أن ما أورده وعني به هو الحقيقة التي شائبة فيها. وتاريخ ابن جرير مرتب على السنين مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتاريخ أبي الفداء والمسعودي وغيرهم ومن تطويله في سرد الكوائن يستفيد المطالع أشياء كثيرة فينتفع الكاتب من حسن العبارة وجودة سبكها ويقف على تعابير فصيحة قد لا يعرفها وليست مألوفة لهذا العهد والشاعر يتعلم ضروباً من الشعر والمقاطيع على اختلاف العصور خصوصاً والشعر كله مشكول كما شكلت الآيات القرآنية والكلمات التي ربما تلتبس بل يستفيد الجندي كيفية تعبئة الجيوش في تلك الأعصر ويتعلم المكايد والباحث في الاجتماع يقع على فوائد مهمة. وفي هذا الكتاب قصائد نظمت على البديهة لشعراء مشهورين وغيرهم ومقاطيع قيلت في المناسبة وأنشدت بدواع خاصة وفيه رسائل الخلفاء لعمالهم ورسائل العمال لخلفائهم

ومعظمها في الغاية إيجازاً وبياناً بنسج متعلم البيان والخطابة والشعر على منوالها وفيه من الحوادث كمقتل الحسين وشيعته مثلاً ما لوجود لكان قصصاً تاريخية حماسية فمن ذلك كلام لحيان بن ظبيان أحد زعماء الخوارج قاله لأصحابه: إنه والله ما يبقى على الدهر باق وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت فيفارق الإخوان الصالحين ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة ولم تزل ضارة لمن كانت له هماً وشجناً فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب فإنه لا عذذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة وسنة الهدى متروكة وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنون وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا ولنا بأسلافنا أسوة. وقال زياد لما استعمله معاوية على البصرة وخراسان وسجستان والهند والبحرين وعمان فقدم البصرة سنة 65 والفسق بالبصرة ظاهر فاش فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها وقيل بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه ونسأله المزيد من نعمه اللهم كما رزقتنا نعماً فألهمنا شكراً على نعمتك علينا أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حكماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى منها الكبير كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرؤا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به من ترككم هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغطون على المختلس كل امريء منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عقاباً ولا يرجو معاداً ما أنتم بالحكماء ولقد أتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب حرم عليَّ الطعام والشراب أُسويها بأرض هدماً وإحراقاً إني رأيت آخر هذه الأمر

لا يصلح إلا بما صلح أوله لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم أن كذبة المنبر تبقى مشهورة فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليَّ وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوماً غرقته ومن حرق على قوم حرقناه ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه ومن نبش قبراً دفنته حياً فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام أحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراًَ حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلث لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارق بليل ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن أبانه ولا مجمراً لكم بعثاً فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى تصلحوا يصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم أسأل الله أن يعين كلاً على كل وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه علي أذلاله وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي اهـ. نقلت هذه الخطبة على طولها لأنها مرآة ذاك الزمان وعلامة على استحكام أزمة الأحكام في رقاب الأمة ولأن فيها من الشدة واللين والتفتن في أساليب التأثير ما لا يتسنى قو مثله اليوم إلا لأناس من رجال الغرب ممن مرنوا على الخطابة ودربوا عليها فكانت ملكة البيان

فيهم طبيعية هذا فضلاً عما حوت من البلاغة والفصاحة. وزياد هو الذي وطد الملك لمعاوية ويزيد وقتل الحسين واشتد في استئصال شأقته وكان يقول لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه وكتب خمسمائة من مشيخة أهل البصرة في صحابته فرزقهم ما بين الثلثمائة إلى الخمسمائة فقال فيه حارثة بن بدر الغدّاني: ألا من مبلغٌ عني زياداً ... فنعم أخو الخليفة والأميرُ فأنت إمام معدلة وقصد ... وحزم حين يحضرك الأمور أخوك هليفة الله بن حربٍ ... وأنت وزيره نعم الوزير تصيب علي الهوى منه ويأتي ... محبك ما يجن لنا الضمير بأمر الله منصورٌ معانٌ ... إذا جار الرعية لا تجور يدرُّ على يديك لما أرادوا ... من الدنيا لهم حلب غزيرُ وتقسم بالسواء فلا غنيٌّ ... لضيم يشتكيك ولام فقير وكنت حياً وجئت على زمان ... خبيث ظاهر فيه شرور تقاسمت الرجال به هواها ... فما تخفي ضغائنها الصدور وخاف الحاضرون وكل بادٍ ... يقيم على المخافة أو يسير فلما قام سيفُ الله فيهم ... زياد قام أبلج مستنير قويٌ لا من الحدثان غزٌّ ... ولا جزع ولا فان كبير ومما ورد فيه من الشعر وهو ما نورد مثالاً ما قالته هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية وكانت تشيع ترثي حجر بن عدي من زعماء الشيعة وقد قتله معاوية بواسطة عامله زياد. ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجراً يسير يسير معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير تجبرت الجباير بعد حجرٍ ... وطاب لها الخورنق والسدير وأصبحت البلاد لها محولاً ... كأن لم يحيها مزنٌ مطير ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً له في دمشق له زئير يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمته وزير

إلا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير فإن يهلك بكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير ومن خطب الحسين خطبة خطبها بأصحابه لما أحيط به وقام أصحابه يدعونه للمطالبة بحقه قال: أيها الناس إن رسول الله (ص) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فسلم يعير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من عير وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببعثكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم فيَّ أسوة وإن لم تفعلوا أو نقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم منعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومن جملة فوائده ما ذكره في حوادث سنة 71 أن عبد الملك بن مروان لما قتل مصعباً ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع وأمر به إلى الخورنق وأذن إذناً عاماً فدخل الناس فأخذوا مجالسهم فدخل عمرو ابن حريث المخزومي فقال إليَّ وعلى سريري فأجلسه معه ثم قال أيّ الطعام أكلت أحبُّ إليك وأشهى عندك قال عناق حمراء قد أجيد تمليحها وأحكم نضجها قال: ما صنعت شيئاً فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه وأحكم نضجه اختلجت إليك فأتبعتها يده غذي بشر يجبن من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك بن مروان ما ألذ عيشنا لو أن شيئاً يدوم ولكنا كما قال الأول: وكل جديد يا أميم إلى بلىً ... وكل امريء يوماً يصير إلى كان فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث لمن هذا البيت ومن بنى هذا البيت وعمرو يخبره فقال عبد الملك: وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امريءٍ يوماً يصير إلى كان ثم أتى فاستلقى وقال:

إعمل على مهل فإنك ميتٌ ... واكدح لنفسك أيها الإنسان فكان ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائنٌ قد كان ومن فوائده سأل المهدي يوماً كاتبه أبا عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى عن أشعار العرب فصنفها له فقال أحكمها قول طرفة بن العبد: أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبرٍ غوي في البطالة مفسدِ ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد أرى الموت بعنام الكرام ويصطفي ... عقيلة مآلِ الفاحش المتشدد أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد وقوله: وقد أرانا همَّ صاحبه ... لو أن شيئاً إذا ما فإما رجعا وكان شيءٌ إلى شيءٍ نفرقه ... دهر يكر على تفريق ما جمعا وقول لبيب: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... إنحب فيقضي أم ضلال وباطل ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... ومل نعيم لا محالة زائل أرى الناس لا يدرون قدر أمرهم ... بل كلُّ ذي رأي إلى الله واصل وكقول النابغة الجعدي: وقد طال عهدي بالشباب وأهله ... ولاقيتُ رَوعاتٍ تشيب النواصيا فلم أجد الإخوان إلا صحابة ... ولم أجدالأهلين إلا مثاويا ألم تعلمي أن قدرُزِئت محارباً ... فما لكِ منه اليوم شيئاً ولا ليا وكقول هدبة بن خشرم: ولست بمفراح إذا الدهر سرَّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ولا أبتغي الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهرن بمعتب وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب

وكقول زيادة بن زيد وتمثل عبد الملك بن مروان: تذكر عن شحط أميمة فأرعوى ... لها بعد إكثار وطول نحيب وإن امرأً قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزيئة آل أو فراق حبيب وكلُّ الذي يأتي فأنت نسيبه ... ولست لشيءٍ ذاهب بنسيب وليس بعيدٌ ما يجيء كمقبلٍ ... ولا ما مضى من مفرح بقريب وكقول ابن مقبل: رأت بدل الشباب بكت له ... والشيب أرذلُ هذه الأبدال والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحيوة يزيد غير خبال وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال كتب سفيان بن أبي العالية أحد قواد الحجاج وكان بعث به لقتال بعض أعدائه: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقتلتهم فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم فتبينا نحن كذلك إذا أتاهم قوم كانوا غيباً عنهم فحملوا على الناس فهزموهم فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم حتى ضررت بين القتلى فحملت مرتثاً فأتي بي بأول مهروذ فها أنا بها والجند الذين وجههم إليَّ الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأَ الحجاج الكتاب قال من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه: أما بعد فقد أحسنت البلاد وقضيت الذي عليك فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجوراً إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبجر: أما بعد فيا ابن أم سورة ما كنت خليقاً أن تجتريء عليّ ترك عهدي وخذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلاً ممن معك صليباً إلى الخيل التي بالمدائن فلينتخب منهم خمس مائة رجل ثم يقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة واحزم في أمرك وكد عدوك فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة والسلام. ومع أن الحجاج معروف بالشدة فاقرأ ما يلي تعرف أنه للشدة تارة وللين أخرى: كتب إليه شبيب أحد قواده: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند

الذي وجهني فيه إلى عدوه وقد كنت حفظت عهد الأمير إليَّ ورأيه فيهم فكنت أخرج إليهم إذ رأيت الفرصة وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك ولقد أرادني العدو بكل إرادة فلم يصب مني غرةً حتى قدم عليَّ سعيد بن مجالد رحمة الله عليه ولقد أمرته بالتوءدة ونهيته عن العجلة وأمرته أن لا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل فأشدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه ودفع الناس إليَّ فنزلت ودعوتهم إليَّ ورفعت لهم رايتي وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها فليسئل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده وعن مكايدتي عدوه وعن موقفي يوم البأس فإنه يستبين له عن ذلك أني قد صدقته ونصحت له والسلام. فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد أتاني كتابك وقرأته وفهمت كل ما ذكرت فيه من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه فقد رضيت عجلته وتوءدتك فأما عجلته فإنها فضت به إلى الجنة وأما توءدتك فإنها لم تدع الفرصة إذ أمكنت وترك الفرصة إذا لم تمكن حزمٌ وقد أصبت وأحسنت البلاء وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة وقد شخصت إليك حيان بن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام. هذه نموذجات من فوائد الكتاب الممتع ولو اتسع المقام لأفضنا فيه أكثر مما أفضنا فإن استيعاب الكلام على اثني عشر مجلداً لا يتأتى في بضع صفحات.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الاشتقاق والتعريب تأليف عبد القادر أفندي المغربي طبع بمطبعة الهلال بمصر سنة 1909 ص146 صاحب هذه الرسالة من بلغاء الكتاب ومصنفه هذا يبحث فيما يعرض اللغة العربية من تكاثر كلمتها بواسطتي الاشتقاق والتعريب وإن هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من اللغات وإن استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام. وقد أفاض في الاشتقاق والقلب والإبدال والنحت وشروط التعريب ومعربات السنة والكلام المولد والمحدث إفاضة أتى فيها ببعض الشواهد على مقصده. فنثني عليه الثناء الطيب لعنايته بهذا الموضوع ويا ليته رجع إلى ما قاله الباحثون في هذا الفن وأستشهد تأييداً لقوله بكلام الباحثين ولاسيما علماء المشرقيات الذين بحثوا أحسن بحث في أصول اللغات لاسيما السامية منها. تاريخ النصيرية للمسيو رني دوسو هو المستشرق الفرنسوي العالم صاحب كتاب لغة الصفا وغيره من المصنفات المفيدة وله جلد على التأليف وأكثر ما يكتب يتعلق ببلاد الشام وسكانها قدمائهم ومحدثيهم. وقد كتب كتاباً في تاريخ النصيرية وديانتهم فظهر له بعد التحقيق أنهم شيعة إسلامية فساءَ قوله بعضهم فرد عليه بأن أصلهم مسيحيون وهذه كانت بين الفريقين نقطة الخلاف. وصف دوسو بلاد النصيرية وهي جبلية يحيط بها من الجنوب نهر الكبير ومن الشرق والشمال نهر العاصي ومن الغرب الساحل وجبل النصيرية يمتد من نهر الكبير إلى حوالي صهيون والزاوية التي تهبط بين نهر الكبير من الشمال والعاصي يطلق عليها اسم جبل الأكراد والنصيرية ضاربون أيضاً في أنطاكية حيث اشتهروا بصناعاتهم وسعة عيشهم. وبين سكان الجبال والسهل من التناقض ما يدهش. ذلك أن قلة فائدة العمل في المقاطعات الجبلية أورثت النصيري الكسل والجهل فعاش من غلة وقتية ومن السلب والنهب على حين غدا في أنطاكية ملاكاً وتاجراً مستعداً لأنواع الصنائع وعلى شيءٍ من الغنى وفتح له

في مرسين وطرسوس وأذنة أعمالاً رابحة ناجحة. وفي بلاد النصيرية بعض قرى للأرمن حوالي القدموس وفي جبل النصيرية أيضاً بقايا الإسماعيلية القدماء النازلين اليوم في مصيات وقدموس وماوالاهما. وهم يكتمون نفوسهم فراراً من الجندية ولذلك لا ثقة بالإحصاء فعددهم مائة وثلاثون ألفاً في سورية ويبلغ عددهم إذا أضيف إليه النازلون في تلك المدن مائة وخمسين ألفاً وهم قلائل إذا نسبوا إلى البلاد التي يشغلونها وهي أوسع مجالاً من سائر ما يشغله الشيع والشعوب الراحلة في سورية. وفي رأي المؤلف أن عددهم أيام ارتقائهم كان عشرة أضعافه اليوم. قال وهم بادية قائمون على الفلح والحرث وقلما يسكنون المدن دع عنك أنطاكية وجسر الشغور واللاذقية. قال وخبط الناس في أصل النصيرية حتى ادعى بعضهم أنهم أخلاط من الوطنيين اختلطوا مع الفرنجة في القرن الثاني عشر والثالث عشر فزعموا أن نصيري أصله من نصراني وهو اسم تصغير. وهذا رأي رنان وقد رده المسيو دوسو بالبرهان القاطع قائلاً أن الرأي الشائع اليوم في الأندية العلمية أن اسم النصيرية أتى من محمد بن نصير ويقول ستانيسلاس كويارد المؤلف المشهور أن الديانة النصيرية نشأت كالإسماعيلية في أواخر القرن التاسع على يد الإمام الحادي عشر من الشيعة حسن العسكري وكان مقيماً في سامراء بالقرب من بغداد. فالديانة النصيرية كان لها إذا أصل مشابه لديانة الإسماعيلية فدعا وجه الشبه بين الفرقتين إلى أن أخطأ أهل التأليف المسلمين بجزمهم أن الديانتين متحدتان جوهراً وعرضاً مع أن بينهما أحناً ومشاكسات. وقصارى القول فقد فصل المؤلف أحوال هذه الطائفة تفصيلاً شافياً مشفوعاً بأقوال العلماء من مسلمين وإفرنج فذكر فيه اسم مائة وخمسة عشر مؤلفاً ومصدراً ذكرت النصيرية فاستقى المؤلف من مواردها ثم أتبعه بفصل في مسكنهم وأصلهم ومنشأهم منذ العهد الروماني إلى أيامنا ثم أشبع الكلام على عاداتهم وأخلاقهم. هكذا علماء الغرب يبحثون في بلادنا فأين هم منا وأين علماؤنا من علمائهم فشكراً لفضلهم وبيض أياديهم. إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الرومي

عني بنسخه وتصحيحه الأستاذ د. س. مرجليوث طبع بمطبعة هندية بالموسكي بمصر سنة 1909 ص438 لناشر هذا الكتاب ومعلق حواشيه الأستاذ مرجليوث من علماء المشرقيات الإنكليز فضل على الآداب بإحياء هذا الكتاب النفيس بعد أن كاد يأتي عليه العفاءُ كما ثبت له الفضل بإحياء غيره من آثار العرب وقد توسع ياقوت الرومي صاحب معجم البلدان في ترجمة بعض من خدموا الأدب العربي إلى عهده وذكر من نكاتهم وأخبارهم ومنثورهم ونظامهم ما هو مرآة الحياة الاجتماعية والأدبية والعلمية في الأعصار الستة الأولى للإسلام واختصر في تراجم بعضهم على القدر الذي عرف منهم واشتهروا به بين الناس وفي هذا الجزء بقية من أول أسمائهم ألف إلى من أول أسمائهم جيم وعدد المترجمين فيه 161 ومنهم على شهرتهم وخدمتهم للآداب من لم نظفر لهم بترجمة فيما بين أيدينا من كتب الطبقات والتراجم مثل أحمد بن يوسف بن صبيح كاتب المأمون. وبطبع هذا الكتاب ونشره بين الناس تتم سلسلة مهمة من سلاسل التاريخ العربي وسيكون كله في ستة أجزاء نشر منهما الآن اثنان. وفق الله القائم بنشرهما وأعانه على خدمة الفروع التي أخذ نفسه بها لخدمة العلم والآداب. ديوان رستم طبع بالمطبعة الأدبية في بيروت ص400 أسعد أفندي رستم ممن ولعوا بنظم الشعر الفكاهي العصري وقد أفرد منظوماته في ديوان خاص فجآء مجموعة أدب وظرف وفكاهة. والظاهر أن الناظم توخى في منظوماته الألفاظ العامية ليحكم إيراد النكات والفكاهات ولئلا يستعصي فهمه حتى على الطبقة المنحطة من أبناء الأمة على حين أن في صميم اللغة العربية كما علم الناظم من الألفاظ الجزلة المستملحة ما فيه الغناء دون كبير عناء. رحلة إلى اليمن سنة 1861 نشرها بالإفرنسية الأب أنستاس ماري الكرملي

طبعت أولاً في مجلة الأنتروبوس (الإنسان) في النمسا هي رحلة رحلها الخواجة ميخا يوسف النجار البغدادي إلى اليمن ولقي فيها ما يلاقيه أرباب الرحلات في البلاد الشرقية عادة وهي لا تخلو من فوائد اجتماعية وغيرها في خصائص البلاد والشعوب. الحرية في الإسلام تأليف السيد محمد الخضر بن الحسين التونسي طبعت بالمطبعة التونسية بنهج سوق البلاط بتونس سنة 1327 ـ 1909 وعدد صفحاتها 64 ص هذا الموضوع من أجل الموضوعات المثقفة للعقول ذكر مؤلفه حقيقة الحرية والشورى والمساواة والحرية في الأموال وفي الأعراض وفي الدماء وفي الدين وفي خطاب الأمراء وأجاد في كيفية الاستخراج من الكتاب والسنة وتاريخ السلف والتطبيق على حالة العصر مما دل على عراقته في أحوال العصر وتمكنه من أحكام الشريعة وهو من المدرسين بجامع الزيتونة الأعظم له حظ وافر من الإنشاء والتاريخ. محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب باعتبار علاقتها بأوربا وخصوصاً بإيطاليا للسنيور جويدي طبعت في مجلة الجامعة المصرية أولاً ص109 هذه الرسالة في موضوع جليل يكاد يكون بكراً بالنسبة إلينا إلقاء الأستاذ الشيخ المؤلف على طلبة الجامعة المصرية بلغة العرب وهو إيطالي الجنس والمنشأ معدود من أهل الطبقة الأولى بين المستشرقين الأوربيين. وهذه الدروس هي أربعون درساً كلها جعبة فوائد نستدل منها على خدمة العرب لهذه الفنون الجميلة فنشكر له ولأصحاب مجلة الجامعة المصرية التي تنقل إلينا زبدة دروس العلماء في كلية هي أول مفخر من مفاخر مصر. بلاغة الغرب

نحن اليوم في دور مثل صفحة البحر يريد أن لا يترك فروقاً بين أجزاء الناس ولا مميزات في منازعهم وأن لا يدع سمواً في الشعوب ولا انخفاضاً. فهو معمل عظيم الأدوات منوع الآلات يعمل ليل نهار ليبرهن للأدوار الغابرة أنه هو أول ما تغلب بالفعل على إشاعة السوآء والإخاء والتعارف وإطراح التباين والتباعد والانقسام. فالبخار والكهرباء قد قضيا على استئثار القطر الواحد زرعه وضرعه وصنعه وأشركا أطراف الأرض كلها بالانتفاع مما يخرجه لبنيه كما خول بنيه التمتع بثمرات الطبيعة والناس في الأقطار الأخرى لسد حاجتهم. والطباعة والصحافة كالبخار والكهربآء تنقلان ثمار العقول ونتائج التفكير من أرض إلى أرض وتشيعانه من شعب إلى شعب كما بتوصل زمننا إلى مآربه من القضاء على التخالف. على هذه الطريقة تجري روح العصر في حضارتها ولكن كثيراً ما يكون أمام الباخرة فيما بين البحر والبحر برزخ وفي وجه القطار والقاطرة فيما بين البر والبرّ جبل ودون الطباعة والصحافة في نقل التفكير من دماغ إلى آخر عجمة فرأى القائمون بأمر هذا المعمل في القديم والحديث أن لا مندوحة لهم من حفر ترعة في البرزخ بين البحرين ونقب نفق في الجبل بين البرين وفتح منفذ الترجمة بين اللغتين. وأن الإنسان ليذهل لكثرة ما يراه من تفكيرهم وموازناتهم وحسابهم ومقايساتهم عند اختيار البرزخ ليحفروه ترعة والجبل لينقبوه نفقاً والمصنف أو القطعة لينقلوها من لغة إلى لغة وعدَّ أصحاب الألباب الاختيار دليلاً على اللبيب وميزاناً له. أمامي الآن كتاب (بلاغة الغرب) وهو مجموع ما اختاره محمد أفندي كامل حجاج المصري من منثور الإفرنسية ومنظومها ونقله على العربية مصدراً القطع بشيء من تاريخ حياة أصحابها وقد جاء فيه نموذج مما كتبه هيكو ولامارتين وألفرد دي موسي وأندري شينيه ودو فيني وكوبه وروستان ودوده وتيوفيل وغوتيه وكورنيل وراسين. وإني أشكر لمحمد أفندي كامل ولكل من يصرف وقتاً في نقل شيء من العلم والأدب إلى لغتنا وفتح منفذ بيننا وبين جاراتنا من الأمم ولكني أنتقد عليه تسميته الكتاب ببلاغة الغرب في حين أنه لم يرفع لنا فيه الستار إلا عن بعض أدباء الفرنسيس وأدبيات هؤلاء غير أدبيات الألمان والروس

والإنكليز. كما أني أعجب كثيراً من إغفاله بالزاك وفلوبر وزلا والأخوان غونكور وغيرهم من زعماء مذهب الحقيقيين (ريالزم) وصرفه صفحات الكتاب جزافاً للأدباء الخياليين (رومانتيست) مع أننا في زمان أحوج فيه إلى الهبوط من ثريا الخيال المزوق إلى ثرى الحقيقة المريرة وأن يتعلم القصصيون عندنا من زولا والشعراء من كوبه والمؤلفون من فلوبر كيف يصرفون الأشهر الطويلة والليالي الليلاء الباردة في أعماق المناجم وزوايا القصور وأطراف المعابد وأبواب الحانات ليقفوا على سرائر طبقات الهيئة الاجتماعية ويطلعوا الأمة على ويلاتها وأدوائها وجروحها كما هي لاسيما وهم يريدون أن تكون وهم خلف منضداتهم مرتاحون يتلاعبون بالعقول كما تشاء السياسة طوراً ويغشون القراء بما توحيه أهواؤهم تارة. وفي الكتاب غير اقتضاب تراجم المشاهير وإغفال البحث في مذاهبهم الأدبية تساهل لغوي في المفردات والتراكيب مثل استعمال مرسح والصحيح مسرح وصبحية والصواب صبيحة ومواضيع بدل موضوعات وإثباته اسم ألفرد موسي كما يستعمله الفرنج دوسوسيه وقوله مذهب المحققين وأحسن أن نقول مذهب الحقيقيين وقوله قبل قطعة الدرس الأخير لألفونس دوده وقد دعاني لكتابة هذا وكان الأولى أن يقول إلى تعريب هذا وقوله المؤلف الرئيسي وهذا تعبير لا نعرفه العرب وتأنيسه الرأس بقوله رأسه الصلعاء وقوله حارب ضد لويس بونابارت حيث كان يقال ناضل عنه وتكريره كلمة هذا في قوله يتلألأ في كبدها بنور (هذا) المولود الذي اختاره القادر ليقبض على صولجان (هذا) الملك الفخم فما كان (لهذا) الشعب الصارخ إلا أن صمت واستكان لظهور (هذا) المولود. والكتاب جيد الطبع يقع في مائتي صفحة. محب الدين الخطيب كتاب خصائص اللغة العربية في أصول العربية للإمام أبي الفتح عثمان بن جني. هذا الإمام ممن اشتهر بالإجادة بالتأليف وأشهر مؤلفاته هذا الكتاب وهو كتاب تعرض فيه لأصول العربية على نحو أصول الكلام والفقه أبان فيه ما أودعته هذه اللغة من خصائص الحكمة ونيطت به من علائم الإتقان والصنعة وقد قال في أثنائه: أن هذا الكتاب ليس مبنياً على حديث وجوب

الإعراب وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام وكيف بديءَ وإلى م نمي. وهو كتاب يتساهم ذوو النظر من المتكلمين والفقهاء والمتفلسفين والنحاة والكتاب والمتأدبين تأملاً له والبحث عن مستودعه فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده ويأنس به ليكون لهم سهم منه. وقد ألفه بعد أن أناف عمره على الستين كما أشار إليه عند قوله: ومن ظريف حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمن طويل رأيت رأياً جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر: وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر ولم أثبت حينئذ ضشرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني إلى الآن وقد مضي لي ستون أعاني الخاطر وأستمده وأعانيه وأتورده على أن يسمح لي بما كان رأيته من الجمع بين معنى الآية والبيت به وهو معتاص منأب وصنين به غير معط. والكتاب مشتمل على أبواب شتى يصعب إيرادها لكثرتها وهاك شيئاً مما اشتملت عليه بعض الأبواب مما له علاقة بأهل الآداب. ذكر في باب القول على إجماع أهل العربية حتى يكون حجة: اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده أن لا تخالف المنصوص والمقيس على المنصوص فإما أن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه ثم قال إلا أننا مع هذا الذي رأيناه وسوغنا مرتكبه لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر على أوائل وإعجازاً على كلاكل. . . إلا بعد أن يناهضه إتقاناً ويباينه عرفاناً ولا يخلو إلى سائح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره فإذا هو حذاها على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أضاء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معازبه ولا غاض من السلف رحمهم الله في شيء منه فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه وشيع خاطره وكان الصواب مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ما على الناس شيءٌ أضر من قولهم ما ترك الأول للآخر شيئاً وقال أبو عثمان وإذا قال العالم قولاً متقدماً فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج بخلافه إذا وجد إلى ذلك سبيلاً وقال الطائي الكبير: يقول من تطرق أسماعه ... كم ترك الأول للآخر

وقال في باب الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يونقك وتذهب في الاستحسان كل مذهب بك وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتداعيها وتلاحظ إحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها فأول ذلك عنايتها بلفظها فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا اكن مسجوعاً لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظ كان جديراً باستعماله ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به ولا أنفت لمستعمله وإذ لم يكن كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيءَ به من أجله. وقال لنا أبو علي يوماً قال لنا أبو بكر إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه (؟) وكذلك الشعر النفس أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعياً جلفاً أو عبداً عسيفاً تنبو صورته وتمج جملته فيقول ما يقول من الشعر فلأجل قوله وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مسمعه وما تصير قوله كلما يرجع إليه ويقاس به ألا ترى إلى قول العبد الأسود: إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق وقول نصيب: سودت ولم أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنايقه وقول لآخر: إني وإن كنت صغيراً سني ... وكان في العين نبو عني فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن حتى يزيل عني التظني فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا عزوبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتكوينه وتقديسه وإنما

المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى وعليه وجوازه بما يعطر نشره فلا يعتر جوهره كما قد عد من المعاني الفاخرة ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً بل لا نجده قصداً ولا مقارباً ألا ترى إلى قوله رحمه الله: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان ما هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسألت بأعناق المطي الأباطح وقد ترى إلى علو هذا اللفظ وما به وصقاله وتلامح أنحائه ومعناه مع هذا ما تحته وتراه إنما هو لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها قيل هذا الموضوع قد سبق إلى التعليق به من لم ينعم النظر فيه ولا رأى ما رآه القوم منه وإنما ذلك لجفاءِ طبع الناظر وخفاءِ غرض الناطق ثم أفاض في بيان معاني البيتين. وقال في باب إرادة العرب للأغراض التي نسبها إليهم حدثني المتنبي شاعرنا وما عرفته إلا صادقاً قال كنت عند منصرفي في مصر في جماعة من العرب وأحدهم يتحدث فذكر في كلامه فلاة واسعة فقال يحير فيها الطرف قال آخر منهم بلغته سراً من الجماعة بينه وبينه فيقول يحار يحار أفلا ترى إلى هداية بعضهم إلى بعض وتنبيهه إياه على الصواب.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع أدب السعادة كتب رئيس تحرير المجلة الباريزية مقالة في هذا الموضوع قال فيها أن السعادة مادة حياتنا وقائد لها وهي تتزيا بأشكال منوعة وإنا إذا رأينا ما يبذله أهل الأرواح الشريفة من الهمم يتراءى لنا أن رغبتهم في أن يعيشوا في شقاء ولكن إذا أمعنا في استقراء أعمالهم نراهم يرمون إلى نيل سعادة أرقى. الغاية العامة من العلم الأدب والغاية الخاصة تخليص الحقيقة من الحوادث والعواطف. المؤُ مدين بكل ما فيه للأجيال الغابرة وهذا دين عليه يجب عليه أداؤه لن يأتي بعده وعلى المرء فروض يجب عليه القيام بها نحو الأموات ونحو الأحياء وهذا واجب يتحتم عليه في أعماله وأفكاره فقد علمه الاختبار أن سعادته ليست إلا نتيجة سعادة مشتركة فهو مخلوق على مثال الأجيال السالفة وهو تابع للإنسانية التي تحيط به. إذا عاد المجتمع إلى عهد اللصوصية واختل نظامه فإن سعادة المرء الخاصة تضمحل في السعادة الاجتماعية وكل احتياط صحي يأتيه المرء يفيد المجموع كما أن صحته مناطة بما يقوم به المجموع من أساليب الصحة العامة والأمثلة كثيرة على أن التكافل مشترك والعلاقة مؤكدة بين مصالحنا الخاصة ومصالح المجموع فليس لامريءٍ حق أن يستمتع بالخيرات التي هي ثمرة عمل الآخرين دون أن يساعد بنفسه وعلى قدر طاقته على رفع منار السعادة وعلم الأمن والسلام. ليس الأدب أو الأخلاق إلا بعض فكرنا نستطيع أن نصوره أو نقلبه على الصورة المؤلفة منها عناصره. يقول بعضهم أن الأخلاق غريزية في المرء وليست كسبية ولو صح قولهم لكانت الأديان والتربية لغواً لا فائدة منها ولكان على الناس أن يغلقوا المعابد والمدارس أيضاً. نعم إن السعادة مناطة بشعورنا الأدبي والذكاء والسعادة يسيران معاً على خط متوازٍ يتجليان أنهما متشابهان وهما متخالفان جوهراً وعرضاً فالذكاء لا يؤثر في السعادة إلا بالواسطة وذلك بتجهيز حياتنا بسلاح ماض وبالتأثير في أخلاقنا وميولنا. قال أغوست كونت مؤسس الفلسفة الحسية أن كمالنا الأدبي يعيننا على سعادتنا الحقيقية مباشرة من دون أدنى ريب أكثر مما يعيدنا غيره. وقال الفيلسوف ديكارت صاحب الفلسفة الحديثة: كل من عاش عيشة لا يوبخه عليها وجدانه ولم يقصر في القيام بكل ما يراه

أحسن (من الفضائل) ينال عن سعيه جزاءً وفاقاً وتواتيه السعادة. قال الكاتب ومتى أدركت الإنسانية أن سعادتنا منا وأننا لسنا سعداء لأن لنا إرادة في السعادة تنهار حوالينا ألوف من الأوهام التي تعوقنا عن كمالنا الأدبي وتقف عثرة في سبيل سعادتنا. وما شقاؤنا إلا ثمرة إساءتنا فهم معنى الحياة فنضر غيرنا دون أن يخطر لنا ببال أن شقاءَ غيرنا ضار بنا فالحسد مثلاً مصدر النقائص الاجتماعية وهو ضار بنا أنفسنا. والخير والحب وهما منبع سعادة الغير ينفعان من يأتيهما قبل كل الناس. حياة العائلة المؤسسة على الحب والاحترام المتبادل تنفع أعضاءها وأي نفع. وأنا حيثما التفتنا نرى العبر قائلة بلسان حالها ومقالها بأنه من المتعذر أن نستمتع بسعادة شريفة دائمة دون أن يتمتع بها القريبون منها وكلما امتد ميدان حياتنا وشرفت مبادئها وخواتمها يزداد التكافل بالسعادة فقد قال أفلاطون أن السعادة علم فمن عمل الشر فهو ممن لا يعرف الخير وهكذا الحال في السعادة فإن الشقي هو الذي يجهل كيف يقدر أن يكون سعيداً. التسمم بالتدخين جرب الدكتور سرج جبرو وسكي تجارب كثيرة ليبين أن التدخين يحدث في جسم الإنسان آثاراً تسممية وذلك بأن حقن الحيوانات تحت الجلد وفي الدم بالنيكوتين وقد استعمل لذلك جهازاً تمكن بواسطته من أن يضع الأرانب ست أو ثماني ساعات في اليوم في مكان محكم السد يدخل إليه بمضخة دخان اللفافة (سيكارة) فكانت تظهر في غضون الأسبوع الأول على الحيوان آثار القلق ويزيد فيه إفراز الدمع والبصاق وبعد امتصاص الدخان كان يستولي على الحيوان الضعف والبلادة وتتثاقل مشيته وفي الأسابيع التالية تزول هذه الأمارات وتحل محلها قلة القابلية للطعام. وقد مات عند انتهاء الشهرين أرنبان ودل الفحص المجهري (الميكروسكوبي) لقلبهما على تلف الجسم من فعل الدخان على أن الاخرى قاومت خمسة أشهر وظهر فيها فساد الدم ونزل وزنها إلى النصف وبهذا أثبتت تجارب الطبيب الموما إليه أن الحيوانات تعتاد التدخين ولكن فساد نسج قلب الحيوان معادل لما يحصل في الإنسان. الاستحمام قال أحد الباحثين في مجلة الحياة البيتية ما تعريبه: يطالب التبرج والزينة أن تصرف

العناية في الطهارة خاصة وتكون متناسبة مع السن والمزاج والجنس على حين أن حفظ الصحة يتطلب أن تختلف هذه العناية باختلاف الأمكنة والأزمنة والحرارة. والحمام ألطف جميع ما تقتضيه الزينة من أنواع العناية وأكثرها بساطة وطبيعة فهو الذي يؤثر تأثيراً سريعاً في الصحة. فبالحمام رفاهية لا تنكر مزاياها وذلك لأن المسام إذا فتحت بالحمام تسرع حركة الدم وتعمل في الحال في الجلد بأن تنزع عنه القشور التي تغطي بشرة جسمنا. وتختلف تأثيرات الحمام بحسب درجة الحرارة أو البرودة في الجو كما تختلف الاحتياطات عند الخروج باختلاف المناخ وذلك لأن الحرارة تشد الجسم والبرودة على العكس تضيقه. الحمامات الباردة مقوية ويجب أن يغطس الجسم كله بسرعة وقد يحدث من الدخول في حمام بارد بعض الضرر وذلك عندما ينغمس المرء في الماء بالتدريج فتدفع البرودة بالحرارة نحو الأطراف فتصل إلى الدماغ مثلاً. ويقال بوجه عام أن الحمام البارد إذا نفع الأحداث وقوى بنيتهم فلا يليق بالشيوخ ولا بأرباب الصدور النحيفة لأن رد الفعل لا يتم فلا يتأتى أن تعود الحرارة إلا بصعوبة. إذا أريد الاستحمام بالماء البارد يجب على كل حال أن يكون الجسم مستريحاً والهضم تاماً كل التمام ورشح البدن لا يكون كثيراً من المشي. وإذا بلغت الحرارة درجة لطيفة يمكن أن يبقى فيها المرء نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة ولا يجب أن يتجاوز المستحم هذا القدر من الوقت. وعلى المستحم عندما يخرج من الحمام أن يحتاط بتنشيف بدنه ودلكه جسمه كله لينزع منه الرطوبة ويرفع عن الجلد الأجزاء الصغيرة التي تستخرج منه بفعل الماء. وإذا شعر بأنه برد ينبغي له في الحال أن يدلك جسمه بماء البيون أو ببعض الأرواح الأخرى وعليه لإعادة الرشح تماماً أن يمرن عضلاته تمريناً خفيفاً. ومن الحكمة أن يمتنع المستحم عن تناول الطعام حال خروجه من الحمام لأن الحرارة تنتقل من وسط الجسم إلى الأطراف فتترك الحواس الهاضمة خالية من جزء من القوة اللازمة للقيام بوظائفها. وإذا ناسبت الحمامات الباردة الدمويين أو السمان من الأشخاص فقد تضر المستعدين للهزال. وعلى الجملة فإنها قلما تنفع من عودوا الرخاء والجلوس. ومن الاحتياط أن لا

يستحموا كذلك إلا بإشارة الطبيب. الحمامات الحارة تزيد العرق وإذا قلّ تعيده كما كان وتلين الألياف. والواجب أن يستعمل الحمام بحسب الحالة الصحية وإذا أكثر منه يضعف الجسم ويتعب ويعد للنزلات. أما الحمامات الفاترة أو الحارة فلا يقتضي لها الاحتياط بقدر الاحتياط للحمامات الباردة والاحتياط فيها مطلوب عند الخروج منها ويحسن بعد الحمام السخن أن يقعد المرء في فراشه بعد أن يكون قد نشف جسمه بمناشف غير ندية وحارة وذلك لأن ما يحدث أمراضاً كثيرة هو التعرض لفعل الهواء الخارجي. ومن القواعد التي يجب مراعاتها أن يستريح المستحم قبل الحمام البارد وبعد الحمام السخن والواجب أن يعنى بدلك الجسم عند الخروج من الحمام حتى لا يتضرر الجلد ويتخلص من الذرات القشرية التي أبقاها الاستحمام على الجسم. وإذا لم يسع المرء أن ينام بعد الحمام فلا أقل من أن يمرن جسمه قليلاً فليشعر في الحال بتأثيرات هذا الاحتياط وينتفع الجسيم من ذلك أحسن نفع. تنفع الحمامات البخارية في البلاد التي يشتد بردها في إهاجة الرشح البطيء النادر وضروري في الأقاليم المعتدلة الاستحمام بالماء الفاتر لينزع من البشرة الذرات التي تنبعث من الجسم. وفي الأوقات الرطبة يحسن الدلك الناشف. ولما كان الرشح في البلاد الحارة يكاد يكون متواصلاً فمن الضروري أن تكون الحمامات على درجة أقل من درجة حرارة الجو ليحدث بذلك التوازن في الأخلاط ويسكن هيجانها العادي. وإذا لم يساعد الحال والمكان على استيفاء شروط الاستحمام فالواجب أن يستعاض عنه بغسل بعض البدن بماءٍ حار أو بارد بحسب الموسم وقد لا تستوفى من هذا الاغتسال الشروط الصحيحة الناشئة من الحمامات ولكنها تكفي في صيانة الجسم. والأشخاص الذين يتعبون أحياناً بما ينهال من الدم على رؤوسهم يجب عليهم أن يستحموا استحماماً تاماً ويغسلوا أرجلهم ويتأتى لهم الاستعاضة عن الأول والثاني بغسل أيديهم بالماء المغلي. وهذا الدواء على سهولته نافع في أمراض الأسنان لا للطاعنين في السن بل لصغار الأولاد. المحظورات

يحظر عليك أن تضع إصبعك أو طرف مظلتك في عين جارك. كما يحظر عليك أن تضع إصبعك في أنفك حتى ولو كان يحك. لا تنظف أمام الناس أنفك ولا أذنك ولا أسنانك ولا أظافرك. لا تدعس على رجل جارك ولا على ثوب جارتك. لا تجلس على طرف كرسيك ولا تهتز عليه. لا تعبث بهدب ثوبك ولا بأزرارك. إذا صافحت فلا تصافح بغصبع واحد بل بجماع راحتك مفتوحة. لا تدخل إلى قاعة الاستقبال ومعك مظلتك ولا معطفك ولا مشمعك. غلط الشعر تختلف ثخانة الشعر من واحد إلى عشرة من الميليمتر إلى أربعين. وقطر خيط الحرير كما تخرجه الدودة هو نحو خمسة مليم من الميليمتر ويمكن أن تحاط الكرة الأرضية بليبرة من خيط العنكبوت كما أن قمحة واحدة من المسك تعطر غرفة مدة عشرين سنة وفي جسمنا 2. 30. 4000 من المسام. أثقل تمثال أثقل تمثال من البرونز تجده في بطرسبرج وهو تمثال بطرس الأكبر ثقله زهاء ألف طن. الطول البشري تبين من التجارب التي صنعت لاختبار طول قامات الرجال والنساء أن من يولد في الربيع أو في الشتاء أكبر قامة ممن يولد في الفصلين الآخرين والبنات الطويلات القامة يلدن في آب أما البنون فأطولهم قامة من ولدوا في تموز وأصغرهم من ولدوا في تشرين الثاني. التفنن في التعليم ورد في قصة لديكنس أن إحدى المعلمات كانت تكرر على تلميذاتها كلمات برون بريسم بوتاتويس ليمددن شفاههن المنضمات بعضها على بعض ويبدو الظرف على أفواههن. وقد توسعت الآن إحدى العقائل فيهذه الطريقة وقامت تدعي أنها تستطيع أن تعيد القبيحة من النساء مليحة وأن تصير الملاح أعجوبة الأعاجيب فأسست لهذه الغاية في إنكلترا مدرسة

أخذ الطالبات ينهلن عليها انهيالاً وقد قسمتها صفوفاً فجعلت صفاً لتعليم البنات كيف يلقين نظراتهن الفتانة ويسحرن بها الألباب وصفاً لتعليم البنات تحريك أنوفهن تحريكاً جذاباً خلاباً وصفاً لتعليم الشفاه على الحركة ومتى أتم الفتيات التعليم في هذه الصفوف ينتقلن إلى صف أرقى حيث يعدن نظرة إجمالية على كل ما تعلمن فيأتين فاتنات ساحرات. النوم الضروري كلما أمكن ترك الأولاد ينامون كثيراً كلما كان أنفع لصحتهم. ويؤخذ من البحث الذي تم في بلاد السويد أن الأولاد الذين لا ينامون القدر الكافي من النوم تزيد أمراضهم جزئين من خمسة أجزاء. فمعدل ما ينبغي من النوم للطفل الذي يذهب إلى المدرسة اثنتا عشر ساعة لمن كان في الرابعة من سنه وإحدى عشرة لمن كان في السابعة وتسع ساعات لمن كان بين الرابعة عشرة إلى العشرين. أرجل الصينيات كنا نسمع بأن من جمال الفتاة الصينية أن تكون صغيرة الرجلين وأن القوم هناك يستعملون لتصغيرهما قوالب مخصوصة وقد ذكرت الصحف أن حكام ولايات كينغ سو وكينغ سي وكينغ هوي وناكان هوي من الولايات الصينية قد أصدروا بياناً يحظرون فيه على النساء أن يعصبن أرجلهن قائلين إن ذلك مما يمس حنان قلب الأم والفتيات يضعن الحياء إذا تكلفن الجمال ويصبحن ضعيفات غير قادرات على العمل ويحسبن فقيرات. وقد وعد أولئك الحكام بمكافآت للصينيات اللاتي يعدلن عن تصغير أرجلهن. أسماء الأقمشة سميت كثير من الأقمشة في بلاد الإفرنج بأسماء المدن التي حاكتها أول مرة فعندهم نوع من القماش اسمها دماس نسبة لدمشق حيث كان ينسج الحرير منقوشاً بنقوش بارزة. وعندهم قماش اسمه كاز نسبة لغزة في فلسطين وآخر اسمه أندرينوبل نسبة لأدرنة في الروم إيلي والموسلين وهو الشاش الرفيع صنع لأول مرة أيضاً فيمدينة الموصل فنسب إليها والكاليكو قماش صنع أول الأمر في مدينة كاليكوت من بلاد الهند فنسب إليها. انقضاء العالم

نشر أحد علماء الطبيعة مقالة في مدة بقاء الأرض أو انقضاء العالم ومتى صلحت الأرض لسكنى الحيوانات والنباتات فقال أن من الأسهل أبداً السؤال عن هذه الأسئلة ولكن الصعوبة في الإجابة عنها فقد كان النظام الشمسي في البدء عبارة عن كتلة عظيمة من الأبخرة المتأججة أو منطاداً ضخماً من الغاز حامياً يدور بحركة فوق نفسه. فجمد البرد في الفضاء الغيوم الأصلية وانفصلت السيارات من الأجرام الموجودة في الوسط وأخذت السيارات تبرد على الولاء بقدر أجرامها فيبرد الأصغر ثم الأكبر. وقد طال أمد كل سيارة ونمت على توالي الأزمان فجمدت الأرض وتماسك سطحها السائل وعلى هذه الصورة نشأت القشرة الأرضية. ويهمنا هنا أن نعرف عمر الأرض أو عدد السنيني التي مضت على تكونها والأعوام التي تفصل العصر الحالي من العصر الذي ظهرت فيه على سطحها الأحياء الأولى ولا سبيل إلى ذلك إلا على وجه التقريب. وإذ كان عمر الأرض مرتبطاً بعمر الشمس كان من الواجب أن نعلم أولاً الحدود التي يجب أن نحصر فيها وجود الشمس فقد حسب علماء الهندسة كمية الحرارة التي ادخرها تقلص السديم الأول في السيارة الوسطى وحققوا قوة الحرارة الحالية وما يفقد منها كل سنة واستنتجوا من ذلك مقدار الزمن الذي وجدت الشمس فيه. وبحسب ما حسبوا تبين أن الشمس موجودة منذ خمسة وعشرين مليون سنة على الأقل أو منذ أربعين مليون سنة على الأكثر. ورأى الطبيعي نوكمب بحسب النور الحاضر أن الكوكب يصغر إلى نحو النصف من قطره في خمسة ملايين من السنين على أكثر التقدير وأنه بعد عشرة ملايين سنة يكاد يكون له قشرة فيحتمل إذ ذاك أن تصلح الأرض للأحياء على الوجه الذي نعرفها به. وإذا كان جرم كرتنا الأرضية أصغر من جرم الشمس بـ3500. 000 مرة فظاهر أن الأرض بردت قبل غيرها وثبت لعالم آخر اسمه ويليام طومسون بالتحليل الرياضي أن الأرض جمد سطحها منذ عشرة ملايين من السنين أو منذ خمسة عشر مليوناً على التقدير الأكثر فيرد تاريخ أصل الأحياء على الأرض إلى اثني عشر مليون سنة. وبالجملة فإن لنا أن نستنتج من هذا أن الأرض موجودة منذ خمسة وعشرين مليون سنة على الأقل وأن الأحياء الأولى التي عاشت على سطحها قد ظهرت منذ اثني عشر مليون

سنة والغالب أن الكائنات الحية الحاضرة تنقضي أيامها بعد عشرة أو اثني عشر مليوناً من السنين وعلى هذا فآخر أيام الدنيا بعيدة وبحسب ما تقدم تكون الأرض الآن قد قضت نصف حياتها فمضى اثنا عشر مليوناً من السنين وبقي ما يقرب منها بعد وبذلك نطمئن على مستقل الجنس البشري. جمال النساء معيار الجمال في الأمم أذواقها ومصطلحاتها فمن الجمال في أوربا أتكون أسنان النساء بيضاء وفي اليابان يؤثرون من اصفرت أسنانهن وفي الهند يصبغنها بالحمرة وفي بوكارات بالسواد والنساء في غروانلاندا يدهن وجوههن بمادة زرقاء صفراء والتاتاريات مهما بلغن من الجمال الطبيعي يرين أنفسهن بشعات إن لم يبيضن وجوههن على مرأى من الناس على حين ترى الأوربيات إذا وضعن الحمرة على وجوههن يخفين أمره ولا يكدن يظهرنه. وفي فرنسا يفضل من النساء الممشوقات القدود وفي البلاد العثمانية يؤثرون السمينات المكتنزات كما يفضلون من استدار وجهها. أما الفرنسيس فيفضلون الوجوه المستطيلة المتناسبة. ويفضل اليونان من النساء من صغرت جبهاتهن أما الفرنسيس فيطلبون أن تكون جبهات النساء عالية مكشوفة. الناس في أوربا يفضلون الشعر الأسود أو الأشقر أو الأسفع ولكن سكان جزائر ماريانا يفضلون من ابيض شعرها من ربات الجمال. وعلى هذا فلا ييسر لامرأة أن تتفق الأمم على جمالها لأن ما يراه قوم حسنة قد يراه غيرهم سيئة فسبحان مقسم العقول والأرزاق. الآثار العربية أهدى المسيو كورد مانش لمكتبة الأمة في باريز مجموعة مؤلفة من 158 متاباً من المخطوطات العربية والفارسية والتركية وكان أهدى مثلها من المخطوطات والمسكوكات العربية إلى تلك المكتبة نفسها فكتبت مجلة العالم الإسلامي مقالة في هذه المناسبة قالت فيها أن هذه المخطوطات لا تروق المشتغلين بالعربية من المستشرقين ممن يرون أن المصنفات التاريخية الشائعة هي وحدها تحتوي على بعض الفوائد مدفوعين إلى ذلك بعامل فهمهم لها من دون سائر ما خطته أيدي مؤلفي العرب وزاعمين أن ما بقي من الأدبيات الإسلامية عبارة عن أحاديث ملفقة وهذيان ليست حرية بنظر رجل تمكن من الطريقة القويمة في

المعارف وإن مثل هذه الكتب لا يقبل عليها ويصرف أوقاته فيها إلا من تبلد ذهنه أو اختل شعوره فإذا كان التاريخ الإسلامي هو م الفروع المهمة جداً في الآداب الشرقية فإن سائر فروع العلوم كالفقه والنحو (وأكثر مجموعة المسيو كوردمانش منها) ربما لا تقل عنها شأناً لأنها ليست وحدها التي تصور حالة العقل في الرجال الذين أتوا قبل ثلاثة عشر قرناً من الهجرة النبوية وكيف كانوا يفكرون ويذهبون في مذاهب الأمور الذهنية والروحية. لا جرم أن المشاغل السياسية منذ بضع سنين ولاسيما منذ قتال موكدن قد قلبت الأفكار الإسلامية ظهراً لبطن وأخذ رجال الإسلام يزينون لأبناء دينهم الرجوع إلى الدروس التي انغمس فيها أجدادهم بحيث كادوا يغرقون وتعزوا عن الخيبة التي نالتهم بما قرأوا فيها من الأفكار على أن النظر الصحيح يقضي بأن المهندسين الذين مدوا في بادية بلاد العرب خطوط السكة الحديدية من دمشق إلى المدينة قد أتوا بعمل أنفع مما أتى الزمخشري وجميع شراح الكافية لابن الحاجب. إلا أن الأفكار الحديثة توشك أن تؤدي بالإسلام إلى طرق مخالفة للطرق التي سار عليها إلى أوائل القرن الرابع عشر من الهجرة ويمكن أن يكون المجتمع الإسلامي بعد مائة وخمسين سنة وأعني به الجيل المفكر المهذب من المسلمين مخالفاً للمجتمع الذي عاش على عهد عبد الحميد خان الغازي وناصر الدين شاه قاجار كما نختلف نحن معاشر الفرنسيس اليوم عن أجدادنا زمن لويس الخامس عشر وربما كان اختلاف المسلمين أكثر. كان المسلمون الذين عاشوا في بلاد ما وراء النهر إلى أواخر القرون الوسطى على عهد أخلاف تيمورلنك قد ورثوا التمدن اليوناني وبلغوا بالعلوم إلى درجة عجيبة من الكمال ثم لم يلبثوا أن ضعف أمرهم وتخلوا عن هذا التراث العلمي وانصرفوا جملة إلى الفقه والنحو فكان ذلك مبدأ سقوط الأمم الإسلامية. ومهما كانت الطرق التي سيجري عليها أهل الإسلام في ظل العلم والدستور اليوم فإنهم ولا جرم يخالفون المسلمين الذين عاشوا في ظل الاستبداد كل المخالفة ولا يتأتى الآن الوقوف على فكر العالم الإسلامي قبل مضي زمن وتصفح الكتب التي يستخدمونها في تعليم ناشئتهم وطريقة الرجال الذين عاشوا على عهد الخلافة الدينية أو خلافه السلاطين الذين حلوا محل خلفاء بغداد وهكذا فإن هذه الكتب التي تشهد بفضل مؤلفيها وبعنايتهم الفائقة التي بذلوها في

وضعها وهي تساوي بأسلوبها وتعليمها أقل مما تساوي بدلالتها على الحركة العقلية في مدنية كانت الحاكمة المتحكمة على العالم زمناً ونعني بها مدنية الإسلام. ومكانة هذه الكتب لا تسقط أبد الدهر حتى ولو أدى الارتقاء العلمي الإسلامي إلى طرحها والاستعاضة عنها بمصنفات تؤلف على غير نسقها وعلى أسلوب يغاير أسلوبها ولا سيما متى انصرفت النفوس عن دراسة علوم اللسان والفقه إلى علوم يكون نفعها عملياً ظاهراً. لا جرم أن علوم المسلمين ودرسها تشبه ما كان لنا منها في عهد الحكومات البائدة وأن من عانوها وأتقنوها إذا تعلموا جميع دقائق النحو العربي وتبحروا في فقه السنة والشيعة لا يتأتى لهم بذلك أن يقفوا على مطالب الحياة الاجتماعية والعالم الخارجي. وبعد فإن كتب النحو العربي التي هي مصنفات تامة في بابها يجب الرجوع إليها إذا أريد التعمق في هذه العلوم وفهم فكر العربي وهي تشبه كتبنا التي كانت مستعملة في المدارس قبل إصلاح بور رويال. وربما زهد المسلمون في الاعتماد على الطريقة القديمة والكتب القديمة في هذه الفنون لأن بعضهم يرى أن الألفية والأجرومية قبلاً تستدعي انتباه ذهن الطلبة وذاكرة فائقة لاختيار طريقة تشبه طريقة الكتب التي نعول عليها في دراسة اللاتينية وغيرها من اللغات وربما لا يمضي وقت طويل إلا وتتحسن طريقة دراسة الآداب العربية كما تحسنت عندنا في الغرب. على أنه لا يبعد أن تقل الرغبة في هذه الدروس اللسانية كان درس الفقهية التي كانت الدروس المعول عليها فقط في العهد الماضي ولاسيما في البلاد العثمانية والفارسية ويعتبر القوم علوم الدين واللغة التي كانت موضوع اهتمام المتفقهة والمتصوفة من علوم الرجعة لأن القائمين عليها أناس كانوا في الجملة مراعاة لمصالحهم أصدق أنصار عروش السلاطين الذين يدعون الخلافة عن الله في الأرض. وكيفما كان الحال فإنه لا يتأتى الوقوف على الفكر الإسلامي في كتب ألفت على النسق الأوربي وسارت في أسلوبها على نسق الخطط الغربية كما أنك لا تسقط على الفكر الياباني قديماً من مراجعة الترجمات الإنكليزية والفرنسوية التي تعين رعايا ميكادو واليابان من اجتياز أبواب المدراس الحربية في مملكة الشمس المشرقة. ولا يتيسر درس الحضارة الإسلامية القديمة بغير الرجوع إلى هذه الكتب في الفقه معاملاته وعباداته والنحو ومتعلقاته. تلك الكتبالتي يهملها علماء المشرقيات لأنها على غير أسلوبهم

ولأنها من بقايا القرون الوسطى على حين أن نشوء الدروس الذي وقع في الغرب منذ عهد النهضة قد صير الكتب المكتوبة باللاتينية بأقلام أساتذة علم الكلام معقدة غير مفهومة إن لم يصرف فيها المرء وقتاً طويلاً. وفي المجموعة التي أهداها المستشرق المشار إليه عدة كتب مشهورة منها قطع من القرآن ربما كانت بخط ياقوت المستعمي الخطاط الشهير وقطعة من كشاف الزمخشري وقطعة من تفسير القرآن للبيضاوي من أوائل القرن الرابع عشر وقطعة من الحديث من القرن الثالث عشر ونسخة قديمة جداً من مقامات الحريري وكتاب في القرآات فارسي وشرح كافية ابن الجاحب بالفارسي. وقد ظفروا بهذه المجموعة في سمرقند وهي تمثل صورة من صور علم الفقه والكلام عند السارتيين والتاجكيين في بخارى وسمرقند وكشغر وبعبارة أخرى صورة من صور علوم المسلمين في التركستان الرمسي والتركستان الصيني وبها يتمثل الناظر حالة المعارف عند كل من كانوا يعيشون في تلك الأنحاء من المسلمين لأن جزءاً كبيراً من الكتب التيتألف منها هذه المجموعة قد نسخت هناك. وليس في هذه المجموعة إلا كتب خاصة بطائفة مهذبة من طوائف المسلمين إلى حد معلوم والنسخ الحديثة من كتب الفقه والنحو تدل على أن معرفة اللغة العربية التيهي أساس الدروس الإسلامية هي في أقصى دركات الانحطاط في تركستان على أن هذا الانحطاط يرد إلى أبعد من ذاك العهد لأنه وجد في عهد التيموريين في الكتب والمكتوبات على الأحجار من الأغلاط الفادحة ما يستدل منه أن معرفة اللغة العربية هو أحط من ذاك العهد مما هي عليه اليوم في فارس حيث أصبح طلاب الفقه دع عنك المجتهدين ولاسيما في النجف وكربلاء أساتذة في أسرار علوم الصرف والنحو. وهذه النسخ بالإجمال استنسخها أناس لم يعنوا بها حق العناية وليس لهم فيها ذوق حتى إن بعضها لم يكتبوا عليه اسمه واسم مصنفه لجهلهم في الغالب. وهذا الجهل وهذا الإهمال يكفيان لبيان السقوط المريع الذي أصيب به ذاك الذي يسكن تلك الأقطار التي كانت فيما غبر مهد العلوم والآداب.

المقيم المقعد

المقيم المقعد للشيخ الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي البغدادي عليه الرحمة هو كتاب جليل نادر الوجود توجد منه نسخة عند بعض طلبة العلم في بغداد. أوله لما كانت العربية تنقسم قسمين أحدهماالظاهر الذي لا يخفى على سامعيه ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني المشتمل على الكنايات والإشارات والتجوز. وكان هذا القسم هو المستحلى عند العرب نزل القرآن بالقسمين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله. فكأنه قول عارضوه بأي القسمين شئتم ولو نزل كله واضحاً لقالوا هلا نزل بالقسم المستحلى عندنا. ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية أو استعارة أو تعريض أو تشبيه كان أحلى وأحسن. قال امرؤ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل فشبه النظر بالسهم فحلا هذا عند السامع. وقال أيضاً: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازاً ونآء بكلكل فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه. واستشهد أيضاً بشعر آخرين من شعراء الجاهلية وأطال في الكلام وأطنب. ثم عقد فصولاً في مطالب شتى. منها فصل في بيان عادة العرب في تكرير الكلام واستشهد على ذلك بمنشور ومنظوم من كلام فصائحهم وخطبائهم. ثم قال فصل وقد تأتي العرب بكلمة إلأى جانب كلمة كأنها معها وهي غير متصلة بها وفي القرآن (يريد أن يخرجكم من أرضكم) هذا قول الملاء فقال فرعون (فماذا تأمرون) وأورد شواهد أخر من القرآن ومن كلام الفصحاء وأطنب في الكلام. ثم قال فصل وقد تجمع العرب شيئين في كلام فترد كل واحد منهما إلى ما يليق به وفي القرآن (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) فيقول الرسول (إلا أن نصر اللع قريب). وهو فصل طويل. ثم قال فصل وقد يحتاج بعض الكلام إلى بيان فيبينونه متصلاً بالكلام ومنفصلاً وجآء القرأن على ذلك فمن المتصل (يسألونك ماذا أحلَّ لهم قل أحل لكم الطيبات). وأما المنفصل

الخ وذكر له عدة شواهد من القرآن وغيره. ثم قال فصل وقد تذكر العرب جواب الكلام مقارناً له وقد تذكره بعيداً عنه وعلى هذا ورد القرآن فإن المقارن من الجواب كقوله تعالى (ويسألونك ماذا يفقون قل العفو) وأما البعيد فتارة يكون في السورة كقوله تعالى (ما لهذا الرسول الآية جوابه بعده باثنتي عشرة آية وهو قوله تعالى (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) الآية. ثم قال فصل في ذكر أقسام الخطاب في القرآن. الخطاب في القرآن على خمسة عشر وجهاً خطاب عام الله الذي خلقكم. وخطاب خاص (أكفرتم). وخطاب الجنس (يا أيها الناس). وخطاب النوع (يا بني آدم). وخطاب العين (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة). وخطاب المدح (يا أيها الذين آمنوا). وخطاب الذم (يا أيها الذين كفروا). وخطاب الكرامة (يا أيها النبي) وخطاب الإهانة (فإنك رجيم). وخطاب الجمع بلفظ الواحد (يا أيها الإنسان ما غرك بربك). وخطاب الواحد بلفظ الجمع (وإن عاقبتم فعاقبوا). وخطاب الواح دبلفظ الاثنين (ألقيا في جهنم). وخطاب الاثنين بلفظ الواحد (فمن ربكما يا موسى). وخطاب العين والمراد به الغير (فإن كنت في شك). وخطاب التلون وهوعلى ثلاثة أوجه أحدها أن يخاطب ثم يخبر (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم. وما أتيتم من زكوة يريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون). والثاني أن يخبر ثم يخاطب (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم. وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء) والثالث أن يخاطب عيناً ثم يصرف الخطاب إلى الغير. (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله) على قرآءة. ثم قال فصل في ذكر أمثال القرآن وذكر اثنين وأربعين مثلاً منها وبين ما اشتملت عليه من البلاغة والفصاحة والحكم بما لا يزيد عليه. ثم قال فصل في الحروف الزوائد والنواقص وذكر هنا مسائل لغوية مفيدة تمس إليها حاجة اللغوي وطلاب علم العربية. ثم قال فصل في المقدم والمؤخر وذكر ما يجب تقديمه في الكلام وما يجب تأخيره في النظم والنظر وهو بحث لم تطفو به يد غيره من المحققين. ثم قال فصل واعلم أن لغة العرب واسعة ولهم التصرف الكثير فتراهم يتصرفون في

اللفظة الواحدة بالحركات فيجعلون لكل حركة معنى كالحَمل والحِمل والرَوح والرُوح وتارة بالأعجام كالنصح والنضح والقبضة والقبصة والمضمضة والمصمصة وتارة يقلبون حرفاً من كلمة لا يتغير عندهم معناها كقولهم صاعقة وصاقعة وجذب وجبذ وما أيبه وأيطبه وربض ورضب وانبض في القوس وانضب. ولعمري ورعملي. واضمحل وامضحل. وعميق ومعيق. وسبسب وبسبس. ولبكت الشيء وبلكته. وأسير مكبل ومكلب. وسحاب مكفهر ومكرهف. وناقة ضمزر وضمرز إذا كانت مسنة. وطريق طامس وطاسم. وقفا الأثر وقاف الأثر. وقاع البعير الناقة وقعاها. وقوس عطل وأعلط لا وتر عليها. وجارية قتين وقنيت قليلة الززأ (كذا). وشرخ الشباب وشخره أوله. ولحم خنز وخزن. وعاث يعيث وعثى يعثي إذا أفسد. وتنح عن لقم الطريق ولمق الطريق. وبطيخ وطبيخ. وماء سلسال ولسلاس وسلسل ومسلسل وملسلس إذا كان صافياً. ودقم فاه بالحجر ودمقه. وفثأت القدر وثفأتها إذا سكن غليانها. وكبكبت الشيء وبكبكته إذا طرحت بعضه على بعض. ثم قال فصل ومن سعة اللغة وحسن تصرفها أن العرب تضع للشيء الواحد أسمآء من غير تغير يعتريه فيقولون السيف والمهند والصارم ويغيرون الاسم بتغيير يعتري فيقولون بمن نزل في الركي فملأ الدلو مآئح للمستسقي من أعلاها ماتح فالتاء المعجمة من فوق لمن فوق والياء المعجمة من تحت لمن تحت وتضع العرب للشيء الواحد أسما تختلف باختلاف محاله فيقولون لمن انحسر الشعر عن جانبي جبهته أنزع فإذا زد قليلاً قالوا أجلح فإذا بلغ الانحسار نصف رأسه قالوا له أجلى وأجله فإذا زاد قالوا أصلع فإذا ذهب الشعر كله قالوا أحص والصلع عندهم ذهاب الشعر والقرع ذهاب البشرة ويقولون شفة الرجل ويسمونها من ذوات الخف المشفر. ومن ذوات الظلف المقمة ومن ذوات الحافر الحجفلة ومن السباع الخطم. ومن ذوات الجناح غير الصائد المنقار ومن الصائد المنسر ومن الخنزير الفنطيسة. ويقولون صدر الإنسان ويسمونه من البعير الكركرة ومن الأسد الزور ومن الشاة القص ومن الطائر الجؤجؤ ومن الجرادة الجوشن وللمرأة الثدي وللرجل ثندوة وهو من ذوات الخف الخلف ومن ذوات الظلف الضرع ومن ذوات الحافر والسباع الطبي وللإنسان الظفر ومن ذوات الخف المنسم ومن ذوات الظلف الظلف ومن ذوات الحافر الحافر ومن السباع والصائد من الطير المخلب ومن الطائر غير الصائد والكلاب ونحوها البرثن ويجوز

البرثن في السباع كلها والمعدة للإنسان بمنزلة الكرش للدابة والحوصلة للطائر. ثم قال فصل المراهق من الغلمان بمنزلة المعصر من الجواري والكاعب منهن بمنزلة الحزور منهم والكهل من الرجال بمنزلة النصف من النساء. والقارح من الخيل بمنزلة البازل من الإبل. والعجل من البقر والشادن من الظباء كالناهض من الفراخ. والبكر من الإبل بمنزلة الفتي من النساء. والقلوص بمنزلة الجارية. والجمل بمنزلة الرجل. والناقة بمنزلة المرأة والبعير بمنزلة الإنسان. والغرز للجمل كالركاب للفرس. والغدة للبعير كالطاعون للإنسان. والهالة للقمر كالدارة للشمس. والبصيرة في القلب كالبصر في العين. ثم قال فصل وتفرق العرب في الشهوات فيقولون جائع إلى الخبز قرم إلى اللحم عطشان إلى الماء عيمان إلى اللبن قرد إلى التمر خصم إلى الفاكهة شبق إلى النكاح ويفرقون في أسماء الأولاد ليقولون لولد كل سبع جرو ولولد كل ذي ريش فرخ ولولد كل وحشية طفل ولولد الفرس مهر وفلو ولولد الحمار جحش وعلو ولولد البقرة عجل ولولد الأسد شبل ولولد الظبية خشف ولولد الفيل دغفل ولولد الناقة حوار ولولد الثعلب الجرس ولولد الضب حسل ولولد الأرنب خرنق ولولد النعام رال ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوس ولولد اليربوع والفأرة درص ولولد الحية حربش ويقولون البيض للطاشر والمكن للضباب والمازن للنمل والسر للجراد والصواب للقمل ويفرقون في المنازل فيقولون بيت من مدر وبجلد من وبر وخباء من صوف وفسطاط من شعر وخيمة من غزل وقشع من جلود. ويفرقون في الأوطان فيقولون وطن الإنسان وعطن البعير وعرين الأسد ووجار الأسد والضبع وكناس الوحش وعش الطائر وقرية النمل وكور الزنابير ونافقاء اليربوع ويقولون لما يصنعه الطائر على الشجر وكرفان كان على جبل أو جدار فهو وكن فإذا كان في كن فهو عش فإن كان على وجه الأرض فهوأ فحوص والأوحى للنعام خاصة ويقولون عدا الإنسان وأحضر الفرس وأرقسل البعير وعسل الذئب ومزع الظبي وخف النعام ويقولون طفر الإنسان وصبر الفرس ووثب البعير ونفر العصفور وطمر البرغوث ويفرقون في الضرب فيقولون للضرب بالراح على مقدم الرأس صقع وعلى القفا صفع وعلى الوجه صك وعلى الخد ببسط الكف لطم وبقبضها لكم وبكلتا اليدين لدم وعلى الذقن والحنك وهر وعلى الجنب وخزز وعلى الصدر والبطن بالكف وكز وبالركبة زبن وبالرجل ركل وعلى

كل ضارب بمؤخره من الحشرات كالعقارب يسلع وكل ضارب منها بفمه يلدغ ويفرقون في الجماعات فيقولون كوكبة من الفرسان وكبكبة من الرجال وجوقة من الظباء وعرجلة من السباع وعصابة من الخيل وصرمة من الإبل وقطيع من الغنم وسرب من الظباء وعرجلة من السباع وعصابة من الطير ورجل ممن الجراد وخرشم من النحل ويفرقون في الامتلاء فيقولون بحر طام ونهر طافح وعين ثرة وإناء مفعم ومجلس غاص بأهله ويفرقون في اسم الشيء اللين فيقولون ثوب لين ورمح لدن ولحم رخص وريح رخاء وفراش وثير وأرض رشة ويفرقون في تغير الطعام وغيره فيقولون أروح اللحم وأسن الماء وخنز الطعام وسنخ السمن وزنخ الدهن وقتم الجوز ودخن الشراب وصدأ الحديد ونغل الأديم ويقولون يدي من اللحم غمرة ومن الشحم زهمة. ومن البيض زهكة. ومن الحديد سهكة. ومن السمك زنخة. ومن الخل خمطة. ومن العسل لزقة. ومن الفاكهة لزجة. ومن الزعفران ردغة. ومن العجين ورخة. ومن الطيب عبقة. ومن الدم ضرجة. وسلطة وسطلة. ومن الوحل لثقة. ومن الماء بللة. ومن الحمأة زفطة. ومن البرد صردة. ومن الأشنان قضضة. ومن المداد وحدة. ومن دهن البزر والنفط نمسة ونسمة. ومن البول قتمة. ومن العذرة طفسة. ومن الوسخ وزنة. ومن العمل محلة. ويفرقون في الوسخ فإذا كان في العين قالوا أرمص فإذا أجف فهو عمش. فإذا كان في الأسنان فهو حفر. فإذا كان في الأذن فهو أف. فإذا كان في الأظافر فهو تف. فإذا كان في الرأس فهو حزار. وهو في باقي البدن درن. ويفرقون في الكشف عن الشيء من البدن فيقولون حسر عن رأسه وسفر عن وجهه وافتر عن نابه. وكشر عن أسنانه. وأبدى عن ذراعيه. وكشف عن ساقه وهتلك عن عورته. ويفرقون في الرياح فإذا وقعت الريح بين ريحين فهي نكباء. فإذا وقعت بين الجنوب والصبا فهي الجريباء. فإذا أهبت من جهات مختلفة فهي المناوحة. فإذا جاءت بنفش ضعيف فهي النسيم. فإذا كانت شديدة فهي العاصف. فإذا قويت حتى قلعت الخيام فهي الهجوم. فإذا حركت الأشجار تحريكاً شديداً وقلعتها فهي الزعزع. فإذا جاءَت بالهباء فهي الحاصب. فإذا هبت من الأرض كالعمود نحو السماء فهي الإعصار. فإذا جاءت بالغبرة فهي الهبوة. وإذا كانت باردة فهي الجرجف والصرصر. فإذا كانت معبردها ندى فهو البليل

فإذا كانت حارة فهي السموم. فإذا لم تلقح ولم تحمل مطراً فهي العقيم. ويفرقون في المطر فأوله رش ثم طش ثم طل ورذاذ ثم نضح ثم نضخ ثم هطل ثم تهتان ثم وابل وجود فإذا أحيا الأرض بعد موتها فهو الحيا. فإذا جاء عقب المحل أو عند الحاجة إليه فهو الغيث. فإذا كان صغار القطر فهو القطقط. فإذا دام مع سكون فهي الديمة. فإذا كان عاماً فهو الجداء. فإذا روى كل شيء فهو الجود. فإذا كان كثير القطر فهو الهطل والتهتان. فإذا كان ضخم القطر شديد الوقع فهو الوابل. ويقولون هجهجت السبع وشايعت الإبل ونعقت بالغنم وساسأت بالحمار وهاهأت بالإبل إذا دعوتها للعلف وجأجأت بها إذا دعوتها للشرب وأشليت الكلب دعوته أسدته أرسلته. ويفرقون في الأصوات فيقولون رغا البعير وجرجر وهدر قبقب وأطت الناقة وصهل الفرس وحمحم ونهم الفيل وشهق الحمار وسحل وسحج البغل وجأرت البقرة وخارت وثاجت النعجة. وثغت الشاة ويعرت. ونعم الظبي ونزب. ووعوع الذئب. وضج الثعلب وصنغب الأرنب. وعوى الكلب ونبح ومأت السنور وصأت الفأرة. وفحت الأفعى. ونعق الغراب ونغب. وزق الديك وصعق. وصفغ النسر. وهدر الحمام وهدل. وغلرد المكاء وقبع الخنزير ونقت العقرب. وانقضت الضفادع ونقت أيضاً وعزفت الجن. ثم قال فصل وللعرب خاص وعام فالبغض عام والفرك خاص. النظر إلى الأشياء عام والشيم للبرق خاص. الصراخ عام والواعية على الميت خاص الذنب للحيوان البهيم عام والذنابي للفرس خاص السير عام والسرى لليل خاص الهرب عام والأباق للعبيد خاص الرائحة عام والقتار للشواء خاص. ثم قال فصل ومن جماة المسلم للعرب أنهم لا يقولون مائدة إلا إذا كان عليها الطعام وإلا فهي خوان ولا للعظم عرق إلا ما دام عليه لحم ولا كأس إلا إذا كان فيها شراب وإلا فهي زجاجة ولا كوز إلا إذا كانت له عروة وإلا فهي كوب ولا رضاب إلا إذا كان في الفم وإلا فهو بصاق ولا أريكة إلا لسرير عليه قبة فإذا لم يكن عليه قبة فهو سرير ولا ريطة إلا إذا كانت لفقين وإلا فهي ملاءة ولا خدر إلا إذا كانت فيه امرأة وإلا فهو ستر. ولا للمرأة ظعينة إلا إذا كانت في الهودج ولا قلم إلا إذا كان مبرياً وإلا فهو أنبوبة ولا عهن إلا إذا كان مصبوغاً وإلا فهو صوف ولا وقود إلا إذا اتقدت فيه النار وإلا فهو حطب ولا ركية

إلا إذا كان فيها ماء وإلا فهي بئر ولا للإبل راوية إلا ما دام عليها الماء ولا للدلو سجل إلا ما دام فيها ماء ولا ذنوب إلا ما دامت ملأى ولا نفق إلا إذا كان له منفذ وإلا فهو سرب ولا للسرير نعش إلا ما دام عليه الميت ولا للخاتم خاتم إلا إذا كان عليه قص ولا رمح إلا إذا كان عليه زج وسنان وإلافهو قناة ولا لطيمة إلا للإبل التي تحمل الطيب والبز خاصة ولا حمولة إلا للتي تحمل الأمتعة خاصة ولا بدنة إلا للتي تجعل للنحر ولا ركب إلا لركبان الإبل ولا هضبة إلا إذا كانت عيداناً مجموعة وإذا كان نقب في جبل أو حائط فهو وكن ووكر. ثم قال فصل وتقول العرب في الأمر وهن وفي الثوب وهي وفي الحساب غلت وفي غيره غلط وفي الطعام بشم وفي الماء ثغر وحلا الشيء في فمي وحلي في عيني الخ. وهكذا جميع فصول الكتاب كلها غرر بل قلائد درر وهو نحو أربعمائة صفحة والصفحة على ربع الورق تغمد الله تعالى مؤلفه برحمته ورضوانه. بغداد محمود شكري الألومي

بعد البين

بعد البين لقد طوحتني في البلاد مضاعا ... طوائح جاءت بالخطوب تباعا فبارحت أرضاً ما ملأت حقائبي ... سوى حبها عند البراح متاعا عتبت عليّ بغداد عتب مودع ... أمضته فيها الحادثات قراعا أضاعتني الأيام فيها ولو درت ... لعز عليها أن أكون مضاعا لقد أرضعتني كل خسف وإنني ... لأشكرها إن لم تتمّ رضاعا وما أنا بالجاني عليها وإنما ... نهضت خصاماً دونها ودفاعا وأعملت أقلامي بها عربيةً ... فلم تبد إصغاءً لها وسماعا ولو كنت أدري أنها أعجمية ... تخذت بها السيف الجزاز يراعا ولو شئت كايلت الذين انطووا بها ... على الحقد صاعاً بالعداء فصاعا ولكن هي النفس التي قد أبت لها ... طباع المعالي أن تسوء طباعا أبيت عليهم أن أكون بذلةٍ ... وتأبى الضواري أن تكون ضباعا على أنني داريت ما شاء حقدهم ... فلم يجد نفعاً ما أتيت وضاعا وأشقى الورى نفساً وأضيعهم نهىً ... لبيب يداري في نهان رعاعا تركت من الشعر المديح لأهله ... ونزهت شعري أن يكون فذاعا وأنشدته يجلو الحقيقة بالنهى ... ويكشف عن وجه الصواب قناعا وأرسلته عفواً فجاء كما ترى ... قوافي تجتاب البلاد سراعا وقفت غداة البين في الكرخ وقفةً ... لها كربت نفسي تطير شعاعا أودع أصحابي وهم محدقون بي ... وقد ضقت بالبين المشت ذراعا أودعهم في الكرخ والطرف مرسل ... إلى الجانب الشرقي منه شعاعا وأدعم رأسي بالأصابع مطرقاً ... كأن برأسي يا أميم صداعا وكنت أظن البين سهلاً فمذاتي ... شرى البين مني ما أراد وباعا وإني جبان في فراق أحبتي ... وإن كنت فيغير الفراق شجاعا كأني وقد جدّ الفراق سفينة ... أشالت على الريح الهجوم شراعا فمالت بها الأرواح والبحر مائج ... وقد أوشكت ألواحها تتداعى فتحسبني من هزة فيّ أفدعاً ... ترقى هضاباً زلزلت وتلاعا

فما أنا إلا قومةٌ وانحناءةٌ ... وسرُ أذاعته الدموع فذاعا أبيت وما أقوى الهموم بمضجع ... تصارعني فيه الهموم صراعا وألهو بذكراهم على السير كلما ... هبطت وهاداً أو علوت يفاعا هم القوم أما الصبر عنهم فقد عصى ... وأما اشتياقي نحوهم فأطاعا لقد حكموني في الأمور فلم أكن ... لانطق كلاباً أم قحمت سباعا فلست أبالي بعد أن جدّ بينهم ... زجرت كلاباً أم تحمت سباعا سلامٌ على وادي السلام وإنني ... لأجعل تسليمي عليه وداعا له الله من وادٍ تكاسل أهله ... فباتوا عطاشاً حوله وجياعاً رآهم عبيداً فاستبد بمائه ... ولم يجر بين المجديات مشاعا جرى شاكراً صنع الطبيعة إنها ... أبانت يداً في جانبيه صناعا وما أنس لا أنس المياه بدجلة ... وإن هي تجري في العراق ضياعا ولو أنها تسقي العراق لما رمت ... به الشمس إلا في الجنان شعاعا وما وجدت ريح وإن قد تناوحت ... مهباً به إلا قرى وضياعا سأجري عليها الدمع غير مضيع ... وأندب قاعاً من هناك فقاعاً وأذكر هاتيك الرباع بحسنها ... فنعمت على شحط المزار رباعا الأستانة ـ معروف الرصافي

النقل والناقلون

النقل والناقلون للتأليف طريقتان طريقة الاعتماد على من سبق لمؤلف ونقل كلامهم ليدعم به قوله ويؤيد رأيه وطريقة إبداء رأي المؤلف مباشرة دون الاستشهاد بأقوال غيره مهما بلغت من المكانة. والطريقة الأولى هي الطريقة العلمية المقنعة التي تبقى على الدهر ويصعب أن يتطرق إليها الخلل إلا إذا ظهرت نصوص كثيرة صحيحة تخالف ما استشهد به الكاتب. فقد رأى ديكارت الفيلسوف الفرنسوي أن ليس في مذاهب الغير ولاسيما في الفلسفة كبير أمر وأنا الأجدر ولو ببعض أرباب العقول أن يبحثوا عن الحقيقة بما فيها من الأسرار الخاصة دون الاحتفال بالمذاهب الأخرى التي ذهب إليها غيره في هذه المسألة بيد أن بعض إشياع فلسفة ديكارت نفسهم يرون أن هذا البحث على خلوه من فائدة ضار لأنه يسلب من العقل في تقدير الأشياء قدرها. ويرى الفيلسوف كوزين الفرنسوي غير رأي ديكارت بل أنه غالى في ضرورة درس المذاهب الفلسفية السالفة حتى تدرج إلى أن مزج الفلسفة بتاريخ الفلسفة ومن رأيه ان الطريقة الفلسفية الوحيدة الجديرة بهذا العصر أن يدرس المؤلف المذاهب كلها ويقابل بين المذاهب التي ظهرت إلى اليوم على مشهد العقل البشري من المذاهب المتناقضة. قم عاد ديكارت أيضاً فقال أن المصنفات التي يصنفها جماعة قد تكون في كمالها دون التي يصنفها فرد واحد وتدرج من ذلك إلى أن قال أن العلوم التي تألفت على التوالي من آراء كثيرين قد يكون حظها من الأخذ بطرف من الحق أقل من العلوم التي هي ثمرة فكر واحد. ومن العادة عند مؤلفي الغربيين إذا أرادوا الكتابة أن يطالعوا جميع ما يمكنهم مطالعته في الموضوع الذي يريدون الخوض فيه فيطالع الألماني ما كتبه الإفرنسي والإيطالي والروسي والإنكليزي والأميركي وغيره غيرهم لتكون كتابته مؤيدة بالشواهد الصحيحة ولذا قرأ سبنسر فيلسوف الإنكليز في القرن التاسع عشر 173 كتاباً قبل أن يكتب كتابه العدل. وهكذا كل مؤلف في الغرب اليوم. وبعد فماكل قول ينقل ويستشهد به حجة لتأييد الكلام وإنما ينقل قول يكون قائله قدوة وإلا فما من قول إلا وقد قيل كما قال كثير من الحكماء. وقد نشأ من نقل أقوال كيفما اتفق اختلاف كثير حتى أن الباحث إذا دقق النظر يرى أن تلك الأقوال ترجع إلى قول أو قولين ممن يعتد بهم ولو أمكن لكل مؤلف أن يسلك طريقة الجاحظ في قوله: إنما أحكي لك من

كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لأن فيه دلالة على غيره وغنيّ عما سواه لكان نهج السبيل الأقوم. ومن نقل كل ما يقال ترى في كتب التاريخ والملل والنحل أقوالاً إذا بحثت عنها لم تجدها إلا عند بعض أدنى العوام فكراً ولو عين المنقول إليه لسقط موقع القول من النفوس لكن بعض الناقلين لقصورهم في النظر ينقلون كل ما يقال بدون تعيين المنقول عنه ولو عينوا المنقول لسقط الإشكال. وكثيراً ما يقصد الحذاق منهم المغالطة ليوهموا الناظر أن في المسألة اختلافاً وهو محل دقيق جداً يغلط فيه التحرير العالم على أن بعضهم يرى أن لا ينقل من قوللا الحذاق إلا قول له موقع في النفس ومن ثم يقول القائل. وليس كل خلاف جاء معتبراً ... الأخلاف له حظ من النظر وإن أرباب النقد ليبحثون في كل قول عمن قاله ليعلموا درجة القائل في نفسه ودرجته في اقتداء الناس به وبذلك تظهر له الحقيقة في أجلى مظاهرها وقد قال حجة الإيلام الغزالي قولاً قاله كثير ممن قبله لو سكت من لا يعلم قلَّ الخلاف في العالم. سألنا ذات يوم أحد العلماء العارفين عن السر في اختلاف المذاهب والمشاعب المنقولة فقال: وربما نجد في كتب الملل والنحل أسماءَ فرق لها أقوال غريبة يصعب عليك بعد التتبع الشديد أن تعرف في أي عصر وجدت وأين وجدت وكيف وجدت وفي أي قطر يوجد منهم أناس وإن زعم الزاعم انقراضها يعسر عليه إثبات زمان انقراضها وأغرب من ذلك صعوبة معرفة ترجمة رجل من حذاقها فذكر فرقة من هذا النوع يعد سخافة من الناقل. والذين لهم كتب في هذا المقام منهم الناقل غير الناقد ومنهم المموه لغلبة الهوى عليه في هذا الباب مثلاً لكفينا المؤنة في ذلك نعم يقال أن الجاحظ قد يسلك طرق التمويه كما سجل عليه ذلك بعض معاصريه من أبناء نحلته كأبي جعفر الإسكافي لكن تمويه الجاحظ تمويه عاقل ذي بصيرة إذا موه يكاد يظهر الحق من خلال تمويهه وقد يصرح بغير ذلك في موضع آخر فالعاقل ذو البصيرة ينتفع بكلامه كيف كان قال ومن يخلط في نقله كالطبيب الذي ينقل كل قول لا يعود أحد يعتدُّ بمنقوله وكذلك النحوي وغيره وهذه القاعدة تكاد تكون عامة لا تتخلف في كل فن فقد نقل ابن أبي الحديد أن الجاحظ ألف كتاباً سماه كتاب العثمانية انتصر فيه للخلفاء الراشدين إلا أنه أظهر فيه ما يشعر بالنصب لما اقتضته طينة

البصرة على زعم بعضهم فتصدى له من أبناء نحلته الإمام أبو جعفر الإسكافي فنقض كتابه وأطلق لسانه في الجاحظ إطلاقاً لم يقع نظيره من المضادين للجاحظ في النحلة فمن ذلك قوله: القول ممكن والدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ. . . قوله لغو ومطلبه سجع وكلامه لعب ولهو يقول الشيءَ وخلافه ويحسن القول وضده. قال قاضي القضاة عبد الجبار في كتاب طبقات المعتزلة نقض الإسكافي كتاب الجاحظ في العثمانية في حياته فدخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقد كتابي وأبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره وكان أبو جعفر علوي الرأي محققاً منصفاً قليل العصبية ألف سبعين كتاباً في علم الكلام. وقصارى القول أنه لا ينقل إلا كلام الثقات والعظماء للاستئناس به وتقوية أواصر الكلام به وقد ينقل كلام بعض الضعفاء لنكتة فيه أو لعبرة تراد منه. والكتابة بدون استشهاد بأقوال الأئمة والعظماء مهما بلغت درجة صاحبها لا يلتفت إليها عند المحققين ولو حوت من اللآليءِ كل عقد ثمين.

التمييز في الألبسة

التمييز في الألبسة ليس أغرب من هذا الشرق ترى فيه الاختلاف في الأفكار كما تراه في الأديان بل تراه في اختلاف الهواء والماء وقد وفق الغرب إلى توحيد ألبسة أهله في القرون الأخيرة أما الشرق فلم يزل في تخالفه في ذلك على نحو ما كان عليه في القرون الوسطى قرون الظلم والهمجية. اختلاف المشارقة في ألبستهم قديم فقد كان للقضاة وللأجناد وللعلماء والعامة ألبسة خاصة بهم بل كان اللباس تابعاً للأقاليم فابن الحجاز يلبس ما لا يلبسه ابن الشام وهكذا تجد لو طفت الأقاليم ودرست المدنيات. وكان لأهل الذمة في الإسلام لباس خاص بهم وهو من التحكمات السياسية التي دعا إليها العرب لا الدين وليس في الدين ما يدل على تمييز المسلمين بلباس خاص فقد اشترط الخليفة الثاني في كتاب الجزية الذي كتبه لأهل الذمة أن يؤخذوا بلبس الغيار وهو علامة لهم كالزنار ونحوه ولما تبسط الفاتحون في مناحي السلطان كان من جملة واجبات المحتسب كما في كتاب نهاية الرتبة في الحسبة أن يأخذ الذميين يلبسه فإن كان يهودياً عمل على كتفه خيطاً أحمر أو أصفر وإن كان نصرانياً عمل في وسطه زناراً أو علق في حلقه صليباً وإن كانت امرأة لبست خفين أحدهما أبيض والآخر أسود وإذا عبر الذمي إلى الحمام ينبغي أن يكون في حلقه صليب أو طوق من حديد أو نحاس أو رصاص ليختبر عن غيره. وفيكتاب الخراج لأبي يوسف أن لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته ويؤخذوا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ يعقده في وسطه كل واحد منهم وبأن تكون قلانسهم مضربة قبل وإن عمر بن الخطاب امر عماله أن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي أي أن تكون قلانسهم طوالاً مضربة وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب وقد ذكر لي أن كثيراً من قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم واتخذوا الجمام والوفر وتركوا التقصيص ولعمري لئن كان يصنع ذل فيما قبلك إن ذلك بك لضعف وعجز ومصانعة. وفيما اطلعنا عليه من الكتاب إشارات طفيفة لاختلاف أزياء الذميين في العصور الإسلامية

وما هذا الاختلاف في الحقيقة ناتج إلا من التحكم البارد غالباً. قال ابن الأثير في حوادث سنة 235 أن المتوكل أمر أهل الذمة بلبس الطيالسة العسلية وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب وعمل كرنين في مؤخر السروج وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفين لون الثوب كل واحد منهماقدر أربع أصابع ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى ومن خرج من نسائهم تلبس إزاراً عسلياً ومنعهم من لبس المناطق وأمر بهدم بيعهم المحدثة وبأخذ العشر من منازلهم وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان ولا يعلمهم مسلم وأن يظهروا في شعانينهم صليباً وأن يستعملوا في الطريق وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض وكتب في ذلك إلى الآفاق. وقال الذهبي فيحوادث 398 وفيها هدم الحاكم كنيسة القيامة بالقدس وكانت فيها أموال وجواهر ما لا يوصف وألزم النصارى بتعليق صلبان على صدورهم واليهود بتعليق مثل رأس العجل على صدورهم وكان الصليب رطلاً بالدمشقي من خشب ومثال رأس العجل كالمدقة وزنها رطل ونصف وأن يشدوا الأجراس في رقابهم عند دخول الحمامات قال وألزم الحاكم صاحب المغرب والحجاز ومصر والشام أهل الذمة بالصلبان في أعناقهم وألبس اليهود العمائم السود نكاية واهنة لبني العباس قال ابن خلكان وفي سنة اثنتين وأربعمائة أمر الحاكم النصارى واليهود إلا الخيابرة بلبس العمائم السود وأن تحمل النصارى في أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشب على وزن صلبان النصارى وأن يكون في أعناق إذا دخلوا الحمام الصلبان وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين. قلنا وكان في الحاكم لوثة وجنة يأمر اليوم بأمر فينهي عنه في الغد. وذكر الذهبي في حوادث سنة سبعمائة أن النصارى واليهود ألبست بمصر والشام العمائم الزرق والصفر واستمر ذلك. وسنة 734 ألزمت النصارى ببغداد بالغيار ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير منهم سديد الدولة وكان ركناً لليهود. وروى لسان الدين بن الخطيب أن اسمعيل بن فرج الخزرجي من ملوك الأندلس اشتهر في إقامة الحدود وإراقة المسكرات وحظر تجلي القينات للجرال في الولائم وقصر طربهن

على أجناسهن من الناس وأخذ لليهود الذمة بالتزام سمة تميزهم وإشارة تشهرهم وليوفى حقهم من المعاملة التي أمر بها الشرع في الخطاب. والطرق وهو شواش (جمع شاشية) أصفر. وذكر صاحب المعجب في سيرة أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن أنه أمر في آخر أيامه أن يتميز اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم وذلك ثياب كحلية وأكمام مفرطة السعة تصل إلى قريب من أقدامهم وبدلاً من العمائم كلوتات على أشنع صورة كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم فشاع هذا الزيّ في جميع يهود المغرب ولم يزالوا كذلك بقية أيامه وصدراً من أيام ابنه عبج الله إلى أن غيره أبو عبد الله بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة واستشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا وهو سنة 621 وإنما حمل أبا يوسف على ما صنعه من أفرادهم بهذا الزي وتمييزه إياهم به شكه في إسلامهم وكان يقول لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم فيئاً للمسلمين ولكني متردد في أمرهم ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ويصلون في المساجد ويقرون أولادهم القرآن جارين على ملتنا وسنتنا والله أعلم بما تكنه صدورهم وتحويه بيوتهم اهـ. وقال ابن أبي أصيبعة: حدثني الشيخ موفق الدين البوري الكتاب النصراني قال لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكرك أتى إلى دمشق الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب النصراني وهو شاب على رأسه كوفية وتخفية صغيرة وهو لابس جوخة ملوطة زرقاء زي أطباء الفرنج وقصد الحكيم موفق الدين بن المطران وصار يخدمه ويتردد إليه لعله ينفعه فقال له هذا الزي الذي أنت عليه ما يمشي لك به حال في الطب في هذه الدولة بين المسلمين وإنما المصلحة أن تغير زيك وتلبس عادة الأطباء في بلادنا ثم أخرج له جبة واسعة عنابية وبقياراً مكحلاً وأمره أن يلبسهما. قال ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة أسعد بن المهذب ما يأتي: كان المهذب أبوه المعروف بالخطير مرتباً على ديوان الإقطاعات وهو على دين النصرانية فلما علم أسد

الدين شيركوه في بدء أمره بمصرانه نصراني وأنه يتصرف في (عمله) بلا غيار نهاه وأمره بغيار النصارى ورفع الذؤابة وشد الزنار عن الديوان فبادر هو وأولاده فأسلموا على يده فأقره على ديوانه مدة ثم صرفه عنه فقال فيه ابن الذروي: لم يسلم الشيخ الخطير لرغبة في دين أحمد بل ظن أن محاله ... يبقي له الديوان سرمد والآن قد صرفوه عنه فدينه فالعود أحمد ولما أمر شيركوه النصارى بلبس الغبار وإن يعمموا بغير عذبة قال عمارة اليمني: يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنة المصطفى كفى غياراً شد أوساطنا ... فما الذي يوجب كشف القفا هذا ما كان عليه الاختلاف في الأزياء بين أهل الوطن الواحد وأكثره كما ترى ناشيء من ملوك وفقهاء متعصبين تعصب ظاهراً مثل المتوكل والحاكم بأمر الله ولم يسمع بأن رجال الجد في الإسلام مثل الرشيد والمأمون وصلاح الدين ونور الدين تحكموا هذه التحكمات والله أعلم.

الجغرافيا والعرب

الجغرافيا والعرب لم يترك العرب أيام حضارتهم فرعاً من فروع العلوم النافعة في قيام مجتمعهم إلا وتوفر أفراد منهم عليه. وعلم الجغرافيا هو أحد تلك العلوم ولم يكن لهم به عهد في الجاهلية كالشعر والرواية والأدب والخطب وإذا ذكروا بعض أسماء البلدان المجاورة لهم فإنما يذكرونها بالعرض لا تشعر بمعرفة ولا تنمّ عن اشتغال. وكان أول الكتب التي نقلوها إلى لسانهم كتب بطليموس اليوناني في الجغرافيا ومن أول الأعمال الجغرافية العلمية التي تمت على يد علمائهم هو أن المأمون أمر محمد بن موسى بن شاكر وأخويه أحمد والحسن بتحقيق طول خط نصف البار لمعرفة محيط الكرة الأرضية فقاسوا أحد خطوط الطول في سهل سنجار ثم أعادوا المقياس ثانياً في وطآت الكوفة فثبتت لديهم كروية الأرض وعرفوا محيطها. قال ابن خلكان في ترجمة بني شاكر: وكانت لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل وأتعبوا أنفسهم في شأنها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم واحتضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم وهو الأقل ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. ومما اختصوا به في ملة الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه ولكنه لم يثقل أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله إلا هم وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض والتقى طرفا الحبل فإذا مسخنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعي وقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي فقيل لهم صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطآت الكوفة فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم ويركن إلى معرفتهم بهذه

الصناعة وخرجوا إلى سنجار وجاؤا إلى الصحراء المذكورة فوقفوا في موضع منها فأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات. وضربوا في ذلك الموضع وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على استواء الأرض من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول ولم يزل ذلك دأبهم حتى انتهوا إلى موضع أخذوا منه ارتفاع القطب المذكور فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل فعلموا أن كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب ومشوا على الاستقامة وعملوا كما عملوا في جهة الشمال من نصب الأوتاد وشد الحبال حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك. وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر لهم حقية ذلك ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً وكل برج ثلاثون درجة لتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة فضربوا عدد درج الفلك في ستة وستين ميلاً أي التي هي حصة كل درجة فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف فرسخ وهذا محقق لا شك فيه فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار فتوافق الحسابان فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك. هذا ما قاله صاحب وفيات الأعيان بنصه وليس العمل لإثبات كروية الأرض هو العلم الوحيد الذي قام به المأمون فقد قال المسعودي صاحب مروج الذهب في كتابه التنبيه والإشراف وهو مما ألفه بفسطاط مصر سنة 345 للهجرة: ورأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس وتفسير جغرافيا قطع الأرض وفي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون اجتمع على صنعتها عدة

من حكماء أهل عصره صور فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس وغيرهما اهـ. قال السنيور جويدي الإيطالي وليس حكماء العرب هم الذين عنوا دون غيرهم من الأمة العربية برسم صورة الأرض بل أن أمراءهم كذلك ومنهم أمير المؤمنين المأمون الخليفة العباسي فإنه أغرم برسم الأرض وبذل قصارى جهده في إبرازها فجمع من بالعراق من حكماء دولته زهاءَ سبعين حكيماً على ما قيل فاجتمعوا على تكوينها وأحكامها حتى فضلت بذلك ما تقدمها من الصور اهـ ولقد عرف المسلمون أن من جملة أسباب الفتح معرفة طرق البلدان والأمصار فقد ذكر المؤرخون أنه قام الملاحون المدعوون بالمغرورين في القرن الأول للهجرة وأقلعوا من لشبونة عاصمة البرتغال اليوم بغية الوصول إلى ما وراء كولمبس وفي البعثات التي سيرها الخلفاء إلى القاصية كبعثة الواثق العباسي لاكتشاف سواحل الخزر وبعثة المقتدر بالله عام 309 إلى البلغار للدعوة الإسلامية فيها وأخذ أحد أعضاء البعثة أحمد بن فضلان معلومات مفيدة عن تلك البلاد وفي الحملة التي وصلت إلى بكين بعد فتح كاشغر سنة ست وتسعين للهجرة لدعوة الصين إلى الإسلام في كل ذلك أكبر دليل على تقدير العرب على رسم الأرض أو الجغرافيا أو علم تقويم البلدان. ولقد كان علماء الحديث من أشد الناس عناية بالجغرافيا لتمييز النسب إلى البلدان والفرق بين الرجال ومساقط رؤوسهم وهذا هو السبب الذي دعا أرباب المعاجم أن يذكروا أسماء الأمصار والقرى. ومن راجع باب العشر والخراج في مطولات الفقه علم ما بين الفقه والجغرافيا من التعلق. كتب أحد الخلفاء إلى حكيم من حكماء عصره حين فتح الله البلاد على العرب من العراق والشام ومصر وغيرها يقول: إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن البلاد والأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها فكتب إليه ذلك الحكيم بجغرافيتها الطبيعية. وكتب عمر ابن عبد العزيز إلى أحد عماله أن يصف له جزيرة الأندلس لأنه علم أن المسلمين نزلوا فيها في بلاد يحيط بهم الإفرنج من أكثر الجهات ولا بقاء لهم في تلك البلاد.

ولما اجتمع ابن خلدون بتيمورلنك سنة 802 هـ في دمشق سأله هذا عن بلده والمغرب الأقصى فذكر له ابن خلدون ما حضره وطلب منه أن يؤلف له مختصراً وجيزاً يصف له بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدانيها وأنهارها وقراها وأمصارها فكتب له في غربته اثنتي عشرة كراساً في وصف المغرب. وأجمع تعريف للجغرافيا يستدل منه على موقعها من نفوس العرب واتصالها بعدة علوم لهم ما قاله ياقوت في مقدمة معجم البلدان: ومن ذا الذي يستغني من أولي البصائر ع معرفة أسماء الأماكن وتصحيحها وضبط أصقاعها وتنقيحها والناس في الافتقار إلى علمها سواسية وسر دورانها على الألسن في المحافل علانية لأن من هذه الأماكن ما هي مواقيت للحجاج والزائرين ومعالم للصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ومشاهد للأولياء الصالحين ومواطن غزوات سرايا سيد المرسلين وفتوح الأئمة من الخلفاء الراشدين وقد فتحت هذه الأماكن صلحاً وعنوة وأماناً وقوة ولكل من ذلك حكم في الشريعة في قسمة الفيء وأخذ الجزية وتناول الخراج واجتناء المقاطعات والمصالحات وإتالة التسويفات والإقطاعات لا يسع الفقهاء جهلها ولا تعذر الأئمة والأمراء إذا فإنهم في كريق العلم حزنها وسهلها لأنها من لوازم فتيا الدين وضوابط قواعد الإسلام والمسلمين فأما أهل السير والأخبار والحديث والتواريخ والآثار فحاجتهم إلى معرفتها أمسُّ من حاجة الرياض إلى القطار غب أخلاف الأنواء والمشفي إلى العافية بعد يأسٍ من الشفاء لأنه معتمد عليهم الذي قلَّ أن تخلو منه صفحة بل وجهة بل سطر من كتبهم وأما أهل الحكمة والتفهيم والتطبب والتنجيم فلا تقصر حاجتهم إلى معرفته عمن قدمنا فالأطباء لمعرفة أمزجة البلدان وأهوائها والمنجم للاطلاع على مطالع النجوم وأنوائها إذ كانوا لا يحكمون على البلاد إلا بطوالعها ولا يقضون لها وعليها بدون معرفة أقاليمها ومواضيعها ومن كمال المتطبب أن يتطلع إلى معرفة مزاجها وهوائها وصحة أو سقم منبتها ومائها فصارت حاجتهم إلى ضبطها ضرورية وكشفهم عن حقائقها فلسفية ولذلك صنف كثير من القدماء كتباً سموها جغرافيا ومعناها صورة الأرض وألف آخرون كتباً في أمزجة البلدان وهوائها نحو جالينوس وقبله بقراط وغيرهما وأما أهل الأدب فناهيك بحاجتهم إليها لأنها من ضوابط اللغوي ولوازمه وشواهد النحوي ودعائمه ومعتمد الشاعر في تحلية جيد شعره بذكرها وتزيين عقود لآلي نظمه بشذرها فإن

الشعر لا يروق ونفس السامع لا تشوق حتى يذكر حاجز وزرود والدهناء وهبود ويتحنن إلى رمال رضوى فيلزمه تصحيح الاسم وأين صقعه وما اشتقاقه ونزهته وقفره وحزنه وسهولته فإنه إن زعم أنه واد وكان جبلاً أو جبل وكان صحراءَ أو صحراءُ وكان نهراً أو نهر وكان قريةً أو قرية وكان شعباً أو شعب وكان حزناً أو حزن وكان روضةً أو روضة وكان صفصفاً أو صفصف وكان مستنقعاً أو مستنقع وكان جلداً أو جلد وكان سبخةً أو سبخة وكان حرّةً أو حرة وكان سهلاً أو سهل وكان وعراً أو يجعله شرقياً وكان غريباً أو جنوبياً وكان شمالياً سفل قدره ونزر كثره وآض ضحكة ويرى أنه ضحكة وجعل هزأة ويرى أنه هزأة واستخف وزنه واسترذل واستقل فضله واستجهل اهـ. وبعد فقد نبغ في علماء العرب بفن الجعرافيا أناس لم يزالوا يذكرون كما يذكر الأفراد فمن قدمائهم أبو موسى الخوارزمي وعبد الله بن خرداذبة وابن واضح اليعقوبي وابن الفقيه الهمذاني وعمر بن رستة وقدامة بن جعفر والجيهاني وعلي بن فضلان وأبو دلف مشعر وأبو زيد البلخي وأبو إسحق الاصطخري وشمس الدين المقدسي وعلي بن الحسين المسعودي وأبو الريحان البيروني وأبو عبيد البكري وأبو سعيد الأصمعي وأبو عبد الصيرافي والزمخشري ومحمد بن أحمد الهمذاني ومحمد بن أبي بكر الزهري والشريف الإدريسي وابن فضل الله العمري ومحمد المازني ومحمد بن علي الموصلي وأبو عبد الله بن شداد وأبو محمد العبدوي وأبو عبد الله ياقوت الحموي وزكريا بن محمد القزويني وابن سعيد المغربي وشمس الدين الأنصاري الدمشقي والملك أبو الفداء صاحب حماة وابن بطوطة وابن الوردي وابن إياس وهذا كان آخرهم ممن يعتد بأقوالهم فقد جاء في القرن العاشر للهجرة وبعد ذلك انقطع سند العلوم الجغرافية من المسلمين بزهدهم في كل علم ولغلبة الجهل وإن صادف أن جاء من اشتغل بالجغرافيا بعد ذلك العهد فيكون ناقلاً عن مصنفات أولئك الأعلام أو مختصراً لبعضها شأن العرب في القرون الثلاثة الأخيرة في جميع ما كتبوا فقد فقدت منهم ملكة التأليف والاختراع وصاروا نقلة عاديين والله أعلم.

ديوان خالد الكاتب

ديوان خالد الكاتب في جملة مخطوطات دار الكتب الظاهرية في دمشق ديوان خالد الكاتب ابن يزيد كتب سنة 1110 هـ بقلم محي الدين الدمشقي السلطي وهو في 88 ورقة تغلب عليه الصحة ومرتب على حروف الهجاء رتب لناظمه ولم يرتبه بنفسه فيما يظهر قال على قافية الباءِ: يا أيها المعرض يا ذا الذي ... هب للهوى ديني بطول التعب أما تراني دنفاً هائماً ... وجداً بمن صارمني واحتجب ياواحداً في الحسن طال الهوى ... والشوق إذ طال إليك الطلب عدمت للعبد على أن لي ... قلباً قريحاً بك نافي الندب وقال أيضاً: القلب مني على شوق وتعذيب ... وزفرة فرحت في قلب مكروب لا والذي ذهبت بالنفس لحظته ... وما بعبرى (؟) من حسن ومن طيب ما طول شوقي ولا حزني ولا كمدي ... إلا على مهجتي من بعد تعذيبي كم كمن الدهر من سهم يفوقه ... مسدد بدم العشاق مخضوب وقال أيضاً: ليست بأول ليلة ... طالت على دنف غريب متأوه حب الخليل ... بزفرة الصب الكئيب لم يلق بعد فراقه ... ثمراً وغصناً في كثيب وقال أيضا: فلو أن خداً كان من فيض عبرة ... يرى معشباً لأخضر خدي فأعشبا كأن ربيع الزهر بين مدامعي ... بما اخضل فيه مزفتى وتعببا (؟) على أنني لم أبك إلا مودعاً ... بقية نفس ودعتني لتذهبا وقد قل لما لم أجد ليراحة ... سوى الدمع لما حل أهلاً ومرحبا ومعظم الديوان في الغزل قال في قافية الدال: السنه السقم حتى ملَّ عائده ... يا سالم القلب من شوق يكابده ثم لا أرقت فإن الهم أقلقه ... فبات يسهد ليلاً أنت راقده وباح بالسر لما ذاب أكثره ... شوقاً إليك ولما بان واحده

رثى العذول له حتى بكى معه ... حزناً وأسعده بالدمع حاسده وقال أيضاً: القلب يحسد عيني لذة النظر ... والعين تحسد قلبي لذة الفكر يقول قلبي لعيني كلما نظرت ... كم تنظرين رماك الله بالسهر العين تورثه هماً فتشغله ... والقلب بالدمع ينهاه عن النظر هذان خصمان لا أرضى بحكمهما ... فاحكم فديتك بين العين والبصر وقال أيضاً: ولما رأيت الدمع غاص إلى الحشا ... وأن فؤادي من دموعي في بحر نظرت إلى عينيّ لا ماَء فيهما ... فأيقنت أن الدمع تحتهما يجري فلولا استبان الدمع في مضمر الحشا ... تفجر أنهار الدموع من الصدر على ان قلبي ينشف الدمع حره ... وأين بقايا الدمع في وهج الجمر قلنا أن معظم شعره في الغزل والنسيب وأكثره من أربعة أبيات ومن شعره في المديح قوله يمدح الحسن بن وهب الكتاب: يا وجه أحسن من يمشي على قدم ... بحرمة الحسن قل لي كيف حلَّ دمي أما وخدين يسقي الورد ماءهما ... في نسبة تمنع الدنيا من الظلم ومقلة كلما دارت رأيت بها ... من جوهر اللحظ أسقاماً بلا ألم إلى أن قال في المديح: مذهب في الباب الملك أسرته ... أهل الكتابة والألباب والحلم من بيت دهنقة الأشراف في شرف ... أوفى على مطلع العيوق في الشمم في ذروة من بناءِ العز باذخة ... علياءُ طالت عن الأوعال والعصم أمضى البرية في خطب وأصوبها ... عزماً وأكتب من أملى على قلم قال جامع الديوان وهذا آخر ما وجد في ذيله عن نسخة أخرى ند قافية الباءِ قوله: يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي يا مفرداً بالحسن أفردتني ... منك بطول الشوق والحب إن تك عيني أبصرت فتنة ... فهل على قلبي من عتب

حسيبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي وشعر خالد الكاتب كما تراه منسجم هو إلى شعر المولدين أقرب منه إلى شعر العرب الذي يحوي فخامة اللفظ وجزالة التركيب وقد استفدنا من ترجمة خالد الكاتب أنه كان مغرماً بالصبابة وبينه وبين معاصره أبي تمام الطائي ملاحاة وشؤون وخلاصة حياته كما في فوات الوفيات للكتبي أنه خالد بن يزيد أبو الهيثم الكاتب البغدادي أصله من خراسان وكان أحد كتاب الجيش ولاه ابن الزيات الأعطاء ببعض الثغور فخرج فسمع في طريقه منشداً ينشد: من كان ذا شجن بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والوطن فبكى حتى سقط مغشياً عليه ثم أفاق واختلط عقله واتصل به ذلك إلى الوسواس وبطل. قال ومن شعره: عش فحييك سريعاً قاتلي ... والهوى إن لم تصلني واصلي ظفر الشوق بقلبي دنف ... فيك والسقم بجسم ناحل فهما ما بين وجد وضنىّ ... تركاني كالقضيب الذابل وبكى العاذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العاذل ومن شعره أيضاً: عشية حياتي بورد كأنه ... خدود أضيفت بعضهن إلى بعض وراح ولعل الراح في حركاته ... كفعل النسيم الرطب فيالغصن الغض

مصالح الأبدان والأنفس

مصالح الأبدان والأنفس قد يظن بعض من لا عهد لهم بحالة العرب أيام حضارتهم أنهم كانوا كعرب البادية اليوم لا يكادون يعرفون الأمور الصحية ولا تدبير البدن وأنهم كانوا يسيرون متشبعين بفكر القضاء والقدر إن هلكوا قالوا قضاءٌ وإن عاشوا قالوا قدر. والحقيقة إن القوم كانوا على عناية أكيدة بأمور الصحة وما بقي من كتبهم القليلة المحفوظ بعضها في دور الكتب في الشرق والغرب والمطبوع بعضها يدل دلالة كبيرة على ذلك وأقرب سبيل للإشراف على عناية العرب بتدبير الصحة أن يرجع القاريء إلى كشف الظنون فيرى الكتب التي ألفت في هذا الفن بل إلى تراجم الأطباء في القرون الأولى للإسلام ويقرأُ في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أسماء الكتب التي صنفوها في تدبير الصحة فقط. وقد ظفرنا في خزانة كتب السيد أبي الخير عابدين من جلة فقهاء دمشق بكتاب مصالح الأبدان والأنفس لأبي زيد البلخي ولعله الجغرافي المؤرخ المشهور في القرن الثالث: والقطعة مقتطعة من كتاب للمؤلف تغلب عليها الصحة فأحببنا نقله للمقتبس لأن معظم ما تكلم فيه من المصالح كأنه كتب في هذه الأيام قال المؤلف: تذكرة مقتضبة على سبيل الإيجاز والاختصار من كتاب أبيزيد البلخي رحمه الله تعالى المسمى مصالح الأبدان والأنفس تجنبنا فيه بسط أبي زيد وتطويله وإن كان ملذاً غير مملول ومعسول اللفظ غير مغسول إلا أنا ملنا إلى ما يدركه الحفظ وتقصر في الإحاطة به مساهمة اللحظ وبالله التوفيق والإعانة. . . باب الحاجة إلى تعهد الأجسام وما في ذلك من استدامة الصحة إن الجسد يحتاج في تعاضد أركانه وتماسك أجزائه إلى تعهد شديد وتفقد بليغ والنفع في ذلك بين أثره عند من دق نظره. ومثاله ما نراه من حال النمو في الأطفال وأنه يتدرج على ترتيب يخفى عن الحس إلى أن يبلغ غاية التمام والشباب ثم يولى تولية تلطف عن الإدراك حتى يجتمع فيه من أحوال الانتقاض والانتقاص ما تكون جملته محسوسة وإن لم يحسن تفصيله فذلك منفعة التعهد ومضرة الإهمال في خفائهما أولاً ثم ظهورهما أخيراً. باب في تدبير الأهوية والبلدان كما يسافر الناس لطلب المعاش فلذلك يجب أن يسافروا لطلب المنازل المحمودة والبعد من

الأهوية الفاسدة فإن بعض الحيوان قد يفعل شبيهاً بذلك مثل أجناس الطير القاطعة وأصناف السمك المثقلة والهواء كالمركب أبداً من طبيعة الماء والتراب اللذين يمر عليهما واختلاف أحوال سكان البلاد في صورهم وأخلاقهم يتولد عن اختلاف هذه الأصول التي هي التراب والمآء والهوآء، وعلى حسب ذلك يجب أن يرغب الحكيم في إصلاح ما يخصه منها. وأفضل المساكن ما كانت تربته عذبة طيبة غير مشوبة ولم تبعد الشمس عن سمت رؤوس أهلها وكان عالياً في إنجاد الأرض وذرى الجبال ليتموج هوآؤُه ولا تحتقن فيه بخارات المياه وأنفاس الحيوان. ويكون ماؤه سبحاً من مناقيع طيبة حرَّة التراب، وتكون مجاريه بارزةً للشمس وحركته شديدة ومسافته من مبدإِه إلى منتهاه بعيدة ولا يكون بقرب المنزل تربة فاسدة أو مياه أَجنة من بطائح ونقائع، وقد يوجد في المواضع الخربة من الأرض تفاوت شديد يجب معه الحرص على طلب الأصلح وإذا دفعت الضرورة إلى نزول بلد هواؤُه فاسد أصلح بالبخورات الموصوفة. وجلب الماء للشرب من المواضع السليمة والانتقال عنه أصلح، فأما السلطان فتنقله في بلاد ملكه يجمع فنوناً من المصلحة منها سرور التنزه، ومنها تخير الأصوب في تدبير الأجسام ومنها توزيع مراعاته على كل حد من حدود ملكه، والهوآء أقوى أجسام هذا العالم تصرفاً وتصريفاً لما لاقيه وهو الذي يؤدي السري من الأجسام السمارية إلى الأرضية ويوصل قوى ما يمر عليه إلى ما يصل إليه كإيصاله الأصوات والروائح التي لو سكن لعدمت، ويجب أن يكون المبيت في الصيف بإزاءِ مهب الشمال، والجلوس فيالشتاء بإزاء مهب الجنوب، وفي الفصلين بإزاء مهب الصبا فهي موصوفة بطيب النسيم ولاسيما في السحر ويجتنب مع ذلك ملاقاة كل ريح عاصفة، وإنما خصت الصبا بالحركة في السحر لإقبال الشمس من ناحيتها فترفق أجزاء الهواء بحرها فيتبدد ويطلب مكاناً أوسع فيحدث النسيم المستلذ، ولأن الشمس تعطي كل ما تلاقيه في أول النهار قوة عجيبة، وأما الدبور فيجب اجتنابها في جميع الأوقات والأحوال. ويجب أن يجعل الجلوس عالياً عن مهب الهواء الجاري على وجه الأرض المشوب بالأبخرة فإنها تكدر الهواء المتنسم فيختر البدن ويفتره ويضعف قوة الحفظ وينقصه، وتستوطن العلالي والمناظر إلا أن يمنعه منها صميم الحر والبرد فيتعوض عنها الأسرَّة والفرش المنضدة قياساً على ما قد تقرر من أن المواضع الجبلية أصح مزاجاً وأنقى هواءً

من السهلية. . . باب تدبير الأكنان والملابس واجب على الإنسان توقية جسمه الح والبرد من غير مبالغة في ذلك تكسب الترفه وتجلب الضرر عند أيسر تغيير من العادة وترقق أديم الجسم والحرارة أوحى إهلاكاً (؟). والبرودة أشد مضادة وبذلك يهلك الشتاء النبات ويحوج الحيوان الصامت إلى الاستتار بدل الانتشار ويجب أن تكون مساكن الشتاء منحرفة عن سنن الرياح مستحصفة الحيطان لتكون أحصن. . . تخلل الهوااء واسعة رفيعة السمك ليكون للبخار والأنفاس ودخان الوقود والمصابيح مجال فيها فإنها إن تكاثفت انعكست إلى المسام فكانت لها بئس الغذاء وهذه الصفة في التوسعة وتعلية السمك تلزم في الصيف والشتاء، ويجعل مساكنه مضيئة ما أمكن فإن النفس تنزوي من الظلمة وتستوحش قياساً على الليل والنهار وربما احتيج إلى قرآءة كتاب في الظلمة فلم يكن إلا بإكراه البصر وإكراهه يكله ويضعفه والظلمة مضرة بالبصر فإن قوام النظر بالهواء المعتدل. وشدة الضوء تضره كشعاع الشمس واتصال الظلمة يبطله كما أصاب من طالت مدته في الحبس. ويجب إدفاء بيوت الشتاء بالنار التي يستوي في إحمائها جميع أجزاء البيت لتستوفي لذة الدفاء من جميع الجهات كفعل الحمام فإن اختفت مقادير السخونة أضرت بحسب خروجها عن الانتظام والاعتدال، إلا أن يحتاج أن يسخن بعض أعضائه فيجري ذلك مجرى العلاج ويبتدىء فيدخل في أول البرد إلى الأروقة ثم إلى المواضع التي تليها ثم يتدرج إلى المواضع الغامضة بحسب زيادة البرد كحال الداخل إلى الحمام في التنقل بين بيوته فإن لزوم التدريج بين الأضداد واجب، ويتقي برد الخريف أكثر من اتقائه برد الربيع لأن ذلك مقبل وهذا مولٍ، وأعدل الثياب القطن ولذلك لا يصيبها السوس ولا تسرع إليها الآفة وهي ملابس الشتاء والكتان للصيف لبرده ولتنشيفه العرق ييبسه، والصوف قوي الحرارة مضر بالأبدان التي تكثر حرارتها ويجب أن يختار من الملابس ما كان ناعماً لتلتذه حاسة اللمس، ويكون في الشتاء خفيفاً ليمنع البخار الخارج من الأبدان من النفوذ فينعكس إليها فيكون به الدفاء وهذا حقيقة الدفاء وبه تدفأ الأوبار أكثر لأن الكثافة فيها أوفر، واحتقان الأبخرة في أثنائها أعظم، وثوب الصيف متخلخل شفاف بضد ذلك إلأا أن يكون ضاحياً بارزاً في الصيف فيحتاج إلأى لباس كثيف ليوقي جسمه الحر،

ومن كان محروراً واضطر إلى الوبر فليجتنب الثقيل الطويل الشعر كالثعلب، وليجتنب ما كان ضاماً للبدن كله كالأقبية ونحوها، وليقتصر على ما يدفئ الظهر فهو أشد ما في البدن برداً إلا أن الأعضاء التي فيها الحرارة كالكبد والقلب في البطن دون الظهر ولذلك يكون ابتداء الأمراض عنه أعني الظهر فإن الأخلاط فجة هناك فتبتديء الطبيعة بها ولا يغم رأس المعدة قإنه موضع حساس، وللصفراء هناك تسلط ربما آذاه لصوق الوبرية بل يجتهد أن يصل إلى هذا الموضع روح الهواء ما لم يضره، أو يخالف عادته ويتوقى ملاقاة الريح فإن التحرز من البرد فيها لا يمكن في الهواء الساكن فإن اضطر إلى ذلك استكثر من الدثار وتلثم وسد منخريه ولم يستنشق من الهواء البارد بل يتنفس من كمه أو ما يستره، وإن كان ممن يمشي مشي فسخن جوفه وإن لم يكن ممن يمشي ركب دابة كثيرة الحركة محوجاً له إلى الرياضة ودلك بدنه وقتاً بعد وقت فإن الحركة تقاوم البرد ودليل ذلك ما تشاهده من جمود الماء الواقف قبل الجاري ولا يباشر السفر في هذه الحال، إلا بعد أن يغتذي غذآء خفيفاً غير تام ويجعل فيه كالثوم والخردل، وأنفع من ذلك كله الشراب الموصوف فإنه يسخن الدم في عروقه. ويختار للصيف المساكن الفسيحة الكثيفة الحيطان التي للرياح الهابة فيها مخترق وترش وينضح الجسد بماء الورد ويروح عنه فأما السراديب والمواضع العميقة فتجتنب البتة فإن أهويتها غليظة تكسل وتفتر وإذا جلس في الخيش استعلى عن سطح الأرض بالأسرَّة وما يجري مجراها واحتال لوصول الهواء من أعالي البيت ليخفف عنه ثقل الهواء الثقيل المنحصر فيه ويكون الاستكنان في الخيش في وقت الظهيرة لا قبله ولا بعده ويستعمل الأطعمة الحارة في الشتاء فعلاً ومزاجاً والأطعمة الباردة في الصيف. باب تدبير المطعم من أخذ من الغذاء قدر حاجته من غير زيادة عليه ولا تقصير عنه دامت له الصحة، وكان مثله كالمصباح يمد من الدهن بما لا ينقطع عنه فيطفئه ولا يغمره فيفرقه وأقوى الأغذية غذاء اللحم، ولذلك صارت السباع التي تغتذي به أقوى من غيرها والأمم التي تنفرد باستعماله أشد بطشاً وأكثر غناءً في المصاولة ممن سواها كالأتراك ومن أشبههم وأفضله المعتدل الذي لا تغلب عليه كيفية من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة كلحم الضأن ولذلك صار الإنسان لا يمله وصار يطيب بكل صنعة وبكل طعم يضاف إليه وخص بهذه

الفضيلة لاعتدال مزاجه، وخيره لحم الفتي منه وإن يجتنب ما صغر كالأجنة وما قرب عهده بالنتاج فإنه يكون لزجاً مولداً للكيموس الفاسد. ويجتنب الضاني القحل اليابس ويقصد السمان دون المهازيل والخصيان دون النعاج، فإن الولد يمص جوهرها ودون الفحول فإن السفاد يؤبس لحمها وكلا المعنيين يأخذ صفو أجساد الحيوان ويختار للأكل الرقبة ولحم الأضلاع والكتف والمواضع المتوسطة للجسد. ويجتنب الرأس وكل ما فيه الأفخاذ وما يليها فإن لحومها غليظة ثقيلة بطيئة الانهضام والأعضاء ذوات الأسماء والهيئات ولا خير فيها كالقلب والكبد والطحال والأمعاء والكروش إنها ليست لحماناً خالصة ولحم الطيور بالحكم الأعم أخف من لحوم المواشي وربما ثقلبعضها بالحكم الأخص وينبغي أن يقصد منها الأسرع انهضاماً، والحيوان المآءيُّ كالبط والغرانيق غليظة زحمة بطيئة الانهضام ولا خير في السمك لأصحاب الأبدان الباردة الرطبة وقد ينفع الطري منه المحرومين ويقصد منه المتوسط بين الصغير والكبير ولما كان في المياه العذبة دون البحار والآجام والمملوح منه كالقديد من اللحم ولا خير فيهما فإنهما كالشيءِ الذي ذهب صفوه ولبابه وبقي أثقل وأغلظ ما فيه، وأما الألبان فمناسبة للحم في جوهرها لأن أصلها الدم وتعمها اللطافة وسرعة الاستحالة فللطفها صارت غذاءً للصغار الذين تضعف قواهم عن الهضم ولاستحالتها صارت أجزاؤها تتميز سريعاً كالزبد والسمن وأمكن أن تتخذ أصنافاً كثيرة من الأغذية والاقتصاد عليها ليس بمحمود إلا لمن جرت عادته بها وإن جعلت أداماً وفي الطبيخ فإن طبيعتها عند ذلك تمتزج بطبيعة ما يكون مخلوطاً بها والحموضة فساد عارض في اللبن كما يعرض مثله في الشراب فليجتنب الصادق الحموضة منه ما أمكن وبياض البيض غذاء ثقيل وخيم وصفرته غذاء شريف كثير التغذية، وأفضله النيمبرشت والذي ينهضم من الحبوب ويستحيل منها إلى الدم أقلها والباقي الفاضل عن الهضم أكثرها وهي في ذلك مخالفة للحم لأنه مناسب للدم بجوهره سريع الاستحالة إليه، وينبغي أن يجتنب منها ما طبيعته توليد الرياح فكل ما يتولد الرياح عنه رديء بطيء الانهضام، وأجود الحبوب للاغتذاء السمين وما تناهى إدراكه ولم يكن فجّاً ولا عتيقاً عفناً كالفتي من الحيوان بين الأطفال والمسان ويعتمد لبابها، ويجتنب قشورها، فإن القشور تولد كيموساً غير محمود، والفواكه قليلة الغذاء ومن أفضلها التين والعنب، وهما مع ذلك إذا لم ينهضما ولدا أمراضاً

رديئة والإكثار من جميع الفواكه ومن هذين النوعين رديء لإسراع العفونة إليها في المعدة واستحالتها إلى الكيفيات الرديئة ويجتنب قشورها فربما لصق القشر بالمعدة والأمعاء فضر ويهجر كل ما كان فجاً وقديماً عفناً من جميع أصنافها والبقول لايكاد ينهضم منها إلا ما كان مطبوخاً لأنها عادمة النضج في جميع أحوالها إلا أنها في أول منبتها ألطف ويجب أن يجتنب أكلها بالجملة كل معنيّ بحفظ الصحة فإن دعت شهوة أو ضرورة فالفوذيخ (؟) فإنه يقوي المعدة والهندباء فإنه يصفي الدم، والخس فإنه يرطب ويقمع الصفراء ويهجر ما له حرافة وحدة إلا أن يطبخ في جملة الطعام. صنعة الطعام إحكام صنعة الطعام أحد قوانين حفظ الصحة لأن الطبيعة تشتهيه فتستمريه وقوام الطعام معنيان نوع الغذاء وصنعه وقوت الصنعة أضر من رداءة النوع، لأن الرديء النوع قد ينقله أحكام الصنعة إلى أن يلتذ ويشتهى. والجيد النوع قد يجري أمره بالضد فيقل ميل الطبيعة إليه ونيلها منه وما فاته جودة الصنعة حل من الطبيعة محل الدواء المستكره لا الغذاء المشتهى وربما ولد أمراضاً لنفار الطبيعة منه وقلة احتوائها عليه ويبلغ من الانتفاع بقوة الشهوة أن الضار قد يصير بها نافعاً بجودة الاستمراء له واستيلاء القوة عليه حتى أن المرضى ربما اشتهوا شيئاً رديئاً فأصلحت قوة الشهوة فساد مزاجه فقلَّ لذلك الاستضرار به، وأحوج الناس إلى هذا الباب من اعتاده ومرنت حاسة الشم منه عليه وارتاضت مذاقته به والجفاة الطبع أقل حاجة إلى التدقيق في هذا الباب أولاً لجفاء التركيب، وثانياً لفقد العادة في الارتياض لمعرفة الطيب وغيره فقليل الصنعة كثير عندهم، وثالثاً أن كثرة حركاتهم تجود هضم معدهم حتى يستمروا من الخبز الفطير ومن اللحم ما ناله الأشمام ولا يستضرون بشيء منه بل يناسبون الحيوانات الصامتة في أكثره وأولى الأشياء بالتقية فيه الخبز لأنه أصل الغذاء والراتب منه وأصوب ما يستعمل فيه المبالغة في إنضاجه فإن القليل النضج منه يولد فيالبدن أخلاطاً غليظة وأدواء خبيثة، والخبز الخشكار أكثر حرارة وأسرع هضماً لحرارة نخالته. والحواري أبطأ انهضاماً وإذا انهضم كان أكثر غذاءً وأفضل جوهراً وبالجملة فكل ما فاته النضج فالآفة فيه على البدن عظيمة جداً ولا يتناول منه الحار لوقته فإنه بمثابة مالم يدرك

ولا اليابس فإنه بمثابة القديد وكلاهما إذا أصابه الماء في المعدة انتفخ وربا كما يصيبهما إذا صب عليهما الماء خارجاً عنه، بل ما كان مخبوزاً ليومه أو غده ثم اللحم ومن التدبير فيه إنضاجه ويتجاوز ذلك فيمن ضعفت معدته إلا أن يهرا له تهريةً، فأما من قوي هضمه كرجال الحرب فالصواب أن يتناولوا من الخبز الفطير ومن اللحم المشوي ما لم ينته نضجه ليتولد لهم اللحم الصلب الكثير المحتمل للألم فإن اختمار العجين وتهرية اللحم يقلل قوتهما، وما كان من الحيوان رطباً كالسمك والحملان الرضع شوي ليقلل رطوبته وما كان مسناً طبخ ليقلل رطوبة الطبخ يبوسته، والشواء يؤبس الطبع والطبخ يحله، وما عمل بالكانون أخف مما عمل بالتنور، لأن التنور يغمه فيرجع إليه البخار فيكسبه ثقلاً ووخامة وأغباب شواء التنور أصلح ويستعمل بعد شوق إليه، وشهوة له تعين على هضمه ويطيب الطبيخ بلباب البصل والحمص ومآئهما دون قشورهما وجملة جرمهما وبالجملة فاللب من كل شيء أكثر نفعاً وأقل ضراً من القشور، ويجتنب الأشياء الحريفة كالخردل والثوم فربما لذعت الآت الغذاء وقرحتها كما تفعل في ظاهر البدن قلت وهذا الحنين فيه قول يدل على أنها تقرح الظاهر وتعفن الباطن وإذا انهضمت الأشياء اللذاعة أحدثت في الكيموسات كيفية حادة حريفة مضرة جداً لأن الذي تفعله استحالة كيفية الدم أضر مما تفعله كميته ويجب أن يجتنب التي منها حتماً وأصلح الأطعمة ما لم يغلب عليه طعم فإن الطعم الغالب يدل على الكيفية الغالبة وأشد الطعوم ومشاكله للدم الحلاوة، ولذلك تشتد شهوة الصبيان لها لأنهم في سلطان الدم والحلو الأصلي كالتمر والعسل أشد تسخيناً للدم وإحراقاً له من الحلو الدسم كالفالوذج ونحوه وهذه المركبة أقل غائلة في تنوير الحرارة لأن الدسومة تقاوم تلك السورة إلا أنها أثقل على المعدة لمكان الدسومة وشرب الماء على الحلو الأصلي أنفع من شربه على المركب لأن الماء يمازج الأصلي فيكثر حلاوته ويعدله ولا يمازج الدسم فيعقب لذلك تخماً، والأصلح في تناول الحلو استعماله عباً وبعد الشوق الشديد ثم الإقلال وقصد اللطيف كالمعمول من السكر الطبرزد واللوز والحامض يفتق الشهوة إلا أنه أقل غذاءً من الحلو وهو مضر بالعصب، ويعق! ب الهزال والنحافة، وأصلح الحموضات الخل فإن فيه تحليلاً وتلطيفاً، والمالح معين على الهضم ويعتبر ذلك من تأثيره في الأشياء التي يطيب بها فيدفع العفونة والفساد عنها وهو ينوب عن الأفاوية الحارة مع سلامته وقلة غائلته، ويجتنب أكل

الطبيخ الحار الذي في بقية عليانه ولم تفارقه الأجزاء النارية فإنه كالشيء الذي لم يدرك، والغاب والفاسد رديء لا خير فيه. . . . أوقات الأكل أصلح أوقاته وقت الحاجة إليه وتجتنب استعماله بالعادة في وقت يعينه في كل يوم أو بالمساعدة أو بالشهوة الكاذبة فإنه يحدث حينئذ أمراضاً خبيثة والغداء والعشاء يصلحان للعامة ويجب أن يخفف الغداء لئلا يثقل البدن عن التصرف في المعاش ويستوفوا العشاء لأن النوم يتبعه فيعين على هضمه فلليل خاصية في تجويد الهضم ليست لنوم النهار إلا أن العشاء ربما أضر بالرأس والعين لأن قوة الهضم تحدث أبخرة كثيرة، فأما الملوط فصدر نهارهم مشغول بمهماتهم وهم يستكثرون مع ذلك من الألوان فلا يبقى فيهم فضلة لأكلة أخرى، بل الواجب أن يستقبلوا الليل بعد النوم الذي يعين على هضم الغذاء وهم في نهاية الجمام والنشاط للسهر والمؤانسة وإن دعت أحدهم نفسه إلى أكلة ثانية وليس ذلك بصواب له فليحذر اللحم والدسم ويقتصر على الخبز لا يكاد يعرض منه تخمة ولا يثقل إلا أن يفرط في الإكثار منه ويجعل أدمه في هذه الحال من الحموضات والملوحات وليحذر كل الحذر ويتوقى كل التوقي أكله بين شرايين فإنه مجرب الضرر ولا يكاد مستعمله يسلم منه. تقدير الطعام الحمية أصل الطب. وقلة الأكل أفضل العلاج، وحد ذلك أن يمسك عن الأكل وقد بقيت من الشهوة بقية تدعوه إلى الازدياد، فإن الطعام يربو وينتفخ في المعدة بعد أكله فإذا أمليت به ولم يترك فيها فضاء لرتوه أحدث الكظة وأوجب التخمة وتولدت عنه الأمراض الرديئة، ومن ضعف هضمه، جعل أكله دفعات وخففه واقتدى فيه بتدبير الطبيعة في تفريقها غذاء الأطفال وبتقليله في كل مرة، وينبغي ان تكون الجرأة على الأكل في الشتاء أكثر لانهزام الحرارة إلى غور البدن ويستعمل في الصيف ضد ذلك ويقصد في زمان الصيف اللطيف من الأغذية كالبوارد. ترتيب ألوان الطعام يجعل الأخف قبل الأثقل ولا يبتدئ بالدسومة فتفقر الشهوة وتلطخ المعدة بل يقدم الحامض بالخل فإنه يحلل أجزاء ما لاقاه فيفتق الشهوة ويمكن لما سواه ولا يقدم الشيء الحلو فإن

الطبيعة لميلها إليه تستولي عليه فينقطع به عما سواه ولا يبتديء بالشواء فإن القوة الهاضمة إذا تعلقت به قهرها فاقتصرت عليه فلم يمكن الاستكثار من شيء بعده ومن كانت معدته باردة فيجب أن يستعمل الفاكهة بعد الطعام بساعة جيدة ليلحق خفته الثقيل المنهضم قبله. صفات الأكل يجتنب تعظيم اللقم وسرعة الأكل. وإن لا يخلط في الأطعمة فإن في هذا الأدب فوائد ولها أنه أبلغ فيالاستيفاء من الطعام وأهون على الهضم الجيد وأبعد من الكظة لأن الذي يصل إلى معدته الشيء بعد الشيء من الطعام تستولي عليه القوة الهاضمة وتتمكن في الهضم، واللقم المتتابعة تقبر هذه القوة وتغص المعدة فيتولد عنها الفواق والجشاء المؤذي المستقبح وكذلك حال الماء في امتصاصه والعدول عن عبه وتأني الأكل أبعد من مشابهة الحيوانات التي تتناول أغذيتها بالنهم والشره وأحرى أن لا يستقذر الإنسان وتعاف الأنفس مؤاكلته ثم إن كانت عنده دعوة أو جماعة كان تأنيه أمكن لهم في تناول حاجتهم فمن رزق هذه العادة وإلأا فليرض نفسه عليها، ويجتنب الأكل على حال انزعاج من النفس وما ينسيه ثم يتناول الغذاء بعده ويسر نفسه بمحادثة المواصلين، ومؤانسة المنادمين فإن ذلك معين على نجوع الغداء ولذلك كانت الملوك لا تنام ولا تشرب ولا تأكل إلا على سماع ملذا أو حديث ممتع وإن لم يتمكن من النوم بعد الأكل فلابد من اضطجاعة أو تكأة فإن الانتصاب والقعود تعب والتعب يمنع من تمام الهضم. الباقي للآتي

إسبانيا والعمران العربي

إسبانيا والعمران العربي تتمة ما في الجزء الماضي دثرت المدنية الإسلامية الباهرة لا بأيدي المسيحيين الذين كانت تخشى بأسهم بل بصنع أناس من المسلمين أنفسهم نسفوها نسفاً وأعني بهم المرابطين. ولم يلتجيء أمراء العرب في الأندلس إلى هؤلاء الإفريقيين القساة المتبربرين الذين حملوا إلى الإسلام روح تعصبهم المنبعث من ضيق عقولهم الجاهلة إلا بعد أن أوجسوا خيفة على حياتهم وزاد سوء ظنهم في العواقب. هلك المعتضد ونفسهتحدثه بالشر الذي يجره على بلاده وأخلافه. وبينما كان ألفونس السادس ملك طليطلة إذا هو قد أصبح ملكاً على إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغدا الأندلسيون مهددين من جهتين فرأوا أن يستسلموا لأبناء دينهم من المرابطين ليدفعوا غارة المسيحي عنهم وهو عدوهم القديم. وفيسنة 1086 هزم يوسف (بن تاشفين) وعصاباته الإفريقية ألفونس السادس في وقعة الزلاقة شر هزيمة وفي سنة 1100 كتب لهذه العصابات أن تطرد عامة ملوك الطوائف أو تقتلهم وفيعام 1027 استرجعوا مدينة سرقسطة وخضعت إسبانيا كلها لملك مراكش. وإن الثلاثة الملوك من المرابطين الذين استولوا على الأندلس منذ سنة 1100 إلى 1445 وهم يوسف وعلي وتاشفين كانوا على شجاعة فيهم ضعاف المدارك موسومين بالتعصب لا وقوف لهم على اللغة بل ولا على آداب العرب وأخذوا بتحريض الفقهاء يضطهدون الشعراء والعلماء والفلاسفة باسم الدين حتى اضطر هؤلاء أن يصمتوا أو أن يفروا بأنفسهم إلى بلاد أعدائهم القدماء ملوك قشتالة ونزلوا مدينة طليطلة حيث توفروا على تخريج النصارى يعلمونهم من أحكام الترقي ما كان ينقصهم للحاق بالمسلمين. ومن الغريب أنه لم ينشأ على عهد عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني على كثرة حرصهم على المعارف علماء متجرون وفلاسفة عظام في البلاد الأندلسية المستعربة. وعلى العكس كنت ترى الفلاسفة يكثرون في عهد الشدة أيام أخذ المتعصبون من أهل الدين يطاردون كل من يجرأ في أرض الأندلس على مخالفة مذهب مالك. نعم كانوا ينبغون على حين غرة من أولئك المتنطعين وينيلون إسبانيا العربية مجداً لم يبلغه المسلمون أيام كانوا مشارقة صرفاً. فجاء الأندلس أمثال ابن باجة وابن الطفيل وابن زهر ولاسيما أبو الوليد ابن رشد الذي

تخرج بابن باجة وانتمى إلى ابن الطفيل وصحب ابن زهر. هذه الفلسفة التي انتقد عليها فيما بعد لخلوها من الإبداع قد كان لها شأن عظيم في حضارة القرون الوسطى بأن كانت واسطة النقل إلى الغربيين الذين أضاعوا حتى الاسم من معارف اليونان على ما تلقتها عنهم مدرسة الإسكندرية وبفضل هذه المدرسة تسنى لعلم الفلسفة واللاهوت (علم الكلام) في القرون الوسطى في الغرب أن تتصل التقاليد المدرسية بآداب النهضة. كان للشعراء مقام كريم بين الناس بمافطروا عليه من التصورات فكانوا على طبيعتهم الشرقية لا يأتون ما يخالف روح الإسلام وكان الملوك بما فيهم من الاستبداد الطبيعي والأغراض السياسية يمقتون الفلاسفة. هذا إلى ما هنالك من حقد المتنطعين والمتفقهين وما جبل عليه الشعب الإسباني من أخلاق التعصب وكان الإسبانيون بانتحالهم الإسلام يزيدون المسلمين تعصباً إلى تعصبهم. وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني من التسامح على جانب مع العلماء ولقد اتهم المنصور حاجب هشام الثاني بأفكاره الفلسفية فلم يدفع عنه هذه التهمة إلا بتكبير مسجد قرطبة ونسخ القرآن بيد، وإدرار الهدايا والعطايا على العلماء والفقهاء وتخريب خزانة كتب الحكم الثاني لأنها كانت عبارة عن كتب فلك وفلسفة وجغرافيا وطب فأحرقت وبإحراقها بادت إلى الأبد كنوز لا تقدر بثمن ونال لقاء ذلك رضا المتنطعين فخلا له الجو في قصره وأخذ يشتغل بالدروس التي يحظرها على الناس ويشتد في الإنكار عليها. وما أتاه من هذا القبيل سياسة قام به المرابطون مدفوعين إليه بعامل من الاعتقاد ونابل من أمزجتهم. فكما أحرقت سنة1150 كتب ابن سينا في بغداد بأمر الخليفة رأينا بابن باجة يسجن بدعوى المروق من الدين ويضطر ابن واهب من إشبيلية أن يخلى عن دروسه الفلسفية إبقاءً على حياته ويقتل ابن حبيب من أهل تلك المدينة لاتهامه بالفلسفة. ويضطهد ابن الطفيل حتى يضطر إلى الاعتراف جهاراً بإيمانه الصحيح ومعتقداته الخالية من الشوائب. وهكذا انقضى زهاءُ قرن والكتب تحرق في أطراف إسبانيا الإسلامية وبها يبيد أثمن ذخر من الآداب العربية.

حاول السلطانان الأولان من الموحدين وهما عبد المؤمن ويوسف وكانا يميلان إلى الحرية أن يخففا من تعصب عصاباتهما ومن تشدد المتنطعين من المتصوفة حتى حظر عبد المؤمن إحراق الكتب على نحو ما كان يفعل المرابطون لإبادتها وأحسن معاملة ابن الطفيل وابن زهر وابن باجة. وأغدق يوسف وكان أعلم أمراء عصره على ابن الطفيل من إنعامه الشيء الكثير وقرأ عليه فلسفة ابن رشد وفوض إليه أرقى المناصب ومنها منصب القضاء في إشبيلية ثم أقامه طبيباً أول فيقصره (1183) ووسد إليه منصب قاضي القضاة في قرطبة على نحو ما كان أبوه وجده. وأفاض عليه يعقوب المنصور بالله ما كان له من أسلافه وزاد عليه ولكن إرادة شخص ولو كان ملكاً لا تقوى على صد هجمات تيار الرأي العام ولاسيما في عصر كان فيه سلاطين الموحدين مضطرين إلى إضرام جذوة التعصب فينفوس رعاياهم المسلمين من الأندلسيين لمعاكسة ملوك قشتالة وأراغون الذين كانوا على الدوام يتقدمون إلى الأمام. وفي سنة 1196 بعد وقعة الأركوس التي كتب فيها النصر للمنصور على ألفونس التاسع صاحب قشتالة قويت شوكة الحزب الديني في القصر السلطاني ونكب ابن رشد على شيخوخته نكبة هائلة تناولت كثيرين من العلماء والأطباء والشعراء بل والفقهاء متهمين بحرية الفكر والخروج عن مقصد الجماعة. وطرد العامة ابن رشد على أبشع صورة من الجامع الأعظم في قرطبة وكان ذهب إليه لأداء الصلاة مع ابنه عبد الله الذي كان من أعظم عمال تلك المدينة ونفي إلى مدينة لوسنا اليهودية. وفي غضون ذلك صدر أمر من المنصور يحظر فيه على مراكش وإسبانيا درس الفلسفة المضرة والعلوم وما يتعلق بها ولم يستثن من هذا الحظر إلا الطب والحساب ومبادئ الفلك. وعهد بتنفيذ أمره إلى ابن أخت ابن زهر وكان فيلسوفاً كخاله فصدع بالأمر والخوف رائده. ثم إن ابن رشد نال الرضا من سلطانه قبل موته بأربع سنين وعاد المنصور يتوفر على دراسة ما كان يحظره على أمته من العلوم ولكن بعد أن ضربت الفلسفة الإسبانية العربية ضربة لا يجبر كسرها. وإذ طردت العلوم الإسلامية من بغداد ومراكش وإسبانيا لم يبق لها غير مصدر واحد تلجأ إليه في طليطلة حيث طلبت حماية الدول المسيحية التي هي ألد أعدائها وكان سبقها إلى تلك العاصمة كثير من المسيحيين والإسرائيليين من أهل الأندلس فزعوا إليها لتحمي

حياتهم ومعتقداتهم. وإذ كان المرابطون والموحدون متعصبين بالفطرة اضطروا أن يتظاهروا بالتعصب سياسة أيضاً فكانوا يعيشون في جهاد دائم لمقابلة المسيحيين من سكان الشمال الذين لم يكونوا دونهم في الانغماس بحمأة التعصب أيضاً للدفاع عن كيانهم في بلادهم ولم ير أولئك المرابطون والموحدون وسيلة إلى بث دعوتهم في نفوس أبناء دينهم أحسن من إثارة روح التعصب في جمهور العامة المتعصب وليس من سبيل إلى إقناعهم إلابتحسين دينهم لهم واضطهاد غيره من الأديان. فلا عجب من ثم إذا عومل نصارة الأندلس بأقصى الشدة وخربت كنائسهم وصودرت أموالهم وغدوا على الدوام مهددين في حياتهم. ولما عيل صبرهم استصرخوا ألفونس السابع المعروف بحبه للحرب والضرب فاقتصر من نجدتهم على غزو المسلمين في عقر دارهم ولكن بدون طائل إذ قاسى مسيحيو الأندلس من تلك الغزوات ضروب النكبات فقتل بعضهم أو نفي إلى إفريقية (1125) على صورة متوحشة بحيث هلكوا بأسرهم قبل أن يبلغوا منفاهم. وجرى استئصال شأفة النصارى سنة 1136 على أقسى وجه حتى لم يبق منهم باقية في الأندلس ومن نجوا من الموت والتشريد لجؤا إلى قشتالة. وهكذا أسدى المرابطون والموحدون لنصارى الشمال معروفاً عظيماً غير متوقع بما توفروا على القيام به من العسف حتى نقضوا العهد الذي كان عقد بين إسبانيا الجنوبية والمسلمين العرب وقووا الشعور الوطني والتحمس الديني في الأندلسيين وجمعوا بين الإسبانيين من سكان الشمال ومن سكان الجنوب بما بينهم من أواصر الجنس والدين فقاموا قومة رجل واحد في وجوه المسلمين مسوقين إلى ذلك بحب الانتقام المتأصل بين الإسلام ومن يخلفه. وما كان الاضطهاد الذي نال أهل الصناعات الوديعين من المغاربة بعد خمسة قرون إلا جواباً طال التفكر فيه ودعت إليه قسوة المرابطين والموحدين وكان نتيجة تعصب مماثل لذاك التعصب ورأي سياسي مشابه لتلك الآراء وإن كان إلى الصراحة أقرب. ولم يلبث امتزاج الشعوب الإسبانية على اختلاف العناصر والدين إن أثمر الثمرة المطلوبة فانهارت قوة الموحدين في وقعة لاس نافاس دي تولوزا (1212) وسقطت قرطبة (1238) وإشبيلية (1254) وبلنسية ومرسية في أيدي الإسبانيول وغدا هذا الاسم بعد حين جامعة دينية أكثر مما هو جامعة جنسية لأن جميع من لم يرتدوا عن الإسلام دخلوا في سواد

العرب البربر وامتزجوا فيهم أي امتزاج. وإن المغاربة الذين رضوا بأن يعيشوا في الأندلس عيش التنبت إلى القرن السابع عشر ليصعب عليهم أن يبرهنوا على أنهم من دم إفريقي ثم أنه يتعذر على الإسبانيول أيضاً أن يذكروا أنسابهم لأن بعضهم مخضرمون خلاسيون فيهم الدم العربي وقليل منهم سرى إليهم دم البربر إبان الفتح وآخرون أصبحوا إفريقيين صرفاً عند زوال ذاك السلطان وخفوق راية الإخفاق على ربوع الأندلس الإسلامية. ومما قوى أمل المسلمين في المستقبل وزادهم نشاطاً كثرة عديدهم فقد طرد منهم فرديناند الثالث بعد دخوله إشبيلية زهاءَ ثلثمائة ألف مسلم من أهل هذه المدينة فلجؤا من إشبيلية إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة حيث بقيت دولة بني نصر مائتين وخمسين سنة أيضاً وعلى هذا كانت غرناطة آخر ملجأ للعمران العربي أزهر أي أزهار عندما أوشك بالانقراض فرأت حدائق الحمراء البهجة كبار الشعراء والمؤرخين من العرب أمثال محمد بن الخطيب وابن خلدون يجتازانها هما وابن بطوطة الجغرافي العظيم. كان من نتائج وقعة لاس نافاس دي تولوزا أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء (المسلمين) فحاول ألفونس العاشر خليفة القديس فرديناند الثالث واكن أوسع ملوك عصلره مدارك أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام وذلك بالأخذ بأحسن ما فيالحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية. فأسس سنة 1254 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف واستدعى إلى عاصمته العلماءَ من جميع الملل والأجناس ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيار أحسن المعارف النافعة وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني. وذلك لأن الإسرائيليين على سعة آمالهم في أحكام صلات التآلف بينهم وبين مسلمي الأندلس وما عرفوا فيه من مرونة الأخلاق قد عوملوا أسوأ معاملة وأوذوا في أنفسهم كما آذى المرابطون والموحدون نصارى تلك البلاد. فقتل الإسرائيليون ونفوا ومن سعدهم أن لجؤا

إلى أرض ملوك قشتالة وأراغون الذيمن أحسنوا استقبالهم وكان لهم في بلاطهم شأن مهم أواخر القرن الخامس عشر فكان منهم أمناء الخزائن ومستشارون وأطباء للملوك. وبلغ عددهم في طليطلة أيضاً زهاء اثني عشر ألف شخص. وظل اليهود إلى ذاك الحين أقدر التراجمة على نقل الحضارة العربية وبما ترجم منها إلى لغتهم نجت أثمن آثار تلك الحضارة لأن الموحدين والمرابطين أخذوا يبددون كتبها عامة. وكان زان بن زاكت ويهوذا هاكوهن والربان زاك هم الذين نقلوا لألفونس العالم معظم كتب التاريخ والفلسفة والفلك عند العرب مع الشروح التي علقها عليها الشراح. وأتى دهر ظن فيه أن ألفونس العاشر سيحيي إسبانيا بعد موتها. ظهرت الكنيسة أنها طمع في تنصير المسلمين بالبرهان فوضع أحد الرهبان الدومينيكيين واسمه رامون مارتي أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 12 ـ 1311 امتدح البابا كليمان الخامس في إحدى المجامع الدينية من إنشاء كرسي لتعليم العربية في مدرسة سالامنكة. وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومينيكيون مثالاً لغيرهم بإنشاء مدارس لتعليم اللغات الشرقية ليقف رهبان من أهل الغيرة على لغات غير أبناء دينهم ومعتقداتهم ويباحثوهم ويجادلوهم. وقد أنشأ يعقوب الأول صاحب أراغون مدرسة مثل هذه في ميرامار إكراماً لثلاثة عشر راهباً فرنسيسكانياً وأخذ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص ينقطعون إلى دراسة اللغة العربية ليقاوموا الفقهاء والمشايخ بسلاحهم. وعلى هذا التقليد ظلت الجمعيات الدينية ولاسيما الفرنسيسكان إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة الاستشراق أي درس آداب الشرق ولغاته وتاريخه. كانت وطنية الإسبانيين متشبعة بروح السخط وحميتهم قائمة على التعصب وعدم التسامح وسياسة ملوكهم إلى الشدة ولذلك نالوا ما طمحت إليه نفوسهم من استتباع المسلمين بدراسة علومهم وقد نشأت من هذا الاحتكاك حضارة ذات قلب وإبدال مركبة من حضارتين مهمتين بغناهما ثم استقل الإسبانيون بعقولهم المرنة الشديدة المروضة وأصبحوا مصدر حضارتهم ومقرري مدنيتهم. اعترفت إسبانيا بما هي مدينة به للحضارة العربية بما حفظته لها في مدارسها من الشأن

حتى بعد أن تحررت من قيودها. كان في سالامنكة التي استحقت أن تجعل في مصاف باريز وأكسفورد وبولونيا إحدى المراكز العلمية الأربعة في الغرب سبعون حلقة للتدريس وربما بلغ عدد طلبتها سبعة آلاف في القرن السادس عشر ولم تنل هذه الشهرة الطائرة أولاً إلا لكونها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب التي كانت إلى ذاك العهد مغشاة بتجارب تافهة وعمليات مضحكة من نحو السحر والطلسمات. ولم يكن في سالامنكة في أواخر القرن الثالث عشر على عهد البابا بونيفاس الثامن غير خمسة وعشرين حلقة للتدريس منها حلقة لليونانية وأخرى للعبرانية وثالثة للعربية. ولقد أصيبت هذه الحركة المثمرة المباركة بضربة شديدة عندما عاد ملوك الكاثوليك فاستولوا على غرناطة سنة 1492 واستصفوا أرض إسبانيا وأبادوا آخر مملكة إسلامية من شبه جزيرة الأندلس. ومنذ ذاك العهد أعادت حرب لا على دين أصحاب تلك البلاد ونعني بهم المسلمين بل على جنسيتهم ومدنيتهم. وقد جرت العادة بأن تلقي تبعة هذا العمل على رجال الدين من الإسبانيين ممن كانوا في الحقيقة متفانين في تنفيذ هذا العمل وذاهبين بفضل الربح فيما قاموا به من الذرائع على أن هذا الحكم لا يخلو من غلو ووضع المسؤولية في غير موضعها وذلك لأن ملوك الكثلكة مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث الذين نسب إليهم الفخار بهذه الأعمال هم اليوم يبوؤن بالقسم الأعظم من العار. فكانت الشدة فيهم منبعثة عن رأي سياسي كاذب أكثر مما هي عن تعصب ديني ويراد بها التوسع في الملك على وجه سخيف. فطمع الإسبانيون بعد الوحدة السياسية والملكية التي نالوها بالصبر عليها قروناً أن يضموا إليها الوحدة الأدبية المتناهية في الخيال وهي التي كان يتصورها لويس الرابع عشر بفكره القاصر وانتهت بفسخ الأمر الصادر في نانت. وكان الفكر السائد منذ عهد فرديناند الكاثوليكي إلى فيليب الخامس بين جميع حكومات إسبانيا أن يعملن كلهن على تطبيقه على ضعاف المغاربة بالشدة التي جرين عليها في الأزمان السالفة فكن يقاومن أمراء المسلمين في الأندلس مقاومة ليس بعدها مقاومة. ومثل ذلك كان يجري على الإسرائيليين بصورة أكثر شدة ولكن لا تكاد يشعر بها لأن اليهود كانوا عبارة عن طائفة أقل من المسلمين وكان الغضب والأحقاد الشخصية تصب عليهم في الفترات متقطعة ثم زاد التعصب الإسباني وعجل بالقضاء على كل مخالف. وأكد فرديناند

وإيزابيلا للمغاربة في غرناطة والأندلس بأنهم في حلٍّ من البقاء في أرض إسبانيا وأن يكونوا أحراراً في دينهم على شرط أن لا يدعوا إليه وأن تجعل جميع مساجدهم كنائس كاثوليكية. ولما قضى نحبه الكردينال بدرو كونزالز دي مادوزا سنة 1495 قام الكردينال كسيمنس دي سيسنروس رئيس أساقفة طليطلة ومن قدماء الأساتذة ومن الشاهدين على ما قالته إيزابيلا وحاكم إقليم قشتالة ينقض العهد الذي تم مع المسلمين رياءً ونفاقاً. وكان هذا الرجل معروفاً بسعة نظره وقوة عارضته في العمل بكل رأي يراه صواباً فيدعو على العمياء لتأييد الحكم المطلق للمقام البابوي أو للحكومة الملكية. وأنشأ القوم بعد ذلك لا يكتفون بدعوة المسلمين إلى النصرانية بل يتطلعون إلى تعميدهم أو طردهم فجرى تعميد ألوف في إشبيلية وطليطلة وقرطبة وغرناطة من أولئك البائسين من المسلمين ممن اضطرتهم المصلحة والخوف واحترام المتغلب وحب الأرض التي ولدوا فيها أن يرضوا بتغيير معتقداتهم وقلوبهم منكرة عليهم أعمالهم ثم تكفل ديوان التفتيش الديني بمراقبتهم لتتبين له طهارة اعتقادهم. ومنذ سنة 1501 ـ 2 طرد من قشتالة ومملكة غرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام ولم يعد للدومينيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا بها من مجادلة الفقهاء وتخلوا عن علومهم لأنها أفسدت أفكارهم وزهد المسيحيون في علوم المسلمين إذ قام في أذهانهم أنها خطرة عليهم. ولذلك رأينا الكاردينال كسيمنس عندما أسس أو أحيا سنة 1499 كلية الكالادي هنار استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية مع أنه نسج في تأسيسها على منوال مدرسة سالامنكة وجعل فيها حلقتين لتدريس العبرية واليونانية فرأى أن تكون هذه المدرسة الجامعة لتلقي علوم اللاهوت وأن تبث الدين الذي يريد الملوك والبابا أن يروه غاماً موطداً الدعائم من أقصى إسبانيا إلى أقصاها. وكان أعظم أستاذ في سالامنكة في القرن السادس عشر فري لويس دي ليون شاعراًً لاهوتياً وفيلسوفاً مستشرقاً يحسن اللغة العبرية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية. صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية ولاسيما من المصاحف المخطوطة أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي

على الحضارة العربية بجملتها التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون ولم يبق لعينها من أثر. وكاد ديوان التفتيش الديني على ما أخذ به نفسه من إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعاماً للنار تلك المخطوطات العربية التي حفظت في خزانة كتب الأسكوريال لولا أن تلطف الماركيز فيلادا وحال دون إحراقها. أما متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين فلم يكونوا يستطيعون إبداءَ أسفهم إلا سراً وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية أي الإسبانية المكتوبة بحروف عربية دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم. ولم يحظر فيليب الثاني سنة 1556 على متنصرة المسلمين حمل السلاح فقط بل منعهم من استعمال اللغة العربية وأرادهم على أن تنزع من أسمائهم التراكيب العربية ومن أجسامهم الألبسة الشرقية ليدل بذلك على أنه يريد مزجهم في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي. ثم إن قدماء المسيحيين من الإسبان كانوا كل حين يحتقرون أولئك المتنصرة على نحو ما كان العرب قديماً أيام عزهم يزدرون بالمولدين ولما ضاقت صدور المغاربة انتفضوا على احكومة فشتت شملهم في أودية البوجاراس وبعد مقاومة شديدة نفي أولئك المتنصرة أو سجنوا في أواسط بلاد إسبانيا وأصبحوا أمراء (1558). سيم المسلمون في إسبانيا سوء العذاب فحاولوا ثانية أن يشقوا عصا الطاعة على عهد فيليب الثالث وعندها نفوا آخر مرة وعددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة. ولم يبق إذ ذاك من الحضارة العربية واللغة العربية غير ذكراهما البعيد وأصبحتا مزدرىً بهما. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف بأن الإسبانيول عاملوا الكتب والناس على نحو ما جرى المرابطون والموحدون وكانوا يمقتون أكثر لو لم يستعيضوا عن المدنية التي قضوا عليها بمدينتهم التي كانت إذ ذاك في أوائل أنبلاج فجرها فإن تخالفت النتيجة فالطرق إليها سواءٌ في اللوم والتقريع. ومما لا يقبله العقل لولا أنه حقيقة أن إسبانيا التي كان للمدنية العربية عليها أيادي بيضاء قد بلغت بها الحال إلى أن تناستها بالكلية. فكان يزهد خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بالمرة في تعليم اللغة العربية في أرض إسبانيا ولم يكن له أثر إلا إذا كان على طريقة سرية إفرادية وغدا الاطلاع على العربية نقصاً وربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد ولم تبق مدرسة تريلنك لرهبنة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثراً ضئيلاً

فكان يكفي الطالب منها أن يلفظ الأسماء المستعملة ليذهب بعد إلى إفريقية وآسيا داعية للنصرانية ومن كان يحب التقدم منهم في معرفتها مجذوباً بما حوت من الآداب الغنية لم يبلغ شوطاً كبيراً في معرفتها إذ لم يكن يراها أحد عنوان مجد لإسبانيا الكاثوليكية في عصره. ومن العدل أن يقال أن إسبانيا كانت منذ عهد فيليب الرابع إلى شارل الثالث تتخبط في المسائل الشاقة سواءٌ كان في شؤونها الداخلية أو الخارجية فلم يترك لها انحطاطها السياسي والعملي وقتاً ولا قوة لدرس العربية والتفرغ للبحث في تاريخ الحضارة الإسلامية وقد أوشكت على عهد شارل الثالث ملك الفلاسفة أن تعود العربية وآدابها إلى ما كانت عليه من الحياة في إسبانيا وإن كان بعض الإسبانيين إلى اليوم ينكرون على هذا الملك أفكاره على أنه كان له في إسبانيا الحديثة شأن أقل من فيليب الثاني وإن كان مثله في مكانته وسلامته ففيليب الثاني وشارل الثالث هما الملكان الكاثوليكيان اللذان بلغا بمملكة إسبانيا أوج الفخار أما شارلكان فهو أوربي أكثر منه إسباني وإن كانت إسبانيا بلد أمه. وبآثار ذينك الملكين يعثر في كل خطوة من يزور شبه جزيرة إسبانيا. فقد بلغ من جرأة شارل الثالث أن ضرب الماضي ضربة أدخلت إسبانيا في الحياة الجديدة التي أخذ شعوب الغرب يستمتعون بها فأراد وهو مشغول القلب بماضي مملكته شغله بسمتقبلها أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية فاستدعى لذلك رهباناً موارنة من سورية وأنفق عليهم النفقات الطائلة ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية. وكان هذا العمل من الصعوبة بحيث لم يكف عصر شارل الثالث (1759 ـ 1788) لإتمامه هذا مع ما وقف في سبيله من الأوهام والعثرات حتى إذا مضى لسبيله انقطع العمل الذي قصد إليه. بيد أنه يحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباعي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية أمثال القصيري وكامبومان والأب بلانكري وكوندو وفري باتريسيو دولانور وغيرهم. جرَّت حروب نابوليون الويلات والاضطرابات على شبه جزيرة الأندلس وانقطع على عهد فرديناند السابع كل عمل يراد به إحياء العلم على نحو ما بدأ به شارل الثالث. ولما تولت الملك إيزابيلا الثانية قويت النهضة وخلصت النيات للتجديد ودخل الإصلاح إلى تلك الكليات القديمة التي كانت تتسكع في ديجور الباطل والعاطل إلا أن مسألة تعلم اللغة

العربية كانت في الدرجة الثانية بالنسبة لما شرع فيه من إصلاح التعليم سنة 1845 على يد المسيو جيل دي زارات وبفضل هذا عادت العربية تدرس في الكيات رسمياً. ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة الأندلس منذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر ثم إن فقد إسبانيا لمستعمراتها في أميركا وآسيا ضاعف حركتها العلمية وطمحت بها آمالها السياسية نحو استعمار أفريقية أي مراكش. فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية من تلقاء نفسها تدخل في قائمة دروس التعليم العالي وأصبحت المجموعة النفيسة من المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي ميداناً للمستعربين من الإسبانيين يبحثون فيه ما شاؤا ويضاف إلى تلك الأسفار الثمينة المجموعة النادرة جداً من المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية الت احتفظت بها رهينة الكنيسة الكاتدرائية في طليطلة. دع عنك تلك النفائس التي اقتنتها بعد مكتبة العالم كايانكوس وما اقتناه الأستاذ كودرا في رحلاته إلى مراكش وتونس. وعندنا أن للمستشرق كايانكوس الفضل في أنه خط للمشتغلين بالعربية في إسبانيا طريقاً مهيعاً فقام على أثره زمرة من العلماء وفي مقدمتهم المحترم الدكتور فرنسيسكو كودرا الذي احتفل بيوبيله احتفالاً دل على عواطف أهل العلم الأوربي. وقد أصبحت مينتان من مدن إسبانيا كهف اللغة العربية ونعني بهما مجريط (مدريد) وغرناطة فنبغ في مجريط الدكتور كودرا أستاذ الكلية الوسطى والدكتور فرناند إيكونزالز والأب لازكانو الذي أخذ يبحث في اللهجة السورية في دير الأسكوريال وهو العمل الذي بدأ به في بيروت. وغير هؤلاء العلماء بالمشرقيات وقد انضم إلى هاته الزمرة الغيورة أناس من الفتيان أخذوا على أنفسهم الجري على آثارهم لإتمام العمل الذي بدأوا به وتقوية روابطه مثل الكاهن المسيو ميكل أسين أستاذ اللغة العربية في الكلية الوسطى والأستاذ ريبرا أستاذ كلية سرقسطة الذي يدرس في مجريط حضارة المغاربة والعبرانيين والمسيو آلماني مدرس اليونانية والعالم المشهور بالعربية والمسيو فيف عضو المجمع العلمي التاريخي والمؤرخ الأثري المحقق

والمسيو كونزالفو خازن كتب السجلات الوطنية والمسيو فيلالتا الذي قضى شطراً مهماً من حياته في مزغان والدار البيضاء وطنجة. وقد كانت غرناطة فيما مضى مثل مجريط اليوم عاصمة الأندلس فحق لها أن تكون مركز الدروس العربية وكان الدكتور فرنسيسكو جافيه سيمونه هو الذي رفع مقام هذه اللغة وعد تحصيلها فرضاً رسمياً على الطلاب في غرناطة. مات مؤخراً وهو مشهور بأبحاثه العديدة في الجغرافيا والتاريخ وأصول اللغة والآداب الإسبانية الإسلامية وأخصى في حل الخطوط العربية ومثله الدكتور ليوبولد أكويلاز والدكتور ماريانو كاسبار ريميير وامتازت إشبيلية بأبحاثها الكتابية المتعلقة بغرناطة وهو الفرع الذي برز فيه الأستاذ الماكرو كاردناس ولكل من مدينتي برشلونة وسالامنكة صفان لتدريس العربية العامية وتجد مثل هذين الصفين في مالقة وقادش وبالمادي ولورقة وتنيريف في قناريا. ولا يسعنا أن ننسى ما أصدره كل من الدكتور كودرا والدكتور ريبرا تاراغو من الأثر النفيس باسم المكتبة العربية الإسبانية فإنهما لم ينشرا منذ سنة 1882 إلى 1892 أقل من عشرة مجلدات في أصول اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب والنقود العربية في إسبانيا. ومما لا يصح السكوت عليه ما نشر باسم مجموعة الدروس العربية بمساعي الدكتور ماريانو دي بانو والدكتور دودرا وقد بلغ ما نشروه حتى الآن سبعة مجلدات. وإنك لتجد في إسبانيا ميداناً عجيباً للدرس وذلك لأن المخطوطات والكتابات كثيرة فيها على الرغم مما أصابها من التلف منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر كما تقرأ ذكرى الحكومة العربية في كل حجر يقع نظرك عليه بل في كل وجه يتمتع طرفك بمرآه وتجد العاملين المدربين على العمل كثاراً فلا يعوزك إلا أن تدعوهم فيستخرجون معك الدفائن والكنوز. ولولا الصفات الشخصية التي فطر عليها المشتغلون بالعربية من الإسبانيين بالنظر لانفرادهم وقلة معونة الحكومة لهم وجهل الأمة قيمة ما يشتغلون به لما كان للعربية في إسبانيا ذاك المقام المحمود فقد رأينا الحكومة تتشدد في توصيد تدريس العربية في الكليات إذا خلت من مدرسيها فتقتصد بذلك رواتب المدرسين أو تعهد بالتدريس إلى أناس غير متمكنين منها حق التمكن كما فعلت في سالامنكة وبرشلونة ووسدت التعليم فيهما إلى مدرس اللغة العبرية. والمعلوم أن العلم كلما ارتقى احتاج إلى أناس متحجرين

وأخصائيين. والأخصاء في فن يفتح لصاحبه السبيل فيبذل جهده في نقطة واحدة وبذلك يبرع ويبرز.

حالة المسلمين الاجتماعية

حالة المسلمين الاجتماعية أيها السادة إن من يلقي نظرة التاريخ الإسلامي ويرى ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى من عزة الجانب وقوة السلطان وحرية الأفكار واتحاد الكلمة وما هم عليه اليوم من وهن العقيدة وضعف العزيمة وانحلال الرابطة قد نالت منهم الأهواء وفتك فيهم داء الشقاء تذوب نفسه حسرة وأسى ويتشوق إلى الوقوف على ما أصاب المسلمين فبدّل من حالهم ونزل بهم م مستوى العظمة إلى حضيض الضعة والمهانة وهم اليوم أعز من سلفهم نفراً واكثر مالاً وأرقى عيشاً وهذا كتاب الله وسنة رسوله وهما الأساس المتين الذي قامت عليه قوة الإسلام ومنهما قد انبثق نوره وأضاءت محجته يتليان بين ظهرانيهم بكرة وعشياً. وهذه معاهدهم العلمية تخرج في كل عام من رجال الدين وحملة الشريعة وأرباب الأقلام ما يربو عدده أضعافاً مضاعفة على ما تخرجه قرون كثيرة في أول الإسلام. ليت شعري كيف لا يذهل قاريءٌ التاريخ مما وصلت إليه حالة المسلمين وهو يرى أن الإسلام قد ظهر بتعاليمه السامية ومبادئه العالية فأشرق نورها على أفئدة قوم لم يسبق لهم عهد بالمدنية ولم يعرفوا بين الأمم إلا بجفاءِ التربية وعبادة الأوثان وشن الغارات وشظف العيش وخشونة الطباع اللهم إلا بعض أخلاق كريمة كالكرم والوفاء ونحوهما مما لا يعد ركناً وكيناً تستند عليه الأمم في نهضتها فما لبث أن حرر الأفكار من عقالها وبعث الهمم من مراقدها وأنشأ منهم نشأ جديداً فلم تكن عشية أو ضحاها حتى تجلت عروس تلك المدنية العربية في ثوبها القشيب جامعة بين قوة السلطان وصولة العلم بين التسامح والشدة فعمروا الأرض وأحيوا فيها موات الفضيلة وبلغوا شأواً عظيماً من رقة الشعور وصفاء العقل فمكنهم ذلك من التلطف بالأمم حتى وقفوا على خفيات أخلاقها وعاداتها وكشفوا ما كان مستوراً عهدها واستخرجوا من كنوز معارفها ودقائق حكمها ما ظهر فضله على الأوربيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية. نعم لم يمض جيل حتى أخذت دولة العلم تعانق دولة الإسلام في جزيرة العرب وما فتحه المسلمون من الأمصار فينبغ فيهم الحكيم والطبيب والفيلسوف والمهندس والمخترع والفقيه والمحدث والسياسي المحنك والأصولي البارع والإمام العادل فأخذ هؤلاء يجوبون الآفاق يقودون طلائع تينك الدولتين أينما حلوا حل معهم ما استفادوا من صنائع الفرس والآريين

وعلوم المصريين والرومانيين بعد أن هذبوه وغسلوا عنه ما تراكم عليه من الأوضار بأيدي الرؤساء في الأمم حتى غدا بفضلهم أبلج ناصعاً يختال في حلة عربية تدهش الناظرين وتزري بكل شيء في العالمين. وإن ديناً هذا شأنه في ترقية الشعوب وتهذيب النفوس لجدير بأن لا يقف بأهله تيار الرقي والتيكلما توالت الأيام وحرصوا على التمسك بمبادئه ونهجوا منهجه القويم، فما هو هذا الداء العضال الذي مني به المسلمون فتقاعسوا عن اللحاق بأسلافهم وتقطعت بهم السبل وبرح بهم داء الفشل. ارجع البصر معي أيها السامع الكريم وانظر إلى ما وصلت إليه حال المسلمين. إنك لا تجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين فيناحية أو بيتين في قرية وأهل أحدهما مسلمون والآخر غير مسلمين ألا وتجد المسلمين أقل من جيرانهم نشاطاً وانتظاماً في جميع شؤونهم الحيوية والعمومية وأقل من نظرائهم في كل فن وصنعة وأعظم إهمالاً وأكثر خمولاً وأكبر شقاقاً وأحقر نفوساً وأتعس حالاً حتى توهم كثير من حكماء الأمم الحية لينصفوا التاريخ أن الإسلام والنظام ضدان لا يجتمعان وعدوان لا يأتلفان. أيها السادة إن علينا واجباً كبيراً وفرضاً محتماً أمام الله ورسوله والناس أمام الشرف والتاريخ لا نخرج من عهدته ولا نبرأ من تبعته إلا إذا وجهنا جل عنايتنا وصرفنا أوقاتنا وقللنا شباة يراعنا بحثاً وتنقيباً حتى نصل إلى تشخيص هذا الدواء ومعرفة جراثيمه وأعراضه وما يستأصلها من الدواء الناجع وهذا أفضل جهاد نثاب عليه من الله والتاريح ولنعم الجهاد هذا الجهاد لذلك رغبت في أن يكون هذا المبحث الجليل موضوع محاضرتي اليوم طرقته مستعيناً بالله وربما أوتيته من العلم فأقول: اختلف الباحثون من العلماء في منشإ هذا الفتور فذكروا أسباباً كثيرة كلها فروع ترجع إلى أصل واحد ألا وهو الانحراف عن جادة الكتاب والسنة وتلمس الهدى من غيرهما فحقت علينا كلمة القرآن إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها

وكذلك اليوم تنسى. وقد ذكرنا في المقدمة ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الأعراث في البداوة لم يتبلغوا بشيء من التعليم والترف ولم يشموا رائحة العلم والصناعة فما كادوا ينفضون عنهم غبار الوثنية حتى ظهر من أمرهم ما قصصناه عليك. وذلك أن الدين الإسلامي كما أنه يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان بما بعد الموت من عالم الغيب يدعوهم أيضاً إلى الإيمان بعالم الشهادة والسير على سنن الكون قد أطلق لهم عنان الحرية وطالبهم بالتفكر فيما خلق الله من عالم السماوات والأرض قد وضع لهم قانوناً جامعاً لضروب الهداية متكفلاً لهم أن هم اتبعوه ونصروه بإصلاح شؤونهم في هذه الحياة الدنيا قد أحكمت أصوله على قاعدة جلب الداقع ودرء المفاسد والإرشاد إلى أنه الدين القيم الفطري الملائم لإصلاح النفوس بالأخلاق الفاضلة وإصلاح شؤون البشر الاجتماعية بإقامة العدل واتباع الطريقة المثلى في كل شيء. سنة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. فهم السلف الصالح هذا الأصل من القرآن فاهتدوا بهديه ولم يحيدوا عنه قيد شبر عالمين (إن من أقام هذه الأركان كلها كان هو المسلم الكامل ومن هدمها كلها كان ملحداً في دينه ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة بمقدار سهمه منها) وأن ليس بعد القرآن والسنة إلا الضلال والعمى كما قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً. تفرع أيها السادة عن هذا الأصل الوبيل أمراض هشمت من عظمة الإسلام وشوهت من محاسنه فأول جرثومة سرت منه إلى المسلمين رجحان كفة السياسة الكاذبة على كفة الدين الصحيح لحاجة في نفس بعض الأمراء المستبدين كانت الحكومة الإسلامية في أحكامها نيابية اشتراكية (ديموقراطية) كما نطق بذلك القرآن الكريم وأرشدت إليه السنة وظلت كذلك زمن الخلفاء الراشدين إلى أن وقع النازع بين علي ومعاوية فاتخذ بنو أمية ذلك ذريعة حول مجراها وقيد معالها وجعلها ملكاً عضوضاً يمكله فرد يستبد به كيف شاء فبدأ يتطرق إلى الأمة داء الذل ووجد الضعف منفذاً إلى قلوبهم ووجد الأبرياء من بعدهم مع توالي الأيام مجالاً فسيحاً من صدور أولئك الذين نصبوا أنفسهم قادة للدين وسموا أنفسهم حماة الشريعة فوضعوا لذلك أصولهم في التشيع والاختلافات في أصول الدين وفروعه فانشغل بها الناس وصدقوا عن الكتاب والسنة وولوا وجوههم شطر البدعة وذهبوا شيعاً

متباينة مذهباً متباعدة سياسة ومشرباً كل طائفة تجادل عن نفسها وتدعو إلى كتابها ولو أدى ذلك إلى تكفير الأخرى فخرج الدين عن حضارة أهله وتحول عن بساطته واتسع الخرق وانحلت الرابطة الإسلامية بل والقومية وفشت المنكرات وانطمست معالم السنن وتحكم التقليد لأنه أثر من آثار التشيع بل ركن من أركانه. التقليد التقليد وما أدراك ما التقليد التقليد هو قيد الأحرار وسجن العقول وهادم الأفكار وعدو الشرائع ومبيد الأمم وجيش الاستعباد. كان الإسلام ملة سمحاء ليلها كنهارها واضحة المسالك معروفة الواجبات سهلاة المأخذ يتلقفها الأعرابي الجافي من فم الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يبرح من مجلسه إلا وقد خالطته بشاشة الإسلام وأشرب في قلبه التوحيد كما قال تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. عجباً كيف يرضى المسلم العاقل أن يغل أعز شيءٍ وهبه الله وهو العقل بغل التقليد والاستسلام ويلقي بنفسه في براثن الجمود والله قد أمره بأن يكون على بصيرة في دينه فقال تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني إنما ضل من الخلد إلى التقليد بعد أن تبين له الحق كمثل رجل أراد أن يسلك طريقاً مستقيماً واضح المسالك لا عوج فيه فوسوس إليه الشيطان قال: هل أدلك على طريق آخر هو أقرب إلى غايتك فانصاع له فأخذ يقوده كالأعمى في طريق مظلم كله تعاريج وعقبات فلما أن توسطاه قال إني بريء منك وتركه يتخبط في ديجور حالك لا يدري أين يهذل كلما أخرج يده بم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فمال له من نور. أنحى الله باللائمة والتقريع على أهل الجمود من المقلدين في كثير من آي القرآن قال تعالى بعد أن احتج على المشركين وبيّن أن لا حجة لديهم في عبادة الأوثان (با قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وما أرسلنا من قبلك في قريسة من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم اتباع النظر وما هو أهدى ولم يعذرهم بالتقليد فدل على أن عذر غير مقبول

عنده ولو كان التقليد عذراً لأحد لكان جميع المشركين معذورين عنده. كان الصحابة والتابعون يأخذون أصول الدين وفروعه من القرآن ومايثبت من السنة يحكمون العقل واللغة في تفهمها واستنباط ما لا يجدون فيه نصاً صريحاً وإن اختلفوا في شيء رجعوا فيه إلى ذينك الأصلين كما قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء الآية) فهناك يرتفع الخلاف ويرجع المخطيء عن خطئه ويظهر الحق كما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة وهذا هو الاجتهاد الذي كان سائغاً في السلف الصالح من الأئمة وكأن هؤلاء نظروا إلى المستقبل من طرف خفي فأنكروا أشد الإنكار على من يأخذ بآرائكم في الدين قبل أن يعرف مصدرها من الكتاب والسنة فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا وقال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي ولكن خلف من بعدهم خلف وقف بهم جمود الفطنة وقصور الهمم عن اتباعهم وتقليدهم تقليداً أعمى فجعلوا مذاهبهم أصولاً يرجع إليها وأخذوا يتفننون في فرض المسائل واستنباط الأحكام من تلك الأصول فتشعبت الآراء وكثرت الاختلافات واتسعت التآليف في الفقه وأصول الدين على غير أسلوب فصيح من اللغة العربية لا يخالها القاريء إلا رموزاً أو أحاجي يتعاصى فهمها على العربي الصميم. يمضي الطالب واأسفاه زهرة العمر في تحصيلها فلا يخرج من تلك المضايق إلا وقد حشر في مخيلته ضروباً من الاصطلاحات والمسائل متشاكسة متنافرة لا تروي من ظمأ ولا تشفي من علة وإن فهم القرآن والسنة لأسهل بكثير من هذه الشروح والحواشي لأن كلامهما عربي مبين لم يتلوث بالعجمة ولم يتدنس بسقم التركيب والآراء فمن تعلم العربية تعلماً صحيحاً تيسر له الفهم منهما فلا يعاني عشر معشار ما يعانيه في تلك المعجمات (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر). ثم لم يكفهم ذلك حتى حجروا على الله واسعاً فأرصدوا باب الاجتهاد وأسدلوا بين الأمة وبين كتابها ستراً من الأوهام وحرموها لذة النظر والتدبر في معجزاته فأصبح لا يتلى إلا في المآتم وعلى المقابر (تبركاً) يتأكل به أناس من الكسالى يتغنون به على قارعات الطرق وأبواب المساجد يحرفون الكلم عن مواضعه ويشترون به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون من هنا أيها السادة اقتسم هذا الدين فريقان فريق اطمأنت نفسه إلى القديم فهو يريد أن يرجع

بالناس القهقرى يحمل أهل القرن الرابع عشر على أن يتخلقوا بأخلاق أهل القرون الوسطى ويحذوا حذوهم في أحكامهم وآرائهم ومدنيتهم فلا يتخطوها قيد شبر يكابرك فيالمحسوسات ويجادلك في الحق وينكر سنة الله في خلقه من أن لكل عصر طوراً من أطوار الحياة يأخذ قسطه من النمو والارتقاء بحسب استعداده أهل ذلك العصر ولذلك كانت نصوص القرآن خصوصاً ما يتعلق منها بالآلاء والأخلاق التي هي أكبر معجزاته مجملة يتناولها أهل كل زمان بقدر ما وصلوا إليه من الرقي. وفريق رأى من وعورة المسلك وصعوبة الفهم في كتب القوم ما يقطع نياط القلب دون الوصول إلى الغاية وإن كثيراً منها على تشتته وتشويشه لا ينطبق على مقتضيات العصر الحاضر ولا يأتلف مع مدنيته ففرطوا في أمر الدين وأهملوا مجد آبائهم وذهبوا يتلمسون الإصلاح من غيرهما فعبدوا بهرج المدنية الأوربية وصبت إليها نفوسهم حتى أصبح التدين ضرباً من التهوس وسمة من سمات التأخر وساعدهم على ذلك ما رأوا من نظام الغربيين طفرة منهم قد خرجوا من ورطة التقليد الأولى ووقعوا في شر منها فلم يكن من جراء ذلك إلا أنهم قلبوا أوضاع مبانيهم وغيروا من أزيائهم وبدلوا من هيئات مآكلهم وملابسهم وآنيتهم وتنافسوا في أيهم يسبق الآخر في إحكام نظامه إلى أجود ما يكون في البلاد الأوربية وتوغلوا في الإسراف والبذخ وانسابت ميازيب الثروة من أيدي الشرقيين إلى جنوب الغربيين لجلب ما تستدعيه تلك المدنية من الضروريات والزخارف فكسدت بذلك أسواق الصناعات الوطنية ومات أربابها لأنها أصبحت رثة بالية لا تروق في أذواقهم لم تجد معضداً من موسريهم وسراتهم لتنهض من خمولها وتضارع أختها في الغرب كما فعل أهله إبان رقيهم فنخلص من شر ما يضمره لنا المستقبل من الفقر المدقع إن دام هذا السبات لأن ما قريناه من المدنية الكاذبة لم يقم على أساس متين. نعم أنا لا أنكر أن في الأمة الإسلامية كثيراً ممن تعلموا في أوربا فوقفوا على أسباب حياتها وحملوا إلينا شيئاً مما تعلموه ولكن قلَّ أن ترين من هؤلاء مهندساً مخترعاً أو طبيباً مكتشفاً أو عالماً أخلاقياً أو أصولياً مشرعاً وهناك أناس لا يسعون وراء الثروة ويتكلون على الوظائف ومن كان هذا شأنه فمحال أن يعمل لخير بلاده. قرر علماء الأخلاق والباحثين في أطوار الأمم أن المقلدين في كل أمة المنتحلين أطوار

غيرها يكونون سلماً تتطرق الأعداء إليه ويكونون بما وقر في قلوبهم من تمجيد الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مبادئهم ولو كانوا من أبناء جلدتهم أو إخوانهم أو عشيرتهم فيستهينون بجميع أعمالهم ويحتقرون أمرهم ويسخرون منهم وبهذا وأمثاله وهنت الرابطة القومية وانحلت عقدتها وفقد التضامن الذي عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً مثل المؤمنين في تعاضدهم وتآزرهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وكفى بذلك مدعاة للتقهقر والانحطاط ولكن يلوح من بين هذه النابتة الذين تهذبوا بنور العلم وعركتهم يد الحوادث بصيص من الأمل يجعل الأمة تتطلع إلى مستقبل باهر كما قال فيهم بعض الفضلاء: أرى في شجرة الإسلام التي جفت أوراقاً خضراء فلا أدري أهي بقية مما مضي أو باكورة للمستقبل. البدعة في الدين أيها السادة أرأيتم لو أن طبيباً وصف لأحد المرضى علاجاً رأى فيه شفاء فحدد للصيدلي ما يحتاجه ذلك الدواء من العقاقير وبالتالي مقاديرها وكيفية تركيبها فخالف الصيدلي أمر الطبيب وأخذ يزيد وينقص في المقادير كيف شاء حتى جعلها سماً زعافاً لا دواء نافعاً إنكم ولا شك تحكمون على هذا الكيماوي إما بالجهل في صناعته وإما بالغش والخيانة وإنه من أكبر العاملين على تفشي الأمراض وإزهاق الأرواح بسبب ما يرتكبه من الخطل في تلك المهنة الشريفة. ولكم مثل الذي يبتدع في الدين ويفتري على الله الكذب لأن القرآن والسنة والله هما شفاء لما في الصدور قال الله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة. ونزلنا الكتاب تبياناً لكل شيءٍ فالذي يبتدع في الدين إنما يحارب الله ورسوله ويصيب كبد الإسلام بسهم مسموم. يا حسرة على الإسلام وظهرت بوادر هذه البدع في إبان الإسلام فكان قادة الإسلام يحاربونها بسلاح القرآن يدحضون الحجة بالحجة ويقرعون البدعة بالسنة إلى أن تمكن حب التقليد من النفوس وقل الاشتغال بالتفسير والحديث وأهمل التاريخ فاختلط الحابل بالنابل وراجت سوق الأحاديث الموضوعة وانتفخت بها بطون التآليف لاسيما ما يتعلق

منهابالزهد والرغائب والحثّ على القناعة باليسير والكفاف من الرزق وإماتة المطالب النفيسة كحب المجد والرئاسة والإقدام على عظائم الأمور ودب إلى الأمة داء التواكل واسترسلت وراء الأوهام وعلق بالقلوب كثير من أدران الشرك وظهرت المعجزة في حديث لتتبعن سنن من قلبكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم أليس ما نراه اليوم من تعليق الآمال بقبور الصالحين وتشييد الأضرحة وبناء القباب والمساجد عليها والتغالي في زخرفتها ونذر النذور لها وشد الرجال لزيارتها مما يعتقد كثير من الناس أنه من أعظم القربات كان في صدر الإسلام ضرباً من الشرك بل هو الشرك الذي جاء الدين بمحوه. إن القرآن والسنة لم يتركا باباً من أبواب الشرك إلا وأوصداه بألف حجة وبرهان وخليا بين العبد وربه يناجيه ويرفع إليه حوائجه كيف شاء ومتى شاء لا يحتاج في ذلك إلى وسيط أو وسيلة اللهم إلا ما شرع لنا من وسائل الأعمال الصالحة كما فسر الرسول بذلك الوسيلة في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة. نرى كثيراً ممن يهتدي بهم يتهافتون على هذه المهلكات تهافت الذباب على الطعام ويقتسمون ما يلقى في الأضرحة من النذور كأنه ميراث ورثوه عن الأجداد والآباء ويؤولون ما ورد في ذلك من النصوص القطيعة محديث: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها السرج. لا تتخذوا قبري من بعدي وثقاً يعبد. لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى. أيها السادة هذه هي أمهات البدع التي ألصقت بالإسلام ولولا أنه دين قويم قام على أساس متين لانمحى أثره من الوجود لكثرة ما رزيء به من أمثال هذه الأمراض القتالة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم أرَ ديناً كدين الإسلام خول لكل فرد من أفراد الأمة الإشراف على الشؤون العامة والقيام بأمر الإرشاد والنصيحة وأطلق لهم عنان الحرية في مباشرة هذين الأصلين بحسب ما تستدعيه حالة الأمة. قال الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فالذي لم يقم بهما لا شك أنه خارج من هيئة المؤمنين. كان خطباء المساجد هم من القائمين بهذه الوظيفة يمزجون مصالح الأمة بالمواعظ

والإرشادات فكانت خطبهم تفعل بالنفوس ما لا تفعله السيوف. هذه كتب الأدب فطالعها إن شئت تجدها مشحونة بخطب السلف من الأمراء وغيرهم على نحو ما تسمعه اليوم عن الغربيين في دور نوابهم ومجالس أعيانهم كم نبهت شعوراً وأحيت أمماً وأماتت جبناً وأصلحت معوجاً وهذبت نفوساً وسنت نظاماً انعكست القضية فأصبح خطباء المساجد إلا قليلاً من أجهل الناس يقولون ما لا يفعلون ويتكلمون بما لا يفهمون من سقط القول فلا تسمع إلا سجعاً كسجع الكهان وإني يؤثر الوعظ إذا كان لا يتجاوز اللسان. احتياجنا إلى العلم أيها السادة ما أشبهنا في حياتنا الاجتماعية بالحيوانات الأليفة أو الطيور الداجنة التي يحبسها ربها في الأقفاص تنتظر منه فضالة من طعام أو رشفة من ماء فإن هو منعها ذلك هلكت جوعاً وظمأً إذ ليس لها من الحول والقوة ما تفك به قيود الأسر فتخرج إلى الفضاء آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان. واأسفاه. سبقتنا الأمم شوطاً بعيداً فأصبحنا في مؤخر الرحل كقدح الراكب عالة عليها في كل حاجاتنا الأدبية والمادية حتى فيما يتوقف عليه فهم كتابنا الكريم من الحكمة العرفية والعلوم الكونية. بربك هل تجد فيما يدرأ عنك طواريءَ العاديات وتدفع به غوائل الحر والبرد مما تذود به من سلاح ولباس وما تسكنه من قصور شامخة ومبان شاهقة وأكواخ حقيرة وما تحتاجه من آنية طعام وشراب وموائد وأخشاء وحرائر وأطالس وفرش ومقاعد ومصابيح ومطابخ وحلي وجواهر ونقود ومعادن وما يحتاجه الزارع في زراعته والكاتب في كتابته والكيماوي في حانوته. هل تجد في كل ذلك أبداً لصانع شرقي اللهم إلا إذا كان مكارياً أو سمساراً أو عاملاً بسيطاً أو تاجراً لا يربح من تجارته إلا اليسير لا يدري أين صنعت ولا كيف صنعت. جهلنا حقائق الأشياء فلا نعلمها إلا أماني وانتصرنا على ما يتعلق بعلاقة الإنسان مع ربه وحكمنا على ما عدا ذلك بالإعدام وحاربنا أهله وأزهقنا روح التقدم وأطفأنا مصابيح العرفان في الأذهان. أين منا المؤرخ والنباتي؟ أين منا الطبيب والكيماوي أين منا المهندس والطبيعي واللغوي والأديب والمنطقي أين منا عالم الأخلاق والحكيم والفلكي وعالم الزراعة نعم إن لدينا منكم

نفراً ولكن هم دون الحاجة وقليل منهم العاملون. دعانا داعي الإصلاح فأرشدنا إلى مواقع الضعف منا وإن لا نجاة إلا بمجاراة الأمم الغربية وإن تقلع جذور هذه التربية العقيمة علنا نعمل فلنسترجع مجد آبائنا الأولين أساتذة الغرب فنعق به دعاة السوء من كل جانب إن قد خالفت الدين افتراء منهم على الله وما كانوا مهتدين. يا قومنا هذا القرآن حجة على الشعوب الإسلامية بما فرطوا من أمر الدين والدنيا تتلى عليكم وفيها من أسرار الكون وعجائب المخلوقات ما لا سبيل لنا إلى فهمه إلا إذا أخذنا نصيباً من هذه العلوم. قال الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء لآيات لقوم يعقلون وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون. هذه الآيات وأمثالها تسجل علينا العار وإننا لسنا من العقلاء في شيء إذ العقلاء هم الذين تتغذى أرواحهم بمعرفة ما أبدع الله في الكائنات وما ذرأ في الذرات من مباهج الآلاء والحكمة. العاقل من تدعوه لذة النظر إلى الشوق والولوع في حوز المعارف والعلوم. يا قومنا هذه هي أزمتنا وهذه جراثيمها التي لا تزال تنخر في جسومنا وتفسد من أعضائنا وتميت من مشاعرنا فهل لنا أن نكشف الغطاء عن أبصارنا وبصائرنا فنخرج إلى عالم النور فنحيا حياة طيبة. يا قومنا لا دواء لنا من هذه الأدواء إلا بالعلم ولا علم إلا بالتربية والتربية مفقودة عندنا نسمع ضجة للعلم وجلبة للمدارس ونبغ فلان وأخذ فلان الشهادة فإذا سرنا في الشوارع أو بين دور الوطنيين نرى ما تذوب له الأكباد نرى فلذاتنا أمة الغد من ذكور وإناث كقطعان الغنم يتلاكمون ويتلاطمون ويتنابزون بكلمات الفحش والفجور قد صبغتهم الأوساخ وشوهت من محاسنهم الأمراض أليس هذا بدليل على أن الأمة لا تزال في أقصى درجات الانحطاط مسخنا نصوص الشريعة الغراء فإذا دعانا داعي الإصلاح أن لا سبيل للرقي إلا بتعليم المرأة صوبنا إليه سهام الطعن وقلنا كذباً وافتراء أن ذلك مخالف للدين. أفلا تنبهنا الحوادث وتوقظنا العظات وها نحن قد شخصنا أمراضنا وعرفنا أسباب تأخرنا

فلم لا نعمل على إزالة هذه الأسباب فنفيق من رقودنا ونهب من سباتنا ونخلص من هذه القيود ونسبح في فضاء الحرية نستبدل بهذا الخور عزيمة وبالذل عزاً وبالاستكانة شهامة وبالتفرق وئاماً وبالجهل علماً. يا قومنا إن العلم كنز مفاتيحه الأخلاق وحاجتنا إلى هذا الكنز شديدة فهلموا لنهذب من أخلاقنا ونمحو آثار الرذيلة من بيننا ونحافظ على عاداتنا علنا أن نفتح هذا الكنز المغلق فنكون خير أمة أخرجت للناس.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات شرح ديوان طرفة بن العبد للشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي طبع بمطبعة أورنه ك في قزان (روسيا) سنة 1909 (ص80) طرفة بن العبد أحد فحول شعراء الجاهلية الأقدمين الذين يستشهد بصحة عربيتهم وديوانه هذا قليل الجرم جم النفع وهو مرتب على رواية يعقوب بن السكيت وأشار الشارح إلى ما أخذه من تعليقه بقاف بين قوسين ونبه على ما لم يروه الشنتمري في شرح السنة ومن شعر طرفة: واعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرءِ فهو ذليل وإن لسان المرءِ ما لم تكن له ... محصاة على عورانه لدليل إذا قلت فاعلم ما تقول ولا تقل ... وأنت عمٍ لم تدر كيف تقول وإن امرأً لم يعف يوماً فكاهةً ... لمن لم يرد سوأ بها لجهول تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتسقى وخليل ومنه: قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبب والظلم فرق بين حيي وائل ... بكر تساقيها المنايا تغلب قد يورد الظلم المبين آجناً ... ملحّا يخالط بالذعاف ويقشب وقراف من لا يستفيق دعارة ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب والإثم داءٌ ليس يرجى برؤه ... والبر بروءٌ ليس في معطب والصدق يألفه اللبيب المرتجى ... والكذب يألفه الدني الأخيب اللمع في أصول الفقه لأبي إسحق الشيرازي المتوفى سنة 476 عني بتصحيحه السيد محمد بدر الدين النعساني طبع بمطبعة السعادة بمصر (ص95)

الشيرازي هو مدرس النظامية ببغداد رحل إليه الناس من الأمصار كما قال الحافظ السمعانيلا وكان يضرب به المثل بالفصاحة وكان عامة المدرسين بالعراق والجبال تلاميذه وأصحابه صنف في الأصول والفروع والخلاف والجدل وقد اشتهر كتابه هذا اللمع في معظم البلاد حتى قال فيه الرئيس أبو الخطاب بن الجراح: أضحت بفضل أبي إسحق ناطقة ... صحائف شهدت بالعلم والورع بها المعالي كسلك العقد كامنة ... واللفظ كالدر سهل جل ممتنع رأى العلوم وكانت قبل شاردة ... فحازها الألمعي الندب في اللمع وقد طبع الكتاب بمراجعة نسختين جيدتين منه في المكتبة الظاهرية بدمشق تاريخ إحداهما 574 والأخرى فيالعام نفسه وقد علق عليه الأستاذ جمال الدين القاسمي تعليقات نافعة تدل على فضل اطلاع منها ما علقه في صنعة المفتي والمستفتي قال: قال برهان الدين التقصير في علم اللغة إخلال بأول فروض الاجتهاد وقد أحسن الشيخ أبو المعالي فيما علق عنه من الأصول حين بين مواد مواد العلوم ومقاصدها وحقائقها وجعل مادة الفقه الأصول القطعية وهي الكتاب والسنة والإجماع وجعل اللغة مادة لهذه المادة قال لأن الشريعة عربية فلا بد من القيام بها ليفهم عن الله مراده فاللغة أصل الأصول ومادة المواد فكيف يكمل فقه من أخل بها. ثلاث رسائل الأولى المنظومة الموسومة بمواهب المشاهد في واجبات العقائد لمؤلفها هبة الدين السيد محمد علي وهي 31 ص والثانية رواشح الفيوض في علم العروض للفاضل الموما إليه وهي قريبة المأخذ جمة الفوائد في 42 ص والثالثة متن اعتقادات الأمامية لبهاء الدين العاملي صاحب الكشكول وهي موجزة وافية بالغرض وقد جاء فيها بشأن الخلافة عند الشيعة ما نصه: نعتقد أن خليفته من بعده على أمته بالنص الجلي فييوم الغدير وغيره أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام وبعده ولده الحسن ثم الحسين ثم علي زين العابدين ثم محمد الباقر ثم جعفر الصادق ثم موسى الكاظم ثم علي الرضا ثم محمد التقي ثم علي التقي ثم الحسن العكسري ثم محمد المهدي صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بنص كل سابق على لاحقه وأن جميع الأنبياء وأوصيائهم

معصومون ن جميع الذنوب والسهو الونسيان وسائر النقائئص وإن محمد المهدي عليه السلام هو مستور عن الناس كخضر وإلياس إلى أن يؤذن له في الظهور فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وظلماً اهـ قلنا ومن الشيعة سرت إلى السنة عقيدت المهدي المنتظر راجع ما قاله ابن خلدون في أحاديث المهدي في المقدمة. خلع السلطان عبد الحميد الخليل أفندي الخوري طبع في مطبعة الإصلاح بدمشق سنة 1909 (ص 80) ذكر كاتب هذه الرسالة السبب الذي حمل الأحرار على خلع السلطان العثماني السابق وطرفاً من سيرته وسياسته وقد رأينا فيها بعض أمور كنا نود لو عزاها ناقلها إلى مظانها مثل قوله (ص 15) إنه منذ عشرة أعوام نوت بريطانيا الجلاء عن القطر المصري وأحضر سفيرها في الأستانة الأوراق الرسمية وعرضها على الصدر الأعظم فأبى المخلوع كل الإباء وقام رجال المابين المنافقون مدعين أن الإنكليز يدسون الدسائس للدولة العثمانية وأن الإنكليز إلى الآن لا يتأخرون البتة عن إخلاء مصر إذا رضيت الدولة أن ترسل جنودها إلى هناك للاستيلاء على القطر. ولو صح مثل هذا الخبر لكتبت فيه المجلدات فضلاً عن المقالات. الكتاب شاهد بأدب كاتبه حري بالمطالعة. مجلات جديدة النعمة ـ مجلة دينية علمية إخبارية تصدرها البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية في دمشق مرتين في الشهر ومعظم القسم التاريخي والأدبي بقلم عيسى أفندي اسكندر معلوف أحد المنشئين المشهورين. وقيمة اشتراكها في دمشق ريال ونصف وريالان في الممالك العثمانية وخمسة عشر فرنكاً في الخارج. الكوثر ـ مجلة علمية فنية سياسية لصاحبها ومحررها بشير أفندي رمضان من فضلاء الكتاب تصدر في بيروت في غرة كل شهر وفي الجزء الأول منها مقالات نافعة منها التأثر الفطري بالإنسان والاقتصاد والترامواي الكهربائي واختراعه والحفريات في بابل وغير ذلك من الموضوعات الملذة المفيدة. وقيمة اشتراكها ريالان في بيروت وريالان ونصف في

سائر الولايات وخمسة عشر فرنكاً خارج البلاد العثمانية. الحسناء ـ مجلة نسائية علمية أدبية تاريخية أخلاقية اجتماعية لمنشئها جرجي أفندي نقولا باز ويساعد في تحريرها نخبة من الكاتبين والكاتبات وهي تصدر مرة في الشهر وفي الجزئين اللذين طالعناهما منها عدة أبحاث نسائية مفيدة منها ترجمة مدام دي ستال ومدام رولان وهما العقيلتان اللتان أعدتا الأفكار للنهوض قبيل الثورة الفرنسوية الأولى ومقالة في المرأة والدين إلى غير ذلك من الفوائد المنزلية والبيتية وصاحب هذه المجلة معروف عند معظم قراء العربية بمقالاته ورسائله في الأخلاق والاجتماع. وقيمة الاشتراك بالحسناء عشرة فرنكات في بيروت واثنا عشر فرنكاً في الخارج. فنرجو لرصيفاتنا الجديدات نجاحاً يكثر من سواد أعوانها وأنصارها وينفع بمسطورها ومنشورها وفق أربابها إلى إنارة العقول وبث روح المدنية الصحيحة.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع إلغاء الرتب صدر أمر نظارة الداخلية العثمانية أن تكون التشريفات يوم 10 تموز شرقي أي يوم ذكرى مرور حول كامل على إعلان القانون الأساسي في المملكة العثمانية بالألبسة السوداء على عادة الأمم الديمقراطية وقد صدعت أكثر الولايات بهذا الأمر وبذلك أقرت الدولة بأنها ألغت الرتب التي طالما كانت السبب في إفساد أخلاق الأمة أيام كانت الدولة العثمانية دولة استبدادية. قانون المتشردين وضعت الدولة العلية نظاماً للمتشردين وأخذت تطبقه في العاصمة والولايات وبموجبه يضرب المضرون في المجتمع الإنساني بالعصي وذلك لأن طبيعة البلاد تقتضي الضرب الآن ولولا هذه العقوبة المحسوسة لا يؤثر القانون أثره المطلوب في بعض طبقات الناس. شاه إيران قويت شوكت الأحرار وظفروا بشاههم الظالم المستبد محمد علي شاه بعد أن خصبوا أرض فارس بدمائهم فأنزلوه هذا الشهر عن عرش الأكاسرة وجعلوا مطانه يكره الشاه أحمد وهو في الثالثة عشرة من عمره وبخلع الشاه محمد علي قاجار والسلطان عبد الحميد العثماني منذ ثلاثة أشهر إبان الفرس والعثمانيون بأنهم أقوياء في العقل أشداء في العمل ينكرون على الظالمين فيسرهم وجهرهم وأن الأخلاق اليوم أرقى منها بالأمس إذ لا عمل بلا خلق وإعداد عامة المعدات في الوصول إليه. استعمال السكر ثبت أن الإكثار من السكر يزيد في القوة العضلية من 26 إلى 33 في المئة وقد أكد بعض أطباء الجند من الألمان أن السكر يسكن الظمأ والجوع ويؤخر التعب ويمكن استعماله للجنود السيارة ولراكبي الدراجات والانتفاع به. كما أثبت بعضهم أن إعطاء خيول الحوافل والعجلات الصغيرة سكراً يقتصد به كثير من طعامها. وهناك أناس من الباحثين فيصحة البطون أثبتوا أيضاً أن ليس من خواص السكر في الأشربة والمربيات والمعجنات لذة في الطعم فقط بل هو مادة من المواد التي يحتاج إليها في التغذية. وقد قال تورثه قطعة من

ضلع غنم ثمنه قرشان. وكان معدل ما يتناوله الفرد في البلاد الراقية 13 كيلو غراماً في السنة على حين أثبت الاختبارأنه يمكن للفرد أن يتناول في اليوم من خمسمائة غرام إلى كيلوغرام وبالجملة فإن الإكثار من السكر أنفع في الصحة من الإقلال منه. صحة الإنسان أثبت الأاخصائيون فيعلم الأسنان أن الانس الذين تتناسب ثناياهم مع ناباتهم وأضراسهم يقل عددهم شيئاً فشيئاً حتى في الملوك أنفسهم وهم الغلاة في القيام على الصحة ومنهم ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا وإدوارد السابع ملك إنكلترا فإن أسنانهما غير متناسقة في وضعها. وهذا الاختلال في وضع الأسنان لا يغير صورة الوجه ويجعلها بشعة فقط بل يحدث ارتباكات معدية تنشأ من قلة مضغ الطعام ويجب التوقي من ذلك ولكن الوقاية لا تفيد في الأكثر إلا في زمن الصبا. وقد وضعت الفطرة الأسنان على نظام خاص لينطبق بعضها على بعض فإذا جاءت ناتئة أو متداخلة تشوه منظر الفم وأضرت بصحة الجسد. ومن الأبوين من يتساهل في أخذ الولد إلى طبيب الأسنان فيزيد ألمه ومنهم من لا يعنون بصحة الفم فينخر السوس الأسنان ويضر بها أي ضرر وقد ارتأى الدكتور جارينه ويت من بوستون أن من أنجح الطرق في حفظ صحة الفم أن يزور الطبيب أولاد المدرسة ليبحث عن أسنانهم وأبان في محاضرة له في هذا الباب أن الفم مستنبت الجراثيم الباثولوجية وغير الباثالوجية يفعل فيه العتدال المناسب والرطوبة ونثرات الطعام وقال أن التساهل بصحة الأسنان أدى إلى أن كان في المئة من أولاد الألمان 84 إلى 95 لهم أسنان عاطلة وعمت البلوى في الأسنان الرديئة في أميركا حتى لا تكاد تجد أميركياً في الستين من عمره ممتعاً بأسنانه كلها أو لا يشكو منها. ومن الناس من يعمدون إلى قلع أسنانهم عند أقل عارض يعرض لها ويستعيضون عنها بأسنان صناعية حتى في السادسة عشرة أو الثامنة عشرة من أعمارهم بحيث كان طب الأسنان صناعة رابحة في أميركا وغيرها واغتنى أربابها فأصبح عددهم يزيد كل يوم. قال الدكتور المشار إليه وأن التساهل بالأسنان مرض أشد فتكاً من الأوبئة والأمم لا تهلك إلا من أسنانها. المطبوعات الألمانية نشر في ألمانيا من تموز 1907 إلى تموز 1908 نحو ثلاثين ألف تأليف ألماني طبع

القسم الأعظم منها في برلين ويليها ليبسيك على أن هذه المدينة كادت تكون فيها أعظم سوق للكتب في العالم أما اديمبورغ التي كان يسميها الإنكليز مفاخرين فقد كادت تسقط من مكانتها. تبادل الأولاد قامت فئة منورة في بعض بلاد أوربا تتفنن في تعليم ناشئتها فرأت أن من خير ما يقوي ذهن التلميذ ويزيد فياختباره وعلمه أن يرسل به إلى مملكة أخرى فالإنكليزي يبادل ابنه مع الفرنسوي والفرنسوي يرسل بابنه إلى صاحبه الألماني وقد أخذ هذا المبدأ ينمو حتى بلغ عدد من أرسلتهم فرنسا من شبانها هذه السنة إلى خارج بلادها بواسطة جمعية مقايضة الأولاد الدولية 175 طالباً أرسلت ثلثهم إلى ألمانيا. فلسفة تولتسوي كتب المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحد ة السابق ومحرر مجلة أوتلوك يصف فلسفة الكونت تولستوي الروسي فقال إنه رجل نابغة وقصصي كبير كما تشهد به رواياته المختلفة التي أثرت تأثيراً حسناً في أهل عصره ولكنني أشك فيما إذا كان تأثيره كبيراً بين رجال العمل من الوجهة الفلسفية والأدبية. ولست أنكر أن فلسفته يؤثر بعض التأثير في الناس الذين يلزمون مخادعهم ولا يتخطون دائرة مكتبتهم. وإن كانت قد أثرت شيئاً في أهل العمل فإنما كان ذلك للشر لا للخير على أنني لا أظن أن فلسفته تجد محلاً رحباً في صدور رجالالعمل بل الذي أراه أنها استولت على أذهان ضعاف العقول وصغار الأحلام. والأقوياء العقول قد يستفيدون شيئاً من تعاليم تولستوي الادبية ولكن بشرط أن يكونوا على درجة من قوة العقل والإرادة تمكنهم من نبذ تعاليمه السخيفة أو المضادة للأدب. ثم ضرب الأمثال على خطأ فلسفة تولستوي فقال: إن تأثير فلسفة تولستوي في الذي يندفعون معها ويسيرون في تيارها من رجالنا إنما هو تأثير مضحك في الغالب فإن بعضهم كتب منذ زمن وجيز كتاباً في مسائل أميركا البلدية قال فيه أن عيوبنا الأدبية والاجتماعية ناشئة بعض الشيء عن خطيئة المذهب الحربي. ولما كتب الكاتب هذه العبارة لم يكن تحت تأثير ما يقع أمام عينيه وما يخبره بنفسه وإنما كان متأثراً بأقوال تولستوي ومذاهبه التي لا تنطبق البتة على المعيشة الأميركية فإن

المذهب الحربي عامل من عوامل الخير أو الشر في معظم البلاد الأوربية ولكنه في أميركا كمية عاطلة لا يتعدى تنظيم البوليس الوطني لتأييد الأمن والنظام. إن أكل لحم الخيل أمر يختص بالذوق فقط ولكن المبشرين الأولين في شمالي أوربا رأوا أن أكله مجلبة لضرر عظيم لأن القوم كانوا يأكلونه م1بوحاً للوثن فحرموا أكله. والحق يقال أن عيوبنا الاجتماعية ليست أكثر علاقة بالمذهب الحربي منها بأكل لحم الخيل المذبوح للصنم!! وكان آخر عندنا ينظم القصائد الطوال في الدفاع عن المهدوية وحجته في ذلك الدفاع أنه احتجاج على الحرب ومبدئها طبقاً لتعاليم تولستوي. والمهدوية كما تعلم شر ما رأى الناس من أسباب إراقة الدماء والظلم والفساد والتعصب وكانت عاقبتها المباشرة بقتل نصف السكان في البلاد التي نكبت بها وترك النصف الآخر في حضيض البؤس والمهانة. فدفاع تولستوي وتلاميذه عنها أعظم دليل على سوء مذهبه الأدبي وما في حسبانه مرشداً أدبياً من الخطر على العقول والآداب انتهى ملخصاً عن الجريدة. الساعات في إيطاليا بلغ عدد الساعات التي دخلت إيطاليا ثمانية ملايين ونصف مليون ساعة أتى معظمها من سويسرا. فاستجلبت إيطاليا سنة 1907 21597 ساعة ذهب منها 30300 من سويسرا وبلغ الوارد إليها في السنة الماضية 595692 منها 566992 من سويسرا. تجارة البيض يبلغ ما تخرجه الولايات المتحدة كل سنة من البيض 862. 546 طناً تستخرجها من 233 مليون دجاجة وما تخرجه ألمانيا 270 ألف طن تستخرجه من 55 مليون دجاجة وما تخرجه فرنسا 30. 000 طن تستخرجه من 50 ألف دجاجة وما تخرجه إنكلترا 125000 طن تستخرجه من 25 مليون دجاجة ويتجمع الكيلو من البيض من عشرين بيضة على أن إيراد الدجاجة الواحدة يختلف حسب الأقاليم. وثبت في الإحصاء أن البلاد العثمانية تبعث إلى الغرب كتيراً بآح البيض ومحه حتى أن ما تستورده فرنسا وحدها من بلادنا يبلغ مسانهة أربعة آلاف طن. حكم صغيرة يقول أوجين ماريو: الحرية احترام حقوق كل فرد والنظام احترام حقوق المجتمع المجموع.

قالت العقيلة رولاند: من يعمل ولا يرجع إلى مبدأ كمن ينظر إلى ساعته وقد وضع إبرتها كيفما اتفق. وقال لابروبير: من الحقائق ما يكتب له الظفر وتكتب له المبالغة أيضاً حتى تصبح كاذبة. وقال: من الأمور ما لا يطاق فيه الاعتدال الشعر والموسيقى والخطاب العام. وقال موتنسكيو: من يتكلم بدون تفكر أشبه بصياد يصيد بدون أن يتوجه جيداً للغرض. وقال بلين: العفو جزء من أجزاء العدل. أصل الفواكه يعرف كل نبات في بلد بأنه أصيل فيها لا دخيل عليها إذا رأيت منه أصنافاً برية نبتت من تلقاء نفسها ولم تنقلها يد بشرية. فالتوت الإفرنجي (الفريز) دخيل على جميع البلاد التي ينبت فيها الآن والجيد منه في إنكلترا أُتي به من فرجينيا سنة 639 والتوت الشوكي (فرامبواز) هو من ثمار البلاد المعتدلة في أوروبا ودخيل على قارة آسيا والمشمش لم يأتِ من أرمينية كما توهم بعض علماء النبات بل جاء من الصين ولكنه كان برياً حامضاً وقد عرف من تاريخ المشمش أنه كان معروفاً لليونان والرومان منذ ألفي سنة. والخوخ عرفه الرومان واليونان أيضاً ولكن توهم بعضهم بأن أصله فارسي والحقيقة أنه صيني ولأهل الصين فيه أساطير. والكرز هو من فصيلة الكرز العام (كريوتيه) نبت على ضفاف بحر الخزر. والدُراق وتبلغ أجناسه ثلاثمائة جنس والجنس الأول منه خاص بأرض الأناضول والقافقاس والروم إيلي. والأجاص وأجناسه كثيرة أيضاً رؤي منه صنف بريٌ في الأقاليم المعتدلة من أوربا وفي آسيا الغربية. والسفرجل منشأوه في جنوبي شرقي أوربا وبلاد القافقاس وإقليم بحر الخزر. والتفاح على أنواعه ينبت في أوربا والقافقاس وما وراء النهر وفارس والتفاح هو أحد الفواكه القديمة المعروفة إذ كانت الشعوب قبل التاريخ تستعمله بكميات وافرة. واللوز انتقل إلى أوربا من سلاسل جبال لبنان (جبل الشيخ وجبل قلمون وجبال اللكام) وما وراء بلاد القافقاس وبين النهرين وفارس وتركستان. والتين لم يهتد علماءُ النبات إلى معرفة بلاده الأصلية والغالب أنه من أقاليم البحر المتوسط ولا سيما سورية وكذلك العنب لا يعرف منشأُوه لأنه ثبت أنه قديم الاستعمال جداً بين البشر وهو حديث العهد في جنوبي أوربا وشمالي إفريقية وغربي آسيا وأصل الجوز من أقاليم القافقاس والعجم وشمالي الهند. والبرتقال أتى على غالب الظن من جنوبي الصين

وكوشنشين وانتقل إلى أوربا في القرن السادس عشر والليمون جاء من الهند ودخل إلى إيطاليا حوالي القرن الثالث أو الرابع للمسيح.

تموز الحرية

تموز الحرية إذا انقضى مارت فاكسر الكوزا ... واحفل بتموز إن أدركت تموزا أكرم بتموز شهراً إن عاشره ... فقد كان للشرق تكريماً وتعزيزا شهر به الناس قد أضحت محررة ... من رق من كان يقفو إثر جنكيزا سل أهل باريز عن تموز تلق لهم ... يوماً به كان مشهوداً لباريزا كانت لهم فيه لما ثار ثائرهم ... بسالة مدت البستيل مبروزا وإن تموز شهر قام فيه لنا ... على البقاع لواء العز مركوزا في شهر تموز صافنا لما وعدت ... بيض الصوارم بالدستور تنجيزا هي المساواة عمتنا فما تركت ... فضلاً لبعض على بعض وتمييزا أمست لنا قسمة بالملك عادلة ... حكماً وكانت على علاتها ضيزى كنا من الجور عمياناً وليس لنا ... منق قادئدين ولم نملك عكاكيزا حتى نهضنا إلى العلياء تقدمنا ... عصابة برزت في المجد تبريزا إن تلقهم تبق منهم في الوغى جبلاً ... وهجتهم للمنايا هجت راموزا قوم إذا طمعوا في حومة تخذوا ... قصاعهم من قحوف القوم لا الشيزى قمنا على الملك الجبار نقرعه ... بالسيف منصلتاً والريح مهزوزا حتى تركنا في هيجاء معضلة ... ألقت ضراماً على الطاغين مأزوزا إنا لنأبى على الطاغي نهضتنا ... حتى نهوز في الهيجاء تهويزا ونأكل الموت دون العز نمضغه ... كمضغنا التمر برنياً وسهريزا لا عاش من لا يخوض الموت مرتضياً ... بقاءه بعصي الذل موكوزا راعت سلانيك دار الملك فانتبهت ... من ذاك طهران تخشى أمر تبريزا حتى غدت وهي في تموز ناكسة ... رايات شاه رماه الخلع مجنوزا فالشاه في شهر تموز هوى وكذا ... عبد الحميد هوى في شهر تموزا يا شهر تموز لا راعتك رائعة ... ولا لقيت من الأحداث ارزيزا يا شهر تموز قد زينت رايتنا ... بالعدل توشية فيها وتطريزا من لي بأنجم هذا الأفق أنظمها ... قصائداً فيك مدحاً أو أراجيزا أو أنحت الماس أقلاماً معرضة ... أمدها ذهباً في الطرس إبريزا

وأجعل الجو في تموز أمدحه ... طرساً أجادته كف النور ترزيزا الأستانة في 10 تموز 1325 معروف الرصافي

أكبر الأشياء في العالم

أكبر الأشياء في العالم أعلى جسر طبيعي في العالم هو جسر صخري في ولاية فرجينيا (الولايات المتحدة) علوه مائتا قدم. أكبر مبلغ من الأوراق المالية المستعملة في العالم هو في الولايات المتحدة. فسكان هذه الجمهورية العظمى يستعملون 700. 000. 000 من تلك الأوراق في حين أن مملكة روسيا العظيمة تستعمل منها 670. 000. 000. أكبر شركة لضمانة الحياة في العالم هي شركة (موتشال) في مدينة نيويورك (الولايات المتحدة). رأس مال الشركة يبلغ 108. 000. 000 دولار. أشهر صوت في العالم هو في قلعة (سيموزا) على مسافة ميلين من ميلان فإذا أطلق فيه عيارٌ ناري تراجع صداه ستين مرة. أكبر بركان في العالم هو بركان (إثنا). دائرة قاعدته 90 ميلاً وعلوه 1000 قدم وقد انفجر لأول مرة في سنة 474 للمسيح. أكبر شجرة في العالم هي في إيالة (توكر) في (كاليفورنيا) علوها 275 قدماً ودائرة محيطها 106 أقدام. أكبر صحراء في العالم هي (شارا) في شمالي إفريقية. طولها ثلاثة آلاف ميل وعرضها 900 ميل ومساحتها مليونا ميل مربع. أكبر ماسة في العالم هي (براغانزا) في بلاد البرتقال تزن 1880 قيراطاً وقد وجدت في برازيل سنة 1741. أطول رجل في العالم هو يوحنا هال من إنكلترا. طوله تسعة أقدام وستة قراريط وطول كلٍ من يديه سبعة عشر قيراطاً وعرض كل منهما ثمانية قراريط ونصف القيراط. أعلى عمود تذكاري أقيم في العالم حتى اليوم هو في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة علوه 555 قدماً. أعلى بناء أقيم في العالم هو برج إيفل في باريس عاصمة فرنسا علوه 9895 قدماً وتمَّ بناؤه سنة 1889. يعمر كلٌّ من الغراب والإوزة مئة سنة. والحدأة أو طير الرخم 59 سنة والببغاء 60 وأبو حوصل 50 والقنبرة 30 والعصفور الدوري والباشق 40 والطاووس والكناري والغرنوق

24 سنة. أعظم جنادل في العالم هي شلالات (بيفاغارا) في الولايات المتحدة علوها 165 قدماً. أما أعلى جنادل في العالم فهي في كليفرينا فمياهها تسقط على علو 2550 قدماً. أقدم مدافن في العالم هي مدافن ملوك مصر القدماء التي يرد تاريخها إلى ألفي سنة قبل المسيح. أما مدافن رومية القديمة ففيها نحو ستة ملايين من رفات الأموات. وأما مدافن باريس القديمة ففيها ثلاثة ملايين من تلك الرفات. أكبر عدد عن الماشية جيءَ به إلى مدينة واحدة في العالم في سنة واحدة هو ما استاقوه إلى مدينة شيكاغو في سنة 1884 وقد بلغ عدد الأبقار التي جلبت إلى تلك المدينة في تلك السنة 1. 874. 984 وعدد العجول 30. 223 وعدد الخنازير 5. 640. 625 وعدد الأغنام 749. 917 وعدد الخيول 15. 625 وقد شغلت تلك الماشية تسعة آلاف قطار كلّ منها مؤلف من إحدى وثلاثين مركبة. فإذا قطرت كل تلك القطر والمركبات يبلغ طولها 146 من الأميال. أكبر مزرعة في العالم للغلات هي في الجنوب الغربي من ولاية لوزيانا. مساحتها شمالاً وجنوباً مائة ميل. وقد كلف تسييجها 50. 000 دولار. أكبر عقد في العالم هو (اكودكت) في واشنطن، فهو يزيد عن عقد (شاستر) في انكلترا بعشرين قدماً وأطول من عقد (نيولي) باثنين وتسعين قدماً ومن جسر واترلو في لندن بمئة قدم، أما علو عقد واشنطن فمئة قدم. أوسع معادن العالم هي المسماة (فيربرغ) (ساكسوني) عرفت في القرن الثاني عشر للميلاد، وقد امتدت دهاليزها الغربية في سنة 1835 إلى مئة واثنين وثلاثين ميلاً وأعمق عمود قائم في معدن في العالم هو في (بريزلرام) وهو معدن رصاص عمقه 3280 وأعمق معدن فحم حجري في العالم هو على مقربة من (ثورني) في (بلجيكا) عمقه 3542 قدماً، على أن ليس له اسطوانة كاسطوانة معدن الرصاص المقدم الذكر، وأعمق نقب أو ثقب أو فتحة في الأرض هي بئر في (بوتسدام) في انكلترا، عمقها 5500 قدم، وأعمق اسطوانة معدن فحم حجري في الولايات المتحدة هي في بوتسفيل (بنسلفانيا) عمقها 1800 قدم ومن هذا العمق العظيم يستخرج يومياً ما يملأ أربعمائة (كار) يسع كل منها (أربعة طنات) من الفحم

الحجري وأعمق معدن فضي في الولايات المتحدة هو المدعو (بلوجاكت) في (فرجيناستي) في ولاية نيفادا، وأوطأ مسطحاتها 2700 قدم. أكبر جسر حجري على وجه البسيطة أنجز في أيار سنة 1885 في (لفانغ) في الصين بناه مهندسو الصين وهو يقطع جون البحر الصيني طوله نحو ستة أميال وله 300 عقد طول كل منهما سبعون قدماً وهو أعظم بنيان شيده الإنسان (ومع ذلك ترانا نزدري بتلك الأمة الوثنية العظيمة). أكبر جسر حديدي في العالم هو ذلك الجسر الذي يقطع (فرث تاي) في (سكوتلاندا) طوله 18912 قدماً، وأكبر جسر خشبي في العالم هو ذلك الجسر الذي يقطع بحيرة (بونشارتين) على مقربة من نيوأورلين، طوله 21 ميلاً وأعلى جسر في الولايات المتحدة هو المبني فوق نهر (كينزينا) على مقربة من (برادفورد) بنسلفانيابني سنة 1882. أكبر ثور في العالم هو في (فيلادلفيا) (الولايات المتحدة) بلغ وزنه 4900 (بوند) وأكبر بقرة بلغ وزنها 3296 بونداً. أشهر وأكبر وأجمل بناية للعبادة في العالم هي كنيسة القديس بطرس في رومية، موقعها في شمالي غربي رومية وقد بنيت على هيئة الصليب اللاتيني، طولها 612 قدماً ونصف قدم وعلوها 448 قدماً وعلو قبتها 152 قدماً ونصف وقطرها 163 قدماً أما وزن جرسها ما عدا المطرق أو المطرقة فنحو 37 قنطاراً وقد أسست في سنة 1450 للميلاد وعاش ومات فيها 43 باباً. أكبر بنيان شيدته يد الإنسان على الغبراء هو هرم مصر مساحة قاعدته 762 قدماً وعلوه 486 قدماً وهو يشغل ستة أفدنة من الأرض وقد قدر العارفون من المهندسين نفقاته بثلاثين مليون ليرة انكليزية وأنه بني نحو سنة 2170 قبل المسيح أو في عهد ابراهيم الخليل وأنه تقاضى نحو عشرين مليون قنطار من الأحجار النحيتة وأن تلك الأحجار قد جلبت من مقلع عظيم من البلاد العربية على مسافة نحو سبع مئة ميل. أكبر وأنفس قصر في العالم قصر اللورد (بيوث) في انكلترا يشغل فسحة من الأرض قدرها ثلاثة أفدنة، وقد بني على نسق بناء قدماء الغوطيين ويبلغ علوه مئة وعشرين قدماً وتقدر نفقاته بثمانية ملايين دولار.

أكبر جسم مائي بارد في العالم هو بحيرة (سوبيرور) طولها 400 ميل وعرضها 180 ميلاً ومساحتها 32000 ألف ميل مربع وعمقها 1200 قدم ومساحتها أكبر من مساحة (نيو انكلترا) وهي تعلو عن سطح البحر 636 قدماً. أكبر آلة لنقل الآلات في العالم هي آلة شركة المركبات الكهربائية في (بولمان) على مقربة من شيكاغو (الولايات المتحدة) وقد اجتهد امبراطور برازيل أن يشتريها فلم يفلح، أما علوها فأربعون قدماً وقوتها توازي قوة 1400 حصان ولها اسطوانتان طول كل منهما أربعون قيراطاً. أكبر قارب في العالم هو قارب (سولانا) المستخدم اليوم بين (بينيسيا) ومرفأ (كوستا) طوله 460 قدماً وعرضه 166 قدماً وعمقه عشرون قدماً وله ثمانية مراجل من بولاد وثلاث دفات. أعلى بناية في العالم بعد برج (إيفل) وبناية مرصد واشنطن ودار البلدية في (فيلادلفيا) الولايات المتحدة هي بناية كنيسة (كولوغن) علوها 511 قدماً وطولها كذلك وعرضها 231 قدماً، أسست في 15 آب سنة 1248 وكمل بناؤها في 14 آب سنة 1880 أي بعد أكثر من 600 سنة من عهد وضع حجر زاويتها. كان الباحثون يظنون أن أعلى جبل على وجه البسيطة هو جبل (إيفرست) أما اليموم فقد بدا فساد ذلك الظن، فجبل (هيركولس) أعلى منه فهواي هيركولس يعلو عن سطح البحر 32763 قدماً ويعلو ايفرست عن سطح الأوقيانوس الهندي 29002 من الأقدام وقد اكتشفه القبطان (لاوسون) في سنة 1881 في جزيرة (بابيوا نيوجونيا). أكبر ولاية في الولايات المتحدة هي تكساس وهي تحتوي على 274356 ميلاً من الأرض الخصيبة وتسع وعشرين مليوناً من الناس ولا يحتشدون فيها بهذا العدد أكثر من احتشاد سكان اسكوتلاندا في الزمان الحاضر وقد قدر أنها تسع كل سكان الكرة الأرضية وأنه يصيب الواحد منهم أربعة أقدام من الأرض. أطول أنهار العالم هو نهر (ميسوري) في الولايات المتحدة، طوله 4300 ميل ويجري مساحة 1726000 من الأميال المربعة، وأوسع نهر في العالم هو نهر (أمازون) في برازيل طوله 4000 ميل ويجري 2330000 من الأميال المربعة.

أكبر ديوان للجمارك في العالم هو في (نيوأورلينس) له 111 غرفة وعلوه من قاعدته إلى قمة إطار عموده ثمانون قدماً ومن قاعدته إلى رأس قبته 187 قدماً ومساحة هذه وحدها 49 قدماً مربعاً وعلوها 61 قدماً وذلك الديوان مبني من الرخام والأخشاب النفيسة ويقدرون أكلافه بأربعة ملايين وتسعمائة دولار. أكبر نزل في الولايات المتحدة وربما في العالم هو نزل (بالاس) في سانفرنسيسكو كلفيرينا وهو مؤلف من تسع طبقات وقد كلف ثلاثة ملايين دولار ونصف مليون دولار (واحترق في جملة ما احترق من القصور والدور الشاهقة في 18 نيسان سنة 1905 وسبق ذكر ذلك في مقالة للمعرب في حريق وزلزال سانفرنسيسكو نشرت في الجزء السابع من سنة المقتبس الأولى). أجمل ملعب في العالم هو في باريس عاصمة الفرنسيس، وهو مبني من الحجر الناعم الصلد الجميل وأرضه مرصوفة بالرخام وهو يشغل ستة أفدنة من الأرض، أما (لاسكالا) من ميلان ففيها أكبر محل للجلوس، وأما دار الخطابة في شيكاغو التي تم بناؤها في سنة 1889 ففيها سبعة آلاف مقعد للجلوس. أكبر مجلد عرفه الإنسان منذ الخليقة حتى اليوم هو كتاب الملكة فيكتوريا المنتقلة إلى رحمة ربها في سنة 1901 وهو يتضمن التهاني التي وردت عليها بيوبيلها ويبلغ سمكها 18 قيراطاً ويزن أكثر من عشرة أرطال. أكبر كاس للفحم الحجري في العالم هو في (ادوارد شفيل كوليرين) في بنسلفانيا الولايات المتحدة وهو يحضر من الفحم الحجري ما يملأ أربعمائة كاراً (مركبة) في كل عشر ساعات. أعظم علو بلغ المنطاد هو 37000 قدم أو نحو سبعة أميال وكان ذلك في 5 تشرين سنة 1862 في ولفرها فبتسن في انكلترا. أطول سلك برقي مفرد في العالم استخدم لأجل رسالة برقية فقط هو في الهند، فقد مد فوق نهر كسيتوا بين بزورا وسيكتوكروم أما طوله فأكثر من ستة آلاف قدم وهو يمتد من قمة جبل إلى قمة جبل آخر وعلو ذينك الجبلين نحو ألفي قدم. أكبر تمثالين في العالم هما في يابان أحدهما في نارا وعلوه ثلاثة وخمسون قدماً وتسعة

قراريط وكان أول نصب أقيم في القرن الثامن على أنه تهدم فيما بعد وجدد في سنة 1223 وأما الآخر فهو نصب كاماركورا وعلوه 47 قدماً. المعرب أقول ومن هذا يظهر أن المغاربة الذين ما زال صغار العقول منهم وكثيرو الدعوى الفارغة بينهم يشمخون بأنوفهم على المشارقة ويقولون في انحطاطهم وجهلهم كل كلمة عوراء أن الشرق سبقهم في نصب التماثيل بمئات السنين كما سبقهم بكثير مما يفاخروننا به في هذا العصر. أكبر منارة في العالم هي في سدني استراليا، فقوة نورها توازي قوة نور مئة وثمانين ألف شمعة، وتشاهد تلك المنارة على مسافة خمسين ميلاً في البحر، وثاني منارة في العالم بكبرها وقوة نورها هي في باليس اندوستراي وقوة نورها توازي قوة نور مئة وخمسين ألف شمعة، أما منارة سان جوزف كلفرينا فقوة نورها توازي قوة أربعة وعشرين ألف شمعة، وأول منارة أنشئت في العالم كانت في جزيرة فاروس القائمة على ثغر الاسكندرية. أكبر بلاطة رصفت في دار للسكن هي في دار وليم فاندربلت المثري الشهير في مدينة نيويورك، وقد جلبت من قضاء بايك في بنسلفانيا (الولايات المتحدة) وكلف نقلها لنيويورك تسعة آلاف ومئتي دولار أما أكلافها كلها فبلغت سبعة وأربعين ألف دولار. أعظم ملاك للأراضي في العالم هو ولسن ودنفهام فله من الأراضي في المكسيك وغير المكسيك مليون ونصف مليون فدان آكر وكلها صالحة للزراعة. أعظم وزر قلعة أو حصن أو معقل للفنون الحربية هو وَزَر غبرلئر فهو يشغل صخراً ناتئاً خارج البحر طوله نحو ثلاثة أميال وعرضه ثلاثة أرباع ميل ويعلو عن سطح البحر 1435 قدماً وجهته الشمالية عمودية في حين أن جهته الشرقية ملأى بالأحادير المرعبة، ويحده من الجنوب المكان المعروف برأس يوربا وتحدره في غربيه أقل منه في شرقيه ويفصل بينه وبين البحر مضيق وتلك القلعة من القلاع التي هزأت وتهزأ بحملات الجنود البواسل وقنابل مدافعهم الهائلة ويبلغ عدد الجنود فيها في زمن السلم سبعة آلاف جندي. أكبر كهف بحري في العالم هو في مقاطعة ادهونسن كنتكي في الولايات المتحدة وهو على مقربة من النهر الأخضر ونحو ستة أميال من مدينة قاف وثمانية وعشرين ميلاً من بولن كرين.

أكبر جرس في العالم هو دير بودهست على مقربة من قانتن في الصين، علوه ثمانية عشر قدماً ومحيط دائرته خمسة وأربعون قدماً وهو واحد من الثمانية الأجراس النحاسية العظيمة التي سكبت بأمر الامبراطور يانغ لو في سنة 1400 للمسيح وقد كلفت ثمانية نفوس في أثناء صبها وحفر على ذلك الجرس العظيم ثمانية وأربعون حرفاً صينياً تؤلف قصة صينية شهيرة. أكبر آلة لرفع المياه في العالم هي تلك المضخة الطلبمة المشهورة في فردسفل بنسلفانيا الولايات المتحدة، فهي ترفع في الدقيقة سبعة عشر ألف وخمسمائة غالون مكيال انكليزي يسع عشر ليبرات أو 1440 درهماً من الماء أما قطر دواليبها ذات الدفع فهو خمسة وثلاثون قدماً ويزن كل منها مئة وستين قنطاراً وطول قضيب مجذافها أربعون قدماً وقطر اسطوانتها مئة وعشرة قراريط وقطر قبضتها ثمانية عشر قيراطاً. أكبر مدفع في الولايات المتحدة هو في معقل هملتن في مرفأ نيويورك العظمى، طوله 343 قيراطاً، وقطره الأعلى 64 قيراطاً وقطره الأدنى 34 قيراطاً وقطر ثقبه 11 قيراطاً ويبلغ ما يحشى من البارود مئتي بوند وتزن قنبلته ألفي بوند. أكبر مطرق بخاري في العالم هو لشركة المعمل الحديدي في بيت لحم (الولايات المتحدة) فقوة ضربته أو صدمته توازي ثقل خمسمائة قنطار وهذه المطرقة لأجل صنع السبائك الذهبية التي تزن الواحدة منها من أربعمائة إلى ستمائة قنطار. أعظم مدينة شاهدها الإنسان منذ عهد الخليقة حتى يوم الناس هذا هي مدينة لندن أو عاصمة بريطانيا العظمى، فهي تشغل سبعمائة ميل من الأرض وعدد سكانها نحو ستة ملايين نفس، منهم أكثر من مليونين من الأجانب من كل ناحية من نواحي الكرة الأرضية المعمورة، وفيها من الكاثوليك الرومانيين أكثر من كاثوليك رومية ومن اليهود أكثر من يهود فلسطين ومن الايرلنديين أكثر من سكان دوبلن في ايرلندا ومن الاسكوتلنديين أكثر من سكان ايدنبرغ ومن أهالي ويلس أكثر من سكان كاردف ومن المزارعين أكثر من سكان أقضية ديفون ووارو كشير ودورهام. وتلد فيها نفس كل خمس دقائق وتموت نفس في كل ثماني دقائق ويحدث يومياً سبع حوادث في شوارعها التي تبلغ ثمانية آلاف ميل ومعدل كل من تلك الشوارع أربعون ميلاً

ويبنى فيها خمسة عشر ألف بيت سنوياً. والمعدل السنوي لزيادة السكان في لندن من طريق الولادة فقط هو 49000 نفس تجد في مرفئها يومياً ما يزيد على ألف سفينة وعشرة آلاف ملاح، وفي لندن حوانيت للمشروبات الروحية يبلغ طولها إذا بني كل منها إلى جنب الآخر ثمانية وسبعين ميلاً، ويقف كل سنة أمام دكة القضاء من سكيريها ثمانية وثلاثون ألف سكير وتفتح أبواب الحوانيت فيها نهار الأحد على مسافة سبعين ميلاً. وللندن نفوذ بين في كل صقع من أصقاع العالم، ويوافيها من الرسائل سنوياً 298000000 رسالة ويمر يومياً على منعطف شافام فيها خمسون قطاراً، ويسير في نفقها تحت الأرض 1211 قطاراً كل يوم، ويركب في مركبات شركة الحوافل أومنيبوس فيها كل سنة ستة وخمسون مليون راكب. والغريب أن الخطر في السير في شوارع لندن أكثر منه في السفر في القصر أو السفائن البحرية بين نيويورك وليفربول ففي سنة 1886 قتلت المنقلات أو المركبات 130 نفساً وتضرر 2000 في شوارع تلك العاصمة. أما عدد كل فرقة من رجال المحافظة في لندن وساقة المنقلات والعملة في إدارة البريد فهو 15000. وتنفق لندن سنوياً على النور الكاز ثلاثة ملايين دولار، وعدد جرائدها اليومية والأسبوعية 400. أما تاريخ تأسيس لندن فيرجع إلى سنة 2832 للعالم أي أنه انقضى على أول بناية بنيت في لندن 3015 عاماً ومياه لندن نظيفة وصالحة للشرب ومعدل الموتى فيها قليل جداً لنكلن نبراسكا الولايات المتحدة. يوسف جرجس زخم

حقوق البشر

حقوق البشر من المحال أن نأمن غوائل المستقبل ودواعي الزمان وتغلب الأشرار وتلاعب الفجار إذا لم نغرس في قلوب أبناء الأمة محبة الوطن الحقيقية ونعرفهم حقوقهم وواجباتهم للهيئة الاجتماعية ونرقي شعورهم وعواطفهم بحيث ينطبعون على عزة النفس وإباء الضيم وحرمة الفضيلة واحتقار الرذيلة، فيصبحون بذلك على أهبة الدفاع عن مصلحة الأمة والوطن دفاع البطل المستميت الذي يرى لثم شفار السيوف وشرب كأس الحثوف خيراً من الصبر على الذل والرضى بالعار واهتضام الحقوق ولا سبيل للوصول إلى هذه الغاية الشريفة إلا بالعلم والتربية، أريد بالعلم جماع العلوم الصحيحة التي بنيت قواعدها على البراهين القاطعة وأريد بالتربية تهذيب الناشئة على مقتضى الحكمة والعقل تهذيباً ينسف بروج الخرافات والأباطيل نسفاً ويقذفها في اليم قذفاً، وأول شيء ينبغي أن يجعل نصب أعين المصلحين تعليم الأمة حقوقها المقدسة وأخص بالذكر حقوقها الاجتماعية التي كانت مداسة بالأقدام منذ ألوف من الأعوام. . شعار الإنسان الحرية، وهي التخلص من قيود الأسر المادي والأدبي، ولا يجوز أن يطلق إنسان على من عدم هذه الحرية وكان في إمكانه نيلها. الأسر الأدبي أشد تأثيراً وأمر فعلاً من الأسر المادي، وهو أن يكون الإنسان تابعاً لآراء غيره مقلداً له في أفكاره وحركاته تقليداً أعمى لا يميز الصحيح من الفاسد ولا يعرف الخبيث من الطيب. . وما أبعد الحرية عن أناس إذا سمعوا منادياً ينادي في الأسواق تجمعوا حوله ونظروا إليه وإذا تبع ذلك المنادي واحد منهم تبعوه جميعاً وهم لا يدرون إلى أين يذهب بهم ذلك المنادي أإلى ذرى جنات النعيم أم إلى أسفل دركات الجحيم. . . وفي قصة (أعطه جملة) عبرة وذكرى تبين لنا معنى الأسر الأدبي بياناً لا يدع مجالاً للشك والريب! مالنا ولهذا أليس الجهل رقاً مؤبداً وأسراً مخلداً. . وأعظم مراتب الجهل جهل الإنسان حقوقه الاجتماعية ومن كان في غفلة عنها فهو حيوان مسخر يستخدمه الآخرون بأبخس الأثمان. . . في عنقه حبل الأسر مشدود الوثاق وفي رجله قيد الذل والهوان. ثم إن من عرف حقوقه ولم يكن في جسمه دم حار يدفعه للذود عن حياضها عندما تمسها أيدي الظلمة الغشمة فهو دون مرتبة الحيوان!.

ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد ما هي الحقوق المقدسة التي يجب على كل فرد معرفتها؟ إليك سبعة عشر بنداً تتضمن حقوق البشر وأبناء الوطن نظمها خمسة أعضاء من مجلس التأسيس الذي انعقد إبان الثورة الكبرى في فرنسا سنة 1789 وقد تلاها أمام المجلس الخطيب الطائر الصيت ميرابو في اليوم الثاني عشر من شهر آب وقوبلت بالقبول والاستحسان في السادس والعشرين من ذلك الشهر وهي الآن فاتحة دستور الحكومة الجمهورية في فرنسا. . ومن تأملها يجدها وقد جمعت فاوعت من حقوق البشر وواجباتهم وما أجدر أبناء وطننا أن يحفظوها بالحرف ليعرفوا مكانهم من هذه الهيئة المبجلة وهاهي: 1 يلد الإنسان حراً ويظل حراً، والناس متساوون في الحقوق لا امتياز لأحد على الآخر إلا بالأعمال التي تعود على المجتمع بالنفع الشامل والخير العام. . 2 الغاية من كل اجتماع سياسي صيانة حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تسقط بمرور الأيام وكرور الأعوام، وهذه الحقوق هي: الحرية. الملك. الأمان على النفس. الدفاع عن النفس. 3 الأمة أصل كل سلطة وسيادة. . فليس فرد من الأفراد أو هيئة من الهيئات استعمال سلطة لم تخوله إياها الأمة. 4 الحرية هي القدرة على أي عمل لا يضر بالغير ويسوغ لكل فرد من أبناء المجتمع التمتع التام بحقوقه الطبيعية التي تنتهي حدودها عندما تبتدئ حدود حقوق الآخرين وحدود الحقوق لا تتعين إلا بنص القانون. 5 ليس للقانون أن يحظر إلا الأفعال التي تضر بالهيئة الاجتماعية، كذلك لا يجوز لأحد من البشر مطلقاً أن يمنع أمراً لم يحظره القانون كما أنه لا ينبغي أن يجبر أحد على عمل شيء لم يأمر به القانون.

6 القانون مجموع إرادة الأمة، ولكل فرد من أبناء الهيئة الاجتماعية الحق الصريح بالمشاركة في وضعه إما بالأصالة وإما بإرسال نائب عنه، ومن الواجب المتحتم أن يكون حكم القانون عاماً شاملاً سواء في القصاص والعقاب أو الحفظ والحماية، وبما أن جميع الناس متساوون في نظر القانون فمن البديهي أن تفتح أبواب المناصب والمراتب وخدم الدولة العامة لأبناء الوطن كافة على السواء كل بحسب استعداده وكفاءته لا يمتاز بعضهم على بعض إلا بالفضيلة والدراية والمعرفة. 7 لا يجوز بتاتاً تهمة أحد أو حبسه أو توقيفه إلا في الأحوال المعينة في القانون وعلى الطرق المصرح بها فيه. والذين ينفذون أوامر عرفية أو يتوسطون في تنفيذها ينالون قسطهم من العقاب. . غير أنه يجب على كل من يدعي باسم القانون تلبية الدعاء في الحال ومن يمتنع عن الإجابة يعد من المجرمين. 8 لا ينبغي أن يوضع في القانون إلا العقوبات الضرورية التي لا بد منها، ولا يجوز أن يعاقب أحد إلا بنص القانون قد سن ونشر وطبقت أحكامه على الأصول قبل حدوث الجرم. 9 الأصل براءة الذمة، فكل فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية يعد بريء الذمة إلى أن يثبت جرمه، فإذا دعت المصلحة لإلقاء القبض على أحد قبل المحاكمة وثبوت الجرم فعلى القانون أن يمنع كل شدة وقسوة لا تفيدان في معرفة ذلك الرجل. 10 لا يؤاخذ أحد أصلاً عن آرائه وأفكاره ولو كانت فيما يتعلق بالأمور المذهبية والمسائل الدينية، إلا إذا كان التظاهر بمثل هذه الآراء والأفكار يخل بالراحة العامة التي تكفل بها القانون. 11 حرية بث الأفكار والآراء من أجل حقوق الإنسان وأثمنها، فلكل فرد من أفراد المجتمع الحرية الكاملة بأن يكتب ما يشاء وينشر ما يشاء ويتكلم بما يشاء. غير أن سوء استعمال هذه الحرية داع للسؤال والمؤاخذة على مقتضى الشروط المصرح بها في القانون. 12 لا بد من قوة عامة (يريد بها الجند) لصيانة حقوق الناس وأبناء الوطن وهذه القوة معدة لحفظ منافع الأمة جمعاء لا لحفظ منافع الذين أنيطت بهم إدارة هذه القوة!. .

13 لا غنى عن تكاليف عامة لإدارة تلك القوة وتدبير شؤون الملك، ومن الواجب أن توزع هذه التكاليف على جميع أبناء الوطن كل بحسب قدرته واستطاعته. 14 يحق لأبناء الوطن البحث في لزوم هذه التكاليف وتحقيقها إما بالأصالة أو بالنيابة، ومن حقوقهم الإقرار عليها ومراقبة صرفها في وجوهها وتحديد مقاديرها ومدة دوامها وتعيين طرق جبايتها. . 15 من حقوق الهيئة الاجتماعية مراقبة العمال ومناقشتهم الحساب فيما يأتونه من جميع الأعمال. 16 أي هيئة اجتماعية لا تصان فيها حقوق الإنسان ولم توزع فيها القوى العامة التشريعية والعدلية والإجرائية فليس لها دستور. 17 الملك حق جليل لا يقبل الغصب لذلك لا ينزع من أحد ماله بتاتاً، وإذا مست المصلحة العامة لاستملاك بعض الأملاك فمن الواجب أن تكون ضرورية ويعطى ثمنها لصاحبها. عبد الوهاب

مصالح الأبدان والأنفس

مصالح الأبدان والأنفس تابع ما في الجزء الماضي القول في الشراب الطعام عامته جسم أرضي يحتاج إلى ما يرقق أجزاءه ويهيئه للقوة الهاضمة وحقيقة الشراب هو الشيء الذي إذا طبخ صار جميعه بخاراً بلا ثقل كالماء فأما ما يبقى له ثقل أو ينعقد منه شيء إذا طبخ فهو بالطعام أشبه وأوفق الأشربة التي يكثر استعمالها السكنجبين العسلي لأن فيه قوى العسل والخل، ولهما الجلاء والتحليل، وعلى هذين المعنيين مدار أفضل المعالجات فإن الأشياء التي تحفظ الأجسام وتمنع من العفونة والفساد هي الخل والعسل والملح والصبر فقد اجتمع في السكنجبين شيئان من هذه الأربعة. القول في المسمومات كما أن الماء ليس يغذو بنفسه، وإنما هو مركب للغذاء كذلك الهواء لا يغذو إلا بما يستصحبه من الرائحة الطيبة وكذلك وقع المشموم في باب حفظ الصحة ويجب للحكيم أن لا يترك الانتفاع بالروائح الأرجة وأن يجعل استعمالها عباً لأن للمشمومات قوى مفرطة في الحرارة والبرودة فربما ضرت مداومتها فلأن حاسة الشم إذا انغمست في الروائح الطيبة كلت عنها وفترت لذتها منها كالعطارين والدباغين في القيدين ولا يدني المشمومات إلى أنفه إدناءً كثيراً لغلبة الكيفيات بل يبخر له المجلس وثيابه ويجمع من المشمومات رطبةً كانت أو يابسةً طبائع مختلفة لتكون أقرب إلى الاعتدال وأعون على الاستكثار فإن التركيب ألذ ما استعمل في الأطعمة وأنفع ما اعتمل في الأدوية كالأبارجات ونحوها. القول في النوم من كان أرطب بدناً كان النوم عليه أغلب والمشايخ أكثر نوماً إلا أن رطوبتهم ليست أصلية فضعف لذلك نومهم واضطرب وهو من الأقوات الطبيعية إلا أن الإكثار منه يرخي البدن ويهيج الوجه ويكل الحواس ويملأ الأعضاء فضولاً ويفتر الحركات وربما كان سبباً لعفونة الإخلاط وإضعاف الحفظ والفهم والذكاء، والحاجة إليه في الصيف أكثر لغلبة الحرارة واليبس فيه ولطول نهاره وكثرة التعب بحركات اليقظة فيه وهو في الربيع مستلذ وفي الصيف علاج ويجب أن لا يلحق المرء نصف الليل إلا وهو نائم فهو حقيقة الليل

واستحكام الظلام وأن امتد به السهر فلينم في السحر وقبل طلوع الفجر فإن اتصال اليقظة ليلاً ونهاراً ليس بصالح والنوم في أول النهار خطأ لأنه وقت الانتشار وحركة الحيوان فالنوم فيه تنكيس للأمور الطبيعية عن جهاتها وكذلك آخر النهار، لأنه ينقص نوم الليل ويفسده والليل أفضل الأوقات للنوم ويحمد النوم عند الغم والخوف لأنه يقلل الحرارة التي يهيجانها، وتقدير زمان نوم الحكيم، الثلث من جميع ساعات الليل والنهار ولا يلزم شكلاً واحداً في النوم فربما اضطر إلى غيره ولا يوقط الإنسان بإزعاج فإن نفسه تتموج وأعضاءه تسترخي عند نومه، فكل شيء من الأفعال الطبيعية فيجب أن يكون الانتقال منه إلى ضده بتدريج وترتيب وليكن النوم بالليل على فراش وثير والجلوس بالنهار على مقعد وطيء. فصل في الباه ينبغي تجنبه في حالي الخواء والامتلاء وحال الامتلاء أسلم، وفي حال الغم والحزن وأن تكون التي تواقع محركة النفس بنشاط أو غضب فإن ذلك يوجب ذكاء المولود وليجتنب مجامعة العليلة والفاترة النفس والمسترخية البدن والمغلوبة بالنوم فإن ذلك يوجب بلادة المولود. . القول في الحمام وهو من أشرف مرافق الأبدان ومعاون الصحة لأنه يجمع الماء الحار، والهواء الحار فيفتح المسام ويخرج الرطوبة الفجة المتولدة عن فضول الأغذية التي مقامها في البدن مؤدٍ إلى العلل والأسقام وهو يجمع إلى نقاء البدن من داخل نقاءه من خارج وتنظيفه من الأدران وفيه كذة نفسانية لأن النفس مجبولة على حب الزينة والنظافة وكلما كانت ألطف كان هذا الطبع عليها أغلب، ففيه لذتان للنفس والجسم، وأكثر نفعه لأصحاب الأبدان المتخلخلة، وربما ضر أصحاب الأبدان المستحصفة لأنه يثير الأبخرة ثم يمنع الاستحصاف من خروجها إلا بإطالة مكث في الحمام يحل القوة ويكرب ويضعف ويجب اجتنابه في الصيف أو تقليل اللبث فيه جداً وأصلح الأوقات له الغداة لأنه بعد ثقل النوم وبرده ورطوبته، وليجتنب على الامتلاء فإنه يثور ما في المعدة والجسم محتاج إلى التسكين في ذلك الوقت ليتم هضمه وربما أحدث ضرراً عظيماً، ويهجر بعقب الجماع والتعب والاستفراغ وهيجان

الأعراض النفسانية ولا يستعمل الغذاء بعد الخروج منه ولا الركوب والتعب إلا بعد راحة أو نومة لأنه يثور الإخلاط، فتحريك البدن قبل أن تستقر طبيعته قرارها ضار مخوف العاقبة، ويجب استعماله غباً فإنه أدوم للذمة وأعدل لنفعه. القول في الحركات الرياضية الرياضة من أشرف العلاجات وقد نرى أصناف الحيوان تستعملها وتختلف في الطيران والمشي غير طالبة لشيء من مأكل أو مشرب غير الحركة فقط، وقد ترى الماء الجاري بعيداً من الفساد، والراكد كثير العفونة ولذلك صار المترفون يدفعون إلى أمراض مزمنة كالنقرس وغيره، والإنسان خلق خلقاً متحركاً مشاءً بالطبع فإذا عطل نفسه مما خلق له أداء ذلك إلى المرض ولا يسرف في الحركة فإن إفراطها أسرع في توليد الأمراض، والملوك أحوج إلى الرياضة من العوام لكثرة تودعهم ولاختلاف الأطعمة والأشربة عليهم، فأما العوام والسوقة فهم في رياضة دائمة، وأفضل الحركات حركة المشي وحركة الركوب دونها ويجب أن يحرك البدن على الدابة، ومن الحكمة أن ينزع الإنسان في القوس الشديدة نزعات كل غدوة ونعم الرياضة لأهلها اللعب بالصوالجة ويجب أن يبدأ الإنسان بالرياضة ثم الاستحمام ثم السكون ثم الأكل ثم النوم ثم الشرب، ومن لم يتهيأ له المشي والركوب، فالكلام والمحادثة فقد قيل أن الكلام الكثير يهزل الغذاء وفي وقت اشتداد الحر لأن غلبة الحر تحلل القوة الغريزية. القول في التغميز هذا أحد المعاون في حفظ الصحة ولا سيما بعد التعب والحركة والخروج من الحمام ومن الدليل على الانتفاع بالتغميز وإخراجه الأبخرة وتفتيحه المسام استدعاء الطبيعة الحل لإبراز البخار الذي يحتقن داخل المسام واستعمالها التمطي والتثاؤب لذلك ولا سيما عند حركة الحمى وامتلاء البدن من الفضول والتمرخ لمثل ذلك لا يكون التغميز بخرق بل برفق ولا في حال امتلاء. القول في السماع يجب أن يميل الملك من السماع إلى ما يوقر ويرزن دون ما يخفف لئلا تقع الأبصار منه على ما ينقص الهيبة وإن مالت نفسه إلى ذلك كان في حال خلوةٍ.

القول في الأدوية الأدوية كلها مضادة للطباع والقوة تجاهدها فلذلك يجد البدن بعد الاستفراغ ما يجده المستريح من التعب، وفعلها في الأبدان إذا كثرت كفعل الصابون ينقي ويخلق وهي إن وافقت فضلة أخرجتها وإلا أخرجت الرطوبة الغريزية فكان ضررها بذلك عظيماً والأبدان المستحصفة التي لا يسهل خروج الأبخرة منها أحوج الأبدان إلى المداواة. . . . فصل في الحرارة لا تجوز المداواة في صميم الحر لأن الغريزية تضعف في عمق البدن وتبرز إلى ظاهره فلا يجوز أن يجمع عليه الضعف من هذا الوجه، والضعف بالإسهال والحرارة إذا ثبتت في ظاهر البدن جذبت الإخلاط إلى خارج، والدواء يجذبها إلى داخل فتجري بينهما ممانعة وتتعب الطبيعة ولا يؤمن معها مضرة شديدة ولا في صميم البرد لأن الإخلاط جامدة عسرة الحركة فربما كان في مجاذبة الأدوية لها سجح وأضرار بالآت الغذاء. فصل في العلاج يجب أن يكون العلاج بما يدخل في باب الغذاء أكثر منه بما يدخل في باب الدواء لأن الغذاء شكل، والدواء ضد، وأن يختار الأسلم منها وإن كان نفعه أقل، فتدارك التقصير أهون من تدارك الإفراط وتدارك الحمية قبل الدواء بيومين أو ثلاثة ويجتنب اللحم لأنه يملأ الأوعية وغيره مما يولد السدد والحامض لأنه يخشن، فربما أحدث الدواء بعده سحجاً بل تستعمل قبله الأغذية الخفيفة الدسمة الخفيفة لتجلو المجاري وتسلسلها ويشيع الدواء بحمية أيام لتثوب إلى البدن قوته ويجتنب بعده التخليط فإن الشيء الضار على النقاء. . . . النقاء أشد ضرراً. فصل في إخراج الدم بحسب الانتفاع بإخراج ما له كيفية رديئة من الدم يكون الاستضرار بإخراج النقي الجوهر منه وإذا بتيع في جوف العروق لم يشف إلا إخراجه بالقصد وإذا كان في خارج العروق نفعت منه الحجامة والصبي والشيخ يضعفان عن القصد والأكحل عام النفع لجميع البدن والقيفال لأعلاه والباسليق لأسفله ويجب إخراج الدم على ثلاثة وجوه إما غلبة الكمية يغير

كيفية فاسدة وعلامته ثقل البدن وحكة ليس لها لذع شديد أو لفساد الكيفية بغير كمية فيكون مثل الماء الذي يغلي على النار، وعلامته حرقة الجسد ويثور لذاعه أو تغلب فيه الكيفية والكمية فتمكن منه العفونة والاستحالة وعلامته مجاوزة الأعراض التي ذكرناها إلى توليد الأمراض، والحمايات والأورام، والصنف الثاني يخرج منه القليل وربما أغنى فيه التسكين والأول أكثر والثالث يخرج منه كل ما تحله القوة ويقدم الفصد قبل الدواء لأن الإخلاط الآخر متشبثة بالدم فربما أغنى إخراجه عن المسهل وليكن الإقدام عليه وقت استحكام قوة البدن ويمتنع بعد الفصد من الأغذية التي تولد السدد والكيموس الرديء كالبقول والفواكه ويجتنب على حال خواء أو امتلاء أو خمار أو جماع أو تحرك بعض الأعراض النفسانية. القول في حفظ صحة الأنفس ينبغي للعاقل أن يشعر نفسه أن الدنيا مبنية على الشوائب والتكدير فلا يطلب منها ما ليس في طبيعتها ويستعمل التغافل وترك الاستقصاء ويروض نفسه على احتمال صغير ما يضجر فإنه تمرين على احتمال الكثير ومن التدبير البليغ أن يعرف الإنسان وزن نفسه ومبلغ استقلاله وقوة قلبه فيكون ما يخاطر في طلبه ويغرر له من مآربه بحسب احتماله فإن راحة القلب وطمأنينة مع الإقلال خير من ضده مع ضده والإنسان يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه ولذلك يجب أن يكون مع الملك طبيب لأخلاقه كطبيب الجسم يذكره ويعظه في أوقات الخوف والغضب. فصل آخر في الخوف الخوف هو أبعد وأسهل والفزع لما هو أقرب أو أشد فلذلك كان الخوف مقدمة للفزع والجزع أشد الحزن فهو من الحزن كالفزع من الخوف. فصل في الغضب ينبغي للعاقل أن لا يفارقه من قد أطلق له وعظه وتذكيره في أول اهتياج الغضب عليه وأن يتصور أن الغضب كالنار أولها سريع الإطفاء وآخرها كثير الضرر فليقصد لقمع غضبه من أوله كما يكبح الفرس في أول جماحه وليتذكر فضيلة الحكم وشرف الكظم وما حازه الحكماء من حسن الذكر ويفكر في أن شدة الانتقام وسرعة المؤاخذة لنفر قلوب الخدم وتكسب الأحقاد والضغائن وتفسد طاعة المحبة وتنقلها إلى طاعة الرهبة والذين يطيعون

الرئيس بالمحبة حراسه من حيث يعلم (ولا يعلم) والذي يطيعونه بالرهبة يحتاج إلى الاحتراس منهم وما أحسن قول بعض الملوك (ما غضبي على من أملك ولا غضبي على من لا أملك) ويجب أن يفكر في أنه لا يكاد يعاقب إلا على ما فيه جنس منه ومن عاقب على ما يأتي مثله أو بعضه فليس بمنصف ويذكر نفسه حرمات المغضوب عليه ووسائله أو ما يرجو من مستأنف خدمته وما يستخلصه الحلم من طاعته ومناصحته ويجب أن لا يقع بصره على من أغضبه إلى أن يسكن غضبه. فصل في الخوف والفزع ليس شيء يخاف من الإنسان كخوفه على نفسه من التلف والألم ومنه شيء يكون على البديهة لرقة الطبع وسرعة استحالة النفس وهذا لا حيلة في دوائه ويجب أن يفكر الخائف في قولهم أكثر الروع باطله فإن الحكماء شبهت الأمور المخوفة بالضباب الذي يتولد على وجه الأرض فيتخيل الإنسان من بعد أنه جسم كثيف ليس فيه متنفس ولا عمل للبصر فإذا أفضى إليه وجده شبيهاً للهواء الذي فارقه وشدة الخوف ربما أذهل عن الحيلة للخلاص مما يخاف فيكون الخوف داعية ما يخافه الإنسان والعاقل لا يستجيز مثل هذه الحال ويجب أن يفكر في أن الخوف والجزع من خور النفس وأنهما خاصة للصبيان والنساء فيغضب على نفسه من أن لا يكون فيها من الجلادة والصرامة ما ينفي هذا العار عنه فليس شيء أبلغ في التشجيع من قوة الأنفة، ويفكر في أن الخوف فعل الغر الذي لا يعرف حقائق الأشياء ولذلك خوف الصبي أكثر وخوف من لم يشاهد الحروب والقتلة أوفر ولو قد تحقق الصبي من حال الأشخاص التي يفزع بها ما تحققه البالغ العالم لما خافها وقل اكتراثه لها وخوف الصبي والجاهل كخوف الطير من الشبح الذي ينصب لها على الزرع ولو تحققت كيفيته لأقدمت عليه وكنفار الخيل من الأشخاص التي لم يألفها حتى تؤنس بها فالمغ الأدوية في إزالة الخوف الاستكثار من العلم والمعرفة بحقائق الأشياء وتعويد حاسة السمع والبصر ملابسة ما يهول ويجب أن يخرج أولاد الملوك إلى معارك الحروب لتهون عليهم الأهوال فإن الأطباء الذين يباشرون الكيّ والبط والملاحين الذي قد تمرنوا على الرياح العواصف والأمواج العظائم يقل ارتياعهم لما يشاهدون من ذلك ولذلك يرتاع الإنسان للمرض أول ما يناله ثم ينوبه دفعات فيألفه فيقل استيجاشه منه والجاهل تروعه الكسوفات والعالم العارف

بأسبابها وحسابها قليل الارتياع منها وهذا مثل لغيره. فصل في الحزن والجزع الجزع أشد الحزن وهو كالنار الملتهبة والحزن كالجمر الباقي بعد سكون اللهب وكأن نفس الإنسان التي هي نور بدنه وضياء جسده في حال الغم والحزن، شمس كسفت وهو يفعل ضد المسرة فإن وجه المسرور مستبشر بهي مشرق والحزن لفوت محبوب كما أن الخوف توقع مكروه والحزن أبداً لما مضى والخوف لما يستقيل والحزن المجهول السبب يرجع إلى الأعراض البدنية وتولده عن كدر الدم أو برده ومن أدويته النفسانية إحداث السرور بالمحادثة والمؤانسة وينبغي للمحزون أن يتذكر ما بقي له من قثيتة (؟) فإن ذلك يسليه عن المفقود ويتصور كثرة الأسى له ففي ذلك سلوة ويتصور أن الحزن يبلى كل يوم وينقص فإن التفكر في ارتفاع المكروه ونقصانه يعقب سروراً عاجلاً. القول في الوسواس هذا منه جنس من قبل الطبع وما يقع في المولد وهو ألزم وأسلم من الغريب الطاري والوسواس على نوعين نوع فيما يرجى ونوع فيما يخشى فالذي يرجى كالمستهتر بمعشوقه فلا يعرف غير صياغة الأماني فيه والاشتغال عن أكثر أعماله به، والذي يكون فيما يخشى فإنه يوهم الإنسان الشيء يخافه وهو بعيد عنه مقام القريب منه، فلا يزال نصب وهمه فكأنه يلاحظه ومتى أراد الاشتغال بغيره طفرت نفسه إليه، ومن شأن من هذه حاله أنه إذا عرض له أمر من الأمور يمكن أن يتصرف على وجهين لم يذهب وهمه إلا إلى ما هو أصعب وأخوف دون ما هو أسهل وأرجى ومن الأعوان على إزالة هذه الأفكار ترك الانفراد فإن الوحدة تهيج الفكر لا سيما إذا كانت النفس ذكية رقيقة الطبع، وإنما تحمد الوحذة الذي سلطان يخلو بالفكر في تدبيره أو لعالم يخلو باستنباط حكمة أو لناسك ينفرد بمناجاة ربه وما خلا هذه الوجوه من أبواب التفرد مذموم، وعلى أن الله عز وجل خلق الإنسان يحب الأنس والاجتماع مع أهل جنسه فليس يسد ذاك عن هذا الطبع إلا من عرض له نقص في طباع الإنسانية ومناسبة السباع وهو خلق موجود في الحيوان الذي طبعه أفضل وأسكن كبهائم الأنعام والطير وضده موجود في السباع من الصنفين ولذلك قيل أن الواحد شيطان ويجتنب الفراغ كتجنبه الوحدة ويصرف الفاضل من أوقات زمانه عن

شغله إلى قضاء أوطاره من اللذات والسماع المحرك لقوى النفس والنظر إلى الصور الجميلة والاستجداد منها ليكون أشغل لقلبه وأغلب على فكره والآن من طباع صاحب هذا العرض أن يكون ملولاً ومما يستعان به على صرف هذا الفكر الجليس الذي يثق به ليعرفه بطلان ما يتخيل له من الفكر الرديئة وإذا علم من نفسه أن هذا خلق وقع له بالطبع الأقدم والمزاج الأول كان أخف لغائلته وأقل الاشتغال سره به ومما يزيل كثيراً من الاستشعار التعويل على صناعة النجوم وما تشهد به من السلامة فإنها صناعة شريفة قد استعملتها الأمم المتباعدة البلاد واتفقوا مع اختلاف ديارهم على صحة أصولها وتجربة فروعها فلا يجوز أن يكون اتفاقهم عليها باطلاً بل عن وحي لا يكذب أو إلهام لا يبطل ويجب أن يفكر في أن الله عز وجل لما أراد عمارة الدنيا جعل أسباب العطب ودواعي البقاء والنجاة أقوى من دواعي الانحلال والبوار وهذا أمر موجود بالمشاهدة فإنا نرى ذوي السلامة أكثر من ذوب العاهات والزمانة، فيكون هذا الفكر أميل به عن الخوف إلى الرجاء وبالله التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

نكارتر

نكارتر الماسة المفقودة كان نكارتر البوليس السري المشهور عند وقوع هذه الحادثة في مدينة دانفر من مقاطعة كولورادو، وقد دعاه إليها عمل مهم أنجزه فملأت الجرائد المحلية أعمدتها بذكر نكارتر وأعماله الغريبة ودار اسمه على الألسنة وتناقلته الأفواه. وحين أنهى طعام الغذاء في أحد الأيام جلس في الغرفة مع معاونه باتسي وإذا بخادم الفندق أقبل عليه وسلمه رقعة زيارة قال له أن صاحبها يود أن يكلمه في الحال فأخذها البوليس وقرأ عليها اسم فيليب دلمار بصوت منخفض ثم التفت إلى معاونه باتسي وسأله هل سمعت بهذا الاسم قبلاً، فأبدى باتسي إشارة النفي، فتبسم نكارتر وقال إذن فلنغتنم هذه الفرصة للتعرف إلى هذا الرجل وقال للخادم أدخله لنرى. وبعد هنيهة أقبل الزائر وهو ربعة في الرجال قد لوحت وجهه أشعة الشمس وكانت حركاته العنيفة تدل على أنه عرضة لاضطراب وانفعال شديد حتى أنه لم يفتكر بتحية البوليس عند الوصول بل صرخ قائلاً: يجب أن أستعيد ماستي المفقودة المدعوة (عين الشيطان). فأجابه نكارتر: ذلك مما لا ريب فيه. فقال باتسي ممتعضاً: حسناً يفعل هذا الرجل إذا تكلم عن الشيطان ذاته. ولكن الغريب استتبع الكلام وقال ياللغرابة أليس من العجب أن أفقد عين الشيطان ماستي الثمينة، فقال البوليس بتأن حسناً ولكن اسمح لي أولاً أن أقدم لك نفسي فأنا نقولا كارتر من نيويورك. فعض الزائر على شفته ثم قال: وأنا فيليب دلمار، وإذا كنت لم أقم بالواجبات فأرجوك مغفرة لأنني أضعت صوابي حين فقدت ماستي العزيزة التي لا يقع عليها ثمن. فقاطعه نكارتر قائلاً: تفضل واجلس ثم قص علينا قصتك بالسكينة التامة فإذا وجدت فيها ما يستحق العناية فأنا رهين أمرك. فجلس دلمار على المقعد الذي أشار إليه نكارتر ثم ألقى على باتسي نظر مستفهم وقال أظن أن هذا الشاب مساعدك.

ـ نعم ومن أشد مساعدي ذكاءً ثم بعد أن تعارف الرجلان وتصافحا قال دلمار فلنعد الآن إلى حديث الماسة وأظن أنه يهمك أن تعرف تاريخها قبل أن تدخل في ملكي. ـ لا حاجة لي بذلك فيكفيني أن أعرف منك كيف ومتى انتقلت هذه الماسة إليك. ـ إنها دخلت في حوزتي منذ سنة تقريباً وكنت في تلك الآونة تاجراً في كلكتا فاتفق لي مرة أنني أنقذت حياة رجل برهمي له شرف أثيل وثروة جزيلة ودفعت عنه غائلة لصوص داهموه ـ ولست أفتخر بشجاعتي ـ ولكني أقول أني لحسن الحظ كنت حاملاً مسدسي وأنت تعلمون أن السلاح الجيد يفعل ما لا تفعله البسالة. ـ ذلك مشهور ولكنه يتوقف على الساعد الذي يدير السلاح. إنني أجيب على هذا ـ وأنا بريء من التبجح ـ إنني استعملته بمهارة فائقة، فإن اثني عشر لصاً هاجموا البرهمي في ضواحي المدينة ولم يكن هناك سواي فبادرت إلى نجدته مع أني لم أكن أعرفه قبلاً ولم أحتج في إنقاذه إلى شجاعة فائقة بل كفى لذلك أن أطلق النار ذات اليمين وذات اليسار وأن أعيد حشو مسدسي بأسرع ما يمكن فصرعت رجلاً بكل طلق ولا أستحق الإعجاب بهذا فإن اللصوص كانوا قريبين مني حتى لم يمكنني أن أخطئهم فقتلت خمسة منهم ومات السادس أثناء نقله إلى المستشفى وفر الباقون هاربين. فابتسم نكارتر وقال له إذن فأنا لا أوثر أن أنازعك ما دام مسدسك في يدك لأنك تبلغ به ما تريد. ـ دعنا من هذا فلو كان لي جرأة أن أستخدم مسدسي منذ ثمانية أيام ما رأيتني اليوم آتياً لأزعجك لأنني كنت أوقفت كقاتل، ولنرجع الآن إلى تتمة الحديث ففي اليوم الذي تلا الواقعة أتاني البرهمي إلى مخزني وكان يريد أن يقدم لي هدية دليلاً على شكره فأعطاني علبة صغيرة وقال لي أن ضمنها الماسة المعروفة في الهند بعين الشيطان ثم قال لي أن هذه الماسة ذات قيمة لا تقدر يا صاحبي وأشير عليك أن تبارح الهند بعد الآن فحياة الذي يملك هذه الماسة في خطر شديد لأن جميع الطبقات في الهند تعرفها وكثيراً ما أثارت المعارك الدموية في سبيل امتلاكها، ثم ذهب البرهمي وتركني ذاهلاً والصندوق في يدي وعندما فتحته وجدت فيه ماسة كبيرة الحجم جداً لم تقطع بعد وتكاد لا تعرف لها لوناً لشدة صفائها، وعندها لم أدرِ ماذا أفعل ولما استشرت كبار الجوهريين في كلكتا وأخبروني عن

قيمتها الحقيقية تهت عجباً ولم تعد حياة تاجر في الهند تطيب لي فبعت مقتنياتي وعدت إلى الولايات المتحدة آملاً بأن أقطع الحجر وأبيعه بأغلى ما يتيسر لي. فسأله نكارتر وهل تقطن في كولورادو؟ ـ لا، إنني لم أقطن في مدينة بعد لأنني لم أترك الهند منذ أكثر من شهر وقد جئت من بوسطون إلى كولورادو. قبل أن أنزح إلى الهند أقمت عدة سنوات في هذه البلدة عساني أوفق إلى حشد ثروة فاتخذت أصدقاء كثيرين وفي هذه الآونة لم يسمح لي قلبي أن أمر في مقاطعة كولورادو دون أن أذهب لزيارة أصدقائي القدماء. وحين نمي إليّ أن اثنين منهما يقطنان هذه المدينة ألقيت فيها عصا التسيار. وقد مضى على هذا أسبوع وفي اليوم التالي من وصولي دعوت صديقيَّ إلى العشاء في الفندق فلبّيا دعوتي وخصصت غرفة لنا فقط و. . . إن هذه لصدفة عجيبة أننا كنا جالسين في هذه الغرفة عينها ذلك اليوم المشؤوم. فقال البوليس إن الأمر ذو شأن خطير، إنك ولا ريب أريت الحجر الكريم إلى أصدقائك. ـ نعم وأسفاه. ـ إذن فأخبرني بالتدقيق عن المدعوين الذين حضروا العشاء. ـ حباً وكرامة، كانت المنضدة الطاولة موضوعة في الزاوية حيث يجلس المسيو باتسي الآن، وكان الخادم قد وضعها أولاً في وسط الغرفة كما ترونها الساعة ولكنني نقلتها من موضعها لأنه كان يمكن القاطنين في الجوار أن يروا كل ما نفعله لو بقيت المنضدة في محلها فغيرت وضعها وجلست قرب هذين الزرين اللذين تراهما في الحائط وأنت تعلم أن الذي دعاني إلى وضع المنضدة هنا قصصته عليك لأنك تود أن تعرف كل ما جرى بالتفصيل وعندما وصل أصدقائي الثلاثة نهضنا إلى المنضدة. فقاطعه نيكارتر وقال له هل كانوا ثلاثة إنك لم تذكر لي حتى الآن سوى اثنين منهما. ـ هذه هي الحقيقة ولكن واحداً منهما أحضر معه شريكه الأعمى فجلست قرب الحائط حتى يسهل عليّ استدعاء الخادم بتحريك اللولب وجلس أمامي كراب الرجل الأعمى وكان عن يميني شريكه ماتيو وعن يساري صديقي المدعو دونلسون.

ـ أرجوك أن تعرفني بأسماء أصدقائك الأولية. ـ فرانك ماتيو وجورج دونلسون أما كراب فأظن أنه يدعى يوحنا. ـ فردد البوليس لفظة جورج دونلسون وهو يلتفت إلى معاونه باتسي الذي كان إلى جانبه ثم سأل دلمار ما هي صنعة هذا الرجل. ـ يقوم بمشاريع كثيرة يؤمل منها أن يكتشف مناجم غاز. ـ حسناً كنت ظننت أنه هو وتراني مسروراً جداً لأنني أسمع عنه شيئاً. فتعجب دلمار وسأل نكارتر قائلاً وهل كنت تعرفه قبلاً؟ كلا ولكنني أود كثيراً أن أتعرف إليه وسنتكلم عنه فيما بعد. . . أرجوك الآن أن تتمم حديثك. والذي دفع نكارتر إلى السؤال عن دونلسون هو أن هذا الأخير كان له ضلع في كثير من الجرائم الفظيعة من قتل وسرقة بالتحريض والإغراء دون أن يعلم بها البوليس وكان هذا الداهية المحتال ينسل من وصملتها ولو علم بها البوليس لقادته إلى السجن أو إلى الكرسي الكهربائي (آلة الإعدام). وكان نكارتر وباتسي هما الوحيدان اللذان قدرا أن يكتشفا أسرار فعلته، ولكنهما لم يكشفا أمراً آملين أن يقبضا يوماً على الشرير ويدعما شكواهما عليه بالبراهين الجلية. ثم عاد دلمار واستأنف حديثه فقال: وانتهى العشاء كما تنتهي الولائم في الفنادق عادة وبعد أن رفع الخدم المائدة وقدموا القهوة واللفائف السكاير وخرجوا أخرجت الماسة من جيبي، فتناولتها الأيدي والكل يعجبون بها وسمع كراب الأعمى ذلك وإذ لم يكن قادراً أن يبصرها أراد أن يمسها على الأقل، وبعد أن جسها وضعها بقربي على المنضدة آه إني أذكر كل حركة جرت عندئذ فقط نظرت كراب المسكين يقلب وعاء السكر عند ما مد يده ليناولني الحجر الكريم وسمعت تنهده حين وضعه أمامي، وبقي على المنضدة هنيهة يسيرة يسألني في أنثائها أصدقائي ألف سؤال عن تاريخ هذا الحجر فلم أجد مانعاً من إخبارهم بكل ما جرى فقصصت عليهم كل ما أعرفه من تاريخ الماسة وكيف اتصلت بي. . قصصت عليهم كل هذا بإخلاص وبساطة شأن الأصدقاء. وأخيراً فرغت الأقداح فضغطت على زر الجرس الكهربائي لأستدعي الخادم وكان في

نيتي أن أقدم إلى المدعوين قدحاً من الكونياك الفاخر، ومع هذا فلم أولِ أصدقائي ظهري تماماً لأنني لم أشأ أن أحول نظري عن الماسة ولكن لنكد طالعي ضغطت على زر الكهربائية وللحال استولى على الغرفة ظلام دامس لم يستمر بضع ثوان أعدت في خلالها المجرى الكهربائي ولو قدر لي أن أعيش مئة سنة لم أنس اليأس الذي أخذ بخناقي عندنا ألقيت نظري على المنضدة فوجدت الماسة قد اختفت. وحين وصل دلمار إلى هذا الحد من حديثه أمر يده على جبهته وانقطع عن الكلام فقال نكارتر لو لم تأتِ إليّ اليوم وتقص عليّ هذا الخبر لكنت أقول أن أحد أصدقائك سرق الحجر. فقال دلمار هذا هو فكري بتمامه. فأجاب نكارتر نعم ولكنك إذ لم تفتشهم حالاً صار الواجب علينا أن نسلم أن اختفاء الماسة سر غامض. فسأل دلمار وكيف هذا إنني لا أفهم شيئاً. فقال نكارتر إن المسألة واضحة كل الوضوح وهو أن رجلاً يجيد استعمال المسدس مثلك كان من الواجب عليه أن لا يدع شيئاً ثميناً كهذا يفقد من دون أن يطلق طلقاً أو ينبس ببنت شفة بل كان يفتش حالاً في الموضع الذي وضع فيه الحجر فإن الحجارة الكريمة لا تسرق نفسها على ما أعلم. فقال دلمار إنني أخبرتك أنني حزين لأنني لم أعمد إلى المسدس فقد أخرجته من جيبي ولكني لم أطلق النار، على أن الماسة اختفت كما قلت بطريقة غامضة خفية للغاية فإنها لا تسرق نفسها كما قلت وبالتالي فلم أجد طريقة أوضح فيها هذا الإبهام. ـ فأخبرني بالتفصيل والتدقيق عما أجريته عندما فقدت الماسة. ـ إذن فاسمع أول ما وقعت الحاظي على ماتيو وكانت يده على شفتيه تنتزع السيكار الذي كان يدخنه دون انقطاع، وكانت مظاهر الدهش تعلوه فعزوت هذه المظاهر إلى ما ناله من سرعة فقد الماسة وكانت يده اليمنى على المنضدة. وكان دونلسون يرسل إليّ لحظاً لم يسرني فاشتبهت به للحال ويعسر عليّ أن أصف هيئته وصفاً مدققاً ولكنني أذكر ما يلي، كانت عيناه موجهتين إلى موضع الماسة تواً وكانت يده

اليسرى قابضة على المنشفة ومضطربة بفعل عصبي ويده اليمنى موضوعة على زجاجة خمر فارغة وكان جالساً على كرسيه في المؤخرة بعيداً جداً عن الطاولة، أما كراب الأعمى فكان على شفتيه كأس ماء وكانت عيناه متجهتين إلى القدح ونظرت رماد سيكارته تتساقط على المنشفة بينما كان يشرب الماء، وكل هذا أذكره تماماً، ثم وضع القدح على المنضدة وكان في بقية ماء اضطربت ثواني قليلة ثم سكنت. ـ إن وصفك تام مدقق فلننظر الآن في شأن دونلسون وقد قلت لي أنه كان بعيداً جداً عن المنضدة. ـ نعم وكانت نظراته تشف عما في صدره. ـ يظهر أنه اغتنم فرصة الظلام فسرق الماسة أليس كذلك؟ كان ذلك كما تقول، وكان له هيئة تشبه هيئة الثعلب الذي سقط في فخ. ـ وهل كان جالساً على مقعده بدون اهتمام عندما أظلمت الغرفة؟ ـ أظن ذلك. ففكر البوليس لحظة ثم قال: يمكنني أن أتصور الآن كيف جرت الحوادث فإن دونلسون نظر اختفاء الماسة. ـ لا لا قال دلمار وكان يتزايد اضطرابه العصبي أنا لا أعتقد بهذا ولكنني أظن أن دنلسون هو السارق وهذا الشك يتزايد في خاطري فقال له نكارتر أملك روعك فإنك قد قصصت عليّ الأخبار بدقة وتفصيل نادر فلا تشوش حديثك بالاضطراب. فلنفكر بكل هذه الشؤون ولنمعن النظر فيها بهدوء وسكينة. فتضجر دلمار وقال سأبذل جهدي لاتباع نصيحتك فماذا تريد أن أخبرك الآن؟ ـ أريد أن تخبرني ماذا قال أصدقاؤك عندما ألقيت الشبهة على أحدهم وماذا صنعوا ليعينوك على اكتشاف السارق؟ ـ فقال دلمار إنني نظرت إلى دونلسون فوجدت ألوانه متغيرة لأنه لحظ أنني أتهمه بالسرقة. فقال لي لا توجه إليّ هذه النظرات يا دلمار. ـ إنني لا أحب هذا النوع من اللهو، قلت هذا بصوت أجش وألقيت عليه نظرات لا تسر.

ونظرت أيضاً إلى ماتيو ثم قلت: فلتعاد إلي ماستي إن المسألة خطيرة أكثر من أن تجعل موضوعاً للهو والمزاح فالذي أخذ الماسة عليه أن يعيدها حالاً إلى موضعها وفي هذه اللحظة دخل كراب في المحادثة وقال والدهشة بادية على وجهه ماهذا وماذا جرى؟ فأوضحت له بكلمات قليلة أن ماستي فقدت في اللحظات القليلة التي استحوذ فيها الظلام على الغرفة وأن أحد أصدقائي قد سلبها وكان هذا الرجل لم يعلم إلى تلك الساعة شيئاً من القضية حتى أنه ربما لم يشعر بانطفاء النور فكان من الواجب عليّ أن أوضح الأمر وعندئذ أخذ الثلاثة يتكلمون سوية. فقال كل من دونلسون وماتيو إنني لم آخذها يا دلمار بينما كان كراب يقول إن هذا النوع من المزاح مسيء جداً وأنه شعر بما أحاق بي من الكدر الشديد. ويمكنكم أن تتصوروا ما ألم بقلبي من الأشجان، فلم يكن من الممكن أن تتصاعد الماسة في دخان السيكارات، كنا أربعة في الغرفة وإذ لا يحتمل أن أسرق نفسي كان من الضروري أن يكون السارق أحد الثلاثة، إن فقدان الماسة أثر بي تأثيراً شديداً ولكن شعوري بأن هذا العمل المعيب صدر من أحد أصدقائي كان أشد إيلاماً لي. ولما لم أستفد شيئاً من ذلك نهضت ووضعت يدي على طرف المنضدة وقلت لأصحابي اصغوا إليّ واسمعوا جيداً إنني أفادي بكل شيء في سبيل استبقاء أصدقائي القدماء ولكنني مضطر أن أوضح لكم أنه إذا لم تعد الماسة في عشر ثوان إلى موضعها من المنضدة فإني عندئذ أعتبركم أعداء لي وأعاملكم معاملة الأعداء. فلم يتحرك أحد منهم. عشر ثوان لا تحسب شيئاً أليس كذلك يا مسيو كارتر ولكنني استطلتها كالدهر وحبست نفسي حتى انقضت المهلة المعينة وكنت قد وضعت ساعتي أمامي ولاحظت عقربها وأنا أرتعش بنوبة من الحمى. فقال ماتيو أنا لا أدخل في دائرة هذا الوعيد، ثم رمى لفافته ووضع يديه على صدره وقال إن هذا العمل الذي جرى لهو مكدر للغاية ولكنني أؤمل أنك لا تعتقد أنني قادر أن. . . . . .

فصرخ دونلسون وأنا أيضاً بريء كل البراءة. وفي هذه الحالة بدأت بالكلام فقاطعني كراب الذي أثر بي اضطرابه وارتعاشه وقال: إنني لست صديقاً قديماً لدلمار فإذا كان فقد ماسته كما يدعي فالأولى أن تقع التهمة عليّ فقال ماتيو إذن يكون مجنوناً فكيف يمكنك أيها المسكين أن تسرق شيئاً وأنت على ما أنت عليه من العاهات والضعف. فقال الأعمى بلطف من المؤكد أنني لم أسرق الحجر الكريم ولكن دعوني مع هذا أتكلم أنا عارف أن الشبهات يجب أن تقع عليّ بالأكثر، كما كنت أفعل لو كنت موضع دلمار ولهذا فأنا أرجوه أن يفتشني. ثم نهض واقترب مني وهو يتلمس طرف المنضدة في مسيره. وكنت أراقب الاثنين الآخرين فلما وجدت أنهما لم يتأثرا تلاشت صداقتي لهما ومرت كحلم وزاد في نفسي الريب فقلت لهما: أنا أعقل من أن أشك في هذا الأعمى أو يخيل لي أنه السارق ولكنني إذ رأيتكما لم تتأثروا ولم تتحركا فأنا عازم أن أتبع مقالته بالحرف. فارتجف دونلسون وظهر الغضب على وجهه وصرخ هل تريد أن تشك بي؟ فقلت له بلهجة الآمر اجلس في محلك وللحال سحبت مسدسي ووجهته إليه وأنت تعلم يا مسيو كارتر أنني بالمسدس ذاته قد هزمت لصوص كلكتا ولم أنس طريقة استعماله بعد ثم ناديت دونلسون إياك والحراك وإلا فأنت هالك لا محالة فسقط على كرسيه وتناول لفافة شعلها ولم يقل شيئاً ثم عرفت بعد ذلك أنه لم يكن ناقلاً سلاحاً نارياً وكان ماتيو أعزل أيضاً ولكن كراب كان مسلحاً. فصاح نكارتر آه وأي سلاح كان مع الأعمى إن هذا لغريب. ـ مسدساً من أشهر المعامل. فظهرت على محيا البوليس أمارات البغتة. ـ هذا غريب أليس كذلك وقد فكرت ملياً في معنى وجود المسدس في جيب هذا الأعمى فقال لي وهو يتبسم أنه يصحب السلاح ليدافع عن نفسه إذا تعرض له أحد وأنه كثيراً ما يهزم عدوه بإطلاق النار في الهواء، ثم وضع مسدسه على المنضدة وطلب مني أن أفتش جيوبه كلها فأتممت ما طلبه بعد أن وضعت مسدسي على مقربة مني ليسهل عليّ استعماله

إذا هم أحد الاثنين بنأمة ولكننا لم نصل إلى هذا الحد. ولما لم أجد ماستي في جيوب الأعمى أعدت إليه بعض ثيابه التي كنت أخذتها ثم عاد إلى موضعه وهو يستعين بالارتكاء على طرف المنضدة والتفتّ إلى دونيلسون وقلت له قد جاءت نوبتك فانفض وهو مصفر كالميت، حتى خيل لي أنه لم يبق نقطة دم في عروقه وصرخ إن هذا لا يليق بي إنني لم آخذ ماستك وأنا لا أسمح لك أن تفتشني. فم أجبه ولكنني رفعت مسدسي نحوه فتناول زجاجة فارغة من المائدة وأراد أن يرميني بها، وكنت أسرع منه فأطلقت النار، فأصابت رصاصتي عنق الزجاجة ومرت بين أصابعه وهو الرمي الذي وجهت إليه الكرة فانكسرت الزجاجة وسقطت كسرها على المنضدة وقد أتممت بهذا الخطة التي رسمتها لنفسي فإنني كنت أبغي أن أبين له أنني قادر على قتله فاستمر دونلسون واقفاً عاجزاً أن ينزل ذراعيه وظل قابضاً على عنق الزجاجة بأصابعه المتشنجة لأن ضربتي كانت قد أرعبته وكان ماتيو قد نهض في هذه الأثناء فصحت به مكانك فلبث صاغراً وعاد إلى مجلسه أما كراب فكان يدخن وهو رابط الجأش ساكن كأنه لم يسمع شيئاً ثم قلت لدنيلسون يجب عليك أن تذعن للتفتيش، وأنصحك إذا كنت حريصاً على حياتك أن تنزع ثيابك دون تذمر ولا ممانعة فقد فرغ صبري وضاق صدري. وفي هذه اللحظة قرع الباب ففتحت وإذا بخادم الفندق جاء على صوت إطلاق الرصاص فقلت لن أن مسدسي انطلق عرضاً ولم يسبب أدنى ضرر فعاد من حيث أتى وأغلق الباب، فقلت لدينلسون بلهجة التهديد أما إذا انطلق عرضاً مرة ثانية فسيردي رجلاً منكم. وكان من شأن النظرات التي أرسلتها إلى دنلسون أن أقنعته بعزمي فأطاع الأمر وبدأ بخلع ثيابه، وبالاختصار فإنني جردته من ثيابه ولمست مجاسده بيدي وفتشت جيوبه بدقة ولكنني كدت أجن لما لم أجد شيئاً، وكان دينلسون يخشى أن تأخذني الحدة فتنطلق من يدي رصاصة تكون القاضية عليه. يقولون في المثل إن النتائج الجيدة تحصل في المرة الثالثة ولهذا أوعزت إلى ماتيو أن جاء دورك فجرد ثيابك. وكان يشبه دونلسون بشدة تأثره ولكنه لم يجد مفراً من ذلك فتقدم إلى وسط الغرفة وبدأ بنزع ثيابه.

فوجدت جيوبه أخلى من جيوب دونلسون وعندئذ أخذني دوار شديد شعرت معه أن كل ما في الغرفة يتحرك ويضطرب واستلقيت على المقعد وقد خارت قواي ولحسن الحظ لم يشعر أصدقائي بما آلت إليه حالتي من الضعف والوهن، وقبل أن يبدأ دونلسون بالكلام كنت شفيت من هذا الدوار. فقال لي دونيلسون بصوت أبح ضح حداً لهذه الوقاحة، ها هنا مدعو لم تهنه بعد لأنك لم تبلغ درجة من القحة تأمره فيها بنزع ثيابه. وعندما أتم دونلسون جملته نهض كراب وكان حتى الساعة جالساً على كرسيه بسكينة تامة يدخن سيكارته فيتصاعد منها الدخان كما يتصاعد من مدخنة المعمل. فوضع لفافته. . . وإنني لا أزال أذكر كيف كان يمر يده على المنضدة ليجد المنفضة ولم يبد عليه أقل انزعاج ثم قال بصوت منخفض أنا عالم ماذا يراد مني ولحسن الحظ أن ذلك سهل جداً عليّ لأنني أعمى. وحين قال هذه الكلمات بدأ بنزع ثيابه فآلمني هذا المنظر وأخذتني الشفقة على ذلك المسكين وكنت مزمعاً أن أمنعه من ذلك ولكن أمارات الاستهزاء التي بدت على وجه دونيلسون وماتيو وافتكاري بالسرقة هيجا غضبي فغلى الدم في عروقي وعوضاً أن أمانع كراب أوعزت إليه بالإسراع. وفي بضع دقائق كنت قد فتشت جميع أثوابه، ولكن جميع التنقيب الذي أجريته لم يجدني شيئاً وظلت الماسة مفقودة ويصعب عليّ أن أقول أنني كنت آمل أن أجدها مع كراب ولكنني انخذلت ثالثة. وفي هذه المرة سمعت صوت دونلسون وهو يقول بلهجة كئيب: والآن فإنك قد اكتفيت من إهانتنا ففتش تحت المنضدة عساك ترى شيئاً. ولم يكن هذا الفكر قد خطر لي قبلاً، فشعرت بحمرة الخجل تعلو جبهتي وأومض لي في ظلمات اليأس برق من الرجاء. وحين أرجعت المنضدة قليلاً كي لا تعيقني في عملي وانحنيت على البساط محدقاً فيه كنت أفكر بأي طريقة أعتذر لأصدقائي إذ كان من المحتمل أن أكون أنا ذاتي قلبت الماسة على الأرض حين التفت لأضغط الزر، ولكن يا للأسف فإنني لم أكد أرسل نظرة إلى ذاك

البساط حتى تلاشى آخر رجاء ولم أقف للماسة على أثر. وعندها استفزني غضب شديد فاندفعت بحدة شديدة أبحث في جيوب هؤلاء الرجال الذين اعتبرتهم أصدقائي ودعوتهم ليقاسموني المسرة والصفاء، فذهب كل ما بذلت من الجهد أدراج الرياح ولم أظفر بضالتي. وهكذا فإن ماستي الثمينة، الماسة التي كنت أفتخر بها فقدت ولست أدري ماذا جرى بها وحين بلغ هذا الحد من خطابه سكت قليلاً وأخذ يمسح العرق البارد المتصبب على جبهته ثم سقط على مقعده ذاهلاً وكان قد وقف حين استفزته الحدة أثناء الحديث. ـ فقال نكارتر: إنها لقصة عجيبة وأنا أود أن أعلم كيف تنتهي فأشار دلمار برأسه وبعد أن تنهد تنهداً عميقاً عاد إلى حديثه فقال: ولما وجدت أن بحثي ذاهب سدى استلقيت على مقعدي خلف المنضدة وأذنت لهم بلبس ثيابهم. ولما أبصرت النظرات المخيفة التي كان يرشقني بها كل من دونلسون وماتيو احتطت لنفسي فجلست وراء المنضدة والمسدس في يدي اليمنى. وكنت ألاحظ هؤلاء الرجال وهم يتشحون بأثوابهم، ولم يلفظوا كلمة واحدة لأنهم على ما أظن لم يجدوا كلاماً يعبر عما في أنفسهم من شدة الانفعال لإهانتي إياهم إذا كانوا حقيقة أبرياء. وانتهى بي أعمال الروية إلى الافتكار أن واحداً منهما سلب الماسة بأسلوب خفي غامض ومهارة تامة حتى خفيت فعلته عن صديقه الآخر وعلى كل فقد وجدت من المناسب أن أسعى لإعادة الصلات الحبية التي كانت تضمنا حتى تلك الساعة فقلت لهم: يا أصدقائي الأعزاء إن الحادثة التي جرت قد أدمت قلبي ولو علمتم عظم الخسارة التي حلت بي لصفحتم لي عن المعاملة القاسية التي حزنت لأجلها و. . . فصرخ دونلسون بغضب خفف عن نفسك مؤونة الاعتذار فلو جثوت أمامي مئة سنة لم يكف ذلك لمحو الإهانة التي ألحقتها بي، كل علاقة بيننا قد توترت منذ الآن وانقلب الحب بغضاً فإذا صادفتني في الشارع ومسدسي في جيبي فخذ الحذر. فالتفت عندئذ إلى ماتيو وكان لونه متغيراً ولكنه كان هادئاً فقال لي أما أنا فلا أتهدد. لم يقل غير ذلك ولكنني فهمت فكره تماماً وعرفت أنه حقود لا يصفح لي عن الإهانة وأنه

أصبح عدواً هائلاً يخيفني أكثر من دنلسون فما زلت منذ تلك الساعة أحاذر أن أوجد في طريقه. أما الأعمى المسكين الذي لم أعرفه قبلاً فكنت لا أعلم بأي عبارة أعتذر إليه فجلست على المقعد ولم أهم بحركة حتى أكمل الثلاثة لباسهم وهموا بالخروج فقال دونلسون وصوته يتهدج من الغضب: أتأذن لي الآن بالانصراف؟ أما ماتيو فلم يقل شيئاً بل كان ينتظر كراب الذي تأخر في الاكتساء لضعفه كي يقوده إلى خارج الغرفة، ولما استعد تقدم إليّ ببطء وبخطوات متقلقلة فأراد ماتيو أن يقوده خارجاً ولكنه دفع الذراع التي مدها إليه صديقه وقال له: انتظرني دقيقة أيضاً يا فرانك ثم خاطبني قائلاً: إن هذه الحادثة قد أزعجتنا جميعاً ولكنني لا أحقد عليك لأنني أقدر أن أتمثل حالة نفسك فأنا مغتم غير أنني أرجوك أن لا تظن بي سوءاً. وهذه الكلمات التي لفظها ذلك المسكين أذابتني خجلاً لأنني لم أكن مستحقاً هذا التلطف بعد أن عاملته بخشونة كما عامله رفيقيه فأجبته: تأكد يا مسيو كراب أنني كنت راغباً أن لا أفتشك لولا إصرار دونلسون. فقال الأعمى لا شك عندي بذلك ومهما يكن من الأمر فإني لا أطوي لك ضغينة في صدري. ثم مددنا يدنا وتصافحنا مصافحة الإخاء وبعد أن حييته وأجاب تحيتي قال: لي إليك كلمة أيضاً وبعدها أذهب: إن الحادثة التي جرت في هذه الليلة قد ضيقت صدري فأدركني بقدح من الماء فلم أستغرب هذا الطلب لأن حلقي كان يلتهب من الظمأ فقلت له إن آنية الماء قد انكسرت فهل لك في قدح خمر أو غيره من المشروبات. فقال شكراً لك لا حاجة لي بذلك، ولكنك تجد بقية ماءٍ في قدحي. فأخذت القدح وناولته إياه. فشكرني وهو يأخذ القدح وبعد أن شرب السؤر وضعه على المائدة وتأبط ذراع ماتيو وخرجا سوية من الفندق وكان ينوي أن يكلمني فوقف الكلام على شفتيه.

ثم سقطت على مقعدي خائر القوى وأحاقت بي ظلمات متراكبة من اليأس. وإن الفكر الذي كان يدور في خلدي من أن السارق أحد هؤلاء الثلاثة لم يبارحني لحظة، وكانت شبهاتي تقع على دونلسون ومع هذا فلم أر أبداً من التسليم أنه من المحتمل أن يكون الثلاثة شركاء في السرقة قد اتفقوا من قبل أن يلعبوا بي هذه اللعبة المشؤومة فقلت إذا كان الأمر هكذا فإنهم لا يلبثون بعد خروجهم من الفندق أن ينشقوا أو يتنازعوا وللحال نهضت ومشيت على أطراف أصابعي دون أن أحدث أقل صوت ومشيت في الرواق فأدركت ماتيو وكراب في منتصف السلم وظلا صامتين لم يلفظا كلمة حتى بلغا الباب الخارجي، فعندئذ قال ماتيو لكراب: هاهنا عربة وسأعينك على الصعود إليها وأعين للسائق المحل الذي تروم أن تبلغه، وأما أنا فلا أود أن أدخل البيت حالاً لأنني ما زلت متهيجاً جداً. فأجاب الأعمى حسناً إنني أعرف ذلك ولكن إياك أن تأخذك الحدة والطيش بسبب هذه الحادثة أسمعت يا فرانك؟ فلم يجبه ماتيو. ثم نظرت كراب يصعد إلى العربة وصديقه يري السائق الجهة التي يجب أن ينحوها فسارت العجلة من الوجهة المعينة وسار ماتيو في الجهة المعارضة حيث كان دنلسون ينتظره على كثب. وبقي الرجلان اللذان لم يرياني صامتين بضع دقائق وأحدهما بجانب الآخر ثم شرعا بالكلام معاً وكانت جملهما واحدة تقريباً: ـ هل أنت أخذت الماسة يا جورج؟ (سأل ماتيو) ـ هل أنت أخذت الماسة يا ماتيو؟ (سأل جورج) إن صدور السؤالين في وقت واحد وبتركيب واحد تقريباً لم يغير شيئاً من جد الرجلين، وكان دونلسون أقل صبراً من رفيق فأجاب قائلاً: أؤكد لك أنني لم آخذ الماسة. فقال ماتيو ولا أنا أيضاً، وليس في وسعنا أن نقول أن كراب هو السارق لأننا إذا فرضنا أنه همّ بذلك فإنه عاهته تمنعه ذلك.

فأجاب دونلسون: وأنا أسلم بذلك ولكن ما هي هذه اليد الخفية التي سرقت تلك الماسة الشيطانية؟ فقال ماتيو يظهر أن دلمار خولط في عقله فلا يبعد أن يكون وضع الماسة في جيبه وأظن أنه سيجدها بعد أن يملك روعه. فصرخ دونيلسون إنني أدفع مئة ريال عن طيب خاطر إذا صح افتراضك ووجد هذا التعيس ماسته في جيبه. فسأله ماتيو أيسرك ذلك ولماذا؟ فأجابه دونيلسون أست تعرف لماذا؟ قالها بلهجة تهديد مخيفة حتى إنني ارتعشت رغم إرادتي. ثم تمم حديثه قائلاً: لأنني بعد أن حدث ما حدث الليلة أريد أن أعرف موضع الماسة حتى أحول ظنه إلى حقيقة. فقال ماتيو هذا ما أقصده لأني إذا قدرت أن أغرمه جزاء العار الذي ألصقه بنا فأنا لا أتأخر عن ذلك، فاتبعني الآن يا جورج لنروي ظمأنا الشديد. وعندئذ سار صديقاي القديمان وذراعهما ملتفان إحداهما على الأخرى. وإنك ترى الآن يا مسيو كارتر أنني قصصت عليك الحادثة بتفصيلها ولم أسقط حرفاً واحداً، وبذلت الجهد حتى لا أدع شيئاً دون أن أقصه عليك ولم أهمل أمراً لم أنبئك به ولو كان طفيفاً في الظاهر لأنني أخشى أن يكون ذلك الأمر مفتاح السر. وهنا سكت دلمار كم أنهى حديثه. فسأله نيكارتر قد مر على هذه الحوادث أسبوع أليس كذلك؟ ـ نعم ـ وأنا أظن أنك لم تفتر عن السعي في خلال هذه المدة لاستجلاء الغامض. ـ أنا. . كنت جننت لو لم أدأب في السعي. ـ إذن فقل لي ماذا صنعت؟ ـ إنني سأشرح لك ذلك بحرية تامة فقد تدرجت في الشوارع بحالة تشبه الجنون وقد ظهر لي أنه من الممكن أن أكون أنا نفسي قد وضعت الماسة في جيب من جيوبي فعدت مسرعاً

إلى حيث تناولنا طعام العشاء، وابتدأت أفتش نفسي بدقة لا مزيد عليها فقلبت جيوبي جميعها ومزقت بطانة أثوابي وعريت من كل لبسي حتى صرت في حالة جدينا الأولين، وإن خجلي من قص ذلك عليك لا يوازي خجلي من إخفاق مساعيّ، فقد اختفت الماسة ولم أقف لها على أثر. ولم أكد أتمم لبس ثيابي حتى قرع الباب ففتحته وإذا بخدام الفندق قادمين ليرتبوا الغرفة وبينما كانوا يدأبون في عملهم كنت أراقبهم بمزيد الانتباه وأقول من المحال أن لا يجدوا الماسة. ولما أنجز الخدام عملهم ولم يجدوا شيئاً خرجت أتجول في الشوارع وظللت نحواً من ساعتين، وكان الوقت الساعة التاسعة ليلاً، ثم وقفت بغتة لأرى الجهة التي أسلك فيها وتطلعت فإذا أنا أمام مركز البوليس فهممت بالدخول لأقص عليه الواقعة، وبعد أن فكرت بهذا علمت أن لا رجاء لي بمساعدة البوليس العادي في هذه المسألة الغامضة، إذ ليس في يدي برهان يؤكد حدوث السرقة، إن الماسة فقدت دون شك ولكن بعد المبحث المدقق الذي أجريته لم أجد مجالاً لاتهام ضيوفي. فأتممت نزهتي منفرداً وكان يأسي يزداد من حين إلى آخر وكنت أعزي نفسي بأن فقدان الماسة لم يجعلني مملقاً فما زالت ثروتي في كلكتا ولكن هذه التعزية كانت تزول حين كنت أفتكر أنني خسرت بضياع الماسة نحواً من نصف مليون دولار، ولا سيما عندما أفتكر أن هذه الثروة الواسعة فقدت في بضع ثوان. فسأله نيكارتر وهل أخبرك الجوهريون في كلكتا أنها تساوي هذا الثمن الفاحش؟ ـ نصف مليون؟ هذا مؤكد وهو ليس بثمنها الفاحش بل المعتدل، وقد أخبروني أن الماسة إذا قطعت قطعاً لا يشوبه خطأ فإن ثمنها يرتقي إلى ثلاثة أضعاف هذه القيمة. ـ إذن فأنت تعتقد أن عين الشيطان تستحق العناء الذي ستصرفه في البحث عنها. ـ آه يا مسيو كارتر وهل تريد أن تتولى أمر البحث عنها؟ ـ على الأرجح. . . ولكنك لم تقل لي بعد ماذا فعلت ولعلك قد عثرت على أثر يدلك على مكمنها. ـ قد حزرت يا مسيو كارتر قد عثرت على أدلة عديدة ولكنك تعرف مبلغها من الصواب

أكثر مني. بعد أن أدرت ظهري لمركز البوليس أتممت المسير فاجتزت المدينة وقبل الساعة الحادية عشرة وجدت نفسي أمام محطة السكة الحديدية وأبصرت عربة مقبلة تقل مسافراً. ولما وصلت قفز السائق إلى الأرض وساعد الراكب على النزول ولم يكن هذا الراكب سوى كراب الرجل الأعمى. فصرخ نيكارتر ياللعجب. فتبسم دلمار عندما سمع ذلك وقال: ربما افتكرت أنه أراد أن ينجو بالسرقة وأنا أعتقد أنه ربما كان هذا ممكناً وربما كان من الواجب عليّ أن أستعمل المسدس ولكن إصغ: إنني رأيت السائق يأخذ خريطة كراب من العربة ثم أمسكه بذراعه وقاده إلى غرفة الانتظار، فكنت لهما ألزم من ظلهما. ثم أخذه إلى حيث قطع جوازاً إلى بونبلو وكنت خلفه فسمعته يسأل المأمور عن ميعاد سفر القطار فأجابه سيقوم القطار الأول إلى بويبلو بعد عشر دقائق. وفي هذه الأثناء كان السائق واقفاً وراء كراب ليقوده إلى القطار وعندما اجتازا غرفة الانتظار أعوزتني السكينة ولم أتمالك نفسي فعارضتهما في الطريق. وقلت له وأنا أشتعل من الغيظ: أسعدت صباحاً يا مسيو كراب فحدق بي الأعمى وأدار نحوي عينيه وظهر عليه أنه عرف صوتي فقال وهو يتردد في القول: يظهر لي أني أعرف صوتك، ألست المسيو دلمار، فهل خدعني سمعي؟ فقلت له أنا هو. ـ إذن فقل لي بالله هل وجدت أثراً لماستك تهديك لمخبأها؟ ـ فقلت لا وكنت أراقب ماذا يكون تأثير جوابي فيه. ـ إن هذا مكدر جداً، إن هذه الضربة هائلة. ـ نعم ولكن ليس بوسعي إلا أن أتلقى مصيبتي بالصبر، والآن فإني أراك على وشك السفر.

نعم وآسفاه فإنني وجدت في منزلي عند رجوعي إليه هذا النبأ البرقي الذي أجبرني أن أسافر مع القطار الأول. ودفع إليّ النبأ حين طلبته منه وأنا أعترف لك أنني لم أتردد بل قرأته بمزيد السرعة وكان من بويبلو وهذا نصه حرفياً: أختك على فراش الموت عجل بالحضور، الطبيب. م. غوردون فعزيته بكل ما حضرني من عبارات التعزية. فقال لي: منذ مدة كنت أتوقع ورود هذا النبأ، فوردني اليوم، وبما أنني راحل فأنا أشكر جميلك إذا أنبأتني بالدلائل التي تبدو لك والآثار التي تهتدي إليها وأنت تعرف السبب الذي يهيج هذه الرغبة في نفسي. فأجبته متململاً نعم أعرفه جيداً. ثم قال بعد أن أواري أختي المسكينة في التراب أعود إلى هنا ولديك عنوان إقامتي فأرجوك أن تواصلني بما يجد معك في هذا الشأن. فوعدته أن أنبئه بكل ما يحدث. فاستتبع حديثه قائلاً: إن إقامتي في بويبلو ستكون في بيت أختي، فإذا اتضح لك كيف اختفت ماستك أو إذا وجدتها كما أتمنى لك، فستكون لك عليّ يد بيضاء إذا أنبأتني على لسان البرق لأنك تعلم أنه ما زالت ستور الخفاء مسدولة على هذه المعضلة تظل العلائق بيني وبين صديقي ماتيو متوترة وإن هذا ليحزني لأنني كنت وإياه دائماً صديقين حميمين. فهممت أن أخبره بما قاله عنه ماتيو ودونيلسون بعد خروجهما من الفندق ولكنني آثرت الرصانة والسكوت واقتصرت على نسخ العنوان الذي أعطانيه كراب. وبعد ذلك صافحني وقاده السائق إلى الرصيف حيث كان القطار مزمعاً أن يقف، وعدت إلى الفندق وفي أثناء عودتي عولت أن أراقب دونلسون وماتيو عبثاً كنت أحاول أن أطرد هذا الفكر عن خاطري وهو أن أحدهما كان السارق. وبينما أنا أسير صادفتهما في الطريق ولكنهما لم يبصراني فتبعتهما على بضع خطوات وأنا أحذر كل ما من شأنه أن ينبههما إلى وجودي. وكانا آتيين من النادي دون شك ووجهاهما مقطبان فتبعتهما وما زالا سائرين حتى وصلا

إلى المنزل الذي يقطنه كراب وكان لماتيو غرفة هنالك أيضاً ففتح ماتيو الباب بمفتاح أخرجه من جيبه ودخل الرجلان. فلم يمكثا أكثر من خمس دقائق. وكنت لحظت أن النور قد أضيء وأطفئ بسرعة في ثلاث من الغرف أو أربع فدل ذلك على أنهما كانا يفتشان عن ماتيو الذي لم يبلغهما بعد خبر سفره الفجائي. فقال ماتيو وهما ينزلان إلى الشارع أن القطار قد نحا بويبلو من ربع ساعة تقريباً. فأجابه دونيلسون نعم إن هذا الفاجر قد بعد مسافة طويلة فقال ماتيو ولكن لحسن الحظ أن اللحاق به سهل. وهذا كل ما قدرت أن أسمعه من المحادثة وكان من المؤكد عندي أنهما يتكلمان عن كراب ولكنني لم أعرف هل كانا ينظران ماستي وهما يتكلمان هذا ما أترك حله لك يا مسيو كارتر. ثم دخلا مسرعين إلى بيت آخر وقد فهمت بعد ذلك أنه مسكن كليمور شريك دونيلسون فلم أحفل بهذا الأخير لأنني لم أعلم كيف يكون له دخل في سرقة الماسة. فقاطعه نيكارتر قائلاً: حسناً حسناً إنك أنت لا تعرف كليمور ولكننا نحن نعرفه فهو متهم بالتحريض والإغراء على كثير من حوادث القتل والسرقة وهو الآن في السجن ينتظر جزاءه وأن علائقه مع صديقك دونيلسون كانت تدلني على أن في حياة هذا الأخير أموراً خفية غامضة ولكن أرجوك أن تتمم حديثك الآن. فاستأنف دلمار الكلام وقال إنني انتظرت ساعة قرب بيت كليمور خرج بعدها الاثنان ولكنهما انفصلا في أول عطفة من الشارع فتبعت دونلسون الذي عاد إلى منزله، أما ماتيو فلا أعلم أين انتهى به السير ولم أنظره بعد ذلك ولكنني أرجح أنه ذهب في اليوم التالي إلى بويبلو ليلاقي كراب هناك. أما دونيلسون فقد أقام عامة اليوم التالي في مكتب المحل الذي يديره هو وشريكه كليمور وفي اليوم التالي نظرت صدفة أن دونيلسون أخذ رسالة برقية وبعد أن قرأها ظهرت على وجهه علائم الاهتمام والتأمل ولم أقدر أن أعرف مصدر الرسالة ولا محتواها ولكنني أعرف أنني لم أر دونيلسون في اليوم التالي ولما ذهبت في اليوم الثالث أطلبه في محله

أخبروني أنه سافر إلى بويبلو، وبالطبع ركبت أنا أيضاً القطار الأول وتبعته. فقال نيكارتر إنه لفكر في غاية السداد فماذا اكتشفت هناك؟ ـ لا شيء في لا شيء أجاب دلمار إنني رمت أن أذهب إلى المحل الذي أعطاني كراب نمرته ولكنني فهمت أنه لا يوجد بيت في المدينة بهذا العنوان، وكان الشارع موجوداً فقط ولكن النمرة التي معي كانت عنوان أرض ما زالت خالية من البناء ولم يكن هناك بيت إلى بعد مئة خطوة من جميع الجهات. فقلت لعلني أخطأت في نسخ النمرة فسألت عن أخته التي كانت على فراش الموت فلم أسمع أحد يتكلم عن امرأة ماتت أو أشرفت على الموت فسألت عن الطبيب ا. م. كوردون فلم يكن حظ هذا من الوجود أكثر من حظ الأخت الموهومة. فلم يبق لي إلا أن أسأل عنه فسألت مأموري المحطة هل شاهدوا رجلاً أعمى نزل في الليل من القطار قادماً من نيويورك ووصفت لهم ملامحه. فلم يذكر أحد في المحطة أنه شاهد رجلاً أعمى بهذه الملامح وبالاختصار فإنني قد أضعت يومين في بويبلو وأنا أفتش دون طائل. فعزمت على أن أقصد مركز البوليس وأشرح له خبر السرقة وكل ما يتعلق بها، وحين قرأت في الجرائد أعمدة بأسرها ملؤها إطراؤك والثناء عليك ووصف العمل العظيم الذي قمت به قبل الليلة السابقة وعلمت أنك حضرت إلى هنا عاد لي بعض الرجاء وأتيت إليك لأعرض عليك القصة بجميع تفاصيلها. فقال البوليس لدلمار إنني أقدم لك تحياتي وتهاني لأنني قلما نظرت رجلاً قادراً مثلك على الإحاطة بأطراف الموضوع واستقصاء شوارده وإيضاح دقائقه ووصف ذلك بطريقة سهلة واضحة، وسنقتفي بعد الآن أثر عين الشيطان وإذا ساعدنا الحظ فإننا نرجو أن نهتدي إليها. ـ إنني أقدم لك شواعر الشكر التي تختلج في صميم الفؤاد، وأرجوك أن تخبرني هل عزمت على السفر إلى بويبلو؟ ـ على الأرجح. ـ وهل تريد أن أرافقك؟

ـ لا ولكن اترك لي عنوانك وإذا اضطررت إلى الانتقال فأبلغني ذلك، حتى تصلك جميع الرسائل والأنباء البرقية التي يمكن أن أرسلها إليك، ولا أطلب منك غير هذا سوى أن تثق بي. وثم تحادث الثلاثة سوية بشأن الأمور المادية التي يقتضيها البحث والتنقيب، وبعد ذلك استأذن المالك الشرعي للماسة من البوليس الشهير ومعاونه وانصرف. وبعد أن خرج دلمار التفت كارتر إلى معاونه الشاب الايرلندي وقال له: ـ ما رأيك في هذه القضية يا باتسي؟ يظهر لي أنها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة فهل صدقتها يا أستاذي؟ ـ صدقتها كما أصدق بالحياة الأبدية التي لا أشك فيها لحظة. ـ إذا فرضنا هذا فكيف أمكن الثلاثة أن يخفوا الماسة؟ فضحك كارتر طويلاً ثم قال: يظهر لي أنك تظنهم شركاء في الجريمة قد تعاقدوا عليها سابقاً. ـ إذن فماذا تريد أن أعتقد في شأن هذه الماسة التي اختفت وغابت آثارها. اسمع يا باتسي أريد أن أحدثك بشأنها ولكنني لا أتكلم عن لصوص. ـ عمن تتكلم أعن لص واحد؟ ـ نعم فأنا أعتقد أن كراب هو السارق الوحيد. ـ أيمكن هذا؟ أيمكن هذا الأعمى أن يسلب الماسة وأمامه ثلاثة رجال يبصرون؟ فقال نكارتر إن كراب هو الذي أخذ الماسة قال هذا وهو يتظاهر بأنه لم يسمع اعتراض المعاون ومع هذا فأظن أنه لم يفكر أن سرقتها بإمكانه لما قبل الدعوة ولا أصدق باتفاق سابق وأؤكد لك أن دونيلسون وماتيو بريئان من وصمة السرقة وهما يعتقدان كما أعتقد أن كراب هو السارق، وقد هاجهما ما صادفاه من الإهانة فعزما على اتباع كراب وإجباره على رد المسروق أو أن يقاسمهما على الأقل ولما علما بسفره إلى بويبلو عرفا أنه قد خدعهما فاقتنع باتسي بتأكيدات أستاذه وقال حسناً يمكننا الآن أن نستنتج النتائج من هذه المقدمة وقد فهمت الآن معنى المحادثة التي دارت بين الرجلين أمام الفندق. ـ وجلي أن سفر كراب إلى بويبلو هو اعتراف ضمني بذنبه.

ولهذا تبعه ماتيو إلى بويبلو حيث علم أن السبب الذي انتحله الأعمى للسفر كان مختلفاً وهذا الذي عرفه دلمار بعد بضعة أيام. ـ من الراجح أن يكون ماتيو مرسل النبأ الذي اهتم له دونيلسون كثيراً، فسافر لينضم إلى رفيقه في اللحاق بالأعمى. ـ أحسنت يا باتسي هذا ما حدث برمته. ـ ولكن كيف قدر هذا الشيطان كراب أن يسرق الماسة على هذا الشكل الخفي الغامض حتى لم يقدر دلمار أن يجدها في ثيابه حين فتشها؟ وبعد أن توقف لحظة عن الكلام ضرب بيده على جبهته ثم قال: يخيل لي أن هذا الخبيث المحتال ليس أعمى. ـ وحسناً وأي فرق في ذلك؟ فقال باتسي لا فرق وضاع سروره باكتشافه حقاً أن الحالين سيان فهل تظن أنه أعمى يا أستاذ؟ ثم ساد سكون قطعته قهقهة باتسي الذي قال وهو يضحك: ـ آه، آه، إن تفتيشاً كالذي أجراه دلمار لا يتفق حدوثه دائماً، ثلاثة رجال عارين كجدهم آدم قبل أن يخطئ حقاً إنه منظر مضحك. فأجابه نكارتر ضاحكاً: لا أظن المشابهة تامة إذ ينقص الأخيرة قليل من الصحة. فعاد باتسي بعدها إلى الجد وقال: أنا أرى يا أستاذ أنك فكرت لتبلغ نتيجة فبأي أسلوب تظن كراب سرق الماسة وتمكن من إخفائها. ولكنه انذهل عندما وجد أن كارتر اقتصر على الضحك وهو يرفع كتفيه ثم خاطبه قائلاً: يا عزيزي باتسي لم أعلم عن ذلك شيئاً. ـ أفهذا ممكن؟ ـ نعم ممكن للغاية، فقد أرى في الأمر سراً لم أقدر على فهمه حتى الساعة وأنا أحتاج في حله إلى تأمل طويل سأباشره أثناء سفري ولذلك أرجوك أن تستفهم لي عن مواعيد سفر

القطر. فنزل باتسي مسرعاً إلى مكتب الفندق وهناك تقويم لهذه الشؤون فأمعن فيه البوليسان هنيهة وبعدما اختار نكارتر القطار الذي سيقله قال لمعاونه: أرى أن واحداً منا يكفي لمطاردة هذا الأعمى أما أنت فأقم هنا في دنفر وأخبرني إذا عاد أحد الرجلين واعلم أنه يحتمل أن يحدث هذا بأسرع مما نفكر فتيقظ. فقال باتسي كن أميناً من هذه الوجهة. ولم يكن يتعذر على رجل ماهر كنكارتر أن يقفو أثر أعمى ففهم وهو في الطريق أن كراب قبل أن يصل إلى بويبلو طلب من السائق جوازاً عاماً. فمع اكتفاء البوليس بهذا التصريح توصل إلى علم ما يأتى وهو أنه في يومين مختلفين من الأسبوع الماضي كان في القطار مسافران القيا إلى المفتش هذا السؤال بعينه فتحقق عند ذلك أن ماتيو ودونيلسون قد اجتمعا في بويبلو ومن هناك سارا للبحث عن الأعمى. وبعد برهة اكتشف على آثار الأعمى وكأن صوتاً داخلياً يناجيه أن كراب هو السارق الوحيد، وعرف أنه اشترى نعالاً محددة واكترى جواداً من قرية صغيرة من قرى مقاطعة الأريزونا الشمالية، وسافر من هناك مصحوباً بدليل توصل البوليس إلى معرفته وطلب منه إيضاحاً وبسط ما يعرفه عن المسافر الذي كان يصحبه. فقال الدليل: لم أرافقه مدة طويلة إذ أنه قال لي بعد خمسة أيام من بدء السفر يمكنك أن تعود الآن فترددت في الرجوع وتركه منفرداً لأننا كنا عندئذ في أوحش قسم نم الأريزونا ولكنه أصر عليّ فتركته وعدت. ففكر نكارتر ملياً في ما قاله الدليل ولم يفهم كيف أن رجلاً أعمى ضعيف القوة يود أن ينفرد في تلك البقعة الكثيرة الأخطار، فسأل الدليل: ـ هل تعتقد أن الرجل كان أعمى حقيقة؟ فقال الدليل: كل الاعتقاد ودعم حديثه بسرد بعض الحوادث التي جرت على الطريق والتي تؤيد قوله. ثم استتبع البوليس السير في طريقه.

ولم يكن الذي يلقاه على الطريق قادراً أن يعرف هذا الرجل ذو الشهرة الواسعة في العالم والذي يختلف إلى الأندية العليا في نيويورك وله المنزلة الرفيعة بين الاريستوقراطيين لأن كارتر تزيا بزي سكان الغابات فاتخذ هيئة متوحش يؤثر استعمال السلاح وخشونة العيش على رفاهية الحضارة. وكان جواده كريماً فأعمل في خاصرته المهماز ليبلغ ذلك المحل الذي يكاد يكون في آخر الدنيا حيث فارق الدليل كراب. وبينما كان يجد السير صادف فارساً مقبلاً عليه من الجهة المقابلة ناداه وهو يوقف مطيته قائلاً: أيها الغريب. فأوقف كارتر جواده وقال له: ماذا؟ ـ أعندك تبغ؟ ـ مؤكد، عندي قطع كبيرة. وكان نكارتر يعلم أن رجل الغابات يجب أن تكون معه مؤونة من التبغ فحمل معه كمية منه مع أنه لم يكن يستعمله. ثم أخذ علبة من جيبه وقال للرجل هو ذا التبغ فخذ حاجتك. فقال الرجل أشكرك ومد يده وحاول أن يمضغ قطعة منه. فقال له نكارتر اقطعها إلى قسمين لأنك لا تزال بعيداً جداً عن العمران وعلى ما أظن أن التبغ لا ينمو على الأشجار كما قيل لي منذ هنيهة. ـ أنت محق، فإن طالما وجدت في هذه البقعة التي هجرها الله والناس وكان قد أخذ نصف قطعة التبغ ورد بقيتها إلى نكارتر. فسأله البوليس: إذن أنت تعرف المقاطعة. ـ نعم تقريباً ألا تعرفها أنت؟ ـ لا هذه هي المرة الأولى من مجيئي إليها. ـ في طلب الذهب؟

ـ ليس تماماً فإنني ألاحق رجلاً أعمى. ـ ماذا؟ إن هذا لغريب جداً. ـ إن قدوم أعمى ليختبئ في هذه المواضع الموحشة لهو غريب جداً ولكنه حدث. ـ ليس هذا الذي أريد أن أقوله ولكنني أفكر بشخصين استأجراني لخدمتهما كدليل وطباخ وهم أيضاً مثلك يفتشون عن أعمى. ـ يا للشيطان، هذا ما نسميه صدفة قال ذلك نكارتر وهو يلفظ سلسلة من الأقسام تليق بسكان الغاب ثم سأل الرجل وما هي المسافة بيني وبينهما؟ ـ أظنهم أصدقاءك. ـ تقريباً فإنهم من معارفي. ـ حسناً فأنتم الثلاثة في هذه الحالة تطاردون شخصاً واحداً وهذا كل شيء. ـ أصبت أيها الشجاع، وعلينا أن نتابع هذا الأعمى حتى نظفر به ولو اضطرنا الأمر أن نذهب إلى نهاية العالم. ـ لتسترجعوا منه الماسة أليس كذلك؟ ـ بسم ال. . . وكيف عرفت ذلك؟ ـ أخبرني به صديقاك. ـ حسناً إن هذه الماسة لا تخص الأعمى. فأغمض الرجل عينيه وبدأ يقهقه وقد بدت على وجهه أمارات المكر ثم قال: أصدق قولك إن الماسة لا تخص الأعمى، فإذن هي ملك الذي يظفر بها، ولكن هذا لا يهمني فحاول أن تجتمع بأصدقائك. ـ يدهشني وقوفك على هذا السر. ـ لا غرابة في ذلك فالمسافرون أياماً عديدة في القفار تنشأ بينهم روابط شديدة، وقد كانا يتكلمان بادئ الأمر سراً فكنت أصغي إلى حديثهما ثم أخذت بسؤالهما ولما وجداني وقفت على شيء من القصة شرحاها لي وأخبراني منها بما كنت لم أعلم بعد. ـ قصا عليك كيف سرق الأعمى ماستهما أليس كذلك؟ ـ نعم أو بالأحرى ماسة أحد أصدقائهما.

فتعجب كارتر من ثرثرتهما وقال للرجل إن أذنيك لم تخدعاك. ـ آه آه، أنت هو الصديق صاحب الماسة. ـ هذا ممكن فأنا لا أنفيه. ـ حسناً فاسمع إذن إن كنت لا تريد أن تصادف رصاصة توردك حتفك فالأولى بك أن لا تحاول الاجتماع بصديقيك، لأن مصاحبتهما خطرة وقد شعرت بذلك ولهذا فارقتهما هذه الليلة. ـ يظهر لي أنهما أخبراك بكل شيء وأنا أرجوك أن تخبرني عن واسطة أتجنب فيها ملاقاة هذه الرصاصة وأن تخبرني عن الطريق الذي سلكاه. فرفع الرجل كتفيه وقال إن فكر ملاحقتهما هو فكر جنوني، ولست أعلم ماذا تفعل إذا وجدت أمام اثنين هذا إذا لم نعد الأعمى، إنني تركت صديقيك أول البارح فإذا أسرعت في السير نحو الشرق تصل إلى مخاضة نزل فيها صديقاك وركبا النهر وسافرا. ـ أشكرك على هذه التعليمات. ثم حرك كارتر جواده ولما رآه الرجل سأله هل أنت مصمم على التقدم؟ ـ بلا ريب. ـ حسناً فهل يلزم أن أعلن خبر موتك؟ ـ لا تتعجل أستودعك الله. ـ سر بالسلامة أيها الغريب وأشكرك على تبغك، لاحظ أنك واحد ضد اثنين ما عدا الأعمى ولكنني أشتهي لك الفوز من قلبي. فأرخى نكارتر لجواده العنان وبعد أن قطع ربع ميل التفت وهو على سرجه ونظر الرجل الذي كان يراقبه وهو ثابت في محله فقال البوليس في نفسه إن هذا الرجل ليس أبله كما أظهر لي وقلبي يحدثني أنه سيكون لي وله شأن قبل ختام القصة، آه لله ما أشد حمق ماتيو ودونلسون اللذان يكشفان أسرارهما لكل سائل، واستمر البوليس في سيره حتى أحلولك الليل فاستراح قليلاً ثم ركب جواده وعاد للسير حتى وصل إلى ضاحية كولورادو التي أهداه إليها الرجل ثم ربط جواده في جذع شجرة ثم أوقد قليلاً من الحطب وأعد لنفسه عشاءً من المؤن التي اشتراها ثم التحف بغطائه ونام على الأرض ليريح نفسه بضع ساعات من

عناء النهار. وفي الثلاثة الأيام الأخيرة من إقامته هناك نظر عن بعد ثلاثة بيوت في ذلك القفر ولم يعلم البعد بينها وبين أقرب عمران وعلم أن المخبأ الذي يختاره الأعمى ليكون فيه لا يتسنى لصحيحي النظر أن يقيموا فيه، ثم قال لماذا لم يسافر كراب إلى مدن الشرق الكبيرة حيث يصادف فرصة أوفق لبيع الماسة، وردد هذا السؤال في خاطره دون أن يهتدي إلى حل مرضي وأخيراً أغمض عينيه وتاه حتى انفجر نوماً عميقاً هادئاً وعندما استيقظ تناول قليلاً من الطعام ثم علا ظهر جواده وسار فعرف بفراسته أن فرساناً آخرين قد تقدموه منزهين في نفس الطريق، فسر بهذا وعلم أيضاً أن الفارس أهداه إلى الصراط المستقيم وكان كلما تقدم يزداد منظر البلاد وحشة وانفراداً، وكان النهر يجري بسرعة شديدة بين مضايق صخرية ثم تصب مياهه المزبدة في مصب بعيد الغور فيسمع لها ضجة شديدة. وبعد الظهر بقليل وصل كارتر إلى سفح رابية صخرية فهمّ أن يتسلقها وهو راكب وقد ظهرت له آثار على الأرض عرفته أن فرساناً آخرين مروا من هنالك حديثاً، وكانت قمة الرابية جرداء تطل على ما جاورها إلى أمد بعيد فوقف كارتر فجأة لأنه نظر على بعد ثلاثة أميال تقريباً خطاً رفيعاً من الدخان يتصاعد إلى الأفق فقال لعل هنالك مفتشاً عن الذهب أو لعل الطريدة التي ألاحقها قد عادت، وكان كل ما حوله يظهر له واضحاً فأبصر نقطاً متحركة تشبه النمل السائر فظنها هنوداً ولكن هذا لم يكن راجحاً لأن البوليس منذ دخوله إلى تلك البلاد المتوحشة لم يشاهد أكثر من ستة من ذوي الجلود الحمراء فتفرس في هذه النقطة بالعين المجردة لحظة من الزمان ثم تناول منظاره ووضعه على عينيه فوجد أنهم أربعة فرسان يسرعون في المسير جنوباً وإذ لم تكن جهة سيرهم هي الجهة التي ينحوها البوليس تأكد أنهم لا يقتفون آثاره وفضلاً عن ذلك فليس لهم من اللحاق فائدة. وعندما فكر في هذا عاودته الهواجس فتناول منظاره وبدأ بالتفرس فوجد الأربعة يتدرجون إلى اليمين وينحون في سبيلهم مخاضة على بعد عدة أميال ثم وضع منظاره في جيبه وقد ظهرت على وجهه علائم الاهتمام والتأمل العميق لأنه نظر بين الأربعة وعلى زعامتهم الفارس الذي طلب منه تبغاً وقص عليه ما عرفه عن دونلسون وماتيو. وكان الجو قد طبق بالغيوم مما دل على قرب هبوب العاصفة فتساءل في نفسه عما يجب

عليه أن يفعله وهل كان يسير في النهج القويم فإذا كان ذلك فهو يدرك جماعته قبل أن يبلغهم الفرسان الأربعة ولكنه إذا كان يعتسف في طريقه فماذا يحدث؟ وبعد أن فكر قليلاً قال لا، لا، إنني أتبع الآثار ذاتها ثم لكز جواده وأخرج من كيس معلق بسرج الجواد بعض الأمتعة الصغيرة، ثم ساق مطيته إلى سفح الرابية حيثما ربطها في مرجة صغيرة محاطة بالعليق حيث يجد الجواد حوله شيئاً من الكلأ فيمكن لنكارتر أن يتركه هناك برهة طويلة دون أن يخشى عليه شراً ثم اطرد سيره ماشياً. وقد تبع في مسيره ضفة النهر وما زال يسير حتى وصل إلى مضيق عميق تندفع إليه مياه النهر بسرعة وتنصب فيه فيسمع لها دوي شديد، وكان ممتداً على المضيق جذعا شجرتين كبيرتين قصفهما النهر فأشبها جسراً ورأى نكارتر آثاراً دلت على أن خيولاً عبرت ذلك الجسر حديثاً فتتبع الآثار فقاده تتبعه الآثار إلى غابة كثيفة نظر من خلال أشجارها خطاً من الدخان رآه وهو على الصخرة غير أنه كان الآن قريباً منه وهو يتصاعد من بناية خشبية عاث السوس في عوارضها. وكانت تجري أمام هذا الكوخ ساقية جميلة مملوءة بالسمك وأمامها ما يشبه الاصطبل قد ربط فيه ثلاث جياد. ولم يكن غير هذا الكوخ معموراً في الجوار، فاقترب نكارتر بهدوء وأصغى لما يجري داخل الكوخ الذي ظهر له أنه كوخ رجل يفتش عن مناجم الذهب فيسمع من الداخل جلبة وضجة، فتقدم بدون احتراس إلى أن دخل الباب فسمع صوتاً يقول: قد اكتفينا يجب أن نضع حداً لهذا الإنكار، فاسمع يا كراب الحقيقة إننا نريد أن نقاسمك فإذا أصررت على الإنكار لا نسلبك ماستك فقط بل حياتك أيضاً. ثم ارتفع صوت آخر يقول: إننا لم نأت إلى هنا لنسمع ثرثرتك. فأجاب شخص ثالث: ـ افعلا ما بدا لكما، إذا لم تخجلا أن تهاجما أعمى مسكيناً وتقتلاه فلا تترددا، ولكنني أعيد عليكم إنني لا أعرف ماذا حدث للماسة وأود أن أبذل جهدي لأبرهن لكم صحة قولي فإنني خلعت ثيابي عندما أمرني دلمار فهل تودون أن أعيد ذلك الآن؟

فصرخ المتكلم الأول: ماهذه الترهات عندما تسدد حسابك نعلم ماذا نصنع بثيابك وأما الآن فما عليك إلا أن تجيبنا إلى ما طلبنا وتيقن أننا بعد ذلك نكون كرماء جداً حتى أننا نهبك حياتك. أعطنا الماسة أو أهدنا إلى موضعها وأنت إذا رفضت مائت لا محالة. فقال الأعمى وهو يتنهد وأي معنى للرفض هنا هل يقدر الإنسان أن يعطي إلا ما يملكه؟ ـ آه ثم عاد الأعمى إلى الكلام فقال: فكروا فيما تقدمون عليه وتذكروا أن الدم المهراق ينتقم له دائماً. ـ هو ذا الرسول الصالح! إننا نعلم ما يجب أن نعمله. ثم خيم السكوت لحظة على تلك الغرفة. فقال نكارتر لنفسه يظهر لي أنني وصلت في الوقت المناسب لأمنع هذين الشريرين من ارتكاب جريمة جديدة. ففتح الباب بلطف ليرى ما يجري داخل الكوخ، فوجد كراب جالساً قرب منضدة في وسط المحل وعيناه الكبيرتان تحدقان بالحائط أمامه، ولا شك أن الأخيرين باغتاه وهو على المائدة إذ كان عليها قطع من الخبز واللحم البارد وقدح ماء ووعاء للقهوة والملح وكان ماتيو ودونيلسون واقفين أمامه وعلى وجهيهما أمارات التهديد فكان واحد منهما رافعاً هراوة ضخمة فوق رأس الأعمى والآخر مستعداً أن يضربه بخشب البندقية. فقال لا يوجد في القضية ما يقال إن كراب أعمى إذ ليس بيدي أقل ممانعة لهذا الخطر الموشك الحدوث. فتخطى عتبة الباب وأسرع إلى الداخل وألقى نفسه بين الأعمى وبين الشقيين وصرخ بهما: ـ اخجلا أيها الشقيان أتضربا أعمى لا طاقة له على الدفاع إن هذا منتهى الجبن والنذالة ونزع الهراوة من يد ماتيو برشاقة وقبض على بندقية دونيلسون وحمى الأعمى الذي لم يعلم ماذا جرى والذي لم يكن يشك أنه أشرف على الهلاك. فجمد الشريران لمفاجأة هذا الرجل الذي لم يعرفا من أين أتى فخيل لهما أنه هبط من

السماء، واستولى الذهول عليهما بضع ثوان، أما كراب فإنه تنهد جزعاً واختبأ تحت المائدة. وأخيراً تمتم دونيلسون قائلاً: أي شيطان هذا، من أنت أيها الرجل، من أنت؟ وكان لنكارتر مزية عليهم هي أنه يعرفهم لأنه نظر صورهم وأما هم فلا يعرفونه البتة. ـ من أنا؟ لا أرى إخباركم بهذا ضرورياً ولكن الذي يهمكم هو أنني لا أقدر أن أسكت عندما أرى شريرين قويين مثلكما يفتكان بأعمى ضعيف ليس له نصير ولا قدرة على الدفاع، إنني لست عظيماً من عظماء الأرض ولكنني لست نذلاً لأدعكما وشأنكما. فقال ماتيو: إنه لم يكن هنا سوى ضجيج فقط وإننا رمنا أن نخيفه. ـ أن تخيفاه، حسناً، ولكنني لم أفهم كيف يمكنكما أن تروعا أعمى بمثل ما عملتما. وكان الرجلان شاخصين بأبصارهما إليه فقال نكارتر: ـ أصغيت قليلاً قرب الباب فسمعتكما تتكلمان عن ماسة وإذا كنتم تودون أن تتقاسموها وذلك يتعبكم فانا أرضى أن أكون حكماً وإذا كنت أقدر أن أفيدكما فأنا خادمكم. فقال دونيلسون بحدة: لا تزعج نفسك فهل يهمك أمرنا وهل لك زمن طويل هنا هلم اهرب بأسرع ما يمكنك. ـ شكراً لك على هذه الدعوة للهرب، ولكنني أروم أن أمكث قليلاً. ثم أخذ البوليس كرسياً وجلس بسكون ثم قال: اصغوا لكلامي كل الإصغاء يا رفاقي: إذا حدث خصام في هذا الكوخ بعد الآن فهو سيحدث بيننا، إنكم سألتموني عن اسمي فأنا أجيبكم على ذلك إنني (جاك الأحمر) من مقاطعة مونثانا المدعو أيضاً (بالدموي الهائل)، وقد تعودت أن ألتهم اثنين أقوى منكما وأضخم غذاءً لي. وفي أثناء الحديث أسند البندقية إلى المائدة وسحب مسدسه من جيبه. ـ أتنظران جيداً هذا الكلب الصغير؟ إنه ينبح دون أن يتحرش به أحد، وصوت واحد منه كاف. ثم ضحك البوليس ضحكاً مرعباً وجلس إلى المنضدة بينما كان ماتيو ودونيلسون يتبادلان النظرات، فقال ماتيو:

فلنسافر فلنسافر، إذ ليس لنا مقام هنا بعد. فاقترب الاثنان من الباب. فقال نكارتر وهو يعبث بسلاحه: أرجوكما أن تقيما خمس دقائق هنا أيضاً، فهذا المحل أوفق لكم وأنا أقول لكما السبب فإن عندي شيئاً لأقوله لكما وهو يهمكما جداً. فنظر الاثنان بارتياب إلى جاك الأحمر الدعي وهما يرغبان أن يفتكا به ولكن سلاحه كان يوحي لهما أن يحترماه. واستتبع نكارتر الحديث فقال: عودا إلى محليكما فما دمتما في هذا الكوخ فأنتما في مأمن من خطر الموت إنني أريد أن أقدم لكما اقتراحاً فإذا أردتما أن تساعداني ساعدتكما أيضاً. وكان انفعال الشقيين يشتد وهما يحدجانه بأبصارهما دون أن يلفظا كلمة. فقال نكارتر بلهجة تدعو إلى الثقة: إذا كان أحدكم أمهر من رفيقيه فسلب الماسة دونهما فلا تتخاصموا الآن لأجلها، كونوا أصدقاء، لأن خطراً مهولاً يتهددكم جميعاً. فقال دونيلسون: أي خطر هذا؟ عماذا تتكلم يا رفيقي؟ أوضح. فقال كراب الذي نهض من مخبأه تحت المنضدة: نعم، أوضح ماذا تريد أن تقول؟ ليس عندنا ماسة قط فقال البوليس وهو يرفع كتفيه: ـ هذا ممكن ولكن يوجد في هذه النواحي رجال مقتنعون بعكس ما تقرره، أيكفي هذا؟ هل فهمتم معنى كلامي؟ ـ كلا إننا لم نفهم فهل تريد بتلميحاتك إفهامنا أن بوليساً يقتفي آثارنا؟ فقال نكارتر وهو يرفع كتفيه ثانية: ـ ربما ولكنني لا أعرف شيئاً من ذلك، ولكن الذي أعلمه أن رجالاً آخرين يطاردونكم وهم أشد خطراً بما لا يقدر من أفراد البوليس. اجلسوا مواضعكم يا رفاقي واسمعوا كيف عرفت ذلك، إنني لا أريد أن أرهقكم فنزاعنا

وسلامنا يتوقفان عليكم. وبعد أن تبادل ماتيو ودونيلسون النظرات وجدا الأوفق لهما أن يتشجعا ويجلسا فجلس الأول على كرسي مخلعة والثاني على صندوق فارغ فأخرج كارتر من جيبه ورقة مربعة يعلوها الغبار مكتوبة بحروف حمراء ومد هذه الورقة لدونيلسون دون أن يقول كلمة. وكان فيه تصريح من أحد أشراف مقاطعة مونتانا يعد فيه بمكافأة كبيرة ـ خمسمائة ريال ـ لمن يقبض على جاك الأحمر الشهير حياً أو ميتاً. وكان نكارتر يتلاعب هذا التلاعب وهو أمين أن ينفضح سره فإن عرف أن جاك الأحمر كان في سجن هيلينا من مقاطعة قونتانا فليس في وسعه أن يفسد هذه الوحدة. ثم قهقه نكارتر وقال لهم مما قرأتم في هذه الورقة يمكنكم أن تثقوا بي واسمعوا قصتي الغريبة: فإنني اضطررت أن أقتل رجلاً كما أقتل ذبابة، وكان هذا الرجل قد صب ماءً في قدح خمري أسمعتم؟ ماءً مع الويسكي! ماءً، ماءً. فقلت لهذا الشقي الذي تجاسر على مزج الويسكي بالماء: إن قايين ليس شيئاً بالنسبة إليك، إن ما فعلته هو أعظم من قتل الأب أو الأخ وأريد أن أريك أيها الشقي كيف تتجاسر أن تسمم رجلاً شريفاً بالويسكي الممزوج بالماء، ولم أدعه ينتظر كثيراً بل أطلقت عليه رصاصة كانت القاضية. أنتم ترون أني كنت محقاً فيما فعلت ولكن الشريف وأعضاء محكمته حكموا بغير هذا وبالاختصار فإنني لو لم أقتل اثنين من الحرس لكنت علقت الآن في مشنقة جميلة، وكان موتي خسارة على الوطن أليس كذلك؟ ثم بدأ بطي الورقة وقال: أما الآن فبما أنني بزي بربري أو وحشي كما يقولون فقد نجوت من الشرور ولم يعد من معارض لي في نزهتي، ولكنني قد صادفت منذ يومين فارساً قص عليّ خبراً غريباً. قال لي أنه كان في خدمتكما وأكد لي أن في حوزتكما ماسة لا نظير لها في العالم بأسره وحاول أن يقنعني بالاتفاق معه لنسلبكما إياها. فنظر دونيلسون وماتيو أحدهما إلى الآخر وهما متعجبان، ثم قال دونيلسون: إصغِ، إننا نعرف حق المعرفة هذا الرجل الذي تتكلم عنه فقد كان معنا وقد وقف على

شيء من سرنا فلم يعد لنا مندوحة عن إفشائه لننجو من تعرضه، ولكن هذا ليس بالأمر الخطير. فقال نكارتر حسناً دعني أتكلم: على مسافة قليلة من هنا تجد رابية صخرية تتذكرانها دون شك لأنكما وطئتماها بجواديكما، وقد وقفت عندها لأروّح النفس قليلاً فنظرت في السهل أربعة فوارس سائرين بجد ولم تكن هذه الناحية وجهتهم التي يقصدونها رأساً ولكنكم القوم الذين يفتشون عليهم وإذا نكبوا عن الطريق قليلاً فذلك حتى يجتمعوا برفاقهم. أما متابعتهم لكم فهذا واضح وضوح الشمس وإذا كنت أشك في ذلك فأنا أقسم لكم بالرعد أنني أغتسل غداً وليحرسني الله، وقائد هذه الفرسان هو الرجل الذي كان في خدمتكم، وهنا أقلق كلام البوليس سامعيه الذين لم يشكوا في وشك الهلاك فاقترح دونيلسون سرعة الهرب. فقال جاك الأحمر الدعي لا تفكر بهذا البتة فهؤلاء القوم يعرفون المقاطعة كما يعرفون جيوبهم فهم يمسكونكم حالاً، لا، لا، فأحسن ما نفعله هو أن نتربص هنا وندافعهم إذا هاجمونا. ـ ماذا تقول؟ نتربص، إذن فأنت من جملتنا. ـ مؤكد، فهل تظنون أنني أحتمل أن أراهم يشجون رؤوسكم بالرصاص ويقتلون هذا الأعمى المسكين، إنكم إذا ظننتم هذا فأنتم لا تعرفون جاك الأحمر حق المعرفة، إذا حميتم ظهري قليلاً فلا أتردد عن أن أقف وحدي أمام اثني عشر فارساً. فقال كراب: آه يا إلهي لماذا باشرت هذا السفر؟ فسأل ماتيو: هل أنت متأكد يا مسيو جاك أن هؤلاء الرجال يعرفون طريق رجوعنا. قال هذا وهو يتبادل النظرات مع دونيلسون. فقال جاك الدعي: إنني أحذركم فإن هؤلاء الرجال أقدر على اقتفاء الآثار منكم لأنها حرفتكم! ألا تعتقدون أنهم

يعرفون بوجود هذا الكوخ؟ ـ هذا مرجح. هل يخص هذا الكوخ أحداً منكم؟ فقال دونيلسون لا. فصرخ كراب: ـ إنه يخصني أكثر مما يخص غيري، لأنني أنا الذي بنيته حين قدمت منذ بضع سنين إلى هذه الأنحاء طلباً لمناجم الذهب وكنت لم أفقد البصر بعد. فقال له كارتر شكراً لك على هذه التعليمات فهل يوجد أكواخ في الجوار؟ فأجاب كراب: لا يوجد أكواخ إلى مسافة بعيدة أما إذا كانوا قد بنوا في هذه السنوات الأخيرة فهذا ما لا أعلمه. فقال البوليس: لا أظن أن أحداً يستعمر هذه البقعة التي هجرها الله فهنا الذئاب تقاطع الدببة حتى أنها لا تحييها تحية المساء، وإذا اتفق أن مسافراً أعوزه الويسكي في هذه القفار فما عليه إلا أن يصلي صلاة الموت. وكان دونيلسون وماتيو منزويان يتكلمان بصوت منخفض وأخيراً خاطر به دونيلسون جاك الدعي بقوله: ـ نعم إننا موشكون أن نقع في خطر عظيم وإننا نشكرك يا صاح لأنك أنذرتنا بالخطر قبل وقوعه فإذا رضي كراب أن يدفع إلينا الماسة فمن الممكن أن ننجو جميعاً. قبل أن. . . فقاطعه نكارتر قائلاً: ـ من الجنون أن تفكروا بمثل هذا الآن، إن هؤلاء الأشقياء يتبعوننا إلى مئات من الأميال. فقال كراب: ـ كيف يمكنني أن أعطي ما لا أملكه وما لم أملكه البتة. فخاف ماتيو من إصرار شريكه ففتح فاه ليجيبه ولكن نكارتر أسكته وقال: سواء وجدت الماسة أو لم توجد فإنها على ما يظهر ستذهب بحياتنا جميعاً. . . إصغوا فعلت وجوه الثلاثة صفرة وأصغوا وقد حبسوا تنفسهم فسمعوا وقع حوافر جياد فأظهر جاك

الدعي الضجر وقال: إذا لم يكن هؤلاء هم الفرسان الذين أخبرتكم عنهم فإني آلو على نفسي أن لا أشرب إلا الماء الصرف بقية أيام حياتي، ولكي أريكم قدر الذي حالفتموه يا أصدقائي وسعادتكم بهذه المحالفة أرجوكم أن تتركوني أفتتح القتال بنفسي. ولم ينتظر البوليس جواب الثلاثة بل ترك الكوخ وبعد عنه أربعين متراً في طريق ضيق وراء الكوخ. ثم وقف فرأى الفرسان يقتربون وكانوا اثني عشر وعلى قيادتهم الرجل الذي طلب تبغاً من كارتر، فأبدى كارتر لهم إشارة بمسدسه أدهشت الرجال فأوقفوا خيولهم كأنهم يخضعون لأمر. فصرخ القائد: ـ هل وجدت معارفك؟ ـ نعم، أجاب الوحشي الكاذب، صحتهم حسنة وقد كلفوني أن أحمل لك تحياتهم فأين تذهب الآن؟ فهمهم القائد ثم قال: إنني قدمت إلى هنا مع صديقين لنساعدك. ـ أوكد لكم أن مساعدتكم لا تفيدني. ـ لماذا؟ ـ لأنني لست في حاجة إليكم وهذا كل شيء. ثم أبدى البوليس إشارة من مسدسه في طيها معان كثيرة. فاقترب الفرسان وتشاوروا بصوت منخفض جداً حتى أن كارتر لم يسمع من محادثتهم كلمة واحدة. ثم عاد القائد إلى الكلام فقال: ـ يقولون أنك تقصد أن تتحرش بنا وتغضبنا. ـ نعم فتكونون لي خبزاً جوهرياً قال ذلك وهو يضحك، إنني منذ يومين لم أقتل أحداً لأقتات به ومعدتي فارغة ومع هذا فليس لكم بقلبي بغض ولا حقد ولا أريكم أسناني إلا إذا

قصدتم الشر. فقاطعه القائد قائلاً: اقصر عناك وكف عن هذا الكلام أقول لك مرة، مرتين، ثلاث هل تريد أن تتخلى عن طريقنا؟ ـ إنك تقرأ أفكاري أيها الخبيث. ـ بالنتيجة فماذا تريد منا إننا لم نلحق بك الأذى. ـ حتى الساعة لا، أما فيما بعد فأنتم موشكون. ـ إذا مسست شعرة من رأس أحد أصدقائي جعلت لحمك طعمة للعقبان. فأجابه البوليس ضاحكاً: ـ فإذن فابدأ. فصاح رجل كان واقفاً بجنب القائد: يجب أن نرسل رصاصة لدماغ هذا الخشن. ثم دفع جواده إلى الأمام قبل أن تبين نكارتر. فعندئذ أطلق البوليس مسدسه فسمع للرصاصة دوي واختلج الرجل فوق سرجه ثم سقط إلى الأرض لأن الرصاصة سحقت كتفه. ثم قال نكارتر: عندي من هذه الرصاصة قدر ما تشاؤون لا أتأخر عن بذلها في سبيل خدمتكم، إن الممر ضيق جداً حتى لا يمكن لأكثر من اثنين منكم أن يتقدما سوية، وعندي لكم مؤونة كافية وأصدقائي عندهم أيضاً كثير منها فإذا أصررتم على غيكم فإننا سنرديكم واحداً بعد الآخر حتى لا يبقى منكم أحد، وسأسر جداً إذا قدرت أن أخدمكم بأن أجمعكم مع أجدادكم السالفين. فظهر الرعب على وجوه الفرسان عندما شاهدوا مصرع صديقهم وزاد في رعبهم صهيل الخيول واضطرابها، ثم صاح اثنان من مؤخرتهم إننا لا نقدر أن نحتمل أكثر وحاولا أن يتقدما إلى الأمام ولكن جواد القائد أجفل وسد الممر فجعل هذه المحاولة مستحيلة. ولم يمكن لأحد من الصف المتأخر أن يطلق النار على البوليس خشية أن يصرع أحد رفاقه فلم يجدوا أفضل من العود فلووا أعنة الجياد وانفتلوا راجعين.

ونزل القائد وأحد رفاقه فساعدا الجريح على الركوب وبينما كانا يجدان لينضما إلى الفرقة التفت القائد إلى نكارتر وقال له: أيها الغريب إنك قد بدأت القتال فاحذر من انتقامنا قبل أن يطلع النهار. فقال نكارتر بحدة: جربوا فإن عندنا من (الملبس) ما يكفيكم. وعندما توارى الفارسان عن نظره عاد إلى الكوخ، فوجد دونيلسون وماتيو وفي يد كل منهما مسدسه وهما واقفان أمام الباب. أما كراب فلم يتحرك من موضعه وكان وجهه مصفراً وأمامه على المنضدة مسدسه فقال ماتيو للبوليس: ياللشيطان، إنك عراف شهير دون شك فإنك لو لم تنبئنا بالخطر لقبضوا علينا ونحن في الكوخ كما يقبضون على الثعالب. فقال كارتر: لم تنته المعركة بعد فإنهم سيعيدونها. فسأله كراب وهو يضطرب: أتظن أن هذه العصبة ستعاود الهجوم قبل الليل؟ ـ لا، لا، إننا الآن آمنون إلى أجل قصير ويحسن بنا أن نغتنم هذه الفرصة لنقتات بشيءٍ وبعدها نعد الوسائل لمصادمتهم، قال البوليس هذا ثم دخل إلى الكوخ. فقال له دونيلسون: كل قدر ما تشاء إذا كنت جائعاً، أما أنا فإنني لا أقدر أن أتناول لقمة واحدة وأفضل أن أقوم على حراستكم خارجاً، وأظن أنه من الضروري أن يقوم واحد منا على هذه الحراسة. فقال له جاك الأحمر الدعي: كما تشاء. وكان يظن أن دونيلسون يحاول الهرب فلم يهمه ذلك ولم يحاول أن يصده لأن شكوكه كانت تقع على كراب في الغالب وترك أيضاً ماتيو يرافق صديقه. فقال كراب للبوليس: ـ هناك في هذا الوعاء قهوة وعلى المائدة تجد لحماً مقدداً فتقدم كارتر بانطلاق، وقد حاول

ماتيو أن يأكل ولكنه لم يقدر أن يبلع. ومع هذا فإن دونيلسون لم يحاول الفرار بل عاد إلى الكوخ بعد أن أتم كارتر عشاءه فسأل البوليس وفمه ملآن: ـ ماذا يوجد؟ فقال دونيلسون: إنهم سيهاجموننا قبل الليل ـ وكانت هيئته مضطربة ـ فإذا شاء كراب أن يعطينا الماسة فمن الممكن أن ننجو جميعاً. ـ كيف ذلك؟ ـ يمكننا أن نمر على هذا الجسر المؤلف من جذعي الشجرتين ثم نطلق فيه النار فلا يمكن الآخرين العبور. فقال جاك الكاذب: أنت تعتقد بذلك يا صديقي؟ يظهر أنك لا تعرف هؤلاء الرجال معرفة يقين، إنهم قادرون أن يمسكونا إذا جازوا من محل آخر. ـ ولكن يمكننا أن نختبئ بين الصخور وندعهم يتقدموننا. ـ كان ممكناً هذا لولا أن هؤلاء الرجال يعرفون هذه الصخور ـ منذ ولادتها ـ فهم يحاصروننا حتى نهلك جوعاً، وأقول لكم أن أحسن ما نفعله هو أن نبقى هنا ونصادمهم كالأبالسة، إننا أربعة على اثني عشر فلسنا في غاية الضعف لأننا في هذا الكوخ كأننا في معقل. ـ ولكن لا يمكننا أن نعد كراب بين المدافعين. ـ هذا حق إنني نسيت أنه أعمى، ولكن إذا كنتما من الرماة الماهرين مثلي إذن. . . . فقاطعه دونيلسون قائلاً: إن هذا كلام في كلام سنهلك جميعنا إذا بقينا هنا. ـ أجب سؤالي أولاً أيها الجبان هل تعرف أن تطلق النار جيداً؟ ـ ذلك مما لا ريب فيه. ـ وأنت يا ماتيو. ـ يا إلهي: إنني عند الحاجة أعرف كيف أستعمل المسدس. ـ حسناً فليس علينا إلا أن ندافع عن نفوسنا فماذا تقول يا كراب وقبل أن يجيب كراب

أفرغ قدح الماء في فيه ثم قال: ـ ليس لي ما أقوله سوى أنني كنت أود من صميم الفؤاد أن لا أبلغ هذه الأنحاء المقفرة، إنني أنصحكما يا رفيقيّ أن تتبعا نصائح هذا الرجل فأنتما سبب هذه المتاعب، إنكما تريدان أن تجعلاني سارق الماسة وأخبرتما غريباً بما تقصدان فكانت نتيجة ثرثرتكما أن عصبة من الأشقياء تتعقبنا الآن وهذر كما سيأتي على حياتنا. وكان كراب يتكلم بلهجة ملؤها الإخلاص حتى أوشك أن ينخدع بها نكارتر نفسه لولا أن براهين دامغة كانت تقنعه أن كراب بالرغم عن إنكاره الشديد هو سارق الماسة. فلمعت شرارات الحقد في نظري دونيلسون وماتيو الموجهين إلى كراب ثم التفت نكارتر إلى دونيلسون وسأله قائلاً: هل تظن أنهم يهاجموننا هذه الليلة؟ ـ إنني نطرت هؤلاء الأشقياء حين صعدت إلى ذروة الرابية فوجدتهم في الوادي مشتغلين بتناول الطعام والعناية بالجريح وسيصلون إلينا في الليل فقال ماتيو لم يبق للظلام إلا ساعة واحدة. فتنهد كراب تنهداً كثيراً وسأل قائلاً: هل يوجد مظاهر تدل على قرب وقوع المطر؟ ـ نحن معرضون من حين إلى آخر لغيث ساكب. وكان نكارتر قد أنهى العشا فدخن لفافته بهدوء، وكان من مظاهر السكينة التامة التي تلوح على وجهه أنها أثرت تأثيراً حسناً في نفس البقية، وبعد قليل أقبل الظلام. وكان نكارتر جالساً قرب الباب فالتفت إلى الداخل وقال: أظن أن العصبة لا تتأخر طويلاً فاستعدوا للمصادمة. فقال ماتيو والحيرة لا تفارقه. ـ ماذا نقدر أن نصنع؟ ـ إنهم يعتقدون دون شك أننا سنتحصن هنا فإذا أغلقنا باب الكوخ أحبطنا ما يرومونه من حصارنا ولا أظنهم يعودون إلينا راكبين ولكنهم يترجلون في الوادي ويتسلقون الصخر إلينا. فقال دونيلسون: ـ إننا نقابلهم سوية وهم يقابلوننا واحداً واحداً حقاً إن هذا موافق.

ـ هل تنظرون ذلك الصخر على بعد خمسين متراً؟ وكان الليل حالكاً فلم يتبينوه ولكنهم عرفوا عماذا يريد أن يكلمهم. ـ اثنان منا يلوذان بذلك الصخر فيصيران كأنهما في معقل، فأنتما يا دونيلسون وماتيو تذهبان إلى هناك وأنا والأعمى نتوارى وراء هذا الصخر المقابل وإن يكن أقل مناعة من ذاك إلا أنه كاف، فإذا انحدر المهاجمون من الرابية شويناهم بنار بنادقنا. فقال ماتيو: فكرة في غاية الإصابة فتعال يا جورج. ـ نعم إن هذا التدبير حسن ـ قال البوليس ـ إن رصاصي تسوى اثنتين أما الأعمى فيحشو لي السلاح، أليس كذلك يا كراب؟ فأجاب التعس بلهجة اليائس، أفعل كل ما تأمرني به، ثم أفرغ قدح الماء في فمه وسار وهو يتلمس الحائط إلى زاوية من الغرفة، ثم عاد وفي يده حقيبة ملأى بالخرطوش. فسأله نكارتر: أهذه لي؟ ـ نعم، فقدني الآن إلى الزاوية التي عينتها. فسار دونيلسون وماتيو إلى الصخر الذي دلهما عليه البوليس وسار كراب ونكارتر إلى الصخر المقابل على بعد خمسين خطوة من الصخر الأول. ـ لا يوجد في هذا الصخر سوى محل لرجل واحد فتمدد أنت على الأرض. فسأله الأعمى: وأنت ماذا تفعل يا صديقي؟ ـ أنا أجد ملجأ ليقيني المهاجمة من بعض النواحي. فتنهد كراب وقال كل هذا من أجل ماسة مشؤومة. فقال البوليس ضاحكاً: ـ نعم، إنني بعد كل ما سمعته لا أرى أشأم منها، ولكن كفى الآن! فإما أن يكون سمعي قد خدعني أو أن المهاجمين اقتربوا! أصغ. وأصغيا فسمعا دوياً من غابة مجاورة وكان خفيفاً جداً في بادئ الأمر ثم أخذ بالاشتداد شيئاً فشيئاً. وأطلق بغتة طلقان ناريان من وراء الصخر الذي لاذ به دونيلسون وماتيو. فتململ البوليس وقال ما أشد حمقهما إنهما أهديا الأعداء إلى مكمنهما عوضاً عن أن

يجعلاهم البادئين، فهذه الغباوة ستكلفهما كثيراً. وفي الواقع أنه لم يكد الطلقان يلمعان حتى دوت ست طلقات من المهاجمين وكلها موجهة إلى حيث خرجت النار. فأيقن نكارتر أن الوقت قد حان فأطلق النار وللحال تصاعد في سكون الليل صراخ ألم شديد، فقال البوليس قد أجدى الطلق على ما أظن، ثم أفرغ من مسدسه الخمس الطلقات الباقية بسرعة مدهشة، ثم أمر كراب أن يحشو السلاح. وكان يسمع حركة الأعمى وهو يحشو المسدسات، وسمع أيضاً من قمة الرابية صراخاً وتجديفاً فقال قائد العصابة: ياللداهية، إنهم أكثر مما ظننتهم. فسأله آخر قائلاً: هل جرحت يا وان؟ ـ نعم. ـ وأنا أيضاً مصاب بجرح بليغ. فظن نكارتر أن الأعداء سيقاتلون وهم متقهقرون فإذا كان ذلك فما عليه إلا أن يطلق طلقاً واحداً، أو أنه يفرغ سلاحه في الهواء. وفي هذه اللحظة دوى طلق من صخر الصديقين أجابه الأعداء بطلقات شديدة قوية ونظر نكارتر شبحاً يتسلل بين الأشجار فصوب عليه المسدس وأطلقه فاضطرب الشبح وتوارى في الغاب دون أن يهم بصيحة ألم. ـ هذه خسارة، قال البوليس، كنت أفضل لو صرخ، لأنه كان يلقي الرعب في قلوب المهاجمين. وهذا الطلق بدل الوجهة التي كان يقصدها المهاجمون فإنهم عرفوا أن الخطر يهددهم من الجهة الأخرى، وللحال لمعت رصاصة وسقطت على الصخر وراء نكارتر والأعمى، فتمدد نكارتر على بطنه أما كراب فإنه حشا الأسلحة وأعطاها لرفيقه الشجاع وهو يتململ وسأله: هل تظن أنهم يحاصروننا هنا؟

ـ هذا ممكن. ولمعت طلقات جديدة بالقرب منهما. فقال البوليس وهو يحاول أن يتبين المهاجمين ـ عمل حسن. ثم سمعوا طلقاً من وراء صخر الصديقين، فلم يقابله الأعداء بالمثل. ثم ابتدأ الحصار الذي تنبأ عنه كراب ونكارتر. وقد سبقه سكون لم يفرغ في أثنائه نكارتر رصاصة من مسدسه ثم نظر بغتة دوران الفتيان المتسرعين. فنهض قليلاً وهو يحمل في كل يد مسدساً فأفرغهما بالتتابع على المهاجمين بمهارة فائقة، وقد أصاب في الجميع تقريباً فكنت ترى هنا هيكلاً بشرياً ينقلب على الأرض أو يضطرب أو يتوارى في الظلام. ولم يسكن الأعداء مدة طويلة بل عادوا إلى المهاجمة فانطلقت رصاصة رفعت قبعة نكارتر وطرحتها على الأرض، ولكن في ذات اللحظة سقط الرامي على الأرض وهو يصرخ صراخ الألم. وكان نكارتر قد أبقى رصاصتين في كل مسدس. ولكن طلقاً بالقرب منه ألفت أنظاره فوجد كراب قد أطلق النار فسأله: ماذا صنعت هل أنت مجنون؟ دعني لهذا العمل فعلينا أن نقتصد في الذخيرة. أنت محق، ولكنني فكرت أن رصاصة تطلق صدفة ربما كان لها بعض النفع وقد تهيجت حتى لم أتملك نفسي. وظهر أنه قد أصاب المرمى لأن البوليس نظر شبحاً يميل ذات اليمين وذات اليسار ثم سقط وقد كان مؤكداً أنه لم يطلق النار على هذا الرجل فتمتم قائلاً في نفسه: آه، آه، إنني قد بدأت أفهم. ولكن الوقت لم يكن وقت تفكير. فإن ثلاثة أشباح اندفعت نحوه وهي تطلق النار بدون انقطاع حتى كادت تصم أذنا البوليس وكانت الرصاصات تمر بجانبه ولها صوت كفحيح الأفاعي ثم شعر برصاصة قد خرقت قميصه ولامست كتفه، وللحال غير نمط المهاجمة فعوضاً أن يبقى في مكمنه انقض على

مهاجميه وهو يثب وثب النمر وأفرغ من مسدسه رصاصة صرعت أقربهم منه. وكان الثاني قريباً جداً من نكارتر فاستعمل نكارتر مسدسه كهراوة وضربه على رأسه ضربة كانت القاضية عليه فسقط المسكين على الأرض. أما الثالث فركن إلى الفرار لا يلوي على شيء كأن الموت يقتفيه ثم توارى في الوادي فتركه نكارتر يفر. وهذه البسالة الفائقة من رجل واحد قررت النصر والظفر. ثم التفت نكارتر إلى صديقه الأعمى وقال له أما الآن فسنعود إلى الكوخ إذ لم يعد من خطر. فنهض كراب واستند بيديه على ذراع البوليس، فلاحظ هذا أن الأعمى قام بهذه الحركة بسكون ولم يخامرها شيء من الاضطراب والتردد الذي كان يرافق أقل حركاته. كان الأعمى يتشكى منذ مدة يسيرة أنه عصبي المزاج سريع التأثر ولكنه في هذه اللحظة كان يظهر أنه ليس أقل جلداً من نكارتر نفسه، فقاده البوليس إلى الكوخ، ولما وصل الاثنان إلى الباب وضع نكارتر يده على فمه ليستجمع قوة صوته ونادى الرفيقين الباقيين أن أخرجا من مخبإكما فكل شيء قد انتهى وللحال أبصر رجلاً يعجل السير نحوه وكان هذا الرجل ماتيو، فسأله نكارتر: أين صديقك؟ فأجابه ماتيو بصوت متلجلج، قد مات، أصابته رصاصة عند الطلق الأول نفذت إلى دماغه. ـ آه ما أتعسه! ولكن لماذا عرض نفسه للخطر بتصديه لإطلاق النار أولاً. ـ لماذا، لأنه ظل متهوراً إلى الساعة الأخيرة، فإنني توسلت إليه أن يتربص قليلاً ولكنه أبى إلا أن يكون البادئ، وحالما أطلق النار رفع رأسه ليرى إذا كان أصاب المرمى وفي الدقيقة عينها صاح صيحة مرعبة وسقط بين ذراعي ميتاً. ـ إنني سمعت تلك الصيحة ولكنني ظننت نشأت عن الأعداء، ماذا تريدون؟ إن الذي لا يصغي إلى النصائح تكون العاقبة وبالاً عليه والآن فلننظر خسائرنا فهل أنت جريح يا رفيقي؟ ـ كلا، وأنت؟ ـ إنني خمشت في ذراعي فهل عندكم مصباح؟

وكان مع نكارتر مصباحه الكهربائي ولكنه فضل أن لا يستعمله لئلا يثير الشكوك في نفس الرفيقين وكان يشعر بحاجة إلى الحذر والاحتراس كل ما تقدم خطوة، وفوق ذلك فإنه لم يتمم وظيفته بعد فبالرغم عن كل ما قام به فالماسة ما زالت مفقودة. فقال كراب هناك مصباح في الزاوية. وبعد أن أوقدوا عدداً كبيراً من الثقاب (عيدان الكبريت) وجده ماتيو فأضاءه في أثناء ذلك كان نكارتر قد خلع ملابسه ورفع كم قميصه فظهر على ذراعه جرح خفيف فقال البوليس إن الرصاصة كانت مسددة، ولنخرج الآن لنرى ساحة القتال ثم تناول المصباح واقترب من الباب. فصرخ ماتيو: هل أنت مجنون؟ فإذا كان أحد الأعداء مطروحاً على الأرض وله مكنة على إطلاق النار أفلا يتخذ منك هدفاً مناسباً؟ ـ هذا صحيح، ولكنني أشك في بقاء أحدهم حياً وإذا وجد أحد فهو لا يؤثر النزاع، وعند اقترابه من الأشجار أبصر شبحين يقتربان ببطء فصاح به أحدهما لا تطلق النار أيها الغريب فإننا قد نلنا فوق الكفاية. ـ كما تريدون أيها الأصدقاء إننا قوم مسالمون ولا نود أن نؤذي أحداً ولكن إذا كان جلد أحدكما يأكله فما عليه إلا أن يعود، فما زال لدينا ذخيرة معدة لخدمته ونستأنف الدور، فلم يجيباه وعندها تقدم البوليس فرأى على نور المصباح أن أحدهما كان جريحاً جرحاً بليغاً وأما الجريح الثاني فكان خطبه أيسر فسألهما هل خرج أحد منكم سالماً من المعركة؟ ـ نعم، ثلاثة. ـ وأين هم؟ ـ إنهم نجوا كالأرانب واختبأوا في الكهف. ـ كذلك يفعل النبهاء، إنني أراكم قادرين على المسير فاذهبا وادعوا أصدقاءكما، نوباً عني بتحيتهم وناديهم ليرجعوا أو يعنوا برفاقهم ويطمئنوا من جهتنا فإننا سنساعدهم في مهمهتم، ولكن اصغوا: إذا كنتم عازمين أن تعيدوا المشهد فإننا سنجعل أجسادكم قوتاً لذئاب هذه الغابة.

فتمتم أحد الرجلين: يا إله السماء، إننا نلنا أكثر من حسابنا، فكن مطمئناً، فنحن لا نريد إلا المسالمة على شرط أن تقابلنا بالمثل. ثم ودعا البوليس ـ وداعا بسيطاً ـ وانحدرا مسرعين إلى منحنى الكهف ثم عادا ومعهما الأصحاب الفارون. وفي خلال غيابهم جال نكارتر في ساحة القتال ليرى إذا كان في وسعه أن يساعد أحداً من الجرحى، فوجد اثنين منهم ضمد جراحهما بمناديل أحضرها ماتيو من الكوخ خمسة من المهاجمين في جملتهم القائد سقطوا في المعركة. فقال البوليس وهو يفكر: يحزنني أن أضطر إلى الفتك بهؤلاء، ولكننا كنا ندافع الدفاع الذي يجيزه الشرع فلو لم ندافع لكنا قتلنا الواحد بعد الآخر وظل الثلاثة الأصحاء نحواً من ساعتين حتى واروا قتلاهم في الثرى وأعانوا الجرحى إلى بلوغ مرابط الخيل، ثم توارى هؤلاء الفرسان عن العيان وكانوا منكسي رؤوسهم حزناً لإخفاق سعيهم فعوضاً أن يلاقوا الماسة لاقوا الضرب والرصاص. وعندما بعد الأعداء قال جاك الكاذب أول فرض يجب علينا القيام به هو أن ندفن دونيلسون، فاستحسن ماتيو هذا الفكر واشتغل الاثنان بحفر ضريح لجسد رفيقيهما فصرفا في هذا السبيل ساعة من الزمان. وفي أثناء ذلك كان المطر يتساقط غزيراً. وكان كراب جالساً داخل الكوخ ووجهه بين يديه وكان مضى الهزيع الثاني من الليل حين عاد كارتر وماتيو إلى الكوخ. فقال نكارتر لا أعلم يا صديقي إذا كنتما قادرين على السهر أما أنا فسأنام قال ذلك وهو يتثاءب. فقال ماتيو: لو أعطوني ذهباً لأنام ما أمكنني ذلك. . ولكنه بالرغم من هذا الكلام اضطجع في زاوية من الغرفة وبعد بضع دقائق علا غطيطه

واستغرق في النوم، ولكن البوليس لم يغمض له جفن. وكان الهواء يزداد رداءة، وقبل الفجر بقليل هبت عاصفة شديدة يصحبها برق ورعد، ولكن ماتيو لم ينتبه البتة بل ظل مستغرقاً في النوم. وكان الظلام لم يزل سائداً عندما لحظ البوليس أن الأعمى نهض بتأن ومشى على رؤوس أصابعه نحو الباب، وكان يتقدم ببطء ولكن حركاته ليست حركات من فقد بصره. وهنا تلاشى الشك الأخير من نفس نكارتر، لقد شك به أثناء المعركة ولكنه تأكد الآن أن كراب كان من النوع المسمى (نكتالوب) والنكنتالوبيا هي خاصة في العين تمنعها من النظر إلا في النور الضعيف أو الظلام الحالك وهي واضحة في الهررة الداجنة التي تبصر ليلاً كما تبصر نهاراً. وهذه الحالة نادرة جداً بين بني الإنسان ولكن نكارتر نظر مشهدها فكان كراب في النهار أعمى ولكنه يبصر جيداً في الليل. وقد قدر أن يخدع جميع من شاهده حتى أصدقاءه الأخصاء فإنهم كانوا يعتقدون أنه فقد بصره تماماً، ولكن لما أطلق النار رغم إرادته فصرع الرجل الذي استهدفه كأبرع صياد كشف سره لنكارتر. وهذا الاكتشاف زاد شبهة كارتر فجزم بأن كراب هو سارق الماسة دون غيره، وكان عليه أن يعرف مخبأها، ولم يفكر بإيقافه بل حاذر كل ما من شأنه أن يلقي الريب في نفس الأعمى قبل أن يعرف مخبأ الماسة. إن هذا النكتالوب أظهر مهارة فائقة لا في سرقة الماسة فقط بل بتغييبها على شكل غامض حتى لم يجدوها معه ولا في ثيابه، فكان البوليس متكلاً على الصدفة وأن يدع السارق أميناً. ولهذا لم يعارضه حين خرج تحت المطر المتساقط كأفواه القرب بل نهض بتأن ليتبعه. إن الثبات الذي كان يسير به كراب في تلك الأرض الوعرة والمغطاة بالعوسج وليس فيها طريق مطروق أذهل البوليس إذ أنه على الرغم من نظره الثاقب ومن اعتياده المسير في الليل والنهار بين الوعور والآكام كان يبذل جهداً شديداً كي لا تزل به القدم. وكان كراب يتقدم دون تردد ولا تأخر وبدأ بالنزول على الصخر إلى مصب النهر فضاق صدر نكارتر لأنه لم يعلم كيف يتبع النكتالوب في هذه الليلة الحالكة فوقف لحظة ليفكر

فسمع بغتة وقع خطوات وراءه، فالتفت وإذا ماتيو قد انقطعت أنفاسه من سرعة الجري وكان قد وصل إلى حيث كان البوليس فقال له بصوت منخفض. إنني نهضت فجأة ونظرت نور البرق فوجدتك قد خرجت من الكوخ فهل تقدمك ـ بدون شك ـ أجاب نكارتر وهو شديد العجب من تصرف ماتيو أنه قد خبأها في الكهف على ما يظهر. فآلى ماتيو على نفسه أن يلحق به وكاد يندفع في سبيله فأمسكه نكارتر بيد شديدة فأثبته في محله وقال له ببرودة: انتظر دقيقة بعد يا عزيزي فعندي شيء أريد أن أوضحه لك فارتعش ماتيو، فغنه رأى أن سلوك جاك الدعي لم يعد هو ذاته حتى أن لهجة صوته تغيرت ثم قال: ـ ماذا تريد أن تقول؟ ـ إنني بوليس ليس إلا وأنا مكلف أن أعيد الماسة إلى صاحبها الشرعي الذي سلبت منه، فحين تصل الماسة ليدي أعيدها إلى دلمار، أما أنت يا مسيو ماتيو فأنا لا أريد منك شيئاً ولكن إذا حاولت أن تقاومني أو تحبط ما أحاوله فستندم على ذلك، فوقف ماتيو دقيقة دون حراك كأن الصاعقة قد انقضت عليه وحاول عبثاً أن يتكلم. ـ بو. . . . ليس. . . . بوله. . . . يس ـ تمتم أخيراً، وأنت أنت. . ت. . تر. . . قبنا. ـ أنا لا أقتفي آثارك ولكنني ألاحق كراب، كنت أفعل مثلكم. قال نكارتر ببشاشة: فإنني كنت أعلم منذ زمن بعيد أنك لا أنت السارق ولا دونيلسون ولكنكم صممتم أن تستردوا الماسة ولكن لا لتعيدوها إلى صاحبها بل لتبقوها لأنفسكم. ـ لكن. . . لكن. . . لا أعرف. . . أريد أن أسألك. . . ماذا تدعى؟ ـ أدعى كارتر من نيويورك وعادة يدعونني نكارتر. ـ يا إلهي. فارتجفت جميع أعضاء ماتيو واستلقى على صخر وهو يحاول أن يستعيد تنفسه. ـ صمم الآن ـ قال البوليس إنني قدمت لك نصيحة حسنة وأنا آمل أن تقابلني بالمثل وهذا كل ما أطلبه منك. ـ اعتمد عليّ يا مسيو كارتر، فلتحرسني السماء من عداوتك.

ـ لا أحقد عليك ـ قال البوليس ـ وقد أخذته الرأفة على ضعف ماتيو ورعبه. فلنسمع. ـ كل ما تريد. ـ هل أنت شريك كراب؟ ـ نعم ولكن لا في سرقة الماسة. ـ أعرف هذا، ولكنك تعرفه منذ زمن طويل، هل تعرف أنه كان نكتالوب يعني أعمى في النهار ويرى في الليل؟ فنظر ماتيو إلى مخاطبه بعجب. ـ حقاً إنك لاحظت ذلك؟ إنني اشتبهت به منذ زمن طويل وكدت أتأكد. ـ وأخيراً تبدل شكك باليقين. ـ ولا ولكن بالعكس بل كثيراً ما كنت أغالط نفسي، فإن كراب إذا لم يكن سوى نيكتالوب فإنه أمهر ممثل عرفته في حياتي. ـ أنا على رأيك في هذا الأمر، إنه نكتالوب وأقدر أن أؤكد ذلك. ـ هل تعرف أين خبأ عين الشيطان. ـ لم ألاحظ أقل شيء من ذلك، ولا أقدر أن أجزم فيما إذا كانت الماسة في حوزته فليس عندي أقل برهان سوى الاستدلال والاستنتاج. ـ وأنا من رأيك. ـ أرجوك ـ إذا كنت تريد الخير لنفسك ـ أن لا تكتم عني شيئاً علمته وأقدر أن أستفيد منه شيئاً. ـ أقول لك الحقيقة يا مسيو كارتر كما لو كنت أتكلم بعد القسم وأؤكد لك أنني أفادي بكل شيء حتى لا أعاديك. ـ حسناً ـ وأنا أسمع ـ عندما اجتمعت بصديقك دونيلسون وصادفتما الأعمى هل كان في الكوخ. ـ لا، كان الكوخ خالياً، ولكننا وجدنا آثاره فجزمنا برجوعه. ـ ومتى رجع؟

ـ أمس مساءً. ـ أول الليل. ـ نعم. ـ إذن فهو في الليل يرى بجلاء إذ كيف يمكن الأعمى أن يجول وحيداً في هذه المقاطعات المنفردة، أو لم ينبهك ذلك إلى أنه نكتالوب. ـ نعم إن هذا الفكر داخلني، ولكنني لم أفه لدونيلسون بكلمة. ـ هل عرفت شيئاً عن المحل الذي كان فيه كراب؟ ـ لا أعرف. . . ولكنه أتى من هذه الجهة، ثم أشار إلى جهة الكهف. ـ هل نظرته ينزل إلى هذا الكهف؟ ـ إننا راقبناه طول الليل، فلم ينكشف لنا من الأمر شيء حتى وصلت إلينا، وقد تفننا في سؤاله وأخيراً فرغ صبرنا فعولنا على إرغامه ليعطينا الماسة طوعاً أو كرهاً. ـ إنكما تصرفتما بكل خرق في التذرع بالوسائل ولو لم أباغتكما لكنت الآن قاتلاً شقياً أمام الله والناس. فارتجف ماتيو وغطى وجهه بيديه ثم قال وهو يتململ. ـ كنت أود لو لم أتداخل في هذه القضية، مع أنني أنا، أنا الذي زينت لدونيلسون اتباع الأعمى واغتصاب الماسة. ـ إنني قلت لك وأكرر ما قلت، ليس في صدري شيء عليك لا شخصياً ولا بداعي الوظيفة ويمكنك أن تنسحب الآن دون أن تخشى شيئاً، ولكن كن حكيماً في المستقبل، وأنصح لك الآن بالرجوع إلى الكوخ مسرعاً كما تفر من الموت، أما أنا فسأتابع الأعمى إلى الكهف. ـ دعني أصاحبك يا مسيو كارتر، إنني فكرت ملياً في ذلك، فقد كانت هذه الماسة مشؤومة فألقتني في هذه الوهدة، وأريد الآن أن أبذل الجهد المستطاع لأردها إلى صديقي القديم دلمار. فقال البوليس وهو يرفع كتفيه: ـ كما تشاء إذ لا أجد مانعاً من إجابتك إلى ما تطلب، ولكنني أود أن ألفت أنظارك إلى

الخطر الذي تسعى إليه فإن كراب ينقل مسدسه وهو يرى في الظلمة كما يرى الهر. ـ إذا لم أكن مخدوعاً أقول أنه خبأ أيضاً بندقية في الكهف ولكن هذا لا يثني عزمي عما أروم. ـ حسناً جداً، ولكننا نحتاج نوراً لئلا نعثر في انحدارنا لأننا لسنا من فصيلة (نكتالوب) كما تعلم. ـ سأذهب إلى الكوخ وأفتش عن المصباح. قال ذلك وهمّ بالذهاب فأمسكه نكارتر بذراعه وقال له: لا حاجة لذلك فإن معي ما يغنينا، وأخذ من جيبه المصباح الكهربائي وأناره بضغطة على الزر. فأبصرا أمامهما ممراً ضيقاً متحدراً كثير المزالق يؤدي بعد معاناة الأخطار إلى قاع الكهف، فتدرج الاثنان في هذا الطريق وهما متحدران، ولكنهما أسرعا في المسير على قدر الاستطاعة. فوصلا أيضاً إلى أرض جرداء ولم يكن فيها سوى طريق صغير متعرج ضيق مملوء بالحجارة المحددة الرؤوس التي كانت تمزق الأحذية وكان على يمينها صخر ينهض إلى الأعالي حتى تغيب قمته في السحاب وعلى يسارهما النهر بأمواجه المزبدة فسأل البوليس أي طريق يسلكه كراب عند مروره من هنا. ولم ينتظر طويلاً حتى يسمع جواباً على ذلك فإن شهاباً لمع للحال قرب النهر وسمع دوي طلق فأرعب نكارتر رعباً شديداً. وصرخ ماتيو صراخاً هائلاً وأن أنة جزع لا تترجم بالكلام ثم رفع ذراعيه إلى السماء وحركهما هنيهة وبعد أن خطا بضع خطوات إلى الوراء سقط إلى الأرض لأن الرصاصة كانت قد اخترقت قلبه. ولكن نكارتر لم يفقد صوابه فأدار نور المصباح إلى الجهة التي أتى منها الطلق ولكن النور لم يبلغ المسافة المطلوبة حتى يرى من هو الذي أطلق النار، فعزم البوليس أن يتبع مجرى الحوادث. وبعد لحظة دوى طلق آخر أصاب المصباح الكهربائي الذي كان في يد البوليس ولحسن

الحظ كان نكارتر ماداً يده بالمصباح لتطول المسافة التي يبلغها نوره فرفضت يده الصدمة الشديدة، وحين فقد النور عرف شدة الخطر الذي وقع فيه، إذ كان لخصمه عليه مزية كبرى في أنه يرى بجلاء على رغم الظلام المتكاثف أو بالأحرى بواسطته. ولكن البوليس لم يكن يرى شيئاً فراح يعدو إلى جهة الصخر ليتحصن به. فوفق الالتجاء إلى تجويف ضيق في الصخر انسل إليه بصعوبة وهناك ربض ينتظر النتيجة بفارغ الصبر. فدوى طلق جديد وقع على الصخر الذي كان البوليس على وشك مغادرته فقال: إذن ينبغي أن أقيم هنا دون حراك فإنني إذا خاطرت في التقدم خطوة إلى الأمام أصابتني رصاصة شدخت رأسي، لأن هذا الحيوان يصيب المرمى أحسن إصابة، ومع هذا فإن مقامي ليس أقل خطراً من التقدم فقد يمكن أن يبلغه كراب دون أن أشعر به. وفي هذه اللحظة دوى الرعد فرددت صدى دويه الأودية بما يصم الآذان ولمع البرق فأضاء تجويف الصخر وتلك الأرجاء كلها حتى سهل النظر على البوليس. فغنم كارتر هذه النهزة وحاول أن يستفيد منها عالماً أن كراب لا يستطيع فيها شيئاً بسبب ضعفه، فخطار حينئذ ورفع رأسه قليلاً ليرى خصمه فوجده على بعد خمسين خطوة واقفاً أمام ضفة النهر وهو يحمل باليد الواحدة بندقية ويستر عينيه بالأخرى حتى لا يبهره النور. فعمد نكارتر إلى الاحتيال الذي خلصه من مواقف أشد خطراً من هذا الموقف فأخذ قبعته وعلقها على رأس صخرة ثم نزل مسرعاً إلى ضفة النهر حيثما لا يرى. ثم اختفى نور البرق وساد الظلام ولم يعد البوليس قادراً أن يرى كراب فلم تمر لحظة حتى سمع دوي شديد وسمع كارتر صوت قبعته المتدحرجة على الأرض. ـ لم يخدعني فكري فقد ظننت أنه سيلمح قبعتي، وأومل أن يسقط الآن في الفخ وكان يسمع خطوات تقرب من المحل الذي كان جاثماً فيه كأنها تقتفي آثار قبعته كأن كراب كان آتياً ليرى خصمه قتيلاً. ولم يكن كارتر قادراً أن يميز شيئاً في الظلمة ففضل أن يستمر على سكونه ولم يشأ أن يصاب بطلق ناري يجعله هدفاً لنار (نكتالوب). ولكن يجب أن نؤمن بآلاه خاص للبوليس السري فإن لمعة برق أشد من التي سلفتها أنارت

الكهف حتى ظهرت أشجاره وعوسجه ورؤوس صخوره. فوقف كراب فجأة ووضع يديه على عينيه متألماً لأن النور بهرهما وسكن بدون حراك كأن نار السماء قد أحرقته. وللحال وثب البوليس وارتمى عليه، فشعر كراب بدنو خصمه فصاح صياح الغضب وقد ارتجف غيظاً لأن نور البرق لم يكن قد اختفى بعد فحاول أن يقابل البوليس، ولكن هذا كان أسرع منه فقبض على فم البارودة قبل أن يطلقها كراب فضاع الطلق في الهواء وسمع له دوي اضطربت له تلك الصخور من أسسها. ولسوء الحظ عادت الظلمة ثانية. وقام بين الرجلين صراع شديد، وكان اليأس يضاعف قوى كراب وفضلاً عن ذلك فإنه يرى في الظلام بينما كان نكارتر يصادف مشقة شديدة ليقبض على خصمه وقد قاتل كراب بخفة النمر فكان يثب ويضرب ويزمجر ولكنه تعب أخيراً فقبض نكارتر على رقبته بذراعيه الشديدتين، وانهارت التربة التي تحت أقدام الرجلين فجأة لما تخللها من المطر، ففقد كراب الموازنة ولكن البوليس نجا بوثبة وثبها إلى الوراء من خطر التدحرج من رفيقه إلى أعماق النهر. ولمع البرق فأنار تلك الأرجاء، فأبصر نكارتر خصمه متدهوراً في ذلك المنحدر وهو يحاول أن يتمسك بالعوسج فخاب ما حاوله، وسقط المسكين في النهر وقد صرخ هذا التعس وهو على وشك الهلاك: فلتكن ملعوناً، فلتكن ملعوناً، إنك لن تظفر بالماسة البتة، البتة، البتة، وطغت عليه مياه النهر فصاح صيحة هائلة جمد لها الدم في عروق نكارتر ثم غاص في الماء. وبعد بضعة أيام وصل البوليس ـ وهو الوحيد الذي بقي حياً من العصبة إلى مقاطعة في الأريزونا فيها مكتب للتلغراف، فراسل باتسي الذي كان باقياً في دانفر كما أمره وعلم منه أن دلمار سافر إلى سان فرانسيسكو فأجابه نكارتر تلغرافياً بما يأتي. سأقابله في سان فرانسيسكو وأطلعه على تفصيل الحوادث أما أنت فيمكنك أن تذهب إلى نيويورك. وكان نكارتر بعد الواقعة قد جاس الأراضي وسنرى نتيجة فعله، ثم عاد يلتمس الجواد

فوجده حيث عقله أما سائر المطايا فقد هلكت برصاص المتقاتلين، واستمر البوليس مسافراً على ظهر الجواد حتى وصل أول موقف لسكة الحديد فركبها إلى فرنسيسكو وهو يتنهد تنهد الراحة لأنه وجد أخيراً في غرفة متقنة فيها جميع معدات الراحة والرفاهية. وفي فرنسيسكو قابل دلمار التاجر الهندي القديم ووضع في يده الماسة الثمينة التي كان يعتقد أنه فقدها إلى الأبد، فكان تأثر التاجر شديداً حتى تعذر عليه النطق بضع دقائق ثم دعا البوليس إلى تناول الطعام وسأله أن يقص عليه الحوادث التي جرت. فقال نكارتر: ليست مهمة جداً ـ قال ذلك لأنه كان يكره أن يذكر الأعمال الفائقة التي قام بها ـ ولكنني أقول أنه كان من المستحيل عليّ أن ألاقي الماسة لو لم أعرف كيف سرقت فقال دلمار: أؤكد لك أني لا أعرف أيهما يسرني أكثر أن تعود الماسة إلى حوزتي أم أن أعرف الأسلوب الخارق الذي سرقت به. ـ إن اللغز الذي حير ألبابنا كان بسيطاً للغاية، فكانت مظاهر الصعوبة التي تجلله أشبه بالظاهر التي جللت أركاز بيضة خريستوف كولمبوس. يجب عليّ أن أقول لك أن كراب كان نكتالوب أي أنه لم يكن يرى في النهار ولكنه في الليل يرى بجلاء وعلى هذا فكان يستحيل عليه أن يرى على النور الكهربائي. ولكنك لما التفت وضغطت الزر فأظلمت الغرفة نظر الماسة تلمع في ذلك الظلام فخطفها ورماها في قدح الماء الذي كان أمامه. ولما شعر أنك ستعيد النور حالاً وضع القدح على فمه وإذ لم يكن للماسة لون استحال عليك أن تراها في القدح. فصادق دلمار على كلامه وقال: والأغرب من ذلك أن الماسة كانت تحت يدك عندما كنت تفتش جيوب أصحابك وثيابهم. وعندما طلب كراب منك أن تناوله قدح الماء قبل أن بارح الغرفة قدمت له الكأس والماسة معاً وقلبك منسحق للإهانة التي وجهتها لهذا الضعيف أليس كذلك يا مسيو دلمار إن هذا يميت من الضحك. وإنك تذكر جيداً أنه بعد أن تناول الماء كلمته فاقتصر على الانحناء أمامك وقد عزوت هذا

لانفعاله الشديد من الإهانة حتى وقفت الكلمات على شفتيه آه، آه، آه. وعندما خرج من الغرفة تناول الماسة من فمه ووضعها في جيبه وقد أتى مثل ذلك مراراً في الكوخ حيثما اجتمع عليه صديقاه وإني أؤكد أن الماسة كانت أمامه في الكأس حين شرعنا بالقتال مع البرابرة، وأذكر أيضاً أنه أفرغ القدح في فمه قبل أن يجلب لي حقيبة الرصاص ولا شك أن الماسة كانت عندئذ في فمه ثم خبأها في الكهف. ولكي أختصر القصة أقول لك أنني خفت خوفاً شديداً لما سقط كراب في النهر من أن تكون الماسة معه فلا يعود في اليد حيلة كما تعلم وأخيراً عزمت أن لا أبارح الكهف بل أنتظر طلوع النهار وأخيراً بدأت بالتنقيب بين الصخور. ولم يكن لي مطمع أن أجد جثة كراب فإنني لم أقف لها على أثر وبعد أن فحصت الحاجز الصخري وجدت تجويفاً فيه يؤدي إلى مغارة وكان في المغارة قوت وغطاء من الصوف وبندقية ومسدسان وعدة حوائج أخر. ولا يقتضي فطنة كبيرة حتى يعرف الإنسان أن هذه المغارة هي مخبأ حصين وقد انتقاها كراب عند مبارحة الكوخ وأجاد في انتقائها لأن رجلاً فيها يمكنه أن يحارب جيشاً على شرط أن يكون عنده الذخائر الكافية. وأخذت أنقب في زوايا الكوخ ومكانه ولكن آمالي خابت في أن أجد الماسة فيه إذ لم يلح لي أقل أثر منها وكدت أيأس لولا أنني لحظت في جانب الكهف صخراً على شكل مائدة وفي وسطه تجويف طبيعي صغير ملآن ماءً. أقول تجويف طبيعي ولكن الأمر كان بالعكس لأنه كان من المستحيل أن يتسرب الماء من نفسه إلى ذلك التجويف فكان من الواجب أن تكون يد إنسان قد صبتها فيه فوضعت يدي في هذه الماء فوقعت على جسم صلب لا أراه ولكنه كان موجوداً لأنه كان يقاوم أصابعي ولله ذلك السرور الذي شعرت به فإنني عندما جذبت ذلك الجسم من الماء كانت الماسة بعينها التي طالما بكيت عليها وحننت إلى استرجاعها، هذا هو حل اللغز. ثم استلقى نكارتر على مقعده وأغرب في الضحك. فاستحوذ العجب والدهشة على دلمار وكان يتنازعه عامل السرور باستعادة الماسة وعامل الاحترام لذلك الشجاع النبيل المهذب فنهض وطوق عنق البوليس بذراعيه وجد في تقبيله

قبلات شديدة أما نكارتر فلم يمانعه في ذلك البتة. ثم قال دلمار: إن كراب هذا هو أدهى لص لفيته في حياتي أليس كذلك يا مسيو كارتر؟ إنني لا أعرف كيف أعبر عن شكري العظيم. فتبسم البوليس، ثم استأنف دلمار الكلام فقال: إن الماسة صارت أعزّ عليّ الآن بعد أن تعرضت لخطر الضياع، ولكنني كنت أود أن أعلم ماذا جرى بكراب. فقال البوليس وهو يرفع كتفيه ـ إنني لم آل جهداً في التفتيش عنه فذهبت مساعي أدراج الرياح وأعتقد الآن أنه يرقد بسلام في أعماق نهر كولورادو. . . .

وقفة عند يلدز

وقفة عند يلدز لمن القصر لا يجيب سؤالي ... آهلات ربوعه أم خوال مشمخر البناء حيث ترآى ... بالياً مجده بلى الأطلال لم تصبه زلازل الأرض لكن ... قد رمته السماء بالزلزال وكسته الأيام بالصمت لما ... نطقت فيه حادثات الليالي فترآءت أبكاره شاحبات ... باكيات بأعين الآصال * * * أيها القصر ايه بعض جواب ... لا تكن ساكتاً على تسآلي ليت شعري والصمت فيك عميق ... ذاكرٌ أنت عهدهم أم سال ما تداعى منك البناء ولكن ... قد تداعى بناء تلك المعالي كنت كل البلاد في الطول والعر ... ض وكل العباد في الأعمال كنت مأوى العلى مثار الدنايا ... مهبط العز مصدر الإذلال كنت جباً وأيّ جب عميق ... بالغاً للنفوس والأموال مورد الخائنين كنت وكانت ... منك تدلى مطامع العمال قصر عبد الحميد أنت ولكن ... أين يا قصر أين عرش الجلال أين خاقانك الذي كان يدعى ... قاسم الرزق باعث الآجال ما أرى اليوم ذلك المجد إلا ... كخيال يمر بعد خيال هل وقوفي على مبانيك إلا ... كوقوفي على الطلول البوالي قد تخونتنا ثلاثين عاماً ... جئت فيها لنا بكل محال تلك أعوام رفعةٍ للأداني ... تلك أعوام خطة للأعالي تلك فيما جرت به نقطة سو ... داء تبقى بجبهة الأجيال ملأت خطة الزمان شناراً ... فأبتها كل العصور الخوالي يثب العدل طافراً كلما م ... رَّ عليها مشمر الأذيال وكأني أرى اضطراب نفوس ... كنت تغتالها وأي اغتيال أسمع الآن فيك ما كان يعلو ... من أنين لها ومن أعوال حائمات على الذي فيك أبقي ... ن دفيناً من الرفات البوالي

تلك يا قصر أنفس أنفت منك ... فطارت إلى سماء المعالي وترقت إلى ذؤابة أعلى ... كوكب في سمائه جوال وهي اليوم أحرقتك بشهب ... قذفتها عليك ذات اشتعال لم يضع مجدها وإن هي أمست ... ضائعات الأشلاء والأوصال * * * كيف ننسى تلك الخطوب اللواتي ... لقحت منك حربها عن حيال يوم كنا وكان للجهل حكم ... خاذل كل عالم مفضال آمر من عتوه كل أمر ... يغرس البغض في قلوب الرجال أفأصبحت نادماً ليها الق ... صر تبالي بالقوم أم لا تبالي لم تفدك الندامة اليوم شيئاً ... قضي الأمر فاصطبر باحتمال وعزاء فلست أول قصر ... نكس الدهر من ذراه العوالي قد تداعى من قبل إيوان كسرى ... بعد أن طال شاهقات الجبال وكاين من قصر ملك ترامى ... ساقطاً بالملوك والإقبال فابق يا قصر عابس الوجه كيما ... يصبح الملك باسم الآمال وتعثر فلا لعالك حتى ... ينهض العدل ناشطاً من عقال إنما نحن أمة تدرأ الضي ... م وتأبى أن تستكين لوال أمة سادت الأنام وطابت ... عنصراً من أواخر وأوالي فإذا ما علا الغشوم نهضنا ... فقذفناه سافلاً من عال نملأ الأرض إن لمشينا لحرب ... بزئير الغضنفر الرئبال وإذا ما غلّ المليك رددنا ... هـ ذليلاً يقاد بالأغلال نحن من شعلة الجحيم خلقنا ... لأولي الجور لامن الصلصال ياملوك الأنام هلا اعتبرتم ... بملوك تجور في الأفعال ليس عبد الحميد فرداً ولكن ... كم لعبد الحميد من أمثال فاتركوا الناس مطلقين وإلا ... عشتم موثقين بالأوجال هل جنيتم من التجبر الأ ... كل أثم عليكم ووبال

الأستانة معروف الرصافي

تدبير الصحة

تدبير الصحة اتفق لنا ونحن نعجب بالنبذة التي ننشرها لأبي زيد البلخي من أهل القرن الثالث في تدبير الصحة أن عثرنا في المجلة الباريزية على بحث للدكتور هيريكور الفرنسوي في هذا المعنى نفسه فرأينا تعريبه ليقابل القراء بين القديم والحديث قال: الصحة أعظم النعم ولا شيء يوازيها من سلطة وثروة في جلب الراحة بل ليس من سعادة أعظم مما توليه الصحة، ففي الصحة شعور بطول بقاء المرء مما يقوي الساعد على العمل والإنتاج إلى ما وراء التصور فيزيد في حسن الخلق الذي ينشر السعادة في أطراف صاحبه، والصحة الطبيعية شرط في الصحة الأدبية لأن من سلمت حواسه من العيوب وأطرافه من الفساد يسلم عقله، والصحة الأدبية عبارة عن قواعد من شأنها ضمان صحة الأفراد والمجموع، ولا يظن ظان أن هذه القواعد تزيد في الأنانية بل هي ولأمراء مدرسة مدهشة بثت روح الغيرية لأن خلق التضامن يتجلى في أبهى مظاهره في مسائل التدابير الصحية، والتضامن هو المحور الذي تدور عليه حياة المجتمعات البشرية في المستقبل. وإنا نشعر بالمسؤولية الأدبية التي تصيبنا في المسائل الصحية العامة، مثال ذلك أن امرأ إذا كتم مرضاً سارياً ينشأ منه وباء يهلك فيه ألوف من الناس أفليس خليقاً به أن يدرك بأنه إذا باح بالمرض يقاتله هو ومن حوله على حين لو كتمه لأودى به وبغيره فليس تدبير الصحة والحالة هذه هو تدبير الجسم فقط بل هو تدبير الأخلاق بمجموعها. يعلمنا علم منافع الأعضاء أن الجسم آلة لا تبقى على حالة حسنة كما هو الحال في جميع الآلات إلا بالعمل، وعلم الصحة بما فيه من القواعد التي من شأنها حفظ حياة الفرد وحياة الجماعة يعلمنا أيضاً الطرق التي تضمن لتلك الأداة البشرية أحسن نتائجها وأطول أيامها وكيف يتمكن الآباء من إيلاد الأولاد الأقوياء النافعين، فإذا عرفنا من علم الفسيولوجيا كيف أن الفرد هو ابن محيطه فإن العلم يشير إلى تلك النقطة التي يجب على المقتنين أن يوجهوا عنايتهم إليها إذا أحبوا تحقيق أسباب حسن تربية الفرد التي لها اتصال بطبيعة الأرض أكثر من اتصالها بنوع البذار أي بصحة الأجسام أكثر من صحة التعاليم. وعلى الجملة فإن علم الصحة (الهيجيين) يأمر المرء بالعناية بصحته وصحة الناس ويشير إليه بالعمل ويدله على أسباب العمل الجيد ويبصره بعواقب الغرور ومخاطر الشهوات التي يطلب المرء فيها سعادته عبثاً وما هي في الحقيقة إلا سيئة الأثر منهكة للقوى، نعم أن علم

حفظ الصحة يمثل الصحة بأنها السعادة الوحيدة الحقيقية ويبرهن بأن غلط الفرد يلحق المجموع وأن التكافل لا بد منه. وإنا بما نورده من النصائح نوجز المبادئ الجوهرية في حفظ الصحة في الفرد والمجموع ونلقن ما يجب العلم به والعمل له من القواعد الأساسية التي نوجهها خاصة لمن كانوا في مقتبل العمر من الشبان والشابات. القاعدة الأولى ـ يجب عليك أن تعنى بصحتك لأن صحة الفرد ليست له وحده بل هي للمجتمع ونجاح هذا وقوته منوطان بصحة مجموع من يتألف منهم، فالواجب على المرء أن يعمل بحيث يقدم للمجتمع ما يصيبه من الحصة من العمل والإنتاج ومن يهتم بصحته كان كمن يسعى لإبقاء تلك الآلة التي يملكها كل إنسان للقيام بما يفرض عليه من العمل ويؤدي ما عليه للمجتمع الإنساني، وتختلف عناية المرء بصحته بحسب حاله وشأنه فقد تضطره الحال في بعض الأحيان أن يفادي بصحته حباً بإبقاء صحة المجموع ولذلك كان من الواجب على كل امرئٍ أن يقوي صحته حتى لا يقف ساعة أمام ما يتحتم عليه بذله عند الاقتضاء. القاعدة الثانية ـ اعلم أن العقل القويم بالجسم السليم إن في مجموع تركيب الجسم كما في المجتمع جميع الحواس متكافلة بعضها مع بعض فالدماغ وهو حاسة الفكر والإرادة معرض لعامة الأمراض التي تصيب سائر الحواس كما هو عرضة لجميع النقائض ولذلك قضت الحكمة أن تبذل العناية بذاك المجموع النامي على اختلاف مناحيه ولا سيما إذا كان في إبان نموه، ومتى عني بإحدى الحواس بنوع خاص يستأثرون سائر الحواس بالعناصر المغذية ويبطل عمل سائر الأعضاء وتقل تغذيتها فتنقطع الموازنة العادية في الصحة ولا تلبث تلك الحاسة الممرنة كثيراً أن تصير إلى حال من الاضطراب وتفقد غناءها بما يصيبها من البوائق التي تسممها وتضيق عليها وتفلجها وعليه فاقتضى أن يعمل لكل حاسة ما تحتاجه من العناية سواء كان من حيث الفكر أو الحركة. لا يضر البالغ إلا لم تعط كل حاسة فيه حقها بقدر ما يضر الطفل واليافع لأن أعضاء هذا تكون في بدء أمرها لم تستوف قسطها من الاستحصاف من أجل هذا وجب أن تجدد بتدقيق صلات العمل الطبيعي والعمل العقلي ويقتضي للحواس قبل إنتاجها أن تستعد لذلك وإذا

تعجل المرء في الإلحاح عليها تفسد وتتعطل، فتربية الطفل يجب أن تكون باعثة لمجموع الجسم على التقوية لا أن يعجل في استخدامها قبل أوان بلوغها ودماغ الولد لا يكمل إلا بعد حين ولذلك اقتضى أن لا يطلب منه إنتاج شيء قبل العمل ويكتفي بتلقين الولد العادات والأساليب التي تدر به بعد على العمل، وعلى العكس في العضلات فإنها تقوى بسرعة وكذلك هيكل الجسم فإنه يستحكم في السنين الأولى من الحياة ويقاوم أحسن مقاومة فنرى أن يمرن الطفل من سن الخامسة إلى العاشرة ساعة في الأشغال العقلية ومثلها في الأشغال الطبيعية ومن العاشرة إلى الخامسة عشرة ساعتين في الأمور الذهنية وثلاث ساعات في الأعمال العضلية ومن الخامسة عشرة إلى العشرين ثلاث ساعات في الأعمال العقلية وساعتين في الأعمال العضلية، والأخير خاص بالشبان الذين يختصون بالأعمال العقلية والأدبية والعلمية والفنية، ولا بأس في تلك السن بتعليم الأحداث صناعة يدوية إذ إن جمهور الفسيولوجيين على أن مهارة اليد تعمل عملاً نافعاً في جلاء الفكر وتؤثر أحسن تأثير في قوة الإرادة، بيد أن العمل اليدوي يعدل من العمل العقلي بل يكون له عوناً على تربية الفتى تربية عملية نافعة ويتمكن من تحصيل معاشه على كل حال فيكون مثال الرجل الحر المستقل. القاعدة الثالثة ـ ليكن جسمك طاهراً نظيفاً على الدوام ـ للجلد وظائف مهمة للصحة كالرئتين فإنهما للتنفس والكليتين لإفراز السموم التي تنبعث من حياة الخلايا المؤلفة منها حواسنا وأنسجتنا فالجلد كالرئة يتنفس ويرشح فبالعرق يفرز الجلد كما تفرز الكليتان مع البول مواد سامة وتنفع الكلى وبالرشح يتعدل مزاج الجسم لأن الرشح هو العامل الوحيد في تركيبنا لمقاومة الحرارة شأن آنية يبرد ما فيها بتبخر السائل الذي يرشح إلى سطح الطين ذي المسام، وإذ كان الجلد سطحاً واقياً من الوسط الخارجي والعوامل الطبيعية والجراثيم يجب أن يترك نظيفاً ليحفظ نعومته التي بها يقاوم المؤثرات الخارجية فالجلد الذي لا يعنى به يتخرق ولا يقاوم فعل البرد وتدخل فيه الجراثيم التي تعلق فوق سطحه، وتحسن حالة الجلد بالدلك والغسل وصب الماء الحار أو البارد على الجسم بحسب مزاج الإنسان والمواسم، وربما لا تطيق بعض الأجسام صب الماء عليها ففي هذه الحالة يجب الاعتياد على الدلك والغسل يومياً لأن ذلك شرط في تدبير صحة الجسم.

القاعدة الرابعة ـ اقلل من طعامك إن خطر الإفراط في الأكل يضر بنا في الأغلب أكثر من التغذية القليلة فالطعام إذا كثر على المعدة وساء هضمه يوشك أن لا يستحيل بالهضم بدرجة كافية فتهيج به الأحشاء كما لو دخلت عليها مادة غريبة وتحدث ألماً في الأمعاء وإذا بلعت لا ينتفع بها إلا قليلاً أي لا تحترق إلا بعض الشيء في داخل الجسم وهذا مثل الموقدة التي يختل تصريفها للدخان تمتلئ بجميع الفضلات الناشئة من اختلال الوقود، فالحامض البولي وهو أخص هذه الفضلات يسمم الدم أو يهيج الأنسجة التي تحويه فيصبح الأكول إذ ذاك عرضة لوجع المفاصل وغيره من الأمراض، وتكون هذه العوارض على طول الزمن دائمية وقد كان يمكن زوالها وتبدو في شكل تكوين الحصاة أو وجع المفاصل والبول السكري. فالإفراط في التغذية وعنه يحدث الاضطراب في الهضم يتبعه في الغالب تخمر خارق للعادة في الأحشاء وتنبعث منه سموم منوعة في قناتها ولا يأتي على هذه السموم المبتلعة إلا الكبد ولكنه إذا كثرت عليه وظيفته ينتهي به الأمر أن يتعب ويصبح غير كاف بعمله وعندها تحدث سلسلة من الاضطرابات التي تغير ميزانية الصحة والكفاءة للعمل. القاعدة الخامسة اجعل الماء شرابك العادي الماء هو الشراب الطبيعي ينفع في الهضم وتنقية الدم، ولا شك أن الماء يحوي جراثيم مضرة وهذه الجراثيم لا تبيد كما يزعم بعضهم بإضافة شيء من الخمر إليها، فإذا اشتبه في الماء أو كان ثمة خطر من وباء ينتقل في الماء كالحمى التيفوئيدية والهواء الأصفر، يجب غلي ماء الشفة وماء الاغتسال ولا يصح أبداً على راووق (مصفاة الماء أو فيلتر) البيت لأنه يستلزم عناية كبرى لا تنهض بها إلا المعامل الكيماوية ويحتاج إلى التطهير والتعقيم مرة في الأسبوع على الأقل، والماء المغلي لا يسوء هضمه فلكي يجعل قابلاً للشرب يتحتم تبريده وتهويته ويكفي ترويقه بالنفوير، وإن الأشربة التي تؤخذ على الريق لا تبقى في المعدة بل تنساب في الحال إلى الحشا الذي يبتلعه حالاً فالأحسن إذن أن يشرب الماء في أول الطعام لا في أواخره وتبقى الأشربة التي لا تهضم في المعدة مع الغذاء ويحل العصارة المعدية ويبطئ عمل الهضم في المعدة. القاعدة السادسة ـ امتنع من تناول الالكحول بتاتاً ليست الكحول غذاء بل هي سم قتال للخلايا العصبية ومروره على الكبد والكليتين يفسد عناصرها على صورة يتعذر الشفاء مما

ينالها وإن جسماً يقوى بالكحول لقليل البقاء إذ يفقد أدوات دفاع الجراثيم الضارة عنه ويكون عرضة لعامة الأمراض الالتهابية التي تشتد عليه أكثر ممن يمتنع عن تناول المسكرات ثم إن أهم الأحشاء تصاب بتبلل يؤدي بها إلى العقر أو يصاب نسل أولئك السكيرين بتشويه في أجسامهم لا يبرؤون منه، فكما قالوا أن الكحول هي مقدمة لداء السل في شاربيها كذلك هي مدرجة للأمراض العضال في الكليتين والكبد وإذا ورث ابن السكير نقصاً في جسمه تبلغ به الحال أن يكون جانياً أو مجنوناً، وجميع ما يصاب به أولئك البائسون من تشويه الخلقة والهستيريا وضعف المجموع العصبي والصرع مما يقضون به حياة شقية ناشئ ولا جرم من تسميم دم أبيهم له وتوريثهم هذه الأوصاب. أما سائر الأشربة المقوية كالقهوة والشاي فليس فيها من ضرر من هذا القبيل وعلى كل فلا بد من الاعتدال فيها وإلا فلا تلبث أن تضر بالأعضاء الهاضمة، ومن الآراء الخرافية ما هو شائع على الألسن من أن القهوة تساعد على الهضم. القاعدة السابعة ـ إذا كنت تعمل بعضلاتك اعتمد في طعامك على البقول وأكثر من تناول السكر وإذا كنت تعمل بعقلك فاعتمد في تغذيتك على اللحوم يستلزم العمل بالعضلات طعاماً يكثر فيه الكربون إذ أن العضلات هي أدوات لإنتاج الحركة والقوة تسخن بالفحم فالبقول تحتوي على أطعمة كربونية والسكر هو فحم العضلات التي توقد منه وعلى العكس في الأعمال العقلية فإنها تصرف عناصر آزوتية لا يمكن التعويض عليه إلا بتناول مواد ألبومينية من اللحم، واللحم النيء يصلح ما يفقده مجموع الجسم من الآزوت أكثر مما يصلح اللحم المطبوخ. القاعدة الثامنة ـ للوقاية من البرد أذكر أن قطعة من الورق تعادل معطفاً أو حراماً قد يحدث أن البرد يداهم المرأ على حين يكون بلا معطف ولا دثار ومعلوم أن ما يدفئ الجسم هو أن تجعل حوله طبقة من الهواء سخنة وهذا الغطاء يجب مضاعفته أو تقليله لأن الهواء كجميع الأغذية هو أسوأ موصل للحرارة ولذلك ليس من المهم أن تكون ألبسة المرء غليظة بل أن تكون كثيرة منضدة بعضها فوق بعض وفي هذه الحال ينتفع بقطعة من الورق كما ينتفع بثوب جيد بالنظر لقلة ثخانته إذ يجعل طبقة واقية من الهواء وإذا وضعت جريدة تحت الصدرة أو تحت الدثار تعادل بما تورث الجسم من الحرارة المعطف أو دثاراً ثانياً.

القاعدة التاسعة ـ احذر البرودة (الرطوبة) أكثر مما تحذر البرد لا شك أن أخص وظيفة للثوب أن يقي من البرد ولكن الأمراض الناشئة من البرد نادرة جداً على حين أن الأمراض المنبعثة من البرودة شديدة وكثيرة فاقتضى أن تكون الثياب مانعة من التنقل الفجائي بين البرودة والحرارة أي من البرودة، والثوب الذي يقوم بهذه الغاية هو الصدرة من الفلانلا، ومعلوم أن الجسم المتصبب عرقاً معرض للبرودة بالترشح السريع من العرق، والفلانلا تمتص إفراز العرق عند حدوثه وتقف حاجزاً دون برودة الجلد ونتائجه المضرة ويكون ذلك في الصيف والشتاء على حد سواء ثم أن الفلانلا في الحقيقة أنفع في الصيف منها في الشتاء بالنظر لكثرة الرشح من البدن للحرارة الكثيرة وعلى من يلبس الفلانلا أن يعلم بأنه إذا أراد أن يحفظ لها تأثيرها أي خاصيتها في الامتصاص يجب عليه أن ينزع في الليل ما لبسه في النهار ويستعيض عنه قميصاً أخف منه، والمروحة على هذا الوجه بين قميص الليل وقميص النهار ضرورية لإبقاء صفات القماش عليه. القاعدة العاشرة ـ اعمل بنشاط فالعمل من شروط الصحة ـ وذلك لأن الجسم الحيواني هو في الواقع آلة تخرج النشاط من طريق الحركة أو من طريق الفكر، ولذلك كانت الآلة التي لا تأتي بالعمل الذي خلقت له لا يتيسر بقاؤها والآلة التي لا تستعمل تصدأ والصدأ يسرع في تخريبها أكثر من الابتذال وهكذا فإن جسم الإنسان لا يستقيم شأنه إلا إذا استخدم فيما يراد منه، ويعرف الناس أمثلة كثيرة من أولئك الذين ينقطعون عن العمل قبل الأوان ويتقاعدون في بيوتهم فلا تلبث البطالة أن تؤدي بهم إلى الهرم فالموت، ومن قضي عليهم من الناس أن يمتازوا بمالهم من ثروة أن يعيشوا بدون أن يعملوا يشعرون مع هذا بالحاجة إلى العمل فيعمدون إلى الرياضات من ركوب الخيل والدراجات وغيرها مما هو في الحقيقة من الصنائع اليدوية يقوم بها أولئك الموهون بها. القاعدة الحادية عشرة ـ إذا كنت تعمل بعقلك استرح بأن تعمل بيديك وإذا كنت تعمل بيديك استرح بالعمل بعقلك ـ لموازنة الصحة علاقة بتوازن القوة على العمل في التركيب الإنساني على اختلاف أعماله، فعلى المشتغل بعقله أن يجعل له من وقته حصة للاشتغال بالأمور الطبيعية وذلك بأن يخصص كل يوم ساعة أو ساعتين للمشي وعلى من يعمل الأعمال اليدوية أن ينقطع قليلاً للنظر في الأمور الذهنية فيجب عليه أن يخصص لها مثل

هذا الوقت أيضاً، وهذا من الضروريات التي تضمن لمتعاطيها سهولة هذه التربية لمساس الحاجة إليها في نفع الصحة الطبيعية والأخلاقية. القاعدة الثانية عشرة ـ اصرف الراحة الأسبوعية في الخلاء ـ تقضي دواعي المدنية على العاملين من كل طبقة سواء كانوا عاملين بعقولهم أو بأيديهم أن يعودوا من حين إلى آخر إلى الحالة الطبيعية التي يمثلها العيش في الخلاء، فالراحة الأسبوعية التي يمكن أن يقال عنها أنها قانون السلام تمكن صاحبها من الرجوع إلى الحالة الطبيعية على شرط أن لا يصرف المرء وقته في دور التمثيل ولا في الحانات بل يصرفه في تهوية الرئتين وتليين المفاصل وذلك بأن يعمد إلى الرياضات البدنية على أنواعها أيضاً كالمشي والركض والقفز والتزحلق على الجليد بحسب سنه وذوقه والفصل الذي يكون فيه من فصول السنة، ويستفيد النساء والفتيان ويلتذون بالألعاب في الهواء الطلق مثل لعبة التنيس وركب الزوارق والدراجات. القاعدة الثالثة عشر ـ وتم ثماني ساعات ـ كان من قواعد تدبير الصحة في القديم أن لا يسمح للمرء بأن ينام أكثر من ست ساعات إلى سبع على أنه لا وجه للشبه بين ما يعمله أحد سكان مدينة آثينة في زمن أفلاطون أو أحد سكان رومية في عهد هوراس وبين ما يعمله رجل بيده أو بعقله في القرن العشرين، أما اليوم فإن العامل بذهنه أو ببدنه يقتضى له راحة أطول تعوض ما يتوفر عليه من شاق الأعمال ولا سيما في الأطفال والفتيان ممن لا يتم نموهم في الحقيقة إلى نحو الخامسة والعشرين من أعمارهم، ولا يتوهمن منوهم أن إطالة الليل في النوم يستلزم تقصير النهار فليس السر في عدد ساعات العمل بل في الصورة التي تستعمل فيها فيتهيأ الفكر بعد الراحة المعوضة إلى العمل والحركات تكون دقيقة وسريعة والآراء سليمة واضحة والعمل يتم على وجه أسرع وأحسن، وماذا يفيد طول مقام المرء في مكتبه أو معمله إذا كان يقضيها وهو ساهٍ أو كالحيوان المخدر. القاعدة الرابعة عشر ـ لا تدخن ولا تمضغ التبغ ـ التبغ من النباتات المخدرة للشعور المادي وتسلي أكدار الحياة تسلية موقتة وبذلك يتوهم بعض المشتغلين بالأعمال العقلية أن ينشطهم ويبعثهم على العمل على أنه يأتي على شعور المصاعب ويتغلب عليها ويلقي حجاباً على الحقيقة ولا يقف تأثيره في الدماغ فقط بل يتناول الأعصاب لأن التبغ سم

الأعصاب وهناك عصب يتأثر أكثر من غيره ونعني به القلب وما هو الأعصب من الأعصاب. وأن المولعين بالرياضيات والعدو والصراع وركوب الدراجات والقوراب ليحسنون صنعاً إذا طرحوا عادة التبغ لأنه بفعل ما يعانون من أنواع الرياضات، فيساق المرء بنابل من العادة وقد يتعودها بصعوبة بادئ بدءٍ بحيث يحتاج معها إلى إرادة قوية تتغلب على كراهة طعم التدخين حتى إذا ألفه يضر الذهن ولا سيما في الخلق. لا شك أن التبغ يثلم الشعور الطبيعي والإحساس الأدبي فيقلل من الضجر والوسواس ويمنع الوجدان الأدبي من الانبعاث، ومن الصعب أن يحكم على مستعمل التبغ بأن له وجداناً طاهراً سليماً وقوة إرادة. القاعدة الخامسة عشر ـ يجب الرفق بالأم وهي حامل ـ تراعى المرأة الحاملة أنوع المراعاة فمنذ تحمل تتجه أعضاؤها كلها إلى تكوين طفلها وكل ما يضر بصحتها يلحق منه ضرر على الرحم ويصده عن نموه العادي وقد تكون الهموم والأحزان والإفراط في التعب أصل المشوهات الطبيعية والعقلية التي تنال الطفل منذ ولادته وتعذبه طول حياته، فالواجب إذاً أن يمنع عن المرأة في خلال حملها كل ما يضر بخلقها ويغير صحتها الأم شخص مقدس تحمل في أحشائها مستقبل الإنسانية ورقيها ومتى كان حملها عادياً يتيسر لها أن تعمل بعض الأعمال غير المتعبة إلى آخر الأيام التي تسبق الوضع، وأن ما ينبغي التوقي منه كثيراً معاودتها العمل بعد الوضح حالاً فقلة الراحة بعد الولادة تضر بحواسها الباطنة فينشأ عنها اضطرابات تضعفها مدة حياتها وتضر بها في حملها بعد ذلك فيلزم للنفساء راحة تامة لا تقل مدتها عن خمسة عشر يوماً ثم تعاود العمل بالتدريج. القاعدة السادسة عشر ـ لبن الأم خاص بابنها ـ إذا كانت الأم ممتعة بصحتها يجب عليها أن ترضع ابنها فلا شيء أنفع له من لبنها كما أن أعضاء المرضع تضمن صحة الأم لأن الرضاع طبيعي لها ولذلك كانت كل امرأة لا ترضع طفلها نصف أم لا أماً كاملة، فإذا عهدت بابنها إلى مرضع تجهل أو تتساهل أموراً كثيرة تجب العناية بها لحفظ صحة طفلها ولا ينتبه له ويهتم له اهتمامها غيرها ثم أنها تكون في تلك الحال سبباً لإهمال طفل آخر وهو ابن المرضع، وأن طفلاً ترضعه ربيبة لهو طفل آخر ربي على الابريق ذي زمولة

(مصاصة) والطفل الذي ترضعه غير أمه تكون أمه قد أرضعت الاثنين رضاعاً غير طبيعي والطفل الذي يرضع من غير ثدي أمه بعيداً عنها يوشك في الغالب أن يموت في سنته الأولى فالأم التي يتيسر لها إرضاع ابنها بذاتها وتدفعه إلى مرضع تكفله لها تحت نظرها هي مسؤولة عن هذا الإهمال جملة، والأم التي تبعث بابنها إلى المرضع بدون ضرورة تجرم جرمين اثنين وقد تهلك ابنها بصنعها. القاعدة السابعة عشرة ـ عليك أن تزن أولادك ـ بنمو الطفل كثيراً فإذا كانت صحته جيدة يزيد وزنه على الدوام فوزنه المرة بعد المرة أحسن واسطة لإثبات جودة صحته، فالميزان هو ميزان حرارة الصحة ومعدل زيادة الطفل الجيد الصحة والتغذية هو أن يزيد في الشهر الأول 25 غراماً وفي الثاني 23 وفي الثالث 22 وفي الرابع 20 وفي الخامس 18 وفي السادس 17 وفي السابع 15 وفي الثامن 13 وفي التاسع 12 وفي العاشر 10 وفي الحادي عشر 8 وفي الثاني عشر 7، ويجب أن لا تمضي ثلاثة أشهر إلا ويوزن الأولاد والفتيان على اختلاف أعمارهم لأن من الأمراض ما يتهددهم في المدن الكبرى مثل السل وكثيراً ما يكتفي لحسم الداء أن يعطى المريض راحة وتغذية مناسبة. القاعدة الثامنة عشرة ـ يجب لك أن تجعل أولادك المرضى بمعزل عن الأصحاء حتى لا ينقلوا إليهم المرض ـ تكاد تكون جميع أمراض الأولاد أمراضاً معدية كالحميراء والحمى الحصبية والجدري وانتفاخ لوزتي الأذنين والخناق وتكاد تبدأ كلها باضطرابات يظن أنها زكام خفيف وهي نزلة أو التهاب في الحلق والحنجرة ومجاري الأذن، فإذا ظهر بعض هذا فعلى الأبوين في الحال أن يعزلوا أولادهم وأن لا يبعثوا بهم إلى المدرسة أو إلى أي اجتماع كان وأن يفردوهم وحدهم في الدار، وكم من أناس عدوا بأولادهم المرضى أولاد غيرهم فكانوا بأخذهم المرض من أولادهم قبل أن ينتهوا سبباً لسريان الأمراض التي تصبح أوبئة عامة بعد أن كانت مقصورة على بعض الأفراد. القاعدة التاسعة عشرة ـ لا تسمح بأن يتعانق الأولاد ـ ليس للأولاد ميل طبيعي لأن يتعانقوا والأبوان هما اللذان يريدانهم على العناق ويسوقانهم إلى هذه العادة فتقبيل الأولاد بعضهم بعضاً يحوي مضرات كثيرة بأن ينقل الأمراض السارية وتكون تلك لقاحاً وأي لقاح لسريانها، وقد تقدم أن أكثر الأمراض في الغالب نزلات ووجع في الحنجرة والأنف

والأذن كالحمراء والحمى الحصبية والسعال والحمى ذات البثور وأن الخناق (الدفثيريا) ينتقل بواسطة اللعاب عادة وعليه فإن التقبيل من العادات الضارة وكم من الأطفال هلكوا به. القاعدة العشرون ـ كل مسكن سليم نافع للصحة إذا استطاعت الشمس أن تدخل إليه والهواء أن يخرج منه ـ كما أن البيوت تحصر الناس في بقعة من سطح الأرض فهي تقيهم تبدلات الجو والبرد والهواء والمطر والحرارة فالواجب أن يدخل إليها الهواء والنور فإن الهواء البليل الصافي الذي لم يستنشق ولم تمازجه غازات الوقود من المواقد والمصابيح ولم تشبه شائبة هو من أنفع الأشياء للكبد والتنفس بل هو غذاء الحياة. فغرف العمل أو النوم على حجمها إذا لم يتخللها الهواء على الدوام تفسد بأنفاس السكان وغازات الوقود والاستصباح فمن اللازم اللازب أن يتخلل الهواء أي يتجدد على الدوام ويكفي في الصيف فتح الأبواب والنوافذ وفي الشتاء يخشى بعض الناس من البرد فلا يتركون الهواء يتخلل الأمكنة فينشأ من ذلك اختناق بطيء ولكنه خطر إن لم يقرب الموت العاجل يهيء السبيل إلى عدة أمراض ولا سيما السل. وبعد فيجب استنشاق الهواء بليلاً أو بارداً ولذلك كانت الآلة ناقلة الحرارة التي تدفئ الهواء من أبشع وسائط التدفئة على حين أن الموقدة التي تدفئ ببروز الأشعة وتجلب هواء من الخارج أحسن الوسائط المنطبقة على حفظ الصحة والمواقد ذات الحرارة البطيئة خطرة فيجب الامتناع من استعمالها، وليست الشمس أقل لزوماً للصحة من دخول الهواء النقي وما شعاع الشمس إلا باعثة للقوة في الجلد وتغذية الأنسجة والنباتات التي لا تصيبها الشمس تذبل وتفقد ألوانها وتصبح بشعة المنظر ولا تلبث أن تموت وكذلك الحال في الحيوان والإنسان وكما تفيد أشعة الشمس النباتات والحيوانات تضر بالنباتات الطفيلية والعفن والجراثيم التي هي واسطة جميع الأمراض وذريعة إلى سريان العدوى وبفضل الشمس ننجو من الجراثيم الضارة العابثة بجسومنا وحيث تدخل الشمس لا يدخل المرض والتعرض للهواء والشمس هما من في الحياة. القاعدة الحادية والعشرون ـ يجب التوقي من الغبار بالرش لا بالكنس بالقمة (المقشة) من ريش ـ الغبار مضر جداً وذلك لاحتوائه على ذرات كثيرة كلسية وآلية وصوانية تهيج

الغشاء التنفسي وتؤذيه وتدعو إلى عدة أمراض كالنزلات والدفثيريا وجزء من الغبار مؤلف من براز المصابين بالأمراض فتسطو هذه الذرات على الأغشية المخاطية وتلقحها وتجرحها، فمن أهم قواعد الصحة في البيوت أن يمنع عنها الغبار لا بكنسه بمكنسة أو مقمة فإن ذلك الحال ترك الغبار متراكماً في الدار دون أن يمس لأن ضرره يكون واقفاً ولو موقتاً من إثارته على تلك الصورة، ولذا اقتضى أن لا يكنس وينفض بدون ماء وأن يزال الغبار بمناشف ندية أو فرشايات ومكانس ندية، ويجب جمع الغبار لإبادته لا إثارته لينتقل إلى الجيران. القاعدة الثانية والعشرون ـ لا تستعمل الستور والبسط والأثاث المزين بالرفارف ـ وذلك لأنها مانعة من نفوذ الهواء والنور مستنبت للغبار وقد لا تتمكن ربة البيت من نفضها وتهويتها وكذلك الورق الملون الذي يجعل على الجدران فإنه عش الجراثيم الضارة وأحسن المساكن التي يصفها رجال الصحة ما كان منها مصقولاً مدهوناً قابلاً للغسل وأحسن الغرف ما كانت مدففة أو مبلطة وأن يكون أثاثها عبارة عن خشب وجلد لا من قطيفة ومخمل وبسط ورب سجادة حوت من الجراثيم بالغبار الذي عليها ما لا يوجد أضر منه في الشارع نفسه. القاعدة الثالثة والعشرون ـ لا تتسامح بدخول الحشرات إلى منزلك ـ الهوام وسائط لنقل الأمراض السارية وتلقيحها فالذباب يقع على القاذورات فإذا كانت قاذورات حميات تيفوئيدية أو وباء (كوليرا) أو سل تنقل أجزاءها في أرجلها إلى الطعام والثياب وأغشية من تقع عليهم بعد، والبعوض ينقل في البلاد ذات المستنقعات حيث تشتد الحميات جراثيم من تقرحهم ممن يكونون مصابين بالحمى وتلقح بها غيرهم من الأصحاء، والبق والبراغيث تفعل بقرصها فعل البعوض بقرصه بالبق تنقل جراثيم حمى التيفوس والتيفوئيد ويخشى أن يكون ناقلاً للسرطان والجذام ومن المحقق أن البراغيث هي التي تلقح جراثيم الطاعون وتنقلها من الجرذان إلى الإنسان، ولا تخلو من أن تنقل جراثيم الحمى التيفوئيدية والسل. وأقرب الطرق إلى النجاة من هذه الهوام أن يجعل شيء من روح الصمغ على سطح القاذورات في المراحيض وأن تصب كمية من البترول على المياه الراكدة فتموت الهوام الناقلة كالبعوض وغيره وأن تستر النوافذ في الليل بستائر من السلك الرفيع لتمنع البعوض

من الدخول وقرص الساكنين وهم نيام وصب شيء من البترول على المحال التي يعيش فيها البق أنفع واسطة للخلاص منه كما أن الماء أنفع ذريعة للنجاة من البراغيث وغسل الحيوانات الأهلية على الدوام حتى لا تنقل البراغيث إلى القائمين على تربيتها. القاعدة الرابعة والعشرون ـ اجعل الحيوانات الأهلية في اصطبل ـ ليست الدار نادي الحيوانات الأهلية كالقطط والكلاب والطيور فإن إيواءها في الدور مضر وناقل للأمراض ولا سيما للسل والسرطان فالكلب مصاب بالسل غالباً والهر بالسرطان والببغاء ذكورها وإناثها بالتهاب ذات الرئة بل أن الكلب والهر واسطتان لنقل الحميات ذات البثور كالجدري والقرمزية والحميراء والدفثيريا وأورام الجلد وغيرها من الأمراض المعدية ثم أن الكلب يلعق كل ما يقع أمام عينيه وقد يدلله صاحبه وما أنه يدري ينقل الكلب إن لم نقل مرضاً آخر دع عنك ريشه فإنه مستويل الجراثيم ينقلها من السقيم إلى السليم وعليه فالقطط والكلاب الأهلية هي خطر دائم على الصحة العامة. القاعدة الخامسة والعشرون ـ اعن بنظافة الشارع كما تعنى بنظافة مسكنك ـ نقضي شطراً من حياتنا في الشوارع ولذلك وجب علينا أن نطهرها من الأدناس والأرجاس على أننا نطرح فيها بدون مبالاة الغبار والأوساخ وننفض فيها البسط ومماسح الأرجل وما الكناس إلا واسطة لنقل باسيل الأمراض وهناك قاذورات الكلاب وأخيل وهي سبب لعدة نزلات أذنية وحلقية وكل ذلك مما يبتلع منه ساكن المدن كمية غير قليلة فلو جمع غبار المساكن بوسائط ندية أو أحرقت في النار أو وضعت في ماءٍ يغلي وإذا امتنع المرضى عن البصاق في الشارع ولم يكنس الكناسون إلا بعد الرش كما في بعض البلاد المتمدنة لما أصبح الشارع كما هو الآن مستوبل الأمراض ومحلاً أضر من غرفة في مستشفى. القاعدة السادسة والعشرون ـ إذا بصقت على الأرض فكأنك تبصق على جارك ـ يجب الامتناع عن البصاق في الشارع والمحال العامة والدار وذلك لأن بصاق الرجل السليم من العادات المخالفة للقواعد الفسيولوجية فالواجب نزع هذه العادة أما المسلول فإنه ببصاقه ينقل عدواه في الحال إلى غيره وذلك إذا بصق في الشارع لا تلبث بصقته أن تجف فتتطاير في الهواء ميكروباتها فعليه أن لا يبصق حتى في منديل لأنه كلما أخرجه من جيبه يقذف جراثيمه على من أمامه بل عليه أن يستعمل مبصقة يضعها في جيبه هذا هو من

الفروض الاجتماعية ومن أوائل قواعد التضامن فمن كان به مرض ولم يستعمل هذه الطريقة فهو مرتكب جناية لا محالة. القاعدة السابعة والعشرون ـ إذا كان بك مرض خذ الاحتياطات بذاتك أو بالواسطة لئلا تنقل العدوى إلى من حولك تكاد تكون جميع الأمراض الحادة وكثير من الأمراض المزمنة من الأمراض السارية فإذا رأى كل مريض من واجبه وقاية جاره من نقل جراثيم مرضه إليه لا تلبث معظم الأمراض السارية أن تضمحل، وما من قانون صحي عام ينفع في هذا السبيل بقدر ما تنفع عناية كل فرد على حدته بصحة من حوله وكل ما تقوم به البلديات من أسباب التطهير قليل جداً في جانب الوقاية التي يجب على المرء نفسه أن يتخذها وكثير من أرباب الأسرات يصابون بمرض سار فيعدون به أولادهم وأزواجهم ومن حولهم بتسامحهم وعدم اتخاذهم الاحتياطات الصحية فيقتلونهم بأيديهم جهلاً وغباوة ومن نظر في تاريخ البيوت يدرك أن الأولاد لا يصابون بالتهاب ام الدماغ إلا بتساهل آبائهم فالواجب على الريض أن يسأل الطبيب عن أسباب الوقاية التي يتحتم عليه اتخاذها ويطبقها على نفسه بالفعل. وأنت يا هذا إذا أصبت ذات يوم بمرض فلا تحمل اللوم على قواعد حفظ الصحة وقلة غنائها ولا على ضعف العلم بل إن الذنب في ذلك على أجدادك ومواطنيك.

رحلة إلى جبل قلمون

رحلة إلى جبل قلمون يعد جبل قلمون بين جبال سورية من أحسنها ماءً وهواءً وإنباتاً ومع هذا لم يشتهر اشتهار جبال لبنان وحرمون والكليبة واللكام على قربه من دمشق قاعدة بلاد الشام، وكان يقال له في القديم جبل سنير وبذلك عرفه الجغرافيون والمؤرخون والشعراء، قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك وهو مما ألف منذ نحو ألف سنة أن كورة دمشق وأقاليمها سهل الغوطة إقليم سنير مدينة بعلبك البقاع إقليم لبنان كورة جدنية كورة اطرابلس كورة جبيل بيروت صيدا البثينة كورة حوران كورة الجولان وظاهر البلقا وحوالي الغور وكورة ناب وكورة جبال وكورة الشرا وبصرى وعمان والجابية، فإقليم سنير هو من أقرب الأعمال إلى دمشق ولم نظفر له بتحديد أجمع من تحديد ياقوت في معجم البلدان، قال أن سنير بفتح أوله وكسر ثانيه ثم ياء معجمة باثنتين من تحت جبل بين حمص وبعلبك على الطريق وعلى رأسه قلعة سنير وهو الجبل الذي فيه المناخ يمتد غرباً إلى بعلبك ويمتد مشرقاً إلى القريتين وسليمية وهو في شرقي حماة وجبل الجليل مقابله من جهة الساحل وبينهما الفضاء الواسع الذي فيه حمص وحماة وبلاد كثيرة، وهذا جبل كورة قصبها حوارين وهي القريتين ويتصل بلبنان متيامنا حتى يلتحق ببلاد الخزر ويمتد متياسراً إلى المدينة وسنير الذي ذكر أنه بين حمص وبعلبك شعبة منه إلا أنه انفرد بهذا الاسم وقد ذكره عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي فقال من قصيدة: أسيم ركابي في بلاد غريبة ... من العيس لم يسرح بهمه بعير فقد جهلت حتى أراد خبيرها ... بوادي القطين أن يلوح سنير وكم طلبت ماء الاحص بآمد ... وذلك ظلم للرجال كبير وقال البحتري: وتعمدت أن تظل ركابي ... بين لبنان طلعاً والسنير انتهى كلام ياقوت جاء في أبي الفداء أن الجبل الشرقي الممتد شمالي الشام كان يدعى سنير في عهده وقد ورد سنير في التوراة فقال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس: سنير (درع أو شلالة) اسم قسم من جبل الشيخ (حرمون) (1 أي 5: 23) 27: 5 (وقال ياقوت في القلمون أنه بفتح أوله وثانيه بوزن قربوس وهو فعلول قال الفراء وهو اسم وأنشد: بنفسي حاضر بجنوب حوضي ... وأبيات على القلمون جون

ومن القلمون الذي بدمشق بحتري بن عبيد الله بن سلمان الطابخي الكلبي من أهل القلمون من قرية الأفاعي وقال في القاموس قلمون محركة موضع بدمشق، التاج أن القلمون رومية وحروفها أصلية، وكلمة قالا بالرومية طيب ولعله الجبل الطيب أو نحو ذلك وحوارين التي قال عنها ياقوت أنها القريتين هي قصبة جبل سنير وهي كما قال في مكان آخر حصن من ناحية حمص قال بعضهم: يا ليلة بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير وقال أحمد بن جابر مر خالد بن الوليد في مسيره من العراف إلى الشام بتدمر والقريتين ثم أتى حوارين من سنير فاغار على مواشي أهلها فقاتلوه وقد جاءهم مدد من أهل بعلبك ثم أتى مرج راهط وفي كتاب الفتوح لأبي حذيفة اسحاق بن بشير وسار خالد بن الوليد من تدمر حتى مر بالقريتين وهي التي تدعى حوارين وهي من تدمر على مرحلتين وبها مات يزيد بن معاوية في سنة 64 قال الراعي: أنحن بحوارين في مشمخرة=بيت ضباب من فوقها وثلوج وقال أيضاً والقريتان قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة وأرك أهلها كلهم نصارى وقال أبو حذيفة في فتوح الشام وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه من تدمر إلى القريتين وهي التي تدعى حوارين وبينها وبين تدمر مرحلتان وإياها عنى ابن قيس الرقيات بقوله: وسرت بغلتي إليك من الشا ... م وحوران دونها والعوير وسواء وقريتان وعين ال ... تمر حزن بكل فيه البعير فاستقت من سجاله بسجال ... ليس فيه منّ ولا تكدير وقد سألنا العارفين فأكدوا لنا أن حوارين بعيدة عن القريتين بنحو ثلاث ساعات وآثارها بادية إلى الآن وما نظن أنها كانت قصبة جبل سنير فيما مضى إلا في أمورها الإدارية كما نرى اليوم قسماً من جبل قلمون تابع لقضاء دومة الشام والقسم الآخر هو الأعظم تابع لقضاء النبك وقسم منه تابع لحمص ويقول الخبيرون من أهل هذا الجبل اليوم أن جبل قلمون يمتد من الدريج إلى البريج وهو تحديد معقول جداً لأنك ترى في الدريج وهي مزرعة في رأس جبل قرب عين الصاحب بين معربا وحلبون سلسلة جبال جديدة تكاد

تكون منفصلة بعضها عن بعض وفي البريج وهي على نحو ثلاث ساعات من قارة للقاصد إلى حمص ويمتد شمالاً إلى الجرود على بضع ساعات من بعلبك وجنوباً إلى البرية وتجتاز المسافة من الجنوب إلى الشمال لراكب المطايا في يوم كما يقطع طول الجبل من غربه إلى شرقه في يومين، وأوصل بعضهم طول الجبل إلى وادي القرن قرب البقاع، ويدل على أن آخر حدود الجبل هو في البريج من ناحية حمص ما قاله الاصطخري من أن الطريق من حمص إلى دمشق هو عشر فراسخ من حمص إلى جوسية ثم إلى قارا ثلاثون ميلاً ثم إلى النبك اثنا عشر ميلاً ثم إلى القطيفة عشرون ميلاً ثم إلى دمشق أربعة وعشرون ميلاً، وجوسية كما في المعجم قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق بين جبل لبنان وجبل سنير فيها عيون تسقي أكثر ضياعها سيما وهي كورة من كور حمص. ونقل الدكتور فانديك في المرآة الموضية نقلاً عن أبي الفداء أنه قال أن سنير هو جبل الشيخ أو قسم منه ولذلك رأينا فانديك في جغرافيته يذكر بعض أمهات قرى جبل قلمون أو سنير بحسب المقاطعات التي كان معروفاً بها عند الحكومة على عهد تأليفه ولم يذكر أنها من أعمال جبل مشهور فقال: وإلى الشمال من دمشق مقاطعة يقال لها جبة عسال نسبة إلى مكان يقال له عسال الورد لكثرة الورد الذي فيه ومن أشهر قراها صيدنايا وفيها دير لراهبات طائفة الروم وإلى الشمال الشرقي مقاطعة معلولا نسبة إلى قرية فيها حصينة مبنية على قمة هناك لا يسلك إليها إلا من مضيق مستوعر وفيها دير عظيم لطائفة الروم وقد حدث في سنة 1850 للمسيح أن أمراء بني الحرفوش أصحاب بعلبك تحصنوا بها بعد وقعة جرت لهم مع أجناد دمشق فهجم عليهم عسكر الدولة إلى معلولا بوسيلة من بعض أهلها فقتلوا بعضهم وأسروا بعضاً ونهبوا القرية والدير وحول معلولا عدة من القرى كعين التينة وبخعة وغيرهما ولم يزل أهل تلك النواحي يتكلمون باللغة السريانية لكنها محرفة كثيراً عن أصلها كعربية العامة في هذه الأيام وإلى الشمال الشرقي من معلولا مقاطعة يبرود نسبة إلى قرية كبيرة فيها بعض آثار قديمة وفي جوارها رأس العين ومعرة باش كردي وفليطا وسحل والقسطل وإلى الشمال الشرقي من القسطل النبك وما بين النبك والغوطة يسمى الأرض التحتية وهذه الأرض يمر الطريق من دمشق إلى بغداد وفي جوار

النبك قارة وهما أعدل مكانين في تلك الديار حتى يضرب المثل بجودة هوائهما ومائهما وقد لهجت بهما الشعراء كثيراً قال بعضهم: إذا هاجت الرمضاء ذكراك بردت ... حشاي كأني بين قارة والنبك وإلى الشمال الشرقي من النبك دير عطية وقال الحافظ أبو القاسم ومعلولا إقليم من نواحي دمشق له قرى وقال ياقوت في منين: قرية في جبل سنير من أعمال الشام وقيل من أعمال دمشق منها الشيخ صالح أبو بكر محمد بن رزق الله بن عبيد الله قال ياقوت وكان من ثقات المسلمين ولم يكن بالشام من يكنى بأبي بكر غيره خوفاً من المصريين (الشيعة) توفي سنة 426. فاهم بلاد الجبل يبرود وكانت هي والنبك من أمهات بعد مملكة صوبه أو صوباالقديمة وهذه المملكة كانت في شمالي سورية تمتد من شمالي لبنان الشرقي نحو حمص وحماة وحلب وهي قاعدة لجبل ولا يقل سكانها عن عشرة آلاف ثلثهم مسيحيون والثلثان مسلمون وتكاد تكون أشبه بالمدن منها بالقرى لتوفر مرافق الحياة فيها وكثرة سكانها صلاتهم التجارية مع دمشق وبيروت وحمص وحماة وبعلبك ولوفرة المهاجرين منها إلى أميركا ويبلغ عددهم نحو ألف رجل ومنهم الذين اغتنوا وفي يبرود عدة مدارس للمسيحيين على اختلاف مذاهبهم منها مدرسة للروم والكاثوليك أنشأها أحد أحبارهم منذ زهاء عشر سنين فوهبها ثلثمائة ليرة من ماله وفرض على أبناء طائفته أن يشتغلوا فيها بأيديهم أيام الآحاد والأعياد فجاءت مدرسة كلفت زهاء ألف وخمسمائة ليرة وقد اشتغل بعضهم بنقل التراب وآخر يجلب الحجر وغيره بالبناء، وبأمثال هذه المدارس أصبح المسيحيون أرقى من جيرانهم المسلمين لأن الأول يتعلمون والآخرين مهملون وكانت الحكومة البائدة تزيدهم خبالاً إلى خبالهم وليس لهم من أهل الرأي والعلم من يشفق عليهم ويسعى إلى ترقيتهم ترقية حقيقية كما هو حال مواطنيهم. أقول هذا ولا نكران للحق أن ارتقاء المسيحيين عن المسلمين ماثل على أشد صوره في هذا الجبل وكيف لا يكون كذلك والارساليات الدينية من الروس والانكليز والفرنسيس لم تكد تترك قرية إلا وأقامت فيها مدرسة لتثقيف عقول أبنائها على مناحيها بل أن جمع دينية أقامت لها مستشفى في دير عطية البلد الثاني في الجبل بكثرة سكانه واستئجار عمرانه.

ودير عطية هذه هي والنبك (مركز حكومة القضاء) في وادٍ كان يعرف قديماً بذات الذخائر أو وادي الذخائر قال ياقوت والنبك قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عين باردة في الصيف طيب عذبة يقولون مخرجها من يبرود وقال الزاجر: أنّى بك اليوم وأنّى منك=ركباً أناخوا موهناً بالنبك واطلعت في دير عطية على حجة وقف نقلت حوالي الألف عن حجة كتبت سنة ثمان وسبعمائة للهجرة محفوظة عند كفيف من أهلها اسمه الشيخ عبد القادر الناظر جاء فيها أن الست الجليلة صالحة خاتون ابنة الأمير الكبير صلاح الدين بن بهلوان ابن الأمير الكبير شمس الدين الأكري الآمدي وقفت وحبست وأبدت في صحة منها وسلامة وجواز أمرها جميع الضياع الخمس المتلاصقات المعروفات بوادي الذخائر عمل دمشق المحروسة وتعرف إحداهن بالبويضا والثانية بابريصا والثالثة بالميرا والرابعة بدير عطية والخامسة بالحمرا وقد صدقت على هذه الوقفية محكمة قارة ولا يعرف اليوم من هذه القرى غير دير عطية والحميرة وفي دير عطية مدرسة للعلوم الدينية واللسانية أنشأها الشيخ عبد القادر القصاب الأزهري الديرعطاني فنتجت منها فوائد جليلة وفيها الآن نحو 50 طالباً وقد تعلم بعض الطلبة فأبانوا عن كفاءة فيما أخذوا لنفسهم بتعلمه. ومن أهم قرى قلمون الرحيبة وجيرود وعلى مقربة من هذا البلد مملحة دائرة محيطها اثنا عشر ميلاً وهي في سهل منبسط ينحدر إليه ماء المطر من ويجتمع على علو يختلف بين 30 و 100 سنتمتر وفي أوائل شهر أيار يتحول ذاك الماء ملحاً أبيض نقياً مراً وهذان البلدان من قلمون التحتاني وفيه أيضاً الضمير وفيها عين كبريتية ينفع الاستحمام بها المصابين بالأمراض الجلدية وأرض هذه القرية أو البلد الحارة تبلغ غلاتها قبل سائر قرى الجبل حتى أن الشعير ليحصد فيها في شهر نيسان ويحمل إلى عسال في جرود الجبل الباردة ويزرع في الحال فيحصد في تموز وهذا من أعجب ما يكون في إقليم واحد والمسافة بين الضمير والجرد نحو عشر ساعات. قال في المعجم ضمير بالتصغير موضع قرب دمشق قيل هو قرية وحصن في آخر حدود دمشق مما يلي السماوة قال عبيد الله بن قيس الرقيات: أقفرت منهم الفراديس فالغو ... طة ذات القرى وذات الظلال

فضمير فالماطرون فحورا ... ن قفار بسابس الأطلال نصب الماطرون على أن نونه للجمع وهذه المواضع كلها بدمشق، وقال المتنبي: لئن تركنا ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي وكان قد مات بضمير من دمشق: يامعشر الناس لا تبكوا على أحد ... بعد الذي بضمير وافق القدرا ما مات مثل أبي حفص لملحمة ... ولا لطالب معروف إذا افتقرا منهن أيام صدق قد منيت لها ... أيام فارس فالأيام من هجرا يعني قتاله لأبي فديك الحروري ومن أهم قرى قلمون التعتاني القطيفة وهي مركز مدير ناحية تابعة للنبك جاء في المعجم أنها قرية دون ثنية العقاب للقاصد إلى دمشق في طرف البرية من ناحية حمص وتنية العقاب هي ثنية مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد دمشق إلى حمص قال أهل السير أن خالد بن الوليد سار من العراق حتى أتى مرج راهط فاغار على غسان في يوم فصحهم ثم سار إلى الثنية التي تعرف بثنية العقاب المطلة على دمشق فوقف عليها ساعة ناشراً رايته وهي راية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسمى العقاب علماً لها. ومن قرى الجبل البديعة قرية معلولا يدخل إليها من الشمال من فج طبيعي في الجبل وهي حصينة منيعة ويؤكد بعض العارفين أنها هي مدينة سيلفكيا بعينها إحدى أمهات مملكة سلوقس أحد خلفاء الاسكندر الأربعة الذين اقتسموا مملكته بينهم بعد وفاته فانتشبت الحرب عام 301 ق. م ودارت الدائرة على الملك انثيوغولس وابنه ديمتريوس فاقتسم إذ ذاك قواد الاسكندر مملكته إلى أربع ممالك الأولى مصر أخذها بطليموس سوتير مع العرب وجزء من بر الشام أي فلسطين والثانية مكدونية وبلاد اليونان أخذها كاساندر والثالثة ثرافيا وببسينا وبعض أطراف آسيا الصغرى أخذها ليسيماوس والرابعة بقية الممالك من البحر الأسود إلى نهر لاندوس في الهند أخذها سلوقس وسميت مملكة سورية ومن أشهر مدنها أنطاكية وسلوسية واناحية واللاذقية، ولا يزال إلى اليوم يعثر في بيادرها على آثار تدل على عمرانها القديم الفخيم، وأهلها وهم نحو ثلاثة آلاف يتكلمون بالسريانية المحرفة كما تقدم وفي جوار معلولا نجعا وجبعدين وأهلها أيضاً يتكلمون بهذه اللغة كما أن أهل قلدون

يتكلمون بالتركية المحرفة قليلاً ويقال أن أصلهم من التركمان نزلوا هذه القرية منذ سنين واختلطوا بأهل الجبل، وكان بالقرب من قلدون ثلاث مزارع يتكلم أهلها بالتركية أيضاً وهي دنحا وخربوشة والكنيسة إلا أنها دثرت، وعلى مقربة من معلولا قرية عين التينة وكان أهلها كما يقول جيرانهم المسيحيون نصارى يعافبة دانوا كلهم بالإسلام منذ زهاء قرنين وقلبوا الأوضاع المسيحية بأوضاع إسلامية حتى لقم يطلقون على بيت الخوري بيت الحوري بالإهمال وفي هذه القرية شجر الفستق القديم ولا يزال ينقرض لأن أهلها لا يجددون غرسه وهذه القرية هي الوحيدة في قرى ولاية سورية التي تخرج الفستق وهو من أحسن الأنواع لا يكاد يضاهيه بجودته فستق روم قلعة من أعمال حلب. طفت هذا الشهر أمهات قرى قلمون وكنت زرتها منذ عشر سنين فرأيت عليها مسحة من الارتقاء أتتها في الغالب من المال الذي جناه من أميركا المهاجرون من القلمونيين ففي قرية معرة صيدنايا وصيدنايا ويبرود ودير عطية مثلاً بيوت جميلة أقيمت بالحجر الصلد النحيت مثل بيوت لبنان الجديدة ومن البيوت ما كلفت ألفي ليرة وربما أكثر أما سائر معالم الجبل فظلت على حالها أو ارتقت بعض الشيء بطبيعة الزمن، وقد اشترك في الهجرة إلى أميركا سكان الجبل من المسلمين والمسيحيين إلا أن عدد هؤلاء أكثر والناجحين منهم أوفر ويقدرون عدد المهاجرين من الجبل بنحو أربعة آلاف رجل نجح منهم في الأكثر من اعتادوا شظف العيش مثل مهاجري دير عطية والنبك وصيدنايا والمعرة ومعلولا وقارة أما المترفون أو الذين اعتادوا الترف قليلاً فأخفق سعيهم وانقطعوا أو كادوا لقلة ذات أيديهم، ولا يعلم على وجه الصحة ما يبعث به المهاجرون القلمونيون من النقود كل سنة إذ ليس ثمة إحصاء مدقق وغاية ما يقال ومنه يستنتج ما يقرب من الحقيقة أن معدل عدد الرسائل التي ترد من المهاجرين كل سنة إلى أهلهم في الجبل يبلغ ثمانمائة رسالة، هذا في القرى التابعة لقضاء النبك وهي مركز الجبل ومزدحم الأقدام وفيه من القرى 28 قرية و 12 مزرعة، وباقي قرى الجبل وهي 13 قرية تابعة لقضاء دومه فإذا فرضنا أنه يأتي من المهاجرين في السنة ألف رسالة وهو أقل تعديل ولا يكتب لأهله إلا الناجح منهم في العادة ويرسل كل واحد ثلاثين ليرة فيكون معدل ما يصل من النقود إلى قلمون ثلاثين ألف ليرة، وهو مبلغ لا يستخف به بالنسبة لفقر الجبل ولو كان هذا المال يأتيه مع توفر العناية

بالزراعة وتربية المواشي وغرس الأشجار والغابات لكان الجبل من أعمر جبال العالم. ويبلغ عدد نفوس الجبل بإحصاء الحكومة 58127 نسمة بين ذكور وإناث منهم 45574 في القرى التابعة لقضاء النبك اليوم و 12553 في القرى التابعة لدومة وعدد المسلمين في قضاء النبك 40660 وعدد الروم الارثوذكس 1515 وعدد الروم الكاثوليك 2920 وعدد السريان الكاثوليك 399 وعدد البروتستانت 90 وربما بلغ عدد المسيحيين في الثلاث عشرة قرية التابعة لقضاء دومة 2500 نسمة. وبلغت أعشار القرى التابعة للنبك هذه السنة 1443175 غرشاً وأعشار القرى والضمير وقارة والنبك ودير عطية ومعلولا وأهم قرى القضاء الثاني التل ومنين وحلبون وتلفيتا وصيدنايا ومعرة صيدنايا وباقيها مزارع أو أشبه بها. ويقسمون قلمون بحسب موقع الطبيعي إلى قسمين فوقي وتحتي فمن قرى الفرقي أو الفوقاني رنكوس وحوش عرب وهي تعلو عن سطح البحر 1770 متراً وعسال وطفيل والجبة ومعرة باش وفليطا والسحل وقارة وعرسال ودير عطية والنبك وبخا ورأس العين ويبرود وحبعدين ومن التحتية النواني وعكوبر وبدا وحفير الفوقا وحفير التحتا وحلة ومعلولا والقسطل وعين التينة والقطيفة والمعظمية وجيرود والرحيبة والضمير ومعرونة وتلفيتا وصيدنايا ومعرة صيدنايا والتل ومنين وحزنة ومعطلة والدريج ومعربا وحبون وهي التي تخزن الثلج في الربيع في جردها وتأتي به كل ما يولى دمشق وتشاركها في بيع الثلج قريتا اوفرة أو قفرة وقرية منين. وتعد زراعة قلمون من الدرجة الثالثة ولو توطدت دعائم الأمن فيه لاستطاع أهل القرى القريبة من البرية للشرق أن يزرعوا تلك السهول الفسيحة وينتفعوا بالمراعي البعيدة عن القرى ساعات، وأكد لي العارفون بأن الأمن إذا استقر في نصابه وأمن القضاء من غارة أشقياء العرب والدروز على المواشي والزروع تكثر مواشيه كثرة زائدة ويغتني الفلاح والحكومة فقد نهب العرب والدروز منذ نحو سبع سنين زهاء مئة وخمسين ألف رأس من الغنم والماعز لو سلمت لأربابها لكانت بلغت الآن على أقل تعديل مليون رأس ومعدل ربح الرأس مئة قرش هذا عدا ما هو موجود اليوم من مواشي الجبل. وليس مثل جرود قلمون في الصيف لرعي المواشي ومثل سهولها الشرقية في الشتاء

وألبان قطعانها من أدسم ما ذاق الذائقون، ولو تمت أمنية الفلاح القلموني بانتشار الأمن في شعابه وهضابه في الفصول الأربعة لربح الفلاح كل سنة القرش قرشين من ماشيته فقط ومن كانت عند المئة يجني المئتتين ومن ملك الألف جاءته ألفان، ويرى الخبيرون بأنه لا سبيل إلى تقرير الأمن في قلمون إلا بوضع أربع مخافر الأولى في الضمير والثانية في الناصرية والثالثة في الحميرة والرابعة في القريتين وأن يجعل في كل واحدة منها ـ وفي بعضها قلاع لإيواء الجند ـ خمسة وعشرون جندياً نظامياً فارساً (مفرزة) وبذلك يرهب أشقياء عرب البادية بأس الحكومة ويكفون عن السطو على ضعاف الأهلين كلما اهتبلوا الغرة. ولا تجد في قلمون غابات كأكثر جبال العالم بل هو جبل أجرد أقرع ولو صحت عزيمة سكانه لأكثروا من زرع التين والكرم واللوز والجوز في الأراضي القريبة من القرى ومن السنديان والبلوط في النجاد والشعاب، والظاهر أن فأس الحطاب وأسنان الماشية اتفقت زمناً طويلاً على تجريد الجبل من أشجاره وغاباته فلا تجد الشجر إلا قرب القرى وقد تمشي الساعات ولا تجد أثراً للزرع ولا للشجر. قال أحد الأجانب ممن زاروا هذا الجبل مؤخراً كنت أتمنى في حياتي أن أشاهد جبلاً أجرد من الكلأ والشجر فها قد قرت عيني في قلمون بمشاهدة ما كنت أريده من الجبال الجرداء أما ابن سورية فيتمنى لو قرت عينه برؤية جباله شجراء ذات غابات غبياء. وليست مياه قلمون شحيحة عزيزة بل هي عذبة غزيرة كأحسن البلاد الجبلية ولكن منها ما يحتاج للإنباض وللعهد والعناية وإذا توفر الأهلون وساعدتهم الحكومة قليلاً على توفير مياههم تزيد كميتها بحفر العيون والأقنية والانتفاع بالمياه والسيول حتى لا تضيع منها نقطة بلا فائدة، ومن هذه العيون ما يشفي الأوصاب ويقوي الأجسام ويساعد على هضم الطعام وأطيبها ما قرب من جرود الجبل حيث يكثر نزول الثلوج وتبقى كل سنة ستة أشهر متراكمة في النجاد والوهاد وأبشع مياه الجبل طعماً في معرونة وهي جمع من ماء الشتاء ولكن طعمها أشبه بالملح الانكليزي بيد أنها إذا ثقلت في الطعم فلا تثقل على الهضم. وقد بحثنا في بعض قرى الجبل عن آثار حجرية مكتوبة أو كتب مخطوطة علنا نقع فيها على مواد تاريخية ينتفع بها فخاب سعينا إذ شاهدنا معظم أديار الجبل لا يعرف أهلها من

التاريخ إلا تقاليد يتناقلونها بالأفواه وهي لا تساوي شيئاً إذا وضعت على محك النقد وإذا كانت الأديار خالية من مثل هذا فاحر بأن تكون سائر المعاهد أخلى فدير صيدنايا لراهبات الروم هو بحسب ما شاهدنا من أقدم أديار الجبل وليس فيه تاريخ الدير نفسه وقيل لنا أن أهل الدير حرقوا باختيارهم منذ نحو قرن كتباً سريانية كثيرة ولو أبقوا عليها لما خلت من فوائد كان القائمون عليها يحتقرونها او يخافون منها إذ ذاك وهي أنفع ما يكون للتاريخ اليوم وغاية ما فيه الآن كتاب نسخته إحدى راهبات الدير سنة 1887 م واسمها تقلا غزال ولم تذكر شيئاً عن الأصل الذي نقلت عنه وهو حديث أيضاً ويفهم من مقدمته وفيه شرح تقاليد كثيرة متعلقة بدير صيدنايا إن هذا الدير بني على يد يوستنيانوس الكبير ملك الروم في السن الخامسة والعشرين من ملكه سنة 553 للميلاد وذلك عند مروره في تلك البقعة فاختارها لإقامة هذا الدير ليجعل محطة لها صدي بيت المقدس من أهل القسطنطينية وغيرهم وفي هذا الكتاب أمور تتعلق بتجلي السيدة العذراء عليها السلام ليوستيانوس حتى بنى ديره وهو مثل ما يقوله المسلمون عن بعض معاهدهم، وهذه التقاليد لا يثق فيها التاريخ ولا تنطبق على العقل ويأخذها المعتقدون بالتسليم دون أعمال النظر فيها على أن الإحساس الديني تجب مراعاته مهما كان وحقائق العلوم العصرية هي التي تمحو وتثبت. وفي الجبل أديار غير العامرة الآن في قارة ويبرود ومعلولا قد أصبحت مأوى للبوم مثل دير مار شبريين ودير مار توما بالقرب من صيدنايا كما تجد كثيراً من النواويس (مقبور) محفورة في الجبال، ومنها ما رأيته في منين وعين الصاحب ومعلولا. والجبل إلا قليلاً متشابه بعمرانه ولكنه مختلف بهيئات سكانه ولهجاتهم فلكل قرية لهجة خاصة بها وسحنة يعرف بها أهلها فأهل معلولا لا يشبهون أهل عين التينة وأهل يبرود لا شبه بينهم وبين أهل الرحيبة، والظاهر من سحنات القلمونيين أن منهم اليعاقبة والسريان ومنهم الروم والتركمان ومنهم العرب فاختلفت لهجاتهم باختلاف أصولهم وإن كان تركيب بعض أسماء قراهم متشابهاً مثل يبرود وجيرود ومعرة ومعرونة وعسال وعرسال وجبة وجبعدين وفليطا وتلفيتا، وتلفيتا هذه هي التي قال فيها صاحب المعجم أنها كانت بلد قسام الحارثي من بني الحارث بن كعب باليمن التغلب على دمشق في أيام الطائع وكان في أول عمره ينقل التراب على الدواب ثم اتصل برجل يعرف بأحمد الحطار من أحداث دمشق

وكان من حزبه ثم غلب على دمشق مدة فلم يكن للولاة معه أمر واستبد بملكها إلى أن قام من مصر يلكين التركي فغلب قساماً ودخل دمشق لثلاث عشرة ليلة بقيت من محرم سنة 376 فاستتر أياماً ثم استأمن إلى يلكتين فقيده وحمله إلى مصر فعفا عنه وأطلقه. ومن صنائع جبل قلمون وبعبارة ثانية بعض قراه مثل التل وحلبون ويبرود ومعلولا البسفي فإنه تعمل فيها بسط غليظة ولكنها متينة يستعملها أهل الجبل والمجاورون لهم من سكان القرى كما يحيكون الخام الجيد في هذه القرى، ولا جمال على صنائعها ولكنها متينة جداً ورخيصة وقد لا يربح العامل قرشين في نهاره ومع هذا يجد نفسه سعيداً بهذا المقدار الطفيف. وهواء الجبل معتدل جداً وهو أنفع لأكثر الأجسام من هواء لبنان البليل لقرب ذاك من البحر يورث النفوس نشاطاً ومضاءً وإن الذكاء الفطري يغلب على سكانه وتساوى في ذلك سكان جروده وسهوله وقراه ومزارعه وإسلامه ونصاراه ولو سعت الحكومة بجد لإصلاح طرقه ومواصلاته والخطب فيها سهل جداً لكثر اختلاف المصطافين إليه وخصوصاً سكان دمشق لأن قلمون منها بمنزلة لبنان من بيروت والطرق فيه عامرة بطبيعتها مثل طريق صيدنايا إلى معلولا وطوله خمس ساعات ونصف وطريق معلولا إلى يبرود وطوله ثلاث ساعات وطريق يبرود فالنبك فدير عطية فقارة وهذا الطريق على طوله لو صرف عليه بضع مئات من الليرات لسارت عليه المركبات كما تسير على أحسن الطرق المعبدة ولكن الحكومة في الدور الاستبدادي كانت لا تحسن من الإدارة إلا أن تسلب نعمة الفلاحين بطرقها المعروفة من تكثير الضرائب والعبور والرسوم وإرهاق الفقير بالإعانات الكثيرة ولعل دولة الدستور تقوى في أقرب وقت فتجعل من مالها ووقتها نصيباً تصرفه في ترقية البلاد فتستعيده بعد سنين أضعافاً مضاعفة من أهلها وقد كانت حكومة الاستبداد ترى أن غناها بإفقار الأهالي فالواجب على حكومة الدستور أن تعتقد أن غناها من غناهم وسعادتها بسعادتهم. وإن جبلاً كقلمون وهو جزء صغير من ولاية سورية وجزء أصغر من هذه المملكة العثمانية إذا حسنت إدارته ونظرت حكومته في عمرانه ليخرج من الخيرات ما لا يخرج مثله الجبل الأسود ذوالبند والعلم وصاحب الملك والوزراء، وكيف يعمر مثل قلمون إذا كان

ولاة دمشق يقضون بها لاسنين الطويلة ولا يزورون معاهده ويتفقدون حالة أهله بل أن القائمين الذين طالما تناوبوا الحكم عليه لا يهمهم إلا قبض رواتبهم وأخذ ما يريدون أخذه من الأهالي وإذا طافوا بعض قراه فللنزهة والتماس الصحة والراحة لا لرفع ظلامة وإقامة عدل وتحسين حال ويعتمدون في أمورها على مشايخ معظمهم على غير علم كانوا ولم يزالوا عون كل ظالم والسعيد منهم من كان الجهل أغلب على قريته ليسوغ له أن يحكم فيهم حكماً قره قوشياً ولا أغالي إذا قلت اليوم أن أهل قلمون لم يلقحهم حتى الآن رشاشة من نعمة الدستور على قربهم من الحواضر ولولا بصيص نور يتلألأ في عقول بعض أهل القرى التي يكثر فيها المسيحيون والمدارس والهجرة لكان قلمون كما كان منذ مئات من السنين. وهنا رأينا أن نختم هذا الفصل بقصيدة للأمير عبد القادر الحسني الجزائري قالها وقد سأله بعض الفرنسيس أي العيش أطيب عيش الخلاء والبداوة أم عيش المدن والحضارة وقد كنا نردد أكثر أبياتها في رحلتنا وأكثرها مما يصدق عليها لمناسبتها مع الحالة التي كنا عليها في الجبل من الصحة وفراغ البال قال رحمه الله: ياعاذراً لامرئ قد هام في الحضر ... وعاذلاً لمحب البدو والقفر لا تذعن بيوتاً خف محملها ... وتمدحن بيوت الطين والحجر لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني ... لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر لو كنت أصبحت في الصحرا تمر على ... بساط رمل به الحصباء كالدرر أو جلت في روضة قد راق منظرها ... بكل لون جميل طيب عطر تستنشقن نسيماً طاب منتشقاً ... يزيد في الروح لم يمرر على قذر أو كنت في صبح ليل هاج هاتنه ... علوت في مرتب أوجلت بالنظر رأيت في كل وجه من بسائطها ... سرباً من الوحش يرعى أطيب الشجر فيالها وقفة لم تبق من حزن ... في قلب مضنى ولا كداً لذي ضجر نباكر الصيد عند الفجر نبغته ... فالصيد منا مدى الأوقات في ذعر فكم ظلمنا ظليماً مع نعامته ... وإن يكن طائراً في الجو كالصقر يوم الرحيل إذا شدت هوادجنا ... شقائق عمها مرن من المطر

فيها العذارى وفيها قد جعلن كوى ... مرقعات بأحداق من الحور تمشي الحداة لها من خلفها زجل ... أشهى من الناي والسنطير والوتر ونحن فوق جياد الخيل نركضها ... شليلها زينة الأكفال والخصر نطارد الوحش والغزلان فلحتها ... على البعاد وما تنجو من الضمر نروح للحي ليلاً بعد ما نزلوا ... منازلاً ما بها لطخ من الوضر ترابها المسك بل أنقى وجديها ... صوب الغمائم بالآصال والبكر نلقى الخيام وقد صفت بها فغدت ... مثل السماء زمت بالأنجم الزهر قال الأولى قد مضوا قولاً وصدفه ... نقل وعقل وما للحق من غير الحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر أنعامنا أن أتت عند العشي تخل ... أصواتها كدوي الرعد بالسحر سفائن البر بل أنحى لراكبها ... سفائن البحر كم فيها من الخطر لنا المهارى وما للريم سرعتها ... بها وبالخيل نلنا كل مفتخر فخيلنا دائماً للحرب مسرجة ... من استغاث بنا بشره بالظفر نحن الملوك فلا تعدل بنا أحداً ... وأي عيش لمن قد بات في خفر لا نحمل الضيم من جار فنتركه ... وأرضه وجميع العز في السفر وإن أساء علينا الجار عشرته ... نبين عنه بلا ضر ولا ضرر تبيت نار القرى تبدو لطارقنا ... فيها المداواة من جوع ومن خصر عدونا ماله ملجأ ولا وزر ... وعندنا عاديات السبق والظفر شرابنا من حليب لا يخالطه ... ماء وليس حليب النوق كالبقر أموال أعدائنا في كل آونة ... نقضي بقسمتها بالعدل والقدر ما في البداوة من عيب تذم به ... إلا المروءة والإحسان بالبدر وصحة الجسم فيها غير خافية ... والعيب والداء مقصور على الحضر من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى ... فنحن أطول خلق الله في العمر

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع العاملات في الافرنج يزيد عدد العاملات من النساء في بلاد الغرب كلما صعب استحصال القوت وكثرت مطالب الحياة فقد بلغ عددهن في أميركا 5007069 امرأة ذات صنعة منهن 97800 مزوجة ومن تلك العاملات 185 بيطارة و 45 وقادة في القاطرات وقد زاد عدد المحاميات من 208 إلى 1010 وعدد المستمليات (ستينوغراف) 305 في المئة وعدد المهندسات 217 في المئة وعدد المبشرات 197 في المائة وعدد خازنات الكتب 116 في المئة. وبلغ عدد النساء العاملات في فرنسا 6029707 منهن الطبيبات والأديبات وفيهن 4320 مصورة ونقاشة و 4415 موسيقية و 4500 قابلة و 40000 يصنعن أزياء و 100000 معلمة و 120000 مستخدمة في الإدارات و 260000 مستخدمات في المحال التجارية و 700000 عاملة في المعامل و 820000 خادمة و 900000 تعمل بأشغال الإبرة وزهاء ثلاثة ملايين يعملن في الحقول، وتنتخب النساء في المجالس النيابية في فنلندا وسويسرا ويحاولن الآن في أكثر الأصقاع الأوروبية أن يشاركن الرجل في هذه المهام، وللنساء حق الانتخاب في زيلندا الجديدة وأوستراليا. صناديق التوفير سبقت انكلترا غيرها من ممالك أوروبا في إيجاد صناديق للتوفير في إدارات البريد فانتفع بها الفقراء أي انتفاع في اقتصاد دريهمات لتكون لهم بعد رؤوس أموال وحذت حذوها في ذلك فرنسا والنمسا وإيطاليا والبلجيك وهولاندا والسويد وفنلندا وبلغاريا وروسيا وسويسرا، وهذه المعاهد لا تسهل على الناس الاقتصاد فقط بل هي مصارف حقيقية للأمة تدير شؤونها الحكومة فيتأتى لكل فرد في انكلترا أن يدفع في السنة لأحد فروع صندوق التوفير من فرنك إلى 1200 فرنك وأن يتناول منه ما يريده على أن لا يتجاوز ما يأخذه 25 فرنكاً، ولهم طريقة في التسهيل على من يريد الاقتصاد ولا تكاد تخلو قرية من فرع لهذه الإدارة فقد بلغ ما دخل صناديق التوفير في برد انكلترا سنة 1905 3741934000 فرنك وما خرج منها 9963049 فرنكاً وبلغ ما وضعه المقتصدون من الفرنسيس في صناديق هذه الإدارة في تلك السنة نفسها 1278257647 فرنكاً وضعت في 7884 فرعاً وبلغ عدد

أربابها 4577390 شخصاً وبلغ عدد مثل هذه الصناديق في إيطاليا 5931 دفع لها 5283003 أشخاص 983 مليون ليرة وعدد المقتصدين على تلك الصورة في هولاندا 1184316 شخصاً دفعوا 129929574 فلورينياً وعدد الصناديق في النمسا 6479 اشترك فيها 2004487 شخصاً دفعوا 218 مليون كورون، وقد بلغ مجموع المودع في صناديق البريد بمصر في تلك السنة ذاتها 236000. ج. م وصار في السنة التي تليها 325000 وعدد المودعين 43424 نفساً فزاد حتى بلغ 59084 وليس في المملكة العثمانية صناديق وفر كهذه. سكة حديدية بالبترول أدخلت شركة شمالي أميركا طريقة استعمال زيت البترول لتسيير القطارات بدلاً من الفحم الحجري واتخذت لذلك مركبات وقاطرات خاصة بحيث لا يتجاوز محمولها 25 طناً أما المحرك فهو أفقي الشكل وقوته 200 حصان ويقطع 33 كيلومتراً بدون اهتزاز ويمكن إيقافه بأسرع ما يمكن وهو من غير القطارات في الصعود إلى النجاد العالية وربما قطع بعد مدة 40 كيلومتراً في الساعة. شركات التلفون بعد مدة تمد في مدينة الاستانة وكثير من قواعد البلاد العثمانية خطوط تلفونية كسائر البلاد الراقية وقد أحصى العارفون أنه يشترك كل 16 ساكناً في الولايات المتحدة بالتلفون وفي السويد لكل 45 ساكناً اشتراك بالتلفون ولكل 50 شخصاً في الدانمارك ولكل 54 في سويسرا ولكل 100 في ألمانيا ولكل 143 في انكلترا ولكل 364 في فرنسا. فمتى تكون المملكة العثمانية بخطوطها التلفونية كأدنى ممالك أوروبا فيها وقيمة الاشتراك السنوي بالتلفون هو خمس ليرات في سويسرا وتنزل إلى 40 فرنكاً في السنة الرابعة للاشتراك وفي إيطاليا 750 فرنكاً وفي ألمانيا 850 ماركاً وفي النمسا 200 فرنك وفي بروكسل 250 فرنكاً ومثلها في مصر. التعاويذ نشر المسيو انطوان كاباتون من علماء المشرقيات في مجلة العالم الإسلامي مقالة في التعاويذ عند الشعوب ولا سيما التي دانت بالإسلام جاء فيها من البحث التاريخي ما

تعريبه: الظاهر أن التعاويذ قديمة كالضعف والخوف المستحكمين في الإنسان أمام قوى الطبيعة، فتراه يضعف عن أن يجاهد بنفسه في تحمل الآلام المعنوية والطبيعية على اختلاف مظاهرها كالمرض والحزن والخراب يتدرع بما يبعدها عنه أو يقيه شرها بواسطة كلمات أو إشارات أو أشياء يعزو إليها قدرة واقية فوق الطبيعة ومن هذه الغريزة المنبعثة من سرعة التصديق وحب الدفاع عن النفس نشأ في الغالب استعمال التعاويذ في كل مصر وعصر منذ زمن الطاويين على عهد قدماء الفرس والابارجيين في كاليدونيا الجديدة إلى الكركريين من زنوج إفريقية الوسطى، ولا تنس التعاويذ المستعملة عند المحدثين من أهل الغرب التي يحلون بها أذرعهم. وأغلب الآراء على أن جميع أنواع الحلي والزينة كانت بادئ بدء عبارة عن تعويذة فتتخذ تارة من عصائب أو من أوراق مربعة أو من جلد كتبت عليه كلمات أو رسمت عليه أشكال ورسوم أو أعداد لها في نظرهم فضيلة خاصة أوسور من كتب مقدسة كما تتخذ طوراً من الأحجار الكريمة أو الأحجار الغريبة الشكل والأصل أو من النباتات والجذوع والشعر والوبر والعظم والأظافر والأسنان أو تصنع من مواد كلسية علامة على حيوانات معينة أو من أقراط وأسورة وتماثيل من المعدن أو الحجر أو الخشب أو من الحلي والجرار أو كرات الذهب أو الفضة أو الرخام أو صفائح المعدن أو من خرق الأقمشة أو من جلود الحيوانات يزعمون أن لنقشها ورقشها خاصية الوقاية. ويدعون أن تأثير التعويذة ناشئ من كيفية حملها وأنها تنفع الحيوان كما تنفع الإنسان وهي وقاية للقطيع كما هي وقاية الراعي وتساعد في النوم كما تساعد في اليقظة وفي عقد البيوع كما في الأمراض الطارئة. ولئن عم استعمال التعاويذ بما في فطرة الناس كلهم من السذاجة والجبن فالظاهر أنها نشأت من الشرق أو أنها على الأقل كثر استعمالها فيه لأن الإنسان كان يشعر تحت السماوات الصافية بحاجة إلى ما يدفع عنه الأسواء. وقد عهد في الحضارة المصرية استعمال الأسورة والتماثيل والأحجار الكريمة التي كانوا يزعمون أنها تجلب السعادة، وإن الكتابات على ورق البردي التي كانت تلف وتخاط في الثوب ليحملها الإنسان وكان يتزين بها الرجال والنساء بعقود الصفر المخفي ومن حرذون

محفور على الحجر أو على المعدن كلما كانت تعاويذ للوقاية لا أشياء للزينة والتبرج يراد منها طرد الأرواح الشريرة والأمراض ودفع الخراب والموت. واعتاد الآشوريون والبابليون أن يكتبوا بعض كلمات سحرية وتراكيب للشفاء على عصابتين إحداهما من قماش أبيض والثانية من قماش أسود وتقوم هاتان العصابتان مقام التعويذة بأن كانوا يضعونها على الأيدي أو على الجبهة، وقد نقلوا هذه الطريقة إلى الاسرائيليين مع شيء من التعديل فيها ولكنها لا تكاد تختلف عنها كثيراً ومع أن الشعب الاسرائيلي كبير الاعتقاد بالمولى فهو يعتقد بتأثير التعاويذ. وتشير التوراة إلى هذه العقيدة فقد وردت فيها عدة آيات في التعاويذ والأحرار، ومعظم التعاويذ اليهودية عبارة عن صفائح معدنية أو حلق أو جذور أو عصائب من الرق كتب عليها اسم المولى أو آية من التوراة وبعضها مؤلف من جذع بعض الأشجار أو من حبات قمح وضعت في كيس جلد تناط في عنق الأطفال أو الحيوانات على حد سواء، ويلبس البالغون من الاسرائيليين تعاويذ على صفة خواتم. وقد شاع استعمال التعاويذ بين اليهود منذ القرن الأول إلى القرن السابع للميلاد وكان الرومان واليونان يعتقدون كأبناء اسرائيل بتأثير التعاويذ ولما ظهرت النصرانية لم يكن من تأثيراتها إلا أنها حولت مجرى الخرافات وحلتها بالاسم والأعمال فأخذ الناس يعتقدون بالأيقونات والصور والتماثيل وبعض المعابد كما كان البشر يعتقدون من قبل بتأثير بعض الينابيع أو بعض المغور الآهلة بالجن. أما الشرق الأقصى فقد فاق الشرق القريب والغرب باعتقاد أهله بالتعاويذ، فالصينيون والهنود اعتقدوا ولا يزالون يعتقدون بنفعها واقتبسها البراهمة والطاوسيون والبوذيون واقبسوها غيرهم من النحل والملل، ولشعوب الهند الصينية كالخمريين والشميين والاناميين ممن امتزجوا ببعض الأمم الراقية أساليب كثيرة من التعاويذ وللهنود نوع من الخرز يزعمون أنه يقي حامله من كل سوء وينيله كل خير وللأناميين والصينيين نوع من البطانات يكتبون عليها كلمات أو ألغازاً ويجعلونها في الأعناق عوذة كما أنهم يستعملون الأنواط والأقراط الذهبية والفضية وأظافر النمر وغيرها لدفع الأرواح الشريرة. جاء الإسلام وهو آخر الأديان وفيه أمور من اليهودية والنصرانية ولم يتيسر له مثل غيره

أن يتخلص من عدوى سرعة الاعتقاد فاستمال العامة بأن أقرهم على بعض معتقداتهم على نحو ما فعلت النصرانية، وربما كان الإسلام على سذاجته المملوءة بالتقوى والنفع أكثر الأديان تسامحاً في معنى التعاويذ وذلك لأنه انتشر بين شعوب الشرقيين تأهلت فيهم الخرافات منذ القدم، ولم يأت الإسلام غير توحيد صورة التعاويذ الظاهرة بعض الشيء عند جميع الشعوب الإسلامية. فتعاويذ المسلمين في الشرق الأقصى تكاد تكون كلها عبارة عن سور من القرآن أو حكم أو كلمات لا يفهم لها معنى تكتب على الورق أو القماش أو على نصل أو صفيحة من معدن ويستعملون في كتابة هذه الأحراز ماء الزعفران أو الكركم أو ماء الورد أو ماء الزهر وتسامح المالايو والجاويون فأخذوا يستعملون الحبر الافرنجي. ومن التعاويذ ما ينفع في جميع حالات الحياة فمنها للوباء وللمرض وللحريق وللسحر ومنها ما يلبسه الغزاة في حروبهم والنساء لحبلهن أو لحفظ ما لهن من ولد ومنها ما ينزل المطر ويفتح الكنوز ويحرس الحيوانات ومنها ما يبقى من قرص الذباب ونقيق الضفادع، أما عدد ما يحمل منها فراجع إلى ذوق الشخص وكذلك يضعها في جميع أطراف بدنه مؤقتاً أو دائماً ومعظم التآليف الموضوعة في فن الرقية والتعاويذ من تآليف أناس من مسلمي إفريقية وأكثر ما يعول عليه بين المغاربة والمشارقة كتاب شمس المعارف ولطائف العوارف ولهذا الكتاب عندهم حرمة تكاد تقرب من احترامهم الكتاب العزيز منهم لا يمسونه إلا مطهرين. وشاع استعمال التعاويذ بين العرب والترك ومسلمي إفريقية الشمالية والشرقية والفرس وهم مكثرون منها وشعوب مانالايو والبولينيزيين وسكان مدغسكر، والمالايو وهم من شيعة أكثر الشعوب الإسلامية إغراقاً في استعمال التعاويذ، وكذلك الحال عند البوكويين والماكاساريين في سيليب والاتشثينيوا والبانافيين في سعومطرا والداياكيين في بورنو والتاكاليين والبيزيين في جزائر فيلبين.

نخب الذخائر

نخب الذخائر في أحوال الجواهر اشتهر أبو عبد الله شمس الدين محمد بن ابراهيم بن ساعد السنجاري المصري بن الأكفاني بتآليف الجيدة وهو من أهل القرن الثامن توفي بالطاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة وكان طبيباً بمصر ومن مؤلفاته كتاب كشف الغين في أحوال العين وشرحها وقاية العين لنور الدين علي المناوي وتمنية اللبيب في غيبة الطبيب ونهاية القصد في صناعة الفصد والنظر والتحقيق في تقليب الرقيق ونخب الذخائر في أحوال الجواهر وإرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد وبعضهم زاد عليها وسماها الدر النظيم في أحوال العلوم والتعليم، وكتاب إرشاد القاصد طبع مرتين في القاهرة وبيروت وهو من كتب التعليم الممتعة على صغر حجمه ولكن المصنفات بفوائدها لا بحجمها. وكتابه نخب الذخائر وأحرى به أن يسمى رسالة تفضل بإهدائه للمقتبس محمود شكري أفندي الآلوسي عالم العراق الآن فأحببنا أن نضمه إلى صدر المجلة لينتفع به القراء، أما هذا الموضوع فقد ألف فيه عدة كتب كما يفهم من عبارات المصنف ومن الكتب المؤلفة فيه كتاب الجماهر في معرفة الجواهر لأبي الريحان البيروني الفيلسوف المشهور ألفه للملك المعظم أبي الفتح ومنه نسخة في مادريد ومنها أزهار الأفكار في جواهر الأحجار لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن يوسف التيفاشي المتوفي سنة 651 هـ، وإليك نخب الذخائر: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الفقير إلى الواحد الباري، محمد بن ابراهيم بن ساعد الأنصاري: الحمدلله كفّ أفضاله، والصلاة على سيدنا محمد وآله، (وبعد) فهذا كتاب لخصت فيه خلاصة كلام الأقدمين والمتأخرين، من الحكماء المعتبرين، في ذكر الجواهر النفيسة بأصنافها وصفاتها ومعادنها المعروفة، وقيمتها المشهورة المألوفة، وخواصها ومنافعها بأوضح لفظ وأصح معنى، ووسمته بنخب الذخائر في أحوال الجواهر، وجانبت فيه الأطناب، وميزت فيه القشر عن اللباب، والله أسأل أن ينفع به بمحمد وآله. القول على الياقوت أصنافه أربعة الأحمر وهو أعلاها رتبة وأغلاها قيمة والأصفر والأزرق والأبيض

وللأحمر سبع مراتب أعلاها الرماني ثم البهرماني ثم الأرجواني ثم اللحمي ثم البنفسجي ثم الجلناري ثم الوردي، فالرماني وهو الشبيه بحب الرمان الغض الخالص الحمرة الشديد الصبغ الكثير الماء ويوجد لونه بأن يقطر على صفحة فضة مجلاة قطرة دم قرمز أعني من عرق ضارب فلون تلك القطرة على تلك الصفيحة هو الرماني والبهرماني يشبه بلون البهرماني وهو الصبغ الخالص الحاصل عن العصفر دون زردج ومن الجوهريين من يفضل البهرماني على الرماني والتفضيل إنما هو بشدة الصبغ وكثرة المائية والشعاع ومنهم من يقول هما شيء واحد وإنما أهل العراق يقولون بهرماني وأهل خراسان يقولون رماني فالخلاف لفظي والأرجواني أيضاً شديد الحمرة، وقيل كان الأرجواني لباس قياصرة الروم وكان محظوراً عن السوقة إلى زمن الاسكندر فإنه اقتضى رأيه أن لا يختص الملك بلباس يعرف به فيقصد، ومنهم من يسمي الأرجواني الجمري بالجيم تشبيهاً بالجمر المتقد وصحفه بعضهم بالخمري وكان الخميري هو البنفسجي، وأما اللحمي فهو دون الأرجواني في الحمرة يشبه ماء اللحم الطري الذي لم يشبه ملح والبنفسجي يشوبه كهبة تخرجه عن خالص الحمرة وهو لون البنفش المعروف بالماذيني، وأما الجلناري فيشوبه بعض صفرة والوردي يشوبه بياض وهو أنزل طبقات الأحمر. وأجود هذه الألوان كلها ما توفر صبغه وماؤه وشعاعه وخلا عن النمش وعن الحرمليات وهي حجارة مختلطة به وعن الرثم وهو وسخ فيه شبه طين، وعن التفت وهو كالصدع في الزجاجة إذا صدمت يمنع نفوذ الضياء والإشفاف، وهذا قد يكون أصلياً وقد يكون عارضاً، ومن عيوبه أيضاً اختلاف الصبغة فيشبه البلقة ومنها غمامة بيضاء صدفية تتصل ببعض سطوحه فإن لم تكن غائرة ذهبت بالحك وإذا خالط الحمرة لون غيرها يزول بالحمي بالنار بتدريج وتبقى الحمرة خالصة ولا يثبت على النار غيرها ومتى زالت الحمرة بالحمي فليس بياقوت. ومعدن الياقوت بجبل يسمى الراهون في جزيرة سرنديب، وفي سيلان ومكران معدن الياقوت الأصفر والأزرق وتحت جبل البرق معدن الياقوت الأحمر والياقوت أصلب الجواهر، ولا يخدشه منها إلا الألماس ولا ينجلي بخشب العشر الرطب وإنما يسوى بالسنباذج ويجلى على صفيحة نحاس بالجزع المكلس والماء وهو أشد الجواهر صقالاً

وأكثرها ماءً، وشعاعه في الليل في ضوء الشمع أحمر وشعاع البلخش ونحوه أبيض. وذكر القدماء أن قيمة المثقال الفائق من الياقوت الأحمر ثلاثة آلاف دينار، وأما في الدولة العباسية فإن الغالب من قيمته أن الجيد منه إذا كان وزن طسوج يساوي خمسة دنانير وأضعفه عشرين ديناراً وسدس مثقال ثلاثون ديناراً وثلث مثقال مائة وعشرين ديناراً ونصف مثقال أربعمائة دينار والمثقال بألف دينار والمثقال ونصف بألفي دينار هذا هذا ما تقرر في أيام المأمون مع كثرة الجواهر في ذلك الزمان، والمثقال من البهرماني بثمانمائة دينار ومن الأرجواني بخمسمائة دينار ومن الجلناري بمائتي دينار ومن اللحمي بمائة دينار والبنفسجي يقاربه والوردي دون ذلك وكان في خزانة يمين الدولة ياقوتة شكلها شكل حبة العنب وزنها اثنا عشر مثقالاً قومت بعشرين ألف دينار وكان للمقتدر فصاً يسمى ورقة آلاس لأنه كان على شكلها وزنه مثقالان إلا شعيرتان اشتراه بستين ألف درهم، وأما في هذا الزمان فإن قيمة الياقوت وسائر الجواهر زادت كثيراً. وأما الياقوت الأصفر فأعلاه ما قارب الجلناري وبعده المشمشي وبعده الاترجي وبعده التبني وبلغت قيمة الأصفر الجيد المثقال مائة دينار، وأما الأزرق ويسمى الأكهب فأعلاه الكحلي ثم النيلي ثم اللازوردي ثم السمائي، وكان في القديم قيمة الجيد من الأزرق عشرة دنانير المثقال وما زاد فتزداد قيمته بأضعاف ذلك، وأما الأبيض فإنه يحمل من سرنديب ويكون رزيناً بارداً في الفم واجوده البلوري الكثير الماء وهو أقل قيمة من سائرها. قال ارسطوطاليس أن مزاج سائر اليواقيت حار يابس وإذا علق شيء من أي أصنافه كان على إنسان أكسبه مهابة في أعين الناس وسهل عليه قضاء حوائجه ودفع عنه شر الطاعون، وقال ابن سينا أن خاصيته في التفريح وتقوية القلب ومقاومة السموم عظيمة، وشهد جمع من القدماء أنه إذا أمسك في الفم فرح القلب وقال النافقي وغيره أنه ينفع نفث الدم ويمنع جموده تعليقاً، وقال ابن زهر أن شرب سحيقه ينفع الجذام وأن التختم به ينفع حدوث الصرح وقال ابن وحشية من علق عليه الياقوت الأحمر اتسع رزقه وتصرفه في المعاش، وفي زماننا هذا حجر نفيس يعرف بعين الهر لشبهه إياها كان فيه زئبق يتحرك يتغالى فيه الملوك والأمراء ويقال أنه من أصناف اليواقيت ويظهر من معادنها، وقيمته إذا كان فائقاً وزنته نحو نصف مثقال ألف درهم فما فوقها ويقال أنه وقاية لعين المجدور.

القول على البلخش ويسمى اللعل بالفارسية وهو جوهر أحمر شفاف مسفر صافي يضاهي فائق الياقوت في اللون والرونق، ويتخلف عنه في الصلابة حتى أنه يحتك بالمصادمات فيحتاج إلى الجلاء بالمرقشيشا الذهبية وهو أفضل ما حلى به هذا الجوهر ومنه ما يشبه الياقوت البهرماني ويعرف باليازكي وهو أعلاها وأغلاها، وكان يباع في أيام بني بويه بقيمة الياقوت حتى عرفوه فنزل عن تلك القيمة وقرر أن يباع بالدرهم دون المثقال تفرقة بينه وبين الياقوت، ومنه ما يميل إلى البياض ومنه ما يميل إلى البنفسجية وهما دون الأول ومعدنه بالمشرق على مسير ثلاثة أيام من بذخشان، وهي له كالباب ومنه ما يوجد في غلف شفافة ومنه ما يوجد بغير غلاف وشوهد منه ما يزيد وزنه على المائة درهم وكانت قيمته في القديم عن كل درهم عشرين ديناراً وربما زاد عن ذلك وليس لهذا الجوهر منفعة كالياقوت بل يشترى لحسنه. القول على البحادي ويعرف بالبنفش وهو حجر يشبه الياقوت بعض الشبه إلا أنه لا يضيء غالباً حتى يلعق من تحته بالحفر ليشف عن البطائن وشبه ارسطوطاليس لونه بنار يشوبها دخان ومنه ما يجلب من سرنديب وهو أرفع طبقاته ويعرف بالماذيني، ومنه ما يجلب من بذخشان ومنه ما يجلب من بلاد المغرب ويعرف بالقروي، ومنه ما يجلب من بلاد الافرنجة ومنه صنف يشوبه صفرة خلوقية ويعرف بالاسبادشت ويوجد في الخراساني منه ما يكون وزنه نصف من. أما السنديبي فإنه لا يتجاوز مقدار الياقوت بكثير وزن، وقيل أن الجيد منه يلتقط زغب الريش المنتوف ويبلغ قيمة الدرهم منه ديناراً واحداً، قال ارسطوطاليس أن من تختم بوزن عشرين شعيرة منه لم ير في منامه أحلاماً ردية ومن أدمن النظر إليه نقص نور عينيه وقال ابن أبي الأشعث لبسه يورث الخيلاء ويحرك الشبق، وأما الاسبادشت فإنه يقطع الرعاف ونزف الدم تعليقاً إذا كان وزنه نصف مثقال فما فوقه. القول على الماس هو جوهر يشبه الياقوت في الرزانة والصلابة وعدم الانفصال عن الحديد وقهره لغيره من

الأحجار وهو شفاف فيه أدنى بريق ويوجد فيه الأبيض والزيتي والأصفر والأحمر والأخضر والأزرق والأسود والفضي والحديدي وأشكال الماس كلها مضرسة مخروطية ومثلثات من غير صنعة والهند تفضل منه الأبيض والأصفر بسبب ما يظهر منهما من الشعاع الأحمر بقوس قزح إذا أقيما في مقابلة عين الشمس، وأما أهل العراق وخراسان فلا يفرقون بين ألوانه لأنهم إنما يستعملونه في ثقب الجواهر خاصة ومعدنه بقرب معدن الياقوت، وله معدن بقرب غزنه ومعدن بمقدونية من بلاد الروم ولونه كلون النوشاذر، ومعدن باليمن وهو حديدي اللون ومعدن بقبرس وهو فضي اللون رخو، ومن غريب حال الماس أنه إذا طرق بمطرقة على سندان نكأ فيهما ولا ينكسر وإذا لف في صفحة اسرب وضرب انكسر، وغالب ما يوجد منه قطع صغيرة بقدر الفلفل ونحوه، وكان قيمة هذا قديماً المثقال بمائتي دينار وما كان بقدر البندقة أو قاربه فيكون قيمته من ثلاثمائة إلى خمسمائة دينار. وحكى نصر الجوهري أن معز الدولة بن بويه الديلمي أهدى إلى أخيه ركن الدولة من الماس فصاً وزنه ثلاثة مثاقيل ولم يسمع بأعظم منه، وأخبرني السيد الشريف ناصر الدين الترمذي أنه رأى عند السلطان قطب الدين ملك الهند من الماس الجيد الجليل القدر شيئاً كثيراً جداً ولعلهم لا يسمحون بخروج جيده من أرضهم لأنهم يتيامنون به، قال ارسطوطاليس الماس بارد يابس في الرابعة يثقب به الياقوت وسائر الأحجار الصلبة ومتى كان في مجرى البول حصاة فتلصق حبة من هذا الحجر في حديدة كالقاثاطير ثم يدخل في القضيب لتماس الحصاة فتفتتها ولا ينبغي أن يدخل الفم فإنه يكسر الأسنان وإن ابتلع منه شيئاً فربما قتل. القول على الدر واللؤلؤ الحيوان الذي يتولد فيه اللؤلؤ هو بعض الأصداف وهو دقيق القوائم لزج ينفتح بإرادة منه وينضم كذلك ويمشي أسراباً ويزدحم على المرعى واختلفوا في تولده في هذا الصدف فمنهم من قال أنه يتكون فيه كما يتكون البيض في الحيوان البياض ذكر ذلك جمع من المحققين، وقيل بل يطلع إلى سطح البحر في شهر نيسان وينفتح الصدف ويتلقى المطر فينعقد حباً ذكره نصر الجوهري وكثير من الناس وأقول عند التدقيق لا تضاد بين القولين لجواز أن

يكون تكون اللؤلؤ في صدفه كتكون البيض ويكون قطر نيسان له بمثابة النطفة. وقال الكندي أن موضع اللؤلؤ من هذا الحيوان داخل الصدف وما كان منه مما يلي الفم والأذن فهو الجيد منه وقالوا أن الحب الكبير إنما يتكون في حلقومه ويزداد بالتفاف القشور عليه والدليل على ذلك أنه يوجد طبقات والداخلة منها شبيه بالخارجة وكلها تشابه باطن الصدف وله مغاصات مشهورة في البحر الأخضر ويوجد في مجازات بين تلك المغائص وبين تلك السواحل، ومن المغاصات المشهورة مغاص أول بالبحرين ومغاص دهلك والسرين ومغاص الشرجه باليمن ومغاص القلزم بجوار جبل الطور ومغاص غب سرنديب ومغاص سفالة الزنج ومغاص اسقطرة وقد يتفق في بعض المغاصات مانع من الغوص كالحيوانات المؤذية التي في مغاص القلزم، ولهذا يدهن الغواصون عند الغوص أبدانهم بالميعة السائلة لأن الهوام البحرية لا تقربها. ويختلف اللؤلؤ باختلاف المغاصات من جهة تربة المكان وغذاء الحيوان كما تغلب الرصاصة على اللآلئ القلزمية والدهلكية والوقت الذي يغاص فيه هو من أول نيسان الرومي إلى آخر شهر أيلول وفي ما عدا هذه المدة يسافر هذا الحيوان من السواحل وبلجج ويختلف اللؤلؤ بالمقدار فمنه الكبار والصغار وما بين ذلك وأعظم ما وجد منه اليتيمة التي كانت عند عبد الملك بن مروان ذكر أنها كان وزنها ثلاثة مثاقيل وكانت مع ذلك حائزة لجميع صفات الحسن مدحرجة نقية رطبة رائقة ولذلك سميت اليتيمة ولم يذكر عنها قيمة لكن ذكر الأخواني الرازيان أنهما شاهدا في خزانة الأمير يمين الدولة حبة ذات قاعدة وزنها مثقالان وثلث وأنها قومت بثلاثين ألف دينار، ويختلف اللؤلؤ أيضاً من شكله فمنه المدحرج ويعرف بالعيون وإذا كثرت استدارته وماؤه سمي نجماً، ومنه المستطيل الزيتوني ومنه الغلامي وهو المستدير القاعدة المحدد الرأس كأنه مخروط ومنه الفلكي المفرطح ومنه الفوفلي واللوزي والشعيري، ومنه المضرس وهو دونها شكلاً، ويختلف اللؤلؤ أيضاً من لونه فمنه للسقي البياض ومنه الرصاصي ومنه العاجي وصفرته غالباً في حساب المرض له وإذا فاز وطال زمانه أسود، واللؤلؤ سريع التغير لأنه حيواني بخلاف الجواهر المعدنية إذ أن أعمارنا لا تفي بتغير أكثرها، ويثقب هذا الحب لأنه يزداد بحسن التأليف في إلا حسناً ورونقاً وقيمة وإنما بثقب بالماس فلذلك لم يستعمل الأطباء في الأدوية النظم البكر

غير المثقوب. والقيمة عن الدر في القديم النجم إذا كان وزنه مثقالاً كانت قيمته ألف دينار وإذا كان وزنه ثلثي مثقال كان قيمته خمس مائة دينار وإذا كان وزنه نصف مثقال كانت قيمته مائتي دينار وإذا كان وزنه ثلث مثقال كانت قيمته خمسين ديناراً وإذا كان وزنه ربع مثقال كانت قيمته عشرين ديناراً وإذا كان وزنه سدس مثقال كانت قيمته خمسة دنانير وثمن مثقال قيمته ثلاثة دنانير ونصف سدس مثقال قيمته دينار واحد، والغلامي بالنصف من قيمة النجم وما عداهما بالنصف من قيمة الغلامي، وأما ما زاد على وزن مثقال فيزاد لكل قيراط في الوزن مائة دينار في الثمن إلى أن يبلغ مثقالاً ونصفاً ثم يزاد لكل دانق في الوزن خمس مائة دينار في الثمن إلى أن يبلغ مثقالين وما زاد عليه تتضاعف قيمته، وأما الآن فالقيمة على قياس الجواهر متضاعفة لكثرة الرغبات من ملوك العصر في اقتناء الجواهر النفيسة، وأما صغاره فبالدرهم يقوم، وخاصية اللؤلؤ المنفعة من خفقان القلب وتوحشه ويجلو العين ويزيد في الباه ويقطع نزف الدم وشربته درهم والمحلول منه يذهب البهق والبرص والكلف والنمش طلاءً ويبرئ الصداع والشقيقة سعوطاً، وصفة حله أن يسحق ويعجن بماء حماض الأترج ويعلق في دن فيه خل بحيث يرتقي إليه بخار الخل فإنه ينحل في ثلاثة أسابيع وهو يابس في الدرجة الثانية بارد في الأولى وقيل حار فيها لطيف جداً. قال نصر الجوهري: إذا ذهب ماء اللؤلؤ وكدر فينبغي أن يودع إليه مشروحه وتلف الألية في عجين مختمر ويجعل في كوز ويحمى عليه فإذا خرج دهن بالكافور وقال أبو الريحان البيروني إن ما كان تغيره من قبل الطيب فيجعل في قدح مطين فيه صابون ونورة غير مطفية جزآن متساويان ويصب عليه ماء عذب وخل خمر ويغلى في نار لينة ولا يزال ترفع رغوة الصابون وترمى بها إلى أن تنقطع ويصفو الماء في القدح وبعد ذلك يخرج اللؤلؤ ويغسل، وإن كان التغير في اديمه إلى السواد فينقع في لبن التين أربعين يوماً ثم ينقل إلى قدح فيه محلب وكافور وخروع أجزاءً سواءً ويوضع على نار فحم مقدار ساعتين بدون نفخ عليها ثم ينحى، وإن كان السواد في باطنه طلي بشمع وجعل في قدح مع حماض الأترج ويبدل عليه كل ثلاثة أيام وتدام حتى يبيض، وإن كان في اديمه صفرة نقع في لبن التين أربعين يوماً ثم نقل إلى قدح فيه قلي وصابون وبورق بالسوية ويفعل فيه كما يفعل

بالأسود، وإن كانت الصفرة في داخله جعل في محلب وسمسم وكافور متساوية الأجزاء مدقوقة ثم تلف فوقها عجين وتوضع في مغرفة حديد وتغمر بدهن الأكارع وتغلى غليتين ثم تخرج، وإن كان أحمر غلي في لبن الحليب ثم طلي باشنان فارسي وشب يماني وكافور أجزاء متساوية تدق ناعماً وتعجن بلبن حليب ويطلى به طلياً ثخيناً وتودع جوف عجين قد عجن بلبن حليب ويخز في التنور، وإن كان رصاصياً نقع في حماض الأترج ثلاثة أيام ثم يغسل بماء البيض ويحفظ من الريح بالقطن، وذكر غيرهما في تبييض الفاسد أن يلقى في خل ثقيف مع حبشين تنكار وقيراط نوشادر وحبة بورق وثلاث حبات قلي مسحوقة وتغلى في مغرفة حديد ثم ترفع المغرفة عن النار وتوضع في ماءٍ بارد ويدلك فيه بملح اندراني مسحوق ناعم ثم يغسل بماءٍ عذب ولا يبعد أن هذا العمل ينزع عنه قشرة الأعلى أو بعضه والتجربة خطر. القول في الزمرد الخضرة تعم أصنافه كلها وأفضله ما كان مشبع الخضرة ذا رونق وشعاع لا يشوبه أسود ولا صفرة ولا نمش ولا حرمليات ولا عروق بيض ولا تفوت، وليس يكاد يخلص عنها ودونه الريحاني الشبيه بورق الآس الرطب ودونه السلقي الشبيه بورق السلق الطري وأهل الهند والصين تفضل الريحاني منه وترغب فيه، وأهل المغرب يرغبون لما كان مشبع الخضرة وإن كان قليل الماء ويزداد رونقاً إذا دهن بزيت بذر الكتان، وإذا ترك بدون دهن يذهب ماؤه ويمتحن بالعقيق المحدد فإن خدشه فهو من أشباه الزمرد ومعدنه بسفح جبل قرشندة من أرض البجاة بصعيد مصر الأعلى وأكثر ما يظهر منه خرز مستطيلة ذات خمسة أسطحة ويسمى أقصاباً وثقبه يشينه بعكس اللؤلؤ وظهر في زماننا هذا من هذا المعدن قطع لم يسمع بمثلها في العظم ما يقارب زنة من ونحو ذلك، والمشهور أن الدهنج يكدر الزمرد إذا ماسه فيذهب رونقه وهو الآن بدون القيحة التي كانت في القديم بخلاف سائر الجواهر وما ذلك إلا لكثرته، فإن أبا الريحان البيروني حكى أن زنة نصف مثقال من الجيد منه يساوي ألف دينار وقيل أن منه صنفاً يعرف بالذبابي أنه يشبه الذباب الطاوسية التي تكون في المروج وإن من خاصية هذا الصنف ولكنني امتحنت الريحاني والسلقي في هذا الأمر فلم يصح ولا تغيرت أعين الأفاعي وخاصية الزمرد النفع من السموم المشروبة

ونهش الأفاعي ولدغ العقارب يؤخذ من سحيقه تسع شعيرات ويجد شاربه في بدنه وجعاً عظيماً وانحلالاً في قوته ثم يفيق وقد انتفع ويوقف الجذام في ابتدائه ويقطع الإسهال المزمن ونفث الدم شرباً وتعليقاً ويقوي المعدة وينفع الصرع تعليقاً وإمساكه في الفم يقوي الأسنان والمعدة وإن علق على فخذ المطلقة أسرعت الولادة وإدمان النظر إليه يجلو البصر ويحده وطبعه بارد يابس. القول على الزبرجد هو صنف واحد فستقي اللون شفاف لكنه سريع الانطفاء لرخاوته وقيل أن معدنه بالقرب من معدن الزمرد ولكنه مجهول في زماننا هذا ومع ذلك فقيمته نحو قيمة البنفش وطبعه حار يابس وتقرب منافعه من منافع الزمرد ويدفع شر العين. القول على الفيروزج معنى اسمه بالفارسية النصر ولذلك يسمى حجر الغلبة ويسمى أيضاً حجر العين لأن حامله يدفع عنه شرها والمشهور عنه أنه يدفع الصواعق وهو حجر أزرق أصلب من اللازورد يجلب من أعمال نيسابور، وكلما كان أرطب فهو أجود والمختار منه ما كان من المعدن الأزهري والبوسحاقي لأنه مشبع اللون صقيل مشرق، ثم اللبني المعروف بشيرقام، ثم الاسمانجوني الغميق، قال أبو الريحان أعظم ما وجد من الفيروزج وزن مئة درهم ولم يوجد من الخالص منه غير المختلط بشيء غيره إلا وزن خمسة دراهم، وبلغت قيمته مائة دينار قال الكندي وقد كرهه قوم بسبب تغيره بالصحو والغيم والرياح وتصفير الروائح الطيبة له واذهاب الحمام لمائه وإماتته بالزيت وكما أنه يموت بالزيت كذلك يحى بالشحم والالية يعالج بأن يجعل في أيدي القصابين، قال بن زهر: إن الملوك تعظم هذا الحجر لأنه يدفع القتل عن صاحبه ولم ير في يد قتيل قط ولا في يد غريق وإذا شرب منه نفع لدغة العقرب، وقال الغافقي إنه بارد يابس، وقال ديسقوريدس أنه يقبض نتو الحدقة وينفع بثرها ويجمع حجب العين المنحرقة ويجلو الغشاوة، وقال ارسطوطاليس أنه ينقص من هيبة حامله، وذكر هرمس أنه إذا نقش عليه صورة طائر في فمه سمكة وجعل في خاتم وتحته شيء من خصي الثعلب ويكون القمر وعطارد في الثور فإن حامله يقوى على الجماع وتزداد شهوته له، وقال ابن أبي الأشعث أنه يقوي القلب إلا أنه دون الياقوت، ووجدت

نقلاً عن بعض الأطباء أنه أقوى في تقوية النفس من سائر الأحجار. القول على البلور يجلب من خزائن الزنج ومن كشمير ومن نواحي بذخشان وله معدن ببدليس ومعدن بأرمينية ويجلب أيضاً من سرنديب ومن بلاد افرنجة ومن المغرب الأقصى ومنه ما يلتقط من البوادي، وقيمته بحسب ما يعمل منه من الأواني وحسن صنعتها ووجد منه قطعة زنتها مائة رطل بالعراقي وأفضله المستنبط من بطن الأرض ويكون ساطع البياض كثير المائية رزيناً صلباً بحيث يقدح منه النار ويخدش كثيراً من الجواهر بخلاف الملتقط من ظاهر الأرض ومن خاصيته أنه من علقه عليه لم ير مناماً يفزعه ورأى أحلاماً حسنة ويسقى منه مثقال بلبن الاتن لأصحاب السل فينفعهم وينفع الرعشة تعليقاً. القول على الجمز ويقال جمست هو حجر يشبه الياقوت البنفسجي وأعلاه ما غلبت عليه الوردية ومعدنه بقرية صفراء بالحجاز، ويوجد مغشى ببياض كالثلج على وجهه حمرة ووجد منه قدر الرطل وأكثر ينفع وجع المعدة تعليقاً والشرب بآنيته يبطي بالسكر وقيمته رخيصة. القول على الدهنج هو حجر رخو شديد الخضرة تلوح فيه زنجارية وفيه خطوط سود دقاق جداً، وربما شابه حمرة خفية ومنه طاوسي ومنه موشى وقيل أنه يصفو بصفاء الجو ويكدر بكدورته ومنه افرندي وهو أفضل أصنافه ومنه هندي ومنه كرماني وخراساني ومنه كركي ومنه معزل والهند نرى أنه ضرب من التوتيا ويكون رخواً وقت إخراجه من معدنه ثم يزداد صلابة، وقال ارسطوطاليس إن شرب منه شارب السم نفعه وإن شرب منه من غير سم كان سماً، وقد وثق عامة الناس من الفرندي أنه يجلو بياض العين جلاءً حسناً. القول على اليشب ويقال يشم منه مجلوب من بلاد الترك وألوانه أبيض وأصفر وزيتي وهو أفضلها، ومنه مستخرج من ناحية ختن من واديين يسمى أحدهما فاش ويستخرج منه أبيض فائق ويسمى الآخر واقاش والمستخرج منه كدر، وربما خرج منه شيء أسود لا يوصل إلى معدنه وإنما

السيل بخرجة والقطع الكبار للملك والصغار للرعية والترك، وأهل الصين تتخذ منه مناطق وحلية للسيوف والسروج حرصاً على الغلبة وزعموا أنه يدفع الصواعق وجرب من الأصفر والزيتي أنه ينفع وجع المعدة تعليقات عليها وينفع أوجاع الأحشاء. القول على الغازدهر ويقال بازهر ومنه معدني ومنه حيواني والمعدني منه أبيض وأصفر وأخضر وأغبر ومسكت وهو أفضلها ومعادنه بالهند والصين والخالص منه إذا ألقي من سحالته شيء في لبن حليب جمده ويعرق في الشمس وهو نافع من جميع السموم ومقدار ما يشرب منه اثنا عشر شعيرة فيخرج السم بالعرق من الجسد، وإذا وضع على لسع العقرب أو الزنبور نفع نفعاً بيناً وإذا أنثرت سحالته على موضع اللسع اجتذبت السم منه وجرب أنه إذا نقش في فص منه صورة عقرب والقمر في العقرب في أحد أوتاد الطالع وركب على خاتم ذهب وطبع به والقمر في العقرب على درهمين كندر ممضوغ فإنه يشفي من لسعة العقرب شرباً، وأما الحيواني من البازهر فإنه يتولد في مراير بعض الأياييل بأرض شنكاره من جبال شيراز كما يتولد حجر البقر في مريرها وأكثره بلوطي الشكل لونه بين الخضرة والغبرة ويتراكم طبقات بعضها فوق بعض في المسن من هذا الحيوان حتى يبلغ زنة البلوط منه عشرة مثاقيل مع خفته وهو جوهر شريف يقاوم سائر السموم شرباً إذا شرب منه من دانق إلى نصف درهم يسحل على المسن بالماء القراح وسحالة الخالص بيضاء وربما تميل إلى حمرة خفية والمغشوش منه سحالته تميل إلى خضرة أو صفرة وإذا تقدم إنسان باستعماله على سبيل الاحتياط، وشرب منه في أربعين يوماً متوالية كل يوم وزن دانق لم يضره ما يرد على بدنه من السموم وينفع المجزومين نفعاً بليغاً ويجلو بياض العين والكلف والنمش جلاء، وحيا ويحل مغل الدواب وأسر بولها سريعاً. القول على الخرتوت ويقال ختو قال أبو الريحان البيروني هو حيواني يقال أنه يؤخذ من جبهة ثور يكون في نواحي بلاد الترك بأرض خرخيز، وقيل بل من جبهة طائر عظيم يسقط في بعض تلك الجزائر وهو مرغوب فيه عند الترك وأهل الصين يزعمون أنه يعرق إذا قرب من طعام مسموم، قال الأخوان الرازيان خيره المعقرب الضارب من الصفرة إلى الحمرة، ثم

المشمشي، ثم الضارب إلى الكهوبة وكان في القديم ما كان وزنه مائة درهم فقيمته من مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً، وجرب من دخان بخوره أنه ينفع البواسير نفعاً بليغاً، وليكن هذا آخر هذا الكلام في هذا الكتاب واقتصرت على ذكر هذه الجواهر لأنها النفيسة التي تدخرها الملوك والأكابر وتتحلى بها الغواني، ومنافعها جليلة ولم أطل فيه القول بكيفية تولدها لعدم الفائدة في ذلك ولا ذكرت ما يلتحق بها مثل المرجان والسبح ونحوهما لنزول رتبتها عن هذه الجواهر النفيسة، وقد آن ختم الكتاب بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وآله وصحبه الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المطبوعات العربية

المطبوعات العربية كان أول كتاب عربي مثل بالطبع في القرن الخامس عشر للميلاد في رومية العظمى كرسي البابوية فطبعت على ذاك العهد أمهات من الكتب النافعة كأسفار ابن سينا وغيره وعني الطابعون بتصحيحها ومعارضتها على أصول وقعت إليهم فدلوا بذلك على أن حب الإتقان واختيار الأجود تكاد تكون غريزة في الغرب ثم انصرفت الرغبة في أوروبا إلى تعلم لغات الشرق ولا سيما العربية فطبع المستشرقون من الفرنسيس والألمان والهولانديين وغيرهم كتباً جليلة لنا وبذلوا مجهودهم في تصحيحها ووضع الفهارس والمعاجم لها والدلالة على ما فيها من فوائد وأوابد وشوارد، وكل هذه المطبوعات على سقم الحروف التي كانوا يستعملونها في مطابعهم كانت على غاية من جودة الورق ومتانته وجمال الوضع والشكل. ولما دخل الطبع إلى البلاد العثمانية سنة 1135 هـ تأسست في اسكدار إحدى أحياء الأستانة أول دار للطباعة كان في جملة المطبوع من الكتب العربية بعض كتب دينية وبينها بعض الكتب العلمية والتاريخية إلا أن الطباعة لم تكن على الإتقان المطلوب والعناية بالتصحيح كانت دون عناية الأوروبيين بكثير أما الفهارس والتبويب فلم يحفلوا بها لما يحتاج وضعها إليه من طول النفس وسعة الصدر وكثرة العلم. ولما قام محمد علي الكبير في القطر المصري والياً عليها وأراد أن يجعل لها شأناً في الحضارة لتدخل في عداد البلاد الراقية كان مما قام به تأسيس المطبعة الأميرية الكبرى فشرعت تطبع الكتب المعتنى بها متخيرة لها أجود الحروف وأجود الورق وخيرة المصححين والناظرين، وإن بعض الكتب التي نشرتها تلك المطبعة على أوائل عهدها لا تزال إلى اليوم مثال الإجادة ومنها كتاب كلستان الفارسي للحافظ الشيرازي والقاموس المحيط للفيروز آبادي. وما برحت أحوال المطبعة الأميرية عرضة للقلب والإبدال على ما يكون حال الإدارات والمشاريع في الشرق غالباً تختلف سقوطاً وارتفاعاً بحسب إرادة القائم عليها وهي تطبع مع تلك الكتب القديمة التأليف الأسفار التي عني الشيخ رفاعة الطهطاوي وجماعته بتعريبها من اللغات الافرنجية ولا سيما الافرنسية فجاءت إلا قليلاً نموذج الجودة شكلاً ووضعاً. ثم أخذ بعض التجار في أواسط القرن الماضي بمصر يفتحون المطابع ويطبعون الكتب

للتكسب منها فقط فوضعت لهم بعض أمهات الحروف ولكنها سقيمة بالقياس إلى حروف المطبعة الأميرية وزادها سقماً أن أولئك الطابعين طفقوا يتخيرون من الورق أرأده ويقتصدون في التصحيح حتى لقد يعهدون به وأكثرهم أميون لا يقرأون الكتاب إلى أناس يماثلونهم في ضعف المدارك والعلم فكانوا إذا أحسنوا وأجادوا يطبقون المطبوع بالحرف على ما عندهم من الأصل وربما كان في البلد على قيد غلوة منهم خمس نسخ أو عشر من ذاك الكتاب كتبت في أوقات مختلفة وهم لا تحدثهم أنفسهم بأن يعارضوا عليها نسختهم التي يطبعون عليها وإن يذبلوها كما جرت عادة الأوروبيين بوضع اختلاف النسخ في أسفل الصفحات، أما التبويب والفهارس المتقنة فليس لها أثر فيما طبعه أولئك المتجرون ببضاعة العلم. وعلى ذاك العهد فتحت بعض المطابع في بيروت على يد بعض الجمعيات الدينية المسيحية وكان سبق لبعض الأديار في لبنان أن كان لها مطابع حجرية، طبعت بعض الكتب الدينية واللغوية ومن جملتها شرح الزوزني على المعلقات وهو طبع حجري لا حرفي، فتخيرت مطابع تلك الجمعيات الكتب الدينية أولاً وأجادت بعض الشيء في طبعها ثم ارتقت الطباعة إلى أن أصيبت ببائقة المراقبة فانقطعت الرغبات عن الطبع بل زهد الناس في تعلم العربية ورأوا ربحهم المادي من اللغات الأعجمية أكثر وأنشأ دير الفرنسيسكان في القدس مطبعة طبعت بعض كتب وأكثرها في الدين ومثلها دير الدومينيكين في الموصل طبع مع كتب الدين كتباً علمية قديمة وحديثة ومنها تآليف المطران يوسف داوود العالم المشهور، وأنشئت إذ ذاك في دمشق مطبعتان إلا أنهما لم تطل أيامهما حتى تزيد العناية بإتقان مطبوعاتهما بالاقتصاد من التصحيح والعناية والورق والشكل ورص السطور والكلمات بعضها فوق بعض بدون فواصل ولا تقطيع وكانت أكثر مطبوعاتهم في فروع الفقه والنحو والكلام والزهد والخلاعة مما ألفه المتأخرون وفيه من الحشو واللغو والموضوع والمصنوع ما كثر ضرره في عقول الطالبين والمتأدبين. ومنذ عادت إلى العربية بعض نضرتها الأولى أيام هب منذ بضع سنين أناس استناروا بقبس الغرب أصبحت المطابع تستحي من طبع التآليف الساقطة وتستشير أهل الرأي في تخير المصنفات للطبع ولو عملوا بنصائح العلماء كل حين لما أخرجوا كتاباً للناس قبل

بذل الجهد في تنقيحه وتصحيحه وإتقان طبعه ووضعه ولكن ما الحيلة وهم يعتقدون كما قلنا أن الربح لا يتيسر لهم إلا بمثل هذا الاقتصاد البارد، وما أعجب إلا من طابع يطبع كتاباً يكلفه الألف والألفي ليرة ثم يبخل بعشرات من الليرات أو بعض النسخ جائزة لمن يتقن النظر فيه. أما سائر المطابع المصرية كمطابع الصحف فلم تطبع شيئاً يذكر من الكتب المهمة وإن كانت أكثر سخاء من أولئك التجار في إتقان الطبع وجودة الورق وحسن التنسيق، ولم نر في المطبوعات التي انتشرت في العهد الحديث أتقن وأجمل وأصح من كتاب المخصص لابن سيده تعاورته بالتصحيح أيدي بعض العلماء الأخصائيين المحققين فجاء مزيداً في بابه لانخجل منه إذا نظر فيه عالم أوروبي كسائر مطبوعاتنا الأخيرة. نقول هذا ونحن على مثل اليقين في أن ماطبع من الكتب العربية في بلادنا ما عدا بعض كتب طبعت في المطبعة الأميرية في مصر وبعض كتب لغوية أدبية طبعت في المطبعة اليسوعية في بيروت لا ثقة للمستشرقين به، وقد أكد لنا أحدهم أن كل نقل ينقله أحد مؤلفيهم من كتاب عربي طبع في الشرق تسقط مكانته وإن جمهورهم لا يعترف بالصحة إلا لكتاب عربي طبعه أوروبي ولكن هذا لا يخلو من غلو أيضاً. أليس من العار أن تكون سيرة ابن هشام التي طبعت في ألمانيا أصح من الطبعة التي طبعت في المطبعة الأميرية نفسها وهي التي كنا نقرظها الآن بجودة الطبع واختيار المصححين وقد نبغ منهم فيها أمثال الشيخ نصر الهوريني وأمثاله. أليس من العار أن يطبع امرؤ القيس الطحان أو (ماكس موللر) الألماني طبقات الأطباء لبن أبي أصيبعة في مصر فيخرج بجودة تصحيحه وفهارسه على ما تراه وتطبع مصر كتاباً لأحد كبار فقهائها الذين تفاخر بهم وهو كتاب طبقات الشافعية للسبكي فيأتي مشعثاً سقيماً كما تشهد، نعم إن نفس تأليف ابن أصيبعة أرقى وأمتع من مصنف السبكي في بابه ولكن إتقان الطبع والتصحيح والفهارس هو الذي نبكي على فقده بين أظهرنا وهو موضوع بحثنا الآن. أي فرق بين كتاب لنا طبع مرة في أوروبا وأخرى في الشرق، بالله كم تساوي نسخة معجم البلدان لياقوت طبع أوروبا إذا قيست بالنسخة التي نقلت عنها وطبعت في مصر أو كتاب

الكامل المبرد المطبوع في أوروبا إذا قيس بالطبعة الثانية المصرية التي نقلت عنه فكانت الصحة تغلب عليها أكثر من الكتب التي نطبعها ابتداءً. ومن غريب أمر الطابعين في مصر أنهم يستحلون طبع الكتب التي تعب علماء المشرقيات من الأوربيين في أحيائها فيعيدون طبعها بالسقم المعهود في مطابعنا فتجيء والعين تنبو عن النظر إليها دون الطبعة الأوروبية بمراحل ومع هذا يستنكف أولئك الأمناء أن يشيروا إلى النسخة المنقول عليها تمويهاً بأنهم هم ناقلوها عن أصل مخطوط ظفروا به وتكلفوا في البحث عنه ضروب المشقة والنفقة كأن أولئك الفضلاء الذين لهم الفضل الأكبر في إحياء مآثر أجدادنا غير أحرياء أن يذكروا بكلمة شكر لمعاونتهم لنا. وإنا لنرى حتى الآن خزائن الكتب في بلادنا طافحة بالمخطوطات من الأمهات التي تجب المبادرة إلى تمثيلها بالطبع على مناحي الغربيين ونرى طابعينا وكتبيينا يكررون طبع تلك الكتب المألوفة والمستنير الفكر منهم يمد يده إلى كتاب طبعه أوروبي فعانى عرق القربة في سبيل نيله فيعيد طبعه مدعيه لنفسه وإنه هو الذي أحياه، وخزائن كتب الأستانة وخزانة دار الكتب المصرية وحدها مملوءة بالنوادر التي لو أحييت على الطريقة التي تجب من العناية لكان فيها الربح الجزيل والشرف الأثيل لطابعيها وناشريها. لو بذل أرباب المطابع في مصر والشام والأستانة وبغداد وتونس وفاس بعض عناية الأوروبيين بكتبنا قبل أن يمثلوها بالطبع لكان عندنا اليوم من المطبوعات العربية ما نفاخر الأمم بكميته وإتقانه، نحن لا نقول لطابعينا أن يتأنقوا ويبالغوا في التصحيح كما يبالغ أكثر المستشرقين في الطبع بأن يرسلوا أحياناً الملازم المصفوفة حروفها من مملكة إلى أخرى لتعارض على الأصل الآخر الذي هناك أو لتدفع لعالم متمكن من الفن الذي جعل الكتاب في موضوعه يمر عليها نظره وإنما نريدهم على السخاء المعتدل في التصحيح وجعله من أوليات المسائل في الطبع لا مناص من توسيده إلا للعالمين به كما لا مهرب من إعطاء أجرة المنضد والمرتب والطابع والمجلد لكل من أراد أن ينشر كتاباً. طبعت بعض مطابع الهند وفارس كتباً عربية كثيرة ومعظمها بالحجر في موضوعات دينية من حديث وفقه وكلام ولكن بعضها على العجمة المستحكمة من السن أهل تلك البلاد تكاد تكون أقرب إلى الصحة والضبط من بعض ما طبعه العرب من أرباب الطباعة في هذا

الشرق الأدنى. أما الآن وقد رفع الحجر عن العلم في البلاد العثمانية وأصبحت كالديار المصرية في حريتها فالفرض العيني على المتجرين بالكتب والمتمحضين لخدمة الآداب والعلم أن يسارعوا إلى استنساخ ما حوته خزائننا العامة والخاصة من الأسفار الممتعة ويحذوا حذو الأوروبيين في التصحيح والشكل والفواصل والتقطيع والفهارس المنوعة حتى ينتفع المراجع بفوائد الكتاب لأول وهلة ويسقط على ما يريد معرفته منه بأدنى نظر دون إنهاك القوى في تصفحه كله على غير جدوى من أجل العثور على مسألة أو اقتباس جملة، وبذلك يرفعون العار عن العربية الذي يشيعه عنها الجاهلون فضلها فيرمون كتبنا عنها بأنها معقدة غير متسعة وأن المطالعة في كتب جعلت جملة واحدة ضرب من العنت وإضاعة الوقت على غير طائل، وإفناء العمر في باطل وعاطل.

رسائل بليغة

رسائل بليغة وقع إلينا كتاب مخطوط وقد كتب على جلده بخط حديث لا تحزن إن الله معنا حكمة بالغة لبعض الحكماء: لا مجد كمجد من يخدم وطنه، وقال اسكندر دوماس الفرنسوي المشهور: إن الأشرار يتحاملون على النفوس الشريفة بيد أنهم لا يستطيعون له أذىً فهي (أي النفوس الشريفة) كالصخور الصوانية تطغو عليها أمواج البحر عند هبوب العواصف فتظن أنها قد أغرقتها وهي قد غسلتها فتعود في نور الشمس أكثر جلاءً. وليس لهذا المجموع اسم ولا عرفنا اسم جامعه ولا سنة نقله وإنما الطاهر من خطه المشرقي أنه مما كتب قبل الألف للهجرة وهو في ستة وأربعين ورقة من قطع الربع. وفي الورقة الأولى منه صورة سؤال كتبه الشيخ الفقيه المفتي أبو محمد عبد الحميد بن أبي الدنيا إلى الفقيه الإمام العلامة الشيخ عز الدين أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام رضي الله عنهما فيمن تصدى للفتيا والجواب عليها وقد استغرق السؤال والجواب ورقتين. أما المجموع فهو رسائل لبعض البلغاء فالرسالة الأولى كتاب الفقيه المشاور أبو محمد عبد القوي في زواج ابنته إلى أحد الفقهاء وكتاب لأبي بكر بن صاحب الصلاة إلى بعض إخوانه يوصيه بالتحفظ بكتبه من الفار وكتاب له إلى بعض إخوانه يصف جامع قرطبة جاء فيه: والجامع قدس الله بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه، قد كسي بردة الازدهاء، وجلي في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول في سنان، أو أشر في أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، وخلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس قد خلفت فيه ضياءها، ونسجت على أقطاره أضياءها، فترى نهاراً قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوة سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذبال تألق كنضنضة الحيات، أو إشارة السبابات بالتحيات، قد أترعت من السليط (شيرج) كؤوسها، ووصلت بحاجز الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أو كالثعابين العائمة، عصبت بها تفاح من الصفر، كاللقاح الصفر، بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولآلائها، كأنما جليت باللهب، أو أشربت ماء الذهب، إن ساميتها طولاً رأيت منها سبائك عسجد، أو قلائد زبرجد، وإن جئتها عرضاً رأيت منها أفلاكاً ولكنها غير دائرة، ونجوماً ولكنها غير سائرة، تتعلق تعلق القرط من الذفرى، وينبسط شعاعها بسط الأديم حين يغرى، والشمع قد رفعت على النار رفع البنود، وعرضت عليها عرض

الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد. وهنا انتهت الصفحة واختلط الكلام بغيره والغالب أن ورقة سقطت من الوسط، وكان فيها تكملة ذلك الوصف المسجع المستملح، وهناك رسائل كتب بها الوزير الكاتب أبو مروان بن زكريا ورسائل كتب بها ذو الوزارتين أبو بكر بن عبد العزيز منها كتاب كتبه عن أهل قرطبة إلى علي بن يوسف بن تاشغين ونصه: أيد الله أمير المسلمين بالتقوى وعمر به ربع الإسلام فلولا رجاؤه لكان قد خرف في هذه الجزيرة وأقوى وأتم به وعليه النعمى وجعل ذراه الأمنع الأحمى وأمده بالقوة والرحمى وأنار به طريق الهدى وصدع بنظره الحميل جميع العدى وجعله ممن اشتمل بالتوفيق وارتدى وجرى في غايات البر فسيح المدى واتبع آثار الذين هداهم الله واقتدى، كتبناه أدام الله تأييده وطاعته لم تخلق برودها ولم تتقض عهودها ولم يتغير معهودها ونحن لحقه مقدمون ولما أوجب الله من فرض إمامته معظمون ولما قضاه مسلمون ولما أمضاه مستسلمون وبين يدي أشفاقه باكون خاشعون وإلى جنابه وارتماضه (انفعاله) شاكون ضارعون وللحق فيما ينهيه حاكون وبه صادعون وقد ضاقت بالنفوس الحناجر وأسلمت الدموع المحاجر وسمعنا صراخ الأسرى المضطهدين يمنة ويسرة فما ملكنا إلا عبرة أو حسرة ووددنا يوم انتقل الأمير الأجل ولي العهد عن أنظارنا وارتحل من ديارنا أنا لقينا الموت المعجل فأراحنا من الأوجال ولم ترتق الخطوب إلينا حالاً بعد حال وهذا العدو المجاور لنا قضمه الله قد أحرقنا بشررة من ناره وأغرقنا في قطرة من غماره فكيف نكون بعد وقد أشجانا بشؤبوب برد ورمانا بضرم متقد ونحن نستقبل به جمعاً ولا نطيق له بغير الله دفعاً ونترقب آزفة تترك أنوار الإسلام والله الكافي كاشفة ولا تجد لها من دون الله كاشفة بل هو القادر على أن يصرف إلينا نظر أمير المسلمين فيسهل لنا مقاصدها ومسالكها ويرد عنا محاذيرها ومهالكها. وتفسير هذه المقدمة الشديدة الوقوع الكريهة المسموع الأميرة قلعة رباح ومورة نفدت في شهر كذا وأوعب العسكر مع والينا أبي محمد وفقه الله في نقلها ونهضوا بما تحملوا من ثقلها فلما أعنقوا في مضمارهم وبعد عنا ماكنا نتطلع من أخبارهم جاء الصريخ أن عسكر الروم دخل على فج المساجد إلى بلاد الإسلام رد الله عنه كيد عبدة الأصنام وهناك مقاصد شتى شعوبها وغنائم لا يتعذر مطلوبها فأخذ بنا الورع في كل طريق وخفنا على كل جانب

من جوانب المسلمين وفريق وتوجه من بقي في البلد من أهل الفلاحة وغيرهم للإنذار وتقليع الأقطار وأعلام أهل البوادي بنبأ هذا العسكر الجرار ورفعهم عن مواضع سكناهم عسير ولا يرد قدر الله عمن هو قتيل أو أسير واستصرخنا الأمير الأجل أبا زكريا يحيى بن اسحق وفقه الله لهذا الخطب النازل والعدو المغير المنازل فتوانى فيما كان يروم وسبقه إلينا الروم فأغاروا من الوادي الكبير إلى القليعة إلى لورة إلى فرنجولس واجتاز الوادي إلى يلمه وبعض نواحي استجة وكان ذلك في اليوم الثالث من وصول خبرهم إلينا ووروده علينا وأكثر أهل هذه الناحية لم يطيعوا النذير ولا صدقوا التحذير بل غلبهم ضعف المقدرة عن الانتقال وكثرة العيال والأطفال فامتلأت بالسبي الجبال وأسلمت من فيها السهول ولا تعصمهم الجبال وأخذوا من النهاب والإمتاع والحاضر والكراع ما لا يدركه الإحصاء ولا يملكه الاستقصاء وبقوا في ذلك يومين لا يجدون من يرد امتدادهم ولا من يرمي سوادهم حتى غلب أكفهم الانتهاب وضامه بهم المشي والذهاب ووصل كتاب وإلينا أبي محمد بن كركي بعد أخذه في الصدر والقفول من ذلك السفر يذكر ما اتصل به من الخبر ووعدنا بالتشمير في اتباعهم وأخذ الاهبة لقراعهم وتلوه إذن الله في ذلك لاعبين بكثرة الجند واجتماعهم وجاء أيضاً عن والي إشبيلية أنه وصل لورة وسيره حثيث وهو للمسلمين ناصر ومغيث والنصارى قد أثقلتهم الأسرى والغنائم فلا يمشون إلا رويداً ولا ينتقلون إلا صار الأمن لهم قيداً واجتمع الواليان وفقهم الله والعدو لم يبعد طلبه ولا تعذر مطلبه ونفر المسلمون من كل مكان خفافاً وثقالاً فرساناً ورجالاً وقد رأوا أسباب النجح بينة ولوازم الجهاد متعينة ولما تراءت الفئتان قصرت الأقدام وقلّ الإقدام وطفئت الحفائظ وكان لها توقد واحتدام ونسي فرض الإسلام واستخف ثقل الملام ورأى الكافر ما عليه من عساكر تترادف أمدادها وتزيد ضعفاً على من عنده أعدادها فلجأ العدو إلى جبيل لا يعصم الهارب ولا يمنع الطالب وسدل به الرجالة المطوعون فأرهقوه عسراً وحالوا بينه وبين المواشي قسراً وخالطوا الكفار في صعيد وسائر العساكر غير بعيد ورزق الله المطوعين الصبر في محاربتهم والاجتهاد في مطاعنتهم ومضاربتهم فما ذعر الكفار لهم سرباً ولا فلوا لهم غرباً فاستمدوا الولاة وعندهم الكماة وبين أيديهم الرماة فما أمدوهم بحام ولا أعانوهم برام بيد أن الكفار يئسوا من الحياة ولم يطمعوا في النجاة واعتنقوا اعتناق وداع ولا يثقوا بقوة ولا

خداع وفني عمر اليوم والكتائب لم تتحرك وقد أذن الله بالإملاء لمن أشرك وترك الليل فقوض الكافر بجمعه على أعين الناس وأسرى ومعه الدواب والأسرى وقد أهملهم أهل الإسلام ولم ثرع فيهم ذمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وتركت الغنم والبقر سدى واغتالتها يد الردى وانتهبتها أهل الحصون كما تنتهب المغنم المباح وأخذوها كما تؤخذ الفوائد والأرباح ولم يرجع منها إلى أهلها إلا النذر اليسير والتافه الحقير وكان للأسرى عند رحيلهم عجة في الأصفاد وضجة في الأغلال والأقياد تصرع الجماد وتفجر الأحجار الصلاد فما رقت لذلك قلوب أقستها الذنوب وبعد عنها نصر الله وهو قريب ومنعها من حسن اليقين شك مريب، ومعظم الشكوى بأهل إشبيلية فإنهم أظهروا المباعدة وأقلوا المساعدة وعادهم في ذلك الخميس عيد من ذكر يوم الخميس فاستقبلوا العجز استقبالاً وخرجوا للنصر فما زادوا إلا خبالاً فيالله ويالأمير المسلمين من دماء سفكت وحرمات هتكت وأنفة في دين الله وضعت وتركت وجماعة من المسلمين غلبت بيد الباطل وملكت، وقدامهم من أخوانهم من يزيد على عددهم أضعافاً يغلب فيها النساء الرجال ويسبق ذوي الغرر والحجول ربات الحجال ولو كانوا نصفهم لكان ذلك النصف يحسبهم وكتاب الله تعالى قد أوجب أنه يغلبهم وقد روى ثقات الأخبار خطبة علي رضي الله عنه بالأنبار وأمير المسلمين أولى من اهتدى بهديه ورأى في الإسلام مثل رأيه وقد علم الروم أن حمى الإسلام غير ممنوع وغاربه غير مدفوع وعندهم في هذه السنة احتفال واحتشاد وتأهب واستعداد وما منا أحد إلا وهو يجتاز للجلاء أقرب طرقه ويرى موضع الفداء والسيف من عنقه وقد دعونا أمير المسلمين بما أسلف إلينا من نعمه وأعلقنا من ذممه وقرب إلينا من مسافة مطالعه واقتضاء الواجب في مناصحته ومشايعته والرب سائله عما استرعاه ومجازيه بعمله المبرور ومسعاه ولعل الله يجعل لنا في قلبه رأفة تعطفه إلى هذه الشكوى وترفه ما نزل بنا من البلوى وإنا لننتظر من نظره الجميل وجوابه الواضح السبيل ما يقر النفوس في قرارها ويعيد الآمال في النجاة بعد فرارها وهو أيده الله بذكر ما أخذه عليها من العهد المسؤول في النصح المبذول والصدق المقبول فرأينا أن لا نكتم ما يجب إبداؤه ولا نمسك ما يلزم أداؤه وهو المسؤول جلت قدرته أن يرفع بالتقوى قدره ويشرح لهذه الشكوى صدره ويجزيه عن جوانب الاتها العدل وبسيطها ومذاهب زانها الرفق وأقسطها أفضل ما

جزي به أماماً تواضع لله فحببه إلى خلقه وأعانه على حقه لا رب غيره والسلام. فراجعهم علي بن يوسف بن تاشنين: كتابنا كتب الله لكم يقيناً تطمئن بصدقه القلوب وتهون بعده الخطوب وأيدكم بإيمان تنبعث به البصائر ويثوب ويذهب بسبب الروع الذي يخوف به الشيطان أولياءه فلا يعقب ولا يؤب من حضرة مراكش حرسها الله في الثاني عشر من جمادي الآخرة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة ونحن نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو حمداً نتخذه إلى المزيد من نعمته سبيلاً ونجعله إلى رحمته دليلاً وننزله بعصمته كفيلاً ونصلي على محمد نبيه الكريم صلاة عامة تامة تتعاقب إليه مع التسليم الأصفى وعلى آله الطيبين وصحبه الأكرمين بكرةً وأصيلا، أما بعد تجاوز الله عن ذنوبنا وذنوبكم وفزع بأمنه عن قلوبنا وقلوبكم وصفح عما يعلمه من عيوبنا وعيوبكم فإن كتابكم الأثير وافانا مضمناً من سوء أثر العدو قصمه الله في المسلمين عصمهم الله ما أغص وأشرق وأمضى وأرق وجمع علينا من همومكم وغمومكم ما انتشر وافترق وذلك ما أحصاه قبل خلق الخلائق كتاب من الله سبق قال الله سبحانه وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم وصدق (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسو على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) وما نهون مصاباً أدرك المسلمين والمسلمات فيه من النكال الموجع ما أدرك وظهر على المؤمنين في مواطنهم من كفر بالله وأشرك وفتك في حومته بدين الله من فتك ولوددنا والله شاهد أن نجعل دون نفس المسلمين نفساً لا ندخرها ما استطعنا من فدائهم ولا نكره أن نبذلها جهدنا في جهاد أعدائهم وأن نكون جنة واقية من أمامهم وورائهم ولكن نقول ما قال سبحانه وتسليماً وتراه كما هو عند الله عظيماً (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً) وقد علمتم أمتع الله بالحسنى أمتاعكم وأقر بعوائد البشرى أبصاركم وأسماعكم وكشف عنكم وعنا فيكم ما وقذكم وراعكم أنا قد تقدمنا إلى جميع العمال ومن تحت أيديهم من الرجال أن يتظافروا على العدو قصمه الله ويأتلفوا ويتطاوعوا ولا يختلفوا ويتقدموا في حسن الدفاع ويزدلفوا ولو أن جميع المسلمين من قلة أتي وبأضعاف كثيرة رمي لقلنا في الحاجزة نعماً هي ولكن فت في أعضاد الله تبريحهم وتنازعوا ففشوا وذهب ريحهم ولم يحظ عندنا بقبول تعريضهم في

العدو وتصريحهم فاستحقوا مقت الله ومقت الأمة ولومها وأعطوا شيعة الكفر على الرغم منهم حكمها وشومها وفضحوا المسلمين كما فضحت عامل (عاد؟) قومها وعلى الله تعالى ثم علينا تقويم الزيغ بعينه والأود والتقدم لكل خاصة وللمسلمين عامة على توفيق الله تعالى بالنظر الاحد وأعينونا رحمة الله بالأدعية الصالحة التي هي أمضى السلاح وأوثق العدد وأما ما سرى إليكم من أعداد العدو قصمه الله لخروج يستقبله وفساد في البلاد يؤمله فالله تعالى بقدرته يشغله عن ذلك ويذهله ويرميه بحوادث لا تنتظره ولا تمهله وحن علينا وقد استرختم بنا أن نلبي بمشيئة الله نداءكم ونجيب على الصبة والذ والذلول دعا كم ونلقي دونكم الأموال والأنفس أعداءكم وما كنا لو لم تعلنوا في الكتب المجردة نجواكم ولم يبلغنا على السنة الأقلام شكوا كم لندعكم لعدو يستبيح حماكم ويجمع نفسه لمصرتكم وإذا كم ولا نستقيم أصلحكم الله بما نيتنالكم عن أذكاركم واعتصامنا جميعاً بالله هو مولانا ومولاكم واعلموا وفقكم الله أن حماكم حمانا ومن رماكم فقد رمانا ومن أرادكم بسوء الله يكبه لوجهه فما تخطانا ولا تعدانا وظلام الإسلام بحمد الله ممتدة وتلك النصب التي تقدمنا بها في العام الأول معتدة والاهبة بحمد الله متى حزب حازب مستجدة والذي من نصرتكم نستدعيه ونستمنحه في الله ونستهديه دعاء نتعرف بنعمة الله بركة إخلاصكم فيه على الذين شغلوا خيل الله قبلنا عن ثنايا في غزو الكفر نطلعها وأودية في مواطئ بغيظ حزب الشيطان نطويها ونقطعها والله يأخذ هذه الفئة ولا يدعها ويكبتها سريعاً ببطشه الكبرى ويصدعها فخذوا رحمكم الله في أدعية يقبلها ويرفعها ويد الله مع الجماعة ولن يرجع إلا بالإجابة السريعة إن شاء الله مجتمعها وأما ما انتهبه أهل الحصون وسواهم من أغنام المسلمين فلا فرق بينهم في ذلك وبين المشركين ولو كان ذلك النشر جامع يضم تفاريقه وحائط المسلمين يرى الحرج ويخشى ضيقه أو آمر بمعروف أدناه عن منكر يؤثر الحق ويسلك طريقه لحفظ تلك البقية على أربابها وحال بين المسلمين وبين انتهابها لكنهم أمنوا من سعتها وطلابها وما منعه قوم لم يحضرهم من أهل الرضى حاضر ولم يشهده منهم ناصر والله على نصر المهتضمين قادر توكل الله للمسلمين بناصر ناجز ولا وكلهم إلى مضيع ولا عاجز وجعل بينهم وبين الأعداء كل حجر مانع وحاجز بمنه والسلام. ومن الكتب أيضاً أربعة كتب من أبي الحسن علي بن سيده إلى أستاذه، وفي المجموع عدة

كتب لذي الوزارتين أبي عبد الله بن أبي الحضال منهم رسالة إلى عسكر انهزم فوبخه وثانية كتبها عن تاشغين بن علي إلى صاحب فاسر في أمر محمد بن تميم حين استراب منه وثالثة أيضاً مراجعاً للوزير الكاتب أبي مروان بن زكريا جواباً عن رسالة خاطبه بها وغير ذلك ومما يؤثر ما كتبه عن علي بن يوسف إلى يحيى بن علي بولاية بلنسية وها هو: كتابنا أعزك الله بتقواه ورفع قدرك وأسماه وأيد عزمك في ذاته وقواه ولا زلت تتقلب في عوارفه المقيمة ونعماه من حضرة مراكش حرسها الله لأربع خلون لجمادي الأولى سنة أربع وعشرين وخمسمائة وأنا بما نعرفه من صفو ولائك وصدق غنائك وظاهر استقلالك واكتفائك نرى أن نرفعك بمقتضى حقك في الأحوال ونوسع لك في الأعمال ونعقد بطوقك منها ما نعلم أنه به ناهض مضطلع ونضيف إليك من جسيمها ما أنت بشروطه والقيام بحقوقه رحب الصدر متسع ولضبط جوانبه ومراعاة لوازمه منتظم الأمر مجتمع فقلدناك بعد استخارة الله تعالى والابتهال إليه في اطلاعنا على مواقع السداد وإمدادنا بحسن التوفيق والإرشاد ولاية بلنسية وأعمالها حماها الله تقليداً جمعنا لك به بين الولايتين وملكناك به أمر كريمتين وزمام جحفلين فتقلد ما قلدناك على الطائر السعيد وتظاهر التأييد وتوله معرفاً فيه يمن التقليد وتوالي الصنع الحميد وانفذ إلى عملك وتسلمه من المصروف بك واستقبل الأمر بأقوى عزيمة وجد وانفذ مضاءٍ وامضى حد وكن به جد ناهض مستبد وتلك حال خطيرة قد جذبنا إليك زمام قيادها وتوخينا بك إقامة منآدها وثغور قد رميناها منك بسدادها وأمور صارت بتصييرها إليك عند عالم بإصدارها وإيرادها وقد أغنانا علمك بالسياسات في جميع الطبقات عن أن نفصلها تفصيلاً أو نأتيك بها قبيلاً وإنما أعطيناك جملة لا يؤودك تدبيرها ولا يذهب عنك تفسيرها لأنك إنما تقدم على بلد صاقبته كثيراً وجاورته دهراً طويلاً فشؤونه في صدرك مجتمعة وإلى فكرك منحصرة مع تكررك على المكان واطلاعك عليه تارة بالخبر وتارة بالعيان وقديماً تمنى أن يلقى إليك قيادة وصب سادته ورعاياه وأجناده فاجزهم الآن بودادهم وحطهم في أنفسهم وأموالهم وبلادهم وعم جميع الأحوال بتصفحك ومتع الجميع بتأملك واعط كلاً حقه من نصفتك وحسن رعايتك وأذقهم حلاوة الأمن والعدل في ولايتك إن شاءالله، وموضع إقامتك هناك أنت تختاره حيث تهوى لنفسك فتبوأ مكاناً

يصلح لأمرك ولا تبعد به كل البعد عن قاصية ثغرك فترجح ما بين شاطبة وبلنسية أو منزلة بينهما ذلك مصروف إلى اختيارك والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ونحن بعيد وأنت قريب وإنك كما علمنا موفق الرأي مصيب والله تعالى مؤيدك ومرشدك ومعينك ومنجدك بجوده ومجده لا رب غيره فإن احتجت أن تستعين بأبي عبد الله محمد بن علي أخيك أعزه الله فاستعرفه يقدم عليك واستدعه يسرع إليك واستنب مكانه بميورقة محمود المناب نافذاً في ذلك الباب إن شاءالله عرفك الله يمن ما وليت وأعانك على حفظ ما استرعيت بفضله وجميل صنعه لا إله غيره والسلام. وكتب عنه أيضاً إلى أهل بلنسية في ذلك: كتابنا كتب الله لكم تمهيد الأحوال والجهاد وأمدكم بسوابغ الإجمال والهبات ويسركم للأعمال الصالحات والمساعي المرضيات من حضرة مراكش حرسها الله لأربع خلون لجمادي الأولى سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقد رأينا بعد استخارة الله التي يتوصل إلى المراشد من بابها وتدرك المناحج من أسبابها أن نولي عليكم أبا زكريا يحيى ابن علي أعزه الله بتقواه فقد قلدناه أعمالكم ووصلنا به حبالكم نظراً منا لكم بمكانه وإلقاءً بأزمتكم إلى حازم وقته وأوانه فإنه والله ينجده ويسعده بحيث علمتم حسن سيرة وعدل ومتانة دين وفضل وتمسكاً من التقوى بأقوى حبل مع صالح مشهد وبلاء وصادق حفاظ وغناء ونفاد عزيمة ومضاء فآثرناكم منه يحافظ لنظامكم ومصرف لزمامكم وساد لثغوركم وقوام بأموركم فهو يقلبها على الحزم ويديرها ويمضي على ما يراه ويحكم تدبيرها وحسبنا في تمهيد أكنافكم وحراسة أطرافكم أن نجعلها وإياكم في كفالته ونختار لها ولكم حسن إنابته وقد فزعنا إليكم به من شؤونكم وقضيناكم به ممطول ديونكم فما ترجعون بعده بتباعة ولا تخشون معه إن شاء الله من حوزة مضاعة فعليكم رحمكم الله أن تتلقوا أمره بأتم سمع وطاعة وتتوخوا نصحه بكل جهد واستطاعة ثم إنه لا يستغني أن تكونوا ظهراً في المحاتم التي يتوخى بها جبر أحوالكم ورم ما رثّ من حبالكم فليجدكم عندها أمام كل إرادة ولتنجذبوا في يده باسمح مقادة فإنه لا يجعلكم الأعلى الذي فيه عن حوزتكم دفاع ولمصالحكم انتظام واجتماع وأنتم عنده على منازلكم يقدر كلاً قدره ويقضي إليه أمره فما في بره ولا في سياسته تقصير ولا عنده في غير كنهه جانب عسير وعلى ذلكم فقد وصيناه بجانبكم من غير أن نخاف منه عن

القصد انحرافاً أو نحذر من جهته نكوباً عن الواجب أو خلافاً وإنما قصدنا معه الذكرى فإنها توقظ ذا لحجى وتنب وتبين لذي الحلم والنهى ما يشتبه عرفنا الله وإياكم ميامين هذا التقليد وجعله كافلاً بالأمر السعيد والصنع الحميد إنه الكريم والسلام وكتب إلى العسكرية بها في الغرض المذكور! كتابنا أبقاكم الله وعصمكم بتقواه وأجزل حظوظكم من حسناه وجعلكم سابقين إلى طاعته ورضاه متقلبين في عوارفه ونعماه من حضرة مراكش حرسها الله في تاريخ كذا من سنة كذا وقد ولينا أمركم أبا زكريا يحيى بن علي أعزه الله بتقواه وقدنا تصريف أعنتكم وأرمينا إليه بأزمتكم ومكانه حيث لم تجهلوه خيراً وضيماً ونصاباً كريماً وهدياً قويماً وإقداماً وتصميماً ومضاء كان به إذا رفع اللواء على الخميس زعيماً والآن بولائه إياكم فقد آن أن تتضاعف نجداتكم وتصدق عزماتكم فإنه يقود بكم من يرسل أمام اعنتكم عنانه ويروي قبل أسنتكم سنانه وأنتم مع ذلك بحكمه مصرّفون وبالتزام طاعته مكلفون وإلى رايته مجتمعون وتحتها متألفون فإذا أمر فأتمروا وإذا رمى بكم جانباً فابتدروا وإذا أوردكم فردوا وإذا أصدركم فاصدروا فإن حسن الطاعة بركة وجمال ويمن وإقبال كما أن الاستعصاء عليكم مبني على الأخلاق اللئيمة ومخبئة للنفوس الكريمة فأطيعوه كما فرض عليكم في المكروه والمحبوب وانضموا عليه راشدين مشفقين انضمام الجوانح على القلوب فإن لكم حسن الإيثار جزاكم الحسنى والحياء الانم الاسنى جعلكم الله ممن أصحب في القياد وأجاب داعي الرشاد وآثر التقوى واعتقدها خير زاد بمنه والسلام. وفي هذا المجموع أيضاً بعض مقامات سنها المقامة القرطبية وتنسب إلى أبي عبد الله بن أبي الخصال وقد تبرأ منها وهي في وصف أعيان قرطبة ورؤسائها ثم رد على صاحب المقامة أيضاً اسمها الانتصار كتب بها أبو جعفر بن أحمد والمقامة الشبلية وتعري لأبي الوليد بن سيد أمير، ورسالة لأبي محمد بن القاسم في الترجيح بين الصابي والبديع وقد فضل البديع على الصابي ويتبعها رد من أبي عبد الله بن أبي الخصال في الانتصار للصابي، هذه نموذجات جزئية من الكتاب نشرناها على علاتها وربما سمح لنا الوقت بالرجوع إلى نقل بعض جمل من كتب ابن سيده والموازنة بين الصابي والبديع.

روح الاجتماع

روح الاجتماع قلت الكتب التي تنشر هذه الأيام باللغة العربية ويراد منها بث علم نافع أو تصحيح فكر سقيم وذلك لقلة المؤلفين والمترجمين ولقلة القارئين والعارفين، وكتاب روح الاجتماع الذي عربه عن الافرنسية أحمد فتحي زغلول باشا هو من الأسفار التي يقصد بها مؤلفها نفع أمته وتصحيح بعض أغلاطها والمؤلف هو الدكتور كوغستاف لوبون العلامة صاحب التآليف الممتعة ومنها كتاب مدنية العرب فقصد المعرب أن ينقل كتابه لأمته لينتفعوا منه انتفاع الفرنسيين أو بعضه، والمعرب النابغة قديم في صناعة التعريب صحت عزيمته حتى الآن على نشر بعض الكتب المفيدة ومنها أصول الشرائع نبتنام وسر التقدم الانكليز السكسونيين لديمولانس والإسلام لهنري دي كاستري وهي من الكتب النافعة التي أحدثت تأثيراً في وقتها واستفاد منها المستنيرون من قراء العربية ولا سيما من لم يسعدهم الحظ بتعلم لغة أجنبية لتناول مثل هذه الأفكار من مصدرها الأصلي. ولو تصدق كل من حذق لغة أوروبية وأحكم اللسان العربي فنقل لأمته كتاباً أو كتابين لكان عندنا اليوم من المترجمات العصرية في العلوم والاجتماع لا في القصص والأساطير ما يملأ خزانة كبرى تصبح معها لغتنا كإحدى اللغات الغربية بغناها بأفكارها وكتبها الجديدة، وليست طلاوة الجديد كطلاوة القديم وما قط كان العلم الخيالي كالعلم العملي، لو تصدق كل واحد من أرباب الأقلام ودارسي اللغات والفنون كما يتصدق المرة بعد المرة أمثال حضرات أحمد فتحي زغلول، محمد فريد، عبد العزيز جاويش، عبد العزيز محمد، أحمد زكي، صالح حمدي حماد وأمثالهم من المعاصرين لأغنونا بعلوم الغرب وقلبوا في مدة كيان الأفكار من طريق العلم. كتاب روح الاجتماع هو في بيان أحوال الجماعات وما يعرض للفرد مجتمعاً من تغير المشاعر واختلاف النظر وتبدل حكمه فيما يحيط به حلل فيه المؤلف روح المجتمعات الحديثة ولا سيما في فرنسا تحليلاً نفسياً فلسفياً غير ناظر إلى أكثر ما يتعلق به بعض ضعاف المؤرخين من الحوادث بل نظر إلى الدواعي النفسية والمعتقدات والعادات نظر المستبصر الناقد علماً منه بأن الحوادث الظاهرة مثل الأمواج المتلاطمة التي تترجم فوق سطح البحر عما هو واقع في جوفه من الاضطرابات التي خفيت عنا ونحن إذا نظرنا إلى الجماعات نراها تأتي من الأعمال بما يدل على انحطاط مداركها انحطاطاً كلياً غير أن لها

أعمالاً أخرى يظهر أنها منقادة فيها بقوة خفية سماها الأقدمون قدراً أو طبيعة أو يداً صمدانية وسماها أهل هذا الزمان صوت من في القبور. وأحرج الأزمان في تطور الفكر الإنساني زماننا هذا ولهذا التطور عاملان أصليان: الأول تهدم المعتقدات الدينية والسياسية والاجتماعية التي تتكون منها عناصر المدنية الحاضرة والثاني قيام أحوال جديدة ونشوء أفكار جديدة في الحياة تولدت كلها من الاكتشافات العصرية العلمية والصناعية، ولما كان تهدم الأفكار القديمة لم يتم فلم تزل قوتها وكانت الأفكار التي ستحل محلها في دور تكونها كان الزمن الحاضر زمن تحول وفوضى. . . . ولكن الذي نراه منذ الساعة أنه سيكون أمام تلك الأمم قوة عظيمة لا بد لها من الاعتداد بها لأنها أكبر قوة وجدت أريد بها قوة الجماعات تلك القوة التي قامت حتى الآن وحدها على أطلال الأفكار البالية التي كان الناس يعتقدونها حقائق وماتت وعاشت بعد أن حطمت الثورات المختلفة كل سلطة كانت تتحكم في الناس وهي القوة التي يظهر لنا أن مصيرها ابتلاع ما عداها في القريب العاجل ألا ترى أن معتقداتنا القديمة أخذت تهتز من وهن أساسها وأن أساطين المجتمعات القديمة تتداعى وتتحطم وأن سلطة الجماعات هي وحدها التي لا يهددها طارئ بل هي تعظم وتنمو عليه فالدور الذي نحن قادمون عليه هو دور الجماعات لا محالة. . . الجماعات أقدر على العمل منها على التفكير وقد أصبحت بنظامها الحاضر ذات قوة كبرى وعما قريب يكون للمذاهب التي نراها اليوم في دور التكون من السلطان العظيم على الأفكار ما للمذاهب التي رسخت أصولها في الاعتقادات أعني سلطاناً مستبداً لا تأثير فوق تأثيره فلا تعود تحتمل البحث أو الجدل وحينئذ يقوم حق الجماعات المقدس مقام حق الملوك الأقدسين. ينحصر الأثر الواضح لعمل الجماعات حتى الآن في هدم صروح المدنية فالتاريخ يدلنا على أنه كلما وهنت القوى الأدبية التي يقوم عليها بناء تقدم أمة من الأمم كانت خاتمة الانحلال على يد تلك الجماعات الوحشية اللاشعورية التي سميت بحق متبربرة أما الذين أقاموا صروح المدنية وشيدوا أركان الحضارة فهم نفر امتازوا بسمو المدارك وبعد النظر ولكنا لم نر حتى الآن للجماعات أثراً مثل هذا فهي إنما تقدر على الهدم والتحطيم وزمان

حكمها زمان بربرية على الدوام لأن المدنية لا تقوم إلى على مبادئ مقررة ونظام ثابت وانتقال من العمل بمقتضى الغريزة إلى الاهتداء بنور العقل والبصر بالمستقبل ومرتبة راقية من العلم والتهذيب وتلك وسائل برهنت الجماعات على أنها غير أهل لتحقيقها إذا تركت وشأنها ـ ومثل الجماعات في قوتها الهادمة مثل المكروبات التي تعجل بانحلال الأجسام الضعيفة وتساعد على تحلل الأجساد الميتة فإذا نخرت عظام مدنية تولت الجماعات نقض بنائها هنالك يظهر شأنها الأول ويخيل لنا بادئ بدء أن العامل في حوادث التاريخ هو كثرة العدد، إنا لنخشى أن يكون هذا أيضاً مصير مدنيتنا لكن ذلك الذي لا نعرف منه شيئاً حتى الآن. . . . معرفة روح الجماعات أصبحت اليوم آخر ملجأ يأوي إليه السياسي العظيم لا لأجل أن يحكمها فقد صار ذلك الآن صعباً كثيراً بل ليخفف عنه شدة تأثيرها، وإذا أردنا أن نعرف ضعف تأثير القوانين والنظامات في الجماعات فإنما السبيل إلى ذلك تدقيق البحث لمعرفة روحها والوقوف على أحوالها النفسية وبذلك نفقه أيضاً أنه لا قدرة لها على تكوين رأي أو التفكير في شيءٍ خارج عن الدائرة التي رسمت لها وأنها لا تقاد بقواعد العدل النظرية بل بالبحث عما من شأنه التأثير فيها أو اختلابها. فإن الجماعات لا تعرف من المشاعر إلا ما كان متطرقاً بسيطاً وهي لذلك لا تقبل ما يلقى إليها من الآراء والأفكار والمعتقدات بجملتها أو ترفضها كذلك فتأخذها حقائق مطلقة أو ترغب عنها أباطيل مطلقة على أن هذا هو الشأن في المعتقدات التي تتحصل من طريق التلقي لا التي تتصل بالإنسان من طريق النظر والتعقل وكل يعرف ما للمعتقدات الدينية من التأثير في عدم احتمال المخالف ومن السلطان على النفوس. ولما كان باب الشك غير مفتوح أمام الجماعة في كل ما اعتقدت أنه حق أو باطل وكانت تشعر شعوراً تاماً بقوتها كانت إمرتها متساوية لعدم احتمالها، يطيق الفرد المناظرة والخلف أما الجماعة فلا تطيق ذلك أبداً وأقل خلف يأتي به الخطيب الذي يتكلم في المجتمعات العمومية يتلقاه السامعون بأصوات الغضب والسباب الشديد فإن أصر فنصيبه الإهانة والطرد بلا إمهال ولولا الرهبة من رجال الشرطة الحاضرين لقتلوه أحياناً. . . . . والمؤلف يكرر بعض الأفكار ولعله عن قصد لترسخ في النفوس وربما حذا كما قال في

كتابه حذو دعاة الاشتراكية العصرية ممن يستعملون التوكيد والتكرار وسائل في التأثير وقد عقد لذلك فصلاً من ذلك قوله أن المدنيات هي صنع أناس من أرباب الأفكار العالية وسائر الناس معهم تبع ومثل قوله إن التعصب وعدم الاحتمال يصاحبان على الدوام كل شعور ديني وبلا زمان كل من اعتقد أنه ملك ناصية السعادة في الحياة أو في الآخرة وهاتان الصفتان توجدان في كل جماعة تحركت بأحد المعتقدات فقد كان اليعاقبة (اليعقوبيون) زمن الهول متدينين كما كان أهل الاضطهاد متدينين ومنبع حماسة الفريقين في القسوة واحد. كذلك تظهر معتقدات الجماعات بالخضوع الأعمى والتعصب الوحشي والإكراه في الدعوة وكلها صفات من لوازم الشعور الديني وما البطل الذي تهلل الجماعة له إلا اله في نظرها، هكذا كان نابليون مدى خمسة عشر عاماً ولم يكن لمعبود سواه عباد أشد إخلاصاً من الذين عبدوه ولم يسهل على معبود قيادة النفوس إلى حتفها أكثر منه وما كان لآلهة الوثنية والنصرانية سلطان على القلوب أعز من سلطانه. إن جميع موجدي الديانات ومؤسسي المذاهب السياسية لم يقيموها إلا لأنهم تمكنوا من إحداث التعصب الذي يجعل الإنسان يرى سعادته في العبادة والطاعة ويهيئه لأن يهب حياته لمعبوده. . . ليس لفاتحي النفوس في هذا الزمان معابد وهياكل لكن لهم صور وتماثيل والعبادة التي يعبدون بها لا تخالف كثيراً ما كانوا به يعبدون ومعرفة فلسفة التاريخ تتوقف على إجادة معرفة هذا البحث في علم روح الاجتماع. . . . وقال: لا يقوم سلطان الفاتحين وتبنى قوة أعماله على تخيل الأمم ولا تجر الجماعات إلا بالتأثير في ذلك التخيل وكل حوادث التاريخ العظيمة كإيجاد البوذية وتشييد أركان المسيحية والإسلام وقيام البرتستانية والثورة فيما مضى وكإغارة الأفكار الاشتراكية المزعجة في هذه الأيام إنما هي نتائج قريبة أو بعيدة لتأثرات شديدة في تخيل الجماعات، ذلك هو العلة في أن جميع أقطاب السياسة في كل عصر وفي كل أمة حتى أشدهم استبداداً، اعتبروا تخيل أممهم أساساً تقوم عليه قوتهم وما فكروا يوماً في أن يحكموا الناس بدونه. قال نابليون في مجلس شورى الحكومة (إني أتممت حرب الفندائيين لما تكثلكت واستوليت على مصر إذ أسلمت وتوجت بالظفر في حرب إيطاليا لأني قلت بعصمة البابا ولو كنت

أحكم شعباً يهودياً لأعدت معبد سليمان) ويظهر لي أنه لم يقم منذ الاسكندر الأكبر وقيصر بين عظماء الرجال من عرف كيف يكون التأثير في تخيل الجماعات مثل نابليون فقد كان ذلك التأثير همه الدائم ما نسميه في انتصاراته وخطبه وأحاديثه ولا في عمل من أعماله وكان يفكر فيه وهو على سرير موته. وقد أجاد المؤلف في كلامه على أفكار الجماعات ومعتقداتها ولا سيما في فضل التربية والتعليم وإثباته بالإحصاء أن الميل إلى الجرائم يزداد بانتشار التعليم أو هو يزداد بانتشاره على طريقة مخصوصة وأن الأمم اللاتينية أسست تعليمها على قواعد غير صحيحة تنمي الكفاءات الفنية ولا تؤثر في رقي الأخلاق وإن طريقة الانكليز السكسونيين غير طريقتهم فليس لهؤلاء مدارس خصوصية بقدر ما لفرنسا والتعليم عندهم لا يتلقى من الكتاب بل من الشيء نفسه فالمهندس مثلاً يتكون في المصنع لا في المدرسة وهو ما يسمح لكل واحد أن يصل في حرفته إلى الحد بالذي تصل قدرته العقلية فيكون عاملاً أو رئيس عمال إذا قعد به الذكاء عند هذا القدر وهو مهندس إذا قاده استعداده إلى هذا الدرج. وأحسن ما شاء الإحسان في الكلام على الصور والألفاظ والجمل وما لها من السلطان على النفوس فقال أن الألفاظ والمعاني قد تختلف معانيها في قرن عن قرن وفي أمة عن أمة فمعنى الديمقراطية عند الجنس اللاتيني انزواء إرادة الفرد وإقدامه على العمل من نفسه أمام إرادة المجموع وهمته والمجموع تشخصه الحكومة فالحكومة هي المكلفة لإدارة كل شيء وحصر كل شيء واحتكار كل شيء وصنع كل شيء وهي التي تلجأ إليه دائماً الأحزاب بلا استثناء من أحرار إلى اشتراكيين إلى ملكيين وعلى الضد من ذلك يفهم الانكليزي السكسوني وبالأخص الأميركي من كلمة ديمقراطية نمو إرادة الفرد وإقدامه الذاتي إلى الحد الأقصى وانزواء الحكومة بقدر ما أمكن فلا تكلف بعد الشرطة والجيش والعلاقات السياسية بشيء حتى التعليم وعليه فاللفظ الواحد يفيد في بلد جمود إرادة الفرد وسكون إقدامه الذاتي واستعلاء كلمة الحكومة ويفيد في بلد آخر انزواء هذه وارتفاع صوت الأول. وهكذا زاد الموضوع جلاء في الفصول التي عقدها المؤلف بعد هذا الفصل وأصبح لا يتعذر فهمه على الطبقات المتوسطة في المعرفة وجوّد الكلام على المجالس النيابية أي

إجادة وابان مواقع الضعف والقوة من أعمالها وهو فصل كنا نتمنى نقله برمته أو تلخيصه على الأقل لا سيما والأمة اليوم في مصر تطالب بدستورها وفي البلاد العثمانية نالته ولكنه ما زال منقولاً عن أوروبا نقلاً لم يطبق على العمل فنوصي القارئ بالرجوع إليه. وبعد فهذا مضمون الكتاب وموضوعه مصغراً وقد بان منه أسلوب معربه من الجمل التي نقلناها بحرفها آنفاً ومن قابل بين سلاسة العبارة هنا وضعفها في كتاب أصول الشرائع يدرك سر التوفر على العمل وأن مدرسة الزمن هي أعظم مخرج لأبنائها العاملين، وما برحت بعض هفوات لغوية تعلق على اسلة قلم المؤلف ومنها ما سرى إليه من لغة الجرائد ونص عليه أهل اللغة مثل الحريري وعبد اللطيف البغدادي والسيوطي وغيرهم، وذلك مثل قوله: لا نراها إلا رؤيا ناقصة والصواب رؤية لأن الرؤيا تكون في النوم والرؤية في اليقظة، واستعماله (الظروف) بدلاً من الأحوال والظروف لا تعطي هذا المعنى واستعماله (حيث) في غير مكانها واستعماله (تمام) كثيراً مثل (واضحة تمام الوضوح، تخالف تمام المخالفة، ويفقه فيها ذاته الشاعر تماماً) والفصيح أن يقال واضحة كل الوضوح ومنها قوله (رجل تمام) والأجدر أن يقال كامل أو تام الأدوات أو نحو ذلك واستعمل (ترتكز على) وهذه الصيغة لم تسمع إلا في لغة الجرائد المصرية. ومثل ذلك (مجرد انضمامهم إلى بعضهم) والأحسن أن يقال بعضهم إلى بعض ومثله (رغماً عما ذهب إليه) والأولى أن يقال على الرغم مما، ومثله (يضحي مصلحته الذاتية) وهذا التعبير فيما أحسب هو من ركاكات الجرائد الشامية القديمة سرى إلى مصر فاستعمله حتى أفاضل الكتاب على غير روية وهو تعبير افرنجي والأجدر أن نقول فادى بدلاً من ضحى، ومثله (كان فرداً متنوراً) والصواب أن نقول منوراً أو مستنيراً ومثله (منقادة عادة إلى) وهو تعريب حرفي مثل بالسهولة وبالصعوبة وجلياً وبانتظام وبلا عناءٍ ويمكن الاستعاضة عن هذه الكلمات بألفاظ أو تراكيب أقرب إلى الأسلوب العربي. ومثله (مندهش) والأحسن مدهوش و (منجر) والأحسن مجرور ومثله استعمال (الأجيال) للتعبير عن القرون والعصور، وما الأجيال إلا أصناف من الناس على ما أذكر، واستعمال (مراسح اللهو) والأولى أن يقال مسارح ومثله عنيف كثورة عنيفة وغير ذلك وهي من المبذوء ولنا من ألفاظ اللغة التي تدل على معانيها مندوحة عن استعمالها، ومثله العموم

للتعبير عن الناس وهي من الألفاظ العامية، والأهمية وهي غير عربية بل تركية مثل محظوظية وممنونية، والرضوخ لحكمها وليس في اللغة رضوخ بمعنى الخضوع أو الأتمار وإنما الرضوخ العطاء القليل وفي مقامات الحريري بدريهمات رضخ بها له، وقد عدى يؤثر بعلى والصواب تعديتها بفي ومثله فطاحل العلماء ولفظة فطاحل وإن كانت شائعة على هذه الصورة للتعبير عن كبار العلماء لكنه لم يسبق للبلغاء استعمالها ولا للغويين بهذا المعنى تدوينها ومثله (الحفظ عن ظهر قلب) والأحسن أن يقال الاستظهار وهي أخصر وأجمل. وجمع مشروعاً على مشروعات والأحسن جمعه على مشاريع، ومثله (أعداء الداء أشداء ضد الحكومة) والذوق العربي يقضي بأن يقال على الحكومة ومثله جمل ينطقها المتكلم والصواب ينطق بها ومثله معاني ما كانت لها أبداً، وأبداً بمعنى دائماً والأولى استعمال قط، ومثل جمعه عادة على عوائد كالاستعمال الشائع والأحسن جمعها على عادات وعاد ومثلها جمعه لواء على لواءات والصواب ألوية. واستعمل من التراكيب الشائعة فلولا هي ما خرج من بربرته الأولى ولولا هي لراح مسرعاً والصواب فلولاها، ولولا هي من تراكيب عامة المصريين ومثلها لولا هو ما شاء الآلهة والصواب لولاه ومثل النصب على التاجر وما أدري إذا كانت لفظة النصب معروفة باللغة بهذا المعنى ومثله من رجاله الخصوصيين ولو قال من خاصته لأحسن ومثله يريق قطرة دم لواحد من أهلها والأولى قطرة دم واحد ومثلها جاز الاعتراف من السامعين والأسلوب الفصيح أن يقال جاز اعتراف السامعين ومثله شكلوا محكمة وهي مما سرى إلينا من التركية والصواب ألفوا محكمة وللتشكيل معنى آخر غير هذا ومنها استعمال المصالح للدواوين والمصالح لفظة عامية مصرية. وهناك بعض التراكيب التي يقع نظرك عليها في الكتاب وهي تنبئك عن نفسها بأنها افرنجية لم تذق طعم العربية مثل تحت تأثير أحد هذه الأفكار وهم تحت ذلك التأثير وقتل الوقت ولكان ثمنها كثيراً من الثورات، وأما الحكومة التي تصنع من حملة الشهادات والذين اضطربت قواهم العقلية إلى النصف ولا تلبث المياه أن تعود إلى مجاريها وغير ذلك. ومنها بعض التراكيب التي فيها شيء من ركاكة وسقم مثل غرق 850 مركب شراعي و

203 مركب تجاري والصواب 850 مركباً شراعياً و 203 مراكب تجارية. ومن عرف كيف يؤثر في تخيل الجماعات عرف كيف يقودها، لا دخل لتلك النظامات لا في سعادة ولا في شقاء، فإنه كان رجلاً هجوماً لا ذكاء فيه لكن ذا عزم ومضاءٍ، أنحى على العمال بالعطش. وخالف مألوف المعربين في ترجمته السنديكات بالجمعيات وقد اصطلحوا على تعريبها بالنقابات وهي أولى وترجم البورصات بغرف التجارة وغرف التجارة كما لا يخفى هي غير البورصات وعرب الغيلوتين التي كانت تقط الرؤوس في فرنسا بالمنجلة ووضع لها بعضهم المقصلة ونظنها أحسن، ووضع بعض الألفاظ بلفظها مثل (ماندران) وهو الحاكم الصيني و (الاردواز) وهو لوح الحجر. ولكن هذه الألفاظ والتراكيب القليلة لا تقدح في فضل الترجمة خصوصاً وأكثرها عما عمت البلوى باستعماله ولكن كنانود أن يكون ذاك الثوب النفيس خالياً من الشوائب ليجيء كتاب اليوم مستوفي الشروط من حيث أصله وفرعه ولغته ورشاقته وطبعه ووضعه وعسى أن تكون مترجمات المعرب المشار إليه في الأيام المقبلة أتم وأكمل لتزيد منها فائدة المطالعين والمتعلمين والله لا يضيع أجر المحسنين.

الصحافة العثمانية

الصحافة العثمانية الصحافة أو فن الجرائد والمجلات هي عنوان ارتقاء الأمة المحسوس وكل أمة كانت صحافتها أوسع وأمتع يسوغ لك أن تحكم عليها بأنها أرفع وأمنع، فالجرائد الانكليزية مثلاً أوسع مادة وأبعد نظراً وأصدق أقوالاً من الافرنسية والإيطالية لأن الانكليز رجال الاتجار والاستعمار أعلى كعباً من الفرنسيس والطليان ودولتهم أرقى الدول. وهكذا الحال في صحافة الأمة العثمانية المختلفة العناصر والأجناس وتاريخها يرد إلى سنة 1276 هـ، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا أن الصحافة التركية أرقى من الصحافة العربية والرومية والأرمنية والبلغارية وبعبارة أخرى أن الصحف التركية أرقى من العربية إذ لا يجوز لنا أن نحكم على الصحافة الرومية والأرمنية والبلغارية ونحن لا نعرف لغاتها لنقرأها بها والحكم على الشيء فرع عن تصوره، أما التركية فلمعرفتنا بها يتيسر لنا الحكم على جرائدها وجرائدنا معاً كما نحكم على الصحف الافرنسية التي تصدر في بلادنا أيضاً. كانت الجرائد العربية قبل الانقلاب الأخير عبارة عن الأعيب ورويات عن السياسات الخارجية محرفة وكان يحظر عليها خصوصاً في العشر السنين الأخيرة أن تبحث في موضوع اجتماعي إداري أو سياسي وطني فكانت موضوعاتها من ثم مسخاً أو سلخاً من جرائد أوروبا والأستانة في شؤون تافهة لا ترقي عقلاً ولا تلقن فضلاً. ولما أنقذ الله البلاد من ظلم الاستبداد كانت صحافتها أول ما تحرر من أوضاعها مع صحافة العناصر الأخرى فداهمتها الحرية على حين غرة وأصبحت في حلّ من الخوض في كل موضوع وعندها ظهرت كفاءتها وصح لمن يريد التنظير بينها وبين الصحافة التركية أن يصدر حكمه عليهما. لم يكن في سورية والعراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس الغرب غير بضع جرائد ومجلتين في مدينة بيروت ولبنان وواحدة في دمشق وأخرى في طرابلس الشام أما حلب والبصرة وبغداد واليمن والحجاز فكان يصدر في كل واحدة منها جريدة رسمية باسم ولايتها نصفها بالتركية والنصف الآخر بالعربية السقيمة وسائر قواعد البلاد خالية من الجرائد الرسمية وغير الرسمية لأن الجرائد كانت العدوة الكبرى للسلطان المخلوع فلم يكن يسمح بإصدارها إلا مضطراً أو بالاحتيال العظيم والبذل الكثير. ولم تمض سنة على نشر القانون الأساسي حتى ظهرت بضع جرائد يومية جديدة في

بيروت ودمشق وحلب وصدرت في الموصل وبغداد والبصرة ومكة وجدة وطرابلس الشام وطرابلس الغرب والقدس وحيفاء ويافا ومرج عيون واللاذقية جرائد أسبوعية متناسبة مع حال البلاد التي تصدر فيها وإن كانت جرائد سورية من حيث التركيب البياني واللغوي أرقى من جرائد غيرها من الأقطار لأن الملكة العربية مستحكمة من القائمين بها في بلاد الشام أكثر من غيرها ولكن تلك الجرائد الصادرة في الأقطار الأخرى نافعة على كل حال بما تأتي به من الأفكار والأخبار وسيكون منها بحول الله النفع العام لمن تنشر بين أظهرهم. أما الجرائد التركية قبل الدستور فكانت عبارة عن مقتطفات من الصحف الأوروبية في السياسة الخارجية وتبليغات أوامر الحكومة الاستبدادية وأبواق خصصت لتأليه عبد الحميد الثاني وإطرائه إطراءً لم يعهد في لغة من اللغات ولا في أمة من الأمم وكانت تلك الجرائد متخومة بإنعامات السلطان السابق ورشى بعض الشركات لتساعدها على ابتزاز خيرات السلطنة، ومع كل هذه المساوئ كان الارتقاء بادياً على الصحافة التركية أكثر من غيرها لأن التركية لغة الحكومة وجرائدها مقروءة في بلاد الترك من آسيا وأوروبا كما تطالع في غيرها من البلاد لكثرة الموظفين وغيرهم ممن يعرفون التركية ويهتمون أن يطلعوا على قرارات حكومة العاصمة ومنشوراتها وأنبائها. ثم إن الأتراك بمجموعهم أرقى بتربيتهم وتعليمهم من مجموع العرب ونظام الأسرة عندهم أمثل منه عند أكثر العرب والمرأة التركية والحق يقال أكثر تعليماً وتهذيباً من المرأة العربية، فقد تطوف البلد الكبير في هذه الديار ولا تجد إلا بضع بنات متعلمات ولو استقريت قواعد البلاد التي يغلب فيها العنصر التركي لرأيت المتعلمات من التركيات يبلغن المئات والألوف ولا سيما في العاصمة، وهذا هو أحد أسرار انتشار الجرائد في الأتراك أكثر من انتشارها هنا لكثرة سواد القارئين والقارئات عندهم وقلته عندنا. وإذا أردنا المقارنة بين الصحف التركية وخصوصاً صحف العاصمة وبين الصحافة العربية في الولايات تكون للعربية الدرجة الأخيرة بين الصحافة العثمانية فيما نحسب ولذلك وجب أن نقابل الصحافة العربية كلها بالصحافة التركية كلها أي الصحف التركية التي تصدر في الأستانة وازمير وسلانيك وادرنة ومناستر وغيرها من البلاد العثمانية

والصحف التركية التي تصدر في القريم والقافقاس مع الصحف العربية التي تصدر في الولايات العثمانية ومصر وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وجرائد المهاجرين من السوريين في أميركا الشمالية والجنوبية، وهذه الصحف على اختلاف مصادرها مستمتعة بحريتها الفكرية ما خلا بعض صحف تونس والجزائر والقريم والقافقاس وإذ كانت درجة ارتقاء الشعوب التي تتلى عليها متفاوتة جاءت هي كذلك. ولذا كان من اللائق إذاً أن نقيس صحف بلد معين بآخر معين لأن قوة الجرائد بقوة من تصدر بينهم كما قلنا وإذ كان أهل الأستانة أرقى من حيث المجموع من أهل سائر الولايات ومدينتهم عاصمة سلطنة عظمى من أعمالها ثلاثون ولاية عدا الايالات المستقلة وهي مهوى أفئدة الأمم الإسلامية كافة كانت صحافة الأستانة أرقى من صحافة القاهرة وهي عاصمة مملكة فيها نحو ثلث سكان الولايات العثمانية ولها السبق علينا بالاستمتاع بنعمة الحرية، ومركز القاهرة السياسي مهم أيضاً وأهلها عريقون في الحضارة منذ عشرات من السنين وهي في غناها الطبيعي أغنى من الأستانة في الحقيقة، فلا عجب إذا امتازت فروق من هذه الوجهة عن مصر. تأملنا كثيراً في صحافة مصر والأستانة في العهد الأخير فرأينا أمهات الجرائد التركية أرقى من أمهات الجرائد المصرية مادة وأسلوباً وشكلاً ووضعاً وطبعاً، ولا أغالي إذا قلت أن جريدة طنين ويكي تصوير أفكار ويكي غزته وصباح وإقدام لا تفوقها الطان والديبا والفيغار والماتين والجورنال إلا بحوادثها الخارجية وما عدا ذلك من البحث في إدارة البلاد وسياستها الداخلية وأخبارها وأفكارها وآدابها واجتماعها فالجرائد التركية شقيقة الجرائد الفرنسوية بقيمتها إلا قليلاً هذا مع بعد عهد الفرنسيس بالحضارة وقدم جرائدهم وقرب عهد الترك بها وحداثة جرائدهم، وتفوق جرائد القاهرة كاللواء والمؤيد والجريدة والأهرام والمقطم مثلاً بأنها أمهر في الضرب على الوتر الحساس في الأمة أكثر من جرائد الأستانة. أما المجلات الافرنسية فهي أرقى بلا جدال من المجلات التركية وتصدر تحت سماء الأستانة بضع مجلات مثل علوم اقتصادية واجتماعية مجموعة وملكية وشهبال وثروت فنون لا تقل في أبحاثها وتدقيقها في موضوعاتها عن المجلات العربية الكبرى في مصر

والشام وهي أرقى منها من حيث الوضع والطبع وأشبه بالمجلات الأوروبية في أن أبحاثها تكتبها الأيدي المنوعة من أهل الإخصاء، ومن العجيب أن مصر على كثرة علمائها الأخصائيين لم يصدر فيها حتى الآن مجلات يكتبها المصريون أنفسهم ولولا مجلة الجامعة المصرية وصحيفة نادي دار العلوم وهما ابنتا هذه السنة لقلنا أن مصر لا تميل للعلميات ميلها إلى السياسات وأهل العلم والأدب فيها لا صبر لهم على المشاريع العلمية حتى تنضج كما صبر أرباب المشرق والمقتطف والمنار والهلال والمقتبس والجامعةوغيرهم من أرباب المجلات السورية الحديثة كالمباحث والنبراس والمنتقد والحسناء والكوثر والنعمة والعرفان وغيرهم ممن لا تحضرنا أسماؤهم في مصر والشام. أما جرائد سورية اليومية فهي أشبه من كثير من الوجوه بالصحافة التونسية من حيث المواد وقلة البحث في حالة البلاد وإن كانت جرائد الشاميين أكثر حرية وأسلم عبارة بل أنضج أسلوباً من جرائد التونسيين والفضل في ذلك للمدارس التي تعلم آداب العربية في الشام أكثر من تونس على أن المملكة التونسية وإن كانت أصغر من الجزائر ومن مملكة مراكش فهي في هذا العهد أرقى لهجة وعربية منهما بل هي بالنسبة للجزائر كنسبة سويسرا إلى إسبانيا أو ألمانيا إلى روسيا ولعل كثيراً من فقهاء الجزائريين يحرمون حتى اليوم كبعض فقهاء المراكشيين ما يقال له الجرائد والمحلات وكم للجامدين من جنايات جنوها على الدنيا والدين. وقصارى القول أن الصحافة التركية أرقى بمجموعها من الصحافة العربية ولا سيما في السياسات والإداريات والعسكريات، والترك منذ قرون هم أهل السياسة والإدارة والجندية وأدبياتهم أيضاً أقرب إلى الأدبيات الغربية من أدبيات العرب، وعسى أن يكون الترقي الذي يتناول كل أمة فينبلها حظها منه في ظل القانون الأساسي يجري التعادل بين البلاد فيعم الارتقاء أنحاءها كافة بعد جيل أو جيلين من الناس ويجدّ رجال صحافتنا في الولايات العربية في ترقية جرائدهم ومجلاتهم ويسهرون على إيداعها كل مفيد من الأبحاث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والإدارية والعلمية والأدبية بحيث يزول عن العقول صدؤها فتتحلى من حلي المدنية الحقيقية بما ينيلها السعادتين وينبطها عليه أهل الخافقين.

غنى العثمانيين

غنى العثمانيين لا يعقل أن تكون المملكة العثمانية على هذه السعة والاعتدال وفيها من الأنهار والحراج والمعادن ما فيها ومن ذكاء سكانها وزكاء تربيتها العجب العجاب وتصبح في هذه الدركة من الفقر والانحطاط. لا يعقل أن تكون بلاد هذه السلطنة التي ضمت إلى صدرها كثيراً من ممالك الأقدمين كالفينيقيين والغسانيين واللخميين والحثيين والحميريين والصفويين والنبطيين والبابليين والآشوريين والمقدونيين واليونانيين والفراعنة وتكون مساحة ولاياتها الثلاثين خمسة أضعاف ألمانيا ولا يكون فيها من السكان سوى نحو ثلاثين مليوناً على حين يبلغ سكان ألمانيا زهاء خمس وستين. لا يعقل أن بلاداً فيها من الأنهار العظيمة مثل سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقزل ايرمق واردار وغيرها من الأنهار أن تمحل ولا تخصب مع أن الخالق خصها بتربة ممرعة فيعطي مد الحنطة في بعض جهاتها مئة مد ثم تقرأ الفقر المدقع في وجوه أهلها. لا يعقل أن بلاداً لها عشرات من الموانئ على شواطئ البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الادرياتيك والمحيط الهندي وهي متاخمة لممالك البلقان وأوروبا من جهة ولبلاد السودان وصحراء إفريقية وشماليها من جهة وروسيا وإيران من أخرى ثم لا تستطيع أن تبعث بغلاتها إلى البلاد الخارجية لتتناول منها ثمنها نقداً لسد العجز المحسوس بين وارداتها وصادراتها. ولكن من نظر في الأمر نظر متدبر وعرف أن حكومة الاستبداد تحرق الأخضر واليابس وتخرب العامر والغامر وأن الجهل مبيد الأمم برمتها دع عنك عمرانها لا يستغرب ما قدر لهذه السلطنة بل يعجب كيف أبقى الاستبداد فيها عقولاً تفكر وأيدي لتعمل ونفوساً تشعر بالتأخر. كان همّ الحكومة المطلقة في هذه السلطنة أن تحتال لسلب النعمة الباقية من يد الأهين فكانت تشاركهم في أموالهم على غير رضاهم وهي لا تحميهم في أنفسهم وأموالهم ولا في مرافقهم وصحتهم وكيف تهتم لإسعادهم وهم عبيدها إذا طلبوا أن تخفف عنهم العذاب قاتلتهم وأن أرادوها أن تحاسنهم خاشنتهم، وكيف بطلب من الجاهل ما يطلب من العالم وهل ينفق امرؤ إلا مما عنده وهل الحكومات إلا أفراد مجتمعون.

لسنا في صدد بيان مساوئ الدور البائد بل نريد الإلمام بغنانا وذكر شيءٍ من مستقبلنا، وغنانا في دور هذه الحكومة النيابية السعيدة مناط بهمتنا وهمتها إن عملت وعملنا حسبت بلادنا في عشر سنين في جدول البلاد الراقية وإلا فنبقى دستوريين بالاسم لا نستثمر من قوانيننا الجديدة وخيرات بلداننا العتيدة فائدة يعم نفعها. نحن نطالب الدولة اليوم أن تؤسس لنا من المرافق العامة ما لا طاقة للأفراد أن يقوموا به من مثل إنشاء السكك الحديدية حتى تربط الأستانة مع أقصى بلاد العرب وتتصل وأن باشقودرة وطرابزون بالقدس وبغداد بالقاهرة ودمشق بطرابلس الغرب فتصبح ولايات الروم ايلي والأناضول وبلاد العرب متصلة كالحلقة الواحدة بشرايين من حديد ويتيسر لفلاح ملاطية وحكاري في الديار الكردية أن يبيع غلاته وثمراته من ابن طنطا والاسكندرية في الديار المصرية فلا تباع اقة الخبز الجيد بعشرين بارة كما في بعض بلاد الأناضول وتباع في دمشق بثمانين وتباع بمئة وستين في القاهرة. نطالب الدولة أن تنشئ السدود وتجفف المستنقعات حتى ينتفع بكل شبر من الأرض يمكن زرعه وتشجيره ولا تهلك البلاد المجاورة لتلك المياه لقلة ريها كمن يصبح عطشاناً وفي الماء فمه وأن تصلح سقياها فلا يذهب ماء الفرات ودجلة بل مياه كثير من الأنهار والخلجان بلا فائدة وترى حواليها البلاد قاحلة تنتظر ماء الأمطار لتروى وما هي بمضمونة معظم السنين، وبذلك تجود صحة السكان النازلين بالقرب من تلك الأراضي وتقل الحميات والأمراض الوافدة فيهم فينمون ويتناسلون فتزيد البلاد بهم قوة. كانت الأوبئة والطواعين تنتاب البلاد العثمانية قبل أن يعرف الأهالي والحكومة معنى التوقي المشروع فتهلك من سكانها مئات الألوف ولو ذكرت تواريخ المتأخرين ما انتاب البلاد كلها من الموتان فقط في المائتي سنة الأخيرة لزال العجب من قلة النفوس في بعض الولايات قلة لا تكاد تصدق، ولكن الزلازل والأوبئة والحريق والغارات مهما بلغ من تدميرها السكان والمكان يتأتى جبر ما أوهته ورنق ما فتقته وتعويض ما خسرته لو كان في البلاد شيء يقال له عدل وعلم. مثال ذلك مدينتنا بيروت ودمشق فإنهما منذ جلب إليهما ماء نهر الكلب وعين الفيجة في أنابيب تقي الماء من الجراثيم الضارة قلت الأمراض قلة محسوسة حتى أن الهواء الأصفر

انتاب سورية مرتين في العهد الأخير ولم يعرج على بيروت مع انتشاره كثيراً في صيدا وطرابلس المجاورتين لها وكذلك في دمشق منذ أخذ بعض أهلها يتسربون من ماء الفيجة الطاهر فلو تيسر لسائر مدن سورية مثلاً ما تيسر لنا من الماء النقي كالقدس وعكا ونابلس وطرابلس وصيدا واللاذقية وحمص وحماة وحلب وغيرها من الأمصار لما جاء على سورية ربع قرن إلا وسكانها ضعف ما هم الآن. هذا في أبسط الأشياء وأقربها تناولاً فما الحال لو تشعبت خطوطها الحديدية عريضة كانت أو ضيقة بحيث لا تخلو قرية فيها خمسة آلاف نسمة من الارتباط مباشرة مع أمهات المدن فحاصبيا وراشيا وقطنا ودومة والنبك والقنيطرة وصلخد وعاهرة والسويداء والعمرانية وسلمية وبصر الحرير وعجلون والسلط والكرك كل هذه القصبات مراكز أقضية مهمة لا اتصال لأكثرها مع حاضرة الولاية إلى على ظهور الدواب والبغال والجمال فلو اتصلت بدمشق مثلاً كما اتصلت الزبداني والبقاع وبعلبك وحمص وحماة ومعان وشمسكين ودرعا إذاً لتوفر عمرانها وغزر سكانها واغتنت أرضها بغلاتها وثمراتها وسهل على البعيد أن يقتني أراضي لا يصل إليها على المطايا إلا في أيام طويلة فيبلغها مع القطار في ساعات. ومثل ذلك قل عن ولايتي حلب وبيروت ومتصرفيتي القدس وجبل لبنان بل قله عن ولايات طرابلس الغرب واليمن والحجاز والبصرة وبغداد والموصل وديار بكر ومعمورة العزيز وبتليس وقسطموني ووان وارضروم وطرابزون وسيواس وقونية وانقره واطنه وجزائر البحر الأبيض وآيدين وخداوندكار والأستانة وادرنة وسلانيك ومناستر ويانيا وقوصوة واشقودرة ومتصرفيات بنغازي والزور وبيغا وجاتلجه وازميد. ليس عند الدولة اليوم من الخطوط الحديدية ما يكفي لخمس ولايات فقط وقدروا عدد ما لديها منها بنحو سبعة آلاف كيلومتر تدفع على أكثرها ضمانات كيلومترية كل سنة لا تقل عن ستمائة ألف ليرة ولو كان رجالها في العهد الماضي على شيءٍ من الذمة والعقل لما فادوا بمصلحة أمتهم لقاء منفعة ذاتية تافهة إلى هذا الحد ولكانوا أنشؤوا معظم تلك الخطوط بأيدي شركات عثمانية تستلف من أوروبا ما يقتضي لها من المال بمقابل معتدل تسدده من مداخيل الخطوط التي تمدها فكما لم يعسر على الحكومة العثمانية إنشاء خط حديدي من دمشق إلى المدينة وهو لا يقل عن ألف ومئتي كيلومتر في واد غير ذي زرع لا يصعب

عليها أو على الأمة أن تنشئ خطاً حديدياً مثلاً من دمشق إلى بغداد والمسافة بينهما ثمانمائة كيلومتر أو من دمشق إلى الأستانة والمسافة ألف ومئة كيلومتر تمر بأقاليم كلها عامرة بطبيعتها مشهورة بخصبها وجودة تربتها. ولكن البلاد حتى اليوم لم تبرح كمن خرج من تحت الردم لا يكاد يفيق لكثرة ما لقيه من مصائب الأدوار السالفة والحكومة على سعي القائمين بشؤونها في العاصمة لم تستطع حتى الساعة أن تدبر ميزانيتها على ما ينبغي والعجز لم يزل يربو على أربعة ملايين ليرة كل سنة فقد بلغت نفقات الحكومة هذا العام 29929521 ليرة عثمانية ووارداتها 24587217 ليرة على ما أدخل عليها من تعديل رواتب الموظفين وغير ذلك من أنواع الاقتصاد وكان يرجى أن تزيد الأعشار هذه السنة زيادة محمودة لأن معظم أرباب النفوذ والفنى لم يعتادوا أن يؤدوا للخزانة في السنين الغابرة أكثر من خمس وارداتهم في الأغلب بل بعضهم ما كانوا يدفعون عشر العشر دع عنك سائر التكاليف. وآخر إحصاء رأيناه في زيادة أعشار هذه السنة أنها زادت في السلطنة عن السنة الماضية مائة وخمسين ألف ليرة مع أن أعشار ولاية سورية وحدها زادت ثلاثة وأربعين ألف ليرة ولو عنيت حكومة هذه الولاية بتلزيمها حق العناية لما قلت الزيادة عن مئة ألف ليرة من الأقضية والألوية التي تدفع الأعشار بدلاً فضلاً عن لواء حوران الذي يدفع عشراً مقطوعاً بلغ هذه السنة تسعين ألف كيلة من الحنطة ولو استوفت من أهله الأعشار بحسب ما يجب عليهم أداؤه لأخذت هذا القدر المأخوذ من قضاء واحد فما بالك بسائر الأقضية على أن بعض الولايات كحلب مثلاً أصيبت هذه السنة بنقص غلاتها وثمراتها للجراد الذي انتشر في أرجائها ولكن حال سائر الولايات ليس كذلك. ولا علة لهذا إلا أن موظفي المالية والإدارة ضعاف في معظم الولايات والأهلون أكثر منهم جربذة واحتيالاً فتمكنوا كما كانوا في العهد السالف من التزام الأعشار بالأثمان البخسة ويفكر ناظر ماليتنا اليوم في تخفيض العشر من اثني عشر ونصف في المئة إلى عشرة فقط لتبقى للفلاح بقية صالحة من وارداته يعمر بها أرضه ويكسو أهله ويرمم اصطبله وداره ويستكثر من الماشية لأن الحكومة تستوفي الآن من الفلاح جميع ما يملك كل سبع سنين، كما يفكر في زيادة رسوم الكمارك أربعة في المئة فتصبح خمسة عشر في المئة بدلاً

من أحد عشر فإذا حسبنا قيمة ما تتقاضاه الدولة من الكمارك سنوياً 3868866 ليرة عثمانية كما هو المقدر في الميزانية الأخيرة والكمرك بعد عشرة في المئة لا تقل الزيادة عن مليون ونصف ليرة يسد بها جانب مهم من عجز الميزانية من قابل، ولا شك أن ضرائب الأملاك ستزيد أيضاً لأنها قليلة بالنسبة ولا سيما على أرباب السعة الذين كانت الحكومة السالفة تتسامح معهم بأكل حقوقها عن قصد والمأمول أن يزيد كل شيء على تلك النسبة من مثل بدلات العسكرية التي ستتقاضاها الحكومة من غير المسلمين في السلطنة. قلنا ومن أمثل الأعمال تخفيف الأعشار في السلطنة أو إلغاؤها إن أمكن والاستعاضة عنها بضرائب على الأراضي بحسب موقعها وخصبها والزيادة في الكمارك وربما لا يخلو هذا الصنيع من زيادة قليلة في ثروة البلاد ويرغب السكان بعض الشيء عن البضائع الأجنبية ويستعملون ما أمكن من مصنوعات بلادهم فإذا لم يقل الوارد من السلع الأجنبية فلا أقل من وقوفه عند هذا الحد، ويقدرون قيمة صادراتنا بنحو اثنين وعشرين مليون ليرة عثمانية ووارداتنا بنحو ثلاثة وثلاثين مليوناً أي أن البلاد الأجنبية وأوروبا خاصة تأخذ منا كل سنة عشرة ملايين نخسرها من مجموع ثروتنا وإذا أضفنا إليها قيمة ما تدفعه الحكومة العثمانية ربا ديونها وهو لا يقل عن تسعة ملايين ليرة لأن ما عليها من الديون يبلغ نحو مئة مليون من الليرات فتكون السلطنة العثمانية قد خسرت نحو عشرين مليون ليرة كل سنة على أقل تعديل. والطريقة الاقتصادية لسد هذا العجز في المزانية هو الوقوف في النفقات عند حد معين والسعي في استثمار الأسهل فالأسهل من خيرات البلاد بحيث لا تتكلف الدولة الإنفاق على مشروع إلا إذا كانت الأرباح فيه تربو على الخسارة منذ أول سنة كإصلاح ري العراق مثلاً الذي يحتاج إلى عشرة ملايين ليرة مثلاً تأتي الدولة والأهالي بمليوني ليرة على الأقل تأخذ منها الحكومة لا أقل من مليون ليرة فإصلاح ري العراق بالاستدانة من أوروبا ربح ظاهر لا محالة ولا سيما إذا تقدمه إنشاء خط حديدي من بغداد إلى دمشق كما هو رأي السير ويلكوكس المهندس الانكليزي المشهور. وإذا عنيت نظارة الغابات باستثمار غابات السلطنة على الأصول المتبعة في أوروبا وصانتها من فأس الأهلين وأنياب مواشيهم تزيد ثروة المملكة زيادة محمودة تؤثر في

المجموع فلا تتناول ما يلزمنا من الأخشاب من النمسا أو رومانيا مثلاً بل نبتاعه من حراج قونية وقسطموني وآيدين وتكفي سائر حراج الروم ايلي والأناضول وسورية للوقود فتكفينا مؤونة الفحم الحجري أو البترول أو غيره من الوقود الذي تجلبه من الخارج.

الأوائل

الأوائل ذكرني ما طالعته في العددين الخامس والسادس من مجلة المقتبس الغراء (4: 273) بما كنت قد عنيت بجمعه منذ سنوات من الأوائل (أي أول من عمل شيئاً) عند القدماء من يونان ورومان وفرس وعرب ثم عند من جاء بعدهم من الأمم إلى عهدنا من أعارب وأعاجم ولا يخفى ما في هذه الأبحاث من المحاضرات التاريخية والأدبية والعلمية واللغوية الخ فرأيت الآن أن ألخص مقدمة هذه الرسالة وبعض مباحثها لعل القراء الكرام يرون فيه تفكهة وجماماً وهاك نبذة منها: لم يفت العرب جمع (الأوائل) شأنهم في كثير من الموضوعات التي طرقوها وألفوا فيها على حين لم يطرق مثلها كاتب أعجمي وعلم الأوائل هو كما عرفه الحاج خليفة في كتابه كشف الظنون الشهير (طبعة مصر 1: 132) ما يتعرف منه أوائل الوقائع والحوادث بحسب المواطن والنسب وموضوعه وغايته ظاهرة وهو من فروع علم التواريخ والمحاضرات لكنه ليس بمذكور في كتب الموضوعات وقد ألحق بعض المتأخرين مباحث (الأواخر) فيه وألفوا فيه كتباً عددها ملخصة وهاك تفصيلها من مظانها الأخرى: 1ـ أول من صنف في (الأوائل) أبو هلال حسن بن عبد الله العسكري المتفوى سنة 395 هـ (1004 م) وسمى رسالته (الأوائل) وهي مختصرة. 2ـ ومن المؤلفات فيها (محاسن الوسائل في علم الأوائل) للقاضي بدر الدين محمد ابن عبد الله السبكي المتوفى سنة 769 هـ ـ 1367 م. 3ـ (إقامة الدلائل على معرفة الأوائل) للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ ـ 1448م. 4ـ (الوسائل إلى معرفة الأوائل) لجلال الدين السيوطي الشهير المتوفى سنة 911 هـ ـ 1505م لخص فيه أوائل العسكري المذكور آنفاً وزاد أضعافه ورتبه ترتيب الفقه وختمه بالعلم والأمثال وفيه منظومة بالرجز اسمها الوسائل ويرجح أنها أرجوزة وسائل السائل إلى معرفة الأوائل التي ذكرها كشف الظنون ـ 2: 415. 5ـ محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر وهو مختصر للشيخ علي دده اتمه سنة 889 هـ ـ 1589م ووضعه على قسمين الأول في فصول الأوائل مرتباً على 37 فصلاً والثاني في فصول الأواخر وفيه 4 فصول.

6ـ أزهار الخمائل في وصف الأوائل لمولى عثمان بن محمد المعروف بدوقه كين زاده الرومي المتوفى سنة 1013 هـ ـ 1604م وقد رتب الأوائل على الحروف بالتركية وأهداها إلى السلطان مراد خان الثالث. 7ـ8ـ9 الأوائل للطبراني ولمحمد بن أبي القاسم الراشدي ولابن خطيب داريا ـ وهذه أهم المؤلفات بهذه المحاضرات، على أننا لم نقف على مخطوط منها حتى الآن وإليك الآن مثالاً مما جمعته من الأوائل: أول إنسان هو أبونا آدم وأول امرأة هي أمنا حواء أول قتيل ومحسود وراع ولدهما هابيل وأول قاتل وحاسد وحراث ولدهما قابين. أول ضارب بالمطرقة حفيدهما توبال قابين. أول عازف بآلة طرب لامك. أول مشترع ومؤرخ وقائد موسى النبي. أول من كتب في السل أنه داء معدٍ سقراط الفيلسوف اليوناني الشهير. أول من قال من الروم أن الأرواح غير فانية بل هي أزلية أبدية طاليس الفيلسوف اليوناني. أول من عرف علم الطبيعة والهيئة عند اليونانيين طاليس هذا وهو أول من قال الكلمة المشهورة أيها الإنسان اعرف نفسك. وهو أول من أنبأ بكسوف الشمس وخسوف القمر قبل وقوعهما. وهو أول من بحث عن أسباب الأهوية والزوابع والصواعق والبرق والرعد. وهو أول من قاس ارتفاع القلاع والأهرام من ظلها الجنوبي لما تكون الشمس في الاعتدال. وأول من قرب القربان للهياكل وطهر الأرض والمدائن والمنازل الفيلسوف أثيميديس اليوناني. أول من اخترع عمل الفخار بالدولاب انخرسيس الفيلسوف اليوناني. أول من امتنع لتواضعه أن يلقب حكيماً فيثاغورس الفيلسوف اليوناني. أول من شهر علم الفلسفة بطريقة جلية في جميع اليونان دون غيره انكساغوراس

الفيلسوف اليوناني. أول من أدخل فلسفة اليونان إلى رومية شيشرون الخطيب الروماني الشهير قبل الميلاد بقرن. أول من قال في الجاهلية أما بعد قس بن ساعدة أسقف نجران النصراني. وهو أول من اتكأ على عصا عند خطبته وأطال الكلام. وأول من وصف الخيل وأجاد بتشبيهاته امرؤ القيس من أصحاب المعلقات. وأول من لعب بالصقور الحارث بن معاوية بن ثور الكندي ملك كندة. وأول طبيب عند العرب الحارث بن كلدة الثقفي ثم ولده النصر. أول من سكن نجران يزيد بن عبد المدان من بني كهلان نزلها نحو سنة 450م. وأول من سمى اليوم السادس من الأسبوع الجمعة وكان يقال له العروبة كعب بن لؤي. أول من قال مرحباً وأهلاً سيف بن ذي يزن الحميري قالها لعبد المطلببن هاشم ما وفد إليه مع قريش لتهنئته برجوع الملك إليه. أول من خطب في الإسلام النبي (عليه الصلاة والسلام). وهو أول من قال (مات فلان حتف أنفه). وأول من أسلم خديجة زوجته. أول كتاب كتب في اللغة العربية بصدر الإسلام المصحف في خلافة أبي بكر لأنه أول من اعتنى بجمعه. أول من كتب في الإسلام علي بن أبي طالب. وهو أول من قال جعلت فداك. أول من قال أيدك الله وأطال بقاءك عمر بن الخطاب. وأول والٍ فرض له رعيته نفقته أبو بكر الصديق. وهو أول من سمي خليفة. وهو أول خليفة مسلم ولى غيره وهو حي. وهو أول من سمى القرآن مصحفاً. وأول من قال اجعل هذا الشيء بأجاً (طريقاً) واحداً عثمان بن عفان.

وأول من قال فاض الميت شريح قال هذا حين فوضه. وأول من جمع الدجال مالك بن أنس فقيه المدينة بقوله: هؤلاء الدجاجلة. وأول خليفة بايع لولده في الإسلام هو معاوية بن أبي سفيان بايع لولده يزيد. وهو أول من وضع البريد، وأول من خطب جالساً على الأرجح. وهو أول من سمى الطيب غالية وأول من عمل المقصورة في المساجد. وأول من ضرب الدراهم والدنانير في الإسلام عبد الملك بن مروان. وأول من بنى المارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك وعين له أطباء برواتب وحبس المجذومين وأجرى عليهم وعلى العميان الرزق. وأول من ضبط الحروف العربية بالنقط والحركات نصر بن عاصم بخلافة عبد الملك ابن مروان. وأول من اتخذ اللغة العربية في الدواوين بنو أمية. أول لحن سمع بالبادية هذه عصاتي وأول لحن سمع بالعراق حيّ على الفلاح. أول من سمي وزيراً في الإسلام أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال الهمذاني استوزره السفاح في القرن الثالث للهجرة. أول من لقب أمير الأمراء في الإسلام ابن رائق أمير البصرة وواسط في القرن الرابع للهجرة وكان صاحب هذا اللقب يتولى رئاسة الوزارة والجند. أول من لقب بالصاحب من الوزراء اسماعيل بن عباد وزير مؤيد الدولة في القرن الخامس للهجرة. أول من التزم الصحيح من اللغة مقتصراً عليه الإمام أبو نصر اسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح. أول من وضع كتاب الأجناس في اللغة الأصمعي لأن التجنيس مولد وليس من كلام العرب. أول من ذكر أبنية الأسماء والأفعال فأورد للأسماء ثلاثمائة مثال وثمانية أمثلة سيبويه في كتابه المشهور. أول من نقل الخط من القلم الكوفي إلى الصورة المتعارفة ابن مقلة وزير المقتدر بالله.

أول من وضع المثلث في اللغة قطرب من أهل القرن الثاني للهجرة. أول من تعمق بدرس كتب أرسطو الفيلسوف اليوناني وفسرها ونشرها بين العرب الفارابي. أول من تكلم بأصول الفقه واستنبطه الإمام الشافعي. أول من دعي بقاضي القضاة أبو يوسف القاضي من أهل القرن الثاني للهجرة وقيل ابن جنبة الأنصاري. وأول من غير لباس العلماء إلى زيه المعلوم عندنا اليوم أبو يوسف المذكور. أول خليفة لعب بالصولجان والكرة عند العرب هو هرون الرشيد العباسي. أول من عمل اسطرلاباً في الإسلام الفزاري زمن المنصور العباسي. أول من اشتغل بنقل العلوم إلى العربية خالد بن يزيد الأموي حفيد معاوية الأكبر في القرن الأول للهجرة. أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمدة المشهورة والقسي الموتورة موسى الهادي العباسي في القرن الثاني للهجرة. أول رصد وضع في الإسلام بدمشق زمن المأمون العباسي. أول من كتب من العرب في السياسة المدنية أو الاقتصاد السياسي الفارابي ثم ابن خلدون في مقدمته. أول جمعية علمية فلسفية عند العرب جمعية إخوان الصفاء في بغداد في أواسط القرن الرابع للهجرة. أول من استخدم المرقد البنج في الطب العرب واستخدموا له الزؤان أو الشيلم. أول من استخدم الكاويات في الجراحة العرب وأول كتاب فيه ليوحنا بن ماسويه. أول من وصف الحصبة والجدري بكتاب هو أبو بكر الرازي. أول من أنشأ حوانيت الصيدلية واشتغل في تحضير الأدوية العرب. أول من استخدم الجيوب والأوتار في قياس المثلثات والزوايا البتاني الرياضي العربي. أول من استنبط الكرة البيروني الجغرافي العربي الشهير. أول من تناول الأرقام عن الهنود الخوارزمي فنسبت إليهم.

أول من حسب فلك نجم المذنب على موجب قواعد تعليمية اسحق نيوتن الانكليزي في القرن السابع عشر. أول من استعمل الشاري قضيب الصاعقة فرنكلين سنة 1759م. أول من اكتشف الكينا رجل اسمه بليتيه سنة 1820م. أول من اكتشف التلقيح بالجدري ادورد جنر الطبيب الانكليزي سنة 1796م. أول من استعمل طوابع البريد الانكليز في لندن سنة 1840م. أول طابعة تيب ريتر صنعت في أميركا سنة 1873م. أول من اكتشف النيتروجين الدكتور روثر فورد سنة 1772م. أول من اخترع تذاكر البريد الدكتور هرمن الألماني سنة 1869م. أول جريدة عربية أنشئت في مصر تقويم الوقائع سنة 1828م. أول جريدة عربية أنشئت في الأستانة العلية مرآة الأحوال لرزق الله حسون الحلبي سنة 1854م. أول جريدة عربية أنشئت في سورية حديقة الأخبار لخليل الخوري اللبناني سنة 1858م. أول مطبعة عربية أنشئت في سورية مطبعة حلب الآرثوذكسية منذ مائتي سنة أي في أول القرن الثامن عشر للميلاد.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع اللغة العثمانية معلوم أن اللغة التركية العثمانية اليوم مؤلفة من ثلاث لغات التركية الأصلية والعربية والفارسية وإن الألفاظ العربية في العهد الأخير كثرت فيها جداً حتى تكاد تجد في الصفحة الواحدة ثلاثة أرباعها من الألفاظ العربية وربما أكثر وقد شق هذا الأمر على إقدام إحدى جرائد الأستانة فقامت تطلب تصفية اللغة العثمانية من الألفاظ العربية وقد ردت الجرائد الأخرى على هذا الرأي ويفته وفي مقدمتها جريدة تصوير أفكار بقلم صاحبها أبي الضيا توفيق بك الكاتب المشهور فقال من مقالة له ما تعريبه: زعمتم أن يوسف الثاني ملك النمسا كان أخذ على نفسه نشر اللغة الألمانية بين المجر فانتبه المجريون لما يراد بلغتهم وأخذوا يطرحون منها الكلمات الزائدة من اللاتينية والألمانية فتم لهم أن يكونوا اليوم أمة وأن البلغار وإن كانوا في الأصل أتراكاً أبدلوا لما نزل قسم منهم أوروبا مذهبهم ولسانهم بالنصرانية والسلافية فغدوا ينظرون إلينا نظر الخصومة كأننا لسنا منهم وليسوا منا في شيء، ولكننا لو نظرنا إلى تاريخنا وكيف تألفت جنسيتنا لا نحتج بمثل هذه الحجج. فإنا لقوم (الترك) قد دفعتنا أيدي بكواتنا وأمرائنا وكنا عبارة عن ألف أو ألفين من الرجال اضطرتنا غارات جنكيز إلى الرحيل عن أوطاننا فجئنا إلى القرب من هذه العاصمة ونزلنا قصبة سكود ومنذ ذاك العهد حتى أواخر سلطنة سليمان القانوني أيام بلغنا غاية الغايات في فتوحاتنا ووصلت قوتنا إلى أرقى مراقيها أخذنا ننتشر في قارات الدنيا الثلاث الكبرى فجمعنا تحت لواء حكومتنا نحو عشرين إلى ثلاثين جنساً ومثل هذا العدد من الأديان والمذاهب حتى لقد استولينا أيضاً على جزء من بلاد المجر المبحوث عنها آنفاً. وإذ تعذر في العهد الأخير أن تتقدم سياسة التغلب إلى الأمام التي لم تكن مبنية على مقصد خاص على نحو ما كانت سياسة بطرس الأكبر امبراطور روسيا مثلاً ولما لم تكن سياستنا نتيجة فطنة وتأمل قائمة على أساس متين انحلت عرى هذه الأجناس المتحالفة التي لم يدرك بادئ بدءٍ أن الضرورة تدعو إلى توحيدها لأدنى خلل عرض لقوة الدولة. ثم إن الرابطة التي تربطنا والشعوب الإسلامية ومن هم قوام روابطنا كالعرب والأكراد وبعض العشائر المغولية التي سقطت إلى هذه الأرجاء وتوطنت فيها ومن تركناهم ن أولاد

الفاتحين ومن تفرقوا من المجاهدين اتباع بكوات الروملي فانتشروا في تلك الديار أن تلك الرابطة قد دعت إلى أن يمتزج هؤلاء بأهالي البلاد الأصليين أي بالبلغاريين والصربيين والارناؤد والبوشناق فأخذ هؤلاء يدينون بالإسلام حتى أصبح نحو نصف سكان تلك الأقطار الواسعة من المسلمين، واضطر أولئك المسلمون إلى تعلم أمور دينهم وبهذه الواسطة انتشر اللسان العثماني وتغلب الفكر الديني على الجنسي وأنشأ أولئك الشعوب يعتقدون بأن السلطنة العثمانية حامية الدين وسلامتها سلامة لهم في الدارين وبفضل هذا الاعتقاد غدا أهالي البوسنة المسلمون خاضعين للحكومة النمساوية وهم لا يقلون عن 510000 نسمة ينظرون إلى النمسويين نظر الأعداء مع أنهم من عرق واحد، ومثل ذلك قل في البوماقيين والجناقيين وغيرهم من سكان بلغاريا ممن يرون السلافيين أعداءهم على حين هم وإياهم من أصل واحد ولا يستثنى من ذلك إلا الأرناؤد فإنهم في بلادهم يفضلون الجامعة الجنسية على كل جامعة فيدين المرء فيها بما يريد ولا من يسأله عن معتقده دان بالإسلام أو بالنصرانية لأن مسائل الاعتقاد من الأمور الوجدانية النفسانية ولكن يبقى للجنسية القول الفصل بينهم فإذا استباح حماهم أجنبي يقوم المسيحيون والمسلمون يذودون عن حياض بلادهم قومة رجل واحد بمعنى أنه لم تنشب قط ولا تنشب فتنة باسم الدين في بلاد الارناؤد فاللسان التركي الذي نستعمله منذ ستمائة سنة مؤلف من ثلاث لغات وقواعد صرفه ونحوه هي من الأصول المتحصلة من القواعد التي اقتبسها العجم عن العرب ولذلك أصبح لغة قائمة برأسها ولهجة خاصة بالعثمانيين فقط، وبقدر ما بين التركية الشائعة فيما وراء النهر والتركية المستعملة في آذربيجان والتركية التي يتكلم بها بعض الشعوب الأتراك في قافقاسيا والتركية المستعملة بين التاتاريين في القديم من الفروق فالفرق كذلك بين لغتنا ولغتهم. وبالجملة فإن ما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها بعد دور الفتح من البلاد وما خسرته بعد عهد السلطان سليمان من النفوس مما لا يقل عن ثلاثة أرباع السكان وما نحن مضطرون ومفتقرون إليه من تعلم اللغة العربية التي هي لسان شريعتنا وعقيدتنا مع كل هذا هل جذب العربي التابع لنا التركي إليه وصبغه بصبغته أم نحن صبغنا العربي بصبغتنا، وما أدري كيف نشأ خيال الخوف من فقدنا وطنيتنا إذا لم تداركه بتصفية لساننا فقد رأينا جميع أبناء

العرب النازلين في المدن والبلاد الواقعة بين الاسكندرونة وبغداد يتكلمون بالتركية ولقد أنسنا بشرف اللقاء في مجلس النواب بأناس من مبعوثي العرب يطلق عليهم لقب آغا ولكنهم يفوقون بفضائلهم وكمالهم كثيراً من وزرائنا فكان الحلبيون والرهاويون والعينيون (أهل أورفه وعنتاب) والمواصلة والكركوكيون والسليمانيون والبغداديون يتكلمون ويكتبون بهذه اللغة العثمانية الممزوجة من التركية والعربية والفارسية بلسان يشف عن فضل بيان وإحسان لا يضاهيهم فيهما إلا قلائل منا وما ذلك إلا أثر من آثار انتشار آداب التركية الجديدة بينهم لا التركية القديمة. وعاد الكاتب المشار إليه في عدد آخر يقول في الرد على مناقشيه: إن اللسان العثماني هو لسان الأمة التي أنشأت هذه الدولة العثمانية من الأتراك وغيرهم من الشعوب الذين اتحدوا معهم افترق كل الافتراق عن تركية الجغتاي لمقصد سياسي بل من الواجب عليه أن ينفصل عنها وذلك لاشتراك الشعوب الكثيرة التي دخلت دائرة اتحادنا فأنشئت هذه الهيئة الاجتماعية ولذا لا تجد حاجة لها أن تتخاطب وتتكاتب بألف باء أويغور وتركية ما وراءِ النهر. فما دامت ألف بائنا اليوم هي آلة الكتابة المشتركة التي اتخذها العرب وأضاف إليها الفرس أربعة حروف فعبروا بها عن لغتهم وما دمنا نرى من الواجب علينا أن نقلد العرب بسائق الدين ونقلد الفرس بسائق الأدب ونحن في حاجة ماسة إلى الأخذ من مؤلفات العرب والفرس والانتفاع بما خلفوه من علومهم منذ ألف وثلاثمائة سنة وما دامت مصنفاتنا العثمانية منذ ستمائة وخمسين سنة قد دونت من هذه اللغات الثلاث فنشأت عنها اللهجة العثمانية ما دام الأمر كذلك فنحن نأخذ في كل عصر من خزائن معارف هذه اللغات الثلاث ولا نتخذ عنها بديلاً، ولعمري ماذا نجني من الفوائد إذا قلدنا اليوم البخاريين والخوقنديين والكشغريين بلهجاتهم وكتابتهم ولكن هذه الشعوب إذا قلدتنا في لهجتنا تقترب من منهاج معارفنا فتستفيد من ذلك فوائد حسنة. مقاومة الكحول يشتد حملة الأقلام وأمراء البيان في الممالك الإفرنجية يوماً بعد يوم في مقاومة المسكرات وذلك بواسطة جمعيات نذر أعضاؤها على أنفسهم أن يقعدوا للمسكرات كل مرصد وقد

كانت سويسرا من أول الأمم التي قاومت انتشار الابسنت منذ ثلاثين سنة فصدعت الحكومة هناك بأمر الشعب وإرادة الشعب حكم وعملت على ما اقتضاه منه المقاومون للمسكرات على كثرة خصومهم بادئ ذي بدء والموافقون على المنع رجال الصحة والأدب والجمعيات الطبية والسياسية والكنائس والأحزاب السياسية المتطرفة من كاثوليك وبرتستانت ولم يقف على الحياد في هذا الباب سوى الحزب الراديكالي. وقد سبقت فنلندا سويسرا في مقاومة المسكرات فأصدرت حكومتها أمراً منذ سنة 1882 بمنع بيع المسكرات بالمفرق للناس والاتجار بها وجعلت بيعها بيد جمعيات تنفق ريعها على ما من ورائه فائدة عامة، وهذه الجمعيات تقاوم السكر بكل ما فيها من طاقة وتصد العامة من غشيان الفنادق وتدفعهم إلى الاختلاف إلى المطاعم الصحية التي لا تبيع المسكرات وأخذت تلك الجمعيات تدخل في دروس المدارس مضار المسكرات وتنفر الدارسين من تعاطيها، وحذت النمسا حذو الأمم العاملة على تقليل المشروبات فأنشأت جمعيات تصد العملة عن الشرب وأفلحت في تكثير سواد أفرادها وأنصارها وقد جعلت جمعية نقابات العملة شعارها: إن المشروبات الروحية منبع الأضرار العظيمة على طبقة العملة تسلبهم قواهم الطبيعية والعقلية اللازمة لهم في جهاد الحياة. وهكذا ترى الحال في معظم الأمم الأوروبية ولاسيما في الممالك الصغرى مثل السويد والنرويج والدانيمارك وهولانده والبلجيك وبلغاريا، وهذه الإمارة الأخيرة أخذت منذ أسست سنة 1878 تقلد الأوروبيين في مناحيهم وأحبت مخالفة القواعد التي كانت مرعية فيها على عهد حكم العثمانيين عليها من وضع العقبات في سبيل المسكرات ولكنها عادت ففكرت في العاقبة حتى قل فيها تعاطي المشروبات كثيراً في البلاد التي تكثر فيها الكروم وأخذ البلغاريون يرددون المثل البلغاري السائر بينهم وهو أن الماء لا يقلق الرأس ولذلك جعلوا شربهم الماء الصرف وقد لا يتناولون المسكرات في بعض أعيادهم وهي لا تتجاوز الخمسة أو الستة أيام في السنة كلها. وانتبهت بعض ولايات أميركا الشمالية إلى مضار المسكرات فسنت منذ سنة 1846 قانوناً لحظر بيعها بالمفرق ومن هذه الولايات كنساس وميسيسيبي وألاسكا وغيرها وقد عادت بعض الولايات أيضاً بعد أن رأت فائدة المنع مثل ولايتي الأباماوجيورجيا فسنت قانون

الحظر لتنقذ سكانها السود من الموبقات وسكانها البيض ولا سيما النساء من اعتداء الزنوج عليهن وبذلك أخذ يقل توقيف المعربدين والجناة شهراً عن شهر في تينك الولايتين قلة محسوسة. أما المملكة العثمانية فمع أن دين حكومتها هو الإسلام والإسلام أشد الأديان في حظر المسكرات فتراها أمس واليوم تشدد على المسكرات طاهراً ويهمها في الباطن ولاسيما قبل أن تكون دستورية ترك الأمور لطبائعها حتى تستفيد الديون العمومية من رسوم المسكرات، ويا حبذا لو فكر مجلس الأمة في سن قانون شديد للمشروبات الروحية والإكثار من الرسوم عليها إكثاراً لا يستطيع معه حتى الأغنياء تناولها وبذلك تنتفع البلاد نفعاً تقدره قدره بعد سنتين عندما يصبح معظم أبنائها متعلمين مهذبين بفضل التعليم الإجباري، وبعد تعريب ما تقدم منعت الدولة العلمية دخول الالكحول التي تعمل من غير العنب إلى بلادها وأن لا يدخل إليها من الالكحول (اسبرتو) إلا ما كان ممزوجاً ببعض الأجزاء فيستعمل في بعض الصناعات فحبذا يوم تمعنه على اختلاف ضروبه. الإعلانات يؤكدون أن الولايات المتحدة تنفق في السنة 250 مليون ليرة على نشر الإعلانات حتى أن بعض أصحاب معامل الصابون ينفقون كل يوم على إعلاناتهم 250 ليرة وقد أرسل أحد المخازن مؤخراً إلى زينه قوائم ببضائعه عدد صفحات كل قائمة ألف صفحة ووزنها ثلاث ليبرات فكان ما كلفه ذلك أجرة نقلها في البريد فقط 640 ألف دولار أو 128 ألف ليرة انكليزية، وقد أنفق أحد أصحاب معامل الأمواس هذه السنة خمسين ألف فرنك زيادة عن السنين السالفة لنشر إعلاناته فباع ستة ملايين موسى زيادة عن القدر الذي كان يبيعه في الأعوام الماضية. الصحة في أسوج ونروج أهل المماليك الصغرى في أوروبا من أسعد الناس حالاً وأنعمهم بالاً، فترى نروج متقسمة إلى مناطق طبية ولكل مقاطعة طبيب تعينه الحكومة وتدفع إليه راتبه وفي كل مديرية مجلس صحة يرأسه مفتش صحة وطبيب له سلطة تامة على المديريات والأفراد ويلقنون الطفل في المدرسة مبادئ حفظ الصحة فيجد فيها التلميذ حمامات ورشاشات (دوش)،

وجميع الأمة تعتقد بتأثير المكتشفات العلمية والطبية وكلها تقوم بالواجب في أي مكان كان والناس يقومون أحسن قيام بالتدابير الصحية دون أن يتأففوا أو يحالوا التملص منها، وقد كان معدل الوفيات في أسوج 7و17 في الألف سنة 1881 فنزل سنة 1906 إلى 3و14 ومعدل وفيات الأطفال 7و112 في الألف فنزل إلى 83 وكان عدد سكان أسوج سنة 1881 ـ 4572245 فأصبح سنة 1906 ـ 5327055، وكان معدل الوفيات في نروج 16 في الألف سنة 1880 ووفيات الأطفال 9و95 فنزل سنة 1906 إلى 5و13 في الألف و 4و69 في الأطفال وبعد إن كان عدد سكانها سنة 1880ـ 1908512 أصبحوا سنة 1906ـ 2296300 كل ذلك بالمحافظة على الصحة على ما يوجبه الشرع والعقل. العطورات والأخلاق جاء في إحدى المجلات الافرنجية: الظاهر أنه تمكن معرفة أخلاق الناس من الطيوب التي يستعملونها حتى أصبح الآن من القواعد النفسية الجديدة قولهم: قل لي كيف تتطيب حتى أقول لك من أنت كما قالوا قل لي من تعاشر لأقول لك من أنت كلما قوي الشعور في الأعصاب الشامة كانت طبيعة المرء مهمة وعقله حصيفاً ولطيفاً فروائح الطيب الهندي والرائحة المعروفة برائحة قبرص وجلد إسبانيا وكلها مما لا يحمد أمره لأن مستعمليها يكونون من أرباب التأثر والهذر والرفاهية يصابون بكسل مزمن في عقولهم ويميلون إلى الإسراف ويستمدون للسمن، أما المولعون بعطر المسك فهم من فطرة أحط من أولئك أيضاً ويعرفون بالبلادة والتوحش على أن استعمال عطر المسك مع عطر آخر يدل على عقل راق، وفي العادة إن المولعين بعطر البنفسج من المستنيرين الذين يحبون الجمال على اختلاف مظاهره ولكن من يستعملون ماء الكولونيا يفوقون غيرهم بكثرتهم ووفرة فضائلهم، ويصعب إعطاء صفة لمستعملي عطر الكوريلبسيس الياباني لأن طبائعهم غريبة يجمعون إلى حب الغرائب فطرة خبيثة قد تكون نائمة في نفوسهم فلا تلبث أن تنبعث في حالة غير منتظرة وتظهر متجلية كالشمس في رابعة النهار. هبات الأميركيين بلغ ما جادت به نفوس المحسنين وأغنياء الأميركان منذ الحرب الأهلية حتى الساعة بليون ريال على أقل تعديل جادوا بها على إقامة المدارس والمكاتب والمستشفيات غيرها من

الأعمال العلمية والخيرية العامة، ومن أوائل المحسنين المستر سلاتير وهب مليون ريال لتهذيب الزنوج والمستر بيبادي وهب كثيراً من ماله فمنح دفعة واحدة خمسة ملايين ريال لتصرف في سبيل التعليم، ومن محسنيهم المستر ليلاندستانفورد أنشأ جامعة كبيرة فمنحها دفعة واحدة عشرين مليون ريال، ومن محسنيهم أو محسناتهم مسز اليصابات اندرسون ومسز رسل ساج ومنهم مورغان وكارنجي وروكفلر فهبات الأول مكتومة وإن كان يعرف منها الشيء الكثير وبلغت هبات الثاني مئة مليون ريال وهو عاقد العزم أن يوزع ثروته البالغة ثلاثمائة مليون في الأعمال التي يعود نفعها على مجموع امته وجاوزت هبات الثالث مائتي مليون ريال، يجودون بأموالهم التي اكتسبوها في الغالب من التجارة والاقتصاد من الأمة التي كان بعض أفرادها خداماً لهم وأعواناً على إثرائهم وذلك على طريقة لا تدخل الكسل على الناس بل على العكس تدعوهم إلى اقتفاء آثارهم والائتمام بهديهم ولطالما سمعنا أن فلاناً يجود بمبلغ كذا إذا جاد الناس بمثله فلا يلبث المبلغ المطلوب أن يجمع فيدفع الكريم ماله راضياً، ولو جمع ما جاد به هؤلاء الأغنياء وأمثالهم على المعاهد العلمية والصحية فقط خلال الأربعين سنة الأخيرة لا بتيع به ممالك كبرى من ممالك الشرق ولاحتقر الشرقي نفسه وأمته ونعى فقرها المدقع وجهلها المطبق. كليات إيطاليا نشرت مجلة التعليم الدولية إحصاءً بكليات ايطاليا السبع عشرة وما فيها من الطلبة فكان مجموع من في كلية نابولي 5856 طالباً منهم من يدرسون العلوم ومنهم الطب وبعضهم الصيدلة وفي كلية رومية 3069 وفي تورين 2083 وفي بولونيا 1695 وفي بافيا 1360 وفي بادو 1299 وفي بيز 1186 وفي بالرمة 1131 وفي جين 1095 وفي كاتان 842 وفي بارم 532 وفي مودين 431 وفي ماسراتا 356 وفي كاكلياري 245 وفي سين 240 وفي ساساري 198 وإذا أضفنا إلى هؤلاء التلامذة مجموع ما في الكليات الحرة وهي كامارينو وفرار وبروز واورين يبلغ مجموع الطلبة في الكليات الإيطالية 24644 منهم 4356 في الطب و 3322 في العلوم و 2271 في الصيدلة. الأمويون والعباسيون التي رفيق بك العظم خطبة في نادي دار العلوم في القاهرة في أسباب سقوط الدولة الأموية

والعباسية قال فيها: كان الأمويون شديدي الحذر من آل علي كما ذكرنا وكان هؤلاء بعد نكبتهم في خلافة يزيد قليلي الجرأة على الظهور لشدة العمال عليهم ومراقبتهم لحركاتهم وسكناتهم ولأن الخلفاء من بني أمية كانوا مع شدة حذرهم منهم يراعون مكانتهم ويحسنون إليهم فلم ينزع أحد منهم إلى الخروج عليهم لضعفهم إلا زيد بن علي فقد خرج في خلافة هشام فقتل في الكوفة وقتل ابنه يحيى في خراسان أما تميم أبي هاشم فقد كان بأمر سليمان بن عبد الملك لأنه خاف جانبه لما رأى فيه من النجابة والذكاء. وربما كان هناك سبب آخر لضعف آل علي من بني فاطمة وهو أن الذين بقوا منهم أحياء بعد نكبتهم في كربلاء كانوا أطفالاً لا يصلحون لقيادة الناس فالتف الشيعة حول محمد بن علي المعروف بابن الحنفية من غير ولد فاطمة وهكذا ساقوا الإمامة في بنيه من بعده كما ساقها غيرهم إلى بني فاطمة أيضاً وانتقلت من ثم إلى أبي هاشم إلى بني العباس. لا جرم أن سليمان بن عبد الملك جنى على دولته بقتل أبي هاشم لأن آل علي كانوا لشدة ما عانوا من المراقبة والاضطهاد شديدي الحذر بطيئي الخطى في الوثوب على الخلافة الأموية والظهور لمنازعة الأمويين عليها فتلقى العهد بها آل العباس وهم بعيدون عن سوء الظن والمراقبة لم يعانوا مشاق الدعوة ولم يذوقوا طعم الاضطهاد فيخافون الوقوع فيه: ولذا ما لبث أن عهد إلى محمد بن علي بالأمر حتى نهضوا بأعباء الدعوة بجرأة عظيمة وكان لابراهيم بعد موت أخيه محمد ما كان مع أبي مسلم بتفويض أمر الزعامة إليه وقيام هذا بث الدعوة أحسن قيام حتى استفحل أمرها وظهرت على خصومها. أحس الأمويون بهذا الخطر السريع فبادروا ابراهيم الإمام بالقتل فنهض أبو العباس السفاح بعد قتل أخيه ابراهيم وعاجل الأمويين بالوثوب عليهم قبل أن يدب الفشل في أهله وشيعته منتهز الفرصة وقوع الشقاق بين الأخوة وأبناء الأعمام من آل مروان وتلظى المملكة الأموية بنار الفتن وظفر بما أراد وقضى على دولة الأمويين في المشرق فذهبت كأن لم تكن بالأمس. على أن ظفر العباسيين على هذا الوجه وبهذه السرعة له بواعث وأسباب أخرى كاختلال نظام الدولة وغيره أرى أن ألم بها على قدر ما يمكنني من الاختصار. تعلمون أن الدولة تموت برجل وتحيا بآخر وأن الرجال في الدول قليل والدولة الأموية لما

فقدت رجلها فقدت جانباً عظيماً من قوتها وأعني بأولئك الرجال الرجال المخلصين الذين يخدمون الدولة بمنتهى الصداقة بقطع النظر عما ينسب إلى أفراد منهم من القسوة فيتهمونهم من أجل ذلك بالظلم إذ الرجال يصطبغون بصبغة الدولة ويتشكلون بشكلها والدولة الأموية لما كانت دولة مطلقة لزم أن يسير عمالها على سننها. من رجال الدولة الأموية المخلصين، موسى بن نصير، والحجاج بن يوسف، وخالد بن عبد الله القسرى، ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم وإضرابهم ومن خطاء الخلفاء الأمويين أنهم لم ينصفوا أمثال هؤلاء الرجال فأحرجوا من أحرجوه منهم حتى أخرجوه فقتلوه كخالد بن عبد الله وقتيبة بن مسلم ويزيد من المهلب الذين ذهبوا ضحايا سوء التفاهم، وموسى بن نصير الذي زج به في السجن في نظير فتحه الأندلس ومات أقبح ميتة ففقدت الدولة بفقد هؤلاء الرجال وأمثالهم جانباً لا يقدر من قوتها وأخذت تنحط من ثم هيبتها أما الحجاج فموته في الحقيقة مبدأ افول نجم الدولة الأموية لأنه كان يدها التي بها تضرب وعينها التي بها تبصر فإنه بعد أن أخمد لهم فتنة ابن الزبير كان والياً على الكوفة واليه ولاية خراسان وكلا المكانين عش الفتنة ومنبع الدعوة الأمامية ومع هذا فقط ضبط البلاد وأرهب ببطشه المنازعين للدولة والنازعين إلى الشغب، وأحسن في انتقاء العمال والقواد فامتد ملك الأمويين على عهده إلى كابول من بلاد الأفغان شرقاً والتركستان الصينية شمالاً ولو وجد بعده من يخلص من الولاة للدولة إخلاصه ويكون في مثل حزمه وعزمه لطال عمر الدولة الأموية بلا ريب. ولعل نوابغ الرجال يكثرون في مبدأ نشوء الدولة وإن كانت هذه النظرية تحتاج إلى تمحيص. ومما ساعد أيضاً على اختلال نظام الدولة الأموية تباعد أطراف المملكة بما صار إليهم من الفتح إلى عهد هشام بن عبد الملك إذ اتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه قبلهم غير دولة الرومان. فما بين النهرين المعروف بالجزيرة وإيران وقسم من الأفغان والتركستان والتبت والقوقاس وأرمينيا وشبه جزيرة العرب وسورية ومصر والمغرب والأندلس كل هذه الممالك دخلت في حوزتهم وأصبحت خاضعة لسلطانهم، وضبط مثل هذا الملك المترامي الأطراف مع

صعوبة المسالك والمواصلات لذلك العهد متعذر جداً ولاسيما على أمة حديثة عهد في سياسة الأمم، ولذا فقد كانت الفتنة في طرف من أطراف المملكة بين الجنود والأمراء المتنازعين على الولاية وتنتهي بقتل وال وقيام غيره وربما انتهت بغلبة المشاغب أو المتنازع وضم البلاد إلى حوزته واستقلاله بالولاية عليها دونه وفصلها عن جسم الدولة والخليفة لا يعلم ذلك أو لا تصل قدرته إلى إخماد نار الفتنة في تلك البلاد النائية. مثاله ما وقع في المغرب في خلافة الوليد بن يزيد سنة سبع وعشرين ومائة إذ تنازع عبد الرحمن بن حبيب من ولد عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقيا مع حنظلة بن صفوان وإلى إفريقيا فكانت الغلبة للأول واستأثر بالسلطة على البلاد وبقيت إفريقيا مستقلة عن الخلافة الأموية حتى قيام الدولة العباسية. ومثل هذا وقع في الأندلس وفي بعض الأطراف السحيقة ولا يخفى ما في هذا من الوهن والخطر على المملكة. ثم إن من الامور الثابتة في الاجتماع أن الدول الحربية الفاتحة لا تزال في أفق مجدها ما دامت على جانب الخشونة وما دام الراعي والراعية مترفعين عن الانغماس في الترف والاستغراق في ملاذ الحضارة، وقد عرفنا هذا في كثير من الدول البائدة كدولة اليونان وخلفاء داراً والاسكندر (أي البطالسة) والرومان حتى لقد قال مونتسكيو في تاريخه أسباب صعود الرومان وهبوطهم: إن دخول الرومانيين إلى الشام كان مبدأ ضعفهم بسبب ما كان متسلطاً على أهلها وملوكها من الرخاوة والترف. والدولة الأموية إنما هلكت في نفس تلك البيئة التي هلك بها الرومان من قبل وبعد أن حافظت على خشونتها الأولى إلى خلافة هشام بدأت في خلافة الوليد بن يزيد المعروف بالتهتك تنحط عن خشونتها التي عرفت بها وأخذ الخلفاء من ثم يميلون إلى الترف والراحة والاستغراق في الملاذ تبعاً لأحوال البيئة التي نشأوا فيها وهذا بالضرورة كان من الأسباب التي عجلت على دولتهم يضاف إليه انقسام العرب في خراسان التي هي منبع الدعوة العلوية والعباسية إلى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم على الولاية في إبان استفحال الدعوة. مثاله ما وقع بين الحارث بن سريج والكرماني وبين هذا وقحطبة وبينهما وبين نصر ابن

سيار حتى ملت نفوس العرب هذه الحال وسئمت ممارسة الحرب ورأوا أنفسهم اتباع ضحايا لقحطان وعدنان تزهق في سبيل المتنازعين على الخلافة من قريش حتى قال قائلهم: تولت قريش لذة العيش واتقت=بنا كل فج من خراسان اغبرا فليت قريشاً أصبحوا ذات ليلة=يعومون في لج من البحر أحضرا لا جرم أن الذي بث روح الشقاق بين العرب في خراسان إنما هم أهل الدعوة الهاشمية 3 من علويين وعباسيين والذي أنجح قصد أبي مسلم في نشر الدعوة العباسية وقلب الدولة الأموية تواطؤ سكان البلاد الأصليين على قهر الأمويين وفل عصبيتهم العربية وقد عرف ابراهيم الإمام منازع الفرس وعلم أن دولته تقوم بغير العرب من الناقمين منهم وأن العرب شديدو العصبة للأمويين لاصطباغهم بالصبغة العربية الخالصة فكتب فيما كتب إلى أبي مسلم أن لا يبقي على عربي في خراسان أن استطاع فجعل رجال الدعوة يضربون العرب بعضهم ببعض لأن قسماً كبيراً منهم ممن نقم من الأمويين قبل الدعوة وصار من القائمين بها العاملين على تشييد دعائمها تعبداً واعتقاداً. هكذا أثمر الغرس الديني الذي غرسه قبل ذلك بقرن ابن سبأ وإضرابه من الموالي الناقمين من الدولة السائدة واستحال على العرب في المشرق استبقاء السلطة خالصة لهم دون الأمم الأخرى المحكومة منهم وقد جرت سنة الوجود هذا المجرى في كثير من الأمم من قبل. قال مونتسكيو: اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون للمالك حدود طبيعية تمسك باعنة الملوك عن تجاوز هذه الحدود وتعدي بعضهم على بعض ولما تجاوز هذه الحدود الرومانيون أهلكهم البرث أي قدماء الفرس وبددوا شملهم ولما تجاوزها البرث أنفسهم اضطروا لأول أمرهم للرجوع إلى أراضيهم. وأقول أن العرب أصيبوا بما أصيب به الرومان والبرث وطبائع الاجتماع تعذر أولئك الأقوام على ما فعلوه مع العرب وحسب العرب أن نشروا بينهم دين الإسلام فلا مؤاخذة ولا ملام ولاسيما أن الإسلام يرمي بطبيعته إلى محو الحدود السياسية والجنسية بين الشعوب كما ترمي إلى مثل هذا مبادئ جماعات السوسيا لست أو الاشتراكيين أو الاجتماعيين لهذا العهد.

ورب قائل يقول أن هذا الانقلاب أي انقلاب الدولة الأموية إلى عباسية لم تكن نتيجته كلها كما يريد أولئك الأقوام المغلوبون للعرب إذ دولة الأمويين عربية قرشية ودولة العباسيين ليست كذلك. الجواب على هذا يأتي من وجهين، الوجه الأول، إن أمم المشرق لذلك العهد قلما كانت تقدر قيمة الحرية الكاملة لفنائها في وجود زعماء الاجتماع الشرقي أو كما قال مونتسكيو أن أمم آسيا لم يكن ميلهم إلى الحرية كميل أمم أوروبا إليها اليوم أي لعهده 4 ليحملهم على الخروج من الأسر والاستعباد وإنما كان ميلهم إلى تغيير الملك ولا صبر لهم على بقائه طويلاً. وسواء صحت هذه النظرية أو لم تصح فإنه يجوز لنا تطبيقها على الأمم التي دخلت تحت حكم العرب لذلك العهد باعتبار أن الإسلام جمع بينهم جميعاً فلا فرق عند الفرس وغيرهم أن يكون الخليفة أو الملك عربياً أو غير عربي ما دام الملك آئلاً إلى غير الدولة التي نقموا منها وما دام مصير أكثر السلطة إليهم بعد فل حد العصبية العربية التي كان قائمة في دولة الأمويين متسلطة بقوتها على كل شيء. وقد كان ما أرادوه بقيام الدولة العباسية التي لم يكن لها من العربية إلا الاسم وهي مصطبغة بالصبغة الأعجمية مشتبكة مع العناصر الأخرى بالنسب والصهر مشاركة لهم بمصالح الدولة. هذا الوجه الأول أما الوجه الثاني فانتظار النتيجة الطبيعية لمثل هذا الانقلاب ولوفي المستقبل البعيد وتلك النتيجة هي أن اصطباغ الدولة أو الأمة السائدة بصبغة أهل البلاد يحيلها مع الزمن إلى عنصر هذه الصبغة والعكس بالعكس إذ من الشعوب من اصطبغوا بصبغة العرب بعد الفتح فاندمجوا فيهم ومن الشعوب من اصطبغ العرب بصبغتهم فاندمج هؤلاء فيهم وهذا ما وقع لسكان آسيا الوسطى بعد قيام الدولة العباسية ثم سقوطها وقيام غيرها من الحكومات الوطنية على أنقاضها وهكذا رأينا دولة الفرس وغيرها من الدول الإسلامية ديناً المختلفة جنساً قد عادت إلى أصلها وهي قائمة إلى الآن وستبقى قائمة عزيزة الجانب منيعة الجناب إلى الأبد إن شاء الله. وهكذا نرى الخلافة الإسلامية التي من أجلها أو باسمها تلك الدماء الغزيرة صارت إلى غير

العرب اليوم وفي دولة هي أعز دول الإسلام مكاناً وأجدرها بحفظ بيضة الخلافة ولم يمنع الذين أن تكون أن تكون إليها الخلافة كما لم يمنع أن تكون فيمن يقع عليه اختيار الأمة ورضاها في عهد الصحابة الكرام ولو من غير بني هاشم والتاريخ يعيد نفسه. أما ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحاً فهو في نظري ثانوي بالنسبة للأسباب التي ذكرتها وتكاد تكون نتائجها طبيعية وليس من دولة في الأرض قائمة بالعدل المحض حتى الدول المقيدة ناهيك بالمطلقة. ومن قال أن دولة الأمويين كانت ظالمة وأن ظلمها هو الذي جر عليها الدمار فجاهل بأحوال الاجتماع أو متعصب لدولة أخرى ولو طولب بالدليل على أن الدول التي قامت دولة الأمويين على أنقاضها كالفرس والروم والغوط وغيرهم كانت أعدل منها لما استطاع إليه سبيلاً. والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة وحسبك أن أشدهم قسوة وهو عبد الملك بن مروان استهل وصيته لابنه الوليد حين الاحتضار بقوله: يا وليد اتق الله فيمن أخلفك فيهم، والشواهد على مثل هذا كثيرة لا يسعها المقام وحسب تلك الدولة فضلاً فتوحها العظيمة التي سودت دين العرب ولسانهم على أحسن أجزاء المعمور إلى اليوم وتلك الأيام تداولها بين الناس. التماسيح المقدسة اعتاد بعض الآسيويين أن يعبدوا بعض الحيوانات المفترسة معتقدين أنها تحفظ في جسمها أرواح من افترست، وما زال هذا المعتقد شائعاً في الهند وفي شبه جزيرة مالقه، والزحافات في الأكثر هي التي تعبد من دون سائر الحيوانات ولاسيما إذا كانت طويلة كالتماسيح المقدسة التي تعيش في الأقاليم ذات البطائح ولكثرة اختلاف الناس إلى زيارتها تأنس بهم وتعتاد الخروج من الماء إذا ناداها الكاهن بدون أن تذعر فيناولها قطعة من اللحم وتبدي الدلال والتجني والناس مجتمعون عليها وربما رسموا عليها صوراً ورسوماً، وعند قيل راجبوتانا في الهند عدة تماسيح مقدسة يربيها في قصره وقد أنشأ لها غديراً كبيراً تشرب منه وتتمدد فيه ومئات من الهنود يأتون إلى زيارتها كل يوم ويتبركون بها.

تراجع الكثلكة وضع يوسف كاب الفرنسيسكاني تقريراً في حالة المؤمنين بالمذهب الكاثوليكي وغير المؤمنين به فقال أنه يقل القائلون بمذهب كنيسة رومية منذ سبعين سنة وأن جماعتها لا يخرجون من دينهم علناً بل لا يهتمون لأوامره ونواهيه فكأنهم بذلك خرجوا ضمناً وأن لم يخرجوا علناً، وأكد أن من ضعف إيمانهم هم خمسة ملايين نسمة في ألمانيا وأربعة في النمسا والمجر وخمسمائة وخمسون ألفاً في أوستراليا ومليونان ونصف في البلجيك وسبعمائة ألف في كندا وأربعة ملايين ونصف في إسبانيا والبرتغال وأربعة عشر مليوناً في الولايات المتحدة وثمانية ملايين في أميركا الجنوبية وثلاثة وعشرون مليوناً في فرنسا ومليونان وربع في بريطانيا العظمى وستة ملايين في إيطاليا وثلثمائة ألف في بلاد القاع (هولاندة) وستة ملايين ونصف في روسيا ونصف مليون في سويسرا أي أن المنحلين من الكثلكة بلغوا ثمانين مليوناً من أصل مائتي مليون. المضغ سأل أحدهم الوزير غلادستون وهو في الثامنة والثمانين من عمره ما هو سر طول حياتك فقال له: إنني أمضغ مضغاً جيداً كل ما أتناوله من الطعام وجودة المضغ في الحقيقة من الشروط الجوهرية في الهضم وبدونها يختل نظام الصحة، وليس المصابون بسوء الهضم في العادة إلا اكولين اعتادوا أن يقطعوا الأطعمة ويبلعوها بدون سحقها بأضراسهم سحقاً كافياً وما خلقت أضراسهم إلا لتمضغ الطعام فيتعبون معدهم ويوسدون لها عملاً ليس من شأنها فيعرضونها للتمرد والإمساك والتهاب الأحشاء وهي أسباب الألم فينبغي لهم من ثم أن لا يلوموا فيه إلا أنفسهم، فتعلم إجادة المضغ من الضروريات للعالم أجمع ومن لا يمضغ يسيء الهضم ومن يسوء هضمه يعرض نفسه للمخاطر، وللمضغ قواعد أولاً التأني فبدلاً من أن يقضم الطعام قضماً ويخضمه فيجعل لقمة واحدة بحسب الإقلال منه وتجزئته أجزاءً صغرى ما أمكن وتخميره وتليينه باللعاب وإحالته كتلة تجعل على اللسان بحيث يسوغ بلعه بدون جهد، وهذا من العادات التي يجب اتباعها وهي لا تتوقف إلا على قليل من العناء بادئ بدءٍ وشيءٍ من الانتباه حتى لا ينسى الآكل ما هو آخذ بسبيله. وقد قال غلادستون أيضاً: تكلم قليلاً خلال الطعام أو حافظ على السكوت كل المحافظة وعدّ

بروية عدد المضغات وهي تختلف باختلاف الأطعمة ولا تبلع إلا بعد هرس الطعام هرساً شديداً بحيث لا تحرك ماضغيك فقط بل شفتيك وخديك وإذا بدأت فحدق النظر في ساعتك وامعن نظرك في الإبرة التي تدل على الثواني، وبعد بضعة أيام تعتاد هذه الطريقة التي يجب عليك المحافظة عليها كل المحافظة. وقصارى القول إن الواجب إحالة الطعام إلى حساءٍ إذا مزج باللعاب تتحد أجزاؤه وهذه أفضل طريقة لمعرفة ما يتناوله المرء ويذوقه، ومن المعلوم أنه يجب بذل العناية. عادة المضغ بتناول ما يوافق المعدة من الأطعمة فلا يؤخذ منها الصلب وما يصعب خضمه وقضمه والأحسن اختيار اللحوم والبقول الطرية، وما المعدة إلا خادمة أمينة إذا لم تكلف شططاً وما يكون منافياً للصحة وكم من أناس يعبثون بمعدهم بإكراهها وإضرارها، وقد أصدر الحكام المسيطرون على مراقبة المدارس الأميركية أمراً يوعزون به للمعلمين والمعلمات في المدارس أن يعلموا الأولاد كيفية الأكل ولا يغفلوا عنهم خلال المائدة وأن لا يسمحوا لهم بالحياد عن قوانين الصحة وأن يضطروهم إلى إجادة المضغ وهذه من أفضل الطرق التي يجب على المدارس والبيوت أن تحافظ عليها. كتب التبت المقدسة أوسع الكتب المقدسة هي على التحقيق كتاب أهل التبت فإنه بلغ 325 مجلداً والتبت دانت بالبوذية التي أتتها من شمالي الهند نحو القرن السابع للميلاد فترجم علماء التبت في مئة مجلد كتاب ماهايانا المقدس ثم أضيفت إليه الشروح والحواشي على العادة في خدمة الكتب المقدسة حتى بلغ 325 مجلداً وفي كل مكتبة الأمة بباريز ومكتبة بطرسبرج ومكتبة لندرا نسخة من هذا الكتاب. الإسلام في ألمانيا أنشأت البعثة الشرقية الألمانية في بوتسدام مدرسة دينية لدرس دين الإسلام خاصة وسيكون موضوع المحاضرات التي ستلقى هذه السنة في المدرسة على اللغة العربية والفارسية والتركية وفي القرآن والفقه وأصول الشعوب الإسلامية في السياسة وفي الإسلام والشرق القديم وقد اختارت المدرسة ثلاثة من المشايخ لتدريس هؤلاء المستشرقين ما يلزمهم من أصول اللغة والدين.

نقود الورق بلغت نقود الورق التي يتعامل بها في الولايات المتحدة 2420341 دولاراً منها ما قيمته عشرة ريالات ومنها خمسة ومنها عشرون ومنها ألف ريال ومنها عشرة آلاف ريال وهي أكبر ورقة وقد ضاع أو تمزق من هذه الأوراق النقدية ما قيمته مليون دولار. صحة الأطفال قالت مجلة الكورسبوندان: رأت نيويورك منذ عشر سنين أن معدل وفيات الأطفال فيها 214 في الألف فوفرت العناية بالصحة حتى نزل معدلهم اليوم إلى 144 أي إلى نحو الثلث وقد عمدوا إلى طرق ثلاثة في هذا الشأن أولها اختيار اللبن الجيد الطاهر وتنزيه المرضعات في الهواء الطلق والخلاء ومراقبة الحبالى من النساء فكانوا يأخذون المرضعات من البيوت الضيقة القذرة في تلك العاصمة حيث تزدحم أقدام السكان من الفقراء وتضيق بها أنفاسهم ويبعثون بهن إلى الضواحي ولاسيما إلى ضفاف نهر الهودسون والنهر الشرقي وإلى مستشفيات الساحل ومراكب المستشفيات التي تطوف البحار وتنزه المرضعات والأمهات ويعلمنهن مدة تجوالهن دروساً في صحة الأولاد ومتى شعرت إدارة الصحة بأن امرأة حامل تحملهن على العناية بصحتهن وعلى الاهتمام بها وذلك قبل أن يضعن حملهن بستة أشهر. المنتحرون بلغ عدد المنتحرين في ألمانيا منذ تأسيس الامبراطورية الألمانية إلى اليوم 380 ألفاً وقد كثر عدد المنتحرين سنة 1907 فكانوا 9753 رجلاً و 3024 امرأة، وفي كل مئة ألف من أهل فرنسا ينتحر 8، 23 وفي المئة ألف في سويسرا ينتحر 8، 22 ثم تجيء الدانيمرك 22 وألمانيا 2، 20 ثم تأتي بريطانيا العظمى وسائر ممالك أوروبا بقلة المنتحرين فيها وفي اليابان ينتحر 9، 17 في كل مئة ألف أما بلاد النروج فمعدل المنتحرين فيها 5، 5 في المئة ألف وهي أكثر البلاد ميلاً إلى الدعة وقلة القنوط. التربية والدين تساءلت إحدى المجلات العلمية عن كيفية تربية الولد على مبادئ الدين أو تركه غفلاً منها

واستشهدت على ذلك بأقوال المفكرين وعلماء الأخلاق والتربية فقد فضل الفيلسوف تولستوي أن ينشأ الولد على الجهل بتلقينه الدين كما هو الحالة الآن على أن يعلم ديناً مملوءاً بالأكاذيب قال إننا لا نلاحظ هذا الغلط بل إن الأولاد يشعرون به وهذا التعليم يشوش الفكر وقال الين كي بحذف الدين من المدرسة ولكن يجب على الوالدلين العقلاء أن يشرحوا لأولادهم التوراة والإنجيل وذهب كارل روتجر مذهب روسو في أن الواجب عدم ذكر الله للأولاد حتى إذا شبّ يصبح مسيحياً حقيقياً وأوصى كوبو بأن يلتزم الآباء الامتناع عن الأسئلة الدينية ويعلمون أن كل ما يحبون الاطلاع عليه من مختلف المعتقدات وينبغي للآباء أن لا يحاذروا إذا سألهم أبناؤهم أسئلة لا يعرفون جوابها أن يقولوا لا ندري لأن نصف العلم لا أدري. التربية العقلية اتفقت الآراء على أن الواجب تلقين الطفل مبادئ التربية الطبيعية بتقوية عضلاته والسهر على صتحه ونشاطه وتهذيب أخلاقه وتربية عقله وإنارته، ووقع الاختلاف بين علماء التربية ففريق يقول أن تربية العقل عبارة عن إنارة الفكر وتحسين الذوق وتلقين الأدب وحب الجمال والتكمل، وآخر يقول بأن الواجب تهيئته لعلم واسع ومعرفة صحيحة، ويقول بعضهم أن الواجب تنمية ذكائه، على أن الذكاء ليس مما ينال بالتعمد وتنشأ قواه بالأسباب بل يتكوّن من دون أن يبحث عنه ويقصد بالذات مباشرة فينشأ من أسباب عديدة ومن الانتخاب الطبيعي الذي يحيا به الأشخاص المستعدون ومن عمل كل فرد لما يضمن له بقاءه ويحسن عيشه ومن بواعث الحياة الاجتماعية التي تتزايد اليوم بعد اليوم وتتنوع أساليبها، فالولد يبحث من نفسه عما يحصله من المقدمات لعقله فيعرف الأشياء بدون أن نحتاج إلى تعريفها له ويفكر ويتأمل من تلقاء نفسه بدون أن نضطر إلى أن نحثه على ذلك ويشرع بنفسه في توخي الطرق إلى التخلص من مآزق الحياة فتراه إذا فرغ من درسه في المدرسة يعقد له صلات عديدة مع غيره ويبحث في الشؤون بذاته ويهتم بما يجري حواليه وينصت لأحاديث المسنين أكثر منه ويشاركهم في موضوعاتهم ويغتنم كل فرصة ليعد عقله وفكره، وأحاديث الأسرات على المائدة وما يتبادل فيها من الأفكار بين أهل البيت ويطرق فيها من مختلف الموضوعات في ساعات الفراغ أكثر فائدة لعقل الطفل من كل من يتمرن

عليه في المدرسة، فيا سعادة من يكبر في بيئة ذكية وينمو عقله فيها بذاته بمجرد اشتراكه بالحياة العامة وبهذا ثبت معنا أن لا تربية تقوم مقام التربية التي يراها الطفل خارج المدرسة مما يفتح ذهنه ويعوده النظر والبحث والنشاط وينمي ذهنه بما يتوفر عليه من تمرينه المتواصل فيما يحتاج إليه في حياته ونعني به الذهن العملي. لا جرم أن تربية الأولاد في المدارس الداخلية لا تخلو من عيوب تتعذر ملافاتها فهي نافعة في تنظيم العمل ومعودة للطفل على الصبر في مضمار الدرس ولكنها لا تفيد إلا فيما ينتج جمع المعارف أما إذا كان يطلب منها أعداد ذكاء الأطفال ليحسن به الانتفاع فطلب باطل لما عرف من الفروق بين وجوه الأولاد الداخليين والأولاد الخارجيين في المدارس فسحنة الولد الخارجي أكثر انتباهاً ونظره أبعد مرمى وإذا قلّ عمله ودرسه بالنسبة للتلميذ الداخلي فهو أنجح في التمارين التي تطلب ذهناً صافياً وعقلاً حاضراً حتى إذا أنجز دروسه زمان الدراسة ودخل معترك الحياة يجد نفسه أكثر ملاءمة معها فلا يثقل عليه الجهاد فيها لأنه كان أقرب إليها ولم ينفصل عنها كما انفصل تربه الداخلي الذي يكون قضى وقته في حياة صناعية أو مصنعة منعزلاً عن الناس بعيداً عن المجتمع اللهم إلا اجتماعه مع أولاد من سنه فكيف بعد هذا يهتم بحوادث الحياة الخارجية وبحركة الأفكار وبالوقائع العظيمة التي تجري في العالم وتضطر العقول مهما بلغ من إهمالها أن تفكر وتدبر. لا يكاد يصل إلى التلميذ الداخلي من حوادث الكون إلا المبهم الغامض وما من يحدثه بما يجري في القرب والبعد وإني لأعرف تلميذاً داخلياً أخبر ذات يوم أن روسيا تحارب اليابان منذ أشهر فلم يدهش لهذا الخبر وبذلك تبين لعلماء التربية أن حياة المدارس الداخلية بما فيها من عزلة العقل تخدر قواه وإذا قدر لها أن تتمرن ففي ميدان ضيق جداً وأعني بها دروس المدرسة فقط ومن أجل هذا نقرأ في وجهه ضرباً من البلاهة ومثال الملل الذي لا يعلل والإهمال وقلة الاهتمام الذي يدخل في حياته نقصاً ومن الأسف أن ذلك أكثر فشواً في الطلبة العاملين منه في الطلبة الخاملين وفي المأخوذين بدروسهم منه في المتساهلين بها فهم الذين يبوّون بسيئات المدارس الداخلية، أما المضار الأدبية الناشئة من تربية الأولاد في المدارس الداخلية فمقررة عند علماء التربية فتربية الطفل في المدارس الخارجية هي التي يأخذ منها رأس ماله العقلي وذكاءه العملي الذي لا يتكون إلا بدروس الحياة نفسها وما عدا

ذلك فباطل ومضر إذا لم يلاحظ ذلك أولاً فالنظر لا يفيد كالعمل بحال. يحتاج الطفل إلى معارف حالية لا ليطبقها وينتفع بتطبيقها بل ليتهذب بها فالجهل المطلق في الأمور يؤدي إلى البلاهة لأن الذهن لا يشتغل في باطل لا طائل تحته فالواجب تغذيته إذا أريد تشغيله والذهن لا يتحرك إلا بحوادث تعرض له ومبادئ يتلقاها ولا يتيسر له اتساع العقل إذا لم يكن لديه شيء من المعارف يستعمله وكلما اتسع أمامه ما يترامى إلى سمعه تنمو قوى عقله، فالمعرفة حسنة في ذاتها وهي لا تنمو إلى على هذه الصورة، نعم إن من الحوادث ما لا خطر له وهو من العقم على جانب ولا غناء فيها لسامعيها ولذلك ليس فيها كبير أمر لأعمال الفكر والحوادث الغريبة ذات المعنى المهمة في ذاتها والوقائع التي تبعث العقل على التفكر هي التي يستفيد منها العقل وتقع على التصور وتهز الفكر إلى الحركة، وبديهي أن درس الحوادث التاريخية العظيمة هي أكثر إشغالاً للفكر من الحوادث الصغيرة في التاريخ الأدبي ولا شبه بين المادة العقلية التي تستخرج من معرفة قاعدة نحوية وبين المادة التي تؤخذ بدراسة قانون الجاذبية، ولقد لاحظ كويو أن من المعارف ما هو باطل متعب للذهن إذا دخلت إليه تحدث فيه فراغاً ولا تملأه بشيء. فالواجب في مثل هذه الحال أن يترك الطفل منذ نعومة أظفاره يستمتع بشيء من إرادته ليمكن نموها بالتدريج ويجب أن لا يلاحظ الدرس على الدوام ويفرض على الدارسين حتماً، فقد قيل أن لا شيء يعادل البحث الشخصي للوقوف على الأشياء، فالمرء يحفظ ما وقع نظره عليه أكثر من غيره وما نظر إليه بعناية لأن ما اكتشفه بذاته يستقر به غالباً فالتمرين على الملاحظة الشخصية هو من الأسف مما يصعب في المدارس، يجب أن تترك للتلميذ بعض حرية في اختيار ما تتجه إليه رغبته من الدروس وأن يزاد من شرح الموضوعات التي تهمه أكثر من غيرها فقد جرت عادة المدارس أن تترك دراسة بعض المواد لاختيار التلميذ وهذا من شأن أن ينوع العاملين ويجعل حرية للطالب ولا بأس بأن تجعل للتلميذ حصة من اللعب في كل درس يراد منه العناية به فإن التربية العقلية لا تنتج النتائج الحسنة إلا إذا حثت نشاط العقل وجعلت منه له دافعاً وحيثما فقدت الإرادة يفقد الفكر لا محالة. وترك التلميذ وما يختار من أنواع المطالعة من أعظم ما يثقف عقله فهو إذا أغرم بالمطالعة

يتلقف بدون عناء معارف غريبة في تنوعها فإذا كلم غيره كلمة يدهش سامعه من الأمور التي يعرفها ويتساءل كيف تعلمها ولم يتعلم ذلك إلا في كتاب وقع إليه عرضاً فتصفحه مأخوذاً بما حواه واعياً ما أهمه من موضوعاته والقارئ في قراءته لا يتلقف حوادث بل أفكاراً فتكون له صلة فكرية مع أرباب العقول السامية ويسير على مناحيهم ما وسعته الحال بحيث يحاول إدراك كل ما يمر به فإن كل ما يمكن أن يعمل لتربية ذوق الطفل وتعويده المطالعة يساعد كل المساعدة على تقدمه العقلي ومن اقتصر على كتب الدراسة أقفر عقله وافتقر ذهنه. وكما أن تحصيل المعارف ضروري فمن اللازم أن يكون للمرء ذاكرة جيدة فمن يتعلم سريعاً وجيداً يعد ولا جرم من أهل السعادة وإن الرأي الشائع بأن جودة الذاكرة وجودة الذكاء لا يتفقان لأحد هو من الآراء التي لا سند لها يرجع فيه إلى البحث الأكيد لأن معظم نبغاء البشر كانت ذاكرتهم نادرة فإذا كان في المكنة تحسين الذاكرة بتمرينها فالواجب أن لا يقصر فيه على أن في الذاكرة شيئاً لا يتيسر ترقيته بالتمرين وأعني به قابلية الاستظهار وإذا صح بأنه من الممكن تنميتها فلا مانع من إعطائهم دروساً يستظهرونها ويسمعونها على أننا لا نرى التلامذة بعد دراسة سنين يستسهلون التعلم أكثر من يوم بداءتهم فإن حاسة التذكر بالأشياء هي من الاستعدادات الفطرية تولد مع المرء وتنمو بسرعة فائقة وتبلغ غايتها في سن الثانية عشرة ثم تنحط كلما تقدم المرء في السن فما النفع يا ترى من تمرين الذاكرة؟ إن بتمرينها يحمل إلى عقل الطفل معلومات مقررة وتذكارات بنصها يحتاج إليها ثم تنمي فيه حاسة الانتباه وهو جماع الربح الذي يستخرج منه فتمرين الذاكرة هو أول جهاد عقلي وأول عمل ذهني يطلب من الطفل فهو يحثه ويحمله على أن يحصر أفكاره في موضوع معين وهذا يشبه كل الشبه ما ينبغي له بعد من إعمال الفكر متى طلب منه أن يفكر وحده مختاراً وقد يتعذر عليه الافتكار اختياراً بدون تمرين عقلي حازه بتمرين ذاكرته، فتسميع التلميذ ما حفظ في صفه هو في محله فبالتمرين تقوى الذاكرة، والغاية أن نجعل من الولد إنساناً يفكر لا ببغاء يتكلم، والمعرفة لا تغذي العقل إلى على شرط أن تتجانس أي أن تتحول ويستخدمها العقل في أساليب جديدة عقلية وإن من خواص تذكر النصوص أن تنقل إلينا الأفكار متوسعاً فيها في صورة مقررة ومتى تأملنا من جديد في

الأمور التي استظهرناها لا يسعنا إلا أن نكرر كلمة كلمة العبارة التي حفظناها فتدخل في تضاعيف فكرنا من تلقاء ذاتها كأنها استشهاد بسيط ليست ذات قيمة عقلية ومتى امتلأ رأسنا من هذه الصور والعبارات التامة الصياغة هل نصوغ نحن أكثر منها؟ فإن ما يقتضي لنا لتأليف بعض الأفكار الخاصة هو أن نحيط علماً بالمسائل في ذاتها وأن نقتبس ما فيها من الفكر بقطع النظر عن حرفيتها، ولا يتأتى إلا نقل النص ولكن إذا كان للمرء أمور يعرفها يزيد عليها أموراً حديثة فإنا إذا حفظنا فكراً ونسينا العبارة التي عبرت عنه نبدأ من تلك الحال في الإبداع بالفكر. فالفكر مرن للغاية وهو العقل الفعال له في ذاته قوة التمدد تهيئ له سبيل التوسع إلى ما وراء الغاية وفي صور مختلفة فإذا انتقل من عقل إلى آخر يصبح كأنه فكر آخر جديد ويكون كأنه ملك قائله وهو أبو عذره ولا يعبر عنه بأسلوب واحد، أما العبارة التي تستظهر فهي زهرة من مجموع أعشاب يابسة جافة متمددة والفكر الذي يبرز من الذهن كالبذرة التي تنمو ويكون منها زهرات حية فالواجب إذاً تقوية الطفل على حفظ الأشياء التي يكلمونه عنها أكثر من الأسلوب الذي تعبر به، يعلمونه المعاني أكثر من الألفاظ وهذا ما يجرون عليه في بعض الدروس مثل درس التاريخ مثلاً فإنه مطلب من مطالب الذاكرة ولكنه يتطلب ذكرى الحوادث لا الصور التي عبر بها عنها، وفي هذا المعنى يليق توجيه الذاكرة وتربيتها ومن أجمل التمارين أن يقرأ الطفل العبارة طويلة كانت أو قصيرة بحسب تقدمه العقلي وأن يسأل بعد ذلك عما تعلمه وبهذا يتأكد فيما إذا قد فهم المعنى لأول نظر وأنه انتبه إلى الأفكار الرئيسة وأنه حفظها متسلسلة ويبين له على هذا الوجه ما هو التعلم بفهم وذلك بدرسه مفكرات عقلية في موضوع يتلوه الإنسان وبهذا ترقى في التلميذ جودة الذاكرة التي لا تكتفي بجمع المسائل بل تميز بين ما يمكن أن ينفعها وتختار أجودها وتطرح العرض منها وتبقي على الجوهر، يجب أن يصل الفتى إلى أن يطالع كتاباً برمته ويستظهر منه الضروري مما يحوي. ومما يحسن أيضاً تمرين الطفل بالأسئلة المتوالية على أن يغترف في الحال من ذهنه ما هو في حاجة ماسة إلى ذكره، ولا يكفي أن يكون العلم مكنوناً في ذهنه كالكتب المركونة في صندوق بل ينبغي أن يكون كل حين تحت الطلب وينتفع بها ويعثر عليها في الوقت

المطلوب على أيسر وجه، فالتلميذ الذي لم ترب ذاكرته في هذا المعنى بتمارين خاصة لا يكون ما وعاه من الأفكار إلا هاجعاً نائماً صعباً على الانبعاث لا تجيبه عند الدعوة وتستعصي عليه إبان الحاجة، ضع للتلميذ سؤالاً في المسائل التي تغلب عليه معرفتها يرتبك ولا يذكر الجواب وليس هو في متسع من الوقت يستخرج فيه من أعماق قلبه ما سبق له وعيه، سله أن يورد لك بعض الأمثلة من أكثر المسائل تداولاً فلا تكاد تأخذ جواب مسألة أو اثنتين إلا بعد اللتيا والتي فعلمه غير حاضر معه، وهذا من العيوب المؤسفة جداً ولاسيما في الحياة العملية التي يجب للمرء حضور ذهن ليتخلص من المآزق وينجو من المضايق، فذاكرة الذكي والحالة هذه هي التي تورد في الوقت المطلوب ما يطلب إليها إيراده، لا جرم أن هذه الخاصية من الخواص التي تولد مع المرء ولكن يتيسر تنميتها بالترويض والتمرين. ليست المخيلة من القوى التي تطلب لجمالها بل لها منفعة خصوصية على أننا يجب أن نكون على مثل اليقين بأنها لا تقوى بدون ذلك فبالمخيلة يتيسر لنا أن يسبق تفكرنا أعمالنا وبهذا نطلع على الاحتمالات المختلفة في المستقبل فهي ضرورية لإنسان ذكي، تجد المخيلة عند معظم الأولاد حادة للغاية فهم يحبون أن يتمثلوا الأشياء في أذهانهم ويجعلوها مسلاة لهم بل لهواً ولعباً فيخترعون من أنفسهم صوراً ليتلذذوا بالنظر إليها في باطنهم وكل فرصة تمكنهم من استخدام هذه القوة وترويضها يفرحون بها ويبسمون للقياها وهذا التبسم من التربية العقلية يسهل عليهم لأنها مستميلة لقلوبهم جامعة لأهواء نفوسهم وبهذه الطريقة يثق المؤدب من حسن الإرادة من يؤدبه، لا بد للتصور بادئ بدءٍ من مواد يقتنيها ومن المعلوم أنه مهما بلغت حاسة الاختراع فينا لا نتمكن من الإبداع العقلي إلا بصور ننتزعها من الحقيقة فكل ما فينا من إرادة يكتفى بتحويله قليلاً وترتيبه على صور منوعة فنحن لا نستطيع أن نتصور أمراً إذا لم يسبق لنا رؤية مثال منه، والأقوال مهما بلغ من سلطانها على نفوسنا لا تكون إلا إلى العجز في إدراكنا أمراً أياً كانت منزلته إذا لم تذكرنا بشؤون من عالم الحقيقة يتأتى إدراكها مباشرة. فالواجب إذاً تزويد الطفل بتصورات عقلية واسعة المادة، أره كثيراً من الأشياء تجلب بها دهشته وربما لا تجد منه ارتياحاً إلى ما أنت ملقنه إياه ولا اطمئناناً إلى ما تحسنه له فهو

يختار بذاته ما يهتم به، ضع أمام عينيه صوراً ورسوماً ولوحات واعمل على أن تكون كتب درسه طافحة بالرسوم وهكذا إذا تزود بصور شتى مصنوعة وتصورات وتذكارات يستطيع أن يعمل بذاته ويؤلف من عنده، أما نحن فلا يعنينا أمر خيالاته فهو حر فيها وهي من خصوصاته فإنا نراه إذا ترك وشأنه ينسى العالم الحقيقي فيجعل له من ذاته عالماً يجول فيه خياله ويرى مدهوشاً في مضيق الصور الباطنية، فتصوراته مهما بلغت درجة غرابتها ومهما كانت طفلية فهذا ليس من شأننا معه. بيد أنه لا يكفي المخيلة أن تعمل بل الواجب أيضاً أن تتعلم على العمل وهنا تبدأ مهمة المربي إذ يقضى عليه أن يحول هذه الحركة في الفكر إلى أنحاءٍ تزيد في ذكائها وبعد ذلك تدعو الضرورة إلى تمرين الذهن على أسلوب حسن فهو جزء من التربية التامة ومن الخطر أن لا يفكر فيه، وقد رأى بعض أرباب الأفكار القائلين بتلقين المحسات (المحسوسات) بأن الأنسب تدريج عقل الطفل على النظر في الحوادث المقررة المقيسة الحقيقية أي تربيته تربية علمية صرفة وإلا فتضعف قواه المفكرة لقلة المران ويتكون عقله ناقصاً أو أن يعمل بنفسه ويضيع في الخيالات الغربية لقلة الملاحظة، فالأحرى أشغال الذهن أكثر من كل شيء، ولا سبيل إلى التأثير في الذهن إلا بالكلام والمطالعة ومتى قرئت للطفل مثلاً قصة جميلة تأخذ في الحقيقة بمجامع قلبه ويستغويه وتضطره إلى تأليف بعض الصور. وينبغي للمربي أن يلاحظ فيما إذا كان الطفل الذي يعلمه خاضعاً لما يحببه إلى نفسه ولا يعنى بما يلقيه عليه، ينبغي أن يحقق نظره منه المشهد الذي تقصه عليه فأنت لا تعطيه في الحقيقة إلا بعض الدلائل وبها يقضى عليه أن يكمل الصورة بأجمعها وبهذا يتهيأ أمامنا التمرين الأول الذي نركبه أو يعدنا إلى التركيب وهو يتطلب من الفكر شيئاً من البديهة والإرادة، إذا كانت المطالعة في موضوع يستدعي التصور والتفكر فيكون فيه تنشيط الخيال وتوجيهه نحو وجهة معينة حرة وبفضل الاتجاه الذي يوليه للعقل يدرك صوراً أجمل وأكثر تنظيماً مما يستطيع أن يخترعه بذاته وبفضل الحرية التي يطلقها له تكون مهمته محببة إلى النفس خفيفة على الطبع. هذا هو الربح الذي تستخرجه المخيلة من التعليم الأدبي ومما لا يخلو من الفائدة أن نبين

كيف يتأتى الانتفاع في هذا المعنى بالتعاليم العلمية التي ترمي إلى تحصيل المعارف أكثر مما تقصد إلى تهذيب العقل وهذه التعاليم تشغل المخيلة ولكن لا مباشرة، فكل تعليم وصفي أو نقلي فيه بحث عن المجردات يضطر المرء إلى أن يتمثله، هكذا الحال في العلوم الطبيعية والجغرافية الوصفية والتاريخ، فقد أدرك المعلمون أن هذه التعاليم يجب أن تعرض أولاً في صورة مجردة بأن ترسم ما أمكن أمام عيون الطفل الأمور التي يكلمونه عنها أو يصورونها له للوصول بعد إلى المجردات والعموميات، فإن قصة تاريخية يمكن أن تؤثر في المخيلة نفس التأثير الذي تؤثره رواية فاجعة أو قصة عادية إذا كانت مؤلفة بخيال واسع. وبعد ذلك تأتي التمارين المؤلفة تأليفاً خاصاً أي التي يحاول التلميذ الاختراع فيها، إنا نريد أعداد مخيلات عامة مستعدة للتوليد لا أن نكتفي بأن نعيش أبداً من رأس مال الغير فالواجب إذاً تمرين الطفل على التأليف بنفسه، ويجب أن يعنى بأن تكون هذه التمرينات بالطبع متدرجة في الصعوبات مبتدئة بشرح مادة تعطى له إلى أن تبلغ حرية الاختراع، ومما ينفع بيان مزية هذه التمرينات في التأليف من حيث التربية فقد أغرق من قالوا بإبطال الطريقة القديمة في التأليف واليوم اقتصروا من التمرين على التأليف على القدر الجزئي وقد ظهر من مناقشات حديثة أن بعض المربين شرعوا يدهشون من هذا القصور فقد كان من معايب الطريقة القديمة أنها تقود التلميذ خاصة إلى التوليد الأدبي ومن حسنها أنها تترك مجالاً واسعاً للتمرينات التي يستطيع المرء بها أن يبرهن على مقدرته العقلية فهي من ثم محرض قوي نافع للعقل وبها يجب علينا أن نفكر فما أحرانا أن نغير وجهة الدروس لنجعل التلامذة أقل عناية بالأدبيات منهم بالعلميات على أن لا نضيق نطاق التمرين العقلي والتأليف والاختراع. تجب العناية بالرسم لما فيه من المزايا في التربية فالرسم إذا أدركت حقيقته ووجهت وجهته نحو التربية العقلية يساعد كل المساعدة على ترقية المخيلة فهو يعلمنا النظر إلى الأشياء بذكاء ويقوي فينا حاسة التمثل والذاكرة المصورة والمخيلة المبدعة، وإذا أريد استخراج المنفعة الحقيقية المنتظرة من هذا التعليم فالواجب التمرين عليها، ولقد ضل من علماء التربية من جرد تعليم الرسم من كل نظر للطبيعة ومن التطبع على الاختراع فما

كانوا يرمون إلا إلى أعداد نساخين جيدين وأي فائدة لتعليم الرسم إذا لم تتحرك المخيلة. لتعليم اللغات مقام رفيع في طريقة تدريسنا وليس هذا بعجيب فإن فهم الإنسان للغته وإجادة الكتابة والتكلم بها هو من أثمن المساعدات للذهن، ومعرفة اللغات الميتة يفتح أمامنا ميدان الفكر القديم كما أن معرفة اللغات الحديثة ضرورية لتتبع حركة الفكر الحديث، فباللسان يجد الفكر ما يعبر عنه فهو أداة من الألفاظ تتقدم وتتأخر على الدوام منها إلى الفكر ومنه إلى الألفاظ وتتطلب فكراً عاملاً أبداً، ولا عجب من ثم إذا صرف وقت طويل في التعليم المدرسي من حيث تنمية القوة الشفهية فإن هذا الاهتمام في محله والواجب أن يعنى فقط بأن تكون هذه الدروس بحيث يستخرج منها الشبان أعظم المنافع العقلية. وهنا نبدأ أولاً بالكلام على التمرين الذي يذهب العقل فيها من الألفاظ إلى الفكر فمن أول الدلائل وأدلها على بيان ذكاء الطفل أن يفهم ما نكلمه به وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات وكان من الصعب علينا إلا قليلاً أن نشرحها له فيجب عليه أن يحرزها وهو استدلال يستلزم منه أن يكون ذا ذكاءٍ مدهش وبعد أن يتقدم فيه تعليم اللسان يصبح معنى الكلمات المستعملة مألوفاً له ولا يتعب فهمها ذهنه بل تكون له مفهومة بذاتها بدون أدنى تعمل ويبقى عليه دائماً ألفاظ جيدة وتراكيب جمل غير عادية ليدرك معانيها وكلما نظر درساً جديداً يجد أمامه مادة خاصة من ألفاظ تقف أمامه بعض الشيء، فنحن في مطالعاتنا نعثر كل ساعة على جمل لا تفهم لأول وهلة وبعض الأفكار لا يتأتى أن يعبر عنها بصورة واضحة وتعابير مستعملة، ومهما بلغ من استعمالنا اللغة والذكاء فلا بد في شرح صورها الشفاهية من درجة خفيفة لا يرقى إليها المرء إلا بمحاولة الفهم، وهذا الجهد نافع للعقل ولذلك كانت اللغة التي نريد اقتباسها زمان الدراسة غير مألوفة لنأكل الألفة وكان درسها عبارة عن تمرين عقلي حقيقي. وبهذا النظر لا نرى بداً من التوصية باستعمال الترجمة فإنها في الحقيقة إحدى الرياضات المدرسية الدالة على فرط الذكاء فيضطر الولد فيها أن يفرض عدة وجوه للمعاني الكثيرة التي يحتملها النص وتمييز أوجه الشبه بينها ويستخرج من مجموع معنى الجملة المعنى الخاص بها الذي يجب إعطاؤه لكل كلمة فيتمرن على هذه الصورة ذكاؤه وعقله، ولا فرق بين أن يكون هذا التمرين بلغة حية أو ميتة ويجب أن يلاحظ فقط أن الطريقة المتبعة في

تعليم اللغات الحية مباشرة ترمي إلى ترك التمرين على الشرح والترجمة، وهذه الطريقة سامية من حيث العمل ومهيأة للتلميذ بأسرع ما يمكن لاستعمال اللغة ولكنها قلما تمرن العقل فيجب أن يفكر المربي في التعليم بهذا تمرين الحسن أو بما يعادله على الأقل. وإن استعمال الترجمة والشرح ليمكن حتى من لغة المرءِ الأصلية فإن معنى شرح عبارة هو حلّ معناها الحقيقي وترجمتها إلى لغة شائعة وبذلك يتعود المرء على ما هو لازم له من جودة النظر في الكلمات فلكم رأينا، مناقشات قامت خاصة على ما أحدثه سوء التفاهم في اللغة فإنا ندخل في براهيننا تعابير مهمة أو مدرسية تكذب فكرنا أو تمنعنا من إيضاحها كل الإيضاح. وهناك تمارين أخرى تقودنا من الفكر إلى الألفاظ فإننا نحاول أن نوجه للتعبير عن فكرنا لفظاً مستعملاً ولطالما دهشت من الألفاظ الكثيرة التي يقتدر التلميذ الصغير على الإفصاح بها عن أفكاره بدورات تدل على حذق وبقليل من الألفاظ، حتى أن محاولتنا التعبير عن أفكارنا مما يفيدهم، ومن النادر ولاسيما عندما نفكر في مسائل قليلة الصعوبة أن نكون على استعداد مما نقوله قبل أن نبدأ في الكلام في الكلام فالفكر يبقى منتشراً مشوشاً وهو على سهولته في حيز القوة لا يخلو من إبهام إذا أريد إخراجه إلى العمل ومن المحتمل كثيراً أنه يبقى في هذه الحالة المختصرة إذا لم نبحث عن طريقة لبيانه وتكميله بالتعبير عنه فالفكر لا يتم إلا بالجملة. فالواجب والحالة هذه تمرين طلبتنا على التكلم وسؤالهم على الدوام وتمرينهم على الإفصاح عما يجول في خواطرهم ببيان رائق وهذا أحسن واسطة لتنبيه عقولهم حتى في خلال الدروس فإنهم إذا لم يكونوا إلا سامعين لما يلقى عليهم لا يلبثون أن يكونوا خاملين غير مهتمين بالدرس. وتيسير للمعلم إذا تكلموا أن يستدل على، هم في حالة يعملون معها أذهانهم ويستعملون قواهم العقلية فأنت ترى تلامذتنا الذين اعتادوا أن لا يفكروا إلا والقلم بأيديهم مرتبكين في الأحايين التي يحتاج فيها إلى حضور ذهن. وليس معنى هذا أن يجعلوا خطباءَ بل أن يمرنوا على التعبير عن أفكار حتى أمام الجمهور بدون ارتباك ولا غموض. فالتمرين اللفظي يضطر إلى التفكر بسرعة وإيجاد تعبير للفكر الذي يعرض في الحال فهو يقوي الصفات العقلية التي تجعل المرءَ عاملاً.

التمارين المكتوبة ترقي الانتباه لتأليف الكلام في آونات الفراغ وتمكن صاحبها من العمل بعقله متتابعاً ومن التفكر طويلاً وتضطره إلى إيجاد بعض الأفكار في موضوع معين وتنظيمها والإبانة عنها أحسن إبانة في حين أن التمرين اللفظي يعلم استخدام الذكاء فالتمرين الكتابي هو العمدة لترقية العقل في الأكثر والمرء يتعلم التفكر إذا أخذ يكتب فالصور والحقائق تسير دائماً جنباً إلى جنب في الأشغال العقلية. إنشاءُ الكاتب وفكره متلازمان حتى أنك تشك في التأليف الرديء الإنشاء فيما إذا كان فيه خطأ في الفكر فإذا كانت الجملة رديئة التركيب شرشة الأساليب يستحيل أن يكون الفكر واضحاً على نسق متتابع. فلنعمل إذاً بكل ما فينا من قوة على تحسين إنشاء تلامذتنا فإننا بذلك نربي عقولهم. ومن أعظم الخدم التي نخدمهم بها أن نعلمهم لغة فصيحة ثابتة صريحة لأن مستقبلهم العقلي موقوف عليها. يقولون أن للغة الفرنسية هذه الصفات إلى درجة أمازت بها وحقيق ما يقولون. إن الإدارة حسنة فعلينا أن نعلم الفتيان كيف يحسنون استعمالها. منذ بضع سنين أتى على اللغة الفرنسوية بحران غريب أوشك أن يفسد اللغة وأعني به كثرة الكتابات والاستعارات والظاهر الآن أن هذا الوباء قد كاد يضمحل لولا أننا لم نبرح نعثر على بقايا من هذا المرض في لغة بعض معاصرينا من الكتاب لا يستقل بعددهم. أما نحن فندعو إلى الوضوح في العبارة وأنت ترى أي معنى يجب أن توجه إليه وجهة التمرين على الإنشاء للانتفاع منه انتفاعاً عقلياً فلا ينبغي النظر إلى الصور الجميلة بل إلى الصفات العقلية. فنحن في مبحثنا هذا لا نرمي إلى أن نخرج أدباءَ بل إلى تربية ذهن الطفل بتمرينه عَلَى الإفصاح عن أفكاره بذكاءٍ. وها قد وصلنا إلى التمرين الذي يقصد به تربية الفكر فإنه لا يكفي حث الدماغ عَلَى العمل بكل الأسباب الممكنة فيمكن أن يفكر المرءُ كثيراً وتكون مادته فائضة أبداً ولا يكون إلا متوسط الذكاء وكل هذا العمل في الدماغ يجب أن يكون منظماً منسقاً متجهاً إلى وجهة واحدة ولكل جهاد فكري غاية والمطلوب أبداً إيجاد شيءٍ من تقرير حقيقة أو البحث عن أحسن واسطة لتحقيق غاية فالواجب من ثم أن نمرن عقلنا عَلَى العمل بصورة نافعة. يميل الطفل إلى التفكر لهوى في نفسه يتلذذ به فيفرض كيفما اتفق قضايا لا يتعب نفسه في مراقبتها ولا يهتم في الحقيقة للاجتهاد وبهذا يبقى كثير من الناس طول حياتهم في حكم

الأطفال. وإن المرء ليعجب أن يرى أموراً تثبت بأقل نظر بمجرد المناقشة فيها والخوض في الأحاديث خوضاً عادياً فالواجب العمل عَلَى ما يخالف هذا الدليل منذ الصغر بالجري عَلَى نظام عقلي حسن. وأن حكم الطفل عَلَى الأشياء ليصحح خلال الحديث كلما خالف الواقع فمن خصائص عقله أن لا يمس الوقائع والحقيقة فالواجب إرجاعه إليها فكل فكر متلظ هو فكر متهور إذا وضع عَلَى محك النظر لا يلبث أن يكذب بالبحث والنقد فالواجب إذاً الرجوع أبداً إلى الحقائق ويجب أن لا يفوتنا الاحتراس من أن الأوهام في الأحكام تصدر في العادة من نقص في الأخلاق لا من ضعف القوة المنطقية فين عَلَى الأمور التي لا يحق لهم أن يبتوا فيها حكماً لا لأن العمل العقلي الذي يصدر به الحكم شيء الترتيب بل لقلة اهتمامهم وخفة أحلامهم ونقص في استقامة عقولهم. وعلاج ذلك أن يشعر الطفل بما في كل قضية مهما كانت من الأمور الجدية أبداً وهناك تدخل التربية العقلية كما ينتظر في التربية الأخلاقية. والواجب أيضاً تربية قوة التعقل فإن بعض قضايانا ليست مستخرجة من التجربة مباشرة بل هي مستندة إلى آراء أُخذت من قضايا سابقة ففكر يولد لنا فكراً آخر ولنوسع في تأكيده وإثباته وما جودة الأحكام إلا أن يكون للمرء تسلسل في أفكاره لا يناقض أحدها الآخر بل أن يعضد أولها آخرها فيتألف منهما مجموع متماسك الأجزاء. أنا نستطيع أن نعود أولادنا عَلَى صحة الحكم وذلك بإشراكهم معنا في الحوار والمناقشة معلنين لهم نقص تصورهم بأن نعيد أفكارهم إلى الطريق السوي متى حادت عنه ولذلك ألف مناسبة للإشراف لي عقل الطفل في الحياة اليومية أو أثناء الدرس والتعليم. وأنا إذا سما بنا النظر إلى ترقية التربية العقلية أكثر مما هي الآن في أطفالنا ليجب علينا أن نجعل في المدارس تمرينات خاصة لتربية القوة العقلية ودروساً في المنطق العملي. وليس في طريقة تعليمنا اليوم شيءٌ مما يشبه هذا فإنا لا نعلم التلاميذ المنطق إلا في أواخر سني الطلب وبعض القواعد المنطقية الصحيحة التي يدرسونها عَلَى هذه الصورة هي سطحية مبتذلة قليلة التطبيق على العمل ويكاد يكون نفعها في التربية الفعلية قليلاً جداً. لا جرم أن المربين يستندون عَلَى تلقين العلوم المجردة للطفل لترقية القوة المنطقية في عقله ولكن في الرياضيات والهندسة صورة قاسية من تقوية العقل وهذه القسوة فيها تجعل

هذه الدروس قليلة النفع ولذا لا يسهل كثيراً الفرق بين تقوية العقل على طريقة جيدة أو رديئة فلاتقاء السفسطات والأمور المخالفة للمنطق نحتاج إلى دقة وحذاقة أكثر من احتياجنا إلى ذهن يعي الهندسة. وكل منا يعرف أن المرءَ قد يكون مهندساً بارعاً ويكون حكمه بعيداً عن الصواب في جميع المواد الأخرى. وهل معنى هذا أننا ننسب لدرس العلوم المجردة قلة غناء في التربية عَلَى حين نتوقع نحن منها نفعاً عقلياً كبيراً يخالف ما يراه بعضهم كل المخالفة. فكل تمرين للطفل نافع لما يتطلب فيه الجهد والتعمل. فأي مقاومة خاصة يقضي على دارس العلوم المجردة أن يتغلب عليها وأي حاسة تتمرن بها؟ فإن هذه العلوم متى فهمها المتعلم وأدركها يقوم له البرهان عليها والصعوبة الأولى في الاهتداء إليها وفهمها وللنجاح فيها يجب أن يكون صاحبها أهلاً لان يجعل لأفكاره المجردة كل التجربة قريبة من العقل ما أمكن ببيان الصلات بينها بمعنى أنه يتوصل إلى أن يلاحظ عليها ملاحظة حقيقية. يجب إدراك ما بين المسائل الكثيرة من الارتباط في النظريات التي قد تحدث ولا تتسلسل وفي مثل هذه المآزق يستدل على فلسفة العقل وقوتها. وأنت ترى أن الصعوبة في بلاغ الذهن إلى تلك المجردات لتحقيق هذه الأعمال العقلية ومن هنا نشأ الجهاد والتعب وفي هذا التمرين الحقيقي فائدة العلوم المجردة هو تمرين العقل على المجردات. إن التعلم عَلَى سهولة مأتاه في المجردات والترقي بالتمرين المتصل إلى مجردات أعلى منها هو أرقى أنواع التهذيب العقلي وبدون أفكار مجردة لا تتجاوز معدل الذكاء الحيواني ولا نفكر إلا بصورة خاصة كنحو ما يلزمنا في حياتنا اليومية. في حين إن جميع الأعمال العقلية ذات الشأن والتشابيه المركبة والعموميات والتصورات الصعبة كلها بنت المجردات وربيبة النظر فمعنى إدراك الأفكار المجردة الاستعاضة عن الفكر الحقيقي المرتقي في تصوير الأشياء بفكر هو في حيز القوة يستعمل كما لو كان راقياً. فالعقل الممرن الصريح المعتاد على التفكر في الأمور المجردة يشعر من نفسه بهذه القوة ويقودها ويكتفي برسم الأعمال العقلية بدون أن يقوم بها بالفعل فينشأ من ذلك تخفيف عن الفكر يشبه ما حدث من نوعه عندما استعاض تصورنا عن الأشياء الحقيقية بصورة بسيطة من هذه الأمور. وبذلك تنمو قوة إدراكنا ونظرنا في العواقب نمواً مدهشاً ونعمل أعمالاً مختصرة بدون جهد أعمالاً

يتجاوز ارتقاؤها طوقنا وذكاءَنا. وعلى هذه الصورة يرتقي العلم بأن يدخل أفكاراً مجردة في أفكار مجردة أعلى منها ويوجد طرقاً أقرب إلى الجادة لحل المشاكل تتطلب حلاً ماهراً وبذلك يسمو المرء إلى نظر أعلى في مجموع ما يعيه وإلى المدركات الواسعة فذكاء المرء يمكن أن يقاس بما فيه من قوة عَلَى اقتباس المجردات فأنا نرى الطريقة التي يفرض إتباعها واضحة أمامنا فيجب أن يسري تعليمنا من الأعيان إلى المجردات لا لأن للعقل ميلاً إلى الجري على هذه الصورة بل لأن هذه هو الطريق الوحيد لبلوغ الارتقاء العقلي. نعم إننا بذلك نكثر على العقول الفتية من الجهد وربما خيف من أن تتجاوز مثل هذه التمرينات القوة التي خصصت لها ولذا من اللازم أن يجري عَلَى سنة التدريج في إيراد الصعوبات. فإن ذهن الطفل لا تتأتى ارتقاؤه إلا بالتأني من سنة إلى أخرى باجتياز محطات تناسب تغيرات نموه الطبيعي ولا تتقاضى زيادة عما تحتمله سنه. ولا يعدم أحد منا أمثلة على هذه التربية الخرقاء من تحميل الطفل الذكي فوق طاقته بجهل والديه أو مربيه فيدفعونه إلى ما يجب أن يحموه عنه ويعودونه الشدة في التربية حتى تنهك قواه فيقوى عقله قبل الأوان لكثرة ما يحملون إليه من المحركات ولكنه قد يضل ثم يقف هذا الارتقاء عن جريه ويظل الطفل وسطاً في حياته. ألا فلنمتنع من كل طريقة في التربية تكون إلى الشدة وتظهر منها نتائج خارقة للعادة لقاء عياءٍ أكيد يصيب الطفل ولنعمل على العكس ما يضمن للطفل استمتاعه بقواه كما نريد على النحو المستقيم وأن نطلق سراحها خلال الدرس حرة في موازنتها الطبيعية والأدبية. وبعد فإن الواجب تقوية الذكاءِ على صورة معتدلة ويمكن تقويته بالإرث لأن رقي الدماغ الذي يمتع المرء بصحته الطبيعية من شأنه الانتقال بالوراثة. الذكاء أمر نافع وكل من يرى الارتقاء العقلي الذي بلغه البشر بالعمل فكان أثمن هبة حصل عليها وتحدثه نفسه أن يبذل كل مرتخص وغال لترقية الذكاء البشري درجة أخرى وما أظننا نغص إذا رأينا الجيل المقبل أرقى منا في منازعه بما نعنى بع تلقينه أرقى تربية من تربيتنا نحن لا نغالي في آمالنا ونعرف ما يتطلبه النشوءُ الاجتماعي لإدخال التكامل عَلَى عنصر من السذج البله وأن المرء بذاته لا يتحول على أيسر وجه وإن الارتقاء العقلي الذي يتأتى لنا أن نرجوه

من التربية الحسنة هو محدود بالطبيعة. فالطفل يولد على شيءٍ من الذكاء قلَّ أو كثر بمعنى أنه يكون ذا مزاج معتاد في رقيه فترتفع منزلته إلى قياس عقلي معتدل ومهما بولغ في تلقينه فلا يتيسر أن يتجاوز به هذا القياس. ولقد رأينا كثيراً من الفتيان والفتيات لم يربوا التربية الكافية فوقفوا في درجات عقلية يتأتى له تجاوزها وكان لهم استعداد طبيعي لم يحسن القائمون على تربيتهم استخدامه فأست تربيتهم مقيدة بقيود تزيدهم بلاهة بدلاً من أن تزيدهم ذكاءً. فالذكاء كالصحة والقوة الطبيعية في الإنسان لا يكون من الإكثار من أسبابه سوى إهلاكها لا نماؤها والأخذ بيد كل إنسان إلى حيث تصل قواه هو الحسن والإحسان بعينه وأن ما نقصد إليه في هذا المبحث الاقتصار إلى التربية الضرورية حتى يرتقي العقل الحر ممتعاً بما فيه من كفاءة أوثية. نعم إن العقول مختلفة في مداركها فالكسلان الغليظ الذهن يظل أبداً كذلك والذكي بالفطرة يزداد ذكاؤه مضاءً بالعمل والتدريب والمتوسط متوسط والمستعد إلى التقدم تزيد قواه العقلية نشاطاً والتربية لا تزيل الفروق الإرثية بل تزيدها فالنفوس المستعدة تستفيد أكثر من غيرها من أسباب الترقي وتتقدم تقدماً محسوساً. والتمرين الشديد الذي تتطلبه التربية العقلية العالية لا يتأتى قبوله إلا لمن كانت عقولهم عاملة بطبيعتها أما غيرهم فلا استعداد لهم إليها. لئن كان تعديل أساليبنا في التعليم على النحو الذي أوردناه نافعاً للجميع فهو نافع خاصة لبعض الناس وذلك لأنه يزيد تنشيط بعض الأذكياء المستعدين للنبوغ ولا ينبغي أن نستاء من هذه النتيجة ونقلق منها فإن ذكاء الطبقة المختارة من الخاصة هو مولد النجاح الذي يستفيد منه المجموع (انتهى معرباً عن مبحث طويل في مجلة التربية الباريزية). سكة الحجاز قالت مجلة الطبيعة الفرنسوية: كان الحجاج يسلكون إلى مكة طريق القوافل من جهات الساحل أو الداخلية ويجيء الفرس والهنود من الشرق ناعجين أيضاً طريق القوافل باجتياز صحارى بلاد العرب ويسير غيرهم وعددهم ليس بقليل عن طريق جدة عَلَى البحر الأحمر عَلَى مسافة 75 كيلومتراً من مكة ويسير حجاج افريقية من طريق البر مجتازين شبه جزيرة سينا في حين أن غيرهم يأتون من البحر إلى جدة. ولهذا كان هذا الثغر من البلاد المهمة للغاية يجتمع فيه كل سنة عدد عظيم من الحجاج قادمين من مصر وافريقية الشمالية

وبلاد الهند والعثمانية وروسيا الجنوبية. أما حجاج سورية فهم أيضاً كثار العدد يقصدون إلى مكة من طريق القوافل فيجتازون بلاد العرب من الشمال إلى الجنوب من الخط الذي يربط دمشق بالمدينة ومكة. وبعد أن يجتمع هؤلاء الحجاج بالقرب من دمشق يؤلفون ركباً تخفره من غارات البدو كتيبة من المشاة ومدافع جبلية وذلك عَلَى طول الطرق البالغ 1800 كيلو متر ويقطعه الحجاج في أربعين يوماً. وإذا أضفت إى هذا الحرس المؤلف من نحو مئة بدوي يعهد إليهم العناية بالمتعبين من الحجاج أو المرضى منهم وألوف من الجمال والبغال التي تستعمل لحمل الأثقال والذخيرة اللازمة لطعام الحرس والحجاج تتمثل لك تلك الصعوبات التي يجلبها إعداد مثل هذه القافلة وتسييرها ويجب أن لا يفوتنا بأنه من المتعذر الامتيار طول الطريق وإذا استثنينا بعض الأنحاء في الطريق نجد الحال في هذه الدرجة من الصعوبة في استقاء الماء القابل للشرب. فكل شيء يجب والحالة هذه نقله عَلَى ظهور المطايا. ونرى من جهة ثانية أن القيمة التي يكلفها هذا الحج فاحشة وإن اختلفت باختلاف الحجاج في غناهم ورفاهيتهم ومتى كان مع الحاج جمال لنقل أثقاله وحمله قد تبلغ كلفة الحاج من دمشق إلى مكة ألف فرنك ولكن كثيراً من الحجاج يذهبون مشاة وبعضهم يستخدمون عكامة أو خدمة لتقليل النفقة. ولقد فكر القوم منذ زمن طويل في واسطة لتقليل هذه الصعوبات إلى أقل ما يمكن واختصار المسافة بإنشاء طريق حديدي من دمشق إلى مكة وبقيت الحال عَلَى هذه المنوال إلى يوم 1 أيار 1900 وقد أصدر السلطان السابق عبد الحميد بإشارة أمين سره عزت باشا الدمشقي إرادته بإنشاء السكة الحديدية ودعا السلطان العالم الإسلامي للإعانة لتمديد الخط فتقاطر المسلمون يدفعونها عن رضى حتى بلغ ما جمع في برهة قليلة ما يكفي للمباشرة بالعمل ما عدا بعض التخصيصات التي أعطتها الحكومة أو الأفراد. وإذ كان من المتعذر الحصول عَلَى عملة من سكان البلاد يكفون للقيام بهذا العمل وكان الواجب الاقتصاد من النفقات عَلَى القدر الضروري عمدت الحكومة إلى استخدام الجنود في تمديد الخط فعهد إلى جنود من المشاة بالأعمال الترابية وإلى كتائب السكك الحديدية بنقل الأحجار وأعمال البناء أما سرايا الاستحكام فاستعملوا في الأعمال الميكانيكية في الورشات

ووضع الأسلاك البرقية. وبالجملة فإن إنشاء سكة حديد الحجاز قامت بأيدي العاملين من المسلمين ما خلا مهندس ألماني واحد اسمه المسيو مايسنر. يسير هذا الخط من دمشق إلى المدينة متجهاً من الشمال إلى الجنوب وجهته متوازية مع طريق الفواقل الذي لا يبعد عنه إلا في بعض المحال وذلك تفادياً من الصعوبات في تمديده ويمتد عَلَى القسم الأعظم من الطريق عَلَى سطح يرتفع بالتدريج من الشاطئ 898 متراً فوق سطح البحر إلى دمشق حتى إذا كان في الكيلومتر 888 فما بعده ينزل حتى يبلغ المدينة فيصير عَلَى 700 متر من سطح البحر بعد أن يكون بلغ في محطة الهدية أي في الكيلومتر 1126 - 345 متراً من سطح البحر. وقد أرد بادئَ بدءِ تمديد الخط من درعا والاكتفاء من دمشق إليها بالخط الذي كانت مدته شركة فرنسوية ولها الحق بالشعبة التي تصل بين درعا ومرفأ حيفا على البحر المتوسط. وهي شعبة مهمة للغاية لسكة حديد الحجاز لأنها تصله مباشرة بالبحر وبعد أخذ ورد طويل ترك تمديد الخط من درعا إلى حيفا لسكة حديد الحجاز ولكن لم يتيسر الاتفاق عَلَى إعطاء الحق الأصلي من دمشق إلى درعا لإدارة سكة الحجاز فمن ثم اضطرت هذه الإدارة أن تجعل دمشق مركز سيرها وتبني خطاً جديداً موازياً للخط الأول بين دمشق ودرعا. ويجتاز الخط بين هذين البلدين ببلاد حوران وهي إقليم غني بالجملة وكان قديماً انبار رومية ويزيد غناه بفضل خصب التربة فيه ويرتقي كما هو المأمول ارتقاءً حسناً إذا تيسر له الخلاص من عصابات قطاع الطرق التي تعيث فساداً في أرجائه ويجتاز الخط بعد درعا وجهة متآزية مع جبال موآب التي تمتد عَلَى شواطئ بحيرة لوط ويقطع صقعاً متموجاً بالزروع ومغطى بالمراعي يسير فيه البدو ومعهم قطارات من الجمال. وفي ذاك الإقليم تجد مدينة عمان القديمة التي لا تزال آثارها ماثلة للعيان. وبعد ذلك يصل الخط إلى بادية العربية الصخرية أو السعيدة ومن تلك النقطة تبدأ الصعوبة في الحصول عَلَى الماء الضروري لتسيير القطارات وشرب الركاب. وعند الكيلومتر 458 أي من محطة معان تصل إلى واحة ذات حدائق ونخيل تسقيها عينان نضاختان مياهها باردة صافية وفي جوار هذه المحطة خرائب مدينة بترا القديمة. ومن بعد معان إلى العلا والمدينة تتبدل هيئة البلاد كل التبدل فتشتبك بجبال عالية قد تبلغ

قمم بعضها 3000 متر عن سطح البحر ممتدة عَلَى ول البحر الأحمر وتنتهي عَلَى خط عمودي من البحر بأرصفة متتابعة وهناك اسناد تشقها أودية لا ماء فيها تطيل مسافة هذه الأرصفة والأودية فبعد أن تتجه تارة اتجاهاً عمودياً نحو الصخور الجبلية تكون طوراً متآزية ثم ينقطع أثرها في البادية. وتختلف سعة هذه الأودية اختلافاً كثيراً فتكون واطئة أحياناً بحيث يبلغ علوها في بعض الأماكن زهاءَ مئة متر. وفي سفح هذه الاسناد يسير الخط الحديدي إلى المدينة مجتازاً ما أمكن الأودية المختلفة التي تكاد تكون وجهتها متآزية. وبذلك تيسر الاقتصاد في نفقات بناء الخط إلى أقصى ما يمكن. ولقد قلنا آنفاً أنه ما عدا محطات معان وذات الحج وتبوك والأخضر والعلا فليس من ماءٍ في تلك الأصقاع بل أنك ترى الأودية إلا في بعض أحوال نادرة جافة حتى في موسم المطر. وموسم نزول الأمطار في تلك الأصقاع يكون في شهر تشرين الثاني وشباط وآذار ومن النادر أن تهطل في شهري كانون الأول وكانون الثاني والمطر يبقى في المكان الذي يهطل فيه حتى في أشهر المطر فبعض الأنحاء لا يبلغها الماء على حين يصل منه إلى غيرها كميات كبيرة تجري في الأودية فتغرقها ولطالما كانت سبب انقطاع المجاري في خلال إنشاء السكة الحديدية ومناخ هذه الأصقاع العالية جيد جداً ولجفاف الهواء تبلغ درجة الحرارة 55 في أشهر القيظ إلا أنه مما يحتمل لما يعدله من الريح البليل الذي يهب في تلك الأرجاء طول السنة لا يصعب احتمال هذا الهواء إلا في الأودية المحصورة جداً مثل التي في جوار العلا حيث تكون سبباً لانتشار الحميات وتنزل درجة الحرارة في الشتاء إلى 4 أو 5 ومن النادر أن تنزل إلى الصفر. وأهم الاحتياطات التي يجب اتخاذها التوقي من اختلاف درجة الحرارة بين النهار والليل. وبعد أن يخرج الخط الحديدي من معان يعود فيدخل في إقليم قفر يشبه الذي اجتازه في الشمال فتتخلله أودية كثيرة قليلة العمق. وقد اقتضى لقطعها إنشاء مجار من الحجر أما تربتها فقاسية جداً وهي قاحلة ومملوءة بالحجارة. وبعد أن يقطع الخط الحديدي في بطن الغول على ستين كيلو متراً من معان قمة جبل يبلغ ارتفاعها 1168 متراً عن سطح البحر يعود فيهبط نحو ذات الحج سائراً في وادي رتم

الذي تختلف سعته وبعضهم كلما اقترب من ذات الحج وهي واحة فيها نحو مئة نخلة محيطة بقلعة قديمة لرد هجمات البدو الرحل وما من منزل حول هذه الواحة الحقيرة. وهذه الأراضي القاحلة المنبسطة تقطعها من مكان إلى آخر أودية تكون إلى تبوك البعيدة 692 كيلو متراً من دمشق وهي واحة مهمة فيها زهاء ألف نخلة ولها معقل حصين وسكانها نحو ثلثمائة نسمة. وفي تلك الأصقاع المقفرة حيث تشتد حرارة الهواء الجاف بما تبعثه فيه الشمس من أشعتها تجد النور بهيجاً وتصبح وتبدو الأصقاع البعيدة غريبة في أنوارها فتنقطع الآكام المنفردة في شرق السكة الحديدية والجبال التي تحاذي البحر الأحمر بما فيها من نقوش النباتات والأوراق المحبوبة التي ترى عن بعد من الجهة الغربية تحت سماء مدهشة بصفائها وتكسو الشمس هذه الجبال عند الشروق والغروب بألوان منقطعة الشبه والنظير. وكلما توغل الخط في قطع المساوف نحو الجنوب يصل إلى أصقاع منبسطة قاحلة ولكن تجري إلى الأودية ثم كمية وافرة من ماء المطر أثناء الشتاء ولذلك قضت الحال باجتياز هذه الأودية لإنشاء مجارٍ عظيمة القناطر ولا سيما في وادي اتيل وقد أقيم عليه جسر من الحجر طوله 134 متراً وله 20 قنطرة فتحة كل منها ستة أمتار. وهذا هو أهم عمل في الخط. ثم يقترب الخط من الصخور البركانية الجبلية فيتجاوز في حارات العمارة الاسناد الأولى بواسطة نفق طوله 160 متراً وذلك بالقرب من محطة الأخضر فيدخل ثمت في أودية مختلفة محاذياً لها إلى العلا على مسافة تسعمائة كيلو متر من دمشق بعد أن يكون قد قطع عدة محطات وأهمها المعظم والمطلع ومدائن صالح. وتتألف واحة المهمة التي يبلغ سكانها 3600 نسمة من غابة نخيل وليمون وطولها من 5 إلى 6 كيلو مترات وعرضها خمسمائة متر. وانتهى الخط الآن بالمدينة وهي على مسافة 1300 كيلو متر من دمشق وسيشرع بإكمال الخط بين المدينة ومكة. وقد بحث في عدة طرق لتمديد هذه الشعبة الأخيرة بين البلدين الطاهرين إحداهما تسير تواً من المدينة إلى مكة والأخرى أطول مسافة تقترب من البحر وهذا الفرع الأخير الذي يبلغ طوله 442 كيلو متراً هو الذي شرع ببنائه اليوم وبه يصبح طول السكة الحديدية من دمشق إلى مكة

1754 كيلومتراً. إن عرض خط الحجاز 1، 05 متر وهو غير متساو في رسمه فترى فيه في بعض المحال انحداراً طوله 20 ملمتراً في كل متر ودورة تبعد عن التخطيط الأصلي مئة متر أما تمديده فلم يستدع سوى فرش التراب ووضع الخطوط ما خلا جسرين من الحجر أحدهما بين محطتي عمان والقصر والآخر عَلَى وادي ايتل وهناك جسور لا شأن لها وهي كثيرة لأن الحاجة مست في عدة أماكن إلى إنشاء جسور في ممر الأودية التي تجف في الصيف وتطفح في الشتاء. وما عدا جسر طوله 15 متراً له منافذ من حديد فإن جميع أعمال البناء من الحجر وذلك لكثرة العملة من الجند ولسهولة جلب الحجر من المحال القريبة. وقد أنشئت بعض الأنفاق القصيرة لاجتياز القمة التي تفصل بين مصاب بعض الأودية وجعلت هذه السكة من خطوط حديدية وزن المتر منها 21 كيلو غراماً تستند إلى خشب أو حديد ولكن الإدارة اضطرت بعد قليل إلى الاستعاضة عن الخشب بالحديد لكثرة فعل الشمس فيها فمجموع وزن المتر من هذا الخط ويدخل فيه قضبان الحديد الذي يسير عليه القطار والذي اسند عليه وغيره هو 103 كيلو غرامات أما فرش الخط فمن حجارة مكسرة من الأحجار البركانية. وعدد المحطات المهمة قليل وهي تتألف من بناية لمكاتب الاستثمار ويقيم فيها المستخدمون ومن محطة للقاطرات وأحواض ماء وآلات رافعة للماء اللازم للقاطرات ثم طرق لتخزين المركبات. ولبعض هذه المحطات ورشات لإصلاح أدوات الخط وآلاته الثابت منها والمتحرك. وتجد بين هذه المحطات الرئيسية على مسافة عشرين إلى ثلاثين كيلومتراً محطات أخرى أقل شأناً من تلك وليس فيها سوى بناء هو عبارة عن مسكن للمستخدمين ويضاف في كل 70 إلى 80 كيلو متراً إلى هذه المحطات ما يلزم للقاطرات من أسباب حمل الماء اللازم ففي بعضها آبار وللبعض الآخر برك وهذه البرك قديمة البناء أنشئت لسد حاجات القوافل تمتلئ ماء في الشتاء فيستعمله الحجاج والبدو الذين يقصدونها للاستقاء منها مع إبلهم. وسعة بعض هذه البرك 36 ألف متر وبعضها 70 ألفاً وإذ كانت غير مغطاة ممتدة السطح وقليلة العمق يصبح الماء بعد مدة قليلة كريهاً ويتبخر سريعاً من حرارة

الشمس. أما المحطات ذات الآبار وأكثرها قليلة العمق غالباً فإن مياهها تنضب بسرعة. فلا سبيل من ثم إلى إيجاد الماء الكافي للقاطرات والاستثمار إلا في بعض المحطات البعيد بعضها عن الآخر في الغالب وهذه الصعوبة في قلة الماء تزيد كلما توغل الخط متقدماً نحو المدينة. وللتغلب على هذه الصعوبات أضافوا أولاً إلى كل قاطرة مركبة حجمها 12 متراً مكعباً ثم استخدموا أحواضاً بمركبات تنقل الماء إلى المحطات التي يضطر فيها القطار إلى الاستقاء ولكن هذه الوسائط لم تخل من عوائق تجعل الخلل دائماً. فعقدوا العزم من ثم على حفر آبار عميقة جداً في كل 70 إلى 80 كيلومتراً ليمتاح منها الماء إلى البرك المغطاة. وقد جعلوا في الأماكن التي لم يتيسر فيها الحصول من الآبار على نتائج مرضية أحواضاً عظيمة مغطاة عمقها من 6 إلى 7 أمتار لتجمع فيها مياه المطر وتستعمل للشرب وجعلوا لها أدوات لتصفيتها من الأوساخ. ويحمل ماء الآبار والبرك إلى المحال اللازمة بواسطة مضخات بالبخار والأغلب بواسطة طواحين هواءٍ. وقد حاولت الإدارة أن تفتح آباراً ارتوازية وحفرت بعضها إلى عمق 110 أمتار فلم تظفر بماءٍ ينبض وعللوا ذلك بأن السبب فيه إن ذاك السطح من الأرض يعلو من 800 إلى 1000 متر عن مساواة نهر الأردن فتسيل مياه الأمطار التي تتساقط هناك في الأحافير الكثيرة في الأرض نحو ذاك النهر. وربما كانت النتائج من ذلك أحسن كلما اقترب الخط من المدينة حيث تجري المياه إلى وجهة مخالفة. ومعلوم أن سورية وبلاد العرب فقيرة جداً بغاباتها وليس فيها مناجم فحم أما الأصقاع التي يجتازها الخط الحجازي فهي خالية من كل ذلك بالمرة. فوقود القاطرات والوقود اللازم لتدفئة المستخدمين وطبخ طعامهم والاستصباح كل ذلك يجلب من الخارج إلى دمشق أو حيفا ومنها يحمل إلى المحطات الكثيرة حتى المدينة أي إلى مسافة زهاء 1400 كيلو متر وبهذا يرتفع سعر طن الفحم ارتفاعاً فاحشاً ولذا تبحث الإدارة في الاستعاضة عن هذا الوقود بزيت ثقيل يجلب من روسيا أو من الموصل على مقربة من بغداد. كما أن الإدارة تفكر في طريقة تحفظ بعض التسويات الترابية فإن الخط في كثير من الأماكن ولا سيما في جهات العلا يجتاز أصقاعاً تربتها من رمال تسفيها الرياح الشديدة التي تثور في بعض فصول السنة فترتفع تلك الرمال تغشي الطريق وتسده وتحمل تلك

التسويات التي أقيمت بهذا الرمل ولثقوبة هذه التسويات غطوا الحدور والسطوح بطبقة من تراب صلصالي مزجوها بالحصا من حجم مناسب وهو يوجد عَلَى أيسر وجه في جوار الخط. أما أدوات الخط فتتألف من 43 قاطرة و512 مركبة نقل للبضائع و31 مركبة للركاب. هذا وقد بدئ بإنشاء الخط الحجازي في أوائل سنة 1900 وتم مؤخراً إى المدينة عَلَى مسافة 1300 كيلو متر بمعنى أنهم مدوا 140 كيلومتراً في السنة وقد كلف كل كيلو متر بما فيه المحطات والأدوات المتحركة من 35 إلى 40 ألف فرنك وهو قدر زهيد بالنسبة إذا اعتبرنا الأحوال التي لتخلل العمل هناك من الصعوبات عَلَى أن أيدي العملة من الجند هي التي ينسب إليها الفضل في تقليل النفقة. نرى للخط الحجازي من حيث المنافع العثمانية مكانة عسكرية وسياسية كبرى لأنه سيصل عما قريب بخط حديدي لا ينقطع بين الأستانة وبين قطر بعيد كثيراً عنها ويسكنه قوم صعب قيادهم. أما من حيث التجارة فأي فائدة له؟ وليت شعري هل يكفي نقل البضائع والركوب لوفاء رأس المال الذي صرف عَلَى الخط والنفقات اللازمة لاستثماره وهي ليست قليلة. وهل يختار الحجاج الذين يقصدون مكة الركوب في هذا القطار على السير في طرق القوافل يا ترى؟ هذه مسائل يحلها المستقبل ثم ألا يخشى من انتشار الهواء الأصفر بهذا الخط بين البلاد عَلَى الرغم من المحجر الصحي في تبوك الواقعة على سبعمائة كيلو متر من دمشق اه. هذا ما نشرته مجلة الطبيعة الثقة في العلوم الطبيعية والرياضية بشأن سكة الحجاز وقد ختمها الكاتب بما لا تكاد تخلو منه كتابات الإفرنج عن الشرق وضعف الأمل في مستقبله وأعماله ونعني بذلك أن الخط الحجازي لا شأن له من حيث التجارة لأن الحجاج قد يؤثرون طريق القوافل عَلَى الركوب فيه وأنه يكون واسطة لنقل الوباء من القطر الحجازي إلى القطر الشامي. وكل هذه هو الخطأ بعينه لأنا نرى الحجاج يؤثرون الركوب في الخط الحجازي عَلَى ما فيه الآن من خلل في إدارة واستثماره وقلة وسائط الراحة ولو وفرت العناية به لظهرت الفوائد التجارية المادية ظهور الشمس في رابعة النهار ويكفي الآن أن الخط بين دمشق والمدينة قد حسن تجارة البلدين كثيراً بل أن من بعض الأراضي

عَلَى طول الخط ما عمر أو كاد الآن بفضل المواصلات. والإفرنج يقولون: مدد الخط الحديدي في قفر ونحن نضمن له العمران فما بالهم يحللون لأنفسهم ما يحرمونه علينا ثم أن دعوى أن الخط الحجازي ينقل جراثيم الوباء مسألة فيها نظر بعد أن تحجر الحكومة على الحجاج في تبوك أياماً على أنه قد تمر السنين ولا ينتشر الوباء في الحجاز. العهر والزواج ألقى المسيو مالابرا أحد أساتذة الفلسفة في باريز محاضرة في مدرسة الدروس الاجتماعية العالية قال فيها: إن من يذهبون إلى أن التصريح بشرح المحظورات والرذائل أما الطلبة مما يضر بآدابهم ويعرفهم ما كان يجب السكوت عنه معهم هم في ضلال من آرائهم. وإن ما يرونه من جهل الأطفال في هذه الأمور مما يحفظ عليهم طهارتهم وعفتهم هو الخطر والخطل وذلك لأن الجهل لا يعد فضيلة ولا يقوم مقامها لأن للجهل حداً وزمناً يقف عندهما وعندئذ يسرع العطب إلى الفضيلة. ثم أن من يتوهم بأن الشاب يبقى إلى السادسة عشرة من عمره غير عارف بأسرار الرجولية هو من العماية بمكان. لأن الشاب لا يلبث أن يتعلم من بعض أقرانه الذين هم أعرف منه بهذه الأمور لم يتعلم ذلك من والديه أو معلمه فالوالدة خصوصاً هي أعرف بالزمن الذي يجب أن تنصح به لأبنها بما ينبغي له اتقاؤه من المفاسد وهي أقدر من غيرها عَلَى نصحه النصح اللازم بدون أن تمس أصلاً من أصول الحياء. ولكن معظم الوالدين يتسامحون بإعطاء هذه النصائح ويتخذون من جهل أبنائهم بما يترتب عليها من المفاسد حجة عَلَى سكوتهم. ومن المعلمين من تضيق صدورهم بشرح ما ينبغي ذكره للشبان مجتمعين ويؤثرون أن يذكروها لبعضهم منفردين ومنهم من يرون أن يعهد بحث هذه النصائح لطبيب الأسرة وآخر للرئيس الديني والأحسن أن يكون أمرها بيد المعلمين. يجب أن يقال للأولاد أنكم إذا أحببتم أن تكونوا في حياتكم أهل شرف وحشمة أن تعرفوا أن الأمم يضمحل أمرها متى فقدت آدابها وأنه لا سبيل إلى شخص أن يكون في مبدأ أمره فاسقاً ثم يكون في دور آخر صاحب فضيلة محترم المقام. فمن فصول الأخلاق فصل اعتادوا ويا للأسف أن لا يشرحوه لكم عَلَى حين هو جدير بالشرح وأعني به علاقة الرجل بالمرأة لما في ذلك من المخاطر والأهواء والشرور والمفاسد التي تعبث بمعنى الفضيلة

والشرف والعدل. إن من أبشع ضروب السفسطة ما يزعمه بعضهم من أن خيانة المرأة من أعظم الجنايات وينتفرون خيانة الرجل وربما عدوها من أنواع الظرف واللباقة عَلَى حين هما مشتركان في الجريمة وارتكاب المآثم والرياء. ولعلهم يرون أن المرأة مخلوق بلغ مبلغاً عظيماً من الطهر والعفاف وهما لها من الأمور الطبيعية السهلة وأن الرجل هو من هذه الوجهة محتقر مرذول لا سبيل إلى مطالبته بأن يسير عَلَى غير ما يسير عليه الخنازير أو العصافير. أو لعل بعضهم يقول بأن خيانة المرأة وهي تأتي إلى البيت الأبوي بولد ليس منه يشارك أهله في العطف والإرث ويسيء استعمال الحقوق الطبيعية التي هي لأهله الأصليين من دون الدخلاء لا تعد شيئاً ولكن الرجل الذي يضع أبنه في غير بيته هل هو أقل ظلماً لأسرته والمجتمع من تلك المرأة وهذه تحمل الطفل في أحشائها تسعة أشهر وترضعه وتربيه وتتعب به أما الوالد فيقضي حظه في ساعته ويذهب مختالاً. ولكن هذا الظلم في الحكم عَلَى الجنسين ليس إلا اعتقاداً عاطلاً قديماً ورثناه عن الأجداد الذين كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى حيوان مفترس أو دابة ركوب وأنها خادمة الرجل وملكه ومتاعه نهبها في الحرب أو ابتاعها من السوق وبذلك كانت سرقتها خرقاً لحقه وجنايتها إهانة لعظمته وتمكينها من نفسها ضرباً من ضروب الاعتداء عَلَى حق غيرها وهي لا حق لها يعرف بتة. نعم ليس ثمت أدبان فمن سار سيرة سيئة دنيئة مع امرأة لا يستطيع أن يكون عفيفاً مخلصاً عادلاً بقية حياته ومن أسخف ما يقولونه حتى كاد يسري مسرى المثل أن الشبيبة طور من أطوار الحياة لا بد من قضائه أي أنه يتسامح مع الشاب أن يأتي ما يأتي. وكم من رجال أُفسدوا بهذه الحكمة السخيفة ومن وجدانات يعبث بها كل يوم من تاثيراتها. فمن أفظع الأمراض التي يصاب بها الشباب مرض الزهري فقد أثبت الإحصاء أن واحداً من كل سبعة رجال يصاب به في فرنسا وواحداً من كل أربعة يصاب به من طلبة باريز فهذا الطاعون الجديد كما يسمونه يحمل معه أمراضاً كثيرة منها العقم والفالج العام والموت فكما أنه مرض عقام فهو معدي حتى من بعد خمسين سنة فإن أصيب به يحمله إلى غيره حتى بعد هذه المدة فقد ثبت أن الإصابات عَلَى هذه الصورة ليست نادرة بل أن 19 في المئة من النساء يصبن به من رجالهن وينقلنه إلى أولادهن وأن عشرين ألف طفل في سنة يولدون

ميتين أو يموتون في الشهور الأولى من ولادتهم بسبب هذا الطاعون ومن يعيش منهم يبقون في عاهات وسقوط نفسي وجسدي كاحديداب ظهورهم ووقر في آذانهم وعقلة في ألسنتهم وضعف في قواهم العقلية وبلاهة وحمق. فأي شاب عاقل يعرض أولاده لهذا المرض بصنعه ويورثه هذه المصائب ولا تؤاخذه نفسه على ما أتى قائلاً أنه يكفر عن سيئات ارتكبها ويؤخذ بجنايات أتاها دع عنك ما ينال الشخص نفسه من ضعف القوى العقلية وضعف النشاط والفتاء مما يجعل فيه استعداداً للسل وللأمراض العصبية والعقلية فمن يسرف في حبه على صورة دنيئة جنونية يوشك أن يهينه ولا يهين المرء حبه إلا إذا أهان نفسه فقد قيل ما من امرئ يأتي ما يخجل منه بدون أن يصدر عنه ببعض المقت والقذارة. وبهذا رأيتم أن العفة تطالبكم بالاحتفاظ بها لا للحيطة على النفس فقط بل حرصاً عليها من التدنس والعار. وأني لأعجب لمن يعمد إلى إغواء فتاة ثم لا يعلم أنه كما تدين تدان ويستاءُ إذا بلغه أن أخته أو إحدى أقاربه قد اتخذت لها خليلاً حتى يكاد يموت خجلاً وربما أدى به ذلك إلى ارتكاب الجنايات. وأني لأرثى لحال تلك الفتاة التي أُغويت وتركها مغويها بما فيه من دناءة. ومن قال بأن جريمته تغتفر إذا استفاد من فتاة أغواها قبله إنسان فهو شريكه في الجرم لا محالة ومن أمثال هؤلاء الشبان كثر العهر والفجور أحد الأدواء الاجتماعية في هذا المجتمع. فمن دناءة الطبع أن يبيع المرء جسمه من كل طالب فهل ترون أقل دناءة من يبتاع جسم غيره؟ فقد قال فيكتور هوغو كلاماً حرياً بالإمعان: يقولون أن الرق زال من الحضارة وهذا وهم لأنه ما زال بحاله ولكنه رق لا تنوءُ تحت عبئه إلا المرأة وهو ما يسمى بالعهر. لا يثقل على المرأة أي على اللطف والضعف والجمال والأمومة وذلك من موجبات الخجل للرجل. وأن من يقول أن الشاب بما يأتي يقوم بواجب طبيعي لا نجيبه إلا بأن ما يعمله هو من نتائج التفكر. ويتأتى له أن يفلت من مخالب هذه المفاسد إذا صحت عزيمته وسلمت إرادته فالإرادة وحدها هي الباعثة عَلَى الشهوات وإذا قيل أن مقاومة الطبيعة صعبة فإنا نقول بأن ما يصرف من القوى في جهاد النفس والهوى أقل مما يسرف منها إذا سار المرء بما تمليه فطرته الرديئة. ومن خلص نفسه من هذه المآزق كان خليقاً بأن يعد مالك نفسه ثبت الإرادة

متين الأخلاق كريم العواطف وكل ذلك من صفات الرجولية. فعليك يا هذا أن تعلي قدر الحب وأن تبتذله لأنه أجمل ما في الأرض وأقدسه وأن تعلي قدر المرأة بحيث لا تهان لأنها في البيت والمجتمع حارسة الكمال وهي في ذاتها جزءُ بل أشرف جزءٍ من الكمال في الحياة وعليك أن تتمثل أبداً المرأة في ذهنك صورة حية كما تتمثل أختك وأمك صورة الطهر واللطف واعتقد بما قاله تورية: إن من يتزوج شاباً وهو سليم البنية ويختار فتاة شريفة سالمة من العاهات ويمازج حبها شغاف قلبه ويبذل كل نفسه وقواه ويجعلها رفيقة أمينة له وأماً ولوداً ويميل لتربية أولاده ويكون لهم خير مثال بعد وفاته هذا هو الحقيقة وما عدا ذلك خطأ وجناية وجنون. ولا أسهل عليك من التوقي من ضروب الإغواء والغواية إذا أزمعت أن تتزوج شاباً وفكرت فيمن تكون أليفة حياتك ممن ربما تكون عرفت صورتها من قبل وأحببتها وكتمت حبها في صدرك فتشاطرك في الحياة آلامها وأفراحها وه تكون لك عوناً كما أنت لها عون بما تشعر به من حبك لها حباً دائماً جميلاً وتتخذ من جسدك وروحها أحسن مادة تؤلف منها جسد ولدك وروحه.

غرائب الغرب

غرائب الغرب الرحيل من دمشق إلى لبنان 1 كان من أعظم أماني النفس منذ بضع سنين أن أرحل إلى أوربا رحلة علمية أقضي فيها ردحاً من الدهر للتوفر عَلَى دراسة حضارة الغرب في منبعثها واستطلاع طلع المعاهد التي نشأ المخترعون والمكتشفون والفلاسفة المنزهون والعلماء العاملون والساسة المستعمرون والقادة الغازون والتجار والصناع والزراع والماليون وهم على التحقيق مادة تلك المدنية وهيولاها. وكانت الأحوال تعوق هذا القصد عن إتمامه وتحول دون البغية المنشودة إلى أن قدر الله فأقام والي سورية السابق تلك القضية الملفقة على جريدة المقتبس واحتال انتقاماً لنفسه لأقفال المطبعة وتوقيف الجريدة والمجلة قبل صدور حكم المحكمة عليَّ فقلت الآن حان وقت الرحلة في طلب العلم نتفرغ لتحقيق ما في الخاطر ريثما يتبين الحق من الباطل من العاطل وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. في الهزيع الأخير من ليل الثلاثين من رمضان (1327) ركبت من دمشق عربة مع صديقين عزيزين قاصدين قرية القابون وفي ظاهرها وقفنا لحظات إلى أن وصلت فرسي ووصل صديقٌ لي راكباً فرسه فركبنا وعاد ذانك الحبيبان إلى المدينة. وكان بدأ في تلك الساعة الإشراق في الأفق والسكون لم يبرح مستحوذاً على الأرباض والرياض ولم نكن نسمع من بعيد غير قعقعة أجراس الطحانين والمكارين وصياح الديكة أو عواء الكلاب وما كدت أعلو متن مطيتي حتى ترامى إلى مسمعي صوت مؤذن القابون ينادي هلموا إلى طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله فقلت كلمة حق لو جرى العمل بالطاعة وما يلزم لها لرحموا ولكنها جمل جميلة تقال ومعان شريفة لا يعمل بها وعادات ألفت بمعزل فيها من الأسرار النافعة في صلاح المعاش والمعاد. التفت إلى الغوطة الدمشقية التفاتة أخيرة وهي أحب بقعة إلى قلبي في الأرض وقد كثر في أفقها شفق الفجر فذكرت طرفاً من أيامها البيض والسود. ذكرت الغوطة المحبوبة وذكرت مطامع البشر وانحطاط أخلاقهم وعقولهم فقاد ذلك إلى التفكر في شقاء الإنسان بالإنسان

وموت بعض لحياة كلّ وافتقار مئات لإغناء أفراد وشقاء ربوات لسعادة عشرات وتعب فريق لراحة أمة فتمثل لي عجيب صنع المولى في خلقه سبحانه لا يبقى العالم عَلَى حال هو المعز المذل القابض الباسط المغني المفقر يقلب الأرض ومن عليها ولا يرثها إلا عباده الصالحون. سارت بنا مطيتانا فاجتزنا قرية برزة ومعربا ولم تشرق الشمس إلا وقد قطعنا أراضي معربا وأشرفنا على أكماتها فالتفتنا إلى ما وراءها وقد تحلت لنا بعض بقاع الغوطة والمرج من خلف الجبال فألقينا عليها نظرة الوداع وأغذذنا السير إلى بسيمة ومنها إلى دير مقرن فكفير الزيت فدير قانون فكفر العواميد وفي هذه القرية بتنا ليلة عيد الفطر. ولم أشهد هذا الوادي وكنت مررت به راكباً منذ ستة عشر عاماً شيئاً من التغير والإرتقاء المحسوس فالفلاح فيه لا يزال ينتظر موسم الفاكهة إن سلمت أشجاره من لفحات الجليد يرتاش تلك السنة ويعتاش برمانه وجوزه وتفاحه وكمثراه وتينه وعنبه وإلا فيضطر في الأكثر إلى الاستدانة عَلَى الموسم المقبل وإن كان على شيء من القوة والجلد يرحل إلى بعض الكور المجاورة كقرى وادي العجم أو الغوطة يعمل فيها أشهر الصيف ليأتي في الشتاء بمؤونة تكفيه من الحنطة في كنه وكانونه. نوذلك لأن هذا الوادي منذ قرية دمر حتى سوق وادي بردى لا يغل من الحبوب ما يسد عوز سكانه بعض السنة لغلبة اليبوسة على جروده وجباله ولأن أكثر تربته صخرية تحتاج للعمل الكثير على الطرق الزراعية الحديثة لتأتي أكلها. أما الأشجار وبعض الخضر والبقول التي ينتفع بها الفلاح هنا فالفضل لنهر بردى في إروائها يأخذ من مائه في مجار يعليها بقدر حاجته أو أكثر. ولقد أخذت أثمان الفواكه تأتي بأرباح أكثر من السنين السابقة خصوصاً منذ استثمار السكك الحديدية في سورية كسكة بيروت_دمشق_حوران وسكة دمشق_حيفا_المدينة وسكة دمشق_حلب_بيره جك 0 (البيرة) فأصبحت ثمارهم تصدر إلى الجهات القاصية وكانوا يقدمون أكثرها في سني الخير علفاً للدواب أو يلقونها في الطريق لأن العطلة في نقلها من محلها إلى دمشق أو بيروت مثلاً على الدواب لا تقوم بأجرة المكار ودابته. نعم لم أر ارتقاء محسوساً في حالة فلاح وادي بردى وأني يتم له ارتقاء وليس له طريق

يسلك غير ما حفرته أقدام المارة وحوافر الدواب والماشية وجرفته السيول والرياح منذ قرون. فالطرق المعبَّدة المطروقة لا أثر لها في هذا الوادي ولعل ذلك ناشيء من كونه حديث عهد بالحكومة المنظمة فقد كانت معظم قراه من قبل تابعة لأقضية بعيدة أما الآن بعد أن غدا من مركز قضاء الزبداني على بضع ساعات فقد بات يرجى بفضل قائم مقامه الغيور أن تنظم لأهل قضاء الزبداني طرق غير طريق السكة الحديدية تصل بين قراهم وبين دمشق حاضرة الولاية ليتيسر للناس الغدو والرواح من أيسر السبل. وما أخال ذلك معتذراً على الحاكم إذا حث أهل كل قرية أن يقوموا بأنفسهم لتمهيد طريقهم أيام انقطاعهم عن العمل كفصل الشتاء مثلاً لما يعرفون من الفوائد التي تنجم لهم عنها أو يعلمونها بواسطة الموظفين الأمناء وإن كانت هذه الطريقة لا تخلو من محظور لأنها تؤدي إلى السخرة والسخرة ممنوعة بنص القانون الأساسي. وتمهيد الطرق وبث الأمن من جملة الفروض العينية عَلَى كل حكومة. وبعد فإنه لا وجود في وادي بردى لسائر المرافق التي يتمتع بها الفلاح في البلاد المتمدنة وذلك لأن الحكومة الاستبدادية الماضية لم يهمها من الفلاح إلا أن تأخذ منه لا أن تهيئ له سبيل الأخذ. فكان قصاراها تكثير الجباية وتوفير الضرائب وأخذ من تريده للخدمة العسكرية أما أمتاع الآهلين بالوسائل الحصية وتعليمهم الطرق الزراعية القريبة المأخذ وفتح سبل الواصلات ورفع علم الأمن وتعليمهم الضروري من القراءة والكتابة فكانت أموراً لا تعرفها لا في وادي بردى فقط بل في جميع أودية البلاد العثمانية وسهولها وجبالها. ومن أغرب ما رأيناه في وادي بردى أن بعض قراها تحفر القبور لموتاها أما الدور فترى حي الأحياء مع حي الأموات وما أدري هل يأتون ذلك بالقصد حرصاً على رفات موتاهم من أن تسطو عليها الوحوش الكاسرة في مدافنها إذا لحدوها بعيدة عن العمران ولو بضع خطوات أو أنهم يؤثرون دفن الموتى أما أعينهم ليذكروا كل شارقة وبارقة مصير الإنسان إلى دار البقاء ويزهدوا في دار الفناء فلا يهتمون بأسباب الهناء والصفاء. ومما عمت به البلوى في الفلاحين أنك ترى القاذورات أيضاً تعمي العيون وتخنق الأنفاس فترى روث البهائم وغائط الآدميين وسط الدور وخلفها وقدامها وعن ايمانها وشمائلها.

ولولا بقية من عادة النظافة والتطهر ورثها المسلمون بالتسلسل عن آبائهم وشيء من جودة الهواء في الجملة في القرى لما بقيت باقية لسكان هذا الإقليم ومن حوله. ركبت صبيحة العيد ورفيقي قاصدين سوق وادي بردى ولعلها سميت كذلك لسوق كانت تقام فيما مضى للبيع والشراء على العادة في أسواقنا الباقية حتى الآن فيقال مثلاً سوق الأحد وسوق الجمعة وسوق الخيل وسوق الحمير. ولهذه الأسواق أمثال في أوربا. وبالقرب من السوق تضيق فوهة الوادي وينقطع العمران ليخرج منه إلى منفسح وادي الزبداني. وجبال السوق لا تخلو من نواويس قديمة على نحو ما تجد منها في جبال الشام محفورة في الغالب في القمم والآكام. ومن السوق انتهى بنا نفس السير إلى قرية عيت الفخار من أعمال البقاع العزيز وهي القرية التي اشتهرت منذ عهد بعيد بفخارها الذي تطبخه أكثر بيوتها في تنانير خاصة وتبيعه في المدن الداخلية من أعمال دمشق. وقد شعرنا بتغير المشاهد منذ أطللنا عَلَى عيتا ورأينا بيوت القرميد التي بنيت بالحجر النحيت على المثال الذي نشاهده في أكثر بيوت سورية. وعلمنا أن سبب ما شاهدناه من جمال المساكن في عيتا تلك الأموال التي جلبها بعض سكانها من هجرتهم إلى أميركا وأحبوا حتى من لا تحدثهم أنفسهم بالسكنى ثانية في عيتا أن يظهروا غناهم بإنشاء الدور المنظمة ليصح عليهم المثل العربي أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها إن الغني طويل الذيل مياس أو الأثر المشهور إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وليس كالبيوت تنم عن يسار وتدل على سعة. وبعد عيتا مررنا بكامد اللوز فجب جنين فلالا فبعلول من وادي البقاع وفي هذه القرية بتنا عند رجل من أهلها أنزلنا عنده وأكرمنا ولم يعرفنا ومع حرصه على معرفتنا اكتفينا من التعريف بالتعريض وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. وقد سرت إلى هذه القرية وإلى جميع قرى البقاع عدوى الهجرة وتناول الاغتراب السكان عَلَى اختلاف نحلهم ومن حديث كثير من البقاعيين تبين أن أهل كل قرية في الغالب يؤثرون في بلاد المهجر إقليماً خاصاً لهم ينزلونه أو مملكة يوجهون وجهتهم إليها فيقصد مثلاً أهل قرية كذا ولاية كذا من شمالي أميركا وأهل القرية الفلانية يقصدون جمهوريات

الجنوب وآخرون ينزلون كندا وغيرهم اوستراليا وفريق السنيغال فكأن عدوى الانتقال تسري إليهم بالعشرة فلا يحب المواطن إلا أن يقلد مواطنه في مآتيه ومنازعه بل في شقائه وسعادته. وقد اذكرنا هذا بحال العرب في الفتح وبعده فكان القيسيون ينزلون بلد كذا واليمانيون إقليم كذا ثم لما امتدت الفتوحات وفتحوا الأندلس كان جند الشام يختار بقعة غير التي اختارها جند حمص ولذلك كان الجند يدعون كل بلد ينزلونه باسم بلدهم الأول كما يحاول بعض مهاجرة السوريين الآن ذلك في الولايات المتحدة. وفي اليوم الثالث قصدنا مشغرة فمررنا بجسرها المخرب الممتد على نهر الليطاني وانجدنا قاصدين جزين أول حدود لبنان إلى الجنوب. ومشغرة أقصى بلد عامر بالزراعة والصناعة في البقاع الغربي وهي مشهورة إلى الآن بدبغ الجلود للأحذية اشتهار مدينة زحلة أو أكثر والمسافة بين مشغرة من أعمال ولاية سورية وحزين من متصرفية لبنان ثلاث ساعات تعلو قمة عالية ثم تنحدر في واد عميق. ومع أن قضاء البقاع من أعمر أقضية ولاية سورية بزراعته لخصب تربته وتوفر المياه الدافقة عليه من سفوح لبنان الغربي ولبنان الشرقي ومتاخمته لجبل لبنان الذي يحتاج لكل ما تنبته أرض البقاع من الحبوب والثمار ومع كثرة الأعيان الذين يملكون فيه المزارع والأراضي الواسعة ومنهم من أنشأ فيه حقولاً انموذجية حقيقية وصرفوا عليها الأموال الطائلة واستخدموا لها أحدث الطرق الزراعية كالأراضي التي عمرها نجيب بك سرسق في عميق ودير طحنيش وأقامها الآباء اليسوعيون في تعنايل - مع كل هذا العمران المستبحر وما تأخذه النافعة من أموال الآهلين كل سنة باسم الطرق والمعابر لا ترى في القضاء طريقاً مسلوكاً اللهم إلا طريق الشام القديم الذي تركته شركة الديليجانس لما أنشئ خط بيروت الحديدي. وقيل لنا أن الحكومة صح عزمها مؤخراً على إنشاء طريق عجلات بين المعلقة مركز القضاء وبين مشغرة في غربه وأن الطريق وصل أو كاد إلى قرية عيتنيت ولعله جسماً لا أسماً كأكثر الطرق التي أنشأها النافعة في الولايات فكانت لفظاً بلا معنى واسماً بلا مسمى لم ينشأ عنها إلا التعجيل في سلب نعمة الفلاح وخراب بيته باسم العمران وخدمة الأوطان. وصف لبنان الطبيعي

2 كنت في لبنان أشبه بأبي زيد السروجي أو أبي الفتح الأسكندري احتاج إلى رواية مثل الحارث بن همام أو عيسى بن هشام يروي كلٌ منهما لمثل الحريري أو بديع الزمان تلك المظاهر التي اضطرت إلى الظهور فيها لانجو من مخالب عدو ممازق أو جاسوس مخادع وليتيسر لي درس حالة البلاد بدون حجاب. فقد قيل اكتم ذهابك ومذهبك وذهبك ولكن القاعدة لا يرضاها منك اللبنانيون الأذكياء فتجدهم يحرصون كل الحرص عَلَى استطلاع طلع كل مصطاف بينهم أو سائح في جبالهم والوقوف عَلَى مقصده ومبلغ ثروته والدين الذي يدين به. وربما كان سؤالهم عن الأخير قبل كل شيء لأن عامتهم متدينون جداً فهم يسرون إذا شعروا أنهم يتعارفون إلى رجل يشاكلهم في المعتقد. وأنيَّ لمن قضى عليه شدة إخلاصه في خدمة وطنه ودولته أن يصرح لهم بهويته وهو مشرّد طريد محكوم عليه بالجناية حكماً قره قوشياً! ودعني رفيقي غداة وصلنا إلى جزين وعاد إلى الفيحاء وبقيت وحدي لا ريق لي إلا كتابي وفرسي. فانقلبت لساعتي من جزين قاصداً دير القمر فاجتزت إليها تاتر وعماطور والمختارة وغيرها والطريق بين هذه القرى القديمة عامرة من وراء الغابة تمشي فيه وسط أشجار الزيتون وهي غابات غبياء في الشوف كما أن أشجار الصنوبر كذلك في قضاء المتن. ودير القمر هو مركز الجبل القديم وصلت إليه قبيل الغروب وقد بدت القصبة بأبنيتها الشاهقة كالعروس في حليها وعكست شمس الأصيل على زجاج نوافذها وسطوحها فاختلطت الحمرة بالصفرة بالخضرة بالزرقة فكان أجمل منظر تقع عليه عين إنسان. وأهل الدير كمعظم سكان الجبل موصوفون بالرقة وحسن العشرة يتحببون إلى الغريب كيف كانت حاله. وفي هذه القصبة إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه أحد أمراء لبنان ولا يزال الديريون يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة وإن لم يكن له من يقيم فيه الصلاة. وقصبة الدير بكثرة سكانها وتوفر مرافق الحياة فيها أشبه بالمدن منها بالقرى وهي مشهورة بتجارة الحنطة تحمل إليها من حوران فتوزع في الأطراف. وليس دير القمر وحيداً في نوعه باكتظاظ الأقدام فيه فمدينة زحلة لا يقل سكانها عن خمسة وعشرين ألف نسمة

وأوصل بعضهم نفوسها إلى خمسة وثلاثين. وتكثر النفوس في حمانا ورأس المتن وبرمانا وبيت مري وبعبدات وبيت شباب وبكفيا وبسكنتا وبعبدا والشوير وحصرون والشويفات وحدث الجبة وبعقلين ومجد المعوش وعالية ومعلقة الدامور وجزين وجبيل واهمج وتنورين وعمشيت وغزير وجونية وكفر ذبيان والبترون واهدن والهرمل وأميون وزغرتا وكوسبا وفي غير ذلك من القصبات التي يعد فيها النفوس بالألوف والمئات. والقرى والمزارع متصلة خصوصاً في المحال التي ترتفع كثيراً عن سطح البحر ولا يتعذر العيش فيها في الشتاء لكثرة ثلجها وبردها وجليدها وأعاصيرها وما أشبه لبنان وقراه ومزارعه لا تقل عن تسعمائة وستة وخمسين قرية (1) إلا بقصر فخيم جميل واسع الأرجاء محفوف من أطرافه بالرياحين والأزاهير العطرية وغرفه الكثيرة تلك الدساكر والضياع لا يكاد المتجول يمل من مقصورة حتى ينتقل إلى أخرى وما أسرع وصوله إليها من تلك الطرق المعبَّدة وهذا القصر مزدانة أفنيته وأروقته بأقصى ما تخص به يد الصانع من بدائع الزينة ويد المخلوق لم تقصر كثيراً في تعهده. معنى لبنان الأبيض وهو اسم عبراني سمي به لتعمم قممه بالثلج في الشتاء والربيع وبعض الصيف. وقد ورد ذكره في الشعر القديم فقال النابغة الذبياتي: حتى غدا مثل نصل السيف منصلتاً ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما وقال أحمد بن الحسين بن حيدرة المعروف بابن الخراساني الطرابلسي من المحدثين: دعوني لقاً في الحرب أطفو وأرسب ... ولا تنسبوني فالقواضب تنسب وإن جهلت جهال قومي فضائلي ... فقد عرفت فضلي معدُّ ويعرب ولا تعتبوني إذ خرجت مغاضباً ... فمن بعض ما بي ساحل الشام يغضب وكيف التذاذي ماَء دجلة معرقاً ... وأمواه لبنان ألذُّ وأعذب فمالي وللأيام لا درَّ درُّها ... تشرّق بي طوراً وطوراً تغرّب وأنشد المتنبي في مدح أبي هرون بن عبد العزيز الأوراجي في قصيدة: بيني وبين أبي علي مثله ... شمُّ الجبال ومثلهن رجاءُ وعقاب لبنان وكيف يقطعها ... وهو الشتاءُ وصيفهن شتاءُ وقال البحتري:

وتعمدت أن تظلَّ ركابي ... بين لبنان طلعاً والسنين مشرفات عَلَى دمشق وقد اء ... رض منها بياض تلك القصور وقال الجغرافي اليزه ركلو من المتأخرين يصف (1) لبنان: إذا ما ألقيت ببصرك من البحر إلى سلسلة لبنان المستطيلة رأيت من هذا الجبل منظراً مهيباً فيلوح لك أزرق أو وردياً في الصيف ومشتملاً في الشتاء والربيع بجلباب ثلجه الفضي وإذا تصاعدت الأبخرة في الجو ألبست قممه الشامخة ثوباً شفافاً هوائياً غاية في اللطف بيد أن جمال هذا المنظر لا يخلو من سطوة الشدة فترى ذاك الجبار يتمطى بضلوعه الشديدة وينطح برأسه الشامخ لا يقوم في وجهه قائم عَلَى أن النظر إلى محاسن هذا الجبل عن كثب هي دون جماله عن بعد فترى ظهره عَلَى طول 150 كيلو متراً أقهب أجرد لا تكسوه الخضرة. أوديته متشابهة ومشارفه كأنها قدت عَلَى قالب واحد. وقال الأب لامنس: إن لبنان أشبه بجدار عظيم من الصخور وجهته من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وفي الجهة الشرقية تراه ينقطع بغتة أما من جهة الغرب فهو يتفرع فروعاً متعددة عَلَى هيئات شتى من آكام وبطون وسهول وربى متسلسلة يدخل بعضها في بعض وإذا استثنيت هذه التفرعات الثانوية والتجعدات المنتسقة تحققت أن سلسلة لبنان العظمى قد وضعها الخالق على صورة نظامية وجانب كبير من البساطة ولذلك قلما نرى في لبنان تلك المناظر المتباينة التي تقر بها العين وإنما يقع البصر على حاجز كبير في حدود الأفق يتواصل على خط مستقيم لا تكاد قممه العليا تمتاز عن بقية أقسامه. ووصف شكله أيضاً فقال: ومن تفرع الجبل من الجنوب إلى الشمال وجده يتزايد علواً وكذلك يتسع عرضاً ولو تأمل الناظر من علو الجو عرض لبنان بين صيدا ومشغرة لوجده يزيد عن 29 كيلو متراً وهو يبلغ بين بيروت وقب الياس 31 كيلومتراً ومعظم اتساعه بين طرابلس والهرمل 46 كيلومتراً فيكون لبنان على كل ذا شكل مربع منفرج عن زاويتيه العلويتين اه. ولقد قدروا مساحة لبنان بثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر يحده جنوباً صيداء وأعمالها وشمالاً طرابلس وكورتها وشرقاً ولاية سورية وغرباً البحر المتوسط ومدينة بيروت. هذا هو حده الجديد وهو المعروف بلبنان الغربي والأصل في التسمية. ويطلقون اسم لبنان

الشرقي على وادي التيم وجبل الشيخ (حرمون) أي على قضاءي حاصبيا وراشيا وما إليهما والبقاع فاصل بين اللبنانين. وحدَّه القدماء فقالوا: (1) أنه جبل مطل على حمص يجيء من العرج الذي بين مكة والمدينة حتى يتصل بالشام فما كان بفلسطين فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وبدمشق سنير وبحلب وحماة وحمص لبنان ويتصل بأنطاكية والمصيصة فيسمى هناك اللكام ثم يمتد إلى ملطية وسميساط وقاليقلا إلى بحر الخزر فيسمى هناك القبق قال وفي لبنان سبعون لساناً لا يعرف كل قوم لسان الآخرين إلا بترجمان وفيه من جميع الفواكه والزروع ممن غير أن يزرعها أحد وفيه يكون الأبدال من الصالحين. وقال القلقشندي ثم يمتد لبنان إلى الشمال ويجاور دمشق وإذا صار في شماليها سمي جبل سنير. وعلى ذكر الصالحين نقول أن لبنان مشهور منذ القديم بانقطاع الناس إلى العبادة فيه قال ابن جبير في كلامه على العلم والمتعلمين في الشام في القرن السادس للهجرة ما نصه: وكل من وقفه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم أن أحب ضيعة ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى أو يصعد إلى جبل لبنان أو إلى جبل الجودي فيلقى بها المريدين المنقطعين إلى الله عز وجل فيقيم معهم ما شاء وينصرف إلى حيث شاء. ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فيجب مشاركتهم وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا فيه أنواع الفواكه وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة وقل ما يخلو من التبتل والعبادة. وقال ابن بطوطة في القرن الثامن: إن جبل لبنان من أخصب جبال الدنيا فيه أصناف الفواكه ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين وهو شهير بذلك ورأيت فيه جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر أسمه. قلنا ولذلك نرى المعروف اليوم بالإحصاء أن في لبنان نحو ألفي راهب وراهبة لهم 118 ديراً ما عدا الكنائس والبيع والصوامع التي لا تخلو قرية عن واحدة أو عدة منها ولا يقل دخل الرهبنات والأديار فيه عن مئة وخمسين ألف ليرة في السنة كما أكد بعض العارفين. وهو نحو ثلث أيراد لبنان بأسره. وفيه المحابس التي ينقطع فيها النسك بعض الرهبان

فيقيمون في مغارة أو مكان منفرد يتعبدون في الخلاء. زرت أحدهم في مديرية القاطع فرأيته متوفراً على كرم له هناك حتى جاد وأخصب يعمل فيه بيده ولا يكاد يأكل منه متى نضج ويصرف شطراً من وقته في النسك والصلاة. ولو قام كل امرئٍ بالواجب عليه فسعى للمعاش سعي هذا الحبيس وعبد الله وخافه لارتفعت الشرور من البشر وقل احتياجنا للحكومات وقوانينها. وهذه المحابس (1) قديمة في لبنان ترد إلى عهد هيلاريون الناسك أو قبله وفي عدلون بين صيدا وصور عَلَى مقربة من صرفند عند الجسر صخر عال حفر فيه نحو مائتي كهف اتخذها الرهبان مساكن لهم. وبالنظر لتوسط لبنان من سورية كان نافعاً بعمرانه لها بطبيعته فكأن علو قممه - وأعلاها ظهر القضيب علوه 3063 متراً ثم في الوسط جبل صنين وعلوه 2806 متراً وأعلى نقطة في جبل الشيخ 2860 متراً_وتكاثر ضبابه وكثرة أشجاره وقربه من البحر كلها داعية إلى كثرة الثلوج والأمطار فيه فيتكون من عصاراتها ومسايلها أنهار ذات شأن عظيم في عمران الشام فمن سفوح لبنان تنبجس أعظم أنهار سورية فنهر العاصي الذي يروي أراضي وادي حمص وحماة وأنطاكية ينبجس من الهرمل في شمال لبنان ونهر الليطاني الذي يروي بلاد صيداء وصور وتنتفع به بعض بلاد البقاع ينبع من لبنان ونهر طرابلس المسمى بنهر أبي علي ويعرف قديماً بقاديشا يخرج من سفح لبنان ونهرا الكلب وبيروت اللذان يسقيان مدينة بيروت وضاحيتها ينبجسان من السفح الغربي من لبنان ونهر البردوني الذي يسقي زحلة وبعض البقاع هو لبناني المنبع أيضاً. ومن لبنان الشرقي ينبجس الأردن الشريعة كما ينبجس من غرب لبنان الغربي نهر إبراهيم. فلبنان في فائدته لسورية أشبه بجبال الألب في سويسرا أو بنيل مصر من حيث امتداد المنافع. وللألب والنيل المثل الأعلى. وفي لبنان عدة ينابيع منها نبع الأربعين ونبع صنين وبلقيع واللبن والعسل والباروك وعين زحلتا وقد زرت هاتين الأخيرتين. وصلنا إلى الباروك في زهاء ساعتين من دبر القمر مارين ببيت الدين مركز مصرفية لبنان الصيفي وكفر نبرخ وبعض المزارع وقرية الباروك في واد منفرج قليلاً تنبع عينها عَلَى قيد غلوة منها أما المصطافون فيها فيختارون في الغالب النزول بالقرب من رأس

العين في نزل هناك أو خيام لهم يضربونها وسط الحراج المبثوثة على آكام الباروك وجبالها فيوفر لهم بذلك إلى جودة الماء التي ما بعدها جودة فيما أظن - طيب الهواء ونسيم الأرز والصنوبر العليل البليل. ومن الباروك إلى عين زحلتا ساعة على الراكب وفي هذه القرية فنادق حسنة لكثرة ورود المصطافين إليها للتمتع بنبع الصفا وقاع الريم اللذين ينبعان في ظاهرها ولتسريح عيونهم بجمال موقعها وخصب واديها وحراجه الغبياء. وعين الباروك وعين زحلتا على مساماة واحدة في العلو وماؤهما يكاد يكون متشابهاً والطريق من عين زحلتا إلى عين صوفر ماراً بطريق السكة الحديدية نحو ساعتين ونصف في العربة أو على الراكب وهذه العيون ينتفع بها كلها في سقي الحدائق في القرى البعيدة والقريبة. ومن صوفر قصدت حمانا وقرنابيل فصليما فعبدات فبحنس فبكفيا فبيت شباب فالشاوية فالفريكة. وهنا قضيت مع صديقي الابرامين أفندي ريحاني الكاتب الشاعر المفكر الشهير أياماً رائقة ريثما ركبت البحر من بيروت قاصداً القطر المصري فأوربا. هذا وقد كان سبق لي منذ سنين أن زرت بعض قرى كسروان والبترون وزحلة فأكون هذه المرة بما خبرته من حال هذه الأقضية الثلاثة الأخرى وهي جزين والشوف والمتن خليقاً بأن أتكلم على الجبل خصوصاً ولم ينقصني منه إلا قضاء الكورة فقط. نبذة في تاريخ لبنان 3 لم يخرج لبنان في دور من أدواره عن كونه معقلاً حصيناً كل من ساده يكون في الأعمم من حالاته إلى الشدة والمضاء يتعب من يسودهم وقد يتعب به جيرانه من أهل البلدان الأخرى. ولقد كان تاريخه السياسي كتاريخ معظم المقاطعات السورية استقلالاً وخضوعاً للغريب ولكن أيام الاستقلال أكثر من غيرها في غيره من أقاليم الشام. والغالب أن قاصيته خضعت للفينيقيين كما خضعت سواحله واستولت عليه حكومة الأيتوريين العربية في عد الروم. والأيتوريون شعب شديد الشكيمة مولع بالحروب أنكفأ من حوران واللجاه بلاده ونزل البقاع فأنشأ له مدينة شالسيس أو عين جر جعلها عاصمة وأخذ يشن الغارات على لبنان ويتقدم إلى الأمام حتى تيسر له أن تسور قممه وأخضعه لسلطانه ثم انحدر إلى سواحل الشام وجعل مدينة طرابلس مركزاً ثانياً (1) وأكثر من كانوا

يتأذون من بأس الأيتوريين سكان جبيل وبيروت فلم يكونوا يملكون معهم لأنفسهم طولاً ولا حولاً. نعم خضع هذا الجبل للفاتحين واستولى على زمامه المردة وهم قوم من نصارى الفرس أتى بهم الروم ليدفعوا عن لبنان غزوات الأيتوريين فنزل المردة (2) في الشمال أوائل القرن الأول للهجرة ثم جاء التنوخيون ونزلوا جنوبيه وتوالى عليه الأمراء المعنيون فآل عساف التركمان ومن سلالة المعنيين الأمير فخر الدين الذي عهد إليه السلطان سليم فاتح سورية ومصر بولاية الشام ثم الشهابيون ومن أمرائهم الأمير بشير الملطي الثاني ومن أمراء لبنان جان بولاد (جنبلاط) الذي حكم الشام سنتين في القرن العاشر فيما ذكر. وروى التاريخ أن سكان كسروان أخذوا في القرن السادس أوائل القرن السابع للهجرة يطيلون أيدي اعتدائهم على أبناء السبيل فيخطفون المسلمين ويبيعونهم من الأعداء فكان عساكر المسلمين معهم بين عدوين هم في جبال صنين أو الظنينين كما سماهم أبو الفداء وجيوش التتار التي انهالت على هذه البلاد كالسيل العرم إن نجا المسلم من التتري لا ينجو من الكسرواني (سنة 699) ولذا سار شيخ الإسلام أبن تيمية سنة 704 لنصح أولئك العصاة فلما لم ينجح النصح فيهم قاتلتهم الجيوش الشامية قتالاً هائلاً بزعامة جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق. والغالب أن سكان كسروان كانا إذ ذاك خليطاً من النصيرية والموارنة وغيرهم كما كان سكان ساحل كسروان من اليعاقبة. وما زال نواب الشام (1) الأشرف بن خليل قلاوون والناصر محمد بن قلاوون يحاربون النصيرية في كسروان حتى أخرجوهم وجعلوا بدلهم قوماً من التركمان في بعض النواحي وبقي كثير من المتاولة معهم كما فعل صلاح الدين يوسف لما استخلص ساحل لبنان ولا سيما جبيل وأعمالها من أيدي الإفرنج سنة 583 فرتب (2) في جبيل قوماً من الأكراد لحفظها. فبقيت على ذلك إلى سنة 593 فباعها الأكراد الذين كانوا بها ورحلوا عنها ثم عادت تلك السواحل فاستولى عليها الإفرنج بعد صلاح الدين لأن الكسروانيين كانوا نصراء الصليبيين يمدونهم بالذخائر والرجال. ولذلك أمر حسام الدين لاجين نائب دمشق بأن تخرب بلادهم فخربت على عهده وعهد غيره من حكامها ولا سيما على عهد الأفرم كما تقدم إذ قضى بقطع كرومهم وتخريب

بيوتهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وتفرقوا في البلاد أيدي سبا. ولما انتشر التركمان بكسروان سنة 606 تداركوهم (3) بثلثمائة فارس وجعلوا دركهم من حدود انطلياس إلى مغارة الأسد على حدود معاملة طرابلس فكانوا يمنعون من يستنكرونه أن يتعدى دربند نهر الكلب إلا بورقة طريق من المتولي أو من أمراء الغرب كما يفعلون بقطية (4) على درب مصر وجعلوا التركمان ثلاة أبدال كل بدل يقيم في الدرك شهراً لحفظ الموانئ والدروب. وفي سنة 686 صدر منشور من ملك الأمراء لاجين نائب الشام عن الملك المنصور قلاوون إلى جمال الدين وزين الدين ابن علي أنه إذا بلغهما توجه المقر الشمسي سنقر المنصوري بالعساكر إلى جهة كسروان والجرد أن يتوجها إليه بمجموعهما وأسرتيهما وأن من سبي امرأة منهم كانت جارية أو صبياً كان له مملوكاً ومن أحضر منهم رأساً فله دينار وأن سقر توجه لاستئصال شأفتهم ونهب أموالهم وسبي ذراريهم. وهذه الفقرات على شدتها لم تصدر عن أمراء الشام إلا بعد أن طفح كأس صبرهم من تمرد الكسروانيين. واختلف العلماء في أصول سكان لبنان والأرجح أنهم خليط من الفينيقيين والآراميين والروم والعرب مزجتهم بودقة واحدة فغدوا مزيجاً واحداً كما هو حال معظم البلاد فإنك ترى كثيرين من أسرات لبنان المشهورة نزحت من بلاد حلب وحماة وحمص وحوران في الداخلية ولا سيما في القرون الخمسة الأخيرة. ذكر المؤرخون أن معاوية نقل إلى طرابلس وجبيل وبيروت وصيداء قوماً من الفرس يسكنونها. وذكروا أيضاً أن أبا جعفر المنصور العباسي لما قدم دمشق من بغداد قدم عليه من بلاد المعرة الأمير ارسلان وأخوه الأمير منذر بجماعة من عشيرتهما فطابت نفس الخليفة بهما فأمرهما أن يسكنا في جبال بيروت الخالية من السكان وأنعم عليهما بمقاطعات معلومة فسكنوا وبعضهم في كسروان وأخذوا يشنون الغارات على مجاوريهم وفي بعضها أحرقت قرى من كسروان السفلى وتقوى الأمراء الأرسلانيون بعشائرهم وعمروا العمائر في الشويفات وجوارها. أما الموارنة فكان أول منشأهم في شمال سورية في الأغلب ينتسبون إلى قديس لهم أسمه مارون وهم طائفة كاثولوكية لا يكادون يختلفون عن الكثلكة في أمر جوهر في المعتقدات جاؤوا شمالي لبنان أولاً وما زالوا يمتدون ويطردون سكان الجبال الأصليين أو ينصرون

ويدمجونهم في جملتهم حتى بلغوا الجنوب واحتفظ الدروز ببلادهم بما فيهم من الشدة والإباء. وزعم بعضهم أن الموارنة لم يسكنوا كسروان قبل القرن السادس عشر للميلاد لأنه لا يوجد بين أديار كسروان اليوم دير واحد يسبق عهده القرن السابع عشر وأن جبيل والبترون كانتا على الحياد مع الصليبيين فلم تنحازا إليهم ولا للمسلمين أصحاب البلاد إلا أن هذا لم يمنع من الرواية الثانية من ممالاة الموارنة للصليبيين ودلالتهم على الطرق ونجدتهم (1) لهم وثباتهم معهم على العهد إلى النهاية حتى خرجوا من سورية سنة 1302 م ومن أجل هذا اضطر حكام البلاد أن يحرقوا ويقتلوا ويسبوا بعض القرى القريبة من طرابلس مثل أهدن وبقوفا وحصرون وكفرسارون والحدث. وما برح لبنان ينقسم بين أمراء المقاطعات يحكمونه على النحو الذي كانت عليه صورة الحكم في البلاد العثمانية قبل تنظيم الولايات. يقوي اليمانيون تارة والقيسيون أخرى والناس معهم في أمر مريج ومن التحزبات القيسية واليمانية ما وقع في الربع الأول من القرن السادس عشر للميلاد بين الأمير فخر الدين المعني القيسي وجمال الدين الأرسلاني اليمني. قال المقريزي وعشير الشام فرقتان قيس ويمن لا يتفقان قط وفي كل قليل يثور بعضهم على بعض. ونشأ حزب آخر وهو الحزب اليزبكي نسبة إلى يزبك جد الشيخ عبد السلام العماد زعيمه والجنبلاطي نسبة إلى الشيخ علي جنبلاط زعيمه الآخر وذلك سنة 1729_1754 وامتد في لبنان ولم يزل له أثر كما نشأت أحزاب أخرى كالمعلوفي والمكارمي ومثل هذه الأحزاب قد لا تخلو من حدوث فتن تهرق فيها الدماء وتكثر الأيامي والإماء كما فعل الحماديون وأحرقوا بلاد جبيل والبترون فخربت جميعها ونزح سكانها إلى بلاد ابن معن وكانت العداوة بين بني سيفا وبني معن سبباً في تخريب الجبل أيضاً. ومن الوقائع التي يتمت فيها الأطفال تلك الوقعة التي جرت في القرن العاشر عقيب أن نهب بعض أمراء لبنان الصرة السلطانية من جون عكا بينما كانت محمولة إلى الأستانة فجمع إبراهيم باشا صهر السلطان مراد بن السلطان سليم العساكر من مصر وقبرص ودمشق وحلب وقدم بها مرج عرجموش قرب زحلة وأمسك طريق البحر والبقاع على

الدروز فقتل نحو ستمائة منهم وأسر بعض الأمراء. وما زالت حال الجبل في إقبال وإدبار تقع اليوم فتنة العاقورة وغداً وقعة مرحلاتا وبعده وقعة أرض خلدة ثم فتنة برج الغلول وبعد ذلك وقعة عين دارة حتى أقامت له الدولة سنة 1842 عمر باشا النمسوي والياً فلم تطل مدته حتى منحت الدولة للجبل امتيازات وقسمته في السنة التالية إلى مقاطعات. وتعرف الأولى (1) بقائم مقامية النصارى وهي الشمالية تمتد من نهر البارد في عكا إلى طريق دمشق مع بعض قرى ساحل بيروت تولاها الأمير حيدر إسماعيل اللمعي وتعرف الثانية بقائم مقامية الدروز وهي الجنوبية تمتد من طريق الشام إلى منتهى جبل الريحان في الشمال مع قرى إقليم التفاح وبعض قرى ساحل بيروت وتولى شؤونها الأمير أحمد عباس الأرسلاني أما قصبة دير القمر فكان يتولى شؤونها رجل من قبل والي ايالة صيداء وكانت قائم مقامية النصارى مؤلفة من المتن وكسروان والبترون والكورة وزحلة وقائم مقامية الدروز تشمل قضائي الشوف وجزين وقسماً من غربي البقاع وبعض قرى مديرية الساحل الداخلية اليوم في قضاء المتن وفرض على لبنان في كل سنة ثلاثة آلاف وخمسمائة كيس. ودام الحال على ذلك إلى سنة 1860 وقد اشتعلت جذوة تلك الفتنة المشؤومة بين الدروز والنصارى في لبنان فمنحت الدولة هذا الجبل استقلالاً إدارياً بأن جعلته متصرفية يتولى شؤونها حاكم مسيحي تبعث به الدولة كل خمس سنين أو تجدد انتخابه بمصادقة الدول. وجعل مال لبنان سبعة آلاف أو ثلاثة ملايين ونصف مليون قرش وضعت على الأعناق. ولحكومة لبنان موارد أخرى سنوية منها نحو أربعة ملايين قرش من بدلات حاصلات الأراضي الأميرية ورسوم المحاكم والمقاولات والعربات والعجلات وتعدل بثلاثة عشر ألف ليرة ولا تتناول الدولة الآن شيئاً من مال الجبل ولا تعطيه وكانت منذ سنين تدفع إليه العجز في ميزانيته. وفي لبنان ألف جندي لبناني بإدارة أميرالاي لبناني وفي بيت الدين فرقة من الجند العثماني المحافظ وعليها أميرالاي بإدارة حكومة لبنان. وتحاول حكومة الجبل الآن أن تزيد الضرائب قليلاً ليتيسر لها القيام ببعض الإصلاحات والتوسعة على موظفيها كما وسع عليهم في سائر البلاد العثمانية بعد الدستور إلا أن معظم

الآهلين يقاومونها وفاتهم أن الليرة منذ خمسين سنة لا تعادلها اليوم إلا الثلاث ليرات أو أكثر لوفرة الذهب وغلاء الأسعار. وهم يعتبرون أن هذا العمل إخلال بشروط امتيازاتهم ويخافون أن يتدرج الأمر إلى العبث بقانونهم فيختل نظامه مع الزمن من أجل هذا أبى اللبنانيون أن يبعثوا إلى مجلس الأمة العثمانية بنواب منهم يمثلونهم وما نظن وطنيتهم تحول بينهم في الانتخاب القادم وبين إرسال نواب عنهم حتى يشتركوا وسائر أخوانهم العثمانيين في الغنم والعزم فليس من الإنصاف أن يبقى جبلهم بدعوى قلة خصبه على الحياد وهو في وسط البلاد ويحسب جزءاً متمماً من أجزاء السلطنة العثمانية كيف تقلبت الحال وتعددت المظاهر والأشكال. غابات لبنان 4 ليس في لبنان أرض تبلغ مساحتها مائة كيلو متر مربع بل غاية ما فيه من الأراضي منحدرات ومنعرجات وأودية ضيقة ومسايل صغيرة وفيها جعل القدماء زروعهم وأشجارهم وأكثر الأراضي مما يصلح للشجر أكثر مما يصلح للبقول والغلات شأن جبال الأرض في الأكثر. وليس في الأيدي نص قديم يشير إلى أصناف زراعة لبنان منذ عرف التاريخ غير ما نقلناه في نبذة سالفة عن مؤلفي العرب من أن فيه أصناف الفواكه والزروع وأكثرها مما ينبت بنفسه وهو كلام مجمل لا يشبع ولا يقنع. وإذ كانت طبيعة أرض لبنان لم تتغير منذ عشرات من القرون كانت الزروع التي لا تناسبها أرضه ضعيفة فيه أو تكاد تكون معدومة. ولكن لم تخل أرض لبنان في زمان من أزمانها من الزيتوت والتين والكرم والخروب والجوز واللوز والتفاح والصنوبر والتوت من الأشجار المثمرة والزان والسنديان والسرو والأرز من الأشجار الغير مثمرة. وقد أكثر القدماء والمحدثون من الكلام خاصة على تاريخ الأرز لورود ذكره في الكتاب المقدس مرات ولأن من خشبه بني قصر داود هيكل سليمان والهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربابل وسقف الهيكل المجدد في عهد هيرودوس وقبة القبر المقدس وسقف الكنيسة في بيت لحم. وقالوا أنه ثبت أن ملوك الأشوريين والبابليين استعملوا في قصورهم خشب الأرز وأن المصريين أدخلوا من خشبه في بناء هياكلهم

وقصورهم كما فعل الفرس وأن الاسكندر المقدوني وضع من خشب الأرز في السد الذي أقامه بين الجزيرة والشاطئ حيث كانت مدينة صور وكذلك ملوك السلوقيين في سورية أدخلوا خشب الأرز في بناء دورهم. وكل هذه الأخشاب قطعت من لبنان أو من الجبال المجاورة له وكانت تحمل في الغالب إلى طرابلس وصيداء وصور حيث كانت دور الصناعات وقد أنشأ بعض ملوك الإسلام أساطيل من خشب الأرز وقالوا أن بيروت (1) كانت دار صناعة دمشق (ترسانتها أو ورشتها) وبها عمر معاوية المراكب وجهز فيها الجيش إلى قبرص ومعهم أم حرام واسمها العميصاء وقيل أنه عمر من الأرز ألفاً وتسعمائة سفينة وبعد سنين جهز أسطولاً أضخم من الأرز نفسه وتبعه غيره من ملوك الإسلام في اختيار الأخشاب للسفن من غابات لبنان وما برح كثيرون من المتدنيين بالنصرانية يتبركون بشجر الأرز ويحملون من غصونه قطعاً ينقلونها من قارة إلى قارة ومن مملكة إلى أخرى وهو عطر الرائحة إذا وضع في النار ويحسن في المثم إذا مسسته بيدك ولونه أصفر فاقع مشرب بخطوط حمراء لا تعبث به الأرضة ولا يفعل فيه السوس ولذلك كاد ينقرض لكثرة حرص السوريين وغيرهم على استعماله في أبنيتهم وقصورهم وهياكلهم وتماثيلهم ونصبهم. والغالب أن الحكومة السالفة (1) القديمة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح بقطع غيرها واحتطابه أو غرس غره محله. وقد بدأ النقص في هذه الأشجار ولا سيما الأرز منذ خمسة قرون لأن اللبنانيين احتاجوا إلى الاحتطاب وأخذوا يكثرون من زراعة التوت والكرم خصوصاً وقد جرت عادة بعض حكام لبنان إذا غضبوا على أحد أن يقطعوا أشجاره ويخربوا داره وإلى اليوم لا يزال من الأمثال السائرة في الجبل الله يقطع رزقه أي ما يملك من شجر والله يخرب زوقه أي بيته. مثال ذلك أن الأمير أحمد المعني طرد المشايخ الحماديين المتاولة لما كثر بغيهم في كسروان ففروا إلى بلاد بعلبك فأحرق قراهم في القرن لحادي عشر وقطع أشجارهم وقد رسم مرة بيدمر (2) نائب الشام لشهاب الدين ابن زين الدين صالح من أمراء الغرب في لبنان وكان في دمشق أن يركب على خيل البريد ويتوجه إلى قرية عين زحلتا من شوف

صيداء ليكشف عما فيها من أشجار التوت النافع لعمل النشاب فلم يجده موافقاً وربما أحب عدم تصديع أهل البلاد بقطعه ونقله ومنذ ذاك العهد اجتهد أهل الشوف في قطع شجر التوت وتعطيل نشوئه واستئصاله لئلا تصدعهم الدولة من جهته. قلنا ومثل ذلك ما نشاهده في أيامنا من أن بعض أهل القرى البعيدة عن مراكز الحكومة في الولايات العثمانية قد يسخون بقطع أشجارهم فراراً من ظلم ملتزمي الأعشار واشتطاطهم في تقاضي العشور عليها أضعافاً مضاعفة ولم يبرح شجر الأرز موجوداً في عدة أماكن من لبنان على كثرة ما انتابه من البوائق فبالرب من معاصر الفخار على مقربة من بيت الدين غابة منه فيها نحو 250 شجرة يسمونها الأبهل وأخرى فوق الباروك غير ملتفة وضعيفة النمو لكثرة الأمطار والثلوج والعواصف في تلك الأرجاء وثالثة فوق قرية عين زحلتا وكان أحرق أكثرها لاستخراج القطران منه وقطع بعضها أيام حادثة سنة ستين لتجدد بخشبه بعض بيوت المنكوبين ورابعة بين افقا والعاقورة في جرد جبيل من بلاد كسروان وخامسة بين قرية تنورين وبشري صغيرة الشجر وعدد شجيراتها نحو عشرة آلاف وسادسة بالقرب من بشري على علو1925 متراً عن سطح البحر وهي مقصد السياح وفيها أضخم أشجار الأرز ويبلغ عددها 397 وقيل 680 شجرة منها 12 كبرى وأكبرها شجرتان دائرة جذع كل منها نحو خمسة عشر متراً وارتفاع أطولها خمسة وعشرون متراً وقدروا عمرها بثلاثة آلاف سنة. ولا أثر الآن في سورية لشجر الأرز إلا في أعالي سير ببلاد الضنية (1) في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز على ارتفاع 1900 متر عن سطح البحر وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى عند أهله تنوب. ولو توفرت همة أبن الجبل اليوم على غرس شجر الأرز أو أي كان من شجر الاحتطاب في الأماكن الخالية ولا سيما في القمم والقنن لما أتت عشرات من السنين إلا وقد زادت ثروة الجبل زيادة محمودة وكان مع طول الزمن لأبن لبنان من أشجاره مود آخر غير التوت والزيتون مثلاً لأن شجر الأرز لا يجود في الغالب إلا في مثل هذه لعلو من الجبل بل من جبال سورية التي تشبه لبنان بطبيعتها وموقعها. وإذا زاد عدد الغابات في سورية زيادة كبرى وتوفرت عناية ولايات بيروت وسورية وحلب ومتصرفيتي القدس والزور بتكثير الغابات في الأماكن الخالية ولا سيما في المحال

التي يعرف أنها كانت غابات غبياء نافعة يتحول مناخ سورية وتكثر فيها الأمطار بعد سنين ولا تعود تخشى اليبوسة وهلاك الزرع والضرع كما يحدث بعض السنين فيتأذى بذلك العرب الرحالة في باديتهم كما يتضرر ابن المعمورة بهم ويصبح منهم بين نكبتين سماوية بقلة الأمطار وأرضية بسطو ابن البادية على ما بقي لأبن القرى من رزق. وليت حكومة لبنان تبدأ فتفرض على كل لبناني أن يغرس عشر شجرات من أصناف الشجر عله تقتدي بها سائر حكومات بلاد الشام بعد ذلك فلا يأتي علينا جيل إلا وتصبح سورية غنية بغاباتها كغنى سويسرا أو أكثر والأشجار في بلادنا أكثر نمواً مما هي في أوربا لما عرفت من اعتدال الفصول ولطف الجو ولقد جربت حكومة الجزائر فغرست الغابات منذ زهاء خمسين سنة فكانت النتيجة أن كثر اليوم تهطال الأمطار فيها على طريقة منظمة وسيكثر خيرها كلما زادت أشجارها وعسانا نقتدي في سورية بهذا المثال. الهجرة من لبنان 5 منذ أمن السكان في لبنان على أرزاقهم وانقطعت شأفة أرباب المقاطعات الذين طالما اشتطوا في مطالبهم وبطلت أو كادت السلطة الإفرادية الذوقية وقلت الأوبئة والزلازل التي كانت تحصد العمران والسكان حصداً كالزلزال الذي عاود لبنان مرات سنة 1759م وخرب القرى وأهلك الناس والطاعون الذي حدث سنة 1789م وعم لبنان كله واستمر الموتان ثلاثين سنة (1) - منذ خفت العوارض الطبيعية والأرضية أخذ كل فرد يحسن من حاله فنمت النفوس باستتباب أسباب الراحة وأخذ المرسلون وغيرهم من رجال الدين منذ زهاء مئة سنة ينشؤن أبناء الجبل على المنازع الدينية ويلقنونهم شيئاً من اللغات الإفرنجية والعلوم العصرية كما أن الموارنة ما زالت لهم علائق مع الكرسي البابوي في رومية يختلف إليه أحبارهم منذ قرون وربما انتفع الجبل من هذه الصلة والعائد. ثم أن طبيعة الجبل تقتضي التحسين والتنظيم والمسيحيون على الجملة يميلون إلى الرفاهية ويقدرون طعم الحياة قدرها ولم يكد يدخل القرن الثالث عشر للهجرة في دور العدم ويطلع القرن الرابع عشر حتى دخل جبل لبنان في طور جديد فكثرت طرق عجلاته حتى أصبح ليده منها الآن نحو ألف كيلو متر تجمع بين قراه ومزارعه كالشبكة المحكمة وتهيء سبل

التنقل على المصطافين في ربوعه وأكثر هذه الطرق في قضاء المتن لأنه ظهر لبنان ونقطته الوسطى ومقصد المصطافين من البيروتيين والشاميين والمصريين وغيرهم. وفيه الآن سبعون كيلومتراً من الخطوط الحديدية منها خمسون من طريق بيروت ودمشق وعشرون من ترامواي شمالي لبنان. وفي هذا الجبل 25 (1) مدرسة داخلية كبرى وصغرى و14 مدرسة اكليركية و8 مستشفيات و206 من الحراج والغابات و147 من معامل الحرير و8197 من الدواليب وبلغت حاصلاته من الفيالج (الشرانق) سنة 1906 - 2027030 أوقة ومن الزيت 25488 أقة وثمن الحرير الذي يخرج منه نحو ثمانية ملايين فرنك في السنة وكثر سكانه حتى عدلوا أن في كل كيلومتر مربع 61 نفساً ولا يفوق الجبل في ذلك غير ولاية الأستانة وجزيرة سيسام (ساموس). وسكانه الآن زهاء أربعمائة وثلاثون ألف نسمة منهم 250 ألفاً من الموارنة و160 ألفاً من الروم و36 ألفاً من الكاثوليك و55 ألفاً من الدروز و33 ألفاً من المسلمين (سنة وشيعة) و 1500 من البرتستانت والباقون أرمن وإسرائيليون وكلدان ولاتين وفيه خمسمائة من أهل الوبر يعيشون في مضاربهم خارج القرى وأكثرهم فقراء يستوكفون الأكف وقد أحصى غليلموس الصوري في تاريخ الصليبيين عدد الموارنة في عصره فكانوا أربعين ألفاً وما زال عددهم يربو على عدد وفياتهم وأن هاجر كثيرون بعد ذلك إلى قبرص ورودس والقدس ومالطة ولا يبعد أن تكون اللغة العربية انتشرت في جزيرة مالطة بواسطتهم. ولا يسعنا وقد وصلنا من بحثنا في شؤون الجبل إلى هذا الحد إلا أن نرسل جملة في شغف اللبنانيين بالهجرة إلى أميركا وغيرها من البلاد التي توهم أبن سورية أن المال فيها ملقى على الشوارع لا يحتاج إلا لمن يمد يده ليتناوله مع أولئك المهاجرين لو صرفوا في بلادهم نصف ما يصرفون من الوقت والقوة في بلاد المهجر على طول السنة وحسبوا ما صرفوه في ذهابهم وإيابهم وقدروا عدد من هلكوا منهم لرأوا أن المعدل واحد والفرق قليل لا يساوي هذا النصب. والذي ظهر من قرائن الأحوال أن ابن لبنان كان أول فلاح سوري هاجر إلى أميركا أو جرأ سائر السوريين على الهجرة مجذوباً بما اشتهر عن القارة الأميركية من الغنى ولكثرة

علائق لبنان مع الغرب قبل حادثة سنة 1860 وبعدها ولأن ابن لبنان أكثر أهل جبال سورية تعلماً ونوراً وأوفرهم نشاطاً ومضاءً وشمماً وادلالاً بل أن مجموع القارئين والكاتبين فيه أوفر من مجموع القارئين والكاتبين في مجموع مدن الشام. وأول من دخل أميركا (1) من السوريين الخوري الياس بن القسيس حنا الموصلي الكلداني من سنة 1668_1683 وأول من دخل أميركا الشمالية في القرن الماضي الخوري فلابيانوس الكفوري سافر إليها سنة 1848 وأخذ معه ناصيف الشدودي وأول من دخل الجنوبية المطران باسيليوس حجار سنة 1874 وكانت غايتهم جمع الإحسان وأول من دخل أميركا الشمالية للتجارة تجار من بيت لحم حملوا مصنوعاتهم الخشبية المرصعة بالصدف إلى معرض فيلادلفيا سنة 1876 ثم عادوا إلى بلادهم بثروة وافرة فاقتفى أثرهم غيرهم واتصل ذلك بشمالي لبنان وامتد في كل سورية ثم كثرت الجالية السورية في العالم الجديد واستراليا وجزر البحر المحيط بل وفي افريقية شرقها وغربها وشمالها وجنوبها. وقدر بعضهم أن ثلث المهاجرين يسكن أميركا وثلثهم يرجع إلى وطنه والثلث الآخر يموت. ونظن أن الثلث الأخير مبالغ فيه وإن كان عدد الهالكين في المهجر غير قليل. وأحصي (1) عدد السوريين المهاجرين إلى سنة 1906 فكانوا مائتين وخمسين ألفاً منهم ستون ألفاً في الولايات المتحدة وخمسون ألفاً في جمهوريات أميركا الجنوبية وخمسة وعشرون ألفاً في أميركا الوسطى وعشرة آلاف في اوستراليا وبعض الجزائر والباقون في افريقية والهند والفليبين وكوبا ومصر وعدد اللبنانيين منهم ستون ألفاً نصفهم ذكور ونصفهم إناث وربما كان الذكور أكثر. كثرت الهجرة منذ نحو عشرين سنة وذهب بعض سكان لبنان بإقدامهم وذكائهم المعهود فنزلوا في دار الهجرة بلاداً تحتاج إلى أيدً عاملة ونفوس لا تعرف التعب فأنشأوا يعملون ويذخرون ويقترون على أنفسهم في النفقة على خلاف عادة معظم المهاجرين إلى أميركا من أهل أوربا مثلاً فآب من قدرت له السلامة منهم ولم يكن له رأس مال في هجرته غير صحته بمئات الليرات فكان أول همه أن يعمر له داراً قوراء بالحجر النحيت والقرميد على المثال الذي رآه في بيوت المهجر. وكثر تقليد الناس بعضهم لبعض ومنهم من اشترى له أرضاً في بلده وطفق الآخر بما جناه

من ذاك الرأس المال القليل أما الأفراد الذين اغتنوا فعدت ثروتهم بالألوف فقد استوطنوا البلاد التي هاجروها جرياً على المثل العامي في المطرح الذي فيه ترزق الصق وهم إن كانت تحدثهم أنفسهم بالرجوع لا يهنأ لهم بال متى عادوا إذ يتجلى لهم الفرق الكبير بين نيويورك وشيكاغو وسان فرانسيسكو وبونس أيرس وسان باولو مثلاً وبين عشقوت وبسكنتا وعمشيت وعرنة ومعرونة أما أولادهم فينطبعون بطابع البلاد التي ولدوا فيها وأكثرهم لا يتعلمون اللغة العربية ولذلك لا يرجى البتة أن يعودوا إلى موطن آبائهم وهذا القسم ممن خسرتهم البلاد حقيقة والذي يزيد في الحسرة عليهم أن بعضهم ذهب برأس مال من بلاده ولو طفيف وبعضهم على جانب من الأخلاق والمعرفة لم يعمدوا إلى الطرق السافلة في تحصيل الثروة. نفعت الهجرة لبنان وأضرته وعندي أن المضار أكثر من المنافع إذ لا يظهر إلى العيان في الغالب إلا الحسن. فقد يذهب ألف مهاجر مثلاً إلى بلد كذا ولا ينجح منهم إلا واحد أو اثنان فيأخذ الناس يتحدثون في أمرهما وينسون أولئك المئات الذين يعملون أربع عشرة ساعة كل يوم في أشق الأعمال ولا يكادون بعد مرور سنين يوفون أجرة الطريق التي استلفوها من أحد المرابين في بلدهم أو باعوا في الحصول عليها أرضاً لهم ورثوها من آبائهم خل عنك من هلكوا بالأمراض وغرها وهكذا الحال في مجموع حالة لبنان من حيث منافع الهجرة ومضارها. فإن من نظر في الأمور نظراً سطحياً وشاهد تلك البيوت البديعة في قراه ومزارعه التي عمرت بمال أتى به المهاجرون من غير أرض لبنان وسمع بأن فلاناً أصبح يملك كذا وكذا من الليرات وأن بلد كذا يدخل إليه كل شهر من تحاويل أميركا ما يقدر بكذا من الذهب - من شاهد ذلك وسمعه لا يعتم أن تعروه هزة الفرح لبلاده وربما اعتقد أن الحال إذا دام على هذا المنوال وأموال أميركا لتسرب إلى بلادنا نصبح بعد بضع سنين أغنى من الأميركان وننقل شطراً عظيماً مما عندهم من الذهب الوهاج وهذا منتهى السعادة البشرية ليست السعادة بكثرة المال. السعادة شيءٌ غير ما يتوهمه من همهم إنشاء البيوت وتزيينها وفي باطنها الشقاء والحسرة. قال لي عجوز في صليما وقد سألتها أين رجالكم: ذهبوا ألى أميركا وتركونا هنا نحرس لهم البيوت التي عمروها لتسرح فيها الفيران عادوا ليجمعوا كمية أكبر

من المال لأن ما جمعوه لم يكفهم لإتمام هذه الدور على ما يحبون وفرشها ونقشها ثم إن حالة البلاد لم تعجبهم بعد أن شاهدوا مشاهد أميركا. وقول هذه العجوز الذي أحزنني مغزاه ولا تزال الأذن تردد صداه قد سمعت مثله من كثيرين من أهل لبنان رجال ونساء. أي حسرة أعظم من أن تتوقع أمٌّ في كل أسبوع قدوم ابنها وقد تمضي الشهور ولا تتناول كتاباً منه أو زوجة تنتظر منذ سنين هي وأولادها وهو لا يكاد يبعث لهم بنفقتهم فتضطر تلك المرأة المسكينة أن تعمل ليلها ونهارها لتطعم أولادها من كدها وما هي بمفلحة. وأي بلوى أكبر من أن تدخل قرية وتجد فيها عشرات من البنات العوانس ينتظرن عروساً لأن شبان الضيعة هاجروا وأكثرهم لا يريد أن يتزوج وبعضهم تزوج من امرأة أميركية وزهد في أسرته وقريته لأنه تمدن بزعمه ولا يليق به أن يتزوج إلا من متمدنة. ومن شاهد البنات العوانس في لبنان يدرك سر تعدد الزوجات إلا في مثل هذه الحال ويسجل بأن أقل سيئات الهجرة انقطاع الأهلين عن التناسل ولولا ذلك لكثرت نفوس لبنان كثرة تذكر لطيب هوائه ومائه وتوفر أسباب الراحة فيه. وإن دعوى من يدعون أن لبنان لولا الهجرة لأصبح خراباً مردودة من وجوه أحدها أنهم يعتقدون أن تلك الأموال التي دخلت لبنان وهي تستخدم فيه الآن بفوائد طفيفة هي غنى لبنان وما الثروة في الحقيقة إلا العمل ليس إلا. فقد رأينا اسبانيا على عهد شارلكان تسرب المال إلى صناديقها بالبدر والسبائك من أقطار المعمور لأن هذا الملك كان يعتقد أن كثرة النقود والذهب في بلاد كف وحده في غناها ولكن لم تكن بضعة عقود من السنسن حتى أمست اسبانيا أفقر بلاد أوربا لأن أهلها انقطعوا عن تعهد تربتها والأخذ بحظ من الصناعات اللازمة لهم والعلوم الرافعة من شأنهم. إن انصراف وجهة اللبنانيين وغيرهم من السوريين إلى نزول أميركا وافريقية للاغتناء من خيراتها بسرعة على أمل العودة إلى مساقط رؤوسهم متى امتلأت أكياسهم وجيوبهم وعبابهم قد حال دون تعهد أرضهم واستثمار صناعاتهم. ففي لبنان من الخيرات الطبيعية ما يكفي أهله إذا زادوا ضعف ما هم الآن ومهما بلغت العناية اليوم بزراعته لا يزال فيه فضل للعمل وميدان واسع للجد. ولا يشعر بذلك إلا أرباب الأملاك. مثال ذلك أن كدنة الفلاحة كانت تساوي منذ سنوات قليله خمسة وعشرين قرشاً فأصبحت اليوم تساوي ستين

على حين أن غلات التوت لم تزد على تلك النسبة وذلك لقلة أيدي العاملين وارتفاع أسعار الحبوب وغيره من مقومات المعاش في البلاد ولأن المهاجر اللبناني الذي كان فلاحاً حراثاً إلى عشرين أو ثلاثين جداً من أجداده إذا هاجر وقضى في هجرته ثلاث سنين ثم آب بلاده تكبر نفسه فلا يعود يتنازل إل معاناة الزراعة بل يفضل أن يعيش كما يعيش تجار أميركا وأرباب الأملاك في بلادنا وهو لا يملك رأس مال يكفيه سنة واحدة إذا ظل عطلاً عن العمل. في أمثال العامة أنا أمير وأنت أمير فمن يسوق الحمير حكمة لطيفة نافعة تصدق على اللبناني المهاجر فإذا أحب كل فرد من المهاجرين أن يقلد الأعيان في عيشه ورفاهيته فمن يبقى لتعهد التوت والزيتون وغرس الصنوبر والأرز والسنديان والزان وحفر الأقنية والأحواض وتمهيد الطرق ومعالجة الصناعات من حل الحرير وصنع الأقمشة المزركشة البسيطة وعمل الفرش والستور وأنواع الزينة. ولقد قال الاقتصاديون أن جملة ما ساعد ألمانيا على عظمتها التجارية الصناعية العلمية أنك تجد في رجالها أنواع العاملين ولا يستنكف كل عامل من عمله بل ولا يريد أن يعرف إلا به فالألمان أشبه بجيش منظم فيهم الجندي كما فيهم الضابط الصغير والكبير والقائد العظيم وكل واحد منصرف إلى عمله لا تحدثه نفسه أن يقلد رفيقه أو يعتدي عليه بل يعمل في دائرته بما يستطيعه ويحسنه ما أمكنه الحال ولو جرى أهل بلادنا على هذا المثال لأصبحنا بعد جيل أمة راقية حقيقية ولما رأينا الصغير يشكو لأنه يريد تقليد الكبر وأسبابه لا تساعده. نحن لا نجاري أولئك الذين يدعون أن لبنان كان خراباً لولا الهجرة لأمور أقلها أن البلاد السورية واسعة وأهل لبنان اليوم وقبل اليوم يستطيعون أن ينزلوا الأقاليم القليلة السكان المحتاجة إلى العناية ويستعمروها فإن فتشوا ذات اليمين وذات الشمال ورأوا طرابلس وعكا وحمص وبعلبك والبقاع ومرجعيون وصيداء تتاخم جبلهم وتحصرهم فيه فإن لهم من بلاد الكرك وحوران وبادية الشام وبلاد حلب مثلاً ما يكفي لإغناء مئات الألوف من الناس فلو نزلوا تلك البلاد الخاوية وعمروها بكدهم لأصبحت بعد سنين جنات زاهرة وأقلُّ ما في ذلك من منافع أن هذه البلاد منهم على أيام قليلة يستطيعون في استعمارها أن يقضوا معظم

أيام السنة في جبلهم. وقد كتب قائم مقام سروج من أعمال حلب منذ مدة في جريدة المقتبس يقول أن خمسين قرية في قضائه وحده محلولة وتباع كل واحدة منها بثلاثة آلاف قرش فلو اشتراها بعض أرباب الأموال من اللبنانيين وأنفقوا عليها النفقات التي ترقى زراعتها وغرسوا فيها الأشجار وأقاموا البيوت لما أتت ثلاثون سنة إلا وهذا القضاء وحده من أعمر البقاع السورية فما بالك بما في غيره من الأقضية والألوية والولايات العثمانية من الخيرات. لا نوافق القائلين بالاغتناء بسرعة فإن ما يأتي بدون عناء كبير قد يذهب في الأكثر كما جاء. وإنا لنؤثر أن يوجه اللبنانيون ولا سيما في عهد الدستور السعيد وجوههم قل البلاد الداخلية من سورية والعراق والأناضول ففيها متسع لهم وفيها لهم مغانم كثيرة ولو صبروا على جنيها لكان لهم ولأبنائهم وأحفادهم منها مال خالد وملك لا يكاد يبلى. وفي لبنان من الصناعات القديمة ما يرقى لو سعوا تحسينه كعمل الأقمشة والنجارة والحدادة (1) وغيرها وله مورد آخر للربح ينتفع منه الآن أكثر من سائر جبال سورية ونعني به موسم المصطافين فإن لبنان من سورية ومصر كسويسرا من أوربا وأميركا يقصده الكثيرون كل سنة التماساً للصحة والراحة فلو عني اللبناني أكثر مما يعنون براحة من ينزلون عليهم لأتاهم الصيف في كل سنة بما لا يقل عن مليون ليرة فقد حسب بعضهم عدد المصطافين في لبنان سنة 1906 فكان خمسة عشر ألف نسمة أكثرهم من المصريين فلو فرضنا أن الواحد ينفق عشر ليرات لكان المبلغ لا يقل عن مئة وخمسين ألف ليرة فما الحال لو زاد هذا العدد ونحن نرى أن سويسرا وإيطاليا تربح كل منهما من موسم السياح كل سنة ما لا يقل عن خمسة عشر مليون ليرة وإذا زادت عناية حكومة لبنان وأهله بالمصطافين في قمم لبنان لا يعتم أن يجلب إليه أناساً من المصطافين من أهل أوربا نفسها خصوصاً إذا رأى السياح أن النفقة في الجبل أقل مما في جبال الألب وأنها لا تبلغ مع أجور النقل في البحر والبر والمبلغ الذي يصرفونه في بلاد الاصطياف. وبعد فإننا لا نفتأ نكر القول بأن من الأنفع لأبن لبنان أن يوجه بعد الآن وجهته إلى الداخلية ليعتاش ويرتاش وأنه إذا استفاد المهاجرون منا إلى أميركا من حيث ارتقاؤهم في اقتباس بعض أصول التمدن في الملبس والمأكل والمسكن فإن الأنفع له ليوم أن يستعمر بلاده وهي

تحتاج إلى أضعاف أضعافهم. وسوف يعلمون أن هذه النصيحة صادرة عن إخلاص لا يراد منها إلا نفع لبنان خاصة وسورية عامة فإن يقاسيه اللبناني من ألم الغربة والمهانة في الأحايين واحتقار الغربي له مهما بلغ من مكانته جدير بأن لا ينسيه بلاده والعيش بين أهله وجيرته. وقدر أحد العارفين منذ ثلاث سنين أن ما حمله اللبنانيون المهاجرون إلى لبنان يبلغ خمسمائة ألف ليرة أي على معدل خمس ليرات لكل مهاجر فلو فرضنا أن هذا القدر قليل وعدلناه نحن بمليون ليرة هل كان هذا المبلغ يعادل ما فقد من الرجال وخسرته البلاد من قواها المعنوية والأدبية.

نهضة العربية الأخيرة

نهضة العربية الأخيرة سادتي الأخوان (1) سألتموني سعدت بكم أوطانكم أن أحدثكم بطرف من تاريخ نهضة اللغة العربية في المئة سنة الأخيرة وما منكم إلا من استفيد منه وأتشرف بالأخذ عنه. أنتم من أهل الفئة الفاضلة في وطنكم يتوقع منكم أن تنيروا آفاق جهله بأنوار معارفكم وأن تعمروا أكناف معالمه ومجاهله بما ثقفتموه في هذه العاصمة السعيدة من تجارب نافعة وتلقفتموه من علم صحيح وآداب رافعة. فإنى لي وأنا نازل بينكم متعلماً لا معلماً أن أفوه في حضرتكم بكلام وقد اعتادت آذانكم سماع مصاقع الخطباء وتقرير جهابذة الباحثين والعلماء وما حالي وحالكم لو أنصفتكم وأنصفت نفسي إلا حال من يحمل التمر إلى هجر أو المسك إلى أرض الترك استغفر الله بل أن حال من يلقي محاضرة على جمعية الإخاء المصرية في باريز أعجب وأغرب. إخواني: تعلمون قرت بكم عيون مصر أنه أتت على اللغة العربية أدوار وأطوار وعرض لها ما يعرض لكل كائن في الوجود من ضعف وقوة وعزة وذلة وأن أتعس أيام ضعفها كانت في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر للهجرة وهو عهد الفتور في جسم الأمة الإسلامية عامة والأمة العربية خاصة. ثلاثة قرون بل أكثر مضت في مرض مستحكم كانت تكفي لموت هذه اللغة الشريفة التي تعقد اليوم على أمثالكم خناصرها وترجو بمساعيكم أن يكون مستقبلها خيراً من حاضرها وغابرها بيد أن لغة يفرض على زهاء مائتي مليون من المسلمين أن يتعلموها ليفهموا بها كتابهم العزيز يستحيل عليها الاضمحلال ما دام في الأرض مسلم يوحد الله. لابد لكل حركة من سبب. وسبب ما عرا العربية من الضعف في تلك القرون انقطاع الملوك عن الأخذ بيدها فأصبحت الأمور العلمية صورية ينظر فيها إلى الأشكال لا إلى الحقائق واقتصر الناس على فروع الفقه والكلام والتوحيد وعدوا ما عداها من العلوم فضولاً لا غناة فيه وساعد على انتشار هذا الرأي السخيف ما أصاب البلاد من ضعف الأحكام وفساد النظام ولا علم حيث يفقد الأمن وفي النادر أن يهتم جاهل بتعليم أو يربي من لم يتربَّ. وكأن قدرة المولى تعلقت بأن هذه اللغة التي نشأ لها الضعف من أبنائها أن تأتيها الصحة

على أيدي غيرهم. وربما يعجب بعضهم الآن إذا قلنا له أن مبدأ نهوض اللغة العربية كان في مصر أيام محمد علي وقد صحت عزيمته على خدمتها مسوقاً بنابل من سلامة فطرته ودلالة بعض مستشاريه من أهل العلم من الفرنسيس فكان من أعماله الحليلة ما خلد له الفخر على الدهر وجعله من حيث خدمته للغة والعلم لا من حيث منازعه السياسية من أعاجيب الحكام في الشرق. والشرق أبو المعجزات والكرامات. ليس من يجهل أن محمد علي كان أمياً أو يقرب من درجة الأمية. مات ولم يحسن التكلم بالعربية العامية لأنه كان ارناؤدياً ولم يخط سطراً واحداً لأنه تعلم في الكهولة مبادئ طفيفة من حسن الخط والقراءة فقط. ومع هذا فقد عني بما لم يعن به أحد من ملوك المتأخرين وشرع منذ استتب له أمر مصر يختار الأذكياء من أبنائها ممن قرؤوا الدروس الوسطى فيبعث بهم على نفقة الحكومة إلى أوربا ليخصوا في العلوم التي أولعوا بها حتى إذا عاد أحدهم وأتم تحصيله يحبسه عنده في قلعة الجبل ويخرج له كتاباً بالإفرنجية في الفن الذي أتقنه ويوعز إليه بأن لا يخرج من القلعة قبل أن يترجمه بالعربية ويأمر له بأسباب الراحة والمعينات على الترجمة والتأليف. فإذا ما انتهى الطالب من عمله يعرضه على أمير البلاد وهذا يدفعه بالطبع للعارفين من الناس أو إلى لجنة كانت معروفة إذ ذاك بلجنة الامتحان فبعد أن تنظر فيه ترخص بطبعه في المطبعة الأميرية ويغدق الأمير على المترجم أنواع الهبات ويشرع في ترقيته في المراتب إن كان ممن استعدوا للإدارة أو الجندية أو البحرية وإذا كان من الأساتذة يوسد إليه التدريس في بيوت العلم موسعاً عليه في الرزق ليتخرج به أبناء مصر. وهو عمل يذكرنا بما كان يأتيه المأمون العباسي من الأنعام على المترجمين ولكن ما يصدر عن المأمون وهو أعلم خليفة في الإسلام لا يستكثر منه وعصره شباب هذه الأمة بقدر ما يستكثر ما تم على يد محمد علي الأمي الألباني وعصره عصر شيخوخة الإسلام والمسلمين. قال لي صديقي الدكتور عثمان بك غالب أحد حسنات مصر الذين نبغوا بفضل الطريقة التي اختطها محمد علي لمن يجيء بعده وشاهد تلك الحركة العلمية في إبانها ثم شاهدها في انحطاطها وهو يشهدها الآن في تجددها: لقد ظلت نهضتنا العلمية سائرة أحسن سر إلى سنة 1882 فما بعدها وبدأ انقطاعها سنة 1887 وقد قام بعدها رجل من أبناء مصر نفسها

وهو علي باشا مبارك ناظر المعارف فسعى وربما كان بدون قصد سيء منه لإحلال اللغة الإنكليزية محل اللغة العربية في المدارس الأميرية زاعماً بأن الواجب على المصريين مخاطبة المحتلين بلغتهم وهذا لا يتأتى إلا إذا أتقن المصريون لغة البريطانيين فبدأت نظارة المعارف في أيامه وبعدها تسلب وظائف التدريس من المصريين وتعطيها لأبناء انكلترا وقطعت الإرساليات العلمية إلى أوربا حتى لم يكد يبقى اليوم من أولئك المدرسين المصريين غير شيوخ قلائل إذا عادوا إلى منابر التعليم لا يسدون حاجة مصر وأخذت المعارف في عهد المبارك تطهر المدارس بأمثال دنلوب وارثين من كل ما ينفع اللغة أو كان من آثار النهضة الأولى حتى لقد كانت تطرح الكتب المترجمة أكداساً من مستودعاتها كما يطرح القذى والنوى لتسجل العار على من عقوا لغتهم وأمهم كما عق أخوة يوسف ابن أبيهم عل حين كان علي مبارك من جهة ثانية يؤسس دار العلوم ويؤلف التأليف التي تخدم العربية مثل الخطط وعلم الدين وغيرهما من مصنفاته. قال غالب بك كان أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى من الفرنسويين المستعربين يكتب الأستاذ درسه بالفرنسوية والمترجم معه ينقله إلى العربية فيلقي على الطلبة بلغتهم دام ذلك منذ سنة 1830 إلى سنة 1854 وقد كتب فيها الأستاذ بروجر بك الفرنسوي رئيس مدرسة الطب والولادة والصيدلة والمستشفيات المصرية إلى خديوي مصر في عهده يقول له في تقريره السنوي أن الوقت قد حان لأن تكون وظائف التدريس كلها بيد المصريين إذ أصبح فيهم الأكفاء الآن وأن مهمة فرنسا في تربية أبناء مصر في هذه الفروع العلمية قد انتهت أو كادت. نعم في ذاك العهد تم للعربية ما تريد من تعريب المصنفات العلمية والأدبية على اختلاف أنواعها فأضحت لغة علم بعد أن انقطع سند العلوم منها قروناً وأحيا أولئك المصريون أمثال الطهطاوي والرشيدي والشباسي والهيهاوي والنحراوي وحماد وبهجت والفلكي وندى والنبراوي والبقلي ألفاظاً من لغتنا كانت في حكم الدارس هجرت منذ كان العرب يترجمون وينقلون على عهد الدولة العباسية في بغداد والأموية في قرطبة والفاطمية في مصر وأضافوا إل تلك الألفاظ ما حدث بعد عهد الحضارة العربية من المستحدثات العصرية والمصطلحات الفنية وعربوها على الطريقة التي سلك عليها أجدادنا المعربون غالباً حتى

أن الأتراك والفرس لما شرعوا يعلمون العلوم في البلاد العثمانية والإيرانية باللغتين التركية والفارسية لم يجدوا أمامهم كنزاً حاضراً ينتفع به في الحال مثل تلك المعربات المصرية الحديثة في الهندسة والطب والعلوم والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافية وغيرها فنقلوا المصطلحات العربية برمتها وأدمجوها في تضاعيف لغتهم. كان الطلبة الذين أرسلهم محمد علي إلى التخرج في أوربا وتلامذتهم وتلامذة تلامذتهم مدة نصف قرن حملة لواء العلم لا في القطر المصري فقط بل في البلد العربية كافة وأصبحت مصر ببيض أياديهم من هذه البلاد بمثابة باريز من الممالك اللاتينية تفيض عليها النور وتهز أعصابها للارتقاء حتى بلغت الكتب التي ترجمت في فنون مختلفة من الإفرنجة زهاء ألفي مجلد. والأثر الأكبر فيها للشيخ رفاعة الطهطاوي شيخ من ألف وترجم في عهده بما خلفه من قلمه أو عرب في قلم الترجمة برئاسته وما بثه من المبادئ في مدرسة اللغات ومجلته روضة المدارس. وكلها أعمال مهمة تدل على نفس طويل وفضل جزيل. خل عنك تلك الجرائد والمجلات التي صدرت في تلك الأثناء ومنها جريدة وادي النيل لأبي مسعود ومجلة الطب لكلوت بك. ورب معترض يقول أي علاقة لتعلم العلوم الجديدة ونقلها إلى العربية بحياة اللغة التي يراد منها آدابها المنثورة والمنظومة ليس إلا. والجواب أنه لا أدب لمن خلت لغته من أمثال هذه المعارف. فكما أن للعلوم ارتباطاً كلياً بعضها ببعض هكذا خلت لغته من أمثال هذه المعارف. فكما أن للعلوم ارتباطاً كلياً بعضها ببعض هكذا اللغة دخل عظيم في سلاسة آدابها بما تأخذه عن غيرها بل إن لغة مهما حوت من أنواع البديع والمعاني والبيان لا تعد من اللغات الحية إن لم تكن لغة علم قبل كل شيء. وهنا مسألة مهمة لا أحب أن أمر بها وأنا منطلق لأن لها علاقة كبرى بموضوع النهضة الأدبية وهي أنا إذا تدبرنا تاريخ محمد علي وحسناته على العلوم والمعارف لا نلبث أن نشبهه من ملوك الإفرنج بالإمبراطور شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا الغربية. وشارلمان كما لا يعزب عن علمكم كان من أعظم ملوك دهره وله صلة بملوك المسلمين وهو الذي أنفذ إليه الرشيد العباسي رسولاً من قبله سنة 1801م يحمل إليه هدايا فاخرة ومفاتيح القبر المقدس وهذا الذي كان يحمي الملتجئين إليه من أمراء المسلمين الهاربين من الخلفاء في

قرطبة. كان شارلمان لأول أمره أمياً تعلم الكتابة البسيطة على كبر مثل محمد علي إلا أن تنشيط التجارة والصناعة والآداب كان مغروساً فيه بالفطرة فجعل قصره معهد المستنيرين والمتعلمين الذين يستعين بهم على نشر المعارف بما أنشأه من المدارس بإشارة الكوين المشهور أستاذه وأمين سره وباذر الجراثيم الأولى من المعارف في هذه الأرض الفرنسوية وبمساعيه أنشئت المدارس في اكس لاشبل عاصمة البلاد إذ ذاك وتور واورليان وليون واستنسخت الكتب الوافرة لينتفع بها الطلاب. ومن العجيب أنه حدث لنهضة شارلمان ما حدث لنهضة محمد علي حذو القذة بالقذة وذلك أنه لما مضى لسبيله عادت تلك الحركة العقلية فركدت ريحها جملة واحدة لأن من خلفوه على سرير الإمبراطورية لم يكونوا على قدمه ولا رزقوا سعة عقله وصفاء طبعه ولأن الأعمال العظيمة في البلاد المنحطة قد تقوم بالفرد أكثر من قيامها بالأفراد وعلى العكس منها في البلاد الراقية. أتت خمسون سنة على فرنسا بعد وفاة شارلمان مات في خلالها التعليم أو كاد ولم تدب روح التجديد فيها إلا بانتباه عقول الأمة وعلى يد أناس من أبنائها كما قامت مصر منذ نح عشر سنين تجدد حياة آدابها بيدها بعد محمد علي بنحو خمسين سنة متكلة في مهمتها على نفسها لا على الحكومة وبذلك جاز لنا الاستنباط بأن كل اصلاح يقوم بالأمة في هذا الوجود يكون الأمل في بقائه أكثر مما يقوم بيد الحكومة ولا سيما في الدول الإستبداية التي تجد فيها تمييزاً بين الأمة والحكومة. والحكومات قد تعرض لها عوارض تنسى معها الترغيب في العلم ومنها إلى اليوم من يفضل الجهل على العلم. ولهذه المسألة نظائر كثيرة في تاريخ الأمة العربية فقد رأيناها تسعد وترقى في برهة قليلة على يد فرد عظيم عاقل من ملوكها وشاهدناها تشقى وتنحط بفرد آخر لا يرجع إلى عقل ولا إلى نقل. كان الأدب العربي قبل دور النهضة الأخيرة عبارة عن سجع كسجع الكهان طول بلا طول ولا طائل وجمل باردة سمجة وشعر ركيك أكثره في الأماديح والأهاجي وإن ارتقى الشاعر انفلق لسانه في وصف الخد والخال وذات النطاق والخلخال من ربات الحجال أو الذكران من الرجال. وما أظنكم أعز الله بكم دولة الأدب إلا قد وقع لكم شيءٌ كثير من أمثال هذه الركاكات والسخافات فضربتم بها عرض الحائط وحمدتم الله على أن خلقكم في زمن قام

فيه من الكتاب أمثال محمد عبده وأحمد فارس وإبراهيم المويلحي وإبراهيم اليازجي وإبراهيم الحوراني وطاهر الجزائري وعبد الله فكري ومحمود شكري الألوسي وجمال الدين القاسمي وحفني ناصف ويعقوب صروف وإبراهيم مصور وسليمان البستاني وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل وقاسم أمين وأحمد فتحي زغلول ورشيد رضا ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي وعبد العزيز جاويش وصالح حمدي حماد ولبيب البتنوني وفريد وجدي ومحمد فريد وعلي يوسف وأحمد تيمور وزكي مغامز وشاكر شقير وسامي قصيري وشحادة شحادة وسعيد الشرتوني ورشيد الشرتوني وفرح انطون وجرجي بني وإبراهيم النجار وأديب اسحق ونعوم لبكي ونعوم مكرزل وأحمد فؤاد وسعيد أبو جمرة ومصطفى الغلاييني وعبد الباسط فتح الله ومحمد بيرم وخير الدين التونسي ومحمد المهدي وشكري العسلي وشاكر الحنبلي وعبد الوهاب الإنكليزي ونجيب شاهين واسكندر شاهين وسعيد الباني ومحمد مسعود وحافظ عوض وحسن حسني الطويراني وأحمد سمير وعبد الغني العربي ورزق الله حسون ويوسف البستاني وأنطوان جميل وعادل أرسلان ونسيب أرسلان وجرجي حداد ورشيد عطية ونجيب طراد ويوسف زخم وعبد الوهاب النجار وميشيل بيطار وخليل زينية ومحمد مصطفى وأحمد زكي ومصطفى لطفي المنفلوطي وأمين ظاهر خير الله وعيسى اسكندر المعلوف وديمتري قندلفت ويوسف الخازن وروحي الخالدي ومحي الدين الخياط ومحمد المويلحي وخليل سعداة وداود بركات وبشارة زلزل وبولس زوين وعبد القادر المغربي وبدر الدين النعساني ومرسي محمود ومحمد صادق عنبر وعبد الرحمن البرقوقي وعبد القادر المؤيد وعبد الكريم سلمان وأحمد الصابوني وعشرات غيرهم لا تحضرني الآن أسماؤهم من شيوخنا وكهولنا وشبابنا. وقام من الشعراء محمود سامي وعبد المحسن الكاظمي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل الزهاوي وشكيب أرسلان وفارس الخوري وخليل مطران وعبد الله البستاني ومصطفى صادق الرافعي وبطرس كرامة وناصيف اليازجي وعبد الباقي العمري ونجيب الحداد وأمين الحداد وولي الدين يكن ونقولا رزق الله وشبلي ملاط وداود عمون وفضل القصار ورزق حداد وغيرهم ومن الخطباء جمال الدين الأفغاني وعبد الله نديم وإبراهيم الهلباوي وسعد زغلول وأحمد الحسيني ونقولا توما ومصطفى كامل وعبد

الرحمن سهبندر وأنيس سلوم واسكندر العازار وفارس نمر ومحمد أبو شادي وأمين ريحاني ومحمد لطفي جمعة وأحمد لطفي السيد وأحمد عبد اللطيف وعمر لطفي وأحمد لطفي وإبراهيم اللقاني وأحمد محمود وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم ممن هم عمدة العربية في نهضتها الأخيرة عملوا لخيرها في مصر والشام والعراق وتونس أعمالاً وخلف أكثرهم من مآثر فضله ما يطرس المتأدبون عليه وينسجون على منواله. وبينا كانت اللغة العربية تزهر في مصر في الإمارة العلوية عزَّ على الشام أن تكون دون شقيقتها في هذه الخدمة الشريفة فنشأت لهذه اللغة حياة جديدة في سورية لا بواسطة الحكومة كما في مصر بل بواسطة الأفراد والجمعيات وذلك في أواسط القرن الماضي وكانت بيروت مدينة وهي ثغر لبنان وسورية موطن تلك الشعلة وقد جاءها أناس من مرسلي الفرنسيس والأميركان وأنشؤا فيها مدارس جعلوا لغتها الأولى اللغة العربية وأتقنها كثيرون من أهل لبنان فحمد مسعاهم وكانت اليد الطولى في تنشيط لغة قريش للدكتورين كرنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات وهما من أعظم مؤسسي الكلية الأمريكية الأنجلية في بيروت تعلما العربية والأول أميركي والثاني أرمني ودرسا بها مع أقرانهما العلوم الطبيعية والرياضية والطبية ومن غيرتهما عليها أن عمدة المدرسة لما عمدت أن تجعل لغة التعليم في الكلية اللغة الإنكليزية بدل العربية قاوما ما وسعتهما المقاومة ولما أخفقا استقالا من وظيفتهما لأنهما أبت مروءتهما إلا أن يمحضا النصح للبلاد وللغتها. والدكتور كرنيليوس فانديك الأميركاني في سورية بفضله على اللغة العربية وما عرب لها من كتب العلم أشبه بالشيخ رفاعة الطهطاوي في مصر ووجه العجب في فانديك أعظم لأنه أميركي والمنشأ غار على لغة العرب أكثر من أهلها ومن الغضاضة على مصر والشام أنهما لم تعرفا لهما حقهما على ما يجب وكان على القطرين أن يرفعا لهما تمثالين كما رفعت باريز لهوغو وروسوا وكما رفعت مصر لمحمد علي وإبراهيم. والعلماء لم يكونوا أحق بالرعاية من رجال السياسة في بلادنا فلا أقل من أن يكونوا على مستواهم. ولقد كان من أعظم من خدموا الآداب العربية في بيروت على ذاك الدور أيضاً بطرس البستاني وأسرته بما نشره من دائرة المعارف العربية وغيرها من الكتب والجرائد وبثه في مدرسته الوطنية من أصول العلم وفروعه وكذلك يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب وناصيف

اليازجي وأسرته وغيرهم. فهؤلاء كلهم توفروا على التعليم وتخرج بهم مئات من الطلبة الذين انتشروا بعد في أقطار الشام ومصر وأميركا وكان منهم الكتاب والصحافيون والمحامون والخطباء. ولم تحرم الأستانة - والعواصم مرزوقة منذ خلقها الله_من نزول عالم بالعربية فيها اتخذها مباءة علمه ومثابة درسه وبحثه وأعني به أحمد فارس الشدياق الذي اقترح عليَّ صديقي سيد أفندي كامل من رجال الجامعة المصرية أن أتوسع في الكلام عليه. أصل هذا الرجل من لبنان من أسرة مسيحية خرج من بلاده مغاضباً فقضى زمناً طويلاً في مصر وتونس ومالطة وفرنسا وإنكلترا وتعلم خلال ذلك الإنكليزية والإفرنسية ثم دان بالإسلام وألف بعض الكتب ومنها اللفيف في كل معنى طريف طبع في مالطة سنة 1839 ومن كتب في أوربا كتاب الساق على الساق في ما هو الفارياق أو أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام طبعه في هذه العاصمة سنة 1270هـ. وضمنه ترجمة حياته وشؤوناً وشجوناً على أسلوب يجمع بين الجد والفكاهة تقدر أن تعده من الإنشاء المعروف عند الإفرنج بالامورستيك (الجد في الهزل) أو الرياليست (الحقيقي) الذي حدث في عهد فلوبر أو الناتوراليست (الطبيعي) الذي تم على يد زولا وانك لتدهش من قدرته فيه على التعبير ورشاقته في التصوير ومتانته في التحرير والتحبير فكأن اللغة التي كان من جملة محفوظات أحمد فارس فيها قاموس الفيروزابادي الذي ألف كتاباً مهماً في نقده سماه الجاسوس على القاموس - كانت نصب عينيه يأخذ منها كل ساعة ما يشاء ويستحضر في دقيقة ما يصعب الإتيان به في ساعة ويتقن ما شاء بيانه وتبيانه. ولفظ الفارياق مقتطع من أول اسمه فارس وآخر اسم أسرته الشدياق. وقد حمل في كتابه على رؤساء الدين حملة منكرة لأن بعضهم قتلوا أخاه ظلماً وتعصباً جعلوه في بناء لهم وبنوا فوقه لأنه دان بالمذهب البرتستانتي (1). هبط أحمد فارس مدينة الأستانة بعد أن خبر حال أوربا خبرة زائدة وأنشأ جريدة الجوائب التي طار صيتها في الأفاق ورزق الحظوة بعلمه فكان ملوك الأطراف يهادونه ويمنحونه المنائح وممن كان يساعده خديوي مصر وباي تونس وملك باهوبال في الهند حسن صديق خان الذي طبعت له مطبعة الجوائب معظم تآليفه العربية وكان هذا الملك أعلم الملوك

المتأخرين بل أشبه بأبي الفداء صاحب حماه في جمعه حكم الناس إلى معالجة التأليف وهو بلا نزاع نابغة العجم والعرب في فهم أسرار الكتاب والسنة. ولقد كانت جريدة الجوائب مثال الإنشاء العربي البحت سارت جميع صحفنا التي أسست بعدها على نسقها وقلَّ أن نشأت جريدة في صحتها وديباجتها العربية اللهم إلا أن تكون جريدة العروة الوثقى للشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصباح الشرق لإبراهيم بك المويلحي والبرهان للشيخ حمزة فتح الله وذلك لأن جريدته كانت كهاته أسبوعية وله فيها مساعدون في الأقطار العربية كان يهاديهم ويهادي علماء عصره حتى كثر أحبابه من العلماء في شمالي افريقية وغربي آسيا ووسطها وهو الذي يتولى النظر في كل ما ينشر فينمقه ويزوقه وناهيك بكلام تصقله الأنامل الفارسية. فأحمد فارس هذا لو أنصفنا هو واضع أساس الصحافة العربية وباعث روح الحياة في آدابنا بما خلفه من آثاره ومن أراد أن يطلع على شيء من كتاباته في جوائبه فعليه بالرجوع إلى كنز الرغائب في منتخبات الجوائب وهو مطبوع متداول وإن أحب الإطلاع على الجوائب برمتها في حجمها ووضعها فليرجع إليها في خزائن الكتب في أوربا ومصر والأستانة. ولم يقف عمل أحمد فارس عند حدود نشر جوائبه وكتبه ومنها كتاب سر الليال ورحلة له إلى أوربا جدة محضة وكتاب نحو اللغة الإنكليزية وديوان شعره وغيرها بل نشر طائفة من كتب الأدب واللغة والشعر ككتب الثعالبي والتوحيدي والطغرائي والبديع وغيرهم من أئمة الأدب نشرها على أحسن أسلوب راق في طول البلاد عرضها بأثمان بخسة فعمت بها الفائدة وأنشأ طلاب الآداب يتحدونها في أسلوبها. وما برحت مطبوعات الجوائب إلى اليوم يتنافس المتنافسون ويدخرها غلاة الكتب لينتفع بها الأحفاد والبنون على ممر الدهور والقرون. ابتلى أحمد فارس بأناس حسدوه وأي عالم خلا من حساد وطفقوا يشنعون عليه ويزيفون شعره ونثره وينتقدون جريدته وكتبه ولكن تلك المناقشات اللغوية والأدبية بينه وبينهم بل بين حزبه وحزبهم لم تزد فارسنا إلا جرأة على الجري في مضماره وقبولاً بين العالمين بمصنفاته وآثاره فكان بنقده بعض كتاب اللغة العربية أشبه بسانت بوف في نقده كتاب عصره من الفرنسويين فاستفاد أرباب الأقلام من تلك المحاورات كما استفادوا بعد مما دار

بين التقدم والمقتطف والبيان والضياء والمشرق وبذلك أخذ من يعانون صناعة القلم يتأنون قليلاً فيما يكتبونه وأخذت تخف أغلاط الكاتبين والشاعرين وتسلم عبارة التأليف كلما نقل الناقلون عن اللغات الإفرنجية ونحا المؤلفون مناحي قدماء الكتاب في ترك التكلف والتعسف حتى صح لنا أن نقول اليوم أن أسلوب الكتابة العربية لا ينقص عن اللغات الإفرنجية الراقية بإيجازه واندماجه وتقطيعه وفيه بلاغة قدماء المنشئين وسلاسة المعاصرين وأفكارهم. نعم عادت للغة العربية ولا سيما في الثلاثين سنة الأخيرة نضرتها الأولى في القرن الرابع والخامس والسادس للهجرة وخلصنا من ذاك السجع المتكلف الذي أتانا به العماد الكاتب الأصفهاني من فارس - وفارس مورد بدع كثيرة في الإسلام منها الزندقة والزنادقة ثم الباطنية ومنها الموسيقى والعود المطرب_ونقله إلى العربية فأجاد في أكثره إلا أن من جاؤا بعده قد أفسدوا علينا لغتنا لأنهم لم يتقنوه. وإني لا أزال أذكر ما كنت أكثر من مطالعته واستظهاره أيام ولوعي بالأدب من مقامات الحريري ورسائل الخوارزمي ورسائل الصابي وتاريخ اليميني للعتبي ومقامات الزمخشري ومقامات الأصفهاني وقلائد العقيان وذيله مطمح الأنفس للفتح بن خاقان وخطب أبن نباته وفاكهة الخلفاء لأبن عربشاه وخزانة الأدب لأبن حجة والريحانة للخفاجي وغيرها من الكتب التي كنت أطرب لتلاوتها ولا أكاد أفارقها في خلوتي وجلوتي. ولما كتب لي الإطلاع على الآداب الفرنسوية والتركية وأنشأت أبحث عن كتب كتبت بلا تكلف وتعمل ككتابات الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وسهل بن هرون وأبي حيان التوحيدي وابن مسكويه والراغب الأصفهاني والغزالي والماوردي والطبري والمسعودي والصاحب وأبن العميد وأبن خلدون وأبن الخطيب وغيرهم من جهابذة المنشئين غدوت أعجب من نفسي كيف أضاعت وقتها في تلقف تلك الأسفار المسجعة وفي اللغة مثل نهج البلاغة والبيان والتبيين والذريعة والإحياء وغيرها مما لا يتسع المجال لتعداده وهو في الحقيقة ونفس الأمر مادة أدب كما هو مادة عليم لا تبلى على الدهر جدتها ولا تخلق ديباجتها كما كنت أعجب من إقبالي أيام الطلب على تلاوة شعر أبن النبيه وأبن معتوق والصفي الحلي وأبن منجك وأبن مليك والجندي من شعراء المتأخرين وعند العرب من أهل هذا الشأن

أمثال أبي الطيب وأبي عبادة وأبي نواس والشريف الرضي وأبن حمديس وأبي فراس الحمداني. يرجع الفضل الأكبر في انتشار دواوين الأدب والتاريخ واللغة من كتبنا لعلماء المشارقة من الغربيين أمثال دوزي ودساسي ووستنفيلد وعشرات غيرهم من أهل أوربا ولبعض ما نشره اليسوعيون في مطبعتهم المتقنة في بيروت وما نشرته الجمعيات الكثيرة التي أُلفت في أوقات مختلفة في مصر لإحياء الكتب العربية وآخرها تلك الجمعية التي طبعت لنا المخصص لأبن سيده وأحسن كتاب عني بطبعه في شرقنا ولما طبعته المطبعة الأميرية ومطبعة الجوائب ومطابع الجرائد في مصر والشام وتونس. كل هذه الأعمال أعانت العربية على تحسين آدابها وترقيتها. ولا ننسى غيرة أولئك الذين نسجوا في منظومهم ومنثورهم على مناحي الأوروبيين من حيث قلة الكلفة ومجاراة الطبع ومحاكاة الطبيعة ووصف عواطف النفس بإيجاز وإعجاز وأولئك الذين وقفوا أنفسهم منذ عشرات من السنين يعربون لنا كل يوم في جرائدهم ومجلاتهم أفكار الغربيين في سياستهم وعلومهم واجتماعهم فكوَّنوا مجتمعنا الأدبي على ما ترونه وجددوا للغة شبابها بحيث أمنا بفضلهم عليها من العفاء وأصبحنا نرجو لها دوام النماء والارتقاء. أنا لا أقدم لكم مثالاً من أمثلة ارتقاء لغتنا أكثر من أن أحيلكم على مراجعة مجموعة من جرائدنا العربية قبل ثلاثين سنة مثل الجنان والجنة في سورية والفلاح والمحروسة في مصر وأن ترجعوا إلى كتابة الدواوين في مصر في منتصف القرن الماضي مثلاً وترجعوا إليها اليوم وإن كانت إلى الآن عشيقة الركاكة بعض الشيء. قابلوا المنشورات التي تصدر اليوم في الوقائع الرسمية في مصر وما كان يصدر من أمثالها منذ مئة سنة مما أورد الجبرتي في تاريخه نموذجاً صالحاً منه بنصه وفصه. عارضوا بين لغة القضاء اليوم وما تفيض به ألسن المحامين وأقلامهم في مصر من التفنن في أساليب الدفاع والتأثير الخطابي وبين ما كان للغة من نوعها مما ذكر صاحب كتاب المحاماة طرفاً صالحاً منه يتجلى لكم كيف ارتقت لغة القضاء. استمعوا للخطباء اليوم ممن درسوا الدروس النظامية وتشبعوا بالعلوم العصرية وقابلوها بأكثر ما يحفظه خطباء الجوامع أو يقرأونه من السجعات في دواوين الخطب القديمة. تدبروا لغة التمثيل اليوم وإن كنا فيه دون سائر فروع الآداب

تأخراً واسألوا كيف كانت منذ البدء حليفة الضعف والسماجة. اقرأوا المحاضرات التي تتلى اليوم في نادي المدارس العليا ونادي دار العلوم في مصر الخالية من التعقيد والغلط الحالية بالرشاقة والبيان وقابلوها بالخطب التي كانت تتلى زمن الثورة العرابية وبعدها مثلاً تدركون كيف وفقنا الله إلى قيام بناء آدابنا على هذا الأسلوب الرائق والإبداع في الأداء والإلقاء. أليس مما يعد من نهوض اللغة ما نراه من أحكام ملكتها في طلبة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي فقد رأينا طلبة أحداثاً تخرجوا من دار العلوم فكانوا والله أعرف بالعربية وفنونها من أكثر من اشتهروا في قرون الانحطاط الأخير على غير حق أما من تمحض منهم للتدريس والنفع فهم مفخر من مفاخر العربية في هذا العصر استحكمت فيهم ملكة البيان استحكامها من العرب العرباء وأحاطوا بعلوم الوقت إحاطة نبهاء الغربيين. وإليكم أيضاً مثالاً صغيراً أذكره لكم على ما أتت به بعض مدارس مصر في حياة اللغة فقد شاهدت في وادي النيل بعض العمد ممن لم يدرسوا غير الدروس الثانوية يكتبون كتابة صحيحة في الجملة تسقط فيها على روح البيان والتلطف في التعبير مما لا تتلوه في عسلطات المحشين والمهمشين والشارحين من الفقهاء والنحويين المتأخرين وما ذلك إلا بفضل المدارس المنظمة وما تلقيه الجرائد على مسامع الناس وأنظارهم كل يوم من فصح العربية وشواردها وتتفنن فيه من أساليب التعليم. نعم إن مطالعة الجرائد والمجلات أعانت على انتشار الآداب وأدخلت الغيرة على التعلم في نفوس أرباب الاستعداد. ولذا رأينا البلاد العربية التي لم تنشأ فيها مدارس لتعليم العربية على الأصول الحديثة ولم يولع أهلها بمطالعة الجرائد لقلة انتشارها بينهم ما زال أهلها إلى اليوم يكتبون لغة سقيمة ويتكلمون بلغة سقيمة ومن هذه البلاد مرَّاكش فإن مدينة فاس منذ القديم ما خلت من أفراد يعانون الآداب على الأصول القديمة ولكنهم في الحملة خير من أهل الجزائر الذين لا تكاد تجد فيهم فرداً يعد في الطبقة الثانية في كتابنا فيما علمت وما ذلك إلا لأن اللغة العربية لم تقم لها في بلاد الجزائر في دور من الأدوار سوق نافقة ولأن حكومتها تحاول منذ القديم أن تجعل أهلها فرنسيساً في لغتهم وأفكارهم ومنازعهم. ولئن ضعفت في تونس تلك الروح الشريفة التي بثها فيها خير الدين باشا التونسي وأشياعه

فإن الآمال قويت الآن بارتقاء ملكة العربية لانتباه التوانسة الأذكياء من الخلدونيين وغيرهم. أما طرابلس الغرب وبرقة الصحراء والسودان فهي من أخوات الجزائر في ضعف ملكة البيان وقلة الجرائد فيها بل عدمها ولكن هناك في صحراء مراكش بلد غريب في تلقف ملكة العربية وأعني به شنقيط بلد الشيخ محمد محمود الشنقيطي الحافظ المشهور في عصرنا. وطريقة أهلها طريقة الأقدمين في التلقي والاستظهار وقد شوهدت في شنقيط بعض البنات الشنقيطيات إلى اليوم يحفظن كامل المبرد مع الفهم وأظن من يحسن فهم هذا الكتاب قلائل حتى في شيوخ الأزهر. أما سورية فقد كاد ينحصر الفضل في إحياء ملكة العربية الجديدة ببعض المدن وبقيت الأخرى غريبة عن تلك الحركة مثل فلسطين وبلاد حلب وداخلية ولاية سورية ومثلها الحجاز واليمن ونجد وحضرموت ومسقط وعمان وزنجبار والجزيرة والعراق إلا أن ذلك لم يحل دون نبوغ بعض أفراد شاركوا أتم المشاركة في حياة العربية ونعني بهم بعض أولئك العراقيين النوابغ الذين ألفوا وكتبوا ولم يعقهم الحجز على الأفكار الذي دام في البلاد العثمانية إلى يوم 23 تموز 1908 ولذلك لا نغالي إذا قلنا أن ثلاثة أرباع ما تم للعربية من الارتقاء في القرن الأخير يرجع الفضل فيه لمصر والربع الآخر يوزع على سورية والعراق وتونس. ومن الأسف أننا لا نزال نرى بعض الجرائد في الولايات العربية تصدر باللغتين التركية والعربية ولكن القسم العربي منها يكاد يكون أشبه بالمالطية والكرشونية منه بالعربية الحجازية فتسقط فيها من الأغلاط في التركيب والتأليف والألفاظ والوضع وما تسأل الله معه السلامة وأقلُّ من ذلك غلطاً تلك الجرائد التي صدرت مؤخراً في طرابلس الغرب وبعض مدن سورية الصغرى وبغداد والبصرة والموصل وأحسن منها جرائد مهاجري سورية في أميركا الشمالية والجنوبية وهي لا تقل عن ثلاثين جريدة وفيها الجيد والرشيق. ومع هذا فإن الآمال قويت بأن لا ينتصف هذا القرن الرابع عشر للهجرة إلا وتكون ملكة الآداب عمت البلاد التي ينطق فيها بالضاد بل بالصاد والحاء والخاء والعين والغين والثاء والذال والظاء ورقيت لغتنا بمساعي المنورين من أبنائها أمثالكم درجة عالية خصوصاً في البلاد التي كانت كعبة هذه اللغة ومنبعث أنوارها وأريد بها الحجاز واليمن ونجداً فإن فيها بقايا من أرباب الذكاء النادر إلى الآن من لو تمرنوا على العمل إذا تهيأت

لهم الأسباب لأتى على أيديهم خير كثير للأمة ولا يرجى ذلك إلا متى انقطعت شأفة الفتن من تلك الأقطار وأمن الناس على أموالهم وأرواحهم ليتفرغوا أو أفراد للدرس والإستنارة. هذا ما أحضرني في موضوع نهضة العربية الأخيرة ألقيته في هذه المحاضرة وربما خرجت عن البحث بعض الشيء وساحة عفوكم تسعني وأنتم تعلمون أني على أوفاز استودعكم الله والسلام عليكم.

طريقة التعليم

طريقة التعليم كان من أول الإصلاح في أوربا أواخر القرون الوسطى وأوائل القرون الحديثة لما شرعت الأمم الراقية فيها تدرس العلوم المادية والأدبية أن أتت على طريقة التعليم تصلحها بما يقتضيه حال الزمن والتجارب فتم لها في أوائل القرن الماضي تنظيم مدارسها على النحو الذي نراها عليه اليوم وأصبحت يدخلها الطالب فيتعلم في بضع سنين لغو أو لغتين أو ثلاثاً معها إلى ما يتحتم عليه معرفته من العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية فيخرج الطالب بعد هذه الدروس النظامية الأولية ملماً بفروع كثيرة بل بأمهات العلوم وأصولها المقررة لإعداد العقول للتفكير والأنامل للكتابة والألسن للنطق والأجسام للحركة وهذه الدروس التي يسمونها دروس الموضوعات (الأنكلوبيذية) يمر فيها الطالب على كثير من المطالب تغنيه إذا أراد الاقتصار عليها والانصراف إلى أكثر الأعمال التجارية والصناعية والزراعية والعلمية. وإذا سمحت به همته إلى الإخصاء في علم واحد من العلوم التي ذاقها في الجملة يتمحض لها ويدخل مدارسها الخاصة كمدارس الزراعة والتجارة والمعادن والميكانيكيات والأدب والطب والهندسة والقضاء والجندية واللغات والفلسفة واللاهوت والاجتماع وعن ذلك من أصناف العلوم التي جعل لكل فرع منها مدرسة خاصة أوصف خاص يدرس فيها من تصح عزيمته على الامتياز في فروعها ليكون فيها مرجعاً ويبرز على أقرانه فينفع وينتفع. ولولا إصلاح طريقة التعليم والإلقاء لم يتيسر للشاب أن يدرس في سنين قليلة مثل هذه الدروس الكلية ولكن أصول الكتب التي أُلفت بحسب سني الطلب وسن الطالب وطريقة الإلقاء الشفهي والإملاء الكتابي هي التي تفتح ذهن الطالب وتحبب إليه الدرس والبحث منذ الصغر فلا يتناول من العلم إلا بقدر معلوم ولكنه يتناول اللباب ويطرح القشور ويقرأ المختصرات إبان دراسته كليات العلوم فإذا شب يتناول المطولات فتكون منه على طرف الثمام. فيمثل هذا التنظيم في التعليم ثم الإخصاء في فرع أو فرع نبغ في الغرب رجال في علوم البشر لأشبه بينهم وبين رجالنا في سعة المدارك وبعد الهمم والعلم الواسع وبتربية بنيه على هذا الأسلوب نبغ في القرون الأخيرة فرادليس في رجالنا من يضاهيهم أو يبلغ علمه ربع علومهم أمثال ديكارت وكونت وكانت وياكون سبينوزا ويبنترلا وأمرسون ونيوتن

وهاكسلي وسبنسر وكيتي وشيلر وروسو وفولتير ومئات يتعذر الآن إحصائهم. هذه المدارس وطرق تدريسها هي التي حرم منها الشرق إلا قليلاً ولا يرجى تأسيسها على ما يجب في البلاد المصرية والعثمانية إلا بعد أن تكون المائة والخمسون طالباً الذين تبعث بهم نظارات الحكومة العثمانية إلى كليات أوربا قد أنجزوا الفروع التي يتمحضون لها ويعود أولئك الذين أرسلتهم الجامعة المصرية للأخصاء في فروعه منوعة من العلم يدرسون في الجامعة بالعربية فيتخرج بهم أرباب الرغبات في العلم كما يتخرج الآن في السلطنة العثمانية أناس كثيرون بالرجال الذين درسوا الفنون العسكرية والطبية في ألمانيا أو يتخرج المصريون بالأساتذة القلائل الذين تعلموا في كليات انكلترا وفرنسا وألمانيا على نفقة نظارة المعارف المصرية. متى كثر عدد المتعلمين على الطريقة الحديثة وأصبح الأستاذ لا يجلس في حلقة تدريسه وعلى منبر إلقائه إلا إذا كان أفنى شطراً من حياته بالقعود على دكات تلك المدارس الراقية وأسهر الجفن في الليالي وراء المناضد وتخرج بأعظم أساتذتها الأعلام هنالك قل للعثمانيين والمصريين أنكم بلغتم درجات الأمم الحية فجديرون وأنتم ما أنتم أن يهابكم العدو ويحترمكم الصديق. وأي سلاح أمضى من العلم الصحيح والآداب الرافعة وأي عاقل يبجل غير الحري بالتجلة والإكرام ممن امتاز بصفات الرجولية الحقيقية. لا جرم أن إصلاح التعليم على الأسلوب الجديد وتدريس علوم الدنيا به ينفع إذ ذاك في إحياء العلوم الدينية أيضاً لأن الارتقاء سلسلة لا يتيسر أن يكون بعضها عاطلاً وبعضها حالياً بل هو كالبناء لا يكون صحيحاً إذا تداعى منه جانب. متى حسنت طريقة التعليم لا يقضي طالب العلم الديني بضع سنين مثلاً في تعلم بعض العلوم الآلية ليحسن مطالعة عبارة معربة فيغوص كما هو الحال في الروم ايلي والأناضول والشام سنين كثيرة في بحر البناء والمقصود العزي والمراح والعوامل والإظهار والكافية والشافية والسمرقندية والمختصر والسنوسية والأيساغوجي وغيرها من كتب النحو والصرف والبيان والمنطق ثم لا يتلو شيئاً من العلوم التي يقصد تعلمها كالتفسير والحديث والفقه والكلام والحكمة. وذلك كما يغوص طالب العلم في الأزهر في قراءة الأجرومية والكفراوي والأزهرية وأبن عقيل والخضري والصبان وغيره من كتب النحو المطولة

والمختصرة ينتقل من واحد إلى آخر حتى يفرغ صبره ولو قرأ أحد هذه الكتب المطولة قليلاً كابن عقيل وشرحه مثلاً لأغنته عن هذا التطويل الذي يضيع به وقته ويتبلد ذهنه وتفوته الغاية المقصودة من الطلب واللغة آلة لا غاية. ولكن عقم طريقة التعليم قضى أن لا يتعلم طلبة الجوامع والمدارس سواء كان في الديار المصرية والبلاد العثمانية إلا هذه القوانين والقواعد ويحرموا من تطبيق النظر على العمل. وليت شعري أليس من فساد طريقة تعليم المشايخ أن لا يعلم الطالب منهم كتاباً أو شذرة من علم الأدب واللغة ليتفهم أثناء دراسته النحو والصرف والبيان معاني الكلام الفصيح ويطبق النحو والصرف والبيان والمنطق على العمل ثم يتأتى له تأليف جملة صحيحة عربية وكيف يتأتى للمرء إتقان لغة دون أن يطلع على كلام أهلها وكيف يؤلف الكلام من لا يفهمه وهل اللغة الإسماع من أصحابها والجري على مناحي بلغائها وما نظن الغزالي وابن رشد وابن سينا وابن الطفيل وابن زهر وأبا حيان وابن جرير الطبري والماوردي ومئات غيرهم في الإسلام كانوا يعرفون فروع النحو ودقائقه مثل ابن الحاجب وابن عقيل والبركوي والصبان وإضرابهم من أئمته ومع هذا انتفعت الأمة بكتب أولئك الفلاسفة والعلماء انتفاعاً يبقى أثره على الدهر ولم تعهد لهم غلطة شائنة ولا أسلوب ركيك. لا يتيسر إتقان لغة من لغات العالم كلها إلا بالسماع من أفواه أهلها وسلوك الطريقة العلمية في اقتباسها فلو أتقن الطالب جميع قواعد النحو والصرف والبيان والمنطق كما هو الحال الآن في هذا الصنف من المتعلمين ولم ينظر في تحليل الكلام العربي واستظهار القدر اللازم من منثوره ومنظومه ولم يتدبر معاني الكتاب ولا أخذ بقسط من الحديث وغيره ما استطاع الطالب أن يفهم روح اللغة العربية على أصولها ومن لم يفهم اللغة كان حرياً بأن لا يفهم أسرار الشريعة على ما يجب. إن المدارس الغير نظامية كالأزهر والفاتح صدت الناس عن الطلب لما اعترضهم دونه من العقبات بالطريقة العقيمة المتبعة معهم وأي طريقة أفسد من أن يظل الشيخ يشرح للطالب المبتدئ في أول يوم يشرع فيه بتعلم النحو كيفية إعراب البسملة ووجوه قراءتها على حين يكون الطالب غفلاً لا يعرف الجار من المجرور ولا المرفوع من المنصوب ولا الصفة من الموصوف وهكذا يبقى الشيخ يضيع وقته ووقت الطالب على غير جدوى وقد رأيت من

المشايخ من قرأوا العوامل في سنة والعوامل مثل فهرس لأبواب النحو لا يبلغ ثلاث ورقات إلا أن المدرس أوسعها شرحاً وتحشية وتهميشاً حتى صارت كتاب نحو مطول هيهات أن يستوعبه عقل طالب. ولذا كان من خير ما تم من الإصلاح في الأزهر على عهده الأخير الاستغناء ما أمكن عن الشروح والحواشي. ولعل المشيخة الإسلامية تنظر لطريقة تعليم طلبة الجوامع بما يقوم أودها فتقضي على طلبة العلوم الدينية أن يمتحنوا امتحاناً عملياً لا نظرياً ممزوجاً بشيء من العلوم العصرية كما هو حال مدرستي دار العلوم ولقضاء الشرعي. وتسير على هذا المنهج إدارة الأزهر الشريف فيعود إليه سالف مجده ويخرج في السنين القليلة طلاباً درسوا علوماً كثيرة تنفعهم في جهاد الحياة.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الأرض وما تخرجه تبلغ مساحة الحقول المزروعة بأيدي البشر 537 مليون هكتولتر أي واحد من خمسة وعشرين جزءاً من أراضي القارات الخمس وثلث أراضي أوربا مزروع وواحد في كل 121 هكتاراً من كندا ويبلغ ما في الأرض من الحيوانات ذوات القرون 280 مليون رأس و413 مليون خروف و127 مليون خنزير و70 مليون حصان. ومملكة هولاندة أخصب بلاد العالم يعطي كل هكتار من أرضها 1235 لتراً من الحنطة في حين يعطي الهكتار في فرنسا 720 وهي معدودة أرقى بلاد أوربا بزراعتها ويخرج من الولايات المتحدة 234 مليون دجاجة. الدواب والأثقال أفضل ما اهتدى إليه الإنسان استعمال الخيل كانت العول عليها في التنقل قبل الدراجات والسيارات والمناطيد. ومن أقطار العالم ما لا تستعمل فيه الخيول لأنها غالية الثمن أو لا تحتمل مناخ الإقليم الموجودة فيه أو لأن الطرق غير معبدة أو لأن الأحمال التي يراد نقلها عليها غير متناسبة مع قواها فاستعاض سكانها بغيرها من الحيوانات ففي الهند وبعض بلاد الشرق الأقصى يعمدون إلى استعمال الفيلة لا لقلع الأشجار بل لحملها إلى الأماكن البعيدة وأن مخالب الفيلة في برمانيا وسيام على صغرها وقوتها لتكفي لقلع أضخم الأشجار من جذوعها ولما كانت مخالب الفيلة في سيلان وسومطرة ضعيفة أكتفوا منها بأن استخدموها بدل البنائين فعهدوا إليها بنقل الأحجار الضخمة ووضع بعضها فوق بعض كما توضع سائر مواد البناء. وفي الترنسفال تجر ثماني أو عشر أو ثنتا عشرة بقرة مركبة بسرعة مهمة وفي جزائر الأرخبيل يربطون البقر توصلهم وأثقالهم إلى الحقول حتى إذا بلغوها استعملوها فيما تستعمل فيه الخيول. وفي برمانيا جنس من الجاموس معد للسباق وهو مطلوب بقدر ما تطلب خيول السباق في أميركا. ويستعملون في جهات القطب الشمالي الوعل والكلب بدل الخيول والوعل هو خيل بلاد لابون يقطع 150 كيلومتراً في اليوم وهو مربوط إلى مركبة متسعة والكلب فيما وراء ذاك الإقليم أي أصقاع القطب بمثابة الدواب التي تجر الأثقال

وهو مستعمل في شركة نهر الهدسون بأميركا كما يستعمل القرد المعروف بالأسكيمو. والكلاب هنا قد تقطع 1500 كيلومتر بدون أن تستريح طويلاً ومن الغريب أنهم لا يطعمونها بل هي التي تمتان لنفسها إذ يصعب حمل مؤنتها في جملة ما يراد حمله في المركبات التي تجرها ولذلك كثيراً ما يحدث أن تفترس الكلاب بعضها بعضاً لقلة الغذاء فلا تصل المركبة إلى المكان المقصود إلا بزوجين أو بأربعة من الكلاب في الأكثر. والجمل كما هو المعلوم في افريقية وآسيا هو الذي يحمل الأثقال. وفي كثير من البلاد يستعمل الإنسان بدل الحيوان لنقل الأثقال ولا تزال المحارات والدراجات التي تسير من نفسها في بلاد أنام وقد انتقلت إليها من اليابان وهي عندهم دخيلة أدخلها منذ أربعين سنة أحد المرسلين الأميركان لينتفع بجرها محاويج الأهلين ولكنها أشاعت عندهم شيوعاً هائلاً حتى أنك تجد في طوكيو وحدها عشرة آلاف عربة من هذا النوع تقطع عشرة كيلومترات في الساعة ولا تزال هذه المركبات التي يجرها البشر شائعة في أنام وسيلان والهند وجنوبي افريقية على الرغم من انتشار السكك الحديدية والتراموايات والدراجات والسيارات. والمركبات المستعملة في المكسيك هي من نوع ما كان يستعمل في المحارات لنقل الملوك في أوربا وثمن البغل في الحبشة ضعفاً أو ثلاثة أضعاف ثمن الحصان ولذلك يؤثرون استعماله للإكرام ومن يريدون إكرامه ليحظى بحضور نجاشي الحبشان يركبونه على البغل ويركبون الخدم على الخيول. واشتهرت حمير القاهرة حتى احرزت قصب السبق في بعض المعارض. وفي بعض المدن الكبرى من فرنسا يستعملون مركبات يقطرونها إلى العنز يستخدمونها لتنزيه الأولاد في الحدائق العمومية كما يقطر النعام في افريقية الجنوبية وكليفورنيا إلى المركبات ليجرها. والبقر شائع في جر المركبات في كثير من الأصقاع الأوربية والآسياوية. وفي هولاندة والبلجيك وبعض الأقطارالشمالية من فرنسا يقطرون الكلاب بالمركبات وتجر عربات بائعي الحليب. مدة النوم كان الطب القديم يقضي بأن ينام الأطفال والشبان والشيوخ ست ساعات في الأربع والعشرين ساعة ويعد من ينام كثيراً من الكسالى ولكن علم الصحة الحديث قضى بأن تكون كمية النوم متناسبة مع ما يصرفه الإنسان من قواه فالشيخ الذي يتوجب عليه سنه أن لا

يصرف كثيراً من قواه ينبغي له أن لا ينام كثيراً أيضاً ويقول المثل الإفرنجي إن أرق الشباب ونوم الشيوخ دليل الموت لا الحياة وكثيراً ما يصدق هذا القول. فسبع ساعات تكفي لمن يتعاطى الأعمال الصعبة منها ساعة في النهار وينتاب داء المفاصل والحميات المتقطعة العامل الذي ينام على الأرض معرضاً للهواء ولو كان في الشمس كما أن علة الصرع قد تعتري الشيوخ الذين ينامون بالقرب من النار بعد الطعام. عدد البقر في انكلترا 11، 455، 000 رأس بقر وفي ألمانيا 19، 001، 00 وفي فرنسا 13، 551، 000 وفي روسيا 37، 413، 000 وفي النمسا والمجر 14، 237، 000 وفي إيطاليا 5، 000، 000 وفي اسبانيا 2، 452، 000 أما بلادنا فليس فيها إحصاءٌ مدقق للبشر فضلاً عن البقر. طحين الشوندر هو محصول جديد يستخرج من الشوندر الذي أصبح منذ مدة يستخرج منه للصناعة سكر والكحول وكان هذا الطحين يستعمل في ألمانيا ولكن لعلف الماشية فتوصل أحد الزراع البلجيكيين إلى الانتفاع به في المعجنات. وطحين الشوندر يحتوي على 65 في المئة من السكر. الكليات الفرنساوية كان عدد أساتذة العلم في الخمس عشرة كلية في فرنسا سنة 1909_366 و 102 ناظر ومحاضر و148 ناظراً عاماً على الأعمال العلمية و336 معيداً للدرس وطلب من الحكومة لرواتب الأساتذة ومن يتبعهم سنة 1910 مبلغ 11، 679، 553 فرنكاً و 2، 229، 827 فرنكاً لابتياع الأدوات وقد زادت ميزانية تلك الكليات زهاء ربع مليون فرنك. عطايا كليات أميركا كانت عطايا المحسنين لكليات أميركا في السنة الماضية كثيرة على العادة وأهمها لكلية يال 475 ألف دولار ليؤسس فيها معمل طبيعي و73 ألف ريال لتصرفها على تعليم بعض نوابغ المعوزين و236 ألفاً لجامعة دورهام و50 ألفاً لكلية ماك جيل في مونتريال و100

ألف لكلية برنستون و500 لكلية أوهيو و230 ألفاً لكلية هارفرد وأعطت عقيلة ريد مبلغ مليوني دولار فقط لتأسيس مدرسة جامعة للفنون والعلم في بورتلاند من أقاليم أورغون. عظمة بريطانيا نشرت المجلة الوردية إحصاء في بلاد الإنكليز ومستعمراتهم وتجارتهم في العام الماضي جاء فيها أن مساحة بريطانيا العظمى 121، 390 ميلاً مربعاً وسكانها 44، 538، 718 ومساحة الهند الإنكليزية 1، 766، 517 ميلاً يسكنها 294، 317، 082 ومساحة مستعمراتها الأخرى في آسيا 141150 ميلاً يسكنها 6، 218، 006 ومساحة مستعمرات المحيط الكبير 3، 190، 360 ميلاً سكانها 5، 848، 413 ومساحة مستعمرات افريقية 2، 099، 483 ميلاً سكانها 34، 605، 305 ومساحة كندا 3، 745، 574 ميلاً سكانها 6، 153، 789 ومساحة المستعمرات الأميركية الأخرى 279، 123 ميلاً فيها 2، 336، 951 ومساحة أملاكه في أوربا 117 سكانها 228، 618 فيكون مجموع مساحة ما يخفق عليه العلم البريطاني في القارات الخمسة 11، 343، 706 أميال مربعة و 394، 246، 882 ساكناً أو نحو خمس العالم وواردات بلادها 1، 053، 265، 995 ليرة إنكليزية وصادراتها 968، 344، 562 ليرة أي بزيادة ثلاثين ملون ليرة في قسم الواردات وعشرة ملايين في قسم الصادرات بالنسبة للسنة السابقة وزادت خطوطها الحديدية حتى أصبحت في السنة الماضية 23، 108 أميال في بريطانيا و 29، 936 في الهند و 53، 199 في سائر المستعمرات. الطب الصيني قال أحد أطباء الغرب في يونان من بلاد الصين أن ما يقال في شهرة طب الصين مبالغ فيه على أن الصيني لا يعادي الطب الأوربي ومعلوم أن أحد أمبراطرة الصين درس سنة 2737 ق. م زهاء مئة نبات شافٍ ونظمها تنظيماً حسناً وأن علم تركيب الأدوية الصينية يربو على خمسمائة نوع من النباتات الطبية والتراكيب المختلفة مثل قرن الوعل وذرور الأظافر وشوارب النمور وإذ كانت تستعمل بالإفراط أحياناً فقد تودي بحياة المريض وعند الصينيين من النباتات ما يستعملونه من الخارج مثل نبات يقي من الإسهال يجعلونه على البطن في لزقة وعندهم أدوية تقي من السكر ومن الخوف أو تجلب الخوف وأدوية لمداواة

العشق وأدوية لنزعه. وذكر الطبيب المشار إليه حالة أهل الصين مع حفظ الصحة فقال أن البيت الصيني قذر مظلم كئيب لا نوافذ له في الأغلب وفراش الصيني وهو من الخشب مغشى بالحصير وأغطية وسخة تحته في الشتاء موقدة ترمى بروائح أوكسيد الفحم لترسل الحرارة في المكان. وليس عند الصينيين عناية بتنظيف الجسم فيكاد الصيني لا يستحم مدة عمره ولا ينزع ثيابه عن بدنه إلا إذا نزعته وليس في البيوت محال للاطمئنان ومراحيض والمستنقعات مملوءة بالأقذار ولذلك كانت الحمى التيفوئيدية والزحير من الأمراض الوافدة في الصين وكثرت وفيات الأطفال كثرة هائلة ولكن التناسل كثير جداً. الأضواء في فرنسا تكون الأضواء في المدن والقصبات الفرنسوية بالكهرباء والغاز والاسيتيلين ففيها 3769 مدينة ومديرية لها معمل للغاز أو محطة للكهرباء والاسيتيلين وفي فرنسا 3700 حاضرة مقاطعة و 7720 مديرية يربو سكان كل واحدة منها على ألف نسمة لم يزل بعضها محروماً من الكهرباء ولا تكثر الكهرباء إلا بالقرب من شلالات المياه وتمتد على مسافة طويلة فتضيء الأرجاء. اكتشاف العالم الجديد عثر الباحثون في مينوستا في الشمال الرقي من الولايات المتحدة على أثر تاريخي يستدل منه على أن أميركا دخلها أناس من العالم القديم قبل أن يصل إليها خريستوف كولمبوس بمئة وثلاثين سنة. وقد زعموا كثيراً أن جماعة من السكانداويين نزلوا الشاطئ الشرقي من غروانلانده ولابرادور نحو سنة ألف للميلاد ولكن ذلك من روايات بعض القصصين الذين جاؤا قبل القرن الخامس عشر ويظهر أن الأثر الذي عثر عليه الآن أقرب إلى الصحة وقد عثر عليه جماعة من العملة بينما كانوا يعالجون أخراج جذع من الأرض وهو عبارة عن حجر بين جذعين وقد عرف من البحث في الجذعين أنهما أصل لشجرتين قديمتين غرستا بعد وضع ذاك الحجر المكتوب عليه من وجهيه بحروف رونية كتبت في القرن الرابع عشر والحروف الرونية هي حروف السكاندوايين في القرون الوسطى لا يعلم حلها إلا أفراد قلائل وما كان منها من القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر يمكن تقليده ولذلك تبين لهارلاند العالم الأثري أن هذا الحجر صحيح والكتابة به واضحة ومعناها أن ثمانية

من الغوطيين واثنين وعشرين من النوريين بينا كانوا يطوفون البحار سافروا من فنلاندا في ايكوسيا الجديدة ونزلوا على مقربة من ليلتين بالقرب من هذه الحجر وذهبوا إلى الصيد وشهدوا عند عودتهم عشرة م رجالهم ميتين: رحماك أيتها السيدة البتول فإن عشرة من رجالنا نازلون على الشاطئ بالقرب من سفنا على أربعين يوماً ويوم من هذا الحجر كتب سنة 1362. الروائح والهضم كل الناس يعلمون أن الروائح التي تنبعث من الطعم اللذيذ تفتح شهوة الطعام والروائح المنبعثة من الطعام الكريه تصد النفس وتمنع القابلية. وقد استدل أحد أطباء الولايات المتحدة بالبحث والتجارب أن الروائح والعطور تؤثر كل التأثير في بعض الحواس وذلك أن بعض الأشخاص لا يتأتى لهم أن يقعدوا في غرفة فيها باقة من البجلة (ليلك) أو الياسمين وأن أناساً يصابون بالصداع أو المقس (القيء) إذا استنشقوا الياسمين البري أو وردة وأن أكثرهم يصابون باضطرابات معدية إذا دخلوا بيت تربية النبات وكان فيه التنوم (دوار الشمس) وذكر أن امرأة متوسطة العمر كانت تصاب بوجع في القلب كلما كانت تشم رائحة الخروف والسمك وكانت تتناول منه مسرورة على شرط أن تسد أنفها حتى لا تشم رائحته ومن ذلك أن كثيرين يصابون بالقرف إذا قدمت لهم صفحة من لحم كريه عندما يشمونه. وقال أن له زبوناً كان ضابطاً في حرب الانفصال كلما رأى البصل يصاب باضطراب في المعدة لأنه كان يقدم له في تلك الحرب بصل محضر تحضيراً رديئاً فيتناول منه متكارهاً مضى على ذلك خمس وأربعون سنة وهو لا يزيد للبصل إلا كراهة. وأفضل دواء لمن يصاب بذلك أن يعمد إلى أخذ المقبلات ولكن يجب ما أمكن التوقي من الروائح الدافعة فالجيد منها نافع والكريه ضار حتى أن بعض الشرقيين يعمدون قبل الطعام إلى استنشاق الطيوب والعطور علماً منهم بأنهم بذلك يحسنون أعصابهم وهضمهم. الطلاق انتشر الطلاق في الولايات المتحدة وسويسرا انتشاراً هائلاً بحيث أصبح المطلقون والمطلقات كثيرين جداً ويقال أن السرَّ في ذلك فساد قوانين الزواج حتى اختل نظام الزوجية وانتشار العيشة الفردية وقلة التدين ويؤكد من يعللون هذا الحال بقلة الدين أن

بعض المقاطعات في الولايات المتحدة يقلُّ فيها الطلاق جداً لأن أهلها متدينون ولا تزال تغلب عليهم التقاليد والأوهام. غنى أشراف الإنكليز في المجلة الباريزية بحث في حال الأشراف والفقراء في انكلترا جاء فيه أن فيها 27 دوقاً ما عدا الدوقات الذين هم من دم ملكي يملكون نحو 2500 مزرعة كبرى أي أراضي نصف المملكة على التقيب. ويقدرون مساحة أراضي الدوق دي سوترلاند بـ 1، 358، 545 فداناً أو نصف مليون هكتولتر بلغت وارداتها منذ عشرين سنة 141، 667 ليرة انكليزية ويجيء بعده الدوق دي بوكلوش وأراضيه تبلغ نصف مليون فدان ولكن وارداتها أكثر أي أنها تبلغ خمسة ملايين ونصف من الفرنكات ويجيئ بعدهما دوقات ريشموند وديفونشير وهاملتون واتول وارجيل وبورتلاند ونورتومبراند ومونتروز وهم يملكون مئة ألف فدان تأتيهم بنحو مليون فرنك من الواردات ثم يجيء بعدهم الدوقات الصغار ولا يقل ما يملكه الواحد عن عشرة آلاف فدان. ويتألف من هؤلاء الدوقات وألقابهم وغناهم أمتن أساس في بنيان المجتمع الانكليزي الحاضر وهم المحور الذي تدور عليه الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد ولطالما كان هؤلاء الأشراف منذ القديم موضوع احترام انكلترا ولكنهم بما يملكون من هذه الأراضي الواسعة أصبحوا لا يعرفونها ولا يخدمونها فصحت فيهم آية التوراة إن الذين يضيفون من بنيكم حقلاً إلى آخر تنتهي بهم الحال أن يكونوا نساكاً متزهدين. نعم تركت حقولهم وغاباتهم بدون أن تتعهدها الأيدي تركوها لتكون متنزهاً ومجالاً للإرتياض والصيد في حين أن ألوفاً من الأيدي تنقطع عن العمل لقلة الأراضي لديها ويتحكم الأشراف في مزارعيهم ومزارعهم تحكماً غريباً فإن الدوق ديفونشير لا يسمح لمزارعيه أن يعلقوا في أراضيهم إعلانات يتناولون أجرتها بضعة قروش من المعلنين والدوق دي فيف لا يرضى أن يبقى أحد في الفندق القريب من مقره عندما يجيء إليه. فغنى انكلترا المشهور هو في أيدي الأسرات الممتازة المختارة من طبقة الأشراف وأغنياء الطبقة الوسطى والرفاهية وقف عليهم وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من أهل الطبقات الأخرى كما هو الحال في فرنسا. وقد بلغ عدد المعوزين في انكلترا 959، 848 أي

شخصاً واحداً من كل سبعة وثلاثين شخصاً محتاج أن تعوله الحكومة أو جمعيات الإحسان وفي لندرا وحدها من البائسين 123، 545 ولا يزال عددهم في ازدياد في الولايات والعاصمة فقد كان منذ سنين معدل الفقراء في بريطانيا العظمى 57، 9 في الألف فأصبح في أواخر العام الماضي 586 في الألف. ويستدل من هذه الأرقام أن الأمة الانكليزية تعيش منذ سنين برأس مالها وإذا ظلت على هذا الحال تفلس إفلاساً اقتصادياً واجتماعياً وأن الحكومة من حيث السياسة دلت بذلك على أنها لم تستطع أن تحكم لتوسع على الأمة راحتها وسعادتها بل تركتها بلا سلاح في معترك الحياة تغني لنفسها وتفقر كذلك. والسبب لوحيد في هذا الفقر اضطرار الناس إلى الانقطاع عن العمل بداعي حرية التجارة. ويقول آخرون أن السبب في هذا الشقاء هو مسألة تقسيم الأراضي فأملاك الأشراف مهملة لا يستفاد منها وتلك الأيدي العاملة تنقطع اضطراراً عن عملها لأنها لا تجد ما تعمل في الصناعة والتجارة وكانت تعمل في تلك الأراضي الواسعة لو وزعت عليها توزيعاً معقولاً فأشراف انكلترا هم العائق الكبير في كل إصلاح وارتقاء وأملاكهم هي الحاجز الاقتصادي الحائل دون نماء الراحة العامة فعليهم التبعة العظمى في غلاء المعيشة وقلة الأعمال والشقاء الاجتماعي الذي يزيد يوماً عن يوم. ومنذ عشرين سنة فتحت طريقة جديدة لإدخال لوردات جدد علاوة على القديم منهم وهم من كبار أرباب المعامل والماليين مثل الدوق دي نورفولك ووارداته السنوية 37 مليون فرنك ما عدا الأربعمائة فدان التي يملكها في حي وستمنستر في لندرا وريعها مليون جنيه والدوق دي بدفور وريع أراضيه البالغة 250 فداناً في لندرا هو مليونا جنيه واللورد نورثامبتون وريع أملاكه مليونا ليرة أفرنسية وغيرهم كثيرون. وهكذا أصبح دوقات انكلترا أرباب الاحتكار للثروة وهم سبب شقاء الطبقات ومنهم ضرر البلاد. ري العراق خطب السر ويليم ويلكوكس في اجتماع الجمعية الجغرافية الملكية في لندرا: في العراق ماضيه وحاضره ومستقبله خطاباً حضره كثير من سراة الانكليز وعلمائهم فقال أنه لما انتدبته الحكومة العثمانية الجديدة لري العراق وإصلاح أقنية دجلة والفرات وبيان الطرق

اللازمة لعمران تلك البلاد بدأ يدرس طرق الري القديمة وما يلزمها من الإصلاح فاستفاد من ذلك فائدتين أساسيتين الأولى كثرة نفع الماء الخالي مما يحمله عادة كالوحل والحكاكات والثانية لزوم اتخاذ الاحتياطات لمنع الفيضانات وأن الأثني عشر مهندساً الذين ساعدوه في بغداد كانوا بينوا له أنهم قادرون على القيام بهذين العملين فعرضوا على الحكومة قبل ذلك طريقة للتخلص من فيضان ماء الفرات حتى مهابط نهر بيزون القديم وقدر المال اللازم لذلك بثلاثمائة وخمسين ألف ليرة والوقت بثلاث سنين وبذلك تصبح الأرض قابلة للزرع مضاعفة ومحصولات الحنطة تبلغ ثلاثة أضعاف أما المزارعون اليوم فإنهم لا يجرأون على زرع الأراضي بالبذور اللازمة وكذلك هم يحسبون أنهم يخسرون كل شيء في السنة السالفة. ومشروع اليوم هو القناة الوسطى الكبرى في أرض الدلتا اللازمة لري 3، 000، 000 فدان من أحسن أراضي العراق لريها بماءٍ نقي ففي الشمال الغربي من بغداد بين دجلة والفرات انخفاض في الأرض يسمى بحيرة عكار كف ومساحتها إذا كان ماؤها على أقل درجاته أربعون ميلاً مربعاً وإذا كانت مملوءة ثلاثمائة ميل مربع وانخفاض سطحها عن الفرات خمسة وثلاثون قدماً وعن دجلة عشرة أقدام وإلى هذا المنخفض من الأرض يأتي نهر الصقلاويه وهو فرع من الفرات عرض قناته 240 قدماً وعمقها 25 قدماً وينقسم عند وصوله إليها من الغرب إلى نحو عشرين فرعاً. وعند اتصاله بالفرات يلزم أن يوضع له معياران قويان يعينان الماء المار فيه وكذلك يوضع للفرات سد بعد مفرق فرع الصقلاويه لتنظيم مجرى ماء الفرات نفسه. إن ما تقدم من الأعمال يؤمن وصول الماء من الفرات وأما من جهة دجلة فإن المهندسين ارتأوا وضع سكر في البلد عند حاجز عكار كف وبهذه الواسطة يمكن أن يحفر له فرع لري الأرض المخصبة الواقعة شمال بغداد ويصنع لهذا الفرع منفذ إلى البحيرة المذكورة فيحفظ قناته من الوحل ويصل دجلة بالبحيرة وهكذا يحصل الزارعون على ما يلزمهم من الماء من النهرين المنصبين في تلك البحيرة من غربها وشمالها وأما من جهتها الجنوبية والشرقية القريبة من بغداد فيحفر قناة توازي ضفة دجلة اليمنى وتنتهي في الحي وهذه القناة تكفي لري ستة ملايين فدان.

أما الوحل الشديد المضر ومدته لا تتجاوز خمسة عشر يوماً في السنة فإنه يرسب في البحيرة. وويلكوكس يقترح أن تسمى الضفة اليسرى من هذه القناة باسم أول حاكم دستوري في البلاد العثمانية وهي تكون حاجزاً يحمي البلاد من فيضانات دجلة وعليها تمر سكة حديدية تنقل محصولات البلاد وهكذا تعود مدن صبارة وكوثا ونيل ونفور وأرخ وتل سكرخ وتل لو إلى عمرانها. وبعد أن بين الطرق التي تحمي البلاد من الفيضانات وكيف أن المباشرة تكون بري ثلاثة ملايين فدان من الأرض تغل سنوياً مليون طن من القمح ومليوني بالة قطن ذكر طريقة إيصالها لأسواق التجارة مع ملايين من الأغنام ومئات الألوف من الماشية التي يمكن أن تعيش في الدلتا وقد فاوض تجار بغداد فوجدهم متفقين على أن تأخر البلاد ناشئ في الأكثر عن انقطاع المواصلة مع الغرب وأن محصولات العراق اليوم وهي الغنم والبقر والجاموس والصوف وعرق السوس والحنطة والشعير مطلوبة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط وفي أوربا وكل ما تحتاج إليه البلاد يمكن أن يأتيها من الغرب لذلك لا ينقصها إلا إحداث سكة حديدية تصل بغداد بالبحر المتوسط من أقرب الطرق وأرخصها ومثل هذا الخط يكون مخرجه قرب صور أو صيداء وطوله من بغداد إلى دمشق خمسمائة وخمسون ميلاً تكلف مليوني ومائتي ألف ليرة. اه (معرباً عن جريدة التيمس بقلم أحد أصدقائنا). ثقل الأيام يقال أن فلاناً أثقله كر الغداة والعشي وقد أثبت أحد العلماء أن المرء كلما تقدم في السن زاذ جسمه خفة فالكبد ووزنه العادي في البالغ 1165 غراماً لا يبلغ وزنه في الرجل الشيخ أكثر من 800 إلى 900 غرام ووزن الكلية في البالغ 180 غراماً ولا تكون كلية الشيخ أكثر من 100 غرام. أما القلب فلا يزال ينمو بنمو السن فيبلغ زهاء ألف غرام في الشيخ أكثر من الفتى وكلما شاخ المرء كبر قلبه وربما كان ذلك ناشئاً من أسفه على السنين تمر به فتقربه من أجله. دارسو العلوم بلغ عدد الطلبة الذين قيدوا أسمائهم سنة 1908_1909 في جامعة العلوم الباريزية 2151 طالباً منهم 1577 فرنسوياً و427 روسياً و27 رومانياً و15 من جمهوريات أميركا و13

نمساوياً مجرياً و13 عثمانياً و10 ألمان و10 يونان و8 من الولايات المتحدة و8 بلجيكيين و6 سويسريين و5 سويديين ونروجيين و4 صربيين بلغاريين و4 مصريين و4 إيطاليين و3 من كل من الجزائر البريطانية وهولاندة وشيلي و2 من كل اسبانيا والبرتغال والصين وواحد من كل الدانيمرك وإيران وسورية والراس والهند الانكليزية و80 طالباً أجنبياً في سائر الجامعات منهم 51 في الطب و21 في الصيدلية و5 في الأدب و3 في الحقوق. معمل الفولاذ انشأوا على 40 كيلومتراً من شيكاغو على شاطئ بحيرة مشيغان في مدينة اسمها طاري أعظم معمل للفولاذ في العالم وهو يحوي من التنانير ما يخرج في اليوم أربعة آلاف طن وتقدر أكلاف هذا المعمل بعشرين مليون ليرة وحجم الغاز الذي يخرج في الساعة من كل تنور عالٍ يبلغ ثمانين ألف متر مكعب وفيه 17 محركاً بالغاز تبلغ قوتها 2500 حصان ومجموع ما يصدر من هذا المعمل في السنة 2، 700، 000 طن مخترع المعكرونة قالت إحدى الكاتبات الإيطاليات إن تاريخ اختراع المعكرونة يرد إلى سنة 1220 يوم خميس الجسد وهو اليوم الذي تاب فيه في بلرمة ونابولي الملك الصالح فريدريك الثاني ففي ذاك اليوم اخترع أحد علماء الكيمياء من الطليان واسمه سيشو هذه المعكرونة فسرقت منه سر هذه الصناعة امرأة اسمها لاجوفانلادي كانزيو فاستعملتها من مواد كثيرة وأجادت صنعها وتناول الملك فاستطابها ثم الأسرة المالكة وأهل البلاط والأشراف والنبلاء والفرسان وبعد أن عمت إيطاليا انتقلت إلى أوربا بأسرها بل إلى العالم كله. الفراسة بالأظافر يقول أحد أطباء الأيدي في باريز أن الأظافر العريضة والقصيرة هي دليل كاف على الشدة في الخلق والقسوة والغضب ويكون صاحبها متناقضاً في أفكاره وعنيداً للغاية. وإذا كانت الأظافر طويلة ومنبسطة تدل على كبر العقل والتصور وعلى الحكمة وتوازن الدماغ. وإذا كانت مستطيلة ومنفسخة تدل على ميل صاحبها إلى الشعر والفنون على اختلاف أنواعها وعلى كسل غريزي فيه. وإذا كانت محنية كالمخالب فهي دليل نفاق خبيث شديد قاس كما تدل على القسوة والميل إلى القتل ومن كانت أظافره رخوة فدليل ضعف جسمه وعقله في

حين أن من يأكلون أظافرهم كثيراً ما يكونون من المائلين إلى الخلاعة. ومن كانت أظافره متلونة تدل على صحة وفضيلة وسعادة وميل عظيم للكرم. معادن العالم أحصى أحد العارفين ما استخرج من معادن الرصاص والنحاس والتوتيا الزنك سنة 1907 فكانت 992 ألف طن من الرصاص و713 ألف طن من النحاس و733 ألف طن من التوتيا ومعدل سعر الطن من المعدن الأول 482 فرنكاً وربع ومعدل سعر الطن من الثاني 2177 فرنك و55 سنتيماً ومعدل سعر التوتيا 337 فرنكاً ويوزع المستخرج من الرصاص على ست ممالك فيصيب الولايات المتحدة 341 ألف طن واسبانيا 186 ألفاً وألمانيا 140 ألفاً واستراليا 97 ألفاً والمكسيك 72 ألفاً وانكلترا 20 ألفاً ويصيب الولايات المتحدة من النحاس 421 ألف طن وأوربا كلها 143 ألفاً وانكلترا 72 ألفاً وألمانيا 32 ألفاً واليابان 45 ألفاً واستراليا 32 ألفاً ويصيب الولايات المتحدة من التوتيا 227 ألف طن والبلجيك 145 ألفاً الخ.

غرائب الغرب

غرائب الغرب حالة مصر هبطت مصر وعهدي بها ليس ببعيد غبت عنها أربعة عشر شهراً وكنت صرفت فيها أربع سنين أيام الحكم الاستبدادي في المملكة العثمانية فلم أرَ اليوم وأنا عابر سبيل أن أمكث فيها أقل من أربعة عشر يوماً قضيتها في مشاهدة من خلفتهم فيها من الأصدقاء الكثيرين. والقاهرة من البلاد العربية كباريز من البلاد الإفرنجية حوت ما في العواصم من ضروب الرقي والانحطاط مما تنفقه على غيرها طوعاً أو كرهاً ويأتي الناس من القاصية فيأخذونه عنها ويهتمون بتقليده وتأييده. إن من ينظر إلى مصر نظراً سطحياً يأسف لها كثيراً ويعدها كنزاً ضائعاً ودماً ضيعه أهله. ومن يمعن النظر في مواردها ومصادرها ويدرس مساعيها ومقاصدها ويقيس النتائج بالمقدمات والماضي بما هو آت يدرك أن المستقبل المخبوء لمصر في حياتها الاجتماعية والسياسية لا يقل عما أحرزته في حاضرها من المنافع المادية والأدبية إذا ظلت عناية أهلها متوفرة على التعليم والتربية وهم يتفننون سنة عن أخرى في تلقف ما ينفعهم من أنواع المعارف لقيام بناء مجدهم الجديد على أحسن نظام. ليس في أقطار الشرق ولا في أقطار الغرب بلد عرف تاريخه كما عرف تاريخ مصر ولا بلد مثله أبقى على آثاره الخالدة واحتفظ بتراثه القديم فنفع العلم والعالم بما ادخره. فقد قال لنا التاريخ أن عهد بعض سلائل فراعنتها كان عهد ارتقاءٍ ومدنية وأن مدنيتهم لا تقل من وجوه عن المدنية الرومانية واليونانية والفارسية فكانت دولة فاتحة غازية مستعمرة كما كانت دولة فاضلة متحضرة وأنه جاءَ زمن طويل على مدينة الإسكندرية أيام الروم كانت تفيض العلم النافع على العالم أجمع بمدرستها كما كانت تفيض العلم مدرسة بغداد ومدرسة قرطبة أيام الخلفاء وكما تفيض كليات أوربا وأميركا على آسيا وافريقية اليوم. أتى على مصر دور انحطاط بعد دولة الفاطميين اشتغلت فيه بنفسها وكان حظها من المعارف حظ سائر بلاد الشام وإن كانت لها الميزة أبداً في هذا الباب على الأقطار المجاورة فقد كانت على عهد الأيوبيين والجراكسة والمماليك على انحطاطها مورداً تستقي منه البلاد الأخرى وكانت العلوم الإسلامية والأدبية خاصة مما يحمل من أزهرها إلى

شمالي افريقية وداخليتها وبلاد العرب والترك وسورية وغيرها. ولما جاء نابليون الأول ثم م علي الكبير دخلت فيها بواسطة علماء من الفرنسيس روح الحضارة الغربية وأسلوب التعاليم الأوربية وأخذت حكومتها ترسل بالبعثات العلمية بل بالبعوث السلمية إلى أوربا ليدرس النشء في كلياتها ثم يعودوا إلى مصرهم فينفعوها بما علمهم الله والبشر الراقي. وما برحت هذه الإرساليات تكثر ومصر الحديثة تتكون على المناحي الغربية حتى جاء الخديوي إسماعيل وأسرف في مالها إسراف جنون وجهل فاضطرت إلى الاستدانة من الماليين الأوربيين وأكثرهم انكليز وفرنسيس ولما حدثت الفتنة العرابية وجدت انكلترا مدخلاً لها بحجة أن أرباب الأموال يوجسون خيفة على أموالهم ورأت من فرنسا غفلة أو تغافلاً فعملت وحدها على إطفاء الفتنة فصدقت عليها كلمة نابليون في قوله وقد أخرجته انكلترا من مصر بعد احتلاله لها بضع سنين في القرن الماضي أنها لم تخرجنا منها إلا لتأخذها لنفسها في المستقبل. دخلت انكلترا مصر لإطفاء الفتنة أولاً ثم للمحافظة على ترعة السويس التي أصبحت أكثر أسهمها لجماعة من أبنائها. والترعة كما هو المعلوم طريق الهند الأقرب ومادة حياة دولة البحار. ومن حافظ على سلامته ومادة حياته يعذر. ولقد كان ميدان الإصلاح فسيحاً أمام المحتلين لتوفر الأسباب الطبيعية لمصر وأن بلاداً لا ينقطع ماؤها ولا تغيب شمسها ولا تتعب تربتها ولا تتعاصى على الإنسان طبيعتها لأقرب البلاد إلى معالجة الإصلاح في مجاهلها ومعالمها. ولما استتب الأمن في أنحاء القطر أقبل أرباب الأموال من الغربيين وغيرهم يتجرون ويزارعون ويؤسسون المشاريع العمرانية فكانت تلك الحركة نافعة في نهضة القطر الأخيرة نهضة اقتصادية كبرى حسدتها عليها بلاد كثيرة. تهيأ لمصر والحق يقال من رجال الاحتلال أناس عملوا بإخلاص لتحسين زراعتها وريها وتنظيمها لينتفع من ذلك البريطانيون والمصريون معاً. وكان عميدهم الأكبر لورد كرومر الذي أدار دفة السياسة المصرية أربعاً وعشرين سنة أرخى في خلالها عنان الحرية الفكرية فهاجر إلى مصر كثيرون من المشارقة. عمل هذا وغيره من الأعمال النافعة ولكنه كان يحاول أن يقف بالمصريين عند حد الاشتغال بالزراعة ثم بالوظائف القليلة التي لا تسمح

الحال إلا بإعطائها للمصريين وماعدا ذلك من الارتقاء العقلي والسياسي فقد كان اللورد يقول لهم كل سنة تصريحاً وتلويحاً في تقاريره السنوية أنكم لا استعداد لكم معاشر المصريين لغير ذلك من الأعمال فهل نسيتم ماضيكم أيام كنتم تساقون إلى السخرة سوقاً وتستعبدون استعباد العبيد والأرقاء أيام الحكومات الماضية المدمرة فاحمدوا الله على أن أنجاكم مما كنتم فيه فحالكم الآن أحسن من ماضيكم مئة مرة فعليكم أن تقنعوا بما حزتموه. ولكن نبهاء مصر لم يفتهم معنى هذه السياسة وكان الفضل الأكبر للجرائد في تنبيه شعور الأمة المصرية إلى أن وراء ما هم متمتعون به الآن مطلباً أسمى وأنفع فقاموا يسعون إليه سعيهم وهم على اختلاف في الطرق الموصلة إليه لا يختلفون في كون بلوغه لا يتأتى إلا من طريق التعليم والتربية فبذل أهل الاقتدار ما سمحت به نفوسهم من إنشاء الكتاتيب في الأرياف والمدن حتى أسفرت النتيجة بعد بضعة سنين عن تكثير سواد القارئين والكاتبين ثم رأوا أن الأمة لا ترقى إلا إذا كان فيها أفراد يحسنون تعليم الأمة بلغتها ما يلزمها من المعارف المادية والاقتصادية والاجتماعية فسعوا إلى إقناع الحكومة بجعل التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية باللغة العربية وكان أكثره بالانكليزية من قبل ثم رأوا أنه إذا لم يكن لهم من أبنائهم من يعلم العلم العالي سبب ارتقاء الأمم لا يكون العلم إلا عقيماً ناقصاً فأنشأوا لذلك المدرسة الجامعة المصرية وهم اليوم ينظمونها لتكون بعد سنين على مثال الجامعات الأوربية تدرس علوم الجامعات الإفرنجية باللغة العربية وهي أول جامعة من هذا النوع لأمة لا يقل الناطقون بها على ستين مليوناً من البشر. نعم إن الجامعة المصرية اليوم وما دخل من الإصلاح على الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار العلوم ومدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة الهندسة والزراعة وسائر المدارس الأميرية والخصوصية هي التي تتألف منها اليوم طبقات رجال مصر الحديثة ولا بد لهذا الأمر من آخر ولمساعيهم الحسنة من نتيجة إذا سلك القوم سبيل التوءدة وطبقوا أعمالهم على قانون العقل الصحيح واستفادوا بتجارب الأمم السالفة وانصاع العامة للخاصة وحدهم ولم يبق المجال للغوغاء وبذلك تصبح أسباب القوة المادية والمعنوية في بلادهم على مستوى ما هي عليه عند الأمم الحية حقيقة لا مجازاً. لا جرم أن المصريين بما فيهم من الذكاء وما ورثوه من حضارتهم القديمة وتيسر لهم من

الرقي المادي هم بمجموعهم أرقى من مجموع الشرقيين خل عنك اليابانيين وفيهم اليوم من العقلاء المفكرين العالمين والباحثين من ليسوا دون أبناء طبقتهم في الغرب وربما فاق الأتراك المصريين في الأمور السياسية والحربية. ولا يعاب على مصر إلا فتور همة أبنائها في منتصف الطريق في الأغلب وهذا الخلق يكاد يكون عاماً في القطر لا يقوى في التغلب عليه إلا التربية العملية. وحبذا يوم نرى فيه مصر تقبل على العلوم الطبيعية والكيمياء والميكانيك والمعادن مثلاً إقبالها على تعلم الحقوق مثلاً فقد ترى من ناشئتهم زهاء خمسمائة طالب في كليات أوربا وأميركا والقسم الأعظم منهم يدرسون الحقوق ليترشحوا منها إلى الوظائف لأنه وقر في النفوس أن فن المحاماة أكثر عائدة على صاحبه من غيره من الفنون خصوصاً وهو متوقف بعد العلم النظري على طلاقة لسان وفضل بيان والمصريون أكثر العرب حظاً من تينك المزيتين. أصبحت مصر بمجموعها اليوم قطعة من أوربا كما قال الخديوي إسماعيل ولكن أحبابها يريدون لها أن تكون كأوربا في صفاتها العالية وحضارتها الراقية حتى لا تخرج أملاكها بطيش الطائشين من أبنائها إلى أيدي الغريب فيعود المصري بعد بضع سنين والعياذ بالله كالغريب في بلده وما أصعبها من حالة. إن مسألة الراية التي تخفق على أمة لاتهم بقدر ما تهم في الحقيقة مسألة الأملاك إذ أنه مهما بلغ من حيف أمة فاتحة أو مستعمرة لا تحدثها نفسها أن تنزع من المالك ملكه إلا برضاه. ومصر التي تتأذى اليوم بوطأة الرومي والطلياني والانكليزي وغيره لا تنتقل بعض أملاكها منها إلا برضى أولئك الوارثين والمسرفين الذين لا يعرفون دخلهم من خرجهم ولا دينهم من دنياهم هذه هي الفئة الضالة المضلة في هذا القطر المحبوب ومنها يخشى على مستقبله. فبقلة عقول المستهترين أصبحت نحو تسعة أعشار الأطيان والأملاك في مصر للغرباء وعليها مائتان وخمسون مليون جنيه من الديون منها نحو مئة مليون دين الحكومة ولا نعرف متى توفيه والباقي على عنق الفلاح الصغير والمزارع الكبير. إن ما نخشاه على مصر هو الإسراف الزائد وتقليد الغربي على العمياء ولو كان لأهل وادي النيل شيء من الإمساك المحمود والاقتصاد المعقول إذا لكانت حال مصر السعيدة

أرقى مما هي اليوم. ومن حاز الثروة وقانون الحكمة يدبرها والحنكة قائدها ورائدها وانتظر الفرص التي لا يزال الدهر يخبأوها للأفراد كما يبخل بها على الأمم لا بد أن يتمتع يوماً بالسعادة السياسية والاجتماعية التي هي منتهى آمال كل أمة حية في هذا الوجود. 7 مرسيليا في الساعة الرابعة بعد الظهر أقلعت بنا من الإسكندرية الباخرة ايكواتور (خط الاستواء) إحدى بواخر شركة الميساجري مارتيم الفرنسوية فبلغنا ثغر مرسيليا أكبر مواني فرنسا على البحر المتوسط والمحيط والمانش في اليوم السادس الساعة الخامسة بعد الظهر ولم نر في طريقنا شيئاً يستحق الذكر سوى بعض سواحل إيطاليا وفرنسا وقد تجلت عن بعد وكان نظرنا يختلف إليها بقدر بعدنا أو قربنا منها ودام البحر رهواً حتى إذا خرجنا من مضيق مسينا أصبحنا وأصبحت سفينتنا على كبرها وطولها وعرضها ألعوبة العواصف والتيار يتقاذفنا من كل مكان حتى لم يبق راكب في درجات السفينة الأربع إلا وقد أخذه الدوار أو كاد ولم نملك حواسنا إلا عند بلوغنا ساحل السلامة. وقوة هذه الباخرة 2987 حصاناً ومحمولها 3848 طناً وتقطع في الساعة أثني عشر ميلاً وهي إحدى بواخر الشركة التي تغدو وتروح بين مواني البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الأدرياتيك ولهذه الشركة التي جعلت رأس مالها خمسة وأربعين مليون فرنك تسع عشرة باخرة من مثل هذه خصت سيرها بالبحرين الأولين في لأغلب. ومن موانينا التي تقف عليها بواخر الميساجري ماريتم خانيا وسلانيك والأستانة وجناق قلعة وأزمير ومدانيا وفاتي ولارنكا ومرسين والإسكندرونة واللاذقية وطرابلس الشام وبيروت ويافا وحيفا ورودس والإسكندرية وطرابلس الغرب وصمصون وطربزون وبور سعيد والسويس ولولا أمثال هذه البواخر الفرنسوية والنمسوية والروسية والإيطالية والانكليزية والألمانية والرومانية لما بقيت لنا تجارة تصدر من بلادنا وترد إليها ولتعذر التنقل إلا في السواحل على ظهور الجمال والبغال والحمير أو في المركبات وبعض القطارات القليلة التي تربط أجزاء مملكتنا بعضها ببعض.

ولشركة الميساجري أيضاً إثنان وعشرون باخرة تمخر العباب إلى الهند الصينية وتوابعها وخمس بواخر لخط الكوشنشين وست بواخر لخط اوستراليا وخلكيدونيا الجديدة وخمس بواخر في المحيط الأطلانطيكي (الظلمات) وسبع اختصت بالبحر المحيط الهندي وذلك ماعدا السفن الصغرى التي جعلتها في بعض المواني الكبرى. وأشغال الشركة متوسطة مع أن حكومة فرنسا تدفع إليها إعانة مالية كل سنة لقاء نقلها البريد بين الشرق والغرب وخدمة الجمهورية فيما يلزمها. ويقول الذين سافروا مرات بين بلادنا وبلاد الغرب أن البواخر الألمانية والانكليزية والطليانية تفوق بانتظامها وحسن خدمتها البواخر الفرنسوية وأن الراكب يجد راحته في تلك أكثر من هذه مع أن الأجور واحدة ولذلك اضطرت هذه الشركة وغيرها إلى تخفيض الأجور في الصيف إلى نحو النصف لركاب الدرجة الأولى والثانية والثالثة وأخذت تحسم خمسين في المئة لكل شخص ثالث كان مع شخصين يدفعان القيمة المقررة فإذا كانوا أربعة فأكثر تحسم للرابع فما بعده خمسة وسبعين في المئة ولذلك يسهل السفر في الصيف لاعتدال أجوره. ومن التسهيلات التي قامت بها هذه الشركة أن اتفقت مع شركات البواخر الانكليزية والأميركية وشركات السكك الحديدية على أن تنقل الركاب إلى المواني التي تختلف إليها بواخرها وتلك الشركات تنقلهم على بواخرها بحيث يطوفون العالم ويجتازون من نصف الكرة الغربية إلى النصف الشرقي والأجرة في ذلك معتدلة فيسلك الراكب إن أحب أحد الطرق التي يختارها في قطع البحور والبرور فالطريق الأولى عن مواني الصين واليابان وكندا ماراً بفانكوفر وهو يكلف في الدرجة الأولى 3288 فرنكاً والطريق الثانية اوستراليا وفانكوفر ويكلف في الدرجة الأولى أيضاً 3575 والطريق الثالثة إلى اوستراليا فمضيق توريس فاليابان ففانكوفر وأجرتها 4257 في الدرجة الأولى والطريق الرابعة عن طريق الصين واليابان وسان فرنسيسكو وتكلف 3288 فرنكاً والطريق الخامسة إلى اوستراليا ومضيق توريس واليابان وسان فرنسيسكو وتكلف 4257 فرنكاً في الأولى فيركب الراكب من مرسيليا إل هونغ كونغ على بواخر شركة الميساجري عن طريق السويس وجيبوتي أوعدن وكولومبو وسنغافورة وسايغون ومن هونغ كونغ إلى شنغاي إلى كوبي فيو كوهاما

على بواخر الشركة أو على بواخر شركة الباسيفيك الكنادية بحسب ما يختار الراكب ومن يوكوهاما إلى فانكوفر على بواخر الشركة الكنادية ومن هنا يركب القطار إلى كيبك ومونتريال وهاليفاكس وسان جون أو نيويورك ومن نيويورك إلى ليفربول أو سومتون على إحدى البواخر الانكليزية أو الأميركية أو النمسوية أو من نيويورك إلى الهافر على بواخر الترسلانتيك ومن الهافر بالسكة الحديدية إلى باريز. هذه هي المسافات التي يقطعها من يريد الطواف حول الأرض ولو قال قائل هذا لأحد أجدادنا الأقدمين وقال له أنني أريد السير نزهة على هذه الخطة لنسب إليه الجنون وقال إن ذلك لن يكون ولكن إذا عرف سر الأسفار في هذه الأعصار يقول سبحان من سخر لنا قطع البحار بالبخار يفعل ما يشاء ويختار. وبعد فلم يتسع لي الوقت لأدرس جميع معالم المدنية في مرسيليا لأني لم أصرف فيها إلا ثلاثة أيام قضيت أكثرها في الراحة ومن عناء السفر الذي طال علينا إحدى عشرة ساعة زيادة على المعتاد لما صادفته الباخرة في طريقها من الأنواء ولطارئ طرأ على آلتها في عرض البحر فأصلحتها ولولا ذلك لقطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية ومرسيليا في خمسة أيام بلياليها ولا تقف قرب اليابسة. ومن البواخر الانكليزية ما يقطع المسافة بين بور سعيد ومرسيليا في أربعة أيام وهذه البواخر خاصة بالبريد الانكليزي تنقله من اوستراليا والهند إلى الجزائر البريطانية في خمسة وثلاثين يوماً لا تكاد تستريح في طريقها إلا بقدر ما تحمل زاداً ووقوداً وركاباً والمسافة المعتادة بين اوستراليا وانكلترا لا تجتازها الشركات المعتادة في أقل من سبعين يوماً. قامت مرسيليا في منقطع وادي الرون الجميل فكانت جملة الجمال الفرنسوي بما فيها من الجبال والسهول وما أحرزته من مجد قديم وغني حديث وأن محيطها الذي لا تقل مساحته عن مئة كيلومتر مربع لأحلى من العافية في بدن السقيم أو النضارة في خدود الجواري - كما يقول بديع الزمان_استغفر الله بل كاد يكون أجمل من الحور الذي تقرأوه في عيون المرسيليات الدعج. ولعل جمال العيون في النساء هنا التي فاقت عيون البدويات الرعابيب انتقلت إليهن من أجدادهن العرب فقد قال ميشله المؤرخ أن أصل سكان مضايق الرون مختلط كثيراً ففيه العنصر السلتي واليوناني والعربي وخليط من الطليان والغالب أن سكان

جنوبي أوربا يوصف نساؤهم بدعج العون وسواد الشعور كما يوصف الشماليات بزرقة العيون وشقرة الشعور. وإلى اليوم يكثر في مرسيليا الغرباء ولا سيما الطليان ففيها 550 ألفاً من السكان خمسهم من الطليان وبيدهم كثير من الصناعات والمعامل وهم عشر الأجانب في فرنسا وكان في مقاطعة مرسيليا سنة 1906: 766500 ساكن منهم 123500 أجانب وفيها وفيها 718 مدرسة وفي مقاطعتها 717 كيلومتراً من الخطوط الحديدية و163 كيلومتراً من الترم و284 من الطرق الأهلية و3683 كيلومتراً من طرق العجلات الموصلة بين أقاليمها. وأهم صناعاتها عمل الأقمشة وتحضير الأطعمة والمأكولات وصنع القرميد خل عنك تجارتها الهائلة وزراعتها التي لا تختلف في الرقي عن زراعة عامة البلاد الفرنسوية وفيها دور صناعة للأساطيل والبواخر التجارية ولا سيما دار صناعة الميساجري ماريتيم. قال من كتبوا عن مرسيليا من المؤرخين أن تاريخها من أقدم التواريخ وهي أول ميناء بحرية لفرنسا يرد عهد إنشائها إلى القرن السادس قبل المسيح وفي مقاطعتها اليوم 49 ألف منزل منقسمة بين ألفي شارع وطريق ومعظم آثارها ومصانعها حديثة النشأة من عهد السلالة الملكية الثانية ومن أحسن متنزهاتها الكورنيش الذي انتهى سنة 1863 وكان عدد السفن التي دخلت مرفأها البالغ سطحه 300 هكتار سنة 1907_16330 وعدد الركاب 550 ألفاً وقدروا ما يدخل إليها ويخرج منها في اليوم بسبعة وأربعين باخرة وبارجة وناهيك به من عدد. ويطبع فيها وينشر 146 جريدة ومجلة. وجريدة البتي مارسيليه (المرسيلي الصغير) أوسعها انتشاراً تطبع 180 ألفاً كل يوم وهو حجم الماتين والايكودي باري كما يطبع البتي باريزيان (الباريزي الصغير) الذي يصدر في باريز مليوناً ومائتي ألف نسخة في اليوم والثاني أكثر جرائد فرنسا انتشاراً. فكأن لهذه الأسماء الصغيرة من حسن التوفيق ما لا يحالف الأعمال التي تبدأ بالألقاب الضخمة والأسماء الفخيمة. زرت إدارة البتي مارسيليه فرأيت النظام مستحكماً في كل ما يتعلق بها وهي اليوم في السنة الثالثة والأربعين من عمرها وأقدم منها بل أقدم جرائد مرسيليا السيمافوردي مارسيل أنشئت سنة 1827 وهي من الجرائد الجدية المعتبرة إلا أنها أقل انتشاراً. وهذه الجريدة

تباع في مقاطعة الرون وما إليها مثلاً فلو فرضنا أن ما يطبع من جرائد مرسيليا ومجلاتها يبلغ كل يوم مليوني نسخة لأصاب كل فرد في مقاطعتها جريدتان ونصف على أقل تعديل هذا عدا الجرائد الباريزية وغيرها التي ترد على مرسيليا وتباع في شوارعها بالألوف أيضاً. ومن الأسف العظيم أننا لو أحصينا عدد ما يصدر من جميع الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية في البلاد المصرية والعثمانية والإيرانية لا يبلغ بكميته قدر ما تطبع كل يوم جريدة البتي مارسيليه إحدى جرائد ولايات فرنسا. وعلى هذه النسبة قس ولا تخف درجة ارتقائنا وارتقاء الفرنسيس وسجل علينا بالفقر المدقع في كل شيء ولا سيما في الأمور العقلية. ليون 8 ماذا يصف القلم من مدينة الفرنسيس وكل فرع من فروعها المدهشة لو تعاورته الأقلام الكثيرة وتوفرت على البحث فيه العقول الكبيرة لما كانت إلا إلى جانب القصور. نعم لو جاء في عصرنا الرحالة ابن حوقل وشاهد مدينة فرنسا فقط لحوقل واسترجع وقال هذه حضارة ليس لنا في وصفها مطمع ولو أتى المسعودي بقلمه وعلمه لعجز عن الوصف والتسطير ولو جيء بابن بطوطة لآب من رحلته الطويلة لا يحسن إملاء ما رأى وسمع ولو قام ابن جبير لاعترف بقصور ذرعه وعدم نفاذ طبعه وقال إن هذا إلا حلم وخيال ونحن لا نسجل في رحلتنا إلا ما تقع علينا أبصارنا ويترامى إلى آذاننا وتمسه أيدينا. وبعد فماذا يصف القلم في ليون أجمالها الطبيعي أم الصناعي. معاملها الحريرية أم مدارسها وكليتها أم انتظام شوارعها ودورها وقصورها وحدائقها أم غناها ومتاحفها وعادياتها وكنائسها ومصانعها ومعارفها ومكاتبها ومخازنها وحوانيتها وتماثيلها وأنصابها وخطوطها الحديدية والكهربائية وجسورها الحديدية والحجرية وأرصفتها البديعة وساحاتها وحدائقها ونهريها العظيمين الرون والسون اللذين يقطعانها شطرين ويزيدان في بهجتها ما تقر به العين. ماذا نذكر من ليون ثاني مدينة في فرنسا وقد شبهوها بموسكو الروسية في كونها عاصمة

دين كما هي عاصمة صناعة وعمل. وعلى جسر ليون مر الصليبيون في القرون الوسطى ذاهبين إلى المشرق لإنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين. نعم ماذا نعدد من ليون وبدائع صنع الإنسان فيها وما ضمت من معاهد قديمة وحديثة ومشاهد بهيجة ويالله ما أعجب معرض نموذج الأنسجة الذي حوى أربعمائة ألف نموذج ليس لها نظير في العالم وعرضت على أنظار أهل البلاد والسائحين ينتفعون بالنظر إليها ويستدلون بها على تفنن يد الإنسان في كسوة الأبدان. لئن حرمت ليون من ميناء بحرية لتصريف مصنوعاتها بسرعة فإن البخار البري عوض عليها هذا الحرمان فزاد في عظمتها التجارية ففي كل يوم يمر في محطات سككها الحديدية 140 قطاراً جائية ذاهبة من أنحاء شتى ولا سيما من الشمال إلى الجنوب. والمسافة بين باريز ومرسيليا 850 كيلومتراً ليس فيها شبر واحد لا أثر للعمران فيه يقطعها القطار بالسير السريع في 14 ساعة. وليون على مقربة من نصف الطريق بين باريز عاصمة البلاد ومرسيليا ثغرها والحكومة اليوم شارعة بمد خط حديدي ثالث لتسيير القطارات لأن الخطين الموجودين لا يتأتى أن يجري عليهما في كل بضع دقائق أكثر من قطار واحد مخافة أن يحدث اصطدام بين القطارات وسيكلف الخط الجديد بين باريز ومرسيليا مئات الملايين من الفرنكات وكل ذلك حتى لا يتأخر راكب ولا بضاعة وتأخذ كل جهة حظها من العمران. لم تقف ليون عند حد الأعمال الصناعية والتجارية والمالية بأن كانت هي التي أسست مصرف الكريدي ليونيه مثلاً من أعظم مصارف العالم. بل لها حظ كبير من النهضة العلمية وأثر راسخ في الحضارة الفرنسوية وناهيك بكليتها التي تحوي فروع العلم ولا سيما الطبيعي والحقوق والطب والتجارة يختلف إليها 2500 طالب منهم الأجانب وفيهم نحو خمسين مصرياً أكثرهم ويدرسون الحقوق وقليل منهم الطب وأقل في التجارة والمصريون حديث عهدهم بنزول ليون للتخرج في كليتها وقد كثر ورودهم عليها بعد أن ترك المسيو لامبر أحد أساتذة مدرسة الحقوق في القاهرة منصبه فعينته حكومته في كلية ليون أستاذاً فكان من أثر محبته للمصريين ومحبة المصريين له أن جذب عشرات منهم للتعلم في كليتها وهو يشرف عليهم إشراف الأب على أولاده. وكانت مصر تعتمد في تنشئة أولادها

من قبل على كليات الولايات الفرنسوية ولا سيما كلية مونبليه وذلك على عهد الخديوي إسماعيل لأنه كان يعتقد أن أهل مونبليه أقل معاداة للملوك وأبعد الفرنسويين عن التطرف. قضيت في ليون يومين لزيارة معالمها ومشاهدة صديقي محمد لطفي أفندي جمعة الكاتب الخطيب الغيور فرأيت فيها غاية الرقي الاجتماعي والتكافل الإنساني والذوق الفرنسوي وفي مثل مدينة ليون من قواعد البلاد تعرف حقيقة الفرنسيس لما يشهده السائح فيها من السكون والانقطاع إلى الأعمال الشريفة فلا يسفون كأكثر سكان العواصم في الأغلب للمكاسب الدنيئة أو يرضون بأن يكونوا عالة على الحكومة يأخذون رزقهم من خزانتها بالتوظيف والاستخدام. وياما أبهج ساحة بللكور (الفناء الجميل) يوم الأحد والرجال والنساء والأولاد غادون رائحون فيها لا تقرأ في وجوههم غير الأدب ولا في حركاتهم إلا التربية البيتية العالية والتشبع بالنظام المدني المعقول حتى إذا جن الليل يختلف القوم إلى دور التمثيل وأماكن اللهو والطرب وسماع الخطب والمحاضرات وهكذا ليلهم كنهارهم عمل وراحة واستفادة وإفادة أخذوا بحظ وافر من دنياهم ولم ينسوا تعهد آدابهم. فليون بلد طيب أمين يسكنه المهذبون العاملون. ولقد كنت كلما وقع نظري في ليون على شارع عظيم أو بناء جسيم تحدثني النفس بسورية فأقول متى يا ترى يكون فيها مثل ما في ليون على الأقل ولو أن عمران ليون وحدها وهي إحدى مدن فرنسا وما فيها من قوة مادية وأدبية وزعت على سورية من عريش مصر إلى الفرات ومن البحر المتوسط إلى أقصى بداية الشام وحدود نجد والحجاز لغدت سورية وهي في مساحتها نحو مساحة فرنسا كلها من حيث عمرانها أرقى مدن المعمورة ولكن الرزق لا يأتي بالتمني والوجود لا ينتفع به إلا من يحسنون استخدام ما فيه من القوى والعناصر. تحية باريز 9 سلام عليك مرضعة الحكمة. وربيبة الرخاء والنعمة. وروح الانقلابات الاجتماعية والسياسية. وحيية المدنية الأصلية في الأقطار الغربية والشرقية. ومعلمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمين. والضرب على أيدي الرؤساء والنبلاء والمالكين. أنت هذبت طبائع

البشر حتى غدوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل. أنت كنت في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل بل تأليهه فقضيت بالتقدم له على كل شيء في الوجود. وبالغت في إكرام العقول من أبنائك. سلام عليك يا عشيقة الإبداع والاختراع. وسابقة الأقران في مضمار الانتفاع بما حوت الرباع والبقاع. استخدمت القوى المادية فأحدت استخدامها. واستثمرت القوى العقلية فأبدعت في استثمارها. وأحييت حضارات الأمم السالفة. وأنشأت لك حضارات لا يزال يحسدك عليها أسبق الشعوب إلى الترقي مهما تقلبت بك الحال. ويجدون في أوضاعك ما ليس يجدونه في أوضاعهم من المرونة والجمال. سلام عليك يا واضعة حقوق الإنسان وملقحة الأذهان بالتناغي بحب الأوطان والداعية إلى ثل عروش الجبارين والمخربين. أنت لم ترهبك تقاليد أبطال القرون الوسطى. والقدر بل أخذت بالأسباب والمسببات فقتلت من أراد قتلك. ووضعت من لم يهمه رفعك. وكنت للناهضين من الناس خير مثال. سلام عليك يا معهد المعارف والصناعات بما أنشأتيه من مجامعك العلمية ومدارسك الجامعة والكلية. ومجالسك العامية والخاصية. وجمعياتك ونقاباتك لخدمة المدنية والإنسانية. ودور تمثيلك ومعاهد انسك وسماعك. ومتاحفك وحدائقك ومكاتبك ومعارضك. وكل ما أبدعته أفكار أبنائك وأيديهم ودل على مجد طريف وتالد وتاريخ على جبين الدهر خالد. سلام عليك يا ملقنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة ليتعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادل المنافع حتى لا يبقى تمييز في الحقوق والواجبات بين المختلفين في الموالد والديانات وقطعت التفاضل إلا بالأعمال الصالحة والأحلام الراجحة. سلام عليك يا متشبعة بأفكار الحكماء ارتضيتيها منهم قانوناً تجرين عليه لسعادتك ولئن حاد بعض أبنائك بعض الشيء عنها فذلك لأن سياسة المنافع والمصالح قد تخالف ناموس الحق والعمل الصالح ولأن نظام بقاء الأنسب لا قلب له والتنازع في جهاد الحياة كثيراً ما يدعو الإنسان إلى ركوب ما تحظره الشرائع الوضعية والسماوية ولا سيما في هذه العصور التي يفصل فيها كل عمل على قالب الماديات وما ذلك إلا ليقر البشر بعجزهم ويعلموا أن الكمال الآن محال ولعله لا يفوتهم في مستقبل القرون والأجيال.

السلام على هذه العاصمة التي أحسنت إلى الشرق فيما مضى فعلمته حتى استمد منها النور فإن قلنا معاشر الشرقيين ولا سيما سكان الشرق الأقرب أنا نأخذ عن المدينة الغربية فإنما نعني المدنية الفرنسوية وبعبارة أصح المدنية التي تنبعث أشعتها من باريز ومن طريقها وبلغتها وأسلوبها تيسر لنا أن نستطلع طلع سائر مدنيات الأرض. سلام عليك علمت فما أحسن العلم والعمل إذا اجتمعا. وما أحلى الإخلاص والشعور بالواجب. سلام عليك سننت للغرب سنة التضامن والتكافل. والعطف على البائسين والمساكين. والرفق بالضعفاء والعاجزين. والأخذ بأيدي المقهورين والعاثرين. والانتصار للمظلومين من الآدميين خصوصاً إذا كانوا من طينة أوربية. سلام عليك أنت العاصمة التي تركت القصور الفخيمة التي عمرت بدماء الأمة مباحة للناس يدخلونها وكانت بورة المظالم والمغارم. ومنبعث الشهوات والأهواء. ولطالما جأرت جوانبها بالدعاء إلى السماء من حيف الكبراء أيام كان يوقع ملوكها وهو على سرير نومه توقيعاً واحداً يترك من الغد مئة ألف أسرة في هذه البلاد تبيت جائعة عريانة ليعمر بما يجمع قصراً له أو يدفعه لمحبوبته صبرة واحدة فلما أضناك الظلم والعنت قمت تجعلين من تلك القصور الفاسقة متاحف عامة ومن دور الظلم والظلمات مجالس عدل وعلم ونور. سلام عليك خلدت أعمال من خلفوا لك هذه المدنية وأقمت تماثيلهم ونصبهم موقع الاحترام والإعظام وتوفرت على تكرير أسمائهم على المسامع كل يوم ألوف الألوف من المرات لتجعليهم مهمازاً لمن يأتي بعدهم من الأبناء والأحفاد. سلام عليك يا بلد ديكارت وكونت وروسو وفولتير وديدرو وسيمون ومونتسكيو وهوغو وباسكال ورنان ومئات أضرابهم ممن بذلوا حياتهم في حسن خدمتك فلم تنس أفضالهم عليك بعد مماتهم. أنت إن خجلت من ذكرى الحروب الصليبية وديوان التفتيش الديني ومذبحة القديس برتلماوس ومقتل الفيلسوف فيفاتي وجنون نابليون وغير ذلك من الأعمال البربرية في عصور الظلمة فإن سكانك يفاخرون وحق لهم الفخر بأنهم أحفاد ثورة سنة 1789 قاموا من الأعمال المشكورة في عصور النور ما ينسي الماضي إلا أقله. إن الحسنات يذهبن

السيئات. السلام عليك باريز أجمل عواصم العالم وأغنى البلاد ببدائعها الطبيعية والصناعية وأجمعها لمرافق الراحة والرفاهية. لست أنت اليوم عاصمة مئة مليون من البشر أربعون في أرضك وستون في المستعمرات بل أنت بما فيك من المزايا عاصمة معظم الخافقين لأسباب هنائك وصفائك ونعيمك ونعائمك وتفردك من بين العواصم بسلامة الذوق وسلامة الإبداع ووفرة العلماء والباحثين والكاتبين والشاعرين والقصصيين. فكل شيء في باريز مبذول حتى لتعافه النفوس من أقصى ما يتصور الفكر من الفضيلة إلى آخر ما يجول في خاطر أو يحوم حوله خيال. فباريز ولا مراء جنة أرضية جمع فيها موجدوها - استغفر الله_ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. باريز بعد الغروب 10 إن فاخرت باريز بمعارضها التي أقامتها في أوقات مختلفة لتلفت إليها الأنظار وتستفيد الفخار والنضار فإن لها كل ليلة معارض لا تختلف عن السابقة إلا في كون البقعة التي تقوم عليها هذه أوسع مجالاً وأكثر جمالاً. يصرف الباريزيون أو معظمهم نهارهم في الاستعداد لليلهم وكثيرون لا يعملون إلا في الليل ويصرفون النهار في جمع قواهم وادخار أحسن ما عندهم لما بعد الشفق فهم لا يجعلون الليل لباسا والنهار معاشاً كما هي عادة معظم الأمم بل أن الحركة عندهم تبدأ قبيل الظهر بطيئة ولا تزال تنمو حتى تغيب الشمس وتطلع بدلها شموس وأقمار. ترى المدينة في النهار عابسة مظلمة على كثرة جاداتها الكبرى وشوارعها المغروسة على جانبيها بالأشجار غالباً وطرقها وأزقتها وساحاتها العامة وفي هذه الأماكن تشهد مجالي الحسن والإحسان وما تفننت في إبداعه العوامل وتلطفت في روائه الأفكار والأنامل. على تلك الأرصفة تناجي النفس رب النجوى قائلة اللهم هل خلقت باريز من معدن اللطف والظرف لتكون مثالاً من جنة أرضية فخصصت أهلها بالاستمتاع بنعمة الجمال حتى لكأنك شطرته شطرين شطر وقفته على الباريزيات وشطر وزعته على سائر بنات حواء.

إن امتاز الفرنسيس بالإبداع في الصناعات فقد امتازوا أيضاً بنضرة الوجوه. وإلى باريز تحمل هذه الأمة ولا سيما في فصل الشتاء أفضل ما عندها من مجالي الكمال والجمال أيام تكون أم هذه القرى مقصد السائحين والمتجرين والطالبين والعالمين والسياسيين والخاطبين وتغص دواوينها وإداراتها وتلتئم مجالسها العلمية والسياسية والاجتماعية. ويزيد الوجوه بهجة في باريز تفنن القوم في الأزياء وتغاليهم في التبرج والزينة تغالياً مهما تقدم عند غيرهم لا يزالون مصدره ومورده وأساتذته وسدنته. ومظاهر الأزياء تتجلى في باريز بعد الغروب على الجادات والشوارع والطرق والساحات وفي المركبات والسيارات وحوافل الخيل والكهرباء والسكك الحديدية فوق الأرض وتحتها وفي دور التمثيل ومسارح اللهو والطرب وحال الفرج والحانات والقهوات والمطاعم والفنادق ويزيدها فتنة للناظرين ما اعتاده الباريزيات إلا من عصم ربي من إبداء زينتهن لغير المحارم أكثر من إبدائها لبعولهن وذوي قرباهن ورنين أصواتهن في الكلام رنيناً تحسبه من مزامير داود وتستطيبه أكثر من تغريد العندليب وهناك الفتنة بعينها والفتنة أشد من القتل ونعوذ به تعالى من فتنة القلب وفتنة العين. ولعل هذه المجالي في الحرية المفرطة حملت الكثير من الغرباء على نزول باريز ليشهدوا فيها مالا يشهدونه في غيرها وتربح منهم الليرات بالملايين والكرات عملاً بما قاله أحد ملوك بروسيا وقد قيل له ليس من اللائق أن تضرب ضريبة على محال الاطمئنان في الشوارع فقال الغاية تبرر الوسيلة فما دامت الغاية الكسب فلا بأس من الاحتيال لنيله ومن أجل هذا تظهر باريز بعد الغروب أقصى الفضيلة وأقصى الرذيلة والناس معهما وما يختارون. بعد الغروب تعمر في باريز أندية الخطابة والمحاضرة والعلم وتلقى فيها من الفوائد ما يبلغ الأذهان عفواً وصفواً ويفيض معين البيان ويبدو حذق يد الإنسان ويسعى العالم إلى تعليم الجاهل في ساعة ما تعب في إحضاره الأيام والأعوام فمائدة الخطب والمحاضرات معروضة. ودروس الفضائل عامة مورودة. بعد الغروب يعمل معظم الكاتبين كتبهم والشاعرين أشعارهم والمؤلفين مؤلفاتهم والمخترعين اختراعاتهم والصانعين كأن الأفكار لا تنطلق من عقالها والأيدي لا تحذق

أعمالها إلا عندما ترقد عيون البشر أو كأن الزهرة ربة الجمال لا تحب أن تملي على من هم أحوج الناس إلى طلعتها إلا من الليل ككوكب الزهرة لا يبدو في مطلع الأفلاك إلا مع الدجى. ولذا يحرص أهل باريز أن يجعلوها بعد غروب الشمس مجمع الأنس وريحانة النفس. وكأن الباريزيين وهم العارفون بتقسيم الأعمال عزَّ عليهم أن تمضي ساعة في بلدهم ينقطع فيها العاملون عن أعمالهم فخصوا النهار ببعض الصناع والتجار والعملة والعاملات والليل بالمفكرين والمفكرات والمؤنسين والمؤنسات والمغنين والمغنيات والممثلين والممثلات. . . . . حتى لا تنقطع حركة ولا يقف دولاب عمل وكان بذلك الحظ الأوفر للغرباء فلا يدخل على الغريب ملل من تغير المشاهد ولا يفتأ من الفجر إلى الفجر إن أحب يستمتع بالمشاهد العجيبة ويتعلم ويأنس ويتنزه. يقول الباريزيون أن بلدهم مبارك على الغريب أكثر منه عليهم وأنهم مضطرون أن يواصلوا السير بالسرى ويكدحون الليل والنهار ولكن هذا قول من ملك شيئاً فزهد فيه والروح ترتاح إلى التنقل أما الشرقي الذي يرى أهل باريز ويغبطهم على أكثر ما دبروه لراحتهم ورفاهيتهم فإنه يعجب لمن يساكنهم زمناً كيف ترضى نفسه أن يختار عن باريز بلداً كما يعجب لأهلها كيف لا يأسفون على مفارقة الحياة أضعاف أضعاف ما يأسف غيرهم عليها ومن قال بأن دواعي الراحة تطيل حبال الآجال يستعظم على أهل باريز لمَ لم يعمروا أكثر من عامة الخلق وعندهم النعيم المقيم والخير العميم.

الرسالة العذراء

الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة كتب بها أبو اليسر ابراهيم بن محمد بن المدبر بسم الله الرحمن الرحيم فتق اله بالحكمة ذهنك، وشرح بها صدرك وأنطق بالحق لسانك، وشرف به بيانك، وصل إليَّ كتابك العجيب الذي استفهمني فيه بجوامع كلمك جوامع أسباب البلاغة، واستكشفني عن غوامض آداب أدوات الكتابة، سألتني أن أقف بك على وزن عذوبة اللفظ وحلاوته، وحدود فخامة المعنى وجزالته، ورشاقة نظم الكتاب ومشاكلة سرده، وحسن افتتاحه وختمه، وانتهاء فصوله، واعتدال وصوله وسلامتهما من الزلل، وبعدهما من الخطل، ومتى يكون الكاتب مستحقاً اسم الكتابة، والبليغ مسلماً له معاني البلاغة، في إشارته، واستعارته، وإلى أي أدواته هو أحوج، وبأي آلاته هو أعمل إذا حصحص الحق. ودعي إلى السبق، وفهمته وأنا راسم لك أيدك الله من ذلك ما يجمع أكثر شرائطك، ويعبر عن جملة سؤالك، وإن طولت في الكتاب وعرضت وأطنبت في الوصف وأسهبت، ومستقص على نفسي في الجواب على قدر استقصائك في السؤال، وإن أخل به التياث الحال، وسكون الحركة، وفتور النشاط، وانتشار الروية، وتقسم الفكر، واشتراك القلب، والله المستعان. اعلم أيدك الله إن أدوات ديوان جمع المحاسن وآلات المكارم طاعة منقادة لهذه الصناعة التي خطبتها وتالية تابعة لها وغير خارجة إلى حجد أحكامها ولا دافعة لما يلزمها الإقرار به لها أضراراً منها إليها وعجزاً عنها فإن تقاضتك نفسك علمها ونازعتك همتك إلى طلبها فاتخذ البرهان دليلاً شاهداً والحق إماماً قائداً يقرب مسافة ارتيادك ويسهل عليك سبل مطالبها واستوهب الله توفيقاً تستنجح به مطالبك، واستمنحه رشداً يقبل إليك بوجه مذاهبك، فاقصد في ارتيادك، وتأمل الصواب في قولك وفعلك، ولا تسكن إلى جحود قصد السابق باللجاج ولا تخرج إلى إهمال حق المصيب بالمعاندة والإنكار ولا تستخف بالحكمة ولا تصغرها حيث وجدتها فترحل نافرة عن مواطنها من قلبك وتظعن شاردة عن مكانها من بالك، وتتعفى بعد العمارة من قلبك آثارها وتنطمس بعد الوضوح أعلامها واعلم أن الاكتساب بالتعلم والتكلف وطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء فإن أردت خوض بحار البلاغة وطلبت أدوات الفصاحة فتصفح من رسائل المتقدمين ما تعتمد عليه

ومن رسائل المتأخرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنجاح بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به ومن الأشعار والأخبار والسير والأسماء ما يتسع به منطقك، ويعذب به لسانك ويطول به قلمك، وانظر في كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وتوقيعاتهم وسيرهم ومكايدهم في حروبهم بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط ككتب السجلات والأمانات فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب وتمهر في نزع آي القرآن في مواضعها واجتلاب الأمثال في أماكنها واختراع الألفاظ الجزلة وقرض الشعر الجيد وعلم العروض، فإن تضمين المثل السائر والبيت الغابر مما يزين كتباتك ما لم تخاطب خليفة أو ملكاً جليل القدر فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء والجلة والرؤساء عيب واستهجان للكتب إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له فإن ذلك مما يزيد في أبهته ويدل على براعته، وإن شدوت من هذه العلوم ما لا يشغلك محله، وتنقبت من هذه الفنون ما تستعين به على إيطالة قلمك وتقويم أود بيانك. بعد أن يكون الكاتب صحيح القريحة، حلو الشمائل، عذب الألفاظ، دقيق الفهم حسن القامة بعيداً عن الفدامة خفيف الروح، حاذق الحس، محنكاً بالتجربة، عالماً بحلال الكتاب والسنة وحراميهما، وبالملوك وسيرها وأيامها، وبالدهور في تقلبها وتداولها، مع براعة الأدب، وتأليف الأوصاف، ومشاكلة الاستعارة، وحسن الإشارة وشرح المعنى بمثله من القول حتى تنصب صوراً منطقية تعرب عن أنفسها، وتدل على أعيانها، لأن الحكماء قد شرطوا في صفات الكتاب طول القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهازم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل وملاحة الزي حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزيّ الكتاب فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة. وخاطب كلاً على قدر أبهته، وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وتفطنه وانتباهه، واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام فأربعة منها للطبقة العلوية وأربعة دونها ولكل طبقة منها درجة ولكل قسمة حظ لا يتسع للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها، ويقلب معناها إلى غيرها فالطبقة العليا الخلافة التي أعلى الله شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسل، والطبقة الثانية الوزراء والكتاب الذي يخاطبون الخلفاء

بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم ويتجملون بآدابهم الثالثة أمراء ثغورهم، وقواد جيوشهم، يخاطب كل امرئ منهم على قدره وبما حمل من أعباء أمورهم، وجلائل أعمالهم، الطبقة الرابعة القضاة فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء وحلية الفضلاءِ فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء. أما الطبقات الأربع الأخرى فالملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب وأفضالهم تفضيلهم فيها، والثانية وزراؤهم وكتابهم وأتباعهم الذي بهم تقرع أبوابهم وبعنايتهم تستماح أموالهم والثالثة هم العلماءُ الذين يجب توقيرهم في الكتب لشرف العلم وعلو درجة أهله، الرابعة لأهل القدر والجلالة والظرف والحلاوة والعلم والأدب فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم وشدة تمييزهم وانتقادهم إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم، واستغنينا عن الترتيب للتجار والسوقة والعوام رتبة لاستغنائهم بتجارتهم عن هذه الآلات واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعيها في مراسلتك إليهم في كتبك وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه وتعطيه قسمه وتوفيه نصيبه فإنك متى أضعت ذلك لم آمن بك أن تعدل بهم غير طريقهم وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه وتنظم جوهر كلامك في غير ملكه فلا يفيد المعنى الجزل ما لم تلبسه لفظاً جزلاً لائقاً بمن كاتبته ومشابهاً لمن راسلته، وإن الباسك المعنى وإن شرف وصلح لفظاً مختلفاً عن قدر المكتوب إليه لم تجر به عادتهم تهجين للمعنى وإخلال بقدره وظلم لحق المكتوب إليه ونقص مما يجب له كما أن في امتناع نعارفهم وما انتشرت به عاداتهم وجرت به سنتهم وضعاً لقدرهم وخروجاً من حقوقهم، وبلوغاً إلى غير غاية مرادهم وإيقاظاً لحجة أدبهم ضمن الألفاظ المرغوب عنها والصدور المستوحش منها في كتب السادات والأمراء والملوك على اتفاق المعاني مثل أبقاك الله طويلاً وعمرك ملياً وإن كنا نعلم أنه لا فرقان بين قولهم أطال الله بقاءك وبين قولهم أبقاك الله طويلاً ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزناً وأنبه قدراً في مخاطبة الملوك كما أنهم جعلوا أكرمك الله وأبقاك أحسن منزلة في كتب الظرفاء والأدباء من جعلت فداك على اشتراك معناه واحتماله أن يكون فداء من الخير كما يكون فداءً له من الشر ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص فداك أبي وأمي لكرهت أن يكتب بها أحد على أن كتاب العسكر وعوامهم قد

أولعوا بهذه اللفظة حتى استعملوها في جميع محاوراتهم وجعلوها هجيراهم في مخاطبة الشريف والوضيع والصغير والكبير ولذلك قال محمود الوراق: كل من حل سر من را من النا_س وممن يصاحب الأملاكا لو رأى الكلب ماثلاً في طريق ... قال للكلب يا جعلت فداكا وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل أبقاك الله وأمتع بك إلا إلى الحرمة والأهل والتابع والمنقطع إليك وأما في كتب الإخوان فغير جائز بل مذموم مرغوب عنه ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكاً فتهت في كتبك أم هل ترى أن في التواضع للأخ ... ولمن نقصاً عليك في حسبك أتعبت كيفك في مكاتبتي ... حسبك مما يزيد في تعبك إن جفاءً كتاب ذي أدب ... يكتب في صدره وأمتع بك فكتب إليه محمد بن عبد الملك: أنكرت شيئاً فلست فاعله ... فلن تراه يخط في كتبك فاعف ندتك النفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك كف أخون الإخاء يالعلي ... وكل شيءٍ أنال من سببك إن يك جهلاً أتاك من قلبي ... فعد بفضل عليّ في أدبك وأما صدور السلف كانت من فلان بن فلان إلى فلان كذلك جرت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلاء بن الحضرمي وإلى أقيال اليمن وإلى كسرى وقيصر وكتب أصحابه والتابعين كذلك حتى استخلص الكتاب هذه المحادثات من بدائع الصدور واستنبطوا لطيف الكلام ورتبوا لكل رتبةً وجروا على تلك السنة الماضية إلى عصرنا هذا في كتب الخلفاء والأمراء وثبتوا على ذلك المنهاج في كتب الفتوحات والأمانات والسجلات ولكل مكتوب إليه قدر ووزن ينبغي للكاتب أن لا يتجاوز به عنه ولا يقصر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأخوص حين خاطب الملوك بمخاطبة العوام في قوله: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل فهذا معنى صحيح في المدح ولكنهم أجلوا أقدار الملوك أن يمدحوا بما يمدح به العوام لأن

صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان مدحاً فهو واجب على كل والملوك لا يمدحون بالفروض الواجبة وإنما يحسن مدحهم بالنوافل لأن المادح لو قال لبعض الملوك إنك لا تزني بحليلة جارك وإنك لا تخون ما استودعت وإنك تصدق في وعدك وتفي بعهدك كان قد أثنى بما يجب ولكنه لم يصل بثنائه إلى مقصد وقال ما لا يستحسن مثله في الملوك. ونحن نعلم أن كل تولى من أمور المؤمنين شيئاً فهو أمير المؤمنين غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا للخلفاء خاصة ونعلم أن الكيس هو العقل إذا عنوا به ضد الحمق ولكنك لو وصفت رجلاً فقلت: إن فلاناً لعاقل كنت قد مدحته عند الناس ولو قلت أنه كيس كنت قد قصرت في وصفه وقصرت به عن قدره إلا عند أهل العلم باللغة لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة إلا إلى حيث جرت منها العادة في استعمالها في الظاهر مع الحداثة والعزة وخساسة القدر وصغر السن فقد روينا عن علي رضي الله عنه أنه تبجح بالكيس حين بنى الكوفة وقال: أما تراني كيساً مكيساً ... بنيت بعد نافع مخيساً حصناً حصيناً وأميراً كيساً وقال آخر: ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس ونعلم أن الصلوة وحي غير أنهم قد حرموها إلا على الأنبياء كذلك روي عن ابن عباس (رضه) وسمع سعد بن أبي وقاص أخاً له يلبي ويقول: ياذا العارج فقال نحن نعلم أنه ذو المعارج ولكن ليس كذلك كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كنا نقول: لبيك اللهم لبيك وكان أبو ابراهيم المزني قال في بعض ما طالبه به داود بن علي خلف الأصبهاني فقال: وإن قال كذا فقد خرج من الملة والحمدلله فانتقد عليه ذلك داود وقال: تحمد الله علي أن يخرج مسلماً من الإسلام هذا موضع استرجاع وللحمد مكان يليق به ونحن نقول على المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون. فامتثل هذه الرسوم والذاهب وأجر على آدابهم فلكل رسومٌ امتثلوها وتحفظ في صدور كتبك وفصولها وافتتاحها وخاتمتها وضع كل معنى في موضع يليق به وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر الشكوى بمثل والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل، وفي موضع ذكر البلوى نسأل الله دفع المحذور ونسأل الله صرف السوء وفي موضع الذكر المصيبة بمثل إنا لله وإنا إليه راجعون، وفي موضع ذكر النعم بمثل

والحمد لله خالصاً والشكر لله واجباً، فإنها مواضع ينبغي للكاتب تفقدها فإنما يكون كاتباً إذا وضع كل معنى في موضعه وعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى فلا يجعل أول ما ينبغي له أن يكتب في آخر كتابه في أوله ولا أوله في آخره فإني سمعت جعفر بن محمد الكاتب يقول: لا ينبغي للكاتب أن يكون كاتباً حتى لا يستطيع أحد أن يؤخر أول كتابه ولا يقدم آخره. واعلم أنه لا يجوز في الرسائل ما أتى في آي القرآن من الإيصال والحذف ومخاطبة الخاص بالعام والعام بالخاص لأن الله سبحانه وتعالى إنما خاطب بالقرآن أقواماً فصحاء فهموا عنه جل ثناؤه أمره ونهيه ومراده والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس فإنه إن ذهب على مثل قوله تعالى واسأل القرية واسأل العير بل مكر الليل والنهار احتاج أن يبين بل مكركم بالليل والنهار ومثله في القرآن كثير. ولا يجوز في الرسائل ما يجوز في الشعر لأن الشعر موضع اضطرار فاغتفروا فيه الإغراب وسوء النظم والتقديم والتأخير والإضمار في موضع الإظهار فمن الحذف قول الحطيئة من صنع سلّام يريد سليمان بن داود وكقول الآخر: والشيخ عثمان أبو عفان وكقول الآخر: وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق أراد ابن سيار وكقول النابغة: ونسج سليم كل قضاء زائل يريد سليمان وكذلك ينبغي في الرسائل أن لا يصغر الاسم موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزاً على مثل قولهم دويهية وجذيل وعريق، ومما لا يجوز في الرسائل كلمت إياك وأعني إياك وإساءة النظم في التأليف في الشعر كثير وتكون الكلمة بشعة حتى إذا وضعت وقرنت مع أخواتها حسن حالها وراقت كقول الحسن بن هاني: ذو حضر أفلت من كد القبل والكد كلمة قلقة لاسيما في الرقيق والغزل والتشبيب غير أنها لما وقعت في موضعها حسنت كما أن اللفظة العذبة إذا لم توضع موضعها نفرت قال: رأت عارضاً جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها قبل الظلام تبادره فأوقع الجلف الجافي هذه اللفظة غير موقعها وظلمها إذ جعلها في غير مكانها لأن المساحي

لا تكون ولا تصلح للغرائر وأين كان عن قول الشاعر: غرائر ما حدثن يهديهن آنسة ... فما فوقه منهن غير غرائر حديث لو أن العصم تدعى به أتت ... ودون يد الفحشاء حد البواتر فتخير من الألفاظ أرجحها وزناً، وأجزلها معنى، وأليقها في مكانها، وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك وافتتاح كلامك برهان شاهد على مقصدك حيثما جريت فيه من فنون العلم ونزعت نحوه من مذاهب الخطب والبلاغات فإن ذلك أجزل لمعناك وأحسن لا تساق كلامك ولا تطيلن صدر كلامك إطالة تخرجه من حده، ولا تقصر به عن حقه، ولو صور اللفظ وكان له حد لوقفتك عليه غير أنهم في الجملة كرهوا أن يزيدوا سطور كتب الملوك على سطرين وهذه إشارة لا تعبر إلى عن الجملة من المقصود إليه لأن الأسطر غير محدودة. واعلم أن أول ما ينبغي لك أن تصلح آلتك التي لا بد لك منها وأدواتك التي لا تتم صناعتك إلا بها وهي دواتك فابدأ بعمارتها وإصلاحها وتخير لها ليقة نقية من الشعر والودح لئلا يخرج على حرف قلمك ما يفسد كتابك ويشغلك بتنقيته وخذ من المداد الفارسي خمسة دراهم ومن الصمغ العربي درهماً وعفصاً مسحوقاً نصف درهم ورماد القرطاس المحرق درهمين ثم تسحقها وتغربلها وتجمعها ببياض البيض ثم بندقها واجعلها في الظل فإذا احتجت إليها أخذت منها مقدار حاجتك فكسرته وحشوت به دواتك وإذا نقعته في ماء السلق حتى ينحل ويذوب ويختمر ثم أمددت من مائه دواتك كان أجود وأنقى ثم اختر بعد ذلك من أنابيب القلم الذي يصلح لكتابة القراطيس أقله عقدة وأكثفه لحماً واجلبه قشراً واعدله استواءً وتجنب الأقلام الفارسية ما استطعت فإنها ما تصلح إلا للكواعد والرقوق. واجعل لقلمك براية حادة فإن تعثر يد الكاتب وقت قطع القرطاس ناقص مروءته ومخل بظرفه وإن قدرت أن لا تقطع القرطاس إذا فرغت من كتابك إلا بخرطوم قلمك فافعل فإن ذلك أكمل لمروءتك وأبدع لظرفك وقطعك. واستعمل لبري القلم سكيناً طواويسي مذلق الحد وميض الطرف فيكون ذلك عوناً لك على بري أقلامك فإن محل القلم من الكاتب محل الرمح من الفارس ولئن قيل كأنه الرمح الرديني فقد قال الكاتب كأنه القلم البحري، وتفقد الأنبوبة قبل بريكها لئلا تجعلها منكوسة

وابرها من ناحية نبات القصبة وأرهف ما قدرت جانبي قلمك ليرد ما انتشر من المداد ولا تطل شقه فإن القلم لا يمج المداد من شقه إلا مقدار ما احتملت شبتاه فارفع شبتيه ليجمعا لك حواشي تحضيره وإما قط القلم فعلى قدر القلم الذي يتعاطاه الكاتب من الخط غير أن المسلسل لا يكاد يتسلسل إلا بالقلم المربع القط كما أن كتب الملوك والسجلات لا تحسن إلا بالقلم المحرف الكوفي وأما قلم اللازورد فهو المعتمد عليه والمقصود إليه في النوائب والمهمات. ورأيت كثيراً من الكتاب يختارون قلم النرجس لتجعده وتجانسه ومن اللازورد أبسط منه وأقوم حروفاً وأما الموشع والمولع والمدبج والمنمنم والمسهم فعلى قدر رشاقة خط الكاتب وحلاوة قلمه وأما حسن الخط فلا حد له قال علي بن زيز النصراني الكاتب أعلمك الخط في كلمة واحدة لا تكتبن حرفاً حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف المبدوء به وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره حتى لا تعجل عنه إلى غيره، وإياك والنقط والشكل في كتابك إلا أن تمر بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه فأن يشكل عليّ الحرف أحب إلي من أن يعاب بالنقط والأعجام، وقال المأمون لكتابه إياي والشونيز في كتبكم يعني النقط ولذلك قال ابن هاني: لم ترض بالأعجام حين كتبته ... حتى كتبت السب بالأعراب ولا تغفل الصلاة على النبي علي الصلاة والسلام فقد قال أبو العيناء أن بني أمية هم الذين كانوا أمروا كتابهم فطرحوا ذلك من كتبهم فجرت عادة الكتاب إلى يومنا هذا على ما سنوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لا تجعلوني كقدح الراكب ولكن اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه وآخره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولاً وأوسط وآخراً. وأحب أن تجعل بدل الإشارة التراب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتربوا كتبكم فإنه أنجح لحاجة ولا تدع التاريخ فإنه يدل على تحقيق الأخبار وقربها وبعدها وانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه فإن كان الماضي أقل من نصف الشهر قلت هكذا ليلة مضت من شهر كذا وإن كان الباقي أقل من النصف قلت لكذا أيضاً بقيت وقد قال بعض الكتاب إن الماضي من الشهر إن تحصيه والباقي لا تحصيه لأنك لا تدري أيتم الشهر أو ينقص وليس هذا بشيء لأن تاريخ الكتاب ليس من الأحكام في شيءٍ وما على الكاتب أن يكتب

إلا بما ظهر وتبين لا بما يظن. ولا تجعل سحاة كتبك غليظة إلا في العهود والسجلات التي تحتاج إلى خواتمها وطوابعها فإن محمد بن عيسى الكاتب كاتب آل طاهر أخبر عنهم أن عبد الله بن طاهر كتب إلى العراق في أشخاص كاتب كان كتب إليه فكتب وغلظ سحاة كتابه فرد الكتاب إليه فقدم عليه راجياً لبره وجائزته فقال عبد الله بن طاهر إن كان معك مسحاة فاقطع خزم كتابك وإنه رف وراءك وكذلك لا تعظم الطينة ففي المثل من عظم الطينة فإنه مظلوم ولا تطبعها إلا بعد عنواناتها فإن ذلك مراد بهم وقد يجب عليك علم الصلق القراطيس ومحوها ولم أر شيئاً في إلصاقها ألطف من أن ينقع الصمغ العربي في الماء ساعة حتى يذوب ثم يلصق به وكذلك ماء الكثيرا والنشاستج ثم تطويه طياً رقيقاً وتجعله في منديل نظيف ويرفع تحت وسادة حتى يجف وأما محوها فعلى قدر لطف الكاتب وتأنيه غير أنه ينبغي له أن لا يلقط السواد من القرطاس إلا بمثل الشمع المسخن واللبان الممضوغ وما أشبههما ثم يكون لقطه رويداً رويداً كما لقط جانباً حوله إلى الجانب الآخر وأما قراءة الكتب المختومة والتلطف لنقض خواتيمها فمما لا نذكره خوفاً من سفيه. وأما تضمين الأسرار حتى لا يقرأها غير المكتوب إليه فقيه أدب وقد تعلقت العامة بالقمي والأصبهاني فيجب أن يبدل الحروف تبديلاً يخفى وألطف من ذلك أن تأخذ لبناً طيباً فتكتب به في قرطاس فيذر المكتوب إليه عليه رماداً حاراً من رماد القراطيس فإنه يظهر وأن كتب بماء الزاج وذرّ عليه العفص المدقوق بجاز أو بماء العفص وذر عليه شيئاً من الزاج أو ينقع شيئاً من وشق ثم تكتب به ثم نثرت عليه الرماد فإنه يظهر وإن أحببته لا يقرأ بالنهار ويقرأ بالليل فاكتبه بمرارة السلحفاة وإن حاولت صنعة رسالة أو إنشاء كتاب فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت والكلمة بعبارة إذا سخت فربما مرّ بك موضع يكون مخرج الكلام إذا حسب أنا فاعل أحسن من أنا أفعل واستفعلت أحلى من فعلت. وأدر الألفاظ في أماكنها واعرضها على معانيها وقلبها على جميع وجوهها حتى تقع موقعها ولا تجعلها قلقة نافرة فمتى صارت كذلك هجنت الموضع الذي أردت تحسينه واعلم أن الألفاظ في أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رقاعه تغير حسنه قال الشاعر:

إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبين الناس أن الثوب مرقوع وارتصد لكتابك فراغ قلبك وساعة نشاطك فنجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف لأن سماحة النفس بمكنونها وجود الأذهان بمخزونها إنما هو مع الشهوة المفرطة في الشر والمحبة الغالبة فيه أو الغضب الباعث منه ذلك، قيل لبعضهم لم لا تقول الشعر قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب، وهذا كله إن جريت من البلاغة على عرق وظهرت منها على حظ فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك ولا واقعة شهوتك عليها فلا تنضي مطيتك في التماسها ولا تتعب بدنك في ابتغائها واصرف عنانك عنها ولا تطمع فيها باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك ومن كان مرجعها فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم والاستضاءة بكوكب من سبقه وسحب ذيل حلة غيره ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه ونتائج ذهنه الكلام الحر والمعنى الجزل فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير. على أن كلام العظماء المطبوعين ودرس رسائل المتقدمين على كل حال مما يفتق اللسان ويوسع المنطق ويشحذ الطبع ويستثير كوامنه أن كانت فيه سجية قال العتابي: ما رأينا فيما تصرفنا فيه من فنون العلم وجرينا فيه من صنوف الآداب شيئاً أصعب مراماً ولا أوعر مسلكاً ولا أدل على نقص الرجال ورجاحتهم وأصالة الرأي وحسن التمييز منه واختياره من الصناعة التي خطبتها والمعنى الذي طلبته وليس شيء أصعب من اختيار الألفاظ وقصدك بها إلى موضعها لأن اللفظة تكون أخت اللفظة وقسيمتها في الفصاحة والحسن ولا يحسن في مكان غيرها وبتمييز هذه المعاني ومناسبة طبائع جها بذتها ومشاكلة أرواحهم جعلوا الكتابة نسباً وقرابة وأوجبوا على أهلها حفظها. سهل بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان مفترقة ومن لم يعرف فضلها وجهل أهلها وتعدى بهم رتبتهم التي وصفهم الله بها فإنه ليس من الإنسانية في شيءٍ، قالت البرامكة: رسائل المرء في كتبه دليل على عقله وشاهد على غيبه قال الشاعر: وتنكرو دا لمرء في لحظ عينه ... وتعرف عقل المرء حين تكاتبه آخر: وشعر الفتى يبدي غريزة طبعه ... وبالكتب يبدو عقله وبلاغته الشعبي: يعرف عقل الرجل إذا كتب وأجاب، العتبي: عقول الناس مدونة في كتبهم، ابن

المقفع: كلام الرجل وافد عقله، وشبهت الحكماء المعاني بالغواني والألفاظ بالمعارض فإذا كسا الكاتب البليغ المعنى الجزل لفظاً رائقاً وأعاره مخرجاً سهلاً كان للقلب أحلى وللصدر أملى ولكنه بقي عليه أن ينظمه في سلكه مع شقائقه كاللؤلؤ المنثور الذي يتولى نظمه الحاذق والجوهري العالم يظهر بإحكام الصنعة له حسناً هو فيه ومنحة بهجة هي له كما أن الجاهل إذا وضع بين الجوهرتين خرزة هجن نظمه وأطفأ نوره، كان حبيب بن أوس ربما وقع على جوهرة فجعلها بين بعرتين قال الشاعر: ولو قرنت بدرٍ فاخرٍ خرزاً ... من الزجاج لقلنا بئسما نظما والياقوت حسن وهو في جيد الحسناء أحسن وكذلك الشعر الجيد مونق ولكنه من أفواه العظماء آنق والتاج الشريف بهي المنظر وهو على الملك أبهى كما قال ابن الرقيات يعتدل التاج فوق مفرقه قال أبو العتاهية لابن مناذر: بلغني أنك تقول الشعر في الدهر والقصيدة في الشهر فقال نعم لو رضيت لنفسي أن أؤلف تأليفك وأقول ياعتب بادرة الغواص لقلت في اليوم والليلة ألف قصيدة وقال عمر بن لجأ لشاعر: أنا أشعر منك قال: ولم قال: لأنك تقول البيت وابن عمه وأنا أقول البيت وأخاه. فإن منيت بحب الكتابة وصناعتها والبلاغة وتأليفها وجأش صدرك بشعر معقود أو دعتك نفسك إلى تأليف الكلام المنثور وتهيأ لك نظم هو عندك معتدل وكلام لديك متسق فلا تدعونك الثقة بنفسك والعجب بتأليفك أن تهجم به على أهل الصناعة فإنك تنظر إلى تأليفك بعين الوالد لولده والعاشق إلى عشيقه كما قال حبيب: ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون ولكن اعرضه على البلغاء والشعراء والخطباء ممزوجاً بغيره فإن أصغوا إليه وأذنوا له وشخصوا بالأبصار واستعادوه وطلبوه منك وامتزج فاكشف من تلك الرسالة والخطبة والشعر اسمه وانسبه إلى نفسك وإن رأيت عنه العيون منصرفة والقلوب عنه واهية فاستدل به على تخلفك عن الصناعة وتقاصرك عنها واسترب رأيك عند رأي غيرك من أهل الأدب والبلاغة فقد بلغني أن بعض الملوك دعا إنساناً إلى مؤانسته حتى ارتفعت الحشمة بينهما فأخرج له كتاباً قد غشاه بالجلود وجمع أطرافه بالابريسم وسوى ورقه وزخرف كتابته وجعل يقرأ عليه كلاماً قد حبره فيه ونمقه عند نفسه وجعل يستحسن ما لا

يحسن ويقف على ما يستثقل قراءته حتى أتى على الكتاب فقال له كيف رأيت ما قرأت عليك فقال أرى عقل صانع هذا الكلام أكثر من كلامه ففطن له ولم يعاوده إلى أن وقف به على تنور مسحور ثم قذف بالكتاب في النار وهذا رجل في عقله فضلة وفيه تمييز. وإنما البلية فيمن إذا بينت له سوءَ نظمه واختياره ووقفته على سخافة لفظه هجرك وعاداك فاجعل هذا الأصل ميزاناً تزن به مذهبك في رسائلك وبلاغتك ولا تخاطبن خاصاً بكلام عام ولا عاماً بكلام خاص فمتى خاطبت أحداً بغير ما يشاكله فقد أجريت الكلام غير مجراه وكشفته وقصدك بالكلام الشريف للرجل تنبيه لقدر كلامك ورفع لدرجته قال: فلم أمدحه تفخيماً لشعري ... ولكني مدحت بك المديحا فلا تخرجن كلمة حتى تزنها بميزانها فتعرف تمامها ونظامها ومواردها ومصادرها وتجنب ما قدرت الألفاظ الوحشية وارتفع عن الألفاظ السخيفة واقتضب كلاماً بين الكلامين. الجاحظ: ما رأيت قوماً أمثل طريقة في البلاغة من هؤلاء الكتاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشياً ولا ساقطاً سوقياً: وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلالم ما لا يحتاج إلى كلام وأحسنه ما لم يكن بالبدوي المغرب ولا القروي المخدج الذي صحت مبانيه وحسنت معانيه ودار على السن القائلين وخف على آذان السامعين ويزداد المحكوم له بالبلاغة من إذا حاول صنعة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها وظهرت من معادنها وتدرب من مواطنها من غير استكراه ولا اغتصاب. حدثنا صديق للعتابي قال له: اعمل لي رسالة واستمده مرة بعد أخرى فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة فقال له العتابي. لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها. أملى يزيد بن عبد الله أخو ديناراً على كاتب له وأعجل عليه الإملال فتعثر قلم الكاتب عن تقييد إملاله فقال متحرشاً: اكتب يا حمار فقال الكاتب: أصلح الله الأمير إنه لما هطلت شآبيب الكلام وتدافقت سيوله على حرف القلم كلَّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده فليتذكر الأمير عذري فكان جوابه أبلغ من بلاغة يزيد. وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه كان أسهل ولوجاً في الأسماع وأشد اتصالاً بالقلوب وأخف على الأفواه ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجماً للفظٍ مونق شريف ومعبراً بكلام مؤلف رشيق لم يشنه التكلف بميسمه

ولم يفسده التعقد باستهلاكه كقول ابن أبي كريمة. قفاه وجه حسن والذي ... قفاه وجه يشبه الشمسا فهجن المعنى بتوعر مخارج الحروف وأخذه الحسن بن هاني فسهله. وقال بذَّ حسن الوجوه حسن قفاكا وكلاهم من حسان حيث يقول: قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمك خير من المنذر وانظر إلى سلاسة الحسن بن سهل حيث قال: شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل والجبل وكتب عيسى بن لهيعة كتاباً إلى بعضهم فعقد كلامه وجاز المقدار في التنطع فوقع له: أنى يكون بليغاً ... من اسمه كان عياً وثلث الحرف منه ... إذا كتبت مسياً ودخل كاتب على مريض فوجده يئن فخرج من عنده فوجد طائراً يقال له الشفانين بباب الطاق فاشتراه وبعث به إليه وكتب كتاباً يتنطع فيه ويذكر أنه يقال له الشفانين شفاءً من الأنين فأجابه لو عطست ضباً لم تكن عندي إلا نبطياً فاقصر عن بغضك وسهل كلامك ومثله بمخلد الموصلي يهجو حبيب بن أوس الطائي: أنت عندي عرني ... عرني والسلام شعر ساقيك وفخ ... ذيك خزامى وتمام وقفاً تحلف ما أن ... أعرقت فيه الكرام أنا ما ذنبي إن الذ ... نبي فيك الأنام وسألني بعض أهل العلم أن أكتب له قصة إلى جعفر بن عبد الواحد القاضي وقال: اكتب لي قصة سهلة بليغة الألفاظ فقلت له: دعني أكتب لك ما يصلح للقضاة فغضب وقال ما أسأل أن تعطيني شيئاً إنما أسألك هذا المعنى الرخيص فاحتملت عتبه لذمام فكتبت له قصة لا تصلح أن تدفع إلا لرؤية بن العجاج يقرؤها أو الطرماح فلما حصلت بيد القاضي أراد قراءتها فإذا هي مغلقة عليه فقال له: أنت كتبت هذه القصة قال: نعم. فقال: إذاً فاقرأها فذهب ليقرأها فإذا هي يالسودانية استعجاماً عليه فقال له: أصلح الله القاضي إنما أقرؤها في بيتي فقال له: فاطلب حاجتك إذاً في بيتك فرجع إليَّ غضبان آسفاً يشتم ويؤذي وسألني

أن أكتب له قصة على ما أرى فكتبت له كتاباً يثبه أن يكون من مثله إلى القضاة فقرأها وقضى حاجته وعلم أنه لم يكتب واحدة منهما والكتاب إذا لم يكن بحاجة صاحبه كان أحد الأسباب المانعة والمعاني كلها ممتثلة والكلام مشبعاً ولكن سياسته صعبة وتأليفه شديد إلا على جهابذته وفرسانه أمراء الكلام يصرفونها كيف شاؤوا ولا يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه ويكون اللفظ الأسبق إلى الأسماع من معناه إلى القلوب. الجاحظ: كان لفظه في وزن إشارته وطبعه في معناه في مطابقة معناه ذكر الحسن ابن وهب أحمد بن يوسف فقال ما كنت ألفظه آنق أم معناه أو معناه أجزل أم لفظه. والمعاني وإن كانت كامنة في الصدور فإنها مصورة فيها ومتصلة بها وهي كاللآليء المنظومة في أصدافها والنار المخبوءة في أحجارها فإن أظهرته من أكنانه وأصدافه تبين حسنه وإن قدحت النار من مكانها وأحجارها انتفعت بها وإلا حذق المستنبط وصواب حركات المستخرج وقصد إشارته وكلما كان الكلام أفصح والبيان أوضح كان أدل على حسن وجه العني الخفي بالروح الخفي واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف لفظ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة ولا النظام متسقاً والدال على المعنى أربعة أصناف لفظ وإشارة وعقد وخط. وذكر أرسطاطاليس خامساً وهي تسمى النصبة وهي الحالة الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة الناطقة بغير لفظ والمشيرة إليه بغير يد وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وفي كل صامت وناطق وهي داخلة في جملة هذه المعاني الأربعة وخارجة منها بالحيلة. ولكل واحدة من هذه الدلائل صورة مخالفة لصورة صاحبتها وحلية غير مشاكلة لحلية أختها غير أنها في الجملة كاشفة عن أعيان المعاني وأوضح هذه الدلائل صنفان منها وهما اللسان والقلم وكلاهما يترجمان ويدلان على القلب ويستميلان منه ويؤديان عنه ما لا تؤدي هذه الأصناف الباقية. وأما اللسان فهي الآلة التي يخرج الإنسان بها من حد الاستبهام إلى حد الإنسانية ولذلك قال صاحب المنطق: حد الإنسان الحي الناطق وإنما يبين عن الإنسان اللسان وعن المودة العينان والله سبحانه رفع درجة اللسان فأنطقه من بين الجوارح بتوحيدة وما جعل الله من

عبر عن شيء مثل من لم يعبر عنه. الأعور التيمي: لسان الفتى ونصف فؤَداه ... فلم يبقِ إلا صورة اللحم والدم وقال آخر: إن الكلام لفي الفؤاد وأنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا الطائي: ومما كانت الحكماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد للخط صورة معروفة. وحلية موصوفة وفضيلة بارعة. ليست لهذه الأوصاف لأنه ينوب عنها في الإيضاح عند المشهد ويفضلها في المغيب وكفى بفضيلة العلم والخط قول الله عز وجل الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وأقسم به كما أقسم بغيره ثم أقسم بما يكتبه القلم إفصاحاً عن حاله وإعظاماً لشأنه وتنبيهاً لذكره فقال: وما يسطرون. ومن فضيلة الخط أنه لسان اليد ورسول الضمير ودليل الإرادة. والناطق عن الخواطر. وسفير العقول ووحي الفكر. وسلاح المعرفة. ومحادثة الأخلاء على التنائي. وأنس الأخوان عند الفرقة. ومستودع الأسرار. وديوان الأمور. وترجمان القلوب. والمعبر عن النفوس. والمخبر عن الخواطر. ومورث الآخر مكارم الأول والناقل إليه مآثر الماضي والمخلد له حكمته وعلمه والمسامر للعين بسر القلب. والمخاطب عن الناصت. والمجادل عن الساكت. والمفصح عن الأبكم والمتكلم عن الأخرس الذي تشهد له آثاره بفضائله وأخباره بمناقبه وقد وقعت البلاغة من العلم علو القدر وباذخ العز كأبي مسلم صاحب الدولة فرقت شمله وبددت جمعه ونقضت برمه وأفسدت صلاحه وضعضعت بنيانه مع ذكائه وتفطنه ومكايده ودهائه وأصالة رأيه وشدة شكيمته وامتناعه على أبي جعفر ونفاره عنه كيف استفزه ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وجبل بن زيد واستمالوه بسحر ألفاظهم وبلاغة أقلامهم حتى نزل من باذخ عزه وجاء مبادراً حتى وقع في الشرك المنصوب له فتفرق جمعه وانطفأ نوره وصار خبراً سائراً وأثراً ورفع القلم خاشع الطرف صغير الخطر لئيم الجنس من ناظريه حتى شافهت بع عنان السماء ورفعت بناءه فوق البناء حتى طلبه الراكب وقصده الطالب وخشعت له الرجال. ولحظته العيون بالوقار. وتمكن من الصنائع ومدت نحوه الأصابع.

فشكرت منه اللفظة. ورجيت منه اللحظة. كمحمد بن عبد الملك بن الزيات وفيه يقول علي بن الجهم: أحسن من عشرين بيتاً سداً ... جمعك معناهم في بيت ما أحوج الملك إلى مطرة ... تغسل عنه وضر الزيت فأجابه محمد بن عبد الملك: رقيت في القول إلى خطة ... قدرك فيها قد تعديت قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت ومدحه حبيب بن أوس يمدحه ويصف قلمه: لك القلم الأعلى الذي بثباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل وكان محمد من ألطف الناس ذهناً وأرقهم وأصدقهم حساً وأرشقهم قلماً وأملحهم إشارة إذا قال أصاب وإذا كتب أبلغ وإذا أشعر أحسن وإذا اختصر أغنى عن الإطالة أمره الواثق أن يتلطف بعبد الله بن طاهر ويعلمه أنه صرفه عن أمر الجزائر والعواصم وفوض ذلك لابن اسحاق بن إبراهيم فكتب أما بعد فإن أمير المؤمنين رأى أن يخلع ما في يمينك من أمر الجزائر والعواصم فيجعله في شمالك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. سهل بن بركة يهجو أبا نوح النصراني الكاتب فقال: بأبي وأمي ضاعت الأحلام ... أم ضاعت الأذهان والأفهام من صد عن دين النبي محمد ... إله بأمر المسلمين قيام إلا تكن أسيافهم مشهورة ... فينا فتلك سيوفهم أقلام قال عبد الرحمن بن كيسان استعمال الكلام أجدر بإحضار الذهن عند تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام ولم يختلف في شرف القلم وإنما اختلف في كيفية البلاغة وماهيتها وقد مدحها كل قوم بأوضح عبارتهم وأحسن بيانهم فقال صاحب اليونانيين البلاغة تصحيح الأقسام واختيار الكلام. الرومي: البلاغة وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة. الفارسي: هي معرفة الفصل من الوصل. الهندي: هي البصر بالحجة والمعرفة لمواضع الفرصة ثم أن يدع الإفصاح بها إلى الكتابة عنها إذ كان الإفصاح أوعر طريقاً وربما الإطراق عنها أبلغ في الدرك وأحق بالظفر. غيره: جماع البلاغة التماس

حسن الموقع والمعرفة بساعات القول وقلة الحذق بما التبس من المعاني وغمض وبما شرد من اللفظ وتذر ثم قال وزين كله وبهاؤه وحلاوته أن تكون الشمائل معتدلة والألفاظ موزونة واللهجة نقية فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت فقد تم كل التمام. وقيل لهندي ما البلاغة فأخرج صحيفة مكتوبة عندهم فيها أول البلاغة احتمال آلة البلاغة. وذلك أن يكون البليغ رابط اتلجأش ساكن الجوارح قليل اللحظ متحيز للفظ لا يكلم سيد الأمة بكلام ولا الملوك بكلام السوقة ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة ولا يدقق المعاني كل التدقيق ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح ويصعبها كل التصعبة ويهذبها غاية التهذيب ولا يكون كذلك حتى يصادف فيلسوفاً حكيماً ومن قد تعود فضل الكلام وأسقط مشترك اللفظ. أنوشروان لبزر جمهر: متى يكون العيي بليغاً فقال إذا وصف بليغاً أرسطاطاليس: البلاغة حسن الاستعارة. بشر بن خالد: البلاغة التقرب من المعنى البعيد والتباعد عن خسيس الكلام والدلالة بالقليل على الكثير. خالد بن صفوان: ليس البلاغة بخفة اللسان ولا بكثرة الهذيان لكنها إصابة المعنى والقرع بالحجة. عمر بن عبد العزيز: البليغ من إذا وجد كثيراً ملأه وإذا وجد قليلاً كفاه. ابن عتبة: البلاغة دنو المآخذ وقرح الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير. بعضهم: إني لأكره للإنسان أن يكون مقدار لسانه فاضلاً عن مقدار عقله كما أكره أن يكون مقدار عقله فاضلاً عن مقدار لسانه وعلمه. يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. عمرو بن عبيد: ما البلاغة فقال: ما بلغك الجنة وعدل بك عن النار وما بصرك بمواقع رشدك وعواقب غيك فقال السائل ليس هذا أريد. فقال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول قال ليس هذا أريد. قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنا معشر الأنبياء بكاؤون وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله فقال له السائل ليس هذا أريد قال كانوا يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت

فقال ليس هذا أريد فقال فكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام أنك أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤنة عن المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستوجبت من الله سبحانه جزيل الثواب. الخليل بن أحمد: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة فإن استطعت أن يكون لفظك لمعناك طبقاً ولتلك الحال وفقاً وآخر كلامك لأوله مشابهاً وموارده لمصادره موازناً فافعل واحرص أن تكون لكلامك متهماً وإن ظرف ولنظامك مستريباً وإن لطف بمواتاة آلتك لك وتصرف إرادتك معك فافعل إن شاء الله. وهذه الرسالة عذراء لأنها بكر معانٍ لم تفترعها بلاغة الناطقين ولا لمستها أكف المفوهين ولا غاصت عليها فظن المتكلمين ولا سبق إلى ألفاظها أذهان الناطقين فاجعلها مثالاً بين عينيك ومصورة بين يديك ومسامرة لك في ليللك ونهارك تهطل عليك شآبيب منافعها ويظلك منها بركاتها وتوردك مناهل بلاغاتها وتدل على مهيع رشدها وتصدرك وقد نقع ظمؤك بينابيع بحر إحسانها إن شاء الله عز وجلّ والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

جابلق وجابلص أو جابلقا وجابلصا

جابلق وجابلص أو جابلقا وجابلصا كان الإفرنج قبل أن يعنوا بدرس اللغات الشرقية ينسبون أشياء جمة إلى العرب ويقولون عنها أنها خرافات لا نصيب لها من الحقيقة بل ولا أثر لها في عالم الوجود. ولما أخذوا بالبحث عن تلك الأمور والإيغال فيه ناموا يرجعون شيئاً فشيئاً عما عزوه إليهم تحكماً أو تهكماً وبدأوا ينضمون إليهم مستصو بين أقوالهم. إلا أنه مما يمكن أن يقال في هذا الصدد أن الناطقين بالضاد بالغوا في ذكر بعض الأمور العرضية حتى كاد الجوهر يخرج عن طوقه بما حملوه الوهمية نقلاً عمن ليسوا من فرسان الميدان. ومن هذا القبيل هاتان المدينتان اللتان نريد أن نبحث عنهما في نبذتنا هذه. أخلاف اللغات فيها قال في اللسان في مادة جبلق: التهذيب: جابلق وجابلص (أي بفتح البآء الموحدة التحتية وفتح اللام في كليهما على ما ضبطتا كتابة) وأما في القاموس فقد ضبطهما أيضاً بالفتح في جابلق وبالفتح أو بالسكون في جابلص. وذكرها ياقوت في معجمه: جابرس وجابلق أي براء مهملة ساكنة بعد الياء الموَّصلة التحتية. وبلام ساكنة بعد الياء في الثانية ورواها صاحب البرهان القاطع روايات مختلفة الذكر فذكر في 2: 79 ج بلسان في جابلق. ورواهما أيضاً جابرسان وجابرُسا في جابلص. وحكى في شفاءِ الغليل إن المتكلمين يقولون جابلقآء وجبلصآء بالمدّ وخطأهم. وأرردهما الطبري في تاريخه بصور مختلفة أي جابرت وجابرس وهو يريد جابلص وجابلق وجابلقا وهو يرمي إلى جابلق. فهذه اللغات والروايات وإن اختلفت فهي واحدة في المرجع والأصل ثم اختلفت تبعاً لسنة المعرب أو الأعجمي على ما هو مشهور في ما أفرغ في قالب عربي. وتعاور اللام والراء في العربي الفصيح أمر مشهور كالطلمسآء والطرمساء وداهية لبسآءُ وربساء ونافة عبهر وعبهل فكيف في الدخيل. ومثله يقال في تبادل التاء والسين في لغة معروفة في اليمن وهي الوتم. ولا حاجة في التصريح بأن السين والصاد تترادفان في العربية والأمثلة تفوت الحصر (المزهر1: 226 و 227). أقوال العرب فيها قال في التهذيب: جابلق وجابلص: مدينتان إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب لس

ورأهما إنسيٌ روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه ذكر حديثاً ذكر فيه هاتين المدينتين. أهـ. وقال الإمام السهيلي في كتاب المبهم: أظنها مجاورتي ياجوج وماجوج. وقد آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ مرَّ في ليلة الإسراء فدعاهم فآمنوا. أهـ. وقال الخليل: بلغنا أن معاوية أمر الحسن بن علي أن يخطب الناس. وهو يظن أن الحسن سيحصر لحداثته فيسقط من أعين الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلص رجلاً جدُّه ونبيٌّ ما وجدتموه غيري وغير أخي وأن أدري لعله فتنةً لكم ومتاع إلى حين وأشار بيده إلى معاوية. أهـ. وقد جاء حرف جابلق في شعر أبي الأسود الدؤلي على أنه اسم موضع معروف قد شاهده فقد قال: تلبس لي يوم التقينا عويمر ... بجابلقٍ في جلد أحنس باسل فهذا كلام يشعر بأنهما التقيا بجابلق. وهي غير جابلق الواردة في حديث الحسن وهي التي ذكرها أحمد بن يعقوب الهمداني في كتاب الإكليل إذ يقول: في جابلق وجابلص بقايا عاد وثمود الذين آمنوا بهود وصالح. وقال ياقوت في معجمه في مادة جابرس. مدينة بأقصى المشرق. يقول اليهود إن أولاد موسى عم هربوا أما في حرب طالوت (= شاول) أو في حرب بخت نصر فسيرهم الله وأنزلهم بهذا الموضع فلا يصل إليهم أحد وأنهم بقايا المسلمين. وإن الأرض طويت لهم وجعل الليل والنهار عليهم سواءً حتى انتهوا إلى جابرس فهم سكانها ولا يحصي عددهم إلا الله فإذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا: لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك فيستحلون دمه بذلك. وذكر غير اليهود أنهم بقايا المؤمنين من ثمود وبجابلق بقايا المؤمنين من ولد عاد. اهـ. وذكر في جابلق: جابلق بالباءِ الموحدة المفتوحة وسكون اللام. روى أبو روح عن الضحاك عن ابن عباس أن جابلق مدينة بأقصى المغرب وأهلها من ولد عاد وأهل جابرس من ولد ثمود ففي كل واحدة منهما بقايا ولد موسى عليه السلام كل واحدة من الأمتين. أهـ. المقصود من إيراده. وقال صاحب التاج في مادة ج ب ر س جابرسا آخر بلاد الدنيا (من جهة المغرب) وقال

في جبلق: جابلق قد أوضح المولى سعد الدين البلدين وعرَّف بهما وذكر معناهما على الوجه الأكمل في بحث المثال في شرح المقاصد. ذكر ذلك الشهاب في شفاء الغليل. . . . أهـ قلتُ أنا: لم أرَ شيئاً في شفاء الغليل المطبوع في مصر مما ذكره صاحب التاج. نعم إنه تكلم عن البلدين إلا أنه لم ينطق بكلمة بخصوص المولى سعد الدين. فاحفظه. وأما شرح المقاصد لسعد الدين فهو وإن كان يبدي إلا أنه لما كان خالياً من فهرس مرتب يهديني وحياً إلى مطلبي لم أتمكن من العثور على البحث المذكور فرجعت عنه بما رجع به حنين. وكفانا تتبعاً لأقوال الكتبة إذ اجتزأنا بذكره وفاء بالمقصود لا سيما أن الجميع يكررون أقوال بعضهم عن بعضٍ والنتيجة واحدة. والذي يستخلص مما تقدَّم بعد طرح الزوائد الدخيلة التي جاء بها الإسرائيليون ما يأتي: جابلص آخر البلاد المعمورة من جهة المغرب على ما كان يظنه أبناء ذلك الزمان وجابلق آخر البلاد من المشرق وجابلق تاور بلاد ياجوج وماجوج. وجابلص في أقصى المغرب وأقصى المغرب كان ينتهي في عرف الأقدمين عند بحر الظلمات في نحو الجزائر الخالدات أو في ما يسامتها. وعليه فيجب علينا أن نبحث عن جابلق أو جابلقا في ما يجاور بلاد ياجوج وماجوج ونبحث عن جابلص في ما ينتهي عند بحر الظلمات. وأول كل شيء نحتاج إليه في البحث عن ضالتنا أن ننظر إلى الكلمة ونتفحصها لنعرف مأتاها. والحال أن العلماء قد أتفقت على أن اللفظة ليست بعربية ورجحوا كونها فارسية. لأنهم يقولون أن الجيم والقاف أو الجيم والصاد لا يجتمعان في لفظة عربية وإذا وجدتا فيهما يدلان على أن الكلمة أعجمية أو فارسية. فإذا تقرر أنها فارسية يتضح لك أن وجود جا في صدر كلا الحرفين يدل على أن اللفظة مركبة وأن جا تعين معنى يصح أن يقع على الكلمتين. وهو أمر لا ريب فيه فإن جا حرف فارسيّ معناه المحل والمكان والمقام. أو كما يقول العرب الدار التي وردت بمعناها الأصلي الحقيقي وبمعنى البلد والمدينة. لأن أول ما تنشأ عليه المدينة تكون داراً ثم تبتنى دور أخرى بجانبها حتى تقوم منها البلد أو المدينة. فقد قالوا دار السلام ودار الإسلام ودار السعادة ودار الحرب إلى آخر ما هناك. وأما بلقا أو بُلقا فيجب أن تكون اسم مدينةٍ في آخر البلاد المعمورة من جهة الشرق مما يجاور بلاد يأجوج ومأجوج وهذا ما يصدق على بلدة بلقا وبالإفرنجة وهو اسم نهر عرفه العرب أيضاً

لخروجهم من سقي ذلك النهر. ويشهد على صحة ذلك وجود مدينة هنالك تسمى إلى اليوم بلقاري أو بلغاري وهم يكتبونها بحرف تمييزاً لها عن أو للبلاد المشهورة. واللاحقتان بآخر الكلم تدل على البلاد كما في كما أن جا في رأس الألفاظ تفيد هذا المعنى عند الفرس ومنها جابروان وجابق وجاجرم وجاجن وجاسك وجاكرديزه وجالقان وجاورسان إلى غير هذه. وأما جابلص أو جابرسا أو جابلسا أو جابلصا فهي: بلص أو برصا أو بلصا أو بلسا بعد تجريد جا عنها. وإذا فتشنا عن مدينة بهذا الاسم في منتهى المغرب المعروف في ذلك العهد وجدناها باسم بلسا أو بلصا في بلاد لوسينانية أي هي البلدة المعروفة اليوم باسم تافيرة في بلاد البرتقال. وإذا علمت ذلك ظهر لك أن لا حق للأجانب أن ينسبوا العرب إلى الجهل والقول بالخرافات والله الهادي إلى كل صواب. بغداد ـ ساتسنا

نظرة في نخب الذخائر في أحوال الجواهر

نظرة في نخب الذخائر في أحوال الجواهر وقفت على نسخة مضبوطة قديمة العهد من نخب الذخائر وعلقت عليها بعض حواشٍ وملاحظات لأنشرها في إحدى المجلات. فسبقتني إلى ذلك مجلة المشرق البيروتية في سنتها الحادية عشرة صفحة 851 وبالمقابلة وجدت أن نسخة المشرق ليست بمضبوطة كل الضبط وقد وقع فيها أغلاط وسقط منها عبارات وكلمات فترقبت فرصة أخرى أنشر نسختي مع حواشيها وملاحظاتي على مجلة المشرق. ولما زرت حلب في الصيف الماضي زدت النسخة تحقيقاً بمعارضتها بنسخ كثيرة فزدت ثقةً بما اجتمع لديَّ منها ثم انتهى إليَّ منذ أسبوعين الجزء السابع من مجلتكم المقتبس الغراء. لسنتها الرابعة فإذا بكم نشرتموها أيضاً فعارضت ذلك بنسختي فوجدت اختلافات أفردت لها هذه المقالة الآن وقبل أن أدخل في الإشارة إلى اختلافات نسخة المشرق والمقتبس عن نسختي أقدم الكلام في أحوال الجواهر والمعادن وما عرفه العرب عنها مع اعتقاداتهم واعتقادات الإفرنج بالحجارة الكريمة. إن مؤلف نخب الذخائر في أحوال الجواهر هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري السنجاري المصري المعروف بابن الأكفاني نسب إلى سنجار حيث ولد ونشأ وطبَّ بمصر وتوفي بالطاعون سنة 749 هـ 1348 م وترك مؤلفات ذكر بعضها الحاج خليفة في فهرسه كنف الظنون منها كشف الرين في أمراض العين وغنية اللبيب في غيبة الطبيب ونهاية القصد في صناعة الفصد وإرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد وهذا طبع مؤخراً في بيروت سنة 1904 م في 148 صفحة وبعضها لم يذكرها منها بالنظر والتحقيق في تقليب الرقيق وغيرها مما هو في بعض مكاتب أوربا والشرق وأخبار المؤلف قليلة. ولقد ألف كثير من القدماء في الجواهر منها كتاب (الأحجار) لأرسطو صنفه واستخرج بنظره والإرشاد الإلهي خواصها ومنافعها وذكر فيها خاصية ستمائة حجر ونيف. وقد عرَّبُه لوقا بن سرابيون وعليه اعتمد العرب في ما كتبوه عن الجواهر. فألف في هذا الفن أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتي المتوفى سنة 430 هـ (1038 م) واسم كتابه الجماهر في الجواهر. وأبو العباس أحمد بن يوسف اليفاشي القاهري المتوفى في سنة 651 هـ (1253 م) ةاسم كتابه (أزهار الأفكار في جواهر الأحجار) وصف فيه ما في خزائن الملوك منها.

وقد رأيت نسخة منه في حلب وطبعه أنطونيو رانادي الإيطالي في فرنسا سنة 1818 م ونقله إلى الإفرنسية كليمان موله. وممن ألف في المعدنيات والأحجار الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845 هـ 1441 م. واسم كتابه (المقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية). وموفق الدين البغدادي المتوفى سنة 629 (1231 م) له رسالة في المعادن وإبطال الكيمياء. ومن أشهر من كتب في هذا زكريا بن محمد بن محمود الكوفي القزويني المتوفى سنة 682 هـ (1284 م) في عجائب المخلوقات معدّداً الحجارة والمعادن. والأبشيهي المتوفى في أوائل القرن التاسع ينتهي في المستطرف الباب السابع والستون. وابن بطوطة المتوفى سنة 777 هـ (1376 م) في رحلته ذكر مغاص الجوهر بين سيراف والبحرين. ومعدن الياقوت في جزيرة سيلان وعدد بعض اللآلئ في خزائن الملوك والعظماء. وأبو الحسن المسعودي المتوفى 346 هـ (957 م) عدّد في كتابه مروج الذهب بعض المغاوص ووصف بعض الجواهر مما لا يخرج عن اعتقاد العرب وتتمة للفائدة أذكر أسماء المعادن والحجارة الكريمة التي أوردها القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات) قال: المعدنيات تقسم إلى الفلزات وهي الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأسرب والخارصيني وإلى الأحجار وهي الإثمد وحجر أرسون وحجر افيداج وحجر افرنجس وقليميا الذهب وقليميا الفضة وباهت وبسد وبلور والبورق وتنجادق وتدمر وتنكار وتوتيا وجالب النوم وجزع وحامي وبليناس واسمانجوني وحجر أبيض وأحمر وأسود وأصفر وأغبر وحجر الباهة والبحر والحباري والحصاة والحية والخطاف والدجاج والرحى والسامور والسم والشياطين والصدف والصنونو (السنونو) والعاج والعقاب والغار والقمر والقير والقيء والكلب والمطر وحجر تتمرغ فيه الناقة وحجر يتولد في الإنسان وحجر يتولد في الماء الراكد وحرض وموساي وخبث الحديد وخصية اللص وحجر در ودهنج وحجر دمياطي ورخام ورقوس وأحجار زاجات وحجر زبد البحر والزجاج والزرنيخ والزنجار والزنجفر وحجر سبج وسنسليس وسنباج وشاذنج وشب وصدف وطارد النوم وحجر طالقون وطلق وطرسوطوس وحجر عقيق وعنبري وعطاس وحجر فادزهر وفرسلوس وفرطاسيا وفرفوس وفيروزج وفيلفوص وفيهار وقرياطيسون وقروم قلقديس

وقلطار وقلقندو وقلي وقيسور وقبراطير وحجر كرسياد وكرسيان وكرك وكرمان وكهرباء وحجر لازورد ولاقط الذهب وحجر لاقط الرصاص وحجر لاقط الشعر وحجر لاقط الصوف وحجر لاقط العظم وحجر لاقط الفضة وحجر لاقط القطن وحجر كاغيطوس وألماس ومغناطيس وماهاني ومراد ومرجان ومرداسنج ومرقشتا ومسن ومسهل الولادة وحجر مغناطيس وملح وحجر نطرون وحجر نوبي ونورة والنوشادر وحجر هادي وحجر ياقوت وحجر يشب وحجر يقظان. أهـ. وذكر الأبشيهي في المستطرف أن المعادن تقسم إلى ما يذوب وما لا يذوب وقال أن المشهور منها سبعة الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والاسرب والخارصيني. والزمرّد والزبرجد والفيروزج والعقيق والجزع والبلور والمرجان وحجر الماطليس والحجر الماهاني وحجر مراد والدهنج والسبج والمغناطيس وحجر الخطاف وحجر الزاج وحجر الزنجفر وحجر الملح وحجر النطرون وحجر اللازورد. أهـ. وقد ذكر كل من القزويني والأبشيهي خرافات كثيرة بشأن خواص الجواهر واتخاذ الناس لها مما كان أقدم من ذكر مثله من الاعتقادات أرسطو وديوسقور يدس اليونانيان وبلينوس الروماني وغيره فجاراهم العرب بهذه الأفكار. وربما يظن بعضهم أن العرب ومن تقدمهم من الأمم اعتقدوا بهذه التخرصات فقط مع أن لمتمدني الإفرنج حتى يومنا اعتقادات ليست بأقل من تلك أوهاماً فالإنكليزيون يعتقدون أن الياقوت يشفي من الرثية (الروماتزم) ويبقي حامله من برد الأطراف والفيروز يحمي حامله من السقوط من شاهق والياقوت الأزرق يحمي حامله من الأفاعي ويزعمون أن حجراً كريماً يظهر في رأس الهرّ مرة كل ألف سنة فمن يجعله تحت لسانه تنبأ وأخبر بالغيب. وأهل نابولي في إيطاليا يلبسون أحجبة المرجان تعويذاً من عيون الحساد. ويزعمون أن الزبرجد يزيل حدة الطبع ويشفي من البرص. ويستعملون حجر اليشم لمنع العطش واتقاء الزوابع والصواعق والفيروز للوقاية من السقوط. والعقيق لقطع نزيف الدم والاستشفاء من لدغ الثعبان. ومن اعتقاد الإفرنج عموماً أن حجر الكهرباء يقي من مرض الحمرة ووجع الحلق. وكان القدماء من الفرنجة يطردون السحر بالياقوت الأصفر ويعالجون الجنون به ويرمزون باتاس إلى العدل والعفة والثبات إلى غير ذلك.

وهناك الآن النظرة في مقالة النخب المنشورة في مجلتي المشرق والمقتبس معتمدين على مجلة المقتبس ثم على ما في نسخة المشرق وأخيراً نسختنا المحفوظة صفحة 378 سطر 3 كفَّ أفضاله وفي نسخة المشرق ونسختنا كفاء وهو الأظهر وسطر هـ الجواهر النفيسة بأصنافها وفي نسختنا وأصنافها. وسطر 13 صفحة فضة محلاة وفي نسختنا صفيحة فضة مجلوة وهي أصح وسطر 15 بلون البهرماني ـ البهرمان. وسطر 21 تشبيهاً بالجمر ـ تشبيهاً له بالجمر ـ وكأن الحميري ـ الخمري. وسطر 23 بالماذيني ـ بالماذنبي ولعل الاؤلى أولى. صفحة 379 سطر 1 وعن التفت ـ التفث وسطر 3 عائرة ـ غائرة. وسطر 13 وأضعفه ـ وضعفه: ثلاثون ديناراً ـ ثلاثين. وسطر 18 وكان في خزانة يمين الدولة ـ الأميريمين الدولة محمود وسطر 19 وكان للمقتدر فصاً ـ فصّ. صفحة 380 سطر 5 الفافقي ـ الغافقي وسطر 6 ينفع حدوث الصرع ـ يدفع وسطر 7 الياقوت الأحمر 5 وكذا في المشرق ـ وفي نسختي الياقوت الأبيض وسطر 8 كان فيه زئبق ـ زئبقاً. وسطر 10 وتقال أنه وقاية لعين المجدور ـ ويقال أنه أصح وقاية. سطر 12 مسفرص في وكذا في المشرق ـ صافٍ. وسطر 14 بالمرقشيشا الذهبية ـ بالمرقشيشا الذهبية: ما حلي به ـ ما جلي. وسطر 22 البحادي ـ البجادي. وسطر 25 بالماذيني ـ بالماذبني. وسطر 26 بذخشان ـ بدخشان. زحلة (لبنان) ـ عيسى اسكندر المعلوف

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع كيف نحسن الأكل كثيراً ما ينشأ سوء الهضم من هيئة الجسم ووضعه فإذا أردت أن تتقيه فعليك بجعل قامتك منتصبة ما أمكن واقفاً كنت أو جالساً فتلقي كتفيك إلى الوراء. وصدرك إلى الأمام وهذا من أهم القواعد في حفظ الصحة. ومن أنفع الرياضات لتقوية أعصاب الظهر والبطن أن يستلقي المرء على قفاه ويجعل يديه تحت نقرته ويجلس رويداً رويداً ويداه قابضتان على قفاه ويكرر هذا العمل مرات بتنويعه فينحني إلى الأمام وهو جالس ويمد يديه ليمس طرفي رجليه بأطراف أنامله. وهناك رياضة أخرى نافعة كثيراً وهو أن يقف المرءُ منتصب القامة وينحني إلى الوراءِ ثم يرجع إلى الأمام ويميل ذات اليمين ثم ذات الشمال وينتقل إلى الأطراف الأربعة بدون أن ينقل رجليه من مكانهما ثم يقف رافعاً يديه ومفرقاً بين رجليه كهذا الحرف ويمد بعد ذلك حفتيه بحيث تماسان وهو واقف مباعداً بين ساقيه ومنحنياً يمد يديه ما أمكن. هذه الحركات من شأنها تمرين عضلات البطن فإذا قام بها الإنسان قبل الأكل تنبعث شهوته للطعام وإذا أتاها بعده تسهل عليه الهضم ومما ينصح به لمن يريد حفظ صحته أن يبدل قبل الجلوس إلى المائدة ثيابه في النهار أو ثياب عمله ويضع المائدة وضعاً محكماً لأن لرداءة وضع الخفان تأثيراً في شهوة الأكل والنظر إليه وحده باعث على سوء الهضم والأحسن أن يستريح الإنسان قليلاً قبل الطعام وعليه أن لا يجلس على كرسي وذراعاه على ركبتيه وظهره منحن لأن هذه الجلسة تعوق الهضم. النوراستينيا النوارستينيا أو ضعف المجموع العصبي اسم لمرض عرف منذ ثلاثين سنة وهو يزداد مع الحضارة والإفراط في مقتضاياتها وهو عبارة عن تغلب الحالة العصبية على باقي المجموع العصبي والعصبي أعظم أمراض هذا العصر فالتعب على اختلاف أنواعه والاضطراب الدائم واشتغال الفكر في المعاش ولا سيما في المدن الكبرى والهموم ومعاكسة الدهر والخيبة في العشق وتعب الإسراف على النفس كلها من الأسباب الصحية المعتادة في انحلال الأعصاب وضعف مجموعها. وربما هذا المرض وراثياً فيحدث عنه إذ ذاك ضعف منوع في الأعصاب يؤدي إلى داء المفاصل وداء الملوك وهما من الأمراض العصبية كما

هو المعلوم وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى الأمراض العفنية واضطراب الآلة الهاضمة والتناسل البولي. وأعراض النوراستينيا واحدة في الأكثر أهمها وجع الرأس ووجع الظهر والأرق والاضطرابات المعدية خاصة والضعف الذي يعم الجسم. وكثيراً ما تقل الوظائف العقلية والذاكرة والانتباه والإرادة ويصبح التأثر قريباً من المرض ويصحب كل ذلك قلق دائم وأفكار مرتبكة رديئة ويبدو التعب العام في الصباح عند الانتباه منت النوم فيشعر المريض أحياناً بتكسر في جسمه وارتخاء في قواه. ويشعر بأهم الاضطرابات المعدية بسوء الهضم وثقل في جوف المعدة وأحياناً في قرصها فهذا المرض هو سوء هضم عصبي وكثيراً ما تقل شهوة الطعام وينتفخ البطن وترى في الوجه طفحة حمراء. والنوراستينيا كالهستريا (اختناق الرحم) لا تهلك صاحبها بل تسمم جسمه وتصعب عليه الحياة ويتأتى للمصاب به كل حين أن يشفى منه وليس المعول فيه على الدواء والدواء ثانوي فالمهم في شفائه أن يُزال السبب الذي نشأ منه كالاهتمام بالأشغال والأعمال العقلية المفرطة في كل شيء. وتغير البيئة والمقام في الفلاة مما ينفع في شفائه نفعاً كبيراً. أما مداواته فالأحسن بالكهربائية والاستحمام بالماء الفاتر. والاستحمام بالكهربائية يؤثر في التغذية والأعصاب فالاضطرابات المعدية والشقيقة والأرق والأحلام الرديئة تنقطع بمجرد توجيه الكهرباء إلى الرأس. ونحاف الأجسام ينتفعن بالاحثقال بالزرنيخ ويفيد فيه التغميز (التمسيد) ولا بأس من استعمال بعض المشروبات التي تزيد القابلية للطعام وأخذ خلاصة القنب الهندي من عيار خمسة في المئة سانتغرام يزيل وجع الشقيقة لا محالة. عمر الجراثيم ثبت لأحد العلماء الألمان أن الجراثيم أطول أعماراً ومقاومة للاحتفاظ بحياتها مما نتوهمه لعلمنا أنها أحياء صغيرة لا ترى إلا بالمجهر فقد أخذ خراطيش حشاها رصاصاً وجعل عليها ألوفاً من الجراثيم ثم ملأ بنقية وأطلق الرصاص على علبة من التنك وكان فيها نوع من الهلام السائل الذي يصلح لأن تعيش فيه الميكروبات ولما مخض العلبة شاهد أن الجراثيم التي أطلق عليها الرصاص قد نمت وتكاثرت بدلاً من أن تهلك بإطلاق النار عليها والأغرب أنه رأى الرصاصة قد أخذت من الهواء جراثيم أخرى في طريقها أكثر حياة

ترتع في الجسم الذي تحل فيه ولا تبقي ولا تذر. تنظيف الرأس والشعر يستعمل لتنظيف الشعر والرأس صفار بيضة تحل بقليل من ماء الكولونيا ويدلكان به ثم يغسل المكان بماء فاتر وينشف الشعر ويدوم مكشوفاً ريثما يجفُّ ولا يبقى فيه أثر للنداوة. رجال الشرطة من زار باريز يعجب برجال الشرطة وهو يراهم في الشوارع والجادات والمنعطفات واقفين لتأييد النظام يدلون الغرباء على الشوارع وهم منتبهون لكل ما يخل بالراحة ولكن الباريزيين يحسدون الإنكليز على شرطتهم ويقولون أنها أكثر نظاماً وانتباهاً وآداباً قائلين أن ثمانية آلاف لا تكفي للضرب على أيدي ثلاثين ألفاً من الأوباش والأوغاد في عاصمة الفرنسيس. ويقولون أن الشرطة في يابان يتولون حفظ النظام في شوارع أمهات المدن ويلبسون لباساً أوربياً ويتقلدون سيفاً دلالة على سلطتهم والحكومة تختارهم من قدماء الجند ولا سيما من طبقة اسمها الساموريسية عرفت بشدتها وجلادتها في الحروب والغارات ولذلك كان لهم في الشعب تأثير قوي ويزيدهم قوة عناية الحكومة بتربيتهم وعزة نفوسهم التي ضربت بها الأمثال. وترى رجال الشرطة في ألمانيا يلبسون لباس رجال المدفعية ويضعون على رؤوسهم خوذة وطنية سوداء لصغارهم كتب عليها بحروف من نحاس ـوائل الحروف من اسم الإمبراطور وبيضاء للضباط عليها صورة نسر بأجنحة مفردة واسم الإمبراطور بحرف مذهب. وإذا كان الألمان من أهل الطاعة العمياء أصبحت وظيفة الشرطة سهلة سواءٌ أرادوا القيام بها مع الفرد أو مع الغوغاء والجماهير ويعين الشرطة الرجالة رجالٌ من الشرطة الفرسان في مدينة برلين كما هو الحال في مدينة باريز. ويكتسي رجال الشرطة الإيطالية بجوخ أزرق وسراويل رمادية فاتحة وخوذات ملونة ويلبس ضباطهم ألبسة من الحرير الأزرق وإذ كان الطليان أصعب مراساً من الألمان فكثيراً ما يشاهد رجال الشرطة في بلادهم يتماسكون مع من يريدون القبض عليه أو دعوته إلى التزام النظام وينتهي ذلك بما لا تحمد عقباه من أجل هذا جعل لرجال الشرطة الطليانية حبل من سيور الجلد ليقيدوا به السجناء. أما شرطة فينا فودعاء لطفاء يبشون في وجوه الناس. وشرطي بروكسل رقيق الجانب

يخاطبك بلا كلفة. وشرطي هولاندة يحمل كل ما يلزم لإغاثة جريح يراه من الأدوية الأولية. وسادة رجال الشرطة في الأرض هم بلا مراء شرطة الإنكليز ويقسمون إلى قسمين في لندرا قسم في الحي القديم وهو حي الحركة والتجارة وقسم لعامة أرجاء المدينة وعدد الأول ألف رجل وهو قليل المكانة بالنسبة للثاني المؤلف من 30 وكيلاً و 539 مفتشاً و2148 جاويشاً و 14129 ضابط بوليس ولهم كلهم ديوان كبير فخيم وتتخيرهم الحكومة من أرباب قامات تكون أطول من الوسطى والصحة الجيدة بالطبع وعليهم ملاحظة الحراس والعسس في الليل وستون في المئة منهم يلاحظون أمن المدينة ليلاً ولذلك قلما يحدث ما يكدر وراتب الشرطي من الدرجة الثالثة ثلاثة جنيهات في الأسبوع ويدفع إليه علاوة عن كل ساعة تزيد على العشر ساعات المقررة للخدمة كل يوم وليلة. ومخافر الشرطة في لندن هي عنوان الرفاهية يعيش فيها الشرطة غير المتزوجين حائزين على كل ما يلزمهم أما المتزوجون فلهم مخافر خاصة بهم فيها قاعات استقبال وحمامات والمضخات وقاعات لعب وخزائن كتب وغيرها فيعيش الشرطة فيها مع أسراتهم عيشة اشتراكية عسكرية. وفي لندرا ثلثمائة شرطي راكب لربط محطات الشرطة يستخدمون خاصة في أوقات المظاهرات والاحتفالات العامة ومثل هذا العدد لحفظ الأمن في نهر التايمس ويقوم بنجدة من تصيبهم بائقة ولهم مئة قارب وثلاث سفن معدة للجري كل حين وهكذا كانت شرطة لندرا أجمل زينة لإنكلترا وضامن لحفظها فعسى أن لا تقل شرطتنا العثمانية عن أمثالهم في البلاد الإنكليزية بعد حقبة من الزمن. علاج الشهقة وجدوا أن خير علاج للشهقة أن يمسك لسان من يشهق بين إصبعين يمسك بهما فوطة لئلا يغلب اللسان وأن يشد ما أمكن بحيث يبقى هنيهة خارج الفم فإذا لم تنجح هذه الحركة في المرة الأولى تعاد للثانية وفي ذلك الشفاء. وقد اهتدوا إلى هذه الطريقة من الدكتور لابورد الذي ما زالت تنقذ ألوفاً من الغرقى والمصلوبين وغيرهم بسحب ألسنتهم. علاج الزكام أفضل علاج للزكام أن يدهن المزكوم منخريه بزيت الزيتون ويستنشق زهر الكبريت وأن

يلف صدغيه من الليل بمنديل ويمكن التوقي من الزكام في أوله ببل المنخرين بصبغة الأرنيكا فإذا طالت مدته فليس غير هذه الصبغة يستعملها المزكوم وإن أحرقته ولكن فائدتها مضمونة. صوت الرعد رأى بعض الأخصائيين بعلم الحوادث الجوية أن معرفة صوت الرعد عن بعد تتوقف على ملاحظة أول العاصفة أو آخرها لا وسطها والأحسن أن يلاحظ البرق الأفقي المنبعث من بين الغيم والأرض فإن صوته الجاف يعرف على أيسر وجه من الصوت الناشئ من البرق الذي يجول بين الغيوم. قال أراغو العالم أنه لا يسمع صوت الرعد إلى أبعد من خمسة وعشرين كيلو متراً وسبقه الإمبراطور كانغ هي الصيني فقال أنه يسمع من مسافة أربعين كيلو متراً وأن صوت المدافع يسمع إلى 30 فرسخاً (120 كيلو متراً) وقال أراغو أن صداها قد يتردد إلى بعد مائتي كيلو متر وأنه سمعت المدافع التي أطلقت من ثغر بورتسموت يوم جنازة الملكة فكتوريا إلى بعد 134 كيلو متراً وقد قام الباحث المشار إليه بتجارب عديدة منذ بضع سنين فلم يستطع أن يسمع صوت الرعد إلى أبعد من 45 كيلو متراً إذا لم يحل دونه جبال ولا آكام وكان الهواء ساكناً. وإن عاصفة تحدث عن بعد خمسة عشر كيلو متراً فقط قد لا يسمع صداها حتى أن بعضهم قال أنها إذا أرعدت السماء في لاهاي لا تسمع في ليدن وهي منها على أربعة فراسخ. عداوة الزهور يظهر أن بعض الزهور تتعادى أشد عداوة كالورد فإنه لا يطيق إلا سليخ (ريزيدا) ولك أن تربط واحدة من كل منهما في باقة وتضعهما في الماء فبعد ساعة تذبل الوردة وأختها على حين تزيد تلك الزهور الأخرى نضارة والسوسن قاس أيضاً على سائر الزهور يقتلها بدون رحمة على العكس في القرنفل وعباد الشمس فيحب أحدهما صاحبه فوا آسفاه حتى الزهور التي تعطر الأرجاءَ لا يتحمل أحدها الآخر. مضار التدخين في إحدى المجلات الإفرنجية إن مضار التدخين لا تنحصر في النيكوتين أي سمه فقط بل إن للدخان سموماً أخرى تصيب شاربيه وهي موجودة في تركيب مادة الدخان وهي

البيريدين والكريزول وحامض الكربون وغيره وكلها ضارة لمن يدخنون اللفائف الكبيرة واللفائف المصنوعة من التبغ وهي أسوأ أثراً في الأكثر في من يبلعون الدخان فيصل إلى الرئتين فينشأ منه قيءٌ واضطراب في القلب وعرق بارد. ولا يتوقف تبطيل التدخين إلا على قوة إرادة ولأجل أن تعزف النفس عن التدخين يجب أن يتمضمض المدخن بجزء 0. 25 في المئة من نترات الفضة فإذا أحب بعدها التدخين يصاب بقرف شديد يدوم معه زمناً على أن هذه المضمضمة لا تخلو من خطر ثم أن نترات الفضة تسود الأسنان في برهة قليلة ورأى أحد الأطباء الروس أن يدهن غشاء الفم بنترات على معدل خمسة في المئة والأفضل من هذين الطريقتين أن يدهن سقف الحلق بمحلول نترات الصودا بكمية 10 في المئة. لون الجوارب من الجوارب ما يزول لونه في الحال فعليك إذا أحببت حفظ ألوانها عليها أن تجعلها في ماء فاتر وتغسلها باثني عشر لتراً من الماء البارد تجعل فيه حفنة من الملح وقدحاً من الخل الجيد. إزالة البقع لتنظيف البقع من الثياب (كالأقمصة والقفاطين وغيرها) وإزالة آثار الرطوبة منها افركها بالمحلول الآتي: ملعقة من الملح ممزوجة بملعقة من ذرور النشادر تحلها في ربع قدح ماء وتضع من هذا المحلول على البقع مرات متوالية ثم تترك الثياب منشورة في الهواء نهاراً ثم تغسلها على العادة فلا يبقى فيها أثر حتى ولا البقع القديمة. البورصة كتب خليل أفندي سعد في المهذب رسالة في البورصة جاء فيها أن البورصة نادٍ يجتمع فيه التجار والمضاربون فيشترون فيه ويبيعون إما نقداً وهو قليل وإما إلى ميعاد وهو أهم أعمال البورصة لما يجد فيه المشتري من السهولة والأمل بارتفاع الأسعار فيحمله ذلك على مشتري كميات أثمانها أكثر مما يقدر على أدائه نقداً. وأعمال البورصة على نوعين أحدهما مختص بالاتجار بحواصل الأرض كالقطن والحبوب والسكر والمعادن وغيرها والآخر مختص بشراء وبيع القراطيس المالية من مثل أسهم

المصارف وسندات الحكومة المالية وأسهم السكك الحديدية وما شاكل ذلك. ولكي يعلم القارئ ما معنى هذه الأسهم وكيف توجد بطريقة رسمية لتصير صالحة للتعامل بها نقدم له مثالاً وهو كيفية تأسيس المصارف ذات الأسهم وهاك البيان: إذا عزم أحد على إنشاء مصرف وكان غير قادر على تقديم رأس المال من جيبه الخالص فإنه يدعو جماعة من المتمولين للاشتراك معه في هذا العمل فيؤلف لجنة تدعى لجنة التأسيس أو المؤسسين. فهؤلاء إما أن يؤدوا كل ما يطلب لرأس المال، وإما أن يقدموا جزءاً منه مقابل أسهم معلومة يأخذونها ويطرحون الأسهم الباقية برسم البيع بالاشتراك فيشترك من يريد من الناس بعدد منها كل على قدر إرادته. فإذا أعلن المؤسسون عن وجود مئة ألف سهم مثلاً كل سهم بثمانمئة قرش فقد ترد لهم اشتراكات بخمس مئة ألف سهم فيقال حينئذٍ أن أسهم هذا المصرف غطيت خمس مرات ولذلك فلا ينال من كان طالباً خمس مئة سهم مثلاً إلا مئة سهو فقط لوجوب توزيع هذه الأسهم بالتساوي على طالبي الاشتراك فيها. ثم أن المؤسسين يختصون أنفسهم بأسهم يأخذونها مجاناً أو بثمن قليل جداً أي السهم بخمسة قروش مثلاً مقابل أتعابهم في إنشاء المصرف، وتدعى هذه أسهم التأسيس فيعطى لحامليها شيء معلوم مما يبقى من الأرباح بعد توزيع خمسة في المئة مثلاً على حاملي الأسهم العادية. قلنا أن ثمن السهم من أسهم هذا المصرف الاعتيادية مئة قرش فإذا عمل المصرف بعد تأسيسه أعمالاً كثيرة الربح ارتفعت قيمة أسهمه جميعاً من مئة قرش إلى مئة وخمسين أو أكثر أو أقل تبعاً لمقدار الأرباح والعكس بالعكس. أما أسهم التأسيس فيبيعها أصحابها بالأثمان التي تساعدهم عليها حالة السوق وقد يبلغ ثمن السهم الواحد بين عشرة إلى خمسين ليرة تبعاً لشروط المصرف وموافقتها في توزيع أرباح طائلة على الأسهم التأسيسية ذات الامتياز. وهذه الأسهم جميعاً عبارة عن ورقة مطبوع عليها نمرة السهم وقيمته الأصلية وبذيلها عدد من الكوبونات وهي مربعات محاطة بخروق تمكن من قطعها على حدة فيقطع فيها كل سنة واحد من هذه الكوبونات أو القطيعات يسلم إلى المصرف وينقد حامل السهم قيمة القطيعة

وهذه القيمة تكون إما خمسة بالمئة أو أكثر تبعاً لمقدار أرباح المصرف أو ما يعينه في إعلان سابق يدرجه في الجرائد المحلية مبيناً ميعاد قبول الكوبونات وأثمانها. هذه أخص الطرق لإصدار أسهم المصارف فيمكن يقاس عليها كيفية إصدار أسهم باقي الشركات التجارية وسندات الحكومة التي تقترض بموجبها ما يسد به دينها والآن فلنعد إلى كيفية المعاملة بالبضائع والأسهم وهي ما يأتي. تفتح البورصة عند الساعة التاسعة صباحاً فيجتمع التجار والمضاربون في ردهتا ولا يسمح بالدخول إلى حلقة المناداة بالبيع أي عرض البضاعة أو الأسهم إلا لأناس مخصوصين هم السماسرة ووكلاؤهم. فهؤلاء يكونون قبل أن يدخلوا حلقة المناداة قد تلقوا أوامر مختلفة من عملائهم بعضها بالمشترى وبعضها بالبيع بأثمان يعرضونها لهم. فيدخلون وبيد كل \ منهم مذكرة بشكل دفتر صغير فينادون ويعرضون ما لديهم من البضائع أو الأسهم مبينين أثمانها وذلك كأن ينادي أحدهم قائلاً: عندي خمس مئة قنطار قطناً من الصنف الوسط والقنطار بعشرين ريالاً تسليم آذار، أو إني أشتري مئة سهم من أسهم البنك العقاري بثلاث مئة فرنك السهم لميعاد شهرين فيجيبه آخر إني اشتريت ما تعرضه وآخر إني بعتك ما تطلبه فيدون ما بيع وما أشتري في مفكرات يوقعها البائع والشاري. فإذا كان البيع نقداً والبضاعة حاضرة يدفع الشاري الثمن ويستلم ما اشتراه. أما إذا كانت المعاملة إلى ميعاد فلا يطلب من الشاري إلا جزءٌ من الثمن (بين 5 و 20 في المئة تبعاً لحالته من المالية) كثيراً ما سمعت الناس يسألون عن معنى التغطية. وعندما اشتغلت النساء في مشترى أسهم المعادن منذ زمن في بيروت سمعت إحداهن تقول أن فلانة غطت بإيزارها أو ما ماثل ذلك. ولكي تعلم حقيقة معنى التغطية البورصية لا الوجهية نفرض أنك اشتريت مئتين وخمسين قنطار قطن مصري وهي أقل كميبة يتعامل بها من صنف القطن في البورصة. فإن كان عميلك على ثقة منك فإنه قلما يطلب منك أن تدفع مقدماً أكثر من عشرة قروش على كل قنطار بصفة تأمين يأخذه لنفسه إذا هبطت الأسعار. وبما أن شراء القطن يكون لمواعيد

مختلفة فإنك تعين الميعاد الذي تستلم فيه ما اشتريته فتوصي عميلك بأن يستري لد هذه الكمية تسليم شباط أو أيار أو غير ذلك. فلفظة تسليم هنا وهمية لأنك لست تاجر قطن لتستلم وإنما المقصود أنك تبيع ما اشتريته في ميعاد التسليم وتقبض أو تدفع فرق الثمن الذي يكون قد صعد حينئذٍ أو هبط. فإذا استمر السعر في صعود فلك أن تبيع وقتما تريد وتربح فرق الثمن. أما إذا هبط السعر فخسرت أكثر من العشرة قروش التي دفعتها تأميناً فيطلب منك العميل إما أن تغطي الخسارة فتدفع عشرة قروش أخرى وأما أنه يضطر إلى تصفية ما اشتراته لك فيبيعه لئلا تلحقه الخسارة شخصياً لأنه هو المسؤول لا أنت بالخسارة أمام من اشترى هو منه لحسابك. في البورصة حزبان أحدهما يضارب على الصعود فيكثر من المشترى ليدفع الأثمان إلى الأعلى والآخر يضارب على النزول فيكثر من عرض البضائع والأسهم للبيع لتكثر على طلابها وتكسد فتهبط الأسعار ولكل من هذين الحزبين حيل وطرق للوصول إلى الغاية لا يمكن استيفاؤها هنا. غير أننا ننصح للمتعاملين بالبورصة أن لا يغتروا بالتلغرافات التي تأتي من الخارج عن إقبال المواسم أو محلها لأن بعض المضاربين قد يشيع نشوب الحرب بين دولتين لتهبط الأسعار ويخرج من مركزه رابحاً. وفي كثير من الأوقات يحتكر حزب الصعود صنفاً من البضاعة ولا سيما إذا صار قليلاً قرب انتهاء موسمه فيرفع أسعاره بقدر ما يتمكن من ذلك. وهذا هو السبب في بقاء أثمان بعض الأصناف مرتفعة على الرغم من قلة الطلب ووفرة وجود البضاعة. ويعلم ذلك من أثمان الماس الآن فإنها فاحشة إلى ما يجب أن تكون عليه وما سبب ارتفاع ثمن القيراط من 15 ليرة إلى 30 ليرة مؤخراً إلاَّ تمكن جماعة من احتكاره وخصوصاً بعد حرب البوير وتعطل معادن الماس زمناً. فيرى من ذلك أن المضاربات كثيرة الأخطار ولو كانت مبنية على الحكمة والتعقل والدرس واليقظة. فقد يكون المضارب على علم بزيادة المقطوعية لصنف من الأصناف مع عدم إقبال موسمه فيهجم على المشتري ظناً منه أن الربح متحتم ولكنه لا يلبث أن يرى الحالة بالعكس في كثير من الأوقات، إما لأسباب محلية توجب أعمال هذا الصنف أو تقليله وإما لعارض وقتي من مثل إشهار الحرب بين دولتين أو اعتصاب العمال أو لاتفاق حزب

النزول على تنزيل قيمته أو لقيام صنف آخر مقامه وهلمَّ جرّاً. فإذا كان لا بد لشخص من المضاربة بالبورصة فأفضل نصيحة تقدمها له أن يتروى كثيراً قبل المشترى أو البيع فيدرس حالة السوق على خبيرين ثم إذا أسعده الحظ وكسب عليه أن يكتفي بالربح القليل حالاً لأنه يكون قد وثق منه ثم يعاود الاتجار رابحاً بعزم جديد ومكسب يمكنه من تحمل الخسارة لو وقعت. فيمكنه إذ ذاك أن يخرج من مركزه مردداً قول القائل: على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخرج منه لا عليّ ولا ليا وقد دلّ الاختبار على أن البورصة لا يمكنها أن تبلغ جراحها إلا في من يهورون لطمعهم بالغنى مع أن الغنى العاجل من البورصة لا يكون إلا بنسبة 5 إلى 100 من حوادث الخراب وذلك لذهاب معظم أرباح المضاربين إلى جيوب السماسرة الذين ينشبون المنشار فيأكلون الأرباح صاعداً ونازلاً سواءٌ ربح المضارب على أيديهم أو خسر، لأن نصيبهم (وهو في الغالب عمولة قدرها 5 في المئة) ثابت لا ريب فيه ما لم يفتروا فيجازفون بمالهم الخاص إرضاءً لعملائهم. في البورصة طريقة لتأمين المضاربين على أموالهم بتحديد خسائرهم وهي أن يدفع المضارب مبلغاً معلوماً بصفة سوكارتاه ضد صعود الأسعار أو هبوطها تبعاً لإرادته. فإذا شاء المضاربة بالقطن مثلاً واختار طريق الصعود أي أن يكون شارياً لا بائعاً فإنه يدفع نحو ربع ريال على كل قنطار لمدة شهرين فيأمن الخسارة مهما هبط السعر ولكنه لا يربح إلا إذا ارتفع الثمن أثناء الشهرين فوق الربع ريال الذي دفعه بصفة تأمين له ضد الخسارة. وهناك طرق وعمليات أخرى من مثل العملية المسماة ستلاّج وهي الربح سواءٌ صعد الثمن أو هبط مقابل دفع أكثر من المبلغ المتقدم ذكره مما لا فائدة من الإسهاب في شرحه هنا لمماثلته لما تقدم في الجوهر. وخلاصة ما ننصح به القارئ أن يبتعد عن البورصة لأنها كثيرة الأخطار والنفقات والهموم. وقد يوافق الاشتغال بها لمن كان عضواً في داخلها يقف كل يوم على بواطنها فيتمكن من التصفية حالاً. أما من كان بعيداً عنها فخسارته له ومعظم أرباحه لغيره. هذا فضلاً عما يحف بالبورصة من الدواعي والأسرار التي تغل الأيدي عن السعي وتقيد

الهمة عن الظهور بمظهرها الحقيقي خلافاً لحقل التجارة الواسع فإن فيه لذوي الذكاء والهمة والاستقامة مضرباً نائي الأطراف يمكن من كان مستعداً من الإصلاح والفوز بالفلاح. سر السعادة كتبت إحدى العقائل في مجلة مطالعات البيوت ما تعريبه: قال الفيلسوف فون كنيبل: سكن رغائبك الشديدة واجلس إلى مائدة الحيلة كما يجلس الضيف المحتشم ولا تطلب صنفاً من الطعام لا تراه مكتوباً في قائمة الألوان وهي كلمات فيها سر السعادة فإن حياة المرء تنقضي في البحث عن السعادة وكم من أفراد قلائل يتيسر لهم الحصول عليها. يدخل المرء في سن العشرين مضمار الحياة فيريد أن يؤسس له مقاماً بالرضى أو الغضب ويحاول أن يحرز أو يأخذ النمر الرابحة في يانصيب الحياة وكل يظن نفسه على ثقة من ربح الشطر الأعظم لأن الأهواء في السعادة تختلف باختلاف الأشخاص حتى إذا بلغ الأربعين بتعب ويشكو ويقول أنني أضعت سعيي هباءً ولم أحظَ بما أتطال إليه من السعادة ولو بحث المرء في حياته بحثاً مجرداً عن الهوى لاعترف في الغالب أنه بتعلقه بالوهم قد تخلى عن ألوف من الحقائق الحسنة في الحياة السعيدة. السعادة تنشأ اليوم بعد اليوم من لذات مختلفة مؤقتة وأفراح طفيفة رائقة تكون بنت ساعتها فالواجب إيجادها بهمة وعناية على نحو ما تعمل النحلة العسل الجيد من عصارة الزهور المتباينة في الجودة فلقد كتب كارنو الكبير إلى ماكبورغ في ساعة يأس بالأبيات الآتية: أيتها السعادة أنت التي يتحرك بك كل شيء على الأرض أينزل ندماؤك على الكبراءِ أم في القرى؟ في إسبارطة أم في سباريس؟ في المعسكر أم في المقبرة؟ أم أنك تؤثرين الغابات أم حفظ القطعان؟ أأنت في البذخ أم في المجد أم في الوهم؟ في الرغبة الحاصلة؟ وفي الخلاص من الأمراض؟ في الصداقة أو الحب أو في البغض؟ في السلام والمعرفة والفضيلة أو بين القبور؟

السعادة أيها الفاني الجزوع هي بنت الأمل هي في فؤادنا وهي تلوج الطهر والعفاف تقام نذورنا وتأتي غير منتظرة هذه الهدية من الخالق هذه الجذوة السماوية لا يتأتى تعريفها فهي خبز الروح لاتعرف قيمتها إلا بفقدها والحق مع كارنو الكبير في جعله السعادة ابنة الوجدان المستريح وأنها خاصة بالأمل ومن لم يقع له أن تحقيق رغبة طلبت زمناً لا تنشأ عنها المسرة التي كانت تتوقع منها قبل الحصول عليها فأجمل القصور وأزهاها للسكنى القصور التي يبنيها صاحبها في إسبانيا (أي الاشتغال بعالم الخيال) وإن ما يبعد السعادة من طريقنا عدم قناعتنا بما يحصل في اليد ونغتبط به فمعرفة السعادة هي حسن استعمال ما في الحياة من صالح وعدم مطالبتها بما لا تستطيع أن تمنحه. ولربما رأينا زوجين تكدر عيشهما بعد اقترانهما لأن الزوجة نظرت إلى أرفع منها مقاماً فحسدتهن وأرادت بمال زوجها تنافسهن فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى تحمل بعلها على الاحتيال للمعاشر يأتيها بما تريد لبذخها وإسرافها ليترك سنن الاقتصاد والبساطة ويحاول أن يسعد امرأته أكثر من إسعاد الفطرة فما هو إلا أن تسود الدنيا في عينيه وعينيها ويضطر إلى الابتعاد عنها في طلب مظاهر الرفاهية وإذا رزقا أولاداً لا يكون منهم غير تنغيص العيش والشكوى على حين هم شمامة الأنس وريحانة النفس. ليس لك من الحياة إلا ما أعددته وكثيراً ما نكون نحن العاملين على شقائنا بأنفسنا فبقليل من العقل والخبرة كان في وسع هذه المرأة التي جعلت حياتها بيدها لمجاهدة البؤس أن تكون بزواجها أسعد مما هي وكان لزوجها بشيء من المضاء والعمل وحسن السلوك بدلاً من أن يعيش في البؤس أن يصبح ذا مقام متناسب مع ذوقه وأصله وأمانيه ولو صحت عزيمة تلك الأم على أن يكون لها حنان حقيقي لاستطاعت أن تحسن تربية أبنائها الذين هم علة شقائها وربما خجلها. الحياة دار ممر لا دار مقر لا يقف فيه السائر فالواجب التقدم على الدوام والاكتفاء بجني

الزهور التي تصل يدنا إليها بسرعة على الطرق ونحن سعداء إذا لم نكن ممن أصابت أيديهم شوك وعوسج وإذا كنا ممن خانتنا السعادة فعلينا أن نجعل سرور غيرنا علة لسرورنا أنفسنا وعلينا أن نعمد إلى صالح الأعمال بدون جزاء وأن لا نبتعد قط عن خطة الواجب ننظر في مرآة ماضينا بدون ألم لوجداننا وعلينا حتى نسعد أن ننظر إلى تحتنا لا إلى من فوقنا ولا نكدر عيشنا بخوف ما يحدث وربما لا يحدث فكم عذاب يا رباه يحدث لنا من الشرور التي لا تلحقنا تبعتها. فالعاقل يستمتع بما ملكت يداه وينظر إلى المستقبل باسماً ويقول إن الحياة زائلة والأيام معدودة فلماذا لا أغتنم السعادة الحاضرة. فإذا طرق البؤس بابي ذات يوم أتلقاه باحتشام رجل عرف الاستمتاع بالأيام الرائقة. وقليل في الناس اليوم من يرضون بما قسم لهم بل يطلبون أرقى منزلة مما هم فيها ويطمحون إلى أسباب ليست لهم ومن موجبات الأسف ما تسمعه من شكاوي الناس الذين يشكون مما لا يشتكى منه وليس لبؤسهم أثر إلا في مخيلتهم أو في أطماعهم التي لا تشبع وهم أبداً في خيبة مهما أُعطوا ولو عقلوا لكانوا سبب سعادة للبائسين في الأمور التي يبكون منها وينتحبون. قال فوستل دي كولانج المؤرخ إن الواسطة الوحيدة لسعادة الإنسان هو أن لا يفكر في نفسه بل يعمل لغيره وأن ينصرف بكليته إلى عمل يعتقد نفعه فالبشر لم يجدوا حتى الآن أسباباً توليهم السعادة والملاذ تعزف عنها النفس بسرعة والمطامع لا حدَّ لها فالإخلاص هو الذي فيه الهناء والجزاء في ذاته. إذا نقص شيءٌ مما تريد ففكر فيمن لا يملكون شيئاً في هذه الدنيا. ذهب أحد الفقراء لزيارة إحدى الأماكن المقدسة ولم يكن له حذاءٌ فمشى على الأدغال والشوك يدمي رجليه والحصا يصرُّهما وكان طول طريقه يشكو سوء طالعه وقلة ذات يده قال أنه لما وصل إلى المكان المقصود رأى زواراً أتعس حالاً منه رأى أعمى لا ساق له فقال بعد أن رأيت ما رأيت لم أعد أشكو من فقدي حذاءً ألبسه في رجلي. عمر الحيوانات قليل في الناس من يعلمون كم تعمر الحيوانات فالحصان يعيش خمساً وثلاثين سنة والبقر ثلاثين في الأكثر ويبلغ البغل سن الستين والكلب لا يصل إلا إلى الخامسة والعشرين والهر الخامسة عشرة ومثله العنز والغنم وقد شوهد خنزير عمره عشرون سنة ولكن من النادر أن

يبقوا عليه بل يذبحونه والأرنب قد يعيش من ثماني إلى عشر سنين ويعيش الديك الهندي والدجاج البري (الغرغر) اثنتي عشرة سنة وذكر البط قد يبلغ الثلاثين وصغار الطير كالحباشة والعصفور وحسون لا تتجاوز الخامسة والعشرين أما الغراب فإنه كما يقول علماء الحيوان يعمر طويلاً. الجبن السريع إذا أردت أن تعمل من اللبن الحليب جبناً في الحال بدون أن تستعمل الروبة التي يطول أمرها متى مزجت باللبن فعليك باستعمال السعتر البري تمسح به الإناء النظيف الذي تضع فيه الحليب ثم تصب على الأثر اللبن الذي يجمد في الحال. تدوير الساعات أفضل وقت ليدور الإنسان ساعته أن يوقت لها وقتاً يربطها فيه كل يوم في الميعاد المعين ومن الناس من يختارون المساء ومنهم من يختارون الصباح لربطها والصباح أفضل إذ تكون الساعة في النهار معرضة للحركة أكثر من الليل فإذا كان عهدها بالرباط قريباً تظل بقوتها إلى آخر النهار ثم لا تزال تضعف في الليل إلى صباح اليوم التالي وبذلك تستقيم جريتها وحركتها. طرد الجرذ والفيران عليك بدهن ثقوب الجرذ والفيران بزيت النعنع فإنها تكره رائحته كثيراً وذلك أسهل من استعمال السم لقتلها. تدخين الحيوانات يقولون أن الجمل والهجين يحبان دخان التبغ ومتى أُغويا به يسهل أن يحملا الأثقال ويطلب منهما كل صعب المنال وفي إفريقية الشمالية يعمد من يقودون ذينك الحيوانين إلى استهوائهما بالتدخين فيخضعان لكل ما يراد منهما ومتى صح العزم على قطع الأبعاد الشاسعة بهما يعطونهما لفائف يدخنونها فيسيران أحسن سير ويكون مع قوادهما في الغالب قطعة من الخشب مثلثة الشكل يجعل في طرفها المثقوب لفافة والخشبة في فم الحيوان فإذا شعلت اللفافة يمص دخانها ويرسله من منخريه حتى ينتهي منه ويطبق الجمل والهجين

عيونهما في خلال شرب الدخان شاعرين بلذة فائقة وأنس غريب. بيوت الرمل وقر في الأذهان أن البيوت التي تُبنى على الرمل لا بقاء لها حتى أصبح ذلك من أمثالهم. نشأ ذلك مما ورد في بعض الكتب المقدسة من المقارنة بين من يبني بيته على الرمل ومن يبنيه على الصخر على أن آخر الآية أن الأمواج علت على ذاك البناء فانهار ولو بنيت البيوت في رمل جاف متين لمال استطاعت صروف الأيام أن تقوضها وأهرام مصر أصدق دليل على ذلك لأنها بنيت على الرمل وهي لم تتزعزع منذ ألوف من السنين. الهر في يابان كتب أحد الباحثين أن الهر نقل من الهند إلى الصين ومن هذه إلى اليابان وهو في الصين معدود من الحيوانات الأهلية منذ زمن طويل. وفي كتب الصين القديمة وصف مطول لأخلاقه وهو هناك يتوفر على إبادة الفيران من الحقول التي تسطو على الزرع وفي سنة 1212 من التاريخ الياباني الموافقة لسنة 552 للتاريخ المسيحي أخذوا في يابان يقدمون ضحيا للقطط وقد تبين له أن القط دخل يابان يوم دخل المذهب البوذي وذلك لوقاية المخطوطات الصينية التي تبحث في الأخلاق من سطوات الفيران وكانت العادة قديماً أن تجعل القطط في المعابد وكثيراً ما كانوا يرسمون صورها في المحال التي تألفها الفيران. حمل الأحمال يحمل الناس أحمالهم في البلاد الجبلية على الجزء الأسفل من ظهورهم أو على أصلابهم وذلك بوساطة سير من جلد يجعلونه أو بقدم يربطونه على الجبين بحيث ينتفع بعمل أعصاب النقرة ومن النساء الفلاحات من يحملن جرار الماء على رؤوسهن وعلى العكس في سكان الجبال فإنهم يحملون الأحمال الثقيلة على رؤوسهم حتى تنزل قدة الحمل على الجسم ولكن إذا حمل هكذا في الصعود الشديد يتعرض للسقوط إلى الأمام. أما الأشياء الخفيفة أو المتوسطة فيتأتى حملها بالذراع وعلى الورك والكتف مباشرة أو بواسطة ميزان كما هو الحال في الشرق الأقصى. ومن النادر أن يحمل الحمالون في البلاد السهلية على ظهورهم وإذا فعلوا فإنهم يجعلون الحمل على الجزء العالي من الظهر ولا يقربونه من الصلب كما يفعل الجبليون. وهذا كله ناشئ من تركيب الأرض التي يعيش فيها المرء

فترى ابن الجبال ربعة مجموعاً قصيراً ولذلك يحمل حمله على صلبه حتى لا يتعرض للسقوط وترى ابن السهل طويل القامة نحيف الجسم أهيف فيحمل الأثقال على جنبه أو يرفعه كثيراً غير متخوف عليها السقوط. البوسنة والهرسك كان في البوسنة والهرسك إلى سنة 1906 نحو ثمانين ألف مزرعة وأرض زراعية لا يملكها العاملون فيها من الفلاحين بل هي ملك للسادة والأغوات يعطيهم الفلاح ثلث غلاتها وقد أخذت حكومة النمسا تبتاع تلك الأراضي من أربابها ولكن على طريقة بطيئة وألغت إكراه الأولاد على العمل بالطرق الأهلية وكان يقضى من قبل على كل ولد من سن السادسة إلى العشرين أن يسخر في الطرق واستعاضت عن ذلك بتكاليف وضعتها الولايتين مجلساً نيابياً مصغراً. أخلاق الكوريين عادات أهل كوريا من أغرب العادات فهم لا يعرفون الخياطة وبدلاً من أن يخيطوا ألبستهم وثيابهم يصموغنها بصمغ السمك وهم لا يعرفون الفرش بل يستعملون بدلاً منها ألواحاً من الورق المزيت لطيفة الملمس وأكلهم بسيط للغاية ومادته الأصلية عبارة عن الأرز ولحم الخنزير ولحم الكلب وهم على قرب بلادهم من بلاد الصين لا يعرفون الشاي بتة وأهم صناعات كوريا الورق وهو من أهم الصادرات إلى يابان ثم القيشاني والفخار يصنعونه بذوق غريب. أما وسائط النقل فهي على الفطرة الأصلية فترى المركبات فيها قليلة جداً والكراسي التي تحمل هي خاصة بالأغنياء والمنورين ولقلة الخيل والحمير استعاضوا عنها في حمل الأثقال بالثيران. والمرأة في كوريا محترمة للغاية ولكنه ينظر إليها كما ينظر للطفل وهي لا تسأل عن الجرائم التي تقترفها. بكور الطيور جاء في إحدى المجلات الإفرنجية ما مثاله معرباً: الطيور أكثر منا بكوراً في العادة فهي التي تتولى إيقاظنا في ساعات لا تكاد تختلف ولا بأس بالوثوق بها فطير البرقش (الشرشور) يستيقظ في شهر حزيران ويأخذ بالتغريد نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل وأبو زريق في الساعة الثانية ونصف والسلوى (سمانات) في الساعة الثانية والبلبل في

الثالثة ونصف والشحرور يغرد منذ الساعة الثالثة ونصف إلى الساعة الرابعة والعندليب يبدأ في الرابعة ونصف وأبو زريق المستنقعات ربما تأخر تغريده إلى الخامسة بسبب برودة المكان الذي هو في الضباب المتكاثف عليه. والعصفور الدوري هو أكسل الطيور ينتبه من وكنته في الخامسة ونصف ولكنه يملأ الفضاء بتغريده. هذه ساعة الطيور ومن أراد الاعتماد عليها في أوقاته فعليه أن يسكن الغابات ويتمتع بأصوات هذه المخلوقات لا يخاف دركاً ولا يخشى والأجدر أن لا يجعل الطائر الذي يروق السمع بتغريده في قفص بل أن يبقى كما يريد من البيت وأكثر الطيور أنيسة للغاية وتحب مجتمع الناس إذا وقع في نفسها أنه لا تمس حريتها. وأحسن الطرق لجعل صغار الطيور وبيوضها في مأمن من مخالب الهررة وغيرها منه الحيوانات الغاصبة أن تضع حزمة من الشوك والعوسج في جذع الأشجار التي تناط بها الأعشاش والطيور المغردة تطربنا بنغماتها وهي من أعظم الأعوان على نجاح الزراعة. الأعمار والعقليات في مجلة المطالعات البيتية ما تعريبه: إن علاقة الأعمار بالأعمال الذهنية وتأثيرها هي من المسائل التي جرت المناقشة فيها كثيراً ولم تنجلِ عن نتيجة حتى اليوم. فمن المفيد من ثم أن نأتي على هذا الإحصاء الذي أورده أحد العلماء وقابل فيه بين أعمار زمرة من الرياضيين والشعراء والمصورين فأورد في المقدمين لايبنز الذي عمره 70 سنة وأولير 76 سنة ولاكرانج 77 ولابلاس 78 وكوس 78 وأفلاطون 82 ونيوتن 85 وأرخميدس 75 وفيثاغورس 90 وأورد من الشعراء والمصورين بندار الذي عاش 80 سنة وسوفقلس 90 وأربيدس 75 وسيمونيدس 89 وشومير 71 وميشيل آنج 90 والتيتين 99 ونوردورت 80 ولاندرو 89 فمعدل الحياة بموجب هذه الأرقام 79 سنة لرجال العلم و 85 لغيرهم. فهذا الإحصاء يرضي القائلين بأن الأشغال العقلية لا تختصر حبل الأجل أما القائلون بعكسه فيقولون لك بالإحصاء أيضاً أن رفاييل مات في سن ال 37 سنة وموسه في ال 47 وهيجزيب مورو في ال 28 وشكسبير وبرون في سن الشباب وغيرهم ماتوا في زهرة العمر. وعليه فإن أحسن شرح لما تقدم أن يقال أن الارتقاء في الأمور العقلية في الأكثر نتيجة الصحة الجيدة وأن القوة الطبيعية هي التي تطيل الجل في حين أن هذه الأشغال

العقلية نفسها تقصر أعمار ضعاف الأجسام وتقودهم في الأغلب إلى أشد حالات الاضطرابات الدماغية. إبادة الجراد لم ير الباحثون حتى الآن في طبائع الجراد وأضراره بالمزروعات والأشجار بحيث يقضم الأخضر واليابس إلا أن تتوفر العناية على جمع بذوره قبل أن تفرخ وتبيض كما يفعل المستعمرون في بلاد مراكش والجزائر حيث يكثر الجراد فيجرد كل خيرات البلاد معظم السنين. دواء التهزيل كثير من النساء من يريدون التخلص من السمن الذي يعالجهن قبل الأوان فتضيق به أنفاسهن وتتأذى به نفوسهن ليصبحن رشيقات ممشوقات. والذريعة إلى ذلك أن يعمدن إلى تمرين عضلي بسيط للغاية فإذا أحبت المرأة أن تصغر وركيها فعليها أن تضطجع على الأرض وترفس برجليها مرات، ثم تنهض وترفع ساقيها ثانيةً لهما بحيث تكون ساقها على صورة زاوية قائمة مع قامتها وتظلُّ تعمل هذه الحركة بساقيها خمس دقائق كل مرة. وفي الأسبوع التالي تقف منتصبة وتضع ذراعيها وراء ظهرها وتحمل شيئين ثقيلين تربطهما بطرفي حبل وفي الأسبوع الثالث تعمد إلى حني ركبتها وتمدُّ الساق الثانية مداً مستطيلاً وتضع يدها مفتحة على الأرض وذراعها الآخر وراءها وفي الأسابيع التالية تحني بدون أن تثني ركبتيها بحيث تمس أطراف أصابعها رجليها ولا بأس من الاعتماد على كرسي في بداءة هذه الرياضة فقط ويستغنى عنه فيما بعد. ثم تقفز بعد ذلك مستندة إلى إطار (طارة) واسع وهو أحسن من الحبل الذي يقفز به. حتى إذا اكتست المرأة ثياب الزينة تنتصب مستقيمة وتمد ذراعيها ثم تستنشق الهواء بكل ما فيها من قوة ثلاث مرات وبهذه الواسطة يهزل جسمها بحول الله وقوته وتغدو رشيقة القوام ـ انتهى معرباً عن مجلة البيوت.

القضاة والنواب

القضاة والنواب 1 صحيفة من تاريخ القضاء ترى الناس على اختلاف مذاهبهم ونحلهم وأجناسهم مجمعين على انتقاد أعمال القضاة والنواب شاكين كل حين من ظلمهم وغدرهم على أن العدل والأمن والراحة العامة وتأمين الحقوق في أيديهم وحياة الأمة وعمران الوطن وسعادته تتوقف على إصلاحهم فهم على ما هم عليه من المكان من حيث الدين والدنيا نرى أكثرهم كانوا من أكبر المخربين في هذا المجتمع الإنساني وقد تيسر لي اختبار أعمالهم وأفعالهم فرأيت أن أكتب شيئاً عنهم غير أني لم أقدم عليه قبل الرجوع إلى أمهات الكتب الدينية والوقوف على حقائق هذا المنصب العظيم. وقد أنشأت هذه المقالات بعد أنم طالعت مقدمة ابن خلدون وحاشية ابن عابدين وتكلمته والأشباه والأحكام السلطانية وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل لابن الأثير ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة والميزان للشعراني وسراج الملوك وغيرهما ولذلك أرجو من وجد غرابة في بعض أقوالي أن يرجع إلى هذه الكتب المهمة. القضاء القضاء لغة: الحكم ويجيءُ بمعنى الفراغ والأداء وأما القضاء شرعاً فهو فصل الخصومات وقطع المنازعات غير أنه مظهر للأمر الشرعي لا مثبت. كان النبي صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى لا ينطق عن الهوى ولذلك لم يكن قضاءٌ في زمانه وفي مقر نبوته لأنه كان يأتي بالحكم أو يحكم مثلما يوحى إليه غير أنه عليه السلام لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أرسله إليها عاملاً وقاضياً وبعث علياً إلى جهة اليمن عاملاً وقاضياً فكان أمر القضاء ممتزجاً مع الإمارة في زمان النبوة ولما صار أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة قال له أبو عبيدة أنا أكفيك المال يعني الجزاء وقال عمر أنا أكفيك القضاء فمكث سنة ولم يخاصم إليه أحد فكان عمر أول قاض في المسلمين. ولما تولى الخلافة أدرك أن توسع أمر الفتح وكثرة الاشتغال بالسياسة يؤخره عن القيام بالقضاء ولى أبا الدرداء معه في المدينة وولى شريحاً في البصرة وولى أبا موسى

الأشعري بالكوفة وكتب له كتابه المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة وفيه يقول: أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له واسٍ بين الناس في وجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما بيس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماءِ. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفى عن الإيمان ودرأ بالبينات وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام. القضاء في الدولة العثمانية 3 كان السلطان عثمان الغازي مؤسس هذه الدولة ورعاً ديناً يستخدم قضاةً وحكاماً للنظر في الأمور الشرعية والقيام بأحكامها ولما تولى الملك ابنه أورخان الغازي طلب من الشيخ علاء الدين الأسودي رجلاً يقوم بمصالح الناس الشرعية في أسفاره فأوصاه بقره خليل أفندي جنوره لي فاتخذه قاضياً لبروسة عاصمة ملكه ثم جعله قاضياً على العسكر وخصه بأمورهم ولما آنس منه اختباراً في السياسة استوزره وسماه خير الدين باشا ونصب رستم أفندي مكانه قاضياً للعسكر. وفي زمان السلطان بايزيد الأول تولى العالم محمد شمس الدين أفندي منصب الفتيا في قاعدة السلطنة للنظر في الأمور الشرعية وجمعها في مركز واحد فأصبح المفتي ناظراً عاماً عَلَى جميع العلماءِ والقضاة والمدرسين وقد بدأَ تنظيم مراتب العلماء الحالية ونظامهم

في زمان محمد الفاتح على أنه لم يكن حتى في آخر زمانه سوى قاضٍ واحد للعسكر ولما كثرت الأعمال قسم القضاةَ على قسمين فصار قاضي عسكر للروم ايلي وقاضي عسكر للأناضول وجعل الفاتح جلال زاده خضر بك قاضياً عَلَى استانبول ومفتياً في مركز السلطنة وذلك عقيب فتح الأستانة. وبعد حين تولى العالمان الشهيران ابن كمال باشا وأبو السعود أفندي منصب الفتيا بعدما كانا قاضيين للعسكر ثم أخذ يطلق عَلَى منصب الإفتاء مقام المشيخة الإسلامية وأصبح منصب الإفتاء فوق منصب قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وجعلت له رئاسة الطرق العلمية ونظارة المحاكم الشرعية وأصبح مقام شيخ الإسلام معادلاً لمقام الصدارة العظمى وصار يقال لشيخ الإسلام (ولي النعم) وعدامر المعارف والعدل من حقوق مقام المشيخة واخذ طلبة العلوم عندما ينجزون دروسهم عَلَى الطريقة القديمة يقيدون أسماءهم في جريدة الدولة فيغدون قضاة. ولم تكن مناصب قاضي عسكر وقضاة استانبول وقضاة أدرنه توجه إلا عَلَى اكبر المدرسين ومنتهى رتب التدريس رتبة المولوية بيد أن هذه الوظائف كانت مقرونة بالعمل والقاعدة أن ينالها المرء بحسب قدمه ولكن قوة الوساطة والشفاعة والرشى صارت تؤَهل الجاهل لبلوغ تلك المناصب فدخل الفساد فيها حتى أصبح القضاء ألعوبة بأيدي البحارة وصعاليك الناس وانشأ من ينال شهادة الملازمة بوسائط غير مشروعة يصل بها إلى القضاءِ. وكان قاضي استانبول اكبر مأمور شرعي بعد قضاءِ العسكر وله النظر في أمور البلدية وشؤون أرباب التجارة والحرف. قلنا أن أحكام العدل كانت من وظائف مقام المشيخة وأن الدعاوي تنظر في المحاكم الصغرى وأما الدعاوي الكبرى فينظر فيها أمام قاضي عسكر وكان الديوان الهمايوني بمنزلة محكمة كبرى فوق المحاكم ينظر في أمور الدولة والأمور الشرعية معاً ثم تغيرت صورة هذا الديوان وانفردت أمور الدولة عن مصالح الرعية فاخذ القاضيان يجتمعان في غرفة العرض مرتين من كل أسبوع وينظران في الدعوى التي تعذر حلها في المحاكم الصغيرة وكان يقال لهذا المجلس (حضور مرافعه سي) وأصبح هذا المجلس في سنة 1254 يلتئم بحضور شيخ الإسلام وفي عهد المرحوم عبد

المجيد لما كان عارف أفندي شيخ الإسلام غدا انتخاب تحت نظام وفتح مكتب النواب عام 1272 وشرط ان يكون النائب من متخرجي هذه المدرسة وفي سنة 1274 تأَلف مجلس التدقيقات الشرعية وأصلح في سنة 1289 وأصبح تدقيق الصكوك والاعلامات من وظائف باب الفتوى. وبعد ذلك انقسم مستخدمو الشريعة إلى قسمين الأول للفتوى والثاني للقضاءِ وصارفي مركز كل ولاية ولواءٍ وقضاءٍ مفتٍ وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وعد شيخ الإسلام المفتي الحقيقي وشرط في الإفتاء أن لا تعطى الفتوى لأرباب المصالح قبل تصديق شيخ الإسلام عليها وأما أمر القضاءِ فأمره لشيخ الإسلام يتولاه من السلطنة او مقام الخلافة غير أن مجلس انتخاب الحكام ينتخب الحكام وشيخ الإسلام يصادق عليه عند تقبيلهم ذيله ثم تكتب المراسلة ويختمها قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وقاضي الأستانة وقاضي غلطة وقاضي الخواص الرفيعة وقاضي مكة وقاضي المدينة وغدا قاضي عسكر الأناضول قاضياً عَلَى آسيا وافريقية وقاضي عسكر الروم ايلي قاضياً على الروم ايلي وأما بقية البلاد فيحكمها نواب هؤُلاءِ القضاة فلكل مركز ولاية نائب ولكل مركز لواء نائب ولكل مركز قضاء نائب ولبعض النواحي نواب فنواب آسيا وافريقية ونواب قاضي عسكر الأناضول وأما نواب الروم ايلي فهم نواب قاضي عسكر الروم ايلي ولمنصب النيابة رتب منها خامسة ورابعة وثالثة ومسبوق ومستخدم الخ. وترك الخيار في مراجعة المحاكم لأرباب الدعاوي وتقرر استئناف الأحكام في مجلس التدقيقات الشرعية وتمييزها في مقر الفتوى والتمييز قبل الاستئناف خلافاً للأحكام النظامية فالحجج والاعلامات ينظر فيها بعد تدقيق توقيعها وختم خاتمها فان وافقت الأصول الشرعية ترسل إلى مجلس التدقيقات الشرعية. ثم جعلت محكمة (التفتيش) في نظارة الأوقاف للنظر في دعاوي الأوقاف ومحكمة (القسمة العسكرية) للنظر في دعاوي الإرث وتحرير الشركة وتقسيمها وعين مفتش الأوقاف حاكماً في محكمة التفتيش ومدته سنة والقسام العسكري حاكماً لمحكمة القسمة العسكرية واختصت محكمة التفتيش بدعاوي توجيه الجهات والتولية والمحلولات واستئنافها بمجلس التدقيقات الشرعية وأما القسام العسكري وقسام بيت المال فملحقان بقاضي عسكر الروم ايلي وليس

لقاضي الأستانة سوى النظر في دعاوي الطلاق والنكاح والنفقة والمنازعات المتعلقة بالكدكات. وأما سائر المحاكم الشرعية فلها أن تنظر في دعاوى النكاح والطلاق والنفقة والحضانة والحريق والرق والقصاص والدية والارش والوصية والإرث والإقراض بالدور الشرعي والدعاوى الوقفية المتعلقة برقبة المسقفات والمستغلات والكدكات من الأوقاف الصحيحة التي هي من ذات الإجارة الواحدة أو ذات الاجارتين هذه الدعاوي في الأمور الشرعية مشوشة من حيث المرجع تحتاج إلى إصلاح حقيقي. أوصاف القضاة الشرعية 4 القضاءُ فرض كفاية وسنة مثبتة لا يجوز أن يقلد إلا من تكاملت فيه شروطه وذلك بان يكون رجلاً بالغاً عاقلاً صحيح التمييز جيد الفطنة بعيداً عن السهو والغفلة حراً مسلماً عادلاً صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقياً المآتم بعيداً عن الريب مأموناً في الرضى والغضب صاحب مروءة في دينه ودنياه سالم السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق وأن يكون عالماً بالأحكام الشرعية وعلمه بها يشمل علم أصولها والارتياض بفروعها. وأما أصول الأحكام الشرعية فهي أربعة احدهما علمه بكتاب الله عز وجل حق معرفته والثانية علمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله وطرق مجيئها والثالثة علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف والرابعة علمه بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها حتى يجد طريقها إلى العلم بإحكام النوازل ويميز الحق من الباطل. فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة للأحكام الشرعية عد فيها من أهل الاجتهاد في الدين وجاز له أن يفتي ويقضي وأن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يقضي ويفتي وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه وقضاياه واختلف أصحابه فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة.

ويقول ابن هبيرة في الإيضاح (إنما عني بالاجتهاد لما كان عليه الناس في الحال الأولى قبل استقرار مذاهب الأئمة الأربعة فالقاضي الآن وإن لم يكن من أهل الاجتهاد ولا تعب في طلب الأحاديث وانتقاد طريقها لكن عرف من لغة الناطق بالشريعة عليه الصلاة والسلام مالا يحتاج معه إلى شروط الاجتهاد وإنما عَلَى القاضي أن يقضي بما يأخذه من الأئمة أو عن واحد منهم فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قوله قاله وعَلَى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكَنه كان آخذاً بالحزم عاملاً بالأولى ويجب عليه الأخذ بالأكثر والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه يأخذ بالحزم مع جواز عمله بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون مقتصراً في حكمه عَلَى إتباع مذهب أبيه أو شيخه فلو عدل عما اجتمع عليه الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمفرده من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قال ولا أداه إليه اجتهاده فإني أخاف من الله عز وجل أن يكون اتبع في ذلك هواه ولم يكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ثم قال: لو أهملت هذا القول ولم اذكره ومشيت عَلَى ما عليه الفقهاء من أنه لا يصلح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد لحصل بذلك ضيق وحرج عَلَى الناس فإن غالب شروط الاجتهاد الآن قد فقدت في أكثر القضاة ولذلك ان ولاية الحكام جائزة وأن حكوماتهم صحيحة نافذة وإن لم يكونوا مجتهدين والله أعلم أهـ). وبهذا علمت أن قد جوز ابن هبيرة قضاء من لم يكن من أهل الاجتهاد وذلك في زمانه ولكنه لك يجوز قضاءَ الجهال ولو نظرنا إلى قوله لأدركنا أن القاضي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد يجب عليه أن يكون قريباً من درجته ليتمكن من ترجيح القول الراجح والقول الموافق ولو عَلَى غير مذهبه فإن أئمة الدين والفقهاء المحققين أوصوا باختيار القول الراجح ولو كان عَلَى غير مذهبه (لأن التقليد الأعمى في أحكام الشرع محظور والاجتهاد فيها مستحق). نهى الشارع عن طلب القضاء وقد ضرب السلف الصالح وحبسوا ليتولوا القضاء فلم يقبلوا وجوز بعضهم طلب القضاء في حالتين إحداهما أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره والحالة الثانية أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال. وطلبه لاحتياجه مباح وإن كان لإقامة الحق فهو مستحب وإن كان طلباً للجاه فهو

مكروه. واتفق الأئمة الأربعة والفقهاء المتقدمون والمتأخرون عَلَى أن القاضي إذا أخذ القضاء بالرشوة لا يصح قضاؤه وإذا حكم لا ينفذ حكمه ويجب نقضه واجمع الفقهاء عَلَى أن القاضي إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى فيه. وقال السرخسي لا ينفذ كلها. ولا يجوز للقضاة أخذ العائدات والمحصول ولو احتجوا بإذن موليه لأن ابن عابدين أنكرها كل الإنكار وذكر في الخبرية أن من التزم القضاء عَلَى مبلغ معلوم فهو كافر والعياذ بالله ولا يصح الاحتيال لحصول القضاء. وأما القضاء بظلم أو رشوة فيوجب العزل والتعزير وقد منع القاضي من قبول الهدية والاستعارة والاستقراض وسائر ما يتبرع به ويمنح ويجب رد الهدية إلى صاحبها أو لبيت المال إذا لم يعلم صاحبها وعدم القبول هو المقبول. وإذا فسق القاضي عزل ولا يكون القاضي فظاً غليظاً جباراً عنيداً وكره تحريماً اخذ القضاء لمن خاف الظلم والعجز عن إقامة الحق والعدل. ولاية القاضي مقيدة بالزمان والمكان والحوادث وتكون ولايته عامة أو خاصة في بعض المسائل أو عَلَى أحد المذاهب وله أن يستخلف نواباً إذا فوض إليه صريحاً كولِ من شئت أو دلالة كجعلتك قاضي القضاة ولا يصح للقاضي أو النائب أن يحكم بما خالف الدليل لأنه لا ينفذ ولو حكم به ألف قاضٍ وأما القضاة فهي عَلَى ثلاثة أقسام الأول حكمه بخلاف النص والإجماع فهو باطل ينقض والثاني حكمه فيما اختلف فيه فهذا ينفذ وليس لأحد نقضه والثالث حكمه بشيءٍ يتعين فيه الخلاف بعد الحكم فيه أي يكون الخلاف في نفس الحكم فقيل نفذ وقيل توقف عَلَى إمضاء قاض آخر فلو أبطله الثاني بطل وإن أمضاه فليس لقاض آخر نقضه. وأما منزلة القضاة من حيث الآخرة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فلم يقض وجار في الحكم فهو في النار ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عَلَى جهل فهو في النار فانظر إلى ما كانت عليه أحوال القضاة وأحكامهم تعلم منازلهم. ويسرنا أن نرى الحكومة الدستورية أخذت تعنى بانتخاب من توفرت فيهم الشروط الشرعية وفقها الله.

أحوالهم الأخيرة 5 في المقالة الثالثة أن مدرسة النواب أسست لتخريج نواب قادرين عَلَى القيام بما يعهد إليهم من الوظائف عارفين بأحكام الشريعة غير أنني حتى الآن لم أصادف بين من اجتمعت بهم من المتخرجين في المدرسة المذكورة عالماً بوظائفه وأحكام الشريعة كما يجب إلا القليل منهم وهذا مما يدل عَلَى أن ذلك المعهد العلمي غير كاف وفي حاجة عظيمة إلى الإصلاح ومع ذلك فإننا نرى كثيرين من النواب تخرجوا بكتابة المحاكم الشرعية وربما يتعلم هؤلاء الكتابة وتنظيم الاعلامات والصكوك والحجج الشرعية وضبط الدعوى وتصير معهم ملكة المعاملات غير أنهم يخبطون في أحكامهم خبط عشواء ويجمعون من مجلة الأحكام العدلية وكتب الفتاوى ما يجدون كحاطب ليل واغرب من ذلك ما صادفته في بر الأناضول وذلك أن النواب هناك يستخدمون نواباً لأنفسهم جوالين (سيار نائب) ثم يأخذونهم إلى باب المشيخة ويجعلونهم نواباً بالوسائط التي بلغوا المناصب بها وقد شاهدنا بأم العين نواباً لم يكونوا ممن انتسب إلى العلم. فالنواب حينما يذهبون إلى الأستانة في طلب التعيين ينتظرون زماناً طويلاً ويتكبدون نفقات طائلة ويقاسون أنواع العذاب ولا يحصلون عَلَى نيابة إلا بعد أن يصرفوا ما جنوه من أموال العباد في خلال نيابتهم الأولى فيخسرون ما جمعوه وتبقى عليهم حقوق العباد وعذاب الواحد الديان وأغلبهم يصل إلى النيابة إما بطرق غير مشروعة وإما بشفاعة غير جائزة وندر من غدا نائباً بطرق سهلة. وأما رواتبهم فهي قليلة في أكثر أنحاء المملكة وقلما تقوم بنفقاتهم ولذلك تراهم منصرفين إلى ادخار الأموال ليصرفوها في طرقهم وإقامتهم بالأستانة وأخذ النيابة ولهذا السبب أيضاً ترى همهم تزييد العائدات التي أنكرها الفقهاء عَلَى أن المشيخة الإسلامية تركت تلك العائدات للكتبة فالنواب يشاطرونهم إياها حتى عَلَى تزكية الشهود ونفقات الطريق وأجرة القيد وما يسمونه الدلالية والقرطاسية ولا يسع الكتاب إلا السكوت والرضى لأنهم إذا امتنعوا عن إعطاء القسم الأعظم من العائدات تهددوهم بالعزل وعدم إصدار الاعلامات وحل المخاصمات بلا ضبط فحينئذ إما أن ينعزل الكاتب وإما أن يحرم من العائدات وقد

تزيد هذه العائدات عَلَى رواتب النواب في أغلب الأحيان وتشغلهم كثيراً وتدعوهم إلى إحالة الدعاوي الحقوقية إلى المحكمة الشرعية. فهذه العائدات عَلَى قسمين قسم مقيد في دفتر الخزينة فما تجاوز الخمسمائة من هذا القسم يكون مشتركاً بين النواب والخزينة وما كان دون الخمسمائة يكون حق النائب والكاتب لذلك لو دققت دفاتر الخزينة في كل الجهات ترى هذه العائدات قلما تجاوزت الخمسمائة وأنا القسم الثاني فذلك ما دخل كيس النائب والكاتب من غير أن يقيد بصندوق الخزينة وهذه الأجور والعائدات مصرح بمقاديرها في نظام أموال الأيتام غير أن الشريعة المطهرة لم تأمر بها عَلَى أننا لو نظرنا إلى حقائق الشريعة وما يقتضيه الدين والصلاح نرى أن أمر القضاء فرض كفاية كحفظ القرآن لا يستحق الأجرة كما فعل أبو بكر بن المظفر الشامي وغيره ولقد أفتى الفقهاء المتقدمون بتخصيص رواتب معلومة من بيت المال لتفرغهم عن المكاسب واشتغالهم بمصالح الناس وأنكروا تناول العائدات وقالوا أن الراتب يجب أن يكون كافياً. لو نظر المرء إلى (المراسلة) التي تنبئ بنيابتهم وتصرح بوظائفهم تحت توقيع القاضي عسكر وجد أن عمل النواب محصور بإنفاذ الأحكام الشرعية عامة وبشدة الاعتناء في تحرير التركة. وأما التركة التي يجب تحريرها فهي تركة رجل مات عن صغير أو غائب أو مات عن غير وارث أو إذا كان الميت مستغرقاً بالديون أو إذا طلب أحد الورثة تحرير تركة أبيه والغرض من ذلك حفظ حقوق الورثة وأخص بالذكر منهم الأيتام وقد رأينا النواب مسارعين إلى تحرير التركات غير أن السبب الحقيقي الذي يدفعهم إلى هذه السرعة هي العائدات والنفقات التي يأخذونها فنواب الأناضول تستخدم النواب الجوالين في تحرير التركات فيطوف هؤلاء القرى ويفتشون القبور والمدافن ويستخبرون عن الأموات فعندما يعلمون بوفاة أحد يجب تحرير تركته يحررونها فيتألم الورثة وأهل القرية وتستولي عليهم الكآبة والأحزان فوق حزنهم غير أنهم لا ينطقون ببنت شفة لأن النائب المتجول جاء باسم الدين والحكومة وم أشهد هذه الحالة في البلاد السورية لأن تحرير التركة هنا يتولاه النائب بنفسه أو يرسل رئيس كتابه.

وأما تحرير التركات في مراكز الولايات فذلك من شأن نائب النائب وكتبة المحاكم فهؤلاء يستخدمون جواسيس وأعواناً يطوفون في البلدة ويستخبرون عن الأموات من المغسلين والحفارين ولما يعلمون بتركة تستحق التحرير يذهبون إليها مهرولين فهنالك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى عَلَى الأيتام فتؤخذ الأشياء الثمينة والنادرة بثمن بخس واسم مستعار وترسل إلى بيوت النواب والكتبة ثم يحسبون أجرة الدلالة والقيد وأجرة اعلامات الديون واعلامات الصلح وأجرة دفتر القسام وأجرة إقدامهم لأنهم كلفوا أنفسهم وتعبوا في حفظ حقوق الأيتام والورثة. وبعد ذلك يضمنون الطوابع والأوراق الحجازية ويأخذون كل هذه النفقات من ثمن التركة فيصبحون بذلك شركاء الورثة وربما أخذوا أكثر من الورثة وهذا الأمر يكاد يكون عاماً وأما سوء الاستعمال في الإدانة والاستدانة وثبوت الرشد فحدث عنه ولا حرج وندر النواب الصالحون الذين لا يمسون أموال الأيتام. ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى منع مس أموال الأيتام بتاتاً وصرح بمنعه في آيات عديدة واتفق الفقهاء والعلماء عَلَى تحريم أخذ أموال الأيتام حتى حرموا الجلوس عَلَى كراسيهم وأثاثهم واستعمال أوانيهم ولست أدري عَلَى أي كتاب وأي قول وأي نص يأخذون هذه العائدات والأجور فإن قيل أن في ذلك فتوى أقول ولا أبالي أن لا مساغ للاجتهاد في مورد النص وإجماع الأمة والفقهاء وعَلَى ما أظن أن تلك العائدات وضعها وجوزها القضاة والنواب الذين كانوا يأخذون مناصبهم بطريق المزايدة والالتزام. وزد على ذلك كله أن النواب أعضاء في مجالس الإدارة ومجلس القرعة العسكرية ولجنة الفراغ ورؤساء للمحاكم البدائية الجزائية ومحاكم الحقوق ودائرة الإجراء ولهذا لا يفترون عن الاستفادة الغير المشروعة من كل مسألة لهم فيها علاقة فالناس والمستخدمون يتألمون مما يشاهدونه من سوء استعمالهم في قسم الجزاء فيحكمون عَلَى بريء ويبرؤن الجاني ويتركون الأشقياء والمجرمين ويحبسون المساكين وتسهيلاً لمقاصدهم يجعلون غرفة الاستقبال في بيوتهم محكمة شرعية عَلَى أن الفقهاء صرحوا بأن القضاء يقام في أكبر الجوامع أو في محل خاص في منتصف البلدة فلو نظرنا إلى التاريخ لعلمنا أن أهم المدارس بدمشق كانت مقراً للقضاة وأن المدرسة العادلية كانت مقراً لقاضي المذهب الشافعي

نظرة في إصلاحهم 6 ذكرنا أن المشيخة الإسلامية عبارة عن الفتيا والفتيا والقضاء من حقوق الخلافة والإمامة الكبرى وأن المفتي يخبر عن الحكم الشرعي والقاضي يلزم به عَلَى أن كل عالم يستطيع أن يفتي بما يفتي به المفتي لأن الفتوى لا تتضمن الحكم والإلزام ولا يجوز لعالم ولا لمفتٍ أن يحكم بما حكم به القاضي مع أن للقاضي أن يفتي ويستخلف أمناء ونواباً ولم أر حتى الآن عبارة أو قولاً لفقيه يشاربه إلى استخلاف المفتي نواباً أو إلى تداخله في تعيين النواب لأنهم نواب القاضي لا نواب المفتي وأمر الاستخلاف يتوقف عَلَى إذن الخليفة. ذكرنا أن مجلس انتخاب الحكام ينتخب النواب وشيخ الإسلام أو مفتي الأنام يأمر بتوظيفهم وقضاة العسكر يوقعون على مراسلاتهم ليكونوا نواباً لهم توفيقاً للأحكام الشرعية ومن ذلك يظهر أن القاضي هو الذي يستخلف النواب وقد عجبت لحصر القضاة في قضاة العسكر وإبقاء هذا التعبير لأن هؤلاء القضاة هم في الحقيقة قضاة عامة المسلمين والأمة ليست بأمة مسلحة عَلَى أننا لو نظرنا إلى التواريخ علمنا أنه كان في كل مركز ولاية قاض وفي أعظم مراكز الألوية قضاة وأنه كان في المدن الإسلامية الكبرى قضاة لكل مذهب ولذلك أرى أن يكون في مركز كل ولاية وفي مركز بعض الألوية المهمة قاضٍ وأن يكون شيخ الإسلام قاضي القضاة يرجع إليه جميع القضاة وأن يكون للقضاة حق استخلاف النواب بإذن من الخليفة فيصبح أمر تعيين النواب بيد قضاة الولايات فيتخلص هؤلاء من العناء والذهاب إلى الأستانة ولا مانع من جعل مدة النواب أربع سنوات لأن ذلك أمر اجتهادي ثم يجب أن يؤلف مجلس من فحول علماء المسلمين تحت رئاسة قاضي القضاة ينتخبون القضاة من بينهم فيصدق عَلَى انتخابهم قاضي القضاة ويعرضهم عَلَى الخليفة لتصدر إرادته بتعيينهم وينتخب لمنصب قاضي القضاة ثلاثة علماء من هذا المجلس أو من غيرهم بأكثرية الآراء والخليفة يختار واحداً منهم يجعله قاضي القضاة. وأهم ما يجب إصلاحه مكتب النواب والرأي توحيده مع شعبة العلوم الدينية في دار الفنون العثمانية وإصلاح الدروس وتعيين أفاضل المعلمين ليخرج فيه نواب أفاضل ومفتون ومدرسون عالمون ويكون هذا المكتب أعلى قسم لمكتب استعدادي ينشأ في دمشق ويكون

هذا مخرجاً لتلاميذ القسم العالي والغرض من الاستعداد في تعليم النواب اللغة العربية التي لا غنى للنواب عنها إذا كانوا يرغبون في تطبيق أعمالهم عَلَى أحكام الشريعة ثم تسهيل التحصيل عَلَى الفقراء لكثرة المدارس والأوقاف بدمشق وعندما يتم التلميذ التحصيل في المدرسة الإستعدادية يذهب إلى الأستانة ليدخل مدرسة النواب ويجوز قبول المتخرجين في المدارس الرسمية الإستعدادية وطلاب العلم بالامتحان وعندما ينال التلميذ شهادة القسم العالي يستخدم عَلَى حسب استعداده وعلمه ويكون له حق الترفيع. ويجب أن يكون مقر الحكم في دائرة رسمية لا في بيوت النواب ولا يجوز انفراد النواب في الحكم لأنه غير معقول ولا يوافق مقتضيات زماننا وناهيك بما نشاهده من سوء أحوال النواب. وورد في الكتب الفقهية أن للقاضي أمناء يعينونه في الحكم فهؤلاء هم في الحقيقة أعضاء ولا فرق في المعنى كما أنه لا اعتبار للألفاظ فإن شئت سمهم أمناء وإن شئت سمهم أعضاء ومن ثم يجب أن يكون مع كل نائب في القضاء أمينان عالمان ومع كل نائب في الولاية واللواء أربعة أمناء أكفاء ويسأل هؤلاء الأمناء عن الحكم ويجعل النائب رئيساً لهم فإذا رأوا حكم الرئيس مخالفاً للأحكام الشرعية يكونون في حل أن يعترضوا ويصرحوا بأسباب الاعتراض تحت توقيعهم فالمفتي والمدرس الذين تقرر تعيينهم أخيراً يكونان أمناء نائب القضاء والمفتي والمدرس وعالمان في مراكز اللواء ومركز الولاية يكونون أمناء قاضي أو نائب اللواء وقاضي الولاية. وإذا نظرنا إلى أنواع قضايا القضاة الثلاثة التي سبق ذكرها وأخص بالذكر منها القسم الثالث الذي يتوقف حكمه عَلَى إمضاء قاضٍ آخر فإن بطله بطل وإن صدق عليه نفذ ندرك أن حكم القاضي من أي قسم كان من هذه الأقسام الثلاثة يحتاج إلى تدقيق ولذلك يجب تمييز أعلام محكمة القضاء في محاكم اللواء أو الولاية بحسب البعد والقرب وإعلام الولاية يميز في مركز السلطنة إذا كانت الولاية قريبةً من العاصمة ويدقق الحكم فأما أن ينقض لمخالفته أحكام الشريعة وأما أن يصدق عليه إذا كان موافقاً فيصير حكماً مقضياً. ولا بأس بتوحيد المحاكم الشرعية والمحاكم الحقوقية وجعل الأمناء أعضاءً في كلا المحكمتين. ويجب حينئذ إصلاح أحكام المجلة بحسب الأحوال والزمان والمكان والحكم الذي لا يوجد

في المذهب الحنفي قد يوجد في مذهب المالكي وقد سبق الذكر بأن القاضي لا يحصر حكمه في مذهبه واتباع هواه فحينئذ تتألف لجنة من أفاضل علماء المذاهب الأربعة فينقحون المجلة ويصححون أقوالها المرجوحة ويجعلونها جامعة للأحكام الدينية الصريحة ولا شك بأنهم يجدون الأحكام الموافقة للعقل والنقل والزمان. ويكون الأمناء مسلمين بيد أنه حدثت قضية بين مسلم وغير مسلم أو بين غير المسلمين تجوز استنابة أعضاء المحاكم الجزائية والتجارية من غير المسلمين أثناء المحاكمة لأن الإمام الأعظم وغيره من الفقهاء صرحوا بجواز حكم النسيين بين أصحاب مذاهبهم ومن لا يرضى بالحكم فله أن يميز دعواه في محكمة أخرى وإذا عرف الحكام بالعدل والإنصاف لا يمتنع أحد عن قبول أحكامهم لأن العدل يرضي كل إنسان أما المسائل المذهبية فتترك لرؤَسائهم الروحية بحسب الواعد الصلحية. هذه نظرات أساسية لقواعد يجب وضعها في إصلاح النواب والقضاة فيجب بادئ بدء تأليف مجلس العلماء الذي أشرنا إليه ليبحثوا في الأحوال والزمان والمكان ثم ينظرون في أحكام القرآن والحديث وفي الكتب الفقهية والمدونات فيقررون قواعد تحفظ بيضة الدين وقواعد الإسلام وترفع شأن المسلمين. شكري العسلي

قضاء الفرد وقضاء الجماعة

قضاء الفرد وقضاء الجماعة من خطبة لرفيق بك العظم ألقاها في مدرسة القضاء الشرعي في القاهرة ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما قد يتبادر إلى الذهن بل هي بالمعنى المشترك أيضاً جعل قوة التشريع القضائي مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتاً من الحكم واطمئناناً للدليل واعتماداً على ما هو الأصلح عند الجماعة إذا تعذر وجود النص. إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد التشريع الإسلامي التي يدفع بها الحرج وتدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند الضرورة مع وجود النص ويتنازعون عَلَى المسألة الواحدة يجيء بها النص من عدة روايات أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتاً من الحكم ورغبة بمحض الخير للأمة والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة للمستفتين وقد قال ابن القيم تنازع الصحابة في كثير من الأحكام ولكن لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال. أي المسائل التي تتعلق بالأيمان. قلنا أن المراد بقضاء الجماعة جعل قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ وأضمن للعدل وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها إلى الرأي والاجتهاد أو القياس عند تعذر وجود النص أو عند لوم ترجيح رواية من الروايات تحتاج إلى شروط قلما تتوفر في الفرد الواحد وإن توفرت له فربما لا يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من كل وجه بحيث لا يخالفه فيه غيره ممن هو في طبقته من أهل العلم. اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في تقرير فروع المذهب وأصوله منتهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار وتتبع أصول الشريعة فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف اتباعهم بعد ذلك اختلافهم أيضاً فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي عَلَى نفسه حتى وجد في بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مصر واحد من الأمصار الإسلامية هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضاً في المسألة الواحدة حتى أصيب الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطرب أمر العدالة أيما اضطراب مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.

لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم أن يحيل بعضهم عَلَى بعض أو يستشير بعضهم بعضاً في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم ولا سيما فيما يحتاج فيه إلى العمل بالاجتهاد والرأي. لما كانت الشرائع مبنية عَلَى درءِ المفاسد وجلب المصالح والشريعة الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقد سن الشارع إيقاف العمل بالنص مراعاة للمصلحة ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها عَلَى وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة تترتب عَلَى العدول عن النص أكبر من المصلحة التي تترتب عَلَى العدل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون من بعده فكان ذلك شرعاً أيضاً فيه تيسير عظيم على المسلمين واليكم الدليل. في حديث لأبي داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وأنتم تعمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي نهى عن إقامته في حال مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة وهي لحاق صاحبه بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث. وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها الضرورة جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه حمية الكفار. وروى ابن القيم في أعلام الموقعين عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن غلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له أن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة واقروا عَلَى أنفسهم فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال أما والله لولا أني أعلم نكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت يديهم وايم الله أن لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ثم قال يا مزني بكم أُريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر (أي عبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمانمائة.

وغير هذا فقد اسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بما صنعه ببني جزيمة لما أرسله داعياً لا محارباً فذهب إليهم وحاربهم وقتل وسبي منهم فبريء رسول الله من عمله إلى الله ولم يؤاخذه به وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية وقال والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم. والشواهد عَلَى هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود والعقوبات المدنية كالسن بالسن والعين بالعين وأبدلت بها العقوبات الأدبية كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان أو لفشو المنكرات فشواً لم ينجع في تأديب مرتكبيها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الزمانية. ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة أو مس لأصولها المقدسة مادام من أصولها وقواعدها أيضاً العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل ضرر منها والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة وقد سبق الله تعالى رسوله والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ وإنما تقرر حكم اقتضته مصلحة زمان وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة حمايتها وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة وقوي جماعة المسلمين وصاروا في مأمن من غائلة الضعف وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن. وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية: (أولاً) ان القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص. (ثانياً) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد حفظها أو يتعذر عَلَى الواحد الإحاطة بها فاحتج في القضاء إلى استشارة حفاظها.

(ثالثاً) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة إما في تطبيق النص أو في مسوغ الحكم إذا كان اجتهادياً تثبتاً من وضع الشيء في محله جهد الإمكان. (رابعاً) انهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية وفي أحوال مخصوصة تدعو إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداءً بالشارع. (خامساً) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان يدعوهم إلى عدم الإنفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد. هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين أحداهما أن القضاء في الإسلام كان قضاء الجماعة لا قضاء الفرد والثانية أن الشريعة الإسلامية بما تقرر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان وتجيز لكل ضرورة حكماً يوافق مقتضى المصلحة والحال وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعاً أيضاً خلافاً لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضيقة توافق زماناً غير زماننا هذا ومكاناً غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة وحاجاتها سيراً تدريجياً في كل ما يقتضيه ترقي الجمعيات. ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وعدم الوقوف عَلَى أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب الفروع دون الأصول وردهم لكل ما لم يرد فيها من أسباب التيسير وإن ورد في أصول الشريعة وكلياتها من أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى دليل قطعي مالا يعدو سبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس ومع هذا فإنهم يفضلون العمل بهذه الأحكام عَلَى الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقيد والتضييق على أنفسهم والأمة ومهما ترتب عَلَى ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا بها الباحثون في طبائع الاجتماع. وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد إذا فتح بابه وتطرق الفساد إلى الشريعة وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها عاقل لكن فيما ل صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.

ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط وإنما المراد أن ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات عَلَى شرط عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء وذلك بأن تناط قوة التشريع والاجتهاد في المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين عَلَى دقائق الكتاب والسنة والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة لمقتضى الحال ثم تنال هذه الحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانوناً رسمياً يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء وإن مجتهدين فتضبط بهذا قوانين الشريعة ويؤَمن عليها تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديداً يغني عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافاً كثيراً يؤدي في كثير من الأحيان إلى التشويش عَلَى القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحاً لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع إليها عند الضرورة والحاجة إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية المعمول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها. للقضاء في الإسلام دوران دور العمل بالأصول ودور العمل بالفروع وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار البحث خوفاً من تعب القارئ والسامع مع أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة جداً إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم الأئمة المجتهدين ومن بعدهم من طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر ذلك بما قسموا إليه طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً فقد قالوا أنهم ينقسمون إلى ست طبقات: البقة الأولى طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيهما من أصحاب أبي حنيفة القادرين عَلَى استخراج الأحكام من القواعد التي قررها الإمام. والثانية طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب كالخصاف والطحاوي والسرخسي والخلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول لكنهم يستنبطون الأحكام التي لا رواية فيها عَلَى حسب الأصول. والثالثة طبقة أصحاب التخريج القادرين عَلَى تفصيل قول مجمل وتكميل قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.

والرابعة طبقات أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على تفضيل بعض الروايات عَلَى بعض بحسن الدراية. والخامسة طبقات المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة. والسادسة من دونهم الذين لا يفرقون بين الغث والسمين والشمال واليمين. لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حفاظ الشريعة ورواتها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة واستبحار العمران وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم الداخلة في الإسلام من غير العرب ولهذا خيف من تشتت أحكام الشريعة ودخول الفوضى في القضاء والإنشاء احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين الشريعة في الكتب. والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات عَلَى قوانين الشرع. وأول من تنبه للحاجة إلى هذين الأمرين عَلَى ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي وسداً للحاجة الأولى أمر الزهري من جلة التابعين وحفاظهم بتدوين الحديث في دفاتر وتوزيعها عَلَى الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور معروف. أما الحاجة الثانية فقد شعر بها ولكن سدها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما روي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور. أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها أتباع لهذا العهد كداوود الظاهري وغيره وكأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم زيد بن علي وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب بل رأوا الحاجة تدعو إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه اجتهادهم وأدى جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعاً يعمل به أتباعه إلى اليوم.

ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة الإفتاء والقضاء عن متناول كل من أدعى أن عنده مسكة من العلم بالدين والوقوف على السنة هذا لو أحسن العلماءُ بعد العمل بقوانين الفقه. وبعد فقد ارتكب الفقهاء متن التضييق والتوسع حتى أحرجوا الأمة والجأوا بعض الحكومات الإسلامية إلى العمل ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصاً الجنائية والتجارية نعم إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح عَلَى القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنساوي مثلاً له شراح من المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون إلا أن القضاء عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد بل من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت عَلَى وضعه قوة التشريع وصادقت على قبوله الحكومة فصا قانوناً للقضاء لا يعدل عنه إلى تلك الحواشي والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها عَلَى بعض. لشريعة المسلمين أصول وكليات تعتبر أساساً للتشريع ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة بالشورى بين المتفقهين منهم هذا فيما نص منها على ما يرد عليهم من النوازل فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو الاستنباط منها وقد كانوا لا يحكمون حكماً إلا بعد استشارة خيار الأمة وعلمائها وإقرارهم جميعاً عَلَى ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين بعد أحكام الصحابة لقوتها شرعاً أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب الأصول. إذا كان إجماع الصحابة عَلَى مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعاً يلزمنا العمل به فقد لزم من هذا أمران: الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك الحكم واعتباره شرعاً لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها لهذا العهد وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم الأوربية وقوانينها أو قضاء

الجماعة عندها لهذا اليوم. والأمر الثاني أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست بشرع إلا من حيث اشتمالها عَلَى أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير متوفر فيها شرط التشريع الذي مر. وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه من الأصل بشخص واحد لا يكسب هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعاً أو قانوناً وجب العمل به إلا إذا اتفق عليه وقرره جمهور من المتشرعين أو المرجحين وهذا ما اردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكي لا ليتناوله من شاءَ فيما شاء. كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها المصلحة ويتجدد بتجدد الزمان. ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضاً وذلك لجمع أقوال الفقهاء عَلَى اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانوناً في المعاملات مجمعاً عليه من العلماء ليعرف منه كل مسلم ما له من الحقوق وما عليه لا لتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم وبما يشتهون. وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول للحنفية أو المالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناءُ دين واحد وكل أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع والواقع يثبت أن أحكام المعاملات كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غر مذهبها. ومع هذا فليس نكر من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب المذاهب وجعلها قانوناً جامعاً في المعاملات للمسلمين بل هذا خير وسيلة لإصلاح القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام. ليس اضطراب حبل القضاء في الإسلام بجديد وليس الظلم والعسف الذي لاقاه المسلمون

من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على ضعف القضاء خصوصاً ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص الدين أو الشريعة بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ. إن الدين الذي ينزل على الظالمين صواعق الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالماً ولن يكون وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون. تعلمون أن أحفل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء المتشرعين وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي إذ الشريعة في إبان زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم ترجع الفتوى. في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاد العظام يرى يوسف صاحب أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو حديث أو مثال من قضاء الصحابة أي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً: ارجع يا أمير المؤمنين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وأنهم فعلون مما لا يحل لهم بوجه من الوجوه. هكذا الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين والمرجحين والفقهاء والمفتين وكلهم يقولون قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى بها والمعول عليها وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فل حول وقوة إلا بالله. والنتيجة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما بالجماعة بالوضع والتنفيذ ولا تظنون أن هذا المطربش الواقف أمامكم يريد شيئاً جديداً في الدين أو قلباً لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا الأئمة المجتهدين.

كلا فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام بل هو من عصر الصحابة وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام. أما الدور الثاني فالذي اذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولتا عليه اولاهما دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث داراً في قرطبة لشورى القضاء أعضاؤها من جلة العلماء يرجع إليهم في تقرير الأحكام. والحق أقول أني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في ثنايا الكتب التاريخية يكفي للدلالة عليها فقد ورد ذكرها في نفخ الطيب في ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاوراً وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونقل إليَّ ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي بل هو في مكتبة دمشق وهو كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله أن الشورى خافت الإمام مالكاً في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم. وفي هذا دليل كاف عَلَى أنه كان لديهم سلطة في التشريع وأن الدولة الأموية ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين العدل بين رعيتها. أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويين فهي الدولة العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقائها الموثوق بفضلهم وعلمهم جماعة سمتهم جمعية المجلة وذلك من بضع وثلاثين سنة انتخبوا من كتب المذهب قانوناً جامعاً لأحكام المدنية وهو المعروف بمجلة الأحكام العدلية وأقر عَلَى العمل به أهل الحل والعقد فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى اليوم.

ديوان الرصافي

ديوان الرصافي طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1328 (ص230) يعرف قراء هذه المجلة شعر معروف أفندي الرصافي بما قرأوه وله في مجلدات المقتبس الأربع من الشعر الاجتماعي العذب المتين الذي كان فيه الفرد المقدم في العراق والشام أيام كان الكلام يحظر عَلَى كل إنسان وقد اشتهر بذلك حتى وصفه بعضهم بأنه شاعر المقتبس ولا عجب فهذه المجلة تفاخر بهذه النسبة. وقد طبع هذه المرة ديوانه وأكثر من ثلاثة أرباعه مما نشر في هذه المجلة عني بتبويبه الشيخ محي الدين الخياط من أفاضل بيروت وقدم له مقدمة رائقة وجعله في أربعة أبواب الكونيات والاجتماعيات والتاريخيات والوصفيات ومن شعر الرصافي الأخير من قصيدة في جرائد الأستانة. ولم يكفها هذا الخلاف وإنما ... أطافت بنقصٍ للحقيقةِ زائد فما بين مكذوب عليه وكاذب ... وما بين محجود عليه وجاحد ترى في فروق اليوم قراء صحفها ... فريقين من ذي حجة ومعاند جدال عَلَى مر الجديدين دائم ... بتفنيد رأي أو بتنقيد ناقد وقال فيها: ولم أر شيئاً كالجرائد عندهم ... مبادئه منقوضة بالمقاصد يقولون نحن المصلحون ولم أجد ... لهم في مجال القول غير المفاسد وكيفيبين الحق من نفثاتهم ... وكل له في الحق نفثة مارد وقال من قصيدة في وصف لبنان: لبنان تفعل بالحياة جنانة ... فعل الزلال بغلة الظمآن وترد غصن العيش بعد ذبوله ... غضاً يميد بفرعه الفينان فكأن لبنانا عروس إذ غدا ... يزهو بنشر غدائر الأغصان وكأنما البحر الخضم سجنجل ... يبدي خيال جمالها الفتان جبل سمت منه الفروع وأصله ... تحت البسيطةِ راسخ الأركان تهفو الغصون به النهار وفي الدجى ... تهفو عليه ذوائب النيران وترى النجوم عَلَى ذراهُ كأنها ... من فوقه درر عَلَى تيجان

إلى أن قال: لبست ربى لبنان ثوباً اخضراً ... وزهت بحيث الحسن أحمر قان نشر الربيع بهن زهراً مونقاً ... يزري بنظم قلائد العقيان فبرزن من وشي الطبيعة بالحلى ... فكأنهن بحسنهن غوان وكأن صنيناً أطل مراقباً ... يرنو لهن بمقلة الغيران تلك الربى أما الجما فواحد ... فيها وأما أهلها فاثنان رجل يسير إلى النجاح وآخر ... يسعى وغايتهإلى الخسران متخاذلين بها وهم اعوانها ... ومن البلاء تخاذل الأعوان ضعفت مباني كل أمر عندهم ... ما بين هادمها وبين الباني وتفرقوا دنيا كأن لم يكفهم ... في النائبات تفرق الأديان وسعوا فرادى للنجاح وفاتهم ... أن التضامن رائد العمران وقال من قصيدة حول البوسفور: سفوح جبال بعضها فوق بعضها ... مكللة حافاتهن بأشجار يروق بجنبيها خرير مياهها ... ويشجي بقطريها ترنم أطيار ويجري النسيم الرطب فيها كأنه ... تبختر بيضاء الترائب معطار معاهد زرها في الهواجر تلقها ... موشحة فيها برقة أسحار نزلنا بها والشمس من فوق أرسلت ... على منحنى الوادي ذوائب أنوار وقد ظل من بين الغصون شعاعها ... يوقع ديناراً لنا جنب دينار كأن التفاف الدوح والنور بينها ... جيوب من الأنوار زرت بأزرار تميل إذا هبَّ النسيم غصونها ... فتأتي بظل في الجوانب موار ترانا إذا ما الطير في الدوح غردت ... تميل بأسماع إليها وأبصار وقال من قصيدة في التربية بعد أن شاهد مسرح الحيوانات في بيروت: كأنما الليث لم يخلق أخا ظفر ... محدد الناب قذافاً إلى العطب شاهدته مشهداً بدعاً علمت به ... أن الغرائز لم تطبع عَلى شغب وإن خبث البرايا في طبائعها ... لا بد فيه سوى الأطباع من سبب

وإن ليث الشرى ما صيغ مفترساً ... لكن احالته فراساً يد السغب وكم من الناس من قد راح مندفعاً ... بدافع الجوع نحو القتل والسلب وان تربية الإنسان يرجعه ... إكسيرها وهو من ترب إلى الذهب هذا إذا حسنت أما إذا قبحت ... كالمندلي بها يمسي من الحطب فكل ماهو في الإنسان مكتسب ... فلا تقل فيه شيء غير مكتسب أني أرى أسوأ الآباء تربية ... للابن أحرى بأن يدعى اعقاب والمرء كالنبت ينمو حسب تربته ... وليس ينبت نبع منبت الغرب من عاش في الوسط الزاكي زكا خلقاً ... حتى علا في المعالي ارفع الرتب فاحرس عَلَى أدب تحيا النفوس به ... فإنما قيمة الإنسان بالأدب وقد عني بتفسير ألفاظه اللغوية الشيخ مصطفى الغلاييني منشئ مجلة النبراس الشهير فجاء الديوان موفور الخيرات من كل الجهات حرياً بكل من ذاق لماظه من الأدب أن يقتنيه ويتدارسه فشعر الرصافي هو النموذج الراقي من شعر هذا العصر.

حكم إفرنجية

حكم إفرنجية من الناس من فيهم الكفاءة ولا يرتقون لكن ليس منهم من يرتقون دون أن يكونوا عَلَى شيء من الكفاءة (لاروشفو كولد). الأدب يظهر المرءَ في مظهره الخارجي كما يجب أن يكون عليه في مظهره الداخلي (لابرويير). عَلَى من يريد أن يعمل الخير أن يعرف كيف يفكر بأن الحياة قصيرة لا ينبغي أن تضاع هنيهة منها عبثاً (فولتير). علينا أن نعلم من نريد تعليمهم بالمثال الحسن أكثر من أن نسن لهم الطرق ونخطط لهم الخطط فالمثال هو الذي يعلم الرجال (شاتو بريان). أنا نشعر بالألم الكثير من الملل من أيام السعود أكثر مما نشعر بسرور الاستمتاع في أيام النحوس (بالزاك). عاش من عرت نفسه من الأوهام. لا يكفي المرء أن يكون له عقل حتى يخلص من البهيمية بل يجب أن يعرف كيف يستخدم عقله. السعادة كالطير الأخضر الذي يقترب منك ثم يقفز قفزة صغيرة فلا تقدر أن تمسكه. انتظار المدعو إلى دعوة إذا تأخر عن الميعاد قلة احترام لسائر المدعوين الحاضرين. التغاضي عن الواجبات الصغيرة مدرجة إلى ارتكاب الأغلاط الكبيرة. يمتص النحل والزنبور من زهور واحدة ولكن كلاً منهما لا يعرف أيجاد العسل نفسه. مما يدل عَلَى المروءة التامة تعرض المرء لانظار أرباب المروءَة. يؤثر النساءُ أن يغتبن في فضيلتهن عَلَى أن يطعن في فكرهن وجمالهن (دوماس). الشهوة العظمى هي زهرة عاصفة لا تنبت إلا عَلَى حجر ضربته الأعاصير. لسنا إلا ثمرة نشوئنا. الأفكار الحسنة كمسامير من نحاس تنغرس في الروح ولا تستخرج منها قط. في الاعتبار عزاء عن كل شيء. من القهقهات ما يخرج كصوت القنابل لا يفيق منها صاحبها. الفكر الجديد هو مثل زاوية لا يمكن إدخالها إلا من الأنشوطة الكبرى.

سلسلة الزواج ثقيلة جداً لا سبيل إلى حملها إلا إذا استعد لها المرء واقفاً عَلَى قدميه. الأسنان كالكلاب كلما أعطوا قضموا. إننا نجور في شفقتنا وذلك لأننا نتأثر لمصاب عرضي يعرض للسعداء أكثر من تأثرنا لمصاب دائم يلازم البائسين. كثير من الناس يرون السياسة علم الربح بدون رأس المال. من الصعب عَلَى الأغنياء أن يحرزوا الحكمة أكثر مما يصعب على الحكاء أن يحصلوا الثروة. إذا لم يستطع أرباب العقول أن يحسنوا الانتفاع من الأغبياء فما الفائدة من عقولهم (رنان). التأمل يكمل الأخلاق بدون أن يغيرها كما أن القواعد تخدم القرائح ولا تساعدها على الانبعاث. تتألف الحياة التي نستطيلها من كثير من الأيام التي نستطيلها أيضاً. جسم جميل في روح خبيثة كسفينة حسنة وفيها ملاح رديء. لا تكن محتاجاً إلى الأمل لتشرع في عمل ولا إلى النجاح حتى تظلَّ مداوماً عَلَى ما أنت آخذ في سبيله. تشحذ الحياة الرجال في باريز كما تشحذ السكين على المسن ولكنها تثلمها. في المجتمع الرديء النظام تشبه القوانين بيوت العناكب تعثر فيه الهوام الصغيرة أما الكبيرة فتفلت من أطرافه. ثلاثة أمور صعبة الاحتفاظ بسر وتحمل الأذى واستعمال أوقات البطالة (فولتير). لا تكن ساذجاً ولا خبيثاً. اذهب متثاقلاً إلى ضيافة أصدقائك وسارع إليهم كثيراً في أيام بؤسهم. أكثر الرياء خطراً ما أحاط بنا من انحطاط المحيطين بنا. كثيراً ما يخفق رجل العقل في مشاريعه لأنه يخاطر كثيراً (مونتسكيو). حب المجد في القلوب الكبيرة يشغل المكان الذي يملؤه العجب في النفوس الصغيرة. لاتكرر كلمة جافة شائنة وإذا سمعت كلمة في قريبك فاكتمها في صدرك ف، ك لا تضيق بها ذرعاً.

ثلاثة أمور تعلي قيمة الهدايا الإحساس والمناسبة وأسلوب الهدية. اني استحسن الرياضات التي تعلمنا احتقار الحياة على شرط أن لا تدخل فيها حياة الغير. الناس يستمعون النميمة عَلَى ما يكرهون أكثر من استماعهم مديح ما يحبون. كثيراً ما ترى للناس ميلاً طبيعياً للمبادرة لمعونة الرجل الأقوى فيهم. من سيئات المساواة هو أننا لا نريدها إلا مع الأعلى منا مقاماً. التسليم بالقضاء والقدر هو سعادة من ليس لهم سعادة. الآلام خير من تعذيب الوجدان. المناكدة شقاء الصالحين. قام كل عمل عظيم في العالم ببركة اجابة نداء الواجب وكل اثر سيء في العالم قام باسم المصلحة. لا تبهر الفضائل الصغرى الأنظار بل تعطر صاحبها فهي بنفسج الروح. إن المنجم الذي لا ينضب تعدينه عَلَى كثرة تعاور الأيدي عليه منذ أزمان هو منجم الحمق البشري. من الناس من يتكلمون قبل أن يفكروا بهنيهة أي يسبق كلامهم تفكرهم. لا تشاور في موضوع القيام بالواجب.

غرائب الغرب

غرائب الغرب تاريخ عمران باريز 11 لعل باريز في الأصل إحدى تلك الضياع التي كان الغاليون ينشؤنها في جزر الأنهار الكبرى أيام كان يسهل عليهم أن ينشؤا جسوراً يتخذونها مجازاً إلى طرق مهمة وأول ذكر ورد لها ولسكانها في التاريخ كان 53 ق. م فدعا القيصر ساكنيها باريزيا كما دعا المدينة لوتيتيا وضم إليها سنة 53 نواب الأمم الخاضعة. مضى زمن لم يمتد فيه عمران المدينة خارج الجزيرة الأصلية ثم استفاض عمرانا على الشاطئ الشمالي على عهد الإمبراطور كونستانس كلود الذي أنشأ فيها قصراً تسمى بقاياه اليوم بقصر الترم وسكن فيه جولين لما نادى به جنده قيصراً وكانت الجزيرة محاطة بمتاريس وفيها قصر تفصل فيه الأمور البلدية ومذبح عَلَى اسم جوبيتر أقامه الملاحون الذين كانوا يغدون ويروحون في تجارة نهر السين وفي سنة 250 غدت لوتيس مركز أسقفية وعَلَى ذاك العهد أطلق عليها اسم باريزي وهو اسم الشعب الذي يسكنها وكانت عاصمة بلاده فتحت باريز أبوابها للفرنك سنة 497 فدخل قصر الترم كلوفيس ثم ماتت القديسة جنفياف حامية باريز ووقف العمران عَلَى عهد الكارولنجيين بل تراجع فنقل الامبراطور شارلمان عاصمة ملكه إلى اكس لاشبل وما كان يقم في باريز إلا نادراً وكان عهد خلفائه عهد شقاء. وكانت القرى في شمالي المدينة وجنوبها تؤسس تحت حماية الأديار وكثيراً ما كانت تخرب بأيدي أشقياء من السكان أو بغارات النورمانديين وفي سنتي 885_886 جاء النورمانديون وعددهم ثلاثون ألفاً وعسكروا أمام جزيرة المدينة وحاصروها ثلاثة عشر شهراً وبهذا الحصار افتتحت باريز أيام سعادتها وأصبحت كما قالوا رأس فرنسا وقلبها. وفي القرن الحادي عشر والثاني عشر امتد عمران هذه القاعدة وانشئت فيها أديار وبيع ومستشفيات ومدارس وأقيم لها في أيام لويس السادس عمدة ينظر في شؤونها وأمور ضبطها وربطها وبدأ فيها العمران المادي. وعَلَى عهد فيليب اغسطس وهو أهم دور من أدوار عمران هذه العاصمة كثرت الكنائس الكبرى وأسست الأديار والمدارس ودور

المرضى والأسواق والمجاري وأحواض المياه والفساقي والمرافئ وفي سنة 1185 أخذوا يبلطون شوارع المدينة للمرة الأولى وفي سنة 1204 أنشئ قصر اللوفر وبعد ذلك جمعت مدارس باريز وكان عدد طلبتها عشرين ألفاً وجعلت منها مدرسة جامعة أطلق عليه اسم الابنة الكبرى للملوك (السوربون) وأخذ سكان المدينة ينمون حتى بلغ عددهم سنة 1323 ـ 275 ألفاً وصرفت العناية منذ زمن شارل الخامس إلى لويس الثالث عشر في تزيين مدينة باريز وتطهيرها وأنشئت فيها فنادق جميلة. ولقد كانت القرون الوسطى عَلَى باريز كما كانت عَلَى فرنسا قرون مصائب واضطراب فاستباح الإنكليز سنة 1420 حمى باريز وحاولت الفتاة جان دارك على غير طائل أن تطردهم عنها فذهب سعيها عبثاً ومنذ سنة 1408 إلى 1420 أكثر الأرمنياكيون من ذبح سكان باريز التي احتلها الإنكليز من سنة 1420 إلى 1436 وجاء طاعون جارف عَلَى الأثر أهلك الكثير من سكانها ومع هذا لا تزداد عروس الغرب إلا عمراناً. وفي سنة 1533 وضع الحجر الأول في أساس دائرة المجلس البلدي الذي هو مفخر من مفاخر البناء في هذه العاصمة كما أسس قصر التويلري المشهور عَلَى أيام شارل التاسع وعادت باريز فأصبحت ميداناً لقتل من دانوا بالمذهب البرتستانتي من أهلها وانتشرت الفتن الدينية زمناً وأصبح القول الفصل فيها للمتعصبين والجامدين. وفي خلال ذلك اشتد فيها القحط فاهلك من سكانها ثلاثة عشر ألفاً وكثرت الفتن عَلَى الملك وقتل بعض ملوكها وبدأ عهد لويس الثالث عشر بالارتقاء المادي والعقلي فجعلت باريز سنة 1622 مقر رئيس أساقفة وكانت أسقفية صغرى وفي سنة 1620 أنشئت مطبعة الأمة وسنة 1626 أنشئت حديقة النباتات وسنة 1635 أسس المجمع العلمي وأنشئت بعض الشوارع والساحات وغرست بالأشجار وكثرت الحارات والأحياء الجديدة واتصل العمران بالقرى المجاورة حتى تضاعفت مساحة المدينة وعَلَى عهد لويس الرابع عشر اخذوا يضيئون الشوارع بمصابيح يجعلون فيها شموعاً وذلك في الليالي الغير القمراء. ولقد نشط هذا الملك البحث في التاريخ والصناعات والعلوم بإنشاء المجامع الأثرية والصناعات النفيسة والعلوم وبترخيصه للناس أن يختلفوا إلى المكتبة وكانت من قبل خاصة بالملوك فقط. وكان عهد الوزير كولبر المشهور عهد عمران هذه العاصمة الذي لم

يسبق له نظير وزاد سكانها حتى بلغوا نحو 560 ألفاً وعلى عهد لويس الخامس عشر طبعوا أسماء الشوارع على صفائح من توتيا وجعلوها في رأس كل شارع واستعاضوا عن مصابيح الشموع القديمة بمصابيح الزيوت. ولما جاءت ثورة سنة 1789 كثر عمران باريز إذ أعقب تخليص الأراضي من الكنائس والبيع لتنشأ فيها الشوارع والجادات وكثرت الأبنية العامة والخاصة والمعاهد العلمية والصناعية والحدائق العامة والمدارس الكبرى ولئن كان من الثورات التي حدثت بعد ولا سيما فتنة سنة 1848 ما نشأ عنه بعض الأضرار على العمران إلا أن الهمم كانت أعظم للتعمير منها للتخريب وقد جاء عشرون ألفاً من الألمان واحتلوا سنة 1871 بعض أحياء المدينة عقيب الحرب التي فشل فيها الفرنسيس في موقعة سدان وعاد الألمان من حيث أتوا بعد ثلاثة أيام. وكان عهد عصابات الكومون بعد ذلك من أشأم أيام الخراب عَلَى عمران باريز فتقوض بها 238 داراً خاصة وعامة وقتل سبعة آلاف جندي وقتل وجرح خمسمائة ضابط وقدرت الخسائر بثمانمائة وستين مليوناً من الفرنكات وكثر بعد ذلك العمران باستتباب أسباب الراحة وكان من المعارض الثلاثة التي أقامتها باريز سنة 1878 و 1889 و 1900 ولا سيما المعرض الثاني الذي أقيم تذكاراً لمرور مئة سنة على الثورة الفرنسوية الأولى أعظم مظهر من مظاهر الصناعة عند الفرنسيس وأول دليل عَلَى ارتقائهم التدريجي الذي لم يقف قط عن الجري. إجماليات في عمران باريز 12 باريز واقعة في الدرجة0، 48 49، 5 من العرض يشقها نهر السين إلى قسمين غير متساويين من الشرق والجنوب الشرقي ويتخللها في وسطها عدة آكام وجبال مهدتها حتى غدت كأنها بعض أجزائها منها يبلغ ارتفاعه 101 متر ومنها 128 ومنها 136 ومنها أقل من ذلك وتبلغ مساحتها 7802 هكتار ومحيطها 36 كيلومتراً. وطولها من الشرق إلى الغرب نحو 12 كيلومتراً وعرضها من الشمال إلى الجنوب نحو تسعة كيلومترات وطول طرقها العامة 888000 متر فيكون مجموع مساحتها السطحية

1532 هكتاراً ولها 70 باباً أو منفذاً منها 57 باباً و9 طرق للسكة الحديدية وطريقان لمجرى السين وطريقان لترعة سان ديني ولورك وعدد سكانها بحسب الإحصاء الأخير 2763393 وباريز بالنسبة لحجمها أكثر المدن ازدحاماً إذا قيست بالمدن الأوربية ومعدل الزواج فيها كل سنة 25 ألفاً والولادات 65000 والوفيات 50000. وتقسم من حيث أمورها الإدارية إلى عشرين قسماً لكل واحد منها عمدة وثلاثة أو خمسة مساعدون ولباريز 2345 زقاقاً و82 جادة كبرى و115 شارعاً و166 ساحة و406 طرق غير نافذة و468 ممشى و154 قرية و49 مصيفاً و71 مجرى عاماً و42 رصيفاً و31 جسراً و48000 بيت وتمتد الطرق المغروسة بالأشجار وفيها 87000 شجرة عَلَى طول 270363 متراً وفيها 8103 مقاعد لجلوس الناس في الطرق والشوارع والساحات والحدائق. تضاء باريز في الليل بنحو52313 ضوء غاز و1575 مصباحاً كهربائياً وقوة القوى الكهربائية فيها للشركات الخاصة والعامة في باريز 2، 300، 000 مصباح كل واحد ذو عشر شمعات. ويجري ماء الشفة إلى مدينة باريز في قساطل من عدة ينابيع صافية نافعة خلافاً لما يدعيه بعض المتجرين بالخمور من أن ماءها مضر بالصحة حتى ينفقوا خمورهم ومعدل ما يجري منه إليها 310، 000 متر مكعب يأتي إلى 84 ألف محل من البيوت الخاصة و7433 مضخة للحريق و111، 695 محلاً لشرب المارة ويجري إليها ماء للاستعمال غير صالح للشرب وهو للصناعات وغيرها يجري في 64600 آلة عامة. في باريز 16000 عربة بالخيل وأكثرها بحصان واحد والمركبة ذات الحصانين هي في الأكثر عربات خاصة بالأعيان وأرباب الفنادق وفيها 13000 أوتومبيل كبير تنقل زهاء 30 مليوناً من الناس في السنة و119 خطاً م خطوط الحوافل (أومنيبوس) والترامواي وفيها 250 عجلة أومنيبوس و1900 مركبة كهربائية تنقل في السنة مالا يقل عن 300 مليون راكب وعشرة آلاف مركبة خاصة و12000 سيارة (أوتومبيل) وقد كان في فرنسا في السنة الماضية 44767 أوتومبيلاً و 40000 مركبة نقل ولا تدخل فيها الكميونات وفي باريز 160 ألفاً من الدراجات و106 مراكب نهرية تحمل نحو 23 مليون راكب في السنة وسككها الحديدية المحدقة بها تحمل 31 مليوناً ويركب من الست محطات الكبرى فيها

زهاء 77 مليون راكب ومثلهم يأتون إليها. ويلزم لباريز في السنة 292 مليون كيلو من الخبز و159 مليون كيلو من اللحم و36 مليون كيلو من السمك و 669 مليون بيضة و31 مليون كيلو من الطير والصيد و6 ملايين هكتولتر من الخمور و692000 من الجعة و 120000 هكتولتر من سائر المشروبات الروحية. وفيها 30 ألف فندق وحانة وقهوة ومطعم يعيش منها مئة ألف نسمة ولتجارة الأطعمة 24500 محل يعيش منها 90 ألف شخص ولتجارة الفرش والأثاث 3200 محل وعدد البيوت والمخازن التي تبيع الأمتعة والثياب والأزياء 9500 محل فيها 72 ألف عامل وعاملة وعدد محال الأطعمة ومعاملها 75 ألفاً فيها 43 ألف مستخدم وخمسمائة ألف عامل وعاملة فيكون مجموع من يعيشون من هذه المحال نحو مليون نسمة. وأكبر وسائط النقل وأسرعها في مدينة باريز السكة الحديدية الكهربائية تحت الأرض التي يسمونها المتروبوليتين وهي تدل عَلَى عظمة العقل وآخر ما وصل إليه الإنسان من التفنن وليس لهذا الخط نظير في سعته وجدته في برلين ولا في لندرا افتتح الخط الأول منه سنة 1900 وله الآن ستة خطوط منها ما طوله عشرة كيلومترات ومنها أكثر وأقل إلى السبعة عشر كيلومتراً تربط أجزاء المدينة بعضها ببعض وينتقل الراكب إن أحب من فرع إلى فرع آخر بدون زيادة أجرة وقد تم الخط الرابع منه هذه الآونة وهو يسير تحت نهر السين ويكلف كل كيلومتر من هذا الخط ثلاثة ملايين فرنك وهو سريع نظيف رخيص يدفع الراكب في الدرجة الأولى 25 سنتيماً وفي الدرجة الثانية 15 وقد نقلت هذه السكة الحديدية سنة 1909: 254459920 راكباً وكان عدد من أقلتهم في السنة التي قبلها 229، 700، 519 وكانت أرباحها سنة 1908 نحو أربعين مليار فرنك فأصبحت في السنة التالية زهاء أربعة وأربعين ملياراً وهم يعملون أبداً عَلَى تهويته عَلَى طريقة لا تخليه من الهواء النقي ويذرون فيه المواد المضادة للتعفن وقد يتأذى بالركوب فيه بعض ضعاف المزاج ولكن ذلك من كثرة الازدحام فيه لا من شيء آخر. علم المشرقيات 13

لا يتأتى لغريب عن أمة أن يعرفها حق المعرفة إلا إذا درس لغتها وتاريخها وآدابها. واللغة مفتاح باب كل معرفة ومقدمة بين يدي كل عمل. ولذلك كان من الراغبين في درس أحوال الشرق من أهل أوربا أن يدرسوا لغاته ليحيطوا خبراً بأهله وكان للغة العربية المقام الأول بين تلك اللغات لأنها لغة أمة ذات حضارة باهرة ودين دان به أهل الأقطار المعتدلة من صميم الشرق. فتوفروا على إحكام العربية وتنافسوا في تعليمها حتى نبغ منهم أناس لم يقلوا في فهم أسرارها عن خلص أبنائها الذين نشؤا في حجرها وأحكموا ملكة نظمها ونثرها وكان لفرنسا من بين ممالك الغرب يد طولى في هذا المضمار. وكل مملكة من ممالك أوربا وأمريكا لا تخلو من أفراد من أهلها أنفسهم يعانون حل معضلات لغة العرب وينسلون إلى تلقفها من كل حدب. ولقد دعوا تعلم هذه اللغات وما ينبغي لها علم المشرقيات أو الاستشراق والمشتغلين بها علماء المشرقيات أو المستشرقين وقديماً كان العارفون من أهل هذا الشأن من الفرنسيس أكثر من غيرهم وقد أصبحوا اليوم وأكثرهم من الألمان. والألمان أمهر الغربيين في النطق باللسان العربي وأكثرهم نبوغاً فيه وعند الألمان من علماء المشرقيات بقدر ما عند الفرنسيس والنمسويين والمجريين والإيطاليين والهولانديين والإنكليز والروس والإسبانيين والبرتغاليين والأمركيين والبلجيكيين وكثرة عدد وحسن معرفة ولا عجب فالألمان نبغوا في كل شأن من شؤون الحياة والعلم والصناعة ودرس العربية كان له النصيب الأوفر من عنايتهم. وقد اشتهرت في فرنسا الجمعية الآسياوية ومدرسة اللغات الشرقية الحية وقد درست أحوالهما وزرتهما غير مامرة وهاءنذا الخص للقارئ ما عرفته عن الجمعية الآسياوية بواسطة صديقي المسيو لوسين بوفا أحد الأعضاء العاملين العالمين في الجمعية المشار إليها فقد كتب إليَّ ما تعريبه: إن فكر تأسيس جمعية علمية تعنى بدراسة الشرق قد جرى البحث فيه منذ أواسط القرن الثامن عشر ولكنه لم يتم إلا بعد زمن طويل. فقد أنشئت الجمعيات الأولى للباحثين في المشرقيات خارج أوربا مثل جمعية العلوم والفنون في باتافيا (1778) والجمعية الآسياوية في البنغال (1784) والجمعية الآسياوية في بومباي (1805)

ومنذ ذاك العهد أنشئت في أوربا وأمريكا عدة جمعيات للمستشرقين ولكن أقدمها عهداً الجمعية الآسياوية في باريز أسست سنة 1822. وعَلَى ذلك العهد رأى جماعة من مستشرقي الفرنسيس أن الحاجة ماسة إلى أن يجتمعوا أو يجمعوا مواد الدروس المختلفة الضرورية لهم وأن يصدروا مجلة تكون لسان حالهم وقائمة أعمالهم. وكان المسيو ديلاستي أنشط هؤلاء العلماء وبفضله أسست الجمعية الآسياوية التي ناب في رئاستها ما يقرب من ثلاثين سنة وكان الرئيس إذ ذاك سلفستردي ساسي أحد أعضاء المجمع العلمي وأستاذ مدرسة فرنسا ومدرة اللغات الشرقية وهو أعظم من خدم اللغة الربية في فرنسا وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع الفرنسيس وكان من مؤسسي الجمعية أيضاً كوسان دي برسفال وكارسين دي فاسي ورموسا. فبدأت الجمعية أعمالها لأول تأسيسها بنشر المجلة الآسياوية التي اختصت بالبحث في لغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره ولا تزال إلى اليوم نموذج العلم الراقي وسيدة المجلات الأخصائية في فرنسا. وأنشأت الجمعية خزانة كتب جمعت فيها كل ما وصلت يدها إليه من الكتب والمخطوطات والرسوم وغيرها مما يفيد العلماء من أعضائها وجمعت أيضاً مجموعات من النقود القديمة والتحف البديعة. ونشرت مصنفات في تاريخ الشرق وأصول لغاته وفلسفته وأديانه وطبعت عَلَى نفقتها عدة مصنفات وساعدت كثيرين مساعدات أدبية ومادية على نشر الكتب النافعة وكان نشر المخطوطات وترجمتها من أهم الأعمال التي تعنى بها. وخصت جلساتها في سماع المراسلات والمناقشات العلمية النافعة كما عنيت بمراسلة العلماء الأجانب عَلَى الدوام والانتفاع بآرائهم وأعمالهم. وإذ قد ظهرت منافع الجمعية الآسياوية سنة 1828 عادت بعد أن ضعف أمرها بضع سنين إلى مكانتها الأولى ولم تلبث أن قويت عن ذي قبل وانتشرت كلمتها فرأسها أمثال سلفستردي ساسي ثم جوبر ورينووموهل وكارسان دي تاسي ورنيه ورنان وباربيه دي مينار وسينار. ومن جملة رؤسائها الثانويين كوسين دي برسفال وبارتلمي سان هيلير ودفرني وبوريه دي كورتيل وماسبرو وربنس دوفال وبين امناء سرها ابيل ريمورا وجايمس ودار مستثير وشافان.

تنقلت الجمعية منذ تأسيسها في عدة أماكن ومنذ سنة 1883 اتخذت لها مقراً في بناء ملاصق للمجمع العلمي وذلك بفضل رئيسها إذ ذاك رنان الفيلسوف المعروف ونالت من الحكومة الفرنسوية عدة معونات رسمية ومنحت الجمعية مكتبة الأمة الكبرى عدة كتب ومخطوطات وغيرها من النفائس ولا سيما المخطوطات التي أتت بها من الهند والمجموعة التبتية وكتب الديانة البوذية. وما عدا المجلة الآسياوية التي تصدرها الجمعية في نحو مائتي صفحة كل شهرين ويتألف منها مجلدان كل سنة فقد نشرت على نفقتها 21 مصنفاً تتألف من نحو 40 مجلداً وبعض هذه المصنفات طويلة الذيل مثل مروج الذهب للمسعودي نشرته بنصه العربي وترجمته إلى الفرنسوية وهو في تسع مجلدات ونشرت رحلة ابن بطوطة في أربع مجلدات وكتاب الماهافاستو في ثلاث مجلدات. وهذه الجمعية تمنح كل سنة معونات لبعض المؤلفين في الموضوعات العلمية. وأعضاؤها اليوم 250 عضواً منهم 26 من الأجانب وهي تبعث بمجلتها إلى نحو مئة جمعية علمية ومدرسة جامعة أو مجلة دورية وإلى ثمانين مكتبة من مكاتب العالم عَلَى يد نظارة المعارف الفرنسوية وللمجلة 130 مشتركاً ليسوا من الداخلين في الجمعية. وقد بلغت وارداتها سنة 1908: 25631 فرنكاً و66 سنتيماً وفي مكتبتها نحو اثني عشر ألف مجلد من الكتب و1500 صفيحة و200 كتاب مخطوط وفيها مجموعة من النقود القديمة هذا إجمال حال الجمعية الآسياوية وفيها من الأعضاء من لا فائدة منهم ولا رابطة بينهم وبين الغرض الذي ترمي إليه إلا أنهم يؤدون الراتب السنوي المضروب عليهم ويتناولون المجلة لقاء ذلك وكثير منهم لا يعرفون من أحوال الشرق ولغاته وأصول سكانه أكثر مما نعرف نحن عن الصين وتبت. أما مدرسة اللغات الشرقية الحية وهي التي تقرئ مبادئ اللغات الشرقية وهي مخرج لأعضاء هذه الجمعية وغيرهم ممن يتولون القنصليات والترجمة والسفارة عن حكومتهم في بلاد الشرق فاسمها فيما أرى أكثر من نفعها وما دامت فرنسا تراعي الخواطر في توسيد وظائف التدريس لغير الأكفاء فإن تعليم اللغات الشرقية يبقى صورياً لا حقيقياً. وهيهات أن ينشأ لفرنسا وهي عَلَى هذه الحال أمثال المستشرقين الأول من أبنائها الذين باهت بهم الأمم

مادامت سوق الشفاعات رائجة عندها. درس من سلانيك 14 بينما كنت مأخوذاً بما أشاهده من مظاهر عظمة الأمة الفرنسوية وأقرأ مثالاً مجسماً من الارتقاء الغربي ولا أفرغ ليلي ولا نهاري من زيارة المعاهد العلمية وحضور الدروس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأغوص في مكاتب باريز ولا سيما مكتبة الأمة ومكتبة السوربون وبينا تكاثرت عليَّ المواد وأنا لا أعرف بأي لسان أعبر ولا بأي قلم أحبر وبينا أنا أفكر في بلادي وما يجب علي أن أكتب لها مما تأثرت به عواطفي وأخذ بمجامع قلبي حمل إليّ البريد من سلانيك كراسة باللغة الإفرنسية من قلم صموئيل سام أفندي ليفي رئيس تحرير جريدة سلانيك الفرنسوية وهي محاضرة ألقاها في نادي الإتحاد الرياضي في ذاك الثغر أواخر الشهر الماضي عقيب عودته مع جماعة العثمانيين الذين ذهبوا لزيارة بلاد النمسا والمجر منذ مدة فرأيت أن ألخصها للقراء ليعلموا إن تأثر العثمانيين واحد عند زيارتهم الديار الأوربية وأن ابن سورية إذا أقامه ما شاهده في غربي أوربا وأقعده بما فيها من آثار العمل والجد فإن ابن مكدونية لا ينقص عنه تأثراً في ما شاهده من أواسط أوربا وشعور أبناء الوطن واحد. قال الكاتب السلانيكي: في ستة وعشرين يوماً ساح مائتان وخمسون رجلاً من أهالي الأستانة وسلانيك وأزمير وغيرها من مدن الداخلية سياحة كبرى قطعوا فيها 4500 كيلومتر في السكك الحديدية و 1500 في البواخر والعجلات والسيارات وعلى الأرجل فوقفنا في خمس وعشرين مدينة كبرى وصغرى وزرنا نحو 150 داراً صناعية ومعهداً علمياً أو مدرسياً وفنياً وإدارياً ومتحفاً وغيره وحضرنا مئة دعوة وغيرها أقامتها لنا 15 جمعية و25 غرفة تجارة وحكومة النمسا والمجر فلم يبق من تلك الرحلة التي تذكرنا السائحين جولن وماين ريد إلا أن نذكر شيئاً من ذلك الحلم الذي مر علينا في رحلتنا ونتثبت من تلك الأشباح لنحسن الانتفاع بها في مادياتنا وتكون لنا علماً ودرساً نافعاً ولقد كانت غايتنا من رحلتنا اقتصادية لندرس دور الصناعات والأوضاع التجارية والمدرسية والإدارية عن أمم ولكن المسائل الاقتصادية والاجتماعية كما قال البارون هلوموتسكي فيما خطبنا به لها مساس كلي

بالمسائل السياسية وبينها روابط ولوازم ولا سبيل إلى البحث في الأولى مع إغفال الثانية. ولقد كنا نقضي العجب من كل ما يقع نظرنا عليه حتى كنا نتساءل عما إذا كان ما تقع عليه أنظارنا من مدهش الأعمال هو من صنع أيدي البشر وهم الذين قاموا بهذه العجائب وبحق ما قاله النائب الدكتور رضا توفيق رئيس جماعتنا السائحين عندما غادر النمسا إن أغنى اللغات عاجزة عن بيان الشعور الذي نتأثر به كلنا كما ينبغي لما لقيناه من الحفاوة الخارقة للعادة مدة مقامنا في بلد بلغ هذه الدرجة من الرقي. نعم لقد تجلت لنا بلاد النمسا والمجر مملكة دخل إليها التجديد من كل أطرافها وتناول كل فرع من فروع أعمالها الخاصة والعامة. وكثيراً ما اتفق لنا أن زرنا معهدين أو ثلاثة في فرع من فروع الصناعة وفي أقاليم مختلفة فكنا نجد في كل منها أساليب العمل التي يقضي بوجودها العلم أعمالاً كمالية تابعة وتحسينات خاصة ومحلية تدل على الإقدام الذاتي وقوة إرادة شخصية وحب في البحث وكلها ظواهر محسوسة لعمل عام ونشوءٍ متواصل. كنا نشهد ذلك في كل الفروع الصناعية والفنية والمدرسية والإنسانية. ولكثرة عنايتنا بالسؤال عن معاهد الإحسان ومعونة العملة ترآءى لنا أن النمسا في مقدمة الأمم في هذا الباب ومن ذلك أن 4200 من العملة العاجزين يعيشون في لاينز بالقرب من فينا لا على قدر الكفاية فقط بل يعيشون كما يعيش الملوك. وما ننس لا ننس ملجأ المرضى العصبيين في شنهوف وفيه 3600 عامل يعاملون كما لو كانوا في قصور ملكية وهم موزعون عَلَى 64 بناية في مسافة من الأرض تتجاوز مساحة مدينة سلانيك وقد صرفت عليها حكومة النمسا السفلى ستين مليون كورن فقط لا غير. وبينا كان رفقائي في رحلتي يدهشون من زيارة المعامل والمصانع ودور الصناعات عَلَى اختلاف أنواعها في بلاد المجر والنمسا ومورافيا وبوهيميا وستيريا وغيرها كان يلفت نظري خاصة منظر اتفقوا عَلَى تسميته باسم مملكة هابسبورغ. فإن هذه المملكة هي في الحقيقة رقعة شطرنج فيها غرائب الفسيفساء من العناصر المختلفة والوطنيات الغير متجانسة ولكن هذه الجماعات على اختلاف أصولها قد اجتمعت ليكون مجموعها مثال جمال ولطف وتنوع وما كانت وحدة هذا المزيج إلا نتيجة نظام الحكومة المركزية وحسن مأتاها وبعد نظرها فرأت أن تترك لكل قوم استقلالاً إدارياً كان غاية الغايات في إبداعه

وبذلك توقت الصدمات الهائلة ولم يحدث حتى الآن ما يكدر صفو الراحة. وهذا الرأي في توسيع سلطة الأقاليم لم يكن منه الوحدة الجوهرية فقط لما فيه من احترام القوميات بل نتج منه ارتقاء خارق للعادة في جميع فروع العمل وذلك أن كل قطر له من نفسه غنى طبيعي غزير ورجال نوابغ أذكياء هم خيرة رجاله فاستطاعوا الانتفاع بما حوت بقاعهم وكان من ذلك أن استمتع كل جماعة بما لهم من الحقوق فنشأت المنافسة بين العناصر المختلفة وأخذت كل واحدة منها تضاعف عنايتها وتكثر من جهادها فأوجدوا بذلك مجموعة من بدائع الأعمال منوعة الأساليب تمت في عامة فروع الجهاد الإنساني وكان ذلك من أهم المشاهد وأجملها التي وقع نظرنا عليها في رحلتنا وأحسن معلم لنا معاشر العثمانيين. تأَلفت مملكة هابسبورغ من زواج أمراء بعضهم من بعض عَلَى حين كانت الانقسامات الداخلية سبباً لضعف تلك المملكة ولطالما طحنتها مطامع جيرانها واعتداؤهم ولكن لما عزمت الحكومة أن تمنح العناصر المختلفة التي يتكون منها جسم المملكة دستوراً قائماً عَلَى المبادئ الحرة في مراعاة الحق العام الحديث بدأ نهوضها وارتقاؤها إلى الأمام. فعلى نواب العثمانيين في مجلسنا النيابي أن ينظروا في أمر العناصر العثمانية ويحلوها كما حلتها النمسا والمجر التي كانت في حالة أشبه بحالتنا اليوم منذ نصف قرن فأحسنت حلها عَلَى ما يجب فهي سابقتنا في هذا الباب وما عينا إلا أن نأخذ عنها وبذلك نأمن العثرات ولا نسير على غير هدى. وهنا التفت إلى رفاقي في الرحلة الذين دخل عليهم اليأس من ارتقائنا مما شاهدوه من الشوط البعيد الذي قطعه جيراننا. فأقول لهم أن ما شاهدناه عندهم ليس إلا ثمرة عمل عظيم وجهاد منظم وإرادة قوية وأساس راسخ وإذا أحببنا أن نبلغ بأمتنا مبلغهم فما علينا إلا أن نمد نحن يد مساعدتنا للدستور ونستخدم جميع القوى الحية في الأمة وأن تعمل الحكومة عملاً فعالاً لما فيه إنهاض الشعب كما عَلَى الشعب أن يعمل لمعاضدة الحكومة الصالحة وبالجملة أن يعمل كلاهما بل يعمل الكل للواحد والواحد للكل ويعرف كل الواجب عليه ونكران النفس والمفاداة. وهنا خاض الكاتب في مسألة نهوض العثمانيين وأنها موقوفة على التعليم وأننا لا ننجح إلا إذا حذونا على الأقل حذو البلاد التي كانت تابعة لنا بالأمس كممالك البلقان مثلاً وأرسلنا

من شبابنا من يتعلمون العلوم الكاملة في كليات الغرب فمن أعظم نجاح تلك الإمارات أنها ما زالت منذ زهاء ربع قرن ترسل بشبانها إلى كليات العلم حتى لا تكاد تدخل كلية في أوربا إلا وتجد منهم كثيرين وهؤلاء هم الذين استلموا زمام الأعمال في بلادهم ونفخوا فيها من أرواحهم ولسنا نضطر إلى الأجانب لتعليم أولادنا في بلادهم بل يجب أن نجلب رجال الصناعات والعلم منهم يؤسسون في بلادنا مدارس ودور صناعات كما نحن في حاجة إلى رؤوس أموال الأجانب لاستخدامها في أعمالنا ومشاريعنا وأن نكون في سياستنا الاقتصادية كما قال ارنست لافيس المؤرخ الفرنسوي في تعريف السياسة أنها علم خديعة غيرك وأنت تظهر بأنك تحملهم عَلَى الاعتقاد بأننا لم ندرك بأنهم خدعونا أو أنهم يحاولون خداعنا.

نظرة في نخب الذخائر في أحوال الجواهر

نظرة في نخب الذخائر في أحوال الجواهر (تابع) صفحة 381 سطر الافرنجة ـ أفرنجة. وسطر 10 هو جوهر ـ حجر ـ وعدم الإنفصال ـ الانفعال. وسطر 14 الأحمر بقوس قزح ـ الأحمر الشبيه بقوس قزح. وسطر 19 صفحة اسرب ـ صفيحة اسرب وسطر 20 قيمة هذا ـ قيمة هذه. وسطر 24 ناصر الدين الترمذي ـ الزمردي. صفحة 382 سطر 2 وإن ابتلع منه شيئاً ـ وإن ابتلع منه شيء وسطر 8 عند التدقيق ـ عند التدقيق في النظر. وسطر 9 لجواز أن يكون ـ وفي المشرق والجواز أن يكون والأولى أولى. وسطر 14 تلك المغائص وهكذا في المشرق ـ المغاوص. وسطر 15 مغاص أول ـ مغاص أوال. وسطر 21 تغلب الرصاصة ـ الرصاصية. وسطر 26 الأخواني الرازيان ـ الأخوان الرازيان. صفحة 383 سطر 4 وهو دونها شكلاً ـ وهو أدونها شكلاً. وسطر 5 للنقي البياض ـ النقي البياض ـ وإذا فاز ـ زاد. وسطر 6 اذان ـ فان. وسطر 7 و 8 سقطت كلمة النظم من آخر السطر السابع إلى آخر الثامن وأبدلت بكلمة الا في السطر الثامن. وسطر 17 يبلغ مثقالاً ونصفاً وفي المشرق مثقال ونصف وهو غلط. وس 18 لتضاعف قيمته وفي المشرق يتضاعف قيمته والأولى أولى ـ قياس الجواهر في نسختي المقتبس المشرق ـ وفي نسختي قياس سائر الجواهر. وس 25 يودع إليه مشروحة وكذا في المشرق ـ يودع أليه مشروحة وهو المراد. صفحة 384 سطر 7 ثم نقل إلى قدح ـ ثم ينقل إلى قدح وس 9 ثم تلف فوقها عجين ـ ثم يلف فوقها عجين وس 11 غلي ـ أغلي. وس 12 سقطت هذه العبارة برمتها من نسخة المشرق وهي (ويطلى به طلياً ثخيناً وتودع جوف عجين قد عجن بلبن حليب) وسطر 13 ويخبز في التور ـ ويخبز. وس 15 مع حبتين تنكار وهكذا في نسخة المشرق ـ مع حبتي تنكار. وس 21 أسود ولا صفرة ـ سواد ولا صفرة ـ ولا تفوت ـ ولا تفوث. وس 24 يرغبون لما وكذا في المشرق ـ يرغبون بما صفحة 385 سطر 2 إذا ماسهُ ـ إذا مسهُ وس 3 القيحة ـ القيمة. وس 5 ـ الطاووسية

التي تكون في المروج وكذا في المشرق ـ الطاووسية اللون التي تكون في المروج الخضر. وس 8 الأفاعي وخاصية وكذا في المشرق ـ الأفاعي بوجه وخاصية ـ ولدغ العقارب وفي المشرق لذع والأُلى أصح. وس12المطلقة ـ المطلوقة وهو المراد. وس 27 كذلك يجي بالشحم والالية. وفي الشرق فإنه يحيى بالشحم أو لإلية ـ كذلك يحيا بالشحم والأَلية وهو المراد. صفحة 386 سطر 2 لدغة العقرب وفي المشرق لذعة والأولى المراده هنا. وس 3 العين المنحرفة ـ العين المنحرفة. وس 8 ابن أبي الاشث. وفي المشرق ابن أبي الاشعب. وس 10 من خزائن الزنج وكذا في المشرق ـ من جزائر الزنج ـ ومن نواحي بذخشان وكذا في المشرق ـ ومن نواحي بدخشان. وس13 زنتها مائة رطل وفي المشرق زنتها مائتا رطل ـ زنة مائتي رطل. وس 19 ما غلبت عليه الوردية وفي المشرق ما غلت عليه الوردية والأولى أصح. وس 26 افرندي ـ فرندي. وس 27 ومنه معزل ـ ومنه مغربي. صفحة 387 سطر 5 (ويقال يشم منه مجلوب. . . إلى قوله والمستخرج منه كدر) وفي المشرق اختلاف عن النسختين وهذا ما جاء فيه (مشرق 11: 763) (اليشب ويقال يشم منه مجلوب من بلاد الترك من ناحية ختن وألوانه أبيض وأصفر وزيتي وهو أفضلها ومن مستخرج من واد بين يسمى أحدهما قاش ويستخرج منه أبيض فائق ويسمى الآخر واقاش والمستخرج منه كدر) وفي المقتبس بدل قاش فاش والأولى في نسختنا. وس 10 تعليقات عليها ـ تعليقاً عليها. وس 12 الغازدهر وفي المشرق الفاذزهر ـ الفادزهر. وس17 وإذا نثرت ـ وإذا نثرت. وس19 عَلَى درهمين كندر وكذا في المشرق ـ عَلَى درهمي كندر. وس 20 الاياييل ـ الأيائل. وس21 في مريرها في ـ مرائرها. وس 22 لونُه بين الخضرة والغبرة وفي المشرق لونُه من الخضرة والغبرة. والأولى اولى. وس23 البلوط منه ـ البلوطة منه. وس24 وسحالة الخالص بيضاء. وفي المشرق وسحالته الخالص ـ وسحالة الخالص منه بيضاء وس25 عَلَى سبيل الاحتياط وفي المشرق عَلَى الاحتياط. وس 26 المجزومين ـ المجذومين. صفحة 388 سطر 1 جلاء. وحيا ـ جلاء وحياً أي سريعاً. وس 8 و9 ما كان ورنه مائة درهم فقيمته من مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً وفي المشرق (11: 765 سطر 2) ما

كان وزنه مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً وهو خطأ ظاهر - ما كان وزنه درهم فقيمته من. . . . وسطر 9 وجرب من دخان وفي المشرق وجرب مع دخان هذا ما تمثل للذهن القاصر من معارضة النسخ الثلاث استجلاء للحقيقة وحافظة عَلَى عبارات المؤلف الأصلية وتثبتاً في النقل خشية أن ينقل شيء من هذا الكلام ويشوبه أقل تغيير فيبعد عن أصله وتفوت الفائدة وما عَلَى الناقل والناسخ إلا أن يبقي الأصل عَلَى علاَّته ولعل القراء يرشدوننا إلى نسخة صح والله الهادي إلى الصواب والملهم السداد بمنه وكرمه. زحلة (لبنان) ـ //// عيسى اسكندر المعلوف

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع ضخام الأجسام قالوا إن الأصحاء من ضخام الأجسام هم أسعد حالاً من النحاف وأن السمين يسعد أسرته وزوجته أكثر من الهزيل فلا يهتم بالجزئيات كالنحيف ويساعد زوجه في الأمور البيتية أما الهزيل فإنه في الأغلب يعتقد أن أعباء الأمة عليه وأنها تهلك إذا لم يساعدها ويفكر لها. وقد نصحت المجلة التي نعرب عنها لكل فتاة تريد أن تحيا حياة طيبة مع زوجها أن تختاره من السمان حتى يكون لها خير كفوء ولا ينغص عليها عيشها كما يخشى أن ينغصه النحيف. أصل المظلات كانت المظلات مستعملة عند الفرس والأشوريين والمصريين والرومانيين وبقيت زمناً دليل القوة والعظمة في كل قطر ولم ينتشر استعمال المظلات في أوربا إلا سنة 1680 وفيها انتشر استعمال المظلات للمطر فكانوا يؤجرونها للمارة من الساحات والجسور ثم كثر استعمال المظلات وابتذلت ولكنها لم تتغير عن حالتها بل كان ينظر فيها إلى اللطافة وجمال قماشها وحسن قبضتها. أقدم شجرة في جزيرة كوس من شاطئ آسيا الصغرى قامت إلى اليوم أقدم شجرة في العالم وهي دلبة اقرأ في ظلها ابقراط مؤسس الطب تلامذته وإذ كانت قديمة حتى في ذاك الزمن فلا يتيسر أن يقال عمرها الآن أقل من ألفين وخمسمائة سنة ومحيط جذعها عشرة أمتار ولا تزال أغصانها كل ربيع تغطى بالورق وقد أنشئت لها دعائم من القرميد ليجعل عليها أكبر أغصانها. ممثلو الفرنسيس من أعظم دور التمثيل في فرنسا الأوبرا والأوبراكوميك في باريز فالأولى تأخذ من الحكومة ثمانمائة ألف فرنك إعانة سنوية والثانية ثلثمائة ألف ومع ذلك لا تكاد تجد في ميزانيتها زيادة كبرى في الدخل عن الخرج لانهما يدفعان رواتب باهظة للمثلين والممثلات. فتدفع الأوبرا للمسيو الفارز 2200 فرنك كل ليلة أي 128 ألفاً عن 64 ليلة

في السنة وتدفع لغيره من الممثلين رواتب تختلف في السنة بين 85 ألفاً إلى 30 ألفاً وعن كل ليلة يغني فيها كاروزو عشرة آلاف فرنك وتتناول كل من العقيلة مارغريت كاري والآنسة شنال أربعة آلاف فرنك في الشهر وهكذا لا يقل راتب الممثلة أو الممثل في الأوبراكوميك عن ألف فرنك في الشهر. التدخين قالت مجلة الحياة البيتة بمناسبة الضريبة التي وضعتها ألمانيا على أنواع الدخان أن فرنسا أيضاً تفكر في وضع ضريبة ولكن عَلَى الدخان الجيد تبيع بما قيمته 505، 988، 900 فرنك في السنة وإن عادة التدخين تضر بالأحداث كثيراً كما أن التدخين لا يضر الضرر البليغ الذي يتصوره بعضهم فإن ملايين من البشر يدخنون ولا شيء يصيبهم سوى إنفاق دراهمهم وأن كثيراً من الفلاسفة والعلماء والشعراء لا يدخنون ومنهم من يدخنون وإن فرنسا تحسن صنعاً لو أعطت الحق لكل وطني أن يقبض عَلَى كل صبي يراه يدخن لما في ذلك من الضرر عَلَى جسمه كما أن في انكلترا يحق لكل انكليزي أن يأخذ بتلابيب كل صبي يسير على هواه ويعمد إلى الكسل ولا يستعمل في العمل الصالح قواه. سقوط الشعر اخترعوا في ألمانيا دواءً بسيطاً لمنع الشعر من السقوط وذلك بأن تأخذ مائتا غرام من جذع القراص (قريص) وتسحقه سحقاً جيداً وتغلى في لتر ماء ونحو نصف لتر من الخل الجيد ويصفق هذا المحلول فيفرك كل يوم محل الشعر. الصحافة قالت مجلة النجاح ما مثاله معرباً: عرَّف لاروس في معجمه أن الصحافي هو الذي يشتغل بتحرير جريدة وهذا التعريف لا يخلو من إبهام وغموض وذلك أن الواجب عَلَى الصحافي أن ينظر في جملة ما يتحتم عليه النظر فيه من الرسائل الواردة عَلَى إدارته وينظمها بحسب الأحوال الداخلية وأن يسارع في عمله ويكون مستعداً ابداً لإملاء الفراغ الذي يقضي عليه أحياناً أن يملأه لأن للجريدة وقتاً معيناً تصدر فيه ولا مناص من تأخيره. فالمطلوب منه شيءٌ كثير أكثر مما يطلب من غيره من أرباب الصناعات ما عدا الطاهي فإن صناعة الطبخ أشبه بصناعة الجرائد من عدة وجوه فيطلب إلى الطابخ أشياء كثيرة كما

يطلب من الصحافي ووجه الشبه بينهما لا يخلو من فروق فإن الأول يغذي الأجسام والثاني يغذي العقول والفرق بينهما أن عدد من يقضى عَلَى الطاهي إطعامهم محدود أما عدد من يغذيهم الصحافي فكثير جداً قد يبلغ مئات الألوف. ثم إن للصحافي جمهوراً كبيراً من الحانقين ممن لا يعرفون للشفقة معنى ولا يقيمون للرأفة وزناً وأعني بهم من يعتقدون أنهم يحسنون معرفة كل شيء أكثر من غيرهم فالصحافي يقاسي الأمرَّين من أهل هذه الفئة. يأتي الصحافي في الصباح إلى مكتبه فيجد أمامه بريده يغطي منضدة التحرير وفيها أدلة عَلَى قلة حظوته من الناس فمنهم من يكتب إليه ليتك تعنى عناية كبرى بأحوال المجلس البلدي وآخر يقول له: كفَّ عن مراقبة كل ما يحدث في البلدية وثالث يقول له إن السياسة لا تهمني فإذا أنت لم تعن كثيراً بالحوادث المحلية اضطر إلى الاشتراك بجريدة غير جريدتك ورابع يقول له العكس ويريده على أن يكثر من مؤازريه في المسائل السياسية والابتعاد عن سفاف أخبار المدينة. ومنهم من يقول لماذا لا تكثر من نشر الشعر فمتى عزمت عَلَى النشر فأنا أقدم لك قطعاً من شعري ومنهم من ينتقد نشر الجريدة للنمر الرابحة في اليانصيب ويوعز إلى صاحبها أن يستعيض عنها يوم لا شيء له يملأ به فراغه بقطعة من رواية يجعلها رفرفاً للجريدة ومنهم من يأمر محرر الجريدة أن يحذف بالمرة صفحة من تلك القصص الغرامية التي لا فائدة منها. وهكذا يدرس الصحافي رأي قرائه من أحكامهم عَلَى مقالاته وأخباره والأنكى من ذلك أن بعضهم يوجهون هذا النقد إلى مديري الجرائد وأصحابها وهؤلاء يعتقدون أن أقل نقد يوجه إلى جريدتهم يوقف رواجها وربما يقصر حبل أجلها ويقضي عَلَى الصحافي إذ ذاك أن يفهم صاحب الجريدة وهناك المصيبة لأنه يكون في الأكثر من رجال المال فقط ولا يهمه سواه. ولا تنتهي آلام الصحافي بخروجه من غرفة التحرير بل أنه إذا دخل محل قهوة ليستريح لا يلبث أن يراه بعض من يعرفونه فيحومون حوله معتقدين أن الفرصة قد حانت لنصحه ويأخذون في نقد العدد الصادر ذاك النهار فإذا لم يسلم لهم بانتقادهم يزيد إلى أعدائه أعداءً. وبعد فإن الأرض لا يحرثها إلا الفلاح والجنود لا يقودها إلا ضابط والشعور لا يقصها ويزينها إلا الحلاق ولكن الجريدة يعرف كل الناس أن تكتبها وتنتقدها. نعم الجريدة يحسن

تحريرها كل طالب في مدرسة وكل فتى شاب وكل قاعد في قهوة وكل معجب برأيه سخيف في عقله إلا الصحافي فكأن كل القراء يخلقون والقلم وراءَ آذانهم. وهناك شؤون من مؤلمات الصحافي تعوق القرائح عن جريها وأعني بذلك إذا اخطأ ذات يوم وحمل عَلََى أحدهم فعندما تقام عليه القضية حتى إذا عاد بغضب الله عليه ويسجن فلا يرثى له أحد. وللصحافة حسنات ولكنها قليلة جداً وذلك إن اعتقاد الصحافي يكون في الأكثر أن يخدم الحضارة ويعد العقول ولكنه كثيراً ما يضطر أن يكتب غير ما يعتقد بحسب الحال ومع أن راتبه قليل ولا يجد في الجرائد إلا عدداً قليلاً تدفع رواتب حسنة للصحافي فالقسم الأعظم منها يدفع في السنة لرئيس التحرير من 2400 فرنك إلى 6000 فرنك ومن الجرائد ما يستغني عن المحررين ومع كل هذا فإن الصحافة مرغوب فيها كثيراً بما حوت من الظواهر والمظاهر ولأن كل من خانهم الحظ فلم يقدروا أن يعتاشوا في صناعة أخرى يرون من أنفسهم الكفاءة لإنشاء الجرائد الحصاد في العالم في هر كانون الثاني يبدأ الحصاد في معظم مقاطعات اوستراليا ويشرع بنقل الغلات الجديدة في البحار كما يبدأ بالحصاد في الشهر في كل من زيلندا الجديدة وشيلي وبعض أقطار أمريكا الجنوبية. ويبدأ الحصاد في شهر شباط في مصر والهند ويبقى إلى أواخر آذار وفي نيسان يبتدأ بالحصاد في سورية وقبرص وعَلَى شواطئ مصر وكوبا والمكسيك وإيران وآسيا الصغرى وفي أيار تحصد الغلات في آسيا الوسطى وإيران وآسيا الصغرى والجزائر وسورية ومركش وتكساس وفلوريدا والصين واليابان وفي حزيران تحصد الغلات في كليفورنيا واريغون والولايات الجنوبية من أمريكا الشمالية واسبانيا والبرتغال وايطاليا والمجر والروم ايلي وروسيا الجنوبية وممالك الطونة وجنوبي فرنسا واليونان وصقلية وكانتوكي وكانساس وكولورادو وغيرها. وفي شهر تموز يشرع في العادة بالحصاد في ولايات الجنوب الشرقي والوسطى من انكلترا ويدوم في اوريغون ونبراسكا ومينوستا وايوا وايلينوا وانديانا ومشيغان واوهيو وانكلترا الجديدة ونيويورك وفرجينيا وكندا العليا وفرنسا وألمانيا والنمسا وايطاليا وسويسرا والمجر وبولونيا ويدوم الحصاد في شهر آب في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبلجيك وهولاندة ومانيتوبا وكندا السفلى وألمانيا

وبولونيا. وفي أيلول يشرع بالحصاد في ايكوسيا من بلاد الانكليز وأمريكا والسويد وشمالي روسيا وبعض فرنسا أيضاً وفي تشرين الأول يحصدون الحنطة والقرطمان في ايكوسيا والذرة في أمريكا وفي تشرين الثاني يشرعون بالحصاد في جنوبي افريقية (بلاد الراس وغيرها) وبيرو وشمالي اوستراليا وفي كانون الأول يشرع بالحصاد في ولايات لابلاتا وشيلي واوستراليا الجنوبية. تقويم الهواء إذا رأيت الكواكب في الصيف تتلألأ وهي كثيرة فهي إشارة إلى صفاء الجو وفي الشتاء علامة عَلَى البرد. فإذا فقدت لمعانها بدون أن تظهر السماء غائمة فذلك إشارة إلى المطر. ولمعان ضوء القمر دليل عَلَى الصحو وإذا أحاطت به الهالة البيضاء فدليل المطر. متى سطت الشمس عند الشروق طاردة أمامها الأبخرة البيضاء التي تبدو عند الفجر فذلك إشارة عَلَى أن اليوم مصح ومتى أشرقت الشمس وبدا معها في الأفق ضوء أصفر محاط بالضباب فذلك علامة المطر ومتى غابت وبدا معها لون ذهبي قليل الحمرة والسماء صافية الأديم فذلك إشارة إلى وجود الهواء وإذا اخترقت أشعتها السحاب عند الغروب وبدت في باقات مستطيلة تتماس بعضها مع بعض فذلك إشارة المطر. والسحاب الذي يقرب من الأرض بعد المطر يدل عَلَى الصحو والسحاب الذي يشبه كبب الثلج علامة الهواء في الصيف والثلج في الشتاء والسحاب الغليظ الأسود الذي يبدو في صورة منحدرات وجبال إشارة إلى العواصف والضباب الذي يحدث خلال الصحو ويرتفع تاركاً وراءه سحباً دليل رداءة الهواء ويشعر الهواء الشمالي والشمال الشرقي والشرقي والجنوب الشرقي بصفاء الجو وهواء الشمال الغربي والغربي ولا سيما الجنوب الغربي والجنوبي يؤذن بالمطر. وضباب الصيف الذي يبدو صباحاً يبشر بصحو النهار والضباب الذي يرتفع بدلاً من أن يتساقط ندى يدل أبداً عَلَى المطر والضباب الذي يبدو في الوقت الرديء يدل عَلَى أن الصحو قريب وضباب الخريف مقدمة للجليد الأول ومتى أخذ البط يقفز ذات اليمين وذات الشمال في الصحو صائحاً وغائصاً في الماء وتمرغ الدجاج في التراب وطار السنونو محوماً عَلَى سطح الماء فلك أن تحكم بأن المطر لا يلبث أن يهطل. البقول والأخلاق

يعرف الناس التأثير المضر الذي ينشأ من الإكثار من القتاء. والبصل ما زال منذ بدء العالم يبعث متناوله عَلَى الشفقة ومن يأكلونه فجاً تجد دمعتهم قريبة من مآقيهم والجزر يقوي في الطفل غريزة السلب والكراث يدمث الخلق ويكثر في متناوله الصبر ويجعله كفؤاً للعمل في الزراعة والفجل الأسود يولد السويداء وعَلَى نحاف الأجسام أن يتوقوا تناول البطاطا لأنها سلُّ الهزالى. ومن أراد تقوية عقله فعليه أن يتناول الثوم. ومن أحب السبانخ يتطال إلى المناصب العالية. ومن أكثر من العدس قوي فيه الميل إلى البحث المجهري والأرز يكثر منه البحارة والجرجير يمنع القرعة أما اللوبيا البيضاء فقد قال زولا أنها نافعة لمن يطيرون في المناطيد. جمال الأصقاع جمال كل صقع اليوم مورد ثروة لأهله. عرف السويسريون هذه الحقيقة وقدروا ما خصت يد الصانع بلادهم به من بهيج المناظر وجيد الماء والهواء فتوفروا عَلَى تهيئة أسباب الراحة في جبالهم وأوديتهم وسهولهم وبحيراتهم وأنهارهم فقد كان سكان سويسرا سنة 1889: 2، 933، 300 وكان يلحق الفرد منهم من الثروة 72 فرنكاً ونصف ومابرح عدد السائحين الذين يأتون يزيد حتى بلغ عدد من زاروها سنة 1899 مليونين ونصفاً وعدل ما تركه كل واحد منهم من الربح 98 فرنكاً فارتفعت ثروة كل فرد أواخر سنة 1899 إلى 152 فرنكاً ونصف. وهكذا بعد أن كانت هذه البلاد من أفقر بلاد العالم أصبحت من أغناها لأنها من أجملها. ثم أن لسويسرا من معاملها مورد ثروة آخر فقد بان بالإحصاء أنها تخرج كل سنة 917 مليون فرنك من مصنوعاتها عَلَى أن جمال أقاليمها هو أهم مورد لغناها. ولذلك تراها تنشيءُ كل يوم العمارات الجديدة التي تستوفي فيها شروط الراحة والرفاهية فلا يلبث المال الذي يدخل تلك الفنادق أن يتسرب إلى جيوب الفلاحين في أصغر قرية. وفي الفنادق السويسرية من أنواع البذخ ومعدات الحضارة مالا تكاد تجد مثله في نيس ومونتيكارلو وقد كان عدد أعضاء جمعية أرباب الفنادق السويسرية سنة 1900 828 عضواً ولها 65، 220 سريراً للسياح وتصدر باسمها جرائد وتنشر صور بلاد سويسرا الجميلة عَلَى جدران العالم المتمدن وتفرق بالألوان كتباً تدل السائح عَلَى ما في سويسرا من مظاهر الراحة والظرف والصحة. ولو أحذت سورية هذا المثال لما أتت بضع سنين إلا

وهي من أغنى أقطار الأرض. تقويم العيد السنة عند الصينيين 360 يوماً تنقسم إلى أثني عشر شهراً وينقسم اليوم إلى 96 جزءاً والأعياد كثيرة عندهم وأكثرها أعياد الطبيعة والدين ففي شهر كانون الثاني عيد العذراء الصينية وفي أيار عيد حامية العميان. والعمى من أعظم أمراض مملكة ابن السماءِ. وفي شهر أيلول عيد الحصاد وعيد الزراعة وعيد الرعد وفي كانون الأول عيد ولادة فيلسوفهم كونفوشيوس وعيد الهم بوذا. عمر الإنسان يقول أحد علماء الألمان أنك إذا فرضت مالك في الحياة فجعلته 86 سنة وقسمت الباقي عَلَى اثنين يكون الحاصل ما بقي لك من سني الحياة. ويقول عالم بلجيكي أن خمسة في كل واحد يعيشون وفي سن الخامسة 119 من الألف وفي العاشرة يبلغون 512 وفي الخامسة عشرة 347 وفي العشرين 207 وفي الخامسة والعشرين 156 وفي الثلاثين 129 وفي الخامسة والثلاثين 97 وفي الأربعين 78 ويقول أن كل ألف رجل عمر الواحد منهم ستون 559 يعمرون السبعين و120 يبلغون الثمانين و17 إلى التسعين وأربعة فقط يبلغون سن المئة من كل ألف شخص عمر الواحد منهم تسعون. مدارس الصناع لكل صناعة في الغرب مدرسة خاصة بها فعدد تلامذة المدارس الصناعية في فرنسا 22 ألفاً ومثل هذا القدر عدد تلامذة المدارس الصناعية أيضاً في الدانيمرك وأهلها مليونان ونصف في حين أن أهل فرنسا نحو أربعين مليوناً وفي الدنيمرك 121 مدرسة صناعية و57 مدرسة تجارية وعدد تلامذة مدارس الصناعات والتجارة في ألمانيا 329، 656 تلميذاً تصرف عليهم في السنة ثلاثين مليون فرنك ما عدا الإعانات الأدبية والمادية التي لا تزال تنهال عليها وكان عدد تلامذة المدارس التجارية في بروسيا فقط سنة 1903 ثلاثين ألفاً وهذه المدارس إجبارية. ولسويسرا مدارس مدارس كثيرة للصناعات المختلفة ومدارس زوريخ وجنيف يضرب بها المثل بكثرتها وإتقانها ولليابان 38 مدرسة للصناعة فيها أربعة آلاف طالب وفي مدارسها الزراعية 62 ألف طالب وفي مدارسها التجارية 13 ألف طالب

ومدارس المعامل خاصة بصنع الزهور الصناعية والتطريز وليس من تلميذ في المدارس الصناعية في السابعة من عمره إلا وهو يعرف بصور زهرة أو حشرة أو غصناً ولا عجب من ثم إذا زادت تجارة يابان زيادة كبرى فكانت تجارتها الخارجية سنة 1897 986 ملون فرنك فأصبحت سنة 1906 مليارين و195 مليون فرنك. التكاليف أو الضرائب قالت مجلة الاقتصاديين الفرنسوية ما ملخصه: من القواعد الاقتصادية المعروفة أن يكون أبناء الوطن الواحد سواءً في تحمل الضرائب شركاء في الغرم كما هم شركاء في الغنم وأن الضرائب يجب أن تفرض بحيث لا تقف حاجزاً دون حرية التجارة والضرائب مخصصة للخدم العامة في الأمة. كانت البضائع ولا سيما الغلات إذا أريد نقلها في أوربا منذ قرن وربع من إقليم إلى إقليم تراقب أنواع المراقبة وتؤخذ من أصحابها عدة رسوم ولكن رجال الاقتصاد تغلبوا عَلَى رجال السياسة وأبطلوا بالتدريج في أوقات مختلفة هذه العراقيل في التجارة علماً منهم بأن التجارة ليست سرقة كما يقول بعضهم بل هي مقايضة عن تراضٍ بين البائع والشاري ولأن التضامن الذي كان أول من قال به آدم سميث شيخ الاقتصاديين هو صورة من صور تقسيم الأعمال يستلزم الاخصاء في الكفاءات والتنويع في الحاجات فإذا ساءت مثلاً زراعة القطن في الولايات المتحدة تقف في الحال معامل لانكشير في انكلترا. إبان الاقتصاديون منزلة قاعدة العرض والطلب من عالم المعاملات لأنها ميزان المقايضات بين الأمم وهي من الضروريات التي لا تستغني عنها دولة. قال كسني من الاقتصاديين أن تجار غيرنا من الأمم هم كتجارنا أبناء وطننا فدل بهذا القول عَلَى فائدة المنافسة التجارية وأشار إلى التشبث بها ما أمكن والمنافسة اليوم من أعظم العوامل الأدبية في المدنية الغربية. وأن الخطر العظيم الذي ينالها هو الاستعاضة عن المنافسة الاقتصادية بالمنافسة السياسية. لا جرم أن الاقتصاديين ترددوا بشأن أجرة العامل ولكنهم توصلوا إلى أن فرض الأجور هو عبارة عن وفاق للمقايضة وأن الأجرة لا تؤدي عن العمل بل في مقابل ما تنتجه وينشأ من أثرها وأن صاحب العمل يؤدي للعامل سلفة من أجرته وأن المتبايعين هم الذين يؤدون أجور العملة كما يؤدون الضرائب والمكوس والمبتاعون هم الناس أجمعون.

أما الاختلاف بين رأس المال والعمل فليس في الحقيقة إلا اختلافاً بين المنفق الذي يهمه أن يرى أسعار الأسواق متدنية ما أمكن وبين العامل الذي يقبض أجرته ويرمي برفع الأجور وتنقيص ساعات العمل إلى زيادة قيمة ما يعود عليه. ولم يفتأ الاقتصاديون يحاربون كل من يقصدون إحداث قيم مصنعة بما يدبرونه من الوسائط السياسية والإدارية والشرعية أو يعمدون إلى استعمال الشدة والقسوة في انفاذ ما يريدون سواءٌ كان بوضع الضرائب أو الاعتصابات أو برفع سعر الفائدة في الافتراض أو برفع سعر السلعة الفلانية أو قيمة الشيء الفلاني ثم زيادة سعر الحنطة بوضع رسوم الجمارك عليها وخفض قيمة الخبز إلى أقل من سعر الحنطة مادته الأولية بوضع رسوم البلدية عليه. إن الإحسان والرفق بالضعفاء يزيدان في شقاء البائسين ويكثران من عدد المحاويج والمعوزين. فالاقتصاديون يوجدون الأسباب للقضاء عَلَى الشقاء من أصله بدلاً من أن يعمدوا إلى صوغ جمل محزنة مبكية كما يفعل من يجمعون الصدقات ليستدروا بأعمالهم أموال المحسنين ولذلك يوصف الاقتصاديون بكزازة الأيدي وأولئك المحسنون بسباطتها. حارب الاقتصاديون الامتيازات في كل مكان واثبتوا ما يحق لكل عامل أن يتناوله من عمله ورسموا له جزاءً يساوي أتعابه ولقد ابان آدم سميث كيف أن من يبحثون عن منفعتهم الخاصة يضمنون النجاح العام. ولا يستطيع مالك رأس المال أن ينتفع به إلا بأحد وجهين إما ان يستعمله في أمور تأتي بربح أو أن يقرضه لأناس يستخرجون منه أرباحاً يعطون لقاءها فائدة ولا يأتي رأس المال بربح إلا عَلَى شرط أن يلقى به للاستثمار أو أن يصرف في سد حاجة ويدفع عنها ما يقابلها وأجرة رأس المال هي في الحقيقة مقياس الانتفاع من استخدامه. قال الاقتصاديون: أن عَلَى المرءِ تبعة عمله فلا تعتبر الحكومات أداة بسيطة وآلة صماء فالرق والعبودية ممنوعة وحرية العمل أشرف من الاستعباد فيه وإن العامل إذا عمل مدفوعاً بعامل الربح يعمل أكثر مما إذا عمل مكرهاً وأثبتوا أن لا شيءَ بلا مقابل ولكل عمل ثمن وأجرة. وإن المسائل الاقتصادية تتجلى بالربح والخسارة وهناك العيار الذي قلما يختلف مما ليس لغيرها من المسائل. فالافراد يعملون ويقتصدون لأن الحكومات لا تخضع

لناموس الربح والخسارة بل تنفق جزافاً وتسرف إسرافاً. ورجال الحكومات والبلديات في العالم يقدرون فائدة أعمالهم ببعض الآراء الوطنية والسياسية والدينية والصحية والإدارية والشخصية فقد كان الناس في القديم عندما كانوا ينهكون بوضع الضرائب يتعزون بأن ما يؤخذ منهم يعود عليهم حتى قال فولتير في القاموس الفلسفي أن ملك انكلترا يأخذ كل سنة مليون ليرة انكليزية وهذا المليون يعود برمته بإنفاقه له عَلَى أمته ولكن الاقتصاديين ردوا هذه الأوهام وقالوا أن الخراج يستولي عَلَى كل شيء من الدخل والخرج والوفر ولرؤوس أموال أرباب الأملاك والمباشرين للأعمال الكبرى والعامل وأن هاته الطبقات لو توفر لها ما تقاضته منهم الدولة لتنفقه عَلَى الموظفين والجند لكانوا هم أيضاً أنفقوه ولتيسر لهم أن يقتصدوا منه جانباً ينفقونه في تحسين أراضيهم وأعمالهم وربما كان للعامل من هذا الوفر رأس مال له ولا يزال إلى اليوم أناس ممن يزعمون أنهم عَلَى شيءٍ من العلم والتجارب يقولون في الأعمال الغير المثمرة وماذا يضر ذلك ما دام المال ينتقل من يد إلى أخرى. يقولون هذا وهم لا يدركون أن الأموال التي تصرف في أعمال عامة لا فائدة منها مثل الطرق البحرية بل هي ملقاة في المياه وضائعة ضياعاً لايرجى معه رجعة وأن الإسراف في هذا المال يقلل من رؤوس الأموال الموجودة كما يقللها الحريق والغريق. يقتصد الاقتصاديون من مال الحكومة لأن مالها هو مال المكلفين. قالوا أن الخراج والجباية الباهظة تقضي عَلَى نشاط العاملين. فالعثماني لا يعمل متى علم أن الباشا سيسلبه ما ظهر من أرباحه. الخراج لم يغن قط أمة وإن أحسن الكرم الذي تعطف به حكومة عَلَى محكومين أن تتناول من المكلفين أقل ما يمكنها من الجباية والوزائع. والمكلفون هم العالم أجمع. ولذلك قال كبار الاقتصاديين أن الحكومة في اسبانيا هي الجرح النغار في جسم البلاد. قال الاقتصادي شارل دونويه أن الحكومة هي المغنية في الحقيقة ونفس الأمر. وليس معنى هذا أنها هي التي تصنع المصنوعات بل لأنها تحمي الصانع في صناعته وتزيد في تأمينه وراحته فإذا حصلت أرباحه وقدرتها عَلَى ما يجب من الاعتدال يقوم غيره من أرباب الاقتدار ويجمعون رؤوس أموال ويحسنون الزراعة. فإغناء الحكومة هو توزيعها الثروة في الناس عَلَى نصاب العدل وذلك لأن الحكومة كما قال المشار إليه إذا ارتفعت حمايتها ولم تمد جناح أمنها عَلَى ما يجب تفقد الثروات قيمتها الحقيقية وتنقطع القوى المنتجة عن

الإنتاج وتصاب بالانحلال والخمول وعَلَى العكس إذا نشرت الأمن فإنها تزيد قيم جميع الخيرات وتزيد جماع القوى نشاطاً ومضاءً وإخصاباً وكلما ارتقى الأمن والثقة يزيد النجاح وكلما زاد النجاح يزيد الناس رغبة في رفع أعلام الأمن ويرون الحاجة أكثر ما تكون مساساً إليه. فالحاجة إلى الراحة أعظم من الحاجة إلى نشر كلمة المدنية ورفع شأنها والناس يتقاضون عدلاً سريعاً خالصاً تراعى فيه الحرية مع التشدد في المحافظة عَلَى النظام والراحة حتى لا ينغص أحد في استعمال قواه وما تملك يداه والواجب أن تكون هذه الراحة باقية عامة وأن لا يكدر من يصرفون قواهم ورؤوس أموالهم في المشاريع في مقايضتهم وأعمالهم مثال ذلك أن ألمانيا تضرب الضرائب عَلَى القمح واللحم لتغري بذلك كبار أرباب الأملاك وتوطد أقدام الفلاحين في قراهم. فتأخذ منهم جنداً قوياً تقابل به الجند الذي تدعوه إلى حمل السلاح من فستفاليا وولاية رين وهم أهل صناعة يدفعون لها الضرائب التي تعدل بها القوى في الانتخابات. والحكومة المجرية تريد أن نشئ صناعات لتهيء عملاً لمن لا عمل له من الفلاحين الذين يتكاثر عددهم اليوم بعد اليوم لتحول بذلك دونهم ودون الهجرة. والاقتصاديون يبحثون عن عامة الوسائط التي يراد بها معاونة العلم على نجاحه والصناعة عَلَى الترقي وللزيادة في تنقل الناس والبضائع والأموال قائلين أن صاحب رأس المال يحتاج إلى أمرين الحرية ليستخدم رأس ماله فيما يعود عليه بفائدة أكثر وللأمن لينال ثمرة رأس ماله فإذا أخطأ الحرية يضطر في الغالب أن يضع رأس ماله في أعمال قليلة الربح وربما يؤدي به ذلك إلى الخراب وإذا أعوزه الأمن يبحث لا عن الموارد النافعة له أي عن أنفعها له ولغيره بل ينقل رأس ماله إلى مكان آخر أو لا يستعمله إلا في أمور محدودة. علائم الموت فقدان العقل والشعور والإحساس في الجلد ووقوف التنفس والدم وغؤور العينين هي العلائم التي تثبت الموت ولكن هذه الإشارات قد تخطئ. وقد أبان أحدهم مؤخراً طريقة لمعرفة الميت ممن لم يزل فيه نسيس من الحياة لا ينتظر معها تفسخ الجثة حتى يتحقق ذهاب الروح منها وهي أن يجعل المائت في هواء غير متحرك ويوجه أحد أعضائه إلى الأرض

ويرسل عليه نار تمس طرف الجلد مساً خفيفاً فتنفخ الجلد بعد ثوان انتفاخاً يسمع صوته ويكشط هذا الانتفاخ مكاناً من الجلد كالقرش وتنقبض بقايا البشرة المكشوطة حوالي المكان المحروق ولكن بدون سائل. وإذا جرب ذلك في شخص حي تحدث في بشرته بثرة ذات مادة مائية لا بثرة غازية كما في شخص ميت وعليه فإن البثرة الغازية لا تنشأ إلا بعد وقوف مجرى الدم وبذلك يتحقق موت الشخص. أفضل الغذاء من المسائل الصعبة اختيار أفضل الغذاء فقد قال علماء الفرنجة أن لحم الخنزير إذا أكثر منه الإنسان تسود الدنيا في عينيه وعَلَى العكس في مستعمل لحم البقر فإنه يورثه قوة ونشاط. والظاهر عَلَى ما قالوا أن لحم الخروف أشبه بلحم الخنزير أما لحم العجل فمن خواصه أن يسلبك القليل من النشاط الذي فيك. والزبدة واللبن الحليب تجود بتناولها صحة النساء. ومتى أكثرنا من تناول الزبدة تورثنا كسلاً وعَلَى رجال الأدب وأرباب الأقلام والصناعات النفيسة وكل من يصرفون من دقائق الدماغ كثيراً أن يكثروا من تناول التفاح وأن يجتنبوا البطاطا فإنها كالزبدة تورثهم الكسل. ومن الغريب أن لحم الحمام هو أتعب اللحوم للمعدة والجسم حتى أن أحد الانكليز تراهن مع أحدهم عَلَى أن يتناول لحم الحمام ثلاثين يوماً فلم تمض عشرة أيام حتى عراه العياء وطلب أن يطعم شيئاً من المرق. النوام تقول مجلة المطالعات البيتية أن مرض النوم أو النوام الذي اكتشفه العلماء عند بعض الشعوب في أواسط افريقية ليس من الأمراض الحديثة إذا نظرنا إلى الحوادث المشابهة له التي أوردها قدماء المؤلفين فقد نص علينا بلينوس القديم أن الفتى ايبمنيدس نام ذات يوم في كهف سبعاً وخمسين سنة بدون أن يستيقظ وأنه بعد أن انتبه من نومه عاش إلى سن المئة والخامسة والسبعين. وليس بلينوس هو الوحيد في بابه فهناك السبعة نيام في افسيس (أصحاب الكهف) الذين لم ينجوا من الموت خلال الاضطهادات التي وقعت عَلَى المسيحيين بأمر دسيوس إلا باعتصابهم في مغاور ناموا فيها 196 سنة عَلَى ما يؤكدون. وهذا النوم أشبه بداءِ النقطة ولكنه لا يشبه النوام الذي تكلم عنه سوانينوس من فيرون في كتابه وصف بلاد المسكوب قال أنه يوجد شعب يسكن لوكوموريكو وهي ناحية واقعة فيما

وراء بلاد السارماتيين فيظهرون أنهم ماتوا منذ اليوم السابع والعشرين من شهر تشرين الأول كالضفادع لشدة البرد القارس في بلادهم وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر نيسان يستيقظون وتعود إليهم حياتهم ولسكان هذه البلاد صلات مع الأمم المجاورة وهم يدخرون عندما يقرب نومهم السنوي مؤونتهم من الطعام فيأتي جيرانهم عند ذاك يبحثون عنهم تاركين بضائع وميرة عَلَى سبيل المقايضة بثمن متساوٍ ومتى عادت إلى اللوكوموزيكيين حياتهم يطالبون بحقوقهم إذا لم يجدوا المقايضة متناسبة وتثور بينهم خصومات ربما أدت إلى حروب بين هاته الشعوب المسكويية. وما ندري إذا كان هذا الشعب لم يوجد له أثر إلا في مخيلة الكاتب الإيطالي أو أنه اختلطوا عليه مع اليرابيع التي ترقد في الشتاء. رماد الإنسان يقول الأميركان أن المرء يبلغ غاية الصحة في سن الأربعين ويقدرون ثمن الرجل الشجاع الذكي العامل بألفي ليرة أما الكيماويون فيقدرون أن ثلثي جسم الإنسان مؤلف من ماء ممزوج بسموم فنطفتنا تساوي ألوفاً من بيض الدجاج والهيدروجين الذي فينا يكفي لنفخ منطاد غير قليل وإذا أضيف إليه الكربون يتأتى أن يضاءَ به شارع طوله خمسمائة متر طوال الليل ففي أحشائنا ما يساوي 19 فرنكاً من غاز الاستصباح وفي هذا الكربون مادة كبيرة للتصوير يستخرج منها 780 دزينة من جيد أقلام الرصاص فإذا قطعت رجل إنسان يستطيع أن يستخرج منها مادة قلم الرصاص تكفيه لكتابته ما دام حياً. وفي الإنسان مادة فوسفورية تكفي لبل 820 ألف من الثقاب أي عود الكبريت وفيه من المواد الدهنية ما يكفي لعمل عشر دزينات من الشمع الجيد اللهم إذا استخدمناها لعمل الحساء وهذا يتأتى لنا تمليحه بالملح الذي تحويه أنسجتنا وهو نحو عشرين ملعقة. ضمان الأغلاط في الغرب شركات لضمان العقارات من الحريق وضمان الأسرات من موت أبيها وضمان الغلات من البرد وضمان السفن من الأنواء وضمان الأجسام من العوارض وها قد أسس الألمان اليوم شركة لضمان الإنسان من غلط يرتكبه موظفو البرق في كلمة أو كلمات تؤدي إلى تحريف الرسائل البرقية تضرر بذلك صاحبها أو لم يتضرر. الأجراس

أعظم أجراس الكنائس في العالم جرس كنيسة الثالوث في موسكو وزنه 67083 كيلو غراماً وجرس بلدة موسكو 65 ألف كيلو غرام والجرس الإمبراطوري في كولونيا زنته 28 ألف وجرس السفوايارد في باريز وزنه 16888 وجرس عمانويل في كنيسة نوتردام في باريز 12000 وجرس سيدة الحماية في مرسيليا 8044 وجرس كليمان في جنيف وهو من الفضة وزنه 2070 كيلوغراماً. العدد المشؤم يتشاءم عامة الإفرنج من العدد 13 وهذا التشاؤم كان قبل الميلاد عنوان الموت فكان العدد 13 في ورق اللعب الذي يستعمله أهل بوهيميا للتنبوء عن المستقبل عبارة عن هيكل عظام مسلح بمنجل ولهذا الرمز أثر عند بعض اليهود فلا يلفظ به عامتهم ويسمح لكبار حاخاماتهم أن يذكروه مرة في السنة. والعدد 13 هو العدد المقدس عند أهل المكسيك وقبائل يوكاتان إذ كان في بلادهم ثلاث عشرة حية تعبد وتمجد. وللعدد المذكور شأن في الأساطير النروجية وغيرها. نبات يضيء كل يوم يكتشف علماء النبات خواص لم تكن معروفة لبعض النباتات فبالامس اكتشفوا نباتاً يتغذى باللحوم ونباتاً يطير كالمنطاد والطيارة الهوائية واليوم اكتشفوا في برازيل في مقاطعة سان جواكيم من أعمال ولاية سان باولو نباتاً يضيء كالكهرباء أو كمصابيح الغاز والبترول والشموع ويسميه أهل تلك البلاد نبات الأوربية ويتنافسون فيه فيجعلونه في أصاصي وأواني ويزينون به القصور فيظل أياما يبعث نوراً يكفي لأن يطالع المطالع به جريدة وكتاباً. قالوا أنه من فصيلة النباتات التي لا زهر لها وإن كان لا يشبه الفطر. غابة عظيمة في شاطئ العاج إحدى مستعمرات فرنسا في افريقية غابة مساحتها 125 ألف كيلومتر مربع لم تمسها يد بشر وفيها من أنواع الحراج والنبات من 1500 إلى 2000 نوع منها خمسون نوعاً يبلغ علو شجرها خمسين متراً وجذعها من متر إلى مترين ونصف وعدد الأشجار التي يبلغ طولها من 25 إلى 40 متراً من 150 إلى 200 وهناك من أنواع

الأشجار أغربها وفي ظلالها من النباتات أدهشها ومن جملتها المطاط والنخيل الذي يستخرج منه الزيت.

كتاب العرب

كتاب العرب أو الرد على الشعوبية لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة من أهل القرن الخامس بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما (قال) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة جعلنا الله وإياك على النعم شاكرين. وعند المحن والبلوى صابرين. وبالقسم من عطائه راضين. وأعاذنا من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد ونغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة وتلحق بها كل رذيلة وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف وتعص من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر بالشجا. وتطرف منه على القذى. وتبعد من الله بقدر بعدها ممن قرب واصطفى. وفي الإفراط الهلكة وفي الغلو البوار والحسد هو الداء العياء. أول ذنب عصي الله به في الأرض والسماء. ومن تبين أمر الحسد بعدل النظر أوجب سخطه عَلَى واهب النعمة وعداوته لمؤتي الفضيلة لأن الله تعالى يقول (نحن قسمنا بينهم معيشتهم ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) فهو تبارك وتعالى باسط الرزق وقاسم الحظوظ والمبتدي بالعطا والمحسود آخذ ما أُعطي وجار إلى غاية ما أُجري. وقال ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله قيل ومن يعادي نعم الله قال: حاسد الناس وفي بعض الكتب يقول الله: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راضي بقسمي. وقال ابن المقفع: الحاسد لا يبرح زارياً على نعمة الله لا يجد لها مزالاً ويكدر عَلَى نفسه ما به فلا يجد لها طعماً ولا يزال ساخطاً عَلَى من لا يتراضاه ومتسخطاً لما لا ينال فوقه فهو مكظوم هلعٌ جزوع ظالم أشبه شيء بمظلوم محروم الطلبة منغص المعيشة دائم السخطة لا بما قسم له يقنع ولا على ما لم يقسم له يغلب والمحسود يتقلب في فضل الله مباشراً للسرور ممهلاً فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها عَلَى قطع وانتقاض ولو صبر الحسود عَلَى ما به وضمر لجرته كان خيراً له لأنه كلما هرَّ خسأه الله وكلما لجج قذف بحجره وكلما أراد أن يطفئَ نور الله أعلاه الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. ولله در القائل:

وإذا اراد الله نشر فضيلة ... يوماً أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ماكان يعرف طيب عرف العود ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والجشوة وأوباش النبط وأبناء اكرة القرى فأما أشراف العجم وذوو الاخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون مالهم وما عليهم ويرون الشرف نسباً ثابتاً. وقال رجل منهم لرجل من العرب: إن الشرف نسب والشريف من كل قوم نسيب الشريف من كل قوم: وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب لأن منهم قوماً تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف وقوم اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عناصرهم فمنهم من الحق نفسه بأشراف العجم واعتزى إلى ملوكهم واساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه ومنهم من أقام عَلَى خساسة ينافح عن لؤمه ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف ويظهر بغض العرب يتنقصها ويستفرغ مجهوده في مشاتمها وإظهار مثالبها وتحريف الكلم في مناقبها وبلسانها نطق وبهممها انف وبآدابها تسلح عليها فإن هو عرف خيراً ستره وإن ظهر حقره وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها وإن سمع سوءاً نشره وإن لم يسمعه نفر عنه وإن لم يجده تخرصه فهو كما قال القائل: إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شراً أذيع وإن لم يعلموا بهثوا ومن ذا رحمك الله صفا فلم يكن له عيب وخلص فلم يكن فيه شوب. وقيل لبعض الحكماء هل من أحد ليس فيه عيب فقال لا لأن الذي ليس فيه عيب هو الذي لا يموت وعائب الناس يعيبهم بفضل عيبه وينتقصهم بحسب نقصه ويذيع عوراتهم ليكونوا شركاءَه في عورته ولا شيء أحب للفاسق من زلة العالم ولا إلى الخامل من عثرة الشريف قال الشاعر: ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري إن أردت قريب وقال آخر: وأجرأُ من رأيت بظهر غيب ... عَلَى عيب الرجال ذوو العيوب وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعَلَى معاوية في استلحاقه عمل

كتاباً في المثالب لولده وقال من عيركم فقرعوه بمنقصته ومن ندد عليكم فابدهوه بمثلبه فإن الشر بالشر يتقى واحديد بالحديد يفلح. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى أغرى الناس بمشاتم الناس والهجهم بمثالب العرب وحاله في نسبه وأبيه الأقرب إليه حال نكره أن نذكرها فنكون كمن أمر ولم يأتمر وزجر عن القبيح ولم يزدجر وهي مشهورة ولكن كرهنا أن تدوَّن في الكتب وتخلد عَلَى الدهر ولا سيما وهو رجل يحمل عنه العلم ويحتج بقوله في القرآن. ومن أتعب قلباً وأنصب فكراً ممن أراد أن يجعل الحسنة سيئة والمنقبة مثلبه ويحتال لإخراج الباطل في صورة الحق فيقصد من المناقب لمثل فوس حاجب يضحك منها ويزرى بها ويذهب في ذلك إلى خساسة العود وقلة ثمنه وهذا لو كان على مذاهب التجار والسوق في الرهون والمعاملات لرجع بالعيب على الآخذ لا عَلَى الدافع لا يألون بدفع أحقر ما يجد في أكثر ما يأخذ والمغبون من غرَّ بالصغير عن الكبير وإنما رهن عن العرب بما ضمنه عنها من كف الأذى عن مملكته حتى يحيوا وتنكشف عنهم السنة ولو كان مكان القوس مائة ألف رأس من الغنم عن هذا السبب ما كان القوس إلا أحسن بالدافع والقابل لأن سلاح الرجل هي عزه وشرفه وإسلام المال أحسن من إسلام العز والشرف. وقد يدفع الرجل خاتمه وبرده أو رداءَه عن الأمر العظيم فلا يسلمه خوفاً من السبة وأنفة من العار. قال أبو عبيدة لما قتل وكيع بن أبي سود التميمي قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان بلغ ذلك سليمان وهو بمكة وهو حاج خطب الناس بمسجد عرفات وذكر غدر بني تميم وإسراعهم في الفتن وتوثبهم عَلَى السلطان وخلافهم له فقام الفرزدق ففتح رداءَه وقال يا أمير المؤمنين هذا رداي رهناً بوفاءِ تميم ومقامها على طاعتك فلما جاءَت بيعة وكيع قال الفرزدق: فدى لسيوف من تميم وفى بها ... رداي وحلت عن وجوه الاهاتم يريد الأهتم بن سمي التميمي ورهطه وهذا سيار بن عمرو بن جابر الفزاري ضمن لبعض الملوك ألف بعير دبة أبيه ورهنه قوسه فقبلها منه عَلَى ذلك وساقها إليه وفيه يقول القائل: ونحن رهنا القوس ثم تخلصت ... بألف عَلَى ظهر الفزاري اقرعا وسيار هذا هو جد هرم الذي تنافر إليه عامر وعلقمة. ومن هذا الباب قول جران وذكر اجتماعه مع نساء كان يألفهن:

ذهبن بمسواكي وقد قلت أنه ... سيوجد هذا عندكن فيعرف يظن من لا يعرف هذا الخبر أنهن سلبنه المسواك فاعتد عليهن واخبرهن أنه سيوجد عندهن ويعرف لقدر المسواك عندهن وعنده ولأن الأعراب أنظر قوم في التافه الحقير الذي لا خطر له وكيف يظن به وبهن وهذا وبلد نجد مستحلس بضروب من شجر المساويك لا تحصى فكيف يبخل عَلَى نساء يهواهن بعود هو يصطلي به ويختبز ويطبخ بشجره ومتى احتاج إلى مسواك منه لم يتكلفه بثمن ولم يبعد في طلبه والمعنى أن نجداً تختلف منابته فمنه ما ينبت الاسحل ومنه ما ينبت الارك ومنه ما ينبت البشام فاهل كل ناحية منهم يشاكون بشجر بلدهم وكان جران العود معروفاً بهؤلاء النساء يزورهن عَلَى حذر من مزار بعيد وهو يستن من الشجر ما ينبت في بلده ولا ينبت في بلدهن فلما أخذن سواكه ليتذكرنه ويسترحن إليه كما يفعل المتحابون قال إن هذا سيوجد عندكن وإذا وجد علم أنه مما ينبته البلد الذي اسكنه فاستدل به عَلَى زيارتي إياكن ويقصد لقول القائل: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردا فيتضاحك بالشعر ويستهزيء بالبردين والفرس الورد ويعارض ذلك بملوك فارس واسرتها وتيجانها وبأن ابرويز ارتبط تسعمائة وخمسين فيلاً على مرابطه وبلغت مخدته التي كان يشرف بها على الداخل عليه ألف إناء من الذهب وخدمته ألف جارية وقد جهل هذا معنى الشعر واخطأ في المعارضة وفخر بما ليس له فيه حظ ولا نصيب. أما معنى الشعر فإن أبا عبيدة ذكر أن وفود العرب اجتمعت عند النعمان بن المنذر فأخرج بردي محرق وهو عمرو بن هند وقال ليقم أعز العرب قبيلة فيأخذهما فقام عامر بن احيمر بن بهدلة فأخذهما فاتزر بواحد وارتدى بآخر فقال له بما أنت أعز العرب فقال العز والعدد من العرب في معد ثم نزار في مضر في خندق ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس فقال النعمان هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك فقال أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة يغنيني الأكابر عن الأصاغر والأصاغر عن الأكابر فأما أنا في بدني فهذا شاهدي ثم وضع قدمه عَلَى الأرض وقال من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد من الناس فذهب بالبردين فسمي ذا البردين قال الفرزدق:

فما تم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما قيل لم يتبهدا لهم وهب النعمان ثوبي محرق ... بمجد معد العديد والمحصل وأما الفرس الورد فإن الخيل حصون العرب ومنبت العز وسلم المجد وثمال العيال وبها تدرك الثار وعليها تصيد الوحش وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن ويشدونها بالأفنية للطلب والهرب وقد كنى الله عنها في كتابه بالخير لما فيها من الخير فقال حكاية عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) يعني الخيل وبها كان شغل سليمان عن الصلاة حتى غربت الشمس وقال طفيل: وللخيل أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير يعقب وقال آخر: ولقد علمت عَلَى توقي الردى ... إن الحصون الخيل لا مدر القرى اني وجدت الخيل عزاً ظاهراً ... تنجي من العمى ويكشفن الدجى ويبتن بالثغر المخوف طلائعاً ... وتبين للصعلوك جمة ذي الغنا باتوا بصائرهم عَلَى أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتدٌ وأَى والبصيرة الدم يريد أنهم لم يدركوا الثار فثقل الدماءُ عَلَى أكتافهم وأنه قد أدرك ثأره على فرسه وحدثني محمد بن عبيد قال حدثني سفيان بن عيينة عن شيب بن غرقدة عن عروة البارقي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). قال أبو محمد وليس لأحد مثل عتاق العرب ولا عند أحد من الناس من العلم بها ما عندهم وسأذكر من ذلك شيئاً فيما بعد إن شاء الله. وإذا كان للرجل منها جواد مبر كريم شهر به وعرف فقيل العسجدي ولاحق وداحس والورد. وليس أعجب من سرير كسرى وفخر العجم به وتصويرهم إياه في الصخور الصم وفي رعان الجبال. وإذا رأيت العرب تنسب إلى شيء خسيس في نفسه فليس ذلك إلا لمعنى شريف فيه كقولهم لهنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق ذات الخمار لذلك قال أبو عبيدة كانت هنيدة بنت صعصعة تقول من جاء من نساء العرب بأربعة مثل أربعتي يحل لها أن تضع عندهم خمارها فصرمتي لها أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات

الخمار لذلك. وقال كان هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أكرم الناس أربعة أبي رسول الله وأمي خديجة وأختي فاطمة وأخي القاسم فهؤلاء الأربعة لا أربعتها وأما خطأه في المعارضة فإن صاحب البردين لم يكن ملك العرب فيعارضنا عنه بملك العجم ولم يدّع أحد أنه كان للعرب في دولة العجم مثل ملكها وأموالها وعددها وسلاحها وحريرها وديباجها فيحتاج أن يذكر فيلة ابرويز وجواريه وفرشه وقد كان هذا لأولئك كما ذكرتم جعله الله لهؤلاء فابتزوه واستلبوه والتحوهم كما يلتحى القضيب والناسخ أفضل من المنسوخ. وأما فخره بما ليس له حظ ولا نصيب فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها وأبناء عمالهم وكتابهم وحجابهم واساورتهم. فأما رجل من عرض العجم وعوامهم لا يعرف له نسب ولا يشهر له أب فما حظه في سرير كسرى وتاجه وحريره وديباجه وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ولا مظل ولا مأوى. فإن قال لأني من العجم وكسرى من العجم فمرحباً بالمثل المبتذل ابن جار النجار ولو قال أيضاً لأني من الناس وكسرى من الناس كان وهذا سواء وما هو بأولى بهذا السبب من العرب لأن العرب أيضاً من الناس. قال أبو عبيدة: اجريت الخيل فطلع منها فرس سابق فجعل رجل من النظارة يكبر وثب من الفرح فقال رجل إلى جانبه يا فتى أهذا السابق فرسك فقال لا ولكن اللجام لي. وقال المسعودي: قدم علينا أعراب وكانوا يأتون ببضائعهم فأبيعها وأقوم بحوائجهم وكانوا يقولون رحم الله أباك ديناراً فكنت لا آلوهم عناية فقلت لهم اخبروني عن السبب بينكم بين أبي قالوا كان يساومنا مرة باتان فقلت لهم هل كان اشتراها منكم قالوا لا قلت الله أكبر قالوا وما ذاك قلت لو اشتراها صارت رحماً ونسباً. وقد كانت العجم رحمك الله في ذلك الزمان طبق الأرض شرقاً وغرباً وبراً وبحراً إلا محال معد واليمن افكل هؤلاء أشراف فأين الوضعاء والأدنياء والكساحون والحجامون والدباغون والخمارون والرعاع والمهان وهل كان ذوو الشرف في جملة الناس إلا كاللمعة في جلد البعير وأين ذراريهم وأعقابهم أدرجوا جميعاً فلم يبق منهم أحد وبقي أبناء الملوك والأشراف. وأعجب من هذا ادعاؤهم إلى اسحق بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم وفخرهم عَلَى

العرب بأنه لسارة الحرة وأن إسماعيل أبا العرب لهاجر وهي أمة وقال شاعرهم: في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباءً ولا عكٌّ وهمدان ولا لجرم ولا بهراء من وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان أرض تبنى بها كسرى مناسكه ... فما بها من بني اللخناءِ إنسان فبنو الأحرار عندهم العجم من ولد اسحق واسحق لسارة وهي حرة وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد إسماعيل وإسماعيل لهاجر وهي أمة قالوا واللخناء عند العرب الأمة فالويل الطويل لهؤلاء والبعد والثبور من هذه العداوة لأولياء الله والأنبار القبيحة لصفوة الله وقد غلطوا في التأويل عَلَى اللغة وليس كل أمة عند العرب لخناء إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وحمله واستقاء الماء والحلب وأشباه ذلك من الخدمة كما يقال الأمة الوكعاء وليس كل أمة وكعاء وإنما قيل لها لخناء لنتن ريحها ويقال لخن السقاء بلخن لخناً إذا تغير ريحه وانتن. وأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل دفر وارتضاها للخليل فراشاً وللطيبين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام أما وجعلهما لها سلالة فهل يجوز لملحد فضلاً عن مسلم أن يطلق عليها اللخن ولو لم يكن إلا أن ملك القبط متع بها سارة وكانت أنفس أمائه عندهم واحظاهن لديه لقد كان في ذلك دليل عَلَى أنها لم تكن من الاماء اللخن ولو جاز أن يطلق على كل أمة لخناً لجاز أن يقال لكل شريف ولدته أمه هذا ابن اللخناء كما يقال هذا ابن الأمة وقد ولدت الاماء الخلفاء والخيار والأبرار مثل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب. حثني سهل بن محمد قال حدثنا الأصمعي قال كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة ففاتوا أهل المدينة فقهاً وورعاً فرغب الناس في السراري والنساب لا يعرفون لأهل فارس ولا للنبيط في اسحق بن إبراهيم حظاً لأن اسحق تزوج رفقا بنت ناحور بن تارح وتارح هو آزر ورفقا بنت عمه فولدت له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فيعقوب هو إسرائيل الذي ولد الأسباط كلهم وكانوا اثني عشر رجلاً وأولادهم جميعاً يدعون بنو إسرائيل وهم أهل الكتاب وليس لهؤلاء فيهم سبب

ولا نسب وعيصو هو أبو الروم وكان الروم رجلاً أصفر شديد الصفرة في بياض ومن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر. قالوا وكانت أم الروم بنت إسماعيل ابن إبراهيم وولد من الروم خمسة نفر فكل من بأرض الروم من نسل هؤلاء الرهط قالوا ولما سبقه يعقوب إلى دعوة اسحق فصارت النبوة في ولده دعا لعيصو بالنماءِ والكثرة فالروم كلها من ولده وبعض الناس يزعم أيضاً أن الاشبان من ولده وقالوا النبط بن ساروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ويقال انه ابن ماش بن سام ابن نوح قالوا وأهل فارس من ولد لاوذ بن ارم بن سام بن نوح وكان كثير الولد فنزل أرض فارس فأجناس الفرس كلهم من ولده فليس بين هؤلاء وبين اسحق بن إبراهيم على ما ذكر النسابون نسب يجمعهم إلا سام بن نوح والناس يجتمعون في ولادة شيث بن آدم ثم في ولادة نوح ثم يتشعبون فولد نوح أربعة نفر سام وحام ويافث ويام فأما يام فهلك بالطوفان فلا عقب له وهو الذي قال له أبوه (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) وأما حام فإن أباه لعنه ودعا عليه بأن يكون عبداً لأخويه فخملت ذريته وسقطت فيه فهم النوبة وفزَّان والزغاوة وأجناس السودان والسند والقبط وأما يافث فإن أباه دعا له بالنماء والكثرة فولد الصقالب والترك ويأجوج ومأجوج وأممّا عدد الرمل والحصا في مشارق الأرض. فأما سام فبارك عليه فأشراف الناس من ولده منهم العماليق ومنهم الجبابرة وفراعنة مصر وملوك فارس ومن ولد سام الأنبياء جميعاً بعد نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ومن بعده إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. فالعرب وفارس يتساوون في هذه الجملة وتفضلها العرب بعدها بأنها من ولد إسماعيل ابن إبراهيم فهي أدنى من خليل الله دناوةَ وأمس به رحما. ثم تتساوى العرب وفارس في أن الفريقين ملكوا وتفضلها العرب بأن قواعد ملكها نبوة وقواعد ملك فارس استلاب وغلبة. وتفضلها العرب بأن ملكها ناسخ وملك فارس منسوخ وتفضلها بأن ملكها متصل بالساعة وملك فارس محدود وتفضلها العرب بأن ملكها واغل في أقاصي البلاد داخل في آفاق الأرض وملك فارس شظية منه ليس فيه الشام ولا الجزيرة ولا خراسان في أكثر مددهم ولا اليمن إلا في أيام وهزر وسيف ابن ذي يزن. ومن عجب امرهم أيضاً فخرهم عَلَى العرب بآدم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنة من حسناته ثم بالأنبياء وأنهم من العجم إلا أربعة نفر هود

وصالح وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم وفي هذا القول وضع الفخر عَلَى غير أساس ومن أسس بنيانه عَلَى الباطل والغرور أوشك أن يتداعى وأن يخر وظلم للعرب فاحش ومنه ادعاؤهم آدم كأن العرب ليسوا من ولده ومنه انتحالهم موسى وعيسى وزكريا ويحيى وأشباههم من بني إسرائيل وليس بين فارس وبين بني إسرائيل نسب عَلَى ما بينت لك ومنه دفعهم العرب عن قربهم بهؤلاء الأنبياء وهم بنو عمومهم وعصبتهم لأن العرب بنو إسماعيل بن إبراهيم بإجماع الناس فهم بنو أخي اسحق بن إبراهيم وأولى به وأحق بشرفه وأولى بموسى وعيسى وداوود وسليمان وجميع الأنبياء من ولده وقال الله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران عَلَى العالمين) فآل إبراهيم هم ولد اسحق وولد إسماعيل ثم قال (ذرية بعضها من بعض) فأعلمنا أن العرب وبني إسرائيل شيءٌ واحد في النسب وفيما أوحى الله إلى موسى: إني سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك أجعل كلامي على فيه: يريد أنه يقيم لهم من العرب نبياً مثل موسى يعني محمد صلى الله عليه وسلم وهذا علم من أعلامه وحجة من حججنا على أهل الكتاب من كتبهم فإن قالوا في ذلك أنه يقيم لهم من بني إسرائيل نبياً مثل موسى وقالوا أن بني إسرائيل بعضهم أخوة بعض أكلبهم النظر لأنه لو أراد ذلك لقال لهم من أنفسهم ومنهم كما أن رجلاً لو أراد أن يبعث رسولاً من خندف لم يقل سأبعث رسولاً من أخوة خندف فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد اسحق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم فإن الديار قد تتناءى والمحال قد تتباين والرجل قد ينكح في البعيد وقد يولد له من الاماءِ ولا تنقطع الأرحام والأنساب وإن كان إسماعيل نطق بالعربية فليس اختلاف الناس في الألسنة يخرجهم عن نسب آبائهم وإخوانهم وعشائرهم فهؤلاء أهل السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرت بالله ولا شيء أقطع للعصمة من الكفر وتكلمت بالرومية ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بمخرجها عن ولادة اسحق بن إبراهيم عَلَى أن إسماعيل لم يكن أول من نطق بالعربية وإنما تعلمها وإنما أصل العربية لليمن لأنهم من ولد يعرب بن قحطان وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن أتبعه من أهل بيته ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشخص حتى نزل الحجر.

حدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي قال اخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال تسع قبائل قديمة طسم وجديس وعهينة وضجم (بالجيم وبالحاء) وجعم والعماليق وقحطان وجرهم وثمود. وحدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا ابن أبي الزناد عن رجل من جرهم قال: نحن بدءٌ من الخلق لا يشاركنا أحد في أنسابنا بقول من قدمنا فهؤلاء قدماء العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان وكانت أنبياؤهم عرباً هود وصالح وشعيب. حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبهٍ أنه سأل عن هود أكان ابا اليمن الذي ولدهم قال لا ولكنه أخو اليمن في التوراة فلما وقعت العصبية بين العرب وفخرت مضر بأبيها إسماعيل ادعت اليمن هودا ليكون لهم والد من الأنبياء. (قال) وأما شعيب من ولد رهط من المؤمنين تبعوا إبراهيم لما هاجر إلى الشام ولم يكن يثبت لهم نسب في بني إسرائيل ولم تكن مدين قبيلة ولكنها أمة بعث إليها فلما بوَّأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل وانبط له زمزم مرت به من جرهم رفقة فرأوا ما لم يكونوا عهدونه وأخبرتهم هاجر بنسب الصبي وحاله وما أمر الله أباه فيه وفيها فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكلم بلسانهم فقيل نطق باليعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب كما تحذف أشياء من الزوائد وغير كما تغير أشياء عن أصولها والدليل على أن أصل اللسان لليمن أنهم يقال لهم (العرب العاربة) ويقال لغيرهم (العرب المتعربة) يراد الداخلة في العرب المتعلمة منهم وكذلك معنى التفعل في اللغة يقال تنزر الرجل إذا دخل في نزار وتمضر إذا دخل في مضر وتقيس إذا دخل في قيس وقال الشاعر: وقيس عيلان ومن تقيسا ولو كان كل من تعلم لساناً غير لسان قومه ونطق به خارجاً من نسبهم لوجب أن يكون كل من نطق بالعربية من العجم عربياً (وسأقول في الشرف باعدل القول وأبين أسبابه ولا أبخس أحداً حقه ولا أتجاوز به حده) فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تدعيه لها جهلتها واثني أعنتها عما تقدم إليها سفلتها واختصر القول واقتصر على العيون والنكت ولا اعرض للأحاديث الطوال في خطب العرب وتعداد أيامها ووفدات أشرافها عَلَى ملوك العجم ومقاماتها فإن هذا وما أشبهه قد كثر في كتب الناس حتى اخلق ودرس حتى مل لا

سيما وأكثر هذه الأخبار لا طريق لها ولا نقلت من الثقات والمعروفين أيضاً تخبر عن التكلف وتدل عَلَى الصنعة وأرجو أن لا يطلع ذوو العقول وأهل النظر مني عَلَى إيثار هوى ولا تعمدٍ لتمويه وما أتبرأ بعده من العترة والزلة إلا أن يوفقني الله وما التوفيق إلا به. وعدل القول في الشرف أن الناس لأب وأم خلقوا من تراب وأعيدوا إلى التراب وجروا في مجرى البول وطووا على الأقذار فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع أهل العقول عن التعظم والكبرياء ثم إلى الله مرجهم فتنقطع الأنساب وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه تقوى الله وكانت ماتته طاعة الله. وأما النسب الأدنى الذي يقع فيه التفاضل بين الناس في حكم الدنيا فإن الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض وفي الأرض السهل والحزن والأحمر والأسود والخبيث والطيب يقول الله عز وجل (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) فجرت طبائع الأرض في ولده فكان ذلك لاختلاف غرائزهم فمنهم الشجاع والجبان والبخيل والجواد والحي والوقاح والحليم والعجول والدمث والعبوس والشكور والكفور وسبباً لاختلاف ألوانهم وهيآتهم فمنهم الأبيض والأسود والأسمر والأحمر والأقشر والوسيم والخفيف على القلوب والثقيل والمحبب إلى الناس من غير إحسان والمبغض إليهم من غير ذنوب وسبباً لاختلاف الشهوات والإيرادات فمنهم من يميل به الطبع إلى العلم ومن يميل به إلى المال ومن يميل به إلى اللهو ومن يميل به إلى النساء ومن يميل به إلى الفروسية. ثم يختلفون أيضاً في ذلك فمنهم من يسرع إلى فهمه الفقه ويبطئ عنه الحساب ومنهم من يعلق بفهمه الطب وينبو عنه النجوم ومنهم من يتيسر له الدقيق الخفي ويعتاص عليه الواضح الجلي ومنهم من يتعلم فناً من العلم فيرسخ في قلبه رسوخ النقر في الحجر ويتعلم ما هو أخف منه فيدرس دروس الرقم عَلَى الماء ومن طلبة المال من يطلبه بالتجارة ومن يطلبه بالجراية ومن يطلبه بالسلطان ومن يطلبه بالكيمياء فيتلف بالطمع الكاذب والتماس المحال اثلة المال ومن طلبة النساء من يريد المهفهفة ومن يريد الضناك ومن يريد الغرة الصغيرة ومن يريد النصف الوثيرة وأعجب من هذا من ربما حبب إليه العجوز قال الشاعر:

عجوز عليها كبرة وملاحة ... اقاتلتي يا للرجال عجوز عجوز لو أن الماَء ملك يمينها ... لما تركتنا بالمياه نجور ومن لؤم الغرائز أن من الناس من يحب الذم كما يحب غيره المدح ويرتاح للهجاء كما يرتاح غيره للثناء ومنهم من يغري بذم قومه وسب نفسه وآبائه وشتم عشيرته منهم عميرة بن جعيل التغلبي وهو القائل: كسا الله حي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم اصغاراً بطيئاً نصولها ومنهم الحرمازي وهو القائل: إن بني الحرماز قوم فيهم ... عجز وتسليط عَلَى أخيهم فابعث عليهم شاعراً يخزيهم ... يعلم منهم مثل علمي فيهم ومنهم القحيف وهو القائل في أمه: ياليتما أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار ليست بشبعى ولو أسكنتها هجراً ... ولا بربا ولو حلت بذي قار تلهم الوسق مشدوداً اشظته ... كأنما وجهها قد طلي بالقار خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته ... وهي صناع الأذى في الأهل والجار (لها بقية)

شذرة ذهب

شذرة ذهب من فن الأدب من كلمات اللغة العربية ما يدل عَلَى أصل المعنى. ومنها ما يدل على المعنى نفسه مع زيادة قيد أو شرط أو وصف حالة. مثال الأول أن تقول (افتخر) زيد فإنه يفيد أصل معنى الافتخار. ومثال الثاني أن تقول (تنفخ) زيد فإن معناه الافتخار وشيء آخر زائد: وهو أن يفتخر الإنسان بما ليس عنده أو بصفة ليست فيه. أو يفتخر أحياناً بأكثر مما عنده. فيكون كريماً بالجملة مثلاً ثم يصف من كرمه وجوده أكثر من الواقع ومما يعلمه الناس فيه. فحينئذ يقال عنه أنه تنفخ. وقريب من معنى المتنفخ (الفتحة) ـ بضم الفاء وفتح التاء. وقالوا في معناه أنه الرجل الذي يتنفخ في المجالس ويكثر من ذكر ما أُوتيه من ملك وأدب يتطاول بذلك عَلَى الحاضرين. ومثل (تعلم) فإنه يفيد أصل التعلم. أما إذا قلت (أَخصى) فإنه يفيدنا زيادة معنى في التعلم. هو أنه تعلم علماً واحداً كأن يتعلم فن الطب وحده أو الكيمياء وحدها ولا يلقى باله إلى غيرها من العلوم. مثل هذه الأوصاف أو الأفعال التي تدل على معنى مركب يجب أن نعنى بها ونجمع منها طائفة للقارئ والكاتب. قد تريد أيها الكاتب أن تصف إنساناً بكونه متقلباً لا يثبت عَلَى رأي واحد فتارة يتبع رأي هذا. وطوراً رأي ذاك. فتفكر كثيراً في كلمة تدل عَلَى هذا المعنى المركب. ولكنك إذا حفظت كلمة (إمعة) ـ بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة ـ فإنك تستعملها وتقول. فلان لا بأس به ولكنه إِمعة تريد أنه لا رأي له وإنما يتابع كل إنسان عَلَى رأيه. وقد تريد أن تصف صاحبك بأنه لا يثبت عَلَى صداقة أحد فهو يؤاخي هذا يوماً ويمله. وينتقل إلى مؤاخاة الآخر وهكذا. تريد وصفه بذلك فيعيبك الأمر وربما سردت لبيان هذا المعنى جملاً طويلة عريضة ولكن العرب يقولون لا تثق بفلان فإنه مقطاع أي لا يثبت عَلَى مؤاخاة أحد. وقد تحاول وصف بعض معارفك بأنه كسول لا ينشط إلى الكسب ولا يسعى في طلب معاشه فيضيق عليك الوصف أما إذا تعلمت كلمة (لبد) عَلَى وزان (كتف) فإنك تصفه به

وتقول أن صاحبي فلان لبد لا يبرح منزله ولا يطلب معاشاً لنفسه وقريب من كلمة (تنفخ) التي معناها افتخر بما ليس فيه كلمة (ابتهر) هو أن يقول المرء فعلت كذا وأفعل كذا وهو لم يفعل شيئاً مما ادعى. وكثيرون يدعون فعل مالم يفعلوا فيضيق المرءُ ذرعاً بالواحد من هؤلاء ويريد أن يوجز في وصفه وفي الأخبار عنه بكلمة واحدة فأرى له أن يقول: دعونا من فلان فإنه يبتهر في كل ما يقول. أما إذا كان المرءُ يقول فعلت الشيءَ ويكون قد فعله صدقاً. فهل من كلمة تدل عَلَى هذا المعنى؟ تدل عليه كلمة (الابتيار): فإذا قلنا فلان يبتار كان معناه يقول ويفعل لا كصاحبنا الأول الذي يبتهر ابتهاراً. وقد جمع الأعشى الشاعر الكلمتين في قوله: قبيحٌ بمثلي لفت الفتا ... ة إِما ابتهاراً وإما ابتيارا يقول أنه لا يليق بأدبه أن يعرض بالفتيات ويأخذ في سرد حوادثه مع أوانس الحي: فيقول كان من أمري مع فلانة كذا وخبري مع فلانة كذا: فهو لا يبتهر ولا يبتار ولا يقول عن الفيثات شيئاً صادقاً أو كاذباً. فليتق الله ازيار النساء وليأنسوا بالأعشى فإنه موضوع للأسى. ويعرض لك أحياناً أن تقول: إن القاضي كان يكلم المدعى عليه أثناء المحاكمة بغيظ وغضب. فبدل أن تأتي بكلمتين تقول كان (يدمدم عليه) أي يكلمه بغضب واراك تتهيب استعمالها لأول الأمر ثم لا تلبث أن تأنس بها ويألفها سمعك فتشيع وتروج بين الكتاب. وإذا مات امرؤ في ميعة الشباب وصحة الجسم وأردت أن تخبر بذلك فقل مات فلان عبطة. أي شاباً صحيحاً. واعتبطه الموت. وقد تعيب آخر بكونه يشبه النساء في شدة تزينه وتنعمه فتأتي في وصفه بكلام كثير. والأجدى لك أن تقول لا يعجبني فلان فإنه يتزلق. قالوا ومعناه أن يتزين وينعم حتى يكون الونه وبيض أي لمعان ولبشرته بريق. وإذا أردت أن تثني على صديقك بأنه ينفق عَلَى ذوي رحمه الفقراء ويكفيهم ذل السؤال تقول أنه (يعوله) ولكن هناك كلمة أخرى لا أرى بأساً في استعمالها وهي ن تقول أنه (يقعدهم) ـ بتشديد العين ـ أي يقوم بأمرهم ويكفيهم مؤونة الكسب وأحسبك تفضل (يعول) عَلَى (يقعد) وتقول أنها أخف منها على السمع. نعم ولكن الاستعمال كفيل بصقلها

وإدنائها من الذوق. والمرأة التي تبغض زوجها ماذا يقال لها؟ يقال لها (فارك) أما إذا كانت تحبه فتسمى (العلوق) وقالوا أنها التي لا تحب غير زوجها. وإذا مر موكب في الشارع ورأيت امرأة تنظر إليه من نافذة بيتها وتمد عنقها مبالغة في المد فقل أنها (تتلع) أي تمد عنقها متطاولة. وإذا رأيت صاحبك يمشي الهوينا وينسحب انسحاباً وأردت أن تحكي عنه تقول أني رأيته (يتخزل) أي يمشي وهو متثاقل في مشيته. وإذا كان صاحبك المذكور مولعاً بمعاشرة النساء والجلوس أليهن فقل عنه أنه (عل). وقالوا في تفسير أنه الذي يكثر زيارة النساء. والراهب لا تعرف له اسماً غير اسمه هذا ولكنني أذكرك باسم آخر ربما فاقه رشاقة وحسناً وهو (الابيل) وقالوا في معناه أنهُ الراهب المنقطع عن النساء. ومن كلامهم فلانة لو أبصرها الابيل لضاق به السبيل وما أحلى ما قاله محي الدين بن العربي في هذا المعنى: لو أَنها برزت لأشمط راهب ... فاق العباد عبادة لو أنها واتت لتطلب منه ما خلقت له ... متذكراً نهي المسيح لما انتهى لم يدع ابن العربي وجهاً من أوجه الحسن اللفظي والمعنوي إلا أودعه بيتيه هذين: وقوله لو أنها في آخر البيت لأفادة استبعاد أن تبرز تلك الفتاة من خدرها وهذا يستلزم أن تكون حصاناً عفيفة. وقوله لتطلب منهُ ما خلقت له غاية في نزاهة التعبير ولطف الإشارة. وقوله متذكراً نهي المسيح مما يؤكد حسن تلك الفتاة فضل تأكيد. وأن جمالها يملك النفس ويخدر الحس. ويوجد أناس يتركون اللحم فلا يأكلونهُ. فإذا أردت أن تخبر فلاناً من هؤلاء القوم. وبحثت عن كلمة واحدة تؤدي هذا المعنى المركب دللتك عَلَى قولهم فلان (يتنحس) بالحاء المهملة عَلَى وزن يتكلم أي ترك أكل اللحم. وإذا ترك التلميذ المذاكرة ومطالعة دروسه ومال إلى البطالة والكسل ماذا تسمي عمله هذا؟ تسميه (تناوة) وقالوا في تفسيرها أنها ترك المذاكرة وهجران المدارسة. وإذا كان التلميذ نفسه قد اعتاد عادة قبيحة وهي أن يغمض عينيه ويفتحهما دواليك وأردت أن تنهاه عن ذلك فقل له دع هذه العادة يا بني ولا ترضك عينيك أي لا تغمضهما

وتفتحهما. وهو رباعي وماضيه أرضك عَلَى وزن أكرم. وإذا لامك لائم على شيء لم تفعله فقل أنهُ (يتذقح) لي أي ينسب إلي ذنباً لم أفعله ومثله (يتجرَّم) وكلاهما عَلَى وزن يتكلم ومثلهما يتجنى فلان عَلَى فلان. وإذا وقح الرجل وقل حياؤه فلم يعد يبالي ذمهُ الناس أو مدحوه. رضوا عنهُ أو سخطوا عليه. فذهب في ارتكاب المآتم واجتراح السيئات كل مذهب ماذا تسميه؟ يسمونه (مستولغ) وفسروها بأنه الرجل لا يبالي ذماً ولا عاراً. وهناك تعبير آخر يفيد هذا المعنى. وهو قولهم أن فلاناً (يلحم الناس عرضه) أي يمكنهم من عرضه بما يفعله من المقاذر والمخازي فيقعون فيه ويطعنون عليه. فكأنه بذلك جعل عرضه لحماً أطعمهم إياه. وأكل لحم الغير كناية عن اغتيابه والنيل من عرضه. ومنه قوله تعالى (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً). وإذا مهدت لك أسباباً حملتك بها على سب فلان وشتمه كنت قد ألحمتك عرضه. وورد (إن الله يبغض البيت اللحم) بكسر الحاءِ على وزن كتف. وفسروه بالبيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بغيبتهم والاستطالة في أعراضهم. وكان للوليد بن عبد الملك ولد يقال له العباس. ولم يكن في أطواره وأخلاقه كشبان بني مروان بل كان امرأَ صدق يتشبه بعمر بن عبد العزيز فقال يخاطب قومه ويحثهم عَلَى الاتحاد والإقلاع عن الفجور ومخالفة الدين. ان البربة قد ملت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا لاتلحمن ذئاب الناس عرضكمو ... إِن الذئاب إذا ما أُلحمت رتعوا فقوله (لا تلحمن) بضم التاءِ وكسر الحاء وتشديد الميم المضمومة خطاب للجميع وقد حذفت واوه لاتصالها بنون التوكيد. أي أن الناس كالذئاب فإذا مكنتموهم من الوقيعة فيكم لا يقصرون كما الذئاب إذا رأوا فريسة أغروا بها ونهشوا منها. ومن الناس من يقابل الآخرين بذكر ما يؤلمهم ذكره. ويصف من أحوالهم ما يحملهم به عَلَى كره الحياة بل كراهة أنفسهم. فهذا الرجل الذي يفعل بالناس كذلك يسمى (أَجوم) عَلَى وزن جسور ويقال أنه يؤجم الناس ـ بتشديد الجيم ـ أي يكره إليهم أنفسهم. وهو مشتق من أجم الطعام وغيره إذا كرهه ومله. وقد قام في زماننا قوم ينقصون العرب. ويصغرون من شأنهم وآخرون يفعلون كذلك

بالمسلمين فماذا تسمي الأولين؟ وماذا تسمي الآخرين؟ الأَولون يسمون (شعوبية9 والواحد منهم (شعوبي) وقالوا في تفسير الشعوبية أنهم الذين يحتقرون العرب. والآخرون يسمون (دققة) ـ بفتح القافين ـ وقالوا أنهم الذين يظهرون عيوب المسلمين. أما (دققة) فطاهر أنه مشتق من دقق نظره في الشيء إذا تأمل فيه. وبحث في ما خفي عليه من أمره. ومن يكره المسلمين يفعل ذلك وينقب عن مساويهم ليشهر بها ويشنع عليها. وأما الأولون مبغضو العرب فلماذا سموا (شعوبية)؟ سموا بذلك نسبة إلى الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو الجماعة الكبيرة من الناس غير العرب. أما الجماعة الكبيرة من العرب فتسمى قبيلة كما أن الجماعة الكبيرة من بني إسرائيل تسمى سبط. فالقبائل للعرب. والأسباط لليهود. والشعوب لغير هؤلاء وأولئك. ومنه قوله تعالى في صدد الامتنان عَلَى البشر (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). وكتب المعتمد بن عباد أحد ملوك الأندلس إلى يوسف بن تاشفين ملك المغرب يستنجده عَلَى الاسبانيول ـ (فأنا نحن العرب في هذه الأندلس قد تلفت قبائلنا. وتفرق جمعنا. وتغيرت أنسابنا. فصرنا فيها شعوباً لا قبائل. وأشتاتاً لا قرابة ولا عشائر) الخ. فانظر كيف قال أنهم تلفت قبائلهم فلم يعودوا قبائل وإنما أصبحوا شعوباً أي جماعات أعجمية. وذلك بسبب فقدهم مزايا العرب وكريم خصالهم التي منها النجدة والنعرة في حماية الذمار. والدفاع عن الجار. أما الكتاب اليوم فقلما يفرقون بين (الشعوب) و (القبائل) وإنما يستعملونها في مطلق الجماعات من أي جنس كانوا. ولما كانت شعوب الأعاجم تحط من قدر قبائل العرب عادة سمي كل من يحتقر أمر العرب (شعوبي). اسكلة طرابلس الشام المغربي

استعمار الهند

استعمار الهند معربة عن المجلة الزرقاء الفرنسوية أحدث ما يقوم به الهنود في العهد الأخير م مقاومة حكومتهم قلقاً وهلعاً وذلك أن الثورة تضطرب لهزتها أعصاب إمبراطورية الهند والقوم هناك يدعون إلى الاستقلال جهاراً حاملين العلم الأحمر ويقوم الدعاة من كل مكان يوقدون جذوة التعصب والتحزب ولا يستنكفون من إتيان كل منكر من قتل النفوس وإهراق الدماء. قويت هذه الحركة وامتدت دون أن يعوقها عائق لأنه لم يهتم بها أحد في مبدأها لغرابة أمرها ولأنها ظهرت غير متناسبة مع حال العقول في الهند. ولئن كان جمهور موظفي الحكومة الإنكليزية هناك عَلَى جانب من طهارة الوجدان والعلم والتهذيب والتجارب إلا أنهم لم يحسبوا لهذه الحركة حسابها ووهموا في نتائجها وفلتهم عَلَى ما عرفوا به من الذكاء إن ما دعا إلى ذلك غلطات لهم ارتكبوها فنشأ عنها ما نشأَ. وللوقوف عَلَى الصلات المتبادلة بين الحكام الانكليز والمحكومين الوطنيين من الهنود يجب أن نبين الأسس التي قامت عليها الإدارة البريطانية في شبه جزيرة الهند فنقول: إن الهند أوسع من أوربا فمساحتها 4، 894، 000 كيلو متر مربع وسكانها 266 مليوناً وأهلها خليط من الناس ما كانوا ولن يكونوا أمة برأسها. قال الفرد ليل: كل من أراد أن يحكم عَلَى امرئٍ بالحكومة التي تحكمه والبلاد التي ينزلها لا يكون حكمه إلا ناقصاً إذ يجهل بذلك طبيعة الحكومة التي تحكمه لا يفيد شيئاً في معرفته نفسه لأن الحكومة نتيجة أحوال عارضه وتدبير موقف اه. لما استولى الانكليز عَلَى الهند عقيب أن دالت دولة المغول ورفع عن بعض ارجائها علم الفرنسيين لم يجدوا أمامهم حكومة وطنية في البلاد ولا جماعة اجتمعوا لتدبير شؤونهم تربطهم المصلحة المشتركة بها بل رأوا هنا وهناك عصابات غير طبيعية نشأت بالاتفاق بطبيعة الفنح وظلت بطبيعة الحال عبارة عن مجتمعات منفصمة العرى تجمع تحت لوائها ملايين من الناس في أماكن متباينة وكان لهذه الأنوام بحسب مكانتها زعماء يقودونها اسموا أنفسهم أمراء وراجات ونواباً وسلاطين وامبراطرة ولم تتغير هذه الصورة من الحكومة منذ الأعصر التي استولى فيا الفرس والمقدونيون والبارثيون والتتار والمغول وغيرهم عَلَى

تلك القارة. ومع ما نراه من حال ذاك الشعب المهزع المنتشر الأطراف الخالي من كل جامعة قد انشأ له مدينة باهرة دامت قروناً تنير العالم بدائعها وظلت إلى يوم الناس هذا لم تمسها يد بسوءٍ. فارتبط الهنود من الشمال إلى الجنوب من جبال حملايا إلى رأس كومور برباط واحد وعملوا بقلب واحد وتبعوا بروح واحدة تدفعها الثبات الذي لا يوصف والغاية المشتركة التي وجهوا كلهم وجهتهم إليها وذلك أنهم لم يرموا إلى غرض سياسي ولا إلى غرض اقتصادي بل لأن المجتمع الذي ألفوه ورتبوا درجاته لم تكن غايته زمنية دنيوية بل كانت دينية فاستقام الأمر للمستعمرين لأن القوم لا تهمهم السياسة ولأن النواب والراجات المغلوبين عَلَى أمرهم ليست لهم أصول راسخة في البلاد ولا منزلة في قلوب الأمة فكان الدين هو الذي يحرص القوم عَلَى بقائه والانكليز أحرص الناس على احترامه ولا سيما بين طبقات البراهمة التي كان لها تأثير شديد في العامة. أدرك الانكليز في الحال صراحة بأنهم في حلّ من أن يؤسسوا في الهند الحكومة التي تروقهم من حيث الإدارة والنظام السياسي والتشريعي على أن لا يمسوا المعتقدات ولا رجال الدين بسوء فانشأوا حكومة جديدة سموها حكومة الاستقلال ولم يراعوا في تأسيس هذه الحكومة أصول الشعوب إذا كان هنا البنغاليون الجياع وهناك الباهراتيون الشجعان وفي مكان أبعد سكان ميزور وفي المقاطعات الأخرى السيخيون النشيطون فتجد الفلسفة العالية والتصوف البديع إلى جنب الخرافات المستحكمة والتعصب الشديد بل راعوا اختلاف طبائع الأقاليم من حيث وضعها الطبيعي عملاً بما قاله أحد رجالهم من أن الاختلاف في أصقاع الهند أشد مما تراه في ظاهر أرضنا وسياراتنا من المشاهد. ولم ير المستعمرون من مصلحتهم أن يؤلفوا وطنية هندية فيكون لسكان بنجاب وبنغل وطنية خاصة بل عزموا عَلَى توسيع الاختصاص وتقسيم البلاد في إدارتها عَلَى خلاف ما جرت عليه فرنسا في ربط البلاد كلها بالعاصمة مباشرة لأنها ترمي إلى تجنيس أهل البلاد المستعمرة بالجنسية الفرنسوية. وبعد تجارب طويلة تمت لانكلترا سنة 1861 صورة الهند وكانت هذه الصورة معدلة منظوراً فيها وهي الصورة التي جرت عليها شركة الهند الشرقية سنة 1773 واستصدرت بها قانوناً من مجلس النواب فقسمت الهند أولاً إى ثلاث

ولايات بنغال ومدراس وبومباي دعوها رئاسات لأن إدارتها كانت بيد مجلس ينشر القوانين وينفذ القرارات وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهو دور الحروب والمنازعات الهائلة رأت انكلترا من الضرورة أن توحد الإدارة السياسية مع الإدارة الحربية لتقوية كل منها فعهدت سنة 1773 بولاية الهند لحاكم بنغال بحيث يكون له التقدم عَلَى حاكمي مدراس وبومباي ولكن ولايته اسمية لا فعلية فأخذت الولايات الثلاث تضيع الوقت في الأخذ والرد والإدارة مختلة الأساليب لا ترجع إلى يد تضم شملها حتى إذا كانت ثورة السيباي سنة 1857 وهي التي كادت تخرج انكلترا من الهند وضعت الحكومة صورة إدارة كانت أساساً للإمبراطورية الهندية وهو عمل إداري لم توفق إليه أمة ولم يخطر في خاطر حاكم. فقسمت أراضي الهند إلى طبقتين جوهريتين أراضي السلطنة البريطانية أي البلاد التي تحكمها انكلترا مباشرة وهي عبارة عن ولايتي مدراس وبومباي اللتين بقيتا عَلَى ما كانا عليه في حدودهما وولاية بنغال وقاعدتها كلكوتا جعلت عاصمة المملكة وقسمت إلى ثماني مقاطعات لها حق الانتخاب. والطبقة الثانية إمارات الوطنيين التي تركت تحت سلطة الراجات الاسمية أو الفعلية فقسمت إلى قسمين في وضع الحماية الانكليزية عليها وبذلك صار الحكم للوالي العام والرئاسات وحكومات الولايات والإمارات الوطنية. ولحاكم الهند أو نائب ملكها مجلس مؤلف من ستة وزراء لهم معاونون وفي بعض الأحيان ولا سيما عند سن القوانين يضطر إلى أخذ آراء المجلس وله الحرية أن يعمل بها أو يرفضها وهؤلاء الوزراء يشبهون من وجوه كثيرة وزراء لويس الرابع عشر لا وزراء ادوارد السابع وهم وزير الداخلية والخارجية والمالية والمعارف والتجارة والحربية والعدلية والأشغال العمومية ويحق لواليي مدراس وبومباي أن يحضرا في المجلس عضوين فوق العادة وهذا المجلس الوزاري يجتمع في المكان الذي يستني الحاكم العام فحيثما التأم فهناك العاصمة. ويضاف إلى هذا المجلس بعض الأعضاء فيصبح برلماناً أي مجلس نواب فيكون نصف هؤلاء الأعضاء الإضافيين من الأعيان أوربيين كانوا أو وطنيين عَلَى أن لا يكونوا من موظفي الحكومة يعينهم الحاكم العام فبذلك يصبح العنصر الرسمي في هذا المجلس أكثر من العنصر الأهلي وهذا العنصر قليل العدد ولذلك لا حكم له ومعاونته في

الأغلب. أما المجلس التشريعي فله سلطة واسعة لا يقف أمامها إلا امتيازات البرلمان البريطاني وحقوق السلطنة الانكليزية وتفقد قراراته عند ما يصدق عليها حاكم الهند. وهذه الطريقة التي تسهل إحالة السلطة الإجرائية إلى السلطة التشريعية تحل مسألة تقسيم الإدارة عَلَى ليسروجه في حين تمنحها وحدة الآراء والأميال. وفي مجلس النواب كما في مجلس الوزراء يعمل كل عضو بما فيه المنفعة العامة وينظر في المسائل التي يحسن معرفتها بخلو غرض ويعطي رأيه حراً وللموظفين ضمانات لا تضر بالنظام ولكنها تقي أشخاصهم كل الوقاية. وبعد فإن الحكومة العامة تنظر خاصة في المسائل الملكية كالديون العمومية والكمارك والرسوم الأميرية والمقايضات والبريد والبرق ونفقات الحربية والأديان وقانون الجزاء والباتنتا والعلائق الخارجية والحقوق الأدبية وغيرها فتوجه دفة السياسة إلى الوجهة التي تختارها وتوحد بين المصالح العامة والخدم العامة فهي المنظمة والمدبرة وحافظة العهد الدستوري أما ولاة الأقاليم فلكل منهم مجلس خاص ومجلس تشريعي لا تسري أحكامه عَلَى أحكام الحاكم العام كما ن هذا لا يتعدى عَلَى امتيازات الإمبراطورية وما عدا ذلك فالحكومة مالكة حريتها برمتها ولها مطلق التصرف أن تقرر ما تشاء. ويخاطب واليا مدارس وبومباي لندرا مباشرة ويناولان التعليمات بأنفسهما أما سائر الولايات فإدارتها ترجع إلى ولاة وبعضها إلى متصرفين يعينهم الحاكم العام ويتناولون رواتبهم من الإمبراطور ويختارهم من الموظفين الذين قضوا عشر سنين في الهند على الأقل وهم يخابرون كلكوتا في شؤونهم ولكن في الأمور الإدارية ولهم سلطة كسلطة والي مدراس وبومباي ولهم الميزة عليهم بأنهم أكثر خبرة ونفوذاً. أما الجيش فيؤلف من جيش عامل ن الأوربيين والهنود ويقدر بمائتين وسبعين ألفاً منهم ثلاثة وسبعون ألفاً من الانكليز ومن جيش مساعد تقدمه الإمارات الوطنية المستقلة عدده 380 ألفاً ولكن على الورق فقط وعنده أربعة آلاف مدفع وإذا استثني من الجيش العسكر الانكليزي وبعض الالايات كالسيخيين والباتام والغوركا فالجيش الهندي لا يساوي شيئاً. وإذا استثني من الجيش المساعد فيلق مملكة الكواليور لا يساوي شيئاً أيضاً. قال أحد

كبارهم أن هذا الجيش عبارة عن خليط من الأوباش لا علم له بالتدريب الحربي وليس لديه سلاح منظم وإن الايين أو ثلاثة من جيشنا مع بطارية خيالة تمزق شمل خمسين ألفاً من مثل هؤلاء المحاربين فمجموع هذا الجيش العامل وقدره سبعمائة ألف مع الجيش الاحتياطي هو عبارة عن تضليل يزول كالسراب أو كالدخان عند مداهمة الخطر. وتقسم كل ولاية وارداتها مع الولايات العامة عَلَ نسبة محددة وتقوم بنفقات القضاء والمعارف والأشغال العمومية وإعانة البائسين ولكل ولاية الحق في أن تستلف نقوداً على واردات خمس سنسن تصرفها في الطرق التي تراها نافعة لعمران ولايتها وتقتصد ما تشاء وفي الهند أربع محاكم عالية في بومباي وبنغال والشمال الغربي ومدارس تميز إليها أهم الدعاوي المدنية والجزائية وينتخب أعضاؤها من قبل السلطنة الانكليزية ويقبض كل عضو من مئة إلى مائتي ألف فرنك راتباً سنوياً وفي كل حاضرة ولاية محكمة استئناف ومحكمة جزاء نقالة ثم محاكم المقاطعات ويعمدون تارة إلى استعمال قانون لندرا وإذا وقع اختلاف بين أوربيين من رعايا انكلترا يطبقون عليهم القانون الهندي وأحياناً قانون الجزاء الانكليزي الهندي. ومأمورو الإدارة الملكية عبارة عن 765 موظفاً فيكون بذلك موظف واحد لكل ربع مليون ساكن وتحت أيديهم صغار الموظفين من الوطنيين. ومن مبدأ انكلترا في الهند أن تبقي جميع الوظائف الكبرى في أيدي الأوربيين وتعطي جزءاً مهماً منها للوطنيين ولا ترى الحكومة أن تقبل أحداً من رعاياها الهنود وتجعلهم انكليزاً في جنسيتهم وهم يهزأون من فرنسا التي جنست رعاياها في بوندشيري بجنسيتها وأعطتهم حق الانتخاب لإرسال نواب واعيان. أما الإمارات الهندية المستقلة فهي منقسمة إلى طبقتين تقل في الأولى السلطة الانكليزية عليها ومنا الإمارات الإسلامية التي تركت وشأنها لأن ذلك اقصد في النفقة عليها ولكن حالتها إلى الزوال لأدنى إشارة تصدر من الحاكم العام ثم أن أمراء تلك الإمارة الإسلامية هم غرباء ويدينون بدين يكرهه السواد الأعظم من رعاياهم فهكذا تجد في مملكة النظام مملكة حيدر آباد الدكن. تسعة ملايين من البراهمة لقاء مليون من المسلمين وفي سائر الممالك المستقلة خمسون مليون برهمي أما ممالك كواليور واندور وبارودا فليس لها من

المهراتية إلا الاسم لأن امراءَها هم دخلاء عليها. أما ممالك الطبقة الثانية من الوطنيين فتختلف عن هذه كثيراً ومن الممالك ميزور وراجبوتانا وترافانكور وجيبور وجوبور وملوكها هم من البراهمة ولئن ترى الحكومة من الحكمة أن تضيق خناقهم وهي لا تخافهم ولكنها لا تركن إليهم إلا قليلا قال جايمس ستيفن: إن الانكليز في الهند هم نواب تمدن محارب وسلام تدعمه القوة وما من بلاد نظمت شؤونها وحالفتها الدعة والراحة مثل الهند البريطانية ومتى خفت شدة الحكومة يكر نظام الهند كأنه مأخوذ بسيل جارف اه. وتنقسم درجات التعليم في الهند إلى ابتدائي ووسط وعالٍ وهو النقطة الضعيفة من ذاك البناء الانكليزي الهندي البديع. إن من يسكنون البلاد الواقعة بين نهر الاندوس وشاطئ كورومانديل ويطلقون عليهم اسم الهنود يجب أن يجعلوا م الشعوب التي تشمئز من الغريب وتعاديه شأن كل الشعوب التي لها تاريخ قديم وفلسفة معروفة وتمدن خاص بها وهذا يصدق عَلَى الأكثرية من البراهمة كما يصدق عَلَى الأقلية من المسلمين فالبراهمة يرون من واجباتهم أن لا يحيدوا قيد شبر عن تعليم أولادهم الصنعة التي يعلمها آباؤهم بالإرث وتلقيهم الفروض الاجتماعية والعالمية والدينية التي تصدر عن زعمائهم وإن جزءاً من هذا الشعور ليتعلمه الطفل بالفطرة والتقليد وباقيه يحصله في مدرسة قريته أو يأخذه عن رئيسه الديني مع ما يأخذ من آداب أمته ودينها فيملأ ذهنه بالتراكيب المبهمة والصلوات ولا سيما صلاة الغداة ومعناها: لنعبد النور السامي من هذه الشمس ربة كل وجود في الوجود التي تقود فكرنا كما تقود عين معلقة بقية السماوات. أما التعليم الحديث فإن رب الأسرة يدفعه عن أسرته مشمئزاً بقدر ما كان يشمئز لاوكون من هدايا اليونان ويرفضها ولذلك يعز عَلَى البراهمة أن يخونوا مبادئهم المقدسة وأكثر ما يحذرونه من الأمور التي يحملها إليهم الغرب المدرسة فإن شيئاً خفياً في فطرتهم يدعوهم في السر: إياكم والمدرسة الانكليزية فهي عدوتكم. وعَلَى هذا حارت انكلترا في سياسة التعليم التي تجري عليها بين البراهمة لأنها لا تستطيع أن تعلمهم التعليم الأوربي إلا إذا أضرت بمعتقداتهم الدينية ومعتقدهم هو وطنيتهم وهي لا تريد أن يخرجوا عنها حتى إن انكلترا اضطرت سنة 1840 أن تجيب مطالب ثلثمائة ألف

رجل اجتمعوا في سهل بنارس يقيمون الحجة عَلَى الرسوم التي تريد وضعها على البيوت وعزموا أن يهلكوا جوعاً أو تجيبهم الحكومة إلى إلغاء هذه الرسوم فأجابتهم مكرهة مخافة أن يحدث وباءٌ فإذا عادت روح الاعتصاب وسرت في أعصاب مائتي مليون رجل لمقاومة سياسة التعليم ماذا تعمل بريطانيا؟ ولم تر انكلترا اسلم لها من تلقين الهنود مبادئها بالتدريج على أن تعلمهم ما تعلمه أبناءها في عاصمة الجزائر البريطانية وتشربهم حب الانكليزية عَلَى شرط أن لا يحيدوا عن جادة الإخلاص لها ولا يسيئوا استعمال المفتاح الذي تسلمهم إياه ويستخدمونه لفتح الباب في إيذائها والمسألة لا تخلو من إشكال أيضاً فيما يتعلق بأهل الطبقة العالية من المسلمين فقد جاء في أحد التقارير عن الهند ما نصه: إنا إذا صرفنا النظر عن الأسباب الاجتماعية والتاريخية في الشعب الإسلامي في الهند نرى لانحطاطهم أسباباً ذات شأن لها علاقة بتربيتهم التي تؤثر في حياتهم فتعليم الجامع يجب عندهم أن يكون سابقاً دروس المدرسة ولا يتيسر أخذ الطفل من المسلمين إلا بعد أن يقضي بضع سنين في مدرسة يتعلم فيها اللغة العربية والفقه الإسلامي ولكن تعليم المدرسة الدينية يقوده إلى أن يختار الخدم الدينية مؤثراً لها عَلَى أربح المسالك والأعمال. وقد أيدت التجارب هذه الملاحظة إذ حدث أن حب الوظائف العامة قد أثر قليلاً في المسلمين في الهند وظلوا يقاومون التعليم الانكليزي كل المقاومة ولحسن طالعهم لم تعن الحكومة الانكليزية بأن تجعل المسلمين أوربيين كما حرصت عَلَى جعل الهنود كذلك ورأت انكلترا أن تنقذ الطبقة العالية من الهنود من الأوهام القديمة لتستخدم منهم أناساً في الإدارة والقضاء والمالية وقد رأَى اللورد ماكولى سنة 1835 على ما فيه من العقل الذي أثر تأثيراً سيئاً في الهند أن من الواجب تعليم اللغة الانكليزية في مدرسة شبان الهنود من أرباب الطبقات المختلفة لترشيح الانكليزية من الأعلى إلى الأدنى وكان يقصد من ذلك أن يأخذ ما يلزم للبلاد من الموظفين من أهل البلاد أنفسهم. وفي سنة 1854 أنشأت انكلترا ديوان المعارف العمومية فعنيت بإدخال اللغة (الانكليزية) إلى مدارس بنغال وبنارس ونظمت مدارس الوطنيين مع محافظتها لها عَلَى صفاتها الخاصة وفي سنة 1857 أثمرت البذرة التي وضعها لورد ماكولي في تربة الهند فأسست

ثلاث كليات في كلكوتا وبومباي ومدارس عَلَى مثال الكليات الانكليزية فيها أنواع الراحة والرفاهية وتدرس فيها الدروس التقليدية وأنشئت في حاضرة كل مقاطعة مدرسة عالية وفي المدن الصغرى مدارس وسطى ثم أُنشئت كليات لاهور لإقليم بنجاب والله آباد لإقليم الشمال الغربي وساغ للمتخرجين من تلك الكليات أن يتدرجوا في المراتب مثل من تخرجوا من كليتي أكسفورد وكمبردج. فتخرج من تلك الكليات أناس من أرباب الذوق والأدباء والمشرعون وقل في المتخرجين العلماء إذ لاحظ السير هنري مين أن عقل الهندي المستعد لقبول ما حلا وطاب من المعارف هو محروم مما يتصور من قياس مدقق الحقيقة فالهندي يجيد التكلم والكتابة والتفكير الدقيق ولكنه متوسط الاستعداد للحساب والأرقام وأصبحت الحكومة تبعث إلى لندرا بأرقى طبقة من متخرجي كليات الهند ليكونوا نموذجاً عَلَى اشتغالها وراموزاً لمن طبعتهم بطابعها فكانت تكرم وفادتهم في لندرا ولم تعقهم ألوانهم السمراء وتناسب أعضائهم وعيونهم التي تقدح شرراً وقاماتهم القصيرة وحركاتهم المتناسقة وأمزجتهم الشديدة عن أن يستميلوا قلوب الناس إليهم ونالوا من الكرم البريطاني أنواع الرعاية والعناية وفتح الانكليز لهم أبواب دورهم الأنيقة الشريفة كأن كل فرد منهم كان أميراً خطيراً وراجا كبيراً فأخذوا بما شاهدوا وتكلنزوا عَلَى أجمل أسلوب وعاشوا عيش الوطنيين الانكليز وقدروا حق قدره كل ما في الوطنية من الاحترام والأمن والشرف والاستقلال العالي. فكانوا يتعاشرون ويتسامرون ويتعارفون في المجالس إلى من يخطبهن من الآنسات الفتانات الشقر البيض ويلعبون معهن أنواع الألعاب المألوفة والرياضات الانكليزية النافعة وكانوا في جميع أحوالهم مثال الظرف في ألبستهم والترتيب في قبعاتهم حتى إذا أتموا دور التمرين التي كان كل يوم منها ابتسامة للمستقبل وتشبعوا بهواء الغرب وتبطنوا أسرار فلسفة هربرت سبنسر وشوبانهور ونيتش وخفقت أفئدتهم بما علمت وتلبس شعورهم بالبدائع وحشيت عقولهم بخطب مجلس النواب الانكليزي - يركبون البحر عائدين إلى بلادهم بلاد الشمس والحرية يحملون أجمل ذكرى مما رأَوه وفي صناديقهم وأصونتهم الأوراق المطيبة والزهرات الذابلة وقطع من الشريط وبعض الفساطين يؤُبون والكبر آخذ منهم ويعود محيطهم البرهمي يتحيفهم ويرجعون إلى سابق أوهامهم وأحقادهم عَلَى الإدارة

الانكليزية التي لم تؤثر فيها كثرة تغذيهم بمبادئ أصحابها. ولقد شاءت اللغة الانكليزية بين أمراء الهند حتى صارت لهم بمثابة لغة الاسبرانتو في الغرب يتكلم بها الهنود وهم أجناس مختلفة وأصحاب لهجات متباينة فالمتكلمون باللغة السنسكريتية والبراكريتية والبالية والتيلنكا والبنغالية والهندستانية والمالاكالية والتامولية وغيرها من لهجات الهند يحسنون الانكليزية كأهلها وهذا ما حدا انكلترا أن تضاعف مدارسها وكتاتيبها وكلياتها ثم رأت من الحكمة أن تعتمد على العنصر الإسلامي فأعظمت له مكانته وأقلت من مكانة العنصر البرهمي فزاد ذلك البراهمة نفوراً وأخذوا ينادون في سرهم وجهرهم (الهند للهنديين) وأرادوا محاربة الانكليز حرباً اقتصادية فلم يكن من أبناء جنسهم أناس يكفون للظفر في هذه المعارك فلم يسعهم إلا أن يلجؤا للأجانب فكان الألمان وهم الشعب الذي يحاول أن يخلف الانكليز في كل مكان هم الذين مدوا أيديهم للهنود وأصبح ما تخرجه هندهم من بالات القطن وصناديق الشاي وأكياس القهوة يسافر إلى ميناء همبورغ بدل منشستر. ثم حدثت مشاغبات وفتن وقتل رجال الثورة بعض أعضاء الحكومة فلم يسع انكلترا إلا أن تعطي الهند نظاماً جديداً مصبوغاً بالصبغة الديمقراطية أكثر من ذي قبل وأشركت الهنود في سياسة بلادهم واستعملت انكلترا الرفق فيمن دعوا إلى الثورة من رجال الصحافة والمحاماة وكان من تقربها من روسيا وتحالفها مع اليابان أكبر مفتر لهمم الهنود عن نزع أيديهم من يد حكومتهم أما المسلمون الذين رأت بريطانيا بعد حين أن تعتمد عليهم فقد تحركت نفوسهم وأدركوا قصورهم خصوصاً عندما رأوا إخوانهم شبان العثمانيين الأحرار الذين حرروا المملكة العثمانية من السلطة الاستبدادية كل هذا ليصدق عَلَى سكان الهند ما قاله أحد المفكرين من رجال السياسة الانكليزية (سيبقى الشعب الهندي عَلَى الدوام شاهدا ناطقاً بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مساً خفيفاً) ومحاولة تجديد شبابه هو من الغلط وقلة الخبرة.

الألبان

الألبان امتلأت الجرائد في هذه الأيام باسم هذا القوم المحارب ويجدر بنا أن نذكر شيئاً من تاريخه ولو مختصراً لنعرف ما كان عليه في الأيام الخالية وما صار إليه الآن. وقد اتخذت قاموس الأعلام، لشمس الدين سامي بك إماماً وكتاب التاريخ لمؤلفه دوروي معاوناً. إن اسم هذا القوم فيما بينهم (اربانيا) في قبيلة كيفه و) اربريا) في قبيلة طوسقه لأن هذه كثيراً ما تبدل النون راء وكلاهما مشتق من اللغة الآرية القديمة من كلمة (آر) الحقل و (بان) من يعمل فيه أو يحرثه أو يزرعه فكأنه قيل لهذا القوم (الحارث) أو (الزارع) لأنه هو أول من أدخل هذه الصنعة من آسيا إلى أوربا ولما كان اليونانيون يبدلون الباء بالواو لفقدان الأولى عندهم دعوا هذا القوم (اروانيتيس) بزيادة (يشيس) وهي أداة النسبة عندهم أي منسوب إلى أربان (ظناً منهم أن أربان اسم للأرض التي يسكنوها) والسين زائدة تظهر في أكثر كلماتهم حالة الرفع وتسقط في حالة النصب والجر وفي التثنية والجمع ولما دخلت الأتراك إلى تلك البلاد أخذوا الأمم اليوناني فدعوهم ارناويت بحذف السين الزائدة وتقديم النون على الواو تحريفاً (كما حرفنا نحن كلمة عربون وقدمنا الراء فقلنا رعبون) وثقل أول الكلمة اقتضى أن يكون آخرها كذلك فبدلت التاءُ طاءً وكسرت الواو ضمة لغير سبب فصارت ارناؤط وأوربا اليوم تدعوهم (الباني) بتبديل الراء لاما وهما قريبا المخرج وكثيراً ما يتبادلان وفي العربية البرت والبت بمعنى واحد وهو القطع. تبين لدى علماء الألسنة المحققين أن لسان الألبان يشابهُ اليوناني القديم واللاتيني والصقلبي والغوطي والفارسي والسنسكريتي وإن هذا اللسان من أقدم شعب اللسان الآري. ومن يقدر أن يحكم أن الكلمات المشتركة بين هذا اللسان وبين اليوناني القديم هي يونانية أخذها الألبان أو البانية أخذها اليونان؟ لا يقدر عَلَى ذلك إلا العالم بكلتا اللغتين المتوغل فيهما. وقد ادعى شمس الدين سامي بك بأن كثيراً من الكلمات تدل صورتها الألبانية عَلَى أنها أصل وصورتها اليونانية أو اللاتينية عَلَى أنها فرع. (كما نعلم نحن العرب مثلاً أن يئس وجذب أصل وأن ايس وجبذ فرع) ومن هنا يتبين أن هذا اللسان أقدم من اليوناني واللاتيني ثم إن مشابهته للسان الفارسي والزند والسنسكريتي أكثر من غيره من الألسنة الآرية الأوربية تدل على أنه لم يتشعب من هذه الألسنة التي هي شعبة من غيرها بل أنه جاء رأساً من آسيا الوسطى إبان الهجرة

العمومية. وقد انتخب هذا القوم لنفسه شرق أوربا وطناً له كما أن انسباءه السلتييت اختاروا غرب أوربا. ثم تفرق فرقاً فمنهم من أقام في ايليريا وهي بلاد الألبان الآن وبوسنه وهرسك ودالماسيا ومنهم من سكن في مكدونيا القديمة وهي عبارة عن سيروز وولاية سلانيك ومناستر واسكوب ومنهم من انتشر في ثراكيا وهي اليوم ولاية أدرنة وقسم من بلغاريا ومنهم من بقي في آسيا ولم يدخل أوربا وهم الفرنجيون ومكنهم من سواحل الأناضول في البحر الأبيض إلى سيواس وانقرة. وقد ثبت بالأدلة التاريخية أن هذه الفرق الأربع من أصل واحد إلا أن أهل ايليريا أقرب إلى أهل مكدونيا وأهل ثراكيا أقرب إلى أهل فريجيا لغة وخلقا. وكان يجمعهم اسم (بلاسج أو بلاسغ) في قديم الزمان ويظن بعض علماء اللغة أن كلمة بلاسج مأخوذة من كلمة (بلاق) الألبانية ومعناها الشيخ سموا باسم حكمهم أي مجلس الشيوخ حتى أن أهل الجبل منهم الآن يحكمون مجلس الشيوخ فيما يختلفون فيه ويسمونه (بلاقونيا). ومن هنا يعلم إن هذا القوم العظيم انتشر قبل ألفي سنة من تريتا في بلاد المجر إلى سيواس في الأناضول. أما من كان في الأناضول فقد استولى عليهم الفرس ثم اليونان ثم الرومان فاختلطوا بهم فضاعوا وانقرضوا. وأما من كان في مكدونيا وايليريا فقد زاحمهم البلغار والصقالبة حتى اجتمعوا كلهم واكتفوا بالقسم الجنوبي من ايليريا. وكان هؤلاء لا يختلطون بغيرهم من الأمم ولا يؤَلفون جامعة لهم ولا يخطر ذلك في بالهم بل كانوا يعيشون متفرقين كما هو حال أهل الجبل منهم الآن في جوار دبره واشقودرة ولذلك حافظوا عَلَى لسانهم وعاداتهم وأخلاقهم. ولكن لم يحصلوا من الأدبيات القومية على شيء لفقدان الجامعة بينهم. اتى عليهم زمن اسس فيه بعضهم دولة فكان منهم حكومة في اشقودرة وأخرى في يانية وثالثة في مكدونيا ومركز هذه بلدة (بلا) على نهر (قره آزمق) قرب بلدة (يكيجه واردار) من توابع سلانيك ومن ملوكها اسكندر المشهور ابن فيليب وهو الباني الأصل والنسب تعلم اليونانية لآدابها في ذلك الوقت فظنه الناس أنه يوناني وأكبر دليل عَلَى أنه ليس بيوناني خطب ذلك الخطيب اليوناني الشهير (ذيموستن) وتحريضه لأهل آتينة وتسميته له في تلك الخطب باسم (بارباروس) أي اعجمي وكانوا يسمون كل من لم يكن يونانياً (بارباروساً)

كما أن العرب تسمي كل من لم يكن عربياً (أعجمياً) ومن أشهر ملوك يانيه (ببروس) فقد غلب الرومان مرتين واستولى عَلَى كثير من البلاد حتى توسع ملكه إلى اليونان ومصر ولم يكن همه إلا الظفر فقط ولذلك لم يترك لبنيه الذين ورثوه إلا ما ورثه عن أبيه. إن الألبان الذين استولوا على العالم بأسره في عهد اسكندر ابوا أن يكونوا في أسر الرومانيين ولقد كانت لهم وقائع عظيمة معهم دلت على شجاعتهم وبسالتهم إلى أن أتى (بول اميل 168 ق. م) بعسكر جرار فغلبهم وخرب لهم سبعين قصبة (قرية وأكبر منها) وأسر منهم مائة وخمسين ألفاً وساقهم إلى رومية وباعهم هناك عبيداً. أتظنون أنهم بعد هذا أطاعوا الرومانيين كلا فإنهم التجأوا إلى الجبال وتحصنوا فيها وتركوا الأراضي الخصبة وآثروا الفقر مع الحرية عَلَى الثروة مع الأسر. وهكذا كانت حالهم لما دخل ملوك بني عثمان إلى الروم ايلي وفي سنة 1420 من الميلاد ظهر من بين رؤسائهم أمير يقال له اسكندر بك وكان رجلاً شجاعاً مدبراً فجمع القبائل كلها تحت رياسته وقاوم العساكر العثمانية أربعين سنة ولما هلك استولت الدولة العثمانية على جميع تلك البلاد فمنهم من رأى الغربة فهاجر إلى قلابريا وصقلية ومنهم من ذهب إلى البندقية وجنوه ومرسيليا ومنهم من أداه السير إلى اسبانيا. ومنهم من اختار الإقامة وهداه الله فأسلم ثم انتشر الإسلام بينهم ولم يبق عَلَى دينه القديم إلا مقدار الثلث ومذهب النصف منه اورثوذكس والنصف الآخر كاثوليك. وقد ظهر منهم رجال نبغوا في هذه الدولة حتى أحرز الصدارة منهم عشون وزيراً ومن أشهر قوادهم في الجيش العثماني سنان باشا وآثاره تدل عليه وهو أول من أدخل اليمن وعمان في حوزة الدولة وأوصل علمها إلى الأراضي المجهولة في ذلك الوقت مثل آجينة وصوماطره وكذلك الوزير المعروف بكوبريلي محمد باشا فإنه وصل إلى أسوار فينا مظفراً. يمتاز الألباني بأنه طويل القامة غليظ العظام عصبي المزاج كبير الدماغ واسع الناصية (وهذا مما يدل عَلَى ذكائه). يرعى العهد ولو كان فيه الموت الأحمر. يفدي روحه في حفظ قبيلته وعائلته بل لإنقاذ كلمة خرجت من فمه. يتبختر تبختر الأبطال في مشيته خفيف الحركة سريع الخطو. يغلب عَلَى نسائهم الجمال إلا أنهن غليظات الأبدان غليهن ملامح الرجال، لا يبالين بالحجاب ولكن الرجال يغارون أشد الغيرة عليهن فإذا أحسوا بأن فتاة أو امرأة خرجت ولو قليلاً عن دائرة العفة

قولاً أو فعلاً فتكوا بها فتك ظالم غدار (لله درهم ودر العرب الذين لم تفسد أخلاقهم ودر هذه الغيرة التي نعدها نحن المدنيون توحشاً) نساؤهم صناع اليد كثيرات الجد والكد، هن ربات البيوت والرجال عندهن كأنهن ضيوف. لا يتزوجون إلا الأكفاء ولو بعدت المسافة بينهم. يحرمون بناتهم من الإرث (عادة ورثوها عن آبائهم) ولا يعطونهن شيئاً حتى إن ثياب العرس يشتريها الزوج. صلابتهم في دينهم شديدة إلا أنهم يتهاملون في العبادات ولهم بعض عادات انتقلت لهم من النصرانية أو من دين أجدادهم يحافظون عليها إلى الآن. يرون الاتفاق فيما بينهم فرضاً ولو اختلفت ديانتهم. فهذه ميزة الألبان باختصار. وأما لسانهم فقد ذكرنا أنه شعبة مستقلة من اللسان الآري لكنه لم يحذو حذو أخواته كاليونانية واللاتينية فيرقى إلى أوج الفصاحة والبلاغة إلا أنه أقدم منهما لما يرى من أسماء الآلهة في أساطير اليونان واللاتين فإنها منه أخذت. وقد اكتشف الذين ينقبون عن الآثار القديمة في (طوسقانه) من أعمال ايطاليا خطوطاً قديمة لم يمكن حلها باللسان اللاتيني واكتشفوا في فريجيا أيضاً خطوطاً تشبهها فجربوا فيها اللسان الألباني فوجدوها تشبهه غاية المشابهة ومن هنا يظهر ان لهذا اللسان خطوطاً تختص به. وعندهم بعض كتب تتعلق بمذهب الكاثوليك أُلفتت منذ خمسمائة سنة ولا أظنها مكتوبة إلا بالحروف اللاتينية وفيها المنظوم والمنثور. ويحفظون بعض أغاني وطنية يرجع إنشاؤها إلى ثمانية او تسعة إعصار. ولا فرق بينها وبين لسان أهل هذا العصر إلا في التعبيرات الدينية لأن النصارى اتخذوها من اليونانية والمسلمين اتخذوها من العربية وكلاهما ترك اصطلاحات الدين القديم. وأما حروفهم التي يتنازعون لأجلها الآن فلست أظن أنها تلك الحروف المكتشفة في طوسقانة وفي فريجيا عَلَى أنه لا يبعد أن تكون تلك إلا أنها أصلحت كالحروف العربية في بادئ الأمر وشكلها الآن. ولما زادت المجادلات بينهم وأخبرتنا الجرائد بذلك أحببت أن أرى هذه الحروف فأخذت كتاب ألف با وفيه دروس القراءة الألبانية. فوجدت كلمات هذا اللسان تتركب من أحد وثلاثين حرفاً وسبع حركات جعلوا لها (أي لهذه الثمانية والثلاثين) ستاً وثلاثين علامة أما الحركات فتلفظ همزة في أول الكلمات فقط ولذلك عدوها من الحروف. وأما الحروف فإنها تنقص عن العربية في أشياء وتزيد في أشياء. ينقص هذه

اللغة من الحروف الخاء والصاد والضاد والطاء والعين وتزيد عن العربية بهذه الحروف: 1 ـ تس: حرف تمتزج فيه التاءُ بالسين فيحصل صوتاً مثل من فم ولد صغير أي بين (س) وَ () 2 ـ: كما في التركية والفارسية. 3 ـ دز: صوت يحصل من امتزاجهما ولا سبيل لفهمه إلا بعد سماعه. 4 ـ ر: راءٌ مفخمة جعلوها مستقلة عن الرءِ المرفقة. 5 ـ: كما في التركية والفارسية. 6 ـ ك: حرف بين الغين والياء فلا هو غين ولا هو ياء لكنه أقرب إلى الياء منه إلى الغين. 7 ـ ل: لام مفخمة كالتي في لفظ الجلالة تقدمها فتح أو ضم. 8 ـ نى: نون ساكنة بعدها ياء وهي أسبه شيءٍ: الفرنساوية. وأما العلامات فقد أخذوها من اللسان الفرنساوي عيناً إلا أن الفرنساوية وضعوها لحرف (تس) ووضعوها لحرف ووضعوها لحرف (دز) وما زاد عن الفرنساوية فقد اتخذوا له علامات لا تخرج عن وضع العلامات الفرنساوية إلا بزيادة خط معوج في رأسه أو أسفله. سلانيك ـ ر. ب

حكم افرنجية

حكم افرنجية ما أحسن حال من يعتقدون أنفسهم بائسين وهم ليسوا إلا فارغين ملولين (الفرد دي موسيه). مزج البارئ تعالى الصداقة بالحياة لينشر في أطرافها السرور والسلوى والمظرف (بلوتارك). حيثما استطاع الإنسان أن يرزق فهناك يعيش عيشاً حسناً (مارك اوريل). اعظم غلط يرتكب في التربية أن يعجل المرءُ في تلقينها (جان جاك روسو). ليست معرفة الطاعة من الضعف بل هي قوة عظمى (جانت). التربية بوضع القواعد طويلة الأذيال وأقصر منها التربية بالمثال الحسن (سنيك). من فطرة الطامع أنه مغاضب لكل ما يملك (مين دي بيران). في وسعنا أن نبدو عظماءَ في وظيفة هي دون أقدارنا ولكننا كثيراً ما نبدو صغاراً في وظيفة هي أكبر منا (لاروشفوكولد). الناس كالمداخن التي يخرج دخانها كثيراً ليست ذات هندام حسن. كثرة البطالة تخالف الفضائل فمن لم يعمل عملاً لا يبعد أن يعمل سيئاً. في العادة إن المرءَ لا يستنصح إلا ليبتعد عن العمل بما نصح به أو ليلوم من نصح له. من الناس وكثير ماهم من لا يندمون حقيقة إلا من أعمالهم الصالحة. قلما يكون المختال جسوراً فالمرء كلما اعتبر نفسه تعرض للهلكة. الجائع لا يكون حراً. كثيراً ما يكون علم التغلب عَلَى المصاعب عبارة عن تقديرها بقيمتها الحقيقية. يعتقد الطحان عن طيبة قلب أن الحنطة لا تنبت إلا لتحريك طاحونه. كثيراً ما يكون الإسراع في إصدار الحكم خالياً من روح العدل. لا تأكل حتى يثقل جسمك ولا تشرب حتى يطيش عقلك. الندم أنفع الشعور الصالح. الرحمة تجعل المساواة حتى في التعذيب. الحياة حساب فالسعيد من كان حسابه مستقيماً.

غرائب الغرب

غرائب الغرب دار معونة العلماء 15 هي الدار التي أنشأتها الآنسة دوسن شقيقة العقيلة تير امرأة تير. وهو العالم المؤرخ أول رئيس للجمهورية الثالثة نفع هذا الرجل فرنسا بحياته فأحبت امرأته أن تخلد ذكره بعد مماته فأوصت بمال يصرف على تأسيس دار تؤوي خمسة عشر رجلاً من شبان العلماء يكفون فيها مؤونة الحياة المادية ويتفرغون للبحث والدرس ليكونوا صلة بين الكليات التي تخرجوا فيها والمجامع العلمية التي يراد إجلاسهم في قاعاتها. ماتت العقيلة تير على حين فجأة فنفذت وصيتها شقيقتها ووقفت مالاً بلغ ريعه مئة وخمسين ألف فرنك. إن من يزور هذه الدار المباركة ويطلع على أعمالها ورجالها يوقن كل الإيقان بالمثل الإفرنجي القائل بأن (فرنسا تخترع وألمانيا تعمل) الفرنسيس يبتكرون في كل شيء وهذه الدار هي من مبتكراتهم وما أظن لها مثيلاً عند الألمان والانكليز والاميركان سادة العالم في العلم وقادة الإبداع والاختراع. زرت هذه الدار مرتين وتشرفت بالتعرف بمديرها أحد كبار فلاسفة فرنسا وعلمائهم المعاصرين المسيو أميل بوترو ـ ومشاهير الفلاسفة المعاصرين من الفرنسيس اليوم هم بوترو وفوليه وريبو وبرجسون. ولم أتمن في حياتي أن أكون فرنسوي الأصل والجنس إلا لما رأيت هذه الدار وعلمت أنها لا تقبل في حجرها إلا الفرنسويين. تمنيت أن أعيش فيها المدة المحددة لكل طالب أتفرغ لدرس أبحاث تجول في الصدر ويعوق الزمان والمكان الآن عن إتمامها. هذه الدار سميت باسم تير والأولى أن تسمى دار معونة العلماء لأنها ليست مدرسة كالمدارس ولا كلية كالكليات ولا مدرسة دينية كالمدارس الدينية بل هي دار يقبل فيها كل سنة خمسة من شبان العلماء من نابغي الكليات يحملون شهادة (الليسانس) أو (الدكتورا) في الآدب أو العلوم أو ممن نالوا جائزة من جوائز المجمع العلمي في الأبحاث التي تجري فيها المسابقة بين أرباب الأفكار والأقلام تحت نظارة المجامع العلمية الخمسة في باريز فيقضون ثلاث سنين في هذا المعهد ينصرفون فيها إلى الفن الذي يريدون الاخصاءَ فيه

فيبحثون بأنفسهم لأنفسهم تحت رعاية مدير المعهد فيلسوف فرنسا المسيو أميل بوترو الذي يعيش وإياهم في المعهد كما يعيش الأب مع بنيه ويمدهم بآرائه ويهديهم إلى أقرب الطرق للانتفاع بمعارفهم ووضع مؤلف أو مؤلفات نافعة في الفنون التي هي أحب من غيرها إلى قلوبهم ولا ينشرونها إلا إذا نظر هو فيها واقرهم عليها. وأي عالم لا يحب أن ينتفع في علمه برأي عالم كالمسيو بوترو بلغ السبعين أو كاد من عمره وهو يفني لياليه وأيامه في العلم والفلسفة. يشترط فيمن يدخل دار معونة العلماء أن يكون ممتازاً بعقله وأخلاقه ويفضل من يرتضي أساتذته أخلاقه ونبوغه ويشهدون فيه شهادة حسنة وأن يكون دون السادسة والعشرين من عمره غير متزوج وقد قضى الخدمة العسكرية ويعطيه المعهد ستين ليرة في السنة لنفقته الخاصة وثلاثين ليرة ليسيح بها سياحة علمية وتعطيه غرفتين فسيحتين فيهما أسباب الراحة والرفاهية إحداهما لنومه والثانية لعمله بحيث يكون الشبان العلماء الخمسة عشر وهو عدد الموجود منهم في المعهد أبداً موسعاً عليهم لا يطلب منهم إلا أن يؤلفوا ويبحثوا أبحاثاً علمية تنفعهم ونفع أمتهم وبلادهم ويقسم عدد من كانوا فيها سنة 1908 ـ 1909 من شبان العلماء إلى رياضيين ومؤرخين ومتشرع في السياسة والاجتماع وعالم في اليونانيات وحقوقيين وفيلسوفين ومؤرخ وموسيقار وعالمين في الجرمانيات ومؤرخ في الآداب الفرنسوية وجغرافي وقد أنشئ هذا المعهد سنة 1893 فيكون عدد من أعانهم على الأخصاء في العلم حتى الآن 80 عالماً وكلهم وضعوا المؤلفات الممتعة النافعة للعلم عامة ولبلادهم خاصة وقد بلغت واردات هذا المعهد مئة وخمسين ألف فرنك في السنة يتناول منها المدير عشرة آلاف فرنك. قام معهد تير العلمي في أجمل حي من أحياء باريز في حي الأشراف والنبلاء بالقرب من غابة بولونيا الغناء غربي مدينة باريز في الحي الذي تؤجر الدار فيه اليوم بثلثمائة ألف فرنك مسانهة وسط حديقة أنيقة تحيط بها الحدائق في مكان يجمع إلى السكون المطلوب للعلماء والمؤلفين ولا يبعد عن سائر أحياء العاصمة وما يلزم لهم من المواد المفرقة في مكاتب باريز المختلفة ودور العلم والمستودعات والمجامع والمتاحف وغيرها بحيث هم بعيدون قريبون عن الحركة العلمية والسياسية والاجتماعية وليس في المعهد مكتبة كبرى

لأنها عَلَى اتساع مساحتها لا يتسع صدرها لكل ما يلزم المؤلفين فيها من المواد بل فيها فقط كتب الفهارس والمعاجم والمراجعة والأمهات التي لأغنية لكل عالم عنها وما عدا ذلك فمكاتب باريز وعلماؤها ودور سجلاتها ومتاحفها عَلَى قيد غلوة من سكانها هذه الرحبة الشريفة يأخذون منها ما راقهم كل ساعة. وليست هذه الوسائط هي كل ما في معهد تير من المعونات علمائها بل أن لهم بفضل الشيخ الرئيس مديرهم الحكيم الكبير أهم الأسباب التي تربطهم بعلماء العالم ومجامعه وكلياته فهم كسكان الجنان توفرت لهم كل الوسائط فلم يبق عليهم إلا أن يقطفوا من ثمار يحبونها كل قريب ودان. يعيش هؤلاء العلماء عيشة مشتركة فيتناولون طعامهم معاً ويلعبون ويتنزهون معاً ويبحثون عن العلوم التي يمتون بها معاً ويظلون هكذا يعيشون عيشة الأتراب العاملين عَلَى ما تعلموا في طفولتهم في المدارس والكليات ويستفيد بعضهم من بعض في العلوم المختلفة ويعاون بعضهم بعضاً معاونة الإخوان ويترفهون رفاهية لا يتمتع بها إلا عقلاء الأغنياء. قام هذا المعهد المفيد تحت رعاية العلماء من أهل المجمع العلمي وحققت فيه مؤسستاه العقلية تير وشقيقتها مارسمه النظار على ذاك المعهد أمثال جول سيمون ومنيه وبارتلمي سان هيلير فكان تير الذي عد من نوابغ القرن التاسع عشر الذين خدموا بلادهم خدمة تذكر عَلَى الدهر فتشكر نافعاً لأمته في حياته بعقله وفي مماته بماله. فمتى يصل الشرق يا ترى إلى هذه الدرجة في العقل والإحسان ومتى يكون علماؤه من أهل السعة واليسار إلى هذا الحد ليحسنوا الانتفاع بأموالهم كما أحسنوها بعلومهم. إن شبان العلماء في هذه الدار بعد أن تعلموا ورأوا العلماء كيف يعملون محتاجون لهضم ما تعلموه أن يعانوا لينشأ منهم أفراد متفردون في العلم فيتحولون بهذه الواسطة من تلامذة إلى أساتذة أكفاء أن يكفوا أنفسهم وأن يوجدوا ويخترعوا وهذا موقوف عَلَى أن يستجمعوا قواهم ويتمتعوا بحريتهم وأوقاتهم عَلَى ما يشاؤن فالعمل كما قال أميل بوترو هو السرور على شرط أن لا يكون صاحبه مستبعداً فيه لأحد ولا لمؤثر بل يقوم به مدفوعاً فقط بعامل نتائجه الطبيعية وهي الإيجاد والإبداع. وما التربية إلا أن تخرج كل إنسان عَلَى ما ينفع فيه ويتيسر له النبوغ في فروعه. التربية هي تخريج المرء أولاً في مجموع المبادئ العامة

التي هي وقف خلفه لنا أسلافنا بتجاربهم وسموا ذلك العقل ثم تخريجه ثانياً في أن يكون مخصياً متفرداً في علم واحد يكون فيه عَلَى بصيرة عَلَى نحو ما يتطلب ذلك العلم الحاضر والمجتمع الحديث ثم ينشأ ثالثاً ممن دخل في هذين الطورين في التربية فيلسوف يدرك قيم الأمور ويعرف الصلات المتبادلة فيما ينصرف إليه العالمون عَلَى اختلاف معارفهم ويبحث في أن يوفق توفيقاً حسناً بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وكل هذا لا يفهم مغزاه شرقنا التعس الآن. تآخي الغربيين 16 كل فكر ومذهب في الوجود نتيجة الدعوة إليه وتحبيبه إلى النفوس. عرف الغربيون هذه القاعدة فجروا عليها كثير من أعمالهم وكان من ثمرات الدعوات السياسية والدينية تأليف الوحدة السويسرية والألمانية والأميركية وتوحيد كلمة الجزائر البريطانية وانتشار المذاهب الاجتماعية والاشتراكية والفوضوية وكثرة من يدينون بالمذاهب البرتستانتية والفلسفية وقد قام في فرنسا جماعة ممن يفكرون لخيرها رأوا أن بلادهم تنتفع كثيراً من تحسين صلاتها مع أميركا فألفوا جمعية دعوها (جمعية فرنسا أميركا) مؤلفة من علماء وسياسيين وقواد واجتماعيين ومعلمين وفي رأسها المسيو جبرائيل هانوتو أحد أعضاء المجمع العلمي وصاحب التأليف الكثيرة في التاريخ والسياسة ووزير خارجية فرنسا الأسبق وقد انشأوا لبث هذه الدعوة مجلة شهرية باسم جمعيتهم تدعو إلى هذا الغرض استفتحها رئيس الجمعية بمقالة في الغرض الذي يرمون إليه وكتب في المجلة الأسبوعية مقالة طويلة الذيل في هذا الشأن فرأيت أن الخص للمشارقة لباب هاتين المقالتين دلالة عَلَى ما يأتيه المغاربة من الأعمال النافعة لمستقبلهم لننعى على أنفسنا نومنا عن النظر في مستقبلنا. قال هانوتو: إن النجاح معقود بناصية من يعمل في الوقت اللازم ولو وجهنا وجهتنا منذ سنة 1860 إلى أميركا الشمالية والجنوبية لما احتجنا اليوم إلى دعوة أمتنا لتعريفها بما نعرفها به. هبت علينا الزعازع السياسية والاقتصادية منذ ذاك الحين وإذ سكنت الآن وجب علينا أن نعمل عملاً يحمل في مطاويه أحسن الفوائد. تبدلت الأرض غير الأرض في خمسين سنة حتى صح أن نقول إن قارتي آسيا وافريقية

كأنهما اكتشفتا حديثاً فكثرت مواصلاتهما وحملت إليهما المدنية والحضارة وجرى تعليمهما واستعمارهما وكان لفرنسا من هذا التحول الغريب حصة موفورة. فقد غير دلسبس بفتحه ترعة السويس شكل الأرض كما أن جول فري بموافقته عَلَى السياسة الاستعمارية قد حاز لنا قسماً كافياً من قسمة الأراضي الجديدة. وبينما كان الشرق يستدعينا غدا الغرب الغرب ينكرنا ويستغني عنا. فإن مسألة باناما المشؤومة التي جاءت بعد مسألة المكسيك قد أثرت في علاقاتنا مع أميركا الشمالية والجنوبية واستغرقت التدابير الأوربية الكبرى التي اضطررتا إلى مجاراتها فكرنا وقوتنا المادية. وانحطت بحريتنا التجارية فضعفت بضعفها أسبابنا في العمل واحتفظنا بأساليبنا القديمة التجارية فسبقتنا شعوب أكثر منا فتاء وأكثر مضاء وأقل مطالب ومشاعب. نعم تقدمنا وتأثلنا ولكننا لم نبرح كما كنا في قوتنا على عهد نابليون على حين كانت أميركا بثروتها وقوتها وعظمتها تتقدم تقدماً لا يوصف فقد كان سكان الولايات المتحدة سنة 1870 ـ 36 مليوناً أي ما يقرب من سكان فرنسا على التقريب فأصبحوا سنة 1890 ـ 63 مليوناً وهاهم يتجاوزون اليوم الثمانين مليوناً. وفي كندا اليوم زهاء 6 ملايين من السكان وفي الجمهوريات الوسطى والمكسيك 22 مليوناً وأصبحت أميركا الجنوبية 45 مليوناً وكان فيها سنة 1890 ـ 35 مليوناً. وكان مجموع تجارة الولايات المتحدة سنة 1870 خمسة مليارات ونصف فرنك فأصبحت اليوم زهاء 16 ملياراً وكان مجموع تجارة كندا سنة 1878: 75079 مليوناً فأصبحت سنة 1905ـ 1906 مليارين ونصفاً. ومجموع تجارة أميركا الوسطى والمكسيك مليارين ونصف وجمهوريات الجنوب أكثر من أربعة مليارات منها ملياران ونصف للبرازيل ومليار للجمهورية الفضية. وعلى الجملة فقد بلغ مجموع ما هناك من نفوس 160 مليوناً من البشر ومجموع التجارة أكثر من 25 مليار فرنك وأحدثت أميركا حركة كبرى في العالم بدخولها مضمار الاتجار فأثرت في فرنسا تأثيراً غير قليل وكانت هذه إلى ذاك التاريخ قريبة لتجارتها من انكلترا أي لها المقام الثاني في التجارة فأصبحت اليوم في الدرجة الرابعة بعد انكلترا والولايات المتحدة وألمانيا. أي أننا فقدنا ما كان لنا من المكانة قديماً فنحن اليوم نريد أن نستعيد

منزلتنا الأولى أو أن نغتنم الوقت الضائع فالمسألة ليست متعذرة ولكن تقتضي لها الإرادة والتفكر والعمل على طريقة منظمة والعودة إلى تقاليدنا والانتفاع من أسبابنا. أما الولايات المتحدة بما لها من المركز الذي أحاط بطرفي البحرين المحيطين فهي المهيمنة عَلَى أعمال العالم فإن عدلت الحالة بين اليابان وروسيا فلا يبعد أن يجيءَ زمن تتداخل فيه في السياسة الأوربية وأن الفرنسويين في كندا ليبلغون مليونين ونصفاً ومثل هذا العدد من الفرنسيس منتشر في جمهورية الولايات المتحدة ولا سيما في الجنوب واللغة الفرنسوية في كويان وجزائر الانتيل يصبح عدد الفرنسيس ومن يتكلمون باللغة الفرنسية من الأميركان ليس بقليل. وان مالنا من الأيادي في أميركا ولا سيما وقد قرن فيها اسم لافابيت الفرنسوي باسم واشنطون الأميركي اللذين ساعدا على استقلال الولايات المتحدة وما وضعناه فيها من أموالنا وقمنا به في جمهوريات الجنوب من البعثات العلمية والعسكرية والمشاريع الاقتصادية والمالية كل ذلك يدعونا بلسان الحال إلى أن نصل الحاضر بالغابر وإن لم تكن سلسلة الصلات قد قطعت كل القطع. والناس مهما تقلبت بهم الحال لا يزالون يذكرون لفرنسا بيض أياديها عَلَى المدنية وإذا نسوها فإنهم لا ينسون باريز التي تنشر أنوارها على العالم وإليها يحج الألوف من الأميركيين كل سنة للتنزه والارتياض والاستفادة وكلما كثرت الرفاهية في ديارهم تدعوهم الدواعي إلى نزول باريز وما في أراضي فرنسا من المصايف والضواحي كالشاطئ اللازوردي (كوت دازور) فإن مجموع الأميركيين الذين يختلفون كل سنة إلى ديارنا لا يقلون عن مليون سائح. فعقد الصلات بين فرنسا وأميركا فيها كل ما نحتاجه من الأسباب القوية فإن كانت أميركا الشمالية تدعونا إليها بما فيها من القوة والعظمة فأميركا الجنوبية تناينا إليها القرابة لأن عناصرها لاتينية وتربتها لاتينية فمن كندا إلى مضيق ماجللان مارين بالمكسيك والجمهوريات الوسطى ترى الدم اللاتيني ممزوجاً في شرايين العناصر الجديدة وعلى أميركا الجنوبية يصح إطلاق المثل القائل (هذا دم لاماء). ومثل هذه الجمعيات نفعتنا في القارات والأقطار الأخرى فقد كانت جمعية (افريقية الفرنسوية) أعظم معاون للحكومة في أعمالها الاستعمارية وجمعية (آسيا الفرنسوية) أخذت

على عاتقها مثل هذه المهمة و (جمعية مراكش) تعمل على نشر الأفكار الفرنسوية في الغرب الأقصى فنحن بجمعيتنا هذه لا نأخذ إلى أميركا من معارفنا بقدر ما نأخذ عنها. فلا نرمي إلى الدخول فيها ونشر كلمتنا بين أبنائها بل نود أن نعاونها ونحالفها نريد أن نتعلم عليها ونحن أبناء المدينة القديمة درساً في النشاط والمضاء فإن كان لمدننا القديمة كنائسها وبيعها فللمدن الحديثة معاملها ومصانعها فنحن نقنع بامتصاص التاريخ أما هم فينشقون لوج المستقبل. قام في واشنطون مثل عملنا هذا يرمي إلى التقرب بين جميع العناصر في العالم الجديد سموه مكتب الجمهوريات الأميركية أنشأته الولايات المتحدة بمعونة الحكومات الأخرى ومنحه المستر كارنجي مبلغاً جسيماً من المال وهو يفتح قاعات لإلقاء المحاضرات الاجتماع ومكاتب لأخذ المواد والتعليمات وخزانة كتب ومجلات كبرى وينشر مجلة للدعوة إلى هذا الغرض وذلك عَلَى صورة رسمية كما إن اسبانيا أشأت مثل ذلك للتوفيق بين اسبانيا وأميركا وبمثل ذلك قامت البرتغال للتوفيق بينها وبين البرازيل. وفي ألمانيا اتحدت الكليات وأعمال الرجال على جلب أبناء الأميركان وتلقينهم التربية الجرمانية أما شعار جمعيتنا فهو أن نحبب فرنسا إلى نفوس أميركا ونعرفهم بها ونحبب أميركا إلى نفوس الفرنسويين ونعرفهم بها. ولا بأس هنا بذكر شيء من تلك العظمة الأميركية التي أدهشت العالمين المدني والوحشي فإن مدائن نيويورك وشيكاغو وسان لوي وسان فرانسيسكو قد امتازت بغناها في زراعتها ومعادنها وصناعتها وأعمالها التجارية الخارقة للعادة فقد كان في الثماني والأربعين ولاية ومقاطعة كولومبيا والأرض الهندية وألاسكا وجزائر هافاي ومنها تتألف الولايات المتحدة 5739687 مزرعة سنة 1900 ومعدل سعة كل واحدة 146 فداناً (آكر) وثمنها 20 ملياراً نصف مليار دولار أي 106 مليارات من الفرنكات وكان مجموع محاصيل هذه المزارع سنة 1908 8مليارات دولار منها 2668 مليون مكيال من الذرة و664 من الحنطة و807 من القرطمان و31 من الجاودار و166 مليوناً من الشعير و13 مليون بالة قطن و70 مليون طن من العلف و718 مليون لبرة من التبغ و278 مليون مكيال من البطاطا و135 مليون لبرة من الصوف النقي.

وكانت مساحة الغابات الأهلية 168 مليون فدان تغل كل سنة 666 مليون دولار د عنك الصيد في بحار أميركا وأنهارها وهو يباع بعشرات الملايين من الدولارات. وبلغ سنة 1905 مجموع ما في الولايات المتحدة من المعامل 216 ألف معمل رأس مالها 12686 مليون دولار يعمل فيها 5470000 يتقاضون أجوراً يبلغ مقدارها 2611 مليون ريال وتبتاع بثمانية مليارات ونصف من المواد الأولية وتبيع بما قيمته خمسة عشر ملياراً. وفي سنة 1908 أعطت الحكومة 163 ألف رخصة لإنشاء محال وأماكن قيمتها 546 مليون ريال. وبلغ طول الخطوط الحديدية في هذه الولايات سنة 1907: 237 ألف ميل أي 381 كيلو متر لها 55، 388 قاطرة و 2، 126، 00 مركبة فيها من المستخدمين 1672، 000 يقبضون 1072 مليون دولار مشاهرات وبلغ عدد من نقلتهم تلك الخطوط من الركاب 874 مليوناً وثقل البضائع 1796 مليون طن وثقل الطنات الألفية (الألف 1608 أمتار) 236 ملياراً ورأس مال شركات السكك الحديدية 16 مليار دولار وصافي ريعها أربعة في المئة. وفيها ما عدا هذه السكك الحديدية 38812 ميلاً من الخطوط الكهربائية. وبلغت صادرا الولايات المتحدة سنة 1908 1194 مليون دولار والواردات 1860 ومجموع تجارة أميركا الخارجية 3315 مليوناً. وكل هذه القوة الاقتصادية ليست بشيء لو لم تكن الأخلاق أساس عظمتها الاقتصادية وقد أخذ مقام المفكرين والعالمين يعظم في أميركا كما عظمت منزلة رجال المال والأعمال والصناعة والتجارة. وكثير من سكان المدن يعنون بالموضوعات الأدبية والفنية والعلمية وأصبحت بعض المدن مثل بوسطون التي هي مقر الحركة العقلية منذ زمن طويل ميدان الآداب والعلوم. وأن كثيراً من الأسر لينزلون مدينة واشنطون عاصمة الولايات المتحدة في سياستها ويعيشون فيها بعيدين عن اضطرابات نيويورك وسان لوي وشيكاغو. وليس للأميركان مثل فرنسا بلاداً يغترفون منها مادة علم ولا يجدون بلداً مثل فرنسا تتلقاهم بقبول حسن وتوفر الإرادات على حبهم. وفرنسا تتعلم كذلك من نشاط رجالهم فكما أن طلابهم يجدون في بلادنا ما يتعلمونه كذلك أولادنا يستفيدون من تعلمهم في كليات أميركا فينشأون بين شبان يشعرون

منذ صغرهم باستقلال الفكر وأنهم حاملون تبعة أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر. لما وصل النقل إلى هذا الحد وقف القلم فذكرت شيئاً من حال الشرق. ذكرت حال العثمانيين والإيرانيين وأنهم وإن كانوا من أمم مختلفة فجامعتهم الكبرى وهي الإسلام لا تقول بجنس ولا عنصر فلو كنا وكانوا عَلَى شيء من العلم الحقيقي أما كنا ندعو إلى إنشاء جمعية عثمانية أيرانية كما ينشئ هانوتو اليوم جمعية فرنسوية أميركية. ولكن ضعف عقول رجالنا ورجالهم وتعصبنا وتعصبهم وجهلنا وجهلهم لا تلبث أن تنفجر براكينها إذ ذاك ويتذرع بعضهم بالسياسة يتوكأون على عكازها لينافروا بين القلوب ويفرقوا بين أبناء الأب الواحد وهناك تدخل الدول ذوات الشأن والغايات في البلادين وينفخن في أبواق الشقاق مستعينات ببعضنا عَلَى البعض الآخر. وإن العاقل ليربط عَلَى قلبه بيده عندما يفكر في عاقبة سعي الجهلاء لإبقاء سوء التفاهم بين العثماني والعثماني فكيف يتمنى هذه الأمنية البعيدة اليوم من ربط العثماني بالإيراني. فاللهم علمنا علماً نحسن به التفاهم حتى يتآخى الشرقيون كما يتآخى الغربيون.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع عادات الكتاب لكل كاتب عادة في كتابته هي الزم له من شعرات فصه لا يستطيع بدونها أن تفتح قريحته فإن تربستان برنارد يخلع أكمام قميصه وقت الكتابة وقبته ثم يكتب بدون أن يحذف حرفاً فإذا ما تشتت ذهنه يمسح قلمه بلحيته الجميلة الطويلة وأديمون روستان الشاعر يخلع نظارته عن عينه الواحدة. وراول بونشون لا يفتح عليه في محل القهوة كما يقال بل يأخذ شراباً منبهاً ويكتفي أحياناً بنسخ الأشعار التي يعميها (يخربشها) بقلم رصاص في دفتر له صغير. ويكتب موريس باريس بالحبر البنفسجي على ورق أزرق ذي حواشي من الوسط عَلَى عادة رجال السياسة وترى رسوم نسور من الذهب عَلَى منضدته التي يبلغ طولها ثلاثة أمتار. وهو مخطيءٌ في استعمال الحبر البنفسجي لأن إيبل بونارد قد عدل عن استعماله من تلقاء نفسه لأنه يتغير كلما قدم عهده وتزول كتابته التي خلعتها أنامله في أسرع وقت. ولا يكثب جول كلارسي مقدمات الكتب التي تعرض عليه إلا إذا لبس طاقيته واكتسي بصدرته. ولا يخط جان ريشبن كلمة قبل أن يتزيا بمشلح صنع من جوخ أحمر وكذلك الكونت مونشكيو يلبس قميصه الروماني وهو مستطيل أبيض وطرز بالزرقة والحمرة. وكثر هانري باتايل من صرف الأقلام والأوراق وتشمئز نفسه من صرير القلم ويود لو تيسر له ورق من الجلد الرقيق. أما بول بورجيه فلا يكثب ولكنه يملي عَلَى إمناءِ سره فيكتبون بسرعة وقد أملى روايته الباريكاد الأخيرة على رجل بنديكي هو أمهر في الاستملاءِ من خطاطي القرن الخامس عشر ويستعمل فيليه كريفن الغليون للتدخين أثناءَ الكتابة عَلَى أنه لا يدخن إلا اللفائف. ويحس بول هرفيو نفسه عندما يريد معالجة القلم وأرنست لاجونس لا تسيل قريحته إلا أمام الناس ومارسيل برفوست بشرب الشاي ويشرب كابوس شراب الكينا وهانري لافدال الماءَ المعدني. هذه عادات بعض كتاب الفرنسيس المشاهير. قاطرة كبيرة صنعوا في أميركا قاطرة ثقلها ثلثمائة طن لها 16 دولاباً و10 محركات وطولها 32 متراً ويمكنها أن تحمل 18150 لتراً من البترول و540 هكتولتراً من الماء بحيث يتأتى لها أن

تسير بدون وقوف وهي خاصة لنقل الركاب وقطر عجلاتها متر و83 سانثيماً وهذه القاطرة تسير بالبترول لا بالفحم الحجري. الفراعنة والفينيقيون نشرت المجلة الآسياوية الفرنسوية بحثاً في علاقة المصريين بسورية في القديم جاءَ فيه أنه كتب في ورقة البردي المحفوظة في متيحف برلين المعروفة باسم وقائع سنوحيت أن رجلاً من سادات مصر غادرها سراً من نحو ألفي سنة قبل المسيح عَلَى عهد أمنماحيت الأول ولجأَ إلى الحدود الآسياوية إلى إقليم اسمه كدم وهو جزء من تونو الأعلَى وقد كرم أمير تونو وفادة سنوحيت واسم الأمير أموياناسحي الذي قال له أنك ستكون عندنا عَلَى خير حال لأنك تسمع بيننا أناساً يتكلمون باللغة المصرية وقد وصف هذا المصري مقامه في ذاك الصقع ووصف خيراته ونعمه وبعض عاداتهم التي لا تخرج عن عادات البدو هذه الأيام في غزواتهم وغدواتهم وروحاتهم. ويقول بعض علماءِ الآثار أن بلاد تونو التي وصفها المصري مخففة من لوتانو وهي الأرض الواقعة بين البحر الميت وصحراء جبل سينا ويؤيد ذلك ما ورد عَلَى إحدى المسلات الرسمية المؤَرخة من زمن أمنماحيت الثالث أن أهل سينا كانت لهم صلات مع أخي زعيم لوتانو. وجاءَ في اكتشاف حديث من أوراق البردي اسم مدينة كبني وجبلى وجبيل وهي كما قال ماسبرو مدينة بيبلوس على شاطيء سورية وبيبلوس هي مدينة جبيل في جبل لبنان وأن في ضواحي هذه المدينة يجب أن تكون مشاهد المدينة الرعائية التي وصفها سنوحيت فإذا صح هذا فتكون فلسطين عَلَى عهد السلالة الثانية عشرة المصرية متأخرة العمران إذ لم يكن في داخل البلاد مدن وأهلها يعيشون عيش الرعاة والرحالة وهذا الرأَي لا يخلو من صعوبة عَلَى من يحتجون بورقة البردي المحفوظة في برلين ومنها يفهم أنه لم يكن بين السلالة الثانية عشرة المصرية وبين السلالة الثامنة عشرة سوى قرنين إذ ظهر من الرسائل التي عثر عليها في تل العمارنة مؤَخراً أن فلسطين كانت خاضعة للحياة البلدية ولوصولها إلى هذه الحياة والنظام يقتضي لها أكثر من قرنين من الزمن. عَلَى أن بيبلوس كانت في الزمن المذكور آنفاً معروفة عند المصريين إذ قد اكتشف مؤَخراً على ذكر حملة مصرية إلى بيبلوس على عهد السلالة المصرية القديمة أي قبل بضعة قرون من رحلة سنوحيت.

وذلك أن المصريين لما بدأُوا عَلَى عهد توتيمس الأول أي نحو سنة 1550 قبل المسيح بغزواتهم التي أدت بهم من سواحل سورية إلى وادي الأُردن فشواطيءِ الفرات قد استولوا قروناً عَلَى إقليمي لوتانو وخارو ولما توطدت أقدامهم فيهما حملهم حب الاكتشاف إلى التقدم إلى الأمام فقصدوا نهر الفرات الذي وصفه توتميس الأول في مسلة تومبوس بأن الماء يتراجع فيه ثم ينزل وهو صاعد ثم قصدوا غابات لبنان حيث وضع الشريف سنوفري أحد جلساء توتميس الثالث خيمته في علو شاهق فوق السحاب ثم تقدموا إلى الغابات وكانوا يأتون إلى بيبلوس بأحسن الأخشاب التي بلغ طولها 60 باعاً مصرياً (نحو 31 متراً) وكان ساقها غليظاً حتى نهايته وكانوا يحملون خشب الأرز من جبيل إلى مصر. فكانت هذه البلاد مسرحاً للصيد والغزو وقد كتب قدماءُ المصريين وقائعهم وأساطيرهم في هذا الشأْن ولم ينته إلينا إلا القليل منها ويقل فيها وصف البلاد التي كانت تجري الغزوات فيها ومما وصلنا قصة قائد المشاة على عهد توتميس الثالث وكيف استولى بأعمال الحيلة عَلَى الزعيم الثائر في ثغر يافا وكيف ضربه بعصا فرعون الأكبر ولكنه لم يرد في هذه القصة وصف يافا وإقليمها. ويفهم من مجموع الأساطير والرحلات الباقية أن فرعون مصر كان يبعث بأعوانه يطوفون البلاد بلداً بلداً في آسيا ليطبعوا النفوس عَلَى احترامه وذكروا فيها ما لقوه من النصب في أسفارهم ولا سيما في اجتياز الغابات والشواطيء الجبلية أو القفار التي تفصل بين المدن المذكورة وبينهم مثل جبيل مدينة الآلهة ومدينة صور حيث كان السمك أكثر عدداً من الرمل والماء يحمل إليها في قوارب من اليابسة. وقصارى القول أن أبناء الرحلات التي رحلها المصريون عَلَى عهد الرعامسة أخلاف رعمسيس قد وصفوا آسيا وصفاً خيالياً تكاد لا تكون له صبغة خاصة ليس فيها إلا حروب ورحلات وحب وعشق. وفي أوراق البردي التي قرئت من مجموعة كولانيشف وصف رحلة مصري إلى آسيا في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وهي عبارة عن رحلة تاجر. وذلك أن رجلاً اسمه أونامونو عميد قاعة الكرنك في السنة الخامسة من حكم رعمسيس الثاني عشر وفي الزمن الذي كان فيه الكاهن الأعظم للرب عمون واسمه هريهور يحكم في طيبة وكان سمندس أول ملوك التانيتيين يحكم الدلتا وعاصمة مدينة تنيس ركب أونامونو

البحر إلى سورية للبحث عن الخشب اللازم لإنشاء قارب الرب عمون را فوقف أولاً عَلَى دور إحدى مدن زقالا في شمالي يافا ثم بلغ مدينة صور ثم جبيل ثم بلاد الأزيا وهي ليست محققة فبعضهم يقول أنها قبرص والآخر يقول أنها في مضيق نهر العاصي. وذكر هذا السائح أن أحد الملاحين سرق له أواني وسبائك ذهبية ولم يستطع أن يأْخذها منه في دور ولا في صور حتى إذا بلغ جبيل وقابل أميرها ذكر له هذا ما كان فراعنة مصر يبعثون به لآبائه من الهدايا وأنه لا يتيسر له أن يقبله بدون هدية مصرية تذكر واراه جريدة الهدايا التي كانوا يبعثون بها ولما وعده بمثلها عَلَى أن يرسل أناساً من قبله إلى ملك تنيس أمر له بثلثمائة رجل من رجاله وثلثمائة ثور وبعض ضباط لقطع الخشب من الغابات ليحمل من قابل على القوارب إلى مصر ثم استعمل أمير جبيل جفاء في مخاطبته رسول مصر وأخافه لما أَراه ما حل بمن جاء قبله من قبل الفراعنة بدوس أرض بلاده وأجداده وكل هذا مما يستأْنس به في العلائق التي كانت منذ القديمين المصريين والفينيقيين وإن فراعنة مصر عَلَى قوتهم وغناهم وأربلبهم وكهنتهم وسحرتهم لم يكونوا يرهبون سكان صور ودور وجبيل بل كان المصريون لا يقطعون الخشب من غابات لبنان إلا بما يقابلها من الهدايا والتحف المصرية ويؤخذ من كل هذه الروايات أن قدماء المصريين لم تكن لهم معرفة أكيدة إلا عن سورية أو الأصقاع القريبة منهم ولم يكن لهم معرفة أكيدة إلا عن سورية أو الأصقاع القريبة منهم ولم يكن لهم معرفة فيما وراءَ لبنان معرفة ينتفع بها في التاريخ الصحيح. مكتبة الإسكندرية كتب عبد الوهاب أفندي سليم التنير في مجلة النبراس بحثاً في موضوع حريق مكتبة الإسكندرية جاء فيه نقلاً عن كتاب ارتكابات الأوروبيين لصاحبيه جورج فوت وجمس أهلويلر ما تعريبه بالحرف. لقد قام الإفرنج بحرب طاحنة عَلَى الوثنيين وسفكوا الدماء وقد أمر الإمبراطور تيود وسيس بتحطيم أصنام الوثنيين وغيرها مما هو للوثنيين فقام بطريرك الإسكندرية وقاد أُمته وذهب بها إلى هيكل سيرابيس فدمروه ولما انتهى من خراب هياكلهم ذهب إلى المكتبة وأحرق ما فيها من الكتب حتى أصبحت رفارفها فارغة فلم يرها أحد بعد ذلك إلا تأسف

عليها غاية التأسف. فالذي أحرق مكتبة الإسكندرية هو البطريرك ثيوفيلوس بأمر الإمبراطور ثيوديس قبل دخول المسلمين إلى إسكندرية بسنين كثيرة ومعلوم أن الدين الإسلامي يمنع إحراق الكتب. وقال في كتابه المسمى (خرافات الأوربيين) ما ترجمته ملخصة: إن المكتبتين اللتين اسمهما البطالسة في الإسكندرية كان إحراقهما عن يد جيوش قيصر لما حاصر الإسكندرية وللتعويض عن هذا الخطأ أُهديت المكتبة التي جمعها يومياس ملك برغامة إلى الملكة كليوبطرا عن يد الملك أنطوني لكن حكم الدهر أو الجهل أن لا تبقى هذه المكتبة العظيمة أجيالاً فقد أحرقها البطريرك فيوفيلوس وأقام عَلَى أنقاضها كنيسة سماها كنيسة الشهداء. وجاء في دائرة المعارف طبع تشمبيرس وشركائه في المجلد الأول عند كلمة الإسكندرية ومكتبتها: ولما حاصر يوليوس قيصر مدينة الإسكندرية احترق قسم عظيم من هذه المكتبة غير أنها أُعيدت إلى ما كانت عليه بسبب الكتب التي جمعها ملك برغامة وأهداها إلى الملكة كليوبطرا وقد بقيت إلى زمن سيوديسيس الكبير ولما أمر هذا الإمبراطور بهدم معابد الوثنيين في أنحاء المملكة كافة هدموا هيكل سيرابس حيث المكتبة موجودة فهدموا الهيكل وأحرقوا المكتبة في سنة 391 بعد المسيح وليست العرب هي التي أحرقتها كما ينسب إليهم زوراً وبهتانا. وقال جون مسبرك في كتابه المسمى الإدعاآت الكاذبة: (إن الإفرنج هم الذين أحرقوا المكتبة الإسكندرية والمسلمون هم الذين أدخلوا العلم إلى أوربا) وقال المسترهلسلي أستيفونس في كتابه المسمى التفكر والأديان: (لقد أَحرقت مكتبة الإسكندرية أيدي الجاهلين وهي مكتبة مهمة وبفقدانها فقد العلم وبقيت أوربا تتخبط في ظلمات الجهل إلى أن أنارها المسلمون بعلومهم) وقال بيتنس في دائرة معارفه: (ولما افتتح يوليوس قيصر مدينة الإسكندرية احترقت المكتبة الأولى وبقيت المكتبة الثانية التي أُسست بعدها وقد زادت كتبها بالمجلدات التي أُهديت للملكة كليوبطرا عن يد مارك أنطوني وصارت أعظم من التي احترقت وبقيت إلى سنة 390 بعد المسيح حين قام الإفرنج على الوثنيين وهدموا معابدهم التي كان في جملتها هيكل سيرابيس وأحرقوا المكتبة) وقال جورج مرتين في كتابه درياق الخرافات ما ترجمته بالحرف: يا ترى ماذا صار بمكتبة الإسكندرية قل لقد أحرقها المتوحشون من الإفرنج بأمر ثيودوسيوس سنة 390 بعد المسيح. وهذه الكتب

الصامتة التي أُحرقت تشهد على الكذب الذي اختلقوه في رومية وقالوا أنها أُحرقت بأمر الخليفة عمر بن الخطاب ولقد نسبوا هذه النسبة الكاذبة الخاطئة إليه زوراً وبهتاناً. وقال فوت واهوبلر في كتابهما ارتكابات الإفرنج: قضى ثيودوسيوس عَلَى ما كتبه بوفيري كافة من كتب العلم بواسطة الإحراق وأمر أيضاً بإحراق كل الكتب التي تشتمل عَلَى شيء يخالف معتقدهم وقال أيضاً: والذي أحرق مكتبة الإسكندرية هو ثيوفيلوس لا المسلمون لأنو الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب وعدا هذا فإن المؤرخين الأول كافة الذين كانوا في عصر بدءِ الإسلام لم يذكروا مكتبة الإسكندرية قط مع أنهم ذكروا أموراً وشؤوناً طفيفة لا يؤْبه لها. وقال المطران يوسف الدبس في كتابه تاريخ سورية بعد أن ذكر ما ذكره لبعضهم من كيفية إحراق مكتبة الإسكندرية ونسبتها للمسلمين: روى هذه القصة كثير من المؤرخين النصارى وبعض المسلمين أيضاً عَلَى أن المدققين لم يقطعوا بصحتها. وقال رنان في خطاب له في العلم والإسلام: لقد قيل أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية وهذا كذب محض والمكتبة المذكورة قد أُحرقت قبل زمانه بسنين عديدة. وقد أورد الباحث نقولاً عن علماء الإفرنج يزيفون أقوال بعض أرباب الأهواء في نسبة الحريق للمسلمين ويبينون مأْخذ عبد اللطيف البغدادي وابن القفطي وابن العبري والحاج خليفة وليس لمكتبة الإسكندرية ذكر في عبارة أبي الفرج بن العبري الأصلية السريانية والنسخة العربية منقولة عنها كما أن بعض الخطوطات من تاريخه العربي لا أثر لهذه الرواية فيها والحاج خليفة لا ذكر للإسكندرية ومكتبتها في كتابه والبغدادي والقفطي نقلا عن رواية دسها عليهم بعض المتعصبين أو دسوها في عباراتهما. والمبحث مهم في ذاته يبين تعصب الإفرنج عَلَى الإسلام وبه يتم هذا المبحث الذي نشر المقتبس فيه عدة أبحاث أيضاً في سنيه الثلاث الأولى. حياة الرسول ينشر المسيو فيكتور شوفين من المستشرقين البلجيكيين منذ مدة كتاباً في أجزاءَ كثيرة يأْتي فيه عَلَى أسماء الكتب العربية التي نشرت في أوروبا المسيحية منذ سنة 1810 إلى 1885 والجزء الحادي عشر منه هو في الكتب والرسائل التي نشرت بشأْن الرسول (عليه

الصلاة والسلام) وعددها ثمانمائة كتاب ورسالة وربما نشر بعض الجمل المهمة منها. نشر الآراء عَلَى اختلافها ولم ير بأْساً من الإشارة إلى الكتب التي كتبت في القرون الوسطى عَلَى خاتم النبيين أيام كانت علوم أوربا وكلياتها وجامعاتها بيد رجال الدين فقط. انكلترا والشرق شعرت انكلترا بتخلفها عن أمم الغرب الراقية في معرفة علوم الشرق ولغاته فرأَت أن خير ذريعة لذلك إنشاءُ مدرسة للغات الشرقية الحية حتى لا تنازع نفوذها دولة في الشرق ولا سيما في الهند فعهدت إلى لجنة النظر في ذلك فقررت إنشاء مدرسة لهذا الغرض تضاف إلى كلية لندن عَلَى أن تكون مستقلة بأعمالها يتخرج فيها الموظفون والضباط الذين ترسلهم إلى الشرق بعد أن يتمكنوا من اللغة التي يريدون الخدمة بين أهلها لا أن يكتفوا كما كانوا باستظهار بعض الكلمات والجمل المحرفة. قال الأستاذ هدلم إن الواجب يقضي أن يكون الرجل الذي يذهب إلى الخارج مقتدراً عَلَى التكلم كما يتعلم الرجل المنوّر الفاضل ويكون شعوره وفكره كذلك لا إن يذهب فقط يتكلم التركية كما يتكلم بها جمال. وقد سئلت الحكومة في مجلس النبلاء عن الغرض من هذا العمل فابانت فوائده وعضده لورد مورلي حاكم الهند ولورد كرزون حاكمها السابق ولورد كرومر حاكم مصر وأبانوا النتائج الحسنة منه وقد استقلت بعض الجرائد المبالغ التي خصصت لذلك ولكن التيمس قالت إن هذه النبتة ستكبر من نفسها فإن المملكة البريطانية التي يتكلم باللغات الأجنبية ثلاثة من كل أربع من سكانها سيشير لها ذات يوم أن تنفق في سبيل تعلم اللغات مثل ما تصرف ألمانيا وفرنسا. العلوم والتربية الوطنية كتب المسيو إبيل في مجلة الأفكار الحديثة مقالة تحت هذا العنوان قال فيها: لكل أمة في كل عصر من عصورها نمط من التربية تختارها متناسبة مع حالتها الفكرية وحا أنها وضرورات بقائها والدفاع عن حوزتها وتأييد كلمتها وبيد الحكومة تحقيق هذا النموذج وتعيينه. نحن أمة ديمقراطية فيجب أن تكون غاية تعليمها الوطني أن يهي للأمة بأسرها أسباب حكم نفسها بنفسها وأن تعمل أصلح الأعمال بأقل جهد ويضمن لكل واحد أن يكون ما أمكن ممتعاً بشخصيته مطبوعاً بطابع الواجب الاجتماعي والواجب الوطني فيوجه إلى وجهة واحدة العنصرين اللذين بهما تتعلق حياة البلاد وأعني بهما نشاط الأفراد وهو موجد

القوة وفكر الاشتراك الذي يدعو أبناءَ النبعة الواحدة إلى التكافل والتضامن في أعمالهم ويكون رائدهم الوئام لئلا يدخل فيهم الخصام والانقسام بكون تعليمهم حقيقياً كما يقول الألمان ونافعاً في مجموعه وجهته بحيث ينبه في كل مكان روح التفكر والاعتماد عَلَى النفس والإقدام على العظائم. إبان البحث في المدنيات القديمة التي كان أساسها حتى الآن من الفلسفة أو من الدين إن الإلحاد والاعتقاد لم يستطيعا أن يؤلفا وحدة باقية بين فكر الاشتراك وعمل الفرد وإن تربية هذا أساسها تؤَدي عاجلا أو آجلاً إلى الضعف والاختلال ولا سيما في العصر الحاضر فإنها تؤَدي إليهما أكثر من الحرية الغير المحددة في التفكر والكتابة ونشر الآراء عَلَى اختلاف أنواعها بواسطة الصحافة الرخيصة. وليس كالعلم دواءٌ أنجح من هذا الداء فالعلم منبع التفكر والعمل والإخلاص الذي لا يطلب به صاحبه غرضاً وبالعمل النافع وبطريقة العلم تنتظم الأفكار العامة بنظام حسن وبها تضمن له وحدة الاتقاء مع ترك الحرية المطلقة لفكر الفرد. وبطريقة التعليم ينتفع من المتوسطين في ذكائهم المواظبين على أعمالهم فيخدمون خدماً حقيقية في الأعمال الصناعية والزراعية. إن صاحب الذكاء الحدود إذا جمع إليه عامة صفات العمل المتصوَّر لا يكون منه في الأدب ولا في الفلسفة إلا أمور تافهة. وعندما يجيءُ زمن تزول فيه كل سلطة قائمة عَلَى العهود الاجتماعية يؤَسس العلم سلطة لأراد لحكمها ولا أسطع من نورها تنشأُ عَلَى أصول راسخة عَلَى الأكفاء العاملين. وبتنظيم طريقة التعليم يجتنب الإسراف في الوقت والقوة بتلقين عادات التؤدة والنظر والتدقيق والبساطة في الأذواق منبهة شعور الظلام والجهل مع الرغبة في إمحائهما داعية المرءَ بما فيه من الصفات الأخلاقية والعقلية لا بما فيه من القوى الطبيعية ووجدانه في العمل وصدقه في الحكم وطريقة التعليم تورث العقل نظاماً وتعود الفكر عَلَى البحث والقلب عَلَى الصبر والجسم عَلَى النشطة وهي الكفيلة بتربية أبناءِ المدينة الفاضلة. ولقد اضطر المربون الأول في فرنسا أن يقبلوا إرث اليونان والرومان في العلم عَلَى ما فيه من الجاذبية والمخاطر وكانت دراسة اللاتينية أولاً فرضاً ثم ضارعتها اللغة اليونانية وحذفت من الدروس تعلم اللهجة الفرنسوية وظلت المناقشات السفسطائية والجدالات المذهبية زهاءَ ألف سنة مستولية عَلَى القوى العقلية في الأمة فأصبحت الواسطة غاية

وكان النقد الأدبي أول ما يعنى به فلم يكن للعلوم مقام في تعليم محدود بهذا القدر بل أنها أصبحت مجهولة في الأديار مهملة في الكليات وتابعة للفلسفة السكولاستيكية ولما غدا النظر في الطبيعة لا يعد سحراً أمسى العمل يوصم بوصفة الكفر ولكن النقد الأدبي ظل هو العلم ولم يقدر هذا إلا في أواخر القرن الثامن عشر أن يكون له كيان أمام ما كان يعتقد أنه علم وليس هو منه في شيء. وتكلم عَلَى التعليم في فرنسا وقسمه إلى ابتدائي ووسط وعالٍ وقال إن تعليم اللغة الفرنسية المقام العالي لأنه من البين أن أصل كل تهذيب يجب أن توضع معرفة لغة الإنسان في المقدمة معرفة حقيقية وقال إن العلوم الأدبية في درجات التعليم الثلاث هي موضوع الاهتمام والعناية ودارسوها أكثر من دراسي العلوم مع أن حضارة هذا القرن تقضي بأن تكون العلوم قبل كل شيء هي المعول على دراستها. فالأدب عند الفرنسيس هو الملجأُ المضمون لكل فرنسوي هو ملجأُ الأطباءِ الذين لازُبن لهم والمصورين الذين يئسوا من الكسب والضباط الذين عزفت نفوسهم من خدمة الجيش بل وكل من خانتهم قواهم ولم يجدوا لهم عملاً. الأخلاق الحربية قوة كل أمة بقوة أفرادها وجنديتها مناطة بقوة عضلات من تتألف منهم أكثر من كثرة عددهم فالجيش الألماني غلب الجيش الفرنسوي في حرب سنة السبعين بقوة أفراده وتنظيم كتائبه وأسباب راحته مع أن فرنسا كانت إذ ذاك تخرج من الجند عدداً أكبر والسر في تغلب الجيش الياباني عَلَى الجيش الروسي هو أنه مؤَلف من جند مختارين فيابان وهي أربعون مليوناً لم تخرج سوى ثلاث عشرة فرقة من أبنائها لحمل السلاح في حين أن تسعاً وثلاثين مليوناً من الفرنسيون يختارون لحمل السلاح من 42 إلى 45 فرقة أي ثلاثة أضعاف ما تخرج اليابان هذا مع أن الصناعات تكثر في يابان كثرة زائدة ومعلوم انحطاط قوى الصناع عن الزراع فيما يتعلق بالشؤون الحربية. وقد انحطت قوى الجند الفرنسوي اليوم عن مثلها منذ خمسين سنة كما يرى ذلك الضباط عياناً عند ما يقضي عَلَى الجند أن يعلموهم ويشغلوا أذهانهم كما يشغلوا عضلاتهم فليس الاستعداد العسكري هو الذي يرغب فيه بل تربية الجنس تربية طبيعية.

أما الانكليز فقد امتاز جندهم بطول القامات وصباحة الوجوه وحمرة الخدود ومن جال في انكلترا بل في البلاد التي استعمرتها هذه الدولة يتجلى له أنها توصلت بالمحافظة المعقولة عَلَى صحة أبنائها وبكثرة تمرينهم عَلَى الألعاب الرياضية حتى أصبح لديها جند مختار. دربوا البشر كما لدرب الخيول المطهمة وهل الإنسان إلا حيوان ناطق ولقد قال روسكين فيلسوف الإنكليز المشهور أن نتيجة كل ثروة إخراج خلق كثير من تكون صدورهم متسعة وعيونهم حادة براقة وقلوبهم فرحة. فاليابان هم أكثر الأمم عناية بالأمور الصحية وليست عنايتهم بها دون عنايتهم بتلقين العلم حتى إن بعض الدساكر والقرى من أواسط بلادهم قد حملت كلها السلاح للدفاع عن الوطن عندما نادى نذير الحرب. وكم من أمة جادت صحتها وقويت عضلات أبنائها ونشأَت فيها الأخلاق الحربية بفضل الرياضة المعقولة ومن تلك الأمم السويد فإنها كانت منهوكة القوى بالكحول فأبطلتها وما هو إلا جيل وآخر حتى أصبحت أمة قوية العضلات آية في الكر والفر ومثل ذلك رومانيا التي انبعثت فيها الحياة بعد أن كانت خمسة عشر قرناً ميداناً للغارات الكثيرة ولحكم الغرباء عليها فجعلت منذ ثلاث سنين التعليم العسكري الاستعدادي إجبارياً في جميع المدارس الابتدائية والثانوية والصناعية والعامة والخاصة يتولى ذلك معلمون يعينون خاصة لهذا الغرض وكثيراً ما يعضدهم الضباط. وجرى الطليان منذ سنتين عَلَى نشر مباديء الرماية والتعليم الطبيعي لتعد الشبان للخدمة العسكرية وتحافظ عَلَى ما تعلمه من التدريب الحربي من ليسوا تحت السلاح من أبناء إيطاليا ويكون التعليم إجبارياً في المدارس الابتدائية والوسطى بل في الكليات يعنى فيها عناية خاصة بمن يترشحون ليصبحوا أساتذة فيزيدون لهم درساً في حفظ الصحة والتعليم الطبيعي حتى لقد أصبحت مدارس المعلمين الثلاث في تورين ورومية ونابلي عبارة عن مجامع علمية لتخريج أساتذة. وعنيت البلجيك منذ سنة 1908 بأن أضافت إلى مدرسة الطب في كلية غاند مجمعاً علمياً عالياً للتربية الطبيعية واخترعت شهادات للمتخرجين في التربية الطبيعية. ولم تعمل بلد من بلاد الأرض ما عملته سويسرا في مسألة التربية الطبيعية للشبان وتدريبهم عَلَى الفنون العسكرية فقضت على كل طفل منذ سن العاشرة إلى خروجه من

المدرسة الابتدائية أن يحضر درساً في الرياضة الاستعدادية للخدمة العسكرية ويقوم بهذه الدروس أساتذة يتعلمون التعليم الكافي في دور المعلمين من كل إقليم وفي مدارس الجند. ويبلغ عدد المجندين كل سنة من 16 ألف إلى 18 ألف جندي تعلم نحو نصفهم الرماية من قبل. وأُنشئت في فرنسا جمعيات لإعداد الشبان للخدمة العسكرية والجيش حتى قال أحد القواد لأحد رجال سياسة فرنسا (هيأُوا لنا رجالاً لنجعل منهم جنداً) ومن هذه الجمعيات جمعيات الرياضة البدنية والتعليم والاستعداد العسكري والرماية والسيف والترس والبوكس والصراع وركب الدراجات والعوم إلخ. بلغ عدد أعضائها كلها 900 ألف رجل وامرأة من أعمال مختلفة ومظاهر وطبقات متباينة والحكومة تساعدها فتعطيها مليوناً وسبعمائة ألف فرنك كل سنة فضلاً عن وارداتها التي هي خمسة ملايين فرنك عدا ما يرد عليها من إعانات الأقاليم. المجالس النيابية مضت العشر سنين الأولى أو العقد الأول من القرن العشرين وقد كثرت المجالس النيابية أو امتدت سلطة الموجود منها ففي 10 أيار 1900 افتتح أول مجلس نيابي لجمهورية أوستراليا وفي 21 آذار 1907 افتتح مجلس جمهورية الترنسفال واجتمع في جتينة عاصمة الجبل الأسود منذ شهر تشرين الثاني 1906 إلى شهر نيسان 1907 أول مجلس نيابي فيها ولم تطل مدة الدوما الأولى الروسية سنة 1906 سوى مئة يوم وحدثت بعدها الثورة ثم خلقتها الثانية والثالثة وأُصيب القانون الأساسي في فنلندا سنة 1908 بما كاد يقضي عليه ثم عادت إليه حياته في الحال وبعد أن كان الدستور في الصرب والبلغار ساقطاً غير معمول به زمناً مثل دستور البرتقال عادت إليهما حياتهما بموت الملك إسكندر وكارلوس وافتتح الشاه المجلس النيابي الفارسي ثم أطلقت عليه القنابل وقتل أحرار الأمة الفارسية بيد المعطلين منها وسرت روح التجديد إلى البلاد العثمانية فأعيد قانونها الأساسي إلى العمل به يوم 23 تموز 1908 وفي هذه السنة أعلن القانون الأساسي في الصين. وما برحت المجالس النيابية معرضاً للتبديل والتغيير فتوسعت السويد بدستورها الذي نشرته سنة 1866 وقبلت بالانتخاب العام كما قبلت النمسا والدانيمرك (1907 ـ 1908)

وأصلح مجلس الرشسناغ في برلين بعض خصائصه مثل مجلس همبورغ والإلزاس لورين والمجر وأصبحت فنلندا تنتخب إلى مجلسها النيابي اثنتي عشرة امرأَة منذ سنة 1907 وكذلك تريد أن تطرس على آثارها النروج والدانيمرك والولايات المتحدة والبلجيك وإيطاليا واسبانيا ليشارك النساءُ الرجال في التشريع لبلادهن. ثم إن أول مجلس نيابي أي مجلس لندرا لم يخل من إدخال بعض إصلاحات عليه مثل مطالبته بإعطاء إيرلندا استقلالاً إدارياً وربما منح مصر مجلها النيابي لولا شؤُون وشجون كما أن مجلس النبلاء يوشك أن يدخله إصلاح ديمقراطي ثم إن النيابة الاسمية في الآراءِ قد انحلت مسألتها في نوشاتل وجنيف وتسين والبلجيك واسبانيا والبرتقال والدانيمرك والسويد وايلينوا وكليفورنيا وبرازيل ومملكة بونس أيرس ومملكة الرأْس كما أدخلت إلى فرنسا وإيطاليا وبعض الأقاليم السويسرية بعض التعديل في النيابة ونالت البوسنة والهرسك من دولة النمسا والمجر بعد انسلاخها رسمياً عن المملكة العثمانية مجلساً نيابياً أيضاً. غلاء الحاجيات تصاعدت أثمان الحاجيات في الغرب وأكثر بلاد الشرق منذ عشر سنين إلى الآن فارتفعت أسعار البقول ثلاثين في المئة وأسعار الحبوب عشرين والزيت خمسة عشر والسمك البحري عشرة والسمك المقدد خمسة وثلاثين والقهوة والشوكولاتا خمسة وعشرين والشحوم أربعة وثلاثين. وقد قسم بعض الباحثين بلاد العالم في غلائها إلى ست مناطق فجعل في المنطقة الأولى بلاد البلجيك واسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ والبرتقال وسويسرا وفرنسا. وفي الثانية ألمانيا وبافيرا والدانيمرك والجبل الأسود ونروج وأسوج وفي الثالثة النمسا وبريطانيا العظمى واليونان والمغرب الأقصى وهولاندة ورومانيا والصرب والعثمانية. وفي الرابعة مصر وإيران وروسيا. وفي الخامسة أوستراليا والصين وكوريا والهند الانكليزية والهند الهولاندية واليابان وسيام. وفي السادسة إفريقية الشمالية والغربية وأميركا الشمالية وكندا وجزائر الانتيل وأميركا الجنوبية. وبلاد الترنسفال أكثر بلاد الأرض غلاءً لأن الذهب فيها مبذول لكثرة مناجمه فيها ويليها في تفاحش الأسعار بلاد الهند بل جميع المستعمرات الانكليزية وفي استوكهلم عاصمة السويد غلت الحاجيات وأجور المساكن إلى درجة غير معقولة فأجرة الغرفة فيها كل شهر في حي الأغنياء خمسون ليرة وبيوت هذه

العاصمة للبلدية أو لنقابات وشركات حتى كاد العامل الفقير يهلك فيها والحكومة هناك تفكر في طريقة لتنفس خناق السكان من غلاءِ المأْكل والمسكن. الماء الغالي لا يخفى أن ثلاثة أرباع الجسم الإنساني مركب من الماء والربع فقط من المواد الآزوتية والكربونية وغيرها. وهكذا الحال في غذائنا وكثرة السوائل المائية فيه فإن في الكيلو من لحم البقر أو الغنم 250 غراماً من المواد اللحمية و750 غراماً من الماء ولحم السمك وهو كثير التغذية جداً يحتوي أيضاً عَلَى كمية أكثر من الماء ففيه منه من 770 إلى 780 غراماً في كل كيلو أما اللبن الحليب فيكاد لا يحتوي عَلَى أكثر من 120 غراماً من المواد المغذية والبقول أكثر مائية من غيرها فإن عشرة كيلو من البطاطا تحتوي عَلَى نحو 8 كيلو من الماء وفي عشرة كيلو من الملفوف أو الشوندر 9 كيلو من الماء. معدل القهوة لا يخفى أن القهوة من الأشربة المهيجة للأعصاب وإن كثيراً من الناس الذين يحبون طعمها ورائحتها الذكية تضطرهم الحال أن يحرموا منها لأنها تورثهم أرقاً واضطرابات عصبية. وفي سنة 1820 اكتشف (رونج) المادة المعروفة في القهوة واسمها الكافيين وأنها هي من أهم العوامل المؤثرة في هذه البزرة ولكن روبر هاس قد أبان أن في القهوة ما خلا الكافيين عدة مواد أكثر سمية منها وهي غير معروفة. فإن كان استعمال القهوة بكثرة أو بقلة يحدث لبعض متناوليها شيئاً من الاضطراب أحياناً فإن الدكتور كوفيه حقن أرنباً في أعصابه الوداجية بنقيع القهوة فاضطرب جسمه أولاً ثم اهتز ثم عرته تشنجات ثم الموت عَلَى أن القهوة إذا عزلت من مادتها السامة أيضاً وهي الكافيين تظل عَلَى ضررها. وعلى هذا رأى علماء الصحة أن دعوة الناس إلى الإقلاع عن شراب القهوة من العبث ما دام استعمالها شائعاً في الأرض عَلَى ما هو معلوم وأثبتوا أنه يتأتى تناولها بدون أن تؤثر في الأعصاب إذا كانت محضرة جيداً. ولئن خلطوا القهوة بالهندباء الناشفة المحمصة أو البلوط الحمص وبذر الجاودار والتين المحروق والشيل (عرق الإنجيل) والشعير والذرة والأرز والدخن والفاصوليا والحمص والعدس والفول والبطاطا والهليون ونوى التمر والكستانة ليخدعوا الناس ولكن أحد الفرنسيس عثر عَلَى نبات اسمُه (المقري) باسم وزير

الحربية المراكشية إذا مزج بالقهوة لا يغير من طعمها ورائحتها الذكية بل يقلل من تأثيرها في الأعصاب وثمن هذا النبات معتدل مثل الهندباء واستعمال هذا النبات معدل اقتصادي وصحي فحبذا يوم يأتينا بكثرة إلى هذه الديار. الذهب والفضة قالت مجلة الطبيعة الفرنسوية: بلغت قيمة ما استخرج من الذهب سنة 1909 2300 مليون فرنك أكثر من ثلثها من إفريقية الجنوبية فزاد المستخرج منه من بلاد الترنسفال وحدها ثلاثين مليوناً كما زادت كل من كندا والولايات المتحدة والمكسيك من 6 إلى عشرة ملايين أما أوستراليا فقد نزل محصولها عَلَى هذه النسبة وزاد المستخرج منه في روسيا خمسة عشر مليوناً. وقد كان المستخرج من الترنسفال 765 مليون فرنك ومن رودوسيا 64 ومن غربي إفريقية 23 ومن كندا 53 ومن الولايات المتحدة 490 ومن أوستراليا 363 ومن المكسيك 130 ومن الهند 52 ومن روسيا 171 ومن الصين واليابان وكوريا 55 ومن سائر الممالك 137. أما الفضة فإن استعمالها يكثر في الصناعات ويقلُّ في النقود وأثمانها في انخفاض وربما انخفضت أكثر وإن كان المستخرج منها منذ عشرين سنة أقل من المستخرج من الذهب بالنسبة فيكاد وزن الفضة المستخرج اليوم يعادل ثمانية أضعاف ما يستخرج من الذهب عَلَى حين كان منذ 17 سنة أكثر من ذلك باثنين وعشرين مرة وبلغ المستخرج سنة 1909 من الفضة 6600 طن أو 214 مليون أونس أو نصف الأوقية وقد كانت الولايات المتحدة الأولى في كثرة ما يستخرج منها فأصبحت منذ ثلاث سنين الثانية وزاد المحصول في المكسيك ضعفين كما كثر في كندا ولم تكن مناجم الفضة معروفة فيها قبل سبع سنين وتستخرج الفضة من مقاطعة كوبات في ولاية أونتاريو كما يستخرج من بروكن هيل في شاطيء أوستراليا الجنوبية وغاليا الجديدة في الجنوب. والطلب قلَّ عَلَى الفضة لأن الممالك الكبرى لا تبتاع منه إلا ما تصوغ منها نقوداً ونصفه يصرف في بلاد الصين والهند فإن بلاد الهند وحدها تبتاع 2870 طناً للحلي حتى أن حكومتها اضطرت أن تضرب رسماً فاحشاً عَلَى الوارد منها أي 17 في المئة لسد العجز الذي يبدو من الصين في مقاومة الأفيون.

أثر روماني قطعت الصخور الموجودة في طريق سوق وادي بردى من أعمال دمشق وكان في زمن الرومانيين من المراكز المهمة ويدعى هابيلا ليزانيا أو هابيلا نوزيوم وقد عثر فيه عَلَى كتابات منقوشة في الصخور باسم مارقوس أورليوس إمبراطور الرومانيين. أثر فينيقي عثر في ضواحي بيروت في قرية برج عمود من أعمال الساحل على مغارة قديمة وجدوا فيها سلماً ينزل منه إلى مغارة مربعة ووجدوا في الجهات الأربع منها أضرحة محفورة في صخور منحوتة نحتاً جميلاً ووجدت فيها بعض العظام ويقال أن هذه المغارة يرد عهدها إلى الرومانيين. أعمق بئر أعمق بئر في العالم ذاك الذي حفر في كزوشي من أعمال بولونيا فهو عَلَى 2100 متر من سطح الأرض. وثم يجيءُ بئر باروشوفيز في سليزيا العليا وعمقه 2003 أمتار ثم بئر شالوباش في بلاد ساكس البروسيالية وعمقه 1748 متراً. وسيزيد في نقب البئر الأول لأن طبيعة الأرض تساعد عَلَى ذلك أما عرضه فهو 67 ميلمتراً فقط. مملكة بردسي قليل من الناس من يعرفون أن لملك انكلترا زميلاً وجاراً ونعني به ملك جزيرة بردسي الواقعة على نحو ثلاثة كيلومترات من شبه جزيرة لوين من أعمال كارنافون في بلاد الغال. وهذ المملكة الصغرى مستقلة كل الاستقلال ولا تعترف بسلطة ملك بريطانيا العظمى عليها. وليس في هذه المملكة سوى 77 ساكناً يدخل فيهم الملك والملكة اللذان حكم أجدادهما هذه الجزيرة الصغرى منذ عهد عريق في القديم. أما لسانهم فهو لهجة تخالف اللهجة الانكليزية كل المخالفة. ولهذا القيل أو الملك الصغير عدا إدارة ملكه أعمال منها أنه معلم المدرسة وضابط في الأركان حرب ولا يخضع للقوانين الانكليزية ولا يدفع السكان خراجاً ما ويعيشون مرفهين بتناول خبز الشعير والحليب والزبدة. ولهم من الصخور المحيطة بهم مادة للسرطان البحري يتناولون منها ما شاؤا ويبيعونها من الأجانب عنهم

بسعر بخس ولا يهتمون بتاتاً بما يحدث خارج بلادهم ولا تدخل جريدة إلى هذه الجزيرة التي لا مثيل لها ولا يخرج ملاح منهم عندما تشتد أنواءُ البحر بسبب الصخور المحدقة بالجزيرة. رجل القطعان رجل القطعان من الغنم والخرفان في العالم هو روسي اسمه غستاف كوفانونيش يملك في سهول سيبيريا ألوفاً من الأفدنة ترعى فيها قطعانه البالغ عدد غنمها مليوناً وسبعمائة ألف يحرسها زهاء ثلاثين ألف كلب من هجمات الذئاب والحيوانات المفترسة. معدل الأعمار تؤَكد بعض صحف ألمانيا أن معدل الحياة آخذ بالازدياد فقد زاد في ألمانيا من سنة 1891 إلى 1900 زيادة تذكر بالنسبة للعشر سنوات التي مضت بين سنة 1871 و1881 فصار متوسط حياة الرجل 48 سنة و85 يوماً وكان 38 سنة ويوماً واحداً ومتوسط حياة النساء 54 سنة و9 أيام وكان 42 سنة و5 أيام وذلك بفضل الوسائط الصحية في البيوت والشوارع والمحال العامة. صحة العين كتب الدكتور تروسو أن 43 في المئة من العمي يمكن إنقاذهم مما نالهم وكتب الدكتور موتي الفرنسوي أن ثلاثة ملايين من العملة والمستخدمين والطلبة يتعرضون كل يوم لما يجلب الأخطار عَلَى عيونهم وقد رأَى الدكتور بولي أن الواجب عَلَى كل ولد واطيء النظر أو لا يميز الأشياء جيداً أن يعرض عينيه عَلَى طبيب العيون ويضع نظارات عَلَى عينيه ومن كان أحسر قصير البصر فاستعماله للنظارات أحسن واقٍ لعينيه والواجب ملاحظة الولد بعناية دائمة خلال القراءة والكتابة وأعماله الجزئية وألعابه وإذا أصيب بالحميراء أو القرمزية أو الجدري أو غيره من الأمراض المعدية تجب العناية بعينيه من وراء الغاية وأن أقل التهاب في الملتحمة يعدي ويكون فيه حبيبات ينبغي أن تتخذ لها أنواع الوقاية والعزلة ويجبر العملة أثناءَ العمل أن يقفوا مستوية قاماتهم وأن يكون النور في النهار عن شمال المرء ومن ورائه قليلا ونور الليل عن الشمال وقليلا إلى الأمام والكوى (آباجور) نافعة عَلَى أن لا تكون شفافة وتختبيءُ وراءَها الوجوه وإذا كان ضوءُ الكهرباء مضراً

للعيون كثيراً بما فيه من الأضعة البنفسجية الكثيرة فالواجب استعمال زجاجات ملونة بالصفرة لا ترسل النور إلا خالياً من أشعته. والواجب في جميع الصناعات التي يلحظ أنها تحمل أشياء ضارة للعيون أن يضع المرءُ عَلَى عينيه نظارات تقيه منها وإذا لوحظ ضعف في بصر الولد فالواجب استشارة الطبيب لاتخاذ الصنعة التي يختارها. الماء السائغ ألقى المستر هوبارد محاضرة أمام جمعية الفنون الانكليزية فقال أنه يتأتى في الأقاليم التي بقيت قفراء لقلة مائها أن يجمع فيها الماء الذي يجمع من الندى عَلَى مثال الطريقة التي جروا عليها في قلعة جبل طارق وذلك بأن يحفر في الأرض على سطح كافٍ وأن يغطى المحل المحفور بقش ناشف تمد عليه طبقة من الخزف أو تراب الفخار فيكون القش عبارة عن مولد للحرارة يفصل بين الخزف والأر وبعد غياب الشمس يبرد هذا الخزف عَلَى أسرع ما يكون وذلك ببروز الأشعة وتنزل حرارة في الحال عن درجة تبخر الهواء المحيط بذاك المكان فيتراكم البخار المائي ويتجمع في الحفرة. ويحسن أن يوضع عَلَى الأرض طبقة من الإسفلت حتى لا يضيع القش بندواته خاصية نقله للحرارة. وفي جبل طارق يستعيضون عن القش أو التبن بخشب وعن طبقة الخزف بصفائح حديد. التفنن في الإحسان اخترعوا في ألمانيا طريقة حسنة للإنفاق منها عَلَى المعوزين والبائسين فوضعوا في كل حانة علبة من المعدن جعلوها في زاوية منها فإذا دخن الإنسان لفافته يقوم فيطرح عقبها في العلبة. وهذه الطريقة من اختراع إحدى جمعيات الإحسان فتستخرج هذه الأطراف وتبتاع بها ألبسة لكسوة الأولاد المحاويج وبهذه الواسطة كست الجمعية في العام الماضي 1726 ولداً. أثمن النصائح الصحية هذه هي العشر النصائح في حفظ الصحة التي علقتها السويد في جميع مدارسها وهي حرية بأن يجعلها نصب عينه كل من تهمه صحته من الكبار والصغار: 1ـ الهواءُ الجديد في الليل والنهار من الشروط اللازمة للصحة فهو أحسن واقٍ من مرض الكلى.

2ـ في الحركة الحياة. فالواجب كل يوم الارتياض في الهواء الطلق بتحريك الأعضاء والنزهة وهذا مما يعدل مزاج العاملين وهم قعود. 3ـ الزم القصد والسذاجة في طعامك وشرابك فمن يفضل الماء والحليب والثمار عَلَى تعاطي الكحول يقوي صحته ويزيد في كفاءته عَلَى العمل وسعادته. 4ـ إليك ما تجب العناية به لتقوية بشرتك: الجلد لا يقوى عَلَى ألا يغسله بماء بارد كل يوم والاستحمام بالماء الحار كل أسبوع عَلَى مدار السنة. وبذلك يتيسر لك حفظ صحتك وتقي جسمك من البرد. 5ـ يجب أن لا تكون الثياب سميكة كثيراً ولا محكمة كثيراً. 6ـ ينبغي أن يكون المسكن معرضاً للشمس جافاً واسعاً نظيفاً نيراً لطيفاً صحياً. 7ـ عليك بالتشدد بالنظافة في كل أمر كالهواء والغذاءِ والماء والخبز والثوب والفراش والنار فإذا توخيت الطهارة في كل أمر وفي الأخلاق أيضاً تصبح بمأْمن من الهواءِ الأصفر والحمى التيفوس وعامة الأمراض السارية. 8ـ العمل المنظم الشديد من أحسن الواقيات من أمراض العقل وأمراض الجسم فهو العزاء في الشقاءِ والسعادة في الحياة. 9ـ لا يرى المرءُ الراحة والتسلية بعد العمل إلا في الأعياد العظيمة. فالليل للنوم وساعات الفراغ والأعياد يجب صرفها مع الأُسرة وفي الملاذ الروحية. 10ـ من أول شروط الصحة الجيدة: حياة تصرف في العمل والشرف بالأعمال الصالحة والأفراح الخالصة. ورغبة المرءِ في أن يكون خير عضو في بيته وعاملاً صالحاً في دائرته ووطنياً مستقيماً في وطنه وذلك مما يورث الحياة قيمة لا تقدّر. مخطوطات نادرة من كتب اللغة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بك في المدينة المنورة شرح كفاية المتحفظ لأبي الطيب الفاسي. شرح فصيح ثعلب لابن دستورية نسخ سنة 561. كتاب الضاد والظاء لابن سهل النحوي نسخ سنة 595 نحو ثلاث كراريس.

كتاب الأجناس من كلام العرب وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى لأبي عبيد القاسم بن سلام. تهذيب اللغة للأزهري. بصائر ذوي التمييز عَلَى لطائف التنزيل العزيز للفيروزبادي. كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام أحد عشر كراساً نسخ سنة 546. الغريب المصنف له اثنان وعشرون كراسا. مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين عبد المؤمن مدرس الحنابلة بالبشرية سنة 742. من فن الكلام شرح اشتقاق الأسماء الحسنى وصفائه المذكورة في الأثر لأبي القاسم الزجاجي نسخ سنة 434. سراج العقول في منهاج الأصول للقزويني ومعه شجون المسجون وفنون المفتون للصفدي. موضحات المتشبهات في الإنجيل للدرويش علي مجلد واحد مذهب. كتاب إيثار الحق عَلَى الخلق لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الشهير بابن الوزير اليمني نسخ في سنة 1114 وفي أوله ترجمة المؤلف تأْليف ابنه في نحو نصف كراس. رسالة في التوحيد لابن فورك. من المجاميع رسالة وقصائد شتى للجاحظ. رسالة أرسلها ابن زيدون إلى أستاذه. مجموع فيه عدة كتب من مصنفات البيهقي. منها كلام الشافعي في أحكام القرآن وخطأ من أخطاء الشافعي والانتقادات التي انتقد بها عَلَى الشافعي. مصارع المصارع لنصير الدين الطوسي. كتاب في أسماء الصحابة لأبي حاتم محمد بن حيان. رسالة من نسب إلى أمه من الشعراءِ لابن جني.

الإبانة لأبي الحسن الأشعري. رسالة في مكارم الأخلاق للثعالبي. أوصاف الأشراف للنصير الطوسي. كتاب النبات للأصمعي. مختلف الأسماء والأنساب والكنى والألقاب للذهبي. رسالة في عدم جواز الجمعة في موضعين الشيخ جلال الدين التباني. رسالة في اختلاف علماء الحنفية في الديار المصرية للبقاعي. أرجوزة تسمى الإتقان في علم الألحان. منظومة في علم القلم والحبر والكتابة والورق تصنيف الشيخ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي المعروف بابن البواب وعليها شرح مستمد من شرح ابن بصيص ومن شرح ابن وحيد. من المكتبة المحمودية في المدينة المنورة جوار المسجد الشريف شرح المقنع لشمس الدين بن قدامة المقدسي. اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية. مختصر فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية المصرية. جزء من فتاوية الكبرى. كتاب القواعد لابن رجب. كشف المسائل له أيضاً. تقرير القواعد له أيضاً. كتاب المحلى لابن حزم مجلد8. سنن البيهقي الكبرى مجلد10. كتاب أقضية الرسول لابن فرح الإشبيلي. وقد بلغ مجموع ما في المكتبة المحمودية من الكتب (4569) وما في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بك (5404).

ويوجد مكتبات أخر كمكتبة بشير آغا عند باب السلام ومجموعها (2063) ومكتبة شيخ الإسلام فيض الله أفندي ومجموعها (1246) ومكتبة عمر أفندي قره باش أحد كبار العلماء ومجموعها (1269) ومكتبات أخر معروفة يتراوح عددها ما بين المائة والألف.

إصلاح غلط

إصلاح غلط وقعت لنا أغلاط مطبعية كثيرة في بعض الأجزاء الماضية ولا سيما في الجزء الخامس والسادس الذي ظهر خلال تغيبنا عن هذه البلاد فتركنا إصلاحها لفطانة القاريء وقد كتب لنا أحد أصدقائنا في بغداد يقول: 1000 إلا أن الطبع لا يشبه ما طبع من المقتبس في السابق. وكثيراً ما يقع أغلاط طبع في الأسماء العلمية الأعجمية. وكذلك في الأسماء العربية. ومن ذلك ما وجدته في نبذة ري العراق ص525 ـ 526 بحيرة عكاركوف. والأصح: هور عقرقوف. والاسم مشهور في كتب العرب القديمة كياقوت والبلاذري والبكريّ وغيرهم. وصبارة والأصح أبو حبة (وهو الاسم الحالي) أو سبارة (وهو الاسم القديم) ونفور. والأصح نفر. وأرخ والأصح: وركاء. وتل سكرخ. والأصح سنكرة. وتل لو والأصح تلو أه فنشكر للناقد الكريم عنايته ونرجو أن يتفضل وسائر من أوتوا العلم أن يصححوا لنا ما يبدر منا ومن مؤازرينا من الهفوات فالعلم لاحيا إلا بالنقد الصحيح.

كتاب العرب

كتاب العرب أو الرد عَلَى الشعوبية لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة من أهل القرن الخامس تتمة ما في الجزءِ الماضي ومنهم الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه فقال في أمه: تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا أخالك تعقلينا أغر بألا إذا استودعت سراً ... وكانوناً عَلَى المتحديثينا وقال لأبيه: لحاك الله ثم لحاك حقا ... أبا ولحاك من عمر وخال فبئس الشيخ أنت عَلَى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال وقال لنفسه: أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله وأتى عيينة بن النهاس العجلي مادحا فقال عيينة لوكيله أذهب معه إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء ولا يومن به إلا اشتريته له فلما انصرف عنه قال: سئلت ولم تبخل ولم تعط طائلا ... نسيان لاذم عليك ولا حمد ومن لؤم الغرائز أيضا في الناس أن منهم من يؤثر ريح الكرابيس عَلَى ريح اليلنجوج وريح الحشوش عَلَى نفحات الورد، ويهتاج من النساءِ لذات القبح والدفر، ويكسل عن الحسناء ذات العطر، ومنها أن الرجل يكون في رخاءِ بعد بؤس وسعة بعد ضيق فيسأَم ما هو فيه ويرغب عنه إلى ما كان عليه، وقال أعرابي قدم المصر فحسنت حاله: أقول بالمصر لما ساَءني شبعي ... إلا سبيل إلي أرض بها جوع إلا سبيل إلى أرض بها غرث ... جوع يصدع منه الرأس برقوع وهذا وأشباهه من لئيم الغرائز كثير في الأمم وهذه الطبائع هي أسباب الشرف وأسباب

الخمول فذو الهمة تسمو به نفسه إلى معالي الأمور وترغب به عن الشائنات فيخاطر في طلب العظيم بعظيمته، ويستخف في ابتغاء المكارم بكريمته، ويركب الهول ويدرع الليل، ويحط إلى الحضيض، وتأْبى نفسه إلا علواً حتى يسعد بهمته، ويظفر ببغيته، ويحوز الشرف لنفسه وذريته، ومن لا همة له جثامة لبد يغتنم الأكلة ويرضى بالدون ويستطيب الدعة وإن أعدم لم يأْنف من ذل السؤال والجبان يفرعن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه والشجاع يحمي من لا يناسبه بسيفه وبقي الجار والرفيق بمحبته والبخيل يبخل على نفسه بالقليل والجواد يجود لمن لا يعرفه بالجزيل وقال الله عز وجل (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) يريد قد أفلح من أنمى نفسه بالمعروف وأعلاها وقد خاب من أسقطها بلئيم الأخلاق وأخفاها وقد يكون الرجل مخالفاً لأبيه في الأخلاق وفي الشمائل أو في الهمم أو في جميع ذلك لعرق نزعه من قبل أجداده لأبيه وأمه وقال الشاعر: وأشبهت جدك شر الجدود ... والعرق يسري إلى النائم ومن الناس الشريف الحسيب وذلك الذي جمع إلى محاسن آبائه محاسن ومنهم الشريف ولا حسب له وذلك إذا كان لئيم النفس ومنهم من لا شرف له ولا حسب وذلك إذا كان لئيم النفس لئيم السلف. وقال قيس بن ساعدة لأقضين بين العرب قضية ما قضى بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي (أيما رجل رمى بملأَمة دونها كرم فلا لؤم عليه وأيما رجل ادعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له) يعني أن أولى الأمور بالمرء خصاله في نفسه فإن كان شريفاً في نفسه وآباؤُه لئام لم يضره ذلك وكان الشرف أولى به وإن كان لئيماً في نفسه وآباؤُه كرام لم ينفعه ذلك. ومثله قول عائشة: كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤُم دونه شرف فالشرف أولى به: وقال الشاعر في مثله ومن بك ذا لؤُم ومجد يعده ... فأولى به من ذاك ما كان أقربا فلا لؤُم عوداً بعد مجد يده ... ولا مجد معدوداً إذا اللؤم عقبا والحسب مأْخوذ من قولك حسبت الشيء أحسبه حسباً إذا عدوته وكان الرجل الشريف يحسب مآثر آبائه وبعدهم رجلاً رجلاً فيقال لفلان حسب أي آباء يعدون وفضائل تحسب فالمصدر مسكن والاسم مفتوح كما تقول هدمت الحائط هدما فتسكن المصدر وتقول لما

سقط إلى الأرض هد فتفتح الدال من الاسم وكذلك الأمم فيها أمة كرم بلبانها كالعرب فإنها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم وتتعاير بالبخل والغدر والسفه وتتنزه من الدناءَ والمذمة وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة وتوجب للبحار من حفظ الجوار ورعاية الحق فوق ما توجبه للحميم والشفيق فربما بذل أحدهم نفسه دون جاره ووقي ماله بماله وقتل حميمه. منهم كعب بن مامة وكان إذا جاوره جار فمات بعض لحمته وداه وإذا مات له بعير أو شاة أعطاه مكان ذلك مثله. ومنهم عمير بن نسلي الحنفي أحد أَوفياء العرب وكان له جار فخالفه أخوه قرين إلى امرأَة فاشتد الرجل في حفظ امرأَته فقتله وكان عمير غائباً فلما قدم وخبر بذلك دفع قريناً إلى ولي المقتول فقتله واعتذر إلى أمه وعظم جرمه فقالت: تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما ومن أعجب أمر في الجوار قصة أبي حنبل حارثة بن مرَّ وكان الجراد سقط بقرب بيته فقصد الحي لصيده فلما رآهم قال أين تريدون قالوا نريد جارك هذا فقال أي جيراني قالوا الجراد فقال أما إذ جعلتموه لي جاراً فوالله لا تصلون إليه ثم منع عنه حتى انصرفوا ففخر بعضهم فقال: لنا هضبة ولنا معقل ... صعدنا إليه بصم الصعاد ملكاه في أوليات الزمان ... من بعد نوح ومن بعد عاد ومنا ابن مرَّ أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد وزيد لنا ولنا حاتم ... غياث الورى في السنين الشداد وقال قيس بن عاصم يذكر قومه: لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن وقال مسكين الدارمي: ناري ونار البحار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جاراً لي يجاورني ... أن لا يكون لبابه ستر وقال الحطيئة بعد محاسن قومه: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

وإن كانت النعماء فيهم جروا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا يسوسون أحلاما بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا ولهم الضيافة عامة شاملة في جميع البادين منهم والإيثار عَلَى النفس والجود بالموجود وأفضل العطا جهد المقل. وقال عثمان بن أبي العاص: لذرهم يخرجه أحدكم من جهد فيضه في حق خير من عشرة آلاف درهم يخرجها أحدنا غيضاً من فيض: ولولا ما تواصوا به من الضيافة وتحاضوا عليه من الإيثار لمات الخير وأبدع به دون غايته. وقال أرطاة بن سهية: وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... إلى النفس إلا أن تصان الحلائل وقال ابن أبي الزناد قال عبد الملك بن مروان ما يسرني أن أحد من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله: وإني أمروءٌ عافي إنائي شركة ... وأنت امروءٌ عافي إناؤُك واحد أتهزأُ مني أن سمنت وإن ترى ... بجسمي مس الحق والحق جاهد أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد يريد أنه يقسم قوته على أضيافه فكأَنه قسم جسمه لأن اللحم الذي ينبت ذلك الطعام يصير لغيره ويحسو قراح الماءِ في الشتاء ووقت الجدب والضيق لأنه يؤَثر باللبن فتوقف عَلَى هذا الشعر وعَلَى ما فيه من شريف المعاني. وقال آخر: إذا ما عملت الزاد فالتمس له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي بعيداً قصياً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي فكيف يسيغ المرءُ زاداً وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد ولعل الطاعن أن يقول في هذا الموضوع فأين هو من ذكر مزرد وحميد الأرقط وهجائهما للأضياف وأين هو من مطاعمهما الخبيثة من الحيات والضباب واليرابيع والعلهن وشربهم الفظ والمجدوح وأكل ميلسرهم لحوم الإبل حيذاً غير نضج ونيا والعروق والعلابي وسقط

المائدة لا يعافون شيئاً ولا يتقذرون أكل السباع ونهش الكلاب ويفخر عليهم بأطعمة العجم وحلوائها وآدابها عَلَى الطعام وكلها باليارحين والسكين فإما هذان الشاعران اللذان يهجوان الأضياف ويصفانهم بكثرة الأكل وجودة اللقم فإن أحدهما كان فقيرا ضعيف الحال فإذا نزل به الضيف لم يجد بداً من إيثاره بقليل ما عنده أو مشاركته فيه فيبيت طاوياً ويصبح جائعاً ويجيش صدره بما حل به والشاعر بمنزلة المصدور لابد من أن ينفث فيستريح إلى ذكر لقم الضيف ووصف أكله وحديثه قال هو أو غيره بذكر الضيف: تجهز كفاه ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت إليه الأنامل يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... ابن لي ما الحجاج بالناس فاعل فقلت له ما إن لهذا طرقتنا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل وقال أيضاً يذكر الأضياف: باتوا وجلتنا الشهرين بينهم ... كأَن أظفارهم فيها السكاكين فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين أراد من الأضياف من يأْكل التمر بالنوى وهذا يدل عَلَى شدة فقره. وأما مزرد فكان شرهاً منهوماً والشره رفيق البخل وهو القائل: لبكت بصاعتي صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربع فقلت لبطني أبشر اليوم إنه ... حوى أمنا مما تحوز وترفع فإن يك مصبوراً فهذا دواؤه ... وإن يك غرثاناً فذا يوم يشبع وقال الحطيئة: أعددت للضيفان كباً ضارياً ... عندي وفضل هراوة من أرزان ومعاذراً كذباً ووجهاً باسراً ... وتشكياً عض الزمان الألزان وهذا شر القوم وليس من الناس صنف إلا وفيه الخير والشر عَلَى ذلك أُسست الدنيا وعليه درج الناس ولولا أحدهما ما عرف الآخر وإنما يقضي بأغلب الأمور ويحكمون بأشهر الأخلاق. وليس في ثلاثة من الشعراء أو أربعة ما هدر مكارم الأخلاق آلاف من الناس وبدد صنائعهم. فهذا كعب بن مامة آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري حتى مات عطشاً.

وهذا حاتم الطائيّ قسم ماله بضع عشرة مرة ومرة في سفره عَلَى عنزة وفيهم أسير فاستغاث به ولم يحضره شيءٌ فاشتراه من العنزيين فخلاه وأقام مكانه في القد حتى أدى فداءه. وكل فخر في طي فهو راجع إلى نزار ولهم الجبلان وهما بنجد وأخذهم بآدابهم وتخلقهم بأخلاقهم. وهذا عديُّ شاطر ابن دارة الشاعر ماله. وهذا معن في الإسلام كان يقول فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج. وأتاه رجل يستحمله فقال يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية ولو عرفت مركوباً غير هذا لأعطيتكه. وهذا نهيك بن مالك بن معوية باع إبله وانطلق بأثمانها إلى منى فانهبها والناس يقولون مجنون فقال: لست بمجنون ولكني سمح ... أنهيكم مالي إذا عز القمح وهذا شيء بكثر جداً ويتسع القول فيه ويخرج الكتاب من فنه باستقصائه وكان غرضنا في هذا الكتاب أن ننبه بالقليل من كل شيء في عيون الأخبار. وأما تعييرهم إياهم بخبيث المطعم كالعلهز والحيات وخبيث المشرب كالفظ والمجدوح فإن هذا وأشباهه طعام المجاوع والضرورات وطعام نازلة الفقر والفلوات وقال الشاعر: إذا السنة الشهبآء حل حرمها يريد أنهم يأْكلون فيها الميتة وقال الراعي: إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها ... وقد يكرم الأضياف والقد يشتوي وإنما كأن يكون هذا عيباً لو كانت العرب مختارة له في حالة اليسر كما تختار بعض العجم الذباب وبهم عنه غنى والسراطين والدجاج لهم معرضة فأما حال الضرورة فالناس كلهم يعسرون فمن لم يجد اللحم أكل اليربوع والضب ومن لم يجد المآء شرب المحدوح والفظ. قال الأصمعي أغير عَلَى إبل حريثة فذهب فركب بحيرة فقيل أتركب الحرام فقال يركب الحرام من لا حلال له: وقال الشاعر: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع ومما يدلك عَلَى أن أهل الثروة منهم على خلاف ما عليه الصعاليك والغثر قول الشاعر: فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان أنهار البريض فالتقى من أكل لحوم الغربان وعير بها قوما.

وقال آخر لامرأَة: أكلت دماً إن لم أرعك نصرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر فلو كان شرب المجدوح عنده محموداً لم يجعل يمينه شرب الدم كما يقول القائل شركت بالله إن لم أفعل كذا وكذا. وقال آخر: نعاف وإن كانت خماصاً بطوننا ... لباب النقي والعجاب المجردا يريد أنه يرغب وإن كان جائعاً عن أكل الخبز بالتمر إلى أكله بالشحم ونزل رجل من العرب فقدم إليه جراداً فعافها وأنشأ يقول: لحى الله بيتاً ضمني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل المظلم فأبصرت شبحاً قاعداً بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم أتاني بيرقان الدبا في إنائه ... ولم يك في برق الدبا لي مطعم فقلت له غيب إناءك واعتزل ... فهل ذاق هذا إلا أبا لك مسلم وأما أكلهم العلابي والعروق واللحم النيء وتركهم طيبة الأطعمة والأطبخة وحسن الأدب عند الأكل فهذا لعمري هو الأغلب على من الأغلب عليه الفقر فأما ذووا النعمة واليسار والأقدار فقد كانوا يعرفون أطايب الطعام ويأْكلونها ويأْخذون بأحسن الأدب عليها. فالمضيرة لهم واسمها يدلك على ذلك تطبخ باللبن الماضر وهو الحامض فاشتق اسمها منه. والهريسة لهم سميت بذلك لأنها تهرس أي تدق ويقال للمدق المهراس والوشيقة لهم والعامة تسميها العشيقة سميت بذلك لأنها توشق أي تقطع صغاراً والعصيدة لهم وسميت بذلك لأنها تعصد إذا عملت أي تلوى وكل شيءٍ ألويته فقد عصدته ومنه قيل للمائل عنقه عاصد وقال مرود: لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربع وهذا هو العصيدة وقال أمية ابن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان: له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى روح من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد وهذا هو الفالوذ وهم أوصف الناس للطعام وألطفهم في ذكره. حدثني أبو حاتم قال حدثني

الأصمعي قال حدثنا أبو طفيلة قال حدثنا شيخ من أهل البادية قال ضفنا فلاناً بحنطة كأَنها مناقير النغران وتمر كأَنها أعناق الورلان يوحل فيها الضرس. وحثنا الأصمعي أيضاً عن أعرابي أنه قال تمرنا خرس فطس يغيب فيه الضرس كأَن نواهن السن الطير تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبك. وحدثني عبد الرحمن عن عمه قال قال شيخ من أهل المدينة فأتاني بمرقة كأن فيها مشقاً فلم أر الأكبداً طافية فغمست يدي فوجدت مضغة فمددتها فامتدت حتى كأَني أزمر في ناي ولهم أطبخة كثيرة من أطبختهم الغسانية وهي لا تعرفها عامتنا كالحيسة والربيكة والخزيرة واللفيتة تركت ذكرها واقتصرت عَلَى ما تعرف وكانوا يقولون: أطيب اللحم عوذه: يريدون أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذ به. وكانوا يقولون إذا كنتم فسموا وادنوا يريدون بادنوا كلوا مما بين أيديكم وكانوا يكرهون أكل الدماغ ويرون استخراجه رغباً وحرصاً وقال قائلهم: ولا يتقى المخ الذي في الجماجم ومن قبائل العرب من يعاف إليه الشاة ويقولون هي طبق الاست وقال قائلهم: وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل عَلَى عمد وكانوا يمدحون بقلة الأكل وقال أعشى باهلة: تكفيه حزة فلذان ألمّ بها ... من الشواءِ ويروى شربة الغمر ويعيبون بالشره والنهم والكسل ويقول للبخيل الأكول أبرماً قروناً يريد أن لا يخرج مع أصحابه شيئاً ويأْكل تمرتين واسل البرم الذي لا يسير مع القوم وقال بعض الرجاز: تسأَلنا عن بعلها أي فتى ... خب جبان وإذا جاع بكى لا حطب القوم ولا القوم سقى ... ولا ركاب القوم إن ضلعت بغى ويأْكل التمر ولا يلقي النوى ... ولا يواري فرجه إذا اصطلى كأَنه غرارة ملأَى حثا وقال الأحنف جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام فإني أبغض أن يكون الرجل وصافا لبطنه وفرجه. وأن من المرؤة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه وقال قائلهم: أقلل طعاماً، تحمد مناما،

وقال أيضا: غلبت بطنتي فطنتي. وقال عمرو بن العاص لمعوية يوم حكم الحكمان: أكثروا الطعام فوالله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا. ومثل هذا كثير لمن تتبعه فكيف تكون المعرفة بالطعام والأدب عليه إلا كما وصفنا فأما تركهم أنضاج اللحم فلا أعلمه إلا في موضع واحد وهو إذا سافروا وغزوا فإنهم يتمدحون بترك الأنضاج لعجلة الزماع وقال الشماخ: وأشعث قد قدَّ السفار قميصه ... يجز الشواء بالعصا غير منضح وقال الكميت: ومرضوفة لم تون في الطبخ طاهياً ... عجلت إلى محورها حين غرغرا ولم يزل الشرب إذا اجتمعوا والأحداث من أولاد الملوك وغيرهم يبادرون بالنشيل قبل النضج. قال أعرابي نحر بعيره وشرب: عللاني إنما الدنيا عُلل ... ودعاني من ملام وعذل وانشلا ما أغبر من قدريكما ... وأسقياني أبعد الله الجمل وأما أكلهم سقط المائدة فإنه أكرام للطعام وإعظام للنعمة وجنس من الشكر لواهبها ونبذه في المزابل استخفاف به وتصغير له وبخس بمؤْتيه حق عطيته، ومن وهب لك شيئاً صنته وعظمته سمحت لك نفسه بالزيادة منه، وإن احتقرته وازدريته كان حريا أن يقطعه والطعام أعظم نعم الله عَلَى خلقه بعد معرفته لأنه مثبت الروح وممسك الرمق فمن صانه فقد عظم نعمة الله واستوجب زيادة الله ومن امتهنه في غير ما خلق له فقد صغرها واستوجب سخط الله. حدثنا يزيد بن عمرو قال حدثنا أيوب بن سليمان عن محمد بن زيادة عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال ولا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم بأكل سقط المائدة وزغبنا فيه. والعجب عندي من قوم نحلتهم الإسلام ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم تتابعت الأخبار عنه بشيء أمر به أو نهى عنه فيعارضون ذلك بالعيب وبالطعن من غير أن يعرفوا العلة

ولا أن يكون لهم في الإنكار له نفع أو عليهم في الإقرار به ضرر. وأما أكلهم باليارحين والسكين فمفد للطعام ناقص للذته والناس يعلمون إلا من عاند منهم وقال بخلاف ما تعرفه نفسه أن أطيب المأْكل ما باشرته كف آكله ولذلك خلقت الكف للبطش والتناول والتقذر من اليد المطهرة وعجب وأولى بالتقذر من اليد الريق والبلغم والنخاع الذي لا يسوغ الطعام إلا به وكف الطباخ والخباز تباشره والإنسان ربما كان منه أقل تقذراً وأشد إنساً. وأما الشجاعة فإن العرب في الجاهلية أعز الأمم أنفساً وأعزها حريماً وأحماها أنوفاً وأخشنها جانباً وكانت تغير في جنبات فارس وتطرقها حتى تحتاج الملوك إلى مداراتها وأخذ الرهن منها والعجم تفخر بأساورة فارس ومرازبتها وقد كان لعمري لهم البأْس والنجدة غير أن بين العرب وبينها في ذلك فرقاً منه أن العجم كانت أكثر أموالاً وأجود سلاحاً وأحصن بيتاً وأشد اجتماعاً وكانت تحارب برياسة الملك وسياسة سلطان وهذه أمور تقوي المنة وتشد الأركان وتؤَيد القلوب وتثبت الأقدام والعرب يومئذ منقطعة ليس لها نظام ومتفرقة ليس لها التئام وأكثرها يحارب راجلا بالسيف الكليل والرمح الذليل والفارس منها يحارب عَلَى الفرس العربي الذي لا سراج لع وعَلَى السرج الرث الذي لا ركاب له والأغلب عَلَى قتال العجم الرمي والأغلب عَلَى قتال العرب السيف والرمح وهما أدخل في الجلد وأبعد من الفرار وأدل على الصبر. وشجعاؤُهم في الجاهلية مثل عتيبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس وبسطام بن قيس وبجير وعفاف ابني أبي مليل وعامر بن الطفيل وعمرو بن ود وأشباههم وفي الإسلام مثل الزبير وعلي وطلحة ورجال من الأنصار وعبد الله بن حازم السلمي وعباد بن الحصين وقال ما ظننت أن أحداً يعدل بألف فارس حتى رأَيت عباداً ليلة كإبل وقطري ابن الفجاءة وشبيب الحروري وأمثال هؤُلاء عدد الرمل والحصا ليس منهم أحد إذا أنت توقفت عَلَى إخباره وحاله في شجاعته إلا وجدته فوق كل أسوار والرجليون للعرب خاصة. قال أبو عبيدة رجليو العرب المشهورون المنتشر بن وهب الباهلي وسليك بن عمير السعدي ولوفى بن مطر المازني وكان الرجل منهم يلحق بالظبي حتى يأخذ بقرنيه وإذا كان زمان الربيع جعلوا الماء في بيض نعام مثقوب ثم دفنوه فإذا كان الصيف وانقطع الغزو

غزوا وهم أهدى من القطا فيأْتون عَلَى ذلك البض ويستثيرونه ويشربونه وحدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي أن السليك كان يعدو فتقع سهامه من كنانته بالأرض فترتز وكان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من الخيبة وأما الهيبة فلا هيبة. وقرأْت في كتب العجم بهرام جور كان في حجر ملك العرب بالبادية فلما بلغه هلاك أبيه وأن الفرس عزموا عَلَى أن يملكوا غيره سار بالعرب حتى نزل السواد وصالبهم بالملك وجادلهم عنه حتى اعترفوا له بالحق وملكوه. وقد كان كسرى أغزى بني شيبان جيشاً فاقتتلوا بذي قار فهزمت بنو شيبان أساورة كسرى فهو يوم ذي قار ثم كان من أمر العرب وأمر فارس حين جمعهم الله لقتالهم بالأمام وساسهم بالتدبير مالا حاجة بنا إلى الإطالة بذكره لشهرته. ومما يدلك عَلَى تعزز القوم في جاهليتهم وأنفتهم وشدة حميتهم أن أبرويز ملك فارس وأشدها سطوة وأثخانا في البلاد خطب إلى النعمان بن المنذر إحدى بناته فرده رغبة بها عنه ولم يزل هاربا منه حتى ظفر به فقتله. وكان لقريش بيت الله الحرام العتيق من الجبابرة المنصور بالطير الأبابيل لمْ يزالوا ولاته وسدنثه والقائمين لأموره والمعظمين لشعاره وكان يقال لهم أهل الله وجيران الله لنزولهم الحرم وجوارهم البيت وكان فيهم بقايا من الحنيفية يتوارثونها عن اسمعيل صلى الله عليه وسلم منها حج البيت الحرام وزيارته والختان والغسل والطلاق والعتق وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر. وقد كان حاجب بن زرارة وفد عَلَى كسرى فرأَى العجم ينكحون الأخوات والبنات فسولت له نفسه التأسي بهم والدخول في ملتهم فنكح ابنته ثم ندم عَلَى ذلك فقال: لحا الله دينك من أغلف ... يحل الخوات لنا والبنات أحشت عَلَى أسرتي سوءةً ... وطوقت جيدي بالمخزيات وأبقيت في عنقي سبة ... مشاتم يحيين بعد الممات فتاة تجللها شيخها ... فبئس الشييخ ونعم الفتاة ومما كان بقي فيهم من الحنيفية أيمانهم بالملكين الكاتبين حدثني بعض أصحابنا عن عبد الرحمن بن خالد الناقد قال كان الحسن بن جهور مولى المنصور خرج إلى بعض ولد

سلمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كتابا كان لعبد المطلب بن هلثم كتبه بخطه فإذا هو مثل خط النساء وإذا باسمك اللهم ذكر حق عبد المطلب ابن هاشم من أهل مكة عَلَى فلان بن فلان الحميري من أهل زول صنعآء عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه شهد الله بذلك والملكان: وقال الأعشى ولا تحسبني كافراً لك نعمة ... عَلَى شاهدي يا شاهد الله فاشهد قوله عَلَى شاهدي أي عَلَى لساني شاهد الله يعني الملك. ومن ذلك أحكام كانت في الجاهلية أقرها الله في الإسلام لا يبعد أن تكون من بقايا دين اسمعيل صلى الله عليه وسلم منها دية النفس مائة من الإبل ومنها أتباع حكم المبال في الخنثى ومنها البينونة بطلاق الثلاثة وللزوج عَلَى المرأَة في الواحدة والاثنتين فهذه حالها في الجاهلية مع أحوال كثيرة في العلم والمعرفة سنذكرها بتمامها بعد إن شاء الله ثم أتى الله بالإسلام فابتعث منها النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياءِ وخاتم الرسل وناسخ كل شرعة وحائز كل فضيلة ونشر عددها وجمع كلمتها وأمدها بملائكته وأيدها بقوته ومكن لها في البلاد وأوطأَها رقاب الأمم وجعل فيها خلافة النبوة ثم الإمامة خالدة تلدة حتى يأتي المسيح صلى الله عليه وسلم فيصلي خلف الإمام منها فاردة لا يستطيع أحد ان يأْتي بمثلها وخاطبها وهي يوئذ لا عجم فيها فقال (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فلها فضل هذا الخطاب والأمم طراً داخلة عليها فيه وأما قوله لبني إسرائيل (وفضلتكم عَلَى العالمين) فإنه من باب العلم الذي أريد به الخاص كقوله حكاية عن إبراهيم (وأنا أول المسلمين) وحكاية عن موسى (وأنا أول المؤمنين) وقد كانت الأنبياء قبلهما مؤمنين ومسلمين فإنما أراد موسى زمانه وكذلك قوله (وفضلتكم عَلَى العالمين) يريد عالمي زمانهم وقوله لقريش (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم) ليس فيه دليل عَلَى أن أهل اليمن خير من قريش في الحسب ولا أنهم مثلهم وهم من ولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن الذرية التي اصطفى الله عَلَى العالمين وليس لليمن والد من الأنبياء دون نوح وإنما خاطب الله بها مشركي قريش ووعظهم بمن قبلهم من الأمم الهالكة لمعصيته وحذرهم أن ينزل بهم مثل ما أصابهم فقال (أهم خير) من أولئك الذين كانت فيهم التبابعة والملوك ذوي الجنود والعدد فأهلكناهم بالذنوب والخير قد يقع في أسباب كثيرة يقال هذا خير الفارسين يريد أجلدهما وهذا خير

العودين يريد أصلبهما وكانت قريش كما قال الله قليلا فكثرهم ومستضعفين فأَيدهم نصره وخائفين أن تتخطفهم الملوك فآمنهم بحرمه بمارهصه لهم وأراد من تمكينهم وإعلاءِ كلمتهم وإظهار نوره لهم وتغيير ممالك الأمم لهم ومن ذا من المسلمين يصح إسلامه ويصح عقده يقدم عَلَى قريش أو يعادل بها وقد قضى الله لها بالفضل عَلَى جميع الخليقة إذ جعل الأئمة منها والإمامة فيها مقصورة عليها أن لا تكون لغيرها والإمامة هي التقدم وهذا نص ليس فيه حيلة لمتأَول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش وروى وكيع عن الأعمش عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في الخير والشر وروى وكيع عن سفيان عن ابن خشيم عن اسمعيل عن عبد الله عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً أهل صبر وأمانة فمن بغاهم الغوائل كبه الله لوجهه يوم القيمة وروى عن عبد الأعَلَى عن معمر عن الزهري عن سهل بن أبي حشمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشاً ولا تؤخروها وروى يزيد بن هرون عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن طلحة بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال أن لقرشي قوة رجلين من غير قريش قيل للزهري ما عنى بذلك قال فضل الرأْي قال وكان يقال قريش الكنية الحسبة ملح هذه الأمة علم عالمها طباق الأرض. وحدثني يزيد بن عمرو عن محمد بن يوسف عن أبيه عن إبراهيم عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقومن أحد لهاشمي. وحدثني يزيد بن عمرو قال حدثنا نصر بن خلف الضبي قال حدثنا علي بن عبد الله ابن وثاب المدني عن مطرف بن خويلد الهذلي قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل وهو يقول: إني امرؤ حميري حين تنسني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال ذاك اضرع لخدك وأبعد لك من الله ورسوله. وحدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا أبو زيد شجاع بن الوليد قال حدثنا أبو قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سليمان لا تبغضني فتفارق دينك قال قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال لا تبغض العرب

فتبغضني. وروى محمد بن بشر العبدي قال حدثنا أبو عبد الرحمن عن حصن بن عمير عن مخارق بن عبد الله بن جابر عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي. وروى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن المؤمل عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلف الناس فالحق في مضر. وروى أبو نعيم عن الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث عن المطلب بن أبي وداعة والمطلب بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقاً فجعلني في خيرهم فرقة وخلق قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً. ثم يتلو العرب في شرف الطرفين أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة فإنهم لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا لا يؤدون إلى أحد أتاوة ولا خراجا وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ. ثم نزلوا بابل ثم نزل أزدشير بابك فارس فصارت دار ملكهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجر بن بهر مملك فارس وكان غزاهم فكادوه في طريقه بمكيدة حتى سلك سبيلاً معطشة مهلكة ثم خرجوا إليه فأسروه وأكثر أصحابه فسأَلهم أن يمنوا عليه وعَلَى من أسر معه وأعطاهم موثقاً من الله أن لا يغزوهم ولا يجوز حدودهم ونصب حجراً بينه وبين بلدهم جعله الحد الذي حلف عليه وأطلقوه فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة والحمية بما أصابه فعاد لغزوهم ناكثاً لأَيمانه غادراً بذمته وحمل الحجر الذي كان نصب أمامه في مسيره يتأول أنه ما تقدم الحجر فإنه لم يجزه فلما سار إليهم ناشدوه الله وأذكروه ما جعل عَلَى نفسه من عهده وذمته فأبى الإلجاجا ونكثا فواقعوه فقتلوه وقتلوا حماته وكماته واستباحوا عسكره وأسروا ضعفته ولبثوا في أيديهم أسرى ثم أعتقوهم وأطلقوهم وعبروا بعد ذلك زماناطويلا وقتلوا كسرى بن فيروز وهذا شيء يخبر به عن فارس فيما دونوا في سير ملوكهم من أخبارهم ومن أقر بهذا عَلَى نفسه لعدوه وإباحة لخصمه فما ظنك بما ستر وزين من أمره. وكان فيما حكوا من الكلام الدائر بين ملك الهياطلة وبين فيروز كلام أحببت أن أذكره في

هذا الموضع لأدل به عَلَى حكمة القوم وحزمهم في الأمور وعلمهم بمكايد الحروب قالوا لما التقى الفريقان ثم تصافوا للقتال أرسل أخشنوار ملك الهياطلة إلى فيروز أن يسأله أي يبرز فيما بين الصفين ليكمله فخرج إليه فقال أخشنوار قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك ولعمري لئن كنا احتللنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه وما ابتدأْناك ببغي ولا ظلم ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ولقد كنت جديراً أن تكون من سوء مكافأَتنا عليك وعَلَى من معك ونقض العهد والميثاق الذي أكدت عَلَى نفسك أعظم أنفاً وأشد امتعاضاً مما نالك منا فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ومننا عليكم وأنتم مشرفون عَلَى الهلكة وحقنا دماءكم وبنا عَلَى سفكها قدرة وإنا لم نجبرك عَلَى ما شرطت لنا بل كنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه ففكر في ذلك ومثل بين هذين الأمرين فانظر إليهما أشد عاراً وأقبح سماعا إن طلب رجل أمراً فلم يتح له وسلك سبيلاً فلم يظفر فيها ببغية وأستمكن منه عدوه عَلَى حال جهد منه وضيقة ممن معه فمن عليهم وأطلقهم عَلَى شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاصطبر لمكروه القضآء واستحيا من الغدر والنكث أم أن يقال نقض العهد وختر بالميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حسن عدتهم وما أجدني أشك في أنهم وأكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم عَلَى غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله فهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولة فانظر ما غناء من يقاتل على هذه الحالة وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفاً أنه إن ظفر فمع عار وإن قتل فالي النار فأنا أذكرك الله الذي جعلته عَلَى نفسك كفيلاً ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافكم على الممات وأدعو إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا عَلَى ذلك في كل ما أحبوا وكرهوا فاحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره ومع ذلك إنك لست عَلَى ثقة من الظفر بنا والبلوغ لبغيتك فينا وإنما تلتمس منا أمراً نلتمس منك مثله وتبادي عدواً لعله يمنح النصر عليك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها ولا زائد لك عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأَي أن تكون من الأعداء كما لا يجب المضار إليهم أن تكون عَلَى أيدي الأولياء ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من

عهده إذا استظهرت بكثرة من مقالتي ضعف أحسه من نفسي ولا قلة من جنود ولكني أحببت أن أزداد بك حجة واستظهاراً وأزداد به للنصر أه.

المرأة

المرأة (علمها علماً صحيحاً أو دعها عَلَى سذاجتها) لأن تبقى المرأَة جاهلة خير من أن تتعلم تعلماً ناقصاً. أو تتربى تربية تافهة. المرأَة التي تظل محافظة عَلَى سذاجتها الأولى: فلم تتلق شيئاً من مبادئِ العلوم والفنون. ولم تمارس القراءة والكتابة قد يتيسر لنا أن نقنعها بأنها جاهلة. ثم نوصيها بلزوم الرجوع في تربية طفلها إلى رأْي من هو أعرف منها بشؤون التربية. ومثل تربية طفلها تدبير منزلها وإدارة أحوالها ورؤية مصالحها: نحسن لها في جميع ذلك أن تعتمد عَلَى مشورة زوجها والخبيرين من ذوي قرابتها. أما تلك التي تعلمت تعلماً ناقصاً ورأى أولياؤها أن لا يعطوها من مباديءِ العلم سوى قراءة القرآن. وكتابة (أبجد هوز) و (جناب الأكرم) حاسبين أن ذلك القدر أليق بها وأحوط في سلامة دينها وآدابها ـ هذه المرأة تصبح بهذا التعلم الخداج ذات عجب وعناد ولجاج. فلا تعود تصغي لمشورة من هو أعلم منها. ولا تقف في إفساد ابنها وتدبير منزلها عند حد! تسيء الظن بزوجها فتغل يده عن استثمار مالها والإنفاق عَلَى أطيانها لتحسينها وتنميتها. تدير شؤون المنزل عَلَى غير ما تقتضيه قواعد الاقتصاد وأصول الصحة ووسائل التطهير والنظافة. تحاول تربية أولادها فتخل بقوانين التربية وتفتات عَلَى المربي الخبير اعتداداً بكفاءتها وإن معرفتها لقراءة القرآن جعلتها أهلاً لكل شيء، وعالمة بكل شيء، وخبيرة بكل شيء أيضاً. تريد أن تلقن ابنها المراهق شيئاً من مباديء الأخلاق والآداب فتحكي له قصص العفاريت والأساطير المكذوبة أو تملي عليه أبيات عُشق وغرام كانت سمعتها من بعض أترابها في كتاب سخيف ركيك وضعه واضعه لتعليم الأحداث صناعة الترسل والإنشاء ها هي واقفة في رأس السلم تقول لابنها وهو ذاهب إلى المدرسة. حرطتك بكلمات الله التامة. سلمتك إلى واحد أحد. امسك يا بني بالدرابزين جيداً لئلا تزلق رجلك. خرج الولد من باب الدار فإذا أمه تهتف به من النافذة وتوصيه بالابتعاد عن شاطيء البحر لئلا يفرق. وعن الكلاب لئلا تزعجه أو تعضه. وعن الحفر لئلا يقع فيها. ثم تلح عليه أن يشد المنديل عَلَى عنقه خوف لذع البرد وأن يطبق المظلة عَلَى رأَسه خشبة أذى الحر

رجعت الأم بعد هذه الوصاية المتكررة إلى غرفتها. أرادت الإدلال عَلَى زوجها والتباهي عَلَى جارتها فرفعت صوتها بتلاوة القرآن تارة ودلائل الخيرات تارة أخرى أواني المطبخ لم تزل من دون تنظيف. أرض الدواليب لم تزل من دون مسح. طعام الغداء لم يزل الزوج يجهل أمره. ويتساءل ماذا عساه يكون؟ وضيوفه كرام يجب أن يتجمل أمامهم ويكافئهم عَلَى أياد لهم عليه. الطفل الصغير غلبه النوم في إحدى زوايا تلك الدار والذباب يتطاير من فوقه. والروائح الخبيثة تنبعث من تحته. رأى الرجل الحالة عَلَى ما وصفنا فنادى امرأَته ورغب إليها أن تنهض لمراقبة أمور البيت وتهيئة الطعام. تغافلت المرأَة عن زوجها. أو أن دوي صوتها بقراءة دلائل الخيرات حال بينهما وبين سماع النداءِ! هتف بها ثانية فردت عليه بخشونة. وجعلت تؤنبه عَلَى اساءته الأدب مع مؤلف دلائل الخيرات وأنها تخشى عليه أن يبطش به!! ضاق صدر الرجل فكاد يتفوه بما لا يليق في حق أهل الله ثم سكت عَلَى مضض ولا نعلم ماذا جرى بين الرجل وامرأَته. ولا كيف كان أمر الغداء. ولكن نذهَب مع القاريء إلى تلك المرأَة التي عرف أولياؤُها كيف يعلمونها وكيف يجعلونها تستفيد من الذي تلتقه. تزوجت فيا سعد زوجها بها. رزقت أولاداً فيا لسعادة أولادها من أجلها. تعلمت القراءة والكتابة ولكن لم تتعلمهما لذاتهما وإنما تتعلمهما لكي تتوصل بهما إلى درس حقائق أعلى وتحصيل فوائد أغلى. قرأت القرآن بإمعان وتفهم: فكانت تتناول بعض الآيات وتشرح معناها لأولادها شرحاً مفيداً غاية في السهولة والتقريب، غرست في نفوس أولادها عظمة الله تعالى ووجوب خشيته واستمداد المعونة والتوفيق منه. وكثيراً ما أَسمعتهم الآيات التي تحض عَلَى ممارسة الخير والفضيلة. وتطلب منهم أَن يستظهروا أَلفاظها ويتفطنوا لمعانيها. ولم نكتف من العلم بهذا القدر فقط بل رأت (من الواجبات) عليها باعتبارها ربة منزل أَن يكون لها إِلمام ومشاركة بفن الهيجين (حفظ الصحة) ثم لاحظت أَنها لا تقدر عَلَى تربية

أولادها تربية صحيحة ما لم تدرس فن الأخلاق وعلم النفس ومعرفة. قالت: إنما أَكون سعيدة إذا كان زوجي وأولادي أصحاء الأجسام ولا تدوم الصحة لهم ما لم أَكن عارفة بالأصول والقوانين التي قررها العلماء في حفظ الصحة. ثم ماذا تكون فائدة الصحة إذا لم يقترن بها أَخلاق حسنة وتربية فاضلة؟ فمن ثم كان الواجب عليّ أن أجمع بين درس الفنيين فن الصحة وفن التربية. كانت تختلس فرصاً من وقتها ثم تقبل عَلَى مطالعة الكتب التي وضعت في هذين الفنين الجليلين. وكثيراً ما كان يستعصي عليها فهم بعض المسائل فتستأْذن زوجها أَن تكتب لبعض الأخصائيين في هذين الفنين. فكان يأْذن لها منشرح الصدر هاديء البال. قالت إذا كان الحجاب يحول بيني وبين التردد على أَفاضل العلماء في منازلهم فها أنا ذا بحمد الله أَستطيع الكتابة إليهم بعبارة فصيحة فلا أَدع الحجاب يحجبني عن القيام بالفريضة الدينية وهي (طلب العلم). وقد كتبت مرة إلى بعض نطس الأطباء تسأله رأْيه في مهد طفلها عل تتخذه مما يهزُّ باليد هزاً أَو يكون ثابتاً يتحرك فكتب إليها يقول: (الأفضل أَن يكون المهد ثابتاً لأنو الولد إِذا اعتاد الترجح في الأرجوحة اضطرب نومه. وغلب عليه القلق والأرق أو تبقى يد الأم قابضة عَلَى دفة السرير طول الليل وهذا مما يذهب براحتها ويحرمها طيب المنام. وإذا أرادت الأم أن تستزيد من الراحة لها ولطفلها فلا تستعمل عادة التقميط فتشد إلى أعضاء الطفل وتجعله كطرد) البوسطة (أو كالمومياء المصرية. وشد الطفل عَلَى هذه الصورة يضايقه ويضطره إلى البكاء ومتابعةِ الشكوى من هذا الظلم الفادح. ولكن الأم الجاهلة لا تنتبه لسبب بكائه فتحسبه إنما يبكي فجوراً منه أو نكاية بها فتأخذ في هز المهد والتسخط عليه وعلى القدر طول الليل أه. ومما رأت هذه الأم الفاضلة أنها في حاجة إلى تعلمه ـ مباديءُ الكيمياء ودرس طباع المعادن وخواص الأجسام فتعرف الضار منها من غير الضار والسام من غير السام. وبعد خمس عشرة سنة من زواجها صار لها بضعة أولاد فكانت بعد رجوعهم من المدرسة تكثر من مفاكهتهم ومداعبتهم ثم في غضون ذلك تودع نفوسهم مسائل العلم واحدة فواحدة. ولا أنسى إذ كانوا مرة في صحن الدار وكانت الحاجة (طباختهم) قد ذهبت إلى بيت

الجيران في بعض شأْنها. فنادت الأم أولادها قائلة ذهبت (الحاجة) وسوف تمكث عند الجيران أكثر من ساعة إذ أننا نعرفها تكثر الحديث وتحسن الأقاصيص فلنغتنم فرصة غيابها أيها الأولاد ولننزل إلى المطبخ ونشاهد ما فيه من الأواني والأدوات المختلفة. أظنكم أيها الصغار لا تعرفون أنواع المعادن. وأن في المطبخ من المعادن مجموعة نفيسة: هلموا معي إليها ـ فتراكض الأولاد وراء أمهم مسرعين. آه ما أحسن تصفيف هذه الأواني وما أشد ما اعتنت الحاجة بتنظيفها. شكراً لك أيتها العجوز. انظروا هذه المقالي والقدور الصغيرة فهي من النحاس. والنحاس معدن نافع جداً يستخرج من جوف الأرض والذي يصنع منه الأواني يسمى نحاساً. وهذا النحاس يتوصل إلى صنع القدور النحاسيةِ بوضعها على السندان وضربها بالمطرقة الضخمة ثم التفتت إلى ابنها الصغير (وهبي) وقالت هل تعرف يا وهبي ما هو السندان وما هي المطرقة؟ قال نعم يا أماه كنت أريتنيهما في حانوت الحداد القريب من دارنا. انظروا هذه القدر التي وضعتها (الحاجة) في ناحية بعيدة عن سائر القدور. أتعرف السبب في ترك استعمالها؟ كلا يا أماه! ألستم ترونها كامدة اللون؟ بلى يا أماه. احترزوا أيها الأولاد من أن تضعوا شيئاً من هذه المادة الخضراء في أفواهكم: هذه البقع يسمونها (الزنجار) وهو أحد السموم القتالة لننظر الآن في القدور الأخرى النظيفة التي نطبخ فيها. داخلها لامع نظيف. وهو مغطى بطبقة رقيقة من معدن أبيض وهذا المعدن يسمى (قصديراً) وليس القصدير كالنحاس في تولد سم الزنجار عليه ولذلك يطلعون به النحاس إذا طليا النحاس بطبقة رقيقة من القصدير قيل أنه (مبيض) أما إذا مزجنا النحاس والقصدير معاً بعد صهرهم كان لنا منهما معدن يسمى (برنزاً). والفتت إلى ابنها (حسني) وسألته هل

تعرف معنى الصهر؟ قال لا. قالت الصهر تذويب المعادن وجعلها بحالة السيلان. ثم قالت لهم هو ذا شمعدان من معدن البرونز. والجرس الصغير المعلق على باب الدار يعلن مجيء القادمين من وقت إلى آخر هو من البرنز وأجراس الكنائس التي تسمعون أَصواتها متخذة من البرنز أيضاً. وكانوا قديماً يصنعون المدافع من البرنز وبقوا عَلَى ذلك زمناً. وكان الشر في أول أمرهم يستخدمون شظايا الأحجار (أي قطع) في ضروب مرافقهم فكانوا يتخذون منها سكاكين وفؤوساً ويسمى ذلك العصر بالعصر الحجري. ثم اهتدوا إلى النحاس ومزجوه بالقصدير فحصلوا عَلَى معدن البرنز ومن هذا البرنز كانوا يصطنعون أسلحتهم وأدواتهم وما زالوا عَلَى استعماله حتى عرفوا الحديد في العصور الثالثة ويسمى هذا الطور الثالث للبشر (العصر الحديدي). والحديد أنفع المعادن قال تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس). فاعترض (حسني) والدته وكان أكبر أخوانه قائلاً: يا أماه وهل نزل الحديد من السماءِ؟ قالت كلا وإنما خرج من الأرض قال فكيف يقول الله تعالى (وأنزلنا) قالت أن معنى (أنزلنا) هنا وهبنا ومنحنا. ثم قالت لهم: ليس الحديد جميل المنظر ولا هو بذي لمعان وبريق كغيره من المعادن ولكن مع هذا لا ينبغي لكم أن تحكموا عَلَى الشيء بمجرد النظر إلى هيئته الظاهرة. فإن للحديد مزايا لا توجد في سواه. أعظم تلك المزايا صلابته ومقاومته للضغط الشديد الذي يقع عليه. وهذا الموقد من الحديد. ويستخرج الحديد من الأرض ممزوجاً بشوائب أخر فيصهرونه بواسطة موقد كبير حتى يمحصوه من تلك الشوائب. ويسمى الحديد بعد هذا التمحيص (حديد الصلب) وهذه القدر الصغيرة من ذلك الحديد. وإذا طلينا الحديد بالقصدير خرج لنا معدن هو (الصفيح) وهذه الآنية الصغيرة التي نسوي فيها القهوة من الصفيح. وإذا أضيف إلى الحديد مقدار قليل من الكربون ازداد صلابة وسمي حينئذ (فولاذاً) وهذه السكين التي ترونها عَلَى (الترابيزة) متخذة من الفولاذ. لنفتح الآن درج) الترابيزة). (هذه ملاعق من القصدير الممزوج بمعدن آخر لين ثقيل هو الرصاص). ثم قالت لهم مشيرة إلى الجدار: انظروا إلى المرآة. المرآة نديم المرأَة ومن عجيب أخلاق

النساء أنهن يحرصن عَلَى اصطحاب هذه الأداة حتى في المطبخ! هذه الطبقة اللامعة التي تغطي سطح زجاج المرآة من وراء والتي بسببها تنعكس صوركم إلى عيونكم ـ هي مزيج من القصدير والزئبقِ. والزئبق معدن أبيض لونه كلون الفضة وإذا كانت حرارة الهواء اعتيادية كان الزئبق في حالة ميوعة. حتى إذا أردت القبض عليه بيديك فر وتفلت من بين أصابعك. ومن أجل ذلك كنى عنه غواة الكيمياء القديمة بالعبد الفرار. واشدوا في بعض منظوماتهم: خذ الفرار والطلقا ... وشيئاً يشبه البرقا فإن أحكمته سحقا ... ملكت الغرب والشرقا ومعدن الزئبق يذكرنا بالفضة. انظروا أدوات الفضة. ها هي منضودة بعضها فوق بعض في الخزانة. انظروا الملاعق والشوك ما أشد لمعانها وما أكثر بريقها. والفضة من المعادن الثمينة. وهو قلما يتغير لونه مهما تعرض للهواءِ وهناك معدن آخر أثبت منه وأقل تغيراً. هو معدن الذهب. انظروا إلى خاتمي هذا: فهو من الذهب. ولست في حاجة إلى جلائه أو تنظيفه. فإذا ضفتم إلى هذه المزية مزية لمعانه الجميل ومزية ندرة وجوده عرفتم إذ ذاك مبلغ نفاسته وفضله على سائر المعادن. والنقود ذات القيمة العالية تتخذ من الذهب لكنهم يضيفون إليها قليلاً من معدن النحاس ليكسبها فضل صلابة. هلموا بنا أيها الأولاد تضع كل شيءٍ في محله ونرتب الأدوات الفضية كما كانت أولاً ولنعد النظام إلى هذه المملكة فإن المطبخ هو مملكة (الحاجة) التي لها فيها مطلق التصرف. كيف أيها الأولاد أما جعتم؟ إن هذه الروائح الطيبة المنتشرة فوق القدور تبشرنا بغذاء شهي لذيذ. ها هو اللحم ينضج. وإني أقول لو كانت طباختنا (الحاجة) هي وقدورها في بلاد (الإسكيمو) لكان لها شأْن بذكر. قالوا ولماذا يا أماه! قالت الإسكيمو سكان الشمال حيث الجليد الدائم وليس لديهم معدن يتخذون منه قدوراً ولا تراب يصنعون منه أواني خزفية. فإن التراب إذا استحكم جفافه أصبح صلداً صبوراً عَلَى احتمال النار. ومن لم يقدر عَلَى اقتناء قدر من نحاس اقناها خزفاً. وإذا فقد النحاس والخزف فكيف يمكنه طبخ طعام! والإسكيمو كيف يصنعون؟

يتخذ الإسكيمو مكان القدور جراباً من جلد وفي هذا الجراب يطبخون ما يقتاتون به من لحم. فصرخ أحد الأولاد: كيف ذلك يا أماه: إنهم إذا أدنوا الجراب من النار احترق وإذا أبعدوه عنها لا يغلي الماء ولا ينضج اللحم. قالت أمهم نعم. ولكن الإسكيمو اهتدوا إلى طريقة وافية بالغرض. وذلك أنهم يبحثون في شواطيء البحار عن مقادير من الحصى الصغيرة ثم يطرحونها في النار فتحمى حتى تصل إلى درجة الحمرة فيتناولونها إذ ذاك ويضعونها في جراب الجلد حيث يكون اللحم والماء. فلا تلبث الحصى أن تنطفيءَ وتحدث حرارة قليلة في الماءِ. ثم يكررون العمل ويزاولونه المرة بعد المرة وبهذه الصورة تشتد حرارة الماءِ ثم ينضج اللحم. ولم تصل أم الأولاد في حديثها إلى هذا المكان حتى سمعت صوت الجرس (البرنز) يرن على باب الدار يعلن رجوع (الحاجة) فصرخت لأولادها هلموا بنا قبل أن ترانا فتزعم أننا أفسدنا مملكتها وشوشنا عليها نظامها. فتراكضوا جميعهم من باب المطبخ مسرورين ضاحكين ولأبيهم المقبل مصافحين ومعانقين. المغربي

الإسلام والمدنية

الإسلام والمدنية إذا كان المرء ساعياً في إصلاح داره يجب في الأكثر أن يسترشد بآراءِ من سبقوه إلى إصلاح دورهم ليضم اختباره إلى اختبارهم ويقتصر عليه مسافة عمله وربما أتى ببعضهم وأراهم ما هو آخذ بسبيله فإن قدر أن يعمل بآرائهم كلها إن كانت صائبة وإلا فلا أقل من أن ينتفع ببعضها. أولع الغربيون منذ حدث انقلابنا العثماني الأخير بالبحث في شؤوننا بعد أن كانوا يئسوا من إصلاحنا فصار بعض خاصتِهم يزورون العاصمة وبعض الولايات ويكتبون تصوراتهم عن السلطة العثمانية ويقيسون الحاضر بالغابر فبعضهم يستهزيء بنا وبانقلاباتنا وهم في الأكثر أرباب الأغراض السياسية وفريق يتوسط فيمزج استحسان ما يستحسنه باستهجان ما يستهجنه ومن هذا الفريق المسيو مارتين هرتمس أحد علماء المشرقيات في برلين. وهو من الذين قضوا سنين طويلة في سورية وعرف طبائع المملكة العثمانية واشتهر بمعرفة العربية من تآليفه التي نشرها وهو يجيد الكتابة والفهم بلغتنا كأَحد فضلاءِ كتابنا في أحوال المسلمين ولا سيما في البلاد العثمانية والتركتان الصينية. زار هذا المستشرق عاصمة السلطنة وبعض قواعد بلاد الروم ايلي فكتب كتاباً بالألمانية وصف فيه ما شاهده في رحلته وقد اطلعنا عَلَى زبدة من كتابه في مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية فآثرنا الإشارة إليها ثم نعلق عليها ما آخذناه به من حكمه عَلَى المسلمين والإسلام ليرى أهل هذه الديار ما ينصح لنا به جيراننا لإصلاح بيتنا قالت المجلة: أراد بكتابه أن يعرّف ما رآه وما سمع به مدة مقامه في البلاد العثمانية فأورد ما انتهى إليه من المواد عَلَى علاته ولم ينظر فيه نظرة أخيرة ومهما يكن فإن كتابه يتلى بإمعان وفائدة لأنه من أفيد ما ظهر من الأسفار عَلَى البلاد العثمانية حديثاً وربما ظهرت على كلام المؤلف رشاشة من سوءِ النظر في العواقب ولكن ما لا مرية فيه أنه كفوءٌ في الموضوع الذي خاض غماره لا غرض له بل هو نظار جدير أن يحل كلامه موقع الاعتبار. ربما قيل للمؤلف أن مقامك قليل في تلك البلاد فكيف ساغ لك أن تحكم بهذه السرعة فقد رأينا من يطيلون مقامهم في بلد يبالغون بمنزلة المسائل الرسمية والحياة الإدارية متسرعين ويطرحون النظر في حياة السواد الأعظم من العامة فيفوتهم كثير من المسائل الاجتماعية ذات الشأْن العظيم عَلَى أن السائح قد يلاحظ هذه المسائل أحسن من المقيم.

وهناك اعتراض آخر وهو أن المؤلف قال إن كتابة عبارة عن سلسلة رسائل غير سياسية والناظر فيها تتجلى له السياسة من أعطافها وأطرافها لأول وهلة. ويرد هذا الاعتراض بما هو معروف عن المسيو هرتمن من عدم التحزب لفئة وأنه يحاول أن ينصف الكل فهو لا يبغض أحداً ويرمي إلى أن تعمل كل أمة وكل جماعة وكل شخص في خدمة المدنية والحضارة ما ساعدتها أسبابها. فقد رأَيناه يأسف عندما يرى العنصر الإسلامي وهو ممن يحبه لا يسير إلى هذا الغرض لأن الجمع بين الشريعة وبين مطالب الحياة الحديثة لا يخلو من تناقض. وهو يرى أن فكر الارتجاع في الأستانة والمدن الكبرى في الولايات غير موجود ولكن إذا انقضت أيام السياسة الحميدية فإن نتائجها ما انقضت. قالت المجلة ولو قلنا في العام الماضي أن عَلَى الحكومة العثمانية إذا أرادت الاستمتاع بالبذور التي يحويها القانون الأساسي في مضاويه أن تربي الأمة تربية دستورية ديمقراطية فهذا مما تشتد حاجتها إليه. أَيد المسيو هرتمن هذا الرأُي فقال أن الانقلاب العثماني لا يشبه الانقلاب الفرنسوي فقد كانت الأمة في فرنسا تتبع القائمين بالثورة متحمسة وتشاركهم في آرائهم أما الشعب العثماني فلا يزال عَلَى آرائه القديمة ولذلك أراده المؤلف أن يرجع عنها وأقسم عليه أن ينظر للأمور نظراً صحيحاً لأن ارتفاع كلمة العثمانية معلق عَلَى اعتدالهم ويمكن أن يكون للنساء العثمانيات عمل عظيم في النهضة الوطنية. وقد درس المسيو هرتمن حالة الاتحاديين السياسية في سلانيك ولا سيما تأْثيرات طائفة الدنمة وفيها وهم شعب إسرائيلي دا ـ بالإسلام. وجاءَ الأستانة يبحث عن كل شيء من سياسة ودين وأدب وصحافة وحياة اجتماعية وعقلية واقتصادية. وانتقد الإسلام انتقاداً شديداً فقال أنه يراه عقبة في سبيل الإصلاح فلا رجاءَ معه لتنظيم الإدارة. والطرق الدينية في الإسلام تختلف عن الطرق الدينية في النصرانية لأن لها تأْثيراً سيئاً وأن ما يظهر من أمرها يفسد الدين ويقلل من اعتباره. فأهل الطرق البكداشية والملامية والمولوية والنقشبندية والقادرية على اختلاف أسمائهم. هم خطر عَلَى الأمة مهما كانت مكانتهم وإن اتفقوا مع أهل التربية الحديثة من العثمانيين وهؤلاءِ ملاحدة يعرفون كيف يتظاهرون بالدين واحترام الشريعة. ورجال الدين عَلَى الجملة هم قوة عاملة محترمة وإن قلَّ التسامح فيهم.

يقول المؤَلف أن تسعة أعشار رعايا المملكة العثمانية متعصبون فالأكراد أكثر تعصباً من غيرهم ويقل تمسك العرب بالدين في باطنهم فهم أقل تعصباً وليس المسلمون من الألبانيين من التسامح على جانب عظيم وأهالي البوسنة الذين انفصلوا حديثاً عن المملكة العثمانية موغلون في التعصب وأدعياءُ للغاية. ومن الأسباب التي تساعد عَلَى بقاءِ الحمية الدينية مظاهر شهر رمضان المنوعة فالدين عليه الحكومة ويصعب الآن أن يكون من الأعمال الخاصة بالنفس. تدخل الأفكار الغربية البلاد العثمانية ببطءِ فالاشتراكية التي ينشرها البلغاريون خاصة في البلاد ومنهم رئيس منتدى سلانيك حيث تقرأُ المطبوعات الفرنسوية والألمانية في هذا الموضوع ولهم أشياع من الروم وتصدر في أزمير جريدة اشتراكية رومية كما تصدر جريدة إسلامية اشتراكية وإذا كان قراؤها على ما هو معلوم من حالتهم صعب أن يكون ارتقاؤُها سرياً بين المسلمين. فليس في البلاد العثمانية طبقة وسطى كما في سائر ممالك أوروبا. ويتيسر للمرأَة العثمانية أن تكون ذات نفوذ فقد رأَيتها في سلانيك ترقى بسرعة خارقة للعادة. ولكن ارتقاءَها في البلاد الأخرى بطيء جداً. ويمكن أن يقال أن حالة المرأَة العثمانية أحط من المرأَة المسلمة في روسيا التي تستمتع بحرية عظيمة فيتيسر لها أن تدرس في المدارس الثانوية وهم يهتمون بما يجري في آسيا الوسطى والشرق أكثر من كل بلد سواه وربما كان المسلمون في روسيا غالباً أثقب أذهاناً وعقولاً من حكامهم الصقالبة أه. هذا ملخص كتاب الباحث الألماني وفيه الجيد ولكن فيه مغامز كثيرة لا نحب أن يفوتنا النظر فيها نعرضها عَلَى المؤلف وعلى القائمين بمذهبه وأولها وهو ما كنا نرجو أن لا يقع فيه أمثال الأستاذ هرتمن قوله أن الجمع بين الشريعة وبين طلب الحياة الحديثة لا يخلو من تناقض وأن الإسلام عقبة في سبيل الإصلاح ولعل المؤلف يقصد من ذلك الشريعة النافذة في بلاد الياسمين اليوم وبعضها مما يخالف الأصول الصحيحة وهدي الشارع وأصحابه وتابعيه والأئمة المهديين والعلماء العاملين. لا جرم أنه دخلت بدع وخرافات وموضوعات عَلَى الإسلام عبثت بجماله وكادت تضيع به أصوله لو لم يقيض له في كل زمن مجددون ومصلحون يدعون الأمة إلى الوقوف عند حد

الكتاب والسنة وطرح الزوائد التي تضر ولا تنفع وأكثرها مما تسرب إلى الدين من الوثنية الأصلية وسرى إلى الإسلام كما سرى إلى اليهودية والنصرانية من قبل. فالإسلام دين التوحيد وهو أكثر الأديان تشديداً فيه وحرصاً عليه ومع هذا نرى بدعاً دخلت عليه تكاد تقربه من الوثنية لولا سلامة الأصول المحررة المعتبرة وقيام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل مصر وعصر. لم يعهد المسلمون أيام كانوا يدينون بالإسلام الحقيقي أن دينهم كان مانعاً لهم من الرقي الاجتماعي والأدبي والعلمي والسياسي فالدين الذي جعل من أموال الأغنياء صدقة للبائسين والمعوزين قد فرض عَلَى منتحليه ما يسمونه بالتضامن والتكافل فلم تنشأْ فيه الاشتراكية المتطرفة التي تهتز لها أعصاب المفكرين في الغرب اليوم. والدين الذي يأْمر كتابه في الزواج بقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وأن خنتم أن لا تعدلوا فواحدة إلى أن قال ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم قد قلل من العهر والفجور وحفظ نظام البيوت أحسن حفظ وراعى حقوق المرأة ومن سنة الطلاق لزوجين لم يتأَت أن يتعاشروا بالمعروف ليس فيه ما يؤخر المدنية ويحول دون سعادة أهله ولكن خلف بعد السلف خلف أضاعوا الأصل والفرع وانتهكوا حرمات الله وجهلت الأمة فأغلطت حجاب المرأَة بعد أن كان رقيقاً معقولاً حتى منع الرجال من الاختلاط ببنات حواء فنشأَت عن ذلك مضار ومنافع والمضار أكثر ولو وقف الحجاب عند حد ما رسمته الشريعة من أن لا يبدي النساءُ زينتهن إلا لبعولتهن ويضربن بخمرهن عَلَى جيوبهن لكان نظام البيوت في المسلمين اليوم أرقى مما هو وخلصوا من معاكسة الطبيعة في رغائب النفس ولتفاهم الجنسان أكثر من الآن ولما أصبحت حياة رجالنا وحياة نسائنا لا تخلو من نغص وغصص. والدين الذي يأْمر صاحبه أصحابه أن يتعلموا لغة اليهود والحبشة ويحث عَلَى تفهم أسرار الكون من طرقها حتى لم يأْت عَلَى الإسلام قرنان ونصف إلا وقد تناول أهله بمعونة الخلفاء وما عرف من علوم البشر وتداولوه بينهم وصبغوه بصبغتهم حتى أنشؤُا لهم مدنية لو لم يكتب لها القيام لانقطعت من العالم سلسلة علوم المصريين واليونانيين والرومانيين والفرس والهنود ولاضطر أهل المدنية الحديثة أن يرجعوا مبتدئين بالعلوم بحيث لا يتيسر

لهم تأْسيس المدنية التي أسسوها في ثلاثة قرون إلا أن تؤسس في عشْرين أو ثلاثين قرناً ـ إن ديناً هذا شأْنه وهو لم يمنع أيضاً من تعلم العلم والفلسفة ليس من الأديان التي لا تنطبق مع روح هذا العصر. والدين الذي انتشرت كلمته في الآفاق وسلاحه الهداية والرفق بالمستضعفين وحماية العاجزين وجهاد المنافقين والخائنين حتى دانت به أمم كثيرة عن رضى هو دين لم يخرج عن المعقول من استتباع الناس وإرشادهم ومعظم الفتوح التي ينتقدها عليه الناقدون هي للاستعمار ومع هذا لم يحدث فيها من الويلات ما يحدث لأكثر دول التمدن الحديث عندما تهمُّ أن تستعمر قطراً من أقطار الشرق. وإنا لنرى الغربيين في أحكامهم عَلَى الشرق يخالفون ما يجرون عليه في بلادهم فترى الدول الراقية منهم في آدابها هي التي تحافظ عَلَى دينها فقد رأينا ألمانيا قد احتفظت بالنصرانية المشربة أي البروتستانية ولم تعقها عن سيرها في مدارج الكمال العلمي والصناعي والاجتماعي وكذلك نرى انكلترا تحرص كألمانيا عَلَى تقاليدها القديمة حتى عد الاجتماعيون من حملة ارتقائهم أنهما لم ينبذا الدين كما نبذه رجال فرنسا فكان منه الويلات حاضرها ومستقبلها. وما نظن النصرانية لو أنصفنا أكثر انطباقاً عَلَى قوانين العلم من الإسلام. ولو قال الأستاذ هرتمن أن حالة المسلمين اليوم لا تنطبق عَلَى الإسلام أمس ولذلك يصعب قيام الإصلاح بينهم لأصاب الغرض بعض الشيء فقد ذكر الطرق الدينية التي تفسد الدين وتقلل من اعتباره في الأنظار ولو أنصفنا ونظرنا إلى من أسسوا تلك الطرق لرأَيناهم عَلَى جانب من الأخلاق الفاضلة والتدين الحقيقي وأكثرهم كانوا من جملة علماء الإسلام العاملين لا المعطلين الجامدين. وهذا الجمود لم يحدث إلا في القرون المتأخرة بصنع أناس لأخلاق لهم من الملوك أملوا لرؤساء المذاهب والطرق ليتخذوهم ذريعة إلى السياسة كما اتخذ الشاه عباس الصفوي من مذهب الشيعة مستنداً له في سياسته فاستعمل العلماء واسطة للتفريق بين أجزاء الأمة ونشط كل ما أملاه التعصب الذميم وسكت عن كل قصور وكذلك فعل السلطان سليم العثماني وقتل من الشيعة أربعين ألفاً في وقت واحد في الأناضول بحجة دينية والحقيقة أنه

لا يقصد غير السياسة. فالملوك المتأخرون استعملوا الدين ذريعة إلى الدنيا وعبثوا أسراً بحرم الله وأدخلوا في الدين ما لبس منه وجعلوا العامة مسيطرين عَلَى الخاصة ففسد النظام وعاق ذلك سير الإصلاح في القرون الجامدة وإلا فأي مانع اليوم يمنع العثمانيين ولا سيما المسلمين منهم من الرقي وقد ارتفعت أكثر الحواجز والقيود بفضل القانون الأساسي الذي لا يناقض أصلاً من أصول الشريعة وإذا رأَينا بعض تناقض وجب علينا أن نفسر الشريعة لنطبقها عَلَى العلم كما يأْمر بذلك العلماءُ الراسخون. أما اغتباط الأستاذ هرتمن بحال المسلمات في روسيا من أنه يباح لهن الدرس في المدارس الثانوية والعالية مع الفتيان فهذا عَلَى إطلاقه لا يصح أن يكون حجة عَلَى المسلمات العثمانيات والاختلاط إلا إلى حد محدود لا يخلو من مفاسد يعرفها علماء الأخلاق في الغرب وهم منها أكثر شكاية منا ويرجى بفضل الأفكار الغربية التي تدخل ببطءٍ إلى بلادنا كما قال المؤَلف أن تكون بعد اليوم حال المرأَة المسلمة أكثر انطباقاً مع المدنية والعقل والشرع فليس كل ما نراه هو ما كان عليه السلف الصالح كما قلنا. وإن معظم ما نشكو منه من أمراضنا الاجتماعية ليس الدين منشأُوه بل الجهل بأمور الدنيا فينبغي لنا تهذيب نسائنا وتعليمهن عَلَى الأصول الدينية والمدنية ورجالنا كذلك وعندئذ لا يرمي مثل المسيو هرتمن أهل هذا الدين كله بما رماهم به ونحن نرى اليابان وهي الدولة الوثنية من أرقى دول الحضارة الحديثة ولم تعقها وثنيتها عن ذلك ونظن المؤلف يوافقنا عَلَى أن الإسلام بما دخله من خرافات المتأَخرين أكثر اتفاقاً مع المدنية من وثنية يابان. فحياة الأمم بالدين الذي لا يمازجه تعصب أكثر منها بالانحلال من كل دين وأمة لا قديم لها يصعب عليها الارتفاع بحديثها كما فعلت فرنسا فأرادت نبذ كل قديم وإحلال الحديث مكانه فخسرت الصفقتين أو كادت ولو ربي شعبها تربية دينية خالصة مع ما يلقنه من التربية العصرية لما شكت فرنسا من زيادة العهر فيها وقلة نفوس سكانها سنة عن سنة وإنا لنعتقد أن قلة التسامح الذي نراه في الجامدين من أهل الطرق وأدعياء الدين يقل جداً من السلطنة يوم نعلمهم أو نعلم أبناءهم التعليم الوسط المنظم دع عنك العالي وحياتنا مناطة باستنارتنا ولا جمود إلا مع الجهل. وطريقة دينية عَلَى أصولها يدخلها النشوءُ والإصلاح بحسب سنة

النمو والتدريج أنفع من طريقة دنيوية لا تتشربها نفوس من تعرضها عليهم ولا تناسب تقاليدهم وأوضاعهم.

الشعرى

الشعرى إذا غابت الشمس ساعة في هذه الأيام سرح طائر نظرك عَلَى منفسح الأفق تر كوكباً متوقداً يرتفع شيئاً فشيئاً بأبهةٍ وجلال وهو يزيد تأَلقاً كلما زادت الظلمات حلكةً ويرتفع في القبة الزرقاءِ في جهة الجنوب الشرقي. فهذا الكوكب هو الشعرى العبور وهي التي ترصع جهة الرقيع بهذا الفص البديع بحيث يصدق ما قال فيها عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر وهو من ظريف ما قيل فيها: واعترضت وسط السماءِ الشعرى ... كأَنها ياقوتة في مدري وقال فيها ابن المعتز: شربتها والديك لم ينتبه ... سكران من نومته طافح ولاحت الشعرى وجوزاؤُها ... كمثل نرج جرَّه رامح وشبه أبو نؤاس الدرهم بها فأنشد: أنعت صقراً بغلب الصقورا ... مظفراً أبيض مستديرا تخاله في قده العبورا فهذا الكوكب لحسنه عبده قوم من العرب في الجاهلية وإليه الإشارة في سورة النجم وإنه هو رب الشعرى وكان العرب قد أخذوا هذه العبارة عن جيرانهم المصريين الذين كانوا قد أَلهوها لأنهم كانوا ينسبون إليها فيضان النيل. وقد زادت شهرتها لهيام شعراءِ الأمم كلها بحسنها ونقاءِ ضيائها الأزهر. وأنبت لهم الخيال أجنحة طاروا بها في عالم المحال. لا رادع لهم يردعهم ولا وازع لهم يزعهم فكم من شاعر ذهب إليها بالوهم فسكن فيها ونظر منها إلى الأرض بل وكم منهم من تعود هذه الفعال بدون أن يتروَّ في ما يقوله من المجال. فهذا فلتير قد وضع أحدوثة اسمها الصغير الكبير (مكروميغاس) جعل المروي عنه واحداً من سكان الشعرى. ثم بنى عَلَى هذا الوهم ما بنى ومثله فعل رنان فإنه قال: إذا أراد الإنسان أن يرى محاسن الأرض فليرق إلى الشعرى فإنه يجد فيها أحسن مرقب يرقب منه هذه الحبة الخضراء المعروفة عندنا باسم الغبراء ولا يخفى ما في ذلك من الوهم المستحيل لأن شدة الحرارة الشعرى تمنع أياً من كان من أن يدخلها إذا ما بلغها. بل تميت أياً من كان قبل البلوغ إليها. فلندع إذاً أهل الخيال في جوهم يسبحون وأهل المحال في ميدان تصوراتهم يمرحون

ولنأْت إلى مجالسة أهل العلم من العصريين ولنسأَلهم عما كشفوا لنا من الأنباء ولنطلب إليهم أن يهتكوا لنا شيئاً من استثار مظاهر الخفاءِ ولنسمع ما يرويه علينا أحد أكابر الفلكيين وهو العلاّمة شارل نوردمان من جلة علماء باربزاد يقول: إننا نرصد كل مساء الشعرى العبور ونتثبت بواسطة المرقب نورها فنحلله تحليلاً ينبئنا عما هنالك من الغرائب والأسرار الغامضة وتروي لنا هذه الرسول الصغيرة في أعيننا حقائق ودقائق تأخذ من قلوبنا أي مأْخذ حتى أنها ترفعنا إلى أعالٍ لم يرق إليها الخيال بأجنحته الذهبية. والشعرى تبعد عنا نحواً من خمسمائة مرة من بعد الشمس عنا. ونورها إلينا لا يصل إلا في مدة تسع سنوات. أي أنك إذا رأَيت نورها اليوم فهو لم يشرق عليك إلا قبل تسع سنوات والذي تراه اليوم كان قبل تسعة أعوام. وإذا حدث فيها حادث جديد في يومنا هذا فلا يمكنك أن تراه إلا بعد أن تمشي عليه هذه المدة المذكورة لأن النور يقطع في الثانية ثلثمائة ألف كيلومتر. فالظاهر إذاً أن الشعرى اليمانية بعيدة عنا بعداً عجيباً ومع ذلك فهي قريبة منا بالنسبة إلى سائر الكواكب التي قد ذر قرنها منذ ألوف من السنين ونورها إلى اليوم لم يبلغنا. ونحن نعلم اليوم أن الشمس والشعرى ليسنا إلا كقطرتين من بحر عجاج متلاطم بأمواج الأنوار ذاك البحر الذي نسميه المجرة والحال أن النور لا يقطع عرض المجرة إلا في مدة خمسة وعشرين ألف سنة. والشعرى مع هذا هي إلينا أقرب هذه الكواكب المنتشرة على بساط المجرة من سواها وعليه فرصد الأرض من علو الشعرى لمن التخيلات المتوغلة في المحال. وقد أتيح للفلكي المذكور أن يقيس بوسائط مذكورة في علم البصريات ليعرف درجة حرارة جو الشعرى فوجده لا يقل عن 12000 درجة. ولا يستطيع أن يتصور علو هذه الدرجة البعيدة في الحر إلا إذا قابلنا حالتنا في أيام الصيف عندما يشتد أعظم الاشتداد فلا نستطيع أن نتنفس ولا نتحرك ومع ذلك لم يبلغ الحر إلا 40 ـ 50 درجة. ثم ما الحال لو قابلنا تلك الحرارة بدرجة غليان الماء وهو لا يكون إلا في مائة درجة. وما عسى تكون تلك المقابلة لو علمنا أن أعظم حرارة بلغ الإنسان إلى الحصول عليها عَلَى الأرض هي 3500 درجة وذلك في القوس الكهربائية. وإن حرارة الشمس نفسها لا تزيد على 5300 درجة في جوها المعتدل. وعليه فتكون حرارة الشعرى

أقوى من حرارة الشمس ثلاثة أضعاف تقريباً. ومع ذلك فيوجد كواكب أخر أحر جواً من الشعرى وذلك في صورتي الثور وحامل رأْس الغول المعروف أيضاً باسم سياوش. فكيف بعد ذلك يمكننا أن نسمع ظلامات شعرائنا الذين يقولون ببرودة الكواكب والنجوم. نعم إنهم مصيبون إذا أرادوا بذلك أن الكواكب لا تجيبهم بكلمة إذا ما شكوا لها ضيمهم وإلا فلا. والأولى بشعرائنا العصريين أن يستعيروا لهم برودة غير برودة الكواكب. هذا وقد أدت الحسابات اليوم لا بل وأَبسط الحسابات أن الشمس لو كان لها جوّ مثل جوّ الشعرى لما كانت الحياة ممكنة عَلَى الأرض لتحول إلى البخار جميع العضويات الحية الموجودة عَلَى الأرض. ولما أثر ذلك شيئاً في سير سائر النجوم والكواكب. وضياء الشعرى يضاهي حالة جوها غرابة وعجباً. فإن فلكينا الباريسي نوردمان قد أثبت بأنها تنير الكون بنور أقوى من نور الشمس خمسة وعشرين ضعفاً فيكون نور الشمس بالنسبة إلى نور الشعرى نسبة شمعة إلى مصباح زاهر أو بعبارة أخرى أخصر وأصح: يجب وضع خمس وعشرين شمساً من شمسنا لنحصل على ضياءٍ يشابه ضياء الشعرى. وإن شئت تعبيراً علمياً فقال: إن كل سنتيمتر مربع من وجهها يبرز نوراً ما يوازي تقريباً ستة ملايين من الشموع العشرية. كل هذه الحقائق المقررة قد أثبتت بوسائط علمية حديثة في منتهى السذاجة لا محل لذكرها هنا لأن العين لا تستطبب نظر بناية فخمة جديدة إذا كنت تراها مدعمة بأخشابها والأجدر والأحسن أن تنتزع قبل أن ترمقها الأعين لتبدو بهجة منظرها. ثم إن منظر طيف الشعرى كشف لنا أيضاً أموراً ما كان ليكشفها لنا غيره وهي في منتهى الغرابة أيضاً. فإن المنظار المذكور أظهر لنا أن في الشمس أغلي معادننا الأرضية وأما في الشعرى فإنه كشف لنا عن جو مركب كله تقريباً من كتلة عظيمة من الهدروجين وهو من أخف الغازات المعروفة. فيجب أن نستنتج من ذلك أن سائر العناصر الكيماوية التي هي أثقل قد تفككت وتحولت إلى هدروجين بقوة الحرارة الشديدة حرارة الشعرى. فإذا كان الأمر كذلك فحينئذ عند مرور الأعصار وكرور الأدهار لما يبرد الكوكب وينتقل من حالة الشعرى إلى حالة الشمس كما تحقق هذا الأمر عند جمهور العلماء يجب علينا أن نسلم أن الهدروجين في برودته يسير سيراً معاكساً أي إنه يتخثر رويداً رويداً فتتكون منه سائر

المعادن. ومن ثم فإن الكواكب تكشف لنا عن سر طالما كان غامضاً عَلَى أهل العصور الوسطى ألا وهو سر علم الصنعة الذي ترمي غايته إلى تحويل المعادن بعضها إلى بعض وعلمه فوق كل علم بغداد ساتسنا.

أمالي تاريخية

أمالي تاريخية الضريبة روى المحبي في خلاصة الأَثر: إن العوارض مظلمة سلطانية تؤْخذ من البيوت في الشام في كل سنة ويقال أنها من محدثات الملك الظاهر بيبرس أشار إليها الصفوري بقوله معتذراً: يا من فضله والجود سارا ... مسير النيرين بلا معارض وعدتك سيدي والوعد دين ... ولكن ما سلمت من العوارض والأكرمي بقوله أيضاً وقد أجاد: لحا الله أيام العوارض إنها ... هموم لرؤياها تشيب العوارض يضيق لها صدري وإني لشاعر ... خليع وبيتي ما عليه عوارض القشلق وروى المحبي أيضاً أن القشلق من عسكر السلطان مراد بن أحمد كانوا قد عينوا لمحاربة شاه عباس فدهمهم الشتاء دون الوصول إلى خطة العجم فأمروا أَن يشتوا في دمشق وأَطرافها من القرى وضيقوا عَلَى الناس أمر المعيشة وبالغوا في التعدي والتجاوز ونهب أَموال الناس وكان قاضي القضاة بدمشق أحمد بن عوض العينتابي تولى هذا المنصب سنة 1041 هـ قسى بقمعهم وكف شرهم فقال إبراهيم الأكرمي في ذلك: انظر إلى القشلق في ذلة ... العكس من حالهم الحائل كم رجل منهم بسموره ... عَلَى جواد صائل صاهل تحل بالجندي غلمانه ... وقد أتى يسأَل عن سائل ووصفهم أبو بكر العمري بقصيدة بليغة مشيراً إلى عيثهم ومعاونة القاضي في دفع أذاهم مطلعها: أواه مما حل في جلق ... من العنا في زمن القشلق رامي البلى مد عَلَى أهلها ... قوساً له قال القضا فوّقي حتى تنادي الناس مما هي ... باليتنا من قبل لم نخلق ومنها:

كانت دمشق الشام محسودة ... لكونها بالعين لم تطرق آمنة من كل ما يختشى ... أْمنة للخائف المشفق مائسة تزهو بسكانها ... مائدة للبائس المملق لا يعرف الدخل لها مدخلاً ... ولا إلى عليائها يرتقي وهي عَلَى ما تم من نعمة ... تتيه بالحسن وبالرونق ومنها في وصف قشلق: في رقعة الشام غدت خيلهم ... وذلت الأرخاخ للبيدق أواه من خمدة نيرانها ... يا نار كيف اليوم لم تحرق إلى أن قال: يا ويح قوم دعسوا أرضنا ... وأَوقفونا في ردى موبق وقد أغاروا وبنا أحدقوا ... يا غيرة الله إلينا أسبقي أجلوا أهالي النور عن دورهم ... بالسيف والدبوس والبندق واتخذوها سكناً دونهم ... بالفرش من خزّ ومن استبرق واستوعبوا أكثر أموالهم ... ظلماً بلا عهدٍ ولا موثق واقتنع الناس بأعراضهم ... فإنها بالثلب لم ترشق وأرخ ذلك بقوله: لقد غزينا دون وعد بلا ... لأم فارخ سنة القشلق وأشار إلى وجوب إسقاط اللام من التاريخ فتبقى سنة 1041هـ 1631م. زحلة: عيسى اسكندر المعلوف.

غرائب الغرب

غرائب الغرب كلية باريز 17 كلية باريز من أقدم كليات العالم في التاريخ إن لم تكن أول كلية أُنشئت وقد كانت في القرون الوسطى بلا مراءٍ أشهر كلية وأكثرها إيواءٍ للطلبة فكان علماءُ الوقت كما قال أحد الفضلاء ينظرون إليها بأنها صاحبة الحق في استخراج كنوز العلوم ملكت إرثاً شرعياً صحيحاً وكانت أول كلية أُنشئت في العالم كلية بابل أَسسها نينوس مؤَسس نينوي والمملكة الآشورية الأولى وخلفتها كلية منفيس المصرية وخلفت كلية منفيس كلية آثينا وبعد هذه أُنشئت كلية رومية وبعدها قامت كلية باريز واشتهرت كلية بولونيا في تعليم الحقوق كما سبقت كلية باريز غيرها في الآداب المقدسة والعالمية وكان في جوارها عشر مدارس تحيط بها كأَنها أم القرى وتلك من أعمالها مثل مدرسة الإنكليز ومدرسة الإيكوسيين والألمانيين واللومبارديين واليونانيين ولطالما بعث الملوك إليها بأولادهم ليتخرجوا في المنطق ويتعلموا رقة الجانب وحسن الأدب والعشرة. ظلت هذه الكلية منذ القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر تربي معظم الرجال الذين يختلفون إلى التعلم فيها وفيهم الشعراءُ والعلماء والفلاسفة ومن مشاهير من تخرجوا فيها غليوم أوكام ورايمون لول وتوما داكين وبنوا دانانيي وبونيفاس الثامن وبرونوتو لاتيني ودانت وتوما موروس وإيراسم وغيرهم وجميع طلابها عَلَى اختلاف أصقاعهم كانوا يرتاحون في حماها وكان مطمح أنظارهم حب الحقيقة وهي القاعدة الأصلية فيها وكل منهم يتمتع بحقوقه. ولقد جاءَ زمن كانت الحياة العقلية محصورة في جدران المدارس إلا أن كلية باريز أعظم منبعث لبث الدعوة إلى الأفكار الفرنسوية وكانت وحدها تكفي لإنارة العالم إلا قليلاً وكان رجال تلك الأزمان ينسبون العلوم إلى مواطنها ويرجعون الأمور إلى مصادرها فيقولون أن رومية مقر البابوية وألمانيا مقر السلطة وباريز مهد العلم. وكانت الأفكار الفرنسوية ـ كما قال أحدهم في المجلة الباريزية ـ هي أكبر معين في القرون الوسطى عضد إلى النهاية الصليبيين في نشاطهم وهيأَ أسباب الحماسة الدينية وفتح لأمم المغرب ونشاطهم طرقاً جديدة في العمل ومن الأفكار الفرنسوية نشأت بعد نزاع قديم

فكرة الوطنية متجلية في صورة مؤثرة ذات بأْس ومضاءٍ بحيث خضعت السياسة لسلطانها ووضعت أسس الوحدة الوطنية. والأفكار الفرنسوية هي التي طهرت رياح الإصلاح والنهضة وقادت الأفكار القديمة إلى التجديد وأنارت العالم بقبس أنوارها. والأفكار الفرنسوية هي التي حملت إلى العالم في عهد فولتير ومونتسكيو أفكار التسامح الديني والعدل الاجتماعي والحق والإنسانية. والفكر الفرنسوي هو الذي سنّ المباديء الخالدة في دساتير الأمم المتمدنة بأسرها. فمن فرنسا نشأت حرية البلجيك وحرية اليونان وحرية إيطاليا وحرية العثمانية. وفرنسا مهد الأدب تنشر أنواره فتتناوله الأجانب وتتقبله بقبول حسن وهي البلاد التي اشتهرت بعلمائها وصناعها. ومن كلية باريز اخترع أمبير اختراعاته التي لولاها لما اخترع التلغراف اللاسلكي والسلكي والتلفون ولم تتم عجائب الكهربائية الصناعية. وفي كلية باريز أحدث باستور انقلابه العظيم في علم الحياة الذي جعله المحسن إلى الإنسانية في العالم أجمع. وفي كلية باريز حقق برتلو الطريقة الصناعية في المواد العضوية فنشأت منها الكيمياء الحديثة. وفي كلية باريز اخترع كوري وقرينته الراديوم واهتزت في أيديهما ذراته. وفي معامل كلية باريز أوقد مواسان للمرة الأولى التنور الكهربائي كما اخترع غيره التصوير الشمسي بالألوان كانت هذه الكلية كما قلنا أعظم كليات القرون الوسطى فجعلوها سنة 1896 كلية تليق بعظمتها الماضية بحيث لم تفقد مكانتها العلمية وفيها اليوم زهاء ثلاثمائة أستاذ يفيضون كما أفاض أسلافهم عَلَى العالم من علومهم ولا سيما على أميركا الجنوبية وبوهمييا والبلاد المصرية والعثمانية وكانت هذه الدار رسول السلام بين الأنام ومعلمة الناس كيف يكون التجانس الروحي والإخاء العام. ولكم كان أساتذتها يسيحون في بث ما علمهم الله في البلاد التي يقل فيها العالمون ولكم أنشئت في حجر هذه الدار جمعيات تريد التقريب بين الشعوب وتعليم الجاهل منهم ولكم رنت في غرفها وقاعاتها أصوات الخطاء من علماء الأرض أتوها يحملون إليها نتائج أبحاثهم ودروسهم. فإن كانت كلية باريز أمَّ كليات براغ والأستانة ومصر وغيرها من كليات البلاد اللاتينية وأميركا اللاتينية فهي تفاخر بأنها أم كليات إنلكترا وإيكوسيا. ويؤخذ من إحصاء سنة 1907 ـ 1908 أنه كان في هذه الكلية 17303 طلاب منهم

3361 من الأجانب فتيان وفتيات ومن هؤُلاءِ 926 يدرسون الحقوق و520 يدرسون الطب و773 العلوم و1062 الآداب ولم تقصر كليات الولايات وعددها اثنان وعشرون كلية في بث روح التكافل الأخلاقي والعقلي فأنشأت كلية تولوز جمعية اجتماع الطلاب الفرنسويين في اسبانيا وأنشأَت كلية بوردو مدرسة الدروس الاسبانية العالية في مدريد وأنشأت كلية كرنوبل المجمع العلمي في فلورنسة وكلية نانسي وهي على الحدود الألمانية تعلم قاصديها احترام فرنسا وخدمتها للعلم. وهكذا الحال في كلية مونبليه وليل وليون فكليات فرنسا تعلم في السنة سبعة آلاف طالب وهو عدد ليس بقليل يدل عَلَى تفردها في هذا الشأن من بين أكثر الممالك الراقية. هذه شذرة صغيرة في وصف كلية باريز التي ما زالت الحكومة الفرنسوية تنفق عليها النفقات الطائلة والمحسنون لا ينفكون عن إعطائها المنائح الكبيرة فقد وهبها كارنجي المحسن الأميركي كثيراً كما أن بعض الروسيين منحوها مالاً جزيلاً والفرنسيس يعطونها عن سعة. فحيا الله يوماً تقام لكل قطر من أقطار البلاد العربية كلية مثل هذه تدرس أبناءها علوم البشر بلغتهم وتكوّن مجتمعنا بالوطنية الصحيحة كما تكونها كليات الممالك الصغرى في الغرب كالبلجيك وهولاندة والدانيمرك والسويد ونروج وسويسرا والمجر وبولونيا وفنلندا والبرتقال. حدائق باريز ومتاحفها 18 يطول بنا نفس الكلام إذا أردنا الإفاضة في كل فرع من فروع العمران بباريز وكلها مما يحتاج إلى صفحات كبيرة وربما ملّ القاريء قبل أن يمل الكاتب. ولقد عنيت مدة مقامي في هذه العاصمة أن لا أضيع ساعة من وقتي إلا في البحث عن جمعية أو إنسان وزيادة معهد فيه نموذج من ارتقاء العقول ووفرة العلم وحذق الأبدي وبسطة العيش وفضل الرفاهية ومما جعلته لأوقات الفراغ غشيان الحدائق والمتاحف ودور التمثيل والسماع. في باريز حدائق كثيرة عامة ومنها الصغير الخاص بحي أو شارع صغير ويسمونها سكوار وهي كلمة إنكليزية معناها ساحة مربعة أو حديقة يحيط بها حاجز من قضبان حديد وتكون في ميدان عام وعددها 36 حديقة تتمنى كل حاضرة من حواضر البلاد العثمانية أن يكون

لها من نوعها واحدة فقط بانتظامها وحسن تعهدها. أما الحدائق الكبرى فعددها تسع تصرف في كل واحدة الساعات وأنت تسرح ظرفك فيما خصتها به يد الصانع وأيدي البشر من مجالي الظرف والجمال. زرت منها حديقة الحيوانات وحديقة النباتات وحديقة كلوني وحديقة لوكسمبورغ وعجبت لمن يزور هذه الحدائق مرات لم لا يكون عارفاً بالنبات والحيوان وتاريخ مشاهير فرنسا أحسن معرفة فمثل هذه الحدائق التي يتنزه فيها المتنزهون هي في الحقيقة مدارس عملية يدرس فيها المتنزه كبيراً كان أو صغيراً ما ينبغي له من هذه العلوم درساً عملياً لا يحتاج فيه إلا إلى انتباه فكر قليل حتى إذا أسعده الحظ ونظر في المدرسة أو خارجها في كتب هذه العلوم يصبح وهو مطبق العلم عَلَى العمل. ولقد رأَيت في حديقتي الحيوان والنبات أسماء كنت أقرأها ولا أعرف أعيانها فلما وقع النظر عليها تبينت فضل عرضها وأن العلم النظري إذا لم يشفعه علم عملي يبقى كالسيف في غمده أو البندقية في معملها أو الكهربائية قبل توليدها. وليس في البلاد العثمانية أو المصرية ما يشبه هذه الحدائق الله إلا أن تكون حديقة الجيزة والجزيرة والقناطر الخيرية في مصر وحديقة الأمة وغيرها في الأستانة ولكن أين الثريا من يد المتناول ما ينظمه الباريزيون لأنفسهم وينظمه الإنكليز أو الطليان والنمسويون لنا. وما حك جسمك مثل ظفرك. وإنك لترى في بعض الحدائق العامة تماثيل مشاهير رجال فرنسا في السياسة والعلم مجسمة من رخام مجزع أو حديد مصنع كأَن ساحات باريز وشوراعها العظمى لم تستوعب وحدها كبار رجالهم حتى هرعوا إلى الحدائق يضعون فيها التماثيل والنصب لمن أحسنوا اللامة أو سادوها زمناً وأصبح لهم في تاريخها ذكر يردد. ففي ساحات باريز وشوارعها 68 مشهداً لمشاهير علمائهم ورجال سياستهم ومنهم أوغست كونت والفرد دي موسه وشاركو وكورنيل ودانتون وغامبتاوكي دي موباسان وجول سيمون ولافييت وواشنطون ولافوازيه وباستور وفيكتور هوغو وغيرهم وفيها 68 تمثالاً اثنان منها لاسكندر دوماس الابن والأب. وواحد لبالزاك وبوفون وبرانجيه وشارلمان وكلود برنار وكوندورسه ودانت وديدرو وغاريبالدي وجورج ساند وجان جاك روسو وجان دارك ولامارتين ومارات

وموليير وباسكال وشاكسبر وفولتير وتمثال الحرية والقانون والجمهورية هذا داخل العاصمة أما خارجها فلها من غابتي فنسين وبولونيا أعظم فسحة ونزهة وغابة فنسين في شرقي باريز على بضعة كيلومترات من نقطة دائرتها ومساحتها 927 هكتاراً وفيها من أنواع الراحة وتنويع المناظر المفيدة ما هو العجب العجاب وأعجب منها غابة بولونيا في غربي باريز ومساحتها 873 هكتاراً زرتها ثلاث مرات وإن كانت في الشتاء ليست مثلها في الصيف عَلَى أنها ما خلت من الأنيس والجليس وكان أحد تلك الأيام يوم عيد رأْس السنة والسماء مصحية والشمس طالعة مريضة صحيحة والعيون المراض الصحاح خرجت من كناسها تستنشق الهواء النقي. وهناك منظر من بحيرات بولونيا وطرقها لا أدري كيف يصوره الشاعر إذا كان الوقت ربيعاً أو صيفاً أو خريفاً ولو كنت شاعراً لحبرت في وصفه القصيدة وإن زرتها في الفصل الميت كما يقول الفرنسيس. أما المتاحف الباريزية فهي أيضاً قصور نزهة وحدائق صفاءٍ وعددها 31 متحفاً يحتوي كل منها عَلَى أقصى ما يتصوره العقل من ارتقاء البشر في الصناعات والفنون على اختلاف الأعصار زرت بعضها وقضيت أوقاتاً طويلة في متحف اللوفر العظيم يالقرب من نهر السين ومتحف فرسال عَلَى ثلاثة أرباع الساعة من باريز. أما متحف اللوفر فهو من أجمل قصور العالم وأوسعها عرف سنة 1204 عَلَى عهد فيليب أوغسطس وما زالت أيدي الملوك تتعاوره بالإصلاح أو التدمير حتى إذا كان عهد فرنسيس الأول أصبح اللوفر متحفاً يقسم اليوم إلى سبعة متاحف في متحف بحسب أصول آثارها وزمنها وطبيعتها وهي متحف التصوير ومتحف الرسوم ومتحف النقش ومتحف النحت القديم ومتحف النحت في القرون الوسطى وعَلَى عهد النهضة ومتحف النحت الحديث ومتحف العاديات الآسياوية ومتحف العاديات المصرية ومتحف العاديات الإفريقية ومتحف العاديات النصرانية ومتحف الفخار والأواني الخزفية القديمة ومتحف القلز والحلي والرخام القديم ومتحف عاديات القرون الوسطى والنهضة والقرون الحديثة ومتحف تير ومتحف البحرية ومتحف الشرق الأقصى. وكل متحف تصرف فيه الساعات الطويلة ولا تستوفي النظر فتأْخذك الدهشة من رؤية المكان ورؤية المكين وتقضي بالعجب من كل ما يقع عليه بصرك إذ تتمثل لك عظمة الإنسان وتفننه فيما تصنعه يده وعينه وذوقه أما متحف فرسال فهو في مدينة فرسال

وكانت في القرن الحادي عشر للميلاد قرية فأصبحت بعناية لويز الثالث عشر مدينة صغرى لأنه أقام فيها قصراً للراحة أثناء الصيد وأراد لويز الرابع عشر أن يجعل فرسال مركز حكومة فرنسا فأنشأَ فيها أبنية ومصانع عظيمة وكذلك فعل لويز الخامس عشر حتى أصبح عدد سكانها ثمانين ألفاً على عهد الثورة. وهكذا إذا أراد الملوك أن يعمروا بلداً أحيوه وإذا شاؤا أن يخربوه أماتوه. واشتغل في إقامة قصر فرسال الذي جعل المتحف فيه اليوم ثلاثون ألف رجل وسنة آلاف دابة في اليوم مدة سنين طويلة وقد فتحت أبواب المتحف سنة 1837 وفيه اليوم. 5600 أثر تاريخي. أما مجموعة الصور البديعة التي فيه فعددها 2400 صورة ليس لها نظير في العالم ومن يمعن النظر فيها كثيراً يخرج من المتحف وقد درس تاريخ فرنسا ووقائعها الحربية بالعمل والنظر. ومن جملة ما حواه أسلحة ببيوت الشرف التي اشترك فرد أو أفراد منها في الحروب الصليبية. ومنها أبواب مستشفى فرسان رودس الذي أهداه السلطان محمود العثماني سنة 1836 إلى لويز فيليب صاحب فرنسا. وفيه صور كثير من مشاهير الشرق كأنك تراهم عياناً وفيه صورة تمثل القائد كلبر الفرنسوي وسليمان الحلبي يقتله في حديقته في القاهرة زمن الاحتلال الفرنسوي في مصر. أطلت الرواية في كل هذا وأنعمت النظر في النفقات الطائلة التي أنفقت على هذه القصور المزخرفة والمصانع العظيمة فأعطيت بعدها الحق لمن قاموا بالثورات الفرنسوية يريدون إنزال الملوك عن عروشهم وفصم عرى السلطة الفردية لتنقل إلى أيدي الأمة. نعم إن أقل نظرة إلى هذه القصور يستغرب معها المرء كيف لم تحدث تلك الثورات قبل حدوثها بزمن طويل ولكن الحوادث كالحبال لا تلد إلا بعد إتمام مدة الحمل أو كالثمر لا ينضج قبل إبانه. ولم أتمكن يوم زيارتي لفرسال من رؤية كل حدائقها ومرافقها لنزول الثلج ولكني عَلَى الجملة أخذت منها صورة إجمالية كافية. شأني في كل ما زرته من المعاهد ورأَيته من المشاهد فلم يتيسر لي أن أُلقي عليه سوى نظرة واحدة لضيق الوقت وكثرة ما يجب أن يدرس من آثار هذه الحضارة الغربية الغريبة. وبعد كل هذا صرت أَرى الاشتراكيين عَلَى حق فيما يطالبون به المجتمعات الحديثة في

الغرب وهم يرون مئات الفدادين من الأرض تجعل حدائق قد لا يختلف إليها إلا أفراد في حين يهلك مئات الألوف من المحاويج والفقراء ولا من يرحم ضعفهم المادي والصحي أو يرثي لبكائهم وتسبل عَلَى النظر هذه التحف والعاديات التي لا تقدر بثمن وحكومة الجمهورية تفترض مئات الملايين من الفرنكات لسد العجز في ميزانيتها. وهكذا نظام المجتمع الغربي ولعلّ عقول أهله المفكرة تحرر في الأجيال المقبلة الفقير من فقراه أو تقوى عَلَى الأقل عَلَى تعديل هذا النظام الجائر الذي يسلب من كثيرين السبد واللبد ليعمر به قصر البلد ويلعب في حدائقه وساحاته الوالد والوالدة والولد. مكاتب باريز ومكتباتها 19 لو لم يكن في باريز إلا مكتبة الأمة التي حوت في قصرها الفخيم زهاء ثلاثة ملايين كتاب مطبوع ومئة ألف كتاب مخطوط ومليونين ونصف صورة مختومة وألوفاً من الأيقونات والأنواط القديمة وغير ذلك من التحف والآثار ومجاميع الصحف والمجلات لكفاها جالباً للسائحين ولافتاً لأنظار أهل العالمين من العالمين. مكتبة أسست منذ نحو ستة قرون وملوك فرنسا وعلماؤها وأشرافها يتبارون في أن يجعلوا في كل فرع من فروع العلم واللغات وصنوف المخطوطات والمطبوعات حتى إذا جاء القرن العشرون أصبحت مكتبة الأمة أكبر مكاتب العالم وأهمها بندرة كتبها ومخطوطاتها ففيها من نوادر المخطوطات والمطبوعات العربية ألوف. اختلفت إليها غير ما مرة ولم أتمكن من مطالعة كل ما أريد لضيق الوقت وضخامة الفهارس وكثرة المؤلفين والناقلين في قاعات المطالعة. وبلغني أن الكتب التي أهديت إلى مكتبة الأمة في العهد الأخير لم يتيسر إدخالها في قوائم الكتب عَلَى كثرة موظفي المكتبة وكادت مطبعة الأمة الأميرية تعجز عن طبع فهارس هذه الخزائن ولا غروفان ما رأَيته منها مطبوعاً إلى عهد ليس ببعيد وحده مكتبة برأْسه ويقضي فيه المرء الساعات ولا يستطيع أن يستوفي النظر الإجمالي. ولو صرف طالب العلم عمره كله ببحث في مخطوطات مكتبة الأمة ويستعين بمطبوعاتها لما تيسر له أن يأْتي إلا على قسم ضئيل جداً مما حوته في بطنها من معارف البشر ولا

نعد المكتبة الخديوية في مصر ومكاتب الأستانة التي تتجاوز الأربعين مكتبة ومكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ومكاتب دمشق وبيروت وحلب وبغداد والمدينة ومكة وغيرها من بلاد الشرق الأدنى إذا جمعت كلها في صعيد واحد وجعلت لها فهارس وقوائم منظمة إلا جزءاً صغيراً من ذاك الجسم الكبير. وعَلَى تلك النسبة قس المطالعين والمراجعين في مكتبة الأمة بالنسبة لأمثالهم في البلاد العثمانية والمصرية فتراهم عند الساعة الرابعة بعد الظهر يخرجون رجالاً ونساء شيوخاً وعجائز شباناً وشابات كالقطيع الكبير لا يقل عددهم عن خمسمائة وربما الألف أحياناً وتجد فيهم الغرباء من أمم أوروبا وآسيا وأميركا وإفريقية ممن تجمع بينهم كلمة العلم الجامعة وكلهم يتنافسون في البحث والدرس ويستخرجون من ركاز تلك الكنوز ما يصوغونه عقوداً ثمينة وتعاويذ محلاة تقي البشر شر الجهل والخرافة ولعله يخطر ببال بعضهم أن هذه المكتبة هي كل ما في فرنسا من خزائن كتب صرف الفرنسيس فيها قواهم وجمعوا لها من أقطر الأرض كل غال ونفيس عَلَى عادة الإفرنج في التغالي بفخامة مصانعهم وضم شتيت متفرقهم وحرصهم على الاجتماع للانتفاع ولكن في باريز وحدها من المكاتب العامة ما لو جمع أيضاً لكان منه مكتبة كمكتبة الأمة بكثرة أسفارها إلا أن هذه تفوقها بالنوادر من المخطوطات. ولباريز عشر مكاتب أخرى في كل واحدة منها عشرات الألوف من المخطوطات والمطبوعات دع عنك خزائن كتب الجمعيات والمدارس والكليات والمجامع فإن لكل واحدة منها ما يقتضي للمطالع من أسفار المراجعة وغيرها. أما خزائن كتب الأفراد فهذه لا يحيط بها إلا علاّم الغيوب أو من يدعي أنه يعرف ما حوت باريز من علم وأدب وذهب ونشب. ويقول العارفون أن قواعد بلاد الإنكليز السكسونيين كألمانيا وإنكلترا والولايات المتحدة تحسن استخدام أسفارها أكثر من الجنس التوتوني اللاتيني كالفرنسيس والطليان والاسبان وغيرهم إذ ثبت أن تلك الأمم العظمى الراقية أكثر إحساناً للانتفاع من قواها الطبيعية والصناعية على أسلوب حديث لم يخطر ببال الفرنسويين الذين جروا في أوضاعهم وترتيب مصانعهم وتنظيم شؤونهم عَلَى تقاليد لهم قديمة وإن عرف عنهم أنهم أسبق الأمم إلى الجديد ولكن تجديدهم في أمور دون أخرى. والانتفاع من الكتب أيضاً لم يخرج عن هذا النظام حتى قالوا أن نفائس المخطوطات

والمطبوعات الموجودة في مكتبة الأمة في عاصمة الفرنسيس لو نقلت إلى ليبسيك أو مونيخ أو برلين أو فينا أو أكسفورد أو مانشستر أو لندرا أو نيويورك أو شيكاغو لانتفع بها وتيسر سبيل الوصول إليها لأنها تكون هناك مفهرسة مبوبة عَلَى طريقة فيها روح القرون الوسطى وقد جعلت هنا على أسلوب قريب المأخذ سهل التناول خال من القيود التي تقيد المطالع والمراجع. فإن كانت فرنسا في مقدمة شعوب الأرض من وجوه كثيرة ولا سيما في الأمور الذوقية وبدائع الصناعات والإصلاحات الدستورية والإنسانية فقد فاقها غيرها من الممالك المجاورة من حيث الفنون والاقتصاد والاجتماع فعرفوا كيف يطبقون أنفسهم عَلَى الذوق العصري. مثال ذلك صناعة الوراقة أو بيع الكتب فإنا نجد ألمانيا أرقى من فرنسا فيها مع كثرة تفنن الفرنسيس فيما يدل على سلامة الذوق حتى أن ليبسيك في ألمانيا تبيع وحدها من الكتب قدر ما تصدر فرنسا كلها ومن الغريب أن الكتبية الألمان في نفس باريز تجدهم أمهر في تصريف كتبهم فيبيعون كمية أوفر من كتبية الباريزيين. جاء في كتاب ألمانيا الحديثة أن ألمانيا أعظم البلاد إصداراً للكتب فقد كانت أوائل القرن الماضي لا تخرج في السنة سوى 3900 كتاب فأصدرت سنة 1905 28886 كتاباً في حين أن فرنسا التي في الدرجة الثانية بكتبها لم تصدر سنة 1904 سوى 12139 كتاباً فإذا قدّر أنه يطبع من كل كتاب في ألمانيا ألف نسخة فيصيب كل شخص فيها عَلَى أقل تعديل مجلد واحد فصناعة الكتب في ألمانيا رابحة جداً. وقد كان عدد المحال التي تتعاطى تجارتها سنة 1905 7152 محلاً تصدر إلى الخارج فقط ما قيمته 290 مليون مارك. زرت في جملة الكتبية الذين زرتهم أو ابتعت منهم بعض الكتب مكتبة هاشيت المشهورة في جادة سان جرمان وهي ثلاثة طوابق وفيها نحو ألف وخمسمائة موظف ومستخدم وتطبع فيها بضع جرائد ومجلات كما تطبع الكتب المدرسية والأدبية والتقاويم السنوية المشهورة في العالم وهي مؤسسة منذ نحو ثلاثة أرباع قرن ويعد هاشيت من أعظم كتبية العالم إن لم يكن أعظمهم ومع هذا يقول العارفون أن مكتبته عَلَى حالتها الحاضرة لو كانت لجماعة من الألمان أو الأميركان لأدهشوا العالم بنظامهم وأرباحهم. فكأن دم الفرنسيس الذي على زمناً قد برد اليوم وأصبح الدم الجديد غيره الآن يغلي فيدهش بحرارته. ومن مكتبات

باريز المشهورة مكتبة فلاماريون ولمكتبته فروع كثيرة في مدينة باريز وبلاد فرنسا وهذه المكتبة فيما رأَيت أقرب إلى التجديد منها إلى الجمود على القديم. مجامع باريز العلمية 20 عَلَى الشاطيء الأيسر من نهر السين مقابل قصر اللوفر الفخيم قام قصر عظيم عمر في النصف الثاني من القرن السابع عشر بمال أوصى به السياسي مازارين الذي جمع بطمعه وجشعه ثروة عن خمسين مليون فرنك عَلَى عادة عظماء القرون الوسطى. وأراد أن تنفق بعده في الخيرات وحسن الأثر ومن جملة خيراته هذا القصر الذي أوصى له بمليوني فرنك فضة وخمسة وأربيعن ألف ليرة دخلاً سنوياً ليكون منه مدرسة عالية يتعلم فيها ستون طالباً من أبناء الولايات الأربع التي أضيفت إلى فرنسا بموجب معاهدة البيرنيه وروسيللون. وهذا القصر هو الذي نقل إليه مجمع فرنسا العلمي سنة 1806 ذاك المجمع الذي أُسس سنة 1795 فكان مفخراً من مفاخر الفرنسيس وحق لهم أن يفاخروا به. وهو مجلس أو ديوان مؤلف من خمسة مجامع فالأول المجمع العلمي الفرنسوي المعروف بالأكاديمي أَسسه ريشليو سنة 1635 وهو يشتغل خاصة بتأليف معجم اللغة الفرنسوية وإدخال المفردات الجديدة ونبذ القديمة أو إصلاحها وأعضاؤه أربعون رجلاً ويقال لهم المخلدون عَلَى سبيل الدعابة لأنهم إذا خلا موضع واحد بالموت ينتخب سائر الأعضاء في الحال من يخلفه والمجمع الثاني مجمع الصناعات النفيسة أسسه مازارين سنة 1648 باسم مجمع التصوير والنقش والمجمع الثالث مجمع الخطوط والآداب أنشأه الوزير كولبر سنة 1664 ومجمع العلوم أَسسه كولبر أيضاً سنة 1666 ومجمع العلوم الأخلاقية والسياسية أنشيء سنة 1832 وجميع هذه المجامع ينتخب أعضاؤها بعضهم بعضاً مدى العمر وينظرون في العلوم الآنف بيانها ويعطون جوائز للمحسنين من المؤلفين والعاملين وبعضها لا يستهان به. وفي باريز مجامع علمية كثيرة غير هذه منها مجمع باستور العلمي مكتشف الميكروب والمجمع الكيماوي ومجمع فتيان العميان ومجمع الزراعة ومجمع البحار ومجمع العيون ومجمع الصم البكم ولكل منها أنظمة وقوانين وأعمال يطول شرحها وأكتفي فقط بوصف جلسة عامة حضرتها من جلسات مجمع العلوم الأخلاقية والسياسية في اليوم الرابع من

كانون الأول سنة 1909 عقد هذا المجمع جلسته السنوية تحت قبة المجمع وهي القبة التي تجتمع فيها المجامع الخمسة المعددة فيما تقدم اجتماعها السنوي وقدر الجمع بأربعمائة نسمة رجال ونساء. جلسوا على مقاعد من المخمل على ترتيب بديع بحيث يسمع كل واحد منهم ويرى وكان أكثر أعضاءِ هذا المجمع بلباسهم الرسمي فجلس على كرسي الرئاسة المسيو رني ستورم وتلا كما هي عادة هذا المجمع منذ القديم أو منذ إنشائه قائمة بأعمال المجمع منذ اثني عشر شهراً وصفق لمن نالوا جوائز على كتب أَلفوها وأعمال قاموا بها لخدمة الإنسانية وتعليم البائسات وإطعام الجائعات واليتامى والعمي وبين من نالوا الجوائز أربع عقائل عدا من أثنى الرئيس عَلَى أياديهن البيضاء كالأم أرنستين التي أنشأَت معملاً وملجأً في مدينة روان والعقيلة بيكوين التي أنشأَت في باريز ملجأً سمته معمل الجهاز والآنسة دي رشمون التي أنشأَت في مدينة كرنيل منذ أربع وعشرين سنة ملجأً للبنات تأوي إليه أربعمائة ابنة من بنات العملة وأنفقت عليه ثروتها. ومن المعاهد التي أخذ هذا المجمع النظر فيه معهد كارنو وهو الذي منحته العقلية كارنو امرأَة أحد رؤساء الجمهورية رأْس مال يأْتي بثمانية عشر ألف فرنك دخلاً سنوياً وقضت بأن تقسم إلى 90 إعانة كل واحدة بمائتي فرنك توزع كل سنة يوم 24 حزيران وهو يوم مقتل كارنو على تسعين امرأَة من نساء العملة ممن لهن أولاد. ومن جملة الجوائز التي منحها المجمع للمؤلفين جائزة الإجادة لمن أَلف كتاب إفريقية للأوروبيين وكتاب أوربا والمملكة العثمانية. ثم قرأَ المسيو دي نوفيل أمين سر المجمع الجديد ترجمة حياة صديقه وسلفه في هذه الوظيفة جورج بيكو فاثر في السامعين وأبكاهم وتفنن ما شاء وشاء البيان في وصف حسنات المتوفى واقتداره. وكانت الخطب يتلوها أولئك الشيوخ في الورق بنغمة تأخذ بمجامع القلوب ويطرب لها العالمون العاملون طربهم بنغمات الأوتار وتغريد الأطيار في الأسحار. وهكذا انصرف القوم ونصفهم من النساء يرددون محامد أعضاء المجمع أما أنا فتمثات لي أرواح أولئك العلماء العاملين الذين سنوا لمعاصرينا أخلافهم سنن الارتقاء وخدمة العلم والحق والفضيلة والآداب والفنون وحدثتني النفس ببلادنا الشرقية وقلت هل يكتب لها في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع فنعمل فرادى ومجتمعين كالغربيين أو نظل كما نحن لا

نعمل فرادى ولا مجتمعين ونكتفي بالتفاخر بأجدادنا نجعله عدتنا في شدتنا ومثالنا في نهضتنا ونحن عن اقتصاص آثارهم غافلون. كنائس باريز ومعابدها 21 من المعاهد التي يقضى عَلَى من يزور باريز أن يختلف إليها ولو مرة بيعها وكنائسها فإنها من الأماكن التي يقرأ فيها نموذجاً من النموذجات البناءِ في القرون الوسطى ويطلع فيها عَلَى فلسفة الفرنسيس الروحية خصوصاً والمأْثور عنهم في الشرق أنهم أمة لا تقيم لغير العقل وزناً تجردت من العواطف الدينية حتى لم يبق فيها سوى العجائز من النساء يختلفن إلى المعابد للإنابة إلى الله وتقديس يسوع وأمه عليهما السلام. بيد أن من تعمق في البحث عن حال الفرنسويين الروحية يتجلى له أن جمهوراً عظيماً لم يبرح متشبثاً بدينه متشبعاً بصحة يقينه ولا سيما في القرى والبلدان الصغرى فأغلب الخاصة والطبقة العليا عندهم نزعوا كل نحلة حتى لم يعودوا يعرفون غير المادة ديناً وأغلب الطبقة الوسطى يغلب عليها التدين أما العام في المدن فكالسائمة لا تعرف غير الأَكل والشرب واللهو واللذائذ وأكثر أهل طبقتهم في القرى متعصبون لدينهم والسواد الأعظم من النساء متدينات. وتساوى متدينهم والمنحل من كل دين منهم أو الخاصة والعامة بالتظاهر في مراعاة الشعائر الدينية ولا تختل هذه القاعدة قليلاً إلا في المدن والحواضر ولا أثر للتعليم الديني في المدارس الأميرية وهو عَلَى أشده في مدارس الرهبنات وغيرها من المدارس الخاصة عَلَى أن نزعة التعصب التي عرفت بها فرنسا منذ صبأَت عن الوثنية لتنتحل النصرانية في القرن الثالث للمسيح ما برحت لها في نفوس أبنائها حتى في هذا القرن العشرين آثار راسخة وإن عبثت حكومتهم بقانون الحرية الشخصية غير ما مرة ودمرت بيوت الرهبان والنسك وجردت الكنائس والبيع والمدارس الأكليركية من كل ما يدخل في حوزتها. يحتفل الفرنسيس يوم 14 تموز بسيد الجمهورية احتفالاً يقدسونه ويمجدونه وفي ذاك اليوم تشهد كل أرض فيها بضعة منهم أو رفع لهم فيها علم نموذجاً من وطنيتهم وكيف يرى جمهورهم بالجمهورية حياته ولكن احتفال هذه الأمة بأعيادها الدينية لا يقل عن احتفالها

ذاك اليوم وأعيادها كثيرة هي صورة من صورتها في القرون الوسطى بل في القرون الحديثة قبل أن تنادي فرنسا بتأليه العقل وتعلن الحكومة علناً نزعها ريقة الدين. نعم إن زائر كنائس باريز تتجلى له فلسفة القوم النفسية. ومما زرته من كنائس باريز كنيسة نوتردام والمادلين وعدد الكنائس الباريزية سبعون كنيسة أسقفية للكاثوليك ما عدا بيع الروم والبرتستانت ومعابد اليهود الأربعة وما عدا المصليات والبيع الصغرى ونوتردام هي من أعظم الكنائس وهي أجمل إنموذجات البنايات القديمة تجيء بمكانتها بعد كنيسة مدن شارتر وريمس وأمين وبورج وتفوقها بآثارها التاريخية وكفى بأنها أُنشئت في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني عشر ولم تزل تتعاورها الأيدي بالنقش والتزيين والترخيم والتعريق حتى يوم الناس هذا وفيها من بدائع ما صنعت الأيدي وتفننت فيه العقول ما يدهش ويبهر. زرتها قبيل صلاة المساءِ مع صديقي عثمان بك ووقفنا نستمع لوعظ الواعظ عَلَى جمهور المصلين وأكثرهم من النساء. يعظهن واصفاً لهن غرور الحياة الدنيا بالقياس مع الآخرة ومنهن من تغر ورق عيناها بالدموع أو تجهش بالبكاء خصوصاً عندما يذم بلسان بليغ غرور أهل باريز. فهو داخل الكنيسة يقوم بالواجب ليدعو الناس إلى الزهادة ويجيب إليهم العبادة ووراءَ سور الكنيسة تجري كل ساعة شؤون وأعمال دنيوية هائلة كلها ما كانت تقوم لو عمل الناس بمثل هذه المواعظ وآثروا الباقية على الفانية. إن ما رأَيته من انتظام البيع الباريزية وتفنن البانين في إبداعها وتفانيهم في توفير قسطها من الجمال دلني بلسان حاله عَلَى أن مدينة القرون الوسطى قامت باسم الدين ولذلك جاءت المعابد أجمل مصانع تلك القرون وكان أكثرها إلى الزوال لو لم تتدارك في القرون الحديثة ببلسم من إنارة العقول بالفلسفة والعلم المادي أما مدينة هذا العصر فلا أدلّ عليها إلا بما ينفع الناس في دنياهم كالسكك الحديدية والبوارج والبواخر والمرافيءِ والمعامل والثكن والمستشفيات والمدارس والكليات ودور البائسين والحقول الأنموذجية والمتاحف وحير الوحوش والمكاتب ودور التمثيل. فهل يأْتي عَلَى البشر عصر يا ترى يكون فيه ما ينمّ عن مدينتهم غير ما ذكرنا قديماً في الدين واليوم في الدنيا ويخف تكالبهم على مظاهر هذا العالم وينسون بتاتاً تعظيم ما خلفته عصور التدين من المصانع والعبادات التي انتقلت إلى أكثرهم بالعادة أو يمزجون

القديم بالحديث فيكون شأنهم غير شأنهم الآن في تصور ماضيهم وحاضرهم. هذه أسئلة ليس غير الزمان كفيلاً بالإجابة عنها والله أعلم بمصير عباده. قصور باريز وسراياتها 22 من القصور العامة وأملاك الحكومة في هذه الحاضرة: مصرف فرنسا وقصر الإليزه حيث يقيم رئيس الجمهورية وقصر الأنفاليد والتويليري وقصر العدلية وقصر ساحة المريخ وقصر التروكادير والقصر الملكي وفيه دائرة شورى الدولة ومحكمة التجارة والبانتيون مدفن العظماء وقصر مجلس النواب وقصر مجلس الشيوخ وقصر المجلس البلدي. ونتكلم هنا عَلَى القصور الثلاثة الأخيرة فقد كتبت لي زيارة مجلس نواب الأمة الفرنسوية ومجلس أعيانها خلال انعقاد المجلسين فلم أسر بمشهد أجمل ولا أفخم وقلما ثمثل لي معنى النيابة عن الأمة إلا ذاك اليوم. ومجلسا النواب والأعيان هما مفخر من مفاخر هذه الأمة ونموذج تقدمها ودليل أخلاقها السياسية ففي مجلس الأمة الحركة والمضاءُ وفي مجلس الشيوخ التؤدة والروية فالأول يقيم في قصر البوربون والثاني في قصر اللوكسمبورغ وكلا القصرين من أجمل قصور الحكومة في هذه العاصمة العظيمة وعدد النواب خمسمائة تغلب عليهم همة الشباب وعدد الأعيان ثلثمائة تقرأْ في وجوههم المغضنة وشعورهم البيضاء سعة العقل والتجارب الكثيرة. وما أنس ولا أنس يوم كانت المناقشة في مجلس النواب في وضع ضريبة على العملة وقد تدفقت أقوال بلابل المجلس عَلَى المنبر وما فيهم إلا الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والسياسي والإداري. وإن ما تلي في تلك الجلسة فقط من الخطب وجرى الحوار فيه بين الأعضاء لو جمع في كتاب يرأْسه لجاء منه أحسن كتاب اجتماعي اقتصادي عن فرنسا ومن أراد أن يعرف ما هو البيان الحقيقي والعلم الذي تشربته أجزاءُ النفس فليزر مجلس النواب الفرنسوي في فصل اجتماعه يشهد ارتقاء الغرب ويدرك سر الشورى. أما المجلس البلدي فهو معيار العمران وبيده إسعاد باريز وإشقاؤها. يزار كما تزار أكثر المعاهد الكبرى في باريز بطلب من الزائر يقدمه إلى أمين سر المعهد فيرسل هذا إليه

ورقة يعين له فيها الميعاد الذي يأْتي فيه. يدخل الزائر هذا القصر المدهش فيتجسم في نظره الذوق الفرنسوي وعظمة هذه الأمة لكثرة ما يقع عليه نظره من الردهات والقاعات والغرف وكلها مزدان بنقوش وصور ورسوم من أجمل ما خطته أنامل النقاشين والمصورين وتدل كلها على الذوق والمعاني اللطيفة والإشارات الحسنة. فمن رسم يمثل الغناء والعشرة وآخر يمثل الزهور والثمار وغيره يصور أغاني شواطيء السين وآخر يمثل التجارة والصناعة فالأشهر الجمهورية ومناظر كثيرة لأجمل قصور باريز ومعاهدها وأصقاعها وهناك صور رسمت عَلَى الحيطان والسقوف في القاعات التي تستقبل بها مدينة باريز في العادة من يزورها من ملوك الأرض وأمرائها ومنها ما يمثل أفراح الحياة وآخر يمثل العمل ومغيب الشمس والرقاد والحلم وغيرها يريك الطبيعة الملهمة المربية فالرياضيات الطبيعية فالرياضيات العقلية وآخر يمثل الطبيعة والكيمياء والفلسفة والنجوم وفيها ما يمثل المساء في باريز والخيال والولادة فيها والجهاد والنهضة والشعر والفلسفة والتاريخ والعلم والفنون والسلام واليقظة وذكرى عيد وطني وعيد الخلاءِ في ضاحية باريز. وبعضها يمثل أبولون وعرائس الشعر والتصوير والأدب والموسيقى والنقش والهندسة ومنها رمز القصائد الغنائية والأنغام والكدر والتأمل ومن التماثيل ما يرسم التمثيل بالإيماء والقصص الهزلية والموسيقى والرقص والألعاب ومنها ما يصور الحصاد وقطف العنب والغناء والصيد وتعاطي الشراب. ومنها الموسيقى عَلَى اختلاف العصور والطبوب والعطور ومدينة باريز تدعو العالم إلى أفراحها والزهور والرقص في كل عصر من أعصار التاريخ وصور تمثل أهم أقاليم فرنسا مثل الفلاندر وبيكارديا والجزائر وليون ولانكدوك وغاسكونيا والبروفانس وكوسين وبرى وشامبانيا وبرتانيا وبورغونيا وأوفرن واللورين ونورمانديا وكونتية نيس. ومن صورها ما يمثل الصيف ومنها الشتاء ومنها ما يمثل آسيا وأوروبا وأميركا وإفريقية ومنها ما يصور تأليه العلوم وهو رمز لعلم الأحداث الجوية والكهربائية وتعليم العلم وتمجيد العلم وأربع أيقونات تمثل علم الطبيعة والنبات في شخص أراغو وأمبر وكوفيه ولافوازيه. ومنها رمز إلى ساعات الليل والنهار ومشاهد الأفراح والأعياد وفي ردهة الآداب صور ترسم لك عرائس الشعر والإلهام والتفكر وتاريخ

الكتابة وأعظم الأعمال الأدبية وأربع أيقونات لأربعة أدباء وهم مولير وديكارت وفيكتور هوغو وميشله ثم صور الفلسفة والشعر والفصاحة والتاريخ وهناك رمز بديع يشير إلى أن التاريخ يجمع دروس الماضي والفلسفة تحرر الأفكار من قيودها وعَلَى مقربة من ذلك رسمان اثنان نائمان وهما يمثلان الأدب وفي سقف ردهة الفنون والنقش والموسيقى والهندسة والرسم وغير ذلك من رسوم الوقائع الكبرى التاريخية والصور والتماثيل التي تشير كل واحدة منها إلى معنى من المعاني وفائدة من الفوائد وكلها من حفر أو رسم أو نقش أعظم رجال هذا الشأْن في العالم ولا سيما من أهل فرنسا جعلت هناك نموذجاً مما خصوا به من المزايا وسعة العلم وبعد النظر وحسن الذوق. وعلى الجملة فإن الشرقي الذي يزور قصر المجلس البلدي في باريز تصغر بلاده في عينه ويكاد ييأس من ارتقائها ونهضة أبنائها. أما أعمال هذا المجلس الذي تبلغ ميزانيته مئات الملايين فلا أقول فيها إلا أنها عظيمة جداً ويكفي أن المجلس طلب من الحكومة هذه الأيام أن تسمح له بعقد قرض قدره تسعمائة مليون فرنك ليطهر بعض أحياءِ باريز فأذنت لأنه ثبت أن بعض الأمراض تكثر في حي دون آخر فالواجب العناية بها حتى لا تعلو يد الفناءِ عليها أما أنا فلم أر على كثرة تجوالي راكباً وماشياً في شوارع باريز وأحيائها موضعاً تحدثك النفس أنه محتاج للإصلاح بعد لكثرة ما ترى كل شيء في مكانه وإن مدينة باريز لتنفق على أضواء الكهرباء والغاز الذي تنير به شوارع هذه المدينة السعيدة كل ليلة ما يبلغ مقدار ميزانية بلدية دمشق طول السنة فتأمل. تاريخ الحضارة الفرنسوية 23 بسطنا القول في الفصول السالفة في كل ما يهم عن معرفة باريز وها نحن أولاءِ نتوخى في هذا الفصل أن نلم بطرف من عمران فرنسا بأسرها وأثرها في الحضارة منذ قامت للعلم والعمل سوق رائجة معتمدين فيما ننقل على معجم لاروس الجديد وما هذه النبذة إلا احتذاءٌ لما ورد في الفصل الفرنسوي بتصرف كثير وزيادات. فرنسا مملكة عظمى في أوربا الغربية يحدها المحيط الأطلانطيقي وبحر الشمال أو المانش

من الغرب ومن الجنوب جبال البيرنيه والبحر المتوسط ومن الشرق جبال الألب والجورا والفوسج ويفصل بينها وبين البلجيك وألمانيا خط اتفق عليه من الشمال الشرقي والشمال ومجموع مساحتها 536. 418 كيلومترات مربعة وسكانها نحو أربعين مليوناً أي نحو أربعة أضعاف ونصف مساحة سورية ومساحة سورية 115. 000 كيلو متر مربع والفرنسيس كجميع سكان سوريا أخلاط من العناصر مزجتهم بودقة واحدة فجاء منهم شعب ذي قوة عقلية حقيقية واختلفت صفاتهم وميولهم لمذاهب المعاش وإن فرنسا لغنية بزراعتها أكثر من غناها بمناجمها ومع هذا فهي تعد من أغنى البلاد وزراعتها أرقى زراعة في الأرض و. . . في أرضها الذهب والفضة والزئبق والنحاس والزنك والرصاص والقصدير والزرنيخ والنيكل والأنتيموان والكبريت ولكن عندها ما يلزمها من الحديد والفحم الحجري. وإنك لتدهش إذا عرفت أن جزئين من ثلاثة عشر جزءاً من أرضها تزرع وتشجر وفيها نحوة عشرة ملايين هكتار من الغابات والعوسج ولها في تربية المواشي والحيوانات يد طولى وتجد المعامل الكبرى قائمة في الضواحي الغنية بالفحم الحجري والحديد والمحاصيل الزراعية القابلة للتحول وقد امتاز كل إقليم بصناعة وباريز هي ملكة المدن الصناعية في فرنسا لأنها محط الخطوط الحديدية ومنتهى المواصلات. امتازت الجنوب بصناعاتها لكثرة الفحم الحجري وكثرة السكان وفيها صناعات اشتهرت شهرة الشمس والقمر كما امتاز إقليم الآردن بالجوخ وأعمال الحديد والألواح الحجرية وامتاز إقليم شامبانيا ونورمانديا بالجوخ وأعمال الحياكة والنسيج وإقليم فرانش كونتيه بعمل الساعات وليون وسان إتين بالمنسوجات الحريرية وامتازت المقاطعات المجاورة لها بتربية الحرير والغزل وامتازت البلاد الوسطى بالفخار والخزف والصيني والكاشاني وفي ضواحي الكمولم عَلَى الينابيع ذات المياه الشفافة معامل الورق ولمرسيليا الميزة بصابونها ولإقليم البروفانس بزهوره العطرة التي تستعمل في الطيب وعَلَى الجملة فإن صناعات فرنسا من أنفس ما تصنع صنع الأيدي في العالم ولا سيما في منسوجاتها الحريرية وصناعة الجوهرية والبلور والأواني الصينية الدقيقة وكلها مما جعل فرنسا في مقدمة ممالك أوربا. تقسم فرنسا من حيث أمورها الإدارية إلى 87 إيالة وهذه تقسم إلى 362 ولاية و2899

كورة و36170 مديرية ولها مجلس نواب ومجلس شيوخ ينتخب أعضاء الأول كل أربع سنين وأعضاء الثاني كل تسع سنين وهذان المجلسان هما اللذان ينتخبان رئيس الجمهورية لسبع سنين والقوة الإجرائية بيد الوزارة وهي المسؤلة أمام القوة التشريعية وتقسم هذه البلاد من حيث المعارف والأديان والبحرية والبرية إلى مناطق كثيرة تخالف ترتيب الإيالات وكلها لسان واحد وتربية تكاد تكون واحدة ونظامها واحد. ومن نظر إلى تاريخ فرنسا السياسي والاجتماعي يتجلى له أنها هي بلاد غاليا المستقلة وهي عبارة عن ولاية رومانية عَلَى عهد مملكة الرومان افتتح الرومانيون منذ سنة 125 قبل المسيح البلاد الواقعة عَلَى شواطيء البحر المتوسط ثم افتتح قيصر البقية سنة 58 ـ 51 ق. م ولم تكن إذ ذاك إلا خليطاً من العناصر والقبائل لا وحدة بينها ولا جامعة تجمعها ففي الشمال قبائل جرمانية وفي الوسط سلتية وفي الجنوب الغربي إيبرية وفي الجنوب الشرقي ليكورية وفي الولايات الرومانية مدن يونانية ومستعمرات إيطالية يتكلمون بنحو عشر لغات مختلفة ولم تكن لهم وحدة سياسية ولا رئيس أعلى بل كانوا عبارة عن نحو مئة من الشعوب لهم أوضاع مختلفة ويحكم عَلَى معظمهم مجلس شيوخ ومن هذه الشعوب من يعيش عَلَى حال انفراد ومنها متحدة بينها عَلَى التساوي ومنها من يشترك مع غيره ويترك الزعامة لمن يراه أحق بها. وكانت المدن قليلة جداً في بلاد غاليا وغاية ما كان فيها ملاجيءٌ لأوقات الغارات وهي مراكز الأسواق والزيارات فبلاد غاليا كانت بلاداً زراعية وسكانها ثلاث طبقات الأشراف والمحاربون ومنهم ينتخب أعضاء مجلس الشيوخ والملوك والفرسان وعامة الشعب كانوا فدادين تقرب حالهم من العبودية ولم يكن يملك الأراضي ثم أصبحت ملكاً للأسرات الشريفة. أما الحراثون فهم من توابع الأرض ويجيءُ بعدهم العبيد ويعدل من حال الأشراف طبقة الدرويد وهم الكهنة والأطباء والمنجمون والقضاة ولا سيما في أوسط البلاد. ولما استقام أمير الرومانيين أقاموا زعيماً عاماً على البلاد ممتعاً بالسلطة المطلقة متصرفاً بالقوة الحربية والمدنية والدينية ونعني به الإمبراطور وهو زعيم الحرب والمشرع المطلق والقانون الحي والرئيس الروحي والرب ثم امتزجت البلاد بالعادات الرومانية واللغة

الرومانية بما أتاها من جيوش الرومان وتحرفت لغة الفاتحين فأصبحت اللغة اللاتينية الحقلية وغدت كل أمة غالية مقاطعة برأْسها يرأَسها زعيم وأخذت التجارة والصناعة ترتقي ولولا أنه كان من حق المالك أن يبيع الأرض بفلاحيها وهو الحاكم المتحكم في حياتهم ومماتهم لركن الفلاحون إلى الفرار. ولما أخذت النصرانية بالانتشار كانت قاصرة على المدن ولم تتعداها إلى الأرياف إلا بعد زمن وكان من فوائد انتشارها أنها أعلنت بأن الأحرار والعبيد سواءٌ أمام الله هذه هي الفائدة الأخلاقية أما الفائدة السياسية والاجتماعية فقد نشأَ منها تأليف طبقة رجال الدين بنظامهم الذي أخذوه عن نظام الحكومة ولم يمض إلا زمن قليل حتى أصبحت الكنيسة حكومة وسط حكومة تجبي أموالاً من الناس ويغدق المؤمنون وأحياناً الإمبراطورة عليها من المال ما تكوّنت منه ثروة طائلة وتعفى أملاكهم من الخراج كما يعفى خدمتها من المحكمة مع الشعب بل كثيراً ما يحاكم الشعب نفسه في الكنيسة ولطالما كان الأسقف في ابرشيتة خصماً للحاكم السياسي ورقيباً عتيداً عليه. ولما سقطت المملكة الرومانية تجزأَت غاليا إلى عدة ممالك بربرية كالفرنك والبورغوند والفيزغوت وعادت كلمة البلاد إلى الانتشار بعد الاجتماع ولم يكن ملوك الفرنك يدركون معنى الوحدة كسائر الملوك البرابرة ولا يقيمون للحكومة وزناً ولئن يلبسون الثياب الأرجوانية ويضعون التيجان عَلَى رؤوسهم كإمبراطور الرومان إلا أنهم لم يكن لهم جيش دائم وليست لهم طريقة منظمة في الجباية كما أن اللغات في البلاد تعددت وكلها لهجات من أصل روماني تمازجها لهجات بربرية وعادت سلطة الأشراف وسلطة رجال الدين تقرى حتى لم يعد يعترف السواد الأعظم من الناس بالزعامة عليه إلا لهم ومنهم يطلبون الإنصاف ولهم يدفعون الجزية والخراج وخربت المدن وهاجر رؤساء الجيش والأديار إلى الحقول وضعفت الصناعة والتجارة باختلال الأمن في البلاد وكاد الفلاح يكون عبداً لسيده كما في سابق الأعصار وفي اليمين الذي أقسم سنة 842 في ستراسبورغ ظهرت لأول مرة لغة اشتقت من اللاتينية المستعملة عند الفلاحين ومنها نشأت اللغة الإفرنسية وفي معاهدة فردون سنة 843 اعترف بوجود مملكة فرنسا وعاصمتها باريز. وما زالت الملوك تتوالى عليها وتختلف في المباديء والأطوار حتى قبيل نهاية القرن

الثامن وقد حسنت فيه حال الفلاح الفرنسوي وزاد عدد المالكين من أبناء القرى زيادة مهمة وارتقت الصناعة والتجارة عَلَى ما كان يقف في سبيلها من القيود الكثيرة والأنظمة المنوعة وارتقت الأدبيات وتحررت من قيودها القديمة وأخذت الفلسفة تبحث في التسامح الديني والحرية والسياسية وإصلاح القوانين الجنائية وتمايز الطبقات الاجتماعية وعارض مونتسكيو نظرية أن الملك ملهم من الله وحقه إلهي عَلَى سكان الأرض بنظرية الحكم الملكي النيابي ووضع روسو نظرية العهد الاجتماعي. نبهت البارلمانات في مكافحتها سلطة الملوك (سنة 1788) أفكار وكلاءِ الشعب فبدأَت الأمة ترفع صوتها وكان الملوك يخفتونه ولا يرون لها حقاً في مطالبتها بحق واتفق أن وقعت البلاد في عسر مالي فاجتمع وكلاءُ الأمة ينظرون في حل ما أصابهم فنشأَت بعد حين الثورة الأولى (1789) وأعلن لويز الرابع عشر أن الأمة كلها للملك ولكن جاء في قانون حقوق الإنسان والوطني أن مبدأَ كل سلطة ينبعث من الأمة بجوهره فما من جماعة ولا من شخص يستطيع أن يحكم حكماً لا يكون صادراً عنها بالفعل وهكذا مات حق الملوك الإلهي المزعوم وأتت الثورة عَلَى أعشار رجال الدين والإقطاعات والسخرات والأحكام التي يحكمها أرباب الإقطاع وساوت بين الناس في الواجبات والضرائب وقضت على قليل الكفاءة من أرباب الغنى أن توسد إليه الوظائف الكنائسية والحربية بدون استحقاق وحمت الحرية الشخصية وحرية الضمير وحرية التكلم والكتابة وحرية المسكن وتساوي كل وطني من أكبر كبير إلى أصغر صغير في الخدمة العسكرية ودفع الضرائب كل بحسب طاقته وثروته. هذا موجز الأساس الذي قام عليه بناء النظام الجمهوري ثم عراه قليل من التعديل بتقلب أنواع الحكومات وقيام بعض الأدعياء بالملك إلى عهد الجمهورية الثالة بعد حرب السبعين مع ألمانيا وعندها استقرت الحال عَلَى ما تراها إلى اليوم. أما نشأَة الآداب والعلوم فلكل منها تاريخ ويقال على الجملة أن اللغة الفرنسوية هي بنت اللغة اللاتينية تكوّنت عَلَى صورة غريبة إلى أن وصلت في عشرين قرناً إلى حالتها وكانت أدبياتهم دينية لأول أمرها وبعضها شعري ونثري وأكثرها خرافي ولم تخلص اللغة من القيود العائقة إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. وتاريخ العلم

ونشؤُه فيها طويل كتاريخ الأدب ويقال على الجملة فيه أن مرسيليا كانت مدة قرون منبعث العلم الوحيد في بلاد غاليا واشتهرت مدرستها كما اشتهرت كليات آثينا وكلية الإسكندرية وكان بيتياس أحد أبنائها الذي ولد نحو سنة 830 قبل المسيح لا يقل عن أعاظم الفلكيين في القديم وكانت بيوت العلم تفتح عَلَى العهد الروماني في البلاد المهمة والتعليم فيها عبارة عن مباديء عملية من الحساب والمساحة والبناء ثم جاء دور الانحطاط التام فأصيب الغرب بغارات البربر ولم تخرج فرنسا من ظلماتها الفكرية إلا بعد ثمانية قرون بفضل العرب وبينما كان التمدن الإسلامي بالغاً أوجه كانت العلوم منحطة كل الانحطاط في أرض فرنسا. ولم ينتشر الطب والصيدلة في فرنسا إلا بمساعي أطباء اليهود الذين طردهم المسلمون من آسيا الصغرى في القرن الحادي عشر فاعتصموا باسبانيا أولاً ثم بإقليم لانكدوك حيث أَسسوا عدة مدارس ومن جملتها مدرسة مونبليه. وهذا كان مبدأَ انتشار العلم في هذه الأرض. فمن العرب أخذ الفرنسيس فيما مضى حضارتهم ونحن العرب اليوم نأخذ عنهم وندهش بحضارتهم فسبحان المعز المذل القابض الباسط. الصحافة الباريزية 25 نشأت الصحافة هنا في مبدأ أمرها بنشر أخبار الملوك والوزارت والموظفين والحروب والدول ثم ارتقت بارتقاءِ المدارك إلى أن صارت تلم بمعظم الموضوعات التي تهم القراء وتعلمهم وعلى عهد الثورة اشتد ولوع الناس بالاطلاع على الحوادث والآراء السياسية وإلى هذا العهد ظلَّ الصحافي في وراء منضدته يكتب ليفيد مثل الأستاذ عَلَى منبره والواعظ في معبده لا يقصد إلا تثقيف عقل وتربية النفس. ولما تكالبت النفوس على المال واتسع للصحافة المجال بكثرة المواصلات والبرقيات وأخذت التجارة ترقى دخلت الصحافة في طور جديد فبعد أن كانت هي خادمة لتجارة أصبحت هي بنفسها تجارة لا يقصد منها إلا الربح وأول من أنزل أجور اشتراكاتها إميل جيراردين مؤسس جريدة لابريس سنة 1836 من 80 أو 66 فرنكاً قيمة الاشتراك بالجرائد الكبرى إلى 40 فرنكاً وهي قيمة زهيدة لا تعادل النفقات أنزلها ليكثر قراؤها وإذا كثر قراء جريدة أقبل الناس عليها بإعلاناتهم ومنشوراتهم فاستطاعت بعض الصحف أن

تعيش مستقلة عن معونة الأفراد والحكومة والأحزاب. ولكن هذا الاستقلال وإن لم يكتب لها كلها إلا أن سعيها وراء الإعلانات وخدمة الشركات والبيوت المالية قيدها أكثر من قبل بل أخرجها عن المقصد منها حتى صارت العشرون الجريدة الكبرى الباريزية اليوم عبارة عن سمسار لا يهمه إلا أن يقبض العمالة من البائع والشاري وغدت الجريدة من مقالتها الافتتاحية إلى أنبائها البرقية فرفرف قصصها وتقاريظ الكتب والحوادث الداخلية والخارجية والأنباء المنوعة والمقالات الأدبية والاقتصادية والسياسية والإعلانات والمنشورات وغير ذلك مما تخوض الصحف عبابه مثل أخبار دور التمثيل والرياضيات البدنية والسباق لا ينشر منها اسم ولا سطر إلا قبل أن يذهب صاحبه الذي يهمه وينقد أمين صندوق الجريدة مبلغاً معلوماً عنه وعند ذلك ينشر له من الأفكار والمحامد ما يشاء وتشاء الأهواء. فإن كتبياً أو طابعاً لا يقدر أن ينشر كتاباً طبعه إلا إذا انتقده كاتب أو عالم كبير وهذا إذا فرض أنه رضي بأن يخدمه بالمجان يسأَله مدير الجريدة عن ربح الإدارة من ذلك. فمقالة في تقريظ كتاب قد تكلف الطابع ألفي فرنك يأخذ نصفها كاتبها الموقعة باسمه والنصف الآخر مدير الجريدة ومثل ذلك يتناولون من المصورين والموسيقيين والممثلين والراقصات والعقيلات والآنسات والأعاظم والأصاغر لا تدون أسماؤهم بالطبع قبل أن يرشوا إدارة الجريدة بمال ترتضيه وكل ما تراه من أخبار الدعوات والرياضيات والمآدب ووصف الأزياء مع بائعات الزهور والجوهريين والخياطات والخياطيين يدفعه أرباب المأدبة وتجار هذه الأصناف بل أن أخبار الأعراس والأفراح وأخبار المناعي والأموات لا تكتب إلا لمن تؤخذ منه أجرتها والأعمال الأدبية مهما بلغ من مكانتها لا تذكر بكلمة قبل أن يدفع صاحبها جعالة لقاءَ ذكر اسمه وهناك الماليون وأرباب التجارة يريدون أن يعبثوا بحوالة الأسواق ويعرفون أن السياسة تؤثر كثيراً في أعمالهم فيعمدون إلى ابتياع الجرائد لتكتب في السياسة عَلَى هواهم فيرفعون الأسعار يوم يريدون الرفع ويخفضونها كذلك بمالهم بواسطة هذه الجريدة من التأثير في الأفكار العامة ومنهم من يبتاع من الجرائد كلامها كما يبتاع منها سكوتها فدار اللعب في إمارة موناكو تدفع مشاهرات إلى جميع الصحف الكبرى لتسكت عما يحدث فيها من ضروب الانتحار والخراب والنجائع التي تنشأ من المقامرة كما تدفع

مبالغ جسيمة أيضاً في أوقات معينة لتأخذ الصحف في حمد مرافق مونتكارلو ونزلها ودور تمثيلها وسواحلها وصفاء العيش فيها. وإن أعظم علماء الاقتصاد لا تنتشر له مقالة في موضوع مالي قبل أن يوافق عليها المصرف الذي ابتاع من تلك الجريدة روحها المالية ليصرفها كما يشاءُ وبعد حادثة بناما التي ظهرت فيها رشاوي الصحف الإفرنسية لم يعد يقدر الإنسان أن يقرأَ سطراً في شأن مالي في جرائدهم إلا ويشك فيه. وهكذا أصبحت الصحافة الباريزية مقيدة في صورة حرة مطلقة ففي وسعها أن تصرب في كل ما تريد وتنزع كل أَساس وتهاجم كل موضوع وتغتاب كل امريءٍ وتنم عن كل عمل وتفتات عَلَى كل فرد ولا يحظر عليها إلا شيءٌ واحد وهو أن تكشف الغطاء عن الأسرار المالية فإذا فعلت يحكم عَلَى الكاتب والناشر والجريدة بأشد عقوبات العطل والضرر وكذلك إذا دلت عَلَى الطرق الاحتيالية التي يعيش بها المحل الفلاني منذ سنين. وعَلَى ذلك فالجرائد هنا يجب أن لا تقرأ إلا بحذر شديد حتى مقالات لها في الكيمياء أو التاريخ فإنها لا تنشرها إلا ولها منها مآرب يظهر بعد أعمدة من نفس العدد أو في عدد تال. وخف كل الخوف من الصحف التي تخدم الأحزاب جهازاً فإن هذه تقلب الحقائق الناصعة وتجسم الحوادث أو تضعفها بحسب هواها وتستعمل من السفسطة ما يضحك ويبكي. فكأن الصحافة الباريزية جعلت لقلب الحقائق لا لقدر أن تسقط فيها عَلَى حقيقة خالصة من الشوائب فهي تزيد إلى ضعف البشر الطبيعي وغلطهم وخطأهم أموراً تأتيها بذاتها بالقصد لتحريف الحق وتشويهه فمنها ما يخضع لحكومة في كل ما يكتب ومنها ما يخضع للأحزاب وكلهم خاضعون لزبنهم وكثير منهم يقولون كل ما يريدون عَلَى شرط أن يحسن المرءُ دفع المطلوب منه. فقد قيل أن الرياء تكريم الرذيلة للفضيلة والصحف الفرنسوية تكرم الحقيقة من هذا النوع أي أنها هي الرذيلة. هذا ما اقتبسته من فكر الكاتب الفرنسوي في هذا الباب وصاحب الدار أدرى بالذي فيه وقد أجمع العقلاء الذين لقيتهم من أهل العلم والمطبوعات وغيرهم عَلَى أن الصحافة الفرنسوية كلها ترتشي وتلفق في أحاديثها وتكذب في رواياتها ما عدا جريدة لاومانيته أي الإنسانية

وهي لجوريس أحد زعماء الاشتراكيين تعيش من وارداتها الشرعية ولا تسفّ لتناول رشوة من أحد وإن الصحافة الإنكليزية أشرف غاية وأنبل قصداً وأكثر مادة وأوسع مصادر أما أنا فعللت هذا التصريح من أصدقائي الفرنسويين بأن إنكلترا هي أرقى الأمم بأخلاقها والأخلاق هي معيار الأمم والجرائد مرآتها. ومن الصحف الباريزية ما يصدر صباحاً وأكثرها جرائد لا تهتم بالمسائل السياسية بل بالأمور المالية والحركة الأدبية كدور التمثيل والخطب وغيرها أما جرائد المساء فأكثرها يهتم بالسياسة فالطان والديبا من الجرائد المسائية والجورنال والماتين والبتي باريزين والبتي جورنال من الجرائد الصباحية والجرائد طبقتان قسم لعامة القراء وهي التي ينادي عليها المنادون في الشوارع بأعلى أصواتهم وتباع في كل مكان فيقرأها البواب والحوذي والمساح والكساح وسائق الأتوموبيل والشرطي والمرتزق وبعض التجار وذلك ككثير الجرائد الصباحية وقسم للطبقة العالية وأبحاثها لهم بالطبع مثل الطان والديبا والغولوا والفيغارو وهذه لا ينادى عليها وتباع بثمن أغلى فالطان يبتاع عددها بثلاثة فلوس أو خمسة عشر سنتيماً في حين تباع تلك الجرائد العامية بفلس واحد وهي أكبر حجماً وأوسع مادة من هذه ولكن شتان بين مادة ومادة وحجم وحجم. وجريدة الطان هي الجريدة الوحيدة التي تعنى كثيراً بأخبارها هذا الشرق الأدنى خاصة والسياسة الشرقية عامة وهي جريدة وزارية تقدس كل وزارة تأْتي وهذه بالطبع تعطيها أخباراً وربما أمدتها بمعونة مالية وهي لا تذيل المقالات السياسية والإخبارية بأسماء كتابها على عادة معظم الجرائد السياسية وبذلك قد يقع لها أن تؤيد اليوم في مقالتها الأولى فكراً مخصوصاً ثم يجيءُ كاتب آخر من الغد في نفس ذاك المكان من الجريدة فيضعف ذاك الرأْي بعينه وينتقده. وأعرف الجرائد بالشرق عَلَى التحقيق هي هذه وربما كانت جريدة الإيكو دي باري من جرائد الصباح أكثر منها مادة برقية إخبارية عنه بدون تعليق على الحوادث. ومقالات الطان عن السياسة الشرقية تتناقل لأنها أقرب إلى الثقة والتعقل من غيرها ومع هذا تؤخذ بكل حذرٍ شأننا مع عامة الصحف الإفرنجية التي تقول الحق ولكن إذا صادف هوى لها وهيهات أن تقوله بدون عوض. ولقد كنت أظن جريدة الديبا وحدها ترتشي من السلطان عبد الحميد المخلوع ولكن علمت هنا أن الطان أيضاً عَلَى ما فيها من

الغمز واللمز بالدولة كانت لا تستنكف من قبض الخمسة آلاف ليرة من أعوان ذاك السلطان لتكتب على هواه يوماً لعلم المخلوع بمكانة أقوالها في الأندية السياسية. وأنواع الجرائد هنا كثيرة ومنها اليومي الذي لا يكتب إلا في موضوع واحد مثل جريدة كوميديا وهي تبحث في دور التمثيل والقصص التمثيلية والفاجعات وغيرها ومنها جرائد للسباق مثل جريدة الأوتو وهي لنشر أخبار سباق الحوافل الأتوموبيل وغيرها من أنواع السباق ومن جرائدهم ما هو خاص بتأجير الأملاك والعقارات ومنها الخاص بطلاب الزواج وطالباته ومنها للأزياء وأخرى للعطور والطيوب ومنها للأخبار الخلاعية ولكنها مقصورة على طبقة خاصة تطبع سراً وتوزع كذلك وإذا رآها الشرطة صادروها وأنزلوا العقوبة الشديدة بكاتبها وبائعها ومشتريها. أما تنظيم إدارات الجرائد الكبرى فهو الغاية ولا سيما الأمهات منها مثل الماتين وهي في أعظم جادة وبنايتها أجمل بناية وآلاتها الطابعة أحسن الآلات فيها اثنتا عشرة واحدة تطبع الواحدة مئة ألف نسخة في الساعة زرتها مع زهاء سبعين رجلاً وامرأَة رأيتهم سبقوني إلى زيارتها فما رأَيت نظاماً أتم ولا استعداداً استوفى من الكمال أوفى القسم ومن أحسن ما قرأته. مما كتب فوق غرف المحررين خلق المحرر ليكتب فلا تشغله فيما لا يعنيه وزرت أيضاً إدارة البتي باريزين وهي دونها في الاستعداد وإن لم تكن دونها في الانتشار والنفاد.

تربية البنات

تربية البنات لحافظ أفندي إبراهيم كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق إني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت عن الأطواق لهفي عليك متى أراك طليقة ... يحمي كريم حماك شعب راق كلف بمحمود الخلال متيم ... بالبذل بين يديك والإنفاق إني لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاق ويهزني ذكر المروءة والندى ... بين الشمائل هزة المشتاق مالبابلية في صفاء مزاجها ... والشرب بين تنافس وسباق والشمس تبدو في الكؤُوس وتختفي ... والبدر يشرق من جبين الساقي بالذ من خلق كريم طاهر ... قد مازجته سلامة الأذواق فإذا رزقت خليفة محمودة ... فقد اصطفاك مقسم الأرزاق فالناس هذا حظهُ مال. وذا ... علم. وذاك مكارم الأخلاق والمال إن لم تدخره محصناً ... بالعلم كان نهاية الإملاق والعلم إن لم تكتنفه شمائل ... تعليه كان مطية الإخفاق لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يتوج ربه بخلاق كم عالم مد العلوم حبائلاً ... لوقيعة وقطيعة وفراق وفقيه قوم ظل يرصد فقههُ ... لمكيدة أو مستحل طلاق يمشي وقد نصبت عليه عمامة ... كالبرج لكن فوق تل نفاق يدعونه عند الشقاق وما دروا ... أن الذي يدعون حلف شقاق وطبيب قوم قد أحل لطبه ... ما لا تحل شريعة الخلاق قتل الأجنة في البطون وتارة ... جمع الدوانق من دم مهراق أغلى وأثمن من تجارب علمه ... يوم الفخار تجارب الحلاق ومهندس للنيل بات بكفه ... مفتاح رزق العامل المطراق متعنت تندى وتيبس كفه ... بالماء طوع الأصفر البراق

لا شيء يلوي من هواه فحده ... في السلب حد الخائن السراق وأديب قوم تستحق يمينهُ ... قطع الأنامل أو لظى الإحراق يلهو ويلعب بالعقول بيانهُ ... فكأَنه في السحر رقية راق في كفه قلم يمج لعابه ... سماً وينفثه على الأوراق يرد الحقائق وهي بيض نصع ... قدسية علوية الإشراق فيردها سوداً عَلَى جنباتها ... من ظلمة التمويه ألف نطاق عريت عن الخلق المطهر نفسه ... فحياته ثقل عَلَى الأعناق لو كان ذا خلق لأسعد قومهُ ... ببيانه ويراعه السباق من لي بتربية النساءِ فإنها ... في الشرق علة ذلك الإخفاق الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق الأم روض أن تعده الحيا ... بالري أورق أيما إيراق الأم أستا الأساتذة الأولى ... شغلت مآثِرهم مدى الآفاق أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ... بين الرجال يجلن في الأسواق يدرجن حيث أردن لا من وازع ... يحذرن رقبته ولا من واق يفعلن أفعال الرجال لواهياً ... عن واجبات نواعس الأحداق في دورهن شؤونهن كثيرة ... كشؤون رب السيف والمزراق كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا ... في الحجب والتضييق والإرهاق ليست نساؤكم أثاثاً يقتنى ... في الدور بين مخادع وطباق تتشكل الأزمان في أدوارها ... دولاً وهن عَلَى الجمود بواق فتوسطوا في الحالتين وانصفوا ... فالشر في التقييد والإطلاق ربوا البنات عَلَى الفضيلة أنها ... في الموقفين لهن خير وثاق وعليكم أن تستبين بناتكم ... نور الهدى وعَلَى الحياء الباقي

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات (معذرة إلى المؤلفين والطابعين الذين أهدونا مؤَلفاتهم لنتكلم عليها في هذه المجلة فعاقت الأحوال التي طرأَت علينا دون القيام بما اعتدناه في السنين السالفة من التوسع في نقد الكتب وتقريظها والمبادرة إلى النشر في حينه ولذا نرجوهم أن يعذرونا عَلَى إيجاز القول ونعدهم بأن كلامنا يكون من قابل أطول نفساً وأوسع مادة. وها نحن أولاءِ نبدأُ بجملة مما كتب في الغرب على الشرق أو نشر في ديار الغرب من علوم الشرق ثم نتبعه بما صدر من المصنفات الجديرة بالنظر في هذا الشرق الأقرب ونستميح عذراً ممن تفضلوا بإهدائنا ما عربوه من القصص ونشروه من الروايات عَلَى إغفال ما نشروه لأن المجلة لا تشير إلا إلى المصنفات التي توافق موضوعاتها في الأدب والاجتماع والعلم وتعنى بما يصنف رأْساً في الأدب أكثر من عنايتها بما يعرّب فيه كما أنها تعنى بالكلام عَلَى ما يكتب أو يعرب في الاجتماع والعلم عَلَى حد سواء). الشرق الإسلامي كتاب بالألمانية نشره المسيو مارتين هرتمن من علماء المشرقيات وهو ممن يهتمون بمستقبل العرب وكتابه قسمان قسم في تاريخ العرب وينقسم إلى ثلاثة أقسام العربية القديمة والعربية الوسطى والعربية الحديثة واعتمد في سرد التاريخ على الآثار أكثر من النقول التي لا ينهض دليل تطمئن النفس ومتى فقدت المادة التاريخية فليس من تاريخ وخص كلامه عَلَى اليمن لأن ما اكتشف من آثارها الحجرية يسهل البحث في تاريخها وقال أن اليمانيين كانوا شعباً رحالاً ولم يكونوا عرباً كما يفهم من معنى هذا اللفظ في القديم إذ كان معناها البدو أو سكان البادية وما قط كان العرب الرحالة كثار العدد ومن الغلط أن يقال أن القفر كان مادة حياة المدن القريبة منه في سكانه. وقد كان الأشراف في اليمن وهم الأذواء أي ذو يزن وذو رعين وغيرهما هم المحتكرون للتجارة والسواد الأعظم من الأهلين ينقسمون إلى قبائل يخضعون للأشراف ويعيشون بالزراعة وانتشرت الديانة اليهودية في اليمن إلا أنها كانت قليلة البقاء كما أنها لم تطل أيامها في جزيرة العرب وقد أسقط الحبشة دولة ذي نواس وتكلم المؤَلف عَلَى الأسرة والزواج والقبائل وشرح حالة جنوبي الجزيرة العربية من حيث زراعتها وتجارتها وآثارها وديانتها وقال أن أفكار البابليين قد انتشرت

في العالم الشرقي كله وأن نهضة البلاد العربية لا تتم إلا بمد الخطوط الحديدية وإنشاء الكليات الإسلامية. تاريخ الإسلام نشر المسيو ليون كايتاني من أشراف إيطاليا والمشتغلين بالعلم فيها الجزء الثاني من هذا التاريخ الضخم بالإيطالية وهو يحتوي عَلَى تاريخ 12 سنة من الهجرة أي في أوائل الفتوحات الإسلامية ويقول من درسوا هذا التاريخ أنه من أكمل ما أُلف في تاريخ الإسلام حتى الآن. الخطاطون والمصورون في الشرق الإسلامي نشر المسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات باللغة الإفرنسية كتاباً في هذا الموضوع ذكر فيه الخطوط العربية ومنشأها ونشوءَها وجعل الخطوط طبقات بحسب ترتيب سني الخطاطين فقال أن الأصل في الخط العربي الكوفي المأْخوذ من الخط السرياني والنبطي ثم قام ابن مقلة فأسس الخط الأول وجاءَ بعده ابن البواب وياقوت المستعصمي ثم قام الأساتذة السبعة في الخط في آسيا الصغرى سنة 1520 ورأسهم الشيخ حمد الله بن مصطفى البخاري نديم السلطان بايزيد الثاني. أما تذهيب الكتب فغير معروف فإن قصر الأمويين المعروف بقصر عمرة الذي اكتشف حديثاً قد وجد فيه صور من أصل بزنطي مثل التي تزدان بها المخطوطات العربية القديمة. كتاب بغداد نشر الدكتور كللر من علماء المشرقيات السويسريين الجزء السادس من تاريخ بغداد لمؤَلفه أحمد بن أبي طاهر طيفور من أهل القرن الثالث للهجرة وهو في سيرة المأْمون بدأه بحوادث سنة 204 وختمه بحوادث سنة 218 ففيه ذكر الوقائع الأخيرة من عهد هذا الخليفة الكبير وليس فيه شيءٌ زائد عما عرف من حال ذاك الدور السعيد عَلَى نحو ما ذكر في مطولات التاريخ ولكن فيه فوائد غيرها مثل ترجمة بعض رجال المأْمون ككاتبه أحمد بن يوسف ويقول ناشره ـ الذي استنسخه وطبعه على الحجر وقدم له مقدمة باللغة العربية تبين الغرض من نشره ـ أن ابن جرير أخذ عن ابن أبي طاهر ما يتعلق بتاريخ المأمون وفي ذلك نظر.

تاريخ حكام مصر نشر المستر كونيج من علماءِ المشرقيات الأميركيين تاريخ أبي عمر محمد بن يوسف الكندي وهو تاريخ القرون الثلاثة الأولى للهجرة ومرجع من أحسن المراجع في تاريخ الصدر الأول في وادي النيل لقرب مؤلفه من الوقائع. تاريخ قضاة مصر نشر المستر كوتهيل أستاذ اللغة العربية في جامعة كولمبيا الأميركية تاريخ قضاة مصر للكندي الذي اعتمد فيه عَلَى كتاب عبد الرحمن بن عبد الحكيم في كتابه فتوح مصر وأتمه أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن برد إلى سنة 366 هـ وأوصله مؤَلف مجهول إلى سنة 426. ولاية بغداد هو كتاب في 338 صفحة طبعه بالعربية حبيب أفندي شيحة وفيه وصف هذه الولاية وماضيها وتاريخها ووصف سكة بغداد الحديدية وبحث في القبائل البادية بين النهرين. ديوان السموأَل نشره الأب لويس شيخو اليسوعي في بيروت وقد عثر عَلَى النسخة الأصلية منه الأب ألستاس الكرملي الحافي البغدادي عند أحد كتبية دمشق. الفرْق بين الفرَق هو كتاب لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي من أهل القرن الخامس طبعه وعلق حواشيه محمد بك بدر في مصر وفيه ذكر الفرق الثلاثة والسبعين الواردة في الحديث. طبقات الصحابة نشرا الجزء السادس من كتاب طبقات الصحابة لابن سعد المتوفى سنة 320 هـ تحت نظارة المسيو شاشو وبناية الأستاذ زترستين من كلية أبسال وفي هذا الجزء تراجم دعاة الإسلام في الكوفة ومنهم أناس من الصحابة مثل ترجمة علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وسلمان الفارسي.

مفيد الصم ومبيد النقم نشر الأستاذ داود مهرمان هذا الكتاب لباج الدين السبكي من أهل القرن الثامن وصاحب جمع الجوامع وفي هذا الكتاب وصف المؤلف الحياة الاجتماعية في عصره فذكر الولاة والقضاة والقواد والمحتسبين والمربين والأساتذة والتجار والدراويش والصناع والأطباء والكحالين والحلاقين وغيرهم وهو في 240 صفحة. تجارب الأمم هو تاريخ لابن مسكويه المتوفى سنة 1030 م وهو التاريخ النفيس المنقح الذي فضله بعضهم على تاريخ الطبري بما فيه من صحة الأسانيد والنقد التاريخي نشر في لندن عَلَى نفقة أُسرة جيب الإنكليزية وقدم له الكنت ليون كايتاني المستشرق الإيطالي مقدمة. تاريخ السلاجقة هو تاريخ بالفارسية للوزير محمد الحسيني اليزدي من أهل القرن الثالث عشر للميلاد طبعه في مصر الدكتور كارل سوسهيم الألماني في 192 صفحة. إغاثة اللهفان هي رسالة في حكم طلاق الغضبان تأْليف شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية عني بتصحيحه الشيخ جمال الدين القاسمي ووقف عَلَى تصحيح طبعه حسين وصفي أفندي رضا طبع بمطبعة المنار بالقاهرة وهو في 48 صفحة. حياة اللغة العربية هي مسامرة أو محاضرة للشيخ الخضر بن الحسن في تونس أتى فيها على أطوار هذه اللغة وأساليبها ومطابقتها مع المدنية واتحاد العامية بالفصحى طبعها في تونس في 60 صفحة. الشهاب في الحكم والآداب تأْليف أبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن حكمون القضاعي المتوفى سنة 454هـ وهو حكم نبوية مختصرة طبع في بغداد. وشاح الكاتب

وزينة الجيش الغالب هي رسالة في ملخص القوانين التي سنها الأمير عبد القادر الحسني الجزائري في 33 صفحة طبعت بدمشق. مرشد العائلات إلى تربية البنين والبنات وهو مختصر في التربية الجسمية منذ الحمل إلى سن الولادة تأْليف المرحوم حسن أفندي توفيق طبع في بيروت لإعانة دار العلوم. تدبير صحة الأطفال وهو كتاب في صحة الأولاد وما يعرض لهم وما ينبغي وقايتهم منه للدكتور أمين دمر طبع في الاسكندرية. حالة اليمن هي رسالة مطولة اسمها يمنه استجلاب نظر دقت كتبها بالتركية جمال الدين أفندي الخطيب ذكر فيها ما صارت إليه حالة اليمن من الانحطاط الإداري وطبعها في الأستانة. عبرة وذكري أو كلمة حول الشورى للدكتور أيوب ثابت ذكر فيها المذاهب السياسية وأنه لا دخل للأديان في ترقي نوع الإنسان طبعت في بيروت. مجلات جديدة المورد الصافي - كتاب لجرجس أفندي الخوري المقدسي يصدر في بيروت كل أربعة أشهر جزء منه في 104 صفحات يتضمن مختارات من الخطب والمقالات والأشعار والآراء العصرية في التربية والتهذيب. الهداية - مجلة دينية علمية أدبية اجتماعية لمنشئها الشيخ عبد العزيز جاويش تصدر في مصر كل شهر في 72 صفحة. الزهور ـ مجلة أدبية فنية علمية لصاحبها أنطون أفندي الجميل تصدر في القاهرة في أول كل شهر في 40 صفحة.

الحقوق ـ مجلة حقوقية نصف شهرية لمنشئيها المحاميين سليم بك المعوشي وملحم بك خلف في لبنان وهي في 32 صفحة. الإنسانية - مجلة علمية أخلاقية اجتماعية انتقادية عمرانية لمنشئها الشيخ حسن الرزق تصدر نصف شهرية في حماة في 32 صفحة. كتب متفرقة نشر المسيو كومب باللغة الإفرنسية تاريخ ديانة السين في بابل وآشور ذكر فيه الأنساب والأساطير واللاهوت والآثار والمصانع والعبادات والمعابد وتأْثير الأديان العيلامية والعربية والسورية وغير ذلك من الفوائد. وكتب أيضاً كل من الكولونيل ألوت ولانوي وجنو يلاك كتابيين عَلَى الصومريين وهم سكان أسفل بلاد بين النهرين وكانوا في رأْي أحدهما قبل المسيح بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة مستنداً في ذلك إلى ما عثر عليه من المواد الأثرية ولا سيما في تللو التي ملأَت آثارها متاحف العالم. ونشر أوجين أوبين كتاباً بالإفرنسية في فارس اليوم وما وراءَ النهرين ولا سيما الأماكن المقدسة في العراق وبحيرة أورورمية وبغداد وطريقها إلى همدان ونشر رايموند ويل كتاباً في جغرافية شبه جزيرة سينا وتاريخها. والمسيو أبيل كتاباً في وصف الشعب الإسلامي في تلمسان من أعمال الجزائر. ونشر إيبوليت دريفوس كتاباً في تاريخ البهائية وحالتهم الاجتماعية. ونشر رينه بنون كتاباً بالفرنسية في أوربا والمملكة العثمانية وفيه مستندات تاريخية وسياسية كثيرة.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع مدارس الفرص من جملة التعليم الذي كثر بين الأمم الغربية بكثرة المواصلات أن بعض المدارس أو الجمعيات لا تحب أن تصرف التلاميذ إلى بيوت ذويهم في الصيف وتحص عَلَى تعليمهم وتنزيههم والسياحة في هذا الفصل فابن إنكلترا يطوف به أساتذته بعض بلاده أو يأْخذونه إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا واسبانيا وسويسرا وابن ألمانيا كذلك والسكك الحديدية في هذه الممالك تسقط من أجورها قسماً عظيماً لتلك المدارس والجمعيات حتى أن التلميذ لا يدفع عن ستة أسابيع سوى ليرتين إنكليزيتين وعن أربع أشهر أربع ليرات فرنسوية. تطهير ماء الشرب رأَى طبيبان إيطاليان أن أفضل الطرق لتطهير ماء الشرب من الجراثيم الضارة أن يجعل فيه محلول فلورور الفضة فلا تمضي نصف ساعة إلا وتهلك الجراثيم كلها ويمكن أن يعرض الماء بعد ذلك زمناً للهواء الطلق بدون أن يكون فيه أدنى خطر من جراثيم جديدة. اللغات الحية عقد في باريز هذه السنة المؤتمر الدولي للغات الحية فتباحث أساتذة البلاد المتمدنة في الطرق التي تمكن التلامذة من الاستعداد اللازم لهم في جهاد القرن العشرين فكانت النتيجة أن الواجب تعليم أساتذة المستقبل اللغات الحية تعليماً عالياً لتْرسخ فيهم رسوخ لغاتهم الأصلية فلا يكتفى بتلقينهم من اللغة الأجنبية نحوها وصرفها وشيءٌ من لهجتها والتكلم بها بل يعلمونها أرقى تعلم عام أدبي فلسفي. واتفقت الآراء عَلَى أن اللغات الحية إذا أريد إنزالها منازل التربية تعادل تربية اللغات القديمة فالواجبْ أن يكون بلغ أساتذتها الذين يعهد إليهم تعليمها درجة عالية توازي درجة علماء اللغات القديمة وأجمعوا على أن التعليم الثانوي يجب إصلاحه بحيث يتخرج منه أناس لا ملمون باللغات الأجنبية الحديثة فقط بل ممتازون بها امتيازاً يناسب روح العصر الحاضر ورأَوا أن إحكام اللغة وحده لا ينشأُ منه ما يقال له قيمة مربية ودرجة راقية في المدنية والآداب بل أن يشفعه درس أخلاق تلك الأمة التي يتعلم الطالب لغتها ويتشرب روح آدابها وتاريخها فإن الإطلاع عَلَى لغة حديثة ليس من الغايات بل من الوسائط فهو آلة من أثمن الآلات في جهاد الحياة فلا يكفي أن

يتعلم المرءُ كلمات وجملاً وقواعد نحوية وصرفية بل أن يدخل في حياة الشعب الغريب عنه فبعد أن يدرس الطالب قوانين لغة أمة يحيط علماً بأخلاقها وتاريخها وآدابها وكيفية تصورها معنى الحياة وخير الذرائع لبلوغ هذا القصد الرحلة إلى البلاد التي يتعلم المرءُ لغتها فيها زمناً وهذا ما يجب أن يكون من دعائم التربية اليوم كما كان فتيان المتسلمين في رومية يسيحون في بلاد يونان في سالف الأزمان. واستحسن المتآمرون الإكثار من الإنفاق على المتعلمين ما يقوم برحلاتهم ودعوا البلديات والأسرات والجمعيات والحكومات والمحسنين إلى التنافس في هذا المضمار لأن مثل هذه الرحلات توسع الفكر وتشحذ النشاط وتنبه الشعور بالانتقاد وتقوي الوطنية بالمقابلة بين البلاد ومن أهم نتائج هذه التربية الحديثة تقريب ما بين قلوب الأمم المتمدنة. وانعقدت في أكسفورد ببلاد الإنكليز جمعية اللغات الحديثة فقال الرئيس في خطاب له أن أغنية رولاند ونبلنجن ليد لا تقومان مقام أغاني هوميروس ولا دانتي يخلف فيرجيل مرشده وأستاذه ولا بسكال يضطرنا إلى نسيان أفلاطون ولا بوسويه ينسينا شيشرون ومعنى هذا أن من رأْيه أن التربية الأدبية الكاملة تتطلب دراسة كتب القدماء كما تتطلب درس آثار المحدثين وأفاض على هذا النحو متناولاً الموضوع الذي أجمع عليه مؤتمر باريز ورأَى أن تعليم اللغات كما هو شائع الآن في إنكلترا تعليماً سطحياً ويراد منه التفهم مع الأجانب اللا تجار هو ناقص الجهاز والأولى التعمق في الدراسة. التربية في الهواء أخذ علماءُ التربية منذ حين في ألمانيا وفرنسا يبحثون عن الطرق التي يعلمون بها التلامذة في الهواءِ الطلق ويخلصوهم من ازدحام الأنفاس في صفوف المدارس لما فيها من إضعاف أجسامهم وإنهاك صحتهم وذلك بدون أدنى نقص في تعليمهم وممن عني بهذا الموضوع الأستاذ فلات أحد مديري المدارس العالية في ألمانيا فكتب بعد التجارب العديدة في أبناء مدرسته أن تعليم التلاميذ في الهواءِ الطلق لا يناسب إلا الأولاد الذين تقدموا قليلاً في السن وفي هذه الحال يعلم التلامذة أصول الرياضة البدنية ولا يصعب تعليمهم خارج الصفوف دروس العلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا واللغات الحية والرياضيات وقد أَلف في هذا الموضوع كتاباً تداولته الألسن بالثناءِ.

التلامذة والأساتذة كتب أحد علماءِ الإفرنج بحثاً ضافياً أخذ فيه رأْي 87 أستاذاً مع تلاميذهم عن المواد التي يختار التلامذة تعليمها فكانت النتيجة أن المواد التي يحبها التلامذة أكثر من غيرها ليست هي المواد التي يرتاح الأساتذة إلى تعليمها فالتلامذة يحبون الرياضيات البدنية والأعمال اليدوية ثم التصوير والتاريخ ويتأففون من التعليم الديني والإملاء والتاريخ الطبيعي. أما الأساتذة فأحب الدروس إلى قلوبهم التاريخ وليست للرياضة البدنية منزلة من قلوبهم. تعليم التاريخ كتب أحد الألمان العارفين مبحثاً في مجلة علمية قال فيها نشأ من تعليم التاريخ أن كثيراً من المعلومات التاريخية بناها المرءُ والضروري منها استظهاره مؤقتاً يساعد عَلَى تربية القلب والذكاءِ والإحساس الإنساني والوطني فيجب عَلَى معلم التاريخ أن يغفل من درسه مالا يضر جهله ويتوسع في المسائل المهمة فيعنى بما ينطبق عَلَى الحال الحاضر من مسائله وعن تعليل أسبابها وتكوينها وينظر نظراً بليغاً فيما تمس حاجتنا إليه في حياتنا ولا يكتفى بالمعرفة البسيطة الغير المعقولة من الماضي ويحب تنبيه الذهن وإعداده لإدراك العالم الحاضر السياسي والاجتماعي والديني وأحوال الرجال المعاصرين وأن تقوى الوطنية بدون أن تكون إلى العصبية الجاهلية ويقصد بالتاريخ تخريج رجال ووطنيين بإطلاعهم عَلَى ما وقع لمن قبلنا وما هو دائر الآن حوالينا. وهذا ما يقصد من روح التاريخ. المدارس الألمانية في العالم نشر أحد علماءِ الألمان كتاباً سماه المدارس الألمانية في الخارج جاء فيه أن لألمانيا في روسيا 60 مدرسة فيها 1100 تلميذ وفي رومانيا 30 مدرسة فيها 4200 وفي البلجيك 10 مدارس و1900 تلميذ و6 مدارس في البلاد العثمانية في أوربا فيها 1850 تلميذاً و14 في إيطاليا تحتوي عَلَى 880 تلميذاً ومدرسة واحدة في فرنسا (بباريز) فيها 150 تلميذاً و21 مدرسة في آسيا فيها 1250 منها 9 في أزمير وفلسطين فيها خمسمائة تلميذ و46 مدرسة في إفريقية الجنوبية منها 15 في حكومة الرأس فيها 1100 تلميذ و16 في الناتال فيها 400 و3 في الترنسفال ولها 300 تلميذ و80 في أوستراليا تضم في حجرها 2500

و800 في برازيل تجمع 26000 تلميذ و500 في ريو الكبرى لها 15000 تلميذ و60 في الجمهورية الفضية لها 3500 تلميذ و36 في شيلي فيها 2800 تلميذ. أي 1700 مدرسة فيها مالا يقل عن سبعين ألف تلميذ وتمنح الحكومة الألمانية لهذه المدارس 850 ألف مارك في السنة هذا عدا الأساتذة والمعلمين الذين يدرسون في الولايات المتحدة وبذلك تتبين انتشار نفوذ ألمانيا عَلَى بلاد العالم ولا سيما عَلَى الممالك المحتاجة حتى الآن إلى التعلم. جراثيم التعب قامت منذ زهاءِ مائة ألف سنة فئة من أطباء الألمان والطليان والأميركان يقولون بوجود جراثيم في أحشاءِ الإنسان تأْتيه من ملامسة الأرض التي يعمل فيها فتحدث فيه الكسل والتعب ثم تنتهي بالموت. وآخر ما قرره أحد أطباء أميركا أن ظاهر أنثى هذه الجراثيم كذكرها أشبه بخيط مغموس بالوحل وهي تبيض حيثما نزلت ألوفاً من البيوض والأجنة التي تخرج منها وتنتشر في الخلايا. وطول الذكر من هذه الجراثيم سانتمتران يعلق بالأحشاء فيتناول أجزاءً صغيرة من الغشاء المخاطي وذلك بثقبها ثقوباً يمتص منها الدم وقد رأَى طبيب إنكليزي بمعاينة شخص مصاب بجراثيم التعب أن فيه 250 جرثومة و575 عضة ورأَى في آخر 863 جرثومة و217 عضة ومعظم هذه الإصابات تكون من باطن القدم أولاً لأنه معرض للاحتكاك بالأرض التي تسكنها الجراثيم ويقدرون المصابين بهذا المرض بمليوني نسمة أكثرها في جنوبي أميركا. درجات التغذية ما من شيءٍ مهم في التغذية أكثر من التدقيق في معرفة ما يتركب منه طعامنا حيوانياً كان أو نباتياً أو معدنياً جامداً كان أو سائلاً فالأصل في طول حبل العمر متوقف عَلَى الإحاطة بذلك فقد قال أحد الأطباء أن الواجب عَلَى المرءِ قبل المباشرة في الأكل أن يعرف درجة التغذية فيما يتناوله والمقدار اللازم له منبها. وقال غيره أن من أوائل قواعد حفظ الصحة أن يعرف المرءُ النسبة بين التغذية والإنفاق عليها. ولكن هذه القواعد قلما يعمل بها بالفعل وكثير من الناس يجهلون كل الجهل ما يدخل في الطعام من درجات التغذية وقد نصح الدكتور فيشر من كلية يال في أميركا أن تعلق القائمة الآتية في المدارس وغرف الموائد

لمعرفة درجات التغذية في كل طعام وها هي مرتبة بحسب مكانتها من التغذية: الثمار والجوز والحبوب والعسل والزبدة. البطاطا وغيرها من البقول التي تقشر. السمن والملح القليل والقشطة واللبن والحليب والبيض وسكر القصب وشوكولاتو اللوز الهندي. الجبن المطبوخ واللبن الرائب. البقول التي تؤْكل بقشورها. المعجنات. الجبن المخمر وجبن روكفور وغيره. التريد. الحساء باللحم وخلاصة اللحم. الشاي والقهوة. اللحم والسمك والطيور. الكبد. التوابل ما عدا الملح. الألكحول. توراة الشيطان قالت مجلة مطالعاتنا في البيوت ما تعريبه: من جملة التحف المحفوظة في خزانة الكتب الملكية في استوكهلم كتاب مخطوط أطلقوا عليه اسم توراة الشيطان كما يسمونه مارد الكتب لضخامة حجمه المتناهي ويبلغ طوله 90 سنتمتراً وعرضه خمسون ولا يستطيع نقله سوى ثلاثة رجال وهو ذو 309 صفحات ضاع منه سبع وقد كتبت كل صفحة عَلَى عمودين. وحسبوا ما وضع لهذا الكتاب من الورق فكان 160 حماراً وحروفه من نوع الكوتيك الصغير وأوائل الحروف الكبرى جعلت بالذهب الملون وزينت بالصور وجلده من البلوط الغليظ ثخانته أربعة سنتمترات ونصف وأقفاله من المعدن. ولما حرق القصر الملكي في استوكهلم سنة 1697 أُصيبت هذه التوراة برضوض فطرحوها من النافذة إلى الشارع

فتعطلت أقفالها ثم أُصلحت.

خاتمة السنة الرابعة

خاتمة السنة الرابعة نحمد الله عَلَى أن وفقنا إلى النجاة من مآزق السنة الماضية وأقلها مما يعوق عن التأْليف والطبع والنشر في بلاد أعمتها الجهالة والجهلاءُ وأفسدتها السياسة الخرقاءُ قروناً وأزماناً. فقد اضطررنا بعد نقل المقتبس من القاهرة إلى دمشق أن نعاني السياسة فأصدرنا جريدة يومية باسم المقتبس لتخدم الإصلاح الإداري الاقتصادي كل يوم كما يعالج شقيقها الأكبر الإصلاح العلمي والاجتماعي كل شهر وما أعظم ما قاسيناه من ممارسة أعداءِ الدولة والأمة فتربصوا بنا الدوائر وفي مقدمتهم صنيعة عبد الحميد المخلوع وموجد الجاسوسية في الأستانة ناظم باشا والي سورية السابق فقد شق عليه مطالبتنا بالإصلاح فقام ينصب لنا شراكاً يريد بها إهلاكنا فأنجانا الله منه ولكن بعد أن تحملنا في هذا السبيل وقتاً ومالاً واضطرت هذه المجلة إلى الاحتجاب عن قرائها زمناً ولذلك فإنا نحسب السنة الماضية من أشقى أيام العمر إذا لم نقم فيها بالواجب نحو المشركين بإصدار المجلة في أوقاتها عَلَى الصورة المقبولة التي كانت تظهر بها في سنيها الثلاث الأولى واضطررنا باديءَ بدءٍ إلى رفض الورق الذي أوصينا عليه من معامل النمسا بداعي مقاطعة البضائع بين البلاد العثمانية والنمساوية ولما لم نجد الورق اللازم للمجلة في بيروت ولا في دمشق اضطررنا إلى الطبع عَلَى ورق الكتابة عَلَى نحو ما تراه في الأجزاء الثلاثة الأولى من هذه السنة ثم توقعنا انتظام المطبعة التي أسسناها فما كاد يتعلم عملتها ويستعد القائمون بها حتى أُغلقت ظلماً نحو أربعة أشهر. وها نحن اليوم نصدر آخر جزء من سنة 1327 أي جزء شهر ذي الحجة في جمادى الثانية من سنة 1328 والمأْمول أن نوفق بعد ثلاثة أشهر إلى إصدار كل جزءٍ في شهره خصوصاً وقد تفرغنا أكثر من قبل للتأليف والترجمة في الموضوعات التي نتابع البحث فيها. ولقد توفرت لنا المواد خلال رحلتنا إلى أوربا وصارت للمقتبس علائق واسعة مع الأندية العلمية في ديار الغرب يتناول مدة الشهر من مطبوعاتها أشياءَ كثيرة وسيتوفر بحول الله عَلَى نقل كل ما يهم هذا الشرق العربي منها ومن المجلات الفرنسوية التي ننقل عنها بعد الآن مجلة العالمين والمجلة الآسياوية ومجلة العالم الإسلامي ومجلة الاقتصاديين ومجلة الطبيعة والمجلة الزرقاء والمجلة الوردية ومجلة انتربية ومجلة المجلات ومجلة العلم الاجتماعي ومجلة مطالعاتنا في البيوت والمجلة التونسية إلى غير ذلك من المجلات التي قد

نطلع عليها ولكن عَلَى طريقة غير منظمة دع عنك المجلات التركية والعربية. وسيكون في السنة المقبلة حظ واسع لتلخيص المؤلفات الإفرنجية الحديثة في هذه المجلة والتوسع في الأبحاث التي تؤول إلى ترقية اللغة العربية وآدابها واجتماع العرب وعلومهم مع تطبيقاتها عَلَى حالة الغرب اليوم فنمزج المدنية العربية بالمدنية الغربية لتكون لنا منها مدنية تأْخذ من كل شيءٍ أحسنه ونسأَله تعالى أن يسددنا ويلهمنا رشدنا ويثبت أقدامنا في خطتنا ويقلل خطأَنا وخطيئاتنا إنه أكرم مسؤول.

سعة التأليف

سعة التأليف في الإسلام من جملة مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق كتابان عظيمان تعددت مجلداتهما فدلا على اتساع نطاق التأليف في الإسلام أيام كان علماؤُه منصرفين إلى العلم والعمل يصرفون أثمن أوقاتهم في خدمة الأمة وهما كتاب الكواكب الدراري في تبويب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري لجامعه الإمام أبي الحسن علي بن عروة الحنبلي من أهل القرن التاسع وكتاب تاريخ دمشق الكبير لواضعه الحافظ أبي القاسم ابن عساكر من أهل القرن السادس. هذان السفران الجليلان آيتان ناطقتان على طول نفس أجدادنا وشدة وثاقنا وجهالتنا فقد وجد من الأول مجلدات كثيرة ضخمة لا تقل عن ثمانين مجلداً متفرقة ومما وجد منها المجلد الثاني والعشرون بعد المئة بحيث لايظن أن الكتاب بلغ أقل من مئة وخمسين مجلداً في التفسير والحديث والأصول والفقه الحنبلي وتراجم الحنابلة ومباحث في الفلسفة والكلام والتاريخ والأدب فهو دائرة معارف إسلامية حقيقية ضمت بين جوانحها أشهر كتابات علماء الحنابلة وكبار مجتهدي الأمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن رجب وغيرهم من الأعلام. وأما تاريخ دمشق فمنه الآن نسختان نسخة في عشرين مجلداً ونسخة وقعت في عشرة مجلدات ضخمة وهي تامة وكان كتب في ثمانين مجلداً. ولقد جرى ذكره بين حافظ مصر في عهده زكي الدين المنذري وطال الحديث في أمره واستعظامه فقال حافظ مصر: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. قال ابن خلكان: ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضيع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها وله غيره تواليف حسنة. وبعد فإن الخالق تعالى وضع في أفراد من كل أمة خاصيات وملكات قلما يشاركهم فيها كثيرون وآتاهم هبات يستخدمونها في نفع البشر ونفوساً لا تعرف الملل لدرك مقاصدهم

الشريفة. وكلما ارتقت الحضارة في شعب ينبع فيه رجال يصرفون على الإفادة والاستفادة نقد أعمارهم ويتمحصون لإحسان الخدمة حتى لا يكادون يرون السعادة والملاذ والخير وكل ما تطمح إليه نفوس بني الإنسان من المعالي رإلا فيما هم بسبيله. ومن أنعم النظر في تراجم نوابغ العلماء ودرس حياتهم حق دراستها لا يلبث أن يزول عجبه إذا شاهد كيف كانوا يستغرقون في أعمالهم ويتفانون فيما أخذوا به نفوسهم فيزهدون في المال والبنين ويفطمون أنفسهم عن حب المناصب والمراتب والزخارف والسفاسف. كنا ذات يوم نذكر لأحد أصدقائنا من الأطباء الذين صرفوا شطراً من حياتهم في الغرب اتساع التأليف في هذه الأمة قديماً فقال أما ما يبلغكم عن أكثر المؤلفين في الغرب اليوم من كثرة المصنفات فليس لأكثرهم منه إلا النظر القليل يكتبه لهم أذكياء المتخرجين بهم بعد أن يكونوا ثقفوا عنهم بعض ماله علاقة في الموضوع الذي ألفوا فيه حتى إذا أتوا على آخره يدفعونه إلى أساتذتهم فيجيلون فيه أنظارهم ويمثلونه للطبع مفتتحاً بأسمائهم والمصنف منهم من يذكر أن تلميذه فلان أعانه في التأليف وبعضهم يضنون بمثل هذه الإشارة. ولما أوردنا أسماء كثير ممن اشتهروا في الإسلام وألفوا التواليف الممتعة الضخمة وعنوا وحدهم في الأكثر بجمعها وتنسيقها وتصنيفها وتبييضها وتسويدها وإن ما أثر عنهم كان مردوداً لو لم يرد على لسان أهل العدل والصدق من المؤرخين وعلماء التراجم وبعضهم قد يكذبون من أضدادهم وحاسيدهم - عند ذلك اقتنع صاحبنا بصحة رأينا وقال أن حال الإفرنج اليوم يخالف حال سلفنا فإن الإفرنجي مهما بلغ من حبه الحكمة وتفانيه في خدمة المعارف يقتطع له أوقاتاً لراحته وإدخال الفرح على قلبه لينشط إلى متابعة السير في عمله أما الشرقي فإنه يفرط فيما تمحض له فحاله إما تعب ليس وراءه غاية أو راحة ما بعد ورائها وراءٌ. افتح أي كتاب من كتب التراجم ولاسيما تراجم أهل القرون الستة الأولى للإسلام تسقط على مبلغ عناية رجالنا بالتأليف وتوفرهم على النفع وقد يظن أن معظم ما خلفوه من كتبهم هو ديني محض ولا أثر لهم في العلوم الدنيوية ولكن هذا الظن لا يغني من الحق شيئاً لأن جماهير المؤلفين المجيدين لم يكونوا متمكنين من علوم الدين بإغفال علوم الدنيا بل إنهم كانوا يعتقدون بأن العلوم بأسرها نافعة في الدارين وما نفع في هذه الأولى كان خليقاً بأن

ينفع في الأخرى. هذا أبو محمد حزم الظاهري وأهل الظاهر نفاة القياس والتعليل وهو معدود في الطبقة الأولى بين علماء الدين ومع هذا تجد له تآليف ممتعة فيما نعتبره من علوم الدنيا فقد ذكر غير واحد من علماء الأندلس أن تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين نحو من أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيءٌ ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر الطبري فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفاً فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير أن قوماً من تلاميذ أبي جعفر لخصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة ومن جملة تآليفه التفسير الكبير والتاريخ الذي هو أصح التواريخ وأثبتها وكلاهما مطبوع متداول وهو الذي قال لتلاميذه: هل لكم إن أملي عليكم كتاباً في التاريخ قالوا وكم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فاستعظموا ذلك وأرادوه على الاختصار حتى أملاه عليهم في ثلاثة آلاف ورقة فجاء كما رأيناه اليوم أحد عشر مجلداً ضخماً أعلاه بهذا القدر وهو يحوقل ويقول ماتت الهمم لأن تلاميذه لم يوافقوه على جعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة فماذا كان يقول لو جاء في هذا العصر ورأى انحطاط علوم الدين وعلوم الدنيا بين قومه. وابن جرير في إجادته في التأليف وإكثاره منه مشهور كسائر من تقدمه ومن تأخر عليه من المصنفين مثل ابن تيمية من أهل القرن الثامن فقد قال فيه أحد واصفيه أن له من المؤلفات والقواعد والفتاوى والأجوبة والرسائل والتعاليق مالا ينحصر ولا ينضبط ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع ولا صنف نحو ما صنف ولا قريباً من ذلك مع أن تصانيف كان يكتبها من حفظه وكتب كثيراً منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه ويراجعه من الكتب. وقال غيره كان الإمام يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد وله في غير مسألة مصنف مفرد في

مجلد وجمع بعض الناس فتاويه بالديار المصرية مدة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى فجاءت نحو ثلاثين مجلداً وقيل إن تآليفه تبلغ ثلاثمائة مجلد. ومثله أبو الفرج ابن الجوزي الواعظ من علماء القرن السادس صنف في فنون عديدة وكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئاً كثيراً والناس يغالون في ذلك حتى يقولون أنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس وهذا شيءٌ عظيم لا يكاد يقبله العقل ويقال أنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث الرسول فحصل منها شيءٌ كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها. ومن المكثرين من التأليف ابن الهيثم الرياضي الطبيعي فقد عدد ابن أبي أُصيبعة مصنفاته في زهاء أربع صفحات هذا عدا ما ضاعت دساتيره منه لما فارق البصرة والأهواز وانتقل إلى مصر قال: وما أظنها تنقص عن مئة مجلد. ومثله الفارابي أحد \ فلاسفة الإسلام كان مكثراً من التأليف وقد أضاع أكثرها لأنه كان يكتب في رقاع كيفما اتفق ويختار الفلاة ومجاري الأنهار للتأليف فتطير الأوراق التي يكتبها. ومثلهما أبو الريحان البيروني قال ياقوت: كان لغوياً أديباً له في الرياضيات والنجوم اليد الطولى ولما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيه فضة فرده للاستغناء عنه وكان مكباً على تحصيل العلوم منصباً على التصنيف لا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر وقلبه الفكر دخل عليه بعض أصحابه وهو يجود بنفسه فقال له في تلك الحال كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة فقال: أفي هذه الحال قال: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بها أليس خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها قال: فذكرتها له وخرجت فسمعت الصريخ عليه وأنا في الطريق. قال ياقوت: وأما تصانيفه في النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فإنها تفوت الحصر ورأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في ستين ورقة. وقال بعض مترجميه: إن كتبه زادت على حمل بعير. والبيروني أحد كبار فلاسفة العرب يجيءُ في طبقة ابن سينا وابن رشد وابن زهر والفارابي ومثلهم الكندي فيلسوف العرب وكتبه في علوم مختلفة مثل المنطق والفلسفة والهندسة والحساب والأرثماطيقي والموسيقى والنجوم وغير ذلك وقد عدد أسماءَها ابن

النديم في ست صفحات. ومثله أبو بكر بن زكريا الرازي صاحب المصنفات الممتعة في الطب والعلوم العقلية والأدب وهو الذي استنار الغربيون لأول نهضتهم بمصنفاته وأول ما طبع عندهم من تأليف العرب كتبه ذكر أسماءها ابن أبي أُصيبعة في نحو سبع صفحات وابن النديم في ثلاث. ومن المكثرين من التأليف في عهد الحضارة الإسلامية حنين بن اسحق وثابت بن قره ويعقوب بن اسحق الكندي وقد ساق ابن أبي أُصيبعة تآليف آخرهم في خمس صفحات وكلها كتآليف حنين وثابت فلسفية علمية وهم أئمة النقل من اليونانية إلى العربية. ومن المكثرين من التأليف المجودين فيها حجة الإسلام الغزالي والماوردي وعمرو بن بحر الجاحظ وجار الله الزمخشري وهذان الأخيران من أئمة المعتزلة قيل في الأول أن تأليفه تعلم العقل وفي الثاني أن تآليفه يكتفى بها في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان والأدب. ومن المكثرين المجودين من أئمة المعتزلة القاضي عبد الجبار قيل أن تآليفه التي وضعها في كل فن أربعمائة ألف ورقة ومن أئمة المعتزلة كثيرون من جاوزت مؤلفاتهم المئة والخمسين ألف ورقة. ومن المؤلفين الأول المكثرين من التأليف هشام الكلبي العالم بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها المتوفى سنة 206 ذكر كتبه ابن النديم في نحو ثلاث صفحات وهي تزيد على مئة وخمسين ومنهم المدائني المتوفى سنة 215 في نحو أربع صفحات ومنهم المرزباني من أهل القرن الرابع قال إن تآليفه بلغة ألوفاً من الأوراق ومن الفقهاء والحفاظ المكثرين من التأليف محمد بن إدريس الشافعي وداود بن خلف الأصفهاني وأبو العباس بن سريح المعروف بالباز الأشهب من أئمة الشافعية كانت فهرست كتبه تشتمل على أربعمائة مصنف وقيل أن تصانيف الحافظ أبي بكر ابن البيهقي تبلغ ألف جزء ولأبي بكر ابن الخطيب صاحب تاريخ بغداد المتوفى سنة 463 قريب من مئة مصنف وللنسفي من كتب الأصول والفقه والحديث والأدب والتاريخ متا يقرب من مئة مصنف وكان ابن سبعين ممن صنف تصانيف كثيرة وللأشعري خمسة وخمسون تصنيفاً. وكان أبو حاتم البستي من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ قال ياقوت وكانت الرحلة بخرسان إلى مصنفاته وروى عن ابن ثابت أن من الكتب التي تكثر منافعها إن

كانت على قدر ما ترجمها واصفها مصنفات أبي حاتم محمد بن حيان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر الشجري ووقفني على تذكرة بأسمائها ولم يقدر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معرفة عندنا وأنا أذكر منها ما استحسنت سوى ما عدلت عنه وأطرحته وهنا عدها فجاءت زهاء مائتين وخمسين جزءاً وبلغت مصنفات أبي بكر بن فورك المتكلم الأصولي النحوي الواعظ قريباً من مائة مصنف. ولفظة المتكلم تطلق على من يعرف علم الكلام وهو أصول الدين وإنما له علم الكلام لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عز وجل أمخلوق هو أم غير مخلوق فتكلم العباس فيه فسمي هذا النوع من العلم كلاماً اختص به وإن كانت العلوم جميعها تنشر بالكلام أهـ ولأبي الحسين الرواندي صاحب المقالة المشهورة في علم الكلام وهو الذي ينسب إليه اليوم ظلماً كل كلام فيه سفسطة ومغالطة وكفر من التآليف نحو مائة وأربعة عشر كتاباً مع أنه لم يتجاوز الأربعين من عمره. ولرأس المتصوفة محيي الدين بن عربي تآليف كثيرة ومنها الممتع ذكر في إجازة كتبها للملك المعظم أنه أجازه أن يروي عدد مصنفاته ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفاً وأربعمائة مصنف وألف رسالة عدد فيها كتبه كما جرت عادة بعض المؤلفين أن يترجموا أنفسهم ويذكروا مؤلفاتهم في رسائل خاصة مخافة أن يدس عليهم بعضهم ما لا يروقهم ويقول فيهم ما ليس فيهم. وابن سعيد الأندلسي المؤرخ من المكثرين من التأليف منها المرقصات والمطربات والمقتطف من أزاهر الطرف والطالع السعيد في تاريخ بني سعيد والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار وهما المغرب في حلي المغرب والمشرق في حلي المشرق وغير ذلك قال لسان الدين حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه خلف كتاباً يسمى المرزمة يشتمل على وقر بعير من رزع الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والإخبارية إلا الله تعالى. ومن المكثرين من التأليف لسان الدين بن الخطيب وأبو العلاء المعري ولهذا كتاب سماه الأيك والغصون وهو المعروف بالهمزة والردف يقارب المئة جزء في الأدب قال ابن خلكان: وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف وقال إذا علم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. ومن المكثرين القاضي الفاضل قال ابن خلكان: أخبرني

أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وكان الحاجب المنصور أبو بكر بن عبد الله بن مسلمة المدعو بالأفطس أديباً جليلاً ومن تآليفه الكتاب المظفري المسمى بالتذكرة في خمسين مجلداً. وكتب عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف نحو مئة وخمسين كتاباً وذلك في سياحات له طويلة دامت نحو أربعين سنة ساحها بين العراق والشام ومصر والروم. ومن المكثرين من التأليف والمتوسعين فيه أحمد بن أبان بن السيد اللغوي الأندلسي يعرف بصاحب الشرطة وهو مصنف كتاب العالم في اللغة نحو مئة مجلد مرتب على الأجناس بدأ بالفلك وختم بالذرة وله في ؤالعربية واللغة كتب أخرى. ومثله ابن سيدة الضرير صاحب المخصص والمحكم وغيره وهو من المكثرين من التأليف والحفظ ومن المكثرين أبو اسحق إبراهيم بن الأعلم البطليوسي له نحو خمسين تأليفاً. وبلغت تآليف محمد أبي طالب القرطبي المتوفى سنة 437 ـ 77 تأليفاً وألف عيسى بن عمر النحوي نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو قال سيبويه جمعها بعض أهل اليسار وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق في الوجود سوى كتابين ولو تنافس أهل العلم وغلاة الكتب بمثل هذه الكتب لتعاورتها الأيدي بالنسخ ولما فقدت. ومن المكثرين من التأليف عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي المتوفى سنة 238 قال المقري رأيت في بعض التواريخ أن تواليفه بلغت ألفاً ومن أشهرها كتاب الواضحة في مذهب مالك. ولأبي عمرو الداني القرطبي من علماء القرآن مئة وعشرون مصنفاً وكان يقول ما رأيت شيئاً قط إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته وآخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس أبو الحسن القلصادي المتوفى سنة 891 وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض. وممن عرفوا بسعة التأليف أحمد بن أبي عبد الله على مذهب الإمامية فإن ما كتبه بلغ مائة تصنيف عددها ياقوت في معجم الأدباء ومن فقهاء الإمامية أبو النصر العياشي ذكر ابن النديم أسماء كتبه في نحو صفحتين. ويقال أن تواليف أبي جعفر بن النحاس تزيد على خمسين منها شرح عشرة دواوين للعرب

وذكروا أن محمد بن جماعة من أهل القرن الثامن كان أعجوبة زمانه في العلم وليس له في التأليف والتأليفين والثلاثة التي جاوزت الألف فإن له على كتاب أقرأه التأليف والتأليفين والثلاثة وأكثرها من شرح مطول ومتوسط ومختصر وحواش ونكت إلى غير ذلك وكان يعرف علوماً عديدة منها الفقه والتفسير والحديث والأصلان والجدل والخلاف والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والهيئة والحكمة والزيج والطب والفروسية والرمح والنشاب والدبوس والثقاف والرمل وصناعة النفط والكيمياء وفنون أخر وعنه أنه قال: أعرف ثلاثين علماً لا يعرف أهل عصري أسماءها. ومن الذين أكثروا من التأليف أحمد بن مكتوم من أهل القرن الثامن وعبد الرحمن الأنباري من أهل القرن السادس وعيسى الإسكندراني من أهل القرن السادس وتقي الدين السبكي من أهل القرن الثامن وله مئة وخمسون تصنيفاً والجلال السيوطي من أهل القرن العاشر أطلعنا على فهرست كتبه في سبع ورقات وربما لا تقل عن أربعمائة مجلد وفيها الجيد. وأعجوبة المؤلفين أبو موسى جابر بن حيان قال: ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة وألفاً وثلاثمائة كتاب في الحيل على مثال كتاب تقاطر (؟) وألفاً وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب ثم ألفت في الطب كتاباً عظيماً وألفت كتباً صغاراً وكباراً وألفت في الطب نحو خمسمائة كتاب إلى أن قال: ثم ألفت كتباً في الزهد والمواعظ وألفت كتباً في العزائم كثيرة حسنة وألفت كتباً في النيرنجيات وألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتباً كثيرة ثم ألفت بعد ذلك خمسمائة كتاب نقداً على الفلاسفة ثم ألفت كتاباً في الصنعة (الكيمياء) يعرف بكتب الملك وكتاباً يعرف بالرياض. وماذا عسانا أن ندون هنا ونقتبس من كلام المؤرخين في المكثرين من المؤلفين العارفين ولو أردنا أن نذكر فقط من لهم منهم إلى عشرة كتب لاستغرق الكلام مجلد هذه السنة برأسه. وإنا ليحزننا بوم نذكر أن كل واحد ممن ذكرنا خلف للأمة خزانة كتب من مصنفاته ونلتفت الآن عن إيماننا وعن شمائلنا فلا نرى المؤلفين في الأقطار العربية يعدون على الأصابع والمكثر منهم من لا تتجاوز مصنفاته العشرة.

نشوء اللغات الإسلامية

نشوء اللغات الإسلامية قضي على اللغات في كل عصر ومصر أن تقتبس بعضها من بعض ما يعوزها من الألفاظ لتعبر بها عن الإكثار الحديثة والعربية والفارسية والتركية لم تخلص من هذا القانون. فاقتبست أولاً من اللغات السامية ومن اليونانية ثم من أهم لغات أوروبا الحديثة ولاسيما من الفرنسوية كما اقتبست كمية وافرة من الألفاظ للإفصاح عن الأفكار التي ليس في معجمها ما يدل عليها ثم هجمت تلك الألفاظ الأعجمية هجوماً كثيراً كادت تأتي معه على مفردات تلك اللغات نفسها فقامت تريد الرجوع إلى أصولها وهبّ القوم ينبذون من اللغات الإسلامية الثلاث تعابير رأوها وحشية ويستعيضون عنها بألفاظ يشتقونها من المادة الأصلية في العربية والفارسية والتركية أو بألفاظ موجودة ولكنها أُطلقت على معاني جديدة. ومن الضروري أن لا يفوتنا النظر بأن أصحاب هذه اللغات اليوم يريدون الرجوع بلغاتهم إلى أصولها الصحيحة ويطرحون الألفاظ التي ليست لهم مدفوعين إلى ذلك بتأثيرات الدعوة إلى الوطنية في البلاد الإسلامية. وهذه الحركة في الرجوع بهذه اللغات إلى أصولها لا ترمي إلى نبذ الألفاظ الإفرنجية فقط بل إلى أن القوم في فارس يطمحون إلى حذف التعابير العربية وفي البلاد العثمانية كما هو سائر البلاد التركية يحاولون طرح الألفاظ العربية والفارسية. ويبحث الأدباء من أهل هاتين اللغتين فيما لديهم من الألفاظ الإيرانية والتترية عن الألفاظ التي كان من تأثيرات الفاتحين أو من رغبة المغلوبين في إظهار معرفتهم بلغة غالبيهم إن زهد فيها واستعملت ألفاظ أقل منها انطباقاً مع الروح التركية والفارسية وإن كثر استعمالها وعدت أو كادت من مادة اللغة الأصلية. جرت اللغات الإسلامية كاللغات الأجنبية في اقتباسها على طريقتين علمية وعامية فالعامة يقتبسون على أيسر وجه من الألفاظ ما يتكرر على مسامعهم دائماً أو ما يفصح عن أفكار لا مقابل لها في لغتهم الأصلية ولقد عرفت منذ القديم القوانين التي تجري عليها في الاقتباس فالأسماء تنتقل من لغة إلى أخرى بأعظم ما يكون من السرعة وأقل من ذلك انتقال الصفات وفي النادر اقتباس الظروف ويشذُّ أو لا يكاد يكون أثر لاقتباس الأفعال. ومن اللغات ما إذا نظر فيه إلى المفردات يمكن وصفه باللغات المختلطة وهي تتألف في البلاد التي عرفت بتجارة المقايضة ولا سيما في الموانئ البحرية مثل لغة البيجيين في الشرق الأقصى وهي مزيج من اللغة الإنكليزية والصينية ولغة السابير مؤلفة من العربية والافرنسية والإسبانية

والإيطالية أو اللغة الإفرنجية وهي مجموعة من كلمات مقتبسة من جميع لهجات البحر المتوسط من البلاد التي تمتد من سورية إلى مراكش ولا بأس باعتبار اللغة المالطية من هذا الضرب من اللغات وإن أصبح لها صحافة وآداب منذ عهد ليس ببعيد ولكنها لم تعد تحسب لهجة عربية تكون صلة بين لغة مصر والمغرب جامعة إلى نحوها الذي هو كنحو اللغات السامية مفردات إيطالية وبعبارة أصح صقلية في الأكثر وكتابتها لاتينية. وما عدا هذه اللغات المشتركة البحرية التجارية خصوصاً فقد تألفت في البلاد الإسلامية التي استولى عليها الأوروبيون لهجة عامية دخلتها ألفاظ من لغات الفاتحين واصطلاحات دواوين الحكومة وأرباب الصناعات وهكذا نجد قرارات الحكومة الفرنسوية في الجزائر كانت تكتب زمناً بلهجة محرفة ممزوجة بكلمات فرنسوية نقلها المترجمون بجهل منهم أو كسل فيهم على حالها ولم يعنوا بترجمتها ونرى جند الرماة والمشاة هناك يستعملون لغة هي أحرى بها أن تكون مما تواطأوا عليه بينهم وهي خليط من التعابير الفرنسوية المحرفة كثيراً بحيث يصعب الاهتداء إلى معرفتها غالباً. ولكن هذا لا يصح على الإطلاق إلا على اللغة المحكية وكتابات من لم يتعلموا. أما اللغة الأدبية التي مست حاجتها كذلك إلى إيجاد تعابير جديدة فقد عمدت إلى طرق عديدة في الاقتباس فبدأت بنقل ألفاظ أوروبية كما هي أو بتعديلها قليلاً حتى توافق التلفظ المحلي وهذه هي الطريقة التي كانت تعمد إليها اللغة العامية ومضى زمن كانت هي المعول عليها أما فكر الرجوع بتلك اللغات إلى أصولها فلم ينشأ إلا في السنين الأخيرة فاللغة العربية الغنية بمفرداتها ولها من الاشتقاق موارد كثيرة فقد عمدت إلى ما في متنها من المفردات فاشتقت منها وكذلك كان من الفارسية وإن كانت لا تستغني بعض الأحيان عن الألفاظ العربية. أما التركية التي افتقرت بتأثير اللغات الأجنبية فيها فقد أخذت بادئ بدء من العربية والفارسية وهي تحاول منذ مدة الاكتفاء بما عندها باستعمال التعابير التترية القديمة التي كادت تتلاشى. ما هي المؤثرات التي عرضت للغات الإسلامية من اللغات الأجنبية؟ إن أقدم النصوص العربية التي انتهت إلينا هي الأشعار التي قيلت قبل الإسلام والقرآن نفسه لا يخلو من بعض ألفاظ أصلها فارسي. وذلك لأن الصلات بين الفرس والعرب كانت قديمة مستحكمة

فأخذت العربية عن اللغة المجاورة لها بعض الألفاظ. فمن ألفاظ القرآن الغير العريقة في العربية إبريق وسجيل. واقتبست اللغة الآرامية اللغة العربية بعض ألفاظها أيضاً فإن اتحاد أصول هاتين اللغتين والمناسبة القوية في تركيبهما قد جعلت الأخذ منها سهلاً للغاية. وكذلك الحال في اللغة العبرانية فقد اقتبست العربية بعض الألفاظ وأكثرها ديني فمنها جهنم وملك واقتبست اللغة الرومية منذ عهد بعيد بعض الألفاظ للغتين العربية والفارسية مثل سجل وسندس وانتقلت هذه إلى العربية ووردت في القرآن عن طريق الفارسية. ولقد نشأت في فارس لغة صناعية وأعني بها البهلوية واستعملت الخط السامي واستعاضت عن المفردات الإيرانية بما يقوم مقامها من المفردات الآرامية وتصريفها يجمع بين تصريف اللغتين ولكن اللهجة الشائعة من هذه اللغة غير متأثرة كثيراً بالنفوذ الغريب إلى زمن الفتح العربي. ولا حاجة إلى ذكر ما أصاب اللغة الإيرانية من التبدل بالفتح فقد سرت إلى لغة الجمهور ألفاظ كثيرة دينية وعامية. واعتمدت فارس في كتابتها على الخط العربي. أما الأتراك فالظاهر أنهم لم يقتبسوا ألفاظاً كثيرة من جيرانهم قبل أن يدينوا بالإسلام هذا إذا استثنينا منهم المغول. وربما أخذوا قديماً بعض الألفاظ من الصين وفارس حتى إذا انتحلوا الإسلام كثرت في لغتهم الكلمات العربية والفارسية. ونرى العربية إلى عهد ظهور الإسلام تقتبس من الفارسية والسامية والآرامية خصوصاً واليونانية ودام هذا الاقتباس وارتقى ارتقاءً ظاهراً على عهد خلفاء الأمويين والعباسيين. وظلت اللغات الفارسية والسريانية والرومية بحسب الأقطار لغات الإدارة في المملكة العربية ولا عجب من ثم أن أدخلت إلى لغات الفاتحين عدداً كبيراً من الألفاظ العلمية. وكان من درس فلاسفة يونان ورياضيهم وكيمياوييهم وطبيعييهم أن سرت إلى العربية من اليونانية اصطلاحات علمية. وفي الحروب الصليبية دخلت إلى اللغة العربية ألفاظ مختلفة اقتبستها من لغات الشعوب التي اختلط بهم المسلمون ولكن ما أخذته هو من الأقاصيص محدود معدود ولم تدخل على اللغة العربية الألفاظ الغريبة إلا في القرون الحديثة الموافقة لارتقاء العمثمانيين في آسيا وأوروبا. أما تأثير اللغات الأوروبية في العربية فلم يكد يشعر به إلى الدور الأخير وهو أقل من ذلك في الفارسية بالنظر لبعدها الجغرافي. ومن أراد الآن أن يبحث في تأثير كل لغة أوروبية في اللغات الإسلامية منذ زمن النهضة

فليقرر ما يأتي: إن أثر اللغة الافرنسية كبير جداً وقد فاق غيره في جميع العالم الإسلامي في البحر المتوسط وآسيا السالفة ولكن أثرها بالنسبة لغيره حديث العهد وكانت البواعث إليها: 1ً ـ الاصطلاحات التي جرت في البلاد العثمانية على عهد السلطان محمود. 2ً ـ تنظيم محمد علي لمصر نحو ذاك العهد أيضاً وما تركه الفرنسيس من ألفاظهم فيها بعد حملتهم على مصر سنة 1799. 3ً ـ فتح الجزائر. 4ً ـ الصلات التي نشأت بين فرنسا وفارس وقد بدئ بها في أوائل القرن التاسع عشر على أيدي بعثة جوبر والقائد غاردان ثم أعيدت بعيد حين. 5ً ـ شدة ميل المسلمين في البلاد العثمانية ولا سيما في فارس لتعلم الآداب الفرنسوية والانطباع بالأفكار الفرنسوية. وأنت ترى بهذا أن نفوذ فرنسا في الشرق غير بعيد العهد لا يتجاوز القرن الواحد وهو قوي للغاية على الرغم من تقلص ظل سياستنا من البلاد العثمانية مدةً من الزمن وعلى تداخل إنكلترا في مصر وقلة علائقنا مع فارس فتأيد نفوذنا أبداً في تلك البلاد التي لم يبق فيها أولئك الشعوب الذين هم أكثر منا مضاءً في الأمور السياسية والاقتصادية شيئاً من لغاتهم إلا القليل الذي لا يؤبه له ولا ننسى أن تأثير اللغة الفرنسوية قد استحكم في اللغات التترية في روسيا ولكن لا مباشرة بل دخلتها الألفاظ من الافرنسية بواسطة اللغة الروسية أو اللغة التركية العثمانية. أما تأثير اللغة الإنكليزية فضعيف وهو مقصور على الصحافة العربية في مصر والصحافة الفارسية في الهند (بقطع النظر عن اللغة الهندستانية وسائر لغات الهند الوطنية) التي تعمد كل حين إلى استعمال كمية من الألفاظ الفرنسوية وليس الإنكليزية في فارس غير أثر ضئيل جداً ولا أثر لها في التركية إلا ما كان من بعض التعابير العلمية والبحرية وأكثرها في السباق وأنواع الارتياض. وبعد ذلك فإن تأثير اللغة الإيطالية قديم ثابت باق فهو يرد إلى الزمن الذي كانت فيه البندقية دولة بحرية قوية في البحر المتوسط وما زالت اللغة التركية العثمانية منذ ذاك العهد تأخذ عن اللغة الإيطالية جملة من الألفاظ لا العلمي منها فقط (مثل ألفاظ الملاحة والتجارة والصناعة وغيرها) بل ألفاظاً شائعة في الاستعمال وكان للغة العثمانية أن تكتفي بما عندها من مقابل لها مثل لفظة فامليا التي تتجلى فيها اللهجة البندقية كل التجلي وكذلك كان من

اللغة الصقلية أن شغلت مكاناً مهماً على نحو ما رأيناه آنفاً في أن جزءاً من المفردات المالطية مأخوذ منها. ودخل على اللغة في تونس كثير من الألفاظ الإيطالية وقد لاحظ أحد العارفين أن هذه الألفاظ لا تستعمل إلا في الكلام الدارج أما اللغة المكتوبة فمنقحة للغاية ولذلك لا نستعملها. وفي مصر ترى بعض الألفاظ الإيطالية والظاهر أن بعضها سرت إليها بواسطة اللغة التركية مثل كلمة سيغورتا (الضمان أو التأمين). واللغة اليونانية الحديثة أدخلت كالإيطالية على اللغة التركية العثمانية ألفاظاً كثيرة فإن ما وصل إلينا من النصوص القديمة يبين أن تاريخ الصلة بينهما يرد إلى ما قبل القرن الخامس عشر ولفظة أفندي الغريبة التي ذكر المسيو جان بسيشاري تاريخها وما تقلب عليها من التبدل الغريب في الصورة والمعنى هي من جملة تلك الألفاظ. وفي لغة عرب المغرب جملة من الألفاظ ومنها ما هو من أصل إسباني وهي مألوفة الاستعمال في مراكش فقد كان للبرتقاليين أثر كبير في هذه البلاد فكيف يتأتى أن لا يتركوا فيها شيئاً من لغتهم وإذ كانت المناسبة قوية بين الإسبانية والبرتقالية وكان سكان مراكش يحرفون ما يقتبسونه عن الأوروبيين من الألفاظ فمن الصعب أن يميز في هذه الاقتباسات ما سرى إلى تلك اللغة من اللغة البرتقالية خاصة. ولقد كانت الألفاظ الألمانية التي سرت إلى الشرق قليلة جداً وقال بعضهم أن لفظة غروش التركية مأخوذة من غروش الألمانية ولكن بعد البحث الدقيق في المعجم العثماني تبين أنه لم يسر إلى التركية إلا ألفاظ جزئية من التعابير الجرمانية. وهنا ننتقل إلى اللغات الصقلبية (السلافية) فنرى لغات البلقان قد نقلت إلى التركية عدداً جزئياً من التعابير ومنها بعض الألفاظ العسكرية وهي من جملة الألفاظ القديمة في تنظيم الجيش العثماني. واللغة الروسية أكثر سرياناً ولكنها مقصورة على اللغات التترية في القريم وقازان وقافقاسيا وآسيا الوسطى فهي لم تتعد تلك التخوم فالألفاظ الروسية في البلاد العثمانية الإيرانية نادرة للغاية. ويجب أن لا يفوتنا أن ما تقتبسه اللغات التترية أو الروسية هي في الأغلب من أصل فرنسوي أو ألماني أو إيطالي. وما ذكرناه فيما تقدم عن اللغات الصقلبية البلقانية ينطبق أيضاً على اللغة المجرية ولكن اللغة الأرناؤدية والأرمنية وغيرهما من اللهجات المحكية في البلاد التي يتكلم فيها بالتركية لم تؤثر إلا قليلاً بهذه

اللغة. وهنا نأتي على تأثير اللغة التركية في فارس حيث تحكم اليوم أسرة قاجار فنجد كثيراً من التعابير والمعاني المختلفة مأخوذة من التركية مثل الأعداد وألقاب الشرف وأسماء المناصب والمراتب. ومثل ذلك يقال عن اللغة العربية في مصر فإنها أخذت أسماء الرتب العسكرية التي دخلت إلى البلاد العثمانية بعد الإنكشارية ولم يدخل على أسماء الرتب من التعديل إلا ما لا غنية عنه للتلفظ العربي. وترى في طرابلس الغرب الخاضعة للحكم العثماني جميع هذه الألفاظ شائعة بالاستعمال وتجد ألفاظاً أخرى تركية مستعملة في تونس بل وفي الجزائر حيث أبقت الحكومة الفرنسوية رسمياً على بعض الألقاب التي اخترعها العثمانيون مثل آغا وباش عدل وخوجه وجاويش وغيرها وما عدا لغة البربر التي سرت بعض ألفاظها إلى اللغة المغربية. أما اللغة الهندستانية فلم يدخل منها إلا بعض الألفاظ النادرة إلى الفارسية أما اللغات الشرقية الأخرى فلا تعثر عليها بين الألفاظ العربية والفارسية والتركية إلا نادراً جداً. وها نحن نبدأ الآن بالكلام على كل واحدة من اللغات الإسلامية الثلاث فنستفتح بالعربية. فقد رأينا هذه اللغة قبل ولا سيما بعد ظهور الإسلام قد أخذت عن اللغات السامية كالعبرانية ولا سيما الآرامية والفارسية واليونانية. وحمل الصليبيون إلى العربية بعض الألفاظ الجديدة خلافاً لما يعتقده بعضهم ويظفر بهذه الألفاظ في كلام المؤرخين ولكنها لم تمر إلى اللغة المحكية ولا إلى اللغة المكتوبة فمن الأمثلة الغريبة استعمالهم لفظة ترم بمعنى المدفوع وجمعهم له على تروم كما في تاريخ أبي شامة ولكنه من الصعب أن ترى هذه اللفظة في كلام آخر. وأخذت العربية من الإفرنج بعض الألقاب النصرانية مدنية كانت أو دينية مثل قومس كونت وكاغيكوس أو كاتوغيكوس (بطريرك) وبعض التعابير الحربية واللغة المالطية التي هي لسان شعب خاضع للحكم المسيحي ومتدين بدينه قد اقتبست بالطبع من اللغات الغربية أموراً كثيرة. ولم يبدأ دخول الألفاظ الأجنبية ولا سيما الافرنسية على العربية إلا في أوائل القرن التاسع عشر دخلت بكثرة حتى أن القائلين بتطهير اللغة من الدخيل قد دهشوا لها. ثم إن دخول تعابير إفرنسية كثيرة إلى اللغة الرسمية أي التركية في سورية ومصر قد نشأ منه أثر في

اللغة الوطنية وازدياد صلات الشرق مع أمم الغرب ودخول الأفكار الفرنسوية وتأييد الحكم الفرنسوي على الجزائر وتونس ولا سيما إنشاء صحافة عربية حذا فيها أهلها حذو الصحافة الأوروبية كل ذلك مما دعا إلى تحول اللغة. وذلك أن الصحافة هي التي أحدثت اللغة العربية الحديثة في الجملة وهي تختلف عن لغة القرآن كما تختلف عن لغة الروماييك عن اللغة الرومية القديمة هكذا قال المسيو واشنطون سرويس الملحق بقنصلاتو البلجيك في بيروت منذ ثلاث عشرة سنة في مقدمة كتاب مهم للغاية وضعه في وصف هذه اللغة الحديثة وعلى ما فيه من الأغلاط والنقص القليل فإن هذا الكتاب الذي لم يؤلف على مثاله قد نفع وينفع كثيراً وهو عبارة عن مقدمة عرض فيها المؤلف هذه المسألة على وجه جلي مفصل مشفوعاً بقائمة للصحف التي كانت تنشر إذ ذاك مع تاريخ إنشائها وهي قائمة ثمينة وإن كانت فهارس الرجوع إليها مختصرة وبعض الانموذجات من كلامها تأليفاً كانت أو ترجمة فأتى فيها أولاً على الجرائد ثم على المواد الرسمية ثم على معجم لغوي مفيد وهو وحده يفسر الكلمات المولدة. ومن رأي المؤلف أن اللغة الحديثة قد نمت في غضون خمسين سنة بسرعة هائلة وهذا النشوء يظهر خاصة من نشوء العربية المحكية أو المكتوبة قبل ظهور الجرائد فقد كانوا يكتفون بأن يأخذوا عن اللغات الأجنبية بعض المفردات الدخيلة اللازمة لهم من دون أن يعدلوا صورتها التعديل اللازم لها في الظاهر. (للبحث صلة)

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن ليعلم أن من المسائل الجديرة بالعناية وبذل الجهد للوقوف على ما قيل فيها وكتب عنها (مسألة الجن) فقد تنوعت في شأنها المشارب وتعددت في مباحثها المذاهب وكان للأعراب معها في الجاهلية مخيل ولها في كل عصر نغمات جديدة وعجائب ولا غرو فهي من أقدم المسائل وأرسخها في الأذهان إذ دار اسمها على كل لسان وورد ذكرها في جماع النحل والأديان. إن مسألة كمسألة الجن ليست مما تدرك بلفظة أو يشار إليها بلحظة حتى لا يرفع لها الحشوي رأساً ولا يقيم لها الجامد وزناً فلو صمت شواردها وقيدت أوابدها وانتظمت فرائدها لعثر على الجم من الطائف الفائقة والنوادر الرائعة مما يملك السمع والبصر إعجابه ويرتفع عن القلب للإصغاء حجابه. كل مسألة لا يتناولها الفهم في بداية النظر ولا يصل إليها إلا بالاستعانة من درس أمرها وسبر فلا بد من بحث عنها وتنقيب واستقراء وتنقير لا سيما أن ثلث ذات شعوب وأطراف وفروع وأوصاف لا جرم ينبغي استقراؤها وتعرفها واستجلاؤها اكتشافاً لما خبأته كنوز الحقيقة ووقوفاً على كل جليلة دررها ودقيقة. أكثر من ألف في العلم الإلهي أو ما وراء المادة تكلم في (الجن) فموجز ومسهب ومقارب ومغرب والواقف على ما كتبه فلاسفة الإسلام يراه قريباً مما نحاه علماء أهل الكتاب في شأنهم اللهم إلا في خيالات شط بها البحث فبعدت عن القصد شأن كل شيء جاوز حده. من استقرأ ما كتب وبذل جهده في التنقيب يمر به من علوم الأوائل ما يغني عن زهر الرياض حسنه وعن فتيق المسك نشره فمن تأمله ازداد حرصاً على تأمله وتصفحه مستعيداً ما يستحليه من فوائده. الطريقة المثلى والخطة الوسطى هي أخذ المهم وإيثار الأجود من كل شيء وهذا ما توخيناه في هذه المسألة مما طالعاناه وإلا فسعة علم السلف مما يدهش الخلف فليس لنا إلا المختار من آرائهم والمنتقى من أنبائهم ولله ابن المقفع إذ قول فمنتهى عالمنا علم في هذا الزمان ـ زمانه رحمه الله ـ أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم. إن استقصاءَ ما للقدماء في (مسألة الجن) واستقراءه كله يعوز إلى عدة مجلدات وسعة

أوقات والحاجيات كثيرة والمطالب وفيرة لذا آثرنا جمع شذرات تكشف عن وجهها نقابها وتجلي سدف عويصاتها لطلابها. ينحصر ما نأْثره في هذه المسألة في مقدمة ومقصدين وخاتمة. أما (المقدمة) فنحكي فيها ما قاله فلاسفة اللغة في شرح المراد من الجن واشتقاقه وعمومه وخصوصه وحقيقته ومجازه. وأما (المقصد الأول) ففي مذاهب الأعراب ومزاعمهم في الجن وقد حوى أحد وعشرين مبحثاً: (أ) من ادعى من الأعراب والشعراء أنهم يسمعون عزيف الجان ويرون الغيلان وما يشبهونه بالجن والشياطين وبأعضائهم وأعمالهم. (ب) إضافتهم مباني تدمر وأمثالها إلى الجن. (ج) تفرقتهم بين مواضع الجن. (د) تنزيلهم الجن في مراتب. (هـ) زعمهم أن الغول من أنثى الجن وكذلك السعلاة. (و) زعمهم أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم. (ز) مزاعمهم في الهاتف والناقل والرئي. (ح) ما روي من هتوفهم بالبعثة المحمدية. (ط) مزاعمهم في أوصافهم ومن قتلوه. (ي) من استهووه ومنهم خرافة. (يا) توصيفهم رجل الغول وعين الشيطان. (يب) نزاعمهم في أرض وبار وبلاد الحوش. (يج) مزاعمهم في الصرع. (يد) مزاعمهم في الطاعون. (يه) ما يزعمونه في تمثلهم وتصورهم. (يو) رأيهم في قرناء الشعراء الفحول. (يز) خيالهم في جن الشام والهند.

(يح) توهمهم ملامح الجن في الأنس. (يط) قولهم في جنون الجن وصرع الشيطان. (ك) ما يحكونه من نيران السعالى والجن. (كا) فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجان وتغول الغيلان. (وأما المقصد الثاني) ففي آراء فلاسفة الإسلام في الجن (أ) ابن سينا (ب) أبو طالب المكي (ج) الغزالي (د) ابن حزم (هـ) الفخر الرازي (و) القاشاني (ز) الماوردي (ح) القاضي أبو يعلى ابن الفراءِ (ط) ابن تيمية (ي) ابن القيم (يا) الأٍتاذ الإمام الشيخ محمد عبده. إنما تأثرت مذاهب الأعراب بما أُثر عن الأئمة في هذه المسألة انتقالاً إلى الجد في مباحثها إذ المقصد الأول أشبه بالجمام والمشراح لما شاب جده من مخاريق ومخايل وختمت البحث بمتفرقات من شوارد هذه المسألة تميماً لفوائده وتأييداً لمقاصده. ليس لنا من مزية فيما أثرناه إلا انتقاء المهم مما طالعناه وترتيبه على هذا الأسلوب نسأله تعالى أن يمن علينا بتنوير القلوب ويدخلنا في عباده الذين يؤمنون بالغيوب. المقدمة فيما قاله فلاسفة اللغة في الجن قال الراغب الأصبهاني في مفرداته في مادة جن: أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه والجنان القلب لكونه مستوراً عن الحاسة والجنة كل بستان يستر بأشجاره الأرض (ثم قال): والجن يقال على الروحانيين المستترة عن الحواس كلها بازاء الأنس وسيأتي تتمة كلامه. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: جنه ستره فاجتن واستجن بجنة استتر بها واجتن الولد في البطن وأجنته الحامل وواراه جنان الليل أي ظلمته وفلان ضعيف الجنان وهو القلب وجنت الأرض بالنبات ولا جن بكذا أي لا خفاءَ به قال سويد: (ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر). ونقل الإمام ابن جرير في سورة البقرة في تفسير آية وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أن استثناءه من الملائكة يدل على أنه منهم وعن ابن اسحق أن العرب يقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم يروا أن آية إلا إبليس كان من الجن أي كان من الملائكة

وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا وإن آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً إشارة لقول قريش أن الملائكة بنات الله (قال) وقد قال الأعشبي ـ أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله: ولو كان شيءٌ خالداً ومعمرا ... لكان سليمان البري من الدهر براه إلهي فاصطفاه عباده ... وملكه ما بين ثريا إلى مصر وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا أجر (قال) فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن كل ما اجتن يقول: ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا وما سمى بني آدم أنساً إلا أنهم ظهروا فلم يجتناوا فما ظهر فهو أنس وما اجتن فلم ير فهو جن. ثم قال ابن جرير: وأما خبر الله عنه أنه من الجن فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جناً كما ذكرنا قبل في شعر الأ شى فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنابهم عن أبصار بني آدم: وقال الراغب الصبهاني في مفرداته: الجن يقال على وجهين (إحداهما) للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بازاءِ الأنس فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة وعلى هذا قال أبو صالح: الملائكة كلها جن وقيل بل الجن بعض الروحانيين وذلك أن الروحانيين ثلاثة (أخيار) وهم الملائكة (وأشرار) وهم الشياطين (وأواسط) فيهم أخيار وأشرار وهم الجن ويدل على ذلك قوله تعالى قل أوحي إليَّ إلى قوله عز وجل وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون. من ادعى من الأعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان وما يشبهونه بالجن والشياطين وبأعضائهم وأعمالهم أنشد أعرابي: كأنه لما تدانى مقربه ... وانقطعت أوذامه وكربه وجاءت الخيل جميعاً تذنبه ... شيطان جن في هواء يرقبه أذنب فانقض عليه كوكبه وأنشد:

إن العقيلي لا تلقى له شبها ... ولو صبرت لتلقاه على العيس بينا تراه عليه الخز متكئاً ... إذ مر يهدج في حش الكرابيش وقد تكنفه عرامه زمناً ... أشباه جن عكوف حول إبليس إذ المفاليس يوماً حاربوا ملكاً ... ترى العقيلي منهم في كراديس وقال أبو الخطفي: يرفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنان وهاماً رجفا وعنقا بعد الرسيم خيطفا وأنشد ابن الأعرابي: غناءُ كليبي يرى الجن يبتغي ... صداه إذا ما آت للجن أيب وقال الأعشى: فإني وما كلفتموني اتباعه ... ليعلم ربي من أعق وأحويا كالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا وقال الرقياني: بين اللهى منه إذا ما مدا ... مثل عزيف الجن هدت هدا وقال ذو الرمة: قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظل أخضر يدعو هامه اليوم للجن بالليل في أرجائها زجل ... كما تناوح بين الريح عيشوم دوية ودجى ليل كأنهما ... يم تراطن في حافاته الروم وقال: وكم عرست بعد السرى من معرسن ... بها من صداء الجن أصوات سامر وقال: كم جبت دونك من بهماء مظلمة ... تيه إذا ما مغنى جنه سمرا وقال: ورمل لعزف الجن في عقداءه ... هرير كتضراب المغنين بالطبل وقال:

وتيه خبطنا غولها وارتمى بنا ... أبو البعد من أرجائه المتطاوح فلاة لصوت الجن في منكراتها ... هرير وللأبوام فيها نوائح وطول اغتمامي في الدجى كلما رعت ... من الليل أصداء المثاني الصوائح ويقولون لمن به لقوة أو شتر إذا شبَّ يالطيم الشيطان ويقولون للرجل المفرط الطول يا ظل النعامة وللتكبر الضخم يا ظل الشيطان. وكان عمر بن عبد العزيز أول من نهى الناس عن حمل الصبيان على ظهور الخيل يوم الحلبة وقال: تحملون الصبيان على الجنان وأنشد في تشبيه ال، س بالجن لأبي الجويرية العبدي: أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا ... مُرَزَّؤُن بهاليل إذا حشدوا وأنشدوا: وقلت والله لترحلنا ... قلائصاً تحسبهن جنتا وقال ابن الزوائد: بحور خفض لمن ألم بهم ... آخيته عمري إذا خطروا وأنشدوا: إني امرؤ تابعتي شيطانيه ... آخيته عمري وقد آخانيه يشرب في قعبي وقد سقانيه ... فالحمد لله الذي أعطانيه وقال عبيد بن أوس الطائي: هل جاء أوساً ليلتي ونعيمها ... ومقام أوس في الخياءِ المشرج ما زلت أطوي الجن أسمع حسهم ... حتى دفعت إلي راق المروج وأنشد آخر: ذهبتم وعدتم بالأمير وقلتم ... تركنا أحاديثاً ولحماً موضَّعا فما زادني إلا سناءً ورفعةً ... ولا زادكم في القوم إلا تخشعا فما نفرت جني ولا فلَّ مبردي ... ولا أصبحت طيري من الخوف وقعا وأشعارهم في هذا المعنى تفوت الحصر. إضافتهم مباني تدمر وأمثالها إلى الجن

قال النابغة الذبياني: ألا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصُّفاح والعمد قال الجاحظ: وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل زمن سليمان عليه السلام بأكثر مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا ولكنكم إذا رأيتم بنياناً عجيباً وجهلتم موضع الحيلة فيه أضفتموه إلى الجن ولم تعانون بالفكر. وقال العرجي: سدت مسامعها لقرع مراحل ... من نسج جن مثله لا ينسج وقال الأصمعي السيوف المأثورة هي التي يقال أنها من عمل الجن لسليمان بن داود عليهما السلام فأما القوارير والحمامات فذلك ما لا شك فيه. وقال البعيث: بني زياد لذكر الله مصنعة ... من الحجارة لم تعمل من الطين كأنها غير أن الأنس ترفعها ... مما بنت لسليمان الشياطين وقال الأعشى في بناء الشياطين لسليمان: أرى عادياً لم يمنع الموت ربه ... وورد بتيماء اليهودي أبلق بناه سليمان بن داود حقبة ... له جندل صم وطي موثق تفرقهم بين مواضع الجن قال الجاحظ: كما يقولون تنقذ برقة وضب سحا وأرنب الخلة وذئب خمر فيفرقون بينها وبين ما ينسب لذلك أما في السمن وأما في الخبث وأما في القوة كذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن فإذا نسبوا الشكل منها إلى موضع معروف فقد خصوه من الخبث والقوة والعرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم قال لبيد: غلب تشذر بالدحول كأنها ... جن البدي رواسيا أقدامها وقال النابغة: سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت النسور جنة البقار وقال زهير: عليهن فتيان كجنة عبقر ... جديرون يوماً أن ينيفوا فيسثعلوا وقال حاتم:

عليهن فتيان كجنة عبقر ... يهزون بالأيدي الوشيج المقوما تنزيلهم الجن في مراتب قال الجاحظ: ثم ينزلون في مراتب فإذا ذكروا الجني سالماً قالوا جنى. فإذا أرادوا أنه ممن سكن مع الناس قالوا عامر والجميع عمار. وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم أرواح فإن خبث أحدهم وتعرم فهو شيطان. فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفريت والجمع عفاريت. وهم في الجملة جن وخوافي قال الشاعر: ولا يحس سوى الحافي بها أثر فإذا ظهر الجني ونطق واتقى وصار خيراً كله فهو ملك في قول من تأول قوله كان من الجن ففسق عن أمر ربه على أن الجن في هذا الموضع الملائكة وقال آخرون: كان منهم على الإضافة إلى الدار والديانة لا على أنه كان من جنسهم وإنما ذلك على قولهم: سليمان بن يزيد العدوي وسليمان بن طوحان التيمي وأبو علي العبدري وعمرو بن قائد الأسواري: أضافوهم إلى المحال وتركوا أنسابهم في الحقيقة: وقال آخرون: كل مستجن فهو جني وجان وجنين وكذلك الولد في البطن قبل له جنين لكون في البطن واستجنان وقيل للميت في القبر جنين وقال عمرو بن كلثوم: ولا شمطاء لم تدع المنايا ... لها من تسعة إلا جنينا يخبر أنها قد دفنتهم كلهم قالوا وكذلك الملائكة من الحفظة والحملة والكروبيين فلا بد من طبقات وربما فرق بينهم بالأعمال واشتق لهم الأسماء من السبب كما قالوا لواحد من الأنبياء خليل الله وقالوا لآخر كليم الله وقالوا لآخر روح الله. والعرب تنزل الشجعان في المراتب والاسم العام شجاع ثم بهمة أليس هذا قول أبي عبيدة. فأما قولهم: شيطان الحماطة فإنهم يعنون الحية وأنشد الأصمعي: تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذوي خروع قفر وقد يسمون الكبر والطغيان والخزوانية والغضب الشديد شيطاناً على التشبيه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لا نزعن نعرته ولا ضربنه حتى أنزع شيطانه من نحرته وقال حسان بن ثابت في معنى قوله والله لأضربنه حتى أنزع من رأسه شيطانه فقال: وداوية سبسب سملق ... من اليد تعرف جنانها

قطعت بعيرانة كالفنيق ... يمرح في الآل شيطانها وأبين منه قول منظور بن رواحة: أتاني وأهلي بالرماح وغمرة ... مسب عريف اللؤم حتى بني بدر فلما أتاني ما تقول تقلصت ... شياطين رأسي وانتشين من الخمر والأعراب تجعل الخوافي والمستجنات من قبل أن ترتب المراتب جنين تقول حن وجن بالجيم والحاءِ وأنشدوا: أبيت أهوى في شياطين ترن ... مختلف بخارها حن وجن ويجعلون الحن فوق الجن وقال أعشى سليم: فما أنا من جن إذا كنت خافياً ... ولست من النسناس في عنصر البشر ذهب إلى قول البشر ناس ونسناس والخوافي حن وجن ويقول أنا من أكرم الحيين حيث ما كانت. وضعفة النساك وأغبياء العباد أن لهم خاصة شيطاناً قد وكل بهم يقال له المذهب يسرج لهم النيران ويضيء لهم الظلمة ليفتنهم ويريهم العجب إذا ظنوا أن ذلك من قبل الله تعالى. (قال) وأما الخابل والخبل فإنما ذلك اسم للجن الذين يخبلون ويتعرضون ممن ليس عنده إلا العزيف والنوح وفصل أيضاً لبيد بينهم فقال: أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ... ولكن أتانا كل جن وخابل زعمهم أن الغول من أنثى الجن وكذلك السعلاة قال الجاحظ: قالوا إذا تعرضت الجنية وتلونت وعبثت فهي شيطانة ثم غول. وربما جعلوا الغول اسماً لكل شيء فمن الجن يعرض للسفار ويتلون في ضروب الصور والثياب ذكراً كان أو أنثى إلا أن الأكثر على أنه أنثى وقد قال أبو المضراب عبيد بن أيوب العنبري: وحالفت الوحوش وحالفتني ... بقرب عهودهن وبالبعاد وأمسى الذئب يرصدني محشا ... لخفة ضربتي ولضعف آدي وغولاً قفرة ذكر وأنثى ... كأن عليهما قطع البجاد فجعل في الغيلان الذكر والأنثى وقد قال الشاعر في تلونها: وما تزال على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول

فالغول ما كان كذلك. (والسعلاة) اسم لواحدة من نساء الجن تتغول لتفتن السفار قالوا وإنما هذا منها على العبث أو لعلها إن تفزع إنساناً فيتغير عقله من أجله عند ذلك لأنهم لم يسلطوا على الصحيح العقل ولو كان ذلك لبدؤا بعلي بن أبي طالب وحمزة ابن عبد المطلب وأبي بكر وعمر في زمانهما وبغيلان والحسن في دهرهما ويواصل وعمرو في أيامهما وقد فرق بين الغول والسعلاة عبيد بن أيوب حيث يقول: وساخرة مني ولو أن عينها ... رأت ما أُلاقيه من الهول جنت أزل وسعلاة وغول بقفرة ... إذا الليل وأرى الجن فيه أرنت وهم إذا رأوا الفتاة حديدة الطرف والذهن سريعة الحركة ممشوقة قالوا سعلاة وقال الأعشى: ورجال قتلى بجنبي أريك ... ونساءٌ كأنهن السعالى ويقولون تزوج عمرو بن يربوع السعلاة وقال الراجز: يا قاتل الله بني السعلاة وفي تلون السعلاة يقول عباس بن مرداس السلمي: أصابت القوم غول جل قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان وقال عبيد بن أيوب وكان جوالاً في مجهول الأرض لما اشتد خوفه وطال تردده وأبعد في الهرب: لقد خفت حتى لو تمر حمامة ... لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل أمن قلت هذي خديعة ... وإن قيل خوف قلت حقا فشمر وخفت خليلي ذا الصفا ورأبني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذر فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر أرنْت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حوالي نيراناً تلوح وتزهر وأصبحت كالوحشي يتبع ما خلا ... ويطلب مأْنوس البلاد المبعثر ومما ذكر الغيلان قوله: تقول وقد ألمت بالأنس لمة ... مخضبة الأطراف خرس الخلاخل أهذا خليل الغول والذئب والذي ... بهيم بربات الححال الكواهل

رأت خلق الأدراس أشعث شاحباً ... على الجدب بساماً كريم الشمائل تعوّد من آبائه فتكاتهم ... وإطعامهم في كل غبراء شامل ومما قال في هذا المعنى: علام ترى ليلى تعذب بالمنى ... أخا قفرات كان بالذئب يأنس وصار خليل الغول بعد عداوة ... صفياً وربته القفار البسابس وقال في هذا المعنى: فلولا رجال يا منيع رأيتهم ... لهم خلق عند الجوار حميد أنالكم مني نكال وغارةٌ ... لها ذنب لم تدركوه بعيد لكل بنو الإحسان حتى أغرتم ... على من يثير الجن وهي هجود وتزعمن الأعراب أن الغول إذا ضربت ضربة ماتت إلا أن يعيد عليه الضارب قبل أن تقضي ضربة أخرى فإنه إن فعل ذلك لم تمت وقد قال شاعرهم: فثنيت والمقدار يحرس أهله ... فليت يميني قبل ذلك شلت وأنشدوا لأبي البلاد الطهوي: لهان على جهينة ما ألاقي ... من الروعات يوم رحا بطان لفيت الغول تسري في ظلام ... بسهم كالعيابة صحصحان فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فصدي عن مكاني فصدت وانتحيت لها بعضب ... حسام غير مؤتشب يماني فقد سراتها والبرد منها ... فخرت لليدين وللجران فقالت زد فقلت رويد إني ... على أمثالها ثبت الجنان شددت عقالها وحططت عنها ... لا نظر غدوة ماذا دهاني إذا عينان في وجه قبيح ... كوجه الهر مشقوق اللسان ورجلاً مخدج ولسان كلب ... وجلد من قراب أو شنان قال الجاحظ: وأبو البلاد الطهوي هذا كان من شياطين الأعراب وهو كما ترى يكذب وهو يعلم ويطيل الكذب ويجيزه وقد قال كما ترى: فقالت زد فقلت إني ... على أمثالها ثبت الجنان

لأنهم هكذا يقولون يزعمون أن الغول تستزيد بعد الضربة الأولى لأنها تموت من ضربة وتعيش من ألف ضربة. زعمهم أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم قال الجاحظ: ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم ولذلك قال شمر بن الحارث الضبي: ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار لا أريد بها مقاما سوى تجليل راحة وعين ... أكالئها مخافة أن تناما أتوا نار فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم زعيم نحسد الأنس الطعاما وذكر أبو زيد عنهم أن رجلاً منهم تزوج السعلاة وأنها كانت عنده زماناً وولدت منه حتى رأت ذات ليلة برقاً على بلاد السعالى فطارت إليهن فقال: رأى برقاً فأوضع فوق بكر ... فلأياً ما أسأل وما أعاما فمن هذا النتاج المشترك وهذا الخلق المركب عندهم بنو السعلاة من بني عمرو ابن يربوع وبلقيس ملكة سباء. وتأولوا قول الشاعر: لاهم إن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا فزعموا أن أباجرهم من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السماء أُنزلوا إلى الأرض كما قيل في هاروت وماروت فجعلوا سهيلاً عشاراً مسنج نجماً وجعلوا الزهرة امرأة بغياً مسخت نجماً وكان اسمها أناهيد. وتقول الهند في الكوكب الذي يسمى عطارد شبيهاً بهذا. ويقول الناس فلان مخدوم يذهبون إلى أنه إذا عزم على الشياطين والأرواح والعمار أجابوه وأطاعوه. فمنهم عبد الله بن هلال الحميري. الذي كان يقال له صديق إبليس. ومنهم كدياس الهندي وصالح الموسوي. وقد كان عبيد يقول أن العامري حريص على إجابة العزيمة ولكن البدن إذا لم يصلح أن يكون هيكلاً لم يستطع دخوله والحيلة في ذلك أن يتبخر باللبان الذكر ويراعي سير المشتري ويغتسل بالماء القراح ويدع الجماع وأكل الزهومات ويتوحش في الفيافي ويكثر دخول الخرابات حتى يرق ويلطف ويصير فيه مشابهة من الجن فإن

عزم عند ذلك فلم يجب فلا يعودن لمثلها فإنه ممن يكون بدنه هيكلاً لها ومتى عاد خبطه فربما جن وربما مات قال فلو كنت ممن يصلح أن يكون لهم هيكلاً لكنت فوق عبد الله بن هلال. قالت الأعراب وربما نزلنا بجمع كثير ورأينا خياماً وقباباً وناساً ثم فقدناهم من ساعتنا والعوام تروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت من الجن ليلة الجن. وقد روي عنه خلاف ذلك. وقال أبو النجم * بحيث تستن مع الجن الغول * فأخرج الجن من الغول الذي باتت به الجن. وهذا من عادتهم أن يخرجوا الشيء من الجملة بعد أن دخل ذلك الشيء في الجملة فيظهر لأمر خاص. وفي بعض الرواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمة وأن خالد بن الوليد حين هدم العزى رمثه بالشرر حتى احترق عامة فخذه حتى عوذه النبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام الجاحظ رحمه الله تعالى وهذه فتنة لم يكن الله تعالى ليمتحن بها الأعراب من العوام قال وما أشك أنه كان للسدنة حيل وألطاف لمكان التكسب. ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهند من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم لعلمت أن الله تعالى قد من على جهلة الناس بالمتكلمين الذين قد نشؤا فيهم: يعني علماء الكلام وفلاسفة الدين عليهم رضوان الله. يتبع

حكم إفرنجية

حكم إفرنجية من لم يكن يكرم الشيخوخة كان كمن يهدم في الصباح البيت الذي يجب عليه أن ينام فيه في المساءِ (كار). لا يحب المرءُ أن يحبه الناس إلا لأنه يحب نفسه وربما ليجعل له سبباً إلى أن يحب أكثر مما يحب (ديدرو) كلما أراد أحمق أن يكون شقياً يصادف شقياً يبحث عن أحمق آخر بومارشيه. المرءُ في حاجة إلى غيره سعيداً كان أو شقياً فعمره قصير إذا لم يعش إلا بنفسه دليل. التقدم هو النقطة الكبرى ولم يصل إليه أحد منا فكلنا أناس سائرون في الطريق كاسباران. ليس من الأمور العظيمة أن يكون عقل المرءِ حاداً إذا لم يكن مستقيماً فليس كمال الساعة الدقاقة بسرعة سيرها بل بانتظام أدواتها. يدفع العمل ثلاث مفاسد: الملل والرذيلة والحاجة. توشك السلطة في البلاد المصابة بالجمود أن تنتقل إلى أيدي المهدارين الساقطين من الناس. أفضل السلطات ما لم يشعر المرءُ بثقل وطأته. ما من جندي مهما كان إلى الضعف والضعة إلا ويحسب قائداً في نظر آخرين. أفضل الأطباء من ركض في البحث عنه زبائنه فلم يجدوه. النار تغلي الماء والماءُ يطفئُ النار فلا تدفئُ ناكر الجميل فإنه يطفئ شعاعك. انتف ريش البط في القرى وريش المنقاضين في المدن. حاذر من إظهار مكانتكم لئلا يكثر معادوك. إني لا أوثر أن أخدع على أن أعيش أبداً في حذر وهو ابن الجبن وأبو المداجاة بوسويه. لو كنت أعلم شيئاً نافعاً لوطني مضراً للجنس الإنساني لأبقيت عليه كما أبقي على جريمة أرتكبها مونتسكيو. أحرى الناس بالاستماع من يستعمل الكلام للتعبير عن الفكر والفكر لبيان الحقيقة والفضيلة فنيلون.

غرائب الغرب

غرائب الغرب الطباعة الباريزية ألمعنا مرات في الفصول السالفة إلى تفنن الباريزيين في الأمور الذوقية والطباعة من جملة فنون الذوق وإن كانت تتوقف على علم وفضل تجربة. وأجور الطبع هنا غالية لغلاء الأسعار وأجور الدور والمنازل فالعامل الجيد لا يرزق أقل من نصف ليرة وأقل عامل لا يرزق أقل من أربعة فرنكات في يومه. ولذلك ترى بعض أرباب المجلات وغيرهم من المؤلفين والطابعين يطبعون مجلاتهم وكتبهم في مطابع الولايات لرخص أجورها وجودة طبعها الذي لا يختلف عن المطابع الباريزية في شيء. ومن جملة المطابع العظمى التي زرتها مطبعة الأمة أي مطبعة الحكومة التي أسسها لويز الثالث عشر سنة 1640 ثم نقلت إلى قصر الكردينال روهان من أجمل القصور الباريزية القديمة المعروف ببيت أساقفة ستراسبورغ. وقد أنشئت لها بناية هائلة في شارع الكنفانسيون لضيق هذا المكان على سعته البالغ سطحها عشرة آلاف متر مربع. تدخل من الباب فترى في فناءِ الدار تمثال غوتنبرغ مخترع الطباعة والمتفضل على الإنسانية معمولاً من البرونز فلا تتمالك من الدعاء له وذكر بيض أياديه على العالم ثم يأخذك الدليل في الوقت الذي تعينه لك من قبل إدارة المطبعة ويطوف بك قاعات مسابك الحروف في ثمانين لغة واللغة العربية في مقدمة لغات الشرق رأيناهم في بعض الغرف كتبوا بيتاً من الشعر العربي ليمرن الأستاذ العملة على تعلم هذه اللغة فيحسنوا تنضيد حروفها بفهم. ثم طاف بنا الدليل قاعات التنضيد والتجليد والطبع والطي فرأينا كل شيء قد جعل في مكانه اللائق به والعملة والعاملات يعملون في مكان واحد كتفاً إلى كتف وقد يتولى الأعمال الشاقة الرجال من دون النساء. وعدد العاملين والعاملات في المطبعة يناهز الألف والخمسمائة وفيها ما يربو على ستين آلة طابعة على آخر طرز منها خمس آلات من المعروف بالروتاتيف وعلى مثلها تطبع جميع الجرائد الكبرى في اغرب اليوم. وتنفق الحكومة على هذه المطبعة نحو تسعة ملايين فرنك مسانهة وفيها تطبع الجريدة الرسمية ومطبوعات الحكومة والنظارات ومناشيرها وفهارسها وأوامرها فالاستعداد فيها تام لكل ما

تطلب الحكومة طبعه وليس في وقتها متسع لطبع مطبوعات الأفراد وناهيك بمطبعة حوت من الأدوات ما يلزمها من سبك الحروف حتى التجليد وناهيك بكثرة أشغال حكومة الجمهورية التي تقع ميزانيتها وحدها في ثلاثة آلاف صفحة كبيرة يطلب طبعها في وقت قصير وهذا لا يتيسر إلا بمطبعة متقنة جداً. ولهذه المطبعة معامل للتصوير الشمسي وطبع الصور والطبع المحفور المجوف والحفر على الخشب والحفر على النقش والحفر الناتئ على النحاس والزنك والطبع الملوّن وطبع الحجر والتصفيح والطبع المنحس وغير ذلك من التفنن في الطباعة. وتسمح المطبعة بإعارة الطابعين بعض الحروف الغريبة من اللغات الأجنبية ولا تطبع من الكتب إلا ما كان بلغة غريبة لا يوجد من حروفها في كل مطبعة وذلك لمحض خدمة المعارف والفنون. هذه جملة ما يقال في مطبعة الأمة ولو جمعت مطابع مصر كلها ما دانتها بالمكانة وكذلك لو جمعت مطابع الأستانة وأضفت إليها مطابع الولايات العثمانية برمتها والمطبعة التي تنفق عليها الحكومة نحو أربعمائة وخمسين ألف ليرة في السنة يستحيل على حكومة كالحكومة العثمانية والمصرية أن تقوم بمثلها وهي لا تنفق على المعارف كلها نحو هذا القدر من المال أو أكثر منه بقليل فتأمل. مدرسة فرنسا من المعاهد التي استغرقت شطراً كبيراً من وقتي في باريز دروس مدرسة فرنسا (كوليج دي فرانس) لسهولة التلقي فيها في كل علم يخطر في البال ولأن هذه المدرسة ذكرتني بمدارس الإسلام أيام حضارتنا وقد جعلوا العلم مباحاً لكل طالب يلقنونه إياه بلا عوض. في شارع المدارس بالقرب من كلية السوربون قام بناءٌ عظيم أسسه فرنسيس الأول ملك فرنسا حوالي سنة 1530 وجعل فيه درسين الأول لتعلم اللغة الرومية والثاني للعبرانية وسمى المدرسة مدرسة الملك فرأت الكلية إذ ذاك أن قد استهين بها فأوعزت إلى مدرسة اللاهوت أن تتهم مدرسي مدرسة الملك بأنهما يدعوان إلى الزندقة فحال الملك دون صدور الحكم عليهما وأضاف إلى المدرسة درساً في الفصاحة اللاتينية ليخلص وجماعته من تهمة الإلحاد وما زال عدد الدروس يزيد على عهد الملوك حتى أضاف إليها هنري الثالث درس العربية ونابليون الأول درس التركية ولم يبرح بناؤها ودروسها عرضة للقلب والإبدال

حتى عهد الجمهورية الثالثة. ولقد أصبحت هذه السنة الدروس التي تلقى على الناس مجاناً 49 درساً يصح أن يقال أنها مجموع علوم البشر يتولى تدريسها أعظم أساتذة هذه البلاد وعلمائها ممن اشتهروا بفن أو علم أو لغة وصرفوا في البحث فيه شطراً مهماً من حياتهم ولم أر في هذه المدرسة أستاذاً نقل سنه عن ستين إلا بعض المعاونين ممن يتجاوزون الأربعين وينتخبهم المجمع العلمي أو المجامع العلمية الخمسة وأساتذة المدرسة ويقبض الأستاذ عشرة آلاف فرنك في السنة ولا تتجاوز مدة الدروس ستة أشهر يتلو في خلالها درسين في كل أسبوع فقط. أما العلوم التي تلقى على جمهور المستمعين فهي (1) علم الأثقال التحليلي والسماوي (2) العلوم الرياضية (3) علم الطبيعة والرياضة (4) الطبيعة العامة والتجريبية (5) الكيمياء المعدنية (6) الكيمياء العضوية (7) الطب (8) علم الحياة العامة (9) تاريخ الأجسام الغير العضوية الطبيعي (10) علم تكوين الجنين (11) التشريح العام (12) علم النفس التجريبي (13) تاريخ العلوم العام (14) تاريخ التشريع المقابل (15) الاقتصاد السياسي (16) الجغرافيا والتاريخ والإحصاء الاقتصادي (17) تاريخ العمل (18) جغرافية فرنسا التاريخية (19) تاريخ الأديان (20) الفلسفة الاجتماعية (21) علم الاجتماع الإسلامي (22) علم الجمال وتاريخ الفنون (23) علم الكتابات والعاديات الرومانية (24) الكتابات والعاديات اليونانية (25) الكتابات والعاديات السامية (26) الآثار المصرية وأصول لغاتها (27) الآثار الآشورية وأصول لغاتها (28) الآداب العبرانية والكلدانية والسريانية وأصول لغاتها (29) الآداب العربية واللغة العربية (30) النقود القديمة ونقود القرون الوسطى (31) آداب اللغات الصينية والتترية والمنشوية ولغاتها (32) آداب اللغة السنسكريتية (33) آداب اللغة اليونانية (34) فقه اللغة اليونانية (35) تاريخ آداب اللاتينية (36) التاريخ الوطني والعاديات الوطنية (37) الفلسفة الحديثة (38) اللغة الفرنسوية وآدابها في القرون الوسطى (39) اللغة الفرنسوية الحديثة وآدابها (40) أصول اللغات الجرمانية وآدابها (41) لغات أوروبا الجنوبية وآدابها (42) اللغات والآداب السلتية (43) اللغة السلافية وآدابها (44) علم النحو المقابل (45) العاديات الأميركية (46) الرياضيات (47) تاريخ فن الموسيقى (48) التاريخ العام والطريقة التاريخية (49) أصول اللغات الهندية

والصينية وتاريخها. هذه العلوم التي تدرس في مدرسة فرنسا ولا يستغرق الدرس منها ساعة يتلو في خلالها الأستاذ زبدة علمه وبحثه ولا يكثر المستمعون إلا في بعض الدروس التي رزق أستاذها فضل بيان وطلاقة لسان وأكثر الحضور غرباء أي غير فرنسويين وفيهم كثير من الفتيات طالبات العلم ممن قصدن فرنسا من ألمانيا وإنكلترا وروسيا والنمسا وإيطاليا وبلغاريا ورومانيا والصرب والسويد وأميركا ليغترفن من مدارس باريز ويحكمن لغتها الجميلة. فكأن أهل هذه العاصمة زهدن في حضور هذه الدروس المجانية وأزهد الناس في الرجل أهله وجيرانه. وإن دروساً يعد من جملة أساتذتها لفاسور وبول لوروا بوليو الاقتصاديين وماسبرو وغانو الأثريين وجوليان ومونو المؤرخين وبرجسون وريبو الفيلسوفين وغيرهم من الأئمة الأعلام لحرية بأن يستفيد منها كل طالب ويغترف من درر بحورها عاشق العلم. وإن هذا المعهد ليولي فرنسا شرفاً ليس وراءه غاية ويدل على تفانيها في نشر المعارف والأخذ بأيدي القائمين عليها وينادي بلسان الحال والمقال على توالي العصور والأجيال أن فرنسا إذا هرمت في سياستها وأخلاقها فهي على الدهر فتية في جمال علمها وجدة حكمتها. التجارة الباريزية لم يكتف الفرنسويون بل الغربيون بما بلغوه من أسباب الراحة والرفاهية بل تراهم يعملون ليلهم ونهارهم لئلا يسبق بلد بلداً آخر أو مملكة مملكة أخرى كأن المنافسة التي هي من أعظم عوامل الارتقاء قد تحسمت في صدر الكبير والصغير من الإفرنج فكان من آثارها ما يبهرنا من تلك الحضارة الراقية والسعادة الشاملة. رأيت روح الاجتماع مستحكمة في أعمال الأوروبيين فلا يكاد يأتي زمن قليل حتى تصبح جميع مشاريعهم وأعمالهم شركات وجمعيات ليخفى عمل الفرد ويظهر عمل الجماعة ويتراجع ضعف الواحد أمام قوة المجموع فقد ظهرت لتلك الأمم نتائج الاشتراك جماعة ظهوراً لا ينكره إلا من يكابر حسه ويغش نفسه فأنشأ من كانوا إلى الانفراد في متاجرهم ينضمون بعضهم إلى بعض ومن عاشوا بالوحدة يربحون ويخسرون فلا يدري بهم أحد عدلوا عن سالف طريقتهم واقتدى المتأخر بالمتقدم أو العناصر اللاتينية والسلافية بالعناصر الإنكليزية السكسونية.

مثال ذلك مدينة باريز مهد الحضارة اللاتينية فإنك تجد معظم مشاريعها ومتاجرها ومصانعها لشركات ومشاريع الأفراد ومتاجرهم ضعيفة ضئيلة لا تكاد تحيا حتى تموت وكلها آيلة طوعاً أو كرهاً إلى الاندماج في سلك الاشتراك مع الجماعة. دخلت كثيراً من مخازن باريز فكنت أشهد على قلة إلمامي بفن التجارة روح الجماعة مرفرفة عليها وتعدد القوى زائدة في نمائها وحسن الذوق وسلامة الإبداع تتخلل أرجاءها وتزيد بهاءها. باريز أعظم بلد تصرف فيه السوق المالية والتجارية والصناعية من فرنسا ورؤوس أموالها مقدمة جميع متاجرها ولا تفوقها في ذلك إلا لندر. وقد بلغ عدد ما في باريز من البيوت المالية والمصارف وشركات الضمان فقط زهاء ألفي محل توشك أن تكون كلها لشركات وأعظم متاجر باريز بل فرنسا تجارة الأطعمة المحضرة والأمتعة والثياب والأزياء وكلها مهمة جداً لا بكثرة عددها بل بمكانتها وفخامتها وانتظام أعمالها. زرت بعض هذه المخازن من مثل لابل جارندنيير والرنتان والبون مارشه واللوفر ولافييت ودوفاييل وكل واحد منها يبتاع بما حوى قطراً واسعاً من أقطار الشرق ويحتاج وصفه إلى الكلام ساعات على شرط أن يكون المتكلم عارفاً بالتجارة وما يتصرف أو يتوقف عليها وتتوقف عليه وكل مخزن يعد مستخدموه وموظفوه بالمئات ففي مخزن دوفايل وهولفرش الدور والقصور وما يلزم لها من الأثاث والخرثي والرياش والأواني والسرر والصناديق والمقاعد والمتكآت والكراسي وأدوات الطبخ وكل ما يتصرف تحت أنواع الزينة والتبرج والبذخ والرفاهية ما يأخذ بمجامع القلب ويعد من أغرب غرائب الغرب. ولا يقدر المرء أن يطوف هذا المخزن في أقل من ثلاث ساعات إذا أحب أن يلقي نظرة واحدة على ما فيه من التحف والأمتعة الثمينة وهو قصر فخيم جداً لم أر أجمل من نقوشه البديعة وبنائه العظيم سوى متحف اللوفر ومتحف فرسال ودار المجلس البلدي الباريزي. وفي مخزن دوفايل محل للتمثيل ومحل للموسيقى ومحل لألعاب السينما توغراف يختلف إليها الزائرون بأجور معتدلة جداً والغرض منها أن يمروا ببعض مخازن ذاك المحل الكبير فيكون مرورهم بها وإلقاء أنظارهم عليها بمثابة إعلان عما فيها من الأعلاق النفيسة وببركة الإعلان يشتري من لم يكن تحدثه نفسه بالشراء. ومن الغريب أن هذا المكان الذي لا يشبهه في الفخامة إلا أرقى قصور الملوك والأمم كما

آخذ الآن في توسعة مخازنه لأنها ضاقت به على سعتها وما أدري ما هو رأس ماله ولا مقدار أرباحه وعدد مستخدميه وغاية ما رأيت أن مصرفه أشبه بمصرف كبير بل هو في سعته وكثرة مستخدميه أشبه بمصرف الكريدي ليونيه في القاهرة لا في باريز فإنه هناك العجب العجاب بعينه. وقرأت في إحصاء أخيراً أن مخزن لافاييت أحب أن يزيد رأس ماله فقرر مساهموه أن يزيدوه اثنين وعشرين مليوناً ونصف مليون من الفرنكات فإذا كان مخزن واحد زاد رأس ماله في جلسة نحو مليون ليرة عثمانية فكم يكون أصل رأس المال. ومما هو حري بالنظر في المسائل الاقتصادية أن أهل باريز على شدة كرههم للألمان يبتاعون في بلدهم البضائع الألمانية لرخص أسعارها والتفنن في إبداعها حتى كادت بضائع الألمان تأتي على بضائع فرنسا مع جودة هذه ومتانتها وأصبحت بذلك معظم البيوت التجارية لأناس أو لشركات من الألمان وغيرهم ومثل ذلك قل على ما قرأته في إحدى المجلات عن تجارة لندرا أو تجارة نيويورك فإن القسم المهم منها بيد الألمان يصرفون على الإنكليز والأميركان سلعهم وحكومة إنكلترا وأميركا مع شدة حرصهما على مصلحة قومهما التجارية لم تستطيعا بالتعاريف الجمركية ولا بغيرها أنت تقيما سداً منيعاً دون تسرب البضائع الألمانية إليهم. ولكن ألمانيا أو العنصر الجرماني ومن لف لفه تحارب هذه الحرب التجارية بسيف العلم والمعارف وسدود الدول لا تقوى على صد هجماتها المعقولة. ذكر الإحصائيون أن مدارس ألمانيا تخرج كل سنة أربعين ألف طالب وبيدهم الشهادات التجارية فأين يذهب هؤلاء الرجال بعد؟ وهل لهم إلا أن يصرفوا متاجرهم في مشرق الشمس ومطلعها بالطرق الاقتصادية المدهشة. فكم رجل تخرج من البلاد المصرية العثمانية يا ترى حتى الآن في المعارف التجارية وكم طالب أتقن اللغة الألمانية منا حتى أصبح يكتب فيها ويترجم منها وإليها كما يكتب الفرنسوية أو الإنكليزية ويترجم بها منها؟ قال لي أحد علماء الألمان أتدري بأي شيء غلبنا الفرنسيس في حرب السبعين قلت لا أعلم قال غلبناهم لأننا كنا عارفين بما عندهم أما هم فلم يكونوا يعرفون ما عندنا وأنا أقول أن اقتصارنا معاشر العثمانيين والمصريين والسوريين خاصة على تعلم اللغة الفرنسوية في

الأكثر هو من الاحتكار الضار فيجب أن نعرف أو بعضنا لغة أمة كبرى تريد أن تحارب العالم حرباً اقتصادية حتى لا يكون مثلنا مثل الفرنسيس مع جيرانهم الألمان قبل حرب السبعين جهلوا ما عندهم فخسروا في ماديتهم ومعنوياتهم. نعم نتوفر على الأخذ من أوروبا كل ما تمتاز به مملكة من ممالكها فنحول وجهتنا بعد الآن إلى جرمانيا لنتعلم علومها واقتصادها ومتاجرها وبريتها ونأخذ عن فرنسا الزراعة والحقوق وعن إنكلترا السياسة والعلوم والبحرية وعن إيطاليا الصنائع النفيسة ونجعل للغة الألمانية والإيطالية حظاً من عنايتنا حتى لا نكون حكرة مضرة لحكومة خاصة من حكومات الغرب فنحن كما نريد في السياسة أن نعامل الدول كلهن بوئام يجب أن نأخذ عن كل دولة راقية أحسن ما عندها حتى لا نكون من الجامدين على أمة بعينها والجامدون في مسائل الدين كالجامدين في مسائل الدنيا لا يخلو حالهم من ضرر على المجتمع. الإعلان أساس التجارة تقدم في الفصل السالف أن البيوت التجارية في باريز تبيع ببركة الإعلان عن نفسها وهنا مجال لأن أفضل ذاك الكلام المجمل فأقول: كل من زار مدينة أوروبية أو أميركية من أبناء هذا الشرق الأقرب يأخذه العجب من وفرة الإعلانات وتفننهم في نشرها والفرنسيس في الإعلانات مقلدون لا مجتهدون قلدوا الأميركان والإنكليز وهؤلاء ينفقون عليها نفقات لا تكاد تصدق فقد ذكروا أن معمل الموازين فيربانك وشركاؤه الذي كان ينفق على الإعلانات نحو ثلاثة آلاف فرنك مسانهة أخذ اليوم ينفق نحو ثلاثة ملايين ونصف فرنك وقد كان خصص أحد معامل الصابون ثلاثين ألف ريال للإعلان عن مصنوعاته وهو اليوم يصرف ألف ريال في اليوم وتخصص المعامل الكبرى التي تبيع بالمفرق في مدينة نيويورك وحدها زهاء أربعة ملايين ريال في السنة لنشر إعلاناتهم وقد أنفق أحد أصحاب المخازن لإرسال طبعة واحدة من الإعلانات بطريق البريد 640 ألف ريال وليس من محل في أميركا إلا ويصرف خمسة في المئة من أرباحه على الإعلانات وقد أنفق أحدهم 750 ألف ريال للإعلان عن موسى له فباع سنة ملايين موسى وكذلك فعل توما بيشام بحبوبه فصرف للإعلان عنها مليوني جنيه. فاشتهار اسم المعمل أو صاحبه من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي وتردداه في أفواه

أرقى الأمم وأوحشها موقوف على كثرة التفنن في الإعلان عنه والبذل في هذا السبيل عن سعة حتى قال كارنجي أعظم أغنياء الأميركان: إذا أردت أن تبيع قبعة بريال فإنك تسطيع أن تبيعها بريالين إذا وضعت اسمك عليها وذلك لأنك تفهم الناس بأن لاسمك بعض القيمة. وذكروا أن شركة ولن سي الأميركية وهي شركة معامل أصواف مؤلفة من 27 معملاً رأس مالها 690 مليون ريال وكانت مجموع أرباحها سنة 1902 187. 00. 000 على حين بلغ مجموع المنسوجات الصوفية المصنوعة في الولايات المتحدة كلها ملياراً و 485 مليون ريال فبيدها جزءٌ من ثمانية أجزاء من عمل الصوف ذكروا أنها توصلت بفضل التفنن في الإعلان عن نفسها إلى أن كادت جزءاً عظيماً آخر من أرباح الشركات الأخرى إن لم تكن التهمتها حتى الآن. والطرق إلى ذلك مختلفة فمن ضروب الإعلانات الإعلان في الجرائد والمجلات على اختلاف أنواعها ووضع صفائح منحسة في الصفحة السابعة أو الثامنة أي الأخيرة وإعلانات في شبك ودس الإعلانات في أخبار الجرائد وبين أخبار الرياضات والسباق ودور التمثيل والأزياء وإدماجها في المقالات وتعليقها على حيطان الدور وفي شوارع المدن والقرى وعلى طول السكك الحديدية وفي أماكن النزهة والمناظر التي يسرح فيها النظر وفي عجلات الحوافل والترامواي والسكك الحديدية تحت الأرض وفوق الأرض وستور دور التمثيل والقصور وجميع الأماكن العمومية حتى المراحيض وترسم الإعلانات على القرطاس الذي يضعه الكاتب تحت يده وعلى المقطع والسكاكين وعلبة عيدان الكبريت والدواة والبارموتر وكتب التقاويم وورق النشاف وبطاقات البريد وتجعل من الورق الملون والمقوى والزجاج والخزف والخشب والمعدن وغيرها. وتبدو في المساء بألوان مختلفة مقطعة بادية بالكهرباء وغيرها مما يطول ذكره. ومن غريب تفننهم في الإعلانات أن مخزن أدوات نحاسية وحديدية في ليفربول أخذ يعلن في جرائدها بأنه يقدم مفتاحاً بلا ثمن لكل من يضيع مفتاح بابه أو خزانته فبهذه الواسطة كان يأتيه المضيع فينصح له المحل بأن يبتاع قفلاً كاملاً ويغير القفل القديم حتى لا يقع المفتاح في يد لص وربما هانت عليه السرقة فبعض الناس يبتاعون وبعضهم يكتفون بأخذ مفتاح بلا ثمن ولكن النصح يفعل في أكثرهم. واخترع أحد البدالين من بائعي المأكولات

المحضرة في لندرا طريقة للإعلان عن محله بأن اغتنم فرصة حصور جوق تمثيل فابتاع مئات من الكراسي لمستخدمي محله أدخلهم على نفقته فتحدث القوم بذلك وذكرته الجرائد فحصل للمحل بالإعلان عن نفسه. ومن غريب تفننهم أن أحد مخازن القبعات في بلتيمور في أميركا أعلن في الجرائد أنه يريد أن يعرف أحد النساء المحكوم عليهن بالقتل فاهتدى إليها وأعطاها مئة ريال على أن تقول قبل ضرب عنقها هذه الجملة كل ما أستطيع أن أقوله الآن هو أن محل المستر بلانك يعمل أحسن القبعات بريالين ثم قطع عنقها واغتنى صاحب المعمل. والأمثلة على ذلك كثيرة ويكفي إلقاء النظر على أي حائط أو مجلة أو جريدة لنعرف مبلغ تفنن الغربيين في الإعلان والأساليب في الكتابة التي يختارونها والصور المنوعة ومنها المضحك وغيرها الجدي وبعضها لطيف وآخر بشع ومنها السياسي والأدبي والعلمي وقد جعل الإنكليز السكسونيون للإعلانات قواعد حتى صارت علماً من العلوم لا يبرز فيها إلا من حسن ذوقه وعرف النقش والرسم والتصوير والطباعة وكان ملماً بالاقتصاد السياسي وعلم النفس ومحيطاً بعالم المالية والصناعة والتجارة والجرائد والمجلات وكان ذا هبة بالتفنن والأدب والخطابة حاسباً كاتباً مقنعاً يعرف التفنن في المسائل الحاضرة أو يحسن علم الحال. ولا تعيش معظم الجرائد والمجلات الكبرى إلا بأجور إعلاناتها حتى أن أجرة صفحة واحدة مرة واحدة في جريدة لادي هوم جورنال تؤجر بألف جنيه. ويؤخذ من إحصاء صدر سنة 1900 أن في الولايات المتحدة 18226 جريدة ومجلة بلغ مجموع ما يطبع من أعدادها من كل نسخة 114. 229. 334 ومجموع ما تطبعه في السنة 8. 168. 148. 749 وبلغ مجموع إيرادها تلك السنة 878. 948. 250 فرنكاً منها 479. 305. 635 فرنكاً من أجور الإعلانات أي 54. 5 في المئة من مجموع دخلها وتطبع بعض الجرائد نسخاً خاصة بنشر الإعلانات فقط وتوزعها على مشتركيها ومن الجرائد ما لا يطبع غير الإعلانات وتوزع مجاناً. ويصرف أحد بيوت الثياب في فيلادلفيا نصف مليون فرنك في السنة أجرة صفحة واحدة من إحدى الجرائد الكبرى في تلك المدينة اسمها لروكورد ويصرف مخزن آخر يريد منافسته مليون فرنك على أربع جرائد. ومن كتاب الإعلانات

من يرزق ألف ليرة في السنة. ومن الإعلان الغريب أن بعض التجار لهم بيوت ولا مخازن بل هم يطبعون إعلانات وينشرونها في قوائم خاصة وعلى صفحات الصحف والكتب والرسائل فيرسل الطالبون بالبريد يطلبون منهم ما يشاؤن من بضائع ومأكولات وهم يرسلونها إليهم بالبريد أيضاً وهذه الطريقة اخترعت في الولايات المتحدة لأن ثلاثة أرباع سكانها يعيشون في القرى والمزارع بعيدين عن مراكز التجارة وأشغالهم لا تسمح لهم بالاختلاف إلى المدن لابتياع ما يشاؤن وبهذه الواسطة يوفرون عليهم عناء التعب والمساومة ويصلهم ما يشتهون وهم في أعمالهم وناهيك بما في هذه الطريقة من تبادل الثقة بين التاجر والشاري وفي شيكاغو وحدها تبيع مثل هذه المحال التجارية في السنة بما قيمته ملياران وخمسمائة مليون فرنك وأن ثلاثة محال منها لتأخذ وحدها كل يوم خمسة وعشرين ألف رسالة في طلب ما يلزم أصحابها. وقد حسبوا أن عشرة ملايين أي ثمن أهالي الولايات المتحدة يبتاعون حاجياتهم على هذه الكيفية. وأن لأحد هذه المحال التجارية في شيكاغو زبناً يبلغون مليوني نسمة يتناول منهم في السنة أربعة ملايين رسالة وهذه الرسائل لا تفتح واحدة واحدة بل تجعل كل ستين منها في آلة تفتح كلها بلحظة ثم ترسل إلى مئات من البنات تجعل كل قسم مع قسمه وكل طلب مع ما يضارعه وتجعل في لوالب كهربائية لا تقل عن خمسة عشر ألف لولب وترسل في أسرع ما يمكن إلى البيوت التي تقدم للمحل طلباته وهي لا تقل عن 77 ألف نوع فتأتي كلها على جناح البرق بحيث يكون العمل ما أمكن مستغنياً عن الأيدي الكثيرة على أن محلاً واحداً من هذه المحال التجارية التي تبيع بالمراسلة عنده من المستخدمين 6200 مستخدم ولم يكن صاحبه قبل ربع قرن يملك ليرة واحدة وثروته تعد اليوم بملايين الليرات والناس يطلبون إلى محله وإلى غيره من المحال التي على شاكلته كل ما يخطر ببالهم ومنهم من يطلبون أو يطلبن الزواج بواسطته. وعلى الجملة فإنك لا ترى في ديار الغرب محلاً تجارياً أو معملاً أو مشتغلاً بالفنون الجميلة بل ولا عالماً ولا كاتباً ولا صانعاً إلا وينفق جزءاً من ماله على الإعلانات ليربح المئة مئات وللإعلان يد طولى في عامة الأعمال الصناعية والزراعية والعلمية ولولاها ما

رأينا المخازن الكبرى والجرائد الكبرى فعسى أن يقتدي الشرق بأخيه الغرب في هذا السبيل فيعلن خصوصاً عن أصقاعه الجميلة ليجذب السياح إليها ويربح منهم مئات الألوف من الليرات كما فعلت سويسرا واغتنت بعد فقرها بكثرة تشويق العالم إلى زيارة ربوعها وكما فعلت فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها من أصقاع أوروبا وأميركا مثل مدينة دالاس في ولاية التكساس في الولايات المتحدة فإن أهلها كانوا سنة 1880 عشرة آلاف نسمة فأزمع بعضهم أن يؤسسوا نادياً سموه نادي المئة والخمسين ألفاً أي أن مدينتهم ستكون سنة 1910 مئة وخمسين ألف نسمة وما برحوا يتذرعون إلى ذلك بكل حيلة حتى بلغ عددهم سنة 1904 83 ألفاً وتوصلوا إلى أن قال الرئيس روزفلت في خطاب له أن شمالي التكساس هو حديقة الرب ومدينة دالاس تطالب ويحق لها ذلك أن تكون نقطة دائرة هذه الحديقة. نعم إن الإعلان أساس من أسس الثروة اليوم بل هو سبب من الأسباب المعقولة المشروعة وأثره في الإعلان عن الأشخاص ظاهر وكم من نابه اشتهر يتحدث الناس في أمره ومن آخر خمل ذكره لأنه لم يعرف كيف يتوصل إلى الشهرة فعاش ومات ولم يدر به أحد فاللهم اجعل الشرقيين من النابهين بحق لا الخاملين المجهولين. دور التمثيل والأنس والاجتماع في باريز إن ما شهدته من التمثيل العربي المنحط جداً في الديار المصرية والشامية زهدني في التمثيل على أنواعه فصرت لا أختلف إلى دار تمثيل إلا متكارهاً وذلك في المدة الطويلة لقلة غنائه وانقطاع الرغبة فيه وأعلل ذلك بأن التمثيل لم يعهده العرب أيام حضارتهم بل لم يكن لهم ما يشبهه في قرطبة ولا في بغداد ولا في دمشق ولا في القاهرة أيام عزتها ولذلك قلما مال أبناء العرب إليه ميل الغربيين له وقدروا مزاياه حق قدرها. ولما حللت باريز كان من أوائل المسائل التي توخيت دراستها حالة التمثيل في الغرب والسر في توفر أهله عليه وخدمتهم له كما يخدم الشعر والموسيقى والخطابة بل جعلوا هذه الفنون خادمة للتمثيل وأصبح عندهم من ضروريات الحياة كالطعام والشراب لا حياة بدونهما وكذلك التمثيل لا حياة روحية بدون الاختلاف إلى دوره ولو مرة في الشهر إن لم يكن مرة أو مرتين في الأسبوع. والتمثيل في باريز من أعظم ملاهيها وقل أن تجتمع لعاصمة ما اجتمع لها من ضروبه

ولشدة عناية الحكومة به تنقل من مالها كل سنة أربعة دور تمثيل مبلغاً تستعين به على تحسين حالها فتمنح الأوبرا ثمانمائة ألف فرنك والتياترو الفرنسوية 240 ألف فرنك مع الدار وتعطي الأوبرا كوميك 300 ألف وتعطي الأودبون 100 ألف فرنك وفي باريز 53 دار تمثيل كبرى ذهبت إلى أشهرها مثل الأوبرا والتياترو الفرنسوية والأوديون والشاتليه وساره برنارد والفودفيل وغيرها. فكنت كلما أَلفت اصطلاحاتهم في أحاديثهم وحركاتهم وسكناتهم ومظاهرهم ورقصهم وغناهم تبين لي سر تغالي الغربيين بالتمثيل وأنه حقيقة مدرسة تهذيب وفضيلة عملية ودار سلوى وارتياح أرواح فلا عجب إذا عدوه من أكبر العوامل في نهوضهم وتثقيف مجتمعاتهم وشغفوا بفصوله ولا شغف الشرقي بفضوله وحرص الفرد منهم على ساعاته حرصه على عزيز أوقاته. أما دور التمثيل فهي قصور فخمة هندسوها على ضخامتها بحيث لا يحرم الحضور على اختلاف درجاتهم من سماع ما يقال على مسارحها ورؤية ما يعرض فيها من المشاهد والمناظر. وكفى بأن دار الأوبرا كلف بناؤها ثلاثين مليون فرنك وذرعها أحد عشر ألف متر. وأقل دار تمثيل تساوي عشرات الألوف وبعضها مئات الألوف من الليرات وإن مما يبهج جوق الموسيقى في الأوبرا وقد حزرته بمائتي شخص وجوق الممثلات والراقصات والممثلين على المسرح وما أظن جمهرته تقل عن خمسمائة. وإذا عرفت أن الأوبرا تدفع لأحد ممثليها 2200 فرنك كل ليلة أي 128 ألفاً عن 64 ليلة في السنة وتدفع لغيره من الممثلين رواتب تختلف بين 85 ألفاً إلى 30 ألفاً. وعن كل ليلة يغني فيها كاروزو عشرة آلاف فرنك وتتناول بعض الممثلات أربعة آلاف فرنك في الشهر جاز لنا أن نستقل إعانة الحكومة للأوبرا ونحكم على كثرة دخلها وخرجها. ولقد كنت أتمثل نفسي في حضرة أعظم فصحاء الأرض وعلماء الاجتماع والنفس ساعة تشتهي إلى مسمعي أصوات الممثلين والممثلات وتنفتق ألسنتهم بكلمات الحكمة والأدب ويشخصون الفضيلة في أبهى مظاهرها كأنك تراها فلا أتمالك من توفير الممثلين والممثلات وإكبار فائدة التمثيل. المدارس لتنشئة الصغار في وقت معين من السن ودور التمثيل مدارس دائمة للصغار والكبار تلقنهم من أيسر السبل حكمة وآداباً وتلقنهم عبرة

مفيدة وفكاهة رشيدة. حضرت رواية مثل الأوراق في الاوديون ورواية الباريكاد لبول بورجه في الفودفيل ورواية جان دارك في تياترو ساره برنارد ورواية الجندي الصغير في الشاتليه فكان يخيل لي وأنا أسمع وأرى أن الأمر واقعي وأن هذه المشاهد حدثت الآن وقد اجتمع جمال الصوت إلى جمال الوجوه إلى جمال الكلام إلى جمال الهندام إلى جمال المكان إلى جمال النظار وأقل هذا مما يستهوي النفس فلا تدري أي شيء ترى ولا أي فائدة تعي. وما أظن أكبر متنطع لو حضر التمثيل في مثل هذه الدور العظمى يستطيع أن يعيب شيئاً مما يشهد. وأي عين لا تقع على ساره برنارد أشهر ممثلة فرنسوية وهي في الخامسة والستين من عمرها تمثل دور جان دارك وهي في التاسعة عشرة فتظهر كأنها هي بصوتها وحركتها ونضرة وجهها ولا ترتاح وتعجب وأي أذن تسمع الحكمة في رواية الباريكاد يقولها أحد الممثلين بصوت رخيم إن الطبقات الاجتماعية كالأمم يضيع حقها في حفظ ما لم تقو على الدفاع عنه. ولا يفكر طويلاً. ولقد رأيت في دور التمثيل حتى ما يوصم منها بأن فيه شيئاً من الخلاعة مثل مولن روج أن الأدب يغلب على السامعين والناظرين. وإن قاعات الاستراحة بين الفصول ليسير فيها الخرد العين كاسيات عاريات معطرات متبرجات ولا ترى إلا من يغض الطرف حياءً وأدباً. والغالب أن النساء يلبسن لليالي التمثيل ثيابهن وأزيائهن كأنهن في بيوتهن وبين صويحباتهن وأصحابهن وقلما تراهن في الشوارع إلا مكتسيات من اللباس بما خف محمله وقلّ ثمنه. أما سائر أماكن الطرب كمحال السماع والموسيقى والمراقص العامة فكثيرة جداً في باريز وأحسنها ما كان على جوانب الجواد العظمى أو بالقرب منها ويكون فيها المرءُ بحسب مبلغه من التهذيب. وموسيقى الإفرنج وعزفهم وزفنهم يستحسنها الشرقي مع طول الألفة لها وأنسة ومن لم يعرف عندهم ولو أحد هذه الأنواع الثلاثة استغربوا أمره وعدوه محروماً من لذائذ الدنيا ساقطاً من رسوم الهيئة الاجتماعية. ولكل قوم عاداته وأخلاقه يحرص عليها كثيراً ولا يرى فيها حرجاً ولا نكيراً سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

من باريز إلى الأستانة قضيت شهرين اثنين في هذه العاصمة طفت المعاهد ورأيت المشاهد وعرفت العامل الجاهد وتبينت العالم المجاهد وطعمت الجشب والشهي من الطعام ووصلت السير بالسرى وعمل الليل بعمل النهار ورأيت العملة في حاناتهم ومطاعمهم وواكلت الأغنياء في مقاصفهم وشاركتهم في نعيمهم واختلطت بطبقاتهم أسمع عباراتهم ولم أستنكف من غشيان كل مكان أرجع منه بفائدة مستطلعاً طلع خلق جارياً من الاختبار فيه على عرق فكانت عيني تملّ النظر وأُذني تسأَم السماع وذهني يتأفف من التفكر وقلبي يتخوف كثرة الوعي. ومع ما صرفته من الوقت والقوة خرجت من هذه المدينة وفي النفس منها أشياء لم أتمكن من درس معالمها ومجاهلها من هذه أماكن الرياضات البدنية واللعب على اختلاف ضروبه وزيارة مجاري العاصمة تحت الأرض وسراديبها والاعتبار بقبورها ومدافنها وهي مزينة كقصور الأحياء ومقطعة إلى طرق ومناطق. وفي يوم بدأ نهر السين بفيضانه المشؤوم الذي طغى على السدود والسكور فدكها وبثقها وأودى بالأموال الجسيمة من ناطق وصامت ركبت القطار وقت الظهر إلى الحدود الألمانية فكان نهر الموز والمارن هائجين حتى طغت مياههما على السهول والأودية ولم يصل القطار إلى نانسي على الحدود ويبلغ ستراسبورغ في أرض الألمان وقاعدة الألزاس إلا وقد انقلبت تلك الأمطار ثلوجاً وذاك الهدير سكوناً ولون تلك المياه الكدرة بلون الثلج الأبيض الناصع وبلغنا مونيخ عاصمة مملكة بافيرا الألمانية صباح الغد فوقف القطار زهاء ساعتين فرأيت أن لا أضيع الفرصة فأخذت أطوف المدينة ولكن كانت الثلوج غمرتها فلم أر منها إلا واجهات الأبنية ورؤوسها وهنا تمثل لي النقص وأحسستن بالعجز وشعرت بالغربة وأنا ألتفت عن يميني وشمالي فلا أسمع إلا الألمانية التي لا أعرف منها أكثر مما أعرف من الكردية وقد تركت بعض رفاق لي في القطار ومنهم بولونيون يتكلمون بالإفرنسية تطيب نفسي بمحادثتهم ومفاكهتهم حتى إذا عدت آخذ مكاني من القطار اجتاز بنا بعد قليل في أرض النمسا حتى وصلنا مساءَ اليوم الثاني إلى فيينا عاصمة النمسا. وعلى ذكر اللغة لا بأس بأن أقول أنني يوم دخلت فرنسا لم أشهد وحشة ولم أشعر بغربة لمعرفتي بلسان أهلها واطلاعي على تاريخهم وعاداتهم فكنت كأنني داخل ولاية من

الولايات العثمانية التركية أو قطراً من الأقطار العربية في غربي آسيا أو شمالي إفريقية ولما انتقلت من ستراسبورغ شعرت بتغير العادات واللهجات وأيقنت بأن الغريب الذي يزور بلداً لا يعرف لغة أهله كالأصم والأعمى وهذا ما عاقني في الأكثر عن زيارة إنكلترا وألمانيا خلال هذه الرحلة مع شغفي بحضارة هاتين الأمتين لأنني أستصعب أن أرى غيري بعيون غير عيني وآذان غير أذنيّ. قضيت في فيينا يومين استرحت فيهما من وعثاء السفر واطلعت على بعض معاهدها إلا أن الثلوج التي بلغت نحو ذراع عاقتني عن إتمام الزيارة فركبت ثالث يوم بعد الظهر القطار قاصداً بلاد المجر فاجتزنا عاصمتها بودابست في الليل ووقف القطار فيها ساعة لم أتمكن في خلالها حتى ولا من رؤية المحطة وعدنا إلى قطارنا حتى تخطينا من الغد أرض الإمبراطورية إلى أرض البلقان ولم يكد القطار يجتاز نهر الطونة حتى تمثل أمام خيالي تاريخ هذه البلاد وبينما كنت أذكر وقائع العثمانيين في سلسترا والبروج المعروفة ببرج العرب وأذكر تلك الدماء العزيزة التي أهرقت على ضفاف الطونة لفتح هذه البلاد ركبت معنا من أول محطة في بلاد الصرب فتاتان صربيتان في الخامسة عشرة من عمرهما عليهما سيماء الحشمة والأدب فسألت الرفيقة رفيقتها أن تغني شيئاً فالتفتت إلينا وكان معنا رفيق بلغاري يعرف التركية فاستأذن في ذلك فقلت له لا بأس فاندفعت الفتاة تغني بنغمة على إيقاع غريب فاضت له نفسي بالدموع خصوصاً وقد جاءها الغناء وهي تفكر فيما أصابنا في هذه الديار من الشقاء. فعجب رفيقي البلغاري وقال لعلك فهمت هذا النشيد الوطني الصربي قلت لم أفهم وإنما تأثرت من النغمة ومن أمور أخرى فسألني إلا أن بحت له بذات نفسي ولما ذكرت له كيف تقدموا هم وتأخرنا من بلاد هواؤها عثماني وسيماؤها عثماني وأكثر عاداتها عثمانية عذرني على شعوري بما فيه من فضل أدب. ووقف القطار ساعتين في بلغراد عاصمة الصرب فاغتنمت الوقت لزيارتها وهي نظيفة لطيفة صغيرة حرية بأن تكون قاعدة لتلك المملكة التي يقطعها القطار طولاً بأقل من عشر ساعات وزرت من الغد صوفيا عاصمة بلغاريا وهي أجمل وأضخم منظمة على مثال المدن الأوروبية ويغلب الأدب أهلها وكثير منهم يعرفون التركية وقد وقفنا عليها نحو ست ساعات تمكنت أثناءها من درس معالمها وحدائقها ومتنزهاتها وبعض قصورها وهي أقرب

إلى أن تكون مدينة شرقية منها إلى أن تكون مدينة غربية ويقال أنها ترتقي سنة عن سنة ارتقاء يحسدها عليه حتى الأوروبيون الراقون وعجبت لما سمعت بعض الألفاظ التركية يستعملونها مع اللغة البلغارية حتى الآن كأنهم تركوها عضواً أثرياً يذكرهم بأيام حكم الأتراك عليهم. وعند الظهر سار بنا القطار يقطع بلاد البلغار ووصلنا إلى جسر مصطفى باشا في ولاية أدرنه أو التخوم العثمانية عند العشاء وهناك جاءنا رجال شرطتنا يدمدمون ويبرقون ويرعدون يحكمون على هذا بالجزاء النقدي ويعفون عن ذاك ويطلبون من هذا جوازاً ومن الثاني أن ينبشوا صوانه وهميانه ومن الثالث أن يفتشوا صندوقه ويراقبوا كتبه والخلاصة تغيرت معنا الحال من الأعلى إلى الأدنى حتى بلغنا بلادنا فرأينا الانحطاط بادياً عليها في كل شيء وإداراتها هي تلك الإدارة الاستبدادية بعينها لم يعدل الدستور من شدتها وما زلنا على ذلك حتى بلغنا صباح الغد الأستانة عاصمة سلطنتنا العثمانية. عاصمة السلطنة العثمانية صقع جميل وسواحل بديعة ومناظر رائقة وسماء صافية ورفاهية مفرطة وأنس دائم فمن المضيق إلى الخليج إلى جزر البحر إلى متنزهات منقطعة القرين إلى غابات ملتفة وجبال مكسوة وعيون خرارة وكل ذلك بهجة النفس والخاطر وهذه هي الأستانة وأحياؤها وضاحيتها. أما عمرانها فصورة مكبرة من عمران الولايات لا نظام ولا شوارع منظمة ولا طرق معبَّدة ولا راحة للراكب والسائر ولا للمقيم والنازل وغاية ما فيها من مصانع وآثار قصور السلاطين والجوامع الكبيرة الزاهية التي أنشأوها منذ عهد محمد الفاتح إلى يومنا هذا وبعض ثكن ومدارس عالية حديثة لا شأن لها من حيث فن البناء. والأستانة من حيث قوتها المادية ضعيفة ضئيلة نصف أهلها أتراك يبلغون نحو ستمائة ألف والنصف الآخر أروام وأرمن وأكراد وأرناؤد وعرب وغيرهم من العناصر العثمانية. ويغلب على الأتراك الاتكال لأنهم ما زالوا حتى بعد الحرية يعتقدون من أنفسهم الغناء والسؤدد أكثر من بقية العناصر ويتوهمون أنهم العنصر الحاكم ولذلك قلما ترى بينهم تاجراً معتبراً أو زارعاً كبيراً أو مالياً دراكة يعيشون كلهم إلا المرتزقة والباعة عالة على الأمة لا

يعرفون غير تقلد الوظائف الإدارية والعلمية والقلمية والعسكرية. فالأستانة من هذه الوجهة مدينة الاتكال المجسم يعيش أهلها كالحلمة الطفيلية على عنق الولايات ولكم خربت ولاية أو لواءٌ أو قضاء ليعمر بها أحدهم مصيفاً له على ضفاف الخليج أو في جزيرة الأمراء ويقتني من الجواري والسراري والعبيد بقدر ما تطيب له نفسه. ولأهل الأستانة فضل أدب ولين جانب عرفوا به منذ القديم فترى الواحد منهم يعاملك بأقصى اللطف والظرف حتى يرضيك وفي باطنه على الأغلب يسر لك غير ذلك وهذا الخلق عام في عمال النظارات والإدارات الكبرى ولولا ذلك ما انصرفت وجوه أرباب الأشغال من سكان الولايات إلى الأستانة يقصدونها لكشف ظلامة ونيل رتبة ومرتبة وراتب. صرفت في هذه العاصمة عشرين يوماً قابلت في خلالها كثيراً من أهل العلم والسياسة وكنت أتكاره في الاختلاف إلى المعاهد والناس إذ سئمت نفسي كل ذلك بعد باريز التي رأيت فيها من كل شيء أحسنه ومن العالم أرقاهم ولطالما اسودت عاصمة بلادي في عيني ووددت على الأقل لو كنت لي أن أزورها قبل الرحيل إلى الغرب وإمتاع النظر والحواس بحضارته البهجة حتى لا أرى الانحطاط بعد الرقي ولا الظلام بعد النور. ومن جملة المعاهد التي هي جملة مقصدي وغاية مناي من زيارة الأستانة مجلسنا النيابي زرته خمس مرات وأعضاؤه نحو مائتين وخمسين نائباً من جميع عناصر الدولة وأصقاعها تجد فيهم ذا العمامة البيضاء أو الخضراء كما تشهد فيهم لابس الكوفية والعقال وثلاثة أرباعهم من لابسي الطرابيش ولقد سمعت من أرباب العمائم مناقشات راقية لم أكد أسمعها إلا من النواب الذين صرفوا شطراً من أعمارهم في أوربا يتعلمون ويتمرنون ويدير حركة المجلس من النواب اليوم نحو عشر أعضائه شأن مجالس كلها فإن أرباب العقول الراقية والمضاء الكبير قلائل في كل طائفة. خصوصاً ومجلسنا ما برح طفلاً ويرجى أن يكون في الانتخابات المقبلة أرقى مما هو الآن. رأيت النظام قليلاً في المجلس يبدأ قبل الظهر بالنظر في قانون كذا وبعد الظهر يتناقش في غيره قبل أن يكمله ومن الغد يتناقش في مسألة أخرى وينسى القانون أو اللائحة الأولى

وذلك لأنهم وسدوا رئاسته لرئيس اشتهر بخدمته الحرية والشهرة قد تكذب. وكم وسدوا النظارات في هذا العهد الدستوري الجديد إلى أناس اشتهروا بعلمهم وعقلهم في الدور السالف حتى إذا جاء الآن دور العمل أبانوا عن ضعف في المدارك وخور في العزائم وبضاعة مزجاة من العلم والعمل ونفس شريرة تعد قتل عنصر من العناصر قتلاً معنوياً لغاية بعيدة الحصول أسهل من تناول الكأس أو السلام على الناس. وكل أولياء الأمر إذا حدثتهم في نقصنا والسعي لإصلاحنا شاركوك في حديثك وربما تظاهروا بأكثر من غيرتك وحملوا أشد من حملتك فإذا أتت نوبتهم ليعلموا تراهم يقرون القديم على قدمه إن لم نقل يزيدون الحال أعضالاً وأشكالاً. فهم فلاسفة قول لا عملة عمل وجربذتهم في أساليب لهم يتقنونها لا في ظلامة يرفعونها وولاية يرقونها وإصلاح يدخلونه. ولا أغالي إذا قلت أن عمال الأستانة الآن صورة من صور العهد الحميدي إلا أنهم يدعون الحرية وهم مضطرون إلى الإسراع بمصالح العباد بأقل مراوغة ومطاولة مما كانوا عليه في العهد الماضي أما الإصلاح الحقيقي فأظن من سيقومونه به لهذه البلاد العزيزة لم يخلقوا بعد ونحن نكتفي من الحاليين أن يحتفظوا فقط بالحالة الحاضرة ريثما يتخرج جيل جديد يربى على أدب النفس وأدب الدرس وينشأ بعيداً عن أخلاق الحكومة الاستبدادية المطلقة التي غرست مبادئها الساقطة في القلب واللحم والدم والعظم. المتحف السلطاني دخلنا هذه الدائرة الفخمة من بابها الغربي الكائن بجوار نظارة العدلية ومررنا أمام دار الضرب العامرة وبعدها دخلنا من باب آخر ينتهي إلى ساحة كبيرة بني على أطرافها رواق كبير يسمونه غرفة العرض كان يجلس فيه الوزراء والأمراء للمذاكرة والمشاورة وفي صدره مصطبة كبيرة يصعد إليها من درجة واحدة كان يجلس فيها السلطان متوارياً عن الأعين. ثم خرجنا من هذه الغرفة وصعدنا إلى قصر شامخ يصعد إليه بسلم من رخام جدرانه مزينة بالقيشاني بناه السلطان مراد الرابع بعد رجوعه من بغداد على طرز قصر هارون الرشيد وسماه (قصر بغداد) وهو قصر مبني على الطرز الشرقي بشكل مثمن منتظم تحيط به من الخارج ردهة ذات منافذ تطل على الخمائل والبحيرات وتشرف على بحر مرمرة وقسم من

البوسفور وأحياء القسطنطينية وضواحيها وبجانب هذا القصر دائرة (الخرقة الشريفة) وفيها الرداءُ النبوي وبقية المخلفات والآثار النبوية. وخرجنا بعدئذ من هذا القصر ودخلنا قصراً آخر فيه غرفة كبيرة طولها نحو عشرين ذراعاً وعرضها نحو ثلاثة عشر ذراعاً يقال أنها من بناء السلطان مصطفى الرابع وفي الجهة القبلية من هذا القصر قصر آخر بناه السلطان عبد الحميد المجيد ويسمونه (سلطان مجيد كوشكي) مبني على الطرز الإيطالي وهذا القصر أجمل قصر رأيناه هناك ومما يجدر بالذكر في هذا القصر صفاء بلور النوافذ حتى أنك تظن النافذة مفتوحة لا بلور فيها لشدة صفائه وعلى جانب هذا القصر حجرة صغيرة بناها السلطان عبد المجيد لتبديل لباسه قبل دخوله دائرة الخرقة الشريفة. ثم انتهينا إلى دائرة المتحف السلطاني وهي بيت القصيد في هذه الزيارة وهنا لا يتمالك الإنسان من الدهشة عند ما يشاهد تلك الآثار النفيسة والمصنوعات الثمينة النادرة التي لا تقدر لها قيمة لنفاستها التاريخية. دخلنا هذه الدائرة وهي مؤلفة من ثلاث غرف تحتانية وثلاث غرف أخرى فوقانية وأول شيء وقع نظرنا عليه تخت كسرى الذي غنمه السلطان سليم الأول من الشاه إسماعيل الصفوي في حرب (جالديران) الشهيرة وقد نصب في وسط المتحف يوحي إلى الرائي بعظمة الدولة العثمانية ومجدها السالف ويصور للناظر السلطان سليم الأول ممتطياً جواده سالاً سيفه يقود جيشه الباسل إلى بلاد الأكاسرة ويشتبك مع صاحب العجم في حرب عوان فيهزم جيشه ويستولي على عرشه وخزائنه. هذا التخت على هيئة مستديرة قائم على أربعة أعمدة يصعد إليه بدرجة واحدة وكله مرصع بالياقوت والزمرد مما يبهر الناظر. شاهدنا في هذا المتحف سيف قسطنطين بالئوغوس آخر قياصرة الروم وهو سيف مرصع بالماس أخذ من جملة غنائم يوم فتح القسطنطينية. شاهدنا مهد السلطان محمود الثاني وهو على شكل السرر التي تصنع في دمشق من الخشب مرصعة بالصدف وهذا مرصع بالأحجار الكريمة. وفي المتحف ثلاث قطع من الزمرد الأولى بقدر جوزة الهند ووزنها ثمانمائة درهم والثانية على شكل مستطيل وزنها ستمائة درهم والثالثة بينهما في القطع والوزن وهناك أوانٍ من النجف بعضها مرصع وبعضها بدون ترصيع وساعات وأوان من العاج وبواطي من الصيني ودروع وطبرات

ومغافر وبنادق قديمة مرصعة مما لا يكاد يحصى وخواتم من الماس بعضها فضة بقدر الجوزة. وإلى جانبيها دوي قديمة ذهبية وقماقم ومحاريب وسبحات ومراوح مرصعة وفي جملة هذه المراوح ثلاث تعد من نوادر المصنوعات الواحدة قبضتها مرصعة بالماس والأخرى مرصعة بالياقوت والماس في وسطها ياقوتة بقدر الجوزة والثالثة مرصعة بالأحجار الكريمة وعليها رسم الكرة الأرضية. ومما أمتعنا به النظر صورة شخص طوله عشرة سانتيمترات صدره وبطنه لؤلؤة واحدة ورجلاه فيروزتان وبالقرب منه صندوق وعليه فيل من الذهب مرصع بالأحجار الثمينة. رأينا أغطية مناضد من الأطلس والديباج بعضها مرصع باللؤلؤ فقط والبعض الآخر مرصع باللؤلؤ والزمرد والياقوت بنقش بديع يأخذ بالعقول وهناك قلب من الماس حجرته الوسطى بقدر البيضة ويقال أن هذه الحجرة هي رابع حجرة في الدنيا من حيث الحجم والوزن وقد أمتعنا الطرف برسم السلطان عبد العزيز مجسماً معمولاً من النحاس الأصفر ممتطياً جواده بقطعة كبيرة طبيعية وآخرين صغيرين ورأينا رسم اسكندر الثاني قيصر الروس ورسم غليوم الأول عاهل الألمان. وماا رأيناه ثلاث آلات للمنظومة الشمسية مصنوعة من النحاس الأصفر تدور فيها الأرض والسيارات حول الشمس بحركة دولاب يدار باليد كل ذلك بل أكثره موضوع في خزائن من البلور لا تمسه الأيدي رأينا مسميات لا نعرف أسماءها مما يحار لها العقل ويدهش لها الفكر وأنىَّ لنا بابن المعتز يقف في هذه الخزينة ويصف ما فيها من الحلي والحلل والجواهر الثمينة والمصنوعات الفاخرة النادرة بمنظومات تحكي ترصيع الجواهر المكنوزة في هذا الكنز الكبير. ليس شيءٌ أصعب على الكاتب من أن يرى أشياء لم يألف مشاهدتها ولا يعرف لها اسماً فهو إذا أراد وصفها عصته الألفاظ وضاقت به التعابير رأينا في هذا المتحف شيئاً كثيراً كله من النادر الغريب الذي لا يوجد إلا في خزائن الملوك ولو أردنا أن نصف كل ما رأيناه لطال بنا البحث واحتجنا إلى سفر كبير ولكن نكتفي بذكر الآثار التاريخية الثمينة بالنظر لما لها من المكانة العلمية والقيمة الأدبية. فمن ذلك درع مرصعة بالماس والياقوت مع سيف مرصع أيضاً مكتوب عليهما هذه العبارة

هذه الدرع غنمها السلطان مراد الرابع لما فتح بغداد في اليوم الثامن عشر لسنة ألف وثماني وأربعين هجرية وتخت معمول من الباغا مرصع بالفيروز والزمرد وهو تخت السلطان أحمد الثالث كان يجلس عليه يوم عرفة وفي وسطه فراش من الأطلس مرصع باللآلئ بنقوش لطيفة يصعد إليه بثلاث درجات صغيرة وخزانة من الكهرباء الملون المعرق أهدتها فيكتوريا ملكة الإنكليز للسلطان عبد العزيز ومكتب (قنصل) كبير مرصع بالماس والياقوت وسائر الأحجار الكريمة أهدتها كاترينة قيصرة الروس للوزير الأعظم محمد باشا البلطه جي يوم وقعة (بيروت) الشهيرة وهذا المكتب من أثمن ما شاهدناه في هذه الخزينة لما فيه من الأحجار الكريمة وحلل ملوك بني عثمان وعمائمهم موضوعة كلها على قوالب مخصوصة على شكل إنسان بالهيئة التي كانت عليها ومكتوب على كل اسم منها اسم صاحبها وسيف السلطان الغوري عزيز مصر وخاتم السلطان عبد العزيز الذي نزع من إصبعه يوم استشهاده ووسامات مختلفة أهداها ملوك أوربا للسلاطين العثمانيين وغير ذلك من الآثار البديعة التاريخية. وفي الجملة أن هذه الخزينة هي أعظم خزينة على وجه الأرض لأنها جمعت بين خزائن الأكاسرة وخزائن القياصرة وملوك الإسلام وكانت في الدور القديم تجمع فيها الأموال على نفقة الدولة وتدخر لأوقات الحروب وتسمى (ايج خزينة) أي الخزينة الداخلية. يروى أن السلطان مصطفى الثالث كان جمع فيها مبالغ طائلة صرفها كلها في الحرب الروسية ويقدر ما صرفه في ذلك الوقت باثني عشر مليون ليرة على حساب هذا الزمان. أما بناء الدائرة فليس من الأبنية الفخمة المزينة بل هو بسيطْ جداً على طرز التكايا وليس فيه ما يستحق الذكر سوى ما ذكرناه آنفاً من القصور الحديثة التي بناها ملوك بني عثمان بعد الفتح وإنما هي تمتاز بجمال موقعها وحسن مناظرها ومكانتها التاريخية فالواقف في فنائها أو في أحد قصورها يمتع طرفه بتلك المناظر البهيجة ويسرح فكره في غابرها وحاضرها ويهتز طرباً وتتجلى له عظمة آل عثمان وسلطانهم ويرى الفاتح يسوق أسطوله على اليابسة بأعجوبة لم يسبق لها نظير ويفتح القسطنطينية ويملك قصر القياصرة وخزائنهم كما افتتح أجداده بلاد الأكاسرة وقوضوا عروشهم ويكون نعم الأمير الذي امتدحه الرسول وجيشه نعم الجيش.

وفي الحقيقة إن هذا البناء اللطيف من أجمل ما يتصوره الفكر وألطف ما تشعر به النفوس فهو يحتاج إلى قريحة شاعر مطبوع أو قلم كاتب مجيد يصف ما تشعر به النفس من المعاني الشعرية في جانب هذه المناظر البهيجة والآثار التاريخية. هذا ولا يسعني هنا إلا أن أثني الثناء الطيب على ناظر المتحف حافظ محمد رفيق بك لما أبداه من المجاملة والملاطفة في زيارتنا هذه كما أني أشكر للأستاذ الزهراوي وعبد العزيز أفندي قولجه لي عنايتهما في هذه الزيارة التي هي من أثمن الزيارات التاريخية. المتحف العثماني ليس بين معاهد الأستانة وقصورها معهد توفرت فيه شروط التجديد ودخلته الروح الغربية مثل المتحف العثماني فهو المعهد الوحيد الذي قلدنا فيه الأوروبيين وأحسنا التقليد يستفيد به زائره تاريخ الصناعة ولا غرو فقد ضم عاديات الأمم القديمة كالرومانيين واليونانيين والفينيقيين والآشوريين والبابليين والمصريين والهيبيين والبيزنطيين المتأخرين من نواويس وتماثيل وأواني وآثار حجرية وخزفية وبلورية وكلها شاهدة على الدهر بما كانت عليه حضارات الشعوب التي انقرضت فأصبحت بلادها من جملة ولايات هذه السلطنة العثمانية أيد الله أركانها. ومن أجمل ما يشاهد فيه مسلتان عثروا على الأولى في صامسون والأخرى في ازنيق وأسد وجد في هاليكارناس (قصبة بودروم) ويرد تاريخه إلى أربعة قرون ق. م وبجانبه ناووس روماني استخرج من دراج في ولاية أشقودرة ومن ألطف عاديات هذه الدار النواويس التي عثر عليها في صيداء وهي عبارة عن ستة وعشرين ناووساً ادعى بعضهم أن أحدها هو ناووس اسكندر المقدروني لأن الإسكندر توفي في العراق وجيء به إلى سورية على أن روايات المؤرخين مختلفة في دفنه. ومن النووايس ناووس دفن فيه تابنيت ابن اشموناراز ملك صيداء وعليه كتابة بالخط الفينيقي. وناووس الإسكندر من أغرب ما نقش النقاشون تحدسنا عليه وعلى كثير من الآثار الموضوعة في قاعات متحفنا أهل العاديات والآثار ويبذلون لنا لو أردنا في الحصول عليها مئات الألوف من النضار ونووايس المتحف البريطاني واللوفر ليست بأعظم منها. ومن عاديات المتحف ناووس معروف باسم صدراب أحد ولاة فارس فيه رسوم الصيد

والقنص والحرب واللعب والسباق ووضيمة جنازة ومنه يستدل على ما وصلت إليه هذه الصناعة من تلوين الرخام في أيونيا في الساحل الغربي من بلاد الأناضول من الارتقاء في القرن الخامس ق. م وهناك تمثال ثماني عشرة امرأة من أعجب ما نقش النقاشون جعلن على أشكال منوعة بعضهن قائمات وبعضهن قاعدات وهن يذرفن دموع الحزن واللهفة وبالقرب منهن 19 قطعة من نووايس رومانية عثر عليها في جبل لبنان وحمص وبيروت. ومن النواويس البديعة ناووس اسمه ناووس ليكيا أي البلاد المعروفة اليوم بسواحل أضالية من أعمال قونية وهو رومي الصنعة محلي الأسلوب. وعلى مقربة منه تمثالان من الخزف المنقوش لأبي الهول عثر عليهما في مدينة أورله أو ميناء قلازومن من أزمير. قلنا أن الناووس المعروف بناووس الإسكندر هو من أبدع ما صنعت الأيدي ولذلك زاره ألوف من علماء أوربا وأميركا يعجبون بصنعه وفيه كثير من الرسوم والخطوط النفيسة الملونة ومن الصور المزبورة عليها وقائع الإسكندر المشهورة. ومن كتاباته ما كتب بالخط الهيروغليفي المصري ومنها بالخط الفينيقي. ومن الرسوم الموجودة في ناحية قريبة ما يرجح أنه رسم الحرب التي نشبت بين الإسكندر في أيسوس أو أربيل وبين دارا ملك الفرس سنة 333 ق. م. ومما يقع نظرك عليه في القاعة الرابعة بعض عاديات هيتية مثل أسود وجدت في زنجيرلي وقصورها وتمثال يمثل أحد ملوك الهيتيين وقاعدة تمثالين لأبي الهول وتمثال من الحجر الأسود اسمه أسد مرعش كتبت عليه كتابات هيتية وهو أشهر أثر عثر عليه من آثار هذه الأمة حتى الآن. والهيتيون أمم مختلفة كانت في القرن الخامس عشر قبل المسيح تنزل في جبال الأكراد في سورية وقبادو كيا وقسم عظيم من بلاد الأناضول حتى مجرى نهري الأحمر (قيزل ايرمق) وكديز وأصولهم كثيرة متباينة بل أن البلاد التي كانوا مستولين عليها هي كما يقول المحققون في شمالي سورية أي في المنطقة الممتدة من فرع الفرات الأكبر إلى جبال طوروس. وقد أنشأوا على الفرات قلعة قارغاميش المعروفة الآن بجرابلس وأخذوا يهددون مدينة نينوى القديمة (الموصل) إلى أواخر القرن الثامن ق. م وبلغوا منتهى مجدهم بين القرن العاشر والثامن ق. م وقد استولى على هذه القلعة صاراغون ملك آشور سنة 712

وباستيلائه عليها محي اسم الهيتيين من عالم الوجود. على أن تاريخ هذه الأمة مع ما بلغت من الحضارة بين الأمم القديمة لم يؤثر عنها بالذات شيءٌ يدل على عظمتها لأن خطها لم ينحل حتى الآن ويرجى أن يكتشف كما اكتشف الخط المصري القديم بواسطة حجر وجد في رشيد كتب بالخط المصري مترجماً إلى اليونانية. ومن العاديات المهمة في المتحف الأواني الزجاجية والخزفية وأحسن الزجاج ما جاء من سورية وقد كتب على كل قطعة منها اسم البلد الذي عثر فيه عليها. ومعلوم أن تاريخ وجود الزجاج قديم يتعذر معرفته وهناك قطع من الفسيفساء عثروا عليها في استانكوي أو جزيرة كوس من جزائر البحر الرومي ويرد تاريخها إلى الدور اليوناني وآثار معبد آشمون في صيداء من آثار الفينيقيين الخزفية وآثار سوكة وأياثلوغ ونامورد من أعمال إزمير وغيرها من بلاد الأناضول وأكثرها يوناني. وفي قاعة أخرى أوان وجدت بالقرب من صور وويج في ولاية مناستر في بعض المدافن وأوان في ليندوس (رودس) وغيرها يرد تاريخها إلى أدوار مختلفة يونانية ورومانية ومنها ما عثر عليه في لابسكي من أعمال كليبولي. ومن الآثار المهمة في القاعة الحادية عشرة عاديات أرض فلسطين ومنها ما عثروا عليه في جوار القدس ويرجع تاريخه إلى القرن الثامن ق. م وما عثر عليه في بحيرة حمص في الجزيرة التي حفر فيها من القدور والأسرجة وقد اعتبروا القسم الأعظم منها من عهد الزمن النحاسي. وفيه قطعتان من المرمر وجدتا بالقرب من المسجد الأقصى وعليهما كتابات بالرومية تحظر على الغرباء أن يتخطوا معبد سليمان وإلا فيعاقبون بالموت. وهناك حجر كلسي عثروا عليه في القدس مكتوب عليه كتابة فينيقية وفيه ذكر جر الماء تحت الأرض في قناة حفرت في الصخور من نبع جيجون إلى سور القدس حتى تصل إلى نبع عين سلوان وينسبونه إلى الملك حزقيا أحد من ورد ذكرهم في سفر الملوك من التوراة. وليست العاديات المصرية كثيرة في المتحف ومنها صور أبي الهول وفي ثلاث قاعات الآثار الكلدانية والبابلية والآشورية وأكثرها ألواح وأوان وأكواب وعظام كتبت بالخط المسماري. ومنها ناووس من الخزف يرد إلى عهد بابل أي إلى نحو 600 سنة ق. م ومنها مسلة من الحجر من مخلفات نابونيد ملك بابل كسرها سنحريب في وقائعه مع السيتيين. ومن

العاديات ما وقع في خرابة نيفر في الشمال الشرقي من الديوانية من أعمال بغداد ومنها ما وجد في تللو من أعمال البصرة ومنها ما عثروا عليه في سيبارا أوابي الحبة من أعمال الجزيرة. وقد خصوا القاعة السابعة عشرة بالآثار التدمرية والحميرية ومن الآثار التدمرية ما يستدل منه على أن صنعها من بدائع صناعهم وإن كانت تشبه الصناعات اليونانية لأن مملكة تدمر وإن كانت يهودية لم يبق فيها أثر لهم لأن الآشوريين قرضوا عمرانهم ثم ارتقت على عهد أوليانوس أوائل ظهور النصرانية ودخلت في حوزة المملكة اليونانية على عهد الإسكندر واستعملت اللغة الروميّة ولا سيما في الرسميات وإن كانت لغتها الآرامية أو السريانية. أما الآثار الحميرية فهي آثار أهل سبأ ومعين في الجوف وعاصمة سبأ مأرب وأهل معين كانوا نازلين في قصبة العلى في جوار مدائن صالح ومملكة حمير اليمانية إنما نشأت بعد هلاك مدينة سبأ ومعين واستدلوا من ذلك على أن الخط الحميري يشبه الفينيقي ولكن دخله قلب وإبدال كثير. ومن العاديات آثار قبرص منها تمثالان للمعبودين هو كول وآفروديت وأوان خزفية ونذور. ومنها حلي آشورية وفينيقية وحلي وجواهر وأقراط وأساور وقلائد وجدت في مدينة ترواده أي في محل اسمه الآن حصارلق جبل قار وهللسبون أي بين جناق قلعة وبحر الآرخبيل وكانت هذه عاصمة قديمة مشهورة. ومنها ما وجدوه في ترال من أزمير وليبية من طرابلس الغرب وبرقة وغيرها في طرسوس وآخر في برغمة وفي نابلس. هذه جملة أشرنا بها إلى ما حواه المتحف وله قسم آخر إسلامي جعلوه في قصر الصيني أمام البناء الجديد كما قسمت مصر عادياتها إلى متحفين متحف الآثار المصرية واليونانية القديمة والمتحف العربي. وقصر الصيني هذا مما أمر بإنشائه السلطان محمد الفاتح ولكن لم يبق عليه من آثار أيامه إلا أثر ضئيل جداً مثل الآثار التي يحويها وبعض عاديات وأكثرها من قرون الانحطاط أي القرون الخمسة الأخيرة ومنها بعض الصيني الذي كان يعمل في دمشق ورودس وأزنيق وكوتاهية وبعض الكاشاني المكتب بالكوفي ومنها ما عثر عليه في مصر وقونية ودمشق وبورصة وكان يعمل فيها كما تعمل الطنافس البديعة في معامل دمشق وتوقاد وأصفهان وغيرها.

ومن عاديات قصر الصيني درفتان من صنع قره مان وقونية ومنها رحالي وقماقم وطنافس ومصابيح وخطوط صدرت عن بعض الملوك العثمانيين ومنبر من صنع الرها (أورفة) وأوان خزفية وجدت في الرقة من أعمال حلب وجلود كتب من صنع مهرة المجلدين من العرب والفرس والترك وأصونة وخزائن وبعض آثار حجرية يقال أنها أموية عثر عليها في القدس وبعض نقوش حيوانات رسمت على الزجاج من الأدوار التركمانية والآرتقية وملوك يبني آرتق من مماليك ملكشاه بن الب أرسلان السلجوقي حكموا جهات ماردين وديار بكر وحلب إلى سنة 811 هـ وانقرضت دولتهم بعد حكم 334 سنة إلى غير ذلك من العاديات والآثار ومما عرضوه عود طرب أو طنبورة وهي من صنع عصور الظلمة أيضاً. وبالجملة فإن العاديات القديمة التي جعلت في البناء الجديد كلها حسنة ومقيدة لو لك يكن الكسر والتحطيم يغلب عليها لما قاسته من أهاويل الدهور أما العاديات التركية والعربية الأخيرة فتافهة على الأكثر. وفي الأستانة محل قرب جامع السلطان أحمد عرضوا فيه صور الإنكشارية مجسمة من الجبس من صنع النمسا وهم يلبسون ألبستهم المعروفة وجالسون على مراتبهم وعاداتهم لا بأس بزيارتها لما فيها من الفائدة التاريخية.

سيرة العلم والاجتماع

سيرة العلم والاجتماع تربية صغار العملة في السويد الآن 72 معملاً لصغار الأولاد منها 16 في استوكهلم والمخترعة لهذه المدارس العقيلة كوستاف سيستا رتزويس التي أنشأت أول معمل من هذا النمط منذ عشرين سنة تذكاراً لأمها وهذه المعامل هي عبارة عن ملجأ لأولاد الشعب الذين لا تفتح لهم المدارس أبوابها إلا صباحاً من الساعة الثامنة إلى الواحدة أو بعد الظهر من الساعة الثانية إلى السادسة فيعلم فيها الأولاد صنع الخشب وتطريق الحديد وإصلاح الثياب وخياطتها وخصف النعال وصنع الأحذية. وقد تبين لهذه المعامل أن الأولاد يعنون كثيراً بالثياب التي يخيطونها بأنفسهم ولا يقصد من هذه المعامل إعداد عملة ماهرين خبيرين بل يكتفى بتمرين ما خصوا به من الحذق والنظر والاجتهاد وتقوية ميلهم الحسن إلى الاعتياد على العمل ولا يسمح لولد أن يتخلى عن صنعة قبل أن يعمل بنفسه شيئاً فيها يرضى عنه معلموه ومعلوم أن الحذق في العمل اليدوي يكون قبل الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة هذا مع ما في عملهم من التأثير الأدبي النافع ويزيد ذلك سهر الأساتذة على تلامذتهم ومعاملتهم لهم بالحب والحرية ولا تعطيهم هذه المعامل لقاء عملهم سوى طعامهم وهم يهيئونه بأنفسهم معظم الأحايين. أترابنا العميان تحت هذا العنوان كتبت معلمة إنكليزية من العميان في إحدى المجلات العلمية مقالاً أثبتت فيه أن العميان ليسوا كما يتوهم الناس عاجزين إلا عن استعمال قسم قليل جداً من القوى التي يستخدمها المبصرون وأوردت على ذلك أمثلة من التعليم الخاص بالعمي في بيوتهم أو في المدارس الابتدائية والعالية فقالت أن هذه المدارس التي يديرها العمي في الأكثر مثل مدرسة المعلمين العميان في إنكلترا تعلم تعليماً موافقاً لحاجات الطلبة بحيث يغادرها هؤلاء وهم يعرفون القراءة والكتابة والخياطة باليد أو الآلة وطباعة اللنتوتيب والكتابة على الآلة الكاتبة واللعب. وتعليمهم اللعب من أصعب الأمور هذا ما يحرض عليه أساتذة مدرسة المعلمين المذكورة حتى غدا تلاميذهم يعرفون اللعب بالشطرنج والداما ويركبون الدراجة ويحسنون التجديف والعوم ولعبة الفوتبول.

تعلم اللغات الحية نشر أحد ضباط الإنكليز في الجيش الهندي مقالة في المجلة المدرسية ذكر فيها أن حكومته أرسلته مع الحامية إلى تخوم الشمال الشرقي من مستعمرة الهند بين قبائل متوحشة تتكلم بلهجة هندية صينية ليس لها قواعد ولا معجم مفردات مكتوبة فقاده الاتفاق إلى أن صارت له صلة مع أحد شيوخ ذاك الصقع يستعمل السحر والكهانة فأنشأ بادئ بدء يستمع لما يلقيه ذاك الساحر من القصص مشفوعاً بإشارات ورموز واضحة تجلب النظر فلم يمض زمن طويل إلا وقد توصل إلى إدراك المعاني التي يريدها الساحر وما هو إلا قليل أيضاً حتى دهش من نفسه وقد أخذ يألف الكلمات التي يدمدم بها الشيخ المتوحش وأصبحت له من هذه اللغة البربرية معرفة واسعة لم يتعب في تحصيلها كأنه تعلمها من كتاب. واستنتج بعد ذلك بأن خير طريقة يجب اتباعها في تعليم الأحداث لغة لا يعرفونها أن يسير العلمون لها على الطريقة التي تعلم بها صاحبنا الإنكليزي لغة الهند الصينية. الأخلاق بالطعام يرى بعضهم أنه يستدل على أخلاق المرء من خطوط يده أو من تفلطح رأسه أو من استعماله القهوة أو غير ذلك ولكن أحد أطباء الإنكليز قال: قل لي ما تأكل لأقول لك من أنت واستدل بأن الإغتذاء بلحم البقر يورث نشاطاً وقوة. واستعمال لحم الخنزير يورث النفس انقباضاً ويسود المستقبل في النظر. ولحم الخروف يورث السويداء والإكثار من لحم العجل كثيراً مدة طويلة يضعف كل نشاط ومقاومة. وتناول اللبن الحليب والبيض يولي قوة ذهن ولا سيما في النساء والزبدة تكثر البلغم والتفاح يوافق العاملين بعقولهم والخردل من باعثات الذهن ومنشطاته. المباحث الليمنولوجية اللينمولوجيا من العلوم الحديثة وهو يبحث عن الظواهر والتراكيب التي تبدو البحيرات وعلى سطوحها وفي داخلها وتدل هذه الظواهر على الخصب الذي لا يتناهى في جوف الأرض ولهذا العلم شأن عظيم في أميركا. ففي نيكاراغا مثلاً بحيرة اسمها نجيابا هي في الحقيقة حوض ماء من الصابون تحتوي كميات وافرة من محلول بيكاربونات البوتاس والصودا وسلفات المنغنيزيا إذا ثار الهواءُ تحدث منه أمواج يتكون منها زبد يستعمله سكان

ضفاف البحيرة في غسل رؤوسهم والتداوي من الأمراض الجلدية. وفي وسط ولاية الالاسكا بحيرة أغرب من هذه يكون سطح مائها حلواً وسمكها أبيض اللون أما الماءُ في داخلها فأملح من ماء البحر وتوجد فيه الأسماك التي لا تصاد إلا من البحار. ومن البحيرات الصغرى في ولاية أوتاح ما تجد ماءه مركباً من توابل مملحة متبلورة يمشي عليها الفارس ولا يسقط وفي ذاك الصقع أيضاً بحيرة لون مائها وردي وتنبعث منها رائحة بنفسج ولونها ورائحتها صادران من وجود الخث نبات الماء فيها وبالقرب من سانتا في كولورادو بحيرة تحتوي كمية وافرة من الكبريت. ومثل ذلك تجده في كثير من أقطار الأرض وهو ناشئ من نوع الحيوانات والنباتات التي تعيش في تلك البحيرات ومن طبيعة أرضها بركانية كانت أو غيرها. قالت المجلة التي عربنا عنها وربما علل بذلك ما وجد في بحيرة اكتشفت حديثاً في آسيا من الغليان الدائم في مياهها بحيث لا تنزل حرارتها عن 120 درجة بالميزان المئوي. التمثيل في الخلاء ضاقت في الغرب بيوت التمثيل فهرع الناس إلى الخلاء يتخذون منه دوراً للتمثيل لا تضيق بالممثلين ولا بالحضور. وقد مثلت مدرسة هارفرد الجامعة في أميركا في المدة الأخيرة رواية جان دارك للفيلسوف الألماني شيلر فكان الممثلون ألفي شخص والحضور خمسة عشر ألفاً وهو أعظم اجتماع على هذه الحال. الجيش العامل على الرغم من احتجاج الملوك ومعارضة دعاة السلم ما برحت أوربا تزيد في جيوشها العاملة حتى بلغ الجيش العامل أربعة ملايين وربعاً من أصل 435 مليوناً من السكان أي عاملاً واحداً يؤخذ من كل ثلاثين عاملاً في أوربا ولألمانيا وحدها 634 ألفاً ولفرنسا زهاءُ 600 ألف وهكذا ازداد عدد هذه الجيوش زيادة كبرى فزادت أوربا جيشها العامل منذ سنة 1869 ضعفي ما كان وكذلك نفقاته. وفي الإحصاءات الأخيرة أن أوربا تنفق على جيشها مسانهة ستة مليارات و 725 مليون فرنك في السنة. صفات السياسي نشرت مجلة الاجتماع الدولية مقالة في الأخلاق التي يجب أن يكون عليها الساسة فمما

قالته أن الناس يزعمون بأن أحسن سياسي أكثرهم جربذة واحتيالاً وقد أبان استورنل كونستان فساد هذا الرأي مؤكداً بأن الثقة والسلطة والاعتبار حليفة أهل الحشمة والوقار من الناس أما النجاح المؤقت الذي يأتي به بعض الظرف فهو من شأن الساسة السطحيين وولاة المنحطين. فمن يجيد السلام يسلم عليه ولكن لا يعد شيئاً عند التحقيق. ومن النقائص المضرة جداً في السياسي أن يكون واسع الفكر ورديء النية فعليه إذا أحب النجاح أن يتحامى إدهاش المجتمع بفضيلته. كما أن الواجب عليه أن لا يعيش عيش الفقراء بل أن يكون له مسكن في المدينة التي يقيم فيها وواحد في الضاحية وآخر في بلده الأصلي وأحياناً مسكن في إحدى الولايات والإنفاق على أربعة بيوت يحتاج إلى البذل كثيراً ولكن ذلك ضروري لمن يحب أن يقوم بوظيفته حق القيام على صورة محتشمة. وختم الكاتب مقالته بأن السياسة مثل سائر المسالك والأوضاع آخذة بالنشوء والابتعاد عن التقاليد القديمة من دس الدسائس واستعمال الشدة وغايتها الآن العمل لما فيه نشر السلام بين الأنام. المعادن الشفافة جبوا الذهب فظهر لهم أنه من المعادن الشفافة ومن المحتمل أن يكون النحاس والفضة كذلك. وإثبات أن هذه المعادن شفافة يحدث أواناً مدهشة وتغييراً في الصناعة. خفقان القلب يختلف خفقان القلب في الحيوان باختلافه في الطول فكلما كان نوع الحيوان صغيراً زادت ضربات القلب فقلب الفيل يخفق 30 مرة في الدقيقة والحصان 40 والحمار 50 والإنسان 70 والكلب 90 والأرنب من 150 إلى 200 والفأرة من 500 إلى 600. ولم يتيسر حتى الآن بالآلات الموجودة معرفة خفقان قلوب الحيوانات الصغيرة وغاية ما عرف أن الفأرة نفسها كلما كانت فتية زاد خفقان قلبها. جمعية الموسيقيين تألفت في فرنسا جمعية مهمة لتجمع جميع الجمعيات الموسيقية في فرنسا على اختلاف مقاصدها في نقابة واحدة. ففي فرنسا الآن 12 ألف جمعية موسيقية مؤلفة من 300 ألف إنسان على الأقل فإذا دفع الواحد فرنكاً في السنة لهذه النقابة أن تعمل أعمالاً مهمة ومنها إنشاء مكتبة موسيقية عامة.

التمثيل في إيطاليا الشعب الإيطالي مولع من وراء الغاية بالتمثيل ولعه بالتصوير والنقش والموسيقى حتى بلغت عندهم أكثر من جميع البلاد المتمدنة بالنسبة ففي إيطاليا 1217 مسرحاً أي مسرح واحد لكل ثلاثة وعشرين ألف شخص ولولاية بروز المقام الأول حتى أن بليدة صغيرة اسمها كامبوناكورد في البندقية سكانها 350 شخصاً لها معهد تمثيل. ومعظم دور تمثيلهم تسمى بأسماء أعاظم رجالهم. حوادث السكك الحديدية على كثرة عناية الأميركان لاتقاء ما يحدث عن السكك الحديدية من المكدرات تزداد حوادثها يوماً بعد يوم وقد حسبوا أنه هلك من وقائع السكك الحديدية منذ شهر حزيران 1906 إلى مثله من سنة 1907 122885 أي أكثر مما هلك وجرح في معركة واترلو حيث بلغ مجموع من هلكوا 53 ألفاً وفي معركة موكدن حيث لم يتجاوز الهالكون مئة ألف. وقد اخترعوا في روسيا طريقة سموها طريقة التجسس وهو أن يداهم المفتش وقاد القاطرة والميكانيكي وغيرهما من عملة القطار أثناء السير فإذا صادف خللاً أو نقصاً يحكم على المتراخي في الحال. ويقضي على كل سائق ووقاد أن تفحص عيناه كل شهر فإذا شوهد فيها أدنى ضعف يمنع من الخدمة وقد جربوا هذه الطريقة في روسيا وأميركا فظهرت لهم فوائدها. البريد الألماني في إحصاء رسمي لسنة 1908 أنه كان عدد الرسائل وغيرها التي مرت بالبريد الألماني تلك السنة 14057 مليوناً وكانت سنة 1900 8840 مليوناً وعدد مستخدمي البريد 194256 سنة 1900 فأصبحوا في سنة 1908 288725 وتجيء بعد سويسرا ألمانيا بجودة بريدها في حين كانت إنكلترا الثانية منذ ثلاث سنين. ولكل 825 نفساً في سويسرا مكتب بريد ولكل 1495 نفساً في ألمانيا مكتب وفي إنكلترا لكل 1873 وفي البلجيك لكل 5119 وفي إيطاليا لكل 3940 وفي النمسا 2965 وفي فرنسا 3008 وفي إسبانيا 4143 وفي روسيا 10365 وفي الدولة العثمانية لكل 18215. مدرسة الخلية

الخلية أو عش النحلة اسم وضعه أحد مفكري رجال التربية في فرنسا المسيو سباستيان فور لمدرسة له أوجدها في مدينة رمبوليه من مقاطعة الواز في شمالي فرنسا لتربية اليتامى أو الأطفال المهملين أو ذوي الحاجة يختارون من أبناء السادسة ويعلمون إلى الخامسة عشرة فيتلقى الطفل إلى السنة الثانية عشرة التعليم الابتدائي وبعد ذلك يضاف إليه قسم فني فيتعلم الطالب حرفة فإذا بلغ الخامسة عشرة يخير بالخروج من المدرسة أو أن يعمل فيها على أن يقسم أرباحه من صناعته ثلاثة أقسام ينفق الأول لطعامه ومسكنه والثاني يضاف إلى رأس مال الخلية والثالث يودع له في صندوق التوفير لحاجته الذاتية والخلية الآن مكان لطيف فيه 26 طالباً وأسرة المؤسس 14 يعيش هؤلاء الأربعون نسمة كأسرة واحدة ورأس مال هذه الخلية من ثمرة أعمال المؤسس وحسنات المحسنين وقد كانت نفقتها سنة 1909 نحو عشرة آلاف ليرة ودخلها أقل من ذلك بقليل وقد أسست منذ سنة 1906 وهي الآن تخسر وتسد العجز منه ويربي الطلبة على التربية البدنية والتربية العقلية ولا يعلمهم الدين ولا التاريخ ليختاروا متى شبوا لأنفسهم ديناً ومذهباً سياسياً لأنه يقول أن التاريخ كما هو الآن لا يخلو من زيادات كثيرة فمن نصفهم بأنهم عظماء كانوا في الحقيقة مخربين أشراراً ولذلك يكتفي بتلقينهم تاريخ الحضارة والمدنية إذ يلقنهم بذلك حقائق راهنة لا يتطرق إليها الفساد. اكتناء عرب الشام كتب الأمير شكيب أرسلان في النبراس فصلاً قال فيه تحت العنوان السالف ما يأتي: إنه لمعلوم أن لكل مبارز شعاراً ينادي به في ميدان الحرب، وهذا هو المسمى عند الماضيين بالاكتناء وعند المعاصرين بالنخوة، وهي في اللغة العظمة والفخر: يقولون انتخى عليه افتخر وتعظم. وحيث كان المنتخي أكثر ما ينتخي عَلَى طريق الكنية كأن يقول: أنا أبو فلان وأخو فلان جُعل هذا المذهب من الفخر في ساحة القتال اكتناء وسمي هذا الاكتناءُ انتخاء. ومنه قول الإمام علي رضي الله عنه: أنا أبو حسن القرم ومنه: أنا الغلام الغفاري. وقد ورد في الحديث: رأيت علجاً في القادسية وقد تكنى وتحجتى والتكني هو هذا والتحجي هو الزمزمة عَلَى عادة الفرس. ولا ينحصر الاكتناء المذكور هنا بذكر الأب والأم بل هو تعريف الفارس بنفسه في ساحة

الوغى بلقب من الألقاب أو وصف من الأوصاف يصير عليه علماً. فالشعلان شيوخ الرُّولا من عنزة من أعظم العشائر الضاربة في بلاد الشام ينتخي واحدهم بقوله: أنا راعي العليا وتى قيل راعي العليا عُلم أنهم الشعلان عند كل العرب. ولهم نخوة أخرى وهي أخوصيته ولا أدري ما أصل هذه التكنية ولكن الصيتة في اللغة هي بمعنى الصيت ومنه قول لبيد: وكم مشترٍ من ماله حسن صيتةٍ ... لآبائه في كل مبدٍ ومحضرِ. ثم أن ابن سمير شيخ ولد علي فخذ آخر من عنزة يكنى بقوله أخو عذرا وعذرا هذه قرية في مرهج راهط شرقي دومة الشام كان لأبناء سمير عليها أتاوة سنوية أو عَلَى رأيهم خوة فتكنوا بها فكأن قولهم أخو عذرا يشير إلى أن قرية عذرا تؤدي لهم الخوة. ثم أن ابن الطيار شيخ الفرقة الثانية من ولد علي يتكنى بأخي ثنية ولا علم مإذا كانوا يريدون بهذه الثانية المحلى المسمى بثنية العقاب الواقع إلى الشرق من عذرا والذي هو المطلع من المرج إلى جبال القلمون. ثم السردية وهم من العرب المعروفين في بلادنا بأهل الشمال ولهم قرية في حوران وإمارة في الأيام السابقة ويزعم بعضهم أنها بطن من تنوخ فهؤلاء ينتخون بقولهم أخوذية. ثم بنو صخر النازلون شرقي البلقاء عَلَى طريق الحاج وهم فرقتان الطوقة والخرشان. فالطوقة ثلاث فرق: الغبين وشيوخهم الفايز وهم شيوخ سائر بني صخر أيضاً ومنهم المرحوم طلال باشا ابن فندي الفايز والحامد والزين. فالفايز كنيتهم في الحرب أخوبلها والحامد يقولون أخو عمشاء والزين أخو وضحا. وأما الخرشان إحدى فرقتي بني صخر فيقولون أخو فلوا والبلهاء في اللغة هي المرأة الكريمة الغريرة التي لا تعلم الشر، وود أيضاًَ أنها الناقة: قالوا ناقة بلهاء لا تنحاش من شيءٍ مكانةً ورزانةً كأنها حمقاء. ولم أعلم سبب قولهم أخو بلها. أما العمشاء فهي مؤنث الأعمش من العمش وهو ضعف البصر مع سيلان الدمع. ولم أر في فصح اللغة الفلواء وإنما قيل أن الفلو هو المهر يقال له فلو بالتشديد ثم يؤَنث فيقال فَلوة مثل عدوّ عدوَّة فهل ذاك تحريف أم تخفيف؟ لا أعلم. وجمع بني صخر يقال لهم البواسل وهو لقب يجمعهم فإذا قيل جاء البواسل فهمَ العرب من ذلك أنهم بنو صخر ومعناه مفهوم. ولهم لقب آخر وهو رعاة العرفاء والعرفاء مؤنث الأعرف وهو الطويل الذي عَرف: يقال ناقة عرفاء أي مشرفة السنام. ويقال أيضاً ناقة عرفاء أي

مذكرَّة تشبه الجمال، ويقال أيضاً عرفاء للضبع لطول عرفها وكثرة شعرها وقد ورد العرفاء في شعر الشنفرى قال: ولي دونكم أهلون سيد عماَّسٌ ... وأرقط زهلولٌ وعرفاءُ جيألُ ثم أن العدوان وهم عشيرة ينزلون منذ نحو مائتي سنة بالبلقاء يشتون في الغور ويقيظون في حسبان يكتنون بأخوة شيخه. ومن القريب أن هذه الكنية في الحرب كنية المشايخ العوامرة من رؤساء الدروز في جبل حوران. عَلَى أن للعدوان أيضاً لقباً آخر وهو رعاة الضبطاء. أخبرني شيخهم وشيخ مشايخ البلقاء في هذا العهد وهو سلطان ابن علي بن ذياب أن الضبطاء اسم ناقة غنموها في حربهم مع الأمراء آل مهدي الذين كانوا في البلقاء قديماً وكانوا أمراء تلك الجهة وزحزحهم العدوان عنها بعد حرب عوان وأن آل مهدي كانوا قد حملوا عَلَى تلك الناقة أوقار كنوزهم من الحلي والذهب والفضة فهزمهم آل عدوان وغنموا الناقة بما عليها وتقاسموا فيما بينهم تلك الأموال فكانت بدء سعادتهم وحق لهم أن ينتسبوا إلى ناقة حملت سعدهم فوق متنها. وأما الضبطاء في اللغة فهي مؤنث الأضبط والأضبط هو الذي يعمل بكلتا يديه: يقال أسد أضبط أي يعمل بيساره كما يعمل بيمينه، وناقة ضبطاء ولبوة ضبطاء. قال الجميح الأسدي: أما إذا أَحردت حردي فمجريةٌ ... ضبطاء تسكن غيلاً غير مقروب ثم عشيرة عبادة من نزالة البلقاء أيضاً وهم يناظرون العدوان يقال لهم الطرائفة فتسمعهم في الهيجاء يصيحون أين ذهب الطرائفة؟ أين ذهب الطرائفة؟ وهم فرق ست منهم المناصير أخوة عوجاء ومنهم الخالتين (بدون تشديد) ومنهم الفقها ومنهم الرماضنة ومنهم غير ذلك. والطرائفة اسم جامع للكل. ثم الحويطات النازلون بأطراف معان والعقبة عَلَى طريق الحاج هؤلاء يقال لهم أخوة صالحة وينتخون في الحرب بكلمة خيالة الصفحة. سمعت أنهم يعنون بذلك محلاً صعباً وعراً كثير الحجارة في بلادهم وفي اللغة الصفائح هي بهذا المعنى. ثم العجارمة وهم من عشائر البلقاء أيضاً ولهم قدمة في التاريخ رأيت السائح ابن بطوطة يشير في رحلته إليهم إذ مرَّ من هناك قاصداً إلى الحجاز هؤلاء كنيتهم صبيان الصباح ولا أعلم الأصل في ذلك. وعشيرة أبي الغنم جيرانهم يقال لهم أخوة دلعب ولا أعلم وجه هذه

التسمية ولم أرَ في الفصيح دلعباً فلعله مقلوب دعلب أو دعبل فإن الدعلبة والدعبلة هما بمعنى الناقة. وبنو حميدة من عر بالكرك صبيان السياح والمجالية شيوخ عرب الكرك الذين منهم مبعوث ذلك اللواء في مجلس الأمة هؤلاء كنيتهم أخوة خضرا. والصليت من عرب الكرك أيضاً يقال لهم رعاة الحيزا ولا أعلم للحيزا معنى إلا إن كان من الحيز وهو السير الروبد والسوق اللين أخوة شيرة ولعل شيرة مخفف شيرّه أي جميلة لأنه يقال امرأة شيرة أي حسنة الشارة. والصقر من عرب غور بيسان يقال لهم رعاة الجدعا والجدعاء من الجدع وهو القطع وأكثر ما يستعمل في الأنف والشفة والأذن وقد رأيت في لسان العرب بنو جدعاء بطن من العرب. ثم المساعيد النازلون بغور الفارغة في عدوة الأردن إلى الغرب عَلَى طريق نابلس أميرهم ضامن المسعودي لهذا العهد يقال لهم بنو عقبة وبلغني أنهم في الأصل أشراف واردون من الحجاز. والسرحان من العرب الذين يقال لهم عرب الشمال اسمهم رعاة البويضا. والعيبر اسمهم رعاة الصغرا والدعجة من عرب مادبة يقال لهم أخوة خشفة. والمشالخة من عرب غور أبي عبيدة (رضي الله عنه) منهم الربيع أخوة عمشيا والفاعور أخو صبحا والشرارات وهم من عرب البادية الضاربة إلى الجوف يقال لهم الآن بنو مكلب وأظن أنهم بنو كلب لأن التاريخ ذكر نزول كلب بأطراف البلقاء من الشام. ومن جملة الكنى المشهورة في حوران أخوة بلجاء وهي كنية بني الأطرش أشهر مشايخ الدروز بذلك الجبل. ولا أدعي أنني أتيت عَلَى جميع ما لعرب الشام من اصطلاحات النخوة والكنية واللقب إذ بقي هناك قبائل وبطون وأفخاذ لا يكاد يأخذها العدد ولكل منها كنية ومعرفة تتعرف بها وإنما نتبع القول السائر: ما لا يدرك كله لا يترك كله. هلكي السل ثبت أن الألكحول هي الباعث الأقوى للسل وإنه حيثما كثرت الحانات زادت الإصابات والوفيات بهذا الداءِ العياء. وإذ كان في فرنسا مثلاً نصف مليون حانة يصيب كل ثمانين

إنساناً من أهلها حانة واحدة وفي بلاد الشمال يصيب كل 53 شخصاً حانة أصبح السل فيها أكثر انتشاراً من غيرها. وقد أكدوا أن بلاد نروج توصلت بالقواعد الصحية ومراقبة التلامذة والأساتذة في المدارس التي هي بؤرة العدوى إلى أن قلَّ فيها عدد المصابين بالسل وفي إحصاء ظهر منذ خمس سنين أن فرنسا يهلك فيها 31 نسمة من كل عشرة آلاف بهذا الداءِ وإيرلاندا 26 وإيكوسيا 20 وألمانيا 17 وإيطاليا 16 وإنكلترا 16. التنزيه في الفرصة بدأت الشركات في سويسرا منذ عشرات من السنين بجلب الأولاد من بلادها وغيرها وتنزيههم مدة الفرصة فجرت عَلَى إثرها شركات أخرى في أكثر ممالك أوربا حتى بلغ عدد من تنزههم الشركات من التلامذة في ألمانيا 35 ألفاً في السنة وفي إنكلترا 30 ألفاً وفي فرنسا 25 ألفاً ومن التلامذة من يرسلون تحت حماية معلميهم إلى نزل للشركة ومنهم من تكتري لهم دوراً خاصة وفريق منهم تبتاع أو تبني لهم دوراً من أرض لها لينزلوها خلال فصل الصيف. الاستشفاء في الشمس كتب الدكتور تريمولير في مجلة مطالعاتنا في البيوت ما مثاله معرباً: جاءت الشهور التي يستشفى بها بالشمس العجيبة فلنفتح لها أبوابنا ونوافذنا ولا يكفي تسخين المساكن بأشعتها وإنارة زواياها بحرارتها فإن الشمس في تلك الحالة لا تزيد الجراثيم التي تنمو في الرطوبة والظلمة إلا نضوجاً ولا يقتصر عَلَى الاستحمام بنورها المحرق المذهب خلال الارتياض والخروج للنزهة بل الواجب إدخال أشعتها إلى جسمنا وهو عريان لتطهر أشعتها جثماننا وتحيي أنسجتنا وتحول المادة الحية المكتئبة إلى مواد حيوية طاهرة تحوي في مطاويها النشاط والقوة. فقد أوصى اسكولاب المشهور في الأساطير القديمة الذي احترم الأطباء في كل عصر أقواله_كل من ضعفت وظائفهم أن يعيشوا عراة في الشمس بوقاية رؤوسهم من ضربات الشمس. وكان الرومان يقتطعون منن مساكنهم أو مدنهم أماكن يختصونها بحمامات الشمس والهواء الطلق يدعونها سولاريوم بذلك حسن نسل اليونان واللاتين. قصد الإسكندر الكبير ديوجنس الكلبي ذات يوم وهو خارج من برميله يستحم عَلَى مهل بنور الشمس فسأله الملك

أي غرض تريد أن أقضيه يا فيلسوف فأجابه هذا أريد أن تبعد من طريق شمسي. وقد اتفق الأطباء في عصرنا عَلَى هذه المسألة وجاءت من كل مكان أخبار فوائد أشعة الشمس. وحدث أن رجل كان مصاباً بخراجين نغارين من الخنازير فعرض أحدهما للشمس فشفي أما الثاني فلما لم يحسن مداواته بأشعة الشمس بقيت بحالها تنز. وهكذا الحال في كثير من الرضوض والقروح السلية والنواسير والبثور وجروح الجلد فإنها كلها تتحول بتأثير المداواة بالشمس. وأشعة الشمس لا تؤثر فقط في ظاهر الجلد بل تخترق البشرة والأدمة (الطبقة الغائرة من الجلد) وتسري إلى الداخل وتعدل الحواس الداخلية فالحرارة المنبعثة منها تجلب التعريق فتلين الأعصاب وترخص المفاصل ويزول الشعور بالملل والثقل بتأثير الأشعة وما يتبعها من ارتفاع درجة الحرارة ويحسن الهضم شيئاً فشيئاً ويسكن القلق والاضطراب الحادثان من أوجاع مجهولة. ويرتفع التأثير الشديد الناشئ من وجع الكلى والرحم والمبيض والآلام العصبية ووجع الأضلاع أو يقل تناوبه عَلَى المصاب به فتنبسط نفسه وترتاح روحه وتتعدل حالة البول بإدراره تارة وتجمعه أخرى وتحسن موازنة الوظائف العديدة في تركيب الإنسان وأكل الأحشاء التي تقاوم كل تأثير تنتهي بها الحال إلى الخروج عن ضعفها. ويقف السمن عن النمو أو يرجع القهقرى وذلك بدون عقاقير ولا تعاطي أدوية ولا حاجة للوصول إلى هذه الغاية إلى أكثر من التشمس عَلَى طريقة منظمة بتوجيه الأشعة إلى البطن السمين والعنق والخاصرة حتى تعود إلى اعتدالها وحالتها الطبيعية وبعد المداواة بالشمس أشهراً يعود الصدر إلى سالف طبيعته. وإن الحركات الرياضية التنفسية اللازمة للبالغين من ضاقت صدورهم وكل من لهم استعداد للسل لتقضي بأن يعري المرء نصفه الفوقي ويعرضه للشمس وهذه المداواة تنفع جميع الضعفاءِ والهزالى والمنهوكين والمتعبين. وأكثر المستشفين انتفاعاً بأشعة الشمس من اسودت بشرتهم فإذا لم يكتب لهم ذلك فالواجب أن يعمدوا إلى طريق آخر في الاستشفاءِ. ويجب أن يعرض الجزء اللازم شفاؤُه للشمس مباشرة بدون حاجز اللهم إلا سجف يقي الجسم من النظر وهبوب الهواء فلا يحم المستحم عَلَى هذه الصورة ولذلك رأى بعضهم أن خير استشفاء ما يكون في الشتاء ورأى آخرون أي الواجب الاستياط ووضع رفادات ندية

أو مثلجة عَلَى الرأس والنقرة والقلب ولذلك يجب مراجعة الطبيب. السجناء ما برح الناس في الغرب يسعون إلى تخفيف عذاب السجون والرفق بالسجناء حتى أصبح السجن بهيجاً كالمعمل أو الثكنة بل إن بعض السجناءِ قال لمفتش أحد السجون أنهم لا يعطوننا خبزاً مثل خبز الجند كأنه يظن نفسه أرقى منهم طبقة ويحق له أن يطالب بأكثر مما نال فليس عجيباً من ثم أن تزيد الجرائم. واختلف الباحثون في الجرائم والعقوبات فمنهم من رأى الاستعاضة عن الحبس بغرامة مالية ولكن ما كل الناس في سعة يستطيعون معها بذل المال وقال آخر يجب تشهير الجاني بالإعلانات ورد عليه غيره بأن ذلك مناط بعقل المجرم. وذهب آخرون إلى وضع المجرمين في بيوت أهلها من أهل العرض والشرف ثم عاد عن هذا الفكر وارتضاه فقط لصغار الأولاد. وأحسن السجون سجن لوفان في البلجيك حيث يفصل المحكوم عليهم عن أخوانهم ويزورهم أناس من أرباب الشرف والحشمة يسلونهم ويعطونهم عملاً ويستمعون لمطالبهم وينصحون لهم سراً بنصائح صالحة وقد ارتأى أحد العلماء أن المحكوم عليه يجب أن يفصل ما أمكن عن أقرانه ويكون قريباً ما أمكن من المجتمع. شركات المطاط كان يستخرج المطاط إلى العهد الأخير من أشجار برية معرشة اسمها ليان ثم أصبحوا يغرسون شجرة ويزرعونها فصارت غلاته عَلَى طريقة منظمة وأجود وأغزر من قبل وانتشرت هذه الزراعة في المستعمرات الإنكليزية فأنشئت سنة 1909_89 شركة إنكليزية برأس مال قدره عشرة ملايين جنيه كما أنشئ من أول كانون الثاني 1910 إلى 1 آذار 45 شركة أخرى رأس مالها خمسة ملايين ونصف من الجنيهات وكل يوم تنشأ شركات جديدة وقد كانت رؤوس الأموال الموضوعة سنة 1906 مليونين ونصفاً من الجنيهات فأصبحت اليوم ثلاثين مليوناً وأهم تلك الشركات تملك 2. 700. 000 شجرة يستخرج منها المطاط. مدرسة التربية يذهب كثير من الباحثين إلى أن المدرسة إذا علمت الأولاد قليلاً أو كثيراً فهي لا تربيهم

وقد كتب أحد علماء الطليان بحثاً في هذا الشأن قال فيه أن المدارس تفرط في تدريس التعليم المسيحي عَلَى حين ليس هو نافعاً في تربية أخلاق الأولاد وذلك لأنهم لا يفهمون منه شيئاً فالواجب أن يعمد إلى تربية الطفل عَلَى العمل حتى تصبح المدرسة مربية حقيقية في ساعتين تكفيانه في اليوم لتعليم اللغات والمعارف الابتدائية فينبغي تخصيص بقية الوقت أي ساعتين أو ثلاث للأعمال اليدوية بحسب ميل الطفل وذوقه لأن الاستعداد للعمل أمتن أساس في الخلاق وبذلك لا تكون المدرسة سجن الطفل تتبرم نفسه من الجلوس عَلَى دكات المدارس خمساً أو ست ساعات في اليوم وتضطرهم المدرسة إلى حضور التعليم الديني بلا فم والفطرة تدعوهم إلى الحياة العملية التي تهيئ مستقبلهم في المجتمع. سماد الفوسفات انتشرت صناعة السماد الكيماوي ولاسيما الفوسفات فقد ظهر هذا السماد لأول مرة سنة 1867 في كارولين ثم جاء سماد البلجيك والجزائر وتونس وجزائر المحيط وفلوريدا وغيرها وكان المستخرج منه سنة 1886 ثمانمائة ألف طن فأصبح هذه السنة خمسة ملايين طن والولايات المتحدة أكثر الممالك إخراجاً للفوسفات أي نصف ما يستخرج من آسيا وأوربا وأفريقية وزاد المصروف من هذا السماد 79 مرة خلال العشر السنين الأخيرة. القرى والمدن الأنكلوسكسونية قابل احدهم بين نمو المدن في إنكلترا ونموها في ألمانيا فقال أن الألمان أشد ميلاً إلى سكنى المدن من الإنكليز في حين بدأ الإنكليز بالتحضر في المدن قبل الألمان بكثير فقد كان 5 في المئة من سكان المملكة الجرمانية سنة 1871 يعيشون في المدن التي تضم كل واحدة منها بين جوانحها مئة ألف نسمة فبلغ عدد ساكني المدن 19 في المئة من مجموع من مجموع السكان سنة 1905 وكان عدد المدن التي تحوي كل منها مئة ألف نسمة 14 مدينة في إنكلترا سنة 1871 فيها 6. 250. 000 ساكن أو 27 ونصف في المئة من مجموع السكان فأصبحت سنة 1901 33 مدينة كبرى تحتوي كل واحدة منها عَلَى مئة ألف نسمة ومجموع سكانها 11. 500. 000 فزاد سكان المدن ضعفين خلال هذه المدن في إنكلترا وزادت في ألمانيا ثلاثة أضعاف. والسبب في نمو المدن الألمانية كثر أراضي

ألمانيا وكثرة الولادات بل هجرة الناس من القرى ومعظم سكان المدن الحديثة هم شبان تختلف سنهم بين 20 إلى 45 سنة. عملة الطليان يبلغ عدد العاملين في إيطاليا 7. 787. 166 عاملاً منهم ثلاثة ملايين و126. 500 يعملون في الصناعات و467. 666 في الزراعة وقد أنشأ الراقون من العملة مؤتمراً للاتحاد بينهم منذ أربع سنين فبلغ عدد الداخلين فيه إلى هذه السنة زهاء ثلثمائة ألف وغايتهم أن تكون حركة طبقة المساكين تحت إدارتهم مباشرة وأن يساعدوا عَلَى تأسيس غرف للعمل والاتحاد الوطني وينشطوا عَلَى وضع القوانين الاجتماعية النافعة للعاملين فخطتهم إصلاحية سلمية. التعليم الحديث في الصين أخذت الصين منذ سنة 1900 تعنى كل العناية بإصلاح التعليم في الصين فنظمت كلية بكين وقسمتها إلى ثمانية أقسام ثم أسست مدرسة للغات الغربية وفي سنة 1903 وضعت مشروع قانون لجعل التعليم عصرياً محضاً فأخذ الطالب يشرع في الدرس في السنة السادسة ولا يخرج من المدرسة الثانوية إلا في سن العشرين وبعد ذلك يتمرن ثلاث سنين في المدرسة العليا في عواصم الولايات قبل أن يخصي في مدرسة بكين في علم واحد وهذه المدرسة تعد رجالاً أكفاء لستة وأربعين مسلكاً. ويصرفون جزءاً مهماً من الوقت في المدرسة الابتدائية لتعليم اللغة الصينية وقراءة كتب الأقدمين من كتاب الصين أما في المدارس الأخرى فيدرسون العلم واللغات الحية خاصة وهذه اللغات تعلم عَلَى الترتيب الآتي: اللغة الإنكليزية اللغة اليابانية اللغة الفرنسوية اللغة الألمانية اللغة الروسية. والتلامذة أنفسهم يلاحظون في كل مدرسة أمر مدرستهم ويحق لهم الإشراف عليها. ولم تكد تنشر اللوائح الجديدة في التعليم حتى وضعت موضع العمل وقام الصينيون كلهم يطلبون إنشاء مدارس لهم وقد فتحت في ولاية بتشيلي وحدها ثلاثة آلاف مدرسة في آن واحد وحولت كثيراً من المعابد البوذية إلى مدارس للتعليم عَلَى الصول الحديثة وقد أوعزهم المعلمون أولاً حتى أصبحوا يقبلون المتعلم بعض من لا يحسنونه إلا أن الصين لم تلبث أن بعثت إلى يابان سنة 1904 بألفي طالب يتعلمون في مدارسها العالية وزاد عددهم حتى بلغوا سنة

1906 عشرة آلاف طالب وكل من يعود منهم توظف إليه الوظائف السامية في التدريس وغيره (من مجلة العالمين الفرنسوية). التعليم في ألمانيا لا شيءَ أدل عَلَى ارتقاء التعلم الابتدائي في ألمانيا من قلة عدد الأميين بين الجند من أبنائها فقد كان عند ألمانيا سنة 1887_1. 250 جندياً أمياً من الجنود الذين كانوا تحت السلاح فأصبحوا سنة 1897 مائتين وقد بلغا هذه السنة اثنين في المئة من مجموع المجندين وأكثر هؤلاء الجنود الأميين من البولونيين في بروسيا الشرقية أما عدد الأميين في فرنسا في السنة الماضية فقد بلغ 9825 من الجند ومعظم الدول تعلم جندها الأميين القراءة والكتابة بحيث لا يقضي الجندي الخدمة العسكرية إلا وقد تعلم الكتابة كما تعلم الرماية. المطبوعات الأميركية نشر إحصاء بحركة العلم والمطبوعات في الولايات المتحدة خلال السنة الماضية فشوهد أن القوم أخذوا يزهدون في قراءة القصص ويرغبون في تناول كتب الجد وأصبحت كتب الآداب في الدرجة الأولى من العناية بعد أن كانت في الدرة الخامسة. وقلت العناية بكتب الدين واللاهوت كما زادت في سائر فروع العلم مثل الفنون النافعة والجغرافيا وكتب الرحلات والسياسة والعلوم الاجتماعية والتربية. وقد طبع سنة 1909 في هذه البلاد 8308 كتب لمؤلف أميركي وكان عددهم في السنة التي قبلها 6349 وطبع 828 كتاباً لمؤلف إنكليزي أو أجنبي وكان عدد هذه الفئة في للسنة التي قبلها 1145. اللغة الروسية كانت اللغة الفرنسوية في روسيا منذ مئة سنة لغة الطبقة العالية والمجتمعات المنورة وما برح الروسيون يعملون عَلَى تحسين لغتهم ويحببونها إلى النفوس عَلَى كثرة شذوذها ويرققونها عَلَى غلظتها حتى نشروا أعلامها لا في بلادهم فقط بل في أوربا ووصلوا بها إلى أميركا ففي نيويورك وحدها حيٌّ للروس يبلغ المتكلمون بلغتهم 160 ألفاً هذا واللغة الروسية عَلَى ما فيها من الآداب منذ عهد بوشكين شاعر الروس الأول إلى عهد تولستوي آخر أئمة النثر عندهم لم تبرح عَلَى جفائها الأول وإن تسربت غليها ألفاظ كثيرة من اللغات المجاورة ولاسيما الألمانية.

أميركا الإسرائيلية في إحدى المجلات الإفرنجية أن أميركا هي بلاد الإسرائيليين لو رجعنا إلى ما قاله بعض المؤرخين والإحصائيين. فقد دخل الإسرائيليون أميركا منذ اكتشافها وسها علماء إسرائيل في البرتقال بأعمالهم الرياضية والفلكية الطريق لسفر خريستوف كولمبس إلى أميركا بل إن مال اليهود هو الذي يسر له رحلته وكان معه في السفينة لويز دي تور الإسرائيلي وهو أول من داس الأرض الأميركية وأخذ المهاجرة من الإسرائيليين منذ افتتاح تلك البلاد يأتون زمراً زمراً فاليهود هم الذين استعمروا سان تومه حيث أسسوا معامل السكر وبهم نجحت برازيل إلى أن طردوا منها سنة 1654 وجزائر بارباد وجاماييك ارتقت بواسطة الإسرائيليين وقد طرح أحد حكام الإنكليز أن الإسرائيليين هم أحسن رعايا عظمة الملك. وما كانت الولايات المتحدة لتدخل في طور الفلاح لولا العنصر اليهودي فيها. وقد قال الرئيس يوم عيد الـ 250 لهجرة الإسرائيليين أن هؤلاء القوم قد شاركوا في عمران هذه البلاد ونشأتها. وقال الرئيس كلفلند لم يؤثر أحداً كاليهود في تأسيس معالم الحضارة الأميركية اليوم. الرياضات اليابانية يقول اليابانيون أن الأجسام بينهم أخذت بالضعف منذ تخلى الناس في يابان عن الارتياض واللعب عَلَى طريقتهم القديمة عَلَى خلاف ما يظن الأوربيون فإن كثرة المواصلات بالترمواي والسكك الحديدة قللت السير عَلَى الأقدام والمشي من أنفع الرياضات كالسباحة وقد نصحوا بأن الواجب عَلَى كل ياباني أن يحسن العوم ويتعلمه مكرهاً في المدارس وعلى الناس أن يرجعوا من تلقاء أنفسهم إلى تعاطي اللعب والرياضات والمشي فليس أدل عَلَى ضعف البنية اليابانية أكثر من أن حكومة الميكادو أخرت 178 ألفاً منن الجند وأعفتهم من الخدمة من أصل 414 ألفاً لضعف بنيتهم ولأنهم لم يستوفوا الشروط المطلوبة للخدمة العسكرية. خريطة العالم دعا المؤتمر الجغرافي في جنيف سنة 1908 مؤتمراً دولياً للتعاون عَلَى وضع خريطة للعالم من مقياس مليون فاجتمع المؤتمر في لندرا وقرر أن ترسم إنكلترا معالم أفريقية

ومجاهلها وترسم الولايات المتحدة معالم أميركا الشمالية والجنوبية وألمانيا ترسم آسيا وستكون هذه الخريطة أصح مصوَّر للأقاليم والبلدان تنفق عليه النفقات العظيمة. محصول الحنطة ذكر أحد كبار الإحصائيين الاقتصاديين منذ عشر سنين أنه سيجيء وقت ليس ببعيد يظهر عجز كبير في محصول القمح فلا يعود يكفي الناس لأنهم في ازدياد كل يوم والمحصول لا يزيد عَلَى نسبتهم فقد أبان بعضهم أن محصول الحنطة في العالم سنة 1906_1906 كان 7. 812. 462 هكتولتراً (الهكتولتر مئة لتر) وما صرف منها 229. 773. 730 فبلغت الزيادة 7. 812. 462 هكتولتراً وبلغ المحصول في العالم سنة 1907_1908 2. 009. 736. 430 والمصروف 2. 33. 585. 900 أي بعجز 320. 849. 470 ولا يتأتى سد هذا العجز إلا بخزن القمح وخزنه لا يتيسر عَلَى ما ينبغي والمستقبل لا يخلو من خطر عَلَى غذاء البشر. وقد عاد الاقتصاديون فبحثوا عن الراضي التي تزرع قمحاً فأثبتوا بالأرقام أن كثيراً من الأصقاع في أميركا وآسيا آخذة بالنمو العجيب في زراعة الحنطة وأنه يمضي الجيل إثر الجيل والقرن بعد القرن والحنطة تكفي البشر وإنه إذا كانت بعض المطاحن والمخابز وقفت عن الطحن والعجن والخبز ولاسيما في العواصم الأميركية والإنكليزية فذلك ناشئٌ من مضاربة تجار الحنطة لا من قلة المحصول. الصحافة في سويسرا ظهر تقويم الصحافة السويسرية لهذه السنة فتبين منه أن سويسرا عَلَى قلة سكانها أكثر البلاد الراقية بصحفها ومجلاتها ففيها 262 جريدة سياسية وإخبارية تصدر باللغة الألمانية و101 باللغة الفرنسوية و21 باللغة الإيطالية و3 بلغة الرومانش (الرومانش من شعوب سويسرا الشرقية ينزلون اليوم في كريزون ولغتهم مشتقة من اللغة اللاتينية) وعندهم أربع مجلات فلسفية مهمة و40 مجلة فرنسوية برتستانتية و37 ألمانية و27 جريدة كاثوليكية و10 جرائد للمراسلين وجلتان إسرائيليتان وثلاث مجلات لا تقول بدين هذا عدا الجرائد الرسمية التي تصدر في المقاطعات والمجلات الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والفقهية ومجلات الضمان والنساء والفلسفة والعلوم والصناعات النفسية والرياضات والآداب فيكون مجموعها 766 مجلة وجريدة فحيا الله بلاد العلم والعمل.

منع التقبيل اشتدت ولاية أيوا في الولايات المتحدة أكثر من غيرها من أصقاع الأرض منع التقبيل وقد صنعت ألوفاً من الشريط الأبيض والوردي كتبت عليه لا تقبل ووزعت مجاناً عَلَى تلامذة المدارس وأخذت إدارة الصحة تبعث بأطبائها إلى البلاد يخطبون القوم في مضار التقبيل وأساتذة المدارس يساعدونهم بما يبثونه من النصائح للتلامذة والطلبة. حماية الجمال الطبيعي في ألمانيا عدة جمعيات أخذت عَلَى نفسها حماية الجمال الطبيعي في أصقاعها البهجة وهي تبذل كل مرتخص وغال لحماية المصانع القديمة من سوء ينزل بها ومنذ عشر سنين ما برحت المؤتمرات لهذه الغاية تنعقد وتتوالى ومن هذه الجمعيات ما يبلغ إيراده مئة ألف فرنك في السنة تصرفها في هذا السبيل. الحمة هي تلك الراضي الفسيحة الواقعة في وادي اليرموك الجميل عَلَى الخط الحجازي الآتي من طريق حيفا في الكيلومتر و93 و95 الذي يشقه نهر الشريعة الشهير عَلَى جنوبي جبال مكيس ذات الآثار الجليلة المعروفة قديماً بمدينة (جدره) وفي الحمة ينبع ثلاثة ينابيع معدنية حارة تنبجس بغزارة وتجري حتى تنصب في نهر الشريعة عَلَى بعد قليل ويبعد النبع عن الآخر بضع دقائق يدعى إحداها المقلي أو حمام سليم ودرجة حرارته 119 والآخران (حمام الجرب) وحرارته 108 وحمام الريح وحرارته 82 بميزان فارنهيت ويلحق بهذه الحمامات ثمانمائة دونم كلها صالحة للزراعة ذات خصب وثراء وقد عرف الأقدمون مكانة هذه الينابيع فعمروها عَلَى أحسن طرز من البناء الروماني الضخم الجميل يدلنا عَلَى ذلك ما خلفوه لنا من الآثار الجليلة والأبنية لدائرة الفخمة التي تخاطبنا بأفصح لسان بما كانت عليه من الجلال والمنعة إبان مجد الرومانيين الدابر منها آثار تياترو من الحجر الصلد الأسود عَلَى غاية الرونق والإتقان. وقد جرى تحليل هذه المياه في أدوار مختلفة لمعرفة خصائصها ومنافعها في الاستشفاء والمعالجة فأفصحت التجارب عن حقائق ذات شأن كبير منها شفاء أوجاع المفاصل المعروفة بالروماتيزم عَلَى أنواعها عضلية أو مفصلية وأمراض الجلد والقروح حادة أو

مزمنة والرمل الكلوي وأمراض المعدة والكبد والأمراض الزهرية والأمراض المانعة للحبل والتوليد وغير ذلك وفيها أيضاً نبع غزير بارد له خاصية شفاء الإسهال إذا شرب منه المصاب ولهذه الحمامات شأت في كثير من جهات البلاد المجاورة لذلك يقصدها الكثيرون يستشفون بها ويمنعون النظر بمناظرها الطبيعية الجميلة بين ماء وكلأ وجبال شماء وأودية غناء ولا أبالغ إذا قلت أن معدل قاصديها في شهر نيسان لا يقل عن عشرين ألفاً يقيمون أياماً تحت حر الشمس وهبوب الريح لا بيت يؤويهم ولا نزل يكنهم فإن كان هؤلاء القاصدون يبلغون هذا العدد وهي قفراء خربة في شهر واحد فكم يكون عددهم لو تهيأت لهم حمامات منتظمة وأبنية وفنادق وما به يستتب لهم الراحة فيه أأبالغ إذا قلت أنهم يزيدون عن المائتي ألف؟ وقو لي هذا يقوله ألوف غيري ويضيق بي المقام لو قصدت الاستفاضة في وصف ما تجتنيه شركة مساهمة من الأرباح وما يحوزه الوطن من الفوائد المادية والمعنوية والشركة تحتاج إلى خمسين ألف ليرة منها خمسة وأربعون ألف ليرة للأبنية من الحمامات ونزل ومستشفيات وخمسين ألف ليرة لإصلاح الراضي المجاورة ونصب أشجار مثمرة من ليمون وبرتقال وغيره وحدث عن خصب هذه الأراضي ولا حرج فإن شجرة الباميا بلغت مترين فكم تكون غلة الشجار المثمرة وكم يكون نموها عجيباً وكم من الأرباح والفوائد التي تستغلها الشركة وتتمتع بها دون إعانات وعناء؟ عجلون: نجيب فركوح.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات العبرانيون والفينيقيون نشر المسيو سلوش من علماء المشرقيات كتاباً بالإفرنسية ذكر فيه أن الإسرائيليين والفينيقيين من عنصر واحد وليس أصل سكان فينيقيا بعيداً عن وقت دخول الهكسوس أي العرب إلى مصر. ومعنى فينيقي ساكن الكثبان والرمال الحمراء وكان الفينيقيون والعبرانيون عل عهد القضاة شعباً واحداً قال وقد دخل التمدن إلى بلاد اليونان من مصر وإن كان موسى أخو أبي الهول قد خرج من صحراء ليبيا ليحمل الحضارة إلى يونان والكادموسيون أخوان الفينيقيين البكر أما أجداد الساميين المذكورين باسم بني قدم في التوراة فإن أصل مقامهم كان في الهند كوش وخليج فارس ومعنى اسمهم الساميون الشرقيون ومنهم خرج العبرانيون سكان وراء بحر الفرات والآراميون سكان الشمال الجبلية والعرب سكان الغرب. وقال أنه كان سنة 471 ق. م أناس من المستعمرين اليهود في أسوان وجزيرة الفيلة من صعيد مصر وانتشر اليهود في القرن الثاني ب. م في افريقية ولما دمرت القدس سنة 70 كان اليهود ومن تبع عاداتهم هم السواد الأعظم من سكان صحراء ليبيا. وبعد الحروب التي نشبت بين يهود اليونان ويهود الرومان خربت بلاد برقة وصحراء ليبيا الشرقية واضمحل سكانها وسقطت اليهودية اليونانية منذ ذاك الحين في افريقية ولما قامت مدينة قرطاجنة الرومانية عَلَى أنقاض قرطاجنة الفينيقية أصبحت مدينة تقاليد اليهود التلموديين وامتدت المستعمرات اليهودية إلى من قرطاجنة بلاد مراكش وكثر عددهم في مراكش الرومانية وأفريقية الفاندالية في القرن الثالث للمسيح. وتكلم عَلَى اليهود الحميريين واليهود البربر وعلق شأناً عظيماً عَلَى قول ابن خلدون في البربر النازلين في أفريقية منذ عهد متطاول والبربر الذين أتوا من حمير وهم عرب اختلطوا في أفريقية بالسكان الأصليين وتبربروا مثلهم وقد انصبغت هذه الشعوب الحميرية بصبغة اليهود وقال أن اليهودية انتشرت في جنوبي بلاد العرب منذ سنة 115 ق. م. ديوان سلامة بن جندل نشر المسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات من الفرنسويين ديوان سلامة بن جندل من شعراء الجاهلية نقلاً عن نسخة مخطوطة من مكتبة آيا صوفيا في الآستانة وقد ترجمه كله

إلى الإفرنسية ونشره في المجلة الآسياوية فعساه يجرد عَلَى حدة. فقه العلم هو كتاب قدمه أصدقاء الماركيز ملكيوردي فوكويه المستشرق الفرنسوي بمناسبة ذكرى ثمانين سنة عَلَى ولادته وبعض تلامذته ورصفائه والمعجبين به من علماء المشرقيات فكتب كل واحدة مقالة وقد جرت العادة أن يقدم للعلماء مثل هذه الهدايا كما قدم لنولدكه أحد كبار علماء المشرقيات من الألمان مثله ومن مقالات هذا السفر النفيس مقالة للمستشرق مانس فإن برشم للكتابات المأثورة عن دولة الأتابكية في دمشق وحل ما عرف من الكتابات الخمس عن أمراء البوريين منها ثلاث من الأتابك طغتكين وواحدة من ابنه يوري وأخرى من محمد بن يوري. ومنها مبحث للمسيو برونوف في حصون تخوم بلاد العرب من العقبة إلى حوران وأشار إلى المعبد الذي أنشئ في أوائل التاريخ المسيحي في سي من بلاد حوران إكراماً لووسارا وفيه المصورات والرسوم اللازمة. وبحث المسيو جويدي في المعلومات التي تؤثر عن علماء العرب في الجغرافيا من قبل الإدريسي مثل ابن خرداذبة واليعقوبي وابن الفقيه والاصطخري والمقدسي في وصف أوربا الغربية فقال أن هذه المعلومات ضعيفة لأن العرب الذي جاؤوا إسبانيا قد ساروا عَلَى شواطئ أفريقية ولم يتيسر لهم أن يزوروا البلاد الغربية عَلَى أن هؤلاء الجغرافيين وصفوا رومية وصفاً مستوفى في الجملة أخذوه عن مصادر مسيحية ولكنها شرقية. وجميع هذه المقالات متعلقة بآثار الشرق وتاريخه وآدابه وشعوبه وفي جملة الكاتبين أناس من كبار المستشرقين مثل سنار ونولدكه ومولر وماسبرو ومرجوليوث ودوسو وغانو. مجلتان جديدتان العلم_هي أول مجلة عربية نشرت في العراق لمنشئها السيد محمد علي هبة الدين الشهر ستاني في النجف وتطبع في بغداد وهي شهرية دينية فلسفية سياسية علمية صناعية ومؤلفها مشهور من القديم بكتاباته ورسائله وقيمة اشتراكها 20 قرشاً في محلها وريال ونصف في سائر الأقطار. النجف_هي أول مجلة فارسية ظهرت في العراق أنشأها آغا محمد المحلاتي تصدر في النجف مرة في الشهر في 64 صفحة وثمنها ثمانية بشالك وهي تبحث في موضوعات

دينية ومدنية.

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن تتمة ما ورد في الجزء الماضي. مزاعمهم في الهاتف والناقل والرائي قال الجاحظ: والأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون من الإيمان بالهاتف بل يتعجبون ممن رد ذلك فمن ذلك حديث الأعشى ابن ماس بن زرارة الأسدي أنه سمع هاتفاً يقول: لقد هلك الفياض غيث بني فهر ... وذو البياع والمجد الرفيع وذو القدر قال فقلت مجيباً له: ألا أيها الناعي أخا الجود والندى ... من المرءِ تنعاه لنا من بني فهر فقال: نعيت ابن جدعان بن عمرو أخو الندى ... وذا الحسب القدموس والمنصب القصر قالوا ولنقل الجن الأخبار علم الناس وفاة الملوك والأمور المهمة كما تسامعوا بموت المنصور في اليوم الذي توفيه فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضاً كثير. وكانوا يقولون إذا ألف الجني إنساناً وتعطف عليه وخبره ببعض الأخبار وجد حسه ورأى خياله، وإذا كان عندهم كذلك قالوا مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحاء ابن قمعة_والمأمون الحارثي_وعتيبة بن الحارث بن شهاب في ناس معروفين من ذوي الأقدار من بين فارس رئيس وسيد مطاع. فأما الكهان فمثل حارثة بن جهينة وكاهنة باهلة وعنز سلمة ومثل شق وسطيح وأشباههم. وأما العراف وهو دون الكاهن فمثل الأبلق الأسيدي والأجلح الزهري وعروة بن زيد الأسدي وعراف اليمامة رباح بن كحلة وهو صاحب المستنير البلثعي وقد قال الشاعر: فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن أبرأتني لطبيب وقال جبهاء الأشجعي: أقام هوى صفية في فؤادي ... وقد سيرت كل هوى حبيب لك الخيرات كيف منحت ودي ... وما أنا من هواك بذي نصيب أقول وعرة الأسدي يرقي ... أتاك برقية الملق الكذوب لعمرك ما التثاؤب يا ابن زيدٍ ... بشافٍ من راق ولا مجيب

لسير الناعجات أظن أشفى ... لما بي من طبيب بني الذهوب وليس الباب الذي يدعيه هؤلاء من جنس العيافة والزجر والخطوط والنظر في أسرار الكف وفي مواضع قرض الفأر وفي الخيلان في الجسد وفي النظر في الأكتاف والقضاء بالنجوم والعلاج بالفكر. وقد كان مسيلمة يدعي أن معه رئياً في أول زمانه ولذلك قال الشاعر حين وصف مخاريقه وخدعه: بيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر ألا تراه ذكر خلة الجني. ما روي من هتوفهم بالبعثة المحمدية روى الإمام الماوردي في أعلام النبوة ما رواه أهل السير من هتوف الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وأنه كان من آيات نبوته الصادرة عن إلهام فمن ذلك ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالساً إذ مرَّ به رجل فقيل له: أتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين قال: ومن هو قالوا هذا سواد بن قارب قال نعم يا أمير المؤمنين فقال أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول: عجب للجن وتطلباتها ... وشدها العيس باقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صدق الجن ككذابها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... فليس قدماها كأذنابها فقلت له: دعني فقد أمسيت ناعساً ولم أرفع بما قال رأساً فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:

عجب للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككذابها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها فقلت: دعني فقد أمسيت ناعساً ولم أرفع بما قال رأساً فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول: عجب للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كانجاسها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها قال: فأصبحت وقد امتحن الله قلبي للإسلام فرحلت ناقتي وأتيت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله قال: هات فأنشأت: أتاني نجيٌّ بين هدو ورقدة ... ولم أك فيما نجوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بني غالب فشمرت من ذيل الأسرار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب فاشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون عَلَى كل غالب وإنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جيء شيب الذوائب وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب قال ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحاً شديداً ووثب إليه عمر فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم فقال: مذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن. يروي إبراهيم بن سلامة بسنده إلى رجل من خثعم قال: كانت خثعم لا تحل حلالاً ولا تحرم حراماً وكانت تعبد أصناماً (قال) فبينا نحن عند صنم ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح صائح من جوفه.

يا أيها الركب ذوو الأحكام ... ما أنتم وطائش الأحلام ومستندو الحكم إلى الأصنام هذا نبي سيد الأنام ... يصدع بالحق وبالإسلام اعدل ذي حكم من الأحكام ويتبع النور عَلَى الأظلام ... سيعلن في البلد الحرام قد ظهر الناس من الآثام قال الخثعمي: ففزعنا منه وخرجت إلى مكة وأسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وروى إبراهيم بن سلامة بسنده عن رجل حدث عمر بن الخطاب قال له: خرجت وأصحاب لي في تجارة لنا نريد الشام فصحبنا رجل من يهود فلما كنا ببعض أودية الشام هتف هاتف إياك لا تجعل وخذها موبقة ... فإن شر السير سير الحقحقة قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقه يدعو إلى ظل جنان مونقه فقال اليهودي: تدرون ما يقول هذا الصارخ قلنا: ما يقول قال: يخبر أن نبيّا قد ظهر خلا فكم بمكة فقدمنا فوجدنا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بمكة ومن بشائر هتوفهم ما حكاه أبو عيسى قال: سمعت قريشا في الليل هاتفا عَلَى أبي قبيس (جبل) يقول: إن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان من السعدان سعد بكر وسعد تميم فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... عَلَى الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات زخارف قال الماوردي: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه ولا يحج قوله فخروجه عن العادة نذير وتأثير في النفس بشير وقد قبلها السامعون وقبول الأخبار يؤكد صحتها ويؤيد حجتها (فإن قيل) إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلاً

عَلَى صحة الكهانة فعنه جوابان (إحداهما) أن دلائل النبوة غيرها وإنما هي من البشائر بها وفرق بين الدلالة والبشارة أخباراً والثاني أن الكهانة عن مغيب والبشارة عن معين فالعيان معلوم والغائب موهوم اهـ كلام الماوردي. مزاعمهم في أوصافهم ومن قتلوه يقولون من الجن جنس صورة الواحد منهم عَلَى صورة الإنسان واسمه شق وأنه كثيراً ما يعرض للرجل المسافر إذا كان وحده فربما أهلكه فزعاً وربما أهلكه قتلاً وضرباً (قالوا) فمن ذلك حديث علقمة بن صفوان بن أمية بن حرب الكناني جد مروان ابن الحكم في الجاهلية خرج وهو يريد مالاً له بمكة وهو عَلَى حمار وعليه أزار ورداء ومعه مقرعة في ليلة أضحانية حتى انتهى إلى موضع يقال له حائط جرمان فإذا هو بشق له يد ورجل وعين معه سيف وهو يقول: علقم إني مقتول ... وإن لحمي مأكول اضربهم بالذهلول ... ضرب غلام شملول رحب الذراع بهلول فقال علقمة: يا شق ها مالي ولك، ... اغمد عني منصلك تقتل من لا يقتلك قال شق: عنيت لك عنيت لك، ... كيما أبيح مقتلك فاصبر لما قد حم لك (قالوا) ومن الدليل أن هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدهما ثلاث مرات متصلة لا يتعتع فيها وهو يستطيع أن ينشد أثقل شعر في الأرض وأشقه عشر مرات ولا يتعتع. (قالوا) وقتلت مرداس بن أبي عامر أبا عباس بن مرداس_وقتلت الغريض خنقاً بعد أن غنى بالغناء الذي كانوا نهوه عنه_وقتلت الجن سعد بن عبادة بن ديلم وسمعوا الهاتف يقول:

نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده ورميناه بسهمين ... فلم نخط فؤَاده من استهووه ومنهم خرافة (قالوا) استهووا سنان بن أبي حارثة ليستفحلوه فمات فيهم واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثر إلى يومنا هذا_واستهووا عمرو ابن عدي اللخمي الملك الذي يقال فيه شب عمرو عن الطوق ثم ردوه عَلَى جذيمة الأبرش بعد سنين_واستهووا عمارة بن المغيرة ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش. ويروون عن عبد الله بن قتادة يرفعه قال: خرافة رجل من عذرة استهوته الشياطين. ورووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل المفقود الذي استهوته الجن ما كان طعامهم قال: الروث: قال فما كان شرابهم قال البول. توصيفهم رجل الغول وعين الشيطان العامة تزعم أن الغول يتصور في أحسن الصورة إلا أنه لا بد أن تكون رجلها رجل حمار، وخبروا عن الخليل بن أحمد أن أعرابياً أنشده: وحافر العير في ساق خدلجة، ... وجفن عين خلاف الأنس في الطول وذكروا أن العامة تزعم أن شق عين الشيطان بالطول: قال الجاحظ: وما أظنهم أخذوا هذين المعنيين إلا عن الأعراب. مزاعمهم في أرض وبار وبلاد الحوش تزعم الأعراب أن الله تعالى عندما أهلك الأمة التي كانت تسمى وبار كما أهلك طمساً وجديساً وعملاقاً وثموداً وعاداً أن الجن سكنت في منازلهم وحمتها من كل من أرادها وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجراً وأكثرها حباً وعنباً وأكثرها نخلاً وموزاً فإن دنا إنسان من تلك البلاد متعمداً أو غالظاً حثوا في وجهه التراب فإن أبى الرجوع خيلوه وربما قتلوه. (قال الجاحظ) والموضع نفسه باطل فإن قيل لهم دلونا عَلَى جهته وأوقفونا عَلَى حده وخلاكم ذم زعموا أن من أراده ألقى عَلَى قلبه الصرفة حتى كأنهم أصحاب موسى في التيه وقال الشاعر: وداع دعا والليل مرخ سدوله ... رجاء القرى يا مسلم بن حمار

دعا جعلاً لا يهتدي لمقيله ... من اللؤم حتى يهتدي لوبار فهذا الشاعر الأعرابي جعل أرض وبار مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدثون عنها كما يتحدثون عما يجدونه بالدو والصان والدهناء ورمل يبرين وما أكثر ما يذكرون أرض وبار في الشعر عَلَى معنى هذا الشاعر (قالوا) فليس اليوم في تلك البلاد إلا الجن والإبل الحوشية والحوش من الإبل عندهم هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن فالحوشية من نسل ابن الجن والعبدية والمهرية والعسجدية والعمانية قد ضربت فيها الحوش وقال رؤبة: حوت رجال من بلاد الحوش وقال ابن هرمة: كأني عَلَى حوشية أو نعامة ... لها نسب في الطير وهو ظليم وإنما سموا صاحبة يزيد بن الطثرية حوشية عَلَى هذا المعنى، وقال بعض أصحاب التفسير في قوله تعالى وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً إن جماعة من العرب كانوا إذ صاروا في تيه من الأرض وتوسطوا بلاد الحوش خافوا عبث الجنان والسعالي والغيلان والشياطين فيقوم أحدهم فيرفع صوته إنا عائذون بسيد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحد وتصير لهم بذلك خفارة. يوجد نقص فقرة مزاعمهم في الصرع وفقرة مزاعمهم في الطاعون ما يزعمونه في تمثيلهم وتصويرهم قال الجاحظ: تزعم العامة أن الله تعالى ملك الجن والشياطين والعمار والغيلان أن يتحولوا في أي صورة شاؤوا إلا الغول فإنها تتحول في جميع صورة المرأة ولباسها إلا رجليها فلا بد أن يكونا رجلي حمار. وإنما قاسوا تصور الجن عَلَى تصور جبريل عليه السلام في صورة دحية ابن خليفة الكلبي_وعلى تصور الملائكة الذين أتوا مريم وإبراهيم ولوطاً وداود في صورة المؤمنين_وعلى ما جاء في الأثر من تصور إبليس في صورة سرافة بن مالك_وعلى تصوره في صورة الشيخ النجدي. (قالوا) فإذا استقام أن تختلف صورهم وأخلاط أبدانهم وتتفق عقولهم ونياتهم واستطاعتهم جاز أيضاً أن يكون إبليس لعنة الله عليه والشيطان والغول أن يتبدلوا في الصور من غير

أن يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة اهـ. ونقل الحافظ أحمد بن حجر في فتح الباري عن البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً اهـ. (قال ابن حجر) وهذا محمول عَلَى من يدعي رؤيتهم عَلَى صورهم التي خلقوا عليها وأما من ادعى أنه يرى شيئاً منهم بعد أن يتطور عَلَى صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور، (قال) واختلف أهل الكلام فقي ذلك فقيل هو تخييل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم عَلَى ذلك بل بضرب من الفعل إذ فعله انتقل كالسحر (أي الشعبذة) (قال) وهذا قد يرجع إلى الأول اهـ وسيأتي تحقيق تمثلهم في أول مباحث الخاتمة. رأيهم في قرناء الشعراء الفحول قال الجاحظ: يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحل عَلَى لسانه العشر ويقولون اسم شيطان المخبل عمرو واسم شيطان الأعشى مسحل وكذلك أيضاً اسم شيطان الفرزدق عمرو وقد ذكر الأعشى مسحلاً حين هجاه جهنام فقال: دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له ... بجهنام يدعى للهجين المذمم وذكره الأعشى فقال: حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأقبح جياش العشيات مرحم وقال أعشى سليم: وما كان جني الفرزدق أسوة ... وما كان فيهم مثل فحل المخبل وما في الخوافي مثل عمرو وشيخه ... ولا بعد عمرو شاعر مثل مسجل وقال الفرزدق في مديح أسد بن عبد الله: لتبلغن أبا الأشبال مدحتنا ... من كان بالغور أو طودي خراسانا كأنها الذهب العقيان حبرها ... لسان اشعر خلق الله شيطانا وقال: فلو كنت عندي يوم قرء عذرتني ... بيوم دهتني جنه وخبائله

فمن أجل هذا البيت ومن أجل قول آخر: إذ ما زاع جارية فلاقى ... خبال الله من أنس وجن دعاني شقنان إلى خلف بكرة ... فقلت اتركني فالتفرد أحمد أي أحمد لي في الشعر من أن يكون لي عليه من معين فقال أعشى سليم يرد عليه: إذا ألف الجني قرداً مشنفاً ... فقولوا لخنزير الجزيرة أبشر فجزع بشار عند ذلك جزعاً شديداً لأنه كان يعلم مع تغزله أن وجهه وجه قرد وكان أول ما عرف من جزعه من ذكر القرد الذي رأوا منه حتى أنشد قول حماد عجرد: ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد وفي أن مع كل شاعر شيطاناً يقال معه قول أبي النجم: إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر وقال آخر: إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبوٌّ عني فإن شيطاني كبير الجن وأما قول عمرو بن كلثوم: وقد هرب كلاب الجن منا ... وشذبنا قتادة من يلينا فإنهم يزعمون أن كلاب الجن هم الشعراء. ومما دل عَلَى أنهم يقولون أن مع كل شاعر شيطاناً قول شاعرهم: إذا ما ترعرع فينا الغلا ... م فليس يقال له من هوه إذا لم يسد قبل شد الإزا ... ر فذلك فينا الذي لا هواه ولي صاحب من بني الشيبا ... ن فطوراً أقول وطوراً هوه وشيصبان وشنقان رئيسان من آباء القبائل في زعمهم وقد ذكرهما أبو النجم. خيالهم في جن الشام والهند قال الجاحظ: وأصحاب الرقي والأخذ والعزائم والسحر والشعبذة يزعمون أن العدد والقوة في الجن والشياطين لنزالة الشام والهند وإن عظيم شياطين الهند يقال له (سكويرك) وعظيم شياطين الشام يقال له در كاراب وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد ابن بشير حين

ادعى هذه الصناعة فقال: قد لعمري جمعت من أصعياب ... ثم من شعر آدم والخراب وتفردت بالطوالق والهيكل ... والدهتمات من كل باب وعلمت الأسماء كي ما تلاقي ... زحلاً والمريخ فوق السحاب واستثرت الأرواح بالبحر يأتين لصرح الصحيح بعد المصاب جامعاً من لطائف الدهمسيا ... ت كنوساً نعتها في كتاب ثم أحكمت متقن الكرويا ... ت وفعل الناريس والنجاب ثم لم تفتك السعاية والخد ... مة والاحتفاءُ بالطلاب بالخواتيم والمناديل والسعي ... بسكويرك ودركاراب توهمهم ملامح الجن في الأنس قال القعقعاع بن زرارة في ابنه عوف ابن القعقعاع: والله لما أرى في عوف من شمائل الجن أكثر مما أرى من شمائل الأنس: وقال بجير بن أيوب: أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من الأنس حتى تقضت وسائله له نسب الأنسي يعرف نجله ... وللجن منه خلقه وشمائله وقال الآخر: وصار خليل الغول يعد عداوة ... صفياً وربته القفار البسابس فليس بجني يعرف نجله ... ولا هو أنس تحتويه المجالس يظل ولا يبدي لشيء نهاره ... ولكنه ينتاع والليل دامس قولهم في جنون الجن وصرع الشيطان أنشد أعرابي: فما يعجب الجنان منك عدمتهم ... وفي الأسد أفراس لهم ونجائب أتسرج يربوعاً وتلجم قنفذاً ... لقد أعوزتهم ما علمت المراكب فإن كانت الجنان جنت فبالحرى ... ولا ذنب للأقدار والله غالب وما الناس إلا خادع ومخدع ... وصاحب إسهاب وآخر كاذب وقال دعلج بن الحكم

وكيف يفيق الدهر كعب بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلة يصرع وأنشد عبد الرحمن بن منصور الأسدي: جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون وأنشد: أتوني بمجنون يسيل لعابه ... وما صاحبي إلا الصحيح المسلم وقال ابن ميادة: فلما أتاني ما تقول محارب ... تغنت شياطين وجن جنونها وحكت لها مما أقول قصائداً ... ترامت بها صهب المهاري وجونها وقال في التمثيل: إن شرخ الشباب والشعر الأسو ... د ما لم يعاض كان جنونا وقال الآخر: جادت بها عند الغداة يمينه ... كلتا يدي عمرو والغداة يمين ما إن يجود بمثلها في مثله ... إلا كريم الخيم أو مجنون وقال الجمحي: ولو أنني لم أنل منكم معاقبة ... إلا السنان بذات الموت مطعون أو لا خطبت فإني قد هممت به ... بالسيف إن خطيب السيف مجنون وانشد: هم أحموا حمى الرقبى بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون ما يحكونه من نيران السعالي والجن أنشد أبو زيد لسهم بن الحارث: ونار قد حضأت بعيد هدء ... بدار لا أريد بها مقام سوى تحليل راحة وعين ... أكالتها مخافة أن تنام أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قد عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم نحسد الإنس الطعاما

قال الجاحظ: وهذا غلط وليس من هذا الباب بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عبيد بن أيوب: فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليَّ نيران تبوخ وتزهر فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان قال الجاحظ رحمه الله: كان أبو إسحق يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان أصل هذا المر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الأنس استوحش ولاسيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة، لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة وقد ابتلي بذلك غير حاسب كابي ياسر ومثنى ولد الفنافر (قال) وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه وداووه، وقد عرض ذلك لكثير من الهند وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع ويتوهم عَلَى الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً يناشدوه وأحاديث يتوارثونها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ وربي فيه الطفل فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أو وحشة أو فزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدا وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور وربما كان في الجنس واصل الطبيعة تفاحاً كاذباً وصاحب تشنيع وتهويل فيقول في ذلك من الشعر عَلَى حسب هذه الصفة فعند ذلك يقول رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول تزوجتها قال عبيد بن أيوب: فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر وقال: أهذا رفيق الغول والذئب والذي ... يهيم بربات الحجال الهواكل وقال آخر: أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من النس حتى قد تقضت وسائله

له نسب الأنسي يعرف نجله ... وللجن منه خلقه وشمائله ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومد لهم فيه أنه ليس يلقون بهذه الشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم والأغبياء لم يأخذ نفسه قط لتمييز ما يوجب التكذيب والتصديق أو الشك ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط_وأما أن يلقوا رواية شعر أو صاحب خبر فالرواية عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها، وآخر يزعم أنه رافق في مغارة نمراً فكان يطاعمه ويؤاكله فمن هؤلاء خاصة القتال الكلابي فإنه الذي يقول: أيرسل مروان الأمير رسالة ... لآتيه إني إذاً لمضلل وما بي عصيان ولا بعد منهل ... ولكنني من خوف مروان أوجل وفي ساحة العنقاء أو في عماية ... أو الأود ما من رهبة الموت موئل ولي صاحب في الغار هدك صاحباً ... هو الجون إلا أنه لا يعلل إذا ما التقينا كان جل حديثنا ... صماتاً وطرف كالمعابل أكحل تضنت الأروى لنا بطعامنا ... كلانا له منها نصيب ومأكل فأغلبه في صنعة الزاد أنني ... أميط الأذى عنه ولا يتأمل وكانت لنا طب بأرض مضلة ... شريعتنا لأي من جاء أول كلانا عدو لو يرى في عدوه ... محزاً وكل في العداوة محمل وأنشد الأصمعي: ظللنا معاً جارين نحترس الثأي ... يشاربني من فضلتي وأشاربه ذكر سبعاً ورجلاً قد توافقا كل واحد منهما يدع فضلاً من سؤره ليشرب صاحبه، والثأي الفساد، وخبر إن كل واحد منهما يحترس من صاحبه. فأما من جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينة والتحقيق وغنما المثل في هذا مثل قوله: قد كان شيطانك من خطابها ... وكان شيطاني من طلابها حيناً فلما اعتركا ألوى بها

والإنسان يجوع فيسمع في أذنه كالدوي وقال الشاعر: دوي الفيافي رابه فكأنه ... أميم وساري الليل للضوء يعود يعود أي يضجر، وربما قال الغلام لمولاه دعوتني فيقول لا وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرض لا أنه سمع صوتاً. ومن هذا الباب قول تأبط شراً أو قول القائل في كلمة له: يظل بموماة ويمسي بقفرة ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شده المتدارك إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كانئٌ من قلب شبحان فاتك ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخضر باتك إذا هزه في عظم قرن تذللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك يرى الأنس وحشي الفلاة ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك (قال الجاحظ): ويدل عَلَى ما قال أبو إسحق من نزولهم في بلاد الوحش وبين الحشرات والسابع ما رواه لنا أبو مسهر عن أعرابي من بني تمتم نزل ناحية الشام فكان لا يعدمه في كل ليلة أن يعضه أو يعض ولده أو بعض حاشيته سبع من السباع أو دابة من دواب الأرض فقال: تعاورني دين وذلك وغربة ... ومزق جلدي ناب سبع ومخلب وفي الأرض أحناش وسبع وحارب ... ونحن أسارى وسطها نتقلب ثم عد في قصيدته ما ينيف عن الثلاثين صنفاً ما بين حيوان وحشرات. يتبع جمال الدين القاسمي.

نشوء اللغات الإسلامية

نشوءُ اللغات الإسلامية تتمة ما ورد في الجزء الماضي دعت ضرورة إيجاد ألفاظ جديدة للتعبير عن أفكار حديثة أن تأخذ اللغة العربية من اللغات الأجنبية أو أن تعمد إلى معجمها بأن تصيغ ألفاظاً جديدة أو بأن تضع معاني جديدة للألفاظ التي تجدها في متن اللغة. ولم يكن في العربية سهولة اللغات الرومانية بأن تعمد إلى اللاتينية أو اليونانية لتصيغ التعابير الجديدة وبهذا تألف حزبان حزب يقول بأخذ الألفاظ الإفرنجية والآخر لا يرضى إلا بالرجوع إلى الاشتقاق من متن اللغة. والظاهر أن الحزب الأول قد كتبت له الغلبة أولاً ولاسيما في بلاد الجزائر وذلك لجهل المترجمين أو لغلبة الكسل عليهم فبدلاً من أن يبحثوا في إيجاد لفظ يقابل اللفظ الفرنسوي اكتفوا بنقله عَلَى ما هو بدون أن يحدثوا فيه تغييراً ثم إن عدم وجود صحافة وطنية مما ساعد عَلَى ذلك أيضاً فإن جريدة المبشر الرسمية ما برحت إلى عهد قريب هي الجريدة الوحيدة في الجزائر أما جرائد البلاد الخارجية فلم يكن دخولها إليها إلا من المتعذرات. وقد ذكر المسيو واشنطون سويرس من جملة الألفاظ الأعجمية التي دخلت عَلَى اللغة الجزائرية لفظة شامبيت ويجمعونها عَلَى شامابيت أي حارس الحقل بدلاً من عسس الفحص وفي الوراق الرسمية السيد الكوفرنور جنرال أي سيدي الحاكم العام في حين كان من السهل جداً أن يقال سعادة والي مملكة الجزائر وقد أنحى برسنيه في كتابه الملح العربية عَلَى هذا النقل الرديء وحق له أن ينحي عليه قال لأنه لا يفهم له معنى حتى عند الفرنسيس أنفسهم. ويا ليته يرى ما سرى إلى لسان العامة من الجزائريين وفي مكاتباتهم من الألفاظ الفرنسوية المحرفة تحريفاً تتعذر أحياناً معرفته. وفقد جاء في كتاب الرسائل العربية المخطوطة الذي نشره المسيو دلفين لفظة لانتوراليزه فرانسه بمعنى المتجنس بالجنسية الفرنسوية ولفظة كاتارفاويتبدلاً من لفظة ثمانية وثمانين. ونحن لا نورد ألفاظاً كثيرة من هذا القبيل من الألفاظ الإفرنجية التي يقل فيها التحريف ولا تتأذى منها النفس في العبارة العربية مثل لفظة كونسيون دو امتياز ماءٍ التي وردت في رسالة لأحدهم فنقلها كما هي. ولقد وقع رجوع إلى الأصل في مكافحة الألفاظ الأعجمية التي أوشكت أن تغير نضرة اللغة. فأكد المسيو باربيه دي مينار سنة 1896 مع السرور أن الصحافة العربية في مصر

وسورية أخذت تستعيض عن الألفاظ الأجنبية التي كثرت فيها بألفاظ عربية صرفة وذلك أن اللغة يمكنها بما لها الاستغناء عن الألفاظ الأعجمية وكان منها أن عربت سنة 1897 لفظة كونغره بلفظة مؤتمر للدلالة عَلَى مؤتمر المستشرقين الذي عقد تلك السنة في مدينة باريز ووضعت كلمة مستشرق للفظة أوريانتاليست الفرنسوية وهي اسم الفاعل من شرق والمصدر استشراق أي طلب الشرق أو انتحاء نحو الشرق وهي تنطبق عَلَى الأصل الإفرنجي كل الانطباق. وأخذ اللسان العثماني هذه الألفاظ الثلاث عن العربية وانشأ يستعملها وكان من قبل ينقل اللفظ الفرنسوي برمته واحتذى اللغة العربية مطالب الحياة الحديثة هو من العادات المتبعة في الصحافة التونسية ويرجى أن تجري سائر الجرائد العربية في البلاد الأخرى والجرائد السورية والمصرية وهي نموذجها ومصدرها الوحيد عَلَى مثال الجرائد التونسية في تعريب الألفاظ. وإليك الآن عدة أمثلة في استعمال المولد من الألفاظ العربية الصرفة اقتبسناها من كتاب المسيو واشنطون سويرس ومن هذه الألفاظ لفظة منطاد للبالون ودراجة للبيسيكليت ومطفأة لمضخة الحريق ومستوصف. ومن جملة الألفاظ التي كانت موجودة في اللغة واستعملت لمعنى جديد لفظة امتياز وإنهاء ودشن افتتح وتحقيق ومذهب (سياسي) وصبغة (سياسية). وأنت ترى أن لفظة صبغة بالمعنى الخاص معناها اللون والصباغ أما الذين يصوغون الكلمات المولدة عندما يعمدون إلى ألفاظ موجودة في متن اللغة فإنهم يستندون عَلَى المعنى الأصلي للفظ الذي يريدون أن يعربوه. ومن هذه الألفاظ التي كان عَلَى المسيو واشنطون سويرس أن يضيفها إلى قائمة الألفاظ المعربة لفظة كلية فقد كان المترجمون يستطيعون أن يطلقوا عليها لفظة دار العلوم أو دار الفنون ولكن كثيراً من الكتاب لاحظوا أن لفظة أونيفرستيهتعطي معنى الاجتماع والمجموع فصاغوا من كل كلية وهي ترجمة حرفية للفظة الفرنسوية. ولفظ كلية شائع اليوم في مصر كثيراً. وبعد فإنا إذا بحثنا عن الألفاظ في كل قطر عربي وعن علاقة ألفاظه بالألفاظ الفرنسوية نستنتج ما يأتي: ففي سورية ومصر وتونس كمية كبيرة من الألفاظ الفرنسوية مختلفة الأساليب وفيها أيضاً كثير من الألفاظ التركية أو الفارسية انتقلت إلى العربية بواسطة التركية وهي في الأكثر تعابير عسكرية وإدارية أو ألفاظ تشريف مثل باشا وبك وأفندي

وخانم. وألفاظ طليانية مثل سيغورطه (ضمان من الحريق أو ضمان الحياة) المستعملة في التركية. وندر استعمال هذه الألفاظ في البلاد الأخرى وهي شائعة بالاستعمال عَلَى الألسن في طرابلس الغرب كما تجد بعض الألفاظ الرومية وهناك ألفاظ أعجمية أخرى ولكنها قليلة وهي مستعملة في مصر خاصة مثل لفظة جنيه الإنكليزية لليرة المصرية. وهذا جماع الألفاظ الأعجمية وقد سبق لنا الكلام عَلَى المالطية وهي بين اللغة التونسية والمصرية وفيها أثر كبير من الإيطالية. ثم أن في تونس لغة مكتوبة منقحة للغاية ليس فيها شيءٌ من الألفاظ الأجنبية ولغة محكية دخلت إليها الألفاظ الإفرنسية والإيطالية بكثرة. أما لهج الجزائر فتكثر فيها الألفاظ الفرنسوية وفيها كما في لهجة تونس بعض الألفاظ التركية وقليل من الإسبانية والإيطالية. أما لغة مراكش فتجد فيها تعابير فرنسوية وإيطالية واقتبست قليلاً من لغة البربر وكثيراً من اللغة الإسبانية وربما بعض الألفاظ البرتقالية. وقد أكد المسيو مرسيه في بحثه عن هذه الألفاظ المشتركة أن الألفاظ البربرية (التي قد تكون أحياناً ألفاظاً من أصل عربي متبربرة ثم أعيدت إلى اللغة العربية) قلما توجد إلا في البلاد الكبرى التي تكثر فيها اللغة البربرية ثم أن تأثير اللغة الإسبانية في المدن الساحلية محسوس جداً فتراهم يستعملون في الكلام لفظة كوشطا للساحل مأخوذة من كوستا الإسبانية وفالسو أي رديء الصفة وفافور نعمة وخلينالد محتذاة من جنرال وموندا من موني أي المعاملة. ولم يثبت بأن الأدوات أو الحروف دي وديال الكثيرة الاستعمال قد أتت من دي ودل ولكن اللغة العربية المراكشية أخذت عن الإسبانية حرف ب. وقد لاحظ المسيو مرسيه وحقت له هذه الملاحظة بأن قلة التناسب في هذه اللغة وتأثيرها باللغة البربرية والإسبانية ناشئة من أسباب كثيرة والحقيقة أن اللغة البربرية ليست لغة مكتوبة هو من أهم الأسباب عَلَى أن العربية كانت في كل زمن محو اللغة البربرية وعاملة عَلَى تمدنها وتحضيرها. من الصعب تعيين اللغات الدخيلة عَلَى لغات فارس الوطنية قبل الفتح العربي فللغة البهلوية كتابة آرامية وأكثر ألفاظها آرامية ولكن أي تأثير كان في اللغة من هذه الألفاظ السامية المشتركة؟ والواقع أن هذه الألفاظ الدخيلة لم تكن أسماء مجردة بل أسماء كثيرة الاستعمال وضعت لما يقابلها من الألفاظ الإيرانية التي كانت ولا تزال موجودة وهذا يقرب من

الحقيقة من يدعون أن البهلوية لا تختلف إلا في الخط. وقد تبدل كل شيء في الفتح الإسلامي فدخ لت عَلَى اللغة الفارسية ألفاظ سامية جديدة ومنها العربي التي هي تعابير دينية وألفاظ مجردة وأخذوا يكتبونها بألف باء العرب وهذا هو أصل الفارسي الحديث. ولكن هذا التحول طال أمره حتى أن الفردوسي كتب في القرن العاشر كتابه الشاهنامة وهي قصة أبطال فارس بدون أن يستعمل الألفاظ العربية وهذا يدل عَلَى مقدرة يصعب تقليدها اليوم وإن كان بعض العلماء يقدرون عَلَى كتابة مكاتيب مطولة ومقالات جرائد مقتصرين فقط عَلَى الألفاظ الإيرانية ولكن من إدغام اللغة الفارسية بالألفاظ العربية نشأت اللهجة الفارسية الحالية. ولقد كان الفرس والأتراك أو التتار في القرون الوسطى الكثير من العلائق التي أبقت أثراً منها في اللغة وسرت بعض الألفاظ التركية إلى الفارسية منذ قرون ومن جملها ما ذكر أرمينوس فمبرى من الألفاظ المستعملة في الفارسية وهي من أصل تركي مثل سالار قائد وخواجه معلم أو أستاذ. وسرى إليها بعض الألقاب وأسماء الوظائف مثل آغا وبك وخان وباشي (زعيم) التي كثيراً ما نراها متصلة بألفاظ فارسية مثل متولي باشي وهو اسم لقب ديني وده باشي زعيم عشرة (أون باشي) أما سائر اللهجات المحكية في فارس كالآرامية ولغات الشعوب القافقاسية الخاضعة للحكم الفارسي فلم تتأثر حتى أوائل القرن التاسع عشر بالمؤثرات الفارسية وهكذا في اللغة الهندستانية عَلَى كثرة الصلات الموجودة بين فارس والهند فالواجب مع هذا أن لا نغفل عن لفظة لك مئة ألف وكورور خمسمائة ألف وتشاب طبع أو مطبوعات وتنوب هذه عن لفظة طبع العربية وهي لفظة حديثة العهد. هذا ما يقال في الدور الذي سبق الدور الذي صار لفارس صلات مع أوربا في أوائل القرن الماضي. وبعد ذاك الدور هاجمت الألفاظ الأجنبية اللغة ولم تكن هذه الألفاظ مأخوذة عن أقرب الأمم من فارس كما كان المنتظر ولا من أكثرهن نفوذاً فيها من حيث السياسة والاقتصاد بل إن اللغة الفرنسوية هي التي دخلت عَلَى أهل الجيل الحاضر بأفكارها ومصطلحاتها اللازمة للتعبير عن الألفاظ الحديثة في الشرق. بحث في هذا الموضوع أحد كبار رجال فارس المرزا علي خان ذكاء الملك مدير مدرسة السياسة في طهران في محاضرة له ألقاها في مدرسة الاتحاد الإسرائيلي في عاصمة إيران

يوم 13 نيسان 1907 ونشرت محاضراته في المجلة الزرقاء تكلم فيها بعد أن أورد بعض الملاحظات عَلَى الألفاظ العربية والتركية والهندية التي أخذتها الفارسية عَلَى نشوء لغته الحديث فقال أن اللغة الروسية واللغة الإنكليزية لم يسر منهما إلى الفارسية إلا ألفاظ قليلة جداً. وربما وجد الناظر في لغة أهل طوريس ورشت بعض ألفاظ روسية في اللغة الدارجة ولكنها قليلة للغاية وهذا مما يدل عَلَى أن الروس قد أخذوا ألفاظاً كثيرة من لغتهم عن الأجانب مثل الفرنسويين والألمان والإنكليز والطليان فلم تستعر الفارسية من الروسية إلا لفظ سماور واستكان طاس ودروخكا عربة وكاليسكه كاليش (وهي عربة ذات أربعة دواليب) وتارنتاس وباراخود للسفينة البخارية وأسكنات معاملة الورق وهي من أصل فرنسوي أسنيا. والألفاظ الإنكليزية عبارة عن عشر وهي فاغون وترمواي ونوت من بانكنوت وشيك وجيلاس (قدح للشرب) وجلاس وسار لا سهم الشركات الخ. أما الألفاظ الفرنسوية في الفارسية فكثيرة جداً وهي تنقسم عَلَى الوجه الآتي: الألفاظ العلمية وأسماء العقاقير وأسماء الأطعمة مثل سوب حساءٌ وجيكو فخذ وكوتلت ضلع وأسماء الألبسة مثل كلوش حذاء الرجل وبلوز مشلح وبالتو معطف وباردسو شعار وأسماء للتعبير عن المخترعات الحديثة: مثل تلغراف وتلفون وأتوموبيل وبالون وغاز للاستصباح وألفاظ للجندية مثل أسكادرون كتيبة وباتري (بطارية) عدة مدافع ومارش سير هالت وقوف ودفليه مضيق وموسيك موسيقى وإن وجود معلمين من الفرنسيس في الجيش الفارسي في أزمان مختلفة قد انتهي باستعمالهم الألفاظ الإفرنجية وأسماء الأثاث مثل بيانو ولانترن مصباح وأسماء مدرسية مثل كلاس صف وبروغرام خطة وديكته إملاء ونمرة واستعمالهم لفظتي برلمان وكونستيتوسيون اللتين نقلوهما بألفاظ شوالي مري ومشروطيت أو سياسية فيقولون عنها سياست وتعابير دولية مثل قنصل وتمبر طابع وبودجه ميزانية وهنور شرف التي تقابل لفظة هنر الموجودة في الأصل الفارسي وقد استخرجها مونتسكيو وقبلت بين الفارسيين كما قبلت لفظتا مرسي الشكر وباردون العفو. واستنتج ذكاء الملك أنه لا فائدة من اختراع ألفاظ جديدة متى أريد التعبير عن أفكار حديثة

فإن اللفظ الجديد عَلَى ما يرى هو غريب كاللفظة الأجنبية التي يراد اتقاؤها. ومن رأيه ألا يؤخذ من اللغات الأجنبية لفظ ما دام في أصل اللغة الفارسية ما يقوم مقامه. ولذا عبروا عن السكة الحديدة بلفظ راه آهينومتولي الأشغال بلفظ مه لمحتكذار ولفظ مرسل فوق العادة بلفظ مأمور فوق العادة وغرفة التجارة بلفظ أنجمن تجارتي ومهندس بلفظ فني مأمور. ويغلب عَلَى الظن أن عدد الألفاظ الأجنبية سيقل بعد حين فإنا نرى الجدال قائماً منذ بضع سنين في الصحافة لإعادة اللغة الفارسية إلى نضرتها الأولى والقوم يريدون الرجوع بلغتهم إلى لغة الفردوسي بحذف الألفاظ العربية التي كثرت سرايتها إلى الفارسية وألفنا استعمالها عَلَى ما تراه من الأمثلة التي أوردناها. ويدعي القائلون بهذا الرأي أن حذف الألفاظ العربية لا يفهم منه مخالفة للدين فما من شيء في القرآن يقضي علينا بأن تستعمل في لغتنا ألفاظ عربية. وإن تناغي الفرس بوطنيتهم ما فطر عليه القائمون بهذا الرأي من الغيرة والاقتدار ومن جملتهم اللغوي العالم مؤلف الدولة ليدعوا إلى عقد الرجاءِ بنجاح هذا المشروع. كان الأتراك قبل أن يدينوا بالإسلام يستعملون ألف باء من أصل سامي أما الألف باء اليونانية أو الرومانية القديمة والويغور فالظاهر أنها لم تكن تقتبس شيئاً من اللغات السامية. واقتبسوا عدداً قليلاً من الألفاظ الفارسية والصينية وعدداً غير قليل من الألفاظ المغولية التي كان الاشتراك في الأصول بينها وبين التركية يسهل احتذاء مثالها بالنظر لكثرة الصلات بين الشعبين. ومن هذه جملة ما أخذه الأتراك قبل الإسلام من جيرانهم حتى إذا انتحلوا الدين الإسلامي تغير كل ذلك. فكانت العربية هي لغة الدين والعلم مصدراً للأتراك يتناولون منها الألفاظ الدينية والعلمية التي تمس حاجتهم إليها وكانت اللغة الفارسية عَلَى أتم نشوؤها ولها آداب رائقة هي لغة الأتراك الأدبية في عامة الأقطار وما الشعر التركي إلا عَلَى مثال الشعر الفارسي وانتشر التهذيب الفارسي من آسيا الوسطى إلى البحر الرومي وكانت له المكانة العليا في كل مكان يتكلم به باللغة التركية التي كانت مفرداتها كثيرة في القديم بفضل طرق الاشتقاق الكثيرة الهينة ولكنها لم تلبث أن افتقرت بما دهمها من الألفاظ العربية الفارسية. وإنك لترى في النصوص القديمة من لغة الويغور ألفاظاً مثل كوتادغو بيليك وهي من القرن الحادي عشر وهي تكثر في لغة الجغتاي نحو القرن السادس عشر وقد تركت لغة

الويغور بالمرة واستقر أمر التركية بأنها لغة إسلامية. أما اللهجات الشرقية التي هي أكثر عراقة في تراكيبها القديمة فقد احتفظت بتراثها الوطني من المفردات أما في اللغة العثمانية ولاسيما في اللغة العثمانية الأدبية فإنك لا تكاد تجد لفظة تركية مقابل ثلاثة ألفاظ عربية أو فارسية الأصل ففي آذربيجان والقافقاس تجد تأثيرات اللغة الفارسية ظاهرة في لهجة القوم كل الظهور وفي آسيا الصغرى ترى اللغة العربية مؤثرة في لغة السكان ولاسيما في اللفظ. وليست هذه الألفاظ المشتركة الإسلامية هي الوحيدة في بابها فإنك تجد في لغة سكان التركستان الصينية ألفاظاً سرت غليها من اللغات الصينية ولكن ما أُخذ من اللغات الأوربية كثير للغاية. في أي عصر دخلت إلى التركية الألفاظ الأولى التي هي من أصل غربي؟ إنه من الصعب أن يحكم بذلك حكماً صريحاً عَلَى أن الأخذ عن الرومية نشاهده قد حدث منذ القرن الثالث عشر. وفي المعجم اللغوي الذي نشره المسيو هوتسما وكتاب نحو التركية لأبي حيان بعض ألفاظ من هذا القبيل مثل لفظة (أوغور) سعادة (أرغات) صانع وهذه الألفاظ عَلَى ندرتها في اللهجات الشرقية تكثر بسرعة عجيبة في اللغة التركية العثمانية بعد فتح الآستانة حتى أن لفظة (أفندي) الذي كتب المسيو بسيشاري تاريخها الغريب والتي تنقلت بها الحالات صورة ومعنى كانت مستعملة منذ القرن الخامس عشر. وإذا كانت الإيطالية هي اللغة البحرية والتجارية في البحر المتوسط فقد اكتسبت في كل زمان كمية عظيمة من الألفاظ للغة العثمانية فإننا نجد فيها تعابير بحرية وتجارية وهي من لهجة البندقية خاصة. وقد اقتبس اللسان العثماني عدة تعابير بحرية ورياضية من اللغة الإنكليزية كما اقتبس قديماً من اللغة المجرية واللغات السلافية في البلقان عدة ألفاظ عسكرية أما سائر اللغات المحكية في المملكة العثمانية فاللغة التركية العثمانية تكاد لم تأخذ عنها شيئاً وقد سرت إليها بعض الألفاظ الألمانية وبعض الألفاظ من اللغات الأخرى ولكن الألفاظ الإفرنسية كانت ولا تزال أكثر وجوداً في اللسان العثماني من جميع اللغات الأجنبية. بدأ دخولها عَلَى يد السلطان محمد مبيد الجيش الإنكشارية ويجب اعتبار هذا التأثير عَلَى الأقل نتيجة لازمة للإصلاحات التي جعلت المملكة العثمانية تشابه اليوم بعد اليوم سائر ممالك أوربا بحكومتها

وعاداتها وقوانينها فقضت الحال للتعبير عن أفكار جديدة لإيجاد ألفاظ جديدة وكان معجم اللغة التركية الفارسية العربية يكفي في أحوال كثيرة لسد هذه الثلمة ولكن الأتراك رأوا من النسب قبول التعابير الأجنبية ولاسيما الإفرنسية منها عَلَى ما هي عليه. وإذا غيروها أحياناً فإنما يغيرونها لتكون موافقة للفظ التركي. وزاد هذا الاقتباس من الإفرنسية إنشاءُ صحافة تركية وطنية نسجوا فيها عَلَى مثال الصحافة الوربية وكثر شعف أدباء العثمانيين بتلاوة مصنفات الفرنسويين حتى حلت محل مصنفات الفرس نحو سنة 1850 فأصبحت المثال الذي يحتذيه كتاب الأتراك ولاسيما ترجمة القصص الفرنسوية التي هي في الأكثر من أسلوب الإنشاء الطبيعية. ثم عاد القوم منذ خمسة عشر سنة يريدون وضع حاجز دون هجوم الدخيل عَلَى لغتهم وطرح ما دخلها منه وأرادوا أن يعبروا عما يريدون بالألفاظ التركية وإذا لم يكن فيها ما يقابل اللفظ الإفرنجي يعمدون إلى الفارسية أو العربية. وكاد هذا الإصلاح يأتي بالنتائج المنتظرة منه خصوصاً وأن له علاقة بالحركة لتوحيد اللغة العثمانية وهي الحركة التي أشير عليها وسنعود إلى الكلام عليها. وعلى أي حال فإنا نرى الآن في الصحافة التركية ألفاظاً مولدة مثل تحت البحر سفينة سي أي غواصة وآثار عتيقة أي العاديات أو الآثار العتيقة وبيطر فلك الحياد بين الملل دولي وغيرها. وقد نقلوا إلى التركية كما نقل كتاب العرب ألفاظاً إفرنجية وضعوا لها مسميات فترجموا دراعة بلفظ زرخلي ولكن الطراد أبقوه عَلَى أصله الفرنسوي فقالوا (كروازور) وقالوا عن النسافة (توربيدو) وهي من الإيطالية وبالإفرنسية (توربل) و (غانيوط) أي سفينة مدفعية وهي من الإنكليزية (كونبوت). أما المصطلحات العلمية فتكاد تكون تقريباً بأجمعها تركية أو فارسية أو عربية ويعمد إلى الفرنسوية واللاتينية في النادر ولا تستعمل الإنكليزية ولا الألمانية. أما سائر اللهجات الشرقية التي تأثرت من اللغات العثمانية باللغات الأوربية فإن اللغة الروسية تكاد تكون وحدها منفردة بهذا الامتياز ولا يشاهد ذلك إلا في اللغة التتارية خاصة والظاهر أن ذلك بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر فإنك تجد في القصص الهزلية التي ألفها أليرزا فتح العلي آخوان زاده التي كتبت بين سنتي 1850 و1860 بعض الألفاظ لم تكن روسية فتكون قد سرت إلى التتارية من اللغة الروسية مثل (زاكون)

قانون (بيلت) من (بيله) الفرنسوية أي تذكرة و (باشور) من (باسور) أي جواز و (مدال) من ميدال أي نوط ولا تكاد الآن تفتح جريدة مثل ترجمان التي تصدر في بعجه سراي وترقي التي تصدر في باكو وجريدة قازان مخبري إلا وتدهش مما تراه من كثرة الألفاظ الروسية أو المصبوغة بالصبغة الروسية لأن كثيراً منها من أصل فرنسوي أو ألماني أو إيطالي. إذا عرفت من هذا فما هو مستقبل اللغة التركية؟ إنا نشهد الآن لجنة المعارف العمومية في مجلس النواب الروسي تعنى بالكتب المؤلفة باللغة المحلية للمدارس وقد رفضت الاستعاضة عن اللفظ التتري باللفظ التركي وذلك ليحولوا دون الجامعة التركيةز ولكن من أين نشأت هذه المخاوف؟ نشأت من كون جميع العناصر التركية مهما كانت لهجتهم من الآستانة حتى سمرقند يريدون أن يتعارفوا ويتفاهموا وإنا لنجد الصحف العثمانية تقرأ في روسيا كثيراً والصحافة التترية تتخذها نموذجاً تحتذيه حتى ولو كان ما يقتبسونه منها من المولد مأخوذاً من أصل أوربي ولا يجب أن يفوتنا أن كثيراً من الألفاظ الفرنسوية قد سرت إلى اللغة التترية بواسطة اللغة الروسية ولكن ما جاء منها من طريق اللغة العثمانية أوفر عدداً. ولقد أصبح من الظرف في البلاد العثمانية منذ بضع سنين أن تحتقر اللهجات الشرقية وينظر إليها كما ينظر إلى ما يسمونه قبا ترك أي التركي الغليظ وشغف القوم بالرجوع إلى لغة النيفا وسلطان بابر القديمة الغنية التي افتقرت وتبدلت أوضاعها بما دهمها من الألفاظ العربية والفارسية أولاً والألفاظ الإفرنجية ثانياً فالقوم فيها يبحثون في حذف جميع هذه الألفاظ ليستعيضوا عنها بما يقابلها من الألفاظ التركية التي نسيت منذ عهد بعيد وهي أكثر التئاماً مع روح اللغة. وأصبح لهذه الحركة شأن عظيم بما توفر عليه القائمون بطرح الألفاظ الدخيلة عَلَى التركية من الأبحاث اللغوية المهم أكثرها كأبحاث العلماء أمثال القائم مقام نجيب عاصم بك والمقالات الكثيرة التي نشرت في جرائد وتأسيس الجمعيات لهذا الغرض مثل جمعية (ترك درنكي) أي المنتدى التركي وغرضه درس أصول اللغة التركية وإحياء ما عاث فيه البلى من الألفاظ ويقول المسيو هارتمان أحد علماء المشرقيات أنه يرجى أن تكون لهذه الحركة نتائج حسنة.

وهكذا يرجع العثمانيون الأتراك إلى التركية القديمة والتتر الروسيون يحاولون الجري عَلَى مثال اللغة التركية الشائعة في الآستانة ويطمعون في كل مكان ولاسيما في روسيا أن يوحدوا اللغة. وهذا العمل يلاقي صعوبات مهمة ولاسيما فيما تعلق منه باللغة العامية. فاللغة المحكية في القريم هي اللغة العثمانية إلا قليلاً ولا فرق بين هذه اللغة ولغة القافقاس إلا ببعض التعابير المتعلقة باللهجة وبعض الألفاظ الروسية التي يريد القوم طرحها وبعض الصيغ النحوية عَلَى أن هذا الفرق لا يحول دون العثماني وفيهم لهجة أوزري من أيسر وجه ومن المتعذر إرجاع لهجات بلاد قازان وآسيا الوسطى إلى هذا الأسلوب. ومهما تم في هذا الأمر فالأنظار متجهة لما يحدث من هذا القبيل في البلاد التركية اتجاهها لما يحدث في سائر العالم الإسلامي مما فيه تأييد روح الوطنية باللغة الوطنية.

المالية العثمانية

المالية العثمانية لا شيء يشغل بال العارفين من العثمانيين مثل إصلاح ميزانية الدولة وبينا النفوس متطلعة إلى ما يجري في مجلسنا النيابي بشأنها وردت مجلة العالمين الباريزية وفيها مقالة بقلم أحد الأخصائيين في هـ1ذا المعنى قال فيها أن واردات السلطان سليم الأول كانت تقدر سنة 1508 بـ 3. 130. 000 دوكا وبلغت سنة 1553 15 مليون دوكا وبعد ذلك عاد ارتقاؤها انحطاطاً وقوتها ضعفاً مشهوداً بالاقتراض فأصبحت المملكة في قبضة أرباب المصارف من الماليين ولا تزال حتى يوم الناس هذا. فليت شعري هل ينهض أحرار الأمة العثمانية المجددون لإنهاض ماليتهم من كبوتها؟ فالجواب عَلَى ذلك اقتصدوا عَلَى وجه حسن تحسن ماليتكم لأن هذه لا تستمد إلا من الاقتصاد عَلَى أن الحالة الزراعية والصناعية والتجارية في السلطنة العثمانية ليست عَلَى ما يرام بالنظر لمثل هذه المملكة الواسعة الرباع والأصقاع. فقد خرجت المملكة سنة 1905 18 مليون قنطار من الحنطة و34 مليون قنطار من الشعير والجاودار (الحنطة السوداء) والقرطمان والذرة. ويستخرج من اليمن قهوة حسنة معروفة منزلتها. وتبلغ مساحة الغابات التي خربتها المواشي عشرة ملايين هكتار. ويصدر من ولاية بورصة ولواء أزميد نحو ألف طن من الفيالج (الشرانق) وكثير من المواد الطبيعية عَلَى ظاهر الأرض وباطنها لم تستثمر إلى الآن لقلة رؤوس الأموال والمهندسين. وتقدر صادرات المملكة ووارداتها بنحو 1150 مليون فرنك تكاد تنقسم نصفين وطول سككها الحديدية 6600 كيلومتر. هذا ما قاله صاحب هذا المبحث وقال إن إصلاح المالية العثمانية ليس بالأمر المتعذر فإنها إذا لم تحدث للدولة مشاكل خارجية تستطيع أن تلم شعثها بعد بضع سنين إذا أحسن الأحرار السياسة والإدارة. وهو قول يشبه ما يردده ناظر ماليتنا عَلَى أنه مثل بعض الماليين لا يرى عَلَى الدولة حرجاً في الاقتراض لسد العجز من ميزانيتها لأن الدولة تقترض من جهة وتوفي ديونها من جهة أخرى. ولما كانت الدولة العثمانية دولة حربية منذ أن قامت في الوجود إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم تحتم عليها أن تنفق عَلَى جيشها شطراً عظيماً من دخلها وبذلك كانت العسكرية أو إدارة دخلها الإصلاح في الدولة بعد إعلان الحرية وهذا الإصلاح يستدعي نفقات طائلة فقد جعل ما يطلب للحربية في ميزانية 1326 8. 280. 452 ليرة عثمانية أو نحو 40 في المئة

من الواردات والدولة تحاول أن تجعل لها بحرية تضاهي قوتها البرية وهيهات أن يتم لها ذلك وقد جعلت المخصص لهذه الغاية مليون ليرة وأخذت تجمع إعانة لإنشاء أسطول من رواتب الموظفين عَلَى اختلاف درجاتهم وتهز أكف المحسنين من الأهلين فجمع حتى الآن اثنان وأربعون مليون قرش أوصت بأكثرها عَلَى مدمرات ونسافات. وتدفع الدلوة زهاء ثمانية ملايين وربع للديون العمومية العثمانية مما يبلغ مع اللازم للجيش البري والبحري زهاء ثلثي الدخل والباقي يصرف رواتب لرجال الإدارة والدرك والمعارف والنافعة. أما إصلاح المالية فموقوف كما يقول العارفون عَلَى إصلاح طرق الجباية وتعديل قيم الأملاك وتضمين الأعشار بحيث يتعادل ما يجبى منها من الفلاحين ومن كبار الأغنياء المالكين وأن تطبق من خطط الإصلاح ما لا يكلفها النفقات الطائلة ويكون مأمون المغبة مثل إصلاح ري العراق واستثمار القرب فالأقرب من مناجمها وإنشاء الأهم فالأهم من خطوطها الحديدية ومرافئها البحرية. والاضطلاع بجباية رسوم الأغنام وفرض ضريبة التمتع عَلَى التجار الوطنيين والأجانب عَلَى صورة عادلة وإذا قبلت الدولة بزيادة الرسوم الجمركية أربعة في المئة تصبح 15 في المئة فتبلغ الزيادة فيها 34 في المئة وإذا أضفنا إليها إصلاح إدارة الجمارك بتكثير رواتب الموظفين والاقتصار عَلَى المقتدرين منهم تزيد الواردات نحو 35 في المئة. وبيت قصيد كل هذا الاقتصاد في النفقات فقد رأينا الحكومة اقتصدت في الظاهر من أمور طفيفة وأسرفت في أمور كبيرة وما ندري عَلَى أي قاعدة من قواعد الاقتصاد طبقت فانون التقاعد في موظفيها فبعد أن كان العامل من الموظفين يقبض ألف قرش مثلاً أجرة تقاعده وأخذت تدفع له ألفاً ومئة قرش أي أنها زادته في رزقه وبذلك خسرت من وجهين الأول أنه دخل في زمرة المتقاعدين أنا كان يرجى أن ينفعوها بمعارفهم وتجاربهم لو داموا عَلَى عملهم مع مراقبتهم واستعاضت عنهم بإغمار لا يحسنون كيف يسيرون إلا قليلاً وتكبدت الخزانة من الوجه الثاني زيادة رواتب المتقاعدين. ولو كانت الحكومة تقت رض المال اللازم لسد هذا العجز لهان الأمر وقلنا لها لا بأس من إقدامها الآن عَلَى تحسين ما تريد تحسينه والتوسعة في النفقة ولكنها تنفق بالاستدانة من مصارف أوربا وعليها الآن نحو 130 مليون ليرة عثمانية دين للمصارف وقد استلفت في

العام الفائت لسد عجز الميزانية أربعة ملايين وهي تحتاج هذه السنة لعشرة ملايين ليرة أخرى. ويقول المسيو لوران المستشار المالي ومع إنه لا يعرف مقدار الديون العثمانية معرفة صحيحة فالمظنون أنه لا يقل عن 2950 مليون فرنك فإذا ضم هذا المبلغ إلى القروض التي عقدت منذ سنة 1882 أي منذ إنشاء إدارة الديون العمومية وهي 1. 395. 000. 000 فرنك منها 1. 175. 000. 000 للديون العمومية 155. 000. 000 مليون سلفه و65. 000. 000 للمصرف الزراعي وأخذنا التعديل المتوسط لا نجد العجز يقل عن أربعة وستين مليون فرنك سانهة وقد تراكمت عليها هذه الديون لأنها سعت في استهلاك الديون المنتظمة. وكيف يتأتى للدولة أن تكثر وارداتها فتصبح كما قال ناظر المالية ثلاثين مليوناً بعد ثلاث سنين ونحن نراها لم تضع في ميزانية الزراعة والمعادن سوى جزءٍ من مئة جزءٍ وأقل من ثلثمائة جزءٍ في المئة للتجارة النافعة ومعظم هذا القدر يصرف رواتب لموظفي هاتين الإدارتين فأين اترك لينفق عَلَى إصلاح ري العراق وفتح المناجم وإنشاء الخطوط الحديدة والطرق والمرافئ ولم يزد المخصص للمعارف سوى 350 ألف ليرة وهو قدر زهيد بالنسبة لاتساع المملكة وأكثر مما يصرف عَلَى تتريك العناصر العثمانية لا عَلَى تعليمها علماً ينفع الأمة والوطن. ومن الغريب أنه ورد عَلَى الخزينة السنة الماضية خمسة وعشرون مليون ليرة من الضرائب المنوعة ومليونان ونصف عن ولايتي البوسنة والهرسك وأربعة ملايين بدل التخلي عن بلغاريا وخمسة ملايين صودرت من أموال المخلوع عبد الحميد وأموال أعوانه ونحو مليون من واردات الأراضي السنية ما عدا القرض الذي عقدناه وهو زهاء أربعة ملايين وأنفق كل هذا في سنة واحدة ولعل هذه السنة لا تكون أقل من طريدتها لأتن الدولة لا تأمن كل ساعة أن يفتح عليها باب فتنة داخلية أو خارجية تضطر إلى الإنفاق فيها ما لم تدخله في ميزانيتها. أهم الواردات المخمنة في الميزانية 6. 233. 259 ليرة من الأعشار و3. 980. 395 من الجمارك و1. 222060 ليرة خراج الأراضي 1. 377. 360 خراج العقارات و1.

790. 720 رسوم الأغنام و1. 289. 612 البدلات النقدية إلى غير ذلك من رسوم التمتع والمرتب عَلَى الغابات والمناجم مما لا يتجاوز الستة العشرين مليوناً. وقد ألغي منذ ابتداء سنة 1326 من البلاد التي لم تحرر نفوسها وأملاكها جميع الرسوم التي كانت تؤخذ باسم الدكاكين والخيم وما شاء كل ذلك عدا عن رسم الاحتساب أو الدخولية الذي كان وضعه من أهم عوامل فتنة الأرناؤد الأخيرة كما ألغيت الرسوم التي تؤخذ من الصيارف وأصحاب المعامل المنشأة حديثاً وجميع القوانين المتعلقة بالعملة المكلفة وتذاكر المرور أي الجوازات وتحصيل بدلات الطرق نقداً لا بدناً وتلغى الرسوم التي أحدثت في الكمارك بدون استناد عَلَى قانون أو نظام وألغيت الرسوم التي كانت تستوفيها الحكومة تحت أسماء الدلالية الزورق والرحى والحطب والفحم والباج والصياغ ومعمل القرميد والقصب والمضيق ومرور الحيوانات وميزان الفضة وتمغته وغيرها كما ألغيت رسوم الجسور والمعابر في ولايات بغداد والبصرة والموصل والقدس وبعد جهات أدرنة فإنها تركت للبلدية. وقد كتب شفيق بك المؤيد نائب دمشق في مجلس الأمة العثمانية وهو ثقة في الشؤُون المالية مبحثاً قال فيه: إن ديون الدولة يوم تألفت إدارة الديون العمومية محررة بالضبط في تأليف قانون هذه الإدارة وكانت يومئذ عبارة عن 116. 815. 172 ليرة عثمانية غير أنا إذا دققنا نجد أن قيمة هذه الديون الحقيقية لا تتجاوز ثلاثين مليون ليرة لأن القمة المحررة في القانون هي قيمة اعتبارية لا حقيقية وقد قسمت الديون المذكورة وقتئذ إلى أربعة أقسام أعظمها وكان يتناول أمثر من ثلاثة أرباعها ما كان معروفاً عند أصحاب الدين باسم (ترتيب د). وهكذا كانت المئة منه تختلف أبداً بين 17 و20 وإنا عَلَى ما ذكر ما تجاوزت قط قبل أن تظهر مسألة توحيد الديون 21 و22 كما أن مجلس الديون العمومية لم يدفع قط في مشتراه لاستهلاك الدين قيمة فوق ذلك. وإني لآت ببرهان جلي عَلَى أن قيمة الحقيقية أعني قيمتها في البورص لم تتجاوز قط ثلاثين مليوناً. وذلك أن مجلس الديون العمومية كان ولم يزل ينشر كل سنة خلاصة أعماله في رسالة مخصوصة يطبعها ويوزعها عَلَى أصحاب الدين. وقد وقعت يدي الآن اتفاقاً عَلَى رسالته عن عام 314 فوجدت أن الفائدة التي أداها المجلس تلك السنة عن الأقسام الأربعة المذكورة بلغت 1. 014. 483 ليرة عثمانية فإذا أضفنا إلى

هذا المبلغ ما بعود من صافي الواردات لأسهم السكة الحديدية الروملية وهو 156335 ليرة بلغ المجموع 1. 178. 080 ليرة وإذا أخذنا رأس مال هذا المبلغ بحساب قيمة الديون الموحدة وجدنا ذلك لا يبلغ ثمانية وعشرين مليوناً غير أنه يجب لأجل تعيين ومقدار الديون الخارجية وقتئذ أن نضيف إلى هذا المبلغ قيمة الديون المضمونة بخراج مصر والدين الذي كان معروفاً بالتحويلات الممتازة فبلغ مجموع ذلك زهاء خمسين مليون ليرة وهذا يكاد لا يتجاوز مقدار الدين الموحد الآن فأين هذا من 150 مليوناً. أما ديوننا الخارجية الآن فهي كما يأتي وهي أرقام حقيقية راهنة لا اعتبارية: 18. 606. 698 الديون المضمونة بخراج مصر. 52. 394. 659 الدين الموحد. 31. 332. 554 ديون أخرى مودعة لمجلس الدين. 2. 399. 606 ديون لبعض البيوت المالية. 15. 262. 764 ديون منوط أمر تأديتها بنظارة المالية (منها القرضان الأخيران). 119996281 المجموع. فإذا أضفنا إلى هذا المبلغ قيمة القرض الذي تنوي الحكومة عقده وأضفنا عشرين مليوناً رأس مال ما ندفعه كل سنة ضماناً لشركات السكك الحديدية نجد أن مجموع ديون الأمة ستتجاوز في منتهى هذه السنة المالية مائة وخمسين مليوناً فتزيد عنها يوم تأسست الديون العمومية ما يقرب من مائة مليون. قال عَلَى أني لست من الذين يستعظمون هذا المبلغ ويرون أن أحوالنا المالية وخيمة العاقبة لمجرد تراكم هذه الديون علينا. كلا وإنما الخطر كله في سياسة الحكومة المالية وانحرافها عن طريق الاقتصاد متبعة خط التبذير والإسراف في جميع شؤونها وأمورها مما لا يقف بنا عند هذا الحد بل يجرنا إلى عقد القروض الجديدة فنحمل عاتق أخلافنا ما لا يقدرون عَلَى القيام بأعبائه ونبيع آجل القمة بعاجل لقمة نحن في غنى عنها. وإن في ميزانية السنة الحالية أجلى برهان وأعظم دليل عَلَى ما قدمت. تقررت ميزانية الدولة العثمانية عن سنة 326 بعجز يتجاوز عشرة ملايين ونصفاً من الليرات العثمانية ومهما قال القائلون فهذا العجز لا ينقص عندي عن ثمانية عندي عن

ثمانية ملايين فتحتاج الحكومة لسده أن تعد قرضاً يقرب عشرة ملايين بزيادة نحو ثلاثة ملايين عن العام الماضي. ولا يخفى أن ديوننا الخارجية وضمانات السكك الحديدية مع الواردات المخصصة لها مفوضة إدارتها جميعها إلى دائرة أجنبية لا تأثير للحكومة في أعمالها وهذه الواردات مع النفقات وفائدة الديون المخصصة لها يجب في الحقيقة تنزيلها عن الميزانية إيراداً ومصروفاً فإذا فعلنا ذلك رأينا أن صافي الواردات التي للحكومة حق التصرف بها يبقى عبارة عن ثمانية عشر مليوناً فإذا استقرضت الحكومة عشرة ملايين لسد عجز الميزانية تكون قد استقرضت ما يقرب من ستين بالمائة من مجموع وارداتها فما ظن القراء بتاجر لا يكتفي أن يصرف سنوياً عَلَى خاصته وأسرته جميع كسبه وإيراده بل يقترض فوق ذلك ستين في المئة من مجموع هذا الكسب والإيراد اهـ.

حكم إفرنجية

حكم إفرنجية التألم عَلَى ما يرغب فيه أكثر من الاستمتاع بما تملكه اليد هذا ليس من السعادة في شيءٍ بل هو من شأن الطامع. إن ما تشمئز منه نفوس أرباب الأفكار الصالحة من المناقشات هو أنها تنتهي بالخصام. كثيراً ما يكون الاستهزاء إفلاساً في الفكر. ما من شيء أدل عَلَى الحذق أكثر من حسن السلوك. الجليل عَلَى ثلاثة ضروب: جهل بكل شيء ومعرفة ناقصة فيما تعلمه ومعرفة غير ما يجب عليك معرفته. يتوهم الأولاد والمجانين أن عشرين فرنكاً وعشرين سنة لا يتأتى أن تنتهي. شارك الناس في أفراحك تعظم وشارك الناس في أتراحهم فإن الترحة المجزأة يقل تأثيرها. يسأل الحكيم نفسه عن سبب أغلاطه والأحمق يسأل عنها غيره. سران يضمنان احترام الشيخوخة وصفاء الحياة: حب العمل والشعور بالواجب. النظام يسعف الذاكرة ويوفر الوقت ويحفظ الأشياء. يقرأ الإنسان ليمهر فلو كان الناس يقرؤن ليكونوا أحسن حالاً يصبحون عما قريب أمهر وأحذق. نشكو قليلاً في الأحيان من أحبابنا لنبرر سلفاً خفثنا (لاروشفو كولد). إن تعلم النظر هو أطول الفنون وأصعبها (كونكور). إننا نحب من يعجب بنا ولكننا لا نحب أبداً من نعجب بهم (لاروشفو كولد). يجد المرء في السياحة رأس مال للبطالة لا يخلو منه زاوية من زوايا قلب كل منا (بانفيل). علينا وحدنا أن نحرس أفكارنا ففي البيوت نسهر عَلَى أخلاقنا وفي المجتمعات نحرس ألسنتنا (العقيلة دي ساتيل). لا يحدث في الحياة أمر لا كما يخشى منه ولا كما يؤمل فيه. أشبه بمن يقول الكذب من يورد قولاً في معرض الحق وهو لم يفكر فيه. في القراءة أجمل سلوى عن الحياة وعن النفس. استمع مئة مرة ولا تتكلم إلا مرة واحدة.

من العار الحذر من الأصحاب أكثر من الانخداع بهم. أحق أنواع الإسراف باللوم الإسراف في الوقت. الاغتياب نذالة ولا قوة له إلا عَلَى المتغيب. العفو طيب الفضيلة. إن لك من الحاضر دواء وما دمت تتعذب منه فاعقد الرجاء بالخلاص.

التربية الأوربية

التربية الأوربية سادتي الأخوان الأعزاء: أوعز إليّ بعض أصدقاء هذا المنتدى الكريم أن أحدثكم بما رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوربا فلم تسعني مخالفتهم لأن الطلاب أعزة وتبادل الأفكار مهم مع أشرف المطالب ولكن الموضوع كبير لا يتسع وقتي الآن للإحاطة بأطرافه كله ولا أوقات الحضور الكرام إلى وعيه وسماعه ولذلك أقتصر منه في هذه الليلة عَلَى الإشارة إلى طرف مما تأثرت به نفسي في درس معالم الحضارة الأوربية في أماكنها واستطلاع طلعها بالعمل بعد الاشتغال بدراستها بالنظر مدة. ولذا أستميح عذركم إذا لحظتم في أقوالي شيئاً مما لم يعتد بعضكم سماعه فأنا أقص عليكم شعوري ولا حرج عَلَى الشاعرين كما لا حرج عَلَى الشعراء. أول ما يقع عليه نظر الداخل إلى أرض أوربية ذاك الانتظام الغريب في مرافق الحياة فيسقط لأول وهلة عَلَى نموذج صالح من استبحار العمران هناك بل يتجسم في عينه وذهنه ما سعت إليه ولا تزال تسعى تلك الأمم الراقية من الأخذ بأسباب الراحة والبسطة من طريق التكمل العلمي والنشوء الاجتماعي والعملي. ولا يزال هذا النموذج من العمران يعظم في نظر السائح كلما طاف المعاهد وزار المشاهد وجال في القربى والدساكر والحواضر والقواعد. وكل فرع من فروع هذا الارتقاء العجيب يحتاج الناظر في وصفه إلى مجلد برأسه حتى يتجلى للسامع بعض التجلي وما راءٍ كمن سمعا. مإذا أذكر لكم أيها الأخوان من حال أوربا ومدنية الغرب الراقية التي بلغها بقوة العقل وتطبيق العلم عَلَى العمل؟ أأحدثكم بصناعاتها التي تبهر النفس؟ أو باتساع متاجرها التي لا يحصيها العد؟ أو بارتقاء زراعتها التي تنادي بلسان حالها ومقالها بأنه لم يبق بعد ما بلغته غاية؟ أم أذكر لكم حال المجامع العلمية والسياسية والجمعيات الاجتماعية والنقابات التجارية والصناعة أم المدارس الجامعة والكلية والثانوية والابتدائية أم المتاحف والمعارض والمكاتب والمجالس والمصارف ودور التمثيل ومحال الطرب والأنس؟ كل هذه المشاهد كنت أختلف إليها في أوقاتها وأجتمع برجال العلم والأدب والسياسة منذ الصباح إلى ما بعد منتصف الليل ونفسي تتأثر بتغير المشاهد بحيث تملك عليّ مشاعري فلا استطيع التفريق في الحسنات كأني ابتليت بداء الاستحسان لا تقع عيني عَلَى شيء ولا

تسمع أذني بشيء ولا يتصور ذهني أقل شيء إلا وأخذ به جملة وتغرق النفس في استحسانه وتحار في وصفه. ولقد عزمت أن أدون في مفكرتي ما يعرض لي من المناظر والمظاهر ويتردد في صدري من الأفكار والخواطر وأحضره من المحاضرات والخطب والدروس النوادر ولما كثرت عليّ الموضوعات كلّ القلم من التقييد وقلت إنك يا هذا تكتفي متى عدت لتحدث قومك بما رأيت من تسجيل ما يعلق في ذهنك وبعض مما فيه الغناء والكفاية. نعم تركت التقييد عَلَى خلاف عادتي فصدق فيَّ قول الشاعر: تكاثرت الظباءُ عَلَى خراشٍ ... فما يدري خراشُ ما يصيد لولا أن اليأس من أعظم الأمراض في الأفراد والجامعات لطاوعت النفس وفطنت من نهضة هذا الشرق لمجارات الغرب ولولا أنني أعتقد بأن النجاح مقدور لكل مخلوق يعمل وأن الأجسام تتكون من الذرات وأن من الجزئيات تنشأ الكليات لسجلت بأن قيام الشرق العثماني وهو عَلَى نهضته المتثاقلة البطيئة التي نشهدها أمر متعذر إلا بعد قرون أن كتبت له الحياة. ولكن أمامي مثال الدولة اليابانية مملكة الشمس المشرقة رأيتها جارت أكبر الدول الأوربية في ثلاثين سنة وفاقت من كانت تعمل منذ ثلثمائة سنة من الدول الغربية فبلغت درجة عالية من الحضارة. نعم إن اليأس يجب أن لا يتطرق إلينا وإن كنا ويا للأسف تحت وصاية الغرب اليوم في كل شأن من شؤون حياتنا السياسية والاجتماعية والعلمية والتجارية يصرفون علينا ما يريدون من ضروب المعارف ويربحون بعقولهم منا أنواع الأرباح والمكاسب ويستثمرون شرقنا بكل ما لديهم من ذرائع العلوم والفنون ونحن معهم باهتون شاخصون شأن عبد مع سيده أو جاهل مع عالم. حضرت دروساً كثيرة في الكوليج دي فرانس وهي المدرسة العظمى التي تضم في صدرها زهاء أربعين عالماً من كبار علماء فرنسا يقرأ كل واحد منهم درسين اثنين في كل أسبوع في العلم الذي أخصى فيه وتفرد به طوال عمره وتكون دروسهم عامة يحضرها كل من أراد فتدل عَلَى كرم الفرنسويين في العلم. وحضرت دروساً في مدارس أخرى ووقفت إلى سماع خطب ومحاضرات كثيرة فلم أر في

أكثرها إلا تعصباً عَلَى الشرق وغمطاً لحقوقه. أذكر لكم عَلَى سبيل المثال محاضرتين دعيت إليهما لتعلموا منهما مقدار ما يعده الغرب للشرق ومبلغ حكم أبنائه علينا ولكم بعدها أن تقيسوا حاضركم بحاضرنا وغابرهم بغابرنا وتضحكون بعدها أو تبكون. فالمحاضرة الأولى كانت في قاعة السوربون الأولى أي كلية باريز وهي المكان الذي جرت العادة أن يكون معهد العاملين للعلم من الفرنسويين فأقامت جمعية آسيا الفرنسوية والجمعية الجغرافية حفلة للاحتفاءِ بأعضاءِ بعثة بليو إلى التركستان الصينية وكنشو بحضور جماعة من أعضاء المجمع الفرنسوي ولم يقل الحضور أقل من ألف وخمسمائة مستمع ومستمعة والمسيو بليو هو في الثامنة والعشرين من عمره طلق اللسان في آية البيان وهو أستاذ اللغة الصينية في المدرسة الفرنسوية في الشرق الأقصى. شرح في محاضرته ما لاقاه في رحلته التي بدأت في 15 حزيران سنة 1906 وانتهت في الصيف الماضي وأتى عَلَى ما وفق إليه من الاكتشافات الثرية والكتابية وغيرها في آسيا الوسطى مما حفظ لفرنسا شهرتها القديمة في البحث عن الآثار وقال أن التعصب هناك انتشر بانتشار الإسلام في القرن الحادي عشر للمسيح فكان من ذاك التعصب أن أتى عَلَى الآثار بجملتها. وقد قرَّع الشرقيين عامة والمسلمين منهم خاصة أنواع التقريع. أما رحلته فهي كسائر الرحلات العلمية التي يرحلها الغربيون إلى آسيا وافريقية فيكونون مقدمة للفتح والاستعمار وقديماً كان الشاعر يقول السيف أصدق أنباءً من الكتب فإذا أرادت الأمة أن تفتح بلد أخرى ترسل غليها السيوف والبنادق ثم تمهد البلاد بالمعارف أما اليوم فيرسل الغرب رجال العلم يرتادون البلاد أولاً ثم يرسلون مدافعهم وبنادقهم وآلات تدميرهم والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة. وقد ادعى بليو صاحب البعثة والغالب أنه عَلَى حق فيما ادعاه أن ما وفق إلى جلبه من الآثار قد أغنى مكتبة الأمة في باريز بألوف من المخطوطات الصينية ومنها شيءٌ في تاريخ الصين كما أغنى متحف اللوفر الشهير بتماثيل ورسوم ونقوش فأصبحت باريز بذلك عاصمة الدروس الصينية في أوربا ويحق لها أن تفاخر بأن مجموعة ما عندها الآن من الآثار الصينية ليس لها مثيل في الغرب حتى ولا في الصين نفسها قال وغاية البعثة في التركستان الصينية ولاسيما في مقاطعات قاشار وأرومشي البحث عن بقايا التمدن البوذي

الذي سبق التمدن الإسلامي إلى هناك وأنه رأى جميع أهل التركستان من أهل الإسلام وإذ كان دينهم يحرم التماثيل والصور لم يظفر بكثير منها في الأماكن المطروقة إذ كانت تعبث بها أيدي المتعصبين منهم. وقال أنه رأى لسوء الحظ أن قد سبقه إلى ارتياد تلك الأصقاع أناس من الألمان والإنكليز واليابان والروس وللغاية نفسها ولكنه وفق إلى أنه اكتشف بين قاشار وكوتشار في نصف الطريق في طومشونك تمثالاً بوذياً صغيراً بين الصناعة اليونانية والبوذية حريٌّ بأن يكون صلة بين الصناعة الشرقية القديمة والغربية وظفر في قاشار تحت أنقاض أحد المعابد في طبقة كثيفة بمخطوطات هندية فأحرز ثلثها بواسطة راهب انقطع في تلك المغاور ووصف تلك البقاع بأنه لا شجر فيها ولا عشب مع أنك تمشي ألوفاً من الكيلومترات اللهم إلا في بعض الواحات. وأكثر تلك الأصقاع جبال شامخة ومنحدرات كثيرة ورمال محرقة فكانت الحرارة في الصيف تصل إلى الأربعين درجة وفي الشتاء إلى الخمس والثلاثين تحت الصفر حتى كان الحبر يجمد في أيدي أعضاء البعثة متى أرادوا أن يقيدوا آثار بعثتهم وقد أخذ أحد أعضاء البعثة صورة طوبوغرافية من خط هذه الرحلة وفوائد فلكية في عدة نقاط وآب بمجموعة من الحشرات والحيوانات تغني المتحف الطبيعي وبصور كثيرة عرضت بالفانوس السحري عَلَى الحضور تلك الليلة حتى لكأنهم ذهبوا بأنفسهم إلى تلك الأصقاع النائية. هذه المحاضرة الأولى التي تكهرب بها جسمي وتأثرت عواطفي وسمعت بها مهانة أمتي بأذني. والمحاضرة الثانية التي ألقاها المسيو تارديو من كبار السياسيين الفرنسويين وصاحب المقالات الافتتاحية في جريدة الطان في الدولة العثمانية فهو أول أخصائي في سياسة الشرق ولاسيما دولتنا يقلب القلم بين أصابعه كما تشاء حكومته. حضرت خطبة له في مدرسة اللغات الشرقية الحية ألقاها عَلَى طلبة تلك المدرسة العالية ممن يتخرجون الآن ليذهبوا إلى الشرق فيما بعد لخدمة حكومتهم ويكون منهم التراجمة والقناصل والسفراءُ ببيان لم أسمع من العرب ولا من العجم أبلغ منه لم يتمتم ولم يعطس ولم يكرر وقلما رأيت إنساناً درس موضوعه وأعد له المواد التاريخية والمستندات أكثر من ذلك ولكن سياسة المنافع والمصالح كانت تلوح صراحة من خلال كلام الخطيب فكان عجبي بتحامله عَلَى

الدولة أكثر من عجبي بذلاقة لسان فقد تكلم عَلَى علاقة فرنسا بالشرق ولاسيما الدولة العلية فقال أن فرنسا صاحبة الفكر الأول في الحروب الصليبية قد أتى عليها زمن حالفت فيه الدولة العلية أيام قوتها لتستخدمها لأغراضها وقد جنى الفرنسيس ثمار هذا الوفاق ثم لما مضت سنون والدولة لم تر خيراً لها من تلك المحالفة نزعت يدها من يد حليفتها ثم عادت فرنسا فبعثت أبناءها إلى القريم ليحابوا مع الإنكليز والعثمانيين جيوش الروس لأن مصلحتها اقتضت إذ ذاك وأفاض في نشأة الامتيازات الأجنبية في البلاد المصرية والعثمانية وقال أن فرنسا في كل دور من أدوارها استخدمت الدولة العلية لمقاصدها وأن لها اليد الطولى في المسألة الشرقية أي استقلال بلاد البلقان واليونان وأنها لا تقصر كل حين في بتر عضو من أعضاء هذه الدولة حتى تموت وتفنى. فيا أخواني وسادتي أيسمع عثماني هذا الكلام ولا يجهش نفسه بالبكاء ولا تذوب كمداً وحسرة وتسود الدنيا في عينيه؟ هذا بعض ما يعده الغرب للشرق فمإذا يعد الشرق للغرب؟ نحن يا قوم لا نحفظ كياننا ولا نحتفظ بلغتنا وديننا وآدابنا إلا إذا قاتلنا من يريدون قتالنا بالسيف الذي يقاتلونا به. وأعني به سيف العلم. نحن يقضى علينا أن نأخذ من تلك المدنية الغربية التي تدهشنا مكل ما ينفعنا لقيام مجتمعنا نأخذ عن رجال العلم منهم ونحتك بهم زمناً لنستفيد ونعرف الطرق التي يجب علينا سلوكها. رأيت الدولة بعد انقلابنا الأخير بعثت بزمرة من الطلبة العثمانيين ليدرسوا في مدارس أوربا ولاسيما في مدارس باريز فقدرت عددهم قليلاً جداً بالنسبة لمجموع هذه الأمة. وإني لأخجل أن أقول لكم أن عدد الطلبة البلغاريين في روسيا وألمانيا والنمسا وفرنسا والبلجيك وإنكلترا أكثر من عدد الطلبة العثمانيين وإياكم أن تظنوا أن جميع طلبة الأجانب تبعث بهم حكوماتهم ليدرسوا عَلَى نفقتها بل إن لهمم الأفراد شأناً عظيماً في هذا الباب وكثيراً ما ينفق الطالب من مال أبيه عن سعة حتى لا يتم دروسه إلا وقد أتى عَلَى آخر فلس مما عنده وهو مغتبط بما صنع لأنه أحرز رأس مال ثمين لا يقدر بالملايين والكرات وعاد وهو يعرف كيف يخدم أمته وبلاده. نحن مقصون كل القصور في إرسال أبنائنا إلى ديار الغربة يلتقطون درر العلم من بحار

كليتها ومدارسها والعرب في هذا المعنى أكثر العثمانيين قصوراً. ولقد أحصيت جميع من يدرسون من أبناء سورية في أوربا عَلَى نفقة الحكومة أو عَلَى نفقاتهم فلم أقدر أن أوصلهم إلى ثلاثين طالباً أكثرهم يدرسون عَلَى نفقتهم فليت شعري أليس هذا العدد بقليل عَلَى قطر يناهز سكانه الثلاثة ملايين. هذا من سورية أرقى البلاد العربية وما أظن أحداً من أبناء العراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس وبرقة وغيرهم من الأقاليم العربية يدرس في مدارس أوربا فيكون هؤلاء الثلاثون طالباً لخمسة عشر مليوناً من العرب العثمانيين يصيب كل مليون نسمة طالبان وما أعظم ذلك من قصور وتقصير. نعم هو تقصير وليس وراؤه وراء وخمود همم كاد يصدق به علينا حكم الغريب. وإني لأرجو أن لا تكون أقوالنا أكثر من أفعالنا فإن الكلام لا أثر له بقدر الفعل. نريد معاشر العرب أن نجاري الأمم الراقية بل سائر العناصر من أخواننا العثمانيين ولا نجاريهم عَلَى الأقل في مضمار التعلم؟ نتناغى بالوطنية ونندب حظ اللغة العربية ونحن أبناءها الذي نعقها ولا نتعلمها. أليس مما يزعج أن يخطب العربي أباه وأمه وأخاه وصديقه بغير لغته الأصلية؟ يعمل ذلك لا ليتمرن عَلَى تلقف غير لغته بل لأنه لا يعرف أن يتكلم ويكتب بلسان أبيه وأمه وقد يكون في الأكثر ممن يفرض عليهم فرض عين تعلمها ليفهم بها كتابه وشريعته. أنا إن كنت عربياً وأحب العرب وأريد نهوضهم أيتيسر لي كل ما أريد إذا لم أخاطبهم وأخطبهم وأكتب لهم بلغتهم التي يفهمونها. أنا إن كنت أريد الاطلاع عَلَى مجد آبائي وأجدادي أأتمكن من ذلك بدون دراسة ما خلفوه من آثارهم وهل يتيسر لي إلا باللغة التي كتبوا بها؟ أقول هذا وأنا آسف كل الأسف عَلَى قصور العرب عَلَى تعلم لغتهم قصوراً لا أبالي إذا قلت أن فيه العار والشنار. أيزهد سلالة العرب الأكارم في لغتهم ويتعلمها المستشرقون أكثر من علماء العرب أنفسهم؟ أيزهد العربي ابن العشرين في العربية ويتعلمها رجل أعجمي في الستين من عمره. وأعني به الكنت دي سارديج الفرنسوي. هذا الرجل من أهل الطبقة العالية في غناه كان والده سفيراً في طهران عن الملك لويز فيليب ملك فرنسا وقد كان هو موظفاً في السفارات وأخر وظيفة له رئاسة تراجمة سفارة فرنسا في مدريد ثم استقال وهو يسكن في الصيف في

قصر له في لوزان في سويسرا وفي الشتاء في باريز وقد أقام في ذهنه منذ أشهر أن يدرس اللغة العربية للاطلاع عَلَى حضارة العرب ومدنيتهم الباهرة فاتخذ له أستاذاً صديقنا ووطنينا ميشيل أفندي بيطار وأنشأ يتخرج به فقطع شوطاً في التعلم وإذ كانت الدواعي تضره إلى المقام في قصره في سويسرا أكثر من باريز وكان أستاذه لا يستطيع أن يلحق به إلى سويسرا كتب إليه يلتمس منه التماس التلميذ من أستاذه أن يبعث إليه بدروس عشرين يوماً حتى لا يضيع وقته مدة مقامه في سويسرا ويحرم من الاستفادة والتحصيل فإذا آب إلى العاصمة يعاود من بدأ به. هذا الرجل عَلَى أبواب الشيخوخة وهو في هذه السن يحاول أن يتعلم لغة شرقية لا عهد له بمعرفتها. أو أن يتعلم لغة القرآن ليدرس بها مدنية أهله وشبان العرب أنفسهم يترفعون عن أن يقضوا ولو بعض أوقات فراغهم في إحكام لغتهم. هذا هو مثال صغير من أمثلة الهمم في الشرق وأمثلتها في الغرب فهل فيكم يا شباب المستقبل وقرة عيون العثمانية العربية من يمشي عَلَى أقدام هذا الشيخ الفرنسوي حتى لا يجيء علينا وقت نضطر فيه أن نأخذ لغتنا بل ديننا عن أوربا ونكون تحت وصايتها حتى في أمس الأمور بتاً وأعقلها بقلوبنا؟ كل ما نراه من همم الغربيين ومتنانتهم هو محصول الكتاب والمدرسة فأنتم وأمثالكم شباب هذه الأمة في أيدي اقتداركم أن تجددوا لها شبابها إذا وضع كل منكم نصب عينيه الذهاب إلى الغرب وقضاء سنين في الدرس والبحث ليرى بعينيه ويحكم بنفسه عَلَى قصورنا عن الغربيين وفقرنا وغناهم وشقائنا وسعادتهم ليعلم أنني لا أغالي فيما أوردته لكم بل إنني عاجز عن الوصف والتعريف. ولا يقعن في أذهانكم أن الذهاب إلى أوربا بعيد المنال وأنه لا يتيسر إلا لكبار الأغنياء فالعيش في معظم البلاد الأوربية أرخص من الآستانة ومصر ودمشق وبيروت والمدارس رخيصة أجورها ولا يكاد لها أجور ومنها ما أجرة الطالب فيه مع الأكل والنوم والدرس ستون فرنكاً في الشهر ومثل هذا القدر من المال لا يصعب عَلَى أحد فيما أحسب أن يعده أو يستلفه عَلَى المستقبل مهما بلغ من ضيق ذات يده. يا أبناء قومي ويا زهرات أمتي! أليس من العار أن تكون بلادنا التي لا تعيش إلا بالزراعة ولا تحيا إلا بالزراعة خالية من عارفين بها عَلَى الأصول الحديثة فلا يكون الذين يتعلمون منا هذا الفن في أوربا سوى طالبين اثنين أحدهما في المدرسة الزراعية في لوفان من

أعمال البلجيك وهو رفيق بك بيضون من بيروت والآخر في كرنيون من أعمال باريز في مدرسة كرنيون الزراعية واسمه مصطفى أفندي الكيلاني من حماة. كلاهما من أبناء الأعيان ولهما أراض ومزارع فنعماً عملا بالاختصاص بهذا الفن الشريف المفيد ولكن أليس في أبناء سورية بل البلاد العربية أحد من أبناء الأعيان يملك أراضي وقرى غير هذين الشابين؟ بلى إن المالكين كثار ولكن محبي الدرس قلائل! هذا في فن الزراعة فمتى يقوم أناس لتعلم الكهربائية ومد الخطوط الحديدية والهندسة العملية والصناعات الحديدية واليدوية والتجارة وغير ذلك مما نحن فيه عيال عَلَى الأوربيين. زرت مدرسة كريون الزراعية وهي عَلَى مسافة ساعة من باريز فرأيت شعارها مكتوباً بقلم غليظ في مكتبتها بما معناه: الأرض هي الوطن ومن توفر عَلَى تحسينها يخدم وطنه ولكن قومي غفر اتلله لهم يحتقرون هذا الفن فيما أرى. فإن كنا نختلف في البديهيات فمتى نتفق في غيرها؟ زرت كرنيون ورأيت فيها عبد القادر الكيلاني يلبس مشلح الزراع ويدرس كما يدرس أبناء الأعيان في فرنسا ويجاريهم في ذكائه وأطلعني عَلَى عَلَى ما في مدرسته من متاحف ومعارض واصطبلات وحظائر لتربية الماشية وحدائق لغرس النبات والبقول وغابات للنزهة والانتفاع وأدوات للعمل وحرث الأرض وكرثها. رأيت كل هذا وأكبرته وقلت في نفسي لو حذا السوريون في الزراعة وتربية الماشية حذو الفرنسيس فيها وتربتهم تلاءم تربتنا وأقاليمهم أشبه بأقاليمنا لاغتنينا غنى يغنينا عن الهجرة وتطلب الوظائف الاتكالية فقد ذكروا لي أن خروفاً علفته إدارة المدرسة سنتين عَلَى الطريقة العلمية فبيع في أحد المعارض بسبعين ليرة. فأين خرفاننا التي يباع الواحد منها بسبع ليرات. مهما علفناها بجهلنا وبساطتنا وأطعمناها السمسم المقشر أو الشيح والقيصوم والعرار والعرعر. ولكن الآمال معقودة بأن نعلف خرافنا عَلَى طريقتهم ونستثمر تربتنا عَلَى أصولهم نربي عقولنا عَلَى مناحيهم ونطبع دوابنا وماشيتنا بحسب سنتهم فيكون إذ ذاك أبناء عبد القادر في التوفر عَلَى زكاء التربة في نفعهم لهذه الأمة عَلَى مستوى جدهم الذي زكى النفوس في عصره. وتزكية التربة لا تقل عن تزكية التربية والمآل واحد.

مدرسة كرنيون الزراعية هي التي أوصى أبناء الأعيان وغيرهم التخرج فيها لتخصب بهم تربتنا بعد إجدابها وتملأ جيوبنا بعد فراغها والمال مبدأ كل عمل وفاتحة كل ارتقاءٍ مادي وأدبي. نحن لا نرقى الرقي المطلوب إلا إذا تعلمنا العلم العملي وزهدنا قليلاً في شقشقة الألسن والنظريات المجردة. ومن جملة المدارس التي زرتها في فرنسا وتأثرت أيضاً بنظامها مدرسة جزيرة فرنسا في مقاطعة الواز. زرتها بدعوة من صديقي مرسي أفندي محمود أحد كتاب مصر فكانت زيارتها وزيارة مدرسة كرنيون من اسعد الأيام التي قضيتها في أرض الفرنسيس وإني أحب أن أقص عليكم قصة هذه المدرسة لتعرفوا الغرض منها فأقول: قام منذ عشر سنين في فرنسا رجل من رجال الصحافة اسمه أديمون ديمولانس درس طرق الحضارة والتعليم والتربية عند الألمان والإنكليز والأميركان وقابل بين طرائقهم وأخلاقهم وعاداتهم وبين ما عند الفرنسيس منها ووضع لذلك الكتب وكتب المقالات وأنشأ مجلة العلم الاجتماعي التي تدور عَلَى هذا الغرض ومن جملة كتبه سر تقدم الإنكليز السكسونيين الذي نقل إلى العربية فعمت فائدته العرب كما عمت الإفرنج. وقد وفق ديمولانس صاحب تلك الدعوة بأنه التف حوله أناس من أرباب الغيرة عَلَى ارتقاء بلادهم والاهتمام بمستقبلها فكانوا يعطونه بالمئات لقيان الغرض الذي حاول بلوغه وتربية أبناء الفرنسيس عَلَى الطريقة الأنكلو سكسونية العملية فأسست لذلك ثلاث مدارس كبرى عقيب دعوته الأولى مدرسة بروش أسست سنة 1899 باسم جماعة من المساهمين وأخرى في إقليم نورمانديا لجماعة من كبار الصناع منها وأخرى في ليانكور أسست سنة 1901 وهي التي أريد أن أحدثكم عنها. ليانكور قرية سكانها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة وهي عَلَى نحو ساعة من باريز إلى الشمال من مقاطعة ألواز وفيها ما في سائر بلاد فرنسا من أنواع المرافق والرفاهية والمعامل الكبرى الصناعية والزراعة الراقية الغنية بل فيها من دور التمثيل فقط ثلاث دور وقصر الدوك دي لاروشفو كول الواعظ المشهور صاحب الكلمة المأثورة الذي أسس بنك التوفير في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر قامت هذه المدرسة العملية. وقصره هذا في أرض مساحتها مائتا هكتار أي نحو ثلثمائة فدان لم يبق منها إلا دائرة حشمه أما دائرة

قصره فقد أتى عليها رجال الثورة الأخير فدكوها وجعلوا عاليها سافلها وقد جعلت تلك المدرسة في تلك الدائرة فوسعت كل صفوفها ومرافقها ومعاملها. في هذه البقعة الجميلة الواسعة بل الأبعدية الكبيرة والحانوت الفخم التي حوت الغابات والمروج والحدائق والغدران والآكام والسهول يتربى رجال المستقبل عَلَى الطريقة الإنكليزية وفيهم الفرنسويون وأكثرهم من أبناء الباريزيين وعدد قليل من الأميركان والإنكليز والبرتقاليين والأميركيين والمصريين. ويعيشون في هذا البيت كأنهم في أسرة لا في مدرسة وقد رفعت عنهم أكثر القيود التي تقيد طلبة المدارس الداخلية واختصر منها عَلَى ما يحفظ به النظام والآداب مثل الحظر عَلَى أحدهم أن يركض ويرفع صوته في المدرسة أو في حجر الدروس وأن يلعب في الأماكن التي هي مرر لإخوانه وأن لا يخرج من المدرسة ولا يركب في قارب في الغدير بدون رخصة أولاً وأن لا يبتاع أي شيء كان من المدينة بدون استئذان وأن لا يدخل جرائد ولا كتباً إلا إذا وقع عليها المدير ولا يدخن ولا يلبس ثياب اللعب عندما يخرج من غرفة المائدة وقت الظهر ولا يركب دراجته إلا يومي الخميس والأحد وأن لا يعبث بما حوت حديقة المدرسة ومكتبتها وأن لا يتكلم بعد أن يطفئ النور في غرفة النوم مساء ولا قبل أن يستيقظ رفاقه صباحاً وما عدا ذلك فهو حر أن يلعب اللعب الذي يختاره في الأوقات التي خصصت لذلك منذ الظهر إلى حوالي الساعة الرابعة بعده. وكل هذه القيود لا تكبر عَلَى التلميذ لأنه يعرف أنه لا بد منها لكل عائلة كبرى وما هذه المدرسة إلا كذلك. والمدرسة تقسم إلى ثمانية صفوف أسسها الأستاذان الإنكليزيان هو كنسن وسكوت ومديرها اليوم المسيو لبلا وهو فرنسوي لأن قانون فرنسا يحظر عَلَى الأجانب إنشاء مدارس باسمهم في البلاد. وفي المدرسة نحو عشرين معلماً ومعلمة وناظرة. ورئيسة المدرسة الآنسة باري من أقرباء أدمون ديمولانس صاحب الدعوة إلى الأخذ بطريقة الإنكليز السكسونيين في التربية ومن أولئك المعلمين معلمان إنكليزيان واثنان ألمانيان. ويقسم تلامذتها بحس أسنانهم واستعدادهم ولا يختلط الكبار بالصغار إلا في بعض ساعات النهار وهذه المدرسة تعد التلامذة لنيل شهادة البكلوريا أو العالمية ولكن عَلَى غير الطريقة

التي يحشى بها رأس التلميذ بالمواد النظرية وهي عن العلم العملي بمعزل. فالمدرسة تربي الإرادة والعين والذوق واليد والجسم أكثر مما تربي الذهن والذاكرة. وأسماء الصفوف كصفوف سائر المدارس ويشترك جميع المعلمين في التعليم ويلاحظون الدروس أيضاً ولا يراجعون التلامذة فيما تعلموه خارج الصفوف النظامية لأن النهار يكفي لذلك ويتولى الأولاد بأنفسهم أمور لعبهم وحفظ النظام العام وسائر شؤون الحياة وربما لا تروق أكثر الأولاد هذه الطريقة خصوصاً وأكثر من فيها من أبناء الأغنياء والأمراء اعتادوا أن يخلقوا وحواليهم الخدم والحشم ويتولوا من أمورهم ما يتقاعسون هم عن عمله ويصغرون خدودهم كبراً من القيام به. ويقسم التلامذة بعد الصفوف والفرق إلى بيوت وكل بيت يديره أستاذ ويعهد إلى النساء بالإدارة البيتية والعناية بالمرضى وتعليم الموسيقى وتعليم الأحداث من الطلبة وهن يعشن في المدرسة نفسها وعلى الطلبة أن يحضروا ثلاث جلسات في الأسبوع لتعلم لعب الكوكي والكريكة بنظارة أساتذة فيف هذه الألعاب. وفي المدرسة دار للتمثيل كما فيها ميدان للعب السيف ومحل لتعلم الرقص والموسيقى ومحال دروسهم أشبه بمكتب منه بقمطر تلميذ لكل واحد منضدة عليها عليها دواة وورق نشاف يتصرف فيها كما يشاء ويرى فيها الدروس التي يدرسها بطريقة عملية أكثر منها نظرية. فيتعلم مع العلم صناعة من الصناعات التي هي أحب إلى قلبه كالزراعة والنجارة والحدادة والتصوير والتجليد وصنع المقوى والفخار والجلد وغيرها وذلك بنظارة أساتذة هذا الشأن يدلونه عَلَى الطرق التي يسلكونها ولا يعملون بعده بل يدلونه عَلَى غيوب عم له ويده وعينه هما اللتان تعملان ليتعمد بذلك عَلَى نفسه فإذا عاد إلى أهله يستطيع أن يصنع بذاته عملاً من مثل ذلك فلا يكون لا فرق بين ما عمله في المدرسة ويعمله بعد الخروج منها ويتولى أكثر شؤونه كما قلنا بنفسه حتى يسهل عليه كل جهاد في حياته فإن الرياضيات التي يقومون بها في البستان والحقول والرحلات في الخلاء سواء كانوا مشاة أم ركاباً عَلَى الدراجات تزيد في قواهم وقابليتهم للرياضات البدنية ولا يقل النوم عندهم عن عشر ساعات للصغار إلى تسع للكبار ليستريحوا من أتعاب النهار. وتمتاز هذه المدرسة بأن يرحل تلامذتها بمراقبة أساتذتهم إلى بعض البلاد المجاورة

كالبلجيك وهولاندة أو غيرهما من مقاطعات فرنسا البعيدة ليعتادوا الاستغناء عن الرفاهية ويحسنوا التخلص عند الحاجة من مشاكل الأحوال التي كثيراً ما تصادف الإنسان في حياته وذلك أيضاً ليتحملوا بصبر وحسن خلق معاكسات الوقت ونكد الأيام وتنوثق عرى المحبة بينهم ففي عيد الفصح تنقسم المدرسة ثلاث فرق بحسب سن التلامذة المؤلفة منهم فتذهب كل واحدة في جهة خمسة أيام وكل من حسنت أخلاقه ودروسه يرحل به أيضاً كل ثلاثة أشهر مرة أو مرتين يوماً أو بعض يوم إلى مكان بعيد وللمدرسة في فصل الصيف شهران أيضاً عطلة فتكون عطلتها السنوية من حيث المجموع ثمانين يوماً وتستوفي المدرسة أجرة من كل طالب إلى سن الحادية عشرة 2500 فرنك فإذا تجاوز هذا السن تأخذ منه ثلاثة آلاف يدخل في ذلك أكثر حاجاته ما عدا بعض الدروس كالرقص والموسيقى والرسم فإنه يدفع أجرتها عَلَى حدة. وهو مبلغ كبير بالنسبة لأهل بلادنا ولكنه لا يستكثر في مدرسة مثل هذه النفقات الطائلة عَلَى الأساتذة والعيشة والرحلات ويطبق فيها العلم عَلَى العمل وتربى الحواس بالعمل أكثر من تربية الذاكرة. حدثني أحد أساتذة المدرسة قال كان فكر مؤسسيها ديمولانس أن تكون عَلَى الطريقة الإنكليزية المحضة ولكن لم تمض حتى انقلبت أوضاع الدروس والرياضات إلى ما يشبه الطريقة الفرنسوية لأن ما توهمه ديمولانس من أنه يمكن تطبيقه في بلاد قد غإلى فيه كثيراً ولو كان حياً_مات منذ نحو سنتين_لرجع عن كثير مما نعاه عَلَى قومه وعد عدمه نقصاً في تربيتها وسبباً في ضعفها. وهو قول حق سديد لأن ما يوافق أمة لا يطبق بالحرف عَلَى أخرى وللعادة والمحيط والتقاليد دخل كبير في أوضاع الأمة عَلَى أن هذه النغمة قد أفادت فرنسا وغيرها بلا شك وأطلعت الشرق عَلَى التربية الفرنسوية مع ما هي عليه من الحسن هي في رقيها دون التربية الإنكليزية السكسونية من وجوه وإن كانت هذه دونها من وجوه ولعل بلادنا تستفيد من كل ذلك عبرة. تقدم أن تلامذة مدرسة لياكنور هم من الفرنسيس وخليط من البرتقاليين والأميركان والإنكليز والمصريين وهكذا شأن معظم المدارس في فرنسا ولاسيما في كلياتها الجامعة فلا يتعلم فيها الطلبة من الذكور فقط بل يتعلم فيها الطالبات من الإناث وإني لا أذكر أنني حضرت خطبة أو درساً أو مجلساً علمياً ولا زرت متحفاً ولا مطبعة ولا إدارة جريدة إلا

ورأيت الفتيات سبقنني إلى تلك الأمكنة ومعظمهن روسيات وإنكليزيات وألمانيات وبلقانيا وبولونيات. والبولونيات أكثر الفتيات الأجنبيات في فرنسا وأكثرهن عناية بتعلم اللغات الأجنبية حتى أن الواحدة منهن لتكلمك فلا تحسبها إلا فرنسوية لكثرة إتقانها للغة الفرنسوية وإجادتها النطق بها مما لا يكاد يتيسر مثله لغريبة ولا لغريب عن اللغة وهن مع هذا أكثر النساء الأوربيات تفانياً في أحكام ملكة لغتهن وحرصاً عَلَى آدابها وتلقينها. ولقد كانت المرأة البولونية تعلم أولادها لغتهم في الغابات والحقول عندما كانت الحكومة الروسية تحظر عليه إلى قبل بضع سنين تعلم لغتهم لتجعلهم روساً مع الزمن فلما دالت دولة الجهل ونال البولونيون كسائر العناصر السلافية بعض حريتهم عقيب إنشاء الدوما الأولى كان من البولونيون أن فتحوا في شهر واحد في البلاد التي وقعت منذ قرن ونصف تحت سلطة الروس زهاء أربعة آلاف مدرسة يعلمون فيها العلوم العالية والدروس المنوعة بلغتهم ولم ينقصهم أساتذة ولا أعوزهم بالطبع التلامذة. فالمرأة البولونية وإن عنيت بتعليم اللغات الأجنبية عنها تحتفظ بلغتها ووطنيتها احتفاظاً أسأل الله أن يرزقنا نحن بعضه حتى أنها إذا تزوجت من أجنبي لا تلبث أن تصبغ أولادها بصبغتها بحيث اضطر بسمارك أن يسن في عهده قانوناً يحظر فيه عَلَى الضباط الألمان أن يتزوجوا من البولونيات إذ ثبت له أن الوطنية الألمانية كادت تضعف ويعروها الانحلال في القسم الذي أصاب مملكة بروسيا من إرث صاحب بولونيا. فيا ليت شعري متى يكون نساؤنا بل رجالنا في هذه المنزلة من صحة الوطنية مع الحرص عَلَى الجامعة العثمانية التي هي عدتنا في شدتنا وبدون هذه الجامعة السياسية لا يرجى لنا بقاء بعد الذي رأيناه من تكالب الغرب عَلَى الشرق فنحن إن أنصفنا لا ننزع من يدنا من الجماعة لأن يد الله مع الجماعة ومن رأى كيف كانت حالة سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة قبل الوحدة السويسرية والألمانية والأميركية يدرك سر الاجتماع والتعاضد ويعرف أن المركب الكبير يستحيل أن تأتي عليه الأنواء بقدر ما تضر بالصغير فقد يغرق هذا أو يستغرق في غيره ولا من يسمع به. تعلمنا أوروبا وأمريكا كل يوم معنى من معاني الوطنية والجامعات الجنسية فإن كان بعض الاجتماعيين يدعون اليوم إلى إنشاء جامعة أوروبية واحدة وبعضهم إلى إنشاء جامعة

أمريكية واحدة وبعضهم إلى إنشاء جامعة صفراء من اليابان والصين واحدة أفلسنا نحن أبناء العثمانية أحرياء بأن نزيد في تكاتفنا وتكافلنا ونرفع من بيننا سوء التفهم بسعي العقلاء منا. طال المقال وبت أخشى عليكم الملال فهل تأذنون بأن أختمه بجملة واحدة للمقارنة بين أخلاقنا وأخلاق الغربيين وهي الأخلاق التي كانت من أعظم الوسائط في ارتقائهم كما كان لنقيضها واسطة في بانحطاطنا وذلك أنني تبنيت بالاختبار أن الإفرنج أكثر تفكراً منا في مصادر الأحوال ومواردها فهم لا يقدمون مثلنا عَلَى أمر قبل لأن يوقنوا من أنفسهم الغناء فيه فالصانع في الغالب لا يتطال إلى أن يكون سياسياً والمحامي لا يعمل في الزراعة وهكذا اختص أهل كل طبقة بطبقتهم وتفرد كل عالم بما بعلم ولم يتعده فالاختصاص أو الاخصاء هو الذي كان واسطة نجاح الغرب ودعوى معرفة كل شيء هي التي كانت واسطة انحطاط الشرق. الغربي يفتخر بأنه لا يعرف غير ما تعلمه في مدرسته وحصله من حرفته ولكنه تعلمه فبرز فيه وأحاط بأطرافه وصبر حتى نضج فتناول ثمار جنية. أما نحن فنسارع إلى الرقود فنهب دفعة واحدة كما نخمد كذلك. الغربي يهمه نجاح العمل من حيث هو عمل نافع لأمته ولنفسه ولذلك جاءت مصانعهم ومعاهدهم بل وجميع شؤون حضارتهم فخمة خالدة وكانت مصانعنا ومعاهدنا وسائر أعمالنا مختلة معتلة لا تدوم إلا بدوام من عمل لها أول مرة فإذا ما ذهب تذهب بذهابه. الغربي استفاد ويستفيد بتجارب غيره لأن من عادته أن يحسن الانتفاع بكل شيء ونحن من عادتنا أن نهزأ في الأكثر بكل شيء. الغربي يدخل الإصلاح إلى داره وبيته وأمته بالتدريج ونحن نحب أن نطفر طفرة في إصلاحنا والطفرة محال لأن سنن الفطرة لا تغالب ولا تعاند. الغربي يحب النظام حتى صار ذلك طبيعة ثانية له ونحن لا يهمنا النظام ولا التنظيم. الغربي معتدل عَلَى الأكثر في عامة أحواله ونحن أميل إلى الإفراط أو التفريط الغربي عبد الواجب ونحن قلما نقوم بفرض أو واجب فالغربي كما أحسن تقسيم الأعمال والاخصاء فيها أحسن استخدام الوقت إحسانه لاستخدام عناصر الطبيعة فنجده جد ولكن في أوقات الجد وهزله هزل ولكن في

أوقات الهزل ونزهته نزهة ولكن في أوقات النزهة وعمله عمل ولكن في زمن العمل والشرقي ويا للأسف ليس بذلك. أحسن الطبائع في الغربي خلق الاعتماد عَلَى النفس وإنكار النفي فهو يعتمد عَلَى كفاءته أولاً ثم عَلَى محيطه أمته وقد يهتم عَلَى الأكثر بمصلحة أته اهتمامه أو أعظم بمصلحة نسه ولذلك جاء كل غربي راقٍ أمةً برأسه وأمة تتألف من أفراد هذا حال وادهم الأعظم ينبسط ظل عمرانها ويمتد عَلَى الأرض سلطانها. فالله أسأل أن يهب هذا الشرق المحبوب نفثة من تلك الروح العالية وهذا لا يرجى لنا إلا بكثير سواد أمثالكم يا طلاب المدارس العالية فطلاب المدارس العالية هم ولا جرم أهل المطالب العالية فاعرفوا مقدار أنفسكم ومقدار الآمال التي تعلقها عليكم أمتكم نصر الله وجوهكم وبيض بكم وجوهنا.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الدرس في النزهة اعتادت بعض المدارس في الغرب أن تخرج بتلامذتها في أيام معينة من الأسبوع إلى الضواحي تدرسهم في كتاب الطبيعة بعيدين عن الدفاتر والكتب وجدران صفوفهم ما يحرر حواسهم من رقها وينزه عقولهم من أتعابها ويعلمهم معالم بلادهم ومجاهلها وهذا ما سماه أحد علماء التربية بمدارس النزهة وليست هذه المدارس عبارة عن نزهة بسيطة يهيم فيها التلامذة والأساتذة عَلَى وجوههم كما في نزهات المدارس بل إنها نزهات هي إلى الجد أكثر منها إلى الهزل وخطتها واسعة لأنها تجمع بين الولد والأرض والحياة وتعلمه النظر والتبصر والتفكر والشعور بالحقيقة وجمال الموجودات حيوانات كانت أو جمادات وتوقفه عَلَى مناظر الطبيعة وأعمال أبنائها فيجمع فيها الولد شعوراً ومشاهدات وملاحظات وأحكاماً وتذكارات وصوراً عَلَى اختلاف ضروبها يستمد منها معرفة وحكمة. ويخرجون إلى هذه المدارس في مساء يوم الأربعاء الثالث من شهر نيسان وأيار وحزيران وتموز وآب وتشرين الأول أي في شهور الربيع والخريف أما في الصيف فيخرجون إليها صباحاً خوف الحرارة وفي الشتاء يخرجون في أوقات الصحو والفرق بين هذه النزهات وغيرها أن الأساتذة يكونون عارفين بالخطة التي يجرون عليها وما فيها من مظاهر الكون المفيدة وظواهر الأشياء ليلفتوا إليها أنظار تلامذتهم وإذا كان في الطريق شيءٌ يغيب عن أذهان المعلمين فيتخلصوا من مأزقه في الحال. فباستعداد المعلمين لمثل هذه النزهات ينجو التلميذ من هوى النظام المدرسي وخلل العادات ويتعود التنظيم المدقق بما يسبق نزهاته من تدقيق المعلم بما يلزم لكمال هذه النزهات من الفوائد التي تناسب مدرسته ومحيطه فيذهب التلامذة مجتمعين حول معلمهم أكثر مما هم في صفوف المدرسة يسايرونه في البراري وينظرون ويتأملون ويستمعون ويسألون ثم يعودون إلى المدرسة ببذرة من التذكارات فيكتبون مشاهداتهم ويجعلونها في جريدة مذكراتهم وربما أضافوا صور المناظر والأشياء التي وقعت عَلَى أنظارهم. والسبب في هذه المدارس البرية هو أن بعضهم قالوا أن المدارس لا تعطي سوى جزءٍ معين من المعارف وهذه المعارف منتخبة بحيث لا تضمن للولد كل المعرفة العملية التي

يحتاج إليها في الحياة بل إنها تؤثر في قواه وتخلق له فكراً وتنيره وتوسعه وفيها التربية الحقيقية فالواجب أن يحمل الطفل من أبناء الشعب عن معلمي مدرسته الابتدائية عادات حسنة من التفكر وذكاءً نبيهاً وأفكاراً رائقةً وصحة حكم وبعد نظر واستقامة في الفكر واللسان. وليس في هذه الطريقة من التعليم طرائق ميكانيكية تبلد الذهن ولا دروس عالية تحوي في مطاويها معلومات تافهة باردة بل فيها كل ضروب التعاون في الأفكار المختلفة المرنة ولا سبيل إلى إبلاغ العلم إلى العقول إذا كان المتعلم يلقيه عَلَى صورة مجردة ويعلمه كالمتسلط فعلى المعلم أن لا يلقن إلا ما يقرب من إذ أن الطلبة وعليه في كل تعليم أن يستخدم أموراً محسوسة ويري الأشياء بحيث تمسها اليد ويقف بالطلبة أمام حقائق ناصعة ويمرنهم بالتدريج عَلَى استخراج المجردات فهو يربي صحة الحكم في تلميذه بما يقوده إليه من النظر ويربي فكر البحث بكثرة النظر والعقل بمعاونته عَلَى التعقل بذاته من دون قواعد منطقية. التلميذ لا يتعلم دروس الأشياء في كتاب ما لم تضع أمام عينيه صورة الشيء أو عينه وإلا فيكون كالببغاء يسمع المدرس فيتثاءب والأولى أن ينظر إلى الشيء بذاته فإن صورته واسطة وخير للناظر أن ينظر مباشرة فينطبع بطابع ما يرى أشكاله ويسمع صداه وينشق رياه ويغتني بأسماءِ الأعيان والأجناس التي تفهمه الأشياء وتمثلها لعينيه بما فيها من زخرف ثم يحسن أن تذكر في كتاب مع صورتها. ولئن أفادت المعارض الطبيعية والمتاحف في المدارس فإن الأفيد منها والأقرب إلى حصول المقصود أن تعرض الأشياء عَلَى أنظار الطفل في أماكنها فالواجب أن يرى الحجر في الجبل والحصاد في الحقل المتموج بأشعة الشمس والنبات والزهر في النور المرتج قبل أن يفهم بل ليفهم مجموعة المعرض من أعشاب وزهور وأحجار. يجب أن يذهب إلى الطبيعة ليلاحظ الأشياء والمخلوقات في مساكنها وأماكنها واكتشاف الصلات بين الأرض والبشر. فيخرج الطفل من المدرسة وهو أقرب إلى العمل والحقائق مسلحاً بسلاح ماض من التعليم لطعن عوائق الحياة وليس معنى هذه التربية إخصاء التلميذ في العلم بل تلقينه مبادئ عامة واستعداداً موسعاً فيه يحبب البلاد التي خلق ليعيش فيها وتلقي في نفسه ذوقاً للبقاء فيها ليعمل بها ويضرب فيها أوتاد مقامه ولذا اقتضى أن ينظر في مظاهرها الطبيعية ويرى

صناعاتها وفنونها كيف رقيت ويقرأ تاريخ أجداده ويشعر بالصلات والاتحاد المعقود بين الأرض وأجيال الناس الذين راقهم النزول فيها وحولوها منذ قرون إلى الحالة التي وقع استحسانهم عليها. وبهذه التربية تتربى الحواس في التلميذ عَلَى حين تصاب بين جدر المدرسة بإغفاء. والتربية الطبيعية تشد أزر التربية العقلية وهناك القوة والنفاذ فيتيسر للتلامذة أن يقدروا الأبعاد الشاسعة بسيرهم عَلَى الأقدام ثم بالعين من بعيد ولا يبرحون يتصورونه حتى يترسخ في ذاكرتهم فينظرون إلى قامة إنسان وعلو بيت وطول شجرة عَلَى اختلافها في البعد والطول ويميزون بين جمال الأصقاع وما يتخللها من المظاهر والألوان أما صغار الأطفال فلا يستطيعوا أن يسايروا أترابهم الأكبر منهم سناً فيجلسون إلى ناحية ويقطفون زهوراً وأوراقاً ويعدونها وبذلك يكون لهم درس في الحساب ثم يجمعونها بحسب أشكالها وحجمها وبذلك تتمرن ألسنتهم عَلَى الكلام وأذهانهم عَلَى النظام. فحاستا الذوق والشم تتمرنان باستنشاق الزهور وجنيها ورائحة المرج والأرض وغابة الصنوبر والسمع يتعود الإنصات إلى خرير المياه وتقدير المساوف التي تبلغ بها الآذان وتتمرن الأيدي كما تتمرن العيون عَلَى المساحة وتكعيب الخشب فتقرب التلميذ من الأرض ومن أعمال البيوت. نعم بهذه الواسطة يتعلم الطفل عَلَى الحساب والمساحة والعلوم الطبيعية بما يعده ويحسبه ويحوله ويجمعه من النبات والحيوان والمعادن والأحجار والمسافات وهكذا ينتقل نظر التلميذ في الخلاء من حقل يعمل صاحبه بيد وكرم يعزقه مالكه ومعمل يشتغل فيه الفتيان والفتيات وترتفع الكلفة بين المعلم وتلاميذه فيسيرون معه أو يسير معهم كما يسير أب مع بنيه ويدرك التلامذة باحتكاكهم بأرباب الصناعات وعملة الحقول أن العمل شريف في ذاته وأنه خير ما يعد له نفسه. العالم في الصور كتبت الآنسة برس في مجلة التربية مقالة قالت فيها: إن أول من رأس تسهيل الدرس عَلَى الأطفال بوضع صور في الكتب المدرسية هو أحد قدماء العلماء آموس كومينوس (1592_1671) وما برحت طريقته تنتشر ولكن عَلَى ضعف حتى العهد الأخير وقد غدت الكتب المدرسية وغيرها مصورة كلها بل أفرطوا في بعضها حتى قال بعضهم أن كثرة

الصور توشك أن تأتي عَلَى كل اجتهاد للفهم وتفكر الإنسان بنفسه في موضوع بمجرد وصفه وصفاً بسيطاً. ولكن الذاهبين إلى أن الصور تضعف قوة التصور هم عَلَى خطأ في دعواهم فإن الصورة تقوي الجهاد للفهم وذلك بأن تجعل الحواس والذهن تتحرك بنفسها منذ الصغر ويتسع أمام الطفل عالم العلم المنوع وتعلق بواسطته مبادئ من العلم غير قليلة وبذلك يكون الفكر في سعة من الوقت والقوة اللازمة للبحث في أمور أخرى لا يتأتى التمكن منها بالنظر. نعم إن الصور توضح كل شيءٍ بحيث تكتفي أرباب أرباب العقول العادية بما فيها وهي مفيدة تفتح لأرباب الأفكار العالية أموراً جديدة أخرى. ولعمري أليس التصوير من حيث الجملة هو سبب ونتيجة لاتساع الانتباه العقلي في السنين الأخيرة. فالواجب أن تري الجغرافيا عيوننا صوراً من بلاد العالم لم نراها ولن نراها. وأن يكون التاريخ معرضاً صور لكل عصر أو لكل القصص التي تعظم قيمتها لقلة صحتها لأنها تعبر عن حالة الأفكار العامة لزمن أو لشعب أهم من فكر الأبطال الذين تنتسب إليهم. وأن يكون التاريخ الطبيعية عبارة عن نزهة في حدائق حيوانات أو حيوانات تتمثل حية ونباتات تبدو بجمالها وقوة أصولها وصخور تبدو عَلَى أجمل مظهر لتنبه النظر إلى التأمل. نعم فلتكن عجائب المعامل والأدوات وما وصلت إليه بعض الصناعات والأعمال الاجتماعية من الارتقاء من مألوف عقل الولد بوساطة التصوير وبذلك يربح الطفل لنفسه وللمستقبل لأن ما يتمثل لعينيه يقيمه وسط التمدن العصري محفوفاً باكتشاف العلم وتبدل الأخلاق السريعة في تحولها اليوم وكم من عادة كانت بالأمس غريبة فأصبحت اليوم من المألوف وكذلك سيكون الحال غداً في الطيران في الهواء فلكي يستعد الطفل لتلقي ما يحدث غداً من الارتقاء يجب عليه بعد الآن أن ينظر بلا انقطاع بكل ما فيه من قوة نظر إلى ارتقاء اليوم. والصور مفيدة في تعليم الحساب وتصور الحياة العملية وفي دراسة النحو والصرف فإن كتاب علم مصور تصويراً جيداً هو درس في الذوق ولطف في الصناعة والواجب أن ينبه المعلم تلميذه إلى ما حوت الصورة التي تمر في الدرس من المعاني وإن كان من الصور ما ينطبق بنفسه فالأولى أن ينطقه. فالطفل لأول حركته يعطى لعباً وصوراً منقوشة محسمة فإذا تقدم في السن تعرض عليه صور عَلَى الورق ليتعلم منها ما يحدث في الحياة البيتية

فيشرح المعلم لتلميذه كل الأدوات والآنية والخرثي والماعون والثياب لينبه ذهنه إلى كيفية استعمالها وإذا شرحت الصور للولد شرحاً كافياً لا يلبث متى أدرك أن يقلدها بيده ويتعلم ما هو بعيد عنه كأن يدرس ابن المدينة ما يجري في القرية وابن القرية ما يتم في المدينة فبالتصوير يدخل الطفل في عالم جديد والتصوير يمثل لعينيه العالم في مظاهر لم يكن يتوقعها فيرى حواليه الأشياء والمناظر التي رآها في كتابه وربما كان يمر بها وهو ساه لاهٍ عنها وبذلك يعلم جمال الحقيقة فالإكثار من مجاميع الصور في المدارس والبيوت من أقوى أسباب التعليم. صحة العين نشر الدكتور دوفور في مجلة التربية مقالة في صحة العين في البيوت المدارس قال فيها: إن الواجب تنظيف عيون الأولاد والعمل لما فيه وقايتها لا أن يمدوا أيديهم إليها وهي وسخة فلا تستعمل لها اسفنجة ولا خرقة استعملت في سائر أجزاء الجسد ولا أن تغل عيون الأولاد بما استحموا به. لأن الاسفنجة حتى ما يستعمل منتها لفرك الوجه لا تخلو من وسخ ولكي يثق المرء بنظافتها يجب أن تجعل في ماء غالٍ كل مرة يراد استعمالها وكث يراً ما تكون الفوط قاسية القماش فالأحسن استعمال شيء من القطن للعيون ثم ترمى بعد الاستعمال وأحسن سائل لغسيل العين الماء الطاهر وإذا أريد مزيد العناية فالواجب استعمال ماءٍ أغلي ثم فتر وتجعل فيه قطعة من القطن المعروف ثم تمسح بها العين ولاسيما وراء الجفون والحدقتين من جهة الأنف والواجب تنشيف العيون بعد غسلها حتى لا يبقى فيها اثر للنداوة. وأن يفهم الطفل متى وعى عَلَى نفسه أن لا يقرب يديه وهما موسختان من عينيه كما لا يقرب منها شيئاً يؤذيها مثل قلم أو مقص أو شنكل أو موسى فإذا كبر وتعاطى بعض الصناعات تجعل عَلَى عينيه نظارات تقيها الذرات الضارة. ويقضى أن تكون غرفة المدرسة منورة بالنور الأبيض وبنور النهار ما أمكن وما دام النور الطبيعية كافياً يجب تفضيله عَلَى النور الصناعي. ومما يضر العين بل مجموع حالة الإنسان أن يبقى المرء في غرفة منورة بنور أحمر مثل غرف التصوير الشمسي فإن للألوان الملونة تأثيراً في النظر. يجب أن يكون النور غزيراً فإن مضرة النور القليل تضطر التلميذ إلى الاقتراب من دفتره أو كتابه فيشغل قواه النظرية بإفراط فإذا عني

بصحة عينيه منذ صغره يجود نظره في كبره ولتدارك ذلك يجب أن يكون النور كافياً بحيث يستطيع التلميذ أن يقرأ عن بعد الثلاثين سنتيمتراً عَلَى الأقل براحة. ويقضى أن تكون غرفة الدرس بحيث يرى منها التلميذ شعاعاً من نور الشمس أو ضوءِ النهار وأسوأ المدارس ما جعل خالياً من النور في الطبقة السفلى من البناء لا ترى منها إلا الفناء أو شوارع ضيقة. والأصلح أن يدخل النور عن شمال الولد فإنه إذا قابله يبهر نظره فيضره وإذا استدبره يظلل جسم الطفل ما تحت يده من الورق والكتاب وإذا جاءه عن يمينه يغطي السطر الذي يخطه. ويمكن تنوير الغرف العالية من سقوفها وإذا أريد التوقي من نور الشمس في غرف المدارس فالأحسن اختيار ستور رمادية فاتحة كما تجعل الجدر كذلك حتى لا تبهر عيونهم ويجب أن يكون النور الصناعي شديداً ما أمكن فالغاز دون الكهرباء ضوءاً وخيره ما جعلت له زجاجة ولذلك تفضل مصابيح البترول والغاز والكهرباء عَلَى الشموع وغيرها مما لا زجاج يمنع الهواء عن العبث بنوره. ويقتضي للغرف المنورة بمصابيح البترول والغاز أن تهوي لأنه ينبعث من تلك المصابيح بخار وحامض كربونيك تستدعي الهواء أك ثر من الغرف المنورة بالكهرباء. أما كيفية الجلوس فينبغي ألا تكون عَلَى كراسي لا تليق إلا للجلوس عليها بضع دقائق في إحدى القهوات بل تكون بحيث لا يقترب التلميذ مما بين يديه من الكتاب وغيره أقل من 32 إلى 33 سنتمتراً ويكون جسمه وذرعاه ورأسه عَلَى وضع يستريح به فإذا جلس بعيداً عن الكتاب أو الدفتر لا يصير أحس قصير النظر أو أنه إذا كان مصاباً بالحسر لا يزيده إعضالاً. فإذا أحب الكتابة يشتد مقدم ذراعه عَلَى المنضدة ويبقي مرفقه مطلقاً في الهواء وأن تكون المقاعد عالية في الجملة وعلو محل كل تلميذ 65 سنتمتراً عَلَى الأقل ويجب أن يعود الطفل عَلَى الكتابة المستوية لا عَلَى السطور المائلة لأن المائلة تسبب الحسر وأن يعلم العمل بالأدوات الكاتبة التي شاعت بالاستعمال في أميركا. ويختار من الكتب ما تقرأ حروفه مطبوعة عَلَى ورق غليظ في الجملة بحيث لا تبدو الحروف الناتئة من أسفله ويكون الورق أبيضاً خيراً من الرمادي أو الأصفر الذي يمتدحه بعض أطباء العيون فالحروف الجيدة ما لا تلتبس فيه الحروف المتشابهة بالرسم حتى عن بعد. ويجب أن لا

يتجاوز طول السطر عن ثمانية سنتمترات وبين كل سطر مسافة ثلاثة مليمترات وأن لا تطول الصفحات ويكون لها هوامش بيضاء. لا يدخل الطفل المدرسة قبل السادسة من عمره ولا يبدأ بتعليم الكتابة إلا بعد سنة من بداءته بالقراءة ويعلم الكتابة بالورق والقلم لا عَلَى ألواح من الحجر ولا يعلم في النهار أكثر من أربع ساعات وهو جالس بحيث لا تتجاوز كل مدرسة أكثر من ساعة يفصل بين كل واحدة منها ربع ساعة عَلَى الأقل يصرفها التلميذ في اللعب في الهواء الطلق أو تحت رواق بحسب الفصل ولا يقرأ التلامذة ولا يكتبون خلال النزهة وأن تقلل ساعات درسه في بيته ما أمكن لأن شروط الصحة تكون في البيت غير مستوفاة في الجملة وكذلك ينقطع الولد عن الدرس أيام العطلة وكل أسبوع كما تصرف العطلات المدرسية في الهواء الطلق لا في العمل. والأحسن أن لا يملي الأستاذ عَلَى تلامذته ما يقضى عليهم أن ينسخوه بل أن يكتبه ويوزعه عليهم ويلاحظ الأطفال المولعون بالمطالعة فلا يسمح لهم أن يطالعوا في الفراش لأن جلستهم تكون غالباً مختلة ونور الغرفة ضئيل ويجب تعويد الأطفال رؤية الأشياء البعيدة حتى تتمرن عيونهم عَلَى النظر. والحسر من الأسباب الرئيسية إن لم يكن في العمى التام فلنصف عمى يجعل الإنسان عاجزاً ويحول بينه وبين تعاطي أكثر الصناعات وقد فحص كوهن في ألمانيا سنة 1865 زهاء عشرة آلاف طفل فقر ربان الحسر في مدارس القرى يكاد لا يوجد لهم أثر ويزيد عددهم بزيادة الدرس ويبلغون الدرجة الكبرى من قصر البصر في المدارس العالية والجامعات وإن الحسر في التلامذة يزيد من الطبقة الواطئة إلى الطبقة العالية وإن كان يكثر في العلماء لكثرة تحديقهم الساعات الطويلة وإن الحسر يزيد في صاحبه كلما تقدم في درسه. وقد أكد كثيرون في بلدان مختلفة هذا الإحصاء فإبان البحث بأن الإفراط في تقريب العين المرئيات يورث الحسر وهذا ناشئ من سوء جلسة التلميذ الذي يحني أعلى جسمه إلى الأمام مستنداً عَلَى مقدم ذراعيه مصعراً رأسه والسبب في الحسر واختلال وجهة العمود الفقري رداءه وضع التلميذ. ولقد كان ولا يزال لمسألة الحسر في المدارس شأن عظيم ولطالما أرسلت الحكومات إلى مدارسها بالتعاليم الواجب عَلَى المعلمين تطبيقها عَلَى التلامذة لوقاية أعينهم من الضعف

والقصر من أحسن الخطط التي اختطوها (1ً) أن يقسم التعليم عَلَى وجه لا يضطر فيه التلميذ إلى صرف أكثر من ساعة متتابعة (2ً) أن تمرن العيون عَلَى النظر إلى مسافات متراخية (3ً) الرياضة المتوالية في الهواء الطلق والرياضات البدنية (4ً) الامتناع عن القراءة في العتمة أو في الشفق أو ضوءٍ مظلم (5ً) حسن العناية بوضع التلميذ خلال القراءة والكتابة (6ً) الحظر عَلَى التلاميذ أن يضعوا عَلَى عيونهم نظارات بدون استشارة طبيب العيون (7ً) يجعل التلاميذ الذين ضعفت عيونهم في مكان يعينه الطبيب (8ً) يجب أن ينبعث النور للقارئ والكاتب والمصور من شماله أو من أعلى رأسه (9ً) يجتنب النور الصناعي وإذا كان لا مناص منه فالإقلال ما أمكن من القراءة والكتابة عَلَى ضوئه ويبتعد عن التصوير فيه (10ً) يعلم الأولاد بحروف صغيرة (11ً) يحظر استعمال الورق (12ً) يباعد بين العنق والعمل القريب. تربية بيوت الضاحية اشتهر الدكتور ليز في ألمانيا بإنشاء مدارس سماها بهذا الاسم وشاعت طريقتها في أوربا وأميركا عَلَى نحو ما كانت شاعت منذ بضع سنين كتب إديمون ديمولانس في فرنسا القائل باتخاذ التربية السكسونية. وقد كتبت مجلة التربية الفرنسوية يصف طريقة مدارسه قال: إننا أنشأنا خلال العشر السنين الأخيرة من بيوت التربية ثلاثة وهي في الضواحي بعيدة عن المدن يتربى فيها التلميذ ممتعاً بكل قواه الطبيعية والدينية والأدبية فيعيش في محيط ملائم لتربية شخصيته عَلَى القوة والنشاط عَلَى صورة تعرف فيها قيمة الحياة وأفراحها وتكون جديرة بأن تساعد عَلَى سعادة الخلق فيقوم المعلمون في هذه المدارس بوظيفة المربي الحقيقي يعيشون مع الفتيان الذين عهدت إليهم تربيتهم كما يعيش الأصحاب ويعينونهم ما أمكن عَلَى إتمام تربيتهم الشخصية فيلعبون ويعملون معهم ويقاسمونهم اللذائذ والأعمال الجدية ويؤثرون فيهم بالمثل والقدوة وبما يبثونه في قلوبهم من حب الميل إلى كل الصور الشريفة والنافعة في العمل. وللتربية العملية المقام الأول في هذه التربية فيمكنون الطفل أن يعيش في الهواء الطلق وما يتحتم عليه القيام به من أنواع الرياضات البدنية يكون متناسباً مع نموه ويعمل به بدون إفراط فيوصونه بالمشي والعدو وأعمال الرياضة وركوب الدراجة وهذه الرياضة الأخيرة تكون في السنة الحادية عشرة ومن جملة

الأعمال التي تقوي جسمه زراعة البقول والزروع والنجارة وهي من الصناعات التي كتبت لها المدرسة فضل التقدم وإذ كان الدكتور وايز يعلق شأناً عظيماً عَلَى تأثير جمال الأقاليم في التلميذ أسس مدارسه الثلاث في ثلاثة أقاليم بهجة من بلاد ألمانيا أما الأشغال العقلية فيجب أن يعلمها الطفل عَلَى صورة مقبولة ويتقبلها بفرح فينبه ما فيه من الميل الفطري وهباته في النظر وقوته في التفكر كما تربي فيه العواطف الدينية والأدبية والوطنية وتفي بما يحفظ نظام الحياة وسذاجتها وإخلاصها المطلق نحو الواجب. قال لقد أنشأنا في ثلاثة أقاليم بهجة من بلاد ألمانيا (في هارز تورنغ ورون) ثلاثة دور للتربية للأطفال والمتوسطين والكبار وذلك ليكون أبناء كل سن مع أبناء سنهم ويخلصوا من حبسهم في مدارس داخلية أشبه بالثكن منها بالمدارس فيعمل أهل كل سن ما يشاؤن لتنمية شخصياتهم ولهم من تنوع الأقاليم التي ينقلون من مدارسها ما يوسع أمامهم أفق العمل في الحياة وليس في كل مدرسة أكثر من 50 إلى 70 تلميذاً يقسم كل 10 إلى 12 منهم فرقة واحدة يتولى أمرها معلم يعيش معهم كما يعيش الأب مع أولاده وهكذا تتسع دائرة اختبار الطفل وأفكاره بتنقله من فرقة إلى أخرى ومن مدرسة في هذا القطر إلى أخرى في قطر آخر تخالفها بعض الشيء في النظام. والعيش في هذه المدارس منوع الأساليب حسن النظام بحيث يلاءم تنمية القوى العقلية والطبيعية فيستيقظ الأولاد فيها بين الساعة السادسة إلى السابعة صباحاً ليغنموا نشاط البكور فبعد أن يستحموا ويفطروا يبدءون بالدروس وهي خمسة طول كل منها 45 دقيقة وذلك للمتوسطين والكبار أما الصغار فدروسهم أربعة. ودروس الصباح لا تكون إلا فرعين أو ثلاثة ويفصل بين كل درس فرصة للنزهة وفرصتان تدوم كل منهما ثلاثين دقيقة تخصص إحداهما للركض في الغابة إذا كان الوقت صاحياً وفي الشتاء للتزحلق عَلَى الثلج واللوج والنزهة الثانية لتناول الطعام الثاني ويتغذون الساعة الواحدة بعد الظهر والتعليم ينتهي الظهر وللتلميذ ساعة قبل الطعام يتعاطى فيها أعماله الخاصة أما الأكل فإنا نتبع فيه طريقة الدكتور لاهمان وذلك بأننا نكثر من البقول والثمار ونقلل من تناول اللحم ونتحامى الأطعمة ذات التوابل والمشروبات الروحية والجزء الأول من وقت بعد الظهر أي من الساعة الثانية إلى الرابعة نستعمله في الأعمال العملية مثل البستنة والنجارة أو في الفنون

اللطيفة كالرسم والموسيقى الآلية وبعد الساعة الرابعة يبدأ العمل العقلي عَلَى أنه تقال فيه ما أمكن التمارين المكتوبة والنصوص المستظهرة. والعمل الجوهري في المدرسة يتم في الصباح وتدوم مدة الدرس في المساء ساعة في المدرسة الصغرى وساعة ونصف في المدرسة الوسطى وساعتين ونصفاً في المدارس الكبرى وبعد رياضة طبيعية قصيرة أو درس في الفضاء يذهبون إلى المائدة الساعة السابعة وبعد ذلك يستريح الطفل قليلاً عَلَى نحو ما يشاء ثم ينتقلون إلى قاعة السر فيبدأ أستاذ الموسيقى وجوقة التلامذة في أول الاجتماع وآخره بتلحين قطعة من الشعر ثم يتلو المدير قطعة أدبية تتشربها روح الطفل وتكون الأدبيات متناسبة مع اقتدار القوى العقلية في الطفل فالصغار يرتاحون إلى تلاوة الأقاصيص والحكايات والقطع الشعرية أما الكبار فيحبون أنواع الآداب العالية وينام الصغار في الساعة الثامنة وينام الكبار في الساعة التاسعة. وفي كل أسبوع تقضي كل فرقة أو أسرة السهرة في رفقة أب الأسرة ويخصصون سهرة أخرى لسماع الموسيقى وكثيرا ما تتلى عليهم محاضرات يقوم بها أصدقاء المدرسة أو الأساتذة أنفسهم وهكذا ينتهي اليوم بما يعلي نفس التلميذ ويحدوها إلى المطالب العالية. وإذ كان التلميذ في حاجة إلى الحرية لترتقي مداركه فالمدرسة تطلق سراحه بعد ظهر الأربعاء والسبت ولا يخشى أن يسيء استعمال هذه الحرية لأن انفراد المدرسة في الخلاء والعيشة الاشتراكية بين الأساتذة والتلامذة وكثرة الأعمال الطاهرة والجاذبة تستدعي نشطته وتقود إرادته. وطريقة المدرسة في التعليم طريقة الوصف والاستدلال التي تساعد الطفل أبداً عَلَى مؤازرة المعلم في عمله. ولا تطبق هذه الطريقة إلا عَلَى شرط أن تنظم المواد المدروسة في هذا العمل الابتدائي المشترك وأن تعرض من جديد عَلَى الطفل في صورة علمية. وإذ كانت الفروع التي تدرس في كل صباح قليلة سهلة البحث في المسائل التاريخية والعلمية واللغوية وذلك بدرس تجارب الغير والمستندات الموجودة وعلى هذا يتأتى التوسع في درس تاريخ الأدب بدون أن يجزأ وللطفل من وقته متسع ليعرض أفكاره ويقدم اعتراضاته ويهيئ أجوبته. إن احترام التلميذ لشخصية المربي وطاعته له هي من الشروط الجوهرية في نجاح التربية

وهذه المدارس لا تتطلب من تلامذتها بالخوف ولا بالقصاص. فإن التأثير الروحي الناشئ من الشخص المربي الحري بكل تجلة والانقياد للطبيعة أو للعقل وتأثير نوع الحياة والعمل المطلوب هي وحدها حرية بتربية أخلاق حرة. وعلى ذلك يسمح للتلميذ أن يجري مع ميوله ويقوم بما يزيد في نشاطه عَلَى عمله ولا تطلبه المدرسة إلا بما لا غنية عنه بتربيته الطبيعية والعقلية فتعلمه بالقدوة وبما يسود فيها من الأفكار العامة إلى أن يدرك ماهية الواجب بحيث يتضح له بأن نجاحه هو نتيجة لازمة لنظام منطبق عَلَى العقل. أما العقوبات فيستغنى عنها في هذه المدرسة لأن المربي يتنزل إلى تقريب مناهجه من عقل التلميذ ويعامله عَلَى نصاب العدل وإذا اختلت هذه الشروط تصبح الحاجة ماسة إلى العقوبات وعلى التلميذ من ثم أن يتعاطى عمله بابتهاج وهذه هي الطبقة من التلامذة التي تتوخى المدرسة تنشئتها والقيام عليها ولا تطلب منهم الكمال بل تريدهم عَلَى أن يرتقوا تدريجياً متناسباً مع قواهم واستعدادهم. وإذا لم يكف ذكاء التلميذ وإرادته للتوقي من الأغلاط أو لسد مواضع الخلل من تربيته فإن المدرسة تنشطه وتصبر عليه في جهاده عَلَى أنها لا تكلفه ما لا طاقة له به. ويعامل كل تلميذ بالاحترام اللائق بشخصه فإن المربي الحقيقي هو الذي يكتشف في كل تلميذ حتى في المقصرين منهم في المدارك ما هو جدير بالاحترام وقابل للتكمل فإذا تم ذلك فالحياة المدرسية تنقضي في دعة نافعة ونفع شامل. وإذا مست الحاجة إلى إنزال القصاص بالتلميذ فلا يكون إلا عَلَى أقل درجاته فمن أساء استعمال حريته تحجز عليه ومن تراخى في درسه يغيرون له الأسلوب في الإلقاء والمراقبة وطريقة تنشيطه وهكذا تجتهد المدرسة أن تحمل الولد عَلَى الاعتراف بخطائه وتأخذ بيده كل الأخذ لتوقد في نفسه جذوة العمل الصالح. ويحرمون العقوبات البدنية والقصاص الخارجي التي ليس لها علاقة داخلية مع الخطأ الذي ارتكبه كما لا يعمدون إلى مكافأة المحسن من التلامذة بمكافآت مادية. لا جرم أن أعظم العقوبات التي تشاهد في تربية مدارس المدن ناشئة من الخروج عن سنة الفطرة وهذا ساقط من ذاته في مدرستنا بالنظر لموقعها من الخلاء ولطرز معيشتنا.

ولقد اقتنعنا بأن كل شخص لم يطرأ عَلَى قلبه وذكائه ما يشوههما كل التشويه هو قابل للخير حري بالمعاناة لإصلاح حاله. فالثقة والحب والإخلاص والمعاملة بحسب قانون العقل كلها من العاملات في ضمان النجاح للمرء حتى أن النجاح وإن كان لا يرجى في الحال بهذه الطريقة فإننا عَلَى ثقة بأن البذرة الملقاة لابد عاجلاً أو آجلاً أن تأتي أكلها. نحن نحاول أن نحب تلاميذنا بدون ضعف لنلقنهم معنى الواجب ونحببه إلى نفوسهم وننشطهم عَلَى الرغبة فيه أبداً. هذه هي القواعد التي جرينا عليها منذ عشر سنين وظهرت بعض نتائجها وحذت حذونا بعض المدارس التي أنشئت في البلاد الخارجية فأبانت عن نجاح وستعظم فائدته في المستقبل أكثر. معنى التاريخ كتب الدكتور ماكس نورد كتاباً بالإفرنسية تحت هذا الاسم جاءت فيه بعض الفقرات الآتية: إن ما كان يراه الجيل الماضي في التاريخ لا يراه الحاضر وما يناسب هذا لا يناسب المستقبل وما يناسب الهنود واليابانيين لا يناسب الأوربيين والأميركيين فالتاريخ يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فما تنبه به اليوم إلى مصلحة عامة لا يكون له غداً تأثير في العالم. فالتاريخ يسير في ظلمات الماضي كالإنسان الذي يحمل مصباحاً وشخصية المؤرخ تظهر وإن قال ذلك المؤرخ أن الواجب إخفاؤه لإيراد الحقائق مجردة. وقد قال هيرودوتس أبو التاريخ ليس التاريخ إلا لعب ممن يرويه ولا يختلف عن القصائد التي تنظم في تمجيد الأبطال إلا بكونه نثراً وهذه شعر. وهو إلى اليوم لم يبرح على ما يدعيه بعضهم من أنه أصبح علماً عبارة عن قصة ولا يختلف المؤرخ عن القصصي إلا بأن حريته محدودة بحوادث حدثت وعرفت في الجملة وذلك لأنه لا يستطيع أن يناقض ما وقع التسليم به عند السواد الأعظم. ليس التاريخ علماً لأن العلم ليس إلا معرفة الصلات بين النتائج والمقدمات التي تربض الظواهر ببعضها البعض ومعرفة النواميس العامة في الطبيعة التي هي مفصحة عنها. وقد ردَّ المؤلف هربرت سبنسر قول من يطلق لفظ علم على هذا النوع من التقييد والتنسيق في الحوادث. وعبثاً حاولت فلسفة التاريخ أن تحدد الصلة الأصلية في الحوادث وأن تضيع القوانين التي تتسلسل بها الوقائع التاريخية وربما جاء زمن اقتدر الناس فيه على تدوين تاريخهم خالياً من التناقض إذا ارتقى الفونوغراف

والتصوير الشمسي أكثر من الآن. ولكن لا يتأتى أن يدون بهذه الواسطة إلا جزء صغير من الحوادث وما وراءها وهو الأهم كنحو ما يضمر في روح البشر ويبقى مخفياً عنا فلا سبيل إلى نقشه ونقله. والحقيقة أن لكل مؤرخ رأياً خاصاً في الصور الكبرى من الماضي والحاضر وقلما تتفق صوره على صور رصفائه. التاريخ هو غير تدوين الوقائع بل هو خارج عنه وأرقى منه وما التاريخ إلا مجموع حوادث اعترضت الجهاد الإنساني في سبيل الحياة فهو تابع الأعمال والمحن والميول والحقائق التي يحاول الإنسان بها أن يوفق بينه وبين الشروط الطبيعية والصناعية الكائنة في المحيط الذي ولد فيه ويجب عليه أن يعيش وسطه فلا ترى بين رجل عادي ورجل فاتح فرقاً في الطبيعة وكلاهما خاضعان للقوانين الفطرية فالأول لا علاقة له بغيره قد يعيش ويموت فلا يدري به أحد أما الثاني فيؤثر بأفكاره وأعماله في ألوف وملايين من أبناء جنسه فالفرق بينهما في الكمية لا بالكيفية وكم من أناس كبر مقامهم من دونوا أخبارهم حتى أن كثيرين ليعجبوا من أرباب الرحلات السخفاء عجبهم من كبار الفاتحين المصلحين وكم من أناس هم عظماء في نظر أمة ولا يذكرون عند أخرى وكم من زلازل وحرائق أثرت في الانقلاب البشري أكثر من الحروب والغارات وما سبب ذلك إلا المؤرخون فإنهم غالوا في هذه وسردوا أخبار تلك على وجه عادي. قال ومن المحقق أن معرفة الحوادث التاريخية ليس فيها ضرورة حيوية كما هو الحال في الظواهر الطبيعية ونواميسها بل إنها تسد في المرء حاجة نفسية بل حاجة اجتماعية. وملكة النقد على الجملة غير مرتقية في السواد الأعظم من الخلق فلم يرزقوا استعداداً للتمييز بين الحق والباطل وقلما يهتمون بذلك فكل قول يؤكد قائله صحته يقبلونه مصدقين بدون أن يطلبوا الدليل عليه وأن يبحثوا عن درجته من الصحة والتثبت. فكما أن اللاهوت يوقف الناس عن الأسباب الأخيرة في نظام هذا العالم أو المعجزات تكشف خفايا المستقبل هكذا تدوين الحوادث التاريخية كان يوقفهم على معميات الماضي. ولو اهتم البشر بالاطلاع على الأسباب الأخيرة على نسبة اهتمامهم بالاطلاع على الأسباب القريبة لقضي على عالم اللاهوت منذ عهد طويل على نحو ما جرى ما جروا في التاريخ الطبيعية الذي خلفه بلينوس وعلم الحياة تألف أرسطو وكتاب الطبيعة لبطليموس ولو اهتموا بمعرفة الماضي

اهتمامهم بالمستقبل لأدركوا منذ عهد بعيد أن تدوين وقائع التاريخ لا يوصل إلى معرفة المستقبل إلا كما يدل علم النجوم والقيافة والعرافة. الصحة المدرسية اجتمعت جمعية الصحة الألمانية في ديسو من بلاد ألمانيا وبحثت في أمور كثيرة في حفظ صحة التلامذة ولاسيما في مسألة العيون فقد رأي أن خير وقاية للعين من الأمراض عناية الأمهات بنظافة عيون أبنائهم وبناتهم ثم عناية المدارس بذلك والتوفر على تقليل النقائض الإرثية وملاحظة مواضع النور في المدارس بحيث لا يقترب الأولاد مما ينظرون فيه وأن تجعل الدروس في الصباح أما وقت العصر فيصرف في الألعاب والرياضات حتى يتيسر للنظر أن يتمرن على النظر إلى المساوف البعيدة. ولا باس حين الحاجة من إنشاء مدارس خاصة بضعاف الأبصار من التلامذة وهذا خير طريق للعناية بنظر حماة الوطن وأبناء المستقبل على أن يعنى أرباب البيوت بصحة عيون أبنائهم عناية المدارس بها بعد. كلية ليبسيك احتفلت كلية لايبسيك الألمانية بمرور خمسمائة سنة على تأسيسها فقد أنشئت سنة 1409 على يد أساتذة وتلامذة من الألمان هاجروا من براغ للخلاص من النفوذ السلافي فمد فريديريك المحارب ظل حمايته عليها وكذلك صاحب مسينا فحازت شهرة وقوة لم تزل محتفظة بهما حتى اليوم. وفيها الآن خمسة آلاف تلميذ من أقطار أوربا وانتدبت كليات ألمانيا وغيرها من كليات الغرب مندوبين عنها حتى اضطرت عمدة الاحتفال أن تحدد عدد الخطباء وناب كثير من ملوك الإمارات الألمانية وقد احتفلوا بإقامة موكب تاريخي اشترك فيه ألفا رجل يمثل الأدوار المختلفة في الحياة المدرسية في ليبسيك منذ سنة 1419 إلى 1830 ومما مثلوه فيها مناقشة لوثيروس صاحب الدعوة البرتستانتية مع خصمه إيك وحرب الثلاثين سنة والدور الذي رفض فيه الفيلسوف ليبنز من نيل شهادة الحقوق ودور ليسنج وكيتي وأربعة من قدماء تلامذة لايبسيك. بلجيكا الحديثة نشر فرنسوي أقام في بلاد البلجيك زمناً كتاباً في وصفها جاء أن ليس في بلجيكا روح بلجيكية كما ليس في ألمانيا ولا في فرنسا روح فرنسوية ولا في إنكلترا روح إنكليزية لأنه

ما من شعب في الأرض يملك روحاً خاصة به بل هو مزيج أرواح مختلفة ففي البلجيك شعبان ألفالون والفلامند وقد انتبه الشعب الفلامندي في السنين الأخيرة فطلب أن تعامل اللغة الإفرنسية واللغة الفلامندية بالمساواة. وفي البلجيك 2. 822. 000 نسمة لا يتكلمون بغير الفلامندية و2. 574. 000 نسمة لا تتكلم بغير الإفرنسية و801600 يتكلمون بالإفرنسية والفلامندية و28300 لا يعرفون أن يتكلوا بغير الألمانية و7200 يتكلمون الفلامندية والألمانية و42900 يتكلمون باللغات الثلاث الشائعة في البلاد. والبلجيك متأخرة من حيث التعلم فنجد فيها 101 أمي في كل 1000 جندي أي أكثر من عشر أبنائها في حين ليس في هولاندة سوى 23 أمياً في الألف وفي فرنسا 47 وبحث المؤلف في أحزاب البلجيك فردها إلى ثلاثة أحزاب حزب الأحرار وحزب الدين وحزب الاشتراكيين وقال أن الحزب الأول ضعيف بالنسبة للثاني الذي استولى على الأمر فالأحرار يكتفون بأن يخاطبوا الأرواح والأفكار أما سائر الأحزاب فتدعو إلى مذهبها بما تقوم به من الأفعال النافعة العملية فهي تسطو على الفلاح والعامل والطفل أيضاً تتناولهم من المهد ولا تتركهم إلى اللحد. محصول الذهب قال مجلة الاقتصاديين: ما برح محصول الذهب في العالم يزيد سنة عن سنة وليس هو الذي زاد غلاء المعيشة بل إن الغلاء ناشيء بطبيعة الحال من التدابير السياسية والقوانين الاجتماعية وهاك جدولاً بمحصوله سنة 1909 ومنه تفهم أن الولية قد فازت بها الترنسفال في هذا الباب. فرنك 770. 100. 000 الترنسفال 429. 150. 000 الولايات المتحدة 367. 101. 978 أوستراليا 174. 216. 000 روسيا 132. 600. 000 المكسيك 64. 285. 500 رودوسيا

56. 100. 000 الصين واليابان وكوريا 54. 825. 000 كندا 53. 886. 600 الهند الإنكليزية 32. 587. 500 أفريقية الغربية 12. 648. 000 مدغسكر 127. 500. 000 الأقطار الأخرى 2. 329. 000. 000 المجموع.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات أمهات مخطوطات ندر جداً بين غلاة الكتب العارفين في البلاد العربية مثل الشيخ طاهر الجزائري في دمشق ومحمود شكري أفندي الآلوسي في بغداد وأحمد بك زكي في القاهرة فهم يتوسلون إلى نشر كتب السلف بكل ما لديهم من ذرائع لينيروا بها آفاق البلاد ويحيوا موات المجموع والأفراد. وطريقة العالم المصري في الدعوة غريبة لأنه متشبع باللغة أو باللغات الإفرنجية فقد نشر أمس تقريراً طبعه باللغة العربية والتركية لتنظيم خزائن الكتب العامة في الآستانة وأقرب الطرق إلى الانتفاع بها واليوم نشر كراسة بالإفرنسية فقط ذكر فيها الأسباب التي يجب الاعتماد عليها في مصر لإحياء الآداب العربية فيها فقال أن القاهرة منذ أسسها الفاطميون استأثرت بالإرث العلمي الذي كان لبغداد وقرطبة فازدهرت فيها الحضارة الإسلامية وأنارت الأفق آثارها فنجحت مساعي العلماء المصريين إلى آخر عهد سلاطين المماليك وأثمرت أعمالهم ثمرات جنية كان لهم من تنشيط الملوك والأفراد الذين شغلوا بالآداب والعلوم ما دعاهم إلى تأليف مجاميع من المخطوطات النادرة والآثار الثمينة وكان للجوامع إلا قليلاً من مدارس وخزائن كتب دع عنك المكاتب التي جعلت خاصة لحفظ المخطوطات. وإن العمال الباهرة التي قامت على ذاك العهد لتدل عليها كتب النويري وابن فضل الله العمري وابن شامة والمقريزي والقلقشندي والسيوطي ثم ابن إياس والجبرتي من المتأخرين وإن المناصب السياسية التي تولى معظم هؤلاء أمرها قد كان لهم أعظم الخطط الجديدة التوفيقية ولكن ما جمع في مصر من مصنفات السلف في خمسة أو ستة قرون قد تمزق شذر مذر وانتقل إلى مكاتب مختلفة ولاسيما إلى الآستانة عقيب أن فتح السلطان سليم العثماني مصر وحمل القسم الآخر إلى مكتبة باريز ولاسيما منذ عهد حملة بونابرت على مصر ومكاتب برلين وليدن ولندن وأكسفورد ورومية وفينا وغيرها فجمعتها تلك الحكومات المنتبهة الغيورة على الآداب وأخذ علماؤها يبعثون إلينا منها الحين بعد الآخر ما يطبعونه أجود طبع ويعيون إلينا منا بالانقلابات السياسية وبجهل بعض الأجيال الماضية ولقد جمعت بفضل الخديوي وإسماعيل وإشارة علي مبارك باشا بقايا تلك الكنوز وأسست

لها المكتبة الخديوية وها قد جاء دور يحق فيه للمصريين أن يستعيدوا سالف مكانتهم العلمية في العالم الإسلامي وبعد أن تكلم على ما أبرزته المطبعة الأميرية من مصنفات علماء العرب مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد وتاريخ ابن خلدون وصحاح الجوهري وقاموس الفيروز آبادي وغيرها من المصنفات التي لها شأن حتى عند علماء المشرقيات من الإفرنج لفت أنظار الحكومة المصرية في عهد الخديوي عباس الثاني إلى إحياء ما خلفه لنا السلف الصالح وأورد ما وفق جمعه من مكاتب منوعة بواسطة التصوير الشمسي من الكتب الممتعة أو ما استنسخه أو ما عرف مكانه ككتاب نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الكريم النويري (ونويرة قرية بالقرب من بني سويف في صعيد مصر) وهو كتاب دائرة معارف في العلوم البشرية التي عرفت في عصره قسمه إلى خمسة أقسام وهي السماء والأرض وما فيها والإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات (وفيه نبذة في الطب) والتاريخ وهو في 31 مجلداً انتهى قبيل سنة وفاة المؤلف سنة 733 هجرية. وتكلم ما شاء بيانه على هذا السفر الممتع وما لقيه من العناء في جميع أجزائه المتفرقة ثم ذكر دائرة معارف أخرى لمؤلفها شهاب الدين أبي العباس أحمد ابن فضل الله العمري واسم كتابه مسالك الإبصار في ممالك الأمصار وهو في 32 مجلداً قسمه إلى قسمين الأرض والإنسان وهو دائرة معارف طبيعية جغرافية مع المصورات وتاريخية أدبية وسياسية وهذا المؤلف دمشقي وكان معاصراً للنويري. والكتاب الثالث الذي لفت إليه الأنظار جوامع العلوم لفريعين تلميذ أبي زيد البلخي من أهل القرن الثالث عشر وهو مثل دائرة معارف أيضاً. والكتاب الرابع والخامس درر التيجان لأبي بكر بن عبد الله أيبك الداواداري وكنز الدرر وجامع العبر للمؤلف نفسه وهو تاريخ مهم فيه أمور لم تنتشر بالطبع عن دولة الفاطميين والأيوبيين والمماليك وحياة المصريين وغارات التتار وأخلاقهم وتقاليدهم وأساطيرهم وسبب زوال الخلافة العباسية وفيه ترجمة مطولة للسلطان الناصر قلاوون صاحب المعاهد الخيرية في مصر والشام وأحسن سلاطين المماليك وحامي الآداب والمعارف في عصره. والكتاب السادس سيرة ابن السلطان جقمق لابن عرنشاه والكتاب السابع كتاب تجارب الأمم

وتعاقب الهمم في وقائع العرب والعجم لابن مسكويه وهو من مؤرخي الإسلام الذي تفلسفوا في التاريخ. تطبعه على نفقتها اليوم أسرة جيب الإنكليزية بمعرفة الأمير كايتاني الإيطالي في رومية والكتاب الثامن ذيل تجارب الأمم للوزير أبي شجاع ولطائف المعارف للنيسابوري وهو في الأدب والتاريخ والسياسة والجغرافية والإحصاء وشجرة النسب الشريف النبوي للملك الأشرف السلطان أبي النصر قانصوه الغوري وكتاب صور الأقاليم الإسلامية لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي وهو في الجغرافيا وفيه 22 مصوراً. والبلخي أول جغرافي في الإسلام استعمل رسم الأرض وكتاب تاريخ الأمير يشبك الظاهري وهو رحلة فيها وصف سورية وأرمينية وفارس في القرن التاسع للهجرة. ومن الكتب التي لفت إليها الأنظار كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع وقد كتب لنا يقول فيها أن النسختين اللتين ظفر بهما من كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع هما أجمل وأصح بكثير من اللتين اعتمدنا نحن واعتمد عليهما الأمير شكيب أرسلان في الطبع وإن الذي سميناه بالدرة اليتيمة إنما هي الأدب الكبير بعينه ونسخة زكي بك هي بالشكل الكامل ومنها كتاب ترجمة البقية من كتاب يمسطوس أحد فلاسفة يونان المعروف عند الإفرنج بجامبليك وهو الذي قاوم النصرانية في القرن الثالث للميلاد وأراد أن تبقى يونان على وثنيتها والكتاب الخامس عشر رسالة في تاريخ الغناء وعدم حرمته وأخبار المغنين في بلاد العرب ومؤلفه من أهل القرن الثاني والكتاب السادس عشر كتاب العز والمنافع للمجاهدين بآلات الحرب والمدافع وهو كتاب معرب عن اللغة الإسبانية الإسلامية (الجميادو) بقلم قاضيب فارس سنة 1050هـ قال فيه أن البارود اخترعه راهب ألماني. هذه هي الكتب التي لفت إليها صاحب اللائحة أنظار العالم العربي والغربي معاً وهو يرى أن يبدأ بطبع دائرتي معارف النويري المصري والعمري الدمشقي ليكون لمصر مجد خالد كالأهرام على الدوام وفقه وسائر العاملين لخدمة العلم. فلسفة الإسلام نشر الماجور ليوناردو الإنكليزي كتاباً في الإسلام وصاحب الشريعة (عليه الصلاة والسلام) على وجه يرفع الغشاء عنها ويزيل الشبه الشائعة في الغرب اليوم عن حقيقة هذا الدين وقد قدم له السيد أمير علي العام الهند الشهير مقدمة بالإنكليزية وأثنى على علمه

وحبه للحق والكتاب يطلب من مكتبة لوزان في لندرا. النصائح الكافية لمن يتولى معاوية كتاب في 224 صفحة في أفعال معاوية بن أبي فيان رأس خلفاء بني أمية وما عامل به آل البيت وكيف قام على الإمام الحق وشيءٍ من تاريخ ذاك الدور تأليف السيد محمد بن عقيل العلوي الحسيني من نحارير الكاتبين والعالمين. مبادئ الفلسفة القديمة هي مجموعة فيها كتاب ما ينبغي أن يقدم قبل أن تعلم فلسفة أرسطو لأبي نصر الفارابي وكتاب عيون المسائل في المنطق ومبادئ الفلسفة له أيضاً عنيت بتصحيحها ونشرهما المكتبة السلفية بمصر لمؤسسيها محب الدين أفندي الخطيب وعبد الفتاح أفندي القثلان. وقد جعلت له مقدمة في ترجمة الفارابي مطولة وعلقت عليه حواشي مفيدة. سمير الليالي طبعت المكتبة الرفاعية في طرابلس الشام الجزء الأول من هذا الكتاب تأليف محمد أمين أفندي صوفي السكري وهو في جغرافية الممالك العثمانية وشيء من تاريخها وهو في 198 صفحة وعسى أن يزيد المؤلف كتابه تدقيقاً في الطبعة القادمة لأن فيه بعض نواقص لا يصح أن تبقى فيه. الغصن الرطيب في فن الخطيب هو مختصر في تعليم الخطابة للشيخ سعد الشرتوني من فصحاء لبنان ولغوييه وفيه كثير من القواعد وبعض أمثلة. مطالع الأضواء في مناهج الكتاب والشعراء هو موجز أيضاً للشيخ سعد الشرتوني انتقى فيه زبدة علوم المعاني والبيان والبديع والعروض بعبارات وجيزة قال أحد الناظرين فيه تبين لنا أثناء مرور النظر على مباحث هذا الكتاب أن المؤلف إذا استشهد ببيت شعر يعزو لقائله أو فقرة من المزامير يبين عدد الصحيفة التي وردت بها الآيات القرآنية الشريفة فإذا استشهد بها لا يعزوها بل يتخذها كالمثال المبتكر من عنده أو كالكلام المعتاد فيا حبذا لو أرجع الآيات كما يرجع غيرها.

الأرض في السماء هي قصائد أجنبية أخلاقية تاريخية وأساطير حكمية تأليف محمد أفندي ظاهر خير الله من الشعراء والكتاب جمع فيها الحقائق العلمية والنتائج العقلية والفوائد الزراعية على نمط جديد ولم يلتزم فيها الروي في كل شطر وسماه الأرض في السماء أي ما ينال به الإنسان رغد العيش وحلاوة الأمن وهو مشكول بالشكل الكامل ليسهل على كل متناول وعدد صفحات هذا الجزء 142 ص طبع بالمطبعة الأدبية في بيروت ويطلب من مؤلفه في دمشق. دروس الحياة الإنسانية في مدرسة الله النباتية. هو كتاب في 152 ص تأليف أمين أفندي ظاهر خير الله المشار إليه جعل شعاره أن المبرؤات المحدودة تنطق بلسان صمتها عن تمام حكمة البارئ الغير محدودة وفيه مباحث أدبية واجتماعية جعل الدين ولاسيما آيات الكتاب المقدس دعامتها الكبرى وذلك لينتفع به طلاب المدارس المسيحية وهو مشكول أيضاً سهل العبارة حسن الأسلوب والنسج. تاريخ أبي المحاسن بدأت جامعة كليفورنيا في أميركا بنشر كتب في اللغات السامية أن تستفتح عملها بنشر الجزء الثاني من كتاب النجوم لزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لأبي المحاسن ابن تغري بردي وهو في ست مجلدات كان نشر الجزء الأول منه في ليدن. وهذا التاريخ يبدأ من الفتح الإسلامي وينتهي سنة 872 للهجرة. وفي هذا الجزء كلام على خليفتين من خلفاء الفاطميين العزيز الناصر والحكم. حضارة بابل نشر المسيو مارتين 248 رسالة باللغة البابلية وجدت في أبي حبة على خمسين كيلومتراً من مدينة بابل وفيها إشارات إلى ثروة تلك البلاد وأشخاصها ومجتمعها المدني وأشغالها التجارية والحقوقية وذلك مدة خمسين سنة من سقوط بابل إلى أوائل قيام دار ملك الفرس. ابن الطفيل نشر المسيو ليون غوتيه بالإفرنسية كتاباً على أبي بكر ابن الطفيل أحد فلاسفة الأندلس فيه

ذكر حياته وأعماله وأشار إلى رسالته حي بن يقظان في الحكمة الشرقية. ابن رشد نشر المستشرق الموما إليه كتاباً في ابن رشد الفيلسوف الإسلامي جعله تتمة لما كتبه الفيلسوف رنان عنه وأفاض في الكلام على كتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.

جرائد الولايات العربية

جرائد الولايات العربية كل شيءٍ أخذ بالنشوء والنمو في هذه الديار إلا جرائد الولايات العربية الرسمية فإنها كلما طال عليها الزمن تنحط مكانتها لأنها كانت ولا تزال تقدس أعمال الولاة وتزكيهم إلا قليلاً وجرائدٌ هذا حالها كيف يرضيك خبرها ومخبرها. للحكومة العثمانية اثنتا عشرة ولاية (أو لواء) عربية تصدر فيها 11 جريدة رسمية أسوة سائر الولايات في آسيا الصغرى والروم إيلي وهي طرابلس الغرب، بيروت جبل لبنان، القدس، سورية، حلب، الموصل، بغداد، البصرة، الحجاز، اليمن تصدر مرة في الأسبوع لتقريظ أعمال الولاة والمتصرفين ونشر بعض أوامر الحكومة باللغتين العربية والتركية لأن الأولى لغة البلاد والثانية لغة الحكومة والعربية منقولة عن التركية بالحرف ولكنه قل لا تقدر أن تقول عنه عربياً ولا مولداً وأحر به أن يكون لغة خاصة يكاد لا يفهمها إلا قلائل ممن ألفوها أو ممن يعرفون التركية فإذا عشر عليهم فهم عبارة قلبوا الوجه التركي من الجريدة فقرأوا الأصل لينحل معهم الإشكال. إن هذه الدركة من الانحطاط بلغت لغة الجرائد بفسادها ولو كانت منتشرة بين طبقات القوم انتشار سائر الجرائد العربية لأفسدت من ملكة الأدب العربي فساداً لا يشبهه فساد ولكن من حسن الطالع أن قراءها محصورون أو يكادون يعدون على الأصابع وأقدمها أنشئ منذ خمس وأربعين سنة وأحدثها منذ سنتين واثنتان منها وهي الزوراء جريدة بغداد والموصل تصدران بالتركية الصرفة كأن الحكومة اعتبرت الجزيرة والعراق من الأقاليم التركية أو أنها أرادت أن توفر على اللغة العربية بعض الألفاظ والتراكيب الرديئة تصدر عن أعظم العواصم العربية القديمة أو أنها لم تجد في دار السلام والموصل الحدباء من يعرب لها جريدتها الرسمية. وجريدة لبنان تصدر بالعربية فقط وهي أحسن الجرائد الرسمية عبارة. ولذا فإن كلامنا اليوم مقصور على تسع جرائد لتسع ولايات كبرى كل منها حرية بأن تدعى مملكة لا ولاية لاتساع بقاعها وكثرة نفوسها وقديم مجدها ونكتفي بإيراد جملة من جرادها الرسمية ننقلها نموذجاً على انحطاط أسلوبها وتراكيبها نلتقطها من صفحة واحدة من كل واحدة ولا نشير إلى الجريدة حرصاً على كرامة القائمين بها وإن كان معظمهم لا يعرفون من العربية جملة ولا من قواعدها قاعدة وهم عامة يكتبون وينشرون بدون مبالاة بما يفسدون به لغة العامة والخاصة وإن كانت تتفاوت تلك الجرائد في عباراتها.

فما ورد في إحداها قولها: صورة التحريرات الواردة بالشرف وهي تعريب عن الأصل التركي بالحرف ولفظ التحريرات لم يسبق في الفصيح استعماله كما لم يسبق للعرب استعمال خطاب بمعنى كتاب المستعملة بين المصريين ويجمعونها على خطابات قال في التاج وتحرير الكتاب وغيره تقويمه وتخليصه بإقامة حروفه وتحسينه بإصلاح سقطه وتحرير الحساب إثباته مستوياً لا غلث فه ولا سقط ولا محو فالتحرير يجمع على تحارير وليس هو مقابل لفظ رسالة وألوكة أو كتاب. أما تركيب الواردة بالشرف فمن أسمج التركيب. وقال: إن التشتت والافتراق هما يسببان ويحدثان الغوائل والمشكلات الداخلية ويؤديان إلى انقراض الهيئة المعظمة واضمحلالها كما تشهد بها مثالها التاريخية ولا يحصل لها السلامة والسعادة والترقي والتعالي إلا باتحاد قلوبهم واتجاههم جميعاً نحو غاية واحدة فنظراً لهذه الحقائق رئت نواب الملة تشكيل الجمعيات المبنية على أساس القومية والجنسية والمعنونة بها ملة بالوحدة العثمانية ففي هذه الجملة من الركاكة والألفاظ المبذولة الزائدة الدخيلة ما تراه. فأي داعٍ أولاً لتكرار لفظي التشتت والافتراق والغوائل والمشكلات وفعلي يسببان ويحدثان وانقراض واضمحلال وكلها بمعنى واحد يستغنى بأحدهما عن الأخرى ثم إلى أين يرجع ضمير أمثالها وكذلك كيف يرجع ضمير اتجاههم جميعاً. وتركيب يحصل لها السلامة والسعادة والترقي والتعالي من التراكيب السقيمة ولا معنى للتعالي هنا ولو قال لتمم لهم السعادة الخ لكان أسلم ومن القبيح استعمال فنظراً لهذه وأقبح منه رئت نواب المملة تشكيل فإن في هذا التركيب ثلاث غلطات فقط الأولى في الرسم فكان الوجه أن يقال رأى ولفظ الملة لا تستعمل بمعنى الأمة في العربية وهو من استعمال الترك فالملة الشريعة أو الدين كملة الإسلام والنصرانية واليهودية قال في التاج: وقيل هي معظم الدين وجملة ما يجيء به الرسل وقال الراغب: الملة اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ليتوصلوا به إلى جواره وقال أيبو إسحق: الملة في اللغة السنة والطريقة. وكذلك يقال في تشكيل فليس في العربية التشكيل بمعنى التأسيس أو الإنشاء فتشكل في الأمر عندهم تصور وشكله تشكيلاً وصوره. وما أبشع تركيب الجمعيات المبنية على أساس القومية والجنسية والمعنونة بها فتجد الألفاظ العربية في الظاهر ولكنها مبدوءة في تركيبها.

وقال: فيجب أن تبلغون الذين يقتضي لهم التبليغ بالصورة الحسنة والمناسبة وتبينون لهم أن ليس في هذه المادة غرض سوى المحافظة على الوحدة العثمانية المتكفلة بالسلامة والسعادة العمومية وأن تجري التدريسات الابتدائية بالألسن القومية وتساعد على الجمعيات الخيرية والعلمية وأن لا يتلقى أحد الممنوعية المذكورة في شكل العرض إلى الأقوام فالغلط النحوي في هذه الجملة وهو ما نسامح به لأنه بسيط لا يفسد اللغة بقدر ما تفسدها تلك الألفاظ المعسلطة والتراكيب الشائنة المغلطة مثل تبلغون الذين يقتضي لهم التبليغ بالصورة الحسنة والمناسبة ولو قال: تبلغون من يجب على ما يجب. لكان أخصر واسلم. ولو قال الكفيلة بالسلامة العامة والسعادة الشاملة لأجاد ولفظ التدريس لا يجمع على تدريسات ومن الألفاظ ما يستحب مفرده أكثر من جمعه ومنها ما يعذب جمعه أكثر من مفرده ولعل جميع تدريسات جمعت على مثال تحريرات وكم أدخلت التركية إلى العربية من هذه الجموع والألفاظ التي تجدها عربية الأصل ولكن أتى عليها شيء من العجمة ومنها ما نقل منه اللفظ عن أصله مثل التشكيل. ومن سخيف اللفظ الممنوعية فإن المنع عربي في الأصل ولكن هذه الصيغة لم تعهد للعرب ولا لمن بعدهم وإنما جاءتنا في القرون المتأخرة ومثلها الممنونية ولا يقال أنا ممنون منك فالممنون المتطوع بل ممتن لك كما لا يقال المحظوظية والمسرورية والأمنية بمعنى الأمن والمقطوعية والمعلومية والمأذونية والمفهومية والانتقالية والفراغية وكل هذه الصيغ لا تجوز في لغة العرب دخلت عليها من التركية فاللحن كما قال عبد اللطيف البغدادي يتولد في الأمم والنواحي بحسب العادات والسير. ومادام في العربية متسع عن هذه الألفاظ فالأحسن نبذها وكذلك يقال في التنسيقات والمأموريات فقد خطأوا من قال من المتكلمين هذه المحسوسات وقالوا صوابها المحسات لأنه يقالا أحسست الشيء بمعنى أدركته فأما المحسوس فهو المقتول من حسه إذا قتله ولو راجع من يمسكون القلم العربي ليكتبوا به الجرائد في معاجم اللغة مثل هذه الألفاظ ونظروا في أصولها لردوا أكثرها إلى الصحة من تلقاء أنفسهم. وتقول: ينبغي إجراء التعقيبات المتمادية بوساطة مأمورين البلدية تحت نظارة الأطباء في المواقع المحررة آنفاً وتجري الفيران الميتة وألقاهن في الماء المغلي وإمساكهن بمللقاط

الحديد الطويل وتبليلهن بدهن الكاز وإحراقهن بالنار. . . يجب إجراء الوصايا والتوضيحات الكافية للأهالي لإتلاف الفيران اللواتي لم تصبهن المرض بعد لا يمرضن ويكن واسطة لانتشار المرض ويجب أيضاً على الدوائر البلدية إعطاء أجورات مناسبة لكل فأرة التي يصطادونها الأهالي بالفخ قصداً لتقليلهن في البلد. هذه الجملة وحدها كانت تكفي للدلالة على ما في هذه الجريدة من منافيات البيان والقواعد المألوفة لصغار الطلبة دع عنك كبارهم. فمن الأغلاط اللغوية التي فيها التعقيبات والتوضيحات والأجورات ووقوعات ومن الغلاط النحوية مأمورين البلدية والصواب مأموري البلدية ولكل فارة يصطادونها الأهالي بالفخ وهذه اللغة يسمونها لغة البراغيث من قولهم أكلتني البراغيث وأولى أن تسمى لغة الفيران للتناسب ومثله تنزيل الفيران منزلة العاقل فقال (إلقائهن) والصواب إلقاؤها (ونبليلهن بدهن الكاز وإحراقهن الفيران اللواتي لم تصبهن المرض بعد لئلا تمرض فنكون. . . قصد تقليلها و (لا لا) هذه من أغلاط الرسم وصوابها بها لئلا كما يفهم من سياق العبارة ومن مراجعة الأصل التركي وكذلك (مللقاط) والأحسن ملقط ولم تكتف هذه الجريدة باستعمال الألفاظ التركية المهزعة بل هي تدخل إلى العربية ألفاظاً إفرنجية لها في اللغة ما يقابلها مثل لفظة (كادرو) التي شاعت في العهد الأخير في هذه البلاد يراد بها الموظفون غير العاملين فيقولون أخرج فيها خارج الكادرو أو القادرو وهي لفظة فرنسوية والأولى أن يقال اخرج من الخدمة أو اسقط أو ماثل ذلك. و (محلول السوبليمه) ولو قال محلول السليماني لأفهم وما أعجم و (الباراقات) ولو استعاض عنها بالأكواخ لأصاب شاكلة الصواب ولفظ (سوبليمة) و (باراك) من الألفاظ الفرنسوية أيضاً وعندنا ما يقابلهما من اللسان العربي). وجاء في جريدة أخرى لقطر آخر. المتعين لمتصرفية. . والصواب المعين. وندعو لمعاليه بالموفقية وهي جملة لم تشتم رائحة العربية ولو قالها عربي لأوردها هكذا (ندعو له بالتوفيق) فالموفقية من الألفاظ العربية المتتركة والأولى حذف الألف من ندعو كما تحذف موزعو الجرائد ومأمورو الإدارة. وقال: (بحمد الله وعنايته التي لانهاية لها من منذ يومين ثلاث قد تنزلت الأمطار النافعة في. . وجوارها وأخذت الزراع صيب المواضع. وفي أثناء نزول المطر في يوم الأحد قد أصابت الصاعقة المطبخ الواقع في الجهة الشمالية من

خستة خانة المركز العسكري وبحمد الله لم يكن تلفات في النفوس ولا ضايعات سوى احتراق يسير في أرجل محمد علي من الخدمة بدون تأثير). هذه القطعة التي افتتحها الكاتب واختتمها بحمد الله نقول فيها ألف سبحان الله لما فيها من الركاكة والإفساد للغة قريش. وما أظن رجلاً من عرض الناس يكون له بعض مطالعة قليلة يكتب عبارة أحط من هذه ودليلنا (من منذ يومين ثلاث) و (لم يكن تلفات في النفوس ولا ضايعات سوى احتراق يسير في أرجل محمد علي من الخدمة بدون تأثير) وغير ذلك من الغلط الفظ الفظيع. أما تلفات وضايعات فتتصرف على وزن (موفقيات) و (تنسيقات) و (تعقيبات) ألفاظ أصلها عربي ولكن تركيبها أعجمي. ولم نفهم (أخذت الزراع صيب المواضع) إلا عندما قابلناها للوجه التركي فرأينا فيه ما تعريبه: (فأخذ الزراع يحرثون حقولهم ويسرعون إلى بذرها) كما إنا لم نفهم نسبة الأرجل إلى محمد علي وهل هذا الخادم له أكثر من رجلين كما نرى الآدميين أم له عدة أرجل ولعل هذا يقاس على مر بك آنفا من تنزيل غير العاقل منزلة العاقل في جملة الفيران. ومن أبشع التعابير تعبير (بدون تأثير) في آخر العبارة أما لفظ (خستة غانة) فلها في العربية ما يقابلها مثل دار المرضى أو مستشفى وكذلك جميع الألفاظ التي تختم بخانة فالواجب على العربي أن لا يخون لغته بل يردها إلى أصلها فلا يقول دفتر خانة ولا تيمار خانة ولا طوبخانة ولا موز خانة ولا بارود خانة ولا قره قولخانة بل يقول دار السجلات ودار المعتوهين ودار المدافع والمتحف أو دار المتحف ودار البارود ودار الخفر أو المخفرة الخ. ومن ركاكات هذه الصحيفة (لأجل تقوية الانضباط بداخل المملكة روي لزوم إنشاء واحد قره غول في مواقع. . . . . مخصوص لإقامة قوميسر البوليس. وقد تبرع. . . بخدمة مفتخرة بإعطاء عرصة منهما يكون إنشاء القره غول. . المصارف الإنشائية المقتضية للقره غول المذكور تعهد بتأديتها إعانة من طرف. . مأمور التوتون الرزي. . فإبراز الحمية من المومي إليهم بهذه الصورة أوجبت التقدير والممنونية.). وكان الأجدر أن يقال لتوطيد أمور الضبط في البلاد دعت الحاجة إلى إقامة مخفرة. . ليقيم فيها مفوض الشرطة خاصة فتبرع فلان بإعطاء عرصة تبنى فيها المخفرة على نفسه أداء النفقات لبنائها. . . فلان وفلان مأمور حصر الدخان. . . . وحمية الموما إليهم حرية

بالشكر موجبة للأجر وهنا ننبه إلى رسم (المومى إليهم) الواردة في العبارة الأولى فالأولى رسمها بالألف لأنها من أومأ والأتراك يرسمونها بالياء وكثير من كتاب الصحف يتابعونهم على رسمها غلطاً. وجاء في هذا العدد (التقسيط المعطا من طرف. . .) وكان الأولى أن تجعل ألف المعطى بدل ياء (المومى إليهم). وجاء فيها: (تفضل بالأشعار من جانب قوماندان القواي العمومية أن مجموع الإعانة للبوابير العثمانية في المعسكر الهمايوني بلغت كما هو محرر أعلاه تسعة وخمسين ألفاً وسبعمائة وثمانية وثلاثين قرش وعشرة بارات وقد أرسلت رأساً إلى دار السعادة فإبراز حمية المتبرعين الجدية جديرة بالمحمدة والشكران) في هذه الجملة أربع ألفاظ أعجمية كان يتأتى الاستعاضة عنها بألفاظ عربية مثل (قوماندان) قائد (وقواي) القوة و (البوابير) السفن و (الهمايوني) السلطاني. ولو قال كتب قائد القوة العامة أن قد بلغت الإعانة للسفن العثمانية في المعسكر السلطاني. . . لأحسن ولفظ (قرش) تنصب على التمييز ولم نفهم معنى حمية المتبرعين الجدية ولا الشكران. وفي هذه الصفحة من الصحيفة أغلاط شائنة أخرى أكثرها مما يعرفها أحداث المدارس مثل: (إن طالبين المأمورية تؤخذ منهم ورقة ترجمة الحال ابتداءً ليعلم منشأهم وهويتهم والغير تابعين لهذا الأصول لا يكون إسعافهم لمسئولهم) وتعريب هذه الجملة هكذا: تؤخذ من طالبي التوظيف تراجمهم بادئ بدءٍ ليعرف منشأهم وأحوالهم ولا يجاب سؤال من لا يجرون على هذه الأصول) ولفظ هوية تكثر في الكلام المولد مثل كمية وكيفية. وجاء أيضاً ما نصه وفصه: فالمأمور الذي يمنع ويصر على عدم إعطاء ترجمة الحال بلا مانع فيلحظ أنه لمقصد ستر وإخفاء بعض خصوصات عائدة لسيئات سو ابق أحواله فالمأمورين المختارين السكوت مقابل إغماض العين بهذا الباب يرى أنهم غير موافقين للمصلحة وتعريب هذه الجملة كما يأتي: علم أن لم يمتنع من الموظفين عن إعطاء ترجمة بلا موجب مقصداً يريد ستره لسوء حاله والسكوت عن أهل هذه الطبقة يعد من الإهمال ولا يوافق المصلحة بحال. ومثله ففي هذه الحال واختياره لا يكون تجويز هذا المقصد والطالبين المأمورين بداية إذا ما أعطوا ورقة ترجمة الحال لا يكون قبولهم في خدمة الدولة قياساً للأصول ولأجله لزم

التبيلغ تعميماً. . . ولا يجوز قطعياً لمأمورين الحكومة. . . وعلى فرض يحصل خلاف هذا الأساس من المستخدمين في خدمة الحكومة فطبيعياً تجري بحقهم المعاملة اللازمة وبناءً عليه يقتضي تلك التنبيهات جمل كلها من السخافات والركاكات بمكان لا يصل إليه كاتب إلا بخذلان من الله. وجاء في جريدة لقطر آخر: بناءً على شدة احتياج أهالي الولاية وضرورتهم كما علم من قرار تصفية البقايا وكان تدقيق ذلك وبتطبيق تعليمات مضبطة البقايا إلى نهاية سنة 1320 في درجة الوجوب فقد تقرر استحصال الأمر بالتلغراف وإجراؤه وتعريب هذه الجملة كما يأتي: علم من قرار تصفية بقايا الموال أن أهالي الولاية في حاجة ماسة إلى تطبق عليهم لائحة البقايا إلى نهاية سنة 1320 ولذا تقرر استصدار الأمر بلسان البرق وجرى العمل به. وفي هذه الصفحة من الصحيفة ألفاظ أعجمية عمت بها البلوى في اللغة القرشية مثل: أرسلت الولاية بمحررة أي في كتاب أو رسالة. واستحصال أمر وتسريع إجرائه أو مكانته ولفظة أهمية مثل موافقية ومعمورية أصلها عربي وتركيبها أعجمي وكذلك لتأمين وإدامة نعمة الأمنية والراحة إلى منتهى حدودها أي لتوطيد دعائم الأمن والراحة للغاية. ومثله نسب قوميسيون التنسيق إعطاء معاش المعزولية إلى. . . أي رأت لجنة الإصلاح منح راتب عزل إلى. . ولفظ معاش غير وارد في هذا المعنى والأولى أن يقال راتب أو مشاهرة وكذلك نسب رأى مناسباً وقوميسيون لجنة والمعزولية مثل الممنونية والأمنية والأهمية تقاس عليها ولكن لا تقس عليها بالله عليك ومثلها تبليغات وتعليمات وإيضاحات. وفي هذه الجملة تراكيب رديئة مثل: باش كاتب الأعشار وبلغت لهم الكيفية بتذاكر مخصوصة. . . المخبر عنه يكون مظنوناً بغشهار السلاح. . . أن ينظموا محاسباتهم العائدة لزمان إدارتهم بمجرد ما ينفكون عن مركز وظائفهم. . . وبذلك ظهرت أنه نزلت علامة الخصب والبركة في السنة الآتية. . . يقرر حق المفتين ببعض أحول مخصوصة مستثناة. . . والخطب يسير في إرجاع هذه الجمل إلى العربية فيقال: رئيس كتاب الأعشار وأبلغوا ذلك في رسائل خاصة. . . المتهم بأنه شهر السلاح. . . يضعون محاسباتهم أيام إداراتهم عندما يغادرون وظائفهم. . الخ.

وتقرأ صورة من صور الركاكة في صفحة واحدة أيضاً من تلك الجرائد التي تصدر في قطر آخر أيضاً فمنها: يلزم إيفاء التعقيبات القانونية بحق من. . . لكل الملحقات والمراجع الإيجابية. . . أسماء الذواة الذينهم عينوا. . حيث كانت أرض أنموذج الزراعة بعيدة عن البلد وواقعة في محل لا يمر فيه أحد ولم يستفاد من هذا الأنموذج شيء حال كون نفق عليه الأموال الكثيرة وبذلت في إصلاحه المساعي الوفيرة فاستئذن كل من مجلس الولاية العام ومجلس الإدارة من نظارة الأحراش والمعادن والزراعة بأن يجعل الميدان والبستان الذي في جواره جفتلك الأنموذج. . . وعرف عن أهمية المسئلة أيضاً وحين اقترن ذلك بالتصديق العالي يجري الإيجاب اللازم. وصوابه: اسماء الأعيان الذي عينوا. . . لعامة العمالات والمراجع. . . لما كانت أرض الحقل النموذجي. . . لم ننتفع منه في حين أنفقت عليه الأموال الطائلة استأذن مجلس الولاية العام ومجلس الإدارة نظارة الحراج بأن يجعل مزرعة أنموذجية. . . عرف بمكانة المسالة حتى إذا صدق عليه يعمل بموجبه. وفي هذه الصحيفة من الألفاظ الأعجمية كل ما تنقبض منه النفس العربية مثل المشروطية والشائعة ووالمضبطة الاسترحامية وحيثية ملة النجيبية العثمانية واسترحامات وتفوهات لسانية الخ ويمكن أن يقال عنها الحكومة النيابية أو الدستورية والإشاعة ومضبطة الاسترحام وشرف الأمة العثمانية الكريمة. واسترحام وتفوه. ونرى أن هذه الجريدة كلما أرادت أم تتفاصح تسقط مثل قولها: ما تقرره وما افتكر بتاتاً تبديل وإلينا المحترم وأعهد بأن هكذا إشعارات لا تنقص بعزم وحزم حضرة المشار إليه الذي يتعلق بإصلاح المملكة. . المرتبة العليا والمكان المسمى. . . تترنم بالأنغام المحزنة التي تفعله بالأرواح ما لا تفعله السراح تريد أن تقول لم يتقرر ولم يفكر بتاتاً وهو العامل على إصلاح البلاد. . . المرتبة العليا والمكان السامي أو الأسمى. ولم أفهم ما يراد بالسراح هنا. وكذلك نحن متحمسين بحياة حب الوطن أي شعورنا وطني أو ما شاكل ذلك ولف حسيات يرسمونها بالتاء المفتوحة مثل ثقات لا ثقاة ولكن ليست من العربي في شيء. وإليك أنموذجات أخرى من جريدة قطر عظيم آخر: غير خاف على أن جميع المأمورين والمستخدمين هم مكلفون بإعطاء أوراق تراجم أحوالهم وكان الذين لم يقدمون أوراق لا يتعينون في المأموريات ابتداء وذلك من الأصول المتخذة فمن الضروري أن الذين يتعينون

في خدمة يجب أن يعطوا ورقة ترجمة حالهم في اقل مدة وألا يتسببوا إلى الاحتياج بتبليغهم فيكون معلوماً لدى العموم أنه إذا وقع خلاف ذلك لا تجري معاملتهم وتكون الإشارة على أسمائهم في دفاتر القيود طبقاً للإشعار الواقع من نظارة الداخلية هذه المرة فلتجري التبليغات اللازمة إلى مأموري ومستخدمي النافعة بالمثابرة على مقتضاه. وجاء فيها: لحيث أنه من اللزوم أن أوراق الإخبارات. . . مستندة إلى قناعة كاملة من أصحابها وأن يصرح في الإمضاآت. . . أخبرنا بذلك العموم فيقتضي إعلانه بطرفكم. . . رياسة شوراء الدولة وتعليمات البول. . . المعاونية الأولى. . . باطن مظروفات مبطنة تعمل له خاصة لأجل إرساله بتمام المحافظة عن الضياع. . . حاصلات البول تفيد في خاناتها المخصوصة بالدفاتر المحلية. . . صندوق تسهيلات. . . من عموم مأموري البلدية. . . تلقى المسئولية على الآمر والصارف. . . يقيد مصروفاً بأنواعه ومقاديره بجهة المدفوعات في دفتر عينيات البول الخ. وهنا نترك تصحيح هذه العبارة مكتفين بإيرادها بنصوصها لئلا يطول البحث. وعندنا أن هذه الجرائد إذا دامت على هذا المنوال توجد في اللغة العربية لهجة جديدة لا يفهمها إلا طبقة مخصوصة ويكون الاختلاف بينها وبين الفصحى أكثر مما بين الإسبانيولية والبرتقالية وهناك بعض صحف رسمية هي أقرب إلى الصواب في منشوراتها وإن كانت لا تسلم مما تقع فيه الجرائد الركيكة العبا رة مثل قول إحداها: باشمديرية الرسومات وصل إلى مياه ثغرنا طريق شوسة للتحري على المزيفين استلفت الأنظار القشلة الهمايونية دفتر الاغتراب مستملكات الروس رفع راية العصيان ضد طمعاً بنوال مقاصدهم الأمر الهام يحكم وهلة الرفاه والراحة بناءً عليه وتوفيقاً لأحكام والأحرى أن يقال: رئاسة مديرية الجمرك. بلغ ثغرنا. . طريق مركبات أو معبدة. للبحث عن المزيفين. لفت الأنظار أو وجه الأنظار. الثكنة السلطانية. سجل الغرباء. مستعمرات الروس. رفع راية العصيان على. طمعاً بنيل مقاصدهم. الأمر المهم أو الجلل. يحكم لأول وهلة. الرفاهية أو الرفاهة والراحة. عملاً بأحكام. أما تركيب بناء عليه وعليه وحيث أن فهي مولدة لا يعرفها العرب والأولى أن يستعاض عنها بتراكيب أخرى عربية.

تعليم النساء

تعليم النساء وترجمة علية بنت المهدي العباسي تمهيد كان الخلفاء والأمراء وخاصة الناس في صدر الإسلام حتى القرن الخامس للهجرة من أحرص الناس على تذيب بناتهم وجواريهم وأمهات أولادهم ينفقون الأموال ويجهدون النفوس السنين الطوال في تثقيف عقولهن وتقويم فطرتهن بالترويض والتخريج والتدريس والتحصيل على أيدي ثقات أهل العلم وأئمة النحاة والرواة وأشهر الحفظة والمجودين فما منهن بعد أن يتمرسن على العفاف وحب الفضيلة من لا تحفظ القرآن العزيز وطرفاً من أحكام الفقه والحديث ونتفاً من علمي الأنساب والتاريخ فضلاً عن آداب اللغة وآثار السلف من شعراء ومحدثين وغزاة وخطباء وكتبة وأمراء فكان صدر كل فتاة من فتياتهم كنزاً من أسمى الكنوز يصيب منه سميرها ما شاء من أدب وحكمة ونكتة وفكاهة فينجذب لها فؤاده وتنزع إليها عواطفه وتحل من نفسه محل الحرمة والتجلة والإعظام بمقدار ما يتوسمه فيها من مخايل الدراية والتعقل وآثار النجابة والاختبار. وما في ذلك من عجب بل العجب من النقيض وهيهات أن يخفى على أمثال المنصور والمهدي والرشيد والمأمون أن الحسن المادي مهما كان بارعاً رائعاً باهراً فتاناً إذا لم يقترن بالحسن المعنوي ويشفع بالظرف الأدبي كانت صاحبته كالتمثال المنحوت والصورة المنقوشة بل اقل قيمة وأبعد جاذبية منعهما لأن التمثال والصورة معدودان من الجمادات فلا يتوقع منهما الإنسان رشاقة الحركة ولطف الإشارة وخفة الروح وحلاوة المعنى وسعة الدراية وحسن الرواية ولذلك يستحسنان ويروقان بأعين الناظرين بمقدار ما أودع فيهما من دقة الصناعة وتناسب الرسم وحسن التكوين وتشاكل الألوان بمعزل عن تلك المزايا. أما الفتاة ذات الجسم المتحرك والنفس الحية واللسان الناطق والخلق السوي العتيدة أن تكون زوجاً مؤانسة وأما مربية فتأباها النفس ويعافها الذوق وينصرف عنها القلب وإن كانت جميلة وسيمة ما دامت جامدة كالصنم بكماء كالعجماء لا تفقه من أحوال الدنيا وأسرار الحياة وحقائق الكون وماهية ما يراد منها ومفروض عليها من سنن وواجب إلا ما كان مداره المطعم والمشرب وقوامه الملبس والمركب ومرجعه اللهو والقصف ونتيجته الحب

والبعال فإذا عرض لها أمر يستوجب الإنباء_وهو مما يحدث كل يوم_قصرت في الأداء وتلكأت في الكلام وسعلت وتنحنحت وتسامجت ما شاءت ولم تقو على الإفهام وإن سئلت عن شيء أجابت بلا أدري أو هذرت بجواب لم يكن من لحمة السؤال ولا من سداه. فمن كانت على هذا الطرز_وما عدد أمثالها عندنا بقليل_أحر بها أن تكون عند أذكياء الرجال وأرباب الذوق والفضل ساقطة المنزلة ساقطة القدر رخيصة القيمة تفضلها الشخوص وتمتاز عنها الصور لأن هذه تمتع الأعين بجمالها ولا تضر النفوس أما تلك فإنها تورث الكراهة وتمني بالضجر وتبلي المنازل خاصة والمجتمع القومي عامة بأدواء من الهموم والموبقات تذهب بالأمم إلى أقصى الدركات. أجل وليس من ينكر أنك لتراها بادئ الأمر فتستحسنها لنقاء بشرتها وسواد حدقتها واعتدال قوامها وغضاضة جسدها وبضاضته وجدله والتفافه ثم تسمع كلامها الدال على جهلها وغباوتها المؤذن بقصر إدراكها وسذاجة قلبها وظلام ذاكرتها فتزدريها وتستهجنها وينبذها قلبك نبذ النواة ويطرحها ذكرك طرح القذاة لأنها لا تصلح للمؤانسة وترويح الهموم ولا ترجى للاستشارة وتسديد الرأي ولا تنفع للأمومة بأتم معانيها وللتربية وتدبير المنازل بكل ما يراد من هذين الواجبين بحكم العقل والصواب ومن كان هذا شأنها كانت سخطاً على النوع الإنساني ونيراً ثقيلاً على عاتق الوجود وكل أمة تقلص ظل مجدها ونضب معين رخائها ونزفت مواد قواها وتقطعت أسباب منعتها وعزتها وهنائها إنما نساؤها على تلك الشاكلة ولقد صدق من قال إن التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسراها. فيا حبذا لو اقتدى كبراؤنا وأعظامنا بمن درجوا قبلهم من أساطين الأمة وسراة أعلامها وصرفوا العناية إلى تعليم أولئك اللواتي لا يسمين بحق أوانس إلا إذا كن بالفعل نزهة المجالس ولا يقال لهن عقائل ما لم يكن بالحقيقة أرباب علم وأدب وتهذيب وفضائل فإن الناس على دين ملوكهم والعامة تقتدي بأعيانها فلإن أحسن هؤلاء الابتداء أحسن الاقتداء والعكس بالعكس سنة الله في الخلق منذ حلت الحضارة محل البداوة وقام التهذيب مقام الفطرة وأصبح البشر درجات ومراتب وطبقات. نقول هذا توطئة وتمهيداص لما نذكره الآن من ترجمة ابنة خليفة وأخت ثلاثة خلفاء وعمة ثلاثة وهي (علية بنت المهدي) التي عني قومها بتعليمها وتأديبها وتنوير عقلها وتوسيع

دائرة اختبارها حتى صارت آية الفضل ونابغة الأدب ومثال العفاف وعنوان الرقة والبلاغة في قرض الشعر الصحيح الأجزاء المتين التراكيب الرشيق المعاني تتفنن في أساليبه وتأخذ بأطرافه أخذاً يبهر العقول ويفتن الألباب على كونها نشأة زهو وترف وغرسة صفو ونعيم. ومعلوم أن الملكة الشعرية لا تستحكم في فتاة إلى هذا الحد إلا بعد الإمعان والجد وإحياء وإحياء الليالي الطوال تبحراً في علوم العرب وإتقاناً لفنون الأدب وتعمقاً في دراسة أشعار النابغين المجيدين من فحول الجاهلية والمخضرمين والمولدين وإلا لما تهيأ لها أن تحذوا حذوهم وتنسج على منوالهم وما تلك بالوحيدة بين أترابها في ذلك العصر الزاهر وما بعده بل يوجد كثيرات مثلها حتى بين الجواري القيان فضلاً عن حرائر الآنسات الحسان. * * * ولدت عليه حفيدة المنصور_ثاني خلفاء العباسيين_وبنت المهدي وأخت موسى الهادي وإبراهيم ابن المهدي وهارون الرشيد والعباسة وأسماء وعمة الأمين والمأمون والمعتصم وصالح من سرية أم ولد تدعى مكنونة جارية المروانية وذلك سنة 160 للهجرة وأدركتها الوفاة نحو سنة 210 وقد ناهزت الخمسين على إثر حمى أصابتها وقد قال بعض المؤرخين في سبب وفاتها أن ابن أخيها المأمون ضمها إليه طويلاً وجعل يقبل رأسها والنقاب مسدول على وجهها فغصت بريقها من شدة ما نالها من حبس أنفاسها ثم شرقت وسعلت فكان في ذلك حتفها. قال أبو إسحق القيرواني في كتابه زهر الآداب كانت عليه لطيفة المعنى رقيقة الشعر حسنة مجاري الكلام رخيمة الصوت ولها ألحان حسان أحصاها أبو الفرج الصبهاني في كتابه فإذا هي ثلاثة وسبعون وكلها حسن مختار. وقال النوفلي عنها أنها من أوضئ النساء وجهاً وأعدلهن قواماً وأظرفهن كلاماً تقول الشعر المتين الجيد وتصوغ الألحان الحسنة وكان في جبينها أثر من شجة أو فضل سعة ينقص من محاسنها فاتخذت العصائب المكللة بالجواهر تستر ذلك العيب فكان ما أحدثته خير ما ابتدعته النساء وقد وهم من قال أن أختها العباسة المبدعة لتلك العصائب فإن ذلك لم يقله أحد من ثقاة المؤرخين.

وقال إبراهيم ابن إسماعيل الكاتب كانت علية حسنة الدين لا تغني ولا تشرب إلا إذا كانت معتزلة الصلواة فإذا طهرت أقبلت على الصلاة وتلاوة الأوراد ومطالعة الكتب_إلا أن يدعوها الخليفة إلى شيء فلا تقدر على خلافه_وأطرب شيء إليها قول الشعر. وكان أحد أحفاد الفضل بن الربيع وزير الرشيد يقول ما اجتمع في الإسلام أخ وأخت أحسن غناءً من إبراهيم بن المهدي وأخته علية وكانت أخته تقدم عليه. حدث يوماً أبو أحمد بن الرشيد فقال: دخل في بعض الأيام المأمون إلى دار الحرم ودخلت معه فسمعت غناءً أذهل عقلي فلم أقدر أن أتقدم ولا أتأخر وفطن المأمون لما بي فضحك ثم قال: هذه عمتك عليه تطارح عمك إبراهيم. مالي أرى الأبصار بي جافية ... لم تلتفت مني إلى ناحية لا تنظر الناس إلى المبتلي ... وإنما الناس مع العافية وقد جفاني ظالماً سيدي ... فأدمعي منهلة واهية والشعر والغناء لها ومن شهرها في أخيها الرشيد وقد دعته إلى وليمة فلبى دعوتها: تفديك أختك قد حبوت بنعمةٍ ... لسنا نعدُّ لها الزمان عديلا إلا الخلود وذاك قربك سيدي ... لا زال قربك والبقاءُ طويلا وحمدت ربي في إجابة دعوتي ... فرأيت حمدي عند ذاك قليلاً قال الراوي ما معناه: لما زارها الرشيد قال لها غنيني يا أختي فقال وحياتك لأعملن فيك شعراً ولأصوغنَّ فيه لحناً ولأسمعنك به غناءً يطرب الثكلى ويرقص المقعد ويشجي المدنف ثم نظمت في وقتها الثلاثة أبيات التي ذكرناها وغنت بها في لحن جديد من خفيف الرمل فأطرب الرشيد كثيراً واستعادها إياه مرَّات. ولها فيه أيضاً وقد دعا أختها العباسة إلى زيارته ولم يدعها: ما لي نُسيت وقد نودي بأصحابي ... وكنت والذكر عندي رائحٌ غادِ أنا التي لا أطيق الدهر فرقتكم ... فرق لي يا أخي من طول إبعادي ولها في ابن أخيها الأمين وكانت لما مات الرشيد جزعت عليه جزعاً شديداً وتركت اللهو والغناء فلم يزل بها الأمين حتى عاودتهما وهي كارهة فقالت: أطلتِ عاذلتي لومي وتفنيدي ... وأنت جاهلة شوقي وتسهيدي

لا تشرب الراح بين المسمعات وزر ... ظبياً غريراً نقي الخد والجيد قد رنحته شمول فهو منجدل ... يحكي بوجنته ماء العناقيد قام الأمين فأغني الناس كلهم ... فما فقير على حال بموجود ولها في لبانة ابنة أخيها علي بن المهدي وكانت من حسان زمانها الفاتنات: وحدثني عن مجلس كنت زينه ... رسولٌ أمينٌ والنساءُ شهودُ فقلت له كرّ الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحدث أريدُ وليس في شعرها هذا بشيء بجانب غزلياتها فإن لها من المقاطيع في طل ورشا. ومنها قولها في رشا وقد كنَّت عنه بزينب: وجد الفؤاد بزينباً ... وجداً شديداً متعباً أصبحت من كلفي بها ... صباً كئيباً منصبا ولقد كنت عن اسمها ... عمداً لكي لا تغضبا وجعلت زينب سترةً ... وكتمت أمراً معجباً قال وقد عزَّ الوصا ... ل ولم أجد لي مذهبا والله لا نلت المودَّ ... ة أو تنال الكوكبا فلما اشتهر أنها تكني عن رشا بزينب قال وقد صحفت زينب بلفظة ريب: القلب مشتاق إلى ريب ... يا ربما من هذا العيبِ قد تيمت قلبي فلم أستطع ... إلا البكاء يا عالم الغيب خبأت في شعري اسم الذي ... أرته كالخبءِ في الجيب وكانت لزبيدة زوجة الرشيد جارية اسمها طغيان وشت بها مرة إلى الرشيد فقالت علية تهجوها وفيه مع أدب الكتاب أشد أنواع الذم وهو من مبتكراتها المأثورة: لطغيان خف منذ ثلاثين حجة ... جديد فلا يبلى ولا يتمزقُ وكيف بلى خف الدهر وهو كلهُ ... على قدميها في الهواء معلقُ فما خرقت خفاً ولم تبل جورباً ... وأما (ثياب فوقهُ) فتمزقُ ولما مات رشا أو قتل شببت في طل فقالت وقد صحفت اسمه في البيت الأول تلميحاً: أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى طل لديك سبيل

متى يلتقي من ليس يهوى وخروجه ... وليس لمن يهوى إليه الدخولُ عسى الله أن نرتاح من كربة لنا ... فيلقى اغتباطاً خلة وخليلُ ولها فيه أيضاً وقد جعلت التصحيف في البيت الثالث: سلم على ذاك الغزال ... الأغيد الحسن الدلال سلم عليه وقل له ... يا غل الباب الرجال خليت جسمي ضاحياً ... وسكنت في طل الجمال وبلغت مني غايةً ... لم أدر فيها ما احتيال ثم صرحت بعه في أبيات أخر تستعطفه به وتتهمه بالصدود والإعراض وهي قولها وهو من أرق التشبيب: يا رب إني قد عرضت بهجرها ... فإليك أشكر إذ ذاك يا رباه مولاة سوءٍ تستهين بعبدها ... نعم الغلام وبئست المولاه طل ولكني حرمت نعيمه ... ووصاله ما لم يغثني الله يا رب إن كانت حياتي هكذا ... ضراً عليَّ فما أريد حياة والذي أدبها وعلمها وخرجها فنون الشعر إنما هو عمرو أبو حفص الشطرنجي وقد نشأ هذا في دار أبيها المهدي مع أولاد مواليه ثم انقطع بعد موت المهدي إلى علية هذه ولما زوجت بموسى بن عيسى العباسي خرج معها إلى دار زوجها ولما عادت إلى القصر بموت زوجها عاد معها وسمي شاعرها وهو القائل عن لسانها لما غضب عليها الرشيد: لو كان يمنع حسن العقل صاحبهُ ... من أن يكون لها ذنب إلى أحد كانت علية أربى الناس كلهم ... من أن تكافأ بسوءٍ آخر الأبدِ ما أعجب الشيء نرجوه ونحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي فكانت أبياته هذه سبب رضى الرشيد عنها وإقباله عليها ومن أحسن الغزل وأرقه قولها: يا عاذلي قد كنت قبالك عاذلاً ... حتى ابتليت فصرت صباً ذاهلاً الحب أول ما يكون مجانةً ... فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً أرضى فيرضى قاتلي فتعجبوا ... يرضى القتيل وليس يرضى القاتلا وكان الرشيد قد استحلفها ألا تكلم طلاًّ ولا تشبب به في شعرها ولا تسميه فحلفت له ثم همَّ

يوماً بالدخول إليها وإذا بها تقرأ في سورة البقرة وقد بلغت الآية فإن لم يصبها وابلٌ فأطل وأرادت أن تقول فطل فقالت فالذي نهى عنه أمير المؤمنين فضحك وقال لها ولا كل هذا. هكذا روى القيرواني أما الأصبهاني فقال أنه عندما سمع الرشيد منها ذلك وهبها الغلام بعد أن قبل رأسها وقال لها لست أمنعك بعد اليوم من شيءٍ تريدينه وعندنا أن الرواية الأولى أدنى إلى الصحة على ما عهد من غيرة الرشيد وأنفته كيف وهو الهاشمي الأبي العزوف النفس ولقد روي عن لسان علية أنها قال لا غفر الله لي فاحشة ارتكبتها قط ولا أقول في شعري إلا عبثاً وهي هي التي تقول ما حرَّم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلل منه عوضاً فبأي شيءٍ يحتج عاصيه وبالجملة لو لم يكن حبها للجمال مقصوراً على القيل والقال لما أكثرت من شعرها من ذكر الهجرة والوحشة والشوق فما نظمت بيتاً في التشبيب والغزل إلا كاد ينطق بعفتها وأدبها بغير لسان ويعرب عن نزاهتها وتصونها كأفصح ترجمان لأن النار لا تنبعث عن فؤَاد أخمدته الشهوات وأطفأت جذوته اللذات وما أحلى قولها تشكو وتتألم وهو من مهلهل الشعر: نام عذالي ولم أنم ... واشتفى الواشون من سقمي وإذا ما قلن بي ألمٌ ... شك من أهواه في ألمي ولو شئنا أن نأتي على جميع أخبارها ومنظوماتها وما ذكر الرواة من بدائعها ونكاتها لضاق بنا المقام وأدرك القارئ الملال فلم نرد بداً من الاقتصار على ما أوردنا تبصرة للرجال وتذكرة لمن أغفلن العلم ولم يعتنين بالفضل من ربات الحجال خاتمين هذا الفصل ببيتين لعلية لا يخلوان من الحكمة والعبرة لمن يكثر الزيارة واللبيب تغنيه الإشارة: إني كثرت عليه في زيارته ... فمل الشيءُ مملولٌ إذا كثرا ورابني منه أني لا أزال ارى ... في طرفه قصراً عني إذا نظرا سليم عنحوري

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن تتمة ما ورد في الجزء الماضي أقوال متقدمي فلاسفة الإسلام في الجن ابن سينا والفارابي. قال ابن سينا رحمه الله في كتاب الحدود: الجن حيوان هوائي ناطق مكشف الجرم من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة (قال) وليس هذا رسمه بل هو معنى اسمه اهـ قال أبو البقاء في كلياته: أي هذا بيان لمدلول هذا اللفظ مع قطع النظر عن انطباقه على حقيقة خارجية سواء كان معدوماً في الخارج أو موجوداً ولم يعلم وجوده فيه فإن التعريف الاسمي لا يكون إلا كذلك بخلاف التعريف الحقيقي فإن عبارة عن تصور ماله حقيقة خارجية في الذهن (ثم قال أبو البقاء) وجمهور أرباب الملل المصدقين بالأنبياء قد اعترفوا بوجوده واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة أيضاً. وفي رسالة للمعلم الثاني أبو نصر محمد الفارابي في جواب مسائل سئل عنها ما مثاله: (سئل) فيما رآه بعض العوام في معنى الجن وسأله عن ماهيته (فقال): الجن حي غير ناطق غير مائت وذلك على ما توجبه القسمة التي يتبين منها حد الإنسان المعروف عند الناس أعني الحي الناطق المائت، وذلك أن الحي منه ناطق مائت وهو الإنسان ومنه ناطق غير مائت وهو الملك، ومنه غير ناطق مائت وهو البهائم، ومنه غير ناطق غير مائت وهو الجن: فقال السائل: الذي في القرآن مناقض لهذا وهو قوله استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً والذي هو غير ناطق كيف يسمع وكيف يقول: فقال: ليس ذلك بمناقض وذلك أن السمع والقول يمكن أن يوجد للحي من حيث هو حي لأن القول والتلفظ غير التمييز الذي هو النطق، وترى كثيراً من البهائم لا قول لها وهي حية، وصوت الإنسان مع هذه المقاطع هو له طبيعي من حيث هو حي بهذا النوع كما أن صوت كل نوع من أنواع الحي لا يشبه صوت غيره من الأنواع كذلك هذا الصوت بهذه المقاطع التي للإنسان مخالف لأصوات غيره من أنواع الحيوان، أما قولنا: غير مائت فالقرآن يدل بذلك في قوله تعالى رب انظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين اهـ. أبو طالب المكي

قال في قوت القلوب في الفصل الثلاثين تفصيل خواطر القلوب ما مثاله بعد سرد آيات وقال تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك وقال تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهي حواس الجسم والقلب. فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة. وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها الله تعالى بحكمته وسواها على مشيئته وقومها إتقاناً بصنعته وإحكاماً بصنعه (أولها) النفس والروح وهما مكانان للقاء العدو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى (ومنها) غرضان متمكنان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين في مشيئة حاكم وهما التوفيق والإغواء (ومنها) نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم وهما العلم والإيمان فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الغائبة وآلاته والقلب في وسط هذه الأدوات كالملك وهذه جنوده تؤدي إليه أو كالمرآة المجلوة وهذه الآلة حوله تظهر فيراها ويقدح فيه فيجدها. (ثم قال) فإذا أردا الله تعالى إظهار الخير من خزانة الروح حركها فسطعت نوراً في القلب فأثرت فينظر الملك إلى القلب فيرى ما أحدث الله تعالى فيه فيظهر مكانه فيتمكن على مثال فعل العدو في خزانة الشر وهي النفس، والملك مجبول على حب الهداية مطبوع على حب الطاعة كما أن العدو مجبول على الغواية مطبوع على حب المعصية فيلقي الملك الإلهام وهو خطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه وهذا هو إلهام التقوى والرشد. (ثم قال) ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها، فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من عمل الخير فهم (إلهام). وما وقع من عمل الشر فهو (وسواس). وما وقع في القلب من المخاوف فهو (الحساس). وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو (نية). وما كان من تدبر الأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو (أمنية وأمل). وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكرة وتفكير.

وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة. وما كان من تحدث النفس بمعاشها وتصريف أحوالها فهو همم. وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم. ويسمى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطورة عدو بحسد أو خطرة ملك بهمس اهـ مخلصاً. الغزالي قال في المضنون الكبير: الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافاً يكون بين الأنواع مثال ذلك القدرة فهيب مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفان اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائمة بغيرها فكذلك بين الملك والشيطان والجن والملك فلا يدري أهو اختلاف بين النوعين كالاختلاف بين الفرس والإنسان أو الاختلاف في الأعراض كالاختلاف بين الإنسان الناقص والكامل وكذا الاختلاف بين الملك والشيطان وهو أن يكون النوع واحداً والاختلاف واقعاً في العوارض كالاختلاف بين الخير والشر والاختلاف بين النبي والولي، والظاهر أن اختلافهم بالنوع والعلم عند الله تعالى، وهذه الجوار المذكورة لا تنقسم أعني أن محل العلم بالله تعالى واحد لا ينقسم فإن العلم الواحد لا يحل إلا في محل واحد وحقيقة الإنسان كذلك فالعلم والجهل بشيء واحد في محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين وأما أن هذا الجوهر غير منقسم وهل هو متحيز أم لا فهذا الكلام عائد إلى معرفة الجزء الذي يتجزأ فإن استحال الجزء الذي لا يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ولا متحيز وإن لم يستحل الجزء الذي لا يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيراً_وقد قال قوم لا يجوز أن يكون غير منقسم ولا متحيز فإن الله تعالى غير منقسم ولا متحيز فمنا الذي يفصل هذا من ذلك وهذا غير مبرهن عليه لأنه ربما تباينا في حقيقة الذات وإن سلب عنهما الانقسام والتحيز والأمور المكانية وتلك سلوب والا عتبار بالحقائق لأن ما سلب عن الحقائق كالعرضين المختلفين بالحد والحقيقة الحالين في محل واحد فإن إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل لا يفيد تماثلهما فكذلك سلب الاحتياج إلى المحل والمكان لا يفيد اشتراك الشيئين ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر أعني جواهر الملائكة وإن كانت غير محسوسة وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل

التمثيل كقوله تعالى فتمثل لها بشراً سوياً وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرى جبريل في صورة دحية الكلبي والقسم الثاني أن يكون لبعض الملائكة بدن محسوس كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها فكذلك وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفاً على إشراق نور النبوة كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوف عند الإدراك على إشراق نور الشمس وكذا في الجن والشياطين اهـ. وقال الغزالي في الإحياء في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس بعد تمهيد مقدمة ما مثله: فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة ثم الرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني ما يضر في العقبة وإلى ما يدعو إلى الخير أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة فهما خاطران مختلفان فأفتقر إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواساً ثم أنك تعلم أن هذه الخواطر حادقة ثم أن كل حادث فلا بد له من محدث ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى فر ترتيب المسببات على الأسباب، فمهمات استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى (ملكاً) وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى (شيطاناً) واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى (توفيقاً) والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى (إغواءً وخذلاناً) فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة. و (الملك) عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف وقد خلقه الله وسخره لذلك. (والشيطان) عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة في مقابلة الإلهام. والشيطان في مقابلة الملك. والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليه الإشارة بقوله تعالى (ومن كل شيء خلقنا زوجين). ابن حزم قال رحمه الله في كتابه الفصل في الكلام على الجن ووسوسة الشيطان ولعله في

المصروع: لم ندرك بالحواس ولم علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضاً بضرورة العقل ولكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز وجل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء فيسكنهم الأرض والهواء والماء_وبين أن يخلق خلقاً عنصرهم الهواء والنار فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئة وأكثر اليهود، وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز وجل إلا إبليس كان من الجن، وإذا أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم ورآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقاً يراه أهل المدينة أو كما قال عليه السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه. وهم أجساد رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز وجل والجان خلقناه من قبل من نار السموم والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا أجساماً صافية رقاقاً هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس. وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتصلون بها إلى

قذف ما يوسوسون به في النفوس، برهان ذلك قول الله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونحن نرى الإنسان يرى ما له عنده ثأر فيضرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته، ويرى من يحب فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط، ويرى من يخاف فتحدث حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف نفس، ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحيله أيضاً بالكلام إلى جميع هذه الأحوال فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونه إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر: وقد كنت أجري في حشاهن مرة ... كجري معين في قصب الآس (وأما الصرع) فإن الله عز وجل قال كالذي يتخبطه الشيطان من المس فذكر عن وجل تأثير الشيطان في الصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئاً ومن زاد على ذلك شيئاً فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز وجل ولا تقف ما ليس لك به علم وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه صلى الله عليه وسلم ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه مساً كما جاء في القرآن يثير به من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد اهـ كلام ابن حزم. الفخر الرازي قال في مباحث الاستعاذة من أوائل تفسيره: أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم بل القول المحصل فيه قولان (الأول) أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة لها عقول وإفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة (والقول الثاني) أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في التحيز وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية (قالوا) وهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة وهي المسماة بالصالحين من الجن. وقد تكون

كدرة سفلية شريرة وهي المسماة بالشياطين (ثم قال) واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية: وهذا باطل لوجهين (الأول) أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي وهو النفس ويلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس (الثاني) هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية فلم لا يجوز أن يقال أن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم أنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان. وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا أن الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار وهذان المعنيان لأعراض فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمنع اشتراكها في بعض اللوازم فلما لا يجوز أن يقال الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار وإذ ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يقال أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها وهي غير قابلة للتفرق والتمزق وإذا كان الأمر كذلك فإن تلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ثم أن الرياح العاصفة لا تمزقها والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر فلم لا يفعل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها وأن تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعين، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة والدليل لم يقم على إبطالها فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها. (ثم قال الرازي) اع لم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية فكأن متكلماً يتكلم

معه ومخاطباً يخاطبه فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه. ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة أن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات وتخيل الشيء عبارة عن حضور اسمه ومثاله في الخيال وهذا كما إنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب بل الموجود في العقل صورها وأمثلتها ورسومها وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها. وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل يقول هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحرف والكلمة في الماهية أولاً فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء_وإن كان الحق هو الثاني وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات فحينئذ يعود السؤال وهو أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات وكيف نجد في أنفسنا هذه الكلمة أو العبارة وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة على الذهن فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة. أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقية. واعلم بأن القائلين بهذا القول قالوا فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر وإما شيءٌ آخر روحاني مباين يمكن إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان سواء قيل أن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك وأما أن يقال خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى (أما القسم الأول) وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان فهذا قول باطل لأن الذي يحصل باختيار الإنسان قادر على تركه فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد فعلها أو تركها لقدر

عليه ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره. (وأما القسم الثاني) وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر فهو ظاهر الفساد. ولما بطل هذا القسمان بقي (الثالث) وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى (أما الذين قالوا) أن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذي قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى) اهـ. المارودي قال في كتابه أعلام النبوة: الجن من العالم الناطق المميز يتناسلون ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن يخص الله برؤيتهم من يشاء، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية، (ثم قال): واختلفوا في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون ويموتون وزعم آخرون أنهم غير الجن وإنهم من ولد إبليس واختلف من قال بهذا في تناسلهم وموتهم فذهب فريق منهم إلى أنهم يتناسلون ويموتون وذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلا معه وإن تناسلهم انقطع بأنظار إبليس إلى يوم يبعثون، فإن أنكر قوم خلق الجن ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول وحجج القياس (ثم أسهب في ذلك رحمه الله). القاشاني قال في تفسير آية وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن في سورة الأحقاف ما مثاله: الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر سماها الحكمة الفرس (الصورة المعلقة) ولكونها أرضية متجسدة في ابدان عنصرية ومشاركتها الأنس في ذلك سميا ثقلين وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع وأوضح من أن يقبل التأويل: وقال في تفسير سورة الجن: قد مر أن في الوجود نفوساً رضية قوية لا في غلط النفوس

السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيآت النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية_وملا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها سماها بعض الحكماء (الصور المعلقة) ولها علوم وإدركات من جنس علومنا وإدراكاتنا، ولما كانت قريبة بالطبع من الملكوت السماوي أمكنها أن تتلقى عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي النفوس المجردة_ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان اهـ. القاضي أبو يعلي بن الفراء نقل عن السفاريني أنه قال: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافاً للمعتزلة في قولهم أنها أجسام رقيقة ولرقتها لا نراها (قال): ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلم الله ضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله نقله الله من صورة إلى صورة فيقال أنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على أمر إذا فعل نقله الله عن صورة إلى صورة أخرى لجري العادة وإما أن يصور نفسه فذلك محال لأن انتقالها عن صورة إلى صورة إنما يكون بنقص البنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقلت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة وكيف تنقل نفسها (قال) والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك (وسيأتي أول الخاتمة مبحث تمثل الروحاني مفصلاً). شيخ الإسلام ابن تيمية نقل عنه السفاريني أنه قال: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وكذا جمهور الكفار لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار يعرفه

الخاصة والعامة (قال) ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة ونحوهم، (وقال) ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً لما على الأنس في الحد والحقيقة لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء: (وقال في تفسير سورة الإخلاص) إن الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية قاصر جداً وفيه تخليط كثير وإنما يتكلمون جيداً في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها فكلامهم فيها في الغالب جيد، وأما الغيب الذي تخبر به الأنبياء والكليات العقلية التي تعم الموجودات كلها وتقسم الموجودات قسمة صحيحة فلا يعرفونها البتة فإن هذا لا يكون إلا ممن أحاط بأنواع الموجودات وهم لا يعرفون إلا قليلاً من الموجودات وما لا يشهده الآدميون من الموجودات أعظم قدراً وصفة مما يشهدونه بكثير، ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا أخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وهم يظنون أن لا موجود إلا ما علموه هم والفلاسفة يصيرون حائرين متأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وإن كان هذا لا دليل عليه وليس لهم بهذا النفي علم فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم لكن نفيهم هذا كنفي الطبيب للجن لأنه ليس في صناعة الطب ما يدل على ثبوت الجن وإلا فليس في علم الطب ما ينفي وجود الجن وهكذا تجد من عرف نوعاً من العلم وامتاز به على العامة الذي لا يعرفونه فيبقى بجهله نافياً لما لا يعلمه، وبنو آدم ضلالهم فيما حددوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به قال تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لما يأتيهم تأويله اهـ. وقد أسهب رحمه الله في كتابه الفرقان_المطبوع_فيما يتعلق بالجن الشياطين فليراجع. ابن القيم قال رحمه الله في زاد المعاد في علاج الصرع ما مثله: الصرع صرعان صرع من الرواح الخبيثة الأرضية_وصرع من الأخلاط الردية. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون بأن علاجه بمقابلة الرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا

العلاج: وأما جهلة الأطباء فينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط وهو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا: إنه من الأرواح، أما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ: وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم. (ثم قال ابن القيم) هذا ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق إن كان هو المصروع حقيقة. وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل عليهم السلام. الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قال في تفسير قوله تعالى الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الموسوسون قسمان قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم وإنما نجدهم في أنفسنا أثراً ينسب إليهم، ولكل واحد من الناس شيطان وهي قوة نازعة إلى الشر يحدث منها في نفسه خواطر السوء: وقال في موضع آخر: إن إلهام الخير والوسوسة مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم وقد أسند إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهاماً وخواطر الشر التي تسمى وسوسة كل منهما محله الروح فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتصل بأرواح الناس. فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجسمانية المعروفة لنا لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا ونحن لا نحس بشيءٍ يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان

قطعاً. (ثم قال) يشعر مكل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره عند ما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعاً كان الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى فهذا يورد وذاك يدفع، وواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء قد أودع في نفسنا ونسميه قوة وفكراً_وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه وروح لا تكتنه حقيقتها_لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً ويسمي أسبابه ملائكة أو ما شابه من السماء فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع اهـ وسبق في كلام الغزالي نحوه وسيأتي في الخاتمة عن الراغب الأصفهاني ما يؤيده. خاتمة في فوائد متفرقات من شوارد هذه المسالة (أ) للباحثين في تمثل الرواح آراء عديدة وأنظار متنوعة نذكر منها طرفاً قال في الخلاصة: اعتقاد قدماء اليهود بماهية الرواح المغيبة إنها إما هواء خالص أو لهيب نار (ثم قال) فعلى هذا فللملائكة أجسام هوائية لطيفة لا ترى ما لم تمثل كالهواء الذي نتنفسه فإنه جسم لكنه غير مبصر لنا (ثم قال) واقرب شاهد للتمثل هو الهواء فإنه وإن لم يقبل في حال تخلخله شكلاً ولا لوناً إلا أنه متى تكاثف أمكن تشكله وتلونه كما يتضح في السحاب وعلى هذا النمط يجوز أن تتكثف أجسام الملائكة بالقدرة الربانية على قدر ما يلزم لتموين الجسم المراد اتخاذه وبقدرون التجسد بعد أن يفعلوا أفاعيل حيوية اهـ. وقدمنا عن القاضي أبي يعلي أنه قال: لا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلمهم الله ضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله نقله الله من صورة إلى صورة الخ: ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن إمام الحرمين أن تمثل جبريل معناه أن الله أفتى الزائد من خلاقه وأزاله عنه ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته بل يجوز أن يبقى الجسد حياً لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر تسرح في الجنة،

وقال شيخنا شيخ الإسلام_زكريا الأنصاري_ما ذكر إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل وإذ ترك ذلك عاد إلى هيئته ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشاً فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير وهذا على سبيل التقريب والحق إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أيضاً أن القدر الزائل لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله أعلم اهـ كلام الحافظ كله مبني على حمل الإطلاق في موارده على الحقيقة فليتأمل وقال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في رسالة التوحيد: أما وجود بعض الأرواح العالية_وهم الملائكة المكرمون_وظهورها لأهل تلك المرتبة السامية (الأنبياء عليهم السلام) فمما لا استحالة فيما بعد ما عرفناه من أنفسنا وأرشدنا إليه العلم قديمه وحديثه من اشتمال الوجود على ما هو ألطف من المادة وإن غيب عنا فأي مانع من أن يكون بعض هذا الوجود اللطيف مشرقاً لشيء من العلم الإلهي وأن يكون لنفوس الأنبياء أشراف عليه فإذا جاء به الخبر الصادق حملنا على الإذعان بصحته، أما تمثل الصوت وأشباح لتلك الأرواح في حس من اختصه الله بتلك المنزلة فقد عهد عند أعداء الأنبياء ما لا يبعد عنه في بعض المصابين بأمراض خاصة على زعمهم فقد سلموا أن بعض معقولاتهم يتمثل في خيالهم ويصل إلى درجة المحسوس فيصدق المريض في قوله أن يرى ويسمع بل ويجالد ويصارع ولا شيء من ذلك في الحقيقة بواقع فإن جاز التمثيل في الصورة المعقولة ولا منشأ لها إلا في النفس وغن ذلك يكون عند عروض عارض على المخ فلم لا يجوز تمثل الحقائق المعقولة في النفس العالية وأن يكون ذلك لها عندما تنزع عن عالم الحس، وتتصل بحظائر القدس، وتكون تلك الحال من لواحق صحة العقل في أهل تلك الدرجة لاختصاص مزاجهم بما لا يوجد في مزاج غيرهم؟ وغاية ما يلزم عنه أن يكون لعلاقة أرواحهم بأبدانهم شأن غير معروف في تلك العلاقة من سواهم وهو ما يسهل قبوله بل يتحتم لأن شأنهم في الناس أيضاً غير الشؤون المألوفة وهذه المغايرة من أهم ما امتازوا به وقام منها الدليل على رسالتهم، والدليل على صحة شهودهم وصحة ما يحدثون عنه أن أمراض القلوب تشفى بدوائهم وأن ضعف العزائم والعقول يتبدل بالقوة في أممهم التي تأخذ بمقالهم، ومن المنكر

في البديهة أن يصدر الصحيح من معتل، ويستقيم النظام بمختل اهـ وقدمنا عن الغزالي كلمة في تمثيل الملك فتذكره. (ب) شاع وصف الجن بالأرواح في المأثور وفي كلام الحكماء قال ابن الأثير في حديث: إني أعالج من هذه الأرواح: الأرواح ههنا كناية عن الجن سموا أرواحاً كونهم لا يرون فهم بمنزلة الرواح: إلا أنه غلب لفظ روح مفرداً في التنزيل الحكيم على الملك قال في الخلاصة: أن كلمة روح التي وصف بها الملائكة تتضمن معنى يدل على ماهيتهم وهوانهم مجردون عن كثافة الأجسام فليسوا مثلنا (قال) لأن أصل معنى الروح في العبراني واليوناني كما في العربي ريح أي هراء متحرك وكأن لغة البشر تقصر عن التعبير بكمال الكنه والحقيقة فاكتفى بتوضيح بلفظ يوضح الحقيقة وإن لم يجهلها تمام الجهلاء اهـ وقال ابن الأثير في حديث (الملائكة الروحانيون) يروى بضم الراء وفتحها كأنه نسبة إلى الرُّوح والرَّوح وهو نسيم الريح والألف والنون من زيادات النسب ويريد بهم أنهم أجسا لطيفة لا يدركها البصر اهـ. وفي كليات أبي البقاء: الروح بالضم هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه واسم الروح الخ وفي التاج عن الفراء قال: سمعت أبا الهيثم يقول: الروح إنما هو النفس الذي يتنفسه الإنسان وهو جار في جميع الجسد فإذا خرج لم يتنفس بعض خروجه: وفي نقد المحصل للطوسي: الفلاسفة يفرقون بين النفوس والأرواح فإن النفوس عندهم جواهر بسيطة مجردة متعلقة الأبدان، والأرواح أجسام مركبة من الأبخرة والأدخنة المرتفعة من الدم المحتبس في العروق: وروى ابن جرير عن قتادة في تفسير آية ويسئلونك عن الروح قال الروح هو جبريل قال قتادة: وكان ابن العباس يكتمه ثم اسند إلى ابن العباس أن الروح ملك وكذا عن علي رضي الله عنه أنه قال: هو ملك من الملائكة: (ج) جاء في معجم لاروس: أن سقراط كان يزعم أن له شيطاناً خاصاً يوحي إليه مقاصده وجميع مبادئ فلسفته وحكمته. فادعى بعضهم أن ذلك كان روحاً أو عاملاً فوق قوة البشر وأطلق آخرون هذا الاسم على معنى أدبي لطيف وحاسة طبيعية رائقة سريعة الإدراك أنمتها تجارب طويلة وهم على ما يرون أن شيطان سقراط لم يكن إلا إلهامات باطنة تعرض لعقله وقلبه مؤقتة عند تصور أعلى مطالب الفلسفة فمعنى استشارة سقراط لشيطانه

الخاص هو أن يستشير إلهامه الداخلي وعقله وحكمه التي لا يراها نفحة ونعمة بل هي منبعثة عن الألوهية وجزء منها. ورأى آخرون أن هذا الزعم كان من سقراط حيلة يريد أن يتوصل بها إلى تحقيق إصلاح سياسي كبير. والظاهر أن سقراط اقتنع بصحة ما وقع في نفسه فلم يخامره ولا تلامذته أدنى شك في مدعاه وكان ذلك من آكد الأسباب في الحكم عليه بالموت. وجاء فيه أيضاً في مادة جني: أن الجن في الأساطير الرومانية إشارة إلى الشيطان عند اليونان وهي عبارة عن الروح أو المبدأ الحيوي فكانوا يذهبون إلى أن كل عمل يعمله الإنسان يمليه عليه شيطانه الخاص. فالظاهر أنه كان من تأثيرات الزندقة الطبيعية أن توهم عامة اللاتين بأن للمرء شيطانين وذلك ليحلوا كما يشاؤون مسألة الخير والشر فشيطان الخير يوحي الأفكار الصالحة النافعة وشيطان الشر يلهم الأعمال الشريرة والحوادث المكدرة وهكذا رأى أن القائد بروتوس وكاسيوس عندما كتبت الهزيمة على أعلامهما شيطانهما الشريرين. وكان القوم في رومية يعبدون الشياطين الخاصة والشياطين المحلية فإذا ولد لهم ولد يقومون باحتفال إكراماً لشيطانه وكثيراً ما تقدم فاكهة وثمار لشياطين المكان وعلى عده الإمبراطورية كان شيطان الإمبراطور يعبد عبادةً خاصة إكراماً واحتراماً اهـ. (د) جاء في دائرة المعارف البريطانية ما تعريبه: إن كلمة الشيطان هي اسم وضع في الإنجيل والمذهب النصراني على شرير كبير يظن أنه يرأس مملكة من الأرواح الخبيثة وهو الملك فيها وأنه عدو الله دائماً واللفظة العبرية وهي الشيطان الدالة على معنى المعاكسة أيضاً تستعمل لهذا الشرير الكبير أو ملك مملكة الشر ومما لا شك فيه أن روحاً خبيثة كهذه كثيراً ما استعملت في العهد الجديد وقد سمي بأسماء متعددة غير ما ذكر مثل كلمة الممتحن، بعل زبوب، ملك الشياطين، القوى، الشرير الخاطئ، العدو الألد، وهذه السماء استعملت مترادفة في الإنجيل وحيثما استعملت تدل على نفس القوة المتحركة الشريرة الخارجة عن الإنسان والمؤثرة فيه أو التي لها سلطة عليه ومن المسائل ما هو مبلغ اعتقاد المسيح نفسه في وجود مثل هذه القوة الخبيثة إلا أنه مما لا شك فيه أن قوة كهذه كان معترفاً فيها في معتقدات اليهود في أيامه ومن المحقق أيضاً أن

هذا الاعتقاد بين اليهود لم ينم دفعة واحدة بل نشأ على مهل ويتأثره المطالع في العهد القديم بوضوح كما نجده واضحاً في العهد الجديد وفي الحقيقة أن كلمة الشيطان لا توجد في التوراة إلا في خمس مواضع وفي آثار الأنبياء العبريين الأولى لا يوجد اعتراف بروح شريرة تقاوم إرادة الله والصورة التي صورت بها هذه الروح الشريرة في آثار متأخريهم تختلف كثيراً عن الصورة التي صورها متأخرو علماء اللاهوت. إذاً ما هو أصل الاعتقاد بالشيطان من حيث أنه روح خبيثة مطرودة فالجواب الذي يذكره المنقحون من المعاصرين أن هذا الاعتقاد نشأ من اختلاط اليهود بالفرس لما كانوا منفيين في بلاد فارس فالاعتقاد الفارسي يقسم الدنيا بين إلهين موجودين مختلفين الواحد خير والآخر شر إلا أن كليهما له حصة في الخلق والإنسان. فأهر مزده كان مقدساً صادقاً تجب له العبادة والاحترام وأما أهر من روح الظلام ذو العقل الشرير فلم يكن اقل قدرة وكان يدعي الحق بمساواة أهل مزده من حيث إطاعة الإنسان له وفي القرون الوسطى كان الاعتقاد بالشيطان عظيماً فالقديسون كانوا يحبسون أنفسهم وغيرهم بخصام دائم معه ومن الصعب علينا الآن أن نتصور مقدار التأثير لهذا الاعتقاد في معيشة الناس حينئذ فإنه كان الفكر الثابت في رأس كل إنسان خصوصاً من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر وهي مدة يمكننا أن نعد هذه الخرافة بلغت فيها منتهاها ومن المحقق أن هذه العقيدة لم تنقص إلا قليلاً في القرن الخامس عشر بل حتى في القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولوثيروس كان يشعر دائماً بتماس الروح الشريرة ومعاكستها ففي مكتبته وفي فراشه وحجرته كان الشيطان يتداخل في أشغاله أو راحته ولما كان يباشر درسه سمع صوتاً عرفه حالاً أنه صادر من عدوه الشيطان قال فلما وجدت أنه يريد أن يعود مرة ثانية إلى عمله جمعت كتبي وذهبت إلى فراشي وسمعته مرة ثانية في الليل ماشياً في الرواق لكنني لما كنت أعلم أنه الشيطان لم أهتم به بل غرقت في نومي وكذلك يقول لوثيروس ولما أفقت في هذا الصباح باكراً جاءني الشرير وابتدأ يجادلني فقال لي أنت مذنب عظيم فأجبته ألا يمكنك أن تأتيني بنبأ جديد يا شيطان. ولما تقدم المعقول في القرن الثامن عشر تناقص هذا الاعتقاد بانتشار التأثرات الشيطانية والشعور بما فوق الطبيعة تضاءل من جميع جهاته ولاسيما الاعتقاد القديم بسلطة الشيطان المطلقة على مصير الإنسان ومع أن الشعور الديني ازداد كثيراً منذ

ذلك الحين فلا يمكن أن يقال بأن الاعتقاد القديم بالشيطان وأعماله تجدد ومن الممكن أن يكون اعتقاد النصرانية اليوم أن هنالك قوة شريرة في العالم تعاكس إرادة الله ولكن هل هذه القوة هي شخص وما هي علاقة هذه المملكة الشيطانية بمصير الإنسان؟ كل ذلك مسائل لم تقرر بعد أو مشكوك بها في أي مذهب من مذاهب الكنيسة. ووظيفتنا أن نلاحظ هذا التغير في اعتقاد النصارى من غير أن نبين منافعه أو غير ذلك ومن المحقق أن الاعتقاد بالشيطان لا يشغل مكاناً عظيماً في تصورات النصارى اليوم كما كان من ذي قبل وأنه ليس لسلطته الآن الذي كان له في الإنسان واختباره اهـ كلام دائرة المعارف البريطانية ولم نورده مع كلام المعجم قبلها إلا ليتم للواقف على هذه المسألة الاطلاع على آراء بقية المفكرين من الملل الأخرى فيها. (هـ) تزعم الفرس أنه الجن يسكنون في بلاد تسمى جنستان ويسميها شعرائهم أرض العفاريت والجنيات ويقولون أنها واقعة في الطرف الغربي من أفريقية ومنهم من يقول أن مقرهم في جزيرة الحيات في بحر الهند ويصورونهم بهيئات مخيفة بقرون طويلة وأذناب وعيون مشقوقة طولاً وشعر واقف كذا في دائرة المعارف. (و) قال وليّ الدين: يدعي بعض شيوخ الضلالة ورسل البهتان أن لهم تعازيم يستحضرون بها الجن ويجعلونهم تحت تصرفهم ولا يزال لهذا الأضاليل أثر يذكر يتناقله الناس ويعتقدون بصحته اهـ. (ز) قال الرازي في مقدمة تفسيره في بحث الاستعاذة: هؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن قال الرازي وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء قال وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال: إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم أني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً اهـ. (ح) ذكر بعض المحققين أن إبليس علم جنس للشيطان معرب ذياقوليس باليونانية ومعناه موقع الخلاف أو مطغي أو مبعد الإنسان عن سبيله، ويتضمن اسمه معنى آخر في كتب الوحي وهو رئيس الأرواح الشريرة قال وكان شعراء الفرس الذين ينظمون في الخرافات يصفونه بلون أسود وعينين تقذفان ناراً ورائحة كبريتية وقرون وذنب وأظافر معوجة

وحافرين مشقوقين اهـ. (ط) لفظ شيطان عبراني بمعنى مخاصم أو مضاد ثم أطلق على روح شريرة غير مرئية تدعو إلى المعاصي والآثام كذا في المرشد قال الراغب عن أبي عبيدة: الشيطان اسم لكل عارم من الجن والإنس والحيوانات قال وقد يسمى كل خلق ذميم للإنسان شيطاناً لهـ ونقله السيد الزبيدي عنه في تاج العروس شرح القاموس. (ي) قال بعض الأفاضل: من الاعتقادات الشائعة أن الجن تسكن بعض الأماكن ولاسيما الخرابات والقبور والعيون والآبار والبيوت المهجورة حتى العامرة أيضاً فيحتاج أهلها إلى الخروج منها وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا سكنى دار ذبحوا للجن ذبيحة حتى لا تضرهم وهذا الاعتقاد المتقادم العهد لم يزل باقياً إلى الآن في أماكن كثيرة وربما روى بعض العامة مرائي وأساطير من هذا القبيل، وما ذلك إلا أوهام وتصورات تنتج من المتخيلة المنطبعة فيها من جري أكثر الأخبار، آثار لا تمحى إلا بكرور الأيام، وانتشار ألوية العلم في كل القطار بحيث تتمزق حجب الأوهام، وتأخذ الحقائق مكانها في أفكار الأنام، سهل الله سلوك سبيل العلم والعرفان إنه الكريم العلام. جمال الدين القاسمي

الاتكال الشرقي

الاتكال الشرقي نصيحة غربي قليل في القارئين من لم يسمعوا باسم المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق الذي خدم بلاده أجل خدمة فعد العالم الاجتماعي الاقتصادي والقائد العظيم والسياسي الإنساني وأعظم ملوك عصره ورؤساء الجمهوريات بلا منازع. أصل هذا الرجل هولاندي نزل أجداده الولايات لمتحدة منذ مائتي سنة وتخرج هو في كلية هارفرد الجامعة وكان قبيل الحرب الأميركية الإسبانية مساعد أمين سر وزارة البحرية فلما نشبت الحرب استقال وتطوع في الجيش حتى إذا عاد ظافراً عينته الحكومة والياً على نيويورك ثم معاوناً للرئيس ماكنلي فلما قتل هذا انتخبته هذا رئيساً عليها على الرغم مما كان يكيد له بعض منافسيه في السياسة ثم أعيد انتخابه بعد أربع سنين وهي المدة النظامية لكل رئيس جمهورية. ضرب روزفلت على أيدي رجال الاحتكار في الغرب وطأطأت لأقواله رؤوس ملوك الفولاذ والبترول وغيرهم من الأميركان ونصر المستضعفين والفقراء وهاله اجتماع الثروة في أيدي أفراد وحرمان سائر الأمة منها فقام يضرب على المحتكرين الرسوم الفاحشة ويداوي الأجسام والجيوب بأفعاله كما يداوي الأرواح والعقول بأقواله وله عدة تآليف اجتماعية سياسية ومقالات كثيرة في المجلات والجرائد وهو الذي ألف بين جمهوريات الجنوب وجمهوريات الشمال وجعل لبلاده مقاماً سامياً في السياسة الخارجية وحل المعضلة التي كانت استحكمت بين روسيا واليابان فاستحق على عمله جائزة السلام لنوبل وعينه مجمع العلوم السياسية والأخلاقية في باريز عضواً مراسلاً له دلالة على اعتبار أوربا لأعماله. ولما لم يرض المستر روزفلت أن يعاد انتخابه لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة عملاً بالتقليد المأثور عن الرئيس واشنطون وجفرسون رأى أن يهجر البلاد مدة ليخلو الجو للرئيس تافت الجديد فرحل إلى أفريقية الشرقية ليكمل نفسه في العلم والتجارب ويفيد أمته من رحلته حتى إذا عاد إلى نيويورك يوسد إليه تحرير مجلة الأوتلوك الأسبوعية وهكذا يرجع الرئيس من زعامة خمسة وثمانين مليوناً من البشر الراقي إلى رئاسة تحرير مجلة. وناهيك بمنتصب العلم من منصب.

خطب المستر روزفلت في الخرطوم قاعدة السودان جماعة من طلبة المصريين والسوريين في دار أحد مراسلي الأميركان في شهر ربيع الأول 1328_1910 وانتقد ما يرمي إليه كثير من الشبان في أوربا وأميركا وأفريقية من الرغبة في التولف وخدمة الحكومة فأرادهم على ترك الاتكال والعمل في أعمال المعاش على طريق الاستقلال قال: فمتى قلت لكم أنه يجب عليكم أن تؤيدوا الحكومة لا أريد أن يخطر لكم أنني أريد من قولي هذا أنكم مضطرون إلى السعي وراء أحرز الوظائف فيها (ضحك) بل إن الأمر على عكس ذلك. وأرجو يا حضرة الدكتور جفن (رئيس الإرسالية الأميركية في السودان) أن الأعمال التي قمتم بها هنا والتي تقوم بها سائر المعاهد العلمية التي لكم صلة بها سترمي إلى تلك الغاية. فتذكرون دائماً أن أعظم الناس خدمة ونفعاً للحكومة هو الرجل الذي يأبى على كل حال أن يشغل وظائفها. أما أنا فلا أريد أن أرى كلية من كليات الإرسالية موجهة سعيها الأول وجاعلة غايتها الرئيسة من التعلم مجرد تخريج طلبة لإحراز الوظائف في مناصب الحكومة. بل أريد أن أرى المتخرج مستعداً للعمل باستقلال وبدون أقل اهتمام بأية مساعدة ينالها من راتب يتقاضاه من الحكومة. فإن أفضل الوطنيين شأناً هو من برع في الهندسة والصناعة والزراعة ومن سوء الحظ أن يقع في الأذهان سواء في أميركا وأوربا وأفريقية أن الرجل المتعلم يجب أن يجعل غايته الوحيدة اتخاذ وظيفة في خدمة الحكومة. إنني أرجو أن يتخرج من هذا المعهد العلمي وأمثاله عدد من أفضل الموظفين لخدمة الحكومة في أعمالها العسكرية والملكية ولكن إذا وافقت الأحوال فإن موظفي الحكومة بين ملكيين وعسكريين يكونون دائماً العدد الأقل من المتخرجين. لأن الغاية العظمى التي يجب أن ترمي إليها المعاهد العلمية هي تخريج رجال يستطيعون العمل بدون مساعدة ويستطيعون أيضاً مساعدة أنفسهم وغيرهم وهم على استقلال تام بدون أن تكون لهم أقل علاقة بالحكومة. وهذه مسألة أهتم بها كثيراً هنا اهتمامي بها في أميركا بالذات. . . . وفي الختام أقول لا تقعوا في الخطأ الذي يقع فيه الشبان منكم فتظنوا أن علمكم قد انتهى بخروجكم من المدرسة أو الكلية. بل اعلموا أنكم إنما أنجزتم نصف العلم فأنا الآن في الخمسين من عمري ولو أني توقفت عن تحسين حالي وزيادة معارفي لشعرت أن قد أوشك

أن ينتهي نفعي للجمهور. فعلى كل واحد منكم تخرج من مدرسته أن لا يقول الآن قد انتهى تعلمي فيف وسعي أن أكسل بل أريد أن تقولوا قد سهلوا لي وضع أساس قوي للتعليم الناضج وفيما أنا أقوم بأعمالي سأواصل تمرين نفسي وتعليمها فبدلاً من أن تمر بي الأعوام وأنا واقف في مكاني أراني أتقدم وأصير أكثر كفاءة للعمل وأوفر مقدرة على إنجاز الأعمال الحسنة. هذا ما قاله في هذه الخطبة وهو كما نراه يدعو إلى الاستقلال في التربية وقال في خطبة له في القاهرة ألقاها في الجامعة المصرية ابتدأها بالأسف لأنه ليس من أهل العلم ليتكلم بالعربية ولو كان منهم لما تكلم إلا بها: اجتنبوا الباطل والادعاء الفارغ كما تجتنبون التعصب الديني والجنسي والسياسي. إن في كليات أوربا وكليات بلادنا أموراً كثيرة تستفيدون منها ولكن فيها أموراً كثيرة يجب اجتنابها. فاقتبسوا عنها ما كان حسناً ولكن انتقدوه قبل اقتباسه حتى تثقوا بأنكم إنما تقتبسون ما هو الفضل والأصلح لكم. وأهم اجتناب من التقصيرات التعليمية اجتناب التقصيرات الأدبية. فإنكم ترسلون الطلبة إلى أوربا لكي يدرسوا فيها ويستعدوا لأتن يصيروا أساتذة. وهذا الاستعداد لازم إذ من الأمور الجوهرية أن تكون الجامعة مطلعة على أحسن ما يجري في معاهد أوربا وأمريكا العلمية ولكن ليعتن الشبان الذين يرسلون باقتباس كل ما هو حسن وجميل وواجب لأرقى أنواع التقدم الحديث وليجتنبوا كل ما كان غير ضروري في تمدن هذا العصر ولاسيما رذائل الأمم المتمدنة الحديثة ولتكن أذهانهم مفتوحة إذ من الخطأ العظيم إن تأبوا اقتباس ما رقي به الغرب في مرقاة القوة والعدول والعيشة الطاهرة وأن تقضوا به حاجاتكم ولكن من الخطأ العظيم أيضاً أن تقتبسوا ما كان رخيصاً أو مبتذلاً أو رديئاً. ليعلم الذين يرسلون إلى أوربا أن فيها أشياء كثيرة يجب أن يتعلموها وأخرى يجب أن يجتنبوها ويرفضوها فليأخذوا الحسن ولينبذوا القبيح. واعلموا أيها الخلان أنه إن كان عندي شيء أقوله لكم فذلك الشيء هو أن الأخلاق أهم من العقول بكثير وأنه يجب على كل جامعة عظيمة بالفعل أن تسعى في تربية الصفات التي تكون منها الأخلاق أكثر من تربية الصفات التي تقوم بها العقول المثقفة. نعم إنه ما من

رجل يبلغ الطبقة العليا بين الرجال إذا لم يكن ذكياً عاقلاً بنفسه ولم يكن مثقفاً بعقل وذكاءٍ إذ التثقيف لازم كالذكاء ولكن الذكاء وحده لا يجدي ما لم يسترشد بقلب مستقيم وما لم تكن وراءه قوة وشجاعة. فالآداب والحشمة والعيشة الطاهرة والشجاعة والمروءة واحترام الإنسان لنفسه كلها صفات أهم في تربية الأمم من ذكاء العقول فاجعلوا هذه الجامعة بحيث تساعد أمتكم على الارتقاء دوماً. واحذروا خصوصاً من نقص واحد في التربية الغربية فقد كثر الميل في مدارس الغرب العالية إلى تعليم الشبان حتى يكونوا رجال علم وأدب ورجال صناعات وموظفين في وظائف رسمية كأن لا تربية حقيقية إلا التربية العلمية ولذلك سررت غاية السرور بأنكم شرعتم في بناء المدارس الصناعية والزراعية في مصر إذ التربية العلمية نوع واحد من أنواع التربية المختلفة وليس من الحكمة أن يقتصر عليها وحدها سوى جزءٍ قليل من أهل كل البلاد. أما بقية الأمة فيجب أن تستبدلها بغيرها وتتمرن على أعمال أخرى. إن سمو الخديوي في أعماله الكثيرة التي تتناول جميع وجوه العيشة المصرية أظهر حكمة عالية بعد أن نظر وأدرك حاجات بلاده بما يظهره من الاهتمام بترقية زراعتها وتحسين الزرع والضرع. فهذه البلاد كسائر البلدان تحتاج إلى عدد معين من الرجال تؤهلهم تربيتهم الانقطاع إلى العلم والتعليم في المدارس أو تقلد مناصب الحكومة. ولكن ليس من مصلحة بلاد ما أن ينصرف إلى هذه الأمور سوى جزء صغير من ذوي العقول الكبيرة فيها. ويجب أيضاً ترقية الميل إلى الصنائع وتمرين الأهالي حتى يحسنوا الزراعة وينبغوا فيها كما ينبغ أمهر المحامين والموظفين وحتى يخرج منهم التجار والمهندسون وأصحاب الأعمال الأخرى التي لا غنى عنها في بلاد عظيمة متمدنة. إن وجود سياسي شعبي مستقيم بعيد النظر مفيد في كل بلاد ولكن فائدته تتوقف خصوصاً على استطاعته التعبير عن مشيئة أمته وللسياسي النصيب الأكبر في قيادتها وللتاجر والزارع والمهندس وأهل الفنون الأخرى النصيب الأوفر. كل أمة لا يكون لها من القادة والساسة والمحامون لم تدرك شأواً يستحق الذكر. فأساس الحياة الصحيحة في كل بلاد واجتماع إنما هو الرجال الذين يعملون الأعمال المختلفة من حراثة وصناعة وتجارة ولا

فرق أن يشتغلوا بأيديهم أو بعقولهم. وخير للإنسان أن يشتغل برأسه ويديه معاً فهؤلاء الذين يعملون الأعمال الكبرى في حياة المجموع وما المشتغلون بالعلوم والمعارف والسياسة والقانون وموظفو الحكومة سوى مكملين لهم. على أن الأمر المهم أن يقوم العمل على الأمانة والكفاءة مهما يكن مركز العامل من أكبر كبير إلى أحقر حقير. وما أقوله هنا على ضفاف النيل هو نفسه ما قلته على ضفاف أنهر الهدسون والميسيسيبي وكولومبيا. واذكروا دائماً أنه لا الفرد ولا الشعب يتربيان التربية الجوهرية بمجرد فعل يفعلانه وإنما يتربيان بطريقة تتعاقب فيها الأفعال كطريقة النمو فإنك لا تجعل الإنسان متربياً ومتعلماً تعلماً حقيقياً بمجرد إعطائه دروساً معينة وكذلك لا تجعل أمة صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها بمجرد إعطائها دستوراً على الورق. بل تربية الفرد وتعليمه حتى يصير صالحاً للعمل في العالم تستغرقان أعواماً طويلةً وهكذا تربية الأمة وإعدادها حتى تنجح في قضاء واجبات الحكومة الذاتية لا يتمان في عشر سنوات أو عشرين بل يلزم لهما أجيال متعاقبة. وخطب أيضاً تلميذات كليات البنات الأميركية في القاهرة فقال: لا تقوم أمة في العالم أبداً إذا لم تكن فيها المرأة قادرة على القيام بعملها بجدارة وأهلية مثل الرجل وأنه من العدل أن تفهم وهي في حداثة السن في مدرستها وتعلم كيف تؤدي أعمالها وأشغالها. إني أفتخر بكل مدرسة لا تقتصر على تلقين العلوم بل تعلم العمل ولا أشك في أن تلميذات هذه المدرسة متى صرن صاحبات بيوت يبرهن على اقتدارهن على أن يقمن فغي بيوتهن كما تقوم نساء الإرسالية في بيوت رجالهن. يسرني جداً في هذه المدرسة أنها تعمل على قاعدة التسامح الديني. يسرني جداً أن ما علمته من أن ثلث تلميذات هذه المدرسة مسلمات والثلثين مسيحيات وإسرائيليات ومن طوائف أخرى. أود الآن أن أتكلم عن المدارس عامة لما جئت إلى مصر من زمن بعيد لم تكن الحالة كما هي الآن إنني لا أقدر أن أصفها تماماً ولكن أتذكر منها ما يجعلني مع المقابلة أرى الآن النجاح والتقدم العظيم. إنني شاهدت الآن بيوتاً وترتيباً ومعيشة لم أشاهدها حينئذ. رأيت

في بيوت عديدة ما دلني على أن الزوجات والأمهات اللواتي فيها قد كن تلميذات في هذه المدرسة أو أنهن عاشرن معلماتها والمتعلمات فيها. إنني في كلامي عن المدارس لا أخصص جنساً منها بل أمتدح كل المدارس على اختلاف نزعاتها وصفاتها والقائمين بالعمل فيها ولا أقول أنه توجد مناظرة بين هذه المدارس أو أنني أكره المناظرة في هذا السبيل بل أقول أنني أرجو الخير لجميعها إذا كانت تعمل وهي ولا شك تعمل لخير المصريين. هذا ما قالع العلامة المشار إليه وهو كما تراه يرمي إلى الاستقلال وينفر الناس عن الاتكال إذ قد عز عليه أن يرى شبان الشرق يقلدون بعض شبان الغرب في مكاسبهم ومعايشهم فيصبحون عالة على الحكومات يرزقون من خزائنها مختارين في عملهم الراحة على السعي والكسل على المضاء والتضييق على الانطلاق والاتكال على الاستقلال فتخرب البلاد بإهمال أبنائها لها ويفتحون بأيديهم أبواب بيوتهم للدخلاء والغرباء وتترك خيرات الأرض لمن يقوم على تعهدها واستثمارها واستنباتها. ومن طبيعة المرء أن يحب العيش المضمون المريح وليس أحسن من الوظائف في هذا الباب تضمن معاش الإنسان في حياته وبعد مماته فيتدرج في سلسلة المراتب ولاسيما إذا كان على شيء من المعرفة المكتسبة والجربذة والدهاء ومعرفة المدخل والمخرج في نيل رضى رؤسائه بحيث يكون كالآلة في أيدي محركها ولا يطلب من الآلة إلا تنظيم سيرها فإن نطقت هي وسألت عن السبب كان للموظف ولاسيما إذا كان صغيراً أن يسأل عنه. يكفي في مضار التوظيف في الحكومات أنها تسلب الإرادة ومكن سلبت إراداته فنيت نفسه ومن فنيت نفسه كان كالميت لا يتحرك إلا إذا حرك. وأن أمة يرضى أرباب نوابغ الذكاء فيها لأنفسهم أن يكون بلا إرادة ولا شخصية ولا استقلال جديرة بالضعة والمقت والفقر والخمول وإذا حاز النبهاء هذه الصفات السيئة فأولى أن يكون حظ الخاملين أتعس. ولا رجاء لعامة ضعف خاصتها عن تعهد أمرها. ومن أكبر الدواعي في ترجع عمران البلاد العثمانية والمصرية أنه وقر في النفوس مع الزمن أن من لم يخدم الحكومة لا يعد من الأشراف ولا من أرباب المكانة والرأي والوجاهة. وإن كل مروءة وحكمة وعقل وعلم ورفعة وقف على الموظفين ومن لم يحتك

بالحكومة كان وضيعاً مهما رفعه مقامه وشرف آبائه وأجداده وجده ومضاؤه وحنكته ودربته ومعرفته وثروته. هذا الخلق من طبيعة الحكم الاستبدادي وكم رأينا بيوتاً خربت لأن أربابها عز عليهم ألا يجاوروا بيوتاً أخرى كانت منافسة لهم في التسابق إلى دواوين الحكومة فغفلوا عن تجارتهم وزراعتهم المعقولة المشروعة وتعلقوا بالتافهات من خدمة أرباب الحكم فما استفادوا بقديمهم ولا أحسنوا يلقف حديثهم. وأكثر ما يكون هذا الخلق ظهوراً الآن في سكان العواصم مثل الآستانة والقاهرة ودمشق وحلب فترى كثيرين من أهلها كالحلمة الطفيلية ينتظرون نقل أحدهم أو استقالته أو موته حتى يخلفوه في مكانه. إن أقوال المستر روزفلت حرية بأن يجعلها أهل هذه البلاد رائداً بين أيدي أعمالهم ومهمازاً لهم في أقولهم وأفعالهم. إن انصراف وجوه الناس كلهم نحو التوظف قد عطل في بلادنا القوى المعنوية والمادية وغادر القوم كإعجاز نخل خاوية تركوا موارد الثروة الحقيقية وراحوا زرافات يطرقون أبواب الحكومة وما هي بمغنية رعاياها كلهم وهم هم مادة حياتها وبغناها تغنى وبشقائهم تشقى. لا يتعلم المتعلم منا من أهل الطبقة العالية والمتوسطة والدنيا إلا ليكون ضابطاً أو قائمقاماً أو موظفاً في الأقلام أو من رجال القضاء وقليل جداً من يريدون أن يتعلموا ليستعدوا لإنجاح تجارتهم وزراعتهم وصناعتهم ولاسيما من أهل الإسلام الذين حصروا آمالهم في الحكومة في كل دور من أدوارهم ولذلك قلما رأينا ابن تاجر منا علمه أبوه على الأسلوب الجديد حتى يكون كتجار الإفرنج بتعليمه وتجاربه ويعود عليه القرش قرشين بدل أن يعود قرشه ببارة. طف مخازن القاهرة والآستانة وأزمير وسلانيك والإسكندرية وبيروت واسأل عن تراجم أربابها وأجناسها فهل ترى فيهم إلا إفرنجاً وغير مسلمين من أهل البلاد. وإذا وقع لك أن صادفت تاجراً مسلماً فيكون في الأكثر غريباً عن تلك المدينة أو أنه أحوج إلى التعلم في عمله من أصغر تاجر من أولئك التجار أرباب الأموال الطائلة والمعارف الواسعة. تجول في القرى وافحص المزارع هل تجد لمسلم وطني مزرعة نجحت بسعيه كما نجحت

مستعمرات الألمان في فلسطين والفرنسويين في البقاع ومستعمرات الطليان والرو والأرمن في مصر وإذا رأيت مسلماً أخصبت تربته على سبيل الاتفاق فابحث عن السبب تراه اهتدى إلى استخدام أناس ممن تربوا على غير طريقته وعرفوا في الأمور الدنيوية من أين تؤكل الكتف. وابحث عن صناعات البلاد هل تراها كل يوم إلا ترجع القهقرى لأن أربابها جمدوا على ما تعلموه من آبائهم ولم تحدثهم أنفسهم في تقليد الراقين من صناع الأيدي ولأنك لا تجد في الألف منهم واحداً يعرف ما يقتضي لنجاحه من الأسباب وأي الطرق سلكها الغربيون حتى بزوا بمصنوعاتهم مصنوعاتنا ويوشكوا أن يقضوا عليها قضاءً أبدياً. كل هذا نتيجة الكسل والاعتماد على الحكومة في الرزق والبلاد لا ترتقي إلا بالمسلمين في المملكة العثمانية لأنهم الجمهور الأعظم من السكان ومنهم جلُّ رجال القضاء والإدارة وأرباب الأملاك والأراضي ولا سبيل إلى ارتقائها إلا إذا ارتقوا هم أنفسهم إن لم يكن أكثر من مواطنيهم فلا أقل من أن يكونوا على مستواهم. ونظن هذا التصريح جارحاً ولكن هي الحقيقة لا تدليس فيها ولا دهان. إن كل ما كان الموظفون يجمعونه من دماء الأمة لم يثمر لهم الثمرة الجنية لأنه مال حرام أتاهم من غير طرقه المشروعة من كد واقتصاد فلم نر ثروة تسلسلت في أعقاب الموظفين إلى جيلين إلا نادراً وكثيراً ما كان يفتقر الموظفون في حياتهم لولا رواتب التقاعد رأيت أعظم الموظفين في السنة التي يضطرون فيها إلى ترك وظائفهم الفارغة أيديهم من مال يعتاشون به ولو كانت مشاهراتهم تعد بعشرات الليرات. هذا من حيث المال أما عن سلب حرية الموظفين فحدث ما شئت أن تحدث ولولا أن العادة تسهل الأشياء لقضي على أكثر الموظفين في سن الكهولة لكثرة ما يلقون من عنت رؤسائهم وتضييق وجداناتهم وكم من ذكاء ذهب سدى لأن صاحبه لم يستعمله بل حصره في دائرة ضيقة من عمل أصبح له شيئاً معروفاً في بضعة أشهر وقضى عمره وهو يبيض ويسود أو يحاسب في موضوع لا يكاد يتعداه. إن التوظف عمل من أعمال الناس لا يصح أن يترك وإلا فمن يدير شؤون البلاد ولكن لا يجب التهالك عليه كما نراه يتزايد اليوم بعد اليوم فالأم التي كانت تفرح ابنها فيما غبر

وتقول له إن شاء الله أراك باشا ينبغي لها أن تربيه مع أبيه على أن يكون بعد اليوم ممتازاً في حرفة من الحرف أو صناعة من الصناعات فقد جربت الأمة ورأت من إفلاسها ما لا ينكره عاقل لأنه لم يتعلم منها أحد إلا ليكون من المستخدمين. كأن خيرات الأرض والسماء لا تغدق إلا على من ينصب نفسه وجسمه للجري على إرادة غيره لينال بزعمه رزقاً هنياً ليناً. إنا والله مع احترامنا لكل موظف أمين يخدم الأمة بصدق ويقبض راتبه بعرق جبينه لنفضل عليه من يتجر السماد لتعمر به الأرض ومن يخرج الحجارة من المقالع ويعتمد على خالقه وعمله في معاشه على فرد ينسى كل شيءٍ ويتجرد عن كل شيءٍ ليقال عنه أنه موظف. نزل مصر بعض المتعلمين من السوريين منذ عهد الخديوي إسمعيل وقبله وأخذوا بما فيهم من النشاط والقوة والمعرفة يتولون الوظائف وينافسون فيها المصريين في بلدهم فبقيت أرزاقهم محدودة ولم يخرجوا عن كونهم مستخدمين يصرفون في آخر شهرهم كل ما قبضوه في أوله. ولما صعبت الحكومة المصرية وصول غير المصري إلى تولي الوظائف بالقانون الذي سنته على عهد الوزارة الرياضية حول السوريون وجلهم مسيحيون وجهتهم إلى التجارة والزراعة فمإذا كان من إثر ذلك عليهم؟ كان منه أن أصبحوا يتكلمون على عملهم وكدهم ويبتاعون الأطيان البائرة في القطر المصري فيعمرونها بنشاط ومعرفة ويتجرون بمصنوعات البلاد ومصنوعات أوربا ويتوفرون على تنمية أموالهم بطرق اقتصادية حتى لم يمض عقد أو عقدان من السنين إلا وقد أصبح أبناء سورية النازلون في مصر أغنياء بعد الحاجة موسعاً عليهم غب الضيق يملكون القصور الباذخة ويتمتعون بالعيش الخضال حتى قدر أحد العارفين ثروة السوريين في مصر بخمسين مليون جنيه أي بعشر مجموع ثروة مصر. ولو ظلوا راضين كلهم بالدون من المعاش لما جمعوا واحداً في المئة من هذه الثروة الطائلة ولا يكون ما يجمعونه إلا من التقتير والشح وكذلك فعل المسيحيون في البلاد العثمانية لما قطعوا آمالهم من الحكومة فباتت أعمال المعاش المهمة كما تقدم بأيديهم ودرت عليهم أخلاف السعادة ولو قلدهم سائر العثمانيين في هذه الخطة الشريفة لخلصنا من الإشكال الذي لم تبلغه أمة من

الأمم في سالف القرون والأجيال. قال الجاحظ في رسالته مدح التجار وذم عمل السلطان: وهذا الكلام لا ينجم من حشوة أباع السلطان فأما عليتهم ومصاصهم وذو البصائر والتمييز منهم ومن فيقة الفطنة وأرهقه التأديب وأرهبه طول التفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب فعرف العواقب وأحكم التفضيل وينطق (؟) غوامض التحصيل فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم ويحكمون لهم بسلامة الدين وطيب الطعمة ويعلمون أنهم أورع الناس أبداً وأهنأهم عيشاً وآمنهم سرباً لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم يرغب إليهم أهل الحاجات وينزع إليهم متلمسو البياعات لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم ولا تستعبدهم الضرع لمعاملاتهم وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه وقاربه بخدمته فإن أولئك لباسهم الذلة وشعارهم الملق وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة قد لبسها الرعب وألفها الذل وصحبها ترقب الاحتياج فهم مع هذا في تكدير وتنغيص خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب وتغيير الدول واعتراض حلول المحن فإن هي حلت بهم وكثيراً ما تحل فناهيك بهم محرومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله وبين ما قد نال الوفاء عنه والدعة وسلم من البوائق مع كثيرة الإثراء وقضاء اللذات من غير منة لأحد ولا منة يعتد بها وكم بين من هو نعم المفضلين خلي وبين من قد استرقه المعروف واستعبده الطمع ولزمه ثقل الصنيعة وطوق عنقه الامتنان واسترهن بتحمل الشكر الخ.

ملك الإنكليز وإمبراطور الهند

ملك الإنكليز وإمبراطور الهند إذا كان فراق هذه الدنيا تزداد صعوبته بزيادة إقبال الحظ وسعادة الطالع على المرء فالملك إدوارد السابع أولى الخلق بكراهة الموت وحب البقاء. وإن كان بلوغ الأماني وحصول الرغائب وازعاً عن التشبث بحبال الحياة ومفضياً به إلى القناعة من الدنيا والاكتفاء من لذائذها وحب الرحيل عنها فهذا العاهل الكبير أجدر الناس على الإطلاق بالملل من العمر والازدراء بأطايب الحياة. وذلك لأنه عاش عمراً مفعماً بالحوادث العظيمة ومملوءاً بكل ما اشتهته نفس وطاب به قلبه وتمتع بجميع ما تتطلبه الأميال البشرية وتهنأ به النفوس. فقد كان قبل أن ارتقى إلى العرش البريطاني في 22 كانون الثاني 1901 منصرفاً إلى ما يلذه من السياحات والمذاكرات والمشاغل الخاصة غير محتمل عناء السياسة ولا متعرض إلى ما لا يعنيه من شؤونها فكان يكثر من مخالطة العلماء ومفاوضتهم في الفنون التي أولع بها ويحضر الحفلات العلمية ويسمع الخطب ويقرأ المقالات في العلوم الطبيعية والجرائد السياسية ويقف على آراء الزعماء ومطالب الأحزاب وأغراضهم ويعي ذلك في صدره لينتفع به عند الحاجة ويتلهى بالخروج إلى الصيد في أوقات الفراغ والسياحة في أوربا وقد كان مولعاً بمدينة باريس وجعلها موضع طربه ومقر صفائه وأكثر من انتيابها واللهو فيها حتى اتهمه الناس بالمجون والطيش وحسبوا انبعاثه في الملذات وقيامه على صفاء العيش وخلو الذهن من المشاكل يجعله ضعيفاً في إدارة الشؤون السياسية قاصراً عن النهوض بأعباء الملك عند انتدابه إليه. درس العلوم العالية في جامعة كامبريدج وجامعة أكسفورد ونال منهما رتبة دكتور في الشرائع ووجهت إليه درجات علمية سامية من المدارس الكبرى في بريطانيا ومستعمراتها وعين قائداً في الجيش البري وأميرالاً في البحرية الإنكليزية وانتخبه الماسون رئيساً أعظم للمحفل الإنكليزي وكان غيوراً على هذه الجمعية مؤيداً لمبادئها حافظاً لقوانينها حتى صار له في العالم الماسوني مقام جليل ومنزلة سامية. وقد زار سورية سنة 1862 وجال في مدائنها وتفقد آثارها كما ساح في غيرها من بلاد الشرق والغرب مثل مصر والهند وكندا والولايات المتحدة وغيرها وتعرف بأكثر ملوك الدنيا قبل وصوله إلى العرش واضطلع بالسياسة الخارجية ودرس طبائع الأقاليم والشعوب وكان ينوب عن والدته الملكة فيكتوريا

في أكثر الاحتفالات الدولية والجمعيات العلمية والخيرية. أقضى إليه صولجان الملك بعد وفاة والدته فطرح اللهو جانباً وانتقل من دور التأهب إلى دور العمل وقد كان عندئذ الاضطراب سائداً والارتباك مستولياً في دوائر إنكلترا السياسية بسبب الحروب الناشئة في جنوبي أفريقية مع الترانسفال وإن كان النصر قد انبلج للإنكليز وتوثفوا من استيساق الأمر في تلك الناحية فعمد إلى سياسة اللين والرفق وغير خطة العنف التي كانت تنويها حكومته مع ذلك الشعب فأباح لهم الأمن والاستقرار في منازلهم ووزع عليهم الأرزاق والحقوق حتى أخلدوا إلى السكينة والهدوء ورتبت الشؤون في بلاد الراس على أسلوب مهد لإنكلترا ثبوت القدم على نصف قارة أفريقية من جهة الجنوب وإقامة دولة إنكليزية في تلك الأقاليم تضارع دولتها في الهند. ثم فكر بوسيلة للاطمئنان من جهة هذه الدولة الضخمة وإيصالها من منابع النيل إلى مصبه وما زال يدبر ويمهد حتى وفق إلى عقد الاتفاق الودي مع فرنسا وأطلق يد إنكلترا في وادي النيل فأصبح البأس الإنكليزي مشتملاً على القسم الأعظم من قارة أفريقية من الإسكندرية إلى رأس الرجاء الصالح. وهذا الاتفاق الذي ألف به إدوارد السابع بين الإنكليز والفرنسيس هو أعظم عمل قام به في حياته وأحسن ما استفادت منه إنكلترا في القرن الماضي خصوصاً وقد كان عقده أثناء الحرب اليابانية في الشرق الأقصى عندما كان يخشى من أن تسعى فرنسا بتأليف حزب كبير في أوربا لمناصرة روسيا وإضاعة انتصارات اليابان. في أيامه شذبت اليابان قتادة الروس في الشرق الأقصى، وكفكفوا غائلهم إلى الوراء في منشوريا وبلغت السياسة الإنكليزية في ذلك أوجها الأعلى بانكسار شوكة روسيا والطمأنينة من تعاظمها وتعاليها في الشرق فأمنت الهند منها وتحققت أن هذا القلق قد خمدت خمرته وبردت ثائرته فلا يتحرك قبل اواسط القرن العشرين. وفوز الساسة الإنكليزية في الشرق أقنع أوربا قاطبة أن إنكلترا هي صاحبة الكعب الأعلى والمقام الأول وهي الخصم الذي لا ينازع والقرن الذي لا يدافع فتزلفوا إليها بالمودة وتلطفوا بخطبة مودتها والتقرب منها حتى أن روسيا التي تحملت الضربة الكبرى اغتفرت لها الذنب وتناست ما للإنكليز من تعزيز شأن اليابان ومعاضدتهم في تلك الحرب ومالت

إلى مصانعتهم واسترضائهم والفضل الأكبر في هذا النفوذ كان للملك إدوارد الذي أدار دفة السياسة بيده واهتم بتدبير الأمور على هذا المنوال. ومن غرائب الاتفاق في السنوات التسع التي كان فيها هذا العاهل على العرش البريطانية لم يظهر أثنائها رجال بين ساسة الإنكليز مثل الذين ظهروا على عهد والدته بالاقتدار والحنكة والدراية فلم يكن لديه مثل غلادستون وسالسبوري وبيت وبكنسفليد وبلمترسون وغيرهم فكان الحمل عليه ثقيلاً والتبعة عظيمة وأخذ على عاتقه استنباط الأساليب واختراع المذاهب السياسية ومال إلى سياسة العلم والرفق أكثر ملوك أوربا ورؤساء حكوماتها وألف بين القلوب وأصفى الود لأعدائه وعقد معهم عقد المودة والإخلاص وصارت إنكلترا التي كانت بالتقاليد الأوربية القديمة مهتمة بالاعتزال والانفراد والكبرياء ومكروهة من الشعوب أقرب الأقوام مودة وأعلقهم بقلوب الأمم. فهو أول ملك إنكليزي زار قياصرة الروس في عاصمتهم وأول من انتزع سخائم البغض والعداوة الراسخة بين الإنكليز والفرنسيس. وقد تعاصى عليه استجلاب ابن أخته إمبراطور ألمانيا باللين والصداقة فألب عليه جيرانه وكاد يخرج إيطاليا من المحالفة الثلاثية يفرد الدولة الألمانية وحدها بين الممالك الأوربية. أما علاقة الملك إدوارد بدولتنا وسلطاننا فقد كانت في دور الاستبداد أقرب إلى العداء منها إلى الصداقة وقد صرح مراراً في مفاوضاته السياسية أنه يتمنى الخير للدولة العلية غير أنه بائس من إصلاحها ويحسبها عضواً فاسداً في العالم المتمدن لم يكن نصيراً للدولة الحميدية في نكباتها ولا أعانها في ويلاتها الكثيرة بل ربما شد في بعض مآزقها ومهد السبيل إلى ندور بعض الولايات عنها فكانت له اليد الطولى في استقلال كريت ورغب في إخراج مكدونيا من الوحدة العثمانية متبعاً بذلك سياسة غلادستون الذي كان الحزم بتقسيم الدولة العثمانية إلى ممالك صغيرة حرصاً على السلم العام. وصفاء بال العناصر من المشاكل الحميدية. ثم لما تبين الرشد من الغي وانتصر الحق على الباطل بظهور الأحرار على الأشرار وإعلان الدستور في البلاد العثمانية كان الملك إدوارد أشد الأجانب فرحاً بهذا الانقلاب وأكثرهم مظاهرة لحكومتنا الجديدة الحرة فوقف في وجه ألمانيا وعرقل دسائسها في البلقان

وصرف نفوذه وقوة دولته العظيمة في استمالة الرأي العام في أوربا لجهتنا وتسكين القلاقل في الروم إيلي وحال دون أمنية الأعداء الذين حاولوا إلحاق جزيرة كريت بحكومة اليونان وقد أثر عنه كلام كثير ومواقف متعددة نشط فيه حركتنا الدستورية وتمنى لنا الخير والإقبال وتوسم فينا التقدم والفلاح وكان أول من قر بين الملوك على خلع عبد الحميد بما هنأ عليه السلطان محمد رشاد من عبادات الود والإخلاص وقد اشتدت عزائم أحرارنا بمظاهراته لهم وتصريحه بالسرور والاستبشار بما قاموا به من النجدة والحمية. هذه أهم الأعمال السياسية التي قام بها الملك إدوارد السابع مدة ملكه القصيرة وجميعها عائدة على أمته بالخير والنجاح وعلى العالم بالفضل والصلاح حتى لقبه الأوربيون بصانع السلام واعترفوا أنه رئيس السلم والداعي إلى الوئام والوفاق وحامي الحرية والعدل ينضوي تحت رايته نحو مائة مليون من المسلمين في الهند وجزائها وأفريقية والسودان والصومال وغيرها وقد كان يحب هؤلاء المسلمين من رعاياه ويعدهم أخلص الشعوب لعرشه وأعلقهم به حباً وقد اسفوا على موته وحفظوا له ذكراً حميداً. لا يجادل أحد في أن الملك إدوارد كان أرحب الملوك صدراً وأوسعهم فضلاً ومن أكثرهم علماً وأعرضهم جاهاً وأسلمهم قلباً وأصفاهم وداً. وقد اشتد حزن شعبه عليه ولم يجد سبيلاً للعزاء سوى ما يؤملونه من أن ابنه وولي عهده ينسج على منواله ويحذوا حذوه في السياسة بهذه الأيام التي يشكو فيها الإنكليز من قحط الرجال في عواصمهم. ولد ابنه الملك جورج في 3 حزيران سنة 1865 فهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره وتبوأ التخت الإنكليزي منذ أسبوع وليس له من الشهرة وسعة الاطلاع ما كان لوالده قبل بلوغ الملك فهو أقرب للعلم منه إلى العروش وأشد ولعاً بالمطالعة والدرس منه بالتمرسات السياسية وقد صرف معظم حياته الماضية بين الكتب وفي الأندية العلمية وملاحظة المعاهد الخيرية. على أن القوم لا يتوقعون منه أعمالاً عظيمةً ويحسبون أن عقله الكبير الذي أجاد في مجال العلم والتفكير لا يقصر في ميدان السياسة والتدبير. فارس الخوري.

مصطلحات آلات الطرب وأغاني العرب

مصطلحات آلات الطرب وأغاني العرب كل من طالع كتاب الأغاني وبعض كتب الأدب القديمة التي تذكر بالغناء وأنواعه وآلات الطرب وملاهيه يقع على ألفاظ علمية اصطلاحية إذ نقر عنها في دواوينه اللغة ومعاجمها المطولة لا يرجع عنها إلا ما رجع بها حنين. ولقد حاول المستشرقون غير مرة البحث عنها في الكتب الأدبية التي ألفت في الصدور في الصدر الأول من زهو اللغة فلم يعثروا على ضالتهم كما لم يعثر عليها أدباء الشرق وعلماؤه. وقد وفق العاجز في هذه الآونة إلى وجود الضالة نبهاً في كتاب مخطوط كنت قد وصفته في المقتبس 28242_386 وعنوان البحث في كتابنا المذكور هو: العود ومصطلحاته وها نحن أولاء ننقل إلى الأدباء قراء المقتبس الأغر ما جاء من البحث تعميماً للفائدة ونتشاً لشوكة الجهل الناشبة في أذهاننا من هذا القبيل. قال صاحب الكتاب: العود ومصطلحاته في الصفحة 221 من المخطوط وما يليها: كثيراً ما كنت أطالع في كتاب الأغاني ألفاظاً في مصطلح الغناء وما كنت أتوصل إلى فهمها حتى ظفرت أخيراً برسالة لعبد القادر بن غيبي الحافظ المراغي المشهور بعلم الألحان فأخذت عنه ما يتعلق بفتح مغلق الكلام الخاص بهذا العلم فأقول: اعلم أن الألفاظ الواردة في كتاب الأغاني تتعلق كلها بالعود العربي فإذا علمت أن تركيب هذه الآلة هان عليك فهم ما أشكل عليك من مصطلحها فهذه الآلة طولها مثل عرضها مرة ونصفاً وغورها كنصف عرضها وعنقها كربع طولها في الراحة وثخن الورقة من خشب خفيف ووجهاً أصلب وتمد عليه أربعة أوتار أغلظها البم بحيث يكون غلظه مثل المثلث الذي يليه مرة وثلثاً. والمثلث إلى المثنى كذلك. والمثلث مثل الزير كذلك وقد ضبطوها بطاقات الحرير فقالوا: يجب أن يكون البم أربعاً وستين طاقةً. والمثلث ثمانية وأربعين والمثنى ستاً وثلاثين. والزير سبعة وعشرين. ويجعل رؤوسها من جهة العنق في ملاوٍ والأخرى كمشط فتتساوى أطوالها. ثم يقسم الورق أربعة أقسام طولاً ويشد على ثلاثة أرباعه مما يلي العنق وهذا دستان الخنصر. ثم ينقسم الآخر تسعة ويشد على تسعة مما يلي العنق وهذا دستان السبابة. ثم يقسم ما تحت دستان السبابة إلى المشط أتساعاً متساوية ويشد على التسع مما يلي المشط ويسمى دستان البنصر فيقع دون دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة. ثم يقسم الوتر من

دستان الخنصر مما يلي المشط ثمانية أقسام وضعف إليها جزءاً مثل أحدها مما بقي من الوتر وشده فهو دستان الوسطى ويكون وقوعه بين السبابة والبنصر. فهذه الاصطلاحات هي المصححة للنسب فإذا جذب وتر منها إلى غاية معلومة سمي الزير فيجذب المثنى على نسبة تليه في الانحطاط وهذا مع الجنس بالخنصر والضرب حتى يقع التساوي. فالزير كعنصر النار في الطبع والتأثير. والمثنى كالهواء والمثلث كالماء والبم كالتراب. فانطبق على الأخلاط والأمزجة أفراداً وتركيباً. ويقوى ما يكون على الأخلاط من سجايا وأمراض وأمكنة وأزمنة حتى قيل أن لطف النار مثل لطف الهواء مرة وثلثاً. وهكذا الهواء بالنسبة الماء والماء إلى التراب كما مر في الأوتار وأما وضعهم هذه الأوتار حتى جعلوها ثمانية فلما مر بك من أنها أول مكعب مجذور لأن الأرض كذلك فشاكلوا بذلك تسعة والقمر اثنا عشر وعطارد ثلاثة عشر والزهرة ستة عشر والشمس ثمانية عشر والمريخ أحد وعشرون ونصف والمشتري أربعة وعشرون وزحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع والثوابت ثلاثون ولأن التثمين داخل في أشياء كثيرة تضاعف المزاج والطبائع وبالجملة قد اختلف ميل طوائف العالم إلى مراتب الأعداد كما عشقت الصوفية الواحد فطوت الأشياء فيه والمجوس الاثنين والنصارى الثلاثة وأهل الطبائع الأربعة وأهل الأوفاق الخمسة والهندسة الستة والحكماء الفلكيون السبعة فالذهن من حيث هو يستحسن النسب حتى إذا برزت إلى الخارج زادت النفس بسطاً فإن الكتابة تحسن بمناسبة حروفها استقامة وتدويراً وغلظاً ورقة واستدارة ولو بمجرد الانحناء فقد قيل أن الحروف كلها وإن اختلفت بحسب الأمم لا تخرج عن خط مستقيم ومقوس منها مركب منهما. ثم قوانين الغناء لا تخرج عن ثمانية. (ثقيل أول) ورسمه: تنَّ تنَّ تنَّ. تنَّ تنَّ تنَّ وهو مركب من تسع نقرات هي ثلاث متواليات وواحدة كالسكون فخمس مطوية الأول. (وثقيل ثان) وهذا رسمه: تنَّ تنَّ تنَّ. تنَّ تنَّ تنْ وهو مركب من إحدى عشرة وهي ثلاث متواليات فواحدة ساكنة فثقيلة فأربع مطوية الأول (وخفيف الثقيل الثاني) ويسمى:

الماخوري وهذا رسمه: تنْ تنْ تنَّ تنْ تنْ تنَّ وهو مركب من ست وثلاث متواليات فسكون على ثلاث. (ورمل) ويسمى ثقيل الرمل وهذا رسمه: تنَّ تنْ تنْ. تنَّ تنْ تنْ وهو مركب من سبع وهي: ثقيلة أولى فمتواليتان فسكون وهكذا إلى الآخر (وخفيفه) وهذا رسمه: تنْ تنْ. تنْ تنْ. تنْ تنْ. تنْ تنْ وهو مركب من ثلاث نقرات متوالية متحركة (وخفيف الخفيف) ورسمه: تنْ تنْ تنْ. تنْ تنْ تنْ وهو مركب من نقرتين بينهما سكون قدر واحدة (وهزج) ورسمه: تنْ تنْ تنْ تنْ. تنْ تنْ تنْ تنْ وهو مركب من نقرة كالسكون ثم سكون قدر نقرة ثم بين كل اثنتين سكون فهذه أصول التراكيب وإنما تكرر بحسب استيفاء الأدوار. (فالمسلي) بالتشديد نسبة إلى المسلة من آلات الخياطة وتسمى هذه وما بعدها (الأجناس المركبة) وهي كثيرة ولكن تعود أصول منها على التاسع ثمانية: أحدها وهو المسلي وسمي بذلك لرقة مدخله وسلطه ويدل على اجتماع الأخلاط في الصدر والشراسيف والقلب وكمال الربو والدبيلات وامتلاء المعدة ويعرف به تحرير الخلط من باقي البسائط وهو سهل. وثانيها المائل وهو عكسه هيئة ودلالة. وثالثها الموجيُّ وهو المختلف الأجزاء تدريجاً بحيث يكون الأعظم الخنصر ويظهر اختلافه عرضاً ينشبه الأمواج ومنه اسمه وهو يدل على فرط الرطوبة والاستقاء الزقي واللحمي وذات الرئة وغلبة الأمراض البلغمية. ورابعها النمليّ سمي بذلك لدقته وضعف حركته ويقع في رابع الحارة فيدل على الموت في الخامس وبعد الموضع في وجود الحمي فيدل على الموت في الحادي عشر ويكون عن الدودي أيضاً فيرد عليه أيضاً فيرد عليه إذا انتعشت القوى بشرب ما يقوي القوى كدواءِ المسك والبادزهر وأنكر قوم انقلابه والصحيح ما قلناه وكل ما دل عليه الدودي دل عليه

النمليّ لكن أشد رداءةً وضعفاً في القوى. وخامسها الدودي وهو موجيّ ضعفت حركته بإسهال إن طال. وإلا فالمجفف من داخل كأخذ نحو الأفيون وما يكثف المزاج إلى فساد الرطوبات وقد يقع في البحارين لنقص الرطوبات ويكون ابتدؤه عند الموجي كما في النبضة. وسادسها المنشاري وهو ما اختلف أجزاؤه تواتراً وسرعة وصلابته عكسها وكان قرعه للأصابع متفاوت التساوي كأسنان المنشار يدل على فرط اليبس ويختص بذات الجنب والدبيلات والأورام. وسابعها المرتعش ويدل على الرعشة ونحوه من أمراض العصب بحسب مواقع أجزائه كما مر. وثامنها المتشنج ودلالته كالمنشاري مطلقاً في غير ما اختص أي ذات الجنب به. هذا واعلم أن اللحن يسمى مطلقاً إذا لم يكن مقيداً بلفظة تدل على وصفه كالثقيل والخفيف وخفيف الخفيف. ويذكر بعد اللحن موقع الإصبع الذي يبتدأ به ليهتدي إلى قراره فيقال مثلاً ثاني ثقيل مطلق أو ثاني بالوسطى أو بالخنصر في مجرى البنصر أو خفيف رمل بالبنصر أو خفيف ثقيل أول بالبنصر إلى غير ذلك وهو المعروف عند اصحاب هذا الفن بمواقع الأصابع في الدساتين. والله الموفق. اهـ نقله بحرفه. بغداد: ساتسنا.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات الذخيرة لابن بسام في مكتبة الأمة بباريز الجزء الأول من كتاب الذخيرة لابن بسام وهو بخط مغربي ناقص ورقه من أوله وآخر هذا الجزء ترجمة الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو في 263 ورقة من القطع الكبير حديث الخط فيما يظهر. وفيها السفر الثاني من كتاب الذخيرة منسوخ عن نسخة مكتبة أكسفورد وقدج ذكر فيها أن الخط المنقولة عنه رديء جداً ولذلك جاءت فيها أغلاط قد لا يهتدى إليها وأوله فصل في ذكر الأعيان المشاهير أرباب صناعة المنظوم والمنثور بحضرة اشبيلية ونواحيها وما يصاقبها ويدانيها من بلاد ساحل البحر والمحيط الرومي وهو الجانب الغربي من جزيرة الأندلس وإيراد ما بلغني من غرر أشعارهم ومستظرف أخبارهم مع ما يتعلق بها ويذكر بسببها. قال ابن بسام: وحضرة اشبيلية على قدم الدهر كانت قاعدة هذا الجانب الغربي من الجزيرة وقرارة الريامة (؟) ومركز الدول المتداولة ومنها شهدت البلاد وأبتت الجهاد عليها الفرسان كأنها العقبان وبهذا الأفق نزل جند حمص من المشرق وسميت حمص ولما كانت دار الأعزة والأكابر نابت فيها الخواطر وصارت مجمعاً لصوب العقول ودرب العلوم وميداني فرسان المنثور والمنظوم ولاسيما من أول المائة الخامسة من الهجرة حين فرح كل حزب بما لديه وغلب كل رأس على ما في يديه بعد الدولة الحامدية فأضحت أقطاب الجزيرة يومئذ كبني الأعيان وأهلها كما قال أخو بني عدوان: عذيري الحجي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض بكى بعضهم بعضاً ... فلم تبق على البعض فاشتمل هذا القطر الغربي لأول تلك المدة على بيتي حسب وجمهور في أدب مملكتان من لخم وتجيب حصرتا بلاده وأكثرتا رواده فأتاه العلم من كل فجِّ عميق وتبادره العلماء من بين ساق ومسبوق وكل ما نشأ من هذين البيتين أمير وأن إلى العلم أطلب وفي أهله ازغب والسلطان سوق يجلب إليه ما ينفق لديه حتى اجتمع في الجانب الغربي على ضيق أكنافه وتحيف الحذر قصه الله لأطرافه ما باهى الأقاليم العراقية وأنسى بلغاء الدولة الديلمية فقل ما رأيت فيه شايراً غير ماهر ولا شاعراً غير قاهر دعوا حر الكلام فلبى وأرادوه فما تأبى

وطريقتهم في الشعر الطريقة المثلى التي هي على طريقة البحتري في السلاسة والمتانة والعذوبة والرصانة وأنا أورد في هذا القسم بعض ما انتهى إليَّ من خير كلامهم في نثرهم ونظامهم مشوباً ذلك كله بفنون ومعارف من أخبار يحسن الوقوف عليها على أن الذي بلغني من شعر قطر ثماد ونقطة من قطر ولقد فاتني كثير من الكتاب من أعيان الشعراء ممن كانوا في ذلك التاريخ منهم من لم أسمع بذكره ومنهم من لم تسمح نفسي بإثبات ما بلغني من شعره وربما أجريت ذكر أحدهم غير مبوب عليه ولا مشيراً إليه إما لشيءٍ أجاد فيه وإما أن يتعلق ذكره بذكر من أجريه وقد أبدى لذكر الرجل لمكانه من الإحسان لا لتقدمه من الزمان أو لبعض ما يدعو إليه القول من نسق خبر أو موجب نظر بأول ما ابتدأت به من أهل حمص آل عباد لثباته ذكرهم مع جودة شعرهم اهـ. وهنا أورد ابن بسام ترجمة القاضي أبي القاسم محمد بن عباد ثم أورد ترجمة المعتضد بالله عباد بن ذي الوزارتين القاضي أبي القاسم محمد بن عباد قال فيه: ثم أفضى الأمر إلى عباد ابنه سنة 33 وتسمى أولاً بفخر الدولة ثم بالمعتضد قطب رحى الفتنة ومنتهى غاية المحنة من رجل لمك يثبت له قائم ولا حصيد ولا سلم عليه قريب ولا بعيد جبار أبرم الأمور وهو متناقض وهو أسد فرس الطلق وهو رابض متهور تتحاماه الدهمات وجهان (؟) لا تأمنه الكماة متأسف اهتدى ومنبت قطع فما أبقى ثأر والناس حرب وكل شيءٍ عليه ألب فكفى أقرانهم وهم غير واحد وضبط شانه بين قائم وقاعد حتى طالت يده واتسعت بلده وكثر عديده وعدده افتتح أمره بقتل وزير أبيه حبيب المذكور طعنه في تغرة الأيام ملك بها كفه وجباراً من جبابرة الأنام شرد به من خلفه فاستمر يفري ويخلق وأخذ يجمع ويفرق له في كل ناحية ميدان وعلى كل رابية خوان ضربه سم لا يبطي وسهم لا يخطي وسلمه شر غير المأمون ومتاع إلى أدنى حين. . . . وقد أطال في ترجمته وما وقع عليه من المحنة وما قاله وقيل فيه من الأشعار ثم أورد باباً يشتمل على طائفة من الوزراء والأعيان ممن كان في دولة المعتضد من أرباب هذا الشأن واجتلاب ملح وطرف لشعراء كانوا بذلك الأوان مع ما يتعلق بها ويذكر بسببها فترجم أبا حفص عمر بن حسن الهوزني. وأبا الوليد الباجي وأبا عمر بن مسلمة وأبا الوليد إسماعيل بن محمد الملقب بحبيب وأبا الحسن علي بن حصن الاشبيلي وأبا عمرو بن الباجي وأتى

على جملة من شعر أبي الأصبغ بن عبد العزيز وترجم الوزير أبا العلاء زهير بن عبد الملك بن زهير الإيادي. والوزير أبا عبيدة البكري وذا الوزارتين الفقيه الكاتب أبا بكر بن سليمان المعروف بابن القصيرة وقال فيه وهو في وقتنا جمهور البراعة وبقية أئمة الصناعة وعذب اللسان العربي وسويداء قلب هذا الإقليم الغربي بحر علم لا يبرح وجبل حلم لا يزحزح من بعض كور اشبيلية نشأ في دولة المعتضد شهر بالعفاف فلزمه ويسر للعلم فعلمه وعلمه وكانت له نفس تأبى غلا مزاحمة الأعلام والخروج على الأيام وهو دائماً يغض عنانها فتجمح ويطمن من غلوائها فتتطاول وتطمح ممتنعاً من خدمة السلطان قاعداً بنفسه عن مر تبة نظرائه من الأعيان بين عفة تزهده وهيبة من المعتضد تقعده حتى فطن له ذا الوزارتين بن زيدون فلم يزل يصرح قذى العطالة عن مائة ويعلي رماد تلك الهيبة عن نار ذكائه إلى أن نبه عليه المعتضد آخر دولته فتصرف فيها قليلاً على تقية من تلك البقية. وتقشف من ذلك التعفف إلى أن أفضى الأمر إلى المعتمد وأخيه وقد كان في أيام أبيه من بعض يداخله ويصافيه فحياه من علاه بنصيب وسقاه من نداه ببحر لا بذنوب وأنهضه إلى مثنى الوزارة وأكثر ما عول عليه في السفارة فسفر غير ما مرة بينه وبين خلفائه من ملوك الطوائف بافقتى (؟) حتى انصرفت وجوه آمالهم إلى أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين رحمه الله فسفر ذو الوزارتين بينهما تكراراً فكثر صوابه اشتهر في ذات الله مجيئه وذهابه واضطر المعتمد إليه قريباً من آخر دولته فعظمت حاله واتسع مجاله واشتهر على الدولة استيلاء لا قصر عنه إشكاله إلى أن كان من خلعه ما كان فكان ذو الوزارتين أحد من حرب وفي جملة من نكب وأقام على تلك الحال نحواً من ثلثة أحوال حتى تذكره أمير المسلمين بما كان عهد من حسن خليفته وسراءِ طريقته وقد حدثت أن سبب ذلك الذكر كتاب كان ورد من صاحب مصر لم يكن من الجواب عليه والإنصاف منه وتفقد يومئذ أعلام المشاهير فكان ذو الوزارتين أقرب مذكور فاستدعاه لحينه وولاه كتبة دواوينه حتى أنساه زمانه اهـ. ثم ترجم الوزير الفقيه الكاتب أبا القاسم محمد بن عبد الله بن الجد والوزير الكاتب أبا محمد عبد الغفور وذا الوزارتين أبا بكر محمد بن عمار والوزير الكاتب أبا الوليد بن المصيصي والوزير الأديب أبا القاسم بن مزرقان والوزير الكاتب أبا الحسين بن محمد ابن الجد

والأديب أبا الحسن البكري والكاتب صالح الشنتمري والوزير أبا الحاكم عمرو بن مدحج وأبا الوليد بن عمه ابني حزم والأديب أبا بكر بن يحيى بن بقى. ثم أورد فصلاً يشتمل على ذكر الكتاب والوزراء والأعيان والأدباء الشعراء ممن نشأ في الدولة المؤرخة بحضرة بطليموس وسائر بلاد المحيط الرومي والأندلس وذكر منهم المظفر أبا بكر محمد بن عبد الله بن مسامة المعروف بابن الأفطس والوزير الكاتب أبا عبد الله محمد بن أيمن والوزير الكاتب أبا محمد بن عبدون والأديب أبا جعفر محمد عبد الله بن هررة القيسي الأعمى القسطيلي والوزير الكاتب أبا بكر عبد العزيز بن سعيد البطليموسي والوزير الكاتب أبا بكر بن قومان والأديب أبا زيد بن عبد الرحمن بتن مقانا الأشبوني والشيخ أبا الحسن علي بن إسماعيل القوشي الأشبولي والأديب أبا عبد الله محمد بن الفيق وذا الوزارتين أبا محمد بن هود والشيخ الأديب ابن عمر بن فتح بن زلوحنة والأديب أبا عمر يوسف بن كوثر الشرتيني والأديب أبا الوليد المعروف بالنحلي والوزير الكاتب أبا بكر محمد بن سوار الأشبوني والأديب أبا محمد بن عبد الله بن صارة الشنتريني. وهذا الجزء في 265 ورقة والجزء الثالث من هذا السفر منقول عن نسخة مغربية محفوظة في مكتبة غوتا وأوله ذكر الجانب الشرقي من جزيرة الأندلس وتسمية من نجم في أفقه من رجال النظم والنثر والرياسة بدأه بترجمة أبا عمر القسطلي ثم ذكر ذا الوزارتين أبي عبد الله الطاهر وذا الوزارتين أبي عامر بن الفرج وذا الوزارتين القائد أبي عيسى ابن لبون وذا الرياستين أبا مروان بن عبد الملك بن رزين والوزير الكاتب أبا محمد عبد الله بن الفقيه أبي عمر بن عبد البر النمري والوزير الكاتب أبا غامر بن التاكرتي والوزير الكاتب أبا المظفر عبد الرحمن بن ساحر المعروف بأبي الدبايج والأديب أبا الربيع سليمان بن مهران السرقسطي والأديب الأستاذ النحوي أبي عبد الله بن خلصة الضرير والأديب أبا مروان بن غصن الحجازي والأديب أبا علي إدريس بن اليملي والوزير الكاتب أبا الإصبع بن أرقم والكاتب أبا المظفر بن مثنى وهو عبد الرحمن بن أحمد بن صيعون والوزير الكاتب أبا عمر بن القلاس والوزير الكاتب أبا جعفر بن جرح والوزير الكاتب أبا الفضل بن حداي الإسلامي والأديب الكاتب أبا الربيع سليمان بن القضاعي والأديب أبا بكر محمد بن عيسى الداني والأديب أبا جعفر أحمد بن الدودين البلنسي والكاتب أبا جعفر بن أحمد

مردانية والأديب الكاتب أبا الخطاب عمر بن أحمد بن عبد الله بن غيطون التجيبي الطليطلي وذا الوزارتين الكاتب أبا عبد الله ابن أبي الخصال قال فيه: حامل لواء النباهة بالروية والبداهة مع منظر ووقار وشيم كصفو العقار ومقول أمضى من ذي الفقار وله أدب بحره يزخر ومذهب يباهي ويفخر وهو إن كان خامل المنشأ نازله لم تنزله منازله ولا فرع للعلاء هضاباً ولا ارتشف للسناء رضاباً فقد تميز بنفسه وتخير من جنسه والذي ألحقه بالمجد وأوقعه بالمكان النجد ذكاء طبع عليه طبعه ونجم في سرية النباهة. . . . . ثم ذكر الكاتب أبا عبد الله محمد بن أبي الخصال والوزير أبا محمد بن القاسم والأديب أبا تمام غالب الملقب بالحجام وهنا انتهى الجزء الثالث وهو في 233 ورقة وجاء في آخره أنه يتلوه في أول السفر الذي يليه في ذكر الحديث أبو عامر بن الأصيل. وفي هذه الأجزاء من الشعر الغريب والنثر المطرب ما هو ديوان الأدب وناهيك بسجعات ابن بسام التي هي أبهى من سجع الحمام بل وناهيك ما يقع عليه اختياره من نظيم الكلام ونثاره ومن هذه الأجزاء يؤخذ ديوان إنشاء في السلطانيات والأخوانيات والتهنئات والتعزيات والشفاعات والوسائل والجهاد وفي مقاصد شتى. فيا حبذا لو تصدى لطبعه أحد أئمة المشرقيات في الغرب ليخدم بذلك التاريخ والأدب العربي. وفي مكتبة هذه المجلة النصف الأول من هذا الكتاب وهو بخط بمغربي ينفع في المعارضة إذا كتب الطبع للكتاب ونحن نقدمه لمن يتصدى لطبعه مع الشكر وقد اقتبسنا منه عدة تراجم في مجلدات المقتبس الماضية مع بعض الصعوبة لغلبة التحريف عليه. ديوان أحمد نسيم أهدانا هذا الشاعر المصري الجزئين الأولين من ديوانه وفيهما قصائد في أغراض شتى وبعضها اجتماعي وهاك نموذجاً من شعره قال في الشرق ومصر: تداعت رواسي الشرق فانهال جوانبه ... وما همَّ حتى أقعدته نوائبه تحاربه الأعداء من كل جانب ... ولم يكفهم أن الزمان يحاربه تحد على هاماته شفراته ... وترهف فوق الناصيات قواضبه وحسبك أن الشرق في كل أمة ... مآثره مشهورة ومناقبه تخرج منه الفاتحون لأرضه ... فما جاءت بطحاؤه وسباسبه

وكان عريناً لانضمام ليوثه ... وكان كناساً لاتهان رباربه وكان قديماً مهبط المجد والعلى ... ومصعد غطريف ترجى مواهبه وكان طليقاً أزهر اللون وجهه ... وللغرب وجه أصفر اللون شاحبه له النصر والتأييد في كل غارة ... إذا زحفت يوم الصدام كتائبه وكم بات مختالاً بكل مملك ... تسير على هام العباد مواكبه وكم صال والهيجاء قان نجيعها ... بكل صقيل لا تفل مضاربه إذا ما جرى وثباً إلى مطلع النهى ... فلا من يجاريه ولا من يواثبه فيا شرق تأساءً إذا ناخ كلكل ... من الغرب إذ مدت إليك مخالبه تقدمك الغرب المجد فلم يدع ... مكاناً تدانيه العلى وتقاربه هرمت فلم تقدر على الدأب فانثنى ... يشاطرك الدنيا وما طر شاربه ومنة عجب طفل على الثدي مرضع ... يطاول شيخاً حنكته تجاربه جنحت إلى حب الخمول ولم تسر ... على سنن يرجو الهداية جائبه * * * صدقتك ما في الشرق إلا شراذم ... تخور خوار الثور آذاه ضاربه وما فيهم إلا مضل مموّهٌ ... على القوم حتى أخطأت الرأي صائبه وفي كل يوم يبتلي بمناهض ... تغير على عرش الملوك عصائبه * * * أعاتب قومي والعتاب تودد ... إذا لم أجد بين الورى من أعاتبه إلى مَ ضياع العمر في غير عائد ... بجدوى ولم يرجع من العمر ذاهبه يصاب الفتى بالحادثات تحيطه ... وأول من يسعى إليها أقاربه معائب لا تحصى إذا ما عددتها ... ورحم الفتى أن لا تعد معائبه خمول ولهو وانحطاط وذلة ... وعذر ووعد لا يؤنب كاذبه وكم ماكر ينساب أرقم مكره ... وآخر مشاءٍ تدب عقاربه يمينك فانظر نظرة المرءِ خلسة ... تجد بائساً ملقى على الضيم غاربه أرى ناظر الشرقي يرنو من الأسى ... رنو امرئٍ ضاقت عليه مذاهبه

ومما يزيد النفس بؤساً وحسرةً ... تربصها خطباً تبيت تراقيه وما الشرق إلا موطناً عبثت به ... على غرة أبناؤه وأجانبه أضاعوا حمى يجري النضار بأرضه ... وتهمي عليه باللجين سحائبه كذا الشرق في أطواره طول عمره ... غرائبه ما تنقضي وعجائبه * * * رثيتك يا أرض الفراعنة الاءُلى ... قضوا في بلوغ المجد ما ألحق واجبه ورثت بفضل العلم عزاً ممتعاً ... فما بات إلا وابن غيرك غاصبه ولا خير في عرش من الغرب ربه ... ولا خير في مال من الغرب كاسبه أفيقي فما في الجهل إلا مذلة ... ولا العلم إلا سؤدد عزَّ صاحبه أنيري ظلام الشرق بعد انسداله ... فعند طلوع الشمس تجلي غياهبه ولا تقنطي من رحمة الله مرة ... إذا شيم من برق انخذالك خالبه امثلي ترين الغرب ياقظاً شاخصاً ... إلى الشرق يرجو أن تسوء عواقبه وددت بلادي أن تسود بنفسها ... لأكتب فيها خير ما أنا كاتبه وقال من قصيدة: بعض الشيوخ ولا أقول جميعهم ... تخذوا التعنت والعناد لزاما رثت عواطفهم وبات ضميرهم ... خلقاً وحبل العلم صار رماماً ألفوا الجمود وكل شيخ همه ... أن يلبسوه عمامة ووساماً يمشون فوق الأرض أعرض أهلها ... جبباً وأطول خلقها أكماماً فروا من العلم الحديث وحسبهم ... جهلاً بأن عدوا العلوم حراماً حب الجبان النفس خلقه لقي ... خلف المعامع يؤثر الإحجاما وهم الذين إذا تضافر جمعهم ... هزوا العروش وأسقطوا الأعلاما والله لو شهروا سلاح علومهم ... قهروا الأسود وحاصروا الآجاما ولربما غلب الضعيف بعلمه ... جيشاً تموج كالخصم لهاما قد حرموا علم الحساب وساءهم ... أن يعرفوا الأعداد والأرقاما قنعوا بتجويد القراءة واكتفوا ... مذ أتقنوا التنوين والإدغاما

سلهم عن الأهرام تسمع قولهم ... سيف بن ذي يزن بنى الأهراما سلهم عن اليابان تعرف أنها ... جبل خصيب ينبت الأقزاما سلهم عن الميكاد تعرف أنهم ... ملك غزا كسرى وحارب حاما سلهم عن الأمزون تعرف أنه ... جزراً تحيط مراكشاً وسياما إلى أن قال: يا نصف أميين كيف قرأتم ... ونسيتم أن تعلموا الأقلاما هل في اللغات نقيصة إن شئتم ... أن تفحموا أربابها الأعجاما وهم الذين كما نراهم أتقنوا ... لغة النبي كتابة وكلاما مستشرق حفظ الكتاب وآخر ... أخذ الشرائع عنه والأحكاما يكفي رجال الغرب كل عجيبة ... تعيي الظنون وتعجز الأوهاما بلغوا المطار وسوف تسمع أنهم ... جازوا الهواء وخاطبوا الأجراما عابوا جمود المسلمين وصرحوا ... أن لا نعد مع الأنام أناما عشقوا الحياة وما عشقنا بعدهم ... إلا جموداً يشبه الإعداما نمنا وباتوا ساهدين وفاتنا ... حب الجمود على الضلال نياما متعنتين على الدخيل فإن يضيئ ... نخرج إليه من الضياء ظلاما حتى يظن الدين دين تعنت ... أو دين قوم أشبهوا الأنعاما تقرير المجمع العلمي السميثوني عن سنة 1907 1907 //// من أهم الجمعيات العلمية في أميركا الشمالية هذه الجمعية التي جعلت مقرها في واشنطون وأمامنا الآن تقريرها السنوي عن سنة 1907 وقد وقع في 726 صفحة وفيه عدة مقالات وأبحاث مفيدة بالإنكليزية في الفلك وطبقات الأرض والظواهر الجوية والطبيعيات والكيمياء والمعادن أو التعدين والنبات والحيوان وعلم البشر حوت 27 مبحثاً في الأغراض المشار إليها مع بعض الصور والرسوم الأنيقة فمقالة في آلة التوربين البخارية على اليابسة والماء ومقالة في ارتقاء التركيب الميكانيكي في الطباعة وفي بعض حقائق عن الكهرباء وأبحاث جديدة في التلغراف اللاسلكي وخاصيات الأنوار الكهربائية المنوعة

وتقدم صناعة التعدين الكهربائية وتقدم جديد في التصوير الشمسي الملون والبربر في أفريقية الجنوبية قبل نزول الأوربيين فيها وآلة رخيصة الثمن لتحصيل علم الفلك وعلم الطبقات داخل الأرض وبحر سلطون والطرق المائية في البلاد وارتقاء علم الظواهر الجوية مثال لارتقاء العلم العام ومنزلة علم النبات القديم في وقتنا الحاضر وحدائق الحيوانات في بريطانيا والبلجيك وهولاندة وعلم الحيوان الأصلي تقدمه وغايته والتاريخ العام لذوات الثدي البحرية وشعوب إقليم البحر المتوسط واليابان قبل التاريخ وأصل الحضارة المصرية والمضخة النارية وأصل أبجدية الكنعانيين ومسألة تعمية الألوان ومقالة في الدرن وأخرى في ترجمة مارسلن بيرثيلون وغير ذلك. والتقرير كالتقارير السابقة في الغاية من حيث الطبع والوضع فمتى يكون للشرق العربي مثل هذه الجمعية التي تحيي العلوم المادية ونخلص من دور الأدبيات والخيالات. تقرير المجمع العلمي السميثوني عن سنة 1908 1908 هذا التقرير من أكبر التقارير السالف حجماً وأغزر مادة ويبدو عليه النمو الغريب وتتبين منه ارتقاء هذه الجمعية الراقية ومباحثه تدور كطريدة على العلوم المادية والطبيعية فمن مقالاته الموقعة بتواقيع أهل هذا الشأن مقالة في المناطيد الحربية وأخرى في التلغراف اللاسلكي وفي التصوير الشمسي والحاكي (الفونوغراف) والمادة والأثير وارتقاء الكيمياء العامة والطبيعة في الأربعين سنة الأخيرة وارتقاء القذائف في عشرين سنة ومباحث حديثة في تكوين الكون وتغيرات المناخ وأسبابها وأورانوس علم طبقات الأرض وفي معارفنا الحاضرة عن الأرض ورحلات إلى القطب الجنوبي من سنة 1889 وبعض مناظر جيولوجية من النيل وفي الوراثة وفصائل النبات وصبار المكسيك وسمك إنكلر وأنواعه وطيور الهند ونشوء الفيل والحمة الدورية في اليونان وكارل فون ليتني أحد علماء الجيولوجية وترجمة اللورد كلفن وأعمال هنري ركويرل. وجميع هذه الم قالات في الغية من التحقيق ويدخل هذا المجلد في 800 صفحة جمعت فأوعت فيه وفيه كمجلدات السنين السابقة قائمة بأعمال الجمعية والغرض منها ودخلها وخرجها لازال التوفيق حليف المجامع العلمية على اختلاف لغاتها وأغراضها.

الريحانيات طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1910 (ص228). قليل في كتابنا من خلصوا من ربقة التقليد وقليل فيهم من يكتب ليفيد. وأمين أفندي الريحاني صاحب كتاب الريحانيات هو من أمثل كتابنا وشعرائنا نجا من التقليد ووقف نفسه على نشر ما يفيد واشتهر بأنه العربي الذي فاق الإنكليز في البيان الإنكليزي فيكتب وينظم كأفضل أدبائهم ومصنفه رباعيات أبي العلاء الذي ترجمه شعراً إلى الإنكليزية ومقالاته في المجالات الأميركية والإنكليزية أدل دليل على تبريزه ولكنه على هذه المزية الممدوحة في منافسة أفاضل الإنكليز لم تفته منافسة كتاب العربية فكتب ونشر عدة أبحاث ومقالات في الجرائد العربية في أميركا ومصر والشام كما طبع من قلمه كتابين أحدهما المحالفة الثلاثية والآخر المكاري والكاهن وجميع ما كتبه كتبه لا ليقال أنه كتب بل لنفع قراء العربية وقد طبع هذه الآونة الجزء الأول من مقالاته التي نشرها في الجرائد من قلمه. صدر كتابه بشذرة من خطه جاء فيها وهو ما ينم عن الغرض من نشر الكتاب جرد نفسك ولو بضع ساعات من أطمار الأجيال وتعال نحج معاً. ومتى وصلت إلى كع بة الحقيقة وأنت في مئزر الحج تجد هناك أثوابك الموروثة وأثواباً أخرى جديدة إلى جانبها فأما أنك تعود إلى ما كنت عليه فتلبس ما ألفته وتسير في سبيلك وإما أن تعتاض عنه بثوب ليس بفخيم ولكن من الرقع والفتوق سليم. وفي كل حال لا أنسى أنك أكلت من جفنتي وشربت من أبريقي ونمت في خيمتي. . . . . في الكتاب عدة مقالات أكثرها ما كتبه تحت سماء أميركا فرشحت الكتابة من أفكار محيطها وصدرت كأنها غربية لا شرقية وأكثرها من نمط الشعر المنثور كمقالة وادي الفريكة التي وصف فيها الكاتب قريته وما فيها من مظاهر الطبيعة البهيجة فأجاد من وراء الغاية ومقالات الكتاب وأنوار الأفكار مناهج الحياة الصلوة جهل الإنسان لحكمة الخالق عظمة رأس السنة من على جسر بروكلن فوق سطوح نويورك الفقر وبنوه التمدن الحديث الضجيج والضوضاء روح هذا الزمان شهداء العلم الحرب التي تهمني الخيانة والخناس خطاب المسيح بين اللاهوتيين والعلماء ما هي السعادة بيتان للمتنبي مكروب السعادة

المصيبة في التعزية والتعزية في المصيبة الرداء الأسود فلتر جان جاك روسو وليم غارسون تولستوي ابن سهل الأندلسي الثورة الإفرنسية بذور للزراعين وغيرها. والكتاب تتدفق حرية الفكر من أطرافه ورقة الإحساس من سطوره وبعد النظر في مراميه وكله معان فلسفية في قوالب عصرية وروح شفافة في شعور جديد وقد قرأنا مرات بعض المقالات ونحن الآن نحب أن نعيد تلاوتها إذا قل في أرباب الأقلام مثل هذا النفس في إصلاح الأفكار والتلطف في إبلاغ العقول الجامدة محاسن الحضارة المدهشة والتجديد المفيد. وما أحلى قول الكاتب من مقالة في جسر بروكلين وهو جسر نويورك يخاطب تمثال الحرية قائلاً: متى يا ترى تصير الحرية مثل هذا القمر فتوقد مصباحها لا في الغرب فقط بل في الشرق وفي الجنوب وفي الشمال_في العالم بأسره. متى تحولين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيدور معه حول الأرض ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟ أيتأتى أن يرى المستقبل تمثالاً للحرية بجانب الأهرام؟ أيمكن أن نرى لك في بحر الروم مثيلاً؟ أيمكن أن يولد لك أخوات في الدردنيل وفي بحر الهند وفي خليج الصين؟ ايتها الحرية متى تدورين مع البدر لتنيري ظلمات الشعوب المقيدة والأمم المستعبدة وأنت أيتها البواخر المقلة إلى أوربا ومصر وعدن والهند منسوجات نواكلند وقطن فرجينا وحديد بنسلفانيا وقمح تكساس وخشب فرمنت خذي معك إلى بحر الروم وبحر الهند والبحر المتوسط بعض موجات من هذه الأمواج التي تغسل أبداً تمثال الحرية. خذي معك ولو زجاجة صغير من الماء المقدس. ورشي منها سواحل مصر وسورية وفلسطين وأرمينية والأناضول وكل جزيرة تمرين بها وكل بلاد تقصدينها وكل شعب تحيي سواريك قباب كنائسه ومآذن جوامعه. احملي سلام هذه الآلهة التي تنير الآن طريقك في الخروج من العالم الجديد وتوكل بها مالها في السماء من شقيقات باهرات. احملي إلى الشرق شيئاً من نشاط الغرب وعودي إلى الغرب بشيء من تقاعد الشرق. احملي إلى الهند بالة من حكمة الأميركان العملية وعودي إلى نويرك ببضعة أكياس من بذور الفلسفة الهندية اقذفي على مصر وسورية بفيض من

ثمار العلوم الهندسية واقفلي إلى هذه البلاد بفيض من المكارم العربية. أيتها البواخر الآيبة حيي عن جسر بروكلن خراب تدمر وقلع بعلبك واقرأي أهرام مصر سلام هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء. سيري أيتها السفن بسلام وارجعي بسلام. وقد شاهدت الآن ثلاثة مناظر عظيمة لا أقدر أن أنساها حياتي. لا أتناساها لأنها عندي أشبه برموز جميلة لدعائم الحياة الروحية الثلاث وهي مراحل في رحلتي الفكرية التي باشرتها منذ خمس سنين_أو من حين ولدت. نعم إني طفل في العالم الروحي إني سائح في مروج النفس وأوديتها أمامي مسافة طويلة يجب أن اجتازها وتحتي هوة هائلة يجب أن أسبر أغوارها وفوقي فضاء غير متناه فينبغي لي أن أتمتع بجماله وحولي من المروج والجبال والأنهر والبحار ما يشغل معظم وقتي لو عشت ألف عام. أما المناظر الثلاثة التي تمتع بها طرفي حتى الآن فقد تركت أثراً عظيماً في نفسي فهي لبنان وسواحله من ذروة جبل صنين وباريز من على برج إيفل ونويرك من الليل في منتصف جسر بركلين فالأول إنما هو رمز الطبيعة والثاني رمز الفنون الجميلة والثالث رمز الكد والاجتهاد وهذي هي دعائم الحياة الروحية الثلاث فالمنظر الأول صنعه الله والمنظران الآخران صنعة الإنسان المنظر الأول أو الطبيعة هو منبع النفحات الإلهية والإلهامات الروحية والمنظر الثاني أو باريز هو منبع التفنن في الصناعة على الإطلاق والمنظر الثالث المنبسط أمامي الآن إنما هو عنوان الجهاد والجلد والثبات والنجاح. فإذا كنت أيها القارئ شاعراً أو مصوراً أو كاتباً بل لو كنت صباغاً أو دباغاً أو إسكافاً وجه نظرك إلى الطبيعة أولاً تستمد منها الإلهام الإلهي وعنها تقتبس الألوان البديعة والمناظر الجميلة والأشكال الأنيقة والنفحات السماوية وعرج على باريز ثانياً تتعلم فيها دقة الصناعة ولطافة الأسلوب وجمال الفنون وغرابة الإبداع وسر الابتكار وانزل على نويرك ثالثاً تأخذ منها الاجتهاد والجلادة وتتعلم من أهلها الاستقلال في العمل والثبات بعد الفشل. الطبيعة_التفنن_الاجتهاد هذي هي أساس الأعمال الفكرية هذي هي دعائم الحياة الروحية. لبنان_باريز_نويرك_في الأولى روحي في الثانية قلبي وفي الثالثة جسدي. والكاتب ليس من الملاحدة كما يتهمه أعداؤه بل هو ملحد بأكثر ما يتخرص به المتخرصون من الشروح على المنون ومن قرأ مقالته في فلتر الفيلسوف الفرنسوي يتجلي له من أي

نحلة كان أن الحرية أن لا تراعي أخاك ولا أباك فيما تعتقد صحته قال: الإلحاد مضر بالصحة فهو لا شك ينفخ الصدر ولكنه يضعف القلب ويصغر الرئتين. أقول هذا عن اختبار ولا أقول أكثر من ذلك ليعلم القارئ فكره. إذاً الإلحاد مضر بالصحة ومهما قلتم لا أوضح. اختبروا لأنفسكم إن شئتم ولكن إياكم والتطوح وإذا كنتم لا تعرفون الحدود فالأجدر بكم ألا تجربوا لئلا تتملك فيكم جراثيم المرض وإذا كانت معدتكم ضعيفة فإياكم فلتر. وبعد أن أفاض في مزايا هذا الفيلسوف ومآتيه ومنازعه وآخذه على روايته التعصب التي طعن فيها على الإسلام وأهداها إلى البابا فقبلها هذا بكل سرور وبعث إلى فلتر كتاباً لطيفاً أثنى فيه على غيرته (بخ بخ) وانتقد بعض أبيات الرواية الشعرية فأجابه فلتر متجاملاً على عادته في مثل هذه الأمور أنك لا شك معصوم عن الغلط في المسائل الأدبية أيضاً (زه ثم زه) هكذا تبادل الاثنان عواطف الولاء الكاذب وانتصر فلتر على أعدائه اليسوعيين وأنصارهم ولا يخفى على القارئ اللبيب ما في هذا العمل من السياسة والحيلة والمر ناهيك بأن الكاتب أخطأ في انتقاده الدين الإسلامي وفي تحامله المنكر على مؤسسه العظيم. . . . وهذه النموذجات كافية في بيان فضل هذا التأليف النفيس ومنزلة أبي عذره من سلامة الفطرة وبعد الغور والنظر فله منا الشكر على ما أتحف به عالم الآداب من هذا السفر الجديد في وضعه وطبعه. إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الحموي نشر الأستاذ مرجيلوث أستاذ اللغة العربية في كلية أكسفورد القسم الأول من الجزء الثالث من هذا السفر الذي يطبع على نفقة أسرة جيب الإنكليزية وفي هذا الجزء 44 ترجمة من حرف الحاء وفيه من الأعلام ترجمة السيرافي وابن رشيق وأبي هلال العسكري والإسكافي وابن مقلة وغيرهم وطرف من أخبارهم ومنثورهم ومنظومهم وأكثر مما لم ينشر بالطبع حتى الآن فسد بذلك فراغاً مهماً في آداب العربية. وإنا لنكرر الشكر للأستاذ مرجيلوث لغيرته على آدابنا أكثر من غيرتنا أنفسنا ونرجو أن يوفق إلى إتمامه على ما يحب ويحب عشاق العلم المولعون بإحياءِ آثار السلف.

كتب متفرقة مبادئ العلوم السياسية والتاريخ الدستوري_ألفه مصطفى صبري أفندي فيه كلام مفيد في المجالس النيابية ونظام الحكومات ولاسيما العثمانية والمصرية والانقلابات السياسية والاقطاعات يطلب من مؤلفه في مصر. غرائب الاغتراب ونزهة الألباب_وهو رحلة للسيد محمود الآلوسي صاحب التآليف المهمة وفيه وصف رحلته من بغداد إلى الآستانة ومن لقيهم في عهده من المشاهير والبلاد التي حلها طبع في بغداد في مطبعة الشابندر. الخلاصة العراقية في تاريخ أدب اللغة العربية_هو كتاب في تاريخ العربية وتراجم الكتاب والشعراء الأقدمين من أهلها تأليف أحمد أفندي حسن الزيات في القاهرة. فهرس مقتنيات الآثار العربية_تأليف مكس هرتس بك رئيس مهندسي دار الآثار العربية بمصر وتعريب علي بك بهجت وكيلها وفيه تاريخ هذه الدار والغاية من إنشائها. المجموعة العلمية_مجموعة رسائل في الرياضيات والطبيعيات وضعها عبد الواحد أفندي حمدي في مصر. فلسفة النشوء والارتقاء_أو مجموعة الدكتور شبلي شميل وفيها كثير من كتابات هذا المفكر الكبير في مجلدين ظهرا منهما حتى الآن وتطلب من القاهرة. مشاهد الممالك_فيه وصف مسهب لبلاد أوربا وأميركا وكثير من أفريقية وآسيا وكلها مما ساح فيه المؤلف إدوارد بك إلياس في القاهرة. نصائح للأمهات_عربه الدكتور فريد عبد الله في مصر وهو نصائح لربات البيوت للعناية بأطفالهن عند غيبة الطبيب.

درس على كتاب الدارس في المدارس

درس على كتاب الدارس في المدارس أيها السادة: إن تاريخ كل أمة سواء كان مجيداً أو غير مجيد لا يخلو مستقبله من ارتباط بماضيه لا من حيث التشابه بين طرفيه بل من حيث النتائج التي ترتب عليها نهضة الأمم أحياناً وتغير مجرى الحياة الاجتماعية بأن تسرع بخطا الشعوب إلى مراقي الصعود. ومعناه أنه إذا كان ماضي الأمة عظيماً محترماً في التاريخ تحرص على أن يكون أعظم احتراماً في حاضرها أو على تسترد ذلك الاحترام إذا فقدت شيئاً منه. وإذا كان ماضيها سيئاً غير محترم في التاريخ تدأب على التخلص منه وتطلب لنفسها حاضراً أسعد منه. فالنتيجة واحدة في الحالتين ولكن لمن؟ ومن يحصل على مثل هذه النتيجة من الأمم؟ تحصل عليه أمة تعلم أن لها تاريخاً فتدرسه وماضياً تبحث فيه وترجع إليه لاسيما إذا كان تاريخاً مجيداً له آثار معروفة في الوجود وأثر محقق في الاجتماع. والأمة كالفرد فخورة بالماضي الجميل إذا تمثل لها نفح فيها من روحه فملأها نشاطها ودفعها إلى الأمام أشواطاً. وإن أمة لا تعرف تاريخها أحر بها أن يتنكر لها الزمان وتزدري بها الشعوب لجهلها بماضي التاريخ وتنكرها الإنسانية وتنكرها السماء والأرض. إن المنارة الإسلامية التي رفع منارها أسلافنا الطاهرون وغيرت شكل الأرض ومجرى الاجتماع كان لمدنيتكم هذه حظ وفير منها ولاسيما في التوفر على إنشاء معاهد العلم ودور التربية والتهذيب. هذا أيها السادة ما دعاني لأن أقف بينكم خطيباً افتح صحيفة ماضي التاريخ فيما يتعلق بأسلافكم الغابرين ومدينتكم الفيحاء وفيها ذكرى للذاكرين وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. إن هذه الذكرى ما ترونه في هذا الكتاب الضخم المشتمل على ألف وثلاثمائة وستين صفحة وهو كتاب (الدارس في المدارس) تأليف العلامة المؤرخ محمد بن محي الدين النعيمي وهو خاص بما أنشئ من معاهد العلم والمساجد ودور العجزة (التكايا) في دمشق وقد بلغ عدد ذلك مائتين وبضعاً وثمانين لو وزعت المدارس منها على السنين منذ إنشاء أول مدرسة في القرن الخامس إلى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى عهد المؤلف في أواخر القرن التاسع لأصاب دمشق كل سنتين مدرسة تنشأ أو دار للعجزة والمرضى تشاد هذا فضلاً عما أنشئ من المدارس بعد ذلك التاريخ ولم يدركه المؤلف المذكور وهذا

فهرست الكتاب نتلو عليكم بعضاً من أسماء المدارس التي جاءت فيه ولا أطيل خوفاً من ضيق الوقت. أنا تواريخ إنشاء هذه المدارس بالضبط والأوقاف التي حسبت على الطلبة فيها والعلماء الذين نبغوا منها ودرسوا فيها كل هذا مذكور في صلب الكتاب وليس في الوقت متسع لتلاوته عليكم كما ترون من حجم الكتاب وحسبكم أن من درسوا في هذه المدارس وتولوا رياستها أو نبغوا فيها من علماء الشريعة مثل الحافظ الذهبي صاحب التاريخ المشهور والإمام ابن تيمية صاحب التآليف الكثيرة وقاضي القضاة صدر الدين الأزرعي صاحب الجامع الصغير والعماد ابن كثير والنووي وابن الصلاح والحافظ جمال الدين المزي وأشباههم من العلماء الكبار ومن علماء الطب مثل ابن أبي أصيبعة صاحب تاريخ الأطباء ومهذب الدين بن الحاجب ونجم الدين اللبودي وموفق الدين بن المطران ومهذب الدين الداخواز وعماد الدين الدنيسري وأضرابهم. ومن علماء العقليات والرياضيات والموسيقى مثل محمد بن أبي الحكم الباهلي وعز الدين السويدي وأبي الفضل الحارثي المهندس الذي كان باب البيمارستان النوري القائم إلى اليوم من عمل يده وأضرابهم. وها أنا أقرأ لكم مثالاً واحداً من ترجمة هؤلاء الرجال فاسمعوا ما قال تاريخ الدارس هذا في ترجمة أفضل الدين بن أبي الحكم نقلاً عن الصفدي: (محمد بن عبد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي) هو أفضل الدين أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين كان طبيباً حاذقاً وله يد طولى في الهندسة والنجوم (أي علم الفلك) وله في سائر الآلات المطربة يد عمالة وعمل أورغناً وبالغ في إتقانه وقرأ على والده وغير في الطب وكان في دولة نور الدين بن الشهيد ولما عمر البيمارستان والمستشفى النوري بدمشق جعل أمر الطب إليه إلى آخر ما قال: هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم لكم وهذا الفضل الكبير منهم وعدد كثير مثلهم من أهل الشهرة بالعلم والفضل ودرسوا في هذه المدارس أو تخرجوا على رؤسائها ومشايخها ثم ملأوا المكتبة العربية بالمؤلفات النافعة في كل فن ومن راجع منكم كتاب الكواكب لابن عروة الحنبلي في أكثر من مائة مجلد وتاريخ الحافظ ابن عساكر في أكثر من عشرين مجلداً وهما

موجودان اليوم في المكتبة العمومية في مدرسة الملك الظاهر بدمشق وقاس عليهما ما ألفه علماء تلك القرون الأفاضل وما قبلها في علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ والتراجم والفلك والطب والرياضيات كالهندسة والحساب وغير ذلك من العلوم علم مقدار ما لهذه المدارس ومؤسسيها من الفضل على الأمة وما للنابغين فيها من الأثر العظيم في الوجود بما سهروه من الليالي الطوال في الحرير والتحبير وما عانوه من النصب في وضع كتب العلم لإفادة الناس حتى ملأوا بها المكاتب ونشروا العلم: وما قولكم في أن عالماً واحداً من علماء الطب وهو موفق الدين بن المطران المتوفى سنة سبع وثمانين وخمسمائة ترك في مكتبته عشرة آلاف مجلد في الطب والعلوم الحكمية كما ذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الموما إليه. وملا يظنن بعضكم أن هذه المدارس كانت مدارس دينية فقط وأن أكثر علمائها وطلبتها من طلبة العلوم الشرعية وآلاتها كلا فإن فيها مدارس لغير العلوم الشرعية كالطب مثلاً ومن هذه المدارس المدرسة الدخوازية والدنيسرية واللبودية كما سترون ذلك في ما يأتي من الكلام إن شاء الله. ولقد أخبرنا التاريخ أن معاهد العلم كانت مشاعة بين طلابه من كل فن وأن الطبيب أو الفلكي مثلاً كان يلقي دروسه في أي مدرسة كانت من مدارس العلم له فيها وظيفة بل في الجوامع والمساجد أيضاً لأنها كانت قبل أن توجد المدارس على شكلها المعهود أي قبل القرن الرابع أشبه بمدارس العلم بل هي المدارس بعينها وما زالت كذلك معاهداً للعلم والعبادة معاً إلى اليوم كما تعلمون. وأذكر لكم مثالاً واحداً على أن المدارس كانت مشاعة لطلاب كل علم ما نقله ابن أبي أصيبعة في ترجمة رفيع الدين الجيلي قال: وكان مقيماً في دمشق وهو فقيه في المدرسة العذراوية داخل باب النصر وله مجلس للمشتغلين عليه في أنواع العلوم والطب وقرأت عليه شيئاً من العلوم الحكمية. واعلموا أيها السادة أن كثيراً من علماء الشريعة مثل الجيلي جمعوا بين العلوم الشرعية والعقلية والطب والفلك والرياضيات وكلهم من خريجي هذه المدارس بالضرورة وممن جاء ذكرهم من هؤلاء في هذا التاريخ واذكره مثالاً للباقين أحمد بن الحسين الدمشقي وإليكم ما

جاء في ترجمته من هذا الكتاب نقلاً عن ابن كثير: (الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي) اشتغل على مذهب الشافعي وبرع فيه وأفتى وأعاد وكان فاضلاً في الطب وقد ولي مشيخة الدخوازية (مدرسة طبية) لتقدمه في صناعة الطب على غيره وعاد المرضي بالبيمارستان النوري على قاعدة الأطباء وكان مدرساً بالشافعية بالمدرسة الفروخشاهية ومعيداً بعدة مدارس إلى آخر ما قال: هذا يدلكم على أن العلوم كانت مشاعة بين العلماء وأن العالم بالشرع قد يكون عالماً بعلوم أخرى من العلوم النظرية والعملية كالفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات وغيرها من العلوم التي قامت على دعامتها المدنية الإسلامية وكانت الحلقة الوسطى بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة حتى اعترف بفضلها على التمدن الغربي كثير من علماء التاريخ والاجتماع في أوربا كدربي ومونتسكيو لوبون وأفردوا للمدنية الإسلامية كتباً خاصةً أتوا فيها على ذكر ما تركته هذه الحضارة من آثار الترقي والعلم التي يجهلها أهله لهذا العهد بالأسف والعار. نحن الآن أيها السادة بصدد علماء دمشق في القرون الوسطى وإنما هم حلقة من سلسلة تلك المدنية الإسلامية التي أخنى عليها الزمان وإذا سمحتم لي فأني أختم كلامي بنبذة من تاريخ تلك السلسة بعد استيفاء الكلام على كتاب الدارس هذا إن شاء الله. علمنا مما سبق أن عدد المدارس ودور العجزة التي أنشئت في دمشق ولكن من الذي أنشأ هذه المدارس ورفع بنيانها وأدر الخيرات عليها وأنفق على طلابها من ماله أهي الحكومة أو الأفراد أو الجماعات؟ بلغ بنا الضعف أن صرنا كالأطفال نطلب كل شيء من الحكومة كما يطلب الطفل كل شيءٍ من والديه أما أسلافنا فلم يكونوا كذلك بل كانوا استقلاليين أكثر منهم اتكاليين يعرفون قيمة الاعتماد على النفس فكان الفرد الواحد يقوم بما تقوم به الجماعة أو يطلب من الحكومة اليوم. ولهذا فإن كل ما جاء ذكره في هذا الكتاب من المساجد والتكايا والمدارس إنما أنشأه الأفراد وقام بمال أهل السخاء من أسلافكم الطيبين لمحض الخير وإرادة نشر العلم وخدمة الوطن والدين.

لم يختص بهذا العمل الجليل والشرف الرفيع الملوك والأمراء وذوو السلطة كما قد يتوهم بعضهم كلا بل كان الأفراد من كل الطبقات من أهل اليسار يتسابقون إلى إقامة المعاهد العلمية حسبة لله وحباً بعمل الخير واسبقاءً للذكر الصالح في الوجود. فالتجار والعلماء والسيدات هم الذين أسسوا هذه المدارس كل مدرسة يؤسسها شخص بمفرده ويحبس عليها من ملكه ما يكفي ريعها بل أقول لكم والخجل يكاد يمنعني من التكلم والحزن يوشك أن يعقد لساني أن العبدان_عبدان أسلافكم أيها السادة_شيدوا بأموالهم بعض هذه المدارس أيها السادة ورفعوا منار العلم للفضيلة كم ترفع العبدان إلى منزلة السادة في حين تنحط السادة إلى منزلة العبدان. إن العبدان كانوا أرفع نفوساً وأسخى كفوفاً منا الآن يا للخجل والخسران. إن الكلام وحده لا يغني عن البرهان وإنكم تنتظرون مني الدليل بعد هذا البيان وإليكم أمثلة من عمل العلماء. التجار. والسيدات. والعبدان. قال المؤرخ في فصل عقده لمدراس الطب: (المدرسة الطبية الدخوازية الدخوارية) المدرسة الدخوازية بالصاغة العتيقة بقرب الخضراء قبلي الجامع الأموي أنشأها مهذب الدين عبد المنعم بن علي بن حامد المعروف بالداخوز في سنة إحدى وعشرين وستمائة بالصاغة العتيقة كما تقدم وأول من درس فيها واقفها ثم من بعده بدر الدين محمد بن قاضي بعلبك ثم عماد الدين الدنيسري وهو بها الآن. (المدرسة الدنيسرية) غربي البيمارستان النوري والصلاحية بآخر الطريق من قبلة قال الذهبي في العبر في أخبار سنة ست وثمانين وستمائة: عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس الربعي الرئيس الطبيب ولبد بدنيسر سنة ست وسمع بمصر من علي بن مختار وجماعة وتفقه للشافعي وصحب البهاء الزهير وتأدب به وصنف إلى أن قال نقلاً عن الأسدي: العماد محمد بن عباس الحكيم البارع في الطب صاحب المدرسة للأطباء بالقرب من بيمارستان نور الدين الشهيد الخ. (المدرسة اللبودية) اللبودية النجمية مدرسة خارج البلد ملاصقة لبستان الفلك المشيري أنشأها نجم الدين يحيى بن محمد بن اللبودي في سنة أربع وستين وستمائة: إلى أن قال نقلاً عن ابن أبي أصيبعة. كان علامة وقته وأفضل أهل زمانه في العلوم الحكمية الخ.

هذه أمثلة من عمل العلماء: واسمعوا مثالاً من عمل التجار في سبيل الخير والعلم والمنفعة العامة لم يعمل مثله أحد من أغنياء هذا الزمان: (المدرسة المزلقية) بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى الصابونية أنشأها تاجر الخاص الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المعروف بابن المزلق ميلاده سنة أربع وخمسين وسبعمائة وكان أبوه لباناً أدركه جماعة وهو يباشر ملبنة عند جامع يلبغا فنشأ ولده هذا ودخل في البحر وحكى عن نفسه أن أول سفرة سافرها كسب فيها مائة ألف دينار وثمانمائة ألف درهم وانفتحت عليه الدنيا وعمر أملاكاً كثيرة وأنشأ على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر يعقوب والمنية وعيون التجار وأنفق على عمارها ما يزيد على مائة ألف دينار وكل هذه الخانات فيها الماء وجاءت في غاية الحسن لم يسبق أحد من الملوك والخلفاء إلى مثل ذلك وهو صاحب المآثر الحسنة بدرب الحجاز ووقف على سكان الحرمين الشريفين الأوقاف الكثيرة الحسنة وعين للحجرة الشريفة على الحال بها أفضل الصلاة وأتم السلام الشمع والزيت في كل عام إلى آخر ما قال: وهذا مثال لتاجر غيره أيضاً: (المدرسة الرواحية) شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه شمالي جيرون وغربي الدويلعة وقبلي السيفية الحنبلية: قال ابن شداد بانيها زكي الدين أبو القاسم المعروف بابن رواحة وقال الذهبي في تاريخه العبر في من مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة والزكي بن رواحة هبة الله بن محمد الأنصاري التاجر المعدل وأوقف المدرسة بدمشق وأخرى بحلب الخ. ومن أمثلة عمل النساء: (المدرسة العالمية) العالمية شرقي الرباط الناصري غربي سفح قاسيون تحت جامع الأفرم واقفتها الشيخة الصالحة العالمة اللطيفة بنت الشيخ الناصح الحنبلي المتقدم ذكره في المدرسة التي قبل هذه (وهي المدرسة الشيخية بانيها أبو عمر الكبير) وكانت فاضلة لها تصانيف وهي التي أرشدت ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت الملك صلاح الدين إلى وقف المدرسة الصاحبية بقاسيون على الحنابلة الخ. ومن أمثلة عمل العبدان والطواشية (المدرسة الصارمية) الصارمية داخل بأبي النصر والجانبية قبلي العذرواية بشرق قال القاضي عز الدين بانيها صارم الديك أزبك مملوك قايماز النجيبي ورأيت مرسوماً بعتبتها ما صورته:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا المكان المبارك إنشاء الطوشي الأجل الصارم الدين جوهر بن عبد الله الحر عتيق الست الكبيرة الجليلة عصمة الدين عذرى ابنة شاهنشاه رحمها الله تعالى الخ. أرأيتم أيها السادة بمإذا قامت هذه المدارس وبمن وكيف أن الأفراد من أسلافكم كانوا يعملون ما لا يعمله الجماعات منكم اليوم. إن الأفراد هم الذين ينهضون بالأمم وأن المدنية الإسلامية التي تلوت عليكم حلقة من سلسلتها العظيمة كان للأفراد شأن عظيم في وضع دعامتها وتشييد بنيانها. تعلمون أيها السادة ما كان لترجمة كتب أهل التمدن القديم كاليونان والفرس إلى العربية من الأثر الكبير في تأسيس المدنية الإسلامية في بغداد على عهد الخلفاء العباسيين وقد يتوهم بعضهم أن الذي عني بترجمة هذه الكتب إنما هم الخلفاء وحدهم وأخصهم أمير المؤمنين المأمون والحال أن لكثير من الأفراد ورجال الفضل والنبل من الأمة يداً لا تنكر في هذا السبيل. وهذا يدلكم على أن عمل الأشخاص منفردين لا يقل تأثيراً في الهيئة الاجتماعية عن عملهم مجتمعين. ولذا فلا أبالغ إذا قلت أن نوابغ الأمة الذين خدموا بذكائهم وعملهم المدنية وشيدوا أركانها الرفيعة إنما قاموا بهذه الخدمة وقامت تلك المدنية بفضل أهل السخاء والجود من محبي العلم والترقي وأنصار النجاح الذين كانوا ينفقون من مالهم على المترجمين للكتب العلمية إلى اللغة العربية. ومن هؤلاء الأفاضل الأجواد الذين رصدوا جزءاً كبيراً من أموالهم على المترجمين لكتب العلم في تلك العصور: علي بن عيسى العباسي: ومحمد بن موسى بن شاكر الرياضي الشهير: وعلي بن يحيى الكاتب: وابن المدير الكاتب: وثاوري الأسقف: ومحمد بن عبد الملك الزيات الوزير: وبختيشوع الطبيب: ويوحنا بن ماسويه الطبيب: والعدد الكثير من أمثالهم المولعين بالترقي والعلم والذين كان ينفق كل واحد منهم أموالاً طائلة على نقله العلوم إلى اللغة العربية حتى لقد نقل ابن أبي أصيبعة عن محمد بن عبد الملك الزيات أنه كان ينفق في الشهر الواحد على المترجمين ألف دينار. قال هذا فضلاً عما كان ينفقه

الخلفاء من بني العباس لهذا القصد. إنا والله نتمنى أن تجمع هذه الألف دينار في كل شهر من كل غني من أغنيائنا اليوم لتنفق في سبيل نشر العلم وتربية الناشئة من أبناء الأوطان ولو فعلوا ذلك اليوم لعوضها أبناؤهم أضعافاً مضاعفة في الغد. بل لو فعل ذلك أهل كل ولاية عثمانية لأصبحت المملكة العثمانية بعد عشر سنين جنة قطوفها العلم وسياجها القوة والحياة. ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول: بمثل هذا البذل على نقل كتب العلم ونشرها بين الكافة والاستفادة منها ظهر أركان النهضة في الشرق الذين ارتفع بهم شأن التمدن الإسلامي وذلك مثل بني موسى بن شاكر المهندسين الرياضيين في عصرهم وبختيشوع وبني سهل وبني ماسويه وبني حنين وبني ثابت بن قرة وبني زهرون وأبي عثمان الدمشقي وابن كرنيب ويحيى بن عدي المنطقي وأبي الفرج الطبيب وأبي الريحان البيروني والشيخ الرئيس ابن سينا وأبي النصر الفارابي والفخر الرازي وابن الشاطر وأضرابهم من العلماء الذين ظهروا في الشرق في عصور متفاوتة إبان الحضارة الإسلامية. ومثل بني زهر ويحيى بن السمينة وأبي القاسم المرحيطي إمام الرياضيين والفلكيين في عصره وابن السمح الغرناطي المهندس وسعيد بن عبد ربه وأبي جعفر الترحالي وأبي الوليد ابن رشد وابنيه محمد وأضرابهم ممن ظهروا كذلك في الغرب. ومثل ابن الهيثم البصري صاحب التآليف الغزيرة في الرياضيات والفلك والمبشر ابن فاتك وعلي بن رضوان وتلميذه أفرائيم بن الزفان والشيخ السديد رئيس الأطباء وشمس الرياسة بن جميع الإسرائيلي ورشيد الدين أبي حليقة وأمثالهم ممن ظهروا في مصر. كل هؤلاء من علماء الفلسفة والرياضيات والحكمة الطبيعية وغيرها من العلوم ونسبتهم كنسبة واحد في المائة ممن ظهروا في عصرهم وبعده في الشام وبغداد ومصر وفارس والمغرب والروم أي آسيا الصغر وغيرها من الأمصار ونهضوا بالأمة وأعلو ذكر المدنية الإسلامية في الشرف والغرب وإنما وضع لهم الأساس أفراد من الأمة قدروا قدر العلم فشيدوا معاهده وترجموا كتبه وأكرموا أهله فتكون من عمل أولئك وهؤلاء وتعاونهم جيلاً بعد جيل بناء تلك المدنية العظيمة التي فقدناها بعد ولم نستطع اللحاق بأبناء التمدن الحديث

لإعراضنا عن العلم وغفلتنا عن تحدي الأمم الراقية وقبض أكفنا عن إمداد معاهد العلوم وإنشاء دورها مع إنا قد يطلب منا الآن ونحن جماعات فلا نجيب ما كان يعمله الأفراد من أسلافنا من تلقاء أنفسهم وبمحض رغبتهم بالعلم والمعارف وحبهم للارتقاء فما هذا الفرق العظيم. وبالجملة أيها السادة إنا أمة ذات ماضٍ مجيد وتاريخ جميل وقد ترك لنا أسلافنا درساً لا يمحوه الزمان ونقشاً في كل زاوية من المشرق ومكان فلن يبلغ بنا ضعف النظر أو ضعف القلوب والهمم أو فساد الأخلاق واستحالة الدم إلى أن نتناساه ولا نقرأ صحفه الزاهية التي يدعونا كل سطر منها إلى التذكر والتفكر والسعي الحثيث إلى الترقي الذي مناطه العلم والعلم يحتاج إلى المال. فالمالَ المالَ الكرمَ الكرم الانتباه الانتباه وإلا قضي علينا بالدمار وألحق بنا العار وتبرأ منا أسلافنا الطاهرون ولا يكون ذلك إنشاء الله ما دام فينا الكرام الغيورون والرجال المفكرون والسلام عليكم.

أغنياؤنا

أغنياؤنا قال لنا منذ مدة أحد أعيان دمشق أنني اضطررت لضائقة أصابتني أن أبيع عقارين من عقاراتي أفتدري من كان يزيد فيهما؟ قلنا لا ندري. قال كان يزيد فيهما لا يتصور العقل أن عندهم قوت شهر واحد أناس يلبسون خلق الثياب ولا تعدهم من كبار السوقة بل من صغار المرتزقة أما من كان يظن أنهم سيتلقفون ذينك العقارين فلم يساومونا عليهما بفلس واحد لأنهم لا نقد عندهم وربما كان تقدير الناس لأموالهم هم دون الحقيقة بمراحل. واجتمعا في المساء بمجلس غاص بالمفكرين وأربابا التجار فقص علينا أحدهم. أن المزرعة الفلانية التي يراد بيعها في الغوطة قد انتهى ثمنها إلى عشرين ألف لبيرة على يد رجل لم يكن يظن أنه يملك معشارها من الثروة حتى قال أنه يدفع قيمتها حوالة على المصرف دفعة واحدة ثم اجتمعت آراء الحضور على أن ثروة دمشق قد زادت في العشر سنين الأخيرة زيادة محمودة بداعي الأموال الطائلة التي بذرتها فيها إدارة السكة الحجازية وهي لا تقل عن مليوني ليرة وإدارة الترمواي الكهربائي الذي أنفق نحو مائتي ألف ليرة وما أعقب قرب المواصلات من ورود السائحين والحاجبين إلى دمشق ذاهبين منها وجائين وما نقلته السكك الحديدية من غلات البلاد القاصية فقدر ما حم لته سكة حوران وحدها من الغلات في العام الفائت بثمانين ألف طن والطن أربعة قناطير دمشقية وثمنها يناهز المليون ليرة وما نقلته سكة حديد حماة بخمسة وأربعين ألف طن هذا عدا ما نقلته الخطوط الأخرى وحمل على متون الدواب والجمال من الغلات والثمرات حتى عمرت بذلك قرى حوران وكانت خراباً يباباً منذ بضع سنين وغدا الحوراني اليوم يلعب بالليرات كما يلعب جاره الفلاح المصري بالجنيهات هذا في إقليم واحد من أقاليم بلاد الشام وفلسطين وولاية بيروت وحلب وسورية مقاطعات لا تقل في خصبها وأمراعها عن حوران ولكنها لم تشتهر شهرتها وأصبح أهلها بفضل المواصلات والحركة التجارية الجديدة في سعة من العيش تزيدهم كما زادتهم الحكومة أمناً ووفرت لهم مرافق الحياة. قالوا وهذه النهضة الاقتصادية في دمشق خاصة لأنها قاعدة هذه البلاد والنقطة الوسطى منها وباب الكعبة ومقر الفيلق ومركز الولاية قد استمتع بخيراتها المقاولون والنجارون والحدادون والبناؤن والحجارون والجمالون والعملة والتجار وأرباب الفنادق والمطاعم والعربات فتسربت الدراهم والدنانير إلى جيوب أرباب الطبقة الوسطى فمن دونها واغتنى

كثيرون وارتاشوا حتى أن كثيرين من بائعي الفول المدمس لا يرضون من الربح في يومهم أقل من ليرة. كل هذا قالوه وهو صحيح ولكن الواجب علينا أن لا يمر بنا دون أن نتدبر سره الاقتصادي والاجتماعي والسر فيه أن كثيرين من الأعيان اكتفوا بما حازوه من الثروة إرثاً عن آبائهم أو بفضل سعيهم ولا تقول كيف حازوها والطرق التي سلكوها فمنهم من كانت ثروته ثمرة الكدح المشروع من تجارة وزراعة وهم قلائل يعدون على الأصابع. ومنهم من اغتنوا بالاتفاق فابتاعوا مثلاً أرضاً أو عقاراً قضت الأحوال بارتفاع أسعاره فأصبح ما ابتيع يساوي عشرة آلام وعددهم محدود أيضاً ومنهم من أثروا بما كان لهم أو لأجدادهم من النفوذ في الدولة الاستبدادية فكان الفلاحون يأتونهم باكين شاكين طالبين إليهم أن يرفعوا عنهم ظلم الحكومة أو الملتزمين أو عرب البادية ويأخذوا قريتهم حلالاً زلالاً وهم يكتفون منهم بالحماية ويدفعون لهم الخمس كل سنة من مجموعه ما تنبت الأرض. ومنهم من تيسر لهم أن يحرزوا وقفاً عظيماً لمدرسة أو لمدارس فعمروا أرضه ورباعه فأخصب وعلا ثمنه مع الزمن فاغتنوا هم وأولادهم ومنهم من وسدت إليهم الوظائف فباعوا ذممهم وفتحوا بطونهم لأكل الرشى وأضاعوا حقوق العباد والدولة حتى جمعوا لهم مقداراً من المال أنشوا به الحوانيت وعمروا الدور واستثمروا المزارع والدساكر. ومنهم من جرأوا على استحلال الربا أيام كان ابن حوران مثلاً لفقره يضطر في أكثر سنيه أن يقترض القرش بقرشين للمرابين والصيارف قحة وعرامة فجمعوا من رأس مالٍ صغير رأس مال صغير كنوزاً كبيرة في برهة وجيزة ومنهم من لم يستنكفوا من ظلم الفلاح فأكلوا لحمه وعرقه وعظمه حتى تم لهم والناس في غفلة والحكومة في إخفاء الذ من إغفاء الصبح نائمة على رعاياها إن جمعوا ما جمعوا سحتاً بحتاً وحراماً لا يجوزه عقل من عقول البشر ولا شريعة من الشرائع السماوية والأرضية. هكذا قام أكثر ما نشاهده من الثروات وعلى هذه الأسس قامت أبنية الأمجاد والتقتير رائد أصحابها والإمساك طريقهم إلى الجمع. ومن أتاه قرش فصرف بعضه وأحسن استخدام ما جمع لا بد أن يأتي عليه يوم يحوز الغنى وكيف لا ننسب بعض الأغنياء إلى كزازة الأيدي ونحن نراهم لا يسمحون حتى بتعليم أولادهم مع أن تعليمهم باتفاق آراء العقلاء يعادل

إطعامهم لقوام أجسامهم وتغذية الأرواح مفضلة عند الكثيرين على تغذية الأشباح. لو تعلم أولاد الأغنياء أن التعليم العصري المطلوب وربوا على الأخلاق الفاضلة أخلاق العمل والحساب لما خيف على ثروات آبائهم من التبدد ولتوارثوا النسب كما يتوارث النشب كابراً عن كابر فتتسلسل الوجاهة في بيوتهم الجيل بعد الجيل والعصر بعد العصر فلا يخافون عيلة ولا يشكون سقوط منزلة. وأصدق مثال يصح الاستشهاد به كل حين ما يراه كل إنسان من الفروق في حالة المسيحيين والمسلمين وهم أبناء وطن واحد لا يختلفون في طبائعهم ولا في عاداتهم وهم قد فاقوا المسلمين بمبادئ يتعلمونها من اللغات والعلوم وطاب العيش فقيرهم منهم أكثر من عيش الغني في المسلمين وذلك بفضل ما تعلموه من حسن التربية والحساب للمستقبل وعدم الاتكال على الحكومة وأعمالها بل على الكفاءة واستخراج الثروة من المذاهب الطبيعية في المعاش. وعقد ابن خلدون عقداً في نهاية الفصل في أن نهاية الحسب في العقد الواحد أربعة آباء فقال: إن باني المجد عالم في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه وابنه بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أن النسب فقط فيربأ عن نفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامعهم وقلوبهم فيحتقرهم بذلك فيغنضون عليه ويحتقرونه ويدبلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فرع الأول وينهدم بناء بيته هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل الصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب يشأ يذهبكم

ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز. واشترط الأربعة في الإحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم أمرها وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأنه مباشر له ومقلد وهادم وهو أقل ما يمكن وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء قال صلى الله عليه وسلم إنما كريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد وفي التوراة ما معناه أن الله طائق غير غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوابت وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة إلا عقاب غاية في الأنساب والحسب اهـ. وبعد فإن من سنن الكون أن لا يظل الغني غنياً ولا الفقير فقيراً وأن من رأيناهم اغتنوا في العهد الأخير بالنسبة لمجموع ثروة الأمم هم الذين سعوا إلى الرزق من أبوابه ومعظمهم يؤثرون حتى بعد أن اغتنوا أن يعيشوا عيش البساطة فدخل أحدهم فائض كثيراً عن خرجه ولا يبعد أن يجيء يوم يتولى أولئك الذين لا نعرفهم أو لا نريد أن نعرفهم أزمة الأمور ويصبحون هم أعيان البلاد خصوصاً إذا داووا أرواحهم وأرواح ذراريهم بتر ياق التعليم وبسلم التربية الحديثة وطبعوا أسراتهم بطابع الاستقلال لا بطابع الاتكال في الأعمال. ربوهم ليكونوا أعضاءً عاملة في المجتمع البشري لا ليكونوا فقط آمرين ومأمورين. ربوهم ليعرفوا المال وطرق كسبه من الوجوه المشروعة المعقولة لا بالاحتيال والنصب خبث الطعمة وسوء القالة. ربوهم كما يربي الإنكليزي ولده فيعلمه حتى إذا بلغ أشده يلقيه برضاه في معترك الحياة مانعاً عنه كل معونة مالية لا كما يربي الفرنسوي ولده فيعلمه ما أراد فإذا شب لا ينفك عنه فيزوجه ويعطيه وربما حرم بناته حتى يخلف قدراً أكثر لبنيه.

التعليم الوطني

التعليم الوطني من أهم المسائل الاجتماعية في العالم مسألة التعليم فهو الذي تحرص عليه الأمم حرصها على حياتها. والتعليم الوطني هو أرقى أنواع التعليم به تحفظ الجنسيات واللغات ويبقي على العادات والقوميات ولذلك تجد العراك في هذا الشأن على اشد ما يكون بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة فالبولونيون لا يشمئزون من الألمان والنمسويين والروسيين إلا لأن كلاً من ألمانيا والنمسا وروسيا تحاول أن تصبغ البولونيين بصبغتها. والجزائريون لا يتأففون من فرنسا إلا لأنها تنوي القضاء على جنسيتهم ولغتهم ودينهم بتلقينهم المبادئ الإفرنسية واللغة الفرنسية. والكوريون لا يغضبون على اليابانيين إلا لأن هؤلاء يحبون أن يصبغوا أهل كوريا بصبغتهم ويطبعونهم على مناحيهم. وأهل الإلزاس واللورين لا يبكون من الألمان إلا لأنهم يرمون إلى تربيتهم على الأسلوب الألماني وتلقينهم اللسان الألماني لينسوا مع الزمن لسانهم وقوميتهم كما نسي أهل شلزويك هولستاين الدانيمركيون لغتهم بانضمامهم إلى بروسيا. والجاويون لا يتأوهون من هولاندة إلا لسعيها في تنشئتهم على مناحيها. والهنديون أعظم ما يسقمونه على الإنكليز تلقين الناس حب إنكلترا وعظمتها ولغتها وإن كان الإنكليز أكثر الأمم مراعاة لعواطف المغلوبين على أمرهم. وهكذا لو استقرينا تاريخ الإنسان إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم نجده عبارة عن سلسلة ظلامات منشؤها سوء التفاهم بين الناس يريد القوي أن يسخر الضعيف ويطبعه على منازعه لاعتقاده بأنه أعلى منه كعباً وأكثر علماً وأدباً وأرجح عقلاً وأنجح سعياً شأن العالم مع الجاهل لا يود أن تمر به ساعة إلا يعلمه به شيئاً ليقربه منه ويحسن الانتفاع به ولكن ما كل قوي يكون أعلم من ضعيف ولا غالب أعقل من مغلوب وندر بين الناس والأمم من يقرر بأرجحية غيره عليه ولو كان الحق في ذلك أوضح من فلق الصبح. نقول هذا ونحن نرى التعليم الوطني في مصر والشام وهما من أعرق البلاد في الحضارة والتعلم على أضعف ما يكون وإن كانت مصر سيدة البقاع في هذا لأن انتباه الناس منذ سنين لجعل طبقات التعليم بالعربية بعد أن كاد يصبح كله بالإنكليزية لا بد أن يحفظ على المصريين لغتهم وأخلاقهم وتقاليدهم أكثر مما يحفظها على السوريين مثلاً. فقد عبثت في السوريين دواعي التفريق في الوطنية وضعفت ملكتهم فيهم بقوة المدارس الغير وطنية في ديارهم. فإذا كانت هذه المدارس قد نفعت سورية بما أدخلته إليها من النور القليل فقد

أضرتها بانحلال عقدة الوطنية فمدارس الأميركان والروس واليونان والفرنسيس والإنكليز والألمان قد أصلحت وأفسدت. أصلحت بتلقين من تخرجوا فيها شيئاً من معارف الغرب وأضعفت في نفوسهم حب الوطن بتحبيبها إليهم أوطاناً غير أوطانهم وتعريفهم إلى رجال غير رجالهم ومساواتها فيس أعينهم الأمم. والعاقل منة حرص على نفع أمته قبل كل نفع وانتفع بما عنده قبل أن يتطال إلى ما عند غيره. رأينا أفاضل الطبقة التي نشأت في مدراس الفرنسيس والأميركان والروس في أدوار مختلفة فلم نشهد فيهم إلا النادر من يغار على وطنه كما يغار على حرمه فكنا إذا حدثناهم بما تصير إليهم حالة لغتهم ووطنيتهم بتخليهم عنها قالوا وأي نفع يرتجى لمن يتعلم اللغة العربية وهل هي إلا لغة قومٍ بادوا وانقضت أيام سعدهم ومن يضمن لنا أن نعيش إذا تعلمنا اللغة العربية ولذلك كانت أقل لغة من لغات العالم المتمدن أكثر فائدة. أما حالتهم في انحلال عقدة الوطنية فأدهى وأمرُّ. ومن زهد في لغة آبائه وجدوده كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته. واللغة والوطن يصح أن يكونان اسمين لمسمى واحد. شهدنا ناساً قيل عنهم أنهم حملة للشهادات العالية من مدارس الأجانب فكنا نسألهم بعض الأسئلة البسيطة في تاريخ أمتهم وبلادهم فما كانت أجوبتهم إلا استهزاء بما يترتب على معرفتهم ذلك من الفوائد وكان أيسر ما يحجنا به أحدهم أنه يعرف تاريخ روسيا وأميركا وإنكلترا أو فرنسا جيدة ويوردون لنا أيام تلك الأمم وأسماء رجال الحرب والسياسة والعلم فيهم ويعجزون عن ذكر شيء من تاريخ بلادهم إلا القليل الذي تلقفوه بالسماع من العامة. هذا في ناشئة المدارس الأجنبية الذين هان عليهم أن يغادروا بلادهم وأكثرهم نزحوا إلى مصر وأميركا وغيرهم اختاروها موطناً لهم وربما حدثتهم أنفسهم أن يتجنسوا بالجنسية الأجنبية لأنه لا ترجى عودة لهم إلى بلادهم وقد ملئت نفوسهم بحب من تخرجوا بهم. وهناك طبقة ومعظمها من المسلمين تخرجت من مدارس الحكومة فخرجت أقرب إلى المجمعة منها إلى العربية لأن المدارس الأميرية ما برحت إلى اليوم وقبل اليوم تعلم اللغة العربية تعليماً صورياً وتوفر عنايتها بالتركية لغة البلاد الرسمية وإنا لنخجل أن نقول أن سورية قد نشأ منها زهاء خمسمائة ضابط ونحوهم أو أكثر من الموظفين لا يعرفوا من اللغة العربية إلا أن يتكلموا الكلام العادي البسيط وأكثرهم يمزجونه بألفاظ تركية لا يفهمها

ابن العرب ويعتذرون عن قصورهم بأنهم لم يتعلموا في المدارس لغة آبائهم وأجدادهم ومن يقدرون منهم على الكتابة الصحيحة بلغتهم فأفراد يعدون على الأصابع تعلموها في الغالب بعد أن أنجزوا دروسهم. والمتخرجون في مدارس الحكومة لا يحسنون في الأكثر تاريخ الدولة العثمانية فضلاً عن تاريخ العرب وأمجاد أسلافهم. جنت مدارس الأجانب والحكومة على هذه البلاد أعظم جباية لأن المتخرجين فيها ومعظمهم من الذكاء على جانب عظيم لم ينفعوا الدولة حق النفع ولم ينفعوا البلاد التي ولدوا فيها فتراهم ضعافاً في حبهم أوطانهم فإما أن يتنقلوا في الوظائف وإما أن ينتقلوا من البلاد جملة فتحرم منهم الأمة التي أولدتهم والسماء التي أظلتهم والأرض التي أقلتهم والبلاد لا تعمر إلا بأيدي أبنائها بعد أن قيل في الأمثال قتل أرضاً عالمها وهل أعلم بها من أبنائها. ابحث عمن تخرج في هاتيك المدارس منذ ثلاثين سنة تجدهم إلا قليلاً وقفوا أنفسهم على نفع غيرهم واحتقروا جنسيتهم ولغتهم وربما كان عدد المحتقرين لهما في ناشئة المدارس الأميرية أكثر من متخرجي المدارس الأجنبية لأن هؤلاء يرون باحتكاكهم بالأجانب مبلغ تفاني هؤلاء في إنهاض أممهم وحبهم لغتها وتقاليدها ولمدارسهم عناية بالعربية أكثر من المدارس الأميرية فإذا كان الطالب حصيف الرأي لا ينطلي عليه محال من يعلمونه ولكن من أين له وطنية كوطنيتهم وغيرة كغيرتهم وهو لا يعرف من أسباب وطنيته حتى ولا لغتها ولا من مجد أجداده إلا قشوراً ولا من حاجات بلاده وقانونها إلا تافهاً. وهل غير القوي يدافع عن حوزته وغير العاقل يحتفظ بعاداته ولغته والقوة لا تنشأ إلا بالعلم والتربية الوطنية. إن المدارس غير العربية في سورية أشبه بالسارق الذي يسرق الأعلاق ونفائس المتاع. استغفر الله بل من يسرق فلذات الأكباد ليخرجها على ما أراد أشق على النفس وطأة وأعظم في المغبة أثراً وهل يقاس سارق الأموال بسارق الأطفال والرجال أوليست الأرواح أثمن من كل بضاعة وهل أعز من الولد على قلب والديه. وليس معنى هذه الدعوة إلى مقاطعة المدارس الغير العربية فإن أهل هذه البلاد لا غنى لأفراد منهم على تعلم اللغة التركية لغة السياسة الجامعة ولا عن تلقف بعض اللغات الأوربية الراقية كالإنكليزية والفرنساوية والألمانية والإيطالية ولكن الواجب أن يتعلموا ما

شاؤا من اللغات والعلوم ولكن بعد أن يحكموا لغتهم كتابة وخطابة حتى لا يسرق أبناء سورية بتساهل آبائهم ويبيعونهم من أقوام أخر بالمجان على أمل التوظف في وظائف الحكومة أو الاحتكاك بالأجانب احتكاكاً يؤدي في الأكثر إلى ارتحال المتخرج بهم عن بلده وزهده في وطنه زهداً أبدياً. إن المدارس التي تعلم غير الأسلوب الوطني هي التي تسلب من سورية اليوم بعد اليوم روحها وناهب الروح ماذا يدعى في الشرع والعقل؟ إن لأهل كل قطر منازع خاصة بهم وعادات وأخلاقاً ومميزات إذا فقدوها هلكوا وانحل أمرهم وآضوا عبئاً ثقيلاً على البلاد لا ينتفعون بها ولا هي تنتفع منهم. فالواجب إذاً إنشاء مدارس لإحياء التعلم الوطني لتحيا بحياته البلاد لأن مئة رجل يعرفون الزراعة باللغة الفرنسية أقل نفعاً من واحد يشرحها للعرب بالعربية وقد يكون تعلمها بالعمل لا بالنظر. وهكذا الحال في مئة كاتب متعلم قرأ العلوم والآداب بغير لغته لا يستفيد منه قوم إلا معشار كاتب واحد يعرف كيف يعلم عامة قومه قبل خاصتهم وجاهلهم قبل عالمهم أصول المعاش والمعاد بلغة أبيه وأمه. إن ما عاق الأتراك عن فهم أسرار الشريعة قلة عنايتهم بالعربية التي يجب على كل مسلم أن يتعلمها والذي عاق العرب عن فهم قوانين البلاد جهلهم بالتركية لغة الجامعة العثمانية التي توجب السياسة تعلمها فظلت أكثر قوانيننا مكتوبة باللغة التركية ولم يستفد منها إلا قلائل من الأتراك وبعض من تعلموا ليتوظفوا من العرب والروم والأرمن والأرناوءد والأكراد واللاز والفلاخيين والبوشناقيين والبلغاريين. ولو تخرج في مدارس الحكومة أناس من العرب يحسنون الكتابة والخطابة كما يحسنونها باللغة الطارئة عليهم لتمكنوا على الأقل من نقل هذه القوانين إلى العربية وعرف العثمانيون ما لهم وما عليهم وأفادوا بلادهم وقوميتهم فائدة كبرى. إن مما يبكي أن يسن ابن الآستانة قانوناً يحاول تطبيقه على ابن حوران وهلا كان الاختلاف في الحاجيات طبيعياً بين تركي وعربي وأوربي وآسياوي. ولذلك جاءت قوائم الدروس الجديدة في المدارس الابتدائية والثانوية في الولايات العربية مثل دروس الولايات التركية لا أثر فيها لتعليم العربية إلا أن يكون قراءة القرآن في الصفوف الابتدائية يتلى فيها بلا فهم ولا علم.

وأكبر دليل على أن نظارة المعارف العثمانية جاهلة بطبائع البلاد أنها أسست مدرسة لتخريج المعلمين في دمشق ولم تذكر اسماً فيه للعلوم العربية لغة الدين والبلاد وجعلت الجهد كله مصروفاً إلى تلقين التركية حتى لا يعلم الأساتذة الجدد إلا ما تعلموه ويكثر عدد العارفين بالتركية والمنحلين من لغتهم فلا يأتي زمن خصوصاً متى أصبح التعليم الابتدائي إجبارياً إلا وقد أهمل العرب لغتهم بتاتاً. صرحنا بهذا وإن كان فيه غضاضة كبرى على العرب الذين لم يستفيدوا من حرية الدستور حتى الآن وينشئوا على الأقل كتاتيب منظمة لتلقين لغتهم من أيسر الطرق حتى ينتفعوا بعد الآن بأولادهم حق النفع ولا يفقدوا عدداً كبيراً ممن يدخلون مدارس الأجانب فتنحل وطنيتهم تضعف لغتهم. أما مؤسسو تلك المدارس أجنبية كانت أو أميرية فإنهم يعذرون للسبب الذي أوردناه آنفاً وهو أن القوي يريد أن يستغرق الضعيف سنة من سنن الكون. ولم يبلغ البشر درجة راقية من التمدن حتى تتساوى في عيونهم اللغات والعناصر كلها وتتجرد أمة فتفنى لإحياء غيرها وتقلل من جنسها لتزيد سواد الآخر ولا تهمها دارها وتريد هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها والسلام.

جبل الدروز وفتنتهم

جبل الدروز وفتنتهم إلى الجنوب من دمشق على نحو عشرين ميلاً منها كورة واسعة مخصبة اسمها حوران فيها نحو ستمائة قرية وفي شرقي تلك الكورة إقليم ممرع فيه السهل والجبل إلا أنه أطلق عليه اسم جبل حورانكما يقال له جبل الدروز الآن لأن معظم سكانه منهم وهو يمتد من شمالي حوران إلى جنوبيه ويحده من الشمال اللجاة وهي أرض بركانية ذات حرار وعرة للغاية ومن الشرق البادية ومن الجنوب قفر مترامي الأطراف يتصل بوادي الحجاز ومن الغرب الجنوبي النقرة والنقرة سهل جيد التربة في وسط حوران. وطول هذا الجبل نحو 15 ساعة على راكب المطايا و8 ساعات وهو من الجهة الجنوبية والجهة الغربية أي نحو ثلاثة أرباعه سهل خصيب تضاهي تربته تربة السهل من بلاد حوران وغوطة دمشق والبقاع العزيز وربما كانت أسحن منها وفيه 108 قرى يقدر نفوسها عل التخمين بخمسين ألف نسمة وربما استطاع حمل السلاح منهم نحو ثمانية آلاف ومنهم الذين يشنون الغارات ويقتلون الأبرياء ويسلبون المارة وإقليمهم هو الإقليم الوحيد في سورية بأسرها الذي أزمنت فيه الفوضى وأحب أهله على قربهم من الحواضر ووفرة غناهم بزراعتهم أن يعيشوا عيش السلب والنهب والقتل يؤذون من خالفهم من مجاوريهم ويطيلون أيدي اعتدائهم على أبناء السبيل ويناوئون الحكومة ويعصون قوانينها فلا يؤدون الضرائب الأميرية والخراج ولا يخدمون الجندية وإذا لم يجدوا من يقتلونه ويمثلون به يقتتلون بينهم كأنهم يتعبدون بإهلاك العباد والعيث بالفساد في البلاد. وآخر عمل فظيع قاموا به أنهم غزوا جيرانهم من أهل قريتي معربة وغصم وسكانهما مسلمون مسيحيون فقتلوا 59 رجلاً وجرحوا ثلاثة بين القتلى أربع نساء بينهن والدة الشيخ معربة وزوجته وأخته ونهبوا القسم الأعظم من السهوة وجيزة وسماقية وطيسة من بلا السهل فطفح كأس الصبر منهم ولم تر الدولة بداً من إرسال حملة عليهم تؤدب عصاتهم وتضرب على أيدي الفوضويين والعدميين نهم وتؤلف شاردهم وتؤمن خائفهم وتخضعهم للقوانين كسائر الأفراد العثمانيين. ولعل كثيرين يتساءلون عن تاريخ عمران هذا الجبل ونزول الدروز فيه فالمعروف من حاله أنه كان في الدولة القديمة تابعاً لحوران تشهد بذلك الآثار القليلة الباقية إلى اليوم في بعض أمهات قراه مثل السويداء قاعدته القديمة وصرخد وقنوات فإن الكتابات اليونانية

واللاتينية والنبطية والعربية المكتوبة بخط سباءٍ تدل على أنه كان عامراً للغاية. وفي السويداء بل في أكثر قرى الجبل على ما انتابها من الخرب والتدمير بعض الآثار اليونانية والرومانية مثل القناة والمعبد والمسلة يظن أنها ممن القرن الرابع والخامس للميلاد والجامع الخرب المزبور عليه بعض كتابات يونانية والخزان الكبير لجمع الماء الذي أنشئ على أكمة تشرف على السويداء وعلى طريق قرية القنوات جسر مهم للغاية جعل على عمد هائلة يظن أنه من القرن الأول وإنه كان ناووساً. والظاهر من عاديات قنوات أنها كانت أهم من بصرى قاعدة بلاد حوران كلها وكان فيها أبرشية للروم ولا تزال بعض الطرق هناك مبلطة ببلاط كبير من عوادي الأيام ومعظم الدور محفوظة كما كانت بنوافذها وأبوابها الحجرية. ومن الآثار التي تجلب الأنظار ذلك المسرح التياترو الجميل الذي قام على يمين الوادي وأكثر منحوت في الصخر وقطره نحو 19 متراً وفيه تسعة صفوف أسفله على متر ونصف تحت الملعب وفي وسطه حوض ماءٍ وهو مطل على الوادي ومصانع المدينة وجبل حرمون (الشيخ) وفي مكان شاهق آثار معبد ذي أدراج في الصخر تؤدي إلى برج أصم ربما كان جزءاً من حصن مشرف على المضيق ويستدل من ألبنية السفلى أن تاريخها يردُّ إلى ما قبل عهد الرومان وعلى ميلة قليلة نحو الشرق برج عظيم مدور دائرته 25 متراً وربما كان برجاً لدفن الموتى وهناك بعض خرائب كنائس وجادات وأروقة وأرتجة وبعض قطع من هياكل وتماثيل وملاعب. وعلى ثلاثة أرباع الساعة من قنوات في الجنوب الشرقي قرية ساله وفيها معبد من أهم معابد حوران تشبه هندسته معبد هيرود في القدس وفيه من رسوم الأسود والغزلان والخيول المسرجة وغيرها ما يأخذ بمجامع القلوب. وهناك أيضاً مذبح في سفح درجات المعبد وكان هذا المعبد خاصاً بعبادة إله السماء ومن الآثار المهمة آثار شهبا وطرقها معبدة واسعة تكاد تكون أوسع طرق حوران وقد يبلغ عرض الشارع فيها سبعة أمتار وستين سنتيماً. وليس في الأيدي ما يستدل منه على منزلة تلك البلاد من العمران على عهد العرب وكانت قبيل الإسلام منازل قبائل بني غسان كما كانت البلاد المجاورة لها فقد بنى النعمان ابن

المنذر الغساني من ملوك القرن الرابع للميلاد قصراً في السويداء بقى منه في بعض جهاته ووجدت في صرخد صخرة اللات التي عبدها الأنباط والعرب كما ذكر هيرودوتس وعليها كتابة تدل على أنها نصبت لذي الشرى وهو معبود نبطي له آثار في بصرى وبتره (وادي موسى). والغالب أن صرخد حازت في الإسلام مكانة أعظم من مكانة السويداء فبالغ الملوك بتحصين قلعتها ليدافعوا عوادي البدو عن القرى العامرة وقد كثر ذكرها في كتب التاريخ على عهد الدولة الصالحية ومن بعدها من دول الجراكسة خصوصاً بعد أن استولى على الكرك والشوبك وغيرهما من الحصون المجاورة الملك الناصر السلطان صرح الدين بن أيوب وولى أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب عليها فأصبح لتينك المدينتين شأن عظيم حتى عدت الكرك من الممالك مثل مملكة بعلبك ومماكة حماة ومملكة شيزر وغيرها ومعظم هذه الممالك أصبحت فيما بعد قرى حقيرة في القرون الأخيرة لغلبة الجهل على الحكومات التي تعاورتها ولقلة الأمن وانتياب الغارات والزلازل والأوبئة التي اجتاحت سكانها. ويؤخذ مما رواه أبو الفداء صاحب حماة أن بلاد صرخد وما والاها وبعبارة أخرى جبل الدروز كانت تدعى في عهده أي في القرن الثامن بجبل بني هلال قال: صرخد بلدة ذات قلعة مرتفعة وليس لها سوى ماء المطر في الصهاريخ والبرك وهي قاعدة جبل بني هلال وليس وراء عملها من جهة الجنوب والشرق إلا البرية ومن شرقيها تسلك طريق يعرف بالرصيف إلى العراق وهذا الرصيف بين صرخد وبغداد عشرة أيام. وقلعة صرخد شاهد أبد الدهر بعظمة تلك البلاد وهي كما قال الثقات أضخم وأهم من قلعة حلب اهـ. وقد جدد الملك الظاهر بيبرس فيما جدد من المصانع في بلاده ما تهدم من قلعة صرخد وجامعها ومساجدها وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت وكانت قلعتا كوكب وعجلون لعز الدين بن أسامة وكان هذا ملك صرخد سنة ثمان وستمائة للهجرة وقال ابن خلكان: إنه ملك صرخد سنة إحدى عشرة وستمائة وقال لأن أستاذه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب حج في السنة المذكورة وأخذ صرخد من صاحبها ابن قردجة وأعطاه مملوكه أيبك والظاهر أن الأول أصح واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع

وأربعين وستمائة فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور. وممن تملك صرخد أقوش الأفرم أحد أمراء بني أيوب. ومكن الأدلة على استبحار العمران في الجبل أنه نشأ بعض أمهات مدنه أعلام ومشاهير ومنهم عز الدين السويدي من أهل القرن السابع كان عالماً عاملاً ويونس بن إبراهيم ابن سليمان الصرخدي النحوي اللغوي 698 وإبراهيم بن سليمان التميمي الصرخدي الفقيه خطيب صرخد مات فيها سنة 618 وبدر الدين السلختي قاضي غزة نس نسبة إلى صرخد أيضاً وبعضهم يقول صلخد وسلخة والأصح صرخد فيما نرى والروايات الثانية تحريف طرأ مثله على بلدان كثيرة في سورية مثل عربيل فيقولون عربين وجماعين لاستسهالهم النطق بالنون أكثر من اللام. قال ابن أبي أصيبعة: حدثني نجم الدين حمزة بن عبد الصرخدي أن نجم الدين القمراوي وشرف الدين المتاني وقمرا ومتان هما قريتان من قرى صرخد قال كانا اشتغلا بالعلوم الشرعية والحكمية وتميزا واشتهر فضلهما وكانا قد سافرا البلاد في طلب العلم ولما جاآ إلى الموصل قصدا الشيخ كمال الدين بن يوسف (الفيلسوف العلامة) وهو في المدرسة يلقي الدرس فسلما وقعدا مع الفقهاء ولما جرت مسائل فقهية تكلما في ذلك وبحثا في الأصول وبان فضلهما على أكثر الجماعة فأكرمهما الشيخ وأدناهما ولما كان آخر النهار سألاه أن يريهما كتاباً له كان قد ألفه في الحكمة وفيه لغز فامتنع وقال: هذا كتاب لم أجد أحداً يقدر على حله وأنا ضنين به فقالا له: نحن قوم غرباء وقد قصدناك ليحصل لنا الفوز بنظرك والوقوف على هذا الكتاب ونحن بائتون عندك في المدرسة وما نريد نطالعه هذه الليلة بالغداة يأخذه مولانا وتلطفاً له حتى أنعم لهما وأخرج الكتاب فقدا في بيت من بيوت المدرسة ولم يناما أصلاً في تلك الليلة بل كان كل واحد منهما يملي على الآخر وهو يكتب حتى فرغا من كتابته وقابلاه ثم كررا النظر فيه مرات ولم يتبين لهما حلة إلى آخر وقت وقد طلع النهار فظهر لهما شيء منه من آخره واتضح أولاً فأولاً حتى انحل لهما اللغز وعرفاه فحملا الكتاب إلى الشيخ وهو في الدرس فجلسات وقالا: يا مولانا ما طلبنا إلا كتابك الكبير الذي فيه اللغز الذي يعسر حله وأما هذا الكتاب فنحن نعرف معانيه من زمان واللغز الذي فيه علمه عندنا قديم وإن شئت أوردناه فقال قولا حتى أسمع فتقدم النجم

القمرواي وتبعه الآخر وأود جميع معانيه من أول الكتاب إلى آخره وذكرا حل اللغز بعبارة حسنة فصيحة فعجب منهما وقال: من أين تكونان قالا: من الشام قال: من أي موضع منه قالا: من حوران وقال: لا أشك أن أحدكما النجم القمراوي والآخر الشرف المتاني قالا: نعم فقام لهما الشيخ وأضافهما عنده وأكرمهما غاية الإكرام واشتغلا عليه مدة ثم سافرا. وهذه الرواية تدل كل الدلالة على انتشار العلم في هذه المزارع في القرون الوسطى وأمتان بلد شرف الدين المتاني قرية موجودة إلى ال يوم أما قمرا فهي قميرة خربة واقعة إلى الجنوب من صرخد على مسافة ساعتين ومنها الفقيه موسى القمراوي أديب مناظر حاذق توفي سنة 625 ومن شعره: لما تبدى بالسواد حسبته ... بدراً بدا في ليلة ظلماءِ لولا خلافته على أهل الهوى ... لم يشتهر بملابس الخلفاء ومن قرى صرخد العرَّمان بتشديد الراء وفتحها والعامة اليوم تخففها قال ياقوت: أنشدني أبو الفضل محمد بن مياس العرَّماني من ناحية صرخد من عمل حوران من أعمال دمشق لنفسه. يعادي فلان الدين (؟) قوم لو أنهم ... لأخمصه ترب لكان لهم فخر ولكنهم لم يذكروا فتعمدوا ... عدواته حتى يكون لهم ذكر وأنشدني أيضاً لنفسه: ولما اكتسى بالشعر توريد خده ... وما حاله إلا نزول إلى حال وقفت عليه ثم قلت مسلماً ... ألا نعم صباحاً أيها الطلل البالي وأنشدني أيضاً لنفسه يمدح صديقه موسى القمرواي وقمرى قرية من قرى حوران أيضاً قريبة من قرية العرَّمان: أصبحت علامة الدنيا بأجمعها ... تشدُّ نحوك من أقطارها النجب بأن على كبد الجوزاء منزلة ... تحفها من جلال حولها الشهب ما نال من نالت من فضل ومن شرف ... سراة قوم إن جدوا وإن طلبوا وفي الجبل إلى اليوم قريتان باسم نجران قال ياقوت أن نجران موضع بحوران من نواحي دمشق وهي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمقة بالفسيفساء وهو

موضع مبارك ينذر له المسلمون والنصارى ولنذور هذا الموضع قوم يزورون في البلدان ينادون من نذرَ نذر نجران المبارك وهم ركاب الخيل وللسلطان عليهم قطيعة وافرة يؤدونها إليه في كل عام. وقال مثل ذلك في دير نجران أيضاً وما ندري إن كانت نجران هذه هي نجران جبل حوران أم هي واقعة في السهل من قرى بصر الحرير. وتبين مما تقدم أن العمران قديم في هذا الجبل وليس في الأيدي نصوص يركن إليها اللهم إلا إذا كان شيء في بطون التاريخ والجغرافيا جاء بالعرض ولم نهتد إلى معرفته وقد كان سكانه على ما مر بك آنفاً مسلمين ومسيحيين ولم ينزل الدروز إلا في القرون المتأخرة ويقول أحدهم أنهم رحلوا إلى جبل حوران منذ نحو مائتين وعشرين سنة أيام ابتدأ قوم من دروز لبنان يهاجرون وأولهم أسرة بني حمدان التي بطش بها التنوخيون أمراء لبنان ومنذ ذلك الحين أصبح كل من يغلب في الحروب القيسية واليمنية في لبنان ومن عضه الدهر بنابه أو غضب عليه الحاكم يرحل إلى ذلك الجبل ثم انضم إليهم أناس من دروز وادي التيم وصفد وجبل الأعلى والقنيطرة وجوار دمشق. نزل الدروز هنا وهم مستضعفون وفقراء وما زالوا يطردون المخالفين من سكان البلاد الأصليين بالقوة ويستصفون أملاكهم ومنها ما هو إلى اليوم من أرباب البيوتات في دمشق وبأيديهم صكوك بملكيتهم لها حتى كاد الجبل إلا قليلاً جداً يكون لطائفة الدروز وزعمائهم بنو الأطرش وبنو الحلبي والمغوش وعامر وناصر والعزام توزعوا على القرى ومن أكبر زعمائهم بنو الأطرش وبينهم وبين بني مقداد المسلمين سكان بصرى وما جاورها طوائل قديمة يتربص كل منها لجاره الدوائر منذ نحو قرن ويعتقد الطرشان أن بني مقداد هم الحائل دون تعديهم حدود جبلهم ولولاهم لامتد سلطانهم على سهول حوران فاستأثروا بها كما استأثروا بهذا الجبل. وأول الوقائع التي قام بها الدروز في الجبل وتمت لهم الغلبة وقعت بينهم وبين إبراهيم باشا المصري سنة 1830 في جنوبي اللجاة كتبت فيها الهزيمة للمصريين وقتل منهم الفريق محمد باشا وغيرهم من قوادهم وفي سنة 1838 أنفذ إبراهيم باشا أحد رجاله شريف باشا في أربعمائة فارس إلى قرية أم الزيتون في محل يعرف بوادي اللواء على نحو خمس ساعات عن السويداء لتجنيد الدروز فقتلهم الشيخ حمدان الدرزي عن آخرهم ولم يبق إلا

على مقدمهم. وكذلك جرى لمحمد باشا القبرصي فلم يظفر بهم. ومنذ ذاك العهد اعتصموا بجبالهم ونشأ لهم شيءٌ من الاستقلال عن الحكومة وأيقنوا بأنها تخاف بأسهم وتحسب لهم ألف حساب وزاد سوادهم وقوتهم في حوادث الستين وقد هاجر إليهم من لبنان كثير من أبناء مذهبهم فاعتزوا بهم خصوصاً بعد أن ثبت أن الذين أوقدوا نار فتنة النصارى منذ خمسين سنة وانتهت بقتل وصلب مئات من أهل دمشق المسلمين ولم يكدر للدروز خاطر ولم يسأ لوا عما ارتكبوه في تلك الفتنة الأهلية من الفظائع. وما برحوا يفحشون القتل والسلب والتخريب منذ حادثة الستين لأن الحكومة استعملتهم إذ ذاك واستعملوا لها بواسطة بعض الدول آلة لمقصد تريده على ما يؤكد العارفون. ولقد قتلوا من جند الدولة والأهالي المساكين ما لو أحصي لبلغ مقداره نصف سكان الجبل اليوم. ووقائعهم في قرية أم ولد وقرية الكرك وقرية كحيل والحراك وبصر الحرير وبصرى إسكي شام وجوارها وقرية المليحات ومع عرب المعجل وعرب السرحان وعرب الخريشة وعرب ولد علي وغيرهم مشهورة إلى الآن على الألسن دع عنك نحو عشرين قرية اغتصبها الدروز من الحوارنة في قضاء عاهرة وقضاء السويداء وقضاء صرخد وهي أقضية الجبل اليوم التابعة لمركز اللواء الذي كان أول أمس شيخ سعد فأصبح أمس شيخ مسكين واليوم غدا درعا. تعم لم يكن سكان جبل الدروز كما قال عارف بأحوالهم منذ أربعين سنة إلا أقل القليل من سكانه فالجهة الجنوبية أي قرى صرخد وجوارها كانت بأيدي المسلمين والمسيحيين من أهالي حوران والقرى الغربية كانت بيد حمولة الزعبية من حوران إلى أن اعتاد أشقياء دروز لبنان وحاصبيا وراشيّا أي وادي التيم وعكا وصفد والقرى المجاورة لدمشق والقنيطرة ومن اعتادوا القتل والنهب وقطع الطريق وتعذرت عليهم الإقامة في بلادهم أن يعتصموا في هذا الجبل فضاقت عليهم قراهم الأصلية فجعلوا الحوارنة عن بلادهم وأصبح جبلهم ملجأ الأشقياء. أما وقائعهم المشورة فكان أولها سنة 1295 شرقية بينهم وبين أهالي بصر الحرير فساقت الدولة إليهم قوة إلى موقع القراصنة ولما لم تحسن الإدارة زاد الدروز جرأة إلى أن كان سنة 1297 شرقية وقد هجموا على قريتي الكرك وأم ولد وذبحوا سكانها عن بكرة أبيها

حتى الأطفال الرضع فكانوا يفسخونهم قطعتين ثم سيقت عليهم قوة بقيادة المشير حسن فوزي باشا أسفرت عن ربط دية شرعية مسقطة على الدروز وتأسيس قائم مقامية جبل الدروز وجعلها ثمان نواح وتعيين قائم مقام ومديرين للنواحي منهم. وما برحوا يشغلون الحكومة فترسل عليهم الحملات كل مدة ويراوغون ثم يستعطفون رجالها بالكذب والرشى تارة وتارة يتحد أشقياء المقرن القبلي مع عرب السردية فيغزون قرى بني صخر والحويطات والسرحان وقرى حوران الجنوبية وينضم أشقياء المقرن الشرقي إلى عرب الصفا يغزون تجار بغداد والزور وأشقياء المقرن الشمالي يتحدون مع عرب الحسن ويغزون قرى جبل قلمون والنبك وحمص ويتحد بعضهم مع عرب اللجاة يسلبون قرى جبل حوران وتارة يقتلون الموظفين ويمثلون بالعسكر ولا يدفعون الأموال وينهبون التجار حتى أرسلت عليهم الحكومة حملة مهمة سنة 1311 رومية فضربتهم ضربة لو وضعت بعدها الإصلاحات الإدارية المعتبرة ولم تعف بعد قليل عن زعمائهم لاستقام الأمر ولم يعودوا إلى سالف أحوالهم حتى صيف هذه السنة. أحلَّ أشقياء الدروز في حوران قتل من خالفهم والاعتداء على مجاوريهم وعلى القوافل الآتية من العراق ونجد حتى كادت التجارة تنقطع بين أقطار العراق ونجد والشام بسبب غاراتهم على الأقاليم المجاورة وخربوا جانباً عظيماً من القرى والمزارع وأخذوا المواشي وسفكوا الدماء حتى الجأ إليهم كل من عصا الدولة والعسكر الفار من الجندية والأشقياء وخربت بأعمالهم كثير من القرى والمزارع وأصبحوا بفعلاتهم يحولون دون امتداد العمران في أطراف هذه الولاية ولولاها لاستفاض عمرانها ولاسيما من جهة الشرق والجنوب عمراناً تزيد مساحته على ولاية عظمى من الأرض المنبتة ولكفت ملايين من المهاجرين وأهل البادية. أما الفوائد التي ستنجم من إدخالهم حظيرة الطاعة فامتداد العمران ال الجنوب مراحل كثيرة حتى يبلغ من الأزرق إلى بلاد الكرك بل قرى الملح إلى الجوف فينتفع بما فيها من المياه المعطلة ويمتد من جهة الشرق إلى تدمر مسافة عشرة أيام. وتدمر هيب المدينة المعروفة بتاريخها المجيد. ويتصل بجهة الشمال ببلاد حماة وحلب. ولعل هذا المبحث لا يصدر إلا وقد أخلد أولئك العصاة إلى السكون بهمة قائد الحملة العام سامي باشا الفاروقي فيضع لهم

أساساً راسخاً في الإصلاح لا يتمكن أحدهم من نقض عروته ويعاملون في عهد الدستور بما لم تكن الدولة تعاملهم به في عهد الاستبداد ويشرط هذا الجرح النغار بل الآكلة المزمنة في جسم سورية بمشراط الجراح الماهر الذي أحسنت الحكومة ظنها به في هذه المهمة فيصبح جبلهم منتاب المصطافين كما أصبح جبل لبنان من قبل فجبل حوران ليس دون جبل الشيخ وجبل قلمون جبل اللكام وغيره من الجبال السورية بهوائه ومائه ويزيد عليه خصب تربته وبعده عن الرطوبة هذا ويقل الماء الجاري في جبل حوران وأكثره ينابيع قليلة تكاد تك في لشرب الشفة فقط أما الزروع فلا تنمو بالسقيا بل تنمو بماء السماء كسائر بلاد حوران وحدث ما شئت أن تحدث عن خصب التربة فإن الحبوب تجود فيه كل الجودة وتقل الأشجار فيهم اللهم إلا الكرم والتين وبعض السنديان والزان وأكثر الغابات لم يبق منها إلا جذوع أشجارها تجدها بالقرب من السويداء وسهوة الخضر وسهوة بلاطة ومياماس وابي زريق وساله وقنوات وعتيل في ذروة الجبل أي في طرف قليب حوران ولم يبق إلا شجرات معدودات بين قنوات والجبل والله أعلم.

أصل الدروز

أصل الدروز ينسب الدروز إلى رجل يقال له محمد بن إسماعيل الدرزي كان أحد أصحاب دعوة الحكام بأمر الله العبيدي ويسمى في كتب هذه الطائفة نشتكين الدرزي والدرزي بالفتح معناه الخياط فارسي معرب والعامة تضم الدال ويقولون في الجمع الدروز والصواب الدرزة محركة. أما الحاكم هذا فإنه سادس خليفة من خلفاء الدولة العبيدية ويقال لهم الفاطميون ولقبه الحاكم بأمر الله وكنيته أبو علي واسمه المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله المهدي. واختلف المؤرخون في صحة نسبهم فبعضهم صححه وجعله متصلاً بفاطمة الزهراء عليها السلام ونسب عبيد الله المهدي إلى محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم ابن إسماعيل بن جعفر الصادق. وطعن أكثر العلماء والمؤرخين في هذه النسبة وجعلوا نسبهم متصلاً بالحسين بن محمد بن أحمد القداح وكان مجوسياً وقيل يهودياً فقالوا أن أمهم فاطمة بن عبيد اليهودي واسم المهدي هذا سعيد ولقبه عبيد الله وزوج أمه الحسين ابن محمد بن أحمد بن عبيد الله القداح بن ميمون بن ديصان وقيل هو سعيد بن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون وميمون هذا هو صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة كان يظهر التشيع لآل البيت ونشأ لميمون عبد الله وكان يعالج العيون التي نزل إليها الماءُ بالقدح (هو إخراج الماء الفاسد منها) وتعلم عبد الله من أبيه ميمون الحيل وأطلعه أبوه على أسرار الدعوة آل البيت ثم سار القداح من نواحي كرج وأصفهان إلى الأهواز والبصرة ثم إلى سلمية من أعمال سورية يدعو إلى آل البيت. ثم توفي القداح وقام ابنه أحمد مقامه وتوفي أحمد وقام مقامه ابنه محمد ثم قام بعده ابنه الحسين وكان ببغداد فسار إلى سلمية حيث كان له بها ودائع وأموال من ودائع جدع عبد الله القداح وكان يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن والجمال فتزوجها الحسين المذكور ولها ولد من اليهودي يماثلها في الجمال فأحبها وأحب ابنها وأدبه وعلمه العلم فتعلم وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة ومات الحسين ولم يكن له ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو عبيد الله المهدي وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأعطاه الأموال والعلامات فدعا له الدعاة.

قال ابن خلدون: ولا يلتفت لإنكار هذا النسب لأن إغراء المعتضد لابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسلجماسة بالقبض على عبيد الله لما سار إلى المغرب وشعر الشريف الرضي في قوله: ما مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وأنف حمي ألبس الذل في بلادي الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي من أبوه أبي ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيد القصي لفَّ عرقي بعرقه سيد الن ... اس جميعاً محمد وعلي إن ذلي بذلك الجد عز ... وأمي بذلك الربع ري شاتهد بصحة نسبهم وأما المحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر القداح في نسبهم وشهد فيه أعلام الأئمة فهي شهادة على السماع. وبدأت دولة الفاطميين من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة وفي أيامهم كثرت الرافضة واستحكم أمرهم ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين في ثغور الشام كالنصيرية والدرزية. والحشيشية من نوعهم. وكانت أحوال الحاكم بأمر الله متناقضة فعنده شجاعة وجبن ومحبة للعلماء وانتقام منهم وميل إلى أهل الصلاح وقتلهم وسخاءٌ وبخل بالقليل. لقب نفسه الحاكم بأمر الله ولما زاد ظلمه عنَّ له أن يدعي الإلوهية اقتداءً بفرعون فأخذ يمهد لذلك المقدمات فلقب نفسه الحاكم بأمره وأمر الخطباءَ بأن يقرءوا بدل البسملة (باسم الحاكم المحيي المميت) وصار يدعي علم المغيبات باتفاق اعتمده من العجائز اللواتي يدخلن بيوت الأمراء وعنده من دعاته رجلان أعجميان من دعاة الباطنية أحدهما يقال له محمد بن إسماعيل الدرزي وثانيهما يقال له حمزة بن علي بن أحمد أما الأول فإنه قدم إلى مصر في أواخر سنة سبع وأربعمائة ودخل في خدمة الحاكم ووافقه على إثبات دعوته بالإلوهية وصنف له كتاباً كتب فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب ومنه إلى أسلاف الحاكم متقمصة من واحد إلى آخر حتى انتهت إلى الحاكم وقرأ هذا الكتاب في الجامع الأزهر بالقاهرة فهجم الناس على مؤلفه ليقتلوه ففر منهم وحدث شغب عظيم في القاهرة ونهبوا بيت الدرزي وقتلوا كثيرين

من أصحابه فأرسله الحاكم سراً إلى بر الشام فنزل بوادي التيم بالقرب من جبل الشيخ وهناك نادى بإلوهية الحاكم وكان الأمراء التنوخيون الذين أتوا من العراق إلى الشام من الباطنية ولذلك كانوا مستعدين لقبول دعوة الدرزي فانقادوا إليها ومن ذلك تسميتهم بالدروز. وقتل الدرزي المذكور في وقعة مع التتر سنة إحدى وعشرة وأربعمائة. وثانيهما حمزة بن علي بن أحمد وكان وقع الخلاف بينه وبين الدرزي وبعده تقدم مكانه ودعا بإلوهية الحاكم فأجابه البعض واتخذ معبداً سرياً لعبادة الحاكم وجعل نفسه ثانياً له فهو مقدس ومحترم عند القائلين بإلوهية الحاكم يلقب عندهم بهادي المستجيبين وحجة القائم وغير ذلك. وهم يكرهون محمد الدرزي ويشتمونه ويكرهون التسمية باسمه لما أنه أراد أن يغتصب منصب حمزة ويتقدم عليه بما فعله كما يعلم من رسالة الغاية والنصيحة من كتبهم. ولما قتل الحاكم قرب حلوان زعم الدروز أنه خرج في ليلة منفرداً إلى البركة الزرقاء ومن هناك عرج إلى السماء متخفياً عن أعين الناس وكتب حمزة بعد وفاة الحاكم الرسالة المسماة بالسجل المعلق وعلقها على أبواب الجامع وفيها يقول أن الحاكم اختفى امتحاناً لإيمان المؤمنين وشرع حمزة يزرع في القلوب بذر الاعتقاد بإلوهية الحاكم وتوحيده وعبادته ويجتمع هو وأتباعه في المعبد السري يعبدون الحاكم حتى ثارت عليهم المسلمون وظفروا بهم وطردوهم ففروا من مصر ونزل بعضهم في الجبل الأعلى من الديار الحلبية وبعضهم في جهة حوران ثم تفرقوا من هناك فذهب بعضهم إلى جبل الشوف والآخر إلى وادي التيم ولم يزالوا في نمو وازدياد إلى هذا العصر. للدروز عادات قديمة توارثوها منها أن لهم قضاة منهم يحكمون في المعاملات المدنية الجارية بينهم على مقتضى الشريعة غير أنهم يخالفونها في بعض المعاملات بحكم العادة الموروثة فلا يسوغ لأحدهم مثلاً أن يوصي بجميع ماله لأحد أولاده ويحرم الباقي من ميراثه إن كان هذا المال الموصى به من كسب يده وأما إذا كان متنقلاً غليه بطريق الإرث عن آبائه وأجداده فلا يسوغ له لأنه حينئذ يكون من حقوق الأسرة والأصول والفروع متساويان فيه فللورثة استحقاق في تقسيم هذا المال. ومنها أن المرأة لا ترث شيئاً من دار أبيها حتى أن هذه العادة سرت إلى مجاوريهم في الجبل من بقية الطوائف. وكذا يخالفون في النكاح والطلاق إذ لهم في ذلك أصول خاصة لا

يجوز عندهم الجمع بين امرأتين فإن لم يطلق التي عنده لا يمكنه التزوج بغيرها وتطلق المرأة بأدنى سبب ولا يجوز عندهم رد المطلقة ولو كان بعد زوج آخر. ويخالفون في عقائدهم عقائد الفرق من أرباب الديانات لكنهم يستترون بين المسلمين بالإسلام ويتزيون بزي أهله والأحرى أن نقول أنهم يتظاهرون بالتبعية لمن يكونوا تبعاً له وأما في الباطن فإنهم ينكرون الأنبياء عليهم السلام وينسبونهم إلى الجهل وأنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم وما عرفوا المولى ويشنعون بالطعن على جميع أرباب الديانات من المسلمين والنصارى واليهود والديانة الحقة عندهم هي عبارة عن توحيد الحاكم ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم وحفظ الإخوان بدل الصلاة ولكن لا يجوزون مراعاة ذلك لغير أفراد ملتهم. ويقرءون القرآن ويؤولونه بتأويلات تناقض الشرع ويذهبون إلى قدم العالم تبعاً لبعض الفلاسفة ويقولون بالتناسخ معبرين عنه بالتقمص فالجسد يسمى قميصاً عندهم وإن الميت حين موته تنتقل روحه إلى من يولد وقتئذ فالأرواح الإنسانية لا تنتقل عندهم إلا قوالب إنسانية ويقولون أن الهوية الإلهية تنتقل في قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر فتتجلى في كل زمن وتجلت أخيراً في الحاكم وأن حمزة أيضاً ظهر في كل عصر بقالب ففي زمان كان فيثاغورس الحكيم وفي زمان كان شعيباً وفي زمان كان سليمان بن داود وفي زمان كان المسيح الحق فهو النبي الكريم عندهم. وحمزة العصر المحمدي هو سلمان الفارسي. ويزعمون أن القرآن قد أوحي حقيقة إلى سلمان الفارسي وأنه كلامه ومحمد (عليه الصلاة والسلام) أخذه وتلقاه منه حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خطب به ولده في معرض الوصية بقوله: يا بنيَّ أقم الصلاة وأُمر بالمعروف وانه عن المنكر هو خطاب سليمان لمحمد والتعبير بالنبوة إنما هو من خطاب المعلم للمتعلم. ويقسمون إلى قسمين العقال والجهال ويقال لهم أيضاً العوام ونسائهم أيضاًَ ينقسمن إلى قسمين عاقلات وجاهلات فيقال للعاقلة جويدة وللجاهلة غير جويدة والعقال طبقتان طبقة الخاصة هي التي يعتمد عليها ويوثق بها حقاً إذ أنها حصلت على تمام المعرفة بأسرار الديانة وطبقة العامة وهي التي يحسن الظن بها وأما الجهال فلا حظ لهم من الديانة سوى

الدخول تحت اسم الدرزية وأينما وجد هؤلاء العقال تتخذ هناك معابد للعبادة تسمى بالخلوة وهي حجرة ضمن حجرة وفي كل ليلة جمعة يلتئم أهل كل طبقة في الخلوة الخاصة بهم ويجتمعون جميعاً في الخلوة الخارجية فيقرءون شيئاً من المواعظ ومن هؤلاء العقال طبقة أتقياء يقال لهم المتنزهون وهم مثابرون على العبادة والورع ومنهم من لم يتزوج ومنهم من لم يأكل لحماً مدة حياته ومنه من هو صائم كل يوم ولهم زيادة احتياط في التورع حتى أنهم لا يذوقون شيئاً من بيت أحد من غير العقال والعقال جميعهم يعتقدون أو أموال الحاكم والأمراء حرام فلا يأكلون شيئاً من طعامهم ولا من طعام خدمهم حتى ولا من طعام حمل دابة مشتراة من مال حاكم لكنهم يستحلون أموال التجار من أي جهة كانت فإن حصل بين أيديهم شيءٌ من مال اعتقدوا حرمته يذهبون به إلى أحد التجار فيستبدلونه منه وينزهون ألسنتهم عن ألفاظ الفحش والبذاءة ويتجنبون الإسراف لأنه يورث نقصاً في أخلاق الموحدين عندهم. ويحرص الدروز جداً على كتمان عقائدهم ولذلك يعبرون عن مرامهم في لغتهم ورسائلهم بطريق الرمز والكناية ويذكرون مباحث من علم الكلام وبعض مقالات غلاة المتصوفة وتأويلات الرافضة والملاحدة وخصوصاً الإسماعيلية من غلاة الشيعة ثم أنهم لاعتقادهم التناسخ وهو التقمص يزعمون أنه إذا مات أحد من كبار العقال الذين يعتقدون بولايتهم تذهب روحه إلى جهة الصين ويحل في قالب ولها يزعمون أن لهم وراء جبل الصين كثيراً من الأولياء ويعتقدون أنه كان قبل عالم الإنس عالم الجن والحن والرم وعوالم أخر ويقولون أنه كان قبل دور الحاكم دوراً وكل دور أربعة آلاف ألف سنة أربعة ملايين وتسعمائة ألف سنة فيكون قد مضى من مبدأ الخليقة إلى دور الحاكم ثلاثمائة ألف ألف سنة وثلاثة وأربعون ألف ألف سنة ثلاثمائة وثلاثة وأربعون مليون سنة وأول الأدوار دور العلي وآخرها دور الحاكم وهو دور القيامة ويثبتون لكل دور من السبعين دوراً سبعة نطقاء وسبعة أوصياء وسبعة أئمة فيكون مجموع النطقاء لجميع الأدوار أربعمائة والأوصياء كذلك والأئمة كذلك والناطق هو الرسول والوصي هو الأساس ويقولون أن أصحاب التكليف في كل عصر ستة كما كانوا أولوا العزم خمسة في كل دور كما أنهم خمسة في هذا الدور الأخير قالوا وإنما كانوا خمسة لا غير لأن القوة في النهاية عند

الخامس من كل شيءٍ ففي المقامات الربانية كانت عند الخامس وهو الحاكم وفي النطقاء انتهى العزم عند الخامس (يعنون به محمداً عليه الصلاة والسلام) وفي الأوصياء عند الخامس (يعنون به علياً كرم الله وجهه) وفي الأئمة عند الخامس (يعنون به محمد بن عبد الله القداح) وينتظرون ظهور يأجوج ومأجوج من داخل الصين ويحترمونه ويقولن يأتي هؤلاء القوم الكرام بألفي ألف وخمسمائة ألف من العساكر إلى مكة وفي صباح اليوم الثاني يتجلى لهم الحاكم بأمره من ركن البيت اليماني ويهدد الناس بسيف مذهب في يده ثم يعطيه حمزة وهو أيضاًَ يقتل الكلب والخنزير ثم يهدم الكعبة ويعطي الدروز حكومة الأرض جميعها ويستخدم بقية الناس في حكم الرعية. وبعد فإن لهم مواجب دينية وفرائض توحيدية أوجبوا على جميع أهل ملتهم حفظها ومعرفتها والعمل بها وسترها عن غير أهلها وهي أربع وخمسون فريضة. منها عشر مقامات ربانية وهم العلي والبار وأبو زكريا وعلي المعل والقائم والمنصور والمعز والعزيز والحاكم وكلهم إله واحد. ومنها أربع تظاهر الباري بها وهي الهيئة والاسم والنطق والفعل فالهيئة هي الصورة التي ظهر بها والاسم هو اسم الحاكم الذي تسمى به والنطق هو المجالس والسجلات التي يتكلم بها وتصدر عنه والفعل هي المعجزات التي كانت تصدر منه كقهر ملوك وقتل الجبابرة وظهوره بين الأعداء وحده وخروجه أيضاً وحده في أنصاف الليالي وظهوره في الحر الشديد وقت الهاجرة مع عدم تأثير الشمس في وجهه وعدم رؤية ظل له في ضوء الشمس والقمر وغير ذلك من الأمور التي ذكروها معجزات له في كتبهم كالسيرة المستقيمة ومجرى الزمان وغيرهما. ومنها عشر فرائض توحيدية الأولى معرفة البارئ وتنزيهه عن جميع المخلوقات الثانية الإمام قائم الزمان وتمييزه عن سائر الحدود الروحانيين الثالثة معرفة الحدود الروحانيين بأسمائهم ومراتبهم وألقابهم وإن قائم الزمان أولهم وهو الذي نصبهم وهم مطيعون لأمره ونهيه الرابع صون اللسان الخامسة حفظ الإخوان السادسة ترك عبادة العدم السابعة التبرؤ من الأبالسة الثامنة التوحيد للمولى في كل عصر وزمان التاسعة الرضى بفعل العاشرة التسليم لأمره وهي مذكورة في رسالة ميثاق النساء ورسالة البلاغ والنهاية. ومنها عشرة مواجب دينية وهي كن لهن في نفاسهم وأعراسهم وجنائزهم على السنة التي

رسمت لهم فهذه ثلاثة الرابعة أجيبوا دعوتهم الخامسة اقضوا حاجاتهم السادسة اقبلوا معذرتهم السابعة عادوا من ضامهم الثامنة عودوا مرضاهم التاسعة بروا ضعفاءهم العاشرة انصروهم ولا تخذلوهم وهي في رسالة التحذير والتنبيه. ومنها عشرون إمامية منها أربعة أنواع النوع الأول أسامي وهي خمسة الأول علة العلل الثاني السابق الحقيقي الثالث الأمر الرابع ذومعة الخامس الإرادة النوع الثاني طبائع جوهرية وهي خمس الأولى حرارة العقل الثانية قوة النور الثالثة سكون التواضع الرابعة برودة الحكم الخامسة ليونة الهيولى فهذه الخامسة هي العقل وطبائعه الأربعة وهي في رسالة كشف الحقائق. النوع الثالث خصائص نورانية وهي خمس الأولى الحمد لمن أبدعني من نوره الثانية وأيدني بروح قدسه الثالثة وخصني بعلمه الرابعة وفوض إليَّ أمره الخامسة وأطلعني على مكنون سره فهذه من كلام حمزة وهي في أوائل رسالة التحذير والتنبيه. النوع الرابع منازل كلية وهي خمس الأولى حد الجسمانيين الثانية حد الجرمانيين الثالثة حد الروحانيين الرابعة حد النفسانيين الخامسة حد النورانيين فهذه المنازل الخمسة هي مجتمعة في الإمام وهي مذكورة في السيرة المستقيمة. وأما تلقي الديانة وأخذها فله عندهم كيفية مخصوصة وهي أنه إذا أراد أحد من الجهال أن يأخذ الديانة ويدخل في سلك الموحدين ينبغي له أن يستجلب رضى الموحدين بتقديم الوسائل التعطفية مدة لا تقل عن سنتين يلتمس منهم قبوله وإدخاله في جماعتهم وإعطاءه الديانة فإذا قبلوه أدخلوه على الإمام فيوصيه بحفظ السر وعدم إشهاره ويأمره بتحرير العهد الواجب تحريره إذ لا يكون موحداً خالصاً بغير تحرير العهد على نفسه فإذا حرره وسامه إلى الإمام صار واحداً منهم والعهد الذي يجب تحريره هو المسطور تحت العنوان الآتي: ميثاق ولي الزمان. توكلت على مولانا الحاكم الأحد الفرد الصمد المنزه عن الأزواج والعدد أقر فلان بن فلان إقراراً أوجبه على نفسه واشهد به على روحه في صحة من عقله وبدنه وجواز أمره طائعاً غير مكره ولا مجبر أنه قد تبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها على أصناف اختلافاتها وأنه لا يعرف شيئاً غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره والطاعة

هي العبادة وأنه لا يشرك في عبادته أحداً مضى أو حضر أو ينتظر وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع مات يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره ورضي بجميع أحكامه له وعليه غير معترض ولا منكر لشيءٍِ من أفعاله ساءه هذا أم سره ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه وأشار به إلى غيره وخالف شيئاً من أوامره كان بريئاً من البارئ المعبود وحرم الإفادة من جميع الحدود واستحق العقوبة من البار العلي جل ذكره ومن أقر أن ليس له في السماء إله معبود ولا في الأرض إمام موجود إلا مولانا الحاكم جلَّ ذكره كان من الموحدين الفائزين وكتب في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا من سني عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين والمرشدين بسيف مولانا جلَّ ذكره وشدة سلطانه وحده اهـ.

السجل المعلق

السجل المعلق من المخطوطات المضنون بها عند الدروز السجل الذي كتبه حمزة بن علي هادي المستجيبين وكان سبباً لثورة الأفكار في مصر حتى هرب منها ونزل سورية ونشر بها العقيدة الدرزية وهو أكبر القائلين بإلوهية الحاكم وهاك بعض فصول منوعة تفيد مطالعتها في تمثيل حالة هذا القوم ننشرها بحرفها. وهذا السجل هو مقالات منوعة في أغراض شتى فمن مقالاته مقالة: خبر اليهود والنصارى وسؤالهم لمولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمر المؤمنين صلوات الله عليه من شيءٍ من أمر دينهم باعتراض اعترضوه فيه إنكار أنكروه عليه والجواب على ذلك بما اختصهم من القول وأسكتهم وانصرفوا مقهورين والحمد لله رب العالمين بسم الله الرحمن الرحيم حدث من نثق به ونسكن إلى قوله مع إشهار الحديث في ذلك الوقت أنه حضر في موقف من مواقف الدهر وصاحب العصر مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين سلام الله عليهم حسب ما كان يقف على من سلم عليه فذكروا أنهم من أهل الذمة وأن لهم حاجة وأنهم يهود ونصارى فقال عليه السلام قولوا حاجتكم فقال نسأل حاجتنا إذا أمنتنا على نفوسنا فقال إن طلبة الحوائج لا تحتاج إلى أمان فقالوا هي حاجة صعبة وسؤال عظيم فقال عليه السلام اسألوا فيما عسى أن تسألوا ولو كان في الملك قالوا: يا أمير المؤمنين ما هو شيءٌ يتعلق بأمر الدنيا وإنما هو شيءٌ يتعلق بأمر الدين وخطر عظيم فإن آمنتنا على أنفسنا ذكرناه وسألناك عنه وإن لم تأمنا سألناك العفو وانصرفنا آمنين فعد لك وأمنك قد ملآ الغرب والشرق وعطاؤك وجودك دق غمرا جميع الخلق. قال عليه السلام: اسألوا عما أردتم وأنتم آمنون بأمان الله تعالى وأمان جدنا محمد وأماننا لا منكوث عليكم في ذلك ولا متأول. قالوا: يا أمير المؤمنين إنا الذي نسألك عنه خطر عظيم وأمر جسيم وأنت صاحب السيف والملك ولا نشك في أمانك ولكننا نخشى من سفهاء الأمة. قال عليه السلام: قولوا وأنتم آمنون من جميع الناس والأمة. قالوا: يا أمير المؤمنين أنت تعلم أن صاحب الشريعة الذي هو محمد بن عبد الله الرسول المبعوث إلى العرب الذي لهجرته كذا وكذا سنة وذكروا عدد السنين التي لهجرته إلى تلك السنة التي خاطبوه فيها أنه حين بعث إلى العرب وجاهد سائر الأمم لم يسمنا الدخول في شريعته إلا أنا اخترنا ذلك بلا إكراه وأداء الجزية ولم يكلفنا إلا هذا وكذلك كل واحد من أئمة دينه وخلفاء مذهبه ومتفقهي

شريعته لم يسمنا ما سمتنا أنت إياه من هدم بيعتنا وأديارنا وتمزيق كتبنا المنزلة على رسلنا عند ربنا فيها حكمة بالحلال والحرام والقصاص حتى أنك أبحت التوراة والإنجيل يشد فيها الدلوك والصابون وتباع في الأسواق بسعر القراطيس الفارغة. وقد أخبرنا صاحب الملة والشريعة عن ربه فيما نزل عليه أن التوراة فيها حكم الله ثم ذكر أنه في غير موضع في الكتاب المنزل عليه تفخيم أمر رسلنا والأفاضل من تباعهم وإسحق ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وهؤلاء كلهم أنبياؤنا وأئمة شرائعنا ومثلما ذكروا الفضلاء منا مثل بقايا موسى وحواري عيسى وما حكاه أيضاً في الكتاب المنزل عليه من تفضيل قسسنا ورهباننا بقوله أن فيهم قسساً ورهباناً وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول تفيض أعينهم بالدمع مما عرفوا من الحق ولو استقصينا كل ما جاء في الكتاب المنزل عليه من تفضيل رسلنا وتفخيم كتبنا لكان أكثر ما نزل عليه في هذا المعنى ثم قد كان من خلفاء الملة وأئمة الشريعة من المحمودين آبائك والمذمومين أعدائهم وأعداءك مثل بني أمية وبني العباس ممن عتا في الأرض ملكها طولاً وعرض (؟) ومع اتساع ملوكهم وعظم سلطانهم وكان بخطب لهم في كل بقعة بلغت إليها دعوة رسولهم وصاحب شريعتهم ولم يحدث علينا رسماً ولا نقضوا لنا شرطاً اقتداءً منهم بصاحب ملتنا وشريعتنا المذكورة على لسان نبيهم. فمن أين جاز لك أنت يا أمير المؤمنين أن تتعدى حكم صاحب الملة والشريعة وفعل الخلفاء والأئمة الذين ملكوا قبلك البلاد والأمة وليس أنت صاحب الشريعة بل أنت أحد أئمة صاحب الشريعة وأحد خلفائه والقائم في شريعته لتتممها وتشد أركانها وبنيانها وبذلك نطقت في كلامك في غير موضع من مواقفك التي خاطبت بها وأشهر ذلك عنك أقرب الناس إليك من أوليائك وأنت تفعل معنا ما لم يفعله الناطق معنا ولا أحد من أئمته ولا خلفائه كما ذكرناه وهذه حاجتنا التي سألناها وأمرنا الذي قصدناه وطلبنا الأمان عليه ونريد الجواب عنه فإن يكن حقاً وعدلاً آمنا به وصدفنا وإن يكن متعلقاً بالملك والدولة والسلطان بقينا على أدياننا غير شاكين في مذاهبنا وأزلنا الشبهة عن قلوب المستضعفين من أهل ملتنا وما جئناك إلا مستفهمين غير شاكين في عدلك ورحمتك وإنصافك وعلى هذا أخذنا أمانك وقد قلنا الذي عندنا وأخرجناه من أعناقنا كما تقتضيه أدياننا والأمر إليك فإن تقل لنا سمعنا وأطعنا وأجبنا وإن أذنت لنا ولم تقل انصرفنا ونحن آمنون بأمانك الذي أمنتنا فقال عليه

السلام: أما الأمان فهو باقٍ عليكم وأما سؤالكم فما سألتم إلا عما يجب لمثلكم أن يسأل عن مثله وأما نحن فنجيبكم إن شاء الله ولكن امضوا وعودوا إليَّ ها هنا ليلة غد. وليأت كل واحد منكم يعني من اليهود والنصارى بأفقه من يقدر عليه من أهل ملته في هذا البلد ليكون الجواب لهم والكلام معهم. ولما كان في ليلة غد حضر القوم في المكان بعينه وقفوا وسلموا وقالوا قد أتينا بمن طلبه أمير المؤمنين منا وقدموا أحد عشر رجلاً ومن قبل سبعة فقال لهم أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لهؤلاء اخترتم لهم وقدمتم قالوا بأجمعهم: نعم يا أمير المؤمنين قال للنفر: وأنتم رضيتم أن تكونوا متكلمين عن أهل ملتكم نائبين عنهم قالوا: نعم قال: فهل تعلمون في هذه البلدة وأنتم أهل ملتكم من هو أفقه منكم قالوا: لا قال عليه السلام: وأنتم تحفظون التوراة والإنجيل وأخبار الأنبياء قالوا: نعم قال عليه السلام: (أنتم) عارفون بمبعث صاحب الشريعة الذي أنا قائم بملته وذاب عن شريعته وسيرته وأخباره وما جرى بينه وبين رؤساء ملتكم ومتقدميكم من اليهود والنصارى من الجدل والمسائل والاحتجاجات ومن سلم لأمره منهم ولم يسلم من مبعثه إلى حين وفاته. قالوا: لم نحط بذلك كله بل أحطنا بأكثره مما يلزمنا حفظه وعلمه مما جرى بينه وبين علمائنا تصحيحاً لمذهبنا وشريعتنا وذلك عندنا محفوظ مدون مكتوب تتوارثه أحبارنا وأحبار عن الأولين من قبلنا حتى وصل ذلك إلينا ويتصل بغيرنا كما وصل إلينا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال عليه السلام: إن أصحابكم سألوني البارحة عن سؤال بعد أن أخذوا أماني على نفوسهم ووعدتهم أن أجيبهم عن سؤالهم إذا حضروا علماءهم وقد حضرتم واعترفوا لكم بالعلم والفضل وصدقتموهم أنتم على ذلك واعترفتم عندي به لما قلت لكم أنتم تعرفون في هذه البلدة من هو أعلم منكم من أهل ملتكم بأخبار صاحب شريعة الإسلام ونسبه وشيعته وعلمه وشريعته قلتم: لا. وأنا أسألكم في آخر السؤال أجيبكم وأخبركم بما سألوني عنه أصحابكم وأماني باق عليكم وعليهم على شرط وهو أني كلما سألتكم عن شيءٍ يقتضيه مذهبكم وشريعتكم ومذهب صاحب ملة الإسلام وشريعته فتجيبوني عنه بما هو مأثور في كتبكم المنزلة على أنبيائكم ومدون في كتب رؤسائكم وعلمائكم وأحباركم ما لم يكن عندكم ولا تعرفونه ولا تؤثرونه في كتاب منزل ولا أقول حكيم مرسل فردوه عليَّ وادفعوه بحججكم

التي عسى أن تدفعوا بها سواي وما عرفتموه وفهمتوه فلا تنكروني إياه لقيام الحجة عليكم به وفيه قالوا: نعم قال لهم إن صدقتم فأماني يعمكم وإن كذبتم انفسخ أماني عنكم وعاقبتكم وكانت عقوبتكم جزاء لكذبكم أرضيتم؟ قالوا: نعم قال: أبلغكم أنه لما كان في كذا وكذا نمن هجرة الرسول صاحب شريعة الإسلام أتاه رؤساء شريعتكم وعلمائكم من الملتين اليهود والنصارى وهم فلان وفلان وفلان وفلان وسموا له البقية أسماء الرجال حتى أتوا على آخرهم. قال عليه السلام. قد صح عندي أنكم صدقتم لما تممتم أسماء الرجال الباقين الذين بدأت أنا بذكرهم أفي ذلك عندهم شك تشكون فيه أو ريبة ترتابون بها قالوا: لا قال لهم: لما استحضرهم ما قال لهم قالوا: يقول أمير المؤمنين فمنه القول ونحن سامعون فما عرفناه أقررنا به وسلمنا فيه وما لم نعرفه ولم يكن مأثوراً عندنا ذكرنا لأمير المؤمنين. قال عليه السلام: قال لهم صاحب الملة والشريعة: ألم تكونوا منتظرين لزماني متوقعين لشخصي وترجون الفرج مع ظهوري فلما أن ظهرت فيكم وأعلنت دعوتي وشهرت أمر ربي كذبتموني وجحدتموني ونافقتم عليَّ فطائفة منكم قاتلوني وطائفة رحلوا من جواري حسداً لي وبغضة حسبما تفعله الأمم الباغية في الأزمان المتقدمة إذ ظهر مثلها سنة سنتها الظالمون أولهم إبليس اللعين مع آدم الكريم فهل كان ذلك منه إليهم قالوا: نعم قال: فإذا علمتم أن ذلك قد كان منه فما كان جوابهم له عن ذلك بعد استماعهم كلامه قالوا: قد قلنا أولى لأمير المؤمنين أن بقول ولنا أن نسمع ونحن محمولين على الشرط الأول الذي أشرطه أمير المؤمنين علينا أما ما عرفناه أقررنا به وما لم نعرفه أنكرناه فنريح بذلك سلامة أدياننا بالتصديق بالحق وسلامة أنفسنا من القتل بالتزام الشرط. قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: كان جوابهم أنهم قالوا: ما أنت الذي كنا منتظرين لزمانه متوقعين لشخصه ولا الذي نرجو الفرج من ظهوره قال لهم: ما دليلكم على صحة ذلك أني ما أنا هو قالوا: ما هو مأثور عندنا وموجود في كتبنا وبشرت به أنبياؤنا لأممهم قال لهم: وما هو بينوه قالوا: ثلث خصال أحدها ليس اسمه كاسمك وقد نطق بذلك لسانك في نبوتك وجهرت به لأصحابك وجعلت ذلك فضيلة لك فمنه آخذناك لما قلت ما حكيته عن المسيح ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد يحلل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث

ويضع عنكم ضركم والأغلال التي كانت عليكم فهو كما قلنا ما أنت المسمى إذ اسمك محمد والذي بشرت به باتفاق منا ومنك اسمه أحمد والثانية مدته قد بقي لها أربعمائة سنة من يوم مبعثك إلى حين ظهور هذا المنتظر قد خالفته أيضاً في الاسم والمدة والثالثة المنتظر إنما يدعو إلى توحيد ربه بلا تعطيل ولا تشبيه ولا لفة تلحق نفوسنا حسبما ذكرته في تنزيلك من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ووضعه عنا ضرنا والأغلال التي كانت علينا فأي حجة بقيت لك علينا وليس اسمك اسم من ينتظر بقولك ولا فعلك فعله ولا المدة مدته فقد خالفته كما قلنا في الاسم والمدة والفعل وإذا كنت إنما تدعو إلى شريعته فبقاؤنا في شريعتنا آثر وخير لنا. ووصفة المنتظر عندنا رفع التكليفات وانقضاء الشرور ورفع المصائب والشكوك وأن لا يتجاوزه في عصره كافر ولا منافق وأنت أكثر أصحابك يظهرون النفاق عليك وإنما بغلبة سيفك عليهم سلموا لأمرك وإذا كان ذلك كذلك فلم تلومنا على قتالك وتناقلنا على طاعتك والدخول في شريعتك. ثم قال لهم أمير المؤمنين عليهم السلام: أكذا كان قالوا: نعم كذلك كان وكل قولك حق وصدق. قال: فما كان جوابه لهم عن هذا الكلام قالوا: يقول أمير المؤمنين حسبما جرت به العادة ونسمع ونعترف بالجواب إذا علمناه وننكره إذا جهلناه قال لهم عليه السلام: أما إذا عرفتم ذلك وعلمتوه فلا شك أنكم تعرفون صفة الحال كما جرت إنشاء الله. ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: كان جوابه لهم لا أقاتلكم على الدخول في ملتي ولتكذيبي والصدوف عن أمركم لأنكم أصحاب شرائع وكتب ومتمسكون بأمرها ناطقون وليس أقاتل من هذه صفته ولا أنا رافع الشرائع ولا ذلك كله إلي بل كلما ملكت بلداً بسيفي ممن فيه عبدة الأوثان والتناذر فلي أن ألزمهم الدخول في ملتي أو أقتلهم ومن كان في البلدة منكم عرضت عليه إما الدخول في ملتي واتباع أمري وشريعتي أو أداء الجزية فإذا كره الوطن الذي ملكته وبسيفي فتحته فمن وزن الجزية منهم وشريعتي أقررته في مكانه ومن انتقل عني تركته ومن قاتلني منهم على مثل ذلك قاتلته وانتظرت فيكم حكم ربي قالوا: لك ذلك فما قلت إلا حقاً ولا نرى منك إلا صدقاً قال لهم: إذا استقر ذلك بيني وبينكم وقد تأولتم علي ورفعتم منزلتي وفضلي الذي قد أتاني من عند ربي وزعمتم أن الذي تنتظرونه له اسم تعرفونه وفعل تعلمونه ومدة تنتظرونها وهي من مبعثها إلى حين

ظهور هذا المنتظر بقي له أربعمائة سنة فاكتبوا بيني وبينكم مواضعة تتضمن كل ذلك وذكره وعلى أنكم تدفعون إليَّ الجزية طول تلك المدة التي ذكرتم أن المبعوث إليكم فيها يأتي غيري فإن كنت من جملة المخرصين فإنتم تكفون مؤنتي ويرجع إليكم الملك إذ ظهر من تنظرونه وإن لم يظهر ومدتي قائمة وشريعتي ماضية وحكمي لازماً ولم يأتكم في هذه المدة من تنتظرونه فلصاحب ملتي والقائم بدعوتي والإمام الذي يكون في ذلك العصر أن يدعوكم إلى ما دعوتكم إليه فإن أجبتموه وسلمتم وإن أبيتم عليه كما أبيتم عليَّ وصددتم عنه واستكبرتم فله أن يأخذكم بالشرط الذي شرطتموه على أنفسكم ويقابلكم فإن قاتلتموه قاتلكم ولا يقبل لكم عذراً ويستبيح ملتكم ويهدم لكم شريعتكم بهدمه لبيعكم ويعطل كتبكم ويكون ما بقي لكم عذر تحتجون به ولا محال تركنون إليه ولا إبليس تعولون عليه وهو المنصور عليكم يقطع شأفتكم وشأفة كل الظالمين فهذا نصه المواضعة أهكذا هو قالوا: نعم قال أمير المؤمنين عليه السلام: والمواضعة لم تزل تنتقل من بعد صاحب الشريعة والملة من وصي صادق إلى إمام فاضل حتى وصلت إليَّ فهي عندي فلم يكن عليه السلام أن ينقض شرطاً أسسه وحكماً بينه وهو معروف وقت أن نشأ في الجاهلية محمد الأمين فكيف ينقض ما أنعم به عليكم ولم يجز لأحد من أئمة دينه وخلفاء شريعته أن ينقض ما أمر به من قبل انقضاء المدة إتباعاً وتسليماً لحكمه فلما وصل الأمر إليَّ وانقضت تلك السنون المذكورة في المواضعة في عصري وعند تمامها أمري أخذت منكم بحقه ودعوتكم إلى شرطكم وشرطه حسب ما تقتضيه الأمانة وحكم المعاهدة أكذلك بلغكم أنه صفة الحال قالوا: نعم كذلك كان قال: فأي حجة بقيت لكم عليه وعليَّ بعدما أوضحناه وأي أمر تعديت فيه بزعمكم عليم إذا كنت بشرطكم أخذتكم وما كنتم تنتظرونه أقمته عليكم وقد أوسعتكم حلماً وعدلاً إذا بقيت نفوسكم على أجسامكم ونعمكم عليها أمها (؟) لا لتنتبهوا بعد الغفلة وتسلموا بعد المعاهدة فأي حجة لكم بعدما وصفناه وأي حق معكم بعدما قلناه وأي عذر يقوم لكم بعدما شرحناه قولوا واسألوا تجاوبوا أو تنصفوا ولا يكون لكم قولاً ولا حجة فانصرفوا محجوجين كاذبين نادمين شاكين خائبين قالوا: ماذا تقولون قالوا بأجمعهم هذا والله كله حق وصدق لا نشك فيه ولا نرتاب به قد سمعنا لو فهمنا والله الحجة البالغة رب العالمين وصلى الله على نبيه وآله الطاهرين. تم الكلام في هذا الفصل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله وحده ونستعين

به اهـ. وسننشر في الجزء التالي نتفاً من هذا المخطوط أيضاً جلاءً للحقيقة الغامضة.

اللاما وعابدوه

اللاما وعابدوه عرف المطالعون من مواطنينا كثيراً عن غرائب ديانات البشر وعقائدهم ومعبوداتهم القديمة والحديثة ولكن نظن أنه لم يخطر لعاقل منهم ببال أنه يوجد حتى اليوم أمم عريقة في التمدن وهي تعد بالملايين تعبد إنساناً حياً مثلهم وتقدم له من أنواع التكرمة والتبجيل والإعظام ما لا ينبغي تقديمه إلا للإله الحي الأزلي القيوم فاللاما وما أدراك ما اللاما إن هو بشر كسائر الناس يأكل ويشرب ويضحك ويبكي ويخطئ ويصيب ومع ذلك فالملايين من الصينيين والهنود والمغول يؤلهونه تأليهاً ويبذلون له من ضروب العبادات ما يقضي بالحيرة والاستغراب والذهول هذا ولما كان الموضوع غريباً عجيباً وقد لا يخلو من الفائدة لمن تتبع تاريخ وأحوال وشؤون الأمم وما انطوت عليه من الشذوذ والمدهشات رأينا أن نطرفهم بهذه المقالة آخذة بناصيتي الإيجاز والوضوح فنقول: إن الدين اللاماوي قديم جداً مر عليه زهاء ثلاثة آلاف سنة وهو زاه سائد منتشر في مساحة من المعمور تقرب من سبعمائة ألف ميل ممتدة من ينبوع نهر الأندوس إلى حدود الصين ومن تخوم الهند إلى قفر كوبي وتسمى هذه المملكة ثيبة أو تيبت وعدد سكانها يتجاوز الستة ملايين وهي مجاورة لجبال حملايا وترتفع عن سطح البحر نحو عشرة آلاف قدم بيد أن هذا الدين لم ينحصر في تلك المملكة فقط بل تسربت تعاليمه أيضاً منذ عصور متطاولة إلى قبائل وفصائل كثيرة من أمة التتر المتجولة بين ضفاف نهر الولكا وكوريا بجوار بحر اليابان وإلى كثير من جزائر الهند ومقاطعات الصين حتى يقول الباحثون أن الذين يدينون بهذا الدين لا ينقصون عن مئة مليون أكثرهم ممن لهم أقدام راسخة في المدنية الشرقية وعراقة تامة في الحضارة بين أصحاب اللون الأصفر والقوقاسيين من شعوب آسيا الكبرى. ومقر عرش هذا المعبود استغفر الله إنما هو قصر يسمى باتولي مبنيٌ في ذروة جبل على مقربة من شاطئ بارمبوتر بينه وبين لاسا عاصمة البلاد سبعة أميال وفي حضيض ذلك الجبل يقيم نحو عشرين ألفاً من الكهنة تتفاوت رتبهم الدينية بحسب بعد منازلهم وقربها من عرش اللاما معبودهم الأكبر. وهم يعتقدون أنه أزلي لا يموت محيط بكل الأمور جامع لأنواع الفضائل ويسمونه أب السماوات وهو لا يرى إلا في مكان سري في قصره يجلس فيه الأربعاء بين مئات من

المصابيح الذهبية وعليه من الحلي وأنواع الجواهر النفيسة ما يقصر عنه الوصف فيتقاطرون إلى زيارته من كل صوب وأوبٍ وحدب في موسم معلوم وقليل منهم من يفوز بالدنو منه على قيد ذراع وعلى الذين ينالون شرف الدخول إلى مقدسه أن يطرحوا أنفسهم إلى الأرض ركعاً سجداً وهم بعيدون عنه مرمى النظر إجلالاً وتكريماً ولا يخصُّ بهذه المنحة السامية إلا الملوك وعظماء الأمم وزعماء القبائل فيرونه عن بعد من طرف خفي دون أن يخاطبوه أو ينبس لهم ببنت شفة. وهذه الزيارة تكفي عندهم لمغفرة كل ما اجترحوه ويجترحونه من الآثام والكبائر مدى الحيوة ومن العجب أنهم يأخذون من رجيعه ما يذخرونه في أوعية صغيرة ذهبية ثم يعلقونه كالتمائم والتعاويذ في أعناقهم وأعضادهم يستشفون بها من الأمراض ويدفعون بها من كيد الأبالسة ونزعات الشياطين وهم يشترون تلك الذخائر الرجسة بألوف مؤلفة من المال ومن حصل على مثقال منها فقد نال بزعمهم سعادة الدارين وجمع بين الحسنيين وقد يدخلون إلى مطاعمهم ولو بعض نقاط من مفرزه المائي ولكن هيهات أن ينال ذلك منهم إلا كل رفيع القدر نافذ الكلمة واسع العطاء فمن خدمه الحظ وخازمه التوفيق بحيث يتهيأ له أن يجمع بين المفرزتين معاص فهو بين الأقطاب الأعلام أمجد من الإسكندر في عصره أو فرعون في مصره فيا لله مما تنحط إليه مدارك البشر. وللاما سلطان سياسي فضلاً عن سلطانه الديني ومع أن بلاده تحسب منذ القدم تابعة للإمبراطورية الصينية وتؤديها بعض الجزية فهو يدير حكومة بلاده مستقلاً بواسطة عمال يسمونهم خانات وما من مدافع وله في باكين وغيرها من العواصم في الشرق الأقصى سفراء وإمبراطور الصين ذاته يؤدي له الطاعة والاحترام كعبود ولأعوانه الكثيرين الذين يسمونهم اللاماويين الصغار أنفذ سلطة وأسمى مكانة بين عامة الناس وخاصتهم وهم يجبون الهدايا ويجمعون النذور ومن جميع بلاد المغول وثيبة والهند الغربية وغيرها وغيرها باسم اللاما العظيم ومع كونهم فاسدي الأخلاق قبيحي السيرة منغمسين باللذات البهيمية يحترمهم الناس أعظم احترام ولهم جميعاً من الثروات الطائلة ما أصارهم في المقام الأول بين متمولي تلكم الأصقاع وموسريها. وعندهم أن اللاما متى أدركه اليوم أو مات بسبب آخر من أسباب الموت تفارق روحه ذلك

المنزل المتهدم القديم لتحل في مسكن أقوى وأمتن فتنتقل تلك الروح إلى جسد طفل له عندهم علامات وفروق خاصة كالعجل آبيس عند قدماء المصريين فيبحثون عنها بواسطة اللامويين الصغار حتى إذا تحققوا وجودها في أي طفل كان قالوا_هذا هو اللاما_فاتخذوه خلف لسلف قبله وأقاموا عنه نواباً حتى يبلغ أشده وعلى هذا لا يكون في زعمهم موتاً طبيعياً بل هو من قبيل الانتقال العادي من موئل إلى آخر. وهم يؤمنون بإله واحد يثلثون أقانيمه كما يثلث الهنود برهما ويزعمون أنه ظهر أول مرة (سنة 1026 قبل الميلاد) وكان يملك في بلاد الهند وهو متجسد يموت في الظاهر ولكن في الحقيقة يتنقل كما ذكرنا سابقاً من مسكن إلى آخر مع أنه أزليٌ حيٌّ سرمديٌّ لا يموت ويريدون به نفس اللاما العظيم الذين يسميه الصينيون هوفو أي الإله الحي. ثم هم يؤمنون بخلود النفس والثواب والعقاب ولهم صلوات وأصوام وذبائح وقرابين وكهانة ذات فروض ونذور ومناسك وصوامع وأديار وعدد كهنتهم يتجاوز الثلاثين ألفاً وكلهم يلبس ألبسة خاصة ذات مناطق صفراء وقبعات تختلف أشكالها وأوضاعها باختلاف رتبهم الدينية ولهؤلاء الكهنة مدارس تلقنهم فروض الدين ونواميسه وتعاليمه وشيئاً من الطب وعلم الهيئة وضروباً من الشعوذة والتدجيل يمخرقون بها على العامة المخدوعة بأساليبهم السحرية غير أن دهاء الإنكليز الذي يستسهل أمرهم بعض متهوسي الكتبة ذوي الأماني والأحلام لم يدع هذه الزمرة المضللة وإلهها الدجال يتمتعون بما توارثوه عن آبائهم منذ آلاف أعوام من المجد السامي والمكانة العليا بل لم برحوا منذ بعض قرون فآتياً يبثون دعاتهم ورسلهم وينصبون شباكهم وأحاييلهم بين اللامويين متعذرين بكل وسيلة من وسائلهم الفعالة لبسط نفوذهم وتمتين دعائمهم في تلك الأقطار حتى ألجأوا اللاما وأتباعه بعد حملات سالت فيها الدماء سيل الماء إلى موالاتهم والدخول في حمايتهم وتحت سيطرتهم وغير ذلك مما كشف القناع عن بصائر الصينيين وأمات ثقتهم وصدق يقينهم بذلك المعبود الكاذب فنهضوا عليه نهضة رجل واحد وأجلوه عن مقدسه فمضى هارباً صاغراً مدحوراً لا يلوي على شيءٍ يلتمس من مواليه الإنكليز حماية روحه وماله إلى غير ما هنالك مما فاضت ببيانه صحف الأخبار وجاء منطبقاً على ما يريد الإنكليز خلافاً لما يتوهمه البعض ممن ينظرون إلى المرامي السياسية بعين الأحوال فسبحان مصرف الأمور بحكمته ومقلب الأحوال بقدرته إن

له لآيات ترى تبدو من خلال تعاقب الليل والنهار. ومن غرائب هذه البلاد أن الهواء فيها مع ارتفاعها المتناهي عن سطح البحر وجاورتها لأعظم جبال آسيا هو باردٌ جافٌ لا مطر فيه أصلاً حتى أن الثلج قلما يرونه في تلك الأصقاع والخشب هنالك لا يبلى بل يصير صلباً حتى يضارع الصوان ويبقى مع الدهر. كذلك اللحم إذا عرضته للهواء يجف حتى يمكن سحقه بسهولةٍ فيصير ناعماً كالكحل وهكذا يفعلون. ومع هذا لا ينبت فيها شجر برّي قط تجد في أوديتها المحجوبة عن الزعازع والأعاصير أشجاراً مثمرة كثيرةً كالتفاح والتين والكروم والرمان والجوز وهناك يزرع الأرز والحنطة والشعير وما يماثله من أنواع الحبوب فتكون غارته جيدة بخلاف نجادها المرتفعة المعرضة للرياح فإنها لا تصلح للزراعة إلا شذوذاً. وهي غنية بمعادنها الثمينة فإن الذهب والحجارة الكريمة كالزبرجد والماس توجد هناك بكثرةٍ كما يوجد أيضاً الرصاص والزئبق والحديد والبورق والملح. وأهلها على غرابة دينهم وخشونة شعائره لينو العريكة دمثوا الخلق خفيفو الروح أولو شجاعة وكرم وأمانة ومروءة ينزعون إلى الحرية والاستقامة والصدق في معاشراتهم ومعاملاتهم ولهم كأهالي فينيقية الأقدمين أشد الولوع بالتجارة على اختلاف مناحيها وأكثرهم زاهد في الزراعة لعقم أراضيهم وقحلها ولكنهم يستغلون باستخراج المناجم والتعدين ولهم حذق عجيب بتثقيف الحجارة الكريمة وإصلاحها وإظهار رونقها ولمعانها. ولغتهم وإن كانت من ذوات المقطع الواحد إلا أنها واسعة يعبر بها عن المعاني الفلسفية والدينية مهما كانت دقيقة غامضة بسهولةٍ وجلاء وهم يكتبون بها من الشمال إلى اليمين كما يكتب الهنود باللغة السانسكريتية ومكتبتهم غنية في آدابها وأكثرها أناشيد وتراجم وشروح مستمدة من كتب البوذيين المقدسة. ويذهب أكثر علماءِ (البيولوجيا) أن أصل هذه الأمة مغوليٌّ ويقيم بين ظهرانيها قليل من المسلمين ومعظمهم من أهالي كشمير ويوجد هناك أيضاً بضعة آلاف من الكاثوليك. ويكثر عند اللامويين تزويج جملة رجال بامرأة واحدة كأهالي جزيرة سيلان وهي عادة مستفيضة في كل أمة أو بلاد تقل نساؤها ويكثر رجالها.

ولقد اختلف الكتبة والمؤرخون كثيراً في اسم هذه المملكة فمنهم من يدعوها (ثيبة) ومنهم من يسميها (تيبت) وبعضهم من قال أنها (تبت) ولقد ضبطها ياقوت الحموي بالباء المشدودة أما الأوربيون فيرسمونها هكذا وأول سائح استقرأ تلك البلاد هو (توماس ماتني) وذلك سنة 1812 للميلاد ثم وليه القس (هوك) سنة 1845 و1846 وإنما اسقراؤهما إياها لم يتجاوز القسم الغربي منها ولكن دعاة اليسوعيين قد عرفوا قبلها العاصمة (لاسا) وما حولها منذ القرن السابع عشر أما سائر أقسام المملكة ولاسيما الشرقية والشمالية فما برحت حتى اليوم مستغمدة أحوالها في سحاب كثيف وتعد عند الجغرافيين من مجاهل الأرض. وهذا مجمل ما أمكن الوقوف عليه بعد التدقيق والتنقيب عن أحوال تلك المملكة الغريبة في ديانتها وعباداتها في إقليمها وبيئاتها في طبائع أهلها وعاداتهم أخذناه محصلاً عن عدة مصادر هي محل الثقة ثم أطرفنا به المقتبس تفكهةً لقارئيه وتبصرةً وذكرى. دمشق. سليم عنحوري

قانون تكليف العقارات

قانون تكليف العقارات (الفصل الأول) في العقارات التي عليها التكاليف المادة الأولى_يفرض على العقارات في كل قضاء تكليف واحد بنسبة دخلها ويكون هذا بدل التكاليف الحاضرة وهي الخراج ويركو وحصة المعارف والتجهيزات. وذلك اعتباراً من السنة المالية التي تلي تحرير هذه العقارات وتخمين إيرادها وفقاً لأحكام هذا القانون ويجوز ضم شيءٍ على أصل هذا التكليف للمعارف والأمور النافعة لأهل هذا القضاء بشرط أن يعين الحد الأعظم لهذه الضمائم في قانون الميزانية كل سنة. تعتبر كل دائرة بلدية في الآستانة والبلاد الثلاثة بك أوغلي، إسكدار، أيوب قضاء عند تطبيق هذا القانون. المادة الثانية_العرصات المستعملة مخازن ومعامل للتجارة والصناعة تعد من نوع العقارات وإن لم يكن فيها بناء وسقف. المادة الثالثة_تعتبر أفنية العقارات وحدائقها من متممات الأبنية ويفرض عليها مع الأبنية تكليف على نسبة سعتها وتعين هذه النسبة بنظامات خاصة. أما الزائد من الفنية والحدائق عن النسبة المذكورة إذا لم يستعمل للتجارة والصناعة كما هو محرر في المادة الثانية فيتبع قانون تكاليف الأراضي والعرصات. والعرصات المتصلة بالطواحين والمعامل لوضع لوازمها ومصنوعاتها تعد من مشتملاتها وتعتبر مثلها من حيث التكاليف. المادة الرابعة_الاستثناء يكون إما دائماً أو مؤقتاً. أما المستثنيات دائماً فهي: 1_عقارات الدولة. 2_عقارات الحضرة السلطانية سوى ما هو للاستغلال منها. 3_عقارات البيت السلطاني المحررة أسماؤهم في الميزانية العامة في فصل رواتب البيت السلطاني على شرط أن يسكنوها. 4_عقارات البلديات والقصبات والقرى التي يستعملها الناس ولا إيراد لها. 5_التكايا والزوايا المصدق عليها في الدوائر الرسمية وبيوت العبادات والأديار ومتمماتها التي في حريمها (يشترط في هذه أن لا تكون مستأجرة). 6_العقارات المخصصة لإقامة الخدمة والمشايخ والمتولين المصرح بها في الوقفيات إذا لم

تؤجر أو تستأجر. 7_العقارات الخاصة بالمدارس والمعارف ودور الخير إذا لم تؤجر أو تستأجر. 8_الدور التي تسكنها الفلاح والمزارع اللذان يحرثان ويزرعان بنفسهما والدور التي يسكنها حراس المزارع والأراضي والحراج والمحلات المعدة لإيواء الحيوانات وحفظ الحاصلات والآلات والأدوات الزراعية (إن جميع العقارات المدرجة في هذه الفقرة الثامنة مشروطة بها أن تكون خاصة باستثمار أراضي القرية أو المزرعة وأن لا تكون مفرزة من الأراضي المعدة للزراعة ومؤجرة). 9_الحائر والزرائب والمحال الخاصة بتربية الحيوانات ودود الحرير. المادة الخامسة_تبقى العقارات المعفاة من التكاليف بموجب معاهدات وفرامين أو وثائق اشترطتها الحكومة على نفسها مستثناة من التكاليف كما كانت وبعد الآن لا يقبل استثناء سوى المواد التي ذكرت في المادة الرابعة إلا بقانون مخصوص. المادة السادسة_تعين الإدارة المركزية نوع العقارات المذكورة في المادة الخامسة والفقرات الأولى والثانية والثالثة والخامسة والسادسة والسابعة الواردة في المادة الرابعة. المادة السابعة_المستثنيات مؤقتاً هي: 1_الطواحين والمعامل في خلال خمس سنوات مالية تلي السنة التي تم فيها الإنشاء. 2_المساكن التي أنشئت لإسكان العشائر السيارة والمهاجرين الأولى لعشر سنوات مالية والثانية لخمس سنوات مالية بعد السنة التي تم فيها الإنشاء سواءٌ أنشئت هذه المساكن من قبل الحكومة أو من العشائر أو المهاجرين أنفسهم. 3_الأبنية الجديد الحجرية والخشبية الأولى لمدة سنتين والثانية لمدة سنة واحدة تلي السنة التي تم فيها البناء الحجري أو الخشبي. يجب على أصحاب البناء أن يعطوا في خلال شهرين من مباشرتهم البناء مأموري المالية في ذلك القضاء بياناً يتضمن موقع البنية ونوعها وجهة استعمالها. فإذا لم يعط هذا البيان في مدته المعينة يطرح عليه تكليف العقار اعتباراً من السنة المالية التي تلي ختام الإنشاء. متى أجر البناء كله أو جزء منه أو صار في حالة يمكن معها استعماله والانتفاع منه يعد إنشاؤه تاماً. المادة الثامنة_الأبنية الآتي بيانها تعد من الأبنية الجديدة:

1_العلاوات التي تضم على الأبنية الموجودة. 2_العرصات التي تعد للاستعمال بالصورة المحررة في المادة الثانية من هذا القانون. 3_ما جعل من العقارات الموجودة طواحين ومعامل. المادة التاسعة_العقارات التي عليها تكاليف إذا دخلت في عداد المتثنيات يجري عليها حكم هذا الاستثناء من أول السنة المالية التي تلي السنة المستدعى بها من قبل الكلف. المادة العاشرة_العقارات التي احترقت وخربت أو صارت من الخراب على حال لا يمكن الانتفاع به وأخبر صاحبها موظفي المالية عنها على الأصول وثبت ذلك لديهم بالتحقيق يرفع عنها التكليف اعتباراً من التقسيط الذي يلي التقسيط المصادف تاريخ مراجعة صاحبها وأخباره أما عرصتها فيجري عليها قانون تكاليف الأراضي. المادة الحادية عشرة_المطاحن والمعامل ودور الصناعات إذا لم تشتغل مدة سنة كاملة على الأقل بدون فاصلة يكون لأصحابها الحق بالعفو المؤقت عن ثلاثة أرباع التكليف في المدة التي لم تشتغل بها. وعلى أصحاب هذه العقارات أن يرفعوا إلى الحكومة بيانين أحدهما في أول مدة توقفها عن العمل والثاني في آخر تلك السنة. ويكون حكم العفو الموقت اعتباراً من التقسيط المصادف نهاية السنة. وإذا لم يخبر أصحاب العقارات في شهر واحد باستئنافها العمل ببيانه يقدمونه إلى الحكومة يحرمون من التمتع بالعفو في غضون تلك السنة. إذا استمرت العطلة مدة سنتين فيجب تجديد البيان في كل سنة على الصورة المذكورة. (الفصل الثاني) في نسبة التكليف المادة الثانية عشرة_إن نسبة التكليف هي اثنا عشر في لمئة عن الواردات غير الصافية وإنما يزاد في هذه النسبة في ميزانية المعارف ما يعادل النصف في المئة للمعارف المحلية في كل سنة. يطرح التكليف على الطواحين والمعامل ودور الصناعة والدور الخشبية المعدة للسكنى بعد تنزيل ربع وارداتها غير الصافية. العقارات المحتوية على الآلات والأدوات المخصوصة والمعدة لإجراء صناعة تعد معملاً أو دار صناعة. الأبنية المنشأة من جدران من الخشب أو

ألواح خشبية أو ما يسمونه بغدادي تعتبر خشبية (ولو كان أساسها قائماً على الحجر على ارتفاع مترين من وجه الأرض) الأبنية المنشأة من اللبن هي من قبيل الأبنية الخشبية. المادة الثالثة عشرة_تعفى الدور التي وارداتها غير الصافية مائتان وخمسون قرشاً فأقل والمعدة لإسكان صاحبها من التكليف جملة. والجور التي إيرادها أكثر من مئتين وخمسين قرشاً وأقل من ألف يصرف النظر عن مائتين وخمسين قرشاً من إيرادها. المادة الرابعة عشرة_تجرر وتخمن العقارات بحسب الإيجارات غير الصافية المتعارفة في محلها عامة بحسب إيراد الأبنية التي من نوع واحد وبحسب موقع البناء ومساحته وعدد أدوراه وعدد غرف كل طابق منه ونوع المواد التي أنشئ منها وبحسب حاله الحاضرة من حيث حسن محافظته وبحسب صورة الانتفاع منه. وعند تخمين غير الإيراد الصافي للطواحين والمعمل ودور الصناعة ينظر إلى ما فيها من الوسائط الصناعية الثابتة. المادة الخامسة عشرة_إذا لم يوجد وسائط كافية لتخمين واردات البناء الغير صافية تعين قيمة البناء الحقيقية ويعتبر ثمانية في المئة من قيمته إيراداً غير صافٍ إذا كان طاحوناً أو معملاً أو دار صناعة أو دار خشبية لسكنى صاحبها وستة في المئة إذا كان من العقارات الأخرى. (الفصل الثالث) في تحرير العقارات وتقدير دخلها المادة السادسة عشرة_تكتب جميع العقارات وتقدر قيمتها لتنفيذ حكم هذا القانون. يعين مبدأ التحرير والتقدير ببيان من الوالي في الآستانة والولايات ومن المتصرفين في الألوية المستقلة. المادة السابعة عشرة_تكون كتابة العقارات من قبل لجنة مؤلفة من ثلاثة أشخاص تعينهم الحكومة ويكون التقدير والتخمين من قبل لجان يلحق بها وكلاء المكلفين برئاسة المأمورين الثلاثة المار ذكرهم. يكون عدد الوكلاء ثلاثة تنتخبهم مجالس البلدية في القصبات التي فيها دوائر بلدية ومجالس الإدارة في القصبات التي ليس فيها دوائر بلدية من أناس لهم أملاك داخل البلدة وفي القرى تنتخبهم مجالس القرى. أصحاب العقارات مكلفون باراءتها لهذه اللجان وإعطائهم

المعلومات الكافية عن أحوالها العامة وعن جهة استعمالها ومقدار أجرتها ويؤخذ ممن يمتنع عن ذلك أو يخبر بخلاف الحقيقة عن عمد عشرون قرشاً إلى مئة قرش جزاء نقدياً بحكم المحكمة. المادة الثامنة عشرة_إذا كان العقار منقسماً ومفرزاً بين أصحابه بصورة رسمية يخمن إيراد كل قسم على حدة وإذا لم يكن مفرزاً بل كان مشاعاً بينهم يخمن إيراده كله من حيث المجموع. المادة التاسعة عشرة_عند ختام تخمين القرية أو الحي في المدن من قبل اللجنة التي ذكرت آنفاً يعلن كمال الجدول الذي يتضمن قيد العقارات وتخمين إيرادها ليطالعه المكلفون ويمعنوا فيه نظرهم مدة شهر واحد ثم يبلغ كل من كلف على الانفراد ورقة إخبارية تتضمن مقدار الإيراد الذي خمن عقاره ولكل مكلف حق الاعتراض مدة شهرين من تاريخ تبليغه الإخبارية لمأمور مال القضاء لينظر به لجنة التخمين. ولمأموري المال أيضاً حق الاعتراض على تقدير اللجنة وتخمينها مدة شهرين من بعد إرسال الجدول المذكور إليهم وحينئذ يكونون مكلفين بتبليغ اعتراضاتهم هذا مع أسبابه الوجبة بصورة مختصرة للمكلف صاحب العقار لتقدير الذي لا يعترض عليه قبل انتهاء المهلة المذكورة يكون قطعياً. المادة العشرون_على اللجنة أن تنظر في الاعتراضات المذكورة وتسمع اعتراض المعترضين شفاهاً إذا طلبوا أو وجد لزوم لذلك وأن تشاهد العقارات مرة ثانية وتحقق أحوالها عند الإيجاب تعطي قراراً مدة شهرين على الكثير ويبلغ هذا القرار إلى المكلفين بواسطة مأموري مال القضاء. المادة الحادية والعشرون_للمكلفين أن يستأنفوا قرار لجنة التخمين في خلال شهر واحد من تبليغه لدى لجنة تؤلف في كل لواء باعتراض يقدمونه لمأموري المال حاوٍ للدلائل الكافية. تؤلف هذه اللجنة برئاسة الوالي أو المتصرف هكذا: الدفتر دار أو المحاسب ومأمور تنتخبه الحكومة وثلاثة أعضاء يقترع عليهم بواسطة المجالس العمومية في الولايات والجمعية العمومية للبلدية في الآستانة إذا لم يكن المجلس العمومي فيها ملتئماً بين ستة من أصحاب الأملاك يبعث بهم اللواء.

ولمأموري المال أيضاً أن يراجعوا لجنة الاستئناف في المدة نفسها على شرط أن تبلغ مراجعتهم هذا للمكلف. وعلى لجنة الاستئناف أن تعطي قرارها في خلال شهرين. المادة الثانية والعشرون_إذا ادعي بأن قرار لجنة الاستئناف مخالف للقانون والنظام فللمكلفين ومأموري المال أن يراجعوا في خلال شهر واحد بعد تبليغ القرار على الطريقة المار ذكرها اللجنة المركزية التي تؤلف في نظارة المالية بانتخاب. الناظر من رئيس وستة أعضاء. وهذه اللجنة لا تبحث في المعاملات المتعلقة بتقدير الإيراد. المادة الثالثة والعشرون_للمكلفين أن يعترضوا خلال شهرين من بعد إعلان جدول التكليف الذي يكتب بنهاية التحرير العمومي على التكليف المطروح عليهم في الأحوال الآتية وفقاً للطريقة المدرجة في المادة التاسعة عشرة وما سيليها من المواد. 1_إذا وجد سهوة وامتنعت الحكومة عن تصحيحه. 2_إذا لم يجر التبليغ المحرر في المواد 19 و20 و21 و22 أو جرى بصورة مخالفة للقانون. تكون هذه المدة عبارة عن شهر واحد من ابتداء إعلان جداول التحرير الخاص الذي يجري في خلال التحرير العام وجداول التكاليف التي تحرر لأول مرة في ختام التعديلات. المادة الرابعة والعشرون_الاعتراضات الواقعة على مقدار التكليف المدخل في جدول التكاليف لا تحصيله لكن إذا تقرر أن الاعتراض محق يراد المقدار الزائد إلى المكلف حالاً. المادة الخامسة والعشرون_مقررات اللجان المبينة في المواد السابقة تعطى بالأكثرية على شرط أن لا يكون عدد الأعضاء أقل من النصف فإذا تساوت الآراء يرجح الطرف الذي فيه الرئيس. (الفصل الرابع) في دفتر أمهات التكليف ومعاملاته التعديلية المادة السادسة والعشرون_الجداول التي تحرر بمعرفة اللجان المار ذكرها حاوية تحرير العقارات وتقدير إيرادها والتعديلات المتوالية التي تجري بموجب هذا القانون يتألف منها دفتر الأمهات.

دفتر الأمهات يكون مأخذ لجداول التكاليف السنوية المحررة في المادة الثالثة من قانون تحصيل الأموال المؤرخ في 5 شعبان سنة 1327 و18 أغستوس سنة 1325. المادة السابعة والعشرون_في كل عشر سنوات تجري تعديلات عمومية لتقدير إيراد العقارات وفقاً لأحكام هذا القانون. المادة الثامنة والعشرون_إذا نقص مقدار العقار أو زاد منه مقدار الثلث لبعض الأسباب الدائمة يعدل تعديلاً خاصاً بطلب صاحب العقار أو مأمور المال عد عن التعديلات العمومية التي تجري في كل عشر سنوات. تطلب التعديلات وفقاً للفقرة السابقة من الستة الأشهر الأولى من السنة المالية وتعتبر التعديلات من السنة الآتية. المادة التاسعة والعشرون_يقضى على أصحاب الأملاك بيان الخصوصات الآتية إلى قلم المال كتابة من ابتداء تطبيق هذا التكليف في كل قضاء ولم يعطى لهم علم وخبر بمقابلة ذلك. 1_العلاوات التي تضم إلى الأبنية الجديدة الموجودة. 2_العرصات التي خصصت من جديد للجهات المصرح بها في المادة الثامنة من هذا القانون. التبديلات التي تحصل في جهة استعمال الأبنية بصورة تدعو إلى انقطاع الاستثناء المسطور بهذا القانون والتحولات التي تغير نسبة التكليف المعينة في المادة الثانية عشرة. تعطى البيانات المذكورة من خلال شهرين اعتباراً من استعمال الأملاك على الوجه المذكور أو من حدوث التحولات فيها وإذا لم تعط البيانات في المادة المذكورة يضم على التكليف المقتضي أخذه حسب التبدلات التي لم يخبر عنها عشرة في المئة مرة واحدة. المادة الثلاثون_أصحاب الأملاك التي نسيت في التحرير العام ولم تكتب يقتضى عليهم إنهاء أمرها قبل انقضاء السنة الثانية التي تلي ختام أعمال التحرير وإذا لم يخبروا بدون عذر مقبول يضم على أصل تكليف ذلك العقار عشرون في المئة من ابتداء تطبيق هذا القانون في ذلك المحل إلى آخر السنة التي يطلع بها على النسيان. المادة الحادية والثلاثون_تجري المعاملات المتعلقة بتعديل دفتر الأمهات وفقاً للقواعد الموضوعة للتحرير العمومي وإنما تؤلف اللجنة التي تنظر في هذه المعاملات من أربعة

أعضاء اثنان منهم ينتخبان من أعضاء مجلس الإدارة واثنان من أعضاء المجلس البلدي برئاسة مأمور المال. ينظر في الاعتراضات التي يقدمها المكلفون أو مأمورو المال المحليون على قرار هذه اللجان في المدة المحررة في المواد السابقة في مجالس الإدارة المحلية. يكون قرار مجالس الإدارة قطعياً على شرط أن يبقى حتى المراجعة للجنة المركزية في المدة المعينة محفوظاً في الأحوال المحررة في المادة الثانية والعشرين. (الفصل الخامس) في المكلفين الملزمين بأداء التكليف المادة الثانية والثلاثون_أصحاب العقارات وذوو اليد على العقارات مكلفون بدفع التكليف المرتب عليها وإذا لم يوجد هؤلاء فالساكنون فيها. المادة الثالثة والثلاثون_المتصرفون في العقار مشاعاً يكلفون بنسبة حصصهم الشائعة. العقار المقيد على شخص متوفى يعتبر غير مقسوم وتجري بحقه المعاملة وفقاً للفقرة الأولى هذا إذا لم يقسم ويقيد في إدارة الطابو أو إذا لم يسقط الورثة حقوقهم الإرثية كلها أو بعضها. أحكام عمومية المادة الرابعة والثلاثون_يحرر ناظر المالية نظاماً يتضمن كيفية تنفيذ هذا القانون وبعد تدقيقه في مجلس شورى الدولة ينفذ بإرادة سلطانية. المادة الخامسة والثلاثون_تعتبر الأحكام التي كانت مرعية قبلاً في تكليف العقارات لاغية من ابتداء تنفيذ هذا القانون في كل قضاء وإكمال التحرير العام ومباشرة في تحصيل التكليف. المادة السادسة والثلاثون_عقارات الحرمين الشريفين مستثناة من أحكام هذا القانون. المادة السابعة والثلاثون_ناظر المالية مأمور بتنفيذ هذا القانون.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات حالة المسلمين الاقتصادية تأليف المسيو لشاتليه ' اعتاد صديقنا صاحب هذه الرسالة أني رينا كل يوم أثراً من آثار علمه واطلاعه ودليلاً من أدلة مضائه واضطلاعه فهو اليوم المرجع الأكبر في أحوال الإسلام والمسلمين ومن أعظم أئمة الغربيين الواقفين على منزلة الشرقيين ورسالته هذه كسائر ما خطته يراعته أو صدرت تحت رعاية مملوءة بحسن الظن بمستقبل المسلمين افتتحها بقوله أن العالم الإنكليزي السكسوني الذي ذهب بفضل التقدم في أعماله الاقتصادية ليس هو من حيث العدد إلا نصف العالم الإسلامي فهو عبارة عن 125 مليون ساكن في بريطانيا العمى والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية والهند وسائر المستعمرات الساحلية التي ينزلها العنصر الإنكليزي أما الإسلام فتجمع كلمته من 200 إلى 250 مليون من البشر ويمتد سلطانه من الصحارى المتجمدة في إيريتش وأوهيو إلى مدن أفريقية الجنوبية من الأرخبيل الهندي إلى شواطئ الأتلانتيك مع فروع في أوربا تصل إلى ليتوانيا وبولونيا كي ينتشر وراء البحر المحيط إلى أميركا وأستراليا. والمسلمون كالسكسونيين تراهم تارة مجتمعين في بلاد إسلامية خاصة بهم وأخرى متفرقين بين من لا يدينون بدينهم فمركزهم الجغرافي ذو شأن في العالم. والسواد العظم من المسلمين في آسيا فهو فيها عبارة عن 170 مليون مسلم أي مثل مجموع سكان أميركا الشمالية والجنوبية وإسبانيا والبرتقال. ففي العند الإنكليزية 284 مليوناً من السكان منهم 62 مسلم في الهند الصينية إلى سائر السكان نسبة 05_100 من مجموع السكان ومعدلهم في الصين من 5 إلى 6 في المئة وفي الأفغان 5_99 في المئة وفي بخارى 96 في المئة وبلوجستان 94 في المئة و93 في فارس وينزل معدلهم كلما تقدمت نحو الغرب فبينا تجدهم 98 فقي المئة ببلاد العرب ينزل معدلهم إلى 86 في المئة بين النهرين وإلى 78 في المئة في آسيا الصغرى والمعدل العام للمسلمين في آسيا هو 20 في

المئة ويبلغ في أفريقية 36 ففيها 60 مليون مسلم مقابل 165 مليون أفريقي وينزل معدل نفوسهم من الشمال إلى الجنوب ويكون سوادهم الأعظم في الشمال أي في مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر وأصل سكان أفريقية الشرقية من جالية العرب والهنود ينزلون في رودوسيا والترنسفال والناتال والراس ومدغسكر وجزائر كومور وموريس ولا يقل عددهم عن مائتي ألف ولا يكثر عدد المسلمين في أوربا إلا في بلاد روسيا ففيها نحو ثلاثة ملايين من التاتار وكذلك ترى في شبه جزيرة البلقان أجناساً من الأتراك والأرناؤد وغيرهم لا يقل عددهم عن ثلاثة ملايين أيضاً أما سائر بلاد أوربا فليس فيها إلا عدد قليل لا يتجاوز الألوف من المسلمين المختلفين فقي أجناسهم وليس هو ثابتاً. وإذا أضفنا إلى أستراليا وتوابعها نحو 40 إلى 50 ألف أفغاني وهندي وماليزي ومثل هذا القدر في أميركا بأشرها من الأتراك والعرب والصينيين والزنوج جاءت معنا لائحة صحيحة في الجملة من العالم الإسلامي. وبعد أن أفاض قليلاً في وصف معتقدات المسلمين وعاداتهم قال أن لسان القرآن الإلهي يحدث صلة أخرى بين أعضاء الأسرة الإسلامية الكبرى فإذا كانت اللغة العربية لا يتكلم بها سوى خمسين مليوناً من الآسياويين والأفريقيين من نهر الفرات إلى النيجر فهي يترنم بها في المدارس الإسلامية من بلاد السين إلى أفريقية الجنوبية من جزائر الفلبين إلى مراكش وتستعمل لغة كتابة عند الخاصة في كل بلد اجتمع فيه المسلمون ليتلوا القرآن العظيم. وإن الشعوب الإسلامية التي لم تقبل اللغة العربية قد دخل إلى لغاتها منها الشيءُ الكثير فالفارسية والتركية والملازية تكتب بحروف عربية ولغة الأوردو الهندية قد دخلها كثير من التعابير العربية وكذلك اللغة السواحلية ولغة البول والبربر في أفريقية. وذكر المؤلف تاريخ الصحافة الإسلامية بإيجاز فقال مع أن تاريخها يرد إلى سنة 1828 أيام أنشأ محمد علي الوقائع المصرية أصبحت الآن منتشرة ولاسيما في مصر على عهدها الأخير والبلاد العثمانية بعد الحرية وقدر الصحف الإسلامية في الأرض بأربعمائة منها 150 باللغة العربية أكثرها في مصر والشام وتونس. وأفاض في المشاريع الصناعية والتجارية التي أخذ المسلمون في آسيا خصوصاً يدخلون فيها ويبرزون كغيرهم من الشعوب الراقية وأحسن ظنه بنهضة المرأة التركية وكيف يحاول المجددون في الإسلام

اليوم أن يدخلوا العلوم والفنون حتى في الجوامع كما فعل التونسيون في جامع الزيتونة والمصريون في الأزهر وذكر مثالاً من السكك الحديدية وأعمال الكهرباء والبخار ولاسيما في البلاد العربية فقال أن المدنية المنورة مع أنها في قفر بين البدو تنار بالكهربائية كما أن ينبع تشرب من ماءٍ مقطر بالبخار والإمام يحيى في اليمن يطلب تمديد سكة حديدية من الحديدة إلى صنعاء. ثم قال أن المفكرين من السياسيين الغربيين لينظروا وحق لهم أن ينظروا إلى هذه النهضة الحديثة في الإسلام لا من حيث الدعوة إلى الجامعة الإسلامية ولا من حيث الجامعة الوطنية بل الواجب أن ينظروا إلى ما يتوقع أمره في القريب العاجل من قيام مدنية إسلامية متماسكة تقصد إلى توطيد التكافل الاقتصادي بين أجزائها وقال أن السياسة الحميدية أخفقت في دعوتها للجامعة الإسلامية فانفضت عرى تلك الدعوة يوم ظفر أحرار سلانيك بإعادة الحرية إلى المملكة العثمانية وقال أن السياسة العثمانية الإسلامية الألمانية تهيئُ السلطان للتقسيم (كذا) والعقول لا تتصور كيف تتخلص من الانقسامات الجنسية لإيجاد فكرة وطنية. فالفكرة الاقتصادية هي التي تهم العالم الإسلامي أكثر وهي بها اليوم يطالب المتغلبون كما تطالب مصر إنكلترا بقولها بأن منافع مصر يجب أن تكون لم صر وكذلك فعل الجزائريون بعد سبعين سنة من استيلاء فرنسا عليهم فقاوموا وهم لا يخافون بأس القوة يطالبون بأراضيهم التي استصفيت فعلى أوربا أن تتأكد قيام المسلمين بالجامعة الاقتصادية مما هو ماثل للعيان من حال إيران فإن أهلها يريدون أن يقاطعوا كل ما هو غير إيراني وأن يطبقوا القواعد المدنية والاقتصادية على الإسلام لتكون بلادهم لهم في اقتصادياتها ومشاريعها النافعة وهنا قال المؤلف بأن على أوربا أن تنظر المسلمين وجرائدهم التي تنفخ فيهم روح النهوض لترى كيف تخفق سياستها الاقتصادية فينادي لسان حالهم جميعاً بلاد الإسلام للمسلمين ونحن نقول إذا صحت هذه الأحلام والأوهام آمين. منطق المشرقيين والقصيدة المزدوجة في المنطق للرئيس أبي علي بن سينا عنيت بتصحيحه المكتبة السلفية في القاهرة ص83

أحسنت هذه المكتبة بنشر هذا السفر النفيس على أسلوب راقٍ شأنها في كل ما نشرته حتى الآن وقد صدرت الكتاب بترجمة الرئيس عن أصح المصادر فجاءت الترجمة في 38 صفحة وهي من أحفل تراجم الرئيس. أما الكتاب والقصيدة فهما في الغاية من السلاسة والوضوح بحيث يسهل على من لم يدرس هذا الفن على أسلوبه أن يتلقفه بنفسه من هاتين الرسالتين ولا عجب فكلام الرئيس رئيس الكلام. وهاك ما قاله المؤلف في ذكر العلوم ننقله نموذجاً لمن لم يسعده الحظ بقراءة شيءٍ كثير من قلم الرئيس وعنواناً على كيفية تقسيمهم العلوم في عهده قال: إن العلوم كثيرة والشهوات لها مختلفة ولكنها تنقسم أول ما تنقسم قسمين: علوم لا يصلح أن تجري أحكامها الدهر كله بل في طائفة من الزمان ثم تسقط بعدها أو تكون مغفولاً عن الحاجة إليها بأعيانها برهة من الدهر ثم يدل عليها من بعد. وعلوم متساوية النسب إلى جميع أجزاء الدهر وهذه العلوم أولى العلوم بأن تسمى حكمة. وهذه منها (أصول) ومنها (توابع وفروع) وغرضنا ها هنا هو في الأصول وهذه التي سميناها توابع وفروعاً فهي كالطب والفلاحة وعلوم جزئية تنسب إلى التنجيم وصنائع أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها. وتنقسم العلوم الأصلية إلى قسمين أيضاً: فإن العلم لا يخلو إما أن ينتفع به في أمور العالم الموجودة وما هو من قبل العالم ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي (علوم أمور العالم وما قبله). وأما أن ينفع به من حيث يصير آلة لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله. والعلم الذي يطلب ليكون آلة_قد جرت العادة في هذا الزمان وهذه البلدان أن يسمى (علم المنطق) ولعل له عند قوم آخرين اسماً آخر لكننا نؤثر أن نسميه الآن بهذا الاسم المشهور. وإنما يكون ذا العلم آلة في سائر العلوم_لأنه يكون علماً منبهاً على الأصول التي يحتاج إليها كل من ينتقض المجهول من المعلوم باستعماله للمعلوم على وجهة يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤدياً بالباحث إلى الإحاطة بالمجهول فيكون هذا العلم مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تنقل الذهن من المعلوم إلى المجهول. وكذلك يكون مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تضل الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلب من المجهول ولا يكون كذلك. فهذا هو أحد قسمي العلوم.

وأما القسم الآخر_فهو ينقسم أيضاً أول ما ينقسم قسمين: لأنه إما أن تكون الغاية في العلم تزكية النفس مما يحصل لها من صورة المعلوم فقط وإما أن تكون الغاية ليس ذاك فقط بل وأن يعمل الشيء الذي انتقشت صورته في النفس. فيكون الأول تتعاطى به الموجودات لا من حيث هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها منا وصدروها عنا ووجودها فينا والثاني يلتفت فيه لفت موجودات هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها منا وصدورها عنا ووجودها فينا. والمشهود من أهل الزمان أنهم يسمون الأول (علماً نظرياً) لأن غايته القصوى نظر ويسمون الثاني منهما (عملياً) لأن غايته العمل. وأقسام (العلم النظري) أربعة: وذلك لأن الأمور إما مخالطة للمادة المعينة حداً وقواماً فلا يصلح وجودها في الطبع في كل مادة ولا يعقل إلا في مادة معينة مثل الإنسانية والعظمية وإن كانت بحيث لا يمتنع الذهن في أول نظره عن أن يحلها كل مادة_فيكون على سبيل من غلط الذهن بل يحتاج الذهن ضرورة في الصواب أن ينصرف عن هذا التجويز ويعلم أن ذلك المعنى لا يحل مادة إلا إذا حصل معنى زائد يهيئها له وهذا كالسواد والبياض فهذا من قبيل الموجودات والأمور. وإما أمور مخالطة أيضاً كذلك والذهن وإن كان يحوج في صحة تصور كثير منها إلى إلصاقه بما هو مادة أو جار مجرى المادة_فليس يمتنع عنده وعند الوجود أن لا يتعين له مادة وكل مادة تصلح لأن تخالطه ما لم يمتنع مانع وليس يحتاج في الصلوح له إلى ممهد يخصصه به مثل الثلاثية والثنائية من حيث هي مثكونة وتعرض الجمع والتفريق ومثل التدوير والتربيع وجميع ما لا يفتقر وجوده ولا تسوره إلى تغير مادة له وهذا قبيل ثان من الأمور والموجودات. وأما أمور مباينة للمادة والحركة أصلاً فلا تصلح لأن تخلط بالمادة ولا في التصور العقلي الحق مثل الخالق الأول. الأول تعالى ومثل ضروب من الملائكة وهذا قبيل ثالث من الموجودات. وأما أمور ومعانٍ قد تخلط المادة وقد لا تخالطها فتكون في جملة ما يخالط وفي جملة ما لا يخالط مثل الوحدة والكثرة والكلي والجزئي والعلة والمعلول.

كذلك أقسام العلوم النظرية أربعة لكل قبيل علم. وقد جرت العادة بأن يسمى العلم بالقسم الأول (علماً طبيعياً) وبالقسم الثاني (رياضياً) وبالقسم الثالث (آلهياً) وبالقسم الرابع (كلياً) وإن لم يكن هذا التفصيل متعارفاً فهذا هو العلم النظري. وأما (العلم العملي) فمنه ما يعلم كيفية ما يجب أن يكون عليه الإنسان في نفسه وأحواله التي تخصه حتى يكون سعيداً في دنياه هذه وفي آخرته وقوم يخصونه هذا باسم علم الأخلاق. ومنه ما يعلم كيف يجب أن يجري عليه أمر المشاركات الإنسانية لغيره حتى يكون على نظام فاضل_أما في المشاركة الجزئية وأما في المشاركة الكلية والمشاركة الجزئية هي التي يكون في منزل واحد والمشاركة الكلية هي التي تكون في المدينة. وكل مشاركة فإنما تتم بقانون مشروع وبمثول لذلك القانون المشروع يراعيه ويعمل عليه ويحفظه ولا يجوز أن يكون المتولي لحفظ المقنن في الأمر جميعاً إنسانا واحد فإنه لا يجوز أن يتولى تدبير المنزل من يتولى المدينة بل يكون للمدينة مدبر ولكل منزل مدبر آخر. ولذلك يحسن أن يفرد (تدبير المنزل) بحسب المتولي باباً مفرداً و (تدبير المدينة) بحسب المتولي باباً مفرداً ولا يحسن أن يفرد التقنين للمنزل والتقنين للمدينة كل على حدة بل الأحسن أن يكون المقنن لما يجب أن يراعى في خاصة كل شخص وفي المشاركة الصغرى وفي المشاركة الكبرى شخص واحد بضاعته واحدة وهو (النبي). وأما المتولي للتدبير وكيف يجب أن يتولى فالأحسن ألا ندخل بعضه في بعض وإن جعلت كل تقنين أيضاً باباً آخر فعلت ولا بأس بذلك لكنك تجد الأحسن أن يفرد العلم بالأخلاق والعلم بتدبير المدينة كل على حدة وأن تجعل الصناعة الشارعة ما ينبغي أن تكون عليه أمراً مفرداً. وليس قولنا وما ينبغي أن تكون عليه مشيراً إلى أنها صناعة ملفقة مخترعة ليست من عند الله ولكل إنسان ذي عقل أن يتولاها كلا بل هي من عند الله وليس لكل إنسان ذي عقل أن يتولاها ولا حرج علينا إذا نظرنا في أشياء كثيرة مما يكون من عند الله أنها كيف ينبغي أن تكون.

فلتكن هذه العلوم الأربعة أقسام العلم العملي كما كانت تلك الأربعة أقسام العلم النظري اهـ. الهيئة والإسلام لمؤلفه السيد هبة الدين الشهرستاني طبع ببغداد في مطبعة الآداب سنة 1328. ص 314 ذكر المؤلف أن الإسلام يوافق آراء الفلسفة الحديثة أكثر مما يوافق القديمة خصوصاً في الفلكيات وقد فسر كثيراً من الآيات المشكلة والروايات المعضلة قال: ففي الناس أناس يزعمون الشارع في أبواب الفلكيات مسلك الحكماء وإن الهيئة القديمة هي الموافقة للشريعة القديمة فلأجل ذلك تراهم عند اعتقادهم بطلان الفلسفة الغابرة تزل أقدامهم ويضعف التزامهم بنواميس الشريعة الطاهرة فقصدت من تصنيف هذا الكتاب بيان مخالفة الإسلام لمعظم مباني الهيئة البطليموسية ومواقفه للآراء المكتشفة في الهيئة الجديدة فينبغي أن يكون تصديقهم للعلوم العصرية سبباً لرسوخ العقائد الدينية ومزيد اليقين بصدق باقي مقالات النبي الأمي والأئمة من أهل بيته. والمؤلف مشهور بسعة الإطلاع فنشكره على تحفه. غرائب الغرب لصاحب المقتبس طبع بمطبعته ص 204 هي بعض ما شاهده وعرفه صاحب هذه المجلة عن ديار الغرب نشر أولاً في بعض أجزاءه هذه السنة والسنة الماضية وجردناه على حدة وهذه مقدمته وهي تنم عن الغرض من نشره: هذه فصول ومقالات بل آهات وتأوهات كتبتها في وصف معالم الغرب وما لقيته فيه وثقفته عنه وأنا على مثل اليقين بأنها لا تحمل في مطاويها من تلك المدنية الساحرة إلا بقدر ما تصل إليه يد عابر سبيل ويتفطر له فكر التنزيل والدخيل راجياً من كرمه تعالى أن ينفع بها قراء العربية ومنه أستمد العون والتيسير نعم المولى ونعم النصير. رسائل البابية

نشر البارون روزن الروسي المتوفى 63 رسالة بالفارسية والعربية كتبها بهاء الله المصلح الثاني في المذهب البابي. والعربية منها كما قال أحد الناظرين في هذه الرسايل وإن كانت تبدو في صورة وحي قرآني لا تخرج عن كونها كتبت لتقوية البابيين على تحمل المصائب في سبيل إيمانهم والعمل بما توحي به الحقيقة الكلية والرسالة العشرون منها المسماة سورة الملوك عبارة عن شكوى صاحب المذهب وأتباعه من بعض ما ينالهم من الموظفين الذين اضطهدوا من انتخبوا مذهب الباب. ولأن كانت البهاءُ ينحو فيها منحى القرآن في الإنشاء فيغتر بها بعضهم لأول وهلة إلا أن من يحسن كتابة لغته لا يلبث أن يرى أغلاطاًُ عربية وأكثرها في التركيب. معيار الفتاوي نشر المسيو إميل أمار من علماء المشرقيات في فرنسا ملخص فتاوى فقيه المغرب أب يالعباس أحمد بن يحيى الونشر يسي المتوفى سنة 914هـ في مجلدين وترجمها إلى الإفرنسية مع تعليق الشروح اللازمة لها. وهذا الكتاب هو فتاوى صدرت عن مفاتي أفريقية أي تونس وولايتا قسنطينة والجزائر وعلماء الأندلس والمغرب الأقصى وهو عبارة عن ولاية وهران وبلاد مراكش وكان طبع هذا الكتاب برمته على تل الحجر في فاس في 11 مجلداً تدخل في 4122 صفحة فنسق الناشر هذه الفتاوى حتى جاءت مثل كتاب دالوز في القانون مرجعاً يسهل الرجوع إليه. ثلاث مجلدات جديدة الحقائق_مجلة علمية دينية أخلاقية اجتماعية عمرانية لصاحبها الشيخ عبد القادر الاسكندراني يحررها نخبة من أهل الفضل بدل اشتراكها في دمشق ريال واحد وفي البلاد العثمانية ريال وربع وفي الأقطار الأجنبية 7 فرنكات وتصدر مرة في الشهر. النديم_مجلة كاثوليكية سياسية إخبارية تاريخية أدبية علمية لمنشئها شاكر أفندي عون ويعاونه بإنشائها بعض أصحاب الأقلام قيمة اشتراكها في بيروت ريالان وفي البلاد الخارجية عشرة فرنكات وهي تصدر مرتين في الشهر. تنوير الأفكار_مجلة دينية أدبية سياسية تصدر كل شهر مرة في بغداد لصاحبها عبد الهادي أفندي الأعظمي ومديرها نعمان أفندي الأعظمي قيمة اشتراكها في الممالك العثمانية مجيدي

وربع وعشرة فرنكات في الخارج. كتب متفرقة معنى الحياة_عربه عن الإنكليزية وديع أفندي البستاني وهو تأليف اللورد أفبري المشهور وفيه نصائح للناشئة في قوة الإرادة وصدق العزيمة والثبات والشجاعة والاقتصاد يطلب من مكتبة المعارف في مصر. تقرير السر ألدن غورست سنة 1909_هو التقرير الذي يصدره كل سنة معتمد إنكلترا في مصر عن الحركة الإدارية والسياسية والعلمية فيها صدر بالعربية والإنكليزية والفرنسوية وفيه كلام طويل على المعارف المصرية ونمو الحركة للتعليم وازدياد عدد الشبان والكتاتيب والعناية بتعلم العلوم باللسان العربي المبين ويطلب من مطبعة المقطم بالقاهرة. القطار السريع في علم البديع_مختصر في علم البديع لحقي بك ناصف من شيوخ الأدب في مصر وهو شرح بديعية تقي الدين.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الشعرى اليمانية قرأت في المقتبس رسالة من بغداد تبحث في الشعرى العبور فشكرت عناية الكاتب بهذا البحث النافع وأرجو مواصلة القراء بشذور هذا العلم الساطع بيد أني وجدت فيها هفوة لعلها من النقل أو النشر وهو قوله: إن العلامة شارل نوردمان يقول بأن الشعرى تبعد عنا نحو خمسمائة مرة بعد الشمس عنا والصحيح لأنها تبعد عنا زهاء خمسمائة ألف وثلاثة وعشرين ألف مرة بعد الشمس عنا وتتأتى معرفة ذلك من رصد اختلافها السنوي وهو الزاوية الحاصلة عندها التي يقابلها قطر فلك الأرض وهي اصغر من أن تقاس إلا بأدق الآلات لأن فلك الأرض من ذلك المكان السحيق يرى كنقطةٍ متحدةٍ بنور الشمس المشع لكنها في غاية الضعف وقد عرف لها اختلاف سنوي جزئي وهو بحسب قائمة أورمان 0. 39 من الثانية فيقتضي لوصول نورها إلينا ثماني سنين وثلث سنة تقريباً وبالتدقيق 8. 3 ثم بحسب مادتها وهي ثلاث مرات وربع مثل مادة الشمس فتكون قوة الجذب فيها أشد من قوة الجذب في الشمس وتوابعها معاً (السيارات وأقمارها) فلو وجدت على بعد خمسمائة مرة مثل بعد الشمس عنا لدنت الشمس إليها ثم أسرعت نحوها مضطرة لشد التجاذب (لأن الجاذبية تتغير بالقلب كمربع البعد) أما للدوران حولها أو للاندماج فيها والواقع أن الشعرى اليمانية من النجوم المتباعدة عنا وأن شمسنا (ونظامها) سائرة نحو نقطة بالقرب من الجاثي واستنتج بعض الراصدين أن قرب الكيوني أنور كواكب الثريا قطب دوران حقيقي للكواكب (الشموس) التي تتألف منها عقود البروج كافة وهذا الرأي الأخير لم يجزم بصحته حتى الآن والشعرى اليمانية محسوبة من النجوم المزدوجة وقيل بأنها تدور حول جرم مظلم أعظم منها قليلاً ومدة دورانها حوله 52 سنة تقريباً. ثم ذكر أن الشعرى اليماني هي إلينا أقرب هذه الكواكب المنتشرة على بساط المجرة والمعلوم عنها حتى الآن أنها الرابعة في البعد عنا بين الثوابت لأنه عرف لثلاثة كواكب اختلافها سنوي أكثر وأقربهم إلينا قنطوروس اختلافه السنوي 0. 75 أي ثلاثة أرباع الثانية فيكون بعده عنا قرابة 252 ألف مرة بعد الشمس عنا ويقتضي لوصول نوره إلينا أربع سنين ويظن بعض علماء الهيئة أن بين النجوم الضئيلة التي تعد بالملايين عدد قليل

منها أقرب إلينا من قنطوروس. لنفرض للاستعانة على تصور قدر الشمس الهائل وبعدها عنا ولأجل مقابلة المسافات الشاسعة المذكورة أن كرة قطرها قدمان تمثل الشمس فتكون الأرض كحبة حمص صغيرة على بعد 220 قدماً وتكون اقرب الثوابت إلينا على بعد تقديره بالتقريب 8000 ميل عن مثال الشمس والمسافة الحقيقية التي بيننا وبين الشمس 92 مليون ميل بالتقريب يصل نورها إلى الأرض في 8 دقائق و19 ثانية. ويلي الشعرى اليمانية في البعد عدد لا يحصى من النجوم بضعة وعشرون منها يعرف لها اختلاف سنوي والملايين الكثيرة الباقية لا يعرف لها اختلاف سنوي لتناهيها في البعد أو لتوغلها في قلب المجرة أو أقاصيها وتراها بإشعاع نورها وليس بذات جرمها لأن زاوية البصر تتلاشى قبل الوصول إلى أقرب الثوابت بمسافات بعيدة وأقوى النظارات في وقتنا الحاضر لا ترينا قرصاً للثوابت وإذا قيل بأن النور يجتاز عرض المجرة بمدة عشرين ألف أو ثلاثين ألف سنة فبعض السدام على رأي بعض الفلكيين يقتضي لوصول تنوره إلينا سبعمائة ألف سنة وأقوى النظارات لم تحله إلى نجوم مفردة أو عناقيد ومن المحتمل أن يكون مجرة البعيد كالمجرة التي نظامنا الشمسي وعامة الكواكب وأنظمتها منها وفيها على أن الرأي القائل بأن وراء هذه المجرة المحيطة بنا مجرات عديدة مؤلفة من عوالم وأنظمة إلى ما لانهاية لما يتأكد والآلات الحاضرة لا تمكنا من كشف شيء من هذا السر العظيم وقد وجدت خطوط في طيوف بعض السدوم أنور من خطوط الهيدروجين لا تدل على عنصر معروف في الأرض أو في الشمس حتى الآن فمن المحتمل أن يكون ذلك دليلاً على وجود عنصر أبسط أو أوطأ رتبة من الهيدروجين. هذا في ما جال في الخاطر حداني إليه كوكب نظرائه كاتب تلك الرسالة لاقتفاء أثره واقتباس منار لمه في هذا المسلك الذي قد لا أنجو بسلوكه من العثور فالرجوع إلى ما يدونه علماء العصر أحق والبحث في أنواع العلوم الطبيعية أنور للبصيرة فتكسب المرء قدرة التصرف بالأعمال العظيمة المفيدة فإن أكثر الناس تجهل حقيقة هذا العلم وتتخيل في السماء أموراً سخيفة أشركتها في معتقدها وتسكعت في باطلها وظلت عليها القرون والأحقاب حتى رسخت تلك الأوهام الفاسدة في العقول وانطبعت مزاعم زعمائهم الباطلة

في القلوب فتأصل فيهم الميل للشعوذات والإيمان بالخرافات فحقت عليهم كلمة الشر والجهالة فصارت ذريعة إلى المجادلات حتى الحروب والغارات وفاتهم أن الأرض دار قراع وتنازع في البقاء وأن عصرنا هذا عصر جد واجتهاد وأنهم على سطح جرم حقير (الأرض) اعتباره كذرةٍ من جميع المادة نسبته إليها كنسبة حبة رمل إلى طود عظيم خليط من التراب والرمل والحجارة تناثرت أجزاؤه في هذا الفضاء وعلم الهيئة الحقيقي هو علم أثبته الفحص وقام عليه البرهان يعرفنا بحقيقة هذا الوجود ويزيل أو يقلل من تفاخر الإنسان الكاذب وغلوائه وعند التعمق بأصوله وتعميم انتشاره في مستأنف الزمان يدركنا التغيير الكلي في جميع أمورنا وأحوالنا ونخرج من مأزق التعصب ومضيق الأفكار فتبدو علاءات اليمن وإمارات الخير ويكون لهذا العلم المزية الكبرى على سائر العلوم فهو رائد الإصلاح الأكبر. دمشق: أحد القراء وقف للعلم وقف أحمد بك زكي من علماء مصر خزانة كتبه وفيها مئات من الأمهات المهمة المخطوطة والمطبوعة وأكثر مطبوعات أوربا العربية وكثير من نفائس الكتب الإفرنجية على المطالعة لأهل القاهرة وذلك على شرط أن تجعل في مكان خاص بها من دار الكتب المصرية وهي غيرة على العلم لا تستكثر ممن خدمه طوال حياته. مسألة قلة النفوس وضعت مجلة الاقتصاد بين مقالة قالت فيها أنه يكاد لا يعرف كبير أمر عن مسألة النفوس لأن الأمم القديمة قد دثرت كلها تقريباً ونوشك أن لا نعرف إلا أموراً طفيفة عن حالة الآشوريين كما نحن كذلك في تصور اليونان والرومان فإن الرجال الممتازين قواداً كانوا أو فلاسفة ممن اشتهروا قديماً لم يتركوا عقباً فلا يمكن أن يقال أنهم هلكوا في حروب أهلية أو خارجية وأن قد خلفتهم شعوب أخرى مثل البورغونيين والفانداليين والغوتيين الذين نشئوا من جرمانيا والهونسيين والمجريين الذين جاؤوا من آسيا فالماضي يمثل لأعيننا تعاقب الأمم التي تناقلت حسنات المدنية خلفاً عن سلف.

ومسألة قلة النفوس اليوم ينظر فيها في كل مكان ولاسيما في فرنسا فالشعب الفرنسوي اليوم 39 مليوناً ويجب أن يزيد كل سنة مليون نسمة ولذلك رأى أحدهم أن يعطي كل أب وأم فرنسويتين ما شاءا من الوظائف لأن لهم ميلاً خاصاً إليها على شرطك أن يكون لهما ثلاثة أولاد أحياء أو أكثر بدون النظر إلى كفاءتهما وأن تخصص الحكومة مكافأة مالية قدرها خمسمائة فرنك تدفع دفعتين إذا ولد للأبوين الولد الثالث وهو حي وبذلك تنفق الحكومة في السنة من 150 إلى 175 مليون فرنك. فردت المجلة على هذا الفكر وقالت أن الأولاد والعجزة الذين يولدون على تلك الصفة مدة عشر سنين يزيد عددهم ملايين وهم لا يعملون عملاً ويفتقر السكان من جباية هذه الضريبة منهم أي مبلغ 175 مليوناً كل سنة الذي يقضي عليه أداؤه وما قط كانت زيادة الضرائب مغنية لأمة ومن ذلك ينشأ فقر متتابع لأن مائتي مليون فرنك لا تكفي للقيام بتعليم العلم العالي الذي يستلزمه إعداد رجال للصناعات الحرة مثل الطب والمحاماة والهندسة وغيرها وسلك الوظائف أيضاً وربما كان في المستقبل معوض عن هذا العمل ولكن الحال في فرنسا ليست كأميركا وروسيا لأن باطن أرضها قليل الخصب ولا يرجى رواج التجارة أكثر من الآن فالنفوس فيها محدودون وكل دواء يقترح للشفاء من قلتها لا يزيد الحال إلا إعضالاً. فهذه الضريبة لا تأثير لها في الأغنياء والحكومة الآن هي السبب في تقليل السكان فخير لها فيما نرى أن تسهل التعليم العالي فلا تحتم على طالب الطب والمحاماة تعلم اللاتينية بل اليونانية ومجموعة العلوم في حين يكفيهما معرفة علومهما معرفة عملية ويحذف حباً بالاقتصاد من خطة الدروس درس بقية العلوم لأمثال هؤلاء وبذلك يتوفر مبالغ من المال تصرف على تعلميهم إياها. قال وأنجع الأسباب في ذلك تقليل الضرائب على وجه عام فبتقليلها تزيد النفوس إلى الحد المطلوب الذي تسمح به حالة البلاد ونشاط أهلها. دار الترجمة صدر الأمر الخديوي بإعادة ديوان الترجمة في مصر. كما كان في أيام الخديويين السالفين وسيعرب هذا الديوان كل ما تحتاج إليه اللغة العربية من أنواع العلوم الفنون المستحدثة. التربية اليابانية

تقضي الحكومة اليابانية على الوالدين أن يرسلوا أبناءهم إلى المدرسة ست سنوات يخصص منها ساعتان في اليوم لدرس الآداب. ولناظر المعارف أن ينتخب الكتب المدرسية. وأهم الموضوعات في مدارسهم واجب الحب الوالدي واحترام السلف والإخلاص للإمبراطور والإمبراطورة والصفح والاحتشام وعرفان الجميل والاقتصاد والرقة نحو الشيوخ والخدم والمجاملة والواجبات نحو الجار والخير العام واحترام الآلهة والوطنية واستعمال الوقت والشجاعة. وقد أضافوا في السنين الأخيرة دروساً عديدة في واجبات الوطني الاجتماعية وواجبات الجندي وانتخاب النواب للبرلمان والبلدية واحترام الشرائع وأفضلية الرجل وواجبات الرجل والمرأة وهلم جرا. اكتشاف نافع اكتشف الدكتور أهرليخ الروسي تركيباً كيماوياً من الزرنيخ فدلت التجارب على نجاح هذا الدواء في معالجة الحمى الملارية والحمى المتقطعة ومرض النوام. ويعتقد بعض الأطباء أنه بات في حيز الإمكان الآن التغلب على مرض النوام المتفشي في بلاد الكونغو وغيرها من البلاد الأميركية. وفي رواية أخرى أن هذا التركيب يشفي من المرض الزهري. ميكروب الخصب أعلن الدكتور رسل والدكتور هتشنصن في المجمع الطبي البريطاني اكتشاف ميكروب يقتل البكتيريا اللازمة لخصب الأرض وهو أعظم اكتشاف زراعي منذ 50 سنة وكانا قد اكتشفا علاجاً بالحرارة أو مضادات الفساد يقتل جراثيم كثيرة من التي تأكل البكتيريا المفيدة للأرض فتزيد بذلك خصب التربة وقد كان في أثناء أبحاثهما في هذا الموضوع أن اكتشف الميكروب المتقدم ذكره.

صناعة النظم والإنشاء

صناعة النظم والإنشاء كان الوليد أبو عبادة البحتري معاصراً لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام وهما من أعيان أمراء الكلام وكلاهما طائي غير أن البحتري ولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً فما ترعرع وبدت فيه علائم النبوغ حتى كان أبو تمام في أوج مجده وبحبوحة اشتهاره فلصق به وتخرج عليه حتى إذا نبل شعره وسار ذكره قال أبو تمام إن شعر هذا الغلام قد نعى إليَّ نفسي فما اجتمع في طي شاعران مشهوران إلا مات أكبرهما وقد صدقت نبوءته هذه فإن أبا تمام لم يعش بعد قوله هذا أكثر من عام واحد ولقد مات عبطةً وهو دون الأربعين ولو عمر حتى اكتهل كالمتنبي أو شاخ كالبحتري لأتى بالآيات المعجزات ولأطبق الناس على كونه أمير الشعراء قديماً وحديثاً. وكان البحتري قد سأل يوماً أبا تمام أن يبين له الوجهة التي ينتحيها في نظمه والوتيرة التي يجري عليها توصلاً إلى الإجادة والإبداع فقال له: يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيءٍ أو حفظه وقت السحر إذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وتوجع الأشواق ولوعة الفراق فإذا أخذت في مديح سيد ذي إياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقامه ونضد المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقوك الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين وجملة الحال أن تقيس شعرك وتعتبره بما سلف من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما نبذوه فاجتنبه ترشده إن شاء الله. قال البحتري فأعلمت نفسي فيما قال فجاد شعري وطار ذكري ووقفت إلى ما أروم. أما الحاتمي فقد اختار الليل للنظم وحوك الكلام ذاهباً مذهب (جورج ساند) الكاتبة الفرنساوية التي كانت تبدأ بكتابتها عند منتصف الليل وتنتهي منها الساعة السادسة ثم تنام إلى الحادية عشرة على ما وصفه المترجمون لها. وحجة الحاتمي في ذلك أن في الليل تجم الأذهان وتنقطع الأشغال ويصح النظر وتؤلف الحكمة ويتسع مجال الفكر وتنبعث

الخواطر. وعندنا أنه مصيب وأكثر رجال السياسة والتدبير وأهل العلم والخيال وأرباب الاختراع والفنون يفضلون الليل على النهار ويختصونه للمهم من أعمالهم والصعب من شؤونهم والتفكير فيما يصلح من أمورهم وينبه من أقدارهم وفيه غالباً أنشأ المؤلفون الكتب وحبروا الرسائل وولدوا المعاني الحسان وأودعوها أسلاك كلامهم تباهي النجوم ضياء والدر نظاماً والروض زخرفاً وجمالاً_وإن كان ذلك مدعاة لإضناء أجسامهم واخترام أعمارهم فإن السهر ولا جرم مدعاة للسقم ومدرجة للألم وقد طالما عبث بالعقول قبل الأجساد فأوصل إليها الفساد_فالشاعر الماهر والكاتب المتأنق من إذا خلا إلى حجرته وقد سدل الليل ستاره وسكنت ضوضاء الناس واستولت سنة النوم على أجفانهم نشط إلى ما هو ميسر له من الأمر وباشر عمله بعد إمعان الفكرة وإطالة الروية واستيحاء السليقة فيستمد من القريحة عفوها وفيضها غير مستند إلى معنى لغيره يتلاعب به أو قول لبعض السلف ينتحله موقناً أن الناس كافة قيمون له منتقدون لأقواله تفرغون لتزييف كلامه وتفنيد نظامه ووزن معانيه وألفاظه بميزان المتعنت عليه المتبرم به الطالب حجة يتذرع بها إلى تنقيصه وتسوئته والحط من فضله ثم يكتب وهذا التحوط نصب عينيه مائل لديه فلا يجود إلا من مائه ولا يسبك إلا من معدنه بلا اغتصاب ولا استكراه حتى إذا فرغ مما حبر تربص إلى أن تهدأ سؤرة إعجابه فيما راق له من مبتكرات معانيه ومسبوكات قوافيه_وقد يجمل أن يكون ترصه هذا يوماً أو أياماً_ثم يعود بعد ذلك_وقد سكنت القريحة وخلا الذهن وصح التأمل_فيراجع ما كتب مراجعة منتقد ذاته قيم على نفسه رقيب على عمله فإن وجد محلاً للإصلاح أتاه أو وجهاً للتهذيب والتنقيح مارسه وعاناه متخيراً اشرف الألفاظ وأخفها وأكثرها قرباً إلى الفهم وتداولاً على الألسنة يدمجها في تضاعيف سطوره على منوال خاص وأسلوب غريب يعرف به وتظهر ملكته في أنفاس كلامه بحيث ينسبه القارئ العارف به إليه بمجرد تلاوته ولو لم يكن معنوناً باسمه ثم يعرضه على من يثق به من جهابذة الأقلام لعله يرى فيه عورةً فيسترها أو ثلماً فيسده فمن سلك هذا المسلك الجدد من مجيدي الشعراء والكتاب أمن في غالب منشآته العثار وحق له الاشتهار. تلك نصيحتنا نوصي بها ونحرص على الجري بمقتضاها وإن كنا خالفناها في كل منظوماتنا حتى اليوم على ما يعلمه المقتطف ونبه إليه فإننا كنا ننظم في ليلتنا القصائد

لمطولات ثم بعث بها في الصبح إلى عالم النشر دون معاودة نظر أو تثبت وما ذلك إلا أثر من آثار ضيق الطعن المنبعث عن هزال الجسم وسوء الهضم أعاذ الله منهما كل ناظم وناثر فإنهما آفة الإتقان ومجلبة التعس والمرارة والشقاء لبني الإنسان وما مصدرهما فيمن قدر له أن يعيش بعقله وعلمه إلا الإمعان في السهر وعدم الاعتدال في الدراسة منذ الصغر فيلتق الله الكاتبون في أجسامهم أن لهم فيما نعالنهم به عظة وعبرة وإن كانوا ممن يتدبرون. وهنا_والشيء بالشيء يذكر_نأتي على كلام لأبي عثمان الجاحظ مما لا يخرج عما نحن في شأنه وتتوفر فيه الفائدة لمن رزقوا حظ الكتابة ولم يهتدوا إلى قانون يقوي فيهم ملكة الإنشاء ويبعثهم على الإجادة في الصناعة فإن ذلك أهم ما يحتاجه المنشئون هذه الأيام بعد أن قوضت فوضى الأقلام أركان البلاغة وشوهت ديباجة البيان وأضاعت سر التأنق في الترسل حتى زالت عنه مسحة الجمال إلا في عدد نزر ممن أوتوا نصيبهم من سلامة الذوق والعلم وألهموا الهداية في صناعتهم هذه الشريفة إلى محجة الكلام فرسخت في أذهانهم قواعد التحرير والتحبير واستحكمت في صدورهم أساليب التفنن بصوغ المعنى الصحيح في قالب اللفظ الفصيح حتى استقامت لهجتهم ووضح منهاجهم وعذب بيانهم فنسجوا على منوال خاص بهم تشربه القلوب وتستحسنه الأذواق وتعشقه النفوس على ما فيه من السهولة والانسجام ومتانة التراكيب: قال الجاحظ: يقول جهابذة اللفظ ونقاد المعاني وأساطين البيان. المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم المختلجة في نفوسهم المتصلة بخواطرهم والحادثة عن أفكارهم مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة وموجودة في معنى معدومة لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه ولا معنى شريكه والمعاون على أمره وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وأخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تدنيها إلى الفهم وتجليها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهراً والغائب شاهداً والبعيد قريباً. وهي التي تلخص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل مفيداً والمقيد مطلقاً والوحشي مألوفاً وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ورقة المدخل يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح

وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كانت أنجع وأنفع في البيان والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه بكتابه ويدعو إليه ويحث عليه: بذلك نطق القرآن وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف العجم. فالبيان اسم كل شيء كشف لك عن قناع المعنى وهتك لك حجب الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ومن أي جنس كان. والألفاظ هي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة وعن حقائقها في التفسير وعما يكون منها لغواً وبهرجاً وساقطاً مطرحاً فإن صح التناسب وتم التآلف بين تلك المعاني وما تستخدمه لإبرازها من الألفاظ سهل إشرابها للعقول وتجليها على المخيلات وخولها إلى صميم القلب والعكس بالعكس. فمن شاء أن يكون حديثاً تقرع الآذان نبراته أو منشئاً تسحر الألباب نفثاته فليلبس المعنى الدقيق اللفظ الرشيق الذي لا ينقص عن معناها ولا يزيد وليمتن الأصول ويحذف الفصول ويجتنب الحشو ويطنب حيث يستحب الأطناب ويوجز حيث لا يستكره الإيجاز: كل ذلك يفتقر إلى رأي حصيف وفكر نقاد وخاطر جرئ وذهن ذكي وذوق يحسن الاختيار وبديهة لا تعرف التلكؤ وحافظة تكنز من المواد ما يستعان به على ركوب هذا المركب الوعر تقرن إلى ضلاعة في العلوم وتبحر في الأدب ومطالعة في آثار أئمة أهل البيان ممن نبغوا فدرجوا من قبل واشتمل عليهم الزمان ولقد قال أبو داود رأس الإنشاء الطبع وعموده الدربة وجناحاه رواية الكلام وحليه الإعراب وبهاؤه تخير اللفظ وقال ابن المعتز العاقل يكسو المعاني وشي الكلام في قلبه ثم يبديها بألفاظ كواس في أحسن زينة والجاهل يستعجل بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها واستكمال محاسنها. ولما سئل جعفر البرمكي وزير الرشيد المشهور عن البيان قال هو أن يحيط كلامك بمعناك ويكشف عن مغزاك ويخرجه عن الشركة ولا يستعان عليه بالفكرة ويكون سليماً من التكليف بعيداً من الضعة بريئاً من التعقيد غنياً عن التأويل مع نزاهته عن الركة وترفعه عن اللغو وأبلغ الكلام ما بخته مراجل العلم وصفاه راووق الفهم وضمته دنان الحكمة فتمشت في المفاصل عذوبته وفي الأفكار رقته وفي العقول حدته وما أحسن ما قال حائك أديب الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه فخرج مفوفاً منيراً وموشى محبراً وإن من البيان لسحراً.

ولقد قال غيره البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني ويخيط الألفاظ على قدود المعاني ومن أجلى ما وصفت به البلاغة قول أحد العلويين البلاغة إيصال المعنى إلى القلب بحسن صورة من اللفظ وهو يضارع قول بعض الأعراب البلاغة إيجاز في غير عجز وأطناب في غير سفسفة. هذه هي الصناعة التي يحسبها الناس لعقة من عصيد أو لقمة من ثريد فلا يكاد الصبي منهم يقرأ الأجرومية أو شيئاً من شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ويتلقف بعض ما أوجده الخليل بن أحمد في دائرة البحور من الأعاريض وقيده إسماعيل الجوهري على بعض صفحات الصحاح من حوشي الألفاظ حتى يتربع في دست التصنيف والتأليف أو يقف على منبر الإمام الخطيب أو يسمي نفسه بالشاعر الساحر فيملأ الدنيا صناناً وهو يظنه عطراً وملاباً أو رنداً أو أقحواناً ولله الأمر من قبل ومن بعد وما هو بغافل عما يهذرون. سليم عنجوري

هل اللغة العربي حية

هل اللغة العربي حية وضع المسيو قطان أحد أعضاء المجمع العلمي القرطاجني في تونس محاضرة رد فيها على من قال أن اللغة العربي ليست من اللغات الحية وأنها كانت كذلك وقد أصبحت اليوم من اللغات الميتة فأحدث كلام من أصدر هذا الحكم تأثيراً في نفوس المسلمين لأن له علاقة بأعز الأوضاع عندهم وأقدسها في نظرهم ونعني بها اللغة وقد ردت بعض الصحف الإسلامية على بعض من رموا اللغة العربية بالعقم رداً لم تورد فيه برهاناً بل جعلته خيالياً وتجاوزت فيه حد المناقشة العلمية ورمت القائل وهو أوربي بالطبع بأنه لا يعرف ما في العربي من الميزات والخصائص وقالت أنى يتأتى لغريب عنها أن يفهمها حق فهمها بيد أن صاحب هذه المحاضرة دافع عن العربية دفاعاً علمياً ورد مزاعم من يرمونها بالموت بالبرهان السديد وأثبت لها الحياة مع من يثبتها لها من أبنائها الذين يكتبون بها ويتكلمون فقال: إن دعوى المسيو نويل بأن اللغة العربية لغة مقدسة جامدة لا تتحرك وإن أدنى تغيير يدخل عليها يعد خرقاً لحدودها وعبثاً بقانونها هو من الدعاوي التي يخالفها الواقع ولا ينهض عليها دليل. وأني أرى علماء المشرقيات الذين يتعلمون اللغة العربية والكتاب المسيحيين في سورية ومصر ممن عنوا بها وبرزوا في آدابها منذ سنين بل والمستنيرين من المسلمين أنفسهم يوافقوني على قولي على أن اللغة العربية لغة سامية انتشرت أولاً في شبه جزيرة العرب ووصلت إلى درجة التهذيب قبل الإسلام ببضعة قرون وكملت على يد النبي وأصحابه وأنه مضت عليها قرون طويلة وهي زاهرة بين شعوب انتشرت بينهم الحضارة الإسلامية فنشأ لهم في العربية كتاب كثيرون من النصارى واليهود والمسلمين وإنها اليوم شائعة بين الشرقيين من أهل الإسلام وغيرهم ويتفهم بها بضعة مئات الألوف من البشر بينهم كثير ممن لم يدينوا بالإسلام ينزلون شمالي أفريقية وأواسطها وجزءاً من قارة آسيا. نعم لا أآخذ إذا قلت إذا كانت العربية عند معظم المسلمين لغة مقدسة لأنها لغة الدين والعبادة وهي لم تبرح لأرباب العقول السامية الذين ازدان بهم الإسلام والمسيحيين والإسرائيليين الذين عنوا بها حق العناية منذ عهد الخلفاء إلى هذا اليوم أداة بديعة للإفصاح عن الفكر والعواطف العالمية في مظاهرها المتخلفة وهي من أجمل لغات البشر. أرى أنه متى أريد البحث في لغة بحثاً علمياً أن لا توصف بما يصفها به أرباب التقاليد من

النحاة ولا المتعصبة من المتفقهة بأنها لغة مقدسة غير قابلة للزيادة والنقص بل الواجب النظر إلى تاريخ هذه اللغة والبحث فيما إذا كانت بقيت جامدة على صورتها الأولى حقيقة أو أنها نشأت ونمت كما ينمو كل تركيب نام حي. لا جرم أن كل امرئٍ يدرك أن اللغات لا تحيا على يد أساتذة الكليات ولا بتقارير النحاة ولا بأحكام المحاكم وأوامر الحكومات فاللغة الإفرنسية لم تنم منذ عهد كوبلر إلى زمن بريان بهذه الطريقة بل إن العربية على ما فيها من الكتب والنحو والعروض التي شرحها معلمو الجوامع لا تعد لغة أدب فكما أن الإفرنسية تحيا بكتابها المبدعين المجددين أكثر من حياتها برجالها اللغويين والباحثين في أصولها هكذا اللغة العربية عاشت طول عمرها خارج الكيات الإسلامية بفضل أعمال المجددين والمترجمين والعلماء والفلاسفة والشعراء الذين كانوا في عصور مختلفة مع تمسكهم بقواعد النحو العربي الذي كانت الكليات مهيمنة عليها فهم يقفون ما أمكن موقف التوفيق بين ما يكتبون وبين اللغة التي يعجبون بها وحق لهم العجب من كمالها وغناها وجمالها. ومع هذا لم يقفوا ساعة عن تقويتها بما يحملونه إليها من الأفكار الطارئة ولغات الشعوب الأخرى. وإذا أبى المسيو نويل الخروج عن هذا القياس وادعى بأن اللغة المصرية اليوم هي لغة حديثة نشأت من قطع ملفقة من التقارير وليست من التقديس في شيءٍ أي ليست اللغة العربية في معناها الحقيقي بل هي لغة صناعية وإن اللغة المقدسة هي التي استعملها القرآن فقط وفيها الغريب_إذا قال بهذا فهو يحذف بقياسه من الآداب العربية كتب المؤرخين والعلماء والفلاسفة وغزل الشعراء لأنها مملوءة بالمولد أو أنه يعتبرها من الكلام الوحشي الغير المأنوس ويقتصر بأن لا يعد من الآداب العربية إلا القرآن وتفاسيره وربما كانت هذه التفاسير بحسب زعم المسيو نويل من غريب الكلام أيضاً. أما أنا فلا أفرط في التدقيق أكثر من عالم من علماء المسلمين بعد أن رأيت في دور المكتب أناساً من صلحائهم ينظرون في كتب القرآن والفقه وبجانبها تآليف كتبت باللغة العربية الحديثة بل مترجمات لفلاسفة يونان. ولذلك أسمي باللغة والآداب العربية تلك اللغة وتلك الآداب التي اتفق جمهور المسلمين وأمثال سلفستر دي ساسي ودارمبورغ وغولدسير وغيرهم من العلماء على تسميته بهذا الاسم.

قال المسيو نويل أن اللغة الحية هي التي تخضع لنواميس الحياة أي أنها تدخل فيها الجديد وتنبذ ما لا تراه نافعاً لها وهو تجديد يعد من شروط الحياة كالتغذية لكل تركيب نام نباتياً كان أم حيوانياً. وإني لأكتفي بدحض هذه الحجة بأنه أورد تاريخ العربية ولكم أن تحكموا بأنفسكم بأن هذه اللغة لم تبرح خاضعة قبل الإسلام وبعده لنواميس الحياة. أما تاريخ اللغة العربي فيقسم إلى أدوار أربعة: دور التكون ودور المدنية الإسلامية الزاهر ودور الانحطاط والدور الحالي. فدور التكون يبدأ بالزمن الذي انفصلت فيه هذه اللغة عن سائر اللغات السامية وأصبحت لغة خاصة بعد أن كانت عبارة عن لهجات كثيرة قلما تجد بينها اختلافاً كثيراً وهي وافرة بقدر ما كان من القبائل في شبه جزيرة العرب. وتعدد اللهجات كان من أسباب غنى العربية بمفرداتها وانتهت الحال بعد ذلك بأن اندمجت هذه اللهجات بعضها في بعض ونسيت كلها ما عدا ثلاث لهجات كبرى ذكرها التاريخ وهي لغة اليمن والحجاز والحبشة. جاء محمد (عليه السلام) وبدأ بتوحيد جزيرة العرب في سياستها ووفق أخلافه إلى تتميم هذا المقصد فتوحدت بذلك اللغة وكانت الغلبة للغة الحجاز موطن النبي فأصبحت لغة القرآن بعد واغتنت بما دخل إليها من المفردات المستعملة عند شعوب كثيرة ممن كانوا يقصدون مكة حاجين كالهند والفرس والنبط والحبشة والمصريين والإسرائيليين وغيرهم. فكانت مكة أشبه ببرج بابل ولا عجب أن سرى إلى اللغة الأدبية على ذلك العهد مزيج من لغات الأمم الأخرى. فالألفاظ الدخيلة التي اغتنت بها اللغة العربية إذ ذاك هي أسماء العقاقير الطبية وما تنتج بطون الأرض من المعادن وما يصنع في فارس والمملكة الرومانية والهند الشرقية من المصنوعات ويحمل إلى جزيرة العرب. واقتبست العربية قبل الإسلام ألفاظاً كثيرة من اللغة البهلوية كما اقتبست من العبرانية بعض ألفاظ العبادة مثل الحج الكاهن عاشوراء وكانت الصلات التجارية بين الهند وبلاد العرب سبباً في تعريب كثير من الألفاظ السنسكريتية ولاسيما ما كان منها خاصاً بالعطور والأحجار الثمينة. وبعد أن فتحت فارس أخذ العرب يلبسون الثياب الفارسية وأدخلوا إلى لغتهم الألفاظ الدالة عليها في جملتها فدخلها من الألفاظ السروال الجبة القفطان الطربوش على نحو ما استعمل المسلمون الذين يكتسون

الثياب الأوربية اليوم من الألفاظ الجاكت البنطلون اللستيك وأُخذ عن الفرس معظم الألفاظ التي تدل على الأطعمة المختلفة والأسلحة والآنية وغيرها. وابتدأ الدور الثاني للغة العربية وهو دور الفتوح والمدنية الإسلامية باقتباس الألفاظ الدينية والقانونية والإدارية والعلمية وغير ذلك ثم بتعريب كتب اليونان والفرس والهنود فدخل اللغة من الألفاظ مثل الكحالة والصيدلية ثم توسعت في استعمال بعض الألفاظ لأكثر من المعنى الذي وضعت للدلالة عليه مثل مؤمن مسلم صلاة زكاة الحضانة. حتى إذا تمت الفتوح وأنشأ المسلمون ينظمون البلاد التي خضعت لسلطانهم أخذوا من الفرس والبيزنطيين أصول أوضاعهم السياسية والإدارية والقانونية والعسكرية والمالية فاقتضى لهم تعابير جديدة للدلالة على هذه الوظائف الجديدة فاقتبسوا أكثرها عن الفرس والبيزنطيين مثل الديوان الجامكية البريد نيشان من الفارسية الأسطول الكردوس البطاقة من الرومية واخذوا مفردات عبرية وسريانية عندما ترجمت التوراة والأناجيل مثل قربان جهنم توراة توبة تلميذ يغوث آمين بل أن قواعد النحو نفسها قد دخلها التعديل فأخذت العرب تستعمل الضمائر المستترة للتفنن في التعبير تكثر من استعمال صيغة المجهول وتنسب إلى الروح روحاني وإلى النفس نفساني وتستعمل بعض الصفات في صورة أسماء مثل المائية العامة الخاصة وعلى ذلك العهد سقطت من الاستعمال بعض الألفاظ التي أتى الإسلام على مدلولاتها مثل المربع النشيطة الأتاوة الصرورة. ولقد ظلت العربية تغتني بمفرداتها الجديدة وتراكيبها الحديثة وتنمو مفرداتها وقواعدها حتى جاء عصر انحطاط المملكة الإسلامية وأخذت تنقسم إلى ممالك مستقلة يحكمها أناس من أصول غير عربية كالمغول والأكراد والأتراك وغيرهم. ففي تلك العصور أصيبت اللغة بما ذهب برونقها الأصلي وأصبحت من التكلف واستعمال الألفاظ الضخمة على جانب من الغلظة والجفاء حتى أن ما كتب من المصنفات على ذاك العهد تصعب قراءته لخلوه من كل فائدة. فهو عهد الألفاظ الرنانة المفخمة والسجع المرصع الذي أعجب به بعضهم وحمل عليه كثيرون وذلك لأن البيان كثيراً ما يضيع لضرورة السجع وإذا ارتضت الأسماع الأسجاع فالفكر ينبو عنها كل النبو. وفي ذاك العهد دخلت اللغة تلك الاستعارات المفخمة والمبالغات الغريبة حتى أن معظم

الألفاظ التي عربت تلك الأيام كانت ألفاظاً إدارية أو أسماء رتب في الجيش مثل سنجقدار الجاشنكير اليوزباشي الباشا دفتردار خزندار المابين الآغا دفتر خانه. وفي ذاك العهد أيضاً أخذت بعض الألفاظ العربية توضع لمسميات جديدة مثل المتصرف الصدر الأعظم القائم مقام المسئولية التابعية ثم أتى دور تركت اللغة إلا ما كان له منها علاقة بالنحو واللغة والتصوف والفقه وفي هذه الموضوعات صدرت كتب لا تحصى بكثرتها. والدور الرابع دور النهضة ويرد تاريخه إلى نحو قرن وقد نزل الأوربيون في الشرق يلتمسون لهم في شواطئ البحر الأبيض بلاداً يظهر فيها نشاطهم فاختلط المشارقة بالمغاربة اختلاطاً دائماً نشأ منه تبادل في الأفكار بينهم وبفضل ذلك اغتنت لغاتهم بمفردات استعارها بعضهم من بعض. وإذا كانت بضاعة الشرقيين في العلم قليلة اضطروا في دراسة العلوم الحديثة أن يأخذوا ألفاظاً عن اللغات الغربية أو أن يتوسعوا في معاني بعض ما لديهم من الألفاظ العربية ليضعوها لأفكار ومعارف جديدة. وذلك دليل على أن اللغة ظلت على حالها على النشوء. ومن العبث أن نورد هنا بعض الألفاظ الإفرنسية التي اندمجت في سلك اللسان العربي مثل بوليس بارلمان سيركولير أو الألفاظ الإيطالية مثل بوسطة دبكربتو بروتستو دع عنك التعابير العلمية التي سرت إلى العربية من اللاتينية أو اليونانية وهي شائعة في لغات أوربا. ومن الألفاظ الكثيرة التي حولت عن معناها الأصلي للدلالة على أفكار جديدة لم تكن مألوفة للشرقيين الميزانية المؤتمر المحرر المحافظون الأحرار الاشتراكيون أهل الفوضى. وقد نشأ للغة في سورية ومصر لعهدنا كتاب بالعربية من الطبقة الأولى خلصوا اللغة من قيودها وأعادوا إليها نضرتها الأولى وأنقذوها من المترادفات المملة حتى صارت بإنشائها إلى الوضوح والسلاسة معبرة أحسن تعبير عن الأفكار الحديثة وبفضلهم أخذت روح اللغات الأوربية تدخل في العربية وسهلوا نحوها وصرفها وبيانها. يقولون أن لغة الكتابة تخالف لغة التكلم ومثل هذا موجود في اللغة الإفرنسية نفسها فإن أهل الطبقة الوسطى يتكلمون بلغة لا تناسب بينها وبين لغة أديب أو شاعر على أن الشعب في البلاد التي يتكلم فيها بالعربية أقرب إلى فهم ما يتعلمون من الألفاظ بالذوق من الشعوب الأوربية إلى فهم الغريب من لغاتهم الرسمية. والدليل على ذلك أنك تجد الطبقة النازلة من

الأمة تستمع للحكواتي (الأدباتي) في محال القهوة وتنصت لقصص ألف ليلة وليلة وقصة عنتر وتتفهمها كلها على بلاغتها بفطرة فيها وشعور طبيعي. ومهما يقال فإن التمثيل باللغة العربية الأدبية يفهمه العامة ولئن فاتهم فهم بعض أبياتها فعامة باريز ليسوا في مسارحهم أكثر فهماً لما يتلى عليهم من قصائد كورنيل ومولير. واللغة العربية ليست كما يقال لغة صناعية أجنبية وليست غريبة إلا عن كثير من الطلبة الهنود والمراكشيين وغيرهم ممن يقصدون من البادية جامع الزيتونة في تونس والأزهر في مصر ليتعلموها بل هي لغة حية لمن يدرسها ويتعلم بها بذوق مثل كتاب الشام ومصر الذين يتولون الصحافة وينشرون المعارف البشرية بواسطة الصحف والكتب بل هي حية أيضاً بالنسبة إلى أولئك الذين تراهم في محال القهوة العامة يهتزون لما يسمعون من أناشيد الغزل ووقائع الحروب على أن اللغة الإفرنسية أيضاً هي أحق بأن تكون لغة صناعية أجنبية إذا رأينا كيف يتوارى شبان الطلبة من قرى أقاليم البروفانس وبرتانيا وغاسكونيا (فرنسا) عن الأنظار ساعات اللعب في المدارس يتكلمون بلهجتهم الخاصة بهم. فإن قيل أن اللغة العربية تحتاج إلى عشر سنين لتعلم نحوها قلنا أن الشرقيين يتعلمونها في أقل من هذه المدة ويتقنون معها عدة لغات أجنبية فعلينا أن نعقد أملنا بإصلاح طرق التعليم في المدارس الإسلامية على الأسلوب الحديث وذلك بأن يحصل الطلبة لغتهم في قليل من الزمن فاللغة يجب أن تكون آلة لا غاية. وقال المسيو نويل أن حاجة العربية ماسة إلى أن تستمد من اللغة العامية لتحيا أما أنا فأقول بأن أعظم نقص في اللغة العربية أن تكون غنية وهي لا حاجة بها إلى الأخذ من العامية في حين تجد لديها 21 لفظاً مختلفاً للدلالة على الظلام و52 للشمس و100 للخمر و255 للناقة و350 للأسد. وقد أصيبت اللغة الإفرنسية بكثرة مفرداتها على عهد رونسارد فما قدح ذلك فيها بل عد من الزيادات التي تحذف. فالعربية لا تشبه اللغات الأوربية بل هي بالنسبة إلى الإفرنسية كالمرأة الباريزية الممشوقة القوام الجميلة الهندام مع المرأة السمينة الشرقية التي تحرص على هندامها القديم وهي حية جميلة قوية. نعم إن عنى العربية بمفرداتها يضر بمرونتها وسرعة فهمها ولكن الفتى الحار لا يكثر منها كثيراً في عروقه فإنا نجد كتاب هذا العهد يسقطون عدداً كبيراً من المترادفات وينشقونها الروح الغربية فهم

قوام على صحتها وحياتها. واللغة التي تأخذ عن العامية تصبح إلى الابتذال الممقوت أقرب. وبالجملة فإن العامة في الشرق ليسوا أقل من عامة الغرب فهماً للغتهم ولكنهم يزيدون فهماً يوم تصرف بينهم كل سنة الملايين لنشر التعليم العام على نحو ما يجري في الغرب. وإن قيل أن اللغة العربية لغة أدبية جميلة ولكنها ليست إلا أداة مشوشة لتعليم العلوم فالجواب بأن النتيجة التي وصل إليها أصدقائي المسلمين في المدرسة الخلدونية من تعليم العلوم باللغة العربية هي تكذيب صريح لمن يقول هذا القول. ويمكن أن يقال أن شعوب الشرق هم من عناصر أدب وتفنن فهم أميل إلى تلقف الشعر منهم إلى تعلم العلوم المادية كما يفعل اليوم أهل القاصية من بلاد أوربا فيتخلون عن الجميل من العلوم لتعلم ما هو نافع منها حتى كادوا يفقدون بذلك حضارتهم. فأنا أقول لهم في هذا المجال ما قاله نابليون: إذا كانت العلوم من أحسن ما اهتدت عقول البشر إلى تطبيقه فالآداب (الأدبيات) هي روح الإنسانية بذاتها.

السجل المعلق

السجل المعلق نقلنا في الجزء الماضي نموذجاً من كتاب السجل لحمزة بن علي مثبت ألوهية الحاكم بأمر الله وصاحب مذهب الدروز الأول وها نحن أولاء نتبعه بنتف منه تكشف الغطاء عن معتقدهم وللقارئ أن يعلق عليها ما شاء: جاء في الرسالة الموسومة ويد (؟) التوحيد لدعوة الحق: توكلت على مولانا البار العلام العلي الأعلى حاكم الحكام من لا يدخل في الخواطر والأوهام جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام حروف بسم الله الرحمن الرحيم حدود عبد مولانا الإمام: كتابي إليكم معاشر الأخوان المستجيبين إلى دعوة مولانا الحاكم الأحد الفرد الصمد جل ذكره عن الصاحبة والولد العابدين له لا لغيره الناجين من شبكة إبليس اللعين والضد المهين وجواسيسه الملاعين وأنصاره الغاوين وحزبه الشياطين ليس لإبليس عليكم سلطان ولا لجنوده لديكم مكان ولا لزخرفة عندكم شأن بل أنتم الملائكة المقربون الذين ملكوا أنفسهم عن أفعال المشركين وأنتم حملة عرش مولانا جل ذكره والعرش ها هنا علمه الحقيقي الذي هو صعب مستصعب لا يحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو مؤمن امتحن المولى قلبه بالإيمان له وجده سبحانه تعالى عما يصفون. أما بعد فإني أحمد إليكم مولانا الذي لا مولى لنا سواه وآمركم وإياي بالشكر لنعمه وآلائه حمد من استوجب الزيادة في أولاه وأخراه وأوصيكم بما أيدني به مولانا جل ذكره وأمرني به من إسقاط ما لا يلزمكم اعتقاده وترك ما يضركم افتقاده من الأدوار الماضية الخامدة والشرائع الدارسة الجامدة وما منهم ناطق إلا وقد نسخ شريعة من كان قبله من المتقدمين ومحمد بن عبد الله الناطق السادس لما ظهر بالنطق نسخ الشرائع كلها وسد الطرق وقال فمن لم يترك ما كان عليه قديماً من دين آبائه وأجداده قتل وسمي كافراً ومن ترك الشريعة التي بيده ولم يلتفت إليها وقع عليه اسم الإسلام وكان في سلمه غير ملام وضمن لهم محمد الجنة على الدوام فبان للعاقل الشافي والمخلص الكافي أن الإشارة والمراد ها هنا في عبادة الموجود لا المعدم المفقود والإنسان ابن يومه وساعته وفي الوجود راحته وله عبادته وبه حياته وإليه إشارته ومولانا الحاكم البار العلام قد نسخ شريعة محمد بالكمال ظاهراً للمؤمنين ذوي الأفضال وباطناً للموحدين أولي الألباب وأما من نوره في قلبه زاهر وفي معاني أموره للخلق قاهر وغير منافق بالكفر شاهر لا يلتفت إلى اشتعال الناموس وعلوه

وزخرف القول وسموه ويعلم أنه استدراجاً للكافرين وتمييزاً للمؤمنين الموحدين كما قال وليميز الله الخبيث من الطيب وإن كان لا يخفى عن مولانا جل ذكره الخبيث من الطيب يعني المشرك من الموحد لكنه أراد أن يبين للموحدين من يرجع منهم على عقبيه ومولانا جل ذكره عالم بما في الصدور وما هو كائن والدليل على ذلك زوال الشريعة على الاختصار في شيءٍ واحد إذ لم تحتمل هذه الرسالة طول الشرح. وقد بينت لكم في الكتاب المعروف بالنقض الخفي نسخ السبع دعائم ظاهرها وباطنها وذلك بقوة مولانا جل ذكره وتأييده ولا حول ولا قوة إلا به وكيف وفي رفع الزكاة وإسقاطها مقنع المسائلين عن غيرها وهي مقرونة بالصلاة وقد غزا عبد اللات بن عثمان المكنى بأبي بكر إلى بني حنيف ومعه جميع المهاجرين والأنصار فقتل رجال بني حنيف ونهب أموالهم وسبى حريمهم. وقد اشترى علي ابن أبي طالب وهو أساس الناطق من جملة السبي امرأة تعرف بالحنفية واسمها تحفة وهي أم ولده محمد فقيل له يا علي كيف تستحل نفسك أن تشتري امرأة تعرف مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله وتصلي الخمس وتصوم شهر رمضان فقال علي ما ينفعها ولا لقومها الشهادتين ولا سائر أعمال الشريعتين إذا لم يؤدوا الزكاة وإن الزكاة هي الشريعة بكمالها فمن لم يؤدها وجب عليه القتل وأحل لنا ماله وأهله لقوله فويل لمشركين الذين لا يؤدون الزكاة فقد أخرجهم الله من الإسلام وجعلهم من المشركين. وأنتم معاشر الموحدين قد علمتم وسمعتم السجل الذي أمر مولانا جل ذكره بقراءته عليكم وأسقط عنكم الزكاة والأعشار والأخماس وسائر الصدقات إلى أبد الآبدين ولم يسقط عنكم محافظة بعضكم بعضاً. . . . وقال في رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد: فنعوذ بمولانا من ذلك سبوح قدوس مبدع الإبداع وجامع الأشتات والأضياع الذي هو على السماوات عالٍ وفي الأرض متعال وعن قريب يظهر مولانا جل ذكره سيفه بيدي ويهلك المارقين ويشهر المرتدين ويجعلهم فضيحة وشهرة لعيون العالمين والذي يبقى من فضله السيف تؤخذ منهم الجزية وهم صاغرون ويلبسون الغيار وهم كارهون ويكونون في الغيار والجالية على ثلثة أصناف فغيار النواصب علاقتان من الرصاص في أذني كل واحد منهم وزنهما عشرون درهماً وطرف كمه الأيسر مصبوغ فاختياً وجاليته ديناران ونصف وهم يهود أمة محمد ويكون غيار أهل

التأويل الواقفين عند العدم علاقتين من الحديد في أذني كل واحد منهم وزنهما ثلثون درهماً وطرف كمه الأيمن مصبوغ بالسواد وجاليته ثلاثة دنانير ونصف وهم المشركون نصارى أمة محمد ويكون غيار المرتدين من توحيد مولانا جل ذكره علاقتين من الزجاج الأسود في أذني كل واحد منهم وزنهما أربعون درهماً ويكون على رأسه طرطور من جلد ثعلب وصدر ثوبه مصبوغ رصاصياً أغبر وجاليته خمسة دنانير في كل سنة وهم المنافقون مجوس أمة محمد وتؤخذ هذه الجالية من الشيوخ والشباب والنساء والصبيان والأطفال في المهد وتغير عليهم العلائق في كل سنة فمن خالف منهم ضرب عنقه. . . . . وقال في رسالة الغاية والنصيحة: فلو ميزتم معاني الكلام وتدبرتموها لبان لكم نطق الرسول من نطق إبليس وفعل الإمام من فعل غطريس ولعرفتم السبت والخميس وتبرأتم من فرعون وهامان الرجيس ولتصور لكم ارتفاع مكان إدريس وعبدتم مولانا جل ذكره باري الحن والجن والبن والإنس. والرسول هنا هو الإمام المفترض الطاعة وهو دون الإمام المعظم وإبليس هو المشتبه بالمولى سبحانه ويزعم بأنه جنس ويدعي عهد المسلمين والإمام الأعظم ذومعة وسمي ذومعة لأنه دعا توحيد الإمام جل ذكره بلا واسطة وغطريس هو نشتكين الدرزي الذي تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الإمام ويدعي منزلته ويكون له خوار وجولة بلا دولة ثم تنطفئ ناره وكذلك الدرزي كان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب والثوب هو الداعي والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي بن أحمد الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره سبحانه وتعالى وادعى منزلته حسداً له وإعجاباً بروحه وقال قول إبليس وكذلك الدرزي سمى روحه في الأول بسيف الإيمان فلما أنكرت عليه ذلك وبينت له أن هذا الاسم محال وكذب لأن الإيمان لا يحتاج إلى سيف بعينه بل المؤمنون محتاجون إلى قوة السيف وإعزازه فلم يرجع عن ذلك الاسم وزاد في عصيانه وأظهر فعل الضدية في شأنه وتسمى باسم الشرك وقال أنا سيد الهاديين يعني أنا خير من إمامي البادي وغره ما كان يضربه من زغل الدنانير والدراهم وحسب أن أمر التوحيد مثله يحتمل التدليس وأبى أن يسجد لمن نصبه المولى جل ذكره وقلده واختاره وجعله خليفته في دينه وأمينه على سره وهادياً إلى توحيده وعبادته فتغطرس على الدين وأظهر سيف الناطق والأساس

أجمعين طلباً للرياسة والاسم اللطيف بإظهار الشريعة في عالم البسيط والكثيف. وفرعون البرذعي وهامان علي ابن الحبال لأن فرعون كان داعي وقته فلما أبطأ الناطق قال أنا ربكم الأعلى يعني إمامكم الأعظم. وهامان الذي فتح له باب المعصية وإدريس هو الذي رفع مكاناً عالياً وهو ارتفاع درجته في العلوم حتى أصبح إماماً دون الإمام الأعظم الذي مص العلم من ذي معة وهو قائم الزمان هادي المستجيبين عبد مولانا جل ذكره وصفيه بلا واسطة جسماني فإذا عرفتم هذا عبدتم مولانا جل ذكره باري الحق وهم الدعاة والجن وهم المأذونون والبن وهم المكاسرة والأنس وهم المستجيبون ها هنا في هذا المعنى والسبت دليل على السابق وهو علي بن عبد الله اللواتي الداعي والخميس دليل على التالي وهو مبارك بن علي الداعي وأهل التأويل يزعمون بأن الكلمة هو السابق والسابق هو الكلمة ولا فرق بينهما ولا يعرفون فوقهما شيئاً إذ كانت الثلة حدود الذين هم ذومعة وذمعة والجناح غائبين عن عيون قلوبهم ينظرون إليهم وهم لا يبصرون. معاشر المستجيبين لمولانا جل ذكره قد بلغت لكم الهداية ودعوتكم إلى توحيد مولانا جل ذكره في سبعين عصراً ما منها عصر إلا ويظهرني مولانا جل ذكره فيكم بصورة أخرى واسم آخر ولغة أخرى أعرفكم ولا تعرفوني ولا تعرفون نفوسكم. والآن قد استدارت الأدوار وكأنكم بإظهار توحيد مولانا جل ذكره ونور الأنوار وأظهر لكم ما كان مدفوناً تحت الجدار فلمولانا الحمد والشكر وحده فلا تنكروا معجزات مولانا جل ذكره وآياته ولا تلتفتوا إلى أمس فأمس مضى بما فيه وغداً فلا تعلم أنك توافيه واليوم أنت فيه بما يقتضيه وكلما غاب عن العالم أسقطوه فلو كان للعالين عقول لميزوا معجزاتي التي أيدني بها مولانا جل ذكره يوم الجامع. . . . . وقال في رسالة السيرة المستقيمة بشأن القرامطة ما يأتي: وكان أهل الإحساء_إلى المدينة صرفة_يسافرون إليها بالبيع والشراء فدخل إليها رجل من أهل الإحساء يقال له صرصر فكاسره بعض الدعاة وأخذ عليه العهد من وقته وساعته وأتى به إلى عند آدم وهو شطنيل فأطلقه داعياً بإحساء وأعمالها فخرج الرجل من وقته وساعته إلى الإحساء وأعمالها وأخذ العهد بها على خلق كثير وأوصاهم بتوحيد مولانا جل ذكره وعبادته والإقرار بشطنيل وإمامته والتبرئ من إبليس وصحبته وقال لهم إذا دخلتم هجر فعبسوا وجوهكم وقرمطوا

آنافكم على أهلها فإن فيها رجلاً يقال له حارث ابن طرماح الأصبهاني وله أصحاب كثيرة وكلهم قد خالفوا مر مولانا البار العلام وجحدوا فضيلة الإمام فلا تخاطبوا أهلها بشيء من العلم إلا لمن يحضر معكم مجلس شطنيل الحكيم فقبلوا من الداعي صرصر وفعلوا ما أمرهم به من العبسة والقرامطة فلقبوهم بالقرامطة إلى وقتنا هذا وصار ذلك اسماً في بلاد الفرس وأرض خراسان إذا عرفوا رجلاً بالتوحيد قالوا هذا قرمطي ويسمون مذهب الإسماعيلية القرامطة لهذا السبب. وكان أبو طاهر وأبو سعيد وغيرهم من القرامطة دعاة لمولانا البار سبحانه يعبدونه ويوحدونه ويسجدون لهيبته وعظمته وينزهونه عن جميع بريته فلقبهم المولى جلت قدرته بالسادة وعلموا في الكشف ما لم يعمله أحد من الدعاة وقتلوا من المشركين ما لم يقدر عليه أحد من الدعاة ولم يسهل المولى سبحانه ظهور الكشف على أيديهم لما علم جلت قدرته وعزت عظمته ومشيئته ما يكون من الخلف بعدهم من إضاعة التوحيد والضلالات وإتباع بني العباس بالشهوات ووقوعهم في الغي والغمرات وقد آن وقت الكشف وأزف أوان السيف الخسف وقتل المنافقين وهلاكهم بالعنف ولا بد من رجوع أهل الإحساء وهجر وديار الفرس إلى ما كانوا عليه من توحيد مولانا جل ذكره وعبادته ويسجدون له ولهيبته وعظمته وينزهونه عن جميع بريته ويكونوا أنصار التوحيد كما كانت قديماً أسلافهم وأبث فيهم دعاة التوحيد وأجمع شمل الأولياء والعبيد وأقهر بسيف مولانا جل ذكره كل جبار عنيد حتى لا يبقى بالحرمين الشريفين مشرك بمولانا جل ذكره ولا كافر به ولا منافق عليه ويكون الدين واحد (؟) بلا ضد ولا معاند وذلك بقدرة مولانا الحاكم الأحد الفرد الصمد المنزه عن الصاحبة والولد وشدة سلطانه ولا حول ولا قوة إلا له وبه عليه توكلت وبه أستعين وإليه المصير وهو حسبي ونعم المعين النصير. . . . . وقال في نفس هذه الرسالة أيضاً في توحيد الحاكم وآياته: فلمولانا الحمد والشكر على ظهور نور الأنوار وخروج ما كان مدفوناً تحت الجدار فقد أنعم علينا وعليكم بمباشرته في البشرية وظهوره لكم في الصورة المرئية كيما تدركون بعض ناسوته الأنسية ولا أقول ذاته أو نفسه أو صورته أو معناه أو صفاته أو حجابه أو مقامه أو وجهه إلا ضرورة على قدر استطاعة المستجيبين وما يفهمه المستمعين (كذا) وتعيه عقولهم ويدخل في خواطرهم ولو

قلنا غير هذا لما فهموا الكلام ولا تم لهم النظام وإلا فمولانا جل ذكره لا يدخل في الأوهام والخواطر ولا يمتزج بباطن ولا ظاهر بل منه بدأ كل شيء وإليه يعود كل شيء كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن سبحانه وتعالى عن إحاطة الدهور به والأزمان ولا يقف أحد من المخلوقين على أفعال مولانا جل ذكره ولا يدرك غاية سلطانه ولا يستطيع الوقوف على كنه عشر عشر معشار سيرته وبرهانه. ولقد تدبروا العالمين (كذا) ما يرون من آياته وبيان علاماته مشاهدة العيان لكان لهم كفاية عن طلب العدم بالخبر وعن كتبه التواريخ والسير وذلك ما شاهدون منه لا يجوز أن يكون من أفعال أحد من البشر ولا سمع به من التواريخ والسير. ولو جئت أذكر لكم عيان جميع ما أظهر مولانا جل ذكره من أبياته وبيان علاماته لما حواه قرطاس ولا كتبه قلم كما قال في القرآن ولو أن ما في الأرض من شجر أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله والله في هذا الموضع ناسوت مولانا سبحانه لكني أذكر لكم في هذه السيرة وجوهاً قليلة العدد كثيرة المنفعة لمن تفكر فيها ووحده وعبد مولانا سبحانه وعز عن حكومة الأوهام سلطانه. فأول من اختصر هذا القول ما فعله المولى سبحانه مع برجوان وابن عمار وهو يومئذ ظاهر ما يرونه العامة على قدر عقولهم ويقول صبي السن وملك المشارقة كافة مع برجوان وابن عمار ملك المغاربة كافة ما أمر مولانا سبحانه بقتلهم فقتلوا الكلاب ولم يخش من تشويش العساكر والاضطراب وأما أمر ملوك الأرض فما يجرأ أحد منهم على مثل ذلك ثم أمر بقتل ملوك كتامة وجبابرتها بلا خوف من نسلهم وأصحابهم ويمشي أنصاف الليالي في أوساط ذراريهم وأولادهم بلا سيف ولا سكين. وقد شاهدتموه في وقت أبي ركوة الوليد بن هشام الملعون وقد أضرم ناره وكانت قلوب العساكر تجزع في مضاجعهم مما رأوه من كسر الجيوش وقتل الرجال وكان المولى جلت قدرته يخرج أنصاف الليالي إلى صحراء الجب ويلتقي به حسان بن عليان الكلبي في خمسمائة فارس ويقف معهم بلا سلاح ولا عدة حتى يسأل كل واحد منهم عن حاجته ثم أنه يدخل في ظاهر الأمر إلى صحراء الجب وليس معه غير الركابية والمؤذنين وكذلك في وقت نفاق مفرج بن ذغفل بن جراح وأخوته وأولاده وبدر بن ربيعة وجميع العرب وكانوا

أهل الحجاز مع سلطانهم حسين بن جعفر الحسيني الذي نافق بمكة ومجيئه إلى الرملة واجتماعه مع ابن جراح وأولاده وما بالحضرة أحد من العسكرية ولا من الرعية إلا وهو يعتقد في كل يوم وليلة بأن حسين بن جعفر الحسيني يحيي مع مفرج بن دغفل وأولاده ويكسبون القاهرة والمولى جل ذكره يركب كل يوم وليلة ويخرج من العتمة من القاهرة ويدخل صحراء الجب ناحية الجبل موضع يزعمون العالم بأن بينه وبين ابن جراح وأراد ابن جراح أن يقتله ثم هلك بعد ذلك مفرج بن دغفل بن جراح وملوك الأرض كافة قد عجزوا عن هذا. . . . اهـ. وهكذا تجد هذا المخطوط كيف قلبته حاوياً أنواعاً مما تقدم وختم بقصيدة اسمها شعر النفس للشيخ أبي إبراهيم إسمعيل بن محمد التميمي الداعي المكنى بصفوة المستجيبين إلى دين مولانا إلى علم الإمام أرسلها إلى جبل السماق لتقرأ على كل موحد وموحدة قال: إلى غاية الغايات قصدي وبغيتي ... إلى الحاكم العالي على كل حاكم إلى الحاكم المنصور عوجوا ويمموا ... فليس فتى التوحيد فيه بنادم هو الحاكم الفرد الذي جل اسمه ... وليس له شبه يقاس بحاكم حكيم عليم قادر مالك الورى ... يؤانس بالاسم المشاع بحاكم غدا السابق السامي إليه وتاله ... مع الجد والفتح الخيال الملاوم عبيداً لمولانا خضوعاً لأمره ... وكل فتى في الدين عبد لآدم هو الواحد العالي على كل علة ... وما غيره إلا كعبد وخادم هو الحاكم المولى بناسوته يرى ... ولاهوته يأتي بكل العظائم إلى الحاكم المولى فهبوا واقبلوا ... فتوحيدكم صدق على كل حازم إذا الحاكم العالي تعالى بموكب ... فوحد بين العلم بين العوالم تسمى إماماً والإمام فعبده ... تيقظ ولا تصغي إلى كل نائم وقد ظهر المولى فآسى عبيده ... بأفعالهم أنساً بحكمة حاكم ظهوراً بأفعال العبيد وشكلهم ... ويؤنسهم والخلق شبه البهائم إذا بثنا التوحيد طاشت عقولهم ... وراموا انتهاشاً مثل نهش الأراقم سيقطعهم عظم احتجاج مقالنا ... على عظمهم قطعاً كقطع الصوارم

هو الحق ما قلنا شواهده أتت ... تحز مقال القوم حز الغلاصم تقوم رجال الحق عند قيامهم ... بقوة عزم في انتهاء العزائم يفادون رغماً لا يجاب مقالهم ... حفاة سارى في أكف الضراعم يناديهم الهادي هلموا إلى الذي ... جلتهم من التوحيد من كل عالم هلموا إلى المعنى الخفي وحسبكم ... شواهد ما أبدي لكم في الدعائم وقلتم بتأويل المعاني ديانة ... على غيره ما قد قيل من كل قائم ظننتم بأن الطفل يبقى لصغره ... وأنسيتم حد البلاغ المكاتم وأشركتم والشرك كنه لنطقكم ... وأمواج بحر الشرك بين التلاطم سيطلق سيف الحق فيكم لجهلكم ... ويحصدكم كالزرع من غير راحم وتحويكم أهل الإجابة والتقى ... وتوحيدهم يربو على كل غانم ويظهر سيف للتميمي مشهراً ... على جمعكم والفعل من غير آثم وما صفوة للمستجيبين تارك ... جهادكم من غير خوف ولا لم ونشفي غليلاً في الصدور مكمناً ... ونأتي على أنسابكم والتراجم وتمشون جهراً بالغيار لخلفكم ... وتلقون كل الذل من غير راحم سيكظم هذا الشعر كل منافق ... ويزداد كظماً فوق كظم إلا كاظم

حال الهند الإنكليزية

حال الهند الإنكليزية (معربة عن مجلة الديبا الأسبوعية) ليست أحوال الهند كما يرام والحكومة الهندية البريطانية في خوف شديد ورعب زائد. لا جرم أنه يستبعد حدوث ثورة عامة مثل ثورة سنة 1857. لأن الحكومة تتذرع بوسائل من الحزم والاحتياط تجعل أمثال هذه الثورات من قبيل المحال. خصوصاً وأن أسلاك البرق وخطوط الحديد وسرعة وصول الأخبار وسهولة المواصلات تساعد الحكومة على توطيد دعائم الأمن والراحة وتضمن لها السكون والهدوء. غير أن الهنديين يحاربون الفاتحين بأسلحة أخرى وسيظلون محاربين لهم أبداً بها وهي: الجرائد. الخطب. الدعوة إلى الثورة. فبهذه الأسلحة الثلاثة يحاول الهنديون نزع الحكم الإنكليزي من أعناقهم. إلا وأن بين سكان آسيا على اختلاف مللهم ونحلهم وتباين عناصرهم وأجناسهم وبين أهل أوربا نفوراً ليس في إمكان البشر محوه ورفعه. وإليك ما قاله كيبلينك في هذا الصدد: من كتاب الإنكليز ولد في بومباي سنة 1865). الشرق شرق والغرب غرب. ولا شيء يجمع بينهما فهما ضدان لا يأتلفان. ومكن المتعذر كل التعذر أن تنشأ بين ابن الشرق وابن الغرب ألفة حقيقية أو مودة ثابتة أو ثقة تامة. فإنهما يتكلمان بلغتين متباينتين كل التباين ولا يستطيعان أبداً أن يتفاهما. وعدم الألفة وقلة الوئام هو الأصل في علائق الشرقيين والغربيين على مدى الأيام. . . . تخرج في غضون خمسين سنة من المدارس العليا في الهند وإنكلترا ما يربو على خمسين ألف تلميذ هندي فتسعة أعشار هؤلاء غدوا كتاباً وأدباء ومحامين. أما الأطباء والمهندسون والكيماويون فهم بين ثلاثة إلى أربعة آلاف. ويتخرج كل سنة من المدارس العالية اثنا عشر ألف هندي وهؤلاء يأتون بلادهم حاملين شهاداتهم فيزداد بهم عدد الدارسين المعلمين زيادة مستمرة. وإن يكن قد خصص لهؤلاء الشبان بعض المناصب الصغيرة في الإدارة والمحاكم فليس في هذه المناصب ما يكفيهم جميعاً ومن لم يقدر على الدخول أو يرغب في دخول سلك المعلمين بتلك الرواتب الطفيفة التي تكاد تكون سخرية وهزؤاً يضم صوته لأصوات الجرائد ورجال السياسة المهيجين فعدد هؤلاء كبير للغاية وهو ينمو ويقوى على الدوام. .

فالتربية الأوربية جعلت الهنديين غير راضين وصيرتهم خانقين ناقمين! ينشأ الهندي من المدارس العالية على ذكاءٍ وقاد ونباهة تامة غير ميال للتجارة أو الصناعات فيدخل في برهة وجيزة غمار الساسة وهو حانق على حكومة وإدارة قد غرستا فيه آمالاً كبيرة ومنته بأحلام مذهبة لم يتمكن من تحقيقها ولا طاقة له بالحصول عليها. وإذ كان يرى نفسه على مستوى من يحكمون عليه مساوياً لهم في المعرفة والإدراك ولا فرق بينه وبينهم في شيءٍ لا يلبث أن يتمثل أمام عينه ذلك الظلم المهين الذي سجل عليه حياة بائسة تحت ربقة أناس دخلاء أجانب غرباء مع أن في مكنته أن يقوم مقامهم في تولى الأمور والمصالح والعمل في شؤون الحكمة والإدارة وقد يفضلهم ويمتاز عنهم من حيث أنه ابن البلاد عارف بأخلاقها وطبائعها، خبير بأمزجتها وعاداتها، واقف على معتقداتها وتصوراتها. . . يتعلم الهندي في بلاد الإنكليز في أيام الدراسة قواعد السياسة وأصول الإدارة وسيقف على آراء علماء الاجتماع على نحو ما يتلقاها شبان الإنكليز فيخرج من المدرسة وعقله متشبع بمبادئ الحكم الذاتي وحكم الأمة نفسها بنفسها وعدم المركزية كما هو الحال في بريطانيا. والتلميذ الهندي يفهم هذه المبادئ كل الفهم ويعلمها حق العلم ولكنه متى جاء ليطبق أحكامها على بلاده وأوطانه يشعر بأن لسان حال الإنكليز يقول له بأجلى إشارة: ما كان حقاً وصحيحاً على ضفاف التايمس ليس كذلك على ضفاف الغانج!. وهذا القول يصعب إذا نظر الإنسان إليه بعين إنكليزية أما الهندي فلا يقنعه ذلك ومن هنا ينبعث النفور والحنق. يريد الهنود إما أن يتركوا وشأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم وإما أن يحكمهم الإنكليز مراعين مصلحة الثلاثمائة مليون من البشر سكان الهند رعية إمبراطور الممالك الهندية وملك بريطانيا. وبعبارة أخرى يطلبون من حكومة الهند أن توجه عنايتها لحفظ مصالح الهند. إما الإنكليز وجرائد الإنكليز فيقولون ويجهرون بالقول غير مبالين بأن بقاء الإنكليز وحكمهم عليها هو لأجل مصالح الإنكليز فقط فالهنود محكومون للإنكليز من أجل هذه المصالح وحدها. وما دام الإنكليز في بلاد الهند فمصالحهم ومرافقهم فيها خطيرة فحرصاً على هذه المصالح ورعايةً لهذه المرافق وحباً بالوصول إليها على أكمل وجوهها يحكمون

هذه المملكة الشاسعة الأطراف الوسيعة الجوانب ويدبرون أمورها. ربما ساغ للإنكليز أن يقولوا أنهم عمروا البلاد وحسنوا حالها بإنشاء الطرق ومد الخطوط الحديدية وأسلاك البرق وإصلاح الري وسقيا الأرض وفتح أبواب الصناعات وبذل العناية في حفظ الصحة العامة ودرءِ أسباب المجاعات وتخفيف ويلاتها. ولكن هذه المواد النافعة لم تأتِ إلا من طريق العرض وهي منبعثة من المنافع الكبيرة والفوائد العظمى التي خص الإنكليز بها أنفسهم دون سواهم فهي ناشئة من حاجتهم إليها لأجل استثمار البلاد وأخذ نتاجها وغلتها. . . وقصارى القول: إن الإنكليز لم يحكموا الهند من أجل عيون الهنود الكحلاء ولمنفعة الهنديين بل رغبة في مصلحة الإنكليز وحدها. . . وما من أحد في الغرب يلوم الإنكليز على صنعها هذا. ولكن أليس من البديهي أن يصلح أهل الهند غير راضين عن هذه الحالة. يقول الهنود: لا يعمل الإنكليز إلا لأنفسهم. ويجيبهم الإنكليز: بأنهم يعملون لأنفسهم وفي عملهم هذا ينفعون البلاد الهندية. فهنا فرق دقيق لا يخفى على الناقد البصير. وإن الهنود الدارسين في أوربا ليعلمون هذا الفرق ويدركونه وهم لا ينفكون من إلفات أنظار أبناء وطنهم إليه مشوباً بالإعظام والمبالغة. رأى الهنود المتعلمون وعرفوا ماذا حدث وجرى في جزيرة إيرلاندا ورأوا وعرفوا ماذا حدث في الممالك الأخرى فاقتدوا بهم ونسجوا على منوالهم وحذوا حذوهم وقلدوا الأيرلنديين والاجتماعيين والعدميين (سوسياليست وآنارشيست) في أعمالهم. . خذ مثالاً لذلك حاثة عليبور سنة 1908 وحادثة لورندا سنة 1909 (وهي أن دنكرا الهندي قتل السير كرزون ويلي والدكتور لاتقا سنة 1909) وغيرهما. . . فالمتهيجون والكتاب والصحفيون من الهنود الذين يعرفون قوة الجرائد والمطبوعات وتأثيرها فتحوا باب حرب دائمة على صحائف الجرائد ضد الإنكليز يدعون الناس فيها إلى طلب الاستقلال في الإدارة (أوتونومي وبالهندية سوراجا) ويشوقونهم لمقاطعة البضائع الإنكليزية (بويكوتاج وبالهندية سوادشي) كما صنع الأيرلنديون في جزيرتهم.

وأضافوا على ذلك عمل الفوضويين أي القتل والفتك الذريع وإلقاء القنابل والأجزاء المفرقعة والمواد النارية المنفجرة. وهذا هو البلاء! فكيف السبيل للوقوف أمام تياره الهائل؟ لم تعمد الحكومة الإنكليزية حتى الآن إلا إلى طريقتين: الأولى العزم والرصانة. الثانية: إرضاءُ الطبقات العليا التي لها التأثير في الهنود بشيءٍ من المنافع والمناصب وهم البراهمة الذين يلتصق بهم عامة الدارسين من الهنديين الذين نشئوا نشأة إفرنجية. وربما وجد بين هؤلاء من هو راضٍ عن الإنكليز وحكم الإنكليز. بيد أنهم قليلون جداً لا يتعدون الطبقة التي تولت مناصب الحكومة ونالت رواتب كافية. أما جيش الكتاب الصحافيين العرمرم، جيش الناقمين الحانقين، جيش المتعلمين الذين لم يحصلوا على مراكز في الحكومة فإنهم يؤثرون في أفكار الناس جميعاً من طريق الكتابة والخطابة. يصعب الحكم على مبلغ تأثير هؤلاء المتحمسين وإلى أين يصل وماذا حصل منه. ومعلوم أن التأثير عظيم جداً لاسيما في بنجاب وبنغاله وغيرهما من الأقطار. . . ومما يساعد على امتداد سلطة الإنكليز في الهند انقسام الهنديين إلى طبقات متخالفات (كاست وهذه الطبقات لا رابطة بينها ولا ترغب في أن يكون لها رابطة. ولا يوجد في الهند ما يقال له أمة هندية. وليس بين سكان الممالك الهندية رابطة مشتركة سوى بعض الإنكليز وهذه الرابطة عبارة عن شعور سلبي لا يفيد في شيءٍ إن لم يكن مشفوعاً بشعور إيجابي كحب الوطن والاشتراك في اللغة وفي الأفكار. فهذا لا أثر له في الهند. أو لم يوجد بعد. ويختلف الهنود بعضهم عن بعض كما يختلف سكان البلاد المتفرقة في أوربا. ثم أن العنصر الإسلامي في الهند راضٍ عن حكومة الإنكليز لأنه هو أيضاً أجنبي. ومن المحقق أن المسلمين في الهند ليسوا سوى ستين مليوناً من ثلثمائة مليون والهنود يبغضون المسلمين بقد بغضهم للإفرنج تقريباً وزد على ذلك فإن مسلمي الهند محرومون من الذكاء والميل للتعليم الذي عرف به الهنود. فينتج من ذلك أن الحالة في الهند أو في بعض أيالاتها (كبنجاب وبنغاله وغيرهما. .)

ليست على خير وإن كان لا ينبغي إعظامها والمبالغة فيها لأن وجود الطبقات المتخالفات في درجات الاجتماع واختلاف الأجناس والأديان يحول دون ثورة عامة على الإنكليز. وإنكلترا لا تخشى إلا من أن تثور الهند مدفوعة من إحدى الدول العظمى أو مستندة عليها. خطر الثورة في الهند قليل جداً بالنسبة للثورة التي حدثت قبل اثنتي عشرة سنة ولكتن المركز حرج على كل حال. عن نهر الذهب: عبد الوهاب.

آفة الأخبار

آفة الأخبار مسألة تصحيح السند في الأخبار من المسائل المعول عليها كثيراً في الإسلام حتى عد ذلك من خصائصه وبه حفظت السنة بحالها وطرحت منها الزوائد ولم يبق مجال للوضاعين والقصاصين على شدة احتيالهم في بث ما اخترعوه ووضعوه ولأجل هذا الغرض ألفت المصنفات الكثيرة في الطبقات ليعرف كل امرئٍ بترجمته فلا يغترر إنسان بقوله مهما بلغ من زخرفه: فمن طبقات للمفسرين وأخرى للمحدثين وأخرى للفقهاء وغيرها للمؤرخين وغيرها للنحويين والحكماء والأدباء والفلاسفة والأطباء لتظهر على الدهر صفات من انتسب لعلم أو ضرب في العارف بسهم. ولذلك كان من السهل التمييز بين أقوال المؤلفين على عهد رواج بضاعة العلوم في هذه الديار أيام كانت ملكة النقد ترجع إلى قواعد مقررة وضوابط محررة فلا يغتر الخاصة بنقل نقله مؤلف هو في الحقيقة من العامة بمجرد ما يرونه8 مكتوباً على الورق منشوراً في سفر مجلد. ولقد كان ولا يزال بعض من يعانون صناعة التأليف يسقطون الحين بعد الآخر في مسائل فيخلطون فيها على الأغلب ومنشأ ذلك على ما يعرف المحققون عدم تصحيح السند والنقل وأخذ القول على عواهته بدون تمحيص حتى لم تكد تخلو كتابة المكثرين من المغامز يتبين منها عوارها ويتجلى ضعفها. مثال ذلك اختلاف بعضهم في أمر الخلفاء وما كانوا عليه من النازع والأخلاق فكان بعضهم يقدح في سيرتهم حتى يسقطوهم كل الإسقاط وبعضهم يرفعونهم حتى يبلغوا بهم مراتب الملائكة وكلا الأمرين إفراط وتفريط. فقد رأينا بعض الوضاعين وأرباب المجون اتهموا بعض بني العباس كالرشيد والمأمون مثلاً بالتبذل والاسترسال في الخلاعة ولم نر مؤرخاً واحداً من ثقات المؤرخين صحح هذه الأخبار فكأن مدون تلك الهنات يحاول إلصاقها بخصمه لغرض سياسي أو أن ينقلها بعض أرباب المقالات والأهواء_وأكثرها أيضاً من نزعات سياسية_ويقصد منها غرضاً من الأغراض أو يغتر بها الأبله وما أكثر البله في المؤلفين. ومن الحكايات المدخولة للأغراض المنوه بها ما رواه بعض لم يصححوا النقل في السبب الذي حمل الرشيد على نكبة البرامكة من قصة العباسة اخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته وإياهما الخمر إذن لهما في عقد النكاح دون

الخلوة وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة لما شغفها من حبه فحملت ووشي بذلك للرشيد فغضب ونكب البرامكة. وقد رد ابن خلدون على هذه التهمة الشنعاء أحسن رد معقول فدفع هذه الفرية عن ابنة خليفة وأخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول قريبة من عهد البداوة وسذاجة الدين وما هذه التهمة إلا مما وضعه الوضاعون يقصدون التوصل منه إلى النيل من أولئك الخلفاء بهذه الطريقة السافلة وإغراء الناس على إتيان المنكرات ليقول العامة إذا كان مثل الرشيد يعاقر الخمر ويقدح في مروءته في مسألة تزويج أخته فأولى بنا أن لا نشدد في قيود الدين والآداب ونحن يسعنا ما يسعهم وقد قال الطبري وهو من ثقات المؤرخين والمحدثين أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاماً ويحج عاماً. أما الشراب الذي يرمي بنو العباس بتناوله فكان عصير التمر وقد أفتى بحله الفقهاء. وإنا إذا تمدنا في أخبارنا على مثل كتاب أعلام الناس ونزهة المجالس وشمس المعارف وغيرها من كتب الموضوعات واعتقدنا صحة أقوال بعض أرباب الأهواء من المؤرخين لا يكاد يبقى لنا بقية يعتد بها من الخلفاء والأئمة ما كانت الأمة تبقى إلى اليوم محافظة بعض الشيء على آدابها وأخلاقها. ومن ذلك ما وقع مؤخراً لصاحب مقالة تعليم النساء فنقل ما قاله الأدباء وأكثرهم من المخالفين لبني العباس في مذهبهم الديني والسياسي_في علية حفيدة المنصور وبنت المهدي وأخت موسى الهادي وإبراهيم ابن المهدي والرشيد والعباسة وأسماء وعمة الأمين والمأمون والمعتصم وإنها كانت تشبب بغلامين طل ورشا وإن الرشيد لما آنس منها ميلاً إلى طل وهبها إياها وقبل رأسها وقال لها لست أمنعك بعد اليوم من شيءٍ تريدينه! ولئن رجح الكاتب الرواية الثانية لما عرف من أنفة الرشيد وغيرته ولكنه كان عليه طرح هذه الرواية المدخولة لأدنى نظرٍ قياساً على نظائرها مما روي عن أرباب الخلاعة من الماجنين من الشعراء والوضاعين من أهل الأهواء ممن يريدون الاعتذار عن سيئاتهم باتهام العظماء بهذه التهم الشنعاء ليكون الناس في الخزي والبذاء كأسنان لمشط في الاستواء ولطالما ودَّ صاحب الكبائر لو كان الناس كلهم شركاءهم فيما يقترفون.

وإنا إذا وضعنا هذه الرواية على محك الروية لتجلى لنا لأول نظرة بأنها لا تصدر عن عامة الناس في عصر الرشيد والمأمون وناهيك به من عصر بلغ الغاية في الآداب والعلم والصيانة فكيف يعقل صدور ذلك من خليفة وابنة خليفة وأخت خليفة ولو وجد عقلاء عصره ورجال دولته أقل نقد عليه لما سكتوا عنه ولو أغمضوا عيونهم لما خفي أمره على الطالبين القائمين بالدعوة إلى أهل البيت وهل أحسن لهم ذريعة في إسقاط الرشيد والمأمون من نسبتهما إلى أمور لو ثبت أقلها لكانت تقصيهما عن منصب الخلافة ولو كان أهل الأرض ظهراءهما. إن أخلاق السوقة تأبى لعمز الحق الرضى بما نقله أهل المجون عن الرشيد وسماحه لأخته بمعشوقها وقوله لها أنه لا يصدفها عن إتيان ما تريد إذا كان فيه هوى نفسها! وإن نسبة تلك الأشعار في النسيب والتشبيب إلى امرأة كعلية من فضيلة النساء لا يرضى به السوقة دع عنك الخلفاء بعد الذي علمناه من أن العرب كانوا يقتلون من بناتهم من تشبب وتفحش في غزلها فكيف بعد هذا نثق برواية القيرواني في علية وهو أموي والأصفهاني وهو علوي. ومعاداة العلويين والأمويين لبني العباس معلومة مشهورة وميل الأدباء والموسيقيين للأغراب لإدهاش الناس معروف موصوف ومتى كانت تؤخذ حقيقة علمية من أديب أو فضيلة أخلاقية من شاعر. وعندنا أن كل ما اتهم به الوضاعون وأهل الخلاعة بعض الخلفاء الأول من بني العباس إنما أتى من تكتم العباسيين في أسرار دولتهم ولأنهم أعطوا الأمة حرية أمنت فيها فلم ير بعض أردياء الفطرة أقرب إلى العبث بعقول العامة بنشر تلك الموضوعات والمجونيات بين العامة والخاصة كما أشاعوا سوء القالة عن العباسة وعلية والناس أميل إلى الشر منهم إلى الخير وإلى كسر القيود أكثر من الاحتفاظ بها وإلى أقاصيص الهزل وأساطير اللهو أكثر من روايات الجد وتلقف الحقائق. وكل شيءٍ يحتاج إلى تمحيص وحاجتنا إليه في التآليف والمؤلفين أكثر حتى لا نتغرر بكل قول ولا نصحح كل نقل.

قانون حق التأليف

قانون حق التأليف المادة الأولى_لكل نوع من النتاج الفكرية والقلمية حتى لصاحبها يسمى حق التأليف. المادة الثانية_النتائج الفكرية والقلمية هي جميع أنواع الكتب والمؤلفات والرسوم والألواح والخطوط والمحكوكات والهياكل والخطط والخرائط والمسطحات والمجسمات المعمارية والجغرافية والطبوغرافية وكل المسطحات والمجسمات الفنية والترانيم والتواقيع (نوطه) الموسيقية. المادة الثالثة_إن حق التأليف يتضمن طبع ونشر هذه الآثار والاتجار بها وترجمتها للسان آخر أو إفراغها لرواية تمثيلية ويشمل الدروس والمواعظ والخطب والمسامرات التي تلقى لأجل التعليم والتربية أو الفكاهة. أما الخطب التي تلقى في مجلس المبعوثان والأعيان والمحاكم والاجتماعات العمومية فلكل إنسان أن يضبطها وينشرها. وإنما جمع خطب خطيب أو دروس أستاذ وتدوينها وطبعها هو حق من حقوق صاحبها. المادة الرابعة_المقالات والرسوم التي تنشر في الجرائد اليومية والموقتة إذا كانت مقيدة بعبارة حقها محفوظ ونشرها وترجمتها ممنوع لغير صاحبها فحقها محفوظ. ولكن المقالات والرسوم والأخبار اليومية غير المقيدة بمثل هذا القيد لا يعتبر فيها حق التأليف على شرط أن يبين مأخذها. المادة الخامسة_لا يجوز استعمال أسماء الجرائد والمجموعات والرسائل والكتب الموجودة من قبل أحد وإنما لكل إنسان أن يضع لمؤلفاته أسماء وعنوانات عمومية. المادة السادسة_يعود حق التأليف للمؤلف في حياته وبعد وفاته يعود أولاً لأولاده وأزواجه لمدة ثلاثين سنة من تاريخ وفاته. ثانياً لآبائه وأمهاته. ثالثاً لأحفاده بالتساوي. وعليه لا يجوز طبع ونشر هذه المؤلفات أو ترجمتها للسان آخر في هذه المدة من قبل أحد غير مؤلفها أو ورثته. المادة السابعة_إن حق التأليف في الألواح والخطوط والنقوش والرسوم والأشكال والخرائط وجميع المسطحات والمجسمات المعمارية أو الجغرافية والطبوغرافية بعد الوفاة هو ثماني عشرة سنة أما حق التأليف في الترانيم والتواقيع الموسيقية فهو كالكتب والمؤلفات (ثلاثون سنة). المادة الثامنة_ليس في القوانين والنظامات والأوامر والتعليمات الرسمية والإعلانات

التجارية والصناعية حق للتأليف ولكن للذين يعلقون ويشرحونها حق محفوظ في هذه التعاليق والشروح. المادة التاسعة_إن مدة حق التأليف للآثار التي لم تنشر في حياة المحرر تبتدئ من اعتبار تاريخ نشرها. المادة العاشرة_لا يجوز تمثيل رواية منثورة أو منظومة أو تمثيل قسم منها من غير إذن المؤلف ولا يتضمن حق طبع هذه الآثار ونشرها حق تمثيلها. المادة الحادية عشرة_إن تمثيل الروايات المنثورة والمنظومة في المسامرات التي ترتبها المكاتب والجمعيات الخصوصية لا لمقصد الانتفاع غير تابعة لحق التأليف. المادة الثانية عشرة_يجوز أخذ بعض القطع من أي أثر كان لضرورة أو لفائدة من الآثار الأدبية والعلمية والكتب المخصوصة بالمدارس وفي الانتقادات على شرط أن يذكر اسم المؤلف. المادة الثالثة عشرة_لا تنشر المكاتيب إلا برخصة من صاحب تلك الآثار إذا كان حياً أو من عائلته إذا كان متوفى. المادة الرابعة عشرة_يمكن ترجمة أثر من الآثار من قبل واحد أو أكثر ضمن أحكام هذا القانون وحق كل مترجم من ترجمته كحق التأليف اعتباراً من وفاة المترجم. المادة الخامسة عشرة_إن حق التأليف في الآثار التي تنشرها الدوائر الرسمية والجمعيات المعروفة لدى الحكومة بصورة رسمية عائد لتلك الدوائر والجمعيات. المادة السادسة عشرة_إذا ألف أو ترجم اثر من قبل أشخاص متعددين من غير مقاولة فحق التأليف أو الترجمة عائد إليهم كافة على التساوي وإذا توفي أحد الشركاء فحق استفادته من الأقسام التي نشرت لتاريخ وفاته والمسودات التي أعدت للنشر ينتقل لورثته وتعتبر مدة الثلاثين سنة في حق التأليف ومدة الخمس عشرة سنة في حق الترجمة اعتباراً من وفاة آخر شريك في التحرير وإذا كان يوجد مقاولة مخصوصة بين الشركاء فيجري حكم المقاولة تماماً وإذا حدث خلاف ما يرجع إلى المحكمة. المادة السابعة عشرة_إذا لم يبق لصاحب الكتاب صاحب ما كأن توفي مؤلفه بلا وارث أو انقطعت الوراثة أو حدثت أسباب أخرى فكل إنسان له الحق بطبع ذلك التأليف وترجمته.

المادة الثامنة عشرة_يمكن لكل أحد أن يطبع المؤلفات المطبوعة قبلاً والتي لا صاحب لها وفقاً للمادة السابقة وأما الذين يودون طبع مصنف لم يطبع حتى الآن فيعطى لهم بناء على استدعائهم امتياز من قبل نظارة المعارف لمدة عشر سنوات إلى خمسة عشرة سنة وحينئذ لا يجوز لغير صاحب الامتياز أو ورثته طبع هذا الكتاب في خلال هذه المدة وإنما إذا لم يباشر طبع المؤلف في مدة سنة أو عطل سنة بعد مباشرة طبعه فيعد الامتياز كأن لم يكن. المادة التاسعة عشرة_إذا نفذت بعد وفاة لمؤلف نسخ أثر من الآثار المعتبرة التي يرجى منها الفائدة للناس ولم يتيسر طبعه لسبب من الأسباب كفقر ورثة المؤلف أو إهمالهم أو عدم اتفاقهم فنظارة المعارف تستكمل أسباب طبع هذا الأثر مع مراعاة حقوق الورثة. المادة العشرون_على مؤلفي الآثار أن يعطوا ثلاث نسخ مطبوعة من أثرهم لنظارة المعارف في الآستانة ولمديرية المعارف في الخارج ويقيدوه ويسجلوه ليحفظوا بذلك حق تأليفهم أما الآثار التي ليس لها إلا صورة واحدة كالألواح والتماثيل والتعاليق (الأنواط أو المداليات) فهي مستثناة من هذه المعاملة. المادة الحادية والعشرون_يقيد في الدفتر المخصوص الذي ينظم في نظارة المعارف ومديرياتها لحق التأليف ماهية المؤلف واسم كتابه وموضوعه وتاريخه ومحل طبعه وعدد صحائفه ويوضع له رقم بالترتيب وبعدها يوقع عليه من صاحب الكتاب أو وكيله الرسمي. المادة الثانية والعشرون_يؤخذ في دوائر محاسبات المعارف ربع ليرة عثمانية فقط خرجاً للقيد والتسجيل ويعطى بمقابله من نظارة المعارف أو مديرياتها علم وخبر يعتبر بمقام سند للتصرف يكون معمولاً به إلى أن يثبت عكسه بالمحاكمة. المادة الثالثة والعشرون_تجري معاملة قيد المطبوعات الموقتة في كل آخر سنة عند إراءة النسخ التي نشرت وتسجيلها. المادة الرابعة والعشرون_لا تسمح دعوى حق التأليف في المؤلفات غير المسجلة إلى حين تسجيلها. تعلن في آخر السنة الكتب التي قيدت وسجلت في غضون السنة وأسماء مؤلفيها رسمياً بواسطة الجرائد. المادة الخامسة والعشرون_لصاحب الأثر أو المترجم أو صاحب الامتياز أو ورثتهم أن يبيعوا أو يتركوا في خلال المدة النظامية حق التأليف أو الامتياز تماماً أو موقتاً أو بتعيين

عدد النسخ لآخر بموجب بمقابل بدل أو بلا بدل ويكون المشتري أو الآخذ قائماً مقام أصحابها ضمن شروطها حتى أنه إذا توفى قبل إكمال المدة تعد ورثته متصرفة في المدة الباقية. المادة السادسة والعشرون_يجب تسجيل مقاولة البيع أو الترك في نظارة المعارف في الآستانة وفي مديرياتها في الخارج ويؤخذ نصف ليرة عثمانية خرج قيد ولدى إبراز المقاولات التي لم تقيد على هذه الصورة إلى المحاكم يؤخذ ثلاثة أضعاف الخرج المذكور جزاء ويرسل إلى صندوق المعارف. المادة السابعة والعشرون_المحررون وأصحاب الصناعة الذين يشتغلون لاسم غيرهم يعتبرون بائعين حق تأليفهم إذا لم يوجد مقاولة خصوصية. المادة الثامنة والعشرون_ليس للطابع أن يحدث تغييراً ما في الكتاب بدون إذن المحرر وإذا جري ذلك منع نشر الكتاب بواسطة المحكمة وتعلن صورة الإعلام بالجرائد وليس للطابع أن يسترد الأجرة التي أعطاها للمحرر. المادة التاسعة والعشرون_إن طبع كتاب وتمثيله في المدة الحقوقية من غير إذن صاحبه يعد تقليداً وكذلك تمثيل رواية منثورة أو منظومة في المدة الحقوقية من غير رخصة أصحابها وطبع التواقيع (نوطه) الموسيقية أو استنساخ الخرائط والألواح والرسوم وأنواع الخطوط بالفوطوغراف أو بوسائط أخرى وإعمال قوالب للآثار القلمية والموسيقية بالوسائط الصناعية وإعمال ألواح لها (بلاكات) هو بحكم التقليد يجازى المقلدون توفيقاً للمادة الثانية والثلاثين. المادة الثلاثون_إن نسبة الآثار في التأليف والفنون النفسية لغير أصحابها يعد انتحالاً وكذلك من قدم وآخر عبارات كتاب أو أناشيد موسيقية أو حرف طرز أفادتها كله بصورة يفهم منها الأصل وأسندها لنفسه يعد بحكم المنتحل. المادة الحادية والثلاثون_الانتقادات والشروح والحواشي لا تعد انتحالاً وكذلك إذا نقل المؤلف بعض جمل وفقرات من كتاب آخر لمصنفه ونوه بأنه أخذه من محل آخر لا يكون منتحلاً. المادة الثانية والثلاثون_من طبع الكتب التي لها حق التأليف بدون رخصة من أصحابها أو

توسط بطبعها أو مثل رواية منثورة أو منظومة يغرم بخمسة وعشرين ليرة عثمانية إلى مئة ليرة جزاءً نقدياً وحبس من أسبوع إلى شهرين وتضبط منه الأسفار التي طبعها وتعطى إلى أصحابها وكذلك من طبع مثل هذه المصنفات في الخارج ومن أدخلها إلى الممالك العثمانية يغرم بخمسة وعشرين ليرة عثمانية إلى مئة ليرة جزءً نقدياً والذين يبيعون هذه المطبوعات وهم عارفون بها أو يعرضونها للبيع يغرمون بخمس ليرات عثمانية إلى خمسة وعشرين ليرة جزاء نقدياً. المادة الثالثة والثلاثون_إذا أقيمت دعوى الضرر والخسارة من قبل صاحب الكتاب المتضرر يعطى بحقها قرار من المحكمة نفسها مع أساس الدعوى. المادة الرابعة والثلاثون_يعامل الطابعون الذين يطبعون كتباً زيادة عن المقاولة التي عقدوها مع المؤلف معاملة الذين خالفوا الأمانة وتضبط النسخ الزائدة التي طبعوها ويؤخذ منهم بدل ما باعوه ويعطى كل ذلك لصاحب الكتاب. المادة الخامسة والثلاثون_تطبق أحكام المادة الثانية والثلاثين التي بحق المقلدين على المنتحلين أيضاً. المادة السادسة والثلاثون_لأصحاب الكتاب المشترك أن يراجعوا المحكمة على الانفراد ويطلبوا الضرر والخسارة التي لحقتهم بسبب التجاوز على حقوقهم التصرفية من قبل الغير. المادة السابعة والثلاثون_لا يجوز للدائنين حجر كتب المؤلف التي لم تطبع وإذا صدر حكم في بيع الآثار والمؤلفات التي حجز عليها يعتنى كثيراً بعرضها للبيع ووقاية أصحابها من الغدر. المادة الثامنة والثلاثون_النظام المتعلق بطبع الكتب والمؤرخ في 8 رجب سنة 289 و30 آب سنة 288 مفسوخ بهذا القانون مع الفقرات المذيلة عليه. المادة التاسعة والثلاثون_على من طبعوا أثراً قبل هذا القانون بدون أن يحصلوا على رضى صاحبه أو ورثته مراجعة صاحبه أو ورثته واستحصال رضاهم وإذا استمروا على بيع الآثار المخلدة من غير رضى أصحابها يجازون بمقتضى هذا القانون. المادة الأربعون_إن تنفيذ الأحكام القانونية على الجرائم المعينة بهذا القانون متوقفة على

شكايا شخصية. المادة الواحدة والأربعون_إن حق تأليف للآثار التي نشرت بلا إمضاء أو بإمضاء مستعار راجعة إلى ناشرها إلى أن يظهر محررها نفسه. المادة الثانية والأربعون_ناظر المعارف والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون. في عشرة جمادى الأولى سنة 1328 وفي 6 آذار سنة 1326.

عبث المشيب

عبث المشيب ظلم الرجال نساءهم وتعسفوا ... هل للنساء بمصر من أنصار يا معشر الكتاب أين بلاؤكم ... أين البيان وصائب الأفكار أيهمكم عبثٌ وليس يهمكم ... بنيان أخلاقٍ بغير جدار عندي على ضين الحرائر بينكم ... نبأ يثير ضمائر الأحرار مما رأيت ومما علمت مسافراً ... والعلم بعض فوائد الأسفار فيه مجال للكلام ومذهب ... ليراعي (باحثة) (وست الدار) * * * كثرت على دار السعادة زمرة ... من مصر أهل مزارع ويسار يتزوجون على نساء تحتهم ... لا صاحبات بغى ولا بشرار شاطرنهم نعم الصبى وسقينهم ... دهراً بكأس إلى السرور عقار الواردات بنيهم وبناتهم ... الحائطات العرض كالأسوار الصابرات لضرة ومضرة ... المحييات الليل بالأفكار * * * من كل ذي سبعين يكتم شيبه ... والشيب في فوديه ضوء نهار يأبى له في الشيب غير سفاهة ... قلب صغير الهم والأوطار ما حله عطف ولا رفق ولا ... بر لأهله أو هوى لديار كم ناهد في اللاعبات صغيرة ... ألهته عن حفد بمصر صغار مهما غدا أو راح في جولانه ... دفعته خاطبة إلى سمسار شغل المشايخ بالمتاب وشغله ... بتبدل الأزواج والأصهار في كل عام همه في طفلة ... كالشمس إن خطبت فللأقمار يرشو عليها الوالدين ثلاثة ... لم أدر أيهم الغليظ الضار المال حلل كل غير محلل ... حتى زواج الشيب بالأبكار سحر القلوب فرب أم قلبها ... من سحره حجر من الأحجار دفعت بنيتها لشأن مضجع ... ورمت بها في غربة وأسار وتعللت بالشرع قلت كذبته ... ما كان شرع الله بالجزار

ما زوجت تلك الفتاة وإنما ... بيع الصبى والحسن بالدينار بعض الزواج مذمم ما بالزنى ... والرق إن قيس به من عار فتشت لم أرى في الزواج كفاءة ... ككفاءة الأزواج في الأعمار * * * أسفي على تلك المحاسن كلما ... نقلت من (اليالي) إلى الدوار إن الحجاب على (فروق) جنة ... وحجاب مصر وريفها من نار وعلى وجوه كالأهلة روعة ... بعد السفور ببرقع وخمار وعلى الذوائب وهي مسك خولطت ... عند العناق بمثل ذوب القار وعلى الشفاه المحييات أماتها ... ريح الشيوخ يهب في الأسحار وعلى المجالس فوق كل خميلة ... بين الجباه وشاطئ محبار تدنو الزوارق منه تنزل جؤذراً ... بقلادة أو شادناً بسوار يرفلن في أزر الحرير تنوعت ... ألوانه كالزهر في آذار الطاهرات اللحظ أمثال المهى ... الناطقات الخرس كالأوتار الرائعات اللاعبات أوانساً ... بربي (بيوكدرة) وشاطئٍ (صاري) الدهر فرق شملهن فمر به ... يا رب تجمعه يد المقدار مصر أحمد شوقي.

الإبر

الإبر كثيراً ما فتشنا في كتاب دائرة المعرف العربية للبستاني عن أهم أمم الشرق وأديانهم فلم نعد بطائل. ومن جملة هذه الأجيال الأبر فلا تجد لهم ذكراً في هذا الكتاب. مع أن جغرافيي العرب ذكروهم في مؤلفاتهم وإن لم يذكروا لنا التفاصيل التي نتطال إلى معرفتها. فقد جاء في كتاب ابن الفقيه المسمى بكتاب البلدان ص83 من طبعة دي كوي ما نصه: وبرجان وبلدان الصقالب والأبر شمالي الأندلس وقد نقل هذه العبارة بعينها وحروفها ابن خرداذبة في كتابه المسالك والممالك. وقال ابن رسته في الأعلاق النفيسة ص98 عن بلاد هؤلاء القوم ما نصه: وأما ما وراء هذه الأقاليم (الأقاليم السبعة) إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد ياجوج ثم يمر على بلاد التغزغز وأرض الترك ثم على بلاد اللان ثم على الأبر ثم على برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب اهـ بحرفه وقال المسعودي في كتاب التنبيه والإشراف ص32: وحد الأقاليم الخمسة بحر الشام إلى أقصى أرض الروم مما يلي البحر إلى تراقية وبلال برجان والصقالبة والأبر إلى حد أرض ياجوج وماجوج إلى حد الإقليم الرابع مما يلي نصيبين أطول ساعات نهاره خمسة عشرة ساعة. اهـ. وفي موضع آخر ص184 من كتاب المسعودي المذكور ذكر الأبر من سكان بلاد تجاور جبل القبق (قوقاس أو قفقاسية) قال: وقرب من هذا الجبل من الأمم كاللان والسرير والخزر. . . والأبر وبرجان والروس والبرغر. . . وذكرهم مرة ثالثة في ص191 قال: ومن جاورهم (أي الروم) من الممالك من برجان والأبر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم. . ولم نجد لهم ذكراً في سائر كتب مؤرخي العرب وواصفي البلدان فلا الطبري ذكرهم ولا ابن الأثير ولا ابن خلدون ولا غيرهم من كبار المؤلفين. ومن بعد أن بحثنا عنهم وجدناهم أنهم الذين يسميهم الإفرنج وهنا نلخص عنهم ما كتبوه تماماً للفائدة وسداً للثلمة الموجودة في كتبنا التاريخية والجغرافية. الأبر جيل من الناس منشأوه في بلاد التتر وهم فروع من فرع قبيلة الهونة. وكانوا قد ضربوا خيامهم بعد أن هجروا بلادهم الصلية في نواحي جبل الألطائي. ثم طرأت عليهم طارئة من الصينيين سنة 552 فطردتهم من مقرهم وأفنت جماعات منهم. ومن نجا منهم

فرغوا إلى جهات بلاد أوربا فقطعوا نهر الأثل والدون سنة 557 ثم خيموا بعد برهة على شطوط الطونة. وما عتموا أن ناوأوا ملوك الروم وقياصرتهم ونشلوا منهم سنة 582داقية وفنونية ومن هناك انتشروا ولا انتشار الجراد في بلاد جرمانية في شمالي الطونة حتى بلغو إيطاليا. وأول ما خضدت شوكتهم كان سنة 626 تحت أسوار القسطنطينية فإن هرقل الملك كسر شيخهم بيان وكان حليفاً لكسرى. ثم دوخهم كل التدويخ شرلمان من سنة 791 إلى سنة 799 وحينئذ دانوا بالنصرانية. وكان البر طويلي النجاد محبين للحروب وقد اشتهروا بالمكر والنكر والخدعة في الفر والكر. وأما مساكنهم فإنهم لم يأووا إلى غير الخيم والمضارب. ولم يعرفوا من المدن إلا الأحوية جمع حواء وهي جماعة من بيوت الوبر المتدانية وكانوا يقيمون على هيئة دوائر عظيمة وتسمى عندهم رنك أي حلق جمع حلقة لاستدارتها. وكان يسمى شيخهم باسم الخان أو الخاقان. أما حدود بلاد الأبر فقد اختلفت باختلاف العصور ففي عهد معظم انتشارها أي من سنة 590 إلى سنة 630 كانت مملكتهم تشمل فلوات شمالي الطونة من لوزاقة إلى ما وراء الدون. وعند أفول شمس القرن السابع للمسيح تقلصت حواشيها حتى كان في شمالي بلادهم وغربيها ديار اللاه والوند والجيك (أي بلاد بولونية وسيلسية وبرندبرج وبوهيمية على التسمية الحديثة في عهدنا هذا) وفي شرقيها كان الخزر وكان موطنهم يومئذ بين البوك ودنيبر. وبعد أن خرب شرلمان ديارهم سنة 799 لم يبق منها إلا الصقع الغربي بين نهري الثيس وألان وهذا أيضاً جعله مقاطعة لدولة الإفنك باسم أبرية وأما ما بقي من تلك الربوع فقد احتلها المجر أي الهنكاريون. وفي بلاد الجركس في عهدنا هذا بقية من الأبر تقيم على منحدر كوه قاف الشمالي بين الإكسائي وشرداغ ويبلغ عدد بيوتهم اليوم 12000 وكلهم يدينون لخان كبير خاص بهم. ومعيشهم من الصيد والغزو والنهب والسلب. وهم يرجعون في الحكم إلى قيصر روسية._هذا ما أردنا إيضاحه وفوق كل ذي علم عليم. بغداد: تاتسنا.

نظرة في النظرات

نظرة في النظرات أخرج هذا الكتاب للناس في هذا العهد والأمة في برازٍ دائم بين القديم والحديث يريدها الأول على البقاء على الرثيث من تالدها مما ورثته بحكم الطبع أو التطبع ويضطرها الثاني إلى التجرد عما يأخذ بخناقها من العادات والتقاليد العتيقة التي أخنى عليها الدهر والأخذ بالجديد المفيد المنطبق على حاجات العصر اليوم. وها نحن أولاً نرى بين علماء الدين في مصر والشام والحجاز واليمن من يتساءلون عما إذا كان تعليم العلوم المادية الطبيعية والتوفر على دراستها حراماً أو حلالاً بينا نرى بعض المفكرين من الباحثين العالمين يشهرون على أولئك حرباً عواناً تدير رحاها الأقلام مصرحين أنهم لا يدينون بسوى القوة والمادة اللتين هما من مظاهر الطبيعة ويضربون بكل علم عرض الحائط إذا لم يكن من العوم المادية الطبيعية أو منطبقاً على نواميسها الصحيحة أو موصلاً إليها متمماً لها ففريق يبالغ في إعظام رجال الخيال ويغالي في البحث فيما وراء المادة وفريق لا يعرف غير الحقيقة المادية مذهباً. إلا وأن هذا البراز الحيوي لم يكن مقصوراً على العلم فقط بل تناول عامة شؤون الحياة وفروع الفنون الأخرى فكان للأدب النصيب الأوفر منه فإنا ما زلنا ولا نزال نرى بعضهم لا يرى للشعر من المكانة العالية إلا إذا كان قائله كالبها زهير وابن معتوق والشاب الظريف ويحسبون أن الكلام الطريف هو ما جاء في ريحانة الأدب وأشباهها غير معتدين بما عداها من الكتب الممتعة مثل نهج البلاغة والدرة اليتيمة وكليلة ودمنة وما جرى على أسلاك ألسنة الشعراء المتقدمين كالشريف الرضي والمتنبي والمعري وغيرهم من المتأخرين ممن جمعوا إلى التراكيب العربية الفصيحة الأفكار الغربية الصحيحة كما أنهم لا يعدونها شيئاً مذكوراً. في كل حركة تقوم بين ظهراني هذه الأمة المنبسطة ظلالها في هذه المملكة المتنائية الأطراف نشهد مثالاً مجسماً من مبلغ تأثير تنازع البقاء ونقرأ فيه التجدد نقياً لا يشوبه شوب القديم فنستدل منه على تقدم الأمة في أفكارها وآ رائها وأن ما يناله القائمون بالتجدد من خصومهم الأعداء الألداء المكابرين لا بد من وقوعه ما دامت الأمة جاهلة خاملة وما دام من كتب لهم العلم والنباهة أفذاذ لا يزال تأثيرهم من الضؤول والحؤول بحيث يتراجع لأقل ريح تعصف.

وبعد فللإبداع إذا بوديء الأستاذ المنفلوطي صاحب هذا الكتاب لأول وهلة بما ناله من معارضيه من بذاءة اللسان والتسفيه في القول ما نجله عنه لأنه سنة من المجددين منذ القديم. فهذا غستاف فلوبر الكاتب الفرنسوي المعروف كان يحتقره معاصروه ويهزؤون بكتاباته وآرائه حتى يحمله على ذلك البكاء كالأطفال الصغار ويشرع يخاطب زملاءه زولا وكونكور ودوده بقوله: بربكم أنبئوني لمَ لمْ تنل هذه المؤلفات الاستحسان الذي أتطلبه فتأخذهم رعدة الكآبة والحزن فيبكون جميعاً_هذا الرجل الذي كان في عصره بهذه المثابة ولم يكتب لآثاره أن يرتاح لها الرأي العام أصبح القوم اليوم يعبدونها ويمجدونها ويسبحون بحمدها. أمامي الآن هذا الكتاب أنظر إلى الصفحة الأخيرة منه بعد أن كنت قرأت معظم فصوله في الصحف وكانت نظرتي إليه في المرة الثانية ومقالاته مجموعة في سفر خاص غيرها في الأولى. إذ كنت أطالعه وأنا أعلق عليه في مفكرتي بعض ما آخذت به منشئه ورأيته مما يجدر أن ينبه عليه مثله على أني قرأت ما كتبت عليه في الجرائد والمجلات فإذا به لا يبل غليلاً ولا يغني فتيلاً مما دل على أن باب التقريظ والانتقاد لم يفتح عندنا كل الفتح ونخشى أن طال علينا الأمد أن يصيبه ما أصاب باب الاجتهاد. وقد أفردت لكل من أسلوبه وموضوعه وآرائه ولغته ووصفه بحثاً خاصاً سأتكلم على كل واحدة منه على حدة وأقفيه بالألماع إلى شذرة من روح المؤلف، وذلك بقدر ما مكنتني الفرصة من القيام وهداني إليه البحث والنظر. 1 أسلوبه مما كتبه المنفلوطي في مؤلفه هذا قصص جمة كانت هي الباعثة لي على الخوض في غمار هذا الموضوع ولذا فأنا أنظر إليه في هذا المبحث نظري إلى قصصي أريد أن أبين طريقته في الإنشاء وأحاول أن أردها إلى مذهب خاص مما أنشأه أدباء المغاربة في تاريخ آدابهم. إذ لكل كاتب أدبي قصصي أسلوب خاص ينهج فيه مؤلفه المنهج الذي يراه أنه أمتع وأنفع ووافق طبعه في الغالب أو يتبع في ذلك سنة الارتقاء: قامت في أوربا مذاهب شتى في الأدب القصصي منذ القرن السابع عشر حتى اليوم وكلها

حلقات من سلسلة تاريخ الآداب عند المغربيين. فمن هذه المذاهب مذهب يرى زعماؤه أن الغاية من الصناعة هو إصلاح الإنسان وتعزيته لتخفيف آلامه عند حلول المصائب والنوائب. فتجدهم يضعون قلوبهم وأفكارهم في كتبهم بدعوى أنهم بتأثراتهم هذه تثور ثائرة القارئ. وإن ذوق كاتب القصة الشخصي ليتمثل في تضاعيف كتابه فتراه يختلق أشخاص الوقائع ليصف شعوره الذاتي وشوقه المبرح به نابذاً العناية يبث العواطف في أبطال الرواية ظهرياً. منة أجل هذا ندر من استفاد التاريخ وعلم الاجتماع من أمثال هذه المؤلفات. وما يحملهم على ذلك إلا مشيهم مع شعور القراء وتنزلهم من عقول العامة لأن هؤلاء اعتادوا أن يعيشوا مجردين عن الحقائق العادية وأنهم ليتذمرون من مطالعة صفحات حياة الإنسان كما هي. ولذا كانت خطتهم في الروايات وكانت القصص السامية والأشعار الرقيقة الحافلة بالشعور ليس لها كلمة عالية. وقد سمي هذا المذهب. مذهب المفكرين). وهناك مذهب آخر في الإنشاء يدعى الخياليين وهو كما عرفه ستاندال هوب: عبارة عن صناعة تمثل نتائجها الأدبية ما يلائم معتقدات الأقوام وأطوارهم وعاداتهم في الحال الحاضرة مما يبعث في نفوسهم سروراً ونشاطاً بل هو كما يقول الناقد الشهير بروتير: هو أن لا يعرف الصانع سوى ذوقه وتهوساته وخيالاته قاعدة وأصلاً بل كما قال إميل فاكي: إن روح الرومانتيزم الحقيقية هو الحذر من الحقيقة وإن لم يكن لها الصانع في صدره موجدة ونفوراً. قالوا: وهذا الحذريتم باستسلام الفكرة للمخيلة كل الاستسلام وليس في هذا المذهب مشاهدة ولا تحقيق ولا ترصد كما أنه ليس ثمة معقول ولا محاكمة ولا منطق لأن هؤلاء كلها أمور تدين للحقيقة المادية_هذا هو أصل الرومانتيزم. ومن المذاهب التي نشأت وشاعت المذهب التاريخي الذي كان زعماؤه يعنون بوضعه في الروايات التاريخية فيحرفون الحقائق التاريخية عن مواضعها وهم من التزوير والافتئات بحيث كانوا يطبقون قواهم المخيلة وعامة ما يخترعونه من الأفكار على الوقائع والحادثات. فالتاريخ عندهم كما قال اسكندر دومافيس مسمار يستعينون به على تنضيد ألواحهم فليس لديهم من ثم فكرة سوى أنهم يعملون على إدخال البشر والارتياح في نفس

القارئ. بيد أن لجمال الأسلوب ورقة الوصف عندهم مكاناً من العناية. وأمثل نموذج لهذه المؤلفات التاريخية وأحفلها هم كتاب خمسة آذار لألفريد دوفيني ونوتردام دوباري لفيكتور هوغو. وقد نشأ مذهب جديد دعي بمذهب الطبيعيين ومن أخص ميزاته هو أن زعماءه وسعوا دائرة القصص وأخذوا يبحثون عن ملجأ تلوذ به أشخاص القصة خشية أن تخوض عباب الوقائع الغريبة التي يتعلمها بعض الكتاب لتكون النتيجة إما الانتحار أو الزواج وأصحاب هذا المذهب ينظرون إلى ذلك الضرب من القصص نظرهم إلى ألعوبة يتلهى بها الفتيان والفتيات. والذي يعنون به اليوم هو صفحات التتبع فشأن القصص عندهم بنسبة ما تعيه من صحيح الوصف وحديث الوقائع. ومن أنصار هذا المذهب من القصصيين ممن جردوا الروايات من شوائب الكذب والاختلاق بعد فلوبر إميل زولا وموباسان الكاتبان الفرنسويان المعروفان ونشأ عن هذا مذهب آخر دعي مذهب إمبرسيونيزم. والفرق بين هذا ومذهب الطبيعيين هو أن زعماء المذهب الأول يعنون بإبلاغ العواطف وآثار ما ولدته فيهم الحقيقة وهم يرون أن الحقيقة واسطة. أما أنصار الثاني فإنهم مستقلون عن الذاتية وما همهم إلا تتبع الحقيقة كما هي على حين يترجم زعماء الأمبرسيونيزم الطبيعة أكثر من أن يعيدوها مرة أخرى. وعلى هذا كان ولا جرم مذهب الطبيعيين أمتن وأرصن وقصصهم أعظم مهابة ووقاراً. وهناك مذهب جديد وضعه الكاتب الفرنسوي الشهير بالزاك وانضوى تحت لوائه كبار المتأدبين ممن أثروا أثراً محموداً في نهضة الآداب الفرنسوية ألا وهو مذهب الحقيقيين وقد أتم وضعه فلوبر بمصنف له سماه مدام بوفاري وقد سبق هذا الرجل بلزاك وستاندال ومريمي فأذاقوا الفرنسويين بمصنفاتهم طعم الحقيقة ولكنهم لم يكسروا سورة شهوتهم بأسرها ولم يتعد تأثيرهم في نفوس القراء إيقاظ الحقيقة فيهم. ولكن مصنف مدام بوفاري علم الناس أجمع ما هو مذهب الحقيقيين بما تري في تضاعيفه من وصف الحياة بما فيها من اضطراب وضوضاء بأجلى تعبير وأوضح بيان. وطريقة بلزاك في قصصه هو أنه يبدأ أولاً في تعريف الأشخاص ويأتي على تصوير المكان الذي يعيشون فيه والبيئة (المحيط) التي في أرجائها يجولون وما يحوي المكان من

أثاث ورياش ثم يذكر الخلق وأجسامهم وما يلبسون ويكتسون من أردية حتى أنه يرسم خطوطهم الجبهية وأخيراً ينفخ فيهم من روح الحقيقة فينطقون ويتحركون. هذه هي الطريقة العلمية التي ينحو منحاها العلماء والعقلاء من كتاب أوربا في التاريخ والأدب ولا يهمهم ما يكتبون سوى أنهم يمثلون الحقيقة للقراء عارية بأبشع وأشنع مظاهرها غير هيابين ولا وجلين. وثمة من المذاهب ما كنت أود أن آتي علي ذكره هنا لولا أني توخيت في هذه النظرة الايجاز مثل المذهب الرمزي (سنبوليزم) والمذهب الفني (كلاسيسيزم) وغيره من المذاهب. وبعد فلم تقدم بين يدي القارئ هذه المقدمة التي نرجو أن نكون ألممنا فيها بطرف من مذاهب الكتاب إلا لنستطيع أن نحكم على بعض فصول النظرات القصصية ونضعها في المحل الذي يجب أن تحل فيه بين هذه المذاهب كلها. لا جرم في أن الناظر في هذا السفر والمطلع على هذه المذاهب يعلم أن المنفلوطي جرى في كتابه مجرى الخياليين وأنه يجمع بين هؤلاء ومذهب المفكرين في الأحايين. فهذه مقالته الكأس الأولى وعبرة الدهر يتجلى فيها الخيال بأحفل مظاهره. فقد سمع صوت المؤلف في الأولى عند قوله: وما كان له وهو يهيم الخ. . . وكذلك عند قوله فيها: والمنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن. وقد أورد على لسان الشخص المريض الشاخص ببصره إلى السماء_ذلك الرجل الذي لم يبق منه إلا إهابٍ ممزق_حديثاً لا قدرة لأصحاب الأجسام على إيراده في مثل تلك الحال وقصد المنفلوطي أن يبين سبب الإدمان على الخمر فجعل ذلك بلسان المريض ذاكراً أن كل كأس شربها جرتها عليه الكأس الأولى وأن ليس الباعث على ذلك غير قصور عقله عن إدراك خداع الخلطاء وبين أن الخونة الكاذبين خدعوه عن نفسه خداعاً ليستكملوا بانضمامه إليهم لذاتهم التي لا تتم إلا بقراع الكؤوس وضوضاء الاجتماع ثم عاد المنفلوطي وأظهر شخصيته فقال: ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه وأي ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك لتحقق أنه أبله إلى النهاية من البلاهة وضعيف إلى الغاية من الضعف وقد حكم عليه بالبلاهة ولم يذكر عن تربيته ما يفهم منه أنه على غرارة وسذاجة بل الذي تبين أنه كان صديق المؤلف وارتباطه بالصداقة يقضي بأن يكون فيما أحسب على غير ما ذكر.

وفي مقالة عبرة الدهر دليل آخر على مذهب الخياليين وهو ذكره (صاحب القصر) بأنه فاسد الأخلاق وإغفاله البحث في أن يذكر عن نشأته الأولى شيئاً نتبين منه أن بين جنبيه نفساً ملؤها الرذائل. وكان عليه أن يصف (بلالاً) الخادم الذي جعله في موقف الحكم الحكيم وأنه من المبادئ العالية ما هو كيت وكيت وأن يذكر طرفاً من حنق زوجته وتلهفها على زوجها الذي كان يقضي الليالي الطوال وهو يداعب أزواج المحارم بمثل ما يداعب غيره زوجته. وهذا نقص كبير وخطأ فادح في الأسلوب. ولكن المنفلوطي كما أسلفنا لم يهتم في الحقيقة اهتمامه الزائد في أن تكون قصته جامعة لجمال الأسلوب الخيالي الذي ضمنه حكماً بالغة وعواطف شريفة بدون أن يتبين المواقف التي يقف فيها الرجل الغر الغمر موقف المرشد الحكيم. ومما يستدل فيه أيضاً على تنكبه جانب الحقيقة سؤال (صاحب القصر) (بلالاً) في أي ساعة نحن من ساعات الليل فأجابه في الساعة الأولى ثم ذكر المؤلف أن الخادم لم يصل من الحديث إلى حد معين حتى نصل خضاب الليل واشتعل المبيض في مسوده على أن ذلك الحديث يذكر في بضع دقائق لي إلا. . . هذا نموذج مما ذكره المنفلوطي من الفصول القصصية ومن تشريح أسلوبه يعلم أنه احتذى مثال (الخياليين) في إنشائه. وكل من تتبع الحركة الأدبية في المشرق يعلم أنها مسوقة نحو الكمال بحكم ناموس النشوء والارتقاء وإن كتاب المنفلوطي هذا هي إحدى الحلقات من سلاسل الآداب التي لا يتم البحث بدونها. وإنا نودع باستقباله ما ضمنه من أسلوب جديد وتشبيه رائق واستعارات فخمة ذلك الأسلوب الخيالي المحض في كتاب كليلة ودمنة وهو من تاريخ آداب المشرق بمثابة لافونتين من آداب المغرب كما أن غيرنا ودع بما عربه عبد الله بن المقفع كتاب ألف ليلة وليلة وأقاصيص عنترة الممزوجة بالأبطال الخياليين مما كان بها وبأمثالها بدءُ نهضتنا الأدبية القصصية كما كانت الإلياذة باكورة نهضة الغرب في الآداب وفاتحة رقيهم وتقدمهم. وجدير بكبار أدبائنا العاملين وهم يبرون الغرب كل يوم يخطو خطوات واسعة نحو الحقائق أن يقتفوا آثار مذهب الحقيقيين بإطراحهم مهب الخياليين جانباً وأن يطيلوا الفكر والتنقيب فيستبدلوا الأحياء بالأموات ويستعيضوا بالأرواح عن الأشباح وكفى.

2 موضوعه قسم المنفلوطي كتابه إلى عشرة فصول: (1) الرسائل العلمية (2) الرسائل الأدبية (3) الرسائل الأخلاقية (4) الرسائل الاجتماعية (5) الرسائل السياسية (6) الرسائل الدينية (7) الدهريات (8) النسائيات (9) الروايات (10) المراسلات. ويجب أن نذكر هنا قبل كل شيء أن المنفلوطي لم يحسن تبويب الكتاب فقد ذكر مقالة أفسدك قومك في الرسائل الأخلاقية وكان الأولى أن تكون في الرسائل الاجتماعية كما أنه ذكر مقالة مدرسة الغراموفي سبيل الإحسان في الثانية في حين يقتضي أن تكون من الموضوعات الأولى. وأنت إذا أردت أن تنزل هذا الكتاب المنزلة الخليق بها من حيث علاقته بالعلم والاجتماع والسياسة والأخلاق رأيته يضرب في الأخير منها بسهم وافر ويجري منه على عرق. تقرأ روح الأخلاق في مقالة الكأس الأولى وأين الفضيلة والغني والفقير وعبرة الدهر ومدينة السعادة والرحمة والصدق والكذب والإنصاف وتراه أيضاً يتعرض للموضوعات الاجتماعية فلا يلم بالبحث فيها من عامة أطرافها على حين تستدعي درساً يسلب المرء فيه قراراه ليسقط الناظر فيها على حقيقة ناصعة أو علم جم أو فكر جديد. يدلك على هذا بحثه عن المجرم في مقالة أفسدك قومك فإنا لا ننكر عليه أنه ذكر فيه ما يفهم منه أنه يحمل الذنب على المجتمع البشري وعلى التربية الأولى وعلى القانون وعلى غير ذلك شأن كثيرين ممن قاموا اليوم في أوربا يحامون على المجرمين ويعدونهم كالبائسين يستحقون الرحمة ويطلبون تعديل القانون الجائر لتخفيف ما ينزل بهم من الويل والثبور. ولو كان المنفلوطي من كتاب الحقائق لتوسع في هذا المبحث وقرأ ما كتبه الأطباء في هذه المسألة لتتم الفائدة. ثبت مؤخراً بعد الفحص الطبي أن للجناة من نقص ملكاتهم المادية والأدبية استعداداً لما يوقعونه من الجنايات منذ زمن بعيد. وقد فحص بنديكتأحد مشهوري أطباء فينا أدمغة كثيرين ممن يقترفون الجنايات الكبرى فوجدوها بأسرها مأفونة غير تامة التركيب، وهذا الرجل يعد الجنون والجناية صنوان. ويرى رأيه هذا الدكتور بوردي الفرنسوي وقد بحث في أدمغة ستة وثلاثين جانيا حكم عليهم بالإعدام فرأى الناحية الجبهية مصابة والناحية

الجدارية واسعة جداً. وهذا يدل على نقص القوة العاقلة والشعور والميل إلى الحنق والنزق. وقد نظر غاروفالو أحد مشاهير علماء الجزاء في إيطاليا في الجناة فلم يجد واحداً منهم خلواً من إمارات مادية وأدبية تحكي الإنسان الأول. وما ظهر من الحقائق الجديدة من أمثال هذا الاستقراء والاستقصاء هو موضوع الرأي العام في أوربا في شأن تنظيم الجزاء حتى نشأ عن هذه التجارب الطبية علم جديد يسمى علم الجرائم البشرية_آنتروبولوجي كريميتل وكان للإيطاليين اليد الطولى في خدمة هذا الفن الجليل. نال المنفلوطي من المدنية الغربية في كلامه عليها ما لا أرضاه له كل من درسها حق دراستها وبحث فيه بحث العالم المتجرد عن المؤثرات دينية كانت أم قومية لا بحث خطيب أو أديب أو شاعر أو واعظ مرشد داعٍ إلى وطنية أو أخلاق. وورد في قوله هذا كلام ثلة من حملة أقلام ممن لهم من أخلاقهم عصبية قومية أو نعرة شرقية وسواء عندي كان قولهم هذا بدافع الوطنية أو الدعوى إلى إحياء آثار مجد أو تمازجها لوثة من لوثات الفساد فينشأ ناشئهم وقد انحل من وطنيته كما انحل من دينه وأدخل الفساد أخلاقه كما أصاب عاده ومنازعه. وإني أشاركه في كل ما جاء في تالك المقالة إلا في قوله: إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلاً بحضارة بغداد وقرطبة وثيبة وفينيقية لا بباريس ورومة وسويسرا ونيويورك، وإن دعوناهم إلى مكرمة فلنسرد عليهم آيات الكتب المنزلة وأقوال أنبياء المشرق وكلماته لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن النصير وصلاح الدين ما يغنينا عن تاريخ نابليون وولنجيتون وواشنطون ونلسون وبلوشر (بلوخر)، وفي وقائع القادسية وأفريقية والحروب الصليبية ما يغنينا عن وقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين. هذا ما كتبه المنفلوطي إلى ابناء القرن العشرين من المشارقة وهو يريد أن يربو تربية مدنية عملية يصدون بها غارات الجانب التي يشنونها عليهم من كل صوب وأوب وهذا هو السلاح الذي يحمله الشبيبة المصرية على أن يتسلحوا به ليقاتلوا أعداء الوطنية ويخرجوا من ديارهم من ابتزوا أموالهم وغلبوهم على أمرهم وكل يوم يريشونهم بسهام التعصب

والطيش. من الحكمة أن يدعو القائم بالإصلاح إلى قومية أو وطنية ولكن بدون أن يزدري مدنية الأمم الأخرى الناهضة ويعمل على الحط منها وهم الذين بها وطدوا دعائم استقلالهم ورفعوا منار مجدهم وسؤددهم. وما أدري كيف تقوم لنا نحن معشر المشارقة قائمة إذا اقتصرنا على ما ورثناه من المناحي والمنازع وأقبلنا على الأخذ بما أبقاه لنا آباؤنا الأولون من الآثار فقط بدون أن نمعن النظر في آداب رجال الغرب وأخلاقهم وعاداتهم وتاريخهم وبالجملة نقف على سر تقدمهم ولا أعلم لأي غرض نعنى بإرسال البعثات العلمية إلى البلاد الأوربية وننادي على رؤوس الأشهاد أن هذا هو الذي يحقق لنا الأمل في المستقبل إذا لم يكن المقصد منه درس تاريخ نابليون وولنجتون وواشنطون ونيلسون وبلوخر ووقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين أو لننهل حتى نروى من آداب روسو وباكون وزولا وألفريد دوموسه أو لنتبطن أسرار فلسفة ديكارت ونيوتن وسبنسر غيرهم. ويجب ألا يغرب على الأذهان أن ما توفر لقواد المغاربة من الأسباب والوسائل في بيئتهم وبين بني جنسهم وما كان يجول في خواطرهم من الأماني التي كانت المص الح تدفعها للانبعاث إلى حيز الوجود غير ما توفر لقواد المشارقة من العرب وغيرهم على اقتحام غمرات الردى في سبيل الدفاع عن الحمى وهذا ما يدعو لاختلال التوازن في الدهاء السياسي في الفريقين بما يتذرع به من الحيل الحربية والدسائس في مثل هذه الأحوال للنظر في كتاب الغيب وقراءة مستقبل الأمم فيه مما ينجم عنه ما نراه من الاختلاف في نتائج الحروب والمعارك نصراً كان أو خذلاناً. وساء صحت نظرية من زعموا أن من دواعي سقوط الدولة العربية جهل الأمة بتاريخ اليونان والرومان أو لم تصح فإن فيها حقيقة لا أخالها تخفى على مثل الأستاذ المنفلوطي. وإذا اتخذنا هذه النظرية أصلاً جاز لنا أن نبشر مساعينا بالإخفاق والحبوط ونحكم على حياتنا الاجتماعية والسياسية بالانحلال والاختلال في مستقبل الأيام إذا قادنا الجهل أن نحرم على أنفسنا الوقوف على سر استبحار عمرانهم وانبساط ظلال مدنيتهم في طول البلاد وعرضها فنحرم من الاستمتاع بعلومهم وآدابهم.

ولو كان قوله هذا درساً يلقيه على صغار العقول من الطلبة الأطفال ليطبعهم بطبائع حب الوطن وينشأوا وهم يفادون في سبيله النفس والنفيس لما أخذوا بقدر ما يؤآخذ وهو في موقف ودع فيه_كما قال عن نفسه_الخيال والشعر وداع من يعلم أن الأمر أعظم شأناً وأجل خطراً من أن يعبث به العابث بأمثال هذه الطرائف التي هي بالهزل أشبه منها بالجد والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه لا في مواطن جده وعمله. ألا فليعلم الكاتب أن في الغربيين من العادات ما هو خليق بنا نحتن الشرقيين أن نغتبط به ونأخذ بالنافع الرافع منه والرجاء أن لا يظن بأننا بما نكتبه الآن نخدع الأمة عن نفسها أو نفسد عليها شرقيتها بتزيننا لها هذه المدنية تزييناً يجمع إلى استقلالها النفسي استقلالها الشخصي فلشد وأيم الحق ما نكون محتفظين بعاداتنا العربية الشرقية وآدابنا ولكن ما نراه من تيار المدنية الغربية يريدنا على مجاراتها شئنا أم أبينا فإن لم نعد لها عدتها ولم نسر معها جنباً إلى جنب دحرتنا وربما وردتنا مورد الهلكة غير حافلة بنا ولا آسفة علينا. ومما أنكره عليه أيضاً تعرضه في مقالة الحساب لولي عقله وأستاذه رجل الإسلام الشيخ محمد عبده ورجل المرأة قاسم بك أمين. ولو اقتصر على ذكر (المحسن) وذلك الرجل الذي كان في حياته يتخذ في أعماله ما يسمونه (الحيل الشرعية) وذلك (القطب) الذي كان أكبر تاجر من تجار الدين_لو اقتصر على هؤلاء لكان أحسن صنعاً. وجل ما آخذ به الأول هو أنه فاجأ جهلة المسلمين بما لا يفهمون من المبادئ الدينية الصحيحة والأغراض الشريفة فأرادوا غير ما أراد وفهموا غير ما فهم. وهذا ما دعا إلى إلحادهم (!) ومروقهم من الدين (!) بعد أن كانوا مخرفين وأنه أول لهم بعض آيات الكتاب فاتخذ التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشياطين والجنة وبين لهم حكم العبادات وأسرارها وسفه لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها فتركوها وأنه قال لهم أن الولي آله باطل والله آله حق فأنكروا الإلوهية حقها وباطلها. يتبع. دمشق: صلاح الدين القاسمي.

أخبار العلماء بأخبار الحكماء

أخبار العلماء بأخبار الحكماء من الكتب الجيدة في التراجم هذا الكتاب للوزير جمال الدين أبي الحسن علي القفطي من أهل القرن السابع طبع أولاً في ليبسيك وأعيد طبعه في القاهرة فتداولته الأيدي وعم الانتفاع منه كما عم من قبل كتاب عيون الآن باء في طبقات الأطباء لموفق الدين أبي العباس أحمد المعروف بابن أبي اصيبعة من أصل ذاك القرن إلا أن كتاب أخبار الحكماء مال فيه صاحبه إلى الاختصار حتى جاء في نحو نصف طبقات الأطباءِ وإن كان زاد عليه بعض التراجم لأن المترجمين في كلا السفرين النفيسين تجاوزوا الأربعمائة. سرد ابن القفطي أسماء مترجميه على حروف المعجم بحسب تقادم عهدهم بخلاف ابن أبي أصيبعة الذي أتى بالتراجم بحسب الأقطار ثم بحسب سني ولاداتهم ولم يشبع الأول الكلام إلا في بعض الأشخاص وربما أوجز في الأحايين إيجازاً لا يكاد يقع فيه ابن أبي أصيبعة إلا نادراً والغالب أن هذا وقف في جملة ما وقف عليه من الكتب كتاب القفطي فاستعان به وزاد عليه لأن هذا توفي سنة 646 في حلب وابن أبي أصيبعة توفي سنة 668 في صرخد من بلاد الشام ولا يعقل أن يكون رجلان متعاصرين ولا يطلع أحدهما على ما يكتبه الآخر فقد نرى بعض التراجم في بالحرف الواحد في كلا الكتابين ولعل المصادر التي أخذ عنها المؤلفان كانت واحدة فجاءت بعض تراجم مترجميهم بعبارة واحدة. ومع أن ابن القفطي اشتهر بأنه من كبار غلاة الكتب وهو ذو ثروة واسعة وفي منصب الوزارة نرى ابن أبي أصيبعة من طبقة الأطباء في عهده يهدي كتابه إلى أحد وزراء دمشق ومع هذا تقرأ فيه سعة المادة المدهشة ولكن المتأخر قد يفوق المتقدم ولا عبرة بتقادم الميلاد كما لا عبرة باختلاف البلاد إذا كان الترقي فيها عاماً. وهنا لا بأس بإيراد طرف من ترجمة صاحب أخبار الحكماء زيادة في البيان فهو علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى وزير حلب القاضي الأكرم الوزير جمال الدين أبو الحسن بن القفطي أحد الكتاب المشهورين وكان أبوه القاضي الشرف كاتباً أيضاً ولد بقفط من الصعيد الأعلى بالديار المصرية وأقام بحلب وكان بقوم بعلوم من اللغة والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنحو والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ولد سنة ستين وخمسمائة وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة وكان صدراً محتشماً كامل السؤدد وجمع من الكتب ما لا يوصف وقصد بها من الآفاق وكان لا يحب من الدنيا سواها

ولم يكن له دار ولا زوجة وأوصى بكتبه للناصر صاحب حلب وكانت تساوي خمسين ألف دينار وله حكايات غريبة في غرامه بالكتب وهو أخو المؤيد بن القفطي ومن شعره: ضدان عندي قصرا همتي ... وجه لحبي ولسان وقاح إن رمت أمراً خانني ذو الحيا ... ومقول يطمعني في النجاح فأنثني من حيرة منهما ... لي مخلب ماض ومالي جناح شبه جبان فرَّ من معرك ... خوفاً وفي يمناه غضب الكفاح وله من التصانيف كتاب الضاد والظاء وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى الخط. كتاب الدر الثمين في أخبار المتيمين. كتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم ألوت عليه فوضعته. كتاب أخبار المصنفين وما صنفوه. كتب أخبار النحويين كبير كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين ست مجلدات كتاب أخبار المغرب كتاب تاريخ اليمن كتاب المحلي في استيعاب وجوه كلا. كتاب إصلاح خلل صحاح الجوهري كتاب كلام علي الموطا لم يتم كتاب الكلام على صحيح البخاري لم يتم تاريخ محمود بن سبكتكين وبقية كتاب تاريخ السلجوقية تاب الاستئناس في أخبار آل مرداس كتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم كتاب مشيخة تاج الدين الكندي كتاب نهزة الخاطر ونزهة الناظر في إحسان من ظهور الكتب اهـ. وعلى ما توخى ابن القفطي من الاختصار في التراجم تسقط فيه على أمور كثيرة وفوائد غزيرة خصوصاً وإن من الرجال من ترجمهم هو وحده ومنهم من تفرد ابن أبي أصيبعة ومنهم وهم الأكثر من اشتركا معاً في ترجمتها مثل الذي نقله عن الخطيب أمين الدولة أبو الحسن علي الأباني العثماني الأموي القفطي صاحب القاضي الأكرم قال: وكان من أجمل رأيت نباهة وفضلاً وبلاغة ومشاركة قال أدركت جلة المشايخ من إجلاء بلادنا وهم مجموعون على أن الذي أردم أراضي أكثر قرى مصر وأسس الجسورة المتوصل بها من قرية إلى قرية في زمن النيل هو أرشميدس فعل ذلك لبعض ملوكها وسببه أن أكثر القرى بمصر كان أهلها إذا جاء النيل تركوها وصعدوا إلى الجبال المقابلة لها فأقاموا بها إلى أن يذهب النيل خوفاً من الغرق وإذا أخذ النيل في النقص نزل كل قوم إلى أراضيهم وشرعوا في الزرع فكان ما تطامن من الأرض يمنعهم ما انحبس فيه من الماء عن الوصول إلى ما

علا فلا يوصل إليه إلا بعد جفافه فلا يمكن زرعه فيذهب بذلك فعل كثير ولما علم أرشميدس بذلك في زمنه قاس أراضي أكثر القرى على اعلى ما يكون من النيل وأردم ردوماً وبنى عليها القرى وعمل الجسورة ما بين القرى وفي أواسط الجسورة قناطر ينفذ الماء منها من أرض قرية إلى أخرى فزرع كل واحد منهم الزرع في وقته من غير فوات ووقف من كل ضيعة أرضاً معينة يصرف مغلها في كل سنة إلى إصلاح هذه الجسورة فهي إلى الآن معلومة ولها ديوان مفرد بمصر يعرف بديوان مدن الجسورة وعليها احتراز كثير وعناية كثيرة وأعرف وأنا طفل وقد أضفيت هذه الجهة بالأعمال الشرقية من جوف مصر إلى والدي رحمه الله وله نواب وضمان ومشدون كان العمل فيها أتعب من جميع الأعمال اهـ. ومثل قوله في ترجمة جالينوس الحكيم بأن أنطونيوس قيصر ملك اثنتي عشرة سنة وبنى مدينة إيليوبوليس وهي مدينة بعلبك أي أصلحها وقال في ترجمة سنان بن ثابت بن قرة الحراني ما نصه: وكانت منزلة سنان كبيرة عند الأمراء والوزراء فمن ذلك أن الوزير علي بن عيسى بن الجراح وقع إليه في سنة كثرت فيها الأمراض والأوباء توقيعاً نسخته: فكرت مد الله في عمرك في امر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقون من التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم ويحملون معهم الأدوية الأشربة وما يحتاجون إليه من المزورات وتتقدموا إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس يعالجوا من فيها من المرضى ويريحوا عللهم فيما يصنفونه لهم إن شاء الله تعالى. ففعل سنان ذلك ثم وقع إليه توقيعاً آخر: فكرت فيمن بالسواد من أهله وأنه لا يخ لو من أن يكون فيه مرضى ولا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء فتقدم مد اله في عمرك بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم ويعالجون فيه ثم ينقلون إلى غيره. ففعل سنان ذلك وانتهى أصحابه إلى سورا والغالب على أهلها اليهود فكتب سنان إلى الوزير علي بن عيسى يعرفه ورود كتب أصحابه عليه من السواد بأن أكثر من بسورا ونهر ملك يهود وأنهم استأذنوا في المقام عليهم وعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم وأنه لا يعلم بما

يجيبهم به إذا كان لا يعرف رأيه في أهل الذمة وعلمه أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملي والذمي. فوقع الوزير توقيعاً نسخته: فهمت ما كتبت به أكرمك الله وليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به معالجة الناس قبل البهائم والمسلمين قبل أهل الذمة فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به ووصي بالتنقل في القرى والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة والأمراض الفاشية وإن لم يجدوا بذرقة توقفوا عن المسير حتى يصيح لهم الطريق ويصلح السبيل فإنهم إذا فعلوا هذا وفقوا إن شاء الله تعالى اهـ. وفي هذه الرسائل الثلاث نموذج مهم من الكتابة الرسمية في أوائل مدة العباسيين ودليل على ما بلغته الحضارة في عهدهم أيام كان الطب في جملة ما يعنى به حتى أن سنان ابن ثابت أحصى الأطباء في بغداد ولم يرخص لأحدهم أن يطبب إلا إذا أخذ شهادة بكفاءته وكذلك فعلوا مع الصيادلة حتى لا تؤتى الأمة من جهة الطب أبدانها كما حاذر الخلفاء أن لا تؤتى من قبل أديانها. وكما تجد المحاسن ماثلة في أخبار الحكماء ترى المساوئ كذلك كالتي ذكره في ترجمة عبد السلام بن عبد القادر الجيلي المعروف بالركن قال: كان عبد السلام هذا قد قرأ علوم الأوائل وأجادها واقتنى كتباً كثيرةً في هذا النوع واشتهر بهذا الشأن شهرة تامة وله تقدم في الدولة الإمامية الناصرية وحصل له بتقدمه حسد أرباب الشر فثلبه أحدهم بأنه معطل وأنه يرجع إلى أقوال أهل الفلسفة في قواعد هذا الشأن فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم القوم وبرزت الأوامر الناصرية بإخراجها إلى موضع ببغداد يعرف بالرحبة وأن تحرق بحضور الجمع الجم منها ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التميمي البكري المعروف بابن المرستانية وجعل له منبر صعد عليه وخطب خطبة لعن فيها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن عبد السلام هذا بشر وكان يخرج الكتب التي له كتاباً كتاباً فيتكلم عليه ويبالغ في ذمه وذم مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار اهـ. ومثلما نقله من الفقرات في ترجمة موسى بن ميمون الإسرائيلي الأندلسي لما نادى عبد المؤمن بن علي الكومي البربري المستولي على المغرب البلاد التي ملكها بإخراج

النصارى منها وقدر لهم مدة وشرط لمن أسلم منهم بموضعه على أسباب ارتزاقه ما للمسلمين وعليه ما عليهم وبقي على رأي أهل ملته فأما أن يخرج قبل الأجل الذي أجله وأما أن يكون بعد الأجل في حكم السلطان مستهلك النفس والمال. ومما ذكره وهو يدل على اتساع ثروة العرب في ترجمة بني وسى بن شاكر محمد وأحمد والحسن من أن محمداً صار بالعلم من وجوه القواد إلى أن غلب الأتراك على الدولة وذهبت دولة أهل خراسان وانتقلت إلى العراق فعلت منزلته واتسع حاله إلى أن كان مدخوله في كل سنة بالحضرة وفارس ودمشق ونحوها نحو أربعمائة ألف دينار ومدخول أحمد أخيه نحو سبعين ألف دينار. فتأمل مبلغ هذه الثروة. ومما نقتبسه من هذا الكتاب أنموذجاً على درجة الحضارة في القرن الخامس ما نقله من كتاب كتبه المختار بن الحسن بن عبدون الحكيم الطبيب البغدادي المعروف بابن بطلان من نصارى كرخ بغداد إلى الرئيس هلال بن الحسن بن إبراهيم ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم. إنا لما اعتقده من خدمة سيدنا السيد الأجل أطال الله بقاءه وكبت أعداءه دانياً وقاصياً وافترضته من طاعته مقيماً وطاعناً وأضمرت عند دواعي حضرته العالية وقد ودعت منها الفضل والسؤدد والمجد والفخر والمحتد أن أتقرب إليها وأجدد ذكرى عندها بالمطالعة مما استطرفه من أخبار البلاد التي أطر قها واستغربه من غرائب الأصقاع التي أسلكها خدمة للكتاب الذي هو تاريخ المحاسن والمفاخر وديوان المعاني والمآثر ليودع أدام الله تمكينه منها ما يراه ويلحق ما يستوقفه ويرضاه وعلى ذكره فما رأيت أحداً بمصر وهذه الأعمال أكثر من الراغب فيه وكل رئيس في هذه الديار متشوق إليه متشوف ولوصوله مترتب متوقع ولو وصلت منه نسخة لبلغ الجانب لها أمنيته في ربحها ونفعها وإلى الله تعالى أرغب في نشر فضيلته الباهرة ومحاسنه الزاهرة بجوده. وكنت خرجت من بغداد وبدأت بلقاء مشايخ البلاد وخواصها واستملاء ما عندهم من آثارها وعجائبها فذكري أخبار مستطرفة وعجائب غريبة واقطاع من الشعر رائقة ولضيق الوقت وسرعةالرسول أضربت عن أكثره واقتصرت على أقله وكنت خرجت على اسم الله تعالى وبركته مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة مصعداً في نهر عيسى على الأنبار ووصلت إلى الرحبة بعد تسعة عشرة رحلة وهي مدينة طيبة وفيها من أنواع الفواكه ما لا يحصى وبها تسعة

عشر نوعاً من الأعناب وهي متوسطة بين الأنبار وحلب وتكريت والموصل وسنجار والجزيرة وبينها وبين قصر الرصافة مسيرة أربعة أيام ورحلنا من الرصافة إلى حلب في أربع رحلات وهي بلد مسور بالحجر البيض فيها ستة أبواب وفي جانب السور قلعة أعلاها مسجد وكنيستان وفي إحداهما مكان المذبح الذي كان يقرب عليه إبراهيم عليه السلام وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبأ فيها غنمه وإذا حلبها أضاف بلبنها الناس فكانوا يقولون حلب أم لا ويسأل بعضهم بعضاً عن ذلك فسميت حلب وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية وشرب أهل البلد من صهاريج وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف وفي وسط البلد علوة صاحبة البحتري وهو قليل الفاكهة والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من الروم (الأناضول) وما بحلب موضع خراب ومنه خرجنا من حلب طالبين إنطاكية وبين حلب وبينها يوم وليلة فبتنا في بلدة للروم تعرف بعم فيها عين جارية يصاد منها السمك ويدور عليها رحى وفيها من الخنازير والنساء والعواهر والزنا والخمور أمر عظيم وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سراً والمسافة التي بين حلب وإنطاكية لأرض ما فيها خراب أصلاً إلا أرض زرع للحنطة والشعير بجنب شجر الزيتون وقراها متصلة ورياضها مزهرة ممياهها متفجرة وإنطاكية بلد عظيم ذو سور وفيصل ولسوره ثلثمائة وستون برجاً يطوف عليها بنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك فيضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في الثانية وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد من الجبل إلى قلته ويستتم دائرة وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب وفي وسطها قلعة القسياني وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده بطرس رئيس الحواريين وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين ودائر الهيكل أروقة يجلس فيها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان الساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً اثنتي عشرة ساعة وهو من عجائب الدنيا وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومقاصير حسنة وتخر مكنها المياه وهناك من الكنائس ما لا يحد كثرة كلها معمولة بالفص

المذهب والزجاج الملون والبلاط المجزع وفي البلد بيمارستان يراعي البطريك المرضى فه بنفسه وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة من اللذاذة والطيبة فإن وقودها من الآس وماؤها سيح وفي ظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال وهو مثل نهر عيسى وخارج البلد دير سمعان وهو مثل نصف دار الخليفة يضاف فيها المجتازون يقال أن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار ومنه يصعد إلى جبل اللكام وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المتفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في السحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي أنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر بن العطار قاضي القضاة فيها له يد في العلوم مليح الحديث والإفهام وخرجت من إنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كيسة وكان في أول الإسلام مسجداً وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس وقاضي المسلمين الذي بها من الروم. ومن عجائب هذا البلد أن المحتسب يجمع القحاب والغرباء المؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي على كل واحدة منهن ويتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الخانات لسكنى الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتماً هو خاتم المطران حجة بيدها من تعب الوالي لها فإنه متى وجد خاطياً مع خاطية بغير ختم المطران ألزمه جناية. وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاءِ عقولهم وأذهانهم اهـ. . وبعد فإن تاريخ القفطي من الكتب التي أجاد فيها مصنفها حريٌ بأن يستفيد منه كل متأدب ومتعلم ويرجع إليه كل عالم ومؤرخ سلس العبارة جميل المأتى ينقل الأمور على علاتها في الأكثر بدون تمحيص لها أو إبداء رأي فيها وابن أبي أصيبعة يفوقه في رد كل قول إلى قائله وضبط الأعلام والتدقيق في التواريخ وأخبار الرجال وذكر شذور من شعرهم ونثرهم والكتابان كفرسي رهان أو كالسلسلة المفرغة لا تدري أين طرفاها.

الصحف والنجاح

الصحف والنجاح للنجاح في الأعمال أسباب كثيرة منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي إذا اختل أحدها تعذر النهوض بالشق الآخر. وإنشاء الجرائد والمجلات لا يخرج عن هذا الحد المقرر وهل في الأرض عمل لا يحتاج إلى علم وتجارب ومال واستعداد. ولطالما رأينا مصر في الثلاثين سنة الأخيرة والشام في عهدها الدستوري الجديد وغيرهما من الأمطار والأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية تتجرأ على إصدار الصحب بدون حساب ولا روية وأدركنا العامة أجرأ من الخاصة على اقتحام هذا المركب الصعب وليس لديهم في الأغلب من وسائط النجاح كبير أمر فلا يلبث ما ينشئون أن يظهر إلى الوجود حتى يختفي اضطراراً لا اختياراً. وهذا هو السبب في تعداد الجرائد وقصر أعمارها واشمئزاز الناس منها غذ توهموا بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا عليها آلة للتكسب والتدجيل لا أداة للوعظ والإرشاد والتعليم. ما رأينا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها كالصحافة فلم يعهد معلم في النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة يحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة ويتصدر للاعتياش منها وهو لا يعرف من أسراها سراً ولكن فن الصحافة في هذه الديار الذي يتوقف النجاح فيه على أسباب كثيرة أهمها العلم والتجربة والمال قد رأينا أناساً من الأغمار يدعونه بدون خشية وأكثرهم لا يعرفون قراءة الجرائد والمجلات دع عنك تأليفها وإصدارها. كان جمهور الناس إلى عهد قريب يشارك الأطباء في طبهم فترى الكبير والصغير إذا عرض لهما مريض من خاصتهما ومعارفهما لا يتوقفان في وصف علاج يشفيه مدعيين أن ذلك من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما ولما كثر الأطباء واستنارت الأمة بعض الشيء خفت هذه العادة في التعدي على الأطباء في طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة أما الصحافة فيدخل فيها الفعل أناس ليسوا منها وليست منهم ويصفون للأمة أدوية تقيها الأسواء والأرزاء والأدواء ويعترضون على العالمين والحاكمين والسلاطين بلا خشية ولإحياء كأن طب الأرواح أصعب من طب الأشباح أو كأن الصحافة من العلوم اللدنية لا الكسبية يتعلمها المرء بالذوق وتوحى إليه إيحاءً. من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف كثير من أدعيائها في أخلاقهم

معارفهم ممن شانوا شأنها وعبثوا بمالها تذرعاً إلى مطمع ينالونه وصيت بالباطل يحصلونه ومقام عالٍ ينزلونه. نعم لم نشهد العطار بيطاراً ولا الإسكاف نجاراً ولا الحطاب رساماً ولا الفحام نظاماً ولا الجوهري حجاماً ولكن شهدنا الفلاح صحفياً والمتشدق مؤلفاً والثرثار محامياً والمكثار خطيباً كما نشهد الأغبياء قد يحاولوا بلوغ درجات الأذكياء والفقراء يقلدون الأغنياء. بيد أن سنن الفطرة التي لا تغالب ونظام هذا الكون البديع الذي قلما اختل يعاقبان المعتدي على ما لا يعلم بما جنته يداه كما قيل في الأمثال الإفرنجية كل خطاء يحمل عقوبته فيه. وندر جداً في الناجحين من تيسر لهم الوصول إلى ما وصلوا إليه باتخاذ الذرائع المنجحة ونسج حلل مجدهم بأيديهم. رأينا كثيراً ولاسيما في بلاد مصر والشام التصقوا بالصحافة وأنفقوا ثرواتهم في سبيلها فلم ينجحوا في مسعاهم ورجعوا بعد العناء الطويل وخسارة المال صفر الأيدي خائبين لأن مائدة العلم لا يجلس إليها طفيلي ولأن التمويه إن صعب في عمل فهو في الأعمال العلمية أصعب. ومن ذلك رجلان اثنان صرف أحدهما في تأسيس الجرائد بضعة ألوف من الجنيهات والآخر بضعة مئات من الليرات وبعد العمل سنين ومحاولة النجاح ولو بالتلون في المبادئ وقلب الحقائق وتقبيح ما يستحسن واستحسان ما يستهجن والظهور في مظهر المصلحين الغيورين بعد كل هذا اضطرا إلى الرجوع أدرهما ولو كانا صرفا ربع ما بذلاه في هذا السبيل على درس فن الصحافة على أصوله وتلقناه كما تتلقن الصناعات المهمة ويدرب عليها المشتغلون بها لكان النجاح مضموناً لا محالة. ولقد شاهدنا عياناً أن معظم الصحف التي كتبت لها البقاء في هذين القطرين الشقيقين خاصة هي التي قام بأعبائها أناس متعلمون تخرجوا في الكتابة وتدربوا في السياسة وتذوقوا لماظة من العلوم التي لا يسع صاحب جريدة ومحل جهلها. ومعظم من لم يخاذنهم ما يسمونه بالتوفيق أخفقوا لأسباب ناشئة من ضعفهم وقلة معارفهم في صناعة يلزمها ما يلزم لكل صانع من الأدوات إن لم نقل أنها تتوقف على أدوات أكثر. وهنا مجال لأن ننصح الشبان المتهوسين في الكتابة الراغبين في الشهرة أن لا يقدموا على

الدخول في معترك الصحافة والسياسة والآداب قبل أن يستتموا أدواتها ويستعدوا لها ويتخرجوا بها مدة فالإجادة في مقالة يكتبها كاتبها في أيام وربما عاونه غيره في تلقين موضوعها وتقويم أصولها وفروعها لا يتأتى منه الإجادة في كل موضوع ودعوى كل علم. والنشر والطبع مما ترغب فيه النفس والنفس غالباً تميل إلى نيل المحمدة والذهاب بفضل الشهرة والعاقل على أي حال من اتهم نفسه وحاسبها ولو يسيراً حتى لا يكون كل من يخط سطرين مغروراً بهما كمن هو بابنه وبشعره مفتون. وبعد فإن قانون المطبوعات العثمانية الجديد يقضي على من يصدر جريدة أو مجلة أن يحسن الكتابة باللغة التي يصدر بها صحيفته ليعلم ما يكتب فيها ولو كان قومنا يبالغون في انتقاء الرجال للأعمال لوضع في قانوننا بند يلزم كل من تصدر لمعاناة صنع القلم أن يمتحنفي الفن الذي يخوض عبابه كما امتحن المتطببون والصيادلة فإنشاء الصحف إن لم يكن أحق بالعناية بمعرفة الأمراض والعلل والعقاقير فلا أقل على أن يكون بمستواها فكم من جاهل قتل نفساً زكية ومن صحافي جرع قراءه السم الزعاف على حين ينتظر منه الترياق النافع.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الجرائد في سلانيك يكي عصر_جريدة تركية يومية تصدر بعد الظهر أسست قبل خمسة عشر سنة وكانت تسمى عصر إلى أن جاءت الحرية فزادت كلمة يكي بمعنى جديد فصارت يكي عصر. تبيع في يومها مقدار ثلاثة آلاف نسخة. روم إيلي_جريدة تركية يومية أسست هذه السنة ولها من المشتركين مقدار ستمائة وتبيع خمسمائة تقريباً فيكون ما تصرفه مقدار ألف ومائة ولسوف تروج سوقها لأسباب لا نريد ذكرها. زمان_جريدة تركية يومية أسست بعد إعلان الدستور بقليل ثم عطلت ثم نشرت قبل أيام قلائل ولذلك لا نعلم مقدار ما تصرفه على أني ولو رفته فلا يتخذ مقياساً لأنها بنت عشرة أيام. سلاح_جريدة تركية تصدر الاثنين والأربعاء والسبت ثلاث مرات في الأسبوع ولا يبعد أن تصير يومية يباع يومياً منها في البلدة مقدار ألف نسخة ويرسل إلى مشتركيها ألف وخمسمائة فيكون مجموع ما تطبعه (2500). مأمورين_جريدة تركية تصدر في الأسبوع مرتين تخص المأمورين فقط كما يظهر من اسمها. باغجه (جنينة) _مجلة سياسية أدبية اجتماعية تنشر بالتركية في كل نصف شهر مرة وثمنها قرش واحد. قليلة الفائدة قليلة الراغب تحتوي على 16 صفحة. حسن وشعر_مجلة تركية تصدر كل خمسة عشر يوماً لا طلاولة لآدابها إلا ما قل وثمنها قرش واحد. وطنداش_جريدة تركية تنشرها جمعية الاتحاد والترقي ترسلها إلى أهل القرى مجاناً وتصدر كلما اقتضى الحال. وهذه الجريدة تبحث عن الاتحاد والترقي خاصة بلسان يفهمه القروي وفيها من المواد ما ينفع القروي في حقله وزرعه. فاروس تيس ثسالونيكيس (منار سلانيك) _جريدة رومية يومية أسست سنة 1874 ميلادية تبيع في سلانيك مقدار ستمائة نسخة ولها من المشتركين مقدار سبعمائة فيكون المجموع

1300. آستير (النجم) _جريدة رومية يومية أسست هذه السنة تبيع ألفاً في سلانيك وترسل لمشتركها ألفاً فيكون المجموع (2000). قونوبي (البرغش) _جريدة رومية أسبوعية نصفها منظوم وهو القسم الأول حتى العنوان وشرائط الاشتراك ونصفها منثور وكلها هزل أسست قبل سنة ويباع منها ألف نسخة. نه آليثيا (الحقيقة الجديدة) _جريدة رومية يومية أسست سنة 1903 ميلادية باسم اليثيا (الحقيقة) ثم بعد الدستور ضم لها نه آ (جديد). به لوس (ب بدل) (سهم) _جريدة رومية أسبوعية هزلية أسست هذه السنة تبيع مقدار ألف نسخة. أبوكا (زمان) _جريدة يهودية يومية أسست سنة 1873 ميلادية ولها من المشتركين في سلانيك ستمائة وتبيع فيها مقدار ألف وخمسمائة ومشتركوها في الأطراف سبعمائة فيكون مجموع ما تصرفه 2800. الأمبرسيال ' إسرائيلية يومية. أسست سنة 1908 ميلادية تبيع مقدار ألف نسخة. قرباج (سوط) _جريدة يهودية أسبوعية هزلية أسست هذه السنة فنالت رغبة الناس جميعهم ولذلك تبيع مقدار ستة آلاف نسخة. الآونير (المستقبل) _جريدة يومية تصدر يوم الاثنين والأربعاء والجمعة وتبيع مقدار ألف نسخة. أنشئت قبل ثلاث سنوات. ره وياتا بو بو لار (مجلة العوام) _مجلة يهودية أسبوعية تنشر في إدارة ما قبلها وترسل معها يوم الجمعة. ويرقوزيكو (شيطان) _جريدة يهودية أسبوعية هزلية لم تنل الرغبة مثل أختها قرباج. لاتريبوناليبر (المحكمة الحرة) _جريدة يهودية أسبوعية يباع منها مقدار ألف نسخة. جورنال دوسالونيك (جريدة سلانيك) _جريدة إفرنسية محررها إسرائيلي أسست قبل 15 سنة تصدر الأحد والثلاثاء والخميس تبيع في سلانيك مقدار ألف نسخة ولها فيها سبعمائة مشترك ولها في الأطراف أربعمائة مشترك فيكون مجموع ما تصرفه 2100 نسخة. بروغره دوسالونيك (رقي سلانيك) _جريدة إفرنسية يومية محررها من أهل سلانيك أسست

قبل 11 سنة يباع منها مقدار ألف نسخة. كان للبلغار ثلاث جرائد قل مشتروها فخسرت فتعطلت جميعها. وأما أهل سلانيك فلا يزيدون عن مائة وخمسين ألفاً وقد كنت أحب أن أقايس أهل الشام وجرائدهم بأهل سلانيك وجرائدهم بهم المطالعة ولاسيما ويأتيهم كل يوم من جرائد إستانبول مثل طنين وأقدام وصباح ويكي غزته ما لا يمكن حصره ولكن لا علم لي بمقدار أهل الشام ولا بجرائدهم ولا بمقدار ما يصرف منها فهل لأحد الفضلاء ممن يعرف ذلك أن يتخذ هذه العجالة أساساً ويتحفنا بالمقايسة؟ سلانيك ر. ب التربية العقلية وضع أحد أساتذة المدارس الجامعة في فرنسا كتاباً في التربية العقلية قال فيه بشأن تعلم الإنشاء أن أفضل طريقة يتخذها المعلم في تعليم تلامذته ألا يقترح عليهم كتابة موضوع بدون أن يدلهم على الطريق التي يجب عليهم سلوكها لأن الأفضل في نظره أن تتدارك أغلاطهم قبل وقوعها من أن تصلح بعد كتابتها فإن نقد الأغاليط عقيم في الأكثر ولا يخلو دائماً من الضرب على سندان واحد فلأجل الفائدة من التصليح يجب أن يكون في الوظيفة أو الفرض بعض الميزات الابتدائية والأجدر أن تقرأ للمتعلم قطع من أقوال الغير في الموضوع الذي يقضي عليه كتابته. قال أن من الصعب تعليم الأولاد أن يكتبوا أو يحكموا كتابة صحيحة وحكماً صحيحاً ولكن من الممكن تلقينهم كلهم معنى النظام وحسن السياق وذلك يتأتى بدرس ما كتبه الكاتبون حق دراسته وتحليله وبيان مزاياه ومتانة تراكيبه ومتى تم للم رء أن يعرف ما حوت كتابة كبار الكتاب من الحسنات يوشك أن يقبض على سر الإنشاء. المدرسة والأخلاق وضع أحد علماء الألمان كتاباً في التربية الأخلاقية قال فيه أن الواجب في تعليم الأطفال أن يدربوا أنفسهم بأنفسهم وأن يعلمهم معلموهم كيفية التوفيق بين شخصيتهم الروحية وشخصيتهم الحسنة فيباحثوهم في موضوعات في الأخلاق الشخصية أو الاجتماعية ذات ارتباط كلي بحياة التلامذة أنفسهم وأن يعودوا في المدارس إلى القول بعدم المركزية أي

الحكومة المستقلة بحيث يعدون الطفل للديمقراطية العملية ويكلون ذلك للمتقدمين من التلامذة. غاية التربية قال أستاذ التربية والعليم في كلية برلين أن غاية التربية تقوية حواس الشخص ما أمكن مع احترام الخلق الطبيعي وشخصية الأفراد فالواجب أن نحكم فيه قوة الانتباه والتفكر والذاكرة ولا نعجل في استثمار عقله. وهو يشدد كثيراً في تربية الإرادة لأنها أهم من كل شرح وتفصيل في تربية أخلاق المرء. آثار عربية ظفر البارون ماكس فون أوبنهايم اثناء سياحته في الشرق على عدة كتابات استخرج بعضها ودفعها إلى علماء الآثار ليحلوها ومن جملتها 196 أثراً عربياً حلها المسيو برشم ونشرها في كتاب خاص ومعظمها لم يعرف وهي مما عثر عليه السائح الألماني من جنوبي بحيرة حمص إلى دمشق ماراً بقلعة الحصن ومصياف وحماة وقنسرين وحلب والرها (أورفة) وماردين وديار بكر والبيرة وعينتاب وآذنة وطرسوس وقره مان وقونية ويرد تاريخ معظمها إلى عهد استيلاء المماليك على مصر ومنها ست كتابات من عهد الخليفة المنصور في ديار بكر تاريخها سنة 297 من الهجرة وبعضها من عهد سيف الدولة ابن حمدان في حلب من سنة 354 ومنها أثر وجد في دمشق من عهد السلطان طوطش السلجوقي (480) وآخر في سلمية من عهد الأمير خلف 481. علم نفس الطفل ألف أحد علماء سويسرا كتاباً في تربية الأطفال وتعليمهم قال فيه: إن الطفولية يجب أن ينظر إليها بأنها باب للاستعداد للحياة وتختلف مدة الطفولية بحسب درجة كمال النوع فكلما اعتبر تاماً أي حافلاً غنياً بالمقاومات يطول طور الطفولية وعبثاً يريد المرء اختصار هذا الطول لأن الفطرة حمت هذا الدور من نقص التركيب بألف واسطة وكلما كانت الطفولية قصيرة يكون ترقي الطفل قاصراً. وتكلم عن لعب الطفل فقال أنه بالنسبة للطفل من أهم المعدات لاستقبال الحياة فإنا نرى اللعب حتى في الحيوانات سارياً بحسب قواهم الطبيعية فالهرة الصغيرة تلعب بكرة من الورق كما تلعب بفأرة والجدي تظاهر بأنه يناطح في حين

ليس له قرون وكذلك الحال في الطفل فإن الألعاب على اختلاف ضروبها هي استعداد للعمل القانوني الذي يعمله يوم يبلغ أشده فمن كتب له أن يكون صالحاً في طفوليته يكون رجلاً تام الأدوات في رجوليته والطفل الذي رزق السلامة في أعضاءه والعمل لنما يعد جسمه للمشاق أفضل وأقدر في جهاد الحياة ممن يحملون الشهادات العالية التي تنبئ بدرسهم واستظهارهم فاللعب باعث قوي في نمو الحواس يمد كل من نشأ من النشاط وهو يشترك مع الفكر القوي في سن الفتوة فالواجب أن يترك هذا التصور يأخذ مأخذه كما يشاء ويضاف إلى ذلك رغبة الطفل في النظر والسؤال فينبغي أن لا يضن الأبواب بالجواب على أسئلة يسألها الابن هذا في سن الطفولية أما في سن البلوغ فإن التقليد من أكبر أدوات الارتقاء فالبالغ يبلغ عند الاقتضاء ليسهل التوفيق بينه وبين المطالب العالية والطفل يقلد في لعبه وهذا اللعب مما يفيده. والمهم في ذلك أن يطبق أعماله على محيطه وأن يقوي قواه ويتعلم معلومات جديدة وينمو على الدوام نمواً طبيعياً وأخلاقياً وهو يرتقي هذا الترقي إذا قابل بنفسه المصاعب التي يجب عليه التغلب عليها تناول بنفسه المعارف اللازمة والأسرار التي يقضى عليه كشفها وسبر غورها. وقال أن علم التربية والتعليم (بيداكوجيا) هو علم معرفة درجات النشوء الطبيعي في الطفل واستخدام كفاءاته الفطرية لترقيتها. سن تعليم القراءة يبدأ الأولاد بتعليم القراءة في إنكلترا في السنة الثالثة وفي سويسرا بين الخامسة إلى السابعة بحسب المقاطعات وقد بدأ إميل روسو في الخامسة عشرة. وبحث أحدهم بحثاً دقيقاً فتبين له أن الطفل يتعلم القراءة في الأكثر بسرعة بين السابعة والثامنة وتقل السرعة بين السابعة والسادسة وأن الأظهر في هذه الحال أن يبدأ في سن السادسة بتعلم القراءة. وأكدت مديرة مدارس الأمهات في فرنسا أن تعليم الولد قبل السادسة يضر جداً ولكنها سمحت بأن يقرأ الأولاد بين الخامسة والسادسة من أعمارهم نحو عشرين دقيقة فقط وقالت ينبغي أن يدل الطفل على الكلمات التي يقرأها ولا يكتفي بتكرارها فقط إذ تشتغل في تلك الحال ذاكرته فقط وأن يقرأ بصوته العادي بدون أن يرفعه وأن تستعمل له الألفاظ المستعملة نفسها بدون ألفاظ مجهولة.

انتظام التجارة ثبت أن التكافل النامي في المصالح المادية بين البشر واضطرار كل بلدة أن تطلب المواد الأولية والمواد التي تفرغ في قالب آخر أو تبحث عن مصرف لبضائعها وحاصلاتها في البلدان الأخرى كان منه كان منه أن عدل النظام التجاري العام تعديلاً كبيراً لاسيما وقد أصبح اليوم طول سكك حديد الأرض مليون كيلومتر وكان سنة 1870 مائتي ألف كيلومتر فقط وأصبحت السفن تحمل اليوم 30 مليون طن وكانت سنة 1875 لا تحمل غير 3. 700. 000 طن وعدد الأسلاك البرقية البحرية 1400 ولم يكن سنة 1866 سوى سلك واحد فكيف تكون الحال يا ترى عندما تملأ البحور والبرور بالسفن والسكك والأجواء بالطيارات. التربية المشتركة كتب أحد العارفين في مجلة الأسبوع الأدبي في جنيف مقالاً في معنى تربية البنين والبنات في مدرسة واحدة فأورد عدة أمثلة تثبت أفضلية هذا النوع من التعليم ولاسيما لما شوهد من نتائجه الحسنة في إنكلترا وقال فيه أن تربية الجنسين معاً ولاسيما في المدارس الداخلية (كذا) اقل خطراً من تربية كل جنس مع أبناء جنسه. ومن شروط النجاح في ذلك أن يؤخذ الأولاد صغار السن جداً ويتركون يعيشون أبداً معاً ويطرحون العناصر التي لا يمكن التوفيق بينها فيربى الأولاد والشبان في مدارس الفلاة حيث تسلم الحياة من الشوائب وأخلاق الجد تكون أحسن أثراً وأن يسلموا إلى مربين تخرجوا على الأصول الحديثة في علم النفس فيربى كل جنس بحسب طبيعته وما ينتظره في حياته من الواجبات. الولادات والوفيات كانت الولادات أزيد من الوفيات سنة 1908 في أكثر ممالك أوربا فبلغت الولادات في ألمانيا 879. 562 والوفيات 795. 107 وفي النمسا 313. 616 و301. 936 وفي المجر 239. 760 و228. 338 وفي البلجيك 64. 837 و67305 وفي إنكلترا وغاليا 419. 921 و346. 847 وفي بلاد القاع أو هولاندة 84. 926 و75. 911 وفي إيطاليا 368. 667 و385. 165 وفي نروج 27. 600 و30. 450 وفي السويد 58. 407 و44. 204.

الهند البريطانية وضع أحد علماء فرنسا كتاباً في الهند بعد درس عشرين سنة فقسمها إلى قسمين قسم مساحته مليونان وستمائة ألف كيلو متر مربع وسكانه 232 مليون نسمة وهذا القسم تحكم عليه إنكلترا مباشرة وقسم مساحته مليون وسبعمائة وخمسون ألف كيلو متر مربع سكانه 62 مليوناً ونصف مليون وهذا القسم يحكمه راجات الهند والزعماء الوطنيون المحالفون للعرش البريطاني ولهم مستشارون إنكليز. ومناخ البلاد بالطبع مختلف باختلاف الأصقاع فإقليم راجبوتانا رمال تبعث الحرارة المدهشة في الصيف وتجلد المياه في الشتاء. ومسالة المياه أهم ما في الهند من المسائل وقد أقام الإنكليز في إقليم بنجاب أعظم آلات الري في العالم ويقدر عدد من يهلك كل سنة في الألف 31 منهم 19 بالحمى. والسكان طوائف وكل طائفة تخرج منها أناساً ولكن لا تدخل إليها أحداً وكان عددهم منذ نحو خمسين سنة لا يتجاوز المئة فأصبح اليوم 2378 تقسم بين 43 عنصراً وتابعية. ومنها أربع طوائف يتألف منها 16 في المئة من الشعب الهندي وهي طبقة البراهمة وعدد أعضائها 14. 800. 000 والشاماريين 11 مليوناً وكل واحدة من الرجابوتيين والآهريين 10 ملايين والطبقات الكبيرة تسحق الصغيرة. والظاهر أن المناخ مؤثر جداً في السكان حتى أصبحوا إلى الكسل أقرب منهم إلى حياة العمل وكل واحد يريد أن يعمل له وهو مستريح فتجد في كل خمسة رجال يعملون بحسب الظاهر واحداً لا يعمل شيئاً أصلاً يستريح وآخر يناظر وآخر يعاون فالأرض تؤجر من كبير إلى أصغر وتتعاورها الأيدي بالإيجار. وكثرة الديانات تزيد الأعياد وأيام الراحة والناس لا يربحون ولا ينظرون في المستقبل والفائض فاحش جداً عندهم ولذلك ترى المرابين في خطر أبداً من السلب والقتل على أن الفلاح اقرب إلى الاتفاق مع المرابي من جباة الأموال لأن جباة الأموال لأن الضرائب ثابتة لا تتغير بحسب جودة المواسم وعدمها ولها أوقات معينة لا مناص من أدائها فيها ولذلك تراه عند الضائقة يعمد إلى المرابي فيستدين منه بفائض كبير وقد كان ثلث الفلاحين منذ ثلاثين سنة مدينين على أمل أن يخلصوا من ديونهم والثلثان الآخران لا أمل لهما بالخلاص حتى اضطرت الحكومة الإنكليزية في بنجاب أن تسن قانون 1900 تقضي فيه على الفلاح أن لا يبيع أرضه إلا

من فلاح ولكن المرابين كلهم أصحاب زراعات ولذلك لم يقل بيع الأراضي ولا رهنها. ولم تنفذ الحكومة هذا القانون في البلاد الأخرى. وقوة الحكومة البريطانية في الهند ناشئ من كون إنكلترا تحكم عناصر مختلفة من السيخيين والمسلمين ولماهراتيين والهنود والبرمانيين وكلهم يتحاسدون بينهم وينفصل بعضهم عن بعض في الجنس والعادات والأديان ولذلك كان من الصعب إشراكهم كلهم في منافع الإدارة على قدم المساواة وعدد المسلمين هناك 62 مليوناً والهنود 207 ملايين وكان المسلمون حكام البلاد مدة قرون لذلك يحتقرون المسابقات التي تجري للدخول في الوظائف أما البراهمة فيتسابقون إليها. تربية العقل ألف الدكتور تولوز الفرنسوي كتاباً في هذا المعنى قال فيه أن النظر أفيد للمرء من البحث والدرس في خزائن الكتب والتمرن على حكم الأمور الواقعة خير من إملاء الذهن بمعارف ميتة لا محصل لها والعمل خير من التصور والحركة أفضل من التخيل وتكلم فيه على ضرورة العمل للإنسان فقال يجب أن يعمل المرء ليعيش لا أن يعيش ليعمل وأن الراحة الحقيقية هي في الانقطاع بضعة أسابيع عن العمل كل الانقطاع بعد قضاء زمن في الجهاد والجد لا في تعديل العمل وتخفيفه. جلسة الأولاد تبين أن السبب في تشويه أجسام الأولاد استعدادهم الكلي للجلوس على مقاعد كيفما اتفق وأن البحث قد أثبت بأن في كل خمسة ملايين طالب يتخرج 570 ألفاً مشوهين في أجسامهم وأحسن واسطة لاتقاء ذلك إجلاسهم على مناضد عالية بحيث لا يكادون يقعدون إلا منتصبة قاماتهم وأرجلهم تمس الأرض وبذلك يقوى هيكلهم العظمي على طبيعته ويتنفسون تنفساً حسناً. الخطوط الحديدية في الأرض ظهر من إحصاء أخير أن طول السكك الحديدية في القارات الخمس زاد في السنة الماضية 25 ألف كيلومتر فتجاوز طولها المليونان كيلومتر منها أربعمائة ألف فقي الولايات المتحدة وكندا ومئة ألف في أميركا الجنوبية وستون ألفاً في ألمانيا ومثلها في روسيا وخمسون ألفاً في فرنسا وثلاثة وأربعون ألفاً في النمسا وثمانية وثلاثون ألفاً في إنكلترا وجميع الخطوط

الحديدية في آسيا لا تتجاوز الخمسة والتسعين ألف كيلومتر وفي أفريقية أحد وثلاثين ألفاً وفي أستراليا تسعة وعشرين ألفاً. صحة المدارس تكلم أحد الخطباء في مؤتمر الفنون في المدرسة في نانسي إحدى حواضر فرنسا في موضوع صحة المدارس فقال أن للنور دخلاً كبيراً في القراءة وإن الواجب أن تكون حروف المطبعة ثخينة في الجملة وأن يعتنى باختيار الألوان المفرحة في الجدران والحوائط ويستغنى عن الألوان الباهتة القذرة كلون الشوكولا والألواح الحجرية السود. والألوان البيضاء الجافية التي تجعل صفوف المدارس كأنها غرف مستشفيات بل الواجب تنويع الألوان والأدهان على الطريقة المقبولة للأولاد فاللون الأحمر والأزرق والبرتقالي مما ينفع النفس والنظر في الأيام الممطرة الغائمة وتكون للنفس بمثابة شعاع الشمس قال والواجب الإكثار في المدارس من الزهور والورود تزرع كيفما اتفق في الأفنية والمماشي ويعلم الصبي احترامها حتى لا يقطفها بمجرد وقوع نظرة عليها كما يعلم مراعاة الحيوان. الأولاد المدخنون حقق أساتذة هولانديون تأثير التدخين في الأولاد ثبت لهم مضاره في عقولهم وأخلاقهم والمدخنون هم كسالى وفاسدو الأمزجة والتراكيب ويزيد معدل المدخنين من الأولاد بالنسبة لحالة أهليهم من الرفاهية وعدمها.

أبو العلاء المعري

أبو العلاء المعري 1ً_موطنه وأسرته إلى جنوبي حلب على بعد ثماني عشرة ساعة عنها بلدة معتدلة الهواء قديمة عرفها الرومانيون باسم (خالس) ثم لقبت لعدهم بذات القصور وهي اليوم قضاء من أعمال حلب يعرف بقضاء معرة النعمان نسبة إلى المعرة قصبة ولفظة المعرة سريانية بمعنى المغارة وليست في شيء من التفاسير التي عددها ياقوت الحموي في معجم البلدان ولقد زعم بعض المؤرخين أنها سميت بمعرة النعمان نسبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري عامل حمص الذي مر بها فمات له ولد دفنه فيها فنسبت إليه وقد توفي النعمان سنة 65 هـ (684م). وعندي أن رأي ياقوت فغي معجمه أقرب إلى الصحة وهو أنها نسبت إلى أحد أجداد المعري وهو النعمان الملقب بالساطع ابن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن تنوخ بن أسد بن دبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. فتنوخ إحدى القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب اجتمعت هذه القبائل مع غيرها في البحرين وتحالفوا على التناصر وأقاموا هناك فسموا تنوخاً وتنوخ بمعنى الإقامة فتكون تنوخ حياً من بني قضاعة من عرب اليمن (وقيل من الأزد) خرجوا من مدينة مأرب إلى البحرين عند سيل العرم ثم تفرقوا في نواحي العراق والشام ونزل منهم النعمان زعيم قبيلته بالمعرة فنسبت إليه وهو أوجه الأقوال وأمثلها. فمعرة النعمان كانت حصينة منيعة فتحها المسلمون في صدر الإسلام ثم استولى عليها الإفرنج الصليبيون سنة 492هـ (1098م) وأعادها المسلمون إلى أيديهم سنة 529هـ (1134م) وزارها ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما من السياح وقالا أنها كانت لعدها من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً وبساتينها ممتدة إلى مسافة يومين وفيها الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه. ولا شان لفستقها اليوم ولكن فيها الزيتون والتين الزبيب والعسل وأنواع الحبوب والقطن وفيها صناعة النسيج والدباغة. وتوجد قرى كثيرة باسمها منها معرة مصرين قرب حلب ومعرة باش من قضاء النبك في جبل القلمون ومعرة صيدنايا من أعمال دومة وغيرها. وإلى المعرة ينسب كثير من العلماء أشهرهم أبو العلاء هذا وكذلك كانت موطن اسر

مشهورة مثل الأمراء الأرسلانيين التنوخيين في لبنان وآل الجندي في حمص وغيرهم. وقد نشأ من التنوخيين في معرة النعمان سليمان بن محمد بن سليمان من سلالة النعمان ابن عدي المنتهي نسبه إلى الحاف بن قضاعة التنوخي الشهير وهو جد المعري لأبيه كان قاضياً في بلدته ومن العلماء الأعلام في وقته وترعرع ولده عبد الله والد المعري على الأدب وكلف بالعلم وتزوج امرأة مون آل سبيكة مواطنيه الذين عرفوا بآدابهم وخدم الأدب والمعارف إلى أن رزق ولده أبا العلاء هذا فكان صفوة هذا البيت وخلاصة ذكائه ومخيض زبده وآدابه. 2ً_نشأَته ولد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن محمد بن سليمان التنوخي في معرة النعمان في بيت عرف بالأدب والفضل ومن والدين من سلالة العلماء يوم الجمعة في 3 ربيع الأول سنة 363هـ (973م) وما أن انفتحت عيناه لنور العالم ومشاهدة جمال الطبيعة حتى مني بالجدري في أول سنة 376هـ (977م) فأطفأت نورهما وردته إلى قلبه فتوقد ذكاءً وقد رتجل شعراً لما عيره بذلك عبد الله الخوارزمي وهو قوله: قالوا العمى منظرٌ قبيحٌ ... قلت لكم بفقدي يهون والله ما في الوجود شيءٌ ... تأسى على فقده العيون وكثيراً ما كان يقول أحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر. ولقد كانت له أسوة بكثير من كبار الشعراء والعلماءِ الذين أصيبوا بالعمى مثل هوميروس اليوناني وبشار بن برد العربي وغيرهما والذي يظهر ممن شاهدوه أنه كان في أول أمره قد غشي يمنى حدقتيه بياض وذهبت اليسرى جملة فكانت إحدى عينيه بارزة والأخرى غائرة جداً وذلك يخالف ما ذهب إليه بعضهم من أنه كان أكمه. وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأنني ألبست في الجدري ثوباً معصفراً. وكانت في وجهه ندوب الجدري وهو نحيف الجسم عصبي المزاج حاد الذهن قوي الحافظة. قرأ النحو واللغة على أبيه ثم رحل إلى حلب وقرأ على محمد بن عبد الله بن السعد النحوي فتمن من آداب اللغة وطالع كثيراً من المؤلفات لوفرة المكاتب في حلب وقلتها في بلدته ونظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة ولم يكتسب به بل نمه شارحاً فيه أغراض نفسه

معبراً عن شواعره وواصفاً عجائب الكون ولاسيما الأفلاك. ومفسراً غرائب الاجتماع وحاضاً على الزهد والاعتزال. وممعناً في فلسفة الوجود. ومتشكياً من مناوأة الأيام ومساورة المصائب. وعلى الجملة فإنه أبلغ شاعر قام في الإسلام ذاهباً في شعره مذهب الفلسفة وحرية الفكر والنظر إلى الكون بعين العقل وكان مولعاً بمطالعة المتنبي وتحدي أفكاره فنظم على منواله غير متقيد بالصناعة اللفظية. وأتقن العلوم ابن عشرين سنة فصار مرجع الأدباء ومحط رحال البلغاء فتخرج عليه كثير من علماء عصره من أشهرهم أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي. وأبو زكريا الخطيب التبريزي شارح الحماسة. وقد رحل في تفقد المكاتب والتوسع بالمعارف إلى طرابلس الشام المشهورة بمكتبتها العظيمة إذ ذاك وسار إلى اللاذقية فنزل ديراً فيها وسمع أحد الهبان بعض العلوم واطلع على مذهبي اليهود والمسيحيين وكذلك قصد دمشق وحلب وبغداد وغيرها. وكان يرتزق من وقف كان يحصل منه ثلاثين درهماً في العام ينفق نصفها على من يخدمه فعورض في رزقه فذهب إلى بغداد متظلماً مما عارضه 398هـ (1007م) ثم عاد إليها ثانية سنة 399هـ (1008م) وأقام فيها سنة وسبعة أشهر فتفقد مكاتبها وتعرف بعلمائها ودرس عليه كثير منهم قال أبو القاسم التنوخي: لما ورد المعري بغداد قرأت عليه شعره وذكر أنه دخل عليه وهو في بغداد علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه شيئاً من النحو فقال له الربعي: ليصعد الاصطبل فخرج مغضباً ولم يعد إليه. ويروى أنه دخل يوماً مجلس المرتضى فعثر بإنسان فقال به: من هذا الكلب فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً وله أخبار كثيرة لا محل لاستيفائها. ومن أشعاره في غربته يحن إلى وطنه قوله: قيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني الدهر إليها منذ ليالي فهل فيك من ماءِ المعرة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال وعاد أبو العلاء من بغداد إلى المعرة سنة 400هـ (1009م) ولزم بيته وشرع في التصنيف والتدريس فتقاطر إليه الأدباء من كل صوب مقتبسين آثاره وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الاقتدار فانقطع إلى خدمة الآداب وسمى نفسه رهين المحبسين للزوم بيته

ولذهاب عينيه كما صرح في ذلك بقوله: أرني في الثلاثة من سبحوني ... فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسد الخبيث وكان يلعب الشطرنج والنرد (الطاولة). ويملي على بضع عشرة محبرة في فنون من العلم وولع بالعلوم الرياضية وأتقنها وله كثير من الأبيات الرياضية مثل قوله: طرق العلى مجهولة فكأنها ... صم العوائد مالها أجذار والعقل أنذرنا بما هو كائن ... في الدهر ثم تشعب الأنذار وعلى الجملة فإن المعري كان غزير الفضل وافر الأدب عالماً باللغة ضليعاً بآدابها حسن الشعر جزل الكلام قوي الذاكرة شديد الذكاء. 3ً_حافظته ونوادره ووفاته اشتهر أبو العلاء بقوة الحافظة اشتهاراً عظيماً فاق فيه بديع الزمان الهمذاني وغيره وربما زاد حفظاً بالعمى فإنه يجمع الذهن ويقوي المخيلة. ومما يروى عنه أنه جرى حساب طويل بين رجلين في مكان تشرف عليه غرفته فسمع الحساب وحفظه. ثم ضاعت الأوراق بعد أيام فأملاها عليهما ووجدت الأوراق بعد ذلك فكانت طبق إملائه. وأعجب من هذا أنه كان يوماً عند يهودي فأتاه يهودي آخر واستودعه صرَّة. ثم جاء يطلبها بعد سنة فأنكرها فرافعه إلى القاضي ولم يكن بينهما شهود إلا المعري فاستقدمه القاضي وسأله. فقال: إنني رجل أعمى لم أبصر ما كان بينهما. ولكنني سمعت كلاماً بالعبرانية أذكر لفظه ولا أعرف معناه. فدعا القاضي يهودياً خالي الذهن من القصة وأعاد عليه الشيخ ذلك الكلام فإذا هو يؤذن بصحة الدعوى. وأنشده مرة أبو نصر المنازي قوله: وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظماءٍ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم

فقال له أبو العلاء: أنت أشعر من بالشام. وطويت الأيام على قوله فلما رحل إلى بغداد أنشهد المغازي فيها: لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى شحبى قلب الخلي فقيل غنى ... وبرح بالشجي فقيل ناحا وكم للشوق في أحشاء صبٍ ... إذا اندملت أجد لها جراحا ضعيف البصر عنك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى بذاك بنو الهوى سكرة صحاة ... كأحداق المهى مرضى صحاحا فقال له أبو العلاء. ومن بالعراق علي قوله قبلاً (أنت أشعر من بالشام) إلى غير ذلك وكان يقصده كثير من العلماء للتعارف به وممن نزل بالمعرة القاضي عبد الوهاب البغدادي فمدحه المعري (راجع ابن خلكان 1: 431). ومكن نوادره أن الوزير أبا الفضل التميمي الدرامي البغدادي اجتمع بأبي العلاء هذا في بلدته المعرة لما بعثه القائم بأمر الله العباسي من بغداد رسولاً إلى صاحب أفريقية المعز بن باديس وأنشده قصيدة لأمية يمدح بها صاحب حلب قبل عينه وقال لله أنت من ناظم. ولقي يوماً غلاماً فسأله عن الطريق فدله. فسأله الغلام عن اسمه فعرفه به فقال له أأنت القائل: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل قال: نعم. قال: إن الأوائل وضعوا 29 حرفاً للهجاء فهل لك أن تزيد عليها حرفاً فسكت وقال لرفيقه: أن هذا الغلام لا يعيش لحدة ذهنه وهكذا كان. وبقي أليف الأدب منقطعاً إلى التدريس حتى مرض ثلاثة أيام ومات في الرابع منها ولم يكن عنده غير بني عمه فقال لهم في اليوم الثالث من مرضه: اكتبوا عني. فتناولوا الدوي والأقلام فأملى عليهم غير الصواب فقال القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت. فمات يوم الجمعة ثالث ربيع الأول سنة 499هـ (1058م) بالمعرة. وفي طبقات ابن الأنباري أنه توفى سنة 499 وهو خطأ. وقبره في ساحة من دور أهله وعلى الساحة باب صغير قديم وهو مهمل وقد أوصى أن يتب على قبره: هذا جناه أبي عليَّ (م) ما جنيت على أحد.

والمشهور أنه مكتوب على قبره: قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... مكنونة صاغها الرحمن من شرف عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منها إلى الصدف وقرئ على قبره سبعون مرثية ورثاه نحو 180 شاعراً. 4ً_أخلاقه ومعتقده كان المعري حاد الذهن عصبي المزاج فضاق خلقاً في آخر أيامه لأن العمى يرث الضجر كثرت مصائبه فاختار العزلة وأكثر الشكوى وسوء ظنه بالناس بدليل قوله: من عاش غير مداج من يعاشره ... أساء عشرة أصحاب وأخدان كم صاحب يتمنى لو نعيت له ... وإن تشكيت راعاني وفداني قوله: توحد فإن الله ربك واحد ... ولا رغبن في عشرة الرؤساء يقل الأذى والعيب في ساحة الفتى ... وإن هو أكدى قلة الجلساء وكان حر الضمير تدل سريرته على ظاهرته ولذلك قال: وأردتموني أن أكون مدلساً ... هيهات غيري آثر التدليسا وربما تظاهر بما ليس من خلقه تلبية لقوانين المعاشرة كقوله: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً ... تجاهلت حتى ظن أني جاهل فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل وكان متواضعاً يمقت الكبرياء فلذلك قال: دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ ... ولكن الصحيح أبو النزول وبقي نحو 45 سنة منقطعاً عن أكل اللحوم والبيض واللبن مقتصراً على المآكل النباتية لأنه كان يذهب مذهب من تقدمه من الفلاسفة الذين لا يعذبون الحيوانات بالذبح وقال ابن الأنباري: أنه كان برهمياً ولذلك لما وصف له فروج وهو مريض لم يأكله بل خاطبه بقوله: استضعفوك فوصفوك. وإلى ذلك أشار تلميذه أبو الحسن علي بن همام في مرثيته له بقوله: وإن كنت لم ترق الدماء زهادةً ... فلقد أرقت اليوم من عيني دماً وكان يذهب مذهب الهنود أيضاً في إحراق جثة الميت كما جرى لسبنسر وكوخ في

عصرنا بدليل قوله: حرَّق الهند من يموت فمازا (م) روه في روحة ولا تكبير واستراحوا من ضغطة القبر ميتاً ... وسؤال لمنكر ونكير وقلوه: إذا حرق الهندي بالنار نفسه ... فلم يبق غض للتراب ولا عظم فهل هو خاشٍ من نكير ومنكر ... وضغطة قبر لا يقوم لها نظم ومن قواعده السياسية التي يصدع بها عظماء ساستنا في هذه الأيام قولهُ: يقول لك العقل لذي بين الهدى ... إذا أنت لم تدرأ عدواً فداره فقبل يد الجاني الذي لست واصلاً ... إلى قطعها وانظر إلى سقوط جداره ومن مذهبه الشورى بدليل قوله: مُلَّ المقام فكم أعاشر أُمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجزاؤها ومنه كره للمدح ولذلك قال: إذا أثني على المرء يوماً ... بخير ليس فيّ فذاك هاجي وحقي أن أساء بما افتراهُ ... فلؤم من غريزتي ابتهاجي ومن مبادئه التثبت عند حلول النوائب كما قال: غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد وشبيه صوت النعي إذا قي ... س بصوت البشير في كل نادٍ أبكت تلكم الحمامة أم ... غنت على فرع غصنها مياد ذهب مذهب القائلين أن وجود الولد جناية فلم يتزوج بدليل ما أوصى أن يكتب على قبره وبدليل أقوال له كثيرة منها: على الولد يجني والد ولو أنهم ... ولاة على أمصارهم خطباء وربما كان متردداً في البعث والمعاد والخلود ولكن اعتقاده بها أكثر من إنكاره لها ومن قوله: أيها الملحد لا تعصي النهى ... فلقد صح قياس واستمر

أن تعد في الجسم يوماً روحه ... فهو كالربع خلا ثم عمر ولذلك ألف بعضهم كتاباً في الدفاع عنه سماه (دفع المعرة عن شيخ المعرة) وألف كمال الدين ابن العديم كتاب (دفع التجري عن المعري) وكتبت مقالات كثيرة في تبرئته مما نسب إليه من الزندقة. 5_شعره يكفي شعر المعري أن يقال في ناظمه أنه فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وقد تصرف فيه تصرفاً غريباً وسرح خياله في العوالم العلوية والسفلية فمثلها أحسن تمثيل وحرص الناس على شعره فجمع في ثلاثة دواوين (لزوم ما لا يلزم) (وسقط الزند) و (ضوء السقط) وقد قلت فيها مور ياً: ومبذرق نظر اللفيفة جاءني ... والنار قربي بالثقاب يضرَّم مذ قال هذا ضوءُ سقط الزند قل ... ت له أراه لزوم مالا يلزم ومنها انتخب الآن ما يدل على مسرح خيال المعري وحسن وصفه ودقة فكره وقوة بصيرته فمن أقواله يصف السهر والليل من قصيدة: باتت عرى النوم من عيني محللة ... وبات كوري على الوجناءِ مشدوداً كأن جفني سقا نافر فزع ... إذا أراد وقوعاً ريع أو ذيدا ظن الدجى فظة الأظفار كاسرةً ... والصبح نسراً فما ينفك مزؤودا تناعس البرق أي لا أستطيع سرى ... فنام صحبي وأمسى بقطع البيدا كأنه غار منا أن نصاحبه ... وخاف أن نتقاضاك المواعيدا من يخبر الليل إذا جنت حنادسه ... والرمل عني لما طل أو جيدا أني أراح لأصوات الحداة به ... وللركائب يخبطن الجلاميدا كأنهن غروب ملؤها تعبٌ ... فهن يمتحن بالأرسان تقويدا ومن حماسياته قوله من قصيدة: يتهللون طلاقة وكلومهم ... ينهل منهن النجيع الأحمر لا يعرفون سوى التقدم آسياً ... فجراحهم بالسمهرية تسبر من كل من لولا سعر بأسه ... لا خضر في يمنى يديه الأسمر

يذكي تلهب ذهنه أوقاته ... فكأنما هو بالغدو مهجر وضجيج طفلهم الحسام وإن ثوى ... منهم فتى فمع المهند يقبر فكأنهم يرجون ليقيا ربهم ... بالبيض تشفع عندهم وتكفر إنا من أقام الحروف وهي كأنها ... نونٌ بدارك والمعالم أسطر وقال من قصيدة أخرى في الغنى والفقر: وإن الغنى والفقر في مذهب النهى ... لسيان بل أعفى من الثروة العدم وما نلت مالاً قط إلا ومال بي ... ولا درهماً ولا در بي الهم لك الخير قد أنفذت ما هو ملبسي ... حياءً وعند الله من قائل علم ولو أنه أضاف أضعاف مثله ... من التبر لم يثبت له في نداك اسم وأهون به في راحة أريحية ... كآخر ماضٍ ليس من شأنه الضم فمني تقصير ومنك تفضل ... بعذر فلا حمد لدي ولا ذم فلو كنت شعراً كنت أحسن منشد ... سليم القوافي لا زحاف ولا خرم وقال أيضاً من قصيدة أخرى: تقول ظباء الحزم والدمع ناظم ... على عقد الوعاء عقد ضلال لقد حرمتنا أثقل الحلي أختنا ... فما وهبت إلا سموط لآلي فإن صلحت للناظمين دموعنا ... فأنتن منهن والكثيب حوالي جهلتن أن اللؤلؤ عندنا ... رخيص وأن الجامدات غوالي ولو كان حقاً ما ظننتن لاغتدت ... مسافة هذا البر سيف أوال وقال في نار القرى: المو قدي نار القرى الآصال والأ ... سحار بالأهضام والأشعاف حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف وقال في خلاء الفكر للنظم والنثر: ولولا ما تكلفنا الليالي ... لطال القول واتصل الروي ولكن القريض له مغان ... وأولاها به الفكر الخالي وقال في التوجيه البديعي:

فدونكم خفض الحياة فإنما ... نصبنا المطايا في الفلاة على القطع وقال أيضاً: حروف سرى جاءت لمعنى أردته ... برتني أسماءٌ لهن وأفعال قال: لو جرت النباهة في طريق ال ... خمول إليَّ لاخترت الخمولا قال: فصرفني فغيرني زماني ... سيعقبني بحذف وإدغام وقال من قصيدة: وليلا تلحق الأهوال فيه ... بفود الشيخ ناصية الغلام إذا سئموا الرحيل فكل غر ... يرى صرعاته خلس اغتنام كأن جفونه عقدت برضوى ... فما يرفعن من سكر المنام لو أن حصى المناخ مدى حداد ... أزرتها النخور من السآم وجاز إليّ إبرادي هجير ... يجوز من القراب إلى الحسام يرد معاطس الفتيان سفعاً ... وإن ثني اللثام عن اللثام إذا الحرباء أظهر دين كسرى ... فصلى والنهار أخو الصيام وإذ دنت الجنادب في ضحاها ... أذاناً غير منتظر الإمام قال: وكم لك من أب وسم الليالي ... على جبهاته سمة اللئام مضى وتعرف الأعلام فيه ... غني الوسم عن ألف ولام قال: لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق فرتب النظم ترتيب الحلي على ... شخص الجلي بلا طيش ولا خرق الحجل للرجل والتاج المنيف لما ... فوق الحجاج وعقد الدر للعنق فإن توافق في معنى بنو زمن ... فإن جل المعاني غير متفق قد يبعد الشيء من شيءٍ يشابهه ... إن السماء نظير الماءِ في الرزق قال: أرى المجد سيفاً والقريض نجاده ... ولولا نجاد السيف لم يتقلد وخير حمالات السيوف حمالة ... تحلت بإبكار الثناء المخلد قال: كأن كل جواب أنت ذاكره ... شنف يناط بأذن السمع الواعي قال: وكلامك المرآة تصدق في الذي ... تحكي وأنت الصارم المصقول

قال: فيا قبر واهٍ من ترابك ليناً ... عليه وآه من جنادلك الخشن لأطبقت إطباق المحارة فاحتفظ ... بلؤلؤة المجد الحقيقة بالخزن قال: وليلة سرت فيها وابن مزنتها ... كميت عاد حياً بعدما قبضا كأنما هي إذ لاحت كواكبها ... خود من الزنج تجلى وشحت خضضا كأنما النسر قد قصدت قوادمه ... فالضعف يكسر منه كل ما نهضا والبجر يحتث نحو الغرب أينقه ... فكلما خاف من شمس الضحى ركضا ومنهل ترد الجوزاء غمرته ... إذا السما شطر المغرب اعترضا وردته ونجوم الليل وانية ... تشكو إلى الفجر إن لم تطعم الغمضا قال: وأرى ابا الخطاب نال من الحجى ... حظاً زواه الدهر عن خطابه لا يطلبن كلامه متشبه ... فالدر ممتنع على طلابه أثني وأخاف من ارتحال ثنائه ... عني فقيد لفظه بكتابه كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه فتشوفت شوقاً إلى نغماته ... إفهامنا ورنت إلى آدابه والنخل ما عكفت عليه طيوره ... إلا لما علمته من إرطابه ردت لطافته وحدة ذهنه ... وحش اللغات أوانساً بخطابه والنحل يجني المرَّ من نور الربى ... فيصير شهداً في طريق رضابه وقال ملغزاً في الإبرة: سعت ذات سم في قميصي وغادرت ... به أثراً والله يشفي من السم كست قيصراً ثوب الجمال وتبعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم وقال وقد أبدع في تشبيه الليل والبرق: كما أغضى الفتى ليذوق غمضاً ... فصادف جفنه جفناً قريحاً إذا ما احتاج أحمر مستطيراً ... حسبت الليل زنجياً جريحاً وقال وقد أبدع: يا سعد أخبية الذين تحملوا ... لما ركبت دعيت سعد المركب غادرتني كبنات نعش ثابتاً ... وتركت قلبي مثل قلب العقرب

قال: لا تطلبن بآلة أنت حاجة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل سكن السما كأن السماء كلاهما ... هذا له رمح وذاك أعزل قال: ولا تجلس إلى أهل الدنايا ... فإن خلائق السفهاء تعدي وقال يصف انعكاس صورة السماء ونجومها في مرآة الماء: فأطعمن في أشباههن سواقطاً ... على الماء حتى كدن يلتقطن باليد فمدت إلى مثل السما رقابها ... وعبت قليلاً بين نسر وفرقد قال: أطرق كأنك في الدنيا بلا نظر ... وأصمت كأنك مخلوق بغير فم وإن هممت بمين فاتخذ لفماً ... مضاعفات لتثني اللفظ باللفم وقال في ذم الدنيا من أبيات: وقد نطقت بأصناف العظام لنا ... وأنت فيما يظن القوم خرساء يموج بحرك والأهواء غالبة ... لراكبيه فهل للسفن إرساء إذا تعطفت يوماً كنت قاسية ... وإن نظرت بعين فهي شوساء قال: إن الأعلاء إن كانوا ذوي رشد ... بما يعانون من داءِ أطباءِ وما شفاك من الأشياء تطلبها ... إلا الألباء لو تلقى الألباء نفر من شرب كاس وهي تتبعنا ... كأننا لمنايا أحياء قال يصف الشباب: إن الشبيبة نار إن أردت بها ... أمراً فبادره إن الدهر مطفئها قال: إذا فعل الفتى ما عنه ينهى ... فمن جهتين لا جهة أساَء وقال في النساء: علموهن الغزل والنسج والرد ... ن وخلوا كتابة وقراءة فصلاة الفتى بالحمد والإخلاص ... تجزي عن يونس وبراءه تهتلك الستر بالجلوس أما الستر ... إن غنت القيان وراءه وقال في أدب الأخلاق: إذا صاحبت في أيام بؤس ... فلا تنس المودة في الرخاء ومن يعدم أخوه على غناه ... فما أدى الحقيقة في الإخاء ومن جعل السخاء لأقربيه ... فليس بعارف طرق السخاء

وقال: القلب كالماء والأهواء طافية ... عليه مثل حباب الماء بالماء منه تنمت ويأتي ما يغيرها ... فيخلف العهد من هند وأسماء والقول كالخلق من سيءٍ ومن حسن ... والناس كالدهر من نور وظلماء وقال: ينافي ابن آدم حال الغصون ... فهاتيك أجنت وهذا جنى تغير حناؤه شيبه ... فهل غير الظهر لما انحنى قال: لن تستقيم أمور الناس في عصر ... ولا استقامت فذا أمناً وذا رعبا ولا يقوم على حق بنو زمن ... من عهد آدم كانوا في الهوى شعبا قال: يغدو على خله الإنسان يظلمه ... كالذيب يأكل عند الغرة الذيبا قال: تقادم عمر الدهر حتى كأنما ... نجوم الليالي شيب هذي الغياهب وقال في النمام: وإنك إن أهديت لي عيب واحد ... جدير إلى غيري بنقل عيوبي وقال في الرياء: والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر وقال في فساد الناس: عرفتكم بني حواء قدماً ... فكلكم أخو ضغن مكور وما فيكم على الإحسان جازٍ ... ولا منكم على النعمى شكور قال: صدف الطبيب عن الطعا ... م وقال مأكله يضر كل يا طبيب ولا خلا ... ص من الردى فلن تغر قال: مثل الفتى عند التغرب والنوى ... مثل الشرارة إن تفارق نارها إن صادفت أرضاً أرتك خمودها ... أو وافقت أكلاً أرتك منارها قال: وغن اقتناع النفس من أحسن الغنى ... كما أن سوء الحرص من أقبح الفقر قال: وما الوقت إلا طائر يأخذ المدى ... فبادره إذ كل النهى في بداره رأتك البرايا ظالماً يا ابن آدم ... وبئس الفتى من جار عند اقتداره

قال: اضرب وليدك تأديباً على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم فرب شق برأس جر منفعة ... وقس على شق رأس السهم والقلم قال: النفس عند فراقها جثمانها ... محزونة لدروس ربع عامر كحمامة صيدت فثنت جيدها ... اسفاً لتنظر حال وكر دامر ولقد نسبه بعضهم إلى الكفر لقوله: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك ولكنه قال أيضاً في محل آخر: خلق الناس للمعاد فضلت ... أمة يحسبونهم للنفاذ إنما ينقلون من دار أعمال ... إلى دار شقوة ورشاد وقال أيضاً: فإني وجدت النفس تبدي ندامة ... على ما جنته حين يحضرها النقل وإن صدئت أرواحنا في جسومنا ... فيوشك يوماً أن يعادوها الصقل وقد لوّم في قوله أيضاً: تاه لنصارى والحنيفة ما اهتدت ... ويهود حيرى والمجوس مضلله قسم الورى قسمين هذا عاقل ... لا دين فيه وديّن لا عقل له والمرجح أنه كان متردداً في مذهبه وربما كان إقراره بالدين في أخريات أيامه كيف لا وهو القائل: عجبي للطبيب يلحد في الخالق ... من بعد درسه التشريحا ولقد علم المنجم ما يو ... جب للدين أن يكون صريحا رب روح كطائر القفص ... المسجون ترجو بموتها التسريحا ومن ذلك قوله: اذكر إلهك إن هببت من الكرى ... وإذا هممت لهجعة ورقاد واحذر مجيئك في الحساب بزائف ... فالله ربك أنقد النقاد تغشى جهنم دمعة من تائب ... فتبوخ وهي شديدة الإيقاد

قوله: أزول وليس في الخلاق شك ... فلا تبكوا عليّ ولا تبكوا قوله: لا ييأسن من الثواب مراقب ... لله في الإيراد والإصدار فترى بدائع أنبات متحسساً ... إن الجزاء بغير هذي الدار وشعره كله على هذا النمط من حرية الفكر والشكوى وله من القصائد الفخرية المشهورة وغيرها ما نجتزئ عن ذكره الآن ومن نوادر قصائده ما نشرته مجلة المقتبس (2: 97 و4: 66). وعلى الجملة فإن المعري دقيق التصور حتى يمثل لك أحياناً أموراً لا يستطيع تمثيلها البصير وهاك الآن من فلكياته ما يدل على سمو مخيلته فمن قوله في الفجر: كأن سنا الفجرين لما توليا ... دم الأخوين زعفران وأيدع أفاض علي تاليهما الصبح ماءه ... فغير من إشراق أحمر مشبع قوله: كأن الليل حاربها ففيه ... هلال مثلما انعطف السنان ومن أم النجوم عليه درع ... يحاذر أن يمزقها الطعان وقد بسطت إلى الغرب الثريا ... يداً غلقت بأنملها الرهان كأن يمينك سرقتك شيئاً ... ومقطوع على السرق البنان قوله: يغرن عليّ الليل كل غارة ... يكون لها عند الصباح توالي ولاح هلال مثل نون أجادها ... بجاري النضار الكاتب ابن هلال ولقد اعتنى كثير من الغربيين بجمع أشعاره وترجمتها إلى لغاتهم مثل كارليل المستشرق الإنكليزي أستاذ العربية في جامعة كامبريدج في أواخر القرن الثامن عشر فإنه ترجم بعض أبيات باللاتينية والإنكليزية. وهكذا فعل المستشرق النمساوي فون كريمر فإنه نشر مقالات كثيرة في (المجلة الجرمانية الآسياوية) عن أبي العلاء وأفكاره وشعره نظماً سنة 1877م ثم ألف كتاباً بعنوان (أشعار أبي العلاء المعري الفلسفية) طبع في فينا سنة 1888 نقل فيه نثراً أمكثر من مائتي بيت شعري من شعر المعري. ثم ترجم رباعياته بالإنكليزية نظماً صديقي أمين أفندي الريحاني اللبناني بكتاب انتخبه من دواوينه الثلاثة وطبع في نيويورك سنة 1903 في 144 صفحة صدره بمقدمة بحث فيها عن أبي العلاء وسيرته ومن رأيه أن عمر الخيام الشاعر الفارسي قد تحداه وهما متعاصران. واختار موسى أفندي بيكييف من أفاضل قازان (روسيا) منتخبيات من لزوميات المعري ونقلها إلى التركية في

نحو مائتي صفحة مطبوعة في أورنبورغ سنة 1908. واعتنى كثير من القدماء بدواوينه فإن عبد الله بن السيد البطليموسي النحوي الأندلسي شرح سقط الزند شرحاً ستوفى فيه المقاصد وهو أجود من شرح أبي العلاء صاحب الديوان المسمى بضوء السقط. وكذلك التبريزي خريج المعري شرح سقط الزند. وكان الحسين بن الجزري شاعر بني سيفا أمراء طرابلس الشام مغرماً بالمعري فكتب على ديوانه لزوم ما لا يلزم: إن كنت متخذاً لجراحك مرهماً ... فكتاب رب العين مرهم أو كنت مصطحباً حبيباً سالكاً ... سبل الهدى فلزوم ما لا يلزم ودواوينه الثلاثة مطبوعة في مصر وسورية. وقد قابلت مجلة المقتطف الغراء بينه وبين ملتون الشاعر الإنكليزي الضرير صاحب (الفردوس الضائع) راجع السنة العاشرة صفحة 449 ومجلة الهلال الغراء ترجمته في السنة الخامسة عشرة صفحة 195. وترجمة رضاء الدين أفندي فخر الدين من علماء أورنبورغ فغي روسية بالتركية التترية في 72 صفحة طبعت في المدينة المذكورة سنة 1908. وغيرهم. ولقد كان المعري والمتنبي وابن هانئ ممن اختطوا خطة جديدة في الشعر لم ترق في عيون المحافظين على الأسلوب القديم فلذلك لم يسمحوا للمترشحين للنظم أن يتحدوهم كما في مقدمة ابن خلدون وغيرها فالمعري أشبه فكتور هيكو عند الإفرنسيين وكذلك صنواه. 6ً_نثره وكتبه أهم ما وصل غلينا من نثر المعري رسائله التي نشرت في بيروت سنة 1894 مشروحة بقلم الأستاذ شاهين عطية اللبناني في 240 صفحة. وفيها تكلف غريب وإغراب في النثر لم تألفه العامة وإليك الآن أمثلة منها تعرفه عند القراء: فمن نثره قوله من رسالة إن كان للآداب أطال الله بقاء سيدنا يتضوع. وللذكاء نار تشرق وتلمع. فقد فغمنا على بعد الدار أرج أدبه. ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه. وخول الأسماع شنوفاً غير ذاهبة. واطلع في سويداوات القلوب كواكب ليست بغاربة. ومما كتبه إلى صديق له سأله أن ينقصه في ترتيب المكاتبة وقد أيقنت أن رسل نصيحته ليس بسمار. وإن صواب رأيه عن غير ائتمار. ولم أكتب في أمر أبي فلان إلا متكشراً ثم ثنيت

باسترفاد المعونة مذكراً. إذ كان أدام الله عزه لا يشير. لسائله إلى الرفد البعيد. ولا يضرب لراجيه رؤوس المواعيد. وكتب إلى أبي القاسم المغربي جواباً عن فصل كتبه إليه وهو برمته كلما هم خبري بالهمود. وأشرفت على الخمود. نعشني الله بسلام يرد من حضرته يجل ثري كالروضة الحزينة. والبارقة المزنية. ولو كنت عن نفسي راضياً. لشرفتها بزيارة حضرته. ولكني عنها غير راضٍ. وما أقربني إلى انقراض. وإنما أنا قضيض التمراد. ومتخلف المراد. وقد عددت في أناس قيل فيهم تهلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون. عما كانوا يعملون. فإن نعمت أو شقيت. فدعائي ينصل بحضرته ما بقيت اهـ. وكتبت من رسالة لو اتصلت كتب مولاي كاتصال الأمطار وتوالت توالي الأنفاس لكنت بوليها. أسر مني بوسميها. وإلى مستأنفها. أشوق مني إلى سالفها. وما يكتب إلا في بر. ولا يحث على غير المصلحة في الجهر والسر. وما أدري ما أقول في السعادة التي قد رزقتها عنده حتى غطت معايبي. وسترت الأسدة التي أضرت بي. فما أنكر بعدها أن تعد نظفات الدر لأم الأدراص. وأن تصاغ مناطق الذهب للرباح. وأن يدعي المدعون أن ريش ابن أنقذ سهام صائبة. أو قنوات يزينه. . . . وقد اطال في بعض رسائله حتى أن المطالع يمل مطالعتها ولا يتجلد ليتم قراءتها وأخصر رسائله ما ختمها بقوله: كانت كتبي إليه كبارح الأروى تكون في الدهر مرة. والآن صارت كسوانح الغربان وبوارح الظباء: تكاثرت الظ باء على خراش ... فما يدري خراش ما بصيد ومن ألحف فدواؤه ما قال بشار. وليس للملحف مثل الرد. وعليه سلام لو كان يوم عرفة. أو شهراً لكان ناتقاً أي شهر رمضان والسلام وحسبي لله وحده. وقد عني بطبع رسائل المعري هذه الأستاذ مرغليوث وترجمها بالإنكليزية معلقاً عليها شروحاً مفيدة من أدبية وتاريخية مصدرة بترجمة المؤلف شمس الدين الذهبي معتمداً على نسخة في مكتبة ليدن قابلها على نسخة بيروت المشار إليها وقال أنها ينقصها تسع رسائل وبعض العاشرة. ومن نثره الذي بين أيدينا الآن (رسالة الغفران) وهي التي وصفها شمس الدين الذهبي في ترجمة المعري بقوله له رسالة الغفران في مجلدة قد احتوت على مزدكة واستخفاف وله

رسالة الملائكة ورسالة الطير على ذلك الأنموذج أرسلها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح صدرها بأشواق وتحيات ثم أشار إلى وصول رسالته إليه وأثنى عليها ثم استطرد في وصف الجنة ونعيمها ومن دخلها من الشعراء والملائكة على أسلوب أشبه بالشعر القصصي الروائي عند الإفرنج اليوم فجاء بعده بأكثر من قرنين دانتي شاعر الإيطاليين ونسج على منوالها (الرواية الإلهية) وملتون شاعر الإنكليز (الفردوس الضائع) وغيرهما ولكنهما لم يغربا باللغة مثله. وقد طبعت رسالة الغفران مصححة بقلم الشيخ إبراهيم اليازجي اللبناني في مصر سنة 1907م في 213 صفحة. ولها نسختان مخطوطتان إحداهما في المكتبة الخديوية بمصر والثانية في مكتبة الكوبر يلي في الآستانة. ولا بأس أن ننتخب منها الآن قوله في الشعر صفحة 55: فقال وما الأشعار فإني لم أسمع بهذه الكلمة قد إلا الساعة. فقلت الأشعار جمع شعر. والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس. كان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات فجئت بشيءٍ منه إليك لعلك تأذن لي بالدخول من هذا الباب. ومن قوله يف اللغة صفحة 93: والباب فيما كان مضاعفاً متعدياً أن يجيء بالضم كقولك عددت أعد ورددت أرد وقد جاء أشياء نوادر كقولهم شددت الحبل وأشد ونممت الحديث أتم وأنم وعللت القوم أعل وأعل. وإذا كان غير متعد فالباب الكسر كقولهم حل عليه الدين يحل وجل الأمر يجل. والضم في غير المتعدي أكثر من الكسر فيما كان متعدياً كقولهم شح يشح ويشح وشب الفرس يشب ويشب وصح الأمر يصح ويصح وفحت الحية تفح وتفح وجم الماء يجم ويجم وجد في الأمر يجد ويجد في حروف كثيرة اهـ. . وللمعري مؤلفات كثيرة غير ما ذكر ألمع إليها الحاج خليفة في كشف الظنون أهمها ظهر العصري في النحو. والفصول والغايات. وإقليد الغايات. وكتاب الفصول. وكتاب السادر. وقاضي الحق. والقائف على مثال كليلة ودمنة وتفسير منار القائف. ومبهج الأسرار. وملقي السبيل في المواعظ. والمواعظ السنية ونظم السور. والحقير النافع في النحو. وخطب الخيل عن ألسنتها. ورسائل المعونة. والصاهل والساجح. وزجر النائح يتعلق بلزوم ما لا يلزم. السجعات العشر في الوعظ. وسجع الحمائم. والسجع السلطاني في

مخاطبات الملوك والوزراء. وسجع الفقيه. وسجع المضطرين عمله لرجل تاجر يستعين به على دنياه. وشرف السلف عمله لأمير الجيوش. وأهم مؤلفاته الأيك والغصون أو الهمزة والردف ولم يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من فنون الشعر والأدب إلا أحصاها يقع في ألف ومائتي كراس وربما بلغ أربعين مجلداً من كتبنا اليوم. إلى غير ذلك مما يغني قليله عن كثيره. فهذا شيخ المعرة وفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وهذه آثاره التي خلفها لنا رحمه الله تنشد قول أبي الفتح حصينة المعري فيه: وعجبت أن تسع المعرة قبره ... ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثرت فيه فكيف الأدمع زحلة (لبنان). عيسى اسكندر معلوف.

نظرة في النظرات

نظرة في النظرات تتمة ما ورد في الجزء الماضي أراد المنفلوطي في كلامه هذا أن يخطئ الإمام بأن ما دعا إليه من المبادئ الدينية لم يحن بعد وقتها وأن سواد هذه الأمة لم يتأهلوا لقبول هذه المبادئ جاعلاً ذلك علة العلل في إلحادهم ومروقهم من الدين وهذا قياس منطقي أعيذ للمنفلوطي عن أن يحشو فكره بمثله من الأوهام والخيالات التي أبان فيها عن فكر ليس له حظ من التجربة والاختبار. لا يستطيع صاحب النظرات فيما أعلم أن ينكر أن جل الداعين إن لم أقل كلهم أنجبهم الدهر وولدتهم العصور في أوقات كانت فيها الأفكار حين يقارع بعضها بعضاً في ميدان الحياة. ومن هنا نعلم الحاجة الماسة إلى المرشدين في مثل هذه الأحوال الحرجة والمآزق الضيقة وأنهم متى قاموا بفكرة إصلاحية لا بد أن يلاقوا في طريقهم من عثرات الفريق المخالف ما يستهدفون معه لضروب الإيذاء فيقومون بين مثالب الطعن والقد حتى تتسرب الفكرة إلى بعض من يعمل على نشرها في سرهم وجهرهم ليبقوا من سعيهم هذا خميرة حيوية في المجتمع الإنساني لمن يأتي بعدهم ممن تجد لها من عقولهم مباءة فتتأصل في نفوسهم فستفيدون إذ ذاك ويفيدون بما يدعون إليه ويسعون وراء أشرابه النفوس ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. بمثل هذا قامت المذاهب والأديان وتأيدت الآراء العلمية والنظريات الفلسفية. وإذا لم يكن الأمر كذلك فليدل لنا المنفلوطي برهاناً يبين مصلحاً قام بفكرة جديدة ولم يقم في وجهه في بيئته حتى من بني جلدته من يعمل على محاربته أو مناهضته بكل ما فيه من قوة وقدرة. ويا لله كيف جاز له أن يحكم على المبادئ السامية التي دعا غليها الشيخ محمد عبده كانت مدعاة للإلحاد والمروق من الدين بدعوى أن دعوته لم يحن بعد وقتها أو أنه يوجد ثمة من يمقتها وينبذها أو أنها نشرت بين فئة واتخذوا من هداها ضلالاً ومن نورها دجى حالكاً. وهؤلاء تلامذته مصريهم وشاميهم وعراقيهم وحجازيهم في عامة الأقطار يتنازعون مبادئه ويتدارسون كتبه لم ينظر إليهم الأستاذ المنفلوطي ونظر إلى فئة ضالة مضلة لا بد من وجودها في كل عصر ومصر. وكان الواجب على من لم يفهم ما أراد الأستاذ الإمام أو اشتبه عليه بأن يسأل عنه أهل

العلم فقد قال أحد شيوخ العلم: يستحيل في نظر العقل أن يدعو الحق إلى الباطل والهدى إلى الإلحاد وأصول الدين الصحيح إلى المروق منه، بل ما أبطل مبطل ولا ألحد ملحد ولا مرق مارق إلا بجهله بالأصول الصحيحة ونبذه التعلم السديد وسلوك جواده القويمة. ولو كان من شروط الدعوة فقد المناوئين خشية مناهضتهم ومحاربتهم لما قام نبي بدعوة بإرشاد وتعليم لكانت الفكرة الإصلاحية التي قويت وشاعت بالمناهضة ثوت في سرى الرمس قبل أن يلحد القائم بها ولما كنا رأينا كتاباً منزلاً ولا أدباً غضاً ولا علماً صحيحاً وبالجملة ما كانت للأمم مدنية زاهرة ولا عمران زاخر. ولا وجه لإنكاره على مثل هذا الإمام لأن اتخاذ التأويل قاعة مما لا نكران فيه في كل تأويل جرى اللسان في مثله ووسعته اللغة وهي لثروتها وغزارة مادتها وسعت من المجاز ما يربو على الحقيقة حتى صرح أئمة البيان بأن المجاز أكثر من الحقيقة. حتى صرح أئمة البيان بأن المجاز أكثر من الحقيقة. ولو أعار نظره إلى من سبق ذاك الإمام في مسألة الجن والملك كحجة الإسلام الغزالي والراغب الأصفهاني والقاشاني ونحوهم لما أكبر هذه المسألة وقد أوضح ذلك الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن وأفاض في هذه المسألة بما لا يبقى معه ريبة لمرتاب فليرجع إليه من شاء. وأما ما قام به الإمام من بيان الأسرار وحكمه فذاك فن قديم عني به أئمة الإسلام وفلاسفته كالأئمة الذين تقدم ذكرهم وأضرابهم وهو عندهم من أجل الفنون التي يجب درسها والتوسع فيها. وقد أخذوا على أنفسهم أن يفهموا الأمة أن الدين مؤاخ للعقل مؤازر للحكمة ليس فيه ما يعلو عن العقل أو ينبو عن الفهم وحجتهم في ذلك أن القرآن الكريم هو الذي مهد السبيل للتعليل وصرح بذلك في آيات لا تحصى كما أوضحه الإمام ابن القيم في كتاب التعليل وقد حذا حذوه من المتأخرين حتى برع في هذا العلم_علم الحكمة والأسرار_الإمام ولي الله الدهلوي فألف كتابه المشهور حجة الله البالغة وأفرغ جهده في استنباط الأسرار في العبادات والمعاملات حتى جاء في مجلدين كاملين حافلين. ولقد سفه المنفلوطي رأي قاسم بك أمين أيضاً وأنحى له لأنه دعا المرأة وقد رآها في أحط دركات الجهل إلى أن تلم بمعرفة ما يلزمها جهاد الحياة وجلادها من تربية وتعليم لتكون

المرأة صالحة لهذا المجتمع فتدير شؤون منزلها أو تضرب في الأرض لترتزق إن عضها ناب الفقر وفجعت بموت من يعولها ويكفلها وهو لم يدعها إلى ذلك_كما يعلم المنفلوطي_إلا خشية أن يمزق الحجاب وهي من الجهل المريع بمكان. وما ذنب قاسم بك أمين أن بين رأيه ولم يأبه لكيد الكائدين من تجار الأدب والدين والمرأة أخذت بالأسهل من رأييه والألصق بنفسها من نصيحته فتبرجت ورفعت برقعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياة. ومما لا مشاحة فيه أن رجل المرأة قاسم أمين قام بدعوته أحسن قيام فوصف الدواء بعد أن شخص الداء ولو كان في البلاد الأوربية لأقيمت له النصب والدمى_وإن كان صاحب النظرات لا يقول بالتماثيل_احتفاءً به واعترافاً ببيض أياديه وسابقة فضله عليهم أو لو كان المنفلوطي يقدر عمل العامل وفضل الفاضل لما جرأ على أن يقول فيه: ما رأيت باطلاً أشبه بالحق من باطله. 3 ـ آراؤه ذهب الأستاذ المنفلوطي في طائفة من أفكاره مذاهب فريق من فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر من أوربا حتى قابله بعضهم بروسو من حيث نظره إلى المجتمع الإنساني ومما قالوه: إن ما كتبه روسو في فن التربية والتعليم قائلاً: أيها الرجال، لا ترهقوا النشء الصغار على أن يفكروا كما تفكرون ويعتقدوا ما تعتقدون ولا تحاولوا إفساد ملكاتهم بهذه الفضيلة الموهومة والحرية المطلية التي هي في مذهب العقل غاية العبودية ومنتهى الاسترقاق الخ. . ._إن ما قاله روسو تعرض له المنفلوطي في فصل له عنوانه مدينة السعادة وأغرب ما لفت نظري أني لم أر في تلك المدينة ذات التمايز الذي أعرفه من مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم وأزيائهم كأن جميع سكانها سواء في حالة المعيشة ودرجة الثروة. وفي المنفلوطي نزعة اشتراكية تتجلى على أشدها في هذا الفصل في قوله: وحسب الرجل من البشر بيت يؤويه ومزرعة صغيرة يقتات منها ودابة تحمل أثقاله ثم لا شأن له فيما سوى ذلك.

وقالوا: يرى روسو أن الدور العالية التي شيدتها الحكومات للتعليم هي التي تغرس مبادئ الجهالة في النفوس وتبعد الإنسان عن عقله وفطرته والمنفلوطي يقول: وأي حاجة إلى المدارس في مثل هذا المجتمع وليس بأبر بآبائنا منا فنحن الذين نتولى تعليمهم وتهذيب نفوسهم وتمرينهم على العمل النافع فلا مدارس عندنا غير المصانع والمزارع نعلمهم كيف يرمون البذور وكيف يستنبتونها وكيف يصنعون الآلات الزراعية وكيف يستعملونها الخ. . . . وبالجملة فمن رأي الشيخ المنفلوطي أن لا يكون في هذا المجتمع سيد ولا مسود ولا غني ولا فقير ولا حاكم ولا محكوم فالشطر الأكبر الذي يقتفي أثرها هي فلسفة خيالية لا تأثير لها في أبناء القرن العشرين إلا بقدر ما للأساطير من التأثير في العلوم الرياضية. وهي إن جاز أن يكون لها أنصار قبل مائتي سنة أو يزيد فلن تجد لها فيما أحسب من هذا الجيل الجديد الناشئ على أفكار داروين وهيكل وهكسلي وسبنسر ورانكي ومومسن وبالزاك وزولا نصيراً وظهيراً لأنها مخالفة لسنن الطبيعة والحياة العملية. وقد ذهب مذهب (إسكندر دوما فيس) ولفيف من مفكري المتأدبين الغربيين في مقالته غرفة الأحزان في المرأة المجرمة من حيث يمهدون لها الأعذار ويرون الرجل أجدر باللائمة منها لأنها ضعيفة مفرطة الشعور ولأنه هو الذي هم بها فراودها عن نفسها واراد أن ينزل بها السوء فخدعها إذ عاهدها أن تكون له زوجة ويكون لها بعلاً فسلبها قلبها وشرفها وعفتها وغادرها حين علم أن في أحشائها جنينها يضطرب بين جنينها ناراً تضطرم وكان سبب شقاءها حتى أصبحت حزينة ذليلة تفضل الموت على عيش لا تستطيع معه أن تكون زوجة لرجل أو أماً لولد وأخذ لمجتمع البشري يتهكم بها ويعبث مما زادها حزناً واكتئاباً. وقد مثل لنا هذا البغي وقد تركت وراءها ما تراه من النعمة الواسعة والعيش الرغد في ذلك القصر الذي كانت متمتعة فيه بعشرة أمها وأبيها إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفه أحد ولا يطرقه طارق لتقضي فيه البقية الباقية من حياتها. ولم يكتف ببيان هذه الجناية وحدها بل جعل أن أمها وأبيها قضيا حزناً لفقدها ويأساً من لقاها وختم الحادثة بأن أضاف على الجنايات جناية أخرى وهي هلاك المرأة المجرمة بعد أن أودع نفسها من العواطف الشريفة ما شعرت معه بمصيبة ساورتها الهموم وبلغت منها

مبلغاً أودى بحياتها وهكذا ضاعف الجرم على الرجل وعله كاذباً وخادعاً ولصاً وقاتلاً وختم المقالة وهو يمحض الرجال القاسية قلوبهم النصح للرفق بضعيفات النفوس من النساء. والظاهر أن الأستاذ المنفلوطي كان لا ينظر إلى الحقيقة من حيث هي بل كان قلمه حين يأتي على وصف حادثة يختلف باختلاف المظاهر والمؤثرات فبينا نرى صفحات مقالته هذه مكتظة بما لا يملأ النفوس شفقة ورحمة وعطفاً وحناناً على العاهرات إذا به يضني عليها بجندي يقف ليخفرها ممن يريد أن يسلبها من الحقوق ما لم يبق منها إلا الذماء ويستكثر عليها ذلك في موقف هي خليقة بالشفقة والعناية أكثر من كل المواقف. ولقد رأيناه وهو يتكلم على المرقص في الأزبكية يحمل على الحكومة المصرية حملة منكرة ويحتدم غيظاً وحنقاً لأن هذه الحكومة المدنية المادية (على رأيه) التي هي مسؤولة أمام القانون عن استقرار الأمن واستتبابه تبعث بجندي يحمي أبواب العاهرات لئلا يعبث المشاغبون بالأمن والسكينة أو يعيثوا في الأرض فساداً. ومما قاله: إن العين لا تكاد تملك مدامعها سحاً وتذارفاً كلما أبصرت هذا الجندي الشريف واقفاً هذا الموقف الذليل يسمع قراع الدفوف، لا قراع السيوف ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور. وما أعجب لشيء عجبي لهذه الحكومة التي تضن بجنديها أن يشتمه شاتم أو يلمسه لامس فتغضب له غضبة مضرية تتراءى فيها الشهامة والحمية والعزة والنخوة ثم لا تضن أن تؤجره نائحة في الجنائز، أو قوادة في المراقص. هذا ما قاله المنفلوطي وما يحدوه إلى هذا إلا أنه ودّ أن يكون في طليعة من يعمل بالدرس الذي ألقاه على الرجال القاسية قلوبهم ليعلمهم فيه الشفقة والرحمة والإحسان!!! وما رآه في مبدأه هذا الأكتولستوي الفيلسوف الروسي الشهير الذي يهيج هائجه على الحكومة الروسية ويصمها بالمعرة والدعارة لأنها تبعث بالأطباء إلى المواخير العامة وتعهد إليهم أن يعنوا بتطهيرها خفية أن تنتقل جراثيم الأدواء الدوية من هؤلاء البغيات الباغيات فتعم الشعب بأسره وتراه يرمي الأطباء بكل مكروه بدعوى أنهم يسعون وراء إشاعة الموبقات وتسهيل أسباب الفسق والفجور. ويقضي علينا الأخذ برأي هذا المصلح الأخلاقي الروسي أن نهمل تعهد أماكن الفسق

والمواخير وأن ندع الجراثيم تفتك بمن ملكت عليهم أمرهم لتسري العدوى في الآخرين وتنتشر الأمراض الوبيئة الوبيلة في الأمة حتى تهلك عن آخرها بدعوى صون أخلاق الشعب كيلا يتطرق إليها الفساد والخلل. وقد رحم المنفلوطي المرأة البغي في غير هذا الموضع أيضاً وحض على التزوج بها ليرد إليها عرضها وزعم أن ذلك من أعظم القربات وعد الرجل الذي يرد العرض الضال إلى صاحبه المفجوع فيه أشرف ممن يمنح الحياة فاقدها. على شرط أن يكون الباعث على الزواج الرحمة والرأفة والحنان والشفقة لينظر في إصلاح قلبها ويحاول أن ينزع من جنينها ملكة الفساد الراسخة في نفسها ويداخلها مداخلة المؤدب المهذب الذي يصور في نظرها معيشة الفساد بصورة تنفر منها وتشمئز لها. ومما قال: ليت الرجال يأتمرون جميعاً على أن يستنقذوا بهذه الوسيلة الشريفة (الزواج) كل امرأة ساقها فقرها وعدمها أو فقد عائلتها إلى البغاء. وقد صرح في هذه المقالة أن بغاء البغي شقاء ما جناه عليها إلا الرجل فجدير به أن يغرم ما أتلف ويصلح ما أفسد وتعرض للمرأة أيضاً في مقالة التوبة فكأن بين جنينه جذوة نار من الحقد والموجدة تتقد على الرجل لأنه قتلها وعلى المجتمع الإنساني لأنه لا يعاقب القاتل على جرمه ولا يسلكه في سلسلة المجرمين. والغالب أن ثقته بالجرائد المصرية ضعيفة جداً فهو يراهاً نادياً من أندية القمار والكتاب جماعة اللاعبين والرؤوس المصرية موضوعة على مائدة الألعاب كما توضع الأكر على طاولة منضدة (البلياردو). والسيد وطني سلمي معتدل يفضل اتفاق الأحزاب السياسية على اختلافها وتعارفها على تناكرها ما دامت الغاية من تأليفها تحرير الوطن من رق العبودية. ومن رأيه أن العلماء والجهلاء سواء وليس بين الفريقين من الفرق إلا أن هؤلاء لا يعرفون كيف يعبرون عن آرائهم وأفكارهم وأولئك أعرف منهم في كيفية إفضاء الحكمة إليهم وسعيهم وراء وعظهم وإرشادهم وإن ما ينطق به الحكيم العالم من جوامع الكلم هو نفس ما يأتي به الجاهل من الأمثال لولا أن كلام الأول في أسلوب مجود ومقال الثاني في تعبير مبتذل.

يقول قوله هذا ثم يكتب في مقالة موت العظماء ما نصه: ليست هذه العشرة ملايين (يعني المصريين) التي تراها إلا أطفالاً رضع، وسوائم رتع لولا علماؤها وأذكياؤها الذين يقودونها إلى الخير ويأخذون بيدها في ظلمات الحياة. فليت شعري إذا كان العلماء والجهلاء في مستوى واحد من العلم والتربية فلماذا ينحي على أمته وأبناء دياره وينزلهم منزلة الحيوانات العجم وفيهم العالم والجاهل. وإذا كان المنفلوطي قد وجد في معاجم اللغة مادتي العلم والجهل من الألفاظ المترادفة فيكون كلامه حينئذ جامعاً لمتناقض الأحكام. 4 ـ لغته لم أر فيما رأيت من الكتب الممتعة التي وعت نتاجها قرائح أهل الأدب في هذا العصر كالريحاني وأمثاله أفصح لغة وأصح تركيباً من كتاب النظرات. فإنك ترى في فصوله مسحة العربية الأولى وقد خلت في الغالب من ركاكات الكتب الجدد والمبذوء من تراكيبهم وجملهم المتعاظلة التي اعتورتها العامة حقبة من الزمن انسلخت فيه عن العربية الخالصة حتى أصبحت إلى الأعجمي أقرب منها إلى اللسان العربي المبين. بيد أننا نرى من الواجب أن لا نمسك القلم في نقد ما رأيناه من سقطاته في جمل نزلت منزلة أقوال العامة وألفاظ لغوية كان الأجدر بكاتب أدبي مثل هذا أن يكون مصوناً عنها. فما نأخذه به استعماله فعل (ازدرى) متعدياً بالباء والعرب لا يعرفونه إلا متعدياً بنفسه في قوله في مقالة النبوغ من العجز أن يزدري المرء بنفسه واستعماله (الوظيفة) بمعنى (المنصب) وقوله: خرج في المنطق عن الحيوانية الناطقية والصواب أن يقال: من الحيوانية الناطقية وقوله جداً عجيب والأولى أن يقال عجيب جداً لأن جداً إذا قدمت أضيفت إلى ما بعدها ونسبته بديهة على بديهي وكان عليه أن يقال (بدهي) كما يقول في بجيلة (بجلي) واستعماله (تلائم) بمعنى التأم في قوله من مقالة الجمال غير متناسبة ولا متلائمة وقوله: ويحبس عليها أنفاسها فإن حبس هنا لا تتعدى إلا بـ عن فإذا تعدت بـ على كانت بمعنى الوقف واستعماله البسيط بمعنى الساذج وقوله ودققت النظر والعرب تقول. دقق الشيء إذا أنعم دقه واستعماله تربى بدل ربي وجمعه لفظة مثل على أمثلة

والمسموع أمثال وقوله في السنة العامة والصواب على السنة العامة واستعماله الأعوج بدل الاعوجاج وتعرج عوضاً عن تعوج واحتجز بمعنى منع وقوله لا تسلم إلا الحياة وهي عامية والأفصح ولا تفادي إلا بالحياة وإدخاله واو الحال على الماضي بعد إلا كما أنها لا تدخل على المضارع المثبت في قوله: فما رايت سطوراً مقطوعة الأواسط إلا متشابهة الأطراف إلا وقرأتها وقوله نهشه في إصبعه والصواب نهش إصبعه واستعماله الأعراض بمعنى العلامات وقوله يودعه الله في فطرة الإنسان والصواب يودعه الله فطرة الخ. . . . هذا ما رأينا أن ننبه على ما ورد في كتاب النظرات من الألفاظ والجمل مما لا عهد للعرب به كما أن ثمة ألفاظاً أغفلناها ذكرها كاستعماله لفظة (المراسح) بدل (المسارح) و (البالونات) عوضاً عن (المناطيد) و (المكروبات) بدلاً من (الجراثيم) و (الطاولة) بدل (المنضدة). والعاقل يغتفر له هذه الهنات اليسيرة إذا عرف أن الكاتب بين ظهراني أمة معظم صحافييها وأدبائها وكتابها يرون أن في هذه اللغة التي يكتبون بها الغناء والكفاء عن أن يتحدوا العرب العرباء في مناحي أساليبهم وأقوالهم ولله في خلقه شؤون. 5 ـ وصفه وهب السيد المنفلوطي ملكة خارقة في الوصف تكاد تكون فيه طبعاً وسليقة. وإني لأقرأ له القطعة الأدبية فيخيل إلي أنها من سحرها أن نفحة من قلم هيكو تهب عليَّ فلا أكاد أتم قراءتها حتى أهم بإعادتها المرة بعد الأخرى وأحمد الله على أن وجد في هذا العصر من ينفح هذا الهيكل البالي من الأدب روحاً جديدة ليحيا حياة رغد وهناء. قال في مقالة الغد: الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه وتصطخب أمواجه فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر أو الموت الأحمر. ولقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأبصار حتى لو أن إنساناً رفع قدمه ليضعها لا يدري أيضعها على عتبة القصر أو على حافة القبر. الغد صدر مملوء بالأسرار الغرار تحوم حوله البصائر، وتتسقطه العقول، وتستدرجه الأنظار فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.

يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الولد أن يلد للموت ما جمع الجامع ولا بني الباني ولا ولد الولد. إلى أن قال: أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى لمحة واحدة من لمحات وجهك. أولاً فاقترب منا علناً نستطيع أن نستشف خيالك من وراء هذا اللثام المسدول فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك، وذابت أكبادنا وجداً عليك. أيها الغد، إن لنا آمالاً كباراً وصغاراً، وأماني حساناً وغير حسان. فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها أأذللتها وأهنتها. أم كنت لها من المكرمين. لا لا، صن سرك في صدرك وأبق لثامك على وجوهك ولا تحدثنا حديثاً واحداً عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة. وحسنا هذه القطعة الذهبية التي أوردناها هنا دلالة على مكانة الكاتب من ملكة الوصف ومبلغ ما وهب من القوة الطبيعية في النثر الشعري أو الشعر المنثور. وللمنفلوطي في بعض فصول كتابه تشابيه جميلة واستعارات جديدة ربما غمضت على عقول من اعتادوا تمجيد القديم من المتأدبين أو تعامى عنها بعض من يرى المعاصرة حرمان فلم يرفعوا لها شأناً ولم يقيموا لها وزناً كقوله: فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافاً أما الأول فلو كان جاراً لبيت فاطمة (رضي الله عنها) وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه (المتحجر) لا تنفذ إليه عاطفة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان وربما أنكروا عليه وصفه القلب المتحجر وعد جعله للإحسان بسمات إغراقاً منه في المجاز ومبالغة في الاستعارة ولكن الحقيقة في غير ما يزعمون. ومثل قوله: فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابة سوداء أظلم لها بصري حتى ما أجد في صفحة السماء نجماً لامعاً ولا كوكباً ساطعاً وقوله درع منسوجة من نجيع وقوله: بهذه الصواعق التي يمطرنها علينا من سماء الصحف ومن جمله الجميلة قوله: وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى رأيتني أحير من دمعه وجد في مقلة عاشق يدفعها الحب ويمنعها الحياء. لا أعلم هل أنا سر كامن في باطن الظلماء، أو حوت مضطرب في أعماق

الماء وقوله أيضاً: وهناك أحسست بسلسبيل بارد من الأمل يتسرب إلى قلبي فينقع غلته ويطفئ لوعته وقوله في مقالة يخاطب بها المحزون: أنت حزين لأن نجماً زاهراً من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينك نوراً وقلبك سروراً، وما هي الأكر الطرف إن افتقدته فما وجدته وقوله: ابتسامة هادئة الخ. . . وقد أجاد الشيخ في مقالة غرفة الأحزان أيما إجادة حتى أن قارئ القصة ليجد أثرها في نفسه بعد قراءته لها في دمعة تترقرق في جفنه فتنم عن عواطفه وشعوره. وما هي لو علمت إلا جائزة القلب إلى البراع الذي خط تلك السطور بأسلوب يتدفق شعراً وشعوراً. ولا يسعه إلا أن يكبر ذلك الوصف الذي ألم بعامة أطراف الحادثة إكباراً فكان جائعاً لما تشعر به النفس من دبيب الآلام واعياً لما يصدر عن النفس السامية من شريف العواطف. 6 ـ روح المؤلف إذا صحت النظرية القائلة الكتابة صورة الكاتب جاز لنا أن نحكم على المنفلوطي أنه من جماعة المتشائمين ولكن لا في مذهب من المذاهب الفلسفية أو التاريخية أو السياسية بل هو من يرون أن لا سعادة في الحياة ولا هناء وإن من العبث أن يلقي المرء بنفسه إلى التهلكة في معترك الحياة ما دامت الرذائل آخذة من النفوس مآخذها وإن ما نسميه فضيلة ليس إلا خداعاً ورياءً ونفاقاً دعيت بالفضيلة وهي ليس لها ظل في هذا الوجود. هو ينظر إلى المجتمع نظر الحانق الناقم لأنه يعتقد أنه مصاب بالسقم في فهمه والاضطراب في تصوره فلا عبرة بحكمه ولا ثقة بوزنه وتقديره إذ هو يسمي الفقير سافلاً وطيب القلب مغفلاً وطاهر السريرة بليداً والحليم عاجزاً. وإنك لترى في مقالته أين الفضيلة روح اليأس مجسمة وما يتخيله أو يفكر به هو قد مر بخاطر كثيرين من أدباء المشارقة والمغاربة وكثيراً ما أجهد الكاتب من هؤلاء نفسه ليضع قصة يأتي بها على شرور العالم ومفاسده وكنت كلما مررت بسطر من سطوره تصب اللعنات على هذه الحياة التي تراها مثل الشقاء وتتمثل آنئذ بقول الشاعر العربي الحكيم: إنما نحن بين ظفر ونابٍ ... من خطوب أسودهن ضراء نتمنى وفي المنى قصر العمر ... فنغدو بما نسر نساء

صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء بالذي نغتدي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء من فساد يحويه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء قاتل الله لذة لأذانا ... نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفقد فإيجادنا علينا بلاء_الخ. . . يدلك على هذا أيضاً ما تقرأه له أيضاً في مقالة الشعر البيضاء ويعني بها شعرة المشيب التي رآها تلوح في فوده فخاطبها مؤنباً إياها بأنها تدني له الموت وبالغ في تأنيبها وتعنيفها، وأغرق في عتبها ولومها ثم رجع بعد ذلك لنفسه وكأنه ندم على ما فرط منه بجنبها وأخذ يخاطبها قائلاً: ما الذي يحمله في صدرك لك من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه فيحزن على ذهابه، ولم يذق حلاوة الحياة فيجزع لمرارة الممات ولم يستنشق نسمات السعادة غضاً رطباً فيأسى عليها عوداً يابساً. ما الذي ينقمه عليك من الشؤون رجل يعلم أنك وحي الأمل الذي يبشره بقرب النجاة من حياة ليس فيها من السعادة والهناء إلا لمحات قليلة يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأكدار كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة المرآة. أليس كل ما أعده إليك من الذنوب أنك طليعة الموت الذي يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام، الحافل بالآلام والأسقام، الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر صديقه وأخ يخون أخاه وعشير يحدد أنيابه ليمضغ عشيره، وغني يضن على الفقير بفتات مائدته وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر بأمنيته وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته، ومملوك لا يميز بين ملك الملك وربوبيته ونفوس تتفانى قتلاً على لون حائل، وظل زائل، وغرض سافل، وعيش باطل وعقول تتهالك وجداً على نار تحرقها، وأنياب تمزقها وعيون حائرة في رؤوس طائرة تنظر ولا ترى شيئاً مما حولها، وتلمع ولا تكاد تبصر ما تحتها. هكذا رأينا المنفلوطي يرمي هذا العالم بنظرات كلها شؤم كما هو شأن جماعة المتشائمين في عامة شؤونهم وأطوارهم وأحوالهم. ولولا أنه لا يقول إلا ما يعتقده ولا يعتقد إلا ما

يسمع صداه من جوانب نفسه لقلنا أنها خاطرات شاعر وجدت لها من سماء مخيلته مطلقاً ثم ما لبثت أن أدركها الغروب. أم وأن هذا الكلام هو صورة من صور نفسه فلا جرم أنها حالة نفسية كثيراً ما تعرو من يميلون إلى التجرد عن المادة ويرون في سكوت الموت وظلمته حياة مفعمة بالحركة والنور والرغد والسرور. دمشق: صلاح الدين القاسمي.

إلى العرب

إلى العرب يا معشر العرب الكرام تحية ... شغف النسيم بها فبات عليلا رقت فلولا الشعر يحيا ذوبها ... وجدت لها بين السطور مسيلا من شاعر لولا هواه يقومه ... ما كان برضى اليراع خليلا باتوا يلوموني وبات القلب عن ... لوم الوشاة بحبهم مشغولا زادوا ولوعاً بالملام وأسرفوا ... فيه فزدت ثغورهم تقبيلا حلت الثغور بذكر من أحببتهم ... فرشفت من برد اللمى معسولا إني لأهفو إن أردت حديثهم ... حتى أنك قد أدرت شمولا ماذا علي إذا عددت هواهم ... ديناً وغيري عده تضليلا والناس مختلفون في أهوائهم ... متباينون مشارباً وميولاً ولرب محسوس ترى آثارهم ... ليس على كل النفوس شكولا سجع الحمائم يستفز أخو الهوى ... طرباً ويحسبه الحزين عويلا * * * قومي وأنتم خير من فوق الثرى ... واجلهم يوم الفخار أصولا ردوا على الشرق القديم شبابه ... فالأمر بات لعزمكم موكولا شخصت لواحظه إليكم يبتغي ... نيل الرجاء فحققوا المأمولا وانضوا العزائم للرقي وحسبكم ... يوم الطلاب تواكلاً وخمولا لا تيأسوا فاليأس كم جرَّ الردى ... وغدا على صغر النفوس دليلا وأخو العلى من لا يزال طلابه ... أبداً بأسباب الرجى موصولا فالروض يزهو بالنضارة بعدما ... نهكته عادية الهجير ذبولا وإذا المنى امتنعت وعز منالها ... كان الثبات بنيلهن كفيلا * * * فامشوا إلى كبد العلاء بهمة ... تذر الجبال الشامخات سهولا وتقحموا الغمرات واصطبروا لها ... فالمرء أن يجبن يعش مرذولا المجد مطلبه الشديد فأخلقوا ... عزماً يذلل صعبه تذليلاً * * *

واستشهدوا التاريخ أصدق منبئ ... بالغابرات من العصور الأولى أيام تبتدر الجياد شوازباً ... يضربن عرضاً في البلاد وطولا يحملن أبطال الجزيرة طلعاً ... كالأسد أبرحها الحفاظ الغيلا من كان أروع مثلما تهوى العلا ... كالسيف عضب الشفرتين صقيلا تلقاه يؤثر إن يموت مكرماً ... عن أن يمتع بالحياة ذليلاً فتحوا البلاد وغادرت أسيافهم ... في كل أرض ونة وصليلاً بيض إذا انتضيت ليوم كريهة ... وردت ظباهن الدم المطولا كتبوا بها في الدهر آية سؤدد ... لا تقبل التحريف والتأويلا * * * ذودوا عن اللغة التي وردت بها ... آي الكتاب ونزلت تنزيلا هي روح نهضتكم ومعقد مجدكم ... فتعدوهما بكرة وأصيلا وحياتكم يا قوم احتفظوا بها ... أو ترتضون عن الحياة بديلاً * * * لا تحسبوا الدستور يسعدكم إذا ... لم تسلكوه للرقي سبيلاً وإذا الصبح بدا ولم نجف الكرى ... لم يجدنا فلق الصباح فتيلا فاسترشدوا بالعلم وانصرفوا له ... وتدارسوا المعقول والمنقولا وابنوا المدارس في البلاد كأنها ... زهر تزيج من الظلام سدولا وهي الكفيلة حين يعمر ربعها ... إنا ننال من الزمان السولا تكاتفوا في السعي لا تتخاذلوا ... فيبيت ممردة الصروح طلولا وتعهدوا الأخلاق فهي إذا التوت ... تركت ممردة الصروح طلولا ما كان تحرير الرقاب بنافع ... إن لم نحرر أنفساً وعقولاً دمشق: جرجي الحداد.

الكتابة والكتب ودورها

الكتابة والكتب ودورها أفرأيتم المصريين الأقدمين وقد تركوا لنا كتبهم منقوشة على صفحات الجبال وفي بطون المغارات وعلى أحجار البرابي والأهرام والمسلات؟ أم هل أتاكم حديث الآشوريين؟ فقد اكتشف النقابون في هذه الأيام مصافحهم مرقومة على اللبن، وهو الطوب المشوي أو المطبوخ. وذلك لأن أرض ما بين النهرين مكونة من طمي جبلة والفرات وليس فيها جبل ولا حجر. ولكن ذلك لم يقف عثرة في سبيل الغرام بالكتب. فصاروا يرقمون بالمسمار على الطين وهو نيئ ثم يطبخونه في النار، استباقاً لكتابتهم على مر الأدهار والأعصار. ثم انتشر هذا الغرام في مصر وعم ومط، فاحتاج القوم لزيادة الكتابة، وأسوا بما في النقش على الأحجار من صعوبة، فعادوا إلى الطبيعة، وهي الهادي الأكبر إلى البشر، أخذوا البردي وعالجوه بما جعله صالحاً للكتابة، وها هي آثاره في دار العاديات المصرية بقصر النيل في القاهرة، وأكثرها في متاحف أوربا، وأما الصين والهند، فقد كفتهم دودة القز هذه المئونة، في القيام بما يدعون إليه الولوع بالكتب والكتابة، وإذا نظرت إلى بني الأصفر وأعني بهم اليونان والرومان تجدهم قد استعانوا بالحيوان، فعالجوا الجلود وصنعوا منه ما نسميه بالرقوق. وأول من استنبط ذلك الأغارقة من أهل فرغانة، وهي مدينة بآسيا الصغرى تسمى عندهم برجامة فصار اسمها على اسم هذا المصنوع من الرقوق، ولا يزال باقياً عند جميع الإفرنج إلى الآن، فإن أهل إيطاليا يسمون الرق (بفتح الراء) بزجامينو أي الفرغاني لأن العرب تقلب الباء الفارسية إلى فاء لقرب المخرج كما قالوا في أفلاطون وهكذا. وأما الاسم العربي فهو مأخوذ من ترقيق الجلد بعد دبغه. أما العرب فبلادهم جرداء قحلاء فلم ينقشوا على الأحجار، ولم يطبخوا الطين على النار، ولم يهتدوا إلى صناعة الترقيق. ولكن ذلك لم يكن حائلاً دون غرامهم بالكتابة والكتب. فكانوا قبل الإسلام في عصر النبوة يكتبون على عسيب النخل أي قحوف الجريدة لكثرة هذه الشجرة المباركة في بلادهم. ويكتبون على ألواح العظام (وكثرتها ناشئة عن ذبح الأضاحي) ويكتبون على نوع من الأشجار المصقولة التي يلتقطونها من فيافيهم وبواديهم. ونقف بالكلام على العرب دون سواهم من الأمم الأخرى. فإنهم ما لبثوا في خلافة الصديق

ومن جاء بعده من الخلفاء، أن انتشروا في الأرض فأخذوا على جعلها أسليب الحضارة. ثم احتاجوا إلى التبسط في الكتابة، لاتساع الملك واستبحار العمران فكتبوا في العراق على الحرير وسموه بالمهراق. وكتبوا في مصر على البردي ولا تزال آثاره باقية في أوربا وبعضها في القاهرة في دار الكتب الخديوية. وكانوا يكتبون على هذا البردي باللغة العربية وحدها تارة، ومصحوبة بالترجمة الرومية أو القبطية تارة أخرى. ولا تزال هذه سنة مطردة في ديارنا، أعني بها سنة الاحتياج إلى لغتين مثال ذلك: الأحجار وأوراق البردي في عهد اليونان، نراها مكتوبة بلغتهم وباللسان المصري القديم، وفي عهد الرومان حل اللسان اللاتيني محل اليوناني. حتى جاء العرب فكان من شأنهم ما ذكرنا. ثم انقضت مدة طويلة من أيام المأمون إلى آخر الدولة الأيوبية استقل فيها اللسان العربي. حتى جاءت دولتا المماليك البحرية والجركسية فاندمجت في اللغة العربية بعض ألفاظ واصطلاحات دخيلة من التركية. ثم جاءت دولة العثمانيين فكانت السيادة في مصر للمماليك الأتراك حينئذ طما بحر اللغة التركية وصارت تزاحم لغة البلاد. واستمر الحال على ذلك بعد جلوس الفرد الفذ الأعظم محمد علي نابغة العصر الجديد إلى أيام سعيد وبعد ذلك بدأت الفرنساوية تحل قليلاً محل التركية. وها هي الآن تتأخر في الميدان أمام الإنكليزية. والحق يقال أن لغة البلاد أخذت في الانتعاش كثيراً بفضل خديوينا المحبوب عباس الثاني وبفضل حكومته الرشيدة السعيدة. وبفضل المحاكم والجرائد سترون عما قليل حسنة جليلة من أكبر محاسن الحكومة الحاضرة يرفع بها منار هذا اللسان وتتجدد معها آداب العرب وعلومهم. نرجع إلى الكتابة والكتب ونقول أن العرب ما عتموا أن استخدموا الجلود بعد ترقيقها وكان من مزاياها عندهم أنهم كانوا يغسلونها ويجددون الكتابة عليها. فرأوا أن ذلك إن كان صالحاً في بعض المعاملات الوقتية ففيه ضرر كبير على العلم كما رأوا من جهة أخرى أن الحرير يدعو إلى مئونة كبيرة مع أن الحاجة ماسة إلى الإكثار منه ومن الرق بل رأوا في أيام هارون الرشيد أنهم مقلدين لغيرهم من الأمم وإن ما وصلوا إليه من الحضارة والرجحان يوجب عليهم الأخذ بأسباب الاختراع والاستنباط. فكانوا أول من اصطنع الورق على هذا الشكل الباقي إلى أيامنا هذه وحسبهم ذلك فخاراً. وقد سموه بالكاغد ثم بالقرطاس ثم شاع اسم الورق وانتشرت معامل الورق من الخرقة أي من الكهنة في سمرقند وبغداد

والقاهرة ودمياط ثم انتقل إلى بلاد الغرب فكان لهذه الصناعة شأن كبير في بلاد الأندلس واشتهرت مدينة شاطبة بمعاملها ومصانعها التي فاقت في الجودة والإحسان والإتقان واربت على ما بلغه أهل المشرق من هذا الباب ومن شاطبة كان الكاغد يحمل إلى سائر بلاد الأندلس. ومن هناك انتقل إلى أفرنجة (فرنسا) ثم إلى بقية ديار أوربا وقد ابلغه القوم في هذه الأيام إلى نهايات ما يخطر بالأحلام وأتوا في ذلك بالعجب العجاب حتى صاروا يصنعونه من الأخشاب وانعدمت هذه الصناعة من ديار المشرق كلها فصار عالة على غيره فيها وفي غيرها. حينئذ توفرت عند العرب الأسباب المادية والعقلية فأبدعوا في التصنيف وأغربوا في التأليف وتهافتوا على جمع الكتب وتطلبها وتساوى في ذلك السلطان والسوقة والخاصة والعامة والرجال والنساء وجميع الطبقات حتى كثرت دور الكتب في القاهرة وأمهات المدائن المصرية بدرجة لا تتصورها الآن لأن بلادنا أصبحت خلواً منها بالمرة لولا تلك الصمامة القليلة الباقية في دار الكتب الخديوية وفي الأزهر الشريف تتلوها المكتبة الحديثة التي أنشأتها البلدية في الإسكندرية. أما البيوتات فقد أصبح عددها أقل من أصابع اليد الواحدة وأولها بيت السادات يتلوها بيت البكري فبيت المرحوم رفعة وعبد الله فكري. وأما الأفراد فقد قلب النظر فلم أر غير المرحوم لطيف باشا سليم وبعده الفاضل أحمد بك تيمور. وقد أردت أن أجري على هذا المنوال وإن كانت خطواتي صغيرة ويدي قصيرة ولكني خشيت أن تذهب مجموعتي من بعد للعطار والزيات والبقال أو تتفرق شذر مذر كما حصل للمجموعة النفيسة التي كانت تزدان بها دار المرحوم علي مبارك باشا في حياته. لذلك جعلتها من الآن خاصة بالأمة ولا أزال دائباً إلى آخر ساعة من حياتي على توسيع نطاقها والزيادة فيها. إذا رجعنا ببصرنا إلى التاريخ رأيناه يحدثنا عن دور الكتب في القاهرة فتأخذنا لوعة لمجرد هذا الوصف وتبكي على ذهاب العين والأثر. فدور الكتب التي أسسها الفواطم يحدثنا المقريزي عنها بما يثير الأشجان ويستمطر الدموع من الآماق. فقد كان في قصر الخلافة وحده أربعون خزانة كانت فيها النوادر والذخائر فأخذ معظمها بعض الموظفين وبعض الأجناد الأتراك بدل مرتباتهم في أيام الشدة التي وقعت

للخليفة المستنصر. وقد نهبت عرب لواتة شيئاً فشيئاً منها أغرب المقريزي في وصفه ثم قال: إن عبيدهم وإماءهم أخذوا جلوها برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم وأحرقوا ورقها تاولاً منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره وإن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الأقطار وبقي منها ما لم يحرق سفت عليه الرياح التراب فصار تلالاً باقية إلى اليوم بناحية آثار تعرف بتلال الكتب. هذا عدا خزائن القصر الداخلة التي لا يتوصل إليها أحد وعدا خزائن دار العلم بالقاهرةوهي مماثلة لما نسميه اليوم أكاديميا أو كما يقول صاحب كشف الظنون وابن أبي أصيبعة قبله: (أقاذيميا) وسوى خزانة المارستان العتيق وقد بقيت إلى أن بيعت في أيم صلاح الدين فاشترى القاضي الفاضل وحده منها مائة ألف كتاب مجلد وأودعها في المدرسة التي أنشأها بالقاهرة. وفضل القاضي الفاضل ومكانته في الدولة الأيوبية يدلان على أنه اختار أفضل الكتب وأحسنها ولكنها ذهبت بها الأيام أيضاً فإن الغلاء لما وقع بأرض مصر سنة 694 صار طلبة هذه المدارس يبيعون كل مجلد برغيف من الخبز. وبقيت منها بقية تداولتها أيدي الفقهاء بالعارية وكان فيها مصحف اشتراه القاضي الفاضل بنيف وثلاثين ألف دينار على أنه مصف الخليفة عثمان وكان في خزانة مفردة له غربي المحراب. وهذا القاضي الفاضل كان يقتني الكتب ومن كل فن ويجتلبها من كل جهة وله نساخ لا يفترون ومجلدون لا يبطلون. وقد بلغ مجموع كتبه قبل موته بعشرين سنة 124000 مجلد طلب ابنه مرة أن يقرأ ديوان الحماسة وتوسل إلى ذلك ببعض المقربين لديه فأمر القاضي الفاضل فأحضر له خازنه 35 نسخة فصار ينفضها واحدةً واحدة ويقول هذا بخط فلان وهذه بخط فلان حتى أتى على الجميع ثم قال: ليس عندي ما يصلح للصبيان وأمر بشراء نسخة بدينار لولده وقد أحضرت مجموعة رسائله في جملة ما أحضرته من الكتب. وقد بقي بعض الكتب من آثار الفاطميين في مصر وزاد عليها المماليك وجعلوا لها خزانة عمومية ولكنها احترقت في سنة 691 فتلف بها من الكتب الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم شيءٌ كثير جداً كان من ذخائر الملوك. والذي نجا من النار انتهبه الغلمان وباعوه

بأبخس الأثمان فظفر الناس منها بصحائف محرقة فيها نفائس غريب. ولم تكن هذه المدرسة الوحيدة في القاهرة فقد كانت خزائن الكتب في المساجد والجوامع والمدارس فضلاً عن القصور والمنازل. وحسبي الإشارة إلى بعض المدارس التي امتازت بجمع الكتب النادرة فمنها المدرسة التي أنشأها بمصر القديمة في سنة 654 الوزير الصاحب بهاء الدين علي محمد بن سليم بن حنا (بكسر الحاء المهملة وتشديد النون المفتوحة كما ضبط الثقات من المؤرخين) فقد كانت فيها خزانة جليلة من الكتب النادرة ثم نقلها فبقيت عنده حتى مات فتفرقت بين الناس وكذلك الملك الظاهر بيبرس البندقداري جعل في مدرسته الظاهرية خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في عامة العلوم. فلما تولى السلطان قلاوون جعل في قبته البديعة خزانة الكتب في جميع أنواع العلوم ولكن معظمها تفرق في أيدي الناس واقتدى به ابنه محمد فأنشأ خزانة كتب في مدرسته التي شادها بجوار هذه القبة في الجهة المعروفة الآن بالنحاسين. وأما أسماء الأمراء والأفراد فهي كثيرة جداً مثل الأمير متكوتمر سيف الدين الحسامي والحاج سيف الدين آل ملك والأمير سيف الدين الجاي والطواشي سابق الدين مثقال والطواشي سعد الدين بشير الحمدار. وأهم الكل الأمير جمال الدين الأستادار. ولا أنتقل من هذا الموضوع قبل أن أذكر لكم أن نساء مصر كانت لهن مشاركة في هذه المأثرة وحصة كبيرة في الغرام بالكتب وأكتفي الآن باسم الست عاشوراء بنت ساروج الأسدي وكانت عائشة في أيام صلاح الدين والست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون بنت الملك العادل الأيوبي وكانت من فضليات أهل العلم واشتهرت بالبراعة والفصاحة وفنون الأدب والسيدة الجليلة الكبرى خوندتتر الحجازية بنت السلطان الناصر محمد بن قلاوون والست بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان والست أيديكين زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصري. وقد بدد الزمن آثار تلكم السيدات الكريمات فلم أقف على كتاب من تلك الخزائن الكثيرة وغاية الأمر أن في دار الكتب الأهلية بباريس تحت نمرة 2751 كتاباً في علم تعبير الرؤيا وهو مرتب على حروف الهجاء بشكل معجم ومكتوب وفي سنة 833 هجرية برسم خزانة أميرة من أميرات مصر (إحدى البرنسات) وهي بنت السلطان الملك الظاهر جقمق.

كان هذا الغرام عاماً في مصر وفي جميع بلاد المشرق. وخصوصاً في الممالك الخاضعة لصولجان صاحب التاج في القاهرة. التي كانت عاصمة للإمبراطورية المصرية. والشواهد كثيرة على هذا الولوع وحسبي أن أذكر لكم اسماً واحداً من باب التدليل. وهو أبو الفدا سلطان حماة وصاحب التاريخ المشهور بالمختصر في أخبار البشر وصاحب الجغرافيا المسماة بتقويم البلدان الذي طبع وترجم في باريس قد مع في خزانته من الكتب ما لا يزيد عليه في خدمته ما يناهز مائتي معمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمنجمين والفلاسفة والكتبة. ولو أردت أن أستقصي ما أعرفه عن الكتب وغرام المولعين بها أيام كانت الحضارة الإسلامية زاهية زاهرة لطال المقام ولم تكفني الأيام تتلوها الأيام. وقبل الختام أذكر لكم قضية وقعت بمصر وهي من أغرب ما سطرته سجلات القضاء. وقفت على كتاب اسمه كنز الدرر وجامع العبر لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادار وهو في تسعة أجزاء ثلثاها بمكتبة آيا صوفيا والثلث الباقي بمكتبة طوب قبو بالقسطنطينية وهو في تاريخ مصر وفيه تفصيل غريب وبيان واف لا نراه في التواريخ التي وقعت إلينا. وليس هذا محل الشرح عن هذا السفر الجامع النافع. وقد كان هذا الكتاب موقوفاً على إحدى المدارس بالقاهرة فاغتصبه بعض الأكابر وأوقفه على مدرسته وقفاً صحيحاً شرعياً مرعياً فأقيمت عليه قضية بمجلس الحكم وحصلت المرافعة والمدافعة ثم اصدر القضاة حكمهم ببطلان الوقف الثاني وإعادة الكتاب إلى مقره الأول باسم واقفه الأول. وقد قضت الأيام ببطلان هذين الوقفين وبانقسام الكتاب إلى شطرين وفي خزانتين ولكن في غير مصر. إن العرب في اجتماع أهل الفضل في دور الكتب كانوا مقلدين لليونانيين في أثينة وللرومانيين في رومية وكل منهما قد نهج على سنة أجدادنا المصريين. أول من مدح الكتب على ما أنبأ به التاريخ الصحيح هو أول من أسس لها داراً خصوصية بديار مصر وجعل منفعتها عمومية. أنا لا أجاري بعض الغلاة من العرب ومن أربى عليهم من المتهوسين الألمانيين الذين قالوا بوجود دور الكتب قبل حدوث الطوفان وأخذوا يتصيدون الأقاويل من هنا ومن هناك

ويقيمون الدلائل على غي طائل محتجين على ذلك بتعليم آدم الأسماء وبالأعمدة التي نقشها شيث وبالصحف التي نزلت على إدريس ويكفينا أن نقنع بما هو وراء ذلك وهو قديم بل قدموس حتى لا نخوض بحور الخيال ونهيم في أودية الأوهام. حسبنا أن نرجع إلى ما هو قبل اليوم بأكثر من 3200 سنة فهنالك نصل إلى التاريخ الثابت المنقوش على الأحجار وهو مما لا جدال فيه ولا مراء. فتلك الأطلال الماثلة إلى الآن في صعيد مصر تنطق بلسان هيروغليفي مبين وتقول أن أوسيماندياس فرعون مصر الذي سماه اليونان سيزوستريس ورمسيس الثاني هو أول من أسس دار الكتب في مدينة طيبة بالصعيد وهو أول من مدح الكتب بعبارة وصلت إلينا. وذلك أنه نقش على باب تلك الدار كلمتين اثنتين جعلهما رمزاً عليها وتلخيصاً لكل ما فيها وهما: (شفاء الأرواح). ولعمري أن هاتين الكلمتين هما أبلغ من كل ما جادت به القرائح بعده في شرق البلاد وغربها وما هو مأثور عن عجم الأمم وعربها. وعن المصريين اقتبس اليونان علومهم ومعارفهم ونظامهم ولكنهم لما جاء الدور لهم لم يتيسر لهم إنشاء مكتبة عمومية إلا بعد الفرعون المصري بربوات من السنين لا تقل عن الخمسة قرون وذلك أن طاغية بيسترات هو أول من أحدث بمدينة أثينس (أي أثينا) داراً من هذا القبيل لاستفادة الخاص والعام وكان ذلك قبل القرن السادس للميلاد وجمع فيها أشعار أوميروس بعد أن تلقفها من أفواه الرواة كما كان شأن العرب من بعده باثني عشر قرناً في أيام بني أمية وبني العباس. وما لبثت هذه الدور أن انتشرت بأرض اليونان كما يشهد بذلك بيت قال شاعرهم ارسطوفان: وفي يد كل إنسان كتاب ... يلقنه أفانين العلوم وتولع اليونان بجمع الكتب والحث عليها لدرجة لا تكاد تكون محمودة: دخل حاكم إلى مدرسة النحو بأثينا فطلب من الأستاذ نسخة من ديوان أوميروس. فأعلمه المعلم بعدم وجودها فما كان من الحاكم في هذا الإهمال إلا أن صفعه وخرج. ثم تهوس القوم بجمع الكتب من غير استفادة أو إفادة حتى رأى أديبهم لوسيان الشميشاطي أن يكتب رسالة بليغة في هجو رجل جمع من الكتب طائفة وفيرة لمجرد الاشتهار بأنه

جماع للكتب. قال ذلك الأديب يخاطب ذلك المذموم بما ترجمته: في وسعك أن تعير الكتب لغيرك فتكسب أجراً وفيراً ولكن ليس في طاقتك أن تستفيد منها فتيلاً ولا قمطيراً. على أنك ما أعرت منها أحداً شيئاً مذكوراً فكان مثلك كالكلاب التي تنام في إسطبل الدواب فهي لا تقدر على أكل ما فيه من الشعير ولكنها تمنع منها الخيال وهي قديرة على الانتفاع بأكله. ولو تأخر هذا الأديب المجيد لخر ساجداً إذا سمع قول الكتاب المجيد مثلهم كالحمار يحمل أسفاراً فانظروا يرعاكم الله إلى حسن الديباجة وإلى هاتيك الإجادة: وأما قول لوسيان فما أشبهه بقول الجاحظ ولكن في ذم الخصيان ولا ازيد على هذا البيان بغير الإشارة عليكم بمراجعة كتاب الحيوان وإليكم مثالاً مما قاله العرب في ذم من يجمع الكتب وهو لا يدري بما فيها: زوامل للأخبار لا علم عندهم ... بحيد إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأحماله أو راح ما في الغرائر فلما جاء دور الرومان أنشأ الإمبراطور يوليان المنبوز بالمرتد وفي كتب العرب بالمارق دار كتب في القسطنطينية وأراد أن يتشبه بفرعون مصر ولكنه لم يبلغ شأوه فكتب على بابها هذه العبارة: لبعض الناس صبابة بالخيل ولبعضهم ولع بالطير ولآخرين غرام بالوحش وأما أنا فقد تدلهت منذ نعومة أظفاري بشراء الكتب واقتنائها. ومما امتازت به مدينة القسطنطينية أنها في ايم النصراني حفت في كنائسها علوم الأقدمين حتى جاء العرب فاستفادوا منها ونشروها من قبورها وكان لهم بهذه الوسيلة القدح المعلى في ترقية الحضارة وبني الإنسان وكذلك امتازت في أيام الإسلام بحفظ ما جادت به قرائح العرب الكرام في مساجدها وما علينا سوى اقتفاء أثرهم وإتباع سنتهم. وقد فتحت لكم الباب وحسبي ذلك فخراً. جاء العرب في أيام العباسيين فانتهت إليهم كلمة عن سقراط فكانت محركة لعزائمهم وجعلتهم أئمة العلم وقادة الأفكار. قيل لهذا الفيلسوف: أما تخشى على عينيك من إدامة النظر في الكتب فقال: إذا سلمت

البصير لم أحفل بسقام البصر. وفي هذا المقام لا يصح إغفال ذكر المأمون فهو أول من أسس دار كتب عامة في الإسلام وسماها بيت الحكمة كما أنه أول من أسس مجمعاً للعلوم (أقاذيميا) وسماه دار العلم. هذا فضلاً عن خزانة كتبه الخصوصية التي يروي لنا عنها ابن النديم كل معجب ومطرب. كان بمدينة الإسكندرية حاكم يسمى خليل ابن شاهين الظاهري اشتهر بتأليفين أحدهما في عالم اليقظة والآخر في عالم المنام فأما الأول فهو كتاب زبدة كشف الممالك في بيان الطرق والمسالك ثم اختصره وسماه زبدة كشف الممالك وهو كتاب مفيد في وصف بلادنا وأعمالها ودواوينها ووظائفها ونظاماتها وغير ذلك من محاسن هذه المملكة مع سرد أبيات مما نظمه بعض ملوكها وسلاطينها إلى غير ذلك من النوادر والفوائد ولا حاجة لي بأن أقول لكم أنه لا يوجد من هذا الأثر النفيس ولا نسخة واحدة مخطوطة بديار مصر كلها وهي وطنه ووطن مؤلفه بل هي موضوعه ومدار بحثه. أما لكتاب الثاني فقد سماه الإشارات في عالم العبارات والعبارة هي تعبير الرؤيا وتفسير الأحلام واسم العلم بالفرنسوية مأخوذ عن اليونانية. قال صاحب كشف الظنون: إن كانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبالطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طراً إليها. وذلك منهم صوناً لقواعد الإسلام وعقائد أهله عن تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والأحكام وأقول أن الشارع هو الذي دعاهم إلى تقييد العلم على إطلاقه فقد جاء في الحديث الشريف: العلم صيد والكتبة قيد. قيدوا رحمكم الله علومكم بالكتابة. أخذ الشاعر قول الشارع فصاغه في بيت سائر ونظم بارع: العلم صيد والكتابة قيده ... قيد صيودك بالحبال الواثقة ثم مدحوا الكتب كما مدحها فرعون مصر وقياصرة الروم من قبلهم فقال العتابي وهو من أجلاء عصر الأمين والمأمون: لنا ندماء لا نمل حديثهم ... أمينون مأمونون غيباً ومشهداً يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... ورأياً وتأديباً وأمراً مسددا

بلا علة تخشى ولا خوف ريبة ... ولا نتقي منهم بناناً ولا يداً فإن قلت هم أحياء لست بكاذب ... وإن قلت هم موتى فلست مفندا ومدحها ابن طباطبا العلوي: لله أخوان أفادوا مفخراً ... فبوصلهم ووفائهم أتكثر هم ناطقون بغير السنة ترى ... هم فاحصون عن السرائر تضمر إن ابلغ من عرب ومن عجم معاً ... علماً مضى فيه الدفاتر تخبر حتى كأني شاهد لزمانها ... ولقد مضت من دون ذلك أعصر خطباء إن أبغ الخطابة يرتقوا ... كفي كفي للدفاتر منبر كم قد بلوت بها الرجال وإنما ... عقل الفتى بكتاب علم يسبر كم قد هزمت بها جليساً مبرماً ... لا يستطيع له كالهزيمة عسكر وهو ينظر بقوله الأخير إلى جواب جالينوس فقد قيل له: لم كان الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل فقال لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين القلب بالجوارح عليه. وفي ذلك المعنى الذي أشار إليه ابن طباطبا وهو في مصر قول لمونتسكيو (ابن خلدون فرنسا) وهو في باريس قال ما ترجمته: ما حل بي جيش الهموم إلا بددته بساعة واحدة من القراءة. ومدح الكتب للعرب كثيراً جداً اكتفى منه بكلمة واحدة منثورة: أهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب إليه: هديتي هذه أعزك الله تزكو على الإنفاق وتربو على الكد. لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب. وهي أنس في الليل والنهار والسفر والحضرة وتصلح للدنيا والآخرة. وتؤنس في الخلوة وتمتع في الوحدة. مسامرة مطواع ونديم صديق. وقال آخر: الكتب بساتين العلماء. ولكن كل هذه الأقوال وما شابهها مما نرويه عن المتقدمين والمتأخرين لا تعادل الكلمتين اللتين قالهما فرعون مصر عن الكتب. شفاء الأرواح. ولقد قام رجل من مشاهير الإنكليز في أوائل القرن التاسع عشر وهو بلور لينون فأشار

بمطالعة الكتب لإزالة أنواع لأمراض قال ما خلاصته: لقد اختلج في ضميري أن أنظم دور الكتب على نسق جديد مفيد فبدلاً من أن يكون مكتوباً على الخزائن والدواليب والرفوف هذه الكلمات. لغة. علوم طبيعية. فن التقريظ ونحو ذلك أشير باستبدال هذه الكلمات بأسماء الأمراض التي تنتاب الجسم والروح مما يمكن مداواته بالمؤلفات الموجودة فيها من داء النقطة إلى أخف النزلات فهذا النوع الأخير من الأسقام يصلح له قراءة الكتب الهزلية مع منقوع الشعير في قليل من اللبن الحليب فإذا غشي النفس هم من الهموم التي يمكن إزالتها مثل عدم تحقيق الأماني أو معاكسة الأخوان أو معاندة الزمان ففي هذه الحال يحسن بالمصاب أن يتلو تراجم العيان والأفراد فيتسلى بما أصابهم من البلايا ويزول مرضه بإذن الله. فإذا ما طم الهم وعم الغم فالروايات أنجع دواءٍ لهذا السقم. ولكن إذا حلت بالإنسان مصيبة فادحة وجب عليه أن يستغرق كل عقله ولبه وقلبه في عمل من الأعمال العقلية التي تجعله ينسى نفسه وما حل به من الأرزاءِ. واستشهد المستنبط لهذا الطب الجديد الغريب بما حل بشاعر الألمان (جيته) فإنه حينما مات ولده تفرغ لدراسة علم جديد وقيل أنه أكمل فصول بعض رواياته البديعة فجاءت في نهاية البلاغة والإعجاز. فانظروا إلى ما صنعه الإسكندر الأكبر عندما هزم دارا ملك الفرس فإنه ظفر في جملة الغنائم الملوكية بصندوق بديع الصنعة فقال للمقربين إليه: لأي شيءٍ يصلح هذا الصندوق؟ فأجاب كل منهم بما رآه. ولكن سيد الفاتحين لم يعجبه قولهم وقال إنما يليق هذا الصندوق لحفظ إلياذة أوميروس. وفي أيام الإسلام ظفر الحجاج بن يوسف عامل بني مروان بصندوق عجيب من ذخائر الفرس فأمر بفتحه فوجد صندوقاً آخر ففتحوا فوجدوا صندوقاً آخر ثم رابعاً وخامساً وسادساً وسابعاً فقال الأمير: لعل فيه حماقة من حماقات الفرس. ففتحوا وإذا فيه بطاقة مكتوب عليها هذه العبارة: من مشط لحيته في كل يوم طالت: ونحن لم نخرج عن هذا الموضوع لأن هذه الوصية كانت مكتوبة على قطعة من الحرير وإنني أقلب الطرف يميناً وشمالاً فلا أجد من أوصيه بها ليخبرنا بصحتها بعد العمل بها. ولا يخفى عليكم أن عرب الشرق هم الذين أحيوا علوم العرب ونشروها وها هم عجم

الغرب يعملون على هذه السنة الآن في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا وهولاندة وإسبانيا والروسيا وسائر بلاد أوربا وأميركا ولا أمل لي إلا أن أرى أهل مصر يشاركونهم فهم أحق بتراث أجدادهم ولا يكون ذلك ولن يكون إلا بالعناية بالكتب. هل أتاكم حديث فرنسا وناهيكم بها في العلم والحضارة والعرفان؟ إنها مدينة لمصر الإسلامية بدينين عظيمين في إنشاء دور الكتب العمومية. أولهما يرجع إلى أيام الحروب الصليبية. فإن الملك القديس لويس وهو التاسع بهذا الاسم شن الغارة على مصر في أول دولة المماليك البحرية ثم عاد أدراجه مهزوماً ولكنه رجع ظافراً بفكرة حميدة ومأثرة جميلة. وهي أن اقتبس عن أجدادنا فكرة جمع الكتب بعضها مع بعض في دار واحدة وفتحها في وجه الجمهور لينتفع بها الخاصة والعامة. اترك الكلام لكاتب سيرته وإمامه في صلواته فقد قال ما خلاصته: إن الملك الورع التقي لويس وصل إلى سمعه وهو فيما وراء البحار أن سلطاناً من سلاطين الشرقيين يبذل عنايته في البحث عن الكتب المختلفة الأنواع وفي استنساخها على نفقته ثم يضعها في دار عمومية ليستفيد من مراجعتها علماء بلاده فإنه كان يجعل هذه المجاميع تحت تصرف جميع الطالبين. فأراد القديس لويس أن يتشبه بهذا السلطان وعزم على بذل المال بمجرد عودته إلى فرنسة لنسخ الأسفار النافعة وصحاح الكتب المقدس التي يتأنى له العثور عليها في الأديار ليتمكن هو ورعاياه العاكفون على علوم الأدب من درسها وحرثها للانتفاع بها وأفاد الجار والقريب بمعارفهم وقد أنجز هذا القصد فأمر بإعداد مكان لائق أمين في باريس جمع فيه كثيراً من تصانيف القديس أغسطينوس وأمبرواز وجيروم وغريغوار وبقية أئمة المذهب الأرثوذكسي. وكان يذهب في أوقات الفراغ للقراءة في هذا المكان ويسمح لغيره عن طيبة خاطر بمشاركته في مناجاة المؤلفين. وكان يؤثر استنساخ الكتب على شراء أصولها لأن ذلك في رأيه من شأنه أن يزيد في عدد الكتب المقدسة ويجعلها أكثر فائدة. وكان حينما يقرأ في تلك الكتب بمحضر من خدمه وحشمه الذين لا يفهمون اللاتينية يترجم لهم بالإفرنسية ما لا يدركونه من العبارات. غير أنه في آخر عمره أصابه دخل في عقله فبدد شمل تلك المجموعة وأمر في وصيته بتوزيع الباقي على الأديار.

وأما الدين الثاني الذي لنا على فرنسا فيرجع إلى عهد قريب منا وبيان ذلك أن القائد بونابرت عند هجمته على مصر في فجر القرن الماضي على التاريخ الميلادي نهب كثيراً من بقايا الكتب النفيسة التي كان أجدادنا أخفوها أو وجدوها بعد الفتح العثماني. وكل من ذهب إلى باريس واطلع على فهرس دار الكتب الأهلية فيها يأخذه العجب والعجاب إن لم تساوره الأشجان والأحزان. فلقد أصبحنا إذا احتجنا إلى شيء من مؤلفات المصريين الخاصة بمصر لا نرى منها شيئاً في بلادنا ولا بد لنا من الرحلة والتغرب لتطلبها في بلاد الغرب. ولقد أدرك محمد علي ذلك عندما أراد أن يجدد العلم في ربوع مصر فأرسل نفراً من نابغي الأزهر الشريف فعادوا وأفادوا جدد الله عهدهم. ورافع رايتهم هو المرحوم رفاعة بك فطالما أنشأ وأنشد وصنف وألف وترجم وعرب وكلنا عيال عليه وعلى أولاده. اعلموا أن للعرب والإسلام سراً عجيباً في تاريخ الحضارة والعمران. فالعرب أينما حلو انتشرت لغتهم قليلاً قليلا ثم سادت رويداً رويدا ثم انتهى أمرها بالانفراد والاستقلال. كذلك الإسلام أينما انتشرت رايته استهوى العقول والألباب. ولكن الغريب أن العجم هم الذين ينشرون علوم العرب ودين العرب حتى لقد قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك: عجبت لهذه الأعاجم ملكت الدهر فلم تحتج إلى العرب وملكت العرب فلم تستغن عنهم. وماذا كان يقول هذا الخليفة ودولته أموية عربية محضة: وماذا كان يقول لو عاش حتى رأى عصر العباسيين أو لو بعثت من قبره هذه الأيام ورأى حاجة العرب إلى الأعاجم في كل شيء من مرافق الحياة وحاجتهم إليهم حتى في إحياء آثارهم والتهافت على اقتناء مآثرهم. ماذا كان يقول لو علم بالقصة الآتية؟ تعلمون أن التتار هم الذين خربوا دولة العرب ودكوا معالم الإسلام ومع ذلك فمن أغرب الغرائب وأعجب العجائب أنهم ما لبثوا أن دانوا بدين العرب المغلوبين وتشبهوا بملوكهم البائدين في إحياء العلوم وتوسيع نطاق العمران. سر من أسرار الطبيعة لا نراه إلا في شؤون العرب ومعارفهم. فبعد أن هلك هولاكو وبعد أن مارت الأرض تيمور فأدخلته في تامورها جاء أحفادهما فدخلوا في دين الله أفواجاً وأقوامهم وارتفع بهم مناره في بلاد آسيا

الوسطى وفي بلاد الهند إلى أوائل الجيل الماضي ومن أشهرهم في العلم والعلماء الغ بك واسمه محمد بن شاهر روخ اعتنى هذا الرجل بعلم الفلك وألف فيه زيجاً باللغة الفارسية ترجمه إلى العربية بعض أفاضل المصريين والترجمة في خزينتي مصر وجمع هذا الرجل خزانة من الكتب النفيسة رأيت بعض بقاياها كتاب الصور السمائية لعبد الرحمن بن عمر بن محمد بن ابن سهل الصوفي ويسمى بأبي الحسين ويعرف بكتاب صور الكواكب وبكتاب الكواكب الثابتة وهو الذي أريد أن أحدثكم عنه في هذه الساعة. هذا الكتاب لا أبالغ في فضله ولا اذكر شيئاً من محاسنه وإنما أقول لكم أن الروس عرفوا قدره فطبعوه في بلادهم ثم أوعزوا إلى أحد علما الفرنسيين فترجمه إلى اللغة الفرنسية وطبعوا هذه الترجمة أيضاً في بطرسبرج. وهذا الصنيع المزدوج يدلكم على فضل الكتاب وفائدته. وإذا بحثتم في ارض مصر من الشلالات إلى الأشاتيم ومن بادية العرب إلى صحراء لوبيا لا تجدون سوى الترجمة الفرنسية وسوى الترجمة الفارسية في دار الكتب الخديوية أما الأصل العربي فقد لبس طاقية الاختفاء وتطاير في الفضاء وهجر ديارنا وواصل غيرنا فيما وراء البحاتر ورحل عن أرض أهين بها إلى بلاد ظهرت قيمته بين أهلها بحيث أن العرب الذين صدر الكتاب بلغتهم إذا احتاجوا الآن لمراجعته وجب عليهم أن يتلقنوا إحدى الفرنسية أو الفارسية أو أن يذهبوا إلى بطرسبرج وأن استبعدوها فإلى باريس وهنالك تجدون منه خمس نسخ استغفر الله بل ستاً لأن السادسة هي التي سأتكلم عليها. ففي سنة 1891 عثر يوسف بك خلاط على نسخة ملوكية من هذا الكتاب مكتوبة على ورق الحرير بألوان مختلفة بالنسخ والثلث وقد بلغ الكتاب فيهما نهاية الإجادة والإتقان وازدانت بصور ملونة باهية زاهية يتدفق فيها الذهب واللازورد على أحسن شكل وأجمل مثال. وفوق هذه المزايا التي تجعل للنسخة قيمة يتنافس فيها المتنافسون ويتعشقها العارفون فإنها حوت أثراً آخر يزيدها قيمة لأهل الدراية. ولكن أين هم في ديارنا. . . وذلك أنها مكتوبة برسم خزانة الملك العالم المؤلف (الغ بك) وعليها اسمه بخطه فصارت بذلك نادرة النوادر وذخيرة الذخائر. عرضها يوسف بك على دار الكتب الخديوية فقومتها إني لأستحي من ذكر القيمة. . . .

ولكن أقولها لكم لتعلموا مقدار تفريطنا. قومتها بخمسة عشر جنيهاً مصرياً. وظننت أن ذلك شيء كثير. وكيف لا وهذا المبلغ يساوي اللف ونصف الألف من القروش أو خمسة عشر ألف مليم: توجه صاحب الجوهرة إلى الغزي مختار باشا فزاده الربع. توجه إلى الإرسالية العلمية الفرنسية بالقاهرة القائمة الآن بجوار دار ناظر المعارف الحالي فضاعفت له الثمن أربع مرات ووعدته فوق هذه المساومة بوسام المجمع العلمي الفرنسي. فقبض الثمانين جنيهاً ولا أدري إذا كان أحرز النشان ولكنه اشترط أن يكتب اسمه ببنانه على تلك النسخة فقبل القوم شرطه وأرسل الكتاب إلى باريس تكميلاً لنصف الدستة وأصبحت نسخه ستة. روى صاحب تاب الفهرست أن أبا زكريا يحيى بن عدي النصراني المتوفى ببغداد سنة 364 قال أنه رأى في تركة إبراهيم بن عبد الله الناقل النصراني كتاب السماع الطبيعي كله لأرسطو مشروحاً بقلم الإسكندر الأفروديسي وعندي قطعة وافرة من (كتاب البرهان) وأنهما عرضا عليه بمائة دينار وعشرين ديناراً فمضى يحتال في الدنانير ثم عاد فأصاب القوم قد باعوا الشرحين في جملة الكتب على رجل خرساني (أعجمي من الفرس) بثلاثة آلاف دينار وكانت هذه الكتب مما يحمل في الكم. قال القاضي الأكرم الوزير القفطي المصري بهذه المناسبة في كتابه المترجم بتراجم الحكماء المطبوع في ليبسك من أعمال ألمانيا ما نصه: فانظر إلى همة الناس في تحصيل العلوم والاجتهاد في حفظها والله لو حضرت هذه الكتب المشار إليها في زمننا هذا وعرضت علي مدعي علمها ما أدوا فيها عشر معشار ما ذكر وما كان يقول لو سمع الحكاية التي رويتها لكم عن كتاب الصوفي. نعم إن الخرساني اشترى الكتب بثلاثين ضعفاً وأما الفرنسيين اشتروا كتاب الصوفي بأربعة أضعاف لأنهم لم يجدوا في مصر من يزاحمهم كما جرى في بغداد. وأقول لكم أن يحيى بن عدي النصراني المذكور كان من أكابر المؤلفين والمترجمين ومحققي الفلاسفة وكان من المغرمين بجمع الكتب ونسخها بيده وكان أوحد دهره ومذهبه من مذاهب النصارى اليعقوبية. رآه ابن النديم في سوق الوراقين فعاتبه على كثرة نسخه فقال: من أي تعجب في هذا الوقت. من صبري؟ قد نسخت بخطي نسختين من التفسير للطبري وحملتهما إلى ملوك الأطراف وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى ولعهدي

بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة. . ونحن نعلم أن النويري المصري صاحب كتاب نهاية الرب في فنون الأدب كان من يكتب في اليوم والليلة ثلاثة كراريس أي ستين ورقة. فلم يبلغ شأو هذا المتقدم مع أن جميع المؤرخين يعجبون بابن وطننا الذين سترون أثره الجامع لكل العلوم والمعارف في السنة المقبلة إن شاء الله. كل هذه الأعمال وهي قطرة من بحر تدلكم على مقدار الغرام بالكتب وأنه إذا استولى على العقل فلا يجد المدنف العاشق لذة في شيء آخر. وهذا الغرام ليبس قاصراً على الشرق أو على الغرب بل هو داء مستحكم في نفوس الناس على اختلاف الأوطان والأديان والأجناس. نرجع إلى ذكر السرفات في الكتب وأروي لكم حادثتين وقعت إحداهما لرجل من أفاضل الإسكندرية وكان للثانية شأن كبير بالجامع الأزهر في القاهرة. فمن الرجال الذين يحق للإسكندرية أن تفتخر بأنها أنجبتهم أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري النحوي الجغرافي ألف كتاباً فيما اختلف وائتلف من أسماء البقاع وقد ضبطه وافنى في تحصيله وتحقيقه عمره فأحسن فيه كل الإحسان فجاء أبو بكر زين الدين محمد بن موسى الهمداني المشهور بالحازمي المتوفى سنة 584 فسطا عليه برمته وادعاه واستجهل الرواة فرواه نبه على ذلك ياقوت الحموي في صدر معجم البلدان بقوله: ولقد كنت عند وقوفي على كتابه أرفع قدره من علمه وأرى أن مرماه يقصر على سهمه إلى أن كشف الله من خبيئته وتمحض المحض عن زبدته أقول أنه رغماً عن التنبيه ما زال الكتاب مشهوراً باسم السارق فإن صاحب كشف الظنون لم يذكر غيره وسماه كتاب ما اتفق لفظه واختلف مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط. وعلى كل حال فالكتاب لم يصل إلينا. وأما الحادثة الثانية فقد وقعت في القاهرة في ختام القرن التاسع للهجرة. وذلك أن الإمام شهاب الدين أبا العباس أحمد بن محمد القسطلاني المصري المتوفى سنة 923 ألف في السيرة النبوية كتبه المشهور المتداول بيننا الآن وهو المواهب اللدنية بالمنح المحمدية فما راعه بعد أن فرغ تبييضه في سنة 899 إلا وقد رفع جلال الدين السيوطي دعوى عليه

أمام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهاك بعض ما ورد في صحيفة الدعوى إنه يسرق من كتبه ويستمد منها وينسب النقل إلى نفسه طالبه شيخ الإسلام ببيان ما ادعاه. فقال أنه نثقل عن البيهقي وله عدة مؤلفات فليذكر أنه نقله عنه. ولكنه رأى ذلك في مؤلفاتي فنقله فكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عنه. ماذا كانت النتيجة؟ انظروا واعجبوا. صدر الحكم على القسطلاني بالترضية اللازمة للسيوطي وإزالة ما في خاطره. كيف كان التنفيذ؟ مشى القسطلاني من القاهرة إلى الروضة (جزيرة النيل) وكان السيوطي معتزلاً عن الناس بها فوصل إلى بابه ودقه فقيل له من أنت؟ فقال أنا القسطلاني جئت إليك حافياً ليطيب خاطرك. قال له: قد طاب. ولم يفتح له. فأين أين ذلك الزمان مما نحن فيه الآن؟ أفرأيتم لو رفع المجني عليهم قضاياهم من هذا القبيل على السارقين الذين فاقوا القسطلاني قولوا لي بربكم هل كانت تكفينا المحاكم الشرعية والبطريركية والأهلية ولمختلطة والقنصلية ولجنات النفي الإداري؟ لعمري أن تجار الأحذية كانوا يفلسون كلهم في يوم واحد لو اقتدى السراق بما فعله القسطلاني!! ولكن التبجح وانتهاك الحرمات وص في زماننا إلى درجة لا مزيد ليها خصوصاً وإن انتشار الطباعة ساعد على نمو هذا الطبع. وتلك الصناعة قد كان لها أصل عند العرب في مصر والأندلس وإن كان الأثر الناطق بذلك قد ذهب من بلادنا ولكن الإفرنج حفظوه لنا أثابهم الله عنا خير الثواب ووقفنا إلى اقتفاء خطواتهم في النافع بدلاً من تهالكنا على تقاليدهم في كل ضار. أخبرني الأستاذ الفاضل حقي بك ناصف أنه رأى خشبة محفوظة بمكتبة ويانا عاصمة النمسا في جملة ما ازدانت به من آثار العرب وثمرا عقولهم وهذه الخشبة منقوشة عليها بالتجويف كتابة عربية مقلوبة على الطريقة المألوفة في اصطناع الأختام وأنها كانت مستعملة لطبع الأوامر العسكرية وتوزيعها على الجنود كما هو الشأن في أيامنا هذه في الغازته العسكرية وذلك يستفاد من العبارة المنقوشة عليها وهذه الخشبة يرجع عهدها إلى الفواطم وربما نشر صورتها عن قريب بعض علماء المستشرقين فتكون برهاناً على تولد

هذا الفن بديار مصر. وأما الأندلس فقد ترقت إلى ما وراء هذه الخطوة الأولى فقد كان للأندلس في هذا الباب ثلاث خطوات. الأولى أنهم قلدوا مصر في عهد الفواطم ولكن أثرهم لا زال باقياً في ديارهم وها أنا أطرفكم بصورة فتوغرافية منه كهدية للعهد السعيد وهي صورة الطابع الذي كان يستعمله أهل الأندلس في مدينة المرية عثروا عليه في أطلالها وخرائبها وهو مصنوع من الخشب والكتابة التي عليه تدل على أنه كان مستعملاً في قيسارية المرية ولفظة قيسارية تدل على السوق ولا تزال مستعملة بهذا المعنى في القاهرة وفي كثير من مدائن الشرق وأصلها مشتق من اسم قيصر كما أنه اسم موضوع للدلالة على مدائن كثيرة بآسيا الصغرى منسوبة إلى قيصر ورشك أن هذا الطابع كان مستعملاً بصفة الدمغة (التمغة) التي كانت مستعملة في مصر إلى عهد قريب لوضعها على الأقمشة الزعابيط في نظير تأدية الرسوم المطلوبة لخزينة الحكومة. كذلك كان ذلك الطابع يوضع على الأقمشة والطرود التي يجب دفع الرسوم عليها قبل دخولها إلى السوق أي القيسارية في تلك المدينة مدينة المرية كما يستفاد من الكلمات المكتوبة فيه وهي: طابع قيسارية المرية عام خمسين وسبعمائة. وأما الخطوة الثانية فهي أن الإشراف على دار الطباعة كان من خطط الدولة. بدلكم على ذلك النص العربي الذي نبه إليه العلامة جايانجوس الإسباني وهذا النص وارد في كتاب (الحلل السيرا) لابن البار الأندلسي المشهور وقدطبع العرمة دوزي الهولاندي قطعة وافرة من هذا الكتاب الثمين في مدينة ليدن من سنة 1847 إلى 1851. وأنتم تعلمون أن الأبار هو الذي أرسله صاحب الأندلس ليستنجد بصاحب تونس. وهو ذلك الرسول الذي وقف بحضرة ملك تونس وأنشده تلك القصيدة الطنانة الرنانة التي تستفز الجبان ويلين لها قلب الجماد. قال في مطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى مناجاتها درسا وحل الشاهد أن ابن الأبار يقول في كتابه المذكور أن عبد الرحمن الناصر الخليفة الأكبر (ولى بدر بن أحمد الوزارة الحجابة والقيادة والخيل والبردوكان ينفرد (أي بدر) بالولايات

فتكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطابع فتطبع وتخرج إليه فتبعث العمال وينفذون على يديه. نعم إن هذا النص سقيم ويحتاج إلى تقويم ولا بد من مراجعة الأصل وتقويته بنصوص أخرى. وربما كان المراد وضع الطابع عليها. ولكن هذا الغرض بعيد لأن الطابع عل ما نفهم لا يصح وجوده بيد غير الوزير كما هو معهود في الدول الإسلامية حتى إلى الآن في الباب العالي. والأظهر أن ذلك يشير إلى إخراج نسخ متعددة من مطبعة حجرية لتبليغها إلى أهل الولايات ورؤوس الواحات. أما الخطوة الثالثة النهائية فلنا عليها دليل مما أورد لساد الدين ابن الخطيب في كتابه المترجم بالإحاطة في أخبار غرناطة قال في ترجمة الشيخ أبي بكر القدسي ما نصه: وألف كتاب الدرة المكنونة في محاسن أسبطبونة وألف تأليفاً حسناً في ترحيل الشمس ومتوسطات البحر ومعرفة الأوقات بالأقدام ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دويدار وأرجوزة في شرح كتاب الفصح ورفع الوزير الحكيم كتاباً في الخواص وصنعه الأمدة وآلة طبع الكتاب غريب في معناه). هذه العبارة اكتشفها اثنان من علماء الإفرنج تمكنا منها بشرح طويل في جرنال آسيا سنة 1852 فأنتم ترون فضل عجم أوربا في البحث والتنقيب عن مآثر العرب. نعم إنهما أرادا تصحيح العبارة العربية من حيث استقامة الكلام وتصورا أن فيها بعض الالتباس والإبهام. فأخذ أحدهما يصحح الجملة الأخيرة بما ليس له محل من الإعراب فقال (كتاب باقي خواس وصنعة آلة طبع الكتب كتاباً غريباً في معناه) ولا يصح لنا أن هزأ بهم بسبب هذا التصحيح العليل السقيم وما فاته من الأعراض أما الجوهر هو أنهما اكتشفا هذا البرهان الدال على أن هذه الصناعة وجدت في أيام العرب ولو من باب النظريات العلمية إذ لم تجد لها للآن أثراً علمياً محسوساً ومن المعلوم أن الأمدة (جمع مداد) تحتاج لتركيب مخصوص لكي تخرج منها نسخ متعددة فلذلك كان المؤلف الأندلسي بين صنعتها وبين طبع الكتاب. ولما كان هذا الاستنباط البديع الغريب لم يسبق له مثال بالأندلس رأى صاحب الإحاطة وجب التنبيه على فضل الكتاب فقال: غريب في معناه. فأين أين ذلك الكتاب الذي ألفه القدسي ووصفه لسان الدين ابن الخطيب بأنه غريب في معناه.

لاشك أنه ذهب طعمة للنار حيثما علت كلمة الإسبانيين وطردوا المسلمين من تلك الديار فإنهم كانوا كلما وقع لهم كتاب مكتوب بحروف عربية قالوا هذا قرآن وبادروا لطلب الغفران بإحراقه بالنيران وبهذه الكتابة أحرقوا تسعة أعشار ونصف وثلث وربع وخمس وسدس وسبع وثمن وتسع الكتب العربية فلم يدك يخلص إلينا منها واحد في الألف وكانوا يتهافتون بارتياح وتقوى إلى ارتكاب هذه الجريمة الكبرى وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً حتى أن أحد كرادلتهم أحرق في يوم واحد بمدينة غرناطة نحو ألفَ ألف كتاب. وكان هذا الصنيع بعمل الإيمان.

جمهورية البرتقال.

جمهورية البرتقال. من الانقلابات السياسية الخيرة مناداة الأحرار في مملكة البرتقال بالجمهورية والقضاء على الملكية فأصبحت هذه الجمهورية ثاني جمهورية في أوربا ومنذ سنين لم يبايع بجمهورية مهمة في ممالك الأرض إلا في برازيل فكأن هذه المملكة وكانت في القديم تحت حكم البرتقاليين بدأت بنزع الملكية فحبت أمها الأصلية أن لا تقصر عنها في المطالبة بالحرية. فعم تغلب الأحرار أو الحزب الجمهوري على المحافظين بعد اضطرابات دامت سنين أدت إلى مقتل الملك كارلوس منذ نحو سنتين وعين ابنه عمانويل خلفاً له وها قد هاجر بلاده في الفتنة إلى جبل طارق مخافة أن تتناوله الأيدي بأذى كما تناولت من قبل أباه. ولما كانت للبرتقال صلة قديمة بممالك الشرق الإسلامي وحكومات العرب وكان هذا الانقلاب من الانقلابات التي لها علاقة كبرى بالتاريخ والاجتماع رأينا أن نأتي بنبذة قليلة من أحوالها السياسية والطبيعية عسى أن تكون منها بعض فائدة فنقول: البرتقال مملكة في الجنوب الغربي من أوربا يحدها من الجنوب والغرب البحر المحيط الأتلانتيكي أو بحر الظلمات ومن الشرق ومن الشمال مملكة إسبانيا ومنها ومن هذه المملكة تتألف شبه جزيرة أيبريا وتبلغ مساحتها السطحية ما عدا جزائر آمور ومادير 88954 كيلومتراً مربعاً وسكانها نحو ستة ملايين وعاصمتها لشبونة. ولا تفصلها عن إسبانيا تخوم طبيعية كأكثر الممالك وفيها أنهار جارية وجبال عالية وأعلى قممها الجبل المسمى رياسكا يبلغ ارتفاعه 1578 متراً وحرارة البلاد معتدلة تتجاوز في الصيف في مدينة قلمرية قويمبرا 31 درجة وأمطارها غزيرة في الشتاء قليلة في الصيف وأنهارها حسنة جارية في الجملة وأعظمها ما ينبع من أرض إسبانيا ومنها ما يجري في أرض البرتقال. وأصول سكان هذه البلاد مزيج من عناصر وشعوب كثيرة فمنهم سلتيون وإيبيريون ولاتينيون وسويفيون وفزيغوتيون وكثير من المغاربة والإسرائيليين وبعض الزنوج ففي لشبونة والكراف تقرأ إلى الآنفي سحنات البرتقاليين السواد مما يستدل على كثرة من كانوا يحملون من الزنوج إلى لشبونة خلال القرن السادس عشر (10 إلى 12 ألف زنجي كل سنة) وكثير من أهل البرازيل. والدين الرسمي في البلاد الكثلكة أما سائر الأديان فالظاهر أنها حرة يتسامح مع أهلها.

وتعد مملكة البرتقال من الممالك الدستورية وهي وراثية يتناوب الملك فيها ذكورها وإناثها وقد نشر دستورها الأول في سنة 1826 ثم عدل سنة 1852 والقوة التشريعية هي لمجلس الكورتس أو مجلس النواب والشيوخ والملك يصدق على ما يقرره ويتألف مجلس الأمة من مجلس الأعيان ومجلس نواب وعدد الأعيان 52 عضواً وراثياً و13 قسيساً و90 عضواً يعينون مدة حياتهم وفي مجلس النواب 138 منهم سبعة عن المستعمرات ينتخبون من الشعب مباشرة من الأشخاص الذين حصلوا على بعض الرتب والألقاب العلمية أو ممن لهم دخل سنوي يربو على ألفي فرنك. وللملك أن يدعو هذا المجلس أو يحله وهو يعين رئيس الأعيان ويصدق على تعيين رئيس النواب. والأمة تنتخب نوابها مباشرة ولا يسوغ للملك أن يتغيب عن المملكة أكثر من ثلاثة أشهر بدون أن يأذن له المجلس والوزارة مؤلفة من وزير الداخلية ووزير المعارف والفنون الجميلة ووزير المالية والعدلية والمذاهب ولحربية والبحرية والمستعمرات والخارجية والأشغال العمومية والتجارة والصناعة. وتقسم البلد إلى إحدى وعشرين مقاطعة ولكل واحدة عامل يعينه الملك ولكل ولاية مجلس عام انتخابي ولجنة إجرائية. وهذه البلاد زراعية وأرضها موزعة كثيراً في الشمال وليست كذلك في الجنوب على أن عدم النظام في تقسيم الأراضي وهجرة السكان أضرت بالبلاد ضرراً بالغاً. وأهم غلات البلاد الكرم تكاد تكون زراعته عاماً ومنه يخرج الخمر الجيد والحبوب تكثر في الشمال كما تكثر الغابات والأشجار المثمرة في الجنوب. وتكثر فيل تربية الماشية ودود الحرير والنحل. ولها موارد عظيمة من الصيد. ومعادن البلاد كثيرة في الجملة ومنها الثمين إلا أن الفحم الحجري لا أثر له فيها ويكثر الملح في شطوطها البحرية وفيها عدة ينابيع معدنية يستفاد منها أكثر مما تستثمر مناجمها. والسواحل هي المراكز الصناعية في البلاد ومنها أعمال الحديد والآلات الحديدية وصنع السكاكين والمدى والنسج والغزل والدباغة والنجارة ومعامل القفافيز (الكفوف) والأحذية والدانتلة والمربيات والتبغ وغيره والخدمة العسكرية فيها إجبارية تكون 25 سنة منها ثلاث سنين في الجيش عاملة وخمس في الرديف الأول ويخدم فيها الجندي شهراً واحداً كل سنة ليتعلم. وقدرت واردات الحكومة في السنة الماضية بنحو 15. 855. 000 جنيه ونفقاتها

بنحو 16. 157. 000 ويبلغ دينها 121. 600. 000 جنيه ووارداتها زهاء خمسة عشر مليون جنيه وصادراتها نحو نصف ذلك والتعليم الابتدائي إجباري فيها لكنه كما في المملكة العثمانية اسم بلا جسم حتى بلغ عدد الأميين فيها منذ عشرين سنة 87 في المئة وهو مما لا نظير له في مملكة أوربية صغرى وفيها مدارس عالية كثيرة منوعة وعدد جيشها العامل 30 ألفاً وتستطيع أن تجند 250 ألفاً أيام الحرب ولها بحرية فيها 6000 ضابط وعسكري. وللبرتقال مستعمرات عظيمة لكنها جزء من مستعمراتها القديمة وكانت البرازيل من جملتها أيام كان للبرتقال القدح المعلى في استعمار أفريقية وجنوبي آسيا. ويبلغ مجموع مساحة مستعمرات البرتقاليين الآن 3. 850. 000 كيلومتر مربع فيها نحو عشرين مليون ساكن. فلها جزائر آسور ومادير في المحيط الآتلانتيكي وجزائر الرأس الأخضر وسنغامبيا البرتقالية وغينة والقديس توما وجزيرة الأمير في أفريقية الغربية ولانكانا وكابندا ثم أنكولا وبنكولا وموساميد. ولها في أفريقية الشرقية مملكة موزنبيق ونصف تيمور وكامبنج مما يدل على أن جزائر السوند كان يملكها الملاحون الأوائل من البرتقاليين وكانت هذه المملكة في القديم جزءاً من لوزيتانيا استعمر الفينيقيون شطوطها ثم استولى عليها الرومان خمسة قرون ونصفاً وتقلبت بها الحال حتى أوائل القرن الثامن للميلاد فاستولى عليها المسلمون وضموها إلى مملكة الخلافة ولم يلبث ملوك النصارى في أستوريا أن توسعوا في فتوحهم إلى جنوبي الجبال وطردوا المغاربة إلى غاليسيا واحتلوا لشبونة سنة 953. ومن ذاك العهد نشأ اسم برتقال لمقاطعة بورتو واشترك البرتقاليين في محاربة المسلمين وإجلائهم عن الأندلس وهزموا المسلمين كما يقول لاروس في معجمه في معركة سانتارم (1184) وساعدوا أهل قشتالة في حرب لاس نافا دي تولوز (1212) وسالادو (1340). ونشأ للبرتقاليين بفضل عقول أمرائها بحرية عظيمة وقام منها سياح عظام منهم الذين اكتشفوا جزائر مادير والرأس الأخضر والكونغو ورأس الرجاء الصالح كما وصلوا إلى جزائر مالابار والصين والهند واليابان. وتجارة العطور والأباريز والأفاوية أغنت البرتغال قديماً في الزمن الذي أخذت فيه تعتني أيضاً بالآداب والصناعات. وقد كان لديوان التفتيش الديني فيها كما كان في إسبانيا شأن يذكر وأسس فيها سنة 1526. وكان من وفاة ملكها الدون سباستيان في وقعة القصر الكبير أن خلت المملكة في يد فيليب الثاني ملك إسبانيا إلا

أنها حاولت أن تتخلص منه أما هو فجعل بلادهم خديوية قشتالية ومنعهم من الإتجار مع شذاد الآفاق من أهل بلاد القاع (هولاندة) فأخذ هؤلاء يجلبون الأباريز والأفاوية تواً من بلاد الشرق وانكسر الأسطول البرتقالي سنة 1601 في بانتام من أعمال جاوة واستولى الهولانديون على جزائر السوندوبنوا باتاويا وحلوا في سيام وسيلان واليابان وعلى شواطئ غينية وغويان. وفي سنة 1640 انتفض إقليم كاتالونيا على صاحب إسبانيا فنزعت البرتقال يدها من الحكم الإسباني وبايعت دوك باراكانس ملكاً فلما لمت المملكة البرتقالية شعثها حاربت إسبانيا خمساً وعشرين سنة واستعادت بعض مستعمراتها إلا أنها تركت بومباي للإنكليز سنة 1661 وفي الربع الأول من القرن التاسع عشر انفصلت برازيل عنها. وإذا مالت برتقال إلى إنكلترا أكثر من فرنسا لم تساعدها هذه أكثر في أزماتها السياسية وقد قامت في القرن الماضي بإصلاحات اقتصادية مهمة منها وضع أصول الكاداسترا على الأراضي وإلغاء الرقيق من المستعمرات وابتياع أملاك الرهبان وتمديد الخطوط الحديدية وإصلاح أصول المالية. والدليل على أن المسلمين حكموا تلك البلاد مدة سريان ألفاظ كثيرة إلى لغتهم من العربية وهي أقل مما في لغة أهل قشتالة وقد ألف دوزي المستشرق الهولاندي كتاباً في الألفاظ الذي أخذتها البرتقالية والإسبانية من العربية ويبلغ عدد المتكلمين بالبرتقالية في برتقال وبرازيل وجزائر الرأس الأخضر وغيرها من المستعمرات البرتقالية في المحيطين والهند الصينية نحو عشرين مليوناً. وكانت هذه البلاد جزءاً من الأندلس ويطلق عليها اسم البرتقال وهذا هو اسمها في كتب العرب لابورتغال أو بغير واو وعاصمتها لسبون التي يذكرها العرب باسم لشبونة وأشبونة والأشبونة ولا تزال في مدينة شنترة حصون العرب على قمم الجبال وبجانب بعضها مسجد باقية آثاره إلى الآن وعلى مقربة منه قبر دفن فيه القوم عظاماً وجدوها ولم يعلموا أنها للمسلمين أو للنصارى فوضعوا على رجام القبر صورة للصليب وصورة للهلال والقسم الذي كانت تسكنه العرب في لشبونة يعرف عندهم باسم الحمة لا بتشديد الميم ويسميه البرتقاليون الآن من باب التحريف الفاما ومنظر هذه المدينة يشبه المدائن الشرقية.

ومن أمهات مدن البرتقال مدينة كوييمبرا المعروفة في كتب العرب باسم قلمرية وهي الآن دار العلم ومحط المعارف في بلاد البرتقال. ومنها مدينة بورتو واسمها في كتب العرب برتقال وبها يسمى هذا القطر برتقال كما نقول نحن الآن طرابلس وحاضرتها طرابلس وتونس وحاضرتها تونس وكما نقول بني سويف وبندرها بني سويف والفيوم وبندرها الفيوم والمنيا وبندرها المنيا وهكذا في أسيوط وقنا. وفي مدينة البرتقال هذه آثار كثيرة ولكن العرب لم يخلفوا فيها شيئاً يذكر لأنهم كانوا يجيئونها فاتحين ثم يجوزونها إلى غيرها من البلاد ولم ترسخ فيها قدمهم وقد تألف التجار على إنشاء دار البورصة على الطراز العربي ونقشوا أكبر بهو فيها بحسب الأسلوب العربي وزينوه بالزخارف وكتبوا في ضمن رسومها البديعة أشعاراً عربية وفي جميع الطرازات هذه العبارة (عز لالانا السلطانة مريم 2) يريدون عز لمولاتنا السلطانة مريم الثانية اهـ. أما القول بأن العرب كانوا يجيئون البلاد فاتحين ثم يجوزونها إلى غيرها فمسألة فيها نظر بعد أن قال ياقوت أن شنترة ملكها الإفرنج (أي من المسلمين) سنة 543 ونسب إليها قوم من أهل العلم. ولا يخرج من دولة علماء إلا إذا رسخت أقدام حكومتها في البلاد. وقال في شنترين أنها مدينة متصلة الأعمال بأعمال باجة في غربي الأندلس ثم غربي قرطبة وعلى نهر تاجه قريب من انصبابه في البحر المحيط وهي حصينة بينها وبين قرطبة وعلى نهر تاجة قريب من انصبابه في البحر المحيط وهي حصينة بينها وبين قرطبة خمسة عشر يوماً وبينها وبين باجة أربعة أيام وهي الآن للإفرنج ملكت سنة 543. وقال في قلمرية: بضم أوله وثانيه وسكون الميم وكسر الراء وتخفيف الياء مدينة بالأندلس وهي اليوم بيد الإفرنج. وفي لشبونة ويقال لها أشبونة بالألف وهي مدينة يتصل عملها بأعمال شنترين وهي مدينة قديمة قريبة من البحر غربي قرطبة وفي جبالها البزاة الخلص ولعسلها فضل على كل عسل الذي بالأندلس يسمى اللاذرني يشبه السكر بحيث أنه يلف في خرقة فلا يلوثها وهي مبنية على نهر تاجه والبحر قريب منها وبها معدن التبر الخالص ويوجد بساحلها العنبر الفائق وقد ملكها الإفرنج في سنة 573 وهي فيما أحسب في أيديهم إلى الآن.

وأصرح من هذا ما قاله المراكشي قال وفي الحد المتوسط ما بين الجنوب والغرب من المدن مدينة طليطلة وكوطنكة وإقليج وطلبيرة ومكادة ومشريط ووبذ وإبلة وشقوبية هذه كلها يملكها الإدفنش وتسمى هذه الجهة قشتالة وتجاور هذه المملكة فيما يميل إلى الشمال قليلاً مدن كثيرة أيضاً وهي سمورة وشلمنكة والسبطاط وقلمرية هذه كلها يملكها رجل يعرف بالببوج وتسمى هذه الجهة ليون وفي الحد الغربي الذي هو ساحل البحر الأعظم أقيانس مدن أيضاً منها مدينة لشبونة وشنترين وباجة وشنترة وشنياقو ومدينة يابرة ومدن كثيرة ذهبت عني أسماؤها يملكها رجل يعرف بابن الريق. وذكر في سيرة ابي يعقوب يوسف عبد المؤمن أنه خرج سنة 579 قاصداً غزو الأندلس قال: فقصد مدينة شنترين أعادها الله للمسلمين وهذه المدينة أعني شنترين بمغرب الأندلس وهي من أمنع المدائن يملكها وجهاتها مع بقلاد كثيرة هناك ملك من ملوك لنصارى يعرف بابن الريق وقد فصل ما وقع بينهما من الهزائم وكيف خرج أبو يعقوب وحمل في محفة وكيف هرب أبو الحسن المالقي الذي كان سبب هزيمة المسلمين إلى مكة ابن الريق فآواه صاحبه وأكرمه إلى أن بدا له من سوء رأيه أن يكتب كتاباً إلى الموحدين يستعطفهم وأدرج في ضمن ذلك فصلاً يذكر فيه ضعف المدينة فأطلع الرجل الموكل به وكان يعرف العربية سراً فقبض عليه فشاور ابن الريق قسيسه في أمره فأشاروا عليه بإحراقه فحرقه. وذكر المراكشي أنه كان يملك الثغر الذي من الجهة الشمالية من الأندلس (بعد انقطاع الدعوة الأموية عنها) وبعض المدن لمجاورة للبحر الأعظم ابن الأفطس المتلقب بالمظفر ثم كان له ابن اسمه عمر يكنى أبا محمد تلقب بالمتوكل على الله كان يملك بطليموس وأعمالها وبابرة وشنترين والأشبونة قال: اتصلت مملكته إلى أن قتل المرابطون أصحاب يوسف بن تاشفين ابنه المتوكل في غزة سنة 485 وكانت أيام بني المظفر بمغرب الأندلس أعياداً ومواسم وكانوا ملجأ لأهل الآداب وفيهم يقول ذو الوزارتين أبو محمد عبد المجيد بن عبدون من أهل مدينة يابرة قصيدته المشهورة التي مطلعها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور وبهذا علمت أن العرب استولوا على برتقال مدة لا تقل عن مائة وخمسين سنة فنبغ فيها رجال منهم وخلفوا آثاراً لا تزال شاهدة بفضل تقدمهم في العمران وأن هذه المملكة التي

انقطعت الآن بينها وبيننا أنواع الصلات كانت من جملة ممالك الشرق وإن كانت غربية وأن لسانها اقتبس من لساننا وأن التعصب الذميم الذي تم على يد القساوسة منذ القديم كان من المعجلات في نزع الملكية وقيام الجمهورية الآن. وقد كان أول عمل للجمهوريين طرد جماعة اليسوعيين من بلادهم واستصفاء الأديار والقضاء على الرهبان والراهبات لأنهم لم ينسوا بعد مسعى رجال الدين في مقتل فرر رجل الإسبان الحر في العام المنصرم قتلوه بواسطة الحكومة على أبشع صورة عرفت في عصر النور والمدنية فلما ظفر الأحرار بالمحافظين قضوا القضاء المبرم عليهم وعلى تقاليدهم ليعرفوهم ويعرفوا الحكومات التي تعمد إلى الشدة في معاملة أمتها أن الناس لا يحكمون إلا باستمالة القلوب وأن القوة إذا خيف منها زمناً فقد يأتي آخر يستهين بها أهله فيستميتون ويستبسلون. والضغط لا يزيد النفوس الأبية إلا مضاء. وهكذا أهين رجال الدين ولاسيما اليسوعيين وطردوا أو كادوا من البرتقال كما طردوا من فرنسا قبل وحرم عليهم دخول سويسرا وتوشك سلطتهم أن تنتزع أيضاً في إسبانيا لمتاخمتها أرض البرتقال وإذا صحت عزيمة البلادين المتجاورين على إنشاء مملكة واحدة كما هو فكر بعض الخاصة هناك تصبح جمهورية إسبانيا والبرتقال وأحر بها أن تسمى جمهورية أيبريا من الحكومات القوية ذات الشأن العظيم، وربك يفعل ما يشاء ويختار.

رحلة إلى قلمون الأسفل

رحلة إلى قلمون الأسفل على أربع ساعات من شمالي دمشق واد منبسط بين جبلين متسامتين طوله من سفح ثنية العقاب إلى مزرعة الناصرية لا يقل عن ست ساعات وعرضه ساعتان تربته بيضاء ورباعه مخصبة ومياهه موفورة بحيث لو حفرت عشرة أذرع أو أكثر ينبط الماء غزيراً مع أن الجبلين المتناوحين من شمال الوادي وجنوبه لا شجر فيهما ولا غابة تزينهما. ولو كانا مغروسين بالسنديان والزان والبلوط والشوح لكان هذا الوادي بأمطاره الغزيرة وريه المتواصل أشبه بأخصب السهول الشندشية ولذا كان جبل قلمون ضعيفاً بريه وإن لم يكن كذلك بزكاء تربته والمعالي والأسفل أو التحتاني منه متشابها وإن كانت سهوله أخصب من آكامه وتلعاته ومياه الأعالي أعذب من مياه الأسفل. وفي قلمون الأسفل من القرى والأمهات ما يطلق على أمثاله في ديار الغرب اسم بلدة وذلك مثل الرحيبة وجيرود والمعظمية والقطيفة وضمير وكلها ذات تاريخ قديم وعمران طبيعي وهي بكثرة نفوسها يزيد عمرانها اليوم كلما انبسط السلام فيها وأمن أهلها على مواشيهم من غارات أشقياء الصفا وجبل الدروز المجاورين لهم من جهة الجنوب والجنوب الشرقي على مسيرة يوم من هذه البلاد. ولقد كان عرب الصفا واللجاة وجبل حران يغزون من سنين أهل قرى القلمون الأسفل في عقر دارهم ويرعون زروعهم وينهبون ناطقهم وصامتهم ولذلك ضعف عمران تلك الديار حتى على قيد غلوة من القصبات والدساكر فأصبحت إلا قليلاً مزارع حقيرة ومداشر. وقلت الأشجار فيها حتى في ضواحي الثرى وعلى شواطئ الجداول والأنهار لأن الفلاح أصبح لا يفكر إلا في رزق سنته فإذا نجا عامه من شرور النهب فهو سعيد آمن وإلا فيقضى عليه أن يعيش في فقر ليس بعده فقر وذلة هي الموت بعينها أو يهيم على وجهه إلى إقليم آخر يكون أقرب إلى الأمن والأمان يطلب معاشه بالعمل مأجوراً وكان يستطيع أن يعيش أميراً من أرض أورثه إياها آباؤه وأجداده لو كان له حكومة تفكر فيه وتدفع عنه بوائق الدهر وعواديه وتعرف أن ما تتقاضاه إياه من الضرائب والإتاوات ليس إلا لتحميه. ومن الغريب أن الأمن ما كاد يرفع رواقه في هذه الديار وتنتظم أصول الإدارة بالنسبة لما عليه في القرن الماضي مثلاً حتى سرت إلى الأهلين هنا نغمة الهجرة إلى أميركا فغدا هذا الجبل بمن هجره شقياً وكان يسعد بهم لو توفروا على خدمة أرضه واستثمار شجره

واستنبات غلاته وتعدين مناجمه والعلم لاستبحار عمرانه ولا يقل عدد المهاجرين من هذا الوادي عن خمسمائة من أصل نحو عشرين ألف نسمة وكل يوم يزيد نازحهم وقلما يعود أحد منهم. يذهب الشبان الأقوياء ويبقى في الأكثر الأطفال والكهول والشيوخ حتى كادت تسوء الظنون في مستقبل هذه البلاد وهي إذا لم توفق إلى النهوض بنشاط شبانها هيهات أن تعمر بتكاسل شيوخها وكهولها وخمولهم. قلنا تعدين مناجمها لأن جبالاً من مثل هذه لا تخلو من مناجم فإذا كانت بقعة واحدة هي جيرود وما إليها تحتوي في جملة ما تحتوي من الغلات والثمرات على أربعة أصناف من العناصر التي تقل أو لا توجد في غيرها فما بالك لو بحث في قرى هذا الجبل وحده عما يكنه صدره من الخيرات الطبيعية. نعم في جوار جيرود على مسافة ساعة منها المملحة التي يصدر منها الملح الجيد للطعام وتكفي ألوف القناطير التي يمكن استخراجها من سورية بأجمعها ولذلك يكتفى باستخراج كمية قليلة منه لأن في جوار تدمر وحماة وصفد مملحات أخرى ينتفع بملحها دع عنك ما في سائر الأقطار العثمانية من هذا الجزء المفيد. وبالقرب من المملحة معدن الجبس أو الجبصين ينبشونه من الأرض قطعاً مستطيلة بطول شبر أو شبرين وعرض ثلاثة أصابع وثخن إصبعين يستخرج العامل القنطار الشامي منه بسبعة قروش وقد لا يستخرج قنطاراً منه في اليوم الواحد فيأخذه ضامته من إدارة الغابات أو المعادن ويجعله في تنور كبير يحرقه وعندها يستحيل إلى جبس يدخل في الأبنية والتبليط والنوافذ وغير ذلك. هذان هما المعدنان أما النباتان فهما نبات القلي أو الإشنان يقطعونه ويجعلونه في حفر يوقدون فيها النار فيستحيل إلى قلي. ومن شواطئ المملحة التي لا يقل طولها عن ساعتين وعرضها عن ساعة ينبت السل أو قش الحصر وهذا القش يخرج في بقاع أخرى ولكن أحسن القش ما خرج من جيرود ولذلك ترى كل حصري في دمشق يحرص على أن ينسج حصره من قش جيرود لمتانته وروائه. فبلاد هذا بعض مغلها الطبيعي خصت بزكاء المنبت وجمال الطبيعة تخرج منها الحبوب على أنواعها والثمار على اختلاف أشكالها ثم يظل أهلها في جهالة على قربهم من دمشق أم

المدن السورية بل عاصمة هذه البلاد العربية وذلك لقلة المواصلات بينهم وبينها ولأن الحكومة لا يهمها إلا أن تأخذ من أهلها حقوقها ولا تقوم بما يجب عليها من حقوق. ولو كان الهالي في قلمون والمرج والغوطة يفكرون في مستقبل بلادهم حتى التفكير ويحبون أن يبقى أولادهم لهم لا أن يبروهم لينزحوا إلى أميركا ويتشتتوا في البلاد لطلبوا من الحكومة امتياز سكة حديدية ضيقة كالمعروفة في مصر بالسكك الحديدية الزراعية وبذلك تصدر الصادرات على أيسر وجه وتتساوى في الأبعاد القرى القاصية والدانية. بالسكك الزراعية أحيي موات مصر وقربت مسافاتها والتحمت أجزاؤها وإذا كان يتعذر الآن ربط دمشق ببغداد بسكة حديدية تجتاز الغوطة والمرج وقلمون والقريتين وتدمر إلى العراق لاختلاف المصالح السياسية فلا اقل من أن يقوم أغنياء دمشق وهذه الأقاليم ينشئون سكة ضيقة تصل بين هذه القصبات بوصلة العمران ففي الغوطة من أمهات القرى مثل دومة وعربيل وجوبر وسقبا وفي المرج مصل ضمير وعتيبة وعذراء وفي قلمون مثل يبرود ودير عطية وقارة والنبك وجيرود والرحيبة والقطيفة وغيرها ما يجدر بأرباب الأموال أن يتدبروه ويضموا أشتات هذه الأجزاء المتفرقة التي لا تجد بينها طريقاً معبداً ولا بريداً ولا سلكاً برقياً ولا طبيباً ولا صيدلياً ولا كاتباً ولا حاسباً بل تجد فيها الناس يعيشون بعيدين عن محيطهم لا يعرفون عنه أكثر مما يعرف ابن السودان عن سكان مراكش في حين ترى المسافات قريبة وأبعد قرية عن الفيحاء لا تبعد مائة كيلومتر أو يوماً وبعض يوم على ظهور المطايا. مثال ذلك أننا قصدنا إلى هذا الجبل يوم وقفة عيد الصغير فكان الفلاحون يسألوننا كلما وقفنا لنريح مركباتنا فيما إذا كان ذاك اليوم من رمضان أو أنه رؤي هلال العيد وثبت في دمشق أما من كنا نسألهم عن فتنة جبل الدروز فكانوا لا يعرفون من أمرها إلا أن الحكومة جيشت جيشاً عليهم ولا يعرفون ما تبع ذلك من تأديب الدروز على حين هم أحق الناس بالفرح بهزيمة الأشقياء لانتشار ظل الأمن في تلك الربوع ولأنهم طالما تأذوا بهم ونهبت مواشيهم وقتل رعاتهم وزراعهم. ولا سبيل إلى عمران هذه البلاد إلا بالأمن والعم فمن جملة أسباب الأمن مد الخطوط الحديدية الزراعية التي تقل نفقاتها وتكثر فوائدها المادية والمعنوية فتتضاعف أثمان

الأراضي هنا كما يتضاعف دخلها وتكثر أشجارها ومواشيها والعلم لا ينتشر إلا إذا هب أعيان البلاد وعقلاؤها إلى إنشاء مدارس لأبنائهم خاصة تجري على غير الخطة التي يسير عليها ديوان المعارف. تسير في التعليم على طريقة يتعلم بها الفلاحون لغتهم فقط بحيث يقرؤون ويكتبون فيها في الجملة ويعرفون المبادئ الأولى من الحساب والطبيعة والنبات والحيوان وشيئاً من تربية المواشي وحفظ الصحة والرياضة البدنية وأصول الدين. يعلمون كل ذلك بالعمل أكثر من النظر. فلو قامت في كل قرية من قرى قلمون مدرسة ابتدائية كالتي أنشأها في جيرود محمد باشا الجيرودي ووقف عليها بستاناً فيه صنوف الثمار لا يقل ريعه السنوي عن عشرة آلاف قرش لأصبح قلمون بعد عشرين سنة أرقى جبال سورية لما فطر عليه أهله من الذكاء والنشاط. نعم استحق الزعيم المنوه به كل شكر لأنه جرى على غير سنة كبرائنا في السخاء فكان فيما نظن ثاني رجل في هذا القرن الرابع عشر وقف على العلم في سورية مثل هذا الملك الذي لا يقل ثمنه الآن عن ثلاثة آلاف ليرة. والرجل الأول فيما نذكر محمد باشا المحمد من أمراء عكار وقف على مدرسة دينية هناك ما يكفيها. أما سائر أعياننا وأغنياءنا فلم يوفقوا إلا قليلاً إلى وقف ما يوليهم في دنياهم وآخرهم فخراً وذخراً ولعل أعيان هذه البلاد من الأسر العريقة في المجد تقدم بعد الآن بين يدي نجواها من البذل للعلم ما تقر به العين فيحذون بذلك حذو أغنياء الأقاليم في مصر الذين نهضوا بها وما أنشئوه لفلاحيهم من الكتاتيب في بضع سنين ما لا تنهض به أمة تنتظر من حكومتها أن تعلمها في قرن أو قرنين. وليت شعري متى تنبعث من دمشق نفحة من تلك الروح التي انبعثت في القاهرة ففاضت على أقاليم مصر فأحيتها حتى يكون حظ المصرين واحداً في النهوض اليوم كما كان كذلك في القرون الوسطى.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات كتاب المثنى قال ابن ساعد: إن علم اللغة هو نقل الألفاظ الدالة على المعاني المفردة وضبطها وتمييز الخاص بذلك اللسان من الدخيل فيه وتفصيل ما يدل على الذوات مما يدل على الأحداث وما يدل على الأدوات وبيان ما يدل على أجناس الأشياء وأنواعها وأصنافها مما يدل على الأشخاص وبيان الألفاظ المتباينة والمترادفة والمشتركة والمتشابهة. ومنفعة الإحاطة بهذه المعلومات خبراً طلاقة العبارة والتمكن من التفنن في الكلام وإيضاح المعاني بالألفاظ الفصيحة والأقوال البليغة. ولقد طبعت كتب كثيرة في اللغة ولا يزال يظفر بأشياء لم يكتب لها الظهور ومما وقع إلينا من مكتبة أحد علماء هذه الحاضرة نسخة من كتاب المثنى تأليف حجة العرب أبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي الحلبي الذي ذكره السيوطي في بغية الوعاة فقال أنه عبد الواحد علي أبو الطيب اللغوي الحلبي الإمام الأوحد. قال في البلغة له التصانيف الجليلة منها مراتب النحويين، أطياف الإتباع، الإبدال، شجر الدر، وقد ضاع أكثر مؤلفاته وكان بينه وابن خالويه مناقشة مات بعد الخمسين وثلثمائة، وقال الصفدي: أحد العلماء المبرزين المتقنين لعلمي اللغة والعربية أخذ عن أبي عمر الزاهد ومحمد بن يحيى الصولي وأصله من عسكر مكرم قد حلب وأقام بها إلى أن قتل في دخوله الدمستق حلب سنة إحدى وخمسين وثلثمائة. وكتابه هذا في 130 ورقة أكبر من الربع عليه حواش وتعليقات مفيدة كتب على الحاشية أن أكثرها بقلم ابن الشحنة وابن مكتوم القيسي تلميذ أبي حيان وفيه نقص من وسطه ونقص قليل من آخره إلا أنه لا يحول دون الانتفاع منه لأن النسخة القديمة على ما يظهر وهي حسنة الخط بالشكل الكامل والصحة غالبة عليها بحيث يسهل تمثيلها بالطبع دون الرجوع إلى الأمهات لتصحيح ألفاظها وإثبات الروايات المعتمدة في ضبطها وليس في الكتاب تاريخ نسخه ويرجح أنها مما كتب في القرن السابع أو الثامن. جاء في مقدمته ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد النبي وعلى آل محمد. قال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: أنه ليس شيء من كتبنا وإن قصرت

أبوابه وقلت أوراقه وضمر حجمه وصغر جسمه بأقل فائدة في معناه للمتعلم ولا أنر عائدة في مغزاه على المتفهم من غيره وإن أسهبنا فيه وأغرقنا في معانيه حتى طارت أصوله وانشرحت فصوله بل كان كل واحد بحمد الله على غاية ما يمكننا من الكمال فيما اقتصرنا به عليه ونهاية التمام فيما انتهينا به إليه وما من شيء توخيناه من ذلك ولا تعمدناه إلا لغرض الإفهام تحريناه وحرصنا على الإعلام الذي أردناه وكل من الله سبحانه وبه. فإذا كانت بغيتنا فيما نعانيه وإرادتنا فيما نعيده ونبديه معونة اللقن المستفيد والتقريب على ذي الفهم البعيد وإلحاق الكهام البليد بالذكي الحديد وكان ذلك لوجه الله خالصاً موفوراً لا نريد به جزاءاً ولا شكوراً فإنا غير قانطين من تفضله جل اسمه علينا بالإرشاد وتوفيقه إيانا للسداد والله عند الظن عبده وكافل لمن استرشده برشده ولا قوة إلا بالله. ونحن قاصدون في كتابنا هذا قصد ما ورد من كلام العرب مثنى في الاستعمال تثنية لازمة ومبتدئون بشرح وجوهه وتقصيها وذكر ضروب توسعهم فيها فنقول أن جميع ما ورد على ذلك من الأسماء عشرة اصناف الاثنان غلب إحداهما عليهما لقب واحد منهما يجمعهما لقب واحد الاثنان ثنيا باسم أب أو جد أو إحداهما ابن الآخر فغلب اسم الأب الاثنان اللذان لا يفردان من لفظهما الاثنان في اللفظ يراد بهما واحد الاثنان يثنيان وإن اكتفي بأحدهما لم ينقص المعنى وأما ما ورد من ذلك من الأفعال من الأفعال فصنفان من الفعل المبني على صيغة التثنية والمراد به تكرير الفعل. الفعل يجيء لفظه لاثنين ومعناه واحد ونحن نبوب هذه الأبواب ونأتي على ما فيها أو جمهوره إن شاء الله. هذا باب الاثنين غلب اسم أحدهما على اسم صاحبه قال الأصمعي وأبو عبيدة قولهم سار في الناس سيرة العمرين إنما يريدون أبا بكر رضي الله عنهما وقال الفراء محو ذلك وسمع معاذاً الهراء يقول لقد قيل سنة العمر ين قبل عمر بن عبد العزيز وجاء في حديث أنهم قالوا لعثمان رضي الله عنه نطلب منك سيرة العمرين فهذا يدلك على صحة ما قلنا. وهنا أخذ المؤلف يورد الأمثلة في هذا الباب مثل الحنتفان والزهدمان والبجيران والعتبان والعبدان والحيدان والعقامان والنافعان والشريفان والعشاءآن والأمقسان والقربان والقمران والمربدان والطلحيتان وأبانان والنيران والمشرقان والضمران والدحرضان والكيران والموصلان والصباحان والبصرتان والغدوان والمطران. وشرحها شرحاً موجزاً واستشهد

لها بكلام العرب وأورد في باب التثنية لاتفاق اسميهما السعدان لسعد بن زيد مناة بن تميم وسعد بن زيد مناة ين تميم والمروان لمرو الشاهجان ومرو الروذ. والفرقدان والقطبان والناظران والوريدان والأجدلان والذراعان والمسجدان قال بعد الأمثلة الكثيرة في هذا الباب يفوت الإحصاء ويدخل فيه الأذنان والعينان والجبينان والحاجبان والخدان والوجنتان واللحيان والعارضان وما أشبه ذلك. وقال في بابا الاثنين غالب نعت أحدهما على نعت صاحبه مثل الأسمران الخبز والماء والأسودان التمر والماء والأخضران البحر والليل والأبيضان الخبز والماء والباكران الصبح والمساء ويقال لهما الرائحان والأبيضان الشحم والشباب. وقال في باب الاثنين جمعاً في التثنية وأورد لفظاً الأقهبان الفيل والجاموس الأحمران الخمر واللحم والأصفران والأسودان والأزهران والأيهمان والأعميان والأطيبان والأخبثان الخ. وأتى على هذا النحو في تفصيل الأبواب تفصيلاً حسناً وشرحها شرحاً أحسن. وقال في الإتباع الذي في أوله الألف: قال أبو ملك تقول العرب في صفة الشيء بالشدة أنه لشديد أديد وهو من الأد وألأد القوة إلا أن الأديد لا يفر قال الراجز: نضوت عني شرة وادا ... من بعد ما كنت حملا نهدا ويقال جيء به من عيصك وآيصك أين من حيث كان ولم يكن فالعيص الأصل والأيص إتباع الخ. وقال في الإتباع الذي في أوله الباء يقال أنه لحسن بسن وأنه لكثير بثير وأنه قليل بليل الخ وقال في التوكيد الذي في أوله الباء: يقال فر وله بصيص وأصيص وبصيص من الفزع وكله بمعنى الصوت الضعيف ويقال أنه لغض بض وغاض باض وهي الغضاضة والبضاضة قال أبو زيد والبضاضة رقة البشرة وقال الأصمعي هي رقة البشرة والبياض وقال أبو زيد قد يكون الاسم بضاً ويقال أن لسر بر وسار بار وأنهم لسارون بارون وسرون برون قال الشاعر: أخوة ما علمت سرون برون ... فإن غبت فالذئاب جياع وهكذا أتى بباب الإتباع على حروف المعجم فاستوفاه ولم نعثر في شيء من كتب اللغة المطبوعة على أكثر استيفاء لهذا المبحث من هنا. وفي آخر هذا الفصل البديع انتهى

بحسب الظاهر الكتاب. وجاءت بعده قطعة أخرى في اللغة على تلك الشاكلة ولكنها تكاد تتجاوز ثلاثة أرباع الكتاب فمن أمثلته: الباء والشين يقال أرب على القوم وأرش عليهم إذا حمل عليهم ووشى بهم وهو يؤرب على القوم تأريباً ويؤرش تأريشاً ويقال غلام بلبل وش لشل إذا كان خفيفاً ظريفاً. وقال في الباء والفاء: أبو زيد يقال خذه بابانه وخذه بافانه أي بزمانه وحينه وأنشد: فهلا بافان وفي الدهر غرة ... تزور وفي الأيام عنك عقول وعلى هذه الصورة كانت سياقة هذه الأبواب المفيدة ولها نظائر من كتب اللغة المطبوعة. وهاك نموذجاً آخر: الجيم والقاف قال الأصمعي: يقال لكل ذي حانوت كربج وكربق والكربج والكربق أيضاً اسم الحانوت وهو فارسي معرب وسئل عن كثير فقال كربجاً قال أبو حاتم يعني صاحب حانوت ويقال هو الفالوذج والفالوذق وأعطاني من الشعير أو الحنطة كيلجة وكيلقة. أبو عمرو يقال أنه لحسن الجسم وحسن القسم بمعنى واحد والقسم هو الجسم بعينه وأنشد: طبيخ نحاز أو طبيخ أمهية ... دقيق العظام سيء القسم أملط ويقال انباجت عليهم بايجة الدهر وانباقت عليهم بايقة وهي البوايج والبوايق أي الشدائد والدواهي قال الشاعر وهو الشماخ يرثي عمر رضي الله عنه: قضيت أموراً غادرت بعدها ... بوايج في أكمامها لم تفتق وفي الحديث لن يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوايقه أي دواهيه قال ابن ألأحمر: أخاف بوايقاً تسري إلينا ... من الأشياع سراً أو جهارا ومن الأمثلة الكثيرة ما ورد في العين والنون الأصمعي يقول أعطيته إعطاء وانطيته إنطاء بمعنى واحد ومنه قول الأعشى: جيادك في القيظ في نعمة ... تصان الجلال وتنطا الشعيرا والدعفص والدنفص من الرجال الزري المنظر القميء ويقال عسل الذئب يعسل عسلانا وينسل نسلانا وهو ضرب من المشي تضطرب فيه متناه وفي التنزيل: فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون وشكا عمرو بن معدي كرب إلى عمر بن الخطاب رحمة الله عليه المعص فقال: كذب عليك العسل أي عليك بالعدو قال الشاعر:

عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل وهكذا تجد الكتاب من أوله إلى آخره سلسلة فوائد لغوية حرية بالتدبر والاستظهار ولو اتسع المجال لأكثرنا من الأمثلة وفيما أوردناه مقنع فعسى أن تصح عزيمة بعض الطابعين والمؤلفين على نشره ليضاف إلى المجموعة اللطيفة التي طبعت مؤخراً من كتاب اللغة مثل كتاب فقه اللغة للثعالبي والألفاظ الكتابية للهمذاني وتهذيب الألفاظ لابن السكيت والنوادر لأبي زيد والأضداد لابن بشار الأنباري والفصيح لثعلب وذيله للبغدادي وفصيح اللغة للهروي وفعلت وأفعلت للزجاج ومبادئ اللغة للإسكافي وأساس البلاغة للزمخشري والمقصور والممدود لابن ولاد وغير ذلك من المختصرات والمطولات كرسائل الدارات للأصمعي ورأس تلك الكتب الممتعة المخصص لابن سيدة المطبوع والمحكم له الذي يرجى طبعه عما قريب. أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك من شجون الكلام تأليف. لسان الدين ابن الخطيب طبع في بلرم صقلية سنة 1910 ص68. احتفل علماء الطليان في المشرقيات بمرور مئة سنة على مولد ميشيل آماري المستشرق الإيطالي الذي صرف حياته كلها في درس التاريخ الإسلامي ولاسيما ما كان متعلقاً منه بجزيرة صقلية التي دانت للمسلمين زمناً طويلاً فوضعوا لذلك كتاباً أتى كل واحدة بنبذة تاريخية أو اجتماعية نشرها. ومن جملة ما نشر هذا الجزء من تاريخ ابن الخطيب. تشره حسن حسني أفندي عبد الوهاب أستاذ التاريخ في المدرسة الخلدونية بتونس بدعوة مكن صديقنا الأستاذ نالينو الإيطالي ومكافأة لذكرى من خدم الإسلام والمسلمين في أوربا طيلة حياته وقد علق الناشر بالفرنسية شروحاً وحواشي على هذا الجزء تدل على بعد غوره وتدقيقه على أسلوب الأوربيين. وللكتاب مناسبة كبرى بتاريخ شمالي أفريقية وصقلية والأندلس وفيه ذكر من ولي الملك بصقلية قال لسان الدين في وصفها: قال أبو محمد الرشاطي: صقلية جزيرة كبيرة وصقلية اسم لإحدى مدنها الكثيرة وقلاعها الأثيرة وطولها مسيرة خمسة أيام وهي في البحر الشامي موازية لبعض بلاد أفريقية واق رب المواضع إليها من بلاد أفريقية رأس أدار بينهما اثنتي عشرة ومائتين وكانوا قبل ذلك معاهدين

ولافتتاحها خبر شهير. وقال أبو الحسن ابن جبير في رحلته يصف مدينة مسنة وأخبار ملوكها: هذه المدينة موسم تحار الكفار ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار كثيرة الإرفاق برخاء الأسعار مظلمة بالكفر لا يقر فيها للمسلمين قرار أسواقها دافقة حفيلة وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان وذكر بعد مدينة مسينة المدينة المعروفة ببلارمة فقال فيها سكنى الحضر من المسلمين ولهم فيها المساجد والأسواق المختصة بهم والأرباض وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها ومدنها كسر قوسة وغيرها بهذه المدينة سكنى ملكها غليام وش أنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين وهو كثير الثقة بهم وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله وزمنهم وزراؤه وحجابه وهم أهل دولته والمرتسمون بخاصته وعليهم يلوح رونق مملكته لأنهم في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة ولهذا الملك القصور المشيدة والبساتين الأنيقة وهو كثير الاتخاذ للقيان والجواري وليس في جميع ملوك الرومية أشرف منه في الملك ولا أنم ولا أرفع وهو يتشبه في تنعمه بالملك وترتيب قوانينه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهته وإظهار زينته بملوك المسلمين. وملكه عظيم جداً وله الأطباء والمنجمون وهو كثير الاعتناء بهم شديد الحرص عليهم. ومن عجيب شأنه أنه يقرأ ويكتب بالعربية وعلامته الحمد لله حق حمده وكانت علامة أبيه الحمد لله شكراً لأنعمه. وجواريه وحظاياه في قصره مسلمات كلهن. وذكر لنا أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة يعيدها الجواري المسلمات. وذكر مدينة شيلفود فقال هي مدينة ساحلية كثيرة الخصب واسعة المرفق منتظمة الأشجار والأعناب مرتبة الأسواق يسكنها طائفة من المسلمين وذكر مدينة ثرمة فقال هي أحسن وضعاً من التي تقدم ذكرها وهي حصينة تركب البحر وتشرف عليه وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيها مساجد وهذه المدينة من الخصب واسع الرزق على غاية وذكر المدينة التي هي حاضرة صقلية فقال هي أم الحضارة والجامعة بين الحسنيين غضارة ونضارة فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر وموارد عيش أخضر عتيقة أنيقة مشرقة مونقة تتطلع بمرأة فتان وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان فسيحة السكك والشوارع تروق الأبصار بحسن موضعها البارع عجيبة الشأن قرطبية البنيان قد زخرفت فيها لملكها دنياه تنتظم بلبتها قصوره انتظام

العقود في نحور الكواعب وتنقلب في بساتينها ويادنيها بين نزهة وم لاعب فكم له فيها لأعمرت من مقاصر ومصانع ومناظر ومطالع وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها وديارات قد زخرف بنيانها وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإسلام يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع ولهم أرباض قد انفردوا بها بأسمائهم وبكنائسهم ولهم فيها قاضٍ وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقوده وأما المساجد فكثيرة ولا تحصر وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن وأطنب في شبهها في مدينة قرطبة. وذكر مدينة طرابنش وأطنب في ذكر الجميع بما لا مرغب في إطالته إذ يجر التفجع ويثير التوجع أعاد الله دار إيمان بقدرته اهـ. وذكر من ولي على هذه الجزيرة من الملوك إلى أن تغلب عليها الروم واستولى عليها رجار ملك النصارى في زمن المرابطين على عهد الأموي المستعلي من ملوك الشيعة بمصر عندما استولت الروم على بيت المقدس والجزائر أو قبل ذلك بيسر وتداول هذه الجزيرة أمراء إلى أن انقطع عنهم إمداد المسلمين لاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن فكان استخلاص العدو لها في سنة خمس وثمانين وأربعمائة وذكر المؤلف من خرج من هذه الجزيرة من المحدثين والعلماء والفقهاء والشعراء والكتاب مثل ابن حمديس الصقلي قدم على المعتمد بن عباد عند الجلاء لحادثتها فكان أثيراً لديه وهو القائل مما ألمَّ فيه بذكر صقلية: قضت للصبا النفس أوطارها ... وابلغها الشيب إنذارها نعم وأجالت قداح الهوى ... عليها فقسمن أعشارها وما غرس الدهر في تربة ... غراساً ولم يجن أثمارها فأفنيت في الحرب آلاتها ... وأعددت للسلم أوزارها كميتاً لها مرح بالفتى ... إذا حث باللهو أدوارها تناولها الكوب من دنها ... فتحسبه كان مضمارها وساقية زررت كفها ... على عنق الظبي أزرارها تدير بياقوتة درة ... فتغمس في مائها نارها وفتيان صدق كزهر النجوم ... كرام النجائر أحرارها

يديرون راحاً تفيض الكؤوس ... على ظلم الليل أنوارها كأن لها من نسيج الحباب ... شباكاً تعقل طيارها وراهبة أغلقت ديرها ... فكنا مع الليل زوارها حدانا غليها شذا قهوة ... تذيع لأنفك أسرارها فما فاز بالمسك إلا فتىً ... يتيم دارين أو دارها كأن نوافجه عندها ... دنان مضمنة قارها طرحت بميزانها درهمي ... فسيل من الكاس دينارها خبنا بنات لها أربعاً ... ليفترعن اللهو أبكارها من اللاء أعصار زهر النجوم ... تكاد تطاول أعمارها تريك عرائسها أيدياً ... طوالاً تصافح أخصارها تفرس في شمسها طيبها ... مجيد الفراسة واختارها فتى دارس الخمر حتى درى ... عصير الخمور وأعصارها يعد لما شئت من قهوة ... سنيها ويعرف خمارها وعدنا إلى هالة أطلعت ... على قضب البان أقمارها يرى ملك اللهو فيها الهموم ... تثور فيقتل ثوارها وقد سكنت حركات الأسى ... قيان تحرك أوتارها فهذي تعانق عوداً لها ... وتلك تقيل مزمارها وراقصة لقطت رجلها ... حساب يد نقرت طارها وقضب من الشمع مصفرة ... تريك من النار نوارها كأن لها عنداً صفقت ... وقد وزن العدل أقطارها تقل الدياجي على هامها ... فتهنك بالنور أستارها كأنا نسلط آجالها ... عليها فتمحق أعمارها ذكرت صقلية والأسى ... يهيج للنفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها ولولا ملوحة ماء البكا ... حسبت دموعي أنهارا

ضحكت ابن عشرين من صبوتي ... بكيت ابن ستين أوزارها فلا تعمن عليك الذنوب ... إذا كان ربك غفارها وقد أجاد الناشر في التعليق على الرسالة بعض ما فات المؤلف من رجال صقلية أو هاجروا منها إلى أفريقية وذكر أناساً منهم فنشكره على تحفته. درس التاريخ الإسلامي تأليف الشيخ محي الدين الخياط. القسم الثاني طبع على نفقة المكتبة الأهلية ي المطبعة العصرية ببيروت ص87. أجاد مؤلف هذا التاريخ بتسهيل مطالبه وتنسيق عباراته بحيث يتناول التلميذ على أيسر وجه بعبارة لطيفة وهذا الجزء يشتمل على تاريخ دولة الخلفاء الراشدين وما حدث من الأحداث الأولى في الإسلام. وكنا نود لو صحت عزيمة المؤلف على شكل مواضع الأشكال من عباراته حتى تقوى ملكته الفصيحة أو التلاوة المعربة في التلميذ وأن يعلق شرحاً خفيفاً في الهامش على بعض الأعلام ولاسيما الجغرافية فيكون التلميذ على بصيرة من مواقع البلاد التي تعرض له ويجتمع له منها مجموعة معجم صغير للبلدان التي فتحت للصدر الأول. وذلك مثل الجابية والبلقاء وبصرى والعربة واليرموك وقيسارية وعمواس وسبطية والرها وبرقة والقادسية والأهواز والجزيرة وكذلك بعض أعلام فارسية مثل مكران وطخارستان وماسبذان وابيبرود وطوس فإن التلميذ لا يقنعه أن تقول مكران من بلاد فارس خصوصاً وأن كثيراً من أسماء هذه البلاد قد تغير الآن عن أصله أو دثر برمتها. ثم إنا لاحظنا إيجازاً في العبارات كان يكون مخلاً في بعض المحال مثل اقتضاب الجملة التي قالها هرقل من الشام إلى القسطنطينية بائساً أنه إلى الشام وقال: السلام عليك يا سوريا سلاماً لا اجتماع بعده وقد كتب التاريخ أنه قال هكذا: السلام يا سورية سلامٌ لا اجتماع بعده ولا يعود رومي إليك أبداً إلا خائفاً حتى يولد المولود المشئوم ويا ليته لا يولد فما أحلى فعله وأمر فتنة على الروم. المهاجر السوري تأليف جميل أفندي بطرس حلوة في مطبعة جريدة الهدى اليومية في.

نيويورك ص154. من أنفع الكتب الاجتماعية والاقتصادية التي نشرت بالعربية هذه الآونة هذا الكتاب الذي وضعه مؤلفه من مهاجرة السوريين في أميركا الشمالية لفائدة المهاجر السوري إلى أرض خريستوف كولمبس فقد بحث بثاً مستوفي فيما ينبغي للمهاجر عمله حتى ينجح بدأه بلمحة من تاريخ مهاجرة السوريين ونشوئها ومؤسسيها وعدد السوريين في الولايات المتحدة وأعمالهم وقد قال في ذلك أن الأحوال قد تحولت في الشئون وتبدلت وأميركا اليوم غير ما كانت عليه منذ خمس عشرة سنة وذلك ليكون المتخلفون في الوطن على ببصيرة وانتباه ولاسيما أن السياسة قد بشرت بالترقي والتحسن والحرية بالتقوى وسورية غنية بمناجمها وآكامها وريافها ومائها وهوائها ولا ينقصها إلا بذل الأموال عليها وتوجيه العزائم إليها حتى يفيض منها اللبن والعسل. وذكر أن الهجرة لا ترجع إلى أبعد من خمسين عاماً كان الباعث عليها اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية. وقد أنكرنا عليه قوله أن الصواعق في عهد الحكومة الحميدية كانت تقع على رؤوس نصارى الشرق دون سواهم وعلى فلوسهم يعيش الجاسوس والمنافق لما ثبت لدى العارفين أن المسيحيين إن لم يكونوا سواء وإخوانهم المسلمين في المعاملة فقد كانت حقوقهم مرعية أكثر وقولنا في مسيحيي سورية لا في غيرها خصوصاً وأن أكثر المهاجرين من لبنان ولبنان باستقلال إدارته كان أكثر دعة من غيره من الولايات. وقال أنه هاجر إلى الولايات المتحدة فقط من سنة 1905 إلى 1908 خمسة آلاف نسمة وكلما نجح أفراد زادت الهجرة وفي الولايات المتحدة من السوريين الآن عدد يبلغ الثلثمائة ألف إذا حسبنا تكاثرهم على سبيل التوالد. وقد تكلم المؤلف بحرية فقال أن البعض من المتجولين على تقدير أنهم في بلاد غربة وعلى رغم أن لا رقابة عليهم ولا معاينة خلعوا عنهم تبعة الاستقامة والصدق والأمانة جارين بذلك على أنفسهم نقمة الوطنيين ولعنة المواطنين. وأجاد في كلامه على المرأة السورية المهاجرة وأشار إلى ما تتعرض له من الهوان وثلم الشرف بإتجارها وأشار بأن تعفى من هذه المذلة فالمال لا يكون شريفاً تحصيله من هذا

السبيل. وعقد فصولاً كثيرة في المهاجرة والدولة ومقتضياتها واستئصال النخاسة وحماية العمال والخطر الأصفر وتفريق المهاجرين في الولايات عوضاً عن تجمعهم وضريبة الدخول على النفوس والفحص ومراقبة الحكومة وما ينبغي للمهاجر أن يكون له من المال ويكون عليه من الصحة والهندام. وتكلم على عمران الولايات المتحدة وأجاد فقال يكفي أن يقال عن مساحة الولايات المتحدة أن ولاية تكساس فقط منها تسع إنكلترا وجرمانيا وفرنسا وإيطاليا مجموعات! وأورد دستور الولايات المتحدة وحقوق الرعوية فيها ورئاسة جمهوريتها وتذاكر التجنس بالجنسية الأميركية وغير ذلك من القوانين النافعة لتصور حالة تلك البلاد وهو مما ينفع المهاجرين وغيرهم فنشكر للمؤلف تحفته التي نفع بها أبناء وطنه. كتب متفرقة نقد النصائح الكافية_تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي وفيه تعديل معاوية وقبول مرويه ومروي الصحابة الذي كانوا معه وبيان الاعتدال والإنصاف كما هو مذهب الأئمة وفلاسفة الإسلام وهو في 44 صفحة طبع في مطبعة الفيحاء بدمشق ومن أحسن ما راقنا فيه الفصل المعنون ببيان أن كتب الحديث مشتركة بين الأمة يرويها الشيعي عن السني وبالعكس وإن عادة السلف الرواية عن المخالفين في المذهب وإن كتب الحديث هي إيمانية محمدية لا شافعية ولا غيرها والكتاب جيد كسائر ما خطته يراعة الأستاذ. الأخلاق_وهو كتاب عربه عن الإنكليزية محمد أفندي الصادق حسين صدر الجزءان الأولان منه ومؤلفه صموئيل سميلز من مشاهير الإنكليز ويطلب من مكاتب القاهرة. الصحة من السعادة_تأليف الطبيب مصطفى السعادة صدر الجزء الأول منه في 166 صفحة وفيه الكثير من القوانين الصحية والتدابير الأهلية يطلب من مؤلفه في بيروت. ديوان الإنشاء_هو مختصر في المراسلات العصرية تأليف محمد عمر أفندي نجا في بيروت في 244 صفحة وفيه كثير من الفوائد والرسائل التجارية يطلب من مؤلفه ومن مكاتب بيروت. الإسلام حافظ الذمم في ما بين الأمم_تأليف عبد الوهاب أفندي سليم التنير من أفاضل بيروت وفيه رد على بعض قسس البروتستانت الذين تناولوا الإسلام بأحط من شأنه آخذاً

من كتب الإفرنج ومنشوراتهم وتواريخهم غير مغفل ما ورد في الإسلام نفسه وهو في 41 صفحة. الدرر_أعادت المطبعة الأدبية في بيروت طبع الدرر لأديب بك إسحق من كتاب الطبقة الأولى من الصحافيين في القرن الماضي وفيه مقالاته وقصصه وخطبه وآثاره مراثيه وكل ما يتعلق بذلك وهو من جمع شقيقه عوني أفندي إسحق وقد وقع في 616 صفحة. مجلتان جديدتان مجلة الاقتصاد_هي زراعية صناعية تجارية مصورة لمنشئها أنيبال أفندي أبيلا تصدر في بيروت مرتين في الشهر في 32 صفحة وقيمة اشتراكها في العام خمسة بشالك ما عدا أجرة البريد وفيها عدة مقالات نافعة منها مقالة في بلجيكا واقتصادياتها جاء فيها أن مساحة إنكلترا 315 ألف كيلومتر مربع وسكانها 40 مليوناً ومعدل السكان في كل كيلومتر مربع 126 والديون العمومية 17 ملياراً والتجارة 17 ملياراً وطول سككها الحديدية 35 ألف كيلومتر ومساحة البلجيك 29. 450 وسكانها 7 ملايين ومعدل سكانها 224 وديونها 2. 2 مليار وتجارتها 3 مليار وتجارتها 3 مليار وطول سككها 4500 ومساحة النمسا والمجر 625 ألف كيلومتر وسكانها 44 مليوناً ومعدل الساكن في كل كيلومتر 69 وديونها 16 ملياراً وتجارتها 42 مليون وسككها 25 ألف كيلومتر ومساحة ألمانيا 540 ألف كيلومتر مربع وسكانها 53 مليوناً ومعدل السكان في كل كيلومتر 97 وديونها 156 ملياراً وتجارتها 10 ملايين وسككها الحديدية 49 ألف كيلومتر ومساحة روسيا 5. 430. 000 وسكانها 106 ملايين ومعدل السكان 19 وديونها 16 ملياراً وتجارتها 4 مليارات وطول سككها 40 ألف كيلومتر ومساحة إيطاليا 290 ألف كيلومتر وسكانها 32 مليوناً ومعدل سكانها في كل كيلومتر 109 وتجارتها 3 مليارات وسككها 16 ألف كيلومتر ومساحة فرنسا 536 ألف كيلومتر وسكانها 38 ومعدل السكان 72 ساكناً في كل كيلومتر وديونها 35 ملياراً وتجارتها 7 وسككها الحديدية 42 ألف كيلومتر أما البلاد العثمانية فمساحتها 4 ملايين كيلومتر مربع وسكانها 38 مليوناً ومعدل السكان في كل كيلومتر 10 أشخاص وديونها 5 مليارات وتجارتها 12 مليار وسككها الحديدية 5000 كيلومتر بما فيه طريق الحجاز. العالم الجديد_مجلة شهرية تصدر باللغة العربية في نيويورك وتبحث في شؤون اجتماعية

واقتصادية ولغوية وفكاهية وتاريخية اطلعنا على العددين السابع والثامن فرأيناهما حافلين بالموضوعات والمباحث النافعة لمنشئها سلوم أفندي مكرزل وقيمة اشتراكها دولاران ونصف وهي في عشرين صفحة كبيرة.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع مدارس الصحافة حاول الغربيون أن يعلموا فن الصحافة في المدارس فأنشئت في باريس سنة 1899 مدرسة للصحافة فلم تلبث أن أصبحت منتدى تقرأ فيه محاضرات ومسامرات وخطب في موضوعات لها علاقة بالصحافة. وفي ليل قام أوجين تافرنيه سنة 1896 فألقى عدة محاضرات في وظائف الصحافي وفي لندن أنشأ ويليام روث مدرسة للصحافة يدرس فيها علاوة على كيفية كتابة المقالات أصول طبع الجريدة في أميركا ولاسيما في الولايات المتحدة أنشوا عدة صفوف في المدارس الكلية لتعليم الصحافة ولاسيما في فيلادلفيا وشيكاغو وأضافوا في ولاية كنساس إلى دروس التحرير والإنشاء درساً في كيفية جلب الأخبار وامتازت سويسرا وألمانيا في هذا الشأن فاشتركت برن وزوريخ وجنيف وهايدلبرغ وبرلين في تعليم فن الصحافة. قالت إحدى المجلات الإفرنجية بعد إيراد ما تقدم: ويا ليت شعري هل أثمرت هذه الأعمال ما كان يتوقع منها وهل دخل الإصلاح في الصحافة من هذا التعليم؟ فالجواب بالإيجاب صعب. فينبغي للصحافي مع ما يجب لصناعته من المعارف الفنية كفاءات منوعة ومزايا طبيعية وصفات في الثبات والإدارة ويصعب تعليمه هذه المهنة بدونها مهما أجلسناه على دكات المدارس على أنه لا ينكر أن التعليم العالي يجب أن يعنى بعد الآن بالمسائل المهمة التي تخوض الصحافة عبابها وأن مدارس الصحافة التي هي متممة للدروس العالية تخدم خدمة نافعة في هذا الشأن. الساحات للصحة قال الفيلسوف جان جاك روسو: إن نفس الإنسان مضر بالصحة. ولكن هذه القاعدة لم تطبق في المدن ولذلك كثرت فيها الأمراض فقد تبين بالاستقراء أن المدن التي تكون ساحاتها العامة أكثر والهواء والشمس يتخللها تق فيها الوفيات بالسل في لندن يقل عدد الموتى بالسل إلى ثلث عدد من يهلكون في باريس لأن ساحات لندن أكبر من ساحات باريس بثلاث مرات تصرف عليها الملايين لاعتقادها النفع منها للناس. قلنا فأين ساحاتنا في المدن الكبرى وحدائق النزهة. مكاتب الشعب

قدم قيم مكتبة بلفنا الروسية إلى مؤتمر الكتب والمستندات في بروكسل تقريراً في خزائن كتب الشعب في بلغاريا فقال أنه يعضدها جمعيات مؤلفة أعضاؤها من أرباب الحرف المختلفة فلكل مكتبة محل فيه خزانة الكتب وغرفة المطالعة التي تعرض فيها المجلات والجرائد السياسية والمصورة. وقال أن مدينة بلفنا كان فيها سنة 1888_80 مجلداً فأصبح فيها الآن 11 ألفاً وأنه عول أن يجري على طريقة مجمع الكتب الدولي الذي عقد في بروكسل وهو أن تصف الكتب بحسب موادها وتجعل لها فهارس بذلك. يابان الاقتصادية نشرت يابان إحصاء بالحالة الاقتصادية في بلادها خلال سنة 1910 فبلغت مساحتها السطحية 448243 كيلومتراً مربعاً يدخل في ذلك جزائر فرموز وبسكادور وصقالين وكان سكانها سنة 1909_53. 274. 980 منهم 51. 169. 581 في البلاد الأصلية وقد زاد السكان منذ سنة 1891 عشرة ملايين فيكون بذلك 133 ساكناً في كل كيلومتر مربع. وقد نظمت يابان ماليتها بعد الحرب الروسية اليابانية وسنت قواعد في الميزانية مملوءة بالحكمة وحددت الخرج والدخل السنوي بحيث تتحامى عقدة قروض جديدة وأن تسارع إلى وفاء ما عليها من الديون فلا تميل إلى أن تطلب أموالاً جديدة بل قللت ما أمكن ما كانت وضعته من الاعتمادات لبعض المشاريع وأرجأت دفع النفقات اللازمة لبعض الأعمال العامة وضربت لها مدداً متطاولة لتخف السنة بعد السنة. وعزمت هذه الحكومة أن تدفع كل سنة خمسين مليون يان أو 129. 150. 000 فرنك كل سنة لوفاء الديون العمومية وأزمعت أن تزيد هذا القدر حتى تستهلك جميع الديون التي عليها ومع كل هذا فهي تزيد في ميزانيتها العادية وميزانيتها فوق العادة فكانت هذه السنة 402. 860. 000 يان للأولى 114619978 ياناً للثانية وأهم النفقات التي زادوا فيها مخصصات الإمبراطور وزيادة رواتب الموظفين والضباط توسعة عل الجند وأكثر النفقات فوق العادة بذلت في استهلاك دين الإمبراطورية. وبداعي النظام الجديد في الجباية نزلت الضرائب على العقارات والسكر أحد عشر مليوناً ونصف مليون يان وزادت من جهة أخرى واردات الحكومة العادية بتحسن بعض الضرائب الأخرى واصلات الطوابع والبريد واحتكار الملح والكافور والتبغ. وقلت النفقات الغير عادية مليون يان فارتقت على حين

فجأة إبان الحرب الروسية اليابانية إلى 420 مليوناً. وبلغت تجارة اليابان الخارجية سنة 1909_807. 311. 354 ياناً منها 413113. 000 من الصادرات و394. 199. 000 في الواردات وأكثر صلات اليابان التجارية مع الصين والولايات المتحدة ثم تجيء فرنسا فألمانيا فإنكلترا. وطول خطوطها الحديدية 5020 ميلاً منها 4542 م لك الحكومة و477 تستثمرها شركات كلفت 535 مليون يان ومع أن معدل دخل سكك الحكومة أكثر من دخل سكك الشركات فالحكومة تريد أن تجعل محاسبة خطوطها على صورة تجارية. فوائد التلفون نشر أحد الألمانيين كتاباً في الفوائد التي نجمت في التجارة من التلفون جاء فيه أن ما أنفقته ألمانيا إلى آخر سنة 1904 15200 مليون مارك لإنشاء السكك الحديدية و264 مليون مارك لإنشاء الأسلاك التلفونية. وكانت الولايات المتحدة أنفقت إلى سنة 1902_1823 مليون مارك وأن النظام الاقتصادي الحديث قائم اليوم على أساس نقل الأخبار بسرعة ففي الأسلاك التلفونية مبادلة للمفاوضات الشفاهية في بقعة واسعة من الأرض ولا تزال المسافات بين الأسلاك تبعد كلما كمل الفن وتم العلم والتلفون أفضل من التلغراف لكنه لا يقوم مقامه واستعمال التلفون يستلزم اقتصاداً عظيماً في الوقت وبه سهل تكاثر الصلات التجارية وكان يتعذر بدونها دوامها وساعد على اعتدال الأسعار وتحكم التجار فيها والتلفون أداة نافعة في تقسيم العمل وتوزيعه فالواجب تنزيل أسعاره حتى يشترك في منافعه الفقير والغني على السواء. النجاح الألماني كان من نتيجة آخر إحصاء قامت به ألمانيا منذ ثلاث سنين أن كان عدد سكان ألمانيا 62. 036. 000 أخذت إفادات كافية عن 61. 721. 000 ساكن وقد صرفت ألمانيا هذا الإحصاء الأخير وحده زهاء ستة ملايين مارك فكان عدد العاملين في الصناعات الرئيسية ومنهم الخدمة ومن لا موطن لهم والأشخاص المستقلون بلا عمل 30 مليون وفي ألمانيا 2. 3 مليون أرباب الأملاك وموظفين فإذا حذف مجموع الأشخاص المستقلين وهم بلا صناعة تجد عدد العاملين 26. 8 مليون أي زهاء 43 في المئة من مجموع السكان وكان سنة

1882 17 في المئة فقط. وتقسم هذه الصناعات والحرف إلى ثلاث أقسام رئيسية وهي الزراعة ويدخل فيها البستنة وتربية المواشي والغابات والصيد. والصناعات الصغرى والكبرى والتجارة والنقل وقد زاد عدد العاملين في كل فرع من فروعها وقل عدد المشتغلين بالزراعة على نسبة معتدلة فكان عدد العاملين في الزراعة سنة 1907 32 مليوناً على حين بلغ هذا العدد 43 مليوناً سنة 1882 وبلغ عدد من يتعاطون الزراعة مباشرة في سنة 1907_17 مليوناً وعدد المشتغلون بالصناعات 11 مليوناً وزاد عدد السكان سنة 1895 إلى 1907 نحو عشرة ملايين التهمت الصناعة منهم ثلاثة أخماسهم وربعهم انصرف إلى التجارة والنقل وهكذا كان بحسب الإحصاء الأخير 2. 501. 000 شخص من مديري الزراعات و7. 283. 000 من العملة و99. 000 من المستخدمين و1. 977. 000 مدير في الصناعة و686. 000 مستخدم و8. 593. 000 عامل و1. 012. 000 مدير في التجارة و500. 000 مستخدم و1. 960. 000 عامل. وزاد عدد الأشخاص العاملين بأكثر سرعة من عدد المعامل وكثر انضمام المعامل بعضها إلى بعض واحتفظت الزراعة بالقسم اللازم لها من السكان ونبذت الآخر بالعمل في التجارة والصناعة. مطالعات قال أبو العلاء المعري وأجاد في ما شاء: مثل الفتى عند التغرب والنوى ... مثل السرارة أن تفارق نارها إن صادفت أرضاً أرتك خمودها ... أو وافقت أكلاً أرتك منارها وقال الآخر وقد أبدع: وكم قائل ما لي رأيتك راجلاً ... فقلت له من أجل أنك فارس وقال البحتري ولم يبق مجالاً لقائل: الجاهلان اثنان من دون الورى ... فأفطن أخيَّ وإن هما لم يفطنا من قال ما بالناس عني من غني ... من جهله أو قال بي عنهم غني فضائل الهند ثلاثة وضع كتاب كليلة ودمنة المشهور والشطرنج والأرقام التسعة الهندية. قال يونس النحوي: الأيدي ثلاث يدٌ بيضاء ويد خضراء ويد سوداء فاليد البيضاء في

الابتداء بالمعروف واليد الخضراء هي المكافأة على المعروف واليد السوداء هي المن بالمعروف. كتب رجل من العلماء إلى يزيد بن حاتم يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه (أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقللها تجبراً ولا أستثنيك عليها ثناء ولا أقطع لك بها رجاءً والسلام). عيسى اسكندر معلوف. إحصاء الحيوانات قدم الأستاذ سيبلي إلى مجمع ترقية العلوم البريطانية إحصاء أنواع الحيوانات قال فيه لقد كثرت منذ نحو نصف قرن الحيوانات ذوات الثدييات كثرة زائدة فبعد أن كانت 1200 نوع أصبحت 2300 وبعد أن كانت أجناس الطيور 3600 ارتفعت إلى 11000 وكان عدد الدبابات 343 فصارت 3400 وعدد الأسماك 3500 فأصبحت 11000 والحيوانات التي لا فقار لها كذات الصدف 11000 فعد منها 33000 والحيوانات ذوات القشر من 1290 إلى 7500 والعناكب من 1048 إلى 3070 والهوام من 49100 إلى 220. 150 وأجراء البحر ونجومها من 230 إلى 18043 والديدان من 372 إلى 6070 وكان مجموع الأنواع المعروفة سنة 1840_73. 588 فأصبحت سنة 1881 311653 وما زالت في ازدياد سنة عن سنة. إنكلترا والاقتصاديات نشرت الحكومة الإنكليزية إحصاءاً مهماً في الوفيات والولادات قالت فيه أن عدد الوفيات سنة 1908 كان 15 في الألف في إنكلترا و16 في الألف في البلجيك و18 في بروسيا و20 في فرنسا وأن من يموتون من الأطفال في روسيا فاحش جداً فقد بلغ 268 في الألف وقد تبين من هذا الإحصاء نجاح إنكلترا كثيراً في الأمور الاجتماعية منذ خمسين سنة وقلة المواليد فيها فقد كان معدل الولادات فيها سنة 1850_33 في الألف فنزل سنة 1905_إلى 27 في الألف وأن الفقراء يكثرون عن ذي قبل وكذلك يكثر إيداع الناس أموالهم في صناديق التوفير وتتسع دور العملة بفضل المجالس البلدية وتقل الأمراض المعدية وتزيد مسافة الانفراج بين غلاء المعيشة والمياومات وإن ما يشغل بال إنكلترا هو في الحقيقة

مسألة العطلة الأسبوعية. حماية الأطفال في أميركا أنشئت أول جمعية لحماية الأولاد سنة 1876 وفيها اليوم 350 جمعية تتوخى هذا الغرض وأهم هذه الجمعيات هي في مدينة نيويورك في بناية عظيمة ذات ثماني طبقات خدمت الإنسانية خدمة تذكر فبمساعيها أبطل إكراه الأولاد على الشحاذة أو بيع الزهر في الليل ومنع الموسيقيون السيارون والباعة وغيرهم أن يستخدموا صغار الأطفال فإذا وصل إليها طفل تفحصه فحصاً طبياً فإن رأت فيه تشويهاً في بعض أجزاء جسمه تختار له عمل يوافق مزاجه وبذلك أنقذت منذ تاريخ تأسيسها 160. 977 طفلاً. الهواء الطلق وضع أحد علماء كوبنهاغن عاصمة الدنمرك طريقة جديدة في الاستشفاء فارتأى أن يسير المرء مكشوف الرأس حافي القدمين ويتجرد أبداً من الثياب فلا يكثر منها إذا أمكن وينام بدون قميص ويفضل السير راجلاً على ركوب المركبات والتراموايات والدراجات وقد اخترع نوع من القبقاب ليلبس في الأرجل بدل الأحذية المتعارفة حتى يتخلل الهواء الرجل على نحو الطريقة التي اخترعها الخوري كنيب في الاستحمام للاستشفاء بالماء البارد. أما الجوارب فقد حظر لبسها في الأرجل قال ولا بأس بوضع قماش مسرد على الساقين وقال أن النزلة الصدرية كادت تسطو عليه منذ بضع سنين فرأى أن يداويها في الحال بالمشي السريع فتصبب جسمه عرقاً ونجا من الإصابة بها. وقد أحدثت هذه الطريقة الجديدة في الصحة أخذاً ورداً بين الباحثين والعاملين في الغرب فكأن واضعها يريد أن يعود بالإنسان إلى العيش الطبيعي. الخط المائل والمستقيم اتفق جمهور من الأطباء في جلسة لهم في باريس على أن الخط المستقيم لا يتأتى معه للولد أن يجلس جلسة طبيعية بسبب التنقل الدائم في يده اليمنى فإن حركة ذراعه تحدث تعباً في الأعصاب فيكون هذا الخط متعباً جداً وبطيئاً جداً وتنشأ عنه أخطار الأولاد المستعدين لتشويه الجسم والكزاز (الشنج) الذي يصيب الكتاب أما الخط المائل فإنه يكتب على صورة أسهل من المستقيم ولذلك يقل إتعابه للولد وتكون به جلسته أكثر انضباطاً وهذه

الطريقة هي التي يفضل تعليمها في المدارس وأن الخط المستقيم لا يحول دون حسر البصر كالخط المائل أو المنحني. نصائح للمعلمين والمتعلمين كتب أحد المشتغلين بتربية العقول أن التربية المدرسية يجب أن لا تختلف عن التربية البيتية فيفرض على التلامذة أن يعنوا بأسباب الحشمة والحرية والإرادة والنظر والتعقل وهكذا يتعلمون ما يجب بأنفسهم ولأنفسهم قال وإياك أيها التلميذ أن تحاول الرجم بالغيب فالتكهن هو صورة من صور الكذب. والتفت الكاتب إلى الأساتذة فنصح لهم أن يحترموا شخصية تلامذتهم كل الاحترام وأن يدركوا معنى التبعة التي تنوء عليهم ويقولوا في أنفسهم أن المدرسة إذا لم تسر سيراً حسناً فذلك ناشئ من المعلمين لا المتعلمين فعلى الأستاذ أن يحذر الغفلة والتوسع في الرحمة كالتوسع في الشدة وأن تكون مطالبهم من المتعلمين بحسب سنهم فيجب أن لا يخافهم التلميذ ولكن لا يبغضهم أن تكون تربيتهم استقلالية لا اتكالية أي لا كحالة الموظف مع سيده. وهنا وجه كلامه إلى المديرين فقال عليكم ألا تنسوا أن الواجب أن يعامل الناس بأكثر مما يستحقون.

الجن

الجن عند غير العرب من أمم الشرق والغرب. طالعنا في مجلة المقتبس الغراء ما حاكت بروده وطرزت بوده يراعة صديقنا الأبر الفاضل الشيخ جمال الدين القاسمي بقية أعلام دمشق عن اعتقاد العرب في الجن وما ورد في أسفار الدين وأشعار النابغين وأقاصيص السلف من الأحكام والنوادر والآثار الحاكية عنهم على وصفهم وأحوالهم فراقنا منها حسن التبويب ودقة النقل وبراعة اللهجة ووضوح المنهاج وسعة الاستيعاب إلى غير ذلك مما لا يستثكر في جانب ما هو مشهود من فضل الشيخ أعزه الله وحدانا الإعجاب بما هنالك إلى تحبير مقالة موجزة تكون لها كالتكملة تأتي على ما عند غير العرب من أمم الشرق والغرب من أمثال هذا الاعتقاد. وهو موضوع بكر لم يتسور جداره فيما نظن مفترع قبل ولم يحو حوله قلم شرقي على ما اتصلت إليه مطالعاتنا حتى اليوم. ولقد بذلنا جهد المستطيع تنقيباً عن مواده المستترة في ثنايا الصحف والمبعثرة في زوايا المطولات وتخيراً للأصح من المصادر والأصدق من الروايات فجاءت مقالتنا_على ما نعهده بذاتنا من الضعف_طرفة يرغب فيها وأمنية يسعى إليها وما أحراها أن تكون مع رسالة الشيخ سفراً مستقلاًَ يرجع إليها عشاق الدراسة والاستبصار من ناشئة الوطن وأدبائه فإن أتيتم على هذه البغية كنتم من المحسنين. تمهيد. كثر عداد من يزعمون أن العرب هم المتفردون دون سائر الناس في الاعتقاد بالجن اعتقاداً دينياً سنداً إلى ما ورد في كتابهم الموحى من صريح النصوص القائلة بوجودهم_كما في سورة الرحمن والأحقاف والجن_وتوارثاً لما ورد في أقاصيص الجاهلية مما دونه الثقات وأثبته المؤرخون وأتى على بيانه الشيخ بحيث لم يبق مجال لتفصيل وتعليل. وفي ذلك الزعم من الخطأ والوهم وا لا يحتاج إلى دليل فإنك لو رجعت إلى كتب الأمم القديمة من كل بيئة وجنس ومذهب لرأيت في تضاعيفها ما يؤيد كون الاعتقاد بالجن كان منتشراً بين البشر مستفيضاً في كل قبيلة وفصيلة وشعب ممن أهل بهم المعمور من الأرض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً باديةً وحضراً لا يستثنى منه قوم ولا تبرأ منه أمة ولكن على تباين

في الآراء واختلاف ببعض الفروع. فالظاهر أن الاعتراف بوجود أرواح يتوقع شرها كالإقرار بوجود آلهة يرجى خيرها إنما هو من مقتضيات هذا الكيان الإنساني لا محيد عنه لكل ذي لسان ناطق يرشده العقل إلى أنه من أهل الخلود وأنه ضيف مجتاز في حكم هذا الوجود وإلا فما بال الأمم على تباعد أنحائها واختلاف آرائها وتغاير مذاهبها وتناقض مشاربها تجمع على هذا الأمر اجتماعاً باتاً كأن أفرادها متواطئون عليه_منذ كانوا في عالم الغيب_فكلهم يقول بإله يثيب وشيطان يكيد وجن تخيف ونفس بين ذلك تتنازعها عوامل اليأس والرجاء ويبدو لها أنها بنت البقاء دون سائر ذوات الأرواح التي تقلها الغبراء وتظللها السماء وينعشها الهواء وإن كانت محاطة مثلهن بأسباب الزوال محكوماً على هيولاها المراكب بالانحلال وشخوصها المتحركة بالجمود ثم الفناء. على هذا نشأت الناس وعلى هذا اجتازت عالمهم برزخي الحياة والموت ألوفاً مؤلفة من السنين قال بعضهم أنها عشرات الألوف وقال آخرون أنها ملايين حتى جاءنا الطبيعيون من متفلسفي هذا العصر_عصر الاكتشاف والاختراع_يجلسون على منصات القهارمة والأساطين وينشدون مع أبي نواس شاعر العباسيين: ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة من مات أو في نار ويقولون مع أبي العلاء: ومهما عشت في دنياي هذي ... فما تخليك من قمر وشمس * * * تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعادله سبكُ وأتنه لا شيء في هذا الكون غير هذه المادة التي يتعاورها التركيب والتحليل ويتداولها الدثور والتمثيل_مع بقاءٍ في الكم وتغيير في الكيف_وأن القول بما وراء المادة من قوة تدير الحركات وهي علة الموجودات منها استمد الناس أرواحاً سرمدية إنما هو من أوهام الواهيمن وتخليط فما نحن وسائر من يتحرك بالإرادة إلا من ماءٍ وطين ولا يحيينا ويميتنا إلا الدهر!! فأين هذا من ذاك؟ وما هذا الانقلاب العجيب والانعكاس الغريب؟ وأية منفعة من قول جعل

العامة من الناس_وهم تسعة أعشارهم بل يزيدون_في أودية من الحيرة يهيمون وفي ظلمات من التردد والشك يخبطون لا يرون لأنفسهم مما ألقوهم في مهاوية مخرجاً ولا هم يهتدون. رويدك أيها العصر عصر الحضارة والنور. وعلى رسلكم يا معاشر العلماء. أرباب الحصافة والذكاء. وحنانيكم يا من أكثروا من العمق والتبحر. واسترسلوا في الاستقراء والاستنتاج. وبحثوا في الجراثيم والذرات. وتكلموا عن الحويصلات والنقاعيات. وبرهنوا على كون السديم أصل الكائنات. والإنسان سليل من نوع القردة أو ما يشاكلها من ذوات الفقرات. ورحماكم يا أصحاب دارون وأولياء سبنسر وأشياع بخنر وتلامذة هكل وإن كان فيكم فيلسوف كفرشيما وحكيم وادي الفريكة ومتهوسو وادي النيل إننا أيم الله لسنا من يقف في سبيلكم فيما تستوحون أسراره من الأحكام والنواميس وتحاولون إجلاءه من الغوامض والمشكلات أخذاً عما تلقيه عليكم الطبيعة أمكم وأمنا من الدروس والأمثولات طبقاً لما تبعثكم إليه ميولكم وأهواؤكم. ولكن لنا كلمة نقولها الآن لكم بعد إذ كنا نتداولها بيننا همساً ونهجس بها سراً فإن أصختم إليها سمعاً واستوعيتم لها قلوباً وجربتم بمقتضاها بعد اليوم عددناكم كراماً وقلنا سلاماً وإلا فما على من استحكمت الأيبوخاندريا في معدته واستولت السوداء على دماغه من سبيل. ليس من ينكر أن المصلح العاقل من هدى بعلمه لا من ضل. ومن أراح لا من أتعب فيا حبذا_يا أصحابنا_الجهالة أنها خير من هذه المعرفة الناقصة التي تعجلتم بها إلى نقض الأديان وتقويض أركان العقائد وتمتين دعائم التعطيل والجحود قبل أن تنضج آراؤكم وتجمعوا على ما إليه ترمون وعليه تتهافتون من بث بذور الكفر في القلوب وتعبدكم للطبيعة التي أصبحتم لكثرة دراستكم لها ومزاولتكم علومها أعلق بها من جنود بونابرت بمدافعهم أولئك الذين كانوا لكثرة اصطحابهم لها وتهوسهم باستعمالها والاحتفاظ بها يسمونها بأحب السماء إليهم ويعانقونها ويقبلونها كأنها من الغانيات الفاتنات وكذلك أنتم الآن فإن توفركم على تلك الدراسة وانصرافكم إلى استحياء دقائق الهيولى مستحكين الصامت من قواها وعناصرها غير منكفين عن مناغاتها ومباغمتها أناء الليل وأطراف النهار وقد استهواكم واستدرجا بكم إلى تأليه هذه المادة الجامدة حتى صرتم تحسبونها كل شيء أو

قبلها شيء بحيث لو أمكنكم أن تحذفوا مذ الآن من كل معاجم الأرض ما حوته من الألفاظ الدالة على الخلق والإبداع والصمدانية والقدرة والبعث والخلود لفعلتم. فيا أسفاً على الهمجية إذا كان مأتاكم هذا من نتاج المدنية ويا حسرة على الجهالة إن كان ذلك من مستلزمات العلم. أفتتركون ألفاً وستمائة مليون من الناس حائرين بائرين لا يدرون بم يعتقدون وأي جهة ينتحون فلا رأيكم تثبتون ولا عن قولكم ترجعون!!؟؟. تالله إننا معكم لفي صفقة مغبون وما أنتم إلا غادرون وإلا فما هذا التغرير الذي يجعل كلاً من أفراد هذا المجتمع القومي يحيا بلا ضمير يسرق مستتراً ويثلب متخفياً ويقتل متوارياً وينتحر قانطاً وما عليه من وجدانه قيم ولا من دينه زاجر ولا في الآخرة على زعمه من نكير!!! لعمرك أن العامي الذي لا يتوقع في الآخرة عن عمله حسابا ولا يرجو عن حسناته ثواباً ولا يخشى مهما تعددت سيئاته وتعاظمت كبائره عقاباً إلا إذا كانت مشهودة من الأنام مثبتة لدى الحكام ثم يحسب ذاته في هذه الحياة الدنيا كالنبات الفطري حتى إذا مات لم يعد شيئاً مذكوراً. لا يلبث أن يكون لعنة على الأرض وسخطاً من السماء لا يحفل بالمحظور والمباح ولا يبالي بالحلال والحرام بل يقضم الأخضر واليابس ويجتاح العامر والغامر وهو يقول على الدنيا السلام. فالعالم حريص على منفعة بني نوعه الدائب على خير قومه وبلاده من اشتغل بما يريد من أنواع العلم ما يشاء على ما يشاء وأن يعتقد لنفسه بنفسه ما أحب كيفما يحب لكن على شريطة أن ينشط لتمتين أوتاد العقائد وتأليف شوارد المذاهب مع تنزيهها عما لحقها من الزوائد ولصق ببعضها من الخرافات تاركاً للجاهل وازعاً من دينه يجنبه الموبقات ورادعاً من ضميره ينكبه المنكرات وما ضر العاقل أن يكون ذا دين مثله مادام الدين لا يكلفه الشطط ولا يعنته بكثرة التكاليف وقد أباحه من طريق الحلال كل ما منعه عن طريق الحرام فلا يقفل في وجوه ملاذه وأمانيه الأبواب ولا يطالبه بأكثر مما يتقاضاه العقل ويرضى به الصواب. إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالوبال عليكما أو على الأقل يترك الأديان وشأنها والعقائد وحالها يتحارسها زعماؤها ويصونها أئمتها

وعلماؤها_فلا يتعرض لها ولهم في أقواله ومنشوراته بما يعبث باليقين ويولد الشكوك ويبعث على الحيرة أو المروق من نزعات ومعارض وترهات وأدلة وبراهين وأقاصيص لا قوام لها حتى اليوم إلا النزق والسفسطة ولا ركن إلا الخيال والهوس يراد بها التفرد بالشهرة فيما يخالف فيما أجمع عليه الناس وإن كان حقاً تواطأت على وجوبه العقول وإن كان صحيحاً غير مفكر بما ينجم عن أضاليله وسفاسفه من تشويه النظام وضياع الأحكام وانتشار الفوضى والعود بالعالم الإنساني إلى الزمن الذي كان آباؤنا يضارعون برابرة الأوقيانوس الهندي وأواسط أفريقية حالاً وقالاً وخلقاً وأوضاعاً. متصيداً بأحاييله الإبليسية وبهتانه المزخرف ما حقائب بعض من أوتوا مالاً ولم يرزقوا عقلاً من دينار مكنوز ثم ينفقه على تمثيل أسفار ورسائل يطبع منها الآلاف من النسخ ثم توزع على الناس_ولاسيما الناشئة الأدبية منهم_مجاناً قصد إشراب قلوبهم تلك المبادئ الفاسدة وإيداع نفوسهم تلك الحماقات السخيفة التماساً للشهرة على ما ألمعنا من طرق التعميم في الإذاعة والتوسع في الإبلاغ كما فعل بعض هؤلاء المفتونين_بحب الطبيعة_هذه الأيام ففعلت نفثاته السامة في أدمغة البعض ما لا يتوقع العاقل قيامه إلا قيام دولة الشهوات وانثلال عروش الآداب وتقويض أركان الديانات وانتشار الإباحية والعدمية إلى غير ذلك من بواعث الهلكة والانقراض والبوار لولا أن يأبى الله إلى أن يعيد كيده إلى نحره بأن قيض له من أهل التبصر والاعتبار والعلم الصحيح من يكشف بصائر أهل الغرور بما يريهم عياناً زيف درهمه وزغل ديناره فإن ألحق أبلج وضاح. والباطل لجلج فضاح وإن كره الماكرون. يقول المتعنتون من هؤلاء الملاحدة المتحذلقون_سنداً على ما سجله التاريخ من أنباء حروب وفتن واضطهادات كان منشئها الظاهري التباين في المذاهب والاختلاف في الدين. إن الديانات ألقت بيننا إحناً ... وعلمتنا أفانين العداوات فالدين إذن عدو النظام لا نصيره بغيض السلام لا ظهيره!!! نحن لا ننكر أن كثيراً من المشاغبات والفتن والثورات والحروب والغارات أثيرت باسم الدين ونشبت على حساب الدين ولكن من سبر غور الحقيقة بمسبار النزاهة والإخلاص وتوفرت له سلامة الذوق وصحة الاستنتاج وأصالة الرأي وعدالة الحكم علم_بعد الاستقراء_علم اليقين أن الدين لم يكن المصدر الحقيقي لتلك الموبقات بل أن الباعث عليها

في الأصل والمؤدي إليها بالفعل_ما خلا الشاذ_إنما هو شهوات الملوك ولبانات أولي الحكومات ونزوات أرباب السلطات والزعامات الذين من دأبهم_ولاسيما في تلك العصور المظلمات_التذرع بأي وسيلة كانت_حتى التغاير الديني أو المذهبي_لإثارة الفتن وإصلاء الحروب إرادة أن يتهيأ لهم من جرائها تمتين السلطة والتوسع في البسطة والاستفحال في الملك لدواعي أطماعهم اللانهائية وإشباعاً لنهمات أميالهم النفسانية. فالمرء لا تنقضي آرابه أبداً ... إذا انقضى أرب يصبو إلى أرب ومن ذا الذي يتجرأ أن يقول ما ينشأ عن سوء استعمال الدين إنما هو الدين؟؟؟ لا جرم أن للحروب والفتن أسباباً جمة قد يكون سوء استعمال الدين أو التذرع بالدين إحداها وقد لا يكون وما أرباب السيادة من خدمة الدين وغيرهم إلا بشر مثلنا قد يسيئون في أمورهم المعاشية وسياستهم الإدارية وقد يحسنون: فما بالنا نلصق بالدين_الذي هو من الله_ما ينجم به وعلى حسابه من مساوئ الناس؟ أفلا تفقهون!! أجل: إن مطامع أصحاب العروش وتخالف العناصر وتباين الأجناس وطموح المم التي توفرت لها القوى إلى التغلب على المستضعفين ونزوعها إلى التكاثر والاستزادة سواء كان عن طريق الفتوح أو الاستعمار أو الدين هي هي لعمر الحق_في كل آن وزمان_مصدر الفتن ومبعث الإحن وعلة العدوان ومنشأ الحروب التي ما برحت مرافقة حيوة بني الإنسان منذ أصبحوا دولاً وأمماً وجماعات حتى الآن وهي لا تبرح ولن تبرح ملازمة لهم_ولكن على تباين بالكم والكيف_عملاً بناموس تنازع البقاء إلى منتهى الدوران. ومن ماراني في ذلك أتيته من أقوال قهارمة التاريخ وأقطاب العمران وفلاسفة طبائع البشر بما شاء من دليل وحجة وبرهان. لنسلم جدلاً_ولو بالباطل_أن في عصور التعصب والغباوة والجهل كانت الديانات جرثومة العداوات وأرومة الحروب والثورات ولولاها كان الناس في نعيم مقيم وأمن مكين!! لا بأس عليهم ولا هم يحزنون!!! ثم تعالوا بنا إلى هذا العصر الحديث عصر التساهل والكياسة والعلم عصر الحضارة والتمدن والنور وعصر الحرية والمساواة والإخاء ولنقف متسائلين هل خلت أممه الأعرق حضارة والأعلى في مدنية كعباً من فتن تثار وحروب تصلى وأطماع تسود وأشرار

تتفاقم؟؟ أم هل علاقة للأديان بحرب بروسيا مع النمسا (سنة 1866) أو حرب ألمانيا مع فرنسا (سنة 1870) أو حرب الإنكليز مع الترنسفال واليابان مع الصين وروسيا مع اليابان والبلغار مع الصرب في خواتم القرن التاسع عشر وفواتح القرن العشرين؟؟ كلا ثم كلا. فليصمت إذن أولئك الذين يتظلمون بتلك السفاسف والترهات تغريراً بالسذج وتمويهاً على الأغبياء وليعلموا أن الاعتقاد بمبدع حكيم يجزي ويثيب مع الاحتفاظ بقاعدة صن دينك واحترم دين سواك هو عماد السلام وركن التهذيب ومصدر الآداب ومصدر الوئام والتحاب: فكيف لا يتقي الله أولوا الألباب!!! أجل إن في تسود العقائد المبنية على التنزيل والوحي وسلامتها من الشوائب والحشو وتنزهها عن الخرافيات واللغو وترفع أولياءها عن التشيع الشائن والتعصب الضار والتحامل الذميم يستتب الظلام ويسود السلام وتسعد الأنام لا بقول المعري: أأترك ها هنا الصهباء عمداً ... لما وعدوه من عسل وخمر فموت ثم بعث ثم حشر ... حديث خرافة يا أم عمرو وقوله: اثنان من أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخرٌ دين لا عقل له فإن هذا الفيلسوف الشاعر الضرير رهين الحبسين_حبس العمى وحبس البيت_بعد أن أوحى إليه خياله الواسع ما أوحى فباح بما هذر وجاهر بأنه كفر مطاوعة لما يستولي على أمثاله من أعراض السوداء عاد إليه بض رشده فاستحوذ عليه الشك وخامره التردد والريب فقال متوجساً لعقباه حاسباً حساب أخراه. في القدس قامت ضجةٌ ... ما بين أحمد والمسيح هذا بناقوس يدق ... وذا بمأذنة يصيح كل يؤيد دينه ... يا ليت شعري ما الصحيح ثم لم يمت إلا على دين آبائه كما حقق الثقات من معاصريه خلافاً لمن يتخذون أقواله حجة يؤيدون بها مذاهب التعطيل ويذيعونها بين الناطقين بالضاد هداهم الله. ذلك ما رأينا إثباته استطراداً في هذا التمهيد كبحاً لجماح من ملئوا الدنيا زياطلاً تشيعاً لأصحاب تلك الأضاليل ممن يتوهمون السراب شراباً والحبة قبة وما أهون ما تخدعهم

الزخارف والأباطيل إن ربك بالمرصاد وهيهات أن يفلح حزب الفساد مادام للصلاح فئة من أعلام يعملون هم في الظلمات مشكاة وفي المجاهل والمعاثر هداة وما على منفق جهده من جناح ولا إلى تأنيبه من سبيل. عود على بدءٍ. قلنا أن الاعتقاد بالجان قلما خلت منه أمة في غابر الأزمان ومصداقاً لذلك نقول الآن. ورد في ميثولوجيا الهنود أن أرواحاً شريرة اسمها رقشاشة ومعنى هذا الاسم الجبابرة خلقت قبل الجو والحيوانات وهي ترصد الآجام والمقابر وتتلهى بإثارة الموتى من أجداثهم والتحرش بهم. تأكل لحوم الأحياء من البشر وتشرب دماءهم وتتخذ لها صوراً مختلفة وأشكالاً متباينة ثم هي لا تزال حاضرة عند تقدمة القرابين وذبح الضحايا للآلهة لكي تفسد على الناس شعائرهم وتغري المعبودات على تلك القرابين ورذل مدميها: من أجل ذلك يعد الهنود أشد ضرراً على البشر من سائر الجن. وقد ذكر في الكتب السانسكريتية القديمة المحفوظة في هياكل الصين وكوريا وسيلان وسائر أمهات المدن المنتشرة في الشرق الأقصى الغاصة بأتباع برهما وبوذة من ذوي الجنس الأصفر أن النساك وخدمة الدين طالما استنجدوا القوى العلوية للنجاة من شرور هذا الصنف الغادر من الجن الكثير العدد وهو مع ذلك لا يزال يزيد نمواً وانتشاراً بزيادة عداد من يموتون من الأثمة أصحاب الكبائر لأن أرواح هؤلاء تكون إلى زمن من نوع الرقشاشة وأشهر هذه الفئة الباغية المنقسمة إلى فرق ومراتب إنما هي رافانا. وليتك تدري ما رافانا إنما هي روج شرير زائد القحة والجرأة كثير المطامع والشهوات حتى أنه زين له في بعض الأزمنة أن يخضع الأرض وما عليها والهاوية ومن فيها والسماوات ومن فوقها إلى حكمه وسلطانه ويجعل الكيان المطلق عبداً خادماً لرغائبه ومآربه ونزعاته فتمادى جوراً وعسفاً وزاد بغياً وطغياناً حتى أنت من حيفه الأرض وشكت ظلمه الأفلاك واستولى الرعب على قلوب المعبودات في أخدارها والملوك في عروشهم وكان موطن هذا الجني الخبيث في ذلك الزمان لافكا عاصمة جزيرة سيلان. فساء وشنو العظيم هذا الأمر الجلل ورأى أن يتجسد ثانية لينقذ الأكوان ومعبوداتها من شر هذا الطاغية ويرد إلى المخلوقات طمأنينتها وسلامها فتجسد في الجهة المقابلة في الهند في

صورة راما تشندر ابن داسرتا ملك أبوذيا من امرأته كالسيا وبعد أن اتحد مع سوغريفا ملك طائفة القرود على الإيقاع برافانا مضيا إلى الأرخبيل الفاصل بين جزيرة سيلان والبر والتقيا هناك جسراً من الصخر اجتازاه إلى الجزيرة ثم باشرا القتال مع رافانا فلم يلبث الخبيث أمام المعبود المتجسد وحليفه!!! فسقط بين أيديهما هالكاً غير مأسوف عليه. والرومانيون يقولون أنه يوجد عذراء من الجن كانت تقيم في غابة اسمها أريسيا على مقربة من رومية عاصمة الرومان وتدعى تلك العذراء إيجيريا وأن أحد ملوكهم توما بومبيليوس اتخذها له زوجة فكانت تساعده على قهر الأمم المتوحشة وإدخالها في ربقة الطاعة له والانضواء على عرشه وتشاركه في حل ما أعضل عليه من المشكلات. فلما مات زوجها جزعت عليه أشد الجزع ولجأت إلى تلك الغابة معتزلة حيث كانت تجلس في حضيض جبل ذارفة دموعاً سخية بلا انقطاع فأحزن حالها ديانا إلهة الصيد فرأت أن تحولها إلى عين ماء نضاخة لا ينضب ينبوعها فسميت عندئذ عذراء العيون وشيد بجوارها هياكل للعبادة كانت النساء الرومانيات يقصدونها بنذورهن الثمينة في مواسم معلومة متخذات لها أعياداً يحتفلن بها احتفالاً كبيراً لأنها كانت تحفظهن عند الولادات ويصون مواليدهن من سائر الجن. ولمدينة رومية جني خاص أقام له قدماء الرومانيين تمثالاً من ذهب. والجرمانيون ومنهم البروسيون وسائر الألمان وكثيرون من التابعين للعرش النمساوي يزعمون أن للمياه جناً يطلق عليه اسم اليفنة ويدعوها الإنكليز مرميده وأهل شمالي أوربا نكسن. قال سكان سواحل البلطيك أنها تظهر على شكل الخيل على مقربة من ثغور البحار وتداعب من يخرجون القمراء للنزهة والسمر في تلك الشواطئ وكثيراً ما أخافتهم. أما الألمانيون فيقولون أنها تقيم في نهر البي وأنها أظرف من جن بحر البلطيق وقد تخرج أحياناً من الماء في ليالي الشتاء وتقصد النار التي يتركها رعاة المواشي لتستدفئ بها. وقد طالما نظرت هناك بهيئة نساء جميلات مستترات بشبه براقع لهن وجوه زهر وشعور شقر تسترسل على أكتافهن. وقد يعشق بعضهن الرجال فيخلصن الحب لمن كان وفياً منهم ويساعدنه في ميادين الحرب ويقين شخصه بنفوسهن من سهام العدو ولا تنفك إحداهن

مولعة بمن تهوى مرافقة له ساهرة على مصلحته وراحته متحملة معه ما يكابده من برحائه وضرائه حتى الموت. ولكن إذا خانها ولو مرة ذهبت به إلى شاطئ البحر أو إلى ضفة النهر وجذبته بمنتهى قوتها إلى اللجة فتميته غرقاً!!! وهي على ما يقولون ذات صوت غريد مطرب هو_في زعمهم_مصدر حفيف الغابات وخرير الأنهار الذي يؤنس الحزين ويسلي الغريب وكان القدماء من أهالي أوربا الشمالية إذا أرادوا استمالة تلك الجن طرحوا في البحار والأنهار ثماراً وأزهاراً وذهباً ولؤلؤاً وعطراً وطيباً استعطافاً لها وقد وجدوا في بحيرة تولوز أشياء كثيرة مما كان يستعطف بها سكان فرنسا القديمة تلك الجنيات الحسان اللواتي يشبهن في بعض أمورهن بنات الماء اللواتي ذكرهن الدميري في كتابه حيوة الحيوان. ومن أغرب ما رواه المؤرخون أن سيبيون الروماني لما فتح مدينة تولوز وجد في بحيرتها من الذهب ما وزنه مئة ألف ليبرة ومن الفضة مثله فاستأثر بها. وقد تحقق أن الغاليين القدماء أجداد سكان جنوبي فرنسا الآن كانوا يرفعون تلك الجنيات الحسان إلى مصاف الآلهة ولذلك اشتد حنق التولوزيين على من خرق حرمة بحيرتهم سالباً حليهن وكنوزهن كما ألمعنا وربما كان لهن في بلادهن غير الأسماء الثلاثة التي ذكرناها قبل. أما السكندنافيون وهم أهل أسوج أو السويد ونروج وهولاندة أو الفلمنك والدنيمرك فيعتقدون بوجود جن اسمها ألفة أو الفر وهي حاذقة لبيبة ذكية عالمة وتقسم عندهم إلى فئتين. إحداهما تعرف بالجن الصالحة ويقال لها جن النار أو جن النور تقيم في بلاد الغيم التي يتولاها صاحب الشمس لها وجوه تلمع كالصبح وعيون أجمل من الكواكب وشعر ذهبي يروق مرآه للناظرين والثانية تعرف بالجن الهائلة وتسمى عندهم سفورت الفار وهي عدوة للنور وأشد سواداً من الزفت ذات منظر كريه وتقاطيع شنيعة وأعضاء مشوهة ولا تسكن إلا في باطن الأرض. وأهل القرون المتوسطة من سكان هذه الممالك السكندنافية كانوا يزعمون أن هذه الجن الأرضية تختطف أطفالاً من أسرتها وإذا أحبت إحداهما رجلاً ذهبت به إلى موطنها تتلذذ

بمداعبته ولا تدع له سبيلاً إلى تركها والعودة إلى بلاده: وهم يوقنون كل اليقين أن ملكتهم خطفت السيد توماس السيدون الملقب بالشاعر إلى حماها وحجرت عليه في صرح لها سبع سنين كان فيه تمثال غرامها وكعبة هيامها وهي على ما يرتأون لطيفة المعاني حسنة الطلعة تنسج لها أقمصة وحللاً من نور القمر وتعتم بعمامة في أعلاها جرس وتحتذي برجليها الكافور بتين زجاجاً رقيقاً نقياً شفافاً فإذا عثر إنسان عند انفلاق الصبح على حذاءٍ أو جرس مما تلبسه تلك الجنيات الرائعات المحاسن ملقى على العشب نال من التي فقدته كل ما يتمناه. وهي تشتو غالباً في كهوف الجبال تعيش فيهات كسائر الناس وتصرف الوقت بمطالعة الأشعار وأناشيد الآلهة وكتب التاريخ وبتطريق الذهب والفضة والأخبار عن مستقبلات الشؤون متخذة لها حلياً من الياقوت والزمرد وكبار اللآلئ. ومتى بدت تباشير الربيع تزايل تلك الكهوف والمغاور متجولة في جوانب الجبال استنشاقاً للهواء العطر والنسيم البليل. وقد تتسلق الشجار لتقطف منها الأزهار والثمار أو لتراقب من يمر على مقربة منها حتى إذا أقبل الليل تجتمع في الحقول متماسكات الأيدي كالحلقة التي تؤلفها نساؤنا ليجلون العروس ثم تأخذ في الرقص والغناء في ضوء القمر. وقد ترعى ماشيتها على ضفاف الأنهر ولا تزال تلك حالها حتى يعاودها الشتاء. ومع أن الألفة غير منظورة فالمولودون أيام الآحاد يمكنهم أن يروها. وهي على نحافتها وجمالها ولطف بنيتها لها من القوة ما يمكنها حمل أثقل الصخور وأكبرها حجماً ماشية به مسافات طويلة وإذا لمست بيتاً هزته وزعزعته من أسسه ولو شاءت لحملت بيدها رجلاً وسارت به ركضاً ولا تبالي. وهي تحب غالباً شجر البلسان والزيزفون والحور الرومي فمن أحب أن يراها من مواليد يوم الأحد يقصد من تلك الأشجار ما كان منها في سفوح الجبال يجدها تغني على قيثارها العازف تحت رواق ظلها الوارف. وكان لها في بلاد الإنكليز وسكوتلاندة ملك وملكة وكانت جزيرتا سترن وروجن في بحر البلطيك تحت سلطانهما وقد شوهد هذا الملك يوماً في مركبة يجرها أربعة أفراس ويستدلون على تجوله في مملكته المترامية الأطراف بصهيل الخيل وسواد الماء والضوضاء التي يحدثها أعوانه في طبقات الهواء.

واليونانيون القدماء يقولون أن أغينور ملك فينيقية تزوج بالجنية ميلي فولدت له أوروبا فنشأت ذات جمال فتان وبياض ناصع فشغف بها المشتري وتمثل لها بصورة ثور وتزلف إليها كثيراً حتى ركبته معاً بلين قياده فأسرع وهي على متنه نحو البحر وسبح بها إلى جزيرة كريت وهناك اتخذها زوجة فأولدها خمسة صبيان وثلاث بنات وكلهم ابتنوا مدناً وأنشئوا قبائل وعلى هذا يكون الكريتيون من سلالة الثيران والجن فلا عجب إذا كانت نيران فتنهم لا تنطفئ وحركات ثوراتهم لا تسكن. والروسيون الأقدمون يزعمون أن الفامبيره فريق من الجن يسكنون القبور وهم يثورون ليلاً في المدافن. متفرقين على منازل الأحياء حال نيامهم فيمتصون دماءهم. وإن الديموفوي جني البيوت يتراءى للنساء حال انفرادهن وإن في الأنهار عفاريت تدعى فوريانوي وفي الغابات أبالسة اسمها الياسنك والسلافيون يدعون أن للجن إلهاً خاصاً يسمونه وتشرنو بوغ أي الإله السود وللبشر إلهاً آخر اسمه بباليوغ أي الإله الأبيض. وأهل جبال البريني أو البرانس يعتقدون أن الجن مقيمة في الغيوم التي تغشى ذروات جبالهم وعلى ضفاف الأنهار الحافلة بالأشجار ولهم فيها أقاصيص طويلة وروايات غريبة لا يحتمل المقام سردها أو استيفاءها. وأهالي جزائر ملديف يقولون أنه كان يجيئهم في وقت معلوم من ناحية البحر جني كأنه مركب مملوء بالقناديل فلا ينجو من شره إلا بإعطائه فتاة بكراً يتركونها له في بيت الأصنام ثم يصبحون فيجدونها منهوكة ميتة فاتفق أن زار مدينتهم رجل صالح يدعى أبو البركات البربري فلما حان زمان مجيء الجني أخذت النساء يبكين ويندبن فسألهن عن السبب فقالت له عجوز منهن أن لها بنتاً وحيدة بارعة في الجمال أصابتها القرعة بحسب القاعدة الجارية في المدينة وستكون في الغد ضحية للجني فقال أنا أنوب عنها ثم ذهب إلى بيت الأصنام متخفياً وأخذ يتلو القرآن العزيز فلما سمع الجني تلاوته غاص في البحر ولم يعد بعد. قال ابن بطوطة في رحلته إن هذه الحاد ثة كانت سبباً لدخول أهالي تلك الجزائر في الإسلام وهي يد كبرى تعد لأبي بركات المشهور بصلاحه على أولئك الوثنيين. واليونانيون يثبتون أن عذارى من الجن اعتنين بتربية جوبيتر وهو طفل فأهدى إليهن قرن

الخصب وهو أحد قرني العنزة التي رضع لبنها عندهن. وهم يقسمون الجن إلى ثلث رتب يرفعون الأولى منها إلى مقام المعبودات وجدها الأعلى عندهم أجينوس باللسان الروماني القديم وهو شخص زفس أو جوبيتر. وهي تقسم إلى فئات أو قبائل منها البانة والفونة والسانيرة والنيمفة الرتبة الثانية توابع كل شعب وكل مدينة وكل محلة وهم يعتقدون أن مؤلفي هذه الرتبة يموتون ويولدون كسائر الأحياء غير أن حياتهم تستغرق ألوفاً من السنين. والرتبة الثالثة توابع كل شخص بمفرده وهم الذين يتولون أمور الأفراد ويؤثرون في جميع أحوالهم من معايشهم وعواطفهم وحوادثهم وأمراضهم. وللنساء توابع خاصة يسمونهن جونون. قال سرفيوس متى ولد الإنسان يسخر له تابعان من الجن أحدهما يرشده إلى ما به الخير والآخر يميل به إلى طرق الشر. وقال أبوليوس إن النفس البشرية ذاتها تتحول بعد نجاتها بالموت من هيولاها إلى الجن فإن كانت حياة صاحبها صالحة دخلت في عداد الجن الأنيس وبقيت في البيت لحماية ساكنيه وإن كانت شريرة سميت لارفه أي عفريتاً أو جنياً خبيثاً فلا تستقر في مكان واحد ويكون دأبها الإخافة والتهويل وإلقاء الرعب بين البشر والوسوسة والنزع في الصدور إمالة بأربابها إلى الإضرار بأوغوسطوس مادام تابعه يحميه ويذود عن حوضه. وكان اليونان والرومان عن بكرة أبيهم يقدمون في أعياد مواليدهم نذوراً للصالحين من تابعيهم زهراً وبخوراً وخمراً يضعونها على ضفاف الجداول وتحت ظلال الأشجار في الغابات تكرمة وزلفى ولو استوفينا كل ما ورد عن هاتين الأمتين في أعصرهما الخرافية مما يتعلق بموضوعنا لطال بنا المطال وضاقت عن استيعابه الرسائل بيد أنا فيما ذكرناه عنهما غنى وكفاية. أما الفرس فيعتقدون أنه يحكم العالم روحان متضادان متخاصمان أحدهما صالح وهو أورمزد والآخر شرير أهرمن وهذان الروحان في خصام دائم ومن غلبة الواحد على الآخر ينتج تداول الخير والشر والنور والظلام والليل والنهار كل يوم. وما الجن إلا لخدمة أهرمن وحاشيته وسيأتي يوم يظهر فيه ثلاثة أنبياء يفلون جيوش

أهرمن ويتلفون أعماله فلا يبقى جني على الأرض فيعيش الناس في سعادة كاملة وسلام دائم يتكلمون بلسان واحد ويعيشون متحدين على نمط واحد ووتيرة واحدة وهؤلاء الثلاثة أنبياء سيولدون من نطفة محفوظة في ينبوع ماءٍ صغير لم يهتد إلى مكانه بعد. وهاذ الاعتقاد الثنائي مستفيض في الشرق منذ القديم حتى أنه يظهر بالتتبع والاستقراء التقليدي إنه كان على عهد عيلام بن سام بن نوح الذي منه تشعب الفرس وقد سرى إلى عدة شيع ونحل وبدع في القرون الأولى وأصبح ركناً بني عليه مذهب الماني الموسوس الفارسي كما لا يغرب على كل مطلع على تاريخ هذه الأمة. وقد زعم الفرس أيضاً أن للجن مملكة خاصة اسمها عندهم جنستان أي بلاد الجن ويقولون أنها واقعة في الطرف الغربي من أفريقية وقد طالما سماها شعراءهم بأرض المردة والعفاريت: أما العبرانيون والفينيقيون والكلدانيون القدماء فيقولون أن الجن تدخل في البشر فتبليهم بالجنون وهيب تسكن الأرض وتتراءى للناس بهيئات مختلفة حتى أنها تتلبس بأشكال الحيوانات ويستخدمها السحرة والعرافون للأنباء بالمغيبات وكشف المستورات وكل هؤلاء الأمم يعتقدون كالعرب بالقرينة والتابعة والكهانة والسحر ومن يرجع إلى تواريخهم يجدها طافحة بأخبار وأقاصيص تدل على رسوخ هذا الاعتقاد فيهم منذ قرونهم الأولى شأنهم في ذلك شأن سائر الأمم الشرقية سواء. أما المصريون فقد كانوا يهبون جني نهر النيل في كل عام عروساً حسناء من فتياتهم استرضاء له واستمداداً لفيضه ويجعلون الحيات والهررة وغيرها آلهة وأنصاف آلهة متخذين العجل آبيس أعظم معبود لهم بناء على كون الزراعة ركن معايشهم وقوام رزقهم في بلادهم فهم يكرمونه ويخصونه بأفضل أنواع العبادات ليمد الثيران من سائر بني جنسه بقوة من عنده تكفيهم مؤونة الحرث والفلاحة التي لم يجدوا إليها سبيلاً في تلك الأزمنة إلا بتسخير البقر. ومع أن الأقدمين منهم كانوا في طليعة غيرهم من الأمم علماً ومدنية وتهذيباً كانت عقائدهم الخرافية في غاية السخف وقد زادهم فيها استرسالاً اجتياح اليونان ثم الرومان لبلادهم واستيلاؤهم عليها ردحاً من الدهر إذ قد أضيف ما عند هؤلاء من مضحكات العقائد ومبكياتها إلى ما عندهم منها حتى أصبحت مزيجاً جامعاً ما لم تجمعه أمة قبل ولا بعد.

هذا مجمل ما ورد متفرقاً في أسفار السلف وأساطيرهم_من كل أمة ونحلة_برهاناً على كون الاعتقاد بالأرواح الخفية كالجن والعفاريت والمردة إنما هو مرافق حياة البشر في قرونهم الأولى من كل جيل وجنس ومذهب ولكن على أنحاء متضاربة ووجوه متباينة واختلاف كثير في وصفها وتكييفها وتعيين قواها وطبائعها وتحديد ماهيتها ومراتب تأثيرها في أعمال الخلق وشؤونهم إلى غير ذلك مما لم يقع عليه الإجماع التام بين شعب وشعب وأمة وأمة. ومما يجب التنبيه إليه أنه قام في كل صقع وبين كل قوم رجال أفذاذ من أبناء العصور الغابرة قائلين بما يقوله اليوم أكثر علماء الغربيين وبعض الشرقيين من أن هذه الأرواح_الضارة_لا وجود لها إلا في مخيلات الناس وأوهامهم يبعثهم على تصورها والجزم بوجودها ما يتعاورهم من الأماني والمخاوف والانفعالات المتناقضة فيما يعرض لهم من أحوال هذه الحياة الدنيا الكثيرة الكوارث والشجون مضافاً إلى ذلك ما يتوارثونه من عقائد الآباء ويتناقلونه خلف عن سلف من ترهات وعجائزيات قد أبان على تبجينها في أذهانهم ما أسدله الجهل على بصائرهم من كثيف الحجب في أعصر الظلمات ولاسيما أثناء القرون الوسطى التي استحكمت فيها المنازعات الدينية والأحن المذهبية_مسببة عن أطماع الملوك_حتى ألبست الأرض أرجواناً من الدم. فما بدأ يتفجر في أفق العالم الغربي نور العلم الصحيح المبني على التثبت والاستقراء الحسي حتى أخذ يتقلص في تلك الأصقاع ظل الاعتقاد بوجود أرواح تتأثر بني الإنسان متداخلة في أمورهم ومصايرهم فاعلة في شواعرهم وهواجسهم ضاغطة على حركاتهم وسكناتهم في معايشهم ومرتزقاتهم وكان ذلك في أواسط القرن الثامن عشر حتى إذا أشرف محيا القرن العشرين من نافذة الدهر تلاشى أو كاد مذهب من يرى أن في العالم المحجوب قوة تناوئ إرادة الله وتناهض عباده كما يزعم الثنائيون من الأمم ومعظم المتدينين من الفلاسفة والمفكرين في أيامنا هذه يذهبون إلى أنه قبل انقضاء هذا القرن قد لا يبقى على وجه البسيطة من يصدق بوجود فاعل فوق الطبيعة غير الحق عز وجل وهو سبحانه أعلم بما يتخرصون. دمشق:

سليم عنجوري.

حمة أبي رباح

حمة أبي رباح لم يكتب أحد من المتقدمين من علماء العرب وغيرهم في تاريخ هذه الحمة أو موقعها أو وصفها وصفاً علمياً مع ما لها من المكانة التاريخية والطبيعية كما أنه ليس للباحثين المتأخرين من الغربيين والسوريين مقال في هذا الباب يرجع إليه أو شرح يستند عليه. ولقد كان بودي أن أقف على كلمة من هذا القبيل لتكون لي دليلاً في سبيل ما أريد تسطيره وحجة تؤيد ما أعلمه في هذا الموضوع وأروم تحبيره إلا أنني لم أجد كتاباً يذكر ما أردت وينبئ ما رمت فما وسعي إلا أن أعود إلى ما أعلمه عن هذه الحمة بالاختبار مجداً في تطبيقه على الفن الحديث ومستدلاً على تاريخه بما عثرت عليه فيها من الأبنية والآثار القديمة بقدر الإمكان. مركزها الجغرافي_أبو رباح جبل من كورة حمص من عمل ناحية القريتين يبعد عن الأولى أربعين ميلاً إلى جهة الشرق وعن الثانية تسعة أميال إلى الشمال الغربي يشرف على ضيعة يقال لها الغنتر من أملاك عبد المجيد آغا سويدان مدير ناحية حسية (أيكي قبولي) الحالي ورئيس أسرة سويدان المعروفة ويحده من الشمال أراضي (الشومرية) وهي جبال قل فيها المنبسط ذات تربة جيدة وأرض خصبة منبتة وفيها بعض القرى المستحدثة وكانت من أملاك السلطان السابق ويسمونها الآن (الأملاك المدورة) ومن شماله أيضاً البلعاس وهي كورة من كور حمص فيها حرج من شجر البطم يبلغ طوله تسعين ميلاً من الغرب إلى الشرق ويحده من الشرق طريق القوافل بين الشام وتدمر ثم الجباة وهي مزرعة لنا ذات مياه وقد أوقع سيف الدولة فيها بقبائل البادية وذكرها المتنبي بقصيدة يمدح بها المشار إليه حيث قال: ومروا بالجباة يضم فيها ... كلا الجيشين من نقع أزارا ومن الجنوب الغنثر والجباة المار ذكرهما ومن الغرب الشومرية والفرقلس وهي قرية من الأملاك المدورة ذكرها ياقوت الحموي فقال أنها اسم مياه قرب سلمية بالشام والأصح أنها أقرب إلى حمص من سلمية. مركزها الطبيعي_إن هذا الجبل بركان لا ثائر ولا منطفئ لأنه لو كان ثائراً لأهلك القرى المجاورة له وقضى على الأرواح والأجساد مما يقذفه من الحجارة والحمم ولو كان منطفئاً لما صعد منه البخار الذي يراه منه الناظر من مسافة بعيدة متفرقة في الجو. ومعلوم أن

الأرض كانت جسماً يكاد يكون سيالاً يتلظى قبل وجود الإنسان والحيوان والنبات على سطحها ثم برد سطحها وبقي جوفها شديد الحرارة والسبب في ثوران البركان هو هذه الحرارة والماء والمواد المعدنية الحارة في جوف الأرض فإذا ما اختلط الماء بالمواد المعدنية الحارة تمدد ورفع ما فو قه ثم يزداد الضيق عليه من الحرارة وثقل الأرض وعندما يشتد دفعه ينفجر ويقذف الحمم والصخور والبخار ويجعل الصعيد المستوي جبلاً راسياً مما يرمي به تلك الأجسام ولكن إذا فقدت المواد المعدنية وظل الماء جارياً تسخنه حرارة باطن الأرض الطبيعية البالغة ألفي درجة أو أكثر وكانت الأرض بركانية من قبل لا يصعد من أفواهها غير البخار كما يشاهد في أبي رباح هذا إذ يسمع الإنسان الواقف عند فوهته صوتاً كهدير البحر ويرى البخار يتصاعد منها كبخار الماء المغلي في المرجل. فمن هذا يتبين لنا أن أبا رباح كان بركاناً ثائراً في العصور الخالية ودام ثورانه ردحاً من الزمن إلى أن انتهى ما في جوفه من المواد المعدنية وبقي الماء والحرارة الطبيعية المسببان لصعود بخاره الحار. نظرة تاريخية_اتضح مما قدمنا أن هذه الحمة بركان نفدت مواده المعدنية الحارة منذ ألوف السنين وصارت إلى ما هي عليه اليوم عبارة عن فوهة وسط جبل يتصاعد منها بخار مائي ليس إلا. ثم جاء الأقدمون وبنوا فوق هذه الفوهة حماماً يستشفون به من الأسقام والأمراض ولكن من هؤلاء الأقدمين الذين شادوا هذا المعهد الكبير النافع؟. . سؤال نقف عنده إذ ليس لدينا من الأدلة التاريخية إلا الآثار الموجودة التي ستستنبط منها ما يكون موافقاً للأحكام التاريخية فنقول: سكن هذه البلاد كما روى التاريخ من الأمم ذات الحضارة والمدنية والسلطة الكنعانيون والآراميون واليونانيون السلوقيون والتدمريون والرومانيون والمسلمون فالأمم الأربع الأولى هم سكان البلاد الأصليون والاثنتان الباقيتان هم الفاتحون الذين قطنوها بعد الفتح فأي أمة من هذه الأمم قامت بتشييد هذا المحل يا ترى؟ المسلمون؟. . لا لأن الآثار الموجودة ليست من أيامهم بل هي أقدم منهم بقرون عديدة كما أنها ليست من أعمالهم ولو كانت ذلك لدنوها في كتبهم وكذلك الرومانيون لم يكون إلا أمة فتوح واستعمار لا أمة علم وفن ولم يبرزوا إلا في بناء المعاقل والحصون في الصحاري لصد صدمات المهاجمين وقلما تنفع دولة مستعمراتها كما تفيد ممالكها الأصلية

ومع كل ذلك نرى أثراً من تلك الآثار المتباينة في طراز هندستها وقدمها على نسق الأبنية الرومانية ذات العقود والقناطر قائماً على يمين الحمة بمسافة عشرات من الخطوات وهو أحدث الآثار الباقية المتداعية الأركان. وإذا أمعنا النظر في هذه الآثار ندرك أنه ليس للكنعانيين والآراميين من صنعة فيها وربما أقاموا في ذلك المكان حيناً من الدهر حتى داهمتهم الحمم الصادرة عن جوف الأرض إبان ثورانها فأزهقت نفوسهم ودفنت مساكنهم إذ يبصر المرء هنالك آثاراً طامسة تغشاها الحمم والأنقاض الدالة على الثوران في غابر الزمان. وهنا لم يبق لدينا سوى تينك الأمتين السلوقية والتدمرية ولا مناص من نسبة هذا الحمام وما يجاوره من الأنقاض إلى إحداهما أو إلى كليتيهما لأن الأمة السلوقية كانت ربة علم وفلسفة لا يفوتها استخدام مثل هذا البخار للمنافع الصحية وكذلك الأمة التدمرية على ما نعرفه ويعرفه الخاص والعام فإن لنا في مدينتها العظمى شاهداً عدلاً على ما بلغته في الصناعات والترقي في الفنون وناهيك بأعمدتها الباسقة التي كانت تجري من فوقها الأنهار فأمة مثل هذه لا يعوقها جعل بركان قريب لعاصمتها حماماً يزيل ما في الأبدان من الأوجاع والأوصاب. فكلتا الأمتين كان لهما في حلبة المعارف أفكار سامية وفي مضمار الرقي عقول نيرة ثم دالت دولتهما وهما ينشدان: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار أي لعمر الحق أنها لأثار تدل على ما كان لهم من اليد الطولى في الفنون الجميلة والصناعات البديعة كما أن قيام هذا الحمام ليس عن عبث أو سائقة طبيعية بل عن علم صحيح وعقل رجيح فإذا حققت النظر في مبانيه الخربة وجدت أنها كانت في عهدها الزائل مستوفاة الشروط الطبية داخلاً وخارجاً مما نعجز نحن أبناء القرن العشرين عن الافتكار بمثله ولو بعد حين. وفوق كل هذا إنني أرجح نسبة هذه الآثار إلى التدمريين لمشابهة أنقاضها لأنقاض مدينة تدمر وقربها منها ولما يتواتر على السنة الأهلين في تلك الأنحاء من أن هنالك ساقية قديمة تنتهي إلى المدينة المذكورة.

نبذة صحية_لو كنت طبيباً لفحصت هذا الحمام من وجهته الطبية والكيماوية فحصاً دقيقاً وعلمت ماهية بخاره ومقدار درجات حرارته ونتيجة تحليله ولكني لا أطيق التطفل على موائد الطب فأقتصر على ما أعلمه من شفائه للمصابين بالأمراض العصبية عامة وتيبس الأعضاء والتشنج خاصة. وفاتنا ذكر ما هنالك من المناظر غير الفوهة التي بني عليها الحمام وفيها منفذان أحدهما يتداوى به الصم بوضع آذانهم على فيه والثاني يؤمه العقيمات من النساء لدفع الأسباب المانعة من حبلهن بقعودهن القرفصاء عليه ولا أخال الأطباء يقولون بخرافة هذه الطريقة لأن البخار إذا ما دخل الأذن وبيت الولادة يطهر ما فهيما من الأوساخ إن كان ثمة ذلك والله أعلم لمحة إدارية اقتصادية_ليس من ينكر أن مثل هذه المعاهد إذا عني بإصلاحها تأتي بدخل عظيم ولكننا أمة قدر لها أن تكون في الأعصر الماضية خاملة لا تهتدي إلى طرق غناها ولا تقر بمقدار ثروتها التي هي تحت تصرفها وفي حوزتها فترى المال الذي في جبالها متروكاً والممزوج بتربة سهلها منسياً ومن جملة المهملات هذا المكان الذي نحن بصدده وهو لم يزل خراباً يباباً يلجأ إليه لصوص الأعراب وجناتهم فلو لحظ بطرف الاهتمام قليلاً وأرسل إليه طبيب كيماوي يحلل بخاره ويشرح فوائده الصحية بقرير شرحاً وافياً ومهندس يخطط لاعتماره مصوراً كافياً ثم تنشأ فيه أماكن منتظمة تسر القاصدين من المرضى وغيرهم بعد بناء مخفرة للجند تمنع المعتدين من أهل البادية وتلزمه الحكومة إلى شركة أو متمول لقاء مبلغ من المال لكانت تستفيد منه وتفيد فتنشر الأمن في تلك الربوع وعساها فاعلة عن قريب وعسى أهل العلم لا يضنون علينا بما يكشف الغامض من هذه الحمامات البخارية. فارس فياض.

مناظرة القنائي والسيرافي

مناظرة القنائي والسيرافي من المناظرات الجميلة بأسلوبها وجمال إنشائها ما جرى بين متى بن يونس القنائي وبين أبي سعيد السيرافي نقتبسها من الجزء الثالث من معجم الأدباء الذي صدر مؤخراً ليطلع القراء على أفكار الفيلسوف وأفكار نحوي وها نحن نقدم قبل إيراد المناظرة مختصر ترجمة المتناظرين وناقل كلامهما ليكون القراء على بينة مما يتلو كلامه. أما متى بن يونس أو يونان أبو بشر وهو من أهل دير ممن نشأ في أسكول مرماي قرأ على قوقري وعلى روفيل وبنيامين ويحيى المروزي وعلى ابن أحمد بن كرنيب وله تفسير من السرياني إلى العربي وإليه انتهت رئاسة المنطقتين في عصره وكان نصرانياً وتوفي ببغداد يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ولمتى من الكتب مقالة من مقدمات صدر بها كتاب أنالوطيقا كتاب المقاييس الشرطية وشرح كتاب إيساغوجي لفرفوريوس. وأما أبو سعيد الحسن السيرافي فيتلخص مما قاله ياقوت في معجم الأدباء أن سيراف بليد على ساحل البحر من فارس كان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد فسماه أبوه أبو سعيد عبد الله وقال أبو حيان في كتابه الذي ألفه تقريظ أبو عمرو بن بحر وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم ابو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو الفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر له على زلة وقضى ببغداد وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله ومات 368. هذا أما أبو حيان التوحيدي فهو المتكلم الصوفي صاحب المصنفات ومنها كتاب البصائر والإشارات وغيرهما وكتاب المقابسات وكان إماماً في النحو واللغة والتصريف فقيهاً مؤرخاً وصفه ابن النجار أنه كان فقسراً صابراً متديناً وأنه كان صحيح العقيدة إلا أن بعض المؤرخين رموه بالكذب وقلة الدين والمجاهرة بالبهتان وإنه تعرض لأمور جسام والقدح في الشريعة والقول بالتعطيل قال ابن الفارس: ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد

فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعداءه ونفق عليهم بزخرفه وأفكه ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار. وعده أبو الفرج ابن الجوزي في تاريخه أحد زنادقة الإسلام الثلاثة وهم الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء قال وأشدهم على الإسلام أبو حيان لأنه جمجم ولم يصرح. قال السبكي أنه وقع على كثير من كلامه فلم يجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس مزدرياً بأهل عصره ولا يوجب هذا القدر. قلنا وما كان طلب الصاحب ابن عباد لأبي حيان إلا لأن هذا وضع كتاباً سماه مثالب الوزيرين ضمنه معايب أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليهما وعدد نقائصهما ومن كتبه أيضاً الإمتاع والمؤانسة في مجلدين وكتاب الصديق والصداقة وكان موجوداً في السنة الأربعمائة. وإليك الآن هذه المناظرة الغريبة. قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها فقال لي اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة هؤلاء الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه وتوعى فوائده ولا يتهاون منه في شيءٍ فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلثمائة قال الوزير ابن الفرات للجماعة: (وفيهم الخالدي وابن الإخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن أبي رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فارس وابن رشيد وابن العزيز الهاشمي وابن يحيى العلوي وابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان) أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده وأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن

فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما ذهب إليه وإني أعدكم في العلم بحاراً وللدين وأهله أنصاراً وللحق وطلابه مناراً فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الجامدة والألباب الناقدة لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة ويجتلب الحياة والحيا مغلبة وليس البراز في معركة غاصة كالصراع في بقعة خاصة. فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك والانتصار لنفسك راجح على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنة والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطؤه على سنن مرضي وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح. فقال له أبو سعيد: لأخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل هبك عرفت الراجح منت الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون والى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد وبقيت عليك وجوه فأنت كما قال الأول: حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء. وبعد فقد ذهب عليك شيءٌ هاهنا ليس كل ما لدينا في الدنيا يوزن بل فيها ما يوزن وفيها ما يكال وفيها ما يذرع وفيها ما يمسح وفيها ما يحزر وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة والإحساس ظلال العقول وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها

من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه وأن يتخذوه حكماً لهم وعليهم وقاضياً بينهم ما شهد له قبلوه وما أنكره رفضوه. قال متى: إنما يلزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه. قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة إنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق وطلكن ليس الأمر هكذا ولقد موهت بهذا المثال ولكم عادة في مثل هذا التمويه ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة. قال: نعم. قال أخطأت: قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بل أنا أقلدك مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى علم تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان فكيف صرت تدعو إلى لغة لا تفي بها وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متهولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية. قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت وقومت وما حرفت ووزنت وما جزفت ولا نقصت ولا زادت ولا قدمت ولا أخرت ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام وإن كان هذا لا يكون وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني فكأنك تقول بعد هذا لا حجة إلى عقول يونان ولا برهان إلا ما وصفوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصناعة ولم نجد هذا عند غيرهم. قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى فإن العلم مبثوث في العالم ولهذا قال القائل: العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض ولهذا غلب علم في مكان دون مكان وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة وهذا واضح والزيادة مشغلة ومع هذا فإنما كان يصح قولك ويسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة الظاهرة والبينة المخالفة وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم والحق تكفل بهم والخطأ تبرأ منهم والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممن يظن بهم وعناد ممن يدعيه عليهم بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير وله مخالفون منهم ومن غيرهم ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث في المسألة والجواب سنخ وطبيعة فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيءٍ يرفع به هذا الخلاف أو يحله أو يؤثر فيه هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منط قه على ما كان قبل منط قه وامسح وجهك بالسلوة عن شيءٍ لا يستطاع لأنه مفتقد بالفطرة والطباع وأنت فلو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها وتدرس كتب يونان بعادة أصحابها لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان وها هنا مسألة: أتقول أن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيءٌ يرتفع به الاختلاف الطبيعية والتفاوت الأصلي. قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً. قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع دع عنك هذا أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب ومعانيه متميزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه وهو الواو وما أحكامه وكيف مواقعه وهل هو على وجه واحد أو وجوه. فهبت متى وقال: هذا نحو والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو وبالنحوي حاجة إلى المنطق لأن المنطق يبحث عن المعنى والمنطق يبحث عن اللفظ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ واللفظ أوضح من المعى. قال أبو

سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والأنباء والحديث والأخبار والاستخبار والعرض والتمني والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ألا ترى أن رجلاً لو قال نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح وأبان المراد ولكن ما أوضح أوفاه بحاجته ولكن ما لفظ أو أخبر ولكن ما أنبأ لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى وإن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان لأن مستعملي المعنى عقل والعقل إلهي ومادة اللفظ طينية وكل طيني متهافت وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ويسلم لك بمقدار وإن لم يكن لك من بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة بك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف فإني أتبلغ بهذا القدر إلى إغراض قد هذبتها لي يونان. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات كهذه الأسماء والأفعال والحروف فإن أخطأت والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة على أن ها هنا سراً ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو أنتعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف فمن أين يجب أن نثق بشيءٍ ترجم لك على هذا الوصف بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية كما أن اللغات لا تكون فارسية ولا عربية وتركية ومع هذا فإنك

تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر فلم يبق إلا أحكام اللغة فلم تزري على اللغة العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطليس بها من جهلك بحقيقتها وحدثني قائل قال لك عن حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا وأتدبر كما تدبروا لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد وما تقول له لا يصح له هذا الحكم ولا يستثب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل أكثر مما يفرح باستبداده وإن كان على حق وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين. ومع هذا حدثني عن الواو وما حكمه فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً. وإن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل اللغة بكاملها وإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج وهذه رتبة العامة أو هي رتبة فوق العامة بقدر يسير فلم يتأبى على هذا وينكر ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان وإنما سألتك عن معاني حرف واحد فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق والتي لها بالتجوز وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون أن الباء للإلصاق وإن في تقال على وجوه يقال الشيء في الوعاء والإناء والمكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس ألا ترى هذا الشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب فهذا جهل من كل من يدعيه وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذ قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع السكيت. فقال ابن الفرات أيها الشيخ الموفق أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون اشد في إفحامه وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشيع به. فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها معنى العطف في قولك أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا ومنها الائتناف كقولك خرجت وزيداً قائم لأن الكلام بعد ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل

نحو قوله: وقائم الأعمال خاوي المخترقن. ومنا أن تكون أصلية في الاسم كقولك واقد واصل وافد وفي الفعل كقولك وجل يوجل ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى فلما استلما وتله للجبين ونادياه أي ناديناه ومثله قول الشاعر: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل المعنى انتحى بنا ومعنى الحال في قوله عز وجل: ويكلم الناس في المهد وكهلاً أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة. فقال ابن فرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك. ثم قال أبو سعيد: دع هذا ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ما تقول في قول القائل زيد أفضل الأخوة. قال: صحيح: قال: فما تقول إن قال زيد أفضل أخوته. قال: صحيح قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهباً عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه والجماعة تعلم أنك أخطأت فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ هذا كان يصح لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم اتلسياح والخاطر العارض والحدس الطارئ وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له الاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقاً لغرضه وموافقاً لقصده. قال ابن فرات يا ابا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملاً في نفس أبي البشر. فقال ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير فإن الكلام إذا طال ملَّ. فقال ابن الفرات ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال ابو سعيد: إذا قلت زيد أفضل أخوته لم يجز وإذا قلت زيد أفضل الأخوة جاز والفصل بينهما أن أخوة زيد هم

غير زيد وزيد خارج من جملتهم ولك دليل أنه لو سأل سائل فقال من أخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول عمرو وخالد ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن أخوته صار غيرهم فلم تجز زيداً غير أخوته فإذا قلت زيد أفضل الأخوة ألا ترى أنه لو قيل من الأخوة عددته فيهم فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير فلما كان على ما وصفناه جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس كما دل الرجال وكما في عشرين درهماً مائة درهم. فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد. فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك وإن زاغ شيءٌ عن النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيءٌ مسلم لهم ومأخوذ عليهم وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى. ثم اقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا البشر أن الكلام اسم وقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً ثم به نسج بعد أن غزله فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي وزن سداته ثم تأليفه كنسجه وبلاغته كقصارته ودقة سلكه كرق لفظه وغلظ غزله ككثافة حروفه ومجموع هذا كله ثوب ولكن يعد تقدمة كل ما يحتاج إليه. قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسوألة أخرى فان هذا كلما توالي عليه بأن انقطاعه وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال لهذا عليّ درهم غير قيراط. قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ها هنا ما هو أخف من هذا قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان وقال آخر:

بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا عليك من مسائل المنطق شيئاً لكن حالك كحالي. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيءٍ أنظر فيه فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً وإن كان غير مت علق بالمعنى رددته عليك وإن كان مت صلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها وبين ما وحدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب وإلا والموضوع والمحمول والكون الفساد والمهمل والمخصوص وأمثلة لا تنفع ولا تجدي وهي إلى العي اقرب منها إلى الفهاهة اذهب ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقض ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة وتدعون الشعر ولا تعرفونه وتدعون الخاطبة وأنتم عنها في منقطع التراب وقد سمعت قائلكم يقول الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بمن قبله من الكتب وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان وإلا فلما صنف مالاً يحتاج إليه ويستغني عنه هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً وغابتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص وتقولوا إلهية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والإنسية والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولون جئنا بالسحر في قولنا * لا أفي شيء من باء وواو وجيم في بعض باء وفاء في بعض جيم وإلا في كل ب وج في كل ب فإذا لا في كل ج وهذا بطريق الحلف وهذا بطريق الاختصاص وهذه كلها جزافات وترهات ومغالق وشبكات ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وإنارات نفسه واستغنى عن هذا كله بعون اله وفضله وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس منائح الله الهبية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده وما عرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً من هذا الناشيء

التلغراف

التلغراف سعى ركضاً رسول الكهرباء ... على أسلاكه فوق الهواء جرى متدفقاً من دون صوت ... كما تجري الأشعة من ذكاء وطار بأرضنا براً وبحراً ... كما طارت بروق في السماء أصمٌ سامعٌ أقوال دان ... وأخرس ناطق بمراد ناء جماد كاتب من غير كف ... حروفاً لسن من هذا الهجاء به التلميح تصريح جلي ... به الإيحاز تطويل لراء وليس يريبه حر وبرد ... فيجري في المصيف وفي الشتاء يقابل ضغط إعصار ببر ... وتياراً يهيج موج ماءِ تجاري في الضياء وفي الدياجي ... ليوصل ما يشاء بلا وناء فيشبه في سكينته فؤاداً ... يمد الجسم من خير الغذاء كذا أسلاكه تحكي عروقاً ... قد امتدت بجثمان الفضاء وأعصاباً بهذا الإحساس يجري ... لأدمغة كجري الكهرباء تسير بطيها الأنباء تحيي ... عوالم أرضنا سيل الدماء فسبحان الذي أهدى عقولاً ... إلى كشف القناع عن الخفاء عيسى اسكندر معلوف

العرب

العرب العرب مات شعورهم ... فاندبه دهرك باكياً ولى فولى بعده ... أنسي وساء مآليا وظللت للهم المب ... رح والشقاء مؤاخيا لا أجلتي للعلم إلا ... شانئاً أو قالياً وإذا دعوت إلى الهدى ... قمي ورحت مناديا وطفقت أندب حالهم ... ندب الربوع خواليا وأقول أن عمادنا ... يا قوم أصبح واهيا عافوا النصيحة وانثنوا ... لا يسمعون دعائيا قد كنت أطع أن أرى ... وطني بهيجاً زاهيا فوجدته من كل علم ... أو علاء خاليا فرثيته وبكيته ... وسكبت دمعاً غاليا وتقطعت أعشار قل ... بي حسرة وفؤاديا يا عرب إن خمولكم ... ترك القلوب دواميا أشجى المحب بما شجا ... فغدا حزيناً آسيا فمتى الصعود إلى العلى ... فأنا صاح مراديا وأبيت مغتبطاً أج ... ر من الحبور ردائيا فسعادتي يا ابتن الكرا ... م وبغيتي ومراميا أن تصبح العرب الأذل ... ة سادة ومواليا وتعيد مجداً كان بال ... علم المرجب حاليا وتكون نوراًَ للبري ... ة بالمعارف هادياً وتسيد في ربع العلا ... ء معاهداً ومبانياً فتسوء حساداً نكا ... هم فضلها وأعادياً هذي سعادتي التي ... أنا ناشد وهنائيا وهي الشقاء لعلتي ... وهي الدواء لدائيا القدس:

إسعاف النشاشيبي.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام أبي حاتم محمد بن حيان البستي المتوفى سنة 354هخـ صححه محمد أمين أفندي الخانجي بعد قراءة الأصل على الشيخ طاهر الجزائري طبع بمطبعة كردستان العلمية بمصر. سنة 1328 ص267. علم الأخلاق كما قال ابن ساعد علم بعلم منه أنواع الفضائل كيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها وموضوعه الملكات النفسية من الأمور العادية ومنفعته أن يكون الإنسان كاملاً في أفعاله بحسب إمكانه لتكون أولاه سعيدة وأخراه حميدة. وجميع ما طبع حتى الآن من كتب هذا الفن الجليل مفيد في بابه نافع لطلابه مثل كتاب الذريعة في مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني وتفصيل النشأتين له وأدب الدنيا والدين للماوردي والفوز الصغر لا بن مسكويه وتهذيب الأخلاق له أيضاً ومداواة النفوس لابن حزم ورسائل إخوان الصفا وحكم ابن عطاء الله السكندري وقواعد التصوف لا بن زروق والطب الروحاني للشيرازي ومعظم إحياء علوم الدين للغزالي وبعض فصول الفتوحات الملكية لابن عربي وغير ذلك من كتب التصوف الصحيح. وهذا السفر من أجل التي أحييت في هذه الآونة بمعرفة أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري فجاء الفرع والأصل متساويين في المحاسن وقد قال عنه في التذكرة الطاهرية الذي وضعه أستاذنا في فوائد متفرقة في وصف المكتب النافعة الكثيرة التي يطلع عليها قوله: وقفت في ذي الحجة سنة 1327 على كتاب روضة العقلاء للإمام الحافظ الأجل ابي حاتم محمد بن حيان التميمي ألبسني أحد أفرادها الدهر فوجدته كتاباً من أجل الكتب وأنفعها قصد فيه مؤلفه بيان ما يحتاج غليه العقلاء في أيامهم على اختلاف أحوالها وهو من المطالب العالية التي يحرص عليها كل عاقل غير غافل. وليس الرجال بأحق بالاستفادة منه من ربات الحجال وقد ابتدأ كل مط لب بحديث ثابت يتعلق به وابتعه بما قصد بيانه ووشاه بشواهد كثيرة مما قاله شعراء الحكماء وحكماء الشعراء وجرى في عبارته على نهج من أوتوا

الحظ الأدنى من البيان فيجدر بالعقلاء أن يرضوا أنفسهم في روضتهم مجتنين من أثمارها ومجتلين لأزهارها. المؤلف من جلة العلماء المكثرين من التأليف المجودين فيما كتبوه وكتابه هذا على ما نعلم طبع لأول مرة وقد ترجم له ياقوت الحموي في معجم البلدان فقال ما محصله: أبو حاتم محمد بن حيان التميمي العلامة الفاضل المتقن كان مكثراً من الحديث والرحلة والشيوخ عالماً بالمتون والأسانيد أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره ومن تأمل تصانيفه تأمل منصف علم أن الرجل كان بحراً في العلوم سافر ما بين الشاش والإسكندرية وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية وكان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبقه إليه وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن وكانت الرحلة بخراسان من مصنفاته. قال أبو بكر أحمد بن ثابت: ومن الكتب التي تكثر منافعها أن كانت على قدر ما ترجمها به واصفها مصنفات أبي حاتم محمد ابن حيان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر السجزي ووقفني على تذكرة بأسمائها ولم يقدر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معروفة وأنا أذكر منها ما استحسنه سوى ما عدلت عنه أو طرحته. فمن ذلك كتاب الصحابة خمسة أجزاء وكتاب التابعين خمسة عشر جزءاً وكتاب أتباع التابعين خمسة عشر جزءاً وكتاب تبع التباع سبعة عشر جزءاً وكتاب تبع التبع عشرون جزءاً وكتاب الفصل بين النقلة عشرة أجزاء وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ عشرة أجزاء وكتاب علل حديث الزهري عشرون جزءاً وكتاب علل حديث مالك عشرة أجزاء وكتاب علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه عشرة أجزاء وكتاب علل ما استند عليه أبو حنيفة عشرة أجزاء وكتاب ما خالف الثوري شعبة ثلاثة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل المدينة من السنة عشرة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل مكة من السنن عشرة أجزاء وكتاب ما عند شعبة عن قتادة وليس عند سعيد عن قتادة جزءان وكتاب غرائب الأخبار عشرون جزءاً وكتاب ما أغرب الكوفيون ثمانية أجزاء وكتاب أسامي من يعرف بالكنى ثلاثة أجزاء وكتاب كنى من يعرف بالأسامي ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل والوصل عشرة أجزاء وكتاب التمييز بين حديث النضر الحمداني والنضر الحزاز جزءان وكتاب الفصل بين حديث أشعث بن مالك وأشعث

بن سوار جزءان وكتاب الفصل بين حديث منصور بن المعتمر ومنصور بن راذان ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل بين مكحول الشامي ومكحول الأزدي جزءٌ وكتاب موقوف ما رفع عشرة أجزاء وكتاب آداب الرجالة جزءان وكتاب ما أسند جنادة عن عبادة جزء وكتاب الفصل بين حديث نور بن زيد جزء وكتاب ما جعل عبد الله بن عمر عبيد الله بن عمر جزءان وكتاب ما جعل شيبان سفيان أو سفيان شيبان ثلاثة أجزاء وكتاب مناقب مالك بن أنس جزءان وكتاب مناقب الشافعي جزءان وكتاب المعجم على المدن عشرة أجزاء وكتاب المقلين من الحجازيين عشرة أجزاء وكتاب المقلين من العراقيين عشرون جزءاً وكتاب الأبواب المتفرقة ثلاثون جزءاً وكتاب الجمع بين الأخبار المتضادة جزءان وكتاب وصف المعدل والمعدل جزءان وكتاب مفصل بين حدثنا وأخبرنا جزء وكتاب وصف العلوم وأنواعها ثلاثون جزءاً وكتاب الهداية على علم السنن قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه يذكر حديثاً ويترجم له ثم يذكر من يتفرد بذلك الحديث ومن مفاريد أي بلد هو ثم يذكر كل اسم في إسناده من الصحابة إلى شيخه بما يعرفن نسبته ومولده وموته وكنيته وقبيلته وفضله وتيقظه ثم يذكر ما في ذلك الحديث من الفقه والحكمة فإن عارضه خبر ذكره وجمع بينهما وإن تضاد لفظه في خبر آخر تلطف للجمع بينهما حتى يعلم ما في كل خبر من صناعة الفقه والحديث معاً وهذا من أنبل كتبه وأعزها. قال أبو بكر الخطيب: سألت مسعود بن ناصر يعني السجزي فقلت له: أكل هذه الكتب موجودة عندكم ومقدور عليها ببلادكم فقال إنما يوجد منها الشيء اليسير والنزر الحقير. قال وكان أبو حاتم بن حيان سبل كتبه ووقفها وجمعها في دار رسمها بها فكان السبب في ذهابها مع تطاول الزمان وضعف السلطان واستيلاء ذوي العيث والفساد على أهل تلك البلاد. قال الخطيب: ومثل هذه الكتب الجليلة كان يجب أن يكثر بها النسخ فيتنافس فيها أهل العلم ويكتبونها ويجلدونها إحرازاً لها ولا أحسب المانع مكن ذلك كان إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد بمحل العلم وفضله وزهدهم فيه ورغبتهم عنه وعدم بصيرتهم به والله أعلم. قال الإمام تاج الإسلام: وحصل عندي من كتبه بالإسناد المتصل سماعاً كتاب التقاسيم والأنواع خمس مجلدات وكتاب روضة لعقلاء وحصل عندي من تصانيفه غير مسندة عدة كتب مثل كتب الهداية إلى علم السنن من أوله قدر مجلدين وله وهو أشهر من هذه كلها

كتاب الثقات وكتاب الجرح والتعديل وكتاب شعب الإيمان وكتاب صفة الصلاة. وكان من فقهاء الدين وحفظ الآثار والمشهورين في الأمصار والأقطار عالماً بالطب والنجوم وفنون العلم جعل داره مدرسة لأصحابه ومسكناً للغرباء الذين يقيمون بها وأهل الحديث والمتفقهة ولهم جرايات يستنفقونها داره وفيها الصفة خزانة كتبه في يدي وصي سلمها إليه ليبذلها لمن يريد نسخ شيءٍ منها الصفة من غير أن يخرجه منها. قال الحاكم: أبو حاتم كبير في العلوم وكان يحسد لفضله وتقدمه. وصنف لأبي الطيب المصعبي كتاباً في القرامطة وتوفي سنة 354 (ايري فيه) ودفن في الصفة التي ابتناها بمدينة بست بقرب داره اهـ. هذا هو الرجل العظيم الذي اغفل ذكره كتاب التراجم والباحثون في آثار السلف كصاتكحب وفيات الأعيان وفوات الوزفيات وصاحب الفهرست وصاحب كشف الظنون ومع هذا لم يغفل عنه يباقوت وترجمه بما هو أهله. وكم في هذه الأمة من ضاعت ترجمته وغابت عنا أعمالهم بضعف في مدارك أهل بلدهم وعقم النفوس في ديارهم وحسد نالهم وهي العلامة المميزة للمصلحين والصالحين التي كثيراً ما أصيبوا بتأثيراتها الضارة. أنا الكتاب الذي نشر اليوم فهو روضة علم وأدب وأخلاق قسمه إلى مطالب في أدب النفس ناهزت الخمسين مطلباً مثل لزوم التقوى والعلم والصمت والصدق والحياء وترك القحة ولزوم التواضع ومجانبة الكبر والتحبب إلى الناس ومداراتهم وإفشاء السلام والمزاح المباح والاعتزال عن الناس ومؤاخاة الخاصة وكراهية المعاداة والتلون ومجانبة الحرص للعاقل والتحاسد والتباغض ومجانبة الغضب والطمع ولزوم القناعة والتوكل والرضا والعفو وصفة الكريم واللئيم والزجر عن قول الوشاة وكتمان السر والنصيحة للمسلمين كافة والزجر عن التهاجر ولزوم الحلم عند الذى وإباح جمع المال للقائم بحقوقه والحث على إقامة المروءات والزجر عن قبول الهدايا وقضاء الحوائج والحث على مطالبة لمعالي وإطعام الطعام والمجازاة على الضائع والحث على سياسة الرياسة ورعاية الرعية غير ذلك مما يستفيد منه الكبير والصغير ويتأدب به الأمير والأجير ويغني غناءه للرجال والنساء على السواء. يفتتح المؤلف كل فصل بحديث صحيح ثم يشفعه بكلام منظوم أو منثور ينقله بالرواية ومنظومه كله مما يجدر بالناشئة حفظه لسلاسته وكثرة حكمه ثم يتكلم ابو حاتم من عنده

كلاماً يدل على العقل الواسع والعلم النافع وحسن المأتى ولطف الأداء وقد يورد في أكثر الفصول قصصاً تروق العامة والخاصة معاً. نسق تأليفه تنسيقاً عجيباً لم يخل به من أوله إلى آخره حتى جاءت المطالب كلها متساوية بالحجم والفائدة آخذة من الحسن والإحسان بنصيب وافر. فجودة الأسلوب التي عرفت بها مصنفات الإفرنج لعهدنا تجدها على أتمها في المجودين للتأليف في عصور الارتقاء الإسلامي وهذا الكتاب نموذج صالح منها. وإليك الآن مثالاً من عبارة المؤلف تستدل منها عل مبلغه من الحذق والعلم والبيان. قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره صحيح الاعتبار في صباه حسن العفة عند إدراكه رضي الشمائل في شبابه ذا الرأي والحزم في كهولته يضع نفسه دون غايته برتوه (خطوة) ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها لأن من جاوز الغاية في كل شيءٍ صار إلى النقص ولا ينفع العقل إلا بالاستعمال كما لا تتم الف5رصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير أخاف أن يكون حتفه أقرب الأشياء إليه. ورأس العقل المعرفة بما يمكن أن يكون كونه قبل أن يكون والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة فإنها اسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك وكثرة التمني وسوء التثبت. لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق ولا يسعى إلا لما يدرك ولا يعد إلا بما يقدر عليه ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعه منه والعاقل يبذل لصديقه نفسه وماله ولمعرفته رفده ومحضره ولعدوه عدله وبره وللعامة بشره وتحيته ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنماً إلا أن يغلبه الاضطرار عليه ولا يدعي ما يحسن من العلم لأن فضائل الرجال ليست ما أدعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم ولا يبالي ما فاته من حطام الدنيا مع ما رزق من الحظ في العقل. أنشدني عبد الرحمن ابن محمد المقاتلي: فمن كان ذا عقل ولم يك ذا غنى ... يكون كذي رجل وليست له نعل ومن كان ذا مال ولم يك ذا حجى ... يكون كذي نعل وليست له رجل قال أبو حاتم: كفى بالعاقل فضلاً وإن عدم المال بأن تصرف أعماله إلى المحاسن فتجعل البلادة منه علماً والمكر عقلاً والهذر بلاغة والحدة ذكاء والعيُّ صمتاً والعقوبة تأديباً

والجرأة عزماً والجبن تأنياً والإسراف جوداً والإمساك تقديراً فلا تكاد ترى عاقلاً ولا موقراً للرؤساء ناصحاً للأقران مواتياً للإخوان متحزراً من الأعداء غير حاسد للأصحاب ولا مخادع للأحباب لا يتحرش بالأشرار ولا يبخل في الغنى ولا يشره في الفاقة ولا ينقاد للهوى ولا يجمح في الغضب ولا يمرح في الولاية ولا يتمنى ما لا يجد ولا يكتنز إذا وجد ولا يدزخل في دعوى ولا يشارك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء ولا يمدح أحداً إلا بما فيه لأن من مدح رجلاً بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية. والعاقل يكرم على غير حال كالأسد يهاب وإن كان رابضاً وكلام العاقل يعتدل كاعتدال جسد الصحيح وكلام الجاهل يتناقض كاختلاط جسد المريض وكلام العاقل وإن كان نزراً خطوة عظيمة كما أن مقارنة المأثم وإن كان نزراً مصيبة جليلة ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه وآفة العقل العجب بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء وجليس السوء فإن ذلك مما لا يخطيه على ممر الأيام ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به لأن من عرف بالدهاء حذر ومن عقل عاقل دفن عقله ما استطاع لأن البذر وإن خفي بالأرض أياماً فإنه لا بد من ظاهر في أوانه وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل اهـ. ومن الحكايات التي ساقها قوله: سمعت إسحق بن أحمد القطان البغدادي يتيسر يقول: كان لنا جار ببغداد نسميه طبيب القراء كان يتفقد الصالحين ويتعاهدهم فقال لي: دخلت يوماً على أحمد بن حنبل فإذا هو مغموم مكروب فقلت: مالك يا أبا عبد الله. قال: خير. قلت: ومع الخير. قال: امتحنت وبتلك المحنة حتى ضربت ثم عالجوني وبرأت إلا أنه بقي في صلبي موضع يوجعني هو أشد عليّ من ذلك الضرب. قال: قلت اكشف لي عن صلبك. قال: فكشف لي فلم أر فيه إلا أثر الضرب فقلت: ليس لي بذي معرفة ولكن سأستخبر عن هذا قال: فخرجت من عنده حتى أتيت صاحب الحبس وكان بيني وبينه فضل معرفة فقلت له: ادخل الحبس في حاجة قال: أدخل فدخلت وجمعت فتيانهم وكان معي دريهمات فرقتها عليهم وجعلت أحدثهم حتى أنسوا بي ثم قلت: من منكم ضرب أكثر قال: فقلت له اسالك عن شيءٍ فقال: هات فقلت: شيخ ضعيف ليست صناعته كصناعتكم ضرب على الجوع

والقتل سياطاً يسيرة إلا أنه لم يمت وعالجوه وبرأ إلا أن مواضعاً في صلبه يوجعه وجعاً ليس عليه صبر قال: فضحك فقلت: مالك قال: الذي عالجه كان حائكاً. قلت: أيش الخبر. قال: ترك في صلبه قطعة لحم ميت لم يقلعها قلت: فما الحيلة قال: يبط صلبه وتؤخذ تلك القطعة ويرمى بها وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته. قال: فخرجت من الحبس فدخلت على أحمد بن حنبل فوجدته على حالته فقصصت عليه القصة. قال: ومن يبطه. قلت: أنا. قال: أو تفعل قلت: نعم قال: فقام فدخل البيت ثم خرج وبيده مخدتان وعلى كتفه فوطة فوضع أحدهما لي والأخرى له ثم قعد عليها وقال استخر الله فكشف الفوطة عن صلبه وقلت ارني موضع الوجع فقال: ضع إصبعك عليه فإني أخبرك به فوضعت إصبعي وقلت: ها هنا موضع الوجع. قال: ههنا أسأل الله العافية قال: ههنا قال: هاهنا أحمد الله على العافية فقلت: هاهنا قال: هاهنا أسأل الله العافية قال: فعلمت أنه موضع الوجع قال: فوضعت المبضع عليه فلما أحس بحرارة المبضع وضع يده على رأسه وجعل يقول: اللهم اغفر للمعتصم حتى بططته فأخذت القطعة الميتة ورميت بها وشددت العصابة عليه وهو لا يزال على قوله اللهم اغفر للمعتصم. قال: ثم هدأ وسكن ثم قال: كأني كنت معلقاً فأصدرت قلت: يا أبا عبد الله إن الناس امتحنوا محنة دعوا على من ظلمهم ورأيتك تدعو للمعتصم قال: إني فكرت فيما تقول وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة هو مني في حل اهـ. ومن أجمل الفصول التي استشهد بها المؤلف وصية الخطاب بن لمعلى المخزومي ابنه قال: أخبرتني محمد بن المنذر بن سعيد حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي حدثني عبد الرحمن بن أبي عطية الحمصي عن الخطاب بن المعلى المخزومي القرشي أنه وعظ ابنه فقال: يا بني عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنب محارمه بإتباع سنته ومعالمه، حتى تصح عيوبك، وتقر عينك، فإنها لا تخفى على الله خافية، وإني قد سمعت لك وسماً، ووضعت لك رسماً، إن أنت حفظته ووعيته وهملت به ملأت عيون الناس، وإنقاد لك به الصعلوك، ولم تزل مرتجيا مشرفاً يحتاج إليك، ويرغب إلى ما في يديك، فأطلع أباك، واقتصر على وصية أبيك، وف رغ لذلك ذهنك، واشغل به قلبك ولبك، وإياك وهذر الكلام، وكثر الضحك والمزاح، ومهازلة الإخوان فإن ذلك يذهب البهاء، ويوقع الشحناء، وعليك

بالرزانة، والتوقر من غير كبر يوصف منك، ولا خيلاء تحكي عنك، والق صديقك وعدوك بوجه الرضى، وكف الأذى، من غير ذلة لهم، ولا هيبة منهم، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فإن خير الأمور أواسطها، وقلل الكلام، وافش السلام، وامش متمكناً قاصداً ولا تخبط برجلك، ولا تسحب ذيلك ولا تلو عنقك ولا رداءك، ولا تنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات. ولا تتخذ السوق مجلساً ولا الحوانيت متحدثاً. ولا تكثر المراء. ولا تنازع السفهاء. فإن تكلمت اختصر. وإن مزحت فاقتصر. وإذا جلست فتربع. وتحفظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها. والعبث بلحيتك وخاتمك. وذؤابة سيفك. وتخليل أسنانك. وإدخال يدك في أنفك. وكثرة طرد الذباب عنك. وكثرة التثاؤب والتمطي. وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك. ويغتمزون به فيك. وليكن مجلسك هادياً. وحديثك مقسوماً. واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك بغير إظهار عجب منك. ولا مسالة إعادة. وأغض عن الفكاهات. من المضاحك والحكايات. ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك. ولا عن فرسك ولا عن سيفك. وإياك وأحاديث الرؤيا فإنك إن أظهرت عجباً بشيءٍ منها طمع فيها السفهاء فولدوا لك الأحلام واغتمزوا في عقلك ولا تصنع تصنع المرأة. ولا تبذل تبذل العبد. ولا تلهب لحيتك ولا تبطنها، توقى كثرة الحلف، ونتف الشيب، وكثرة الكحل، والإسراف في الدهن وليكن كحلك غياً، ولا تلح في الحاجات، ولا تخشع في الطلبات، ولا تعلم أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم عدد مالك، فإنه إن رأوه قليلاً هنت عليهم، وإن كان كثيراً لم تبلغ به رضاهم، وأخفهم في غير عنف، ولن لهم في غير ضعف، ولا تهازل أمتك، وإذا خاصمت فتوقر، وتحفظ من جهلك، وتجنيب من عجلتك، وتفكر في حجتك، وأري الحاكم شيئاً من حلمكن ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا تجفل على ركبتيك، وتوق حمرة الوجه وعرق الجبين، وغن سفه عليك فاحلم، وإذا هدأ غضبك فتكلم، وأكرم عرضك، وألق الفضول عنك، وإن قربك سلطان، فكن منه على حد السنان، وإن استرسل إليك، فلا تامن انقلابه عليك، وأرفق به رفقك بالصبي، وكلمه بما تشتهي، ولا يحملنك ما ترى من ألطافه إياك، وخاصته بك، إن تدخل بينه وبين أحد من ولده وأهله وحشمه، وإن كان لذلك منك مستمعاً، وللقول منك مطيعاً، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعه لا تنهض، وزلة لا تقال، وإذا وعدت

فحقق، وإذا حدثت فأصدق، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الصم، ولا تخافت به كتخافت الأخرس، وتخير محاسن القول، بالحديث المقبول، وإذا حدثت بسماع فانسبه إلى أهله، وإياك الأحاديث العابرة المشنعة التي تنرها القلوب وتقف لها الجلود، وإياك ومضعف الكلام مثل نعم نعم ولا لا وعجل وعجل وما أشبه ذلك. وإذا توضأت من الطعام، فأجد عرك كفيك، وليكن وضعك الحرض من الأشنان في فيك كفعلك بالسواك، ولا تنخع في الطست، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلاً، ولا تمج فتنضح على أقرب جلسائك، ولا تعض نصف اللقمة ثم تعيد ما بقي منها منصبغاً فإن ذلك مكروه، ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملك. ولا تعبث بالمشاش. ولا تعب شيئاً مما يقرب غليه على مائدته بقلة خل أو أتابل أو عسل. فإن السحابة قد صيرت لنفسها مهابة. ولا تمسك إمساك المبثور. ولا تبذر تبذير السفيه المغرور. واعرف في مالك واجب الحقوق وحرمة الصديق واستغن عن الناس يحتاجون إليك. واعلم أن الجشع. يدعو إلى الطبع. والرغبة. كما قرر تدق الرقبة. ورب أكلة تمنع أكلات. والتعفف مال جسيم وخلق كريم. ومعرفة الرجل قدره. يشرف ذكره. ومن تعد القدر. هوى في بعيد العقر. والصدق زين. والكذب شين. ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله. ومعاداة اللئيم. خير من مصادقة الأحمق. ولزوم الكريم على الهوان. خير من صحبة اللئيم على الإحسان. ولقرب ملك جواد. خير من مجاورة بحر طراد. وزوجة السوء الداء العضال ونكاح العجوز يذهب بماء الوجه. وطاعة النساء تزري بالعقلاء. تشبه بأهل العقل تكن منهم. وتصنع للشرف تدركه. واعلم كل امرئٍ حيث وضع نفسه. وغنما ينسب الصانع إلى صناعته. والمرء يعرف بقرينه. وإياك وإخوان السوء. فإنهم يخونون من رافقهم. ويحزنون من صادقهم. وقربهم أعدى من الجرب. ورفضهم من استكمال الأدب. واستخفار المستجير لؤم. والعجلة شؤم. وسوء التدبير وهن. والأخوان اثنان فمحافظك عليك عند البلاء. وصديق لك في الرخاء. فاحفظ صديق البلاء. وتجنب صديق العافية. فإنهم أعدى الأعداء. ومن اتبع الهوى. مال به الردى. ولا يعجبنك الجهم من الرجال. ولا تحقر ضئيلاً كالخلال. فإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ولا ينتفع به بأكثر من أصغريه. وتوق الفساد. وإن كنت في بلاد الأعادي. ولا تفرش عرضك لمن

دونك ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك. ولا تكثر الكلام. فتثقل على الأقوام. وامنح البشر جليسك والقبول ممن لاقاك. وإياك كثرة التبريق والتزليق. فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث. وإياك والتصنع لغازلة النساء وكن متقرباً متعززاً ومنتهزاً في فرصتك رفيقاً في حاجتك. متثبتاً في حملتك. والبس لكل دهر ثيابه. ومع كل قوم شكلهم. ولا ترد حتى ترى وجه المصدر. وعليك بالنورة. في كل شهر مرة. وإياك وحلاق الإبط بالنورة. وليكن السؤال من طبيعتك. وإذا استكت (؟) فعرضاً. وعليك بالعمارة. فإنها أنفع التجارة. وعرج الزرع خير من اقتناء الضرع. ومنازعتك اللئيم تطعمه فيك. ومن أكرم عرضه أكرمه الناس. وذم الجاهل إياك أفضل من ثنائه عليك. ومعرفة الحق من أخلاق الصدق. والرفيق الصالح ابن عم. ومن أيسر أكبر. ومن افتقر احتقر. قصر في المقالة مخافة الإجابة. والساعي إليك. غالب عليك. وطول السفر ملالة. وكثرة المنى ضلالة. وليس للغائب صديق. ولا على الميت شفيق. واجب الشيخ عناء. وتأديب الغلام شقاء. والفاحش أمير. والوقاح وزير. والحليم مطية الأحمق. والحمق داءٌ لا شفاء له والحلم خير وزير. والدين أزين الأمور. والسماجة. سفاهة. والسكران. شيطان. وكلامه هذيان. والشعر. من السحر. والتهدد هجر. والشح شقاء. والشجاعة بقاء. والهدية من الأخلاق السرية. وهي تورث المحبة. ومن ابتدأ المعروف صار له ديناً. ومن المعروف ابتداء غير مسألة. وصاحب الرياء. يرجع إلى السخاء. ولرياء بخير. خير من معالنة بشر. والعرق نزاع. والعادة طبيعة لازمة. إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ومن حل عقداً احتمل حقاً. ومراجعة السلطان. خرق بالإنسان. والفرار عار. والتقدم مخاطرة. وأعجل منفعة. أيسار في دعة. وكثرة العلل. من البخل. وشر الرجال. الكثير الاعتلال. وحسن اللقاء. يذهب بالشحناء. ولين الكلام من أخلاق الكرام. يا بني إن زوجة الرجل سكنه. ولا عيش لها مع خلافها. فإذا هممت بنكاح امرأة فسل عن أهلها فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة. واعلم أن الناس اشد اختلافاً من أصابع الكف. فتوق منهن كل ذات بذا. مجبولة على الأذى. فمنهن المعجبة بنفسها. المزرية ببعلها. إن أكرمها لرأته لفضلها عليه. لا تشكر على جميل. ولا ترضى منه بقليل. لسانها عليه سيف صقيل. قد كشف القحة ستر الحياء عن وجهها. فلا تستحي من إعوارها. ولا

تستحيي من جارها. كلبة هرارة. مهارشة عقارة. فوجه زوجها مظلوم. وعرضه مشتوم. ولا ترعى عليه لدين ولدنيا. ولا تحفظه لصحبه ولا لكثرة بنين. حجابه مهتوك. وستره منشور. وخيره مدفون. يصبح كئيباً. ويمسي عاتباً. شرابه مر. وطعامه غيظ وولده ضياع. وبيته مستهلك. وثوبه وسخ. ورأسه شعث. إن ضحك فواهن. وإن تكلم فمكتاره. نهاره ليل. وليله ويل. تلدغه مثل الحية العقارة. وتلبسه مثل العقرب الجرارة. ومنهن شفشليق شعشع سفلع ذات سم منقع. وإبراق واختلاق. تهب مع الرياح. وتطير مع كل ذي جناح. إن قال: لا قلت: نعم وإن قال: نعم وقالت: لا. مولدة لمخازيه. محتقرة لما في يديه. تضرب له الأمثال. وتقصر به دون الرجال. وتنقله من حال إلى حال. حتى قلى بيته. ومل ولده. وغث عيشه. وهانت عليه نفسه. وحتى أنكره أخوانه. ورحمه جيرانه. ومنهن الورهاء الحمقاء. ذات الدال في غير موضعها. الماضغة للسانها. الآخذة في غير شأنها. قد قنعت بحبة. ورضيت بكسبة. تأكل كالحمار الراتع. تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت. ولم يكنس لها بيت. طعامها بائت. وإناؤها هاضير. وعجينها حامض. وماؤها فاتر. ومتاعها مزروع. وماعونها ممنوع. وخدامها مضروب. وجارها محروب. ومنهن العطوف الودود. المباركة الولود. المأمونة على غيبها. المحبوبة في جيرانها. المحمودة في سرها وإعلانها. الكريمة التبعل وخيرها دائم. وزوجها ناعم. موموقة مالوفة. وبالعفاف والخيرات موصوفة. جعلك الله يا بني ممن يقتدي بالهدى. ويأتم بالتقى. ويجتنب السخط ويحب الرضى. والله خليفتي عليك والمتولي لأمرك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد بني الهدى وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً اهـ. هذه أنموذجان من الكتاب والغالب أن للمؤلف مصنفات غير ما ذكر في ترجمته ويؤيد ذلك ما قاله آنفاً مسعود بن ناصر من أن ما أورده من اسماء مؤلفاته هو عدا ما أطرحه منها بيد أن المؤلف نفسه يحيل في خلال كتابه هذا على بعض مصنفاته مثل كتاب محجة المبتدئين العالم والتعلم الوداع والفراق التوكل مراعاة الأخوان مراعاة العشر. فكم يكون قد قدر جميع ما خطته أنامله يا ترى. وقد علق عليه أستاذنا المنوه بقدره حواشي نافعة وشكل محلها الأشكال منه وحلاه بالفواصل فجاء هذا السفر الجليل وافياً بالغرض من كل جهة حرياً بالمتأدبين أن يتدارسوه ويتنافسوا في اقتنائه لنفاسة طبعه ووضعه.

السياسة الإسلامية تأليف المسيو لشاتليه طبع في باريس سنة 1910 ص165. 28 نشر صديقنا صاحب هذا الكتاب وهو من رجال الاجتماع والاستعمار في فرنسا مؤلفاً جديداً بهذا الاسم جعله ملحقاً لمجلة العالم الإسلامي الباريزية وقدمه إلى أحد أعضاء مجلس الشورى الدولة الفرنسية فقال فيه إذا كان لفرنسا سياسة ألمانية وسياسة إنكليزية بل وسياسة لاتينية فلماذا لا تتخذ لها سياسة إسلامية أمام مجموع العالم الإسلامي فإن مائتي مليون مسلم أحرياء أن يساسوا وتخرج فرنسا في سياستهم عن الأوهام الاستعمارية والسياسية. وتكلم على تاريخ امتداد الإسلام في قارتي آسيا وأفريقية فقال أن شواطئ البحر الأبيض كانت عمالات للمسلمين من الأندلس حتى صقلية وشواطئ أفريقية ولما فتحوا بلاد الروم (بيزانس) وأخذوا بخناق البلقان زاد المسلمون من جهة أخرى ثم تراجعوا فلم يبق في أوربا غير ستة ملايين وإن مسلمي روسية ليتكلموا اللغة الروسية ويتحضرون بالحضارة السلافية ما عدا البوادي منهم وإن كان بعضهم يتسامحون يتعلم اللغة التركية العثمانية وقد احتفظوا بعقائدهم وأخلاقهم. قال: وقد اتهم الألبان الذين كانوا أعظم قوة تحرس عبد الحميد في المدة الأخيرة بانتحال العقيدة البكداشية على حين كان من ألبانيا أن سعت كل السعي في الانقلاب العثماني الأخير. وقال أن أحرار العثمانيين ليدعوا إلى وطنية عنصرية يطبقونها على مصلحتهم حتى خاب ظن من كانوا يوافقونهم بادئ بدءٍ وقاموا يريدون أن يبقوا عثمانيين لا أتراكاً وإن الأحرار أرادوا حياة الإسلام في أوربا الشرقية بعد أن كان يضمحل أمره منها ولكنه عاد وعليه المسحة الأوربية وذلك لاختلاط أهله بأهل أوربا فكان من تأثيرات المحيط في هذا الدين أن رزق حياة جديدة ونهضة رافعة فقد أحدث الانقلاب العثماني من حيث الاجتماع والعلم فشلاً للدين المحمدي على نحو ما كان معروفاً على عهد الخلافة الحميدية ولكنه ظفر ظفراً ثميناً من حيث السياسة والوطنية فبدا في صورة جديدة أكثر انطباقاً على الروح الغربية وغدا نفوذه وقوته أكثر مما كانت على العهد الحميدي. ولم يقتصر مسلمو روسيا في نشوءهم

الاجتماعي فأبدوا العواطف التي فرطوا ليها في مطبوعاتهم ودار الندوة الروسية ومؤتمراتهم حتى ضاهى الإسلام بروسيا في قوته الإسلام في الأرض العثمانية فتقوى هناك بخلاصه من العوائق التي كانت تضفه وبإشراك أهله في حركة الشعوب الأوربية وضعف في تقاليده إلا أنه نشط من عقاله. وإن الدارسين في مدارس أوربا من السوريين والمصريين والهنود والفرس والأتراك وإن كانوا قلائل في عددهم إلا أنهم أرباب مكانة بعقولهم سيعيدون إلى الأمة الإسلامية شبابها. وعقد فصولاً كبرى أفاض فيها في شيءٍ من ماضي بلاد الإسلام وحالتها الاجتماعية والمادية والمعنوية اليوم فتكلم على السياسة الاستعمارية في الجزائر وتونس ومراكش وأفريقية الغربية وأفريقية الشرقية وآسيا كلاماً لم يخرج عن استحسان تلك الطريقة التي اتبعتها فرنسا في الاستعمار وتلقين الأمم المحكومة مدنيتها بالقوة والعنف ونزع عاداتها وتقاليدها لتجريعها جرعة من الآداب الفرنسية وإن لم تطلقها وفرنسة كل من يخفق على رأسه علم الجمهورية. وبحث في المملكة العثمانية ومصر وبلاد العرب وفارس والصين والهند ومسلمي والملايو والروس بلسان اجتماعي ينظر إلى مصلحة قومه من الوجهة الاستعمارية. وقال في النتيجة أن الواجب على حكومته أن تفتح اعتماداً بعشرين ألف فرنك تقطعها لكلية الجزائر لتستعين بها على نشر المطبوعات التي تجعل الجزائر مورد العالم العربي ومصدره وما ندري كيف يتسنى ذلك بين قوم يقضى عليهم أن ينسوا لغتهم العربية ولا يدرسونها نصف أو ربع الحضارة الحديثة. ولفت أنظار من قدم له كتابه إلى إصلاح حال مدرسة اللغات الشرقية في باريس وزيادة العناية بدراسة اللغات الإسلامية أي العربية والفارسية والتركية على نحو ما سعت إنكلترا وأصلحت في هذا الشأن كليتي لندرا وأكسفورد وسعت ألمانيا فأصلحت كلية برلين وقال أن الواجب إنشاء نادٍ يأوي إليه من يدرسون في فرنسا من المسلمين كما أنشأت برلين ولندرا مثله لهذه الغاية وقال أن اللغة العربية هي لغة التعارف والتعامل بين المسلمين كاللغة الإنكليزية بين السكسونيين فينبغي صرف العناية لها. وأحسن ظنه كما هي عادته بارتقاء المسلمين ولاسيما في الشؤون الاقتصادية فقال أن مجموع تجارتهم لم يكن في منتصف

القرن التاسع عشر في العالم أكثر من ثروة أفقر أمة أوربية وعدد المسلمين نحو مائتي مليون ولا يبعد أن لا ينتصف هذا القرن العشرون إلا ويصبح مجموعها خمسين مليار فرنك إلى غير ذلك من الإيضاحات التي تنتفع بها فرنسا وتستفيد في مستقبلها الاقتصادي والاستعماري. والكتاب محلى بمصورات بلاد الإسلام وببعض رسوم الجوامع والأشخاص والكتابات الإسلامية وهو يدل دلالة واضحة على مبلغ غيرة المؤلف على مصلحة أمته ودرجة علمه بأحوال المسلمين اليوم وأمس كما هو شهادة ناطقة بأن الاخصاء في فرع من فروع العلم الكثيرة أنفع للعالِم وللعالَم من الخطف من هنا ومن هناك. النسائيات مجموعة مقالات في الجريدة في موضوع المرأة المصرية بقلم باحثة البادية. أو العقيلة ملك حنفي ناصف سنة 1328 ص176. من نعم الله على مصر أن فيها عاملين في كل فرع من فروع الحضارة وأنها تقلد الغرب في خطواتها نحو الارتقاء حتى كادت تكون قطعة من ديار الغرب لو كان نساؤها متعلمات كرجالها ولكن مصر الغنية بتربتها الذكية لم تقصر في ذكاء عقول أبناءها وبناتها فقد نشأ لها بفضل عقول رجالها ناشئة من النساء يأخذن بأيدي بنات جنسهن إلى مهيع التقدم وفي رأسهن مؤلفة ها الكتاب العقيلة ملك حنفي ناصف نسبة لوالدها أحد شيوخ العلم في القاهرة أو ملكة باسل نسبة لزوجها. عني بتأديبها والدها فجاءت أديبة بزت الأدباء وكاتبة يقلُّ في الكتاب مثلها وقد نشرت الآن ما أملاه قلبها على لسانها وقلمها في تعليم المرأة على الأسلوب الجامع إلى الدين الصحيح آداب الدنيا والمدنية الحديثة. وقد طالعنا مات خطته يراعتها في هذا الشأن ولاسيما محاضرتيها في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية تكلمت فيها كلام العاقلة الحفيصة عن المولودة ودور الطفولة والمراهقة والخطبة والزواج والاقتصاد المالي والمنزلي والعمل البيتي والعادات والأخلاق ودور الأمومة. ومحاضرتها التي ألقتها في نقد عادات النساء وختمتها بقولها لو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية: (المادة الأولى) تعليم البنات الدين الصحيح أي تعليم القرآن والسنة الصحيحة. (المادة الثانية) تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي وجعل التعليم الأولي إجبارياً في كل

الطبقات. (المادة الثالثة) تعليمهن التدبير المنزلي علماً وعملاً وقانون الصحة وتربية الأطفال والإسعافات الوقتية في الطلب. (المادة الرابعة) تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر. (المادة الخامسة) إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد. (المادة السادسة) تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل. (المادة السابعة) إتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج البنات قبل أن يجتمعا بحضور المحرم. (المادة الثامنة) إتباع عادة المساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج. (المادة التاسعة) المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان. (المادة العاشرة) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا. طالعنا كل هذا ورأينا السيدة المؤلفة أجادت فيه من وراء الغاية لأن أقوالها نتيجة تجارب وخبرة بل هي القانون النافع في إنهاض المرأة من كبوتها وفي الكتاب مطالب كثيرة في إصلاح المرأة والاعتدال يقرأ من تضاعيفه والأدب يقطر من خلاله. وقد قدم له أحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة والكاتب الخطيب العامل مقدمة لطيفة أبان فيها الغرض من هذه الأبحاث فقال لقد أجادت باحثة البادية في جعل بحثها مرتباً على هذا النمط المعين فإن الاعتدال في تعليم المرأة وتربيتها وتقرير الحد اللازم الذي تقف عنده في المساواة بينها وبين الرجال الاعتدال في ذلك كله أمان من الزلل والوقوع في نتائج سيئة قد لا تكون أقل في سوءِ الأثر من نتائج خمول المرأة وقعودها عن السعي إلى كمالها الخاص. قال أما الدين فإنه ملاك أخلاق المرأة ومناط آدابها وطرق كمالها وموجب الثقة بها. إن تقوى المرأة أكبر الأدلة على صونها ومعرفتها بالواجب وحسن قيامها به. إن شهود المرأة صلاة الجماعة في المسجد الجامع مرة واحدة أصلح لقلبها من سماع واعظ أخلاقي في الدار

أو في المدرسة سنة كاملة. وإن تقليد المرأة الشرقية لأختها الغربية نافع ولكن هذا التقليد إلى اليوم ليس بحسنة جديدة ما دام أنه خلا من النوع الخاص بالدين. فإن الغربية تذهب إلى معبدها مرة في الأسبوع على الأقل في الشهر والمسلمة الشرقية لا تذهب إليه في مصر أبداً. كأن دأن أقل في الشهر ولالمسلمة لاشرقية لا تذهب إليه في مصر أبداًبها من سماع واعظ أخلاقي في الدلار أو من نتائج خمول المرأة وقعودها عنخول بيت الله أثقل كلفة عليها وأبعد عن رضى وليها من دخول بيوت التجارة وشهودها مسارح اللهو. إلا وأن حضور النساء صلاة الجماعة على صورة لائقة ومن غير إسراف هو أول عمل حسي تأتيه المرأة لتقرب به مسافة الفرق بينها وبين الرجل ولتقرر به المساواة المنشودة. وعلى الجملة فالكتاب من أنفع ما كتب في عصرنا حريٌّ بكل آنسة وعقيلة بل بكل رب بيت أن يتدارسه ويعمل به فبالأمس قام في مصر المرحوم قاسم بك أمين يحرر المرأة من قيود رقها واليوم قامت ملك ابنة حنفي بك ناصف تبين الخطة العملية فمتى يا ترى يكتب لهذه الديار أيضاً أن يقوم فيها من بنات حواء من يسعين لإصلاح بنات جنسهن على الطريقة الملكية فالكلام يفضل بفضل مصادره وأحسنه ما صدر عن ربات الحسن والإحسان.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع العلم والمال بمصر ظهر كتاب الإحصاء الذي جرت عادة ديوان الإحصاء في مصر أن ينشره كل سنة فإذا فيه أن مجموع دخل مصر كان سنة 1909 15887313 جنيهاً ومجموع نفقاتها 16900015 جنيهاً وكان دخلها سنة 1880 9584430 جنيهاً وخرجها 7691424 جنيهاً. وبلغ عدد مدراس الحكومة في هذه السنة المكتبية 64 مدرسة فيها 998 أستاذاً و14714 تلميذاً منهم 14087 ذكراً و627 أنثى وبلغ عدد المدارس الحرة 265 مدرسة سنة 1908 فسها 2329 أستاذاً و52441 تلميذاً منهم 46293 ذكراً وبلغ عدد كتاتيب الحكومة 144 كتاباً سنة 1910 فيها 449 أستاذاً و13365 تلميذاً منهم 9183 ذكراً وبلغ عدد الكتاتيب الحرة 356 فيها 6799 أستاذاً و190857 تلميذاً منهم 174023 صبياً. وبلغ عدد المدارس الأجنبية 409 مدارس فيها 2328 أستاذاً و47381 تلميذاً منهم 28914 ذكراً و18467 أنثى. المحسنون للشام ولمصر من أول إمارات النهوض في مصر والشام أن أبا السعود أفندي الحسيبي من أعيان دمشق يقف خزانة كتبه على المطالعين والعالمين سبلها في مكان خاص في القنوات وفيها مخطوطات ومطبوعات نادرة وهي نفيسة مهمة لا تقل فيما نحسب عن ألفي مجلد ويقف لها عقاراً يقوم بالإنفاق عليها وعلى القيم. وإن عبد الرحمن بك اليوسف من أعيان الفيحاء أيضاً تعهد بتعليم شابين أيضاً في مدارس فرنسا على نفقته يعلم الأول الهندسة الميكانيكية والثاني علم الزراعة وأن بطرس أفندي داغر من أعيان بيروت تبرع لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في الثغر بمئة ليرة كل سنة لتستعين بها على ترقية مدارسها الخاصة بالإناث. ووقف الأمير يوسف بك كمال من أعيان القاهرة 180 فداناً من أجود أراضيه في المنيا وعمارة بالإسكندرية يبلغ صافي دخلها السنوي ستة آلاف جنيه على مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها في أحد قصوره في درب الجماميز ووهب هذه المدرسة أيضاً عشرة آلاف جنيه لهدم القصر المذكور وبناءه من جديد على طرز مدارس الفنون الجميلة في الغرب وهذا فوق ما كان دفعه من المال للجامعة المصرية والمدرسة الصناعية والابتدائية

اللتين بناهما في أملاكه في صعيد مصر وعلاوة على قطعة الأرض التي تساوي عشرة آلاف جنيه وهبها لنادي المدارس العليا لينشئ فيها منتداه. فأكرم بهؤلاء الرجال الذين يحسنون لإنارة العقول فيذرون في الدنيا بالمحمدة وفي الأخرى بالرحمة. أعما الطيور نشرت المجلة الفرنسية مقالة قالت فيها أن النشاط من خصائص الطيور وقلَّ فيها من يتخلف عن هذه القاعدة فالطير البحري المعروف بقصير الجناح الذي نرى جناحيه كنصل السيف يتحولان إلى قطع يظهر أنها تعجزه عن الحركة ومع هذا يطير ويقفز وكثيراً ما تطول مدة طيرانه وتحمله من جزائر الشمال إلى البحر الأبيض حيث يشتو وهذا مثل طير القوق فإنه يصيدج ويتناول السمك بحذق ويعرف بنزوة منه كيف يمسك ذات القشر وعادمة الفقار من الحيوانات ويتسلى بها فيجعلها نقله وحلواه. وطائر البجع الذي يظهر بأنه أعسر يتوكأ على رجل واحدة في الحدائق وأنه لا حراك فيه وهو على العكس طائر رحالة يفضل ما رزق من الأجنحة الواسعة التي تكون له بمثابة شراع لا نظير له يستخدمه في تنقله على البحيرات والأنهار حيث ينزل ويقيم جنوبي أوربا والهند والصين وأميركا وأستراليا. وتمتاز بعض الطيور بنشاطها على العمل بأن تتخذ لها صناعات مرتبة فالعصفور الدوري الذي كثرت أسماؤه بحسب البلاد هو في الواقع ونفس الأمر عامل لا يتعب ذو أمانة للغاية ويسميه الإسبانيون وهو في مالقة عندما يكون جاز إليها من جبل طارق نحات الحجر مشبهين له في الصناعة بالبناء لأنه يبني عشه ورائده العلم التام في الهندسة ومن أنواعه كثير في فرنسا وإنكلترا وجنوبي أوربا تختار لوكناتها ثقوب أشجار الصنوبر وتبتدع في هندستها وإحسان بنائها بالأحجار والملاط فالعصفور في جبل طارق صغير الجرم كالشحرور ويستعمل قوادمه ومنقاره لجمع الحجارة والحصى لينقلها إلى المحل إلى وقع عليه اختياره ويراكمها بعضها فوق بعض محكماً لها طبقة فوق أخرى ويجعل للعش حاجزاً طوله عشرين سنتيمتراً وعمقه كذلك وطوله من 6 إلى 7 سنتيمترات وههو يستعمل له نحو 280 حجراً ما عدا 70 إلى 75 حجراً للتأسيس ويبلغ عدد الأحجار 350 ومنها ما وزنه 60 غراماً وعجيب منه كيف ينشط لحمل مثل هذا الثقل والمسافة التي ينقل منها الحجار لعشه ليست بقصيرة.

ومن أنواع العصافير ما يألف البلاد الجبلية وهو أيضاً يختط لعشه في الجدر والأحجار والأشجار خططاً عجيبة ويبالغ في هندسته وتقسيمه وكذلك الحال في الخطاف الذي يشبه السنونو فيكمل عمله وبدلاً من ثقب بسيط يختاره في أعلى العش للدخول يقيم نوعاً من الطريق مغطى في أسفل الجدار. ومن الطيور ما لا يحذق ابتناء الوكنات ومع هذا ومع هذا لا تلقي صغارها على حصا تختاره لذلك. وأعجب ما في هذه الطيور البناءة كلها فطرة الذكاء التي تقودها إلى اختيار مواد البناء. فالسنونو مثلاً تعرف كل المعرفة تمييز نوع الملاط الذي تجمع فيه بين أجزاء ما تقيمه من البناء من الداخل والخارج وذلك بمفرزاتها اللزجة التي هي من خصائصها الطبيعية وهذه المفرزات يستخدمها بعض الطيور ملاطاً لوكناتها أيضاً. وأن الطير المعروف ببناء البيوت ليصنع عشه من الطين والقش حتى أن أهل المكسيك منه تعلموا طريقتهم في البناء. ومن لطيور النجار كما فيها البناء وذلك كالطائر المعروف بالنقار ال1ي يعيش في الأشجار يتسلق عليها بمخالبه فينقر بمنقار لحاء الشجر ليفرغ منها الهوام ليعيش بها فهو عامل غريب يجمع عشه بصبر مدهش ويحفره في بعض الجذوع على ثلاثة أمتار من وجه الأرض ويحتال في إجادة محله ما شاء وشاءت الإجادة الغريزية على نحو ما نشاهد جحوراً نجرتها هذه الطيور كنقار الخشب والصرد في غابات إنكلترا ثم تتركها إلى محل آخر لا تصل إليه اليد. ومن الطيور ما ينقي الزرع كالقصير الرجلين يخدم الحدائق كما يخدمها صاحبها والمتعهد لها فهو وإن كان يعيش على شواطئ مجاري الأنهار ولاسيما البائخ إلا أنه ينقي الزهور والبذور التي يترك وشأنه ليسرح بينها وبين أجمل من هيئته وهو يقفز ويمر مسرعاً جائياً ذاهباً وجسمه مائل إلى الأمام وقنبرته منتصبة وريشه مشرق ظاهره سماوي وباطنه أبيض وعينه منتبهة لا يغفل دودة ولا حلزوناً إلا ويعزلها عن الزرع بوجدان سليم. وأعجب من هذا وذاك حال الطير المسمى الشرطي وهو يكثر في أواسط أوربا يقف على الأسلاك البرقية على مساوف بعيدة يرصد البعاد لونه أسود وله عصابة برتقالية في رأسه يقتات بالديدان ويخافه النسر والباشق والبازي وقد سمي الظالم لأنه إذا اختلط بطيور أخرى يتسلط عليها وإذا لم يجد أسلاكاً ينزل على بعض العمد أو على غصن شجرة وإذا

كان في السهل ينزل على ظهر بقرة ويعيش من الصيد ولا يهاب ما كان أكبر مكنه من الحيوانات بل يستخدم منقاره ومخالبه فيدمي بها ويقتنص وهو بذلك يتحاماه الكواسر وغيرها ولا يقرب من وكناته أحد منها واشتهر بالشجاعة بين الطيور حتى أنها لتهابه في وكناتها وتحسب له ألف حساب ولذلك كتبت له السعادة وهو من بين شذاذ الآفاق من الهوام والطيور والكواسر حامي القانون والمسيطر الأعظم. التحصيل في أوربا بلغ عدد من يختصون في العلوم في مدارس أوربا خمسة عشر طالباً من أهل دمشق فقط عدا من أرسلتهم الحكومة على نفقتها منهم أربعة في الطب والجراحة واثنان في طب الأسنان واثنان في الحقوق واثنان في الزراعة وواحد في الهندسة وآخر في هندسة الكهرباء وواحد في علم التربية والتعليم واثنان يستعدان في العلم الآن. الرئيس البرتقالي إن الرئيس البرتقالي الجديد تيوفيل براغا هو كأكثر رؤساء الجمهوريات عالم كبير فإن فاخرت فرنسا برئيس جمهوريتها الأول تيرس وفاخرت الولايات المتحدة بأحد رؤساء جمهوريتها روزفلت فيحث للبرتقال أن تفاخر برئيسها براغا فهو من أكبر كتابها المعاصرين وهو في السابعة والستين من عمره اشتهر أمره منذ خمسين سنة وهو شاعر فيلسوف نقاد فقيه أولى بلاده فخراً لا يبلى بما نشره لها من تاريخ آداب البرتقال الذي كتبه في عشر سنين متوالية ومن كتبه روح الحق المدني الحديث وهو زعيم القائلين بالفلسفة الحسية في برتقال كما أن بنيامين كونستان زعيمها في برازيل وهذه الفلس فة هي التي وضع أساسها أوغست كونت الفيلسوف الفرنسوي وما برح براغا يحف حوالي منبره في لشبونة أناس من الناشئة الجديدة يوحي إليهم آماله الديمقراطية وروحه الوطنية فلا عجب إذا وقع اختيار أمته عليه ليرأسها. اللعب والتربية كتب أحد علماء التربية الألمان مقالة طلب فيها إلى دور التعليم أن تخص وقت بعض الظهر من كل يوم بالألعاب المختلفة تكره عليها الأولاد والمتعلمين أكثر مما تكرههم على تعلم دروسهم واستشهد بقول الإمبراطور منذ مدة إنني أبحث عن جنود فحاجتنا الماسة إلى

جيل قوي من الناس فالجمناستيك البسيط لا يقوم بهذا الغرض بل الواجب المشي الكثير الطويل لا الاكتفاء بألعاب عادية يقوم بها الأولاد والشبان عرضاً بل ألعاب حقيقية علمية مثل التزحلق (باتيناج) والعوم وغير ذلك. ألعاب يناظرها مدير خبير يستثمر النشاط ويحسن الانتفاع بمرونة الجسد ويقوي بالعمل والعادة اليومية أحسن قوى النفس والعقل مثل الصبر والحرية والإرادة وعمل مثل هذا المدير لا يقل في الفضل عن عمل زملائه أساتذة العلوم واللغات والتاريخ فهو بعمل على تربية الشبيبة على شرط أن يعطي الوقت اللازم لذلك وهو ينوع الألعاب بحسب الفصول حتى لا ينهك القوى في الحر كما يعاملها في البرد. فقر يابان وغناها ذهب بعض الأميركيون إلى أن يابان أفقر بلاد العالم فأثبت ذلك الأستاذ كامب من كلية كيوتو بالإحصاء الدقيق قابل فيه بين غنى اليابان وغنى غيرها من الأمم فقال إذا كانت يابان تملك مثلاً 100 يان (معاملة يابانية نحو فرنك) فإن ألمانيا تملك 683 ياناً وفرنسا 743 ياناً وإنكلترا 1008 يانات فالدخل الشخصي إذا سرنا على هذا النحو هو 10 يانات في اليابان و41 في ألمانيا و52 في فرنسا و60 في إنكلترا و73 في الولايات المتحدة. والدين الذي على بلاد اليابان ثقيل تنوء تحته فهو نحو 22 ياناً في المئة ومع هذا فإن يابان لا يخشى عليها من الفقر المدقع والخراب العاجل بالديون لأن الفرد منهم يعرف كيف يصرف في سبيل سداد عوز حكومته فيقطع من أكله ويقتصد من رفاهيته بسائق وطنيته ليعطي حكومته ما تنهض به من المال. والاقتصاد في المعاش من خصائص هذه الأمة. أوهام السن من الشائع ا=على اللسن أن من تجاوز الخمسين يؤذن نشاطه العقلي والطبيعي بالضعف على أن الحوادث تثبت نقيض ذلك فإن الحياة العلمية والسياسية والأدبية مخصبة كثيراً في السن التي يرميها الناس بالعقم ولطالما أورد بعضهم أدلة على رقيهم العقلي ونشاطهم فإن شهرة لوراستراتكونا في عالم السياسة ابتدأت لما كان عمره خمساً وسبعين سنة وهو اليوم في سن التسعين يعمل منذ العاشرة قبل الظهر ويحضر الولائم الرسمية ثلاث مرات في الأسبوع. وكان عمر ويليام مورغان 65 سنة لما كتب قصصه الأولى وكان عمر بيرمون

مورغان المثري الأميركي نحو ذلك عندما وضع خطته في الإثراء. ومنذ خمسين سنة كانوا ينظرون إلى ابن الخامسة والأربعين في بلاد الغرب بأنه شيخ أما اليوم فلويد جورج السياسي الإنكليزي قد بلغ السابعة والأربعين ولا يزال يعد في الشبان وقد بدأ السير هيرام ماكسيم في سن السبعين يعمل عملاً جديداً كل يوم. ولما وصل فرنكلين إلى باريس سفيراً من قبل حكومة الولايات المتحدة كان عمره إحدى وسبعين سنة وبدأ فيكتور هوغو بكتابة تاريخ جناية في الرابعة والثمانين من عمره وعلى كل فالنشاط ميسور لكل من جادت صحته وصحت عزيمته على العمل شاباً كان أو كهلاً أو شيخاً ولا يزال المرء في هذه الديار يتعلم حتى يموت. والترتيب في الحياة هو سر اقتدار هؤلاء المعمرين على العمل إلى النهاية.

إصلاح خطأ

إصلاح خطأ سها عن بالنا أن نقول في الجزء الماضي عند إنشاء مقالة جمهورية البرتقال أنها ثالث جمهورية في قارة أوربا فإن الأولى فرنسا والثانية سويسرا والثالثة تلك الجمهورية الجديدة. وجاء في الكلام على روضة العقلاء في هذا الجزء أن صاحب كشف الظنون لم يذكره بلى أنه ذكره بقوله روضة العقلاء لابن أبي حيان في الأحاديث وفي هذا خطأ في اسم المؤلف وهو حبان بالباء لا بالياء. وفي قوله أن الكتاب في الحديث وهو في الأخلاق.

ظلامات عصر الظلمات

ظلامات عصر الظلمات كل منن ألقى نظرة إجمالية على تاريخ القرون الوسطى والقرون الحديثة في هذه البلاد يوقن بأن القرون الأخيرة أي القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر كانت أشقى العصور على هذه البلاد لا حكم فيها إلا للقوة لا عدل يحييها ولا علم ينهضها وخصوصاً في الأيام التي سادت فيها حكومة الاقطاعات وساد معها جيش الإنكشارية (يكى جري) أو العسكر الجديد فكل ما تراه عينك في دمشق مثلاً من بيوت ضيقة متلاصقة وأرتجة واطئة وأحياء لا منفذ لها وقصور ومدارس في الضواحي خربة إنما نشأ من اعتداء هذا الجيش على أفراد الرعية المسكينة وما نجا من أيديهم يتناوله الظلمة من الحكام ويصادرونه ويستصفونه هنيئاً مريئاً لا وازع يزع ولا إدارة منظمة: أحكام في الدمار مسمطة وقواعد في السياسة معسلطة وآراء في جلب المصالح ودرء المفاسد مخلطة مغلطة. ولقد وقع غلينا مخطوط نافع أورد فيه مؤلفه بالعرض في جملة قصائده بعض ما شاهد في عصره من الكوائن فأحببنا نقلها إلى هذا المعنى دلالة على القضية التي قررناها آنفاً ولتكون متممة لتاريخ هذه الحاضرة. وهاك ما ورد في هذا المعنى بمناسبة مدحه لأحد حواشي سليمان باشا ابن المعظم (والي الشام إذ ذاك) قال: واتفق لهذا الممدوح قصة من غرائب القصص وهي أنه سعى في خلاص جماعة من أهل حيه وغيرهم من القتل وفداهم بنفسه ودافع عنهم عند والي الشام بما استطاع وسلموا من الهلاك بسبب مدافعته عنهم وفر قوم من دمشق خوفاً من واليها وأوقع الوالي القتل والنهب بقوم آخرين ظفر بهم في دمشق ثم أن الوالي خرج من دمشق أميراً بقافلة الحج وخرج معه هذا المذكور حاجاً ومؤدياً ما عليه من خدمة السلطان في طريق الحج فلما وصل الأمير والحاج إلى المزيريب رجع أولئك النفر الذين فروا من الوالي بعد أن أرسلوا مكاتبة إلى جيران هذا الذي سعى في خلاص أكثرهم من القتل تشتمل تلك المكاتبة على أنهم في ليلة كذا يرجعون ويدخلون دمشق بقصد انتهاب دار هذا المذكور وقتل من يظفرون به من أهاليه وقراباته فأجابهم كل من كاتبوه بذلك بالسمع والطاعة وأنهم سيكونون لهم عضداً وعوناً على ما يبيتوا عليه وأرادوه من السوء بهذا الأمر الذي عزموا على فعله فلما كانت الليلة الموعودة دخل أولئك النفر الفارون دمشق ومعهم نفر من النصارى والدروز والأشقياء أعداء الدين والمسلمين ولما وصلوا إلى القرب من الدار المقصودة بالسوء تلقاهم الناس بالترحيب وتحزب معهم

غالب الناس من أهالي ذلك المحل حتى بلغوا العدد الكثير فلما قربوا من الحي ترفع أهله في منازلهم وفر من كان في الدار المقصودة من كبير وصغير طالبين للنجاة بأنفسهم فلما وصل أولئك النفر المغضوب (عليهم) ومن معهم من المنافقين الذين انضموا إليهم كسروا الأبواب وهجموا على الدار وانتبهوا وضربوا وأفسدوا إفساداً ما سمع بمثله وأصبحوا ماكثين في دمشق لا يهابون أحداً فخرج إليهم نائب الوالي والأعيان والموالي فتلقوهم بالحرب والضرب وقتل جماعة وجرح آخرون ورجع النائب ومن معه منهزمين ومكث أولئك النفر الأشقياء بدمشق ريثما بلغوا إربهم من سلب واغتصاب وتهكم وتحكم لا يردهم عن ذلك أحد ولا يهابون أحداً. . . . . قال: ولقد حقق الله تعالى جميع نما نطقت به هذه القصيدة من الظفر بأولئك النفر المفسدين والطافة المعتدين المارقين من الدين على يد والٍ آخر غير ذلك الوالي المذكور في ترجمة هذه القصة قد عينه السلطان وولاه دمشق لأجلهم بسبب فتنة أضرموا في الشام نارها وأثاروا غبارها وأفسدوا إفساداً فظيعاً فقتلوا وخربوا واستلبوا وانتهبوا وأحرقوا الدور والأماكن وحركوا من الشرور كل ساكن وتجاهروا بالفواحش وارتكبوا كل أمر مخالف للدين فاحش وأعلنوا الفطر في شهر رمضان على رؤوس الأشهاد وتعطلت الأسواق والمعاملات بسببهم في دمشق قريباً من سنة لا تقام جميع ولا يسمع أذان ولا يفتح جامع ولا يمكن أحد أن يخرج من منزله لحاجة ولا لغيرها لفسادهم وإفسادهم وتعديهم على الخاص والعام وإنما كان سبب تمكنهم من ذلك عدم وال في الشام فإن واليها كان قد خرج منها إلى الحج أميراً ففي رجوعه من الحج عارضه العربان في أثناء الطريق ففر منهزماً بعد أن أعجزوه وانتهبوا قافلة الحاج بأسرها بعد ن كانوا انتهبوا جردة الحاج وقتلوا من الجردة والحاج الجم الغفير. . . فهذا كان سبب تمكنهم من إقامة الشرور والفتن فجاءهم بعد ذلك هذا الوالي المذكور ثانياً وقتل منهم من قدر عليه وفر منهم من فر منهزماً وسلب دورهم ومتاعهم وأثاثهم ووجه أخبارهم وتركهم أذل من اليهود وأحقر من الذباب وأوهن من الكلاب ولحق دمشق وأهلها من ذلك الوالي وحاشيته وجنده أسوأ السوء بسبب قيامهم على أولئك الأشقياء وانتهبت غالب المنازل في دمشق وقتل خلق كثير من البراء وتوطن هذا الجند الكثير من دور الناس وأخرجوا أهلها منها عنفاً وجبراً وقسراً وظهر من أباع

الوالي ما أنسى أهل دمشق ما كانوا فيه من الضنك والشدة قبل قدوم هذا الجند إليهم. . . وأعقب مجيء هذا الوالي إلى دمشق في دمشق ضيق وشدائد وشرور وظلم وجور وعسف وتعد واحتقار لأهل دمشق من شدة فظاظتهم وغلظتهم وكان فيهم من النصارى والرافضة ما لا يحصى عدده وختم ذلك بزلزال في دمشق ونواحيها ورجفات زعزعت الجبال وردمت الدور في غالب الأماكن وهدمت كثيراً من المساجد والمعابد والمنارات وعند كتابتي لهذا المحل كانت مكثت في دمشق خمسة وأربعين يوماً وقتل إذ ذاك تحت الردم خلق كثير وخرج غالب الناس من منازلهم وتركوها خالية وتوطنوا البساتين والجبانات. وقال في مكان آخر: قد تقدم في هذا الديوان ذكر بعض ما وقع في دمشق من الفتن والمحن والشرور والغلاء والظلم وغير ذلك مما مر وتقدم وكل ذلك قبل تاريخ سنة ألف ومائة وسبعين وها أنا أذكر ما وقع واتفق لدمشق وأهلها في سنة سبعين وما بعدها من العظائم والحوب والأزمات والزلازل والرجفات وما تأتى من ذلك من خراب الدور والمنارات والجوامع وما كان في تلك الأيام من ظلم وجور وعسف إلى أن تداخلت الدواهي والبلايا بعضها في إثر بعض حتى كان آخر ذلك الطاعون الذي أنسى ما كان قبله مما يفسد الأديان ويهلك الأبدان ويشيب الولدان. وهنا أورد المؤلف أرجوزة مطولة في وصف تلك المحن قال فيها: لما تقضت عشرة ... من صومنا محررة قامت طغاة فجرة ... في شامنا المطهرة وأضرموا نار الفتن ... وأظهروا خافي الإحن وأوقعونا في محن ... وكدروا منا الفطن ومذ رأيت الفتنا ... ثارت وقامت علنا وكل مكروه أنا ... وكل سوء وعنا ناديت رباً ذا منن ... بعد الفروض والسنن وجنح ليل قد سكن ... وفيه قد فر الوسن وقلت قول الملتجي ... وطالب للفرج وهارب من حرج ... يا من إليه ألتجي

يا دافع البلاء ... يا عالم النداء يا سامع الدعاء ... يا كاشف اللأواء خلص أناساً ظلموا ... من بطش قوم ظلموا عن الرشاد قد عموا ... ومن سداد حرموا وعجل انتصاراً ... واهلك الأشرارا وأيد الأبرارا ... وسدد الأخيارا وهت ربوع الشام ... من زمرة طغام وعصبة لئام ... خذوا من الحرام وفرقة فجار ... طاغية أشرار قد أزعجوا الذراري ... بأقبح الضرار لم يرحموا صغيراً ... لم يستحوا كبيراً لم يتركوا نقيراً ... نهباً ولا قطميرا وأعلنوا الفسادا ... وأذهبوا العبادا وأخربوا البلادا ... وأحرموا الرقادا وحللوا الحراما ... وأهملوا الصياما وقهروا اليتامى ... وفضحوا الأيامى وأظهروا الإسرافا ... وقتلوا الأشرافا وضيعوا الإنصافا ... وأكثروا الخلافا وشتموا الإيمانا ... وكذبوا الأيمانا وهدموا الأوطانا ... وأورثوا الهوانا وضيعوا الأمانة ... وشهروا الخيانة وحرموا الديانة ... وفارقوا الصيانة وغلبوا الحكاما ... وأبطلوا الأحكاما وأكثروا الضراما ... وأفحشوا الكلاما مدوايد الفجائع ... سنوا مدى المواجع

وقتلوا في الجامع ... لساجد وراكع وتابعوا الأذية ... وأعظموا الرزية وأوقعوا البلية ... وأقلقوا البرية وأغلقوا المساجدا ... وأقفلوا المعابدا وأكثروا المفاسدا ... فحرموا المحامدا وعطلوا المنابرا ... وحقروا الأكابرا ودمروا الأصاغرا ... واشتهروا المناكرا وقصدوا أذاناً ... وأسكتوا الآذانا وتابعوا الشيطانا ... وخالفوا السلطانا وبات كل حالم ... من جاهل وعالم وقاعد وقائم ... بالغم كالرمائم وكل سوق سكرا ... وقل بيع وشرا وقام سوق الإفترا ... ودام هذا أشهرا يسوء فينا مدة ... حكت ليالي الردة فلم تنزل في شدة ... ومحن ممتدة والأرجوزة طويلة وهي على هذا النمط وقعت في نحو خمس ورقات بالخط الدقيق المندمج قال في آخرها: وجميع هذه الشكاية إنما هي مما وقع من الشرور والفتن في سنة ألف ومائة وسبعين في دمشق وما جرى واتفق خارجها من نهاب الجردة في سنة إحدى وسبعين ثم ما وقع فيها من انتهاب الحج وما حصل إذ ذاك من الفساد والإفساد من طائفة الأعراب والأوغاد ولما انتهبت الجردة ثم مات أميرها ثم انتهب الحج وانهزم أميره ورجع إلى دمشق من سلم من القتل منهوباً من السلب وكانت نار الفتنة لم تزل ثائرة في دمشق بين طائفة القول وطائفة الينكشارية من مضي عشر ليال من شهر رمضان والقول إذ ذاك محاصرون في القلعة فلما أقبل المنتهبون من الحجاج إلى دمشق خرجت طائفة الينكشارية يتلقون المنهزمين والمنتهبين من الحجاج فكل من ظفروا به وكان من القول قتلوه وأخذوا ما يجدونه معه من متاع أو دابة أو غير ذلك حتى أنه قد بلغني أنهم ظفروا بأحد القول

خارج دمشق فقتلوه شر قتلة وأخذوا ما كان معه ثم أحرقوه بالنار واستمرت الشرور والفتن قائمة في دمشق وهي إذ ذاك خالية من وال حيث أن أمير الحاج لما انهزم في أثناء الطريق استمر منهزماً ولم يدخل دمشق فبقيت بلا وال ولا حاكم. ولما بلغ السلطان مصطفى أخبار ما تقدم ذكره من انتهاب الجردة والحج وما في دمشق من الفتن والهرج وأن طائفة القول محاصرون في القلعة ساءه ذلك وعين عبد الله باشا الشتجي وأمره على دمشق وعلى الحج وأنه يستقصي الخارجين عن أمره والمتعصبين على القول ويقتلهم ويرسل برؤوسهم إلى الباب العالي وألزمه أن يباشر إصلاح طريق الحاج بما أمكنه فجاء عبد الله المذكور والياً على الشام وأعمالها وأميراً على الحاج ودخل دمشق في أوائل سنة إحدى وسبعين وجاء معه بجند الغالب منهم نصارى وأعاجم. فلما قرب من دمشق تحزبت الينكشارية وتجمعوا في جهة الميدان والقبيبات والحقلة ووقع منهم إساءة في الأدب في حق الوزير وجنده وانتهبوا من نزل منهم بالقرب من محلهم الذي تحصنوا فيه ثم بعد يومين من ذلك نزل من الينكشارية نفر إلى جهة باب الجابية وتلك النواحي فظفروا باثنين من الجند فبطشوا بهما فقتل أحدهما وجرح الآخر فبلغ الخبر إلى الوزير فأمر من عنده من الجند أن يذهبوا إلى المحل الذي فيه الينكشارية ويقتلوا من يقدرون عليه ويأسروا من قدروا على أسره فخرج الجند متوجهاً إلى جهة حارة الميدان وتلك الجهات فلما وصلوا إلى وجوه المطلوبين وتوجهوا فرت طائفة الينكشارية طالبين البراري والقفار فتبعهم نفر من الجند ساعة من نهار وقتلوا منهم عدداً قليلاً ورجعوا عنهم واستمر أولئك هاربين ثم أن الجند أخذوا في قتل من رأوه كائناً من كان وشرعوا في النهب والسلب فانتهبوا غالب المنازل والحوانيت من حدود الحقلة إلى باب الجابية واستمر ذلك من الضحوة الكبرى إلى وقت العصر والجند يأتون بالرؤوس إلى حضرة الوزير فقتل في ذلك اليوم من الرعايا العدد الكثير وانتهب المتاع والمال الغزير إلى أن دارك الله تعالى باللطف بعد أن أخذوا العدد الكثير من الرعايا البرآء وسجنوهم ووضعوا القيود والأغلال في أيديهم وأرجلهم وأعناقهم ولما بلغ الوزير أن هؤلاء النصارى والأعاجم حصل منهم التعدي في القتل والنهب خرج إليهم ولامهم على ذلك وأمرمهم بالكف عن ذلك وجمع ما قدر على جمعه مما انتهبوه ووضعه في المساجد وأرصد له من يحرسه وندب المنتهبين أن

يأتوا وينظروا في الأمتعة فمن وجد شيئاً من متاعه أخذه ففعلوا ذلك فما حصلوا على عشر معشار ما انتهب من متاعهم وأموالهم وأطفأ الله تعالى نار الفتنة ثم أخذ النصارى والأعاجم الذين هم من جند هذا الوزير يتحكمون في أهل دمشق بالسلب والاستحلال والشتم والقذف والضرب والقتل حتى أشاعوا الفواحش وتجاهروا بالزنا وشرب الخمر وحتى تعدوا إلى أن يخرجوا أهل المنزل من منزلهم ويسكنون فيه وكان الإنسان في تلك الأزمان لا يأمن على نفسه إذا خرج من منزله بعد المغرب ومتى خرج أصيب بنفسه أو ماله. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي أشرت إليه في الأرجوزة المتقدمة من الشكاية مما وقع في دمشق من الرزايا سنة إحدى وسبعين بسبب ما وقع من طائفة القول والينكشارية من الفساد والإفساد ثم بسبب ما وقع بعده من طائفتي النصارى والأعاجم الذين هم من جند الوزير المذكور سلط الله تعالى الزلازل والرجفات فوقع الردم في المنازل والجوامع والمنارات ومات تحت الردم خلق كثير وقبل أن تسكن تلك الرجفات والزلازل أرسل الله عز وجل الطاعون فأخلى البيوت وفرق الجموع وشتت الشمل وكدر العيش. وقال بعد أن مدح عام اثنين وسبعين ومئة وألف: وقد كان أهل دمشق في غاية الوجل ونهاية الفرق والقلق من جهة الحاج من شر الأعراب الأشقياء قياساً على ما وقع منهم من الشر في العام الذي قبل هذا العام وكان الوجل الواقع من أهل دمشق في محله9 حيث أن العرب بالغوا في التعدي وفجروا واعتادوا سلب الأموال وتكدير الأحوال ولكن الله يؤيد بنصره من يشاء فإن أمير الحاج الذي هو عبد الله باشا المذكور ووقع بينه وبن الأعراب حرب شر من أجل مال الصر المرصود للعرب من جهة السلطان فتوعده باشر فاحتال عليهم وقتل أمراءهم وفر الأذناب منهم ومضى الأمير والحاج سالمين غانمين ولما رجع الأمير بالحاج رجع على طريق آخر بعد أن تجمعت العربان بين الحرمين بقصد المعارضة للحاج فخيب الله آمالهم ولطف سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين وسلمهم من غوائل الأشقياء المجرمين وبلغنا ذلك كله بعد هلة عام اثنين وسبعين بأيام فلأجل ذلك خصصت هذا العام بالمدح أيضاً فقد كان الناس قبل هلته يشكون من قلة الغيث فلما استهل أغاث الله عز وجل العباد وأحيا البلاد وإلا فإن الدواهي الواقعة فيه وفي أيامه بدمشق وقراها لم يسمع مثلها بفساد الجند وإفساد العساكر وظلم رئيسهم وجور حواشيه وعسفهم.

وعاد المؤلف فكرر أهوال ما وقع سنة سبعين وما بعدها وقد دام ما وقع من أذى الجند السابق والجند اللاحق الذي جاء مع الوالي الجديد من عشر ليال من شهر رمضان إلى جمادى الأولى والقول منحشرون في قلعة دمشق والينكشارية ومن تبعهم من الحشرات حول القلعة والحرب قائمة على ساق وقدم وقد أخرج الجند الجديد أوب عض الناس من دورهم وتوطنوها ومع اختاطفهم لبعض النساء والغلمان جهاراً من غير مدافع لذلك ولا ممانع حاكمين على جميع أهل الشام بالكفر وبأنهم قوم يزيد مصرحين بذلك. . هذه نموذجات من عصر الظلامات والظلمات والكتاب نسخة كتبت بقلم مؤلفه وشعره متوسط حسن بالنسبة لعصره عصر الانحطاط في كل شيءٍ كتبها في ذي القعدة سنة ألف ومائة وثلاث وسبعين.

الألفاظ السريانية في العربية العامية

الألفاظ السريانية في العربية العامية اللغة السريانية من أمهات اللغات السامية وهي من أصول اللغة العربية ولو بحثت في أصول الألفاظ العربية لرأيت بعضها سريانيا في الأصل كما دخل إليها ألفاظ كثيرة من العبرانية والحبشية والفارسية على نحو ما حققه المحققون من الباحثين في أصل اللغات. كان للسريانية شأن عظيم حتى قال بعضهم أن السريانية كانت لسان آدم أبو البشر وتعدى بعضهم فادعى أن لسان أهل الجنة السريانية وذهبت عصابة من العلماء إلى أن السريانية أصل لغات الآدميين بدليل ما وقع في أسفار موسى من تسميات تقرب كل القرب من الألفاظ السريانية معنى ومبنى وعلى كل فهي بكر لغات النوع الإنساني وهي من أعرقهن في القدم وأول من انطلق لسانه على ما نعهد آرام بن سام فتناقلها الآراميون أخلافه ممن أطلق اسمهم حيناً من الدهر على السوريين أو السريان الذين عمروا بلاد كلدان وأشور وسورية والمراد بالسوريين غير الأثوريين النازلين من صلب آثور أو آسور بن سام من كانوا يسكنون عبر الفرات ولما دوخ ملوك أشور سورية عدَّ الأشوريون والسوريون شعباً واحداً ولما اقتسموا الملك عرف من أقام عبر الفرات بالأشوريين وقد تكلم بهذه اللغة السريانية سكان أورشليم بعد السبي البابلي وأكثر نصارى البطريركية الإنطاكية والموارنة وأما أشهر فروعها فأولها البابلي وهو أفصحها وأوضحها وأبقاها كتبت به أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس وثانيها الأورشليمي الذي تكلم به اليهود بعد جلائهم من بابل فتناسوا العبرانية وتلقفوا الكلدانية فشابوها ببعض ألفاظ من لغتهم وسميت لغتهم العبرانية لأن اليهود كتبوها بالعبرية وهي كلدانية سريانية والثالثة السريانية الإنطاكية وبها كتبت تب الدين عند الموارنة وكانت شائعة في البلاد العربية والحبشة وقسم من بلاد الأرمن وما بين النهرين وسورية ولبنان وفينيقية وأنطاكية. والى اليوم لا يزال أثر ضئيل للسريانية أثناء المفردات العربية في كلام أهالي شمالي لبنان كما أن أهل بشراي وحصرون وبعض القرى المجاورة لهما كانت تتكلم بالسريانية في أواخر القرن السابع عشر ولا يزال إلى اليوم أهل معلولا من جبل قلمون يتكلمون باللغة السريانية مع اللغة العربية وقريتان بجوارهما. وهاك الآن أسماء بعض قرى الشام التي هي سريانية الأصل: (داريا) الدور. (بيتما) بيت اليتيم. (بيت لهيا) بين الآلهة. (زملكا) سلاح الملك. (كفر مشكا)

قرية الجلود. (كفرسوسة) قرية الفرس. (كفر قوق) قرية الأكواز. (معربا) المغرب. (المعرة) المغارة. (راشيا) الرؤوس. (البقاع) السهول. وإليك أسماء بعض قرى لبنان وأكثر أسمائها سريانية: (بكفيا) الموجودة بين الحجارة. (بسرين) الحومات. (حبرمون) رفيق من أنت. (مزمورا) الترنيمة أو الأنشودة. (عينات) عين أبي. (رمحالا) الرمل العالي. (رشميا) رأس المياه أي أعذبها. (شرتون) صدقتموني. (شوريت) العرق. (بيت مرى) دار سادتي. (البتير) المسكن. (بسكنتا) محل العدل. (بلعشمية) قرية السماء. (برمانا) ابن من أنت. (بتغرين) سوق التجار. (بتعلين) مأوى الثعالب. (عينطورا) عين الجبل. (الشوير) سور. (عين عار) عين الغار. (قرنابل) قرن الأيل. (العاقورة) العين الباردة. (بجة) الجنة البستان. (جعيته) الصادحة. (درعون) الذراع. (حدشيت) أحد الستة. (عين جوبا) عين الحب. (عاليتا) العالية. (عمشيت) مع الستة. (ميروبا) المياه الغزيرة. (راسكيفا) رأس الحجر. (رشعين) رأس العين. (شمسطار) شمس الجبل. (أيطو) القيظ. (بتحلين) بيت الحلوين. (أسيا) الطبيب. (بشتودار) مكان الشر. (إهدن) الجنة. (حردين) انظر إذاً. (حدتون) الجديدة. (مجدليا) البرج. (راشانا) سيد المان. (ياريتا) الوارث. (نيحا) الهادئ. (عين تورين) عين الجبال. (رام) العالي. (شاتين) الستون. (شبطين) القضبان. (تنورين) التنانير. (زغرتا) الصغيرة. (الدوق) المنظر. (قزحيا) كنز الحياء. (كفرحى) مكان الحي. (كفرزيتا) حقل محل القضاء. (كفرتعلا) حقل الثعلب. (مليتا) الملآنة. (ريحات) الأكام. (بطرام) بيت العالي. (بطرومين) بيت السادة. (كفرحانا) الحقل الجديد. (كفرعقا) حقل العقد. (عابا) الحصن. هذه نموذجات من أسماء القرى وهناك كثير من الألفاظ الشائعة في اللغة الدارجة في سورية وهي من أصل سرياني وتجد أكثر هذه اللفظات في لغة أهل جبل لبنان فمن ذلك قول الم لولدها ردعاً له وتخويفاً من أن يمس شيئاً يؤذيه (أوواوا) وهي كلمة وعيد. و (واوا) ويل ويل والمعنى إن مسست ذلك الشيء المؤذي فويل ثم الويل لك. وقولهم (الشكارة) للدلالة عَلَى النذر اليسير وهي في الأصل السرياني تدل عَلَى البقعة من الأرض فيقولون مثلاً: فلان عنده شكارة كرم وفلان مربي شكارة دود حرير وزرع له شكارة قمح.

ويقولون عمن يتروى في أموره (فلان يتبحر في أموره) أي يتفحص. ويقولون (بحش الأرض) حفرها ويقولون أيضاً بحوش بمعنى نبش وحفر. ومنه قولهم (الولد يبعط) وهي لبط. ومنه (جهجه الضوء) أي انبلج الصبح. ومنه (كعيت) أي عجزت. ومنه (عمل له كعرة أيما كعرة) أي صاح به وانتهره زاجراً. ومنه (جرجره) أي جره. ومن ذلك (زرع دليل) أي متفرق هنا سنبلة وهناك أخرى. (دلف بيتنا) أي وكف وقطر. (دندل) دلى. (دقر الباب) أوصده. (دحيناهم) محقناهم وأفنيناهم. (طلعت هبلة الماء) أي بخاره. (يزعق الولد) يصرخ ويصيح. (زفر ثيابه) وسخها ودنسها. (زرب الماء أو زرزب أو ذرف) نضح وانهرق. (انقطع حيله) قوته وحوله. (رحيص الدابة) شدها وربطها. وينعتون الرجل الداهية الشديد المكر بكلمة (حرح) أي المكار المحتال الذي لا يؤخذ من وجه. وربما قال بعضهم أن بعض هذه الألفاظ من مفردات العربية الفصحى ولكن لها في بعض التعابير من المعاني مل يحمل عَلَى أن يقطع المرءُ بأنها سريانية المبنى المعنى والوضع والمولد. ومن ذلك طرطوع من يخلط في كلامه لخفة عقله. (طرش ثيابه) أي لوثها وقذرها. (أطرشوه ماءً) رشحوه وأنضحوه. ومنه يطرشون بيوتهم بالكلس أو بالحوارى وهي سريانية (يما ويما وجد) ويما البحر أو اليم ما يشيرون إليه يضارع أمواج البحر غزارة. كبس العجل روّضه. كوّش أو كوش الزبالة جمعها وكومها. وتقول العجوز لجارتها تغزل صوفاً وغيره إذا ما تكدرت منها خرب الله كوشتك تريد أحل الله ما تكوم من خيوط ساق مغزلك. تلوش العجين تعجنه وتعركه. ومن صلواتهم الميامر واحدها ميمر قطعة حسنة ينشدون بعضها خلال القداس بلحن. ومنه دعاءٌ لموتاهم الله ينيحهم والله ينيح نفوسهم أي يريحهم ويمتعهم بالراحة. ومن دواثر لغتهم قولهم قلبي سايف أي فإن وتالف. الساعور المفتقد والزائر والعائد. عقوس الزنبور الحمة وإبرة الزنبور التي يلسع بها فيقولون عقسة الزنبورأي لسعته. العتيد الآتي والمقبل. داء الفالج من شق وشطر والفالج يصيب عادة شطراً من الجسم فيقطعه عن الحركة أو يأخذ منه الاسترخاء. الدم يفلفلك يلوثك ويمرغك كأن يقال قتلك الله وضرجك بدمائك. فرط الثمر نثره. فرم اللحم والتبغ هبره وقطعه إرباً إربا.

فرافيط الخبز فتاته. فرشخ وسع ما بين رجليه. ومثله فشخ. ومن دواثر لغتهم قولهم إن هذا الشيء يقاوي كثيراً يصبر عَلَى عوادي الدهر. هو قافط أو قامط معبس. قرقش الحمص صرَّ أسنانه عليها فظهرت بها متانتها. القسيس الشيخ والمسن. يرصون الزيتون يرضونه. يرشمون البيدر يضعون علامة عليه ومنه. الرشم للطابع المنقوش الذي يسمونه البيدر. شبشول الذرة ما تدلى منها دعوها كذلك لاسترسالها كاسترسال أغصان الجفنة. يشفون أشجارهم يلقمونها. أشحط الأولاد أطردهم. شحرك الله سودك. تشطح عَلَى الحصيرة تمدد وتسطح. ريح الشلوق وتسمى الشلهوبة أي اللهبة والضرم. شلح متاعه أي أرسله ورمى به بعيداً. وشلح تعرى. الشلفة الفأس الصغيرة يقتطعون بها الحطب. شمط له أذنيه اقتلعهما شمط خطف. شغف أو شغف الرغيف والحجارة من كسر جزأ. الشربوكة الشرك والأحبولة. انشطرت انخزق وانخرق. شرم الأذن قطعها. شرشت الشجرة أوشلشلت تأصلت وضربت عروقها في الأرض ومنها الشروش. شرش أرضك اقطع عروقها. الشماس والإشبين للمعروفين عند النصارى. شتل بستانه نصبه. الطغمة الزمرة. ضربه وتوكه عطبه. تكتك هذر وثرثر. تف الطعام قاءه ومجه والتف البصاف غير السائل. ويصفون الرجل الداهية بكلمة بهموت وهو الغول عند السريان كالسعلاة عند العرب. بح يا ولدي جف ونفذ. نوص القنديل من برض العشب إذا بان أولاً فأولا. ويقولون فو عليك أي أف عليه كلمة تكره. شخط حلده أي خزق. كش الدجاج وغيره من الطائر زجره. تحمط له أو عليه اغتاظ وغضب. تروحن انفرج ونفس كربه. البكير واللقيس للمطر الموسمي والولي. ويقول من يتورط في أمر صعب يتشكى قائلاً ما هذه البلشة أي الضر. بقعه أي رفسه برجله وركله في بطنه. يرعط الولد من تبرعص في الماء أي اختلج فيه. الغوغا الصخب والجلبة جم الكرم إذا اقتضبها من أسفل جذعها لتنبت من جديد. الجملون وهو سقف من خشب محدب كسنام الجمل مستطيل وهو تصغير الجمل في اللغة السريانية. جعر الفدان والجمل من عج الثور والجمل. غف الطائر فريسته إذا حام حولها أو وثب بشدة. الدجال وهو إلى السريانية أقرب منه إلى العربية. ويقولون عمن يموت برداً دنق أي تعذب وتألم لما يأخذه من نوافح البرد. حركش من حرش بين القوم وأغرى. يطيب أرضه يجعلها صالحة لإلقاء البذار فيها. الطربون الغصن

الصغير أو المورق. كدن الفدان من قرن الثورين أي شدهما إلى نير واحدة. ويقولون للشيخ المسن اختيار أو ختيار أي شيخ. ماسورة الحائك وهي لفافة من الخيوط يلفها عَلَى عقدة قصب مجوفة. ولو أردنا استقصاء الكلمات الدخيلة في اللغة العربية العامية بل واللغة الفصحى الدخيلة من الألفاظ السريانية لطال بنا المطال. وهنا نكتفي بما تقدم مضيفين إليه سكر الباب سرد الغربال عكشه الثور نطحه عرم التراب كومه وكدسه عرم الإناء والكيل بالجوامد أطفحه فرطش مناخيره فركش الولد فقع تمزع غيظاً فاش عَلَى وجه الماء فشار المهذار صمد دراهم صمد العروس صنة الإبط نتنه. قبع الحجر أصله في الركز فاستعمل في القلع قرمة الشجر جذعها قن الدجاج جلد فلان مقشب أي شارث متشقق الشوب الحر الشموط الكبة من الصوف الشقيف الصخر العظيم شقل الحجر رفعه الشرنقة البيت الذي تنسجه دودة الحرير لنفسها طبش الإناء كسره. وكذلك الناسوت والجبروت والكهنوت والملكوت وبراً وجواً وباخ الثوب.

غرف التجارة

غرف التجارة أيقنت الأمم التي كانت تحرص في أوائل القرن التاسع عشر عَلَى الانتصار في ميدان الهيجاء إن المصالح الاقتصادية أهم المصالح وأكثرها نفعاً فأخذت تعمل لتوسيع نطاق تجارتها وأعرضت عن توسيع مساحة بلادها. ولا مشاحة في أن تقدم الأمم ونجاحها في حالتي السلم والحرب ومضاء حكمها ونفوذها في البلاد الابتدائية لا يكون إلا بالمال وما يقوم به من الأعمال التجارية والصناعية. تقحمت الدول في القرن العشرين حرباً ضروساً لفتح مصادر جديدة لمحاصيلها المتزايدة يوماً فيوماً في جميع أنحاء المعمورة بفضل الصناعات الكبرى أعني الصنائع التي تكون بالألوف المؤلفة من رؤوس الأموال وتضم الألوف من العمال تحت سقوف المعامل الفخمة وهكذا أخذ أرباب الصناعة والمستثمرون يبحثون البحث الدقيق عن أسواق البلاد في كل قطر ومصر. وكان النصر في حلبة هذه الحرب حليف الفئة التي أعدت السلاح الأقوى والأسباب المؤثرة فنشأت من ذلك لأمتهم مكانة اقتصادية بين الأمم لم تكن لتحلم بها قبل عشرين عاماً أو ثلاثين. إن أميركا التي كانت تستحصل دون أن تعنى بتصريف محاصيلها وبيعها إلى عهد غير بعيد أحست بلزوم الحيد عن سياستها القاضية بسد أبواب التجارة حتى أن أحد المفرطين في التشديد بأصول حماية الصناعة والتجارة صرح لأمته في خطبة ألقاها قبل وفاته ببضعة أيام أنه لا بد من توسيع نطاق التجارة وعقد العهود مع بعض الدول توصلاً لهذه الغاية وفتح خلات في أبواب الجمارك المسدودة. وليست أمة الأميركان وحدها في حاجة إلى المبادلة التجارية بل جميع أمم الأرض المنتجة مضطرة لمبادلة محاصيلها زراعية كانت أو صناعية. وليس الاستحصال غاية وإنما هو واسطة والمستحصلون لا يستحصلون لأنفسهم بل للانتفاع بما هوز أحوج إليه من ثمرات أعمال غيرهم عن طريق المبادلة ومكانتها ورواجها متناسبان مع مكانة المصادر ووفرتها وتحقيق ذلك من واجبات التجار مباشرة وأما الحكومة فلا ينتظر منها إلا إبلاغ التجار ما يتصل بها من الأخبار بواسطة قناصلها والذب عن حقوق رعاياها في البلاد الأجنبية وأن لا تمس قوانين وأنظمة تمس حرية التجارة وأن تقيم قوتها مقام قوى الأفراد حيث تكون الأمة متأخرة في العلم والتجارة وأن تكون لهم خير دليل فيما يمكن أن تكون.

ولكن التجار في البلاد الراقية لا يعتمدون في ترقية التجارة الوطنية إلا عَلَى أنفسهم ولا يستغني تجار الأمم النازلة عن هذا العضد عَلَى أن موظفي الحكومة لا يعلمون حق العلم ولا يستطيعون أن يعلموا كنه التجارة وسير أعمالها. فكيف يصح ن يقودوا التجار وهم أحوج إلى قيادتهم وآراءهم المؤيدة بالاختبار الصحيح والتجارب المتواصلة. وقصارى القول فلا يجد بالحكومة أن تعين وجهة سير التجارة بين بلادها والبلاد الأجنبية وإن فعلت لا تصلح خطأ أوجبه تداخلها حتى تقع في مثله ومن المحتم عَلَى الحكومة أن تشاور من هم أحق بالمشورة في شن الشرائع والأنظمة الداخلية وتعيين خطتاه في المشاريع العمرانية ووضع الضرائب التي لها علاقة بالتجارة والقيام بكل ما له مساس بالمصالح الاقتصادية وألا تقع في حيص بيص فلا تنطبق شرائعها عَلَى حاجيات الأمة ولا تلاءم الأحوال الاقتصادية وتحول دون ارتقاء البلاد من حيث العمران وتخنق الروح التجارية بالتعديل الذي تحدثه في أصول الضرائب. وبعد فإن المعهد الذي يهدي الحكومة إلى المحجة المثلى في مجرى أعمالها ويقوم بكثير من الواجبات التي ترتفع بها مكانة التجارة الوطنية هي الغرفة التجارية. أخذت الطبقات الاقتصادية في الأمم التي نالت حريتها السياسية واحتفظت هي ونوابها بحق التشريع تسعى لترقية الأوضاع التي يؤلفها المنتخبون بالفتح من بينهم ليدافعوا عن منافع الطبقات الاقتصادية وكان لهذه الحركة الاقتصادية ثمرات عظيمة تعود عَلَى الأفراد والأمة بالنفع العميم ولما كان أعضاء هذه الأوضاع غرف التجارة والزراعة والصناعة يمثلون الطبقات الاقتصادية عامة أصبحت كلمتهم نافذة عن وكليهم والحكومة تحترم آراءهم وأقوالهم وتصيخ إلى مطاليبهم لأنهم أمناء الزراع والصناع والتجار وعمدتهم ولهم اطلاع عَلَى حاجات البلاد مهما تنوعت وتضاربت فيؤلفون بينها ويجمعونها حول مركز واحد. ومن المسلم أنه لا تعتمد في الشؤون الحيوية إلا عَلَى ذوي العلاقات بالمناهج الحيوية ولذلك يستفاد من آراء أرباب الصناعات في الصناعة ومن التجار في آرائهم في التجارة. ولما كان الرجوع في كل مسألة إلى عامة التجار والصناع متعذراً اقتضت الحال أن تعتبر هذه الغرف والأندية التي حاز أعضاؤها الثقة العامة مرجعاً وآراء هذه الأندية تعتبر كآراء عامة أفراد الطبقات الاقتصادية. والحكومة تعلم حق العلم أن موكلي رجال هذه الأوضاع

قوة عظيمة اجتماعية في البلاد وأن الأيدي لا تجسر أن تتلاعب بهذه القوة. أقيمت غرف التجارة لمصلحة يجب الدفاع عنها ولا يرجى اقتطاف الثمرات من هذه المصلحة بمجرد أعمال الحكومة وتدابيرها ولبذلك لا ينكر أحد إلى الداعي إلى تأسيس الغرف التجارية ولكن هل هذه الغرف أسست عَلَى طراز واحد في كل قطر ومصر؟ الفرق تنقسم من حيث تأليفها قسمان: 1_الغرف المؤسسة عَلَى القاعدة الفرنسوية تؤسسها الحكومة ويحضر جلساتها من تنيبهم الحكومة عنها وحق انتخاب أعضاءها محصور بالتجار المقيدين في سجل الغرف التجارية أو من يدفع منهم مبلغاً معيناً من ضريبة الباتنت والحقيقة أن هذا الشكل من الغرف عبارة عن نقابات إلزامية ومداخيلها من الضرائب الموضوعة لها. والغرف التجارية في ألمانيا وهولندة والنمسا وإيطاليا والبرازيل ورومانيا من هذا القسم. والغرف الصناعية والتجارية في النمسا توفد نواباً إلى مجلس الأمة ولذلك فإن لها هناك فروضاً سياسية تقوم بها. وغرف التجارة الألمانية رسمية أيضاً ولكل من عرف الحكومات الألمانية التجارية قوانين خاصة بها. ولها واجبات خاصة عدا واجباتها العامة تتعلق بالأمور العدلية إذ تنتخب مرشحين من التجار يناط بهم أمر القضاء في محاكم الدعاوي التجارية وتعرض أسماؤهم عَلَى الأمير. والغرف التجارية في إيطاليا تابعة لقانون 1862 وغرف التجارة الرومانية تابعة لقانون 7 أيار 1886 أما الغرف التجارية العثمانية فهي عَلَى الجملة من الغرف المؤسسة عَلَى القاعدة الفرنسوية. 2_الغرف المؤسسة عَلَى القاعدة الإنكليزية عبارة عن نقابات تجارية حرة ليست لها صفة رسمية قط. ومداخيلها من رواتب الأعضاء وهذه الغرف التي يمكن أن ينتظم في سلكها جمهور صنوف التجار أشبه بنقابات الصناعات المتحدة المؤلفة من رؤساء الصناعة بتلك النقابات المنتشرة في الأقطار الأوربية كافة. تلتئم الغرف التجارية كل عام في إنكلترا وتؤلف مؤتمراً عامً وكذلك في أميركا وللقرارات التي تبرم في مؤتمر أميركا وإنكلترا شأن عظيم. والغرف التجارية في البلجيك وأميركا والبرتقال واليابان من هذا النوع. تنشئ الغرف التجارية الإنكليزية الثغور وتتعهد

بمحافظتها وتستوفي في مقابل ذلك ضرائب معينة من السفن. ولهذه النقابات الغرف التجارية الإنكليزية التي تؤلف قوة عظيمة في مملكة بريطانيا العظمى تأثير كلي في كثير من الإصلاحات القانونية. وقد كانت غرف التجارة في البلجيك إلى تاريخ 1875 من نوع الغرف الفرنسوية ثم نزعت بضم النون عنها الصفة الرسمية وسمح القانون من ذلك العهد بتأسيس غرف حرة. أما روسيا فلها أشكال من الغرف خاصة بها: أولاً في كل بروص لجان تنتخبها التجار والصناع عَلَى اختلاف ضروبهم ولهذه اللجان اجتماعية متوالية. ثانياً إن لكل من صنوف التجار والصناع مجامع ينتخب أعضاؤها جمهور الصنف الذي ينتسب المجمع إليه وأهم هذه المجامع مجمع معدني روسيا الجنوبية وتلتئم هذه المجامع مرتين في الخريف والربيع من كل عام وتمتد اجتماعاتها خمسة عشر يوماً أو عشرين وقد تتجاوز الاجتماعات هذه المدة. ثالثاً إن في نظارة التجارة الروسية مجلساً صناعياً تجارياً تعين الحكومة النصف من أعضاءه وتنتخب الصناع والتجار سائر الأعضاء وبتجدد انتخاب هؤلاء الأعضاء المنتخبون مرة كل ثلاث أعوام. فتمر اللوائح القانونية التي لها علاقة بالتجارة أو الصناعات كافة من لجان دور البورص والمجامع والمجلس الصناعي التجاري في نظارة التجارة الروسية وكل من هذه الأوضاع يؤخذ رأيه في اللوائح المذكورة. هل الغرف التجارية المؤسسة عَلَى الصول الإنكليزية أنفع أن المؤسسة منها عَلَى الأصول الفرنسوية؟ ليس من جواب قطعي لهذا السؤال لأن شكل الغرف كونها رسمية أو حرة تابعة لأخلاق الأمة وآدابها وعاداتها ونوع تربيتها. فحيث تكون فكرة الاشتراك بالأعمال والإقدام والجرأة عَلَى القيام بالمشاريع غزيرة في النفوس يقوم التجار بتأسيس غرف حرة يرغبون وبالشروط التي يستحسنونها فتصان بذلك المصالح التجارية وحيثما فقد هذا الشعور الحي والمبادئ لا يسهل إنشاء هذه الأوضاع ولا بد للقيام بهذه المشاريع من إشراف القانون عليها. ولم يقتصر الأوربيون عَلَى تأسيس غرف تجارية في بلادهم بل أسسوا مثلها في البلدان

التي يتجرون معها فإن لفرنسا خمساً وعشرين غرفة تجارية وفي لندن ونابولي ورومية ونيويورك وأمستردام وغيرها وللإنكليز والنمسا والمجر والبلجيك وأميركا وإيطاليا وإسبانيا غرف تجارية في باريز وقد نجم عن هذه الغرف فوائد كثيرة لتجار البلاد التي تنتسب إليها وذلك لأنهم يأخذون عنها الأخبار المفيدة ويدركون حاجيات البلاد التي أسست فيها وميول سكانها وأذواقهم وبذلك تساعدهم عَلَى إيجاد المصادر وتوسيعها. وتكون رئاسة الشرف لهذه الغرف التي تؤسس في البلاد الأجنبية في عهدة القناصل عَلَى الأغلب. والحكومات تخصص مبالغ من وارداتها تدفعها إلى غرف التجارة المؤسسة في البلاد الأجنبية لسد العجز في ميزانيتها لما لها من الفوائد والاعتماد وليس لهذه الغرف صفة رسمية عند الحكومة تنتسب إليها ولا عند الحكومة التي أسست في بلادها ونظارة التجارة الفرنسوية المؤسسة خارج فرنسا وهذه تخابر الحكومة الفرنسوية رأساً. * * * وقبل أن نتبين تأليف الغرف التجارية وقوانينها في فرنسا والبلاد العثمانية نأتي هنا عَلَى التعريف بوظائف الغرف التجارية في حياة التجارة العامة لكل مملكة: 1_الغرف التجارية تعنى حق العناية بالتربية الاقتصادية للبنين وتتلقى مسألة التعليم التجاري بما يجدر بها من الشأن فتشيد المدارس التجارية وتستميل الشبيبة إلى التجارة والسياحة وتحيي في نفوسهم فكرة الإقدام والجرأة وتنظم للمدارس الخطط المفيدة التي تقوي إرادة التلاميذ وتؤسس المكاتب ليألف الشبان والطلاب مطالعة التآليف والمصنفات المحررة بأقلام السياح وتدعوا أهل العلم لإلقاء المحاضرات وتمنح الجوائز للمقيمين في الممالك الأجنبية وتعلم في مدارسها لغات البلاد التي تكون ميداناً فسيحاً لحركتها التجارية وعل الجملة تنشئ شبيبة يقظى جريئة عَلَى الدخول في الحياة التجارية تدخل هذه الحياة وأعمالها مكللة بالنجاح. ومن متممات التربية الاقتصادية الدروس الليلية والمتاحف التجارية ودور الأنباء والاستعلامات وكل هذه متممة لفوائد التدريس والتعليم. 2_الغرف التجارية توجه الرأي العام نحو عقد المعاهدات التجارية عَلَى المبادئ الحرة وتسعى في تنظيم تعرفات الجمارك بحيث تسهل نشوء التجارة وتقدماه.

3_تتوسط الغرف التجارية في عقد المقاولات بين الأمم صيانة لحق التملك الصناعي خارج البلاد كما في داخلها وتطالب بسن القوانين الضامنة الحقوق الاجتماعية والبيوت التجارية من البائع إلى المشتري دون اضطرار إلى تغيير أسمائها وبذلك يصان كل اسم تجاري ذي شهرة من الاختلاس والضياع. 4_الغرف تعاضد الحكومة نقداً ومادة لإنشاء المشاريع العمرانية النافعة. 5_تصدر الغرف التجارية مناشير ومجلات تطبع فيها محاضراتها وجلساتها وكثيراً ما تنشر نتائج تحقيقاتها الخاصة عن المسائل التجارية. 6_إذا كانت دائرة الغرفة ضيقة النطاق لا تقتصر في أبحاثها وتتبعاتها عَلَى هذه الدائرة وتطالب بالإصلاحات التي تنفع عامة أنحاء المملكة وتنتخب كل ما يمكنها من الوسائل التي تؤدي إلى التقدم والرقي. وفي المراكز التجارية الأوربية كافة أندية تقوم بهذه الوظائف أحسن قيام وأعضاؤها من الرجال الذين قضوا أربعين أو خمسين حجة من حياتهم في التجارة واشتهروا في خلالها بالعلم والعمل ومكارم الأخلاق. وإذا شئت أن تعلم كم لأعمال أولئك الرجال، رجال العلم والعمل ومباحثاتهم من الفوائد فهذه آراؤهم في المسائل التي لها مساس بحياة بلادهم الاقتصادية والمالية ومطاليبهم التي يعرضونها عَلَى حكوماتهم وآثارهم المفيدة كلها شواهد وحجج دامغة. اقتبست قوانين غرفنا التجارية من اغرف الفرنسوية ولذلك سنبحث هنا عن ماضي هذه وحاضرها لنعلم منشأ تلك. أول غرفة تجارية فرنسوية تأسست غرفة مرسيليا التجارية التي كان تأسيسها في أواخر القرن السادس عشر وأنشئ أيضاً في أوائل القرن السابع عشر الغرف التجارية في تسع مدائن فرنسوية محافظة عَلَى المصالح التجارية. ولكل واحدة من هذه الغرف شخص خاص ومع ذلك فإن لها أوصافاً عامة مشتركة بينهن فأعضاء الغرف الطبيعيون هم أعضاء محاكم التجارة والأعضاء المنتخبون بفتح الخاء يؤخذون من صنوف التجار والقدماء منهم أو من أعضاء محكمة التجارة السابقة. وكانت الغرف مكلفة بإبداء آراءها ومطاليبها في ما يتعلق بالمصالح التجارية وعرض المذكرات التي يدفعها التجار إليها إلى المراجع العليا.

يقول مؤرخو الفرنسيس لم تؤثر هذه البلاد في سياسة البلاد الاقتصادية تأثيراً مهماً ولم يكن لها سلطة تذكر إلا أن غرة التجارة المرسيلية لم تكن كذلك لامتيازها الطبيعي ولأن قنصليات الشرق كانت ملحقة بها ولما لها عَلَى التجار من الحقوق والواجبات المؤيدة بالقانون وكانت تسمح لإقامة الفرنسويين في مرسيليا وكان لها أسطول لمناهضة اللصوصية في البحر القرصان. ومن جملة أعمالها أنها كانت تشتري الأسرى وتقدم الهدايا إلى الملك وتغيث السفن المنكوبة وقد بلغت نفقاتها الاعتيادية مليوناً واحداً عام 1789. ولما ألغي أكثر أوضاع الدور السابق عقب الثورة الفرنسوية الكبرى ألغيت الغرف التجارية في الجملة وبعد ثمانية أو عشرة أعوام أسست في اثنتين وعشرين بلدة غرف تجارية مقيدة بقيود نظامية ضيقة النطاق غير أن هذا الشكل لم يثمر قط ولم يمنح وقتئذ حق انتخاب الأعضاء إلا لأربعين أو لخمسين تاجراً كان ينتخبهم الوالي وقضى الأمر المؤرخ سنة 1832 بإحداث لجان منتخبة مؤلفة من أعضاء محكمة التجارة وأعضاء مجلس الصلح وجماعة من التجار يبلغ عددهم عدد أعضاء ذينك المجلسين ومنحت ثورة عام 1848 حق انتخاب الأعضاء لغرفة التجارة التجار الذين يؤدون ضريبة الباتنت عامة. ولما عادت الإدارة السابقة أمر الإمبراطور أن يكون تأليف لجنة الانتخاب من قبل الوالي والقاعدة المرعية اليوم في انتخاب الأعضاء وضعت عام 1872. وآخر نظام يتعلق بالغرف التجارية وضع عام 1898. والغرف التجارية في نظر القانون الفرنسوي هي واسطة الدفاع أمام الحكومة عن المصالح التجارية في أصقاعها المعينة. ولا توجد الغرف التجارية في الجهات العامة وإنما يطلب ناظر التجارة والصناعة تأسيسها حيث يرجى النفع ثم يؤخذ رأي مجلس الناحية التي طلب الناظر تأسيس الغرفة فيها ورأي مجلس الولاية العام والغرف التجارية فيها وبعد كل ذلك تفتح بإدارة خاصة. وفي القانون صراحة أنه لا بد من وجود غرفة تجارية واحدة في كل ولاية عَلَى الأقل وإذا دعت المصالح الاقتصادية إلى تأسيس أكثر من غرفة يجوز وعندئذ يذكر في الإدارة الصادرة بتأسيس كل غرفة في حدود القطعة التي يتعلق بالغرفة الدفاع عن مصالحها التجارية. وفي بعض الولايات تسع غرف تجارية. وللغرف التجارية أعضاء أصليون أو عاملون وأعضاء مخابرون. وسأعود إلى بيان كيفية انتخاب الأعضاء

الأصليين أما المراسلون فتنتخبهم الغرف رأساً ولهم الحق في حضور الجلسات ويستضاء بآرائهم ولا يجوز أن يكونوا أكثر عدداً من الأعضاء الأصليين. والأعضاء المراسلون أحسن صلة بين الغرف والتجار وبوجودهم في هذه العضوية يتهيئون للانتظام في المستقبل في العضوية الأصلية التي لا شك أنها أكثر مكانة من الأولى ولا يغرب عن القارئ الكريم ما ينجم عن هذه الأصول من الفوائد. وعدد الأعضاء العاملين يختلف بين 9 و21 ويجوز إبلاغ عددهم إلى (36) في غرفة التجارة الباريزية فقط ويجب التصريح بعدد أعضاء كل غرفة في الإدارة القاضية بتأسيسها وإذا قضت الأحوال يجوز تعديل هذا العدد بالإدارات التي تصدر بعد التأسيس. وإليك الآن أصول انتخاب الأعضاء الأصليين. ينتخب كل من محكمة التجارة وغرفة التجارة ومجلس الصلح والمجلس العام بعض أعضاء مجلسه فتتألف من هؤلاء المتخبين بفتح الخاء ورؤساء المجالس المذكورة عضأعضاء بةيمبتنيمحكمة التجارة والغرفة التجارية ومجلس الصلح والمجلس العام لجنة تعنى بتنظيم دفتر بأسماء المنتخبين بكسر الخاء ولا يجوز أن يكون عددهم أقل من خمسين ولا أكثر من ألف إلا في باريز فيجوز أن يكون عدد المنتخبين ثلاثة آلاف وأن يكون معادلاً لعدد عشر التجار المكلفين بتأدية ضريبة الباتنت وبعد إتمام هذا الدفتر يدفعون به إلى الوالي ليعلنه. ثم تلتئم لجنة الانتخاب تحت رئاسة مدير الناحية وتشرع بالانتخاب وشروط الانتخاب للعضوية أن يكون المرشح مكلفاً بتأدية ضريبة الباتنت منذ خمس سنين ومقيماً خلال هذه المدة داخل حدود الإقليم الذي تنتسب الغرفة إليه وبالغاً الثلاثين من عمره وأن يكون أيضاً إما تاجراً أو دلالاً في البورصة أو من مديري شركات الأنونيم أو باناً لإحدى السفن ذات الأسفار البعيدة ولم يصرح القانون بشروط اللجنة غير أنه معتبر ضمناً لما لأعمال الفرق ومقاصدها من الشأن الوطني. وتجري الانتخابات بالرأي الخفي والأكثرية المطلقة عن المرشحين المسطرة أسماؤهم عَلَى قائمة خاصة وإذا تساوت الآراء ينظر إلى الأكثرية الإضافية وإذا تكرر التساوي يرجح الأكبر سناً ثم يكتبون محضراً بصورة الانتخاب ويدفعونه إلى الوالي وهذا يرسله إلى ناظر التجارة. وللناظر حق مطلق في رفض عضوية أي شخص كان من المنتخبين (بفتح الخاء)

ولو لم يكن ثمة أسباب قانونية. وبعد إجازة انتخاب الأعضاء وتصديقه من قبل الناظر يؤسس الوالي الغرفة بالفعل. ومدة العضوية ست سنوات ويتجدد انتخاب ثلث الأعضاء مرة كل عامين بطريقة الاقتراع ويجوز إعادة انتخاب أي عضو كان بعد انقضاء مدته مهما تكرر انتخابه للعضوية والعضو الذي يتغيب عن الغرفة ستة أشهر بلا معذرة يطلب الناظر رأي الغرفة في شأنه ثم بعد أخذ رأي الغرفة يعلن أنه اعتبر مستقيلاً من عضوية الغرفة وينتخب (بفتح الخاء) سواه في أول انتخاب (من الانتخابات الجزئية) التي تتخلل الست سنوات. ظهر للقارئ الكريم أن الانتخاب لا يشمل التجار كافة ولقد تكرر الطلب في مجلسي الأمة والأعيان لتوسيع هذا الحق ولم يسعف المجلسان هذا الطلب. وبعد أن تتألف الغرفة من الأعضاء يجتمع أعضاؤها وينتخبون لهم رئيساً أول ورئيساً ثانياً أو رئيسين ثانويين وكاتباً وأميناً للصندوق ولغرفة التجارة الباريزية وحدها الحق في انتخاب عدة رؤساء ثانويين وكاتبين ويتجدد انتخاب الرؤساء والكاتب وأمين الصندوق مرة في كل عامين ولا بأس بتجديد انتخابهم لهذه الوظائف نفسها وللولاة والمتصرفين الحق في حضور الجلسات وآراؤهم استشارية وكانوا قبلاً من الأعضاء الطبيعية يرأسون الجلسات التي يحضرونها. وإذا فقدت الغرفة ربع أعضاءها بأي سبب من الأسباب يجب انتخاب غيرهم في مدة شهرين وتدعى هذه الانتخابات بالانتخابات المتممة. إلا إذا كانت السنة التي حدث فيها هذا النقص في مجموع الأعضاء سنة الانتخابات الجزئية فيجب حينئذ التربص ريثما تجري هذه الانتخابات. ولا يجوز هذا التأخر إلى حلول وقت الانتخابات الجزئية إذا فقدت الغرفة نصف أعضاءها فأكثر. ومن حاز الأصوات في الانتخابات المتممة تنتهي مدته بانقضاء مدة العضو الذي انتخب عنه. ولا تجري المفاوضة عن أمر ما في الغرفة إلا إذا حضر أكثر من نصف الأعضاء ولا يبرم أمر إلا بأكثرية الأصوات المطلقة وإذا تساوت الأصوات فالأرجحية في جانب الرئيس. ولا يتقاضى الرئيس والأعضاء رواتب عن وظائفهم هذه ولرئيس محكمة التجارة حق التقدم عَلَى رئيس غرفة التجارة في التشريفات كما أن لأعضاء هذه المحكمة نفس الحق

عَلَى أعضاء الغرفة التجارية. وللغرف التجارية استقلال تام في الأمور الداخلية وهي تسن نظامها الداخلي وتعدله كما شاءت ولها الحق المخابرة رأساً مع ناظر التجارة وغيره من النظار. والقانون صريح في أن للغرف أن تنشر محاضرات جلساتها وأكثر الغرف تستفيد من هذا الحق. وليس لأعضاء غرف التجارة صفة الموظفين ولا تعتبر أعمالهم من أعمال القوة الإجرائية بتاتاً. وإليك الواجبات الرئيسية التي يجب أن تقوم بها غرف التجارة باعتبارها شخصاً أدبياً ذا استقلال له كما عليه حقوق وواجبات: 1_الإجابة عن الأسئلة التي ترد إلى الغرف فيما يتعلق بالأمور الصناعية والتجارية. 2_أن تبدي الغرف آراءها في أسباب ترقية الصناعة والتجارة. 3_القيام بالأعمال التي يتحتم عَلَى الغرفة صيانتها. فالبند الأول والبند الثاني من واجبات الغرف الاستشارية والثالث من حقوقها الإدارية. والغرف التجارية تؤسس مخازن عامة ومستودعات تجارية ودوراً للبورصة ومدارس تجارية وكذلك تشتري امتيازات بعض المشاريع النافعة. ولا بأس بمنح الغرف هذه الامتيازات إذا رغبت هي فيها بشرط أن لا تثبط مساعي الأفراد أو تضعف فيهم قوة الإقدام للقيام بهذه الأعمال والمشاريع. والأمور التي يرجح فيها لرأي الغرف هي كل ما له مساس بالنظامات والعادات التجارية وإنشاء غرف تجارية جديدة ودور للبورصة ومحاكم تجارية ومراكز لسماسرة البورصة والدلالين وبيان أسعار الأموال وتصديقها عند الحاجة وما له علاقة بتعريفة الدلالة وأنظمتها وتعاريف الجمارك وأصول الرسوم الجمركية وتعارف النقليات وقوانينها والضرائب التي تؤخذ لتنفق في محلها للمشاريع النافعة والعمرانية وتأسيس مصارف بنوك جديدة أو فروع للمصرف الفرنسوي ومخازن عامة وإحداث أماكن للبيع بالمزايدة. والغرف التجارية مكلفة بدفع ضريبة الباتنت عن الشغال التجارية التي تتعاطاها برخصة خاصة أو امتياز بشرط أن يكون لها من ريع صاف وأما إذا توازنت النفقات والمداخيل فلا تدفع شيئاً. ومن حقوق الغرف المهمة حق المخابرة بعضها مع بعض والاتحاد لصيانة المصالح العامة المشتركة وتنكيد بعض النفقات المشتركة أيضاً. فالمخابرة سهلت المفاوضة

بين الغرف وبالاشتراك سهل القيام بالمشاريع التي لها علاقة بأكثر من ولاية. تنقسم مداخيل الغرف إلى ثلاثة أقسام: (1) ضريبة الباتنت التي تستوفى من النجار بحسب طبقاتهم ومكلفيتهم والهبات والوصايا (2) المداخيل الغير الاعتيادية وهي الضميمة التي تضاف إلى ضريبة الباتنت والتخصيصات التي تأخذها من الحكومة وما يرد عَلَى الغرف من مبيع العقارات والقروض (3) المداخيل الصافية التي تأخذها الغرف المذكورة من الأعمال والمشاريع النافعة والتجارية التي تقوم بها. وتنقسم نفقات الغرف أيضاً إلى ثلاثة أقسام 1 النفقات العادية 2 النفقات غير العادية 3 النفقات الخاصة. النفقات الأولى ما تنفقه الغرف لإدارتها السنوية. الثانية ما تنفقه الغرف لشراء أراضي وعقارات أو بنائها أو المخصصات غير العادية. والثالثة وهي النفقات الخاصة ما تنفقه الغرف عَلَى الأوضاع التي لها أو تعهدت هي بإدارتها. والقانون الفرنسوي الأخير سمح للغرف التجارية بتأليف ذخر احتياطي وهي مكلفة بتنظيم موازنة منتظمة تجيزها نظارة التجارة ولها أن تعقد قروضاً باسمها ولكن لا بد من اقترانها بإدارة رئيس الحكومة. هذه خلاصة كيفية تأسيس غرف التجارة الفرنسوية ويظهر مما سبق أنها ليست حرة تماماً وبينها وبين الحكومة صلات وارتباط. الباقي للآتي. بين النهرين: تعريب ز. خ.

نهضة سورية

نهضة سورية لم يبق مجال للشك بأن بلاد الشام ناهضة نحو الترقي ثابتة وعزم أكيد فقد بدأت تباشير النهضة من بيروت بُعيد حوادث سنة الستين التي انتهت بمنهج الاستقلال الإداري لجبل لبنان وضعف أمرها في أواخر مدة السلطان المخلوع عدو المعارف اللدود ثم سرت نفحة من تلك الروح الطيبة بعد إعلان الحرية إذ أيقن بعض الأهالي أن العهد عهد كفاءات لا عهد شفاعات والدور دور نشاط وإقدام لا دور جمود وإحجام وأن من لا يعهد للدهر عدته يهلكه الدهر ولا من يرحمه. ولقد نال من نعمة الدستور في السلطنة كل بلد بقدر استعداد أهله وكان من توفرت لهم ذرائع التعلم أكثر ركوضاً إلى ورود مناهل العلم وليس في سورية مدينة استقام لها أمر التعليم كثغر بيروت الذي حمل إليه الإفرنج ولا يزالون يحملون علمهم وأموالهم ليربوا بها ناشئة الشرق ويخرجوهم عَلَى المنازع الغربية مازجين إلى تلقين المدنية تلقين النصرانية وقد وفقوا إلى ما قصدوا إليه منذ نحو نصف قرن. ولكن أهل البلاد انتبهوا إلى ما يلحقهم من الغضاضة إذ لوا عيالاً عَلَى ما أسسه لهم الإفرنج من المدارس فبدؤوا بتأسيس مدارس طائفية أهلية سبق إليها المسيحيون أولاً في بيروت وبعض المدن السورية ثم حذا حذوهم المسلمون في بيروت فدمشق فغيرهما ولكن البيروتيين عَلَى قلة عددهم وغناهم بالنسبة للدمشقيين فاقوا جيرانهم هؤلاء لأن اعتمادهم كان عَلَى أنفسهم واعتبروا حق الاعتبار بما حمله إليهم المرسلون من الأميركان والألمان والروس والفرنسيس وقدروا المبادئ والخواتيم فرأوا أنه لا ينقذهم من سوء المصير إلا العمل لتثقيف عقول أبناءهم عَلَى الطرق الوطنية الحديثة. أما الدمشقيون فقد استمروا وظائف الحكومة فكانوا ولم يزالوا إذا تعلموا شيئاً لا يقدرون له من الفوائد إلا بقدر ما يقربهم زلفى من الحكام ويوليهم التصدر في دست الرئاسة ولذا يرجح أن يكون مستقبل البيروتيين أكثر ثماراً جنيه في مستقبل جيرانهم اللهم إلا إذا اعتمد الدمشقيون عَلَى أنفسهم وحسبوا التوظف ثانوياً وقللوا من توقيره في نفوسهم. هذا مثال ضربناه أما سائر مدن سورية كالقدس وحيفا ويافا وصيدا وعكا وطرابلس واللاذقية وحمص وحماة وحلب واسكندرونة وزحلة وغيرها فقد هبت للتعلم بقدر ما تساعدها أسبابها ومن كان أقرب للاختلاط بالغربيين كانت نهضته أقوى وأرقى كما هو

المشاهد في حال حمص إذا قيست بغيرها بالنظر لموقعها وحالها وكثرة المهاجرين منها إلى مصر وأميركا فإنا نراها آخذة نحو الرقي وهي لا تتجاوز الخمسين ألف نسمة أكثر من حلب التي تربو عَلَى مائتين وشتان بين مركز قضاء من أعماله عشرات من القرى والمزارع وبين قاعدة ولاية عظمى من بعض عمالاتها إنطاكية والرها ومرعش بل ألوف من القرى والمزارع العامرة الغنية وتجارة واسعة تمتد إلى بغداد وإلى ولايات الأناضول كافة بل كانت فيما مضى دار ملك بني حمدان. ولكن الحلبيين ابتلوا بما ابتليت به من قبل بعض الحواضر والعواصم كالآستانة التي يعول أهلها عَلَى الحكومة في ترقيتهم وكاد بعضهم يتناسون لسانهم ليتعلموا اللسان الرسمي فيتسنى لهم به أن يتوسد إليهم الوظائف التي تتلمظ بحلوائها شفاه كل وكلة تكلة يحب أن يعيش كالحلمات الطفيلية بامتصاص دم غيره. أمام الأمة اليوم طرق ثلاث تسلكها أو أحدها للخلاص من ربقة الجهل ومصافحة أنامل الحضارة عَلَى ما يجب وبقدر ما يجب وهي إما أن تضع جميع أمانيها بالحكومة وتنتظر الفرج يأتيها عَلَى يد نظارة معارفها وهو بعيد الحصول قليل الثمرة مهما برقشه المبرقشون وزينه السائسون والحاكمون. فنظارة المعارف العثمانية قد سنت نظام التعليم الابتدائي والثانوي والعالي بحيث يلاءم الآستانة وبعض ولايات الأناضول التي يتكلم أهلها بالتركية ولم تسنه بحيث لم ينطبق مع حاجة ابن قوصوه ويانيا ومناستر وأشقوردة مع حاجة ابن وان وأرضروم وتبليس ومعمورة العزيز أو سورية وبيروت وطرابلس الغرب واليمن. فالذين سنوا قانون المعارف كانوا متأثرين بعوامل حب قوميتهم ولسانهم فلم ينظروا إلى الأثر النافع الواجب إعطاؤه لأهل كل إقليم بحسب محيطهم ومزاجهم بل سنوه وأكثرهم لا يعرف من حال الولايات إلا النزر اليسير الذي لا يخول صاحبه حق التشريع لأنة مختلفة اللهجات والحاجات. وبعد فإنا لا نعرف كيف نعلل إجبار ابن جبل عجلون عَلَى دراسة التركية قبل أن ينال حظاً من لغته. فإذا حملناه عَلَى تلقف لغة أجنبية قبل أن يحكم أصول لغته هل يكون فائدة منه لأمته ووطنه يا ترى؟ وهل بدراسة مختلة الأسلوب يتيسر لنا أن نترّك هذا العجلوني مادام لا غنية له عن بلاده وقد لا يخرج منها إلا لقضاء الخدمة في الجندية ثم يعود لمحراثه

وسكته وثوره وجمله وحماره. أليس الأولى له أن يتعلم من لغته القدر اللازم من كتابة وقراءة وبعض العلوم العملية الضرورية؟ وكيف يتيسر عن غريب عن لغة لا يعاينها ولا يسمع لهجتها ولا يقرأ آدابها أن يستطيع بها التعبير عن مقاصده في مثل هذه المدة القصيرة من دراستها. أما هو أنفع للدولة والأمة إذا تعلم هذا الفلاح باللغة التي هي أقرب إليه وانصرف إلى أرضه وزرعه أكثر من تعليمه لغة صعبة عليه لا تنفعه إلا إذا طمح للاستخدام في الوظائف الإدارية والعسكرية ومن يبقى عند ذلك يا ترى للتوفر عَلَى إخراج ثروة البلاد والإنفاق عَلَى هذا الجيش الكثير العدد والعدد وسائر ما يشترك العثمانيون في تسديده في ميزانيتهم من النفقات. إن معنى الوقوف بالعجلونيين عند حد تلقين مبادئ التركية هو أن الحكومة تريد أن تجعل من جمهور الأمة حكاماً وأمراءَ وضباطاً حتى تكون مادة حياة البلاد آخذة بالدثور ويصبح الناس كلهم كمسلمي الآستانة لا يحلمون بغير الوظائف ولا يرون السعادة إلا من طريقها. هذا مات كان من إصلاح نظارة المعارف في البلاد العربية أما مدارس الأجانب فلا تخلو أيضاً من مضار لأن معظمها يأتينا باسم النصرانية ليلقنها الموافق والمخالف وينشر آداب لغته وحب بلاده فترى التلميذ يتخرج من تلك المدارس وهي أرقى من المدارس العالية في الآستانة أيضاً ملماً بلغته ولكنه محكماً اللغة التي تلقى مبادئ العلوم وجاهلاً كل الجهل بما ينفع بلاده وقد لا يعرف من تاريخها وعمرانها واجتماعها أكثر مما يعرف عامة الطليان والأسبان عنا فلا يلبث وقد زينوا له حال الغرب أن ينقلب إليها مهاجراً فكأن هذه المدارس برزخ تنقل الدارسين فيها من وطنهم لتعدهم خدمة لأوطان أخرى وبفضل تلك المدارس هاجر من سورية زهاء ثلثمائة ألف نسمة وبعضهم من المتعلمين يطلبون الرزق في جمهوريات الشمال والجنوب من أميركا ومستعمرات أفريقية فخربت بذهابهم بلادهم وهم لم يستفيدوا بقدر ما فادوا به. ومن ثم لم يبق لنا سوى الأمر الثالث الذي يجب علينا الاعتماد عليه الآن لنهوضنا ونعني به المدارس الأهلية والسعي في تحسين حالتها المادية والأدبية فهذا النوع من المدارس هو هو معقد آمالنا ومنه تنبعث شعلة نور الحق وتأييد كلمة الوطنية وتحيا اللغة العربية فلو

أنشئت مثلاً في كل بلدة وقرية مدرسة أهلية كالمدرسة العثمانية والمدرسة العلمية في دمشق والمدرسة العثمانية ودار العلوم في بيروت مثلاً ووسد التدريس فيها إلى خيرة رجال العلم والأدب يثقفون العقول عَلَى منازع الفضيلة وحب الوطن والسعي إلى الكمال العقلي لنشأ لنا منها بعد زمن وإن كانت بدرجتها أدنى من المدارس الثانوية وأرقى من الابتدائية ناشئة تستطيع أن تعمل كل عمل وتستعد إلى التبريز فيه لأنها تكون عارفة بتاريخ بلادها وعظمة أمتها ومنزلة لغتها من لغات الشرق والغرب تنفع بما تعلمته العامة قبل الخاصة. شاهدنا غير واحد من أهل هذه البلاد ممن درسوا في مدراس الأجانب العالية فأحكموا لغة أوربية أو درسوا في مدارس الحكومة العالية فأحكموا اللغة التركية فما رأيناهم إلا قاصرين غير نافعين لأنهم ضعفاء في التعبير عن مقاصدهم بلغتهم وشاهدنا من عانوا لغتهم وشدوا شيئاً من آدابها فاقتدروا عَلَى الكتابة والخطابة فيها مع ما أحكموه من اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة وأصبح العلم الذي درسوه ملكاً لهمم لا ملكاً لهم يصورونه متى شاؤا في المظهر اللائق به فينتقلون من أسباب المدنية ما يطبقونه عَلَى مصلحة بلادهم لأنهم يعرفون داءها ودواءها ويشعرون بالواجب عليهم لها. رأينا أكثر من أحكموا اللغات الأعجمية الأجنبية إحكام أبنائها لها إذا قضي عليهم أن يبقوا في أرضهم بعد سن الدراسة صماً بكماً في المجالس عمياً عن مصالح الأمة والبلاد لا يحسنون المدخل والمخرج دأبهم التأفف من أهل بلدهم لأنهم لا يفهمونهم وما ذلك إلا لأن تلك اللغة التي أحكموها وزهدوا في لغة آبائهم قد نقلتهم إلى عداد أهل تلك اللغة فكثروا سواد العرفين بها ولو تعلموا العلوم بلغتهم لنقلوها إليها فزادوها قوة بدلاً من أن تزيد بضعفهم ضعفاً. وأحسن واسطة لإرضاء العناصر العثمانية التي لا تقل عن اثني عشر عنصراً تتكلم باثنتي عشرة لغة مختلفة أن تترك حرية التعلم لكل عنصر يتعلم لغته وبعض ما يبدو غناؤه من اللغات الأخرى والعلوم وبذلك يسهل إشراب القلوب محبة الوطنية وتحضير العامة عَلَى أسرع صورة مقبولة وربطهم برباط الوحدة العثمانية ومن أحب الاستخدام يدخل المدارس الثانوية فيحكم التركية ومن أحب الاتجار والتمحض للعلم يحكم لغة راقية من لغات أوربا مشفوعة بالعلم الذي يلزمه الإخصاءُ فيه فإن الفلاخي والبلغاري والرومي والأرناؤدي

والأرمني واللازي والجركسي والتركي والكردي والبشناقي والإسرائيلي والعربي يصعب جداً تحضيرهم في قرون كما صعب عَلَى النمسا أن تربط الجرماني بالمجري بالتشيكي بالبوهيمي بالبوشناقي بالكرواسي بالبولوني إلا بعد أن أطلقت لأهلها حرية أن يتعلموا بلغتهم وبدون ذلك لا تنهض البلاد.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع المدارس الصناعية في ألمانيا كتب أحد رجال الفرنسيس كتاباً سماه ألمانيا العاملة جاء في بعض فصوله ما تعريبه: إن السائح الذي يجتاز ألمانيا يدهش في العادة من أنه لا يرى بيتاً قائماً وحده في الأراضي الزراعية بل أن جميع المساكن في الحقول منضمة بعضها إلى بعض بحيث يتألف منها أحياناً مدن وهذا مما يدل عَلَى فكر الاشتراك المتأصل في العنصر الجرماني الذي يستغرب حال شخص يريد الابتعاد عن أخيه وهناك شيءٌ آخر وهو أن معظم حكومات ألمانيا تحظر إنشاء المساكن بعيدة عن مراكز القرى حتى لا يحرم الأولاد من الاختلاف إلى المدرسة في الأيام الممطرة العاصفة وهناك يسأل الوالدان عن ولد تأخر عن المدرسة فإذا تخلف أحدهم يجب عَلَى أقربائه أن يبينوا معذرته وإلا فيجازون أشد الجزاء. وعلى رؤساء المعامل الذين يستخدمون في الخلاء عملة أو موظفين أن يضمنوا لأولادهم حملهم كل يوم إلى مدرسة القرية القريبة وإذا كثر العملة في بقعة بعيدة وزاد سودهم تؤسس في الحال مدرسة عامة وتكون في العادة بإعانة من صاحب المعمل. وكان من أثر هذه العناية أن قل عدد الأميين في ألمانيا بحيث لا تجد واحداً في الألف عَلَى أنهم لم يكتفوا بتعليم مبادئ فقط بل إنك لا تدخل قرية ولا معملاً ولا بيتاً إلا وترى الجرائد والكتب في الأيدي تتدلى ويستفاد منها وذلك بين جميع طبقات الألمان. للتعليم الابتدائي والأوسط في ألمانيا ميزتان لا نظير لهما في سائر الممالك وهي أنه لا يبعد المتعلم عن العيشة البيتية بين ذويه وهو سلم للتعليم الصناعي الذي تختلف درجاته وتراه نظرياً وعملياً في آن واحد. وماذا أقول في دروس الأشياء والمجاميع النفسية التي تراها في المدارس الألمانية والتعليم بالنظر والذهن والعمل والنزهات المفيدة وغير ذلك من أنواع التربية. وما من ألماني إلا ويتعلم شيئاً من التعليم الصناعي ففي هذه البلاد التي يكاد الناس كلهم يعملون قد وقع في النفوس أنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى صناعة من الصنائع المقررة قبل أن يتعلمها بالنظر والعمل وهذا ما أدى إلى إنشاء كثير من المعاهد الملوكية والإمبراطورية والبلدية والخصوصية تقصدها الأمة فتستقي من مواردها قوتها المنتجة والعقلية.

وأعظم هذه المعاهد وأقدمها وأشهرها هي كلياتها وعددها اثنتان وعشرون كلية وكانت كل إمارة من الإمارات الألمانية فيما مضى تحاول أن تكون لها كلية فأقدمها كلية هايدلبرغ أنشئت سنة 1386 وأحدثها كلية بون أسست سنة 1818. وقدم الكلية عنوان شرف لها وقد بقيت كلية هايدلبرغ أكثر الكليات محافظة عَلَى منزلتها السامية أما كلية برلين التي أنشئت سنة 1809 فطلابها أكثر. ومن أشهر كليات ألمانيا كلية ليبسك أنشئت سنة 1409 وهي تفاخر بأنه كان من جملة أساتذتها الفيلسوف لايبنتز ومن جملة طلابها كيتي وريتشارد فانير. ولئن كانت الكليات في ألمانيا مستقلة حرة عَلَى صورة لم تحصل عليها كليات فرنسا فهي منظمة بنظام واحد فالكليات مهما كانت وجهتها في تعليمها نظرية أو عملية لا تتنافس في إعداد المهندسين وصناع والمباحث التي يستفيد منها أمثالهم لا يظفرون بها إلا في المجامع الكيماوية والطبيعية في المدارس الصناعية هي التي يتخرج فيها أرباب الهندسة والصناعات وهذه المدارس تابعة لكل إمارة وهي في بلادها تدير شؤونها وتعطي الدارسين فيها شهاداتهم بعد دراسة أربع سنين وعددها اثنتا عشرة مدرسة وهي في مدن إكس لاشبل برلين برنسويك كارلسروح درامستاد درسد هانوفر مونيخ ستوتكار دانزيكبرسلو فريبورغ في هذه المدارس زهاء اثني عشر ألف طالب فيخرج منهم كل سنة ثلاثة آلاف مهندس عدا من يتخرجون من المدارس الثانوية الصناعية. وقد كانت الكليات هي التي تمنح لقب دكتور أشرف الألقاب وأعلاها في ألمانيا وبعد جدال طويل في مجلس النواب تقرر أن من حق تلك المدارس الصناعية أن تمنح هذا اللقب وبذلك خرجت ألمانيا عن تقاليدها القديمة بعض الشيء ولا تسل كيف ينظر أولئك الفلاسفة واللاهوتيون واللغويون أخلاف الفلاسفة هيكل وكانت وليسنغ لمن نالوا شهاداتهم عَلَى طريقة أميركا الشمالية لأنهم أتقنوا صناعة من الصناعات. والألمان أحرص الأمم عَلَى لقب دكتور حتى أنك إذا لم تطلق هذا اللقب الشريف عَلَى من ناله عد ذلك منك سخرية وفي ذلك دليل كبير لميل هذا الشعب للعلم والتلقب بألقابه وقد كان للإمبراطور غليوم الثاني يد طولى في إعطاء المدارس الصناعية حق إعطاء هذا اللقب الشريف حتى قال في خطاب له ألقاه عَلَى تلامذة المدرسة الصناعية قرب برلين: إنني أغتبط لأنني استطعت أن

أمنح للمدارس الصناعية العالية لقب دكتور أنتم تعلمون أنني تحملت مقاومات شديدة في هذا السبيل أما اليوم فقد اضمحلت وقد أردت أن أجعل للمدارس الصناعية المقام الأول لما لها من المنزلة السامية لا من حيث العلم العملي بل من حيث الوجهة الاجتماعية. ونظام هذه المدارس واحد وتعليمها واحد اللهم أن بعضها تبذل العناية في فروع تمس حاجة أقطارها لها مثل مدرسة أكس لاشبل التي تعنى بتعدين المناجم كل العناية ومدرسة دانزيك التي تعنى ببناء السفن. وكان من ظفر هذه المدارس بإعطاء لقب دكتور أكبر دليل عَلَى غلبة الحديث عَلَى القديم. ومدة الدراسة في المدارس الصناعية أربع سنين يدخلها من بيده من الوطنيين أو الأجانب شهادة من مدرسة ثانوية وفيها يتجلى ميل الألمان للإخصاء فيعلمون ما يعلمه غيرهم من الأمم فرداً واحداً لخمسة أفراد قائلين أن الذهن لا يتسع لإكثار المواد عليه ففي مدرسة هانوفر مثلاً أناس يتعلمون فن البناء وآخرون الهندسة وغيرهم علم الحيل (الميكانيك) وغيرهم الكيمياء الصرفة وآخرون الكيمياء الكهربائية وغيرهم إجماليات وفيهم 908 تلامذة و194 تلميذة و155 مستمعاً وبين الجميع 59 أجنبياً من أمم مختلفة والدروس عملية أكثر منها نظرية وهذه المدرسة خارجية يتناول التلامذة طعامهم قبل الدخول إليها وينقطعون عن العمل بعد ظهر السبت إلى صباح الاثنين كل أسبوع والألمان لا يحرصون عَلَى تعليم الهندسة لأذكى أذكيائهم بل يريدون أن يجعلوها قريبة المنال من كل أحد وهم يستعملون كل الطرق التي يرونها نافعة لئلا يتعبوا الفكر غير طائل بإغراقه مدة ساعات في قراءة صورة لذلك ترى الأساتذة يأخذون تلامذتهم إلى معامل خاصة وكثيراً ما تكون بعيدة عن المدرسة ليطلعوهم بالعمل عَلَى ما ينبغي لهم الاطلاع عليه من الآلات والأدوات كل معامل المدرسة وغرفها وحجر كتبها وصفوفها منارة بالكهربائية أو الغاز عَلَى صورة لا تضر بصحة عيون الطلبة حتى أنه ليقل جداً عدد الحسر بين الألمان لشدة العناية بصحة العيون. ومثل ذلك يقال عن مدرسة دانزيك وهي خاصة بأعمال الهندسة للعمارات البحرية وأعمال الري والمرافئ ومجاري الماء وهي كسائر مدارس الصنائع الكبرى أشبه بقصور الملوك منها بالمدارس لما حوت من المرافق والردهات والمماشي والساحات والأدوات وهذه المدرسة قد كلف بناؤها فقط سبعة ملايين فرنك ويكفي أن يتصور القارئ عظمتها إذا

قلنا له أن فيها 94 ألف متر من الأسلاك الكهربائية و20450 متراً من اللوالب و2905 مصابيح بيضاء متأججة و372 مصباحاً ذات قوس قوتها 285850 شمعة. وقصارى القول أنك لا تمر بقرية ولا قصبة ولا مدينة ولا عاصمة في ألمانيا ولا تجد فيها مدارس صناعية كبرى وصغرى عَلَى نفقة الحكومة أو البلديات تعلم الصناعات المختلفة بحيث فاض عددهم عن حاجة البلاد وذلك لأن الشعب الألماني موقن بأن الواجب أن يسلح كل ولد في الوطن الألماني بالأسلحة الضرورية في الجهاد الاقتصادي. مخطوطات نادرة في المدرسة الأحمدية في حلب خزانة كتب عربية مخطوطة نجت من عوادي الدهر فكانت أحفل مكاتب الشهباء. وإلى القارئ المخطوطات التي لها علاقة بموضوع هذه المجلة ننقلها من فهرست سليم أفندي البخاري من علماء دمشق منذ بضع عشرين سنة كتب الأدب والدواوين: شرح نهج البلاغة نسختان. شرح ديوان المتنبي لابن جنى. أيضاً للواحدي. تمثيل المحاضرة للثعالبي. انتخاب حياة الحيوان. مسليات الحزين. شرح درة الغواص. الجزء الأول من المسعودي عَلَى المقامات. الجزء الأول من مناهج الفكر. جواهر العقدين في فضل الشرفين. مجموع ابن شمس الخلافة. طبقات الملوك للثعالبي. كتب التاريخ: الأول من مرآة الزمان. تاريخ ابن الخطيب المسمى بدر المنتخب مجلدان والثاني مخروم الآخر. من الوافي بالوفيات للصفدي جلد 4. مختصر تاريخ الذهبي المسمى بالعباب. من مختصر تاريخ الذهبي جلد 6. من تاريخ الذهبي جلد 5. الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. مجموعة في طبقات العلماء. منتخبات تواريخ آل عثمان. تحفة الكبار في أسفار التجار لكاتب جبلي. من عيون التواريخ جلد 7. كتب منوعة: تذكرة السويدي في تقويم الأبدان. تشريح الأفلاك لبهاء الدين العاملي. صور الكواكب لعبد الرحيم الصوفي. المباحثة الشرقية للرازي. المصارع في المطارحات للسهروردي. لمعة ابن الشاطر. رسالة وضع خطوط صف الجائرة لابن مجدي المسمى بزاد المسافر. رسالة خطيب العدلية في وضع المزاول ومعها رسالة في الإصطرلاب. زيج ألوغ بك. ملخص ألوغ بك. مجموع رسالة في الإصطرلاب في الربع المقنطر وأخرى في الربع المجيب. رسالة في ربع المقنطرات. رسالة في الإصطرلاب للطوسي. فراسة ابن

شيخ دبوس. فراسة قيلمون. كتاب الفروسية ورماية النشاب. كتاب في فروسية المجاهدين وتحفة المجاهدين. ذهب المصارف أغنى مصارف العالم بنقوده مصارف فرنسا ولذلك تهرع إليه كل دولة تريد أن تعقد قرضاً فقد بلغ ما في خزائنه من الذهب سنة 1910_134. 818. 000 جنيه وما في مصرف روسيا 122. 320. 000 جنيه وما في مصرف النمسا والمجر 55. 456. 000 وما في مصرف إيطاليا 48. 320. 000 وما في مصرف إنكلترا 37. 348. 740 وما في مصرف ألمانيا 32. 250. 350 وما في مصرف إسبانيا 16. 760. 000 وما في مصرف هولندة 10. 067. 330 هذا في أرقى ممالك أوربا وقد بقيت البلجيك والبرتقال وسويسرا والدانيمرك واسوج ونروج والصرب وبلغاريا ورومانيا والجبل السود فكم تبلغ النقود الموجودة في المصارف العثمانية يا ترى؟ أمالي تاريخية المعتصم سمي المثمن. ذكر أبو الفرج: أن المعتصم لخليفة العباسي المتوفى سنة 227هـ 841م كان يسمى لأنه كان الثامن في إحدى عشر أمراً أولها أنه ثامن ولد العباس والثاني أنه ثامن خلفائهم والثالث أنه ولي الخلافة سنة 218هـ (833م) وكانت مدة خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وولد له ثمانية بنين وثماني بنات وكان عمره عند وفاته 48 سنة وكان مولده في شهر شعبان ثامن الشهر من السنة. ابن مقلة المثلث من غري ما روى المؤرخون أن ابن مقلة الخطاط الشهير تولى الوزارة ثلاث مرات لثلاثة خلفاء المقتدر والقاهر والراضي وسافر ثلاث مرات ودفن ثلاث مرات لأنه دفن أولاً بموضع فجاء أهله ونبشوه ودفنوه في موضع آخر ثم نبش ثالثة ودفن في موضع ثالث. الخليفة الراضي بالله من غريب ما نقله المؤرخون أن الخليفة الراضي بالله العباسي المتوفى سنة 329هـ

940م ختم الخلفاء في أمور منها أنه آخر خليفة كان له شعر يدون. وآخر خليفة خطب كثيراً (وأما من بعده فخطبوه نادراً). وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء. وآخر خليفة كانت له نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره عَلَى ترتيب الخلفاء المتقدمين. عيسى اسكندر معلوف. المرأة اليابانية كتب عالم ألماني في تربية النساء في يابان فقال: لم تكن المرأة اليابانية إلى أواسط القرن التاسع عشر غير سجينة بيتها وأسرتها فكان اليابانيون يعتقدونها من عنصر أحط من عنصر الرجال ولما أرادت يابان أن تدخل مضمار الترقي حقيقة تغيرت وجهة الأفكار بسرعة في التربية كما تغيرت في السياسة وفي سنة 1902 كان في يابان 70 مدرسة عالية للفتيات وكان عدد الطالبات في مدرسة المعلمات 321 ألف طالبة سنة 1903. وبعد أن ساح الأستاذ ناروس سياحة علمية في أميركا عاد إلى يابان فعضده أناس من كبرائها مثل الكونت أوكوما والبرنس إيتو فأنشأ سنة 1901 أول مدرسة كلية للنساء التي أصبح المتعلمات فيها والمستمعات بعد ثلاث سنين ألف امرأة. والذي يزيد في العجب من هذا الإصلاح السريع هو أن يابان لم تغفل في تربية النساء عن الوجهة العملية فالفتيات يدرسن دروساً عالية ولا يفوتهن استعدادهن لوظيفة الزوجة والأم وهن يعشن عيشة أسرة واحدة وليس في المدرسة تعليم ديني بل يعلم فيها التسامح وخفض الجانب!. مدارس الغابات كان الأولاد في كل زمان ومكان يهربون من المدرسة والكتاب لأن منهم من لا يقدرون أن يخالفوا ما ركز في غرائزهم من تطلب الهواء الطلق والحركة وذلك لرداءة بناء مدارسهم ولأن وضعها غير طبيعي ونظامها مختل معتل وقد أخذ علماء التربية والتعليم في أوربا يدركون كل الإدراك أن من مدارسهم ما يجلب السقم ويميت الهمم وكان السابق إلى ذلك أناس في ألمانيا وإنكلترا وسويسرا فقاموا يطبقون بين الضروريات الطبيعية ومطالب المدنية الحديثة حتى يحولوا دون الأولاد والهرب من الكتاتيب والمدارس فيتمتعوا في مدارسهم بما تتطلبه أجسامهم من الهواء والنور ويسرحون ويمرحون تحت غابات الصنوبر

والزان. قالت مجلة التربية ونشأت هذه الفكرة في برلين لأن هذه المدينة القديمة ضيقة النطاق فاسدة الهواء لما فيها من تراكم الأنفاس حتى أن خمسة عشر ألف نسمة من أهلها يعيشون في أقبية تكون دافئة في الشتاء ورطبة بعض الشيء في الصيف فمدينة شارلوتنبرغ الملاصقة لبرلين هي التي منها نشأت هذه الفكرة لأن أبناءها كانوا بضعفهم الناشئ من رداءة هوائهم لا يستطيعون أن يسيرون مع أقرانهم عَلَى حين أن مدينتهم هي أم التعليم وفيها أعظم كلية صناعية فلم يستطيعوا أن يجاروا أقرانهم فرأى أحباب الإنسانية هناك أن يتنقلوا أولئك الأولاد إلى مدارس في الغابات تكون لهم بمثابة مصاح أو مصيف عَلَى سواحل البحار فإذا قويت أجسامهم يقوى ذكاؤهم والعقل السليم بالجسم السليم. رأوا أن أبناء هذه المدينة اضعف من غيرهم بذكائهم وما سبب ذلك إلا ضيق حاراتهم وفساد أهويتهم وأن الأولى نقلهم من المدن إلى الفلاة وها قد أصبحوا الآن يبعثون بالأولاد ممن ليسوا مرضى حقيقة وهم مصابون بالهزال أو ضعف الرئتين والقلب أو ظهرت عليهم أعراض داءِ الخنازير أو غيره من مفسدات الدم_يبعثون بهم إلى مدرسة الغابات بدلاً من أن يذهبوا إلى المدارس الخاصة بالتلامذة المتأخرين فالمدارس الجديدة ليست للمرضى الذين يعدي بعضهم بعضاً ومعاملتهم من أقسى ما يكون من الشدة بل هي مدارس المرشحين للسل وغيرها من الأمراض كما يقول الأطباء فتداوي فيها صحتهم وينقذون مما يتهددهم بدون أن يحولوا بينهم وبين دروسهم أو يضيعوا عليهم سنة كاملة. قام الشارعون بهذا العمل وهم يتخوفون الفشل والناس في ألمانيا لا ينظرون في الأعمال الجديدة إلا إلى ثمراتها الأولية وساعدهم البنك الألماني في مشروعهم بأن ابتاع لهم أرضاً وأعطاهم إياها بلا ربا والأرض واقعة في غابة عَلَى بضعة كيلومترات من شارلوتنبرغ يسير بينها وبين الغابة ترمواي كهربائي يصل بين المدينة وأول الغابة في عشرين دقيقة ثم يسير الإنسان من المحطة إلى المدرسة عشرين دقيقة عَلَى قدمه وسط الغابة وهواؤها عليل أكثر من المدينة وصاف للغاية. ومن أهم ما فيها انبعاث رائحة القطران والصمغ من الصنوبر والرتينج وليس في هذه المدرسة أكثر من مئة طفل وطفلة جعلوهم في أكواخ من خشب سدوها من الداخل بقماش

ولم ينفق عليها كثيراً بل بل بذلت العناية للتوقي فيها من الضباب والمطر وهناك بنايتان من الخشب وهما عبارة عن صفين يفصل بينهما غرفة للمعلم أو المعلمة وفي الجدران بعض المصورات الجغرافية والألواح وموقدة من القاشاني لا من الحديد المصبوب لأن الحديد مضر باتفاق علماء الصحة وهناك تجري الدروس ففي المطر تقام الصفوف بين هاتين البنايتين عَلَى أن تترك النوافذ مفتحة ما أمكن وفي أوقات الصحو تقام الدروس في وسط الغابات تحت أغصان شجر الصنوبر القديمة والأولاد جلوس عَلَى العشب وعلى المروج اللينة وعلى مقربة من غرف المدارس أنشئوا سقيفات مفتحة من أطرافها الأربعة لأنها إذا كانت مفتحة من جهة واحدة تكون معرضة لمجرى الهواء وتكون سطوح هذه السقيفات متينة تقاوم الأعاصير والأمطار ويكون من تحتها بمأمن من الرطوبات والرطوبات هي عدوة مدارس الخلاء. وهناك أيضاً بعض سقيفات اخف من الأولى وأصغر وبجانبها سقيفة واسعة طولها 27 متراً وعرضها 6 مفتحة نحو الجنوب ويمكن أن تؤوي 200 إلى 250 طفلاً. فتحت هذه السقيفات البرية المبثوثة في الغابة يتسلى الأولاد عندما يتعذر عليهم أن يخرجوا من المطر إلى تحت السماء وهناك يستريحون فيجلسون عَلَى الكراسي المستطيلة كلما حالت الرطوبة دون تنزههم تحت الأشجار ولكن تصل إلى عيونهم ورؤوسهم رائحة الصنوبر وبعض أشعة الشمس. وفي إحدى السقيفات مناضد مستطيلة ودكات جعلت بيتاً للغذاء وفيها صحاف وكؤوس منمرة عَلَى نظام تام يجلس إليها الأولاد أوقات الطعام كل واحد في مكانه الخاص به وفي وسط هذه البنايات الخفيفة أنشئت بناية أكثر متانة وهي من خشب أيضاً قسموها أقساماً فمنها قسم للمديرة وآخر للمطبخ وثالث لحفظ الطعام ورابع قبو وحمام أو حمامان للذكور وآخر للإناث أما الحمام فعلى غاية من النظافة. وعلى هذا كان الماء الحار والماء البارد والحركة والرائحة والهواء والشمس مساعدة عَلَى تقوية تركيب الأولاد. وفي هذه المدرسة مستشفى صغير موقت لما قد يطرأ من الأمراض والعوارض عَلَى الأولاد. وليس لهذه المدارس وفيها 250 ولداً سوى المديرة وإليها يعود أمر التربية والصحة وملاحظة الخادمات والمطبخ وستة معلمين وثلاث معلمات.

تبدأ هذه المدرسة بالدروس عندما تعود الحياة إلى الغابات والخضرة في الربيع أي بعد عيد الفصح وتدوم بحسب مساعدة الجو وربما دامت إلى النصف الأخير من كانون الأول ولكن من العادة أن تطول مدة الدرس إلى آخر شهر تشرين الأول في شمالي ألمانيا وإلى منتصف تشرين الثاني في جنوبيها فيأتي الأولاد نحو الساعة السادسة ونصف صباحاً فتطوف بهم إدارة المدرسة فقي الغابات إلى الساعة الثامنة راكبين في ترمواي معد لهذا الغرض وفي تلك الساعة تبدأ الدروس وفي العادة ألا تطول مدة كل صف أكثر من 25 دقيقة فبعد الصف الأول يعطى التلميذ خمس دقائق للراحة والنزهة وبعد الصف الثاني عشر دقائق. والأطفال الصغار ومن بعدهم لا يدرسون في اليوم أكثر من ساعتين والأكبر منهم سناً يدرسون ساعة زائدة. والصف لا يتألف من أكثر من عشرين تلميذاً ليتيسر للمعلم أن يعنى بكل واحد من المتعلمين عناية خاصة ويدير شؤونهم وأعمالهم. وقد رأت إدارة المدرسة أن أربعة دروس يدوم كل واحد خمسة وعشرين دقيقة أفضل من دروس يدوم كل واحد منها 55 دقيقة وفيها 40 إلى 50 تلميذاً وإن الأحرى ترك التلميذ يسرح ويمرح في الغاب لا أن يقعد عَلَى الدكة يستمع 35 من أترابه يسمعون دروسهم مما لا يزيده إلا ثلم حاسة الانتباه فيه ويدخل عَلَى نفسه الاشمئزاز من الدرس مهما كان جذاباً أما الدروس التي يدرسونها في هذه المدرسة فهي دروس المدارس الابتدائية في ألمانيا ومختصر اللغة المحلية الألمانية وتاريخ ألمانيا ومختصر التاريخ العام والجغرافيا والحساب والتاريخ الطبيعي والغناء والرسم ودروس الأشياء وقليل من اللغة الإفرنسية لبعض الطلبة ويعنون عناية خاصة بتدريس اللغة الألمانية والتاريخ والجغرافيا والغناء. وإن كان الغناء من دروس التسلية أكثر من الدروس الجدية. والتاريخ الطبيعي والنبات والغناء والرسم في الغابة غالباً وفي جوار المدرسة بالعمل ومعلوماتهم أكثر بخلاف عقول من يتربون من الأولاد عَلَى هذه الطريقة أثقب ومعلوماتهم بخلاف عقول من يتربون في المدن وما يحصلونه. وقد جعلت الألعاب بحيث تقوي نشاط الأولاد وتلقيفي نفوسهم فكرة الإبداع والاختراع فترى المدرسة قد خصت صغار الأولاد بقطعة من الأراضي مرملة يلعبون فيها ويحفرون ويطمون ويبنون بأغصان الخلاف جسوراً أو حصوناً وأنفاقاً ومجاري وكثيراً ما تستحيل

هذه المسليات إلى صورة درس في الجغرافيا أو الطبوغرافيا فيرسمون بعض أنهار بلادهم وما عَلَى حفافيها من الأراضي والمصايف والحصون. وكبار الأولاد يدربون صغارهم عَلَى هذه الألعاب كما أن المعلمين يلاعبون كبار الطلبة بدون أن يظهروا بأنهم في صدد درس بل أنهم في لعب ونزهة. ولطالما لاحظ علماء التربية أن جهاد المرء إذا صرف إلى غاية نافعة يكون عليها في نفس الطفل لذة زائدة فتؤثر في تربيته أكثر مما تؤثر الأعمال التي لا نتيجة لها فقد قال أرسطو أن كل حي يحب نشاطه. فإذا كان العمل فرحاً فهو كذلك عَلَى شرط أن يتم لا بالإكراه بل بحرية أي أن يتم بإرادة المرء مدفوعاً إليه بغايته الطبيعية وهي الإيجاد والإيلاد والإحداث. ولذا اختصت المدرسة كل تلميذ بقطعة صغيرة من الأرض حديقة يزرعها ويستنبتها ما يريد فهو مالك هذه الروضة الذي لأراد لحكمه وله ريعها زهوراً كان أو ثماراً فترى أحدهم يزرع قرنفلاً أو ورداً ليقدم منها باقة لكبار أسرته وآخر يميل إلى العمليات فيزرع فجلاً أو بقولاً وبقوة الماء والعناية يستخرج من تلك الأرض الرملية المحرقة غلات نافعة حتى إذا تقدم في السن يدرك كم بذل الفلاح من العناية حتى أتاه بخبز عمل من الجاودار وصفحة من البقول. وهناك طفل آخر مولع بالنبات فيربي في روضته نباتات نادرة من الغابة ويدرس كيفية نشوءها. وهكذا أُشرب أخلاق كل واحد من هؤلاء المتعلمين وكلهم يفكرون فيما يستنبتون أن يقدموا من أول غلة لأقربائهم وأبويهم دليلاً عَلَى مهارتهم وحذقهم. ولا تسل عما يبذله أولئك الأطفال من الهمم ليدخلوا الشرور عَلَى قلوب غيرهم وكم لها من الشأن والقيمة الأدبية التي لا تضاهى. أما الطعام الذي يتناوله فقد اختارته المدرسة من أقلها نفقة وأكثرها تغذية لأن المقرر الذي يدفعه التلامذة وأكثرهم من الفقراء لا يكفي لتقديم المأكولات الثمينة. وطعام الغذاء الذي يقدم الساعة الثانية عشرة ونصف وقت الظهر هو أكبر طعام وما عداه فالأولاد يأكلون كل يوم أربع وجبات الأولى الساعة السابعة يقدمون له كأساً من اللبن الحليب وقطعة خبز ومربيات لأنهم يعتبرون السكر مادة من مواد الغذاء ومقوياً. وفي الساعة العاشرة يقدمون أكلة خفيفة أيضاً وعند الظهر طعام مغذ مؤلف من ثريد ولحم لا يقل عن مئة غرام لكل ولد وبقول معدلها من 150 إلى 200 غرام وفاكهة أو حلويات أو مربيات. وفي الساعة الرابعة

يعمونهم لبناً حليباً وخبزاً بالزبدة وفي الساعة الخامسة والربع يطعمونهم قطعة من الخبز وشيئاً من اللوز الهندي (كاكاو). وأنت ترى أن اللبن والخبز أكثر الأطعمة تغذية واقلها تكلفة. ولقد كان من نتائج هذه التربية والحياة المدرسية أن كان الأولاد يأتونها ضعاف الأجسام تقرأ في وجوههم عبوسة وفي نفوسهم انقباضاً وفي أرواحهم ذلة وصغاراً لا تميل أنفسهم إلى شيء ولا تنبسط شهواتهم لشيءٍ وبعضهم لا يعرفون كيف يلعبون أيضاً فيهم خليط من أبناء الأحياء القذرة لا يعرفون الزهور ولا المروج ولا تغريد الأطيار في الأشجار ولا الحبوب ولا كيف تغيب الشمس فتسحر بمنظرها ولا كيف تشرق فيبهج النفس مرآها ولا كيف تسرح الحيوانات في الغابات ولا كيف تطن الهوام والحشرات في الشمس أو تعبث بالأوراق وها قد أصبحوا منذ أول دخولهم المدرسة وأفكارهم منتبهة ونشاطهم موفوراً وكل شيءٍ جديد لديهم كأنهم في عالم جديد يهتز منهم من لا يهتز لأمر من قبل وينبه أكثرهم رخاوة ويعود غليهم الذوق في الحياة فلا يجدون في العمل سخرة مملة عقيمة وكلما زادت قواهم الطبيعية يعود ذكاؤهم العادي إلى حالته الطبيعية. وقد أخذ وزن أجسام الأولاد يزيد من أسبوع إلى أسبوع فكان الواحد يزيد نصف لبرة وكثير منهم زاد ثقلهم من 9 إلى 10 لبرات في خلال ثلاثة عشر أسبوعاً وكما أخذت المدرسة تراقب وزن التلامذة أنشأت تراقب كمية الدم فيهم فظهرت لها نتائج حسنة وأخذوا يشفون من الأمراض وتتحسن صحتهم تحسناً ظاهراً عَلَى اختلاف أسقامهم فثبت أن المقام في تلك الغابة نفع في أكثر المصابين بداء الخنازير وفقر الدم والمستعدين للسل. هذه هي النتائج الخارجية ويصعب تعيين ما حدث للأولاد من النمو في إرادتهم ومقدرتهم عَلَى العمل وحسن خلقهم وفرحتهم بالحياة وهذا من القوى أو النتائج الأدبية لم يتيسر لأداة أن تضبط عَلَى التحقيق نموها وضعفها ومع هذا فإن لها تأثيراً كبيراً لا في صحة الأخلاق بل في الصحة الطبيعية. فالمحيط الجديد الذي انتقل إليه الأولاد وتأثير الطبيعة في نفوسهم والسكون والعمل المعقول والجهاد الحر النافع كل هذا يفعل أحسن فعل في الأعصاب التي هي كثيراً ما تهيج من هواء المدينة وضوضائها أو تضعف لقلة الهواء النقي. فمدار الغابات هي أشبه بأسرة

كبرى كل امرئ سعيد أن يكون منها وكل واحد من أبنائها يحرص عَلَى أن لا يسوئ سمعتها وفي هذه الدار يتجلى للأنظار ما للعناية النسائية بالأطفال لأنهم يبوحون للمديرة التي تحنو عليهم حنو المرضعات عَلَى الفطيم بذات أنفسهم ونياتهم وأعمالهم فترشدهم وتنشطهم وتحاول أن تجعل منهم أهل حشمة من الرجال وجد من الفتيات. وإدارة المدرسة تفكر في أن تجعل مدرستها داخلية لأن الهواء النقي ينفع في حالة النوم ضعفي نفعه في حالة الإغفاء بالنسبة لهواء المدن القذرة فقد ثبت أن الطفل أثناء عودته في المساء إلى دار أبويه يفقد أحياناً ما ادخره من القوى لرداءة الغذاء أو الهواء ولانحطاط المحيط في الأخلاق والتربية أو لأسباب أخر من أسباب انفعال النفس. هذا وإن يكن الألمان أميل إلى أن يجعلوا أولادهم في مدارس خارجية أكثر من الداخلية وقد اشتهر أمر هذه المدرسة في بلاد الألمان وأخذت كثير من المدن الصناعية تحذوا حذوها كما فعلت مدينة البرفلد وكيل ولوبك ومومنيخ ومولهوس وغيرها وعمدت كلها إلى اقتصار الدرس والدروس وإشباع المواد فيها ودوام الراحة وتكثير وجبات الأكل المغذي وأجمل مدرسة تحت الغابات في ألمانيا_وكلها غابات جميلة_مدرسة غلادباش. وذلك أرسل الإنكليز أناساً من رجال التربية عندهم ودرسوا طريقة هذه المدارس وأخذوا يقلدونها لأن طريقتها أشبه بطرائقهم في التربية والاعتماد عَلَى رياضة النفس فيها أكثر من الإكثار من الدرس فلم يحبوا أن يكون الأطفال في الارتياض اقل عناية بأمرهم من الفتيات في كليتي أكسفورد وكامبريدج حتى أن بلدية لندن نفسها أنشئت ثلاث مدارس من هذا النوع وكذلك فعلت مدينتا برادفورد وهاليفاكس واختيرت أماكن نزهة فيها الأشجار الهائلة وصرف بعض الإنكليز في هذا السبيل عن سخاء. ومتى قصر الإنكليز في بذل الجنيهات كالمطر إذا كانت نتيجتها تربية القوى الطبيعية في الأطفال؟ ولقد أخذت هذه المدارس تعلم الرسم في الطبيعة والطبوغرافية عَلَى شواطئ السواقي والحساب بقياس الأشجار الضخمة وتقدير حجم جذوعها بالمتر المربع والجغرافيا بخط خطوط في الرمل ناتئة. وللاستحمام بالمضخات وغيرها المقام الأول في هذه المدارس. وللشغال العملية مكانة كبرى فالبنات يتعلمن غسل الثياب وترقيعها والعناية بالأولاد. ومن مبدأ هذه المدارس أن الواجب أن يعرف كل ولد كيف يعمل عملاً بأصابعه العشرة ولهذا

من الشأن العظيم من حيث الأخلاق وتقوية العقل أكثر مما يتوهم المتوهمون. وكانت نتيجة هذه المدارس باعثة علة الرضى إذ قد ثبت أن تسعة أعشار تلامذتها زادوا زيادة محسوسة في وزنهم ونشاطهم. ولئن كان نمو القوى الطبيعية سهلاً تحقيقه بواسطة الدينامومتر ودل البحث عَلَى أن الأولاد لم يزيدوا وزناً مثل مدرسة شارلوتنبرغ الألمانية فذلك لأن الجنس الإنكليزي في الغالب غير مستعد للسمن كالعنصر الألماني وكان من التلامذة الضعاف في عقولهم أن أخذت تنشط من عقالها كلما زاد نشاط أجسامهم. وقد اغتبط الإنكليز بما تم من النجاح عَلَى أيدي مدارس الغابات ولا تلبث كل مدينة في إنكلترا أن يكون لها مدرسة من نوعها كما أن أناساً من رجال المال في أميركا قد أحدثوا في سان فرانسيسكو وغيرها أندية للأولاد تضمن لضعاف الحال والصحة السفر لاستنشاق الهواء الطلق وربما كان ذلك مقدمة لاحتذاء أميركا حذو ألمانيا وإنكلترا في إنشاء مدارس في الهواء الطلق بين أشجار الغابات. وقد أخذت سويسرا وفرنسا تفكر في إنشاء مدارس من هذا النوع لأن العناية بالصحة هيب فوق كل عناية حتى قال ديكارت الفيلسوف أنه مقتنع كل الاقتناع بأنه إذا كان ثمة واسطة لجعل البشر أذكى وأنبه مما هو فليس غير الطب يجب أن يعض عليه بالنواجذ ويلتمس منه الشفاء. عقول الأطفال في مجلة الأقرباء الإنكليزية ثلاث مقالات في إعداد عقل الطفل. الأولى في الجور الذي يجيء عَلَى الطفل من سن 18 شهراً حتى يبلغ ثلاث سنين وهي سن تعلمه الكلام ومقدرته عَلَى التقليد وغريزته في البحث عما لا يعلم وتكون قواه في التصور والتعقل في مبدأها وإرادته جرثومة تبدو في صورة عناد وبعد سن الثالثة تتأصل فيه قوة التعقل بمظهر أكبر وهذه هي السن التي يكون للتفكر فيها شأن رئيسي وتظهر الإرادة في مظهر أجلى ويأخذ الولد في تقرير أمور بدون أن تحمله إليها ضرورة لاحقة ولا يتيسر لهذا النشوء في عقل الطفل أن يتم عَلَى أصوله إلا بإجادة تغذيته ونومه فلطول رقاده شأن مهم في هذا السن. أما من حيث الأخلاق فالذي يجب عَلَى الوالدين هو أن يعطيهما بدون خشية لأن للخشية نتائج سيئة في مستقبله وعلى الوالدين أن يوقنا بأن عقل الطفل صغير كجسمه وأن الواجب عليهما أشياء كثيرة وهو لا يسأل معهما عن شيءٍ.

والمقالة الثانية في تهذيب الطفل جاء فيها أن المهذب الحقيقي هو الذي يعلم قليلاً من كل موضوع وكثيراً في موضوع واحد. وتكون تربية الطفل تربية حرة بأن لا يغفل عما يعلمهم من الاهتمام بكل الموضوعات الكبرى والصغرى مثل القصص والرحلات والتواريخ في الحيوانات والنباتات ويجب أن تؤثر الكتب التي لها قيمة أدبية فإن الذوق يتكون منذ الطفولية كالمفردات التي يستعين بها المرء أن يعبر بعد عن أفكاره. ويجب ألا يعتقد بأن الفضيلة تحبب إلى النفس بالتنفير من الرذيلة بل بتحبيب الفضيلة نفسها وما فيها من الخيرات فإن الأبطال الذين أحببناهم وأعجبنا بهم وحاولنا تقليدهم في شبيبتنا يظلون أصدقاءنا يوم نبلغ أشدنا. وبالجملة فالواجب أن يذكر أن القراءة تعلم الأولاد وتسليهم وأن لا يكثر عليهم من الكتب المعلمة ويترك لهم اختيار ما يروقهم منها عَلَى شرط أن تكون لها قيمة أدبية أو أخلاقية أو علمية. والمقالة الثالثة في تعليم الطفل بالحديث والحوار لأنهما تؤثران في تربيته ولكتن لا مباشرة فإن الدائرة التي يلعبون فيها ويدرسون وبدائع الصنائع التي تلقنهم الجمال والنظام لا اثر لها في إمداد نفوسهم وأذواقهم بقدر حديثهم فإذا تركوا وشأنهم في حديثهم يصبحون وحديثهم نسقاً واحداً غير لائق فعلى المعلم أن يعنى بحديثهم بحيث يكون عاماً أحسن الأحاديث ما كان بحضور النساء لأن بعض مدارس إنكلترا جربت هذه الطريقة فنشأت منها خيرات كثيرة في تربية عقل الطفل. الأخلاق والعادات يرى بعضهم اختلافاً في تعيين معنى الطبيعة والعادة وأن الطبيعة والمزاج أو الأخلاق لا تؤثر فيها التربية أو أن التربية إذا استطاعت تغيير الإنسان فلا تعمل إلا عَلَى إبطاله وتلاشيه وعلماء الأخلاق عَلَى اختلاف بينهم في هذا الشأن فقد قال روسو أن التربية ليست سوى العادة لا طائل تحتها وهي عاجزة عن التأثير في المرء لأنها تجد أمامها سدوداً من مقاومات الطبيعة فلا تستطيع تغيير الميل والاستعداد ولا تقف عثرة في سبيل النشوء فليس في مقدرتها إلا أن تنير المرء وتهيئ له سبيل للانبعاث والعمل أو أنها تنشئ للمرء طبيعة ثانية وتبيد الأولى وتشحذ العقول وتعجن الأرواح وتحث الإرادات وتقويها. فقد اعتاد من يقول بأن الإنسان غير قابل للتربية أن يحتج بأن الشر مغروس في فطرته

وهذه هي الحاكمة المتحكمة في تكوين أخلاقه ولكن هذا الزعم فاسد لأن الدلالة عَلَى تأثير التربية وفعلها في تغيير الطباع أمر لا ينكره مفكر. قالوا أن العادة طبيعة ثانية ومن المحقق منه أنه إذا كانت للمرء طبيعة وهذه الطبيعة متحولة بالعادة فهو من بين سائر الحيوانات خاضعة للتأثيرات الخارجية الكثيرة المنوعة التي لها الفعل الأكثر في هذه الأسباب والتخلق بها واحتذاء مثالها فإن الحس الحي اللطيف وتركيب المرء اللدن المرن المستعد بدون عناءٍ لجمع أنواع التكون وقوة الحافظة التي هي طبيعية في المرء وبها يعتاد العادات عَلَى أيسر وجه كل هذا يجتمع ليكون أخلاقاً ومظاهر في المرء متشابهة لما يحيط به من الأخلاق والأشكال وما يحفه من الأجسام. وهذا هو جملة القوى العظمى في التربية الطبيعية ومنها تنشأ في الحال التربية الأخلاقية وبذلك يكون المرء قابلاً للكمال إلى ما لانهاية له ويستطيع القيام بكل أمر. ويعتدل النظام الحيواني بالعادة خاصة فهي بطول الزمن تؤثر التأثيرات النافعة والتأثيرات الضارة. فتركيب الإنسان خاصة يستعد أن يظهر في كل من المظاهر. والمرء يستطيع أن يألف تناول السم وربما صعب عليه الإقلاع بعد من عادة كان ألفها بالتمرس بها والرجوع من القبيح إلى الأحسن فسكان البلاد الرديئة الهواء قد لا تجود صحتهم أبداً في بلاد أجود بهوائها فالمصابون بالربو (ضيق التنفس) الذين تناسبهم الأماكن الشاهقة في العادة قد يرون حاجتهم ماسة إلى هواء كثيف ثقيل كانوا اعتادوه أيام صحتهم والهواء الشديد قد يزيد أوجاعهم ويحدث لهم اختناقاً مدهشاً ولقد رأينا سجناء خرجوا من محابسهم ومطابقهم العفنة أقوياء أشداء بعد أن قضوا مدة طويلة مسجونين بجرائمهم ثم ضعفوا وهزلت أجسامهم من الهواء الطلق ولم تعد إليهم صحتهم إلا بعد أن ارتكبوا جنايات أخرى أعاداتهم إلى مطابقهم الأولى التي أصبحت لهم كأنها مساقط رؤوسهم. وهكذا ففي الواسع أن تدخل عَلَى الطبيعة تعديلات أصلية كثيرة ويمكن تجديدها وقلبها والأخذ بها في طريق غير طريقها وذلك بالعادة. ثم أن الطبيعة خاضعة لجميع المؤثرات وقابلة لاعتياد أنواع العادات فهي_خلافاً لما يقال_مرنة قابلة للتحول لا تظل عَلَى حال واحدة بل تفعل فيها الأخلاق والتقاليد ومؤثرات المحيط والعادات الشخصية. وقد قال أحد علماء التربية أن للمرء مزاجين طبيعي أو أصلي وكسبي فالأول ينشأ من مزاج الإنسان

فلا يؤثر فيه إلا إذا تكرر عليه غيره وعندئذ يظهر المزاج الآخر أي أن المزاج الأصلي يؤخذ بالمزاج الكسبي وهذا الذي يعتبر كأنه مزاج الأهواء الطبيعية والعادات المكتسبة التي يقضى علينا أن نلاحظها فقط فالمزاج الطبيعي يعرف ويظن ويغلط وهو مفترض مثل شروط التربية ولكن المزاج الكسبي هو نتيجة التربية نعرفه ونثبته فهو عمل من أعمال التجارب الثابتة. فالمزاج الكسبي هو عبارة عن التبدلات التي تفعل في المزاج بحكم الوراثة_وإن كان يمكن اعتبار الوراثة جزأ من المزاج الطبيعي_ومن التبدلات الطبيعة الخاصة المشتركة بين جميع الناس وهي تنشأ من السن ومن الانقلاب الذي يحدث في الإنسان عند البلوغ مثلاً ثم من مجموع التبدلات العارضة التي تترك آثاراً باقية كنمو المرض أو الأسباب المنتظمة الثابتة كالمناخ وأصول المعيشة والأعمال العادية من جسدية وعقلية. وقد أدمجنا في جملة أسباب المزاج الكسبي المرض والمانخ وذلك لأنهما يعدلان طبيعتنا وإن كان في اليد تعديلهما لأنه في استطاعة المرء أن يقاوم المرض ويتوقاه بمراعاة قواعد الصحة ويضعفه أو يشفيه بالعرج الخاص به كما أنه يصلح أو يخفف تأثيرات المناخ أو يجعله بحيث يناسبه وإن كان ي الأكثر عرضة لتأثيراته. والمرض بغير تركيبه ويقطع الموازنة بين الأعصاب الحاسة والمحركة وتغلب الأول عَلَى الثاني وهكذا تجد في الأولاد والمعرضين للأمراض حساً رقيقاً وشعوراً قبل أوانه وذكاءً حسناً ويتحول المزاج أيضاً بحسب المناخ فترى في البلاد الباردة القوى العصبية عاملة قوية والقوى الحسية مخدرة ضعيفة وبالعكس ترى أهل البلاد الحارة أما البلاد الرطبة العفنة فالمزاج فيها بلغمي. ومهما كان من تأثير الأسباب الطبيعية في طبيعتنا فالتربية لها مدخل كبير في إعداد الرجال بل إنها هي المادة والعامل فإنا نجد فيما يستبعدنا سبباً لتحرير رقنا فمن ثم كانت التربية العامل الأكبر في طبيعتنا وإذا كان للمرض والإقليم تأثير فذلك يشعر بأن طبيعتنا قابلة للتحول. فالحرية ليست سوى اسم أطلق عَلَى مرونة تركيبنا الطبيعية والأخلاقي. وفي مكنتنا أن نعارض بين مختلف التأثيرات التي نخضع لنظامها ونكون لها سادة ونطبعها وننجو من تأثيراتها المضرة ونحرر نفوسنا من قيودها. يكاد يكون تأثير طراز المعيشة كتأثير الإقليم وأحدهما يتغلب عَلَى الآخر فإنك تجد في

عرض واحد من الكرة أناساً مختلفين في طبائعهم من مثل اليابانيين والصينيين واليونان والأتراك. لا جرم أن ينسب ذلك إلى اختلاف العناصر وربما كان لأسلوب المعيشة دخل كبير أيضاً لا تقوم إلا بعض التدابير والذرائع وما قط ازدهرت إلا بين الشعوب المعتدلة. فالعادة الشائعة باستعمال الأفيون في البلاد العثمانية والصين والهند قد أثرت كالمناخ أو أكثر بل ساعدت كالحكومة أو أشد في تلك البلاد عَلَى توحيش سكانها وجعلهم غير صالحين للمدنية. واستعمال الألكحول هو أيضاً عند أمم أوربا مسألة حياة وموت. وبلسان أعم إن ضرره يلحق بالصحة عن اختياره وكل خطيئة طبيعية لها نتائج أخلاقية واجتماعية. قال سبنسر: قلائل في الناس من يظهر أنهم يفهمون في العالم شيئاً يمكن أن يسمى الخلق الطبيعي. والظاهر أن الناس يعتقدون عَلَى الجملة بأنه يباح لهم بأن يعالجوا أجسامهم عَلَى نحو ما تدرك عقولهم. وأنت ترى الفلاح طماعاً شديداً يقتل نفسه في العمل ويستعمل القسوة مع امرأته وأولاده فستنفد قواهم ويخرب صحتهم كما نرى العامل يضع كسبه في الحانة ويخل بأصول قواعد الصحة في مأكله ومسكنه بل إن عامة الطبقات في البشر تسرف عَلَى نفسها وتبذر في قواها وتعجل الخلل والهرم والعقر إليها وهكذا ضربت المدنية ضربة شديدة بأيدي السواد الأعظم الذين لا يقدرون حق قدرها واختل نظامها المادي بل إن التقدم المادي هو شرط ظاهر في التقدم المعنوي يبعث في الحقيقة من التربية والأخلاق حتى أن الأمم كإنكلترا التي تحترم الرفاهية الحديثة وتتعبد بها وتقصد من ذلك عنايتها بأمور الصحة كعنايتها بالرفاهية نراها تكاد تكون وحدها سائرة في طريق المدنية بقدم راسخة أحسن من الأمم التي لها أفكار خيالية في الحضارة. فخير ما ينظر إليه في التربية أن يلاحظ ما انطوت عليه جوانحنا ومزاجنا وأن نبني نظامنا عَلَى أساس الحياة الطبيعية. للمزاج تربية أو لا بد له من تربية وقد شوهد بأن المزاج غير ثابت من فطرته لأنه نتيجة المرض والإقليم والنظام الصحي. يثبت ذلك أن المزاج قابل للتحول غير راسخ ما نراه من تحويله لا بوسائط طبيعية بل اجتماعية كالصناعات مثلاً. فالصنعة تروض الإنسان بأجمعه وتتحكم في أذواقه وأفكاره وتقوده في سلوكه بل تعمل في تركيبه الطبيعي. ومن البديهي أن ليس الحداد والمطرز متوحدين في القوة العضلية كما ليس لهما مزاج واحد وأمراضهما

ليست متشاكلة والاختلاف بين ابن الأدب الفلاح والأول ينهك عقله والآخر يتعب عضلاته يختلفان بتركيبهما الطبيعي كالاختلاف المشاهد بين فرنسوي وألماني وإنكليزي وهولاندي وربما كان أكثر. إذاً فما هو المزاج؟ الظاهر أنه يصعب ضبطه وتحديده ولا يتأتى تعيينه إلا بالفكر فيحدد لا بما هو فيه بل بما يمكن أن يستحيل إليه. ولقد نظر المشرعون والحكماء في القديم إلى التربية بأنها تدريب منظم تام لا تختل قواعده ولا يضل قاصده وعلى أيدي القدماء تحققت الأعاجيب التي تنشأ من التربية كالجندي والوطني والإنسان الذي يقصد إلى غاية كالدفاع والعظمة ومجد البلاد ولا يعيش الطامح إليها إلا لأجلها ولا يستنشق الهواء إلا لتحقيق أمنيته منها وبلوغ أربه. ولقد كان المثال البديع الذي ظهر من تربية الجندي الإسبارطي خير مثال تحدثه الأمم فأعجب تدربه القدماء والمحدثون وحق لهم أن يعجبوا لا لما تم عَلَى يديه بل لما بدا فيه من تأثير التربية أو تدريب الإنسان بالإنسان وهكذا دربت رومية رجال شحنتها. وفي إسبارطة ورومية يجب عَلَى الأخلاقي أن يفكر في تأثير التربية لأن هذه التربية لم تظهر قط بأعظم من مظاهرها في تينك العاصمتين ولم يمتد سلطانها حتى ولا في عهد اليسوعيين الذين كانوا يعجبون بما يتم عَلَى أيديهم من جعل أعضاء رهبنتهم عبيداً خاضعين وأدوات تامة. نعم فعلت التربية فعلها حتى أخرجت المرء عن طبيعته الأصلية وعدلت في مزاجه حتى اشتهى الفيلسوف ميستر ذات يوم أن يرى الإنسان في نفسه أو عَلَى فطرته فقال أنه رأى فرنسياً وإنكليزياً وإيطاليين وروسيين ولكنه لم يوفق إلى رؤية الإنسان المجرد العام بل رأى الإنسان بحسب المحيط والتعليم والتربية المكتسبة والمزاج ولكن إذا كان الإنسان الحقيقي هو محصول التربية ومجموع العادات وإذا كان أبداً ابن الأحوال الطارئة عليه والعادات والمناخ والقوانين ألا يجب أن يقال بأنه ليس له خلق خاص وأن شخصيته تضمحل بما يعدو عليها. فالظاهر أننا لا ننظر للشخصية إلا عند مقاومتها للتربية ونراها مباينة بتعريفها للمؤثرات التي تؤثر فيها. ترجع التربية إلى العادة وهنا انقسم علماء التربية إلى قسمين فمن قائل بتأثير العادة ومن قائل بعدمها. فزعم روسو بأن للتربية دخلاً قليلاً في إعداد الإنسان قائلاً أن التربية استعباد

له وأن خير عادة يعودها الطفل أن لا يعود أمراً ما حتى ولا الأكل والشرب ولا النوم في ساعات معينة بل أن يعد للاستمتاع بحريته وأنت تلاحظه من بعيد كما تلاحظه في استعمال قواه تاركاً لجسمه العادة الطبيعية وأن يكون أبداً مالك قياد نفسه وأن ترى إرادته عندما يكون مالكاً لها قال والعادة الوحيدة النافعة للأولاد هو أن يستعبدوا لضرورة الأشياء بدون عناء والعادة الوحيدة النافعة للرجال هو الاستعباد للعقل بدون كبير أمر. ومثل لذلك بالنبات الذي تثنيه وتكرهه عَلَى ميل خاص فلا يلبث أن يعود إلى أصله إذا أطرحته من يدك. وقواعده هذه تنطبق عَلَى التربية بل هي قواعد التربية بذاتها إذ لا فرق بين التربية والعادة وما التربية إلا العادة فمن ثم كانت التربية تربيتين تربية ظاهرة مؤقتة وتربية حقيقية دائمة فالأولى هي التي تقاوم الطبيعة والثانية هي التي توحي إليها الطبيعة ولا تعمل إلا عَلَى ترقيتها وموافقة قانونها ولذا قال روسو أن من النسا من ينسبون تربيتهم أو يضيعونها ومنهم من يحتفظون بها. عَلَى أن الابتعاد عن الفطرة ما ينافي العقل فالحكمة تقضي بأن نعمل مع الطبيعة ولأجلها وكل تربية لا تجري عَلَى هذا النظام لا تكون عبئاً ثقيلاً فقط بل تكون عبثاً لا نتيجة لها. ومن الباطل أن نعتقد أن مخالفة الطبيعة في التربية تعني غناءها وما هي إلا ظواهر فإن معظم العادات كما قال روسو التي تعتقد أنك تلقنها الأولاد ليست عادات حقيقية لأنهم أخذوا بها بالعنف وجروا عليها عَلَى غير إرادتهم فهم يتوقعون الفرص لينزعوا ربقتها. وقوله هذا صحيح لا غبار عليه فإن بدريتو الذي أخذ وهو طفل من محيطه المتوحش وربي التربية الأوربية الدقيقة تخلى يوم خلا له الجو ونجا من أيدي مدبريه عن عيش الرفاهية الظريف وراح يعود بين أهله إلى عيش الكسل والعطالة والشقاء التي قادته إليها ميوله الإرثية ولم يعد قط إلى حالته الثانية. وكذلك كان من حال الصيني الذي تزوج من امرأة فرنسوية وأخذه معها إلى بلاده فلما بلغها أخذ ينظر إلى زوجه بأنها غير مساوية له وانقطع عن معاملتها معاملة متمدنة. وبهذا تبين أن التربية ليست غالباً إلا طلاء يزول لأقل عارض. وقد قال الفيلسوف ريبو أيضاً أن الطبيعة لا تعاند وإن للإرث والميول الطبيعية دخلاً كبيراً في التربية. ومن رأي روسو أن العادة لا يمكن إلا أن تكون منطبقة عَلَى الطبيعة.

وقالت العقيلة نكرسوسور التي ناقضت روسو في نظرياته وجعلت للعادات في التربية الشأن الذي أراد روسو أن يسلخه عنها أن الولد ليس إلا كائناً لدناً رخيصاً قابلاً للتحول مستعداً إلى التطبع بالعادات يتناول ذلك عَلَى أيسر وجه بدون نكير وليس في العادات عائق عادي يخدر قواه بل إن الاتفاق يتم أبداً بين الخلق والعادات وكلما كان الولد فتياً في السن انبعثت عاداته من أخلاقه ومن نفسه. وبالجملة فإنه يحصل للولد ذوق في العادات التي يعتادها فيقع استحسانه عَلَى ما يراه. قالت إنها رأت طفلاً في الشهر التاسع من عمره يبكي بكاءً شديداً ويأبى أن يتناول غذاؤه لأن الفنجان والصحفة الملعقة لم تكن موضوعة في محلها التي جرت العادة أن توضع فيه. فاستدلت بذلك عَلَى أن ذوق النظام كان بذرة في الطفل فالواجب عَلَى المربي أن يربيه ويقويه وهكذا تجد ذوق النظافة والحياة فطرية في الإنسان قالت إنها شاهدة طفلة في الشهر الثامن عشر من سنها تبكي إذا مس أحد مقطف مربيتها في النزهة وقد رأت هذه الطفلة امرأة مجهولة دخلت ذات يوم وسرقت من البيت قفطان والدتها فأخت تصيح صياحاً هائلاً. ومن هذا يستنتج أن العادة ليست في الأصل عارضية دخيلة فينا بل إنها تدخل وتنساب في حياتنا بقدر ما تصادف من الائتلاف وتنبهه فينا من الشعور ويتفق مع إرادتنا وهكذا هي مادة من شخصيتنا ولكن تلك العادات لا يجب أن تخرج عن الطبيعية فلا تتمازج وإياها كما يتمازج قلبان كأنهما تراضعا لبناً واحداً ويتعلق المرء بالعادة مختاراً لا مضطراً فتظل عاداتنا كما كانت في الأصل بهجة وظرفاً لا سلسلة وقيداً ليكون لسان حال كل امرئٍ أن عبوديتي حلوة وعبئي غير ثقيل. نعم يعتاد الأمور وهي محببة إليه ولا يعتادها متكارهاً. ولقد كان القدماء ينظرون إلى التربية بأنها تدريب مدقق شديد أو تجريب عَلَى أسلوب تام ولنهم يشفعون تربية الجسم بتربية الروح فلم يكونوا يكتفون بتربية العضلات بل كانوا يلقنون المربى العبادة واحترام القوة ويرون أن التدريب أو العادة ليس بشيء إذا لم تظهر بأنها ترجمان للروح. قال الكاتب الفرنسوي الذي احتذينا عن مبحث له هذه النبذة: وطريقتنا في التربية هو أن لا ننظر إلى العادة والخلق موجودة بذاتها ومستقلة بنفسها بل أن نعتبرها بأن أحدهما يقوم بصاحبه وهو متمم له.

إصلاح حوران تمت لسورية أمنيتها التي لطالما نشدتها من إدخال حوران ولاسيما جبل الدروز في الطاعة وإصلاحه إصلاحاً إدارياً ليسعه بعد الآن ما يسع عامة الأقاليم العثمانية. فوفق القائد العام في الحملة عَلَى جبل الدروز سامي باشا الفاروقي الذي انتدبته الدولة لتأديب العصاة بالنظر لمعرفته اللغة العربية ولأنه استعان عَلَى تحقيق رغائبه بقواد من أبناء هذه الديار أو ممن سكنوها زمناً وعرفوا أحوالها وساعد عَلَى ذلك انتظام الجندية في العهد الأخير انتظاماً يغبطنا عليه المحب فقابل الدروز العسكر بإطلاق الرصاص بالقرب من السويداء قاعدة الجبل كما قابلوهم في قنوات والكفر وما والاهما فاستولت الحملة عَلَى تلك البلاد وأحرقت بعضها لما بدا من أهلها من المقاومة ومن سلم للحملة عومل بالرفق والعدل ولما أيقن الدروز بأنهم كانوا عَلَى ضلال في مقاومة الدولة استسلموا كلهم ودخلت بلادهم في الطاعة وعادوا إلى أعمالهم الزراعية فجمعت الحملة أسلحتهم وأحصت نفوسهم وساقت إلى الجندية نحو ألف من شبانهم كما اعتقلت من ثبت كل الثبوت اشتراكه في الفتنة الأخيرة وعصيانه وربما حكمت عَلَى عشرات منهم بأحكام مختلفة بما أقامته في السويداء من الديوان العرفي ولا يعرف بالتحقيق عدد من هلك من الدروز في هذه الوقائع لأن من عادتهم أن ينقلوا جرحاهم وقتلاهم في ساحة النزال مهما كانت النيران متهاطلة عَلَى الرؤوس عَلَى أن الأخبار الرسمية ترجح أنه قتل منهم نحو ألف كما استشهد من الجنود 57 بينهم ضابط وجرح نحو مائة بينهم أربعة ضباط وبلغ عدد الجيش الزاحف نحو عشرين ألف جندي. وقد دعم الإصلاح لواء حوران بهذه الواسطة وخيم الأمن عَلَى تلك الربوع فأحصيت نفوس سكان السهول منه وسكان جبل عجلون كما أحصيت نفوس جبل الدروز ويقال أن من يدخلون الجندية من شبان حوران هذه المرة وكانوا لا يخدمونها من قبل نحو أربعة آلاف جندي وستربح الدولة من هذه الحملة أموراً كثيرة أولها انتشار الأمن في سورية كافة وثانيها زيادة الأعشار والأموال والضرائب من هذا اللواء الخصيب فيزيد دخل هذه الولاية لحكومة فقط زهاء مائتي ألف ليرة مسانهة. سكان الولايات العثمانية الولايات والمتصرفيات بالكيلومتر متر المربع عدد السكان

المساحة ـ في الروم إيلي ـ 169. 3006. 130. 200 ولاية الآستانة309001. 203. 000 متصرفية جتالجة 1. 90060. 000 ولاية أدرنة38. 4001. 028. 200 = سلانيك35. 0001. 130. 800 = مناستر28. 500849. 000 = قوصوه32. 9001. 038. 100 = أشقودرة 10. 800194. 100 = يانيه17. 900527. 100 ـ في آسيا الصغرى ـ 501. 4009. 089. 200 ولاية الأرخبيل (بحرسفيد) 6. 900322. 300 متصرفية أزميت8. 100222. 700 = بيغا6. 600129. 500 ولاية خداوندكار65. 8001. 626. 800 = آيدين 55. 9001. 396. 500 = قونية 102. 1001. 069. 000 = أطنة 39. 900422. 400 ولاية أنقرة 70. 900932. 800 = قسطموني 50. 700961. 200 = سيواس 62. 1001. 057. 500 = طرابزون 32. 400948. 500 ـ في أرمينة وكردستان ـ 186. 5002. 470. 900 ولاية أرضروم49. 700645. 700 = معمورة العزيز32. 900575. 200

= بتليس 27. 100398. 700 = ديار بكر 37. 500471. 500 = وان39. 300379. 800 ـ في سورية زما بين النهرين_637. 800 288. 600 ولاية حلب 86. 600995. 800 بيروت16000533500 متصرفية لبنان3100 200000 القدس17100341600 ولاية سورية 95900719500 متصرفية الزور78000100000 ولاية بغداد 111300614000 = الموصل 91000351200 = البصرة 138800433000 ـ في بلاد العرب ـ4411001050000 ولاية الحجاز 250000300000 = اليمن 191100750000 ـ إيالة طرابلس الغرب 10510001000000 ـ سيسام 468 55000 ـ قبرص 9600 210000 ـ كريت 8618 310056 ـ مصر 3114011287359 ـ تونس 1674001830000 التربية الجديدة لا ينبغي للمدرسة أن تكتفي بالتعليم بل أن تعد رجالاً عاملين للحياة ولذا قامت إنكلترا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا والولايات المتحدة بإنشاء مدارس جديدة تريد أن تتناول

من التلميذ حياته بأنجعها لا أن تربي عقله فقط تريد أن لا تكون المدرسة دار تعلم بل دار احتذاءٍ تهمها الحياة قبل التعليم. وقد وضع فروبل أعظم باحث بالتربية في العصر الماضي قاعدة من شأنها أن الواجب التعلم مع العمل فالمدارس الجديدة وجدت لتطبق هذا الفكر وتدفعه إلى نتيجته الطبيعية وهي أن الواجب التعلم مع الحياة فيقتضي من ثم للإنسان الكامل الذي يحب أن يعمل عملاً مثمراً ويجد السعادة في علاقاته الشخصية ويصبح وطنياً صالحاً_يقتضي له جسد سليم وذكاءٌ شديد وصفات لازمة له في ضروريات الحياة. وهذه القوة والمقدرة الطبيعية والصفات الأخلاقية لا يتأتى الحصول عليها إلا بالعمل فيجب أن يعيش الولد حياة الصحة الجسدية والجهاد العقلي والأخلاقي حتى إذا دخل في سن الرجولية تكون له قدرة واعتياد عَلَى استخدامها في الغايات الحسنة. وقد كان ينظر حتى الآن إلى المدرسة بأنها جعلت لترقية العقل وأن سائر شؤون الحياة هي في الطفل من عمل الأسرة ولكن أسباب الحياة قد تبدلت في العصر الأخير حتى لم يعد في طاقة الأسرة أن تجهز الطفل بجهاز من الصفات اللازمة في جهاد الحياة فاقتضى من ثم للمدرسة أن تقوم بهذا الواجب فتنشئ عادات صالحة وتعلم الأسباب إليها ولا غنية في تلقين هذه التربية الآن فلا يجد فيها ما يخالف الغرض الذي يرمي إليه بخلاف من يقضي شطراً من حياته الأولى في البيت وقد يكون هذا في الأكثر جارياً عَلَى غير سنة المدرسة في الآداب وهناك فوائد أخرى في التربية المدرسية وهي أنها تساعد الأولاد عَلَى أن يكبروا في الفلاة ويتعاطوا الأعمال المطلوبة منهم ويفهموا فائدتها ويعيشوا في ظل الطبيعة خلال السنين التي تتأثر الروح بالانطباع بطابعها. ومنذ أمد طويل عرفت التربية الطبيعية في أحسن المدارس الإنكليزية مكانة. فإنكلترا هي بلد الرياضات والحياة في الفلاة والبراري ومن هذه المدارس نشأ في الإنكليز حب اللعب في الهواء الطلق فينظم الأولاد لأنفسهم ألعابهم دون أن تتدخل في شؤونهم إدارة المدرسة حتى أصبحت الألعاب والرياضات أهم جزء من التربية في المدارس الثانوية في البلاد التي يتكلم بها باللغة الإنكليزية وفي غيرها أيضاً. وبعد فإن النزهات (الفسح) في الفلاة والحمامات في الهواء الطلق ولعب الرماية والهدف والشغل اليدوي عَلَى اختلاف أنواعه واختيار الغرف المعرضة للتهوية عَلَى الدوام

واستعمال اللباس الساذج المعقول والطعام اللطيف الصحي ومراعاة قواعد الصحة في استعمال الوظائف الجسدية كل هذا مما يجب أن يعم أمره في المدارس كما تعم الألعاب وهي لازمة لبقاء الصحة ولاسيما لإيجاد عادات راسخة متى زالت سلطة المدرسة عن رأس التلميذ وتلقي في نفس الأولاد حب الحياة السليمة النشيطة فينبغي لنا محيط يسمح بكل ما تقدم عَلَى أن يترك شيءٌ منه للمصادفات فالمدرسة التي لا تضع في قوانينها ما عددناه تخل ولا جرم بواجبها الأول. قال العالم الإنكليزي الذي ننقل كلامه هنا عن مجلة التربية الفرنسوية وليس أحسن ذخيرة عقلية يحملها الفتى من المدرسة هي مجموعة معلومات علمية وإنشاء جميل بل القدرة عَلَى التفكر بنفسه فيكون له إرادة عَلَى الابتكار ويستعد لأن يقوى عَلَى حل المشكلات كلما عرضت. وهذه القوة لا يحصل عليها بالبحث في الكتب بل بأن يعمل الولد الشيء بذاته عَلَى اختلاف ضروبه والواجب أن يتسع خطط المدارس فتكون دروسها منوعة وتولي كفاءة كل امرئ حرية أوسع. فدماغ الولد لا يقوى بالقراءة بقدر ما يقوى بالعمل والدماغ في الأصل لم يبحث عن عادات اليد بل أن اليد علمت العادات للدماغ وهكذا يجب العمل عَلَى تنشئة الطفل ليكون رجلاً فيجب أن يكون لنا في خطط الدروس أعمال يدوية منوعة كثيرة لا لأنها أساس العلوم والفنون التي توصلنا إليها بل لأنها في حد ذاتها أدوات ثمينة في التربية. ففي الأعمال العلمية والأعمال الكتابية ينبغي لنا ميدان نشاط وروس لنكون عَلَى بصيرة من بلوغ القوى والمصالح الحقيقية في الطفل ونكشف استعداده الشخصي. يجب أن لا ننسى أن القيمة الرئيسية في عمل ما ليست بنتائجها المادية بل بطريقة إنتاجها في طريقتها وإن أهم نتيجة وأدومها هي العادة العقلية التي ساعدت عَلَى الإنتاج. يجب للمدرسة والمعمل عمل شخصي وأن يعطى للتلميذ مسائل ليحلها بالاختبار أكثر مما يحلها بالتعقل فتحصيل العلم يجب أن يعتبر بأنه سياحة اكتشاف أكثر مما ينظر إليه بأنه تعلم ما اكتشفه الغير فلا يجب أن يطلب من التلميذ أن يتعلم لينتفع بعد بمعارفه إذا سنحت لها لفرص بل أن يعلم ضرورة العلم بالعمل السريع الذي يرى نفسه مضطرة أن تقوم به. فالتربية الجديدة لا ترمي إلى تنشئة رجال ونساء ذوي كفاءة وقدرة بل تريد إعداد وطنيين صالحين ينتفعون بخصائصهم لا لينالوا منها فوائد خاصة لهم بل ليعاونوا الناس

ويساعدوهم. يعود الأولاد أن يقدروا أنفسهم بأنفسهم وأن تهيأ لهم أسباب العمل فلا يكفي أن يتعلم ما هو صالح إذا لم تقو الإرادة وتتأصل عادة عمل الخير في المرء بالفعل فقد كان سقراط يقول أن المرء لا يختار عمل الشر من نفسه وبذلك نتج أن معرفة الخير هي ضرورية فقط ونحن نتعلم دروس الحياة كلما عشنا. نلقن الولد أن يعمل ونساعده أن يرى بنفسه ضرورة الوقوف عند حد والاعتراف بقيمة سلوكه. وهذا خير من استعمال الضعف في التلقين ويفرض علينا أن نمتع الولد بحريته لأنه إذا لم ينشأ وهو يختار الخير لا ينمو في الأخلاق نمواً حقيقياً وإذا خالفنا ذلك نصوغ من الطفل أداة مدهشة لا رجلاً عاملاً ولا يتأتى ذلك إلا بتبادل الثقة بين المتعلمين فيخلص الأولاد بعضهم لبعض ويخلص المعلمون في مراعاة حرية من يعلمونهم. سيجب عَلَى الأساتذة أن يقتنعوا كل الاقتناع بأن الأولاد يرون من شمم نفوسهم أن يكونوا أحرياء بالثقة عندما يشاهدون أنه يوثق بهم وأن يدربوا من دون عنف وقسوة ولا ينظر لهم كمن ينظر إلى من يشك في حاله. قال وأرى أننا في حاجة إلى نفوذ المرأة حيثما وجد أولاد وذلك لا في السنين الأولى للطفولية بل في خلال مدة التربية وإذا صح كما نعتقد بأننا لا نستطيع أن نتعلم إلا إذا عشنا فنحن في حاجة في المدرسة إلى جميع العوامل والمؤثرات الرئيسية في الحياة فليس تجديد الحياة المدرسية وقصرها عَلَى جنس واحد إلا عبارة عن خنقها وفلجها منذ بدايتها فتربية البنين مع البنات ضرورية والمدارس التي سرت عَلَى الأسلوب الجديد في التربية تقوم بهذا المطلب من عدة وجوه بحسب حالتها واعتقادها وعاداتها القومية ويترك للتلميذ أن يعتقد ما يشاء من دين آبائه ولا يبحث في الأديان بل يبحث في إعداد رجال على أنه يعلم نفع التدين كما يعلم الأجنبي عنا احترام وطنية الغير لا تقديس وطنيتنا فقط.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات مباهج الفكر ومناهج العبر وقفت في الصيف الماضي (سنة 1909م) عَلَى هذا المخطوط النفيس في المكتبة المارونية بمدينة حلب ويسمى أيضاً (نزهة العيون في أربعة فنون) لمؤلفه جمال الدين أبي عبد الله محمد الكتبي الملقب بالوطواط المتوفى سنة 718هـ (1318م) وهو عَلَى شكل دائرة معارف في الطبيعيات والعلوم والجغرافية. متقن الخط مذهب الصفحات في 518 صفحة مخروم من آخره قليلاً وضعه مؤلفه عَلَى أربعة فنون الأول في العوالم العلوية والثاني في الأرض والثالث في الحيوان والرابع في النبات وكسر كل من الفنون الأربعة عَلَى تسعة موضوعات. والذي يفهم من بعض تعاليق عَلَى الكتاب أن مؤلفه أندلسي الأصل مصري المنشأ. وأن هذه النسخة حصلها من إسبانيا المطران جرمانوس فرحات الحلبي الماروني. وقد رصع مؤلف هذا الكتاب كلامه بنثر بليغ وشعر رشيق ومن منتخبات أشعاره الفلكية قول ابن رشيق القيرواني في ترتيب السيارات: بالذي شرف كي ... وان بحظ من دهائك وأعار المشتري حل ... مك مع حسن اهتدائك وانتضى المريخ سي ... فاً لك يمضي بمضائك والذي ألقى عَلَى الش ... مس رداءً من بهائك وكسا الزهرة أخ ... لاقك مع حسن ثنائك ثم أعطى كاتب الش ... مس نصيباً من ذكائك وأقام القمر ال ... فريد بريداً لارتبائك أنجز الوعد لعبد ... ماله غير رجائك وقول هبة الله بن صاعد بن التلميذ المسيحي يذكر عقوق ولد له: أشكو إلى الله صاحباً شكساً ... تسعفه النفس وهو يسعفها فنحن كالشمس والهلال معاً ... تكسبه نورها ويكسفها وقول آخر في المجرة: وعلى المجرة أنجم نظمت ... مثل الفقار يلوح في الظهر

هذا حباب فوق صفحتها ... طاف وهذا جدول يجري وقول ابن أبي ظافر المصري من أرجوزة في وصف الشمس: والشمس قد مالت لنحو المغرب ... فموهت لجينه بالذهب وفتحت في ساعة الأصيل ... وردتها في خدها الأسيل وقول هاشم بن إلياس ف وصف الجوزاء: وكأنما جوزاؤه في غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق وكأنما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول إلى ثلاث نلتقي وقول الآخر في اقتران الشمس بالقمر: يقابل الشمس فيه بدر دجى ... يأخذ من نورها ويمتار كصيرفي يروج منتقداً ... في كفه درهم ودينار وهناك وصاف الإنسان كقول ابن الرومي في الترك إذا ثبتوا فسد من حديد ... تظل عيوننا فيهم تحار أسود الحرب أنفسهم كبار ... إذا لوقوا وأعينهم صغار وأوصاف الحيوان كقول بعضهم في الفهد: رقدت قلبي ومقتلي يق ... ظانٌ يحسن الأمور حساً شديدا يحمد النوم في الجواد كما لا ... يمنع الفهد نومه أن يصيدا وقول أبي محمد اليزيدي في رثاء القنفذ من أبيات: عجبت له من شيهم متحصن ... بنبل من السرد المضاعف يمرق وإنى اهتدى سهم المنية نحوه ... وفي كل عضو منه سهم مفوق ولو كان كف الدهر يستحسن الردى ... لكان بكف الدهر لا يتعلق وقول آخر في وصف الخطاف: أهلاً بخطاف أتانا زائراً ... يذكر عهداً بالزمان الباسم لبست سرابيل الصباح بطونه ... وظهوره ثوب الظلام القاتم وقول بعض الحكماء (ابن التلميذ وابن صفية) في النمل: وإذا أنبت المهيمن للن ... مل جناحاً أعدها للتردي

ولكل امرئ من الناس حد ... وملاك الفتى جواز الحد وأوصاف النبات كقول آخر في البطيخ: ثلاث هن في البطيخ زين ... وفي الإنسان منقصه وذله خشونة لمسه والثقل فيه ... وصغرة لونه من غير عله وقول بعضهم في الثوم: الثوم مثل اللوز إن قشرته ... لولا روائحه وطعم مذاقه كالنذل غرك منظراً فإذا دعي ... لفضيلة ينمى إلى عرقه وأوصاف الجمادات كالأهرام والمباني والبلدان والحوادث كقول أبي سعيد نصر ابن يعقوب يصف زلزلة: اسقني كأساً كلون الذهب ... وامزج الريق بماء العنب فقد ارتجت بنا الأرض ضحى ... كارتجاج الزئبق المنسرب فكأن الأرض في أرجوحة ... وكأنا فوقها في لولب وعلى هوامشه حواش فيها فوائد كثيرة منها ما ينسب إلى السلطان سليمان القانوني لما مر عَلَى وادي حماة وهو في حلب سنة 961هـ 1552 يصف نواعيرها: نواعير في وادي حماة إذا بكت ... تهيج منا بالبكا مدمعاً قاصي فإني عَلَى نفسي لأجدر بالبكا ... إذا كانت الأخشاب تبكي عَلَى العاصي وفيه مباحث تاريخية في وصف العواصم والأجناد والمواقع مثل موقعة دمياط بين المسلمين والصليبيين وكثيراً ما يستشهد بابن الأثير وبالمسيحي وغيرهما من المؤرخين. وفي صفحة 18 منه وصف كسرى للفلك ذكره حمزة بن الحسين الأصفهاني في كتاب التشبيهات. وهو عَلَى الجملة من الكتب النادرة الجديرة بالنشر ولمؤلفه كثير من المصنفات تدل عَلَى سعة اطلاعه مثل الدرر الغرر في شعراء الأندلس وغرر الخصائص الواضحة وعرر النقائص الفاضحة وغيرها. عيسى اسكندر معلوف. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول.

للإمام المجتهد الذي طار صيته في الأقطار القاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1327 عَلَى نفقة مصطفى أفندي المكاوي. لا حاجة بنا إلى الإسهاب في ترجمة المؤلف_الشوكاني_لسهولة الوقوف عليها في مواضع عدة في مقدمة كتاب نيل الأوطار المطبوع وفي كتاب التاج المكلل لناشر علمه وآثاره الإمام صديق حسن خان وغيرهما. أما آثاره عليه الرحمة فكلها مما يتنافس فيها ويتسابق إليها ومعظمها في القطر اليماني وما نشر منها بالنسبة إلى ما لم ينشر كالقطرة في جانب البحر ولقد كان من حسنات هذه الأيام الاهتمام بطبع كتابه هذا بمصر لما هبط إليها من اليمن فلطالما تشوقت إليه نفوس الفضلاء وتاقت لمراجعته قلوب المحققين لشهرة مؤلفه بتجويد المباحث واستقلال الفكر وقد جمعه أحسن وجميع وهذبه أبلغ تهذيب وتوسع في كثير من المباحث بما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصراً في الاستنباط وبصيرة في حصول المأمول، ومما انفرد به عن الكتب المؤلفة في ذلك_عدا عن كثير من نوادره_تحقيقات أتى عَلَى أنها نهاية ما يمكن أن يقال عنها في مباحث الإجماع والاجتهاد والتقليد فقد أورد عشرين بحثاً وخاتمة في الإجماع وتسع مسائل في الاجتهاد وستاً في التقليد، في مطاويها من بدائع التحقيقات ما لم يسبق إليه كما يعرفه من أوزان بينه وما بين الأيادي من أسفار هذا الفن. أما مكانة علم الأصول فأسمى من أن تعرف ويكفي أنه_كما قال المؤلف_عماد فسطاط الاجتهاد وأساه الذي تقوم عليه أركان بنائه وأنه العلم الذي يأوي إليه الأعلام والملجأ الذي يلجأ إليه عند تقرير المسائل وتحرير الدلائل في غالب الأحكام. جمال الدين القاسمي. مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن جردنا من هذه المجلة ما نشره في هذا المبحث الشيخ جمال الدين القاسمي أحد العلماء العاملين في دمشق لتتداوله الأيدي فجاء في 50 صفحة وتطلب منه ومن إدارة المقتبس. ولا حاجة للكلام عليها فالقراء عرفوا دقة أبحاثها ووفرة فوائدها وأدركوا كيف حلت هذه المعضلة القديمة.

تصحيح أعلام برتقالية

تصحيح أعلام برتقالية تفضل صديقنا أحمد بك زكي في القاهرة فأرجع لنا الأعلام البرتقالية التي ورجت في مقالة جمهورية البرتقال في الجزء السادس من هذه السنة إلى أصلها فقال: 1_ذكرت الكراف تعريباً بقولهم واسمه الغرب عند العرب وهو لا يزال من بقاياهم عَلَى مقاطعة كبيرة في جنوب البرتقال وغربها. 2_ذكرت سانتارم وصحة اسمها عند العرب شنترين 3_ذكرت لاس نافادي تولوز وصحة اسمها عند العرب: وقعة العقاب. وكانت بقرب مدينة طلوسه 4_ذكرت باراكانس وصوابها عند العرب: أبراقنصة. 5_استعملت لفظة الكاداستر بلفظها الإفرنكي ومقابلها عند العرب في مصر والمغرب الأقصى والأندلس هو كلمة: الروك ونحن كنا نقول في مصر إلى عهد قريب التاريع. والآن نقول المساحة.

رسالة ابن القارح

رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري (إلى القارئ مخطوطاً من أندر المخطوطات ظفرنا به في خزانة كتب أستاذانا الشيخ طاهر الجزائري كتبه أبو حسن علي بن منصور الحلبي المعروف بالقارح إلى أبي العلاء المعري فأجاب عنها هذا في رسالة خاصة سماها رسالة الغفران طبعت بمصر سنة 1321_1903 في مطبعة هندية. أما ابن القارح وكان يلقب بدوخلة فكان شيخاً من هل الأدب رواية للأخبار حافظاً لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار قؤوماً بالنحو وكان ممن خدم أبا علي فارس في داره وهو صبي ثم لازمه وقرأ عليه وكانت معيشته التعليم بالشام ومصر. قال ابن عبد الرحيم وشعره يجري مجرى شعر المعلمين قليل الحلاوة خال من الطلاوة وكان آخر عهدي به بتكريت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فإنا كنا مقيمين بها واجتاز بنا وأقام عندنا مدة ثم توجه إلى الموصل فبلغتني وفاته من بعد وكان يذكر أن مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. قال ياقوت وعلي بن منصور هذا يعرف بابن القارح وهو الذي كتب إلى أبي العلاء المعري الرسالة المعروفة برسالة ابن القارح فأجابه أبو العلاء برسالة الغفران وذكر اسمه فيها). بسم الله الرحمن الرحيم. استفتاحاً باسمه واستنتاجاً ببركته والحمد لله المبتدي بالنعم المنفرد بالقدم الذي جل عن شبه المخلوقين وصفات المحدثين ولي الحسنات المبرأ من السيئات العادل في أفعاله الصادق في أقواله خالق الخلق ومبديه ومبقيه ما شاء ومفنيه وصلواته عَلَى محمد وأبرار مترته وأهليه صلوة ترضيه وتقربه وتدنيه وتزنفه وتخطيه كتابي أطال الله بقائي مولاي الشيخ الجليل ومد مدته وأدام كفايته وسعادته وجعلني فداءه وقدمني قبله عَلَى الصحة والحقيقة وبعد القصد والعقيدة وليس عَلَى مجاز اللفظ ومجرى الكتابة ولا عَلَى تنقص وخلابة وتحبب ومسامحة كما قال بعضهم وقد عاد صديقاً له كيف تجدك جعلني الله فداك وهو يقصد تحبباً ويريد تملقاً ويظن أنه قد أسدى جميلاً يشكره صاحبه أن ينهض واستقل ويكافئه عليه إن أفاق وأيلَّ عن سلامة تمامها بحضور حضرته وعافية نظامها بالتشرف بشريف عزته وميمون نقيبته وطلعته ويسلم الله التكريم تقدست أسماؤه إني لو حننت إليه أدام الله تأييده

حنين أواله إلى وكرها وذات الفرخ إلى وكرها والحمامة إلى إلفها أو الغزالة إلى خشفها لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام والعصور والأعوام لكنه حنين الظمآن إلى الماء والخائف إلى الأمن والسليم إلى السلامة والغريق إلى النجاة والقلق إلى السكون بل حنين نفسه النفيسة إلى الحمد والمجد فإني رأيت نزاعها إليهما نزاع الإستقسات إلى عناصرها والأركان إلى جواهرها فإن وهب الله لي ملأ من العمر يؤنسني برؤيته ويعلقني بحبل مودته مرت كساري الليل ألقى عصاه وأحمد مسراه وقر عيناً ونعم بالأوكان من لم يمسسه سوء ولم يتخوفه عدو ولا نهكه رواح ولا غدو وعسى الله أن يمن بذلك بيومه أو بثانيه وبه الثقة وأنا أسأل الله عَلَى التداني والنوى والبعاد إمتاعه بالفضل الذي استعلى عَلَى عاتقه وغاربه واستولى عَلَى مشارقه ومغاربه فمن مر عَلَى بحره الهياج ونظر في لألآء بدره الوهاج خليق بأن يكبو قلمه بأنامله وينبو طبعه عن رسائله إلى أن يلقي إليه بالمقاليد أو يستهويه إقليداً من الأقاليد فيكون منسوباً إليه ومحسوباً عليه ونازلاً في شعبه وأحد أصحابه وحزبه وشرارة تياره وقراضة ديناره وسمك بحره وثمد غمره وهيهات ضاق فتر عن مسير ليس التكحل في العينين كالكحل خلقوا أسخياء لا متساخين وليس السخي من يتساخى ولاسيما وأخلاق النفس تلزمها لزوم الألوان للأبدان لا يقدر الأبيض عَلَى السواد ولا الأسود عَلَى البياض ولا الشجاع عَلَى الجبن ولا الجبان عَلَى الشجاعة قال أبو بكر العزرمي: يفر جبان القوم عن أم رأسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه ويرزق معروف الجواد عدوه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه ومن لا يكف الجهل عمن يوده ... فسوف يكف الجهل عمن يواثبه ومن أين للضباب صوب السحاب وللغراب هدى العقاب وكيف وقد أصبح ذكره في مواسم الذكر أذاناً وعلى معالم الشكر لساناً فمن دافع العيان وكابر الأنس والجان واستبد بالأفك والبهتان كان كمن صالب بوقاحته الحجر وحاسن بقباحته القمر وهذي هذر وتعاطى فعقر وكان كمحموم بلسم فعفر ونادى عَلَى نفسه بالنقص في البدو والحضر وكان كمن قال من يعنيه ولا يشك فيه: كناطح صخرة يومأً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاده شرفاً لديه قال لعن الله ذا الوجهين لعن الله

ذا اللسانين لعن الله كل شقار لعن الله كل قتات. وردت حلب ظاهرة حماها الله تعإلى وحرسها بعد أن منيت بربضها بالدرخمين وأم حبركري والفتكرين بل رميت بآبدة ألاباد والداهية النآد فلما دخلتها وبعد لم تستقر بي الجار وقد نكرتها لفقدان معرفة وأنشدتها باكياً: إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت حبيباً والبلاد كما هي كان ابو القطران المرار بن سعيد الفقعسي يهوى ابنه عمه بنجد واسمها وحشية فهتداها رجل شامي إلى بلده فغمه بعدها وساءه فراقها فقال من قصيدة: إذا تركت وحشية النجد لم يكن ... لعيني مما تبكيان طبيبا رأى نظرة منها فلم يملك البكا ... معاوز يربو تحتهن كثيب وكانت رياح الشام تكره مرة ... فقد جعلت تلك الرياح تطيب فحصلت من الرباح عَلَى الرياح كما حصل لابن قطران من حشية ثم وثم وثم وثم أجري ذكره أدام الله تاييده من غير سبب جره وغير مقتض اقتضاه فقال الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة والعروضمن الخليل فقلت والمجلس بأزز بلغني أنه أدام الله تأييده يصغر كبيره وينزر صغيره فيصير تصغيره تكبيراً وتحقيره تكثيراً وهكذا شاهدت ما شاهدت من العلماء رحمهم الله أجمعين وجعله وارث أطول أعمارهم وأمدها وأنضرها وأرغدها وما ثم له حلجة دعت إلى هذا قد تفتح النور وتوضح النور وإرضاء الصبح لدى عينين أبو الفرج الزهرجي كاتب حضرة نصر الدولة أدام الله حراسته كتب رسالة إليَّ أعطانيها ورسالة إليه أدام الله تأييده استودعنيها وسألني إيصالها إلى جليل حضرته وأكون نافثها لا باعثها ومعجلها لا مؤجلها فسرق عديلي رحلاً لي الرسالة فيه فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري وأبث شقوري وأطلعه طلع عجري وبجري وما لقيت في سفري من أقيوام يدعون العلم والأدب والأدب أدب النفس لا أدب الدرس وهم إصغار منها جميعاً ولهم تصحيفات كنت إذا رددتها عليهم نسبوا التصحيف إلي وصاروا إلباً علي لقيت ابا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه فعرضها علي فقلت كتبك هذه يهودية قد برئت من الشريعة الحنيفية فأظهر من ذلك إعظاماً وإنكاراً فقلت له أنت عَلَى المجرب ومثلي لا يهرف ما لا يعرف وأبلغ تيقن فقرأ هو وولده وقال صغر الخبرِ الخبر وكتب إلي رسالة يقرظني فيها بطبع له كريم وخلق غير ذميم قال المتنبي: لأذم إلى هذا الزمان أهليه صغرهم تصغير تحقير غير

تكبيل وتقليل غير تكثير فنفث مصدوراً وأظهر ضميراً مستوراً وهو سائغ في مجال الشعر وقائله غير ممنوع من النظم والنثر ولكنه وضعه غير موضعه وخاطب به غير مستحقه وما يستحق زمان ساعده بلقاء سيف الجولة أن يطلق عَلَى أهله الذم وكيف وهو القائل يخاطبه: أسير إلى أقطاع في ثيابه ... عَلَى طرفه من داره بحسامه وقد كان من حقه أن يجعلهم في خفارته إذا كانوا منسوبين إليه ومحسوبين عليه ولا يجب أن يشكو عاقلاً ناطقاً إلى غير ناطق إذ لزمات حركات الفلك إلا أن يكون ممن يعتقد أن الأفلاك تعقل وتعلم وتفهم وتدري بمواقع أفعالها بقصود واردات ويحمله هذا الاعتقاد عَلَى أن يقرب لها القرابين ويدخن الدخن فيكون مناقضاً لقوله: فتباً لدين عبيد النجو ... م ومن يدعي أنها تعقل أو أن يكون كما قال الله تعإلى في كتابه الكريم مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ويوشك أن تكون هذه صفته. حكى القطربلي وابن أبي الأزهر في تاريخ اجتمعا عَلَى تصنيفه وأهل بغداد وأهل مصر يزعمون أنه لم يصنف في معناه مثله لصغر حجمه وكبر علمه يحكيان فيه أن المتنبي أخرج ببغداد من الحبس إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير رحمه الله فقال له: أنت أحمد المتنبي فقال أنا أحمد المتنبي وكشف عن بطنه فأراه سلعة فيه وقال هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي فأمر بقلع جمكه وصفعه به خمسين وأعاده إلى محبسه ويقول لسيف الدولة: وتغضبون عَلَى من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن كذب والله لقد كان يتحرش بالمكارم ويتحكك بها ويحسد عليها أن تكون إلا منه وبه وهذا غير قادح في طلاوة شعره ورونق ديباجته ولكني أغتاظ عَلَى الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين ويرومون إدخال الشبه والشكوك عَلَى المسلمين ويستعذبون القدح في نبوة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ويتطرفون ويبتذئون إعجاباً بذلك المذهب تيه مغن وظرف زنديق. وقتل المهدي بشاراً عَلَى الزندقة ولما شهر بها وخاف دافع عن نفسه بقوله:

يا ابن نهيا رأسي عَلَى ثقيل ... واحتمال الرأسين عبءٌ ثقيل فادعوا غيري إلى عبادة ربي ... ن فإني بواحد مشغول وأحضر ثالح بن القدوس وأحضر النطع والسياف فقال علام تقتلني قال عَلَى قولك: رب سر كتمته فكأني ... أخرس أو ثنى لسان عقل ولو إني أظهرت للناس ديني ... لم يكن لي في غير حبسي أكل يا عدي الله وعدي نفسه: الستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون لخير من ستر فقال قد كنت زنديقاً وقد تبت عن الزندقة قال كيف وأنت القائل: والشيخ لا يترك عاداته ... حتى يوارى في ثرى رمسه إذا أرعوى عاد إلى غيه ... كذي الضنى عاد إلى نكسه وأخذ غفلته السياف فإذا رأسه يتدهدأ عَلَى النطع. زظهر في أيامه في بلد خلف بخارا وراء النهر رجل قصار أعور عمل له وجهاً من ذهب وخوطب برب العزة وعمل لهم قمراً فوق جبل ارتفاعه فراسخ فأنفذ المهدي إليه فأحيط به وبقلعته فحرق كل شيءٍ فيها وجمع كل من في البلد وسقاهم شراباً مسموماً فماتوا بأجمعهم وشرب فلحق بهم فعجل الله بروحه إلى النار. والصناديقي في اليمن فكانت جيوشه بالمديخرة وسفهنه وخوطب بالربوبية وكوتب بها فكانت له دار أفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلاً قال من يوثق بخبره دخلت إليها لأنظر فسمعت امرأة تقول يا بني فقال: يا أمه نريد أن نمضي أمر ولي الله فينا وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال ولا ولد من ولد فتكونون كنفس واحدة فغزاه الحسني من صنعاء فهزمه وتحصن منه في حصن هناك فأنفذ إليه الحسني طبيباً بمبضع مسموم ففصده به فقتله. والوليد بن يزيد أقام في الملك سنة وشهرين وأياماً وهو القائل: إذا مت يا أم الحنيكل فانكحي ... ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا فإن الذي حدثته من لقائنا ... أحاديث طسم تترك العقل واهيا ورمى المصحف بالنشاب وخرقه وقال: إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب خزقني الوليد

وأنفذ إلى مكة بناءاً مجوسياً ليبني له عَلَى الكعبة مشربة فمات قبل تمام ذلك فكان الحجاج يقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك يا قاتل الوليد بن يزيد لبيك وأحضر بنايجة من الذهب وفيها جوهرة جليلة القدر وصورة رجل فسجد له وقبله وقال اسجد يا علج قلت ومن هذا قال هذا ماني شأنه كان عظيماً اضمحل أمره لطول المدة فقلت لا يجوز السجود إلا لله فقال قم عنا وكان يشرب عَلَى سطح وبين يديه باطية كبيرة بلور وفيها أقداح فقال لندماءه أين القمر الليلة فقال بعضهم: في الباطية فقال: صدقت أتيت عَلَى ما في نفسي والله لأشربن الهفتجة يعني شرب سبعة أسابيع متتابعة وكان بموضع حول دمشق يقال له البحرا فقال: تلعب بالنبوة هاشمي ... بلا وحي أتاه ولا كتاب فقتل بها ورأيت رأسه في الباطية التي أراد أن يهفتج بها وأبو عيسى بن الرشيد القائل: دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر ولو كان يعديني الإمام بقدرة ... عَلَى الشهر لاستعديت دهري عَلَى الشهر عرض له في وقته صرع فمات ولم يدرك شهراً غيره والحمد لله. والجنابي قتل بمكة ألوفاً وأخذ ستة وعشرين ألف جمل خفاً وضرب آلاتهم وأثقالهم بالنار واستملك من الغلمان والنساء والصبيان من ضاق بهم الفضاء كثرة ووفوراً وأخذ حجر الملتزم وظن أنها مغناطيس القلوب وأخذ الميزاب قال: وسمعت قائلاً يقول لغلام دحسمان طوال إنها في برديه وهو فوق الكعبة يا رحمة اقلعه وأسرع يعني ميزاب الكعبة فعلمت أن أصحاب الحديث صحفوه فقالوا يقلعه غلام اسمه رحمة كما صحفوا عَلَى علي رضي الله عنه قوله تهلك البصرة بالريح فهلكت بالزنج لأنه قتل علوي البصرة في موضع بها يقال له العقيق أربعة وعشرين ألفاً عدوهم بالقصب وحرقوا جامعها وقال في خطبته يخاطب الزنج لنكم قد أعنتم بقبح منظر فاشفعوه بقبح مخبر اجعلوا كل عامر قفراً وكل بيت قبراً. قال لي بدمشق أبو الحسين اليزيدي الوزيرين عَلَى نسب جدي دخل وإياه ادعى قال. أبو عبد الله محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي: كنت بمكة وسيف الجنابي قد أخذ الحاج ورأيت رجلاً منهم قد قتل جماعة وهو يقول يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي ومن دخله كان آمناً أي أمن هنا فقلت له يا فتى العرب تؤمنني سيفك أفسر لك هذا قال: نعم قلت: فيها خمسة أجوبة الأول من دخله كان آمناً من عذابي يوم القيمة والثاني من فرض الذي فرضت عليه

والثالث خرج مخرج الخبر وهو يريد الأمر كقوله والمطلقات يتربصن بِأنفسهن والرابع لا يقام عليه الحد فيه إذا حتى في الحل والخامس من الله عليهم بقوله إنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم فقال صدقت هذه اللحية إلى التوبة؟ فقلت: نعم فخلاني وذهب. والحسين بن المنصور الحلاج من نيسابور وقيل من مرو ويدعي كل علم وكان متهوراً جسوراً يروم إقلاب الدول ويدعي فيه أصحابه الإلهية ويقول بالحلول ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفية للعامة وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه وناظره عيسى الوزير فوجده صفراً من العلوم وقال تعلمك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها كم تكتب إلى الناس تبارك ذو الغور الشعشعاني الذي يلمع بعد شعشعته ما أحوجك إلى أدب حدثني أبو علي الفارسي قال رأيت الحلاج واقفاً عَلَى حلقة أبي بكر الشبلي أنت بالله ستفسد خشبة فنفض كمه في وجهه وأنشد: يا سرسر يدق حتى ... يجل عن وصف كل حي وظاهراً باطناً تبدي ... من كل شيءٍ لكل شيء يا جملة الكل لست غيري ... فما اعتذاري إذاً إلي وهو يعتقد أن العارف بن الله بمنزلة شعاع الشمس منها بدا وإليها يعود ومنها يستمد ضوءه أنشدني الظاهر لنفسه: أرى جيل التصوف شر جيل ... فقل لهم واهون بالحلول أقال الله حين عشقتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي وحرك يوماً يده فانثر عَلَى قول مسك وحرك مرة أخرى فانتثر دراهم فقال له بعض من حضر ممن يفهم أرني دراهم معروفة أؤمن بك وخلق معي أن أعطيتني درهماً عليه اسمك واسم أبيك فقال وكيف هذا وهذا لا يصنع قال من أحضر ما ليس بحاضر صنع ما ليس بمصنوع وكان في كتبه أني مفرق قوم نوح ومهلك قوم عاد وثمود فلما شاع أمره وعرف السلطان خبره عَلَى صحته وقع بضربه ألف سوط وقطع يديه ثم أحرقه بالنار في آخر سنة تسع وثلثمائة وقال لحامد ابن العباس: أنا أهلكك فقال حامد: الآن صح أنك تدعي ما قرفت به. وابن أبي العذافر أبو جعفر محمد بن علي الشلمغان أهله من قرية من قرى واسط تعرف بشلمغان وصورته صورة الحلاج ويدعي عنه قوم أنه إله وأن الله حل في آدم ثم في

شيث ثم في واحدٍ واحد من الأنبياء والأوصياء والأئمة حتى حل في الحسن بن علي العسكري وأنه حل فيه وكان قد استغوى جماعة منهم ابن أبي عون صاحب كتاب التشبيه ومعه ضربت عنقه وكانوا يبيحونه حرمهم وأولادهم يتحكم فيهم وكان يتعاطى الكيمياء وله كتب معروفة. وكان أحمد بن يحيى الراوندي من أهل مرو الروز حسن الستر جميل المذهب ثم انسلخ عن ذلك كله بأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكثر من عقله وكان مثله كما قال الشاعر: ومن يطيق مرداً عند صبوته ... ومن يقوم لمستور إذا خلعا صنف كتاب التاج يحتج فيه لقدم العالم فنقضه أبو الحسين الخياط. الزمرد يحتج فيه لإبطال الرسالة نقضه الخياط. نعت الحكمة سفه الله تعإلى في تكليف خلقه أمره. نقضه الخياط. الدامغ يطعن فيه عَلَى نظم القرآن. القضيب يثبت أن علم الله محدث وأنه كان غير عالم حتى خلق لتنفسه علماً نقضه الخياط. الفريد في الطعن عَلَى النبي عليه الصلوة والسلام. المرجان في اختلاف أهل الإسلام. علي بن العباس بن جريج الرومي قال أبو عثمان الناجم دخلت عليه في علته التي مات فيها وعند رأسه جام فيه ماء مثلوج وخنجر مجرد ولو ضرب به صدر خرج من ظهر فقلت: ما هذا قال: الماء ابل به حلقي فقلما يموت إنسان إلا وهو عطشان والخنجر إن زاد عليَّ الألم نحرت نفسي ثم قال: أقص عليك قصتي تستدل بها عَلَى حقيقة تلفي أردت الانتقال من الكرخ إلى باب البصرة فشاورت صديقنا أبا الفضل وهو مشتق من الأفضال فقال إذا جئت القنطرة فخذ عَلَى يمينك وهو مشتق من اليمن واذهب إلى سكة النعيمة وهو مشتق من النعيم فاسكن دار ابن المعافي وهو مشتق من العافية فخالفته لتعسي ونحسي فشاورت صديقنا جعفراً وهو مشتق من الجوع والفرار فقال: إذا جئت القنطرة فخذ عَلَى شمالك وهو مشتق من الشؤم واسكن دار ابن قلابة وهي هذه لا جرم قد انقلبت بي الدنيا وأضر ما علي العصافير في هذه السدرة تصيح سيق سيق فها أنا في السياق ثم أنشدني: أبا عثمان أنت قريع قومك ... وجودك للعشيرة دون لومك

تمتع من أخيك ما أراه ... يراك ولا تراه بعد يومك وألح به البول فقلت له البول ملح بك فقال: غداً ينقطع البول ... ويأتي الوبل والعول إلا أن لقاء الله ... هو دونه الهول ومات من الغد فأرجو أن يكون هذا القول توبة له مما كان اعتقده من ذبحه لنفسه والرسول عليه الصلوة والسلام يقول من وجأ فسه بحديدة حشر يوم القيامة وحديدته بيده يجأ بها نفسه خالداً مخلداً في النار من تردى من شاهق حشر يوم القيامة يتردى عَلَى منخريه في النار خالداً مخلداً من تحسي سماً حشر يوم القيامة وسمه بيده يتحساه خالداً مخلداً في النار. قال الحسن بن رجاء الكاتب جاءني أبو تمام إلى خراسان فبلغني أنه لا يصلي فوكلت به من لازمه أياماً فلم يره صلى يوماً واحداً فعاتبته فقال: يا مولاي قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبعد الشقة ولم أره يقل علي فلو كنت أعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضر في ما تركتها فأردت قتله فخشيت أن يحمل عَلَى غير هذا. وفي تآريخ كثيرة أنه أحضر المازيار إلى المعتصم وقبل قدومه بيوم سخط عَلَى الإفشين لأن القاضي ابن أبي داود قال للمعتصم: اعزل ويطأ امرأة عربية وهو كاتب المازيار وزين له العصيان فأحضر كاتبه وتهدده المعتصم فأقرانه كتب إلى المازيار لم يكن في الأرض ولا في العصر بلية إلا أنا وأنت وبابك وقد كنت حريصاً عَلَى حقن دمه حتى كان من أمره ما كان ولم يبق غيري وغيرك وقد توجهت إليك عسكر من عساكر القوم فإن هزمته وثبت إنا بملكهم في قرار داره فظهر الدين الأبيض فأجاب المازيار جواب هو عنده سفط أحمر فجمع بين الإفشين والمازيار فاعترف المازيار بما حكي عنه وقيل لمعتصم أن وراء المازيار مالاص جليلاً فأنشد: إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب ذكروا أن اثنين قتلوا ثلاثة آلاف ألف وخمسمائة ذباح بالثياب الحمر والخناجر الطوال وأنهم وجدوا أسماؤهم في وقعة وقعة وفي بلد بلد وكانوا يأخذون من كل واحد خاتمه أو ثوبه أو منديله أو تكته أتى الوادي فطم عَلَى القرى. قد لقيت من يجادلني أن علياً رضي الله عنه وكذلك الحاكم وقد ظهر بالبصرة من يدعي أن

جعفراً بن محمد عليهما السلام وأنه متصل به وروحه فيه ومتصلة به ولو استقصيت القول في هذا الفن لطال جداً ولكن: لا بد للمصدور أن منفثاً ... وللذي في الصدر أن يبعثا بل لو قلت كل ما أعلمه أكلت زادي في محبسي بل كنت أنشد: أحمل رأساً قد مملت حمله ... إلا فتى يحمل عني ثقله وأستريح إلى أن أنشد: ليس يشفي كلوم غير كلومي ... ما به ما به وما بي ما بي إن شكوت العصر وأحكامه وذممت صروفه وأيامه شكوت من لا يشكي أبداً وذممت من لا يرضي أحداً شيمته اصطفاء اللئام والتحامل عَلَى الكرام وهمته رفع الخامل الوضيع ووضع الفاضل الرفيع إذا سمح بالحياء فأبشر بوشك الاقتضاء وإذا أعار فأسحبه قد أغار فما بين أن يقبل عليك مستبشراً ويولي عنك متجهماً مستبشراً إلا كلمح البصر واستطارة الشرر لم يخترق ذكر الوفاء مسامعه ولم يمسس ماء الحياء مدامعه ظاهره يسر ويونس باطنه يسوء ويؤنس يخيب ظن راجيه ويكذب أمل عافيه لا يسمع الشكوى ويشمت بالبلوى قد ذممت سيئاً ووقعت فيه أنا كالغريق يطلب معلقاً والأسير يندب مطلقاً وأستحسن قول علي بن العباس ابن جريج الرومي: ألا ليس شيبك بالمنتزع ... فهل أنت عن غية مرتدع وهل أنت تارك شكوى الزما ... ن إذا شئت تشكو إلى مستمع نشيت أخي الشيب أمنية ... إذا ما تناهر إليها هلع كنت في حال الحداثة أقرب الناس إليَّ وأعز عليَّ وأقربهم عندي وأجلهم في نفسي مرتبة من قال لي نسأ الله في أجلك جعل الله لك أمد الأعمار وأطولها فلما بلغت عشر الثمانين جاء الجزع والهلع فمم ارتاع والتاع وأخلد إلى الأطماع وهو الذي كنت أتمنى ويتمنى لي أهل أمن صدوف الغواني عني فأنا والله عنهن أصدف وبهن أدوائهن أعرف إذ لست ممن ينشد تحسراً عليهن: للسود في السود آثار تركن بها ... لمعاً من البيض ثنتي أعين البيض وقول آخر:

ولما رأيت النسر عز ابن داية ... وعشش في وكريه جاشت له نفسي ولا أنشد لأبي عبادة البحري: إن أيامه من البيض بيض ... ما رأين المغارق السود سودا وإذا المحل ثار ثاروا غيوثاً ... وإذا النقع قار ثاروا أسوداً بحسن الذكر عنهم والأحادي ... ث إذا حدث الحديد الحديدا بلدة تنبت المعالي فما يت ... غر الطفل فيهم أو يسودا وهذه صفة معرة النعمان أدام الله تأييده لأخلت منه ومن النعمة عليه وعنده فقد وجدت أهلها معترفين بعوارفه خلا أبي العباس أحمد بن خلق الممتع أدام الله عزه فأني وجدت آثار تفضله عليه ظاهرة ولسانه رطباً بشكره وذكره وقد ملأ السماء دعاء والأرض ثناء. قالت قريش للنبي عليه الصلوة والسلام أتباعك من هؤلاء الموالي كبلال وعمار وصهيب خير من قصي وكلاب وعبد مناف وهاشم وعبد شمس فقال نعم والله لئن كانوا قليلاً ليكثرن ولئن كانوا وضعاء ليشرفن حتى يصيروا نجوماً يهتدى بهم ويقتدى فيقال هذا قول فلان وذكر فلان فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية فلما يدهده الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين موتوا فيها فاتبعوني أجعلكم أنساباً والذي نفسي بيده لتقتسمن كنوز كسرى وقيصر فقال له عمه أبو طالب أبقِ علي وعلى نفسك فظن عليه الصلوة والسلام أنه خاذله ومسلمه فقال يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر قي شمالي عَلَى أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله وأهلك فيه ما تركته ثم استعبر باكياً ثم قام فلما ولى ناداه اقبل يا ابن أخي فأقبل فقال اذهب وقل ما شئت فو الله لا أستلمك لسوء أبداً فكان عليه الصلاة والسلام يذكر يوماً ما لقي قومه من الجهد والشدة وقال لقد مكثت أياماً وصاحبي هذا يشير إلى أبي بكر بضع عشرة ليلة ما لنا طعام إلا البرير في شعب الجبال وكان عتبة بن غزوان وإن يقول إذ ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة لقد مكثنا زماناً ما لنا طعام إلا ورق البشام أكلناه حتى تقرحت أشداقنا ولقد وجدت يوماً تمرة فجعلتها بيني وبين سعد وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير عَلَى كورة وكانوا فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه أن أسعد الرجلين من حصلت النواة في قسمه يلوكها يومه وليلته من عدم القوت وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط وابتدأ أمره أنه وقف عَلَى الصفا

ونادى يا صاباحاه فجاءوا يهرعون فقالوا: ما دهمك ما طرقك قال: بما تعرفونني قالوا محمد الأمين قال: أرأيتم أن قلت لكم أن خيلاً قد طرقتكم في الوادي وأن عسكراً قد غشيكم من الفج أكنتم تصدقوني قالوا: اللهم نعم ما جربنا عليك كذباً قط. قال: فإن الذي أنتم عليه ليس الله ولا من الله ولا يرضاه الله قولوا لا إله إلا الله وإني رسول واتبعوني تطعكم العرب وتملكون العجم وإن الله قال لي أستخرجهم كما استخرجوك وابعث جيشاً وابعث خمسة أمثاله وضمن لي أن ينصرني بقوم منكم وقال لي: قاتل بمن أطاعك من عصاك وضمن لي أن يغلب سلطاني سلطان كسرى وقيصر ثم أنه عليه الصلاة والسلام غزا تبوك في ثلاثين ألفاً وهذا من قبل الله الذي يجعل من لا شيء كل شيء ويجعل كل شيءٍ لا شيء يجمد المائعات ويميع الجامدات يجمد البحر ثم يفجر الصخر وما مثله في ذلك إلا كمثل من قال هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة أحك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المنيفة فترضها وتفضها وهذه النملة الرقيقة اللطيفة تهزم العساكر الكثير المعدة وكذا حقيقة أمره عليه الصلاة والسلام حتى لقد قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش وكان رسولهم إليه صلى الله عليه وسلم بالحديبية لقد وردت عَلَى النجاشي وكسرى وقيصر ورأيت جندهم وأتباعهم فما رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد هم حوله كأن الطير عَلَى رؤوسهم فإن أشار بأمر بادروا إليه وإن توضأ اقتسموا وضوءه وإن تنخكم دكوا بالنخامة وجوههم ولحاهم وجلودهم وكانوا له بعد موته أطوع منهم في حياته حتى لقد قال بعض أصحابه لا تسبوا أصحاب محمد فإنهم اسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف أسيافهم فتأمل كيف استنتج دعوته وهو ضعيف وحده بأن هذا سيكون فرآه العدو والولي وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال هذه الهباءة تعظم وتصير جبلاً يغطي الكعبة فدفعه عثمان بن طلحة العبدري فقال: لا تفعل يا عثمان فكأنك بمفتاحها بيدي استعين بعصمة الله وتوفيقه وأجعلهما معينتي عَلَى دفع شهواتي أشكو إليه عكوفي عَلَى الأماني وأسأله فهماً لمواعظ عبر الدنيا فقد عميت عن كلوم غيرها بما جشم عَلَى خواطري من الشعف ولست أجدر مني منصفاً لي ولا حاجزاً لرغبتي فيها عنها وأين ودائع العقول وخزائن الأفهاء يا أولي الأبصار صفحنا عن مساوئ الدنيا إغماضاً لعاجل موفق التنغيص وترمي إليه يد الزوال وتكمن له الآفات قال كثير:

كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تحشي بها العصم زلت وأقول عَلَى مذهب كثير بادنيا في كل لحظة لطرفي منك عبرة وفي كل فكرة لي منك حسرة يا مرنقة الصفا ويا ناقضة عهد الوفا ما وفق لحظة من عرج ولا سعد من أثر المقام عَلَى حسن الظن بك هيهات يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغني وفي الباطن أهل التقلل لهم نفس هذا المعنى كم من يوم لي أغر كثير الهلة قد أصحت سماؤه وامتد عليَّ ظله تمدني ساعاته بالمنى ويضحك لي عن كل ما أهوى حتى إذا اتصل بكل أسبابي وامتزج سروره بفرحي وروحي وأترابي نفست علي به الدنيا فسعت بالتشتيت إلى ألفته والنقص إلى مدته فكسفت بهجته كسوفاً وأرهقت نضرة وحشته الفراق وقطعتنا فرقاً في الآفاق بعد أن كنا كالأعضاء المؤتلفة والأغصان اللدنة المتعطفة وا حسرتي في يوم يجمع شرتي كفن ولحد. ضيعت ما لا بد منه ... بالذي لي منه بد وأنشد ابن الرومي: ألا ليس شيبك بالمنتزع ... فهل أنت عن غيه مرتدع فأقلق وابكي بكاءً غير نافع ولا ناجع ويجب أن ابكي عَلَى بكائي وأنشد: لساني يقول ولا أفعل ... وقلبي يريد ولا أعمل وأعرف رشدي ولا أهتدي ... وأعلم لكنني أجهل عرض عليَّ بعض الناس كأس خمر فامتنعت منها وقلت خلوني والمطبوخ عَلَى مذهب الشيخ الأوزاعي وقلت لهم عرض إبراهيم ابن المهدي عَلَى محمد بن حازم الخمرة فامتنع وأنشد: ابعد شيبي أصبو ... والشيب للجهل حرب سن وشيب وجهل ... أمر لعمرك صعب يا ابن إمام فألا ... أيام عودي رطب وإذ مشيبي قليل ... ومنهل الحب عذب وإذا شفاء الغواني ... مني حديث وقرب فالآن لما رأى بي ... العذال ما قد أحبوا

وآنس الرشد مني ... قوم أعاب وأصبو آليت أشرب خمراً ... ما حج لله ركب وأبلت عَلَى نفسي مخاطباً لها ومعاتباً والخطاب لغيرها والمعنى لها لقد أمهلكم حتى كأنه أهملكم أما تستحيون من طول ما لا تستحيون فكن كالوليد تقلبه يد اللطف به عَلَى فراش العطف عليه تصرف إليه المنافع بغير طلب منه لصغره وتصرف عنه المضار بغير حذر منه لعجزه أما سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام إذ يقول في دعائهم اللهم أكلأني كلأة الوليد الذي لا يدري ما يراد به ولا ما يريد إلا متعلق والإذلال أذيال دليله إلا معد معطية ورحلا ليوم رحيله يا هلاه الدلجة الدلجة أنه من يسبق إلى الماء يظمأ إنما منعتك ما تشتهي ضناً بك وغيرة عليك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا وأنت تشكوني إذا حميتك وتكره صيانتي إذا صنتك إلا لائذ بفنائنا ليعز إلا فارٌ إلينا لا فار منا يا من له بد من كل شيءٍ ارحم من لا بد له منك عَلَى كل حال يغني بشيءٍ عن شيء فلهذا قال جبريل للخليل ألك حاجة قال: أما إليك فلا الله يستحق أن يسأل وإن أغنى لأنه لا يغنى بشيءٍ عنه أطعه لتطيعه ولا تطعه ليطيعك فتفر وتمل. من ترك تدبيره لتدبيرنا أرحناه جل من لوالب القلوب والهمم بيده وعزائم الأحكام والأقسام عنده: أنسيت ذكر أحبة ... ينسون ذنبك عند ذكرك وجفوتهم ولطالما ... كانوا خلافك طوع أمرك وصبرت عند فراقهم ... ما كان عذرك عند صبرك تترك من إذا جفوته ونسيت ذكره وتعديت حده تترك من إذا جفوته ونسيت ذكره وتعديت حده وتركت نهيه وضيعت أمره وتبت إليه وعولت في تفضله عليك عليه وقلت: يا رب قال: لك لبيك وإذا سألك عبادي عني فإني قريب وإذا كان الذباب بوجهك فاتهمك وإن قطعت أنا أعضاءك تتهمني أنت الذي إذا أعطيتك ما أملت تركتني وانصرفت وإذا أنعمنا عَلَى الإنسان أعرض ونأى بجانبه يا واقفاً بالتهم كم كم أليس يقول لك ما غرك بي تقول حلمك وإلا لو أرسلت عليَّ بقة لجمعتني عليك إذا أردت أن تجمعني: أمن بعد شربك كأن النهى ... وشمك ريحان أهل التقى

عشقت فأصبحت في العاشقي ... ن أشهر من فرس أبلقا أدنياي من غمر بحر الهوى ... خذي بيدي قبل أن أغرقا أنا لك عبد فكوني كمن ... إذا سره عبده أعتقا كان ببغداد رجل كبير الرأس فيلي الأذنين اسمه فاذوه رأسه في الأزمنة الربعة مكشوف لا يتورع عن ركوب مخزية يقال له يا فاذوه ويلك تب إلى الله فيقول يا قوم لم تدخلون بيني وبين مولاي وهو الذي يقبل التوبة عن عباده فكان في بعض الشوارع يوماً ذاهباً والشارع قد اتسع أسفله وضاق أعلاه والتقت جناحان فيه فناولت جارة جارتها مهراساً انسل من يدها عَلَى رأس فاذوه فهرس رأسه وخلط كخلط الهريسة وأعجله عن التوبة وكان لنا واعظ صالح يقول لنا احذروا ميتة فاذوه. قال جبريل في حديثه خشيت أن يتم فرعون الشهادة والتوبة فأخذت قطعة من حال البحر فضربت بها وجهه يعني طينه والحال ينقسم ثمانية أقسام منها الطين فكيف يصنع من عنده أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإقامة عَلَى آخر فلا حول ولا قوة بلغني عن مولاي الشيخ أدام الله تأييده أنه قال وقد ذكرت له أعرفه جزاً هو الذي هجا أبا القاسم علي ابن الحسين المغربي فذلك منه أدام الله عزه رائع لي خوفاً أن يستشر طبعي وأن يتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر وهو بتعريف التنكير عنده لجلالة قدره ودينه ونسكه وأنا أطلعه طلعه ليعرف خفضه ورفعه وفراداه وجمعه. كنت أدرس علي أبي عبد الله بن خالويه رحمه الله واختلف إلى دار أبي الحسين المغربي ولما مات ابن خالويه سافرت إلى بغداد ونزلت عَلَى أبي علي الفارسي وكنت أختلف إلى علماء بغداد إلى أبي سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وأبي عبيد الله المزرباني وأبي حفص الكتاني صاحب أبي بكر بن مجاهد وكتبت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغت نفسي أغراضها جهدي والجهد عاذر ثم سافرت منها إلى مصر ولقيت أبا الحسن المغربي فألزمني إن لزمته لزوم الظل وكنت منه مكان المثل في كثرة الإنصاف والحنو والتجاف فقال لي سراً أنا أخاف همة أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا ورداً لا صدر عنه وإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فأكتبها وأحفظها وطالعني بها فقال لي يوماً ما نرضى بالخمول الذي نحن فيه قلت وأي خمول هنا تأخذون من مولانا خلد الله ملكه في

كل سنة ستة آلاف دينار وأبوك من شيوخ الجولة وهو معظم مكرم فقال: أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب ولا أرضى أن يجرى علينا كالولدان والنسوان فأعدت ذلك عَلَى أبيه فقال: ما أخوفني أن يخصب أبو القاسم هذه من هذه وقبض عَلَى لحيته وهامته وعلم أبو القاسم بذلك فصارت بيني وبينه وقفة. وأنفذ إلي القائد أبو عبد الله الحسين بن جوهر فشرفني بشريف خدمته فرأيت الحاكم كلما قتل رئيساً أنفذ رأسه إليه وقال: هذا عدوي وعدوك يا حسين فقلت من ير يوماً ير به والدهر لا يغتر به وعلمت أنه كذا يفعل به فاستأذنته في الحج فأذن فخرجت في سنة سبع وتسعين وحججت خمسة أعوام وعدت إلى مصر وقد قتله فجاءني أولاده سراً يرمون إلى الرجوع إليهم فقلت لهم خير مالي ولكم الهرب ولأبيكم ببغداد خمسمائة ألف دينار فاهربوا وأهرب ففعلوا وفعلت وبلغني قتلهم بدمشق وأنا بطرابلس فدخلت إلى إنطاكية وخرجت منها إلى ملطية وبها المسايسطكرية خولة بنت سعد الدولة فأقمت عندها إلى أن ورد علي كتاب أبي القسم فسرت إلى ميافارقين فكان يسر حسواً في ارتغاءٍ قال لي يوماً من الأيام: ما رأيتك قلت: أَعرضت حاجة؟ قال: لا أردت أن ألعنك قلت فالعني غائباً قال: لا في وجهك أشفى قلت: ولم قال: لمخالفتك إياي فيما تعلم. وقلت له ونحن عَلَى أنس بيني وبينه لي حرمات ثلاث البلدية وتربية أبيه لي وتربيتي وتربيتي لإخوتي قال هذا حرم مهتكة البلدية نسب بين الجدران وتربية أبي لك منة لنا عليك وتربيتي لإخوتي بالخلع والدنانير أردت أن أقول له: استرحت من حيث تعب الكرام فخشيت جنون جنونه لأنه كان جنونه مجنوناً وأصح منه مجنون وأجن منه لا يكون وقد أنشد: جنونك مجنون ولست بواحد ... طبيباً يداوي من جنون جنون بل جن جنانه ورقص شيطانه: به جنت مجنونة غير أنها ... إذا حصلت منه ألب وأعقل وقال لي ليلة أريد أن أجمع أوصاف الشمعة السبعة في بيت واحد وليس يسنح لي ما أرضاه فقلت أنا أفعل من هذه الساعة قال أنت جذيلها المحك وعذيقها المرجب فأخذت القلم من دواته وكتبت بحضرته: لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي هول ما ألقى وما أتوقع

نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع فقال كنت عملت هذا قبل هذا الوقت فقلت تمنعني سرعة الخاطر وتعطيني علم الغيب وقلت: أنت ذاكر قول أبيك لي ولك ولبتي الشاعر ولمحسن الدمشقي ونحن في الطارمه اعملوا قطعةً قطعة فمن جود جعلت جائزته كتبها فيها فقلت: بلغ السماء سمو به ... ت شيد في أعلى مكان بيت علا حتى تو ... ر في ذراه الفرقدان فأنعم به لا زلت من ... ريب الحوادث في أمان فاستجاد سرعتها وكتبها في الطارقة وخلع عَلَى وكان أبو القسم ملولا والملول ربما مل الملال وكان لا يمل أن يمل ويحقد حقد من لا تلين كبد ولا تنحل عقده وقال لي بعض الرؤساء معاتباً: أنت حقود ولم يكن حقوداً فقلت له أنت لا تعرف والله ما كان يحنى عوده ولا يرجى عوده وله رأي يزين له العقوق ويمقت إليه رعاية الحقوق بعيد من الطبع الذي هو للصد صدود وللتآلف ألوف ودود. كأنه من كبره قد ركب الفلك واستوى عَلَى ذات الحبك ولست ممن يرغب في راغب عن وصلته أو ينزع إلى نازع عن خلته فلما رأيته سارواً جارياً في قلة إنصافي عَلَى غلوائه محوت ذكره عن صفحة فؤادي واعتددت وده فيما سال به الوادي. ففي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول وأنشدت الرجل أبياتاً اعتذر بها في قطعي له: فلو كان منه الخير إذ كان شره ... عتيداً لقنا إن خيراً مع الشر ولو كان إذ لا خير ولا شر عنده ... صبرنا وقلنا لا يريش ولا يبري سبو لكنه شر ولا خير عنده ... وليس عَلَى شر إذا دام من صبر وبغضي له شهد الله حياً وميتاً أوجبه أخذه محاريب الكعبة الذهب والفضة وضربها دنانير ودراهم وسماها الكعيبة وأنهب العرب الرملة وخرب بغداد وكم دم سفك وحريم انتهك وحرة أرمل وصبي أيتم وأنا معتذر إلى الشيخ الجليل من تقريظه مع تقريظي فيه لأنه قد شاع فضله في جميع البشر وصار غرة عَلَى جبهة الشمس والقمر خلد ذلك فيه بدائع الأخبار وكتب بسواد الليل عَلَى بياض النهار وأنا في مكاتبة حضرته بمنظوم ومنثور كمن

أمد النار بالشرر وأهدى الضوء إلى القمر وحب في البحر جرعة وأعار سير الفلك سرعة إذ كان لا يحل النقص بواديه ولا يطور السهو بناديه. ولقد سمعت من رسائله عقائل لفظ أن نعتها فقد عبتها وإن وصفتها فما أنصفتها وأطربتني يشهد الله إطراب السماع وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكتبه حوله يقلب طرفه في هذا ويرجع إلى هذا فإن القلم لسان اليد وهو أحد البلاغتين لكان ذلك عجيباً صعباً شديداً ووالله لقد رأيت علماء منهم ابن خالويه إذ قرأت عليهم الكتب ولاسيما الكبار رجعوا إلى أصولهم كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغلط والعجب العجيب والنادر الغريب حفظه أدام الله تأييده لأسماء الرجال والمنثور كحفظ غيره من الأذكياء المبرزين المنظوم وهذا سهل بالقول صعب بالفعل من سمعه طمع فيه ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه. حدثني أبو علي الصقلي بدمشق قال: كنت في مجلس ابن خالويه إذ وردت عليه من سيف الدولة مسائل تتعلق باللغة فاضطرب لها ودخل خزانته وأخرج كتب اللغة وفرقها عَلَى أصحابه يفتشونها ليجيب عنها وتركته وذهبت إلى أبي الطيب اللغوي وهو جالس وقد وردت عليه تلك المسائل بعينها وبيده قلم الحمرة فأجاب به ولم يغيره قدرة عَلَى الجواب وقال أبو الطيب: قرأت عَلَى أبي عمر الفصيح وإصلاح المنطق حفظاً وقال لي أبو عمر كنت أعلق اللغة عن ثعلب عَلَى خزف وأجلس عَلَى دجلة أحفظها وأرمي بها وأنا تعبت وحفظت نصف عمري ونسيت نصفه وذاك أني درست في بغداد وخرجت عنها وأنا طري الحفظ ومضيت إلى مصر فأمرجت نفسي في الأغراض البهيمية والأغراض المؤثمية وأردت بزعمي وخديعة الطبع المليم أن أذيقها حلاوة العيش كما صبرت في طلب العلم والأدب ونسيت أن العلم غذاء النفس الشريفة وصيقل الأفهام اللطيفة وكنت أكتب خمسين ورقة في اليوم وأدرس مائتين فصرت الآن أكتب ورقة واحدة وتحكني عيناني حكاً مؤلماً وأدرس خمس أوراق وتكل ثم دفعت إلى أوقات ليس فيها من يرغب في علم ولا أدب بل في فضة وذهب فلو كنت إياساً صرت باقلاً وأضع كتاباً عن يميني وأطلبه عن شمالي وأريد مع ضعفي أن أرتاد لنفسي معاشاً يظهر غير ظهير بل كسير عقيل وصلب غير صليب إن جلست فهو كالدمل وإن مشيت فجملتي دماميل ومعي بقية نزرة يسيرة من جملة

كثيرة لو وجدت ثقة أعطيته إياها ليعود علي بما أرفه به جسمي من الحركة وقلبي من الشغل وأنا أجد من أدفعها إليه وبقي أن يردها إلي. دفع رجل إلى صديق له جارية أودعها عنده وذهب في سفره فقال بعد أيام لمن أنس به وتسكن نفسه إليه: يا أخي ذهبت أمانات الناس أودعني صديق لي جارية في حسابه أنها بكر جربتها فإذا هي ثيب. ومن ظريف الأخبار أن ابنة أختي سرقت لي ثلاثة وثمانين ديناراً فلما هددها السلطان أطال الله بقاءه ومد مدته وأدام سموه ورفعته وأخرجت إليه بعضها قالت: والله لو علمت أن الأمر يجري كذا كنت قتلته فأعجبوا من هريستي وزبوني والله لولا ضعفي وعجزي عن السفر لخرجت إليه متشرفاً بمجالسته ومحاضرته فأما مذكراته فقد يئست منها لما قد استولى علي النسيان واحتوى عَلَى قلبي من الهموم والأحزان وإلى الله الشكوى لا منه وليس يحسن أن أشكو من يرحمني إلى من لا يرحمني وليس بحكيم من شكا رحيماً إلى غير رحيم وكان أبو بكر الشبلي يقول: ليس غير الله ولا عند غير الله خير. وقال يوماً: يا جواد ثم أمسك مفكراً ورفع رأسه ثم قال: ما أوقحني أقول لك يا جواد وقد قيل في بعض عبيدك: لو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله وقد قيل في آخر: تراه إذا جئته متهللاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائله ثم قال: بلى أقول يا جواد فاق كل جواد وبجوده جاد من جاد. ودخل ابن السماك على الرشيد فقال له عظني وفي يد الرشيد كوز ماء فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين أرأيت أن أقدر الله عليك مقدراً فقال لن أمكنك من شربة إلا بنصف ملكك أكنت فاعلاً ذلك قال: نعم قال: اشرب هنأك الله فلما شرب قال: أرأيت يا أمير المؤمنين أن لو أسفت نفس هذا المقدر عليك فقال: لن أمكنك من إخراج هذا الكوز إلا بأن أستبد بملكك دونك أكنت فاعلاً ذلك قال: نعم قال: فاتق الله في ملكك لا يساوي الإبولة وكيف أشكو من قاتني وعالني نيفاً وسبعين سنة كان قميصي ذراعين فوكل بي والدين حدبين مشفقين يتناهيان في دقته ورقته وطيبه فلما صار اثني عشر ذراعاً تولاه هو وطعامي فما أجاعني قط ولا أعراني والذي هو يطعمني ويسقين خاطب ربه بالأدب فقال فإذا مرضت فهو يشفين فنسب المرض إلى

نفسه لأنها تنفر من الأعراض والأمراض وكل شيءٍ يطرأ على الإنسان لا يقدر على دفعه مثل النوم واليقظة والضحك والبكاء والغم والسرور والخصب والجدب والغنى والفقر فهو منه تقدست أسماؤه ألا ترى أنه لا يتوعد على فعله ولا يعاقب عليه وما يقدر على دفعه فهو منه مثل أن يريد الكتابة فلا يقع منه البناء ويريد البناء فلا تقع منه الكتابة ومن به الرعشة لا يقدر على إمساك يد ومن ليست به يقدر على إمساكها. كنت بتنيس وبين يدي إنسان يقرأ ويحزن: يوفدون بالنذر ويخافون ويبكي فخطر لي خاطر فقلت أنا بضد هؤلاء القوم صلوات الله عليهم أنا لا أنذر ولا أفي ولا أخاف شقاء ولا عناء ولو كنت أخاف ما أصبحت محموماً وكنته وحدثني من أثق به ولا أتهمه عن أبيه وكان زاهداً قال: كنت مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق فرأينا شاوياً قد أخرج حملاً من التنور كأنه بسرة نضجاً وإلى جانبه قد عمل حلاوى فالوذجاً فوقف ينظر إليهما وهو ساه مفكر فقلت يا مولاي: دعني آخذ من هذا ورقاقاً وخبزاً ومنزلي قريب تشرفني بأن تجعل راحتك اليوم عندي فقال: يا هذا أظننت أني قد اشتهيتهما وإنما فكري في أن الحيوان كله لا يدخل النار إلا بعد الموت ونحن ندخلها أحياء. يا رب عفوك عن ذي شيبة وجل ... كأنه من حذار النار مجنون قد كان ذمم أفعالاً مذممة ... أيام ليس له عقل ولا دين تمت الرسالة والحمد لله ذي الأفضال وصلواته على محمد وخيرة الآل ما فرغت من هذه السوداء حتى ثارت بي السوداء وأنا أعتذر من خطل فيها أو زلل فإن الخطأ مع الاعتذار والاجتهاد والتحري موضوع عن المخطئ ومن ذا الذي يؤتى الكمال فيكمل. قال عمر بن الخطاب: رحم الله امرأ اهتدى إلى عيوبي وأسأله أدام الله عزه تشريفي بالجواب عنها فإن هذه الرسالة على ما بها قد استحسنت وكتبت عني وسمعت مني وشرفتها باسمه وطرزتها بذكره والرسالة التي كتبها الزهرجي إليَّ كانت أكبر الأسباب في دخولي إلى حلب وإذا جاء جواب هذه سيرتها بحلب وغيرها إن شاء الله وبه الثقة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

الدين والدنيا

الدين والدنيا وأين يختلفان وكيف يتفقان ادخر لدنياك ادخار الراغب فيها ... وتزود من دينك زاد الراغب عنها. نسمع في الأرض اليوم صيحة تصم الآذان منشؤها اختلاف المذاهب والأديان. وهي على كثرة الصائحين فيها قد صارت أشبه شيءٍ بلغط زمرة من المغنين وقد علت أصواتهم واختلفت لهجاتهم وتباينت نغماتهم فيقف السامع الصحيح الأذن مبهوتاً من خلط هؤلاء المغنين كخلطنا بين الدنيا والدين. يريد بعض الناس أن يكون الدين كل شيء. وينظر غيرهم إلى الدين كأنه لا شيء. وبين هؤلاء وأولئك أفرادٌ وزمر يتشاحنون ويتجاذبون ويتخاذلون ويقتتلون تعصباً للدين ولكنهم في الحقيقة يسخطون رب العالمين الذي لو شاء لجعلها أمة واحدة ووحد لها السراط إلى عليين. في تعاليم كونفوشيوس المسالمة والإخاء أساس الدين. وفي الديانات الفتشية وهي أحط الأديان في نظر الراقين لما نحن فيه أن العداء بسبب اختلاف المعتقد بل كل منهم وما يعبد شرط الولاء للقبيلة وفي التوراة على لسان سليمان الحكيم من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل إلى الأرض. جامعة ص3_21 فكأن سليمان يوعز إلى قومنا بأن يفتأوا من حدتهم في احتكار طريق السماء. وفي الإنجيل في بيت أبي منازل كثيرة. وإن الذين بلا شريعة فبغير الشريعة بدانون. وإن كل عمل خيراً مقبول عنده فعلى مَ التعصب. وفي القرآن الشريف من يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. وإن الله رب العالمين ولم يقل رب النصارى ولا رب المسلمين. وفي حكم العقل أن الله تعإلى يجل عنه أن يخلق أمماً وشعوباً ليجعلها برمتها طعاماً للنار لأنها عملت بشريعة الضمير التي سنها هي لتكون شريعة عامة وتجاوزت بعض الأمور العرضية التي لم يتفق لها أن تقتنع بها لرسوخ غيرها في مكانها مما لا يضر بالإنسانية ولا يغضب رب البرية. وفي حكم الكتب المنزلة والعقل معاً أن إلهنا الرحوم الغفار. المحب الأب السماوي. لم

يخلقنا ليظهر قوته وبطشه فينا فيرسل بعض أبناءه إلى بحيرة النار المتقدة لأنهم يسيرون إليه في طريق لا نراها نحن مواصلةً إليه إما لنقص في مداركنا وإنا لأنه تعإلى لم يشأ أن يوحي إلينا بكامل إرادته في خلقه. أو يعقل أن ننسب للإله الذي هذه صفاته محبة التلهي بمنظر لحوم أبناءه وهي تشوى في نار جهنم كأنه يسر بتعذيبنا وهو الرحيم الرحمن الغفار لجميع ذنوبنا إذا آمنا به كما نحن مؤمنون؟ إذاً فالموحدون جميعاً وجهتهم الإله الواحد وإليه يسيرون. فلماذا هذه القيامة القائمة على الأرض وهذا التعصب الذميم الذي يفرق الأخ عن أخيه والابن عن أبيه. أنزلت علينا آيات بينات بكره كل من خالف معتقدنا وبإثارة حرب عوان على إخواننا في الدين من الموحدين. بل مالنا وللكفرة الملحدين والله رقيب عليهم وإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم لأنه على كل شيءٍ قدير. نعلم أن جميع الأديان توصي بمحبة الناس بعضهم لبعض وبمنع الاعتداء. وبالمسالمة. والإخاء. فضلاً عن شريعة الضمير ووصية كنفوشيوس والسيد المسيح معاً القائلة مهما تريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم. فأين حكم العقل والضمير وهذه التعاليم السامية من سير البعض منا ممن يتصافحون بالخناجر ويسلمون بالمسدسات لا لسبب سوى كون الفئة الواحدة تسير إلى خالقها في طريق موازية لما تسير فيها الأخرى: أهكذا تكون مقدمات الأمم التي تريد الرقي في عمرانها. أم نظن أن الله يرضى عن مثل هذه الأفعال التي ما أنزل بها من سلطان. بقي أن منبت التعصب ليس في الدين نفسه بل في ما أدخل عليه من التقاليد والشروحات والتفاسير المضلة التي قد سمت عقول العامة حتى صاروا ينظرون بعضهم إلى بعض نظر العدو الألد على الرغم كونهم أبناء وطن واحد تجمعهم جوامع اللغة والقومية والوطنية ووحدة المعتقد بربهم أجمعين. حقاً إن حالتنا في الشرق لما تذرف لها الدموع السخينة. لأننا تركنا الجوهر وتمسكنا بالعرض تركنا العبادة الحقيقية بالروح أو الحق وصرنا ننظر إلى الأسماء لا إلى المسميات. فمن كان اسمه محمداً أو بطرس أو هرون أو حمزة أو مارون أو نقولا صار

كأنه يحمل في عنقه علامة ليقتله كل من يجده من أخوانه في الإنسانية وأشقاءه في الوطنية. فإلى مَ يا قومنا على هذه الحالة المحزنة نخط الدين بالدنيا في معاملاتنا وصلواتنا ووظائفنا وخدمنا الوطنية وواجباتنا القومية. ألا يدري رؤساؤنا الروحيون أن كلمة منهم تتغير مبادئ العامة أكثر من مجلد يكتبه غيرهم من الناس. فلماذا لا يتكلمون ويزيلون الوحشة بل الغلطة من قلب الرعايا مع بقاء المعتقدات على أصلها مجردة عن الزيادات. هو ذا بعض المفكرين من أخواننا المسلمين في وادي النيل قد جاهروا بوجوب الإصلاح الديني ودعوا الراسخين في العلم إلى مجتمع يبحثون فيه لتنقية الدين مما طرأ على محيطه من الشوائب التفسيرية والعادات التقليدية التي لا تتفق مع جوهر الدين. فلماذا لا نحذو نحن حذوهم فنعمم نفعهم وننزع عن الدين صبغة التعصب التي شوهته بها العصور الوسطى ولا تزال عليه إلى الآن. يظهر مما تقدم أن الدين والدنيا يتفقان إذا نزعنا عن الدين ما ألصقه به المتعصبون من الزوائد الضارة وهو يزداد اختلافاً كلما زدنا تفننا في تفسير التعصب وتخرجه إغراء للسذج ببقائهم على ما هم عليه من الجهل المطبق. ديننا_لا تخف يا أخي التقي فإن لا قوة بشرية تقدر على اختطاف دينك منك ولا على زعزعة أركانه إذا كان مؤسساً كما تعتقد على الصخر. فدع الزوابع تهب وافرح بعدم اقتدارها على هزه. أما إذا كنت حذراً خائفاً على دينك فتحيطه بسور لئلا تسفيه الريح فثقتك إذاً بصاحبه قليل، ولذلك تحاول أنت أن تملأ نقص هذه الثقة. ألا تعلم أن الحق يعلو ولا يعلى عليه وأن الصحيح لا يتحول إلى فاسد باختلاطه بالأمور الدنيوية بل يطفو كالزيت فوق عكر الماء وتظهر شوائبه لأقل نظرة كما ظهرت الشوائب التي أدخلت فيه إلى الآن. كلمة إلى حضرة رؤساء الأديان_جاء في الأسفار الدينية رئيس شعبك لا تقل فيه سوء. فأنت رؤساء الشعب الروحيون ولذلك فإننا نجل مقامكم ونحترمكم ونضمن لكم حفظ الرئاسة الدينية على شرط أن تفصلوا الدين عن الدنيا لأنكم لستم رؤساء فيها ور يجوز أن

تكونوا لئلا يلتوي عليكم الأمر في سياستنا التي تحتاجون معها إلى توحيد القوى العقلية. وبعد هذا نرجوكم أن تفهموا الفلاح والصانع والتاجر والواعظ والكاتب وغيرهم أن يحترف كل منهم حرفته العالمية مجردة عن كل صبغة دينية. وإذا جاءكم طلاب الوظائف وأرباب الدعاوي واحتلموهم إلى المراكز الدنيوية وبثثتم فيهم روح الدين الصحيح القاضي باعتبار جميع الناس إخواناً في الدنيا. وإذا جاهرتم بمبدأ الإخاء من على المنابر. وإذا نزعتم من قلوب الشعب أشواك الجهل الديني_وهو التعصب الذميم. وإذا أعطيتمونا قدوة نتبعها في هذا السبيل. فإنكم إذا فعلتم جميع ذلك تخدمون الدين والإنسانية معاً وحينئذ تروننا نزيد مقامكم رفعة ونجل جميعاً رئاستكم شاكرين لأنكم بذلك تسكتون السنة المتذمرين. هذه الطريقة المثلى لفصل الدين عن الدنيا ولتعزيز المراكز الدينية العليا لأن بها يستوفي العمران نصيبه ويحافظ الدين على حقه. فمن لنا من سادتنا الروحيين بمن يبدأ بالمجاهرة بهذا التساهل وهذا التسامح فنسطرها له باكورة للإصلاح الديني في القرن العشرين. دنيانا_علينا في دنيانا واجبات كثيرة لا بد من قضائها من التعاون والتعاضد بقطع النظر عن الدين. هو ذا البلاد في حاجة إلى الشركات الوطنية وتوحيد الكلمة القومية في الدفاع عن الوطن وفي تعميره بما حسن من الحضارة الحديثة. فمن يقوم بهذه الأعمال ومتى يتم لنا النجاح إذا بقي الدين حاجزاً بين أبناء المذاهب المتفرقة. أو كيف يمكن أن ننهض معاً ونحن ينظر بعضنا إلى بعض شرراً كنظر القريب إلى الغريب المعتدي. أن نكذب على أنفسنا وعلى الله بقولنا أن الدستور قد وحد فينا المبادئ القومية وما قومنا للآن إلا المذاهب متجسمة والضغائن كامنة تكاد أن تظهر من تحت الرماد في كل ملة ومذهب. هذه هي الحقيقة وأدلتها تحيط بها إحاطة الهالة بالقمر. والحقيقة أولى أن تقال لئلا يذهب بنا الوهم إلى الاعتقاد بأننا قد صرنا كما أظهرنا في بدء حياتنا الدستورية. أجل إن فينا العدد العظيم ممن يريدون الإخاء وينادون به بألسنتهم جرائدهم وأعمالهم ولكن لا يزال في البلاد كثيرون من نصراء الدور السابق ممن يلقون الشقاق في كل ملة ويثنون الناس عن سيرهم في دنياهم متآخين.

فأعمال هؤلاء لا يكشفها سوى حملة الأقلام المناط بهم الدفاع عن الجامعة القومية. ولقد كان لجرائدنا على اختلاف نزعاتها الفضل العظيم في إمالة الخواطر وتحويل الرأي العام عن التعصب إلى الحرية والمساواة والإخاء ولا نزال نطمع من زملائنا بإعادة الكرة المرة بعد المرة على كل خالط للدين بالدنيا. وإنا لنعجب من استحكام هذا الشر في بلادنا الشرقية حيث الذكاء يتدفق من العقول في حين أننا لا نرى عند غيرنا عشر معشار ما نحن فيه من الشقاق. أسبب ذلك كون أرضنا مهبط الوحي ومحتد الصالحين؟ أنكون أول من قصد الله بنا خيراً فحولناه بجهلنا إلى شر عظيم؟ أهكذا كانت غاية محمد وموسى وعيسى عليهم السلام أجمعين أن يزرعوا في قلوبنا العداوة إلى أبد الآبدين؟ أقصد هؤلاء الداعون الناس إلى طاعة ربهم أن يعلموا الشقاق في دنياهم بواسطة الدين؟ كلا. ثم ألف كلا_إننا نحن السبب في ذلك كله لأن نفوسنا جانحة إلى الشر والله لا يغر قوماً إلى الحسنى قسراً إذا هم أبوا أن يغيروا ما بأنفسهم. لأن الإنسان حر في أفعاله ليكون لكل نفس ما أكسبت وعليها ما اكتسبت. وخلاصة ما نقول في هذا الشأن أننا قد شبعنا من العداء وقد كلت خناجرنا من الطعن ومسدساتنا من خطف الأرواح فهي تضرع إلينا بلسان حالها قائلة استبدلوني بالنظرات الأخوية والمصافحة السلمية والقبلات القلبية. ألقوني في اليم وسيروا بلا خوف ولا عداء وتضافروا في أعمالكم وتعاونوا في خدمة وطنكم. انسوا ذكري وأهملوا أمري وتسلحوا بالغيرة الوطنية والمحبة الأخوية. لقد آن الوقت للاختلاط في الخدمة والأعمال المالية والإندغام في الدفاع والسعي وراء المصلحة القومية. ولا يتم لكم ذلك إلا بترك الشقاق فتتركوني ولا يزول الشقاق إلا بفصل الدنيا عن الدين وبذلك تريحوني وتخدمون دنياكم وتكسبون رضى رب العالمين. وفي الختام إننا نبتهل إليه تعإلى لينظر إلينا بعين الرضى وينزع من قلوبنا شوك الشقاق ويلهمنا رحمة منه إلى التوفيق بن مساعينا الدنيوية مع تمسكنا بأصول الدين مجردة عن

الدخيل. وهو حسبنا ونعم الوكيل. خليل سعد.

غرف التجارة

غرف التجارة تتمة ما ورد في الجزء الماضي ذكرت قبلاً بعض ما تمتاز به الغرفة الباريزية على غيرها من الغرف الفرنسوية من الامتيازات وقد مضى عليها مائة وسبعة أعوام وهي ذات مقام سام خاص بها ولها خمس لجان علمي استشارية الأولى تبحث في المسائل الاقتصادية كما شأنها تتوغل بتحقيق مسائل الرسوم الجمركية والإدخالية (الأوكتروا) والثانية تشتغل بمسائل الوسائط النقلية والثالثة بالمسائل التجارية والصناعية والرابعة بمسائل الصادرات وتعنى الخامسة بالدروس ولها أيضاً تسع لجان إدارية تشتغل بدور البورصة ومدارس التجارية والمكتبات. . . . ولها ديوان يتولى كتابة تقاريرها الأسبوعية وقد نظمت هذه الغرفة خلال سنتي 1901 و1902 ستة وسبعين ومائة تقرير في مسائل شتى واتحدت مع عدة لجان أُلفت في النظارات وأوفدت منها أعضاء إلى المؤتمرات الأجنبية. وتنفق كل عام أربعة وخمسين ألف فرنك على الدائرة الوطنية للتجارة الخارجية وستة وستين ألفاً على مدرسة التجارة ومئة وعشرين ألفاً على مدرسة التجارة العالية وخمسة وثلاثين ألفاً على الدروس الليلية وأربعين على دور البورصة وثلاثين ألفاً على الأوضاع والأعمال المفيدة للتجارة. وتتولى غرفة التجارة الباريزية إدارة كل من مدرسة العلوم التجارية العالية التي أنشئت سنة 1881 وموازنتها 527 ألف فرنك ومدرسة التجارة العالية التي أنشئت سنة 1820 وموازنتها (510) آلاف فرنك ومدرسة التجارة التي أسست عام 1863 وموازنتها 235 ألف فرنك وتحت حماية غرفة تجارة باريز الجمعية التجارية لتعليم الألسنة الأجنبية وجمعية الترغيب في إصدار الأموال التجارية الفرنسوية وقد أسستا عام 1881. * * * ذكرنا أوضاع الغرف الفرنسوية عامة والغرفة الباريزية خاصة ونبحث الآن في أوضاع الغرف التجارية في البلاد العثمانية وإليك البيان: قضى القرار الصادر في العام 1293 بتأليف جمعيات زراعية وتجارية مؤلفة من أربعة وعشرين عضواً في القسطنطينية واثني عشر عضواً في حواضر الولايات وثمانية أعضاء

في مراكز المتصرفيات وأربعة أعضاء في مراكز الأقضية ومن الشروط الأساسية النظامية أن يكون الأعضاء الذين يتوظفون في القسم التجاري من التجار والأعضاء الذين يتوظفون في القسم الزراعي من الزراع وأن تكون الغرف مرتبطة وملحقة بعضها ببعض وأن تكون غرف الولايات تابعة لنظارة التجارة مباشرة. وكانت الغاية من كل هذا تنسيق الغرف تنسيقاً إدارياً بحيث تكون مرتبطة بالحكومة ارتباطاً موثوقاً غير أن هذا التنسيق الذي لم ينظر في وضعه إلى الوسط والأحوال لم يثمر قط الثمرة المطلوبة. وفي اليوم السادس من صفر عام 1297 أي بعد أربعة أعوام أعلن النظام الأساسي لغرفة القسطنطينية وفي العشرين من رمضان عام 1298 الموافق لليوم الثالث من آب 1298 أعلن النظام الداخلي لغرفة التجارة وأصدر في هذا التاريخ قوانين تقضي بتأسيس غرف صناعية وتجارية على حدة. وكان إعلان النظام الأساسي لغرف التجارة باسم النظام الأساسي لغرفة دار السعادة التجارية ولم تسن الحكومة نظاماً خاصاً بغرف الولايات التجارية. ولم يعلم سر نسبة هذا النظام إلى غرفة القسطنطينية على أنه لم يكن مستحيلاً درج الحكام والمواد المتعلقة بغرفة القسطنطينية التجارية في النظام العام للغرف التجارية. ولم تمنع هذه الحال تأسيس الغرف في الولايات بل أن هذه حذت حذو اسطنبول وأنشأت غرفاً قياساً على غرفة العاصمة. وقرر شورى الدولة أن تطبق غرف الملحقات وضعها وإعمالها على غرفة الآستانة وأن يراقب موظفو الملكية الغرف ويلاحظوا ما يكفل حسن إدارتها وبقائها وأنه أنيط بالولاة إنشاء الغرف في أوقاتها لإيجاد الأسباب التي تؤول إلى ترقية التجارة الأهلية وأنها (الغرف التجارية) مرتبطة بنظارة التجارة وأن لها الحق بمراجعة النظارة إذا دعت الحاجة وأبلغ كل هذا إلى محل الإيجاب واتخذ أيضاً بعض قرارات بما ستجري على غرف الولايات والأقضية من الامتيازات. ولقد تأسست غرف زراعية في بعض الجهات ولم تؤسس في أكثرها ولم يؤسس غرف صناعية مطلقاً ولذلك طلبت نظارة التجارة أن تقوم غرف التجارة بأعمال الغرف الزراعية والصناعية وواجباتها. وقرر مجلس الوكلاء قبول هذا الطلب واقترن بإرادة سنية في السابع والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1306 وعلى إثر إلغاء غرف الزراعة والعدول

عن تأسيس الغرف الصناعية دعيت الغرفة التجارية (غرف التجارة والزراعة والصناعة) ولكن من اللازم اللازب إحداث غرف زراعية على حدة لأن العنصر الحيوي في بلادنا هو ولا شك الزراعة. ويتيسر للغر فالتجارية أن تقوم بأعمال غرف الصناعات ولا بأس بتوحيدهما لأن الصناعات في بلادنا أقرب إلى العدم منها إلى الحياة. يقضي النظام الأساسي لغرف القسطنطينية التجارية أن تكون مؤلفة من أربعة وعشرين عضواً. وشروط العضوية أولاً أن يكون المنتخب (بفتح الخاء) بالغاً الثلاثين من عمره ثانياً أن يكون ممن قضوا في التجارة لا أقل من خمس سنين غير متهم بجنحة أو جناية ولا مفلس (إلا إذا استرجع اعتباره بعد الإفلاس) وأن يكون من ذوي الشرف والاستقامة. وتجري الانتخابات بالأكثرية الخفية. وعند تساوي الآراء يرجح الأكبر سناً ولا يجوز انتخاب عضوين من شركة واحدة. ولجنة الانتخاب تتألف من عشرين منتخب أول (بفتح الخاء) تنتخبهم نظارة التجارة والزراعة (الآن نظارة التجارة والنافعة) وعشرة ينتخبهم التجار فيجتمعون تحت رئاسة ناظر التجارة (في الولايات تحت رئاسة الوالي والألوية تحت رئاسة المتصرفين وفي الأقضية تحت رئاسة القائم مقامين). وأعضاء الغرفة ينتخبون من بينهم رئيساً أول ورئيساً ثانياً بالأكثرية المطلقة ويعرضون هذا الانتخاب على النظارة لتجيزه. مدة العضوية (ولقد استعمل القانون في هذا المقام لقلة وظيفة الأعضاء على أن عضوية غرفة التجارة ليست وظيفة من الوظائف) ثلاثة أعوام ولم يكن يجوز إلى تاريخ 1 كانون الثاني لعام 305 تجديد انتخاب العضو قبل مرور سنة على انقضاء عضويته السابقة ولكن المادة المعدلة في هذا التاريخ جوزت تجديد انتخاب العضو غب انقضاء المدة. ومن لا يحضر الجلسات مدة سنة أشهر يعتبر مستقيلاً وإذا توفى أحد الأعضاء أو استقال أو حكمة عليه بجناية أو جنحة تنتخب لجنة الانتخاب غيره عند حلول أول اجتماعها ويتم العضو الجديد المدة الباقية لسلفه. وإليك واجبات الغرفة التي ذكرها النظام الأساسي وهي إبلاغ المواد الآتية رأساً وتحريراً إلى نظارة الزراعة والتجارة: (1) وسائل ترقية الصناعة.

(2) ما يجب على النظارة القيام به من الإصلاح والتحوير. (3) الأمور التي من شأنها ترقية التجارة: تعارف الجمارك، والأشغال العامة (الأمور العمرانية والنافعة)، المراسي، الملاحة في الأنهر، أسلاك البرق، السكك الحديدية، فتح الطرق والشوارع، تأسيس دور البورصة، إصدار الجرائد التجارية. وفي النظام صراحة بأن الغرف مطالبة بإحداث سجلات وقيود منتظمة لكل ما له علاقة بالأعمال التجارية من أموال والمسكوكات والإسهام ومما يقضي به نص القانون إلزام الغرف بالإجابة على أسئلة النظارة مؤيدة أجوبتها بهذه السجلات والقيود موقعة عليها بختم الغرفة. ولغرفة التجارة الحق في وضع نظامها الداخلي كما هو مصرح في إحدى مواد نظامها الداخلي المترجم عن نظارة عام 1831 الفرنسوي وقد عملت بموجب هذا الحق وسنت نظامها الداخلي إلا أنها دفعته إلى الدوائر الإيجابية ثم قرنته بإدارة سنية بلا ضرورة نظامية. * * * يعبر النظام الداخلي غرفة التجارة مصدر الأخبار التي تتصل بنظارة التجارة عن التجارة والتجار ولصلة بين الحكومة والتجار في الأعمال التي تجري بينهما. والواجبات الأساسية على الغرفة هي البحث والتنقيب عن المصالح التجارية والصناعية والوسائل التي تؤول إلى ترقية الصناعة والتجارة والتذرع بها وعن العوائق التي تحول دون تقدمها وإبلاغ الحكومة ما تعثر عليه الغرف من نتائج البحث والتحقيق للغرف الحق بإجراء الأمور الآتية عدا عن الواجبات التي سبق ذكرها آنفاً والتي ذكرت في النظام الأساسي: أولاً_تدعو الغرف التجارية التجار وأصحاب المصارف (البنوك) والمعامل ليسجلوا أسماؤهم في دفاتر الغرف الخاصة والدعوة تعلن بنشرات عامة أو في الجرائد. ثانياً_تسجل سفر التجار (المسجلة أسماؤهم عندها) وقدومهم وإفلاسهم واسترجاعهم الاعتبار التجاري (بعد الإفلاس) وإذا حكم على أحدهم ظناً أو اتهاماً بجنحة أو جناية يسجل أيضاً هذا الحكم في الدفتر الخاص لهذه الوقائع.

ثالثاً_تصدق مجاناً الكفالات وأوراق الشهادات والتقارير ومقدرة الكفلاء فيما يتعلق بالأمور التجارية. رابعاً_تستجلب محال الإيجاب بواسطة نظارة التجارة أوراق إقامة الحجة البرتستو التي تنظم بحق التجار وأصحاب البنوك والمعامل لعدم تأديتهم البونويات والسندات المحررة للأمر والسفاتج الموقعة بتواقيعهم. خامساً_تستنسخ في دفتر خاص عين الصكوك والعقود التجارية والصرافية والبحرية والصناعية والعمرانية المنعقدة خارج الغرفة عند طلب الفريقين المتعاقدين. سادساً_للغرف التجارية الحق في إبداء ملاحظاتها في تجديد قانون التجارة وتصحيحه والنظامات التي لها علاقة بمحاكم التجارة وفي تأسيس غرف التجارة في الولايات ودور البورصة وتوظيف الدلالين وكبار الكامبير وسن تعرفات للدلة وقوانين لها ولغيرها من الأمور التجارية التي يجب أن يكون لها تعرفات ونظامات وفي البنوك والأعمال العمرانية. قضت المواد المؤرخة في 7 المحرم لعام 1299 أو 18 تشرين الثاني لعام 1297 المذيلة للنظام الداخلي للغرف التجارية بأن تنظم الغرف التجارية أوراق الشهادات بالكفالات التي تقدم إلى الدوائر الرسمية والمحاكم التجارية والحقوقية باسم التجار وأن ترسل إلى محل المزايدة مأموراً تنتدبه ليحضر الحجز والمزايدة للأموال وتقدير القيم من قبل الخبراء إذا كان ذلك بقرار من المحكمة. ومن جملة ما تقتضيه المواد المذكورة إلزام الدلالين والوسطاء (سماسرة التجار) بتسجيل أسماءهم في الغرفة التجارية وأن يأخذوا منها تذاكر بإجراء صناعتهم وأن لا يقبل في المزايدات والمناقصات للدوائر الأميرية إلا التجار والدلالون الذين بيدهم شهادات بأنهم مسجلون في دفاتر الغرف التجارية وأن يكون تسطير صحائف دفاتر التجار ووضع إشارة (صح) عليها من قبل الغرف_وقد أعيد بعد ذلك حق كتابة صحائف دفاتر التجار ووضع إشارة (صح) إلى محرر المقاولات كما في السابق. والمنع الذي ذكر قبل المادة الأخيرة لم يراع إلا قليلاً. * * * سبق أن أعضاء غرفة التجارة الإستنبولية أربعة وعشرون وذلك بمقتضى النظام الأساسي. وأما تأليف غرف التجارة في الولايات من اثني عشر عضواً وفي الألوية من سنة أعضاء

والأقضية من ثلاثة فهو من أحكام المقررات وأعضاء الغرف يجب أن يكونوا من تجار أحد الطبقتين: الأولى والثانية المسجلة أسماؤهم في دفتر الغرفة هم أصحاب المصارف وهؤلاء يدفعون للغرف خمس ليرات كل سنة. والصنف الثاني من التجار المسجلة أسماؤهم في الغرفة هم الذين يؤدون ثلاث ليرات سنوياً والصنف الثالث منهم يدفعون ليرتين والرابع ليرة واحدة عن بدلات الاشتراك والشركاء الذين لهم توقيع واحد يعتبرون تاجراً واحداً. والتجار يسجلون أولاً أسماؤهم في دفتر الغرفة ثم يعتبرون من أحد الأصناف الأربعة بقرار من الأعضاء ويحق للأعضاء المسجلة أسماؤهم في الصنفين الأول والثاني أن ينتخبوا أعضاء لغرفة التجارة كما أن الأعضاء الموقتين في المحاكم التجارية والخبراء والمميزين لبعض الدعاوى والأشخاص الذين يفحصون الدفاتر التجارية يجب أن يكونوا من الصنفين المذكورين. (المواد المذبلة). تجتمع أعضاء الغرف التجارية في الأسبوع وإذا اقتضت الحال يعقدون اجتماعات غير عادية بدعوة من الرئيس أو بطلب كتابي من ستة أعضاء وبعد نصب الرئيسين الأول والثاني ينتخب الأعضاء من بينهم بأكثرية الأصوات مشاورين أولاً وثانياً لسنة وأميناً عاماً للصندوق. وما عدا هذا يجوز أن يكون للغرفة أمين صندوق بكفالة وكتبة للتركية الفرنسوية وسواهم من الموظفين والمستخدمين وتجري مذاكرات الغرفة بحسب ما تقتضيه أعمالها اليومية وقبل ارفضاض الجلسات تنظم الغرفة يومية المذاكرات عن الاجتماع القادم. وعلى الرئيس إعلام الأعضاء كتابة بأيام الاجتماع. ولا تبرم القرارات إلا إذا حضر الجلسات اثنا عشر عضواً ولكن تجوز المذاكرات إذا اجتمع أقل من ذلك وتكتب الآراء والملاحظات التي يذكرها الأعضاء في أوراق الدعوة للجلسة القادمة والأعضاء الذين لا يحضرون ثانياً أن يقبلوا رأياً من هذه الآراء ويبلغوه إلى الغرفة كتابة وإما أن يحضروا الجلسة المعينة في أوراق الدعوة ويعربوا عن آرائهم الذاتية وإذا خالفوا في أجوبتهم الكتابية آراء الأعضاء ولم يحضروا أو أنهم لم يجيبوا الدعوة كتابة ولم يحضروا الجلسة بتاتاً تعرض الغرفة عن آرائهم ويبرم القرار ولو لم يبلغ الأعضاء المقدار المعين. وللغرفة حق في تعيين لجان مؤلفة من غير الأعضاء للنظر في بعض المسائل ولا يجوز

أن يتجاوز عدد أعضاء هذه اللجان الستة وتنتدب الغرفة أحد أعضائها لينضم إلى اللجنة ويقوم بوضع لائحة تتضمن نتائج البحث عن المادة المحولة إلى اللجنة. وللرئيس الحق في تأليف لجنة للبحث في المواد الجديرة بالقبول المبلغة إلى الرئيس تؤلف من ثلاثة رجال ينتخبهن الأعضاء ويقضي النظام الأساسي بأن تكون مداخيل الغرف التجارية عبارة عن بدلات الاشتراكات التي يدفعها التجار وبعض الرسوم (ولم يذكر صاحب المقالة هذه الرسوم) وما زاد على نفقات الغرفة من المداخيل يجوز إنفاقه بقرار الغرفة وإذن الحكومة معاً على إنشاء مدارس وجرائد تجارية: ولكن يرصد منه مبلغ لا يقل عن مئتي ليرة لأحوال طارئة. والغرفة مكلفة بتنظيم ميزانيتها لأخر كل سنة. وهذا تعريب نص إحدى المواد الانتهائية: (تعرض الغرفة التجارية على أنظار مراحم (؟!) الحكومة الجوائز لذوي الاختراعات الصناعية التي ينجم عنها منافع عامة. * * * إن النظامين الأساسي والداخلي لغرفة التجارة المعدلين بمقررات من شورى الدولة لاستحالة تطبيق موادهما على الولايات محتاجان إلى تعديل مهم يجب إدخاله عليهما: أولاً: إن النظام الأساسي لغرف التجارة مختصر كثيراً وخاص بالعاصمة وثانياً إن كثيراً من مواد النظام الداخلي يجب إدخالها في النظام الأساسي ولذلك يجب مزج لنظامين المذكورين ومراجعة آراء الغرف التجارية في العاصمة والولايات وتدقيق النظامات الأوربية ثم بعد ذلك يجب على نظارة التجارة سن لائحة قانونية لتعرض على مجلس الأمة في اجتماعه القادم. ولا شك أن الفوائد التي تنجم عن إنشاء الغرف التجارية على أسس حقوقية والواجبات وتنسيقها بحيث تكون ممثلة للتجار ونائبة عنهم تكون عظيمة. وبعد قبول مجلسي الأمة والأعيان اللائحة المذكورة واقترانها بإرادة سنية يجب الشروع بالعمل بها دون تأخير ومن الضروري إعطاء حق وضع النظام الداخلي للغرف نفسها بشرط أن لا يكون مناقضاً للنظام الأساسي ويجب أن تسجله الغرفة في نظارة التجارة. إن تعريف الغرف التجارية المذكور في النظام الداخلي ليس بتعريف يضمن كرامتها ولذلك

من الضروري إدخال قيد يتضمن للغرف المذكورة حق الدفاع عن المصالح التجارية وصيانتها وبذلك فقط تعلو مكانة هذه الأوضاع. ويجب تأسيس غرف تجارية في كل حاضرة من حواضر الولايات كما هي الحال في فرنسا وأن يكون تأسيسها في مراكز الألوية والأقضية غير محتم وإذا ارتأى التجار أو الحكومة تأسيسها في الألوية أو الأقضية يجب أن يكون ذلك بعد موافقة المحاكم التجارية في مراكز الولايات والألوية والأقضية أو موافقة الغرف التجارية في مراكز الولايات والألوية. يجب إعطاء الرخصة بتأسيس الغرفة من قبل الولاية وإعلام نظارة التجارة بواقعة الحال. ولا حاجة بحسب النظام الحالي لتصديق انتخاب الأعضاء من قبل الحكومة ويجب أن تبقى الحال كما هي اليوم ولا أرى أيضاً أن يتوقف انتخاب الرئيس على إجازة الولاة والمتصرفين والقيم مقامين بل يشترط على الرئيس الذي ينتخب أن يكون من الوطنيين. وللأعضاء المراسلين في بلادنا أيضاً شأن كبير ولذلك يجب أن يكون للغرفة أعضاء مراسلون من البلدة التي أسست فيها الغرفة وهي تنتخبهم ويجب أن يحضروا الجلسات ويستضاء بآرائهم في بعض المسائل كما أنه من الضروري أن يكون للغرفة أعضاء مراسلون في الولايات والبلاد الأجنبية. ويجب أيضاً توسيع حق الانتخاب وإعطاؤه لكثير من التجار والصناع الذين يؤدون رسوم التمتع وعملاً بهذا المبدأ يجب العدول عن القاعدة التي تقضي بأن يكون تعين النصف من أعضاء لجنة الانتخاب من قبل الحكومة والنصف الآخر من قبل التجار وأن يكون حق الانتخاب للعضوية مشروطاً بالأحوال الآتية. أن يكون المرشح للانتخاب مقيماً منذ مدة معينة في البلدة التي تقام فيها الغرفة مشتغلاً هذه المدة بصناعة أو تجارة (بكل ما تشتمل هاتين الكلمتين من ضروب الأعمال) ومن الذين يؤدون ضريبة التمتع ومن ذوي الأشراف والاستقامة. أما مسألة الجنسية العثمانية فقد سبق أن هذا الشرط غير مصرح به في القانون الفرنسوي ولكنه مرعي في الانتخابات وأما عندنا فلم تشترط التابعية العثمانية على الأعضاء فمنهم الأجنبي ومنهم العثماني على السواء. ويجب أن تظل الغرف على هذه الحال إلى حين ولاسيما وأن التجار الأجانب المقيمين في بلادنا منذ مدة طويلة قد درسوا شؤون بلادنا حق

الدراسة وإذا أضفنا إلى ذلك مقدرتهم العلمية وسعة إطلاعهم ووفرة بحثهم تبين لنا أنه يستفاد منهم إذا كانوا بين أعضاء غرفنا التجارية إنما يشترط على أولئك الأعضاء الأجانب إقامتهم في بلادنا مدة لا تقل عن عشر سنين مشتغلين خلالها بالتجارة. جاء في نظام غرف التجارة أن لها الحق في إنشاء مدارس وجرائد تجارية ويجب أن يكون لها الحق أيضاً بتأسيس غير ذلك من الأوضاع التجارية وأن تتعهد (إذا رغبت) القيام بالأمور العمرانية على طريق الامتياز ولكن الواجب أن تكون خاضعة للشروط التي تشترط على غيرها من أصحاب الامتيازات. ولا يمكن لغرفنا التجارية أن تقوم بالأعمال التي تؤول إلى ترقية تجارتنا ما لم تتوفر في ميزانيتها المداخيل وإلا فإن محافظة الحالة الحاضرة تقضي بأن تظل مداخيلها تكاد لا تساوي النفقات الجارية السنوية مما لا يجوز البقاء عليه أبداً. فيجب تقسيم الشركات الأنونيم على درجات معينة وإلزامها بتأدية مقادير مقررة سنوية تعين بحسب هذه الدرجات. ويجب أن تقرر درجات التجار بدر ما يدفعون من ضرائب التمتع لا بمجرد رأي الغرف وتقديرها. ومن اللازم اللازب تسجيل التجار أصحاب هذه الدرجات كافة وإلزامهم بتأدية الضرائب السنوية. * * * لم يتصل بأحد إلى هذا العهد أن الغرف التجارية قامت منذ تأسيسها بمشروع يرفع مكانة التجارة في هذه البلاد. ولقد غابت هذه الغرف حيناً من الزمن ثم عادت تظهر في مظهر الحياة ثم أفلت بعد الشروق أفولاً لا طلوع بعده أو عاد بعضها بعد طول الغروب ولم تكن أعمالها في الغالب إلا عبارة عن تسويد القرطاس أو إبداء بعض الآراء التي لم يلتفت إليها. ولم تلتفت الغرف التجارية إلى إنشاء مدارس أو صحف تجارية البتة. ولا تلقى تبعة هذا الإهمال على الغرف التجارية بل على الحكومة السابقة. ولقد سبق أن بعض الغرف التجارية طلبت مرات عديدة إصلاح الأصول الرسومية وتسهيل المصالح التجارية دون أن تتجاوز إلى طلب إنشاء أوضاع جديدة ولم تثمر هذه المراجعات قط. ولما يئس التجار من الاستفادة من الغرف التجارية تخلو عنها ولم يعودوا يؤمون أبوابها وقطعوا عنها رواتبهم السنوية ومما يدلنا على درجة ارتباط التجار بغرفهم هذه مداخيل

غرفة القسطنطينية قبل عشر سنين فإنها كانت في ذلك الحين ضعفي مداخيلها اليوم. هذه الأحوال من جهة وكون انتخاب الأعضاء لغرفة التجارة في العاصمة لم يكن كما وضعه القانون بل كان بيد نظارة النافعة تمنح العضوية من تشاء على نحو ما كانت تجري القاعدة في الإحسان بالرتب والمناصب من جهة أخرى كل هذا وذاك ليس من الأمور التي ترتاح إليها نفوس التجار أو تطمئن بسببها قلوبهم إلى للغرفة التجارية. التجار أكثر وأسرع من جماع طبقات الأمة معرفة وشعوراً بالانقلاب الكبير الذي يسري إلى شؤوننا العامة. ومع ذلك فإن حياة حرية التجارة قائمة بتوطيد دعائم الأمن ومتى اطمأن جمهور التجار إلى أن مصالحهم الأصلية مصونة يجدر بنا الاعتماد عليهم بحيث لا يغادرون مثقال ذرة من واجباتهم ومن الواجب على الغرف أن تطلب من الحكومة بجد ومضاء تحديد نظام الغرف وتعديله وأن البحث بحثاً مدققاً في ضروريات التجارة ونواقصها في المحال التي تنتسب إليها وتدفع بآرائها وملاحظاتها إلى نظارة التجارة وأن توجه همتها إلى إنشاء المدارس والصحف التجارية والدروس الليلية التي تكفل توسيع دائرة العلم بين أرباب التجارة. كل ذلك حقيق بالمفاداة ولا شك أن الأعمال المعروفة في هذا السبيل تكلل بالنجاح. ويجب أن تكون غرفة القسطنطينية التجارية نموذجاً لسائر الغرف وأن تدفن العنعنات الماضية فتجعلها نسياً منسياً: يجب أن تتقدم هذه الغرفة بفتية الأفكار وتدخل الإصلاح الحقيقي إلى مجلتها المدرسية وغير منكر أن هذه الصحيفة التجارية الوحيدة في البلاد العثمانية لا تفي بالحاجة بمقالاتها التي لا تتجاوز العمودين وفقراتها المترجمة بل يجب على غرفة القسطنطينية أن تتخذ مجلة غرفة التجارة الفرنسوية مثالاً وتنحو نحوها فتنشئ على منوالها صحيفة تجارية جامعة لأخبار التجارة الداخلية والخارجية الجدية المفيدة والموضوعات الأساسية فإذا لم تقم غرفة القسطنطينية بهذه الأعمال ولم تأت بالآثار الدالة على رقي صحيح لا تنال مكانة أرفع من مكانتها في دورها السابق. أما التجار المسجلة أسماؤهم في دفتر غرفة القسطنطينية فهم (47) من الصنف الأول و (107) من الثاني و (240) من الثالث و (50) من الرابع وقد يوجد بين تجار الصنفين الثالث والرابع من يجب أن ينتظموا بين تجار الصنفين الأول والثاني وبين التجار الذين لم

يسجلوا أسماءهم في الغرفة كثير يجدر بهم الانتظام في إحدى الدرجات الأربع. والأمل وطيد بترقي مداخيل الغرفة ولو بقيت على أصول تصنيف درجات التجار على حالتها الحاضرة. وتبلغ مداخيل غرفة القسطنطينية وحدها (ما عدا مداخيل جريدتها ونفقاتها) 175. 326 قرشاً صحيحاً تنفق في مقابلة ذلك 43532 قرشاً على رواتب موظفيها و21739 قرشاً على النفقات المتفرقة و216000 على أجور داره ونحوه. فالنفقات الإدارية وحدها تتجاوز دخل الغرفة ولا ينفق على المشاريع النافعة من مداخيلها بارة واحدة وما حالة غرف التجارة في الولايات بأشفى للصدور وأوفى للأماني من غرفة القسطنطينية ولقد رغبت أن أعرف عدد غرف التجارة في الولايات والألوية والأقضية من القيود الرسمية فماذا رأيت؟. . رأيتني أمام كمية تستحق العجب: في بلادنا مئة وخمسون غرفة تجارية على أن عامة غرف التجارة في فرنسا لا تتجاوز المئة والعشرين. وبما أنني أعتبر الغالب من هذه الغرفة المقيدة في الدفاتر حبراً على ورق ولا أصدق أن الفهرس الذي أنقل منه متقارناً للصحة. وللأجانب في بعض المراكز التجارية العثمانية غرف تجارية ففي القسطنطينية غرف تجارية إنكليزية وإفرنسية وطليانية ونمسوية وألمانية ويونانية ولكل واحدة منها نظام داخلي وللغرفتين الإنكليزية والفرنسوية مجلتان بلسان قومهما. اسست غرفة التجارة الإنكليزية في سنة 1887 ولها رئيس وثمان أعضاء وعضوان خارجيان وعضوا شرف وكاتب وأمين صندوق وأربعة كتبة شرف في سلانيك وأزمير ومنشستر ولندن ولهذه الغرفة مراسلون في سلانيك وأزمير ومنشستر ولندن والولايات العثمانية. ولها مجلة يبلغ حجمها ستاً وثلاثين صفحة كبرى جامعة لمقالات في التجارة الإنكليزية العثمانية والأخبار والإحصاء. وفي أزمير أيضاً غرفة تجارية إنكليزية. ويشترط في عضوية الغرف التجارية الإنكليزية الاشتغال بالتجارة أو بالصناعة أو الشؤون المالية ويشترط على العضو أن يكون إنكليزياً أو من وكلاء المعامل الإنكليزية في البلاد

العثمانية. ورئيس الشرف لغرفة التجارة الفرنسوية هو قنصل فرنسا لعام ولها لجنة إدارية مؤلفة من تسع أشخاص في جناق قلعة ولجنة أخرى مؤلفة من تسعة عشر شخصاً في بورصة ولها مراسلون في سبعين بلداً داخل البلاد وفي الخارج لها من يخابرها في روسيا وفارس ورومانيا والصرب واليونان. وتصدر هذه الغرفة شهرياً مجلة في سبعين أو ثمانين صفحة منذ اثنين وعشرين حجة بلا انفصال. وتدعى هذه المجلة مجلة الشرق التجارية. وهيب جامعة للأخبار والمقالات المفيدة للغاية وإني أتمنى أن تعلو مكانة غرفتنا التجارية إلى منزلة غرفتي التجارة الفرنسوية والإنكليزية وأن تتقدم جريدتها تقدم الجرائد اليومية. ما بين النهرين: تعريب ز. خ.

آلاسكا واللاسكاويون

آلاسكا واللاسكاويون آلاسكا جزيرة تنيف مساحتها على مساحة فرنسا ثلاثة مرات أصبحت الآن معتركاً حيوياً جديداً لبني البشر إلا أن وعورة المسالك واختلاف الهواء بها ترك أربعة أخماس من أرضها في عداد المجاهل. وقد كانت هذه البلاد الواقعة في أقصى الغرب الشمالي من أميركا الشمالية والمنفصلة عن قارة آسيا بخليج بهرنغ مستعمرة للدولة الروسية فباعتها من حكومة أميركا. إن البحث لم يهتد إلى شيءٍ مهم فيما يتعلق بالسكان الأصليين من وجهة علم الأنساب بل ظل أكثره إن لم نقل كله ناقصاً مبهماً. فالشعوب النازلة سواحل البحر قد تمكن بعض المرسلين من درس أحوالها أما المتوغلة في الداخل فاكتفى العلم بأخذ روايات من ارتادوها من الذين ضربوا في عرضها للتنقيب عن معادن الذهب أو لصيد بعض الحيوانات التي ينتفع من جلودها للفراء الثمينة. وكلا الفريقان مما لا يعول على قولهما ولا يرجى أن يفيا البحث العلمي حقه أو بعض حقه. ويستدل من آخر إحصاء لسكان هاتيك البلاد الذي جرى سنة 1900 للميلاد أن عددهم (29536) نسمة يدخل فيهم الأسكيمو ولكن ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه لأسباب جمة أهمها أن أغلب تلك الشعوب من الرحل ولم يتيسر الوصول إلى بعضها لوعورة المسالك كما ذكر. أضف إلى ذلك ما دفعته إليهم المدنية الأوربية من آفاتها كالجدري والسل والزهري وداء السكر بعد اكتشاف مناجم كلوندبك الذهبية فإن هذه الأمراض الفتاكة فعلت وما زالت تفعل في الأهلين ما لا يفعله الأسل حتى أن كثيراً من القرى خوت على عروشها وأصبحت قاعاً صفصفاً قب انتشار داء الجدري انتشاراً مريعاً من وراء الغابة. ولهذا يتراءى لي أن عدد السكان تنازل إلى الخمسة والعشرين ألفاً وهم يقسمون إلى فريقين فالأول يضم إليه شعوب شيلكا وياكوتا وهايداج وأباعوت وأوك الذين يتفقون في الجنس والنسل. والثاني شعب واحد يدعى دنا ويختلف عن الأول باعتبار علم أصل الشعوب وسلائلهم وهو ينزل البلاد الواسعة التي تمتد من خليج الهودسون إلى قلب ألاسكا على أن هذا التقسيم المبني على علم ناقص لا يلتفت إليه ولا يعمل به إلى أن يقوم علماء الإنسان بالتتبع العلمية والبحث الكافي ويتفقوا على ذلك شأنهم في سكان أميركا الأصليين. والذي يزيد المستطلع إشكالاً في أمرهم مشاكلتهم بعضهم بعضاً حتى أنك لتخالطهم من

عنصر واحد لاتفاق أزيائهم وأخلاقهم ومهما كان النقابة دقيق الفكر بعيد النزر لا يتمكن من النقد الصحيح والتمييز المصيب فلنحسبهم الآن قوماً واحداً وندرس أحوالهم الاجتماعية. يجد القائلون بأن سكان أميركا الصليين من المغوليين الذين هبطوا أميركا عن طريق خليج بهرنغ وصخور الأووسيك من الوثائق ما يقوي حجتهم وبرهانهم. لا جرم أن جولف استرايت الذي وصل إلى سواحل ألاسكا بعد اجتيازه جزر اليابان هو الذي نفخ في الساحلين من شرقي آسيا روح الجرأة والإقدام على ارتياد هذه البلاد حتى أصبح أمر إحدى السفن الشراعية اليابانية التي جرفها التيار الحار سنة 1833 ميلادية ودفعها إلى ساحل ألاسكا مشهوراً لأن البرابرة وفي الأصل اليام يام جعلوا منها مائدة كانت عيداً لأولهم وآخرهم. أما الآن فقد وضع الحق وظهر ما كان باطناً من أن ألاسكا كانت مأهولة بالسكان في أزمنة ما قبل التاريخ كسائر أخوانها من البلاد الأفريقية ويثبت هذه الحجة ما تراه الآن في عادات الأسكاويين وأخلاقهم وطبائعهم ولغتهم فإن كل هذه لم تكن عليها مسحة تدل على أنها آسيوية. ونحن نتوخى في عجالتنا هذه البحث عن حالتهم الأصلية قبل أن يمازجها ما اكتسبوه من الاحتكاك بالأوربيين فنقول أن هؤلاء قد اجتازوا دور التكامل البدائي للبشر وتباعدوا ما أمكن عن الهمجية حتى صاروا أقرب إلى البداوة منهم إلى التوحش قبل أن تطأها أقدام المكتشفين الروس. وترى لهم في البلاد الساحلية الآن البيوت الواسعة القوراء وبعض المصايف والقصور التي أقيمت على منوال الأوربيين وبالإجمال فهم أرقى علماً وأوسع مدارك من شعوب البوروج الذين ما زالوا يلبسون جلود البهائم. والغريب في أمر هاته البيوت الفطرية أنها على اتساعها وقد يختلف طولها بين المائتي متر وعرضها بين الخمسة عشر والعشرين متراص تكفي لإيواء عائلات كثيرة معاً ومع هذا لا ترى فيها نافذة خلا بعض الثقوب في سقوفها لانبعاث الدخان المتصاعد من المواقد واجتذاب نور الشمس إلى الداخل ولم يكن فيها ما يصلح في الخارج سوى بعض الأبواب كما أن سطوحها لم تكن مائلة من طرفيها كما هو الحال في غير بنايات بل لها ميل قليل

يكفي لتسليط مياه المطر على الخارج وتنفع هذه السطوح خطباء القوم فيرتقونها ويتخذونها منبراً عند الحاجة. وتنبنى هذه اليبيوت من عيدان الحطب التي لم تصقل ويقتطعونها بمقاطع خشبية لأن الحديد الذي فيه البأس الشديد والمنافع الجمة للناس لم يعرفوا به بعد. ويعتاضون عن الحديد بقرون نوع من الحيوان يسمى عندهم وايثي أو بقواطع من شجر البابل وفي الشتاء حيث يهجم الثلج بخيله ورجله يضيفون إلى البنايات الداخلية طبقة من رفيع القصب وبمثل ذلك أيضاً يفرقون البيت أيضاً عن أخيه فيكون دساً بين العائلات التي تأوي إليه. أما أثاث هذا البيت البدائي فهو موافق له كل الموافقة فلا تجد فيه من الرياش ما يضيق معه الرحب بل هو في منتهى البساطة وهناك مقاعد خشبية تحت الفراش أو هي أسرة النوم على طول جدار البيت والفراش هو من السل قش الحصر وقد زيد في نشجه عند موضع الرأس حتى أشبه بالوسادة كما أن غطاءهم أو لحافهم من جلود الغزلان المدبوغة أو نوع من الكلاب المجعدة الشعر وقد أوشك نسلها بالانقراض بينهم. لهؤلاء البائسين الذين يطلق عليهم اسم همج بعض صناعات لو أنصف المطلعون عليها لقالوا بكبر عقولهم ورقة شعورهم وقد ترى بعض الصناديق من صنعهم على حين لا يعرفون المسمار ولا رأوا آلات النجارة. والحدادة غاية في الضبط وآية في الدقة وطول هذه الصناديق متر وعرضها ستون أو سبعون سنتيمتراً وعمقها سبعون أو ثمانون سنتيمتراً. وصف أحد المراسلين صناعتهم هذه بقوله أنهم يأتون بخشبة من شجر الأرز ويشقونها على أربعة وجوه ثم يصقلونها ما أمكن ويلفونها جيداً فيتكون منها زوايا الصندوق الثلاث ثم يخيطون طرفا الخشبة الداخليين بخيطان قوية من جلود الوعل يدخلونها بالمسلة الإبرة المصنوعة من قرون نوع آخر من الوعل فتحصل معهم الزاوية الرابعة أما أسفله فإنهم يجعلونه من قطعة واحدة من الخشب وله حافة تتصل أطرافها بالزوايا الأربع فيخاط كذلك بدقة غريبة حتى أنك لا تجد فيه عوجاً ولا أمتاً. ويكون غطاء الصندوق من قطعة واحدة أيضاً يمدونها على شقوق الزوايا المتناظرة فيتم الصندوق الذي يعد من بدائع الإبداع. وبعد

أن يحفروا على الغطاء شارة العائلة أو الفريق ويدهنونه بلون مناسب يضعون فيه الملابس القيمة والفراء الثمينة التي تلبس في الأعياد والمناسبات. ويبلغ الشتاء أشده ويقرص البرد في بعض بلادهم فيتقون بأسهما بحفر مستديرة يفتحونها في بطن الأرض على سعة متر أو مترين كبيوت الأسكيمو وهنالك يختبئ العشرون أو الثلاثون منهم مجتمعين فيحصل الدفء بينهم. وتعلو هذه الحفر أكواخ حقيرة ليس لها من النوافذ إلا واحدة في رأسها هي للجيئة والذهاب والهواء والنور أما سبيلهم إلى هذه الأنفاق فهو عمود من خشب نقروه حتى نتأت منه أرجل أشبه بالسلم. وقد اتفق الأسكاويون على عادة غريبة جرى عليها أغلب الأقوام الفطريين وبينهم هنود أميركا الوسطى والجنوبية وهي عزل البنات اللواتي يبلغن أشدهن والنساء اللائي في المحيض في أكواخ خاصة بهن حتى يطهرن ولو جردنا صناعة السلال الدقيقة التي يصنعونها من رفيع القصب نجد كل صناعاتهم ساذجة للغاية. نعم إنهم يحيكون بعض الأقمشة المتينة من خيوط خاصة يستخرجونها من ألياف شجر الأرز ويخلطونها بأصواف وعول صيغين وكندا وأصواف الكلاب التي مر ذكرها فيتكون عندهم منها نسيج متين يفي بحاجتهم إلا أن ذلك مما لا يعد صناعة نافعة. وهذه الكلاب هي من الحيوانات الداجنة التي يمكن أن يقال عنها أنها وحيدة هذا القوم فهم ينتفعون من جلودها وأصوافها وتفيدهم في صيدهم وجر عجلاتهم على الجليد ولكنها ويا للأسف قد أوشكت تنقرض كما ذكرنا وقل نسلها قلة يخشى من ورائها. وللسلال التي أشرنا إليها شهرة واسع عند أهل الإخصاء في جميع شتات الآثار ورائع الصنائع وهي أهل لأن تكون كذلك لأن عملها جميل متقن وعلى الرغم من أنها لم تطل بطبقة صمغية فقد تجدهم يستخدمونها في امتياح المياه من الآبار ونقلها ولا يرشح الماء من هذا السجل الدلو أو السلة أبداً. والأغرب من هذا أن النبات الذي يستعمل في صنع هذه السلال يختلف باختلاف الشعوب إلا أن أرقها وأدقها ما كان من ألياف شجر الأرز ويوجد من هذه السلال ما أربى عمره على خمسين عاماً تتداولها الأيدي صباح مساء أما صانعوها فإنهم من النساء على الأعم.

وللنساء ولع خاص بالزينة والتبرج فيذهبن مذهب الماديين حتى أن المقارنة النسلية بينهن على هذه الوتيرة. وتلقى ذلك ظاهراًَ كل الظهور في بعض الشعوب فترى الأب لا يهمين على ابنه أوسبطه إلا حين تزوجه من امرأة بينا يكون للشاب الخيار بقبول الابنة التي انتخبها له والده أو رفضها. أما ما يتعلق بوجود القرابة بين المرأة وزوجها فلم يكن لها من قاعدة مألوفة أو خطة مرسومة بل ترك ذلك لاجتهاد كل فريق منهم. فقد ترى لدجى بعضهم جوازاً بزواج أبناء العم بينا تلقى زواج فتى وفتاة خاضعين لزعيم واحد من المحظورات عند آخرين فالأولين لم تمنعهم لحمة النسب من الزواج والآخرين منعتهم صلة التبعية فقط. وتجد الزواج عند بعضهم كأنه اتفاق وقتي أو هو أقرب إلى الاستمتاع منه إلى الزواج والأنكى من كل ذلك أن شرعتهم قد تركت جبل الرجال على غواربهم وأحلت لهم افتراس أية امرأة في حيهم. نعم إنهم اشترطوا في ذلك أن يتبارز الشاب الطالب مع زوج المرأة المطلوبة برزاً لا يتخلله سفك دم لأن لا سلاح لديهم فإذا ما غلب الأول الثاني على أمره وطرحه أرضاً جاز له التصريف الملق في امرأته. ولكن ماذا يفيد هذا الشرط وهل يغني عن الحق شيئاً ما دامت الغلبة للقوة؟ وإذا كانو الزوج الأول ممن يعتقدون قوة خصمه ويستنكف عن مبارزته فيحق حينئذ لذلك الخصم أن يذهب إلى بيت الأول ويدعو امرأته إلى اللحاق به وهنالك لا يسع صاحبتنا إلا الجري وراء زوجها الجديد البطل والدخول في داره وحرمه ويظل الأول منزوياً في إحدى زوايا بيته ينظر إلى هذه العادة الغريبة شرراً وقد اعتراه اليأس وأشبه الهرة التي كسرت إناء الحليب. ويقيم الزوجان على أن يملك كل منهما ماله من أثاث البيت ورياشه إن كان هناك ما يقال له أثاث ورياش ولا يجوز لهما أن يشتركا في كل شيءٍ من أنواع القنيات ومتى توفى الزوج الرجل يسترد ذوو قرباه ما كان له في الدار من مال ومتاع أما إذا سبقت المرأة زوجها إلى الموت فلا يكتفي أهلها بأخذ ما لها في البيت فقط بل هم يضطرون الزوج إلى إعطاء هدية ذات قيمة لتكون عزاءً وسلواناً لهم على فقد ابنتهم. ومتى فاجأ الحامل المخاض يدخلها بعض النسوة العجائز الحاضرات غرفة خاصة وبعد

ولادتها يغسلن الطفل بالماء الفاتر ويرششن على جسمه مسحوق شجر الأرز ثم يضعونه في سلة على شكل سرر الأطفال ويعلقونها في دعامة البيت الخشبية أو غصن من أغصان الشجر وهذه السلال أو السرر مصنوعة بحيث يتسنى للأم أن تحملها على ظهرها أثناء مشيها. ويخرج الطفل من سريره مرتين في اليوم على الأكثر لأخذ إفرازاته وتبقى هذه السلة عشاً له إلى أن يدرك حد الفطام والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ومتى أتممنها يدرج الطفل من عشه أو سجنه وتذهب الأم في ذلك السرير إلى جهة نائية من الحرج فتعلقه في إحدى الأغصان تقدمه إلى الملك الموكل بحفظ ذلك الوليد طول حياته. وهنالك بدعة سيئة يجري عليها بعض الشعوب في أطفالهم. فهم يلفعون رؤوسهم عقب اليوم الثالث من ولادتهم بعمامة من قشور الشجر وهذه العادة القبيحة التي تغير من شكل عظم الرأس وتهصره وتشوه الخلقة هي في عرفهم علامة خاصة بالنبلاء. ثم يتلو ذلك التلفيع يوم خاص يجتمع فيه لفيف الأسرة أو يقيمون حفلة حافلة بتسمية اسم الوليد وبعدها تبدأ دروس التربية الجسمانية وبعد انقضاء السنة الرابعة عن ولادة الصبيان يجهزون عليهم بالضرب بعضي رفيعة صباح كل يوم صيفاً كان أو شتاءً ربيعاً كان أو خريفاً ليزيدوا حسن جلودهم على زعمهم وفوق ذلك فهم يرغمونهم على الاغتسال بالماء البارد في الأنهار الجارية. ومتى بلغوا العاشرة من حياتهم يدفعونهم من أكواخهم إلى الخارج حفاة عراة ليقضوا ليليهم نياماً يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء أو أنهم يمضونه وأيديهم قيد ماء الجليد على ضفاف البحيرات ولا يجوز لهم رفعها إلا بعد أن تشرق الشمس عليهم فتحل عقال هؤلاء المحكوم عليهم بظلم العقول السخيفة. وعندما يأزف زمان تكاثر الأسماك في الماء وتطفو عليها طبقات من السمك المنتن يبعثون بأولادهم تحت جنح الليل ليستنشقوا تلك الروائح الكريهة ويعتادوها ويمارسوا الفروسية تحت رعاية ملك الحفظ. أما من حيث المعتقد فهم بعيدون جداً عن الاعتراف بإله قادر قائلون بتعدد الأرواح التي ملأت السهل والجبل وعلى رأيهم أن لكل منهم عملاً خاصاً به حتى أن العجماوات والشجر

وآلات الصيد وكل ما يقع عليه نظرهم في هذا الكائن الهائل من جماد ونبات وحيوان له ملك موكل به ولذلك تراهم أبداً مشتغلين بالمراسم والعبادات ليرضوا هذه الآلهة الكثيرة وينعموا بالاً في هذه الحياة الدنيا. مثال ذلك أن أفراد الشعوب التي تقتات من الصيد لا يتيسر لها أكل لحم الوعل الذي يصيدونه بهناء بل أنهم يحتفظون بالدماء والأمعاء لئلا تقع تحت يد وحش ضار فيأكلها وذلك لاعتقادهم أن الملك الموكل بذلك يطلع بقية الوعول على جلية الأمر ويريهم النقص الذي حصل من الصائدين في سبيل احترام رفيقهم فلا يعودون يجودون بأنفسهم ليصطادوا بل يلجئون إلى الجبال التي تناطح السحاب ويشكل على الملقين في العناية بهم أمر الصيد. ثم أنهم عندما يأتون بصيد الوعل إلى بيوتهم لا يجوزون به الأبواب التي وطئتها أقدام النساء وفي عرفهم أن ظباء النساء وظباء الوعل أعداء متشاكسون. وعندما يزمع أحدهم صيد الدب الأبيض يطلب إلى روح ذلك الحيوان أن تتمثل أمامه كحيوان مستسلم ولا تمسه بسوءٍ فإن ساعده ووفق إلى صيده يدهن وجهه على وجه الإنسان بألوان مختلفة علامة شكره على نجاحه ويبدأ بتلاوة قصيدة رثاءٍ يمدح فيها خلال الفقيد العزيز وسجاياه الغرّ (!). ومن غريب عاداتهم في مباشرة طعام لحم الدب أنهم يبدؤون برأسه على أن يكون وجوه حاضري الوليمة مصبوغاً بالألوان وأن يعلق على رأس الدب في أعلى غصن من شجرة باسقة بحيث يراه أبناء جلدته عزيز الجانب رفيع الجناب في الحياة وبعد الممات. يقولون وبعد هذا لا يأنف الحيوان مقابلة الصيادين والتعرض لأسنة حرابهم وأخشابهم. ولا يقتصر هذا الاحترام على نوع الدب فقط بل يكاد يكون عاماً في جميع الحيوانات. وعندما يتجاذب الأهلون حديث الصيد ويخصون بالذكر الحيوان الذي يبغون قتله أو صيده بالفخاخ يمازج حديثهم أخشنة والأدب فيخفتون من أصواتهم لئلا يقرع مسامع الأرواح الموكلة بتلك الحيوانات كما أنه يكون منسجماً متناسقاً كقولهم: رفاقنا. لعل أولياء نعمتنا يتكرمون علينا برؤية أحدهم فيكون نصيباً منهم وعلاً أو غزالاً أو دباً إلى غير ذلك. ولو اكتفوا بهذه التعاليم والتقاليد فقط لكان لهم فيه بعض العذر ولكنهم شملوا به الفاكهة أيضاً فحالما يبادرون بجنسي الثمار يكون لديهم راهب أو ساحر يتلو عليهم جهاراً دعاءً

يليق بالمقام ويرضى به الملائكة الموكلة لتتم البركة ويحصل الخير. وبينا الراهب يتلو الأدعية والإذكار يقف زعماء الشعب وفي أيديهم العصي يراقبون أعمال الشبان حتى إذا ما رأوا أحداً فتح عينيه قبل ختام الدعاء أوسعوه ضرباً ولكماً. على أن كل ما ذكر لا يعادل الحفلات التي يقيمونها عند حلول موسم صيد نوع من السمك فعندما تقع سمكة في يد الصياد في أول الموسم يرفعها على ساعدين لأنه محظور عليه أن تمسها يده فيأتي بكل وقار إلى رئيس الرهبان الذي يتقبلها منه بقبول حسن ويرفعها إلى مكان خص بها وهيئ لها من غصون الصنوبر. ثم يقترح على شيخ جليل من الحضور تكون له الوجاهة والرجاحة في قومه أن يصف حول السمكة العصي التي تشير كل منها إلى أسرة من البيوت الكريمة بحسب درجاتها ثم يتناول الرئيس الراهب العصي واحدة بعد واحدة ويمس بها مسيح السمكة الأمامي الذي يعتدونه بيدها اليمنى ويخاطبها بقوله: لي الشرف أن أقدم لكريم مقامك الأسرة الفلانية التي حضرت إلى رحابك الواسع وأطلب إليك أن تسمحي لها بأن تكون موطئ قدمك إلى غير ذلك من ضروب الإطراء وصنوف المديح. وبعد إتمام هذه المراسم يضع السمكة في قدر جديد ويسلقونها على النار بين النشيد والترتيل ثم توزع بين زعماء القوم وتليها الأسماك التي تشرفت بالعيد بعدها وتطبخ هذه أيضاً ثم تعطى إلى من لم يكن حرم عليه أكل السمك شرعاً. لرؤساء الدين عند هذه الطوائف شأن كبير لأنهم يعتقدون فيهم أنهم وسطاء بينهم وبين الملائكة أو الرواح الموكلة وتنتقل الرهبنة من الآباء إلى الأبناء وتتعاطى هؤلاء الرهبان بعض مواد تخدر الجسم في حين يعنون كل العناية بالاعتكاف والانقطاع عن الناس فيكون فيهم من وراء ذلك شيءٌ من الجمود والسكينة. ومما يدعو إلى الانتباه الأنصاب القائمة في مداخل البلدان وقبالة البيوت وقد زعم المكتشفون من الروس أنها تماثيل تعبد والحقيقة أن هذه شارات خاصة لكل أسرة منها شارة فمنها ما يكون كالطير ومنها ما يكون كالسمك وأشباههما من الحيوان على أن هذه تخدم في تفريق البيوت بعضها عن بعض لأنها كلها مبنية على نسق واحد لا يمكن التمييز بينها إلا بمييزات خاصة وهذه التماثيل تفي بالغرض المطلوب. ولهم نوع من السحرة

يطبون المرضى ولكتن بإخراج الأرواح الشريرة منهم لا بالعلاج النافع الذي لا يعرفونه. ثم هم يدعون أن كل أسرة منهم من نسل أحد الأرواح الموكلة ويعتقدون أن لهم صلة بالسماء كالصينيين أبناءِ ماءِ السماءِ ولله في خلقه شؤون. حيفا. عبد الله مخلص.

قانون الجمعيات

قانون الجمعيات الفصل الأول المادة الأولى_الجمعية هي الهيئة المؤلفة من أشخاص عديدين غايتهم توحيد معارفهم أو مساعيهم دون أن يقصدوا اقتسام الربح. المادة الثانية_لا تضطر الجمعية إلى نيل الرخصة قبل تأليفها إلا أنها يقضى عليها عقيب تأسيسها إخبار الحكومة طبقاً للمادة السادسة. المادة الثالثة_لا يجوز تأليف الجمعية المستندة على أساس غير مشروع مغاير لأحكام القوانين والآداب العامة أو مخل بالأمن في المملكة وتمام ملكية الدولة وتغيير شكل الحكومة الحاضرة والتفريق سياسة بين العناصر العثمانية المختلفة. المادة الرابعة_محظور تأليف جمعيات سياسية أساسها وعنوانها القومية والجنسية. المادة الخامسة_يشترط في أعضاء الجمعيات أن لا تكون سنهم أقل من عشرين غير محكوم عليهم بجناية أو محرومين من الحقوق المدنية. المادة السادسة_ممنوع كل المنع تأليف الجمعيات السرية. فإذا أنشئت جمعية تقدم بياناً في الأستانة لنظارة الداخلية وفي الولايات لأكبر موظف ملكي يوقع عليه مؤسسو الجمعية ويختمونه فيبينون فيه عنوان الجمعية ومقصها ومركز إدارتها وأسماء المكلفين بإدارتها وصفتهم وملح إقامتهم. ويعطى علم خبر مقابل هذا البيان. ويربط بالبيان المذكور نسختان على نظام الجمعية الأساسية المصدق عليهما بطابع (ختم) الجمعية الرسمي. وبعد أخذ العلم والخبر يعلن المؤسسين الكيفية على أن الجمعيات مضطرة أن تخبر الحكومة حالاً بالتعديلات والتبديلات التي تجريها سواء في نظامها الأساسي أو في هيئة الإدارة ومحال الإقامة وهذه التعديلات والتبدلات يعمل بها في يوم إخبار الحكومة وتقيد في سجل خاص يبرز في كل وقت تطلبه العدلية والملكية. المادة السابعة_لمركز كل جمعية مجلس إدارة يؤلف من شخصين على الأقل وإذا كان للجمعية فروع يجب أن يكون لكل واحد منها مجلس إدارة مربوط بالمركز ويشترط على المجالس أن يكون لها أولاً سجل تبين فيه هوية الأعضاء وتاريخ دخولهم ثانياً سجل للمقررات والمفاوضات والتبليغات ثالثاً سجل فيه مقدار دخل الجمعية ونفقاتها بأنواعها

ومفرداتها وتبرز هذه السجلات الملكية والعدلية في أي وقت تطلبها. المادة الثامنة_كل جمعية تعطي بياناً بموجب المادة السادسة تكون بالواسطة مدعية ومدعى عليها في المحاكم كما هو مبين في المادة التاسعة ولها الحق بأن تنصرف وتدير ما عدا الإعانات التي تكلف بها الدولة أولاً الحصص النقدية التي يعطيها أعضاؤها على أن تتجاوز سنوياً الأربع والعشرين ليرة ثانياً المحل المخصص لاجتماع أعضاء الجمعية وإدارتها ثالثاً الأموال غير المنقولة اللازمة للوصول إلى المقصد الذي اتخذته وفقاً لنظامها الخاص. ومحظور على الجمعيات أن تتصرف بغير ذلك من العقارات. المادة التاسعة_تكون المراجعات والمطالبات باسم الجمعيات لمأموري الحكومة والمحاكم والمجالس الرسمية بعرائض عليها طوابع يوقع عليها الكتاب العموميون والمديرون بتوقيعهم وطابعهم الذاتي ولا تجري غير ذلك من الوسائط. وإن أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بالمعاملات باسم الجمعية تبين هويتهم في نظام الجمعية الأساسي. المادة العاشرة_يمكن لأعضاء الجمعيات أن ينفصلوا عنها في أي وقت يريدون ولو اشترط في نظاماتها الأساسية عكس ذلك بعد أن يؤدوا ما عليهم من الحصص النقدية التي حان استيفاؤها وتختص بالسنة الحالية. المادة الحادية عشرة_محظور إدخال الأسلحة النارية والجارحة إلى المكان الذي تجتمع فيه الجمعية كما أنه يحظر حفظها فيه إلا أنه يمكن أن يوجد أسلحة بقدر اللزوم في الأندية المختصة بتعليم الصيد والقنص ولعب السيف على أن تكون للضابطة علم بذلك. المادة الثانية عشرة_تمنع الحكومة كل جمعية لم تعط بياناً للحكومة ولم تخبر ولم تعلن عن نفسها حسب المادة الثانية والسادسة ويعاقب بالغرامة النقدية من خمس ليرات إلى خمس وعشرين ليرة مؤسسوها ومجلس إدارتها وصاحب محل اجتماعها أو مستأجره على أن يحكم بجزاء آخر إذا كانت أمثال هذه الجمعية مؤلفة لمقصد مضر من المقاصد المسطورة في المادة الثالثة والمبينة في قانون الجزاء كما يقضي به القانون المذكور. المادة الثالثة عشرة_يؤخذ جزاء نقدي من ليرتين إلى عشر ليرات من الذين يأتون أعمالاً تخالف باقي أحكام المادة السادسة ما عدا الأخبار والإعلان وأحكام المادة الرابعة والخامسة والسابعة والتاسعة. ويغرم أعضاء الجمعيات التي تمنع بموجب المادة الثانية عشرة وتبقى

مخالفة لهذا القانون أو تؤسس من جديد بالجزاء النقدي من عشر ليرات إلى خمسين ليرة وبالسجن من شهرين إلى سنة ويجازى وبعين الجزاء من يعطون محالهم لاجتماع أعضاء جمعية منعت. المادة الرابعة عشرة_إذا كان نظام الجمعية التي تحل برضا أعضاءها واختيارهم أو بموجب نظامها الداخلي أو تمنعها الحكومة صريحاً يعمل بموجب الأموال العائدة إليها وإلا تعامل على حسب ما تقرره هيئة الجمعية العمومية. أما إذا كانت الجمعية قد منعت لتألفها لأحد الأسباب المضرة المبينة في المادة الثالثة فإن الحكومة تأخذ أموالها وتضبطها. المادة الخامسة عشرة_الندية هي من قبيل الجمعيات المدرجة في هذا الفصل. المادة السادسة عشرة_الجمعيات الموجودة اليوم مضطرة أن تقدم بياناً وتعلن كما تقضي بذلك المادة الثانية والسادسة وأن توفق معاملتها على باقي مواد هذا القانون خلال شهرين اعتباراً من إعلان هذا القانون. الفصل الثاني. المادة السابعة عشرة_إن اعتبار الجمعية خادمة للمبادئ العامة متوقف على تصديق الحكومة بقرار من شورى الدولة. وهذه الجمعيات يمكن القيام المعاملات الحقوقية كافة التي لا تمنع منها نظاماتها الأساسية ولا بد للأسهم والسندات التي تعود إلى حاملها أن تقيد وتحول باسم الجمعية ولا يمكن للجمعية أن تقبل هبة أو وصية إلا بإذن خاص من الحكومة وتباع أموال الهبة أو الوصية الغير منقولة إذا لم تنفع الجمعية في مقصدها ويصرح في قرار البيع بالمدة التي يجب أن تباع في خلالها ويسلم بدل العقار المباع إلى صندوق الجمعية. المادة الثامنة عشرة_للضابطة حق تفتيش الجمعيات والأندية فتفتح هذه أبواب محال اجتماعها لمأموري الضابطة في كل وقت. يجب أن يكون مع موظفي الضابطة كي يثبتوا أنهم دخلوا محال الاجتماع مستندين على لزوم حقيقي أمر أو إذن رسمي يضطرون إلى إبرازه ويكون صادراً إليهم من ناظر الضابطة في الأستانة ومن أكبر مأمور ملكي أو وكيله في الولايات.

المادة التاسعة عشرة_على ناظري الداخلية والعدلية تنفيذ هذا القانون. في 29 رجب سنة 1327وفي 31 آب سنة 1325.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع سعة التأليف ومؤلفو الشيعة كتبت رصيفتنا العرفان تتمة لما كتبناه في الجزء الأول من المقتبس الخامس في سعة التأليف في الإسلام ذوكرت المكثرين من التأليف عند الشيعة فقالت: لم نجد بين رجال القرن الأول من له ثلاثون مصنفاً لعدم انتشار التأليف آنئذ وغلبة الأمة ويكفي بأن تثبت للشيعة مؤلفين على حين أنه لم يكن لغيرهم تأليف في ذلك القرن فقد ألف أمير المؤمنين علي عليه السلام صحيفة في الديات وألف سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري في الأخبار والسير وألف أبو الأسود الدؤلي في النحو الأدب وألف كثيرون غيرهم ممن يطول الشرح في تعدادهم. ومن المؤلفين المكثرين من رجال الشيعة في القرن الثاني لوط بن يحيى أو محنف المؤرخ المشهور الذي يروي عنه الطبري وغيره من المؤرخين قال النجاشي له كتب كثيرة وعد منها نحو ثلاثين كتاباً كلها في التاريخ والسير. وهشام بن الحكم عدد له النجاشي نحو ثلاثين كتاباً أكثر في الكلام والفلسفة الإلهية. ومن رجال الشيعة في القرن الثالث إبراهيم بن محمد الثقفي قال النجاشي له كتب كثيرة والتي اتصل بنا منها ثم عددها نحو أربعين كتاباً. والحسن بن موسى أبو محمد النوبختي قال النجاشي له على الأوائل؟ كتب كثيرة منها كتاب الآراء والديانات وحجج طبيعية مستخرجة من كتب أرسطاطاليس في الرد على من زعم أن الفلك حي ناطق وكتاب في المرايا وجهة الرؤية فيها وعدد له نحو أربعين كتاباً. وسعد بن عبد الله أبو القاسم القمي عدد له ما ينيف عن ثلاثين كتاباً. وعبد العزيز بن يحيى الجلودي ذكر النجاشي كتبه في أربع صفحات وقد بلغت مائة وأربعة وثمانين كتاباً في جملة فنون وأغلبها تاريخ وأخبار وفقه. وعلي بن محمد العدوي الشمشاطي كقال النجاشي له كتب كثيرة عدد منها ما يقرب من أربعين كتاباً ومما يلفت النظر منها كتب الأنوار والثمار قال النجاشي قال سلامة بن دكا أن هذا الكتاب ألفان وخمسمائة ورقة يشتمل على ذكر ما قيل في الأنوار والثمار من الشعر وكتاب النزه والابتهاج قالَ قال لي سلامة بن دكا أنه نحو ألفاتن وخمسمائة ورقة يذكر فيه

آداباً وأخباراً ومن جملة كتبه مختصر تاريخ الطبري وأغلب كتبه ضخمة. والفضل بن شاذان أبو محمد الأزدي النيسابوري قال النجاشي: ذكر الكحي أنه صنف مائة وثمانين كتاباً وقع إلينا منها وعدد نحو خمسين كتاباً. ومحمد بن ارومه أبو جعفر القمي قال النجاشي: ذكر القميون وغمزوا عليه ورموه بالغلو حتى دس عليه من يفتك به فوجدوه يصلي من أول الليل إلى آخره فتوقفوا عنه وقد عدد له نحو ثلاثين كتاباً ومن العجيب أن بينها كتاباً في الرد على الغلاة وكل كتبه دينية. ومحمد بن جعفر بن أحمد بن بطه المؤدب أبو جعفر القمي قال النجاشي: كبير المنزلة بقم كثير الأدب والفضل والعلم يتساهل في الحديث ويعلق الأسانيد بالإجازات وفي فهرست ما رواه غلط كثير وقد عدد له أكثر من خمسين كتاباً أكثر كتبه مسماة بأسماء الأعداد فله كتاب الواحد والاثنين إلى التسعة والأربعين. ومحمد بن أحمد أبو الفضل الجعفي الكوفي المعروف بالصابوني عدد له النجاشي نحو سبعين كتاباً وقد كان زيدياً فصار اثني عشرياً. وهشام بن محمد السايب قال النجاشي: كان له كتب كثيرة وعدد له منها خمسين كتاباً في الأنساب والتاريخ والسير. ويونس بن عبد الرحمن قال النجاشي: وكانت له تصانيف كثيرة وعدد منها أكثر من ثلاثين كتاباً. ومن رجال الشيعة المشهورين في سعة التأليف في القرن الرابع أحمد بن محمد بن دول القمي قال النجاشي: له مائة كتاب وعدد منها جانباً. وعلي بن أحمد أبو القاسم قال النجاشي: كان يقول بأنه من آل أبي طالب وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه وصنف كتباً كثيرة أكثرها على الفساد وقد عدد له نحو خمسين كتاباً أغلبه ردود وبها رد على أرسطاطاليس وكتاب في تفسير القرآن وكتاب في النفس. ومحمد بن يعقوب الكليني عدد له النجاشي أربعين كتاباً وقال: صنف الكتاب الكبير المعروف بالكليني يشمى الكافي في عشرين سنة ومات سنة 329 سنة تناثر النجوم. ومحمد بن أحمد بن الجنيد المكاتب أبو علي الإسكافي عدد له النجاشي ما يقرب على مائة وثمانين كتاباً كلها دينية فقه وسير وكلام.

ومحمد بن بابويه القمي المشتهر بالشيخ الصدوق عدد له النجاشي نحو مائة كتاب. وموسى بن الحسن أبو الحسن الأشعري القمي قال النجاشي: صنف ثلاثين كتاباً عدد منها اثني عشر كتاباً. ومن المؤلفين في هذا القرن إسماعيل الصاحب بن عباد وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني وهما وإن لم تبلغ تآليف كل منهما الثلاثين فإنها تناهز العشرين فضلاً عن تعدد مجلداتها وغزير فائدتها. ومن المكثرين من التأليف في القرن الخامس علي بن الحسين أبو القاسم السيد المرتضى الشهير فقد عدد له النجاشي أربعين كتاباً ويقال بأن له ثمانين كتاباً وهو صاحب أمالي المرتضى الذي طبع في مصر. ومحمد بن محمد بن النعمان المشهور بالشيخ المفيد عدد له النجاشي نحو مائة وستين كتاباً. أما في القرن السادس فيوجد من الشيعة عدة مؤلفين بيد أنهم غير مكثرين. ومن المكثرين من التأليف في القرن السابع السيد أحمد بن طاووس قال في الروضات وصنف اثنين وثمانين كتاباً في فنون من العلم وعد منها طرفاً صالحاً. والحسن بن المطهر الحلي المشهور بالعلامة عدد له صاحب الروضات سبعين مصنفاً ورأيت على الحواشي بعض مصنفاته بأن له ثلاثمائة مصنف. والسيد علي بن طاووس عدد له صاحب الروضات نقلاً عن كتب كثيرة أكثر من ثلاثين مصنفاً كل كتاب منها عدة مجلدات. ومحمد الخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم المعروف عدد له صاحب الروضات نحو ثلاثين كتاباً في فنون مختلفة. ومن المكثرين من التأليف في القرن الثامن محمد بن معية النسابة وهو وإن لم يتجاوز ما عدد له صاحب الروضات خمسة عشر كتاباً فهي تبلغ الستين مجلداً منها كتاب أخبار الأمم فإنه قال صاحب الروضات خرج منه أحد وعشرون مجلداً وكان يقدر إتمامه في مائة مجلد كل مجلد أربعمائة ورقة. ومحمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول فهو وإن لم يذكر صاحب أمل الآمل إلا نحو خمسة عشر كتاباً فمن المشهور أن له تآليف جمة في فنون مختلفة جزيلة الفائدة.

ومحمد بن مكرم الأنصاري الإفريقي صاحب كتاب لسان العرب المعجم المعروف له كتب كثيرة ويقال أن مختصراته خمسمائة مجلد. أما في القرن التاسع فلم نعثر على مؤلفين مكثرين بين رجال الشيعة وإن كان يوجد بينهم عدة مؤلفين مقلين. وممن اشتهر في القرن العاشر بكثرة التأليف زيد الدين الشهيد الثاني العاملي ثم الجبعي عدد له تلميذه العودي من المؤلفات المتنوعة ما ينيف عن ستين مؤلفاً. وممن اكثر في التأليف في القرن الحادي عشر سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي عدد له صاحب الروضات نحو أربعين مصنفاً وبها الكتب التي وقعت في عشر مجلدات. وصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المشتهر بالملا صدرا عدد له صاحب الروضات نحو ثلاثين كتاباً أكثرها في الحكمة الإلهية. ومحمد بن الحسن بن علي بن محمد المعروف بالشيخ الحر العاملي صاحب كتاب الوسائل في الحديث وأمل الآمل فغي علماء جبل عامل في التراجم وقد ترجم نفسه به وعدد مصنفاته كما نقله صاحب الروضات فإذا هي تنيف عن أربعين كتاباص ورسالة. ومن المؤلفين المكثرين في القرن الثاني عشر إسماعيل المازندراني قال صاحب الروضات بعد أن عدد له أربعة عشر كتاباً ورسالة إلى غير ذلك من السائل والمؤلفات الكثيرة التي تبلغ نحو مائة وخمسين مؤلفاً متيناً في فنون شتى من العلوم والحكم والمعارف. ومحمد باقر المشهور بالمجلسي عدد له صاحب الروضات نحو خمسين مؤلفاً عربياً وخمسين مؤلفاً فارسياً وبعد الفراغ من تعدادها قال: وعدد أبيات جميع ما ذكر من العربي والفارسي ألف ألف بيت واثنين وأربعمائة لف بيت وسبعمائة وإذا وزعت على أيام عمره التي هي ثلث وسبعون سنة من غير زيادة ولانقصان يكون قسمة كل سنة تسعة عشر ألف بيت ومائتين وخمسة عشر بيتاً وخمسة عشر حرفاً وهكذا بالترتيب اهـ. والسيد خلف عدد له صاحب الروضات نقلاً عن أمل الآمل وغيره من كتب التراجم نحو ثلاثين مؤلفاً. وسليمان البحراني عدد له صاحب الروضات أمثر من خمسين مؤلفاً أكثرها رسائل.

وعبد الله بن جمعة السماهيجي البحراني عدد له صاحب الروضات نقلاً عن بعض إجازاته أكثر من ثلاثين كتاباً ورسالة. والسيد هاشم البحراني عدد له صاحب الروضات أكثر من ثلاثين كتاباً وفيها المجلدات الضخمة. ومن المكثرين في التأليف في القرن الثالث عشر من الشيعة الشيخ أحمد الإحسائي فقد قال صاحب الروضات بعد ما عدد له ثلاثين مؤلفاً إلى تمام مائة رسالة وكتاب. ومحمد الباقر البهبهاني قال صاحب الروضات نقلاً عن صاحب المنتهى له ستون مؤلفاً ثم عدد أكثرها. وملا جعفر الاستربادي عدد له صاحب الروضات نحو أربعين مؤلفاً في علوم مختلفة أكثرها مجلدات ضخمة. وأبو القاسم الميرزا القمي صاحب كتاب القوانين في الأصول عدد له صاحب الروضات عد كتب كلها مجلدات ضخمة وقال وجد بخطه ما يؤدي بأنه كتب ألف رسالة في مسائل مخصوصة من العلوم. ومحمد بن عبد النبي المعروف بميرزا محمد الأخباري نقل صاحب الروضات بأنه كتب كتاباً في الرجال ترجم به نفسه وعدد مؤلفاته وهي ثمانون مؤلفاً في فنون عقلية ونقلية وشهودية وجلها أو كلها مجلدات كبيرة ومنها ما وقع في عدة مجلدات اهـ. مدرسة الاستقلال ذكرت مجلة العلم الاجتماعي أن مدرسة دي روش في فرنسا احتفلت بمرور عشر سنين على تأسيسها فذكر رئيسها في هذه المناسبة ما قامت به المدرسة منذ إنشائها في تربية العقول ونزع حب الاتكال من النفوس وتحبيب الاستقلال إليها قال أن هذه المدرسة أنشأها أديمون ديمولانس (صاحب كتاب سر تقدم الإنكليز والسكسونيين) وغرضها أن تقصد إلى القضاء على الأساليب والعادات المتبعة في المدارس الداخلية الفرنسوية فهي تعاكس الظلم الناشئ من التدريب المبالغ فيه وتقاوم إنهاك القوى في عامة أشكاله وطريقة اتباع الخطط في الدروس ورخاوة التربية الطبيعية وقلة كفاية التربية الصحية وفقدان التربية العملية ونزع الأساليب المتبعة في تربية الأخلاق وتلقين الأديان.

وقد ذكرت المجلة أن غاية ما توخته هذه المدرسة أن توفق بين النمو العقلي في الطفل وعنيت أن تبين للأولاد لماذا يعلمون الشيء الفلاني وإن تشوقهم إلى تعلمه لحل المسألة الفلانية بحيث يهتمون بنتائجها وكان ممن تخرجوا في تلك المدرسة منذ سنة 1905 أن تقدموا للمسابقة فأحرز قصب السبق منهم 56 من 67 وأبانوا عن كفاءة مدهشة في المواد التي لا تسألهم عنها المدارس مثل الرياضات البدنية واللغات الحية والموسيقى والمعلومات العلمية وتربية الأخلاق. وأحسن ثمرات التعليم الاستقلالي أنه لم يعمد إلى البطالة فرد من المتخرجين على أسلوبه بل أنم 26 منهم دخلوا في التجارة والصرافة وكثيرون قصدوا البلاد الخارجية وثلاثة دخلوا المدارس التجارية و11 في الصناعة وقلما يرغب تلامذة هذه المدرسة في التوظف والأعمال الحرة بل يختارون الصناعات العلمية الحرة فلم يدخل منهم حتى الآن سوى واحد في معمعان السياسة وواحد آثر التوظيف. مؤتمر العناصر ومن أول مظاهر الإخاء بين البشر المؤتمر الذي سيعقد في لندرا في شهر تموز 1911 فهو أول مؤتمر عام للعناصر يساعد على تبادل الاحترام بين عناصر الشرق والغرب وستتلى فيه مفكرات غريبة يتلوها أناس من أرقى الرجال من أهل العالمين القديم والحديث وسيكون بينهم خمسة وعشرون رئيساً في مجالس النواب وأربعون أسقفاً ومئة وثلاثون أستاذاً في الحقوق الدولية وغير ذلك سيكون لهذا المؤتمر شأن عظيم في مستقبل العناصر البيضاء وغيرها. استعمار الإسلام قالت مجلة الاقتصاد الدولية إننا قد أيقظنا اليابان والصين من سباتهما وها قد أصبحنا ولاسيما الأميركان منا نعض الأنامل ندماً على ما قدمناه بين يدي تينك الأمتين وقد أخذ المسلمون ينهضون وينتبهون أيضاً بحسب رأي المسيو لشاتليه (المقتبس م5 ص276) كما يفهم من الأرقام التي أتى بها للدلالة على انتباه المسلمين قال أن الصحف الإسلامية تكون الرأي العام الإسلامي على أن تكون منافع الجمارك والأراضي والغابات والمعادن والنقل والاحتكارات والامتيازات وكل ثمرات الأرض إسلامية خاصة بالمسلمين يقول لسان حالها الإسلام للمسلمين وقد علقت المجلة على ما تقدم بهذه الجملة الغريبة وهاكها بنصها معربة:

إننا نعد أنفسنا سعداء إذا اكتفى المؤمنون بهذا ولم يأتوا فيستعمروننا على الطريقة التي عمدنا إليها معهم. ضعاف المدارك نقلت مجلة الاقتصاديين الباريزية عن إحدى المجلات الإنكليزية مبحثاً لأحد أطباء إنكلترا جاء فيه أن بين عامة الناس والبله الثابتة بلاهتهم في بريطانيا العظمى طبقة كبرى ضعيفة في مداركها وهي عالة على أسرها والمجتمع وعددها لا يقل عن خمسين ألفاً قال أن ضعف العقل أرثى وأصحابه يشتد غرامهم ويكثر أولادهم على حين يقل أولاد الأذكياء وبذلك ينتج ضعف الأخلاق والعقل في المجتمع وذلك لأتن ضعاف العقول يأتون بالجرائم والمفاسد أكثر من غيرهم وضعيفات العقل من البنات أقرب بنات جنسهن إلى الإغواء. وقد حسبوا جميع سكان ورخوس فكان خمسهم أو ربعهم ضعاف العقول فالواجب إذن تقوية هذه المدارك الضئيلة والمدارس التي أقيمت لغرض تقوية الضعاف في عقولهم لم تثمر الثمرة المطلوبة لأنه لم ينجح واحد في الخمسين ممن دخلوها لأنها أنشئت على مبدأ مدارس أقوياء العقول أي على طريقة مدرسية صرفة لا شأن فيها للصناعات. قالت المجلة فإن ادعى صاحب هذا الفكر بأن هذا خطر عظيم على المجتمع أجيب بأنه كان منذ كان البشر ولكنه لم يكن محسوساً كما هو الآن لأن الملاجئ والأديار تؤوي أمثال هؤلاء وكانوا من قبل مشتتين فالخطر وإن كان واقعياً إلا أنه ليس بالدرجة التي يظنها الطبيب المشار إليه نعم إن الأولاد كلهم يصاغون صياغة واحدة من سن السادسة إلى الثانية عشرة بمعنى أنهم يتعلمون القراءة والكتابة وما تعلم القراءة والكتابة بالأمر السهل كما يظهر بل هو من شاق الأعمال التي لا نقدرها حق قدرها فإن المستخدم إحدى المكاتب يملي ثلاثين كلمة في الدقيقة أي ما يعادل طول خمسة أمتار فتكون هذه الخطوط ثلثمائة متر في الساعة أو ألف كيلو متر في ثلثمائة يوم من أيم السنة وهي أيام العمل. ولأجل كتابة 130 كلمة يدور رأس القلم 480 دورة في الدقيقة و28. 800 دورة في الساعة دع عنك ما يتبع ذلك من التعاريج مما لا يقل طوله كله عن مئة ألف كيلومتر في السنة ولولا العادة ما سهلت الكتابة وخففت من تعب الأعصاب وهذا هو العمل الذي يقضي على الأولاد أن يعملوه فهل يستغرب إذا رأينا بعضهم ينوؤن بهذا العبء الثقيل وأن ما يطلبه الطبيب لضعاف العقول من تعليمهم

الصناعات هو أحق به أن يطلب لجميع المتعلمين إذا أردنا أن يكون لهم عقل سليم فقي جسم سليم. تربية الحس كتب بول غوتليه من علماء التربية في فرنسا مقالة في نقص تربية الحس في مجلة التربية جاء فيها: لا أرى في التربية أكثر إهمالاً في العادة من تربية الحس فإنه متروك وشأنه ينمو كما يشاء وعلى النحو الذي يشاء فيأخذ بالاتفاق ذات اليمين أو ذات الشمال في المدرسة والأشرة وترى الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات يعنون بما في جهدهم بتلقين العلوم ولا يلتفتون إلى تربية القلب في حين أن الحس أصل القوى كلها ومبدأ كل حياة ولا أثر للذكاء والإرادة بدونه على ما أبان ذلك الفلاسفة المحدثون أمثال ريبو وفوليه وبرجسون. فالفكر الذي لا يقتبس من حرارته عار عن القوة. فبه تعرف مطويات الضمائر وعناوين الأمزجة وغاية الجهد بل هو الصورة لما في الأفراد من مزايا الإبداع. قال روسكين (من علماءؤ الاجتماع الإنكليز): إننا نشكو من قلة الحس أكثر من كثرته فقلته أدت ببعض الأرواح إلى الابتذال فمن آثار قلته عادات وأعمال تخالف الإنسانية لا خوف يزعجها ولا فرح ولا شرف ولا تقوى يهزها فإذا تثاقلت يد المرء في تعاطي العمل وجف قلبه وساءت عاداته وجمد فؤاده يصبح مبتذلاً على قلة عواطفه وسرعة ذكائه وجودة مأتاه ومنزعه فالعقل لا يعرف غير الحق فهو الإنسانية الربانية تستحكم من القلوب فتدرك الإلهيات وصالح الأعمال. فالحس يقرب بين الشخصيات ويسيطر على العواطف فيجمع الناس في أفراجهم ويشكرهم بعضهم مع بعض في أتراحهم بل هو السلسلة التي تربط كلاً منا بالعالم كله فهو الموزع الجوهري بين الشخصيات. والأفكار والأعمال نتيجة لازمة عنه وهو كذلك الصلات بين الأفكار. إذا نقص فلا شيء يحدو نحو الوكمال بل أن الكمال يفقد جملة ويجف معين العلم والصناعات والفضائل ويتعذر العلو وتفقد العشرة وتنحل ربط الاجتماع فلا إحساس ولا شفقة. إذا فقد الحس تضعف الإرادة ويبقى العلم ظلاً زائلاً ويفنى الذكاء. ولطالما رأينا علماء وهم مغفلون لو استقرت أحوالهم تجد لا فرق بينهم وبين حمر الخلائق لأن العلم لم يرق فيه الحس الرقيق الذي يمكنهم من معرفة ما لا يقع مباشرة تحت حواسهم وهو قلما

يتعلم كتاب فالحس من ثم هو الحد الفاصل بين أن يجعل الرجل في كبار الرجال أو في طبقة ضعاف المغفلين. وإذا حيد باستعداد الطفل عن الجادة منذ صغره لا يلبث أن يكون استعداده مبعث كثير من المفاسد وأصل جم من الخطايا يرسل بأحسن ما فيه عن مائية إلى الأغصان الشرهة الطفيلية فتهولك الأغصان النافعة وتقوى دواعي الهوى والشهوات فقد قال بول بورجه: تكاد تكون معظم الأمراض العصبية ناشئة من اضطراب العشق ومبدأ كل هذا الاضطراب من رداءة التدبير الصحي الأخلاقي زمان البلوغ فمن الحس تنشأ المطالب العالية والمطالب الدنيئة وهذه القوة أو هذا الأساس في كل قوة شواءٌ كان في الخير أو في الشر ينبغي أن لا يترك وشأنه في الولد على حين هو لدن رخيص إلى الغاية فإذا هب على ما يجب يكون منه أبطال وقديسون وإلا فلا أقل من أهل حشمة ووقار. وأكثر ما يكون مربياً للحس بيت العائلة والتربية الأصلية هي التي تجعل الولد على استقامة لا ينالها من تربية أخرى وفي حب الوالدة ولدها معنى من معاني الظرف تصحب المرء إلى قبره ولكم كانت عناية الأم أكبر مخرج للرجال الأعاظم حتى قالت العقيلة نيكر دي سوسور إن الحنان هو الحرارة الضرورية لتنمية الجراثيم السعيدة. والمدارس الداخلية مضرة وهي لصغار السن جريمة ويتضرر البنات وهن سيصبحن ملائكة البيت بدخولهن المدارس الداخلية إذ يبتعدن عن الأسرة بل عن العالم ويفطم الولد من الحب ولا يعرف غير جفاء النظام والعذاب والمجرد وقلة مبالاة الإدارة بأمره. يتعذب وما من أحد يعنى به عناية حقيقية أو يعرف ذوقه وميوله ولا يجد حوله من يبوح إليه بذات نفسه فهو وحيد محروم من الهواء وإحساسه يذبل إذا لم نقل يفسد ولذلك كانت المدارس الداخلية في فرنسا لا تخلو من مفاسد تلحق الأخلاق. وقد انتبه الإنكليز لذلك فلم يعودوا يرسلون بناتهم إلى المدارس الداخلية بل يجعلونهن في بيوت معلماتهن على أخلاقهن وينجون من إدارة تسير على هواها كإدارة الحبس فأفضل اختيار البيت لتربية الأولاد فيه فليس كالأسرة التي يخرجنا منها وازع يحف طفولتنا بعنايته ويعلمنا الظرف واللطف والطهارة التي كتب فيها رينان الفيلسوف يقول: أينم يتعلم الطفل أو الفتى الطهر وصفاء السريرة اللذين هما أساس كل أدب راسخ ويدرك زهرة العواطف التي تكون ذات

يوم بهجة للمرء ودقة الفكر التي هي ذات أشكال لا تدرك بالتصور؟ أيتعلمها في الكتب وفي الدروس التي تلقى على مسامعه فيصغي إليها أو في رسائل يستظهرها؟ كلا إنه لا تعلمها في شيءٍ من ذلك بل يتعلم في الهواء الذي يعيش فيه والمحيط الاجتماعي الذي يصير إليه يتعلمها بحياته في أسرته ليس إلا. . فالحنان الآخذ بعنان الأسرة بما فيه من الانتباه والحب هو الذي يربي حسن الطفل من نفسه بعيداً عن قلة الاهتمام والعدوى والحسد بعيداً منذ نعومة أظفاره عما يعبث به. ويجب أن لا يدفع الأولاد للخدامين والخدامات فإنهم يفسدونهم بضعف عقولهم وقلة عنايتهم حتى أن ولداً في الثالثة عشرة أصبح أبله بصنع خادمة ارادت تسكيته فوضعته في غرفة وأقفلت عليه الباب بضع دقائق حتى إذا فتحت الغرفة وجدته متخشباً وقد عولج الولد فشفي إلا أنه بقي أبله طوال حياته. فصح فينا ما قاله بلوتارك في القديم: من الغريب أننا نرى الواحد منا يستخدم خادماً له في حرث أرضه وآخر لتنظيم داره وغيره لإدارة نفقته فإذا كان له خادم سكير لا يستطيع عملاً يعهد إليه بتربية ولده ونحن كم عندنا من معلم ومعلمة خانهم الدهر فعمدوا إلى اتخاذ التعليم حرفة وهم ليسوا على شيءٍ من الأخلاق التي تطلب منهم لتربية خلق المتعلم فيرث الأولاد عنهم نقائصهم وأحياناً مفاسدهم بل يقتبسون دناءة النفس فيتجردون عن المطالب العالية النضيحة قبل أن يبلغوا السن اللازمة. ولذلك وجب على الوالدين أنم لا يتخلوا لأحد عن ملاحظة أولادهم ففي الطفولية يتولون ذلك بأنفسهم وأثناء الدراسة يشرفون إشرافاً عليهم ولا يدفعونهم إلا لمعلمين أكفاء على أن دلال الولد وملاطفته على الدوام قلما تنشئ رجالاً أو نساء أحرياء بالاعتبار لأن رخاوة الحس على هذه الصورة تبعد بالولد عن تحمل المكاره والإفراط بالعناية به تعده إلى أن لا يتوقع إلا الدلال فالشاب يتطلب من الزوجة رفيقة لا أماً والشابة تنتظر أن تكون لعبة لا ملكاً. وهذه العيوب تلحق الولد الوحيد في الغالب لأن والديه يبالغان في دلاله. وأضر ما يكون على طفل الإغراق في قضاء رغائبه وإعطاؤه من اللعب ما لا تشتد حاجته إليه بل أن يكون من شأنه أن يعوده على الإسراف والبذخ وخير من ذلك أن يعود الولد الحرمان والتقشف لأن الشدة القليلة في التربية تدعو المربى إلى الشجاعة. وعرف الإسبارطيون ذلك حق المعرفة وهذا هو السبب في أن الإنكليز مازالوا محافظين على

أنواع الرياضات العنيفة وضرب السياط في المدرسة. لا جرم أن ذلك يمنع رقة القلب الكاذبة ويبعد من التأنث مما هو من العيوب حتى في النساء. وينبغي أن لا نكتم شيئاً عن الأولاد يطلبون السؤال عنه وإذا كان ثمة ما لا يسوغ لهم إبداؤه نعدهم بأن نفصح عنه بعد حين فالجهل فيها ليس من الخير في شيءٍ لأنم الجهل خطر كل حين وقد كتب المسيو نيكولاي يقول: إن الأخلاق عبارة عن تعلم مجاهدة الشر لا أن يعقد الأمل الخيالي بأن يكبر الولد في سذاجة تامة في حين هو يعيش في العواء الفاسد الذي نستنشقه. فلتربية الحس القوي الذي يقاوم الصدمات يجب أن نجعلها تمس الحياة عند بداءة ظهورها والمدرسة مفيدة في هذا الباب لأن الأخلاق تتحاك فيها ولا بأس بأن يغادر الولد البيت ويسيح في الخارج فإن ذلك مما يقوي فيه الإرادة ويشد عزمه على العيش في لهواء الطلق في هذه الحياة. يجب أن يكون للحس نظام فقد كان علماء التربية حتى الآن يعتبرون الصناعات واسطة للتسلية لا نتيجة لها أو ألاعيب الصبيان وهي في الحقيقة أحسن تعويذة لأن في مكنتها أن تجعل أبداً في الإحساس مساوقة ونظاماً وتحيله إلى أجب غض إذا صح أن الاعتدال هو القصد لا في المأكل والمشرب بل في الفكر والعواطف هو أساس كل فضيلة فقد قال روسكين: إنم معرفة الجميل هو الطريق الحقيقي بل هو الدرجة الأولى لمعرفة حقيقة الأشياء الجميلة فإن الحياة والسرور بالجمال في عالم المادة هما من القسم الدائمة المقدسة في أعمال الخالق كما الفضيلة في عالم الأفكار. فمن الواجب كل الوجوب أن يجعل شعور الطفل منذ نعومة أظفاره يحتك بالجمال بوجه عام والفنون بوجه خاص وذلك لا في كتب يدرسها بل فيما يحيط به يحف حوله وأن يوقى النظر إلى البشع كما يوقى النظر إلى ما ينافي الأدب. يجب ألا ينشأ الطفل ويتطلع حواليه إلا ويجد الجمال في المسكن والجمال في المناظر فمن سيئات التمدن الحديث إن حرم أبناءه السكنى في بيوت وسط الغابات والأشجار وجعل مساكنهم متصلة بعضها ببعض بحيث لا تفتح النافذة إلا لترى واجهة البناء المحاذي لك ولا يفتح الطفل عينيه إلا ما على هو منحط وبشع على حين يسهل أن نزين مسكننا فليس

الجمال هو البذخ بل إن النظافة النظام المدقق وانتقاء الأثاث والزهور وبعض النفائس والأعلاق في البيت تكفي في حمل الجمال إلى مسكننا ولأن تفتح لحياتنا اليومية على الدوام باباً يطل على عالم الخيال. والواجب أن يعنى بلباس الطفل على ما ينبغي على أسلوب لا ينافي الاقتصاد ولا الظرف. نحن لا نقول كما يقول الفيلسوف كارلايل أن اللباس يوجد النفس الإنسانية بل نقول بأنه يرتبها وينظمها. وعليه فالأحسن أن ينظر أيضاً في اختيار اللعب للطفل حتى لا يكون ممن تتقزز له النفس والأولى أن يعهد بصنع ألعاب الأطفال إلى أناس من أرباب الذوق والتفنن على ما كانت عليه الحال في القرن السابع عشر والثامن عشر. ويجب ألا تحرم المدرسة من مظاهر الجمال لأن الطفل يقضي فيها شطراً مهماً من أوقاته وغذ كان معظم الوالدين لا يستطيعون أن يجعلوا لأولادهم بيوتاً في الخلاء فالأجدر بالمدارس الثانوية أن تقيم مدارسها في الضواحي ليتيسر للأولاد أن يعودوا في المساء ليبيتوا في دور آبائهم. فقد كتب روسو أن البشر لم يخلقوا ليتجمعوا كما يتجمع النمل في القرية بل لينتشروا في الأرض التي يحرثونها فنفس الإنسان قتال لإخوانه. وهذه الحقيقة لا مجاز والمدن هوة الجنس البشري فعلك أن تبعث بالأولاد يجددون حياتهم بأنفسهم وينشطون قواهم وسط الحقول ويستعيضون عن تلك القوى التي يضيعونها في الهواء القذر من الأماكن المأهولة كثيراً. وهكذا يجب أن تكون المدارس الابتدائية في القرى والمدن في أماكن يتخللها الهواء والنور وأن يستعاض عن الدهان التي تطلى بها جداران المدارس بالسواد عادة بألوان زاهية تزيل الوحشة عن قلب الطفل فيستفيد من ذلك عقله وقلبه. وأحر بأن تكون جدران المدرسة مزينة بمجاميع نفيسة ومفروشة حجرها أحسن فرش بحيث يكون الجمال عن إيمان الطفل وشماله وقدامه ووراءه ومن أجل هذا اختار بعض علماء التربية أن يربى الأطفال في حدائق خاصة بهم لينشئوا على التأمل في الكون والنظر في أسراره وبدائعه فالسماء تتعلم بالنظر فيها ولكنها لا تفيدنا بقدر ما نتعلم من الصغر والتأمل في عظمتها. يقتضي أن يطلع الطفل منذ صغره على إبداع ما نقشه النقاشون وصاغه الصائغون وبناه البناءون وأن نبتعد عن تدريسه تاريخ الصناعة لأنهم لا يفهم منه شيئاً فيدخل الملل إلى قلبه بل الأولى أن نشرح له الجمال فقط ونشعره بوجوده. فعلم الطفل أن يكون هو متفنناً

ى أن يكون كما قال روسكين أكثر خجلاً إذا لم يحسن الغناء مما إذا كان لا يعرف القراءة والكتابة لأنه من الممكن كل الإمكان أن يعيش المرء عيشة سعيدة ظريفة بدون كتب ولا حبر ولكن قلما يتأتى أن لا تميل النفس إلى الغناء إذا كان في يوم سعده. ولقد رأى اليونان هذا الرأي فكانوا يزعمون بأن تعليم الطفل الغناء يمدونه طول حياته بزاد ثمين من الحكمة والسرور دع عنك أن الغناء بالاشتراك مع الأصحاب هو آكد الطرق إلى تعلم التضامن. ثمك أنه من النافع تعويد الطفل أن يرسم بقلم الرصاص أو المنقش الأشكال والألوان الطبيعية فيتعلم بها الممارسة اللازمة للصناعات النفيسة ويعتاد النظام والتدقيق الذي يقود عواطفه بالطبع إلى التنسيق والذوق فإذا ربى الحس على هذا الطرز يستعد للتخلق بالفضائل بتقوية الإرادة وبدونها لا يتأتى قيام شيءٍ في عالم الفضيلة لأن الإرادة لا توجد الميول والرغائب تتخير منها وهذا الميل ناشئٌ مثل كثير من الميول عن الحس الذي يعمل كل العمل فمن اللازم اللازب تقوية ميول الطفل الحسنة بتثقيف إرادته بدون أن يشعر. القدوة هي المربية في هذا الباب فهي تسلط على الرجال فما أجدرها أن تكون كذلك للأولاد يسيرون في أعمالهم بسيرتها وينهجون على الدهر نهجها فقد ذكروا أن فتاة أخذت في الشهر الخامس عشر من عمرها تقلد أباها في تقطيب حاجبه وتعتاد عادته في الغضب ولهجته في رفع صوته ثم تعلمت ألفاه في قلة الصبر والغضب وهكذا أصبحت تردد أفعال أبيها كلها بعد السنة الثالثة. وقانون القدوة الذي هو عمل من أعمال الاقتداء والمحيط يعمل عمله في الحس كما يعمل في الذكاء فقد قال مونتسكيو: من العادة أن يعلم الأب أولاده ما يعلم كما أن من العادة أن يورثهم شهواته. . ولذا كان على الوالدين أن يراقبوا أنفسهم في كل ما يصدر عنهما بين أسرتهما وأمام أولادهما ويبتعدا عن كل ما شأنه أن يحدث في الولد تأثيراً سيئاً فيلا الأفعال والأقوال ونرى الناس لا يبالون أن يأتوا أمام الطفل ما يفسد أفعاله ومقاله ويعلمه الفاسد كلها قبل أن يعرف ماهيتها. فالغضب وكلمات الكبر والعجب واللذات الشهوانية والوقيعة والكذب تعرض كل يوم أمام عيني الطفل وأذنيه فتشوه حسه وتفسد نفسه ويعتذر الأبوان بأن ابنهما لا يأتيان أمامه وهو يدرك العيوب التي تتمثل أمامه على هذه الصورة ويتوهم بأن الواجب يقضي بذلك ويوشك أن يسوء نظره على الدهر.

ويا سعد من لم يره أبواه لأنه في الأكثر يدللانه دلالاً يفسده فلا ينتهرانه لتربية نفسه خوفاً من بكاءه أو أن يفقدوا ابتسامة مؤقتة فتسوء تربية الطفل والطفلة بصنع أبويهما وإنالتهما كل رغائبهما وماذا يظنه الولد في نفسه متى رأى حواليه أناساً على أهبة تامة لسماع ما يقوله والإعجاب به وتدليله واستحسان كل ما يصدر من فمه أو يصفقون تصفيق السرور لكل ما يقوله مما يخالف الأدب. فلو كان رجلاً لما وسع عقله كل هذا التصفيق والاستحسان فما بالكح به وهو طفل. ومن النسا من يسيرون على عكس هذه الخطة فيناكدون الطفل في أقواله وأفعاله ويغضبونه في عامة أحواله ويعلمونه الحسد بما يستعملونه معه من ضروب التهديد الشديد الدائم الذي يروقهم تكراره وهذا من مفاسد التربية أيضاً. فعلى الوالدين أن يباعدا عن الطفل ما يرتكبه من المضرات في تربيته فلا يشتدان عليه ولا يرخيان له العنان بل تكون تربيتهما إلى القصد فلا يمنعانه من لذائذه بكل ما يطلب ويجيبانه من رغائبه إلى كل ما يشتهي فقد قيل من يحب كثيراً يعاقب كثيراً فتأنيب الطفل من أهم فروض الوالدين وأكبر مظهر من مظاهر عنايتهما. والأولاد كالأمم يعزون الصرامة ولا يحبون إلا ما يحترمون. كل هذا بدون أن يخلو ساعة من سرور ابنهما حتى يعيش ويكون تجليه سروراً طوال حياته. قلنا أن الوالدين ينبغي أن يكونا خير قدوة لابنهما فهو لا يتأثر بالفضيلة إلا إذا رآها بالفعل مائلة أمامه منذ نعومة أظفاره وكم من الناس لا يتطالون إلى هذه الغاية لأنهم عاشوا في وسط غير متمدن ومنهم من يحفظون حطة نفس ينم علبيها تبذل أخلاقهم ومعلوم أن لهذه تأثير في القلب وهكذا الحال في كل الفضائل فإذا شاهدها الطفل اليوم بعد الآخر يتشربها وتطمح نفسه إلى أن يأتيها بذاته. فمن أبوين حرين ينشا طفل مخلص ومن أب محتشم يكون الولد عفيفاً ومن أسرة طاهرة يخلق الولد تقياً نقياًَ. فالعدوى في هذا الباب أشد فعلاً في الطفل من قانون الوراثة وإن للحركات والسكنات أفعالاً في خلقة الطفل وخلقته ولذلك وجب أن تصدر عن النفس دائمة لا متقطعة. وكما يقضى على الأبوين أن يكونا خيبر قدوة لابنهما يجب عليهما أن يبذرا في نفسه البذور الصالحة وذلك بأن ينميا فيه حب الذات أو الإعجاب بأحسن ما فيه فليس أحسن في

التربية من أن يشعر المربى من نفسه بخجل عما أتاه فليس الأولى البعد عن مكافحة حب الذات بل المناسب تنميته على النحو اللائق وتسييره إلى وجه الكمال فمن دواعي التربية وضع الثقة في نفس من تربيه فالأديان تدعو منتحليها إلى الإيمان فمن الضروري كما يقول بعض علماء الأخلاق أن يؤمن المرء بقوته الخاصة بمعزل عن معونة خارجية فأقل شك يطرأ علينا يبتلينا بالعقم وينضب مادتنا ويحول دون انبجاس إرادتنا القوية. وكما تحافظ على حرمة الولد عليك أن تربيه على حرمة غيره وأن تعرفه بها بأن تضرب على العرق الحساس فيه إذا أحببت أن تلقنه معنى الإحساس فأعرض عليه مصائب الناس وقارنها بما يشعر به من هذا القبيل. وبغلط الوالدان اللذان يخفيان عن ابنهما شقاءهما كأنه رذيلة من الرذائل مع أن الفقر أحسن مدرسة لتعليم الطفل الذي ولد في الرفاهية حتى لا يعتبرها بأنها واجبة أو مضمونة وتنبه فيه الشعور بالشفقة. فمن النافع أن يعرف منذ طفوليته أن من الناس من خانهم سوء الطالع ليعتاد التحنن عليهم والإسراع إلى إغاثتهم. وتحتاج في تربية الحس ليأتي بثمرات جنية إلى أن توقد جذوته بالتحميس ليعمل الأعمال العظيمة فالواجب أن يلقن الطفل بين العاشرة والحادية عشرة من سنة الولوع بغاية سامية أرقى مما يقع تحت نظره كل يوم وبذلك تتغذى روحه وينتفع بما لديه من القوى والمواد. وخير ما ينفع في هذا الشأن النظر في أنواع التعليم كالعلوم وتاريخ الفنون والآداب فالتعليم أعظم مهماز يربي ميول الطفل ويعده لأن يكون من كبار الرجال ويربأ به عن الانغماس في حمأة المصالح المبتذلة. فالتعليم لا يقوم بوظيفته إذا لم يكن فيه ما يوسع معارفنا بل يوقد شعلتها بتوجيهها نحو الحق والجمال والخير وأساس ذلك التحمس في الإنسان. ولا يكتفى في تاريخ تعلم الصناعات والآداب بعرضها وتحليلها بل الواجب أن يعلمها الطفل في اللوحات وإليها كل والمصانع والشعر والقصص والخطب فهي لا تأخذ مكاناً من قلبه ويتحمس بها إلا بذلك. يعرض عليه ذلك بالعمل ويشرحه للمعلم فالتعليم الأدبي والصناعي مهما بلغ من غنائه لا يتيسر تلقينه بدون قطع تشرح السر فيه كالتشريح لا يستفيد منه المتعلم إذا لم يكن أمامه جثة. فعلينا أن نبتعد عن التحليلات التي لا مستند لها من الحقيقة لأنها بقطع النظر عما فيها من الضرر اللاحق بالذهن تعود المرء على العمل بالفارغ وهي خالية من تأثير في الحس فمن واجب الأستاذ أن يطلع تلميذه على مقاصد

المؤلفين ويشرح لهم عواطفهم على صورة تتمثل فيها الحياة والشعور وتبعث في روحه احتذاء مثالهم وبذلك لا يكون من تعليم الفنون والآداب فتح السبل التي يفيض منها حس المتعلم بل إن حسه إذا تجمع على هذا النحو تزيد قوته وصفاؤه وتنبع منه ينابيع لا تجف طوال الحياة. يقول بعضهم أن التربية العلمية الصرفة تجعل الذوق قاحلاً ولطكن ربما كان العلم يتطلب قوة في التحمس كما تتطلب الفنون والآداب من الصانع والكاتب فالبحث عن الحقيقة يستدعي إخلاصاً شديداً كالنظر في الجمال. والمرء كما يقول باسكال اقل سكراً باستحصال تركيب الطبيعة وما فيه من اللانهاية منه في إيجاد شيءٍ من تصوره. فالذين يصرفون حياتهم في البحث ليسوا أقل قوة ممن يخترعون أفكاراً من نفوسهم. قال كلود برنارد: إن الرغبة الشديدة في المعرفة هي الباعث الوحيد الذي يجذب الباحث ويعضده في أعماله وهذه المعرفة هي التي يمسكها فتفر أمامه على الدوام وتكون في الوقت نفسه عذابه الوحيد وسعادته الوحيدة فمن لا يعرف كيف يقاسي المرء العذاب من أجل الحصول على مجهول لا يعرف الأفراح التي تصيبه عند اكتشاف الجديد وهي أفراح لا يدانيها شيءٌ في العالم للحقيقة كما للجمال بهاءٌ وجلال ولذلك كم فائدة تكون للحس ولارتقاء العلوم في المستقبل أن يكشف عنها القناع أمام أعين من يعلمهم إلا أنه يجب لإشراك التلامذة في البحث أن تكرر لهم تلك الحقائق ويطلب منهم أن يبحثوا بأنفسهم وأن يوفر لهم قسطهم من السرور باكتشافها فيطلعون على مقدمات العلوم والاكتشافات العظيمة ويشوقهم إلى احتذاء مثال من جاهدوا جهاد الأبطال امام قوى الطبيعة حتى تبطنوا أسرارها فإذا حمى وطيس البحث ينشأ فيهم حب الغاية المنشودة كما أن من يبدأ باللعب ويكون ضعيفاًُ لأول أمره لا يلبث أن تنبعث له همته ويزيد لبلوغ الغاية غرامه. وهذا يستدعي لتعليم الاداب أنم يجعل التلميذ مع اتصال بالحقيقة والطبيعة التي هي ميدان درس العالم بدلاً من حصره في مآزق تبعث نفسه على المقس والتأفف في حين كان يجب أن تذكي فيها شعلة حب العلم فقد قال الفيلسوف رنان: إننا نشبه بالقديسين والأبطال وكبار الرجال في كل عصر وجيل أهل الأخلاق العلمية الذين وقفوا أنفسهم خاصة للبحث عن الحقيقة غير مبالين بالملل بل ربما فاخروا بفقرهم وبسموا لما يقدم إليهم من التكريم وتساوى في نظرهم

المدح والقدح وهم على ثقة فيما يعملون سعداء لأن لهم الحقيقة ولا سبيل إلى نشر ما تعبت به عقول نوابغ الأرض في العلم والآداب والصناعات إلا على أيدي أساتذة جهابذة وبغير ذلك لا يرتقي الحس. والتعليم الديني نافع جداً في تربية الحس فقد قال جبرائيل كومبايري: باعد عن الجنس البشري الاعتقاد بعالم أخروي أرقى مما هو فيه فإنك تسلبه بطبيعة الحال جزءاً من القوى اللازمة للتخلق بالفضيلة فإذا لم يكن هذا العالم إلا خلاءً واسعاً يضيع فيه صوت الإنسانية في الفراغ بدون أدنى قوة عاملة تضمن للعدل نصرة أبدية فالإنسانية معرضة للسقوط في حياة سافلة لاستهوائها وافتتانها بالمفاسد وما يتسرب إليها من مغريات الملاذ المادية وسواء علم الناس التعليم الديني أو لم يعلموه فمن الثابت أن الخرافات تقوى بضعف الأديان ولقلة العناية يفسد الدين ولكنه لا يضمحل فالواجب تلقين الطفل لباب الدين لا الحشو ولا اللغو ليشب على المعقول والتشبث بأذيال الجوهر بعيداً عن التعصب وصغر العقل فقد قال فكتور هوغو: إن ما يخفف الألم ويغرس التقوى والقوة والعقل والصبر والطهر والحرية في الإنسان هو أن ينظر على الدوام على عالم أحسن مما هو فيه يلمع من خلال ظلمات هذه الحياة.

الدرر الكامنة

الدرر الكامنة ليس أحسن من تراجم الرجال للوقوف على حال السياسة والاجتماع في عصر من العصور ففي جملة ما طبع من كتب التراجم والطبقات كتاب خلاصة الأثر في تراجم أهل القرن الحادي عشر للمحبي المتوفى سنة 1111 وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي المتوفى سنة 1232 ولم تطبع تراجم أعيان القرن الثامن والتاسع والعاشر وإن كان مثل السبكي في طبقاته والصلاح الكتبي في وفياته قد تعرضا لبعض المترجمين في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لحافظ عصره قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن علي حجر الكناني العسقلاني الأصل المصري والضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902 وإن لم يدركا من الرجال من جاء ممن ذكرهم صاحب الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة النجم الغزي المتوفى سنة 1061. وها نحن نتكلم عن الدرر الكامنة وسنعقبه في الجزئين التاليين بالكلام على الضوء اللامع والكواكب السائرة. جاء في كشف الظنون: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 اثنتين وخمسين وثمانمائة مجلد ضخم أوله الحمد لله الذي يحيي ويم يت الخ جيمع فيه تراجم من كان في المائة الثامنة من الأعيان مرتباً على الحروف ذكر في آخره أنه فرغ منه في شهور سنة 830 ثلاثين وثمانمائة ولم يكمل الغرض لبقايا من التراجم في الزوايا ثم اختصره جلال الدين السيوطي في مجلد ولابن المبرد أيضاً مختصره. أما الكتاب الذي نحن بصدده فمنه في دمشق مخطوط قديم بخط إبراهيم البقاعي مهمل غير معجم وتعسر في الحايين قراءته وهو في مجلد ضخم من القطع الكبير قال في مقدمته: أما بعد فهذا تعليق مفيد جمعت فيه تراجم من كان في المائة الثامنة من الهجرة النبوية من ابتداء سنة إحدى وسبعمائة إلى آخر سنة ثماني مائة من الأعيان والعلماء والملوك والأمراء والوزراء والأدباء والشعراء وعنيت فيه برواية الحديث النبوي فذكرت من اطلعت على حاله واشرت إلى بعض مروياته إذ الكثير منهم شيوخ شيوخي وبعضهم أدركته ولم القه وبعضهم لقيته ولم أسمع منه وبعضهم قد سمعت منه واستمددت فيب هذا الكتاب من أعيان العصر لأبي الصفا الصفدي ومجاني العصر لشيخ شيوخنا أبي حيان ومذهبه وذهبة العصر

لشهاب الدين أبي الفضل وتاريخ مصر لشيخ شيوخنا الحافظ قطب الدين الحلبي وذيل سير النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي وذيل ذيل المرآة للحافظ علم الدين البرزالي والوفيات للعلامة تقي الدين ابن رافع والذيل عليه للعلامة شهاب الدين ابن جحى وما جمعنا صاحبنا تقي الدين المقريزي في أخبار الديار المصرية وخططها ومعاجم كثير من شيوخنا والوفيات للحافظ أبي الحسين بن أسد الدمياطي والذيل عليه لشيخنا الحافظ أبي الفضل بن الحسين العراقي وتاريخ غرناطة للعلامة لسان الدين ابن الخطيب والتاريخ للقاضي ولي الدين ابن خلدون المالكي إلى غير ذلك وبالله الكريم عوني وإياه أسأل عن الخطأ صوني إنه قريب مجيب. . وهذا المجلد في 267 ورقة مرتبة على حروف المعجم يميل فيه المؤلف إلى الاختصار وفيه من تراجم المشاهير ترجمة أبي جعفر ابن الزبير والشهاب الأذرعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن فضل الله العمري وعماد الدين ابن كثير وابن الوردي وابن الشهاب محمود وابن المطهر الشيعي والصلاح الصفدي والعلائي والطوفي وابن خطيب داريا وابن عقيل وابن القيم وبرهان الدين القيراطي وابن هشام وابن رجب وابن جماعة والتاج السبكي والأردبيلي والتقي السبكي والسلطان محمود غاران والحافظ البرزالي وابن الأكفاني والحافظ اله1بي وشيخ الربوة ولسان الدين ابن الخطيب والخطيب القزويني والكمال ابن الزملكاني وابن دقيق العيد والبدر البلقيني وابن الوكيل وابن سيد الناس وابن نباتة وابن الحاج وابن المكرم والشمس القونوي وأبو حيان الأندلسي وقطب الدين الشيرازي والحافظ المزي وغيرهم ممن كانوا غرة ذاك القرن. كما أن فيه من الخاملين ممن لا تسقط لهم على تراجم ولو مختصرة إلا في هذا السفر ومن أعظم ما يلفت نظرك في هذا الكتاب روح التعصب التي كانت مستحوذة في ذاك العصر أيام كان يقتل كل من يخالف الجمهور في فكر أو مذهب فتقرأ فيه صورة مكبرة من حال ذاك القرن الذي استولت فيه على هذه البلاد الجراكسة والتتار ممن أصبحوا ألعوبة في أيدي المتعصبة من رجال الدين هاك ما قاله في ترجمة إسمعيل بن سعيد الكردي المقري المصري تفقه وتمهر في القراآت والفقه والعربية وكان طلق العبارة سريع الجواب حسن التلاوة يدري الحاوي والحاجبية ويحفظ الكثير من التوراة والإنجيل رمي بالزندقة بسبب

أنه كان كثير الهزل وحفظت منه كلمات قبيحة حتى صار يقال له إسمعيل الكافر وإسمعيل الزنديق وطلب إلى تقي الدين الأختاي وأدعي عليه فخلط في كلامه فسجن فجاءه شخص من الصالحين فأخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له قل: للأخناي يضرب رقبة إسمعيل فإنه سب أخي لوطاً فاستدعى به وأعد مجلساً وأقيمت عليه البينة بأمور معضلة فأمر به فقتل بحكم المالكي بين القصرين في السادس والعشرين من صفر سنة عشرين وسبعمائة نقلته من خط القطب وذكر أنه حضر ذلك وقال كان قد نظر في المنطق فدخل في كلام لا فائدة فيه فضبط عليه. وقرأت في تاريخ موسى بن محمد اليوسفي أنه كان مشهوراً بالعلم بين الفقهاء وله فضيلة مشهور في الأدب. . قلنا وأقبح بعصر يقتل فيه العالم عقيب رؤيا يراها أحد أرباب الخيال. وممن ضربوا على الزندقة ناصر بن أبي الفضل بن إسمعيل المقري الصالحي ولد سنة 666 ونشأ جميلاً جداً وكان صوته مطرباً فكان يقرأ في الختم والترب وحفظ التنبيه ثم ركب الباجر يقي علي فصار يقع منه كلمات معضلة وسلك سبيل التزهد ودخل إلى بغداد مع ركب العراق فيقال أنهم نقموا عليه شيئاً وهموا به فتوجه إلى ماردين ثم فر منها إلى حلب فجرى على عادته في الشطح فأنكر عليه كمال الدين بن الزملكاني وهو يومئذ قاضي حلب فقبض عليه وأرسله مقيداً إلى دمشق فقامت عليه البينة عند القاضي شرف الدين المالكي فأعذر إليه فما أبدى عذراً بل تشهد وصلى ركعتين وجهر بتلاوة القرآن ثم ضربت عنقه وذلك في ربيع كالأول سنة 726 ويقال أنه أنشد حين قدم ليقتل: إن كان سفك دمي اقصى مرادهم ... فما غلت نظرة منهم بسفك دمي وقال ابن الحبيب قلت فيه لما قتل: يا أيها الهيتي هيت إلى الردى ... كم تجتري بلسان خب هالك أرسلت من حلب لجلق موثقاً ... ونقلت بعد الشافعي لمالك وفي الحاشية بخط ابن حيان البقاعي: قال ابن كثير ضربت عنقه بسوق الخليل على كفره واستهتاره بآيات الله وشركه وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان والشمس محمد الباجريقي وابن العمار البغدادي قال الشيخ علم الدين: وحضر قتله العلماء والأكابر وأرباب الدولة وكان يوماً مشهوداً أعز الله فيه الإسلام (!) وأذل فيه الزنادقة وأهل البدع وقد شهد مهلكه

وكان شيخنا ابن تيمية أيضاً حاضراً يومئذ وقن أنبه وقرعه على ما كان يصدر منه اهـ. . وقال في ترجمة السكاكيني ما نصه: محمد بن أبي بكر بن ابي القاسم الهمداني ثم الدمشقي السكاكيني الشيعي ولد سنة 635 بدمشق طلب الحديث وتأدب وسمع وهو شاب ابن إسمعيل العراقي والرشيد بن مسلمة ومحمد بن علام في آخرين وتلا بالسبع روى عنه البرزالي والذهبي وآخروتن من آخرهم أبو بكر بن المحب وبالإجازة شيخنا برهان الدين التنوخي. وأقعد في صناعة السكاكين عند شيخ رافضي فافسد عقيدته فأخذ عن جماعة من الإمامية وله نظم وقصائد ورد على العفيف التلمساني في الاتحاد وأمَّ بقرية جسرين مدة وأمَّ بالمدينة النبوية وعند أميرها منصور بن جماز (؟) ولم يحفظ عنه سب في الصحابة بل له نظم في فضائلهم إلا أنه كان يناظر على القدر وينكر الجبر وعنده تعبد وسعة علم قال ابن تيمية: هو من يتسنن به الشيعي ويتشيع به السني. وقال الذهبي: كان حلو المجالسة ذكياً عالماً فيه اعتزال وينطوي على دين وإسلام وتعبد سمعنا منه وكان صديقاً لأبي وكان ينكر الجبر ويناظر على القدر ويقال أنه رجع في آخر عمره ونسخ صحيح البخاري ووجد بعد موته في سنة خمسين وسبعمائة بخط يشبه خطه كتاب يسمى الطرائف في معرفة الطوائف يتضمن الطعن على دين الإسلام وأورد فيه أحاديث مشكلة وتكلم على متونها تكلم عارف لما يقول إلا أن واضع الكتاب يدل على زندقة فيه وقال في آخره وكتبه مصنفة عبد الحميد بن داود المصري وشهد جماعة من أهل دمشق أنه خطه فأخذه تقي الدين السبكي عنده وقطعه في الليل وغسله بالماء ونسب إليه عماد الدين ابن كثير الأبيات التي أولها. أيا معشر الإسلام ذمي دينكم الأبيات ومات السكاكيني في صفر سنة 731 وفي الحاشية وجزم ابن كثير أن الكتاب الدال على الزندقة خطه وقال: إن فيه انتصاراً لليهود وأهل الأديان الفاسدة قال ولما مات لم يشهد دفنه القاضي شمس الدين بن مسلم ودفن بسفح قاسيون وقتل ابنه فيما بعد على قذف أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهما. وتراجم مثل السكاكيني تؤخذ على أمثال الحافظ الذهبي وكفاه فضلاً أن مثل الذهبي والبرزالي يعدان من مفاخرهما الأخذ عنه وآثار التعصب والحقيقة لا تخفى على قراء العبارة الأخيرة. وقال في ترجمة علي بن الحسن بن أبي الفضل بن جعفر بن محمد ابن

كثير الحلبي الرافضي قدم دمشق وأقام بها سنوات فاتفق أنه شق الصفوف الناس في صلاة جنازة بالجامع الأموي وهو يعلن بسبب من ظلم آل محمد فنهره عماد الدين بن كثير وأغرى به العامة وقال أن هذا يسب الصحابة فحملوه إلى القاضي تقي الدين السبكي فاعترف بسب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعقدوا له مجلساً فحكم نائب المالكي بضرب عنقه تعزيزاً وزجراً بعد أن كررت عليه التوبة ثلاثة أيام فأصر فضربت عنقه بسوق الخليل وحرق العوام جسده وذلك في جمادى الأولى سنة سبعمائة وخمس وخمسين. ومن أنعم النظر في تراجم من قتلوا يتضح له أنهم كانوا على جانب عظيم من العقل والعلم وأن أكثر ما روي عنهم متقول عليهم ليجدوا السبيل إلى إقناع العامة والحكام لإزهاق أرواجهم. وفي الدرر عدة تراجم من هذا القبيل تدل على انحطاط في ذاك العصر وأن الناس كانوا يعمدون للتشفي ممن يحبون إلى استفتاء القاضي المالكي لأن مذهب مالك يقضي بأن يكون التعزيز بالقتل أو بالحبس أو بالتشهير كما وقع لأحمد بن محمد مري البعلي الحنبلي من أشياع بان تيمية فرفعوا أمره إلى القاضي المالكي بالقاهرة فضربه ضرباً مبرحاً بحضرته حتى أدماه ثم شهره على حمار أركبه مقلوباً ثم نودي عليه هذا جزاءُ من يتكلم في حق رسول الله صلي الله عليه وسلم فكادت العامة تقتله ثم أعيد إلى السجن. ومثل ما وقع لأحمد بن محمد البققي المصري الأديب العالم فضربوا عنقه بأمر القاضي المالكي بالطبع لأنه بدت منه كما قيل أمور تنبئ بأنه مستهزئ بأمور الديانة وأنه منحل مستحل المحرمات. ومثل ما وقع لأحمد بن محمد بن إسمعيل الحلبي الأديب المتصوف فضبطت عليه ألفاظ موبقة فرفع أمره إلى الحاكم بحلب فحكم القاضي المالكي صدر الدين الدميري بسفك دمه فقتل وهو القائل: إذا نلت المنى بصديق صدق ... فكان وداده وفق المراد فحاذر أن تعامله بقرض ... فإن القرض مقراض الوداد ومثله إسمعيل الكردي وأحمد الروسي وعثمان الدكالي وفضل الله ابن اليهودي ومحمد الباجريقي وعلي بن الحسن الرافضي وغيرهم ممن ذهبوا شهداء قضاة المالكية والمتعصبة

من العامة وبعضهم كانوا في مظهر علماءهم الذين أوصلوا الأمة إلى هذه الدرجة من الأفكار والتصور. ومن الغريب أنهم كانوا يخوفون حتى من كان على رأيهم من الفقهاء والعلماء فقد ذكر ابن حجر في ترجمة العلاء ابن العطار أن الشيخ شمس الدين النقيب وغيره تكلم فتاوى تصدر من أبي الحسن ابن العطر وادعوا أن فيها تخبيطاً ومخالفة لمذهب القاضي واجتمعوا عند بعض الحكام فبادروا جماعة من محبي الشيخ علاء الدين فقالوا له إنهم هيأوا شهادات يشهدون عليك بها فخارت قوته وبادر إلى الحنفي وصدرت عليه دعوى فحكم بإسلامه وحقن دمائه وبقاءُ جهاته علية!!! وها نحن أولاء ننقل ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية لأنها تصور لك مزية هذا الكتاب وهي خير ترجمة عثرنا عليها بل تصور لك ذاك العصر الذي كثر فيه تعذيب العلماء قال ابن حجر رحمه الله: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين ابن مجد الدين ولد سنة 661 وتحول به أبوه من حران سنة 67 فسمع من ابن أبي عبد الدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف. وأول ما أنكروا عليه في مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 فقام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم حضر مع القاضي إمام الديون القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال شيئاً عن الشيخ تقي الدين عزرناه. ثم طلب ثاني مرة سنة خمس وسبعمائة إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار ثم آل أمره إلى أن حبسفي خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة تسع إلى الإسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الإسكندرية. ثم حضر الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في

هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته فأملى منها شيئاً ثم أحضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقريء منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشره وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه شهد على نفسه أنه شافعي المعتقد (كذا) فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفع واحداً من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعززه وكذا فعل الحنفي باثنين منهم. ثم في ثاني عشرين رجب قرأ المزيّ فصلاً من كتاب أفعال العباد للبخار يفي الجامع فسمعه بعض الشافعية فغصب وقال: نحن المقصودون بهذا ورفعه إلى القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب فاشتظ اتبن تيمية على القاضي بكون نائبه جلال الدين آذى أصحابه في غيبة النائب فأمر النائب من ينادي: إن من تكلم في العقائد فعل به كذا. وقصد بذلك تسكين الفتنة. ثم عقد له مجلس في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال: ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حتى تكون أنت رئيسهم. فظن القاضي نجم الدين ابن صصري أنه عناه فعزل نفسه وقام فأعاده الأمراء وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية ونفذها المالكي فرجع إلى منزله وعلم أن الولاية لم تصح فصمم على العزل فرسم النائب لنوائبه بالمباشرة إلى أن يرد أمر السلطان. ثم وصل بريدي في أواخر شعبان بعوده ثم وصل بريدي في خامس رمضان يطلب القاضي والشيخ وأن أرسلوا بصورة ما جرى للشيخ في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر بأن الجاسنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشيخ وأن الأمر اشتد بمصر على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي والشيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان وعقد مجلس في ثالث عشريه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال: هذا عدوي ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم في المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس تتردد إليه فقال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر

إلى الجب وعاد القاضي الشافعي على ولايته ونودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصاً الحنابلة. فنودي بذلك وقرئ المرسوم قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي (؟). وذكر ولد الشيخ جمال الدين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أن جميع من بمصر من القضاة والشيوخ والفقراء والعلماء والعوام يحطون على ابن تيمية إلا الحنفي فإنه يتعصب له وإلا الشافعي فإنه ساكت عنه وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتاباً يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير. وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه. وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة. واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد وأسلموه خطه بذلك واتفق بأني قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية وكتب في خطه مخ0تصراً بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب منه بخطه ثلاثة عشر سطراً من جملتها: منذ ثلثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أن يشترطون معه شرطاً وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر. لم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث والعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء وكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري ثم وجد خطه بما نصه: الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديم وهوليس مخلوق وليس بحرف ولا صوت وأن قوله الرحمن على العرش استوى ليس على ظاهره ولا أعلم كنه المراد بل لا يعلمه إلا الله والقول في النزول كالقول في الاستواء وكتبه أحمد ابن تيمية.

ثم اشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختاراً وذلك في خامس وعشرين ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم وسكن الحال وأفرج عنه وسكن القاهرة. ثم اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدين ابن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريق وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فاقتضى الحال أن أمر بالمسير إلى الشام فتوجه على خيل البريد وكل ذلك والقاضي زيد الدين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض وقد اشرف على الموت وقد بلغه سفر ابتن تيمية فراسل النائب فرده من بلبيس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل ابن علاء الدين القونوي أيضاً شهد عليه فاعتقل بسجن حارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة تسع وسبعين فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الإسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم لمك يمكن أحداً من جهته من السفر معه وحبس برج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويبحثون معه. قرأت ذلك في تاريخ البرزالي فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان: قد تاب. وسكن بالقاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة 12 وذلك في شوال فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع كثير فرحاً بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة. ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 19 بسبب مسالة الطلاق وأكد عليه المنع من الفتيا ثم عقد له مجلس آخر في رجب ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة إحدى وعشرين ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 26 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة 827. قال الصلاح الصفدي: كان كثيراً ما ينشدني: تموت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها

وما أنصفت مهجة تشتكي ... أذاها إلى غير أحبابها وكان ينشد كثيراً: من لم يقد ويدس في خيشومه ... رهج الخميس فلن يعود خميسا وأنشد له على لسان الفقراء: والله ما فرقنا اختيار ... وإنام فرقنا اضطرار جماعة كلنا كسالى ... واكلنا ما له عيار تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عنه وكأبي حيان كذلك وغيرهما قال ورثاه محمود بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين ابن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين ابن غانم وشهاب الدين ابن فضل الله وزين الدين ابن الوردي وجمع جم وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة. قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه قال: وما رأيت أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردوها منه ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة وكان ىية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أحوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هذا مع ما كان عليه من المكارم والشجاعة والفراغ من ملاذ النفس ولعل فتاويه في النون وتبلغ ثلثمائة مجلد بل أكثر وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم. قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته بالله وكثرة توجهه وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشراً من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع كان كبارهم خاضعين لعلومه معترفين بشفوفه مقرين بندور خطائه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك.

قال: وكان محافظاً على الصلاة والصوم معظماً للشرائع ظاهراً وباطناً ولا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط ولا من فقلة علمه فإنه بحر زخار ولا كان متلاعباً بالدين ولا ينفرد بمسائل بالتشهي ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن يناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر على خطائه وأجران على إصابته إلى أن قال: تمرض أياماً بالقلعة تمرضاً جداً إلى أن مات لية الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفاً. قال الشهاب بن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى لاقاهرة في سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد وأغلظ القول للسلطان والأمراء ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم ديناراً ومخفقة طعام فلم يقبل من ذلك وأرسل له السلطان بقجة قماش فردها قال ثم حضر عنده شيخنا ابو حيان فقال ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها: لما أتاني تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر على محياه من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حبر تسربل منه دهره حبراً ... حبر تقاذف من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... قام سيد تيم غذ عصت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طالت له شرر كنا نحدث عن حبر يجيء فها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر قال ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلط ابن تيمية القول في سيبويه فنافره أبو حيان وقطعه بسببه ثم عاد ذاماً له وصير ذلك ذنباً لا يغفر قال: وحج ابن المحب سنة 734 فسمع من أبي حيان أناشيد فقرأ عليه هذه الأبيات فقال قد شتها من ديواني ولا أذكره فسأله عن السبب فقال: ناظرته في شيءٍ من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال ليس بشيءٍ قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب وبقال أن ابن تيمية قال له ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصوماً بل أخطأ في أكثر من أربعين موضعاً وما تفهمها أنت فكان

ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوءٍ وكذلك في مختصره النهر ورثاه شهاب الدين ابن فضل الله بقصيدة رئية مليحة وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى. ورثاه زين الدين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية قال كمال الدين السومري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة فينتقش في ذهنه وينقله من مصنفاته بلفظه ومعناه. وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخرى وما من فن إلا وله فيه يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان. قال الطوفي: سنعته يقول: من سألني مستفيداً حققت له ومن سألني متعنتاً ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته وذكر تصانيفه وقال في كتابه أبطال الحيل عظيم النفع: وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث ويورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه فيأخذ منها ما يشاء ويذر. ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه واستشعر بأنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيءٍ فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه بكلام قوي فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ. واتفق أن السيخ نصراً المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد بأنه مستقيم وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه فأرسل ينكر عليه فكتب إليه كتاباً طويلاً ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد فعظم ذلك عليهم وأعانه عيله قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد منكرة (؟) وقعت منه في مواعيده وفتاويه فذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا. فنسب إلى التجسيم

ورده على من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم واستغاث فاشخص من دمشق في رمضان سنة خمس (بعد السبعمائة) فجرى عليه ما جرى وحبس مراراً فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصراً قام على الشيخ كريم الدين الأيلي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه وعلى شمس الدين الحريري فأخرجه من تدريس الشريفية فيقال أن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يوماً فلم يخرج حتى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تيمية إلى الشام. وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستوي على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أن لا أسلم أن التحيز والانقسام منة خواص الأجسام فألزم بأنه يقول ثبت (؟) التحيز في ذات الله تعالى. ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغاث له وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اشد الناس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض المحاضرين: يغزز فقال البكري لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصاً يقتل وإن لم يكن لا يعزز. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة وأن عثمان كان يحب المال ولقوله أبو بكر أسلم شيخاً لا يدري ما يقول وعلي اسلم صبياً والصبي لا يصح إسلامه على قول ولكلامه في قصة خطبة ابنة أبي جهل وما فيها من الثناء على. . . وقصة أبي العاص بن الربيع وما يوجد من مفهومها فإنه مشنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم ولا يبغضك إلا منافق. ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيداً قال: وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عمل أبياتاً على لسان ذمي في إنكار القدر وأولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأعظم حجة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي فوقف عليها ابن تيمية فثنى إحدى رجله على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة واسعة عشر بيتاً أولها: سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش باري البرية وقال شيخ شيوخنا الحافظ ابن سيد الناس في ترجمة ابن تيمية وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين قال: فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكان يستوعب السنة والآثار حفظاً إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، بزر في كل فن على أبناء جنسه، فلم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحره العذب النمير، ويرتعون ممن ربع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد وألب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليهم من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً، أوسعوه بسببه ملاماً، وفوقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينسبون من الفقر إلى طريقه، ويزعمون أنه على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، وكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم وموابق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعته، فأوصلوا إلى الأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا المحاضر، وألهبوا الرويبضة (؟) للسعي بها عند الأكابر وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية فنقل، وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من عامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وليس بالمجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المجامل وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل من نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه

ذلك إلى حيث ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله والى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتبركون بمشهده يوم تقوم الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد. وقال الذهبي مترجماً له في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر. وقال في موضع آخر وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير وفي موضع آخر وله باع طويل في معرفة أحوال السلف وقلَّ أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها المذاهب والأئمة وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده ومن بحفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين. وقال في موضع آخر: بصيراً بطريقة السلف واحتج له بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحج عنها غيره حتى قام عليه خلق من العلماء بالمصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق اذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فجرى بينهم حملات جزئية ووقعات شامية ومصرية ورموه عن قوس واحدة ثم نجاه الله سبحانه وتعالى وكان دائم الاشتغال كثير الاستغاثة قوي التوكل رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها. وكتب الذهبي إلى السكبي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية وفرط ذكاءه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره في نفسي أكثر من ذلك وأجل ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل من الزمان.

وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين خليل العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيمت بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق السالك بمن اتبعه أحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج الباهرة التي أقرت الأمم كافة أن همها عن حصره قاصرة متعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشيخ الإمام العالي الرباني والحبر البحر القطب النوراني إمام الأئمة بركة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين شيخ الإسلام حجة الأعلام تقي الدين. . . سيف المناظرين برح العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأوان. . . حجة الله على العالمين اللاحق بالصالحين للماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ ركن الشريعة كنز المعاني والألفاظ ذي الفنون البديعة أبي العباس ابن تيمية اهـ. هذه ترجمة نابغة الإسلام وأعجوب علماء القرون الوسطى ولو لم يكن في هذا الكتاب سوى ترجمته لكان كافياً في طبعه والكتاب نسخة نفيسة نادرة في بابها لأن ناسخه عالم محقق ويعتاد الإنسان قراءة خطه على إعجامه بعد قراءة بضع صفحات منه وقد طمست بعض سطوره من أوائل بعض الصفحات لماء أو رطوبة ولكن يسهل إثبات الصحة ولو بمراجعة بعض المظان المطبوعة وغيرها. والكتاب كما تقدم بخط البرهان البقاعي المفسر قال في آخره: قال شيخنا شيخ الإسلام والحفاظ مصنفه ومن خطه نقلت النسخة التي نقلت منها هذه فرغ منه جامعه سوى ما ألحق فيه بعد تاريخ فراغه في شهور سنة ثلاثين وثماني مائة ثم ألحق فيه إلى سنة سبع وثلاثين ولم يكمل الغرض من الإلحاق لبقايا من تراجم في زوايا لم أستوعبها بعد أعان الله تعالى على استكمال ذلك بمنه وكرمه آمين. قلت (البقاعي) وكانت كتابتي فيه للنسخة الأولى في ربيع الآخر سنة 855 وعسر عليَّ قراءة كثير من النظم الذي في التراجم وغير ذلك ثم نقلته كذلك إلى هنا والمرجو من فضل الله تعالى من تحرير ذلك ومقابلته جميعه على الأصل المنقول منه أن تيسر وتحرر ذلك من أصوله إن شاء الله تعالى وكان فراغي من هذه في 17 شوال سنة 859 بمنزلي بحارة بهاء الدين في القاهرة اهـ. أما ابن حجر العسقلاني فهو شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر نسبة إلى حجر

قوم تسكن الجنوب العسقلاني الأصل المصري المو لد والمنشأ والدار والوفاة ولد سنة سبعمائة وثلاث وسبعين وتوفي سنة ثمانمائة واثنين وخمسين والمؤلف هذا معدود من أئمة الشافعية وله غير ذلك من الكتب منها تاريخ مرتب على السنين سماه أنباء الغمر في أبناء العمر وفي المكتبة الظاهرية مسودته بخط مؤلفه وهي لا تكاد تقرأ لما فيها من سقم الحروف والشطب والتعليق قال في مقدمته: وبعد فيقول العبد الضعيف أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني الأصل المصري المولد القاهري الدار هذا تعليق جمعت فيه حواذث الزمان منذ مولدي سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة وهلم جرا مفصلاً كل سنة أحوال الدول ووفيات الأعيان مستوعباً لرواة الحديث خصوصاً من لقيته أو أجاز لي إلى أن قال وسميته أنباء الغمر في أبناء العمر. وهاك نموذجاً من تأليفه: سنة سبع وسبعين وسبع مائة: فيها في المحرم طهر السلطان أولاده وعمل لهم مهيا عظيماً أنفق فيه من الأموال ما لا يحصى وظهر فيه من الفواحش والقبائح ما لا مزيد عليه واستمر ذلك سبعة أيام. سنة أربع وسبعين وسبع مائة: وفيها كان الوباءُ بدمشق فدام مدة تسعة أشهر وبلغ العدد في كل يوم مائتي نفر. سنة أربع وتسعين وسبع مائة: هجم على النائب بدمشق خمسة أنفس فقتلوه وأخرجوا من الحبس من الميكاسه (؟) وهم نحو مائة نفر وملكوا القلعة لحاجبهم الحاجب في عسكر دمشق وضيق عليهم إلى أن غلبوا فأحرق عليهم الباب وأمسكوا الثائرين فلم يبقوا منهم إلا من هرب. وقال في أول الجزء الثاني وهو يبتدئ بأول القرن التاسع من الهجرة ما نصه: دخلت سنة إحدى وثماني مائة وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الظاهر أبو سعيد برقوق وسلطان الروم أبو زيد عثمان وسلطان اليمن من نواحي تهامة الملك الأشرف ومن نواحي الجبال الإمام الزيدي الحسني وسلطان المغرب الأدنى أبو فارس عبد العزيز الحفصي وسلطان المغرب الأوسط المريني وسلطان المغرب الأدنى ابن الأحمر وصاحب البلاد الشرقية تيمور وكان المعروف باللنك وصاحب بغداد أحمد بن إدريس وأمير مكة حسن بن عجلان والخليفة العباسي أبو عبد الله المتوكل على الله ويدعى أمير المؤمنين وينازعه بهذا الاسم الإمام الزيدي وبع ملوك المغرب وصاحب اليمن. وقد امتد الكتاب إلى سنة خمسين وثمانمائة وبدئ بعد سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة وقد

ذكر صاحب كشف الظنون أذيلاً لأنباء الغمر فمن لنا بأن نظفر بالأصل والفرع ويطبعا كما يطبع الدرر الكامنة. وأما ناسخ الكتاب فهو برهان البقاعي صاحب المناسبات ترجم له الضوء اللامع ترجمة مطولة وكلها مطاعن لأنهما تدارسا العلم في سن الطلب واستفاد كل منهما من الآخر على عادة الطلبة فمما قاله فيه إنه إبراهيم بن عمر البقاعي برهان الدين وكنى نفسه أبا الحسن الخرباوي البقاعي صاحب تلك العجائب والنوائب والقلاقل والمسائل المتعارضة المتناقضة ولد فيما زعم تقريباً سنة تسع وثمانمائة بقرية يقال لها خربة روحا من عمل البقاع ونشأ بها ثم تحول إلى دمشق ثم فارقها ودخل بيت المقدس ثم القاهرة قال ووقائعه كثيرة وأحواله شهيرة ودعاويه مستفيضة أهلكه التيه والعجب وحب الشرف والسمعة بحيث زعم أنه قيم العصرين بكتاب الله وسنة رسوله إلى غير ذلك من المطاعن التي وجهها إليه وظهرت فيها نواجذ الشر والعداوة على أنه من أهل العلم المذكورين في عصره والمعدودين من محاسن دهره ولو لم يكن له إلا تفسيره في تناسب الآيات والسور الذي لم يؤلف في الإسلام مثله لكفاه فضلاً ورحل في آخر أمره إلى دمشق واتخذها موطناً وتوفي في رجب سنة 885 ودفن في مقبرة الحمرية ظاهر الشويكة في دمشق الشام ويوجد في المكتبة الظاهرية من تفسيره المنوه به نسختان عورضت إحداهما على مؤلفها وبها خطه رحمه الله.

المسلمون والبولونيون

المسلمون والبولونيون في الغرب من مملكة روسيا وفي الجنوب من بروسيا وفي الشمال من النمسا بلاد متنائية الأطراف وساعة البقاع مخصبة الرباع كثيرة الأنهار والغابات والمناجم اسمها بولونيا أي السهل باللغة الصقلبية وهي المعروفة في تواريخ الأتراك باسم لهستان قضى عليها نكد الطالع أن تفقد استقلالها لاختلاف كلمة أمرائها وأبنائها منذ نحو قرن ونصف فتقاسمتها روسيا والنمسا وألمانيا وتبلغ مساحة بولونيا الروسية وفيها عاصمة البلاد القديمة فارسوفيا 127. 319 كيلومتراً مربعاً وسكانها 9. 456. 000 واذا أضنا إليهم سكان بولونيا النمسوية وبولونيا الألمانية يبلغ عددهم نحو عشرين مليوناً بحسب تقدير الجغرافيات الحديثة من أهل أوربا يدين نحو نصفهم بالكثلكة وباقيهم إسرائيليون وبرتستانت ومسلمون تاتار. ومناخ هذه البلاد شديد ول كنه معتدل في الجملة اذا قيس بمناخ روسيا وهو حار في الصيف بارد جداً في الشتاء وتقل فيها الثلوج وتجمد فيها الأنهار في الشتاء من شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر ونصف وقد انتشرت فيها الصناعات لكثرة ما فيها من الفحم الحجري فأصبحت أهم أقاليم روسيا من هذه الوجهة أما التجارة فتاد تكون محصورة في أيدي الإسرائيليين. وتاريخ هذه الأمة قديم غامض أشبه بأساطير حتى القرن التاسع للميلاد وغاية ما يعلم أن هذه الأقطار الممتدة بين البحر الأسود وبحر البلطيق كان يسكنها في الأصل شعوب اسمها الأنتس والهنت والفاند ثم نزلها الصقالبة. وأول زعيم أنشأ مملكة بولونيا فلاح صالح اسمه بياست فحكمها إلى سنة 1333 ودخلت النصرانية إلى بولونيا على يد ميسيسلاس الأول (962_922) وانضمت بلاد ليتوانيا إلى بولونيا في القرن الرابع عشر بزواج هدويج ابنة كازمير الأول (1333_1370) من لاديسلاس جاجلون. وفي أوائل القرن الخامس عشر أي وفي العهد الذي بدأت تنشأ في أوربا ممالك مطلقة الحكم مستبدة السلطان بدأ الفشل السياسي والفوضى الإدارية تدب في مملكة بولونيا مما عجل تقسيمها وحذفها من رقعة السياسة الأوربية وذلك لاختلاف مصالح البلادين ليتوانيا وبولونيا واختلاف لسانيهما فكانت مجالس النواب في الولايات متباينة المقاصد تعاكس الملك في أقل الأمور حتى في عزل الموظفين الذين كانوا يعينون بلا عزل مدة حياتهم

وأقل صاحب رأي في الانتخاب يوقف عمل الأكثرية ويفسد عليها أمرها حتى انقلبت الحال بعهد أن كتب النصر لبولونيا على الهوسيين وفرسان حملة السيوف أن تبقى بلا حكومة ولا جيش ما خلا أيام أسرة جاجلون. وقد بدأ انحطاط بولونيا على عهد سيجسموند فازا سنة 1618 فأصبحت المملكة بدون مالية ولا بيت ملك وطني بل كان ينتقل الملك من فرنسوي يعينه مجلس النواب إلى مجري هذا وليس للبلاد حدود طبيعية تحميها من هجمات المهاجمين. ثم عادت إلى البلاد بعض حياتها على عهد يوحنا سوبيسكي (1674_1695) فأصبح لها بعض مجد بجيش لها نظمته فبالجيش البولوني أنقذت فيينا من أيدي العثمانيين الذين حاصروها ولكن لم تعد نجاة البولونيين للنمساويين بشيءٍ من الفائدة عليهم ولا على حكومتهم. وخلف المنتخب فريدرك أغطس في ساكس ملكها سوبيسكي فاستند إلى إمارته سكسونيا فاستقام له أمر بولونيا ثم خلع وتداخلت روسيا في أمره ثم نشأ خصام بين بيوت الملك في بولونيا يدعي كل منهم حق التملك على البلاد وفي سنة 1764 قضت إرادة كاثرينا الثانية صاحبة روسيا بتأييد ساتنيسلاس بونيانوفسكي على عرش السلطنة البولونية وفي وسط ذاك الاضطرابات كثرت الانقسامات الداخلية وجاءت الفتن الدينية التي كانت هادئة هناك فانضمت إلى المنافسات السياسية وذلك بما تخلل الأمر من عبث الأصابع الأجنبية فاستصرخ الأروام كاثرينا الثانية إمبراطورة روسيا واستنجد البرتستانت ماري تريز ملكة النمسا وفريدرك الثاني. وكان لروسيا نفوذ في مجلس نواب سنة 1766 فسعت إلى إطلاق حرية المذهب وألفت حرية الانتخاب فاستقام أمر الحكومة وكان الاضطراب عندما ألفت سنة 1768 اتحاد بار يضمن احترام الاستقلال الوطني ولكن كان قد سبق السيف العذل فتقرر بين روسيا والنمسا سنة 1772 تقسيم بولونيا ولم يقاوم في ذلك من الدول سوى الدولة العلية فتقاسمت النمسا وألمانيا وروسيا تلك المملكة العظمى وفي سنة 1795 قسمت البلاد نهائياً فوقعت العاصمة أي فارسوفيا من حصة روسيا وكراكوفيا وفيها كلية بولونيا العظمى من حظ النمسا ونالت بروسية بقية المملكة ثم نظم جزء منها مملكة جديدة ولكنها انتفضت وثارت سنة 1830 فدخل الروس إلى فارسوفيا بعد أن أبلى البولونيون بلاءً حسناً فانحلت مملكة فارسوفيا وأقفلت كلية فلينا البولونية وصادرت الأموال

ونفت الرجال فأصبحت بولونيا ولاية روسية وقام البولونيون سنة 1863 ثانية وحملهم على الانتفاض وما رأوه من اشتغال روسيا في حرب الشرق فألف البولونيون منهم عسكراً لا يبقي ولا يذر بالنظر لقلة عدده تمكنت روسيا من قمع جماح الفتنة بعد سنة من نشوبها وما فتئ منذ ذاك العهد حال بولونيا في الولايات الروسية آيلا إلى نزع لغتها وإبدالها باللغة الروسية وتدريب أهلها على المناحي الروسية وكذلك حال ولايات بروسيا آخذة بالصبغة الألمانية الجرمانية. هذا إجمال من تاريخ انقسام مملكة بولونيا أما حالتها الأدبية والعمرانية فإن لغتها من فروع اللغات السلافية الغربية وقريبة جداً من اللغة الكاسوبية واللغة البولابية. وفي بولونيا عدة لهجات وقد نشأ من كلية كراكوفيا التي أنشأها كازمير الأكبر عدة رجال في الفلسفة والعلم منهم كوبرنيك الفلكي ونجحت اللغة البولونية على عهد ملوكها من أسرة جاجلون وذلك بفضل دعاة المذهب البرتستانتي الذين اختاروا نشر تعاليمهم بلغة الشعب وعلى يوحنا كوشانوفسكي سلم ذوق اللغة وتألفت على القواعد العلمية المألوفة لليونان والرومان ودام ذلك إلى القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر وهما قرنا الانحطاط لأن القوم شكغلوا بالفتن الداخلية فلم يعد أحد ينظر في الأدب وداهمت اللغة مفردات من اللغات الأجنبية. وقد نشأ للآداب البولونية شعراء وكتاب كبار ومؤلفون ووعاظ وأثريون ومؤرخون وجغرافيون وقصصيون ودخل الشعر البولوني عل عهد الثورة سنة 1830 في طور جديد وأثر على عقول الناهضين من شبانهم أحوال الفتن وانطلقت ألسنتهم بالشعر الممزوج بعواطف النفوس المتألمة ودامت طبقة الشعر في ارتقاء إلى أواخر القرن التاسع عشر بما تنشأ لهم من الشعراء بل والشاعرات المجيدات الذين حركوا كوامن النفوس وهيأوها لمطلب الكمال والاستقلال وساعد القصصيون خاصة بما نشروه من الأساطير والروايات على ترقية اللغة البولونية وإدخال حياة جديدة فيها في العهد الأخير دع عنك من خرج من هذه الأمة من الفلاسفة والمؤرخين. وإن ما بقي من الآثار القليلة والعاديات في تلك البلاد ليدل دلالة واضحة على أن قدماء الصقالبة كانوا يحبون الصناعات والفنون وكذلك كانت الحال في القرون الوسطى في

بولونيا فإن ملوكها حموا حمى الصنائع النفيسة فكانوا يأتون من إيطاليا بالبنائين والنقاشين المصورين حتى جاراهم البولونيون ونافسوهم في هذه الأعمال بعد. ولكن الفتن التي استطار شرارها في القرنين الأخيرين سلب من نفوس البولونيين قرارها فهاموا على وجوههم بعد فقد استقلالهم في طول أوربا وأميركا وعرضهما وكثر منهم المهاجرون ولاسيما إلى أميركا الشمالية حتى قيل أنهم بلغوا نحو مليوني بولوني يحافظون إلى اليوم على لغتهم وآدابهم وعاداتهم القومية. وللبولونيين غرام فائق في احتفاظهم بلغتهم وبتناغيمهم بتاريخهم فتراهم كلما طال المطال على تمزق ملكهم يحنون لاسترجاعه وتقوى عزائمهم على المطالبة به ولكن أوربا أو الساسة من أهلها قد قدت قلوبهم من حجر فلا تسمع لباك ولا تؤحم كل شاك. على أن البولونيين لم يعتمدوا بعد التجارب الكثيرة إلا على أنفسهم فكانوا وما زالوا يستعدون في بلادهم وخارجها للتربية الحربية حتى لا تزول منهم ملكة الكر والفر وقد أنشأوا لغرض الاستقلال جمعيات بثوا دعاتها في بلادهم وفي أوربا وأميركا يجمعون المال إلى أيام الشدة وهاذ المال يحفظونه في الغالب في فروع جمعياتهم في سويسرا وقد صرفوها كلها في الفتن الأخيرة التي ثارت في بولونيا الروسية عقيب حرب روسيا مع اليابان فكانت تأتينا أخبار فارسوفيا بفظائع البولونيين وشدة حكومة روسيا في قطع دابر الفتنة. وفي سويسرا أيضاً حفظ البولونيون تاج آخر ملكهم وصولجانه ونموذجاً من ألبستهم جعلوها في متحف خاص. ولما انتشر ت الحرية بعض الشيء في روسية تنفس خناق البولونيين وقاموا يعيدون أمجاد آبائهم بمدارسهم ولم تنل روسيا مأرباً من نزع لغتهم وتلقينهم لغتها بالقوة بل عادت اللغة البولونية أكثر انتشاراً مما كانت قبل انقسام بلادهم ومن الغريب أن التشتت الذي أصاب أهلها والسعي الحثيث في معاملة مدارسها بالشدة في ألمانيا وروسيا لم تسفر إلا عن اندماج كثير من اليهود الجرمانيين في الجنسية البولونية لأن البولونيين من أقدر الأمم على جلب غيرهم إليهم كأن من خواص شعبهم أن يأخذ ولا يعطي. كانت النمسا وما زالت أرفق الدول الثلاث الكبرى التي تقاسمت بينها بولونيا بهذه الأمة ولغتها وآدابها وعاداتها ولذلك كان إخلاص البولونيين لها أكثر من إخلاصهم للألمان

والروس لأنمها ساوتهم بسائر عناصرها فلم يستثقلوا ظلها ولا تبرموا بإدارتها. ولكثرة اندماج الألمانيين والإسرائيليين بالبولونيين من حيث يشعرون ولا يشعرون زادت نفوس فارسوفيا زيادة هائلة حتى بلغت الآن ثمانمائة ألف وكانت أقل من خمسين ألفاً وعدت من عواصم بلاد أوربا وبالنظر لخصب البلاد وعراقتها في الصناعات والتجارات ونشاط أهلها أكثر مكن سائر العناصر السلافية بلغت مداخيل المصنوعات البولونية 420 مليون روبل وكانت أقل من ثلاثين وبلغت قيمة الثروة العامة في بولونيا الألمانية نحو ألف وثلاثمائة مليون مارك وكانت نحو أربعمائة مليون. وهكذا تجد تجارتها واسعة باتساع غاباتها ومناجمها وخصب تربتها واقتدار أهلها على الصناعة والتقليد حتى حاكوا أعرق الأمم الغربية في الحضارة ويكفي أن كوري مخترع الراديوم هو وعقيلته من أهل بولونيا وإن فغي أهل أوربا كثير ممن نعرفهم الآن فرنسويون أو ألمانيين أو نمساويين أو إنكليزيين وهم في الحقيقة بولونيون لغة ومنشأ. وبعد فيجدر وقد اتصل بنا نفس الكلام في هذا المبحث إلى هذا الحد أن نلم بطرف من تاريخ هذه الأمة وعلاقتها بالمسلمين ولاسيما آل عثمان فقد بدأت الصلات المهمة بين بولونيا والأمم الإسلامية على عهد لاديسلاس جاجلون والسلطان مراد الثاني وحاكم بلاد المجر على ذلك العهد يوحنا هونياد وهو تابع لبولونيا وكانت تحدث على الدوام مشاكل بين جيشه وجيش السلطان وبعد حروب وفتن كتب فيها النصرة تارة للعثمانيين وأخرى للمجريين سئمت نفوس الطرفين القتال فطلب السلطان مراد التوسط بالصلح إلى صاحب بولونيا فوقع على صكه في 14 ربيع الآخر سنة 848هـ (1444) لمدة عشر سنين على أن يعيد السلطان بلاد الصرب إلى ملكها وأن تضم بلاد الفلاخ إلى المجر ويفتدي السلطان صهره محمد الحلبي الذي أسر في وقعة كونوييرا بسبعين ألف دوكا (805. 000 فرنك). واذا صادف أن السلطان مراد تنازل عن عرش الملك لابنه محمد طمعت أوربا في السلطنة ورأت الفرصة مناسبة للنيل منها وعلى عرش فتى لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره فطلب إلى صاحب بولونيا أن يشارك الدول في تحالفهن على العثمانيين فأبي للعهد الذي عقده مع سلطان العثمانيين فأرسل البابا إليه أوجين الرابع يصرح بنه لا خشية في بعض الأحوال من الحنث بالأيمان ومثل له بنفسه إذ أنه جهز ثماني سفن على نفقته وسمى نفسه

رئيس العصبة فاضطر صاحب بولونيا أن يسير على الخطة التي رسمها إمام الأحبار فأنفذ بعوثه إلى إقليم تراسيا واشتبك القتال بين المجريين والبولونيين والفلاخيين من جهة والعثمانيين من جهة أخرى ونزل السلطان مراد بنفسه إلى ساحة الوغى بدل ابنه الذي خلفه فقتل أحد شيوخ العسكر العثماني واسمه خوجه خير ملك ملك بولونيا فدب الفشل في الجيش المتحزب كله وذلك في رجب سنة 848هـ (1444). قال المؤرخ ليونارد شودزوكو: قال السلطان مراد بينا هو يطوف ساحة الوغى مع أمين سره أريب بك لما رأى صرعى الحرب من أعدائه: أليس من الغريب أن يكون كل هذا الجيش مؤلفاً من شبان وليس فيه شيخ واحد فأجابه أريب بك: لو كان فيه شيخ واحد لما ألقى بنفسه في مثل هذه الورطة المجنونة وقد فقد جيوش المحاربين في تلك الوقعة أشياء ثمينة ومنها سجلات ملك بولونيا فقدت مع ما فقد عند مصرعه وهي خسارة كبرى. وفي سنة 1447 كان التاتار في بلاد القريم في حروب دائمة فأجمع رأيهم على أن يحكموا كازمير جاجلون ملك بولونيا ودوق ليتوانيا فيما شجر بينهم فنزل بعض المنكوبين من التاتار بلاد ليتوانيا على الرحب والسعة وأعطاهم صاحب بولونيا أراضي يتوفرون على زراعتها وأخلصوا له ودافعوا في مواقف القتال عن حوزة بلاده وأطلق لهم حريتهم الدينية حتى استمال بذلك قلوبهم وجاء الملك لاديسلاس الرابع وأيد امتيازاتهم فأنشأوا لهم جوامع ومنارات وبعد أن كانوا بادية رحالة أصبحوا مزارعين ساكنين وادعين وفي سنة 1494 جمع يوحنا البر ملك بولونيا بعض أمراء النصرانية في جواره وتحالفوا على قتال العثمانيين فساق السلطان بايزيد جيشاً مؤلفاً من أربعين ألف جندي اجتازوا نهر الطونة وانضموا إلى الفلاخيين وهجموا سنة 1894 على بلاد بولونيا وكان صدر الأمر السلطاني إلى والي سيلسترا على بعض مواقعها في وقعتين ظفروا فيهما ولكن داهم الجيش العثماني برد قارس وثلج وأعاصير فهلك منه لأربعون ألفاً ولم يسلم سوى عشرة آلاف جندي عادوا أدراجهم يجتازون نهر الطونة. وإذ تحالف ملك بولونيا مع ملك المجر وملك ليتوانيا اضطر السلطان بايزيد أن يبعث إلى كراكوفيا سفراء لعقد الصلح. وفي سنة 1521 أرسل السلطان سليمان الأول إلى بلاد المجر سفيراً لم يجبه المجريون إلا بخنق سفيره فساق السلطان على المجر قوة من جيشه

غلب بها المجر ولئن أمدهم صاحب بولونيا بستة آلاف جندي لكن قوة الدولة العلية كانت أعظم وعاد السلطان سليمان في ربيع سنة 1526 أيضاً في قوة من رجاله على بلاد المجر فأمد ملك بولونيا قوة الدولة العثمانية تغلبت فكتب النصر لأعلامها وهلك في المعركة لويز الثاني ملك المجر في خمسة وعشرين ألفاً من رجاله. ثم سار سليمان إلى جهات المجر وأرجع البلاد إلى ملكها الشرعي وانقلبت الحال فتحالف سلطان العثمانيين مع ملكي بولونيا وفرنسا وتزوج السلطان سليمان بروكسلان من سبايا البولونيات فشغفته حباً واتخذها سلطانة شرعية وسماها خرّما وكانت على غاية من الجمال والأدب والذكاء ولكنها صرفت ذكاءها إلى الخبث فكانت القاضية على السلطان أن يعامل ابنه معاملة بربرية شهدت لها تواريخ العثمانيين فقتله بدسائسها. وفي سنة 1572 أعانت بولونيا الدولة العلية عندما تداخلت هذه لإقرار الأمن في نصابه في إقليم مولادافيا وسعت الدولة العلية كل السعي أن يبقى التحالف مستحكماً بينها وبين فرنسا وبولونيا عوادي النمسا ولكن حكم بولونيا ملوك لم يعدوا لهذا الأمر عدته. وفي سنة 1576 تحالف السلطان مراد الثالث مع أتين باتوري أمير ترانسلفانيا وملك بولونيا وجددت المعاهدة سنة 1619. ولكن أمير ترانسلفانيا واسمه بتلم كابور كان يطمع في الاستيلاء على المجر فحرض العثمانيين والتاتار على البولونيين فوقعت بين صاحبي بولونيا والعثمانية وقعة أخرى سنة 1620 كسر فيها البولونيون وفي سنة 1621 قام السلطان عثمان الثاني في مئة ألف من جنده قاصداً إلى بولونيا فدحر جيشه ولما رأى أنه فقد منه ستون ألفاً اضطر يوم 23 ذي القعدة 1030 إلى عقد صلح صدق عليه في الأستانة سنة 1623 سفير بولونيا. ثم أن روسيا أهاجت خاطر السلطان مراد الرابع على بولونيا ولكن حكمة صاحب بولونيا قضت بحقن الدماء وإن كان أزمع السلطان العثماني أن يملأ بجيوشه السهل والوعر في بولونيا لكون السفير البولوني تلطف في السفارة وأغضى عما سمع من السلطان من إرادة هذا أن تدين بولونيا بالإسلام وتدك حصونها وتؤدي إليه الجزية فعقدت بين الدولة العثمانية وبولونيا معاهدة سنة 1634 كانت نافعة للبولونيين. وفي تلك السنة بدأت روسيا بحجة الدفاع عن مسيحيي الشرق تدس الدسائس.

خدم نالي بك وهو بولوني واسمه الأصلي بوبوفسكي الباب العالي أعظم خدمة في القرن السابع عشر كما خدم البولونيين والليتوانيين فقد عينته الدولة مترجماً في الباب العالي وكان يحسن سبع عشرة لغة. وفي سنة 1672 زادت الأخطار التي كانت تهدد بولونيا منذ سنة 1652 فكان قيصر الروس يدس الدسائس بين القوزاق والتاتار والأتراك ليحملهم على النيل من البولونيين حتى كان من السلطان محمد الرابع أن أعلن عليهم الحرب في نيسان سنة 1672 فاستولى على كاميليك بودولسكي وليوبول وعلى أهم المواقع الحصينة من إقليم روتينيا غاليسيا. فطلب صاحب بولونيا الصلح من السلطان وتخلت بولونيا للباب العالي عن بودولي وأوكرين وأن تدفع إليه جزية سنوية قدرها 220 ألف دوكا إلا أن الأمة البولونية لم ترض أن تدفع مثل هذه الجزية لما رأت فيها من العار عليها وآثرت أن تعود إلى الحرب تموت في ساحاتها من أن تقبل بشروط ارتضاها ملك لها مأفون الرأي ضعيف الحول والطول فعاد السلطان محمد الرابع إلى القتال وهاجم سوبيسكي جيوش العثمانيين في شوسيم على نهر دنيستر واستولى على المدينة ورجع العثمانيون على أعقابهم إلى بابا سوبيسكي إلى فارسوفيا للاشتراك في انتخاب ملك لبولونيا فقدر انتخابه ملكاً لها مكافأة له على الخدمة التي قدمها لأمته وعاد إلى قتال العثمانيين فهزمهم في بودوليا وأوكرانيا وفي 19 شعبان 1087 هـ عقد الصلح على أن لا تدفع بولونيا شيئاً ويبقى لها قسم من إقليم بودوليا ويحتفظ العثمانيون بكاميليك وأن تكون مفاتيح الأماكن المقدسة بيد بولونيا لأنها دولة تسامح لا تتعصب لكاثوليكي ولا لرومي ولا لبرتستانتي ولا لغيرهم من أهل الأديان وذلك على الرم من إرادة روسيا فصفت العلائق بين الدولة العثمانية وحكومة بولونيا. ولما ساقت الدولة العثمانية على فينا مائة وخمسين ألف رجل وكادت تستولي عليها أنجد صاحب بولونيا صاحب النمسا فارتد العثمانيون عن عاصمة النمسا ثم اقتتل الجيش العثماني مع الجيش النمساوي سنة 1691 في سالانكم على نهر الطونة فغلب العثمانيون أولاً ثم انهزموا فاقدين ثلاثين ألفاً من رجالهم وفي سنة 1694 رد البولونيون العثمانيين من كامينيك برودولسكي. ومال العثمانيون على عهد مصطفى الثاني عدة نصرات على جمهورية البنادقة واستولوا

على الهرسك وأمدوها بالذخائر وجاز السلطان في جيشه الطونة ماراً بآق بنار (كارلسبرج) وتمسوار ولاغوس وقاتل النمساويين فقتل زعيمهم وقتل العثمانيون من الروس في أزوف ثلاثين ألفاً ثم فشل العثمانيون في غرة صفر 1108 في تسيا على يد النمساويين وكان العثمانيون يريدون إنقاذ بلاد المجر من النمسويين. وفي خلال ذلك اجتمع ملوك أوربا للمرة الأولى لحل الاختلافات التي كانت بين الدولة العلية العثمانية وبين سبع دول من دول أوربا وبموجب ما تم من هذا الاجتماع أجعت الدلة العلية إلى بولونيا كامينيك وبودوليا وأوكرانيا وتخلت الأولى للثانية عن الخراج الذي كانت تتقاضاه منها ومنذ ذاك العهد تصافت بولونيا والعثمانية لأنهما أيقنا بدسائس حكومات أوربا التي يقصد بها إضعاف الفريقين فكانت أوربا تترك روسيا تعتدي على العثمانية وبولونيا والسويد بدون أن تطالبها بإحكام العدل والإنصاف ومراعاة حق الجوار نعم كانت تغضي عن روسيا لتنال قسطها من الأرض العثمانية والبولونية والسويدية. نشبت حرب هائلة على عهد السلطان أحمد الثالث بين السويد وروسيا وبولونيا وسكسونيا دامت منذ سنة 1700 إلى 1709 فانهزم السويديون والبولونيون ولجئوا إلى الأرض العثمانية فنزلوا في بندر من إقليم بسرابيا فأكرمت العثمانية مثواهم إلا أن روسيا لحقت بالمنهزمين إلى الأرض العثمانية وفي خلال ذلك دخل الأسطول الروسي إلى الأستانة فاغتاظ السلطان وأعلن الحرب عاهداً بقيادتها العامة إلى الصدر محمد باشا البلطجي وحمي وطيس القتال بين عساكر الدولة يعضدها أنا من البولونيين وبين الروس في سهول هوسكب فأركب الله القائد العثماني أكتاف العدو ولكن على القائد العثماني عاد فارتشي من كاترينا الأولى ملكة روسيا وعقد بين دولته وبين الإمبراطورية الروسية معاهدة أجحفت بحقوق أمته فعزل السلطان ونفاه إلى جزيرة لمنوس وقتل خنقاً من ارتشوا معه من رجال الدولة إذ ذاك مثل وزير الداخلية ورئيس الكتاب وغيرهما وأعلن السلطان أن هذه المعاهدة بين الدولة العلية وروسية لاغية وعاد إلى إعلان الحرب على العدو سنة 1711 بقيادة يوسف باشا الصدر الأعظم فأوقفت الحرب بسعي الروس في الأستانة وعقدت معاهدة جديدة بين المتحاربين فوقع رجال روسيا على عهد الصلح ليشغلوا الدولة ويغنموا الوقت فلما أبلغوا مضمون المعاهدة للقيصر أبى الإقرار عليها فأعلن السلطان الحرب في شوال

سنة 1124 ولم يظفر الروس في هذه الوقعة بالعثمانيين إلا أن وزارتي لندرا والهاي كوانتا تعضدانه على العثمانية وبولونيا والسويد وبمسعاهما أوقفت الدولة العلية الحروب ووقعت في أدرنة يوم 13 حزيران 1713 على معاهدة صلح إلى خمس وعشرين سنة ولم تراع فيها مصالح الدولة العلية وعادت روسيا فعقدت معاهدة أخرى مع الدولة العلية سنة 1720 من مقتضاها أنه يحق لها التدخل في شؤون بولونيا. توفي السلطان أحمد الثالث سنة 1149 هـ وخلفه السلطان محمود الأول فحارب الفرس واضطر إلى التخلي عن تبريز وفي سنة 1149 وقع الفرس والعثمانيون على هدنة للتفرغ الدولة العثمانية لمقاومة اعتداء روسيا والنمسا. وأزمعت روسيا أن تجتاز بجيوشها بلاد بولونيا لتداهم الأرض العثمانية فاغتاظ لذلك السلطان محمود لأنه مخالف للعهد الموقع عليها ولم يسمع الروس لاحتجاج العثمانية فحاصروا مدينة أزوف واضطرت الحكومة العثمانية أن تسوق جيشاً في 6 صفر 1149 هـ (1736) وكانت قد سقطت المدينة قبل أن ينجدها الجيش العثماني واستولت روسيا على أوتشاكوف وكنبورن وعلى كوزلوف وبغجة وسراي وآق مسجد من بلاد القريم وأتى الروس من الفظائع في هذه الوقائع ما سطره لهم التاريخ بأحرف من نار حتى كتب المسيو كاستلنو في تاريخه الذي قدمه إلى القيصر اسكندر الأول بشأن هذه الوقائع ما تعريبه: إن الحملة لم تولي روسيا شرفاً فإن بلاد القريم أخرقت ودمرت وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر وتخريب أهم المصانع والآثار وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة وإدخال الظلام على العقول بإحراق خزائن كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعمة للنيران لا يقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه. وتحالفت روسيا والنمسا محالفة دفاعية هجومية واحتالت الثانية لعقد مؤتمر مؤلف من مندوبها ومندوبي روسيا والدولة العثمانية فرأى الروس بموجب المعاهدة المبرمة أنم تلغى جميع المحالفات التي كانت أبرمت بين الدولة العلية وإمبراطورية روسيا وأن تسلم إلى هذه بلاد القريم وكوبان وجميع البلاد التي نزلها التتار ويغترف لمولدافيا وفلاخيا بأنهما إمارتان مستقلتان تحت رعاية روسيا ويعترف بأن ملوك الروس هم قياصرة وأن تدخل

السفن الروسية حرة إلى البحر الأبيض بين خليجي البوسفور والدرندنيل فلم ترض الدولة بهذه الشروط المجحفة وعادت النمسا فاستجمعت قواها وحمي الوطيس في بلاد البلقان وهزم العثمانيون العدو حتى اضطر الروس إلى أن يحرقوا بأنفسهم أسطولهم في بحر أزوف لئلا يسقط في أيدي العثمانيين. وفي سنة 1739 عقد الصلح بواسطة فرنسا بين الدولة العثمانية من جهة ودولتي روسيا والنمسا من أخرى وأعادت النمسا بلغراد وساباكزا وسونا وغيرها وأصبح نهر الطونة والساف تخوماً بينها وبين الدولة العثمانية وقضت المعاهدة الأخيرة على روسيا أن تهدم حصون أزوف وتاكانروج وتسحب سفنها من بحر أزوف والبحر الأسود ولا تتجر إلا على السفن الأجنبية وأن تظل القريم مستقلة وتنال لقاء ذلك حرية المذهب الأرثوذكسي في المملكة العثمانية وأن تقيم لها سفيراً دائماً في الأستانة ووعد السلطان أن يمنح لقب إمبراطورة للقيصرة حنة إيفانوفنا. ولم يجر في هذه المحالفة أي ذكر لبولونيا. وكان من نتائج هذه المعاهدة أن عرف الأرثوذكس على عهد السلطان عثمان الثالث سنة 1757 بأن روسيا تعضدهم في البلاد العثمانية فكان أول عمل لهم أن ينهبوا دير الكاثوليك في يافا وهجموا على الفرنسيسكانيين وغيرهم من الباباويين حتى في كنيسة القبر المقدس وكسروا المصابيح والآثار وغيرها وجردوا الرهبان مما كان لهم. ولما أبى أغسطس الثالث ملك بولونيا أن يدخل مع أعداء الدولة العلية في محالفة ضدها اعترف به الباب العالي ملكاً وأرسل من قبله إلى فارسوفيا عاصمة البولونيين مندوباً سنة 1737 وذلك على عهد السلطان عثمان الثالث وكذلك أبلغ السلطان مصطفى الثالث بعد ثلاث سنين صاحب بولونيا بجلوسه على العرش وبدأت العلائق الحسنة بين الدولة العلية وحكومة بولونيا حتى كانت الدولة تصدر أوامرها المرة بعد المرة إلى عمالها في شوسيم وبندر والى خان القريم أن لا يكدروا صفو الصلات ينهم وبين بولونيا واذا نشأ على التخوم خلاف يحلونه بالحسنى. وأدخلت روسيا في غضون ذلك جنداً لها إلى أرض بولونيا فاعترض الباب العالي عليها فأجابته بأنها تنوي إطفاء فتنة داخلية وأن العهود تقضي بأن لا تتدخل الدولة العثمانية في الشؤون البولونية ومع هذا أصر الباب العالي فاضطرت بولونيا أن تحسم الخلاف الذي

حدث بين الشعب بداعي انتخاب ملك جديد فاتحدت بولونيا على أمر بينها تحت حماية الدولة العلية حتى أن السلطان مصطفى الثالث لما ذهب إلى جامع أيوب ليتقلد سيف عثمان الأول على العادة قدم له الجند كأس مشروب على نحو ما جرت العادة فأجابهم أنه يرجو في الربيع القادم أن يشرب معهم على أسوار بندر وضفاف دينبر. ولقد كان جل رغائب روسيا في ذاك العهد أن تقسم بلاد السويد والدولة العثمانية وبولونيا فكانت تسعى إلى ذلك بكل حيلة وتحيد عن كل محالفة كما فعلت سنة 1767 بالاتفاق سراً مع ملك بروسيا وأدخلت جيوشها إلى بولونيا فاغتاظت الدولة العلية لذلك إذ عدت هذه مقدمة إلى جلب الدب الأكبر إلى جوارها وأعلن السلطان مصطفى الثالث الحرب على كاترينة الثانية سنة 1182 هـ. وفي سنة 1769 أو 1770 حدثت بين الدولة العلية وروسيا وقائع كتب فيها الظفر للروس ولاسيما في الحرب البحرية التي هاجم فيها الأسطول الروسي الأسطول العثماني في نافارين وأحرق السفن العثمانية بقيادة ربان إنكليزي وأحرقت مدينة تشسما بالقرب من أزمير وسمع صوت القذائف إلى بعد خمسين فرسخاً إلى أزمير على بعد ستة فراسخ ودام الحريق من الساعة الواحدة والنصف بعد نصف الليل إلى الساعة السادسة صباحاً وكان ذلك في 3 ربيع الأول سنة 1183 هـ فخسر العثمانيون خمسة عشر سفينة في كل منها 74 إلى 100 مدفع وتسع سفن في كل واحدة منها من 15 إلى 30 وعدة مراكب واستاق الروس سفينة فيها ستون مدفعاً وخمسة زوارق ودامت الحرب بين لدولتين سنة 1771 و1772 واستولى الروس على القريم وأحبوا عقد الصلح إلا أن السلطان نشر في المحرم 1187 (1773) منشوراً يعلن فيه الحرب على روسيا فظفر الجيش العثماني عدة وقائع في سنتي 1773 و1774 وردوا الروس عن تجاوز نهر الطونة والى ما وراء سيلستر وبينا النصر كان حليف أعلامهم توفي السلطان مصطفى الثالث وكان قبيل وفاته أخذ منشوراً من حكومات بروسيا والنمسا وروسيا باتفاقهن على تقسيم بولونيا تقسيماً أولياً وذلك في سنة 1772. وخلف عبد الحميد الأول أخاه مصطفى الثالث وفي أيامه اتفقت روسيا والنمسا على حرب الدولة العثمانية فاستوليا على أوتشاكوف سنة 1788 وفي خلال ذلك كانت ألمانيا تحاصر

بلغراد فحزن السلطان لما نال ملكه حتى مات قهراً سنة 1789 وظل خلفه سليم الثالث يحارب تينك الدولتين ولكن ردت الجيوش العثمانية على أعقابها واستولى الظافرون على بندر وغيرها واستولى النمسويون على بلغراد وسائر مدن الطونة وفي خلال ذلك أحبت إنكلترا وبروسيا والنمسا أن تحمل روسيا على توقيف الحرب على العثمانيين لاشتغالهن بثورة فرنسا الأولى ولكن كاترينا صاحبة روسيا رأت الفرصة مناسبة لدوام الحرب وإتمام رغائبها بشأن العثمانية وبولونية إلا أن جيوش العثمانيين ظفروا في عدة مواقع بالجيش الروسي وذلك في البحر الأسود بالقرب من يكي قوله ثم بالقرب من آق ير (سباستبول) وانهزم أمير البحر الروسي في 18 أيلول سنة 1790 وتبدد أسطوله بعد خمس وستين سنة في 8 أيلول أي سنة 1855 سقطت سباستبول أيضاً وفي خلال ذلك حدثت لروسيا ما شغلها ببولونيا فعقدت الصلح مع الدولة العلية وفي سنة 1793 قسمت بولونيا تقسيماً ثانياً وفي سنة 1795 قسمت تقسماً ثالثاً بين الدول الثلاث ولم تفه دولة من الدول ببنت شفة في الاعتراض على هذا العمل إلا الدولة العلية التي اعترضت على نزع استقلال بولونيا بالقول والفعل ولكتن قدر فكان واستولت روسيا وبروسيا والنم سا على بلاد البولونيين بعد مذابح يبعث فيها الأرواح بيع المجان. ولقد عزمت حكومات أوربا سنة 1815 أن تقيم في فينا مؤتمرا دولياً لتقرير حال السياسة وسعت روسيا أن لا يقبل مندوب من الدولة العلية فنجحت في مسعاها وكان من إثر ذلك أن أخذت روسيا تحرض اليونان والصرب والبلغار من رعايا الدولة العلية على نزع أيديهم من حكومتهم فقضي في دسائسها ألوف من هذه العناصر ومن المسلمين أيضاً. وحدثت بين سنتي 1840 و1848 عدة فتن داخلية في البلاد العثمانية وكذلك في بلاد الفلاخ والمجر وتدخل الباب العالي في شؤون ولايات الطونة وأهم ذلك فتنة المجر ولو جرت الدولة العلية على تحالفها مع بولونيا والمجر وعنصراها من العناصر التي تحب العثمانيين كثيراً لنجحت هي وهم من غوائل سياسية كثيرة. قلنا أن الجولة العلية ناهضت لحفظ استقلال بولونيا بالقول والفعل وذلك على عهد مصطفى الثالث الذي أعلن الحرب على كاترينا الثانية لمجرد الدفاع عن بولونيا فبعثت الدولة الصدر محمد أمين باشا إلى تخوم نهر الطونة ودنيستر سنة 1768 فحاولت كاترينا

أن تدخل إليه السم فاكتشف المكيدة وشنق الأطباء ولكان عاد الصدر فتناول رشوة من روسيا هو وأمير موالدافيا وترجمان الباب العالي فلما اكتشف السلطان أمرهم أمر بإعدامهم في آب سنة 1769 وأرسل الباب العالي قائداً آخر ودام القتال بين البولونيين والعثمانيين من جهة وبين الروس من جهة أخرى إلى سنة 1770 وانتهى على ما مر بك آنفاً بتدمير الأسطول العثماني في تلك الوقعة المشؤومة. فالمسلمون والبولونيون أصدقاء منذ عرفوا ما يكيد لهم أعداؤهم حتى أن بولونيا لم ترسل بجيش منها مع جيوش الصليبيين لما قام هؤلاء باستخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين. ويكفي في عناية الدولة بالبولونيين وعنايتها بالمجريين أيضاً أنها فتحت صدر بلادها لقبول المنكوبين منهم والعاملين على إنهاض بلادهم واسترجاع سلطانهم فأنزلت في أرضها على الرحب والسعة ووسدت إلى بعضهم المناصب واستعانت بهم على تقوية كلمتها الجندية والسياسية حتى أن الدولة لما أرسلت إلى مؤتمر بكرش الدولة مندوباً من قبلها في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر أعلنت بأن دول أوربا اذا رضيت بأن تعيد مملكة بولونيا إلى حالتها يعد الباب العالي علناً عن امتلاك ولاية الطونة ولذلك رأى عقلاء البولونيين أن تؤلف كتائب بولونية سنة 1854 تحت رعاية العثمانية فتألف عسكر القوزاق وكان من كتائب الدراغون التي جاءت إلى سورية أيام فتنة 1860 في جبل لبنان. وكان من كتائب البولونيين في حرب القريم أن أبلوا مع العثمانيين بلاءاً حسناً ولما انتهت الحرب اقتطعتهم الدولة بعض القرى في ضواحي بروسة وأسسوا لهم بلدة في ضواحي الأستانة لا تزال إلى اليوم وقد دان بعض قوادهم بالإسلام مثل ميخائيل ساجوفسكي الذي سمي بعد محمد صادق باشا ولوبورد زاكي الذي لقب بمحمد حلمي وغيرهما من رجال البولونيين الذين أخلصوا الخدمة للدولة العثمانية. وابن محمد صادق باشا المشار إليه هو مظفر باشا متصرف جبل لبنان السابق. وهكذا كان الأتراك والبولونيين يتحابان كلما طال المدى خصوصاً والعثمانيون يعلمون حسن معاملة البولونيين ايام استقلالهم للتار المسلمين النازلين في بلادهم ليتوانيا منذ سنة 1401 وكيف كانوا يعتمدون عليهم في الدفاع ويؤلفون منهم كتائب تغني غناءها في رد هجمات المهاجمين على بلادهم وكانت لهم حريتهم المذهبية والشخصية حتى كانت تسمح

لرجالهم أن يتزوجوا من النساء البولونيات لقلة النساء عند التتار وأن يتبعن مذهب رجالهن وما قط تزوجت مسلمة من بولوني كما أنه لم يتزوج تتاري من يهودية. وكانت بلاد بولونيا قديماً الطريق التجاري لبلاد الشرق إلى أوربا لأن بولونيا كانت أول بلاد المسلمين ولذلك ترى العادات والأذواق واحدة في البولونيين وأكثر العثمانيين وبين البلادين من لصلات التجارية شيءٌ كبير ولاسيما بعد أن زادت مدنية البولونيين ونما عددهم الذي بلغ كما قال مؤلف الكتاب الذي اعتمدنا عليه في تعريب هذه النبذة ثلاثين مليوناً وهم نازلون بحر البلطيق إلى البحر الأسود ومن نهر أودر إلى داوينا إلى دنيبر. ذهب استقلال بولونيا منذ نحو قرن ونصف ودعاة استقلالها مازالوا منبثين في البلاد لم يدخل اليأس على نفوسهم والأب يلقن أباه والأم تلقن ولدها التناغي بالاستقلال ويعلمون أبناءهم تاريخ بلادهم وعظمتها وبطش الحكومات التي تقاسمتهم ولاسيما روسيا ويذكرون لها مذابحها وأفاعيلها فيهم فهل يوفق أولئك الدعاة الغيورون إلى ما قصدوا إليه ذات يوم أن يخضعون على الدهر لمن استصفوا أرضهم وديارهم. إن انقضاء القرون في حياة الشعوب لا شأن له بقدر كر السنين في حياة الأفراد وما المئة سنة بالشيء الكثير على أمة تطلب التجديد ونزع ربقتها ممن يظلمها ولذلك يرجى الاستقلال لكل أمة كان لها ففقدته كالمصريين والجزائريين والهنديين وغيرهم ممن استعمرت بلادهم وأقرب الأمم باستقلال البولونيون الليتوانيون.

الفصيح والعامي والعامي الفصيح

الفصيح والعامي والعامي الفصيح من مبحث لنعوم أفندي مكرزل صاحب جريدة الهدى اليومية في نيويورك. ليس في اللغة العربية معجم واحد يستحق أن يدعى نجعة الرائد يوفر الشواهد وكثرة الفوائد وضبط الشوارد ولا في غير اللفظة ما يدل على إزالة الإبهام وكشف الغامض بإيراد أبيات فحول الشعراء وعبارات بلغاء المنشئين على صحة الكلمة والعبارة كما نرى في وبستر في الإنكليزية وليتره في الفرنساوية فترى أكثر الكتاب يتخرصون في ما لا يعذرون عليه ويتوهمون أن البيان في الدخيل والحوشيّ والبلاغة في العقيم والوحشيّ وأن كل من هرف عرف. افللغة في حاجة إلى معجم تقام على كل حرف منه شواهد شعرية ون ثرية يسلم معها الذوق ويستقيم ويرد الكلام المدعو عامياً إلى أصله الفصيح ويعدل عن التقعر إلى السهل المقبول. قد تهتأ ثوب اللغة حتى كاد يسقط من تقطعه فترى كل من تحيف بيانه عجمة وجدل عن ادعاء ومكابرة يتحف الفصيح ويستلب البليغ ويحرك خشاشه غضباً على كل ملك من اللغة عناناً وضبط لها بياناً ويكون لا يدري من أي الدهداء هو ولا يعرف له في عالم الأدب أصل أو فصل ولكنه يتوهم أن كل كلمة يقرأها ولا يفهم معناها تكون من الحوشيّ والوحشيّ!. وإن كل ما تداولته السنة العامة ساقط ي \ جب الترفع عنه وتكون الكلمة التي لا يفهمها من ابلغ ما جرت به أقلام المنشئين والشعراء إلا أنه لم يطالع ليعلم ولا تحرى ليفهم ويكون بعض ما تداولته السنة العامة من بقايا فصح اللغات العربية التي اعتورها التصحيف والتحريف وقليل من البحث يرجعها إلى أصلها ويقيم من اللسان مناداه على ما وقع من نحو خمسين عاماً أو اليوم إذ توكف المجتهدون أثر بلغاء العربية الأقدمين وتنشطوا للبحث والتنقيب وأقبلوا على التدقيق والتحقيق وقد ترجع مثابرتهم اللغة إلى رونقها الأول بعد خمسين عاماً تأتي. وليس لنا حتى في مدارسنا الوطنية أثر للوطنية فترى في كل مدرسة سورية قد أوجبت على تلامذتها التخاطب بلغة غريبة عنهم حتى عند أول دخولهم بابها فيتسرب العقوق وشيءٌ من البله إلى قلوب وعقول هؤلاء الأولاد المساكين ويكون القائمون على تهذيبهم وتدريبهم من خونة الوطنية ومجرمي الآداب إذ كيف يعقل أن طالباً لا يفهم من الفرنساوية

أو الإنكليزية أو الروسية أو الجرمنية كلمة يكلم رفيقه بإحداهن قبل انقضاء الأعوام عليه وكيف يقبل السوريون مثل هذه الشريعة الشريعة المدرسية الظالمة التي تكم فم التلميذ وتعوده الخيانة اضطراراً لقضاء حاجاته الضرورية وتنشئه على حب لغة غير لغته ووطن غير وطنه ولو أن المدارس السورية توجب التخاطب بلغة أجنبية في ساعة واحدة معينة للتلاميذ لكان إيجابها معذوراً وإن لم يكن له مثيل في أي مدارس أوروبا وأميركا وإنما هو الاحتقار يركب الطلاب! والمدرسة التي لا تصان فيها اللغة الوطنية تكون عدوة الشعب ولو كان منشؤها من الصرحاء. إن البلاء ليس في الادعاء وحده بل في اختزال كل منا رأيه والتصرع والتصاغر للأجنبي والتمروء الظاهر تكلفه والتفوق البادي تحيفه مع الوطني وريح التخاذل حتى في اللغة تنجف كل ذروة باقية في جرفها وتحتمل كل درة كنا نعرفها قبل عصفها ولله في تدابيره شؤون. وهناك آفة جديدة على اللغة من إهمال معاجمها المعروفة وعدم تنقيحها وتصحيحها وإدخال الموضوعات الحديثة إليها ففي أي معجم نرى تفسيراً عصرياً للمجهر والندي والرعاد والمنطاد مثلاً أو جمعاً لشتات ما أجمع على صحته المحققون أو توسعاً في الاشتقاق والنحت والقلب والإبدال والتركيب والإدغام مما لا غنى عنه في لغة حية بل نرى أن كل معجم يطبع حديثاً يجرد من الكثير من أصوله بدوى حفظ آداب الناشئة وصون أخلاقها. فليكن ذلك. ولكن بعد بذل شيءٍ من العناية لزيادة الضروري للكبار كإنقاص الضروري للصغار. الفيلسوف اللغوي يجد في كل معجم لغوي حديث زيادة جديدة وشروحاً مفيدة إلا في العربية الباقية كالرسوم الدوارس مع تعداد المدارس. وترى المثقفين والمهذبين ينشرون صفحات الحريري والبديع ومجمع البحرين وأمثالهما لإشراب الطلبة روح المخادعة والمصانعة والجبانة والخيانة والحيلة والرذيلة على غير قصد منهم أو بقصد استظهار الشوارد والأوابد ويطوون صفحات كل كتاب يكون أفيد وأعود وأنفع وأرفع لأنهم لا يزالون كالفلاحين الشرقيين محافظين على المحاريث القديمة. ومن عيوب العربية إيراد جموع لا مفرد لها وأفعال لا مصدر ولا ماضي لأحدها. فهل

تقبل فلسفة اللغة شيئاً من هذا؟ وهل يعقل أن واضعي اللغة ينو كلاً من غير أجزءا؟ إننا لا ننسب هذا الخلل إلا إلى المدعي المحافظة على سلامة اللغة أو يكونون يحافظون على قديم عقيم لا يسلم به عقل سليم. وفي اللغة عيوب كثيرة ألصقها بها غير الراسخين ونظن أنها أوان النهضة الأدبية قد آن وأنه يجب أن يعلن دستور اللغة كما أعلن دستور الحكومة. أنا مورد الآن ما وردني من العامي الفصيح للغاية التي بسطتها في التوطئة: تواً_اسأل عجوزاً أو شيخاً أن يدلك على بيت أو طريق في لبنان فيقول لك اذهب تواً ويشير بإصبعه والكلمة فصيحة من قولهم جاء تواً أي قاصداً لا يعرجه شيء. بربص_يقال بربص الأرض إذا أرسل فيها الماء لتجود أو بقرها أو سقاها سقياً روياً وهو المعنى الذي تستعمل العامة كالكلمة له في بعض السواحل والقرى الغزيرة المياه أما في سائر لبنان فيفهمون البربصة رش الماء أمام البيوت والحوانيت وليس في المعنى شذوذ. دعث_الدعث هو تدقيق الرجل التراب على وجه الأرض بالقدم. ودعس_وقريب مه دعس الشيء إذا وطئه شديداً والغريب أن أكثر الصحافيين يعتبرون دعس عامية وأن الكتاب لا يستعملونها لزعمهم أن المعنى عامي غير تام أما دعث فلا يذكرها أحد منهم مع أن القرويين يستعملونها للرص ويقولون عن الأرض المدوسة مدعوثة وعن السطح التي تكف: يجب دعسها أو دعثها. فليتأمل القارئ. دعك_كلمة فصيحة ويقال دعك: الثوب إذا ألان خشنته إلا أن متفرنجي اللغة لا يرون في الكلمة فصاحة فيستملون أخلق وهي لا تدل على شيءٍ من الدعك بل على البذ والإرثاث. دعر_يقول العرب: عود دعر نخر للرديء الكثير الدخان ويفهمون الدعارة (بتشديد الراء) سوء الخلق ويقولون دعر العود إذا دخن ولم يتقد وتقول العامة رجل دعر إذا كان متصلباً جافياً وهو من المجاز الذي لا غنى عنه إلا من الناس من لا يريد أن يمتد نظره إلى أبعد من أرنبة أنفه. دغري_في محيط المحيط أن الدغري تحريف الطوغري بالتركية ومعناه الصحيح والمستقيم فلماذا لا يرجع إلى الاشتقاق العربي فيكون معناه الاقتحام من غير تثبت وهو المعنى الذي يريده أكثر العامة إذ يقولون: اذهب دغري وذهب دغري إلى البيت وإذا وجد

اختلاف فمما لا يعتد له. الثغرة_يلفظ أكثر اللبنانيين الثاء بين لفظها الأصلي ولفظ التاء أو الطاء فيقولون انثغرت الثغرة ويستعملون الكلام الفصيح في المواضع التي لا يحسن كثير من الكتاب هذه الأيام استعماله فيها ولا عبرة باللفظ الذي يفسد المعنى_لو كان اللفظ يفسد معنى الكلمة لكانت اللغة الإنكليزية فاسدة في أكثر كلامها بين اللفظ الإنكليزي والأميركي والكندياني والأسترالي. الثلم_خط المحراث ويريد البعض جعله غير فصيح من طريقة لفظه التي أشرنا إليها في الثغرة. أحزك الحمل_شده جيداً والمكارون يستعملون هذه الكلمة الفصيحة التي لا ترضي البعض مع أن معنى حزكه عصبه وضغطه واحتزك بالثوب واحتزم. بلصقي_اللبناني يقول: بلصقي أي بجنبي ولا يوجد أصح من هذا التعبير للمعنى المراد إلا أن استعمال العامة له جعله عند بعض الناس غير عربي كما جعل بعض الفضائل مستحى بها إلا أن أصحابنا هؤلاء ينظرون إلى الكلام نظرهم إلى المصنوعات الوطنية التي ليس لأنفسها وأدقها قيمة عندهم ولو استطاعوا أن يعاضوا عن هواء سورية العليل بهواء معل بشرط أن لا يكون وطنياً لما ترددوا. مزعه_مزقه والكلمة عربية وعلى لسان كل لبناني. شلخه_هبره بالسيف وجريمة العامة أنها تستعمل الشلخ للمدية والمنجل إلا أن المنتشرين على أطراف الجبل والمضطرين إلى منازلة ومقاتلة المغيرين والغزاة يقولون شلخه بالسيف. حزّ_وعلى ذكر الشلخ نقول أن نصيب حز من (المتعصرين_ونريد بهم الذين يدعون نفوسهم عصريين بلغتنا العامية) ليس أفضل من نصيب شلخ. بقال: حز الشيء قطعه وفي فقه اللغة للثعالبي أنه خاص بالحمم إلا أن العرب تقول حز الخشبة فرضها والعامة تقول: حزز المنشار جعل فيه أشراً ونقول أيضاً الحز للقطع والحز للقطعة ولا نرى ما يعاب به الاشتقاق. حش_قطع الحشيش أو طلبه وجمعه والكتاب يؤثرون استعمال قطع الحشيش على حشه مع

أن الكلمة الأصلية لا يصح غيرها لمعناها. القلت_النقرة في الصخر يجتمع فيها الماء واصلها لنقرة الجبل يستنقع فيها الماء ويستعملها الأولاد من العامة صحيحة دون أكثر الكتاب. غطغط_غلب النوم عليه هذا هو المعنى الأعم عند العامة ويأتي بعده معنى غليان القدر فلو قام منشئ بليغ واستعمل الكلمة لقال المنعصرون عنه أنه يأتي بالوحشي والحوشي أو أن الكلمة دخيلة لأنهم هكذا يريدون أو هكذا يفهمون. زلق_زلقت قدمه زلت. والزلقة الصخرة الملساء وبها سميت قرية في ساحل بيروت وفي التسمية دلالة على أن اللسان العربي كان في بلادنا فصيحاً ولا تزال الآثار تشهد له إلا أن من نكد الدنيا عليه أن عار فيه_بروحه لا بلفظه_غير كثار وأن جاهلية مع الإدعاء بمعرفته جيش جرار. زحل_عن مكانه تنحى وتباعد. زحلقه_دحرجة ومنه تزحلق الأولاد في مطاوعه. شخر_صات من حلقه أو أنفه ولا نريب ما يجعل الكلمة غير فصيحة في استعمالها للغطيط. قفقف_في معاجم اللغة: قفقف الرجل ارتعد من البرد وغيره واضطرب حنكاه واصطكت أسنانه وهو المعنى الذي تستعمله العامة له تماماً إلا أن هناك م عنى آخر لم نعثر عليه في المتون وإنما ورد رواية وإسناداً في لسان العرب: قفقت الدجاجة على بيضها حضنته واستعمال الكلمة شائع في لبنان للمعنيين فهل أغرب من هذا النقص في معاجم اللغة. وخش_الشيء كان وخشاً أي رديئاً وهذا هو لمعنى الذي تريده العامة من الوخش ضد الناعم لأنهم لا يحصون الأشياء فقط به بل يتنازلون بمعناه رذائل الناس وخشارتهم ويصيبون بكل فصاحة. طم=بالتراب دفن وغطى. كب=أفرغ. طرقه_طريق. من الحاضر_من الجاهز.

بتكه قطعه تشديد للمبالغة. بت_الأمر أمضاه. بربر=صاح وأجلب وتكلم بألفاظ وحشية. قرقر=شقشق (حاجي تقرقر وتبربر). وكل كلمة مما مر واجبة الاستعمال في موقعها إذ ليس ما يسد مسدها. القز=في محيط المحيط إن العامة تستعمل القز لما غزل من الفيالج المبيضة فهل هي تستعملها إلا لما استعملها الشاعر القائل: يرفلن في سرق الحرير وقزه؟. راز وروز=يقال رازه جربه وامتحونه وقدره وراز الرجل اختبره قال الحريري: لا تسال المر من أبوه ورز ... خلاله ثم صله أو فأصرم وروز كرمه روأ في تقديره وترتيبه فمات قول المتفرنجين! نتش_نتش اللحم جذبه قرصاً والشعر نتفه. النتفة=ما تنتفه بأصابعك والفعل نتف بمعى نزع. يرى المتروي أن معنى العامة في محله وإن أنكر المنكرون وعلى هذا المثال ثفل وثفل. نش=الغدير أخذ ماؤه في النضوب وهو المعنى المستعمل له النش عند العامة أكثر من الحلب والنز. والنز من العامي الفصيح وهو النجل أو الماء المتحلب من الأرض. بقبق_من من السوريين لم يسع هذه الكلمة؟ تقول العامة فلان بقبق أي يهذر وفي المعاجم أن البقبقة تفريغ الكلام على الناس وربما كانت فلسفة الكلمة في المعنى العامي الذي يتناول معنى الهذر والشقشقة والغموض. وهم يقولون أيضاً عند إنزالهم الجرة في حوض أو الدلو في بئر أن الماء يبقبق فليطلب الأدباء الأصل لتثبت لهم فصاحة الكلمة. قرفة_يقال بنو فلان قرفتي أي هم الذين أظن عندهم طلبتي وسل بني فلان عن ناقتك فإنهم قرفة أي تجد خبرها عندهم والعامة تستعمل الكلمة كالقراف والمقارفة مصدري قارف أي قارب. وقراف من لا يستفيق دعارة ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب

إلا أن أصل المقارفة للأشياء الدنيئة وما لا شك فيه أن التعميم الذي جرت عليه العامة ناتج عن المخالطة المفسدة للغة إلا أن غرضي الآن هو إثبات صراحة أكثر الكلمات الدارجة وإذا وجد في بعضها خلل فذلك من جهل المدعين فوق ما هو من مخالطة الأعاجم أما ترون كيف تستدرك العامة المعنى بقولها: مقارفة التاجر الفلاني حسنة والآخر رديئة فروح اللغة لا تزال فيهم وهم أفيد لها من الذين لا يفهمون ولا يريدون تفهم معنى الكلام. قرف_تقول العامة قرف قمعة الشجرة أي انتزعها والأصل القشر. تـ هذا مثل التف عندي مثل وسخ وقد لا تكون العامة تفهم أن التف هو وسخ الظفر إلا أنها أنها شيءٌ لا يعبأ به وتستعمل الكلمة فصيحة. تفه_أصل هذه الكلمة تفه وفساد لفظها لا يفسد معناها فهي فصيحة يجب استعمالها على حد ما تستعملها العامة بعد إقامة اللفظ فهي تقول: شيء تفه وأمر تفه وكلام تفه وقولها صحيح فصحى. هبط_لازم متعد يقال هبط بمعنى سقط وهبطه بمعنى إنزاله وأكثر استعمال العامة للفظ مشدوداً فهم يقولون هبط الحائط فأين المأخذ؟ مسماك_المسماك عود يكون في الخباء يمسك به البيت أي يرفعه قال ذو الرمة الثقفي: كأن رجليه مسماكان من عشر ... صقبان لم تتقسم عنهما النجب والكلمة مستعملة عند القرويين بمعناها الوضعي إلا أنهم يستعملونها لرفع الكرم أيضاً ويظن البعض أنها لا تعود فصيحة فعلى هذا المذهب الغريب لا يجوز لنا أن نضع للجامحين شكيمة ولا أن نلقي إلى الأكفاء مقاليد الأمور. إن بلية اللغة في أبناءها المقيدين لأنهم مقيدون ولما كنا نبحث في المسماك فلا بأس في استعمال الكلمة العامية الفصيحة من أن كل من لا يكون لطيفاً يكون بالطبع سميكاً. هبج_هبجه بالعصا ضربه وهبجه ورمه وتهبج تورم وبما أن العامة تستعمل الفعل بمجرد ومزيده لم يعد عند المنشئين فصيحاً. هبش وهمش_لينظر العارفون إذا كان معنى الجمع والالتقاط تاماً أو لا. جرس_المنشئون يستعملون شهر والعامة تستعمل جرس للتسميع بالناس وإشهار عيوبهم ونوقائصهم والكلمة العامية أصح وأوقع.

ما هذه الجرسة!. هاش_لا تلفت يا قارئي إلى هوش الكلاب وتهويشهم فإن أبناء العربية آخذون بخناقها وإنما نذكر قول العامة: الناس هائشون وقولهم: هم في هوشة وكانوا يتهاوشون للدلالة على الهرج والهيج والفتنة والفساد والاختلاط وتذكر في الوقت نفسه أن الكلمة عربية فصيحة وأن الهوش والبوش من فصيح اللغة أيضاً وإنه لا ينقصنا إلا التحقيق. الكلمات التالية كلها من فصيح العربية المحسوبة عامياً. الشلشلة القطران والانتشار_التمشير للرفع والتقليص_قش الشيء جمعه والأولاد والنساء في لبنان يقولون: نحن ذاهبون إلى الحقل أو الحرج نقش الوقود_هارش واثب وخارش للناس والكلاب والشيء بالشيء يذكر فالعامة تقول رجل هرش للشيخ ولنا فعل هرش الرجل يهرش إذا ساء خلقه فإذا كانت كلمة هرش عربية فهرش مصحفة وهل أقدر الأئمة لا يلحنون؟ _لازق لاصق_ولصقي ولصق بيتي بجانبي وجانبه_الهتيكة الفضيحة وهي في لسان العرب دون الفروز ىبادي ومحيط المحيط_حاص حوله أي حام_نعر صوت بخيشومه وصاح: كفى تنعر وفلان ينعر_رزه غرزه والشيء في الشيء أثبته: رز الوتد ورز العدل والمد والجراب. صول الحنطة والكلس_عزوة الرجل_نتفةٌ ونتَفه ونتَّفه_الولفْ_خارت قوته أي ضعفت_عزره لأمه ووبخه_الولودية الصغر_خنخن لم يبين ك لامه أي أبدى خنه أو غنه في خياشيمه_خنفس على القوم. كرههم وعدل عنهم ومنه فلان مختنفس والولد مخنفس. تفاصح تكلف الفصاحة_فلتة لسان وفلت لسانه_السحت الكسب من مال الحرام_نكس رأسه طأطأه_تعوق تأخر وتريث_يسرها الله: سهلها_طعمه مز: فيه مزازة أو طعم بين الحلاوة والحموضة قال الحريري: لا أبالي من أي كاس تفوق ... م ت ولا ما حلاوة من مزازة همدت النار: ذهبت حرارتها أطفأت البتة_نصت وتنصت: سكت مستمعاً وتسمع_خبص الشيء بالشيء خلطه وخبصه للمبالغة_الخبتة: التواضع والخشوع_تزنتر: تبختر وهي فصيحة إلا أن العامة تكره التزنتر والتبختر. حت: حك وقشر_خبطه: ضربه ضرباً شديداً. تبقط_تقول العامة: فلان يتبقط والمعنى انه يتناول الشيء قليلاً قليلا أو شيئاً شيئا إلا أن استهزاء جهلة المتعلمين بالعامة يجعل الكلام الفصيح غير فصيح عند الأغبياء دون سواهم.

قرفص_من اين اتت القرفصاء التي هي أنت يجلس الرجل على إليته وبلزق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه إذا كان لا يوجد لها فعل بمعناها فإن قول العامة قرفص يدل على القرفصاء إلا أن المعاجم تنكر هذا المعنى مع وضوحه. أنشد أبو المهدي: لو امطخت وبراً وضبتا ... ولم تنل غير الجمال كسبا ثم جلست القرفصاء منكباً ... تحكي أعاريب فلاة هلبا ثم اتخذت اللات فينا ربا ... ما كنت إلا نبطياً قلبا إلا أن العربية في حاجة إلى التحقيق والتدقيق. انظر إلى فرع آخر من هذا الأصل فإنهم يدعون اللصوص المتجاهرين قرافصة لأنهم يقرفصون الأسير أي يشدون يديه تحت رجليه إلا أنهم لم يذكروا يا أخي للجمع مفرداً والجموع التي لا مفرد لها غير قليلة فهل هذا معقول؟!. نبر_من معواني نبر المعنى الذي اتخذته العامة لرفع الصوت. أنشد اللحياني: إني لأسمكع نبرة من قولها ... فيكاد أن يفغشى علي سرورا فلماذا لا تكون الكلمة فصيحة. لا ندري!. نهر_بالله يا ابناء العربية ما هذه الفوضى! تقولون نهر السائل وانتهره زجره والعامة تستعمل المعنى نفسه إلا بعضها للنداء عن توسع وما يثبت وجود معنى الزجر في نهر العامة أنها لا تستعمل الكلمة إلا عند الحدة والشدة فمفسدو اللغة هم اكثر حملة الأقلام لا العامة التي لا تزال محافظة على ما لا يحافظ عليه أكثر الدارسين. وقريب من نهر نده. تحوج_متى ذهب الناس في طلب الحاجات يقولون نحن ذاهبون نتحوج وكذلك يقولون عند شراء حوائج العروس ومع ذلك تعتبر هذه الكلمة عامية عن غير تروِ إذ ما هي بضاعة التاجر غير حاجته وجهاز العروس غير حاجتها؟ خش_أهلاً وسهلاً خش. أي ادخل وخشت الحية في الحائط دخلت والكلمة من الفصيح. هتَّ_بماذا هتني تعيرني وتحط مرتبتي ومنزلتي. مقمق_يجب أن يكون لنا من معنى التكلم بأقصى الحلق هذا الفعل بدليل وجود اسم فاعل منه وهو المقامق إلا أن معاجم اللغة لا تشير إلى شيء من هذا أو أن النقص الظاهر فيها تكمله العامة بقولها: فلان يشقشق ويمقمق فليزجع المنقبون إلى المتون ويعتبروا.

طاح_ذهب وتاه في الأرض ومنه الطائح عند العامة لفار من وجه الحكومة ولا يوجد كلمة أدل على المعنى فيجب استعمالها. أنثم الجسم_قلنا أن بعض لفظ العامة غير صحيح إلا أن كلامهم فصيح ومن الشواهد أنثم الجسم أي ذاب وضعف وبعض الدروز في لبنان لا يزالون يلفظون الكلمة على حقها ولا يبدلون الثاء سيناً وشيء من العناية يرجع إلى اللغة رونقها ولو أن الحكومة تقيم الأئمة لإقامة الكلام واللفظ لكانت تخدم البلاد والعباد مازالت مدارسنا توجب على التلاميذ التخاطب بلغة أجنبية ولا توجب عليهم التخاطب ولو لساعة بفصيح لغتهم كأن التخاطب بفصيح العربية عار وبفصيح سائر اللغات فخار. وقوق_من فصيح اللغة أن الوقواق المكثار الوقواقة المهذارة. قال أبو البدر المسلمي: إن ابن ترنى أمته وقوافه ... تأتي تقول البوق والحماقة إلا أن المعاجم لا تذكر الفعل إلا لنباح الكلب واخلاط صوت الطير وعندي أن الكلمة على ما تستعملها العامة صحيحة فصيحة إذ كيف يقولون وقواق ووقواقة ولا يقولون وقوق بمعناهما ثم أن العامة تستعمل القوقة في التهكم كأنها تقول أن فلاناً يخلط ويلت فإذا رفض اللغويون إلا التقيد بسلاسل التقليد البليد فلا أقل من التسليم بصحة المجاز. لت_ثم أن اللت هو الخلط فلماذا يجوز لنا الخلط واعتبراه فصيحاً ولا يجوز لنا استعمال اللت وهو بمعناه. فكم أنت مظلومة ايتها العامة. فقع_مات من شدة الحر والعامة تقول فقع ومات مع تخصيص المعنى بالهم والغم إلا أن المراد ظاهر حوادث الفقع في حمارة الصيف كثيرة في أمهات مدن الولايات ويجب استعمال الكلمة إلا من مفاقيع اللغة. تصيع الرجل=ضل. من تصيع الماء اضطرب على وزجهه وفي الحرب معنى التفرق بتردد وتحير فلماذا لا نتوسع في اللغة كما توسع العرب قبلنا. المداس=الحذاء الحذاء الذي يلبس في الرجل والمتفرنجون يفضلون الستيك والصباط والجزمة لأن المداس ستعمل من العامة فكأنهم يحاولون إظهار تفوقهم بنبذ أصح الكلمات العربية لا لحجة إلا أن الكلمة من غير زيهم الحديث. حبك فلاناً=دلك حنكه والغريب أن الكلمة تعد عامية متى استعملت لدلك القابلة حلق الطفل

قبل أن يرضع فإذا كان معنى الدلك موجوداً فأين العامية في الكلمة وهي على فصاحتها. ابعط في كلامه: لم يرسله على وجهه قال رؤبة: وقلت أقوال امرئء لم يبعط ... أعرض عن الناس ولا تسخط وأبعط في السوم تباعد وتجاوز القدر قال حسان: ونجى أراهط ابعطوا ولو أنهم ... ثبتوا لما رجعوا إذاً بسلام سفق_سفقه بالكف: لطمه قال أبو منصور سفقت الباب واسفقته أجفته وسفق وجه الرجل لطمه فاستعمال العامىة لسفق في محله. دمشق_الشيء زينه. قال أبو نخيلة: دمشق ذاك الصخر المصخر وهذا هو المعنى العامة: شاب مدمشق وقام مدمشقاً. دلق_تروى في المعاني التالية، تد \ لق السيل عليه واندلق هجم واندفع_اندلق الشيء خرج من مكانه وكل ما ندر خارجاً فقد اندلق ويقال: طعنه فاندلقت اقناب بطنه أي خرجت أمعاءه ودلق وأدلق السيف أخرجه فأي جريمة لغوية في استعمال العامة للدلق والاندلاق بمعنى الصب والانصباب. عثر_زل ومثر ساقط وزال والعامة تلفظ الثاء تاء. خثر_جمد وتماسك ومخثر مجمد. لز_الشيء شده والصقه والقوم اجتمعوا وتضاسيقوا والشيء بالشيء ألزمه به فليعتبر اللغويون. زمك_عن ابن الأعرابي زمكت القربى وزمجتها إذا ملأتها والزمك إدخال الشيء بعضه في بعض والعامة تستعمل المجرد والمشدد استعمالاً صحيحاً. زرك_زرك الغلام ساء خقهز هذا عند اللغويين فصيح ولكن ألا يجوز لنا أن نعامل زرك معاملة سئم فنقول اسأم وسأم وأزرك وزرك ولماذا؟! قد تكون العامة على صواب. دعقه_في لسان العرب الدعق الدق ومحيط المحيط لا يذكر هذا المعنى الذي هو معنى العامة تماماً إلا إذا كان لا يجوز لنا استعمال الصب للبترول لأنه لم يكون عند العرب ولا لسائل آخر غير الماء والخمر. حوشه_جمعه وانحاش عنه تقبض ونفر والحواشة ما يستحيا منه والعامة تستعمل كل ذلك

دون حملة الأقلام. لقلاق بقباق_مهذار كثير الكلام واللقلقة تقطيع الصوت والجلبة ولقلق وقلقل بمعنى واحد للتحريك والهز. لاط_لاطه خلطه وعجنه وقد وردت في كلام الإمام علي. الحدو_الحدو عند الموت من الفصيح. سن_سن الأرض ملسها قال الشاعر: ثم خاصرتها إلى القبة الخض ... راء ونمشي في مرمر مسنون وهو المعنى الذي تستعمله القروية اللبنانية بعد أن تطين بيتها أو تمرحه وتسنه وتسن الحجرية. شرم_شق وقطع فهو مشروم بكل فصاحة. استملح_الشيء عده مليحاً. سبرك سبري_تريد العامة بذلك أن عليك ما علي لأن أصلك كأصلي وهيئتك كهيئتي وليس من مغمز. تعنفص_كان ذا صلف وخفة وخيلاء وادعى بما ليس فيه ولا يريد أن يكون له رباعي. تغنجت: شكلت وتدللت. تغجل: فلان على فلان بغى عليه وظلمه فو مغلج. ثخنها: غلظها وصلبها. حزر: الشيء قدره وضمنه وحزره القى عليه ما يحزره. أقلعت الباخرة=في الجرائد والمجلات والكتب نقرأ هذه العبارة الواجب الإقلاع عنها_كانوا يقولون أقلعت السفينة أي نشرت شراعها أو قلوعها لتمخر شاقة الماء ولم يكن أيام كانوا يستعملون العبارة بخار أما اليوم فلا يجوز أن نقول أقلعت الباخرة بل مخرت أو جرت إلا إذا كان المركب غير بخاري وفي مثل هذه العبارة يظهر فضل اللغة العربية ويثبت لهؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً منها أننا بغنى عن تحدي الفرنجة الذين يقولون أقلعت الباخرة لفقر لغاتهم. ضربت بكلامه عرض الحائط=مهما التمس المجازيون الأعذار لا أجد هذا التعبير عربياً

فإننا لا نضرب عرض الحائط بالكلام لنهمله ونسقطه ونطرحه ونرميه. نحن نقول في العربية جاءني كتاب فلان فضربت به عرض الحائط وإنما لا نقول مثل هذا القول عن الكلام نفسه. حررت له وارسلت له=أصعب ما في اللغة على الدارسين أنفسهم إحسان استعمال أحرف الجر وكا مدقق يتناول الجرائد والمجلات إلا العدد القليل منهن يضحك من كثرة السقطات التي لا يعذر منشئ عليها وفي مقدرته شراء معجم أو في رأسه قوة تمييز بين هذا وذاك المعنى فأنت لا تكتب لأحد إلا إذا استكتبك ولا ترسل له إلا إذا كلفك الإرسال أما إذا أردت أن تقول أنك تخاطب أحداً بالكتابة فيجب أن تستعمل إلى لا اللام وهكذا في الإرسال ثم التحرير ليس الكتابة ولا الكتاب أو الرسالة بل انقاذهما من عبودية السقط والخلل والغريب جداً أن منشئي الجرائد والمجلات يدعون الكاتب محرراً وهم يريدون المنشئ لا المصحح ولا المصلح ولا المهذب ليعذروا والأغرب من ذلك أن بعض جامعي بعض المعاجم العربية سقطوا فيما سقط فيه غير المتمكنين والمدققين وقالوا عن الكتاب والرسالة تحرير فأودوا ولم يقوموا. غب افتقاد شريف الخاطر العاطر=هل على مثل البلادة في الإنشاء بلادة! كل كلمة بنفسها فصيحة إلا أن مجموعها لا معنى له المسؤولية الحقيقية على المدارس والساتذة الذين يسقطون إلى الجاهلين ولا يرفعونهم إليهم بل إن الجري عل الطرائق القديمة يجعل أكثر الكتابات سقيمة عقيمة خالية من المعنى ولكن تفرقع. إبقاء القديم على قدمه يجب أن يرجع على عهد بلغاء العربية لا إلى العهد المتأخر الذي اعتور اللغة فيه الخلل والفساد فما معنى العاطر والفاخر والشريف مع الخاطر ولماذا لا نكتب ونكاتب بفهم وسهولة وبساطة وسلامة؟ دام بقاؤه=طلب الدوام حماقة وحرام. أي بقاء يدوم! تدوم المادة بعد استحالة ولكن الذين يطلبون دوام البقاء أو يدجعون للناس به لا يريدون المادة بل البقاء في دار الفناء وخلود من أعدت لهم اللحود. همى الدمع من عيونها_كم من العيون للمرأة وإن تكن العيون عليها كثيرة. الملاحة الجوية_في طعم هذا الاصطلاح ملح فإنه من غير روح العربية ومن غير فقهها

فإذا كنا نحن اصحاب الجرائد اليومية نلتمس الأعذار لضيق أوقاتنا عندما نلجأ إلى الحواضر فما هو عذر أساتذة المعاني في المدارس والكليات وما هو عذر أصحاب المجلات_المطير اصلح من الملاحة وإنما لا بد من اخيار كلمة اصلح. الملظم والعامر_خرج من عالم الخرافة المظلم إلى بلاد الحرية العامرة. الجرح يدمي_الجرح لا يدمي وإنما يدمى. خذ أي كتاب أو مجلة أو جريدة واعتبر فلسفة كاتبها دون الألفاظ والمعاني دون المباني. تجد أننا_إلا عدداً قليللاً من حملبة الأقلام_نتعسف ونتكلف ولا نراعي المعاني والبيان لأن أكثر المنشئين متطفلون. نحن ابعد أبناء اللغات الحية عن وضع الكلام في مواضعه وإقامته في مواقع لأننا لا ندرس فلسفة اللغة بل لأن أكثر أصحاب الجرائد والمجلات والمترجمين والمؤلفين من غير الأكفاء إلا بالتبجح والادعاء أو أن اللغة أمست واسطة للكسب والارتزاق حتى يعبث والنفاق وإليك بعض ما يخطر في خاطري الآن أجئ به وأكل إليك الحكم. طارت نفسه شعاعاً_تخرصات اتلأوهام_يغيظه من النظام_هل يعتمد كلام السقيم في طعم الماء_رفع الابن باسطاً يديه إلى والدته_سقط عليه بالضرب حتى جلد به الأرض. الجالية والطارئة: دون تمييز بين الاستيطان والعود=يسير ويسري دون فرق بين سفر النهار والليل_رحلوا في القطار إلى المدينة والولاية الفلانية. زاره أخوه فأحسن قراه=ظعنوا من أصحابهم إلى واشنطون=شخص البياع إلى بوسطن=كانم الخواجا فلان يتدفق في خطابه كالسيل المنهمر إلا أنه اعتذر أنه غير خطيب وشكر الناس وجل دون أن يتكلم!. ثم ما هي فائدة الحركات في اللغة إذا كنا لا نريد أن نصرف عن جعل الواو الثقيلة الد؟ في أولى وعمرو وحيوة وصلوة بجحة التمييز وإزالة اللبس وهلا يوجد غير هذه الكلمات في العربية بحاجة إلى الضبط؟ ثم ما هي فائدة الحركات إذا كنا نكتب إله ولا يجوز لنا أن نكتب مؤنثه إلهة؟ ثم كيف يعقل أن تكون جموع لا مفرد لها مثل شلقة ومخاطر ومحاسن وشماطيط وما جمعه الثعالبي وغيره وهل كان كل ما لا يكون سمعه بالجامع لا يكون وضعه الواضع جرياً على القياس؟ وكيف يمكن أن تكون المطاوعة في فعل ولا تكون في آخر مثله تماماً؟ وكيف تكون صيغة أفعل التفضيل في ما لا فعل له كقولهم هو اقلط منه؟

أو كيف يكون مضارع لا ماضي له كقولهم لم يذر؟ أو مزيد لا مجرد له. والأمثلة متوفرة. وثمت منابت العربية بعد أن كانت مستحلسة. وتفاصح كل من لم يكن فصيحاً ولن يكون متفصحاً. فوجب أن يرجع الناس إلى فقه اللغة الذي لا أعني به كتاب أبي منصور الثعالبي بل فلسفة اللغة حتى لا يرسل كل من اغتر بقدرته الكلام على عواهنه ويحسب أن من جمع كلمة إلى كلمة كان شاعراً أو ناثراً أو إماماً وثقة يجب الإقلال من الترديد والمبهم الذي لا يزيد إلا اعتكالاً والاعتدال في تعليم القواعد بحسب كل مذهب التوثق في معاني البليغ من المنظوم والمنثور والاستكثار من حفظ الجيد ولاسيما ما يدعى السهل الممتنع ويجب أن تكون مجلاتنا وجرائدنا المدارس الحقيقية فترفض كل كتاب عليلة بالمعاني وينبه المغرور والشعرور إلى ما يفسد الذوق ويدعو إلى الهزأ ومن فقه اللغة أن نصطلح على ما يذلل لنا صعاب اللفظ عند الترجمة والاستشهاد أي أن يكون لنا ما نستطيع معه نقل الكلمة الأعجمية من نكرة وعلم إلى معناها الأصلي. وقد كان للعرب روم وأشمام فليكن لنا زيادة على مثالهما والله ولي التوفيق.

تولستوي

تولستوي فقدت الحكمة عضواً عاملاص من دعاتها وعمدة ثقة من أعز أنصارها ورعاتها وإنساناً كاملاً خدم الإنسانية بأفعاله وأقواله وأدهش اربا ابتقاليد بحسن مثاله وراع قلوب أهل السلطة بحظوته وإقباله ونعني به فيلسوف روسيا وأحد رجال الأخلاق في هذا العصر الكنت ليون نيكولايفتش تولستوي الذي هز نعيه أرجاء العالم المدني وأكبر رجال الإصلاح هول المصاب به. ولد هذا الحكيم في اياسيانا بوليانا من أعمال ولاية تولا الروسية سنة 1828 فيتم منأمه وهو ابن سنة ونصف وفقد أباه في العشرة وهو من بيت وجاهة وغنى وكان جده سيء الإداترة يميل البى البذخ والإسراف ففقد ثروته حتى اضطر إلى التوظف فعينته روسيا والياً لقازان وجاء ابنه والد تولستوي ولم يكن على شيءٍ من العفاف حتى العشرين من سنه. ورزق ابناً من خادمة زوجه منها أهله ثم تخلى عن الوظائف وتزوج بوالدة تولستوي وكانت غنية تحسن الروسية كتابة وقراءة كما تحسن الإنكليزية والألمانية والإفرنسية والإيطالية والفنون والضرب على البيانو وكانت على جانب من حرية الفكر وسلامة الوجدان والسذاجة. واشتغل والد تولستوي بالزراعة في الأملاك الواسعة التي ورثها عن أبيه واتصلت إليه من زوجه وكان يحب المطالعة واقتنى مكتبة فيها شيء كثير من آداب الفرنسيس وكان من عادته أن لا يقتني بكتاباً قبل أن يأتي على مطالعة ما اقتناه من قبل فنشأ ليون تولستوي على اللغة الإفرنسية وكان يفهم كتب الفيلسوفين الفرنسيين روسو وفولتير كم يفهم شعر بوشكين شاعر الروس وأخذ الإفرنسية عن أستاذ فرنساوي اسمه سان توما ولم يبلغ الخامسة عشرة حتى كان متشبعاً بآدابها. ربي في المذهب الأرثوذكسي ولكن لم يكد يبلغ التاسعة عشرة من عمره حتى تجرد عن الاعتقاد بالكنيسة ولكنه عمد إلى التقية فلم يكن يظهر ما يضمر وكان وهو طالب يقوم بالفروض والواجبات وغادر سنة 1847 الكلية التي كان يدرس فيها ليلتحق بالفلاحين ويحسن إليهم إلا أنه لم يفلح وفي سنة 1851 سافر إلى قفقاسيا حيث عين ضابطاً في المدفعية واشتهر ببسالته في حصار سواستبول فعين قائد فرقة وكان خلال تلك المدة قد نشر باكورة كتبه موقعة بالحروف الأولى من اسمه واسم أسرته ثم أقام في بطرسبرج مدة

فكتب عدة مصنفات وقصص له وساح سنة 1858 في ألمانيا وسويسرا وفرنسا وعاد إلى روسيا بعد تحرير الفلاحين فأنشضأ في بلده مدرسة نموذجية للفلاحين ومجلة في التربية والتعليم وعين قاضي صلح. وفي سنة 1862 تزوج وطابت نفسه وحسن سلوكه ولم يكن من قبل كما قال عن نفسه على حالة حسنة في آدابه وكانت كتبه التي كتبها لأول عهد زواجه أحسن ما خطته يده وأسلمها فكراً وفي سنة 1874 أخذ يتساءل عن مصير الحياة فصارت تبذر بوادر ذلك على أسلة قلمه ولسانه حتى إذا كانت سنة 1883 تعرف على فلاحين كانا أنشأ لهما مذهبين دينيين من مقتضاهما تر جيح العهد القديم على العد الجديد وأن إصلاح العالم لا يتم إلا بالعمل اليدوي والشخصي وبعد أن جاهد تولستوي نفسه تخلى في رواية عن بعض أملاكه فوزعها على الفلاحين وترك جزءاً منها لأسرته كان يعمل فيه بنفسه على نحو ما يعمل صغار الفلاحين بأيديهم ومنذ ذاك الحين لم يترك بلده وطفق يحرث الأرض كما يحرث الآداب ويبث الفضيلة وصار قصره مجمع العلماء والفضلاء وفي 24 شباط 1901 حرم المجحمع المقدسي الروسي تولتسوي لإلحاده وخروجه عن ربقة التقاليد الأرثوذكسية وتخوفت الحكومة الروسية عادية أفكاره فصارت تراقبه حتى كادت تنفيه مع ألوف من كانت تنفيهم إلى سيبيريا لولا أن لطف الله به ونفس خناق الحرية عن أمته بإنشاء مجلس الأمة. ويعتب رتولستوي بأنه من أقجدر القصصيبن الذين نبغوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقد أجاد في ذكر الماضي من حياة أمته ووصف الروح الروسية والأخلاق الروسية بحسن مأتاه وجودة اختياره وتفصيله وتصويره فكان بما رزق من هذه الهبة يصور ابطاله كأنهم أحياء بل يصور الأشخاص من الدرجة الثانية والجمهور. وهو قليل العناية بإنشاءه ولذلك لا نقرأ عليه مسحة التفنن وإذ قد نشأ تولستوي لاهوتياً تراه يحاول يقترب مما يراه بأنه النصرانية الأصلية. وتتطالبه الفلسفة الطبيعية بأنه أحد دعاتها والنمافخون في ضرامها وأن تولستوي ليبحث في كل مكان عن الطبيعة. والجوهر في قاعد حياته هي الطبيعة الصوفية وللأخلاق عنده المقام الأول وجماع القول في فلسفته أن لا يقاوم الشر بالشر. وقد ظهرت كتبه كلها باللغة الروسية في ثمانية عشر مجلداً وترجم معظمها إلى لغات أوربا الراقية وترجم بعضها إلى العربية ولاسيما قصصه.

وهذا الدور الأخير في حياته هو الذي تمنى أن يموت عليه قال في ترجمته نفسه: لما ذكرت ما أوتيت منن خير وما تم على يدي من شر رايتني أقسم أدوار حياتي الطويلة بأسرها إلى أربعة أدوار: أولها ذاك الدور العجيب خصوصاص إذا قيس بالدور الذي يليه_البار البهج الشعري واعني به دور الطفولية. ثم الدور الثاني عشرون سنة كان فيه من الغشاء الغليظ والخدمة والطمع بالمعالي وخصوصاً في المكاسب ما كان. ثم جاء الدور الثالث وهو ثماني عشرة سنة أي منذ تزوجت إلى نشور الروح وهوالدور الذي يحق أن يدعى في نظر العالم دور الأخلاق بمعنى اني عشت في هذه البثماني عشرة سنة كما تعيش الأسرة بالاحشمة والنظام غير مستسلم لمفسدة ينبذها الناس ولكن جميع مصالحي كانت مقصورة على عنايتي عناية مقرونة بحب الذات ممزوجة بالأنانية وعلى زيادة ثروتي وعلى نجاحي الأدبي وعلى مختلف حظوظ تنالها نفسي والدور الرابع يرد إلى عشرين سنة التي أنا فيها الآن وأود أن أموت عليها وبها يتمثل لي ما فغي الحياة الماضية من عظيم الخطر وهو الدور الذي لا ابغي سواه ما خلا اعتيادي الشر الذي اندمج في روحي في الأدوار الأخيرة. هذا مجمل من طفولية تولستوي وشبابه وكهولته وشيخوخته وقد نشأ فيه القيام على الظالمين ومجاهدة المستبدين من الرؤساء الدينيين والدنيويين مما ثقفه عن حالته تاتيانا ألكسندروفنا وكانت من نساء المتهذبات وعلمته الحب والميل إلى الوحدة والتأثر من المظالم كما علمه روسو وفولتير نزع ربقة التقاليد الموروثة. ولكن تولستوي لم يتحرر كل التحرير من رق العبودية للمحيط والمنشأ وبقيت فلسفته تربح من صبابات النصرانية ومدارها لا تقابل الشر بالشر. ولو سارت أوربا على هذه الفلسفة لما قام عمرانها وانبسط سلطانها على ما نرى. فلسان حال الغرب وجزاء سيئة سيئة مثلها فحكمة تولستوي ليست كحكمة معظم أنصار الحكمة في الغرب اليوم مادية صرفة بل هي روحية ممزوجة بطرف من آداب النصرانية تتخللها عقائد اشتراكية متطرفة فهو لا يرى أن يملك الأرض أحد لأنها لله بل تترك وشانها ينتفع بها عباها ويرى أن لا يعاقب المجرمون بالسجن بل أن يصفح عنهم الصفح الجميل ولا يعتقد بألوهية المسيح بل يرى أنه إنسان ذو مذهب هو خير المذاهب للناس ومن أفكاره الاشتراكية بل الفوضوية أن أحسن الطرق في الخلاص من ظلمك

الحكومات أن يمتنع الناس عن الخدمة العسكرية وعن أداء الضرائب وبذلك تضطر الحكومات إلى إصلاح أمرها. ومن تعاليم تولستوي الأدبية أن يبتعد المرء عن مغازلة النساء ويتحد بزوجه قلباص وقالباً لأن هجرها مفسدة واي مفسدة وأن الواجب أن لا يفرق افنسان بين مواطنيه والغرباء لأن الناس ابناء أب واحد وأم واحدة ويسعى كل امرء بإزالة عدم المساواة بين البشر حتى يعيشوا بسلام. وله آراء في المعاد بعضها مما لا يقرها عليه رجال الدين. ولقد ضاق صدر تولستوي قبيل وفاته من شؤون بيته ويقال إن ما نشأ ذلك من مقاومة أسرته له في أمر خيري كان يريد أن يختم به حياته وهو أن يجعل ريع كتبه مادام الدهر وقفاً على أمته فلم يوافقه على هذا الفكر أهل بيته ولاسيما زوجته المشهورة ببخلها فقام تولستوي ذات يوم ورافق طبيبه على نية الهرب من بيته وركب في الدرجة الثالثة من القطار ليساوي الفقراء ولكن كانت المركبة مكتظة بالركاب حتى لم يكن فيها محل يجلس فيه الشيخ الحكيم فعرض موظف السكة الحديدية عليه أن ينتقل إلى الدرجة الأولى أو الثانية فأبى ونزل في إحدى المحطات وهي إسكابوفا وبصق دماً وزادت حرارته ثم اسلم الروح في غرفة مدير المحطة ويقال أن الفيلسوف كان ينوي أن يلحق بأحد الأديار لينضم إلى من فيه يعبد الله على مناحيهم وأنه قابل ابنة له راهبة في طريقه وفاوضها بضع ساعات كما خلا ساعات برئيس دار ثان. والأقرب إلى الذهن أن تولستوي عزفت نفسه عن الدنيا وأحب التجرد عنها وعن الملاذ وعن الأبهة في قصره وعن عيشة المحفوف بالخدم والحشم شاء أم أبى وأراد أن يفعل الخير بوقفه مداخيل كتبه على المدة فعاكسته زوجته وكان منه أن هام على وجهه لا يدر يكيف يسير فوافاه حمامه وشق نعيه على أمته البالغة مئة وخمسين مليوناً من البشر وعلى كل من اطلع على طرف من أفكاره وفلسفته العملية من منوري الأرض ولا عجب إذا عدته أمته مفخراً من مفاخرها جاد به الزمان وعده أهل الأخلاق الحكمة والإصلاح من أعظم من عملوا لأب النفس وإصلاح المجتمع الإنساني.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الصناعة في مصر ألقى علي بك ثروت خط بة في الصناعة في المؤيمر الوطكني المصري جاء فيها ما ملخصه: لم يخطئ من قال أن الصناعة أثر الذكاء الإنساني في استخدام وتصغير أشكالها والتأليف بين قواها المختلفة ولذلك كانت أقوى الأمم من بنى هيلك قوتها على أساس مكين من الصناعة. وقد كانت أمتنا المصرية راقية في صنائعها منذ القدم. ولا تزال الآثار التاريخية شاهداً حياً على مبلغ رقيها الصناعي. وكفى بالدلالة عليه أن البلاد المصرية هي التي ثبتت فيها قوى الفراعنة ومدنيتهم وحفظت معها مدنية العرب. وكان حظها من الصناعة في التاريخ الحديث وا فراً فإنه لما ولي محمد علي باشا والكبير الأريكة الخديوية افرغ جهده في الصناعة الأهلية وجلب لها من الخارج ما ينقصها من فنون الصناعة الأجنبية. نظر إلى البلاد المصرية نظر حكيم فرأى أنها بطبيعة تكوينا زراعية صناعية فشمر عن ساعد الجد واخذ ينشئ المصانع المختلفة في كثير من بلاد الوجهين البحري والقبلي. أعانه على ذلك علماء فرنسا وبعض أساطين الصناعة فيها. ساعد أيضاً كثير من الإيطاليين والنمسويين. وقد جاوز عدد لمصانع المختلفة التي أنشأها مائة وخمسة وسبعين مصنعاً يصنع فيها الخزف والزجاج والجلد والجوخ والأنسجة المتنوعة والخيط بأنواعه والطرابيش والألبسة والأسلحة والبارود والمعادن والمدافع والسفن الحربية وجميع ما له بالمعيشة. فكان المصري يلبس ملابس أهلية تصنع في بلاده وكانت المدن الكبيرة والصغيرة والثغور وسائر البلاد العابرة حافلة بهذه المصانع والمعامل المتنوعة. أرسل الإرساليات العديدة إلى كثير من العواصم الأوربية لإتقان الصناعة حتى إذا عادوا إلى بلادهم بعد ذلك آبوا واقفين على أسرار الفنون محيطين بدقائق الصناعات فحلوا محل أولئك المعلمين في المصانع المصرية. أنشأ محمد علي مصانع أخرى لصنع الشمع وأحواضاً لصنع لوازم المراكب الحربية وداراً

لضرب النقود في القلعة فكانت مصر في ذلك العهد أرقى كثيراًَ من اليابان. أخذت الصناعة تنمو وتزدهر حتى بلغت من الانتشار والرقي مبلغاً عظيماً وبقيت كذلك حتى عهد الخديوي سعيد وقد أسس معملاً كبيراً كان يديره إفرنسي كبير هو أنجلو بك. ثم أخذت الصناعة الأوربية تفد على مصر وعلى الأخص بعد إنشاء السكك الحديدية المصرية فألح قناصل الدول على سعيد باشا أن يبطل جميع المعامل فأبطلها ما عدا معامل الحربية فإنه أبقاها كما أنه أنشأ مدرسة الفنون والصنائع وقصر التعليم فيها على تعليم الرسم وفن العمارة وغيرها من الفنون الجميلة. وقد وفدت على مصر في عهد الخديوي سعيد بعثة إفرنسية من المهندسين الجيولوجيين للبحث عن المعادن في بلادنا فأذن لهم الخديوي أن يعملوا وفي أثناء عملهم عثروا في السودان على صنف الفحم الحجري وحملوا منه كمية إلى مصر لتجربتها فجربت ووجدت نافعة وأقر على نفعها أنجلو بك ولكن قنصل إنكلترا في ذلك العهد لح على الخديوي أن لا يعنى بهذا المر بدعوى أنه يكلف الحكومة المصرية نفقات طائلة فضلاً عن أن الفحم من صنف غير جيد فأطاع الخديوي وفقدت مصر بذلك مرفقاً تجارياً مهماً. وقد أنشئت في أوائل عهد إسماعيل مدرسة العمليات لكبرى في بولاق وكانت هذه المدرسة قائمة على نموذج مدارس الصنائع بفرنسا عين لها جيجيون بك الفرنسي ناظراً. قد بلغت من الرقي مبلغاً مدهشاً فكان المتخرجون فيها يؤدون عمل المهندس الميكانيكي والمهندس الرياضي معاً. وفي ذلك الوقت أنشئت المطبعة الأميرية في بولاق وأنشئ بجوارها معمل لعمل الورق على اختلاف أصنافه وأشكاله وكان ما يخرجه هذه المعمل كافياً لحاجة مصر. وقد بقيت على تلك الحال حتى هبط الاحتلال بلادها. وكذلك أنشئ الخديوي إسماعيل معامل السكر في الوجه القبلي والمدارس الصناعية في كل بلد من بلاد القطر فكان عهده من هذه الوجهة عهد حياة في الصناعة والصناع. قضت سلطة الاحتلال سنة 1884 أن يلغي معدن المدافع النحاسية وتباع عددها الكبيرة فبيعت هذه العدد من شركة إنكليزية بثمن بخس كما قضى ببيع عدد ضرب النقود إلى شركة إنكليزية أخرى وكان من هذه العدد ما لم يستعمل بعد وما لم تفتح صناديقه إلا أيدي رجال هذه الشركة وصدر الأمر ببيع جميع عدد آلات مصنع الورق وذلك في سنة 1885

وفي هذه السنة أيضاً باعوا آلات وعدد الورشة الكبرى التي كانت الخاصة الخديوية قد أنشأتها حين اشترت سراء الجيزة. وفي سنة 1887 بيعت العدد والآلات التي كانت تدار بها مغازل اقطن وبيعت ورش القطن في الأقاليم واحدة بعد أخرى. وفي عام 1898 بيعت جميع آلات دار الصناعة الترسانة الكبرى بالإسكندرية وبركت مراكب البوسنة الخديوية وأحواضها لشركة إنكليزية بمائة وخمسين ألف جنيه وهو لا يعادل نصف ثمن حوض واحد والأحواض كثيرة والمراكب أكثر أما مراكب بولاق وترسانتها فإن جزءاً عظيماً منها قد بيع. أنشأ المرحوم علي باشا مبارك ناظر المعارف الأسبق مدرستين صناعيتين إحداهما في المنصورة الثانية في أسيوط ليكون منهما أبر ملجأ للتلاميذ الذين فصلوا من المدارس التجهيزية التي كانت في المديريات فألغاها الاحتلال أما مدرسة المنصورة فلم تبق طويلاً لأن الورشتين اللتين يملكهما بعض الإنكليز في تلك المدينة قضتا على حياتها. حتى إذا كانت سنة 1893 عادت إلى حالتها السابقة وأصبحت الآن ورشة بسيطة لا يتعلم فيها الطلاب إلا مبادئ القراءة والكتابة والهندسة والحساب والرسم العملي بعد أن كانت تعلم فيها العلوم الهندسية والميكانيكية العالية. وليس ثمة دليل على عظيم الخطأ في رقي الصناعة في مصر أقطع ولا أنصع من الأقوال السديدة التي ذكرها المسيو (ليوبولد جوليين) المهندس الزراعي وأحد واضعي تقرير لجنة القطن الأخير فقد قال: إن كل أمة يكثر فيها وجود المواد الأولية الضرورية للحياة يكثر فيها كذلك وجود المعامل لصنع تلك المواد فيها ومن أهمها القطن فإن كل الأمم التي تزرعه تنشئ بجواره معامل لغزله ونسجه والانتفاع به عدا مصر فإنها لا تزال فقيرة في معاملها خلواً على الأخص من هذا الصنف. سعى الساعون في تأسيس معملين في نسج المنسوجات القطنية في سنة 1899 أحدهما في القاهرة والآخر في الإسكندرية. أما معمل القاهرة فقد أغلق. ولا يزال الآخر باقياً وفيه ثلاثون ألف مشط وأربعمائة نول.

ولقد لقي مؤسسوه صعاباً جمة في تأسيسه أهمها وضع الحكومة المصرية على منسوجاته ضريبة قدرها ثمانية في المائة. ثم رأت أن تنزل هذه الضريبة إلى ثلاثة في المائة لمدة خمس سنوات. فعسى أن تجعل الحكومة هذا الإعفاء دائماً حتى يتيسر لمروجي هذه الصناعة أن ينشروها في كل مكان. على أن في البلاد المصرية نحو ستة آلاف وثلاثمائة نول للنسج وكلها للوطنيين وهي تستورد خيوط الغزل من الممالك الأوربية وقد استوردت في سنة 1908 من هذه الخيوط ما قيمته 229000ج. على أن ما تستهلكه البلاد المصرية في عام من المنسوجات الأوربية بلغت فقيمته في عام 1908 4000000ج ولو كانت مصر تنسج منسوجاتها في معامل لحسابها لبقيت هذه الملايين في خزانتها ولم تنقل إلى خزائن المعامل الأوربية. وقد فكر بعض ذوي النفوس العالية في الحال وفي مقدمتهم المرحوم مصطفى كامل باشا الذي اقترح على الأمة في سنة 1902 إنشاء معهد صناعي كبير يكون بمثابة تذكار لمرور مائة عام على تولية محمد باشا الكبير مؤسس البيت الخديوي فلبت جمعية العروة الوثقى بمدينة الإسكندرية نداؤه وأخذت في الاكتتاب لتأسيس مدرسة محمد علي الصناعية فوجدت من نفوس الأمة ارتياحاً وأقبل على الاكتتاب كثيرون وفي مقدمتهم الخديوي وأعضاء الأسرة الخديوية وكرماء الأوربيين القاطنين في مصر. وما جاءت سنة 1908 حتى كان بناؤها عالياً ووضعها محكماً وهي اليوم تقدم للثغر أحسن الأعمال وتكفي الكثير من أبناءه ثم نحى أهل الخير هذا النحو فتأسست مدرسة أسيوط بهمة محمود باشا سليمان أحد كبار الأعيان وتأسست مدرسة في بني سويف وثالثة في الفيوم. وقد عني الأمير حسين كامل باشا بالاكتتاب لمدرسة كبرى صناعية لمديرية البحيرة فلبى دعوته كثير من الأعيان الأغنياء وبلغ الاكتتاب نحو 30000 جنيه وظهرت هذه المدرسة في أجمل مظهر وهي تعمل الآن أعمالاً مفيدة. وكذلك عنيت بطريركية الأقباط وأسست مدرسة صناعية كبرى في بولاق اكتتب لها كثير من أبناء هذه الطائفة بمبالغ طائلة وكذلك مدرسة طوخ الصناعية فإنها شيدت في هذه الأيام الأخيرة على أحسن طراز وغير ذلك من الورش الصغيرة.

وأخيراً فكر يوسف كمال بك في أن يخدم أمته من طريق العلم والصناعة فأسس مدرسة لتعليم الفنون الجميلة ووقف عليها عقاراً يقدر بخمسين ألف جنيه وأخذ في تشييد دار كبيرة لها واختار لها مديراً إفرنسياً هو المسيو ليلاني النحات النابغة الشهير ووكيلاً هو فؤاد أفندي حسيب واختار أساتذتها من الأوربيين والمصريين المشهود لهم بعلو الكعب والتفوق في هذه الفنون الجليلة. فأعاد الأمير بإنشاء هذه المدرسة إلى مصر روح النحت والنقش والظل وفن العمارة وغير ذلك من الفنون الجميلة الكبيرة التي تعود على مصر لا محالة بجليل الفوائد. لحوم البشر. إن عادة أكل اللحوم البشرية غير محصور في مكان ففي الكتب اليونانية القديمة أشارت إليها والإيرلنديون الأقدمون كانوا يأكلون موتاهم وفي مكسيكو وبيرو قبل فتوح إسبانيا كانت تشهر الحروب ليستحصلوا ذبائح من البشر لأعيادهم وولائمهم. لكن بولنزيا لم تزل محافظة على هذه العادة إلى عصرنا الحاضر ومبتدعو تلك العادة في تلك الجزائر هم سكان جزائر الفيجي وهي عندهم من الفروض الدينية وهم مولعون بطعم لحوم البشر إلى درجة أن أحدهم كان يعيش مع امرأة له عيشة راضية فلا يكون منه إلا أن يقتلها ويقتات بلحمها كما رواه وليام في كتابه عن سكان الفيجي وهم لا يفضلون لحم الطفل على لحم الرجل والمرأة المسنة بل يأكلون ما تيسر بعد شيه. من أفظع العقوبات عندهم أنهم يبترون أطراف المجرم وهو ينظر إليها تشوى وتؤكل. ومن أفظع ما يروى أن رجلاً من أهل هذه الجزيرة كان يفاخر بأنه أكل مدة حياته 900 إنسان ومع ذلك يقري الضيف وليس عنده من الشراسة أكثر من باقي سكان الجزيرة ممن لم يأكلوا لحم بشر مدة حياتهم. ويروى أن شيكا زعيم إحدى جزائر الفيجي أسر في ساحة الحرب ما يربو على مائتي مقاتل من عسكر العدو وفي صباح ذلك اليوم أولم وليمة دعا أهل الجزيرة إلى حضورها مشاركته بالتمتع بلحم الأسرى. وفي غينا الجديدة عندما يشيخ الرجل ويصبح غير قادر على العمل يأخذه أهله ويربطونه إلى غصن شجرة ويجتمعون حوله ويرقصون ويغنون بقولهم الثمرة قد نضجت الثمرة قد

نضجت ثم يهزون الغصن فيقع الشيخ على الأرض فيأكلونه. وفي جزائر الهبرويز الجديدة يفضلون أكل لحوم السود على لحوم البيض وهذه العادة منتشرة أيضاً بين سكان كلدونيا الجديدة. يقول المستر تيلور عن زيلندا الجديدة أن الطريقة المتبعة هي أنهم يرسلون سللاً مملوءة بلحوم البشر من طرف الزعيم إلى أعوانه فمن قبلها منهم يأتي إلى الموعد المضروب بجموعه للمساعدة وهم يعدون من لا يذهب إلى الحرب ويأكل من لحوم البشر غير مهذب وبعد انتهاء المعركة تجتمع جثث القتلى وتنزع لحومها عن العظا وترسل إلى بيوت الأنصار والحلفاء. والمزبة الوحيدة في تلك العادة أن الذين يتولون تقطيع الفريسة وتعريق لحمها يصبحون على شيء من المعرفة في تركيب أعضاء الإنسان لذلك تراهم مرنين في رد خلع المفاصل. هذا وقد أخذت تخف وطأة هذه العادة منذ أخذت المدنية الحديثة تدخل إلى تلك الجزائر اهـ. ملخصاً عن مجلة الأثري الأميركي. الصور السمائية تكلم أحمد بك زكي في محاضرته التي نشرتها مجلة المقتبس في الجزء السادس من المجلد الخامس تحت عنوان (الكتابة والكتب ودورها) على كتاب (الصور السيمائية) لعبد الرحمن ابن عمر بن محمد بن سهل الصوفي فقال عنه: وإذا بحثتم في أرض مصر من الشلالات إلى الأشاتيم ومن بادية العرب إلى صحراء لوبيا لا تجدون سوى الترجمة الفرنسوية وسوى الترجمة الفارسية في الدار الخديوية أما الأصل العربي فقد لبس طاقية الاختفاء وتطاير في الفضاء وهجر ديارنا ووصال غيرنا فيما وراء البحار ورحل عن أرض أهله هين بها إلى بلاد ظهرت قيمته بين أهلها بحيث أن العرب الذين صدر الكتاب بلغتهم إذا احتاجوا الآن لمراجعته واجب عليهم أن يتلقنو لإحدى هاتين اللغتين الفرنسية أو الفارسية أو أن يذهبوا إلى بطرسبرج وإن استبعدوها فإلى باريس وهنالك تجدون منه خمس نسخ استغفر الله بل ستاً لأن السادسة هي التي سأتكلم عليها الخ. وسينما تلوت هذه العبارة هذه العبارة تذكرت أني رأيت هذا الكتاب منذ حو خمس سنين

في المكتبة الأحمدية التي نوهت مجلة المقتبس في ذك الجزء بذكرها وذكرت بعضاً من نفائس كتبها فدعاني ذلك أن أستفتح المكتبة وأعيد النظر إلى هذا الكتاب وأكتب شيئاً عنه تبشيراً لعشاق العلم في هذه البلاد بلغة الناطقين بالضاد لعلهم يسعون في طبعه وتقتبسون من غر فوائده. أوله بعد البسملة. قال عبد الرحمن بن عمر المعروف بأبي الحسن الصوفي بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله المصطفى وآله (أما بعد) فأني رأيت كثيراً من الناس يخوضون في طلب معرفة الكواكب الثابتة في مواضعها من الفلك وصورها ووجدتهم على فرقتين إحداهما تسلك طريقة المنجمين ومعولها على كرات مصورة من عمل من لم يعرف الكواكب بأعينها وإنما عولوا على ما وجدوا في الكتب من أطوالها وعروضها فرسموها في الكرة من غير معرفة خطئها وصوابها فإذا تأمل بعض من يعرف فيها وجد بعضها مخالف ف النظم والتأليف لما في السماء أو على ما وجد من الزيجات وادعى المؤلف أنهم قد رصدوها ورفوا مواضعها وإنما عمدوا إلى الكواكب المشهورة التي يعرفها كثير من الخاص والعام مثل عين الثور وقلب الأسد والسماك الأعزل والثلثة التي في جبهة العقرب وقلب العقرب وهذه الكواكب هي التي ذكرها بطليموس أنه رصدها بأطوالها وعروضها وأثبتها في كتابه المعروف بالمجسطي لقربها من منطقة فلك البروج فرصدوها وأثبتوا مواضعها في وقت أرصادهم ثم قال بعد كلام طويل: وأما الفرقة الأخرى فقد سلكت طريقة العرب في معرفة الأنواء ومنازل القمر ومعولهم على ما وجدت في الكتب المؤلفة في هذا المعنى ووجدناه في الأنواء كتباً كثيرة أتمها وأكملها في فنه كتاب أبي حنيفة الدينوري فإنه يدل على معرفة تامة بالأخبار الواردة عن العرب في ذلك وأشعارها وأسجاعها فوق معرفة غير ممن ألفوا الكتب في هذا ال فن ولا أدري كيف كانت معرفته بالكواكب على مذهب العرب عياناً فإنه يحكى عن ابن الإعرابي وابن كنانة وغيرهما أشياء كثيرة من أمر الكواكب يدل على قلة معرفتهم بها وأن أبا حنيفة لو عرف الكواكب لم يسند الخطأ إليهم ثم كل من عرف من الفرقتين إحدى الطريقتين لم يعرف الأخرى وألف في كتابه أشياء من غير الفن الي أخذ فيه نادى على نفسه بها بالخطأ وخفة

البضاعة فيه منهم أبو حنيفة فإنه ذكر في كتابه أن البروج الاثنا عشر لم تسم بهذه الأسماء إلا لأن نظم كواكبها مشاكلة للصورة المسماة باسمها وأن الكواكب تنتقل عن أماكنها وأسماء البروج غير زائلة وإن زال نظم الكواكب ولم يعلم أن نظمها لا يزول ولا يتغير (إلى أن قال) وقد كنت أظن بأبي حنيفة أن له رياضة بعلم الهيئة والرصد فقد كنت بالدينور في سنة خمس وثلثين وثلثمائة من سني الهجرة في صحبة الأستاذ أبي الفضل محمد بن الحسين نازلاً في حجرته وحكى لي جماعة من المشايخ أنه كان رصد الكواكب على سطح هذه الحجرة سنين كثيرة فلما ظهر تأليفه وتأملت ما أودعه كتابه علمت أن الذي كان يراعيه إنما كان طلب الظاهر المشهور من الكواكب وما كان يجده في كتب الأنواء من ذكر المنازل وما أشبهها والناس كلهم متفقون على أن لهذه الكواكب حركة في توالي الأبراج. ثم قال بعده كلام طويل: ولما رأيت هؤلاء القوم مع ذكرهم في الآفاق وتقدمهم في الصناعة واقتداء الناس بهم واستعمالهم مؤلفاتهم قد \ تبع كل واحد منهم في تقدمه من غير تأمل لخطئه وصوابه بالعيان وبالنظر حتى ظن كل من نظر فغي مؤلفاتهم أن ذلك عن معرفة الكواكب ومواقعها ووجدت في كتبهم من التخلف ولاسيما في كتب الأنواء من حكاياتهم عن العرب والرواية عنهم اشياء من أمر المنازل وسائر الكواكب الظاهرة الفساد لو ذكرتها طال الكتاب بلا فائدة عزمت مرات كثيرة على إظهار ذلك وكشفه وكان يعتريني فتور في حال واشغال تصدني عن المراد في أخرى إلى أن شرفني الله بخدمة الملك عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة رحمه الله تعالى وأنعم الله عليَّ بإدخالي في جملة خو له وحشمه ووجدته من فنون العلم متمكناً وفي المعرفة بها منبسطاً وعلى عامة العلماء مقبلاً والى جميعهم محسناً ورأيته كثير الذكر لأحوال الكواكب مائلاً إلى امتحانها والوقوف على مواقعها من الصور ومواضعها من البروج والدرج بالرصد والعيان ولم أجد بحضرته من المنجمين من يعرف شيئاً من الصور الثماني والأربعين التي ذكرها بطليموس في كتابه المعروف بالمجسطي على حقيقتها ولا شيء من الكواكب التي في الصور على مذهب المنجمين ولا على مذهب العرب إلا اليسير الظاهر المشهور الذي يعرفه الخاص والعام ولم أجد لم تقدمني من العلماء

أيضاً كتاب في أحد الفنين يوثق بمعرفة مؤلفه إلا كما تقدم ذكره ولا يمكن الرصد إلا بمعرفة الصور وكواكب كل صورة بالنظر والعيان فرايت أن أتقرب إليه بتأليف كتاب جامع يشتمل على وصف الصور الثماني والأربعين وعلى كواكب كل صورة منها وعددها ومواقعها من الصور ومواضعها من فلك البروج بأطوالها وعروضها وعدد كواكب الفلك كلها المرصودة التي من الصور والتي حوالى الصور وليست منها. وبعد كلام طويل أخذ المؤلف يتكلم على الصور الثماني والأربعين صورة فصورة مع إثبات نفس الصورة ونقشها بحروف وأرقام عند موضع كل كوكب غير أن أربع عشرة صورة منها لبس على شيء من الحروف والأرقام وخالية من الإشارات إلى مواضع الكاوكب. وبعد أن ينتهي من الكلام على كل صورة يذيله بجدول فيه أسماء الكواكب تلك الصورة وأرقام تدل على مواضع تلك الكواكب فيها والكتاب في 127 صفحة بقطع قريب من الكامل قال ناسخه في آخره: وافق الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة المسامة بكواكب الصوفي في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس بعد الألف وتحت ذلك ثلاثة أسطر أخر لم يقرأ منها سوى (المقري الموقت يومئذ بجامع حلب الشهباء الكبير عمره الله تعالى) حلب: محمد راغب طباخ. المعادن المذخورة نشر المؤتمر الجيولوجي الدولي الحادي عشر الذي التأم في استوكهلم خلاصة التقاير التي طلبها من علماء طبقات الأرض والمهندسين في مناجم العالم على اختلاف الأصقاع والديار بشأن مناجم الحديد في العالم بأسره وتقسمها فتبين منها ما يعرف الآن من المناجم في الدنيا يحوي على عشرة مليارات طن وربما لا يقل المذخور في بطون تلك المناجم عن خمسين ألف طن وما ينبغي للعام اليوم هو ستون ألف طن وكان يكتفى سنة 1871 بثلاثة عشر مليون طن وسنة 1891 بستة وعشرين مليون طن وسنة 1901 بأحد وأربعين مليون طن وإذا قدرنا ما يلزم العالم من الحديد اليوم وما يعرف من مناجمه المذخورة فلا يكفي الحديد

سوى قرنين آخرين وإذا لم تتدارك الحال بالبحث عن مناجم جديدة يختل المعدل وإليك جدولاً بما هو مذخور من الحديد في القارات الخمس ومنه ما عرف ومنه ما يقدر تقديراً وهو بحساب مليون طن: مناجم يرجى أن تكون مذخورةمناجم معروفةمذخورة حديدحديد ممزوج بتراب حديدحديد ممزوج بتراب أوربا41829473212032 أميركا8182951549855 أستراليا 69 74136 آسيا0457 156260 أفريقية؟ 57125 وجاء في جدول ىخر ذكرت فيه المناجم المعروفة والتي يرجى كشفها في كل مملكة على حدتها من ممالك أوربا فكانت المملكة العثمانية كثيرة جداً بمناجمها إلا أنه لا يعرف مقدارها الآن وتبين أن فرنسا أكثر ممالك أوربا بمناجمها المعروفة.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى سنة 587هـ طبع بمصر سنة 1328. اعتاد محمد أمين أفندي الخانجي صاحب المكتبة المشهورة في القاهرة والأستانة أن يطبع للأمة كل نافع من آثار السلف الصالح فأحيا بإقدامه مدة أمهات ومنها ذا الكتاب في الفقه الحنفي تعرض فيه مؤلفه الملقب بمالك العلماء لأقسام المسائل وفصولها وتخريجها على قواعدها وأصولها ليكن أسرع فهماً وأسهل ضبطاً وأيسر حفظاً وقد جمع جملاً من الفقه مر تبة بالترتيب الصناعي والتأليف الحكمي مع إيراد الدلائل الجلية والنكت القوية وهو في سبعة أجزاء تم الأول والثاني والخامس والسادس والسابع منها ويتم الجزءان الآخران وقد وقع في نحو 2500 صفحة بالقطع الكامل على ورق جيد وحروف مصرية ولا شك أن المشتغلين بفقه الإمام الأعظم يحلون هذا الكتاب محله من الاعتبار كما أحل المالكية المدونة الكبرى المنسوبة للإمام مالك والشافعية كتاب الأم للشافعي فيعد عندهم مرجعاً واسعاً. الجولة الإسلامية أو ماضي الشرق وحاضره تأليف الشيخ أحمد الصابوني الحموي طبع الجزء الأول في مطبعة حماة سنة 1328 ص20. كان الفاضل صاحب هذا الكتاب نشره مقالات متسلسلة في جريدته لسان الشرق فاستحسنها قراءها فأعاد طبعها مع زيادات على هذه الصورة فجاءت شاهدة بفضله وبعد نظره وكتابة التاريخ على هذا الأسلوب أوقع في النفوس وأعلق في الأذهان لأنها عبارة عن التدبر في أعمال الرجال. فقد تكلم على طائفة من الخلفاء الراشدين والملوك الأمويين والعباسيين فكان كلامه فلسفة على تاريخهم وبيان الحكمة من أعمالهم. ومما رواه المؤلف نقلاً عن ابن ربه أن عثمان حينما كبر وتقدم في السن شد أسنانه بالذهب وقال غيره أنه وضع سناً من الذهب ومعلوم أن تركيب السن من الذهب لا يكون إلا بمهارة في الصناعة وعلم بها عظيم. وعبارة المؤلف منسجمة وعساه يوفق إلى نشر بقية الأجزاء ليعم نفعه.

السكا وكلونديك تأليف جبرائيل أفندي عساف مرعي من دوما (لبنان) طبع بمطبعة الحضارة بطرابلس الشام سنة 1909 ص228. مؤلف هذا الكتاب ممن أقاموا زمناً طويلاً في بلاد الأسكا كلونديك بلاد الذهب فعنَّ له ون عماً فعل أن يكتب ما عرفه عن هذه البلاد وغناها ومدنها ومناجمها وركازها وزرعها وضرعها وصيدها وسكانها وحكوماتها وإدارتها وحالتها الطبيعية وما يتعلق بتلك البلاد من الفوائد الاجتماعية والاقتصادية التي تفيد الجالية العربية إلى تلك البلاد وأبناء العربية كافة في الاطلاع على عجائب صنع الله في أرضه وهذه البقعة الصغرى منها التي بلغت مساحتاه بحسب الإحصاء الأخير 590844 ميلاً مربعاً أي نحو خمس مساحة الولايات المتحدة ويناهز طول سواحلها البحرية 26 ألف ميل وهي كما قال المؤلف سعة بالغة تزيد عن محيط الأرض عند خط الاستواء. وبالجملة فإن هذا السفر نافع في بابه ويا حبذا لو تصدى كل من ينزل منا قطراً شاسعاً من أقطار الأرض فيصفه بما ينبغي من خدمة العلم ورجال المال والأعمال لنذكر لهم على الدهر مقرونة بالثناء الطيب والذكر العطر. تقويم البشير ظهر هذا التقويم الذي تصدره مطبعة الآباء اليسوعيين كل سنة وهذه هي السنة الرابعة والثلاثون لظهوره وهو تأليف الأب لويس معلوف وفيه حساب السنن على اختلاف أنواعها من شمسية وهجرية وقبطية وإسرائيلية وأعياد المسيحيين وأصوامهم وأسماء الرؤساء الروحيين فيها ومراكزهم من الدولة العثمانية والتقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية ولاسيما في سورية وأسماء الجرائد والمجلات والمطابع في بيروت ولبنان وفيها نحو 57 جريدة ومجلة وبعض وصايا وفوائد علمية وبيتية ولطائف في 176 صفحة جيدة الطبع والحرف.

الضوء اللامع

الضوءُ اللامع من كتب التراجم الممتعة التي تجمع بين الفائدة واللذة هذا التاريخ لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن الملقب بشمس الدين السخاوي الأصل القاهري تكلم فيه على رجال عصره بما اعتقده فيهم وأطلق لقلمه العنان أيما إطلاق حتى لتظنه لا يعرف غير الهجاء مذهباً وكشف عورات أهل جيله وقبيله مشرباً. قال في كشف الظنون: الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع لشمس الدين محمد ابن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902 اثنتين وتسعين رتبه على الحروف وقد صنفه السيوطي في رده مقالة سماها الكاوي في تاريخ السخاوي وشنع عليه فيها وانتخبه الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي المتوفى سنة 936 ست وثلاثين وتسعمائة وسماه القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي والشهاب أحمد بن العز محمد الشهير بابن عبد السلام المتوفى سنة 931 إحدى وثلاثين وتسعمائة وسماه البدر الطالع من الضوء اللامع لأهل القرن التاسع واختصره الشيخ أحمد القسطلاني وسماه النور الساطع في مختصر الضوء اللامع. وفي المكتبة الظاهرية بدمشق نسخة صحيحة من هذا الكتاب ربما كانت أصح نسخة في سورية ومصر وهي في نحو ثلاثة آلاف صفحة كبيرة بخط وسط وقعت في خمس مجلدات ضخام. والمؤلف عالم من علماء الحديث وغيره وله مصنفات أخر وترجم نفسه في كتبه وقد جرت عادة كثير من الأعلام أن يترجموا أنفسهم من غير نكير فمما قاله أنه أخذ عمن درب ودرج وذلك لأنه ارتحل من القاهرة على عادة العلماء لأن الرحلة ولاسيما للمحدثين والمؤرخين من لوازمهم وحج فمر على الينبوع وعقبة أيلة رابغ خليص ثم ارتحل إلى حلب ماراً ببلبيس وقطيا وغزة والمجدل والرملة وبيت المقدس والخليل ونابلس ودمشق وصالحيتها والزبداني وبعلبك وحمص وحماة وسرمين وحلب ومرّ أيضاً بطرابلس وبرزة كفر بطنا والمزة وداريا وصالحية مصر. وله تصانيف كثيرة في الحديث ومنها تراجم من أخذ عنهم في ثلاثة مجلدات سماه بغية الراوي بمن أخذ عنه السخاوي وفهرست مروياته في أزيد من ثلاث مجلدات والتبر المسبوكفي الذيل على تاريخ المقريزي في نحو أربعة أسفار والضوء اللامع الذي نحن بصدد الكلام عليه ويكون ست مجلدات بحسب تقديره. والذيل على قضاة مصر نسخة في

مجلدة والذيل على طبقات القراء لابن الجزري في مجلد على دول الإسلام للذهبي والوفيات في القرن التاسع وترجمة نفسه والتاريخ المحيط وهو في نحو ثلثمائة رزمة على حروف المعجم قال أنه لا يعلم من سبقه إليه. طبقات المالكية أربعة أسفار إلى غير ذلك من ال شروح والتلاخيص ولد سنة 831 وقد استغرقت ترجمته نفسه في كتابه هذا 11 ورقة ونصف ورقة ولم نر فيه أكبر منها. وفي هذا الكتاب من المشاهير الناشري وإبراهيم بن ظهيرة والبقاعي والبرهان الطرابلسي وأحمد الكوراني وابن الهمام وابن الشحنة والمقريزي والحافظ ابن حجر وابن عربشاه وتيمورلنك والقاضي زكريا والحافظ العراقي وابن خلدون والجلال البلقيني والجلال السيوطي. وفيه من غير هذه الطبقة أيضاً طرف صالح جداً منهم من نسب إلى بلده ومسقط رأسه ومنهم من اشتهر بألقاب أخرى فتقع فيه على تراجم البعلبكي والعجلوني والطنبوني (نسبة لبلدة من إقليم المنوفية بمصر) والأدفوي والزنكلوني والمنوفي والأسنوي والقوصي والدمياطي والبوصيري والسمنودي والأسيوطي والسنباطي والشموني والملوي والمنفاوطي والفارسكوري والبنهاوي والبيجوري والمنشاوي والرشيدي والسكندري والأذرعي والعكاري والبقاعي والسقطي (من سقط الحنا في شرقية مصر أو سقط قليشا في البحيرة) والديروطي والفاقوسي والمحلي والدمنهوري والإخميني والأبشيهي والقليوبي والعاهري والمناوي والمحلاوي والكركي والشوبكي. والصعيدي والبلينائي والبلبيسي والبصروي والصيداوي والنووي والزفتاوي والبلقيني (نسبة لبلقينية في الغربية) والأسواني والجعبري (نسبة لقلعة جعبر من بلاد حلب) والحمصي والحموي وغير ذلك من الأعلام الذين نشأوا من قرى مصر والشام ومدنها في ذاك القرن. بل وتجد فيه ما هو أغرب وأعجب من تراجم أمراء الجراكسة والمقدمين في الحكومة تلك الأيام أمثال قتيباي أحد ملوك مصر ترجمة في ست ورقات وقشتمر وقطباي وقطليك وقطلعوبغا وقطج وقمرقاس وقراجا وقراسنقر وقرا بلوك وقرا يوسف وقراقجا وقاتباي وقان ويرد وقانصوه وقانيك وقانم وكانور وكمشبغاواق سنقر ولاجين ومنكلي وبغا والطنبغا وأمثالهم ممن لا تعثر لهم على ذكر في غير هذا السفر الحاوي. وترجم كثيراً من العامة وأرباب الأحوال والنساء وأورد بعض أشعارهن ومنها الجيد مثل

شعر فاطمة ابنة القاضي كمال الدين محمد ابن شيرين الحنفي وقد كتبت إلى المؤلف بعد مجيء الخبر بموت أخويه من نظمها: قفا واسمعا مني حديث أحبتي ... فأوصاف معناهم عن الحسن جلت أناس أطاعوا الله نارت قلوبهم ... وأبصرت الأشياء من غير نبأة وقد كوشفوا عن كل ما أضمر الفتى ... ونارت قلوبهم منهم وبصيرة وهاك ما قاله السخاوي في مقدمة كتابه وفيها الغرض الذي يرمي إليه: الحمد لله جامع الشتات ورافع من شاء في الحياة وبعد الممات ومقيل المقبل على الإكثار من الطاعات من ذوي إلهيات من بعد ما عمله صدر عنه من الزلات وقابل التوبة من أخلص ورجع عما اقترف من البليات سيما الصادرات في الصبا الغالب معه ترك النظر في العاقبات فضلاً عمن نشأ في الطاعات إلى أن قال: وبعد فهذا كتاب من أهم ما به يعتنى جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثماني مائة ختم بالحسنى وسائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء والخلفاء والملوك والأمراء والمباشرين والوزراء مصرياً كان أو شامياً حجازياً أو يمانياً رومياً أو هندياً مشرقياص أو مغربياً بل ذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة اقتفاء في أكثرهم (؟) لمن اضفتهم إليه في غزوه لأنه اجتمع لبي منهم الجم الغفير وارتفع عني اللبس في جمهورهم إلا اليسير مستوفياً من كان منهم في معجم شيخنا وأنباءه وتارخي العيني والمقريزي سيما في عوده الذي رتبها النجم ابن فهد مع أصله للفاسي والطبقات والوفيات المدونة والتراجم كشيوخ ابن فهد التقي وولده تخريجه وغيرها من المعاجم وما علقته من مجامع مفيدنا الزين رضوان أو رأيته في استدعاءات شيخنا ونحوه من الأعيان وسائر من ضبطته ممن أخذ عن شيخنا أو عني أو أخذت عنه ولو لم يكن خبيراً كبيراً عينا وربما أثبت لمن لا يذكر لبعض الأغراض التي لا يحسن معها الاعتراض وألحقت فغي إثباته كثيراً الموجودين رجاء انتفاع من لعله يسال عنهم من المستفيدين مع غلبة الظن الغني عن التوجيه ببقاء إن شاء الله منهم إلى القرن الذي يليه مرتباً له تسهيل الكشف على حروف المعجم الترتيب المعهود في الأسماء والآباء والأنساب والجدود مبتدءاص من الرجال بالأسماء ثم بالكنى ثم بالأنساب والألقاب وكذا المبهمات بعد الأبناء مراعياً في الترتيب

لذلك كله حروف الكلمة المقصودة بحيث ابتدأ في الألف مثلاً بالهمزة الممدودة ثم بالهمزة التي بعدها موحدة وألف ثم بالتي بعدها على ما ألف مردوفاً ذلك بالنساء كذلك وكل ما أطلقت فيه شيخنا فمرادي به ابن حجر أستاذنا وكنت أردت إيراد شيءٍ مما لعله يكون عندي من حديث من نشاء الله من المترجمين فخشي التطويل سما أن حصل إيضاحه بالتبيين ولذا اقتصرت على الرضي والزكي والسراج والعضد والمحيوي ممن بلغت رضي الدين أو زكي الدين أو سراج الدين أو عضد الدين أو محي الدين ممن المصنف عليه محتوي أعرضت لذلك عن الإفصاح بالمعطوف عليه للعلم به فاقتصر على قولي مات سنة ثلاث مثلاً دون ثماني مائة وتوفي. . . . . . . ثم ليعلم أن الأغراض في الناس مختلفة والأعراض بدون التباس في المحظور مؤتلفة ولكنني لم آل في التحري جهداً ولا عدلت عن الاعتدال فيما أرجو قصداص ولذا لم يزل الأكابر يتلقون ما أبديه بالتسليم ويتوقون الاعتراض فضلاً عن الإعراض عما ألقيه والتأثيم حتى كان العز الحنبلي والبرهان بن ظهيرة المعتلي يقولان أنك منظور إليك في بما تقول مسطور كلامك المنعش للعقول وقال غير واحد ممن يعتقد بكلامه وتمتد إليه الأعناق في سفره ومقامه من زكيته فهو المعدل ومن مرضته فالضعيف المعلل إلى غيرها من الألفاظ الصادرة من الأئمة الإيقاظ بل كان بعض الفضلاء المعتبرين يصرح بتمني الموت في حياتي لأترجمه بما لعله يخفى عن الكثيرين نعم قد يشك من يعلم أنني لا أقيم له وزناً فمرق بل يختلف (كذا) ما يضمحل في وقته حساً ومعنى ويستفيد به التنبيه على نفسه فيتحقق منه ما كان حدساً أو ظناً والله أسأل أن يجنبنا الاعتساف المجانب للإنصاف وأن يرزقنا كلمة الحق في السخط والرضى ويصرفنا عما لا يرتضى ويقينا شر القضا وسميته الضوء اللامع لأهل القرن التاسع اهـ. هذا هو أقل ما يقال في الضوء اللامع والأمل معقود بأن يمثل للطبع عما قريب على يد إحدى جمعيات المستشرقين في أوربا ولذا اكتفينا بإيراد ترجمتين منه لفاضلين أحدهما دمشقي والآخر مصري وإن كان شامي الأصل وذلك إنموذجاً لأسلوب المؤلف وإنشائه قال في ترجمة العالم المؤرخ الكاتب المشهور ابن عربشاه: أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم ابن أبي نصر محمد ابن عربشاه ابن أبي بكر الأستاذ الشهاب أبو محمد ابن الشمس الدمشقي الأصل الرومي الحنفي والد التاج عبد

الوهاب ويعرف بالعجمي وبابن عربشاه وهو الأكثر وليس بقريب لداود وصالح ابني محمد عربشاه الهمدانيين كالأصل الدمشقيين الحنفيين أيضاً. ولد في ليلة الجمعة منتصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ونشأ بها فقرأ القرآن على الزين عمر بن اللبان المقري ثم تحول في سنة ثلاث وثمانمائة في زمن الفتنة مع أخوانه وأمهم وابن اخته عبد الرحمن بن إبراهيم بن خولان إلى سمرقند ثم بمفرده إلى بلاد الخطا وأقام ببلاد ما وراء النهر مديماً بالاشتغال والأخذ عمن هناك من الأستاذين فكان منهم السيد محمد الجرجاني وابن الجزري وهما نزيلا سمرقند الأول بمدرسة أيدكوتمور والثاني بباغ خدا وعبد الأول وكعصام الدين ابن العلامة عبد الملك وهام من ذرية صاحب الهداية وأحمد الترمذي الواعظ وأحمد القصير وحسام الدين الواعظ أمام مسجد السيد الإمام محمد بخارى الزاهر ولقى في سمرقند في سنة تسعة وثمانمائة الشيخ عربان الأدهمي الذي استفيض هناك أنه ابن ثلثمائة سنة فالله أعلم وبرع في فنون واستفاد اللسان الفارسي والخط الموغولي وأتقنهما وجمع في بلاد الموغول بالبرهان الأيدكاني والتاخي جلال الدين السيرامي وأخذ عنه وقرأ النحو على حاجي تلميذ السيد ثم توجه إلى خوارزم فأخذ عن نور الله وأحمد بن شمس الأئمة السيرافي الواعظ وكان يقال له ملك الكلام الفارسي والتركي والعربي ثم إلى بلاد الدشت وسراي وحاجي خان وبها (البحر) الزاخر مولانا حافظ الدين محمد بن ناصر الدين محمد البزازي الكردي فأقام عنده نحو أربع سنين وأخذ عنه الفقه وأصوله ومما قرأ عليه المنظومة إلى القرم واجتمع بأحمد بيرق وشرف الدين شارح المنار ومحمود البلغاري ومحمد اللب أبي (؟) وعبد المجيد الشاعر الأديب. ثم قطع بحر الروم إلى مملكة ابن عثمان فأقام بها نحو عشر سنين فترجم فيها للملك غياث الدين أبي الفتح محمد بن أبي يزيد ابن مراد بن عثمان كتاب جامع الحكايات ولامع الروايات من الفارسي إلى التركي في نحو (. .) مجلدات وتفسير أبي الليث السمرقندي القادري بالتركي نظماً وباشر عنده ديوان الإنشاء وكتب عنه إلى ملوك الأطراف عربياً وشامياً وتركياً فبالعجمي لقرا يوسف ونحوه بالتركي لآمر الدشت وسلطانها وبالموغولي لشاروخ وغيره وبالعربي للمؤيد الشيخ كل ذلك مع حرصه على الاستفادة بحيث قرأ المفتاح على البرهان حيدر الخوافي وأخذ عنه العربية أيضاً

فلما مات ابن عثمان رجع إلى وطنه القديم فدخل حلب فأقام بها نحو ثلث سنة ثم الشام وكان دخوله لها في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين فجلس بحانوت مسجد القصب مع شهوده يسيراً ليكون معظم أوقاته الانعزال عن الناس وقرأ بها على القاضي شهاب الدين بن الحبال الحنبلي صحيح مسلم في سنة ثلاثين فلما قدم العلاء البخاري سنة اثنين وثلاثين مع الركب الشامي من الحجاز انقطع غليه ولازمه في الفقه والأصلين والمعاني والبيان والتصوف وغيرها وكان مما قرأ عليه الكافي في الفقه والبزدوي في أصوله وتقدم في غالب العلوم وأنشأ النظم الفائق والنثر الرائق وصنف نظماً ونثراً مرآة الأدب في علم المعاني والبيان والبديع وسلك فيه أسلوباً بديعاً في التلخيص وعمل قصائد غزلية في كل باب منه قصيدة مفردة على قافية أشار إليه شيخنا بقوله وأوقفني على منظومة في المعاني والبيان وأجاد نظمها وجعل كل باب قصيدة مستقلة غزلاً يؤخذ منه مقصد ذلك الباب انتهى. ومقدمته في النحو. ومقود لنصيحة. والرسالة المسماة بعقد الفريد في التوحيد. ونثراً تاريخ تيمورلنك سماه عجائب المقدور في نوائب تيمور. وفاكهة الخلفا ومفاكهة الظرفا. وخطاب الأهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب. والترجمان المترجم الأرب في لغة الترك والعجم والعرب. وأشير إليه بالتفنن حتى كان ممن يجله ويعترف له بالفضيلة شيخنا واثنى على نظمه التلخيص كما قدمته بل كتب عنه نظمه لدخله في البلدانيات فقال أنشدني بمنزلة برزة بالقرب من قرية القابون التحتاني في سابع رمضان سنة ست وثلاثين لنفسه: السيل يقلع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الأرض تنفطر حتى يوافي عباب البحر ينظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثرا مع حرص صاحب الترجمة حين كونه بالقاهرة على ملازمته والاستفادة منه بل امتدحه بقصيدة بديعة أتى فيها بالغار وتعامي وأهاجي وجناسات تلعب فيها بضروب الأدب أودعتها الجواهر والدرر سمعتها منه ومن لطيف أبياتها بيت جمع فيه حروف الهجاء وهو: خض بحر فظ حديثه تغش العلا ... وأجزم بصدقك ناطقاً إذ تسند وبيت عاطل هو

العالم العالم الإمام لدى العلا ... العامل الحكم الهمام الأوحد وبيت شطره الأول مما يستحيل الانعكاس وشكره الثاني عاطل مع كونه مما لا يستحيل أيضاً فالأول مركب من آمن والثاني من أحمد وهو: نم آمناً من نمّ إنما آمن ... دم حامداً ما أمّ آدم أحمد وكثر اجتماعهما وطرح شيخنا عليه من الأسئلة التي فيها الفكاهة والمداعبة مما لا تعرف منه الملاءة والقدرة على التخلص منه ما أودعته منه أشياء في الجواهر عند الكلام على قدرة شيخنا في التفسير وغيره رحمهما الله. وكان أحد الأفراد في إجادة النظم باللغات الثلاث العربية والعجمية والتركية مجيد الخط جيد الإتقان والضبط عذب الكلام بديع المحاضرة مع كثرة التودد ومزيد التواضع وعظة النفس ووفور العقل والرزانة وحسن الثكالة والأبهة وسيماء الخير ولوائح الدين عليه ظاهرة وقد لقيته في القاهرة في الخانقاه الصلاحية سنة خمسين فكتبت عنه من نظمه أشياء وسمعت متن لفظه العقد الفريد وعقود النصيحة وكتبهما لي بخطه وبالغ في الأدب والتواضع ومات بالخانقاه المذكورة في يوم الاثنين منتصف رجب سنة أربع وخمسين ودفن بتربتها والناس مشغولون بالاستسقاء عند توقف النيل غريباً عن أهله ووطنه بعد أن امتحن على يد الظاهر جقمق وطلبه لشكوى حميد الدين عليه وأدخله سجن المجرمين فدام فيه خمسة أيام ثم أخرج واستمر مريضاً من القهر حتى مات بعد اثني عشر يوماً عوضه الله خيراً وترجمته محتملة للبسط فقد كان من محاسن الزمان وممن ترجمه المقريزي في عقوده ومما كتبه عنه لنفسه: قميص من القطن من حله ... وشربة ماءٍ قراح وقوت ينال به المرء ما يبتغي ... وهذا كثير على من يموت ومنه معمياً: وهك الزاهي كبدر فوق غصن طلعا ... واسمك الزاكي كمشكاة سناها لمعا في بيوت أذن لها الله أن ترفعا ... عكسها صحفه تلقى فيه الحسن (؟) أجمعا ومنه: فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما شئت من صيت وصوت

فحبل العيش موصول بقطع ... وخيط العمر معقود بموت ومنه: وما الدهر إلا سلم بقدر ما ... يكون صعود المرء فيها هبوطه وهيهات ما في نزول وإنما ... شروط الذي يرقى إليه سقوطه فمن صار أعلى كان أوفى تهشماً ... وفاءً بما قامت عليه شروطه وترجمه بعضهم فقال: العلامة أحد أفراد الدهر في الفضل والسجع وعلم المعاني والبيان والبديع والنحو والصرف والنظم والنثر كان ممن أسرع مع اللنك (أي العرج تيبمورلنك) ونقل إلى سمرقند ثم خرج منها سنة إحدى عشرة وجال في بلاد الشرق ورجع إلى دمشق سنة خمس وعشرين وصنف عجائب المقدور في نوائب تيمور من ابتدائه إلى انتهائه أبان فيه عن فضل كبير وملكة للسجع وغزارة إطلاع بحيث لخصه المقريزي وترجم مؤلفه فقال: نثره سجعاً فعلا ورشحه بالأشعار فحلا. إلى أن قال: بأنه بحر بلاغة وفصاحة أنشدنا كثيراً من شعره وله معرفة بالفقه واللغة ولكن الغالب عليه الأدب وله نظم كثير منه مرآة الأدب يشتمل على المعاني والبيان والبديع وهو نظم بطريقة الغزل يكون نحو ألفي بيت وكتاب في علم النحو نظمه بطريقة الغزل أيضاً محو مائتي بيت وقصيدة غزلية في الصرف بديعة ماح بها بعض أعيان الدولة وقصيدة قي نحو مائتي بيت وشرحها في مجلد في مجلد وخضاب الأهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب بينه وبين البرهان الباعوني وحميد الدين القاضي أبان فيه عن حفظ كثير للغة وكثرة إطلاع وغزارة وفضل وسبب منعه أن الباعوني كتب له بستة أيام التزم فيها بانطا (؟) المسألة أولها: أأحمد لم تكن والله فظاً ... ولكن لا أرى لي منك حظاً واستوفى كثيراً من اللغة وكان قد وقع بينه وبين حميد الدين فحصل للشهاب سنة أخرى مثل نظره في كتاب اللغة وعملها في ستة أبيات التزم فيها الراء قبل الألف والراء بعدها: من مجيري من ظلوم ... منه أُبعدت مزارا واستوفى ما في الباب قال الشهاب فلم أجد له قافية فكتب على لسان حميد الدين قصيدة بغدادية أولها: أي خدانود عجعبو ... عن موالاة التناغي

فلم يقدر على الجواب بمثلها وكتب إليه يقول: يا شهاب الدين يا أح ... مد يا ابن عربشاه واستوفى القافية فظفرت بأشياء ترككها فقلت: قد أتى الفضل عليه ... حلل اللطف موشاه فتعجب من سعة دائرته وكثرة اطلاعه ثم قال له أنا والله ما عرفتك إلا الآن قال فقلت له والى الآن ما عرفتني وطال الجواب بينهما على هذا المنوال حتى ألف ذلك مجلداً فمن ذلك ما كتب به البرهان: ابن عربشاه كف عني ... أو لا فخذ ما يجيك مني واعلم بأني خصم ألد ... الشر دابي والمكر فني خلفي رجال لهم مجال ... في الحرب لا يخلفون ظني إلى آخرها ومن جملة المراسلات أن البرهان أرسل عليه بعشرة أبيات التزم فيها الباء والياء واستوفى ما في الصحاح أولها: إن الذميم وأنت يا ... هذا ابن عين الخبير كذا واستوفى القوافي وظن أني لم أجد قافية فأجبته وآخر الأمر توجه عبد الحميد إلى مص ر وشكاهما إلى السلطان وقال لبه البرهان هجاني فلم يرد عليه إلا بقوله يكتب له من اليوم بكفه عن هجائه فلما خرج قال السلطان للشمس الكاتب أن الباعوني رجل جيد لولا أنه عرف منه شيءٌ ما قاله وألغز إليه أبو اللطف الحصكفي فأجابه بعد أن أجاب شعر القاهرة (؟) بغير المراد ثم ألغز هو إليه وأجابه بما لم أطل بإيراده هنا وشعره كثير جداً وتصنيفه الماضي فاكهة الخلفا ومفاكهة الظرفا في مجلد ضخم فيه عجائب وغرائب على لسان الحيوانات من أواخر ما ألف. ولما دخل مصر بعد الخمسين في الطاعون وجد غالب من ببيت الكمال ابن البزازي مات كزوجته وأخته فرثاهم بقصيدة طنانة على عدة قوافي وأظهر في مخالصها من كل قافية إلى الأخرى قوة كعجيبة وملكة للنظم لا ينهض غيره بشق غبارها من قافية اللام إلى قافية الألف إلى الهاء إلى غيرها تزيد عل سبعين بيتاً أولها: إلى مَ يردى بالكمال ... ويودي بالردى أهل الكمال اه.

وقال في ترجمة العلامة المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تيميم بن عبد الصمد بن أبي الحسين ابن عبد الصمد ابن تميم ال ثقفي أبو العباس ابن العلا ابن المحيوي لحسيني العبيدي البعلي الأصلي القاهري سبط ابن الصائغ ويعرف بابن المقريزي وهي نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة وكان أصله من بعلبك وجده من كبار المحدثين فتحول ولده إلى القاهرة وولي بعض الوظائف المتعلقة بالقضاة وكتب التوقيع في ديوان الإنشاء وأنجب صاحب الترجمة وكان مولده حسبما كان يخبر به ويكتبه بخطه بعد الستين وقال شيخنا: إنه رأى بخطه ما يدل على تعينه سنة ست وستين وذلك بالقاهرة ونشأ بها نشأظة حسنة فحفظ القرآن وسمع من جده لأمه ابن الصائغ الحنفي والبرهان الآمدي والعز ابن الكويك والنجم ابن رزين والشمس ابن الخشاب والتنوخي وابن أبي شيخة وابن أبي المجد والبلقيني والعراقي والهتيمي والفرسيسي وغيرهم بل كان يزعم أنه سمع المتسلسل على العماد ابن كثير ولا يكاد يصح. وحج فسمع بمكة من النشاوري والأميوطي والشمس ابن سكر وأبي الفضل النويري القاضي وسعد الدين الإسفراييني وأبي العباس ابن عبد المعطي وجماعة أجاز له الأسنوي والأذرعي وأبو البقا السبكي وعلى ابن اليوسف الرريدي (؟) وآخرون ومن الشام الحافظ أبو يكر ابن المحب وأبو العباس ابن العز وناصر الدين محمد ابن محمد بن داود وطائفة واشتغل كثيراً وطاف على الشيوخ ولقي الكبار وجالس الأئمة فأخذ عنهم وتفقه حنفياً على مذهب جده لأمه وحفظ مختصراً فيه ثم لما ترعرع وذلك بعد موت والده في سنة ست وثمانين وهو حينئذ قد جاز العشرين تحول شافعياً واستقر عليه أمره لكنه كان مائلاً إلى الظاهر ولذلك قال شيخنا أنه أحب الحديث فواظب على ذلك وكان يتهم بمذهب ابن حزم ولكنه كان لا يعرفه انتهى هذا مع كون والده وجده حنبليين ونظر في عدة فنون وشار في الفضائل وكتب بخط الكثير وأنقى وقال الشعر والنثر وحصل وأفاد وناب في الحكم وكتب التوقيع وولي الحسبة بالقاهرة غير مرة أولها في سنة إحدى وثماني مائة والخطابة بجامع عمرو وبمدرسة حسن الإمامة بجامع الحاكم ونظره وقرأ الحديث بالمؤيدية عوضاً عن لمحب ابن نصر الله حين استقراره في تدريس الحنابلة بها وغير ذلك وحمدت سيرته في مباشراته وكان قد اتصل بالظاهر برقوق ودخل دمشق مع ولده الناصر في سنة عشر وعاد معه

وعرض عليه قضاؤها مراراً فأبى وصحب بشبك الداودار وقتاً ونالته منه دنيا بل يقال أنه أودع عنده نقداً وحج غير مرة وجاور. وكذا دخل دمشق مراراً وتولى بها ونظر وقف القلانسي والبيمارستان النوري مع كون شرط نظره لقاضيها الشافعي وتدريس الأشرفية والإقبالية وغيرها ثم أعرض عن ذلك وأقام ببلده عاكفاً على الاشتغال بالتاريخ حتى اشتهر به ذكره وبعد فيه صيته وصارت له فيه جملة تصانيف كالخطط للقاهرة وهو مفيد كونه ظفر بمسودة الأوحدي كما سبق في ترجمته فأخذها وزادها زوائد غير طائلة ودرر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ذكر فيه من عاصره وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع. وكان يجب أن يكتب بمكة ويحدث به فتيسر له ذلك. والمدخل له. وعقد جواهر الأسفاط في ملوك مصر والسفساط. والبيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب. والإلمام في تأخر من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام. والطرفة الغريبة في أخبار حضر موت العجيبة. ومعرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم. وإيقاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين والخلفا. والسلوك بمعرفة دول الملوك يشتمل على الحوادث إلى وفاته. والتاريخ الكبير المقفى وهو في ستة عشر مجلداً وكان يقول أنه لو كمل على ما يرومه لجاوز الثمانين. والأخبار عن الأعذار. والإشارة والكلام ببناء الكعبة البيت الحرام ومختصره وذكر من حج من الملوك والخلفاء والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم وشذور العقود وضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري والأوزان والأكيال الشرعية وإزالة العتب والعنا في معرفة الحال في العنا وحصول الأنعام والمير في سؤال خاتمة الخير. والمقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية وتجريد التوحيد ومجمع الفرائد ومنبع الفوائد يشتمل على علمي العقل والنقل المحتوي على فني الجد والهزل بلغت مجلداته نحو المئة وما شاهده وسمعه مما لم ينقل في كتاب. وشاع النحاة الحق منها والإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء وهو ظريف وغير ذلك وقرض سيرة المؤيد لابن ناهض وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلدة كبار وإن شيوخه بلغت ستمائة نفس وكان حسن المذاكرة بالتاريخ لكنه قليل المعرفة بالمتقدمين ولذلك يكثر له فيهم وقوع التحريف والسقط وربما صحف في المتون.

ومما رأيته في ذلك أن ابن بدر وهو بفتح الموحدة والدال المهملة فضبطه بخطه بالبدل وعلى ابن منصور الكرخي شيخ السلفي وهو بالجيم فضبطه بالخاء المعجمة وكثيراً ما يجعل عبد الله عبيد الله وعكسه بل وبلغني أنه جعل أبا طاهر ابن محمش راوي الحديث المسلسل بالأولية حين حدث به بالخاء المعجمة بدل المهملة وأما في المتأخرين فقد انفرد في تراجمهم بما لا يوافق عليه كقوله في ابن الملقن أنه كان يبني (؟) الصلاة جداً وكان مع ذلك يكثر الاعتماد عل من لا يوثق به من غير عزو إليه تى فعل ذلك في نسبه فإن مستنده يكون من العبيديين كونه دخل مع والده جامع الحاكم فقال له: يا ولدي هذا جامع جدك ولاسيما وما قاله ابن أرفع في نسبة عبد القادر جده أنصارياً يخدش في هذا وإن توقف صاحب الترجمة فيه لكنه مع ذلك لم يكن يتجاوز في تصانيفه في سياق نسبه عبد الصمد ابن تميم وإن أظهر زيادة على ذلك فلمن يثق به ثم رأيت ما يدل على أنه اعتمد في هذه النسبة العرياني لمشهور بالكذب فالله اعلم. ومن يصف من يكون كذلك بالحافظ مريداً الإصلاح فقد جازف وما أحسن قول بعضهم مما في بعضه توقف (كذا). وكان كثيرا الاستحضار للوقائع القديمة في الجاهلية وغيرها وأما الوقائع الإسلامية ومعرفة الرجال وأسمائهم والجرح والتعديل والراتب والسير وغير ذلك من أسرار التاريخ ومحاسنه فغير ماهر فيه وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو وإطلاع على أقوال السلف وإلمام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه مع حسن الخبق وكرم العهد وكثرة التواضع وعلو الهمة لمن يقصده والمحبة في المذاكرة والمداومة على التمجد والأدوار وحسن الصلاة ومزيد الطمأنينة لبيته حتى أن بعض الرؤساء فيما بلغني عتب على انقطاعه عنه أنسد قول غيره: قالت الأرنب للفوت كلاماً ... فيه ذكرى لتفهم الألباب إنا جرى من الكلاب ولكن ... خير يومي أن لا تراني الكلاب لكن أحسن و (له) الخبرة بالزايرجة والاصطرلاب والرمل والميقات بحيث أنه أخذ لابن خلدون طالعاً والتمس منه تعيين وقت ولا ينه فيقال أنه ين له يوماً فكان كذلك وعد من النوادر. كل ذلك مع تبجيل الأكابر له إما مداراة له خوفاً من قلمه أو لحسن مذاكرته وقد حدث

ببعض تصانيفه ومروباته بمكة والقاهرة سمع منه الفضلاء وأخبر أنه سمع فضل الخير للدمياطي على أبي طلحة الحراوي مرتين فاعتدوا أخباره بذلك وقرئ مرة بل كتب بخطه من قبيل موته بسنة أنه لا يعلم من شاركه في روايته ورأيت بخط صاحبنا النجم ابن فهد أنه حضره في الرابعة علي الحراوي وما علمت مستنده في ذلك. وقد ترجمه شيخنا في معجمه بقوله وله النظم الفائق والنثر الرائق والتصانيف الباهرة خصوصاً في تاريخ القاهرة فإنه أحيا معالمها وأوضح مجاهلها وجدد مآثرها وترجم أعيانها ولكنه لم يبالغ في أنبائه لهذا الحد بل قال وأولع بالتاريخ فجمع منه شيئاً كثيراً وصنف فيه كتاباً وكان لكثرة ولعه به يحفظ كثيراً منه قال وكان حسن الصحبة حلو المحاضرة وقال العيني: كان مشتغلاً بكتابة التواريخ وبضرب الرمل وتولى الحسبة بالقاهرة في آخر أيام الظاهر يعني برقوق ثم عزل بمسطره ثم تولى مرة أخر في أيام الدوادار الكبير سودون ابن أخت الظاهر يعني برقوق عوضاً عن مسطره بحكم ابن مسطره وعزل نفسه بسبب ظلم سودون المذكور وقال ابن خطيب الناصرية في ترجمة جده وهو جد الإمام الفاضل المؤرخ تقي الدين وقال غيره: جمع كتاباً فيما شاهده وسمعه مما لم ينقله من كتاب ومن عجب ما فيه أنه كان في رمضان سنة إحدى وتسعين ماراً بين القصرين فسمع العوام يتحدثون أن الظاهر برقوق خرج من سجنه بالكرك واجتمع عليه الناس قال: فضبطت ذلك اليوم فكان كذلك ومن شعره في دمياط: سقى عهد دمياط وحياه من عهد ... فقد زادني ذكراه وجداً على وجدي ولا زالت الأنواء تسقي سحابها ... دياراً حكت من حبسها جنة الخلد وهي اكثر من عشرين بيتاً مات في عصر يوم الخميس سادس عشرى من رمضان سنة خمس وأربعين بالقاهرة بعد مرض طويل وذلك على ما قاله شيخنا بتكملة ثمانين من عمره ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بحوش الصوفية البيبرسية رحمه الله وإيانا اهـ. هذان نموذجان من الكتاب وكله فوائد جزيلة وهو مرآة صادقة لأحوال القرن التاسع وفيه دب الانحطاط على أشده في جسم الأمة الإسلامية.

ميزان المقادير في تبيان التقادير

ميزان المقادير في تبيان التقادير لعلامة الإمامية وسيخ الفرقة العلوية الشيخ رضي الدين محمد القزويني وكان أحد أفاضل القرن الحادي عشر من أعيان قزوين. عني بنشرها محمود شكري أفندي الآلوسي أحد كبار علماء العراق العاملين. بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم صل على محمد وآل محمد وبعد فيقول المفتقر بجهله بالعلم اليقيني رضي الدين محمد القزويني. كثيراً ما وقعت في الشريعة الحقة المصطفوية عليه وعلى آله ألفُ ألف تحية. أحكام مبتنية على مقادير مخصوصة ومسائل مشتملة على أوزان وأكيال ومسافات منصوصة. وجليلاً ما اتفقت من المتدينين من أهل الحساب. طوبى لهم وحسن مآب ضوابط متقنة بتقديرات معينة. وقواعد محكمة بتجديدات مبينة فتصفحت فما وصلت إلى رسالة مفصلة. موضوعة لشأنها وتتبعت فما أطلعت على مقالة محصلة متكلفة ببيانها. غير أنها مسطورة في صحف منتشرة ضبطها محلها للقريحة. ومذكورة في كتب متفرقة حفظها مخل للطبيعة. مع أن أكثرها وقعت موقعاً لاختلاف الآراء. وأجلها وردت مورد الافتراق الأهواء. فها أنا ألقي عليك لبيانها في طي هذه الرسالة نوعاً من بسط الكلام وأهدي إليك لتبيانها في أثناء تلك المقالة ضرباً من توضيح المرام قاصداً فيها تسهيلاً على الطلاب. راجياً منها شيئاً من الثواب فإنه غير مقصورة على من أكثر العمل ووفرة. لكريمة فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره. وسميتها ميزان المقادير في تبيان التقادير. فجعلتها تيمناً لها. وتزييناً إياها. هدية لخزانة كتب الدستور الأعظم ملجأ الكبار والأمم. حاوي الرياستين الدينية والدنيوية جامع الفضيلتين العلمية والعملية. مقدر أحوال الأنام. بالفكر الرزين. مد بر ممالك الإسلام بالعقل المتين. ملاذ أعاظم الفضلاء في الآفاق. سلطان أفاخم العلماء بالاستحقاق. معير نقود أنظار الأولين والآخرين. خازن مكتوم أسرار السابقين والاحقين. فخر السايدة والنجابة والفضيلة والكمال. عين العظمة وشوكة الجلالة والإقبال. اعتضاد الحضرة المقدسة السلطانية. اعتماد الدولة العلية العالية الخاقانية. أبد الله تعالى ظلال دولته إلى يوم الدين. بحرمه جده سيد المرسلين. وآباءه الأئمة الطاهرين المعصومين. فاعلم أن المقادير المذكورة على ثلاثة

أقسام. إما مقلدة بالوزن. أو بالك يل. وإما بالمساحة. والبحث عنها إما يكون على وجه كشف حقائقها. أو على سوق يظهر دقائقها فانتظمت الرسالة بتفصيلات افتتاحاً. وبتتميمات اختتاماً. تفصيل فيه ذكر المقادير المقدرة بحسب الوزن هذه المقادير ينتهي أكثر تقديراتها بل كلها إلى وزن الحبة من الشعير المتوسطة لقلة الاختلاف فيها. وسهولة تحصيلها وشيوعها في الأمكنة والأوقات فوزنها بين الوزان كالواحد بين الأعداد فكما ثبت للواحد كسورهم فكذلك قدرت لها أجزاء فأسس البيان بذكرها فيقال لسدس الشعيرة الخردل. ولجزء من اثنين وسبعين جزءاً منها الفلس. فهو نصف سدس الخردل. ولجزء من أربعمائة واثنين وثلاثين جزءاً منها الفتيل يقال له الفتيلة أيضاً فهو سدس الفلس. ولجزء من ألفين وخمسمائة وتسعين جزءاً منها النقير فهو أيضاً سدس الفتيل. ولجزء من عشرين ألفاً وسبعمائة وستة وثلاثين جزءاً منها القمطير فهو ثمن النقير. ولجزء من مائتين وثمانية وأربعين ألفاً وثمانمائة واثنين وثلاثين جزءاً منها الذروة فهي نصف سدس القمطير. ولجزء من ألف ألف وسبعمائة وأربعين ألفاً وثمانمائة وأربعة وعشرين جزءاً منها الهباء فهو سبع الذرة. وبعد هذا التأسيس نفصل الوزان المشهورة المذكورة على الألسنة على ما وصل إلينا حسبما اقتضاها الترتيب. الطسوج وهو قدر حبتين من شعيرتين متوسطتين وهو مشهور وبه فسره أهل اللغة أيضاً ولم أجد فيه خلافاً. والقيراط وهو قيراطان قيراط الدرهم وقيراط الدينار. وهذا أيضاً مكي وعراقي فبالحقيقة ثلاثة أقسام: أما قيراط الدرهم فهو أربع شعيرات يبلغ طسوجين في القاموس في م ك ك لقيراط طسوجان والطسوج حبتان يني شعيرتين كذا في الصحاح. وقيل هو ست شعيرات فيبلغ

ثلاثة أساطيج يعني قيراط الدرهم. وأما القيراط المكي للدينار فهو شعيرتان أو ستة أسباع شعيرة يبلغ سطوجاً وثلاثة أسباعه. وأما القيراط العراقي فهو ثلاث شعيرات وثلاثة أسباع شعيرة يبلغ طسوجاً وخمسة أسباعه في القاموس القيراط والقرّاط يختلف وزنه بحسب البلاد فبمكة ربع سدس دينار وبالعراق نصف عشره انتهى فالتقدير موافق لما قدرناهما به كما ستعرف وهذا العراقي هو المعتبر في باب زكوة الذهب. وأما القيراط الواقع في الحديث مع تفسيره بأنه مثل جبل أحد فمجاز. والدانق وهو إذا أطلق فالمراد دانق الدرهم وقدره ثماني شعيرات يبلغ قيراطي الدرهم في القاموس م ك ك. والدانق قيراطان والقراط طسوجان والطسوج حبتان والحبة سدس من ثمن الدرهم وهو جزء من ثمانية أربعين جزءاً من درهم وهو بعينه عبارة الصحاح وفي د ن ق فسره بسدس الدرهم وهو أيضاً قيراطان كما ستعرف. والدرهم وهو دراهم الدرهم البغلي وهو أربع وستون شعيرة يبلغ ثمانية دوانيق والدرهم الطبري وهو اثنتان وثلاثون شعيرة يبلغ أربعة دوانيق نصف البغلي في القاموس الطبري ثلثا الدرهم أراد به الدرهم الشرعي. والدرهم الشرعي وهو ثمان وأربعون شعيرة يبلغ ستة دوانيق متوسط بينهما وهذا الشرعي هو المعتبر في نصاب زكوة الفضة وأمثاله ويقال له الوربة أيضاً. قال العلامة في التحرير الدراهم في صدر الإسلام كان صنفين بغلية وهي السود كل درهم ثمانية دوانيق وطبرية كل درهم أربعة دوانيق فجمعا في الإسلام وجعلا درهمين متساويين وزن كل درهم ستة دوانيق فصار وزن كل عشرة دراهم. سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة وهو الدرهم الذي قدر به النبي من المقادير الشرعية في نصاب الزكوة والقطع ومقدار الديات والجزية وغير ذلك. والدانق ثماني حبات من أوسط حب الشعير انتهى. والمثقال هو مثقالان المثقال الشرعي وهو المعبر عنه بالدينار بلا خلاف لكن الدينار كثر استعماله في المسكوك من الذهب كما أن أكثر استعمال الدرهم في المسكوك في الفضة قدره ثمان وستون شعيرة وأربعة أسباع شعيرة يبلغ درهماً وثلاثة أسباعه بالشرعي. في

الصحاح وكذا في القاموس المثقال الدرهم وثلاثة أسباع ردهم والدرهم ستة دوانيق والدانق قيراطان الخ. وهو المعتبر في الأحكام الشرعية بلا خلاف يظهر من تتبع كلام الفقهاء. وما وقع في الحديث من أن المثقال من أن المثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل حبل واحد وأكبرها ما بين السماء والأرض فمجاز. والمثقال الصيرفي وهو المعروف في زماننا ستة أربع وخمسين ألف في أكثر بلاد العجم قدره أربعة وثمانون شعيرة على ما وزنا ورعينا في وزنه كمال الاحتياط. والتدقيق يبلغ درهماً وثلاثة أرباع درهم بالشرعي. والوافي وقدره ثمانون شعيرة يبلغ درهماً وثلثي درهم في القاموس الوافي درهم وأربعة دوانيق موافقاً لما قدرنا به. والإستار بالكسر وقدره ثلثمائة وثماني شعيرات وأربعة أسباع شعيرة قدره ستة دراهم وثلاثة أسباع درهم بالشرعي يبلغ مثاقيل ونصف مثقال بالشرعي كذا في الصحاح. والقاموس وقيل هو ستة دراهم وثلث درهم أو أربعة مثاقيل نقلهما الشيخ في أواخر كتاب القانون. والأوقية كالوقية بالضم وتشديد الياء وهي أوقيتان الأوقية الجديدة وهي على ما به فسرها الفقهاء. وجمهور أصحاب اللغة والأطباء خمسمائة وأربع عشرة وسبعان من الشعيرة قدر عشر دراهم وخمسة أسباع درهم يعني سبعة مثاقيل ونصفاً يبلغ إستاراً وثلثي إستار بالمعنى الأول. وعلى ما نقله الشيخ في أواخر القانون هي سبعة مثاقيل يكون عشرة دراهم وتبعة العلامة الشيرازي في شرح القانون وصاحب القانون في وق ي لكنه وافق في م ك ك الجمهور كما وافقهم صاحب الصحاح في الموضعين وصرح بأنها هي المعتبرة بين الأطباء وسننقل كلامه بعينه وعلى ما فسره بعض ما يعتد به هي اثنا عشر درهماً يعني ثمانية مثاقيل وخمسي مثقال فلها ثلاث تفسيرات والمعتمد المشهور هو الأول كما ذكرنا. والأوقية القديمة هي ألف وتسعمائة وعشرون شعيرة قدر أربعين درهماً يعني ثمانية وعشرين مثقالاً تبلغ ثمانية إساتير وثمانية أتساع إستار بالمعنى الأول في الصحاح تصريح به وبما سبق منه في موضع آخر كما مر بقوله الأوقية في الحديث أربعون درهماً وكذلك كان فيما مضى فأما اليوم فيما يتعارفها الناس ويقدر عليه الأطباء فالأوقية عندهم وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم وهو إستار وثلثا إستار انتهى وما وقع في الحديث من

تفسير الأوقية بأعظم من جبل أحد فمجاز. والنتس بالتشديد وهو تسعمائة وستون شعيرة قدر عشرين درهماً يعنى أربعة عشر مثقالاً يبلغ نصف أوقية قديمة كذا في الصحاح والقاموس ورووا كان صداق أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله اثنتي عشرة أوقية ونشاً أتدرون ما النس هو نصف أوقية وعشرون درهماً انتهى ذكر هذه الرواية العلامة في منتهى المطلب للاستدلال على أن الأوقية كانت أربعين درهماً. والرطل هو أرطال الرطل العراقي ويقال له البغدادي أيضاً وهو المراد عند إطلاق الرطل في الأكثر وفي تفسيره خلاف فعند جمهور الخاصة والرافعي من العامة ستة آلاف ومائتان وأربعون شعيرة تبلغ اثنتي عشرة أوقية وثلثي خمسة بالجديدة على المعنى الأول وبعبارتين أخريين أحد وتسعون مثقالاً بالشرعي ومائة وثلاثون درهماً به وعند جمهور العامة والعلامة من الخاصة ستة آلاف ومائة وأحد وسبعون شعيرة وثلاثة أسباع شعيرة يبلغ اثنتي عشرة أوقية بالمعنى المذكور بلا زيادة ولا نقصان. وبعبارتين أخريين تسعون مثقالاً ومائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم وعلى هذا التفسير صاحب الصحاح والقاموس إذا فسراه باثنتي عشرة أوقية وهو الرطل المعتبر بين جمهور الأطباء أيضاً لكن على ما يظهر مما نقله الشيخ في أواخر القانون حيث فسره باثنتي عشرة أوقية والأوقية بسبعة مثاقيل كما مر يصير أربعة وثمانين مثقالاً ولم أجد من فسره به أصلاً والرطل المدني وهو رطل ونصف بالعراقي والرطل المكي وهو ضعف الرطل العراقي ويجري فيهما الاحتمالان الناشئان من تفسير الرطل العراقي ففي كل منهما مذهبان على النسبة المذكورة في الرطل العراقي. والمن ويقال له المنا مقصوراً أو المشهور منه منان المن المصري والإنطاليقي وهو ثمانية آلاف ومائتان وثمانية وعشرون شعيرة قدر ست عشرة أوقية جديدة بالمعنى الأول يبلغ رطلاً وثلث رطل على تفسير العامة وفي القانون أيضاً ست عشرة أوقية والخلاف في تفسيرها كما مر. والمن الرومي وهو عشرة آلاف وثمانمائة وثماني شعيرات قدر إحدى وعشرين أوقية بالمعنى المذكور يبلغ رطلاً وثلاثة أرباع رطل وفي القانون عشرون أوقية يبلغ رطلاً وثلثي رطل بتفسيره.

والمن الطبي وهو اثنا عشر ألفاً واثنان وأربعون شعيرة وستة أسباع شعيرة يبلغ رطلين وبعبارة أخرى أربع وعشرون أوقية ولا خلاف فيه إلا ما يقتضيه ما في القانون من تفسير الأوقية. والمن التبريزي وهو خمسون ألفاً وأربعمائة شعيرة يبلغ ستمائة مثقال صيرفي كما هو المتعارف في زماننا. والمن الشاهي وهو مائة ألف وثمانمائة شعيرة يبلغ ألفاً ومائتي مثقال صيرفي ضعف المن التبريزي. والكر بحسب الوزن إما المكيالي والمساحي منه فسيجيء تفسيرهما ويعتبر فيه كونه من الماء قدر بألف ومائتي رطل باتفاق فقهاءنا رضوان الله عليهم إلا القطب الراوندي وسنذكر ما ذهب إليه لكنهم اختلفوا في أن هذا الرطل هل هو مدني أو عراقي ذهب إلى الأول جماعة منهم ابن بابويه والسيد المرتضى رحمهما الله والى ال ثاني الشيخان والعلامة ومن تبعهم ففيه مذهبان يرجع بعد ملاحظة الاختلاف الواقع في قدر الرطل العراقي بين الجمهور والعلامة كما ذكرنا إلى ثلاثة مذاهب بحسب المآل فعلى مذهب ابن بابويه يصير مائتين وأربعة وثلاثين ألف درهم شرعي وعلى مذهب الشيخين مائة وستة وخمسين ألف درهم وعلى مذهب العلامة مائة وأربعة وخمسين ألف درهم وعلى مذهب العلامة مائة وأربعة وخمسين ألفاً ومائة وخمسة وثمانين درهماً وخمسة أسباع درهم. ومما يلحق بالأوزان النواة وهي الأوقية من الذهب أو أربعة دنانير أو ما زنته خمسة دراهم أو ثلاثة ونصف من العدد عشرون أو عشرة هكذا في القاموس. والربوة بالكسر وهي عشرة آلاف درهم كما في القاموس. والبدرة وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار كما في القاموس وفي بعض كتب اللغة عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار. والقنطار بالكسر قيل مائة وعشرون رطلاً وفي القاموس وزن أربعين أوقية من ذهب أو ألف ومائتا درهم أو مائة رطل من ذهب أو من فضة إلى ألف أو ملأ مسك ثور ذهباً أو فضة انتهى. وهذا الأخير هو الشائع وبعض المفسرين حمل ما في قوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا) وما وقع في الأحاديث مع تقديره في بعضها بألف ومائتي وقية والوقية بأعظم من جبل أحد

وفي بعضها بخمسة عشر ألف مثقال من ذهب والمثقال بأربعة وعشرين قيراطاً أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها ما بين السماء والأرض فمجاز. تفصيل فيه ذكر المقادير المقدرة بحسب الكيل هذه التقديرات ينتهي أكثرها إلى مكيال يقال له المد بالضم معياره تخميناً ملأ كف الإنسان المعتدل إذا ملأها ومد يده بهما قاله صاحب القاموس في م د د موافقاً لما نقله الدوادي بتقريب التفسير الصاع ثم قال وبه سمي مدا وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً انتهى ولتعسر ضبطه مع رجوع المقادير المكيلة إليه احتيج إلى تقديره بوزن معين سهولة للحفاظ وصوناً عن التغيير فقدر به فاختلفوا في قدره بحسب اختلاف الروايات عن المقدر فلا بد لنا مقدماً على سائر تلك المقادير تفسيره وتحقيق وزنه على ما وصل إلينا من المذاهب تأسيساً للأصل وتمهيداً للفصل فهذا القسم أيضاً في الحقيقة ينتهي في التقدير إلى أوسط حب الشعير وفي تقديره ستة أقوال الأول مائة واثنان وستون درهماً ونصف دورهم بالشرعي هو مائة وثلاثة عشر مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال بالشرعي يبلغ رطلاً وربعاً بالعراقي على تفسير جمهور الخاصة وهذا أحد احتمالي مذهب أبي نصير البزنطي من المحدثين إذ فسر برطل وربع ومذهبه في قدر الرطل غير معلوم فإن وافق الخاصة فذاك وإلا فمائة وستون درهماً وخمسة أسباع درهم هو مائة واثنا عشر مثقالاً ونصف مثقال يبلغ رطلاً وربعاً على تفسير العامة فهو الاحتمال الآخر لمذهبه. والثاني مائة وأحد وسبعون درهماً وثلاثة أسباع درهم هو مائة وعشرون مثقالاً يبلغ رطلاً وثلثا على تفسير العامة وإليه ذهب النووي من العامة واختاره صاحب القاموس في تفسير الصاع ونسبه صاحب الصحاح إلى أهل الحجاز. والثالث مائة وثلاث وسبعون درهماً وثلث درهم هو مائة وأحد وعشرون مثقالاً وثلث مثقال يبلغ رطلاً وثلثاً على تفسير الخاصة وإليه ذهب الرافعي من العامة ومن تبعه. والرابع مائتان وسبعة وخمسون درهماً وسبع درهم هو مائة وثمانون مثقالاً يبلغ رطلين على تفسير العامة نقله صاحب القاموس ونسبه صاحب الصحاح إلى أهل العراق. والخامس مائتان وتسعة وثمانون درهماً وسبعا درهم هو اثنان ومائتا مثقال ونصف مثقال يبلغ رطلين وربعاً على تفسير العامة. وإليه ذهب العلامة من الخاصة رحمة الله عليه. والسادس مائتان واثنان وتسعون درهماً ونصف درهم هو أربعة ومائتا مثقال

وثلاثة أرباع مثقال يبلغ رطلين وربعاً على تفسير الخاصة وإليه ذهب جمهور فقهائنا رضوان اله عليهم أجمعين (والقسط) وهو مكيال يسع مدين بالمعنى الثاني على ما يستفاد من القاموس إذ فسره بما يسع نصف صاع والصاع بأربعة أمداد بذلك المعنى وقيل هو أربعة أرطال بتفسير العامة وحينئذ يبلغ مدين بالمعنى الرابع. ونقل الشيخ في أواخر القانون أن القسط عند الروم رطل ونصف وسدس فيكون عشرين أوقية والقسط الإنطاليقي رطل ونصف واعلم أنه قال يختلف باختلاف إضافته إلى بعض المائعات كما نقل الشيخ أيضاً عن بعضهم أن القسط من الزيت ثماني عشرة أوقية ومن الشراب ثمانون رطلاً ومن العسل مائة وثمانمائة أرطال ومن بعضهم أن قسط العسل رطلان ونصف وقد عرفت مراراً أن الرطل على ما نقله اثنتا عشرة أوقية كل منها سبعة مثاقيل وذكر بعضهم في تفسير قسط العسل رطلاً واحداً أيضاً (والصاع) وأعني به صاع النبي صلى الله عليه وآله وهو المدار عليه في زكوة الفطر وغيرها اتفقت أقوالهم على أن الصاع جميعاً على أن الصاع أربعة أمداد كيلا ولم أجد خلافاً فيه وأما بقديره بحسب الوزن فاختلفوا فيه بحسب اختلافهم في تقدير المد فمذهب كل في الصاع أربعة أمثال ما ذهب إليه في المد ففيه أيضاً ستة مذاهب وسبعة احتمالات فعلى أول احتمالي مذهب البزنطي هو خمسة أرطال على تفسير الخاصة وعلى آخر احتمالية خمسة أرطال على تفسير العامة وعلى مختار النووي وصاحب القاموس المنسوب إلى أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث رطل على تفسير العامة وعلى مختار الرافعي خمسة أرطال وثلث رطل على تفسير الخاصة وعلى ما أنسب إلى أهل العراق ثمانية أرطال على تفسير العامة وعلى مختار العلامة رحمه الله تسعة أرطال على تفسير العامة وعلى مختار جمهور فقهائنا رضوان اللهم عليهم تسعة أرطال على تفسير الخاصة. والكيلجة وهي منّ وسبعة أثمان منّ بالطبي يبلغ ثلاثة أرطال وثلاثة أرباع رطل على تفسير العامة كذا في الصحاح والقاموس (والكوك) كتنور وهو كما في الصحاح ثلاث كيلجات يعني أحد عشر رطلاً وربع رطل كذا في القاموس. والويبة بتقديم الياء المثناة التحتانية وهي اثنان أو أربعة وعشرون مداً كذا في القاموس فيجري فيها المذهب الثاني والرابع اللذان نقلهما في المد ففيها أربعة احتمالات.

والفرق وهو مكيال يسع ستة عشر رطلاً عراقياً على تفسير العامة كما في الصحاح يبلغ ثمانية أمنان وتفسيره بما يسع ثلاثة أصوع لا يغاير هذا التفسير إذا كان المختار عند المفسرين به أن الصاع خمسة أرطال وثلث فالترديد في تفسيره بين ما يسع ثلاثة أصوع وما يسع ستة عشر رطلاً من صاحب القاموس كأنه لاختلاف التعبير مع كونه بعيداً جداً. والقفيز المكيالي أما الأراضي منه فسيجيء تفسيره يختلف بحسب البلاد جداً والمنقول ثمانية مكاكيك أعني أربعة وعشرون كيلجة كذا في الصحاح والقاموس. والأردب بكسر الهمزة وتشديد الباء وهو ستة وتسعون مداً يبلغ أربعة وعشرين صاعاً نقله صاحب القاموس وقد عرفت مختاره في الصاع. الجريب المكيالي أما الأراضي منه فسيجيء تفسيره قال صاحب القاموس هو مكيال قدره أربعة أقفزة فيبلغ اثنين وثلاثين مكوكاً. والوسق هو المعتبر في نصاب زكوة الغلات وهو مائتان وأربعون مداً يبلغ ستين صاعاً بالاتفاق نقله أهل اللغة وغيرهم ولم أجد خلافاً فيه فيختلف الآراء في وزنه بحسب اختلافها في المد والصاع ففيه أيضاً ستة مذاهب وسبعة احتمالات والتفريع ظاهر كما ذكرنا في المد والصاع. والكر لمكيالي وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعون مداً يبلغ أربعين أردباً نقله صاحب القاموس وله معنيان آخران نقلهما أيضاً بقوله بالضم مكيال العراق وستة أوقار حمار وهو ستون قفيزاً. تفصيل فيه ذكر المقادير المقدرة بحسب المساحة ينتهي تقدير هذا القسم أيضاً إلى قدرة الشعيرة المتوسطة لكن لا من حيث الوزن كما مر بل من حيث المساحة أي قدر عرض السطح الصغير منها يعني أحد جنبيها وبعضهم لم يقفوا في التقدير على عرض الشعيرة وتجاوزوا عنها وقدروا عرض الشعيرة أيضاً بعرض شعر البرذون ذبه كما قال صاحب البهائية أو عرفه كما صرح به صاحب القسطاس وقيل عرض كل شعيرة ست شعيرات منه وقيل سبع شعيرات فبعد هذا التأسيس اعلم أن هذا القسم من المقادير ينقسم إلى ثلاثة أقسام إما أن يعتبر فيه المساحة الخطية. وإما أن يعتبر فيها المساحة السطحية. أي مربع الخط. وإما أن يعتبر فيها المساحة الجسمية أي مكعبه

فالقسم الأول الذي يعتبر فيه المساحة الخطية (الإصبع) وهي قدرت بست شعيرات متلاصقات بالسطح الكبر بحيث يكون ظهر كل منهما على بطن الآخر وبها قدرها صاحب الجغميني. وقيل سبع وبها قدرها شارح اللمعة ففيها أيضاً مذهبان وفي كل مهما يجري احتمالاً تقدير أربعة. الأول كونها ست شعيرات والشعيرة ست شعرات. والثاني. كونها سبع شعيرات والشعيرة سبع شعيرات. والثالث. كونها ست شعيرات والشعيرة سبع شعرات. والرابع. كونها سبع شعيرات والشعيرة ست شعرات عكس الثالث فن قل الأول صاحب البهائية والقسطاس. ونقل الثاني والثالث الشهيد الثاني في شرحه على لمعة الفقه. ولم أطلع على نقل على الرابع لكنه متحد في المآل مع الثالث إذ حاصل ضرب الستة في سبعة وبالعكس واحد فالمذاهب الواقعة المختلفة في المآل في تقدير الإصبع ثلاثة موجب الأول أن يكون ستاً وثلاثين شعيرة والثاني أن يكون تشعاً وأربعين منها والثالث أن يكون اثنتين وأربعين منها فيجري هذا الاختلاف في جميع المقادير الآتية الراجع تقديرها إلى الإصبع فكل واحد من التقديرات التي تنتقل بعد على ذلك الوجه منفلق عن ثلاثة احتمالات بحسب المآل. والقبضة قدرت بأربع أصابع مضمومة يبلغ ثمان وعشرين أو أربع وعشرين شعيرة ينتهي إلى مائة وست وت سعين أو مائة وثمان وستين أو مائة وأربعين شعيرة. والشبر والمعتبر منه شبر المستوي خلقه وهو المقياس لاستعلام الكر من الماء يمكن تقديره تخميناً بالقبضة والإصبع بأن يقال هو ثلاث قبضات أو اثنتا عشرة إصبعاً ولكن لم يقدروه بشيءٍ اعتماداً على قلة تفاوته مع فقيد المستوي ومن أراد التحديد فيمكن أن ينضبط بما قدرناه ويكاد أن لا يختلف عند التتبع. والقدوم وهي المعتبرة في الظل وليس لها قدر معين قدرت بسبع القامة من أي شيءٍ كان من الشواخص سواء كان قامة الإنسان أو غيره فيختلف بحسب اختلاف اعتبار القامة. والخطوة والقامة من الإنسان والمعتبر منهما هو المتعارف الوسط ولم يقدرا بشيءٍ معين. والذراع وهي ثلاث الذراع الشرعية ويقال لها القائم وهي ذراع المحدثين وللأصل فيها من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى أو الساعد قدرت بأربع وعشرين إصبعاً يبلغ ست قبضات والذراع الحديد ويقال لها السوداء قدرت بسبع وعشرين إصبعاً يبلغ سبع

قبضات إلا إصبعاً والذراع الهاشمية وهي ذراع القدماء قدرت باثنين وثلاثين إصبعاً يبلغ ثماني قبضات هذه الثلاثة هي المنقول والأذرع المتداولة في زماننا بحسب البلاد في زماننا غير محدود. والقصبة وهي ست أذرع بالهما شمية وسبع وتسع بالحديد وثماني بالشرعية. والأشل بالتخفيف وهو عبارة عن حبل طوله ستون ذراعاً بالهاشمية يبلغ عشر قصبات. والميل وهو الميل الهاشمي والأصل فيه مدى البصر قدرت بستة وسبعين ألف إصبع يبلغ أربعة آلاف بالشرعية هذا هو المشهور في تقديره وروي ثلاثة آلاف وخمسمائة هذه الذراع نقله الشهيد الأول رحمه الله في البيان ففيه مذهبان. والفرسخ وهو ثلاثة أميال عند الأكثر فيختلف باختلاف تقدير الميل فهو إما اثنا عشر ألف ذراع بالشرعية يبلغ تسعة آلاف بالهاشمية ونقل صاحب القاموس في تفسيره شعرة آلاف أيضاً وظاهره الشرعي ففيه ثلاثة احتمالات وقول صاحب القاموس في الميل أنه ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنا عشر ألف ذراع بذراع المحدثين انتهى إشارة إلى الأول إلى قولين مختلفين فيه وإن كانت عبارته موهمة لخلاف المراد معناها إنه إن اعتبرت في تقدير الفرسخ ذراع القدماء أي الهاشمية وقدر بتسعة آلاف منها فالميل ال1ي يكون ثلث الفرسخ عبارة عن ثلاثة آلاف بهذه الذراع وإن اعتبرت فيه ذراع المحدثين أي الشرعية وقدر باثني عشر ألف منها فالميل عبارة عن ثلاثة أيضاً يعني أربعة آلاف بتلك الذراع وإن اعتبرت فيه ذراع المحدثين أي الشرعية وقدر باثني عشر ألف منها فالميل عبارة عن ثلاثة أيضاً يعني أربعة آلاف بتلك الذراع ولا تفاوت بالتقدير إلا بالاعتبار كما أشار إليه المبيدي في حاشيته على شرح الجغميني بقوله هو ثلاثة أميال بالاتفاق وذراعان الميل أربعة آلاف كل اثنان وثلاثون عند المتقدمين وعلى التقديرين الميل ستة وتسعون ألف إصبع انتهى هذا ولكن دعوى الاتفاق في كون الفرسخ ثلاثة أميال مزيفة بما نقلناه عن صاحب القاموس في تفسيره يعني عشرة آلاف ذراع ولم ينقل أحد تفسير الميل بما يطابق ثلثه. والبريد وهو عبارة عن اثني عشرة ميلاً يبلغ أربعة فراسخ وهو المشهور ونقل صاحب القاموس في تقديره فرسخين.

والمسافة وهي التي شرع عند القصد إليها مع شروطه القصر في الصلوة والصوم اختلف فيها فقيل أربعة فراسخ يبلغ بريداً بالمعنى المشهور وقيل ثمانية فراسخ يبلغ بريدين بهذا المعنى ففيه مذهبان ويجري في كل واحد الاحتمالات المذكورة في الفرسخ ففيها ستة احتمالات يصير في المآل عند ملاحظة المذاهب الثلاثة في الإصبع ثمانية عشر احتمالاً. والقسم الثاني الذي يعتبر فيه المساحة السطحية سعة الدرهم البغلي وهي المعبرة في عفو الدم في الصلوة إذا كان ناقصاً أو مساوياً لها قدراً فقدره بعض فقهائنا ك ابن الجنيد رحمه الله بسعة عقد الإبهام الأعلى وبعضهم كابن إدريس رحمه الله بما يقرب من أخمص الراحة. والعشير وهو ست وثلاثون ذراعاً هاشمية مسطحة مضروب القصبة في نفسها ويقال لعشر كل شيءٍ أيضاً عشيراً وكأنه هنا أيضاً بذلك الاعتبار لكونه القفيز. والقفيز الأرضي وهو ثلاثمائة وستون بهذه الذراع حاصل ضرب القصبة في الأشل وقدره صاحب القاموس بمائة وأربعين ذراعاً. والجريب الأرضي وهو ثلاثة آلاف وستمائة ذراع بها مضروب الأشل في نفسه وما ذكرنا في القفيز والجريب هو المنقول وربما يختلف بحسب اختلاف اعتبارات البلاد. الباقي للآتي.

علماؤنا

علماؤنا وكيف ينشئون أبناءهم إن العالم الذي أصفه في مقالي هذا ليس مما أنبتته بلدتنا طرابلس الشام وحدها. بل يوشك أن يكون من مستنبتات كل بلدة من بلادنا الأخرى. قضى هذا الفاضل حياته في خدمة العلم وتحقيق مسائله والتأليف فيه. وقد ورث هذا الميل من آبائه فأحبّ أن يورثه أبناً له في السابعة عشرة من عمره فلم يفلح. وكلما ذكر علماء الطبيعيّات في كتبهم أن الأجسام أو المواد قسمان موصل ردي وموصل جيد يعنون بالأول ما تنتقل فيه الحرارة ببطء. وبالآخر ما تنتقل فيه بسرعة_كذلك الحال في بعض الأشخاص: فإن منهم من ينقل ملكات آبائه واستعدادهم العلمي إلى أبنائه ومنهم من لا ينقل. والأول يصح أن نسميه موصل جيد والثاني موصل ردي وصاحبنا الذي نحكي عنه هو على ما يبدو من قبيل القسم الأخير: فإنه مع ما أُوتيه من سعة العلم والرغبة في تحصيل فنونه_لم يورث ابنه هذا الميل والاستعداد. فكان كسولاً. فاتر الهمة. منطفئ نار العزيمة. وهل أن ضعف الميل في ذلك الفتى أمر جيليّ فيه أو أنه عرض له بسبب الأسلوب الذي جرى عليه أبوه في تربيته وتثقيفه؟ لا أعلم. وربما كان القارئ أشدّ علما مني به إذا أطال روحه وأصغى لإتمام الحديث: قيل للوالد: نراك توبّخ ابنك لأقل هفوة. وتنتهره على ملأ من الناس. وقد بلغ الشابّ فيحسن بك أن تخاطبه بما يخاطب به عادة من كان في مثل سنّه. فقال: انه يعرف هذا. ويعرف مبلغ تأثير التوبيخ العلني في تشويه أخلاق الناشئين. ولكن هناك ضرورة تستدعي العدول عن هذا الأصل في التربية أصل آخر أجلّ وأسمى. ولما استوضح الأمر منه قال: أنه كان يؤنّب ابنه على سوء عمله في السرّ. فكان لا يرعري ولا يزدجر. ثم أخذ يوبخه جهرة صار الولد يحاسب نفسه ويصلح سيرته. قالوا: ولكنك تشتمه لأمر تافه لا علاقة له بما تقول. فقد سمعناك توبخه مذ وضع الكرسيّ في غير الموضع الذي تريد أن يضعه فيه. وهذا لا يحسن بحال من الأحوال أن يوبّخ عليه. لاسيما وهو لا يعلم الغيب الذي وقر في نفسك من لزوم وضع الكرسيّ في هذا

المكان دون ذاك. فتخلص الأستاذ من الجواب على هذا الاعتراض إلى وصف ذكاء ابنه. وصفاء ذهنه. وأنه يفهم ويحفظ ما يلقى عليه بسرعة. وقد حفظ مرة كتابا صغيرا في قواعد اللغة الفارسية وحذق جميع مسائله في وقت قصير. ثم قال: لكن ابني مع هذا الذكاء النادر كسول لا يهتم بحفظ دروسه. ولا يصبر على المطالعة. ولو فعل لكان من النابغين الأولين. وعد في مقدمة الطلاب الناجحين. ثم قال: وإنني لا أطيق أن أرى ابني جاهلا وأن أعيش أنا وإياه تحت سقف واحد. وقد أعيتني الحيلة في تعليمه. ويخطر لي أنه إذا وصل إلى سن العشرين وبقي على ما هو عليه من الكسل والجهل أسلمته إلى الجندية. وضننت بدفع البدل النقديّ عنه. أو أنني أرسله إلى مكاتب الأستانة. حيث يعفى التلامذة من الخدمة العسكرية. وأخذ يصف ما يقاسي من عناء هذا الأمر وأن ابنه نغّص عليه طيب عيشه. ولذيذ حياته. قال الراوي: فخشعت نفسي لقول الأستاذ. ورثيت لحاله. وقلت أرى يا سيدي أن حياتك أثمن من أن تكدر صفوها بمثل هذا. وأن ابنك إذا لم يكن فيه استعداد وميل لطلب العلم. فاختبر ميوله الأخرى لشؤون الحياة ودعه يشتغل في العمل الذي يحسنه ويميل إليه بطبعه. فإذا كان يميل إلى التجارة والكسب فنشّطه لسلوك هذا السبيل. وإذا رأيته يميل للدخول في سلك موظّفي الحكومة فليفعل. فإن ذلك أجدى من أن تحمّله ما لا طاقة له به من التحصيل. فارْبَدَّ وجه الأستاذ من سماع هذا الكلام. وقال: إن جميع ما تعلمه أنت أعلمه أنا وإنك للآن لم تدرك ما أقول: أما قلت لك أن ابني على جانب عظيم من الاستعداد والذكاء وإنه يحفظ ويفهم ما يلقى عليه بسهولة وإنه في ساعة واحدة حذق مسائل اللغة الفارسية التي لا يدركها غيره في بضعة أيام. قال الراوي: قلت بلى يا سيدي الأستاذ فهمت كل ما تقول ولكنك أنت لم تفهم بعضاً مما أقول: إن قوة الذكاء والفهم غير قوة الميل والرغبة. فما لم تتوفر في الطالب هاتان القوتان لا يقال عنه أنه مستعد للطلب. ولا ذو قابلية للعلم. وإن ابنك ذكي سريع الفهم. لكنه كسول ضعيف الميل. فهو إذن قد توفرت فيه قوة دون قوة. ألا ترى أن كثيرين من الطلاب هم

على العكس من ابنك: ترى الواحد منهم كثير الرغبة والميل لتحصيل العلم متوفراً على الدرس والمطالعة جهده. لكنه ينقصه قوة الذكاء والفهم المتوفرة في ابنك. فيضيع عمره ولا يستفيد شيئاً من العلم. وإلا ليلق بمن كان كذلك_أي كان ذكياً لكنه كسول أو مجتهداً لكنه بليد_أن يدع طلب العلم ويأخذ عملاً آخر ينتفع به. فامتعض الأستاذ وقال: من أين أتيت بهذه الفلسفة؟ يريد أنني تكلمت بكلام غير مفهوم. وهو ما يريدون بكلمة الفلسفة أحياناً. ثم عاد الأستاذ فشرح ما أوتيه ابنه من ذكاء وقوة حافظة وغير ذلك من المواهب والمزايا. هذا ما قصه الراوي علينا. وموضع العبرة فيه أن الأستاذ قد درس على زعمه علوم الأولين والآخرين ولكنه نسي علماً واحداً لم يوفق لدرسه مع أنه في أشد الحاجة إليه. ذلك العلم الذي هو علم التربية الذي هو فرض عين على كل أب عائلة. ومعلم مدرسة. وإذا زعم الأستاذ أن هذا العلم درسه في جملة ما درس. نقول له ولكنك لم تكن ذا استعداد وقابلية للانتفاع به. فيرد علينا بأنه على استعداد وقابلية لأنه ذكي وسريع الفهم. فنضطرب حينئذ إلى السكوت والصبر. ومثل الأستاذ كثيرون يريدون أن يلزموا أولادهم بالتحصيل. ويكونون ضعيفي الميل والرغبة فلا يعتمون أن تمضي أعمارهم سبهللا. ويكون من جهة ثانية قد فات الوقت الذي يمكنهم فيه التدرب على الكسب وتوفير الثروة فيقضون حياتهم في البطالة والخمول وضيق ذات اليد. ولو فطن أولياؤهم لحالهم من أول الأمر لربأوا بهم عن مثل هذا الموقف. وتخطوا بهم ما لا يطيقون من العلم إلى ما يطيقون من العمل. وأعانوا على الانتفاع بميولهم الخاصة. واستثمار مواهبهم الفطرية. وأكثر ما يكون هذا الإغفال في بيوت العلم القديمة فإن الآباء فيها يحرصون على تنشئة بنيهم في العلم. وتعويدهم التحصيل منذ الطفولة. ويلزمونهم إياه بكل وسيلة. ولا يكون في كثير منهم ميل إليه. واستعداد له. فيقضون أعمارهم فيه. من غير أن يكون لهم نصيب منه. سوى القيافة الخاصة. عمامة وطيلسان. وجبة واسعة الأردان. وهناك سبب آخر يحمل الآخرين على الاشتغال بطلب العمر من دون أن تتوفر فيهم القابلية له فلا ينالون حظاً منه: أولئك يريدون الفرار من الخدمة العسكرية وتضيق ذات

يدهم في الغالب عن البدل النقدي فيشتغلون في التحصيل لهذا الغرض. وقد ينبع بين هؤلاء أفراد يصبحون فخراً لقومهم. ونبراس هدى في وطنهم. أما الآخرون وهم معظم الطلاب فيحذقون من العلم القدر الذي ينجيهم من الخدمة العسكرية ثم لا يلبثون أن يستغلوا عنه فينسوه رويداً رويدا. ويكونون إلى سن صعب معها مزاولة عمل أو صناعة فيعيشون كلاً على أهليهم. يرمقون الرزق ترميقاً. ولو أنصف هؤلاء أن فسهم لما اشتغل بتحصيل العلم منهم إلا من أوتي نصيباً من ميل واستعداد للطلب. ورزقاً بكيفية مؤونة الحاجة. وإلا فخير للمرء منهم أن يتعاطى عملاً يرفه به عيشه. وينقذه من عار البطالة. ويمكنه من أداء البدل العسكري. أو أنه يقوم بهذه الوظيفة المقدسة. فإنها من أشرف الأعمال لاسيما في وقتنا هذا. وقد أصبحت الحكومة دستورية. والجندي فيها مرفه في معيشته. موفر الحرمة في أداء خدمته. ولو بلغ طلاب العلوم الإسلامية في إحدى المدن مائة طالب مثلاً لكان منهم عشرة يشغلون المناصب الدينية: مثل مفتي. وموظف محكمة. وكاتب صكوك. وعشرة آخرون أغنياء عن الكسب بغنى والديهم. وعشرة سواهم أقدموا على الكسب بقوة من أرادتهم وهمة من نفوسهم. أما السبعون الباقون فيغذون ويروحون في قومهم على غير الحالة اللائقة بحرمة العلم وكرامة أهله وقد تقود البطالة بعض هؤلاء إلى انتياب أماكن اللهو. وينزل الحال بآخرين إلى تناول الصدقات. والسقوط على طعام الأموات. وإنا لنود أن يكثر هذا العنصر فينا معشر المسلمين: عنصر الدين ولكنا نود لهم قبل كل شيء أن يكونوا موضع احترام العامة وإجلال الخاصة ليكون ذلك أدعى للانتفاع بهم. والتلقي عنهم. وأن يكون لهم من خزينة الأوقاف ومال الأمة رواتب تساعدهم على أداء وظائفهم. والظهور في مظهر التجمل بين أبناء قومهم. ثم يكون وراء ذلك من قبل الحكومة أو من قبل الرأي العام عيون تراقبهم. وتناقشهم لحساب أعمالهم. حتى إذا اقترف أحدهم ما لا يلاءم الآداب صنفه. وكرامة دينه. أكره على التجرد من زيه العلمي. ثم ليختر لنفسه صناعة أخرى أو يبقى متشرداً كما يريد. وإلا فإن ظهور أهل الدين في مظهر يزري بهم ويحط من قدرهم ويدعو إلى النفر منهم وترفع أبناء الخاصة عن الدخول في سلكهم. فلا يعود ينضم إليهم سوى الحثالة. من أهل الجهالة. وذوي البطالة.

طرابلس الشام: المغربي.

صحافتنا وصحافتهم

صحافتنا وصحافتهم يا أمتنا إذا أردت أن يكون لك حول وطول وكلمة عالية مسموعة ومنزلة مهمة عند دولتك وسائر دول الأرض فاقبلي على صحافتك الوطنية إقبال الشعب الأميركي على صحافته. صحافة الولايات المتحدة وصحافتنا عدد سكان ولاية ميسوري 3166665 عدد صحافتها 1048 === أوهايو 4157545== 1189 === إبلنيز 4821== 1746 === بنسلفانيا 6302115== 1524 === أيوي 2231883== 1132 === مشغن 2420952== 810 === انديانا 2516462== 851 === مستشوستس 2805346== 654 === تكسس 3048710== 851 === كرولينا الشمالية 1893810== 266 === تنسى 2020616== 298 === ويسكنسن 2206904== 732 === كنتكي 2147174== 338 === جورجيا 2216331== 395 === مسيسبي 1551270== 251 === منسوتا 1751394== 770 === الاباما 1828697== 230 === فرجينا 1854184== 249 === نيوجرسي 1883669== 390 === اركنسس 1311564== 289 === كرولينا الجنوبية 1340316== 156

=== لوزيانا 1381625== 736 === كلفورنيا 1485053== 738 === فلوريدو528542== 183 === ماين 539700== 158 === كولبوريدو 694466== 374 === كنتكتت 908420== 173 === غربي فرجينيا 958800== 217 === نبراسكا 1066300== 659 === ماريلند 11880440== 206 === اوكلاهوما 3988331== 303 === داكوتا الجنوبية 401570== 393 === نيو همشر 411588== 94 === اورغن 413536== 240 === روداليند 228556== 59 === واشنطن 518103== 99 === يوفا 276749== 83 === مقاطعة كولمبيا 275718== 82 === داكوتا الشمالية 4191646== 233 === فزيمونت 343641== 76 === مقاطعة الهنود 392060== 164 === نفادا 42335== 35 === الاسكا 63592== 45 === اريزونا 122931== 66 === ايدهو 161772== 99 === دلوار 184735== 140

=== نيو ميكسيكو 195310== 63 يظهر من مطالعة هذا الجدول الذي جمعته بعد بذل الوقت الطويل أن نفادا أصغر ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية بعدد سكانها. فهم يبلغون 42335 نفساً وعدد جرائدهم ومجلاتهم كما ترى يبلغ 35 جريدة ومجلّة أي أنّه يصيب كل 1209 أنفس منهم جريدة واحدة. هذا ما يرد عليهم من جرائد سائر الولايات المتحدة ومجلاتها وولاية الاسكا تجيء فوق نفادا في عدد السكان. دع عنك عدم استبحارها في الحضارة والعمران بداعي إقليمها البارد جدّا ومع تقصيرها بذرائع الرقيّ عن شقيقاتها تقرأ أن لسكانها البالغ عددهم 63592 نفساً 45 جريدة ومجلّة أي أنه يصيب كل 1412 نفساً منهم جريدة وقس على نفادا والاسكا بقية الولايات وقابل بين عدد السكان كل منها وعدد جرائدها ومجلاتها ولاسيما أحطّ مقاطعة في الجمهورية بمعارفها وعلومها وأسباب تقدمها ألا وهي مقاطعة بقايا ذلك الشعب القديم شعب سكان أميركا الأصليين الهنود الذين ما زال أكثرهم عائشا عيشة الهمجية_قابل تجد أن لكل 2451 نفساً منهم جريدة فعددهم 392060 نفساً وعدد جرائدهم 164 جريدة ومجلّة ثم قابل بين عدد سكان الجمهورية الأمريكية وعدد جرائدها وبين عدد سكان البلاد العثمانية وجرائدها وتأمّل في الفرق واعتبر وانج باللائمة على مسببّي تأخرنا وتقهقرنا صحافتنا لا أعلم وأنا سحيق الدار كم هو عدد صحافة ولاية سوريا. إلا أنني لا أخالها تتجاوز عدد الأصابع فقد اتصل بي أن غير جريدة منها دبت فيها الحياة ردحا من الزمن لمدعو بزمن الدستور ثم تمارضت أو مرضت ومضت لملاقاة ربها وأنه لم يبق غير المقتبسين والعصر الجديد والراوي وحط بالخرج في دمشق والإخاء في حماة وحمص في حمص واثنتان أو ثلاث لم أقف على أسمائها في أعظم مدن العربيّة في القرن العشرين الذي اتصلت فيه بلاد العالم بعضها ببعض اتصال شرايين الجسم واختلطت شعوبها اختلاط الحابل بالنابل_في القرن العشرين الذي قويت فيه شوكة العلم_في

القرن الذي كثرت فيه الثّورات والنهضات وظهرت الاختراعات والاكتشافات ألا يوجد في أعظم مدينة في البلاد العربيّة_في مدينة من أعرق مدن الدنيا بقدمها_في بقعة من أفضل بقاع المعمورة بأرضها وسمائها وإقليمها وخيراتها_في دمشق أكثر من خمس أو ست جرائد تستحق أن تسمّى جرائد؟ كثرة قرّائهم وقلّة قرّائنا عدد سكان ولاية نفادا في أمريكا يقل عن سكان صالحيّة الشام على ما أرجح ولا يزيد كثيرا عن سكان حي نصارى دمشق ولأولئك 35 جريدة وللدمشقيين البالغين ثلاثمائة ألف نفس ونيف خمس أو ست جرائد أو لكل ستين ألفا منهم جريدة وقراء الصحف منهم لا يزيدون عن خمسة بالألف على ما أقدّر وأظن أن تقديري هذا في محله. فالطامة الكبرى ليست فقط بقلة جرائد دمشق بل بقلّة عدد مشتركيها. فلجريدة حقيرة في الجمهورية الأمريكية العظمى مشتركون وقارئون أكثر من أكبر وأقدر وأشهر جريدة في دمشق مكانة المقتبس من جريدة أميركية كبرى تطبع ستين ألف نسخة يوميّا هذا المقتبس على شهرته الواسعة ومقدرة صاحبه المشهورة بين الناطقين بالضاد في مشرق الأرض ومغربها وبين الكثيرين من الأميركيين في غربي الولايات يقال أنه لا يطبع يوميا أكثر من ثلاثة آلاف نسخة يوزع منها ألفين وخمسمائة نسخة على المشتركين والقارئين وخمسمائة نسخة على رصفائه ومكاتبيه في الجهات في حين أن مكانة المقتبس المعنوية لا تنقص مكانة عن مكانة صحيفة أميركية كبرى تطبع يوميا ستين ألف نسخة كبيرة. مقابلة وانتقاد في عاصمة نبراسكا البالغ عدد سكانها 65 ألفا عدة جرائد ومجلات ناجحة منها جريدتان عظيمتان سبق ذكرهما تشغل كل منهما بناية عظيمة ومعدل ما تبعه إحداهما يوميا خمسون ألف نسخة وما تطبعه الأخرى أربعون ألف نسخة وبكل حريّة أقول معنويات تينك الجريدتين الخطيرتين لا تفوق معنويات المقتبس وإنما تفوق بما لا يقاس بكثرة القارئين والمشتركين وتعدد الصفحات وكبر الحجم وبشيء معنوي هو أنك تقرأ عنوانا لكل كتابة أو خبر في تينك الجريدتين تفهم منه ما يرمي إليه الكاتب قبل أن تطالع الكتابة أو المقالة أو الرسالة وترى الصور الكثيرة المهمة في كل عدد منهما كل يوم ولاسيما عدد الأحد

الكبير البالغ أربعا وعشرين صفحة كبيرة تقرأ فيه مقالات مشاهير وشهيرات الكُتّاب والكاتبات في أوروبا وأميركا. وأما المقتبس فإنك لا تستطيع أن تفهم الكثير من مقالاته ورسائله وأخباره إلا بعد أن تقرأ الكتابة كلها وإذا كانت طويلة فنضطر أحيانا إلى قراءة العمود أو العمودين أو الثلاثة الأعمدة منه لتلم أو لتقف على مغزاه ومرماه ومن حين صدور أول عدد منه إلى يومنا هذا لم أر ولم ير غيري صورة فيه قطعيّاً. فإذا كان الداعي إلى ذلك هو قلّة واردات المقتبس الماديّة فيعذر وإذا كان الداعي هو أن الدين الإسلامي ينهي عن نشر الصور فهل لصاحب المقتبس أو لغيره من أئمّة الدين أن ينشروا بياناً شافياً بهذا الباب لعلنا نعذر ونقنع. إن الدين الإسلامي الكريم كتبت شرائعه ونشرت في زمان هو غير زمان القرن العشرين وما انطبق على ذلك الزمان لا ينطبق على هذا الزمان ولكل عصر حاجات لا توافق حاجات العصور التي سبقته وإذا كانت الصور من بقايا آثار الوثنية التي كانت في أوج مجدها وعزها في أول عهد ظهور الإسلام فعلم القرن العشرين قد محا تلك الآثار أو كاد وصار يفهم العالم والجاهل اليوم إن الغرض من نشر الصور هو للإفادة التي تتقاضاها اليوم حاجة عصر النور ولا للعبادة التي كانت تتقاضاها حاجة عصر الظلمة في القرون المتوسطة. صحف العرب في أميركا قراء الصحف العربية في ولايات الاتحاد معدودون ومحدودون فعدد الناطقين بلغة قريش فيها لا ينقصون عن مئة وخمسين ألف نفس ومع ذلك ترى صحافتهم أكثر عددا وأكبر حجما وأحسن تبويبا وأنظف ورقا من صحافة ولاية سورية بل أرق بمادياتها. وشاهدي أو دليلي على ذلك هو جريدة الهدى اليومية الصادرة في نيويورك فإنها مع كونها في بلاد غريبة نائية عن مواطن اللغة العربية فهي تطبع نحو خمسة آلاف نسخة كل يوم ذات ثماني صفحات كبيرة حافلة بالمقالات المحبرة والأخبار المهمة ومزينة بالرسوم الرامية إلى أغراض نافعة وإذا حققت وجدت أن ما تطبعه الهدى وحدها كل صباح لا يقل عما تطبعه جرائد ولاية سورية مجموعة. لرم وعتاب

لا أُريد أني أُنسب إلى أني أحرق الأُرّم وأُؤرث نيران المناظرة لغاية أو نكاية بين المستصغرين منزلة المهاجرين من المتخلفين والنابين عن حياض المهاجرين فلهؤلاء مكانة سامية أبدعها جدهم وكدهم ولأولئك بتعريضهم عيون لا تبصر وأجسام لا تشعر وأغراض كلها أمراض وإنما ألوم بل أعتب على ولاية رجالها ونساؤها وأولادها لا يقل عددهم عن مليون نفس هم عرب في عرب_على ولاية شرقها وجنوبها وشمالها وسماؤها وأرضها وأطوارها ووهادها وسهولها وهضابها وأشجارها وأثمارها وأنهارها عمرت بالعرب وتخص العرب وليس لهم أو لها على الأقل جريدة تطبع ما تطبعه جريدة عربية في ديار أعجمية. كيف يأتي الإصلاح الإصلاح جاء ويجيء وسيجيء من طريقين إما من طريق الحكومة وإما من طريق الشعب ومثال الأول جمهورية يابان ومثال الثاني الجمهورية الفرنسية والجمهورية الأميركية والانقلاب العثماني لم يأت من طريق الحكومة ولا من طريق الشعب من حيث مجموعه بل من طريق الجيش. أما والحكومة العثمانية منصرفة قواها جملة إلى حل مسائلها ومشاكلها وقد بدا حتى الآن أنها لا تكترث أو لا تريد أن تكترث بالعربية حييت أم ماتت فقد تحتم على أبنائها أنو يعلوا منارها ويحموا ذمارها ويحملوا لواءها وهذا لا يكون بالاحتفاظ فقط ببقايا تلك الكتب العتيقة الباحثة في مذاهب سيبويه ونفطويه وإضرابهما مثلا بل يكون في نشر الصحافة الحرة بكثرة في المدائن وفي القصبات وفي المديريات وفي الضواحي والنواحي فالصحافة الحرة الصادقة بلا مدافع أكبر كلية للدولة وأكبر مدرسة للأمة وأكبر جامعة للثورات الأدبية المحطمة قيود الجهل والظلم وللنهضات الجالبة رفعة القدر ووفرة الفخر ويقاس رقي الأمم برقي صحافتها فكل أمة لها صحافة راقية لها منزلة راقية في السياسة والاجتماع والآداب والعمران والعرفان صحافة هذا الدور هي غيرها في الماضي لم تكن الصحافة موجودة بعرفي في دور نيرون القرن العشرين. فتلك التي كان العبيد المستعبدون يدعونها صحافة لم يكن أكثرها إلا وريقات أو نشرات لنشر آيات التقديس والتدليس والتدنيس بل لإذاعة المين كل المين والتمويه كل التمويه والتجهيل كل التجهيل

والتضليل كل التضليل وكان الاستذلال والاستعباد يقضيان بدفن الحقائق واستحياء المخارق. أما وقد أدت إلى الشعب بعض حقوقه المعطاة له من الله فمن الغضاضة على الصحافة أن تستر العيوب والعورات وكل صحافة لا تدل الدولة والأمة على حسناتهما وسيئاتهما لبك ما في كلمة الحرية من معنى الحرية لا تدعى صحافة ولا يرجى لأمتها وحكومتها صلاح وإصلاح. الذنب ذنب الشعب نعم إن مضمار الانتقاد أوسع في أميركا منه في الدولة العلية بداعي تقييد الصحافة العثمانية وإطلاق حرية أميركا غير أن الذنب على الشعب. فشعب أميركا مطالب وناهض وقائم والشعب العثماني قاعد وجامد ونائم. النواب هم الذين قيدوا حرية الصحافة وهم ضيقوا الخناق عليها والشعب هو الذي انتخب أولئك النواب وأرسلهم إلى عاصمته وهو الذي يدفع مرتباتهم ونفقاتهم فالشعب هو سيد النواب والنواب خدامه ولم أسمع ولم يسمع غيري أن 250 خادما يستطيعون أن يستبدوا بثلاثين مليون (سيد) فيا أيها الشعب مر نوابك بتعديل قانون صحافتك واحملهم على تلبية أمرك فإن لبوه كان ما تريد وإلا فاقلب لهم ظهر المجن في الانتخاب المقبل وانتخب الأصلح فالأصلح حتى تبلغ ضالتك وتعمل عمل البلاد الشعبية. فهل من سامع أو مجيب لهذا الصوت الضعيف. أميركا: يوسف جرجس زخم (المقتبس) إن أعظم عائق يحول بيننا في هذه المجلة وفي جريدة المقتبس وبين وضع الصور القليلة اللازمة في بادئ الأمر هو عدم اضطلاعنا بهذا الأمر وعدم وجود مصور ماهر هنا يحسن حفظ صور على المناحي المطلوبة. والإسلام لا يمنع من التصوير إلا المجسم والمنع تحت شروط أيضا. ثم إن قلة روج بضاعة العلم والأدب من أكبر الدواعي في تخلف صحافتنا العلمية والسياسية كما قال صديقنا صاحب المقالة فمجلة المقتبس على شهرتها لا تطبع سوى ألف نسخة في الشهر وجريدة المقتبس على سعة انتشارها لا تبيع أكثر من ألفي نسخة في اليوم

فمن لنا يوم تطبع فيه صحفنا عشرة آلاف فقط لنقلد الصحافة الغربية حذو القذة بالقذة ومكانة الجرائد بمكانة قرائها والمحيط العامل الأعظم في رقيها.

عمران الكرك

عمران الكرك لم تكن الحال في حوران تستقر على ما يجب بعد أن أدبت الجملة العسكرية أشقياء الدروز في جبل حوران حتى أرادت الحكومة أن تحصي عدد سكان لواء الكرك كما أحصت عدد سكان لواء حوران فنشز السكان وانتقضوا على الحكومة وصادف أن قطعت مرتبات بدو بني صخر والخرشان وغيرهم ممن كانوا يتقاضون أنعاما من السلطنة منذ القديم لحراسة الطرق فتكونت هذه الأسباب وقام البدو الذين حرموا من رواتبهم وهي أربعة آلاف ليرة في السنة وسطوا على بعض المحطات من السكة الحديدية الحجازية واقعة على طولا زهاء مائتي كيلومتر في أراضي اللواء وخربوا بعض القضبان الحديدية ونهبوا أحد القطارات التي كانت قادمة من المدينة وسلبوا ما كان مع ركابها من مال ومتاع مما لا يقل ثمنه عم عشرين ألف ليرة وقتلوا وجرحوا بعض موظفي الخط الحديدي وكان ذلك على بضع ساعات من مركز لواء الكرك وقام الكركيون باديهم وحاضرهم وأطالوا يد الاعتداء على التجار والموظفين والحامية ولو لم يلجأ الموظفون إلى قلعة الكرك الحصينة وبقوا فيها عشرة أيام ريثما وافاهم المدد لقضت الثورة عليهم ولا يعلم إلى الآن عدد من هلك في الفتنة من التجار والضباط والموظفين والجند ممكن كانوا يتجولون في الأرباض لإتمام أعمالهم وقد حرقت نيران الفتنة الأماكن الأميرية كلها ونهبت نقود الخزينة ونقود إدارة حصر الدخان ونهبت دور الموظفين واحرق قسم منها وخرب قسم عظيم من المدينة بإطلاق القلعة المدافع عليها وقطع العصاة الأسلاك البرقية وهاموا على وجوههم في البراري والجنود بتأثرونهم الآن في السهل والوعر. وقد نوى أهالي الطفيلة وأهالي معان القيام بمثل هذه الفظائع في الوقت الذي قام فيه الكركيون بثورتهم ولم يؤثر عنهم شيء مضر. وإذا كان النزاع الآن قائما في ذلك الصقع بين الحكومة والسكان وبعبارة أخرى بين المدينة والهمجية رأينا أن نلم بعمرانه وتاريخه وجغرافيته واقتصاده واستعداده للارتقاء فنقول نقلا عن مصادر عربية وإفرنجية وتركية كثيرة: يمتد هذا اللواء من وراء قصر الزرقاء في الحد الجنوبيّ من لواء حوران إلى مدائن صالح جنوبا وهي مسافة يقطعها راكب المطايا في العادة في نحو خمسة عشر يوماً أما عرضه فمن الغرب نهر الأردن (الشريعة) وبحيرة لوط (البحيرة المنتنة أو البحر الميت) ووادي العاربة والوجه والعقبة الفاصلة بينه وبين

فلسطين إلى بادية الشام شرقاً فالجوف فنجد وهذه المسافة لا تقل عن خمسة أيام وهي تبلغ أكثر إذا تجاوزنا البادية إلى وادي السرحان في الشرق. وأرضه سهلية جبلية وجباله لا ترتفع كثيرا عن سطح البحر وتدعى بأسماء البلاد التي بقربها الآن وأشهر أنهار اللواء وادي الزرقاء ينبع من رأس عمان قال ياقوت: الزرقاء موضع بالشام بناحية عمان وهو نهر عظيم في شعار ودحال كثيرة وهي أرض شبيب التبعي الحميري وفيه سباع كثيرة مذكورة بالضراوة وهو نهر يصب في الغور. ووادي الصلت وهو ينبجس من قصبة الصلت ووادي السير ينبعث من قرية وادي السير ووادي حسبان ينبض من محل اسمه حسبان ونهر زرقا معين ووادي الوالا ينبع بالقرب من أم الرصاص وينضم إليه وادي الموجب وهذا الوادي يتألف من اللجون الواقع في منتصف الطريق بين القطرانة والكرك وجميع هذه الأودية أو الأنهار تصب في نهر الأردن أو الشريعة ومن أنهار هذه البلاد وادي الكرك ينبع في قصبة الكرك ويصب في بحيرة لوط ووادي الحسا تجتمع إليه مياه الشراة ومياه وادي موسى وينابيع شتى فيصب في بحيرة لوط. وهذه الأنهار تفيض كعادة معظم الأنهار شتاءً بما ينهال إليها من السيول وتجف قليلا في الصيف. ومن الأنهار مالا يجري إلا في الشتاء مثل نهر الثمد ولا ينتفع بهذه المياه في السقيا حتى إن نهر الزرقاء الذي يعد من الأنهار المتوسطة لا يسقي أكثر الأراضي التي حفافيه بل هي تشرب بماء المطر وكذلك حال أراضي البلاد كلها ماخلا بعض الحدائق القليلة في وادي موسى والصلت. ووادي الموجب ووادي الحسا من أعمق أودية سورية قد ينزل الراكب من ذروتهما إلى قرارتهما في ساعة ونصف ويصعد إليهما في أكثر من ذلك. وفي هذا اللواء مناجم كثيرة فبالقرب من زرقا معين على ساعتين من مادبا جبال ملونة ففيها جبل أصفر وآخر أحمر وبالقرب من بحيرة لوط وحمة عفرة من أعمال الطفيلة معادن الكبريت والقصدير والبترول والنحاس. وزرقا معين هذه من الحمامات البخارية أشبه بحمام أبي رباح بالقرب من تدمر. وهي ثلاث حمامات يستحم المستحمون ببخارها ولا يجسر أحد أن يمد يده إليها. ويقصدها سياح الإفرنج كما يقصدون حمة عفرة من بحيرة لوط حتى إذا بلغوا شاطئها

يركبون على الدواب ثلاث ساعات. وتقل الحراج في هذا اللواء وأهمها ما كان بالقرب من بلدة الصلت وفي أرض بني حميدة وهي تبعد عن قصبة الكرك خمس ساعات ويمتد هذا الحرج من الزرقاء قرب معين إلى وادي بني حماد وطوله نحو عشر ساعات وفي قضاء الطفيلة حراج واسعة يمشي الإنسان بظل لزابها وسنديانها طويلاً ولاسيما فيس جنوبه قرب قرية ضانا. وأكثر الأشجار المثمرة في اللواء التين والعنبي والزيتون وأكثره في الصلت والطفيلة والكرك والعراق وخنزيرة. وأهم الحبوب التي يستنبطونها الحنطة والشعير والذرة والعدس والحمص يصدرونها إلى فلسطين وإلى دمشق وتباع بعشرات الألوف من الليرات وقبل أن تخترق السكة الحجازية هذا اللواء كانت صادرات بلاد الكرك تباع في فلسطين أو تبقى في أراضيها لبعد المسافة بينها وبين دمشق وأقربها لا يقل عن خمسة أيام على الجمال. ومعظم سكان هذا اللواء بادية رحالة ولا تجد ساكنين في لبيوت إلا في الكرك والصلت والشوبك ومعان والطفيلة وعيمة وصتفحة وبصيرة وضانا وخنزيرة والعراق وكثرربة ومادبا وأم الرمان وعمان والفحيص ووادي السير وناعور وعين صويلح ورصيفة وياجوز وعيون الحمر ويادودة ولبن وأم العمد وزيزاء. ويخمن الناس نفوس الأهالي بمئة وخمسين ألفاً نحو خمسهم حضر والباقي بادية ينزلون في بيوت شعر عشائر وقبائل وأفخاذاً ولكل عشيرة موقع خربة يتخذون من الآبار أنابير يخزنون فيها حبوبهم وهم ينتجعون الكلأ. وفي قضاء اللواء أي الكرك ثلاثون ألف ساكن منهم أربعمائة بيت مسيحيون والباقي مسلمون وفي قصبة الصلت عشرة آلاف منهم ألفان من المسيحيين وليس بين العرب الرحالة أناس من المسيحيين وأهل مادبا كلهم مسيحيون. قال القرماني في (معان) أنها مدينة صغيرة تقع على طريق الركب الشامي وهي على عشر مراحل من دمشق كان غالب ألها نصارى. والآن ليس فيها أحد منهم ولقد نظمت الحكومة إدارة هذه البلاد سنة 1310 على الحساب الهجري وكانت حكومتها من قبل بيد المشايخ والزعماء فجعلت الكرك مركز اللواء وسمت سائر اللواء باسمه وقسمته إلى أربعة أقضية وهي قضاء المركز وقضاء الصلت وقضاء الطفيلة وقضاء معان وإلى سبع نواح وهي عمان وديبان ومادبا وزيزاء (جيزة) وتبوك

وخنزيرة والشوبك. وديبان هي شمالي ضفة أرنون (الموجب) على نحو 4 أميال من مصبه في بحيرة لوط و16 ميلا شمالي الكرك وهي المعروفة في الكتب المقدسة باسم ديبون وأديمون وكانت إحدى منازل بني إسرائيل واشتهرت ديبان بالحجر الموآبي الذي وجد فيها سنة 1868 وهو حجر أسود طوله أكثر من ثلاثة أقدام عرضه نحو قدمين وسمكه نحو قدم وفيه 34 سطراً من الكتابة الفينيقية العبرانية قرئت كلها وهي من ميشع بن خموسا ملك موآب ملخصها أنه بنى هذا المقدس لكموش لأنه خلصه معتد وجعله ينظر بازدراء إلى أعدائه كلهم قال قد ضايق ملك إسرائيل موآب أياماً عديدة. ملك أرض ميدبا وسكن هناك هو وابنه 40 سنة اهلكه كموش على عهدي حينئذ بنيت بعل معون ورممت قريتايم. بنى ملك إسرائيل عطاروت فهاجمت المدينة وأخذتها وقتلت كل سكانها قال لي كموش اذهب خذ كموش من إسرائيل فذهبت وحاربتها من الفجر إلى نصف النهار فأخذتها وقتلت سبعة آلاف رجل وجررت آنية يهوه على الأرض أمام كموش وأقام ملك إسرائيل مدة حربه معي في ياهط فطرده كموش من أمامي. أنا هو الذي بنى عر وعير (عراعر) وعمل طريق أرنون أنا هو الذي بنى بيت باموت التي أُخربت أنا هو الذي بنى نبوسوروديبون وبيت دبلتايم وبيت بعل معون وقال لي انزل وحارب حور ونايم وخذها أه. أما مدينة ميدبا ويقال لها الآن مادبا فقد تعاقبت عليها بنو إسرائيل وموآب وعمون مراراً وهي على مسافة 6 أميال من حشبون بين الشرق والجنوب الشرقي و14 ميلا شرقي بحر لوط وكانت في القرون الأولى مركزا مهما للدين المسيحي ومن آثارها الآن كنيسة قديمة قيل هي من القرن الخامس وقد وجدت بها سنة 1897 خارطة الأرض المقدسة مرسومة بالفسيفساء رسماً متقناً يظهر فيه نهر الأردن وكثير من المدن الرئيسية وكانت مادبا في الأصل مدينة ويؤخذ من الكتابة التي أُثرت من الملك ميزا من القرن الحادي عشر ق م أنها أعيدت إلى الموآبيين لتصير بعد ذلك تحت حكم النبطيين أي العرب وكانت على عهد المكابيين قلعة مهمة استولى عليها هيركان وأصبحت على عهد الرومان جزءا من العربية الصخرية. والخارطة تنزل في خريطة الروم هناك. وعمان كما قال القرماني مدينة قديمة خربت قبل الإسلام ولها ذكر في تاريخ الإسرائيليين

وهي رسم كبير ويمر بجنبها نهر الزرقاء الذي على طريق الحاج الشامي وهي من أعمال البلقاء وهي من بناء لوط. وأخصب أرض في هذا اللواء هي أرض البلقاء وهي واقعة بين الأردن والبرية ووادي الموجب والزرقاء وتمتد من الصلت إلى مادبا على مسيرة تسع ساعات وهي تزرع في الجملة قال القرماني: البلقاء كورة بين الشام ووادي القرى بها قرية الجبارين ومدينة الشراة وبها الرقيم المذكور في القرآن فيما زعم بعضهم وفيها مدن عظيمة وقرى كثيرة إلا أنها دثرت وخربت فليس فيها ديار ولا نافخ نار. والقرماني كتب في القرن الحادي عشر وأرض الصلت وهي عبارة عن مركزه وناحيتي عمان ومادبا هي كما قال القرماني بلدة هي من أعمال الأردن بها قلعة يسكنها من يحفظها من قبل ملوك العثمانية وينبع من تحت قلعتها عيون كثيرة وتدخل البلد وبها بساتين كثيرة يجلب منها حب الرمان إلى البلاد. ومن أراضي اللواء البائرة الجيدة التربة الشاغرة أرض الشراة المشهورة قديماً وهي تمتد من حصن الشوبك إلى وادي موسى وفيها كلها مياه غزيرة وهي ذات تربة حسنة وكلها خراب اليوم. والشوبك على 19 ساعة عن الكرك كما أن وادي موسى على 25 ساعة عن الكرك. ولهذه البلاد تاريخ مجيد قبل الإسلام وبعده ويكفي أن من أعمالها وادي موسى_على 64 ميلا من جنوبي الكرك و54 ميلا عن الجنوب الشرقي من بحيرة لوط_المعروف عند الإفرنج ببترا أي العربية الصخرية أو سلع ومن أعمالها بلاد مآب (موآب) المشهورة في تاريخ النصرانية والظاهر أن سلع هي غير بترا وليست مرادفة لها ولا يعرف اليوم اسم بترا الأصليّ ولا تاريخها كما ينبغي ويظهر من النواويس القديمة فيها أن تاريخها يرد إلى القرن السادس ق. م ولم يجر ذكر للنبطيين أي العرب الذين استولوا على البلاد بعد الأدوميين إلا في سنة 312 ق. م أي أيام أرسل الملك أنتيغونس قائده أتني ثم جاء القائد ديمتربوس ليستولي على بترا عاصمة البلاد فأخفق القائدان في فتحها وكانت المدينة في الغالب صغيرة وهي حيث وجدت النواويس القديمة ومعظمها على أكمة هناك لا تمتد إلى الوادي. حازت هذه المدينة مكانة كبرى لحصانتها ومناعتها أمام غارات سكان البادية فكانت مخزن القوافل النبطية لوقوعها على طريق على طريق البحر الأحمر أي القلزم ومصر وغزة

ودمشق وتدمر. وأول أمير نبطي ذكره التاريخ اسمه ارتياس الأول. وامتد سلطان النبط على عهد المكابيين الأولين إلى شرقي الأردن ولما ضعفت دولة البلاطة والسلوقيين عاد النبط فقوي سلطانهم بسرعة في القرن الثاني قبل الميلاد. وكانت حدود هذه الملكة على عهد ارتياس الثالث نحو سنة 85 تمتد إلى دمشق ولقب ملكها إذ ذاك عجب اليونان ويستدل على أن المدينة اليونانية كانت قد استحكمت أواصرها في أرض النبط من المصانع والنواويس التي عثرت عليها وهي تنم بأجلى بيان عن مدينة يونان وفي أيام هذا الملك حدث المصاف الأول بينه وبين الرومان فاضطر أرتياس أن يؤدي الجزية إليهم. واضطر النبطيون على عهد الإمبراطور بومبي وأخلافه أن يقدموا منهم الحين بعد الآخر جنوداً مساعدين للرومانيين ولكن ظلت مملكتهم حرة قوية وانضمت على عهد أرتياس الرابع إلى مملكة دمشق. وفي سنة 106 للميلاد جعلت بترا وأعمالها كلها أي العربية الصخرية ولاية رومانية وقد أنشأ الإمبراطور تراجان طريقا عظيما وصل فيه بين سورية والبحر الأحمر. وبعد ذلك انقسمت هذه الولاية. وفي نحو 358 اصبحت بترا ولاية مستقلة برأسها تحت اسم مملكة فلسطين أو فلسطين المسالمة. وإن المصانع والعاديات الرومانية التي لم تبرح محفوظة إلى اليوم لتدل بأن بترا كانت على عهد الحكم الروماني قد بلغت شوطا عاليا من العظمة والارتقاء ولم تبدأ بالسقوط عن مكانتها إلا في نحو منتصف القرن الثالث للمسيح لارتقاء مملكة فارس ومملكة تدمر اللتين نازعتاها في التجارة بل لان الفرس وفقوا إلى تحويل التجارة عن مصارفها القديمة إلى أصقاع الفرات والخليج الفارسي. ولما فتح العرب هذه البلاد كان قد محي اسم بترا أو كاد. وزعم الصليبيون لما جاؤوا سورية فاتحين أن جبل هارون على مقربة من بترا هو جبل طورسينا فأنشأوا فيها قصرا فخما في ذروته المقدسة ومنذ ذال العهد سقطت المدينة في تيه العدم إلى أن كان القرن التاسع عشر وقد اكتشف سياح الإفرنج ما فيها من العاديات وفيها 750 ناووسا مهما وهي أهم تلك المصانع ومن العاديات هنا ما يعد من أغرب ما صنع خزانة فرعون وهي هيكل علوّه 85 قدماً وأسفله دار مربعة قطرها 36 قدم وعلوها 25.

وقال مؤرخو الفرنجة أن معنى سلع في اللغة العبرانية صخر فدعا اليونان والرومان هذه البلاد بترا أي صخراً ودعاها العرب الحجر وقالوا أنها مدينة ثمود وأن الفرجة الصخرية الواقعة فيها المدينة هي صدع الصخرة الذي خرجت منه ناقة صالح. والحقيقة أن سلع بفتح السين وكسرها والجمع السلوع اسم عربي ومعناه الشقوق في الجبال قال أبو زياد الأسلاع طرق في الجبال يسمى الواحد منها سلعاً وهو أن يصعد الإنسان فقي الشعب وهو بين الجبلين يبلغ أعلى الوادي ثم يمضي فيسند في الجبل حتى يطلع فيشرف على واد آخر يفصل بينهما هذا المسند الذي سند فيه ثم ينحدر حينئذٍ في الوادي الآخر حتى يخرج من الجبل منحدرا في فضاء الأرض فذاك الرأس الذي أشرف من الواديين السلع ولا يعلوه إلا راجل. قال ياقوت: وسلع حصن بوادي موسى بقرب بيت المقدس وبهذا لا يصح أن يطلع سلع على وادي موسى بأجمعه كما توهمك بعضهم. والحجر كما قال ياقوت. اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام قال الاصطخري: الحجر قرية صغيرة قليلة السكان وهو بوادي القرى على يوم بين جبال وبها كانت منازل ثمود. قال تعالى (وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين) قال ورأيتها بيوتاً مثل بيوتنا في أضعاف جبال وتسمى تلك الجبال الأثالث وهي جبال إذا رآها الرائي ظنها متصلة فإذا توسطها رآها كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها الرمل لا يكاد يرتقي كل قطعة منها قائمة بنفسها لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة وبها بئر ثمود التي قال الله فيها وفي الناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم قال جميل: أقول لداعي الحب والحجر بيننا ... ووادي القرى لبيك لما دعانيا فما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلواً ولا أطول اجتماع تقاليا أما بلاد موآب أو مآب فهي جزء من العربية السعيدة أو الصخرية بين بحيرة لوط فيما وراء عبر الأردن والبادية على ضفتي نهر أرنون وكانت عاصمة الموآبيين قلعة رباط موآب. والموآبيين هم أبناء لوط لا يعلم من تاريخهم إلا أنهم كانوا أولي بأس شديد يخاف اليهود عاديتهم لغزوهم إياهم الحين بعد الآخر واستولى الموآبيون على الإسرائيليين ثماني عشرة سنة (1332 ـــ 1314) على عهد حكومة القضاة وقد غلب شارول (جالوت)

الموآبيين وخضعوا لسلطان داود مؤقتاً ثم استعبدهم الفرس فالمصريون فالسوريون فالاسكندر فالرومانيون وعلى عهد العرب امتزجوا بهم وفنوا فيهم كما فنيت شعوب كثيرة في الفاتحين مع الزمن وآثروا الانضمام إليهم بسائق الدين والمصلحة الدنيوية. أما مدينة الكرك فكانت هي عاصمة الموآبيين على ما يقول بعض الجغرافيين وكان اسمها كرك موآب. وكان مقام الموآبيين جنوبي أرنون وامتدوا جنوبا إلى أدوم وهم من نسل لوط اتحدوا على إخوتهم بني عمون وطردوا الرفائيين وسكنوا مكانهم حاربهم شاول وانتصر بهم بحسب رواية التوراة وعند ملك موآب أودع داود ولديه من وجه شاول وقيل أن ملك موآب قتلهما فقتل داود منهم ثلاثين ألفا ووضع الباقين تحت الجزية وقد ساعدوا بخننصر في حصار أورشليم واسترجعوا بعد السبي أملاكهم القديمة. وعدّ ياقوت بلاد مآب مدينة واحدة فقال وهي على طرف الشام من نواحي البلقاء قال أحمد بن محمد بن جابر توّجه أبو عبيدة بن الجراح في خلافة أبي بكر في سنة 13 بعد فتح بصرى بالشام إلى مآب من أرض البلقاء وبها جمع العدد فافتتحها على مثل صلح بصرى وقيل أن فتح مآب قبل فتح بصرى وينسب إليها الخمر قال حاتم طي: سقى الله رب الناس سحاً وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زغر بلاد امريء لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي ولا يعرف الكدر وقال عبد الله بن رواحة الأنصاريّ: فلا وأبي مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم ولم يقل ياقوت أن الكرك عاصمة بلاد مآب بل قال أنها قلعة حصينة جدا في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها بين أيلة وبحر القلزم والبيت المقدس وهي على سن جبل عال تحيط به أودية إلا من جهة الربض. وفي المرآة الوضية وإلى جنوبي نهر الزرقاء إلى نهر الموجب البلقاء وشماليها جبل الصلت وليس فيهما موضع مسكون إلا قرية الصلت ومن مواضعها القديمة جلعاد وعمون وهي الآن عمان وحشبون وهي الآن حسبان والعال ونبا وماعين وعراعر وديبان وفي جنوب هذه المقاطعة كانت قديما أرض بني عمون وإلى جنوبي النهر الموجب وهو نهر

أرنون أيضا وإلى الإحساء أرض الكرك وهي أرض موآب أو أرض قوم لوط ومن قراها الكرك وهي كير موآب وربة هي رابة موآب وزعراء ويقال أنها صاغر التي هرب إليها لوط لما نجا من سادوم. وقال ياقوت أن البلقاء كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى قصبتها عمان وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة وبجودة حنطتها يضرب المثل ومن البلقاء قرية الجبارين التي أرادها الله تعالى بقوله: إن فيها قوما جبارين والبلقاء مدينة الشراة شراة الشام وهي أرض معروفة ونبس إليها عدد من الرواة والنسبة إليها بلقاوي. وقال أن الشراة صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في أيام بني مروان ونبس إليها بعض الشراة والنسبة إليها شروي. وذكر ياقوت أيضا أن عمان بلد في طرف الشام وكانت قصبة أرض البلقاء وروى عن أبي عبد الله محمد بن أحمد البشاري عمان على سيف البادية ذات قرى ومزارع ورستاقها البلقاء وهي معدن الحبوب والأنعام بها عدة أنهار وأرحية يديرها الماء ولها جامع ظريف في طرف السوق مسقف الصحن شبيه مكة وقصر جالوت على جبل يطل عليها وبها قبر أورياء النبي عليه السلام وعليه مسجد وملعب سليمان بن داود عليه السلام وهي رخيصة الأسعار كثيرة الفواكه غير أن أهلها جهال والطريق إليها صعبة قال الأحوض بن محمد الأنصاري: أقول بعمان وهل طربي به ... إلى أهل سلع أن تشوقت نافع أصاح ألم يحزنك ريح مريضة ... وبرق تلالا بالعقيقين لامع وأن غريب الدار مما يشوقه ... نسيم الرياح والبروق اللوامع وكيف اشتياق المرء يبكي صبابة ... إلى من نأى عن داره وهو طامع وقد كنت أخشى والنوى مطمئنة ... بنا وبكم من علم ما الله صانع أريد لأنسى ذكرها فيشوقني ... رفاق إلى أرض الحجاز رواجع وقال الخطيم العكلي اللص يذكر عمان (بفتح العين) أعوذ بربي أن أرى الشام بعدها ... وعمان ما غنى الحمام وغرد

فذاك الذي استنكرت يا أم مالك ... فأصبحت منه شاحب اللون أسودا وأن لماضي العزم لو تعلمينه ... وركاب أهوال يخاف بها الردى ونسب إليها بعض الرواة والنسبة عماني. هذا ما قاله صاحب معجم البلدان وفي كلامه على بلاد مآب والبلقان وأي المدائن كانت عاصمة تلك الكورة كلام لا يمكن للمرء أن يجزم بأن البلدة الفلانية كانت قاعدة البلاد والغالب أن الحكومة الإسلامية كانت تنتقل في هذه المدن فتارة في عمان وأخرى في الكرك والمفهوم من النصوص الآنفة الذكر أن تلك البلاد كانت قبيل الإسلام وبعده بقرون عامرة بالسكان وفيها قرى ومزارع كثيرة. وتاريخ هذه البلاد مبعثر جدا قبل الإسلام وبعده وليس لدينا من النصوص التي من الممكن أن يستأنس بها إلا ما رواه ياقوت في معجمه من أسماء قرى كانت في وادي موسى وموآب والبلقاء قال: (مؤتة) قرية من قرى البلقاء في حدود الشام وقيل موتة من مشارف الشام وبها كانت تطبع السيوف وإليها تنسب المشرفية من السيوف قال ابن السكيت في تفسير قول كثير إذا الناس ساموكم من الأمر خطة ... لها خطة فيها السهام الممثل أبى الله للشم الأنوف كأنهم ... صوارم يجولها بمؤتة صيقل قال المهلبي مآب وإذرح مدينتنا الشراة على اثني عشر ميلا من إذرح ضيعة تعرف بمؤتة بها قبر جعفر بن أبي طالب بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها جيشاً في سنة ثمان وأمر عليهم زيد بن حارثة مولاه وقال أن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب الأمير وأن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدوّ وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها موتة فالتقى الناس عندها فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقاتل زيد حتى قتل فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل فأخذ الراية عبد الله بن روحة فكانت تلك حاله فاجتمع المسلمون إلى خالد بن الوليد فانحاز بهم حتى قدم المدينة فجعل الصبيان يحثون عليهم التراب ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار لكنهم الكرار إن شاء الله وقال حسان بن ثابت:

فلا يعدن الله قتلى تتابعوا ... بموته منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبد الله هم خير عصبة ... تواصوا وأسباب المنية تنظر وقال: (الموجب) بلد بالشام بين المقدس والبلقاء وقال: في (أبنى) بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر بوزن حبلى موضع الشام من جهة البلقاء جاء ذكره في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حيث أمره بالمسير إلى الشام وشهر الغارة على أبنى وفي كتاب نصر أبنى قرية بمؤتة. وقال: (اذرح) أهم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. وبين اذرح والجرباء ثلاثة أيام وقيل ميل واحد (والثاني أصحّ) وأقل لأن الواقف في هذه ينظر هذه (والجرباء) موضع من أعمال معان بالبلقاء من أرض الشام قرب جبل الشراة من ناحية الحجاز وهي قرية من اذرح وبينهما كان أمر الحكمين بين عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري. وقال: (زيزاء) من قرى البلقاء كبيرة يطوءها الحاج ويقام بها لهم سوق وفيها بركة عظيمة واصلة في اللغة المكان المرتفع ولذلك قال ذو الرمة: تحدر عن زيزائه القف وارتقى ... عن الرمل وانقادت إليه الموارد وقال مليح: تذكرت ليلى يوم أصبحت قافلا ... بزيزاء والذكرى تشوق وتشغف غداة ترد الدمع عين مريضة ... بليلى وتارات تفيض وتذرف ومن دون ذكراها التي مطرت لنا ... بشرقي عمان الشرى والمعرف وأعملت من طود الحجاز جنوده ... إلى الغور ما اجتاز الفقير ولفلف وقال: (السواد) نواحي قرب البلقاء وسميت بذلك لسواد حجارتها فيما احسب وقال: (شتار) نقب شتار بكسر الشين نقب من جبل من جبال الشراة بين أرض البلقاء والمدينة على شرقي طريق الحاج يفضي إلى أرض واسعة معشبة يشرف عليها جبال فاران وهي في قبلي الكرك. وقال: (صرفة) قرية من نواحي مآب قرب البلقاء يقال بها فبر يوشع بن نون. وقال: (الصمان) من نواحي الشام بظاهر البلقاء قال حسان بن ثابت:

لمن الدار أقفرت بمعان ... بين شاطي اليرموك فالصمان فالقريات من بلاس فدا ... ريا فسكاء فالقصور الدواني وقال: (علعال) جبل بالشام مشرف على البثينة بين الغور وجبال الشراة. وقال: (طفيل) تصغير طفل وادي طفيل بين تهامة واليمن عن نصر وبوادي موسى قرب البيت المقدس قلعة يقال لها طفيل عرندل قرية من أرض الشراة من الشام فتحت في أيام عمر بن الخطاب بعد اليرموك. وقال: (جادية) قرية من عمل البلقاء من أرض الشام عن أبي سعيد الضرير وإليها ينسب الجادي وهو الزعفران قال: ويشرق جادي بهن مديف. أي مدوف. وقال: (جبال) من قرى وادي موسى من جبال الشراة قرب الكرك بالشام منها يوسف بن إبراهيم بن مرزوق بن حمدان أبو يعقوب الصهيبي الحبالي والحافظ أبو القاسم. وقال: (الرّبة) بلفظ واحدة الرباب عين الربة قرية في طرف الغور بين أرض الأردن والبلقاء. وقال: (زغر) قرية بمشارف الشام وإياها عنى أبو دؤاد الايادي حيث قال: ككتابة الزغري زي ... نها من الذهب الدلامص قال وقيل زغر سام بنت لوط عليه السلام نزلت بهذه القرية فسميت باسمها وقال حاتم الطائيّ: سقى الله رب الناس سحا وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زغر بلاد امرئ لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي ولا يطعم الكدر وقال: (المشارف) جمع مشرف قرى قرب حوران منها بصرى من الشام ثم من دمشق إليها تنسب السيوف المشرفية رد إلى واحده ثم نسب إليه. وفي مغازي ابن إسحاق في حديث موته ثم مضى الناس حتى إذا كانوا في تخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها المشارف. وقال: (معان) بالفتح وآخره نون والمحدثون يقولون بالضم وإياه عنى أهل اللغة منهم الحسن بن علي بن عيسى أبو عبيد المعني الأزدي المعاني من أهل معان البلقاء والمعان المنزل يقال الكوفة معاني أي منزلي قال الأزهري: وميمه ميم مفعل وهي مدينة في طرف

بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى موتة فيه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فساروا حتى بلغوا معان فأقاموا بها وأرادوا أن يكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمن تجمع من الجيوش وقيل قد اجتمع من الروم والعرب نحو مائتي ألف فنهاهم عبد الله بن رواحة وقال إنما هي الشهادة أو الظعن ثم قال: جلبنا الخيل من أجاءٍ وفرع ... تغر من الحشيش لها العكوم حذوناهم من الصوان سبتاً ... أزل كأن صفحته أديم أقامت ليلتين من معان ... فأعقب بعد فترتها جموم فرحنا والجياد مومسات ... تنفس من مناخرها السموم فلا وأبي مآب لأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم بذي لجب كأن البيض فيها ... إذا برزت قوانسها النجوم وروى يا قوت عن أبي محمد الأعرابي في قول الزاجر: يا عمرو قارب بينها تقرب ... وارفع لها صوت قوي صلب واعص عليها بالقطيع تغضب ... ألا ترى ما حال دون المقرب من نعف فلا فدباب المعتب قال_فلا_من دون الشام والمعتب واد من مآب بالشام ومآب كورة من كور الشام ودباب ثنايا يأخذها الطريق. وقال: (تنهج) اسم قرية فيها حصن من مشارف البلقاء من أرض دمشق سكنها شاعر يقال له خالد بن عباد ويعرف بابن أبي سفيان ذكره الحافظ أبو القاسم. وقال: (التيه) الموضع الذي صل فيه موسى بن عمران عليه السلام وقومه وهي أرض بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال الشراة من ارض الشام يقال أنها أربعون فرسخاً في مثلها وقيل اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ وإياه أراد المتنبي بقوله: ضربت بها التيه ضرب القما ... ر أما لهذا وإما لذا وقال: (الحميمة) بلد من أرض الشراة من أعمال عمان في أطراف الشام كان منزل بني

العباس. وقال: (نقنس) بكسر أوله وثانيه ونونه مشددة من قرى البلقاء من أرض الشام كانت لأبي سفيان بن حرب أيام كان يتجر إلى الشام ثم كانت لولده وبعده. وقال: (النقيب) بالضم وهو تصغير نقب وهو معروف موضع في بلادهم بالشام بين تبوك ومعان على طريق حاج الشام. وقال: (وسادة) موضع في طريق المدينة من الشام آخر جبال حوران ما بين يرفع وقراقر. وقال: (الوعيرة) كأنه تصغير الوعرة حصن من جبال الشراة قرب وادي موسى. هذا ما تيسر تلقفه من معجم البلدان وليس من أسماء هذه البلاد شيءٌ يعرف الآن فيما نحسب إلا قرية أو قريتان مثل عمان ومعان وما عدا ذلك فقد دثر وأصبح خراباً يباباً تدل آثاره عليه وقد بدأ الخراب الحقيقي في هذه البلاد على عهد الصليبيين وكان أشهر حصونها الكرك والشوبك فقد أخذ بغودين من ملوك الصليبيين الشوبك وعمره في سنة تسع وخمسمائة وكان قد خرب من تقادم السنين والشوبك هي في رواية مسريقة وقال القرماني: شوبك بلدة صغيرة كثيرة البساتين من أعمال الشام غالب أهلها نصارى وهي شرقي الغور على طرف الشام من جهة الحجاز وينبع من تحت قلعتها عينان وقلعتها على تل مرتفع مطل على الغور. وفي الأنس الجليل أن السلطان صلاح الدين لما كان في بلاد أنطاكية ولم يزل الحصار على الكرك وكان أخوه الملك العادل عين معه على حفظ البلاد وكان صهره سعد الدين كمشه بالكرك موكلاً بحصاره فراسل الإفرنج الملك العادل في الأمان فامتنع ثم صالحهم وسلموا الحصن. ولم يكن للكر ك شأن كبير قبيل الحروب الصليبية ثم غدت عاصمة مملكة يعرف صاحبها بملك الكرك أو صاحب الكرك على عهد صلاح الدين ومن بعده عهد الجراكسة والغالب أن موقعها الحربي المهم وتوسطها تقريباً بين مصر والشام وكان إذ ذاك حكومتهما واحدة هيأ لها ذلك. قال القرماني: كرك بليدة مشهورة وبها حصن عال على قلعة جبل يقال أنه كان دير الروم وجعله المسلمون حصناً فيها قبر جعفر الطيار وأصحابه وفي أسفله وادٍ في حمام وبساتين كثيرة وكان من دأب ملوك الترك والجراكسة كلما خلعوا سلطاناً أرسلوه إلى الكرك.

أما الكرك أو قلعتها فهي كانت وما زالت من أعظم حصون سورية ولذلكم احتلها الصليبيون وحرص صلاح الدين وأسرته أن يسترجعوها منهم لأنها مفتاح القطرين بل القطر المصري والشامي والحجازي ولذلك تجد ذكرها يتردد كثيراً في التاريخ منذ استولى على الإفرنج إلى أن انقضت دولة الجراكسة في مصر والشام على يد السلطان سليم العثماني سنة 922 هـ. ولطالما كانت الكرك موعداً للقاء وميداناً لإرهاق الدماء وتكافح الناس في جوارها على امتلاكها كفاحاً وأي كفاح بيعت فيه إلى الأرواح والأشباح بيع السماح وهاك الآن مثالاً من صحف التاريخ المنسية تعتبر بها وتزدجر. قال أبو الفدا في حوادث سنة ثمان وستين وخمسمائة وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك وسار نور الدين من دمشق إلى أن وصل إلى الرقيم وهو بالقرب من الكرك. والرقيم هو كما قال ياقوت أيضاً بقرب البلقاء من أطراف الشام عنها كثيراً بقوله وكان يزيد بن عبد الملك ينزله وقد ذكره الشعراء: أمير المؤمنين إليك نهوي ... على البخت الصلادم والعجوم إذا اتخذت وجوه القوم نصباً ... أجيج الواهجات من السموم فكم غادرن دونك من جهيض ... ومن نعل طرحة جذيم يزرن على تنائيه يزيداً ... بأكناف الموقر والرقيم تهنئة الوفود إذا أتوه ... بنصر الله والملك العظيم والموقر حصن بالبلقاء قال فيه ياقوت أنه اسم موضع بنواحي البلقاء من نواحي دمشق وكان يزيد بن عبد الملك ينزله قال جرير: ما شاعت قريش للفرزدق خزية ... وتلك الوفود الناديون الموقرا عشية لاقى القين قين مجاشع ... هزيراً أبا شبلين في الفيل قسوراً وقال كثير: سقى الله حياً بالموقر دارهم ... إلى قسطل البلقاء ذات المحارب وقد نشأ من الموقر جملة من المحدثين والنسبة إليها موقري وصرح الشاعر بأن الموقر من

أرض الشام فقال: أذنت علي اليوم إذ قلت أنني ... أحب من أهل الشام أهل الموقر بها ليل شم عصمة الناس كلهم ... إذا الناس جالوا جولة المتحير وقال كثير عزة: أقول إذا الحيان كعب وعامر ... تلاقوا ولقتنا هناك المناسك جزى الله حياً بالموقر نضرة ... وجادت عليه الرائحات الهواتك يكل حثيث الوبل زهر غمامه ... له درر بالقسطلين مواشك وفي حوادث سنة ثمان وسبعين وخمسمائة أن البرنس صاحب الكرك عمل أسطولاً في بحر أيلة (وهي مدينة على ساحل بحر القلزم أو الأحمر مما يلي الشام) وساروا في البحر فرقتين فرقة أقامت على حصن ايلة يحصرونه وفقة نحو عيذاب يفسدون في السواحل ويفنون المسلمين في تلك النواحي فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجاً قط فعمر الملك العادل أبو بكر أيوب أسطولاً في بحر عيذاب وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ وهو متولي الأسطول بديار مصر فأوقع الذين يحاصرون أيلة فقتلهم وأسرهم ثم سار في طلب الفرقة الثانية وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة وسار لؤلؤ يقفوا أثرهم فبلغ رابغ فأدركهم بساحل الحورا وتقاتلوا أشد قتال فظفر بهم وقتل أكثرهم وأخذ الباقين أسرى وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها وعاد بالباقين إلى مصر فقتلوا عن آخرهم. وفي السنة التالية سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزوة وكتب إلى مصر فسارت عساكرها إليه ونازل الكرك وحصره وضيق على من به ملك ربض الكرك وبقيت القلعة وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب وقصد السلطان صلاح الدين طمه فلم يقدر لكثرة المقاتلة فجمعت الفرنج فارسها وراجلها فقصدوه فلم يكن للسلطان إلا الرحيل فرحل عن الكرك وسار إليهم فأقام في أماكن وعرة وأقام السلطان قبالتهم وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك فعلم بامتناعه عليه فرحل عنه. وبعد وقعة حطين كان السلطان صلاح الدين بعد أن سار إلى البلاد الشمالية قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها وخلى أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فأمر الملك العادل المباشرين بحصارها بتسلمها فتسلموا الكرك

والشوبك وما بتلك الجهات من البلاد. قال ياقوت في الشوبك إنها قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإيلة والقلزم قرب الكرك وذكر يحيى بن علي التنوخي في تاريخه أن يقدور الذي ملك الفرس سار في سنة 905 إلى بلاد ربيعة من طيء وهي باق والشراة والبلقاء والجبال ووادي موسى ونزل على حصن قديم خراب يعرف بالشوبك بقرب وادي موسى فعمره ورتب فيه رجاله وبطل السفر من مصر إلى الشام بطريق البرية مع العرب بعمارة هذا الحصن. وبعد وفاة صلاح الدين ظلت الكرك والشوبك والبلاد الشرقية بيد الملك العادل سيف الدين أبو بكر ابن أيوب. تقدم أن حصن الشوبك كان من جلة الحصون التي يتنافس فيها الفاتحون في هذه الديار وهو على 19 ساعة من الكرك يؤيد ذلك ما رواه أبو الفدا في حوادث سنة 625 هـ من أن الملك الكامل صاحب مصر أرسل بطلب ابن أخيه الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب دمشق حصن الشوبك فلم يعطه إياه ولا أجابه إليه فسار الملك الكامل من مصر إلى الشام بقصد استخلاص الشوبك وغيره. وفي حوادث سنة 629 إن الملك الكامل سار من دمشق إلى الشوبك واحتفل له الملك الناصر داود بن المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب احتفالاً عظيماً بالضيافات والإقامات والتقادم وحصل بينهما الاتحاد العام وكان نزول الملك الكامل باللجون قرب الكرك وهي منزلة الحجاج. وفي سنة 633 فترت العلائق بين الملك الناصر داود صاحب الكرك وبين عمه الملك الكامل صاحب مصر فسار الأول إلى بغداد ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر لما حصل عنده من الخوف فأصلح الخليفة بينهما وعاد الناصر إلى الكرك وفي سنة 635 جرى بين الملك الناصر داود صاحب الكرك وبين الملك الجواد يونس المتولي على دمشق مصاف بين جنين ونابلس انتصر فيه الملك الجواد يونس وانهزم الملك الناصر هزيمة قبيحة ونهب عسكره وأثقاله وللناصر هذا وقائع مع أسرته وغيرهم ولكن بني أيوب ومن بعدهم على تنافسهم في الملك كانوا يداً واحدة على أعدائهم الصليبيين حين الحاجة لأن هؤلاء لم تكن انقطعت شأفتهم كلها من بلاد الشام. وفي سنة 644 سار الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ من قبل الملك الصالح إلى حرب

الملك الناصر داود صاحب الكرك فاستولى على جميع بلاد الملك الناصر وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها وخرب ضياعها وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً ولم يبق بيده غير الكرك وحدها. وفي سنة 647 استولى لملك الصالح أيوب صاحب الديار المصرية على الكرك وفي السنة التالية ملك القلعتين الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين وكان اعتقله الملك المعظم تورانشاه في الشوبك فلما قتل هذا بادر النائب عليهما وهو بدر الدين الصوابي الصالحي فأفرج عن الملك المغيث وملك الحصنين وفي سنة 656 انضمت البحرية إلى المغيث صاحب الكرك والتتر مع عسكر مصر في غزة فكانت الكسرة على المغيث ومن معه فولى منهزماً إلى الكرك في أسوء حال ونهبت أثقاله ودهليزه. وفي سنة 657 حاصر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق والملك المنصور صاحب حماة الملك المغيث صاحب الكرك بسبب حمايته البحرية وأقاموا على بركة زيزاء (التي يحرفها العامة بجيزة اليوم) ما يزيد على شهرين وفي سنة 660 قتل الملك المغيث صاحب الكرك قتله الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر لأنه كتب أجوبة على مكاتبات من التتر إلى الملك المغيث في أطماعهم في ملك مصر والشام ورتب الظاهر أمور الكرك وعاد إلى مصر. وفي سنة 680 استقر الصلح بين السلطان الملك المنصور قلاوون وبين الملك خضر ابن الملك الظاهر بيبرس صاحب الكرك. وفي سنة 708 سار الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية متوجهاً إلى الحجاز فسار إلى الكرك وكان النائب بها جمال الدين أقوش الأشرفي فعمل سماطاً واحتفل بع وعبر السلطان إلى المدينة ثم إلى القلعة ولما عبر السلطان على الجسر إلى القلعة والأمراء ماشون بين يديه والمماليك حول فرسه وخلفه سقط بهم جسر قلعة الكرك وقد حصلت يد فرس السلطان وهو راكبه داخل عتبة الباب فلما أحس الفرس بسقوط الجسر أسرع حتى كاد أن يدوس الأمراء الماشين بين يدزيه وسقط من مماليك السلطان خمسة وثلاثون إلى الخندق وسقط غيرهم من أهل الكرك ولم يهلك من المماليك غير شخص واحد لم يكن من الخواص ونزل في الوقت السلطان عند الباب وأحضر الجنوبات والحبال ورفع الذين وقعوا عن آخرهم وأمر بمداواتهم وعادوا إلى ما كانوا عليه وكان ارتفاع الجسر الذي سقطوا منه إلى الخندق يقارب خمسين ذراعاً.

ولما تولى الملك الناصر أحمد بن الملك الناصر بن محمد بن قلاوون في الكرك أقام فيها أياماً في لهو ولعب فأنكروا عليه أموراً لا تليق بالسلطنة فاتفق أهل الشام على خلعه وأرسلوا إلى المصريين في ذلك فأجابوهم وسلطنوا أخاه الصالح إسماعيل ووردت المراسيم إلى جميع ولايات الأعمال الشامية بتجريد العشرات وغيرهم إلى الكرك وعينوا على معاملتي صيداء وبيروت خمسماءة راجل فذهبوا إليها سنة 743 ووجدوا في القلعة ومع السلطان أحمد خلقاً كثيراً وقد نصبوا على القلعة في أعلاها خمسة مجانيق ومدافع كثيرة وكان الكركيون يظهرون من باب القلعة ويقاتلون أحياناً كثيرة وكان الحصار والزحف مستمراً ونصب المحاصرن على القلعة منجنيقاً يرمي بحجارة وزنها خمسة وثلاثون رطلاً. وكان يحكى عن السلطان أحمد أنه كان شاباً حسن الشكل عبل البدن وكان يلبس ملبوس العرب ووسع أكمامه على زي الكركيين وكان يظهر لهم أنه لبس هذا الزي محبة فيهم. وكان يجلس كل يوم بين شراريف القلعة ويرمي سبعة سهام صيغت لها نصولها من فضة موشاة بذهب كانت تدل على قوة قوسه وكان إذا أراد أن يرمي السهم رفع يده التي فيها القوس فيسقط كمه من سعته إلى كتفه حتى يبان شعر إبطه وكان غليظ الذراع أبيض اللون ورأوا له سهماً في حصار الكرك وقد نقش عليه هذان البيتان: ومن جودنا نرمي العداة بأسهم ... من الذهب الإبريز صيغت نصولها يداوي بها المجروح منها جراحه ... ويشري بها الأكفان منها قتيلها وهما للأمين بن هرون الرشيد وكان لما حضره عبد الله بن طاهر في بغداد بعساكر أخيه المأمون صنع نصول النشاب من خالص الذهب ونقش عليها هذين البيتين. ولما دخلت سنة أربع وأربعين ضعفت حالة السلطان أحمد والكركيين وكان زرعهم قد رعي رعاه التركمان والعربان وكان أكثر دورابهم قد نهبت وانقطع عنهم الجلب وحالهم في ضعف وأخذت قلعة الكرك سنة خمس وأربعين وسبعمائة وأخذ سلطانها وقتل وذلك بعد أن تجمعت عساكر الشام على حصارها زهاء سنتين. وبعد فليس في التاريخ ولاسيما من بعد دخول الدولة العلية إلى هذه البلاد شيءٌ ينقل ليفيد في حالة بلاد الكرك اللهم ما كان من انتقاض أهالي هذه البلاد على إبراهيم باشا المصري لما فتحها أيام دخوله إلى سورية في أوائل القرن الماضي ونظم إدارتها وجعل لها حامية

من جنده فلم يمض إلا قليل حتى تمرد السكان وقاموا فذبحوا الحامية والموظفين عن بكرة أبيهم حتى أنهم قتلوا كتيبة من جنده كانت آيبة إلى مصر فضللوها في الطريق وأهلكوها إلا قليلاً كما ارتكبوا مثل هذا المنكر هذه المرة ولم يفلحوا. ويؤخذ بالقرينة أن معظم البلاد أصبحت بادية بعد هذه الوقعة لغلبة الجهل واختلال الإدارة وظلم العمال وكذلك حال القرى يعرف ذلك كل من طاف في أقضية اللواء الأربعة فإنه يشاهد خرباً ومياهاً سائبة فقد كان في قضاء الصلت وارض بني صخر وأرض بني صخر نحو ثلثمائة قرية وعدة مدن عامرة وليس فيها اليوم سوى خمس عشرة قرية عامرة بعض الشيء. وبعض الخرب في اللواء بيد العرب المزارعين وبعضها شاغرة ملك للحكومة. وبدو الكرك كثيرون فمنهم في قضاء الصلت الدعجة والأيديات وأبي نعيم والشوايكة والأبووندي والعجارمة والميطرون والحرافيش وأراسفة والمشالخة والفاعور والربيع وبنو صخر وهم يقسمون إلى الزبن والهكيش والحفير والقبعين والفايز ومجموع بيوتهم نحو 4500 بيت وأشهرها بنو صخر وهي 700 بيت والعدوان وهي 500 والعباد 800 والأرض التي تنزلها هذه القبائل شرقي نهر الشريعة وغربي البادية وشمالاً وادي الوالا ووادي الثمد وجنوباً ماء الزرقاء والحدود الفاصلة بين عجلون والصلت وسكان القضاء كله نحو أربعين ألفاً وهو أعمر أقضية الكرك. وفي قضاء الطفيلة نحو عشرين ألفاً من النفوس وهذه أسماء عشائرهم: الحميدات وهي أعظمها مؤلفة من خمسمائة بيت وعبيدين ثقرب نفوسها من الحميدات والبحارات مثلها أيضاً والكلالدة والوهيبات والهلالات وعشيرة المناعين وهي رحالة تقضي أكثر أيامها في الجوف بالقرب من نجد وتنزل القضاء بعد اشهر بين محطة الجروف ومدينة الطفيلة وفي هذه المدينة 12 ألفاً من السكان الحضر. وفي قضاء معان عشائر وأفخاذ وأهمها الحويطات ومنها الدمانية وأبوتاية والمطالقة ومنها البدول والشوبك والنعيمات والدبابات والعمامرة والمراعية والدرواشة والعطون والزوايدة والطقاطقة والعمارين والرشايدة والسعيديين والراجفة. وفي قضاء معان أيضاً ينزل بنو عطية وهم يقسمون سبعة أقسام منهم المزايدة والخضرة والشبوت والهرامسة ومنازلهم من

المدورة إلى تبوك. أما عشائر قضاء الكرك فكثيرة وهي أغوات. اللصايمة. بنو حميدة. بياضة. جلامدة. حباشنة. خرشة. خنزيرة. دنيبات. كفاوين. ضمور. حجايا. سليط. شمايلة. صرايرة. صعوب. طراونة. العمرو. عراق. عكشة وحجازين. غور الصافي. غور المزرعة. فقرا. قطاونة. قضاء. كثر ربة. معايطة. مجالي. مبيضين. مصاروة. مدانات. بقاعين. نوايسة. نعيمات. هلسة. هذه فرق عشائر الكرك وأهمها وأكثرها عدداً بنو حميدة. سليط. حجايا حباشنة. ضمور. صرايرة. طراونة. كثرربة. معايطة. وتقسم عشيرة بني حميدة إلى ثلاث فرق (حمولات) وهي أبو بريز وابن طريف وأبو ربيحة. وينقسم ابو بريز إلى فرقتين وهما الفواصلة والتوايهة. وكل منها يقسم إلى أربع جماعات لكل جماعة شيخ. وتنقسم عشيرة ابن طريف إلى ست فرق وهي ابن طريف. رواحلنة. الحيصة. الضرابعة. الشخامية. شقور وحمادين. بصيرة وتنقسم عغشيرة أبي ربيحة إلى اربع فرق. وهي الشراونة وحواتمة. هواوشة. اللوانسي. قواسمة. وتنقسم عشيرة سليط إلى فرقتين بحارات ورجيلات. وتتألف عشيرة الحباشنة من العرود والجعافرة. وتتألف الضمور من محمود وسحميات والطراونة من عيال جبرين وعيال جبران. ومجامعة وعيال عودة. أما كثرربة فهي قرية يسكنها فرقتان وهما القراللة والرماضنة. ويتألف القراللة من زعيسلات سالم وزعيلات سعيد وسلامات ومهاينة ومخاترة. ويتألف الرماضنة من الرواشدة والخثاتنة وشواورة وكساسبة ومطارنة وجوازنة. وتتألف عشيرة المعايطة من فرقة ساهر ويوسف. ويتألف النعيمات من العبادلة والجعافرة والأحامدة ويتألف الحجايا من محموديين وهدايات وهؤلاء الحجايا لا يزرعون ولا يفلحون بل هم بادية. والعشائر التي لها شأن عند الحكومة هي. المجالي. طراونة. ضمور. معايطة. صرايرة. مدانات. هلسة. أما العشائر التي لها نفوذ على العشائر نفسها فهي المجالي. سليط. حجايا. طراونة. بنو حميدة. هذه اسماء العشائر وفرقها ومكانتها أما أماكن نزولها فإن فرق أبي ربيحة. أبي بريز. شخامية. الحيصة. الرواحنة من عشيرة بني حميدة وسليط وكعابنة والفقراء كلهم ينزلون

تحت الخيام في ناحية ديبان من أعمال مركز اللواء. وحدود بيان هذه من القبلة نهو الموجب ومن الشمال اللب ومن الغرب بحر لوط ومن الشرق أم الرصاص في بقعة من الأرض سهلية جبلية يبلغ عرضها أربع ساعات وطولها سبع ساعات. ولا تجد شرقي أم الرصاص أرضاً تزرع ومركز ناحية ديبان وادي الوالا وهو على أحد عشرة ساعة عن مركز اللواء. إليك على جملة أسماء العشائر المزارعة وهي معدودة بادية رحالة في هذا اللواء والحكومة تستوفي منها إلى اليوم عشراً مقطوعاً وخراجاً مقطوعاً وودياً (تعداد الجمال وتعداد الغنم) مقطوعاً أي أنها تفرض على كل حمولة أو عشيرة قدراً من المال وتطالب به من وجدتهم منهم فيكون بذلك مجال لظلم الضعاف من هذه القبائل يرهقهم مشايخهم منزله وقد يأخذونه بجريرة جاره أو أخيه فإن بعض أولئك البدو قد يهربون في بعض سني المحل أو لغرض آخر فلا يلبث عمال الدولة أن يستوفوا من أبناء تلك القبيلة ما هو في ذمة الهاربين وكثيراً ما تقاضت الحكومة من واحد يفرض على خمسة من عشيرته. مثال ذلك أن العمامرة من الحويطات كانوا أغنياء على عهد تأسيس اللواء أي منذ سبع عشرة سنة فلم تمض بضع سنين حتى أصبحوا أفقر الفقراء يتلك القاعدة السخيفة في الإدارة وتفرقوا تحت كل كوكب ومنهم من انقلب إلى حسمه وغزة أو أوغل في البادية إلى نجد والشرق. نعم إن الحكومة حتى الآن لم تعمل لعمران اللواء من شأنه رفع الحيف وكشف الظلامات لتعمر البلاد بل على العكس أتت ما خرب به عمرانها وابذعرّ سكانها فبدلاً من أن ترسل لهم واعظاً يعلمونهم بلغتهم بعثوا إليهم في الدور البائد تسعة من الأتراك تحت اسم وعاظ لا يعلمون العربية فاشتغلوا سنين بالتجسس وبث المفاسد وبهذا تأصلت النفرة في قلوب القوم بدلاً من تأليف شاردهم وساعد على ذلك في الأكثر انحطاط طبقة اكثر الموظفين الذين يعينون في أمور الإدارة وبذلك زاد الأهلون مراناًَ على الاحتيال تخلصاً بزعمهم من فساد الحال وركنوا إلى شيخوهم على ظلم فيهم أكثر من حكومتهم التي تريد الخير بهم على الجملة وإن كانت لم تهتد إلى الطريق حتى الآن في اختيار الجياد من العمال. كان الرجاء معقوداً بتأسيس حكومة الكرك أن تغدو عمالتها كلها بعد هذينم العقدين من

السنين جنة لما خصتها به الفطرة من المواهب وتنقلب تلك الخيام السوداء كما قال أحد العرافين دوراً قوراء فأصبحت بسوء الإدارة بيوت ارزاء ولأواء. كاد أولئك البادية يضعون ثقتهم بالحكومة يوم تولى أمرهم إداري يقيم نصاب العدل ويرفع عن عاتقهم عدوان زعمائهم الجاهلين ولكن جرى الأمر على عكس ذلك فأخذ السكان يستضعفون حكومتهم خصوصاً بعد أن قاموا منذ زهاء سنتين وهجموا على دار الحكومة وكان بلغهم أنها تريد إحصاء نفوسهم والحقيقة أنها كانت في صدد انتخاب نائب منهم يمثلهم في مجلس الأمة. ولو أحسن متصرفهم إذ ذاك التصرف صحت عزيمة الحكومة على إنزال العقوبة الشديدة بمن شقوا عصا الطاعة لما حدث اليوم أحدث فخرب العامر والغامر وتضرر الحاكم والمحكوم عليه. فإن يوماً في فتنة يخرب ما لا يعمر في سنين. وعدل ساعة يحيي الأرض أكثر من كل قوة في غير محلها. فوا أسفاه لبلاد مثل هذه تؤوي الملايين من البشر يعيشون من تربتها سعداء وهي اليوم لا ينولها سوى ألوف لا يستفيدون منها ولا يفيدون وها قد زادت اليوم فوق خرابها خراباً. وكانت بالأمس مملكة ذات منعة وهي الآن بما تحيفها من الدمار عبرة لمن اعتبر فسبحان من يشقي ويسعد ويغني ويفقر.

رثاء تولستوي

رثاء تولستوي (تولستوي) تجري آية العلم دمعها ... عليك ويبكي بائس وفقير وشعب ضعيف الركن زال نصيره ... وما كل يوم للضعيف نصير ويندب فلاحون أنت منارهم ... وأنت سراج غيبوه منير يعانون في الأكواخ ظلماً وظلمة ... ولا يملكون البث وهو يسير تطوف كعيسى بالحنان وبالرضى ... عليهم وتغشي دورهم وتزور ويأسى عليك الدين إذ لك لبه ... وللخادميه الناقمين قشور أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه ... أناجيل منها نذر وبشير وتبكيك ألف فوق (ليلى) ندامة ... غداة مشى (بالعامري) سرير تناول ناعيك البلاد كأنه ... يراع له في راحتيك صرير وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائماً ... وقيل (بدير) الراهبات أسير وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه ... وللطب من بطش القضاء عذير * * * إذا أنت جاورت (المعريّ) في الثرى ... وجاور (رضوى) في التراب (ثبير) أو أقبل جميع الخالدين عليكما ... وغالى بمقدار النظير نظير جماجم تحت الأرض عطرنها شذى ... جناهن مسك فوقها وعبير بهن تباهى بطن (حواء) واحتوى ... عليهن بطن الأرض فهو فخور فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى ... فأنت عليم بالأمور خبير أحطت من الموتى قديماً وحادثاً ... بما لم يحصل منكر ونكير طوانا الذي يطوي السموات في غد ... وينشر بعد الطي وهو قدير تقادم عهدانا على الموت واستوى ... طويل زمان في البلى وقصير كأن لم تضق بالأمس عني كنيسة ... ولم يؤوني دير هناك طهور أرى راحة بين الجنادل والحصى ... وكل فراش قد أراح وثير نظرنا بنور الموت كل حقيقة ... وكنا كلانا في الحياة ضرير إليك اعترافي لا لقس وكاهن ... ونجواي بعد الله وهو غفور فزهدك لم ينكره في الأرض عارف ... ولا متعال في السماء كبير

بيان يشم الوحي من نفحاته ... وعلم كعلم الأنبياء غزير سلكت سبيل المترفين ولذني ... بنون ومال والحياة غرور أداة شتائي الدفء في ظل شاهقداة شتائي الدفء أ ... وعدة صيفي جنة وغدير ومتعت بالدنيا ثمانين حجة ... ونضر أيامي غني وحبور وذكر كضوء الشمس في كل بلدة ... ولا حظَّ مثل الشمس حين تسير فما راعني إلا عذارى أجرنني ... ورب ضعيف تحتمي فيجبر أردت جوار الله والعمر منقض ... وجاورته في العمر وهو نضير صباً ونعيم بين أهل وموطن ... ولذات دنيا كل ذاك نذور بهن وما يدرين ما الذنب خشية ... ومن عجب تخشى الخطيئة حور أوانس في داج من الدير موحش ... ولله أنس في القلوب ونور وأشبه طهر في النساء بمريم ... فتاة على نهج المسيح تسير * * * تسائلني هل غير الناس ما بهم ... وهل حدثت غير الأمور أمورا وهل آثر الإحسان الرفق عالم ... دواعي الأذى والشر فيه كثير وهل سلكوا سبل المحبة بينهم ... كما يتصافى أسرة وعشير وهل آن من أهل الكتاب تسامح ... خليق بآداب الكتاب جدير وهل عالج الأحياء بؤساً وشقوة ... وقل فساد بينهم وشرور قم انظر وأنت مالئ الأرض حكمة ... أأجدى نظيم أم أفاد تثير أناس كما تدري ودنيا بحالها ... ودهر رخيٌّ تارة وعسير وأحوال خلق غابر متجدد ... تشابه فيها أول وأخير تمر تباعاً في الحياة كأنها ... ملاعب لا ترخى لهن ستور وحرص على الدنيا وميل مع الهوى ... وغش وأفك في الحياة وزور وقام مقام الفرد في كل أمة ... على الحكم جم يستبد غفير وحوّر قول الناس مولى وعبده ... إلى قولهم مستأجر وأجير وأضحى نفاذ المال لا أمر في الورى ... ولا نهي إلا ما يرى ويشير

نساس حكومات به وممالك ... ويذعن أقيال له وصدور وعصر بنوه في السلاح وحرصه ... على السلم يجري ذكرها ويسيل ومن عجب في ظلها وهو وارف ... يصادف شعباً آمناً فيغير ويأخذ من قوت الفقير وكسبه ... ويؤوي جيوشاً كالحصى ويمير ولما استقل البر والبحر مذهباً ... تعلق أسباب السماء يطير أحمد شوقي. رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى ... لمدحك من كتاب مصر كبير ولست أبالي حين أرثيك بعده ... إذا قيل عني قد رثاه صغير فقد كنت عوناً للضعيف وأنني ... ضعيف وما لي في الحياة نصير ولست أبالي حين أبكيك للورى ... حوتك جنان أو حواك سعير فإني أحب النابغين لعلمهم ... وأعشق روض الفكر وهو نضير دعوت إلى عيسى فضجت كنائس ... وهز لها عرش وماد لها سرير وقال أناس إنه قول ملحد ... وقال أناس إنه لبشير ولولا حطا لرد عنك كيادهم ... لضقت به ذرعاً وساء مصير ولكن حماك العلم والرأي والحجى ... ومال إذ جد النزال وفير إذا زرت رهن المحبسين بحفرة ... بها الزهد ثاو والذكاء ستير وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى ... وشاهدت وجه الشيخ وهو منير وأيقنت أن الدين لله وحده ... وأن قبور الزاهدين قصور فقف ثم سلم واحتشم إن شيخنا ... مهيب على رغم الفناء وقور وسائله عما غاب عنك فأنه ... عليم بأسرار الحياة بصير يخبرك الأعمى وإن كنت مبصراً ... بما لم تخبر أحرف وسطور كأني بسمع الغيب أسمع كل ما ... يجيب به أستاذنا ويحير يناديك أهلاً بالذي عاش عيشنا ... ومات ولم يدرج إليه غرور قضيت حياة ملؤها البر والتقى ... فأنت بأجر المتقين جدير وسموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا ... وما أنت إلا محسن ومجير

وما أنت إلا زاهد صاح صيحة ... يرن صداها ساعة ويطير سلوت عن الدنيا ولكنهم صبوا ... إليها بما تعطيهم وتمير حياة الورى حرب أنت تريدها ... سلام وأسباب الكفاح كثير أبت سنة العمران إلا تناحراً ... وكدحاً ولو أن البقاء يسير تحاول رفع الشر والشر واقع ... وتطلب محض الخير وهو عسير ولولا امتزج الشر بالخير لم يقم ... دليل على أن الإله قدير ولم يبعث الله النبيين للهدى ... ولم يتطلع للسرير أمير ولم يعشق العلياء حر ولم يسد ... كريم ولم يرجو الثراء فقير ولو كنت الخير فينا محضاً ما دعا ... إلى الله داع أن تبلج نور ولا قيل هذا فيلسوف موفق ... ولا قيل هذا عالم وخبير فكم من طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور ألم تر أني قمت قبلك داعياً ... إلى الزهد لا يأوي إليَّ ظهير أطاعوا أبيكيراً وسقراط قبله ... وخولفت فيما أرتئي وأشير ومت وماتت مطامع طامع ... عليها ولا ألقى القياد ضمير إذا هدمت للظلم دور تشيدت ... له فوق أكتاف الكواكب دور أفاض كلانا في النصيحة جاهداً ... ومات كلانا والقلوب صخور فكم قيل عن كهف المساكين باطل ... وكم قيل عن شيخ المعرة زور وما صدر عن فعل الأذى قول مرسل ... ولا راع مفتون الحياة نذير حافظ إبراهيم.

الكواكب السائرة

الكواكب السائرة من المخطوطات في التراجم التي تتصل بطبعها سلسلة تواريخ القرون كتاب الكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرة للنجم الغزي ومنه نسخة جيدة في الخزانة الظاهرية بدمشق دخلت في ثلاثة أجزاء وبلغ عدد أوراقها 164 بالقطع الكامل وفي آخرها جزء رابع جعله المؤلف ذيلاً على كتابه هذا وهو خمسون ورقة قال فيه أنه ألفه لتمام سنة ثلاث وثلاثين بعد الألف وهي السنة التي جاءت بكل عجائب قال وسميته لطيف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر. وقد كتب الأصل والفرع في سنة اثنتين وستين ومئة وألف قال المؤلف بعد مقدمة طويلة: وإني طالما كنت أتشوق إلى تأليف كتاب يجمع التراجم المتأخرين من أهل المئة العاشرة من العلماء الأنجاب فلم أجد من تعرض لهذا المعنى أو دخل في هذا الباب غير أن الشيخ المحدث النحوي شمس الدين محمد بن طولون الحنفي ألف كتاباً جمع فيه تراجم أواخر المئة التاسعة وأوائل المئة العاشرة سماها بالتمتع بالأقران ولم اقف على مجموع هذا الكتاب وإنما وقفت على نحو كراسة منه فاستدللت بالصبابة على العباب ووقفت له أيضاً على الجزء الثاني من تاريخه الذي جعله لحوادث الزمان وسماه بمفاكهة الأخوان وأوله من مستهل سنة سبع وعشرين وتسعمائة إلى ختام سنة إحدى وخمسين فرأيته ذكر فيه وفيات من بلغه وفياتهم في تلك المدة لكنه لم يخرج فيه لتراجمه من عهده ذم وقفت بعد على الجزء الأول منه فرأيته ابتدأ فيه من أول سنة ثمانين وثمانمائة وهي سنة ميلاده وانتهى فيه إلى سنة ست وعشرين وتسعمائة وكنت قد وقفت قبل ذلك على قطعة من تاريخ كتاب الحافظ العلامة بدر الدين العلائي الحنفي في حوادث القاهرة من سنة سبع عشرة وتسعمائة إلى أواخر سنة أربع وثلاثين ثم وقفت على تعلقه بخط والده شخنا الشيخ الإمام الفقيه أبو الندى شرف الدين يونس العيثاوي الشافعي رحمه الله تعالى علق فيها وفيات شيوخه وبعض أقرانه وترجم أكثرهم فذكر من مآثرهم كل مترجم ما يليق بمقامه ومكانه ثم وقفت على قطعة صالحة من تاريخ العلامة شهاب الدين أحمد الحمصي الخطيب الشافعي الذي ضمنه من مهمات الحوادث والوفيات فإذا هو تاريخ عجيب فيه من تراجم القوم ما يغلو في السوم ويحسن له الانتخاب وتحريت فيه بقدر الطاقة والإمكان وجه الحق والصواب وسلكت بين طريقتي الإيجاز والأطناب لأنه أقرب لتناول المقتصدين وأنفع لمن يريد الكشف من أحوال

المترجمين معتمداً فيما أنقله على خطوط هؤلاء المشايخ أو على خط من يوثق به من كل ذي قدر في العلم شامخ وقدم في الفضل راسخ أو على ما تلتقيه من أفواه المعتبرين وأخذته عن الفضلاء البارعين مما يدخل في تراجم الأعيان أو تاريخ مواليدهم أو وفياتهم بحسب الإمكان من أهل القرن المذكور من العلماء الأعلام بدمشق المحروسة وحلب وغيرها وبلاد الشام وعلماء القاهرة والحرمين الشريفين حسبما تيسر لنا مع التحري والاجتهاد في كل مقام وضممت إلى ذلك نبذة من تراجم أعيان التخت العثماني ووفيات أعيان الملك السلطاني ممن اتفقت وفياتهم فيما حدث من الزمان منتخباً لذلك من الشقائق النعمانية ومن رحلة والدي المسماة بالمطالع البدرية ومن غيرهما مما بلغني وتحققته وتلقيته عن الثقات وتلقنته وأضفت إلى ذلك أيضاً من تراجم سلاطين القرن المذكور وملوكه ليتم نظم الكتاب في قلائد عقاينه وسلوكه معتمداً في هذا النوع على كتاب الأعلام بما في مكة من الأعلام للشيخ العلامة المبرز عن الأقران القطب الحنفي المكي عرف بابن قاضي خان وعلى غيره أيضاً مما تيسر لنا الإطلاع عليه في هذا الشأن ثم اني وقفت بعد ذلك على تاريخ العلامة رضي الدين ابن الحنبلي الحلبي الحنفي المسمى بدر الحبيب في تاريخ أعيان حلب وهو كتاب مجلد ضخم ثخين مشتمل على الغث والسمين والتافه والثمين وربما فيه بعض التراجم بما لا يتعلق بالمرام وليس له بفن التاريخ التئام وربما أكمل الأسماء لئلا يخلو الحرف من التراجم بنقاش أو تاجر أو مغن أو مطنبر وعاشق أو معمار أو غيرهم من العوام فانتخبت منه تراجم بعض أعيان كتابه وضممتها إلى كتابي وأعرضت عما لم يقع اختياري عليه مما أتى به وليس في بابه حسبما قضى به تمييزي وانتخابي لأني وضعت هذا الكتاب على أسلوب أهل الحديث والإتقان ولم أرسمه كيف اتفق لا على أي وضع كان ثم وقفت على تاريخ مختصر للإمام المحدث المسند المعتبر ابي المفاخر عبد القادر المحيوي ابن النعيمي الشافعي سماه بالعنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان وقد ذيل عليه ولده العلامة المحيوي محي الدين فانتقيت منه الأغنى لكتابنا عنه ثم وقفت على طبقات الأولياء الكبرى والوسطى وكلاهما للشيخ القدوة الشعراني عبد الوهاب فانتقيت منه ما دخل في شرط كتابي من تراجم الصالحين الأنجاب مع ذكر من ذكرهم الشيخ العلامة الولي المحدث شرف الدين الكناوي من الصالحين ممن يدخل في شروط من تراجم

المتعينين في شرح منظومته التي جعلها في تقييد منظومته التي جعلها في تقييد أسماء مشاهير الأولياء والعارفين ومع ذكر تراجم أعيان من أخذ عن شيخ الإسلام الوالد على العلماء والصالحين والبارعين ممن يدخل في شرك الكتاب أيضاً ملخصاً لذلك من جزء له كتب فيه تراجم جماعة من طلبته والملازمين فكان كتاباً جامعاً لزبد هذه الأمهات ملخصاً لمقاصد جامعيها من العلماء الأثبات وكل ذلك مع توفير القرائن وتهيئة الأسباب وتيسر الجمع والتأليف من قبل الكريم الوهاب وسمته بالكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرةوقد وقع الاختيار فيه بعد تقديم أسماء المحمديين على ترتيب حروف المعجم الواقعة في أوائل أسماء المترجمين وعلى تقسيمه إلى ثلاث طبقات الطبقة الأولى فيمن وقعت وفاته من أوائل القرن إلى ختام سنة ثلاث وثلاثين والطبقة الثانية فيمن وقعت وفاته من أول سنة أربع وثلاثين إلى ختام سنة ست وستين والطبقة الثالثة فيمن وقعت وفاته من أول سنة سبع وستين إلى نهاية سنة ألف اهـ. وترجم صاحب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر المؤلف الغزي في ست ورقات ويؤخذ منها أنه ولد سنة 977 ونشأ على شيءٍ من الطلب وله مؤلفات منها هذا التاريخ ومنها شرحه على ألفية التصوف لجده وله كتاب في ترجمة والده. وله كتاب التنبيه في التشبيه قال فيه المحبي إنه كتاب بديع في سبع مجلدات لم يسبق إلى تأليفه وهو أن يذكر ما ينبغي للإنسان ما يتشبه به من أفعلا الأنبياء والملائكة والحيوانات المحمودة وما يتشبه من اجتناب ما يلزم فعله. وقال أنه خاتمة حفاظ الشام وكانت وفاته سنة 1061 عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وانتفع به أناس كثيرون وتلقوا العلم عنه. إليك زبدة ترجمة المؤلف وعصره كما ترى ليس من العصور الراقية في الإسلام ولذلك تراه على فضل فيه مأخوذاً بمؤثرات عصره يخلط الجيد بالرديء أو يشوب الجيد الكثير بهنات لا تليق بمن كان مثله ولكن هو المحيط يعمل في عقل المرء ما لا يعمله كل تعليم وإرشاد. خذ مثالاً لذلك ما رواه المؤلف في تراجم لأناس تستحي أن تعدهم من العامة لأن العامة أرقى منهم عقلاً وديناً ولعمري أي دخل لكتاب في تراجم أعيان قرن أن يدس في جملتهم أناس لأخلاق لهم خرقوا حدود الشريعة بدعواهم خرق العادات وعبثوا بعقول العامة فسرت

بدعهم إلى الخاصة. قل لنا بأبيك أي داع للمؤلف أن يترجم أناساً من البله السخفاء أرباب الجذب مثل أبي بكر اليمني المجذوب وعبد الله الكردي المجذوب وشعبان المجذوب ومحمد المجذوب وعمر العقيبي المجذوب وابي بكر بن المجنون ومروان المجذوب وذي النون الكملاني المجذوب وأحمد أبو طاقية وفرج المصري المجذوب وخميس المجذوب وسويد ابن المجذوب وسويد المجذوب إلى غيرهم من المجاذيب والمجانين الذين هم أحرى بأن يجعلوا في دور المعتوهين من أن يحشروا في عداد العلماء العاملين أمثال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري والشيخ حسن البوريني والجلال السيوطي والسيدة عائشة الباعونية وغيرهم ممن كانوا منار الأمة في ذاك القرن. تالله أن شيخ الإسلام زكريا والسيدة الباعونية لا يرضيان أن يذكر اسمهما مع أسماء أولئك الذين قضي عليهم باختلال تراكيب أدمغتهم وقضي على الأمة بصنع علماءها أن يقدسوهم ويتباركوا بهم فقابلوا ضعف العقول بضعف مثله والخلل بما هو أشد منه عاراً. ما نظن عاقلاً يرضى بأن يعد في الأولياء سويد المجذوب وهو بإقرار المؤلف يتناول الحشيش فيغيب ويهذي ومثله تلك الطبقة من المجاذيب والمجانين وشيخنا المؤلف يقول للناظرين في كتابه اعتقدوا كما اعتقد بهؤلاء السخفاء. وعلى ذلك فالكتاب ليس من الكتب المنقحة لأن المؤلف لم يشتغل بعلم التاريخ اشتغاله مثلاً بعلم الحديث ولذلك كان كحاطب ليل في بعض صفحات كتابه. وماذا تفيد الأمة ترجمة محمد بن مبارك القابوني مثلاً الذي ترجمه بأنه كان رئيساً في عمل الموالد! ندي الصوت حسنه بعيد النفس عارفاً بالموسيقى إلا أنه كان عامياً يلحن وكان أحد المؤذنين المشهورين بالجامع الأموي ورئيس المؤذنين بالدرويشية والسبائية. إن نفس القارئ ثلج إذا قرأت ترجمة علي بن ميمون مثلاً وكان بعض أهل عصره يعتقدون فيه الخير والصلاح وهو على جانب من العلم فماذا يصر مؤلفنا لو كان اقتصر التعريف بمثله وبغيره من العلماء وأطرح من عداهم ممن لا غناء فيهم إلا تكبير حجم الكتاب وتلويثه بتلك الهنات ربما لا يقع كلامنا هذا الموقع المقبول من قلوب بعض من يحبون أن يحسنوا ظنهم بعباد الله أما المؤرخ والاجتماعي فلا يقنعه من الخلق أن يذكروا كلهم بالحمدة على قاعدة التساوي فيختلط صالحهم بطالحهم وعاقلهم بمجنونهم بل لا يرضى

إلا أن يقدر كل واحد وما يعمل فقد قيل في بعض الآثار اذكروا الفاسق بما فيه وقيمة كل امرئ ما يحسنه. إن ال قول بخرق العادة وتعدي نظام الطبيعة ليس هذا محل الجدال فيه وعلماء الإسلام أنفسهم على اختلاف بينهم فيه ومنهم من تكلم مجمجماً ومنهم من آثر السكوت والسكوت قد يضر في مثل هذا الموطن. أما كرامات الأولياء التي ينسبها بعض أحبابهم لهم وهم لا دعونها على الأغلب على نحو ما نسبوا أموراً للجيلي والرفاعي وغيرهما من العلماء فإنها تدخل في باب خرق العادة وهذه لا ينقل أخبارها إلا من يحملون بها في منامهم أو يقظتهم فإذا كان البشر نسبوا إلى أناس عرفت ترجمتهم على ما يجب أموراً لم يأتوا بها ولا قالوها أفما هم أحرياء أن يلبسوا مع ضعف المدارك على بعض الصالحين كرامات لم تخطر لهم في بال وهاك الآن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى فهو أصرح ما قرأناه وعساه يقف عنده المعتقدون ولا يفوتهم أن كل من قرأ قوانين الوجود وزكن معنى خرق العادة يستحيل عليه أن يؤمن بما نفاه علماء الإسلام حتى في القرون الوسطى قال ابن تيمية: ومن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد أتى بما يناقض ذلك لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي الله فإن هذا إن لم يكن مجنوناً بل كان متولهاً من غير جنون أو كان يغيب عقله بالجنون تارةً ويفيق أخرى وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن كان مجنوناً باطناً وظاهراً قد ارتفع عنه القلم. وقال نقلاً عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة وقال أبي القاسم الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول في كتابه القديم وإن تطيعوه تهتدوا. وقال: نجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد أصدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشي على الماء أحياناً أو يملأ إبريقاً من الهواء أو ينفق

بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور وليس في شيءٍ من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيءٌ من هذه الأمور أنه ولي لله أن يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة مثال ذلك أن هذه المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة بل يكون ملابساً للنجاسات معاشراًَ للكلاب يأوي إلى الحمامات والمقامين والمقابر والمزابل رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف الخ. وبعد هذا ننقل للقارئ نموذجاً من ترجمة المؤلف لرجل جليل في عصره وهو علي بن ميمون دفين مجدل معوش من أعمال شوف لبنان نورده بدون تذييل عليه ليستنتج القارئ لنفسه أن تلك الكرامات التي ينسبها المؤلف للمترجم لم يقل هو بها بل ادعاه له أحبابه ومريديه ومعظمهم قد يكونون مأخوذين بحبه لا ينظرون إلى الواقع إلا من وجه واحد قالالمؤلف ما نصه: علي بن ميمون بن أبي بكر بن ميمون بن أبي بكر بن يوسف بن إسمعيل بن أبي بكر بن عطاء الله بن ميمون بن سليمان بن يحيى بن نصر بن يوسف بن عبد الحميد بن بلتززواز روق (؟) بن وسكرن بن عربه بن هلال بن محمد بن إدريس بن عبد الله ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم كذا في باقي النسب لترجمته ابن طولون الشيخ المرشد المربي القدوة الحجة ولي الله تعالى العارف به السيد الشريف الحسيب النسيب أبو الحسن ابن ميمون الهاشمي القرشي المغربي الغماري الفاسي أصله

كما قال ابن طولون من جبل غارا بالغين المعجمة في معاملة فاس. وقال الشيخ موسى الكنناوي أصله من غمارة وسكن مدينة فاس واشتغل بالعلم ودرس ثم تولى القضاء ثم ترك ذلك ولازم الغزو على السواحل وكان رأس العسكر ثم ترك ذاك أيضاً وصحب مشايخ الصوفية ومنهم الشيخ عرفة القيرواني فأرسل الشيخ عرفة إلى أبي العباس أحمد التوزي الدباسي بالتاء ومن عنده توجه إلى المشرق قال الشيخ موسى فدخل بيروت في أول القرن العاشر وكان اجتماع سيدي محمد بن عراق به أولاً هناك ولما دخل بيروت مكث ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً فاتفق أن ابن عمران كان هناك وأتى بطعام فقال لبعض جماعته ادع لي ذلك الفقير فقام السيد علي بن ميمون وأكل وقال ابن عراق لأصحابه قوموا بنا نزور الإمام الأوزاعي فصحبهم ابن ميمون لزيارته ففي أثناء الطريق لعب ابن العراق على جواده كعادة الفرسان فعاب عليه السيد علي ابن ميمون فقال له أتحسن لعب الخيل أكثر مني قال نعم فنزل ابن عراق عن فرسه فتقدم إليها سيدي علي فحل الحزام وشده كما يعرف وركب ولعب على الجواد فعرفوا مقداره في ذلك ثم انفتح الأمر بينهما إلى أن أشهر الله تعالى الشيخ علي بن ميمون وصار من أمره ما صار. قال الشيخ موسى كذا أخبرني علي الغرباني المغربي عن شيخه علي الكيزواني عن سيدي محمد بن عراق وقال في الشقائق أنه دخل القاهرة وحج مكنها ثم دخل البلاد الشامية وربى كثيراً من الناس ثم توطن بمدينة بروسا ثم رجع إلى البلاد الشامية وتوفي بها وقال كان لا يخالف السنة حتى نقل عنه أنه قال: لو أتاني السلطان أبو يزيد بن عثمان يفرش له جلدة شاة تعظيماً له وكان قوالاً بالحق لا يخاف في الله تعالى لومة لائم وكان له غضب شديد إذا رأى في المريدين منكراً يضربهم بالعصا قال وكان لا يقبل وظيفة ولا هدايا الأمراء والسلاطين وكان مع ذلك يطعم كل يوم عشرين نفساً من المريدين وله أحوال كثيرة ومناقب عظيمة انتهى. وكان من طريقته ما حكاه عنه سيدي محمد بن عراق في كتاب السفينة إنه لا يرى لبس الخرقة ولا إلباسها وذكر الشيخ علوان رضي الله تعالى عنه أنه كان لا يرى الخلوة ولا يقول بها وكان إذا بلغه أن أحداً سبه أو ذمه ونسبه إلى جهل أو فسق أو بدعة يتأول ما يتأول عنه وكان بقال عنه كناز وكيماوي فيقول: نعم أنا كناز وعندي كنز عظيم ولكن لا

يطلبونه ولا يسألوني عنه وأنا كيماوي ولكن لا يطلبون مت عندي من الكيميا وأنا مطالبي وعند مطلب نفسي مزهود فيه ويشير إلى كنز العلم ومطلب المعرفة وكيمياء الحقيقة وكان كثيراً ما يقول جواب الزفوت السكوت. ومن وصاياه اجعل تسعة أعشارك صمتاً وعشرك كلاماً. وكان يقول الشيطان لأوحي وفيض فلا تغتروا بما يجري بنفوسكم وعلى ألسنتكم من الكلام في التوحيد والحقائق حتى تشهدوا من قلوبكم. وكان إذا أتاه متظلم من الحكام يقول: له أصلح حالك مع الله فمن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين خلقه وكان ينهى أصحابه عن الدخول بين العوام وبين الحكام ويقول ما رأيت لهم مثلاً إلا الفار والحيات فإن كلاً منهما مفسد في الأرض فالحيات مسلطة على الفار والفار مسلطة على الناس وكذلك العوام مسلط بعضهم على بعض فسلط الله تعالى الحكام عليهم وكما أنه لا بد أن يسلط على الحية قاتلاً يقتلها أو يأتيها أجلها سلط على الظالم ظلماً آخر وكان شديد الإنكار على علماء عصره وكان يسمي القضاة القصاة والمشايخ المسايخ والفقيه الفقيع من فقع اللبن إذا فسد. وكان من كلامه لا ينفع الدار إلا ما فيها وكان يقول أيضاً لا تشتغل بعد أموال التجار وأنت مفلس. وكان يقول اسلك ما سلكوا تدرك ما أدركوا. وكان يقول لا تخلطوا الحقائق ويستند بقوله تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وكان يقول عجبت لمن كان يقع عليه نظر المفلح كيف لا يفلح. قلت وهو منقول عن سيدي أحمد بن الرفاعي رضي الله تعالى عنه. وكان يقول يبصر أحمدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه قلت هو حديث رواه الإمام أحمد من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه يبصر أحدكم القذى في ين أخيه وينسى الجذع وكان يقول كنزك تحت جدارك وأنت تطلبه من عند جارك. وله كلام غير هذا وله من المؤلفات شرح الأجرومية على طريقة الصوفية وكتاب غرية الإسلام في مصر والشام وما والاهما من بلاد الروم والأعجام ورسائل عدة منها بيان فضل خيار الناس والكشف عن مكر الوسواس ورسالة الأخوان من أهل الفقه وحملة القرآن وكشف الإفادة في حق السيادة ومواهب الرحمن وكشف عورات الشيطان وتذكرة السالكين وتذكرة المنيب بأخلاق أصحاب الحبيب كذا في ترجمته لا بن طولون ومنها رسالة لطيفة سماها تنزيه الصديق عن وصف الزنديق ترجم فيها الشيخ محي الدين بن العربي وذكر في

أولها أن سبب تأليفها أنه دخل دمشق في سنة أربع وتسعين وثمانمائة فسمع عن بعض أهلها استنقاص الشيخ محي الدين بعد أن زار الشيخ عبد القادر بن حبيب الصفدي بها في شعبان من هذه السنة وهوالذي عرفه بابن عربي ومقامه في الصالحية قال وكنت أسمع به في المغرب ولا أدري من حاله سوى أنه من أهل العلم والخير فقصدت زيارته فانتهيت إلى حمام يقال له حمام الجورة فسألت من الحمامي أن يفتح لي باب المقام فصعد من بعض جدرانه وفتح لي باب مقامه فوجدته ليس فيه أثر العواد وفيه عشب يابس يدل أن أحداً لا يأتيه إلى أن قال ثم قعدت عند قدميه الكريمتين كما ينبغي بل أقول قعدت على سوء الأدب إذ هو أن أقف خارج المقام بالكلية في مقام السائل المقتر لكن أخطأت واسأل الله تعالى بلطفه أن يتوب عليَّ من ذلك قال رأيت في مشهده قبره عند رأسه حجراً مكتوباً فيه قوله تعالى ادع إلى سبيل ربك الآية فعند ذلك قوي نور اعتقادي في الشيخ وتزايد نوراً على نور حتى ملأ ظاهري وباطني وكنت قصدت بلاد ابن عثمان رجاء الجواز من هناك إلى المغرب فدخلت برصة غرة المحرم سنة خمس وتسعين فلما كانت سنة تسع وتسعمائة خطر بنا إلى تقييد بعض كلمات في إظهار شيءٍ من محمود صفاته. ثم ذكر رحمه الله ترجمة الشيخ ابن العربي رضي الله عنه ودل هذا الكلام منه على أنه كلن له اعتقاد زائد في ابن العربي وهو ما عليه أعيان المتأخرين من العلماء المحققين والصوفية المتعمقين رضي الله تعالى عنهم أجمعين ودل هذا الكلام منه أيضاً أنه رضي الله تعالى عنه في كتاب السفينة أن سيدي علي بن ميمون دخل دمشق سنة أربع وتسعمائة وذكر ابن طولون في كتابه مفاكهة الأخوان أن سيدي علي بن ميمون أول ما دخل دمشق دخل في أواخر سنة اثنتي عشرة وتسعمائة فهرع الناس إليه للتبرك به ونزل بحارة السكة الصالحية وصار بعمل بها ميعاداً ويرشد الناس. وممن صعد إليه للأخذ عنه الشيخ عبد النبي شيخ المالكية والشيخ شمس الدين بن رمضان شيخ الحنفية وسلكا على يديه وخلف انتهى ولا تنافى بين هذا وبين ما تقدم لأن ما ذكره ابن طولون هو مبلغ علمه إذ لم يعلم بقدمة ابن ميمون الأولى والثانية حتى ذكر هذا الكلام وايضاً فإن سيدي علي بن ميمون لم يشتهر في بلاد المغرب بالعلم والمشيخة والإرشاد إلا بعد رجوعه من الروم إلى حماة سنة إحدى عشرة ومكث بهامدة طويلة ثم قدم منها إلى

دمشق في سابع عشرى رجب سنة إحدى عشرة وتسعمائة كما ذكره سيدي محمد ابن عراق في سفيتنه وتقدم في ترجمة ابن عراق من هذا الكتاب. قال ابن عراق وأقام يعني شيخه ابن ميمون في قدمته هذه ثلاث سنوات وخمسة اشهر وأربعة عشر يوماً يربي ويرشد ويسلك ويدعو إلى الله تعالى (كذا) سيدي الشيخ عبد النبي مفتي المالكية وسيدي محمد بن رمضان مفتي الحنفية وسيدي أحمد بن سلطان كذلك وسيدي عبد الرحمن الحموي مفتي الشافعية وسيدي إسماعيل الدنابي خطيب جامع الحنابلة وأبو عبد الرحمن قيم الجامع وسيدي عيسى القباقبي المصري وسيدي أحمد بن الشيخ حسن وجاره حسن الصواف وسيدي الشيخ داود العجمي انتهى. قلت وكان ممن اصطحب منه شيخ الإسلام الجد رضي الله تعالى عنه وكان يحضر سيدي علي بن ميمون درسه ومجالسه فكان الجد رضي الله تعالى عنه يقول لا بن ميمون حين يحضر عنده يا سيدي علي أمسك لي قلبي أمسك لي قلبي. وممن اجتمع به شيخ الإسلام الوالد وكان يومئذ في سن الثمان أو التسع لكنني لم أتحقق عنه أنه أخذ شيئاً أو لم يأخذ عنه وكان شيخنا الشيخ حسن الصلتي المقري يذكر أنه رأى سيدي علي ابن ميمون وحضر مجالسه فعلى هذا يكون بحمد الله قد صحبنا في طريق الله تعالى من صحبه. ومن كراماته أنه حصلت بين رجلين من الفقراء المتجردين عنده منافرة فخرج أحدهما على وجهه فسمع الشيخ بذلك فقال لمن كان السبب في ذلك إما أن تأتي به وإما أن تذهب عني فلم يلبث يسيراً إلا والذي خرج على وجهه دخل على الشيخ وهو يبكي وذكر أن الشيخ تشكل له في صورة أسد وكان كلما توجه إلى طريق منعه من سلوكها. ومن كراماته أن المطر حبس في دمشق في سنة ثلاثة عشر وتسعمائة فكتب سيدي علي بخطه درجاً إلى نائب دمشق سيباي فحضر النائب بالدرج إلى الجامع الأموي في يوم الجمعة رابع رمضان فقرأه على مفتي دار العدل السيد كمال الدين بن حمزة وقضاة القضاة الثلاثة الشافعي ابن فرفور والمالكي خير الدين والحنبلي نجم الدين بن مفلح فإذا فيه آيات من القرآن العظيم وأحاديث من السنة في التحذير من الظلم ثم انتقل إلى الفقهاء والقضاة فحذرهم من أكل مال الأوقاف ثم حث على الاستغفار وذكر ما يتعلق بذلك ومن نقل ذلك

من السلف بحيث أن سيباي ذرف دمعه فهم فغي أثناء قراءة الدرج وقع المطر وجاء الله تعالى بالغيث كذلك ذكر هذه الواقعة ابن طولون وأنا لا أشك في أنها كرامة ظاهرة وانتقد ابن طولون على الدرج المذكور أن صاحب الترجمة تعرض فيه لذكر الشيخ تقي الدين بن قاضي عجلون ولذكر غيره ولامهم فيه على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنا أقول لا انتقاد عليه في ذلك أصلاً فإنه أراد النتيجة فأعلن أن الفتنة التي وقعت بين التقوي ابن قاضي عجلون وابن أخته السيد كمال الدين وبقية أعيان دمشق بسب هدم التربة كما تقدم شرحها في ترجمة السيد وغيرها أيضاً إنما كانت بسبب توجه سيدي علي بن ميمون بقلبه عليهم وتكدر خاطره ويؤيد ذلك أن هدم التربة المذكورة كان في ثالث رمضان المذكور ثم استفتي الشيخ تقي الدين في هذه الأيام في هذه الوقعة وأفتى بعدم الهدم ثم هاجت الفتنة بعد ذلك وانتشر شرها وتطاير شررها حتى طلب الشيخ تقي الدين وابن أخته قاصرون إلى السلطان الغوري بمصر وصودر بأموال كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم رأت ابن طولون ترجم سيدي علي بن ميمون في التمتع باقران وذكر من مصنفاته بيان فضل خيار الناس والكشف عن منكر الوسواس والرسالة الميمونية في توحيد الجرومية وبيان غربة الإسلام ورسالة الإخوان من أهل الفقه وحملة القرآن وكشف الإفادة في حسن السيادة ومواهب الرحمن في كشف عورات الشيطان وغير ذلك وقال قدم دمشق فلقاه الشيخ عبد النبي وأنزله حارة السكة بالصالحية وهرع الناس للسلام عليه طلبة العلم والفضلاء والعلماء والقضاة والأمراء وصار يسأل كلاً عن اسمه وينهاه عن ذكر اللقب إن ذكره ثم عن حرفته ويوصيه بتقوى الله تعالى ثم يوجه نفسه إلى القبلة ويرفع يديه إلى وجهه ويقرأ له الفاتحة ويدعو له ويصرفه وإن راى في ملبسه شيئاً منكراً ذكره. قال ثم عقد للتسليك مجلساً في منزله فتلمذ له خلق من المذاهب الأربعة كالشيخ عبد النبي من المالكية والشمس بن رمضان من الحنفية والشهاب ابن مفلح من الحنابلة والزين الحموري من الشافعية وآخر من تسلك على يديه منهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عراق وشاع ذكره وبعد صيته وصار كلامه مسموعاً عند الأمراء خصوصاً نائب الشام سيباي ولهم فيه اعتقاد زائد. ثم قال ابن طولون اجتمعت به وسلمت عليه ثم ترددت إلى مجلسه فما رأت عيني أعظم

شأناً منه لكنه كان يستنقص الناس وقال احياناً ما رأيت في هذه المملكة اعلم من ابن حبيب الصفدي قال وكان ابن حبيب مشهوراً بمحبة ابن العربي وتبجح بها انتهى. ومن كرامات ابن ميمون رضي الله تعالى عنه ما ذكره الشيخ علوان في شرح تائية ابن حبيب أن رجلاً من أعيان دمشق وفضلائها في العلم والتدريس قال بلغني أنه تفرس فيه أن لا يكون منه نتيجة وكان ذلك بعد أن تجرد ذلك الرجل وارتكب أنواعاً من الرياضة والمجاهدات وحكى السيد محمد بن سيدي علوان في تحفته قال أخبرني شفاهاً جمع ممن سكن قرية مجدل معوش التي هي قرية الشيخ وقبره فيها أنه كان في جوارهم وفي قريتهم كروم وقد يبست أغصانها وفسدت عروقها وتعطلت بالك لية فمذ دخل الشيخ المذكور تلك الأراضي عادت الأراضي المجدبة مخصبة وعادت أشجار العنب المذكورة أيضاً إلى أسحن ما يكون وأينعت ثمارها قال وهي مستمرة من ذلك إلى الآن إلى هذا الزمان ولم يعرف ذلك إلا من بركته. وذكر أيضاً أن بعض أهل العلم حكى له وقد توجه لزيارة قبر سيدي علي بن ميمون رضي الله تعالى عنه في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة فقال أن من الغريب كرامات من أنتم متوجهون لزيارته ما شاهدته بعيني ذلك أن رجلاً من الأجناد أرسل كلباً قال أو صقراً على غزال فركضت الغزال حتى جاءت إلى الأرض التي هو مدفون فيها فدخلها واجتمعت في ظل الشيخ فقال للجندي دعها فإنها قد فعلت فعل العائذ بقبر الشيخ فلم يلتفت إلى مقالتهم وهي قائمة فلم تبرح من مكانها حتى أمسكها الجندي بيده وذبحها وأكل من لحمها فلما فرغ من أكله أخذه وجع في بطنه واستمر حتى مات من ليلته فلما غسل كان لحمه على المغسل مقطعاً قطعاً حتى كأنه أكل شيئاً مسموماً قالت فعلمت أنا وغيري أن ذلك كله من بركة الشيخ انتهى. وكان سبب انتقال سيدي علي بن ميمون من دمشق إلى مجدل معوش وهي قرية من معاملة بيروت أنه دخل عليه وهو بصالحية دمشق قبض واستمر ملازماً له حتى ترك مجلس التأديب وأخذ يستفسر عن الأماكن التي في بطون الأودية ورؤوس الجبال حتى ذكر له سيدي محمد بن عراق مجدل المعوش فهاجر إليها في ثاني عشر المحرم سنة سبع عشرة وتسعمائة قال سيدي محمد بن عراق ولم يصحب غيري والولد علي وكان سنه عشر سنين

وشخصاً آخر عملاً بالسنة وأقمت معه خمسة أشهر وخمسة عشر يوماً وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر جمادى الآخرة ودفن بها في أرض موات بشاهق جبل حسبما أوصى به قال ودفن بعده في خارج حضرته المشرفة رجلان وصبيان وامرأتان وأيضاً امرأتان وبنتان الرجلان محمد المكناسي وعمر الأندلسي والصبيان عبد الله وكان عمره ثلاث سنين وموسى بن عبد الله التركماني وامرأتان أم إبراهيم وابنتها عائشة زوجة الذعري والمرأتان الآخرتان مريم القدسية وفاطمة الحموية وسألته عند وفاته عن أمور منها أين أجعل دار هجرتي فقال: مكان يسلم فيه دينك ودنياك ثم تلا قوله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة الآية وقال ابن طولون في حوادث سنة سبع عشرة وتسعمائة من تاريخه ويوم الجمعة تاسع عشريه يعني جمادى الآخرة بعد صلاتها بالجامع الأموي نودي بالسدة بالصلاة غائبة على الشيخ العالم السيد علاء الدين علي بن ميمون المغربي. قال وقد صح أنه توفي في ليلة الخميس حادي عشره بتل بالقرب من مجدل معوش وبه دفن انتهى. ولم يختلف قول سيدي محمد بن عراق في السفينة وقول ابن طولون والشيخ موسى الكناوي أن سيدي علي بن ميمون توفي في ليلة الحادي عشر من جمادى الآخرة غير أن في كلام ابن طولون أنه كان يوم الخميس وتقدم أنه كان يوم الاثنين وقول ابن طولون أصح لأنه أرخ وهو الحمصي وغيرهما مستهل جمادى المذكورة أنه كان يوم الاثنين فيكون حادي عشرة يوم الخميس بلا شك رحمه الله تعالى اهـ.

ميزان المقادير في تبيان التقادير

ميزان المقادير في تبيان التقادير تتمة ما ورد في الجزء الماضي والقسم الثالث الذي يعتبر فيه المساحة الجسمية الكر المساحي من الماء فهو كام أنه مقدر بالوزن كا مر مقدر بالمساحة أيضاً وأقول فقهاءنا رضوان الله عليهم فيه الأربعة. الأول سبعة وعشرون شبراً مكعباً حاصل ضرب ثلاثة عرضاً في ثلاثة طولاً في ثلاثة عمقاً وإليه ذهب الصدوقان وباقي القميين وهو ظاهر بن طاوس وصريح العلامة في المختلف وإليه مال بعض المتأخرين أيضاً كالشيخ علي رحمه الله في حاشية المختلف والثاني اثنان وأربعون شبراً وسبعة أثمان شبر حاصل ضرب ثلاثة ونصف عرضاً في ثلاثة ونصف طولاً في ثلاثة ونصف عمقاً وإليه ذهب الأكثر وهو المشهور والثالث نحو مائة شبر وإليه ذهب ابن الجنيد والمراد في هذه الثلاثة بلوغه المقادير المذكورة إذا ضرب بعض الأبعاد في بعض ومثلوا بالمكعب لتسهيل الفهم والرابع ما بلغ مجموع أبعاده عشراً ونصفاً. وليس المراد الضرب وإليه ذهب القطب الراوندي وعلى هذا القول ليس له قدر معين لا بحسب المساحة ولا بحسب الوزن ويكون له أفراد مختلفة غير متناهية بعضها منطبقة على بعض المذاهب الباقية وزناً أو مساحة ونسبوا إلى القولين الأخيرين في تكرير الكر الشذوذ ولزم على الأخيرين في تقدير الكر الشذوذ ولزم على الأخير أن يكون كف من الماء بل أقل إذا انبسط فيما يبلغ طوله وعرضه عشرة أشبار ونصف زائداً على الكر. وحوض مربع كل من أبعاده ثلاثة أشبار ناقصاً عنه وهذا بعيد جداً هذا ما أردنا إيراده من التفصيلات والآن نسوق الكلام في التتمات وبالله التوفيق. (تتميم) اعلم أن الشيخ في آخر القانون ذكر بعض الأكيال والأوزان المعروفة في اليونانية ناقلاً بعضها من كناش ساهر وبعضها من كناش ابن سرابيون وقد نقلنا عنه في هذه الرسالة ما يحتاج إليه في الجملة حسب اقتضاه التعريف وطرحنا أكثرها لوجوه الأول أنها كانت على اللغة اليونانية الغير معروفة في هذه الأزمان ولا فائدة من تطويل الرسالة بذكرها إلا لفهم بعض ما في الكتب الطيبة مما نقل بعينه عن اليونانية وكذا بالفصل الذي ذكره في آخر القانون لتلك الفائدة ومعه لا يكون لذكرها في تلك الرسالة كثير فائدة والثاني أن نسخ القانون كانت مختلفة في أكثرها وفي تحقيق اللغات اليونانية مفيد. الثالث أم

بعضها مما ذكره تأصيلاً متناقضة وفروع كثيراً منها على ذلك البعض فصارت أكثرها مضطربة غير محصلة وكان الشيخ نقلها من أصلها من غير تأمل وحساب فعرى كلها عن الفائدة لعدم الاعتماد. ومن جملة الشواهد على ما ذكرنا أنه قال في موضع القسط الإنطاليقي رطل ونصف الرطل اثنتا عشرة أوقية انتهى في موضع آخر بعده بسطر والمن يكون أربعين أستاراً والرطل عشرين أستاراً. والأستار ستة دراهم ودانقان أو أربعة مثاقيل انتهى ففسر الرطل أولاً باثنتي عشرة أوقية في موضعها بسبعة مثاقيل فبلغ الرطل أربعة وثمانين مثقالاً. وفسره ثانياً بعشرين أستاراً أما بستة دراهم ودانقين فبلغ ثمانية وثمانين مثقالاً وكسراً وأما أربعة مثاقيل فيبلغ ثمانين مثقالاً فيضطرب قدر الرطل في كلامه بين كونه أربعة وثمانين مثقالاً وكونه ثمانية وثمانين مثقالاً وكسراً ومع ذلك لا ينطبق شيء من هذه الثلاثة على شيءٍ من تفاسيره المشهورة على ما ذكرنا في موضعه. تتميم قد عرفت مما تقدم أن الدانق حقيقة هو سدس الدرهم الشرعي الذي هو عبارة عن شعيرتين فاعرف الآن أن الدانق والطسوج يطلقان مجازاً على سدس كل شيءٍ وربع سدسه مما اعتبر فيه الوزن أم لا كما هو المتعارف الشائع في زماننا فعلى هذا لما كان المثقال المعبر عنه بالدينار بارتفاق عبارة عن ثماني وستين شعيرة وأربعة أسباع شعيرة فيجب أن يكون دانقه هو سدسه الذي عبارة عن إحدى عشرة شعيرة وثلاثة أسباع شعيرة وطسوجه هو ربع هذا السدس الذي هو عبارة عن شعيرتين وستة أسباع شعيرة فتبين خطأ من قال أن الدانق المثقال اثنتا عشرة حبة وطسوجه ثلاث حبات إذا يلزم أن يكون المثقال اثنتين وسبعين شعيرة وقد عرفت أنه ثماني وستون شعيرة وأربع أسباعهم اللهم إلا أن يكون في المثقال اصطلاح آخر لم ينقل إلينا وكذلك تبين خطأ صاحب الشمسية في الحساب حيث توهم أن طسوج الدينار أربع شعيرات. وقال يجب أن يعلم أن الدوانيق مخرجها من الدينار ستة والطساسج مخرجها من الدوانق أربعة ثم بسط الكلام في المثال وتحوير الكسر من مخرج إلى مخرج على هذا الحساب وهذا فاحش جداً إذا يلزم حينئذ أن يكون الدينار ستار وتسعين شعيرة ضعف الدرهم الشرعي وحكاية كون الدينار درهماً وثلاثة أسباع درهم وكون عشرة دراهم سبعة دنانير

أشهر وأشيع من أن يحتاج إلى نقل الأسناد وتفصيل عبارات الأقوام وقد مر بعضها وكأن هذا الغلط صار مغلطة ليعض الحسابين أيضاً كصاحب قسطاس المستقيم حيث وافقه في ذلك واقتفى أثره بعض الناظمين أيضاً حيث نظم في بيان أجزاء الدينار شعراً: هست شش دانك قدر ديناري ... ليك هردانك إذ طوسج جهار هو طوسجي جهار جوهرجو ... شش خردل بود بوقت شمار مع أن هذا الناظم قد نظم ما هو الحق أيضاً في بيان وزن الأستار وأجزائه فقال: جار مثقال ونيم أسنادي ... هفت مثقال وده درم أي يار درهمي وسه سبع بكمثقال ... حامش أكنون كه شد سخن بسيار ولا يتوهم أن مناط ذلك الاختلاف ربما يكون قدر الدرهم ولعل فيه خلافاً تفرغ عليه ما وقعوا فيه إذ لا مجال لذلك التوهم لمن تتبع الآثار والأخبار وشيوع كونه ثماني وأربعين شعيرة قد جاوز حد التواتر حتى نظم ذلك النظم أيضاً ونقله صاحب القسطاس: شش دان بود قدر درم يادت باد ... دانكيست دو قيراط جنين كفت أستار قيراط وطسوج جه جون دانستي ... هربك ونها بعد يود بادت باد وقد أخطأت أيضاً صاحب البهائية في الحساب هنا من جهة أخرى وزعم أن الدينار ستون حبة حيث قال في تعليل حفظ نسبة الستين لكون الدينار ستين حبة وكون الدرجة ستين دقيقة وكون الكرستين قفيزاً وكون الدرهم ستين عشيراً انتهى ثم كان مراده بالعشير عشر الدانق من حيث إطلاقه على عشر كل شيءٍ كما مر وإلا لم ينقل تفسير العشير بخصوص ذلك وظني أن منشأ هذه الأغلاط قلة تتبع الآثار والكسل في تصفح الأخبار والأخذ بكلام مجهول والاعتماد على خبر غير منقول. تتميم قد ذكرنا أن الدراهم المشهورة المنقولة هي الدراهم الثلاثة البغلي والشرعي والطبري وذكرنا أن مورد الأحكام الشرعية منها هو الشرعي الذي وزنه ستة دوانيق وهو المدار عليه في باب زكوة الفضة وغيره المضبوط بالقراريط والطساسيج فكل ما وقعت من الدراهم المختلفة المغايرة له وزناً بحسب الأزمنة يقاس عليه بالحساب فأول نصاب زكوة الفضة مائتان من تلك الدراهم التي واحدها ستة دوانيق وزكاتها خمسة منها قد ربع عشرها الذي عبارة عن ثلاثين دانقاً فإذا فرض وزن الدرهم في ثلاثين دانقاً إلى ستة منها وإذا

فرض في زمان أربعة دوانيق وسبعا دانق مثلاً يصير أول مراتب الزكوة حينئذ سبعة منها وهو ظاهر مما قلنا وعلى هذا القياس وكأنه قد كانت الدراهم في بعض الأزمنة السابقة على هذين القدرين اللذين ذكرناهما تمثيلاً يستفاد مما رو ى الشيخ الجليل رحمه الله في الكافي في باب العلة في وضع الزكوة على ما وضع على حبيب الخثعمي قال أبو جعفر المنصور إلى محمد ابن خالد وكان عامله على المدينة أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكوة من المائتين كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يسأل فيمن يسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد عليهما السلام قال فسال أهل المدينة فقالوا أدركنا من قال قبلنا على هذا فبعث إلى أبي عبد الله بن الحسن فقال كما قال المستفتون من أهل المدينة قال: فقال ما تقول يا أبا عبد الله فقال: إن رسول الله صلى الله علبيه وعلى آله جعل في كل أربعين أوقية أوقيةً فإذا حسبت كل ذلك على سبعة وقد كان وزن ستة كانت الدراهم خمسة دوانيق قال حبيب: حسبناه فوجدناه كما قال فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا فقال: قرأت في كتاب أمك فاطمة عليها السلام قال: ثم انصرفت فبعث إليه محمد بن خالد ابعث لي بكتاب فاطمة عليها السلام فأرسل إليه أبو عبد الله عليه السلام إني إنما أخبرتك أني قرأته ولم خبرك أنه عندي قال حبيب فجعل محمد بن خالد يقول لي أرأيت قط مثل ذلك الحديث. توضيحه أن السائل توهم أن المعبر في الزكوة هو العدد لا الوزن لما رأى من كثرة إطلاق الدرهم على المسكوك من الفضة من حيث العدد كما مر وهذا توهم شائع نقله العلامة في منتهى الطلب واستدل على خلافه بقوله وحكى عن بعض أهل الظاهر اعتبار العدد وهو خطأ للإجماع ولما روى أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الوزن صدقة انتهى فبعثه هذا التوهم إلى أن يفتش عن كيفية شيوع سبعة دراهم في زمانه لأول مراتب الزكوة مع أنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خمسة دراهم غافلاً لا عن أن المعتبر في الزكوة هو الوزن لا العدد وأن دراهم زمانه مختلفة وزناً بالنسبة إلى دراهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجابه أبو عبيد جعفر بن محمد عليهما السلام بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعل في كل أربعين أوقية يعني أن المعتبر في الزكوة ربع العشر بحسب الوزن لا بحسب العدد وذكر

الأوقية تنصيصاً على ذلك إذ هي صريحة في الوزن لا يجري فيها توهم العدد فقال عليه السلام فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة أي إذا اعتبرت ربع الشعر من حيث الوزن فيصير أول مراتب الزكوة وزن سبعة من دراهم هذا الزمان التي وزنها أربعة دوانيق وسبعا دانق ثم أوضح عليه السلام ذلك بنظير له من الدراهم التي كانت قبل زمانه فقال: وقد كانت وزن ستة دراهم خمسة دوانيق يعني وعلى هذا الحساب يصير أول مراتب الزكوة وزن ستة دراهم منذ كانت الدراهم خمسة دوانيق بحسب الوزن فلا اعتبار بالعدد والمعتبر هو الوزن فعدد الدراهم على أي وزن كان يحسب ويقاس على ما جعل رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم أصلاً في ذلك أي الدرهم التي كانت وزنها ستة دوانيق فأفهم. تتميم من الأوزان الشائعة في زماننا المرجعة للباقية المثقال الصيرفي الذي عليه مدار المسكوكتين المحمدية والعباسية الرائجتين في هذه الأيام ينسب إليه المحمدية بخمسة دوانيق والعباسية التي ضعفها بمثله وثلثي مثله وعليه أيضاً مدار المنين التبريزي والشاهي المشهورين بين الأنام يكون التبريزي في زماننا ستمائة منه والشاهي الذي ضعفه ألفاً ومائتين وهذا المثقال مع أنه في هذا الزمان مرجع المقادير المذكورة ومقياس الأوزان المشهورة لم يضبط بالشعيرة وأمثالها ضبطاً مشاراً إليه ولم يحفظ حفظاً مداراً عليه فبعضهم كالعلامة رحمه الله كأنه ضبط بمائة وثلث شعيرة وألفين وثمانمائة وخمسة وثمانين جزءاً من خمسة وخمسة آلاف أجزءا شعيرة يستفاد من ضبطه الصاع صريحاً بخمسمائة وست وثلاثين مثقالاً وربع مثقال بالصيرفي فالرطل العراقي الذي يكون عنده وعند الجمهور من الخاصة تسعا من الصاع مضبوطاً حينئذ بتسعة وخمسين مثقالاً ونصف مثقال وثلث وربع مثقال. ومعلوم مما مر أن الرطل العراقي عنده عبارة عن تسعين مثقالاً شرعياً ينتهي إلى ستة آلاف ومائة وإحدى وسبعين شعيرة وثلث سبع شعيرة فوجب أن تكون المثاقيل الصيرفية المذكورة التي ضبط بها ضبط الرطل عبارة عن تلك العشيرات فبالنسبة مثقال واحد صيرفي يلزم أن يكون عنده مائة وثلث شعيرة وألفين وثمانمائة وخمسة وثمانين جزءاً من خمسة وخمسة آلاف أجزاء شعيرة كما قررنا وبعضهم كالشيخ علي رحمه الله كأنه ضبط بمائة وأربع شعيرات وخمسمائة وخمسة وسبعين جزءاً من سبعمائة وسبعين جزءاً من

شعيرة يستفاد من ضبطه الصاع والرطل صريحاً بمثل ما ضبط به العلامة مع تصريح بأن الرطل عبارة عن إحدى وتسعين مثقالاً شرعياً موافقاً الجمهور فينتهي إلى ستة آلاف ومائتين وأربعين شعيرة زائدة على عدد شعيرات رطل العلامة بثمانية وستين شعيرة وأربعة أسباعها قدر مثقال واحد شرعي هو تفاوت ما بين الرطلين فحينئذ وجب أن تكون المثاقيل الصيرفية التي بها ضبط الرطل عبارة عن هذه الشعيرات الزائدة على شعيرات رطل العلامة بما ذكرنا فبالنسبة مثقال واحد صيرفي يلزم أن يكون عبارة عن هذه الشعيرات الزائدة على شعيرات رطل العلامة بما ذكرنا فبالنسبة مثقال واحد صيرفي يلزم أن يكون عنده عبارة عن مائة وأربع شعيرات وخمسمائة وخمسة وسبعين جزءاً من سبعمائة وسبعين جزءاً من شعيرة كما قلنا ثم لا يخفى أن الشيخ رحمه الله أن لم يقتف في ذلك أثر العلامة وضبط ما صح عند فاتفاقهما صورة في قدر الصاع والرطل بالنسبة إلى المثقال الصيرفي مع ذلك الاختلاف معنى من غرائب الاتفاقات وأغرب من ذلك أن اقتفى أثره واعتمد على تصحيحه وظن نفسه متبعاً موافقاً له في ذلك وغفل عن تلك الدقيقة الموجبة للاختلاف وعدم الموافقة وبعضهم من فضلاء العصر ضبطه صريحاً بست وتسعين شعيرة وبعضهم ضبطه بخلاف هذه المذكورات مما يوجب نقل التطويل. وبالجملة لما رأيت هذه الاختلافات حاولت أن اضبطه بنظر دقيق وقصدت أن أحفظه بتأمل حقيق فتحقق عندي بتصحيحات قويمة وتفتيشات مستقيمة أن المثقال الصيرفي المتعارف في زماننا عبارة عن أربع وثمانين شعيرة قدر درهم وثلاثة أرباع درهم بالشرعي ولا تظنني مخطئاً إياهم ومصوباً رأيي أن في بعض الظن إثم حاشا أن أكون أهلاً لذلك ولكن اثبت ما ثبت لدى همة فكري القاصر وأديت ما وجب على ذمة ذهني الفاتر هذا مع أنه يجوز أن يكون في زمن العلامة والشيخ علي رحمهما الله قدر المثقال الصيرفي زائداً على قدره في زماننا بمقدار التفاوت الواقع في الضبطين وذكا الكلام في التفاوت القليل الواقع بينهما رحمهما الله بحسب زمانيهما وأمثال ذلك قد يكون متفاوتة في الأزمنة والأعصار ويؤيد ما قلت التفاوت الواقع في المن التبريزي في الزمانين حيث ضبط الشيخ علي رحمه الله المن التبريزي بخمسمائة مثقال صيرفي واليوم ولا شك ستمائة

منه ويمكن أن يكون هذا التفاوت الواقع في المن بعينه مناطاً للتفاوت في المثقال بحسب الزمانين إذ خمسمائة من المثقال الذي ضبطه الشيخ قريب جداً من ستمائة من مثقال زماننا وحسبما ضبطناه وما يبقى من التفاوت قليل يمكن استناده إلى الميزان أو الشعير أو التسامح أو أمثالها. تتميم اعلم أن أنواع الأجسام كما كانت المتساوية فيها وزناً قد تخالفت حيزاً فرطل من الماء مثلارً لا يملاً نصف مكان رطل من الشعير كذلك المتساوية منها بحسب الحيز تكون مختلفة بحسب الوزن فوزن صاع من الشعير مثلاً لا يبلغ نصف وزن صاع الماء وعلى هذا القياس سائر الأجسام حسبما اقتضت صورته النوعية من التخلخل والتكاثف والخفة والثقل وتحقيقه كما تقرر في موضعه أن نسبة وزن الخفيف إلى وزن الثقيل يكون كنسبة مكان الثقيل إلى مكان الخفيف بل قد يكون نوع واحد من الأجسام يختلف أشخاصه في ذلك بحسب المكنة والعوارض المختلفة كما لا يخفى فإن تقدير كل معين بوزن معين لا يتصور إلا بنوع من التخمين وضرب من التسامح فما قاله العلامة رحمه الله في التحرير الوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد والمد رطلان وربع بالعراقي إلى قوله وهذا التقدير تحقيق لا تقريب انتهى محل تأمل إذ تقدير المد عبارة عن كيل مخصوص بالرطل الذي هو وزن مخصوص لا يمكن بدون تقريب إلا أن يحمل على أن ما كانت هذه التقادير مستندة إلى الشارع فتكون بمنزلة التحقيق وإلا فمعلوم أن المد المعتبر في الوضوء لا يوافق المد في أجناس أخر كالحنطة والشعير وأمثالها المعتبر في الكفارات بحسب الوزن حتى يقدرا بشيءٍ واحد تحقيقاً فكأنه أراد الشارع توسعة وجعل ذلك الكيل المخصوص والوزن المخصوص في تلك الأحكام بمنزلة الواجبات التخييرية بأيهما أخذ المكلف برئ ذمته وإن اختلفا فاحشاً وإليه قول بعض الفقهاء في قدر زكوة الفطر هي بالكيل صاع وبالوزن ألف ومائة وسبعون درهماً انتهى. فأشكاله بعد ذلك في صورة بلوغه كيلاً لا وزناً أو بالعكس للخفة والثقل كأنه مبني على الاحتياط هذا مع أن الروايات في التقادير مختلفة لا تأبى الجمع بينها بحمل كل منها عل جنس مناسب لكن لم ينقل من الفقهاء هذه الطريقة بل جمعوها من جهات أخر أو طرحوا بعضها لضعف السند وغيره على حسب اقتضاء قواعد الأصول حتى انتهى إلى

الاختلافات بينهم متفرعاً على اختلافات أصولهم فاتخذ كل مذهب كما قلنا عنهم في التفصيلات. تتميم المقادير الموزونة والمكيلة التي قدمناها مفصلة على قسمين قسم معتبر بخصوصه في الشرع مذكور في الأحاديث دائر على ألسنة الفقهاء وقسم ليس كذلك بل متداول بين الحسابين وعامة الناس والقسم الأول أيضاً على قسمين قسم معتبر عندهم على سبيل الأصالة كونه متعلق للأحكام وقسم ليس كذلك بل مذكور على سبيل التبعية وكونه مقياساً لشيءٍ آخر ومحدداً له فبالحقيقة ينتهي إلى ثلاثة أقسام. ولما كان القسم الأول منها أي المعتبر في الشرع أصالة مما اشتد \ ت حاجة المكلفين إليه من حيث ابتناء فتاوى فقهاءنا رضوان الله عليهم حولنا تسهيلاً عليهم تقويم ضابطة لبيان تلك المقادير خاصة متضمنة لكيفية نسبتها واحداً واحدا من الأوزان المعروفة في زماننا أعني المن التبريزي والمثقال الصيرفي والشعيرة وأجزاءها على ما وصفناه قبل فوضعنا جدولاً وأثبتنا فيه المقادير المعتبرة المذكورة وبينا أن كلاً منها كم يكون من المن ثم ما نقص عنه من المثقال ثم ما كسر عنه من الشعيرة وعلى هذا المقياس. وعلمان ما كان مجاوزاً عن بعض بعلامة البياض. وما كان مطفراًِ وغير بالغ إلى البعض بعلامة الصفر إيضاحاً للمقصود. وهذا هو الجدول. المن التبريزيالمثقال الصيرفيالشعيرةالخردلالفلسالفتيلالتعشيرالقطميرالذرةالهباءالدرهم المعتبر في زكوة الفضة وغيرها بالاتفاق0048الدينار المعتبر في زكة الذهب وغيرها بالاتفاق00683505115الكر المعتبر في باب الطنهارةعلى مذهب ابن بابويه222 148 146514 342 56324 72 53على مذهب الشيخينعلى مذهب العلامةالمد المعتبر في بعض الكفارات وغيرهاعلى أحد احتمالي مذهب البزنطي0

0 0 0 092 91 165 167 37172 7 25 12 36 1 4 8 3 3 2 2 3 4 3 6 5 6

1على أحد احتمالي مذهبهعلى مذهب العلامةعلى مذهب الجمهورعلى أحد احتمالي مذهب البزنطي الصراع المعتبر في زكوة الفطور وغيرهاعلى أحد احتمالي مذ هبه0 1 1 37344 61 68 8529 18 48 600 510 11 44 12 53 83 4على مذهب العلامةعلى مذهب الجمهورعلى أحد احتمالي مذهب البزنطيالوسق المعتبر في نصاب زكور الغلاتعلى أحد احتمالي مذهبه36 66 66240 73 15466 39

243 25 60 551 61 105 2على مذهب العلامةعلى مذهب الجمهورتتميم بظهر مما مر من التفصيلات إن الاختلافات الواقعة بين فقهاءنا رضوان الله عليهم قدر المد والصاع والوسق كلها مبنية على خلافين أحدهما قد قدر الرطل العراقي هل هو تسعون مثقالاً أو واحد وتسعون مثقالاً وهذا الخلاف قائم بين العلامة والجمهور وثانيهما هل في قدر المد هل رطل وربع أو رطلان وربع بالعراقي وهذا الخلاف قائم بين أبي نصر البزنطي وغيره من الفقهاء وهم يسندون إلى قوله الضعف والشذوذ قال العلاء: في التحرير وقول ابي نصر المد رطل وربع تعويل على رواية ضعيفة انتهى وقال الشهيد في البيان وشذ قول البزنطي أن المد رطل وربع فكون المد رطلين وربعاً بالعراقي هو رطل ونصف بالمدني مجملاً مع قطع النظر عن الاختلاف الواقع كالمجمع عليه بين فقهاءنا والروايات متضافرة على هذا المعنى دالة أكثرها أيضاً على ما ذهب إليه الجمهور في قدر الرطل روى الصدوق رحمه الله فيما لا يحضره الفقيه في باب الزكوة عن السكوني وليس على الحنطة والشعير شيء حتى يبلغ خمسمائة أوساق والصاع أربعة أمداد الاستبصار في أنه وزن مائتين واثنين وتسعين درهماً ونصف وروى الشيخح رحمه الله في الاستبصار في بابا ما هي زكوة الفطر عن إبراهيم ابن محمد الهمذاني اختلفت الروايات في الفطرة فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام أساله عن ذلك فكتب أن الفطرة صاع من قوت بلادك الخ وفي آخر الحديث ترفعه وزناً ستة أرطال برطل المدينة والرطل مائة وخمسة وتسعون درهماً ويكون الفطرة ألف ومائة وسبعين درهماً الحديث في باب مقدار الصاع فيه عن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمذاني قال كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام على يدي أبي جعلت فداك أن أصحابنا اختلفوا في الصاع بعضهم يقول الفطرة بصاع المدني وبعضهم يقول بالعراقي

فقال كتبت إلى الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي قال وأخبرني أن يكون بالوزن ألف ومائة وسبعون وزنة عن علي بن بلال في هذا الباب قال كتبت إلى الرجل اسأله عن الفطرة وكم يدفع قال فكتبت ستة أرطال من تمر بالمدني وذلك تسعة أرطال بالبغدادي. وفي باب مقدار الماء الذي يجري في غسل الجنابة والوضوء عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بصاع والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال وأما ما روي في هذا الباب من روايتين ظاهر هما خلاف ما ظهر من هذه الروايات فقد ذكر الشيخ رحمه الله هنالك مجه التوفيق فيهما فالأولى عن سليمان بن حفص المروزي قال قال أبو الحسن عليه السلام الغسل بصاعٍ من ماء وصاع النبي صلى الله عليه وعلى آله خمسة أمداد والمد مائتان وثمانون درهماً والدرهم ستة دوانيق والدانق وزن ست حبات والحبة وزن حبة شعير مكن أوساط الحب لا من صغاره ولا من كباره والثانية عن سماعه قال: سألته عن الذي يجزى من الماء للغسل فقال اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع وتوضأ بمد وكان الصاع على عهده خمسة أمداد وكان المد قدر رطل وثلاث أواق الحديث فقال الشيخ رحمه الله (الله لا يرحمو) في وجه التوفيق قوله في هذا الخبر الصاع خمسة أمداد وتفسير المد برطل وثلاث أواق مطابق للخبر الذي رواه زرارة لأنه فسر برطل ونصف فالصاع يكون ستة أرطال وذلك مطابق لذلك القدر فأما تفسير سليمان المزوري المد بمائتين وثمانين درهماً فمطابق للخبرين لأنه يكون مقداره ستة أرطال بالمدني ويكون قوله خمسة أمداد وهما من الراوي لأن المشهور من هذه الرواية الرابعة أمداد ويجوز أن يكون ذلك أخباراً عما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله اذا شارك في الاغتسال بعض أزواجه يدل على ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما قال سألته عن وقت غسل الجنابة كم يجزى من الماء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بخمسة أمداد بينه وبين صاحبته ويغتسلان جميعاً من إناء واحد انتهى فتوضيح توفيق الرواية الأولى على ما ذكره رحمه الله أنه في هذه الرواية الصاع خمسة أمداد على وهم الراوي لأن المشهور منها أربعة بدل خمسة فاذا كان الخمسة 761.

السوريون في أميركا

السوريون في أميركا لا يصح إطلاق اسم المهاجرين على السوريين الذين سافروا من بلادهم إلى أميركا لكونهم لم يهاجروا ديارهم كما هو المفهوم في معنى الهجرة وإنما يصح إطلاق لسم المسافرين عليهم لأنهم سافروا إلى أميركا للتجارة ولا للإقامة أو لمغادرة أوطانهم بتاتاً أو لجعل أميركا وطناً جديداً لهم أبداً. وجعلهم طريق أميركا طريقهم المطروق ذهاباً وإياباً مما يثبت ذلك. وسل أياً كان من السوريين في أميركا الشمالية والجنوبية هل هجرت سورية. يقل كلا ما هجرتها إما غادرتها إلى حين_نزحت عنها طلباً للاكتساب وللإتجار ومتى نجحت ووصلت إلى غرضي عدت إلى وطني. وأما أولئك الذين اشتروا الدور والأملاك في أميركا الشمالية فلم يشتروها لكي يقيموا في أميركا وإنما اشتروها ليتجروا بها ويكسبوا فالاتجار في الأراضي والعقار كثيراً ما يفيض على صاحبه ينابيع اللجين والنضار. وسل أياً كان من الملاكين السوريين في أميركا ألا تريد أن ترجع إلى أرض آبائك وأجدادك إذا تمكنت من بيع أملاكك بالربح يقل بلى أريد من قلبي ولكن دور العودة لم يأن بعد. وما يقوله الملاكون بهذا الباب يقول التجار والعمال والأطباء والصحافيون السوريون في أميركا. وحجتهم على ذلك هي هذه الأمور (1) قلة العلة في الوطن (2) عدم المساواة (3) شدة التضييق والضغط (4) عدم وجود الأمن في أراضي سورية المهجورة وغير المهجورة (5) عدم وجود المعامل المهمة وقلة أبواب الرزق (6) كثيرة التثبيط وقلة التنشيط (7) كثرة القول وقلة العمل (8) الإبطاء الطويل والمماطلة في المعاملات. هذه هي حججهم الرئيسية وحقهم أن يحتجوا بها. فإذا كانوا قاسوا مشاق الأخطار والأسفار حتى وصلوا إلى ديار اتسعت أبواب رزقها وكسبها وكثر عدلها وساد أمنها وعمت مساواتها وحريتها وسبق عملها قولها وكثير تنشيطها وقل تثبيطها_إذا كانت هذه حالة البلاد التي وطئتها قدم السوريين فحري بعقلائهم أن يغتنموا فرصة الانتفاع منها والعاقل العاقل من وجد الفرص فانتهزها والجاهل الجاهل من أظفرته بنفسها ولم يغتنمها. السوريون المتخلفون منقسمون إلى أربع طوائف في هذا الموضوع. طائفة راضية عن سوريي أميركا. وطائفة غير مبالية بهم. وطائفة غير راضية عنهم وهي غير مخلصة.

وطائفة غير راضية إلا أنها مخلصة. أما الأولى فهي عامة الشعب وهي الأكثر عدداً وأما الثانية فهي التي لا يهمها عمرت البلاد أو خربت وأما الثالثة فهي التي يليق بها بأن تسمى بالطائفة المتعنتة لأنه لا يرضيها شيءٌ فهي أبداً تتذمر وتتأفف وتتفاخر وتباهي بأقدارها وتستصغر أقدار سواها كأنها خلقت من طينة سماوية وغيرها خلق من طينة أرضية. وأما الرابعة فهي الطائفة المخلصة الغيورة على وطنها وهي القائلة بضرر سفر المهاجرين إلى أميركا بعرفي أو بضرر مهاجرتهم بعرفها، وعرف يرها. والطائفة القائلة بفائدته هي عامة الأمة السورية فأيتهما أحق بقولها دعواها أتلك أم هذه؟ لا جرم أن دعوى الطائفة الراضية هي الأظهر والأحق وإليك البراهين. غادر السوريون نزلاء أميركا اليوم القطر السوري جاهلين القراءة والكتابة فصاروا في أميركا يقرأون ويكتبون. غادروها جاهلين كثيراً من آداب السلوك فصاروا في أميركا في آداب سلوكهم من الطبقة الأولى. غادروها جاهلين السياسة الوطنية والأجنبية فصاروا في أميركا من أهل الإلمام بها وصاروا يفهمون معناها ومبناها ومغزاها ومرماها. غادروها عديمي المعارف العمومية تقريباً فصاروا في أميركا ملمين بكثير من تلك المعارف. غادروها جاهلين بأساليب التجارة فصاروا في أميركا من أهل التجارة. غادروها جاهلين الصناعات العصرية فصاروا في أميركا عاملين بكثير منها. غادروها جامدين خاملين فصاروا في أميركا ناهضين. غادروها ونفوسهم صغيرة فصاروا في أميركا من أهل النفوس الكبيرة. غادروها أذلاء فصاروا في أميركا أعزاء. غادروها منقادين لأهل الاستبداد انقياداً أعمى فصاروا في أميركا منورين من دعاة الاستقلال الشخصي. غادروها ولا صحافة لهم فصارت صحافتهم في أميركا أرقى الصحافات العربية في العالم

العربي. غادروها فقراء فصاروا في أميركا من أهل اليسار. غادروها ولا مقام لهم فصاروا في أميركا من أهل المقامات. غادروها ضعفاء العمة والعزيمة فصاروا في أميركا من أهل العزائم والهمم. وهذا ليس ما كانوا عليه في سورية وبعض ما صاروا إليه في أميركا وأما ما أرسلوه من المال إلى سورية فهو أكثر من عشرة ملايين دولار أو مليوني ليرة إنكليزية ومن كان مشككاً بذلك فعليه بمراجعة مصرف لندن والمصرف العثماني في بيروت على الأخص. منذ عامين سألت أحد العمال في مصرف أوهاما نبرسكا الأول وهو المستر نيسي الذي لا يزال حياً يرزق عن قيمة الدراهم التي أرسلها سوريو ولاية نبراسكا إلى سورية على يده من ذلك المصرف فقال: إن ما أرسلوه في شهر واحد بلغ ستين ألف دولار أميركي أي اثنتي عشرة ألف ليرة إنكليزية. فإذا كان هذا أرسله فريق من سوريي ولاية نبراسكا في شهر واحد فكم هي قيمة المبالغ التي أرسلها ويرسلها في غيره ولايات؟ وآثار ذلك المبلغ الكبير بادية لذي عينين في لبنان وغير ولايات سورية. لما كنت في سورية كنت أرى بأم عيني المبالغ التي كانت ترد على أهالي راشيا الوادي وقراها فكانت تلك المبالغ وحدها تختلف في كل أسبوع بين الخمسمائة ليرة والألف بيرة حتى كثر المال في ذلك القضاء بين الأيدي وكثر الأخذ والعطاء وصار ربا الليرة في الشهر عشر بارات وعشرين بارة بعد أن كان قبل عهد السفر إلى أميركا لا يقل عن غرشين أو ثلاثة غروش. والدور الجميلة التي يشاهدها الناس اليوم في الأقاليم والولايات والألوية والمديريات والأقضية التي لها علاقة بسوريي أميركا قد بنيت بمال هؤلاء ولولا هذا المال لبقيت بلدان وضياعكثيرة أقرب إلى الخراب منه إلى العمران ولولاه لما كانت قدرت الرعية على تأدية الأموال الأميرية لأن البلاد السورية ولاسيما في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين كانت بحاجة شديدة إلى المال. فالأشغال في ذلك العهد المظلم أمست في خبر كان. وكان الحكام والموظفون وأهل السلطة والسيادة قد اغتصبوا البقية الباقية من مال الأمة. ولم يبقوا لها إلا الموت ذلاً وفقراً وجوعاً وقهراً.

وأما دعوى القائلين بأن ما ربحته سورية مالياً من طريق أميركا لا يوازي عشر معشار ما خسرته من شبانها ورجالها الذين ذهبوا فدية الغربة فأقول لهم أنه من البديهي أن من يموت في سورية يموت في أميركا. فالموت موجود في هذه الأمور كما هو موجود في تلك خلّ عنك أنه أقل بطشاً منه في سورية بدليل وفرة الوسائط الصحية في أميركا وقلتها في سورية والسوريون في أميركا محافظون عل صحة أجسامهم أكثر بكثير من محافظتهم عليها في سورية. وأما القول بأن المال الذي فارق السوريون آباءهم وأمهاتهم وأقرانهم من أله لا يساوي لوعة أم على فراقة فلذة كبدها فهو قول أعده من تلك الأقوال العتيقة البالية التي كانت ومازالت من أسباب انحطاط الشرق والشرقيين. اجتماع الولد بأمه وأبيه وأهله دائماً حسن وجميل ولكن هذا الاجتماع لا يصيّر الولد رجلاً ولهذا ترى رجال الشرق الذين يصح أن يقال فيهم أنهم رجال قلائل جداً بل لهذا السبب أصيب الشرق بقحط الرجال. الأميركي يربي ولده ويعلمه وحينما يبلغ رشده يقول له واذهب إلى العالم وعاركه ودعه يعاركك وأما الشرقي فلا يعلم ولده ويلا يربيه تربية الأميركي ولا يعلمه تعليمه وإنما يخاف عليه إذا فارق بيته ولو إلى بضعة أميال وهو يعتقد بأن بعمله هذا يحبه ويغار على مصلحته وخير مستقبله وإن هذا هو أهم ما يطلب منه ولكن قد فاته أن هذا الخوف وعدم هذا الخوف يتوقف سقوط أمم وارتفاع أمم وإذا لم ينتفع سوريو أميركا غير هذا من أميركا فكفيهم لأنهم على هذا المبدأ يستطيعون أن يشيدوا بناء أمة عالية. وأما الذاهبون إلى أن بقاعاً جمة من بقاع سورية قد خربت بسبب مهاجرة سوريي أميركا وأنهم لو ظلوا في بلادهم يتعهدون زرعها وضرعها وتعميرها لكانت درت عليهم وعلى سورية أنهار الثروة وكانت هذه الثروة أكبر بكثير من ثروتهم التي حصلوها في أميركا ولكانت تلك البقاع زاهية بالحضارة زاهرة بالعمران فهو مذهب فاسد من وجوه جمة. هو مذهب فاسد لأن الطور الذي زايلوا فيه وطنهم كان طور الخراب. فكانت سماؤه وأرضه خرباً في خراب وجهاته الأربع خراباً بخراب ولم يستطع في أيامه سوريو أميركا وغير سوريي أميركا أن يثروا ولا أن يعيشوا على الأقل عيشة خالية من ضغط الظالمين

وجورهم وتعدي الحاكمين واستبدادهم ولا أن ينسبوا كلمة في الإصلاح والعمران. أما كان الفلاح يهجر أرضه ويقطع غرسه ويهمل ضرعه تخلصاً من الظلم؟ أما كان يترك داره تنعي من بناها كرهاً لا طوعاً لأن صبره قد عيل في تلك الأيام السوداء ولم يبق في وسعه أن يحتمل فوق ما احتمل بصعوبة لا يستطيع وحش بشري ولا وحش بري أن يطيقهما. لما هجرتم أوطانكم وخلانكم وأخدانكم وأخوانكم وأعز الناس لديكم وأحبهم إليكم يا أيها الأحرار؟ أهو لكونكم لم تقدروا على إطاقة ما لا يطاق أم لا؟ كنا نتوقع أن تكونوا عادلين في كتاباتكم عنا في أرض غربتنا. كنا ننتظر إنصافاً لا إجحافاً ولكن شئتم ومرؤتهم وغيرتهم كبار الآمال بل قضت الأقدار أن يظلمان حتى حماة العدل وكماة الفضل إلا أن الأيام بيننا وبينهم ولكل عصر أحكام. والخلاصة أن سوريي أميركا لم يخربوا وإنما عمروا ودواعي الخراب المشهور في سورية عائدة إلى تلك الحكومة المشهورة أمرها وإن صح أن الذنب كله أو جله راجع على سوريي أميركا فلماذا فررتم أنتم من وجه الحكومة الجائرة قبل سوريي أميركا أو بعدهم ولم تبقوا في سورية لتصلحوا ما أفسده سواكم أو لتعمروا لا لتساعدوا على ازدياد الخراب. أشاع والي بيروت وكثيرون غيره إشاعات عن سوريي أميركا لم نسمع بها إلا منه ومنهم ولعل الغيرة على مصلحة الدولة دعتهم إلى تلك الإشاعات. فإذا افترضنا وجود افتقار بعض السوريين في أميركا إلى القوت الضروري فإنه من المؤكد والمحقق وجود كثيرين من السوريين الغير (بضم الغين والياء) الذي يعنون بذلك البعض ويطمعونه ويسدون حاجاته وإن افترضنا أن السوريين لم يكترثوا بأخيهم الجائع فحكومات هذه البلاد الرحومة الشفوقة تعنى به وإن افترضنا أنها لا تعنى به فهناك جمعيات في كل ناحية من نواحي هذه الديار غرضها الاعتناء بالفقراء والمعوزين على أنني لم أسمع ولم يسمع غيري أن سورياً مات جوعاً من أول عهد السفر حتى يومنا هذا وكيف يموت السوري جوعاً وقلما فرغ كيسه من المال مهما تكن حالته وحرفته من أرض غربته. وأما القول بأن هذه الإشاعات هي نتيجة تقارير معتمدي الدولة العثمانية في أميركا فإننا لا ندري كيف أن هؤلاء المعتمدين يبعثون بتلك التقارير وهم لا يعرفون عن سوريي أميركا من حيث مجموعهم شيئاً تقريباً ولا يعرف السوريون عنهم سوى وجودهم في أميركا.

أنا أكتب عهن السوريين لا عن سواهم من العثمانيين في أميركا وإذا كان هنالك جمهور من مهاجري أتراك سلانيك وأزمير وسواهما لم يفهموا كيفية التماس الرزق في أميركا من أبوابه وكان معتمدو الدولة في أميركا يعنون بإخوانهم الأتراك المهاجرين (؟) لأنهم أتراك ويهملون سواهم نهم غير أتراك ويرسلون في أحوالهم التقارير حباً بمصلحتهم وغيرة عليهم_فليس المعنى أن السوريين العرب في أميركا صاروا أتراكاً حتى يصح عليهم ما أذاعه عنهم والي بيروت اعتماداً على ما أرسله معتمدو الدولة في أميركا بهذا الباب. أميركا: يوسف جرجس زخم.

مقابر المصريين وجنائزهم

مقابر المصريين وجنائزهم في المقابر المنفية ابتدأت المقابر بلحود تحت الثرى تدفن فيها الأموات بعد درجها في لفائف الأكفان إما مباشرة في جوف الأرض أو في جرار كبيرة من الخزف ويظن أنه سرى لهم ذلك اقتداءً بقابيل حين قتل أخاه هابيل وعجز عن مواراة سوأته فبعث الله غراباً لبرية كيف يواري سوأة أخيه ففعلوا مثله. وأقدم الجثث ما وجد مقرفصاً على الهيئة التي خلقت بها في أحشاء الأمهات سولا الرأس فإنه يبقى منتصباً لا منطوياً بين الرجلين وقد وجد منها العدد الكثير في وادي القطار بجوار أطفيح من الجهة القبلية الشرقية وفي جهة أبي صير التابعة لمديرية الفيوم وفي نقاده والكوامل وأم الجعاب وجبل السلسلة. ثم استعمرت اللحود لدفن الفقراء على تمادي الزمن وكان للموميات في بادئ الأمر ثلاثة أحوال: الحالة الأولى_يكون هيكل المومية مجتمعاً فترى فيه الركب منضمة إلى الصدر وموضوعة فوق الوجه وتلحد في القبر على جنبها الأيسر متجهة حو الجهة القبلية. الحالة الثانية_يجمعون عظام الميت بعد تجريدها عن اللحم ويفصلون الرأس عن العنق بتحنيط الرأس وحفظه سليماً وذلك في بعض الموميات. الحالة الثالثة_حرق بعض شيءٍ من الجثة أو حرقها كلها مع بعض الأثاث الذي يتهيأ لوضعه في القبر معها ثم يؤخذ رماد ذلك المحروق ويوضع في قدر. وقد خالف الفقراء في صناعة اللحود ولو الثروة والأعيان فاتخذوا مقابرهم منحوتة في صميم الجبال وعلى الأخص في جبل لويه كالمقابر التي نراها الآن في جوار الأهرام في مديرية الجيزة فإنها آبار تبتدئ فوق صخر الجبل ثم بعد عمق يختلف بعداً وطولاً حسبما يشاؤن تنتهي بمنامة مستطيلة يوضع فيها تابوت الميت فهي بهذه الصفة لا تختلف عن مقابرنا الآن إلا بعمق الآبار وقد تكون البئر شبه منزل للمنامة غير ضيق فينحتوها في سفح الجبل ويتركون وجهتها الغربية عالية ويجعلون في آخرها منامة مربعة لدفن الميت فيها ويصورون في الجزء الأعلى الذي ترك فوق السطح على حافة البئر صورة الميت

وبجانبه باب وهمي لإرشاد الروح (كما كانوا يعتقدون) عند نزولها من السماء إلى جثتها حيث ترى شبه صاحبها أمامها وباباً معداً لها فلا تضل الوصول إليها ويجعلون تحت هذا الباب الصوري مائدة من الحجر ينصب بجانبها مسلتان صغيرتان وقد كان يوضع فوقها الخبز المقدس والشراب ولحم الطيور مما هو مبين بقلم النقش على جدران القبر. وإن كان الميت من أعيان الدولة أو من سراة القوم شادوا له مسطبة وهي بناء جسيم مرتفع كالهرم الناقص شكلاً أو كالهرم لمدرج الناقص ويجعلون فيها بئراً منحوتة في صخر الجبل يوصل إلى سرداب طويل يفضي إلى منامة معدة لمواراة جثة الميت فتكون المسطبة عبارة عن تركيب القبر ثم يرسمون في طول وجهتها من الأعلى نقوشاً تتضمن عنوان صاحب القبر ويكون تحت هذه النقوش المستطيلة عنوان باب المكقبرة محلى بالنقوش والصور الدالة على الميت وعلى أهله وذويه وتكسى ظاهر تلك المصاطب بنحيت الأحجار أو يبيتونها باللبن_وفي بعض الأحيان يجعلون لبعض المقابر المنحوتة في صخور الجبال قاعات بطرق متواصلة وعلى جدرانها دعوات وصلوات وصور مرسومة بالألوان كما ترى في مقابر سقارة فيستدل من تلك النقوش والصور على عقائدهم الدينية وعلى نسب الميت وسلسله حسب مرتبته في ألواح ترتيباً حسناً من قبيل الحلية والزينة للمكان وفي بعض الأحيان يجعلون أمام القبر أيماناً يعمل فيه مدخل يفضي فيه إلى المنامة_وأما الملوك فإنهم ميزوا مدافنهم عن مدافن الرعية بأن جعلوا تحتها أو في حجمها الأماكن اللازمة للجثة أو للأثاث والقرابين والصلوات وشحنوا في بعض الأحيان جداران هذه الأماكن الداخلية بالنقوش الدينية الصعبة المعنى وإليها الآن وجه الأثريون مباحثهم ورعايتهم لإيضاحها وحل مغمضاتها_وتبنى الأهرام بطريقة بسيطة جداً وهي أنهم يتفقون أولاً على الرسم المراد إيجاده من البيوت الداخلية وعلى ارتفاع الهرم وطول قاعدته وعرضها ثم يسلمون هذا الرسم الظاهر البيان إلى المهندس المعماري وهو يقوم بالعمل بقاً للأوامر الصادرة إليه فإذا أنجز الأشغال اللازمة في صخر الجبل من نحت وتفريغ شرع في البناء فيكسوا الأماكن الداخلية المراد كتابتها بالأحجار الملساء ثم يرتفع فوقها البناء فإذا ما علا فوق الأرض جعل البناء على هيئة المسطبة المائلة الأجناب أو المستقيم بحيث يجعلها ناقصة عن المقياس المطلوب بمقدار الكسوة الظاهرة التي يغطي بها الهرم بعد بناءه ومتى أتم

المصطبة الأولى وأراد الشروع في الارتفاع بنى مسطبة ثانية فوقها أقل حجماً منها بحيث يجعل في الفضاء الذي ترك في المسطبة الأولى زلاقة للعمال توصل إلى المسطبة الثانية وهذه الزلاقة تقام بدون مونة وتملأ بالرمل والحصا ويستمر العمل من الزلاقة التي فوق الأرض إلى الزلاقة الثانية التي فوق المسطبة الأولى حتى تنتهي المسطبة الثانية ثم يشرعون في المسطبة الثالثة يجعلونها أقل حجماً من الثانية ويقيمون لها زلاقة بالكيفية السابقة وهكذا يستمر البناء في إقامة مسطبة بعد أخرى حتى ينتهي العمل بأخر مسطبة فتكون المساطب مدرجة بعضها فوق بعض ثم يهرمون المسطبة العليا ثم الثانية لها وهكذا يستمرون في ملئ الفوارغ الموجودة بين المساطب وبعضها متتبعين بعض الكسوة الحجرية من القمة إلى القاعدة حتى يتم الهرم أما الأهرام الباقية المقامة باللبن فإنها كالأهرام المقامة بالأحجار من حيث الوضع والرسم والأماكن السفلى ولا تختلف عنها إلا بالمادة لأنها تقام بوضع اللبن المصنوع بالطين وخلط القش بهيئة مدامك بعضها فوق بعض ويكون بين المدماك والآخر طبقة خفيفة من الرمل في مقام المونة لتثبيت اللبن فلا تدركه زلازل الأرض ولا تزعزعه الزوابع العواصف. مقابر طيبة هذه المقابر منحوتة في جوانب الجبل بوادي يعرف الآن ببيبان الملوك وبآخر يعرف ببيبان الحريم وغالب هذه المقابر يشتمل على طرقات وبيوت بعمد وفيها نقوش بألوان وبدون حفر تتضمن تقديم القرابين وإقامة الصلوات بناءً على ما هو مدون في كتاب الموتى المنقوش صورته على حيطان الأهرام. ولا بد لكل قبر من الباب الوهمي لكونه يقوم مقام الإيوان الذي شاد أمام المقابر مشحوناً بالرسوم والنقوش وينقشون على هذا الباب توسلاً إلى أسوريس أو إلى (خونومو) أو مينو أو أمون أو بيتاح أو أتومو أو (رع) أي إلى معبودات منف وعين شمس التي عمت عبادتها في المدن والقرى في بعض الأقسام بعد أن كانت معبودات للحاضرات الشهيرة تلك هي أوصاف المقابر على وجه عام. تشييع الجنازة إذا حضر أحدهم الموت جهزوه مدة سبعين يوماً وهي المقررة عندهم للتحنيط ثم وضعوه

فوق سرير جميل كالموجود منه بعض نماذج في المتحف المصري ووضعوا تحت هذا السرير أربعة قدور فيها أحشاؤه التي نزعت من جوفه وقت التحنيط ولكل قدر غطاء له صورة مخطوطة إما كرأس إنسان أو كرأس ابن آوى أو كرأس الباشق أو كرأس القود أي أنها تمثل أولاد حوريس الأربعة وهم (حور) و (أسيت) و (قبح سنو) و (ديوموتف) لمعهود لهم حفظ الأحشاء الضرورية للحياة وفي هذه الأثناء يكون القبر قد تهيأ واستعد للميت ويكون نعيه قد بلغ أحبابه ومعارفه حتى إذا أصبح الصباح وحان الوقت (أخفا رأسه في وادي الموتى واجتماعه بالأرض) حسب تعريفهم هنالك تحضر وفود الناس ويرفعون النعش فتقوم زوجته وخادماتها ويتعلقن بالنعش ويمنعن خروجه من البيت وتأخذهن عبرات الحزن فيبكين وينحن ويولولن فتجتهد الرجال في خلاص النعش ويخرجونه عنوة من باب داره ثم يسيرون به إلى القبر فتبتدئ الجنازة بطائفة من العبيد والخدم ومعهم القرابين وهي فطير وأزهار وجرار ماء وقارورات فيها شراب ونوافح عطر وطيور مجهزة فوق سلال وعجل يسحبه رجل ليضحي بكفارة للميت وعلب في بعضها مأكولات وفي بعض تماثيل صغيرة لازمة لروح الميت_ومعهم أيضاً صوان فيها صحاف فيها فاكهة حولها جريدة النخل الأخضر. والطائفة الثانية تحمل الأثاث المعتاد كصناديق الملابس والأرائك التي تفتح وتغلق أو ذات المخادع والسرر الجميلة اللازمة للميت تليهم خدمة الإصطبل يقلون ربة كاملة الأدوات فيها الجعب والسهام ثم المبراخور يقود عربة يسحبها اثنان متن جياد الخيل. والطائفة الثالثة وهي أكثر عدداً من الطائفتين الأولى والثانية تقل القناني وصندوقاً لقدور الأحشاء ثم قدور الأحشاء نفسها فالوجه المستعار المصنوع من القوى والمصبوغ باللون الأزرق والمموه بالذهب ثم الأسلحة والقضبان وعصي الإدارة والقلائد والعجلان والنسور المبسوطة الأجنحة على هيئة الدائرة لوضعها فوق صدر الميت من قبيل الزينة ايام الأعياد ثم السلال والتماثيل الصغيرة وباشقاً برأس إنسان يرمز إلى الروح وقد يكون بعض هذه الأشياء من الذهب المصبوب والبعض الآخر مموه بالذهب حتى أن كل من رآها مارة أمامه أخذت ببصره لكثرة بهجها وبريقها. والطائفة الرابعة فيهن النائحات يسرن بضجة وغواش وعبد يصب فوق الأرض من وقت

لآخر بعض نقط من اللبن كأنه يشير إلى إرقاد التراب الثائرة ثم يعقبه قسيس متشح بجلد النمر ينثر بملعقة من الذهب العطر على جموع الخلق_ومن خلفه يأتي النعش وهو على شكل سفينة أسورس فيها نائحتا أسيس ونفتيس وفي مقعدها المحكم الوضع قد وضعت جثة الميت محجوبة عن العيون وحولها زوجته وأولاده يليهم أحبابه بأفخر الملابس وبيد كل واحد عصا يتوكأ عليها ثم يأتي جيران الميت سائرين بدون نظام وعلى هذا الترتيب تمر الجنازة في الطرقات المعوجة بنظام تام وفيها سفينة النعش فوق السحافة تسحبها الثيران وتسير الهوينا مستمرة على ذلك مدة ساعات. فيما يحصل أثناء تشييع الجنازة متى خرج النعش من بيت الميت كثر البكاء والنحيب وضجت النائحات المأجورة بالصراخ فيصحن ويقطعن شعورهن ويبدين من الأمور ما استوجب الزافرات والحسرات والأسف الزائد وهذا خلاف ما يحصل من أهل الميت وأحبابه فتراهم في صراخ وأنين وبكاء وعويل بالنساء نهم يتناوبن الرثاء والتأبين طائفة بعد أخرى ويقلن ما معناه: إلى المغرب مسكن أسوريس. إلى المغرب أنت الذي كنت أحسن الناس وكنت تبغض الرياء فتجبن النائحات ويقلن المعبودات نفسها تنعيك لأنك ذاهب أيها الرئيس إلى المغرب. هذا ما يحصل من طوائف النساء وأما ما يحصل من سائق الثيران التي تسحب النعش فوق الأرض فإنه يحث هذه الثيران ويقول لها: إلى المغرب أيها الثيران السابحة للنعش إلى المغرب (إلا ثرى) أن سيدكم آت خلفكم فتجيبه الأحباب قائلين: لقد أفل طالع الرجل العظيم الذي طالما أحب الصدق وكره الكذب اهـ. ثم تستمر الجنازة بعد ذلك في سكوت تام برهة من الزمن وبعدها تصيح إحدى النائحات بالرثاء والندب فيجيبها النسوة بما يناسب ندبها وهكذا تسير الجنازة بين نعي ونحيب كما هو حاصل الآن في الجنازة وعلى الخصوص في الوجه القبلي وكل من سمع بالجنازة وجب عليه الإسراع بها مراعاة لخاطر أهل الميت ووفاءً بما تقضيه عادات البلاد وكذا كل من حضر قدم واجب التعزية والسلوان قائلاً إلى المغرب مضيفاً إليها_بعض عبارات تشف عن حسن خصال الميت وفضائله ومحاسن أعماله المبرورة وعما ناله من الرقي والشرف

في دار دنياه. وقد يدرجون في تعازيهم ما يشير إلى فناء هذه الدنيا والى بقاء الآخرة والى التحفظ والوقاية من هول يوم القيامة. ومتى أقبلت الجنازة على شاطئ النيل نزلت حملة القرابين في السفن المعدة لهم ونزلت النائحات وعائلة الميت في سفن أخرى ويضعون النعش في مقعد السفينة بعد كساء ظاهره إما بالأنسجة المزركشة المدبجة بأنواع الألوان أو بستار من الجلد المصبوغ بالألوان والمصنوعة صناعة جميلة تشهد لصانعها بالفضل والذوقالسليم وفي أثناء جواز النيل يكون الناس وقوفاً في السفن ووجوههم نحو النعش وفيما أسلفنا القول أن هذا النعش صنع على النمط الفلكي السري الذي أعد للمعبود أسوريس وأقيمت له عبادة في مدينة العرابة ويعرف عندهم باسم نشميت أي مبرقش بنقط سود ونقط بيض أو المرفوع الذكر. وهو رقيق الجسم خفيفة وشكله مستطيل وفي مقدمته ومؤخره زينته من المعدن على هيئة زهرة اللوتس وكلاهما مائلاً ميلاً خفيفاً إلى الأمام يخالهما الرائي أنهما ينوءان لثقل ما في السفينة وما في وسط هذا الفلك مقعد مزين بباقات من جريدة التنخل الأخضر فتطوف حوله زوجة المتوفى وأولادها نائمة ويكون معها قسيسان عليهما لباس وعصابات كزي المعبودتين لاسيس وتفتيس ومحلهما خل ف النعش لوقايته وي قف القسيس المترئس على الجنازة أمام النعش وبيده مبخرة يحرق فيها البخور وتكون سفينة النائحات خلف سفينة النعش. أما باقي السفن فإنها تسبح على مقربة منها بقوة المجاديف وقوة الرجال وهذا التشييع يعرف عندهم بالرحلة أو الانتقال إلى الدار الاخرة فإذا ما رسا النعش على الشاطئ استقبله جموع الناس بالتبجيل والإكرام مودعين له قائلين: لقد حان لك الدخول بسلام في القبر فعليك منا السلام فاذهب بسلام إلى العرابة واهبط بسلام نحوها ونحو الغرب اهـ ولقد لكان لجواز النيل عندهم شأن عظيم لأن الانتقال من هذه الدنيا إلى دار الآخرة تختلف أحواله عند الأمم أما المصريون فقد عرفوا المكان الذي تذهب منه الأرواح لدخولها في دار البقاء وهو عبارة عن فجوة في الجبل الواقع غربي العرابة المدفونة ولا يتأتى للأرواح العبور منه في سفينة أسوريس ومن ثم كان عبور الميت للنيل هو استعاد روحه وتأهبها لتوجهها نحو الفجوة الآنفة الذكر وهناك تترقب مجيء الشمس في سفينتها فمتى أقبلت بما

فيها من طائفة المعبودات نزلت فيها وسبحت في السماء مخترقة باللجة السماوية برسومها في أثناء ذلك أما حالة في جثتها ومحلاة بملابسها المعتادة كأنها حية في دار دنياها أو يجعلها نائمة في نعش حوله النائحات والقسوس ومن خلفها سفن مشحونة بالقرابين ولقد ذهب اليونان بناءً على ما بلغهم من الروايات إلى أن أغنياء المصريين كانوا يفضلون دفنهم في العرابة بجانب أسوريس هي البقعة المباركة عندهم ولكن علمنا من بعض جثث أولئك الأعيان الذين قيل بدفنهم في العرابة أنهم ملحودون في مقابرهم التي أقاموها في ثمنف أو في بني حسن أو في طبيعة فاتضح أن الرحلة المنصوص عنها في النقوش المصرية القديمة سهي للروح لا للجسد - ولنرجع إلى أمر الجنازة فنقول أن جموع العالم تصيح أثناء تشييع الجنازة وتقول: إلى المغرب إلى المغرب دار الحق لقد نعاك وبكاك الملكان الذي كنت تهواه وتقول النائحات بسلام بسلام اذهب بسلام أيها الممدوح إلى المغرب سنراك إن شاء الله يوم الحشر لأنك ستذهب الآن إلى الأرض التي تمزج الناس بعضها ببعض. ثم تصيح الزوجة قائلة يا بعلي يا أخي يا حبيبي قف واستقر في مكانك ولا تبتعد عن المكان الدنيوي الذي انت فيه واوجيعتاه مالي أراك ذاهباً إلى السفينة لتجتاز النهر - يا أيها الملاحون لا تسرعوا به بل دعوه لأنكم ستعودون إلى منازلكم أما هو فراحل إلى دار الخلود_لماذا أتي أيتها السفينة الأسورسية ونزعت مني هذا الذي يفارقني؟؟ أما الرملاحون فلا يعبأون بهذه العبارات المحزنة ولا يعيرون لها أذناً واعية بل يقولون كن ثابتاً فوق سطح السفينة لأنا اقتربنا إلى الشاطئ. ومتى أقبلت السفينة المقلة للنعش بقوة وتصادمت بالشاطئ ربما يقع منها بعض الرجال في النهر وذلك لما تأتي باقي السفن وترسو بجانبها يتساقط منها في لجة النيل بعض القرابين لشدة تلاطمها بالشاطئ لكن لا يفلت أحد لذلك بل يستمر الأحباب في تأبينهم ورثائهم قائلين ما أسعد هذا الممدوح حيث ساعده الحظ فتوجه إلى الراحة في قبره الذي أعده لنسه وسينال من المعبود الرحمة الواسعة فيسمح له بالذهاب إلى المغرب محفوفاً بالخدم من جيل لآخر_وهذا الرثاء لا يمنعه عن البكاء والعويل. ثم إنهم يخرجون الموميا من السفينة ويضعونها ثانياً فوق السحافة وتنتظم الجنازة في سلكها

الأول وتسير في هذا النظام إلى سفح الجبل وهناك يتعذر على الثيران سحب النعش فتحمله الرجال فوق أعناقهم ويسيرون به الهوينا إلى باب بالقبر المعد لدفنه حيث يجدون هناك نوع مسطبة يوضع النعش عليها فينصبون صندوق الميت فوق كثيب من الرمل ويجعلون وجهه نو جموع العالم كأنه حلبيته الجديد صحبة أحبابه وكبأنه قد تأهب لوداعهم للدخول في سكنه الجديد هنالك يتجدد البكاء والعويل وتعلو الأصوات بالنحيب والأنين ويرتفع الصياح والصراخ ويأتي أهل الميت بالأزهار فيضعونها فوق صندوقه ثم يعانقونه ويوعونه فتقول الزوجة: أنا أختك أيها العظيم فلا تتركني فهل تقصد حقيقة أيها الأب العزيز أن أتباعد عنك؟ متى فارقتك صرت وحيداً فهل لك من أنيس يرافقك - أنا أخاطبك أنت الذي كنت تود المزاح معي مالي أراك ساكبتاً لا تتكلم اهـ تكون جاريها في هذا الوقت جاثية خلفها فتقول: ها قد أخذ سيدي مني وترك خدمه ثم تقول النائحات نوحوا عليه نوحوا وابكوه بلا انقطاع وصيحوا بأعلى أصواتكم (وقولوا) أيها الحالة العظيم المتوجه إلى أرض الخلود لقد نزعت منا فالآن نخاطبك أنت الذي كنت تحب حراك رجليك للمشي مالنا نراك مغلولاً مقيداً مكفناً أنت الذي كان لك الكثير من الملابس الفاخرة وكنت تحب القماش الأبيض مالنا نراك الآن راقداً في ثيابك (التي كانت عليك) بالأمس لقد أصبح الذي يبكيك (كأنه) يتيم الإمام والقلب محترقاً عليك لما أصابه من الحزن وحائماً حول جثتك وفي أثناءالبكاء والعويل على الميت يحرق القسيس البخور ويهرق التراب ويقول (هذا) لجثتك أيها المتوفى فلان الصادق القول لدى بالمعبود العظيم عند ذلك تختف الموميا في جدثها وتستقر في ظلمات القبر إلى دهر الداهرين ولما كان القبر مسكناً للميت كمساكن الدنيا للأحياء رأوا أن يجعلوا سفيه أماكن للزينة ومصلى يأتي فيها أهل الميت بالقرابين والضحايا في كل يوم عيد وفيه أماكن خصوصية لا يدخلها سوى جثة الميت ويزينون داخل تلك الأماكن بالرسوم والكتابة بعد تمليطها ملاطاً

لطيفاً يظهر محاسنها ويجعلون تلك الرسوم ألواحاً متعاقبة يعلو بعضها بعضاً بهندام ونظام حتى تصل إلى السقف فيصورون حرث الأرض والزراعة والحصيد وتخزين الغلال وتربية الحيوانات وصيد البر والبحر ومعامل النجارين وصناع العربات والنقاشين والصناعة والزجاجين والخبازين وتحضير الطعام واستعاد الموائد مرفقة بالأغاني ورقص العوالم ول ذلك طلاسم يعتقدون أنها تتحول إلى حقائق بسر صيغ يتلونها ليتمتع به الميت في قبره فإن اشتهى شيئاً يتغذى فما عليه إلا أن يختار ما شاء من الأبقار أو الأشياء الأخرى المرسومة في قبره ومتى وقع نظره عليها تحولت إلى حقيقة وتلذذ بها كما كان يتلذذ في دار دنياه تلك هي عقائدهم التي ساقتهم إلى زخرف المقابر ولذلك ترى في رسومهم صورة صاحب القبر قد أخذت فخذ الثور من يد خادمها وتغذت منه هذا بما تفعله أموات فقرائهم. أما أموات الأغنياء وأرباب المظاهر فإنهم لا يحتاجون غالب الأحيان في أوائل موتهم إلى شيء من المرسوم على جدران القبور لأن أهلهم وذويهم يقدمون لهم في المواسم وغيرها ما تشتهيه أنفسهم من المآكل والمشارب فيذبحون الضحايا من بقر وإوز ويقدمون بالنبيذ والجعة وغيرهما إلى أمون أو سوريس أو فتاح أوخونسو فيأخذ المعبود شيئاً منها لنفسه ويرسل الباقي إلى الميت المراد تلك القرابين ومن ثم وجدت الأوقاف على الموات وبنوها على شروط كانوا يبرمونها مع قسوس المعابد هؤلاء يقدمون ما هو موقوف للقبر من الأشياء ويقومون بالصلوات والدعوات في الأوقات المعينة وعليه كانت العنابية بإحياء ذكر الأموات من الأمور المهمة عندهم لكن مع وجود هذه العناية ومرور المدد الطويلة على الأوقاف كان ينتهي أمرها بالانقطاع إما لانقراض العائلة واندراسها أو تبديد الأوقاف عقب الانقلابات الكبيرة وبذلك ينقطع الوارد عن الميت فعندئذٍ لا يجد أمامه إلا ما هو مرسوم فوق جدران قبره لكن كيف يتسنى للميت لقيام والقعود واستمرار الحركة مع أن الموت أفقد ذلك والتبصير حول جثته إلى جسم حراك له ولا قدرة فلا يستطيع المشي ولا بالتكلم ولا النظر ولا تأدية شيء من الوظائف التي عليها مدار الوجود فلأجل خلاص الجثة من هذه المقيدات المعطلة لعامة حركات الجسم أوجدوا طريق يسمونها (فتح الفم) وهي أن رئيس القسوس وأعوانه وهم أولاد حوربس يوقفون الجثة المحنطة فوق كثيب من الرمل في آخر

المصلى المعدة لها ويقرأون عليها الصيغة المقدسة السرية التي تلاها حوريس على جثة أسوريس ثم يطهرونها بالماء القراح وبالماء الأحمر ويبخرون الجنوب وبالشب الوارد من الوجه البحري كما يفعل لتمايل المعبودات عند الشروع في تقديم الضحايا لهم ثم يعملون له العمل اللازم لإيقاظه من السبات والأمانة ولخلاصه من لفائف الأكفان ويرجعون له الظل الذي تقلص منه وقت خروج روحه ويبردون إليه جميع حركاته فيصير جسمه المحنط حياً في عقيدتهم فيتغذى ويتنعم في ديار دنياه فإذا كان الجزارون يذبحون ثور الجنوب ويقطعونه بعد دفن الميت أسرع القسيس بتناول فخذ الثور وبتقديمه لفم الوجه المستعار الموضوع فوق رأس الجثة المحنطة لاعتقاده أنها حية وأنها تتناول شيئاً من ذلك ولما يجد عدم الفائدة يأخذ ألة من خشب لها أنصال من حديد ويشير بها على فمخ الجثة مريداً بذلك فتح فمها ثم يتلو صيغة على الموميا فيصبح في استطاعتها حسب عقيدتهم الذهاب والإياب والسمع والكلام وتناول شيءٍ من القرابين التي تقدم لها بل تستطيع أن تدعو كل من رافقها في يوم الجنازة إلى أول وليمة تقدم لها في قبرها بعد الدفن وذلك أنهم متى وضعوا تابوت الجثة في منامتها أتت العبيد بالقرابين وبالقدور الأربعة التي فيها أحشاء الميت والصناديق والأثاث والمأكولات التي أحضروها مع الجنازة فيتلو عليها القسيس صلاة معلومة عندهم بعد وضعها في القبر ثم يخرج من عندها ويقيم عليها البناؤون سداً محكماً في نور المشاعل وبعد تنجيز هذا العمل تقدم العبيد مائدة للحاضرين أمام القبر أو في المص لى فيحضر في هذه الوليمة تمثال الميت المرسوم رسماً بارزاً في آخر القاعة الثانية ويتوهمون أنه يتناول ما يخصه من هذه الوليمة حسب عقيدتهم القاضية بأن للأشياء روحاً وشبحاً كما للإنسان والحيوان فمتى ذهبت الموميا إلى قبرها تلبسها الحياة وتتمتع بفضائلها كما كانت في دار دنياها فالشيخ الموهوم للكرسي أو للسرير هو كرسي وسرير حقيقي لجثة الإنسان المدفونة فيتمتع بهما ويتلذذ بما يقدم من الشراب واللحوم لعالم الجنازة كما كأنها حية معهم وبينما يكونون مغمورين في ملاذ المطاعم تشتغل النساء بالرقص والقصف ويشرن في أغانيبهن تارة إلى الميت وطوراً إلى الأحياء مع مراعاة السجع فيقلن: اكتسب حظ يومك ما الحياة إلا لحظة اكتسب حظ يومك لأنك متى دخلت قبرك مكثت فيه مكوثاً أزلياً إلى دهر الداهرين.

فإذا انقضت هذه الوليمة تأهب الجموع للرحيل فعندئذ يقوم العواد أمام بيت التمثال وبيده العود ويشرع في نشيد الأغاني القديمة فيقول ما معناه: الدنيا دار انقلاب وتجدد مستمر إذ الأمر الذي قضى به أسوريس المعبود الكبير من الغرابة بمكان وهو أنه من حسن القضاء (والقدر) إنه كلما فني جسم وانقضى حل غيره مكانه وهذا معروف من قديم الزمان (كيف لا) وأن الفراعنة الأول الذين كانوا يعبدون ودفنوا في أهرامهم ودفنوا معهم في تلك الأهرام جثثهم وأشباحهم تركوا ما كان لهم من مقاعد القصور التي شيدوها فانقضى نحبهم فلا تيأس (أيها الحي) بل اتبع شهواتك وسرورك قدر ما تستطيع وطول ما تعيش في هذه الدنيا فلا تضني نفسك إلى أن يأتيك اليوم الذي يتوسل فيه الإنسان إلى أسوريس صاحب القلب الثابت فلا يسمع له_كل بكاء الناس لا يفيد الميت الذي في قبره فاكتسب حظ يومك ولا تهمل ما فيه مسرتك فلم يستطع أحد أخذ شيءٍ من أمواله إلى دار آخرته ولا أحد ذهب إليها وعاد اهـ. أما اعتقادهم في الجثة فبعضوهم يقول أنها تبقى في القبر مرتابة الوجود قليلة التحمس بنفسها فلا تبرحه إلا إذا انقطع عنها وارد المؤونة أي القرابين التي تقدم لها من لدن أهلها واعتراها الجوع ويحكون نهم يرونها هائمة في القرى وتلقي بنفسها بشراهة على البقايا الموجودة فوق الأرض وعلى أقبح القاذورات ويحدث عندها القحط عوامل الغيظ وحب الانتقام من الأحياء الذين أهملوا أمرها فتهجم عليهم وتعنفهم وتجدد فيهم الأمراض_ويحكون أيضاً أن بعض الجثث أو أشباحها مع تقديم القرابين لها والقيام بما يلزمها فإنها شرسة الطبع فتحملها شراستها على اضطهاد أقرب أهلها فقد جاء عنهم في الآثار أن رجلاً أحسن معاشرة زوجته واقام لها جنازة فاخرة يوم وفاتها وأوقف لها أشياء كثيرة إلا أنها تقصده بالأذى فكانت تأتيه كل يوم بهيئات فظيعة ولم يتيسر له الخلاص من سوء أعمالها فلما فرغت جعبة صبره ولم يستطع تكبد هذا التعنيف المستمر كتب لها جواباً ذكر لها فيها حسن المعاشرة والتودد الذي كان بينهما وسألها عن الأسباب التي دعتها إلى هذه الأعمال السيئة فقال لها ما تعريبه: منذ صرت زوجاً لك إلى هذا اليوم ما الذي فعلته نكاية فيك وأخفيه عنك ماذا تفعلين حينما أعترف (أمام الرب) بما فعلته لك يوم عرضنا عليه أمام مجلسه حينما أدافع بنفسي عن

مظلمتي أمام معبودات الآخرة ويحكم عليك بناء على ما أحرره لهم في مظلمتي من مساويك (أخبريني) ماذا تفعلين اهـ. ثم أنه علق هذه الكتابة في تمثال من خشب على هيئة المرأة ووضعه في قبر زوجته فلما وصلها هذا الجواب خافت من لقاء ربها ومحاسبتها أراحته من تعنيفها_وكثير منهم يقول أن الروح تغادر قبرها وتهاجر إلى أرض أخرى كائنة خلف الفجوة الآنفة الذكر وهي الواقعة في جبل العرابة وفي تلك الأرض ممالك حقيقية للأموات كل مملكة تحت رعاية معبود مثل خنتامنمتي وبتاح سكري وأسوريس وهذه المعبودات تقتبل أرواح المصريين الذين عبودهم في دار دنياهم فكل من توسل مثلاً إلى أسوريس كان تابعاً له وفي ملكته وكل من انتمى إلى بتاح سكري كان من أتباعه وفي مملكته وسمى وميق أسوريس أو وميق ختيامتي_وأمر تلك الممالك وأكثرها سكاناً مملكة أسوريس وهي عبارة عن جملة جزر نرى من هذه الدنيا أكتافها الظاهرة فجهتها البحرية الشرقية السماء ووجهتها الشرقية المجرة وزهي الشهيرة بآم النجوم. ولا يمكن الوصول إليها إلا بعد سفر دونه مشاق وأخطار فمتى غادرت الروح جدثها جعلت ظهرها نحو الوادي وزجت بكل جسارة وجرأة في أغوار الصحراء فتصادفها إحدى الجميزات الباسقات هناك في وسط الرمال وتعرف عند فلاحيهم بالشجرة المسحورة فتشاهد بين أفنانها أما المعبودة (نيت) أو (حاتحور) أو (نوت) فتقدم لها هذه المعبودة صفحة بها خبز وأخرى بها ماء فكل روح قبلت هذه العطية كانت من أتباع هذه المعبودة ولا يمكنها الخروج من مملكتها إلا بإذنها ورضاها ويوجد فيما وراء الجميزة بلاد محفوف بالمخاوف مشحونة بالثعابين والحيوانات الضارية وفيها سهول فيها حميم وأباطح تسكنها نسانيس كبيرة تصطاد \ الرواح بالحبائل يحكون أن كثيراً من الأرواح وقعت في تلك المخاطر فهلكت أما ما يكون منها محصناً بالتمامئم والتعاويذ متوقياً بسر الطلاسم السحرية القوية فإنها تقتحم الأخطار وتنجو منها حتى تصل إلى شاطئ بحيرة تسمى (خا) فتشاهد هناك الجزائر السعيدة فيأتيها بحوت على شكل طائر أبيس المعروف (بأبي نحس) ويأخذها على جناحه أو يأتيها الملاح المقدس ويأخذها في سفينته إلى أن يأتي بها إلى أسوريس فيسألها هذا المعبود أمام أعضاءه وهم اثنان وأربعون قاضياً عن أعمالها في دار دنياها ويناقشها الحساب ويزن قلبها تحوت في كفة ميزانه وحينئذ تأتيها معبودة

يقال لها (معيت) أي العدالة فتلقنها الاعترافات السلبية لتتبرأ كم كل تهمة توجهت إليها ثم تدخل بعدئذ في رياض يقال له (سخيت أيالو) في زمرة الأرواح السعيدة وهي أراض طيبة الخصوبة يعلو فيها القمح إلى سبعة أذرع بما في ذلك السنابل التي تبلغ ارتفاع الواحدة منها ذراعين. والموتى هم المكلفون بزراعته وجمع محصولاته وتخزين الغلال وقد ينوب عنهم في هذا العمل الشاق تماثيل صغيرة توضع بجانب جثثهم في القبور ويقال لها (شبتى) أي المجيبة وقت نداء صاحبها لمباشرة أعمال الفلاحة في حقل (أيالو) المذكور في الأوقات المعينة أما باقي أوقاتها فتكون في ولائم مستمرة وفي أغاني ومسامرات ومسرات لا نهاية لها. وكثير منهم يقول ببطلان هذه العقيدة وفسادها لما فيها من الخشونة والفظاعة وهؤلاء كانوا يجتهدون في الوقوف على الحقائق وينسبون للأرواح درجة أشرف وأرقى من ذلك. وكان لكهنته (أمونرع) مذاهب في حقيقة ما تؤول إليه الروح وكلها ضروب من تخمين اللاهوتيين لا دخل لأفراد الشعب فيها ومضمونها أن الإنسان سيبعث بعد موته ولا يعلم سر ذلك إلا الله الخفي اهـ.

الرأي الصريح

الرأي الصريح في مقال الفصيح العامي والعامي الفصيح. قرأت في الجزء العاشر من مجلة المقتبس مقالاً بعنوان الفصيح العامي والعامي الفصيح لحضرة الفاضل نعوم أفندي مكرزل صاحب جريدة الهدى التي تصدر في نيويورك. قرأته بلهف شديد لأني أميل بسائق من طبعي إلى المباحث اللغوية نقد كلام البلغاء وتميز القول الفصيح من الغث الركيك. ليكون لي من ذلك مادة استعين بها. وقاعدة أحتذي مثالها: أقدمت على تصفح هذه المقالة وأنا معجب بأولئك النفر من أخواننا العرب المسيحيين الذين هاجروا وطنهم ولكنهم لم يهجروا لغتهم. ولم يذلوها في غربتها. بل رفعوا شأنها وحفظوا كرامتها. بما نشروه من الجرائد. وبجوه من الرسائل والكتابات المفيدة. وحضرة نعوم أفند=ي من هؤلاء الأفاضل الذين خدموا لغتنا العربية بما نشروه في جريدة (الهدى) التي لم أك من قراءها وإنما كنت أقرأ أحياناً نبذاً منها في صحافتنا العربية أما مقال (الفصيح العامي) الذي قرأته أخيراص في مجلة المقتبس فقد رأيته أقل قدراً من أن يعزى إلى صاحب جريدة (الهدى). ولاحظت فيه ركاكة في التعبير. وضعفاً في الأسلوب. ومواضع للنقد والمناقشة بلغت من الكثرة مبلغاً جعلتني استبعد أن تكون فرطت من قلم كاتب المقالة وإنما هو الذهول غلب على مصحح أصولها في إدارة المقتبس فجاءت هذا مشوهة المحاسن. طامسة المعالم. وإن لم يكن الأمر كما ذكرت فيكون الوسط الأعجمي الذي يعيش فيه أخواننا المهاجرون أثرت رطانته في صراحة لغتهم. وبدلت عجمته من عروبة ألسنتهم. وإلا فكيف قرأ مقالاً لواحد من أشهر كتابهم في نقد لغة الكتاب وتعداد أغلاطهم في أساليبهم وتراكيب كلامهم. وإرشادهم إلى الطريقة المثلى في التعبير والتحبير. ثم بعد هذا كله نسمع في المقال نفسه من الركاكة والغموض والعسلطة ما لا يتفق وجوده في عشرات المقالات. ألا يكون هذا من الغرائب؟ لو اقتصر الكاتب على الموضوع الأهم من مقالته: وهو سرد الكلمات العامية التي يحتسبها الكتاب دخيلة وهي عربية فصيحة ثم حضهم على استعمالها لكان أجاد وأفاد. لكنه ذهب في أفانين القول كل مذهب وتعرض لنصح المنشئين والزراية عليهم والإنشاء العالي فسقط في

هذا التعرض من عل وأتى بأشد مما نهاهم عنه. وحذرهم منه. ولامهم عليه. ولا يكون من الإنصاف بعد هذا أن لا نذكر نموذجاً مما نؤاخذ الكاتب فيه. ثم نلفت أنظار القارئ إلى: أول ما يؤخذ عليه قوله في العنوان (الفصيح العامي والعامي الفصيح) فإنه تكرار لأحسن فيه. ولا داعي له: إن كلمتي (العامي) و (الفصيح) في هذا التركيب وقعتا صفة لمحذوف كأنه يقول (اللفظ الفصيح في أصله العامي في استعماله) ولما عكس وضع الكلمتين كان المعنى (اللفظ العامي في استعماله الفصيح في أصله) وه نفس المعنى المستفاد من التركيب الأول فكان ذكره زيادة مستغنى عنها. وليس تغليب الكلمتين هنا كما هو في قلوهم (كلام الملوك ملوك الكلام) فإن هذا القول له معنى خاص لا يستفاد إلا بمجموع التركيبين وقد حمل أحدهما على الآخر. أي أن لكلام الملوك ميزة على سائر كلام الناس كما أن للملوك ميزة على الناس أنفسهم. فالمعنى المستفاد من الموضوع والمحمول حسن في ذاته. وزاده حسناً قلب التركيب وعكس الألفاظ حتى استحق بذلك أن يعد في جملة أنواع البديع. ثم بعد هذا العنوان أراد الكاتب أن يبين مبلغ حاجتنا إلى معجم لغوي يجري في تحليل الألفاظ مجرى معاجم اللغات الأوربية فافتتح الكلام بقوله: (ليس في اللغة العربية معجم واحد يستحق أن يدعى نجعة الرائد يوفر الشواهد وكثرة الفوائد وضبط الشوارد ولا في غير اللفظة ما يدل على إزالة الإبهام الخ) فقوله (ولا في غير اللفظة) غامض في اتصاله بما قبله مبهم في تعيين المراد منه. ثم قال: (فترى أكثر الكتاب يتخرصون فيما لا يعذرون عليه ويتوهمون أن البيان في الدخيل والحوشي والبلاغة في العقيم والوحشي وأن كل من هرف عرف). الكاتب الذي خط قلمه هذه العبارة هو الذي قال بعد سطرين (قد تهتأ ثوب اللغة حتى كاد يسقط من تقطعه فترى كل من تحيف بيانه عجمة وجدل عن ادعاء ومكابرة يتحف الفصيح ويستلب البليغ ويحرك خشاشه غضباً على كل ملك من اللغة عناناً وضبط لها بياناً ويكون لا يدري من أي الدهداء هو الخ) إذا سالت معاجم اللغة عن معنى ما ورد في هذه الجملة قد تجد أن معنى (تهتأ) تقطع وبلى. لكنك إذا سالت نفسك عما فهمته منها تجدها لا تحير جواباً. ولا تملك خطاباً. وإذا ألحقت عليها بالسؤال تقول لك يلوح لي أن الكاتب الفاضل

يريد أن يوبخ أدعياء اللغة والإنشاء الذين ينتقصون غيرهم. ويعمون عن عيوب أنفسهم. إذا قلنا أن المصحح سها عن تصحيح كلمتين أو ثلاث فهل يعقل أن يكون ركبه السهو في كل جمل المقالة فحرفها تلعب بها. ودونك هذه الجملة الأخرى: وقليل من البحث يرجعها_أي الكلمات العامية_إلى أصلها. ويقيم مكن اللسان مناداه. على ما وقع من نحو خمسين عاماً إلى اليوم إذ توكف المجتهدون أثر بلغاء العربية الأقدمين وتنشطوا للبحث والتنقيب وأقبلوا على التدقيق والتحقيق وقد ترجع مثابرتهم اللغة إلى رونقها الأول بعد خمسين عاماً تأتي الجملة بمجموعها ركيكة ظاهر عليها التكلف. ولعله يريد بقوله توكف المجتهدون أثر البلغاء_تتبعوا. فيقال فلان توكف لآل فلان اذا تعهدهم بالصلات والعطايا. وفلان يتوكف للأمير أي يتعرض لها حتى يلقاه. وقوله: مثابرة اللغة وصوابه على اللغة لأن لمثابرة معناها المواظبة. وهما يتعديان بعلى يقال: ثابرت على الأمر وواظبت عليه. على أن المعهود في مثل ما يريده الكاتب أن يقال المثابرة على خدمة اللغة أو دراسة اللغة لا المثابرة على اللغة. ثم انحنى الكاتب باللائمة على المدارس الأجنبية التي توجب على تلاميذها التخاطب بلغتها وقال وبذلك بتسرب العقوق وشيءٍ من البله إلى قلوب وعقول هؤلاء الأولاد المساكين قد نجد لتسرب العقوق إلى العقول معنى لكننا لا نجد أبداً لتسرب البله إلى عقولهم معنى ولا شبه معنى بسبب التخاطب باللغات الأجنبية. ثم قال الكاتب إن البلاء ليس في الإدعاء وحده بل في اختزال كل منا برأيه. والتصرع والتصاغر للأجنبي والتمرؤ الظاهر تكلفه والتفوق البادي تحيفه مع الوطني وريح التخاذل حتى في اللغة تنجف كل ذروة باقثية في جرفها وتحتمل كل درة كنا نعرفها قبل عصفها. ولله في تدابيره شؤون. . وأغرب من ذلك أن حضرة الكاتب أراد أن يذكر عيوباً للغة فقد منها عيباً يعده قوم مزية من مزايا اللغة ويحسبه الآخرون أمراً طبيعياً لا تخلو منه لغة من. (ومن عيوب العربية إيراد جموع لا مفرد لها وأفعال لا مصدر ولا ماضي لأحدها. فهل تقبل فلسفة اللغة شيئاً من هذا؟ وهل يعقل أن واضعي اللغة ينو كلاً من غير أجزءا؟ إننا لا ننسب هذا الخلل إلا إلى المدعي المحافظة على سلامة اللغة أو يكونون يحافظون على قديم عقيم لا يسلم به عقل سليم).

لا نرى علاقة بين فلسفة اللغة وبين أن يكون في العربية موع لا مفرد لها: عدد أهل اللغة طائفة من الجموع لم يعرف منها مفرد: مثل محاسن ومذاكير وتجاليد. فذهب بعضهم إلى أنها لا مفرد لها. وحقق آخرون أن لها مفردات أهملت في الاستعمال. وربما كان المراد من قول الأولين (لا مفرد لها) أي في الاستعمال لا الوضع فلا يكون بين الفريقين خلاف. ولا بد من داع دعا أهل اللغة إلى إهمال تلك المفردات. وقد قالوا أن جمع كلمة (لب) (ألباب) لكنهم لما رأوا الجمع أرشق في اللفظ وأخف على السمع أكثروا من استعمال الجمع وإهمال مفرده وهكذا كان دأب القرآن الكريم في استعمال الجمع دون المفرد. ومثل هذا يقال في الفعل الذي لم يستعمل مصدره أو لم يستعمل ماضيه. فليست المسألة إذن من مسائل الفلسفة. وإنما هي مسائل تخير أرشق كلمات اللغة للتخاطب والتفاهم. وفلسفة اللغة لا يصح أن يكون التعمق فيها مدعاة للإجادة في المنظوم والمنثور. كما كرره الكاتب في مقاله: فإن تلك الفلسفة علم نظري أكثر مما هو عملي. وله ثمرة خاصة به غير تجويد الإنشاء وتحبير الكلام الذي يتوقف على استظهار كثير من كلام البلغاء وإطالة النظر في أساليبهم والتفطن لمناحي كلامهم. هذا هو الطريق لتحصيل ملكة الإنشاء. أما فلسفة اللغة فلا يكون من أثرها ذلك بل كان ربما للاشتغال بها اسوا الأثر في ضعف تلك الملكة والعجز عن تحدي الكلام البليغ. وقد غلا حضرة الكاتب في الرفع من شأن فلسفة اللغة والحط من قدر زملاءه الكتاب الذين لم ينالوا حظاً من تلك الفلسفة حتى قال: (نحن ابعد أبناء اللغات الحية عن وضع الكلام في مواضعه وإقامته في مواضعه لأننا لا ندرس فلسفة اللغة بل لأن أكثر أصحاب الجرائد والمجلات والمترجمين والمؤلفين من غير الأكفاء إلا بالتبجح والادعاء. أو أن اللغة أمست واسطة للكسب والارتزاق حتى بالعبث والنفاق). فقد جعل حضرته علة تقصير أخوانه في وضع الكلام مواضعه جهلهم فلسفة اللغة. فهل هذا حق؟. ومما انتقده الكاتب قولهم (دام بقاؤه) فقال (إن طلب الدوام. حماقة وحرام) وأنهم في مثل

هذا القول قد طلبوا (البقاء في دار الفناء وخلود من أعدت لهم اللحود). وذا ذهول من حضرة الكاتب: لأن أصل الدوام في اللغة السكون ومنه (ماء دائم). ويستعمل أيضاً في طول البقاء وامتداد المدة. ومنه (ديمة) للمطر الذي يستمر تهطاله بضعة أيام. ومنه أيضاً استعمال (مادام): فاذا قلت اجتمع بك مادمت في هذه البلدة كان المعنى مدة بقائك فيها. فقول الكاتب دام بقاؤه في الدعاء بمثابة أطال الله بقاءه. نعم قد يرد بالدوام والخلود كما في القرآن الكريم (أكلها دائم وظلها) والضمير يرجع إلى الجنة كما أن الخلود نفسه يراد به طول المدة أحياناً كما ورد في القرآن الكريم عن أناس لا يكونون كافرين ومع هذا خبر عنهم بأنهم يدخلون النار خالدين فيها ففسروا الخلود بأنه طول المكث لا المكث الأبدي. ومما انتقده أيضاً عليه فيه قولهم (همى الدمع من عيونها) قال كم من عيون لها يشير إلى أن صوابه أن يقال من عينيها. لكن أهل اللغة يجوزون استعمال صيغة المثنى في الجمع والجمع في المثنى بل يجوزون أحياناً استعمال المفرد في الجمع والجمع في المفرد. ومثلوا لكل ذلك. وذكروا له أسباباً معتبرة عند أصحاب اللغة. ففي القرآن الكريم فقد صغت قلوبكما. كان الظاهر أن يقال قلبا كما لأن المخاطبين اثنان. ولهما قلبان لا قلوب. لكنهم هرعوا اجتماع علامتي تثنية في لفظ واحد. أما مثل همى الدمع من عيونها فيؤولونه بإرادة المبالغة وأن المرأة كانت كأنها تبكي بعيون كثيرة. لفرط ما استبلته من الدموع الغزيرة. وأكبر ما يؤاخذ به الكاتب أنه عاب أخوانه الصحافيين في أمر تكاد ترى مثله ماثلاً أمام عينيك وملموساً تحت يديك في كل جملة من جمل مقاله. مثال ذلك أنه آخذهم في قولهم أرسلت له وصوابه أرسلت إليه. وانتقاده صحيح ولكن الرصفاء لا يستحقون عليه كل هذا الأزراء والتوبيخ فقد قال في هذا الصدد: (أصعب ما في اللغة على الدارسين أنفسهم استعمال حروف الجر وكل مدقق يتناول الجرائد والمجلات إلا العدد القليل منهن يضحك من كثرة السقطات التي لا يعذر منشئ عليها وفي مقدرته شراء معجم أو في رأسه قوة تميز بين هذا وذاك المعنى الخ). ولكن هل تحسب حضرة الكاتب في منجاة من كل ما تنقص به زملاءه. وهل تراه أحسن استعمال حروف الجر ووضعها مواضعها اللائقة بها؟ قال في هجو أولئك الزملاء المساكين: (فترى أكثر الكتاب يتخرصون فيما لا يعذرون

عليه) أخطأ الكاتب في استعمال الحرفين_في وعلى في جملة واحدة قصيرة. يقال تخرص عليه أي كذب وافترى. ولا يقال تخرص فيه. ويقال عذره في فعله. ولا يقال عذره على فعله: فكان الواجب على الكاتب أن يقول (يتخرصون على ما لا يعذرون فيه). على أن هذه الجملة برمتها لا معنى لها أو لا معنى لاستعمال التخرص في هذا المقام. ومما قاله في صدد التهكم بالكتاب والمنشئين: ولماذا لا نكتب ونكاتب بفهم وسهولة وبساطة وسلامة وحقاً إن حضرته أشفق على القراء مكن أذى ما ينالهم من كد الذهن اذا قرأوا كثيراً مما يخطه الكاتبون لكنه لم شفق هو عليهم في مقاله هذا بل ضربهم بثالثة الأثافي مذ قال في خامتة المقال. وإنا لمعيدوه على أسماع القراء وإن طال: ثم ما هي فائدة الحركات في اللغة اذا كنا لا نريد أن نصرف عن جعل الواو الثقيلة الد؟ في أولى وعمرو وحيوة وصلوة بجحة التمييز وإزالة اللبس وهلا يوجد غير هذه الكلمات في العربية بحاجة إلى الضبط؟ ثم ما هي فائدة الحركات اذا كنا نكتب إله ولا يجوز لنا أن نكتب مؤنثه إلهة؟ ثم كيف يعقل أن تكون جموع لا مفرد لها مثل شلقة ومخاطر ومحاسن وشماطيط وما جمعه الثعالبي وغيره وهل كان كل ما لا يكون سمعه بالجامع لا يكون وضعه الواضع جرياً على القياس؟ وكيف يمكن أن تكون المطاوعة في فعل ولا تكون في آخر مثله تماماً؟ وكيف تكون صيغة أفعل التفضيل في ما لا فعل له كقولهم هو اقلط منه؟ أو كيف يكون مضارع لا ماضي له كقولهم لم يذر؟ أو مزيد لا مجرد له. والأمثلة متوفرة. وثمت منابت العربية بعد أن كانت مستحلسة. وتفاصح كل من لم يكن فصيحاً ولن يكون متفصحاً. فوجب أن يرجع الناس إلى فقه اللغة الذي لا أعني به كتاب أبي منصور الثعالبي بل فلسفة اللغة حتى لا يرسل كل من اغتر بقدرته الكلام على عواهنه ويحسب أن من جمع كلمة إلى كلمة كان شاعراً أو ناثراً أو إماماً وثقة يجب الإقلال من الترديد والمبهم الذي لا يزيد إلا اعتكالاً والاعتدال في تعليم القواعد بحسب كل مذهب التوثق في معاني البليغ من المنظوم والمنثور والاستكثار من حفظ الجيد ولاسيما ما يدعى السهل الممتنع ويجب أن تكون مجلاتنا وجرائدنا المدارس الحقيقية فترفض كل كتاب عليلة بالمعاني وينبه المغرور والشعرور إلى ما يفسد الذوق ويدعو إلى الهزأ ومن فقه اللغة أن نصطلح على ما يذلل لنا صعاب اللفظ عند الترجمة والاستشهاد أي أن يكون لنا ما نستطيع معه نقل الكلمة الأعجمية

من نكرة وعلم إلى معناها الأصلي. وقد كان للعرب روم وأشمام فليكن لنا زيادة على مثالهما والله ولي التوفيق اهـ. هذا ما نؤاخذه أو نعاتب به الكاتب الفاضل. ولم نقدم عليه إلا عندما آنسنا منه في مقاله غراماً في اللغة العربية. ورغبة في أن تكون مصونة من عبث العابثين بها. وكيد العاملين على أمانتها: فقد أعرب حفظه الله في غير ما موضع من مقاله المذكور عن غيرة شديدة. وعزمه في إصلاح اللغة أكيدة. من ذلك قوله: ولو أن الحكومة تقيم الأئمة لإقامة الكلام واللفظ لكانت تخدم البلاد والعباد ومازالت مدارستنا توجب على التلاميذ التخاطب بلغة أجنبية ولا توجب عليهم التخاطب_ولو ساعة_بفصيح لغتهم كأن التخاطب بفصيح العربية عار وبفصيح اللغات الأخرى فخار فلا جرم أن هذه الغيرة من حضرته منقبة يحمد عليها ومأثرة يجب علينا أن نقتدي به فيها. طرابلس الشام: المغربي.

سير العلم والاجتماع

سير العلم والاجتماع الآداب العربية وفق أحمد بك زكي بعد عناية عشرين سنة إلى جمع طائفة من مخطوطات السلف في علوم مختلفة فعرض على حكومة مصر أن تساعده على تمثيلها بالطبع فعنيت لذلك ألف جنيه في ميزانيتهم هذه السنة ووقفت المال الاحتياطي الموجود في دار الكتب المصرية لطبع ما يجب طبعه وإليك المجموعة النفيسة التي جمعها صديقنا العالم ويشرع بطبع الكتابين الأولين منها قبل كل شيءٍ وهي بشرى بل بشريان للأمة العربية بل ولكل من تهمه مدنية العرب الراقية: الموسوعات نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري. مسالك الأمصار في ممالك الأبصار لابن فضل الله العمري. جوامع اتلعلوم لفريعين تلميذ أبي زيد أحمد بن سهل البلخي. أدب وبلاغة وإنشاء. الفاخر للمفضل الضبي. ديوان الحماسة الصغرى المعروف بالوحشيات لأبي تمام. التسهيل بالتمثيل وهو المعروف بتسهيل السبيل إلى الترسيل للحميدي. رسائل وخطب وأشعار السلطان الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي من جمع حفيده. مجموعة ترسل القاضي الفاضل عبد الرحيم البستاني. حديث. فنون العجائب. إكرام الضيف. آداب الملوك. كتاب التاج للجاحظ.

محاسن الملوك. رسائل الملوك ومن يصلح للسفارة ومكن أمر بإرسال رسول ومن نهى عن ذلك وكيف ينبغي لمن أرسل إلى ملك أن يعمل في الاحتياط لنفسه ولمن أرسله ومن ذم من الرسل ومن حمد لأبي علي الحسن المعروف بابن الفراء. كتاب تنبيه الملوك (وسياساتهم في تدبير الأمم والممالك). التراجم. إنباه الرواة على أنباه النحاة للقاضي الأكرم الوزير القفطي. نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر. التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحق أي سعيد جقمق لا بتن عربشاه. هدية العبد القاصر إلى الملك الناصر أبي السعادات محمد بن السلطان الملك الأشرف لعبد الصمد الصالحي. سبك النضار وكسب المفاخر ونثر الدر ونظم الجوهر من سيرة المقر الأشرفي السيفي اقباي الأسد الظافر كافل المملكة الغزية (في أيام قتباي) لعبد الله بن محمد بن عبد الله الزكي الغزي الحنبلي. التاريخ. كتاب المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام لمحمد بن حبيب. ذيل تجارب الأمم وتعاقب الهمم في وقائع العرب والعجم لابن مسكويه تأليف أبي شجاع أحد وزراء الدولة العباسية. درر التيجان وغرر تواريخ الأزمان لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري المصري كنز الدرر وجامع الغرر له أيضاً. النسب. شجرة النسب النبوي الشريف تأليف السلطان الملك الأشرف أبي النصر قانصوه الغوري. الجغرافيا. صور الأقاليم الإسلامية لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي (بالخرائط).

صرة الأرض وصفة أشكالها ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان ومحل الغامر منها والعمران من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها (بالخرائط). هيئة أشكال الأرض ومقدار صورها في الطول والعرض (بالخرائط). نزهة المشتاق في اختراق الآفاق المعروف بكتاب رجار للشريف الإدريسي (بالخرائط). علوم طبيعية وميكانيكية. سرور النفس بمدارك الحواس الخمس لابن المكرم صاحب لسان العرب. الباهر في علم الحيل. الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل (بالأشكال والصور). رحلة. تاريخ الأمير يشبك الظاهري (وهو رحلة الجنود المصرية وفتوحاتهم في آسيا الصغرى في أيام السلطان الملك الشرف قابتباي). علم حفظ الصحة. كمال الفرحة في دفع السموم وحفظ الصحة للقوصوني الطبيب في عصر السلطان قانصوه الغوري. علم الحيوانات. الدر المطابق في علم السوابق (في طب الخيل وقد ظفر به ملك الأرمن في خزائن العباسيين عندما هاجمها مع التتر فنقله إلى بلاده وأمر بترجمته ثم ضاعت النسخة العربية الأصلية وقد ظفر جنود مصر بالترجمة في بلاد الأرمن حينما فتحوها فترجمه إلى العربية ابن الخليفة العباسي بمصر بمساعدة بعض الأسرى من الأرمن). طب الطيور (مستخرج من خزانة الرشيد). علم المعادن. الجماهر في الجواهر لفيلسوف الإسلام بالهند أبي الريحان البيروني.

أزهار الأفكار في جواهر الأحجار للتيفاشي. علم الفلك. التفهيم لصناعة التنجيم لأبي ريحان البيروني. علم الساعات والعمل بها لرضوان بن محمد الخراساني بخط بيلك بن عبد الله القبجافي. علم الموسيقى. كتاب العود والملاهي للمفضل الضبي. كشف الغموم والكرب بشرح آلة الطرب (بالصور والأشكال). علم الحرب. العز والمنافع للمجاهدين بآلات البارود ولمدافع لابن غانم الأندلسي (بالأشكال). الأنيق في المجانيق (بالصور والأشكال). التذكرة الهروية في الحيل الحربية للسائح الهروي. ديانات قديمة. فلسفة الوثنيين (وهو قطعة بقيت من كتاب ثمسطس الذي أحرقه بعضهم وترجمها أحد المسلمين مع شرح الأناشيد والألحان الموسيقية الخاصة بديانة الوثنيين وبديانة المجوس). كتاب الأصنام لابن الكلبي. فنون متنوعة. لطائف المعارف للنيسابوري. عين السبع مختصر طرد السبع للصرح الصفدي. الإلمام بآداب دخول الحمام. الكوكب الدري في أجوبة السلطان الغوري. نفائس المجالس السلطانية في حقائق الأسرار القرآنية لجمعية من علماء في عصر السلطان الغوري وهو في جملتهم. الترقق في العطر للفيلسوف الكندي.

كتاب الأطعمة المستعملة في مصر على عهد سلاطين ومماليك. الوصلة إلى الحبيب في وصفات الطيبات والطيب. بسط الشرق من أهم ما لفت أنظار الغربيين في معرض الصناعات الإسلامية في مونيخ في العهد الأخير قسم البسط والسجادات الشرقية فقد قدروا ما فيها من الكمال المدهش من حيث الألوان والنقوش والتراكيب وهيهات أن تعبر الألفاظ عن جمال تقطيعها وظرفها وتنوع وضعها وجماع صنعها وانضمام أشكالها وترصيعها وتوزيع زينتها السالمة من كل خلل. قالت إحدى المجلات العلمية ومن أهم هذه القطع سجادة اسمها ربيع كسرى يرد عهدها إلى الدولة الساسانية التي قضت عليها دولة العرب في القرن السابع للميلاد وقد تمازج فيها الذهب بالأحجار الكريمة وفيها صور ينابيع وأشجار وأطيار وأصقاع بديعة تأخذ بمجامع القلب. ولقد نسج البسط بسطاًَ من هذا النوع المسماة ببسط الحدائق قبل قيام دولة الأكاسرة بألف سنة فكانوا يصورون فيها غدراناً فيها أسماك وأشجار اللوز مثمرة تتسلق عليها الهوام. ولم تكن تجعل هذه السجادات التي لا تجوس عليها الأرجل إلا متلطفة على الجدر كما هو الحال في اوربا اليوم بل كانت تبسط على الأرض. وهي من عهد ارتقاء الصناعات الفارسية أي من القرن السادس عشر وكانت تباع منذ عشرين سنة ببضع مئات من الفرنكات أما اليوم فتباع بما يوازي ثقلها ذهباً. ومما عرض في هذا المعرض بساط اسمه بساط الصيد وهو ملك بلاط النمسا ولم يكن إمبراطورها فرنسيس يوسف عارفاً بقيمة هذا الكنز الذي يحويه في قصره من قبل وهو معمول في القرن السادس عشر أيضاً وفيه صورة وعلة يصطادها أسد وهذه الصورة في بلاد الصين رمز إلى طول الحياة وكثيراً ما كانت الصناعة الفارسية تنقل عن الصين وتقلدها في مناحيها. معجم إنكليزي بدأت إحدى بيوت المطابع في أكسفورد من بلاد الإنكليز بطبع معجم للغة الإنكليزية منذ سبع وعشرين سنة برئاسة السير جايمس موري وهو أرقى بموضوعه من المعاجم الكبرى في اللغة الإفرنسية مثل لتره والإنكليزية مثل وبستر والألمانية مثل كريم. فيذكر هذا

المعجم تاريخ كل مفردة وما توالى عليها من النشوء مع إيراد الشواهد لذلك ويقوم بتأليف ألف ومائتا لغوي انتخبوا من مشاهير علماء اللغة الإنكليزية. وقد بلغ مجموع عناوين الكتب في مكتبة تأليفه عدة ملايين تتألف منها خزانة هائلة اقتضت أن ينشئوا لها بناية من الحديد مخافة أن تسري إليها النيران وهذا المعجم يصدر في أوقات غير معينة وقد بلغوا إلى حرف ت. ويقدرون بأنه ينتهي سنة 1913 أما ثمنه فغال ولكن نفقاته قد جمعت مقدماً باشتراك بعض الكتبة به. فأنعم وأكرم بأمة فيها هذا القدر من العلماء في لغتها على من لم يقع عليهم الاختيار وببلاد يطبع فيها مثل هذا المعجم الهائل الذي ربما تجاوز ثلاثين مجلداً وشركته تربح به من أول يوم. بردي قديم أوصى أحد المحسنين للقسم المصري في المتحف البريطاني بأعظم ورقة من ورق البردي عرفت حتى الآن طولها 41 سنتيمتراً وعرضها 50 سنتيمتراً وقد حفظ ت حروفها ورسومها سالمة من كل سوءٍ. ويرد تاريخها إلى ما قبل 30 قرناً وهي عبارة عن صورة ثيبية من كتاب الأموات مشفوعة بابتهال إلى الرب عمون أهم معبود في ثيبية وقد كتبت هذه الورقة قبل ألف سنة من التاريخ المسيحي لابنة الملك نيزي حانسو هي ذات شأن عظيم في تاريخ الأديان. صناعات الأمراء تناقلت الصحف أن السلطان عبد الحميد سجين قصر الأتيني في سلانيك يصرف بعض أوقاته في النجارة بعد أن أنزل عن عرش السلطنة. والعادة في الملوك والأمراء أن يعنوا بصناعة من الصناعات النفيسة في الغالب أو عمل من الأعمال اليدوية يرضون بها أنفسهم وحواسهم وكانت هذه العادة شائعة كل الشيوع في فارس وبخارى وأفغانستان وبلوخستان وغيرها من الأصقاع الواقعة في النصف الشرقي من قارة آسيا ولكن ما كان من مميزات الآسياويين أيام حضاراتهم أصبح الآن من مميزات الأوربيين في استبحار عمرانهم فمن أمرائهم من ينصرف إلى علم أو فن أو صناعة يدوية وقد يصرفون فيها شطراً صالحاً من أوقاتهم خصوصاً أولئك الذين ليس لهم عمل حقيقي من الأمراء والملوك. فقد كان الدوق

كارل تيودور البافاري عالماً بطب العيون وممتازاً فيه. وكانت الملكة إيملي ملكة البرتقال منصرفة إلى دراسة السل الرئوي. وسجل الأمير هنري دي بروس الألماني اكتشافه طريقة لتنظيف زجاج السيارات. وعرف ملك بلغاريا بامتيازه في علم الحيل (الميكانيك) وهو الذي يسوق قاطرة القطار الملكي بنفسه. ويخصص ملك نابولي شطراً مهماً من وقته في عمل المعادن. واخترع دوق دولاندبورغ آلة دافعة جديدة للسفن. وأخصى الأمير جواشيم في الحدادة. وكان الأمير فريدريك سيجموند معلماً في النجارة. أما إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني فقريحته متسعة فهو شاعر ومؤلف قصص فاجعات ومصور بل هو يتوفر أيضاً على تربية المواشي والنباتات وصنع الخزف والفخار. وملكة رومانيا كاتبة من الطراز الأول. والأمير أوجين السويدي مصور المناظر الطبيعية. ودوقة دارجيل ناقشة ماهرة. وكان الملك إدوارد السابع يصرف جزءاً عظيماً من وقته في تربية الحيوانات. أعظم البوارج أنشأت شركة ويت ستار الإنكليزية بارجتين للسفر بين سوسامبتون إحدى مواني إنكلترا ونيويورك في أميركا وهي أضخم ما عرف حتى الآن دعتهما (أولمبيك) و (تيتانيك) وقد أنزلت الأولى إلى البحر وقريباً تنزل الثانية وطول كل واحدة منهما 259 متراً وعمقها 28 متراً و21 سنتمتراً ومحمولها خمسون ألف طن ولها ثلاث آلات دافعة وتقطع 21 عقدة في السعة وهي بقوة 46 ألف حصان. حكم إفرنجية اذا تولى بعض المناصب يؤثرون أن يعملوا أعمالاً سخيفة على أن يبقوا بلا عمل (أرسين هوساي). للمرء بعض الآمال الخيالية التي قد يتعذر الحصول عليها والتعلق بأهداب المحال وطلب الأبلق العقوق أو الصعود إلى العيوق (عمانويل أرين). لا تعمل الحكمة شيئاً مع إحساس الضمير العام (كيزو). الاقتناع هو الإرادة الإنسانية البالغة أبعد مراقيها (بالزاك). أبداً يظل المرء غير راضٍ عن حالته اذا قاسه بأحس منه (لافيس). إياك والتساهل في النفقات الصغيرة فإن ثقباً صغيراً يجري فيه الماء تغرق منه سفينة

كبرى فرانكلين. إن العلائم الظاهرة للحزن الكبير تأتي على الأحياء كما تكون القباب بلية على الأموات فإنها كثيراً ما تكون علامة الكبرياء أكثر مما تكون علامة الحزن والفضيلة شاتوبريان. كلنا محكوم علينا ن نموت وما الولادة إلا مبدأ الموت غوتيه. إن الإكثار من الكلمات للتعبير عن أثر مشهور أشبه بقطعة من ذهب تبدلها بنقود زائفة بومارشيه. الأموات غير مرئيين ولكنهم غير غائبين هوغو. للقلب عقل لا يعرفه العقل نفسه باسكال. اذا سار المرء على خطأٍ يستحيل أن يصل إلى الحقيقة جوي. لا يجني خريف الحياة إلا ما غرسه كل يوم منها كراتري. الإنسانية تأمرني أن أظن خيراً أكثر مما أظن شراً بوسويه. من عاقب وهو في حال الغضب فلا يريد من عاقبه الإصلاح بل الانتقام مونتين. إن مما يصعب علينا أن لا نكون على اتفاق مع حبنا ذاتنا أسيل. كلما وقع في نفس الإنسان إن ليس شيءٌ مستحيلاً يقوم بأعمال أكبر مما كان يظن مالريب. من الأمراض أن يتطلب الموت وأعظم منها مرضاً أن يخاف الموت. الشهوات كأنواع الأطعمة أبسطها هي التي لا تقزز منها النفس. على المرء أن يطيل النظر في نفسه قبل أن يفكر في الحكم عليه. الطاعة أعظم فرحة للمرأة بعد الحب. على المرء أن يجيب بنفسه لأن البشر لا يعدلون إلا مع من يحبون. كانت الضرورات في المجتمعات القديمة هي الزوائد أما في المجتمعات الحديثة فإن الزوائد هي الضرورية. اذا أردت أن يظن بك خيراً فلا تذكر أنت ذلك (باسكال). نحب العدل كثيراً وقلما نحب العادلين. الواجب عليَّ أن أقوم بما تفرضه عليَّ الحياة من الواجبات على أي صورة وكيفية ولكن الواجب القيام بها.

الكسلان الصحيح الجسم أردأ من المريض لأنه يأكل ضعفين ولا يعمل عملاً. إن من يهتمون أبداً لصحتهم هم كالبخلاء يجمعون الكنوز بدون أن يستمتعوا بها. إن قلباً مفطوراً على الاستقامة التامة لا يرضى عن الترقيع في الأخلاق كالأذن الصحيحة السمع لا ترضى عن الموسيقى الرديئة. إن من يعتقدون من أنفسهم الذكاء أكثر من غيرهم هم أقرب إلى الانخداع غالباً. الديانة أم يتخلى عنها الإنسان عندما ينادي داعي سعده وهي تنتظرك يوم تصيبك البوائق (دي ليفي). إن إصلاح نفوس أغلب الناس عبارة عن إدخال القلب والإبدال عن رذائلهم. الأفكار رأس مال لا تأتي بفائدة إلا في ايدي من رزقوا القرائح والعقول. تأتي على المرء أحوال يكثر فيها غمه أكثر من الباكين ويتمنى الدموع أن تجري في مآفيه فلا يجدها. السكك العثمانية أصدر المسيو ألكسيس راي كتابه الرابع عشر في إحصاءات السكك الحديدية العثمانية وحساباتها في السنة الماضية جاء فيه أن دخل السكك الحديدية في آسيا كان متوسطاً أما مجموع الدخل في السلطنة فقد زاد عن السنة السابقة اذا حسبنا ما نقص من سكة الرومللي من جهة بلغاريا منذ أعلنت استقلالها وقدر النقص بـ 310 كيلومترات. وقد نقصت الضمانات الكيلومترية في السلطنة 579 ألف وتنقص كثيراً في ميزانية 1910. أما السكة الحجازية فقد بلغ طولها 1500 كيلومتر ودخلها 3 ملايين و800 ألف فرنك. وهاك ما أعطته الحكومة العثمانية من الامتيازات الجديدة: 1ً تمديد سكة بغداد يقدر بخط يبلغ طوله 820 كيلومتراً وقد بدأت الأشغال في نقط مختلفة منه ومما تقرر أيضاً مد هذا الخط إلى حلب. 2ً تمديد خط حمص_طرابلس وطوله 102 كيلومتراً وصار على أهبة النجاز 3ً امتياز فرع من باندرما إلى صوما وطوله 190 كيلومتراً ويتصل بأزمير وبحر مرمرة وبذلك تقرب المسافة بين أزمير والأستانة. 4ً امتياز فرع من بابا إلى إسكي كليسا وطوله 40 كيلومتراً وهو لشركة الرومللي والخطوط الثلاثة الخيرة لا ضمانة كيلومترية لها ومجموع الخطوط الأربعة الجاري العمل بها يبلغ طولها 1152 كيلومتراً

منها 1112 كيلومتراً في ىسيا و40 في اوربا وهذا بيان توزيعها على الأمم. 820 كيلومتراً للألمان و293 للفرنسيين و40 للنمساويين. وهذا بيان ما تستثمره الأمم حالاً من السكك جمعاء في السلطنة. 1697 كيلومتراً للفرنسيين و1519 للألمان و1500 للعثمانيين و955 للنمسويين و909 للإنكليز و41 لأمم مختلفة. ويتبين من ذلك أن الألمان اذا أتموا مد الخطوط المعهودة إليهم يصبحون في مقدمة الجميع إذ يبلغ مجموع خطوطهم 2339 كيلومتراً ويتلوهم الفرنسيون بخطوط مجموعها 1989 كيلومتراً.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات الدروس العربية تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1328 ص88 اعتاد صديقنا صاحب هذا الكتاب أن ينشر من قلمه كل ما فيه تصحيح الأفكار وبث اللغة وشفره هذا في النحو من سلسلة كتب في النحو والصرف وفنون البلاغة والإنشاء وقرظ الشعر والأدبيات واللغة كتبه بعبارة سهلة يفهمها التلميذ وشفعه بتمارين نثرية وشعرية تفيد في إحكام ملكة الإعراب فنشكره على غيرته على الآداب ونرجو له إتمام هذه السلسلة. الطريقة القدسية أو طريقة جديدة للقيودات المزدوجة لواضعها إلياس بك القدسي طبع بالمطبعة الأهلية البطريركية الأرثوذكسية بدمشق ص32. أجاد صديقنا في وضع هذا الكتاب في علم الدوبيا أو طريقة القيود المزدوجة وقد قال في مقدمته أن الإيطاليين كانوا أسبق الأمم إلى استعمال تلك الطريقة في منتصف القرن الرابع عشر وكان أول كتاب ظهر في إنكلترا من نوعه سنة 1569 سماه مؤلفه فن الحسابات التجار الطليان أو مسك الدفاتر بالقيودات المزدوجة وقد وجد في مدينة جنوة سجل أمين صندوق البلدية مؤرخاً في سنة 1348 وفيه الحسابات المدونة على هذه الكيفية ولكن هذه الطريقة لم تشع في أوربا إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر قال ولم تدخل هذه الطريقة إلى بلادنا إلا نحو سنة 1865 إذ قام المعلم سليم غالية الدمشقي وطبع كتابه البدر المنير في أصول الزنجير وألف بعده المعلم ظاهر خير الله الشويري كتابه لمحة الناظر في مسك الدفاتر ورسالة ترويض المباشر في مسك الدفاتر وتبعه آخرون وضعوا كتاباً على الطريقة الإيطالية وقد شرح المؤلف طريقته الجديدة المبتكرة أحسن شرح يفهمه طالب هذا العلم النافع فله منا الثناء على غيرته وفضله. ديوان سلام بن جندل رواية أبي سعيد الأصمعي نشره الأب لويس شيخو طبع في المطبعة الكاثوليكية

في بيروت سنة 1910 ص49. نشر هذا الديوان في مجلة الشرق أولاً عن نسختي الأستانة والإسكندرية وعلق عليها منشئها الباحث ملحوظات واصطلاحات وعد سلامة في شعراء النصرانية بالطبع. وشعر العرب العرباء كله مما يقتنى فللناشر الأديب الشكر على عنايته بنشر آثار العرب في أي مظهر إظهار كتب متفرقة الأحكام السلطانية_هذا الكتاب للماوردي المتوفى سنة 540 مشهور متداول وقد أعيد طبعه الآن وعني بتصحيحه السيد محمد بدر النعساني ويطلب من محل محمد أمين أفندي الخانجي في مصر والأستانة. دروس التاريخ الإسلامي_للشيخ محي الدين الخياط وقع في 96 صفحة وهو القسم الثالث منه يشتمل على مجمل تاريخ بني أمية في الشرق وخريطة الدول العربية والإسلامية ويطلب من المكتبة الأهلية ببيروت. الخراج في الشرع الإسلامي_كراسة للمسيو كولوزيو طبعت في تونس باللغة الإفرنسية ذكر فيها تاريخ الخراج في 16 صفحة. هل اللغة العربية ميتة_كراسة للمسيو كاموسي قدمها للمجمع العلمي القرطاجني في 17 صفحة قال فيها أن العربية لا تشبه الفرنسية فقد ظلت زاهرة ألف سنة ومنذ ثلاثمائة سنة وقفت عن النمو أما الإفرنسية فقد مضى عليها ألف سنة وهي في حال التنبت وأخذت تنمو منذ ثلثمائة سنة وليس القرآن هو السبب في وقوف العربية بل أبناؤها وميلهم إلى العلم. وقاية الشبان من المرض الإفرنجي والسيلان_هو كتاب وضعه الدكتور سعيد أبو جمرة صاحب الأفكار البرازيلية منذ بضع سنين ونفذت طبعته الأولى فأعاد طبعه الآن واصفاً هذه الأمراض المدهشة وعلاجها وطرق التوقي منها بلسان علمي وقد وقع في 172 صفحة من قطع الوسط وهو يعد من الأمهات في هذا الباب. مجلتان جديدتان الورقاء_مجلة علمية أدبية صناعية لمنشئها الخور فسقفوس جرجس شلحت تصدر في حلب مرة كل شهرين في 76 صفحة وقيمة اشتراكها ريال في حلب وخمس فرنكات في

غيرها. سمير الصبا_مجلة أدبية فنية فكاهية تصدر في حمص مرة في الشهر لصاحبها شكري أفندي فارس لوقا في 16 صفحة وقيمة اشتراكها 14 غرشاً في حمص و15 في غيرها أو 3 فرنكات وربع في الخارج.

خاتمة السنة الخامسة

خاتمة السنة الخامسة نحمدك اللهم أنك يسرت لنا ختام هذه السنة من المقتبس على النحو الذي نحوناه منذ أول تأسيسه. وبعد فقد اضطرتنا الحال إلى التعجل في إصدار أجزاء هذه السنة لتعود إلى اعتبار المحرم أول سنة المجلة ونجبر المدة التي انقطعت فيها عن الصدور أشهراً في العام الفائت فأصدرنا أجزاء اثنتي عشر شهراً في نحو ستة أشهر وألفناها كذلك حتى جاء بفضل الله وبيض أيادي مؤازرينا من أهل البحث والعلم لا تقل في تجويد الموضوعات عن السنين السالفة إن لم نقل أنها أحسن على كثرة ما انتاب مجرى العمل من العوارض. وفي مأمولنا أن تبدو هذه الصحيفة في سنتها السادسة في مظهر أرقى يكون لائقاً بشأن العصر ونهوض البلاد بكثرة سواد الراغبين في العلم والتعلم اليوم بعد اليوم والله نسأل هدايتنا وتسديدنا والتجاوز عن هفواتنا وسيئاتنا وهذا جهد المقل وما على من يبذل جهده من حرج والسلام.

فاتحة السنة السادسة

بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة السنة السادسة يفتتح المقتبس سنته السادسة بحمده تعالى أن يسر له قطع شوط يصح عده شيئاً في عمر المجلات، ويغتبط اليوم أن يرى له موقعاً من نفوس العلماء والأدباء ومكانة من مجامعهم وأنديتهم وسبيلاً إلى الانتشار بين الخاصة في كل بلد يتكلم أهلها باللغة العربية أو يرغبون في تلقفها، ويعود فيعاهد قراءه على أن يتعاهدهم كل شهر كما عودهم بنشر الأبحاث النضيجة مشبعاً إياها درساً وتمحيصاً ما ساعدته بيئته ومادته فينقل للشرقيين ما تبرزه عقول الغربيين ويمثل للغربيين ما أنتجته قرائح الشرقيين من الأقدمين والمحدثين ويعنى من المباحث عناية خاصة بعلوم التربية والتعليم والاجتماع والاقتصاد واللغة والأدب والتاريخ والآثار وتدبير المنزل والصحة والكتب وحضارة العرب وحضارة الغرب ولا يتعرض للعلوم الأخرى إلا بقدر ماله علاقة بالموضوع ويتجافى عن مس العواطف الدينية والمنازع السياسية عملاً بالخطة التي رسمها في أول جزء صدر منه على ضفاف النيل. ولقد هيأ الزمان لهذه المجلة طائفة من العلماء الباحثين والكاتبين المفكرين أخذوا على أنفسهم كما فعلوا في السنين الغابرة أن يوافوها أثابهم الله الشهر بعد الشهر بخلاصة أبحاثهم ويعلموا الناس مما علموا وزكنوا وهذا مما يزيد الثقة بهذا العمل العلمي وعمل الجماعة أمتع وأنفع وعمل الفرد لا يخلو من ضعف وضؤولة، وهاك أسماءهم إقراراً بأفضالهم على العلوم والآداب: أحمد بك تيمور (القاهرة) أحمد بك زكي (القاهرة) أمين أفندي ريحاني (نيويورك) الشيخ جمال الدين القاسمي دمشق جرجي أفندي الحداد دمشق خليل أفندي رفعت دمشق خليل بك سعد بيروت رشيد أفندي بقدونس سلانيك رفيق بك العظم القاهرة زكي أفندي الخطيب سنجار صلاح الدين أفندي القاسمي دمشق ساتسنا بغداد سليم أفندي البخاري دمشق شكري أفندي العلي دمشق الشيخ طاهر الجزائري القاهرة الدكتور عبد الرحمن شهبندر دمشق عبد القادر أفندي المغربي طرابلس الشام عبد الله أفندي مخلص حيفا عبد الوهاب أفندي الإنكليزي الباب عيسى أفندي اسكندر معلوف زحلة فارس أفندي الخوري دمشق فارس أفندي فياض دمشق محمود شكري أفندي الآلوسي بغداد يوسف أفندي جرجس زخم

نبراسكا.

كتاب البئر

كتاب البئر من مصنفات إمام أئمة اللغة والأدب أبي عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي توفي سنة ثلاثين ومائتين رحمة الله عليه ترجمته في ص 207 من كتاب نزهة الأدباء عني بنشره وتعليق حواشيه السيد محمود شكري الآلوسي بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب النحوي قراءة عليها وأنا أسمع بجامع القصر من مدينة السلام يوم الجمعة ثالث عشري شهر الله الأصب من سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد بن الحسين الفراء قال أنبأنا الشيخ أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري، قال أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الحزاز قراءة عليها في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. قال قرأ هذا الكتاب أبو الحسن الرزاز علي بن عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وأنا حاضر أسمع قال حدثنا أبو العباس أحمد يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي قال وقرأه الرزاز أيضاً على أبي عمر محمد بن عبد الواحد غلام ثعلب على معنى التصحيح قال: صفة البئر عن ابن الأعرابي. قال وأخبرني أيضاً الشيخ الإمام المهذب أبو الحسن علي بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الملك بن إبراهيم بن عبد الملك السلمي الرقي قراءة عليه بمدينة السلام في منزله في شعبان من سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وسمعته أيضاً من قراءته قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو الفضل محمد بن الناصر بن محمد بن علي بن عمر السلامي والفقيه أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصار في قراءة عليهما في صفر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة فأقر به قال: أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي قراءة عليه في يوم الجمعة خامس عشر صفر من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة فأقر به قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قراءة عليه وأنا أسمع في المحرم سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن زكريا ابن حيويه

الحزاز قراءة عليه في يوم الأربعاء النصف من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: قرأ أبو الحسن الرزاز رحمة الله تعلى على أبي عبيد الله محمد ابن أحمد الحكيمي سنة أربع وثلاثين وأنا حاضر أسمع، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي وقرأه الرزاز وأنا حاضر أسمع على أبي عمر محمد بن عبد الواحد غلام ثعلب على معنى التصحيح قال: صفة البئر عن ابن الأعرابي قراءة على أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي عن أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي قال: يقال للأرض إذا لم يكن فيها حفر فحفر فيها أرض مظلومة قال الشماخ: وأس رماد كالحمامة ماثل ... ونؤيان في مظلومتين كلاهما ويقال إذا حفر قعدة الرجل أو قعدتين قيل حفراوقة أو اوفتين قال الشاعر: وانغمس الرامي لها بين الأوق قال أبو عمر: هو أوقة بالفتح وجمعها أوق كذا سماعي من ثعلب قال أبو العباس: الأوقة بئر الصائد التي يستتر فيها من الوحش فإذا ابتدأ حفر البئر فهي بدء فإذا حفر إلى أسفل قيل قد اعتمق وامتعق وحفر معيق وعميق وإذا أخذ جانبها قيل قد لجف قال الشاعر: إذا انتحى معتمقاً أو لجفا ويقال لجانب البئر الجال والجول وأنه لغير ذي جول أي أنه قليل العقل وأنه لغير متماسك الجول يقال ذلك للرجل إذا كان يحمق فغذا حفرها حتى يبلغ الماء قيل قد أنبطها والماء هو النبط وفطرها إذا كان هو ابتدأها واختصم إلى ابن عباس رضي الله عنهما رجلان في بئر فقال أحدهما بئري أنا فطرتها أي ابتدأتها واستخرجتها. فإذا أنفذتها في الجبل قيل بئر خسيف وهي التي خسف جبلها قال الشماخ: من الكلى في خسف رويات ويقال حفر حتى أعان وأعين أي حتى استخرج الماء وحفر حتى أصلد إذا وقع موضع صلب أو على حجر وكذلك اكدى قال أبو زبيد:

يا عثم أدركني فإن ركيتي ... صلدت فأعيت أن تبض بمائها وحفر فاجبل وقع على جبل وأسهب وقع على رمل أو تراب يغلبه. ويقال لتراب البئر البغيثة والنبيثة والنثيلة والثلة والسفاة قال الهذلي: وقد أرسلوا فراطهم فتأثلوا ... قليبا سفاها كالاماء القواعد ويقال ماء نمير إذا كان يوافق الشاربة وينجع في جلودها وأجسامها عذبا كان أو غير ذلك قال حاتم: قد جعلت والحمد لله تقر ... من ماء عد في جلودها نمر قال أبو عمر: تقر تسكن من قولك وقر يقر إذا سكن ويقال ماء شريب عذب وشريب أيضاً ثقيل وماء مأج وقد مؤج يمؤج مؤجة ومياه مائجة. وأسماء البئر الركية والجمع ركايا، والقليب والجمع قلب، والفقير وهي التلي فقر جبلها فاتخذت حديثاً، والطوي والجمع أطواء، والبدني وهي الجديدة الحفر وهي الواسعة الرأس لأنها ربما تقوضت واتسع رأسها وربما كانت غير بعيدة القعر، والبدي حي تبتدأ وهي القريح وقال بعض الأعراب البدي يحفر للغرس يريد الغسيل والماتح يضع رجلاً على هذا الجانب ورجلاً على هذا الجانب الآخر. والبدي مربعة وهو يمنح منها بيده بغير قامة فإذا دور رأسها فهي القليب ويقال لفم البئر شحوتها وجرابها جوفها من أعلاها إلى أسفلها ويقال بئر شديدة الجراب إذا لم تحتج أن تطوى والبئر والركية انثيان والقليب والعلوي ذكران قال أبو عمر: القليب والطوي يذكران ويؤنثان والشطون من الركايا التي في جوانبها عوج لا يخرج دلوها إلا بحبلين. فإذا طويت بخشب فهي معروشة وقد عرشت تعرش عرشا والمزبيرة المطوية بالحجارة وغير الحجارة يقال زبرئها زبرا وضرستها اضرسها ضرسا طويتها بالحجارة وإذا استقي بالدلو من البئر باليد قيل بئر متوح وإذا كانت على بكرة بنزع باليد نزعا قيل نزوع ونشوط التي إنما حبلها نشطة واحدة وبئر أنشاط إذا خرج دلوها بجذبة واحدة قال أبو عمر: إنما هو أنشاط بالفتح جمع نشوط قال أبو محمد يوسف بن الحسن: روى الطوسي وغيره إنشاط بالكسر ويجوز أنشاط بالفتح جميعا ويقال ماء رفق وهو القريب الغشا

القصير الرشا وماء عضوض بعيد القعر وأنشدنا: أبيت على الماء العضوض كأنني ... رقوب وما ذو سبعة برقوب وماء مدرع قريب من المرعى قال أبو عمر: إنما هو مدرع بفتح الراء وباسط بعيد وماء مطلب إذا أبى أن يطلب وبئر نضوض وبروض ورشوح الأصل رشوج بالجيم قال أبو عمر إنما رشوخ بخاء معجمة ومكول هي التي يجتمع ماؤها قليلا يقال قد اجتمعت فيها مكلة وإذا كانت لا يؤخذ ماؤها إلا غرفاً فهي قدوح ويقال قدحتها أقدحها قدحا وإذا كانت بأتي ماؤها مرة ويذهب أخرى فهي الظنون وإذا كانت إذا استقي ماؤها جمت بماء آخر قيل بئر جموم وإذا كانت إذا قلت الأمطار قل ماؤها قيل بئر قطوع وأصابت الناس قطعة إذا غار ماؤهم واقطع الماء وهو مقطع وقاطع وقد قطع. وإذا كانت البئر حبلها عن لعوج في جرابها قيل بئر يون وبئر زوراء ودحول إذا كان في خلقها عوج وإذا كانت البئر إلى جنبها بئر أخرى تضر بها قيل بئر ضنيط وبئر مأطورة مثلها وبئر سك إذا كانت ضيقة وأنشدنا: صبحن من وشجى قليبا سكا قال أبو عمر: وشجى محركة ويقال بئر ذمة قليلة الماء وبئر فراط وهي التي من سبق إليها ليس لأحد أن يمنعه وبئر جموم سريعة رجوع الماء ويقال للماء إذا خرج من عيونه فارتفع في البئر جم يجم جما والماء نف الجم ويقال استق من جم بئرك وقال الغنوي: وسئل ما مالك فقال ساحات فيح وعين هزهز قريبة مرتكض المجم أي يجم ماؤها سريعاً وهزهز يهتز بالماء الصواب هزهز قال أبو عمر: سألت أبا العباس عن هذا الحرف مراراً فقال هزهز على لفظ هديد قال وإذا كان يغرف منها باليد قيل بئر غروف وإذا دام ماؤها في المطر والقيظ قيل بئر واتنة وقد وتنت تتن وتونا وإذا كانت كثيرة الماء قيل بئر قليذم وأنشد: إن لنا قليذما هموما ... يزيدها مخض الدلا جموما وإذا لم ينزح ماؤها قيل بحرها لا ينكف ولا ينكش ولا يوبى ولا يغضغض ولا يفرض ولا يفثخ وبئر سعبر والخضرم والعليم الغزيرة وبئر ماهة وبئر مئة كثيرة الماء وبئر نبط التي يخرج ماؤها من عرضها ويقال للبئر إذا قل ماؤها غار يغور غورا وغؤرا وقد نكزت

أيضاً قال: فظلت بأعراف كأن عيونها ... إلى الشمس بل تدنو ركين واكز أنكزت تنكز نكوزاً وهي ناكز وإذا اندفنت ثم أخرج ترابها وليس بجديد قيل بئر نثول والجمع نثل وإذا اندفنت قيل بئر دفن ودفان وإذا عطلت حتى تخرب قيل بئر سدم والجمع اسدام فإذا كانت عادية فالتقطت والتقاطهم إياها وقوعهم عليها قيل بئر لقيط وبئر خفية مثلا وكانت قديمة لأمة من الأمم فالتقطت وعد ما كان نبضه من الأرض يجم عشر قيم إلى ثلاثين قامة وإذا كان في طي البئر حجر نادر فهو العقاب يقال لصلح عقاب بئرك فيخرج حجراً في الطي فيقدم ليقوم عليه قال والثعلبة أن يجذب الحيل عن حجر ناتئ في جانب البئر قال: لو أن سلمى شهدت مطلي ... تمتح أو تدلج أو تعلي إذاً لراحت غير ذات دل وقال آخر: أكل يوم قائل أبن أبن ... دلوك عن حد الصفيح واللبن والثمت أن تكون كالبئر إلا أنه لا تكون من عيون إذا انقطع حفر ذراعان أو قامة فيخرج فيشرب أياماً ثم ينقطع والحسى دائم لا ينقطع والجمع احساء وحساء، والحسى يسمى الكر وإذا تغير الماء في القليب قيل قد عرمض وسجس الماء في القليب وهو الصرى والصرى مقصوران يقال ماؤها صرى فاستق من غيرها ويقال أجن وأسن يأجن وبأسن اسنا واجونا وأسن أسنا وإذا علته جليدة من طول الترك قيل دوى يدوي تدوية وماء داو كما ترى فإذا علنها خضرة قيل قد طحلب وعرمض وغلفق ويقال بئر ذات طاق إذا كان فيها دور وهي حروف نادرة وعرش البئرة خثبلتها التي يستظل بها عليها يطرح الثمام قال الراجز: أكل يوم عرشها مقيلي ... حتى ترى المئزر ذا الفضول مثل جناح السيد الغسيل ويقال محشوشة وحشوا بئركم أي اكسوها وبئر مجهودة إذا نقيت حتى حمأتها ويظهر حر طينها فقد جهرت تجهر جهراً والاذاء حجر يجعل في مصب الدوا لئلا يخرق الماء الحوض وهو في بئر الماشية والإبل وفي بئر الذرع والقف والدعامة مقام الساقي في أعلى

البئر وإنما سميت دعامة لأنه يدعم بها طي البئر فيضغطه وهما شجرتان يدعمان طي البئر قال الشاعر: لما رأيت أنها لإقامه ... واتني ساق على سامه جذبت جذبا زعزع الدعامة والمثابة مقام الساقي أنشد أبو الجراح: يا عين بكي عامراً يوم النهل ... قام على مثابة زلج فزل والشجار خشبتان على جانبي البئر عليهما عارضة ودون العارضة بقدر ذراع أو ذراعين عارضة أخرى والنعامتان خشبتان فيما بين العارضتين في كل جنب واحدة فتانك النعامتان وفيها المحور والمحور مشدود بحبل إلى العارضة وأنشد: لولا الزمام اقتحم الاجاردا ... بالغرب أو دق النعام الساجدا وإذا كانت عارضتا البكرة وعضدها من حديد كان أو خشب الوالج فيها والبكرة إذا كانت على ركية جرود فهي محالة الإبل واذا قالوا تعوب فهو خشبة مدورة عظيمة لها أسنان فيها كأسنان الرحى قال الشاعر: كأن صوت نابه الاذب ... صريف خطاف بقعوقب ويقال للذي يجري عليه الحبل من البكرة الحرث واذا كان الشجاران من بناء طين أو حجارة فهما الزرنوقان والقرنان قال الشاعر: تأمل القرنين فانظر ماهما ... احجرا ام مدرا تراهما فإذا وقع الحبل من البكرة وعضد بها قيل مرس الحبل وامرسته انا فيقال امرسه اي أخرجه قال الشاعر: بئس مقام الشيخ امرس امرس ... اما علي قعو واما اقعلسس والمرس اسم الحبل قال أبو العباس امرسه القاه بين الخد والبكرة وامرسه اخرجه وقد مرس الحبل نفسه قال الشاعر: ولا تلمسوا لي الأرض فيا فإنني ... اخاف عليكم قامتى حين تمرس في نوادر ابن الأعرابي وليس من الكتاب: ولا يلمسوا لي الأرض فيا فإنني ... اخاف عليكم حيتي حين تلمس

في أرض الجليل

في أرض الجليل من دمشق ركبنا قطار السكة الحجازية قاصدين إلى بلاد الجليل فاجتار بنا سهول حوران وجزءاً من وادي الأردن والغور ومعظم البلاد التي مررنا بها تبعث النفس على النظر والعين على التحديق والفكرة على التأمل لما جرى فيها من الوقائع والحوادث في سالف الأعصار. وإن أرضاً أخرجت رسولاً كالسيد المسي عليه الصلاة والسلام فكانت مهوى افئدة اهل النصرانية في العالم على اختلاف الأعصار والأقطار لحرية بأن تزار مهما شظت بقاصدها الديار فما بالك وهي الآن منا بضع ساعات في قطار البخار، وإن بلاداً مضى على أبناء إسرائيل ألوف من السنين وهم لم ييأسوا من استرجاعها لجديرة أن يخف إليها كل من يروم البحث في اجتماع الأمم وافتراقها. يحد بلاد الجليل شرقاً الأردن وجنوباً الكرمل وجبال افرايم وغرباً بحر الروم وشمالاً فينيفية ولبنان وتسمى هذه البلاد جليل الأمم لكثرة الأمم فيها وفي الجليل تربى يسوع وفيها صرف أكثر مدة خدمته جهراً فدعي جليلياً وكان تلاميذه جليليين ماعدا يهوذا الاسخريوطي واشتهر الجليليون بشدة البأس فقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي الذي كان هو نفسه جليلياً أنهم كانوا يتمرنون على استعمال كل أنواع الأسلحة منذ الصغر، وقد اشتهروا بشدة مقاومتهم للرومانيين وآل خراب اورشليم إلى نجاح الجليل فأصبحت دار العلوم اليهودية ونقل إليها السنهدريم مجمع الأمة العظيم فجعل اولا في اوشته وهي الآن خربة هوشته قرب شفا عمرو ثم نقل إلى شفرام وهي الآن شفا عمرو ثم إلى بيت شعرايم وصفوري وطبرية وكانت الجليل مقسومة إلى قسمين الجليل السفلى وطولها من طبرية إلى زبولون قرب عكا وعرضها من قرية كسالوت قرب تايور إلى بيرسبع (غير بير سبع في الجنوب) وكان فيها على رواية بوسيفوس 240 قرية وفي أصغرها 15000من السكان والجليل العليا طولها من ميلون غرباً إلى طلة قرب الأردن شرقاً وعرضها من بير سبع جنوباً إلى بقعة على حدود أرض صور شمالاً. ومعنى الجليل بالعبرانية الدائرة أو المقاطعة وكانت تطلق خاصة على القطر الشمالي من أرض الموعد وفيها عشرون مدينة أعطاها سليمان إلى ملك صور لقاء خدمه في عمارة المعبد في القدس وكان يسكن هذه البلاد جمهور من الوثنيين ومن هنا اشتق اسمها جليل

الأمم وكانت بلاد الجليل تمتد على عهد عيسو إلى ضفاف بحيرة طبرية ثم دخل فيها سهل يزرعيل مرج ابن عامروعلى عهد السيد المسيح كانت عبارة عن أرض عازر ونفتالي وزبولون وازياخار وظلت مقتسمة إلى جليل أعلى وجليل أسفل الأول يمتد إلى شمالي الخط الممتد من عكا إلى كفر ناحوم والثاني يدخل فيه القسم الجنوبي. ويمكن على الجملة أن يقال أن أرض الجليل واقعة اليوم في الجهة الشمالية من بلاد فلسطين بين لواءي عكا ونابلس وفي الجهة الغربية من نهر الأردن ويدخل فيها قضاء صفد وقضاء طبرية وقضاء الناصرة وبعض قضاء جنين ومن أعمالها مرج ابن عامر وكانت أهم مدن الجليل بطلومايس التي أصبحت فيما بعد عكا وصفورية والناصرة وكفركنة وبتولي وكفر ناحوم وسكانها كما هم الآن مزيج من أمم مختلفة وأهم عناصرهم اليهود والآشوريون وكان هذا الاقليم على عهد ظهور النصرانية عامراً جداً بالسكان غنياً مزهراً وله حياة سياسية كما له حياة دينية وجميع أنواع العبادات والمذاهب تجري فيه حرة مطلقة لا شيء ينغص عليها أمرها وتكثر فيه النباتات والزهور من كل نوع وفيه غابات كثيرة كان يستخرج منها خشب السفن. وعرف العرب أرض الجليل بجبل الجليل فقال ياقوت أن جبل الجليل في ساحل الشام ممتد إلى قرب حمص كذا كان معاوية يحبس في موضع منه من يظفر به ممن ينبز بقتل عثمان وقال ابن الفقيه وكان منزل نوح عليه السلام في جبل الجليل بالقرب من حمص في قرية تدعى سحر ويقال أن بها فار التنور قال وجبل الجليل بالقرب من دمشق أيضاً وهو جبل يقبل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير، وهذا التعريف أقرب إلى الجلاء من غيره، وقال ابن عساكر أن جبل الجليل من أعمال صيداء وبيروت من ساحل دمشق، وهو تعريف حسن في الجملة قال أبو قيس بن الاسات: فلولا ربنا كنا يهوداً ... وما دين اليهود بذي شكول ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل ولكنا خلقنا إذا خلقنا ... حنيف ديننا عن كل جيل قلنا إن أرض الجليل كانت معترك الأمم والأديان من قديم الزمان ولقد جاء عليها عهد أيام

الرومان كانت فيه الأديار والبيع والمعابد مبثوثة في كل بقعة من بقاعه وقرية من قراه ولما فتحها المسلمون عاملوا أهلها بالرفق وأقروهم على عبادتهم شأنهم في فتوحاتهم ولكن دالت الدول وكرت الأعصار وجيشت ملوك أوروبا على الشرق جيوشها في القرون الوسطى وكانت الحرب الصليبية سجالا بين المسلمين والصليبيين في هذه الارض مدة قرنين فلا عجب إذا شهدنا أسوار المدن مهدمة وآثار البيع والاديار معفاة داثرة وأشجار ذاك الصقع وغاباته مدمرة وكثيراً من مدنه قرى صغيرة أو مزارع بائرة. خربت هذه الديار بأدوار اتت عليها كان القول الفصل في سياسة حكومات الأرض لرجال الدين وكان أهل الصليب من أمم أوروبا كلما أرادوا أن يرجعوا أدراجهم ويتخلوا عن هذه الأرض يحفز أرواحهم حافز من القساوسة والشمامسة ومن لف لفهم من حملة الدين فيلقون بأنفسهم في مآزق صعبة ويركبون إلى نيل اوطارهم كل ذلول وصعبة فتردهم جيوش المسلمين عن استباحة حمى الإسلام لأن فلسطين أوسورية إذا ملكها الافرنج يضيع الإسلام المسجد الاقصى ويوشك أن يكون الخطر محدقاً بالحرمين الشريفين مبعث الوحي والرسالة ومحج أهل الإسلام من العالمين ولذلك هاجم الصليبيون هذه الديار بسائق الدين ودافع عنها المسلمون بسائق الدنيا والدين فكتبت الغلبة لأهل هذه البلاد وقلما ظفر مهاجم ورجع الدخلاء عنها مدحورين ولكن بعد أن خرب العامر والغامر وأصبحت نفراء جرداء لا تجد فيها خضراء ولا غضراء. ولقد كانت طبرية عاصمة الجليل ولها شأن مذكور بين مدن تلك الأرباض أسست عام 17 للمسيح على يد هيرود انتيباس حاكم الجليل الذي جعلها عاصمته وسماها بالاسم الذي عرفت به إلى اليوم إكراماً لحاميه الامبراطور طيباريوس الروماني وكانت المدينة جنوبي موقع المدينة الحالية اولا اي حوالي الحمامات المعدنية ويسمى اليوم ذاك المكان بخربة الحمام وذلك لأنه اكتشفت مدافن وقبور في مكان المدينة القديمة فأبى اليهود أن يسكنوها لان خرق حرمة المدافن يعد عندهم من الكبائر، ولم يستطع هيرود أن يسكن طبرية لاول انشائها الا باناس من طبقة واطئة انعم عليهم بأنواع الاحسان وأغدق عليهم الأعطيات ترغيباً لهم ولما توفي عاملها عهد الامبراطور نيرون إلى اغريبا الفنى بالولاية عليها سنة 41 فلم يكن منه إلا أنه أسقط طبرية عن مكانتها واختار صفورية لتكون عاصمة الجليل.

ولما انتفض اليهود على الرومانيين عهد إلى المؤرخ يوسيفوس أن يكون والياً على الجليل الاسفل والأعلى فحصن طبرية وكانت ينتابها ليؤيد نفوذ الدولة على الشاغرين من أهلها، واستسلم أهل طبرية لفباسيان وفتحوا له أبوابها لما داهم الجليل بجيشه فكان ذلك سبب أنعام الرومانيين عليهم بضروب الاحسان بعد خراب بيت المقدس. ولئن سحق الامبراطور ادريانوس الامة الاسرائيلية وأنشأ له معبداً في طبرية لعبادة الأوثان فقط ظل نفوذ اليهود مستحكماً بعده، وإن عد اليهود طبرية بموجب شريعة اسرائيل من المدن القذرة فإن لربانيين منهم اختاروها واتخذوها بلدهم المقدسة وجعلوها محجهم الجديد وفي أواخر القرن الثاني انتقل من صفورية إلى طبرية كبار رجال التلمود عندهم ونشأ منهم ربابنة عظماء يقدسونهم ويمجدونهم ومنهم الذين جمعوا المبعثر من شريعة اسرائيل ودخلت النصرانية في القرن الرابع إلى طبرية. فتحت طبرية على يد شرحبيل بن حسنة في سنة 31 هـ صلحاً على أنصاف منازلهم وكنائسهم وقيل أنه حاصرها أياماً ثم صالح أهلها عل انفسهم وأموالهم وكنائسهم إلا ما جلوا عنه وخلوه واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً ثم نقضوا في خلافة عمر رضي الله عنه واجتمع إليهم قوم من شواذ الروم فير أبو عبيدة إليهم عمرو بن العاصي في اربعة آلاف وفتحها على مثل صلح شرحبيل وفتح جميع الأردن على مثل هذا الصلح بغير قتال قال ياقوت: وهي بليدة مطلة على البحيرة المعروفة ببحيرة طبرية وهي في طرف جبل وجبل الطور مطل عليها وهي من أعمال الأردن في طور الغور بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وكذلك بينها وبين بيت المقدس وبينها وبين عكا يومان هي مستطيلة على البحيرة وعرضها قليل حتى تنتهي إلى جبل صغير فعنده آخر العمارة. ولما فتح الصليبيون بيت المقدس اقطع ملكها غود نرى دي بوليون ولاية الجليل إلى تنكر يد فجعل عاصمتها طبرية فأنشئت مدينة حديثة شمالي القديمة وهي الموجودة اليوم وفي سنة 1187 قبيل وقعة حطين كان يملك طبرية ريمون الثالث كونت طرابلس فسقطت المدينة بيد صلاح الدين إلا القلعة وكان فيها امرأته وأولاده فطلبت الأمان من صلاح الدين فأمنها وانصرفت عنها تلحق بزوجها وغدت طبرية في سنة 1239 ملكاً لاود دي مو بيلارد بموجب معاهدة عقدت بين الملك الصالح أيوب سلطان دمشق ضد ملك مصر

فاستعادها هذا بعد خمس سنين وذبح الحامية والنصارى فيما يقول الافرنج وأخذت هذه المدينة بالانحطاط حتى أن الرحالة كارسيموس لما زارها سنة 1620 لم يرقيها أحداً من اليهود ووجد سكانها كلهم من المسلمين. وحكم طبرية ظاهر العمر حاكم عكا وهو الذي بنى سورها المتهدم الحالي سنة 1738 وجدده ابراهيم باشا المصري سنة 1833 ولكن أصيبت بعد أربع سنين من هذا التاريخ بزلزال لم يبق منها ولم يذر هلك فيه سبعمائة شخص وقوضت أركان أبنيتها كافة وقل سكانها المسلمون ونزلها يهود من أطراف الأرض وهم اليوم أكثر من ثلاثة أرباع سكانها لا يقلون عن سبعة آلاف فيهم النمساوي والبولوني والروسي وغيرهم. وأهم ما في طبرية حماماتها وبحيرتها قال علي بن أبي بكر الهروي: أما حمامات طبرية التي يقال أنها من عجائب الدنيا فليست هذه التي على باب طبرية على جانب البحيرة (المعروفة اليوم) فإن مثل هذه كثيراً ما رأينا في الدنيا وأما التي من عجائب الدنيا فهو موضع من أعمال طبرية شرقي قرية يقال لها الحسينية في واد وهي عمارة قديمة يقال أنها من عمارة سليمان بن داود وهو هيكل يخرج الماء من صدره وقد كان يخرج من اثنتي عشرة عيناً كل عين مخصوصة بمرض إذا اغتسل فيها صاحب ذلك المرض برئ بإذن الله تعالى والماء شديد الحرارة جداً صاف عذب طيب الرائحة ويقصده المرضى يستشفون به وعيون تصب في موضع كبير حر يسبح الناس فيه ومنفعته ظاهرة وما رأينا ما يشابهه إلا الشرميا. قلنا وإن ما يشير إليه من الحمامات بأنه في واد بعيد عن طبرية وهو من عجائب الدنيا يشير فيما نحب إلى الحمة الواقعة في وادي اليرموك على طريق الخط الحديدي عند الكيلومتر 93 و 95 قال أبو القاسم في وصف حمة طبرية وفيها عيون ملحة حارة وقد بنيت عليها حمامات فهي لا تحتاج إلى الوقود تجري ليلا ونهاراً حارة وبقربها حمة يغتمس فيها الجرب وبها مما يلي الغور بينها وبين بيسان حمة سليمان بن داود عليه السلام ويزعمون أنها نافعة من كل داء. وهذه الحمة الأخيرة أي حمة سليمان لا تزال إلى اليوم معروفة بحمام سيدي سليمان وهي إحدى الحمامات الكائنة في جنوب طبرية على نحو كيلومترين منها ويجري الماء إلى

الحمامات من أربع عيون حارة وأهمها ما بناه ابراهيم باشا وهو في الشمال ويعرف باسمه وهو عبارة عن حوض كبير تحيط به عمد قديمة من الرخام وعليه قبة عظمى وهي مثقوبة بثقوب اسطوانية يخرج منها البخار ودرجة حرارة الماء 62 بالميزان المئوي وهو صاف براق في الجملة ملح الطعم مر مهوع وتنبعث منه رائحة شديدة من حامض الكبريت أو رائحة بيض فاسد، وهذه الحمات ملك الحكومة تؤجرها ممن تريد لقاء ألف ليرة في السنة وفيها مغاطس في مكان آخر قد يغير صاحب الحمام مياهها في الاحايين ولكنها كسائر أقسام الحمامات الأربعة غير صحية لان أناساً كثيرين من أرباب الأمراض المختلفة ينزلونها في وقت واحد ويخشى أن تسري جراثيم بعض الأمراض إلى جسم من كان منها سليماً فيخسر بانغماسه في هذا الماء من حيث يريد الربح ولو رتبت هذه الحمامات ترتيباً صحياً كما هو الحال في حمامات مارينباد في النمسا وبورصة في الاناضول وحلوان في مصر وأنشئت هناك كما هو رأي بعض المفكرين في عمران هذه الديار للانتفاع بخصائصها الطبيعية فنادق وحدائق وأماكن تتوفر فيها شروط الراحة ومرافق الحياة لجلبت المستحمين في هذه الحمة من اقطار الأرض كما تجلب حمامات بورصة وحلوان ومارينباد وباد. وموسم الاستحمام بهذه الحمامات من اول كانون الثاني إلى آخر حزيران وتختلف الحرارة في الصيف في طبرية من 25 إلى 42 ولكن الهواء حسن في الجملة فلا يؤثر في سكانها الأصليين كثيراً بقدر تأثيره في الغرباء ولذلك صدق ما قاله فيها أبو عبد الله ابن البناء: طبرية قصبة الأردن بلد وادي كنعان موضوعة بين الجبل والبحيرة فهي ضيقة كربة في الصيف وخمة وبئة وطولها نحو من فرسخ بلا عرض وسوقها من الدرب إلى الدرب والمقابر على الجبل بها ثمان حمامات بلا وقيد حارة الماء والجامع في السوق كبير حسن فرشه مرفوع بالحصى على اساطين حجارة موصولة ويقال أن أهل طبرية شهرين يرقصون من كثرة البراغيث وشهرين يلوكون يعني البق فإنه كثير عندهم وشهرين شاقفون يعني بإيديهم العصي يطردون الزنابير عن طعومهم وحلاوتهم وشهرين عراة يعني من شدة الحر وشهرين يزمرون يعني يمصون قصب السكر وشهرين يخوضون من كثرة الوحل في أرضهم قال وأسفل طبرية جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم من البحيرة وحول

البحيرة كله قرى متصلة ونخيل فيها سفن كثيرة وهي كثيرة الأسماك لا تطيب لغير أهلها والجبل مطل على البلد وماؤها عذب ليس بحلو. ويرى أطباء العصر أن مياه طبرية الحارة تنفع النساء في وظائفهن التناسلية وتشفي كل الشفاء من الأوجاع العصبية الحادة والمزمنة ومن أمراض الرثية الروماتيزم ومن ضعف المجموع العصبي ومن داء النقرس ومن البول السكري ومن المرة السوداء لابوخندريا ومن أمراض أعضاء التناسل ومن الأورام المفصلية التي هي في حال الوقوف كما قد تنفع في التهاب قصبة الرئة برونشيت المزمن وبعض أمراض الأنف والحنجرة المزمنة والأمراض الجلدية وعدم انتظام حركة سلسلة الفقار واختناق الرحم والبول الزلالي والتدرن الرئوي وغيرها. أما بحيرة طبرية فقد قال فيها واصفوها من الافرنج أنها الحوض الثاني الذي يملؤه نهر الأردن في طريقه عند انحداره من قيسارية إلى بحيرة لوط وسطح مائها على 308 أمتار تحت سطح البحر المتوسط وعمق البحيرة 45 متراً في وسطها ولكنه يبلغ 250 متراً في اللجج المجاورة للشاطئ الجنوبي من البحيرة اي قرب سمخ التي يركب منها إلى طبرية في قارب في البحيرة ساعة أو يركب في مركبة على اليابسة ساعة ونصفاً. وطول البحيرة 21 كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب وعرضها تسعة كيلومترات ونصف أي أن مساحتها السطحية 170 كيلومتراً مربعاً ومياهها قابلة للشرب في الفصول الأربعة وفيها كثير من السمك الجيد والجبال التي تحيط بالبحيرة في الجنوب الغربي تنفرج عنها في الشمال الغربي فيتالف منها نصف دائرة متسعة وفيها يكون سهل النويز الخصيب وعلى ثمانمائة متر من البحيرة إلى الأعالي عدة قرى وبينها مدينة صفد القديمة وفي الشمال من البحيرة سهل مموش يشعر بمصب الأردن وفوق السهل المتوج الذي يفصل بحيرة طبرية عن بحيرة الحولة أو مياه ميروم تنظر إلى قنن جبل حرمون (الشيخ) المكللة بالثلوج ويحد البحيرة من الشرق والجنوب الشرقي صخور عالية هائلة يبلغ علوها نحو ثلاثمائة متر وهي تحمل سطح الجولان وفي الجنوب ينفرج الغور ثانية فيجتازه الأردن ويتلون فيؤلف أضواجاً عديدة. وكان اسم هذه البحيرة في القديم كنريت اشارة إلى شكلها البيضي الذي يشبه عود الطرب

واسمه بالعبرانية كنور على أن هذا الشكل هو عام في جميع البحيرات التي تحيط بها الجبال ويجتازها نهر وكانت كنريت معروفة قبل العبرانيين من مدن الكنعانيين وبعد سبي بابل دعيت البحيرة بحيرة الغوير أخذاً من اسم السهل الخصيب الذي يصل إلى شواطئها من الشمال الغربي وسميت في العهد الجديد ببحيرة الجليل وببحيرة طبرية وهذا الاسم هو الذي أطلقه عليها العرب. ولم يخل هذا البلد على حرارته من رجال في الإسلام ولدوا ونشأوا وكانت لهم يد في خدمة المسلمين مثل الامام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير أبي القاسم الطبراني أحد الأئمة المعروفين والحفاظ المكثرين والطلاب الرحالين الجوالين والمشايخ المعمرين المصنفين المحدثين والثقات الاثبات المعدلين وغيرهم ممن يفنى الدهر والخلف يتناقل عن السلف أعمالهم. وكان الأردن على عهد الفتح الاسلامي أحد أجناد الشام الخمسة وهي كورة واسعة منها الغور وطبرية وصور وعكا وما بين ذلك قال أحمد بن الطيب المرخسي الفيلسوف هما أردنان أردن الكبير وأردن الصغير فأما الكبير فهو نهر يصب إلى بحيرة طبرية بينه وبين طبرية لمن عبر البحيرة في زورق اثنا عشر ميلا تجتمع فيه المياه من جبال وعيون فتجري في هذا النهر فتسقي اكثر ضياع جند الاردن مما يلي ساحل الشام وطريق صور ثم تنصب تلك المياه إلى البحيرة التي عند طبرية وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة فهذا النهر في الأردن الكبير بينه وبين طبرية البحيرة وأنا الاردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسقي ضياع الغور وأكثر مستغلهم السكر ومنها يحمل إلى سائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة منها بيسان وقرارا واريحا والعوجاء وغير ذلك وعلى هذا النهر قرب طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كثيرة تزيد على العشرين ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البثنية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة في طرف الغور الغربي وللأردن عدة كور منها كورة طبرية وكورة بيسان وكورة بيت رأس وكورة جدر وكورة عفورية وكورة صور وكورة عكا وغير ذلك، وقد فتح طبرية لما انتقضت عمرو بن العاص كما قلنا فتحها على مثل صلح شرحبيل وكذلك جميع مدن الأردن وحصونها ففتح

بيسان وافيق وجرش وبيت رأس وقدس والجولان وعكا وصور وصفورية وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها. في وادي الأردن بين قرية لوبية وطبرية في سهل قرية حطين وقعت الوقعة الهائلة بين جيوش الصليبيين وجيوش المسلمين ورأسهم صلاح الدين التي قال فيها مؤرخو الصليبيين أنها كانت في الرابع من تموز سنة 1187م وكان جيش الافرنج مؤلفاً من ألفي فارس وخمسين ألف راجل اشتد بهم العطش لقلة الماء هناك وبرحت بهم تباريحه قبل الوقعة بيومين وهبت عليهم ريح شرقية وهي المعروفة بالخماسين فمن لم يسلم الروح ظلماً اسلمها للسيف وانهزم الكنت ريموند صاحب طرابلس فاستولى صلاح الدين على الاكمة وقتل من ملوكهم صاحب الكرك رنودي شاتليون الذي كان غزا الحجاز واحب فتح الحرمين فنذر صلاح الدين أن هو ظفر به أن يقتله بيده وكذلك كان واستسلمت سائر المواقع لإرادة الجيش الصلاحي. وكان صلاح الدين قد نازل طبرية ونقب بعض ابراجها ونهب المدينة وأحرقها فلما سمع الفرنج بذلك اجتمعوا للمشورة فأجمعوا على التقدم فركبوا واشتد القتال وصبر الفريقان ورمي جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر والافرنج يقاتلون سائرين نحو طبرية لعلهم يردون الماء فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عنه وكان بعض المنطوعة قد ألقى في تلك الأرض ناراً وكان الحشيش كثيراً فاحترق وكانت الريح فحملت حر النار والدخان إليهم فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار والدخان وحر القتال فلما انهزم القمص (الكنت) سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ثم علموا انهم لا ينجيهم من الموت إلا الاقدام عليه فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون المسلمين على كثرتهم عن مواقفهم إلا أن الافرنج لا يحملون حملة فيرجعون لا وقد قتل منهم فوهنوا لذلك وهناً فارتفع من بقي منهم إلى تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم هناك فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات واخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ويذكرون أن فيه قطعة من الخشب التي صلب عليها المسيح عليه السلام فيما يقال فكان أخذه من أعظم المصائب إلى أن أسر المسلمون من نجا من حد السيف وفيهم الملك وأخوه والبرنس ارنلط (ارنولد) صاحب الكرك ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين وأسروا أيضاً صاحب

جبيل وابن هنفري ومقدم الداوية وكان من أعظم الفرنج شأناً وأسروا أيضاً جماعة من الداوية وجماعة من الاسبتارية (الاسبتالية) وكثر القتل والااسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحداً وما أصيب الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل وهو سنة إحدى وتسعين واربعمائة إلى الآن (583) بمثل هذه الوقعة قال ابن الأثير: ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد منها المجتمع بعضه على بعض ومنها المفترق هذا سوى ما جحفته السيول وأخذته السباع في تلك الآكام والوهاد. واختلفت الروايات في مقدار عسكر صلاح الدين والصحيح على أنه كان نحو جيش الصليبيين أي يزيد عن خمسين ألف مقاتل إلا أنه كان يزداد كل يوم حتى صار معه في طبرية ثمانون ألف مقاتل واجتمع عسكر الصليبيين في الجليل في صحراء صفورية أولاً إلى أن كانت هذه الوقعة التي لم تقم لهم بعدها قائمة وسقطت مدن الجليل بيد الجيش الصلاحي واحدة بعد أخرى مثل عكا والناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا قال العماد الاصفهارني: وكانت الفولة أحسن قلعة وأحصنها واملأها بالرجال والعدد واشحنها وهي للداوية حصن حصين ومكان مكين وركن ركين ولهم بها منبع منيع ومربع مريع ومسند مشيد ومهاد مهيد وفيها مشتاهم ومصيفهم ومقراهم ومضيفهم ومربط خيولهم ومجر ذيولهم ومجرى سيولهم ومجمع اخوانهم ومشرع شياطينهم وموضع صلبانهم ومورد جمتهم وموقد جمرتهم فلما اتفق يوم المصاف خرجوا باجمعهم إلى مصرعهم واثقين بأن الكدر لا يتمكن من صفو مشرعهم فلما كسروا وأسروا وخسروا وتحسروا ظلت ظلول انفولة بحدود اهلها المفلولة ودماء داويتها المطلولة ولم يجتمع شمل غمودها بالسيوف المسلولة ولم يبق بها إلا رعايا رعاع وغلمان وأتباع واشياع شعاع فعدموا امكان حماية المكان ووجدوا امنهم في الاستئمان فسلموا الحصن بما فيه إلى السكان وكانت فيه اخاير الذخائر ونفائس الاعلاق فوثقوا بما أحكموه من الميثاق وخرجوا ناجين ودخلوا في الزمام لاجين وللسلامة راجين وتسلم جميع ما كان في تلك الناحية من البلاد مثل دبورية وجينين وزرعين والطور والمجون وبيسان والقيمون وجميع مالطبرية وعكا من الولايات والزيب ومعليا والبعنة واسكندرونة ومنوات.

هذه هي عاصمة الجليل وهذا طرف من تاريخها وعمرانها في القديم أما اليوم فحالها حال قرية حقيرة لا نكاد تجد فيها شجرة مع اشتهارها قديماً بكثرة الاشجار بلا أن النخيل الذي كان يكثر فيها لا تجد له إلا أثراً ضئيلاً جداً كما كاد يفقد من أرض الجليل اللهم إلا بعض سواحل البحر ولذلك تجد طبرية باهتة مكمدة ولو حفت المراف البحيرة بالأشجار لطاب مناخها واعتدل هواؤها وراق للنواظر منظرها وأصبحت مصيفاً ومشتى على حد سواء ولكل الأهالي كالى والحكومة لا يهمها إلا أخذ ما تيسر من الضرائب والعثور. قال لنا أحد أصدقائنا من علماء دمشق في الاقتصاد والعمران زرت طبرية منذ اثنتين وخمسين سنة وزرتها منذ سنتين فلم أشهد فرقاً في عمرانها بل رأيتها جامدة لم تتحرك ولولا فندق لالماني ومستشفى للانكليز لرسمت لطبرية نفس تلك الصورة التي علقت في ذهني منذ نصف قرن ومع ما نشكه من بطء بلادنا في نهوضها وعمرانها نجد القرى في هذه الحقبة من الزمن قد تغيرت صورتها وانبسطت رقعتها وحسنت ولو بعض الشيء بقعتها أما طبرية فهي الجمود بعينه ولم يزدها الاجالية من يهود الغرب نزلوها مهاجرين فكان المسكن الذي ينزله خمسة أنفس يؤوي الآن عشرين فتضايق السكان وفسد الهواء واستوبل الماء وافتقر أهل البلاد الأصليين لأن لسان حال الاسرائيليين والصهيونيين خاصة مع جميع الشعوب كما قال ذلك السامري لامساس. كان من حق الناصرة أن يسبق الكلام عليها لانها اليوم أعمر بلاد الجليل ومهبط أفئدة أمم النصرانية ولكنها بلد حديث بالنسبة لبلاد الجليل بدأ مجدها بأنها كانت موطن مريم العذراء عليها السلام وفيها عاش المسيح إلى الثلاثين من عمره ولم ير لها ذكر في كلام قدماء المؤرخين ومعنى الناصرة الفرع أو الزهرة وهي على ثلاثة عشر ميلاً من طبرية ممتدة على شكل نصف دائرة في سفح دائرة من الآكام العالية وبيوتها بيضاء نظيفة تحيط بها أشجار الزيتون والتين والصبار وبذلك تألف منها صورة مليها لا تتعب العين من النظر إليها. قال رنان: كانت الناصرة بلدة صغيرة قائمة في طية أرض منبسطة على متن بعض الجبال أما سكانها فإنهم يبلغون اليوم أربعة آلاف نسمة فكأنها الناصرة القديمة لأن المؤرخ يوسيفوس يقول أن أصغر قرى الجليل كان عدد نفوسها خمسة آلاف نسمة وإن كان هذا

القول لا يخلو من مبالغة، والبرد في الناصرة شديدة في زمن الشتاء ولكن الهواء جيد جداً وكانت الناصرة في ذلك الزمن شبيهة بكل قرى اليهود يومئذ أي أنها كانت مؤلفة من منازل مبنية من غير هندسة ولا نظام ومنظرها شبيه بمنظر القرى الآسيوية وربما لم تكن منازل الناصرة تختلف عن المنازل الحجرية المربعة القائمة في جهات لبنان العامرة والتي إذا أضيفت إليها أشجار الكرمة والتين المغروسة بجانبها كان لها منها منظر رائق. أما المكان الذي بنيت فيه الناصرة فإنه مكان شائق وليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للأمل في السعادة والراحة، ولا تزال هذه المدينة إلى اليوم مقاماً جميلاً، أما سكانها فهم قوم ألفوا اللطف والبشاشة وحدائقها باردة خضراء، وقد وصف انطونين مارتير الناصرة في أواخر القرن السادس عشر فشبه أرضها بأرض الجنة من فرط خصبها، ولا يزال في غربي المدينة أودية خصيبة ينطبق عليها وصفه. أما العين التي كانت مركز الحركة في هذه المدينة وكان حولها السرور شاملاً فقد هدمت ولا يجري الآن من نبعها سوى ماء كدر وأما جمال النساء الناصريات اللواتي يجتمعن حولها في المساء من ذلك الجمال الذي كان مشهوراً عنه في القرن السادس عشر أن هبة للناصريات من مريم العذراء فإنه لا يزال يترقرق في وجوههن فهناك الشكل السوري الجميل في أتم خلقه. ولا شبهة في أن العذراء كانت تقف في صباها بين أولئك النساء حول العين ومعها إناء الماء لتستقي منها، وقد قال انطونين مارتير أن نساء اليهود يكرمن المسيحيين في هذا المكان مع أنهن يكرهنهم كرهاً شديداً في غيره، فكأن هواء وطن السيد لطف أخلاقهن، وإذا نظرت في البغض الديني وجدته في هذا المكان أخف منه في سائر الأمكنة. وأما منظر الأفق من المدينة فإنه قصير ضيق ولكنك إذا صعدت إلى الآكام المشرفة عليها انبسط أمامك منظر جميل يسحر الألباب، فإنه من الجهة الغربية يظهر لك جبل الكرمل ممتداً إلى البحر وداخلاً فيه ويليه غيره من الجبال بينها وادي الأردن وسهول بيريا المرتفعة، أما في جهة الشمال فإنك ترى جبال صفد متجهة نحو البحر وهي تستر عنك عكا وتظهر لك خليج حيفا. مذ كان أفق يسوع، هذا كان في صباه المنظر الدائم أمام عينيه، هذا هو مهد ملكوت الله

وسرير الديانة المسيحية، فإذا بقي العالم مسيحياً في مستقبل الزمان وصار أكثر احتراماً لأصول الدين وأشد رغبة في استبدال الأماكن المقدسة المشكوك فيها بأماكن حقيقية فما عليه إلا أن يبني كنيسة على هذه الآكام التي كان يسوع يجلس عليها ويشاهد العالم بها، هناك يجب أن تقام الكنيسة الكبرى التي يجب أن يحج إليها المسيحيون من جميع أقطار العالم، هناك حيث يرقد يوسف النجار وألوف من أبناء الناصرة المنسيين يحق للفيلسوف أن يقف ويتأمل في مجرى حوادث العالم ليعزي نفسه عما يصادفه الانسان في هذه الحياة من الفشل والخيبة في أعز ما يكون لديه ولكي يتحقق أن العالم سائر إلى غرض إلهي لا يصرفه شيء عنه مهما قام في سبيله من المصاعب والعثرات. هذا ماوصف به فيلسوف الفرنسيس الناصرة بلد يسوع الناصري كما كان يقال له والتي منها اشتق اسم النصارى وهو وصف ينطبق كل الانطباق على حالتها اللهم إلا ما جاء عفو الخاطر فكان أشبه بتشبيه شاعر مثل قوله في مكان الناصرة أنه ليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للتأمل في السعادة والراحة ونظن مثل هذا القول يصح إطلاقه على جبال سورية عامة بل جبال الأرض كافة فهي كلها تبعث الروح على التأمل لفراغ الذهن فيها من كدورات المدن وازدحام الأنفاس ولما تقع عليه العيون من المناظر الشائنة في هذا الوجود الغريب وكيف كانت الحال فالفيلسوف يعذر على ما قال لنشأته وتربيته التي قلما يتجرد منها إنسان مهما نزع ربقة القيود والتقاليد ولكن هذا الغلو لا يقدح في جمال هذا البلد الطيب وأي بلاد لا تطيب لأهلها. أما تاريخ الناصرة فله ارتباط كلي بتاريخ الجليل وبعد فلم تداهم جيوش كبرى وهولاكو وتيمور هذا الإقليم فلم من غاراتهم وتخريبهم ولقد قال بعض مؤرخي الافرنج أن التسامح الذي أسداه المسلمون للمسيحيين لم يدم زمنه طويلاً حتى أن ويلبالد لما وصل إلى الناصرة سنة 725 م لم يجد فيها كنيسة قائمة ومع هذا ذكروا بأنه كان فيها سنة 808 ثمانية عشر راهباً. وتغلب الامبراطور يوحنا سيميسيس على العرب واستولى على سورية وفلسطين واحتل طبرية عام 975 م وجبل تابور والناصرة ولكن ادخل عليه خصيانه السم فعادت الولايات التي افتتحها فسقطت في أيدي العرب، وقد قال ساولف أن تنكرد لما فوضت إليه بعد فتح

القدس بلاد الجليل سنة 1100 م كانت معاهد الناصرة قد خربها العرب ولم يبق إلا بعضها فأعاد الصليبيون بناءها واتخذوها كنيسة جامعة لهم، ولما سقطت أرض الجليل بيد صلاح الدين بعد وقعة حطين آضت الناصرة أيضاً إليها فعطف على أهلها وفي خلال هدنة العشر سنين المعقودة بين الصليبيين وصاحب مصر في 20 شباط 1229 أصبح فريدريك الثاني امبراطور ألمانيا الحاكم المتحكم بالطريق من عكا إلى الناصرة فرمم هذه المدينة على أنها ما كانت قط حصناً منيعاً. وفي شهر آذار 1263 قدم من مصر في جيش هائل صحبها الظاهر بيبرس البندقداري وعسكر في منحدر جبل تابور وبعث كما قال القس مسترمان برجاله يخربون البيع والادبار واطلق الحرية للمسيحيين على أن يدينوا بالاسلام لكنهم أبوا ووقعت فيها وقعة هائلة قتلوا عن آخرهم، ولمؤرخي الادبار أخبار يتلونها وأحاديث يقصونها عما لقيها القسيسون والرهبان من المظالم إلى القرن الماضي أيام تنفس خناقهم بتولي الظاهر عمر امر الجليل فأصبحوا أحراراً في كنائسهم وعباداتهم آمنين من عيث البدو الذي وقع مرتين على الناصرة فغزوا أهلها في عقر دارهم. وتاريخ الناصرة هو في الحقيقة تاريخ الادبار والمعابد فيها وفد قوي سلطانها منذ جاءه بونابرت وحاصر عكا سنة 1799 وبعث بأحد قواده يعسكر في الناصرة الاحسانات على الاديار من أمم النصرانية في الغرب على اختلاف لغاتهم ومذاهبهم وما منهم إلا من أنشأ بيعة حتى بلغت أربع عشرة بيعة وكنيسة ومعظمها من ضخامة البناء وحسن الهندام ما يذكر بقصور الملوك ومنازل المترفين والفرنسيسكان أقدم الرهينات وأرسخهم قدماً في الناصرة وكنيستهم مما يزار لبعض الآثار التاريخية فيها ويكفي أنها أثر من آثار الكنائس في القرون الوسطى. وفي الناصرة يشتد التنافس بين أهل المذاهب المختلفة من المسيحيين يعلمون الذكور والإناث ويلقنونهم ما يشاؤون ويطبون المرضى ويعطونهم العقاقير بلا مقابل من أي نحلة كانوا على شرط أن يستمعوا لبعض الواعظين ونصائح دعاة الدين ولذلك قل في هذه البلدة أميون وجاهلون، والقارئون الكاتبون من أهلها من الجنسين أكثر من كل بلد سواها في سورية يعيشون بصدقات المحسنين ويتمتعون بما تجود بهم أيدي أتقياء الغربيين.

ولو اتصلت الناصرة اليوم بالسكة الحديدية مع خط حيفا على الأقل أو لو مد منها خط إلى القدس لما حج حاج من النصارى إلا ونزل الناصرة يزور ويتبرك ولكان من ذلك للحكومة والأمة فائدة مادية مهمة فمن مدن سويسرا ما يعيش طول سننه مما ينفته الزوار في مصايفها أفلا يجدر ببلد السيد المسيح أن يعيش أهلها من ريع يأتيهم به عشرات الألوف من جمهور المؤمنين من المسيحيين.

غابات سورية

غابات سورية تشجير أراضي السلطنة من أهم المسائل الاقتصادية المهمة التي يجب أن تصرف لها عناية العثمانيين وحكومتهم فقد جهل الناس منافع الغابات ولم تعن الحكومة بالهيمنة عليها حتى أتى السكان أو كادوا في أكثر الأقاليم على ما لقى لهم الأجداد من الغابات الغبياء فكاد الخطر يحدق بحياة البلاد الاقتصادية ويوشك أن يستفحل الخطب لهذا الإهمال. قال العارفون أن في المحافظة على الغابات نجاح الزراعة والتجارة والمعامل والصناعات والملاحة البحرية والنهرية والمناجم وجميع أسباب الراحة في الحياة بل وحياتنا أيضاً، ودعا المحدثون من الاقتصاديين والمفكرين في الغرب إلى حفظ الغابات قائلين أن حفظها من أول مصالح المجتمعات وحفظها أول الواجبات على الحكومات وأثبتوا أنه كلما قطعت من بلد أشجاره يمسي فقيراً لأن في قطع الأشجار التي تغشى منحدرات الجبال وقتها ثلاثة مصائب لأبناء الأجيال المقبلة: قلة الوقود وقلة المياه واعداد البلاد الفيضانات المخربة فحياة البشر مناطة بالاشجار، والأمم التي تحب الغابات هي من الأمم العاملة التي تحسب للمستقبل حسابه وبقدر عراقة الأفراد في الأخلاق والتقاليد يجعلون لهم منها رؤوس أموال فيفلحون بها ويرتاشون. إبادة الأشجار جائحة من جوائح الانسان ونذير اضمحلال الأمم فالاحتفاظ بالغابات والآجام هو تطبيق لمبدأ الدين الاجتماعي وقانون التكافل الذي يربط الأجيال بعضها ببعض قال الوزير كولبر الفرنسوي ذات يوم وقد رأى قلة عناية أمته بغاباتها: أن فرنسا ستهلك من قلة الحراج. وليس معنى إبادة الغابات حرمان بلادنا من أجمل حليها بل انضاب ينابيع الأنهار وإخلال نظامها إخلالا فيه الهلاك والتخريب والإضرار بالصحة العامة وتغيير وضع الأرض التي تحملنا فتتآكل التربة الصالحة منها على الزمن بهجوم المياه عليها دفعة واحدة وهو من أعظم الأخطار على التربة المنحدرة، ومتى عري الجبل من أشجاره يهلك الزرع والضرع معاً فتجري السيول على التربة الجرداء تحمل معها أولاً التربة الصالحة للزراعة ثم تفرج ما بين الصخور وتجعل الأحجار ركاماً مشرفاً على الأودية ويصبح النهر مسيلاً تكثر مياهه فتفيض أيام الأمطار وتنهال بدون نظام مودية بكل مافي طريقها وتتزايد زيادة هائلة فيفيض في السهل وهناك الفيضان والطوفان وتقطع الأمواج بتيارها الأشجار والصخور

وتخرب السدود وتودي بالدور والقصور وتدك المدن من أسسها، تجري مياه الأمطار على الصخر القاحل كأنها تمشي على سطح دار وتخرب المراعي وتفيض الأنهار حاملة تربة الجبال وحصاها وأحجارها فتطفح بها مجاري المياه وتسد مصابها وبعد أن تفيض المسايل كثيراً تصبح ولا ماء فيها ويختل نظام الاهوية ويكون من ذلك خراب رعاة الجبل وزراع السهل وتجار الثغور والمدن وصناعها، من أجل هذا ساغ لنا أن نقول أنهم كلهم متضامنون في منع جرد الأشجار وتعرية الجبال. ولقد نشأت في كل عصر مضار كثيرة من جرد الجبال من أشجارها وغاباتها قال أحدهم: كانت صقلية وإفريقية الشمالية والمغرب الأقصى انبار رومية في القديم فأصبحت قاحلة ماحلة بما تواتر عليها من غارات الفندال والمغرب التي انتهت بتحطيم الغابات وكل ما يشاهد من الخرائب العظيمة في تونس والجزائر وبعض أعمال قسنطينة وفي غيرها شاهدة ناطقة بأن هذه الأقاليم القاحلة اليوم كانت زاهرة أمس وفيها المدن العامرة عراها السقوط كما عرا إسبانيا من إبادة أشجارها وكم من خرائب حفر فيها وهي رمال أو أنقاض فشوهدت تحتها مدن كانت عامرة بمياهها المطردة وحدائقها الغبياء وغاباتها الغناء فلم تؤت إلا من قطع غاباتها ونسفت الرياح الرمال على تلك المدن فأصبحت كأن لم تغن بالأمس. ولقد ثبت أن فقر البلاد ولا سيما الجبلية منها ناشئ من قطعها الأشجار خاصة وكلما توغل المرء في دراسة التاريخ يجد الشواهد الكثيرة على تأثير الغابات في تكثير السكان فقد كان لبلاد اليونان وهي اليوم فقيرة قليلة السكان غابات وأنهار وإن اجداب الحقول الرومانية وخرابها ناشئان من تجرد جبال الابنين من أشجارها، وجبال الابنين تقطع ايطاليا إلى شطرين، وقد ناب اسبانيا انحطاط سريع من هذا الشأن فبعد أن كانت في القرن السادس عشر على عهد شارلكان وفيليب الثاني عامرة غنية محترمة انحط عمرانها في القرن السابع عشر من دون أن يضربها عدو أو تستبيح حماها أمة غازية فلم يمض عليها قرن إلا وقد رأت جميع علامات الانحطاط وقل سكانها على صورة مدهشة فنزل سكان مدريد من أربعمائة ألف إلى مائتي ألف في أوائل القرن الثامن عشر والسبب في نزوح السكان تلك المجاعة التي حدثت من الجفاف الذي دعا إليه تعرية البلاد من غاباتها تعرية أخلت بنظام الري، حتى أن نهر المانزاريس كان في القرن السادس عشر قابلاً لسير السفن في

على مقربة من مدريد فأصبح اليوم جافاً، وأنهم ليمزجون في إقليم اراغون الرمل بالخمر بدل الماء عندما يريدون أن يجبلوا الطين، فنفوس البلاد وعظمتها على نسبة غناها بغاباتها، وبلاد روسيا أكثر أوروبا غابات فإن أربعين في المئة من أراضيها مغشى بالأشجار و16 في المئة من أرض فرنسا وأرض إيطاليا مغشاة بالأشجار و 24 في المئة من ارض المانيا و6 في المئة من أرض البرتغال و5 في المئة من أرض فارس و3 في المئة من ارض إسبانيا وبلاد اليابان أكثر بلاد الدنيا غابات، وتبلغ مساحة الغابات في الولايات المتحدة خمسة أضعاف مساحة فرنسا ويحرق منها ي السنة نحو ثلثمائة هكتار وكثيراً ما يلتهم قسم من غابة فتبقى الأيام مشتعلة وربما حرقت فيها قرى بسكانها كما حدث في حريق البحيرة العالية وحدث هذه السنة فدام الحريق أياماً ذهبت فيه مئات الألوف من الليرات. ليس من جميع النباتات التي تنبتها الأرض ماعدا الحنطة التي هي أول المواد اللازمة لغذائنا نبات ضروري لنا كالغابات نافع يحمد اثره: فللشجرة منافع كثيرة وتأثير عظيم في الأنواء والحوادث الجوية في كل قطر فهي تصفي مياه الامطار وتعيدها ببطء إلى الينابيع والهواء وتحول بورقها وجذوعها دون جريتها سريعاً فالاشجار لا تمسك الماء فقط بل تجذبه ثم تنظم هطول الأمطار وتقلل من الفيضان وتبقى التربة في ظل الأشجار ندية خلال أيام القيظ، ونظام الغابات نظام للاهوية، فالشجرة تقي التربة من صدمات قطرات المطر والبرد فيكثر في الشتاء الثلج على قمم الجبال وتحول جذوع الأشجار وأغصانها دون سقوطها وتطيل مدتها وتذوب ببطء وتغسل القشرة الرقيقة تحت سطح الأرض وتمد الينابيع وتعطي مزروعات الأودية الرطوبة اللازمة لها، وإن جذوع الأشجار في العقاب والتلعات لتمسك التربة عن الانهيال وتقبض الصخور المفككة وتحول دون انهيار التراب. وكم من أشجار هي مأوى الماشية منذ قرون وحامية حياة الإنسان كما هي حامية الهوام والحيوان وكثيراً ما تنبت الرياحين والورود في أطرافها كما أن الأشجار تمسك الحميات وتمتص رطوبة المستنقعات وتطهر هواء الاقليم بفضل حفيفها المنبعث من اكتظاظ الصخور الشجراء، ولقد صدق من قال من عشاق الأشجار تأتينا الشجرة بالماء ومن الماء يصير مرج والمرج يغذي الماشية ومن الماشية ينشأ السماد ومن السماد الحنطة.

لا جرم أن كل من جال جولة في أوروبا وأميركا يعرف مقدار حرص الفرنجة على الانتفاع بالغابات، فقد قامت الجرائد والجمعيات في فرنسا منذ مدة تدعو إلى تشجير الأراضي الوعرة أو غير الصالحة للمراعي وإلى تخضير الأراضي المنحدرة انحداراً قليلاً ولسان حالها ينادي أننا نرمي إلى إنقاذ أرض الوطن والمحافظة على ارث ثروتنا وبدائعنا الطبيعية ونريد تربية فكر الطفل منذ صغره على قدر حسنات الغابات قدرها فبهوائها يحسن الجو وتطرد مجاري الأنهار ويخضل العشب ويكثر غذاؤه للماشية والسائمة والجبال أجمل منظراً والسهول أكثر ابتساماً، وأقبلت الجمعيات وغيرها تنشر منشورات في فوائد التشجير وتوزعها على الفلاحين واشتغل مجلس النواب ومجلس الشيوخ بذلك مدة طويلة. وقامت انكلترا تريد تشجير كل ما يمكنها تشجيره من ارضها ولا سيما في السواحل البحرية التي تسطو عليها مياه البحر تريد بذلك أن تجد عملاً للبطالين وقدرت اللجنة التي عهد إليها النظر في سطح الأرض التي تعطي إذا شجرت أكثر مما تعطي الآن من الدخل فكانت 3600000 هكتار من ثمانية ملايين بدون أن يمس السطح المغروس من الجزائر البريطانية وايرلاندا وتبين لهم أن غابات انكلترا أقل من غيرها من غابات البلاد الأوروبية وأن الحكومة لا تموت بتاتاً ولذلك يتيسر لها أن تكمل ما بدأت به من الأعمال إلى الغاية المطلوبة على خلاف الأفراد فإن الفرد يصعب عليه أن يصرف شيئاً ربما لا يأتيه في حياته فمن ثم كانت الحكومة أقدر على تشجير الغابات واستثمارها بعد سنين طويلة خصوصاً وأن بيع الأخشاب والأحطاب لا يصعب على حكومة وقد رأوا أن ما تصرفه الحكومة من المال وتنتظر الحصول عليه يأتيها من الواردات بفائدته مضاعفة وأنه ليس من العدل أن يصرف أبناء هذا الجيل ما يقتطف ثمرته أبناء الجيل القادم أي بعد ثمانين سنة وهي المدة التي لا يتأتى الانتفاع بالغابات في أقل منها فإذا شجرت الحكومة كل سنة ثلاثين ألف هكتار تدفع في السنة الأولى 1125000 فرنك وتكثر النفقة سنة عن سنة حتى السنة الأربعين فيكون قد بلغ ما صرفته 39 مليون فرنك وتعادل النفقات الدخل بعد هذه السنة إلى السنة السبعين وبعدها يزيد الدخل على الخرج فيبلغ الدخل الصافي نحو أربعة في المئة فتكون إذ ذاك 248 مليون فرنك وتساوي أملاك الحكومة من الغابات ثمانية مليارات فرنك أي أنها تبلغ ملياراً ونصفاً زيادة على كلفتها، وكل هذه النفقات والمداخيل

محسوبة بأسعارها الحاضرة ولم ينظر فيها إلى غلاء أجور العملة وارتفاع أسعار المحاصيل ورأوا أن ما يعرض للغابات من التخريب الناشئ عن الحريق والحشرات والثلج والعواصف وغير ذلك يعادل ما تربحه الحكومة من ارتفاع الأسعار لأن ما ينفق من الغابات يزيد على ما يخرج منها الآن في البلاد المتمدنة، وهذا التشجير يشغل تسعين ألف رجل طول السنة عدا من يستخدمهم من أرباب الحقول مؤقتاً. نعم إن تأثير الغابات في المناخ وأنباط المياه وتحسين الأرض وتطهيرها وجمالها وفائدتها الاقتصادية والوطنية لا ينكرها إلا أعمى البصر والبصيرة، ومما ذكروه من منافع الغابات للوطن إن غابة هو سنين وهي غابة صنوبر تمتد بين نهري الرين والفتول قد صدت كتائب الرومانيين عن التقدم، وهكذا حلت انكلترا مسألة الغابات وهي موطن الاستقلال الشخصي واحترام الأملاك الخاصة وتقسيم الادارة المركزية لعلمها بأن الأفراد في هذه المسائل لا صبر لهم بقدر الحكومة ولا عجب فهي الحكومة التي تغرس الغرسة اليوم وتنتظر جني ثمرها بعد قرن أو قرنين هذا في البلاد القاصية فما بالك بها في عقر دارها. إليك أقل ما يجب أن يقال في وصف منافع الغابات والتشجير ويدل على مبلغ عناية الافرنج بها وهم أعرف الخلق بالانتفاع من هذا الوجود، وأن من يطوف المعالم والمجاهل من بلاد سورية ليستنتج أن عناية أجدادنا بالغابات لم تكن دون عناية الغربيين بها اليوم وإن كانت البقية الباقية منها لا تسد خلة ولا تغني أهلها، وإذا كانت الحكومة في القرون الأخيرة لا تهتم إلا لتكثير الجباية والعشر ولو باستنزاف دماء الفلاحين وكان الأمن إذا ارتفعت أعلامه في بعض الأقاليم فإنما يرتفع بالقرب من الحواضر والقصبات والدساكر كانت الغابات في الغالب نهب الناهبين وغرضاً لاسنان القطعان وفؤوس الحطابين ولم تؤسس في الدولة نظارة للغابات إلا منذ سنين قليلة وكأنها لم تكن إلا لتأتي أيضاً على ما أبقته طوارق الحدثان من غاباتنا الجميلة لأن عمالها يساعدون على تقليلها وكان الواجب عليهم أن يساعدوا على تكثيرها. وكم من جبل في سورية اجرد امرد لا شجرة فيه كجبل قلمون الذي تمشي فيه ساعات ولا تجد أثراً للزرع ولا للشجر حتى قال أحد الأجانب ممن زاروه مؤخراً: كنت أتمنى في حياتي أن أشاهد جبلاً أجرد من الكلاء والشجر فيها قد قرت عيني في قلمون بمشاهدة ما

كنت أريده من الجبال الجرداء. وأكثر جبال سورية غابات فيما احسب جبل لبنان ففيه من الأشجار غير المثمرة الزان والسنديان والسرو والأرز، والأرز أهمها ومنه غابة بالقرب من قرية بشري قديمة والغالب هي التي كان يحمل من خشبها أيام الفراعنة إلى مصر لبناء سفنها والمعابد وغيرها فيؤتى به إلى جبيل أو إلى طرابلس ومنهما يحمل في سفن شراعية، ولعل غابات دير القمر والباروك وعين زحلتا كانت تحمل إلى صيدا ومنها تقل في المراكب، قالوا أن الحكومة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح بقطع غيرها واحتطابه، وقلت الغابات في لبنان منذ نحو خمسة قرون لاحتياج السكان إلى الاحتطاب وأخذ القوم يقلعون الغابات ويغرسون بدلاً منها أشجار التوت والكرم، وشجر الأرز مما تفرد به جبل لبنان من دون سائر جبال سورية ولا وجود له إلا في أعالي سير ببلاد الضنية في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى تنوب. ويكثر شجر الشوح في جرود الهرمل وعكار وهي في الغالب من الأملاك الأميرية ينتفع بها الأهلون خفية أو يدفعون ثمناً قليلاً للاحتطاب منها كما هو الحال في جبال عجلون، وفي جرود الهرمل وعكار صنوبر وسنديان وأنك لتمر في جبال طويلة عريضة لا ترى إلا السنديان وكذلك جرود الضنية وعكار من أعمال طرابلس كلها حراج تضمنها الحكومة. وعلى مسيرة يوم من شرقي حماة غابات من شجر البطم وهي الفستق البري بعينه تسمى الثومرية والبلعاس وهي منازل للعربان يقطعون منها ما شاؤوا ويرعون فيها ماشيتهم وقد أضيفت إلى الأراضي المدورة أي الأراضي السنية فما زادت إلا خراباً على خلاف بعض الأراضي التي ضمت إلى الأراضي المدورة في العهد الحميدي فكان من حظها أنها عمرت وارتفع فيها علم الأمن. وأخبرنا أحد أصحابنا أن في قرية حرمل من جبال النصيرية وسكانها تركمان غابة زرعها أهل تلك القرية منذ زهاء عشرين سنة فطالت كالرماح وحسن طلعها بعد ثلاث سنين من غرسها مما دل على أن جبال النصيرية كانت إلا قليلاً مغشاة بالغابات التي لم يبق منها اليوم إلا أثر ضئيل ورسم محيل، ولو توفرت عناية الأهلين في الجرود والجبال لغرسوا

من الغابات ما يكون منه لأبنائهم وأحفادهم خير ثروة يخلفونها كما فعل أهالي الزبداني فغرسوا شجر البلوط في مكان يدعى قلعة السنديان في الجهة الغربية من الزبداني وإذا امتدت هذه الاغابات في سلسلة ذاك الجبل حتى تصل إلى نبع بردى تأتي منها فوائد كثيرة لوادي الزبداني ووادي بردى ثم لدمشق وغوطتها إذ تكثر بذلك الأمطار وتخزن المياه لنبع بردى المجاور لتلك الجبال ومن ورائها وادي القرن والحرير وفيها بعض الأشجار القليلة وهي ملك أصحابها لا الحكومة. وفي الجبل الشرقي أي في بلاد حاصيا وراشيا غابات قليلة كما أنه تقل الغابات في جبال فلسطين وفي بلاد الصلت غابات غير قليلة ما برحت إلى الانقراض ومنها غابة قرب القصبة اقتلعها الأهلون وغرسوا منها كرماً يأتيهم بالعنب الجيد بلا بر كعنب ازمير إلا أنه بقي أثر منها دلالة على عظمة تلك الغابة العظيمة، وتقل الغابات في بلاد حوران واحسنها ما كان في جبل الدروز ولذلك كثرت مياهه أكثر من غيره من الأقاليم ومثل ذلك يقال عن غابة عجلون التي تبلغ مساحة المستعمل منها خمس ساعات طولاً وثلاث ساعات عرضاً ولا يأتي عليها عشر سنين إلا وتنقرض عن آخرها. وبعد كتابة ما تقدم رأينا أن نأتي على ذكر الغابات من المصادر الرسمية فعلمنا أن غابات ولاية سورية كثيرة وأهمها في قضاء بعلبك وتبلغ مساحتها عشرين ألف جريب، والجريب يقرب من عشرة دونمات، وشجرة من السنديان والعرعر ويقل فيه الصنوبر وأشجاره غير صالحة للأخشاب وهي معرضة للاحتطاب منها على الدوام فلم تتيسر لإدارة الغابات حراسته على ما تقضي به المادة الخامسة من نظام الحراج لقلة الموظفين وصارت إلى حالة مؤلمة وبعض هذه الغابات تدعي الأهالي ملكيته وإدارة الغابات تدافعهم في دعواهم، وأهم هذه الغابات غابة حلبئا ووادي نيرة وما عداهما فمتسلسل منهما وليس في قضاء البقاع غابات مهمة بل أن الأهلين يحنبطون من غابات الهرمل التابعة لمتصرفية جبل لبنان وهناك بعض غابات مهمة بل أن الأهلين يحنبطون من غابات الهرمل التابعة لمتصرفية جبل لبنان وهناك بعض غابات في سفوح لبنان بعضها مشترك بين البقاعيين واللبنانيين. وحراج وادي العجم متفرقة وتبلغ مساحتها نحو ثلاثة آلاف هكتار وحراج اقضية حاصبيا

وراشيا والقنيطرة مثل حراج بعلبك تسمى بأسماء القرى المجاورة لها وتقدر مساحتها بثلاثة آلاف جريب تكاد لا تكفي لاحتطاب السكان إلا على صورة ضئيلة، وليس في قضاء الزبداني حرج جدير بالذكر سوى حرج صغير أصيب بما أصيبت به سائر الحراج ولا سيما في وادي القرن ووادي الحرير فأصبح أكثره غير صالح للاحتطاب، وليس في قضاءي دوما والنبك ما يصح أن يسمى غابات سوى بعض أشجار من السنديان والبلوط متفرقة في الأودية والقمم من جبال قلمون هي ملك الأهالي يحتطبون منها فتقل سنة عن سنة. هذا في الاقضية التسعة التي هي من عمل الولاية أو لوائها وفي لواء حوران أهم غابات في ولاية سورية وهي من عمل قضاء عجلون طولها 26 ساعة وعرضها 23 ساعة وفيها 23 قرية و1375 بيتاً ومزرعتان ومساحته من 30 إلى40 ألف جريب ونصفها اليوم غير صالح للقطع يحتاج للحراسة كل الاحتياج والنصف الآخر يصلح للاحتطاب منه وعمل الفحم إلا أنه بعيد في نجاد وعرة ولقلة العملة الذين يتوفرون على عمل الفحم منه أصبح كأنه لم يمس، ومدينتنا دمشق يأتيها الفحم اللازم لدفئها ووقودها من غابات عجلون وإذا لم تبذل العناية بوقاية الغابات مما يلحقها من المضار توشك أن تحترم بعد سنتين من الفحم فيباع قنطاره الذي يباع الآن بمئة وخمسين في الشتاء بثلاثة أضعاف ثمنه، فبسوء إدارة الحكومة لزمت قطعة من هذه الغابات لا يقل المستخرج منها عن خمسين ألف قنطار بيعت بالوسائط على أنه ليس فيها سوى ستة آلاف قنطار، وأشجار هذه الغابة لا تصلح للخشب والدفء وإن كان الفلاحون هناك يعتمدون عليه في سقوف بيوتهم فمنها الصنوبر والسنديان القطلب وفي غابات عجلون نوع من شجر الزيتون البري، هذا في غرب إقليم حوران وفي شرقه أي في جبل الدروز غابات قليلة للأهالي ينتفعون بها في وقودهم. وفي لواء الكرك بعض الغابات وأهمها ما كان في الصلت ومساحتها نحو ستة آلاف جريب تحتاج للترك الآن والمحافظة عليها لكثرة ما لعبت فيها فأس الحطاب والفحام وفي قضاء الطفيلة غابات ولبعدها عن العمران لا يرغب في الاحتطاب منها فلا يستفيد منها القريبيون ولا البعيدون وجنسها من العرعر وفي بني حميدة من أعمال قضاء الكرك غابات جياد هي ملك بني حميدة.

إليك ما في لواءي حوران والكرك على الجملة أما لواء حماة فليس في مركزه ولا في حمص حراج والأهالي يجلبون أحطابهم وفحومهم من حراج الهرمل في لبنان ومن غابات بعلبك ومن حراج البلعاس التي كانت من أملاك السلطان السابق فأصبحت علامة. وفي قضاء العمرانية حراج متفرقة تسمى بأسماء القرى المجاورة لها وكذلك الحال في غابات سلمية. وقد بلغت واردات الغابات الأميرية سنة 322 شرقية 484، 481 غرشاً صحيحاً وسنة 1323 - 700189 وسنة 1324 - 650460 وسنة 1325 - 666989 وبلغت سنة 1326 إلى آخر شهر تشرين الثاني 648، 881 غرشاً. هذا في ولاية سورية أما ولاية بيروت فالحراج موفورة في أكثر ألويتها وأقضيتها على ضيق مساحتها ففيها بعض الغابات الصغيرة وأكثرها فائدة في الانتفاع والاحتطاب ما كان منها داخل لواءي اللاذقية وطرابلس الشام ففي الجهة الجنوبية من مدينة بيروت في الرمل غابة من الصنوبر تقدر بألفي دونم وطول أشجارها نحو خمسة أو ستة أمتار ومحيطها من 40 إلى 50 سنتيماً ويعنى كل العناية بحفظها وقد ذكر التاريخ أن هذه الغابة غرست قبل سنة 767هـ - وقد خيف من انهيال الرمال على الأراضي الزراعية، وفي قضاءي صيدا ومرجعيون عدة غابات مبعثرة ينتفع بها السكان فقط. وعلى ثماني ساعات من صور غابات في وادي النصارى وساحل علما ووادي الخنازير وهي واسعة في الجملة وشجرها من السنديان ومحيط أكبرها متر واحد وطولها خمسة أمتار لا تكفي للبناء بل تنفع في الحطب والفحم وقد جرى أهلها في اقتطاعها على الأصول فلم تقل أنواعها وكذلك تجد في الجهة الجنوبية من القضا غابات في وادي كركر ووادي البالون ووادي التهور. وفي لواء عكا عدة غابات منها واحدة في الجهة الشمالية من ناحية شفا عمرو وهي على نحو خمس ساعات من المواني المجاورة وهي معروفة باسم الغربي ومرج وعاد والهوني والزيب وتقدر مساحتها بنحو أربعين ألف دونم وجميع أشجارها من السنديان ومعدل طولها من 4 إلى 6 أمتار ومعدل محيطها من خمسين سنتيمتراً إلى متر وإذ كانت هذه الأشجار لا تكفي الصناعات والبناء جعلها أهلها للاحتطاب وأخذوا يبعثون ببعضها إلى الخارج، وفي

قضاء حيفا على أربعمائة أو خمسمائة متر عن سطح البحر غابات في جبل الكرمل ووادي العسل والعضامة والحاري والباخور تبلغ مساحة أرضها نحو 42 ألف دونم وهي قصيرة الطول والجسامة وهي كغابات صيدا وصور لا تنفع لغير الاحتطاب. وأهم الغابات الموجودة في لواء طرابلس في عكار والضنية تقدر مساحتها بزهاء مئة وخمسين ألف دونم تمتد من قريتي غابات وتحفت إلى آخر حدود ناحية الضنية وهي منبثة على سطوح مائلة ويقدر معدل ارتفاعها بسبعة آلاف متر وأهمها القبايات وعنفت وارمون وعرض والحريق وروبر وجورديرين ووادي جهنم وقاطر وفريم والضنية وهذه الأشجار تنمو في سفوح الجبل والساحل وهي لا تطول وتنفع لخشب البناء وهي من نوع السنديان والصنوبر وشرابة الراعي والعرعر وعدا هذا تجد أشجار الصنوبر والشوح منبثة على خط مستقيم بين مسيل المياه والروابي تعلو من خمسة إلى عشرة أمتار ومحيطها من متر إلى متر ونصف وينتفع بأخشابها في جميع أنواع الصناعات وفي كل هكتار أي على حساب عشرة أمتار مكعبة تجد أشجاراً صالحة للبناء تعادل 136 ألف متر مكعب كما يوجد في كل هكتار من الأرض باعتبار عشرين متراً مكعباً وهي تعادل 660 ألف متر مكعب من سائر الأشجار والخشب الذي يقطع من هذه الغابات يحمل إلى حماة وحمص وطرابلس وأعمالها من القرى والدساكر. والغابات الموجودة في لواء اللاذقية هي في أقضية جبلة والمرقب وصهيون وناحيتي باير وبوجاق وهي من الساحل على ساعة إلى إحدى عشرة ساعة وأهمها في باير وبوجاق وبوغده إلى نيقه وجبل حسن ايبت وجبل الملك وقزل حالتي وجورتلسم وبتالي ودربوي تبلغ مساحتها 170 ألف دونم والأشجار القريبة من الساحل يبلغ محيطها من ثلاثين سنتمتراً إلى متر وطولها من ثلاثة أمتار إلى أربعة ومنها يستخرج خشب للبناء ولصنع القوارب الصغيرة والصنوبر الأحمر والأبيض يستخدم في بعض المحال في الأبنية وأهم ما تقدم من الغابات غابات ناحيتي باير وبوجاق تقرب مساحتها من 32 كيلومتراً مربعاً والقسم الأعظم من أشجارها أي 90 في المئة منها يختلف محيطه بين 30 إلى 60 سنتمتراً وطولها أربعة أو خمسة أمتار، وندرت الادواح العظيمة وفي الاطراف والبلاد المجاورة تجد بعض الغابات يمكن تقديرها بثلاثة آلاف شجرة صنوبر أسود أكثرها يحتطب منه

أهالي القرى ويحمل بعضه إلى بيروت وفي وسط هذه الغابات على تخوم اسكندرونة غابة اسمها قوز تحيط بها أشجار الصنوبر وتقدر مساحتها بألف هكتار من السنديان وقد بلغت مداخيل غابات ولاية بيروت 150600 غرش بيع منها 190000 اوقة من الفحم و9000 اوقة من الخشب وأكثر ما بيع منها في بيروت وجوارها وسواحل مصر. هذا ما لقفناه من مصادر متنوعة ونختم هذا الفصل بتعريب ما كتبه شاكر بك مفتش غابات ولاية سورية السابق وقد سألناه أن ينشئ لنا شيئاً في حالتنا مع غاباتنا فكتب إلينا ما نعربه بما يأتي وهو يصدق على غابات سورية بأجمعها أي ولايات حلب وبيروت وسورية والوية القدس ولبنان والزور قال: الغابات إحدى منابع الثروة الطبيعية للدولة والأمة وربما كانت الأولى في بابها وما من ينكر استغناء أحد عما تأتي به من الحطب والفحم والخشب وغيره ولا سيما في ولاية سورية حيث تكثر حاجات الأهالي إلى الغابات أكثر من غيرها ومع هذا فلا نرى من يلتفت إلى هذا الشأن ويبحث في أسباب دفع هذه الحاجة مما يوجب الأسف الشديد. ليس من ينكر أن الغابات تنقي الهواء وتجلب الأمطار وتمنع التربة الواقعة في الحقول المسطحة من الانهيار وفيها من المنافع العامة ما ينفع في رعية الأغنام والمواشي وغيرها وكلنا نسلم بأننا نطبخ كل حين طعامنا ونغسل ثيابنا وندفئ غرفنا بالفحم والحطب. ولئن رأينا اليوم مواقد تحمى بالبترول ويستفاد منها بعض الشيء إلا أن هذا الطباخ لا يقوم في وقت من الأوقات بدل المنقل وكوانين المطبخ على الطرز القديم وذلك لأن الطعام إذا طبخ والغسيل متى غسل تطفأ تلك الموقدة وإذا فرضنا أننا أوقدناه مدة طويلة فمن البديهي أنه لا ينشر حرارة تشبه حرارة المنقل ولا الكانون بحال من الأحوال، ثم إن من وسائط التدفئة والتسخين أن نرى بعض المواقد التي يستعمل فيها زيت البترول وهذه لا تزيد الحرارة الطبيعية في الغرفة إلى أكثر من درجة إلى درجتين في الأكثر. أما أخشاب البناء فإنه يؤتى بها إلى هنا من غابات اطنه وقونيه وآيدين فتباع بثلاث ليرات وأحياناً بأكثر من ذلك في حين أنه من الممكن زرع شجر الصنوبر والسنديان في هذه الديار من أجود الأجناس وكل من يشتغل بالزراعة يوافق على هذا الرأي. ومع أن قنطار حطب الزيتون والمشمش يباع من خمسة وأربعين إلى خمسين قرشاً فقد

كانت ترتفع أسعار قنطاره إلى نحو ليرة ونصف لو كان المعول في احماء الحمامات والأفران عليه. وهنا لا أرى حاجة لبيان فوائد الغابات بل أقول على سبيل المثال أن ما حرق من الفحم من جزء صغير من غابات عجلون قد بلغ سنة 1324 (شرقية) 4132000 كيلو أخذ عنها رسم 514204 غروش صحيحة أو 672321 غرشاً بمعاملة دمشق الرائجة المتداولة. ولو عني الفلاحون وفقيرهم قد يملك من ثلاثين إلى أربعين دونماً من الأرض وهو يتلكأ معظم السنين في استثمارها كلها بحجة أن ليس لديه بقر أو سكة أو بذار ويترك قسماً منها بوراً لو عني بزرع شطر من أرضه أو على حدودها ومجاري المياه إليها أشجاراً وحراجاً لاظلته ومواشيه وأبناء السبيل بظلها واستخرج من أغصانها ومن اليابس منها حطباً لدفئه ولو أكثر منها زيادة لاستطاع أن تخرج له خشباً وفحماً فيغنى بها بعض الشيء، وبالجملة فإن كل امرئ إذا ربى غابة فكأنه أسس لنفسه مصرفاً (بنكاً) دائمياً لأن الغابات رأس مال لا ينفد في الحقيقة. بيد أن أهل القرى لا يفكرون في هذا الأمر ولا يلتفتون إلى ما ينصح لهم به من قطع الأشجار بل يقطعونها من أصولها وهناك الضرر الذي لا ينكره العقلاء. ولقد جرت المداولة بشأن الحراج والغابات في المجلس العمومي هذه السنة والتي قبلها وتعهدت الحكومة أن تأتي الفلاحين ببذور الغابات لمساعدتهم ولكن لم يراجعها أحد في هذا الشأن والحكومة متكفلة بالقيام بكل أنواع المعونات، ورجائي أن يعمد الاهاون بدلاً من تخريب الغابات واستئصالها إلى إحيائها وتعهدها وبذلك يحفظون منافعهم ويحفظون على حقوق الخزينة والله الموفق.

النفس الانكليزية

النفس الانكليزية لم تبلغ أمة من الدهاء ما بلغه الانكليز فيه وكأنه خلق استحكم فيهم مع الزمن وتوارثه الاخلاف عن الاسلاف وتسلسل فيهم حتى أتى بالعجائب ومن درس تاريخ هذه الأمة يراها تصبر وتصابر لأول وهلة وقلما طاش لها سهم فإذا رأت الفرصة وثبت ومتى انفسح لها المجال جالت. تثبت هذه المقدمة من مسألتين تجلى فيهما دهاء الانكليز في التاريخ وهو أن الحروب الصليبية التي دامت في سورية نحو قرنين وأهرقت فيها الدماء سيولاً لم تنته وترجع دول النصرانية عن حرب دولة الإسلام إلا بتدخل ريشاردس قلب الأسد صاحب انكلترا إذ ذاك في الأمر فعرض سراً أن يزوج أخته من أبي بكر بن أيوب شقيق الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب ولو رضي القوس لما تأخر صاحب انكلترا عن إجراء هذا العقد فانظر إلى دهاء هذا الرجل وهو في القرون الوسطى وفي صدد حرب دينية كيف يتسامح بزواج أخته من غير ابن نحلته حرصاً على مصلحته، قال أبو الفدا في حوادث سنة سبع وثمانين وخمسمائة: تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الانكتار ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال. هذا هو الباب الأول الذي طرقه ملك الانكليز فلم يفلح لتعصب قومه وكان قد رأى أن ملك الألمان جاء عن طريق الاستانة براً إلى فلسطين في مئة ألف من رجاله فهلك معظمهم في بلاد الأرمن ولم يصل منهم على ما قال المؤرخون سوى ألف نسمة حتى أن ملكهم هلك غرقاً في نهر في الأناضول كان انغمس فيه ليستحم فأيقن ريشاردس أن أمر هذه الفتن يطول وأن الغنيمة التي دعا إليها بطرس الراهب أي استخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين لا توازي هذا القدر من العناء فطرق باباً ثانياً فجاء بعد أن شاهد جبل الصليبيين قد اضطرب وطلب الصلح بعد أن يئست الرسل في عقده وعجل بمخابرة صلاح الدين في معنى الصلح فبعث في إحدى تلك السفارات يقول لصلاح الدين لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم قال القاضي ابن شداد بعد أن ذكر ما عرضه ملكهم من شروط الصلح العجيبة: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة وبالخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله

المسؤول في أن يكفي المسلمين مكره فما بلوا بأعظم حيلة ولا أشد إقداماً منه، ولقد كان ملك انكلترا صادق جماعة من مماليك صلاح الدين ودخل معهم دخولا عظيماً بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة وكان في كل هذا يخلط الجد بالهزل حتى يتوصل إلى مأربه ألا وهو استرجاع بيت المقدس الذي استخلصه صلاح الدين منهم. ثم تذرع ذاك الداهية إلى إنقاذ أهل نحلته من شر الفتنة كان المسلمون قد ضاقوا ذرعاً بمدافعتهم وزحزحتهم عن تلك الديار فبادر صاحب انكلترا إلى عقد الصلح سنة 588هـ - وسبب ذلك كما قال أبو الفدا أن ملك الانكليز مرض وطال عليه البيكار فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح فلم يجبهم السلطان إلى ذلك ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيطار وضجر العسكر ونفدت نفقاتهم فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة ولم يحلف ملك الانكتار بل أخذوا يده وعاهدوه واعتذر بأن الملوك لا يحلفون وقنع السلطان بذلك وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج ووصل ابن الهنفري باليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين وأخذوا يد السلطان على الصلح واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان والملك الأفضل والظاهر ابني السلطان والملك المنصور صاحب حماة محمد بن تقي الدين عمر والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص والملك الأمجد بهرام شاء ابن فرخشاه صاحب بعلبك والأمير بدر الدين بلدرم الياروقي صاحب تل باشر والأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وغيرهم من المقدمين الكبار. هذه هي المسألة الأولى التي تجلى فيها الدهاء الانكليزي في أجلى مظاهره والمسألة الثانية وهي أحدث من الأولى عهداً ولكن يتخللها مئات من المسائل كلها سلسلة دهاء هي مسألة الاستعمار فإن الانكليز لم تفتح أمامهم مصارف جديدة للتجارة إلا لما اكتشف خريستوف كولمبس أميركا ولقد تقدمت البرتقال غيرها من الدول لاستعمار الأرض وتلتها اسبانيا ثم هولندة وقد بلغت هذه الدولات الثلاث أوج مجدهن الاستعماري في النصف الثاني من القرن السادس عشر أيام كانت انكلترا لم تظهر بعد على ملعب الاستعمار ثم جاءت فرنسا فانكلترا ولكن هذه الدولة بزت الدول الأربع الأول. وأثبتت أنها دولة بحرية عظمى في

صلح اوترخت سنة 1713 وتطمح إلى الاستيلاء على البحار ولكن هذا الدهاء في تأخر الانكليز عن دخول معمعان الاستعمار قد هيأ لانكلترا الاستئثار بالاتجار مع أميركا. وانكلترا أقرب الدول إلى العالم الجديد وشطوطها وهي تمتد على مسافة 7900 كيلومتر أي ضعفي شطوط فرنسا وأكثر الدول البحرية الأربع قرباً إلى شطوط بحر الظلمات من سيفه الآخر فقبل سنة 1600 ميلادية لم يكن لانكلترا مستعمرات خارج أوربا وبالدهاء السياسي افتتحت انكلترا الجديدة وفيرجينيا وأخذ شارلس الثاني سنة 1661 مملكة الهند وكانت سبب غنى انكلترا وعظمتها هيأ أخذها أناس من تجار الانكليز دخلوا مع الهنود دخول السل في جسم العليل وكان من أمرهم ما كان. وهكذا لو تقصينا التاريخ لشاهدنا أمثلة كثيرة في الدهاء الانكليزي الذي لا يشبهه دهاء في الأمم وأيقنا أن الثبات والصبر والتأني والسكون الذي خص به هذا العنصر هو الذي كان سبب نجاحه في أعماله فاشتهرت بجودتها على قلتها وندرتها وسياسته اشتهرت بحذقها على جفائها والتاريخ أعظم ترجم عن الأمراء والأمم وبه تكشف حقائق البشر وخصائص الشعوب. ولهذا الدهاء والتأني والصبر أسباب طبيعية وصنعية في انكلترا بحث فيها علماء الاجتماع8 والنفس فما قاله اميل بوتمي من كبار علماء فرنسا أن القوى الطبيعية هي من جملة الأسباب التي تؤثر في تربية الشعب وهذه القوى هي صورة الأرض الظاهرة وجبالها وأنهارها وبرها وبحرها وقسوة مناخها أو لطافته ووفرة ثمارها الأرضية أو ندرتها. فإن تأثيرها قديم كالإنسان ولا سبيل إلى أن نجد في التاريخ دوراً لم تؤثر هذه الحالات في البشر وإذا كان عرض للإنسان قلب وإبدال فذلك ناشئ من مجموع أسباب وهذه الأسباب هي التي سماها تين العالم الفرنسوي (المحيط) أو البيئة والعادات والقوانين المزبورة على الحجر والمذاهب الدينية والأشعار القصصية وغيرها كانت لأول الأمر نتيجة المحيط الطبيعي فأصبحت مع الزمن ذات تماسك وحياة خاصة وصارت تولد بذاتها شعوراً وتتسرب إلى الأسباب الطبيعية العظمى ولكن هذه الأسباب الرئيسة ما برحت تغشى هذه الجمعية البشرية التي كانت هي الباعثة إليها ولها اليوم تأثير كبير حتى أنها لتأتي على الأخلاق الراسخة والمواهب الإرثية فتغيرها وتفعل فيها ما فعلته في أهل

الأجيال الأولى. انكلترا من بلاد الشمال ولها بين بلاد الشمال مركز امتازت به فليس لإقليمها ما يعادله بين الأقاليم لأنها تتمتع بمناخ يكاد لا يختلف طوره فلا ترى في الشتاء تبدلاً في الهواء من شمالي انكلترا إلى جنوبيها على مسافة تسعمائة كيلو متر فيستطيع سكان بريطانيا أن يتنقلوا من ناحية إلى أخرى بدون أن تتأثر أجسامهم من هذا التنقل وتختلف انكلترا عن سائر بلاد الشمال بتعرج شطوطها وخصب تربتها في حين يضعف الهواء المرء في أواسط بلاد روسيا أو في شمالي بروسيا فيكتفي الروسي بما حضر لديه من حاجاته ولذلك يقل فيه فكر الإقدام على الأعمال أما الطبيعة في بلاد الانكليز فتنادي ساكنها بقولها إنك يا هذا تهلك إذا تراخيت وتستمتع إذا جددت. فالهواء في بلاد الانكليز رطب ولكنه صحي وثقيل بحيث يكاد يصعب استنشاقه أحياناً والجسم يهزل فيه إذا لم يتغلب عليه بحركات كثيرة. وإن انكلترا لتطفح بطوال القامات ضخام الأجسام أشداء البنية وفيها من المعمرين الشيوخ أكثر من كل بلد من بلاد أوربا والأرض الانكليزية بما تترطب به من الضباب أو يغمرها من هطول الأمطار تحتاج على الدوام إلى التجفيف بالقساطر حتى لا تغدو بطائح أو غابات وهي بفضل تعهدها خصبة ممرعة. ومناخ انكلترا يحتاج إلى الغذاء الكثير ولاسيما اللحوم وأرضها مستعدة كل الاستعداد لتربية المائية والبحر بما ضم بطنه من الأسماك يدخل في مضايق إلى أرض بريطانيا العظمى فيصبح الصيد على طرف الثمام. وبالنظر لرطوبة الهواء على الدوام واصفرار الشمس بما يداهمها من الضباب الذي ينخل أشعة الشمس نخلا لا تزال الظلمة سائدة شطرا من النهار يضطر معه ابن تلك البلاد أن يحسن لباسه ومنامه ودفئه ويبحث عن الأعمال التي تحتاج إلى كدح وكد فهو في حاجة إلى جوخ لثيابه وإلى جدان غليظة لمسكنه فتراه يصرف حزما منهما من وقته في النسيج والتقطير واستخراج الفحم أو تراب النفط للوقيد خلافا لابن جنوبي أوربا فإنه لا يحتاج إلى مثل تلك العدة ليعيش والانكليزي إذا لم يجد عامة حاجاته في أرضها يجلبها من الخارج بواسطة المقايضة مع ما ضمته أحشاء بلاده من المعادن والمناجم ويسهل عليه تناول ذلك بما له من وسائل النقل السريعة الرخيصة الأجور. ولذا كانت الطبيعة الخارجية للأمة الانكليزية مدرسة إبداع ونشاط وحذر وتدبر فنشأت هذه

الفضائل من أسباب جلب المصالح درء المضار وكانت من كماليات الأخلاق في هذا الجنس ودعا الجهاد للحياة وهو هنا أصعب منه في كل بقعة إلى أن ينسلخ عنه بالانتخاب الطبيعي كل من لم يرزقوا هذه الصفات اللازمة كالمرضى والجامدين والجبناء والعطلين ولم يبق من هذا العنصر غير الأقوياء أهل الدراية العاملين وتأصل ذوق العمل بنشاط دائم فعال في النفوس حتى صار كأنه ارثي فيها. قالوا إن الشعب الانكليزي شعب انتفاعي وهذا يصدق على كثير من الشعوب ولكن العامل الأكبر اليوم في هذه الأمة الهوى في العمل للعمل والميل إليه حبا به. وما الحياة السياسية في انكلترا إلا ناشئة من الميل إلى تمرين القوة والبذل منها بطائل وبدون طائل ومن يجتاز البلاد الانكليزية يشعر بحاجة الأمة إلى هذا التمرين وإلى هذا الصرف من القوة بما يراه من الحركة على السيارات واشتغال قوم بالألعاب الشاقة فيوقن بأن الرياضات البدنية الشديدة ليست في انكلترا مدعاة للتسلية بل هي ضرورية لدفع حاجة طبيعية لا تقل في مسيس الحاجة إليها عن الجوع والعطش. وكل من زار لندرا يشهد الرجال من الانكليز يركضون في الشوارع عدوا كأنهم في سبيل مهم جداً يوشك أن يذهب إذا أبطئوا عليه فيركضون نحوه بدون أن ينظروا ذات اليمين وذات الشمال للتخلية والتسلية فهم لا يضعون نصب أعينهم غير الغاية العملية التي هي هدفهم ومنتجعهم حتى إذا وصل العامل إلى مكتبه أو عمله ينصرف إليه بجملته ولا يدخل فيه غيره ولا يلتفت إلى ما يصده أو يخطر بباله في غير ما هون بسبيله فتراه لا ينقطع دقيقة عما هو مأخوذ به ولا يني في مهمته ولذلك كانت أجرة العامل الانكليزي أرقى من أجور عملة الأمم الأخرى لأنه لا يلهيه شيء أثناء العمل ويعمل نحو ضعف ما يعمله الايرلاندي أو الألماني مثلا. وهذا المزاج الخاص يولد في جميع الفروع عملا مدهشا. وإنك لترى نساء الانكليز لا يستنكفون من عمل يتعاطينه لتكون لحياتهن غاية فينصرفن إلى تأسيس جمعيات الإحسان ويخدمن في المستشفيات ويعملن أعمالاً قد تعدها بعض الأمم المتمدنة من الأعمال الوضيعة ولكنها تكون لخدمة الإنسانية ولذا دخل خمسون ألف امرأة في الحزب الحر في انكلترا وشاركن الرجال ومنهن المطالبات بحقوق الانتخاب والمؤمنون من الانكليز بالدين لا يؤمنون به وينصرفون عن كل شيء بل يعملون باسمين ويجتهدون

في الحياة لا يصدهم ما أخذوا أنفسهم به من الغابة عن النظر في دنياهم. وبعد فإن الذوق واعتياد العمل يجب أن ينظر إليهما كأنهما خاصة جوهرية وصفة لازمة اختيارية لهذا الجنس فهما يصحبان الانكليزي حيث يذهب تشفعهما الأسباب المكتومة من نياته وهما مفتاح أسبابه وأن الدواعي التي أدخلت ضرورة العمل في هذه الجنس قد أضاعت اليوم من شأنها وذلك لأن كثرة الغنى العقلي والمادي قد زاد عدد الأغنياء وأضعف على التدريج في جزء من سواد الأمة الانكليزية الغريزة الإرثية التي بها يعترف الإنسان بقانون العمل ويقبل به. فأصبح الكسالى والضعاف في هذا المحيط الجديد أكثر حظاً في البقاء فتألف منهم عنصر خاص تحرص حكومته على جلب المنافع إليه وأهل السعة من الانكليز يبذلون الفضل من أموالهم له وكل هذا على الجملة لا يضر الصفات التي ورثها الانكليز وتأصلت فيهم مدة قرون. للإقليم في انكلترا تأثير مهم في الشعور والمدارك فهي البلاد التي يجف هواؤها وتكثر كهربائيتها التي تقوي الألياف وتمتن الأنسجة ويكون الإحساس في أهلها أسرع. ومثل الحس يكون التصور الطبيعي أي حاسة تمثل المحسوسات فإنها في الانكليزي تتأخر ولذلك نرى الأعمال الجراحية تكون أقرب إلى النجاح في الانكليزي منها في الايطالي مثلا لأن الأول قلما يضطرب كالثاني. وقد شاهد خصوم الانكليز من عسكرهم في حروب اسبانيا وواترلو وانكرمان عجبا إذ لم يكونوا يتأثرون للأعضاء تبتر والقذائف تنفجر والعظم بكسر وحشرجة الأرواح تتصاعد. إن أرض انكلترا على ما خصت به من العبوسة والأمطار الغزيرة والضباب المتواصل والطبيعة الساكنة قد أثرت في نفوس بنيها حتى لم يجدوا في الوجود ما يشغلهم ولذا شغلوا بخاصة أنفسهم وقل كلامهم كما قل شعورهم بما يأتيه من خارج والكلام كالشعور والفكر يرتقي ويصفو بالرفاهية وخضال العيش وهو أثر من آثار الثروة العامة والفراغ. ولقد وصف الفيلسوف تين الشعب البريطاني بقوله من السرور الذي يشفعه السكوت وهو من أعظم ما تطمح إليه نفس كل انكليزي أن يجاهد في أمر ويتحمل المشاق ولا يتنازل عما نوى. وقد أعرب شاعرهم تنسون عن مثل هذا الفكر شعرا جاء معناه: ما أعظم على النفوس أن تقف دون غاية وتجعل لقواها حدا وأن تصدأ كالسيف يعلق على الحائط بدلا

من أن يلمع في يد حامله ويصفو بالاستعمال. ليس استنشاق الهواء هو الحياة بل إننا إذا فقدنا كثيرا فقد بقي علينا كثير فما كنا عليه ما برحنا فيه: قلوب أبطال شأنها التساوي بأنفسها أصبحت على الزمن وبيد القدر نهب الضعف ولكنها مسلحة بإرادة شديدة في مضائها وبحثها وإيجادها وأن لا تلين قناتها أبداً. تقل في العنصر الانكليزي على الجملة الكفاءة لتصور الأفكار العامة ويكره النظريات المجردة كما يكره المذاهب المقررة فليس للانكليزي شيء من المجردات يشغله بل تراه على الدوام مأخوذا بضرورة العمل أليس معنى هذا أن حاسة العموميات ضعيف تركيبها في انكلترا بل أن العقل عملي لا يقبل إلا ما يلزمه وينفعه يعرف كيف يضبط نفسه ويحدد حدوده حتى إذا سار بنفسه سار سيرا نافعا لا سيرا نكرا فعقله لا يشبه قائده في جيش يفكر في وضع خطط الهجوم والقتال بل عقله يشبه ضابطا يقود بعيدا عن معمعان الحرب قسما من الجند الاحتياطي المساعد فلا ترى في هذا الضابط قابلية لأن يكون في الطليعة ولكنه يجيد في اتخاذ مركز له في النقط التي تجاوزها الجيش المهاجم وينظم فيها المقاومة لا شيء يقع على عقل الانكليزي من الغرابة أكثر من إنكاره القوة الطبيعية والنظريات في الإلهيات والمعقولات بل يرى أن أجنحة الفكر لم تبرح في نمو ولذلك لم تستعد للطيران مسافات طويلة بل هي تساعده فقط على السير فإذا ارتفع هنيهة وحلق في الجو فذلك ليعود إلى الأرض بعد مدة قليلة وهذا ما دعاه يفكر في الأمور القريبة التي أكثر ما تكون مساسا به مباشرة وله من مشاغله في تحصيل ثروته وتحسين زراعته ما يصده عن الحق ولا يفرغ ذهنه إلى النظر إلى الأشباح الفارغة فهي بعيدة من الأرض جدا غريبة عن الحياة الدنيا غير ملتئمة مع شروطها وضرورياتها ولذا ترى الانكليزي في مسائل الدين لا يتعدى أفق العالم المدقق بأحوال الأنفس والأخلاقي الذي يبحث في المرئيات وليس هو صوفيا أو منكرا ولا موحدا وهو لا ينظر إلى القواعد الموضوعة والألفاظ بل ينظر إلى الغاية من التدين أكثر من الواسطة وهكذا هو في السياسة فلا تقوم حريته فقط على الدستور الذي يمنح الحرية على التقاليد الموروثة التي تحمي حمى الحرية القديمة المتأصلة فيه. من غريب حال الانكليز أن كثيرين من حملة العلم فيهم لم يتعلموا العلوم اللازمة للإلمام بالتربية العامة فهم أخصائيون لا تشوبهم شائبة وأن من يحاول في انكلترا أن يحدث

علمائهم في العلم المجرد لا يجد من يستمع لكلامه فالعالم الطبيعي عندهم هو الذي يعرف كيف يصنع نموذجا ميكانيكيا يطبق فيه العلم على العمل فقط حتى إنك لا ترى في كتبهم في الكهربائية إلا حبالا مرسومة تعلق وتمتد ومواسير يقطر منها ماء وغيرها ينتفخ وآخر ينقبض وهكذا انكلترا في صناعاتها فلا يصدر منها إلا ما يقع تحت حسها ولا تقص في قصصها إلا ما يماثل حالتها الطبيعية وكذلك تاريخها ورواياتها التشخيصية وفلسفتها فإن فلسفة اوغست كونت الحية ومخترعها فرنسوي وجدت لها أعواناً في انكلترا أكثر مما وجدت في فرنسا لأنها صادفت هوى في أفئدة القوم. فهذا هو الشعب الذي قدر له أن ينشر البرتستانتية بثباته ويخرج من الكنيسة والكثلكة إذ كانت دين سلطة قادرة روحية تقنن وتحظر وتعاقب والناس معها مكرهون على القيام بتعاليمها أما المذهب البرتستنتي فهو دين الحكومة الذاتية الوجداني فالأول موجد النظام والقاعدة والآخر محافظ النشاط ومبدعه وهذا هو الدين الذي يناسب أمة خلقت لتعمل. إن تأخر سن البلوغ في شبان الانكليز وعفة النساء الانكليزيات وتعدد الأسر والبيوت كل ذلك من أخلاق الانكليزي الحديث كما كان قديما من خصائص أخلاق الجرمانيين سكان انكلترا الأصليين. وامتازت الأمة الانكليزية من بين الأمم بأنها ظلت متجانسة ولم تمتزج بغيرها فالانكليز وهم أهم عنصر تتألف منه انكلترا هم جرمانيون من بلاد الشمال ومن أجداد الجرمانيين انكليز وجوت وسكسونيون وكلهم من عنصر ألماني والذين جاؤوا بعد لاستيطان انكلترا مثل الدانيماركيين والنورمانديين هم فروع تشعبت من نفس تلك الدوحة وإن ما يرى من شدة بأس الانكليز وقوة عضلاتهم يذكرنا بما قاله اميرسون فيلسوف اميركا (قالت الطبيعة: قد أفنى الزمان الرومانيين ومحا اسمهم من سجل الوجود وإني أريد أن أؤسس مملكة جديدة وسأختار عنصرا شديد الشكيمة كلهم ذكور ولكنهم بأجمعهم ذوو قوة وحشية فمن ثم لا أعارض فيما أرى من المنافسة بين الذكور القساة المتبربرين الا فليدخل الجاموس قرنه في رأس الجاموس الآخر فيبقى المرعى لأكثرها قوة فأنا لي عمل أريد إتمامه يحتاج إلى إرادة وعضلات). وهؤلاء هم الانكليز الذين لا يمتزجون خارج بلادهم بغيرهم من الأمم ولكنهم في أرضهم أكثر الأمم حرية وأكثرها إكراماً وأيسرهم لقبول الغرباء ليست انكلترا جزيرة بل هي قارة فما من أمة اشتبهت في أفكار ومنازع تأتيها من

أوربا نفسها سوى انكلترا ولطالما اقتدت بالبلاد الأخرى ولكن كان اقتداء موقتاً كأنه للتسلية أو هو سطحي كأنه زي من الأزياء أما سواد الشعب فلم يمس بشيء في منازغه بل ظل مخلصا لأخلاقه الأولية وبالجملة فقد كانت دواعي الاختلاط قليلة جداً بين الانكليز وغيرهم ولاسيما عامة الأمة فالانكليزي أشبه بساكن الولايات في أوربا وفكره كالشراب بقي زمنا في مأمن من الاهتزاز فخثر وكثف ولم تعد له تلك الميوعة التي تؤهله إلى الاختلاط بشراب آخر. وكان لهذه الصيغة الخاصة وقلة الرقة في الأخلاق الانكليزية نتيجة مهمة شوهدت في كيفية الاستعمار البريطاني ونتائجه. فما قط تمازج العنصر الانكليزي بغيره من العناصر في البلاد التي أخضعها لسلطانه فهو كالمعدن البعيد جداً عن نقطة التذويب فلا يتأتى أن يجعل منه أدنى مزج وما قط ساووا بأنفسهم تلك الشعوب التي افتتحوا بلادها وما تلطفوا في استمالة قلوبهم فلم يعرفوا إلا أن يظلموهم ويستنزفوا مادتهم ويدوسوهم أو يفنوهم. أبان الانكليز أيضا عن عدم كفاءة في فهم مناحي العناصر المنحطة وأن يتقربوا إليها ليأخذوا بأيديها ويقوموا ناهضين وإياها بما عاملوا به ايرلندا من المعاملة السوأى ومثل ذلك يتجلى في إدارتهم الهند ومصر. فالانكليز يأتون تلك الشعوب بثروة مادية ونظام وأمن وغنى فترى سلطتهم في بلاد الهند مثلا على أحسن طريقة ونظام مدقق قوامه الحشمة والأدب وهم فيها بعد قرن من الزمن لم يخرجوا عن كونهم أناساً جفاة لا يألفون ولا يؤلفون وكلما طال العهد عليهم تراهم في أرضها غرباء والأصوات تعلو للخلاص من ربقتهم. وإن يوماً يغادرون فيه البلاد المستعبدة لعزيز على نفوس أهليها ولو ذهبت بذهابهم الرفاهية والسلام. فحكم الانكليزي منهك لقوى العناصر المنحطة وهو استبدادي وكثيراً ما يكون قتالاً في البلاد التي يكون فيها للأهلين مجال معهم ولا يدانوهم بنشاطهم وإراداتهم لأن هؤلاء الفاتحين لم يرزقوا حظاً من تليين وصابتهم وتطبيقها على الصغار والضعاف بل لا يتمثلون ولا يعنون بغير إخوانهم والمساوين لهم. نعم الانكليزي أكثر الأمم إغراقاً في الابتعاد عن الناس والعزوف عن مجتمعاتهم فهو يشعر بأنه أقل من غيره علاقة بالمجتمع البشري وقلما يقتبس من صلاته مع غيره شيئاً يستفيد

به في تركيب أخلاقه وقلما يبحث عما يفكرون به وإذا بحث فبحثه مجرد لا يدخل نتيجة في عواطفه وأعماله هو ناسك بعيد عن العالم وعن غيره من الأمم بل هو بعيد عن جاره الذي يساكنه في حي واحد والمحيط الذي يعيش فيه وما يشعر فيه بنفسه قلما يكون نسخة بسيطة مما يراه في الخارج فخلقه هو مثل ثمرة كبرت تحت القشرة في نوع من الصدف فهو لا يثمر كقشرة الخوخة وما يمر عليها من مجرى الشمس لا يزيدها اصفراراً ولا احمراراً. الانكليزي لا يشعر بأقل ضجر من العيش وحده ولا يجد حاجة أن يقص ما عمله على غيره ولا يسوقه سائق نفسي أن يقف على ما يعمله غيره فهو فيما خلا الشؤون التي تمسه مباشرة لا يهتم إلا بما له علاقة بالمسائل الوطنية العامة التي تمسه ولكن لا مباشرة بل من طريق وطنيته، يقول إميرسون: إنك تحسب الانكليزي إذا اجتمع مع الأجانب أخرس فهو لا يصافحك ولا يتركك تنظر ما في عينيه في الفندق ويلفظ اسمه بحيث لا يسمع فكل واحد من هؤلاء الجزائريين جزيرة بعينها ويقول مونتسكيو: يصعب على الفرنسيس أن يكون لهم أحباب في انكلترا وكيف يحب الانكليز الغرباء عنهم وهم لا يحبون أنفسهم وانى يعطوننا ما نأكل وهم لا يتواكلون، يجب أن نجري على خطتهم فلا نهتم بأحد ولا نحب أحداً ولا نعتمد على أحد. ومن الغريب أن هذه الأمة العازفة عن العشرة البعيدة عن الاختلاط تراها في أمورها الداخلية من أكثر الأمم ميلاً إلى الاشتراك وما حديث أنديتها ومجامعها وشركاتها المالية بخاف عن أحد، وقد شرح فولني العالم الفرنسوي سر نجاح الانكليز في الزراعة والتجارة والصناعة بقوله: إنهم بالسكوت يجمعون أفكارهم ويتفرغون إلى التدبير والتقدير على ما ينبغي ويحسبون دخلهم وخرجهم وبصفو فكرهم أكثر وينبعث كلامهم جلياً ومن هنا كان التدقيق والرواء رائد جميع أعمالهم العامة والخاصة وقال كارلايل الفيلسوف الانكليزي: الانكليز شعب أخرس، ثم شرح هذه العبارة بقوله: إن السكوت يزيد في علاقتهم ونظامهم مع ما يبين عنه اللسان، الانكليزي يميل إلى الاختفاء ولا يهمه الظهور يهمه تجويد العمل من حيث هو عمل نافع ولذلك ترى جرائد انكلترا لا يوقع كتابها على مقالاتها وهي مع هذا أرقى من جرائد فرنسا التي يوقع كتابها على مقالاتهم ليقال عنهم أنهم كتبوا ومن آثر

الاختفاء من هؤلاء لا يلبث أن يظهر اسمه بصنعه. إن كان من خلق الانكليزي الإقدام على العظائم فإن حب الجديد والذوق في المجهول ليس فيه إلا على ضعف أيضاً فالانكليزي يبقى انكليزياً ويعيش عيشاً انكليزياً حيثما ينزل، والانكليزي أقل من الفرنساوي والايطالي في اليأس من النجاح وأكثر منهما هزؤاً بالمتاعب والمخاطر لعلمه بأن لها حداً تقف عنده ولا بد من حل مشكلاتها وقلما تراه يحسب حساباً لنكد الطالع فترى الشاب يتزوج من فتاة وهو في مقتبل العمر ولا يطالبها ببائنة (دوطة) بل يقترن بها بلا مهر ويقدم على تأسيس أسرة فيزيد نفقاته ثلاثة أضعاف ماكانت عليه والصانع يقدم على إدخال إصلاح في عمله بجرأة ويتخذ وسائط النجح وهو يعلم أنه لا يلبث أن يتم إصلاح مصنعه حتى يقوم صانع آخر ينافسه ولكنه يكون استفاد من الفترة بين إصلاحه وإصلاح منافسه وترى المهاجر منهم لا سبد له ولا لبد ومع هذا ينزح ويرزح تحت أثقال المتاعب وهناك سبب آخر وأعني به الهوى في العمل أوالتجنن فيه وفي الحركة والذوق في العمل من أجل أنه عمل وكل ذلك مما تقتضيه حالته الطبيعية، وإنا لنرى المرسلين منهم يتغربون في الأرض ولا يخافون بل يتعزون بما يتم على أيديهم في الأقاصي وينامون ملء جفونهم شاكرين ويعملون أعمالاً في السر ابتغاء وجه الله. ومن خلق الانكليزي أنه متشدد في الاحتفاظ بالحالة الحاضرة فأرباب العقول الغربية في تصورها كثيرون ولكنك لا ترى فيهم أحداً يميل إلى الثورة وقد اشتهرت انكلترا بأنها بلد التقليد المستعصية حتى على التبديل اللازم وثلاثة أرباع سكانها لا يشعرون بالحاجة إلى إدخال تعديل في القوانين والأخلاق والربع الآخر يقبل بالتبديل في بعض أحوال مخصوصة ويتعلق بها ويلاحقها بنشاط ولذا رأينا الشعب الانكليزي قد جالد لأول وهلة ريثما أدخلت عليه أساليب الارتقاء حتى المادي منه فلما دخله صار في لحمه وعظمه وهكذا شأن الأمة العظيمة تتشدد في تقاليدها وتستنكف في الغالب عن قبول كل جديد إلا إذا ثبت لها ما ينقضه ثبوت الشمس والقمر. مهما بلغ من انحطاط مكانة الرجل الانكليزي في المجتمع ومهما بلغت حرفته من الامتهان لا يحسد من كان أعلى منه منزلة وله من عمله الذي يستمتع بمدافعه أعظم سلوى ولذلك قل إن مالت الطبقة العاملة في انكلترا إلى تغيير نظام الإشراف في المجتمع وذلك لاعتقادها

بأن الأعمال مقسمة لأن الحظوط متباينة، وبينا ترى فرنسا تقول للوزير كن فكان مهما كان وضيعاً وللنائب كن نائباً فكان مهما كان منحطاً في أصله وللشريف كن شريفاً فيكون تجد انكلترا لا تسمح لوضيع أن يعد في جملة العظماء إلا بعد ثلاثة أجيال وذلك على نظام وترتيب تدريجي لعلم القوم بأن الطبيعة في انكلترا لتأخر في كل شيء ولذلك اقتضى أن يكون ارتقاء الناس كذلك. من خصائص الانكليزي أنه يشبه ميكانيكياً تعلم علم الحيل (الميكانيك) بالتجربة لا بالنظر فتراه مهتماً أن ينتج بما له من آلة ما أمكن من النتائج ولا يحرص على تبديل محركها وأدواتها لعلمه بأنه إذا فعل ذلك اقتضى عليه أن يوقف العمل وأن يبذل بلا نتيجة وقتاً واهتماماً من رأس ماله المحدود وهو يدرك بأنه إذا حدث للآلة ما يضر سيرها تقف حيناً وتنقطع فائدته وفائدتها ولذلك يجد من نفسه داعياً إلى القبول بتعديل آلة على أن يغير أدواتها القديمة بأدوات جديدة ولكن بدون أن يوقف الآلة ويقلل من مغلها. يعتقد الانكليز بالضعف البشري ويشعرون بضرورة أخذ الأمور بالتدريج والبداءة بها من الصغير للوصول إلى الكبير حتى لا تقف القاطرة في هذا الجهاد وتتهور في منحدر لا تقوم منه فهم في شرائعهم يكتفون بتعديلها وإصلاحها مع الزمن وما قط حدثتهم أنفسهم أن يضربوا بما لديهم عرض الحائط ويضعوا غيرها من عند أنفسهم، ولكن الانكليزي مع هذا إذا رأى الخير في تعديل قانونه يصر عليه فقد رأينا أصحاب الصحف على عهد الإصلاح البرلماني الكبير قد صعب عليهم أن يصدروا منشوراتهم النفعة لأنه قضي عليهم أن يدفعوا عن كل نشرة طابعاً فاجمعوا أمرهم على أن يصدروها بدون طوابع فغرمتهم الحكومة وحبستهم ولكن جرائدهم ومنشوراتهم ظلت تصدر على عادتها بدون طوابع وأصروا الا برفعها فمضت أربع سنين على هذه المسألة وقد حبس لأجلها زهاء خمسمائة رجل ثم اضطرت دار الندوة أن تجيب الطلب وإن كانت الحكومة تضررت من هذا القسم المهم في الميزانية. يعمل الانكليزي حباً بالعمل نفسه على حين يعمل غيره من الأمم لإحراز الثمرة التي تعقب الشرف أو الراحة أو الرفاهية والدليل على ذلك ما نراه في أهل الطبقة العالية منهم ممن لهم من ثروتهم ما يعفيهم من تعاطي أي عمل كان، نراهم يصرفون نصف أيامهم في

الألعاب الرياضية الشديدة ولا يبالون فكأن الرياضيات لهم كالفطرة المستحكمة كما كانت الألعاب الأولمبية في يونان أيام عزهم ثم إنك لا تجد غنياً لا يصرف شطراً من وقته في النظر في شؤون مقاطعته وابرشيته وكثيراً ما يهلك قواه في هذا السبيل على حين تجد ابنه في استراليا أو مانيتوبا يعيش مع رعاة الغنم في تلك البلاد القاصية المنفردة وابنه الآخر من المرسلين في جنوبي إفريقية يعمل شاق الأعمال. وبينما نرى الانكليزي أكثر الأمم تحاشياً مما فيه عبودية واحرص الناس على التناغي بالحرية الشخصية والحرية المدنية كحرية الاجتماع وحرية التكلم وحرية القول نراه في نظام أسرته قد احتفظ حتى الآن بنظام الحكم المطلق فنرى الابنة تأتي زوجها بدون أن يعطيها والدها بائنة لأن العادة جرت بين الأغنياء وأرباب اليسار أن يحفظوا لبكر الأولاد العقارات ويقسموا الأشياء المنقولة بينه وبين أخيه الأصغر منه سناً وتنال الابنة حصة من ذلك ويكون في الأغلب دخلاً قليلاً تناله من واردات أبيها، حرمت من ذلك حتى لا تجيء دار زوجها بما يرفع رأسها عليه لأن الرجال يريدون أن تكون لهم السلطة التامة في بيوتهم حتى أنه إذا اتفق أن أزواجهم جاؤهن بشيء من المال يضيفونه إلى ثروتهم ويحرمونهن حتى من الوصاية على أولادهن ومن التصرف بأموالهن. عادات قديمة ورثوها فحافظوا عليها وإذ كان أبطال القرون الوسطى في أوروبا قد لطفوا من شأن المرأة لأن من عادتهم الأخذ بأيدي الضعفاء والعاثرين فإن انكلترا لم يدخل عليها هذا التلطف والزوجة مع زوجها وما يختار لا ما تختار هي، وترى الوالد والوالدة يربيان ابنهما بعيداً عنهما ولا تأخذهما شفقة في ذلك والولد إذا غاب عن والديه ينساهن وإذا مثل بين أيديهما يحترمهما. هذه بعض صفات الانكليز ومنها انبعث ارتقاؤهم المادي والمعنوي فسبحان المعز المذل القابض الباسط رافع الأمم وخافضها ومشقيها ومسعدها.

الأمة تحبو

الأمة تحبو نريد بالأمة هنا الأمة العربية أو الشعوب العربية وإن كان لكل قطر بل لكل كورة من أقطار بلادها وكورها حالة خاصة بها وفلسفة روحية تختلف عن جارتها وتستدعي بحثاً على حدثها ولكن ما يتعذر على التفصيل يجدر أن يذكر على الاجمال، ننظر نظرة عامة في حال العرب ليتجلى لنا أن كانوا ناهضين نحو الرقي أم هم يسرون سيراً متثاقلاً لا يعرفون الغاية ولا يهتدون إلى وجد الحق سبيلاً. إذا بدأنا بمراكش وهي أقصى حدود البلاد العربية نجدها لم تبرح على ما يبلغنا من أمرها أمة أمية كما كانت في أواخر القرون الوسطى وهي على استقلالها وقربها من أوروبا لم تتأثر بالمدينة الغربية وما فتئ أهلها يعيشون في حال التنبت يأكل كبيرهم صغيرهم ويعبث خاصتهم بعامتهم يرون السعادة كل السعادة ما هم فيه ولا تحدثهم أنفسهم أن يغيروا منه بأن يبحثوا عن سر تفاشلهم وتقاتلهم وجاهليتهم. فأهل مراكش في تقاليد مدينتهم كالذين ينتحلون الفتشية أي عبادة الأصنام في إفريقية بالنسبة لأهل الأديان السماوية الراقية ما زالوا على الفطرة الأصلية وليس عندهم من دواعي البقاء إلا ما لا غنية عنه لكل قبيل مهما انحطت درجة مجتمعه وهيهات أن تتوحد كلمة المراكشيين على تباين أقطارهم وأمصارهم ما دامت القبائل تتعادى والحكومة كل يوم في شأن وليس بين قبائل البربر في القاصية وبين أهل فاس وطنجة صلة كأنهم من عالم آخر، أما من يسوغ أن يقال عنهم بأن لهم شيئاً مما يطلق عليه اسم مدينة من باب التجوز وهم سكان الأمصار فالخاصة منهم لا يعرفون إلا بعض المسائل الدينية والتاريخية وتقف معارفهم عند هذا الحد ومن المتعذر جداً أن ترى مراكشياً قلد الغربيين في ملبسه وعيشه ومناحيه وتصور معنى المدينة الفاضلة. وهكذا إذا جئت تبحث في حال بوادي المغرب الأوسط أي الجزائر ولولا مبادئ من الافرنسية يلقنها بعض الجزائريين طوعاً أو كرهاً لما رأيتهم الاكبادية مراكش حذو القذة بالقذة، أما مدن الجزائر فسائرة نحو التطبع بطابع المدنية الغربية على تشدد السكان الأصليين واستنكافهم من الأخذ بها والتحامي من الايغال في تلقف ما يضر بكيانهم من قبول تلك المدنية التي تنتهي إذا فتحت لها السبل كلها بصيرورتهم فرنسيساً كما هي إرادة الحكومة والقوم مهما أبدوا من المتانة في مجافاة الأوضاع الافرنسية تضطرهم بقوة ولو بعد

نصف قرن أن يقبلوا بكل ما تعرضه حكومتهم عليهم من الأوضاع والمنازع التي لا ترى لها ولهم سعادة بدونها، والجزائريون لا يستطيعون على تلك الحال أن يدرسوا وحكمهم استعماري حتى ولا مبادئ لغتهم لما يحول دون أمانيهم من العوائق على ما يقال، وكأنا بالجزائر إذا دام أمر المسلمين فيها في تراجع وقد أصبحت فرنسوية في كل حال من أحوالها وأنك لترى بعض أهلها يهاجرون منذ سنين ويتخلون بطبيعة الهجرة عن عروضهم وعقارهم وينزل مكانهم أناس من الفرنسيس والطليان والإسبان وغيرهم يستعمرون الأرض ويتملكون الدور والعقار ويقبضون على أزمة التجارة، وقسم من الأهلين يقلد الافرنج فيتعلم على طريقتهم ويحسن لغتهم وينسى لغته وتضعف وطنيته وجنسيته وعقيدته فهذا وأولاده من بعده يصبحون إفرنجاً صرفاً إن لم يكن في الجيل الثاني ففي الثالث والقسم الآخر من السكان وهو المهم الآن وفيه كثير من أرباب الغنى والفكر يجمعون إلا قليلاً بين الأخذ بمذاهب المدنية الحديثة مع المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وهؤلاء خير طبقة يرجى منها النفع الآجل والعاجل وهناك قسم آخر يجرفهم سيل المدنية الحديثة فيقبلونها رضوا أم لم يرضوا. وإنا إذا حسبنا من تعلموا الافرنسية اليوم من الجزائريين ولم يتعلموا لغتهم مائتي ألف نسمة من أصل نحو خمسة ملايين بعد أن حكمت فرنسا هذا القطر زهاء سبعين سنة فسنرى عددهم يربو على ذلك أضعافاً بعد نصف هذه الحقبة من الزمن، إذ أن الدعوات الدينية والمدنية تكون ضئيلة في الغالب لأول أمرها ثم تقوى كالنار أصلها من شرارة ثم يمتد لهيبها ولتهم البعيد والقريب منها، ويخشى أن يكون حال الجزائر مع من يهاجرونها من أبنائها حال الجو في إنكلترا مع سكانها فقضى بقاعدة الانتخاب الطبيعي وقانون الوراثة على العاجزين والخاملين وبقي الشعب على الجملة من الأقوياء الأشداء العاملين الناهضين، نعم نحاذر أن تقذف الجزائر بالخاملين الذين سدت في وجوههم مذاهب المعاش وأن تستعيض عنهم بالعاملين من الغربيين أو من الجزائر بين أنفسهم الآخذين بمذاهب الحياة أخذ الأوروبيين. من أجل هذا ساغ لنا أن نقول أن مستقبل الجزائر إن دام على هذا المنوال مظلم محزن ومثلها تونس وإن كان الأمل بنهوض هذا القطر أقرب من بعض الوجوه لأن طرز حكومة

الحماية يختلف بعض الشيء عن طرز حكومة المستعمرة لوجود حاكم من أبناء البلاد في الصورة ولأن بعض المنورين من أهلها لم يسعهم بعد طول الروية إلا التشبث إلى الرقي بأسبابه المنتجة ولو بعد زمن طويل ونعني بذلك التعلم على المناحي الأوروبية وعدم إغفال التعاليم القومية والمذهبية، وهذه البزرة على صغرها لا بد أن يأتي يوم عليها تكبر فيه دوحتها وتثمر في أرض قرطاجنة. أما إقليم برقة أو ولاية طرابلس الغرب فشأنها على اتساع رقعتها وكثرة سكانها شأن البلاد المتأخرة جداً وجمودها في الأخذ بمذاهب الحضارة جمود المغاربة المراكشيين وبلادهم حتى الحواضر منها بادية أكثر منها متحضرة وقلما تجد نهوضاً إلى التعلم الحقيقي فيهم والنبهاء منهم يرون الاكتفاء بأن يتلقوا مبادئ العلوم في مدارس الحكومة للتوظف في خدمتها أما سائر مذاهب المدنية فقد أغفلوه ولذلك يصعب أن نقول عنهم أنهم كالطفل يقوم ويقعد أو يحبو ويدب. جئنا إلى مصر ومصر معقد الآمال في مستقبل هذه الأمة لأن توسطها من الأقطار العربية ومركزها التجاري المهم الداعي إلى اختلاطها بالأمم الأخرى كثيراً وخصب تربتها وغناها وكثرة سكانها كثرة قلما يتأتى لواد كوادي النيل أن يحوي مثله نفوساً يوفر لهم مرافق العيش وانتظام حكومتها بعد الإسلام على اختلاف الدول التي حكمتها ومدنيتها القديمة ونظامها الذي عم أريافها كما عم أمصارها وتسلسل الميل في أبنائها للأخذ بمذاهب الحضارة الغربية وتأسيس أوضاعها والعناية بما يبقي عليها جنسيتها ونحلتها كل هذا مما يرجى منه أن يكون حضارة عربية غربية تأخذ إن شاء الله من الحضارتين أطايبهما على نحو ما فعلت يابان يوم عزمت أن تنشأ نشأة راقية تضاهي بها دول المنعة والمدنية الحديثة فلم تتخل عن شعائرها ولم تتناول كل ما وقعت أبصارها عليه من أسباب الحضارة الغربية فجاءت بمدنية لا شرقية ولا غربية يكاد سنا ضوئها يأخذ بالأبصار. ولقد خط الزمان لمصر خطة منظمة في الارتقاء وفيها الذين قلدوا الراقين من الغربيين بعيشهم ومناحيهم وإدلالهم بوطنيتهم وأرومتهم وعندها ما يلزم لأمة من أدوات الرقي على أتمه إلا قليلا، وإذا نشأت لبعض أبنائها رغبة في تلقف العلوم الطبيعية والصناعية كما أولعوا بالعلوم الأدبية والسياسية تصبح بعد بضع وعشرين سنة كأمة أوروبية راقية وربما

فاقت الآن وهي بعلمها وارتقائها في قارة إفريقية بمنزلة ألمانيا وفرنسا في قارة أوروبا كثيراً من الشعوب المنحطة في جنوبي أوروبا. أما سورية فقد أنشأت لها مدنية خاصة إن صح أن نسميها كذلك ولكنها متلونة بتلون مصادرها مختلفة اختلاف اهويتها وعناصر سكانها فالأتراك يلقنونها لغتهم منذ استيلاء الدولة العلية عليها ولكنهم لم يوقنوا إلا بتعليم أفراد في بعض البلاد قضت عليهم مصلحتها التجارية كأهل حلب وما جاورها مثلاً بتعلمها أو غرامهم بالوظائف العلمية والعسكرية والملكية كأهل دمشق وطرابلس وبيروت أن يتلقفونها أما الذين تأثروا من أبنائها بالمدنية الغربية المنبعثة من المدارس الفرنسوية والاميركانية والانكليزية والروسية وغيرها فأوفر عدداً وإن لم تكن المدارس أقدم زمناً وأرسخ قدماً في كل الأقطار فهي في فلسطين أي في جنوبي سورية أقوى منها في شماليها وفي غربيها أكثر مما هي في شرقيها فنجد الناشئة الجديدة على المناحي الغربية في القدس ويافا وحيفا وعكا والناصرة وصور وصيدا وبيروت ولبنان وطرابلس والاسكندرونة أكثر مما تجد منهم في نابلس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب واللاذقية، وكلما كثر في بلد سواد المسلمين كان البعد عن الأخذ بمدينة الغرب أكثر من غيره من المدن المحنسة بأديانها وتباين أغراض المعلمين فيها. وعندنا أن الحكومة تحسن صنعاً إذا نشطت في هذا القطر اللغة العربية أكثر من اللغة التركية أو على الأقل جعلتها مثلها ليكون لها من أبنائها أكفاء في صد تيار المدارس الأجنبية التي تعد الناس للهجرة أكثر من تحبيب بلادهم في أعينهم أما السعي في تتريك العرب في سورية وفي غيرها من الأقاليم العربية كاليمن والحجاز والعراق والجزيرة فسعي باطل ليس في خير للبلاد ولا للدولة لأن تعليمهم بغير لسانهم يطول معه زمان نهوضهم الحقيقي والأتراك ليسوا بمدنيتهم على مستوى الفرنسيس والانكليز في الرقي ومعرفة المدخل والمخرج مثلاً حتى يفيضوا من عملهم على العناصر الأخرى ولذلك كان عمل الحكومة عقيماً في نشر التركية فقط في البلاد العربية والدليل على ذلك أن الولايات التركية أحط بكثير من الولايات العربية فولايتا سورية وبيروت أرقى ولا شك من ادرنة وبورصة كما يؤكد ذلك من طافوا هذه الولايات الأربع وخبروا قراها كما خبروا مدنها أما درجة التهذيب والتعليم في سورية فأرقى من بلاد الأكراد وأرمينية وولايات آسيا الصغرى

أي الأناضول ولذلك جاز لنا هنا أن ندعي أن السوريين كالطفل بدأ يحبو نحو المدنية إلا أنه لم يعين له خطة معينة حتى الآن وحالته مناط بفناء نوابه بل نواب العرب وكفاءتهم في مجلس النواب وإذا حسنوا النيابة نالت هذه البلاد حقوقها الإدارية والعلمية والعمرانية وإلا فتبقى في حالة التذبذب. أما سائر الأقطار العربية فلا يسوغ لنا أن نقول أنها أخذت تحبو ما دامت الفتن تنهك قواها وذلك مثل بعض أنحاء العراق ونجد واليمن فإن الأمن لم يكد يتقرر في نصابه في قطر من أقطارها مدة طويلة ومنذ نحو أربعين سنة لا تخلو سنة إلا وتنتشر الفتن في بقعة من بقاع اليمن وكذلك جنوبي سورية ونجد والعراق ولولا بقايا مدنية تقذفها الهند على خليج فارس فينال منها البصرة وبغداد شيء قليل أو تلك الآثار الضئيلة التي يلقيها الراحلون إلى الشرق من أهل الغرب على بعض موانئ البحر من جهة الجزيرة العربية لقلنا أن هذه لم تختلف حالتها عن بضعة قرون إلا ما كان من خلل الأمن فيها. وبعد فإن حال هؤلاء الملايين في اليمن والحجاز والبصرة وبغداد والجزيرة والشام وطرابلس الغرب يدل على أن الانتفاع من قليل منظم خير من كثير مشتت وأن أهل سويسرا وهم ليسوا سوى جزء من عشرين جزءاً من العرب المنبعثين من شواطئ بح الظلمات إلى شواطئ المحيط الهندي أكثر أثراً في المدينة من العرب اليوم وهم لا يقلون عن ستين مليوناً وما ذلك إلا لبعد أقطارهم واختلاف الأغراض في حكوماتهم فتجدها إما إلى اليقظة الغربية أو إلى الإهمال المدهش، إفراط أو تفريط وكلا هذين إن زاد قتل. أما سائر البلاد العربية كزنجبار والسودان وأواسط إفريقية فحالها تبع للأقدار وهي أقرب إلى الانصباغ بصبغة الحاكمين عليها لأن أهلها على الأغلب ليست لهم في الأصل مدنية راقية زالت ثم بدأت تعود ولأن أقاليمهم الحارة تفعل في عقولهم فتخملها كما تفعل الأقاليم الباردة في عقول الساكنين فيها فتنشطها وتبعث منهم قوة الإرادة والثبات وتطلب منهم مطالب كثيرة تضطرهم إلى تنويع أساليب العمل. وبعد فليس كمصر بين البلاد في رقيها فهي أم الأقطار العربية وسوف تعلم غيرها كما تعلمت فترسل أشعة أنوارها إلى الأقطار ولا سيما إذا نالت استقلالها الإداري وأصبحت ذات دستور يحل شؤونها ونهوض البلاد بحسب طبائع الحكومات التي تتولاها.

والمدنية كتيار قوي لا تقف في وجهه سدود الحكومات، مهما ضغطت، ورابطة اللغة والدين أقوى الروابط لا تنزعها القوانين اليوم مهما جارت والأمة الآن تحبو وتوشك أن تمشي مشية الشاب القوي العضلات التام الأدوات والصفات، خصوصاً إذا تعاطفت وتعارفت أكثر مما تتعاطف الآن وتتعارف وعندنا أن الصلات الاقتصادية أي التجارية إذا قويت بين هذه البلاد أكثر مما هي الآن ورحل التاجر الراقي من العراق إلى تونس وجاء المراكشي إلى الشام ونهض اليماني نحو مصر وكثرت الصلات والمواصلات واشتركت المنافع واتحدت يتأتى أن نقول ولو بعد قرن أو قرنين (والقرن والقرنان لا يعدان شيئاً في حياة الأمم) أن هناك أمة عربية ذات كيان يذكر لا يقل عن كيان الطليان والألمان واليابان والأميركان والعصر عصر تكوين الوطنيات باللغات وإحياء ما اندثر من القوات بضم شملها بعد الشتات ولا سبيل إلى النهوض إلا بإحياء اللغة والآداب وتذكير الأبناء بما فعل الآباء وإلا فتبقى هذه الأمة الكثيرة الحصا الوافرة البقاع والأصقاع أمام المدنية الغربية أقرب إلى الاضمحلال منها إلى البقاء ومتى أزمن مرضها يتعذر برؤها، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.

العفة

العفة وتمدح العرب بها العفة خلق يعصم صاحبه عن تناول ما لا يحل: فإذا عرض له ملذوذ محرم، أو سنحت له شهوة محظورة حال هذا الخلق الكريم بينه وبين التلوث بها، وقد غلب استعمال كلمة العفة في تجنب قاذورة الزنا، ومن أكرم نفسه عن هذه القاذورة كان في منجاة من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، ويكفي الزاني خزياً في دنياه أن يكون محتقراً في ذويه معرضاً للعاهات والأمراض الخبيثة، وأن يصبح قدوة سيئة لأهله وولده في سلوك هذا الطريق المشؤوم، وإني أعرف رجلاً ابتلي بهذه الرذيلة فكان له في كل يوم خليلة يختلف إليها، وينفق من رزق عياله عليها، وكان له زوجة وأولاد: فلم يكن أمره ليخفى عليهم مهما بالغ في التكتم، ولما بلغ أكبر أولاده من الرشد مال إلى هذا المنكر ونما في نفسه حب الفاحشة، فجعل يسافر من بلد إلى بلد في تطلب الفتيات، وتصيبهن، والإنفاق عليهن وكيف يكون موقف الأب إزاء عمل ابنه هذا؟ أتراه يقدر على كبح جماحه وإرجاعه عن غيه، وإقناعه بأن ما هو فيه يؤدي إلى قبح الأحدوثة، وضياع الشرف، وخسارة الصحة وعذاب الآخرة فإذا نصح له أبوه بمثل هذا القول ماذا يكون جواب ابنه له يا ترى؟ وفي مثل هذه القصة قال الشاعر في المثل السائر: إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً ... فلا تلم الصبيان فيه على الرقص وقديماً ما تمدح العرب بالتخلق بالعفة، والابتعاد عن التلوث بقاذورة العهر، بل تجنب كل ما يلحق بهم ريبة، أو يدعو إلى سوء ظنه، فكان أحدهم لا يزور امرأة جاره في غيبة زوجها تأثماً وتكرماً. وإذا كان جواداً مثل حاتم الطائي، وكان له جار بادي الخصاصة، احتال في إرفاد زوجته أثناء غيبته من دون أن يلم بها، أو يدخل بيتها وقد دل حاتم على خلقه هذا في قوله: وما تشتكيني جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم تسبل علي ستورها قوله وما (وماتشتكيني) أي لا يمكنها أن تشكوني إلى نساء الحي فتقول: إن حاتماً بخل علي، ومنع عني معروفه، في غياب زوجي، لا تقول ذلك لما أني كنت لا أقصر في فعل

كل ماينعم عيشها، ويكفي حاجتها، إلا الزيارة فإني كنت أدعها مدة غياب زوجها، وقوله (سيبلغها خيري) أي يصل إليها معروفي ورفدي وأزال كذلك حتى يرجع زوجها من دون أن أدخل خدرها وتسبل علي سترها. وقال حاتم أيضاً في هذا المعنى: ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر يقول أن جاري لا يضرم ناراً لنفسه وإنما تكون ناري له ناراً فيأكل هو وعائلته مما يطبخ عليها، بل إن القدر تنزل عن النار وتقدم إليه ليتناول منها حاجته قبلي ما ضرني جارا جاوره ... أن لا يكون لبابه ستر لا أبالي أن لا تكون ستارة على باب بيت جاري، وذلك لأني عفيف العين فلا أخشى على نفسي التطلع إلى داخل البيت، والنظر إلى النساء اللائي فيه. أعشو إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر هذا البيت كأنه جواب لسؤال يوجه إلى حاتم: فيقال له أحسنت إذ لم ترسل نظراتك الخائنة من خلال الستور إلى نساء جارك ولكن كيف تصنع إذا برزت الجارة من خدرها وتمشت بين المضارب والبيوت، فقال إني إذ ذاك (أعشو) أي أغض عيني وأغمضهما فلا أعود أبصرها حتى تدخل خدرها، وتتوارى فيه، واصل (العشى) مقصور من دون همزة، أن يضعف بصر المرء فلا يعود يبصر في الليل، وإن كان يقدر على الإبصار في النهار، والوصف منه أعشى، وبه سمي الشاعر المشهور والناقة العشواء التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء يعترضها، وتعتسف الطرق على غير هدى، ومنه المثل فلان يخبط خبط عشواء. وقد تجوز حاتم فاستعمل العشى هنا بمعنى غض العين، أو تخزير الجفن بحيث لا يعود يبصر إلا كما يبصر الأعشى الضعيف البصر. وقد أعطانا هذا العربي الكريم في شعره درساً جليلاً في الأخلاق وفي آداب معاملة النساء يجدر بنا أن نحفظه، ونحتذي مثاله، فلا نتعرض إلى النساء الأجنبيات، ولا نسارقهن النظرات الخائنات. وقد افتخر حميد بن ثور الهلالي بما افتخر به حاتم فقال:

وإني لعف عن زيارة جارتي ... وإني لمشنوء إلي اغتيالها (مشنوء) مبغض مكروه، يقول أنه يكره أن يزورها لئلا يساء به الظن فيهان، كما يكره أن يغتابها لئلا يقال أنه تنزل لمنافسة النسوان. إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زواراً ولم تنبح علي كلابها زوار على وزن غراب بمعنى كثير الزيارة ومن مادة الزيارة سمي الرجل الذي يكثر من زيارة النساء وغشيانهن ومجالستهن زير وبه سمي المهلهل أخو كليب الزير ويقال فلان زير نساء إذا كان مولعاً بمجالستهن وتصبيهن. وما أنا بالداري أحاديث بيتها ... ولا عالم من أي حوك ثيابها حوك مصدر حاك الثوب حياكة وزير النساء يعمل على تعرف أحوالهن وتسقط أخبارهن فيدري إذا جرى بينها وبين جارتها أو خادمتها وماذا رأت أو سمعت في العرس أو المأتم الذي ذهبت إليه، وقد يستخبر منها عن نسيج ثوبها، ومن أي صنف أو جنس هو، ومن أين اشترته، وعند أي خياطة خاطته كل هذه الأسئلة لأجل أن يكون له مادة للحديث يشغلها به حينما يزورها أو يصادفها، فشاعرنا العربي لم يقصر في درس طباع هؤلاء الأزيار جمع زير ومعرفة غريب حيلهم، فهو ينفي عن نفسه أن يكون فاسقاً مثلهم أو يشتغل بالنساء اشتغالهم. ومثله في ذلك عقيل بن علفة المري الذي يقول من أبيات: ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم حضور (غياب) جمع غائب، وقوله (رجالك) أصله (رجالكن) بالنون لأن الخطاب للجارات وهن جمع، قالوا إن هذا الحذف أو الخطاب بالمفرد جائز في الشعر فقط: يقول: إنه لا يسألهن هذا السؤال ليتوصل به إلى محادثتهن، أو أنه لا يسألهن إياه إرادة الدخول عليهن، وقضاء لبانة منهن. ولست بصادر عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود (العير) حمار الوحش ووروده مجيئه الماء يريد الشرب وصدوره رجوعه عنه بعد شربه منه، و (غمره) بتشديد الميم من التغمير، وهو أن يرد حمار الوحش الماء فيشرب أول الشرب ثم يحس بالصائد الكامن له على الماء فيرجع نافراً غير متلبث وبه إلى الماء حاجة

ونفسه تدعوه إلى العودة. فالشاعر يقول إني لا أدخل بيت جاري ابتغاء الريبة، وارده كما يرد عير الوحش منهل الماء، حتى إذا علمت بأن الجار في البيت صدرت ورجعت مسرعاً كما يفعل عير الوحش متى أحس بالصائد القانص إذ ينقلب عن المنهل مغمراً وتغميراً، وهو شديد الظمأ إليه. ولا ملق لذي الودعات سوطي ... ألاعبه وربته أريد (ذو الودعات) هو الصبي الصغير الذي يعلقون عليه الودع خشية العين ومسيس الجن، وقوله (ربته) تأنيث (رب) وضميره يرجع لذي الودعات، ويعني بربته أمه: لأنها تربيه وتملك أمره وتصلح من شأنه، حتى يبلغ كماله، والتربية مأخوذة من هذه المادة. وقد زاد الشاعر هنا معنى لم يقله زميله الشاعر السابق: فهو يقول أنه ليس بالوقح الذي يتوصل إلى مغازلة النساء ومحادثتهن بمناغاة أطفالهن وملاعبتهم، فإذا رأى طفلاً مع امرأة حسناء أو خادمة وسيمة ألقى إلى طفلها سوطه أو سبحته أو فم سيكارته يظهر من نفسه الرحمة بالأطفال وشدة العطف عليهم، والأمر ليس كذلك وإنما هو فاسق يريد صاحبة الطفل، ويبغي بها السوء. وأسلوب هذه الأبيات يعطي أن قائلها يريد التعريض بعدو منافس له: كأنه يقول أني لا أتنزل لأمثال هذه الشناعات وإنما ذاك خصمي فلان هو الذي اعتاد فعل ذلك. ومثل قوله الأخير قول الآخر: لا آخذ الصبيان ألثمهم ... والأمر قد يغزى به الأمر (يغزى) من غزا قصد، ومن غزو العدو، لأن الغازي يقصدهم في موضعهم، ومنه أيضاً (مغزى) الكلام، و (مغزى) القصة أي المعنى المقصود منها، فلثم الصبيان هنا ليس مقصوداً لذاته وإنما هو أمر قصد به أمر آخر، وهو تجميش المرأة والتفكه بحسنها وجمالها، وشكلها ودلالها. ولا أريد بالشكل هنا الهيئة والصورة وإنما هو بمعنى الغنج والدلال وشينها تفتح وتكسر، شكلت المرأة كفرحت فهي شكلة. أما التجميش فلا أبيح لنفسي التصريح بأصل اشتقاقه، وإنما أكتفي بتفسيره بالمغازلة. وخطر لي الآن أن المغازلة، ويراد بها محادثة النساء بكلام الحب، مشتقة من غزل القطن

والصوف، وإنما سميت هذه المحادثة بهذا الاسم، لأن الزير يجلس إلى المرأة وهي تغزل فقد يساعدها بالغزل أو يحل الخيوط المعقدة أو يسألها عن غزلها وما تريد أن تنسج به مثلاً ويكون الزير بصنيعه هذا كأنه شاركها في الغزل، ولذلك جاء فعله (مغازلة) على بناء المشاركة، ثم يتوصل الزير بهذه المشاركة إلى أحاديث أخرى يعلمها الأزيار، ومن لطائف المتأخرين قول بعضهم: وزان بحب الزنا مغرم ... اماط رادء الحيا واطرح يقبل أولادهن الصغا ... ر ومن عشق الدن باس القدح المغربي

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الجمعية الخلدونية في الشام ومصر وتونس جمعيات إسلامية كثيرة غايتها تعليم ناشئة الأمة وبث روح العلم والفضيلة في النفوس وأهما فيما نرى جمعية مآثر التربية والمقاصد الخيرية في بيروت والجمعية الخيرية في القاهرة وجمعية العروة الوثقى في الاسكندرية والجمعية الخلدونية في تونس، وأمامنا الآن الخطاب السنوي لرئيس الخلدونية ألقاه في الاجتماع السنوي لانتخاب رئيس وأحد عشر عضواً كما يقضي بذلك نظامها قال فيه أنه لا تسمو كلمة الأمة ولا يتقدم لها شأن إلا باشتراكها في السعي والعمل والقول والفكر وأنه من أجل هذا تألفت في العالم المتمدن الشركات والجمعيات الأدبية والعلمية واتحدت أفراداً أعلى شعوراً وإحساساً، فالرغبة في الحصول على هذه الغاية الشريفة سعى نخبة من فضلاء الأمة التونسية فوقفوا لتأسيس الجمعية الخلدونية العلمية التي مضى عليها الآن مدة تناهز أربعة عشر عاماً لم تزل في غضونها دائبة على القيام بوظيفتها من توسيع نطاق المعارف ونشر العلوم العصرية بين الشبيبة التونسية عامة وتلامذة الجامع الأعظم خاصة لاعتبار هذا المعهد العلمي كفرع للكلية الزيتونية. ومع قيامها بتلك الوظيفة السامية لم تزل أيضاً تبحث عن الوسائل الموصلة لاستكمال ذلك وترتب الدروس في الفنون غير المزاولة بالجامع الأعظم زيادة على التاريخ والجغرافيا والحساب والهندسة من بقية العلوم الرياضية والطبيعية التي لا يحسن الجهل بها في الأوقات الحالية. وقال: إن مادة بقاء الجمعية هي إعانة المشتركين من ذوي الغيرة والمروءة الذين قدروا المشروع حق قدره واستمروا على مساعدته بمالهم وعملهم، وعناية أعضاء لجنة إدارتها ورؤسائها الفضلاء السابقين الذين يحق للجمعية أن تفتخر بحزمهم وسعيهم في ترقية الجمعية وتصييرها من أرقى الجمعيات العلمية في شمالي إفريقية وخص من بينهم بالذكر سيدي محمد الاصرم الذي بذل جهده في هذا السبيل وأنفق وقتاً ثميناً من حياته لتحسين تراتيبها وأساليب تعليمها، ثم اهتمام السادة المدرسين الذين قاموا بما نيط بهم أحسن قيام وساعدوا الجمعية على نشر العلوم التي كانت مفقودة في تونس وترجمتها من اللغات

الأجنبية إلى لغتنا العربية ونذكر في مقدمتهم سيدي البشير صفر والسيد حسن عبد الوهاب والسيد صادق التلاتلي والسيد عبد الرزاق الغطاس وغيرهم. وقال: إن أهم نتيجة لعمل اللجنة في السنة السالفة مضاعفة الإعانة المالية المخصصة للجمعية من إدارة الأوقاف وما قررته بموافقة الجلسة العامة من تغيير مدة التعليم وتصييرها عامين بعد أن كانت عاماً واحداً حرصاً على أن يكون المتخرجون من مدرسة الجمعية أكثر علماً وأوفر استعداداً لتلقي الدروس العالية أو مباشرة الخدم المعاشية ومن تنظيم نظام التعليم بما يشمل بعض فنون عصرية كالحكمة والكيمياء وحياة الحيوان والإنشاء العربي ومبادئ اللغة الفرنسوية الخ. هذا أهم ما ورد في خطاب الرئيس ولعل بعض قرائنا يودون الاطلاع على الغرض الحقيقي من تأسيس هذه الجمعية الراقية فنقول لهم نقلاً عن تقريرها سنة 1956 وهو يصدر باللغة الافرنسية أن أول من اقترح تأسيسها المسيو ريبيليه الملحق العسكري بالمقيم العام في تونس وكان من المتبحرين في المسائل الإسلامية والواقفين على حركة النهضة المصرية فوقع في نفسه أن في مكنة شبان تونس المتعلمين في المدارس الفرنسوية أن ينشروا في القطر التونسي الأساليب الحديثة المتبعة في بعض بلاد الشرق ويصلحوا جامع الزيتونة على ما يناسب حال النهضة العلمية الحديثة فإذا صلحت حال هذا الجامع الأعظم يصبح كما كان مبعثاً للنور في العالم الإسلامي ولا سيما في شمالي إفريقية، وهكذا سعى إلى تأسيس هذه الجمعية فأنشأها زمرة من الفضلاء والمفكرين ودعوها بالخلدونية نسبة إلى ابن خلدون المؤرخ الفيلسوف الذي وضع في مقدمته أصول التعليم والإصلاح العلمي. ومن نظامها فتح دروس وإلقاء محاضرات في التاريخ والجغرافيا واللغة الافرنسية والاقتصاد السياسي وحفظ الصحة والطبيعة والكيمياء خاصة وأن تسهل على من فيهم استعداد لسلوك سبل الارتقاء في العلم وتنشط على أحداث خزائن كتب وأن تنشئ مجلة بالعربية والافرنسية تعرف العرب بالمدنية الفرنسوية والفرنسيس بالحضارة العربية. وبعد تأسيسها بمدة أعطيت مدرسة من المدارس القديمة جعلتها محلاً لصفوفها ومسامراتها ومكتبتها التي كانت تحتوي سنة 1906 على 690 مصنفاً بالعربية والافرنسية وقعت في 1153 مجلداً وفيها الامهات الممتعة ولا سيما ما يتعلق بتاريخ تونس وعمرانها ومدنية

الإسلام. وقد لقي هذا المشروع معاكسات قوية بادئ بدء وكثرت فيه الظنون والتخرصات على نحو ما يلقى في العادة كل مشروع في الشرق ولكن عرف القوم بعد حين سلامة قصد القائمين وسكتت الألسن عن تناول الخلدونيين بسوء خصوصاً لما يرون من حماية سمو الباي والدولة المستعمرة لجمعيتهم ولأن المتخرجين في مدرستها إذا كانت بأيديهم شهادة يفضلون على غيرهم في الوظائف. والدروس والمحاضرات التي تلقى في تلك المدرسة هي الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا والطبيعة والكيمياء وقد أقاموا معملاً كيماوياً في مكتبة المدرسة ليطبقوا العلم على العمل ثم أضافوا إلى هذه الدروس علم المساحة ورسم الأراضي (الطبوغرافيا) والرسم والجبر، وأهم ما تدور عليه المحاضرات تدبير الصحة العلمية والنظام القضائي في تونس وقانون العقارات وعلم الحقوق الإسلامي والفرنسوي والاقتصاد السياسي والاقتصاد الزراعي يلقيها في الغالب أعضاء الجمعية وفيهم العلماء والكاتبون والباحثون باللغة العربية وكان المستمعون قلائل جداً بادئ الرأي قلما ثبتت الجمعية ارتقوا من العشرات إلى المئة والمئتين وكانت واردات الجمعية سنة 1906 - 6889 فرنكاً ونفقاتها كذلك ولا شك أنها زادت الآن بحسب حاجة العصر وارتقاء مدارك أهله، وقد انتخب لرئاسة الخلدونيين هذه السنة السيد عبد الجليل الزاوش من علماء تونس وأرباب الأفكار فيها. بلغ مجموع إيراد هذه الجمعية الخيرية في سنة 1910 - 22340 جنيهاً و 76 مليماً منها 997 ج و 200 م اشتراكات و7172 ج 225 م إيجار أطيان و 2917 ج و 891 م للاحتفال السنوي منه مبلغ 2237 ج و 376 م لسنة 1909 و 524ج و 672 م تبرعات و 203 ج إيجار مباني الجمعية بيتي مزار وطنطا و75ج مرتبات خيرية وجنيه ومائة مليم إيرادات متنوعة عمومية و 6773ج و 500م أجور تعليم و1378ج و 561م ثمن كتب وأدوات مبيعة و1450ج مرتبات خيرية و 82ج و375م إيراد وقف المرحوم أحمد أفندي شاكر و663ج 78م تبرعات و 45ج جائزتا المرحوم علي باشا مبارك وحضرة عبد الرحمن بك رضا 55ج و765مليماً، وبلغ إجمالي المصروفات 18552 ج و 648م وبلغ الباقي بعد نفقات سنة 1910وهي نفقات التعليم والإعانة والصدقة الخصوصية والنفقات

العامة 11034 جنيهاً و 328 مليماً. التعليم الدنيوي نشر المسيو كومبايري من علماء الفرنسيس مقالة في مجلة المجلات الباريزية بشأن التعليم الدنيوي (العلماني) في فرنسا وحاضره ومستقبله جاء فيها أن حكومة الجمهورية تصرف كل سنة 120 مليون فرنك على المعلمين والمعلمات عدا ما تنفقه على بناء البيوت لمعلمي المدارس ومعلماتها وأن عددهم يبلغ 53276 معلماً و 59315 معلمة بحسب إحصاء سنة 1905 يتخرجون ويتخرجن من 175 داراً للمعلمين يتقنون فيها ما يلزمهم تخريج الصبيان والبنات وكان عدد المتعلمين سنة 1907 في مدارس الحكومة الدنيوية 4، 542، 631 فتى وفتاة ما عدا 522947 ولداً في مدارس الأمهات العامة و 811231 تلميذاً في المدارس الخاصة و 228213 في مدارس الرهبنات وهكذا زادت فرنسا مدارسها في الثلاثين سنة الأخيرة فكثرت فيها كما كثرت كنائسها في القرون الوسطى وانتشرت المدارس حتى في القرى البعيدة فكان عدد مدارس القرى أو مدارس الشعب سنة 1843 بلغت 3800 مدرسة فأصبحت سنة 1907 - 68128 مدرسة. ومع ما بذل من العناية لم توفق فرنسا إلى إخراج الأمة كلها من ظلمات الأمية فكان عدد الأميين من الجنود الذين كانوا تحت السلاح سنة 1908 - 9853 لا يقرأون ولا يكتبون و 4175 يقرأون فقط على حين كان في الجند العامل سنة 1872 - 56000 أمي وفرنسا مع كل ذلك لم تبلغ مبلغ جاراتها في قلة عدد الأميين في أبنائها، فإن في الجيش السويسري العامل وقدره 28 ألفاً عشرين أمياً فقط وفي الجيش الألماني واحد في الألف يعد في الأميين والسبب في كثرة الأميين في فرنسا بالنسبة لغيرها جهل بعض الآباء وإهمال الأولاد على كثرة تشديد المعارف والبلديات على أولياء الأولاد الذين يهملون إرسال أولادهم إلى المدارس الابتدائية يتعلمون ثلاث سنين ما يخرجهم عن حد الأمية، والسبب الاجتماعي الذي يدعو في الغالب إلى تخلف الأولاد عن دخول المدارس قلة ذات أيدي آبائهم فلا يستطيعون أن يظهروا في بزة تناسب حالهم بين أترابهم ولكن الحكومة تداركت الأمر وأنشأت منذ مدة صناديق للمدارس يضع فيها المحسنون صدقاتهم ومنها ينفق على الأولاد المحاويج ما يلزمهم من كسوة وطعام مغذ في الشتاء ولكن لم تعم هذه الطريقة أقطار

فرنسا كلها وبلغ عدد الصناديق المدرسية 17 ألف صندوق 371 ألف مديرية أو مقاطعة. وبعد أن قال أن الفقر هو من الدواعي الكبرى التي تحول بين أولاد الفلاحين والاختلاف إلى المدارس ذكر أن بعض الذكور يحتاجون أن يعملوا ليطعموا بعض أسرتهم ومن الإناث من يقمن على تربية أخواتهن وإخوتهن مدة تغيب والداتهن في الحقول وإن أولاد الفلاحين ينقطعون عن المدرسة لأنك تراهم معظم السنة يشتغلون بحش الحشيش أو الزرع أو الحصاد أو قطف الكروم. ومن أعظم ما يحول دون تعميم المدارس الدنيوية طغمة رجال الدين فإنهم حرموا في فرنسا من يختلف إلى مدارس الحكومة لأنها لا تعلم الدين وطردوا أولاداً لم يرقهم أمرهم ومنعوا تلاوة كتب لم تؤلف على هواهم فالتعليم الدنيوي لم ينجح على ما يجب بعد لضعف الوازع الأخلاقي ولأنه من الصعب أن تعلم أمة بأسرها تعاليم العقل وتطبق نفسها على نظامه وإشراب التعليم الأخلاقي الآن لفتيان صغار في عقولهم لا يتأتى لهم أن يقدروا نتائجها حق قدرها. ومن الطرق التي ارتآها بعض الأساتذة في إصلاح هذا الحال أن يعلم الكبار الذين لم يسعدهم الحظ بدخول المدرسة في صغرهم كما تفعل ألمانيا في تعليم جندها الأمي حتى يكون القرن العشرون قرن العناية بالشبان كما كان القرن التاسع عشر عصر العطف على الأطفال. ويرون أن خطط الدروس الابتدائية كثيرة المواد يختلط بها ذهن التلميذ فالأولى الإقلال منها ما أمكن وطبع صورة إجمالية في ذهن التلميذ تعده فقط لمادئ طفيفة لا يتعب بها ذهنه وتكون برزخاً له إلى الانتقال إلى تعلم الصناعات المفيدة والتعليم الثانوي فالعالي. وقد نصح الكاتب للأساتذة أن لا يدخلوا غمار السياسة ولا يسمعوا لكلام من ساءهم فصل الحكومة عن الكنيسة ويطمحون إلى أن ترفع الحكومة يدها من التعليم وتمنح المعارف استقلالاً حتى تكون للأمة مباشرة يريدون بذلك أن يجعلوا حكومة في حكومة فقال لهم ما قاله جول فري مؤسس التعليم الدنيوي لبعض الأساتذة: إياكم أن تأملوا أن يكون منكم رجال سياسة فخير لكم أن تنشئوا عشرين وطنياً صالحاً من أن تساعدوا على انتخاب نائب في مجلس الأمة.

وليس معنى المدارس الدنيوية أنها ضد الأديان بل معناه أنها على الحيدة لا يحب القائمون بأمر الأمة أن يلقي المعلم في المدرسة رأياً خاصاً له أو رأياً من الآراء التي تروج في الشوارع والأزقة بل تريده على أن يترك من وكل إليه تعليمهم أن يفكروا كما يشاؤون فإذا خالف ذلك وأورد لهم مبدأ دينياً يخون وطنه وأمته فالمدارس الدنيوية ليست مدارس الحاد فإذا كانت لا يذكر فيها اسم الله فليس الغرض منها أنها تخالف الله. البعثة العلمانية أصدرت البعثة العلمانية أو الدنيوية في بيروت مجلة يكون لسان حالها باللغات الثلاث العربية والتركية والافرنسية سمتها الرابطة وكل قسم من أقسامها منفصل عن الآخر فقرأنا فيها مطالب هذه البعثة في الشرق وقد أسست لتنفيذها مدارس في القاهرة والاسكندرية وسلانيك وبيروت وغيرها من البلاد والحواضر، وهي ترجو أن تتعدد في هذه البلاد التي فرقها التعصب دهراً طويلاً المدارس العلمانية مدارس التساهل والاتحاد والسلم التي يجتمع على مقاعدها الموسوي والعيسوي والمحمدي جنباً إلى جنب فيتعلمون كيف يحب بعضهم بعضاً ويخادع بعضهم بعضاً ويتضارسون؟! وقد جاء في هذه النشرة أن البعثة العلمانية الافرنسية أنشئت لنشر التعليم اللاديني في غير فرنسا سنة 1902 وعدد أعضائها من الفرنسيس اليوم نحو عشرة آلاف يقسمون إلى عدة فروع منهم من يدفع فرنكين في السنة ومنهم من يدفع خمسة ومنهم من يدفع عشرة ومنهم عشرين والغرض من ذلك بث التساهل لا الطعن بالأديان وتعلم الحضارة الافرنسية والحضارة الشرقية بحسب حالة البلاد وأن عملها إنساني تقصد به تحسين حالة الناشئة في الماديات والمعنويات وتكميل الإنسانية في المعقولات والاجتماعيات، وذكرت كلاماً للفيلسوف ادغار كينه (1803 - 1874) أحد المبشرين الأول بالتعليم العلماني قال في الجمعية العلمانية: أنها تعيش بمبدأ حب الوطنيين بعضهم بعضاً بقطع النظر عن معتقداتهم فعسى أن تكون كما قال وأكده مئات بعده من أنصار الجمهورية وأحباب الاستعمار وبث الأفكار. فلسفة أديسون خالف هذه المرة أديسون الأميركاني مخترع الكهربائية جميع الفلاسفة الإلهيين في الاعتقاد

بخلود النفس فصرح ولم يجمجم باعتقاده المادي وأنكر الخلود محاولاً أن يورد حجة على دعواه في حوار له مع أحدهم فقال: ليس الإنسان إنساناً بذاته بل هو بالخلايا التي فيه فالدماغ الإنساني هو كآلة فلا سبيل لنا من ثم إلى الاعتقاد بخلود الروح كما لا سبيل إلى الاعتقاد بخلود اسطوانة من اسطوانات آلتي الفوتوغرافية على أننا لم نجد حتى الآن أحداً قال بخلود الاسطوانة فلماذا نطالب به للأدمغة أو للقوة التي فيها، لا جرم أن ذلك ناشئ من كوننا لا نعرف هذه القوة التي نعتقد بخلودها إذاً فلنحكم بأن الكهربائية خالدة أيضاً لأنها قوة نجهلها. هذا ما قاله الفيلسوف بالحرف وقد أحدثت تصريحاته اضطراباً شديداً في الولايات المتحدة وانطلقت الألسن في شرح أقواله في الأندية وقد صرح أديسون في خلال مقالاته أن خصومه يعثرون على حجج تؤيد ما ادعاه في كتاب من تأليف الدكتور طومسون اسمه الدماغ والشخصية إلا أن مصنف هذا الكتاب نفسه سئل عن رأيه في هذا الشأن فأجاب جواباً لم يكن ينتظر منه فقال: إن آراء أديسون مخالفة للعلم فالأمة التي لا تعتقد بخلود النفس يختل أمرها وقد رد بعض القسيسين على أديسون في معنى الخلود بقولهم إذا كان الإنسان كما يدعي أديسون مجموع مواد مختلفة متلاحمة من الخلايا فلا يكون أديسون مخترع الفوتوغراف بل مجموع خلايا فقط. الفقراء في ألمانيا نشأ عن كثرة الولادات وقلة الوفيات في ألمانيا أن كانت هذه الامبراطورية سنة 1870 أربعين مليوناً فأصبحت الآن أربعة وستين مليوناً وتزيد الولادات عن الوفيات تسعمائة ألف في السنة ولذلك نرى الفقراء كثاراً فيها وكذلك الاشتراكيون لأن معامل البلاد وصناعاتها وزراعتها لا تعول سوى أربعين مليوناً فقط ولذا يتوسل الألمان بجميع مالهم من الأسباب أن يقللوا من الشقاء في المدن والقرى فما تقوم به ألمانيا في برلين مثلاً لتخفيف شقاء الفقراء إنها افتتحت أربعة أسواق لا تباع فيها اللحوم إلا من الفقراء ويحظر رجال الشرطة والصحة دخولها على غيرهم من أهل السعة، والسبب في هذا الحظر هو أن اللحوم كلها سواء كانت لحم بقر أو عجل أو خروف أو خنزير لا تخلو من شبهة ولذلك لا يسمح ببيعها من الفقراء إلا إذا جعلت في معمل كيماوي يعقمها التعقيم العلمي فيقتل منها

الجراثيم الضارة، وهذه الرخصة بالسماح ببيع اللحوم الملوثة قد لا يسمح بها في البلاد الراقية ولكن الألمان بالعلم أقسموا أن ينتفعوا حتى مما يضر ولا يطرحون شيئاً مهما بلغ من تفاهته وبذلك ينتفع جماهير المحاويج بتناول اللحوم اللازمة لهم في جهاد الحياة هناك. تعلم اللغات أقرب طريقة لدرس لغة من اللغات أن يتلقفها الطالب من أفواه أبنائها أو ممن يحسنها كأحدهم ولما كان هذا متعذراً على بعض الأشخاص ممن لم يسعفهم الحظ بوجود معلم ليدرسهم اللغة التي يطلبونها في بلدهم اخترع أحد الأميركيين آلة على نسق الحاكي يستطيع أن يدرس ابن أميركا اللغة الافرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية بواسطتها مع قليل من الكتب دون أن يتكبد نفقات الأستاذ أو عناء السفر إلى تلك البلاد ليدرس لغاتها. أصل التصوير الشمسي اخترع روجر باكون سنة 1297 م الغرفة السوداء المستعملة للتصوير الشمسي وفي سنة 1556 لاحظة بعض الكيماويين تأثير النور في الفضة وقام بروغام بعد حين وادعى إمكان حصول التأثير في العاج الحساس وذلك بمحلول الفضة. والذي اخترع اكتشاف التصوير الشمسي في الحقيقة هما رجلان فرنسويان اسمهما نيبس وداكرونالا جائزة من حكومة فرنسا جزاء نشرهما طريقتهما وأقدم الصور الفوتوغرافية محفوظ في متحف شالون سورسون في فرنسا مسقط رأس نيبس وكان دوروتي درابر أول شخص رسم بالتصوير الشمسي وكذلك شقيقه رسم سنة 1829، وظل التصوير الشمسي يرتقي إلى أيامنا هذه حتى أعلنوا مؤخراً اختراع طريقتين جديدتين للتصوير البارز الناتئ وأنهما نجحتا وأعلنوا خبر اختراع التصوير الملون وهكذا لا ينتهي الاكتشاف والاختراع ما دام العقل البشري يعمل ويفكر. أسباب الهجرة النبوية أيها السادة: كلمتي إليكم اليوم في أسباب الهجرة النبوية ونتائجها الأدبية تعلمون أن كل مصلح قام في العالم سواء كان من الأنبياء الكرام أو العلماء الأعلام ناله من قومه اضطهاد ولاقت دعوته في بادئ الأمر صداً وإعراضاً والكتب الإلهية والتواريخ

الاجتماعية شاهد حق على ما نقول. إن أمام المصلحين وخاتم النبيين الذي نحتفل بعيد هجرته الشريفة اليوم لاقى كذلك فوق ما يلاقيه كل مصلح للهيئة الاجتماعية وعانى من أهل الحسد والبغضاء من بني عمه وغيرهم ما لم يعانيه نبي من قبل ومع هذا فقد كان منذ بعث إلى أن هاجر صابراً على الأذى لا يفتأ يدعو قومه إلى الإسلام ويعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج ويدعوهم إلى دينه وحمايته من حسد قومه ليتمكن بعد المنعة من بث الدعوة ونشر دين الهدى والحق ووضع قواعد الترقي الاجتماعي على أساس مكين. لكن الذين يريدون الحقيقة نفسها ويقبلون الحق لأنه حق قليلون في البشر لا سيما في ذلك العصر وفي قوم حالهم من الجهالة معروف لذا لم تصادف دعوته قبولاً إلا من جماعة قليلين من قريش وغيرهم إلا أنه كان فيمن اتبعه من قريش مفر من وجوههم وأهل المكانة والعقل فيهم مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأشباههم من السابقين الأولين وصناديد قريش الذين أيدوا الدعوة المحمدية ورفعوا بعد ذلك شأن الأمة العربية بل شأن الشرق كله على وجه بهر أنظار العالم وقلب نظام الاجتماع في كثير من أنحاء الأرض على ما تعلمون. كان في إسلام هؤلاء ما يكفي أن يثير غيظ قريش وغضبهم وخوفهم على أوثانهم فاشتدوا في اضطهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فألجأوه في نهاية الأمر للهجرة إلى المدينة مع ذلك النفر من المؤمنين. وذلك بعد أن دعا جماعة من الأوس والخزرج من سكان المدينة إلى الإسلام في أحد المواسم سنة عشر للبعثة وجاءه في السنة القابلة والتي بعدها جماعة منهم ببيعة قومهم فبايعوه بيعة العقبة الثالثة وقيل هي الثانية واستوثق له منهم عمه العباس بن عبد المطلب فأقسموا على نصرته وعاهدوه على تأييد دعوته ثم نصروه بالقول والفعل وسموا بعد ذلك أنصاراً ونعم هذا الاسم وحبذا الفخر بنصرة الحق والحقيقة والعدل. أمر بعد ذلك أصحابه بالهجرة إلى المدينة فأخذوا يهاجرون ارسالا إلى جماعات مستخفين إلا بطل قريش وأشجع شجعانهم المهاجر بدعوة الحق رغماً عن أنوف المكابرين فخر الأمة الإسلامية بل فخر التاريخ عامة عمر بن الخطاب فإنه أعلن هجرته وخرج مهاجراً على

ملاء جبابرة قريش فلم يسعهم منعه أو الوصول إليه بسوء. اتصل بعد ذلك بالنبي خبر تآمر قريش على قتله فاتفق مع صاحبه أبي بكر على الخروج في نفس تلك الليلة التي عينوها لقتله وترك على فراشه علياً ابن عمه وخرج والقوم يرصدونه فزاغت أبصارهم عنه وأنقذه الله منهم رحمة بالإنسانية وإنقاذاً لكثير من الأمم من ظلمات الشرور. وكان خروجه عليه السلام في مثل هذا اليوم المبارك ومن جميل المصادفات أنه كان يوم الاثنين كيومنا هذا الذي نحتفل فيه وذلك سنة ثلاث عشرة للبعثة فسلمه الله وصاحبه من كيدهم وبلغ مأمنه بسلام في قصة طويلة معروفة في التاريخ. هذه أسباب الهجرة فما هي نتائجها الأدبية؟ عجيب أيها السادة أمر هذا الإنسان القوي الضعيف بينما يتطال أحياناً إلى أن يتناول بمداركه كل ما تحت السماء ينحط حيناً حيناً آخر إلى حضيض الغبراء، فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما كان يريد حياة هؤلاء القوم ولكنهم كانوا يريدون قتله فما هذا التباين العظيم وكيف بلغت بهم قوة التمييز من الضعف هذا الحد؟ أريد حياته ويريد قتلي ... ولو علم الحقيقة ما أرادا نعم جهلوا حقيقة النبي لا لنقص في ذكائهم الفطري واستعدادهم لقبول الفضيلة لأن ما ظهر منهم بعد بضع سنين من ذلك التاريخ يؤيد أنهم كانوا أذكى الشعوب وأعظمها قابلية للخير والفضيلة لكن الانصراف لعبادة الأوثان يدعو من طبعه للانصراف عن التفكر في خالق الوجود ويوجد الكمال في الطبيعة فيقف بالفكر عند حد محدود من التصور ويصده عن درك كثير من الحقائق عند عرضها عليه أو مفاجأته بما لم يألفه منها وهكذا كان شأن قريش والعرب عامة مع النبي صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر. ولقد تحقق بعد لقريش وللعرب والناس كافة أن سلامة النبي من غائلة قريش في ذلك اليوم واستقرار الدعوة في مدينة يثرب هو مبدأ سعادة قريش أنفسها وسعادة مئات الملايين من البشر ونهاية القضاء في قسم عظيم من الأرض على عبادة الأوثان وعلى سلطة أفراد من سدنة الهياكل وكهنتها، سلطة لا حد لها لا على النفوس فقط بل على الضمائر والعقول أيضاً، أقول على الضمائر والعقول لأن احتكار العلم الذي يراد به احتكار السيادة الدينية ما

عرف إلا بين جدران الهياكل حيث كانت تقيم طائفة من الناس تزعم أنها وارثة ايزيس واوزيريس وبعل وجوبيتر واللات والعزى وما لا يعد من الآلهة تسحر هذه الطائفة بما احتكرته من العلم عقول الشعب فتقوده حيث تشاء ولا تعطيه منه إلا بمقدار ما يستطيع مئات الألوف من البشر أن يبنوا هيكلاً للشمس أو قبراً لابن الشمس مكرهين مسخرين. إن أطلال تلك الهياكل الفخمة وبقايا تلك القبور الهائلة الماثلة إلى اليوم تدل على أن ذلك النور الضئيل الذي كان ينبعث من وراء جدران الهياكل إنما كان من أجل الهياكل لا من أجل الشعب ولا أبالغ إن قلت أن بعض المدنيات القديمة للأمم البائدة احر بها أن تسمى مدنيات الهياكل بفضل أولئك السدنة الذين كانوا يحجبون عن العقول نور العلم الصحيح ونور الحقيقة الإلهية استعباداً للنفوس والأرواح وقد أخبرتنا الكتب المقدسة وأخبرنا التاريخ من أحاديث أولئك الطائفة من الناس بما يغني عن طول الشرح. هذا هو السر في أن قريشاً وهي سدنة البيت العتيق اهتزت أعصابها واستشعرت الخطر على سيادتها الدينية لأول دعاء دعا به النبي وهو التوحيد أي قول لا إله إلا الله ولا عبودية لأحد سواه فأظهروا له العداوة والبغضاء وما زالوا به حتى ألجأوه وأتباعه إلى الهجرة عنهم ولو علموا أن هذه الدعوة مخبوء لهم تحتها فوق ما يزعمون من السيادة الوهمية وهي سيادة العلم والمدنية والسلطان العظيم في الأرض بما سيكون إليهم من ميراث الأمم لما فعلوا معه ما فعلوه ولكن أكثر الناس أعداء ما جهلوه. ومهما كان الحال فقد كانت هجرته الشريفة خيراً لقريش وللعرب والانسانية جمعاء إذ تمكن بعد امتناعه بالأنصار من جمع كلمة العرب ووضع قواعد شريعته الغراء التي قيدت قيود عبودية البشر للبشر وفسحت للعقل مجال النظر في الكائنات فجعلت العلم مشاعاً بين بني الإنسان من الطبقات فندبت عامة الناس إلى تعلم العلم وتعلم اللغات والاستفادة من قواميس الكون وأسرار الطبيعة وجعلت قاعدة التفاضل بين المسلمين التقوى والعلم فلا يفضل عالم جاهلاً إلا بعمله، ولا يفضل تقي شقياً إلا بعمله. فكان من هذا نذير عظيم بالتبدل العتيد لشكل المدنية القديمة والعلم الناقص انتفض له جسم الإنسانية الهامد تحت ضغط الخرافات الوثنية التي شيبت به علوم الأقدمين ونشطت النفوس إلى تناول حقها الطبيعي من هذا الوجود بما قرره الإسلام من مبادئ الاشتراكية

العامة الصحيحة التي مبناها أن العقل رأس مال كل فرد فمن حق كل فرد أن يتناول من العلم ما استطاع ليتساوى مع أخيه في الاشتراك بمرافق الحياة. وهذا هو السر في أن المدنية العربية كانت أرقى مدنية سبقتها وأن العرب فعلوا في قرنين ما لم يفعله غيرهم في قرون وكانوا أسرع الأمم سيراً في سبيل المدنية وتبسطا في الحضارة فما لبثوا بفضل الإسلام جيلاً وبعض جيل آخر حتى نشروا سيادتهم ودينهم ولغتهم في أحسن أجزاء المعمور ولما توطدت لهم دعائم على عهد الدولتين دولة الخلفاء الراشدين ودولة الأمويين وقبضوا على زمام السيادة السياسية في معظم الممالك القديمة صرفوا عنايتهم للأخذ بأزمة السيادة العلمية فلم يكفهم ما كتبوه واشتغلوا به من علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ وسائر فنون العربية بل اهتموا بترجمة كتب اليونان في الفلسفة والفلك والهندسة والكيمياء والطبيعة وغيرها فكان اهتمام عامتهم بنقل هذه العلوم إلى اللغة العربية كاهتمام خاصتهم وخلفائهم ووزرائهم فكما كان الخليفة المأمون يعطي حنين بن اسحق المترجم عن كل كتاب ينقله إلى العربية زنته ذهباً مثلاً بمثل ما كان بنو موسى بن شاكر المهندسون وهم من عامة الشعب يعطونه كل شهر خمسمائة دينار من أجل الترجمة هذا فضلاً عما كانوا ينفقونه من الأموال على الكتب التي كانوا ينفذون في طلبها من بلاد الروم والأصقاع البعيدة بالثمن الباهظ. وكما كان كذلك محمد بن عبد الملك الزيات الوزير ينفق على المترجمين من ماله الخاص نحو ألفي دينار في الشهر وكثيرون غير هؤلاء من الخلفاء والوزراء والعلماء من كانوا ينفقون على استحضار كتب العلم وترجمتها. لم يقف بهم الأمر عند هذا الحد من تعلم العلم وتعليمه ونشره عملاً بأوامر صاحب الهجرة وواضع أساس المدنية الصحيحة عليه الصلاة والسلام بل عمدوا إلى تأسيس المدارس فأنشأ العباسيون أول كلية جامعة في بغداد على عهد الرشيد والمأمون سميت دار الحكمة وكانت تدرس فيها سائر العلوم الحكمية كالفلسفة والطب والكيمياء والهندسة والفلك وغيره ثم المدرسة النظامية ثم المستنصرية في بغداد أيضاً وحذا حذوهم في ذلك الأمويون في الأندلس والفاطميون في مصر حتى وصلوا سلسلة المدنية المنقطعة من عهد سقوط دولة الرومان بحلقة من المدنية العربية كان لها الفضل العظيم على العالم المتمدن لهذا العهد

لأنها كانت الصلة المتممة لترقي الإنسان وترقي المدنية بما مهدته لعلماء أوروبا من سبل المدنية الحديثة. عجيب أمر هذه الأمة أيها السادة ولقد يكاد يظن القارئ لإخبارها أن رقيها السريع من الخوارق وما هو كذلك بل هو نتيجة الإفراج عن العلم وإخراجه من بين أسوار الهياكل وجعله مشاعاً مشتركاً بين الناس يتناول عقل كل فرد نصيبه منه وحقه أن يتناول ذلك ما دام العلم ثمرة من ثمرات العقل. عرف المسلمون في إبان مجدهم ومدنيتهم هذه القاعدة وحرصوا على مبدأ الاشتراكية العامة فلكي لا يكون العلم محتكراً لطائفة أو قاصراً على فريق دون فريق تغالوا في إنشاء المدارس المتنوعة بتنوع المشارب والعلوم تغالياً لم تجارهم في أمة من قبل فجعلوا مدارس لتلقي علم الحديث سموها دور الحديث ومدارس لفروع الشريعة على عدد المذاهب فمدارس الشافعية غير مدارس الحنفية ومدارس المالكية غير مدارس الحنابلة ثم مدارس الحكمة التي يدرس فيها الطب والفلسفة والرياضيات والفلك وغيره من العلوم الحكمية وكانت أكثر هذه المدارس داخلية ذات غرف يأوي إليها الطلبة ولم يكن التعليم فيها مجاناً فقط بل كان للطلبة فوق ذلك جرايات ومرتبات تغنيهم عن العمل لغير العلم. ومن أدلة تغالي هذه الأمة في إنشاء أمثال هذه المدارس كتاب خطي موجود في مكتبتي اليوم في نحو ألف صفحة وهو خاص بمدارس دمشق وحدها من القرن الخامس إلى التاسع وفيه تاريخ مائتي مدرسة أو تزيد على ذلك منها ثلاث مدارس طبية أنشئت في عصر واحد في مدينة واحدة من المدن الكبرى الإسلامية كحلب والموصل وبغداد وسمرقند والقاهرة وتونس ومراكش وطليطلة وإشبيلية وغرناطة وغيرها من المدن الشهيرة التي كانت تفيض أنوار العلم والمدنية على الشرق والغرب. أما تأثير هذه المدارس وعلوم العرب وآدابهم التي كانت تدرس فيها في أهل الغرب وعلوم المدنية الحديثة فمما لا يتسع لذكره هذا المقام ويكفي فيه شهادة علماء الافرنج أنفسهم فإذا سمحتم لي أتلو عليكم شيئاً من شهادة عالم محقق كبير من علماء أوروبا فيما للعرب من الفضل على المدنية وهو العلامة سديو صاحب تاريخ العرب. قال هذا النصف المحقق في مقدمة كتابه المذكور بعد أن أثنى على أخلاق نبينا وعمله

الجليل في جمع كلمة العرب: وأما تواريخ الخلفاء الراشدين وكذا الأموية في دمشق وقرطبة والعباسية في بغداد والفاطمية في مصر ووصف تمزيق الممالك الإسلامية التي أغار عليها المغول فدونها الافرنج تدويناً حسناً وأضفنا إليها ما تركوه من أصولها وهو وصف المدنية العربية التي تمكنت أصولها في آفاق الدنيا القديمة أقوى تمكن ولا نزال إلى الآن نرى آثاره حين نبحث عن مستمد مبادئ ما نحن عليه من المعارف الأوروبية فإن العرب في غاية القرن الثامن من الميلاد تركوا صفاتهم الحربية وشغفوا بنيل المعارف حتى أخذت عما قليل مدائن قرطبة وطليطلة والقاهرة وفاس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند تفاخر بغداد في حيازة العلوم والمعارف وقرئ ما ترجم إلى العربية من كتب اليونان في المدارس الإسلامية وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجميع ما ابتكرته الافهام البشرية من العلوم والفنون، وشهروا في غالب البلاد خصوصاً البلاد النصرانية من أوروبا ابتكارات تدل على أنهم أئمتنا في المعارف. ولنا شاهداً صدق على علو شأنهم الذي يجهله الافرنج من أزمان مديدة الأول ما أثر عنهم من تواريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والأسفار والقواميس ما اشتهر من الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثير من الفنون الفاخرة، والثاني ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والمباني الفاخرة والاستكشافات المهمة في الفنون وما أوسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء الصحيحة والفلاحة والعلوم الصحية التي مارسوها بغاية النشاط من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر من الميلاد أي من القرن الثالث إلى القرن العاشر الهجري. إلى أن قال بعد تخطئة بعض علماء الافرنج الذين قالوا أن الهنود والصينيين أعلم من العرب: وأما المدرسة البغدادية المدونة للعلوم التمدنية في الفترة التي بين عصر يونان الاسكندرية والأعصر الأخيرة فكانت مساعدة على استيقاظ أهل أوروبا من رقدة الجهالة ونشر أنوار المعارف في جميع ممالك آسيا. وبعد أن ذكر كيفية انتقال العلوم من العرب أو بواسطتهم إلى ممالك آسيا، الصين، والهند، والتركستان وغيرها قال:

ثم اطلع أهل الغرب من أوروبا على أسرار تلك العلوم فأخذوا يشتغلون بها حتى جددوا في البلاد الافرنجية المدنية واللغة العربية وفنونها الأدبية التي أخذت كل يوم في زيادة الانتشار بين الافرنج وما زلنا إلى الآن نستكشف أموراً مهمة (يريد من القضايا العلمية) من الكتب العربية القديمة وأن عزي ابتكارها زوراً إلى بعض المتأخرين من الإفرنج. هذه شهادة عالم أجنبي عن أوطاننا ولغتنا وديننا تشعر أن المدنية العربية وآدابها عمت منافعها الشرق والغرب وأن العرب كانوا أساتذة العالم بلا نزاع وبالتالي كان لهم الفضل على العالم أجمع وقد شهد كثير من علماء أوروبا ومحققيها مثل هذه الشهادة كالعالم دساسي والعالم دربي والعالم كوستاف ليون وغيرهم ولمن كان الفضل في هذا كله؟ كان لصاحب الشريعة الإسلامية الذي نحتفل بعيد هجرته اليوم ولأمته النجيبة التي خدمت العلم والمدنية والإنسانية جمعاء خدمة لا ينكرها إلا العوام الجاهلون الذين في قلوبهم مرض وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون. فسلام على يثرب وسلام على ساكنها العظيم وسلام على أمته النجيبة وعليكم أجمعين. رأس السنة الهجرية هل الهلال فحيوا طالع العيد ... حيوا البشير بتحقيق المواعيد يا حرف شك ستلقانا على ثقة ... وقد عقدنا المنى في نون توكيد كأن حسنك هذا وهو رائعنا ... حسن لبكر من الأقمار مولود لله في الخلق آيات وأعجبها ... تجديد روعتها في كل تجديد * * * فتيان مصر وما ادعو بدعوتكم ... سوى مجيبين أحرار مناجيد سوى الأهلة من علم ومن أدب ... مؤملين لفضل غير مجحود المستسر شعار المقتدين به ... العاملين بمغزى منه مقصود في العين رمز لميقات يحد به ... وفي النهى رمز جد غير محدود ما زال من مبدأ الدنيا ينبئنا ... أن التمام بمسعاة ومجهود فإن تسيروا إلى الغايات سيرته ... إلى الكمال فقد فزتم بمنشود * * *

اليوم عيد به معنى السرور لكم ... ولم يكن بدؤه يوماً لتعييد رسالة الله لا تنهى بلا نصب ... يشقى الأمين وتغريب وتنكيد رسالة الله لو حلت على جبل ... لاندك منها وأضحى بطن أخدود ولو تحملها بحر لشب لظى ... وجف وانهال فيه كل جلمود فليس بدعاً إذا ناء الصفي بها ... وبات في ألم منها وتسهيد ينوي الترحل عن أهل وعن وطن ... جاراً عليه بقلب منه مكمود يكاد يمكث لولا أن تداركه ... أمر الإله لأمر منه موعود * * * فإذا غلا القوم في إيذائه خطلا ... وشردوا تابعيه كل تشريد دعا الموالين إزماعاً لهجرته ... فلم يجبه سوى الرهط الصناديد مضى هو البدء والصديق يصحبه ... يغامر الحزن في قفراء صيخود مولياً وجهه شطر المدينة في ... ليل أغر على الأدهار مشهود حتى إذا اتخذ الغار الأمين حمى ... ونام بين صفاء نوم مجهود حنا عليه فما مثواه منه سوى ... مثوى الجنين من البكرية الرود ياللعقيدة والصديق في سهر ... تؤذيه أفعى ويبكي غير منجود إن العقيدة إن صحت ولزلزها ... مفني القرى فهي حصن غير مهدود أما الذين بقوا من صحبه فتلوا ... سارين في كل مسرى غير مرصود ماجند قيصرا وكسرى إذا افتخروا ... كهؤلاء الأعزاء المطاريد كأنهم في الدجى والنجم شاهدهم ... فرسان رؤيا لشأن غير معهود في حيطة الله ما شعت اسنتهم ... فوق الظلال على المهرية القود * * * عانى محمد ما عانى بهجرته ... لمأرب في سبيل الله محمود وكم غزاة وكم حرب تجشمها ... حتى يعود بتمكين وتأييد كذا الحياة جهاد والجهاد على ... قدر الحياة ومن فادى بها فودي أدنى الكفاح كفاح المرء عن سفه ... للاحتفاظ بعمر رهن تحديد

وضل زاعم سوء لا اضطلاع له ... فالمجد إذ قال من يخلق فقد عودي ليغنم العيش طلقاً كل مقتحم ... وليبغ في الأرض شقا كل رعديد ومن عدا الأجل المحتوم مطلبه ... عدا الفناء بذكر غير ملحود * * * لقد علمتم وما مثلي ينبئكم ... لكن صوتي فيكم صوت ترديد ما أنتجت هجرة الهادي لأمته ... من صالحات أعدتها لتخليد وسودتها على الدنيا بأجمعها ... طوال ما خلقت فيها بتسويد بدا وللشرك أشياع توطده ... في كل مسرح باد كل توطيد والجاهليون لا يرضون خالقهم ... إلا كعبد لهم في شكل معبود مؤلهون عليهم من صنائعهم ... بعض المعادن أو بعض الجلاميد مستكبرون أباة الضيم غر حجى ... ثقال بطش لدان كالأماليد لا ينزل الرأي منهم في تمزقهم ... إلا منازل تشتيت وتبديد ولا يضم دعاءً من اوابدهم ... إلا كما صيح في عقر ابابيد ولا يطيقون حكماً غير ما عقدوا ... للذي لواء على الأهواء معقود بأي حلم مبيد الجهل مرهقه ... وأي عزم مذل القادة الصيد أعاد ذاك الفتى الأمي أمته ... شملاً جميعاً من الغر الأماجيد لتلك تالية الفرقان في عجب ... بل آية الحق إذ يبغي بتأكيد صعبان راضهما توحيد معشرهم ... وأخذهم بعد إشراك بتوحيد وزاد في الأرض تمهيداً لدعوته ... بعهده للمسيحيين واليهود وبدئه الحكم بالشورى يتم به ... ماشاءه الله عن عدل وعن جود هذا هو الحق والإجماع أيده ... فمن بفنده أولى بتفنيد أي مسلمي مصر دين الجد دينكم ... وبئس ما قيل شعب غير مجدود طال التقاعس والأعوام عاجلة ... والعام ليس إذا ولى بمردود هبوا إلى عمل يجدي البلاد فما ... يفيدها قائل يا أمتي سودي سعياً وحزماً فود العدل ودكم ... وإن رأى العدل قوم غير مودود

لا تتعبوا لا تملوا إن ظمأتم ... إلى غدير من الأقوام مورود تعلموا كل علم وانبغوا وخذوا ... بكل خلق نبيه أخذ تشديد فكوا العقول من التصفيد تنطلقوا ... وما تبالون اقداماً بتصفيد مصر الفؤاد فإن تبغوا سلامتها ... فالشرق ليث وقد صحت بمفؤد الشرق نصف من الدنيا بلا عمل ... سوى المتاع بما يضني وما يودي الغرب يرقى وما بالشرق من همم ... سوى التفات إلى الماضي وتعديد تشكو الحضارة من جسم أشل به ... شطر بعد وشطر غير معدود * * * أبناء مصر عليكم واجب جلل ... لبعث مجد قديم العهد مفقود فليرجع الشرق مرفوع المقام بكم ... ولتزه مصر بكم مرفوعة الجيد ما أجمل الدهر إذ يأتي وأربعنا ... حقيقة الفعل والذكرى بتمجيد والشرق والغرب معوانان قد خلصوا ... من حاسد كائد كيداً لمحسود صنوان بران في علم وفي عمل ... حران من كل تقييد وتعبيد لا فعل يخطئ فيه الخير بعضهما ... إلا تداركه الثاني بتسديد ولا خصومة إلا في استباقهما ... لما يعم بنفع كل موجود * * * هذي الثمار التي يرجو الأنام لها ... من روضكم كل نام ناضر العود لمصر والشرق بل للخافقين معاً ... دع زعم كل عدو الحق مريد جوزوا على بركات الله عامكم ... فقد تبدل منحوس بمسعود رجاؤكم أبداً ملء النفوس فما ... ينفى بحسنى ولا يوهى بتهديد بدا الفلاح وفي هذا الهلال لكم ... بشرى التمام لوقت غير ممدود غداً نرى البدر في طرس السماء محا ... بخاتم النور زلات الدجى السود الصيد في انكلترا لا يخفى ما في الصيد من المنافع الاقتصادية فإن بعض الأقطار تتوقف حياتها على الإكثار منه فإن في إنكلترا مثلاً 456 سرب كلاب وتكلف النفقة على كل واحد منها 25 ألف

فرنك في السنة وبقدر ما يصطادون من المرات في الأسبوع، فإذا صادوا أربع مرات في الأسبوع مثلاً يكلف في السنة مئة ألف فرنك كل سرب من الكلاب ومجموع ما تنفقه إنكلترا على كلابها 18، 250، 000 فرنك ويلزمها مائتا ألف حصان للصيد وثمن كل واحد منها تعدل قيمته بألف وخمسمائة فرنك فمجموع قيمتها إذاً اثنا عشر مليون فرنك وتكلف نفقة كل حصان في السنة ألف فرنك أي ثمانية ملايين فرنك من حيث المجموع ويقدرون ما يأتي من أرباح الصيد في إنكلترا للتجار وأرباب المزارع وغيرها بخمسين مليون فرنك يستفيد منها الفلاحون وتجار الخيل والسياس والسروجيون والخياطون وسكك الحديد والحوذيون وأرباب الفنادق والقصابون والحراس وغيرهم وإذا بطل الصيد يفقد هؤلاء ملايين من الفرنكات ينتفعون بها لقوام حياتهم. طلبة السوريين بلغ عدد طلاب سورية الذين يتلقون العلوم المختلفة في مدارس أوروبا ولا سيما في فرنسا خمسين طالباً أكثرهم من دمشق وبيروت. تبدل الاهوية لا يزال الشيوخ في بلاد الشام يذكرون أن الأمطار والثلوج كانت تتصل سلسلتها منذ خمسين عاماً أياماً وليالي تمنع الناس عن الخروج في الأسواق في المدن والفلاحين عن تعهد حقولهم وحدائقهم في القرى مدة طويلة وقد بطل ذلك اليوم فتبدلت تلك الثلوج والأمطار الغزيرة ببرد وجليد يدوم أسابيع فيهلك الزرع والضرع كما حدث في الشهر الماضي فدام الجليد المضني زهاء شهر ونزلت درجة الحرارة إلى سبعة تحت الصفر في المحال المعتدلة كدمشق مثلاً وذلك بالميزان المئوي وهلك نحو ثلث الماشية في بعض أنحاء سورية لقلة المراعي وتضررت المزروعات الشتوية والأشجار المثمرة بالجليد المتصل وقلة الأمطار المنعشة وإذا دام الحال في احتطاب الغابات على هذا المنوال تصبح سورية جرداء مرداء على ما ورد في مبحث غابات سورية من هذا الجزء، وهناك الضرر العظيم في قلة المياه في الصيف فتجف الجداول والأنهار وتصبح أكثر الأصقاع المخصبة قاحلة كل هذا والحكام غافلون أو متغافلون والسكان جاهلون أو متجاهلون. شجرة الماء

بحث بعض العلماء في أميركا هذه الآونة في شجرة الماء التي يكثر وجودها في الأصقاع القطبية من أميركا وذكرها كثير من أرباب الرحلات في سياحتهم وهي شجر كالصبار يحتوي جذعه كمية مهمة من الماء الذي يشرب وأشهر هذه الأشجار شجرة البيزناكا وفيها عصير مائي بكثرة ويستخرج الماء منها بأداة حادة من مدية أو فأس تقطع بها رأس الشجرة وإذا لم يجد السائح أداة قاطعة بكسر الأشواك منها ثم يحطم رأسها بحجر كبير وبهذا ترفع طبقة غلظها من 15 إلى 20 سنتمتراً فينزع لباً مغشى في ثقب يحوي نحو عشرة لترات من الماء فيسحقون اللب باليدين فيخرج منه سائل لذيذ يروي الظمأ وهو أرق من الهواء، وفي كل صبارة لتراً إلى ثلاثة لترات من الماء ويتخذ هنود أميركا من هذا الشجر ما يروون به ظمأهم بعض أشهر السنة ويفضلون ماءها على كل ماء ويستعملونه لطبخ البط وغيره من الطيور التي يصيدونها في تنقلاتهم، ومن هذا الشجر نوع اسمه ساكوارو له مثل خاصية الشجر المتقدم ذكره ولكن يمازج ماءه شيء من المواد المرة، قالت المجلة التي ننقل عنها وقد دلت التجارب أن السياح لو كان معهم إنبيق أو آلة للتقطير لما صادفوا في سبيلهم صعوبة في اختيار الماء الجيد وقد صنع أحدهم آلة تحمل مع السائح تفي بهذا الغرض فيقطر بها في الحال من ثلاثين إلى أربعين لتراً من الماء المقطر السالم من مضار الماء الملوث في مثل هذه الواحات. هجرة الأوروبيين الظاهر أن قد اكتفت الولايات المتحدة الأميركية بمن نزلها من الأوربيين مهاجرين إليها منذ قرن إذ قد خف معدل قاصديها من أهم الممالك الأوربية، فقد كان عدد من هاجر إليها من النمسا والمجر سنة 1907 - 300 ألف فأصبح سنة 1909 - 170ألفاً وكان عدد المهاجرين من إيطاليا 285 ألفاً تلك السنة فنزل إلى 183 ألفاً وكان المهاجرون الروسيون 258ألفاً فتناقص إلى 130ألفاً والانكليز من 56 ألفاً إلى 32 والفرنسيس من 9700 إلى 6700 وسكان جنوبي أوروبا يقصدون في الغالب الجمهورية الفضية في جنوبي أميركا ففي تلك الجمهورية نصف مليون من الاسبانيول وثمانمائة ألف من الطليان في حين أن سكانها لا يتجاوزون السبعة ملايين منهم خمسة ملايين من الأهالي الأصليين. مدرسة الفنادق

عزمت باريزان تنشئ لها مدرسة لتعليم أرباب الفنادق وليست باريز هي التي ابتكرت هذا الفكر بل سبقتها إليه سويسرا وألمانيا وإيطاليا يعلمونهم كيف يرفهون السائحين والنازلين ويستجمعون صفات الراحة والهناء وفيها تلقى دروس نظرية وعملية يفهمها كل سامع فيتعلم فيها الطلبة علم سرعة الاستملاء والحساب والجغرافيا الوصيفية وبعد دراسة ثمانية أشهر يطبقون ما تعلمونه بالنظر على العمل تحت نظارة العارفين والفاضلين. البساط المدفئ اخترعوا بساطاً من نسيج أسلاك الحديد أشبه بشعرية معدنية ذات حلق مسردة يمد على أرض الغرفة التي يراد تدفئة أرجل الجلوس فيها خصوصاً الزوار الذين يدخلون مخدع الضيوف وأرجلهم ترتجف من البرد، وهذا البساط يمس المجرى الكهربائي بوساطة آلات التنوير أو الجرس الكهربائي، وهذه الآلة مغشاة بنسيج ملطف يمنع المعدن مما يضربه، ونفقة هذا البساط في الساعة لا تتجاوز الخمسة سنتيمات، وهكذا لم يكتف أهل الغرب بما لديهم من أدوات الدفء من المواقد المنوعة ومنها بالكهرباء وأخرى بالغاز وبعضها بالبترول وأخرى بالفحم الحجري أو بالحطب بل رأوا أن تدفأ الأرجل أيضاً في الحال وما ندري ماذا يهديهم إليه البحث بعد ذلك للرفاهية والراحة. المعارف في يابان بلغ عدد المدارس الابتدائية في يابان 28 ألف مدرسة وعدد مدارس المعلمين للقسم الابتدائي 64 وعدد المدارس الثانوية 370 و 3 مدارس عالية لتخريج معلمي المدارس الابتدائية والثانوية و 8 مدارس عالية للطلبة الذين لا يريدون الدخول إلى كليتي طوكيو وكيوتو اللتين تحتويان على 12 مدرسة عالية، هذا عدا 49 مدرسة عالية للبحرية والحربية والطب والصناعات المختلفة، وعدد المدرسين في هذه المدارس كلها 125 ألف مدرس وعدد الطلبة 5، 565، 495 طالباً منهم 5، 144، 000 في المدارس الابتدائية الإجبارية، ولا يعلم الدين في مدارس الحكومة. تدبير الغذاء الصحة هي الثروة الأولى التي يجب الدفاع عنها ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتدقيق في

تدبيرها بالتغذية المعقولة والسير في العمل والراحة على ما يقتضيه تركيبنا وما خص به الخالق بني البشر من القوى الطبيعية والعقلية، فنحن لا نحسن استنشاق الهواء ولا السير على الأقدام ولا المنام للراحة ونهمل أمر عضلاتنا ونسيء استعمال أعصابنا فنفتح بصنعنا الباب للجراثيم الضارة فتهاجمنا وتحيط بنا خصوصاً وهي مستعدة إلى التسرب على الدوام إلى خلايانا لتعبث بها وتعيث، ولكن إذا أحسنا الغذاء والعمل والراحة والنزهة والنوم وكانت لنا إرادة قوية يكون لنا من الصحة ما نتغلب به في معترك هذه الحياة الاجتماعية. فقد قال الحكيم اليوناني: اعرف نفسك فإذا عرفت نفسك وعرفت مزاجك تضع لها تدبيراً صحياً من الغذاء والرياضة ينفعها، ومعلوم أن أمزجة الناس أربعة المزاج اللمفاوي أو البلغمي والمزاج الدموي والمزاج العصبي والمزاج الصفراوي، ومن النادر أن يخرج الإنسان عن أحد هذه الأمزجة الأربعة بل يكون مزاجه مؤلفاً من اثنين أو ثلاثة منها ويكون أحدهما متغلباً على الآخر وهذا هو الذي تجب مراعاته في تدبير الغذاء والأعمال، والجهل بالمادة الغذائية من كل طعام من الأمور التي لا تحتقر ومعرفتها أهم في قوام البنية مما يتوهم بعض العامة وذلك من الوجهتين الصحية والمنزلية. وما المعدة إلا بيت نار وقوده الأطعمة وعملها الكيماوي مع استنشاق الهواء يحدث الحرارة اللازمة لبقاء الجسم وتحويل ما يدخل فيه وما يخرج منه بقدر ما يتناوله من الغذاء، وقد حسب علماء منافع الأعضاء هذه الحرارة بحساب الكالوري فهم يقدرون معدل ما يلزم لرجل بالغ أشده من 2800 إلى 3000 من الكالوري أو قياس الحرارة، وإليك الآن كميات الكالوري التي تنشأ من الطعام الأكثر استعمالاً وهي مقدرة بمئة غرام أي أنك إذا تناولت 100 غرام من السمك تحصل على 113 من الكالوري: ففي السلطة 12 من الكالوري وفي الملفوف 27 وفي الثمار اليابسة 31 وفي البقول الخضرة 37 وفي اللبن (الحليب) 62 وفي البطاطا 83 وفي اللحم 94 وفي البيض 153 وفي الخبز 255 وفي الأرز 345 وفي البقول اليابسة 362 وفي السكر 380 وفي الشوكولاتا 415 وفي الجبن 466 وفي الزبدة 751. فلك أن تحصل على 2800 من الكالوري إذا تناولت 600 غرام من الخبز والمعجنات يكون منها (1530) من الكالوري و 280 غراماً من اللحم منها 363 و 50 غراماً من

السمك و 30 من البيض و 200من البقول الطرية و50 من البطاطا و40 من البقول النشوية و40 من الثمار و20 من الزبدة و10 من الجبن و20 من السكر الخ أي نحو كيلوغرامين من الغذاء كل يوم وهو ما يلزم المرء في الأربع وعشرين ساعة. ويستثنى من هذا التدبير من يعمل وهو جالس فإن تناول هذا القدر ضار به بل يلزمه 350 غراماً من الخبز و 150من اللحم و 100من البقول الطرية و200 من البطاطا و 250 من اللبن و40 من السكر و25 من الزبدة و 15 من الأرز و100 من الثمار أي ما يكون منه 2100 كالوري وعلى العكس فمن يعمل أعمالاً تحتاج إلى أتعاب الجسم فإنه يحتاج أن يرفع درجة الكالوري من 3200 إلى 3600 لا بزيادة ما يتناوله من اللحم فإنه لا يحصل منه سوى عشرة في المئة مما يجب لقوام بنيتنا من الدهن والكربون والزلال بل يتناول الخبز واللبن والبيض واللوبياء والعدس والفواكه والسكر وفيها 23 في المئة مما يجب لنا، وإن كيلوغراماً واحداً من البقول كالباقلاء واللوبيا والعدس والحمص لتساوي ثلاث لبرات ونصفاً من اللحم واللبرة خمسمائة غرام. ويحتوي الخبز واللبن والبيض على جميع المواد اللازمة للتغذية في غذاء تام ثم يجيء الأرز واللحم على اختلاف أنواعه والبقول الطرية وهي أقل في التغذية من الأصناف الثلاثة الأولى والسكر غذاء العامل ومولد القوة والمعوض عما فقده الجسم من التعب والسمك نافع في التغذية لما فيه من الفوسفور وللفوسفور دخل في تركيب بنيتنا وأعصابنا فمن كانت أشغالهم عقلية أو من كانوا في سن الطفولة من الأولاد ينبغي لهم أن يتناولوا من السمك أكثر من غيرهم ليساعد ذلك على نموهم، ويقول الدكتور متشنكوف الشهير أن من يشرب مصل الحليب كل يوم يطول عمره ولا يهرم بالشيخوخة لأن فيه باشلساً أو جراثيم صغيرة تهلك الجراثيم المضرة التي يعيش منها ملايين في الأحشاء. والحرشف (الأرضي شوكي) تكثر فيه المادة القابضة وهو مقو يمنع الإسهال ومدر للبول، والملفوف صعب الهضم لا يلائم المعد الضعيفة، والسبانخ ملين للبطن ويسميه الافرنج مكسنة الأحشاء ومن خصائصه هو والكراث أنهما يصفيان اللون، والبقلة الحامضة (الحميض) تسهل الهضم ومن كان فيهم استعداد لمرض الحصاة ينبغي لهم الامتناع عنها بالكلية، والبندورة مقبلة ومرطبة وعلى المصابين بالنقرس والحصاة والرثية (داء المفاصل)

أن يمتنعوا عن تناولها، والكرفس النيء عسر الهضم والأخذ منه باعتدال يقوي من ضعفت أعصابهم وإذا تناول منه المصاب بالنقرس يكون له كالتوابل اللطيفة، والهليون مدر للبول ويجب تناوله طرياً، والبطاطا نافعة لأرباب المعد القوية وأرباب المعد المتعبة ينبغي لهم تناولها ممروثة، والخس مرطب ونافع لالتهاب الأحشاء وأمراض الكلى، والبقدونس فهو مهيج معرق مدر للبول قاتل للديدان دافع للحمى يقوي الشهوة للطعام ويسهل الهضم، وإياك أن تسلق البقول بالماء الغالي جداً لئلا تفقد أملاحها وموادها الآزوتية المركبة منها وفي التوت الافرنجي (الفريز) كمية من حامض الساليسيليك ينفع المصابين بضعف المجموع العصبي وداء المفاصل، ومنقوع التوت الافرنجي من أحسن المقويات للأعصاب وهو من أفيد ما يكون لمن أنهكتهم الأشغال العقلية، والتوت الشوكي كالتوت الافرنجي وهو أيسر على الهضم، والكرز نافع للمصابين بالسويداء (هيستيريا) ومقاوم للرثية، والخوخ نافع للمصابين بالبول السكري وللمصابين بقروح بالمعدة، والتفاح نافع في تشنج الأعصاب ومعرق، ويكثر في التين الأصل المهضم (البيسين) وهو نافع للمصدورين والإجاص تغلب عليه البرودة فيضر ببعض المعد، والليمون يقي من الحمى وإذا أضيف للقهوة ينفع كما تنفع الكينا، وهو أحسن علاج لفساد الدم، والبرتقال أخف الفواكه على المعدة، واللوز اليابس مغذ جداً وهو غذاء طبيعي نادر المثال، ويرى الدكتور اوندرهيل أن لب العنب يؤكل وحده إذا كانت صحة المرء حسنة فوهو أحسن علاج لفساد الدم، والبرتقال أخف الفواكه على المعدة، واللوز اليابس مغذ جداً وهو غذاء طبيعي نادر المثال، ويرى الدكتور اوندرهيل أن لب العنب يؤكل وحده إذا كانت صحة المرء حسنة فإذا كان في البطن اطلاق يؤخذ اللب مع القشر ويطرح البزر وإذا كانت المعدة منقبضة ويراد به تسهيل الطبيعة يتناول اللب والبزر ويطرح القشر وبهذه الواسطة يكون العنب دواء وفاكهة لا نظير لها. والقهوة تورث الجسم قوة فهي من مضادات السموم ومقوية للقلب والشاي في الصباح يقوي ويورث نشاطاً ويسهل التنفس وإذا شرب بعد المشي أو عمل متعب يورث راحة سريعة وينبه النشاط والأقدام، وأرباب الأمزجة البلغمية يتطلبون مواد مقوية تصلح أجسامهم فعليهم بلحم البقر والغنم مشوياً ولحوم الأرانب والحمل والتدرج (الديك البري) وأن يتناولوا الخبز ناضجاً جداً بكمية وافرة وبقولاً مرة مسهلة ويقللون من المواد النشائية وتضر بهم الأطعمة

غير الناضجة والخس والهندباء والسبانخ والجزر وجميع البقول المرطبة والمسهلة. وعلى أرباب الأمزجة الدموية أن يعتدلوا في مآكلهم ويتقشفوا بحيث لا يزيدون الكريات الحمراء في دمهم ويتناولون من اللحوم لحم العجل والفراخ والأرنب واللبن ويكثرون من البقول والثمار المرة وتنفعهم القهوة الخفيفة ويتخلون عن الأبازير والتوابل، وكل ما يورث الحرارة في الجسم وإذا كانوا مستعبدين للعرق فالأولى أن لا يأتوا عملاً من شأته منعه. وعلى أرباب الأمزجة العصبية أن يستعملوا المواد اللطيفة اللذيذة لغذائهم مثل البيض والفراخ واللبن المطبوخ وأسماك الأنهار ويمتنعوا عن المهيجات مثل القهوة والشاي وغيرهما والخس والكرفس من أنفع البقول لهم فإن في عصير الخس مسكناً لأعصابهم وفي الكرفس النيء وقاية لهم من الاضطرابات فهو يقوي الأعصاب وربما نفع في ضربات القلب، وعليهم أن يقللوا من تناول الطعام أي يعتدلون جداً ولا يأخذون ما لا يوافق أذواقهم من الطعام بتة. وعلى أرباب الأمزجة الصفراوية أن يفضلوا الأطعمة الغليظة ويمتنعوا عن المواد الدهنية والنشائية ويتناولوا من البقول والأرز ولا يتناولون القهوة، والثمار الناضجة اللذيذة توافق أمزجتهم، والخس والبندورة نافعان لهم والبندورة محسنة الكبد. والأجدر بسكان البلاد الحارة أن يكثروا من البقول وبسكان البلاد الباردة أن يكثروا من اللحوم والمواد الدسمة نافعة لهم أيضاً. والخبز الطري غير نافع للصحة لأنه لا يجود علكه فيعسر على المعدة هضمه وربما أحدث مع الزمن اضطراباً في الدورة الدموية أو أوجاعاً في الرأس وآلاماً في المعدة وسوء هضم، والخبز السخن الذي يتناوله بعضهم في الصباح وعليه شيء من الزبدة سم ناقع. ومن المشهيات للطعام الثريد البارد الخالي من الدهن يتناول قبل الأكل بساعة فيكثر به سيلان اللعاب في المعدة فتستدعي الطعام ورأى بعض العلماء أن أحسن مقبل ما يعمل من منقوع ملعقتين من بزر الجزر في نصف لتر من الماء الغالي يؤخذ بين الطعام والطعام محلى بالعسل فيجود الهضم وتزيد الشهوة للطعام. وإذا ساء الهضم معك فخير دواء سريع قريب أن تشرب شراباً حاراً، فقد قالت إحدى المجلات الطبية أن من خصائص المشروبات الحارة أن تسكن الغشاء المخاطي في المعدة

وتعدل أحياناً التأثيرات المؤلمة التي يشعر بها بعد الأكل فهي تقوي الوظائف المعدية، والظاهر أن اليابانيين بلغوا ما يبلغوه من الصبر وجودة الصحة باستعمالهم الأشربة الحارة لأنهم يتناولون في كل المواسم ماءً حاراً أو شراباً حاراً ويقولون أن الماء البارد يشد الأطراف والرعامى (فص الكبد) والرئة ويحدث السعال ويطفئ الحرارة الطبيعية التي تديم الحياة. وعليك يا هذا أن تنظم أوقات طعامك فبذلك يسهل على الحواس أن تأخذ حظها من الطعام والهضم وتعمل عملها وتستعد لقبول غيره إذا وقت لها وقتاً وعليك أن لا تسرع في هضم طعامك وقضمه بل أن تمضغ كثيراً حتى لا تضطر المعدة أن تعمل ما كان من شأن أسنانك أن تعمله من طحن الطعام، ومن الضروري أن تقلب أسنانك على اللقمة عشرين مرة وكل طعام علك جيداً كان أكثر في التغذية من طعام ازدرد ازدراداً سريعاً فقد ورد في الأمثال الافرنجية من تأنى في أكله طال عمره وهاك الآن معدل الساعات اللازمة لهضم أنواع الطعام الأكثر استعمالاً. دقيقة ساعة 1 الأرز 30 1 البيض النيء، السمك المنقوش وسمك سليمان 45 1 النخاع المسلوق 30 2 اللوبيا والبطاطا المقلوة، الدجاج الهندي والبط المشوي 45 2 البيض المسلوق والفراخ المحمصة 3 اللبن المطبوخ ولحم الضأن المشوي والبفتيك 15 3 النقانق الباردة 30 3 السمك المقلي ولحم البقر المشوي 30 3 الخبز الطري والبيض المقلي والجبن ولحم الصيد ماعدا الطيور ثقيل على الهضم يحتاج من 4 إلى 5 ساعات، هذا ما لقفناه من أقوال أحدث علماء الصحة من الغربيين وعلى المرء أن يكون حكيم نفسه في تحميل معدته ومزاجه ما يطيق وأن يراقب خروج الطبيعة مراقبة تامة فإن أمراض التهاب الكلى وسوء

الهضم والتهاب الأمعاء والزائدة الدودية كلها تنشأ من القبض وإذا رأى الخروج قد أبطأ في الصباح فعليه أن يستعمل التمسيد قبل أن يقوم من سريره وذلك بأن يضع رجليه تحت ظهره ويضغط بيده على بطنه فيبدأ بغمز الموضع القريب من السرة ثم يصل إلى الحالب فيمر يده على صورة قوس حتى ينتهي إلى الحالب الأيسر. وهنا أمر يجب التنبه له لأنه داخل في صحة الجسم وهو أن المسكرات على اختلاف أنواعها ضارة بالصحة بحسب رأي علماء أوروبا أنفسهم يضل قليلها وكثيرها خلافاً لمن يهرفون بما لا يعرفون ويقلدون على العميا وهم جاهلون ولا سيما في هذه البلاد المعتدلة الجيدة المياه القليلة الغش في المأكولات على الجملة.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات المنهج الأحمد ألف العرب يوم كان علماؤهم يحسنون التأليف طبقات لرجال كل فن وعلم ذكر منهم صاحب كشف الظنون طبقات الأدباء (مطبوع) لابن الأنباري المتوفى سنة 577 وطبقات الاصبهانية لابن حيان البستي (354) وطبقات الأصوليين للسيوطي (911) وطبقات الأطباء (مطبوع) لابن أبي أصيبعة (668) وطبقات الأمم لصاعد ولابن سعيد المغربي وطبقات الأولياء لابن الملقن (804) وطبقات البيانيين للسيوطي وطبقات التابعين لابن النجار (643) وطبقات الثعلبي الموسوي والطبقات الجلالية للجلال الدواني (908) وطبقات الجنان وطبقات الحفاظ (مطبوع) للذهبي (748) وطبقات الحكماء لابن صاعد (548) وطبقات الحكماء (مطبوع) للقفطي (646) وطبقات الحنبلية وذيولها وطبقات الحنفية وذيولها وطبقات الخطاطين للسيوطي وطبقات الخواص للزبيدي (793) وطبقات الرواة خليفة بن خياط ومسلم بن حجاج والطبقات السنية في تراجم الحنفية للتميمي الغزي (1005) وطبقات الشافعية للسبكي (طبع) وذيوله وطبقات الشافعية للخيضري (894) وطبقات الشعراء لابن قتيبة (296) ويدخل فيها كتب كثيرة مثل شعراء الزمان وقلائد العقيان (مطبوع) وعقود الجمان والإشارة والإماء الشواعر وكتاب النساء الشواعر وأصداف الأوصاف وطرف الأدباء ومروج الزمان والباهر والنموذج الشعراء وجنى الجنان والغرة الطالعة والدرر الناصعة ومعجم الشعراء وشعراء الأندلس والكتب المؤلفة في الشعراء كثيرة منها يتيمة الدهر (مطبوع) للثعالبي ودمية القصر (مطبوع) للباخرزي وزينة الدهر في لطائف شعراء العصر للخيضري وفريدة القصر للأصفهاني والملح العصرية لابن القطاع والانموذج في شعراء القيروان لابن رشيق والحديقة لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز وسر السرور للغزنوي وكتاب عمارة اليمني في شعراء عصره والمختار في النظم والنثر لابن بشرون الصقلي وطبقات الشعراء بالأندلس لابن ربيعة (310) والبارع واليتيمة والخريدة ومتعلقاتها وخبايا الزوايا والباهر وفحول الشعراء والدرر والغرر والحديقة وطبقات الصحابة والتابعين للبصري (230) وطبقاتهم لابن مندة (395) وأسد الغابة (مطبوع) وطبقات ابن سعد (مطبوع) والطبقات الصدرية وطبقات الصوفية

للنيسابوري (412) وطبقات الطالبين للحسيني (588) وطبقات العلماء لابن الحميدة (630) وطبقات العلوم للأبيوردي (507) وطبقات عماد الدين بن كثير 774 وطبقات الفرسان لابن مثنى 210 وطبقات الفرضيين للسيوطي وطبقات الفقهاء للهمداني 521 ومثله لابن حبيب المالكي 240 وطبقات الفقهاء والمحدثين للهيثم بن عدي 207 وطبقات فقهاء ورؤساء الزمن لابن سمرة الجعدي 586 وطبقات القراء للداني 444 وصنف فيها الجزري 733 أجمع كتاب في هذا النوع والذهبي 748 وذيله غيرهم وطبقات الكتاب للسيوطي وطبقات اللغويين والنحاة له مطبوع وآخر للإشبيلي 379 وطبقات الفقيه للسكسكي وطبقات القاضي وطبقات المالكية لابن فرحون مطبوع 799 وطبقات المتكلمين لابن فورك 406 وللقاضي عياض بن موسى اليحصبي سماه ترتيب المدارك وللمرزباني أخبار المتكلمين وطبقات المجتهدين لابن كمال باشا 940 وطبقات المحدثين لابن الملقن 408 وطبقات المعبرين لابن الخلال وطبقات المعتزلة طبقت قطعة منه للقاضي عبد الجبار وطبقات المفسرين للسيوطي وغيره وطبقات النحاة للمبرد 284 وطبقات النسابين للحسيني 588 وطبقات النساك لابن الأعرابي 340 وطبقات همدان لابن الأنماطي وغير ذلك مما هو مطبوع مثل وفيات الأعيان لابن خلكان وذيله للصلاح الكتبي. وفي خزانة الكتب الظاهرية بدمشق كتاب طبقات الحنابلة لابن رجب قال كاتب حلبي: طبقات الحنبلية لأبي الحسين محمد بن محمد بن الحسين أبي يعلى الحنبلي الفراء الشهيد سنة 516 صاحب المجرد في مناقب الإمام أحمد وقد جعل هذه الطبقات على سير الطبقات الأولى والثانية على حرف المعجم وما بعدهما على تقديم العمر والوفاة وانتهى فيه إلى سنة 512 ثم ذيله الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 وصل فيه إلى سنة 750 ثم ذيله العلامة يوسف بن حسن بن أحمد الحنبلي المقدسي مرتباً على الحروف فرغ من تأليف سنة 871 وذيله أيضاً الشيخ تقي الدين مفلح. والغالب أن عبد الرحمن بن محمد العمري العليمي الحنبلي من أهل القرن العاشر ذيل على ما ذيله ابن مفلح في مجلد ضخم سماه المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد ونحن الآن نتكلم عليه وسنتكلم في فرصة أخرى على طبقات ابن رجب، قال العليمي في مقدمة كتابه بعد البسملة والحمدلة: أما بعد فهذا مختصر استخرت الله تعالى في جمعه وترتيبه

وسألته المعونة لي بفضله وتهذيبه يتضمن نبذة من ترجمة أمامنا المبجل والحبر المفضل الرباني أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أمام أهل السنة، وآخر المجتهدين من الأئمة رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه وأحواله ومناقبه وذكرمحنته وتاريخ مولده ووفاته وتراجم أصحابه رحمة الله عليهم فاذكر أولاً ما تيسر من مناقب الإمام رضي الله عنه ثم اذكر أصحابه الذين عاصروه فأبتدئ بذكر من توفي منهم قبله ثم اذكر من توفي بعده ثم اذكر من لم تؤرخ وفاته وعند انتهاء أسماء الأصحاب من الطبقة الأولى أبين منهم من اشتهر من أعيان أصحابه من الفقهاء الذين كانوا على مذهبه في الأصول والفروع ونقلوا عنه الفقه ونقل عنهم إلى من بعدهم إلى أن وصل إلينا وأسرد أسماءهم متوالية ليتميزوا عن غيرهم من أصحابه الذين قرؤوا عليه الحديث وغيره ورووا عنه من غير المشهورين بالتمذهب بمذهبه في فروع الفقه ثم ذكر أسماء الأصحاب من بعد الطبقة الأولى مرتباً على الطبقات والوفيات ومن لم اطلع على تاريخ وفاته ذكرت اسمه وما وقفت عليه من ترجمته والعصر الذي كان موجوداً فيه أن علمته وأوجزت لفظه حسب الإمكان وحذفت الأسانيد مما رويته فيه من الأحاديث الشريفة في بعض التراجم طلباً للاختصار وسميته بالمنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد. وقد وقع هذا الكتاب في زهاء 850 صفحة من قطع الوسط وكان الفراغ من نسخة سنة 1195 على يد عبد الفتاح شطي البغدادي، وعليه خطوط بعض بني الشطي وقد قال المؤلف في آخره: وهذا آخر ما تيسر ذكره من فقهاء الحنابلة رحمة الله تعالى عليهم أجمعين ولم أترك ذكر أحد ممن يصلح أن يذكر في الطبقات إلا من لم اطلع على أمره فقد ذكرت في هذا المختصر جماعة من المتقدمين لم يذكرهم القاضي أبو الحسين وجماعة من المتوسطين لم يذكرهم الحافظ ابن رجب وجماعة من المتأخرين لم يذكرهم قاضي القضاة برهان الدين بن مفلح. وهذا الكتاب مجموعة نفيسة لعلماء هذا المذهب في ألف سنة وفيه تراجم كثير من المشاهير ففيه عدا ترجمة الإمام أحمد ترجمة ابن الجوزي وابن قيم الجوزية وابن تيمية والقاضي أبي يعلي والقاضي يحيى بن أكثم والوزير ابن هبيرة وعشرات غيرهم ممن كانوا مخفر فقه أحمد بن حنبل وعنوان التقى والعلم وسعة التأليف والوعظ والإرشاد،

وتراجم من لقوا الألاقي في سبيل تأييد مذهبهم ولا سيما في الامتناع عن القول بخلق القرآن وهي المسألة المختلف فيها بين العلماء على عهد المأمون الخليفة العباسي ومن بعده وذلك مثل أحمد بن نصر الذي قتل في خلافة الواثق لامتناعه عن القول بخلق القرآن أخذه الواثق فقال له ما تقول في القرآن قال: كلام الله قال: افترى ربك في القيامة، قال: كذا جاءت الرواية وأغلظ على الواثق في الخطاب وقال له: مه يا صبي، فدعا الواثق بالصمصامة وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً ولا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ثم أمر بالنطع فاجلس عليه وهو مقيد وأمر بشد رأسه بحبل وأمرهم أن يمدوه ومشى إليه حتى ضربت عنقه وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً. وفيه أمثلة من الشدة عومل بها الحنابلة وعاملوا بها في قرون مختلفة ولا سيما في القرون التي أثار ثائرها التعصب المذهبي وأمثلة من معتقد رؤساء المترجمين في المسائل المختلف فيها مثل قول أبي بكر بن أبي داود السجستاني من قصيدة: وقل غير مخوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وافصحوا ولا تغل في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال أتباع لهم واسجحوا إلى من يقول بعد إيراد ما يجب الاعتقاد به ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح ولا تعتقد رأي الخوارج أنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ... إلا أنما المرجي بالدين يمرح ومثل ذلك قول أبي الخطاب الكلواذني من قصيدة: قالوا فهل لله عندك مشبه ... قلت المشبه في الجحيم الموصد قالوا فهل هو في الأماكن كلها ... قلت الأماكن لا تحيط بسيدي قالوا فتزعم إن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك خبر سيدي قالوا فما معنى استواه ابن لنا ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي قالوا فأنت تراه جسماً قل لنا ... قلت المجسم عندنا كالملحد وممن أطال في ترجمتهم الوزير ابن هبيرة العالم الذي صنف في وزارته كتاباً في ذكر

مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله بحيث أنه أنفق على ذلك مائة ألف دينار وثلاثة عشر ألف دينار وحدث به فجمع الخلق العظيم لسماعه عليه وكتب به نسخة لخزانة المستنجد وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها فاستنسخوه نسخاً ونقلوها إليهم حتى السلطان نور الدين الشهيد واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم يدرسون منه في المدارس والمساجد. هذا بعض ما حواه الكتاب من الفوائد وحبذا لو صحت همة الحنابلة على طبعه بعد أن طبع الشافعية والمالكية والحنفية والإمامية طبقات رجالهم فكتب الطبقات مفيدة من عدة وجوه وليس أحسن في تصور حال زمن من الرجوع إلى سير رجاله وما قالوه وفعلوه وحدث لهم وأحدثوه. عبر الأردن ظهرت في عالم المطبوعات في ألمانيا ثلاث مجلدات للرحالتين الألمانيين برونو ودمانسكي في وصف أصقاع عبر الأردن فجاءت متممة للرحلات التي كتبها الأوروبيون على فلسطين وما والاها وقد وصفا الصقع الواقع في لواء الكرك اليوم وهو من نهر الزرقا إلى بترا أي وادي موسى وصفاً جغرافياً مدققاً والطريق الروماني من مادبا إلى وادي موسى والطرق المتشعبة منه ووصفا وادي موسى وإذرح والطريق الروماني من اذرح إلى عين صدقة والعقبة، ومن الخرائب الرومانية واليونانية والعربية والنبطية مالم يشر إليه السائحون في تلك الأرباض من قبل، ومن الآثار التي وصفت مع صورها محطة الحج وهو حصن روماني قديم وكثر ربة وذات رأس وطوان واذرح وفي هذه معسكر روماني وكنيسة يونانية وقد استغرق الكلام على وصف وادي موسى زهاء ثلثمائة صفحة وفي المناظر التي أوردها السائحان في كتابهما تتمثل للقارئ الأربع صخور الرئيسة المطلة على الوادي ثم وصفا أشكال النواويس المحفورة في الصخر وصفاً تاريخياً والأبراج المحفورة هناك في بيوت كان يسكنها سكان وادي موسى، ومعظم القبور التي حفرت على مثال قبور الحجر يرد عهدها إلى الملك أرتياس الرابع (أي 9 و 30 سنة قبل المسيح وبعده) وليس في وادي موسى أعمدة من قبل الحكم الروماني عليها، ووصفا قصر فرعون

وخزنة فرعون ورجحا بما رأياه من صور أبي الهول وإيزيس ورؤوس الحملان أن تلك البلاد تأثرت بالمدنية المصرية والمسلتان الموجودتان في النجر تمثلان ربي النبطيين دوزارس واللات ويستدل منها أنها كانت مركز عبادة النبط قبل العهد اليوناني بستة قرون على الأقل، وقد دخلت المدينة اليونانية إلى وادي موسى على عهد البطالة وبذلك يستدل على اختلاط العنصرين المصري والسوري، ولم تستقل مملكة النبط هذه إلا في أواخر القرن الثاني عندما انحطت دولة البطالة والسلوقيين وظل القول الفصل فيها للمدنية اليونانية إلى عهد أرتياس الرابع (85 - 60 ق م) ولما تجزأت المملكة النبطية إلى ولايات رومانية بقيت محتفظة بمكانتها، وفي أواخر القرن الثالث للمسيح عاد إلى وادي موسى استقلاله، والغالب أن غارات الساسانيين الفرس على هذه البلاد اضطر بترا أن تنقطع عن إنشاء القبور وصك النقود، وقد وصف المؤلفان 851 مصنعاً من مصانع بترا من مثل القبور والمعابد والمذابح وأجادا في وصف جبل هرون ووادي صبرة والحدود الشرقية من هذه الولاية العربية من معان في الجنوب الشرقي من بترا إلى بصرى وأطلقا عنان القلم لوصف ما وقعت أنظارهما عليه من العاديات والمصانع ووصفا بلاد حوران ولا سيما درعا والسويداء واتيل وقنوات وقرى اللجاة وما فيها من الآثار مع بيان المسافات وطبائع البلاد ورسمها وتقاويمها بالصور والمصورات وشفعا كتابهما ببيان تخوم البلاد العربية وتقسيم مدن سورية وفلسطين وفينيقية والعربية كما كانت في عصور مختلفة كل ذلك مع أسماء الملوك الأقدمين الذين حكموا البلاد.

الفتوى في الإسلام

الفتوى في الإسلام هذا بحث علمي أدبي، تاريخي اجتماعي، يهم كل نبيه درايته، كما يجب على كل فقيه معرفته ودراسته، لا سيما من يتولى منصب القضاء، أو وظيفة الافتاء، فإن هذا البحث من أهم ما يحتاج إليه، وأعظم ما يضطر للوقوف عليه، كيف لا ومنه يعرف شعائر الحق في الأقضية والأحكام، ويتوصل به إلى فيصل الأمور بالعدل في نوازل الأنام، فهو على التحقيق لباب الفقه في الدين، وسر الأصعاد إلى ذروة الاجتهاد في مقاصد الشرع المتين. لا نريد أن نبحث في الفتوى من حيث يعرفها الناس أنها وظيفة من الوظائف ومنصب من المناصب يتولاه من يوظفه من الاستانة شيخ الإسلام، ليعول على فتواه عند توقف الحكام، لا نقصد هذا لأن سبيلها المذكور معروف معلوم، لا حاجة إلى أن يكتب فيه ما كان يكتب أيام استئجار العلوم، وإنما نروم الكشف عن منشأ الفتوى في الإسلام، وكيف كانت في القرون الثلاثة العظام، ثم فيما بعدها إلى العصور الوسطى ومن كان يتولاها أيام استفحال العلم واتساع مناحيه، ووفرة رجال الفضل وأئمة الاجتهاد فيه، ثم ما اشترط في أولي الفتوى وما ذكر من آدابهم وآدابها، وآداب من يستفتى ويرجع إلى أربابها. يتبع هذا مباحث منوعة ضافية الذيول، وافرة النقول، ربما يقل في سبرها مجلدات، ولا كثرة في العلم كما لا إسراف في الخيرات، بيد أنا نقتصر من هذا المبحث على اللباب، ليكون نموذجاً ومدخلاً لنجباء الطلاب. مما يدهش المنقب على أصول الفتوى ما بلغته من عناية الأئمة في مطالبها ومقاصدها وما تفننوا به من استنباط واجباتها واستثمار فوائدها، فيعجب مما كانت في العصور الأولى عليه وما آلت بعد إليه، ولئن كان لضعف العلم في القرون الأخيرة مدخل في هذا التباين إلا أن اليد العاملة فيه اختلاف سياسة الدول في الأخذ بالعلوم النافعة وإنهاض رجالها، ونشر التعليم المفيد والتهذيب وتوسيد الأمور إلى حكمائها وإبطالها، فقد تختلف السابقة عن اللاحقة في هذا المضمار، وتخلف أمة غيرها فتقودها بعاداتها وتأخذها بنظامها فتستلب منها الأفهام والأفكار، ويرجع هذا إلى فناء طريقة تائدة في طريقة طريفة، كما تفنى في أمة غالبة قوية أمة مغلوبة ضعيفة، فتدرس آثارها وعلومها، وتمحو عادتها ورسومها ولاختلاف الدول وتعاقبها على الممالك، مدخل عظيم في اختلاف قوانين العلم والعلماء في جميع المسالك.

ما سنذكره من أحوال الفتوى لا يدريه إلا نقابة في التاريخ دراكة في علوم الاجتماع بصير بالماضي والحاضر، خبير بالحديث والغابر. ومن المؤسف أن تنبذ هذه المعارف ظهرياً، وتصبح في هذا الجيل نسياً منسياً، فكم في بحر الأوهام من غاد ورائج، ويزعم أن هذه الحالة هي في عهد السلف الصالح، فلا يدري شيئاً من تأثير الدول، ولا يعرف أمراً من آثار الأول. إن الباحث عن الموازنة بين السلف والخلف في شؤون الاجتماع وطبيعة العمران يعتوره من مصاعب التنقيب ومتاعب العمل وإجهاد الفكر ما لا يدريه إلا من عانى ما عاناه، وأنفق من دم قلبه وقوة عقله ما ماثله أو داناه، ولذا سيعد ما كتبناه في هذا البحث من أعظم الدروس التي ألقيت على عالم العلم في هذا العصر، يذكر ما سلف لهذا الموضوع من جليل الشأن في كل قطر ومصر. ويعرفهم ما ترك الأول للآخر، وما حفظته لنا من الكنوز ذخائر قدماء الأكابر، فرحمة الله على السلف الناصحين، وأيد الله من تبعهم بإحسان من المصلحين. ولنشرع في البحث مفصلاً ومبوباً، ومعنوناً جملاً جملا ومرتباً، والمستعان بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أول من قام بمنصب الفتوى في الإسلام قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمخل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) وكفى بما تولاه الله بنفسه تعالى شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه يستفتونك قل الله

يفتيكم في الكلالة وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله. وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين فكانت فتاويه عليه السلام جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب أتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا. كتابة الفتوى من العهد النبوي عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الخطبة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال فقام رجل من اليمن يقال له أبو شاه فقال يا رسول الله اكتبوا لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه: يعني الخطبة، وعن أبي هريرة قال: لم يكن أحد من أصحاب محمد أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كتب ولم أكتب، وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق. أخرجها الحافظ ابن عبد البر في كتاب جامع العلم في باب الرخصة في كتاب العلم وعززها بآثار عدة منها عن سعد بن ابراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً. المفتون من الصحابة وطبقاتهم في الفتيا قام بالفتوى بعد النبي صلى الله عليه وسلم علماء الصحابة رضوان الله عليهم قال ابن القيم: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف

وثلاثون نفساً ما بين رجل وامرأة. وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر. قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتاباً، وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث. والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، (قال ابن حزم) فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جداً ويضاف إليهم طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان. والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث. حالة الفتوى في عهد التابعين وتابعيهم كان المرجع بعد الصحابة في الفتيا إلى كبار التابعين وكانوا منتشرين في البلاد التي عمرها المسلمون بفتوحاتهم، وقد عد الإمام ابن القيم في أوائل أعلام الموقعين عدداً عديداً منهم كما أن كثيراً من الحفاظ ألف في طبقاتهم أجزاء ومجلدات. وأما حالة الفتيا في عهدهم فقد نبه عليها ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة بما مثاله: اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وابراهيم والزهري وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بداً، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عبد الله بن مسعود عن شيء فقال: إني لأكره أن أحل لك شيئاً حرمه الله عليك أو أحرم ما أحله الله لك، وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد، وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود

في كراهة التكلم فيما لم ينزل وقال ابن عمر لجابر بن زيد: إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت. وقال الإمام الدهلوي أيضاً بعد أن مهد ضروب الاختلاف بين الصحابة في بعض الفتاوى ما مثاله: فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له ورجع بعض الأقوال على بعض واضمحل في نظرهم بعض الأقوال فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله. فانتصب في كل بلد إمام مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها وعطاء بن أبي رباح بمكة وابراهيم النخعي والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة وطاوس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام فأظمأ الله أكباداً إلى علومهم فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستفتى منهم المستفتون ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية. وكان سعيد بن المسيب وابراهيم وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها وكان لهم في كل باب أصول تلقوها من السلف: وللبحث تتمة بديعة فانظرها. وجل فتاوى الصحب والتابعين مروية في المواطآت والمسندات والسنن من كتب الحديث التي لم تشترط تخريج المرفوع وحده من الأحاديث النبوية عدا ما جمع على حدة منها. المفتون بالشام من التابعين قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: وكان من المفتين بالشام أبو ادريس الخولاني وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وحبان بن أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عميرة الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: وفيه استقصاء التابعين المفتين من معظم البلاد فانظره وقد استقرأت في كتابي (تعطير

الشام بمآثر دمشق الشام) كل صحابي وتابعي نزل دمشق من المشاهير وآثرته عمن جمع في هذا الشأن من الحفاظ عليهم الرحمة وكثير منهم حفظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً برأيه وقائماً على الأصول فيما لم يجد فيه نصاً. حالة الناس في الفتيا قبل المائة الرابعة وبعدها قال الإمام ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة تحت هذا العنوان ما مثاله: أعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: إن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس واتخاذ قوله والحكاية له من كل شيء والتفقه على مذهبه لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرنين الأول والثاني انتهى. قال الدهلوي وبعد القرنين حدث فيهم شيء من التخريج غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع بل كان فيهم العلماء والعامة. وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الاجتماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع وكانوا يتعلمون صفة الوضوء أو الغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم فيمشون حسب ذلك وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب. وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث فيخلص إليهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء ولا عذر لتارك العمل به أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين مما لا يحسن مخالفتها. فإن لم يجد أحدهم في المسألة ما يطمئن به قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء فإن وجد قولين اختار أوثقها سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة. وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحاً ويجتهدون في المذهب وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم فيقال فلان شافعي وفلان حنفي وكان صاحب الحديث

قد ينسب أيضاً إلى أحد المذاهب لكثرة موافقته له كالنسائي والبيهقي ينسبان إلى الشافعي. فكان لا يتولى القضاء ولا الافتاء إلا مجتهد ولا يسمى الفقيه إلا مجتهداً. ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يميناً وشمالاً وحدث فيهم أمور (منها) الجدل والخلاف في علم الفقه (ومنها) أنهم اطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم فإنهم لما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه فلم ينقطع الكلام إلا بمسير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة (وأيضاً) جور القضاة فإن القضاة لما جار أكثرهم ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه ويكون شيئاً قد قيل من قبل (وأيضاً) جهل رؤوس الناس واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهراً في أكثر المتأخرين وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهاً. (ومنها) أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه ومنهم من تفحص عن نوادر الأخبار وغرائبها وإن دخلت في حد الموضوع، ومنهم من كثر القيل والقال في أصول الفقه واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية فأورد فاستقصى، وأجاب وتقصى، وعرف وقسم فحرر، طول الكلام تارة وتارة أخرى اختصر ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصور المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل. وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك وانتصر كل رجل لصاحبه فكما أعقبت تلك ملكا عضوضاً ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلاً واختلاطاً وشكوكاً ووهماً مالها من أرجاء. فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل عن الاستنباط فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقوال الفقهاء قويها وضعيفها من غير تمييز وسردها بشقشقة شدقيه والمحدث من عد الأحاديث صحيحها وسقيمها وهذها كهذ الاسمار بقوة لحييه.

ولا أقول ذلك كلياً مطرداً فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم وهم حجة الله في أرضه وإن قلوا ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليداً وأشد انتزاعاً للأمانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين وبأن يقولوا إن وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون وإلى الله المشتكى وهو المستعان وبه الثقة وعليه التكلان انتهى كلام ولي الله الدهلوي. ماروي من تهيب السلف للفتيا قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: أعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطاء ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى: وروينا عن ابن المنكدر قال: العالم بين الله وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم. وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياءً كثيرة معروفة نذكر منها أحرفاً روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترفع إلى الأول وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث الآود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء الأود أن أخاه كفاه الفتيا وعن الشعبي والحسن وأبي حصين (بفتح الحاء) رحمهم الله قالوا: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر وعن سفيان بن عيينة وسحنون: اجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً: وعن الشافعي رضي الله عنه وقد سئل عن مسألة فلم يجب فقيل له فقال حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يكثر أن يقول: لا أدري: وذلك مما عرف الأقاويل فيه وعن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكاً سئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وعن مالك أيضاً رحمه الله: ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول: من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب وقال أبو حنيفة رحمه الله: لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما افتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.

وقال الصيمري والخطيب: قل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره وإذا كان كارهاً لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعرفة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: لا تسأل الأمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. معنى الفتوى اللغوي قال الراغب: الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام ويقال استفتيت فأفتاني بكذا قال: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن فاستفتهم افتوني في رؤياي. وفي (النهاية): يقال أفتاه في المسألة بفتيه إذا أجابه والاسم الفتوى، وفي الحديث: أن أربعة تفاتوا إليه عليه السلام: أي تحاكموا من الفتوى ومنه الحديث: الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك: أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً. وفي (المصباح): الفتوى بالواو بفتح الفاء وبالياء فتضم اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوي والجمع الفتاوي بكسر الواو على الأصل وقيل يجوز الفتح للتخفيف انتهى وعبارته تفيد أن الفتوى بالفتح لا غير خلافاً لما يقتضيه كلام القاموس من جواز الضم والفتح فقد نوقش فيه ولذا قال شارحه العلامة الفاسي: المصرح به في أمهات اللغة وأكثر مصنفات الصرف أن الفتيا بالياء لا تكون إلا مضمومة وأن الفتوى بالواو لا تكون إلا مفتوحة: وفي (أساس البلاغة): وفلان من أهل الفتوى والفتيا وتعالوا ففاتونا وتفاتوا إليه تحاكموا قال الطرماح: هلم إلى قضاة الغوث فاسأل ... برهطك والبيان لدى القضاة انخ بفناء أشدق من عدي ... ومن جرم وهم أهل التفاتي وقال عمر بن أبي ربيعة: فبت أفاتيها فلا هي ترعوي ... بجود ولا تبدي إباءً فتبخلا أي أسائلها: وراثة المفتي للمقام النبوي قال الإمام أبو اسحق الشاطبي المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم والدليل

على ذلك أمور (أحدها) النقل الشرعي في الحديث أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم: وفي الصحيح: بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أن لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم: وهو في معنى الميراث وبعث النبي صلى الله عليه وسلم نذيراً لقوله تعالى: إنما أنت نذير وقال في العلماء: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية وأشباه ذلك (والثاني) أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام لقوله: ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب: وقال بلغوا عني ولو آية وقال: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم: وإذا كان ذلك فهو معنى كونه قائماً مقام النبي (والثالث) أن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغاً والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع فإذا كان المجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب إتباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق بل القسم الذي هو مبلغ فيه لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام وكلا الأمرين راجع إليه فيها فقد قام مقام الشارع أيضاً في هذا المعنى وقد جاء في الحديث: أن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه: وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولي الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والأدلة على هذا المعنى كثيرة. بيان أن المفتي والعالم والمجتهد والفقيه ألفاظ مترادفة في الأصول قال الشهاب ابن قاسم العبادي في شرح قول إمام الحرمين في الورقات: وصفة المفتي الخ: والمجتهد والمفتي واحد، وقال في شرح قوله: وليس للعالم أن يقلد أي المجتهد المطلق فإنه المراد من العالم كالمفتي حيث أطلق في الأصول. وقال أيضاً في شرح قول المحلي: والمفتي هو المجتهد: يحتمل إرادة اتحادهما مفهوماً وإرادة اتحادهما ما صدقا ولعل الثاني أقرب انتهى.

وقال السبكي: في جمع الجوامع والمجتهد الفقيه: قال المحلي: كما قال فيما تقدم نقله عنه في أوائل الكتاب: والفقيه المجتهد لأن كلاً منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر، قال العطار أي فهو ليس من قبيل التعريف وإنما هو من قبيل بيان الما صدق فتساوى الأفراد واختلف المفهوم. وفي فتح القدير لابن الهمام: قد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له فيه سند إليه أو يأخذه عن كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور. ما اشترطه الأصوليون في المفتي قال الإمام الصيرفي: موضوع هذا الاسم يعني المفتي لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضح لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه أفتى فيما استفتي. وقال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل. وقال الإمام الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال والدليل على هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ومقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه السلام التبتل وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: افتان أنت يا معاذ: وقال: إن منكم منفرين، وقال: عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقال أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا وأيضاً فإن

الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة. فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطاً وهذا غلط والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي بناءً منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب المعنى المقصود في الشريعة فإن أتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وإن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وإن الشريعة حمل على التوسط لأعلى مطلق التخفيف - والإلزام ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه انتهى. وقال الإمام أبو اسحق الشيرازي في اللمع في باب صفة المفتي والمستفتي، وينبغي أن يكون المفتي عارفاً بطرق الأحكام وهي الكتاب والذي يجب أن يعرف من ذلك ما يتعلق بذكر الأحكام والحلال والحرام دون ما فيه من القصص والأمثال والمواعظ والأخبار ويحيط بالسنن المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام ويعرف الطرق التي يعرف بها ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة من أحكام الخطاب وموارد الكلام ومصادره من الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمجمل والمفصل والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم ويعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما ويعرف أحكام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تقتضيه ويعرف الناسخ من ذلك والمنسوخ وأحكام النسخ وما يتعلق به ويعرف أجماع

السلف وخلافهم ويعرف ما يعتد به من ذلك وما لا يعتد به ويعرف القياس والاجتهاد والأصول التي يجوز تعليلها وما لا يجوز والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز وكيفية انتزاع العلل ويعرف ترتيب الأدلة بعضها على بعض وتقديم الأولى منها ووجوه الترجيح ويجب أن يكون ثقة مأمونا لا يتساهل في أمر الدين انتهى. وقال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهوراً بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة (ثم قال): شرط المفتي كونه ثقة مأموناً منزهاً عن الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح النظر والاستنباط متيقظاً سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر ولأن المفتي في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي. (قال): وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً معانداً فترد فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه إذا وقت انتهى. فتوى الفاسق والمستور وأهل الأهواء والخوارج قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: نقل الخطيب البغدادي أجماع المسلمين على أن الفاسق لا تصح فتواه (لغيره) وأنه يجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه. وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً ففيه وجهان أصحهما جواز فتواه لأن العدالة الباطنة يعتبر معرفتها على غير القضاة والثاني لا تجوز كالشهادة. قال الصميري: وتصح فتوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه. بحث الفتوى للقاضي قال الإمام النووي: والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة هذا هو الصحيح وقيل له الفتوى في العبادات وما لا يتعلق بالقضاء وفي القضاء وجهان لأصحابنا أحدهما الجواز لأنه أهل والثاني لا لأنه موضع تهمة وقال ابن المنذر تكره الفتوى في مسائل الأحكام وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي. تقسيم المتأخرين المفتي إلى مستقل وغير مستقل

قال الإمام النووي قال أبو عمرو - ابن الصلاح - المفتون قسمان مستقل وغيره فالمستقل شرطه مع ما ذكرناه أن يكون فقيهاً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصلت في كتب الفقه فيسرت وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الأحكام منها وهذا مستفاد من أصول الفقه، وعارفاً من علوم القرآن والحديث والناسخ والمنسوخ والنحو واللغة والصرف واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية وهو المجتهد المطلق المستقل لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد. قال أبو عمرو: وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورات لكونه ليس شرطاً لمنصب الاجتهاد لأن الفقه ثمرته فيتأخر عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه وشرطه الأستاذ أبو اسحق الاسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما واشتراطه في المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل. ثم لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه كونه حافظاً لمعظمها متمكناً من إدراك الباقي على قرب. وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية حكى أبو اسحق وأبو منصور فيه خلافاً لأصحابنا والأصح اشتراطه. ثم إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفت مطلق في جميع أبواب الشرع وأما مفت في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان (بفتح الباء) وغيرهما ومنهم من منعه مطلقاً وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة والأصح جوازه مطلقاً. (القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقل) ومن دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة. وللمفتي المنتسب حالات إحداها أن لا يكون مقلداً لأمامه لا في المذهب ولا في دليله

لاتصافه بصفة المستقل وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد وادعى أبو اسحق هذه الصفة لأصحابنا وحكي عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليداً لهم. والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه وطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي قال النووي قلت هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله: مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره. ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف. الحالة الثانية أن يكون مجتهداً مقلداً في مذهب إمامه مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدائه أصول إمامة وقواعده وشرطه كونه عالماً بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلاً - بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني - تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله إلى أن قال النووي ثم ظاهر كلام الأصحاب أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية. ثم قد يستقل المقلد في مسألة أو باب خاص كما تقدم وله أن يفتي فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله وهو الذي عليه العمل وإليه يفزع المفتون من مدد طويلة ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي قال الشيخ أبو عمرو: ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو اسحق الشيرازي وغيره أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي رحمه الله والأصح أنه لا ينسب إليه. ثم ذكر النووي بقية حالات المفتي المنتسب أضربنا عنها لقلة جدواها ولأنها فرعت لزمن غير هذا الزمن. وقال العلامة الفناري في فصول البدائع في مسائل الفتاوي: يجوز الإفتاء للمجتهد اتفاقاً ولحاكي قول مجتهد حي سمعه منه مشافهة لأن علياً رضي الله عنه أخذ بقول المقداد عن

النبي عليه السلام في المذي ولذا يجوز للمرأة أن تعمل في حيضها بنقل زوجها عن المفتي. أما - الإفتاء - لحاكي قول ميت فمنعه الأكثرون إذ لا قول للميت لانعقاد الإجماع مع خلافه وإنما صنفت كتب الفقه لاستفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم ومعرفة المتفق عليه والمختلف فيه قال في المحصول: والأصح عند المتأخرين جوازه لوجهين الأول انعقاد الإجماع على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى وله معنيان 1 أن أحكام الشريعة المحمدية باقية إلى آخر الزمان لكونه خاتم النبيين وكل من المجتهدين يثبت الحكم على أنه كذلك فهم وإن اختلفوا في تعيين الحكم مجمعون ضمناً على بقائه وجواز تقليد من بعدهم 2 أن المجتهدين السابقين المختلفين أجمعوا صريحاً على أن من بعدهم إذا اضطروا إلى تقليد الميت لعدم الاجتهاد جاز لهم ذلك الثاني إذا كان المجتهد الميت ثقة عالماً والحاكي عنه ثقة فاهماً معنى كلامه حصل عند العامي ظن أن حكم الله تعالى ما حكاه والظن حجة حتى لو رجع إلى كتاب موثوق به جاز أيضاً كذا في التحصيل. قال في فتاوى العصر في أصول الفقه لأبي بكر الرازي رحمه الله فأما ما يوجد من كلام رجل ومذهبه في كتاب معروف به قد تداولته النسخ يجوز لمن نظر فيه أن يقول قال فلان كذا وإن لم يسمعه من أحد نحو كتب محمد بن الحسن وموطأ مالك لأن وجودها على هذا الوصف بمنزلة خبر المتواتر ولاستفاضة لا يحتاج مثله إلى إسناد. وتوفية الكلام فيه أن لغير المجتهد أن يفتي بمذهب مجتهد أن كان أهلاً للنظر والاستنباط مطلعاً على المآخذ في أقوال إمامه أي مجتهداً في ذلك المذهب ومعنى الإفتاء الاستنباط بمقتضى قواعده لا الحكاية وقيل يجوز مطلقاً ومعنى الإفتاء أعم من الاستنباط والحكاية وهو المنقول عن المحصول آنفاً وقال أبو الحسين لا يجوز مطلقاً لنا تكرر إفتاء العلماء غير المجتهدين في جميع الأعصار من غير إنكار للمجوز أنه ناقل فلا فرق فيه بين العالم وغيره كالأحاديث قلنا جواز النقل متفق عليه والنزاع فيما هو المعتاد من تخريجه على أنه مذهب أبي حنيفة أو الشافعي رحمه الله كذا في المختصر والمفهوم من غيره أن في الحاكي عن الميت خلافاً للمانع لو جاز لجاز للعامي لأنهما في النقل سواء قلنا الدليل هو الإجماع وقد يجوز للعائدون العامي والفارق علم المأخذ وأهلية النظر.

ثم عن أصحابنا في ذلك روايات ذكر في التجنيس سئل محمد بن الحسن رحمه الله: متى كان للرجل أن يفتي: قال إذا كان صوابه أكثر من خطاءه وقال ظهير الدين التمرتاشي رحمه الله: لا يجوز للمفتي أن يفتي حتى يعلم من أين قلنا فقلنا هل يحتاج إلى هذا في زماننا أم يكفيه الحفظ قال يكفي الحفظ نقلاً عن الكتب المنقحة وقال نجم الأئمة البخاري رحمه الله: الحفظ لا يكفي ولا بد من ذلك الشرط. وفي عيون الفتاوى: قال عصام بن يوسف رحمه الله، كنت في مأتم قد اجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر وأبو يوسف وعافية وقاسم بن معن فأجمعوا على أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا كلام الفناري. حكم المقلد يفتي بما هو مقلد فيه قال النووي: فإن قيل هل لمقلدان يفتي بما هو مقلد فيه قلنا قطع أبو عبد الله الحليمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الروياني وغيرهم بتحريمه وقال القفال المروزي يجوز: قال أبو عمرو: قول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه. بل يضيفه إلى أمامه الذي قلده قال فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا بمفتين حقيقة لكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلاً من مذهب الشافعي كذا ونحو هذا ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح ولا بأس بذلك. وذكر صاحب الحاوي في الكافي: إذا عرف حكم حادثة بني على دليلها ثلاثة أوجه أحدها يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده لأنه وصل إلى علمه كوصول العالم والثاني يجوز أن كان دليلها كتاباً أو سنة ولا يجوز أن كان غيرهما والثالث لا يجوز مطلقاً وهو الأصح هذا ما قاله أئمة الشافعية وتقدم وتقدم عن الفناري ما للحنفية. أحكام المفتين الأول قال النووي: الإفتاء فرض كفاية فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب في حقهما فرض كفاية وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما لا يتعين والثاني يتعين وهما كالوجهين في مثله في الشهادة ولو سأل عامي عما لم

يجب - لم يجب جوابه. الثاني إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن أعلم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع فعن الاستاذ أبي اسحق أنه يضمن أن كان أهلاً للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلاً لأن المستفتي قصر كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه وهو مشكل وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروفين في باب الغصب والنكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضمان إذ ليس في الفتيا إلزام ولا إلجاء. (الثالث) يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل أن لا يتثبت ويشرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنها فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة طلباً للترخص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ليخلص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل عليه يحمل ما جاء عن السلف من نحو هذا كقول سفيان (إنما العلم الرخصة من ثقة) وأما التشديد فيحسنه كل أحد ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها الحيلة في سد باب الطلاق. (الرابع) ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وشغل قلبه بما يمنعه التأمل كغضب وجوع وحزن وفرح غالب ونعاس أو ملل أو حر مزعج أو مرض مؤلم أو مدافعة حدث وكل حال شغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطراً فيها.

(الخامس) المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال إلا أن يتعين عليه وله كفاية فيحرم على الصحيح. ثم إن كان له رزق لم يجز أخذ أجرة وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم. واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفتيك قولاً وأما كتابة الخط فلا فإن استأجره على كتابة الخط جاز. قال الصيمري: لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز. (وأما الهدبة) فقال أبو المظفر السمعاني له قبولها بخلاف الحاكم فإنه يلزمهم حكمه قال أبو عمرو: ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض. قال الخطيب: وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من بيت المال ثم روى إسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة. (السادس) لا يجوز أن يفتي في الإيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو منزلاً منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها انتهى كلام النووي، وهكذا نقل ابن فرحون في التبصرة عن القرافي أنه ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي فيه المفتي أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف في ذلك اللفظ اللغوي أم لا وإن كان اللفظ عرفياً فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا وهذا أمر متيقن واجب لا يختلف فيه العلماء وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليسا سواءً أن حكمهما ليس سواءً إنما اختلف العلماء في العرف واللغة هل يقدم العرف على اللغة أم لا والصحيح تقديمه لأنه ناسخ والناسخ مقدم على المنسوخ إجماعاً فكذا هنا انتهى. (السابع)

لا يجوز لمن كان فتواه نقلاً لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته وبأنه مذهب ذلك الإمام فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم يلق هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منه متفقة. (قال النووي) قلت: لا يجوز لمفت إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف أو مصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والتخريج. (الثامن) إذا أفتى في حادثة ثم حدث مثلها فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع أن كان مستقلاً أو إلى مذهبه منتسباً أفتى بذلك بلا نظر وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه فقيل له أن يفتي بذلك والأصح وجوب تجديد النظر ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة وكذا تجديد الطلب في التميم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان. قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة: وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فيلزمه السؤال ثانية - يعني على الأصح - إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفي السؤال الأول. (التاسع) ينبغي أن لا يقتصر على قوله في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان أو ترجع إلى رأي القاضي أو نحو ذلك وهذا ليس بجواب ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الفتيا كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون عن الإفتاء. هذا ما نقله النووي في شرح المهذب. آداب الفتوى (الأول) قال النووي: يلزم المفتي أن يبين الجواب بياناً يزيل الإشكال ثم له الاقتصار على الجواب شفاها فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد لأنه خبر وله الجواب كتابة وإن كانت الكتابة على خطر وكان القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرقاع.

قال الصيمري: وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي فإما بإملائه وتهذيبه فواقع وكان الشيخ أبو اسحق الشيرازي يكتب السؤال على ورق له ثم يكتب الجواب. وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ولو ترك الترتيب فلا بأس. وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ ثم له أن يستفصل السائل أن حضر ويكتب السؤال في رقعة أخرى ثم يجيب وهذا أولى واسلم وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ثم يقول هذا إذا كان الأمر كذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره وقالوا: هذا تعليم للناس الفجور وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل الأقسام واجتهد في بيانها واستيعابها. (الثاني) ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له بل يكتب جواب ما في الرقعة فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل إن كان الأمر كذا وكذا فجوابه كذا واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة بما له تعلق بها مما يحتاج إليه السائل لحديث: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. (الثالث) إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه فإن ثوابه جزيل. (الرابع) ليتأمل الرقعة تأملاً شافياً وآخرها آكد فإن السؤال في آخرها وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها. قال الصيمري: وقال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده وكان محمد بن الحسن يفعله. وإذا وجد كلمة مشبهة سأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها وكذا أن وجد لحناً فاحشاً أو خطأ يحيل المعنى أصلحه وإن رأى بياضاً في أثناء السطر أو آخره خط عليه أو شغله لأنه

ربما قصد المفتي بالإيذاء فكتب في البياض ما يفسدها كما يلي به القاضي أبو حامد المرزوي. الخامس يستحب أن يقرأها على حاضر به ممن هو أهل لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في إشاعته مفسدة. (السادس) ليكتب الجواب بخط واضح وسط لا دقيق خاف ولا غليظ جاف ويتوسط في سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة يفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة واستحب بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه خوفاً من التزوير ولئلا يشتبه خطه. قال الصيمري: وقل ما وجد التزوير عن المفتي لأن الله تعالى حرس أمر الدين وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه خوفاً من اختلال وقع فيه وإخلال ببعض المسئول عنه. (السابع) إذا كان هو المبتدئ فالعادة قديماً وحديثاً أن يكتب في الناحية اليسرى من الورقة قال الصيمري وغيره: وإن كتب من وسط الرقعة أو من حاشيتها فلا عيب عليه ولا يكتب فوق البسملة بحال وأن يدعو إذا أراد الإفتاء وجاء عن مكحول ومالك رحمهما الله الاستعاذة من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل رب اشرح لي صدري الآية ونحو ذلك. قال الصيمري: وعادة كثيرين أن يبدؤوا فتاويهم: الجواب وبالله التوفيق، وحذف آخرون قال النووي المختار قول ذلك مطلقاً وأحسنه الابتداء بقوله الحمدلله لحديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه. قال الصيمري: ولا يدع ختم جوابه بقوله وبالله التوفيق أو والله أعلم أو والله الموفق (قال) ولا يقبح قوله: الجواب عندنا أو الذي عندنا أو الذي نقول به أو نذهب إليه أو نراه كذا لأنه من أهل ذلك (قال) وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الفتوى الحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به.

قال النووي: وإذا ختم الجواب بقوله والله أعلم ونحوه مما سبق فليكتب بعده: كتبه فلان أو فلان بن فلان الفلاني فينسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلدة أو صفة فإن كان مشهوراً بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه. قال الصيمري وينبغي إذا تعلقت الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول: وعلى ولي الأمر والسلطان أصلحه الله أو سدده أو قوى الله عزمه وأصلح به أو شد الله أزره ولا يقال أطال الله بقاءه فليست من ألفاظ السلف. (قال النووي): نقل أبو جعفر النحاس وغيره اتفاق العلماء على كراهة قول أطال الله بقاك وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه. (الثامن) ليختصر جوابه ويكون بحيث يفهمه العامة قال صاحب الحاوي: يقول يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتي في مسألة آخرها يجوز أم لا فكتب لا وبالله التوفيق انتهى. قلت استحباب الاختصار ليس على إطلاقه بل هو في أمر جلى لا حاجة إلى الإطناب فيه أو في جواب لعامي وهو ما تغلب فيه الفتاوي وإما الفتاوي في المسائل المهمة فلا يستكثر فيها مجلد إلا أن البحث هنا ليس في أمثالها. (التاسع) قال الصيمري والخطيب: إذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله أو الصلاة لعب وشبه ذلك: فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم أو عليه القتل بل يقول إن صح هذا بإقراراه أو بالبينة استنابه السلطان فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه. (قال) وإن تكلم بشيء يحتمل وجوهاً يكفر ببعضها دون بعض قال يسأل هذا القائل فإن قال: أردت كذا فالجواب كذا. (العاشر) ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفاً من الحيلة ولهذا قالوا

يصل جوابه بآخر سطر ولا يدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئاً يفسدها وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق. (الحادي عشر) إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب. وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما هو عليه. وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال: بأي شيء يندفع كذا وكذا لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع. (قال الصيمري): وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقاً يرشده إليه أو ينبهه عليه: يعني ما لم يضر غيره ضرراً بغير حق (قال) كمن حلف لا ينفق على زوجته شهراً يقول تعطيها من صداقها أو قرضاً أو بيعاً ثم تبرئها وكما حكي أن رجلاً قال لأبي حنيفة رحمه الله: حلفت أني أطأ امرأتي في شهر رمضان ولا أكفر ولا أعصي: فقال: سافر بها. (الثاني عشر) قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجراً له ولا مثاله ممن قل دينه ومروءته. (الثالث عشر) يجب على المفتي عند اجتماع الوقائع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا أو جهل السابق قدم بالقرعة والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضرر كثير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة. قال الصيمري وأبو عمرو: إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من موانع الميراث بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا

أطلق الأخوة والأخوات والأعمام فلا بد أن يقول في الأخوات من أب وأم أو من أب أو من أم. وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال: وسقط فلان وإن كان سقوطه في حال دون حال قال وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال. قال الصيمري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا. (الخامس عشر) إذا رأى المفتي في رقعة الاستفتاء خط غيره ممن هو أهل للفتوى وخطه فيها صحيح موافق لما عنده قال الخطيب وغيره: كتب تحت خطه هذا جواب صحيح وبه أقول أو يكتب جوابي مثل هذا وإن شاء ذكر الحكم بعبارة الخص من عبارة الذي كتب وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهلاً للفتوى فقال الصيمري: لا يفتي معه لأن في ذلك تقرير المنكر بل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرقعة وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنه كان واجباً عليه البحث عن أهل الفتوى وطلب من هو أهل لذلك (قال) والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بأبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها (قال أبو عمرو): إذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم الأهلية ولم تكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه فإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا ضاراً بالمستفتي فليفت فإن ذلك أهون الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله. أما إذا وجد فتيا من أهل وهي خطأ مطلقاً لمخالفتها القاطع أو خطأ على مذهب من يفتي ذلك المفتي على مذهبه قطعاً فلا يجوز له الامتناع من الفتيا تاركاً للتنبيه على خطاءها إذا لم يلق ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره والإبدال أو تقطيع الرقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطاء ثم إن كان المخطئ أهلاً للفتيا فحسن أن يعاد إليه بإذن صاحبها أما إذا وجد فيها فتيا أهل الفتوى وهي على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطاءها فليقتصر على جواب نفسه

ولا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض قال صاحب الحاوي: لا يسوغ لمفت إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة. (السادس عشر) إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلاً ولم يحضر صاحب الواقعة قال الصيمري كتب: يزاد في الشرح لنجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب (قال) وقال بعضهم لا يكتب شيئاً أصلاً (قال) ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاها. قال الخطيب: ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفت آخر أن كان وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب. قال الصيمري: وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كله ولم يرد الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة أجاب عما أراد وسكت عن الباقي. (السابع عشر) ليس ينكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحاً قال الصيمري: لا يذكر الحجة أن أفتى عامياً ويذكرها أن أفتى فقيهاً (قال) ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجه القياس والاستدلال إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوح بالنكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلط فيفعل ذلك أو ينبه على ما ذهب إليه. وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافاً أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة ويوجبه الحال. (الثامن عشر) قال الشيخ أبو عمرو: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتى بالتفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض كان الجواب تفصيلاً وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذكر إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن

الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك. جمال الدين القاسمي.

في أرض الجليل

في أرض الجليل تتمة ما ورد في الجزء الأول جبلان في هذا الصقع يقدسهما المسيحيون لما لهما من الشأن في تاريخ الدين وهما من أجمل الجبال يبعثان النفوس إلى عبادة الخالق تعالى وتوحيده ونعني بهما جبل الطور وجبل الكرمل، فالأول على مقربة من الناصرة قائم في الجو وسط سهل يزرعيل يعلو عنه خمسمائة متر ويعلو عن سطح البحر 602 مترين وهو جميل المنظر ومحله عجيب في إنباته وروائه وتجد في منحدراته شجر السنديان والخروب والبطم والمصطكى وغير ذلك، وقد ذكر بعض سياح الافرنج الذين زاروا هذه الديار في القرن التاسع للميلاد أنه كان يصعد إلى قمة الجبل من سلم طوله 4340 درجة والطريق إلى القنة يدل على ذلك ومسطح القنة 1200 متر طولاً و 400 متر عرضاً وفي أحد سفوح الجبل آثار مدينة عبرانية قديمة تسمى الدبورة أو أبو عمود وكانت مطلة على الوادي الذي كان طريق الزوار والجيوش المصرية قديماً فموقعه من أحسن المواقع الحربية وفي سفح جبل تابور وفي سنة 53 م حدثت ملحمة كبرى بين اسكندر بن اريستوبول وأوليسوس كابينوس أحد قواد بومبينوس الامبراطور الروماني وبعد قرن عندما انتقض اليهود على الرومانيين أحدث يوسفوس قلعة على قمة الجبل وكذلك فعل المسلمون في القرن الثالث عشر للميلاد فأقاموا حصناً منيعاً تجد اليوم بعض آثاره وقد تقاسم الروم واللاتين لعهدنا سطح الجبل وجعلوه أدياراً. كان جبل الطور ذا شأن عظيم على عهد الصليبيين لإشرافه على بلاد الأردن، قال ياقوت: والطور جبل بعينه مطل على طبرية الأردن بينهما أربعة فراسخ على رأسه بيعة واسعة محكمة البناء موثقة الأرجاء يجتمع في كل عام بحضرتها سوق ثم بنى هنالك الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب قلعة حصينة وأنفق عليها الأموال الجمة وأحكمها غاية الإحكام فما كان في سنة 615 هـ وخرج الافرنج من وراء البحر طالبين للبيت المقدس أمر بخرابها حتى تركها كأمس الدابر. ويقول مؤرخو الصليبيين أن الذين خرجوا من وراء البحر من الافرنج طالبين للقدس سنة 1217 م كانوا اندراوس الثاني صاحب المجر وليوبولد دوق النمسا وغليوم كونت فلاندر

ولويس البافاري ويوحنا دي بريان ملك القدس وهوج دي لوزنيان صاحب قبرص جاؤوا في خمسة عشر ألفاً من رجالهم وحاولوا مرتين فتح قلعة الطور فارتدوا عنها خائبين فرأى الملك العادل قطعاً لأطماعهم وحرصاً على السلام أن يدك ذاك الحصن بعد خمس سنين من بنائه وفي سنة 1263 جاء الظاهر بيبرس البندقداري من مصر في جيش ضخم وعسكر في منحدر جبل الطور وخرب فيما قيل الأماكن الدينية التي كانت فيه وجعل عاليها سافلها وفي سنة 1631 نال قنصل دوقية طوسكانيا في صيدا من الأمير فخر الدين المعني رخصة تجيز لرهبنة الأخوات القاصرين أن يقيموا في جبل الطور ومنذ ذاك العهد أصبح هذا الجبيل معاهد للعبادة والنسك. هذه لمعة من تاريخ الطور ويقال له جبل التجلي كما يقال له جبل تابور، أما الكرمل فهو أيضاً من الحصون المهمة قال ياقوت: كرمل بالكسر ثم السكون وكسر الميم ولام هو حصن على الجبل المشرف على حيفا بسواحل بحر الشام وكان قديماً في الإسلام يعرف بمسجد سعد الدولة، ولذا يغلط الناس اليوم في فتحهم كاف الكرمل والصحيح كسرها وهذا الجبل أطول من الطور يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي على طول 34 كيلو متراً ويختلف عرضه من 5 إلى 8 كيلومترات ولا يبلغ علوه في الشمال الغربي أكثر من ثلثمائة متر على حين يبلغ في الوسط 540 متراً وهو مشرف عل البحر من جهة وعلى سهل يزرعيل الفسيح من جهة أخرى. ومعنى كرمل بالعبرانية الحديقة ورد ذكره في التوراة إشارة إلى الجمال والخصب وهو من أشهر جبال غربي الأردن يبتدئ من رأس قرب حيفا وينتهي بوادي الملح مقابل يتنعام طوله نحو 12 ميلاً وأعلى رؤوسه عند عسفيا نحو 1729 ويعرف هذا الجبل بجبل النبي الياس لأنه أقام فيه وكان الكرمل في كل عصر موطن التفكر والعزوف عن الدنيا وذلك في أيام الوثنية والنصرانية حتى أن الفيلسوف فيثاغورس اليوناني كثيراً ما كان يذهب للتدبر والتفكر في الكرمل المقدس وفي عهد دارا بن يستاسب ملك الفرس (521 - 485 ق. م) كان يعبد في الكرمل كوكب المشتري وقال بعض مؤرخي الرومان أن الكرمل نفسه كان يعبد فلم يكن فيه معبد ولا هيكل بل ليس فيه إلا مذبح وعباد يتعبدون وكان في النصرانية معبداً لرجالها حتى نشأت في القرون الوسطى فيه رهبنة الكرمليين المشهورة في المشرق

والمغرب وهو اليوم مقسم بين أهل المذاهب المختلفة من المسيحيين أقاموا فيه الأديار وغرسوه بأنواع الأشجار واستقلوا به حتى لا يطرقه طارق ألا بجعل أو إذن وهو مطل على حيفا وعكا ناظر إلى بلاد الجليل ولا سيما سهل يزرعيل أو مرج ابن عامر المعروف في التوراة ببقعة مجدو وبقعة مجدون ووادي يزرعيل وهو مرج واسع واقع بين جبال الجليل وجبال السامرة طوله من الشرق إلى الغرب 24 ميلاً وعرضه من ميلين إلى 12 ميلاً وهو مثلث الشكل وقاعدة هذا المثلث ضلعه الشرقي وهو خط يمتد من جبل جلبوع والدحي وتابور إلى جبال الجليل أو الناصرة ومن هذه القاعدة يتفرع ثلاثة فروع نحو الشرق فرع بين جلبوع والدحي وفرع بين الدحي وتابور وهو الأخصب والأشهر وفرع بين تابور وجبال الناصرة وعند هذه القاعدة ترتفع الأرض فيتحول مجرى الماء إلى الشرق والغرب ويشق هذا السهل من الشرق إلى الغرب نهر قيشون المسمى الآن المقطع ومع كل ما هو عليه من الإهمال الآن لا يزال هذا السهل في غاية الخصب وكان أعظم ساحة حرب في هذه البلاد. نعم إن العناية بهذا السهل قليلة لأن أصحابه أغنياء كانوا ابتاعوه فيما بلغنا بحيلة ورشوة وذلك أن قراه كانت لا ناس من الفلاحين ضعاف أرادت الحكومة منذ نحو أربعين سنة أن تسجل قراهم للتقاضى منها ضرائب وكان الفلاح يرتعش من سماع الضرائب ويخاف أن يعرف بأنه مالك أرض فأبوا أن يسجلوها بأسمائهم تفادياً من الظلم الذي كان ينال الفلاح يومئذ فازمع والي سورية إذ ذاك أن يبيع تلك القرى أو سهل يزرعيل برمته باعتباره من الأراضي الأميرية المحلولة فما كان من أولئك الأغنياء إلا أن احتالوا لتباع كلها صفقة واحدة وهي ثماني عشرة قرية لا يقطعها الفارس في أقل من ثماني ساعات وذلك حتى لا يتيسر لأحد الأهالي أن يشتريها فرشوا الوالي فيما قبل بثلاثة آلاف ليرة وابتاعوها بأقل من خمسة عشر ألف ليرة وجلسوا يلعبون بالميسر مع الوالي في دارهم ولم يمض الهزيعان الأولان من الليل إلا وقد خرج الوالي كما دخل صفر اليدين من المال الذي ناله من طريق الرشوة فأضر بالأمة والدولة معاً لأن أولئك الأغنياء خسروه في القمار ليلاً ما كان ناله منهم رشوة في النهار، وهكذا حرم أصحاب هذه القرى الحقيقيون منها بجهلهم وسوء إدارة الحكومة إذ ذاك وتشتتوا في البلاد وبعضهم استخدموا إجراء في قرى الأغنياء وكانوا من

قبل في نعمة ولكن من يأخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليمها فإن أولئك المالكين زهدوا فيما ملكوا لأنهم بعيدون عنها والأرض لمن يقوم على تعهدها فهو هو مالكها الحقيقي لا من يكتفي من ريعها بما حصل، فأباع بعض أولاد أولئك الأغنياء ما ورثوه من آبائهم وأكثرها انتقلت إلى أيدي الجمعية الصهيونية ويوشك أن يباع ما بقي ولكن بمئات الألوف من الليرات لارتقاء الأسعار ولأن الصهيونيين آلوا على أنفسهم أن يملكوا فلسطين وأرض الميعاد، ويبذلوا فيها مهما كلفتهم. ولا بأس هنا من الإشارة إلى الجمعيات الاسرائيلية وما ترمي إليه من المقاصد فهي عدة جمعيات منها جمعية أحباء فلسطين وهي منتشرة في عامة الأطراف ومنها تتفرع جمعية معاونة فلاحي اليهود وصناعهم في فلسطين وسورية وهذه الجمعية روسية ولهاتين الجمعيتين فروع كثيرة في القدس ويافا وأعمالها وحيفا وأعمالها وصفد وبلاد بشارة وحوران وعبر الأردن ويقدر الخبيرون عدد أفرادها بمئة وخمسين ألف نسمة يزيد عددهم كثيراً بما ينضم إليهم كل شهر من إخوانهم الأوروبيين الذين يرحلون بدينهم من أوروبا إلى الأرض المقدسة، وعدا هاتين الجمعيتين فإن للإسرائيليين أناساً من مشهوري أغنيائهم مثل روتشيلد وبركم وفليرو وفتيفيوري وغيرهم ممن ابتاعوا الأراضي لابناء نحلتهم وأمدوهم بالمال ليتوفروا على استثمارها على نحو ما تشاهد في زمارين مما يدل بلسان حاله أن الصهيونيين سيعيدون مجد آبائهم في فلسطين ويستولون عليها وهاك ما يقوله العارفون بهذه المسألة التي يهتم لها كل من يعرف تاريخ السياسة ويغار على مصلحة البلاد فقد قال أحدهم أن آمال اليهود في استرداد فلسطين بلاد آبائهم وأجدادهم وإعادة مجدهم وملكهم إليها قديم يعود إلى عهد الرومان وتؤيده حروبهم العديدة مع المملكة الرومانية وفي كل واقعة منها في حروب اليهود ليوسيفوس آيات بينات على ذلك ولكن هذه الآمال غاضت بعد أن شتتهم في الأرض أدريانوس في القرن الثاني بعد المسيح وفرق جامعتهم وأبعدهم عن صهيون أو أورشليم أو القدس عاصمة مملكتهم القديمة ومدينة هيكلهم العظيم ولكنها ما لبثت أن ظهرت في صورة التمني في عهد قسطنطين الذي أذن لهم بالدنو مرة في السنة من أسوار بيت المقدس ليندبوا مجدهم الزائل وما زالوا إلى يومنا هذا يدنون من حائط الحرم الشريف الخارجي المسمى بالبراق ويتذكرون مجد ملوكهم وعظمة هيكلهم ومدينتهم

ويطلبون من الله أن يعيد ما خسروه. ولكن رجال النهضة منهم لم يقفوا عند حد التمني فألف الدكتور هارتشل الجمعية الصهيونية التي جعلت همها الوحيد جمع المال وتوحيد كلمة اليهود على اختلاف لغاتهم وبلدانهم وجمعهم في بلد واحد أمين يحصنونه أعظم تحصين بحيث لا يستطيع أحد مهاجمتهم وفاوض الدكتور المذكور حكومة عبد الحميد في ذلك ولم ينجح فعهدت الجمعية الصهيونية إلى الايكا بالاستعمار التدريجي كما عهد إلى جمعية الاتحاد الاسرائيلي (اليانس اسرائيليت) بالتهذيب والتعليم وبقيت تعمل على جمع المال وتوحيد كلمة اليهود وإقناع رجال الحكومة الدستورية بحسن مقاصدها. نعم إن الجمعية الصهيونية اليهودية ورفيقاتها جمعيات ايكا وفاعوليم واليانس وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من ارميا من الكتاب المقدس الباحث عن أسر بابل لليهود والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره: يشترون الحقول بفضة ويكتبون ذلك في صكوك ويختمون ويشهدون شهوداً في أرض بنيامين وحوالي أورشليم وفي مدن يهودا ومدن الجبل ومدن السهل مدن الجنوب لاني أرد سبيهم يقول الرب وذلك بعد ما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء من بعد ذلك لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر وحكومة الرومان في أنطاكية ثم انقرضوا ولم يبق لهم ملك ولا دولة والآن عملاً بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة ويشرطون البيع على أن يكون الثمن فضة ويكتبون الصكوك ويشهدون وهكذا تراهم لا يفتررن طرفة عين وهم يتجسسون الأخبار عن الذين تأخرت حالتهم المالية من أهل هذه البلاد وهي عبارة عن لواء عكاء بأجمعه ولواء القدس ولواء نابلس وقسم من لواء الكرك وبعض من قضاء عجلون ويطمعون البائع بالثمن الفاحش ويكتبون الصكوك ويشهدون عليها ويسجلونها عند محرر المقاولات وعند بعض القنصليات وكانت الحكومة قبلاً منعت استعمارهم ولكن بما بذلوه من الدنانير التي تسحر الباب الخائنين من الحكام والمستخدمين استطاعوا أن يستولوا على ثلاثة أرباع قضاء طبرية ونصف قضاء صفد وأكثر من نصف قضاء يافا والقدس والقسم المهم من نفس حيفا

وبعض قراها واليوم يسعون للدخول إلى قضاء الناصرة ليستولوا على سهل شارون ويزرعيل المذكور بالتوراة والمعروف اليوم بمرج بني عامر الذي يشقه الخط الحجازي من الغرب إلى الشرق وكل ذلك بأسماء العثمانيين وبدلالة سماسرتهم الخائنين الذين يعدون أنفسهم من سراة القوم وأمجاد البلاد وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئاً ولهم بنك أنغلو فلسطين بقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المائة في السنة وقد جعلوا كل قرية إدارة فيها مدرسة وكل قضاء مديرية ولكل جهة مدير عام ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها صهيون لأنه جاء في التوراة أن أورشليم ابنة صهيون ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم ويترنمون بالنشيد الصهيوني وقد احتالوا على الحكومة فقيدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذباً وبهتاناً وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدعون الحماية الأجنبية ويحلون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير ولا يراجعون الحكومة ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة وفيها كثير من المارتين ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدأوا بتأسيس مقاصدهم السياسية وتأليف حكومتهم الخيالية فإذا لم تضع الحكومة حداً لهذا السيل الجارف لا يمضي على فلسطين زمن إلا وتراها أصبحت ملكاً للجمعية الصهيونية ورفيقاتها أو شعبها المذكورة. إليك بعض ما يقال في الاستعمار الصهيوني وعواقبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهو مضر باتفاق العقلاء المجردة نفوسهم عن الأغراض وهناك استعمار آخر في فلسطين والجليل وهو أقل منه خطراً ونعني به قدوم الجالية من الأوروبيين ليتخذوا هذه البلاد موطناً لهم على أن لا ينسوا مساقط رؤوسهم ويظلوا من تبعة دولهم كالألمان في يافا وحيفا مثلاً. فقد أتت عشرات من الأسرات الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونزلت في ذيلك البلدين فارة بدينها من ألمانيا إلى هذه الأرض المقدسة وهي من طائفة حرة اسمها شيعة الهيكليين أو أحباب أورشليم أنشئت سنة 1862 في إمارة ورتمبرغ في ألمانيا عقيب

الحركة الدينية التي أحدثها هوفمان الذي ذهب إلى أن الرأي الحالي في دين النصرانية لا يكون سبيلاً إلى أن يحيا المتدينون بها حياة مسيحية حقيقية فأخذ أشياعه على أنفسهم أن يقيموا ملكوت الله في الأرض بأن يبدؤوا بذلك من أرض الوعد ومنها ينبثون في أوروبا ليجددوا حياة الكنيسة والمجتمع وهم يفسرون نبوات العهد القديم تفسيراً حسناً فشرعوا سنة 1868 بإنشاء مستعمرة في حيفا وفي الوقت نفسه أنشأوا مستعمرة لهم في يافا ولهذه الطائفة الآن أربع مستعمرات يناهز سكانها 1300 وقد ساعدت على استعمار البلاد وفتحت للألمان باب التدخل في شؤوننا أحياناً. ولو عقل من يساكنون هؤلاء الألمان من أهل حيفا ويافا لقلدوهم في نشاطهم وتنظيم بيوتهم وحدائقهم، زر حي الألمان أو مستعمرتهم في الشمال الغربي من حيفا وألق عليها نظر المتدبر تجدهم لا يزيدون عن سبعمائة نسمة ولهم مدرستان ومعبدان، سرح رائد الطرف في تلك الطرق المعبدة المنسقة والبيوت القائمة على نظام واحد تحيط بها الحدائق الصغرى الغاصة بكل غض ويانع المستوفية شروط المرافق والمنافع وتعال معي بعدها ننظر إلى ما في جوارها من بيوت الوطنيين وأحيائهم فماذا تجد؟ تجدها بؤرة الأوساخ ومثال الخلل ونموذج الاتكال وراموز الجمود والخمود، طف واعتبر بيناتهم العاملات وبناتنا الخاملات ثم أنصفنا وأنصفهم منا، هل نرى رجالنا في اقتدارهم على مستوى بناتهم في تربيتهن ونشاطهن، أما التنظير بين رجالنا ورجالهم فهذا لا يقول به حتى أضيق الناس عقلاً. شرذمة من المطرودين من بلادهم نزلوا بلادنا فقراء معدمين لا يملكون غير مضائهم وبعض حرف يحسنونها فساعدهم بعض موسريهم على ابتياع عشرات من الأفدنة من أرض بلادنا فعمروها كما ترى على النسق الألماني ولم تمض بضع سنين حتى وفوا بنشاطهم ديونهم وأثروا ولا إثراء ابن البلاد الذي ورث مئات الأفدنة وأصبحوا يغبطون حتى من كبار أغنيائنا ونحن من أمرهم حائرون باهتون لا نعمل ولا نتحرك كأن الفتور قد كتب علينا والغرور مسجل في صحائف حياتنا وكأنهم خلقوا من طينة غير طينتنا وعقل يستحيل علينا أن نلحق شأوه. ولا ننس تلك الحديقة التي زرناها في المستعمرة الألمانية في حيفا وقد تجلى لنا فيها المضاء الغربي في أجلى مظاهره حتى لظننتنا في حديقة من حدائق فرنسا أو ألمانيا،

حديقة لا تبلغ مساحتها فداناً دمشقياً وفيها معظم ما يجود في الأرض الحارة من صنوف البقول والأشجار جعلت مساكب وقسمت طرقاً وقد قيل لنا أن دخل صاحبها منها لا يقل عن خمسين ألف قرش في السنة فلم يسعنا إلا أن نقول سبحان الله السر في السكان لا في المكان، نعم السر في السكان ولا عجب إذا رأينا الألمان في مقدمة دول الأرض بعلومهم وصناعتهم وإحصائهم في الفنون وعندهم مثل هذا الشعب النشيط الذي يعلم بعمله أهل النشاط من الأمم دروساً سامية فما بالك به مع الخاملين. وعلى ذكر حيفا لا بأس بإيراد نبذة موجزة من تاريخها لنسلسله إلى حالتها اليوم فنقول: كانت حيفا قديماً تسمى قلمون وليس لها ذكر في التوراة وتاريخها القديم غامض لا شأن له، ولقد كان الساحل من نصيب قبيلة عازر ولما وصل الاسرائيليون إلى هذه البلاد لم يستطيعوا أن يستولوا على مدينة من المدن الساحلية ومن جملة الملوك الذين غلبهم جوزوي في شمالي فلسطين كان الملك جوشانان ملك الكرمل والكرمل كانت كما يقول المؤرخ بلين على الجبل المسمى باسمها وكان اسمها قديماً اكباتان وكان في جوار حيفا أو قلمون مدينة اسمها سيكامينوس أي مدينة الصبار لكثرة هذا الشجر في أرضها فكانت قلمون وسيكامينوس مدينتين متنافستين تعمر الأولى وتخرب الثانية وهكذا كانت المنافسة بينهما سجالاً إلى القرون الوسطى وقد زالت سيكامينوس من لوح الوجود أبد الدهر، فتاريخ المدينتين كما قال برنابه ميسترمان ممزوج بعضه في الآخر، ولقد روى التاريخ أن بطليموس لا يثر حاكم جزيرة قبرص بعد أن طردته أمه كليوباترا من مصر جاء سنة 104 ق. م لنجدة عكا وكان يحاصرها إذ ذاك اسكندر جانى ملك يهودا فأنزل جنده وكان ثلاثين ألفاً في مدينة سيكامينوس وفي أوائل التاريخ المسيحي لم تكن سيكامينوس ذات شأن هي وسائر المدن المجاورة لها وكانت مدينة عكا على رأي سترابون أرقى تلك البلاد وتجيء بعدها قيسارية. وكثيراً ما يذكر اسم الكرمل وبعض المدن مثل سيكامينوبوليس وبوكولوبوليس وكروكوديبوبوليس وغيرها وذكر المؤرخ بلين أموراً كهذه، وقد ازدهرت مدينة سيكامينوس ومدينة قلمون في القرن السادس للميلاد. ومعنى حيفا بالعبرانية الرأس أو الأرض الداخلة في البحر لأنها أنشئت في جوار الكرمل

وهو لها معتصم وملجأ وحيفا القديمة كانت في مكان لا يبعد كثيراً عن حيفا الجديدة عرفت آثاره كما أن مدينة سيكامينوس تبين أنها على أربعة كيلومترات من حيفا القديمة وقد اكتشفت بعض آثارها وعادياتها وهي رومانية يونانية. ولقد كانت حيفا في الإسلام من جملة الحصون المشرفة على البحر الرومي لا سيما وأنها موازية لجزيرة قبرص ولم تزل في أيدي المسلمين إلى أن تغلب عليها كوفرى الذي ملك بيت المقدس سنة 494 وبقيت في أيديهم إلى أن فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 573 (1187) وكانت حيفا من نصيب الملك تنكرد الذي أصبح أميراً على بلاد الجليل من طبرية إلى حيفا ولما سقطت عكا في أيدي الافرنج سنة 1191 خرب صلاح الدين حيفا نكاية بالصليبيين حتى لا ينالهم منها إلى الخراب، ولكن هؤلاء جددوا بنيانها ولما غادروا سورية سنة 1292 ظلت حيفا خاملة الذكر إلى أن كان القرن الثامن فاستولى عليها الشيخ ظاهر العمر كما استولى على أرض الجليل ودكها فجعل عليها سافلها ثم أعاد بناءها وبنى عليها سوراً وأنشأ له قصراً من جنوبها يطل عليها. والظاهر عمر هذا كان من أرة بدوية اسمها بني الزيادنة ورث من أبيه الحكم على مدينة صفد واستولى على طبرية سنة 1738 وعلى عكا سنة 1749 فأصبح شيخاً على أعمال الجليل كلها وكان يميل إلى العمران بحيث يشبه بأعماله الأمير فخر الدين المعني أمير الدروز في القرن الحادي عشر للهجرة وقد تقاتل الشيخ ظاهر العمر مع أبنائه أنفسهم ثم غدر به أحد رجاله أحمد باشا الجزار واستولى على الحكومة دونه، واستولى بونابرت على حيفا سنة 1799 وبعد بضعة أيام ضربه الاسطول الانكليزي ضربة قاضية وفي سنة 1837 احتلت عساكر ابراهيم باشا المصري مدينة حيفا وفي سنة 1840 أصيبت حيفا ولا سيما حصنها بأضرار جسيمة من قذائف الأساطيل الانكليزية والنمساوية والعثمانية ومنذ غادرها الجيش المصري ظلت بلا حامية إلى المدة الأخيرة وقد جعلت قضاءً وأخذت بعض السفن التجارية ترسو فيها قليلاً فتنقل إليها البريد والبضائع وتحمل منها حبوب حوران وحاصلات الجليل وقد زادت مكانة بجعلها سنة 1320 مبدأ للسكة الحديدية الحجازية فأنشئت في ضاحيتها محطة مهمة ومعامل وأنابير فأخذت المدينة تعمر بذلك حتى كادت بما بلغته تنسي ذكر الموانئ المجاورة لها، ويقدر سكانها الآن بنحو عشرين ألف نسمة نحو

نصفهم اسرائيليون مهاجرون لم يقيدوا في دفاتر الحكومة سوى ستمائة منهم والباقون مسلمون ومسيحيون ويقف عليها مدى السنة زهاء 300 باخرة و700 مركب ويحمل منها زهاء عشرين ألف طن من الحبوب والدرة والسمسم والزيت ويصدر إليها ما تبلغ حمولته عشرة آلاف طن من البضائع. وماء البلد من آبار فيه بعض الملوحة وقد كان يمكنها الاستقاء من ينابيع بقربها ولا سيما من نهر المقطع أو قاديشا الفاصل بين أرض الجليل وفينيقية أو بين أرضها وأرض عكا لو صحت العزيمة على ذلك، وهواؤها جيد ومناظرها الطبيعية رائقة ويكثر فيها النخيل. أما عكا وهي الآن مركز اللواء وقضاء طبرية وقضاء صفد وقضاء الناصرة من أعمالها وبعبارة ثانية هي قاعدة بلاد الجليل على ما أصابها من الانحطاط الشديد، ويؤخذ مما ورد في سفر القضاة أن عكو أي عكا لم تكن مدينة اسرائيلية ولم تصبح مستعمرة يهودية إلا بعد أزمان طويلة، وكان اليونان يربطون عكا بفلسطين ثم دعيت بعد باسم بطولمايس نسبة إلى أحد بطالسة مصر وربما كان بطليموس ابن لاغوس وذكر مؤلفو الرومان والنقود التي عثر عليها من عهدهم أن عكا كانت مستعمرة للامبراطور كلوديوس وكانت ذات منعة من حيث هي مدينة بحرية واستولى عليها العرب سنة 638 ففقدت إذ ذاك اسمها اليوناني. قال ياقوت العكة الرملة حميت عليها الشمس وعكة اسم بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن وهي من أحسن بلاد الساحل في أيامنا هذه وأعمرها قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري: عكة مدينة حصينة كبيرة الجامع فيه غابة زيتون يقوم بسرجه وزيادة ولم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وكان قد رأى صور واستدارة الحائط على ميناها فأحب أن يتخذ لعكة مثل تلك المينا فجمع صناع الكور وعرض عليهم ذلك فقيل له لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان ثم ذكر له جدنا أبو بكر البناء وقيل له أن كان عند أحد فيه علم فهو عنده فكتب إليه وأتي به من القدس وعرض عليه ذلك فاستهان به والتمس منهم احضار فلق من خشب الجميز غليظة فلما حضرت عمد يصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري وضم بعضها إلى بعض وجعل لها باباً عظيماً من ناحية الغرب ثم بنى عليها الحجارة والشيد وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد استقرت على الرمل

تركها حولاً كاملاً حتى أخذت قرارها ثم عاد فبنى من حيث ترك وكلما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله أدخله فيه وحنطه به ثم جعل على الباب قنطرة والمراكب كل ليلة تدخل البناء وتجر سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل صور قال فدفع إليه ألف دينار سوى الخلع والمركوب واسمه عليه مكتوب إلى اليوم قال وكان العدو قبل ذلك يغير على المراكب. وفتحت عكا في حدود سنة 15 على يد عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وكان لمعاوية في فتحها وفتح السواحل أثر جميل ولما ركب منها إلى غزوة قبرص رمها وأعاد ما تشعث منها وكذلك فعل بصور ثم خربت فجددها هشام بن عبد الملك وكانت فيها صناعة بلاد الأردن وهي محسوبة من حدود الأردن ثم نقل هشام الصناعة منها إلى صور فبقيت على ذلك إلى قرابة أيام الإمام المقتدر ثم اختلفت أيدي المتغلبين عليها وعمرت عكة أحسن عمارة وصارت بها الصناعة إلى يومنا ذا وهي للافرنج قال ياقوت: وكانت قديماً بيد المسلمين حتى أخذها الافرنج ومقدمهم بغدوين صاحب بيت المقدس من زهر الدولة بن أمير الجيوش منسوب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي أو ابنه وكان فيها من قبل المصريين فقصدها الافرنج براً وبحراً في سنة 497 فقاتلهم أهل عكة حتى عجزوا عنهم لقصور المادة بهم وكان اهل مصر لا يمدونهم بشيء فسلموها إليهم وقتلوا منها خلقاً كثيراً وسبوا جماعة أخرى حملوهم إلى خلف البحر وخرج زهر الدولة حتى وصل إلى دمشق ثم عاد إلى مصر ولم تزل في أيديهم حتى افتتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الأول سنة 583 وشحنها بالرجال والعدد والميرة فعاد الافرنج ونزلوا عليها وخندقوا دونهم خندقاً وجاءهم صلاح الدين ونزل دونهم وأقام حولهم ثلاث سنين حتى استعادها الافرنج من المسلمين عنوة في سابع جمادى الآخرة سنة 587 وأحضروا أسارى المسلمين وكانوا نحو ثلاثة آلاف وحملوا عليهم حملة واحدة فقتلوهم عن آخرهم، والنسبة إليها عكي وقد نسب إليها قوم وقد رسمها عماد الدين الأصفهاني في الفتح القبسي بالألف المقصورة تارة عكا وبالألف الممدودة أخرى. وقد استولى بودوين الأول على عكا سنة 1104 م بمعونة اسطول جنوي له وجعلها الصليبيون ميناءً مهمة لا لإنزال جيوشهم بل ميناءً تجارية فكانت ترسو فيها سفن الجنويين

والبنادقة والبيزانيين وبعد وقعة حطين سقطت عكا بيد صلاح الدين وفي سنة 1189 حاصرها من البر الملك كي دي لوزنيان ومن البحر اسطول بيزاني واستولى عليها ريشاردس قلب الأسد ملك الانكليز سنة 1191 م فأصبحت من ذاك الحين الجادة العظمى للنصرانية في فلسطين وكانت معسكر الفرسان ودعوها باسم إحدى فرقهم وكانت تدعى القديس يوحنا فقالوا عنها وفي سنة 1291 استولى عليها الملك الأشرف بعد مقاومة شديدة فقضى بالاستيلاء عليها على سلطة الافرنج من هذه البلاد، فبقيت عكا أهم ميناء ينزل فيه حجاج الغربيين إلى الأرض المقدسة وفي حوالي منتصف القرن الثامن عشر استولى الشيخ ظاهر العمر على الجليل الأسفل وعلى جزء عظيم من الجليل الأعلى واتخذ عكا مقر إمارته فعادت إليها نضرتها وخلفه في الإمارة أحمد باشا الجزار الذي وسع حدود إمارته فامتدت شمالاً إلى نهر الكلب وبعلبك وجنوباً إلى قيسارية واشتهر بمبانيه التي جلب لها المواد من عسقلان وقيسارية وغيرهما، وبدأ الفرنسيس سنة 1799 يحاصرون عكا وبعد ثماني وقائع سألت فيها الدماء إلى الأباطح اضطر نابوليون أن يرجع عنها واستولى ابراهيم باشا سنة 1832 على المدينة فنهبت وخربت ولكنها عادت فنهضت من كبوتها وفي سنة 1840 خربت الأساطيل الانكليزية والنمساوية ثغر عكا فخرب بذلك كل أثر من آثارها القديمة ثم تعاقب الخراب الاقتصادي عليها فكانت تجارتها رائجة لأنها كانت سوق الحبوب التي ترد إليها من الداخلية ولا سيما من حوران فسقطت من هذه الوجهة خصوصاً لما قامت بعد موانئ سورية مثل بيروت وطرابلس وحيفا ويافا تنازعها في مكانتها وأنشئت سكك حديدية ربطت معظم هذه الموانئ بالمدن الداخلية وبقيت عكا في نجوة من الأرض ضعيفة في تجارتها وهاجرها كثير من أهلها ومنهم أناس من كبار تجارها وأرباب الأملاك بها. وقفنا على سورها نطل على ثغر عكا الذي اهرقت في سبيل الاستيلاء عليها دماء غزيرة ذاك السور الذي أعجز بمناعته صلاح الدين وجيوشه وتدبيره فارتد عنها غير ما مرة وأهرق الصليبيون دماءهم في بسط أيديهم عليها ثم زحزحوا عنها بعد وقائع تشيب لهولها الرؤوس وهكذا طمح فيها الفاتحون لأنهم كانوا يعتبرونها مفتاح سورية، ولطالما كانت عكا ترمي من برها وبحرها بالقذائف والنيران وكانت مجزرة يهلك فيها الإنسان.

وقفنا على أسوارها ننظر إلى المدينة التي أعجزت الملك الناصر والملك الظاهر بونابرت ونتأمل في أرباضها القاحلة اليوم وكم جثة دفنت فيها وفي بحرها وهو يحدجها بعينه الزرقاء كم ابتلع من أسطول بما فيه، وقفنا وفكرنا ملياً في حال البشر يقتتلون على بسط سلطانهم وتكبير رقعة بلدانهم ويرتكبون كل منكر في سبيل المجد والفخار رأيناهم في القديم يقتتلون بحجة دينية واليوم هم كذلك ولكن حجتهم مدنية وإنسانية وما المقصود في الواقع ونفس الأمر إلا الاستيلاء والتغلب وتوسيع نطاق الحكم والسلطان. فوقفنا على أسوار عكا نندب في نفسنا الضعف البشري وقد استولى على النفس جلال ذلك البلد وذكرنا أرواح الخلق تباع في كل عصر بيع السماح ولو أردنا أن نأتي هنا على لمعة من تاريخه لاقتضى له مجلد برأسه، وهاك الآن نموذجاً واحداً بما جرى لأجلها في القرون الوسطى قاله أبو الفدا حاضرها بنفسه: إن السلطان الملك الأشرف سار بالعساكر المصرية إلى عكا وأرسل إلى العساكر الشامية وأمرهم بالحضور وأن يحضروا صحبتهم المجانيق فتوجه الملك المظفر صاحب حماة وعمه الملك الأفضل وسائر عسكر حماة صحبته إلى حصن الأكراد وتسلمنا منه منجنيقاً عظيماً يسمى المنصوري حمل مائة عجلة ففرقت في العسكر الحموي وكان المسلم إلي منه عجلة واحدة لأني كنت إذ ذاك أمير عشرة وكان مسيرنا بالعجل في أواخر فصل الشتاء فاتفق وقوع الأمار والثلوج علينا بين حصن الأكراد ودمشق فقاسينا من ذلك بسبب جر العجل وضعف البقر وموتها بسبب البرد شدة عظيمة وسرنا بسبب العجل من حصن الأكراد إلى عكا شهراً وذلك مسير نحو ثمانية أيام للخيل على العادة وكذلك أمر السلطان الملك الأشرف بحر المجانيق الكبار والصغار ما لم يجتمع على غيرها واشتد عليها القتال ولم يغلق الافرنج غالب أبوابها بل كانت مفتحة وهم يقاتلون فيها وكان يحضر إلينا مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ وما زالوا بها حتى فتحت وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية بمنزلة قلاع دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوق الحصر من كثرته ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة ولم يتأخر منهم أحد فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض ودكت دكا ومن عجائب الاتفاق أن الفرند استولوا على عكا وأخذوها من صلاح

الدين ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة واستولوا على من بها من المسلمين ثم قتلوهم فقدر الله عز وجل في سابق عمله أنها تفتح في هذه السنة (690) في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه وكذلك لقب السلطانيين. وهذا القول ينبئك بمكانة عكا واغتباط المؤرخ باستخلاصها من الأعداء، ومن مدن الجليل صفد ولم يتيسر لنا زيارتها للأمطار المتهاطلة ولموقها في قمة جبل وهي ترى من طبرية وعلى بضع ساعات منها ومعظم سكانها يهود وبعض المسلمين من مهاجرة الجزائر وليس في أهلها العريق فيها للسبب الذي أورده أبو الفدا في حوادث سنة 664 قال وفي هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية وسار إلى الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس ففتحوا القليعات وحلبا وعرقا ونزل الملك الظاهر على صفد ثامن شعبان وضايقها بالزحف وآلات الحصار وقدم إليه وهو على صفد الملك المنصور صاحب حماة ولاصق الجند القلعة وكثر القتل والجراح في المسلمين وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان ثم قتل أهلها عن آخرهم. ولقد كانت صفد في القرن السابع مملكة يقال لها مملكة صفد ومضافاتها وصفد حصن بقبة جبل كنعان في أرض الجرمق كان قرية فبني مكانها حصن سميت صفت ثم قيل صفد وهو حصن منيع وكان بها طائفة من الفرنج يقال لهم الداوية فحصرهم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي وفتحها وقتل كل من فيها على رأس تل بالقرب منها ثم رممها وبنى في وسطها برجاً مدوراً سماه قلة ارتفاعه في السماء مائة وعشرون ذراعاً وقطره سبعون ذراعاً وإلى سطحه طريقان يصعد في الطريق إلى أعلاه خمسة أفراس صفاً بلا درج في ممشى حلزوني وهو ثلاث طبقات أبنية ومنافع وقاعات ومخازن وتحته كله بئر للماء من الشتاء يكفي لأهل الحصن من الحول إلى الحول أشبه بمنارة اسكندرية وبهذا الحصن بئر تسمى الساقورة وعمقها مائة وعشرة أذرع في ستة أذرع بذراع النجار والدلاء التي لها بتاتي من الخشب تسع البتية نحو قلة من الماء وهم بتيتان في حبل واحد يسمى سرباق كغلظ زند الإنسان وكلما وصلت بتية إلى الماء وصلت الأخرى إلى رأس البئر وكلما وصلت واحدة إلى رأس البئر وصلت الأخرى إلى الماء وعلى رأس البئر ساعدان من

حديد بكفين وأصابع تتعلق الأصابع في حافة البتية الملآنة وتجذبها الكفان فينصب الماء في حوض يجري فيه إلى مقر، فإذا انصب الماء من البتية حصل القصد والجاذب لهاتين البتيتين مرمة هندسية بقسي ودوائر وحركات ولا يزال ذلك السرباق راكباً على بكرته طرداً وعكساً يمنة ويسرة وحول المرمة بغال معلمات تدور بذلك فإذا سمع البغل الدائر خرير الماء وجر السلسلة انقلب راجعاً على عقبه ودار يمشي في مرتبته بخلاف ما كان يمشي إلى أن يسمع خرير الماء وجر السلسلة فينقلب دائراً على خلاف دورته كذلك وهي من أعاجيب الدنيا فإذا وقف واقف وتكلم كلمة واحدة في رأس البئر سمع رجع صوته بتلك الكلمة نازلاً نحو لحظة جيدة حتى يبلغ الماء ثم يعود إليه فيسمعه كما قالها فإن صاح وغلب سمع دوياً واضطراباً بذلك الصياح كالرعود لبعد الماء وعمقه، ومن أعمال صفد مرج عيون وأرض الجرمق وهي مدينة قديمة عادية كانت بها طائفة من العبرانية ينسبون إليها يقال لهم الجرامقة والكنعانيون بوادي كنعان ابن نوح ومن عملها جبل بقيعة وبه قرية يقال لها البقيعة لها أمواه جارية ولها سفرجل مليح وبه قرى كثيرة الزيتون والفواكه والكرم وجبل الزابود مشرف على صفد والزابود قرية وبها أيضاً قرى كثيرة. وفي بلاد الجليل أو عمل الأردن قرى دائرة ذكر بعضها ياقوت في معجمه مثل (كفرسبت) وهي قرية عند عقبة طبرية و (كفرعائب) وهي قرية على بحيرة طبرية من أعمال الأردن ذكرها المتنبي فقال: أتاني وعيد الأدعياء وإنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم ... فهل في حدي قولهم غير كاذب ومثل (كفرمندة) قرية بين عكا وطبرية بالأردن يقال لها مدين المذكورة في القرآن والمشهور أن مدين في شرقي الطور وفي كفرمندة قبر صفوراء زوجة موسى عليه السلام وبه الجب الذي قلع الصخرة من عليه وسقى لهما والصخرة باقية هناك إلى الآن (عصرياقوت) وفيه ولدان ليعقوب يقال لهما أشير ونفتالي و (دبورية) بليد قرب طبرية من أعمال الأردن قال أحمد بن منير لئن كنت في حلب ثاوياً ... فنجني الغبير بدبورية و (ديرالتجلي) على الطور زعموا أن عيسى عليه السلام علا عليهم فيه و (خيارة) قرية

قرب طبرية من جهة عكا قرب حطين بها قبر شعيب النبي عليه السلام عن الكمال بن العجمي و (عفربلا) بلد بغور الأردن قرب بيسان وطبرية و (الصنبرة) موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق بينه وبين طبرية ثلاثة أميال كان معاوية يشتو بها و (أربد) بالفتح ثم السكون والباء الموحدة قرية بالأردن قرب طبرية عن يمين طريق المغرب بها قبر أم موسى بن عمران عليه السلام وقبور أربعة من أولاد يعقوب عليه السلام وهم وإن وايسا جار وزبولون وكاد فيما زعموا و (اسكندرونة) قال ياقوت وجدت في بعض تواريخ الشام أن اسكندرونة بين عكا وصور و (اكسال) قرية من قرى الأردن بينها وبين طبرية خمسة فراسخ من جهة الرملة ونهر أبي خطرس لها ذكر في بعض الأخبار كانت بها وقعة مشهورة بين أصحاب سيف الدولة بن حمدان وكافور الإخشيدي فقتل أصحاب سيف الدولة كل مقتلة و (معليا) من نواحي الأردن بالشام و (الزيب) قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا و (صفورية) كورة وبلدة من نواحي الأردن بالشام وهي قرب طبرية و (الأقحوانة) موضع بالأردن من أرض دمشق على شاطئ بحيرة طبرية حدث هشام بن الوليد عن أبيه قال خرج قوم من مكة نحو الشام وكنت قيمهم فبينما نحن نسير في بلاد الأردن من أرض الشام إذ رفع لنا قصر فقال بعضنا لبعض لو ملنا إلى هذا القصر فأقمنا بفنائه حتى نستريح ففعلنا فبينما نحن كذلك إذ انفتح باب القصر وانفرج عن امرأة مثل الغزال العطشان فرمقها كل منا بعين وامق وقلب عاشق فقالت: من أي القبائل أنتم ومن أي البلاد قلنا: نحن أضاميم من هنا وهناك فقالت أفيكم من أهل مكة قلنا: نعم، فأنشأت تقول: من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن وإن قصري هذا ما به وطني ... لكن بمكة أمسى الأهل والوطن إذ نلبس العيش صفواً ما يكدره ... قول الوشاة وما ينبو به الزمن من كان ذا شجن بالشام ينزله ... فبالأباطح أمسى الهم والحزن ثم شهقت شهقة وخرت مغشية عليها فخرجت عجوزة من القصر فنفخت الماء على وجهها وجعلت تقول في كل يوم لك مثل هذا مرات تالله للموت خير لك من الحياة فقلنا أيتها العجوز ما قصتها فقالت: كانت لرجل من أهل مكة فباعها فهي لا تزال تنزع إليه حنينا وشوقاً.

هذا ما تيسر نقله مما تأثرت به النفس في رحلة قصيرة إلى تلك الكورة في الشهر الماضي، ولو وفق أهالي عكا إلى تحقيق ما يفكرون به ويلتمسونه من الحكومة من إلحاق لوائهم بولاية سورية لأصبحت مدينتهم أو حيفا ميناءً مهمة لدمشق ومورد التجارات من أوروبا ومصدر الغلات من بلادنا ولعاد لبلاد الجليل بهاؤها القديم ولما أضر ذلك بعمران بيروت وطرابلس ضرراً يذكر إذ كل بلد ينال إذ ذاك حظه من الرقي، وقد كان الفكر الشائع يوم بوشر بمد شعبة من السكة الحجازية من حيفا أن تسقط بيروت عن مكانتها التجارية فرأيناها بعد أن تم ذلك الخط قد زادت بيروت مكانة ولم يغادرها من التجار إلا أفراد قلائل وعمرت حيفا بعض الشيء وإذا جعلت لهذه ميناء ترسو فيها السفن آمنة كما هي الحال في بيروت ترتقي أيضاً زيادة ولا تضر بغيرها. والعمران كالثروة لا يحلو وينفع إلا إذا كان موزعا بين البلاد على التساوي وحبذا يوم يكون فيه لكل ميناء من موانئ سورية صغيرة كانت أو كبيرة مرفأ أمين للسفن وخط حديدي يصلها بالبلاد الداخلية ولو بخطوط زراعية ضيقة يومئذ يقال أن سورية دخلت في دور العمران.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار اللبن الرائب كتب الأستاذ متشنكوف بحثاً في مجلة من المجلات الفرنسوية أبان فيه مزايا اللبن الرائب أو الحامض في معالجة بعض الأمراض افتتحها بقوله إن الناس كانوا يفزعون من الهواء الأصفر ويموتون منه ألوفاً أيام لم يكن كوخ قد اكتشف ميكروباته فلما اكتشفها سهلت على الناس الوقاية فصاروا يتخيرون المياه الجيدة فينجون منه ومن لم تساعدهم الحال على استجادة المياه كأهالي بطرسبرج عمدوا إلى غلي الماء فنجوا من فتكات هذا المرض الوبيل ومثل ذلك يقال في جراثيم الطاعون والحمى وغيرها من الأمراض فغنها لما ظهر السبب فيها بطل العجب وذكر أنه جرب وجرب كثيرون فوائد اللبن الرائب للمصابين ببعض أمراض المعدة فثبتت فائدتها كل الثبوت في المستشفيات والمصاح ونفع في الحمى التيفوئيدية أيضاً وقال أن في أحشائنا جراثيم سامة لا يقتلها إلا حامض اللبن وأنه جرب ذلك منذ 12 سنة في نفسه وكان في الثالثة والخمسين من عمره فامتنع عن جميع المشروبات الروحية واقتصر على الماء واللبن الرائب والشاي الخفيف والطعام المطبوخ وامتنع عن كل ما هو نيء فجادت صحته على كثرة مشاغله وبعدت همته بحيث يعمل ساعات طويلة عملاً متواصلاً بدون أن يعروه ملل بذلك فهو يوصي الشبان أن يجروا على طريقته في تناول الألبان الحامضة إذ تساعدهم سنهم على الانتفاع منها وربما أطالت حبل آجالهم كما وقع لحائك عمره مئة وثلاث سنين بحثوا عن معيشته فرأوه على اقتصاده في مأكله يتناول بكثرة الملفوف المختمر وفيه شيء من الحامض اللبني والخلاصة فإن الأستاذ المشار إليه يضرب منذ سنين على هذا الوتر من بيان منافع اللبن وقد وافقه الآن على رأيه بعد التجارب الطويلة كثير من أطباء الروس والبولونيين والألمانيين والفرنسويين وغيرهم ولا يبعد أن يؤثر صوته فيدخل اللبن الرائب على الطريقة العربية والتركية والمصرية والبلغارية إلى بلاد لم يكن يدخلها من قبل بفضل هذا التنويه به. الطباعة كانت البعثة الأثرية الإيطالية عثرت في جزيرة كريت منذ سنين على إطار من التراب مكتوب عليه كتابة مدورة فثبت لها أن تاريخها يرد إلى سنة 1600 قبل المسيح وقد

توصل العلماء الآن إلى حلها بعض الشيء فتبين لهم أنها تقرأ من اليمين إلى الشمال وهي عبارة عن نشيد للصلاة وأنها أشبه بالخط الهيروغليفي أو المسند المصري وأنها أول أثر مطبوع ظفر به مما دل أن الطباعة في شواطئ البحر الرومي قديمة كما كانت في الصين. الرهبنات روت المجلة الباريزية أن عدد الرهبنات الدينية التي وقفت أنفسها على بذل الإحسان ومعاونة البائس من نوع الإنسان ما برحت آخذة بالانتشار في ألمانيا وقل عدد البرتستنتية منها فلرهبنة الدياكوني أو الشماسية 84 ملجأ منها 54 في ألمانيا والباقي في غيرها وهي مؤلفة من 2500 أخ و25000 أخت إلا أنه قل في العهد الأخير انخراط النساء في هذا السلك لأنه قل الاعتماد عليهن في المستشفيات كما كان سابقاً ولكن يزيد عدد من يمرضن المرضى في بيوتهم عن ذي قبل والرهبنات الكاثوليكية تنمو أكثر من غيرها فقد كان في بروسيا منذ 25 سنة 746 ملجأ فيها 7000 أخ وأخت فغدت سنة 1907 2113 ملجأ أعضاؤها ثلاثون ألفاً منهم أربعة آلاف أخ وستة وعشرون ألف أخت أي أن الرهبنات الكاثوليكية قد زاد عددها أربعة أضعاف. قتلى الالكحول أعظم المسائل الاجتماعية التي يتعاورها أرباب البحث والنظر في الغرب مسألة انتشار الالكحول بين الجمهور حتى أنهم حسبوا ما عند فرنسا من أماكن لبيعها فبلغت 477000 يصيب كل ثمانين نسمة منها محل واحد أو محل لكل ثلاثين بالغاً ومعظمها من الخمور القتالة المزورة وكل يوم يفتح في فرنسا ستة أماكن للبيع بحيث تهلك هذه الأمة عما قريب إذا لم تنظر في أمرها وبذلك تشوهت الخلق وضعفت الأجسام حتى اضطرت الحكومة أن تترك كثيراً من الذين دعتهم لحمل السلاح لعدم اقتدارهم عليه وكثر عدد المنتحرين فزاد عددهم أربعة أضعاف ما كان عليه قبل أربعين سنة وكذلك عدد المجانين وزادت الجرائم حتى قدروا أن ثلثي المجرمين هم من السكيرين أو من أبناء السكيرين، والأمة هناك تحارب الالكحول كما تحارب الأعداء بماتتوفر على نشره من الكتب والرسائل والنشرات والمجلات والجرائد والمحاضرات والخطب ولا بد أن توفق إلى تقليل وطأتها كما وفقت سويسرا وغيرها من الممالك الصغرى.

آثار مصرية اكتشفت بعثة ألمانية في مصر الوسطى في الحفريات التي قامت بها في مكان اسمه أبو صير الملك كثيراً من الأواني والمدى المعمولة من الصوان والعظام والعاج المنحوت وتاريخ هذه الذخائر يرد إلى زمن عرف فيه التاريخ أي سنة 2500 قبل الميلاد. الآداب الانكليزية منح أحد نبلاء بريطانيا عشرين ألف جنيه لكلية كمبردج في انكلترا لتؤسس بها درساً في الآداب الانكليزية تسميه درس الملك ادوارد السابع، وأنشأوا في انكلترا جمعية دخلها الناس في كل البلاد التي يتكلم فيها بالانكليزية غايتها إشراب القلوب حب الشعر إذ ثبت أن المدنية المادية الحالية لا تحلو إلا إذا احتفظ الناس فيها بالخيال في الحياة. معهد كارنيجي أفاد لسان البرق أن المستر كارنيجي الغني الأميركي الشهير قد تبرع بعشرة ملايين دولار أخرى للمعهد الذي أنشأه على اسمه في نيويورك فبلغ مجموع ما تبرع به من ماله خمسة وعشرين مليون ريال اميركي فأكرم بامة فيها مثل هذا الكريم وببلاد تخرج مثل هذا الغني الذي لا يكاد يصدقه ابن الشرق لولا صدوره عن قوم لا يتكلمون إلا عن عقل ولا يميلون لغير المحسوسات، أما هذا المعهد الذي احتفل مؤخراً بافتتاحه فليس له نظير في العالم وسيكون له شأن كالمجمع العلمي الذي أنشأه باستور على اسمه في مدينة باريز، ومعمل باستور يعني خاصة بعلم الجراثيم (بكتريولوجي) والمعالجة بالمصل والكيمياء الحيوية والأمراض السارية أما معهد كارنيجي فهو ضرب من ضروب المستشفيات العجيبة لا يقبل فيه إلا المرضى الذين تخلى عن طبهم الأطباء وقطعوا بأنهم أقرب إلى الموت منهم إلى الشفاء وهو قصر عظيم جداً يذكر بأعظم قصور ملوك الشرق الأقدمين وفيه من مظاهر الرفاهية والراحة والجمال أحسن ما أبرزته عقول الغربيين وهو يطل على نهر فتشرف النفوس من ورائه على مناظر تأخذ بمجامع القلوب وهو مؤلف من إحدى عشرة طبقة يصعد إليها بمصاعد وأدراج واسعة وفيها ردهات وغرف وحجر فسيحة، وليس طول الغرف الخاصة بالمرضى أكثر من 16 متراً وعرضها 8 أمتار وفي كل واحدة منها سبع سرر فقط وليس للغرف زوايا وقرن بل هي أبنية مدورة ذات قباب وذلك حتى لا يعلق

الغبار زواياها على أن العناية في النظافة ليس وراءها غاية فالبيوت تفتح من تلقاء نفسها بمجرد مس الذراع أو الرجل أو الركبة لها مساً خفيفاً وبذلك لا ينال الأيدي شيء من الجراثيم وهناك محل عظيم لمداواة المرضى بالماء البارد والتغير الجسماني وآخر للتصوير الشمسي ورابع للراديوم وللمستشفى خزانة كتب عظيمة جعلت تحت أمر أطباء المحل وتلامذتهم وله أناس موظفون للخدمة والإشراف على الأعمال وكلهم من خيرة القوم وسيأتي على هذا المعهد العلمي الإنساني يوم نسمع بالاختراعات والاكتشافات التي تتم فيه بفضل تلك العقول الراجحة التي اجتمعت تحته وانقطعت إلى خدمة الإنسانية فيه بفضل المحسن الأميركي وبيض أياديه. قراءة الدماغ بعد أن أتقن الغربيون علم قراءة الأفكار بالتنويم المغناطيسي قام اليوم أحد علماء الانكليز بعد البحث الطويل يكتشف تركيب الدماغ الانساني ومميزاته وذلك بقياس الذهن بطرق وحسابات لا تخطئ فيمكنه أن يعرف طبقة عمل الدماغ معرفة أكيدة بالوقوف على درجة المقاومة في المجرى العصبي وذلك في الجزء الأسفل من مجموع الدماغ. المداواة بالراديوم أكد أحد جراحي الانكليز أنه شفى بعنصر الراديوم الذي اكتشفت منذ اثنتي عشرة سنة بعض الأمراض مثل فالج الوجه والآلام العصبية والرثية وأمراض الجلد والسرطان والصلع، وادعى طبيبان من كلية كنغبسرغ أن الراديوم يشفي من الهواء الأصفر والخناق. وأكد أحد أطباء الروس أن الراديوم يشفي الأكمه والأعمى، وإذا تم ذلك فلا يبقى على العلم إلا اختراع دواء لإحياء الموتى تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. برابرة بوليفيا بوليفيا أو بيرو العليا إحدى جمهوريات أميركا الجنوبية بلاد واسعة البقاع تبلغ مساحتها 1222280 كيلومتراً مع أن سكانها لا يتجاوزون 2159000 وما برحت بعض أصقاعها على حالتها من الهمجية الأولى ومن السكان الذين رآهم الرحالة هرزوك في بوليفيا الشرقية وثبت له من أخلاقهم أنهم من عنصر واحد هم وكوارايوس قبائل السيريانوس فإن هؤلاء الهمج لم يرتقوا درجة واحدة في الحضارة منذ العصر الحجري فهم يستعملون الحديد

وأدواتهم القاطعة هي من الصدف الذي تقذف به الشواطئ وبها يقطعون وينحتون يعيشون عيش البادية في الغابات وتمتد الأصقاع التي ينزلونها إلى ريوغراند وسان ميكل إلى الشرق مما وراء ريوبلانكو، وهم لا يلبسون ثياباً وزينتهم الوحيدة عبارة عن عقد يتخذونه من أسنان القرود ومن حبوب يسلكونها في أسلاك بدون أن يخرقوها بآلة ما، وأكواخهم وقلما يأوون إليها مؤلفة من أغصان النخيل وأوراقه يدعمها جذع من الشجر وليس لهم من السلاح غير أقواس من خشب النخل طولها متران وسهام منه أيضاً طولها ثلاثة أمتار ورأسها محدد، ولا يعرف أصل هذا الشعب معرفة أكيدة. ألمانيا وكلياتها كان للكليات في ألمانيا خلال النصف الأول من القرن الماضي عمل عظيم في حياة تلك الأمة العقلية والأخلاقية والسياسية ففي سنة 1810 رأى فريدريك غليوم الثالث صاحب بروسيا أن تستعيض ألمانيا عن القوى المادية التي أفقدها إياها نابوليون بقوى أدبية فأسس كلية برلين ليلقي في قلوب ناشئة الأمة فكراً علمياً سليماً وبعلمهم بالكلام والمثال أن يخصوا أرواحهم للعلم وقلوبهم للوطن، ومن مجتمعات الطلبة نشأت الدعوة إلى الوحدة الألمانية وكانت ألمانيا إلى ذاك العهد مقسمة إلى إمارات مشتتة الكلمة ضعيفة السلطان تفادى الطلاب في هذا السبيل بكل عزيز ولطالما جنحوا إلى الثورات وقتلوا وقتل منهم في سبيل تأييد دعوتهم، فمن الكليات نشأت الانقلابات الكبرى في الفلسفة والدين والعلم وكان الألمان إلى ذاك العهد أمة فكر وشعر يقولون في أنفسهم أنهم تركوا البر لجارتهم (فرنسا) تنصرف فيه على ما تشاء والبحر لأخرى (انكلترا) تعمل ما تريد ولم يبق لهم إلا الاحتفاظ بالسماء وهي منزل العقل، وهذه الوحدة السياسية التي كان يراها بعضهم من الخيال قد تحققت في العلم والعمل بفضل الكليات التي كانت مركز الحياة الوطنية، وأنا إذا صرفنا النظر عن أهل الأدب والصناعات نجد جميع كبار الرجال في ألمانيا من أساتذة تلك الكليات، ولما نضجت الأفكار على تلك الصورة قام بسمرك قبيل الحرب الألمانية الفرنسوية ووحد بين تلك الإمارات وعلم أولئك العاملين أن النشرات والدعوات تعمل إلى حد محدود ولا بد لتحقيق الغرض بعد ذلك من النار والبتار، انتهى عمل الكليات السياسي سنة 1870 ولكنها ظلت صاحبة الحق في حفظ تراث الأجداد وقديم الأمجاد فهي التي تعلم الناس التجديد ولكن

مع النظر إلى القديم أبداً. كان في أواخر القرن التاسع عشر ثلاثة أنواع من الكليات في أوروبا الكلية الانكليزية التي هي أصل الكلية الاميركية والكلية الفرنسوية والكلية الألمانية التي اقتبست أسلوبها بلاد السكندياويين أو الدنمارك وأسوج ونروج وروسيا إلا قليلاً. فالكلية الانكليزية تقرب من نسق القرون الوسطى لا علاقة لها مع الحكومة بل هي مستقلة في إدارة شؤونها ومداخيلها وأساتذتها وتقصد إلى التربية العلمية بل إلى التهذيب العام الذي يجب للمهذب أن يكون له منه نصيب، أما الكلية الفرنسوية فهي تابعة للحكومة مباشرة على نحو ما أراد معدل نظامها نابوليون الأول وغايتها إعداد الطلبة لأن يتعلموا ما ينفعهم في ميدان الحياة الاستقلالية والكلية الألمانية نشأت بين الكليتين الانكليزية والفرنسوية فأخذت من هذه ومن تلك. والغاية منها أن لا تخرج علماء صرفاً ولا رجال صناعات ممتازين بل أن تهذب طلابها تهذيباً يتيسر لهم معه أن يستعدوا لدخول المجتمع والتصدر فيه فليست الغاية إذاً أن تخرج تلك الكليات أساتذة وحكاماً ورجال دين للحكومة ولا أن تعد محامين وأطباء للأمة بل أن تعلمهم تعليماً علمياً وتلقنهم الخطة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها وتطلعهم على أساليب البحث والنقد والتقوى فيهم أخلاق العلماء كالعفة وخلو الغرض وسعة الفكر وتلقنهم شيئاً من العلوم المساعدة وأن ينظروا نظرة إجمالية في الميدان الذي يجب عليهم أن يجروا فيه وبالجملة تؤهلهم إلى أن يتموا هم بأنفسهم ما بدأ به أسلافهم، فالطالب المتخرج من كلية ألمانية يتعلم ما هو العلم إذا اقترن بعلم خاص فلا يكتفي بشهادة ينالها فيحق له بها أن يقضي أو يشفي أو يعلم أو يلقن الذين لمواطنيه بل يقضى عليه أن يتمرن سنة في الفرع الذي يريد الإخصاء فيه ثم يقدم فحصاً بعد أن تكون المدرسة قد أعدته للنظر الإجمالي في الحياة العلمية، ولرجال الدين والأساتذة والمحامين والقضاة والموظفين والأطباء في ألمانيا الذين يتخرجون من الكليات طبقة خاصة ومنزلة سامية بين قومهم لا ينالها إلا الضباط لأسباب خاصة ولكن الصيارف والتجار وأرباب الصناعات والأملاك مهما بلغوا من الغنى والذكاء والاعتبار وخدموا المصلحة العامة فهم دون أولئك الذين تخرجوا من الكليات بمنزلتهم، وتناغي القوم في الأعمال الحرة علم طبقات الأمة الألمانية أن أرباب الصناعات

والتجارات وغيرهم من طلاب المال والغنى لا يعيشون مهما بلغوا من الذكاء إلا للثروة ولذلك تكون منزلتهم في الأنظار دون العاملين بأفكارهم وعقولهم. يقولون أن العلم لا ينجح إلا بإطلاق الحرية للمتعلم يتعلم على ما يشاء وللمعلم يعلم كما يشاء وهذا موجود في الجملة في الكليات الألمانية فإن الأستاذ وإن كان أمر تعيينه يرجع إلى الحكومة وتتحكم هذه في اختيار من يعرضون عليها فهو لا يعيش من رواتب تؤديها إليه الحكومة بل أنها تدفع له جزءاً صغيراً والباقي يتكفل به الطلبة فيدفعون أجور الدروس التي يحضرونها والطلبة لا يفحصون آخر السنة بل هم أحرار وعمدة الكليات مستقلة تدبر شؤونها بذاتها وينظر في انتخاب الأستاذ إلى قيمة ما يحسنه من العلم لا إلى ما يمتاز به من صفات التعليم مثل جودة الإلقاء وسهولته والمعلم لا يتعب في إلقاء دروسه لأنه يعلم تلاميذه بالعلم أكثر من النظر. وفي ألمانيا طبقة من الأساتذة مستقلة عن الحكومة كل الاستقلال ولهم الحق أن يدرسوا في الكلية التي يريدونها ويقبضوا من طلبتهم أجور دروسهم ويختاروا موضوعات مسامراتهم ومحاضراتهم ويشرعون وينتهون من دروسهم في الأوقات التي يختارونها وترى الطالب في الكلية لا يحتاج لشيء سوى أن يدفع المخصص لها وسواء حضر أم لم يحضر تعلم أم لم يتعلم لا يسأل عن عمله ويكاد لا يفحص إلا في بعض المواد القليلة كما أنه حر في الدروس التي يختارها. يعلم الألمان أن إطلاق الحرية للطالب على هذا النحو لا يخلو من حمله على الكسل ولكن يرون أن لها فوائد أخرى فإن الطالب يكون قد قضى في المدارس الابتدائية والوسطى نحو عشر سنين تابعاً لنظامها المدقق حتى إذا بلغ العشرين أو نحوها كان حرياً في الحلية أن يتعلم كيف يعمل بنفسه ويحبب إليه عمله بدون سائق يسوقه وكيف يوجه وجهته ويحدد رغبته في التعلم فيعمل على ذوقه برضاه لا مدفوعاً بسائق فحص يجب عليه أن يتخطاه، فالكلية الألمانية تضمن للطالب فيها تهذيب العقل من جهة وتربية الإرادة والخلق من جهة أخرى وذلك بإطلاقها حرية طالبها فنعامله معاملة رجل حر عاقل له حق التصرف بأحواله ولسان حالها اعمل ما يروقك واعلم فقط أنك ستجني ما زرعت. كثير في الأغاني الألمانية ما يشير إلى أن حرية الطالب أثمن شيء وأنها من أوصافه

الخاصة به فالفتى لا يحضر دروس الكلية للحصول على معارف تنفعه للقيام بحرفة ما في المستقبل وما هذا المطلب إلا ثانوي بل أن الغاية التي يسعى وراءها في سنيه الثلاث في الكلية هو أن يصبح رجلاً وتكون له شخصية، يعينه على ذلك أساتذته وأترابه ومن هنا نشأت فائدة جمعيات الطلبة لأن الطالب يتعلم فيها أمرين مهمين الطاعة واحترام الناس له، والطلبة المتقدمون يطبعون على ذلك الطلبة المتأخرين أو المحدثين بمحافظتهم على قواعد لهم يسنونها وبالمحافظة عليها ينبعث في الطالب شعور الشرف وعزة النفس في الحياة المشتركة وتقوى إرادته على الصدمات فهو إذا خلص من سلطته في منزله بين أبويه يكون لتلك الجمعيات عليه شيء من السلطة الأدبية فبالكلية لا يصبح رجلاً عالماً ومهذباً فقط بل صاحب أخلاق، ولقد صدق أحد من وصف الكليات في الغرب فقال أن الكليات الفرنسوية تنقصها الحرية والكليات الانكليزية يعوزها العلم وفي الكليات الألمانية لا ينقص هذا ولا ذاك. قام مجد ألمانيا قديماً بمن نبغ فيها من الفلاسفة ثم بمن نبغ فيها من القواد والجند ومجدها اليوم مناط إلا قليلا بأرباب الصناعة والتجارة من أبنائها، ومعلوم أن حاجة المدنية الحديثة ماسة للإخصاء في العلوم والتفرد في الصناعات وألمانيا لا تجهل أن قوتها في جهاد الأمم السلمي بمن لديها من الاخصائيين الكثيرين كثرة لا نظير لها عند الأمم الأخرى ولذا بذلت العناية للمدارس الفنية والاخصائية حيث يتعلم الشبان علوماً توجد لهم مراكز في الصناعة وإذ جعلوا في أواخر القرن الماضي من حق هذه المدارس أن تمنح لقب دكتور للمتخرج بها كما تمنح الكليات فقدت هذه بعض الإقبال عليها إن لم يزد كما هو المأمول. وبعد فما برح الأساتذة الذين أوجدوا في الكليات روح الوحدة الألمانية وربوا رجال الأمة تلك التربية السياسية المهمة يتوفرون على الاحتفاظ بهذه الوحدة حتى صح على الألمان ولا يزال صحيحاً ما كان قاله بسمرك وقد رأى جماهير الطلبة سنة 1895 تجيء لتهنئته بعيده الثمانيني: منذ رأيت هذه البلوطات الألمانية الحديثة (ويعني بها الشبان الألمانيين) لم يبق عندي أقل قلق على مستقبل ألمانيا. صور تتغنى وتتكلم إن النجاح الذي صادفته الصور المتحركة بتمثيل الأشباح على الستار قد جعل المفكرين

يدأبون لتتميم الفائدة بإضافة آلة الفوتوغراف أو الحاكي ليتهيأ لجمهور المشاهدين التمتع برؤية الأشباح وسماع أصوات ممثليها في آن واحد، وقد وفق مؤخراً الكابتن كواد الفرنساوي للجمع بين عرض صور الممثلين وأسماع الجمهور أصواتهم بحيث تأتي حركاتهم وأصواتهم طبقاً للمألوف من أصوات الممثلين الحقيقيين وحركاتهم. وطريقه ذلك أن يتكلم الممثل أولاً أو يغني ويؤثر أمام آلتي الفوتوغراف والتصوير فيأخذ الحاكي أصواته على حدة وترسم آلة التصوير حركاته الموافقة لأصواته ثم يوصل بين هاتين الآلتين بقضيب من حديد لتتم المواصلة الكهربائية بينهما، وتوضع آلة التصوير وراء الجمهور حسب المعتاد، ويوضع الحاكي بالقرب من الستار ويديرها معاً مجرى كهربائي فتتحرك الآلتان بسرعة واحدة فتتفق بذلك الأصوات التي تصدر من الحاكي مع الحركات التي تدير صورها آلة السينما توغراف أو الصور المتحركة، فيرى المشاهد أشخاصاً ترقص أو تمشي أو تركض أو تتحرك بحركات غير هذه ويسمع ما تفوه به من الأصوات المطابقة فيخالها أشخاصاً طبيعية لها قوة الحركة والنطق. قفل يفتح بصوت صاحبه في جملة الاختراعات الحديثة قفل للأبواب والصناديق له فوهة مثل فوهة آلة التلفون وله جهاز خاص فلا يفتح إلا إذا تكلم صاحب القفل أو غيره في الفوهة كلمة اصطلاحية يفتح بها القفل بمجرد دخول الصوت المركب من مقاطع تلك الكلمة، فإذا زادت المقاطع أو نقصت تغير فعل الصوت في آلة القفل فيمتنع على الفاتح. غير أن لهذا الاختراع عيوباً أخصها عدم انفتاح القف إذا كان الصوت ابح ولذلك فإذا أصيب صاحب القفل بزكام شديد فلا يبقى بإمكانه أن يفتح بابه أو صندوقه ما لم يطلع صديقاً له على كلمة السر ليلفظ بها في فوهة القفل وفي ذلك ما فيه من الإعنات وكشف السر. تلقيح التربة بالبكتيريا درس بعضهم خواص نوع من البكتيريا فوجد أن له خاصة امتصاص عنصر النيتروجين من الهواء وغيره وبثه في التربة التي يعيش فيها، وامتحن تلقيح الأرض بهذا النوع من البكتيريا فوجد أنه يزيدها خصباً وأنه يحسن غلتها خصوصاً إذا وضع في التربة شيء من

المواد التي ينمو فيها هذا الميكروب من مثل البوتاس والحامض الفسفوريك والكلس، وسيكون لهذا الاكتشاف شأن عظيم في الزراعة. آلة لتطهير هواء المنازل اخترع الأستاذ شارل ريشه من باريس آلة تنقي هواء المنازل مما يكون فيه من الغبار والجراثيم الحيوية، وهذه الآلة تقذف قطرات صغيرة من الغليسرين يلصق بها الغبار فتحمله ساقطة به إلى الأرض، ولها مروحة تجذب الهواء إليها ليسهل رشه بالغليسرين فيتهافت جميع هواء البيت شيئاً فشيئاً إلى تجاه المروحة فيتطهر بهذه الطريقة السهلة. شعر الرأس يمكن شعرة عادية من شعر الرأس أن تحمل ثقلاً يزن ست اواق طبية، ويبلغ معدل شعر الرأس نحواً من ثلاثين ألف شعرة ويمكنه أن يحمل ثقلاً يزن عشرة قناطير وإذا فتل معاً فإنه يحمل هذا الثقل ومقدار ثلثه أيضاً، ولذلك فإن نساء قرطاجنة الحرائر كن يقدمن شعورهن الكثة عندما حاصر الرومانيون مدينتهن ليصنع منها حبال قوية تقذف بها الحجارة من المجانيق. بندقية بدون صوت تحشى ببارود بدون دخان اخترع المستر هيرام برسي مكسيم الأميركاني أنبوباً صغيراً يناط بفم البندقية فيضعف قوة صوت البارود حتى يكاد لا يسمع للبندقية صوت عند إطلاقها، وهذا الأنبوب عبارة عن قطعة مجوفة من الفولاذ قطرها نحو قيراط ونصف وطولها نحو خمسة قراريط ولها في جوفها حلقات معدنية لولبية ناتئة من جدرانها الداخلية تجعل الغاز الذي ينفلت من البارود عند إطلاقه يدور في هذه الحلقات قبلما يخرج إلى الفضاء، فيفقد بذلك قوته ويخرج من فم الأنبوب ضعيفاً لا قوة له على تمزيق الهواء وإحداث الصوت المعروف وذلك لأن صوت البنادق إنما يحدث من غاز البارود الذي ينفلت من فوهة البندقية حالما تخرج من الرصاصة فيحلق في الهواء أي أنه يخرج بهيئة حلقات لها شكل الفطر، فتدفع هذه الهواء دفعاً شديداً تمزقه فيها تمزيقاً فيسمع له الصوت الذي نعرفه.

أما بواسطة هذا الأنبوب الذي يدخل فيه فم البندقية إدخالاً محكماً فيدور غاز البارود في الحلقات اللولبية في باطنه فيفقد قوته لأنه لا ينطلق تواً، فيخرج وله صوت يماثل صوت الغاز إذا أطلق من زجاجة كازوزة بعد أن تزحزح الفلينة قليلاً فينفلت ضعيف القوة بحيث لا يسمع له صوت إلا على بعد بضع خطوات لشدة ضعفه. وقد جرب المخترع اختراعه هذا فحشا عدة بنادق ببارود لا دخان له وأطلقها جميعاً على هدف بحضور جم غفير فكان رصاصها يخترق الهدف والمشاهدون لا يرون دخاناً ولا يسمعون صوتاً إلا صوت وقع الرصاص على الهدف، وإذ رأت الحكومة الأميركية خطورة هذا الاختراع وتعرض الناس بواسطته لاعتداء القتلة الأشرار إذا تمكنوا من التسليح بهذا السلاح الذي يأمنون معه افتضاح أمرهم عمدت إلى قانون تسنه منعاً لم اعساه أن يترتب على هذا الاختراع من الضرر والإخلال بالأمن العام. طبقات الهواء العليا وجد بالامتحان أن حرارة الهواء تقل كلما صعدنا في الجو حتى نبلغ علو نحو عشرة آلاف متر (33 ألف قدم) ومن ثم تأخذ الحرارة بالازدياد قليلاً ازدياداً قانونياً، وقد وجد أن هذه الطبقة العليا السخنة تضم جميع الجهات فوق المناطق الاستوائية والمعتدلة والمتجمدة شمالاً وجنوباً، فهذا الانقلاب في حرارة أعالي الجو يدل على إمكان اختلاف تركيب طبقات الهواء السفلى عن طبقته العليا وقد ملأ بعض الكيميين زجاجات من الهواء من طبقاته المتعددة إلى علو يتجاوز 46 ألف قدم وعدا ما ذكر فإن ركاب المناطيد قد كشفوا طبقة هادئة في أعالي الجو وسيكون من وراء درسها نفع في الأسفار الجوية. اللحم الأحمر واللحم الأبيض في جملة الحيوانات الحمراء لحم البقر والغنم والخيل والخنازير البرية والوعول والأرانب والحمام والبط والإوز وسمك سليمان أو السلطان ابراهيم، وقد يكون لحم بعض هذه الحيوانات داكناً، أم العجول والخنازير الداجنة والأرانب الأليفة وسمك الشبوط وأبو منقاد والكركند والسراطين فلحمها أبيض أو كفيء اللون، وأما الطيور فجاجئها أي صدورها بيضاء اللحم وما بقي منها أسمر اللون، وكثير من أصناف السمك كالحنكليس وغيره يجمع بين اللونين الأسمر والأبيض، وقد تبين من الأبحاث العلمية أن لهذه الألوان علاقة بالقوة

والنشاط، فتكون العضلات الكفيئة اللون على الجملة أكثر نشاطاً من التي لونها أحمر أو أسمر لأنها تتقلص بسرعة ولكنها تكل قبل العضلات السمراء إذ أنها تفرز مقداراً أعظم من الحامض اللكتيك (أو اللبنيك) وهو نتيجة التعب والدليل عليه ولذلك فيمكننا أن نحكم على نشاط الحيوان وعلى مقدار ما يتحمله من التعب بالنسبة إلى غيره من لون لحم عضلاته، والقاعدة لذلك أن ما كان لحمه أبيض كان كثير الحركة والنشاط وما كان أحمر اللحم وأسمره كان أقل نشاطاً في حركته ولكنه أكثر تحملاً للأتعاب. تعجيل نمو النبات كانت الطريقة المعول عليها لإنماء النبات إنماءً صناعياً أن يعالج بالأثير فيسرع نموه وتنضج ثماره قبل أوانها، غير أن العلامة مولبش قد كشف طريقة أسهل من هذه وأقل نفقة وهي: أن يغمس ما يراد إنماؤه من النبات مقلوباً في ما تبلغ درجة حرارته بين 30 و 35 بمقياس سنتيغراد، ويبقى مغموساً مدة تسع ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة وبعد ذلك ينقل إلى غرفة مظلمة رطبة حرارتها تبلغ درجة 25 ويبقى هناك إلى أن تبتدئ الأوراق تظهر فينقل حينئذ إى مغرس زجاجي ويعامل معاملة النباتات التي تربى في المغارس الزجاجية الدافئة، وامتحن أحدهم هذه الطريقة في الزنابق فأزهرت بعد نحو أربعين يوماً مع أن ما غرس منها غرساً عادياً لم تظهر أوراقه في هذه المدة مما يدل على شدة تعجيل نمو النبات بهذه الطريقة السهلة الإجراء القليلة النفقة. ثمن الراديوم كان يمكن قبلاً أن يشرى الجزء من ألف من الغرام من الراديوم بعشرة فرنكات أما في سنة 1909 وما بعدها فبلغ ثمن هذا الجزء خمساً وأربعين ضعفاً أي 450 فرنكاً، وبما أن الراديوم يستخرج من الأتربة الزفتية فتراب الزفت في ضواحي معمل كورنش بالقرب من لندن يساوي ثمناً يفوق ثمن تراب الذهب والماس. شباك الصيد دل اختبار صيادي السمك في جهات متفرقة على تأثير لون الشباك بالأسماك فصار من المقرر أن من يستعمل شبكة زرقاء اللون يصيد أكثر كثيراً ممن يستخدم الشباك العادية السمراء اللون، وذلك لأن لون الشبكة الزرقاء يماثل لون ماء البحر فينتفي بذلك خوف

السمك من الدنو منها. آلة جديدة للحلاقة اخترعت في أميركا آلة جديدة تحلق شعر الوجه بموسى مجهزة بآلة كهربائية بدون أن تمسها يد إنسان، وللموسى واق من المطاط وغيره يقي الحد من الجرح، ولا نظن أن هذا الاختراع يسر الحلاقين عندنا إذا تهافت الناس على شراء هذه الآلة وصاروا يحلقون لحاهم بواسطة الكهربائية ويأمنون شر جراح المواسي التي قد تنقل العدوى من مصاب بمرض جلدي في وجهه إلى الأصحاء. عضو جديد للحس اكتشف فرتر في الهرة عضواً خاصاً للحس مؤلفاً من بضع شويكات نابتة في الجلد بجانب رسغي قائمتيها الأماميتين، وكانت هذه الشويكات قد وجدت في حيوانات عديدة غير الهرة من مثل القواضم والحيوانات الدرداء (التي لا أسنان لها) والمفترسة وذوات الأربع السافلة في سلم الأحياء، وتوجد هذه الحاسة خاصة في الحيوانات التي تتلقف طعامها بأكفها والتي تزحف أو تتسلق الأشجار، ولكنها لا توجد في القردة لأنها تعتاض عنها بما لها من الامتياز في استعمال ايديها وللآن لم يمكن الاستدلال على وجود هذه الحاسة في الكلاب. سفينة لرصد المغنطيسية عزم بعض محبي العلم في اميركا على السياحة في جهات القطبة الجنوبية وغيرها لرصد مغنطيسية الأرض فابتنوا سفينة خالية من الحديد والفولاذ، فصنعت جدرانها ومساميرها وسائر ما فيها من الخشب منعاً لتأثير ما قد يكون فيها من المواد المعدنية في المغنطيسية التي تقاس بآلات خاصة في السفينة خليل سعد طنين الآذان تختلف الاهتزازات التي يسمعها المصابون بالصمم أو بطنين الآذان فيطنون تارة أنهم يسمعون صفيراً حاداً وأخرى أنهم يسمعون جلبة مثل صوت الزيز والصرصور والجرادة وطوراً يسمعون صوت أنغام من جوقة موسيقية فيها الطبل والطنبور والجلاجل والصنوج

أو رنة اجراس وتغريد طيور شديدة بحيث يتراءى للسامع بأنه في بيت حمام وقد تمر الشهور والمصاب بالصمم أو طنين الاذن يسمع هذه الأصوات فتحول دون سماعه الأصوات الخارجية، والمصابون بالصمم والخرس معاً ليسوا عرضة لهذا المرض بل أن جميع المصابين بالتهابات الشرايين هم على الجملة مصابون به وتختلف درجاته فيهم، وقد بحث الدكتور ما راج الفرنسوي في أسباب هذا المرض فقال أن أكثرها ناشئة من اختلال وضع سلسلة الكعب وإن التغميز (التمسيد) نافع في أكثر حالات هذا المرض. تعليم الجغرافيا الجغرافيا كلمة يونانية معناها رسم الأرض أو صورة الأرض عرفها العرب بتقويم البلدان أو رسم الأرض وكان لها شأن من عنايتهم ونبغ فيها مشاهير خدموها خدمة جلى في القرون الوسطى وعدم عناية من يشتغلون بالعلوم الإسلامية بها في القرون الأخيرة نشأت منه أمور مضرة ومنها ما يضحك حتى أن كثيراً من جرائدنا العربية بل ومجلاتنا تغلط في إيراد أسماء البلدان والأنهار والجبال والأقطار وكثير منها لا يعرف جغرافية مملكته بل قلّ جداً من خاصتنا اليوم من يحسن جغرافية قطره فالسوري مثلاً لا يستطيع أن يحدد لك بلاد فينيقية ولا جبال سنير والجليل وموآب واللكام ولا يعرف كم في سورية من بحيرات أو من مدن عامرة وكذلك المصري فلما يعرف مركز الوجه البحري من الوجه القبلي وأي بلاد الأقاليم أعمر وفي أيها يجود القطن أو تجد أثراً للصناعات وهكذا الحال في ابن العراف وابن تونس وابن الحجاز وابن اليمن دع عنك ما يلزم العثماني خاصة معرفته من أحوال الولايات العثمانية كلها حتى أن من ألغوا في الجغرافية من الأتراك خلطوا في أسماء الأعلام خلطاً يكاد يرفع الثقة من كل ما كتبوه وكذلك الحال فبمن كتبوا من المصريين وأطلعنا عليه من كتبهم وأن من الأسف أن يرد في إحدى مجلاتنا المعتبرة أن سورية هي من آسيا الصغرى كما من الأسف أن تقول بعض جرائدنا أن بلاد نجد خضعت لأحكام الدولة العلية مع أن نجداً قطر عظيم له أميران الآن ابن سعود وابن الرشيد فخلطه الكاتب مع لواء اسمه نجد من أعمال البصرة وقالت إحدى جرائدنا أن ولاية من الولايات القريبة من الاستانة مثلاً بورصة مع أن واناً هي في أقصى تخوم الولايات العثمانية على الحدود الفارسية والروسية وقالت أخرى أنهم انشأوا خط تلفون بين غلطة واشقودرة فعربت

باشقودرة مع أنها اسكدرا إحدى أحياء الاستانة ويا بعد ما بين اشقودرة والاستانة وقالت إحدى جرائد الاستانة الكبرى أن والي بيروت زار جبلة مركز جبل الدروز مع أن جبلة على الساحل من أعمال بيروت وجبل الدروز في داخلية سورية لا علاقة لها مع والي بيروت إلى غير ذلك مما يقع أمثاله لصحافتنا كل يوم وهم يبحثون في بلادهم فما بالك بهم إذا تجاوزوهما إلى الصين والهند واوستراليا واميركا وأوروبا وأفريقية، وربما لا يخبط بعضهم عند كلامه على جغرافية الولايات المتحدة أو فرنسا أو انكلترا مثلاً بقدر ما يخبط في كلامه على ولايته نفسها إذ يكون قد درس جغرافيتها في مدارس الفرنسيس والأميركان والإنكليز حق الدراسة في كتب جيدة ونظر إلى كرة الأرض أو المصورات فطبق ما قرأه في الكتاب على المشاهد. ولكن علماء الجغرافيا في أوربا اليوم يرون تعليم هذا الفن على تلك الصورة متعباَ للذهن لا يلبث الطالب أن ينساه متى خرج من المدرسة وإذا ذكر منه فلا بذكر إلا اجماليات لا تغني من التفصيل شيئاً فقالوا أي فائدة للطالب أن تذكر له أن في المقاطعة الفلانية كذا من الأنهار والرؤوس وشبه الجزر والجبال والمدن والدساكر وهو يعتقد بأن ما يتناوله من هذا العلم هو من الكماليات لاغناء منه إلا بقدر ما في حسن الخط والرياضة الجسمية وكم من عالم رديء الخط ومن أديب لا يحسن اللعب على الحبل ولا يقفز مترين ولا يستطيع السير على قدميه ساعة أو التصعيد في جبل. يبد ان فن الجغرافية نافع في التربية نفع الرياضيات فهو علم تعقل وتدير هو علم صلات الأرض بالانسان ولذلك كان له شأن في تثقيف العقل فيه يدرسك المرء جسامة البحر المحيط وعظم غابات اميركا وأخلاق زنوج افريقية ويعودنا النظر إلى البلاد التي نعيش فيها ولا نعرف من امورها الطبيعية شيئاَ فلا نقدر ابعادها ولا قممها واوديتها ومضايقها رجوفها ولا لمَ كانت الأشجار الفلانية تجود في الساحل ولا تجود في الداخلية كل ذلك مما تعلمه الجغرافيا اليوم فيها نعرف تركيب طبقات الأرض واشكال النواتيء والمناخ وكيف تنبعث المياه واشكال ما يعيش فيها من الحيوانات والنباتات والانسان، وتدل كيف أن المرء مستعبد لقوى العالم واسير في الأرض وأنى له أن يجاهدها ويتغلب عليها ويبين الصلة المتبادلة بين الأرض والإنسان.

وفي القرن الماضي بدت الجغرافيا في مظهر جديد بما توفر لها من علوم طبقات الأرض والطبيعة وأصول الشعوب وعلم قياس البحار وعلم الأحداث الجوية والحيوان والنبات والاقتصاد السياسي ورحلات من وصفوا الأمم وصفاً مجرداً ووصفوا بلادهم وصفاً مدققاً وتمت لها اكتشافاتها ولم يبق إلا شيء يسير من الأرض يحاول العلماء اليوم أن يكتشفوه ونعني به القطب الشمالي والقطب الجنوبي، وكم ذهب في هذا السبيل من رجال وصرفت فيه من أموال. فغدا هذا العلم يبحث في مختصراته ومطولاته عن الحوادث الكبرى في الجغرافيا الطبيعية والجغرافية الاقتصادية ولكن علماء الجغرافيا ينتقدون اليوم تلك الطريقة التي كانت مثل الرجوع بعد تلاوة الكتاب إلى المصورات أو رسمها كما هو الحال في بعض مدارس الشرق النظامية قائلين أن الجغرافيا لا تعلم في قاعة الدرس وهي مقفلة على هذه الصورة وأن أحسن الطرق في تلقينها ما تعلمه الطالب في الأرض التي يتعلم جغرافيتها فيطوف فيها مع استاذه ويريه سهولها وجبالها وبحيراتها وأنهارها وخلجانها وبركانها وقالوا أن تبعة تدريس الجغرافيا على هذا النحول عظيمة لأنها في الغالب تضطر الاستاذ أن يصحب معه ثلاثين أو اربعين طالباً إلى اماكن وعرة ولكنها جميلة وقد جرب بعضهم هذه الطريقة في التدريس فكانت طريقته انجع في الاستظهار وتطبيق التعلم على الحس اكثر من تلاوة كتاب والنظر إلى مصور فيحيط الطالب بالصقع وكل ما فيه من ظواهر الطبيعية أكثر ممن يسيحون وهم في القطارات لا يعرفون من البلاد إلا ما يكتب لهم أن يطلعوا عليه من نوافذ مركبتهم، والاساتذة الذين يمثلون صقعاً لتلاميذهم بالتصوير الشمسي أو رسم المسطحات أو الطواف في الضواحي يغرسون فيهم ذوق النظر والتشبيه ويضمنون لهم الفرح الكبير فإذا عملت الجغرافيا على هذه الصورة ولا سيما ما كان منها مختصاً بمملكة المتعلم يكون لها شأن عظيم في تربية قوى المتعلمين فلا تدخل في عقولهم مبادئ مهمة فقط بل تعلمهم النظر والتدبر فيكون منها مجموعة تتكون منها أحسن اداة في التربية العامة واقوى عامل في التعليم العملي فيتلقى الطالب من تعليمها على هذه الصورة اصولاً ينتفع بها في حياته يوم خروجه من المدرسة. انتشار الألمان

قالت احدى المجلات الانكليزية المعتبرة: اخذت المانيا ترمي جهاراً إلى تكبير بلادها في الشرق والغرب فإن المحالفة الألمانية النمساوية تقوى كل يوم وتقترب روسيا منها بابتعادها عن انكلترا ويزيد الألمان في مداخلتهم في البلاد كلها بأنهم يؤسسون فيها المدارس والجرائد ويمثلون الروايات ويقيمون الحفلات الموسيقية ويحتكرون التجارة بالتدريج وقد فتحوا حديثاً في مدريد مدرسة نجحت نجاحاً كثيراً وللألمان في البلاد العثمانية صحافة خاصة وألمانيا تتقدم من جهة تخومها الغربية بخطا سريعة ولكنها ثابتة متينة وكأنا بالبلجيك وقد اصحبت عما قريب جزءاَ متمماً لاجزاء المملكة الجرمانية وسيكون شأنها شأن امارتي بافيرا وسكستونيا وقد كادت مدينة انفرس وهي سوقها الكبرى تصبح جرمانية بمشاريعها ورؤوس اموالها ونفوذها وتنظر المانيا جهاراً إلى بلاد القاع (هولاندة) والمستعمرات الهولاندية تريد أن تضمها إليها وأن المانيا على ما يتراءى من حالها قد اختطت لها خطة ستضم بها إليها اراضي جديدة وسيكون ذلك في اول فرصة متى حدث بينها وبين فرنسا أو انكلترا مشكل. النسر عند السوريين في مجلة تاريخ الأديان الفرنسوية أن الناظر في النواويس والقبور في سورية القديمة يجد صورة نسر وغراب وتاج محفورة في الحجر، وأحياناً لا يشاهد صورة غراب أو تاج ولكن قلما شوهد ناووس مهم إلا وقد زبرت عليه صورة نسر تارة منفرداً وحده وجناحاه مبسوطان وأخرى بين ذراعين إشارة إلى الصلاة وطوراً يحمل الميت على ظهره بكل ما في جناحيه الواسعين من قوة، وأنا لنشاهد هذا النسر على القبور الرومانية في عصر الامبراطورية بحيث يدعو ذلك إلى الظن بأن النسر السوري قد نقل على هذا الوجه إلى المدافن الرومانية ومنها نشأ الرمز الامبراطوري أي علم النسر الذي تحمله الكتائب، أما وجود النسر في القديم فذلك لأنه يعتبر في بعض الأديان السامية خادماً للشمس وهو الذي يحمل إليها الأرواح التي انفصلت عن الأجسام المستعبدة على الأرض، وانتقل هذا المعتقد السوري إلى رومية حيث كانوا يذهبون إلى أن النسر يحمل الامبراطرة إلى السماء، والنسر هو الحيوان المقدس للرب المشتري دام هذا الاعتقاد طويلاً وقد عثر على مسلة من القرن الرابع تمثل صورة امبراطور يسير في النعش وأمامه نسران يدلانه على الطريق

وكانت هذه الحالة امتيازاً للقياصرة يمتازون به عن الشعب، وهكذا نرى نفوذ الأديان السامية الأولى مؤثراً في معتقدات العالم الروماني. الحركة التجارية في روسيا يؤخذ من بيانات سنة 1910 في روسيا أن روحاً جديدة أخذت تدب في التجارة ففي تقرير إدارة الرسومات عن ستة الأشهر الأولى من السنة المذكورة أنه بلغت الزيادة في أثمان البضائع الداخلة إلى البلاد ما يربو على 125 مليون ريال، والأصناف التي زاد ورودها بكثرة هي الحديد والخشب وزادت صادرات الجلود 25 بالمائة عما كانت عليه، والمعلوم أن زيادة طلب الحديد دليل على حركة صناعية تجارية فالقسم الأوفر من الحديد هو لمد خطوط حديدية ففي سنة 1908 زيد إلى مجموع ما عند روسيا من الخطوط الحديدية 215 ميلاً وفي سنة 1909 زيد 137 ميلاً وأما في الستة الأشهر الأولى من سنة 1910 فقد زيد إلى مجموع ما عندها من السكك الحديدية 275 ميلاً وهي عازمة الآن على بناء 3000 ميل. الانتفاع بالكلاب بعد التربية الكلاب من جملة الوسائل التي تتخذها جمعية الصليب الأحمر لتخليص الجرحى من ساحة الحرب ولفرع الجمعية في فرنسا إدارة خاصة بتربيتها لهذه الغاية فهم يعلمونها أن تفتش عن الجرحى في الليل أو أثناء النهار فإذا حظي أحد هذه الكلاب بجريح يأتي إما ببندقيته أو قبعته إلى حيث يقيم الراهبات فعندها يرشد جماعة منهن إلى مكان الجريح وقد اتخذ المدربون لتلك الكلاب الوسائل الفعالة في تمرينها حتى لا تنبح عندما تظفر بجريح لئلا تزعجه بنباحها وأما في ألمانيا فهم يمرنون الكلاب على أن تقيم بجانب الجريح عندما تظفر به وتنبح إلى أن يأتي من يأخذه من جماعة الراهبات. ساعة من الزهور زار حديثاً الموسيو فالير رئيس جمهورية فرنسا مدينة بيرن من أعمال سويسرا وهي من أشهر المدن في العالم لصنع الساعات فقدمت إليه ساعة مصنوعة من الزهور الطبيعية قطر دائرتها 6 أقدام وهي معمولة من البنفسج والشقائق وعقاربها من زهور مختلف لونها عن لون دائرتها والأرقام من زهور يختلف لونها عن الجميع والزهور كلها مغروسة في

أصاصي علب صغيرة وقد أحكم صانعها ضبط حركتها إلى درجة أنها لا تقل في ضبط الوقت عن أحكم الساعات. إزالة الثلج البخار أحدث طريقة لإزالة الثلج عن الخطوط الحديدية وذلك بتوليد البخار في المحطة يسحب في أنبوبين من حديد يمر كل واحد منهما تحت أحد قضيبي السكة فإذا نزل الثلج يذوب لحماوة الحديد. الموسيقى عن بعد وفق حديثاً أحد سكان سان فرنسيسكو قاعدة ولاية كليفورنيا من الولايات المتحدة لأن ينقل صوت الفونوغراف بواسطة التلفون إلى مسافة 500 ميل وقد جرب ذلك جماعة من الخبيرين بفن الكهرباء فكان الكل يسمعون صوت الفونوغراف عن بعد يخرج الألحان بكل وضوح. أكبر مزرعة حمام في العالم أكبر مزرعة لتربية الحمام في العالم هي في ولاية كليفورنيا وهذه المزرعة مؤلفة من ثمانية أفدنة من الأرض شيدت عليها حظائر الحمام، وقد بلغ عدد ما تنتجه من الحمام 450000 طير في السنة لا يقل عدد المفرخين منها عن 100000 طير ومعدل الثمن الذي يباع فيه ذلك الحمام من ريالين إلى أربعة ريالات ومع ذلك فلم تعد بفائدة عظيمة على صاحبه لكثرة ما يتكبده من النفقات فهي كل يوم تأكل 6000 اوقية انكليزية من الحبوب عدا أجور المستخدمين الذين يقومون بخدمتها ويحافظون عليها وعلى صغارها من الجرذان والفيران والطيور الجوارح. الأفيون قالت مجلة الاجتماع الاميركية: بلغ ثمن ما صدر من الأفيون من الهند الانكليزية إلى الصين من سنة 1855 إلى سنة 1904 ما قيمته 85220 مليون روبية أي أكثر من 100 مليون روبية كل سنة وكان كل ما ربحته بلاد الهند من الأفيون الصادر إلى آسيا الشرقية عامة من سنة 1773 إلى سنة 1906 436000000 جنيه وابتدأت تجارة الأفيون في

الصين سنة 1767 فصادفت مقاومة شديدة من الحكومة والشعب الصيني معاً ولكن الحكومة الانكليزية أرغمت الجميع على قبول دخول الأفيون إلى بلادهم. المواشي والمراعي اشتهرت أستراليا بتربية الماشية وكثر عددها في تلك البلاد حتى أصبح الكلأ غير كاف لإطعامها فعمد الأستراليون إلى سقي الأراضي لتنبت عشباً يفي بالمطلوب ولما كان ماء الأنهر لا يمكنه إرواء كثير من الأرض حفروا آباراً ارتوازية فأصبحت الأرض التي تسقي من ماء تلك الآبار 3000000 فدان. أموال الانكليز بلغت الأموال التي أقرضها الانكليز إلى غيرهم من الأمم حتى آخر السنة الماضية 2693738000 جنيه ودخلهم منها 139791000 وقد أقرضوا في السنين الثلاث الأخيرة ما بلغ مجموعه زيادة على المجموع السابق 516 مليون ليرة انكليزية فبلغ ما أقرضه الانكليز لسكان الولايات المتحدة 688 مليون جنيه وما أقرضوه للجمهورية الفضية 269 مليوناً وللمكسيك 87 مليوناً وللبرازيل 94 مليوناً ولشيلي 46 مليوناً ولأوراغي 35 مليوناً ولبيرو 32 مليوناً ولسائر جمهوريات جنوبي أميركا 23 مليوناً ولمصر 44 مليوناً ولروسيا 38 مليوناً وللدولة العلية 18 مليوناً ولإسبانيا 19 مليوناً ولإيطاليا 11 مليوناً ونصفاً وللبرتغال 8 ملايين ولفرنسا 7071000 ج ولألمانيا 6061000 ومجموع ما يدينه الانكليز من أموالهم للبلاد الخارجية 1638000 ج. وللمستعمرات والهند 1554152000 ج، أو ثمانون مليار فرنك هذا مع أن المشهور بأن فرنسا أكثر الدول غنى وأوسع الأمم في بسط يدها بالدين لمن يريد مع أن ديونها لا تبلغ سوى أربعين مليار فرنك أقرضتها لغيرها في البلاد الخارجية. الجرذان لا شك في أن الجرذان تسبب كثيراً من الأمراض الوافدة كالطاعون فقد فكر الكثير في طريقة لمحوها مع أن البوم يفتك في عدد وافر منها كل سنة ومع الأسف أن الصيادين في أميركا يقتلون كل ما عثر الواحد منهم عليه ففي فرنسا وألمانيا حموا هذا الطير عدو الجرذان الطبيعي فبرهنت التجربة فائدته للزارعين والصيادين معاً.

أكبر مرساة أكبر مرساة في العالم وزنها 15 طناً ووزن سلسلتها 100 طن وهي لأكبر باخرة في العالم عرضت في معرض الهندسة والميكانيكيات في لوندرا. مطاعم الأولاد الصغار لا شك في أن الأولاد الصغار أحوج من غيرهم إلى الأطعمة الوافرة الغذاء ولكن هذا لا يتيسر وقت الظهر لأغلب أولاد المدارس العمومية في المدائن الكبرى لعدم استطاعة الأولاد الذهاب إلى بيوتهم لتناول الفطور وجلهم من أسرات فقيرة لا تستطع أن تطعمهم في المطاعم قرب المدرسة شيئاً من الطبيخ لغلاء أثمان الطعام فيها فهم يعطون أولادهم بضعة دريهمات يبتاعون بها شيئاً من الكعك والشاي والقهوة والشوكولاته ليسدوا بها رمقهم ففكرت الآنسة مابيل كتير من الشهيرات بفن تدبير المنزل العملي في حال أولئك الأولاد وأن هذا الطعام لا يقوم بما فيه من الغذاء بحاجة أجسامهم فطلبت إلى لجنة المعارف في مدينة نيورك بأن تجرب مطعماً في إحدى المدارس العامة يتناول فيه الأولاد فطورهم من الخبز مع البطاطا أو البندورة أو المعكرونة مع البندورة أو ما تيسر من أنواع الخضر مطبوخاً مع اللحم لقاء ثلاث (سنات) يدفعها كل طفل فرخصت لها لجنة المعارف وأعدت لها غرفة ومطبخاً في إحدى المدارس فابتدأت تلك الآنسة بعملها وكانت تحسب النفقة والدخل بكل دقة فكانت النتيجة أنها لم تكلف إدارة المعارف سوى عطلة المحل ومصروف الغاز والماء وفحصت إدارة الصحة العامة بعد ثلاثة أشهر من ابتداء العمل أجسام الأولاد الذين كانوا يأكلون في هذا المطعم وأجسام الأولاد الذين كانوا يكتفون من الفطور بشيء من الكعك والشاي أو الشوكولاته فوجدت أن صحة الأولين أحسن من الآخرين وزاد معدل وزن الآخرين بنسبة عشرة إلى خمسة إلى زيادة وزن أجسام الآخرين، فطلبت إدارة المعار إلى الآنسة المذكورة بأن تؤلف لجنة تحت إدارتها وتوسع نطاق عملها إلى عدة مدارس وخصصت لها في ميزانية المعارف 150 ريالاً كل سنة على كل مدرسة تؤسس فيها مطعماً لتقوم بالعجز ملخصاً عن مجلة الآورلوك. ثروة الأمم نشرت إحدى المحلات الإيطالية مبحثاً في ثروة يابان وقاستها بأمم الحضارة اليوم فتبين

منها أنها أفقر الدول الكبرى بأسرها فإذا حسبنا مجموع ثروة يابان نجد أنها إذا ملكت مئة فإن إيطاليا تملك 269 والنمسا 384 وروسيا 551 وألمانيا 683 وفرنسا 743 وانكلترا 1008 والولايات المتحدة 1397 وما من دولة كثرت ديونها مثل مملكة الشمس المشرقة فإنها تبلغ 22 في المئة من مجموع ما تملك على حين يبلغ دين إيطاليا 12 في المئة وروسيا 14 وفرنسا 14 وألمانيا 10 والنمسا 7 وإنكلترا 7 والولايات المتحدة 1 وإذا كان الفرد الياباني يملك 10 يانات مثلاً فإن الإيطالي يملك 23 والنمساوي 28 والألماني 42 والفرنساوي 42 والانكليزي 52 والأميركاني 73، وما من بلد في الأرض تكثر فيه الضرائب على الرعايا (ماخلا البلاد العثمانية) مثل يابان فإن الفرد فيها يدفع 12 في المئة من إيراده أما الإيطالي فإنه يدفع 12 أو 2 في المئة والنمساوي 11 و 3 والفرنساوي 9 و 70 والانكليزي 8 و 80 والألماني 6 و30 والأميركي 3 و 30. الجهر بالقراءة من محاضرة للمسيو إميل بوترواحد شيوخ العلم في فرنسا في هذا الموضوع ما تعريبه: من أنجع الوسائط المختلفة في التعليم والتربية على ما أرى القراءة بصوت عال، ولطالما ذكرت تلك المطالبات التي كان يتلوها على مسامعنا في صبانا أحد الأساتذة الماهرين في التلاوة آوة الفراغ، وتأثير البيان كل يوم في نفوس الناس مشاهد محسوس فإذا تركنا التمثيل جانباً الآن ألا نرى أن إلقاء الخطيب لخطابه يزيد في تأثيره في القلوب، ألا تلاحظون كيف يعنى الأستاذ عند إيراده جملة من الكلام البليغ يذكره بالصورة التي تلي بها. فلقد أدرك القائمون على التربية في كل زمن مكانة الجهر بالتلاوة فكان في آثينة أول معلم يتولى تربية الطفل رجلاً يعرف قليلاً من النحو كانت مهمته الأولى أن يدرسه أقوال الشعراء فكان يترقى بالتدريج في إنشاد جملة بعد جملة من كلام هوميروس أو أزيودوس والتلامذة يرددون ما يقول وكانت تلاوة الأسفار المقدسة في الكنائس المسيحية بصوت جهوري من أهم الأجزاء الجوهرية في العبادة في كل زمن، ونرى اليوم علماء التربية قد أقروا على فائدة التلاوة الجهرية، واتفق لي أن تأكدت ما لهذا التمرين من الشأن في المدارس الألمانية فإن له ولا سيما في مدارس البنات الشأن الأول فيقصدون أن ينبهوا في

العقول الشعور الوطني بتأثير النطق والمهارة في انتقاء الكلام وتنبيه الأفكار إلى الشعور بالجمال وبيان مكانة المؤلفين من الذكاء. وما برح عندنا (فرنسا) أجل رجال الإدارة والتعليم والصحافة يعنون كل العناية ببعث النفوس في المدارس على حب القراءة فقبلت وعملت في هذا السبيل أمور جميلة من العبث أن تحدثوا بها واكتفي في هذه المسامرة أن أبين تأثير القراءة الجهرية وكيف ينبغي للقارئ أن يقرأ حتى يتجلى هذا التأثير فأقول: إن القراءة تبعث في الخطاب روحاً، وفي هذه الكلمة جواب سؤالنا الأول ولكن ما هو سر هذه الحياة وأي معنى لهذه الاستعارة؟ فقد شبه أفلاطون الخطاب بالتصوير في قوله: إن الحال في الكتابة كما هو في التصوير فإن الصورة تتراءى للأنظار حية ولكن إذا سألتها لا تحير جواباً وهكذا الحال في الخطب المكتوبة فإذا سمعتها تظن أنها تفكر ولكن إذا سألتها بعض إيضاح عن الموضوع الذي تخوض عبابه تجبك جواباً واحداً أبداً، وإن خطاباً إذا أهين واحتقر ظلماً يحتاج على الدوام لمعونة من أبي عذره أما هو فعاجز عن الدفاع عن نفسه. ومعنى ذلك أن المؤلف إذا لم يكن مستصحباً لكلامه لا فائدة من تصوراته فهو إذا تلا كلامه يحفظ في ذهنه حوادث وأفكاراً وأحكاماً وتجارب وتحقيقات أدت به إلى تلك النتائج ولذلك تحف حول كل فكر عبر عنه بالكتابة مواكب غير مرئية من الأفكار التي تشرح الكلام وهي من توابعه، والخطاب المكتوب وحده لا يقوم بالإفصاح عن تلك المعاني المستترة وصوت الإنسان هو الكفيل بإثارة فكر الحضور على الانتباه لما فيه من الدقائق فإن ألوفاً من صور الكلام ليست سوى شروح تعين على إدراك القصد من الأفكار والصلات بينها وتعارض الأشكال وتقاربها والصورة الخاصة بالأشياء والغاية التي ينتهي إليها الفكر بل هو العمل بذاته الذي انصرف إليه الكاتب الذي يتجدد في فكر القارئ والمستمع بل هو الذكاء الراقد في غشائه المادي يتنبه ويحيي النفس، هذا هو التأثير الأول من الجهر بالتلاوة وهو من آكد الطرق وأفعلها في تفهيم الكلام بجلاء والتعمق بأسراره. لا أدري ما في الصوت البشري من سر يرسل إلى الإنسان فيبلغ شغاف قلبه، هذا السر أشبه بما يسمى في الطبيعيات الاهتزازات الحادثة في آن واحد، فترى القارئ والسامعين يهتزون معاً واضطراب الأول يفعل في الآخرين وبالعكس وبتأثير العقل الذي يذكرون

صنعه تنشأ هذه الظاهرة فهو الذي يحيا فيهم وحبه للحقيقة والجمال وهما أصل المكتوم من أفكاره ينبعث في روح أحبابه، وهكذا لا يفهم القارئ غيره بل يحبب المؤلف إلى سامعي كلامه فبسماع صوته يضيع اللسان المكتوب ماله من الكثافة والمادة ويغدو رمزاً خالصاً ويتسرب بالتدريج إلى النفوس الباحثة ويصبح كالصلة والعائد بين تلك الأرواح نفسها، وبينا تترنح الأعطاف تنفتح أبواب النفس على ما ينبغي ويشرع العقل يخاطب عقلاً آخر مثله. وعلى هذا فإن التلاوة بصوت جهوري تعلم وتشعر بنشاط غريب، وما الفهم والشعور بقوة إلا باعث على الإرادة إلا قليلا ومن صحت إرادته كان حرياً بأن يبدأ بالعمل، فمن تلاوة المصنفات الجليلة تنشأ أفكار سامية يكون من أثرها أن نرقى نحن إلى مستواها ونتفهم مغازيها فتفعل في أفكارنا وأفعالنا. أما كيفية القراءة فقد قال لي رجل مشهور بالتفنن والرياضات أن أحسن الطرق لإجادة القراءة هو أن يتلفظ الإنسان على وجه الصحة محافظاً على المخارج بحسب ما يعطيه الكلام والخطاب يفعل في النفوس كما تشاء ويفكر فيه الذهن بذاته وأن من يحاول أن يشرح فكر المصنف يحشر نفسه بينه وبين المؤلف حشراً على غير داع، ولمثل هذا الفكر أنشأ بعض نوابغ الشعراء منذ بضع سنين تمثيل روايات اللعب المعروفة حرصاً منهم على سلامة هذا الفن وممثلو هذه القصص لا يحاولون على الأقل أن يقوموا مقام المؤلف. ومن المحقق أن الواجب أن يقرأ ما في النص وأن لايحاد عما فيه فإن بعضهم يحرفون ما يجدونه مسطوراً أمام أعينهم خفة منهم أو عادة لهم الفوها أن يكتفوا بما حصل أو لقلة لين في ملكتهم أو لاهتمامهم بالموضوع تاركين ما تقضي به الأمانة للتأثير في فكر السامع بقدر ما يعطيه الكلام. وانه ليحرم على المربي أن يزيد وينقص من عنده ليلفت بذلك النظر إلى نفسه كما بفعل بعض الممثلين فيزيدون من عندهم قحة منهم واعند ليحوزوا استحسان الحضور لهم، ولن ينجح مرب يقصد من تلاوته على تلاميذه أن يعجبوا بقريحته وكذلك لا تكون تلاته لتسلية سامعيه كما يفعل بعض العامة فان الافكار العالية واللهجة الجميلة ليست من اداوات السرور والحظ بل يتوخى فيها ان يشترك سامعها بالحياة العالية المنبعثة من فكر قائلها،

وليس للقارئ ان يتطلب اعجاب السامعين به فيصفقوا له ويشكروه بل عليه ان يفنى امام من ينقل قوله بلسانه فيكون لسان حاله الامين فقط وهو وسامعوه على مستوى واحد من هذه الوجهة فليس له إلا أن ينكر نفسه وبذلك يضمن له النجاح. ولا تتأنى للقارئ افادة سامعه إلاه إذا شعر بما يقرؤه واحبه ليحببه إلى النفوس اما التصنع من المربي فهو اسلوب مضر متى فاجأه فيه تلاميذه تفقد منه الثقة والالفة اللتان هما شرط في نفوذه عليهم وليس اجدر من السير مع الفطرة والطبع في التلاوة وان يتحد بروح المؤلف وذاته وجوهره. بنظر في كلام المؤلفين إلى العصور التي قالوها فيها ليعلم انهم ثمرة تلك القرون التي عاشوا فيها فلا يأبى عليهم القارئ ذلك لئلا يخدعهم وبغشهم ولكن كلام الاعاظم نافع في كل زمن لانهم يكتبون كتابة تنفع على غابر الدهر يكتبون والمستقبل نصب اعينهم متوخين الكمال المطلق وعلى هذا فعلى القارئ أ، لا يكتفي بابلاغ احساسه الخاص بل ان يظهر الامور التي يذهب الكاتب على جليتها ولا يتيسر له ان يستعبد سامعيه إلا إذا خاطب حواسهم كما يخاطب قلوبهم واهانهم وان يبهجهم بثقة لسانه ولا يفوته أن الالسن خلقت لتتكلم فقد كتب البشر اللغة المحكية قبل ان ينطقوا باللغة المكتوبة. ولجودة الصوت شأن عظيم في التلاوة فالواجب ان تخرج الكلمات على ايسر وجه ورنين واطلاق وان يتلو الانسان منتصباً على رجليه ما امكن أو مستنداً على مؤخر كرسيه وان يفخم الكلام بقدر ما يعطي من دون اكراء ويكون جرسه صريحاً غنياً لطيفاً رخيماً، وغريب كم للطف الصوت من تأثير في مجامع قولب السامعين واعدادهم لتلقي الافكار فان من اهم الاجزاء الجوهرية في الالقاء جردة التنفس فالواجب ان يكون التنفس حراً لا قليلاً ولا كثيراً لطيفاً لا يشعر به. ثم تجب العناية بالتلفظ ومعلوم كم هو ينفع ويضر، ورب خطاب جميل اضر به فساد اللفظ ولاختلاف التلفظ في علائق الناس نفوذ حقيقي كثيراً مالا يقبل النسبة مع قدر هذا الخلق العقلي، والتلفظ على وجه عام يدل على المحيط الذي عاش فيه الانسان والقدر من التربية التي بلغها فهو نمام ينم عليك لمن لم يعرفك، إذاً فينبغي صرف الجهدان يكون اللفظ صريحاً صحيحاً ظريفاً، واهم جزء في هذا الباب اخراج الحروف من مخارجها وهناك امر

له دخل في احسان التلاوة وهو الجمال اللائق بالكلام واظهاره في مظهر متناسب مع سائر اجزاء الخطاب فيجب اولاً ان يضم ما يجب ضمه ويفصل ما يمثل من الجمل افكاراً متخالفة فيتردد التالي بين الوصل والقطع في العبارات فالوقف المهم ينم عليه اللفظ، قال كوت ان الوقف واخراج الحروف من مخارجها هما من اهم الشروط الاساسية في جودة القراءة، وكم من وقف يقوم مقام وصل ففي اللفظة الواحدة تنجذب المخارج المختلفة إلى واحد منها وتنقطع الجملة بعد كلمة أو بضع كلمات والقطعة بعد جملة والخطاب بعد ايراد بعض افكار عامة، وتجب اجادة النغمة وتنويعها على ما يليق بنظام وقلة تكلف ويعمد في الاحيان إلى السذاجة في النطق على الترتيل والتلحين وان يتأنى في الإلقاء لئلا يطيل المرء الخطاب على السامعين من حيث يريد اختصاره، ويزن الكلام فيبدأ بعد الوقف بسكون ثم يجهر رويداً رويداً فان الوزن قانون الحياة إذا وقع تطبيقه في الخطاب يملك صاحبه نفوس المخاطبين ويستهويهم ويدب الروح فيما يعرضه على مسامعهم وينتج من هذه الملاحظات سواء كانت عملية أو عامة أنه لا تتأنى القراءة بصوت عال بدون ان يعد القارئ ما يريد تلاوته فإن الارتجال في القراءة كما قال كوت لتلاميذه هي الليالي القمراء في الخطاب أي أن نورها مكوك فيه لا تظهر كل حين ولا يجب ان يستعد القارئ فقط بل ان يعد سامعيه أيضاً فيبدؤه باعطاء ما يلزم من الشروح ثم يتلو بلا انقطاع فان الشرح اثناء الإلقاء ينقص من بهجة الكلام، ويستدل القارئ على نجاحه في تلاوته من السكوت وقلة الحركة بين الجمع المستمع فإذا سادا فهناك الاستحسان وإلا فإن الجلبة والحركة لا تنشآن إلا من توزع النشاط الذي لا سبيل إليه بين اناس متنبهين حقيقة. تطهير الغرف جربوا في إحدى المدارس بانكلترا طريقة لتطهير الغرف وذلك أنهم يبلون كمية من نشارة الخشب بسائل مضاد للعدوى فتنثر تلك النشارة في ارض الغرفة مساءً وعند الصباح تكنس فكانت النتيجة أن صحة التلامذة والمعلمين تحسنت عما كانت عليه. الفقر في انكلترا ذكر بعض علماء الاحصاء ان انكلترا قد نهضت منذ اربعين سنة كما نهضت البلاد الأخرى في العلم والصناعة والتربية وتدبير الصحة والاسعافات والمعونات فهي وحدها

تنفق على التربية والصحة واعانة البائسين اربعين مليون جنيه بالنسبة لسنة 1871 وكان يرجى أن تخفف هذه النفقات الشقاء ولكن الامر زاد تفاقماً على العكس فكانت انكلترا تنفق سنة 1776 - 1، 557، 000 جنيه في السنة على الفقراء فصارت تنفق سنة 1906 - 14، 786، 000 وهي اليوم تعول 1، 700، 000 من السكان منهم 538، 000 تعولهم مدى حياتهم و 530، 000 تعولهم مدة طوية و 640 ألفاً تعولهم من شهر إلى سنة، وأن البالغين من الرجال منذ السنة السادسة عشرة إلى الخامسة والستين المحتاجين للمعونة ليزيد عددهم اكثر من النساء ومن الدواعي إلى ذلك كثرة انهيال الناس من القرى إلى المدن، ويرى الكاتب ان انكلترا تساعد على انتشار البؤس بما تمده إلى أهله من المعونات فيكسلون ويرتكبون المحرمات على أنها إذا سنت قانوناً للشيوخ تقل في بلادها بواعث الشقاء بالتدريج. الحسبة في الإسلام نشرت المجلة التونسية الفرنسوية مقالة في الحسبة جاء في خاتمتها أن العرب باختلاطهم مع الرومانيين والبيزنطيين والفرس والهنود صفت اذهانهم واقتبسوا الصناعات والفنون وهكذا جلبت إلى أفريقية انواع القرميد الملون والاقمشة الحريرية والجوخ الدقيق والألبسة الجميلة ونقل العبيديون إلى القيروان وتونس صناعات مصر، وجاء بعدهم ملوك الصنهاجيين ولا سيما الأمير أبو الحسن بن علي بن تميم المعز بن باديس وبعد أن عقدوا هدنة مع ملوك النصارى في صقلية أخذوا يتبادلون الهدايا والاعلاق النفيسة وذلك سنة 529. وأنشأ بنو حفص في تونس أبنية جميلة ونشروا العلوم والصناعات وملأوا خزائن الكتب بالأسفار الكثيرة فوهب أبو زكريا الحفصي 36 ألف مجلد من كتبه وانشأ المدارس ومنها مدرسة الشماعين ومسجد القصبة ومنارته الحالية حيث لا يزال اسمه منقوشاً على حائطها إلى اليوم وهو الذي انشأ الأسواق الموجودة إلى عهدنا في تونس والمتآفقة الشهرة فانشأ سوق العطارين والشوسة أي سوق الحفصي ومات سنة 614 في غنى ونعمة. وفي أيامه نزح إلى تونس أناس من الأندلسيين ممن طردوا من إسبانيا فاكرم عثمان باي وفادتهم ومد المحتسب لهم يد المعونة فجعل فقراءهم عند أناس من أهل البلاد يعملون لهم

واذن لغيرهم أن يسكنوا حيث أرادوا فابتاع اولئك النازحون أملاكاً واسعة وأراضي ذات ينابيع غزيرة وانشأوا فيها أبراجاً وتناسلوا ونزل معظمهم مدينة تونس بحيث يسوغ لنا أن نقول أنهم مدنوا أهلها بما حملوه إليهم من مدنيتهم وصناعاتهم، بل قد أسسوا مدناً مهمة مثل سليمان وبالي ونيانو وقرومباليا وتوركي وجديداً وزغوان وطوبورية وجريش الواد ومجاز الباب وتاستور وسلوقية والعالية وقلعة الأندلس وغرسوا الزيتون والتين وانشأوا الحدائق وعمروا الطرق ودمثوها بما اتوا به من بلادهم الأصلية من محادل (ملاسة) وما برح هؤلاء المهاجرون إلى اليوم يمتازون عن غيرهم وهم في تونس طبقة الأحرار. وقد انتهت الحال بأن جعلت بعض أعمال المحتسب في تونس بيد مجلس العشرة الأعيان وكلهم ينتخبون من أهل تونس ومن أصل أندلسي ماحلا إثنين يكون أحدهما من صفاقس والثاني من جربة ويجب أن يكونوا كلهم من أهل المذهب المالكي ومن معلمي الشواشية أي صناع الطرابيش ماخلا الجربي والصفاقسي وإليهم يرجع الأمر في فصل قضايا التزوير في الشواشية والإشراف على عملها أن يكون صباغها جيداً وكان نقيب حرفة الشواشية تحت أمرهم. وكان من خصائص مجلس العشرة النظر في غش البضائع وهو يحكم على الجيد منها والعاطل فيما إذا حدث اختلاف بين البائع والمشتري وذلك بوساطة أمين التجار ولم يكن أعضاء هذا المجلس يقبضون راتباً ولا يحضر عضو جربة وصفاقس في مجلس العشرة إلا إذا عرضت مسائل تجارية، وكان لأعضاء هذا المجلس امتيازات خاصة كأن يكون لهم حق التصدر على سائر التجار ويجلسون في بعض الأحوال بالقرب من الباي، وقد تولت محكمة العرف اليوم ما كان يتولاه مجلس العشرة سابقاً من أمور الاحتساب يحكمون فيما يعرض من المسائل كما يحكم أهل الخبرة وهذه المحكمة مؤلفة من أمين التجار وعشرة معاونين، وقد أخذ شيخ المدينة ينظر في بعض الأعمال التي كان يتولاها المحتسب سابقاً فهو يرأس نقباء الحرف وحكمه لا يقبل النقض والإبرام فيما يحدث من الاختلافات في مسائل الصناعات وهو المكلف بحجز أموال المفلسين وبيعها في تونس وتوزيع ما حصل من أثمانها على أرباب الديون على اختلاف تابعيهم وهو يبيع الأملاك التي رهنها بعض التونسيين ومشايخ الحارات هم اليوم مضطرون إلى أن يقدموا بياناً مطبوعاً بمن يولد

ويتوفى في أحيائهم من الوطنيين وهؤلاء المشايخ اليوم صورة مصغرة من المحتسبين أمس. الإنسان والمدنية نشرت مجلة الاقتصاد الانكليزية مقالة جاء فيها أنه يستدل من الإحصاءات بأن معدل تولد البشر أقل في الأغنياء مما هو بين الفقراء وأنقص بين أرباب الأشغال العقلية مما هو بين الأميين أرباب الصناعات والعملة بحيث يسوغ لنا أن نقول على الجملة بأن بين كثرة النفوس والمدنية عداوة حتى أن الحضارة يوم تبلغ أوجها لا يبقى على الأرض أحد يستمتع بها، وقد أوردت المجلة أرقاماً لإثبات حجة هذه الدعوى فقالت أن الأمراض التناسلية هي في الأغنياء أكثر منها في الفقراء وفي المدن ولا سيما الكبرى أكثر منها في الأرياف حتى أنه ليتعذر من أجلها على النساء أن يلدن كثيراً أو أن يكتفين بولد واحد. وكذلك يحدث مثل هذا التأثير من الأمراض العصبية والعقلية التي هي تابعة لارتقاء المدنية كما يتبع الظل الجسم، والسبب الرئيسي في قلة الولادات قلة الرغبة في أن يرزق الناس أولاداً لأن المدنية كلما تقدمت ينظر إلى الأولاد بأنهم حمل وضيق على أبويهم. طعام الأقوياء قل من المسائل التي تضاربت فيها الآراء تضاربها في تعيين كميات الطعام وكيفيته على ما يليق بالإنسان وأدت الأبحاث الحديثة إلى أن طعام الإنسان يختلف باختلاف الجنس والمهنة والمناخ ولكن الدكتور سيبرت قد اجتاز هذا الحد وهو يؤكد بعد مشاهداته الشخصية مدة خمسين سنة لأشهر مصارعي أميركا أن كل إنسان يحتاج إلى طعام خاص به فقد قال من مقالة له أن أقوى رجل عرفه هو المصارع الشهير سيجفريج أتى إلى محلي - لأن الدكتور المذكور مؤسس محل يأتي إليه المصارعون ويعيشون تحت نظارته - وهو في العشرين م نعمره وبعد أن تمرن مدة ثلاثة أشهر زادت قوته زيادة عظيمة وكان الطعام الذي يختاره لنفسه أغلب ما يكون من الخضر والحليب والخبز مع قليل من اللحم وكان عشاؤه قليلاً من الحليب مع شيء من السكر وقطعة من الخبز مدهونة بزبدة وعلى هذا الطعام أصبح على شيء من القوة في أطرافه وظهره جعلته من أشهر المصارعين مع قلة اشتهاره بالحذق وخفة الحركة وكثيرون ممن أعرفهم أرادوا أن يحذوا حذوه في طعامهم

فكان أغلبهم يصابون بسوء الهضم وهكذا المصارع بيتروس باريوثر كان في صباه ولداً منبوذاً لا يأكل في أغلب الأوقات سوى شيء من الخبز الناشف لفقره وبعد أن قضى مدة الخدمة العسكرية اتخذ الصراع مهنة وفي السابعة والعشرين من عمره أثبت أنه أقوى رجل من وزنه فهو يرفع وزنه من الأثقال إلى فوق رأسه سواء كان بيده اليمنى أو اليسرى وهو معتدل في أكله يفضل الأطعمة البسيطة، وقد شاهدت كثيراً ممن يأكلون أكثر من هذين الرجلين ويتناولون اللحم بكثرة وهم دونهما بمراحل في القوى واحتمال التعب، معرباً عن مجلة العلم الأميركانية. تواريخ المكتشف والمستعمر من البلاد والجزر في العالم اكتشف كولمبس أميركا في 11 تشرين الأول سنة 1492، اكتشفت جزائر (أندرينوفزي) بين آسيا وأميركا سنة 1760، استعمر البرتغاليون أنغولا سنة 1482 ثم استعمرتها إنكلترا سنة 1650، أدخلت إنكلترا غرس الشجر إلى (أنغولا سنة 1650)، استعمرت إنكلترا أنتيفو سنة 1632، إكتشف المكان المعروف بممر رئيس الملائكة سنة 1419، استعمرت هولاندا جزيرة (اريوبا) سنة 1634، اكتشفت مملكة البرتغال جزيرة (أزوس) سنة 1419، اكتشف خليج (يافن) سنة 1622 اكتشفت جزائر (باهاما) سنة 1659 واستحوذت عليها انكلترا سنة 1718، اكتشفت (تبربروس) واستعمرت سنة 1614، استعمرت انكلترا جزيرة (بربودا) سنة 1628، اكتشفت جزيرة (بارينفتن) في حزيران سنة 1793، حصنت هولاندا مدينة باتافيا جزيرة في جاوه سنة 1618، اكتشفت جزير (برمودا) واستعمرت سنة 1612، بدأ باستعمار بوسطن (ماس) في الولايات المتحدة سنة 1630 مرت مراكب الانكليز في خليج (باي) لأول مرة في 21 آذار سنة 1787، عمرت فرنسا جزيرة (يوربون) سنة 1672، اكتشفت برازيل سنة 1486 وعمرها السبانيول سنة 1515، ثم استعمرتها هولاندا سنة 1624، ثم تولتها برتغال سنة 1654، اكتشفت جزيرة بريطانيا نحو سنة 90 للمسيح، عمرت (كالدونية) في أميركا سنة 1699، اكتشفت كلفرنيا في أميركا نسة 1543، اكتشفت (قابون) كندا سنة 1499، ثم اكتشفتها فرنسا سنة 1508، اكتشفت جزائر كاناريا سنة

1344 واهديت إلى اسبانيا سنة 1393، اكتشف رأس بلانكو في أفريقية سنة 1441، اكتشفت بريطانيا رأس بريطانيا سنة 1584 ثم استحوذت عليه فرنسا سنة 1632 ثم استرجعته انكلترا سنة 1745 ثم استرجعته فرنسا سنة 1748 ثم استردته انكلترا سنة 1758، اكتشف رأس جزائر (دي فرد) سنة 1447، اكتشف رأس الرجآء الصالح سنة 1487 واستعمرته هولاندا سنة 1651، طافت السفن حول رأس (هورن) لأول مرة سنة 1616، اكتشفت (كارولينيا) إحدى الولايات المتحدة سنة 1497 واستعمرت سنة 1629، اكتشفت جزائر (كريبني) سنة 1595، اكتشف كولمبس جزيرة (الهررة) في سنة 1492، استعمرت فرنسا جزيرة سابيني سنة 1635، اكتشفت جزيرة سيلان سنة 1506، اكتشفت جزيرة (خاتام) في حزيران سنة 1793، اكتشفت اسبانيا (شيلي) في أميركا سنة 1518 وغزاها الإسبانيون سنة 1540، يمم البرتغاليون الصين لأول مرة سنة 1517 وحكم في سنة 1595 وعمرتها انكلترا سنة 1626، اكتشفت مملكة الكونغو سنة 1482 واستعمرتها برتغال سنة 1486، استعمرت هولاندا (كوركوا) سنة 1634، استعمرت (دربيني) سنة 1700، اكتشف مضيق (دفس) سنة 1512، اكتشف كولمبس جزيرة (ديسيدا) سنة 1419، اكتشفت جزيرة القديس (دومينكو) سنة 1492، اكتشف كولمبس دومينيكا في سنة 1493، اكتشفت جزيرة الشرق سنة 1722، اكتشف البرتغاليون شرقي الهند سنة 1497 وأمها الإنكليز في سنة 1591 ثم الهولانديون في سنة 1595 ثم رهط من انكلترا سنة 1601 ورهط من فرنسا في السنة نفسها ثم رهط من الدينمرك في سنة 1612، اكتشفت جزائر (فولك لاندا) في سنة 1592، اكتشف القبطان قابون فلوريدا في أميركا سنة 1500 واستعمرت سنة 1763 اكتشف مضيق مرو بشير سنة 1558 اكتشفت جزيرة الثعالب في شمالي المحيط الباسيفكي سنة 1760 اكتشفت جزائر كالاباغوس سنة 1700 أسس القائد (أوغلترب) مستعمرة جورجيا الولايات المتحدة سنة 1739، استعمرت هولاندا جزيرة كوري سنة 1617، استعمرت فرنسا جزيرة غرنادا سنة 1652 اكتشفت (غرنيلاندا) في سنة 1585 واستعمرت في عامي 1721 و 1731، اكتشف كولمبس جزيرة (غودلوب) سنة 1493 واستعمرتها فرنسا سنة 1653 اكتشف البرتغاليون شاطئ غينيا سنة 1482 وباشر القبطان هوكن في انفلشمن من نواحي ذلك الشاطئ بتجارة الدقيق سنة 1563

اكتشفت جزيرة القديسة هيلانة سنة 1502 وملكتها انكلترا سنة 1600 وعمرتها سنة 1651 اكتشفت جزيرة هودو في المحيط الباسيفيكي في حزيران سنة 1793 اكتشف القبطان هدسن خليج هدسن المسمى باسم مكتشفه سنة 1607 اكتشف أيسلاندا أحد قطاع السبل من الدنيماركيين سنة 1861 اكتشف كولمبس جاميكا سنة 1494 واستعمرها الإسبانيون سنة 1509 اكتشفت يابان سنة 1542 وزارها جماعة من الإنكليز سنة 1612 اكتشف الفرنسيس بوزيانا في الولايات المتحدة غربي نهر مسسبي العظيم سنة 1633 واستعمروها سنة 1718 وسلموها إلى الولايات المتحدة أو تنازلوا عنها سنة 1801 اكتشف البرتغاليون مدغسكر سنة 1506 اكتشفت جزيرة (مديريا) في سنتي 1344 و 1418 اكتشفت فعلان سنة 1520 اكتشفت جزيرة مرغلانته سنة 1493 استعمر اللورد بلتيمور مركندا سنة 1633 وبلغت نفقات استعماره 40000 ليرة إنكليزية اكتشفت جزيرة موريتوس سنة 1598 واستعمرت سنة 1721 حكم الإسبانيون المكسيك سنة 1519. . . . 1521 اكتشف منتريال كندا سنة 1534 واستعمرت سنة 1629 اكتشف كولمبس مونترست في غربي بلاد الهند سنة 1493 واستعمرتها انكلترا سنة 1632 استعمرت إنكلترا نيفس سنة 1628 اكتشفت كلدونية الجديدة سنة 1774 استعمرت انكلترا الجديدة سنة 1620 اكتشف قابون فونلندا الجديدة سنة 1497 واستعمرت سنة 1614 اكتشفت غيونيه سنة 1699 اكتشف الهولنديون هولندا الجديدة سنة 1627 واستعمرتها انكلترا سنة 1787 استعمر الاسوجيون نيوجرمي في الولايات المتحدة سنة 1637 اكتشفت إسبانيا المكسيك سنة 1518 اكتشفت زيلاندا الجديدة في سنة 1660 ثم في سنة 1769، بنيت بليموث واستعمرت سنة 1620 استعمرت نيويورك في الولايات المتحدة سنة 1664 اكتشف الممر الشمالي الشرقي إلى روسيا سنة 1553 استعمرت نوفا سقوثية سنة 1622 اكتشفت نوفازمبية سنة 1553 اكتشفت جزائر جورجيا الثلاث في 18 حزيران سنة 1765 اكتشفت جزيرة هاي ها حيث قتل القبطان كوك سنة 1778 اكتشف خرائب مدينة النخل في صحراء سورية سنة 1678 استعمرت باناما سنة 1516 اكتشفت بارغواي سنة 1525 استعمرت بنسلفانيا الولايات المتحدة سنة 1680 اكتشفت بيرو سنة 1518 اكتشف الإسبانيون جزائر فلبين سنة 1521 اكتشف مضيق بث في غربي الهند في 30 نيسان

سنة 1760 اكتشف بورتوريكو سنة 1497 استعمرت هولندا سابا سنة 1640 استعمرت سالم ماس في الولايات المتحدة سنة 1628 اكتشفت جزائر سندويش في المحيط الباسيفكي سنة 1778 استعمرت سفانا سنة 1732 اكتشف شاطئ سيراليون سنة 1460 اكتشفت جزائر سوشى في المحيط الباسيفكي سنة 1765 اكتشفت جزيرة سليمان في أميركا سنة 1527 اكتشفت جزائر سومور سنة 1527 اكتشفت هولندا جزيرة القديس يوستينس سنة 1632 اكتشف نهر سانت لورانس واستعمره الفرنسيس سنة 1508 اكتشفت جزائر سوفولك سنة 1764 استعمرت انكلترا سورثيم سنة 1764 واستعمرت (سورت) سنة 1603 اكتشفت جزائر ثاثي شرقي الهند في 29 حزيران سنة 1795 استعمر الهولنديون توباغو سنة 1642 اكتشف الإسبانيون جزائر بترقارس سنة 1583 استعمر الإسبانيون بترافيرمه سنة 1524 اكتشفت جزيرة ترانيداد سنة 1498 استعمرت روسيا برقرثي سنة 1752 اكتشف السر والتر فرجينيا سنة 1584 اكتشف كولمبس غربي الهند سنة 1492. أمريكا: يوسف جريس زخم. تفنن العرب صرح أحمد بك زكي في المؤتمر الدولي الذي عقد في الشهر الماضي بمصر لتحسين حالة العميان أن علماء العرب قد سبقوا الأوروبيين إلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان فلخص كتاب نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي وقال أنه يرجع إلى ابن الشرق الفخر في وضع طريقة الكتابة البارزة للعميان وإذا كان المسيح عليه السلام يقول أعطوا ما لقيصر لقيصر فيجب أن نعترف بأن أول مخترع لطريقة الكتابة بالحروف البارزة هو شرقي عربي هو علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي الذي فقد بصره في أول عمره وشرح طريقة معرفته لأثمان جميع الكتب التي كانت في مكتبته بأنه كان كلما اشترى كتاباً لف ورقة على شكل حرف من الحروف ولصقها في الكتاب وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بلمسها على معرفة ثمن الكتاب واستطرد إلى القول بأن زين الدين الآمدي المتوفى سنة 712 هجرية أو 1312 ميلادية سبق برايل إلى اختراع طريقة الكتابة بنحو ستمائة سنة لأن برايل

الفرنسي لم يخترع طريقته إلا منذ ستين عاماً فقط. قلنا وعجيب تفاني المصريين في إحياء المدنية العربية فإذا أثبت صديقنا أحمد زكي بك أن العرب اخترعوا طريقة الحروف البارزة فقد أثبت في السنة الماضية صديقنا أحمد تيمور بك أن العرب سبقوا الأوروبيين في الطيران فقال: مهما نسينا أو تناسينا فلن ينسى التاريخ أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس كلما ذكر زبلن وسنجر وإضرابهما فإن من يرجع البصر في صفحاته يجد بين من خصهم الله بمواهب في استخراج العلوم واستنباطها اسم هذا الحكيم مقروناً بالغرائب والمدهشات فهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وصنع الآلة التي تعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلا يخيل للناظر أنه حقيقة فقال مؤمن بن سعيد الشاعر يداعبه: سماء عباس الأديب أبي القا ... سم ناهيك حسن رائقها من أبيات تركت ذكرها لقذاعة هجوها، وهو الذي احتال في تطيير جثمانه فكما نفسه الريش ومد له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في ظهره لأنه لم يعمل له ذنباً ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه وفيه يقول الشاعر المتقدم ذكره من أبيات: يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كان جثمانه ريش قشعم فنرى من ذلك أن الرجل كان من أسبق الفائزين بالطيران من بني الإنسان ولا يغض من اختراعه تقصيره عن الشأو البعيد فيه فذلك شأن كل مشروع في بداءته وحسبنا أن منتحلي هذه الصناعة مع ما مر عليهم من القرون لم يزالوا دون الغاية المطلوبة منها إلى اليوم أفلا يكون من الإنصاف التنويه بذكر هذا المخترع. طول الحياة ثبت أن مدة الحياة البشرية آخذة بالازدياد فقد كان معدلها في أوروبا خلال القرن السادس عشر للميلاد لا يتجاوز العشرين سنة فبلغ الآن 40 وربما 44 سنة ولذلك رأى معظم شركات ضمان الحياة أن يعيدوا النظر في قوانينهم ويتساهلوا في ضمانة النفوس وسبب هذه الزيادة في الأعمار ما بلغته العلوم الطبية في الخمس والعشرين سنة الأخيرة من

الارتقاء فتغلبت على الأمراض السارية، فالغشاء الذي كان يصيب حنجرة الطفل المصاب بالخناق كان فيما مضى يودي بحياته وهو اليوم لا يزعج الجراح لما فيه من وسائط الشفاء العاجل بفضل الحقن تحت الجلد بمصل الخناق وغير ذلك من التدابير ويقل اليوم المصابون بالحمى التيفوئيدية والقرمزية وذات الجنب أكثر من الزمن السالف والسل يعالج بوسائط تظهر نتائجها الحسنة اليوم بعد اليوم والتهاب السحايا الدماغي الشوكي قد قل عدد الهالكين من المصابين به عن خمس أو ست سنين إلى ثلاثة أرباع، وقد تغلبت الوسائط التحفظية والطبيعية في مقاومتها لأنواع الفساد البكتيري فظهرت بها نتائج مؤثرة بحيث تمكنت بالتدريج لإفراز السميات المرضية المسببة للحمى. ومع هذا فإن بعض المتشائمين من الأميركيين قد نشروا هذه الأيام مفكرة تبعث على القلق حسبوا فيها معدل عدد الوفيات في الولايات المتحدة وغيرها من بلاد العالم الجديد والقديم وحققوا أسباب الوفاة فصرحوا بأن الأرقام التي يستشهد بها في دعوى طول الحياة ليست صحيحة إذ يقتصر فيها على إحصائيات الأولاد فقط لأن هؤلاء يبلغون في الواقع سن الفتوة ولكن الاضطرابات التي تبدو في تراكيبهم في سن الشباب تظهر مؤثراتها في الحال، فالمشاهد يدل الآن على أن الأولاد تقل الوفيات فيهم ولكن من بلغوا من الرجال سن الشيخوخة قلائل. ومن رأي الأستاذ فيشر في نيويورك أنه يندر وجود أشخاص هم في مأمن من الأوجاع المهلكة مثل النقرس والرثية الروماتيزم وسوء الهضم والبول السكري ومرض برايت والزائدة الدودية قال أن الرجال والنساء عرضة لعوادي الأعداء المستترين على اختلاف في الدرجات فالحياة بالنسبة إلى كل واحد منهم ليست في الحقيقة طويلة بل هي متسعة ومعنى ذلك أن الرفاهية التي تحيط بالحياة تقصر حبلها، ومن جملة تلك السعة في الرفاهية التغيير الذي طرأ على الطعام فإن الناس بالغوا في التأنق فيه حتى أنهم ليقتلون أنفسهم وهم لا يشعرون، وقد بلغ من هذه التبدلات أنك لا تجد امرءاً حتى في العيال المستورة يقنع بالإقلال من الطعام على النحو الذي كانوا عليه فيما غبر، فنشأ من هذا التفنن في الطعام اضطرابات عضوية لا يحتاط لها بل يسعى الناس إلى زيادة شرورها مختارين، فالناس يكثرون من تناول الأطعمة وكثيراً ما يفرطون ويبحثون عن الأطعمة المحضرة أنواع

التحضير اللذيذ وكثيراً ما يشفعونها بالمقبلات والأشربة الكحولية ويتعرضون لما ينجم عنها من المضار بل يستقبلون عن رضى الأمراض المعدية وما يتبعها من الأوصاب. بالمقبلات والأشربة الكحولية ويتعرضون لما ينجم عنها من المضار بل يستقبلون عن رضى الأمراض المعدية وما يتبعها من الأوصاب. ولقد أفحشوا في التأنق فتراهم يعنون كل العناية بالولد فيحظرون عليه كل ما يضر به حتى إذا نجا من أخطار الطفولية وأصبح رجلاً يلقي بنفسه كل يوم مختاراً في هذه المهالك وهو لا يبالي، الناس كلهم يطمعون في الحياة ما خلا بعض شذوذ ولكنهم لا يهتمون بما يجب القيام به لإطالة حبل الحياة. وبعد فإن فيشر وجمهور علماء الصحة يعلقون شأناً عظيماً على مجموع التراكيب التي تؤثر في حركة الطعام في التركيب النامي لتجعله صالحاً للقيام بجميع الوظائف اللازمة لإنقاذ الحياة ونشؤها بل إطالتها، متى ازدردت الأطعمة على ما ينبغي ووزعت في الأقنية والأحشاء على النحو الذي يوجبه علم منافع الأعضاء فالتدبير الغذائي يجري على نظام راسخ فلا يحدث أدنى عارض ويظل الجسم سالماً يقاوم الطوارئ فتمضي السنون وهو صحيح وتكون الشيخوخة قليلة المزعجات على صاحبها، أما إذا تمت حركة الطعام على طريقة معتلة رائدها الإهمال وقائدها الاختلال ولا سيما فيما يختص بعمل الآلة الهاضمة فتنشأ من ذلك أوجاع لا تلبث أن تكون مزمنة تضعف تركيب الجسم وتسلمه إلى الأمراض الباطنية. لا يكفي المرء أن يأكل ليعيش بل الواجب لحماية الحياة وجعلها مقبولة وإطالة حبلها أن يعلم كيف يقوم بعلم الأكل ولا يعد هذا فناً فقط بل هو علم وهوراس فننشر الأميركاني هو رأس الدعاة إلى هذه الطريقة في عدم الإسراف في الطعام وتجويد القضم والخضم ليجود الهضم فقد كان هو نفسه مستخدماً في بيت تجاري في شنغاي وكان كمواطنيه من الأميركان يحب الرياضات البدنية وله صحة جيدة قوي العضلات ينصرف إلى الشاق من الرياضات في الهواء الطلق مثل المشي والركض والقفز والعراك وغيرها من الألعاب وهو يلين أعصابه، وكان من نتائج نشاطه ومعرفته أن جمع ثروة مهمة فحدثته نفسه أن يغير طرز حياته ويذوق من جميع اللذات التي يسمح له بها كيسه فمال إلى تخير الأطعمة

الفاخرة وآثر القصف على القصد فأخذ يطعم على خوانه كل يوم من الألوان المتبلة واللحم الغريض الحنيد والخمور الجيدة ما ساءت باستعماله معدته وكان يقضي الليالي في التدخين وتعاطي الأشربة فظهر الأثر السيء في هذه الطريقة من استعاضته عن المشي على الأقدام بالركوب في العجلات فسمن سمناً مفرطاً حتى لم يمض إلا قليل من الزمن إلا وقد أنكره أصحابه فكثر دمه وتورمت خدوده وثخنت رقبته وأخذت تظهر على سحنته أعراض الاستعداد لداء الصرع. وفي ذات يوم أصيب عقيب أكلة أكلها بفتور في جسمه دعاه إلى التفكر في صحته فأزمع بما فيه من عزيمة أن يعدل عن طريقته في التغذية ويختار غيرها تكون أشد في الانتظام وأن يتخلص من السمن والربالة لما ينشأ عنهما من الضرر وطفق يسير بجسمه إلى نظام مضمون ذاهباً إلى أن الجسم لا تغذيه كمية الغذاء ولا كيفيته بل شروط الهضم فيه وبين له أن ذلك مناط بلوك الطعام فمن هذه القاعدة وهي: على من يريد أن يعمر طويلاً أن يلوك طعامه كثيراً، هدته التجارب إلى هذه الطريقة التي نسبت إليه فسميت الطريقة الفلتشرية وهي عبارة عن خمس نصائح 1 أن ينتظر المرء الشهوة للطعام 2 أن تستشار الشهوة للطعام في اختيار الأطعمة 3 أن يمضغ الطعام بحيث تستخرج منه جميع المادة المغذية وتترك اللقمة تسوغ إلى المعدة من نفسها 4 أن يخصص للطعام ما يقتضي له من الوقت ولا يعجل في ازدراده وأن يذكر الإنسان أبداً أنه في صدد تناول طعامه فيصرف ذهنه إلى ما هو بسبيله على وتيرة منظمة ويطرد عن نفسه كل ما يلقيها في اضطراب 5 أن يقتنع أن كل وجبة هي عمل واجب في الحياة وأن يحسن القيام به بحيث يتوفر له الوفاء بهذه الغاية. بالغ فلتشر بذاته في التدقيق بهذه القاعدة فلم تمض إلا بضعة أسابيع إلا وتغير تركيبه، وعاد فأزهر شبابه ولطف قوامه وخف ثقله فأمسى 80 كيلوغراماً بعد أن كان 180 ثم ما عتم أن عاد إليه بعودة قوته الطبيعية نشاطه العقلي، وزال ذاك التعب الذي كان يشعر به أيام كان سميناً مشحماً وشعر بضرورة المشي على الأقدام وأن يعود إلى ما كان أخذ نفسه به من أنواع الرياضات في شنغاي، فظهر له أن قد تغير كيانه وعادت قواه إلى نشاطها في صباه وصفا ذهنه ورأى من نفسه استعداداً إلى العمل وبالجملة شعر كأنه رجع عشرين سنة

في عمره إلى الوراء وأنه سيعمر طويلاً بعد، كل هذا نشأ من تدقيقه في تلك القواعد الخمس التي سنها ومبالغته في الاحتفاظ بها والجري عليها وأخذ يقلل من كمية غذائه بدون أن يقتصر منها على ما يسهل هضمه وخضمه كما يفعل بعض من يمتنعون عن اللحوم ويكتفون بالبقول وأن يمتنع عن المشروبات الروحية امتناع الزهاد بل كان ينتفع بما يدخل جوفه ويتخذ أسباب حسن الهضم فيما يأكل ويشرب فلا يدخل بلعومه غذاءً إلا إذا أجاد لوكه جيداً، ولم يكتف فلتشر بما وصل إليه من هذه التجارب الصحية النافعة بل أراد أن يعم استعمال هذه الطريقة فكتب ما جرى له في الجرائد والمجلات ونشره في كراريس وزعها بلا ثمن على قومه فضحكوا منها بادئ الرأي إلا أن علماء الصحة اضطروا بعد حين إلى إمعان النظر فيما أتاه الرجل وجربوا بأنفسهم طريقته فأسفرت لهم عن نجاح وأوصى الناس بها حتى صار أشياع المذهب الفلتشري اليوم يعدون بالملايين في الغرب. وقد تبع فلتشر في طريقته الأستاذ باولو الروسي منذ سبع سنين فتبين له أن التغذية الحسنة متوقفة على الشهوة إلى الطعام وهذه هي الباعث الأقوى على هضمه والانتفاع به في الجسم فالجوع يحبب إلى النفوس الأطعمة على اختلاف ضروبها والأطعمة لا تفيد إلا إذا رغبت فيها النفس، ولا يحسن ما على المائدة من الصحاف وينفع المتناول منها إلا إذا كان هذا في فراغ من الذهن يمكنه من تقدير الألوان حق قدرها، فسرور المواكلين وطيب الأحاديث من العوامل النافعة في الهضم، والسرور على الخوان لا ينشأ من إجادة الطبخ والتنطع في اختيار الألوان بل بما يبدو على وجوه المجتمعين على الطعام من الابتسام. ومعلوم أنه يقتضي للجسم لتجديد الأنسجة وتوليد الحرارة الحيوانية اللازمة كل يوم لحفظ مرونته والقيام بوظائفه التنفسية كمية محدودة من المواد الدهنية والزلالية وعلماء الصحة والأجسام والأعضاء على اختلاف منهم في ذلك فمنهم من يقول بالإقلال من تناول اللحوم والاقتصار على البقول والألبان والثمار والبيض والأرز والزبدة ومنهم من يرى تناول اللحوم ضرورية لكل عامل يعمل بعضلاته والحقيقة أن التوسط في الأمر خير وأبقى، فالإكثار من اللحوم يسمم الجسم وربما حدثت منه في كثير من الأحوال مضار في الصحة منبهة القوة العصبية ومنهكة قوى الكبد والكلى وعلى العكس في تناول البقول فإن الاقتصار عليها يؤدي إلى اضطرابات هاضمة من شأنها أن تحدث ضرراً في المعدة وعليها فأكل

اللحم لا يؤذي بقدر ما يتوهمه بعضهم بل لا يؤذي إلا عدم الوقوف عند حد في تناوله. وقد رأى أحد علماء منافع الأعضاء من الألمان أنه يكفي لغذاء الفرد كل يوم 118 غراماً من اللحم وغيره من المواد الدهنية وقال لا بأس يجعلها 145 غراماً لمن يعمل بيديه قال غيره لا حرج من إبلاغها إلى 150 غراماً، وأكد أحد علماء انكلترا بأن من عمد إلى استعمال طريقة فلتشر في الاقتصاد في الطعام وإجادة مضغه يتأتى له أن ينقص نحو الثلث مما يأكل وتجود صحته. وقد جرب أساتذة من أميركا طريقة تنقيص وجبات الأكل فتخلصوا من أمراض كانت تؤلمهم مثل أوجاع الرثية الروماتيزم والشقيقة والمرة السوداء فعادت إليهم صحتهم ونشاطهم ومنهم من كان أصيب بالسل في الدرجة الأولى فاتخذ طريقة فلتشر فنجا من الموت وأصبح يستطيع أن يتعاطى أعماله العقلية ساعة أو ساعتين متواليتين بدون عناء. وقصارى القول أنه قد ذكر من اعتمدنا عليه من الافرنج في نقل هذا البحث أن الحياة هي عمل مجموع الوظائف التي تقاوم الموت، وأحسن طريقة في تأثير هذه المقاومة هي أن يتعلم الإنسان علم الأكل والقيام عليه، فالحياة هي علم معرفة التغذية، فمن لنا بشيوع طريقة فلتشر في بلادنا فيزيد الممتعون بصحتهم ويكثر النشاط على الأعمال البدنية والعقلية ويستغنى عن الطب إلا في الأمراض التي يستحيل الآن زوالها من العالم. إن لتعليم الناس تدبير الصحة أثراً معروفاً عند الأمم في نهوضها وهو من شأن الصحف والمدارس فالصحافة في هذه الديار قائمة على قدر الإمكان بما يفرض عليها في هذا الشأن ولو سار التعليم الابتدائي في الشرق على نحو ما هو عليه في الغرب لا تنفع الناس بما يتلى عليهم ويكتب لهم أكثر مما ينتفعون ولا سبيل إلى ذلك إلا بتلقين المدارس مثل هذه القواعد فعلى أساتذة مدارسنا ومديريها أن يلقوا على الأولاد مثل هذه القواعد فتتشر بها نفوسهم منذ الصغر لتنفعهم وتدفع عيالهم في الكبر.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات ذيل على طبقة الحنابلة اطلعت في الجزء الأول من المجلد السادس من مجلة المقتبس على ما كتبتموه عن (المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد) فسرتني عنايتكم بالحنابلة كما تعنون بغيرهم لما آلت إليه حالهم في هذه العصور الأخيرة من قلة رجالهم وندرة كتبهم وانطماس أخبارهم بعد أن أزهرت بهم مدارس بغداد ومصر والشام وغيرها وأفعمت بتآليفهم خزائن الكتب المشهورة وصدعت بأحكامهم أركان البدع المنتشرة على ما يلاقونه من الفتن والمحن (إلى يومنا هذا) قال أبو الوفا ابن عقيل البغدادي المتوفى سنة 513 وهو ما هو وقد سئل عن الحنابلة (هم قوم خشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المداخلة وغلب عليهم الجد وقلَّ عندهم الهزل وعزت نفوسهم عن ذل المراياة وفزعوا عن الآراء إلى الروايات وتمسكوا بالظاهر تحرجاً عن التأويل وغلبت عليهم الأعمال الصالحة فلم يدققوا في العلوم الغامضة بل دققوا في الورع وأخذوا ما ظهر من العلوم وما وراء ذلك قالوا الله أعلم ولم احفظ على أحد منهم تشبيهاً إنما غلب عليهم (الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار من غير تأويل ولا إنكار) والله يعلم أني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة خالية من البدع سوى من سلك هذا الطريق والسلام. هذا وقد رأيت أن أكتب إليكم عن ذيل صنف بعد الكتاب المنوء به للسيد محمد كمال الدين الغزي مفتي الشافعية بدمشق المتوفى سنة 1214 في نسخة خطية عندي ذكر في مقدمته سبق أبي الحسين محمد ابن القاضي الكبير أبي يعلى الفرا إلى وضع طبقات الحنابلة واختصار شمس الدين محمد بن عبد القادر النابلسي المقدسي له (ولم نره كذيل الجمال يوسف بن عبد الهادي المقدسي وذيل تقي الدين بن مفلح) وتذييل الحافظ زين الدين بن رجب عليه وجمع العليمي كل ذلك في المنهج الأحمد طبقاته المذكورة ثم ابتدأ الغزي ذيله من أول القرن العاشر حيث وقف سلفه العليمي حتى وصل إلى آخر القرن الثاني عشر في 180 صفحة فجاء في من رجال العلم والدين أمثال جمال الدين يوسف بن عبد الهادي المقدسي صاحب المؤلفات الحديثة والطبية والتاريخية المدهشة المتوفى سنة 909 وشرف

الدين موسى الحجاوي مفتي الحنابلة بدمشق وصاحب متن الإقناع المتوفى في حدود سنة 960 والشيخ مرعي الكرمي المقدسي ثم المصري صاحب التآليف في كل فن المتوفى سنة 1033 وأبي الفلاح عبد الحي العكري الدمشقي صاحب شذرات الذهب في أخبار من ذهب الذي بدأه من الهجرة إلى سنة ألف منها وبني مفلح وبني الشويكي وبني الرجيمي وبني البلباني وبني الجراعي وبني المواهبي وأعلام من الديار النجدية والنابلسية رحمهم الله تعالى. وقد وقع في نفسي أن أجمع تراجم رجالنا في هذه المائة سنة الأخيرة وصلاً لهذه السلسلة البديعة فوفقت ولله الحمد لجمعها في 46 صفحة. وحبذا لو صحت الأحلام بطبع طبقات العليمي فذيله المنوه به غير أنه بالنظر لعظم هذا المشروع الذي يحتاج فيه إلى التعاون على نفقات الطبع الباهظة وقلة الحنابلة في دمشق بحيث لا يتجاوزون أصابع الكف أرى من الواجب على من عرف تاريخهم ووقف على سيرهم أن يشتركوا بسهام الطبع لا كون أو لهم إقداماً وأعظمهم سهماً وأشكرهم. دمشق: محمد جميل الشطي. مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سورية ولبنان تعريب الشيخين فليب وفريد الخازن. بمطبعة الصبر في جونية من لبنان سنة 1910 و1911 المجلد الأول ص462 والثاني 480 أجاد المعربان الفاضلان في نقل هذه المفاوضات والرسائل السياسية من الإفرنجية إلى اللغة العربية لأنها مادة تاريخة مهمة وأدلة يصح بها نقل الناقل ورواية الراوي وكلام المتكلم خصوصاً وقد قلت الكتب السياسية التاريخية التي وقع فيها ذكر سورية. والمجلدان وإن كان أكثر ما يدور عليه محورهما له مسيس شديد بسياسة لبنان إلا أن سائر أقطار سورية لها علاقة قوية بذلك خصوصاً وادي التيم والبقاع ودمشق وغيرها من البلاد التي نشبت فيها تلك الفتنة المشؤومة المعروفة بفتنة الستين 1860م التي انتهت بمنح لبنان

استقلالاً إدارياً بمساعدة فرنسا وانكلترا، ومعلوم أن السياسيين لا يجوز لهم أن ينشروا أموراً تتعلق مباشرة بسياسة دولهم إلا إذا مضى عليها خمسون سنة ولذلك ساغ لإخلاف أولئك السياسيين الأجانب الذين كان لهم دخل في سياسة سورية على ذاك العهد أن ينشروا ما كتب في هذا الشأن ليكون تاريخاً، فالشكر كل الشكر لناشري هذا السفر النافع ومعربيه وعسى أن يترجم العارفون باللغات كل ما له مساس بحالة هذا القطر لتعم به الفائدة ونعرف ماذا يقول فينا خصومنا أو أولياؤنا لنا أو علينا. فصل القضاء جمع واضع هذه الرسالة نحو 1850 لفظة عربية قد يشتبه التفريق بينهما فيما إذا كانت تكتب بالضاد أو الظاء مرتباً لها على حروف المعجم مترجماً لها إلى اللغتين العثمانية والفارسية وقد قال في المقدمة أن جمعاً من العلماء الأعلام صنفوا في هذا الشأن كالإمام ابن مالك والحريري وابن سهل النحوي وغيرهم لكنهم لم يرتبوا ما صنفوه على حروف الهجاء فصعب استخراج المقصود على من يعتني بهذا الغرض، فنشكر المؤلف عنايته بسد هذه الثلمة ونرجو أن يحذو حذوه في التأليف كل من أوتوا طرفاً من العلم وشدوا شيئاً من الأدب. سيرة الفاتح أجاد صديقنا بتعريب هذه السيرة لرجل العثمانيين العظيم فاتح القسطنطينية وحبذا لو توفر على تعريب غير ذلك من الآثار التاريخية عن اللغة التركية خاصة لأنه كاتب مجيد باللغتين، وهذه اللغة قليلة النقل عن التركية كما أن هذه قليلتها عن العربية، والأمم لا تتعارف إلا إذا تعاورت النقل إحداها عن الأخرى، وعلى كل فنشكر المعرب ونرجو له التوفيق إلى إتمام خدمته العلمية. الجاذبية وتعليلها اعتاد الأستاذ صاحب هذا الكتاب أن يأتي الحين بعد الآخر بمبتكرات من أفكاره تدل على طول باع وذكاء جنان كما فعل في كتابه الكائنات وفي مقالاته التي أراد بها تغيير الخط العربي وإبداله بحروف له اخترعها وإسقاط القوافي من الشعر العربي وجعل كل بيت من القصيدة ذا قافية واحدة وآخر كتبه هذه الرسالة اللطيفة في الجاذبية خالف فيها أهل هذا

الفن في الغرب وقال أن الجاذبية في الحقيقة هي دافعية تنشأ من دفع الأجسام بعضها لبعض وأن ما يتراءى للناس أنه جذب إنما هو في الحقيقة تغلب قوة دافعة على قوة دافعة أضعف منها فالحجر يسقط على الأرض لأن الأجرام التي في السماء تدفعه إلى جهتها والأرض تمنع بحيلولتها دفع السماء من الجهة المقابلة، وهذه الرسالة وإن حوت ما لا يقره عليه أهل الفن فإنها دلت على أن المؤلف ضرب في العلوم المادية بسهم وأنه جريء في كل إصلاح يحاوله، والشجاعة الأدبية مما ينقص كثيراً من الكاتبين فله منا الشكر على هديته ومن العربية الثناء على خدمتها في الفنون كما يخدمها في الآداب. أبحاث واقتراحات في التشريع المصري الحالي ألف اميل أفندي بولاد أحد رجال المحاماة في القاهرة رسالة في إصلاح المجالس الحسبية وتناقض الأحكام الأهلية ولزوم إنشاء محكمة نقض وإبرام مدنية وضوابط صحيفة الاستئناف بالقانون الأهلي والدعوى العمومية والصلح الجنائي القضائي وغير القضائي وقانون النفي الإداري وأخطار تطبيقه وكل هذه المباحث تهم ابن وادي النيل أكثر من غيره لأن قضاءه وإن كان ممزوجاً بالقضاء الإسلامي والقضاء الفرنسوي إلا أنه خاص بأمة لها اصطلاح خاص وعادات خاصة فنشكر لوطنينا المحامي غيرته على الحق والبلاد التي يسكنها. دليل السلام أصدرت إدارة جريدة السلام في بونس آيرس عاصمة الجمهورية الفضية هذه السنة أيضاً دليلها هذا وهو يحتوي على عناوين التجار السوريين في الارجنتين والارغواي والبرازيل وتشيلي وكثير من الفوائد التجارية والإحصائية بعضه بالعربية وأكثره بلغة تلك البلاد. حديقة الجنان في تاريخ لبنان تأليف الخوري اسطفان ضو طبع بالمطبعة الجامعة في البترون (لبنان) سنة 1911 ص144 لم يخدم جبل من جبال المملكة العثمانية بتاريخه وجغرافيته وعمرانه يمثل ما خدم به جبل لبنان فلأهله غرام بذلك وعادة بالتوفر على إظهار محاسنه ومن الكتب الجديدة في هذا الشأن كتاب حديقة الجنان (؟) وهو مختصر في تاريخ الجبل وما وقع فيه من الحوادث

وطرأ عليه من اختلاف الأحكام والحكام السابقين منذ سنة 600 إلى تاريخ بلادهم وأصقاعهم ما أمكن لما بقي مكان مجهول حاله في هذه الديار فإنا نرى أناساً دونوا وقائع طرابلس وآخرون عنوا بتاريخ حماه وغيرهم سطروا تاريخ حمص وبعضهم ذكروا لبنان فليت أهل كل بلد يدونون ما يجب عليهم لبلدهم من هذا القبيل وإذا فعلوا يخدمون التاريخ العام. دروس الصرف والنحو اقتضت طبيعة النهضة في سورية أن تؤلف لها الكتب المدرسية بحسب ذوق العصر حسنة التنسيق والتبويب وممن يتوفرون على هذا الشأن مؤلف هذا الكتاب أحد فضلاء بيروت وفيه تمارين عملية يفهمها الطالب الصغير فشكراً له على هذه العناية ووفق إلى إتمام هذه الأقسام لنفع طلاب الآداب. وجوب الحمية عن مضار الرقية كان السيد محمد بن عقيل من أفاضل الحضارمة في سنقافورا ألف كتاباً سماه النصائح الكافية لمن يتولى معاوية أتى فيه بالبرهان التاريخي والديني أموراً أقره عليه بعض العلماء وأنكرها عليه بعضهم وممن ألف في الانتصار له الأستاذ أبو بكر المشار إليه ففند ما قاله بعضهم ممن رموا السيد ابن عقيل بالتشيع وقال أن المسألة مسألة تاريخية دينية لا تقدح بمذهب من يقول الصريح فيها وأورد لذلك نصوص المؤرخين وغيرهم بعبارات رشيقة وإنا لنرجو أن تكون هذه الرسالة آخر ما يؤلف في موضوع فرغ منه أو كاد وأن تصرف تلك القرائح فيما ينهض بالأمة من عثارها اليوم، ومعاوية أن توليناه أو لم نتوله فقد لقي حسابه وجزاءه. لباب الخيار في سيرة المختار نشر المؤلف هذا الكتاب لتعليم ناشئة المسلمين سيرة صاحب شريعتهم عليه الصلاة والسلام وقد صدره بإجمال عن العرب قبل الإسلام ووصف بلاد العرب وأخلاقهم وعاداتهم وجميع ما يتعلق بسيرة صاحب الرسالة وآدابه وغزواته ونشر دعوته، ونسقه على عادته تنسيقاً يجب تلاوته إلى القارئ بعبارة سهلة جزلة وقد قدر المؤلف مساحة جزيرة العرب بمليون ومئة ألف ميل مربع أو 3156558 كيلومتراً مربعاً أو 126 ألف فرسخ مربع وعمل

حسابها بالميل والكيلومتر والفرسخ فجاء الحساب متقارباً وقدر نفوسها باثني عشر مليوناً وقيل عشرة ملايين، والكتاب لا يستغني عنه طلاب المختصرات ولذلك عولت المدارس الإسلامية على تدريسه ونعما فعلت. العادات صاحب هذا الكتاب هو مؤسس جريدة لسان الحال البيروتية وصاحب المطبعة الأدبية خدم الطباعة العربية زمناً وهو اليوم بكتابه هذا يريد أن يخدم العادات العربية بوضعه لها مختصراً في مصطلحات الزيارات والولائم والأعراس، المآتم وآداب المحافل وغيرها مما هو جار عند الشعوب المتمدنة كتبه لطبقة خاصة من الأمة العربية بل أخص من الخاصة لأن معظم ما فيه من العادات يتعذر القيام به إلا على من الفوه من أهل الطبقة الراقية في الغرب فما أورده من هذا القول لا يتأتى تطبيقه الآن على المرأة المسلمة مثلاً لأن الشرط الأول مفقود عندها وهو اختلاط الرجال بالنساء ويتعذر كل التعذر العمل به عند غير المسلمين إذ يجب أن يكون لهم محيط يساعد عليه ومال يتوسعون في البذل منه وكنا نود لو قال المؤلف أن هذا كتاب في عادات الغربيين فطبقوا منها ما يمكن تطبيقه، على أن ما كتبه يحتوي على فوائد مهمة لا يستغني عنها إنسان في مجتمع مهما انحطت مكانته وقلت نعمته ومدنيته.

لفتوى في الإسلام

لفتوى في الإسلام آداب المستفتي وصفته وأحكامه الأول المستفتي كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مستفت بتقليد من نفسه. والمختار في التقليد أنه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطاء بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه. ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها. فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الأيام والليالي. الثاني يجب عليه قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته. فلا يجوز لا استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والاقراء وغيرها من العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك. ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله انا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة من العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس: والصحيح هو الأول لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته ويجوز استفتاء من المشهور المذكور بأهليته. قال الشيخ أبو اسحق الشيرازي رحمه الله وغيره: يقبل في أهليته خبر العدل الواحد قال أبو عمرو: ينبغي أن يشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به المتلبس من غيره فلا يعتمد في ذلك على آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك. وإذا اجتمع اثنان أو أكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعيانهم والبحث عن الأعلم والأورع الأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان (أحدهما) لا يجب بل له

استفتاء من شاء منهم لأن الجميع أهل وقد اسقطنا الاجتهاد عن العامي وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين (والثاني) يجب لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال وهذا الوجه قول أبي العباس ابن سريج واختاره القفال المرزوي وهو الصحيح عند القاضي حسين والأول أظهر وهو الظاهر من حال الأولين. قال أبو عمرو رحمه الله: لكن من اطلع على الأوثق فالأظهر أنه يلزمه تقليده كما يجب أرجح الدليلين وأوثق الروايتين، ثم هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح. وفي جواز تقليد الميت وجهان (الصحيح) جوازه لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها (والثاني) لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق (قال النووي) وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار. (الثالث) هل يجوز للعامي أن يتخير أي مذهب شاء قال الشيخ ينظر أن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في قول أن العامي هل له مذهب أم لا (أحدهما) لا مذهب له لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما (والثاني) له مذهب فلا يجوز له مخالفته. وإن لم يكن منتسباً بني على وجهين حكاهما ابن برهان في العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب مفت يأخذ برخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يختص بتقليده عالماً بعينه فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أسد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين والثاني يلزمه وبه قطع أبو الحسين الكيا وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم. الرابع إذا اختلفت عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب أحدها يأخذ بأغلظها والثاني بأخفها والثالث يجتهد في الأولى ويأخذ بفتوى الأعلم لا الأورع كما سبق واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة والرابع يسأل مفتياً آخر فيأخذ

بفتوى من وافقه والخامس يتخذ فيأخذ بفتوى أيهما شاء واختاره أبو اسحق الشيرازي وجماعة. قال الشيخ أبو عمرو: المختاران عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق بين المفتيين فيعمل بفتواه: وقال النووي: الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة وهي الثالث والرابع والخامس والظاهر أن الخامس أظهرها لأنه ليس من الاجتهاد وإنما فرضه أن يقلد عالماً أهلاً لذلك وقد يفعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أماراتها حسية فإدراك صوابها أقرب فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى أماراتها معنوية فلا يظهر كثير تفاوت بين المختلفين والله أعلم. الخامس قال الخطيب البغدادي: إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه مفت إلا واحد لزمه فتواه وقال أبو المظفر السمعاني: إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه قال ويجوز أن يقال أنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل بلزمه إذا وقع في نفسه صحته قال السمعاني وهذا أولى الأوجه قال الشيخ أبو عمرو: لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتوى من اختاره باجتهاده. قال الشيخ: والذي تقتضيه القواعد أن يفصل فيقال: إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر يلزمه الأخذ بفتواه ولا يتوقف ذلك على التزامه لا في الأخذ بالعلم به ولا بغيره ولا يتوقف أيضاً على سكون نفسه إلى صحته وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه بناء على الأصح في تعينه وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق أو حكم حاكم لزمه حينئذ. السادس إذا استفتى فأفتي ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال فيه وجهان أحدهما يلزمه لاحتمال تغير رأي المفتي والثاني يعمل به وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم

أولاً والأصل استمرار المفتي عليه وخصص صاحب الشامل الخلاف فيما إذا قلد حياً وقطع فيما إذا كان ذلك خبراً عن ميت فإنه لا يلزمه والصحيح أنه لا يختص فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه. السابع له أن يستفتي بنفسه وله أن يعبث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يشك في كون ذلك الجواب بخطه. الثامن ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويجله وفي خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك ولا يقل إن أجابه هكذا قلت لنا ولا يقل أفتاني فلان أو غيره بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقاً لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب. وينبغي أن يبدأ بالاسن الأعلم م المفتين وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة وإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً لا مختصراً مضراً بالمستفتي ولا يدع الدعاء لمن يستفتيه قال الصيمري: فإن اقتصر على فتوى واحد قال ما تقول رحمك الله أو رضي عنك أو وفقك الله أو سددك ورضي عن والديك وإن أراد جواب جماعة قال ما تقولون رضي الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ويرفع الرقعة إلى المفتي منشورة ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها. التاسع ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف قال الصيمري يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل فقيه من أهل العلم ببلده.

وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل ولا يقل لم قال النووي: فإن أحب أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة. وقال السمعاني: لا يمنع من طلب الدليل وإنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعاً به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً به لافتقاره إلى الاجتهاد ويقصر فهم العامي عنه. (العاشر) إذا لم يجد صاحب الرقعة مفتياً ولا أحداً ينقل له حكم واقعته لا في بلدة ولا في غيره قال الشيخ - ابن الصلاح - هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك فلا يؤاخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها والله تعالى أعلم. من أفتى بالحديث الصحيح مخالفاً لمذهبه قال الإمام النووي: صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي: وروي عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي: أو قال: فهو مذهبي: وروى عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة. وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحليل من الإحرام بعذر المرض وغيرها مما هو معروف في كتب المذهب. وقد حكى أبو اسحق الشيرازي في ذلك عن الأصحاب فيها ممن حكى أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي وأبو القاسم الدارلي، وممن نص عليه أبو الحسن الطبري في كتابه في أصول الفقه، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون. وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث: انتهى. وفي شرح الهداية لابن الشحنة - من كبار الحنفية - فإذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفياً بالعمل به فقد

صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة. وقال الإمام السندي في حواشيه على فتح القدير - من كتب الحنفية - الحديث حجة في نفسه واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا يعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان فإنما يقال له انظر هل هو منسوخ أم لا، إما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطاء المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، قال ابن عبد البر: يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضاً فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة حتى عده بعضهم أحداً وعشرين حديثاً، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطاء المفتي كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ، ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطاً في العمل بها وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله تعالى الحجة برسوله صلى الله عليه وسلم دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطاء لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعاف حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه ويجري عليه التناقض والاختلال ويقول القول ويرجع عنه ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال، وهذا كله فيمن له نوع أهلية أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلان يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز ولو قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها فكذلك الحديث انتهى كلام السندي مخلصاً وقد أطال من هذا النفس العالي رحمه الله ورضي عنه. إيثار الفتوى بالآثار السلفية قال ابن القيم في أعلام الموقعين: اعلم أن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى

التابعين وفتاوى التابعين أولى من فتاوى من بعدهم، وكلما كان العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم أقرب كان الصواب فيه أغلب، وهذا الحكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل فإن عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم: وتتمة كلامه درر لا يستغنى عن مراجعتها. عناية المفتي بتعليل الأحكام وبيان أسرارها قال الغزالي في المستصفى: إن في معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسناً وتأكيدا ومن أحسن المؤلفات في أسرار الشريعة أعلام الموقعين وحجة الله البالغة. حظر الفتوى بنسخ نص إلا بنص قال الإمام أبو محمد بن حزم في مقدمة المحلى: ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت هذا منسوخ وهذا مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر وإلا فهو كاذب انتهى. وقال العلامة أبو النصر القزاني القورصاوي في كتابه الإرشاد: إن الاعتصام بالكتاب والسنة أصل أصيل من أصول الدين والناس رفضوا هذا القطب حتى حسبوا أن الحديث الموجب للعمل مفقود، وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود، ولما كانت هذه بدعة عم في الدين ضررها، واستطار في الخلق شررها، وجب كشف الغطاء (إلى أن قال) فيقال لهؤلاء المخترعين هذا القول الذي وصفناه هل تجدون هذا الذي قلتم عن أحد يلزم قوله وإلا فهلموا دليلاً على ما زعمتم.

فإن ادعوا قول أحد من علماء السلف بما زعموا من كون الأخبار الثابتة بنقل الثقات حجة على المجتهدين لا على غيرهم طولبوا به، ولن يجدوا هم ولا غيرهم إلى إيجادهم سبيلاً. وإن ادعوا فيما زعموا دليلاً يحتج به يقال ما ذلك الدليل، فإن قالوا إن الحديث يحتمل الوضع يقال ليس الذي يقوم حجة خبر كل من نصب نفسه محدثاً بلا ما رواه وأسنده الأئمة المتقنون المعروفون بالصدق والأمانة والثقات الراسخون في العلم عن قوم مرضيين عندهم وصححوه مثل مالك بن أنس ومسلم بن الحجاج ومحمد بن اسماعيل البخاري ومحمد بن ادريس الشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن عيسى الترمذي وسليمان بن أشعث السجستاني وغيرهم من الأئمة المعروفين، وكتبهم بأسانيدهم بين العلماء معتمدة مشهورة حتى قالوا إن الحديث إذا نسب إليهم فكأنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قد فرغوا من الإسناد وأغنونا عنه، ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو ضعفه فكما أن المجتهد يعتمد على ثبوت الخبر على الإسناد من جهة الثقات فكذلك غيره، وكما أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم به العمل على المجتهد وهو محجوج به فكذلك غيره، وكما يجب علينا الاتقاء من حديث لا يعرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه فكذلك على المجتهد. وأيضاً إن الخبر يقين بأصله لأنه من حيث أنه قول الرسول عليه السلام لا يحتمل الخطأ وإنما الشبهة باعتبار النقل حيث يحتمل السهو والنسيان، وقول الفقيه يحتمل الخطأ بأصله إذ هو يجتهد فيخطئ ويصيب وإما باعتبار نقله فأكثره خال عن السند أصلاً فكما أن وضع الخبر محتمل وصحة الإسناد يدفعه فكذلك وضع الرواية محتمل ولا إسناد حتى يدفعه. والصحابة رضي الله عنهم كانوا متفقين على ترك الرأي بالسنة وهو حجة شرعية فكيف لا يترك التقليد بها وهو ليس بحجة أصلاً. فالواجب على من بلغه الحديث أن يعمل به هذا في فقهاء الصحابة رضي الله عنهم فكيف فيمن دونهم وقد صح عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي فإنه مذهبي: وقال علي بن محمد القاري: وهذا مذهب كل مسلم. وأما قولهم: الحديث يحتمل النسخ والتأويل: قلنا إذا ظهر ناسخه فلا نزاع في سقوط العمل

به وإن لم يظهر فلا يترك العمل بالدليل الثابت لاحتمال النسخ بل يعمل به حتى يظهر ناسخه، ولو صار الدليل متروكاً بكل احتمال لم يبق دليل معمولاً به إلا ترى إلى ما نقله أصحاب الأصول عن أبي حنيفة ومحمد وحسن بن زياد رضي الله عنهم أن الحديث وإن كان منسوخاً لا يكون أدنى درجة من الفتوى ما لم يبلغه النسخ، وأيضاً قد شاع عن الفقهاء الرجوع عن قول إلى قول فهذا القول الذي يخالف الخبر الصحيح يجوز أن يكون قولاً مرجوعاً عنه فيكون كلا قول فكيف يترك الحديث الثابت بإسناده لاحتمال النسخ ولا تترك الرواية الخالية عن السند لاحتمال رجوع قائلها بل الظاهر أنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لرجع إليه أو كان ذلك المروي مذهبه فبلغه الحديث وترك مذهبه بالحديث ورجع إليه إحساناً للظن به فإنه إن خالف الحديث لقلة المبالاة والتهاون به سقطت عدالته فلا تقبل روايته وفتواه. وكذلك قولهم: يترك النص لاحتمال كونه مؤولاً: قلنا احتمال التأويل إما أن يكون ناشئاً عن قرينة أو خفاءٍ فيه كما إذا كان مشتركاً أو مشكلاً أو مجملاً مثلاً أولا فإن كان الثاني فلا عبرة للاحتمال أصلاً إذ المراد من الكلام ظاهره عند خلوه عن قرينة تصرفه عنه والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة وإلا لبطل فائدة التخاطب، والفرار عن ظل جدار غير مائل لتوهم السقوط ينسب إلى السفه ولا كذلك إذا كان مائلاً، وإن كان الأول فإن قدر على ترجيح أحد المعاني المحتملة بالرأي فيعمل بما ترجح عنده وإن لم يقدر على الترجيح وكان جواب المسألة مما اشتهر وظهر وانجلى عن أصحابنا أرجو أن يسع الاعتماد عليه والعمل به إن شاء الله تعالى، ألا ترى إلى قول العلماء أن التمسك في الأصول بالكتاب والسنة وإجماع الأمة مع المجانبة عن الهوى والبدعة وفي الفروع بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظن أنه أعلم وأورع. وأيضاً كما أن التأويل محتمل في الحديث كذلك يحتمل في فتوى الفقيه فإن جاز فهم المراد من الفتوى لظهوره جاز فهم المراد من الحديث أيضاً لظهوره، وليس الفقيه بأقدر على الفهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القول الذي أحدثوه وحكيناه عنهم من لزوم الأعراض عن سنن النبي وأحاديثه صلى الله عليه وسلم بالشبه التي وصفناها أحقر وأصغر من أن ينقل ويثار ذكره إذ هو قول محدث وكلام خلف يستنكره أهل العلم وحججهم داحضة عند

العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فلا حاجة في رده بأكثر مما شرحنا إذ قدر المقالة وقائليها القدر الذي وصفناه والله المستعان على دفع ما خالف السنة ومذهب أهل السنة وعليه التكلان انتهى كلامه بحروفه. وجوب تحري المفتي من الأقوال أرجحها إن مما يدعو للنظر والتروي في الفتيا كثرة المذاهب والأقوال في المسألة فليس مذهب أحق من مذهب ولا قول أرجح من آخر إلا بالدليل والبرهان الذي يدعمه ويؤيدة ويبينه أجلى بيان. وقد اتفق الأصوليون كافة على وجوب اتباع المفتي الأقوى دليلاً والأقوم برهاناً من أي مذهب كان قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: ليس للمفتي ولا للعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منها بغير نظر بل عليه العمل بأرجحهما. وقال العلامة أبو النصر القزاني الحنفي في كتابه الإرشاد: وليس للمفتي الفتوى بأحد القولين أو الوجهين من غير نظر بل عليه العمل بالأرجح والجمهور من المحققين قالوا: إن العمل والفتوى بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظنه أعلم وأورع ولذلك ترى المنتسبين إلى مذهب يفتون بخلاف قول إمامهم كالحنفية يقلدون أبا حنيفة فيما لم يظهر على خلاف قوله دليل أقوى من دليله وإذا ظهر الدليل الراجح على دليله يفتون ويعملون على خلاف قوله ويقولون الفتوى على قول أبي يوسف أو على قول محمد أو على قول زفر مثلاً وينقلون قول أبي حنيفة رضي الله عنه في ظاهر الرواية على خلافه وكذلك أبو يوسف أو محمد مثلاً ممن ينتسبون لمذهب أبي حنيفة فإنهم يقلدونه فيما لا دليل عندهم وإذا قام الدليل على خلافه يفتون بغير قوله لأن الواجب متابعة الدليل الراجح عند قيامه والتقليد إنما يصار إليه عند الضرورة مقدرة بقدرها انتهى. وقال الإمام ابن هبيرة في الإيضاح: إذا خرج من خلاف الأئمة المجتهدين متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذاً بالحزم عاملاً بالأولى وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه يأخذ بالحزم مع جواز عمله بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون مقتصراً في حكمه على أتباع مذهب أبيه أو شيخه مثلاً فإذا حضر عنده خصمان وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الأئمة الثلاثة يحكمه نحو

التوكيل بغير رضا الخصم وكان الحاكم حنفياً وعلم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل وإن أبا حنيفة يمنعه فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمفرده من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله ولا أداه إليه اجتهاده فإني أخاف عليه من الله عز وجل أن يكون اتبع في ذلك هواه ولم يكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (وكذلك) إن كان القاضي مالكياً واختصم إليه اثنان في سؤر الكلب فقضى بطهارة مع علمه بأن الفقهاء كلهم قد قضوا بنجاسته (وكذلك) إن كان القاضي شافعياً واختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً فقال أحدهما هذا منعني من بيع شاة مذكاة وقال آخر إنما منعته من بيع الميتة فقضي عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه (وكذلك) إن كان القاضي حنبلياً فاختصم إليه اثنان فقال أحدهما لي عليه مال فقال الآخر كان له علي مال ولكن قضيته فقضى عليه بالبراءة مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فهذا وأمثاله مما أرجو أن يكون أقرب إلى الخلاص وأرجح في العمل. وقال الإمام ابن عبد البر في جامع العلم: الواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول على الصواب منها وذلك لا يعدم فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة فإذا لم يبن وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله صلى الله عليه وسلم البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك: هذا حال من لا يمعن النظر وهو حال العامة التي يجوز لها التقليد فيما نزل بها وأفتاها بذلك علماؤها. وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله لا أن يفتي ولا يقضي حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان في معنى هذه الأوجه انتهى وهو خلاصة الخلاصة ولباب اللباب وما ألطف قول الماوردي: يلزم الاجتهاد في كل حكم طريقه الاجتهاد انتهى والمجتهد فيه قال الغزالي هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي وقد ذكر الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين أن من أفتى بقول يعلم أن غيره أرجح منه أنه خائن لله ورسوله وللإسلام إذ الدين النصيحة (قال رحمه الله) وكثيراً ما ترد المسألة تعتقد

فيها خلاف المذهب ولا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب ثم نحكي المذهب الراجح ونقول هذا هو الصواب وهو الأولى أن يؤخذ به. وههنا لا بد من التنبيه على أنه ليس كل ما يقال عنه ضعيف هو ضعيف حقيقة فقد سرى التقليد في كل شيء حتى في التضعيف وليس القول الضعيف ما ضعفه فقيه برأيه لتوهم مخالفة قاعدة عنده أو قياس أو نظير كلا أن الضعيف ما خالف دليلاً صحيحاً من نص أو قياس قويم وكم من قول مضعف هو صحيح برهاناً ونظراً وأوفق للمصلحة ولحكمة الشارع ويرحم الله القائل: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم فعلى المفتي أن يمحص الأقوال ولا يغتر بمجرد التضعيف بل يجري وراء الأسد برهاناً الأصلح عمراناً وقد قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر الحذر من الفتاوى في تحسين البدع ووجوب الرجوع إلى مآخذها قال الإمام ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: وليحذر أن يغتر العالم أو يميل إلى بدعة لدليل قام عنده على إباحتها من أجل استئناس النفوس بالعوائد أو بفتوى مفت قد وهم أو نسي أو جرى عليه من الأعذار ما يجري على البشر وهو كثير بل إذا نقل إباحة شيءٍ من هذه الأمور عن أحد من العلماء فينبغي للعالم بل يجب عليه أن ينظر إلى مأخذ العالم المسألة وجوازه إياها من أين اخترعها وكيفية إجازته لها لأن هذا الدين والحمدلله محفوظ فلا يمكن أن أحداً يقول فيه قولاً بغير دليل ولوفعل ذلك لم يقبل منه وهو مردود عليه وتتمته نفيسة فليرجع إليه. وقال الإمام محمد البلاطنسي في خلال فتوى له: إن الواجب على الشخص أن يلزم طريق السنة ويجتنب سلوك البدعة ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها ولا يكون العامل بها والمواظب عليها عالماً أو مرموقاً بعين الصلاح. وقال الإمام أبو شامة الدمشقي: وأكثر ما يؤتى الناس في البدع بهذا السبب يكون الرجل مرموقاً بالأعين فيتبعون أقواله وأفعاله فتفسد أمورهم مع تمادي العهد ونسيان أول هذا الأمر كيف كان وقال شيخنا البلاطنسي رحمه الله: إن أهل الزمان إنما أتوا من قبل أنهم يفتون في كل ما يسألون عنه ولا يدرون أصابوها أم أخطؤها والمناكر الفظيعة لا ينتبهون

لها ولا ينكرونها سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري فالله المستعان على هؤلاء الذين شهواتهم غالبة على ديانتهم ويفتون بما ينقدح في أذهانهم ولا يقصرون أنفسهم عما لا يعرفونه وأكثرهم ينطبق عليه الحديث الذي في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. (قال الإمام أبو بكر الطرطوشي) فتدبروا هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس من قبل علمائهم فقط وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله. قال وقد صرف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفاً فقال: ما خان أمين قط ولكنه اؤتمن غير أمين فخان (قال) ونحن نقول ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل انتهى. استفتاء القلب روى الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البر قلت نعم قال: استفت قلبك البر ما اطمأنت عليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك يشير إلى التورع عما هو حلال في الفتوى بحسب ظاهر الحال ولكنه يجد حزازة في قلبه فكل من وجد حزازة وأقدم مع ما يجده في قلبه فذلك يضره لأنه مأخوذ في حق نفسه بينه وبين الله تعالى بفتوى قلبه وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من إحياء علوم الدين. تغير الفتوى بتغير الأحوال والرد إلى المصالح عقد الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين فصلا لتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات وقال هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة فبناها وأساسها على

الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها وصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيءٍ وإن أدخلت فيها بالتأويل الخ والبحث جدير بالمراجعة وللإمام نجم الدين الطوفي مبحث واف في المصالح المرسلة لا يستغني عن مراجعته مفت ولا حاكم. بحث قولهم في الفتوى هذا حكم الله أو فما حكم الله في كذا المستفتي إما أن يسأل عن حكم منصوص عليه أو مجتهد فيه ففي الأول لا خلاف في جواز قوله: فما حكم الله: وقول مفتيه هذا حكم الله: لأن حكم الله كما قال الغزالي في المستصفى خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وفي الثاني أعني المجتهد فيه أن على رأي الجمهور إن لله فيه حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه فلا يسوغ أن يقال فما حكم الله ولا هذا حكم الله لأنه مغيب وهو مثل دفين يعثر عليه المجتهد بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن أخطأه أجر واحد لأجل سعيه وطلبه وإن قلنا على رأي غيرهم أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين بل الحكم يتبع الظن والفرض على كل مجتهد ما غلب على ظنه فله أن يقول ما حكم الله بمعنى ما شرعه وأذن فيه وذلك هو ما غلب على ظن المجتهد. وقد لخص هذه المسألة العلامة العضد في شرح مختصر المنتهى بقوله المسألة إما لا قاطع فيها من نص أو إجماع أو فيها قاطع أما التي لا قاطع فيها فقد اختلف فيها فقال القاضي - أبو بكر الباقلاني - والجبائي كل مجتهد مصيب بمعنى أنه لا حكم معيناً لله فيها وحكم الله فيها تابع لظن المجتهد فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده وقد قيل لله فيها حكم والمصيب واحد وهو ما للجمهور. وقد استدل للجمهور بحديث بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أوسرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال له وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا قال المحد ابن تيمية وهو حجة في أن ليس كل مجتهد مصيباً بل الحق عند الله واحد.

وكذلك بحديث إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وأن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصواباً. وقد أجيب عن الحديث الأول بما حكاه العلامة الشوكاني في نيل الأوطار قال وقد قيل أن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيباً لأن ذلك كان في زمن النبي والأحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال تنزل وينسخ بعضها بعضاً ويخصص بعضها ببعض فلا يؤمن أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس: وأجاب الإمام الغزالي في المستصفى عن الحديث الثاني بقوله والجواب من وجهين الأول أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الأجر (الثاني) هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئاً فيما طلبه مصيباً فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال أخطأ أي أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها (ثم قال) فإن قيل ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء قلنا لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطئ أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين لأن ذلك منه تفضل ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال. والبحث جدير بالعناية وقد جوده حجة الإسلام الغزالي في المستصفى فارجع إليه الحذر من رد النص بالتأويل قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية: إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعلاها ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواها وأرفعها بعد فهم كتاب الله المنزل البحث عن معاني حديث نبيه المرسل إذ بذاك تثبت القواعد ويستقر الأساس وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس لكن شرط ذلك عندنا أن يحفظ هذا النظام ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام وترد المذاهب إليه وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه.

وأما أن يجعل الفرع أصلاً ويرد النص إليه بالتكلف والتحيل ويحمل على أبعد المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذلول ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول فذلك عندنا من أردء مذهب وأسوء طريقة ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه وأنى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه ومتى ينصف حاكم ملكته غضبة العصبية وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة بالحمية إلخ. الفتوى في أمر لم يقع قال الإمام أبو شامة رحمه الله في كتابه (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) ما مثاله: كان الصحابة إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه وكانوا يتدافعون الفتوى ويود كل منهم لو كفاه إياه غيره وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع ويقولون للسائل عنها: أكان ذلك: فإن قال لا قالوا: دعه حتى يقع ثم نجتهد فيه: كل ذلك يفعلونه خوفاً من الهجوم على ما لا علم لهم به واشتغالاً بما هو الأهم فإذا وقعت الواقعة لم يكن بد من النظر فيها. قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ولم يمض به كتاب ولا سنة وكرهوا للمسؤول الاجتهاد فيه قبل أن يقع لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد واحتج في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه: انتهى. المواضع التي يجب فيها على المفتي المناظرة أو يستحب وشرح فوائدها قال حجة الإسلام الغزالي في المستصفى: المحصلون يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لسنة أغراض. (أما الوجوب) ففي موضعين (أحدهما) أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم

ويعصى - المجتهد - بالغفلة عنه (الثاني) أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة. (وأما الندب) ففي مواضع (الأول) أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسداً أوعناداً أو نكراً فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد (الثاني) أن ينسب إلى الخطاء وأنه قد خالف دليلاً قاطعاً فيعلم جهلهم فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة (الثالث) أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عند عتيداً يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه (الرابع) أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثواباً فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الأفضل ومن الحق إلى الأحق (الخامس) أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات (السادس) وهو الأهم أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الأصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتياض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو فرض على الكفاية إذ لا بد في كل بلد من عالم مليء بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة. فهذه فوائد مناظرات المحصلين وهو من أحسن ما كتب فيها وبه يعلم أن الدخول في المناظرة إنما هو للمجتهد وقد صرح به حجة الإسلام عليه الرحمة أيضاً في بحث آداب المناظرة من كتاب العلم في الأحياء وأما المقلد فقد قال عليه الرحمة في كتابه فيصل التفرقة: إن شرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه: في كلام بديع ينبغي مراجعته وما ألطف قول ابن سهل: فما أضيع البرهان عند المقلد والله أعلم.

نموذج من فتاوى القرن السابع وتوقيع عدة مفتين على فتوى واحدة (واقعة) قرية موقوفة على شخصين على سبيل الإشاعة الوقف الصحيح الشرعي فوضع شخص يده على نصف الأرض واستغلها وبقي النصف الآخر في يد الشريك فهل يكون الحاصل من مغل النصف الباقي بين الشريكين أم لا. أجاب الشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن نوح المقدسي إذا كانت مشاعة غير مقسومة فالغصب واقع عليهما ومغل ما لم توضع عليه اليد بينهما لا يختص به الشريك الذي هو في يده. وصحح على جوابه عبد الكريم الأنصاري وكتب قاضي الحنفية الصدر سليمان: نعم يكون بينهما إلا أن يكون نماء ملكه وكتب بعض الحنابلة: نعم يكون ذلك بينهما على حسب شرط الواقف وفيها أيضاً ما مثاله (حادثة) وقعت لنقيب الأشراف بدمشق سنة (666) كان قد حوسب فخرج عليه في الحساب ستة آلاف فقال: صرفتها في المداراة عن الوقف: فقال الأشراف: ما نعرف ما المداراة بين لنا ما أردت به: فقال: ما يلزمني ذلك شرعاً: فكتب في ذلك سؤال. فكتب تاج الدين: إن لم يكن المتولي حاكماً فعليه بيان جهة المداراة ويكون ضامناً أن أصر على الامتناع من البيان، وساعده النجم الموقاتي على ذلك وكتب البرهان المراغي: أنه لا يلزمه بيان المداراة: فما كان يوم الجمعة السادس والعشرون من شوال من السنة المذكورة عقد مجلس بالعادلية عند قاضي القضاة ابن خلكان وحضر النقيب وقال: أن الفقهاء أفتوا أنه لا يلزمه بيان المداراة: فناظره الشيخ في ذلك فرجعوا إلى قوله وهذا لأن المداراة من غير الحاكم لا بد من تفسيرها لأنها في مظنة الاجتهاد فإنه قد يعتقد مصلحة ما ليس مصلحة الخ. وفيها أيضاً ما صورته: (واقعة)

كان بدمشق شخص يعرف بناصر الدين ابن مجاور في سنة (673) وقف غراسا على مغارة الدم بجبل قاسيون ظاهر دمشق وأشهدنا بالوقفية ولم يكتب كتاب وقف فلما توفي كان لبيت المال في ميراثه نصيب فنازع وكيل بيت المال في الغراس فكتب محضر مضمونه أن ابن مجاور وقف ذلك الغراس على مغارة الدم وعلى مصارفها وقفاً صحيحاً شرعياً فقال الوكيل المصارف مجهولة وكتب في ذلك سؤال. فكان الجواب أن المصارف الجهات المعينة في كتاب وقف مغارة الدم المتقدم على وقف هذا الغراس. ولما حضر الشهود عند القاضي كانت صورة شهادتهم: أنهم يشهدون على إقرار ابن مجاور أنه وقف ذاك الغراس على مغارة الدم: ولم يقولوا وعلى مصارفها فتوقف القاضي لذلك في الحكم ونازع الوكيل وقال: إن هذه الشهادة لا تقبل: فكتب في ذلك سؤال. أجاب تاج الدين فيه بأن هذه الشهادة يثبت بها الوقف ويحكم الحاكم بالوقف بها مستدلاً على ذلك بأنهما شهدا على إقراره بالوقف ومطلق الإقرار بالوقف محمول على الصحيح والصحيح ما اجتمع فيه الشرائط المعتبرة فيه. وساعده على ذلك البرهان المراغي والشيخ محي الدين النواوي وغيرهما. وفيها أيضاً ما نصه (واقعة) وقف وقفاً صحيحاً شرعياً على بعض جهات البر وحكم به حاكم من حكام المسلمين واستثنى الواقف النظر فيه لنفسه مدة حياته وله أن يفوض ذلك إلى من يرى في حياته وبعد وفاته وكذلك كل من آل إليه النظر في هذا الوقف له أن يفوضه إلى من يراه أهلاً لذلك في حياته وبعد وفاته ولم يجوز هذا الواقف لناظر من النظار في هذا الوقف أن يفوضه إلا إلى من يعلم عدالته وأمانته وصلاحه ويختار من هو على هذه الصفات من أقرب الناس إلى الواقف ثم الأقرب فالأقرب إلى الأعلى من نسله فإن لم يكن من عصبته أحد موصوف بهذه الصفات فعند ذلك يفوض إلى من هو على هذه الصفات من عشيرة هذا الواقف فإن لم يوجد منهم أحد فوضه إلى من هو على هذه الصفات من الأجانب على

حسب ما يراه وإن كان إلا بعد على هذه الصفات والأقرب عارياً عنها فيقدم الموصوف بهذه الصفات على الأقرب ومتى عاد الأقرب إلى هذه الصفات واتصف بها عاد النظر إليه ومتى مات الناظر من غير وصية ولا تفويض كان النظر بعده مفوضاً إلى الأقرب فالأقرب إلى الواقف من الموصوفين بهذه الصفات على الشرط المذكور فإن مات الناظر ولم يفوض إلى أحد ولم يبق من عشيرة الواقف المذكور أحد موصوف بهذه الصفات كان النظر في الوقف مردوداً إلى كل حاكم يتولى الحكم بمدينة كذا فأسند الواقف النظر في ذلك إلى أخيه زيد ثم إن أخا الواقف أسند النظر إلى ولده عمرو إذ لم يكن للواقف أحد أقرب منه ثم إن عمراً أسند إلى ولده بكر مع وجود من هو أقرب إلى الواقف فهل يصح إسناد عمرو أم لا وإذا لم يصح فيكون النظر إلى أقرب الناس للواقف بشرط الوقف وإذا كان الأقرب إلى الواقف امرأة وهي موصوفة بالصفات المشروطة في النظر فهل يعود النظر إليها لكونها أقرب إلى الواقف أم لا. أجاب الزين ابن المنجا الحنبلي: لا يصح إسناد عمرو إلى ولده مع وجود من هو أقرب منه إلى الواقف وإذا مات عمرو ولم يجعل النظر إلى من له جعله كان النظر إلى الأقرب إلى الواقف الموصوف بما ذكر وإذا كان الأقرب امرأة موصوفة بما شرط وكان الوقف لا يتضرر بنظرها لقيامها بالواجب فيه إما بنفسها وإما بنائبها كان النظر إليها وكتب: كتبه ابن المنجا الحنبلي. وكذلك بعده ابراهيم بن أحمد بن عقبة الحنفي أجاب التقي ابن تيمية الحنبلي: لا يصح إسناد عمرو والحالة هذه بل يكون النظر إلى أقرب الموجودين إلى الواقف من المتصفين بالصفات المشروطة بمقتضى شرط الواقف إذ التفويض الفاسد كلا تفويض وسواء كان رجلاً أو امرأة لانتظام العموم لها وقد فوض عمر رضي الله عنه وقفه إلى حفصة وكتب: كتبه أحمد بن تيمية، ووافقه على ذلك الشرف المقدسي الشافعي هذه نموذجات من فتاوى القرن السابع وهكذا ما قبله فيرى الواقف أن الوقائع والنوازل والأقضية كانت تعرض على أنظار عدة من أولي العلم ليرى كل فيها ما يؤديه إليه اجتهاده وقد يدلي بعضهم بحجة أقوى وبرهان أقوم فيفيء إلى فتواه من أفتى بخلافه وقد رأيت في

هذه الفتاوى - فتاوى الفزاري - من رجع بعد فتواه إلى ما كتبه مفت آخر في واقعة وعبارتها فيها: فلما أفتى الشيخ بذلك وكتب خطه رجع التقي ابن حياة إليه ورجع عما كان كتبه مع الجماعة واعتمد عليه انتهى وهكذا يكون العلم الصحيح والسعي وراء الحق في المسائل دون تعصب لإمام أو تقيد بمذهب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. جمال الدين القاسمي

الكلمات الدخيلة

الكلمات الدخيلة منذ أخذت الصحف تصدر في العربية أي منذ زهاء ثمانين سنة شعر الكتاب والمترجمون بالحاجة إلى ترجمة بعض الألفاظ الافرنجية إلى العربية فبدأ بذلك الشيخ أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب ووضع بعض الألفاظ العربية لمدلولات افرنجية شاعت اليوم حتى عدت كأنها من متن اللغة الأصلي ثم تبعه من جاء بعده ولا سيما المترجمون في مصر وسورية ومن جملتهم الشيخ ابراهيم اليازجي صاحب الطبيب والبيان والضياء الذي عرَّب بعض الألفاظ وغيرهم من اللغويين المعاصرين. وفي سنة 1310 عقد في مصر مؤتمر لغوي مؤلف من بعض العلماء واللغويين تليت فيه بعض الكلمات لبعض الألفاظ الشائعة مثل مرحى لكلمة برافو وبرحى على النقيض من الأولى ومدره للمحامي والمسرة للتلفون وعم صباحاً لبونجور وعم مساء لبونسوار والبهو للصالون والقفاز للجوانتي أو الكفوف والنمرة للنومر والوشاح للكوردون والطنف للبالكون والحراقة لمركب التوربيد والجديلة للمودة والمرب للكلوب والحذاقة لشهادة البكالوريا والعاطف أو المعطف للبالطو وحصب الأرض بالحصباء للمكادام والمشجب للشماعة أو بورتمانتو. ثم انفرط عقد ذاك المجتمع وكان عبد الله أفندي البستاني من لغويي بيروت وضع لفظة (آنسة) لمداموازيل وعقيلة لمدام ثم وضع أحمد بك تيمور ثلاثين كلمة وهي ملة القلم المدة بضم أوله وهي ما يعلق بالقلم من المداد بعد غمسه في الدواة. بوية الجزم أو طلاء الأحذية اليزندج أو الأرندج بفتحتين وهو السواد يسود به الخف. صحبة الورد الطاقة وهي الحزمة من الريحان ونحوه ولعلها أقرب لفظة لمعنى الصحبة وقد اصطلح الكتاب على تسميتها بالباقة وهو خطأ لأن الباقة خاصة بحزمة البقل. نشان التعليم الدريئة بفتح فكسر وهي الحلقة يتعلم الرامي عليها. الكشك أصله بالفارسية كوشك وهو القصر الصغير وقد عربوه بالجوسق. العطفة الردب بفتح الراء وسكون الدال وهو الطريق الذي لا ينفذ. العديل السلف أو الظأب من المظآبة وهي أن يتزوج إنسان بامرأة ويتزوج آخر بأختها، أما التجاب بتشديد الباء من باب التفاعل فهو أن يتزوج كل من الرجلين بأخت الآخر. قشرة الجرح الجلبة بضم فسكون وهي القشرة تعلو الجرح عند البرء.

الطاقية السكبة بفتح فسكون وهي خرقة تقور للرأس كالشبكة. ناظر العمارة أو مقدم الفعلة الوهين كامير وهو الرجل يكون مع الأجير يحثه على العمل. اليشمق اللفام بكسر أوله وهو النقاب يكون على طرف الأنف فإن كان على الفم فهواللثام. السردين الصير بكسر أوله وهو كما في القاموس السميكات المملوحة يعمل منها الصحناة وفسر الصحناة بأنه أدام يتخذ من السمك الصغار مشه مصلح للمعدة، فعلى هذا يجوز إطلاق الصحناة على كل ما يقدم أمام الطعام من المشهيات كالصير ونحوه المسمى عند الأعاجم يمكن أن يسمى السردين أيضاً بالطريخ كسكين وهو سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل. العزبة كأنها محرفة عن العزوبة بالفتح وهي الأرض البعيدة المضرب إلى الكلأ وصوابها الضيعة أو هي الأرض المغلة وقد استعملت قديماً بمعنى: العزبة وأظنها مستعملة إلى الآن بهذ االمعنى بالبلاد الشامية. مضرب الكورة الطبطابة بفتح فسكون وهي خشبة عريضة يلعب بها بالكرة ويقال لها أيضاً الميجار بكسر أوله وهو كما في المخصص الصولجان الذي تضرب به الكرة. المزة النقل بالفتح أو بالتحريك وهو ما يعبث به الشارب أو يتنقل به على شرابه من فاكهة ونحوها، والعامة تقول نقل بضم فسكون وهو خطأ قديم نبه عليه أئمة اللغة. اللباس الرسمي السواد وهو لون اتخذه بنو العباس شعاراً لهم ثم أطلق عندهم على لباس أسود خاص بالأمراء والعلماء وذوي الأخطار وكان الرجل إذا أراد الذهاب إلى ديوانه أو مقابلة خليفته قال لغلامه عليّ بسوادي وسيفي. ثياب الحزن السلاب بكسر أوله وهي ثياب سود تلبسها النساء في المأتم واحدتها سلبة بفتحتين وتسلبت المرأة وسلبت بتشديد اللام إذا لبستها وهو مثل أحدت إلا أن الأحداد يكون على الزوج خاصة والتسلب على الزوج وغيره. الحبل الحاجز في الطريق عند إصلاحها أو في احتفال كبير، الماصر وهو كما في مختصر العين للزبيدي حبل على طريق أو نهر تحبس به السفن أو السابلة، واقتصر في اللسان على أنه الحبل يلقى في الماء لمنع السفن عن السير. المعدية المعبر كمنبر وهو المركب الذي يعبر به.

عقدة وشنيطة الأنشوطة بضم فسكون وهي عقدة يسهل انحلالها إذا مددت بأحد طرفيها انحلت، وتقول نشطت الأنشوطة من باب نصر إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها. الحصان البوني المكبون والأنثى المكبونة وهو الفرس القصير القوائم الرحيب الجوف الشخت العظام ولا يكون المكبون أقعس ومعنى الأقعس في الخيل المطمئن الصهوة المرتفع القطاة. الشال الطيلسان وقد فسره اللغويون بأنه ضرب من الأكسية واقتصروا على ذلك إلا أن الشيخ ابراهيم السجيني فسره في كتابه المسمى بالعمى الأكبر في عين من أنكر لبس الأصفر بأنه ثوب طويل عريض كالرداء يجعل على الرأس فوق نحو عمامة ويغطي أكثر الوجه ثم يدار طرفه تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة ثم يلقى طرفاه على الكتفين وهو كما ترى قريب جداً من معنى الشال. رخو الكرباج الشيب بكسر أوله وهو سير السوط، وفي اللسان وشيبا السوط سيران في رأسه وشيب السوط معروف عربي فصيح. الجرسون أو السفرجي لم أقف على لفظ مفرد يدل دلالة تامة على الجرسون وقد ذكر اللغويون الندل بضمتين وفسره بخدم الدعوة قالوا سموا ندلا لأنهم ينقلون الطعام إلى من حضر الدعوة وأصله من ندل يندل إذا تناول، إلا أنهم لم يذكروا مفرده فأرجو ممن وقف على لفظة أخرى أو على مفرد الندل أن يتفضل بنشره إفادة للجمهور، على أني رأيت بهامش اللسان أن هذا اللفظ وجد مضبوطاً بخط الصاغاني بفتحتين وعليه فلا يبعد أن يكون اسم جمع لنادل كخادم وخدم إلا أن مثل هذا لا ينبغي الحكم فيه إلا بالنص الصريح. القطن الزهر اصطلح المصريون على تسمية القطن قبل حلجه بالزهر وعربيته الفصيحة المكمهل بصيغة اسم المفعول وهو كما في القاموس القطن ما دام في الحب والقطن الحليج كأمير هو ما استخرج حبه ويسميه المصريون بالشعر، أما شجرة القطن فتسمى الزعبل بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه. السنارة الشص بفتح أوله أو كسره وهي حديدة عقفاء يصاد بها السمك وأما الصنارة بكسر الصاد المهملة وتخفيف النون ومنع في اللسان تشديدها فهي الحديدة الدقيقة المقفة التي في رأس المغزل فاستعارتها العامة لمصيدة السمك وأبدلوا صادها سيناً ولا داعي للاستعارة

متى وجدت الكلمة الموضوعة. الجاكيتة اصطلح الكتاب على تسمية البالطو بالمعطف ومن المعلوم أن الجاكيتة كالبالطو الصغير فلا حرج إذا سميناها بالعطيف تصغير ترخيم للمعطف. البيرة السوداء البيرة خمر الشعير وعربيتها الجعة وزان هبة فيجوز أن يقال الجعة السوداء إلا أن العرب سمت الخمر السوداء بأم ليلى فما المانع من إطلاقها على هذا النوع من البيرة. عمود الغاز الماثلة وهي منارة المسرجة كما في القاموس البونية الجمع بضم فسكون وهو من الكف حين تقبضها قال طرفة بن العبد: بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذلول بإجماع الرجال ملهد ويقال فيه أيضاً الصقب بفتح فسكون وصقبه أي ضربه بجمع كفه. وبقيت الحال على هذا المنوال تشتد الحاجة إلى مفردات عربية كلما كثر المترجمون وكان لبعض المجلات عمل مهم في هذا الشأن فوضع أربابها ومؤازروها ألفاظاً كثيرة منها ما شاع ومنها ما لم يرزق الحظوة من الشيوع بين الكتاب إلى أن قام في السنة الماضية أعضاء نادي دار العلوم في القاهرة وهم من الغيورين على خدمة اللغة لأن معظمهم ممن أحكموا كتابتها وقواعدها وبيانها أحكاماً يكاد لا يكون وراءه غاية وهم الحلقة الموصلة بين أهل التربية الحديثة وأهل التربية القديمة بل هم مثال التربية العربية العصرية فرأوا نفع الله بهم العربية أن يختاروا بعض الأكفاء منهم يؤلفون لجنة علمية تتوفر على هذا الغرض من وضع الألفاظ العربية للمفردات العامية أو الأجنبية التي سرت إلى لغتنا من لغات أوروبا أو من اللغتين الفارسية والتركية فوضعوا حتى الآن طائفة صالحة من هذه الألفاظ وها نحن نثبتها فيما يلي إيذاناً بفضل أولئك العاملين وبياناً للمشتغلين باللغة من أهل الأقطار العربية الأخرى عسى أن ينظروا فيها نظرة ثانية أو أن يقروا اللجنة على ما وضعت وإن كان المصريون هم في الحقيقة أئمة اللغة والقائمون على تعهدها أكثر من غيرهم من الشعوب. وهاك ما قررته اللجنة حتى الآن من الألفاظ: استمارة يرى أعضاء النادي استعمال استئمارة وقد وجدت هذه الكلمة في الكتب القديمة

بلفظ استيمار بالتسهيل وحذف التاء ولكنهم رأوا إثبات التاء لالتزامها في الاستعمال الحاضر وعدم المانع منه والكلمة مرة من استأمر أي أخذ أمره. إنفيتياترو ترجمت بلفظ مدرج منذ زمان وقد كاد اختيار الأعضاء يجمع عليها. بلوك نوت تعريبها اضمامة ومعناها الأوراق منضمة. بويه نظرت اللجنة فيما يستعمل للتلوين فوجدته على نوعين: نوع يتخلل أجزاء الأجسام فاختارت له كلمة صبغ كصبغ الثياب والورق وما أشبه، ونوع يعلو السطوع فاختارت له كلمة طلاء كطلاء المباني والأواني وغير ذلك. تخته بوش وهو ما يسميه الافرنج وتعريبه نجيرة فقد جاء في لسان العرب أن النجيرة سقيفة من خشب ليس فيها نصب ولا غيره. تربيزه أو طاولة رأت اللجنة من هذا المسمى أنواعاً: فمنها ما هو للأكل وهذا خوان ويسمى حين وضع الأكل عليه مائدة، ومنها ما توضع عليه الأشياء المختلفة وهذا منضدة مشتقة من النضد وهو جعل المتاع بعضه فوق بعض ويخصصه بعض اللغويين بحر المتاع وخياره، ومنها ما هو للكتابة خاصة وهذا يطلق عليه كلمة مكتب المستعملة. ترسينه إن ما يخرج عن البناء منه ما هو مغطى وهذا يسمى كنه ومنه ما هو مكشوف وهذا طنف والكلمتان في العربية موضوعتان لما يخرج من الأجنحة في الدار، على أن هناك لفظة تؤدي المعنى وهي شرفة وقد كثر استعمالها وورد في الأغاني بهذا المعنى كلمة مستشرف جول اختارت لها اللجنة لفظة مرمى على أن كلمة محج الشائعة في سورية تؤدي نفس المعنى خارطة وصحيحها خريطة دوسيه تعريبها ملف شماعة أو تعليقة وجدت اللجنة لما تعلق عليه الملابس نوعين أولهما ذو عمود متوسط وشعبات بارزة فاختارت له كلمة غدان وهو في اللغة قضيب تعلق عليه الثياب والثاني يثبت في الحائط فاختارت له لفظة شجاب. طابور الكلمة عربية حرفت وصحيحها تابور

كارت فيزيت سبق اختيار بطاقة الزيارة ولا مانع من الاستغناء عن المضاف إليه فيقال بطاقة كما يقول الافرنج كارت. وقد رأت اللجنة أيضاً استبدال سينماتوغراف بكلمة خيالة وهي كل ما تراءى لك من الصور وفونغراف بالحاكي وميموغراف بمطبعة النضح تيب ريتر بمطبعة الأزرار لأنها اتخذت قاعدة عامة في قسمة المطابع وهي أن تستعمل كلمة مركبة من مطبعة مضافة إلى أكبر مميز لتلك المطبعة، على أن كلمة الآلة الكاتبة أو الكاتبة فقط أقرب من مطبعة الأزرار. اسبتالية قالت اللجنة: كان من الممكن أن نجاري المتقدمين في اختيارهم كلمة بيمارستان ولكن رأينا أن كلمة مستشفى مع أدائها المعنى تماماً أسهل نطقاً من الكلمة الأولى وأكثر دوراناً على الألسنة والأفلام. ونرى أن كلمة مستوصف أولى بالتعبير عن الكلينيك وبوفة اختارت اللجنة لهذا المعنى كلمة مقصف - وقد سبق استعمالها لأن معنى القصوف في اللغة الإقامة في الأكل والشرب وهذا هو معنى بوفه أما استعمال القصف في اللهو فغير عربي. أما خزانة الطعام والشراب فقد استعمل لها المتقدمون كلمة سكردان بريمة بزال ومعناه في اللغة: حديدة يفتح بها الدن وهو قريب من البريمة الحالية ففي هذا الإطلاق توسع. تلغراف استحسنت اللجنة الكلمة المستعملة برق ورسالة برقية تباشير الكلمة عربية محرفة وصحيحها طباشير ديبلوم شهادة عالية وقالت لم توافق اللجنة على الشهادة النهائية ولا على الشهادة العليا لأن الديبلوم ليست كذلك بل بعدها ما هو أعلى منها، أما شهادة الحذاقة التي أشار إليها أحمد تيمور بك فربما وضعت بعد لما هو أرقى من تلك الشهادة. عفارم اختارت اللجنة كلمة مرحى وهي كلمة تقولها العرب للإصابة في الرمي فيمكن التوسع فيها. قوميسون استنسبت كلمة لجنة المستعملة لأن معنى اللجنة الجماعة يجتمعون في الأمر

ويرضونه وذلك معنى القوميسون. اتومبيل سيارة كلمة استعملت وتعارفها الكتاب فوافقت اللجنة على استعمالها. اكسبرس قطار سريع مع كثرة الاستعمال يستغني عن الموصوف ويكتفى بالسريع كالمعتاد، بدرة غمنة، في القاموس الغمنة الاسفيداج والغمرة تطلي بها المرأة وجهها وهو موافق لمسمى بدرة. بزرميط هجين، لمن أبوه خير من أمه، مقرف، لمن أمه خير من أبيه، مخلط، إذا لم تلاحظ الخيرية في إحدى الجهتين، بنطلون سروالة ترتوار طوار، في القاموس طوار الدار ويكسر ما كان ممتداً معها وهذا ممتد مع الشارع، تمرجي ممرض كلمة عربية مستعملة في معنى التمرجى تملي دائمى، جهجون جزاف استعملها الفقهاء للبيع من غير كيل أو وزن ولم تر اللجنة بأساً بالتوسع فيها، دونانمة أسطول، كلمة استعملها المتقدمون من المؤرخين في معنى الدونانمة، روماتيزم رثية في القاموس الرثية وجع المفاصل واليدين والرجلين. زنبلك دورة، في القاموس يقال لكل ما لم يتحرك ولم يدر دوارة وفوارة بفتحهما فإذا تحرك ودار فهو دوارة وفوارة والزنبلك متحرك فرأت اللجنة أن الدوارة أقرب الكلمات العربية إلى معنى الزنبلك، صالون بهو، استعمل الكتاب كلمة بهو في الصالون والمعنيان متقاربان، صندوق القمامة صندوق القمامة، قشلاق ثكنة، في القاموس الثكنة مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم وإن لم يكن هناك لواء ولا علم جمعه ثكن كصرد، يمكخانة حواطه، لمحل الأكل، مطعم، للوكاندة الأكل، برجل دوارة، فرجار، بركار، في القاموس الدوارة الفرجار وقد ارتضتها اللجنة لأنها عربية محضة والكلمتان الأخريان من تعريب علماء الهندسة المتقدمين وقد استعملنا كثيراً في كتبهم فرأينا أن نبقي عليهما، كروكي رسم تقريبي، قد اختير ترجمة الكلمة غير العربية بما يؤدي معناها لعدم اتصال علم اللجنة لانها خاصة بما تجلى فيه العروس. (نوته) مذكرة، كناشة ج كناشات اشتق كلمة مذكرة من الفعل المقصود من هذا الاسم وهو التذكير وهذا ما اختارته اللجنة وأما كناشة فقد اختارها الأستاذ الشيخ حمزة وقد قال صاحب شرح القاموس ومنه الكناشة لأوراق تجعل كالدفتر يقيد فيها الفوائد والشوارد للضبط هكذا يستعمله المغاربة واستعمله شيخنا في حاشيته على هذا الكتاب كثيراً وترى

اللجنة أنها تستعمل لما قاله صاحب شرح القاموس (أجنده) (قماش) نسيج أصل القماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذاله قماش وليس هذا المعنى هو المراد بكلمة قماش وإنما يريدون بها المنسوجات فكلمة نسيج طبقه (قومندان) قائد أصل الكلمة أعجمية وكلمتها العربية قائد يقال قائد الجيش وقائد الفرقة وقائد الفرسان وقائد المشاة. (قواص) حاجب استعملت حاجب لتؤدي معنى قواص وهي موافقة، (طرحة) خمار الخمار النصيف وهي ما تغطي به المرأة رأسها وقد كانت الطرحة مستعملة قديماً في الطيلسان وقد يقولون الطراحة فالخمار أقرب إلى المعنى المقصود من الطرحة، (حزورة - فزورة) أحجية قال في القاموس كلمة محجبة مخالفة المعنى للفظ وهي الأحجية، (شنطة) عيبة قال في اللسان العيبة وعاء من آدم يكون فيها المتاع، شادوف شادوف جميع الكلمات التي وردت للجنة ليس فيها ما يدل على مسمى شادوف مع استعمالها في معان أخرى وهذه الكلمات هي دالية وهي المنجنون والناعورة والمنجنون الدولاب يستقى عليه أو المحالة يسنى عليها والمحالة البكرة العظيمة وكل هذا بعيد عن معنى الشادوف السانية وهي الغرب وأداته والناقة يسقى عليها والغرب الدلو العظيمة. لهذا رأت اللجنة أن تستقي كلمة شادوف بإزاء ذلك المعنى المعروف وخصوصاً أن الصيغة عربية كثيرة الورود وقال الأستاذ الشيخ حمزة أنها كلمة مصرية معروفة عند العرب، فنار منار المنار موضع النور ويظهران كلمة فنار مخلطة من الكلمة العربية منار والكلمة اليونانية فار، فرشة فرجون محسة من وضع الأستاذ الشيخ حمزة قال في القاموس: الفرجون كبرذون المحسة وقال في مادة خس: الحس نفض التراب عن الدابة بالمحسنة للفرجون (كماشة) كماشة قال في القاموس الكمش ضرب من صرار الإبل وصرار الإبل شد ضرعها صرها يصرها صراً وهو نوع من القبض الذي يراد به التمكن من الشيء فرأت اللجنة أن هذا من التجوز الذي يتسع مثله ولا حاجة بعد إلى تغيير كلمة مثل هذه والذهاب إلى الكلمات العامة مثل ملقط ومقبض وما شاكل ذلك. كالون قفل وغلق اختير الغلق لذلك الذي تسميه العامة كالون والقفل يستعمل عند العامة في مسمى معروف فيبقى دالاً على ذلك المسمى وهو المنفصل عن الباب ويستعمل له عروتان يربطهما القفل بلسانه، برميل برميل ورد للجنة تسع كلمات لم تر واحدة منها صالحة لأن

تطلق على مسمى البرميل وهي (1) الزبيل ومعناها كما في القاموس القفة أو الجراب أو الوعاء والقفة والجراب مسماها مخالف لمسمى البرميل شكلاً ومادة والوعاء عام (2) الزكرة زق للخمر والخل والزق السقاء أو جلد يجز ولا ينتف للشراب وغيره وليس معنى البرميل هذا (3) فنطاس ومعناه حوض السفينة يجتمع فيه نشافة مائها وسقاية لها من الألواح يحمل فيها الماء العذب للشرب ولا تزال الكلمة مستعملة في معناها مع التوسع (4) مخزن وهي عامة لكل ما يخزن فيه الشيء أي يحرز (5) المقلد وهو الوعاء فهو عام (6) العس وهو القدح العظيم (7) الحب ومعناه الجرة والضخمة منها أو الخشبات الأربع توضع عليها الجرة ذات العروتين (8) الدن وهو الراقود العظيم أو أطول من الحب أو أصغر وله عسعس لا يقعد إلا أن يحفر له وهو المعروف بالزلعة أو الخابية (9) الراقود وهو مثل الدن. رأت اللجنة بعد نظرها هذه الكلمات أن تقر على استعمال كلمة برميل لأنها أدل على مسماها ولم يوجد من الكلم العربية أمامها ما يقوم مقامها وقد قال الأستاذ الشيخ حمزة أن برميلاً بكسر الباء عربية صحيحة، حرملة إتب ومئتبة حرملة، في القاموس الاتب والمئتبة كمكنسة برد يشق فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين وهو قريب من معنى الحرملة، وقد بحثت اللجنة عن أصل هذه الكلمة وكيف استعملها الناس مع الطلاوة العربية فوجدت أن الحريملة شجرة تنشق جراؤها عن الين قطن ويحشى به مخاد الملوك لخفته ونعومته فلا يبعد أن هذه الحرملة كانت تحشى بهذا القطن للتدفئة فسميت باسم شجرتها وكبر اسمها ولذلك أبقتها اللجنة، البشاورة الطلاسة، في القاموس الطلاسة خرقة يمسح بها اللوح، شخير النائم غطيط، غط النائم صات. الدورة الليلية عسس، عس طاف بالليل وهو نفض الليل عن أهل الريبة وهو عاس جمعه عسس، الرغاوي الرغاوى - الزبد، وضعت اللجنة كلمة الزبد وقال الأستاذ الشيخ حمزة الرغاوى أي الرغوة أي الزبد والجمع رغاوى كل ذلك عربي صحيح، طازه طازج، طازج تعريب طازه وكان من عادة العرب في التعريب أن لحقوا بالكلمات المنتهية بمثل هذه الهاء جيماً كما قالوا فالوذج ونموذج وغير ذلك، الدش الرشاش، الرش نفض الماء والرشاش مشتق منه.

عفش أثاث، الأثاث متاع البيت، (حجر الحمام) نسفة، في القاموس النسفة حجارة سود ذات نخاريب يحك بها الرجل سمى به لانتسافه الوسخ من الرجل. (طاولة اللعب) نرد، (عماص) غمص أن سال، رمص أن جمد، الغمص ما سال من الرمص غمصت العين كفرح فهو أغمص والرمص وسخ أبيض، يجتمع في الموق رمصت عينه كفرح فهو أرمص والتقييد من وضع الأستاذ الشيخ حمزة. عود الفرن محش، المحش حديدة تحش بها النار أي تحرك كالمحشة مصلحة الفرن المطردة، المطردة خرقة تبل ويمسح بها التنور ومثلها الطريدة. (هلب السفينة) انجر كلوب، الانجر مرساة السفينة وهو خشبات يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة إذا رست معرب لنكر، والكلوب من وضع الأستاذ الشيخ حمزة قال في شرح القاموس ومن المجاز كلاليب الباز مخالبه جمع كلوب. (هلب البئر) حصرم، الحصرم الحديدة يخرج بها الدلو من البئر. (هباب اللمبة) سناج، السناج أثر دخان السراج في الحائط. (مضرب الكرة) طبطابة، الطبطابة خشبة عريضة يلعب بها الكرة. (فارة النجار) مسحج، المسحج المبراة يبرى بها الخشب، (تصبيرة) لمجة، اللمجة ما يتعلل به قبل الغداء، (أبعدية) ضيعة، الضيعة العقار والأرض المغلة. (قزان) مرجل، المرجل القدر من الحجارة والنحاس مذكر. (اضبش) غطمش، الغطمش الكليل البصر أما الضبش فلم نره، (الرمش) الهدب الهدب شعر أشفار العينين وهو ما تريده العامة برمش، (دوخة) دوار الدوار شبه الدوران يأخذ في الرأس، (فلينة - سداد الزجاجة) صمام صمام القارورة سدادها. (مصفاة نحو إبريق الشاي) فدام الفدام المصفاة وابريق مفدَّم عليه مصفاة. (البريثون) الثرب في القاموس الثرب شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء جمعه ثروب وأثرب وتعرفه العامة بهذا الاسم ولكنهم يبدلون الثاء تاء فيقولون ترب. (أوزي) حمل في القاموس من معاني الحمل الجذع من أولاد الضأن فما دونه والجمع حملان وأحمال، (قشرة البيض الخارجة) قيض في القاموس القيض القشرة العليا اليابسة على البيضة، (القشرة الداخلة) غرقيء في القاموس الغرقي القشرة الملتزقة ببياض البيض،

(بياض البيض) الزلال، (صفار البيض) المح في القاموس من معاني المح صفرة البيض، (المضيفة) الثوي في القاموس الثوي كغني البيت المهيأ له أي للضيف، (شبشب) كوث في القاموس الكوث القفش الذي يلبس في الرجل والقفش الخف القصير، (موضة) بدع - بدئ في القاموس البدئ الأمر المبدع والبدع الأمر الذي يكون أولاً جمعه إبداع، (انتيكة) عادي في القاموس العادي الشيء القديم - كأنه منسوب إلى عاد، (خريطة البحر) راهنامج في القاموس الراهنامج كتاب الطريق وهو الكتاب يسلك به الربابنة البحر ويهتدون به في معرفة المراسي وغيرها (طقة واحدة) وجبة القاموس الوجبة الأكلة في اليوم والليلة أو أكلة في اليوم إلى مثلها من الغد، (وش الفرش) ظهارة الظهارة نقيض البطانة وظاهر بينهما طابق. (سيخ الشواء) سفود في القاموس السفود حديدة يشوى بها وتسفيد اللحم عظمه فيها. (مونة البناء) ملاط الملاط الطين يجعل بين ساقي البناء ويملط به الحائط أي يطلى والساف كل عرق من الحائط والعرق كل صف من اللبن والآجر في الحائط والساف المدماك، (تقاوي) بذر البذر ما عزل للزراعة من الحبوب جمعه بذور وبذار. (الوجاق) الوطيس الوطيس التنور، (الصنفرة) السفن من معاني السفن قطعة خشناء من جلد ضب أو سمكة يسحج بها القدح حتى تذهب عنه آثار المبراة. (الدربكة) الكوبة الكوبة الطبل الصغير المخصر، (الطهارة) الختان. (الاستراد) المنصة المنصة في الأصل ما ترفع عليه العروس واستعير لذلك المكان المرتفع الذي يصعد إليه بدرج لإلقاء درس مثلاً، (الدربزين) الدربزين ورد ذكر الدربزين في القاموس تفسيراً للجلفق واختيرت الكلمة لاستعمالها وغرابة الأخرى. (النجفة) الثريا أصل الثريا علم لمجموعة من النجوم متضامة استعيرت لهذا المعنى لما بينهما من التشابه في التضام والإنارة، (ضيان) متين المتانة الصلابة والكلمة العامية تستعمل في الشيء ذي الصلابة والتحمل فهو معنى متين، (النفير) البوق البوق بالضم الذي ينفخ فيه ويزمر، (سباطه) قنو القنو الكباسة جمعه أقناء وقنوان والكباسة بالكسر العذق والعذق هو ما تعبر عنه العامة بالسباطة أما معنى السباطة لغة فهي الكناسة تطرح بأفنية البيوت، (المقشة) المقشة قش الرجل أكل من ههنا وههنا ولف ما قدر عليه من الخوان

والشيء جمعه وكله مناسب لما تصنعه تلك الأداة والقشيش والقشاش اللقاطة، (معية) حاشية الحاشية أصل الرجل وخاصته والأخير نص في المعنى المراد بمعية، (بدلة) حلة الحلة ما تركب من ثوبين إزار ورداء وكذلك البدلة دائماً. ياقة القميص زيق زيق القميص بالكسر ما حاط بالعنق منه، سواري فرسان، الأستيك النوط معلق كل شيء، (شلتة) حشية الحشية الفراش المحشو.

كتاب المدهش

كتاب المدهش الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي هو محدث حافظ مفسر فقيه واعظ أديب قال فيه العليمي في طبقاته أنه أستاذ الأئمة حبر الأمة بحر العلوم سيد الحفاظ فارس المعاني والألفاظ فريد العصر قريع الدهر شيخ الإسلام قدوة الأنام علامة الزمان ترجمان القرآن قامع المبتدعين سلطان المتكلمين ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة لأنه وجد بخطه تصنيف له في الوعظ ذكر أنه صنفه سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وقال (ولي من العمر سبع عشرة سنة وكان يحزر مجلسه في الوعظ على الدوام بعشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً قال علي المنبر في آخر عمري كتبت بإصبعي هاتين الفي مجلد وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره سئل عن عدد مصنفاته فقال زيادة على ثلثمائة وأربعين مصنفاً منها ما هو عشرون مجلداً ومنها ما هو كراس واحد ولم يترك فناً من الفنون إلا وله فيه مصنف. وقال بعضهم أنه كان يحضر مجلس وعظه مائة ألف أو يزيدون وهذا مبالغة لا يستطيع إنسان يوصل صوته إليهم ولا جامع أو ساحة أن تجمعهم والمقصود أنهم كانوا ألوفاً من المستمعين وقد قال عن نفسه أنه صنف وله من العمر ثلاث عشرة سنة وقيل عنه أنه كان يراعي حفظ صحته وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة وجل غذائه الفراريج والمزاوير ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات ولباسه الأبيض الناعم المطيب. والمدهش من جملة كتبه ورد ذكره في قائمتها وهو في مجلدين مكتوب بخط مشرقيّ مشكول كله وقد دفعناه إلى صديقنا السيد عبد القادر المبارك فكتب عليه ما يلي: من المخطوطات القديمة لابن الجوزي كتاب المدهش قال كاتبه في خاتمته كان الفراغ من نسخه في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبعمائة جاء في مقدمته بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم. قال شيخ الأمة وعلم الأئمة ناصر السنة جمال الدين فخر الإسلام زين الأنام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن الجوزي قدس الله روحه ونور ضريحه: الحمدلله الذي لا منتهى لعطاياه ومنحه حمداً يقوم بالواجب في شكره ومدحه وصلى الله على أشرف نبي وأفصحه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ما أستن طرف في مرحه (أما بعد) فإني قمت بحمد الله في علم الوعظ بأصحه وأملحه وآثرت أن أنتقي في هذا الكتاب من ملحه والله

الموفق في كل عمل لأصلحه وقد قسمته خمسة أبواب، الباب الأول في علوم القرآن وبيانه، الباب الثاني في تصريف اللغة وموافقة القرآن لها، الباب الثالث في علوم الحديث، الباب الرابع في عيون التواريخ، الباب الخامس في ذكر المواعظ وهذا الباب ينقسم قسمين، قسم فيه ذكر القصص وقسم فيه المواعظ مطلقاً والله الموفق. وذكر في باب علوم القرآن وبيانه ستة فصول يقع كل فصل منها في نحو صفحة واحدة فذكر في الفصل الأول أقسام الخطاب في القرآن وفي الثاني ما ورد فيه من ضروب الأمثال وفي الثالث ما جاء فيه أخص وأحسن مما بمعناه من الكلمات التي تدور على الألسنة وفي الرابع ما اتحد من الآيات المتشابهة في المعنى واختلف في اللفظ وفي الخامس ما تغاير من الآيات بزيادة بعض الحروف والكلمات أو نقصانها وفي السادس ما تغاير من الآيات بتقديم أو تأخير. ثم ذكر بعد هذه الفصول أربعة وعشرين باباً سماها أبواباً منتخبة من الوجوه والنظائر ذكر فيها معاني هذه الكلمات: أو، أدنى، الإنزال، الأرض، الأمر، الإنسان، الباء، الحق، الخير، الدين، الذكر، الروح، الصلاة عن، الفتنة، في، القرية، كان، كلا، اللام، لولا، من، الواو، الهدى. ثم أتى على الباب الثاني في تصريف اللغة وموافقة القرآن لها وقسمه على ثلاثة عشر فصلاً قال في أول فصل منه: لما كانت اللغة تنقسم قسمين أحدهما الظاهر الذي لا يخفى على سامعيه ولا يحتمل غير ظاهره والثاني المشتمل على الكنايات والإشارات والتجوزات وكان هذا القسم هو المستحلى عند العرب نزل القرآن بالقسمين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله فكأنما قال عرضوه بأي القسمين شئتم ولو نزل كله واضحاً لقالوا هلا نزل بالقسم المستحلى عندنا ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية أو استعارة أو تعريض أو تشبيه كان أحلى وأحسن قال امرؤ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل فشبه النظر بالسهم فحلي عند السامع وقال أيضاً: فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل فجعل لليل صلباً وعجزاً وصدراً على جهة التشبيه وقال غيره:

من كميت أجادها طابخاها ... لم تمت كل موتها في القدور أراد بالطابخين الليل والنهار، فنزل القرآن على عادة العرب في كلامهم ومن عاداتهم التجوز، وفي القرآن فما ربحت تجارتهم، يريد أن ينقض، ومن عادتهم الكناية، ولكن لا تواعدوهن سراً، أو جاء أحد منكم من الغائط وأكثر الفصول الباقية ترجع إلى بيان سعة اللغة وفقهها على أسلوب فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي. والباب الثالث في علوم الحديث وجله يتعلق ببيان أسماء المحدثين والمحدثات وتمييز ما يكثر فيه الالتباس وبيان المتفق والمفترق ويقال له أيضاً المؤتلف والمختلف ثم انتقل إلى الباب الرابع في عيون التواريخ أتى فيه على نبذ من أمهات المسائل التاريخية فمنها قوله: كان أول ملوك الأرض ملك فارس وملكهم دارا ملك نحو مائتي سنة ثم ملك بعده خمسة وعشرون ملكاً فيهم امرأتان وكان آخر القوم يزدجرد هلك في زمن عثمان رضي الله عنه فكان ملكهم خمسمائة سنة وكسراً وكان أظرهم ولاية ذو الأكتاف فإنه لا يعرف من ملك وهو في بطن أمه غيره لأن أباه كان قد مات ولا ولد له وإنما كان هذا حملاً فقال المنجمون هذا الحمل يملك الأرض فوضع التاج على بطن الأم وكتب إلى الآفاق وهو جنين وسمي سابورا وإنما سمي ذا الأكتاف لأنه حين ملك كان ينزع أكتاف مخالفيه وهو الذي بنى الإيوان وبنى نيسابور وسجستان والسوس وما زال الملك يتنقل بعده فيهم إلى أن ملك انوشروان وكان آخرهم وكان له اثنا عشر ألف امرأة وجارية وخمسون ألف دابة وألف فيل إلا واحداً وفي زمانه ولد النبي صلى الله عليه وسلم ومات لثمان مضين من مولد نبينا صلى الله عليه وسلم ولما دخل المسلمون المدائن أحرقوا ستر باب الايوان وأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهباً. قال ومن العجائب أنه ولد في ليلة السبت لاربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول سنة تسعين ومائة المأمون ومات الهادي واستخلف الرشيد وفيه أجدبت الأرض في سنة ثماني عشرة وكانت الريح تسفي ترباً كالرماد فسمي عام الرمادة وجعلت الوحوش تأوي إلى الأنس فآلى عمر رضي الله عنه أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيي الناس واستسقى الناس بالعباس فسقوا وفيها كان طاعون عمواس مات فيه أبو عبيدة ومعاذ وأنس وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتت أم أميرهم فما وجدوا من يحملها وفي

سنة ست وتسعين كان طاعون الجارف هلك في ثلاثة أيام سبعون ألفاً ومات في لأنس ثمانون ولداً وكان يموت أهل الدار فيطبق عليهم الباب وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة مات أول يوم في الطاعون سبعون ألفاً وفي اليوم الثاني سبعون ألفاً وفي اليوم الثالث خمدت الناس وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة ذبح الأطفال وأكلت الجيف وبيع العقار برغيفين واشترى لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم. وقد عقد المؤلف رحمه الله في الباب الرابع في عيون التواريخ فصلاً مستقلاً أفرده بذكر الزلازل والآيات المشتملة على دواعي العبر والمواعظ والزواجر وها هو ينص حروفه. زلزلت الأرض على عهد عمر رضي الله عنه في سنة عشرين، ودامت الزلازل في سنة أربع وتسعين أربعين يوماً فوقعت الأبنية الشاهقة وتهدمت أنطاكية، وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلت فرغانة فمات منها خمسة عشر ألفاً، وفي السنة التي تليها رجفت الأهواز وتصدعت الجبال وهرب أهل البلد إلى البر والسفن ودامت ستة عشر يوماً، وفي السنة التي تليها مطر أهل تيماء مطراً وبرداً كالبيض فقتل بها ثلاثمائة وسبعون إنساناً وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك اعف عن عبادك، ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع بلا أصابع وعرضها شبران والخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست تبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتاً ولا يرون شخصاً، وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين رجفت دمشق رجفة انتفضت البيوت على سكانها فمات منهم خلق كثير وانكفأت قرية بالغوطة على أهلها فلم ينج منهم أحد إلا رجل واحد، وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفاً، وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فأقامت نيفاً وخمسين يوماً وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز ثم ذهبت إلى همذان فأحرقت الزرع ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي فبطلت الأسواق وزلزلت هراة فوقعت الدور، وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين وجه طاهر بن عبد عبد الله إلى المتوكل حجراً سقط بناحية طبرستان وزنه ثمانمائة وأربعون درهماً وفيه صدع وذكر أنه سمع لسقوطه هدة مسيرة أربعة فراسخ في مثلها وأنه ساخ في الأرض خمسة أذرع، وفي سنة أربعين ومائتين خرجت ربح من بلاد الترك فمرت بمروَ فقتلت خلقاً كثيراً بالزكام ثم صارت إلى نيسابور وإلى الري ثم إلى همذان وإلى حلوان ثم إلى العراق فأصاب أهل بغداد (وسر من رأى) حمى وسعال وزكام

وجاءت كتب من المغرب أن ثلاث عشرة قرية من قرى القيروان خسف بأهلها فلم ينج منهم إلا اثنان وأربعون رجلاً سود الوجوه فاتوا إلى القيروان فأخرجهم أهلها وقالوا لهم أنتم مسخوط عليكم فبنى لهم العامل حظيرة خارج المدينة فنزلوا فيها. وفي سنة إحدى وأربعين ماجت النجوم في السماء وجعلت تتطاير شرقاً وغرباً كالجراد من غروب الشمس إلى الفجر ولم يكن مثل هذا إلا عند ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السنة التي تليها رجمت قرية يقال لها السويداء بناحية مصر بخمسة أحجار فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فأحرقها ووزن منها حجر فكانت زنته عشرة أرطال، وزلزلت الريُّ وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصبهان وقم وقاشان كلها في وقت واحد، وزلزلت الدامغان فهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفاً وتقطعت جبال ودنا بعضها من بعض وسمع للسماء والأرض أصوات عالية وسار جبل باليمن عليه مزارع حتى أتى مزارع قوم آخرين، ووقع طائر أبيض دون الرخمة وفوق الغراب على دلبة بحلب لسبع مضين من شهر رمضان فصاح يا معشر الناس اتقوا الله حتى صاح أربعين صوتاً ثم طار فجاء من الغد فصاح أربعين صوتاً وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض كور الأهواز فسقط طائر أبيض على جنازته فصاح بالفارسية والخوزية: إن الله قد غفر لهذا الميت ولمن شهده، وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت أنطاكية فسقط منها ألف وخمسمائة دار ووقع من سورها نيف وتسعون برجاً وسمع أهلها أصواتاً هائلة من كوى المنازل، وسمع أهل تنيس صيحة هائلة دامت فمات منها خلق كثير وذهبت جبلة بأهلها، وفي سنة خمس وثمانين ومائتين مطرت قرية حجارة بيضاً وسوداً، وفي سنة ثمان وثمانين زلزلت دنبل (كذا) فأصبحوا ولم يبق من المدينة إلا اليسير فأخرجوا من تحت الهدم خمسين ومائة ألف بيت، وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة عدل الحاج عن الجادة خوفاً من العرب فرأوا في البرية صور أناس من حجارة ورأوا امرأة قائمة على التنور وهي من حجارة والخبز الذي في التنور من حجارة، وفي سنة ثمان سبعين وثلاثمائة هبت ريح بفم الصلح شبهت بالتنين جرفت دجلة حتى ذكر أنه بانت أرضها وأهلكت خلقاً كثيراً واحتملت زورقاً منحدراً وفيه دواب فطرحته في أرض عوجا (كذا).

وفي سنة عشرين وأربعمائة جاء برد هائل وقعت بردة حزرت ثمانية وخمسين رطلاً فكانت كالثور النائم، وفي سنة أربع وثلاثين زلزلت تبريز فهدم سورها وقلعتها وهلك تحت الهدم خمسون ألفاً، وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة كانت بارجان زلازل انقلعت منها الحيطان فحكى من يعتمد على قوله أنه كان قاعداً في ابوان داره فانفرج سقفه حتى رأى السماء من وسطه ثم عاد، وفي سنة ستين وأربعمائة كنت زلزلة بفلسطين هلك فيها خمسة عشر ألفاً وانشقت صخرة بيت المقدس ثم عادت فالتأمت وغاب البحر فساح في الأرض فدخل الناس يلتقطون فرجع عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً، وفي سنة اثنتين وستين خسف بابلة، وفي سنة ست وخمسمائة سمع ببغداد هدة عظيمة في أقطار بغداد، قال شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي: أنا سمعتها فظننت حائطاً قد وقع ولم يعلم ما ذلك ولم يكن في السماء غيم فيقال رعد، وفي السنة التي تليها وقعت زلزلة بناحية الشام فوقع من سور الرها ثلاثة عشر برجاً وخسف بسميساط وقلب بنصف القلعة، وفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة زلزلت الأرض ببغداد يوم عرفة فكانت الحيطان تمر وتجيء، وفي سنة خمس عشرة وقع الثلج ببغداد فامتلأت منه الشوارع والدروب ولم يسمع قبله بمثله، وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة كانت زلزلة بحيرة أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفاً فأهلكتهم وكانت في مقدار عشرة فراسخ في مثلها، وفي السنة التي تليها خسف بحيرة وصار مكان البلد ماء أسود وقدم التجار من أهلها فلزموا المقابر يبكون على أهلهم، وزلزلت حلوان فقلع الجبل وأهلك خلقاً كثيراً، وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلازل بالشام في ثلاثة عشر بلداً من بلاد الإسلام فمنها ما هلك كله ومنها ما هلك بعضه. وهنا أنشأ المصنف رحمه الله الباب الخامس في ذكر المواعظ فبدأ في القسم الأول منه بقصة آدم وبناء الكعبة وقصة نوح وعاد وثمود والخليل والذبيح وذي القرنين ولوط ويوسف وأيوب وشعيب وموسى والخضر وبلعام وقارون وداود ومريم وعيسى وسليمان وزكريا ويحيى وأهل الكهف وبداية أمر نبينا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام وقصة الغار وأهل بدر وذكر أسماء من شهدها مرتبة على حروف المعجم ثم من يعرف بالكنية دون الاسم وختم هذا القسم من الوعظ بفصل ذكر فيه بناء علي بن أبي طالب بالسيدة البتول فاطمة الزهراء رضي الله عنهما وها أنا ذا أنقل للقراء أقصر قصة

من تلك القصص الستة والعشرين لتكون انموذجاً يتعرف به أسلوبه الغريب في بابه قال في قصة ثمود ما نصه: لما أعرضت ثمود عن كل فعل صالح بعث إليهم للإصلاح صالح فنعنت عليه ناقة هو أهم بطلب ناقة فخرجت من صخرة صماء تقبقب ثم فصل عنها (أي خرج منها) فصيل يرغو فارتعت حول نهي (بكسر فسكون أي غدير ماء) نهيهم عنها في حمى حماية (ولا تمسوها بسوء) فاحتاجت إلى الماء وهو قليل عندهم فقال حاكم الوحي لها شرب ولكم شرب يوم معلوم وكانت يوم وردها تقضي دين الماء بماء درها فاجتمعوا في حلة الحيلة على شاطئ غدير الغرور فدار قدار ابن سالف عاقر ناقة صالح الذي هو أشقى ثمود حول عطن (فتعاطى فعقر) فصب عليهم صبيب صاعقة العذاب الهون فحين دنا ودندن دمغهم دمار (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم) فأصبحت المنازل لهول ذلك النازل كان لم تغن بالأمس. والقسم الثاني يشتمل على مائة فصل كمقامات الزمخشري في أطواق الذهب وعبد المؤمن الأصفهاني في أطباق الذهب من حيث الموضوع والتفنن في الأساليب الناجعة المؤثرة في الموعوظ وهذا القسم يستوعب نحواً من خمسة أسداس الكتاب وقد أكثر فيه من الأشعار مستشهداً بها على حسب ما يقتضيه المعنى الذي يريد تصويره في مخيلة السامع وربما كان الشعر في هذا القسم مساوياً للنثر أو يزيد وكله أو جله من نظم غيره وإنما يذكره تمثلاً واستشهاداً. قال في الفصل السادس والسبعين: ذكر الأحباب والوطنا ... والصبا والألف والسكنا فبكى شجواً فحن له ... مدنف بالشجو حلف ضنى أبعدت مرمى يد رجمت ... من خراسان به اليمنا من لمشتاق تميل به ... ذات سجع ميلت فننا لم تعرض في الحنين بمن ... مسعد إلا وقلت أنا لك يا ورقاء أسوة من ... لم تذيقي طرفه الوسنا بك انسي مثل انسك بي ... فتعالي نبد ما كمنا نتشاكى ما يجن فإن ... نحت شجواص صحت واحزنا

أنا لا أنت البعيد هوى ... أنا لا أنت الغريب هنا أنا فرد يا حمام وها ... أنت والألف القرين ثنا اسرحا رأد النهار معاً ... واسكنا جنح الدجى غصنا وابكيا يا جارتي لما ... لعبت أيدي الفراق بنا أين قلبي ما صنعت به ... ما أرى قلبي له سكنا كان يوم النفر وهو معي ... فأبى أن يصحب البدنا أنه حادي الفراق حدا ... أم له داعي الفراق عنى ومن قوله في بعض الفصول: ويحك اجتنب حلواء الشره فإنها سبب الحمى وخل خل البخل فإنه يؤذي عصب المروءة، إن عوجلت أمراضك فعولجت وإلا مللت وأمللت، لو احتميت عن الخطأ لم تحتج إلى طبيب، من ركب ظهر التفريط نزل به دار الندامة. ومن قوله في هذا الفصل: كان داود إذا أراد النياحة نادى مناديه في أندية المحزونين فيجتمعون في مأتم الندب فتزداد الحرق بالتعاون: يا بعيد الدار عن وطنه ... مفرداً يبكي على شجنه كلما جد النحيب به ... زادت الأسقام في بدنه ولقد زاد الفؤاد جوى ... هاتف يبكي على فننه شاقه ما شاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه يا مذنبين مصيبتنا في التفريط واحدة وكل غريب للغريب نسيب، ومن قوله في فصل آخر: إخواني انتبهوا من رقدات الأغمار وانتبهوا لحظات الأعمار وقاطعوا الكسل فقد قطع الأعذار الأعذار واسمعوا زواجر الزمن فما داجى الدجى ولقد نهر النهار وخذوا بالحزم فقد شقي من رضي بشفا جرف هار، ومنه: وأعجبا يتأمل الحيوان البهيم العواقب وأنت لا ترى إلا الحاضر ما تكاد تهتم بمؤنة الشتاء حتى يقوى البرد ولا بمؤنة الصيف حتى يشتد الحر ومن هذه صفته في أمور الدنيا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. ومنه: ما دامت النفس حية تسعى فهي حية تسعى، أول فعل لها تمزيق العمر بكف التبذير كالخرقاء وجدت صوفاً، أخل بها في بيت الفكر ساعة وانظر هل هي معك أو عليك، نادها

بلسان التذكرة يا نفس ذهب عرش بلقيس وبلي جمال شيرين وتمزق فرش بوران، وبقي ذلك رابعة. ومنه: يا صبيان التوبة طبيبكم متلطف تارة بالتشويق وتارة بالتخويف هذه الطير إذا انشق بيضها عن الفراخ علم الأب والأم أن حوصلة الفرخ لا تحتمل الغذاء فينفخان الريح في حلقه لتتسع الحوصلة ثم يعلمان أن الحوصلة تحتاج إلى دبغ وتقوية فيأكلان من صاروج الحيظان وهو شيء فيه ملوحة كالسبخ ثم يزقانه إياه فإذا اشتدت الحوصلة رقياه إلى الحب فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع فإذا جاع لقط فإذا راياه قد استقل باللقط ضرباه بالأجنحة إذا سألهما الزق فتأملوا تدبيري لكم في المواعظ، ومنه: الدنيا غرارة غدارة مكارة، تظن مقيمة وهي سيارة، ومصالحة وقد شنت الغارة نح عن نفسك القبيح وصنها ... وتوق الدنيا ولا تأتمنها لا تثق بالدنا فما أبقت الدن ... يا لحي وديعة لم تخنها إنما جئتها لتستقبل المو ... ت وأسكنتها لتخرج عنها تستحل الدنيا وما لك إلا ... ما تبلغت أو تزودت منها وسيبقى الحديث بعدك فانظر ... خير أحدوثة تكون فكنها ومن فصل آخر: يا ساعياً لنفسه في المهالك، دنا الرحيل ونضو النقلة بارك، متى تذكر وحشتك بعد إيناسك، متى تقتدي من ناسك بناسك، كأنك بك قد خرجت عن أهلك وولدك، وانفردت عن عددك وعددك، وقتلك سيف الندم ولم يدك (يدفع ديتك) ورحلت ولم تحصل من ندمك إلى على عض يدك: كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدك والقطر على ذاك مروا أجمعين وهكذا ... يمرون حتى ينشرنهم الحشر فحتام لا تصحو وقد قرب المدى ... وحتى مَ لا ينجاب عن قلبك السكر بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر ومن فصل آخر: كان محمد بن المنكدر كثير البكاء فسئل عن ذلك فقال آية من القرآن

أبكتني: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) كيف لا تذهب العيون من البكا وما تدري ماذا أعد لها سبقت السعادة لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل كونه ومضت الشقاوة لأبي جهل قبل وجوده، وخوف العارفين من سوابق الأقدار قلقل الأرواح هيبة، لا تسل مع تحكم (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) قوي قلق العلماء: أترى سئلوا لما رحلوا ... ماذا فعلوا أم من قتلوا أحليف النوم أقل اللوم ... فعندي اليوم لهم شغل أدنى جزعي لم يبق معي ... قلب فيعي منذ احتملوا جلدي سلبوا جسدي نهبوا ... كمدي وهبوا كبدي تبلوا هيهات أفيق اذليس تطيق ... هذا ايليق فما العذل لما ذرفت عين وقفت ... أترى عرفت ما بي الإبل ولحى اللاحي وهو الصاحي ... وهمو راحي وأنا الثمل ومن فصل آخر: يا تائهاً في ظلمة ظلمه، يا موغلا في مفازة تيهه، يا باحثاً عن مدية حتفه، يا حافراً زبية هلكه، يا معمقاً مهواة مصرعه بئسما اخترت لأحب الأنفس إليك، ويحك تطلب النجاة ولست على الطريق، هز الزمان بوعظه فماً فما سمعت: لينذر من كان حياً ومنه: إلى أي حين أنت في زي مجرم ... وحتى متى في شقوة والي كم وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتلاقي الذل غير مكرم فثب واثقاً بالله وثبة ماجد ... ترى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم ومن فصل آخر: تبني وتجمع والآثار تندرس ... وتأمل اللبث والأرواح تختلس ذا اللب فكر فما في الخلد من طمع ... لا بد ما ينتهي أمر وينعكس أين الملوك وأبناء الملوك ومن ... كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا ومن سيوفهمو في كل معترك ... تخشى ودونهم الحجاب والحرس اضحوا بمهلكة في وسط معركة ... صرعى وماشي الورى من فوقهم يطس وعمهم حدث أو ضمهم جدث ... باتوا وهم جثث في الرمس قد حبسوا

كأنهم قط ما كانوا ولا خلقوا ... ومات ذكرهمو بين الورى ونسوا والله لو نظرت عيناك ما صنعت ... يد البلى بهمو والدود يفترس من أوجه ناضرات حار ناظرها ... في رونق الحسن منها كيف تنطمس وأعظم باليات ملبها رمق ... فليس نبقى وهذا وهي تنتهس وألسن ناطقات زانها أدب ... جفت وما شانها بالآفة الخرس لستهمو السن للدهر فاغرة ... فاها فآهاً لهم إذ بالردى وكسوا حتى م ياذا النهي لا ترعوي سفهاً ... ودمع عينك لا يهمي وينبجس ومن قوله في الفصل الأخير: هذه قصص النجاة قد أمليتها فعنونها وهذه جوارشات المواعظ قد جمعتها فاعجنها ثم قال في الختام لمن أصغي واصف، أفي عزمك أتباعي فأقف، الليل يضج من نومك، والنهار يستغيث من قبح فعلك. يا أيها الراقد كم ترقد ... قم ياخليلي قد دنا الموعد وخذ من الليل وساعاته ... حظاً إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد وكان بودي - لولا خشية الإملال من الإطالة وعدم اتساع نطاق المجلة - أن أستوفي نقل بعض فصول (هذا المدهش) برمتها لما تضمنته من محاسن البلاغة وأسلوب الحكيم وجودة المعنى والمبنى مما جمع بين اللذة والفائدة ودل على سمو مدارك المؤلف وسعة فضله وغزارة مادة علمه كما يظهر من ترجمته فعسى أن يقيض الله له من خدمة العلم وناشري الويته من يجيد طبعه ويستخرج للناس جواهر كنزه فيحظى بالربح عاجلاً وآجلاً مع تخليد الذكر الجميل والأثر الحسن والسلام.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار العين الكهربائية اخترع الأستاذ روزنك الروسي آلة تكون بمثابة عين كهربائية تظهر بها اضطرابات المعدة وأسرار أعماق البحار وأسرار البراكين بجلاء ووضوح كما تتمثل لنا إذا كانت أمام العين مباشرة وقد بناه على الاكتشاف الحديث للأشعة الكاتوديكية فينطبع الموجود بمرآة من نوع الروتاتيف وتظهر الصورة بتأثير مجرى كهربائي، ويتأتى إنزال هذه الآلة إلى قعر البحر ووسط البركان والمعدة كما ينزل المسبار لسبر الأبعاد فيها فترى الأشياء في الظلمات كما ترى في النور بل ترى بها المعادن المدفونة في بطن الأرض إذا أريد أن ينظر فيما إذا كان ثمت خطر على العملة في المناجم ويفيد هذا الاختراع فوائد كلية في الأعمال الصناعية وفي الفنون الحربية والبحرية وفي غير ذلك وبهذه الآلة تتم عدة اختراعات كانت موقوفة على مثل هذه العين الكهربائية. تعقيم اللبن اخترع الدكتور هرنغ من فارسوفيا آلة لتعقيم اللبن تقتل بها الجراثيم الضارة بدون أن يفقد شيئاً من خاصيته وذلك بأن يغلى من 65 إلى 70 درجة ثم يبرد بواسطة هذه الآلة التي تعقم من 200 إلى250 سنتمتراً مكعباً من اللبن والآلة المذكورة حوت الشروط اللازمة التي يحفظ بها اللبن خاصياته الطبيعية والكيماوية ولونه وطعمه ورائحته ومواده الدهنية وغيرها وبها يتأتى إبقاؤه ثمانية أيام بدون أن يحمض. برزخ جديد عمدت روسيا أن تفتح برزخاً يصل بحر البلطيق بالبحر الأسود وطول هذا البرزخ 2150 كيلومتراً ويقدر ما ينبغي لذلك من النفقات 450 مليون فرنك تكون السهام للروسيين فقط كما تكون جميع الأدوات اللازمة لهذا العمل روسية محضة ويقول القائمون به أنه يرجى أن يكون دخل هذا الخليج 80 مليون فرنك كل سنة. صرعى الكتب يذكر القراء اسم المسيو البرسيم مؤلف الكتاب (المقتبس م3 ص377 و457 و735) الباحث العلامة الذي أثبت بأن عمرو بن العاص لم يحرق مكتبة الاسكندرية في الفتح بأمر

عمر بن الخطاب على ما يتهمهما بعضهم بذلك ظلما وقد كتب المؤلف الآن مبحثاً في المجلة الافرنسية قال فيه ما حاصله: شدد (جول فالي) في كتابه الأخير في كلامه على تأثيرات الكتاب السيئة فقال أنه طالما آذى قارئه بما ينبعث منه من الأفكار وخصوصاً كتب الأقاصيص والسير والغرام فلا تجد منتحراً إلا وقد سبقت له مطالعة أساليب الانتحار في كتاب ولا امرأة غادرت بيتها متهتكة إلا لأنها تلت القصص الغرامية ولا قاتلاً إلا سهلت له ما هو بسبيله مطالعة الكتب وكم أثرت الكتب في كبار الرجال فكانوا صرعاها في الحقيقة أمثال مورجة وموسه وبالزاك وساند، قال سيم أما الكتاب على التحقيق فهو كاللسان كما قال ازوب في الخير والشر هو رابطة الحياة المدنية ومفتاح العلوم به تعمر المدن وتنظم وبه يعلم الناس ويقنعون ويحكم الحاكمون والمسيطرون وبه تتم أول الفروض على المرء من حمد الله كما أنه اشر ما في العالم وأصل كل خصام وبلاء ومولد القضايا ومبعث الشقاق والحروب فإذا قيل أنه لسان حال الحق فهو أيضاً لسان حال الضلال بل النميمة والغيبة. فالمؤلف إذاً قد غالى في وصف سيئات الكتاب فنظر إليه من وجه وترك الوجه الآخر وهو وجه الحسنات وفاته الخير الذي يسد به والعلم الذي ينشره والعزاء الذي تتعزى به النفوس والغذاء الذي تتغذى به الأرواح فقد قال سلفستردي ساسي: ما قط عراني ألم من الآلام التي تداهم القلب إلا وعالجته فزال بمطالعة ساعة وقد قال الفيلسوف شيلر يخاطب قريحته: ماذا أكون أولاك أني أجهله ولكنني أرتعش عندما أرى مئات وألوفاً من الناس حرموا منك، ولذا أتوخى هنا أن ألقي نظرة فيمن أحبوا الكتب وأولعوا بها وجعلوا فيها لذتهم بل سمرهم بحيث خصوا بها كل شيء وصرعوا بها مختارين راضين. وكم من مولع بالكتب طال عمره كأن الكتب مما يطيل حبل الأجل فلو تتبعت سير الرجال منذ عهد ايراتوستين (276 - 195 ق. م) إلى دانيال هوية (1630 - 1721) لوجدت كثيرين من المعمرين المولعين بل المتجننين يحب الكتب ومنهم كيتي الفيلسوف والعالم تيرس والعالم كيزو واللغوي لتره والعالم ارنست لوكوفيه وغيرهم من المعمرين من أهل القرن الماضي والذي قبله وما منهم من قصرت سنه عن السبعين ومنهم من بلغ المئة وأكثر، وشيخ رجال الأدب اليوم في فرنسا المغرم بالكتب المشهور فرنسوا فرتيول بلغ

السابعة والتسعين من عمره ولا يزال إلى اليوم في صحة ونشاط بين كتبه الكثيرة وأحبابه الموالين له. وأقدم صرعى الكتب ايراتوستين الفيلسوف الجغرافي الرياضي اليوناني من أهل القرن الثالث قبل المسيح دعاه بطليموس من آثينة إلى الاسكندرية ليفوض إليه إدارة المكتبة التي أنشأها فيها وإذ كف بصره في آخر عمره آثر الموت على أن يحرم من مطالعة الكتب ويحرم من دروسه المعتادة فانتحر جوعاً، وأحدث صرعى الكتب شارل ديديه (805 - 1864) مؤلف رحلات كثيرة على الشرق كف بصره فآثر الانتحار على العيش بدون تلاوة وهذا فعل، ومثله ستانيسلاس كويارد (1846 - 1884) العالم المستشرق استاذ اللغة العربية في كوليج دي فرانس فإنه لما استحكم منه المرض فضل الانتحار على أن يعيش في راحة اضطرارية منقطعاً عن عمله، ومثله الطبيعي الباحث الألماني اميل بسلس (1847 - 1887) أضاع في غرق مجموعاته الثمينة وسطت النار بعد سنين على مكتبته وجميع مخطوطاته فرأى الانتحار أفضل من تحمل ألم تلك الرزية التي أصابته. ومات بريان الأميركاني حزناً على كتبه الثمينة وكان أعطاها في حال غفلة لإحدى المكاتب ومات كوجه الافرنسي لأنه رأى عشرة آلاف من كتبه تنتقل إلى يد غير يده وكذلك اللغوي ريشارد برونك مات لأن الحالة المالية اضطرته أن يخرج عن ملكه بعض كتبه العزيزة، ومن الناس من حزنوا وهلكوا لما رأوا مجموعاتهم تنهب أو تعطل وكم من علماء وأدباء وخازني كتب قضوا بما وقع فوق رؤوسهم من الكتب والأسفار الثمينة الثقيلة أو وقعوا من سلم وهم بصدد وضع كتاب في بيته أو رفه أو إخراجه منه وكم من عالم أحرق كتبه بإهماله وذلك بشمعة سرى لهيبها إلى ورق أو أحرق نفسه بشمعة كما فعل تيودورمومسن المؤرخ الألماني الذي نقل النار إلى شعره الطويل الأبيض فمات من أثر حروق وكم من مولع بالكتب مثل بولارد (1754 - 1825) الذي جمع مكتبة فيها ستمائة ألف مجلد ملأ بها تسعة بيوت وأنهكه التعب في جمعها ونقلها فكانت سبب هلاكه. ومن الناس من قضوا على أنفسهم بصنعهم وانصرافهم إلى المطالعة والاستغراق في الكتب ومن هذه الطبقة انكتيل دوبورون (1731 - 1805) المستشرق المشهور ناقل كتاب الزاند افستا الفارمي إلى الافرنجية وموجد الدروس الآسيوية في أوروبا وعارف لغاتها كلها كان

مقتراً في مأكله وملبسه مستغرقاً فيما أخذ به نفسه حتى أنه لقلة هندامه ونظافته كان يظن أنه شحاذ فيعطيه بعض المارة دارهم متصدقين عليه فقضى عقيب أنهاك قوته في العمل ومن غرائبه أنه عين عضواً في المجمع العلمي ولما كان زاهداً في التشريفات ولا يغنى بغير المطالعة من أمور الحياة اضطر إلى الاستقالة، وكم من رجل حرم نفسه الطعام والأدام بل الدفء والثياب ليقتني بدريهمات يدخرها كتاباً ومنهم انطون ماكليابشي (1633 - 1714) العالم الفلورنسي المولع بالكتب كان يعيش أحقر عيشة وأمامه كنوز من المال أنفقها على خزانة كتبه في فلورنسا وكذلك يوسف اندراوس زالوسكي أسقف مدينة كيف في بولونيا 1701 - 1774 حصر كل وقته وقواه حتى جمع خزانة كتب حوت مائتي ألف مجلد فنهبها الروس سنة 1795 ومن المولعين بالكتب ومطالعتها من كانوا يكرهون أنفسهم على عدم النوم ويغسلون أرجلهم بالماء البارد وهم في أبرد الأقاليم لئلا يناموا ثم يضعون المنبه على أوقات يعينونها ومن المولعين بالكتب ومطالعتها من كانوا يكرهون أنفسهم على عدم النوم ويغسلون أرجلهم بالماء البارد وهم في أبرد الأقاليم لئلا يناموا ثم يضعون المنبه على أوقات يعينونها ومن المولعين بالكتب نابليون الأول حرم نفسه أنواع الراحة لأول أمره حتى اقتنى بعض الكتب وعلم أخاه في المدرسة ومنهم يواكيم لوول 1786 - 1861 المؤرخ البولوني العالم بالكتب والنقود نفته حكومته فنزل بروكسل عاصمة البلجيك وكان عزيز النفس لا يقبل معونة أحد وهو في فقر مدقع والفصل شتاء وهو لا مال له يبتاع به وقوداً يصطلي عليه في البرد القارس فاحتال بعض إخوانه أن يكتروا بجانب غرفته غرفة ويدخلوا أنبوب الموقدة من غرفته بعد أن أخذوا رأيه وأظهروا له أن غرفتهم لا تدفأ إلا على هذه الصورة فقال لهم اعملوا ما شئتم وهكذا توصلوا إلى تدفئته بدون أن يشعر ويدفع درهماً. وكثير من الناس من ماتوا فوق كتبهم أو أمامها حتف أنفهم ومنهم بترارك الأديب الكبير (1304 - 1374) والفيلسوف الصقلي أنطون فلامينو من أهل القرن السادس عشر ومنهم سوليه الفرنسوي الذي آثر الوحدة على كل اجتماع وكانت حياته مثال العامل المجد وكتب بيتين لتحفرا على قبره معناهما: ولدت يتيماً وعشت وحدي في شبيبتي وكذلك في شيخوختي وهاءنذا وحدي هنا في القبر إلى اليوم

سلك بحري تقول المجلات العلمية أن السلك البحري الذي سينجز هذا الشهر بين ألمانيا وأميركا الجنوبية قد بلغ طوله 11200000 كيلو متر آخذاً من أمدان إلى تنريف فمونرونيا على شاطئ إفريقية الغربي ومن هناك إلى ليبيريا آخذاً إلى برنامبوكو فالبرازيل أما الفرع الثالث الذي يصل بين إفريقية والعالم الجديد فطوله 4500 كيلومتر. لحم الكلاب انتشر أكل لحم الكلاب في ألمانيا ولا سيما في إمارة ساكس ولحمها أغلى من لحم الخيل ويذبحون سبعة آلاف كلب كل سنة في تلك الإمارة لتناول لحومها. سكان الولايات المتحدة لم يكن للولايات المتحدة إحصاء معروف حتى سنة 1820 يدل على سكانها وحركة الهجرة إليها وقد تبين بالإحصاء أنه دخل من ذاك العهد سنة 1910 20 مليوناً من المهاجرين أكثرهم من الطليان والعناصر النمساوية المجرية، وليس الانكليز والايرلنديون والسكانداولون والألمان قلائل بعدهم، وكان سكان أميركا إلى حرب الاستقلال من أصل انكليزي خاصة وفيهم كثير من الايكوسيين والايرلنديين هربوا من بلادهم تخلصاً من ظلم الحكومة الانكليزية ثم جاء الألمان فالهو كنوت الفرنسويين والايكوسيون وزادت الهجرة عندما اشتد غلاء البطاطا في ايرلندا سنة 1347 وفي ثورة ألمانيا وكان الشمال الغربي من بلاد أوروبا أولاً هو الذي يهاجر منه المهاجرون بكثرة إلى الولايات المتحدة ثم سرت هذه البدعة إلى سكان جنوبي أوروبا وهم اليوم أكثر الأوروبيين هجرة، ومن الغريب أن البلغاريين والرومانيين والصربيين لم يهاجروا كما هاجر غيرهم من سكان أوروبا مع أنه هاجر كثيرون من أهل البوسنة وبولونيا وغاليسيا كما أخذ يهاجر اليوم كثير من أهل الممالك العثمانية ولا سيما أهل سورية وأرمينية. انكلترا والسلام ظهر من إحصاء حديث أن انكلترا على الرغم مما تسعى إليه في حفظ السلام قد أنفقت في القرن التاسع عشر ثلاثين مليار فرنك على حرب نابوليون والقريم وجنوبي إفريقية

وخسرت سبعمائة ألف من رجالها وقد أفقدتها الهجرة منذ سنة 1820 ثمانية ملايين من الأنفس هاجروا إلى أميركا وكان في الولايات المتحدة وحدها سنة 1900 2800000 انكليزي أي أكثر من مجموع ما في أوستراليا وإفريقية الجنوبية وكندا من الانكليز. أمة السواب في بلاد المجر مستعمرة من السواب نزلتها منذ سنة 1716 وهو عهد تحرير الأمير اوجين لتلك البلاد من حكم العثمانيين ويبلغ عددهم اليوم مليون نسمة ويجتمعون في إقليم بانات وأسماء بلدانهم ألمانية ولكنهم قلما يتعلقون ببلادهم الأصلية وهم كالسكسونيين في ترنسلفانيا بأميركا قد أنشأوا لأنفسهم استقلالاً جديداً رقوه بنشاطهم في كل فرع من فروعه وليس لهم إلى الآن مقام رفيع في ميدان الأعمال العقلية ويكاد لا يوجد لديهم أكثر من خمسة عشر مؤلفاً وهم يفاخرون بأنه كان من شعرائهم القدماء شاعر اسمه نيقولا لونو ولهجة لغتهم كلهجة ذاك الإقليم وتآليفهم أشبه بالقصص التي كان يتلذذ بها الناس في ألمانيا منذ مئة سنة. السويد والشرق عثروا في السويد أثناء الحفر على كثير من الأمتعة والاعلاق يستدل من صورتها أنها شرقية أو جعلت على مثال شرقي واستنتج علماء الآثار من ذلك أنه كانت من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر للميلاد صلات منظمة بين السويد والعالم الإسلامي وربما مع الصين أيضاً فإن البلاد الواقعة في جنوبي السويد مملوءة بهذه النفائس والعاديات فقد عثروا فيها على 30 ألف قطعة من النقود العربية من نقود القرن الثامن إلى القرن العاشر ضربت في فارس وبين النهرين وفي غيرها من البلاد الواقعة شرقي بحر الخزر مثل المخ وسمرقند وعثروا على آثار منها الفارسي ومنها الصيني ومن جملتها كأس من الفخار مزين بالمينا استخرجوه من مدفن في غوتلاندا يشبه كأساً من القلز كتبت عليه كتابات عربية بحروف كوفية عثر عليه في سوركوت من أعمال سيبيريا. قالت المجلة الآسيوية وجميع هذه المكتشفات ينجلى بها كلام مؤرخي العرب والروم البيزنطيين والايسلنديين الذين ذكروا مكانة التجارة السكانداوية في روسيا والمملكة البيزنطية وبلاد الإسلام وبما ظفر الباحثون في روسيا وسيبيريا بمثل هذه الذخائر وبها تسهل معرفة الطرق التجارية التي كان سلكها التجار بين السويد والشرق وإن ما عثر ما

عليه أيضاً في جنزوف من الأسلحة والأدوات وأنواع الحلي ليدل على أنها سويدية الشكل ممزوجة بأصل عربي أو رومي ويرى المسيو ارن أن نهري الفولغا ودنيبر كانا هما الطريقين الأعظمين الواصلين بين بلاد السويد وفنلندا من جهة وبينها وبين بلاد الشرق من أخرى فكان يتيسر لتجار السويد أن يجتازوا الفولغا إلى حد بحر الخزر مما يوافق عليه مؤلفو العرب فقد قالوا أن الاجتماع كان في جنوبي هذا البحر فيصادفون في طريقهم في بلغار جنوبي قازان وفي اتيل جنوبي استرخان تجاراً قدموا من فارس وتركستان ليقايضوا معهم بضائعهم وكان سكان السويد يسيرون في نهر دنيبر حتى يبلغوا المملكة البيزنطية، وقد سرت التأثيرات الإسلامية إلى أعالي نهر دنيبر إذ قد ظفر الباحثون بالقرب من مدينة كيف بعقود سلكت في عدة أسلاك وهي من الصناعة الإسلامية، قلنا ولا عجب إذا عثروا هناك على آثار للعرب فقد ذكر المرحوم حسن أفندي توفيق من رجال النهضة العلمية المصرية في كتابه رسائل البشرى أنه وجد نقلاً في بعض الكتب عن القزويني في كتاب له يسمى آثار البلاد ما يستدل منه أن أبا بكر محمد الأندلسي الطرطوشي المعروف بابن أبي رندقة المتوفى في الاسكندرية سنة 520 قد ساح في أرض ألمانيا ووصف بعضاً من بلادها فوصف مدينة مينس وسماها مغناجه ووصف بعضاً من بلادها فوصف مدينة شليزفيك وسماها شلشويق وذكر لنا الأستاذ المرحوم أن أحد علماء الجغرافيا من الألمان ذكر له أنه عثر في معجم ياقوت على ذكر مدن في حدود اسكاندينافيا من شمالي أوروبا فإذا صح الأمر وكان ياقوت ذكر بعض هذه البلاد استفاد من ذلك الباحثون من أهل السويد أن طريق التجارة كان أيضاً من البحر قاصدين إلى ألمانيا فجنوبي شرقي أوروبا حتى يقاضوا تجار العرب والروم بتجاراتهم ويستدل من كلام ابن رندقة أن السياحة كانت ميسورة في ألمانيا في القرن الخامس والسادس للهجرة وهو غريب فتأمل. يابان الحديثة اختلفت الروايات في تقدير رقي يابان في مادياتها وقد كتب أحد العلماء في مجلة العالمين الباريزية مقالة في هذا الصدد جاء فيها أن قليلاً في الشعوب من سارت سير اليابان في رقيها بسرعة فقد أثبتت قوة بحريتها وبريتها في حربين عظيمتين خرجت منهما ظافرة وبلغت الدرجة الرابعة ببحريتها بين الدول وعادلت تجارتها الخارجية تجارة أوستراليا

وكندا وأحسنت بالانتفاع جد الانتفاع من مناجمها وصناعاتها، وسككها الحديدية وأسلاكها البرقية والتلفونية كما لدولة عظمى، وتقدر ثروتها بسبعين مليار فرنك وبفضل الإدارة المنظمة بلغت ميزانيتها ملياراً ونصف مليار فرنك ولم يكن لحكومتها سنة 1868 إلى 1885 أهم الصناعات الحديثة في بلاها لتضاهي بها أهل الغرب في مدينتهم، يقولون أن آسيا متأخرة بمدنيتها خمسين سنة عن أوروبا أما المدنية في يابان فإنها أرقى من كثير من ممالك أوروبا نفسها. التعليم في رومانيا رومانيا مملكة من ممالك البلقان كانت تؤدي الجزية للدولة العلية من سنة 1392 إلى سنة 1716 ثم حكمتها مباشرة واستقلت نهائياً سنة 1878 منفصلة عن العثمانية في مؤتمر برلين وهي مؤلفة من إمارتي مولدافيا والفلاخ ومساحتها السطحية 139547 كيلومتراً وقد نشرت نظارة معارفها مؤخراً إحصاء بعدد الأميين والمتعلمين من أبنائها عن سنة 1909 أي لمرور 48 سنة على جعل رومانيا مملكة تبين منه أن أولاد رومانيا يجب عليهم أن يدخلوا المدرسة الابتدائية العامة من السنة السابعة إلى الرابعة عشرة وإذا رأت إدارة معارفها ضرورة تكره أولياء الأولاد أن يعلموا أطفالهم في مدارس إعدادية خاصة من سن السادسة إلى السابعة وإذا جاوز الولد الرابعة عشرة من سنه ولم يدخل مدرسة يضطر إلى دخولها ويمكث فيها سنة زيادة أما من تعلموا ما يجب تعلمه قبل أن يبلغوا الرابعة عشرة فيقضى عليهم إذا كانوا من أبناء القرى أن يواظبوا على مدارس للمراجعة، ولأولياء الأولاد أن يعلموا أولادهم في بيوتهم أو في مدارس خاصة تعترف بها الحكومة وإذا قدر لبعض الأولاد أن أخفقوا في امتحان سنتين من فحوص السنة المدرسية تقيد أسماؤهم في مدارس الحكومة على سبيل المعونة وقد بلغ عدد الأولاد الذين هم في سن الدراسة 827883 طفلاً وطفلة في القرى و 110573 في المدن وعدد مدارس القرى 4695 فيها 6460 معلماً وعدد طلابها وطالباتها 504297 منهم 333378 صبياً و 70919 ابنة وبلغ عدد مدارس المدن 378 فيها 1324 معلماً و 80654 تلميذاً منهم 46276 ذكراً وفي رومانيا 260 مدرسة خاصة فيها 24727 تلميذاً و 88 ملجأ معظمها للاسرائيليين تؤوي 3126 ولداً سنهم دون السابعة.

قالت مجلة الاقتصاديين بعد إيراد بعض ما تقدم ونفقات المعلمين في هذه المدارس تؤديها الحكومة خاصة وقد كانت سنة 1910 - 13 مليون فرنك 297271 فرنكاً ويؤخذ من إحصاء سنة 1901 أن أهالي رومانيا بلغوا 4763699 ذكوراً وإناثاً سنهم أكثر من سبع سنين منهم 1809431 يقرأون ويكتبون و 2954268 أمياً ومعدل الأميين في المدن 26 في المئة في الرجال و 48 في المئة من النساء فيها و 2105605 من هؤلاء الأميين تجاوزت سنهم الحادية والعشرين فنجوا من قانون المعارف الذي يقضي بتعليم الأولاد إلى هذه السن و 850000 أمي تختلف سنهم بين السابعة والحادية والعشرين وقد بذلت العناية من وراء الغاية منذ عشر سنين لنشر المعارف بين غير المتعلمين من الرومانيين ولكن الأمر صعب والتغلب عليه بعد الآن، قلنا أما المملكة العثمانية فلا تعرف حتى الآن عدد أمييها من متعلميها بل لا تعرف عدد سكانها لأن كل شيء فيها موكول إلى التوكل والبركة لا إلى الحساب والتقدير. احتكار المجلات شاعت في الولايات المتحدة إشاعة أحدثت ضجيجاً وقلقاً في عالم الصحافة وذلك أن النقابة المالية التي يرأسها المثري الشهير مورغان تريد أن تحتكر المجلات الكبرى في تلك الديار لأن أحد أعضاء هذه النقابة قد ثبت أنه ابتاع عدة مجلات وهو مدير شكرة كرول التي لها ثلاث مجلات عظمى يبلغ ما تطبعه 1700000 نسخة وقد اشترى مورغان سهاماً كثيرة من شركة أخرى يريد ضمها إلى شركة كرول ويخشى مديرو المجلات أن لا يكون هذا الاحتكار داعياً يضطرهم لا نزال أجور الإعلانات، والذي نعجب منه في الأكثر أن المطبوع من ثلاث مجلات هو هذا القدر من العدد. سكان الهند أفاد لسان البرق أنه بلغ سكان الهند في الإحصاء الأخير 315 مليوناً وهو نمو هائل دل على استتباب أعلام الأمن وتوفر مرافق الحياة والصحة والثروة في تلك الأقطار الواسعة. المرأة والرجل اقترحت مجلة أدلة الترقي الفرنسوية على أرباب الأفكار وحملة العلم والأدب في فرنسا أن يكتبوا لها آراءهم في طلب المرأة التساوي بالرجل في حقوق الانتخاب وهو المطلب الذي

اشتد النساء في ألمانيا وانكلترا والنمسا وفرنسا في المطالبة به في العهد الأخير لما ظهر من اقتدارهن ومسابقتهن الرجال إلى ورود حياض العلوم والمعارف فكتب لها الكاتبون وبعض الكاتبات الشهيرات بآرائهم فكانت في الأكثر مجمعة على وجوب تساوي النساء بالرجال في هذا الشأن وأن إشراكهن الرجل في الانتخاب حسن وربما كانت آراؤهن أميز من آراء الرجال في كثير من الأحوال. كارنيجي والسلام بعد أن دفع المثري الأميركي كارنيجي عشرة ملايين دولار للسعي في إبطال الحروب من الأرض وتعهد بأداء أربعين مليوناً آخر قوي الأمل بأن يرفع السلام أعلامه على الأرض وقد ألفت حكومة واشنطون لجنة من 24 رجلاً من كبار ساسة الأميركان للنظر في هذا الأمر، قال كارنيجي في كتابه إلى هذه اللجنة إني أودع إليكم مبلغ عشرة ملايين دولار لتستعملوه في الإسراع بإبطال الحرب الدولية هذه الوصمة القذرة في وجه المدنية الحديثة وقد وصف أحد الألمان كارنيجي الأميركي وقال أنه رآه في السنة الماضية وهو في السن الثالثة والسبعين فرحاً مسروراً كأنه في الأربعين وقوة جسمه ناشئة من رياضته وهو حسن الظن في الأمور قوي الثقة بالمستقبل شعاره: كل شيء صائر إلى خير لأن كل أمر في تحسن اليوم بعد اليوم في هذه الدنيا وكيف لا يقول هذا وثروته تبلغ عشرة مليارات من الفرنكات هو ابن نساج ايكوسي (انكليزي) فقير جاء أميركا يبحث له عن عمل ولا تسل عن سروره يوم جاء إلى أبيه بستة فرنكات اكتسبها لأول مرة من عمله في أسبوع وهو لا يزال يذكر تلك اللذة وأن ربح بعد ذلك الملايين والمليارات ومن جملة حسنات كارنيجي أنه أسس ألفي مكتبة لأمته سبلها على المطالعة والمراجعة. أصل المصريين ألقى الأستاذ اليوت سميث محاضرة في مدينة مانشستر من بلاد الانكليز في أصل المصريين قال فيها: إن معرفة أصل قدماء المصريين كان موضوع بحث الكثيرين من زمن اليونان والرومان الذين دهشوا من أعمال الأمة المصرية الهائلة وعاداتها الغريبة، وقد بدأت الاكتشافات الدالة على أصل المصريين في سنة 1894 باكتشاف الأستاذ بترى مقابر بين البلاص ونقاده في شمال مدينة طيبة كان داخلها أجسام وأشياء تاريخها سابق لتاريخ

الأسرات التي حكمت مصر، وقد دل ذلك الاكتشاف على أن الأجسام التي وجدت قبل ذلك لم تكن مصرية بحتة بل كانت خليطاً من أجناس مختلفة، وأخذ كثير من المؤرخين يضعون نظريات بنوها على ما عثر عليه أناس لا علم لهم بالآثار بطريقة غير منظمة وهم على غير علم بما تدل عليه من الآثار التاريخية والفوائد الخطيرة العلمية قال إن من حسن حظه أنه بدأ في بحثه في مصر من سنة 1900 وهو الوقت الذي ثبت في تمام الثبوت أن مقابر نقاده كان مدفوناً فيها أجسام من قبل بدء التاريخ وأمكن كذلك معرفة أعمار هذه المقابر معرفة تامة ومن سنة 1900 تم كثير من أعمال الحفر والتنقيب اطلع عليها بأجمعها وبحث فيها بحثاً دقيقاً، وقد دلت البراهين الثابتة على أن المدنية المصرية قبل تدوين التاريخ كانت منتشرة في أعالي فروع نهر النيل إلى بلاد الحبشة ومن هناك إلى شاطئ البحر الأحمر. وكان من عادة المصريين قبل حكم الأسرات التي حكمتهم أن يدفنوا موتاهم واضعين رؤوسهم نحو الجنوب ولما أتت الأسرة الرابعة حدث اختلاط في الأجناس في الوجه البحري وبدأت الموتى تدفن ورؤوسها نحو الشمال، وكان المصريون يعتبرون سكان شاطئ البحر الأحمر أجدادهم ويقدسونهم ويسمونهم (بنطا) أي أنهم من دم واحد ومواطنيهم. وقبل بناء الأهرام أخذ المصريون في الاختلاط التام بالأجناس الأخرى وقبل أن بدأ تاريخ الأسرات المالكة كان المصريون قد اكتشفوا معدن النحاس فصنعوا منه أسلحة فتحوا بها الوجه البحري ولما اتحد الوجهان (القبلي والبحري) ظهرت الأسرة المالكة الأولى وفي هذا الوقت افتتح المصريون شبه جزيرة سينا وسواحل سورية إلى أن وصلوا إلى جبل لبنان وأدخلوا في غرب آسيا فوائد النحاس واستعماله وكان هذا الاختلاط بالأمم الأخرى باعثاً على تقدم المدنية المصرية فتقدموا في ذلك العصر تقدماً باهراً، وكانوا يعبدون آله الشمس (رع) على الدوام ولم تأت الأسرة الخامسة حتى انتشرت عبادة هذا الآله انتشاراً كبيراً وربما كان ذلك راجعاً إلى تأثير فتح البلاد السورية. وفي آخر العصر الحجري أتى إلى أوروبا أناس عن طريق آسيا الصغرى وكانوا يستعملون القلز ولهم عادات مختلفة في دفن موتاهم وقد تعقبت بقايا هذا الجنس فوجدت أنها تتصل بنفس المكان في سورية الذي كان يأتي منه المهاجرون إلى مصر في عهد بناء

الهرم الأول حيث تعلموا استعمال النحاس من المصريين وكانو عبورهم من مضيق البوسفور إلى أوروبا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ثم اختلطوا من ذلك الوقت بمن كانوا عائشين في العصر الحجري وعلى ذلك فالجنس المسمى بالألبيين نسبة إلى الألب هم من نسل هؤلاء الأقوام الآسيويين ولما أتت الأسرة المالكة الخامسة ظهرت دلائل وجودهم في مصر الوسطى ثم في طيبة ثم أخذت تقاطيع المصريين وسحنهم تتغير تدريجياً. وكان من عادة الأجانب في مصر أن يطلقوا شواربهم وقد اكتشفوا أجساماً من آخر الأسوة المالكة الثالثة إلى السادسة مدفونة في الجيزة وسقارة وميدوم من هذا النوع وفحصت جماجمهم والخلاصة أن قدماء المصريين قبل بدء الأسرات المالكة والجنس الذي كان على شواطئ البحر الأبيض في القسم الحديث من العصر الحجري المسمى من دم واحد، وفي حكم الأسرة الرابعة امتزج المصريون والأجانب بسبب الحركة الكبرى التي كانت في غرب آسيا وترقوا في ذلك العهد رقياً كبيراً. لغة الاسبرانتو اخترع طبيب العيون الروسي الدكتور زامنهوف من فارسوفيا منذ سنة 1887 لغة مساعدة دولية سماها الاسبرانتو وأقبل بعض الناس في العالم المدني على تعلمها إقبالاً جاوز حد المأمول فانتشرت في روسيا وفرنسا وألمانيا ثم تعدت إلى سائر الممالك وتجاوزت بحر الظلمات إلى أميركا وعقدت لها مؤتمرات في سنين مختلفة وعواصم مختلفة أهمها مؤتمر درسد وكان فيه 42 نائباً عن 42 أمة مختلفة لغتها عن لغة جارتها، وهذه اللغة مؤلفة من حروف لاتينية اختار لها مخترعها أبسط التراكيب وسهل التلفظ بها بحيث يتأتى لابن الغرب أن يدرسها في بضعة أسابيع وهي من أنفع ما يكون لتسهيل الصلات بين أبناء الحرفة الواحدة من مختلفي اللغات فبلغة الاسبرانتو يتفاهم الأطباء والأساتذة والمهندسون والعلماء والتجار من أي أمة كانوا وقد صار لهذه اللغة الآن مئة جريدة منها ما يكتب بها فقط ومنها ما يكتب بها وبلغة البلاد التي تصدر فيها وينشرون بها مجلة علمية تبحث في علم الإنسان والحيوان والاجتماع والنبات والطب والرياضيات ولها مجلات أخرى أدبية فنية وقد بلغ عدد جمعياتها في أميركا 280 وفي آسيا 31 وفي أوروبا 1203 وفي إفريقية وأوستراليا 39 منها 222 جمعية في ألمانيا فقط وناهيك بإقبال الألمان على كل ما يفيد

وتأنيهم في الأخذ من الجديد، وقد قال من كتب عن لغة الاسبرانتو مؤخراً أنها ليست واسطة للمعاملات اليومية بين البشر بل هي الواسطة الوحيدة للقضاء على ألوف من المشكلات تنجم في الغالب من اختلاف اللغات وهي تبدو عياناً عند ما يراد الاتحاد مع أجنبي غريب في أي عمل كان فلغة الاسبرانتو لا تضر باللغات الموجودة بل أصبحت لغة ثانية لكل مدني من الناس وهذا نافع جداً للأفراد والإنسانية. اللغة المؤقتة تألفت في باريز جمعية عامة من الأساتذة بعثت إلى رئيس الجمهورية محضراً تصف فيه فضائل اللغة المؤقتة التي ألفتها قالت فيه أن هذه اللغة ساذجة عملية لا تكلف معانيها كبير درس وعناء وبها يتيسر لجميع سكان الأرض أن يلفظوا ويقرأوا ويكتبوا ويستمهلوا ويطبعوا ويخابروا بالبرق والتلفون بدون سابق درس في كل اللغات واللهجات مهما كانت منحطة (كلغة الجركس والداغستان مثلاً) وأن يفهموها أحسن فهم وأسرعه واكثر مما يتأتى لهم بالأساليب المعتادة، وقد ذهب هؤلاء الأساتذة إلى أن أصعب ما في اللغات التلفظ بها وإملاؤها فرأوا أن يكتب الإنسان كما يقرأ وأن يدل بحرف واحد على كل كلمة وأن كل صوت يعبر عنه بالحرف نفسه في كل اللغات التي يقع فيها ولذلك اخترعوا ألف باء مؤلفة من 45 حرفاً منها ذو علائم وإشارات وتسهيلاً لتعلم هذه اللغة اخترعوا دفاتر يشرحون في الصفحة الأولى منها قواعد تلك اللغة وأصولها وقد تركوا الثانية بيضاء لتطبيق هذه اللغة على العمل والتمرن فيها ووضعوا ملايين من هذه الدفاتر في المطاعم والفنادق ومكاتب البريد والمخازن والمحطات والمدارس ليصبو كل إنسان أن يجرب بنفسه تعلم هذه الطريقة وبذلك تتم بث دعوتها وتنتشر بين الناس أقصى الانتشار ويقول مخترعو هذه اللغة أن حسناتها إذا أضيفت إلى لغة الاسبرانتو تزيح الجهل الذي هو مبعث الحروب والثورات والشقاء الخاص والبلاء العام وأن لغتهم أداة صلة معقولة بين مطبعة غوتمبرغ مخترع الطباعة وآلة أديسون مخترع الفوتوغراف أي بين العالمين القديم والجديد. الانكليزية الفرنسية اخترع أحد الأساتذة لغة جديدة مزج بها اللغتين الانكليزية والافرنسية وهي نوع من لغة الاسبرانتو تنفع أبناء هاتين اللغتين فقط وقد وزع كراسة بمنافع لغته أباعها من الجمهور،

فقالت عنه المجلات أن هذه هي النتيجة الأولى لاختراعه واستضحك منها كل من تلاها وهذه نتيجة ثانية، وقالوا أن هذه اللغة أشبه باللهجة الفلامندية المعقدة المعروفة في بلاد البلجيك. التثاؤب كثيراً ما كان الأطباء يقولون بشناعة التثاؤب حتى قال أبقراط أن التثاؤب كالشهقة بشع من صاحبه كما هو ضار في غيره وأن أحسن علاج للتوقي من التثاؤب أن يطيل المتثائب نفسه، وقد قام في العهد الأخير طبيبان في أوروبا يريان أن لا بأس بالتثاؤب وأنه نافع لأمراض الحلق ومن يحسن التثاؤب جادت رئتاه وجميع مجاري تنفسه ولكن الواجب أن يتمرن المرء على التثاؤب كما يتمرن على تنفس الهواء فيجب أن تشتغل بالتثاؤب أعصاب الصدر والحلق معاً وأن يكون عميقاً ملياً ما أمكن وأن يتثاءب المتثائب وذراعاه مبسوطتان بحيث يبدل الهواء الذي يجري في الدماغ والقلب والأحشاء كل التبدل ويكثر من إخراج النفس وبذلك قد يسهل البلع على من لا يستطيعه وتقل اضطرابات السمع على المصابين بها وهي تكون مصاحبة لزكام الحلق أما طريقة التثاؤب فسهلة للغاية وهي عبارة عن أن يتثاءب المرء ست أو ثماني مرات متوالية بالعاً ريقه بعد كل مرة قالت المجلة التي نعرب بها وإذ كان التثاؤب مما تنفر منه طباع الحضور في مجلس وقد يؤدي إلى أن يحذو حذوه غيره فالواجب على الإنسان كما قال الأخلاقي لابرو يبران يتثاءب في بيته لئلا يزعج غيره بما يكره. غابة تحت الأرض اكتشفت في ساندي هوك في ولاية نيوجرسي من أعمال الولايات المتحدة غابة تحت الأرض على بعد 130 متراً عمقاً بينا كانوا يحفرون آباراً ارتوازية وأشجارها عظيمة جداً قطر الواحدة نحو سبعة أمتار، والغالب أن هذه الغابة قد انهالت عليها الرمال فطمتها ويؤملون أن يعثروا في هذا المكان على كميات وافرة من العنبر الأصفر. أجور المنازل اشتدت وطأة الغلاء في أجور المنازل في عواصم العالم المدني فباتت فوق طاقة العاملين والمحترفين ففي إحصاء أخير أن في مدينة برلين 520441 مسكناً منها ثمانون في المئة

مؤلفة من غرفتين ومطبخ وهذا مما يضر بصحة من يسكنون في مثل هذه المحال في بلد يتجاوز سكانه المليونين أي أن تسعين في المئة يسكنون في مثل هذه المساكن المتلاصقة وقد كان الرجل يسكن منذ قرن ونصف بإنفاق خمسة في المئة من دخله وارتقت الأجور سنة 1850 إلى عشرة في المئة واليوم لا يستطيع السكنى بأقل من 15 إلى 20 في المئة وربما اضطر بعض الأساتذة أن ينفقوا نحو ربع مشاهراتهم ليسكنوا بيوتاً لائقة بهم في الجملة والسبب في زيادة الأجور بدعة المضاربات في أراضي البناء في المدن، والناس في الغرب يطلبون تدخل الحكومات في مسائل الأجور وأن تنشأ لجان لتفتش المساكن. لغة الفرنسيس عقد مؤتمر في بروكسل للنظر في اختيار لغة دولية تقوم بالغرض المطلوب لدول أوروبا من كل وجه فكان القائلون بتفضيل اللغة الافرنسية أكثر من غيرهم وقد كان للقائمين بهذا الأمر عضد قوي من رجال الكليات في العالم ماخلا ألمانيا فإنه لم تسبق دعوتها إلى هذا الغرض أما المتأدبون والعالمون وأرباب الأعمال العقلية فقد فضلوا كلهم لغة هوغو وراسين على غيرها من لغات أوروبا. الأولاد والكسب نشر مجلس الصحة في كليفورنيا من الولايات المتحدة نشرة قال فيها أن تعليم الولد إلى سن العشرين يكلف في كليفورنيا 4150 دولاراً أي نحو ألف ليرة عثمانية وأن قيمة الولد في تلك السن تساوي 4000 دولار وبذلك يمكن أن يثمن الشاب في سن الثلاثين ب - 16 ألف دولار على التعديل المتوسط أي أنه يربح منه 12 ألف دولار في عشر سنين ويكون قد كلف 10150 دولاراً فيبقى الربح الصافي 5850 دولاراً ومعدل ما يكلف الولد في المدارس في الولايات المتحدة 2900 ريال فإذا حسب العاملون الدارسون من أهل كلفورنيا بلغت قيمتهم 6895000000 ريال أو نحو ضعفي سائر موارد الثروة والحكومة تفقد كل سنة مئة مليون ريال في تلك الولاية بالأمراض والموت الفجائي الذي يمكن تلافيه لو حسنت العناية بالصحة أكثر من ذلك، هذا ما يساويه سكان ولاية واحدة هناك فكم يساوي سكان ثلاثين ولاية عثمانية. الاشتراك والبلديات

كتب صاحب مجلة أدلة الترقي مقالة في الحركة الاجتماعية وتأثير اشتراك البلديات في أوروبا قال فيها أن ارتقاء الصناعات وإنشاء المعامل دعا إلى تباعد المسافات بين دور العملة ومحال أعمالهم فاستدعى ذلك تنظيم التراموايات ومدها إلى الأماكن البعيدة وإضاءة الشوارع بالأنوار الكهربائية أو الغازية ولكن رأت بعض البلديات أن التراموايات هي لشركات لا تنظر إلا إلى ربحها فابتاعتها منها ناظرة في استثمارها كما فعلت بلدية فينا إلى مصلحة الأهلين أولاً فنتجت من ذلك نتائج حسنة وهكذا نظرت المجالس البلدية في المدن الكبرى وبعض الصغرى إلى حالة المساكن فأنشأت بعضها مساكن صحية للعملة بأجور زهيدة وكانت مدينة زوريخ متقدمة على المدن عامة فخربت ربع المدينة القديمة وبنت مكانها مساكن منظمة على هندسة وشوارع حسنة وحدائق عامة وخاصة وأنشأت إدارة ترسل مقداراً من النور في السنة لكل بيت وماء سخناً للحمامات كل يوم وإذ كانت مسائل اللحم والخبز واللبن من المسائل المشكلة على الفقير أيضاً مثل مسائل البيوت الصحية الرخيصة رأت بعض بلديات ألمانيا أن تفتح على نفقتها مسالخ ومخازن لبيع اللحوم بأثمان معتدلة فتخلص العملة بذلك من احتكار القصابين وكذلك فعلت بلدية بودابست وأنشأت مخبزاً تبيع منه الخبز للعملة بأثمان حسنة بالنسبة لسائر الخبازين حتى اضطروا أن يجاروها ويرحموا الفقير، ومنحت بلدية رومية نصف مليون ليرة لإنشاء بيوت للعملة رخيصة صحية وأنشأت بلدية ميلان صيدلية ارتقت ارتقاء مدهشاً وبها انحل عقد المحتكرين من الصيادلة وتراجع أمرهم وأنشأت بلديات بعض مدن انكلترا معامل لتعقيم اللبن وبيعه من المواضع وغيرهم تبيعهم لبناً خالصاً لا غش فيه وكذلك فعلت بعض البلديات في ألمانيا وأخذت على نفسها بعض البلديات تجهيز الموتى بأثمان بخسة لإنقاذ الفقراء من مخالب الدافنين والمكفنين واشتطاطهم في الأجور وأنشأت بعض البلديات صناديق للتوفير للعملة أتت بنتائج حسنة كما أن جميع هذه الأعمال التي قامت وتقوم بها البلديات قد نفعتها مادياً كما نفعت الطبقة البائسة والمتوسطة بها وكل هذه الأعمال يقصد بها قيام الجماعة منظمين أمرهم بنظام المجالس البلدية ليدفعوا عن الفقير والعاجز بل عن مجموع أممهم غوائل احتكار الأفراد للمصالح العامة والحاجيات الضرورية ويعملوا على ما فيه مصلحة الناس عامة لا مصلحة أناس مخصوصين، وكانت انكلترا أول من فكر في

مثل هذه الأعمال النافعة فعسى أن نكون نحن آخر من يفكرون في احتذاء ذاك المثال النافع والهدي الرافع. لغة دولية مزدوجة عرض جماعة من العلماء سنة 1900 مشروعاً نافعاً في ربط عهود الوفاق بين كل من فرنسا وانكلترا والولايات المتحدة الأميركية وهو أن تتداول حكومات هذه الممالك في عقد عهد تضطر بها كل منها أمتها أن تتعلم لغة الأخرى إجبارياً في المدارس فكما يتعلم الانكليزي والأميركي اللغة الانكليزية في مدارس بلاده يتعلم اللغة الافرنسية كذلك وكما يتعلم الافرنسي لغته في مدارسه يتعلم معها الانكليزية مضطر أيضاً وقد قال أبو عذر هذا الفكر المسيو بول شابليه أن انتشار اللغة الانكليزية قليل في قارة أوروبا اللهم إلا في بعض السواحل القليلة وهكذا في إفريقية الشمالية، والانكليزية منتشرة في أميركا الشمالية والجنوبية وشرقي آسيا ولكل لغة من هاتين اللغتين منطقة انتشرت فيها ولم تنازعها فيه الأخرى فإذا جرى وفاق من هذا القبيل تقوى كل من اللغتين قوة هائلة خصوصاً وأن لكل لغة من تينك اللغتين أناساً بل أمماً ترغب في تلقفها وتفهمها فللتجارة اللغة الانكليزية وللسياسة والسياحة والمجالس اللغة الافرنسية، ولكن جاء هذا الاقتراح في غير أوانه إذ كانت على ذاك العهد توترت العلائق بين فرنسا وانكلترا وأخرجت الثانية الأولى من فاشودة وكانت انكلترا مهتمة بحرب البوير فلما صفا جو الصلات اليوم بين الدولتين قام صاحب هذا الفكر بعرضه على الأنظار فوفق إلى إقناع أحد كبار الأغنياء في أميركا فتعهد أن ينفق على تحقيق هذه الأمنية كل ما يلزمها من المال ويقول العارفون أن هذا التدبير أفضل من اختراع اللغات الصناعية وستنتج منه نتائج كبرى عملية لتلك الأمم الثلاث من حيث الماديات والمعنويات، ونحن نقول أن هذا الفكر نافع جداً في المملكة العثمانية أيضاً ولا سبيل إلى ترقيتها إلا إذا تعلم الأتراك لغة العرب وتعلم العرب لغة الترك وبذلك يحصل التفاهم ويزول كل خلاف وهذا رأي كبار عقلاء الدولة وقد سئل عن معنى سوء التفاهم الواقع بين العرب والترك فقال لا سبيل إلى إزالته إلا إذا ترّكنا العرب وعرّبنا الأتراك. حفظ الأسماك اخترعوا في باريز آلة تخرج ثلجاً كالثلج الطبيعي حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل وهذه الآلة

نافعة في حفظ الأسماك إذ قد ثبت أن بعض الأسماك في البحيرات والأنهار يهلك كثير منها لأن الثلوج والجليد تنقطع عنها فجأة وبهذه الآلة الجديدة ينزل الإنسان الثلج على الأماكن التي يريدها ويحفظ السمك بطعمه ولذته في الأبعاد الشاسعة وعلى متن البواخر التي تشق العباب بين قارات الأرض الخمس أياماً وليالي وباستعمالها اقتصاد عشرين في المئة من أدوات الثلج الصناعي أو الجليد المعروف في هذه الديار. مدارس الشعب في انكلترا نشرت مجلة التربية لمحة لأحد قدماء مديري المدارس الانكليزية في ترقي مدارس الشعب هناك منذ خمسين سنة جاء فيها أن مدارس الشعب في انكلترا تقسم إلى قسمين قسم يدعى في العادة الابتدائي والآخر الثانوي، ولفظة ثانوي مأخوذة من الافرنسية وربما كان كوندورسه هو أول من استعملها سنة 1792 فالمدارس الابتدائية يتعلم فيها أبناء العملة منذ صغرهم حتى سن الخامسة عشرة ولا يعلم فيها غالباً غير اللغة الانكليزية وهي أشبه بمدارس اختيارية أنشأتها الكنيسة وهي تنفق عليها ويرد تاريخها إلى بضعة قرون، أما برنامج دروسها فهو منظم الآن على طريقة واحدة تحت إدارة مجلس المعارف والحكومة تنفق عليها وتراقبها وتكره القوم على تعليم أولادهم فيها. وليس لهذه المدارس مثيل في وحدتها في المدارس الثانوية أو في المدارس العالية، وقد جمعت طريقة التعليم فيها بين الطريقةالقديمة والطريقة الحديثة إذ فعلت فيها المؤثرات السياسية والاجتماعية والدينية والتعليمية واضطرت أن تخرج طلبة ينتقلون منها إلى كليتي اكسفورد وكمبردج. يبدو لك التعليم الثانوي في انكلترا لأول وهلة مرتبكاً فله مدارس قديمة وأخرى جديدة ومدارس تنال رواتب من الحكومة وأخرى ليس لها رواتب ومدارس دينية وأخرى مدنية فقط ومدارس لها مجلس إدارة وأخرى ليس لها ذلك ومدارس تقبل أعطيات الحكومة وأخرى تستنكف من قبولها ومنها المحتفظة بالطرق القديمة في تدريسها ومنها من أتت على القديم فدكته واستعاضت عنه بالجديد من الأصول وقصارى القول أنك تجد مدارس من جميع الطبقات والدرجات والصفات ومدارس الشعب هي في الجملة التي لها مجلس إدارة وليست ملكاً لأحد وتبقي تلامذتها إلى أن يبلغوا التاسعة عشرة من أعمارهم وتبعث

بقسم من قدمائهم إلى كليتي أكسفورد وكمبردج، فتخرج بهذا التعريف المدارس الخصوصية والاستعدادية والمدارس الصغرى والمدارس التجارية والصناعية والمدارس التي لا تعلم اللاتينية واليونانية والمدارس الثانوية التي أنشئت حديثاً تحت حماية الحكومة ويقصد منها أن تعم التربية العامة في الطبقات الوسطى وتعليمها تعليماً تجارياً أو صناعياً أو تخريج أساتذة للمدارس الابتدائية. وبين مدارس الشعب والمدارس الثانوية في انكلترا اختلاف حقيقي فالأولى تكون على الأكثر داخلية وأساتذتها ممن تخرجوا في الكليات العظمى وتلامذتها يأتون من بيوت آبائهم مباشرة أو يكونون متخرجين في المدارس الاستعدادية وأجور التعليم فيها غالية ويعلمون فيها اللاتينية واليونانية ولها ارتباط كلي مع الكليات أما المدارس الثانوية فتلامذتها خارجيون والسواد الأعظم منهم يتخرجون قبل في المدارس الابتدائية وأجورها خفيفة ولا يعلمون فيها إلا قليلاً من اللاتينية ولا أثر لتعليم اليونانية فيها وقلما يبقى التلامذة فيها بعد سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة وهي تحت نظارة إدارة التربية والحكومة المحلية، وبعد فقد نشأت مدارس الشعب كما قلنا على صور شتى فمنها ما أنشأته الأديار والبيع ومنها ما أنشأه الملوك أوالأفراد أو شركات أو جمع لها المال بالاكتتاب العام فهي تسد حاجة أبناء من يديرون شؤون البلاد وقوائم دروسها تنفع من يريدون التدرج والترقي منها إلى الكليات أو إلى الجيش ويعملون الأعمال الحرة ويستخدمون في الوظائف الملكية في العاصمة والمستعمرات والهند أو في الفروع العالية التجارية والصناعية وفي هذه المدارس نحو ثلاثين ألف طالب وربما كان في المدارس التي تعد الطلبة للدخول فيها بعد نحو عشرة آلاف. والسبب الأعظم في كون مدارس الشعب واقفة في أصولها عند حد محدود ارتباطها بالكليات ولأن مديري شؤونها وأساتذتها وتلامذتها هم من أرباب الأملاك أو الذين يتعاطون الصناعات الحرة، وأهل هذه الطبقة في انكلترا هم من المحافظين في السياسة والتربية وربما كان لهذه المدارس من قدمها مادة لبقائها حتى الآن ولذا فإن شركاتها أو جمعياتها تدعو فيها إلى التعلق بأذيال الماضي، ولشهرة المدرسة وتقاليدها وأسلوبها شأن أعظم من شأنها في التربية العملية أو التعليم الراقي.

ويعيش تلامذة هذه المدارس داخليين لا في بيت واحد متسع بل في بيوت منفصلة بعضها عن بعض يوسد أمر النظر فيها إلى أساتذة ويختلف عدد المتعلمين في كل مدرسة منها بين 12 إلى 50 وربما زاد عن هذا القدر يعيشون عيشة اجتماعية ودية ويتحابون على نحو ما يتحاب الأتراب ويتعاطفون تعاطف الأخوة ولجميع هذه المدارس الكبرى معابد يصلون فيها على وتيرة دائمة إن لم تكن متصلة بكنيسة، وللدين فيها تأثير شديد، والعامل الرئيسي في نجاح معلم في المدارس الابتدائية طريقته وأسلوبه وفي أستاذ الكلية سعة عمله وفي مدارس الشعب أخلاقه ولذلك تجد المعلمين والمتعلمين في هذه المدارس الأخيرة مرتبطين بحب مدارسهم والإخلاص لها ارتباطاً ينم عن سير المدرسة وأخلاقها وتقاليدها ومن مبادئ هذه المدارس أن تمنح تلامذتها ثقة كبرى وقد فوضت قسماً مهماً من المراقبة والنظام في بيوت المدرسة ومحال اللعب للمسنين منهم وللرياضات شأن عظيم جداً في حياة المدرسة وفي تربية الأخلاق. وقد وصف اللورد بيكو نسفيلد هذه المدارس بقوله: إن ما يعجبني في مدارس الشعب هو أن طلبتها يعيشون في الهواء الطلق ويبرعون في جميع الألعاب الرياضية ولا يتكلمون إلا بلسان واحد وقلما يقرؤون، حقاً إن هذه الطريقة في التربية غير تامة ولكنها لم يسبق لها نظير منذ عهد اليونان. وقال أحد علماء التربية أن مدارس الشعب كانت تنجح كثيراً في تخريج الرجال، وعلى ما دخل هذه المدارس من الإصلاحات لا تزال تنظر إليها نظراً ثانوياً ولا ترمي إلا إلى غاية واحدة وهي أن تخرج رجالاً أكفاء أمناء وطنيين مسيحيين وبعبارة ثانية أعضاء نافعين في الكنيسة والحكومة. وإن ما دخل من الإصلاح على هذه المدارس منذ خمسين سنة وما يرجى إدخاله لا يتأتى فهمه على حقيقته إلا بالرجوع إلى تاريخها فإنا نراها إلى اليوم تدرس اللغتين الميتتين اللاتينية واليونانية بل قد جعلتهما المادة الجوهرية في التعليم الحر ويكفي أن نقول إن السبب في دخول هاتين اللغتين إلى التعليم العالي في الغرب المسيحي هو أن الكنائس كانت بجوهرها في القرون الثلاثة الأولى يونانية الأصل وكذلك اللغة والنظام والفلسفة، وباللغة اليونانية بلغت الآداب على اختلاف فروعها ما عدا الفقه أوج اكتمالها، وأصبحت

اللاتينية في خلال القرون اللاحقة في جميع غربي أوروبا لغة المستنيرين من الناس وفي القرون الوسطى جعلت الكنيسة وكانت إذ ذاك القوة المريبة الوحيدة في أوروبا اللغة اللاتينية لغة عامة، وعلى عهد النهضة انتشرت الآداب واللغات الأولى انتشاراً عظيماً في إيطاليا ثم تلتها حركة الإصلاح المهمة في مدارس ألمانيا بقيام ستورم وملانكتون وكان يدافع عن اللغات الأصلية دعاة متحمسون لا مثل ايراسم فقط من رجال الأدب بل مثل لوثيروس من رجال الإصلاح الديني فإن هذا دعا رؤساء الحكام في جميع مدن ألمانيا إلى تأسيس مدارس تدرس تلك اللغات القديمة حتى قال بعضهم: يجب علينا أن نرتبط بحب اللغات ارتباطاً رائده الثبات كما ارتبطنا عن رضى بالانجيل فإنا إذا لم نحتفظ باللغات لن نحتفظ بالانجيل ولقد أثرت بانكلترا مثل هذه العوامل فكانت بعد عهد الاصلاح تعد اللغة اللاتينية لغة الكنيسة ولغة من تطمح نفسه إلى المناصب الرسمية وظلت اللاتينية لغة العلم والسياسة إلى سنة 1660 ولكن مدارس الشعب لم ترجع عن طريقتها في التعليم إلا بعد أن قامت ألمانيا وفرنسا وعنيت بإصلاح التعليم العالي لما له من الشأن في تكوين الوطنية وهذا لم يتم إلا في أوائل منتصف القرن الماضي وإلى ذاك العهد كان تلامذة تلك المدارس يكتبون باللغةاللاتينة وينظمون بها ولا يدرسون الافرنسية إلا قليلاً أما الألمانية فكانوا يجهلونها كما يجهلون العربية وكانوا يعنون عناية خاصة بتلقين مبادئ الرياضيات ولا سيما الهندسة الوصفية وكان الأساتذة يجيدون في تعلم اللاتينية واليونانية والعلوم الرياضية وهم شيوخ يدرسون هذه المواد منذ أربعين سنة أكثر من المحدثين لأن خواتيم من يمارسونها أحسن من مباديها والحال ليس كذلك في مدرسي التاريخ والأدب والعلوم والاقتصاد السياسي فإن هذه الموضوعات تضعف كلما قيلت وتنوقلت فأدرك رجال العلم إذ ذاك أن هذه المواد لا تنبه ذهن التلاميذ ولا تلتئم مع مصلحتهم لأن ليس فيها نفع عام. دام ذلك حتى أخذت بعض الكليات بعد سنة 1867 تنفق من حسابها لتعليم بعض التلامذة فعندها اضطرت معظم مدارس الشعب إلى تقسيم تعليمها فمن التلامذة من اختاروا طريقة التعليم الحديثة بدون تعلم اليونانية وتعمقوا باللغة الافرنسية والألمانية والتاريخ وأصبحت مواد كثيرة اختيارية لمن يريد أن يتعلمها ومنهم من أخذ يميل إلى الاخصاء أي التخصص بعلم واحد ولا سيما في المدارس المهمة.

وها قد أصبحت هذه المدارس اليوم ولها معامل كيماوية ومراصد فلكية وخزائن كتب ورقي فيها تعليم الآداب الانكليزية واللغتين الافرنسية والألمانية وعدلت فيها الكتب وصرفت العناية إلى تعليم العلوم ومنها علم التربية وأصبح تعليم الموسيقى من المواد المهمة في التدريس وطلبة هذه المدارس يدخلون في مسائل اجتماعية مهمة من مثيل معاونتهم للفقراء والأخذ بناصر الضعفاء في الأحياء الفقيرة من المدن الكبرى ويتعلمون التعليم الوطني أو واجبات الوطني في المدارس المهمة ومعظم كبار الطلاب يتعلمون التعليم العسكري ليستعدوا به إلى نيل رتب الضباط في الجيش البري وكثير منهم يتعلم صناعة يدوية كالنجارة مثلاً، كل هذا والغرض اليوم من هذه المدارس لم يفت القائمين بها وهي أن تربي الأخلاق وترقي المدارك ولكنها لم تبلغ في الأمر الثاني درجة عالية وذلك ناشئ من تأخر نمو العقل في أبناء الانكليز فيظن الأساتذة أن عقول طلابهم كسلانة لا تعمل وقد قال أميرسون الفيلسوف الأميركاني: إن التربية هي ما يبقى في أطوارنا وعقولنا عندما ننسى ما علمتنا المدرسة إياه وقال الأستاذ سدلر: تشتد القوة الحيوية في التربية إلى قوة الثقة بالنفس والإخلاص في المعتقد فإذا لم يكن للمربي رسالة يريد تلقينها لعقل من يربيه وإبلاغها لروحه يتعذر وصوله إلى وضع أسس الشخصية الأدبية وهي المصادر التي هي أحسن ما في الحياة الشخصية والحياة الوطنية، فمبدأ التربية أيضاً منبعث من هذه الرسالة الروحية التي يبلغها الأستاذ وبدونها تضمحل قوتها الحيوية. هذا ما عربناه من كلام الأستاذ الانكليزي وقد أمل لهذه المدارس نجاحاً أوكد في هذه الخمسين سنة التالية لما يعتورها من الإصلاح التدريجي فماذا يقول ابن هذه البلاد عندما يذكر ما يكتبه عنا علماء التربية والاجتماع فقد قال أحد الألمان ممن قضوا عشرين سنة في العراق أن الأمة العربية تموت الموت التدريجي لفساد طريقة التعليم فيها فاللهم قبض لمدارسنا الأهلية والرسمية والدينية من يصلحها الإصلاح الحقيقي ويعوضها من أصول التعليم المطول الممل بأصول حديثة ترقي الخلق والعقل ومن الخطط (البرنامج) المطولة التي هي طلاء ظاهر بخطط مختصرة ظاهرها كباطنها. التربية في سويسرا نشر الأستاذ ستودر الانكليزي مبحثاً له في التربية السويسرية وإذ كان ممن تربوا في

مدارسها قديماً غدا كلامه جديراً بالثقة والنقل قال ما نعربه عن إحدى مجلات التربية الباريزية: التعليم في سويسرا على ثلاث درجات ابتدائي أو موجز وثانوي وعال وكلها ذات صبغة ديمقراطية يجلس على مقاعدها أبناء جميع طبقات المجتمع كتفاً إلى كتف وقد قضى قانون الاتحاد السويسري منذ سنة 1874 أن يكون التعليم الابتدائي إجبارياً مجانياً وتراعى حرية الوجدان فيه بيد أن تطبيق هذه القاعدة تختلف باختلاف الأقاليم فترى مدة الدروس لا تتشابه في كل إقليم وكذلك التعليم الديني يختلف بحسب البلاد، ومن أقاليم سويسرا ما يكره فيها الولد على البقاء في المدرسة من السنة السادسة إلى الرابعة عشرة ومنها ما تكون مدة الإجبار من السابعة إلى الخامسة عشرة ومنها ما يسمح للولد أن يخرج من المدرسة في الثالثة عشرة بعد أن يؤدي امتحاناً وعلى كل تلميذ أن يحمل دفتراً ينبئ بهويته، وكذلك الحال في قائمة الدروس فإنها تختلف كل الاختلاف لأن الأقاليم والبلديات لها مطلق الحرية أن توفق الدروس على حسب الأحوال المحلية بحيث يقال أن أعضاء المجالس البلدية في كل قرية لهم اليد العليا على كل ما يتعلق بالتعليم فيحددون بحسب إرادتهم أوقات العطلة ومدتها ويختارون المعلمين ويوافقون على إحداث مدارس أو أبنية جديدة ويتعهدون بالاهتمام بأنفسهم شؤون مدارسهم وتفتيش صفوفها في مدد معينة والنظر في راحة الأساتذة والتلامذة، وما من مجلس من هذه المجالس يتوقف في بذل أقصى العناية بأمور التعليم، والحكومة تؤدي نفقات المدارس الابتدائية وفي بعض الأماكن تعطي للأولاد الكتب ولوازمهم المدرسية من المدرسة كما تعلمهم مجاناً وفي أيام الشتاء يقدم للأولاد طعام الغداء بثمن زهيد جداً وأحياناً بدون ثمن. تكاد تكون جميع المدارس من أملاك الحكومة وليس معنى ذلك بأن ليس ثمت بعض مدارس أهلية خاصة فإن بعض المدارس تتوخى في تعليمها غاية مخصوصة وبعضها تسعى إلى منافسة المدارس العامة ولكنها خاضعة لشروط فجميع الأولاد الذين يقرؤون في مدينة نوفشاتل على أساتذة خاصة أو يختلفون إلى مدارس خاصة يمتحنون كل سنة أمام لجنة من المحكمين وتجبرهم الحكومة على دخول مدرسة عامة إذا رأت أن نجاحهم في دروسهم غير مرض، وعلى كل أستاذ يعلم لنفسه تعليماً حراً أن يكون حاملاً شهادة أو يمتحن امتحاناً خاصاً في المواد التي تعادل ما يدرس في مدارس الحكومة، والمدارس

الخاصة في كل طرف من أطراف سويسرا خاضعة لتفتيش الحكومة. والتعليم الثانوي مجاني أيضاً في معظم الأقاليم ويعطى التلميذ في بعضها لوازمه من كتب وغيرها بلا عوض أما في التعليم العالي فإن التلامذة يدفعون أجوراً ولكنها طفيفة جداً والتلميذ الفقير المدقع يتعلم مجاناً إذا أراد مهما كان استعداده، وليس للكليات موارد خاصة ما خلا كلية بال وكلية أو كليتين قديمتين. ولا يطلب من المعلم في التعليم الابتدائي أن يميز بعض التلامذة إذا رأى فيهم نبوغاً إذ ينظر إلى الأولاد كلهم نظراً واحداً ولا تفادى بمصلحة السواد الأعظم من أجل مصلحة طبقة مختارة لأن الأمة تتألف خاصة من أرباب العقول المتوسطة لا من النوابغ. المدارس الداخلية غير معروفة في سويسرا وما خلا بعض مدارس المعلمين فالحكومة ليس لها إلا مدارس خارجية لأن عمل الأبوين في تربية الأولاد مما لا يقبل المناقشة في سويسرا على أن الحكومة قد جعلت من حقها مراقبة الأبوين اللذين يقضى عليهما أن يطعما أولادهما ويلبساهم على ما ينبغي ومن حقها أيضاً أن تقتص من الآباء المتساهلين في العناية بأولادهم وتكرههم أن يؤدوا عنهم ما يقوم بكفايتهم من الرزق. وكانت العناية بالرياضات قليلة في مدارس سويسرا ويهتم المعلمون اهتماماً شديداً بذاكرة الولد لأنهم ينظرون إلى التعليم بأنه غاية لا واسطة أما اليوم فقد أدخلوا الألعاب الرياضية والتمارين اليدوية والحمامات المدرسية والأعمال الزراعية وقللوا مدة الدروس. عدلوا بعض قوانين التعليم في سويسرا منذ بضع سنين ناظرين فيها إلى ترقية الأخلاق باعتبارها الغاية الرئيسية في التربية ورأوا أن التعليم الديني هو العامل الأعظم في تهذيب الأخلاق وإذ كان من الواجب مراعاة حرية الوجدان عملاً بالدستور السويسري رأت بعض الأقاليم أن تجعل التوراة أساس التعليم أو تدريس الأخلاق الطبيعية وخصصت ساعات معينة لدرس المعتقدات الدينية، ورأى المصلحون في الأيام الأخيرة أن يرفع من التعليم تعلم الدساتير والقواعد والحقائق المجردة التي كان يقضى على التلميذ استظهارها ويعمد إلى إرادة الطفل وبحثه الخاص فقط، وقد جعلت ولاية تسين أول بند من قانونها المدرسي أن الغاية من التربية أن يخرج الطفل إنساناً يفكر ويعمل وعليه تبعة ما يعمل، تريد بذلك إبعاد الطفل عن درس الأساليب التي تبعد الذهن عن التصور النافع أو التي لا غاية لها

لأن استظهار كمية من الألفاظ لا علاقة بينها وبين الاختبار الشخصي فيقوم مقامها ألفاظ تطلب معاونة الولد وتخوله حريته في العمل والتصور، فسويسرا لا تكتفي بأن تعلم أبناءها القراءة والكتابة والحساب بل هي تنظر إلى التعليم نظراً أبعد تريد تربية الصحة والأخلاق وأن تبعد عن المتعلم كل ما يضر بخلقه وتهذيبه. وقد كثرت في سويسرا منذ بضع سنين مدارس الزراعة والتجارة والصناعة على اختلاف ضروبها وأنشئت مدارس لتدبير المنزل يتعلم فيها البنات إدارة شؤون البيوت والخياطة والطبخ والكي والغسيل وغير ذلك، وجميع هذه المدارس هي عبء ثقيل على الحكومة ومع هذا فإن الحكومة لم تغفل عن التعليم العالي فلسويسرا سبع كليات عامرة والأجور فيها زهيدة للغاية لأن القوم أيقنوا أن الطبقة الراقية في حكومة ديمقراطية يجب أن تكون من أقوى عناصر الأمة وأكثرها ذكاء وهذه قد تكون فقيرة. والظاهر أن غاية ما ترمي إليه التربية في سويسرا سعادة الأمة عامة والفرد خاصة وذلك ببذر كل البذور الصالحة وتعهدها بما ينميها والإشراف على القوى النافعة وكل ما في المرء من الميول الشريفة، وينظر في هذه التربية أيضاً إلى إصلاح كل ما سفل وتبدل من أخلاق الطفل والأخذ بيد كل وطني ليكون منه إنسان مستقل كثير الثقة بنفسه مسؤولاً عن حقوقه وخصائصه راغباً في القيام بكل واجباته نحو بلاده والناس أجمعين، وكيفما كان الحال في نقص الأساليب المتبعة في سويسرا على قلة المعلمين فالواجب أن يعترف بأنها لم تكتف بالألفاظ اللطيفة في معنى التربية فهي على ضيق مواردها قد بذلت عن سعة في سبيل تهذيب الشعب وفادت بكل ما لديها من المال والقوة لخدمة غرض تراه مرتبطاً كل الارتباط بنجاح الأمة وبقائها. درس في الصحة لا يكفي التعقل في تناول الغذاء على نظام خاص لحفظ الصحة بل الواجب الجري على قوانينها، فكن يا هذا مغرماً بالنظافة وحب الماء والاغتسال كما تحب أعز الأشياء عليك فمن غسل أطراف جسمه واعتاد الوضوء في الأوقات المعينة ضمن لجلده الرشح المنشط والمرونة النافعة فالماء البارد يشد المسام والحار يمددها والأفضل في كثير من الأحوال الاعتماد على الماء الفاتر فحمامات المياه الباردة تقوي الجسم وتنشطه والحمامات الفاترة

تسكن هياج الأعصاب وتزيل التعب والحمامات الشديدة الحرارة تحط البدن وتضعفه. دع على الدوام نوافذ مسكنك مفتحة ليدخله النور والهواء على ما يجب سواء كان في الصيف أو الشتاء ولا تخف الهواء يتخلل منافذ أبوابك فإنك إذا قللت من الإنفاق على التدفئة تنجو من أمراض كثيرة والغرف التي لا يدخلها هواء هي بؤرة أمراض دائمة كالزكام وذات الجنب وأمراض الحلق والصدر والوفدة النازلة، دع الهواء - كما قال أحدهم - يجري إلى غرفتك حتى في فصل البرد فإنه يحمل في جناحيه غذاء لرئتيك ومطهراً لبيتك. تعلم جودة التنفس فإن الناس يجهلون إلا قليلاً هذا العلم الواجب تعلمه والعمل به، فبالهواء يتجدد دمنا وتحمل الحياة إلى جميع حواسنا وهو الذي يعين وظائفنا الطبيعية والنفسية على البقاء والاعتدال ومن أنفع الأمور في جودة الصحة أن يطيل المرء تنفسه في ساعات معينة ويتنفس بملء رئتيه وأن تكون الثياب واسعة لا تضيق على الصدر يتنفس بأن يعد من الأعداد من الواحد إلى الستة ويكون تنفسه من أنفه وفمه مغلق وتدوم هذه الرياضة عشر دقائق ومن الغد تمكث ثماني ثوان في تنفسك وثماني في حبس النفس وثماني في إخراج النفس من الرئة وهكذا تطيل كل يوم مدة التنفس وتجعله بنظام وتأن بحيث ينفذ الهواء إلى أدنى طيات رئتيك ويملأ دمك بالأوكسجين مبعث الحياة للراحة والصحة، وأحسن رياضة في التنفس ما كانت في الخلاء وأنت متمدد على العشب بالقرب من الأشجار أو أنت سائر بخطا معينة في طريق يحمل إليه الريح أرج المروج والغابات ومن واظب على مثل هذه الرياضة زاد نشاطه واستطاع قمع نفسه. اغتنم أوقات فراغك واصرف كل يوم ساعتين من وقتك للسير على قدميك فالمشي أحسن أنواع الرياضات يزيل كما يقول الافرنج صدأ الأعضاء وهو وقاء من الهزال وتصلب البدن وشفاء للجسم به يخف ويزيد مرونة وتنتظم حركاته، إذا فعلت هذا تنجو من السمن والربالة الضارة وتبقى أعصابك حافظة مرونتها ونشاطها إلى أيام الشيخوخة. فكما أن المشي ينفع من حيث الطبيعة ينفع أيضاً من حيث الأخلاق لأنه يصفي النفس ويطهر الروح وينظم الفكر ويطرد الأبخرة ويأتي على الأحقاد فيطفئها ويوحي إلى النفس المطالب الحسنة الشريفة والواجب أن تكون الخطا في المشي كبيرة لا تقل عن نحو 70

سنتيمتراً وأن تمس رؤوس الأصابع الأرض أكثر من العقب وأن يتعاقب اهتزاز الذراعين. والراحة مطلوبة عقيب العمل وخير الراحة ما كان منقطعاً بمعنى أن راحة ربع ساعة بعد ساعة من العمل أفضل من راحة ساعة عقيب أربع ساعات في العمل، وإذا اقتضى للمرء أن يواصل عمله ساعات فعليه متى فرغ منه أن يعمد لأسباب الراحة كلها كأن يستلقي على كرسي طويل وينزع ثيابه التي تضغط على صدره ويمدد ساقيه وذراعيه ويبطل حركة أعصابه ويطبق جفنيه ويطرد عنه اهتمام النفس ويجلب إليها من الصور ما يضحكها فيذكرها ببقعة جميلة من الأرض وبمنتزه حسن للرياضة فتمر به اللحظات كما يمر الماء المنعش ويغوص الفكر في سحاب سلام كأنه نصف نائم، وإياك أن تعزف نفسك عن صرف ثلاثين دقيقة في هذا السكون فإنك بها تستعيد قواك وتعوض الآلة العاملة ما يلزم لها من الزيت لتعمل عملها. إذا عرفت أن الإكثار من كل شيء ضار فإياك والإكثار من الراحة أيضاً فإذا كان استعمالها معوضاً للصحة ما فقدته فالإكثار منها يجلب الأمراض لا محالة لأن قلة الحركة والكسل تغيران الصحة أكثر مما يغيرها التعب، والإكثار من العمل ولا الإقلال منه. المسافة قريبة بين الراحة والاغفاء فخير النوم ما كان متناسباً مع سن الإنسان فقد قالوا أن ابن 3 إلى 4 سنين يقتضي له من النوم 12 ساعة ومن سن الرابعة إلى السابعة 11 ومن السابعة إلى السادسة عشرة 10 ومن السادسة عشرة إلى الحادية والعشرين 9 ويقتضي للبالغين ثماني ساعات، وقلة النوم داعية إلى الأمراض لأن فقر الدم وتعب الأعصاب والضعف تنشأ على الأغلب من قلة النوم. ثم على الأقل بعد ساعتين من الطعام ويجب أن تكون غرفتك مفتحة النوافذ بعض الشيء إذا كان الفصل غير شتاء وتكتفي بوضع ستارة عليها حتى لا يدخل الهواء مباشرة إلى وجهك واضطجع على الجانب الأيمن حتى لا تتأثر حركات القلب وعود نفسك التنفس من أنفك لتنجو من يبوسة الحلق والغطيط وتناسى ما وقع لك من أعمال النهار وكن كأنك لا تفكر والنوم موافيك من ذاته لا محالة. وعلى أصحاب المزاج الدموي أن يستعملوا الوسادة تحت رؤوسهم حتى لا يهجم الدم عليها

أما أصحاب الأمزجة الضعيفة والذين ابتلوا بفقر الدم فينامون ورؤوسهم واطئة ما أمكن. يجب أن يكون الفراش في وسط الغرفة لا في زاوية ضيقة منها وأن يكون غير محاط بالستور لئلا يمنع نفوذ الهواء إليه، والنوم على فراش الريش مضر، وخير الفرش ما كان الفراش الأسفل محشواً بالقش والأعلى بالصوف وفراشان يكفيان للراحة، والواجب إطفاء النور في غرفة النوم لأن النور يتعب العيون ويأخذ كمية من الأوكسجين لا تستيقظ في الصباح بعجلة فتقفز من سريرك على حين فجأة بل دع حواسك تستعيد قواها ورأسك يطرد سحب النوم عن الجفون ولا بأس بأن تكسل بضع دقائق ثم تنهض من فراشك لأن الهبوب من النوم فجأة والدم محتقن والأعصاب غير مستوفزة يحدث شيئاً من الاضطراب قد لا تكون نافعة. للبرد تأثير كبير في أمراضنا فإنا في حال الصحة نحمل في أحشائنا ورئاتنا ولعابنا جراثيم ذات الرئة والخناق والنزلات فبأدنى سبب تهجم على أنسجتنا وتلقي الاضطراب فيها كأن نتعرض لبرد أو لمطر طويل أو نلبس جوارب رقيقة ترشح ماءً ولذلك وجب التوقي من هذه الأمور واختيار ألبسة تدفئ ولا ينفذ منها ماء إلى البدن أو الأطراف، وأن ثوبين خفيفين محكمين يمسكان حرارة الجسم أكثر من ثوب واحد غليظ، وأحسن ما يدفئ في البلاد الباردة في صميم صبارة القر تلك الأدثرة التي يحشونها بالفرو ويلبسونها في الغرب وبعض بلاد الشرق، والعناية كل العناية بتدفئة الرجلين، وإذا خرج المرء من غرفة حارة فعليه أن يمسك منديله ويضعه على فمه ومنخريه حتى لا يدخل الهواء البارد من الخارج إلى الرئة إلا ببطء وكذلك الحال في الأماكن الحارة جداً فإنها ضارة تحقن الدم كالأماكن الباردة كثيراً والواجب في شهري تموز وآب أن يمتنع المرء عن تناول المثلجات مهما حدثته نفسه من تناولها وأن لا يتعرض للشمس وأن يستعمل المظلة كل من كان دموياً. وخير الطرق لاستمتاع المرء بشبابه وأن تكون أيام حياته طويلة وكلها ربيعاً أن يطرد عنه الخوف والتألم والغم والاضطرابات على اختلاف أنواعها ويحسن ظنه في المستقبل فلا يستدعي بنفسه الشيخوخة ففناء الجسم موقوف على عمل المرء نفسه لا على الأيام التي مضت عليه فكم من شيخ حفظ صحته بتعهدها ودفعه عنها كل ما يضر بها وكم من شاب ظن نفسه مقبلاً على ورود حياض الموت لوسواس أصابه وهموم وغموم دعاها تستولي

عليها وإن علماء الصحة ليقولون إن الحياة قد تطول إلى أكثر من مئة سنة إذا لم يطرأ عليه طارئ غير منتظر فعلى من يحب حياته أن لا ينقصها بصنعه بل يعمل لغذائها ومنامها ولباسها وعملها كل ما يجعلها بهجة مفرحة. لغة الولد نشر أحد أساتذة انكلترا في مجلة المدرسة مقالاً في المكانة المعلقة على لغة الأم فقال أن التلامذة من أبناء التاسعة إلى الرابعة عشرة يجب أن يخصصوا عشر ساعات في الأسبوع لدراسة لغتهم الأصلية، فمن الوهم الفاضح أن يذهب بعضهم إلى أنه من الممكن تعليم الأولاد معنى الإنشاء والذوق الأدبي إذا لم يكونوا متمكنين كل التمكن من لغتهم، وباطل اعتقاد من يعتقد بغناء اللغات الأجنبية في التربية، بل أن تعلم لغة غريبة قبل إحكام المرء لغته الأصلية إحكاماً راسخاً وتبريزه في أساليبها ضار لا بلغته وملكتها فقط بل في تربية عقل التلميذ أيضاً. أما الجمهور وعامة الناس فيذهبون إلى غير هذا المذهب فقد قال اللورد الفرستون في جريدة التربية يوم افتتاح مدرسة ما طالما قاله غيره وهو أن الواجب على الأبناء أن يتعلموا لغة أجنبية في صباهم حق تعلمها لأن ما يتعلمونه منها في سن الحداثة في بضعة أشهر يرسخ في نفوسهم أكثر مما يتعلمونه في سنين متى كبروا، نعم إن الحواس الصوتية هي في الطفل ألين منها في غيره ولكن الحبال الصوتية ليست هي كل ما يلزم لتعلم لغة فإن من المجرب أن الطفل الذي تعلم اللغة الهندستانية ينساها بعد سنين، قال الكاتب أما نحن فإننا نؤمن على كلام جريدة التربية ومجلة المدرسة وهو أن تزداد الساعات المخصصة لدرس اللغة الأصلية وأن تؤخر ما أمكن دراسة اللغات الأجنبية أو القديمة ريثما يستتم التلميذ ملكة لغته وأن يتجرد التعليم الابتدائي من دراسة اللغات الحية وفي ذلك من الغناء والنفع من كل وجه ما لا ينكر لبيب محله، هذا ما عربناه ويا ليت نظارة المعارف العثمانية تنظر فيه نظر تدبر فإن التعليم في مدارسها بالبلاد العربية أصبح من العقم بحيث أمسى عدمه خيراً من وجوده لأنها قضت أن لا يعلم التلاميذ حتى في المدارس الابتدائية شيئاً من لغتهم العربية واكتفت بتلقينهم فقط اللغة العثمانية وياليتها تحسن تعليمها فيخرج التلامذة بعد الدراسة لم يتعلموا لغتهم ولا لغة حرصت نظارة المعارف على نشرها

كالعقعق أراد أن يمشي كالحجل فنسي ممشاه ولم يمش مثله. العمل اليدوي من الغريب أن البلاد التي قل أميوها هي التي جعلت أساس التعليم فيها الأعمال اليدوية واعتبرت التهذيب العلمي ثانوياً فقد جرت بلاد الدانمارك والسويد ونروج على طريقة تربي فيها ملكة الصناعات قبل الاشتغال بالمعقولات والمنقولات وجعلت غاية المدارس هناك أن تعد ابن الشعب لاكتساب رزقه فهو يجتهد في حرفة له يختارها ليبرع فيها ولا يجبر على العمل إجباراً بل تجعل له مكافآت مالية يتناولها بحسب تجويده عمله وفي خلال تلك المدة يتعلم الولد ما ينبغي له من التربية اللازمة لعامل وإذا نبغ من بينهم نابغ ونبه منهم نابه يخرج من بين تلك الصفوف بطبيعة الحال، وقد جربت إيطاليا هذه الطريقة في تعليم الصناعات وتهذيب الأولاد الذين ارتكبوا جرائم فحبسوا واستعاضت عن تلعيبهم بأعمال صغيرة سهلة مثل طي المقوى والحبك وعمل السلال مما يعمله المرء في العادة وهو يغني أو يتحدث مع غيره فراقت هذه الأعمال الأولاد السجناء خصوصاً وأنهم يتقاضون عن أعمالهم أجوراً وإن كانت طفيفة لكنها تغرس فيهم ملكة الحذر والاحتياط ولذا قل فيهم من يحيد أثناء هذه الأعمال عما يقضي به النظام وجاء منهم وطنيون نافعون لا حانقون على الدهر لا يدرون كيف يسيرون. رعب الأولاد وضع المسيو فاراندونك سؤالين على تلامذة بعض مدارس بلجيكا وهما: من أي شيء تخاف أكثر وما السبب؟ ومن أي شيء زاد خوفك كثيراً يوم كنت طفلاً وعلى أي سبب تعلقه؟ فأتاه ألف وخمسمائة جواب نشرها واستخرج منها ما استنتجته في مجلة علم النفس فتبين له أن الصبيان أكثر من البنات خوفاً من الأسد ورجال الشرطة ومن آبائهم وأمهاتهم ومن الوحدة والماء والأشباح والمستقبل والبنات يرعبن في الأكثر من الحيوانات ولا سيما من الذئب والدب والجراذين والفيران ويخشين أكثر من الصبيان الآلام الطبيعية والرجال والمركبات على أنواعها والظلمة والرعد والبرق، وأن الداعي لخوف الولد ناشئ من عدم مماشاته لمحيطه لأن إرادته لا دخل لها في هذا الشأن بتاتاً بل أن تخلفه عن السير مع محيطه ناشئ من ضعفه ومعظم الرعب في الأطفال ينشأ لهم من حواليهم وحدث ما شئت

أن تحدث عن الرعب الذي يستولي حتى على الكبار في السن لأن الأوهام غرست فيهم منذ الطفولة، قال ومن أنواع الخوف ما ينفع الجنس الإنساني والولد أيضاً وهو الخوف النافع في الأحايين أي من الجبناء وهم في الأغلب العاقلون قد ينجون بحياتهم في أحوال كثيرة. الأوائل من الموضوعات التي اشتغلت فيها في دار غربتي موضوع الأوائل، فقد بحثت حتى جمعت فيه مجموعة كبرى أخذت معظمها عن اللغة الانكليزية، وهي تشغل أكثر من أربعمائة صفحة من صفحات مجلة المقتبس. وغرضي من جمعها أن أضع في هذا الموضوع كتاباً خاصاً ذهاباً إلى أن العربية مفتقرة إليه ولا سيما أن المغاربة قد عنوا به عناية خاصة لمكانته ولا يضر المشارقة أن يحذوا حذوهم. ولقد سرني ما عرفته من أن عيسى أفندي اسكندر المعلوف الباحث المعروف قد عني بهذا الموضوع، ولا ريب عندي في أنه متى وقف على عنايتي به أيضاً سيسر لأن غرضه وغرضي يرميان إلى مساعدة المشتغلين بالكتابة على جعل العربية غنية بالمباحث التي يفاخرنا بها أهل الغرب. وهذا بعض ما عربته بهذا الباب وأضفت إليه بعض الحواشي لزيادة الفائدة. أول بندقية اخترعت سنة 1646 وأول مدفع سنة 1886. أول ملعب للتمثيل بناه الرومان في رومية سنة 69 ق. م. نشر صليبيو إسبانيا لأول مرة في أوروبا أرقام الحساب العربي في القرن التاسع للمسيح. أول رئيس قتل في الولايات المتحدة ابراهيم لنكان في 14 نيسان سنة 1865. أول إنسان اكتشف الخليج الفاصل بين كرنيلاند وأميركا الشمالية القبطان (بافن). أول مخترع للمنطاد (غوزماك) اليسوعي في سنة 1729 وأول من استعمله (مونتفولر) في سنة 1782. أول مصرف افتتح في الولايات المتحدة مصرف فيلادلفيا، افتتحه رهط من أكابر البلاد في 17 حزيران سنة 1780 برأس مال قيمته 83916 دولاراً.

أول مخترع للبارومتر (فورسيلي) اخترعه في سنة 1648. اخترعت الحراب لأول مرة في (بايون) (فرنسا) سنة 1670. أول طبيب أذاع تقرير جريان الدم في الرئة (ميشل سريفتس الفرنساوي في سنة 1553) أول مخترع لتجليد الكتب ملك (برغامة) ظهر اختراعه في سنة 887. أول من استعمل الخميرة في الخبز الإنكليز سنة 1650. أول قناة في العالم أقيمت في مصر بين نهر النيل والبحر الأحمر. اخترع ورق اللعب في فرنسا واستعمله الملك كارلس السادس للتسلية سنة 1380. أدخلت المركبات إلى فيينا لأول مرة في سنة 1515 وإلى لندن في سنة 1580. اخترع الشطرنج سنة 608 ق. م. سافر الأميركان إلى الصين لأول مرة في سنة 1591. اكتشف الكلورفورم في أميركا وجرمانيا سنة 1831. أول كلية أقيمت في الولايات المتحدة كلية (هارفرد) المعروفة اليوم بجامعة هارفورد. أسست سنة 1638. زرع القطن لأول مرة في ولاية فرجينيا إحدى الولايات المتحدة سنة 1621، وأرسل إلى البلاد الأجنبية لأول مرة سنة 1741. اعتبر ميلاد المسيح عيداً لأول مرة في سنة 98. طاف اسطول مجللان لأول مرة حول الأرض في سنة 1521. اخترع العرب الساعات الدقاقة في سنة 800 والإيطاليان في سنة 1200. اكتشف الفحم الحجري لأول مرة في انكلترا سنة 1224. سكت العملة لأول مرة في التاريخ المعروف في الصين سنة 1200 ق. م. وفي رومية سنة 576 ب. م وفي انكلترا سنة 1101 ب. م. أنشئت في باريس سنة 1215 أولى الكليات من نوعها. ذكر البيع لأول مرة في سفر التكوين عندما بيع يوسف بن يعقوب من المصريين. استعملت إبرة الملاحين في الصين سنة 2634 ق. م وفي أوروبا سنة 1180 ب. م. أول اجتماع عقده مجلس الأمة في الولايات المتحدة في فيلادلفيا في 5 تشرين الثاني سنة

1774. ولدت النصرانية في إسبانيا سنة 36 وفي بريطانيا سنة 60 وقيل في القرن الخامس وفي فرنقونية وفلاندرس في القرن السابع وفي لومبارديا ونيورنفيا وهيس في القرن الثامن وفي اسوج والدنيمارك وبولاندا وروسيا في القرن التاسع وفي هنغاريا وسكلافونيه في القرن العاشر وفي فانداليا وبروسيا في القرن الحادي عشر وفي بومرانية وليتوانيا وقسم من بلاد التتار في القرن الرابع عشر وفي إفريقية في القرن الخامس عشر وفي الهند والصين في القرن السادس عشر. صنعت الأواني الخزفية لأول مرة في (فانزا) سنة 1450. بوشر لأول مرة بتقطير المشروبات الروحية في القرن الثاني عشر وفي إيرلندا في سنة 1590. نشأ من احتكاك كرتين من الكبريت إحداهما بالأخرى في سنة 1467 أول فكر أو رأي أو تصور لكيفية استخدام الكهربائية وفي سنة 1746 اكتشفت أشعتها في لندن وفي سنة 1756 كيفية إرسالها بالأسلاك. أول رجل فاه في أميركا بعبارة (تحرير العبيد) ابراهيم لنلكي في أول كانون الأول سنة 1863. اكتشف فن النقش على صفائح نحاسية لأول مرة سنة 504 ق. م وعلى الخشب سنة 1423 في فلاندرس وعلى الفولاذ سنة 1830. أول مكتشف لفن الطبع على الحجر (سينفيلدر) الألماني حوالي سنة 1796. استعملت المغلفات لأول مرة في سنة 1839. اخترع حفر الخطوط سنة 512. اخترعت أول آلة لإطفاء النار سنة 1663. نشرت الراية الأميركية لأول مرة في كمبردج ماستشوستس في أول كانون الثاني سنة 1776. استجلب الغاز لأول مرة إلى لندن لإنارة الحوانيت والشوارع في سنة 1814 وإلى بلتيمور الولايات المتحدة سنة 1821.

اخترع مرغتيني التذهيب سنة 1273. هجر النور مصر سنة 1515. عرف الصينيون لأول مرة صناعة عمل الزجاج سنة 200 ق. م والرومان سنة 79 ق. م وفي سنة 1180 أخذ الانكليز يستعملونه للنوافذ والشبابيك وفي سنة 1757 للقناني والأوعية، وذلك بعد أن أدخل (بندكت) هذه الصناعة إلى انكلترا سنة 674 ب. م. صنعت أول مرآة في (لامبت) سنة 1673 وفي (لانكثير) سنة 1773. اخترعت المطحنة في إيرلندا سنة 214. يرد اختراع البارود إلى الصينيين وانتشار معرفة اختراعهم في الغرب إلى سنة 1324. أعدت المركبات للأجرة لأول مرة في لندن سنة 1625. بوشر استعمال مسحوق الشعر لأول مرة في انكلترا سنة 1590 وفي سنة 1795. ضربت الحكومة الانكليزية على كل من يستعمله ضريبة سنوية قدرها ليرة انكليزية قديمة. أول معمل للمناديل (المحارم) أنشئ في بيسلي في اسكوتلندا سنة 1748. اخترعت القبعات (البرانيط) في باريس سنة 1404 واستعملت في لندن لأول مرة سنة 1510. أنشئ علم النسب حوالي سنة 1100. اخترعت الساعة الرملية في اسكندرية سنة 204 ق. م وأدخلت إلى رومية سنة 158 ق. م. استخرج العظلم في كرولينا الولايات المتحدة سنة 1747. جرب التطعيم أو التلقيح في المجرمين لأول مرة سنة 1741. بوشر في انكلترا بضمان السفائن سنة 1560. اكتشف الحديد سنة 406 ق. م بواسطة احتراق جبل (ايدا) وصب في انكلترا لأول مرة سنة 1544 واكتشف في فرجينيا أميركا سنة 1715. بنيت البواخر الحديدية لأول مرة في سنة 1830. اكتشف (جنسن) لأول مرة سيارة صغيرة للمشتري سنة 1590. استعمل زيت الكاز للتنوير لأول مرة سنة 1826.

بوشر بتقبيل رجلي البابا لأول مرة سنة 709. اخترعت جوارب الحبك أو شغل السنارة في اسبانيا نحو عام 1550. صنعت السكاكين أو المدي لأول مرة في انكلترا سنة 1550. أقيمت المدارس في جميع المدن الرئيسة في انكلترا لأول مرة سنة 1810. نسج الشاش وخيوط الحرير والكتان لأول مرة في بيسلي سنة 1784. يرد أول دور من أدوار القرميد إلى الرومان وفي سنة 1625 أمر كارلس الأول بتقطيعه بقوالب. اعترف لأول مرة بطائفة (الكوكر) المعروفة بالفرندس أي الأصدقاء في سنة 1702. اخترع ميمون المصري حروف الهجاء في عام 1822 ق. م. علق جرس الحرية المشهور في أميركا لأول مرة سنة 1776 في ساحة دار الاستقلال في مدينة فيلادلفيا. نسج الكتان لأول مرة في انكلترا سنة 1253. يرد تاريخ اكتشاف المرايا إلى سنة 1300. اخترع القسيس كينف في انكلترا أنوال الحياكة سنة 1787. ذكر المؤرخون لأول مرة استعمال القرعة بمبلغ من الدراهم سنة 1630. اخترع روجر باكون النظارة المكبرة في انكلترا سنة 1260. اكتشف (ماموث) في سيبيريا سنة 1806. اخترع انكسيمند الخرائط والكرات سنة 600 ق. م. يرد اختراع الورق المعروف بالرخامي إلى أحد الجرمانيين في القرن السابع عشر استعمل الكبريت لأول مرة سنة 1829. اخترع المكرسكوب لأول مرة في جرمانيا سنة 1621. أسس أول دير في العالم حيث اعتزلت الراهبة انطوني سنة 270 وأول دير في فرنسا أسسه القديس مارتن سنة 360. اخترع الإبر أحد الهنود في انكلترا سنة 1598. اخترعت علامات الموسيقى سنة 107 ونقحت سنة 1330 وطبعت سنة 1502 أسس

جوزف سمث الديانة المورمنية في سنة 1830. أول نسخة جريدة طبعت في الغرب سنة 1494، وأول جريدة يومية ظهرت سنة 1615 اسمها فرنكفورت وأول جريدة انكليزية صدرت سنة 1622 دعيت أخبار الأسبوع وأول إعلان ظهر في سنة 1648 وأول جريدة أميركية طبعت في بوسطن (ماس) سنة 1690 اسمها (حوادث الجمهور) وأول جريدة يومية في الولايات المتحدة أنشئت في بنسلفانيا سنة 1784 اسمها (بنسلفانيا باكت) وأول جريدة سيارة في أميركا أنشئت في 15 أيار سنة 1775. اخترع الأرغن سنة 755. أسست جامعة اكسفورد في انكلترا سنة 886 وهي الأولى من نوعها. يرد عهد الدهن إلى زمن نينوس حوالي سنة 2000 ق. م. صنعت الأوراق المالية لأول مرة في أميركا سنة 1740. صنع الورق من الخرق في مصر سنة 1085 وفي الصين من الحرير سنة 120 ق. م. اخترع الرق أطاليوس ملك برغامة سنة 887. سنت شريعة حصر الامتياز لأول مرة في الولايات المتحدة في 15 نيسان سنة 1790. أدخلت صناعة الترصيف إلى باريس لأول مرة سنة 1185. اخترع فن ترصيع اللؤلؤ سنة 1686. استعمل (الريش) أقلاماً للكتابة لأول مرة سنة 635. أسس فيلادلفيا وليم بن سنة 1682. اخترع الفونغراف تومس أديسن سنة 1877. صنع الفوسفور لأول مرة سنة 1677. بوشر بفن التصوير لأول مرة في انكلترا سنة 1802 وأتقن في سنة 1841. اخترعت الأخلة لأول مرة في فرنسا وقد استجلبتها كاترينا هاورد واستعملتها لأول مرة في انكلترا وقد صنعت في المصانع الأميركية لأول مرة سنة 1832. صبت الغلايين المصفحة بالرصاص لأول مرة سنة 1539. استعملت الطبنجات أو الفرود لأول مرة فرقة من الفرسان سنة 1544.

صنع القير أو الزفت والقطران من مقلع فحم لأول مرة في (برستول) سنة 1779. اخترع الدمام في باريس سنة 1470. رقيت صناعة الخزف السكسوني لأول مرة 1767. بنيت كوات المدافع في البوارج الحربية لأول مرة سنة 1545. أسس أول بريد بين فيينا وبروسيلس في سنة 1516. أصلح (ودغود) صناعة الفخار إصلاحاً عظيماً لأول مرة سنة 1763. منح أكبر أنجال العترة المالكة في انكلترا لقب أميروالس لأول مرة سنة 1286. اخترعت الطباعة سنة 1441. ابتدأ الإصلاح الديني في جرمانيا سنة 1517 وفي انكلترا سنة 1532. يرجع تاريخ اختراع أنوال الشرائط الحريرية إلى القرن السابع عشر في جرمانيا. صنعت ملابس الملاحين لأول مرة في إنكلترا سنة 1590. افتتحت المدارس العمومية في الولايات المتحدة لأول مرة حوالي سنة 1642. سار أول قطار حديدي للركاب في إنكلترا في 27 تشرين الأول 1825. اخترع دولاب الغزل في برنسوك سنة 1530. اخترعت النظارة العوينات سنة 1299. أصلحت الأنصاب في الولايات المتحدة لأول مرة سنة 1873. اخترع أحد الفلمنكيين آلة اللف في لندن سنة 1792. قيل أن استعمال البرادع المعروفة اليوم يرجع إلى سنة 385. أول استعمال تمليح الفسيخ يرد إلى الهولانديين وقيل أن أول مخترع للمنشار هوتاليوس الكاتب اليوناني صنع ملح البارود لأول مرة في إنكلترا سنة 1625. أدخل الهودج إلى إنكلترا سنة 1834. أعطيت البراءة باستعمال آلة الخياطة لأول مرة في انكلترا سنة 1755 وأتقن هذه الآلة ايلياس هاوي الأميركي في سنة 1846 وآلة الخياطة هي المعروفة عند العامة بالمكنة. اخترع تيخوبراهي سدس الدائرة في اغبورغ في سنة 1550. صنع الصابون في لندن لأول مرة سنة 1524.

ذكر السكر لأول مرة الطبيب بولس اغينتا سنة 625. استعمل الفرار لأول مرة سنة 1540. اخترع كرخر اليسوعي البوق في سنة 1652. اخترع أحرف الطباعة الحديثة وليم غد الصائغ في ادينبرغ في 1735. أسس المدارس الأحدية لأول مرة روبرت ريكس الإنكليزي في إنكلترا في 1781. اخترعت الساعات الشمسية في 558 ق. م وفي رومية في 308 ق. م. اخترعت الدباغة في 1795. أدخل الشاي إلى أوروبا لأول مرة في 1610 جلب الهولانديون من الهند والهنود من الصين. استعمل الفرنساويون آلات البرق لأول مرة في 1794 والانكليزيون في 1796 أول تلغراف سلك كهربائي امتحن بين مدينة باديفتن ودراتور انكلترا في 1835. أول تلغراف فحص في أميركا بين بلتيمور والعاصمة واشنطن في 1844 وأول رسالة برقية أرسلت في هذه البلاد في 1851 من دوفر إلى كالي وأول رسالة برقية قطعت المحيط الاتلانتيكي في 1858. عرض الحاكي التلفون المدعو جرس كبراهام لأول مرة في معرض سينتسنيال فيلادلفيا في 1875. اخترع اسحق نيوتن الفيلسوف المرقب في 1692. صنعت الخيطان لأول مرة في معمل بيسلي اسكوتلاندا في 1722. اخترع الثرمومتر دربيل الهولاندي في 1620 وزاد بتحسينه ريومر في 1730 وفارنهيت في 1749. اخترع الدكتور هيلس المهواة سنة 1740. اخترعت الكمنجة حوالي 1477 وأدخلها إلى انكلترا الملك كارلس الثاني. يرد أول دور من أدوار استعمال أوراق الحيطان إلى اسبانيا وهولاندا 1555 أما الأوراق المخملية فقد استعملت أولاً في 1620. استجلب الدخان لأول مرة إلى انكلترا من فرجينيا الولايات المتحدة في 1583.

اخترعت الساعات الحديثة في 1477 في جرمانيا وأدخلت لأول مرة إلى انكلترا في 1577. قيل أن اختراع مطحنة الماء يرد إلى عهد محاصرة الغوطيين لرومية في 555 وأن مخترعها الأول هو رجل اسمه بلساريوس. ذكر الدوارة لأول مرة فينريوفيوس اليوناني وأنها نصبت على رأس برج أثينا الذي بناه فيرشس. أول جاب للأموال رجل دعي صولون عاش سنة 540 ق. م. حدائق الأطفال ومدارسهم كتبت إحدى المعلمات الفرنسويات مقالة في أحسن الطرق لتربية الأولاد قالت فيها أن البداءة بتعليم الطفل تكون على الغالب بتعليمه مبادئ القراءة خاصة والظاهر أن القراءة هي الواسطة الوحيدة لتنبيه جميع حواسه على حين فجأة، وقد شغل هذا الموضوع بال كثير من أرباب العقول وقام في سويسرا منذ نحو مئة سنة اثنان من رجال التربية الثقات أحدهما بستالوزي في مدينة زوريخ والآخر الاب جيرارد في مدينة فريبورغ ووضعا موضع العمل طريقة جديدة من شأنها أن تزكي عقل الطفل على أيسر وجه منذ إدراكه قال فنيلون الأخلاقي الفرنسوي أن ذكاء الطفل كلهيب شمعة يحركها الريح وهي أبداً في اهتزاز فالغاية إذاً من التربية هو أن يمد ذاك اللهيب بالمادة اللازمة بأن يدفع هبة خفيفة لتساعده على الانبعاث على خطة مستقيمة عالية متوخين أن لا نطفئها بحركة سريعة منا بل الواجب كما قال بستالوزي أن نحسن تسليك الطفل ونعفيه من النظر إليهم إلى المدارك الصريحة وإذ كانت بالحواس تحدث التأثرات اقتضى أن نقرب بين الطفل وبين الأمور التي يقضى عليه دراستها يعلم معنى الألفاظ التي يتكلم بها على ما يجب ويضاف إلى تعليم عقله تعليم عملي باليد وتعليمه هذا التعليم بين السادسة والعاشرة وقال غيره يجب أن يعنى بالطفل لتنبيه إحساسه منذ أول إدراكه لأن الولد ليس هو في الحقيقة إلا رجلاً ولكنه صغير، وقال آخر أن الولد أب الرجل وأفضل الطرق في تعليمه كما قال فريبل أن يقرب من الطبيعة فيدرك رحمة الله ويتعلم قدرته وصنعه في الوجود ويحترم كل ما له حياة وذلك بأن يعلم تربية بعض النباتات والنظر إلى ما حوله فيعلم نفسه بنفسه كأن يعطى الولد

كرات ومكعبات وعصياً وأشكالاً ورسوماً وأشياء يثنيها ويفتلها ولا سيما ما كان منها طبيعياً يعطى منها بحسب المواسم فيتناول زهراً في الربيع مثلاً وتفاحة في الخريف أو الشتاء أو غير ذلك مما تنبت الأرض في المواسم الأربعة فإذا كان تفاحاً يستصحب الولد إلى السوق وتبتاع ويشرح له كيف نمت وكبرت وتوصف له الأشجار وجذوعها والأوراق والأرض ثم ترسم له تلك التفاحات وتقطع وتنقى ويجعل له منها مربى أو تشوى له في الفرن ثم يذكر كيف يصنع العصير ويصفون له المركبة والحصان والسوط وغير هذا كل ذلك يرسم له على اللوح والولد يقلده ويشفع ذلك باغان وأشعار متعلقة بالموضوع وتتوسع المربية في شرح ذلك للطفل بدون أن تحيد عن الغاية الأصلية المطلوبة وبذلك يعمل عقل الطفل ويقلد في عمله فيجمع إلى التربية العلمية والأدبية التربية العملية لمعاناة الفنون والصناعات، وقد انتشرت طريقة فريبل في التربية على هذا النحو في سويسرا وألمانيا والبلجيك وهولاندة والسويد وانكلترا وفرنسا وأميركا ودخلت خصوصاً في دور اللقطاء والبائسين وأنشئت في باريز مدرسة على هذا النمط أنشأتها آنسة متعلمة وأخذت تربي الأطفال هذه التربية المعقولة جاعلة مع حدائق الأولاد دروساً تلقى عليهم بالعمل في حفظ الصحة وعلم النفس والكيمياء والنبات وتدبير المنزل فجعلت محيط تلك المدرسة متناسياً مع ما يراه الطفل في بيت أبيه ليس فيه ما في صنوف المدارس من المناظر المدهشة مثل القماطر السود والمقاعد العالية بل فيها صور ونقوش وأزهار وطيور وأثاثها مناضد وكراسي صغيرة تناسب طول الطفل ومن الأولاد من يبقى طول النهار في المدرسة فيتيسر لإدارتها أن تعلمه أموراً كثيرة في تدبير المنزل وتغرس فيه أصول النظام والنظافة وذلك بأن تتركه مثلاً يعمل طعامه بنفسه حتى إذا رجع في المساء إلى بيته وعمره في الخامسة على الغالب يلاحظ على والدته أن لا تطرح قشر البطاطا أو قشر البيض بل أن تحفظها لتنظيف القناني والزجاجات وآخر يطلب إلى والده أن يضع كل يوم بيومه أجرة المدرسة على حدة حتى تتجمع في آخر الأسبوع مخافة أن يجيء يوم الدفع ولا يكون في البيت درهم لأداء قسط المدرسة وهكذا يتعلم الطفل تدبير البيت والاقتصاد المنزلي منذ يعي على نفسه ويغرسون فيه فكر الإحسان والعدل وحسن العشرة والألفة حتى لا يستوحش من الناس كما هي عادة الأطفال وهي عادة ضارة شائعة ويعلم قدر الصناعات وفكر الأسرة فتتنبه فيه

عزة النفس فلا يقول لشيء لا أستطيع عمله ومنذ السنة الخامسة يرفض أن يلبسه ثيابه أحد أو يسرح شعره ويمشطه ويهندمه أحد فيكون مسؤولاً عن عمله وتنمو فيه قوة الإرادة والشعور بالنظر كما ينمو فيه الإحساس الديني والكمالي والاحترام والحشمة وبالجملة ترتقي فيه التربية قبل أن يهتم بالتعليم. فإذا خرج الطفل من هذه المدرسة ويدخلها وهو بعد الثانية من سنه في الغالب ويخرج منها بعد السابعة يحسن أن ينظم أموره لأنه تعلم منذ نعومة أظفاره الطاعة والنصيحة فلا يصعب عليه متى دخل المدرسة أن يتلقى بقبول حسن ما يلقيه عليه معلمه أو يفزع إذا جاء من بيته إلى المدرسة الابتدائية مباشرة بل يكون بحسب سنه قد ألف البحث والتفكر والنظر والتأمل في الأشياء ويجمع معلوماته ويصل بينها برباط وأحد وربما كانت بهذه الطريقة أفكاره قليلة ولكنها إلى الجلاء والوضوح أميل وفيها تسلسل معقول. ويحسن الولد التفكر وحصر ذهنه وهو ما ينفعه عندما يجيء دور تعليمه القراءة فلا يستصعبها ويمل منها بل تكون له ميسورة سهلة سريعة ويحصر الذهن في موضوع يتعلم الولد الاهتمام بالأشياء المحيطة به أو التي تمسه مباشرة فهو يعرف الوجود ويحبه ويقدر نعمه قدرها ويذكر صانعها وتكون قد تنبهت حواسه وترقت وكذلك رغبته في النظر والمعرفة وبهذه الطريقة تقوى إرادته وتمهر يده وبما يتعلمه من الهندسة الابتدائية العملية يقدر بذهنه الأبعاد والخطوط ويسهل عليه النسب وبالرسم يتعلم نقل الصور المستعملة في البيت ويدرك بنفسه أنه لا يستطيع أن ينقلها كما هي ويبحث عن طريقة توصله إلى نقلها كما هي ويتعلم ملاحظة الأشكال وتقليدها وبذلك تتربى عينه ويده في آن واحد، ولا تسل عما تحدث هذه الطريقة عندما يجيء وقت الكتابة إذ تكون يده أعادت رسم الأشكال وما الحروف إلا أشكال ولكنها لا تنطق كالرسوم وعينه تساعد يده وكم ولد يرسم الحروف والكلمات التي يراها وهو يتعلم على هذه الطريقة بدون أن يفهم معناها، وتعلم الكتابة لا يتعب به عقله ولا جسمه بل يتعلمه كأنه يلعب ويرسم. قالت الكاتبة فمدرسة حديقة الأطفال هي مدرسة التربية وعليها يصدق هذا التعريف: التربية هواء وقانون وحياة. قرطاجنة والعرب

بعث المسيو برتولون من المشتغلين بعلم تاريخ الإنسان إلى المجمع العلمي القرطاجني في تونس بمبحث بين فيه الفروق بين جماجم القرطاجنيين منذ 2400 سنة وجماجم التونسيين المعاصرين جاء فيه أن علماء الإنسان يتوصلون إلى درس الأخلاق الرئيسة لمعرفة مميزات عنصر من العناصر بالنظر أولاً إلى قامات أهله فمن أجناس الأمم من يغلب عليها طول القامات مثل الايكوسيين والسويديين ومنهم من يكونون قصارها مثل اللايونيين والسارديين والصقليين ثم ينظر إلى ألوان البشرة والعيون والشعور وحجم الجماجم والأنف والعيون والوجه فيقدرون المقياس الأعلى بمئة ومن بلغ طول رأسه من 70 إلى 86 كان معدوداً في طوال الوجوه ثم يقاس الطول مع العرض وتجري النسبة بينهما وقد قاس في تونس مئة جمجمة قديمة جداً يظن أنها من جماجم القرطاجنيين من القرن الرابع قبل الميلاد و23 جمجمة حديثة من جماجم التونسيين فاستبان أن نساء القدماء يشبهن بتقاطيعهن نساء المحدثين إلا قليلاً وأن الاختلاف محسوس بين رجال اليوم ورجال أمس وأن العقول كانت واحدة في القرطاجنيين والتونسيين وكان كثيرون من القرطاجنيين طوال القامات ومميزاتهم كمميزات قبائل الغرب العظمى المعروفة في التاريخ باسم النوميديين وثبت له أن سكان ضواحي تونس يشبهون أولئك القدماء في قاماتهم وأن سكان قرطاجنة وتونس ظلوا متشابهين منذ القديم إلى يومنا هذا على ما طرأ عليهم من الطوارئ السياسية وبعيد أن يكون قدماء القرطاجنيين من فينيقية لأن الفينيقيين عرفوا بضيق جبهاتهم وكانت أواسط رؤوسهم منبسطة واستدل من حفريات مدافن صيدا ومن قياس هيكل عظام الملك ثابنيت بن اشمونازار الذي وجد في إحدى النواويس الصيداوية أن القرطاجنيين لم يشبهوا الفينيقيين بجنسهم وأن القرطاجنيين اختلطوا بأهل عنصر طويلة رؤوسهم وكذلك الحال في عيون الصيداويين أنها كانت أكثر استدارة من عيون القرطاجنيين وأنوف الفينيقيين أصغر من أنوف القرطاجنيين وبذلك ظهر أن سكان قرطاجنة (المستعمرة الفينيقية) في القرن الرابع لم يكونوا من عنصر يشبه العنصر الفينيقي وأن سكان قرطاجنة من أصل العنصر الذي أنشأ المدنية في بحر ايجيه (الارخبيل) أي أجداد المدنية اليونانية كما استدل الباحثون في أصول مدنية شواطئ البحر الأبيض أن هؤلاء الإفريقيين القرطاجنيين قد فني فيهم الطوارئ من الفينيقيين الذين حلوا ديارهم فكان أهل قرطاجنة فينيقيين ثم رومانيين ثم

عرباً قال: وعلى فرنسا أن تنظر إلى ما تم في هذا السبيل من صبغة التونسيين لنعيدهم إلى صبغتها لأن حكم العرب قد أتاهم بقانون سنه رعاة لرعيان فصعب تطبيق هذه الشريعة على مجتمعات ممدنة كالمجتمع القرطاجني ولذا انحط أي انحطاط عما كان عليه زمن الفتح الروماني، قال وإن مبادئ التنظيم الذي بقيت آثاره إلى اليوم في تونس مثل البلديات والصناعات وصناعة الخزف والبناء والهندسة ليست من اختراع العرب كما يقال بل هي بقايا من المدنية القديمة السابقة للإسلام فسدت على عهد الفاتحين وأعمالهم العقيمة، قلنا وبمثل هذا المتعصب الفرنسوي ممن يمدون أقلامهم بالسم الزعاف ليكتبوا عن العرب جهلاً منهم أو تجاهلاً ما برح استعمار فرنسا متأخراً عن غيره من الأمم وسيتراجع عمرانها كلما قويت شأفة الممحاكين والسفسطائيين من أبنائها.

البرجان

البرجان من هم البرجان الذين كثر ذكرهم في كتب العرب التاريخية القديمة وما اسمهم باللغة الفرنجية؟ هذا سؤال يحب أن يقف على جوابه كل من يهمه الاطلاع على إخبار الأقدمين والأمم السالفة، فأقول: إذا أردنا الوضوح في هذه المسألة يجدر بنا أن نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام وهي: قسم نذكر فيه كلام مؤرخي العرب أو مشاهيرهم، وقسم نذكر فيه آراء لغويي العرب وقسم نأتي فيه على ما صرح به علماء الافرنج ومستشرقوهم ثم نختم هذه الأبواب الثلاثة بخاتمة تكون بمنزلة فصل الخطاب. 1_القسم الأول كلام مؤرخي العرب أو مشاهيرهم: أول من ذكر البرجان من جغرافيي العرب هو أول مؤلف عربي صنف في وصف البلدان أعني به أبا زيد أحمد البلخي صاحب كتاب صور الأقاليم المتوفى ليلة السبت لتسع بقين من ذي القعدة سنة 322 هـ (3 تشرين الثاني 933م) إذ يقول: أما مملكة الإسلام فإن شرقيها (في عهد المؤلف) الهند وفارس، وغربيها مملكة الروم وما يتصل بها من الأرمن واللان والبرجان والسرير والخزر والروس والبلغار والصقالية وطائفة من الترك، وشماليها مملكة الصين وما اتصل بها من بلاد الأتراك ومنها بحر فارس المطلوب من إيراده. وقال ابن خرداذبة: والعمل الثاني (من بلاد الروم) عمل تراقية وحده من المشرق السور ومن الجنوب عمل مقدرنية ومن الغرب بلاد برجان ومن الشمال بحر الخزر وقد جاء في كتاب المسالك والممالك ذكر البرجان مراراً عديدة وكلها بهذا المعنى. وقال ابن الفقيه في كتاب البلدان: وإليها (أي إلى الري) تقع تجارات أرمينية وأذربيجان وخراسان والخزر وبلاد برجان. وأما اليعقوبي فلم يتعرض لذكرهم، وممن ضرب صفحاً عن ذكرهم أيضاً الاصطخري وابن حوقل والمقدسي وقدامة بن جعفر والبكري والبيروني. وقال ابن الوردي عن أرض البرجان ما حرفه: هي أرض عظيمة واسعة بها من البرجان أمم لا تحصى وهي أمة طاغية قاسية بلادهم واغلة في الشمال ويقول عن أرض البلغار ليبين لك أنها ليست أرض أولئك كما زعم ذلك بعض المتأخرين أو المعاصرين: هي أرض واسعة ينتهي قصر النهار عند البلغار والروس في الشتاء إلى ثلاث ساعات ونصف ساعة

قال الجواليقي: ولقد شهدت ذلك عندهم فكان طول النهار عندهم مقدار ما صلي أربع صلوات كل صلاة في عقيب الأخرى مع الأذان وركعات قلائل الإقامة والتسبيح، وعماراتها متصلة بعمارة الروم، وهم أمم عظيمة ومدينتهم تسمى بلغار وهي مدينة عظيمة يخرج واصفها إلى حد التكذيب. وقال الطبري (1: 18 من ولد يوان: الصقالبة وبرجان. (وفي 1: 299) وملك (افريذون ابنه) سلماً الروم والصقالية والبرجان وما في حدود ذلك (وفي1: 900) وانوشروان غزا برجان ثم رجع فبنى الباب والأبواب. (وفي 2: 1317) وفي هذه السنة (أي سنة 98) أغارت برجان على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس فأمده سليمان بن عبد الملك بمسعدة أو عمرو بن قيس في جمع فمكرت بهم الصقالية، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبدة. (وفي 3: 775) وقتل في هذه السنة (سنة 193) نقفور ملك الروم في حرب برجان وفي (3: 1450) وقد كان إذن (ملك الروم في سنة 246هـ -) لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه. وقال المسعودي في كتاب التنبيه: وحد الإقليم الخامس بحر الشام إلى أقصى أرض الروم مما يلي البحر إلى تراقية وبلاد برجان والصقالية والابر إلى حد أرض يأجوج ومأجوج وقال في موضع آخر من كتابه المذكور: إن السبب في ذلك (في انتصار الملك قسطنطين على أعدائه) ظهور صليب له نوري في السماء في نومه في حال حربه مع ملك برجان وأنه قيل له: استنصر به على عدوك تنصر عليه. وقال (في ص 141): وقد دخل كثير منهم (من الأجانب) في وقتنا هذا في جملة الروم كدخول الأرمن والبرغر وهم نوع من الصقالية والبجناك من الأتراك فشحنوا بهم كثيراً من حصونهم التي تلي الثغور الشامية وجعلوهم ازاء برجان وغيرهم من الأمم المتأبدة بهم والمحيطة بملكهم. . . وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا السبب في كيفية بناء القسطنطينية والتنازع في ذلك، وقول من قال ما وراء الخليج كان من أرض برجان فاحتال قسطنطين على ملك برجان لعلمه بالموضع وحصانته حتى أذن له في بنائها. وقال (في ص 164) لحق (يسطنيانس) بملك الخزر مستنجداً به وتزوج هناك فلم ير عندهم ما يحب فصار إلى طرفلا ملك برجان. . . . وقد كان شرط لطرفلا ملك برجان إذا

رجع الملك إليه أن يحمل إليه في كل سنة خراجاً وكان يفعل ذلك. . . وقال (في ص 183) وقد ذكر خبر السور المسمى بالرومية مقرون لينحس تفسير ذلك السور الطويل الحاجز بين بلاد برجان وبين البنود الخمسة التي وراء القسطنطينية وقال في ص 184 وقرب من هذا الجبل جبل القبق من الأمم كاللان والسرير والخزر وجرزان والابخاز والصنارية وكشك والكاسكية وغيرهم والابر وبرجان والروس والبرغر والافرنجة والصقالبة. . وقال في ص191 ومن جاورهم (أي الروم) من الممالك: من برجان والابر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم. . . وقال (في ص 196) وقد ذكرنا ما جرى بين الروم وبرجان والبرغر والترك وغيرهم من الوقائع المشهورة والحروب المذكورة. . وقال المسعودي في كتابه الآخر مروج الذهب: (2: 16 طبعة باريس) وشن الغارات (أي ملك البرغر يريد البلغار) حولها (أي حول القسطنطينية) إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والافرنجة. . . وقال (في ص 311 من ذلك الجزء). . وقد كان له (أي لقسطنطين الملك) في بنائها خبر طريف مع بعض ملوك برجان لخوف دخله من بعض ملوك آل ساسان. . وقال (في ص 314) وكان السبب في دخول قسطنطين بن هلاني في دين النصرانية والرغبة فيها أن قسطنطين خرج في بعض حروب برجان أوغيرهم من الأمم فكانت الحرب بينهم سجالاً نحواً من سنة. . . وقال (في 3: 66) الافرنجة والصقالبة والنوكبرد والاشبان واليأجوج والمأجوج والترك والخزر وبرجان واللان والجلالقة. . . وقال (في ص 78) ولربما اجتمع عليهم (على أهل الأندلس) من الأمم من ولد يافث من الجلالقة وبرجان وافرنجة وغيرها من الألسن. . . وقال في 3814 عمل الترك لخافان سبع مائة فرسخ في خمسمائة. أي طوله. . . وعرضه. . . عمل الخزر واللان سبع مائة فرسخ في خمسمائة فرسخ، عمل برجان ألف وخمسمائة فرسخ في ثلثمائة فرسخ، عمل الصقالبة ثلاثة آلاف وخمسمائة فرسخ في سبعمائة فرسخ، وقال في 14327 وفي هذه السنة وهي سنة 223 خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغر والصقالبة وغيرهم ممن جاورهم من ملوك الأمم حتى نزل مدينة زبطرة من الثغر

الخزري فافتتحها بالسيف. . . وقال ابن رسته: الإقليم السادس يبتدئ من المشرق ويمر على بلاد مأجوج ثم على بلاد الخزر فيقطع بحر طبرستان إلى بلاد الروم فيمر على جرزان وأماسيا وهرقلة وخلقيذون والقسطنطينية وبلاد برجان وينتهي إلى بحر المغرب. الإقليم السابع يبتدئ من المشرق من شمال يأجوج ثم يمر على بلاد الترك ثم على سواحل بحر طبرستان مما يلي الشمال ثم يقطع بحر الروم فيمر ببلاد برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب. وأما ما وراء هذه الأقاليم إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ثم يمر على بلاد التغزغز وأرض الترك ثم على بلاد اللان ثم على الابر ثم على برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب. وقال في موضع آخر: ومن هذه المدينة (أي رومية) تركب البحر فتسير ثلاثة أشهر حتى تنتهي إلى بلاد ملك برجان وتسير منها في جبال وعقاب شهراً واحداً حتى تنتهي إلى بلاد فرنجه. وقال ياقوت: برجان بالجيم، بلد من نواحي الخزر، قال المنجمون: هو في الإقليم السادس وطوله أربعون درجة وعرضه خمس وأربعون درجة وكان المسلمون غزوه في أيام عثمان رضه. وقال البلخي في كتاب البدء والتاريخ (1: 64) سمعت قوماً من برجان يسمونه (أي الله) ادفوا، فسألتهم عن اسم الصنم فقالوا: فغ وقال (في 3: 26) فمنهم (من أولاد يافث) الترك والخزر والصقالبة وبرجان واشبان ويأجوج ومأجوج ستة وثلاثون لساناً وقال (في 4: 53) الإقليم السادس: يبتدئ من المشرق فيمر على بلاد يأجوج ومأجوج ثم على بلاد الخزر ثم على وسط بحر جرجان إلى بلاد الروم فيمر على جرزان وهرقلة وقسطنطينية وبلاد برجان إلى بحر المغرب، قال أهل هذا العلم: أما ما وراء هذه الأقاليم إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ومأجوج فيمر على بلاد التغزغز وأرض الترك وعلى بلاد اللان ثم على بلاد برجان ثم على شمال الصقالبة إلى أن ينتهي إلى بحر المغرب.

وقال أبو الفداء في تقويم البلدان: برشان بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وفتح الشين المعجمة ثم ألف ونون في الآخر، ويقال لها أيضاً برجان بالجيم، كانت قاعدة البلاد، قال ابن سعيد: وبرشان كانت قاعدة الأمة الذين يقال لهم برجان وكان لهم شهرة وبأس في قديم الزمان فاستولت عليهم الألمانية وأبادوهم حتى لم يبق منهم أحد ولا بقي لهم أثر وقال القرماني: برجان بلاد غائصة في جهة الشمال فيها قصر النهار إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة وبالعكس وأهلها مجوس، وقال عن بلغار: مدينة عظيمة (كذا والمراد هنا قاعدة البلغار) على ساحل بحرمانطس مبنية من خشب الصنوبر وسورها من خشب البلوط، وحولها من أمم الترك ما لا يعد ولا يحصى، والبرد عندهم شديد جداً لا يكاد الثلج أن ينقطع عن أرضهم صيفاً وشتاءً. وقال ابن الأثير في (1: 28 من طبعة مصر) ومن ولد بوان (والأصح يوان بالمثناة التحتية) الصقالبة وبرجان والاشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع فيها من وقع من ولد العيص بن اسحق وغيرهم، وقال (في 116) ثم ملك اسطينان (أي أسطنيانس أو يسطنيان) المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده فانتقل إلى ملك برجان، ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيام عبد الملك ثم ترك الملك وترهب، ثم ملك السمين المعروف بالطرسوسي سبع سنين فقصده اسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به اسطينان وخلعه وعاد إلى ملكه فكان ذلك أيام الوليد بن عبد الملك واستقر اسطينان وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً فاجتمعوا عليه وقتلوه فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً وقال (في ص 117) وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة 193 فقتل فيها وقال (في ص 154) عن كسرى انوشروان عاد إلى المدائن وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، ثم قال (في ص 155) وقوي أمره (أي انوشروان) وغزا فرغانة والبرجان وعاد فبنى مدينة الشابران، وقال (في 5: 10) وفي هذه السنة (أي 98) فتحت مدينة الصقالبة وكان برجان قد أغار على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة فكتب إلى سليمان يستمده فأمده فمكرت بهم الصقالبة ثم انهزموا.

وأنت ترى أن ما نقلناه هنا عن ابن الأثير يكاد يكون نص الطبري بعينه، ومثل هذين النصين كلام ابن خلدون فلهذا نضرب صفحاً عن ذكره، وإلى هنا أيضاً انتهى ماجمعناه من كتب أشهر المؤرخين وأهل التخطيط وإن كان ثم غير هؤلاء إلا أنهم يعدون من النقلة لا من المصنفين الأصليين، وهذا يدلك على سبب عدولنا عن ذكر نصوصهم لاستغنائنا عنهم بأقوال الكتاب الأقدمين أصحاب القدم الراسخة في هذا الموضوع. 2_القسم الثاني نصوص لغويي العرب قال الفيروز أبادي في القاموس: برجان كعثمان: جنس من الروم وزاد السيد المرتضى في تاج العروس يسمون كذلك قال الأعشى: وهرقل يوم ذي ساتيذ ما ... من بني برجان في الباس رجح يقول: هم رجح على بني برجان أي هم أرجح في القتال وشدة البأس منهم، وهذا الكلام كله هو نص ابن منظور بحرفه، وقد أخذه المرتضى عنه ولم ينبه عليه. وقال ابن الوردي: البرجان أمة بل أمم طاغية مثلثون، بلادهم متوغلة في الشمال وسيرهم منقطعة لبعدهم عنا وجفاء طباعهم. وقال في المعرب للجواليقي: برجان، اسم أعجمي وقد تكلمت به العرب قال الأعشى: من بني برجان في الناس رجح. وقال الجوهري في الصحاح: وهرقلاً يوم ذي ساتيذما ... من بني برجان ذي البأس رجح. ولم يزد على هذا القدر مع اختلاف الرواية بينه وبين صاحب اللسان والتاج. وقال المطرزي في المغرب: برجان جنس من الروم بلادهم قريبة من القسطنطينية وبلاد الصقالبة قريبة منهم. وقال صاحب الأوقيانوس: برجان على وزن عثمان اسم جنس من الروم وفي كتاب المغرب للمطرزي (ماذكرناه آنفاً) وكتاب الخريدة لابن الوردي (مانقلناه فويق هذا) ثم قال: وعليه فيؤخذ من هذا الكلام وعن سائر ما ورد في كتب تخطيط البلدان أن برجان وبغدان هما بلاد وجيل معروفان يكونان وراء نهر الطونة، فمن المحتمل إذاً أن تكون كلمة برجان معربة عن بوجاق (كذا، ويراد ببوجاق البلاد المعروفة باسم بسرابية) بل ولعل الأرجح أن

تكون برجان تعريب بغدان تعريباً. ومن الغريب أن القلقشندي الذي وضع كتاباً في الأنساب وذكر أنساب كثير من الأجيال والأمم والشعوب لم يتعرض لذكر البرجان، وممن أغفل التنويه بهم سائر اللغويين من العرب كصاحب الجمهرة وتهذيب اللغة والمحيط والمجمل والمخصص والمحكم والجامع لديوان العرب والعباب وأساس البلاغة والمصباح المنير ومجمع البحرين ومطلع النيرين والبابوس إلى آخر ما هناك. وأما صاحب محيط المحيط أي البستاني فإنه نقل كلام المطرزي ولم يصرح باسم المنقول عنه، وصاحب أقرب الموارد لم يذكر البرجان بمعنى هذا الجيل من الناس، ونقف عند هذا الحد من ذكر نصوص اللغويين. القسم الثالث رأي مستشرقي الافرنج ذهب أغلب المستشرقين إلى أن المراد بالبرجان: البلغار، وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً البتة كما سنثبته في ذيل هذا القسم، على أن بعضاً منهم انتبهوا إلى ما في هذا التوحيد بين اللفظين من الغرابة والبعد لرؤيتهم كثيرين من كتاب العرب جمعوا في عبارة واحدة بين البرجان والبلغار وميزوا بين الجيلين تمييزاً بيناً فاستنتجوا أن القومين ليسا بواحد بل هما اثنان وإن كانا في أغلب الأحايين متحالفين متفقين في الهجوم والدفاع وفي القتال والقراع. على أن بعض الافرنج ذهبوا إلى أن المراد بالبرجان في بعض عبارات الكتاب من العرب قوم يكونون في افرنجة (افرنسة) وهم المعروفون باسم البرجون أو البرغون أي هم المعروفون باللغة الفرنسوية باسم وهم محقون في ذلك، مثلاً ما قال المسعودي في عبارته (في 2: 16) وفي عبارته (في 3: 78) فلا شك أن المراد بالبرجان هناك البرجون أو البرغون، وهذا التصحيف قريب من البرجان فظن المؤلف الأول أو ناسخ الكتاب أن البرجون والبرجان شيء واحد، والحال: أن الأمر على خلاف ما يظن وإن كان بين اللفظين تناسب في الاشتقاق، ولهذا فقد أصاب الفاضل بربيه دمينار حينما ذكر هذه العبارة: وبشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والافرنجة إن المراد بهؤلاء البرجان: لكنه لم يصب في قوله أنهم البلغار في كلام المسعودي في 3: 66 و 3: 78 ثم 7: 134 ثم 4: 38 فلو ذكرهم باسمهم البرجان كما فعل في 2: 311 و 2:

315 لكان أولى له ولهذا فقد أصاب في مواطن وأخطأ في مواطن أخرى. وأما العلامة دي كوي فإنه لم ينقل إلى اللاتينية اسم البرجان كل مرة وردت في الطبري، وأما في ترجمته لكتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة فإنه نقلها إلى لفظة بلغار في ص 25710592 وأما في 25717 فقد أبقاها على لفظها برجان، كأنه قد اكتفى بما ألمع إليه وبأن المراد من البرجان البلغار. وقد صرح فريتاغ أنه لا يعرف على التحقيق من هم هؤلاء المعروفون باسم البرجان، على أنه في الآخر ذهب إلى أن قولهم: اسرق من برجان يراد بهم هؤلاء الأقوام، وقد قال في مستهل كلامه عن البرجان برجان اسم لص أو لصوص، وقد تابعه في هذا الوهم قزميرسكي، وقد وهم كلاهما، فإن اللص المشهور باسم برجان هو غير جيل البرجان فاللص برجان كان من ناحية الكوفة، صلب لسرقته فسرق وهو مصلوب، وذلك أنه قال لحافظه: مر إلى تلك الخربة فإن لي فيها مالا وأنا أحفظ برذونك، فلما غاب عنه قال لواحد مر به: خذ البرذون فهو لك. وأما برجان الآخرون فهم أقوام يجاورون البلغار وليسوا بهم، وكانوا أهل غزو لا لصوصا شأن سائر الناس في غابر العصور قبل العمران الحديث، ولهذا فقول فريتاغ وقزميرسكي أنهم من اللصوص وهم ظاهر وخبط بين فليحفظ، هذا فضلاً عن أنك لا ترى واحداً من أبناء العرب ذهب إلى أن اللص برجان هو من قوم البرجان، أو أن البرجان هم من اللصوص ومنه قولهم اسرق من برجان كقولهم هم اسرق من قوم برجان. والظاهر أن أول مستشرق ذهب إلى أن البرجان هم البلغار العلامة كاترمير في الكتاب الذي نشره في باريس لمؤلفه رشيد الدين وترجمه إلى اللغة الفرنسية مع حواش نفيسة تزري بعقود الجمان، وقد رأيت هذا الكتاب مراراً عديدة في مكتبة الحاج علي الآلوسي من مبعوثي بغداد، وهو اليوم في الاستانة ومكتبته مقفلة لا يدخلها داخل ولو كان من أخص أقربائه، ولما كان مقام كاترمير من أرفع المقامات في العلم تابعه الكثيرون اعتماداً عليه، والبائن أن العلامة رينو في ترجمته لكتاب تقويم البلدان تأليف أبي الفداء لم يقطع كل القطع برأي وطنيه كاترمير لأنه أبقى كلمة برجان على حالتها في ص 283 من الجزء الأول من المجلد الأول وفي ص 313 من ذلك الجزء بعينه، ثم قال ما معربه: الظاهر

كلمة برجان تعني بعض الأحيان البلغار المجاورين لنهر الطونة، راجع حواشي المسيو كاترمير على كتاب تاريخ رشيد الدين ص 405 وراجع أيضاً تصنيف المسيو دوصون في كلامه عن أقوام جبل قاف ص 260 ومن المرجح أيضاً أن هذا الاسم يشمل الإبر والصرب كلام رينو. فأنت ترى أنه لا يجزم بصحة هذا القول كل الجزم بل يذكره بكل تحفظ وتحرز لأنه رأى أنه إذا صح هذا التأويل في مواضع فهو لا يصح في عدة مواطن. وأما أقوى براهين كاترمير على أن البرجان هم البلغار المجاورون لنهر الطونة هو هذا على ما أتذكر: يقول المسعودي أن بستنيان الثاني المشهور بالأخرم لاد بتاوفيل ملك البرجان والحال أن كتبة اليونان يذكرون ذلك عن ملك البلغار إذن البرجان هم البلغار كلام العلامة محصلا بمعناه، فأقول: نص المسعودي هو هذا: وفي هذه السنة وهي سنة 223 خروج توفيل بن ميخائيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغار والصقالبة وغيرهم فيتضح من هذا الكلام أن البرجان غير البرغار أو البلغار وإلا لما فرق بين اللفظين بل أنهم قوم محالفون للبرغار كما كان الصقالبة محالفين لهم أيضاً واكتفاء اليونان بذكر البرغار فقط لا يدل على أنه لم يكن معهم برجان وصقالبة بل إنما ذهبوا إلى ذكر البلغار أما لكثرتهم وأما لشهرتهم وأما لأنهم إذا ذكروا البلغار فهم قراء أولئك الزمان حلفاء البلغار أيضاً البرجان والصقالبة أو لعل هناك سبباً آخر لا يصل إلى معرفته عقلنا القاصر. وعلى كل حال فإن كلام المسعودي صريح كل الصراحة أن البرجان قوم كانوا مع البلغار وليسوا إياهم، بل هم الذين نعنيهم في كلامنا الآتي. وأما آراء سائر المستشرقين فلا حاجة إلى ذكرها لأنه إذا كان مقدموهم وزعماؤهم على هذا التأويل فلا تبعد تأويل من جاء بعدهم وأخذ عنهم بعداً يذكر ومن ثم تكون آراؤهم منحصرة في ثلاثة تآويل: فالأغلب يذهب إلى أنهم والبلغار جيل ومنهم من يقول بأن البرجان في بعض المواطن تفيد البرجون أو البرغونيين والطائفة الأخرى تبقي اللفظة على وجهها لأنها لم ترها موافقة لمعنى البلغار. على أن هناك مذهباً رابعاً بل وخامساً لا ينسب أو ينسبان إلى واحد من المستشرقين بل إلى عالم جليل من علماء الأتراك ولغوييهم أريد به عاصم افندي صاحب الاوقيانوس

ومترجم القاموس فإنه يظن أن البرجان تعريب بوجاق ويرجح عليه كون اللفظة تعريب بغدان وكلا اللفظين وإن كانا يتقاربان في الكتابة إلا أنهما يبتعدان كل الابتعاد في النطق والتلفظ هذا فضلاً عن أن إبدال الحروف وسننه لا توافق كل الموافقة هذا التصحيف البعيد الوقوع إلا بتكلف وتعمل واعنات لا إعنات وراءه. 4_خاتمة النبذة وفيها ذكر رأينا من قرأ بترو وتدبر ما كتبناه إلى هنا وأنعم النظر في الشواهد التي نقلناها عن كتبة العرب على اختلاف عصورهم يحكم حكماً باتاً بأن البرجان غير البلغار وبالعكس وإليك خلاصة ما قاله العرب عنهم مجموعة هنا: البرجان جيل من الناس بلادهم غائصة في جهة الشمال في قصر النهار إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة، وبالعكس، وأهلها مجوس طغاة بغاة قساة وسيرهم منقطعة عنا لبعدهم وجفاء طباعهم، وقد تنصروا في عصور النصرانية الأولى بعد أن غادروا بلادهم وأقاموا بجوار البلغار من جهة وبقرب الصقالبة من الجهة الأخرى وكانوا تارة مهادنين للبلغار ومواليهم ومحالفيهم وطوراً أعداءهم وهاجمين عليهم وغازين إياهم، شأن الجار للجار، فهذا كله لا يصح إلى على الأمة المعروفة عن الافرنج باسم ويقال فيها عندهم كما أن العرب أخذوا هذه اللفظة عن اليونان وهم يكتبون الفاءالفارسية المثلثة الفوقية باء موحدة تحتية سهل سبب تعاقب الفاء والباء، والكلمة هي في الأصل ومعناها المنفي أو الآفاق ثم توهموا فيها الأفراد كما هو الأمر حقيقة فجمعوها على فعلان فقالوا فيها برجاناً كما قالوا في جمع ظهر ظهراناً. والبرجان على التحقيق قوم افاقون أصل أغلبهم من اسكنديناوية ثم انضم إليهم أناس آخرون من عناصر أخرى كالروس والصقالبة والأبر والسرب والبلغار فاجتمع منهم أمة قائمة بنفسها قاتلها الألمانيون فافنوها عن آخرها. هذا ما ظهر لنا على وجه التحقيق بعد أن طالعنا عدة مؤلفات عربية وافرنجية وبعد أن وقفنا على آراء بوغودين وجد عونوف وكستوماروف وهوفائسكي وآمي بوه وكانتس وليجه ودلافلاي وغيرهم. وإن كان لواحد من القراء ما يهدم رأينا بمعول براهينه فليأتنا به ونحن له من أعظم

الشاكرين لأن غايتنا البحث عن الحقيقة لا التمسك برأينا فمتى ما رأينا وجهها الصبيح نسير للحال بضيائه، وفقنا الله إلى ما به كل خير بغداد: ساتسنا.

الفتوى في الإسلام

الفتوى في الإسلام تتمة ما ورد في الجزئين الماضيين حاجة المفتين إلى معرفة العلوم الرياضية إن هذه العلوم الجليلة - الرياضية - كان عني بها من سلفنا وأئمتنا من لا يزال اسمه كالبدر في السماوات وعمه وآثاره مرجعاً لحل العويصات مثل الحافظ بن حيان صاحب الصحيح وحجة الإسلام الغزالي وفخر الدين الرازي وولي الدين ابن خلدون والإمام ابن رشد وسيف الدين الآمدي والحرالي وابن عبد ربه وابن الصلاح وأبي الصلت الداني الأندلسي والرشيد بن الزبير الأسواني والمبشر بن فاتك الأموي والشيخ السويد والفخر الفارسي والقطب المصري والموفق عبد اللطيف البغدادي وابن البيطار وأفضل الدين الخونجي وشمس الدين الأصفهاني وابن النفيس والقطب الرازي والسيد الشريف الجرجاني وسعد الدين التفتازاني وبدر الدين ابن جماعة وقاضي القضاة الهروي وعلاء الدين البخاري وشهاب الدين ابن المجدي والتقي السبكي ومن لا يحصى من الأئمة كما تراه في طبقات الحكماء وفي حسن المحاضرة للسيوطي وسواهما من تواريخ الأعلام ووفيات الأعيان وكثر من كان فيهم من القضاة والحفاظ والرواة والمتكلمين والمفتين العدول الثقات ولو ضم إليهم غيرهم لبلغ مجلدات كل من عني بهذه العلوم - الرياضية - علم مسيس الحاجة إليها وأدرك موضع الكمال منها فراح بضرب منها بسهم ويخوض منها في بحر. تخلل كتب الفقه ما لا يحصى من فروع هذه العلوم وكم توقف القضاء والافتاء في النوازل على الإلمام بهذه الفنون. أليس تحرير سمت القبلة يتوقف على معرفة أصول فن الميقات وكذا تحرير أوقات الصلوات في البلاد على معرفة عروضها وأطوالها المقررة في علمها. وكذلك حسم المنازعات في مساحة قطع الأرض أو مقادير السقيا من الأنهار أو الدمن يتوقف على فن الهندسة والمقاييس. وهكذا التقاضي في وقف على بلد من بلاد دولة من الدول معينة ارتيب في كون تلك البلد من حوزتها أو حدودها يتوقف على علم الجغرافيا (تقويم البلدان) فمنه يعلم دخولها في شرط الواقف أو عدم دخولها.

وهكذا أفتى من المحققين غير واحد أن لمن له معرفة بعلم هيئة الفلك أن يعمل بحسابه في صوم رمضان والفطر منه بل أفتى تقي الدين السبكي لما كان قاضي القضاة بدمشق في رسالة سماها (العلم المنشور في إثبات الشهور) إن من شهد برؤية الهلال في رمضان أو ذي الحجة مثلاً ودل الحساب على أنه لا تمكن رؤيته أن تلك الشهادة ترد (قال) لأنه أقوى من الريبة لأنه مستحيل عادة، وبين رحمه الله في هذه الرسالة ما يجب على القاضي من التثبت في ذلك وما ينبغي له من الإلمام بعلم الهيئة والميقات أو تقليد من يثق به في ذلك ليكون على بصيرة مما يقبل من الشهادة في ذلك أو يرد. ورسالته هذه من أنفس الرسائل المضنون بها. وبالجملة فحاجيات الفنون الرياضية في الأقضية والأحكام وفي العبادات والمعاملات أوسع من أن يدخلها الحصر ولا غنى للقاضي والمفتي عن الإلمام بها كما أوضحنا. تحري المفتي في مسائل الطلاق المجمع عليه والأقوى دليلاً مما يجب على كل مفت - بمعنييه الخاص والعام - أن يتحرى ويتروى ويحتاط في مسائل الطلاق ما أجمع على وقوعه أو قوى الدليل فيه معقولاً أو منقولاً وأما التسرع بالفتوى بحل العصمة لمجرد قول غير مجمع عليه أو المدرك في سواه أو قول الصحب والتابعين رضوان الله عليهم على خلافه - هذا التسرع من الأمور التي جرت الويلات على كثير من العائلات وكم أفضت إلى التحيل بما لا يرضاه الشارع ولا يلتقي مع أصول ملته السمحاء، ومن العجيب أن صور الحلف بالطلاق وأنواع التعاليق فيه التي أفردت لها تآليف خاصة وأفعمت بطون الأسفار لا ترى منها مسألة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا واقعة مأثورة عن الصحب رضوان الله عليهم لأنها مما حدثت بعد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في بعض فتاويه لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق والعتاق والتحليف باسم الله وصدقة المال وقيل كان معها التحليف بالحج تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان وتكلموا في بعضها على ذلك فمنهم من قال إذا حنث بها لزمه ما التزمه ومنهم من قال لا يلزمه إلا الطلاق والعتاق ومنهم من قال بل هذا من جنس إيمان أهل الشرك لا يلزم بها شيء ومنهم من قال بل هي من ايمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر ايمان المسلمين واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس

عن الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة (قال) كما بسط في موضع آخر. وبالجملة فأهم مسائل الطلاق الآن مسألة الحلف به وبالحرام، والتعليق عليه، وطلاق السكران، وطلاق الغضبان، وجمع الثلاث في كلمة دفعة واحدة، والطلاق في الحيض، ويندرج تحت كل صور شتى يرى الواقف على مذاهب السلف فيها أقوالاً وفتاوى عديدة وقد أسلفنا ما اتفق عليه كلام المحققين من وجوب التحري في المسائل المختلف فيها وبذل الوسع في مسألة القولين لترجيح أحدهما. ومما يعين المفتي على الترجيح الصحيح مراجعته الكتب التي جمعت أقوال السلف في هذه المسائل وهي المحلى لابن حزم وفتاوى ابن تيمية وكتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل له أيضاً وإغاثة اللهفان الكبرى لابن القيم وإغاثة اللهفان الصغرى في طلاق الغضبان لابن القيم أيضاً وزاد المعاد له أيضاً وكذلك مراجعة كتب النوازل في فقه المالكية ومطولات كتب أصحاب الأئمة نفعنا المولى بعلومهم فالواقف عليها يجد من سماحة الإسلام ويسر الدين ورفع الحرج في هذا الباب ما يجعله كله السنة تنطق بحمده تعالى على هذه الرحمة. حكم تولية طالب الإفتاء هذا الحكم يعلم بالأولى مما ذكروه في القضاء ومن أحسن ما كتب فيه ما قاله الإمام الماوردي - من كبار أئمة الشافعية - في كتابه الأحكام السلطانية وعبارته: فأما طلب القضاء وخطبة الولاة عليه فإن كان من غير أهل الاجتهاد فيه كان تعرضه لطلبه محظوراً وصار بالطلب مجروحاً. وإن كان من أهله على الصفة التي يجوز معها نظره فله في طلبه ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره فيخطب القضاء دفعاً لمن لا يستحقه ليكون فيمن هو بالقضاء أحق فهذا سائغ لما تضمنه من دفع منكر ثم ينظر فإن كان أكثر قصده إزالة غير المستحق كان مأجورا وإن كان أكثره اختصاصه بالنظر فيه كان مباحاً. (والحالة الثانية) أن يكون القضاء في مستحقه ومن هو أهله ويريد أن يعزله عنه إما لعداوة بينهما وإما ليجر بالقضاء إلى نفسه نفعاً فهذا الطلب محظور وهو بهذا الطلب مجروح. (والحال الثالثة) أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال عليه فيراعي حاله في

طلبه فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء المستحق في بيت المال كان طلبه مباحاً وإن كان رغبة في إقامة الحق وخوفه أن يتعرض له غير مستحق كان طلبه مستحباً فإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة فقد اختلف في كراهية ذلك مع الاتفاق على جوازه فكرهته طائفة لأن طلب المباهاة والمنزلة في الدنيا مكروه قال الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين. وذهبت طائفة أخرى إلى أن طلبه لذلك غير مكروه لأن طلب المنزلة مما أبيح وقد رغب نبي الله يوسف عليه السلام إلى فرعون في الولاية فقال اجعلني على خزائن الأرض اتي حفيظ عليم فطلب الولاية ووصف نفسه بما يستحقها به من قوله اني حفيظ عليم وفيه تأويلان (أحدهما) حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (والثاني) أنه حفيظ للحساب عليم بالألسن وهذا قول اسحق بن سفيان وخرج هذا القول عن حد التزكية لنفسه والمدح لها لأنه كان لسبب دعا إليه انتهى. اشتراط علم المولي بأهلية من يوليه لصحة التولية قال الإمام الماوردي: تمام الولاية معتبر بأربعة شروط (أحدها) معرفة المولي للمولى بأنه على الصفة التي يجوز أن يولى معها فإن لم يعلم أنه على الصفة التي تجوز معها تلك الولاية لم يصح تقليده (والشرط الثاني) معرفة المولي بما عليه المولى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التي يصير بها مستحقاً لها وأنه قد تقلدها وصار مستحقاً للاستنابة فيها ثم ذكر تتمة الشروط في تولية القضاء مما يدل على اعتبارها فيما هو دون تولية القضاء من الافتاء والتدريس والوعظ والإرشاد والخطابة والإمامة بالأولى ولله در المستوعر الأكبر في قوله: وما سقطت يوماً من الدهر أمة ... من الذل إلا أن يسود دميمها إذا ساد فيها بعد ذل لئيمها ... تصدى لها ذل وقد اديمها وما قادها للخير إلا مجرب ... عليم بإقبال الأمور كريمها وما كل ذي لب يعاش بفضله ... ولكن لتدبير الأمور حكيمها وبالجملة فإعطاء كل ذي حق حقه ووضع الأشياء في مواضعها وتفويض الأعمال للقادرين عليها مما يوجب صيانة الحق ويشيد بناء العدل ويحفظ نظام الأمور من الخلل، ويشفي

نفوس الأمة من العلل، وهذا مما تحكم به بداهة العقل وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السموات والأرض وثبت بها نظام كل موجود، وكل من تتبع تواريخ الأمم وكان بصير القلب علم أنه ما انقلب عرش مجدها إلا لتفويض الاعمال لمن لا يحسن القيام عليها ويض الأشياء في غير مواضعها إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. حكم الاشتراط في الفتوى أن تكون على مذهب معين يستفاد هذا مما أوضحه الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية في القضاء (قال): ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به. وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كا ن أنفى للتهمى وأرضى للخصوم (قال الماوردي) وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق. ثم قال: فلو شرط المولي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين أحدهما أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام فهذا شرط باطل سواء كان موافقاً لمذهب المولي أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً سواء تضمن أمراً أو نهياً، ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه. فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق تصح الولاية ويبطل الشرط ثم ذكر الضرب الثاني وفصل فيه فانظره وقال الإمام أبو زيد الدبوسي - من أكابر أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله - في كتاب

تقويم الأدلة في أواخر باب الاستحسان: وكان الناس في الصدر الأول أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين يبنون أمورهم على الحجة فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصح بالحجة فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة ثم يخالفه بقول علي رضي الله عنه في مسألة أخرى، وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم وافقوه مرة وخالفوه أخرى على حسب ما تتضح لهم الحجة، لم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويا بل النسبة كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا قروناً اثنى عليهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم بالخير فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم فلما ذهب التقوى من عامة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم فصار بعضهم حنفياً وبعضهم مالكياً وبعضهم شافعياً ينصرون الحجة بالرجال ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب ثم كل قرن اتبع عليه كيفما أصابه بلا تمييز حتى تبدلت السنن بالبدع فضل الحق بين الهوى كلام الإمام أبي زيد وللبحث مقدمة مدهشة فليرجع إليها وقد نقل نحواً من ذلك شيخ الصوفية محيي الدين ابن عربي في الباب الثامن عشر وثلثمائة من الفتوحات المكية في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية بالأغراض النفسية عافانا الله وإياك من ذلك فليتدبر من يحب الإنصاف. الحسبة على المفتين وأمثالهم قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتوعده بالعقوبة إن عاد، وطريق الأمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم انتهى. وقال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: وإذا وجد - المحتسب - من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف أنكر عليه التصدي لما هو ليس من أهله وأظهر أمره لئلا يغتر به. وقال ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم عاص قال أبو الفرج ابن الجوزي: ويلزم ولي الأمر منعهم وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو

يطب الناس بل هؤلاء أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين قال وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: اجعلت محتسباً على الفتوى: فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب انتهى. دلالة العالم للمستفتي على غيره قال ابن القيم: هذا موضع خطر جداً فلينظر الرجل إلى من يدل عليه وليتق الله فإنه إما معين على الإثم والعدوان وإما معين على البر والتقوى وقد سأل الحافظ أبو داود - صاحب السنن - الإمام أحمد عن رجل يسأله عن مسألة فيدله على من يسأله فقال: إذا كان يعني الذي أرشده إليه متبعاً ويفتي بالسنة: وذكر بعد ورقات أنه إذا علم أن السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذاً لغرضه لا تعبداً لله بأداء حقه فلا يسعه أن يدله على غرضه أين كان بل أن علم المفتي فيها نصاً عن الله ورسوله فلا يسعه تركه إلى غرض السائل وإن كانت من المسائل الاجتهادية ولم يترجح له قول لم يسغ له أن يترجح لغرض السائل وهذه المسألة جديرة بالمحافظة عليها وليرجع إلى تتمتها في كلامه. هل يقول المفتي في المسألة قولان ونوادر في ذلك قال الإمام ابن القيم في الأعلام: لا يجوز للمفتي تخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال متضمناً لفصل الخطاب ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل: وكتبه فلان: وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلي على حديث عائشة. وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال: أما أهل الايثار فيخرجون المال كله وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد. قال أبو محمد ابن حزم وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب هو: جوابي فيها مثل جواب الشيخ، فقدر أن مفتيين اختلفا في جواب فكتب

تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له أنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا. قال ابن القيم: وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى وهو مقدم في مذهبه وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب: يجوز كذا أو يصح كذا أو ينعقد كذا بشرطه، فأرسل إليه يقول: فأتينا فتاوى منك فيها: يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه نحن لا نعلم شرطه فإما أن تبين شرطه وإما أن لا تكتب ذلك قال وسمعت شيخنا - ابن تيمية - يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط وهذا ليس بعلم ولا يفيد سوى حيرة السائل وتنكده. (وكذلك) قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم: قال فياسبحان الله: لو كان الحاكم شريحا وأشباهه لما كان مرد أحكام الله ورسوله إلى رأيه فضلاً عن حكام زماننا والله المستعان. وسئل بعضهم عن مسألة فقال: فيها خلاف: فقيل: كيف يعمل المفتي (فقال) يختار له القاضي أحد المذهبين. قال عمرو بن الصلاح كنت عند أبي السعادات ابن الأثير الجزري فحكى لي عن بعض المفتين أنه سئل عن مسألة فقال: فيها قولان فأخذ يزري عليه وقال: هذا حيد عن الفتوى ولم يخلص السائل من عمايته ولم يأت بالمطلوب، وللبحث تتمة فليرجع إليه في كلامه رحمه الله. أجناس الفتيا التي ترد على المفتين قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: المفتي إذا سئل عن مسألة فإما أن يكون قصد السائل فيها معرفة حكم الله ورسوله ليس إلا، وإما أن يكون قصده معرفة ما قاله الإمام الذي شهر المفتي نفسه باتباعه وتقليده دون غيره من الأئمة، وإما أن يكون مقصود، معرفة ما ترجح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه وأمانته فهو يرضى بتقليده هو وليس له غرض في قول أمام بعينه، فهذه أجناس الفتيا التي ترد على المفتين. فغرض المفتي في القسم الأول أن يجيب بحكم الله ورسوله إذا عرفه وتيقنه لا يسعه غير ذلك. أما في القسم الثاني فإذا عرف قول الإمام بنفسه وسعه أن يخبر به ولا يحل له أن ينسب

إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصاً عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير منهم يخرج على فتاويهم، وكثير منهم أفتوا به بلفظه أو بمعناه. فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقيناً أنه قوله ومذهبه فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدي الله تعالى. وأما القسم الثالث فإنه يسعه أن يخبر المستفتي بما عنده في ذلك مما يغلب على ظنه أنه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه ومع هذا فلا يلزم المستفتي الأخذ بقوله وغايته أنه يسوغ له الأخذ به، فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها فإن الدين دين الله والله سبحانه لا بد سائله عن كل ما أفتى به والله المستعان. ولا يخفى أن في القسم الأول ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص بل هو اللازم ما أمكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام وقد كان هو عصمة الصحابة واصلهم الذي يرجعون إليه وقد أسهب في ذلك بما لا يستغنى عنه فليراجع. استعانة المفتي بمراجعة كتب المذاهب واختلاف الأئمة في جمع الجوامع وشرحه ونرى أن الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة والسفيانيين الثوري وابن عيينة وأحمد ابن حنبل والاوزاعي واسحق ابن راهويه وداود الظاهري وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في العقائد وغيرها وقال الشعراني في الميزان وقد أجمعوا على أنه لا يسمى أحد عالماً إلا أن بحث عن منازع أقوال العلماء وعرف من أين أخذوها من الكتاب والسنة: وقال إن الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها كالفروع والأغصان وقال إن الشريعة المطهرة جاءت شريعة سمحة واسعة شاملة قابلة لسائر أقوال أئمة الهدى من هذه الأمة المحمدية وأن كلا منهم فيما هو عليه في نفسه على بصيرة من أمره وعلى صراط مستقيم وأن اختلافهم إنما هو رحمة بالأمة وقال نقلاً عن الإمام الزركشي في آخر كتاب القواعد له ما مثاله: إن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كابي محمد الجويني وإضرابه فإنه

صنف كتابه المحيط ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين انتهى ثم قال الشعراني، وقد بلغنا أنه كان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديريني وشيخ الإسلام عز الدين ابن جماعة المقدسي والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البرلسي والشيخ علي النبتيتي الضرير، ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به انتهى وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة إمام الحرمين ما مثاله والإمام لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي لا سيما في البرهان وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده: وذكر في ترجمة أبيه الجويني أنه ألف كتاباً سماه المحيط لم يتقيد فيه بمذهب وأنه التزم أن يقف على مورد الأحاديث لا يتعداها ويتجنب جانب العصبية للمذاهب: كما قدمه الشعراني، وذكر في ترجمة ابن جرير أن المحمديين الأربعة - ابن جرير وابن خزيمة وابن نصر وابن المنذر كانوا يذهبون مع اجتهادهم المطلق وكان كل منهم مجتهداً مطلقاً لا يقلد أحداً ولهم من الاختيارات ما دونه السبكي في تراجمهم وهذا باب يطول استقصاؤه وقد عد السيوطي في حسن المحاضرة من المجتهدين في مصر وحدها ما أضاف على السبعين فيكيف بغيرها وكل من هؤلاء إنما كان يفتي بما يؤديه اجتهاده وكان يتفق لكثير من هؤلاء وأمثالهم من جمع الكتب المنوعة للاستفادة بما فيها ما يدهش وقد حكى السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام عبد السلام ابن بندار أنه دخل إلى بغداد من مصر ومما معه عشرة جمال عليها كتب بالخطوط المنسوبة في فنون العلم وقال الشعراني أيضاً: إن كل مقلد اطلع على عين الشريعة المطهرة - أدلتها - لا يؤمر بالتقيد بمذهب واحد وربما لزم المذهب الأحوط في الدين مبالغة منه في الطاعة، وإلى نحو ما ذكرناه أشار الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله، ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فعلى الرأس والعين وما جاء عن أصحابه تخيرنا وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال، ثم قال إذا علمت ذلك فيقال لكل مقلد امتنع عن العمل بقول غير إمامه في مضايق الأحوال امتناعك هذا تعنت لا ورع لإنك تقول لنا أنك تعتقد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم لاغتراف مذاهبهم من

عين الشريعة ثم قال وكان الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى يقول: لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه وما ذلك إلا لأن كل مجتهد مصيب، وكان الزناتي من أئمة المالكية يقول: يجوز تقليد كل من أهل المذاهب في النوازل، وقد أطال الشعراني في هذا البحث وأجاد والقصد أن توسع المفتي في مراجعة مذاهب الأئمة وأقوالهم مما يعينه على الأقوى والأرجح في النازلة، إذ ليس الحق وقفا على مذهب أو كتاب وبالجملة فلا سبيل للوقوف على الضالة المنشودة إلا بتتبع مطاوي الكتب وخبايا الأسفار، وبمقدار رفع الهمة في ذلك بمقدار تنور الأفكار، قال العلامة العطار في حواشيه على شرح جمع الجوامع من تأمل ما ذكره من تصدى لتراجم الأئمة الأعلام علم أنهم كانوا مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير الإسلام قال فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبهاً أوردوها على الملة الإسلامية لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص التوراة وبقية الكتب السماوية حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها عن ظهر قلب ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات، ثم قال ومن نظر فيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئاً من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم نكررها طول العمر ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلصنا عنه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة وهكذا فصار العذر أقبح من الذنب، وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساوياً، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة

الأدب، وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان عند ذلك تقوم القيامة وتكثر القالة ويتكدر المجلس وتمتلئ القلوب بالشحناء وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال أن الشيخ مستغرق أو يهذو بما تمجه الاسماع، وتنفر عنه الطباع. وقالوا سكرنا بحب الآلة ... وما أسكر القوم إلا القصع فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظه ببغداد مافي الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه وهذه نفثة مصدور فنسأل الله السلامة واللطف كلام العطار وموضع الاستشهاد منه تأسفه على الاقتصار على ما في الأيدي من الأسفار مع أن الدواء الناجع هو التنقيب عما خبأته أيدي السلف من جواهر العلم ونفائس الفوائد وبالله التوفيق. أعراض المفتي عن المقلد الخصم المقلد هو الذي لا يصل فهمه إلى درك الدليل أو لا يريد أن يصل، أقعدته الفطرة عن اللحاق بأولي العلم، أو قنع بالتخلف عن السباق مع إبطال النظر وأقطاب الفهم، فلما ماتت قوته النظرية كان قصاراه أن يقف مع قول مفتيه، ويجرع من الكاس الذي يسقيه، فإذا تحكك بالدليل، وأخذ يخوض مع الإبطال في القال والقيل، دل على تطفله، وفضوله وتمحله وتعديه طوره، ومجاوزته قدره فلهذا يجب الإعراض عنه، وأن تحجب مخدرات المناظرة منه ولما ابتلي الأئمة قديماً بالمقلدة المماحكين، وضعوا لدرء جدلهم قوانين، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وأرضاه في كتابه فيصل التفرقة وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ولو كان أهلاً له كان مستتبعاً لا تابعاً وإماماً لا مأموماً، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر وقال رضي الله عنه في إحياء علوم الدين في الباب الرابع من أبواب العلم في مباحث المناظرة وتلبيس المناظرين ما مثاله: اعلم أن هؤلاء قد يستدرجون الناس إلى ذلك بأن غرضنا من المناظرات المباحثة عن الحق ليتضح فإن الحق مطلوب والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر هكذا كانت عادة الصحابة رضي الله عنهم في مشاوراتهم ثم

قال ويطلعك على هذا التلبيس ما أذكره وهو أن التعاون على طلب الحق من الدين ولكن له شروط وعلامات ثمان (إلى أن قال) الثالث أن يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له كما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم والأئمة فأما من ليس له رتبة الاجتهاد وإنما يفتي فيما يسأل عنه نافلا عن مذهب صاحبه فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه فأي فائدة له في المناظرة ومذهبه معلوم وما يشكل عليه يقول لعل عند صاحب مذهبي جواباً عن هذا فإنى لست مستقلاً بالاجتهاد. وقال رضي الله عنه أيضاً في كتاب آداب تلاوة القرآن في أسباب موانع الفهم الأربعة ما مثاله في الثاني (ثانيها) أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك فيرى أن ذلك من غرور الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب: وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وأتقوها إليهم انتهى. وما أجمل قول الجاحظ عليه الرحمة: التقليد مرغوب عنه في حجة العقل منهي عنه في القرآن، نصراؤه قد عكسوا الأمور كما ترى ونقضوا العادات وذلك أنا لا نشك أن من نظر وبحث وقابل ووزن أحق بالتبين وأولى بالحجة انتهى. ما على المفتي إذا عرف الحق قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان، اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال. وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه. وإما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه

مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذان اخطأ كما في القبلة. وأما أن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً وهؤلاء من جنس مانع الزكاة ومن عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فإن ذلك لما أحب المال حباً منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبداً له وكذلك هؤلاء فيكون فيه شرك أصغر ولهم من الوعيد بحسب ذلك وفي الحديث أن يسير الرياء شرك كلامه عليه الرحمة. تورع المفتي عن التضليل والتكفير مما يزين العالم كبر عقله وشدة رزانته وحصافة لبه، ومما يشينه ويزريه طيشه وحمقه وخفته وتسرعه فتراه بذلك يهوي من حالق وإن ناطح الجوزاء بعرفانه بحق أو بغير حق. فبحفظ اللسان صيانة الإنسان وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. قال حجة الإسلام الغزالي في فيصل التفرقة، إذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فاعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس ولو ينكث من الأيدي من لا يدرى لقل الخلاف بين الخلق. (وقال) رضي الله عنه أيضاً، واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلاً إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر (ثم قال) ولو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة أصلاً فصار كون الإجماع مختلفاً فيه. وقال أيضاً ولا يلزم كفر المأولين ما داموا يلازمون قانون التأويل وكيف يلزم الكفر بالتأويل وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه. وقال أيضاً كأن كل واحد لا يرضى بما ذكره الخصم ولا يراه دليلاً قاطعاً وكيفما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه. وكتابه رضي الله عنه هذا فيصل التفرقة مما يهم كل نبيه مراجعته ومطالعته فلم يؤلف في موضوعه مثله.

وقال الإمام ابن حزم في الفصل في الكلام فيمن يكفر ولا يكفر ما مثاله: اختلف الناس في هذا الباب إلى أن قال وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عنهم إلى أن قال والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا إلى أن قال وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً. وتتمة البحث من نفائس العلم فليرجع إليها. اتقاء المفتي التسرع في دعوى الإجماع كثيراً ما يمر بمطالع كتب الفقه دعوى الإجماع في بعض المسائل أو النوازل ولا سند له إلا عدم العلم بالمخالف فيأتي سير التقليد فينقله على اعتقاد أنه مجمع عليه مع أن الواجب عليه أما التنقيب جهده في سائر بطون الكتب الفروعية وأسفار الخلاف حتى يسقط على الحقيقة في دعوى الإجماع أو يحذف كلمة الإجماع من نقله وعزوه فقد ظهر فيما يحصى من المسائل المدعى فيها الإجماع أن وراءها خلافاً في مذاهب أخرى بل في كتب منتشرة قد لا تخلو خزانة عالم منها، وما ألطف قول شمس الدين الأصفهاني - من كبار أئمة الشافعية - في شرح الحصول، الحق تعذر الاطلاع على الإجماع إلا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة وأما الآن ويعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعلم به قال وهو اختيار الإمام أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية قال والمنصف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوباً في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو ينقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة وأما من بعدهم فلا انتهي كلام الأصفهاني. ووجه الاتقاء والتورع في دعوى الإجماع في بعض الأحكام هو أن الإجماع - على ما عرفه الأصوليون - اجتماع علماء المسلمين على حكم من الأحكام: ولذا قال شيخ الإسلام

تقي الدين ابن تيمية: وأما قول بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعاً باتفاق المسلمين بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروهم إذا رأوا قولاً في الكتاب أو السنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب والسنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك انتهى وفي معالم الأصول، إذا أفتى جماعة ولم يعلم لهم مخالف فليس إجماعاً قطعاً إذ لا يعلم أن الباقي موافقون ولا يكفي عدم علم خلافهم فإن الإجماع هو الوفاق لا عدم علم الخلاف انتهى. وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد على أمر واحد اتفاقاً بلفظ صريح ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى انقراض العصر عند قوم ومن هذا علم حد الإجماع (وقال أيضاً) وإنما يعرف ذلك - مواضع الإجماع - من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف والإجماع للسلف ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين إذ لا يحصل تواتر الإجماع به (قال) وقد صنف أبو بكر الفارسي رحمه الله كتاباً في مسائل الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض تلك المسائل (قال) فإذن من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذب فلا يمكن تكفيره والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير انتهى كلام حجة الإسلام نفعنا المولى بعلومه. المفتي والعالم بإزاء ما ينبزه بالألقاب إن العالم لما أخذ الله عليه الصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا يخاف في الله لومة لائم كان معرضاً من أعداء أنفسهم وعبيد أهوائهم للشنان والنبز وبالألقاب فتراهم أن وجدوه يميل للنظر في الأدلة على الأحكام والوقوف على مآخذ المذاهب والأقوال وتحري الأقوم والأصلح بدون تعصب لإمام ولا تحزب لآخر نبزوه بالاجتهاد وسموه (مجتهداً) تهكماً مع أنه بذلك لم يقم إلا بواجبه، وإن أبصروا ميله لعلوم الحكمة والرياضيات وتشويقه لاقتطاف ثمارها سموه (طبيعياً) وإن رأوا حثه على البذل والإنفاق في سبيل الله ودعواه الموسرين للعطف على البؤساء لقبوه (اشتراكياً) وإن سمعوه

يتكلم في الزيارة المشروعة وينهى عما أحدث فيها أو يتكلم على أنواع الشرك المقررة في السنة أو يزجر عن الغلو في الصالحين دعوه (وهابياً) إلى غير ذلك من أفانين أقوالهم ونبزهم بالألقاب لكل من لا يمالئهم على ميولهم ولا يسايرهم على أهوائهم، ولهم في كل عصر تلقيب جديد ونبز مبتدع. العالم الحكيم لا يأبه لهذه الألقاب إذا صدع بالحق ولا تحزنه بل يعيرها إذناً صما لأنه يجري على ما يوجبه دينه، ويفرضه عليه يقينه، وهو ما يرضي ربه وخالقه تعالى فإن رضاء الناس غاية لا تدرك وإنى للعاقل إرضاء أهواء متباينة ومنازع متناقضة. ما ألذَّ الألقاب التي تتنوع على المصلح وهو ساع إلى خير قومه وما أوجب الترحيب بها والابتسام لها فإن أمامه من الأنبياء ووارثيهم ما يعزيه ويسليه وكفى بهم أسوة وما أصدق قول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به الأعودي: رواه البخاري. الثبات على تحمل المشاق والصبر الجميل من الواجبات المحتمة على كل داع إلى حق والصدمات التي يجدها البطل المقدام يجب أن تقابل بثبات الجأش وأن تكون كلما تجددت باعثةً على تجدد القوى ومواصلة العمل والسير ولذلك قرن تعالى في كتابه الحكيم التواصي بالحق بالتواصي بالصبر وصدق الله العظيم. خوض بعض المفتين في التلفيق مسألة التلفيق من غرائب المسائل المحدثة المفرعة على القول بلزوم التمذهب للعاميّ وهوقول لا يعرفه السلف ولا أئمة الخلف وقد اتفقت كلمتهم على أن العامي لا مذهب له ومذهبه مذهب مفتيه. ترى الفقيه من القرون المتأخرة لو سئل عن رجل مسح بعض رأسه أقل من ربعه في وضوئه ثم خرج منه دم وصلى يجيبك بأن صلاته باطلة لأن عبادته ملفقة من مذهبين فخرج منها قول لا يقول به أحد هذا قصارى جوابه في فتواه ومبلغ عمله على دعواه مع أنه لو فرض أنها حدثت في القرون الأولى وسئل عنها مفت سلفي لكان نظره في صحتها أو فسادها إلى الدليل المبيح لها أو الحاظر ولا يمكن أن يتصور أن يقول له: عملك هذا ملفق أو هذا تلفيق وإنما يأمره بالفعل أو بالترك استدلالاً أو استنباطاً فحسب، ولذلك لم

يسمع لفظ التلفيق في كتب الأئمة لا في مواطآتهم ولا في أمهاتهم بل ولا في كتب أصحابهم ولا أصحاب أصحابهم ولا يبعد أن يكون حدوث البحث في التلفيق في القرن الخامس أيام اشتد التعصب والتحزب ودخلت السياسة في التمذهب، واضطر الفقهاء للاعتياش والارتياش إلى التشدد في ذلك والتصلب، فمسألة التلفيق إذن من مسائل الفروع ولا دخل لها في الأصول فإن مسائل الأصول هي مباحثه التي يستمد منها معرفة الاستنباط والاستنتاج مما لأجله سمي الأصول أصولاً فمن أين أن يعد منها التلفيق الذي لم يخطر على بال أحد في القرون الأولى ولا سمع به. اتسع أمر التأليف في القرون المتأخرة وأدخل في كل فن ما ليس منه بل امتلأ مثل الفقه من الفرضيات أضعاف أضعاف الواقعيات فلو وازنت بين أسلوب المتقدم والمتأخر في أي فن لدهشت من تباينهما عجباً فكانت كتب المتقدمين لا تخرج عن موضوع الفن قيد شبر حتى استفحل الأمر في التأليف وجرى من جرائه ما نعاه غير واحد من الحكماء وقد ألم بشيء من ذلك القاضي ابن خلدون في مقدمة تاريخه. والمقام لا يتسع لبسط هذا البحث الذي تتجاذبه أمور عديدة لمعرفة منشأه من اختلاف السياسة ودخول عوائد الأمة الغالبة على المغلوبة قسراً وتبدل المناحي والمطالب في تلقي العلم والتوسل لنيله فاختلط جيد الكتب بغيره وتبدلت العادات بغيرها وصارت المراتب والمناصب وقفاً على هذا السبيل لا تنال بغيره فتبعها ضرورة أمر التأليف فجرى على سنتها ومنهاجها وصار التمذهب أصلاً راسخاً وتعددت لأجله الفرق الإسلامية كل يدعو لإمام ورائده السياسة والسيادة فنشأ ما نشأ وتولد ما تولد مما لا عهد للسلف به بل بينه وبين سيرهم الأول بعد المشرفين برف ذلك كله من دقق في فلسفة التاريخ واستقرأ قواعد الفاتحين وأصول الدول واستكنه رجالها وحلية العصر والمصر في كل مملكة وجيل وقد بسطناه في مقالة خاصة والقصدان التلفيق الذي يبحث عنه المأخرون ينبغي للمفتي إذا استفتي عن مسألة منه أن ينظر إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أو مدركها المعقول منها وإما تسرعه إلى القول بالتلفيق بطلاناً أو قبولاً فعدول عن مهيع السلف على أن ما يسمونه بعد تلفيقاً بقطع النظر عما ذكرنا في شأنه ربما رجع إلى نوع الرخص التي يحب الله أن تؤتى وللشيخ مرعي الحنبلي - أحد فقهاء الحنابلة المشاهير - رسالة في جواز التلفيق

للعوام وهي رسالة نفيسة قال: لأن العلماء نصوا على أن العامة ليس لهم مذهب معين (قال) وقد قال غير واحد لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة (قال) والذي أذهب إليه واختاره القول بجواز التقليد في التلفيق لا بقصد تتبع ذلك بل من حيث وقع ذلك اتفاقاً خصوصاً من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك (إلى أن قال) ولا يسع الناس غير هذا ويؤيده أنه في عصر الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم مع كثرة مذاهبهم وتباينهم لم ينقل عن أحد منهم أنه قال لمن استفتاه الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين فأكثر بل كل من سئل منهم عن مسألة أفتى السائل بما يراه مجيزاً له العمل من غير فحص ولا تفصيل ولو كان ذلك لازماً لما أهملوه خصوصاً مع كثرة تباين أقوالهم انتهى. وقال العلامة الدسوقي - من فقهاء المالكية في مصر - في حواشيه على شرح خليل في بحث الفتوى من خطبة الكتاب ما مثاله وفي كتاب الشبرخيتي امتناع التلفيق والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة (قال الدسوقي) وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت انتهى. وقال ابن الهمام في فتح القدير في كتاب أدب القاضي: المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء ثم قال: وأنا لا أدري ما يمنع هذا أي تتبع الرخص وأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته انتهى. نقول هذا إقناعاً لمن يهوله أمر التلفيق ويزعم أن الحكم بجوازه شيء نكر مع أن أمامه من الأفاضل ممن نكبرهم من قال بجوازه لا بل من صححه ورجحه أما نحن فإنا نرى الرجوع في مسائله إلى سنة السلف والأئمة في مثلها كما أوضحناه وبالله التوفيق. ما يعمل المفتي إذا فحص أقوال الأئمة ذكر أبو عمر محمد بن يوسف الكندي في كتاب القضاة الذين ولوا قضاء مصر في تولية قضاء مصر لإبراهيم بن الجراح سنة 304 ما مثاله: عن عمر بن خالد قال: ما صحبت

أحداً من القضاة كإبراهيم بن الجراح كنت إذا عملت له المحضر قرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ويرى فيه رأيه فإذا أراد أن يقضي به دفعه لي لأنشئ منه سجلاً فأجد في ظهره قال أبو حنيفة كذا وفي سطر قال ابن ليلى كذا وفي سطر آخر قال أبو يوسف كذا وقال مالك كذا ثم أجد على سطر منها علامة له كالخطة فاعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ المسجل عليه انتهى وهكذا حق المفتي أن ينظر في الواقعة إلى أقوال الأئمة ويفحصها وينعم النظر حتى إذا استبان له قوة أحدها توكل على الله تعالى وأفتى به والأئمة بأجمعهم لم يغادروا في النوازل بذل الواسع حتى اجتمع من أقوالهم الكثير الطيب ووجد فيه الأمثل فالأمثل وأعني بالنوازل ما تجدد على عهدهم وأما المأثور فما كان عن الصحب رضوان الله عنهم فكذلك يتخير فيه الأمثل وما كان عن الحضرة النبوية فهناك فصل الخطاب والله الموفق. تتمة الآداب في هذا الباب نختم هذا البحث الجليل بما جاء في الإقناع وشرحه في كتاب القضاة والفتيا مما لم نذكره قبل وعبارته مع شرحه. يحرم الحكم والفتيا بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعاً. ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً قاله الشيخ. وينبغي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم حذراً مما يصورونه في سؤالاتهم لئلا يوقعوه في المكروه. ويحرم تساهل مفتٍ وتقليد معروف به (قال الشيخ): لا يجوز استفتاء إلا من يفتي بعلم أو عدل: ويلزم المفتي تكرير النظر عند تكرار الواقعة وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومفت. وينبغي للمفتي أن يشاور من عنده مما يثق بعلمه إلا أن يكون في ذلك إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى أو مفسدة لبعض الحاضرين فيخفيه إزالة لذلك. ولا يلزم جواب ما لا يحمله السائل لقول علي - كما في البخاري - حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وفي مقدمة مسلم عن ابن مسعود: ما أنت بمحدث

قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. ولا يلزم جواب ما لا نفع فيه لخبر أحمد عن أبن عباس أنه قال عن الصحابة ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وللمفتي قبول هدية لكن لا ليفتيه بما يريده به غيره وإلا حرم قبولها. وللمفتي رد الفتيا إن خاف غائلتها أو كان في البلد مني قوم مقامه وإلا لم يجز له ردها لتعينها عليه (والتعليم كذلك). ومن قوي عنده مذهب غير إمامه لظهور الدليل مع أفتى به وأعلم السائل. ويجوز للمفتي العدول عن جواب المسؤل عنه إلى ما هو أنفع للسائل. وللمفتي أن يدله على عوض ما منعه عنه وأن ينبهه على ما يجب الاحتراز عنه لأن ذلك من قبيل الهدية لدفع المضار. وإذا كان الحكم مستغرباً وطأ قبله ما هو كالمقدمة له. وله الحلف على ثبوت الحكم أحياناً لآية قل أي وأبي أنه الحق وآية فورب السماء والأرض أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون والسنة بذلك كثيرة. وله أن بكذ لك مع جواب من تقدمه بالفتيا إذا علم صواب جوابه فيقول: جوابي كذلك والجواب صحيح وبه أقول. وإذا مثل المفتي عن شرط واقف لم يفت بإلزم العمل به حتى يعلم هل الشرط معمول به في الشرع أو من الشروط التي لا تحل مثل أن يشرط أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها الواقف ويدع المسجد أو يشعل بها قنديلاً أو سرجاً لأن ذلك محرم كما تقدم (لصاحب الإقناع) في الجنائز. ولا يجوز إطلاقه في الفتيا في اسم مشترك إجماعاً بل عليه التفصيل في الجواب، فلو سئل المفتي هل له الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر فلا بد أن يقول: يجوز بعد الفجر الأول لا الثاني. وأرسل الإمام أبو حنيفة إلى أبي يوسف يسأله عمن دفع ثوباً إلى قصار فقصره وجحده هل له أجره إن عاد وسلمه إلى ربه وقال أبو يوسف نعم أو لا أخطأ ففطن أبو يوسف وقال إن قصره قبل جحوده فله الأجرة لأنه قصره لربه أو قصره بعد جحوده لا أجرة له لأنه قصره لنفسه. (وسأل) أبو الطيب الطبري قوماً من أصحابه عن بيع رطل

تمر برطل تمر فقالوا يجوز فخطأهم فقالوا لا فخطأهم فقال: إن تساويا كيلاً جاز. فهذا يوضح خطأهم المطلق في كل ما يحتمل التفصيل. ولا يجوز للمفتي ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه، وإن حسن قصد المفتي في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخلص المستفتي بها من حرج جاز. وللمستفتي العمل بخط المفتي وإن لم يسمع الفتوى من لفظ إذا عرف أنه خطه. وحقيق بالمفتي أن يكثر من هذا الدعاء النبوي اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. هذا ما يسر المولى بفضله جمع من عدة مصنفات، كما يظهر في المزو إليها في الأصل أو التعليقات، والمقام جدير بالعناية، لذوي الدراية، والله ولي الهداية. دمشق: جمال الدين القاسمي

أوغست كونت وفلسفته

أوغست كونت وفلسفته تمهيد نبغ في فرنسا بعد نقض الأوضاع القديمة كثيرون من المفكرين الذين بحثوا في نظريات الاجتماع وفي طليعة هؤلاء النابغين الفيلسوف أغست كونت. وقد اختلف الباحثون في مذهبه على مركزه الفلسفي فوضعه قوم بين دمتر وفوريه وقالوا بوحدةآرائهم مع اعترافهم لكونت برجاحة العقل وتوفر المكتسبات الفنية وجعله آخرون بين هيوم ولابنج وأمثالهما فأخطأ الفريقان مركزه وغرَّ الأولين ما رأوه بين الطرق التي انتهجها الفلاسفة الثلاثة إلى مقاصدهم من التشابه فشغلهم عن ذلك النظر في ضعف الرابطة بين مرامي كونت الباحث في تجديد شروط الاتحاد الاجتماعي ومرامي دمتر وفوريه وانفرد كونت عمن سواه بمبدأه المشهور أن النظام الاجتماعي لا يمكن تغييره إلا إذا جعلت التصورات النظرية في الهيئات الاجتماعية خاضعة لتأثير الفن وأدمجت فيما سواها من المستنبطات البشرية وهذه الخاصة تفسح لكونت مجالاً بين فلاسفة الاجتماع الناشئين في القرن الثامن عشر وتربطه بتورغوي ومونتسكيو وقوندوزوسه الذي كان كونت بدعوة بأبيه الفلسفي وهو تصريح يكفي لإثبات ما نقول. يصعب علينا أن نلخص في هذه الصفحات فلسفة كونت المودعة في ستة مجلدات ضخمة ولا سيما أن كتاب الغرب الذين أجالوا أقلامهم في الموضوع كتوارت ميل وغيره ممن درسوا فلسفة كونت عن كثب وألفوا في انتقادها لم يوضحوا مذهبه إيضاحاً يزيل اللبس والإبهام ويوقف المطالع على حقائقه. ولم يكن بين من كتبوا في هذا المبحث من أوضح لنا كيف اقتبس كونت فلسفته من الرياضيات وما الذي دعاه إلى تقسيم لمعلومات البشرية إلى ستة فروع كبرى وكيف بدأت فلسفته بفكر رياضي فانتهت بفكر اجتماعي. ولا يتسنى لنا أن نفهم حقيقة هذا الفيلسوف إلا إذا درسنا ترجمته فنحن بادئون بها وصائرون إلى مذهبه الفلسفي. ترجمته هو ايزيدور - أغست - ماري - فرانسوا قزاويه كونت ولد في قصبة مون بيليه سنة 1798 وكان والده يجبي الخراج في القصبة المذكورة وبعد أن أتم التحصيل الابتدائي في

مدرستها دخل دار الفنون في باريس فامتاز فيها بعصيانه للقوة الرسمية الحاكمة واحترامه الشديد للكمال الخلقي والفكري وثباته الراسخ في توخي غايته ولم يطل مكثه فيها سوى سنتين رأس بعدهما احتجاجاً على أساتذتها آل إلى إخراجه من المدرسة فعاد إلى موطنه حتى كانت سنة 1816 فأمَّ باريس غير مكترث باعتراض والديه الشديد وأقام فيها يحصل قوته بإلقاء دروس خاصة في الرياضيات وجعل همه تحدي بنيامين فرانكلين الذي كان يدعوه سقراط زمانه في معيشته على أنه امتاز عن جميع الفلاسفة بصلابة العزم والثبات على مبدأه فلم تلوه عنه حياة تبكي تعاسة وشقاء. وضاق به العيش في باريس فحثته النفس بالهجرة إلى أميركا وكان على وشك أن يؤمها لولا صديق ثنى عزمه عن المهاجرة بجملة أوردها في عرض حديث تجاذبا أطرافه عن الفكر العملي في العالم الجديد فقال له صديقه ان لا كرنج (رياضي فرنساوي شهير) لو ذهب إلى أميركا لم يجد عملاً يقوم بأوده سوى مسح الأرضين. فعدل كونت عن السفر وأقام في باريس يعالج الحياة المرة ويتبلغ بثمانين ليرة يتقاضاها راتباً سنوياً من إحدى المدارس التي انتدبه لتعليم الرياضيات حتى سعى له أصدقاؤه بوظيفة تدريس في دار المسيو كازيميريه المشهور فدخلها ووجد هناك أسباب الراحة والهناء غير أن المعيشة لم ترقه لحنينه إلى الحرية التي أضاعها فلم يستقر به المقام أكثر من ثلاثة أسابيع ودع بعدها مضيفيه وعاد إلى حاجته السابقة وقناعته الفطرية وقد يكون الفقر في الشبيبة داعية الشر إلا إذا كان الشاب الفقير متعلماً فتساعده الحاجة حينئذٍ على أن يكون أميل إلى الحقيقة منه إلى الخيال. وسنة 1818 اتصل كوت بهنري دوسان سيمون ابن أخت الدوق دي سان سيمون المشهور وكان في عهده من كبار كتاب المذكرات السياسية فكان لهذا الاتصال تأثير شديد في نظريات كونت الفلسفية. كان سان سيمون يوم لزمه كونت في الستين من عمره ولم يكن ذا شهرة طائرة غير أن غرابة حياته وأحواله الاجتماعية وأفكاره السياسية تستوقف الأنظار فقد قضى الرجل عمره ساعياً بما له من الملكة العقلية الرائعة لتطبيق خيالاته على حقائق الأشياء والتربية الفنية لم يكن لها أقل أثر في هذا الرجل لأنه لم ينشأ عليها ولا شعر بلزومها على أنه كان خبيراً

بالاتحاد الاجتماعي وله في السياسة المثبتة وترقي البشر كثير من الأفكار الخطيرة ولكنه لم ينها عن محاكمة منطقية بل هي أِبه بتخيلات الشعراء. هذا الفيلسوف القديم سحر كونت فلم يستطع أن يفكر في حقيقته إلا بعد أن فارقه حتى أنه لقبه بالممخرق في حديث له بعد أن انقطعت أواصر ودهما ولم يستطع إلا أن يعترف بنفوذه عليه وتأثيره في تربيته الفلسفية واشتدت وطأة التأثير على كونت حتى ناء بها وهنأ نفسه يوم مغادرته سيمون بخلع هذا النير عن عاتقه. وتعرف ما كان للفيلسوف الشيخ من اليد عند كونت من كتاب بعث به الأخير إلى صديق له يقول فه: إن سيمون أراني الخطة الفلسفية التي أسلكها فأنا مطرد السير فيها كل عمري غير ملتفت إلى ورائي وهذا الاعتراف الصريح لا يحط من قدر كونت ولا يناقض أرجحيته العقلية وتفوقه بدرجات على صديقه الشيخ ولا ينقص من قدره أنه أخذ كثيراً من أفكاره التي أقام عليها بناءه الفلسفي من أفكار سيمون المضطربة وخلاصة القول أنه لا يصح أن نعد كونت تلميذاً لسان سيمون ولا مقلداً له وكل ما في الأمر أن الشيخ أوقف صديقه الشاب على نقطتين مهمتين كان لهما الشأن الأكبر في فلسفة الأخير أولاهما أن الحوادث السياسية هي كالحوادث الطبيعية يمكن جمعها وربطها بقوانين مقررة وثانيتهما أن غرض الفلسفة الأصلي البحث في القضاء الاجتماعي فتناول كونت هذا المبدأ وتوسع في بسطه وشرحه توسعاً لم يخطر للشيخ في بال. دامت صحبة الرجلين ست سنوات ثم بدأ بالانحلال لما أوقر كونت من سلطة سيمون الثقلية وما دخل على نفس الشيخ من القهر والحسد لما رأى ميزة الشاب عليه بمداركه ومواهبه وحدثت ثمت حادثة قطعت العلائق التي رثت ووهت وملخصها أن سان سيمون نشر كتاباً في الاجتماع انتحل فيه معظم أفكار كونت لنفسه فغضب الأخير وعاتب صديقه عتاباً مراً ولم يكن سبيل للتوفيق بين الرجلين فكان فراقهما أبدياً. وتزوج كونت سنة 1835 فزاد ذلك في أسباب تعاسته وشاءه لأن أسرته وهي شديدة التعصب للملكية والكاثوليكية أغضبها زواجه المدني فأقلقته باحتجاجها إلا أن ذلك لم يمنعها من الاحتفاء بزوجته وشخص العروسان إلى مون بيليه فأقاما فيها هنيهة سئمت الزوجة فيها عيشة القرية ذات النسق الواحد وبدأ نزاع انتهى بفراق الزوجين كما سيجيء وقد كتب

كونت إلى صديق مخلص في السنة الأولى بعد زواجه يقول: إن الأحزان أغرقتني والهواجس استحوذت عليَّ فاضطررت أن أفادي من سعادتي بجزء إذ لم يكن أعظم أجزائها فهو ألذها وأحلاها. نشوء الأفكار السامية في هذه البيئة الرديئة يحرك في النفوس مواضع الدهشة والإعجاب ويحملها على احترام الفيلسوف الذي كان يقوم على تنشئتها والخطوب المتوالية تفسد نظام حياته وكان الفشل حليفه في كل أعماله فأخفق في إيجاد تلامذة يتلقون أفكاره وآراءه ولم يجبه سوى شخص أضجرته الوحدة فودع أستاذه غير آسف. وفي هذه الأثناء أخذت أفكار الفيلسوف بالتكامل وشرع بنشر مقالات في جريدة المنتج (لوبرودكتور) كان يتقاضى عنها بعض الدريهمات ولما آيس من بث أفكاره بواسطة تلاميذه عمد إلى إلقاء محاضرات وأعلن عن المحاضرة الأولى سنة 1826 راجياً أن يصيب بذلك شهرة وأن يفوز بنفع مادي يستعين به على حاجته وفقره وشجعه أحد أصدقائه على ذلك بقوله: إن كثيرين يبحثون في آرائك وأفكارك غير ذاكريك بشيءٍ فاعلن أنك أنت صاحبها فعمل فيلسوفنا بنصيحته وسمع المحاضرة الأولى رجال من جلة علماء فرنسة ونخبة آدابها. وما كاد طالع السعادة يبسم لكونت ويتحدث الناس باسمه وفضله حتى داهمته الكوارث فمني بنزيف دماغي عقيب المحاضرة الثالثة لأن ثورة أفكاره انعقدت بتأثره لشقائه العائلي فأصيب بمرض عضال عاناه سنة فلما أخذ بالنقه من مرضه فكر فيما آلت إليه حاله وأبصر لتعاسة آخذة بسبله فيئس من الحياة وعول على الانتحار غرقاً في نهر السين ثم عدل عن الانتحار وبدأ يسترجع قواه العقلية والجسدية. وفي هذا الدور التعس عقد لكونت عقد ديني أيضاً غير أن ذلك لم يمحِ شيئاً من اختلال بيته وكان المرض قد أثر فيه تأثيراً شديداً فظهرت عليه إمارات الجنون فقام الفلاسفة من معارضي كونت يقبحون طريقته ويتخذون هذه الحادثة حجة على سخف رأيه وفساد تعليمه ويقولون ليس من العقل في شيءٍ أن يتبع الإنسان مذهب مجنون وهذا تحامل مجرد يقصد منه تضييع تأثيره فقد أصيب نيوتن قبله بمرض دماغي فلم ينقص ذلك شيئاً من حرمته والإعجاب بكتابه المسمى (برنيب) الذي وضعه عقيب ذلك المرض.

وبعد أن استجم كونت قواه عاد سنة 1828 إلى إلقاء المحاضرات ونشر المجلد الأول في دروس الفلسفة الموجبة سنة 1830 بعد تعب كثير وعمل طويل بدأ سنة 1826 ولم يكن عمله في المجلدات الخمسة التي تلته أقل عناء فانه لم يتمكن من نشر المجلد السادس إلى سنة 1842. كانت الاثنتا عشرة سنة التي قضاها الفيلسوف في التأليف سني خير وبركه علمه ذاق في خلالها السعادة المادية لأنه دعي في سنة 1838 إلى امتحان الطلبة الذين يتوافدون من كل صوب إلى كلية باريس وانتدبته مدرستان كبيرتان لتعليم الرياضيات فأصبح دخله السنوي أربعمائة ليرة ولما كان عهد لويس فيليب دعاه المسيو كيزويه رئيس الوزارة ليدرس تاريخ الفنون وقال له إذا كان هناك أربع كراسي لتدريس تاريخ الفلسفة وجب علينا أن نخصص كرسياً على الأقل لظهور العلوم المثبتة وارتقائها فدل الوزير بذلك على ميله للفلسفة الحسية ولولا اشتغاله بما فوق الطبيعة أيضاً لتقدمت في عهده تقدماً باهراً. وفي كتاب أرسله كونت إلى زوجته ما يدل على رقة قلبه وسمو عواطفه فقد قال لها في ذلك الكتاب لا أود أن أصف لك هنا الحبور الذي تفيض نفسي به لما أرى الشاب فاز في امتحانه وقرب من آمال الذهبية أنت تضحكين من ذلك ولكنني لا أتمالك من أن أذرف دموعي. وكان كونت يفكر دائماً في سعادة الآخرين ويسعى إلى منفعتهم بكل سبيل وهذا الاهتمام الدائم حمله على إلقاء الخطب والتدريس في المجتمعات العامة من سنة 1831 - 1848 على ما كان يعترضه من الموانع في هذه السنة حدثت ثورة في باريس أظهر فيها كونت عطفه على المجتمع فقد كان يفضل السجن على الدخول في الفرق الوطنية التي ألفت يومئذٍ ومع أنه لم يدع الناس لحمل السلاح على الملكية فانه لم يقسم لها يمين الإخلاص. ولم يكن كونت يتأثر من مشاهدة الروايات مع أنه كان كثيراً ما ينتاب الملعب فالمفجعات (تراجيدي) في نظره ظواهر مصنعة ليس فيها من الحقيقة إلا ظل لطيف فقل اكتراثه بها وما سواها القصص المضحكة (كوميدي). وقد كتب أحد تلامذته عن أحواله وصفاته الشخصية ما يأتي: دقت ساعة لوكسنبورغ الثامنة وكان صدى صوتها لا يزال يرن في الآذان حين فتح باب

الغرفة ودخل رجل قصير القامة ممتلئ الجسم نظيف الثياب ملتح ممعن في قبض شواربه حتى لم يبق لها ظل وكان يكتسي الأثواب السوداء ويتأنق في لبسه فكلما رأيته تخاله مدعواً وليمة وكانت عقدة رقبته كأن المكواة مرت عليها حديثاً فاقترب الرجل من أريكته المعدة له وراء المنضدة ووضع علبة السعوط أمامه وبعد أن استمد مرتين ومر القلم على الصحيفة ليرى ملته شرع بكتابة الدرس بادئاً فيه بقوله: كنا قلنا أنه في مثلث غير معين كالمثلث أب ج الخ. ودام درسه ثلاثة أرباع الساعة والطلبة يدونون الموضوعات المهمة في مذكراتهم ليمكنوا من مراجعتها عل حده ثم سحب من جيبه دفتراً آخراً فأعاد تلاوة الدرس السابق وظل حتى الساعة التاسعة فتناول حقته ونفض ما على معطفه من السعوط وكانت يده في جيب معطفه وفتح الباب وخرج بسكينة تامة. قلنا آنفاً أنه نشر المجلد الأخير من فلسفته الموجبة سنة 1842 وبينا المرء يتخيل عظم المكافأة التي يجب إسداؤها إلى هذا الفيلسوف على اثنتي عشرة سنة صرفها في الجهد والتعب المضنك يجد أن جزاءه كان تزايد المشكلات والخطوب التي تضيق الصدور تضغط على الفكر ففي تلك السنة تفاقم الشقاق بينه وبين زوجته فأدى الأمر إلى انفصالهما بعد أن خصص لها مائتي ليرة راتباً سنوياً ونرى من العبث البحث في هذه المسألة لأن أحوال الزوجين الخاصة لا يطلع عليها حتى أخاص أصدقائهما وظلت مادام كونت بعد الانفصال تفكر في سعادة زوجها ودامت المراسلات الودية بينهما عدة سنين. وأصيب كونت بحادثة ثانية أثرت فيه وهي أن طابع المجلد السادس علَّق على الكتاب حواشي ينكر فيها حملة كونت الشديدة على أراغو فغضب الفيلسوف لذلك وخاصمه بلجاجة فربح دعواه. وأشد المصائب التي نكب بها هو أنه ذكر منتخبيه للإشراف على الامتحان في المجلد الثالث بما لا يستحب فأدى ذلك إلى ضياع نصف راتبه الزهيد فضاق كونت بالعيش ذرعاً وأنبأ بفقره صديقاً له منذ بضع سنين وهو المستر جيمس استيوارت ميل أحد علماء المنطق الإنكليزيين الذي أثرت فيه أفكار الفيلسوف واستمد منها معظم أفكاره وآرائه في أصول المنطق وقد كثر مراسلات الصديقين ونشر جزء منها في المدة الأخيرة فهاج رغبة

الجمهور للاطلاع على سائرها. ولما انتهيت إليه كتب الفيلسوف هاجت فيه الخاصة التي عرف بها من عطفه الشديد على الرجال العظام ورثائه لشقائهم فنهض إلى مساعدته وطرق أبواب ثلاثة من أصدقائه هز أعطافهم لمساعدة الفيلسوف فتعهدوا بتقديم مائتي ليرة له سنوياً وكان ذلك سنة 1845. ولم يوفق كونت لعمل شيء يدل على شعوره بجميل الإنكليز فلما عاد إليهم ميل في السنة التالية أعطاه الأول مبلغاً زهيداً ورفض الاثنان الآخران مساعدته قائلين يجب على كونت أن يعول نفسه بنفسه فلما أخفق استيوارت في مساعدة صديقه بهذه الوسيلة أشار عليه بكتابة مقالات للصحف الإنكليزية وتعهد له بترجمتها فرضي كونت أولاً بهذا الطلب ثم عاد إلى هوسه واغتراره فأخذ يتهم الإنكليز بفساد الأخلاق مما أسخط استيوارت وباعد ما بين الصديقين حتى انتهى الأمر بانقطاع المراسلات. ومن كلام كونت في هذا الصدد قوله: لماذا يترك الرجل بعد موته مبلغاً من المال لمتفنن لم يعرفه وهو لا يعد مساعدة الرجال الذين عرفهم في حياته فرضاً؟ إن الإنكليزيين صرحا أنهما يخدمان فيلسوفاً يقولان بقوله والرجل يحب أن لا يقبل في انتشار مبدأه مساعدة الذين يرتئون رأيه وقبوله معونة من سواهم حطة من قدره. وما زال كونت يدفع لامرأته مائتي ليرة سنوياً من 1845 إلى سنة 1848 إذ هبطت رواتبه بدون سبب إلى ثمانين ليرة ففتح المسيو ليتره وبعض الأصدقاء اكتتاباً لمساعدته فجمعوا من المال ما وسع على كونت ردحاً من الزمن وقد كان في جملة المشتركين بهذه الإعانة المستر ستيوارت ميل الذي لم يمنعه استياؤه من معاملة كونت عن مساعدته وإسعافه. ويرى المطالع أن كونت لم يتصرف مع أصدقائه تصرفاً يليق برجلٍ عظيمٍ مثله لأن نفسه جمعت إلى خصاله الحميدة من رسوخ العزم وقوة الإرادة والثبات والمثابرة على خدمة البشر نقائص مشينة من الغرور والعجرفة وإذا جاز التمثيل شبهنا كونت ببروتوس وكاتو. وإذا أراد الإنسان أن يحب كونت وجب عليه أن يتصور حالته التعيسة وحياته المظلمة وخطوبه المتواترة وهو بين هذه الظلمات دائب على إنجاز مهمته لا يكل ولا ينثني فما زال يركب إلى غايته الخطوب حتى فاز بما أراد وكانت القوانين الأساسية للعلوم الموجبة

قبل عهده مطلقة مبهمة فجاء كونت موضحاً لها مما يزيل الإشكال ويقيم لها حدوداً بيِّنه فكثر لذلك حساده ومزاحموه. ولم يكن كونت يكتب كلمة قبل أن يقرر الموضوع ويكتبه جملة فجملة بعد تهيئتها في ذهنه ومتى فرغ من إحضارها جلس يكتب ببراع ميال فيسجل سلسلة من الأفكار تجري على اسلاته بدون انقطاع ولا تردد لقوة ذاكرة كونت واستغنائه عن العود إلى المذكرات ولكن أسلوبه الكتابي لم يكن بالحلة اللائقة لأفكاره البراقة وإذا كنا لا نتوقع منه كتابة كالشعر في تأثيرها وسلاستها إلا أن الكتابة في أرقى الموضوعات العلمية إذا لم تكن طلية مجها أكثر العلماء جلداً على الاستقصاء وإذا قايسنا أسلوب كونت بغيره من الفلاسفة كهيوم وديدرو وباركله رأيناه ثقيلاً جافاً وربما وقعت في كتباته بعض العبارات المتينة إلا أن جميع اصطلاحاته خالية من سلامة الذوق في الانتحاب وقد كان يكثر من أدوات الحال في بعض الجمل حتى لا يثبت على مطالعتها إلا من أوتي الصبر الجميل من تلامذته ولكن قوة فكره ونفوذ نظره وسمو آرائه تشرع له السبيل إلى ذهن القارئ وتستر هذه النقيصة وتضعف تأثيرها وإذا كانت مؤلفاته عظيمة فأسلوبه لا يؤلف جزءاً من تلك العظمة القائمة بماهية الأفكار والممثلة رجاحة العقل الذي أوجدها. وركاكة أسلوبه ناشئة عن عدم مطالعته مؤلفات بلغاء الكتاب فهو لم يقرأ إلا علماً كان يسميه علم حفظ الصحة الدماغية وقبل أن يتم فلسفته الموجبة لم يطالع سوى دواوين اثنين أو ثلاثة من الشعراء في مقدمتهم دانتي وأهمل ما سوى ذلك حتى قراءة الرسائل والمجلات ولكن أصدقاؤه كانوا ينبئونه بكل حادثة جديدة في عالم الفن فأدى هذا الانقطاع إلى تجرير نفسه من قيود الاجتماع والمؤثرات وظلت أفكاره بمعزل عن الاعتبارات الخارجية وإذا كان أفاده من هذه الوجهة فقد أضره من الوجهة الأخرى فأفرط في إهماله وضعف شعوره بالعالم الخارجي وقد وضحت فيه هاتان النقيصتان أواخر أيامه. وقبل أن تتم ترجمة كونت نسرد حادثة جرت له عام 1845 يوم تعرف إلى مادام دي فو: كانت هذه العقيلة أيماً لأن زوجها حكم عليه بالسجن المربد ولا نعرف إلا اليسير عن أوصاف المرأة وأخلاقها وكل ما نعلمه هو أنها وضعت قصة رفعتها في عيني كونت إلى مستوى مادام جورج سلند ولم تكن هذه القصة في ذاتها شيئاً يستحق الذكر لا أنها دلّت على

ذوق سليم وفطرة حميدة فتوثقت بينهما روابط الولاء وأصبحت العقيلة عزاءه في أحزانه وأفاضت على نفسه روح الهدوء والسكينة ولو طالت مودتهما لم يظهر اضطراب الفكر في كتب كونت الأخيرة إلا أن الأقدار التي ناصبت الفيلسوف طول حياته فجعته بريحانة نفسه وموضوع سلوته سنة 1846 فجرع لفقدها جزعاً شديداً ولازمه الحزن والغم فكان يخرج إلى ضريحها مساء كل أربعاء إذا توارت الشمس في الحجاب يبلله بقطرات دموعه ويجثو في النهار ثلاث مرات احتراماً لذكرها فيستغرق في أحزانه ويستسلم إلى الجزع وكان تلامذته يقولون أنه يقدم لها من الاحترام ما قدمه دانتي لحبيبته باتريس ويشبهون حاله بحال دالامبر بعد وفاة لينياس. الباحثون في حياة كونت يقسمونها إلى شطرين أحدها يمتد حتى تعرفه إلى العقيلة دي فو والآخر بعد ذلك ويفرقون بين الشخصين كونت الذي كتب الفلسفة الموجبة وكونت الذي ألَّف في السياسة الموجبة إلا أن أعداءه يأبون كل تفريق في هذا الصدد ويقولون إن المختل الذي كتب في السياسة هو نفسه الذي كتب في الفلسفة. ولم يكد كونت ينهي من نشر فلسفته الموجبة حتى بدأ بنشر سياسته وهذه بالطبع تستند إلى تلك فنشر المجلد الرابع والأخير في سنة 1848 وفي هذه السنة حدثت ثورة في فرانسا لم تبد طلائعها حتى هرع كونت إلى تأليف جمعية دعاها الموجبة توقع أن يكون لها الشأن في هذه الثورة ما كان لنادي الجاكوبيين في ثورة 1789 وإذا كان كونت لم يدرك جميع آماله في إنشاء هذه الجمعية فقد أدرك بعضها باجتماع تلامذة الفيلسوف ووضعهم مذهباً فلسفياً جديداً كما يهوى ويختار. وكان كونت سنة 49 و 50 و 51 يلقي في القصر الملكي (باله رويال) في باريس محاضرات متتالية يحضرها عامة الناس وخاصتهم فيبحث في فلسفته ومعتقداته ودعاويه وقد ختم محاضرته الأخيرة بقوله: يا خدمة البشرية والفلسفة الحقيقية يجب أن تتولوا زعامة العالم لأن ذلك حقكم الصريح وأقصى أماني الإنسانية تأليف حكومة أخلاقية مادية فكرية فإن الحكومات التي قامت على دعامات الكثلكة والبروتستانية سقطت لأن الناس اتخذوهما وسيلة لإضرام الثورات وقضاء اللبانات.

ومن غرائب الاتفاق أن يقوم بعض هذه المحاضرة ببضعة أسابيع رجل يدعو الناس إلى طاعته لا ليخدم الإنسانية بل لدعواه أنه صاحب الحق بالسلطة المطلقة وأن يحمل الناس على معرفته كذلك بالقوة القاهرة. وسنة 1852 نشر كونت رسالة في مذهب الإنسانية أظهر فيها ارتياحه إلى ضربة لويس نابليون للحكومة وإنشائه جمهورية هو فيها الحاكم المطلق ومهما يكن من قيمة الفكر السياسي نجد عذراً لكونت في أنه كتبه وهو لا ينتظر أن تؤول الحال لما آلت إليه من الضغط والاستبداد وإلجام المطبوعات. وأصيب كونت سنة 1857 بداء السرطان وقضى في الخامس عشر من أيلول فانتهت حياة مرة تنكر لها الزمان وفي هذا اليوم من كل سنة يجتمع تلامذة الفيلسوف من إنكليز وفرنساويين فينوهون بذكره ويقومون بمراسم سنوها لأنفسهم وقد قبض كونت وهو دون الستين وهنا لا يسعنا إلا أن نشارك جون مورلي في حزنه لعاقبة من أشد عواقب العمر إيلاماً وهي أن يقضي أرباب الذكاء الخارق في تهالكهم على نشر أفكارهم قبل أن يدركوا أمانيهم وتنقاد لهم رغباتهم. فلسفته لا تعرف المقادير إلا بمقياسها وقياسها تواً يستحيل في الغالب وأبسط الشواهد يعترضنا من المصاعب في قياس طول بالوحدة المترية إذ يشترط في صحة القياس أن ينطبق المتر على السطح كل الانطباق وأدنى نتوء أو غور يخل بالاستواء يعيد هذا القياس متعذراً تلك أهون المصاعب تعترضنا تعثرنا في أقل البسائط فكيف بها في أرقى المركبات كتقدير الأبعاد بين الأجرام السنوية. ذاك ما قاد الفكر البشري إلى وضع العلوم الرياضية فإذا تعذر أو استحال علينا أن نقيس مساحة أو نقدر كمية توصلنا إلى ذلك بالطرق الرياضية فجمعنا بين لا يقاس تواً وبين ما يقاس واستخرجنا الأولى من الثانية على قاعدة التناسب. فلكي نقيس مساحة نمثلها بشكل هندسي كالمثلث مثلاً ونعتبر المناسبة بين الأضلاع والزوايا فتسهل علينا معرفة المساحة. وبهذه لوسيلة وبغيرها من نوعها تمكن الفكر البشري من تقدير الأبعاد بين أجرام وارتقى إلى معرفة حجومها وأشكالها الحقيقية وظواهرها

الطبيعية وسعتها وامتدادها وقوة جاذبيتها إلى غير ذلك من المعلومات التي بلغها بالوسائل الرياضية وغرض الرياضيات مقايسة الكميات وتقديرها بالواسطة وذلك يدرك بمعرفة النسبة بينها فالرياضيات إذن علم تستخرج بواسطته الكميات المجهولة من الكميات المعلومة للمناسبات الصريحة الموجودة بينها. ما هي الكمية؟ عرف الرياضيون الكمية أنها ما يقبل الزيادة والنقصان ويمكن تقدير بالوحدة القياسية. فالعدد والطول والسطح والحجم والزمان والمكان وسرعة الجسم ووزنه وغيرها من الأركان الداخلة في الحوادث الطبيعية هي كميات لتوفر صفتي الكمية فيها وقد اكتفى الرياضيون بالمعلومات النسبية فلم يخطر لهم ذات يوم أن يبحثوا في ماهية المكان والزمان والمادة لأنها الأسس التي تقوم عليها المعارف البشرية فليس في الوسع أن تثبت أو تعرِّف ولهذا السبب حصر الرياضيون في كشف النواميس التي تؤثر في هذه الكيات وإظهار النسبة بين ما اجتمع منها في حادثة واحدة بدون أن يحاولوا بلوغ معلومات مطلقة. والرياضيات تثبت لنا أن في وسعنا بعض الكميات الداخلة في إحدى الظواهر الطبيعية من البعض الآخر إذ لا بد من وجود روابط بينها ولم يشهد الناس حتى اليوم ظاهرة فقدت فيها هذه الروابط ولكنها قد تدق حتى يتعذر على الباحث اكتشافها. إذا أبدلنا كلمة كمياتفي تعريف الرياضيات بكلمة حوادث كان لنا تعريف العلم الحقيقي فهو ما أوضح بعض الحوادث ببعضها الآخر مستنداً في ذاك على العلاقات الموجودة بينها. وكل علم يجمع طائفة من الحوادث ويؤلف بينها ويستخرج من جمعها نواميس عامة ويضع قواعد إذا جرينا عليها عرفنا نتائج حادثة بقياسها على حادثة ثانية من نوعها فإذا عجز عن ذلك لم تصح تسميته علماً. ثم أننا إذا جعلنا كلمة النواميس الطبيعية بدلاً من العلاقات بين الحوادث كان ذلك أصح وقد خدمت الرياضيات في تعيين هذه العلاقات فوق خدمة كل ما سواها من العلوم فهي تدلنا على أقصى ما يراد بالعلم وإذا شئنا أن نقع على فكر صحيح في تحديده وجب علينا الرجوع إلى الرياضيات فإن الأصول العامة التي يقتضي أن يسري عليها الفكر في الأبحاث لا نصادفها في غير الرياضيات وليس من علم آخر يماثلها في حل المسائل حلاًّ

تاماً يفضي إلى استخراج النتائج بدقة وضبط. هذه هي النقطة التي بدأ منها مذهب الكونتيزم لواضعه أوغست كونت. استنبط الفيلسوف التحديد العام للعلم من الرياضيات واقتبس منها الأصول التي يجب أن يجري عليها في الأبحاث العلمية أما أساس فلسفته فهو: إن الحوادث كافة تجري على قوانين مقررة والعقل البشري يعجز عن معرفة منشأ الحوادث الأزلي ومنتهاها الأبدي وهذه حقيقة لا ينكرها من كان ذا مشاركة في العلوم الطبيعية لأنه يعلم أن الغية من إيضاح الحادثة الطبيعية ليس إلا إظهار الأحوال والشروط التي يمكن معها حدوث مثلها وتعيين علاقتها بغيرها من الحوادث وإليك مثلاً على ذلك. اكتشف نيوتن الجاذبية العامة فأوضح بها جميع الحوادث الفلكية وبين أن كثيراً من الحوادث التي كان الناس يتوهمون أن لا علاقة بينها كالخسوف والكسوف والمد والجزر إنما هي مظاهر مختلفة لحادثة واحدة عامة كنا نعبر عنها بالثقل فبتنا نفسر جميع الحوادث الفلكية بالجاذبية ولكنا نعجز عن معرفة ماهية الجاذبية وعلتها الأصلية فإذا سئلنا في ذلك لم يكن عندنا جواب وليس هذا كل ما في الأمر بل أن الفلسفة الموجية تثبت لنا أيضاً أننا لن نستطيع إدراك ذلك فعلينا أن نتخلى عن هذه المباحث لعلماء ما فوق الطبيعة فإذا قال قائل إن اهتزازات الجواهر الفردية بسبب ذلك الثقل لا يكون قد أوضح مبهماً لأن الإشكال ينتقل من الثقل إلى الاهتزازات فلا يلبث المستطلع أن يسأل عن سبب الاهتزاز أيضاً. إذا أردنا أن نفهم الصفة المميزة للفلسفة المثبتة وجب علينا أن نتتبع الفكر البشري في أدوار ارتقائه وقد وضع كونت لذلك قانوناً عاماً أقنعته بصحة معلومات العصر الحاضر وشهادات العصر الماضي. وهذا القانون هو أن كل فرع من المعارف يمر في ثلاثة أدوار متعاقبة أو حالات مختلفة أولها الدور الوضعي والثاني الدور المجرد والثالث الدور المثبت. ونكتفي بذكر هذا القانون بدون أن نتقدم إلى إثباته أو معرفة نتائجه. شبه كونت الفكر البشري بخضوعه لنواميس الارتقاء وحالاته الثلاثة التي تتعاقب عليه بالإنسان في أدواره الثلاثة من طفولة وشبيبة وهرم. ونشأت ثلاثة مذاهب مختلفة لإيضاح الحوادث في الأدوار الثلاثة أولها الفلسفة الوضعية

والثاني الفلسفة المجردة والثالث الفلسفة الموجبة والأول مبدأ ارتقاء الفكر الإنساني والثالث غاية ما بلغه والثاني الحلقة المتوسطة بين الاثنتين. اتجه فكر الإنسان في الفلسفة الوضعية للبحث في أسباب الحوادث الأزلية وغاياتها الأبدية فتلقى تلك الحوادث آثاراً من فواعل ذات إرادة مطلة يعزو إليها كل ما شاهده بدون أن يفكر في النواميس والسنن. وارتقت هذه الفلسفة فبدأت الفلسفة المجردة التي أقامت القوى المجردة مقام الفواعل الوهمية وهذه القوى عاربة من الهيولى تسبب الحوادث المشهورة. أما الفلسفة المثبتة فقد اقتنع واضعوها أن الفكر الإنساني يستحيل عليه أن يدرك معلومات مطلقة فصرفوا نظرهم عن البحث في منشأ الكائنات ومصيرها وقصروا همهم على معرفة نواميس الحوادث فمزجوا بين المشاهدات والمحاكمات العقلية لاكتشاف هاتيك النواميس. لما ارتقت الفلسفة الموضوعة حتى قال الناس بإله واحد يدبر الكون بلغت أوج الكمال وغاية الارتقاء وأدركت الفلسفة المجردة نهاية شوطها عدما ردت الحوادث إلى الطبيعة ودعتها بالقوة العامة المجردة. أما الفلسفة المثبتة فهي تسعى لتوضيح أن جميع المحسوسات ظواهر مختلفة لحادثة عامة فمتى تيسر لها ذلك بلغت أرقى درجاتها على أن هذا الارتقاء غير متيسر في الأحوال الحاضرة ولا تدل ظواهر الحال على إمكان ذلك في المستقبل فإذ استطعنا أن نفسر حوادث النور والحرارة والصوت والكهربائية من حوادث المغناطيسية بقولنا أنها نتيجة تموجات فإننا لا نستطيع أن نفسر الحادثات الفلكية على هذا الوجه والفلسفة المثبتة جاهدة في إظهار العلائق بين الحوادث والقوانين الطبيعية وصفتها المميزة صرف الفكر البشري عن البحث في ماهية الحوادث لأنها لا تخوض في هذا المبحث بل تدعه إلى الفلسفة المجردة التي توضح الأزل والأبد بسهولة تامة وتستقصي الأسرار العلوية حتى أدق خفاياها. يتساءل القارئ بعد أن عرف غاية الفلسفة الموجبة عن الحد الذي بلغته وعلى أي شيء يتوقف إكمالها وما نحن متطرقون في بحثنا إلى ذلك. لم تمر المعلومات البشرية في الأدوار الثلاثة بسرعة واحدة ولا أدركت الحال المثبتة في آن واحد بل كان أسرعها إلى ذلك الحوادث الفلكية لبساطتها وسهولها وتلتها الحادثات

الفلسفية فالكيمومية فالعضوية. ويتعذر علينا تعيين بدء انقلابها على التدقيق ولكننا نعلم أنها أخذت بالارتقاء مذ أنشئت دور العلوم في أثينا والإسكندرية ومذ حمل العرب العلوم الطبيعية إلى غربي أوروبا وأرشدوا أهليها وما زالت تتكامل وتتدرج في مراتب الارتقاء حتى نبغ باكون وديكارت وكبلر وغاليله فأثرت مآتيهم في الأفكار البشرية تأثيراً شديداً ووضعت أسس الفلسفة الموجبة التي بدأت بالانتشار والشيوع منذ ثلاثة عصور ولكنها لم تحط بكل أنواع الحوادث الاجتماعية. هذه الحوادث لا تزال محجبة النواميس كثيرة الإبهام لم يكشف عن أسرارها الغطاء ولا استطاعت العلوم أن تحصرها تحت قوانين عامة وقد وضع الفكر البشري علم الميكانيكيات والحيوان والنبات وحان الزمان الذي يضع فيه علم الاجتماع فكان كونت أول من سمت به أفكاره نحو هذه الغاية فرمى إليها في موسوعات مجلداته الستة التي أودعت ملخص المعلومات البشرية لأن كونت لم يقصر همه فيها على الفلسفة الاجتماعية بل تعمد تدوين الفلسفة الموجبة فبحث في كل علم إلى حد إظهار علاقته بغيره من العلوم وأظهر تدرج كل منها في الارتقاء ودخوله في الدور الموجب وجعل أساس بحثه تعاقب الحوادث وارتباطها المنطقي فقسم العلوم إلى ستة فروع كبرى تنضوي تحتها فنون مختلفة وإليك هي: (1) - الرياضيات (2) - الهيأة (الفلك) (3) - الفلسفة الطبيعية (4) - الكيمياء (5) - الفلسفة العضوية (6) - الفلسفة الاجتماعية وقد قدم كونت العلوم الرياضية بالذكر لأنها أقدم العلوم الموجودة وأكملها وهي أول ما دخل في الفلسفة الموجبة وقد راعى كونت في ترتيب هذه الفروع تاريخ ثبوتها ومما لا ريب فيه أن الرياضيات بدأت مثبتة وما زالت ترتقي من أقدم عهدها إلى اليوم وتهلتها الهيأة فالفلسفة الطبيعية فالكيمياء فالحكمة العضوية رقى بها إلى هذه الدرجة كبلر وغاليله ولافوازيه

وبلنويل أما الفلسفة الاجتماعية فإن كونت حسبها لم تؤسس بعد. واختلف الفنون في بلوغ هذه المرتبة لتفاوت درجتها في السهولة فكان أبسطها أقربها إلى الثبوت. وشرع كونت يفكر بعد ذلك في تعاقب هذه الفنون وارتقائها من أبسط النظريات الرياضية إلى أرقى التصورات الاجتماعية فإن ذلك الاستقصاء إنما هو تتبع ارتقاء الفكر البشري والحوادث تجري على تسلسل طبيعي وهذا التسلسل هو بمثابة رابطة عامة بين النظريات المثبتة في الفنون المختلفة ورأى كونت أن بعضها يجب أن يكون له تأثير في الآخر فجعل العلوم الرياضية أول حلقة من السلسلة لأنها فعلت فيما بعدها لترقيته إلى مرتبة الثبوت وجعل الفلسفة الاجتماعية الحلقة الأخيرة. قايس كونت بين الفكرين الرياضي والاجتماعي فلم يجد مندوحة عن أن يتخذ الأول دليلاً على نظريات الثاني المثبتة حتى إذا أمكن حصر الارتقاء البشري تحت قوانين معينة استبدل الرياضيات بالفلسفة الاجتماعية لأنه وجد الأولى غير كافية لتأسيس فلسفة حقيقية تامة حتى قال: إن ما بذله المفكرون من المساعي في العصور الماضية لإيجاد فلسفة جديدة تحل محل الفلسفة الموضوعة ذهب أدراج الرياح لأن الذين حاولوا ذلك أرادوا أن يتخذوا الرياضيات ركناً وينشئوا مذهبهم باختلاف طفيف أو كبير وإذا أمكن اقتباس حقيقة من الرياضيات فلا يمكن التوسع في ذلك الفكر وجعله عاماً فإن الحوادث الرياضية قد ضبطت قوانينها (الهندسة والميكانيك) هي في غاية السذاجة فلا يمكن تطبيق شرائعها على المركبات وكثيرون من الرياضيين في عصرنا الحاضر يقولون أن غرائب الحوادث الفلكية والحوادث الاجتماعية الناتجة عن إرادة البشر وقدرتهم غير خاضعة لنواميس معينة. في الفلسفة الحكمية والكيمومية لا نجد خوارق مما يحملنا على القول أن جميع الحوادث هي ذات سنن مقررة لا تتغير ولكن الحوادث المبهمة المغلقة لا يظهرها على هذا الشكل إلا الفلسفة الاجتماعية فرجح لدى كونت أن يقيم مذهبه على نقطة اجتماعية وسعى في كشف النواميس الثابتة لهذه الحوادث وقد كان الباحثون قبله يستندون إلى افتراضات أو يستعينون بفلسفة ما فوق الطبيعة فأراد كونت أن يجرد المبحث مما يخامره من الأوهام ويدخله في حال مثبته. وكان كونت يقول بحرية الوجدان المطلقة يريد بذلك أن كل فكر وكل تعبير يستعمل

للإفصاح عنه يجب أن يعفى من أنواع الجزاء من التنبيه البسيط إلى الحكم بالجناية وتبسيط في القول على ذلك حتى ادعى أن ليس من حرية وجدان في الهيأة والحكمة والكيمياء والفيسيولوجيا لأن المرء إذا لم يقبل مبادئها الأساسية اتهم بالهوس وليست الحال كذلك في الاجتماعيات لأن المبادئ القديمة قد اضمحلت ولم تخلفها بعد مبادئ جديدة. أما أصول علم الاجتماع فكانت كغيرها من الأصول العلمية تستخلص من التجارب والمشاهدات على سبيل القياس والاستقراء فيطالع المستقرئ حوادث بسيطة يضع لها النواميس ثم يترقى إلى الحوادث المركبة بطريق القياس فيستخرج قوانينها إذ ليس في وسع الباحثين استنباط القوانين العامة مباشرة من ملاحظة الحوادث المركبة ولكن كونت لاحظ أن الحال في العلوم الاجتماعية كذلك فإن حوادثها البسيطة تتألف من أفعال الأفراد وحواسهم ونواميس هذه لا تختص بها بل تشمل الطبيعة البشرية ذاتها والحوادث الاجتماعية إنما هي نتائج لتلك البسائط. وقد كان العلماء إلى عهد كونت يحاولون أخذ العلم الاجتماعي المثبت من قوانين الطبيعة البشرية العامة ثم يجعلون الوقائع التاريخية دليلاً على صحة تلك الاستنتاجات فرد كونت هذه النظرية وقال إذا دلت القوانين العامة على ما لا يؤيده شاهد من التاريخ وجب علينا أن نحكم بفساد التاريخ واختلاله لأن صفحاته الأولية مهزعة وكلما أعرق الناس في الحضارة ازدادوا دقة في تدوين الحوادث وإذا كان التاريخ يدلنا على مجرى الرقي البشري في غابر العصور فهو لا يوجب اتخاذ ذلك المجرى سنناً ولا يضع قانوناً فمتى شئنا معرفة القوانين تعين علينا أن نعود إلى علم النفس (البسيكولوجيا). إن قوانين الطبيعة البشرية العامة هي في جملة موسوعات علم الاجتماع غير أنها تختلف في استعمالها عن القوانين الطبيعية فإن التجارب الخصوصية في هذه تؤدي عن طريق القياس إلى استخراج القوانين العامة وفي العلم الاجتماعي نبلغ الناموس العام من التجربة الخاصة ثم نستخرج عن طريق القياس نتيجة تؤيد صحته. والفلاسفة الذين اشتغلوا في نظريات الاجتماع لم يكونوا يعتبرون التاريخ سلسلة من الأسباب والنتائج بل كانوا يتلقونه كأقاصيص متفرقة لا رابطة بينها حتى جاء كونت فبين فساد مزاعمهم في هذا الصدد وجعل التاريخ من أكبر مآخذ العلم الاجتماعي وحيث رأى

حادثة شذت عن قوانين الطبيعة البشرية حكم باختلال تدوينها. والخلاصة أن أوغست كونت وضع أصول العلم الاجتماعي - كما قال استوارت ميل - وإذا كان لم يوجد ذلك العلم فانه حبا من بعده من الفلاسفة قوة لإيجاده وفلسفته المثبتة في العلوم الطبيعية وأصول التحليل التاريخي ستخلد اسمه بين مشاهير الفلاسفة. دمشق: جرجي الحداد

مشاهير العرب والصناعات

مشاهير العرب والصناعات وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم (أبو العتاهية) يتوهم بعض الكتاب أن العرب أهملوا الصناعات يل استنكفوا منها لأنهم لم يقولوا (آل الحائك) خشية تحقير المضاف والحقيقة هي أن قدماء العرب لم تنصرف أفكارهم إلى الحياكة في زمان بداوتهم لأنهم لبسوا جلود الحيوانات وابتاعوا منسوجات غيرهم فلم يتقنوا الحياكة على أنهم عرفوها بعد ذلك واشتهروا بكثير منها ونقل الإفرنج عنهم ما تفننوا به مثل الموركو والكوردوفان لنوعين من الجلود التي دبغها العرب الأول في مراكش والثاني في قرطبة. والدامسكو للشيخ الدمشقي المشجر. والدامسكين للترصيع المعدني الدمشقي والموصلين لنسيج عرفت به الموصل وصناعة الشفار والسيوف التي أخذوها من دمشق إلى غير ذلك مما لا يحصى. ولهم تآليف كثيرة في الصناعات يحضرني منها الآن اسم رسالة للكندي في المعادن والجواهر وأنواع الحديد والسيوف وجيدها ومواضع انتسابها. ورسالة أخرى في ما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تتثلم ولا تكل لكندي أيضاً. ولقد ذكر جاهليو العرب بعض الصناعات في أشعارهم مثل قول طرفة بن العبد البكري من معلقته مشبهاً الناقة: كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد وقوله: وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد وقوله: وعينين كالماويتين استكنتا ... بكهفي حجابي صخرة قلت مورد ومن أقدم صناعاتهم الغزل وقد ذكروه كثيراً في أشعارهم مثل قول النابغة: وعريت من مال وخير جمعته ... كما عريت مما تمرُّ المغازل وهذه الصناعة عرفت قديماً وذكرها كثير من الأعاجم مثل قول هوميروس في الإلياذة بلسان هكطور بطل تروادة عند توديع زوجته اندروماك وطلبها منه أن لا يسير إلى الحرب من موشح بليغ: ولكل عمل فامضي كفى ... واشغلي أعمال ربات السديل

فلك النسيج وفتل المغزل ... ولنا أعمال سمر الذيل ووصف هيلانة تطرز بإبرتها في قوله: وجدتها بالصرح تنسج ثوباً ... بحواشي البرفير والأرجوان وبرأس الخياط ترسم فيه ... واقعات أبلت بها الفئتان وقال أبو العلاء المعري في النساء: علموهن الغزل والنسيج والردن ... وخلوا كتابة وقراءة وقال ندة ملتن كبير شعراء الإنكليز ما يقرب من هذا إلى غير ذلك. وفي صدر الإسلام اعتبر الخلفاء الصناعات بدليل قول الإمام عمر بن الخطاب: إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفه فن قالوا لا سقط من عيني، وقول موسى الهادي الخليفة العباسي لأمه الخيزران لما استبدت بالأمر وكثر المختلفون إليها لقضاء أعمالهم: ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك. أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك. وكثيراً ما ذكر الشعراء بعد ذلك الصناعات ولو على سبيل المجاز مثل قول ابن نباتة في الطيّ والنشر: لا تخف عيلة ولا تخش فقراً ... يا كثير المحاسن المختاله لك عين وقامة في البرايا ... لك غزالة وذي فتاله ولقد مارس الخلفاء والصحابة والأمراء والأشراف والأئمة والعلماء على اختلاف طبقاتهم وأمكنتهم وأزمنتهم صناعات كثيرة جمعت الآن منهم ما وصلت إليه يد البحث تذكرة لقوم يعقلون: كان أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وطلحة بن الزبير وعبد الرحمن بن عوف بزازين وعمر بن الخطاب دلالاً فتاجراً. والوليد بن المغيرة وأبو العاص أخو أبي جهل حدادين. والنضر بن الحارث عوداً يضرب بالعود. وللعاص بن وائل السهمي بيطاراً يعالج الخيل. وابنه عمرو بن العاص جزاراً ومثله الإمام أبو حنيفة وقيل كانا خزازين يبيعان الخز (وهو التباس يقع في التصحيف). والزبير بن العوام خياطاً ومثله عثمان بن طلحة الذي دفع له النبي مفتاح الكعبة وهكذا قيس بن مخرمة. وكان مالك بن دينار وراقاً والمهلب بن أبي صفرة بستانياً. وقتيبة بن مسلم الذي فتح بلاد العجم إلى ما وراء النهر جمالاً. وعقبة بن

معيط خماراً وسعد بن أبي وقاص بارياً للنبال. وأبو سفيان ابن حرب يبيع الزيت والأدم. وعبد الله بن جدعان نخاساً يبيع الجواري. والحكم بن أبي العاص خصاء يخصي الننم ومثله حريق بن عمر والضحاك بن قيس الهفري وابن سيرين. وكان سفيان بن عيينة معلماً ومثله الضحاك بن مزاحم وعطاء ابن أبي رباح والكميت الشاعر والحجاج بن يوسف الثقفي الشهير وعبد الحميد بن يحيى إمام المترسلين وأبو عبيد الله القاسم بم سلام والكسائي مؤدب الأمين والمأمون وكثير غيرهم ممن مارسوا التدريس والتهذيب وكانت هذه الصناعة تسمى عندهم صناعة الأشراف. وكان أبو يوسف الفقيه قصاراً (يبيض الثياب) وأبو العتاهية الزاهد يبيع الفخار في الكوفة فسمي الجرار. وأبو تمام الشاعر كان سقاءً وقيل خادم حائك. والمتنبي ابن سقَّاء في الكوفة. والعكبري في أول أمره منجماً ثم صار نحوياً. وحماد عجرد الشاعر باري نبال. وأبو إسحاق إبراهيم الحصري كان يعمل الحصر أو يبيعها وأبو إسحق إبراهيم بن محمد الزجاج النحوي كان يخرط الزجاج وأبو الحسن السري الرفاء الشاعر كان يرفو ويطرز وأبو بكر عبد الله القفال المروزي الفقيه يعمل الأقفال. وأبو الحسن الماوردي الفقيه كان يبيع ماء الورد. وأبو الحسن علي بن هلال كان أبوه بواباً فسمي بابن البواب. وأبو القاسم الزاهي الشاعر كان قطاناً (يبيع القطن). وأحمد بن محمد الطوسي الغزالي وأخوه الإمام الغزالي الشهير كانا منسوبين إلى عمل الغزل على طريقة النسبة عند الخوارزميين إذ يقولون القصاري والعطاري في القصار والعطار. وأبو بكر أزهر بن سعد السمان الباهلي البصري كان يبيع السمن وأبو غالب تمام التياني اللغوي القرطبي كان يبيع التين. وأبو القاسم الجنيد لقب بالخزاز والقواريري لأنه هو عمل الخز ووالده عمل القوارير. وأبو علي الحسين الكوابيسي البغدادي نسب إلى بيع الكرابيس وهي جمع كرباس بالفارسية بمعنى الثياب الغليظة وهي أشبه بالخام عندنا. وأبو محمد بن مسعود الفراء البغوي كان يعمل الفراء ويبيعها. وابو مغيث الحسين بن منصور الحلاج الزاهد حلج القطن فنسب إليه. ومؤيد الدين الطغرائي نسب إلى كتابة الطغراء. وأبو عمرة حمزة بن حبيب الزيات باع الزيت ومثله كثيرون لقبوا بلقبه مثل محمد بن زيات وزير المعتصم وغيره. وأبو عمرو خليفة بن الخياط العصفري نسب إلى الخياطة والصبغ بالعصفر. وأبو المعالي سعد بن علي

المعروف بالحظيري (بالظاء المشالة) الوراق لقب بصناعته دلال الكتب ورشيد الدولة فضل الله الهمذاني طبيب خرمندة التتري كان في عمره عطاراً فصار يدبر ممالك التتر. وأبو منصور عبد الملك الثعالبي نسب إلى خياطة جلود الثعالب وعملها فراءً. وأبو قاسم عثمان الانماطي الفقيه كان يبيع الانماط وهي البسط التي تفرش. وأبو عمرو عثمان بن الحاجب كان والده حاجباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي. وأبو الحسن علي بن عبد الله السمسماني اللغوي نسب إلى السمسم. وأبو الحسن علي بن الحسن القاضي الملقب بالخلعي كان يبيع الخلع لأملاك مصر. وأبو الحسن بن وصيف المعروف بالناشئ الأصغر كان جده وصيف مملوكاً وأبوه عبد الله عطاراً وهو حلاءً أي عامل الحلي النحاسية للتزيين. وأبو القاسم عمر الخرقي الفقيه نسب إلى بيع الخرق أي الثياب البالية. وأبو القاسم عمر بن محمد المعروف بابن البزري نسب إلى عمل البزر وبيعه والبزر عندهم اسم للدهن المستخرج من حب الكتاب وبه يستصحبون أي يسرجون المصابيح. وكان ابن سير بن المشهور بتعبير الرؤيا ابن صائغ قدور من النحاس. وأبو عمرو المطرز البارودي غلام ثعلب كان مطرزاً. وكان والد البحراني الشاعر الاربلي تاجراً يتردد إلى البحرين ويصيد اللآلئ من مغاوصها. وفخر الملك ووزير بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهي كان ابن صيرفي. وأبو بكر الرازي الطبيب كان في أول أمره مغنياً عواداً. وأبو الحزم مكي الضرير المقري النحوي كان ابن صانع أنطاع. ونصر الخبزارزي الشاعر كان يخبز أرغفة الأرز بمربد البصرة. وأبو الفرج محمد الغاني الملقب بالوأراء كان منادياً في دوار البطيخ بدمشق ينادي على الفواكه. وكان بشار بن برد الشاعر ابن طيان حاذقاً بثناعته وأخواه بشر وبشير كانا قصابين. وفتيان الشاغوري لقب بالمعلم لأنه كان يعلم أولاد الملوك. وأبو محمد القاسم الحريري نسب إلى بيع الحرير أو عمله. والقاضي أبو بكر محمد الباقلاني البصري نسب إلى بيع الباقليّ. وأبو الحسين الجزار الشاعر المصري تعاطى الجزارة. وسراج الدين الوراق الشاعر الوراقة. وأبو الفضل بن عبد الكريم الحارثي الدمشقي لقب بالمهندس لحذاقته في الهندسة وكان في أول أمره نحات حجارة ونجاراً وأكثر أبواب البيمارستان النوري الذي بناه نور الدين بن زنكي الملقب بالعادل في دمشق من نجارته وصناعته وقد درس إقليدس على نفسه وأصلح الساعات في جامع دمشق

وإن له على مراقبتها راتب خاص. وأبو زكريا يحيى البياسي الأندلسي الطبيب قطن دمشق وعرف التجارة واشتغل الآلات الهندسية وكان عواداً وعمل الأرغن. والبديع الاسطرلابي كان يعمل الآلات الفلكية ولا سيما الاسطرلاب. وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش الموصلي البغدادي العالم نسب إلى نقش السيوف والجدران لممارسته ذلك وحذقه به. وأبو عباس محمد بن صبح المعروف بابن السماك الكوفي الزاهد نسب إلى صيد السمك وبيعه. وأبو بكر محمد بن السري النحوي المعروف بابن السراج نسب إلى عمل السروج. وأبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي النحوي الملقب بالقزاز القيرواني نسب إلى عمل القز وبيعه. ومعاذ بن مسلم الهراء كان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها. وأبو منصور الجواليقي نسب إلى عمل الجوالق وبيعها. وأبو يزيد وشيمة الوشاء كان يتجر بالثياب المصنوعة من الابريسم الموشاة. ومحمد بن رضوان بن الرعاد كان خياطاً واقتنى مكتبة من صناعته. وشمس الدين الدهان الدمشقي الشاعر كان يمارس صناعة الدهان. والنصير الحمامي كان يتحرف باكتراء الحمامات ويستجدي بشعره. وأبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المعروف بالحداد الفقيه الشافعي المصري نسب إلى أحد أجداده الذي كان يعمل الحديد وبيعه. وأبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بالصيرفي الفقيه البغدادي نسب إلى الصرافة. وأبو عبد الله محمد بن الكناني الشافعي المعروف بابن الكيزاني الشاعر كان بعض أجداده يعمل الكيزان ويبيعها فنسب إليه. وأبو الرداد عبد الله بن عبد السلام بن الرداد المؤذن البصري عمل المقياس بمصر في أثناء القرن الثالث للهجرة. ونجم الدين المنجنيقي الشاعر كان في أول أمره جندياً مقدماً على المنجنيقيين ببغداد فنسب إليه ومن لطيف منظومه قوله: كلفت بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط ويحيى النحوي الإسكندراني كان ملاحاً إلى أن بلغ الأربعين من عمره فمال إلى العلم وأتقنه. وكان علي بن رضوان الطبيب بن فران. ومن أغرب العلماء أرباب الصناعات كشاجم الشاعر فإن اسمه منحوت من صناعاته فالكاف من كاتب والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من منجم والميم من مؤدب إلى غير ذلك.

ومن متأخري العلماء من نسب إلى الصناعات مثل القزويري وابن الطباخ وابن العطاؤ والأسطواني وابن الكيال وابن السقاف وابن السمان وابن الحجار وغيرهم كثير. وممن لقبوا بالصناعات ولا نعلم إذا كانوا قد مارسوها أبو جعفر أحمد المرادي النحاس النحوي المصري. وابن الخياط الدمشقي. وأبو بكر بن عياش بن سالم الخياط الأسدي الكوفي. وأبو محمد سعيد بن الدهان البغدادي. وأبو القاسم الإسكافي. وظافر الحداد الشاعر الاسكندري. وابن الدهان الموصلي المعرف بالمهذب. وابن شاس المنعوت بالخلال. وابن الخشاب البغدادي. وأبو نصر عبد السيد ابن الصباغ الفقيه. وأبو قاسم علي بن القطاع الصقلي اللغوي. وأبو الحسن علي بن القصار اللغوي. وأبو بكر المبارك المعروف بابن الدهان النحوي الضرير الواسطي. وأبو بكر محمد بن باجة الأندلسي المعروف بابن الصائغ الفيلسوف. وأبو عبد الله محمد الرقاء الأندلسي الرصافي الشاعر. ويحيى بن الجراح الكاتب. وموفق الدين النحوي المعروف بابن الصائغ الحلبي. وأبو المحاسن شهاب الدين الشواء الحلبي الشاعر. وابن النجار الدمشقي الشاعر. وإبراهيم الحائك وقيل المعمار أو الحجار غلام النويري المصري الشاعر الزجال. وبكر بن علي الصابوني. وجوبان القواس الشاعر. وابن البيطار النباتي الشهير. وعبد الله بن محمد المغربي الملقب بالعطار الشاعر. وعبد الحق الإشبيلي المعروف بابن الخراط. وعبد الرزاق بن أحمد الصابوني المحدث المؤرخ الفيلسوف. وأبو بكر الوراق التميمي. وأبو المعالي البقال الأديب. وابن الصفار المارديني. وأبو حفص الشطرنجي شاعر المهدي وابنته عليه. وأبو عبد الله البغدادي النقاش الشاعر. ومجاهد بن سليمان المعروف بالخياط الشاعر. ومحمد بن أحمد المعروف بابن الحداد الشاعر. ومحمد بن أحمد بن الصابوني الصدفي الإشبيلي. ومحمد بن داود بن الجراح الكاتب. والحافظ الكبير ابن النجار البغدادي واضع تاريخ بغداد المطول. وهبة الله بن الفضل المعروف بابن القطان الشاعر البغدادي. فضلاً عن كثير من أرباب الصناعات الأُخر مثل أبي عبد الله الفرضي الحاسب. وأبي حفص عمر بن الفارض الشاعر. وابن المعلم الواسطي الشاعر. وابن الدهان البغدادي الفرضي الحاسب. والبتاني الراصد وغيرهم كثير. ومنهم من تدل أسماؤهم على أنهم من أرباب الصناعات وهم لم يتعاطوها مثل أبي سلمة

حفص ابن سليمان الخلال الهمداني فانه لم يكن خلالاً ولكنه كان يجلس إلى محل للخلالين قرب داره بالكوفة فلقب بالخلال. ومثل أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحق الزجاجي النحوي البغدادي الذي لم يشتغل بالزجاج ولكنه صحب أبا إسحق إبراهيم بن السري الزجاجي فنسب إليه. وأبو سعيد الصدفي لم ينسب إلى صناعة الصدف بل إلى الصدف بن سهل وهي قبيلة كبيرة حميرية هبطت مصر. وكثير من العلماء لقبوا بالعسكري ولم يكونوا عساكر ولكنهم نسبوا إلى (سر من رأى) الملقبة بالعسكر حيث نشأوا لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل لها العسكر ومنهم أبو الحسن العسكري من أهل القرن الثاني للهجرة. ومنهم من سموا باسم عسكر مكرم من كور الأهواز مثل أبي القاسم محمد العسكري وغيره. وأبو الحسن الكسائي لم ينسب إلى عمل الكساء بل لأنه دخل مرة على حمزة بن حبيب الزيات وهو ملتف بكساء وقيل بل أحرم بكساء فنسب إليه. وأبو زيد محمد القاشاني المشهور ولكنه نسب إلى مسقط رأسه فاشان في بلاد فارس. وكمال الدين الفراوي نسب إلى فراوة في خوارزم لا إلى الفراء ومن النكت باسمه أنه قيل عنه (الفراوي ألف راوي). وأبو بكر الآجري الفقيه لم ينسب إلى صناعة الآجر (القرميد) ولكن إلى قرية آجر من قرى بغداد. وأبو بشر محمد الرازي الدولابي لم يصنع الدولاب ولكن نسب إلى الدولاب وهي قرية من الري وصناعته كانت الوراقة فلقب بالوراق وأبو بكر محمد الصولي الشطرنجي توهم بعضهم أنه وضع الشطرنج أو صنعه والصحيح أنه اشتهر باللعب فيه. والفراء النحوي اللغوي الكوفي كان يفري الكلام ولم يشتغل بالفراء فعرف بهذا اللقب وأبو عمرو بن دراج القسطلي نسب إلى قسطلة في الأندلس لا إلى عمل القساطل للمياه. ويونس الصدفي المصري الفقيه لم يعمل الصدف بل لسبب آخر سمي بالصدفي وهو أنه صدف بوجهه مرة فلزمه هذا اللقب. ومحمد بن الحسن الصائغ العروضي أقام بالصاغة زماناً يقرئ الناس فلقب بالصائغ إلى غير ذلك وهم كثيرون. هذا ما وصلت إليه يد الاستقراء الآن من صناعات المشاهير عند العرب جمعته تبصرة وتذكرة لمن يتوهمون أن الصناعة تزري بالعلماء والأدباء والمشاهير. على أن الإفرنج كثيرو الولع بالصناعات مما سأفرد له مقاله خاصة إن شاء الله في فرصة أخرى. ولقد أعرضت عن مشاهير المعاصرين وأسماء الأسر التي تنسب إلى الصناعات وهي كثيرة

في بلادنا قريبة العهد فلا حاجة إلى وصفها. فحبذا لو كثر الميل إلى أسباب العمران بين ظهرانينا وولع مواطنونا بالصناعات ونحوها مما يوفر الدراهم ويشغل الأوقات ويعود على البلاد بالنفع وإلا فإن اقتصارنا على العلوم اللغوية واللسانية جمود فلنتخذها مفتاحاً للعلوم الطبيعية: بزراعة وصناعة وتجارة ... تجد البلاد تقدماً وفلاحا أسباب عمران فسيد صرحها ... وخذ العلوم لنبلها مفتاحا زحلة: عيسى اسكندر المعلوف.

دقائق عربية

دقائق عربية لا مراء أن من يشتغل بالكتابة ويتوغل في المطالعة يمر به من صور التراكيب ومن الألفاظ المفردة ما يربك ذهنه وإذا راجع كتب النحو وكتب اللغة فلا يهتدي إلى ما يجلو له وجه الصواب فإن علماء العربية عل كثرة ما ألفوا في علمي الصرف والنحو واللغة تراهم قد أغفلوا من القواعد والتنبيهات والمفردات ما قد ترى بعضه في كتب الشروح أو في الكلام القديم كما ذكرت ذلك في مقالة بهذا العنوان نشرت في المجلد الخامس والعشرين من المقتطف وقد اجتمع إليَّ كثير من هذه الدقائق فلم أدخرها لنفسي بل أحببت نشرها رغبة في أن يكون للأدباء من وراء نصبي فائدة وابتغاء تخليص العبارة من علل الخطأ فإن في بعض المنشورات الحديثة ما يذوب له قلب البلاغة وتدمع له عين الفصاحة وأكبر نصير لتلك المنشورات على تشويه محبا البيان اختلاط الغث بالسمين فبينا تمر فيها بالبليغ إذ بك قد وقعت في أركِّ تركيب حتى أن المنشورات العامية العبارة أخف جناية على الفصاحة مما اجتمع فيه الصحيح بالمعتل فيلتبس على الضعفاء من أهل الأدب العليل بالصحيح والخطأ بالصواب فيتخذون الخطأ صواباً والعليل صحيحاً وتلك رزية كبيرة على الفصاحة فمن هنا تعلم أن نشر مثل هذه المقالات المتممة للناقص والمبينة للمبهم هي أوسع فائدة وأجل نفعاً وأرفه شأناً من تأليف كتاب في علم قد صارت المؤلفات فيه تربى على الألوف كما هي الحال في علم العربية. الدقيقة الأولى قد أجازوا أن تخاطب جماعة النساء خطاب الواحدة كما أجازوا أن ينعت ويخبر عن الجمع المكسر بالصفة مفردة فيقولون عيونهم نائمة وما أجمل العيون الحوراء. ولم أجد من نبه على ذلك فيما وقفت عليه من كتب النحو والصرف مع أنه واردٌ في كلام من بنيت على كلامهم قواعد التصريف والإعراب قال علقمة بن علف المري وهو من شعراء الحماسة: ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم شهود وقال آخر: قد كتب الحسن على وجهه ... يا أعين الناس قفي وانظري فقال الأول (رجالك) مكان (رجالكن) وقال الثاني (قفي وانظري) مكان (قفن وانظرن).

الدقيقة الثانية من حق الضمير أن يطابق مرجعه تذكيراً وتأنيثاً وإفراداً وتثنية وجمعاً وكذلك اسم الإشارة كما هو معلوم عند صغار الطلبة ما خلا اسم الجمع فقد فضلوا في الإضمار له مراعاة اللفظ على مراعاة المعنى قلت لكن متى كان المقام يقتضي الكثرة كانت مراعاة المعنى عين مقتضى الحال فيقال هؤلاء قومٌ كرامٌ وهذا قوم كريم وهذا شعب شجاع وهؤلاء شعب شجعان وكذا حكم اسم الجنس فيقولون ورق خضر باعتبار المعنى وورق أخضر باعتبار اللفظ قال أبو خراش الهذلي: تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وتظهر في أطرافها الورق الخضر ولم أجد من زاد على ذلك لكني رأيت في كلام من يوثق بهم جواز مطابقة الضمير واسم الإشارة للخبر. فإن كان المرجع مؤنثاً والخبر مذكراً أجازوا الإتيان بضمير المذكر. وكذا إذا كان المرجع مذكراً والخبر مؤنثاً مثال الأول قول التبريزي في شرح الحماسة: فائدة إذن هو أخرج البيت مخرج الجواب ومثال الثاني ما جاء في كامل المبرد من قوله: إذا صب لبن حليب على حامض فهي المرخة وهذا فاش في كلام الفصحاء وقد جاء في سورة الأنعام فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي مكان هذه ربي. قال صاحب الكشاف فإن قلت ما وجه التذكير في قوله (هذا ربي) والإشارة للشمس قلت جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد. وقال صاحب أنوار التنزيل ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن التأنيث. الدقيقة الثالثة متى أريد بالمفرد العموم ولو لم يكن اسم جنس جمعي كالشجر أو اسم جمع كالشعب والقوم جاز أن يعامل في نعته والإضمار له والإخبار عنه معاملة الجمع وهذا مبني على اعتبار المعنى فقد جاء في سورة الأنعام وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم قال الزمخشري فإن قلت كيف قيل أمم مع إفراد الدابة والطائر قلت لما كان قوله تعالى وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال وما من دوابٍ ولا طيرٍ حمل قوله إلا أمم على المعنى وقال البيضاوي وجمع الأمم للحمل على المعنى ومثله في القرآن أيضاً وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم

شيئاً وذلك لأن قوله كم من ملك في معنى كم ملائكة. الدقيقة الرابعة في الفرق بين نادها لو تسمع وبين فحيها هل تسمع. قال التبريزي في شرح قول مويلك في رثاء امرأته: أُمرر على الجدث الذي حلت به ... أم العلاء ونادها لو تسمع ويروى فحيها هل تسمع والفرق بين (لو) هنا وبين (هل) أن (لو) فائدته الشرط هنا والكلام به كلام من غلب القنوط عليه من إدراكها تحية من زارها و (هل) من حيث كان للاستفهام يصير الكلام به كأنه كلام راج أو طامع في سماعا ويكون المعنى حيها وانظر هل تسمع. الدقيقة الخامسة حق رب أن تدخل على الماضي ولكنها جاءت في سورة الحجر داخلة على المضارع حيث قال ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين قال الزمخشري لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ود. الدقيقة السادسة إن الفاء التي تلي همزة الاستفهام إنما يراد بها التعقيب قال الزمخشري في تفسير قول القرآن أفرأيت الذي كفر بآياتنا والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب كأنه قال أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك. الدقيقة السابعة (فضلاً) مصدر يتوسط بين الأدنى والأعلى للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفي الأعلى واستحالته فيقع بعد نفي إما صريح كقولك لا يملك فلان الدراهم فضلاً عن الدينار وإما ضمير نحو وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم فضلاً أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي المعاني والبيان. وأكثر الكتبة المعاصرين ذاهلون عن هذا الحكم فيستعملون فضلاً في الإيجاب كقولك زيد بارع في صيد البر فضلا عن براعته في صيد البحر وهو مخالف للقاعدة المذكورة مغاير لمنهج البلغاء. الدقيقة الثامنة

قد فشا في كتب علماء الصرف أن (يدع ويذر) قد اميت ماضيهما حتى صار ذلك معلوماً لصبيان المكاتب ولم أعثر في قديم الكلام على ما يخالف ذلك إلا في بيت من قصيدة عينية لسويد بن أبي كاهل اليشكري وهو: فسعى مسعاتهم في قومه ... ثم لم يظفر ولا عجزاً ودع قال الشارح: أي سعى مسعاة أبيه في قومه فلم يظفر بما أراد ولا ترك عجزاً إلا استعمله والقصيدة من مختارات المفضل الضبي فيؤخذ ذلك للمضطر أن يحي ما أُميت كما أحياه سويد. الدقيقة التاسعة لم يذكر النحاة شيئاً في إعراب (حاش الله) وهي في موضع النصب على المصدرية. وإنما بقيت على بنائها كبقاء عن على بنائها في نحو جلس عن يمينه. ذكر ذلك الزمخشري في تفسير سورة يوسف. الدقيقة العاشرة من سنن العرب أنهم يقولون في نحو بني العنبر بلعنبر وذلك يفعلون في كل ما فيه ألف ولام إذا لم يكن ثم إدغام فيقولون بلعجلان وبلحارث في بني العجلان وبني الحارث فإن كانت لام التعريف مدغمة مثل النمر لم يحذفوا النون من بني. الدقيقة الحادية عشرة إذا توالت النعوت أو الأحوال وترك العطف كان ذلك إشارة إلى أن كل نعت صفة كمال على حدة كقول الزمخشري في مقدمة الكتاب أنشأه كتاباً ساطعاً تبيانه قاطعاً برهانه. الدقيقة الثانية عشرة قد أجاز العروضيون وصل همزة القطع لإقامة الوزن وقد عثرت في شرح القصيدة التي هجا بها حسان بن ثابت مسافع بن عياض التميمي على ما نصه قوله أو أصحاب اللوا الصيد خفف الهمزة. وتخفف إذا كان قبلها ساكن فتطرح حركتها على الساكن كقولك من أبوك كذا ذكره المبرد في كامله. الدقيقة الثالثة عشرة إن كثيراً من كتب النحو المتداولة تنص على وجوب نصب الفعل بعد فاء السبب في

جواب النفي والصحيح أن ذلك غالب لا واجب بدليل قول الحارثي وهو من شعراء الحماسة: فما حيلتي إن لم تكن لك رحمة ... علي ولا لي منك صبر فأصبر وقد جاء في القرآن بالرفع بعد الفاء حيث قال: ولا يؤذن له فيعتذرونذكر ذلك سيبويه والدماميني ونقله الصبان في باب النواصب. الدقيقة الرابعة عشرة إن (أحداً) لا يستعمل إلا مسبوقاً بالنفي ما لم يضف نحو قام أحد الأربعة أو يقع نعتاً لله نحو هو الله الأحد أو يصاحب أسماء العدد كقولك عندي أحد وعشرون رجلاً هذا ما صرح به في كتبهم ولقد رأيت البلغاء يستعملونه قبل النفي كقول الزمخشري وعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه فيؤخذ من ذلك أن الشرط مصاحبه النفي سواء تقدم أم تأخر خلافاً لما يفهمه أكثر الأدباء من وجوب الوقوع بعد النفي. الدقيقة الخامسة عشرة قد أنكر أحد من أدركنا من أهل العصر على أحد المعاصرين قوله قال يوحنا فم الذهب وقال الصواب أن يقال الذهبي الفم. قلت إن هذا الانتقاد خطأ لأن فم الذهب لقب ليوحنا فهو بدل من لا نعت له على حد قولهم جاء زيد زين العابدين. وذهب عمر وأنف الناقة. الدقيقة السادسة عشرة قد أنكر بعضهم استعمال المربض لغير الغنم استدل بنصوص من كتب اللغة كالصحاح والمصباح. وقد رأيت في الصفحة 626 من الجزء الأول من الكشاف في تفسير سورة يوسف ما نصه وهو جاثم في مربضه أي الطائر ومثل الزمخشري جدير بأن يوثق بكلامه. الدقيقة السابعة عشرة قد أنكر بعضهم جمع برهان على برهانات وجاء في كتاب البيان والتبيين للجاحظ في الصفحة الثامنة ما نصه ومن العلامات الظاهرة والبرهانات الواضحة فيكون إنكاره خطأ وانتقاده غلطاً. الدقيقة الثامنة عشرة قد يخبر عن الجمع بالمفرد ولكن على تأويل قال القرآن كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون

عليهم ضدا إنما وحد ضداً وحقه أن يكون جمعاً لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرض تضامنهم وقال القرآن أيضاً وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام يريد ذوي جسد ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي جسد من الأجساد ومثله وما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ومن هذا الباب قول القرآن أيضاً ثم نخرجكم طفلاً قال المفسر: طفلاً حال أجريت على تقدير كل واحد. الدقيقة التاسعة عشرة قد ورد في الشعر خطاب المرأة بضمير الرجال وذلك كقوله: فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيءٍ ولا أني من الموت أفرق وكقول سعيد بن حميد يخاطب محبوبته فضل الشاعره: تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلاً وبعض الظن أثم ومنكر إذا كان قلبي في يديك رهينة ... فكيف بلا قلب أصافي وأهجر ومن هذين الشاهدين تعلم أنه يخاطب المرأة بضمير المؤنثة المخاطبة وبضمير جمع المذكر العاقل وهو جائز حيث يؤمن اللبس. الدقيقة العشرون إذا كان المتكلم في فن ثم شرع في فن آخر من الكلام يصدر الكلام الجديد بقوله (اعلم) تنبيهاً على الانتقال - ذكر ذلك الزمخشري في كشافه. الدقيقة الحادية والعشرون من سنن العرب أن يستغنى بذكر الشيء عن ذكر نقيضه قال المثقب العبدي: ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمرُّ بها رياح الصيف دوني أراد رياح الصيف والشتاء فاجتزأ بواحد منهما ومثل ذلك قول القرآن سرابيل تقيكم الحر لم يذكر البرد وهي تقي الحر والبرد فترك البرد اجتزاءً بذكر الحر. الدقيقة الثانية والعشرون من التراكيب المستفيضة الواردة عن البلغاء ما تقدر فيه الجملة بالمفرد. من ذلك قولهم ما ترى لنا أن أنهرب أم نقيم والتقدير ما ترى لنا الهرب أم الإقامة. وهذا لم أجد من تعرض لذكره. نعم قالوا في باب أم المتصلة أنها تقع بين جملتين في تأويل المفرد نحو قول القرآن

سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. على أنهم لم ينبهوا على أن الجملة تسبك بمصدر إلا مع الأحرف المصدرية. الدقيقة الثالثة والعشرون قد رأيت من الأدباء من ينكر استعمال صار بمعنى حصل وهذا خطأ جلبه نقص العلم فهي تأتي بمعنى حصل ومن تتبع كتب اللغة يرها واردة بهذا المعنى في عدة مواضع من ذلك ما جاء في مادة (وق ع) ونصه وقع في ارض فلاة صار فيها. الدقيقة الرابعة والعشرون إن أكثر الأدباء يرون قول العامة بقي فلان بفرد يد خطأ وصوابه بيدٍ واحدةٍ والحال أنه عربي فصيح فقد جاء في أخبار دعبل في كتاب الأغاني فحلف أن لا يبيعها (أي الحلة) أو يعطوه بعضاً ليكون في كفنه فأعطوه فردكم أي كماً واحداً وقد ورد هذا في غير الأغاني من كتب البلغاء. الدقيقة الخامسة والعشرون لم أر من نص على أن حيث تقع في مقام التعليل مع أنها وردت للتعليل في كلام البلغاء كالزمخشري والبيضاوي وقال الأول والأمر على عكس ما قدروا حيث هم جند لآلهتهم معدون وقال الثاني وما ضررتم بالكفران إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام وهي في كلام هذين الإمامين بمعنى لأن. الدقيقة السادسة والعشرون إذا جاء في لفظ مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى فإن روعي أحدهما في جملة جاز أن يراعى الآخر في أخرى. قال في سورة الحجر وما تسبق أمة أجلها وما يستأخرون وقال غلاق بن مروان وهو من شعراء الحماسة: فأضحت زهير في السنين التي مضت ... وما بعد لا يعدون إلا الأشائما الدقيقة السابعة والعشرون إذا قيل لا أشجع من عمرو ولا أجبن من خالد ولذلك يشبه بهما كل متناهٍ في الشجاعة وكل متناهٍ في الجبن يكون المراد أن كل متناهٍ في الشجاعة يشبه بعمرو وكل متناهٍ في الجبن يشبه بخالد - لا أن كل متناهٍ في الشجاعة يشبه بخالد ولا كل متناهٍ في الجبن يشبه بعمرو

خلافاً لما يماري فيه من يدعون التعمق في علم العربية وإنما هم واقفون عند ظواهرها وتعزيزاً لهذا أروي لك ما يبين لك الأمر كالصبح قال البيضاوي في تفسير سورة يوسفوذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذلك يشبه كل متناهٍ في الحسن والقبح بهما اه - يريد أن كل متناه في الحسن يشبه بالملك وكل متناهٍ في القبح يشبه بالشيطان. بيروت - سعيد الخوري الشرتوني

الفروق

الفروق للعرب كتب كثيرة في الفروق وأفردوها في التأليف وقد ذكر منها صاحب كشف الطنون رسالة في فروق الأصول وأخرى في فروق فروع الحنفية للكرابيسي النيسابوري المتوفي سنة 774 وغيرها للشيخ الكرابيسي السمرقندي المتوفي سنة 322 وثانية اسمها فروق الكرابيسيي المسمى بتلقيح المحبوب ورابعة في فروق فروع الشافعية لابن سريج وأخرى للجويني ولابن النقاش وللترمزي (255) وللأرموي (772) قال ذكر الأسنوي في مطالع الدقائق أن المطارحة بالمسائل ذوات المأخذ المؤتلقة المتفقة والأجوبة المختلفة المفترقة من مآثر وأفكار العلماء وقال قد رأيت لأصحابنا في هذا المعنى تصانيف منها ما هو موضوع لهذا المعنى بخصوصه ومنها ما هو مشتمل على أعم منه فمن الأول كتاب الجمع والفروق للشيخ أبي محمد الجويني ومنه كتاب الوسائل في فروق المسائل مجلد ضخم لأبي الخير سلامة بن اسمعيل بن جماعة المقدسي ومن الثاني كتاب المطارحات لأبي عبد الله القطان ظفر به الرافعي ونقل عنه في كتاب الغصب ومنه المسكت بالسين المهملة والتاء المثناة لابن عبد الله الزبيري ومنها المعاياة لأبي العباس الجرجاني وهذا الباب واسع جداً اشتمل على الغثِّ والثمين. ومن جملة المخطوطات التي حوتها خزانة كتب السيد عبد الباقي الحسيني مخطوط فيه أربع رسائل وسمى أولها بكتاب المتوكلي يذكر فيه ما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والتركية والزنجية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية وغير ذلك لجلال الدين السيوطي والثانية الأحاديث الثمانية المنتخبة من نوادر الأصول العالية لأبي الضيا البوتيجي ويليه حسن النسيم بدار النعيم للطبلاوي ويليه المنتخب من كتاب الفروق لأبي هلال العسكري. وليس على المجموع كناية يعرف منها تاريخ كتابته إلا أن الظاهر من خطه وورقه أنه حديث وربما كانت الرسالة الأخيرة منه في الفروق أقدم من الثلاث الأولى لأنها مكتوبة بخط مختلف عن الخط الأول ولم يذكر فيه اسم صاحبها والغالب أنه تركي كتب على حاشية الصفحة الأولى ما نصه: الفرق بين الاسامة والأسد اسم للجنس والاسامة علم للجنس والفرق بين علم الجنس واسم الجنس أن علم الجنس موضوع للماهية المشتركة واسم الجنس موضوع للافراد جلبي وقال على الحاشية الإنسان والفرس والبقر فإنها علم للحقيقة المشتركة بين المذكر والمؤنث شرح وفي

آخر رسالة تمت (؟) الكتاب بعون الملك الوهاب. وبذلك يستدل على أعجمية الكاتب والمختصر وإليك الرسالة برمتها: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أما بعد حمد الله والصلوة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد وعلى سائر رسل الله وملائكته المقربين والرضى عن الصحابة والتابعين فهذه شذرة علقتها من كتاب الفروق لأبي هلال العسكري رحمه الله. الفرق بين الاختصار والإيجاز أن الاختصار هو إلقاؤك الألفاظ من كلام مؤلف سبق حدوثه من غير إخلال بمعانيه والإيجاز هو الكلام على قلة اللفظ وكثرة المعاني. الفرق بين الإطناب والإسهاب أن الإطناب بسط الكلام لتكثير الفائدة والإسهاب بسطه مع قلتها فالإطناب بلاغة والإسهاب عيٌّ. الفرق بين المحال والممتنع على ما قاله بعض العلماء أن المحال ما لا يجوز كونه ولا يتصور مثل قولك الجسم أسود أبيض في حالة واحدة والممتنع ما لا يجوز كونه ويجوز تصوره في أهم مثل قولك للإنسان عش أبداً. الفرق بين الإنكار والجحد أن الجحد أخص من الإنكار لأن الجحد إنكار الشيء الظاهر لقوله تعالى بآياتنا يجحدون والإنكار لشيء خفي لقواه تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها لأن النعمة قد تكون خافية ويجوز أن يقال الجحد وإنكار الشيء مع العلم به لقوله تعالى وجحدوا بها والإنكار لا يكون مع العلم. الفرق بين الزور والكذب والبهتان أن الزور هو كذب قد حسن في الظاهر ليحسب أنه صدق بخلاف الكذب وأما البهتان فهو مواجهة الإنسان بما يكرهه. الفرق بين الافتراء والاختلاق أن المفتري يقطع بالكذب ويخبر به والمختلق يبتدئ كذباً ويخبر به. الفرق بين الإقرار والاعتراف أن الإقرار فيما قاله أداءُ معاني أخبار عن شيء ماض وهو في الشريعة جهة ملزمة للحكم وقال بعضهم الاعتراف كالإقرار وقال أبو هلال يجوز أن يقر بالشيء وهو لا يعرف أنه أقر به ويجوز أن يقر بالباطل الذي لا أصل له ولا يقال لذلك اعتراف إنما الاعتراف هو الإقرار الذي صحبته المعرفة بما أقرَّ به مع التزام له ولهذا يقال اعتراف بالنعمة ولا يقال إقرار بها فكل اعتراف إقرار وليس كل إقرار اعترافاً

ولهذا اختار أصحاب الشروط الإقرار لأنه أعم ونقيض الاعتراف الجحد ونقيض الإقرار الإنكار. الفرق بين الشكر والحمد أن الشكر هو الاعتراف بالنعمة علة جهة التعظيم للمنعم والحمد هو الذكر الجميل على جهة التعظيم ويجوز أن يحمد الإنسان نفسه على أمور جميلة يأتيها ولا يجوز أن يشكرها فالاعتماد في الشكر على توجيه النعمة وفي الحمد على ما توجيه الحكمة ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الاكفار ولا يجوز أن يطلق الحمد إلا لله تعالى. الفرق بين الحمد والمدح أن الحمد لا يكون إلا على إحسان بخلاف المدح. الفرق بين الجزاء والمكافأة والمقابلة أن الجزاء لا يلزم فيه المساواة بخلاف المكافأة والمقابلة وعورض بقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الآية. الفرق بين الثناء والنثاء على ما قال بعضهم أن الثناء بتقديم الثاء يكون في الخير والشر والنثاء بتقديم النون لا يكون إلا في الشر والصحيح أن الثناء وهو الأول لا يكون إلا في الخير وربما استعمل في الشر والنثاء وهو الثاني يكون في الخير والشر. الفرق بين السب والشتم أن الشتم تقبيح أمر المشتوم بالقول والسب هو الإطناب في الشتم والإطالة فيه. الفرق بين الشتم والسفه أن الشتم قد يكون حسناً إذا كان المشتوم يستحق الشتم والسفه لا يكون إلا قبيحاً. الفرق بين الذم واللوم أن اللوم على الفعل الحسن والذم لا يكون إلا على القبيح. الفرق بين العتاب واللوم أن العتاب هو يكون على تضييع حقوق المودة والصداقة بخلاف اللوم. الفرق بين المستقيم والصحيح والصواب أن كل مستقيم صحيح وليس كل صواب صحيح مستقيماً. الفرق بين المستقيم والصواب أن الصواب إطلاق الاستقامة على الحسن والمستقيم هو الجاري على سنن وإن كان قبيحاً. الفرق بين الخطأ والغلط أن المخطئ من يقصد الشيء فيصيب غيره وأما الغلط فهو وضع الشيء في غير موضعه.

الفرق بين اللحن والخطأ أن اللحن في القول فقط والخطأ في القول والعمل. الفرق بين العقد والعهد أن العقد أبلغ من العهد. الفرق بين العهد والميثاق أن الميثاق توكيد العهد وقال بعضهم العهد بين اثنين والميثاق من أحدهما. الفرق بين الوعد والعهد أن العهد ما كان بشرط قال الله ولقد عهدنا إلى آدم الآية أن لا يخرج من الجنة ما لم يأكل من الشجرة بخلاف الوعد ويقال نقض العهد وأخلف الوعد. الفرق بين التفسير والتأويل قيل أن التفسير هو الإخبار عن أفراد آحاد الجملة والتأويل الإخبار بمعنى الكلام جملة وقيل التفسير إفراد ما ينظمه ظاهر التنزيل والتأويل إخبار بغرض المتكلم وقيل التأويل استخراج معنى الكلام لا على ظاهره بل على وجه مجاز أو حقيقة. الفرق بين الشرح والتفصيل أن الشرح بيان المشروح وإخراجه من وجه الإشكال إلى التجلي والظهور ولهذا لا يستعمل الشرح في القرآن والتفصيل هو ذكر ما تضمنته الجملة على سبيل الإفراد ولهذا قال الله تعالى ثم فصلت من لدنٍ حكيم ولم يقل شرحت. الفرق بين التقسيم والتفصيل أن في التفصيل معنى البيان عن كل قسم بما يريد ذكره فقط والتقسيم يحتمل الأمرين والتقسيم يفتح المعنى ولتفصيل يتم بيانه. الفرق بين القرآن والفرقان أن القرآن أعم والفرقان هو الفارق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. الفرق بين السلام والتحية أن التحية أعم من السلام. الفرق بين العام والمبهم أن العام يشتمل على أشياء والمبهم يتناول واحد الأشياء بعينه. الفرق بين فحوى الخطاب ودليل الخطاب أن فحوى الخطاب باللفظ كقوله تعالى ولا تقل لهما أفٍّ ودليل الخطاب هو ما تعلق بصفة الشيء أو عدده أو حاله أو غايته ونحوها. الفرق بين البيان والفائدة أن البيان لمعرفة غيره والمعرفة لنفسه الفرق بين القراءة والتلاوة أن التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعداً والقراءة تكون لكلمة واحدة. الفرق بين المنازعة والمطالبة أن المطالبة تكون بما يعترف به المطلوب والمنازعة لا

تكون إلا فيما ينكره المطلوب. الفرق بين المسألة والفتيا أن المسألة عامة في كل شيء والفتيا سؤال عن حادثة. الفرق بين بلى ونعم أن بلى لا تكون إلا جواباً لما تقدم جحوده كقوله تعالى: ألست بربكم قالوا بلى أما نعم فلا تكون إلا للاستفهام بلا جحود وكقوله تعالى: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً قالوا: نعم. الفرق بين الوسوسة والفزع أن الفزع الإغواء بالوسوسة وأكثر ما يكون عند الغضب. الفرق بين الدلالة والامارة أن الدلالة ما يؤدي النظر فيه إلى العلم والامارة ما يؤدي النظر فيه إلى الظن. الفرق بين الاستدلال والدلالة أن الدلالة ما يمكن الاستدلال به والاستدلال فعل المستدل. الفرق بين النظر الاستدلال أن الاستدلال طلب معرفة الشيء من جهة غيرة والنظر طلب معرفته من جهته ومن جهة غيره. الفرق بين النظر والتأمل أن النظر هو ما ذكرناه والتأمل هو النظر المؤمل به معرفة ما يطلب ولا يكون إلا في مدة فكل تأمل نظر وليس كل تأمل نظراً. الفرق بين النظر والبديهة أن البديهة أول النظر يقال عرفته على البديهة أي في أول أحوال النظر. الفرق بين البديهة والروية أن الروية على ما قال بعضهم آخر النظر والبديهة أوله. الفرق بين النظر والفكر أن النظر يكون فكراً ويكون بداهة والفكر ما عدا البديهة. الفرق بين التفكر والتدبر أن التدبر صرف القلب بالنظر في العواقب والتفكر تصرف للقلب بالنظر في الدلائل. الفرق بين الانتظار والترجي أن الترجي انتظار الخير خاصة ولا يكون إلا مع الشك وأما الانتظار والتوقع فهو طلب ما يقدر إيقاعه. الفرق بين الانتظار والتربص أن التربص طول الانتظار. الفرق بين الخاطر والنظر أن الخاطر مرور معنى بالقلب بمنزلة خطاب مخاطب وعند بعضهم أنه كلام يحدثه الله تعالى أو الملك في سمع الإنسان فإذا كان من الشيطان سمي وسواساً وعورض بالأخرس فإن له خاطراً ولا كلام له.

الفرق بين الذكر والخاطر أن الخاطر يكون ابتداء ويكون عن عزوب والذكر لا يكون إلا عن عزوب. الفرق بين العلم والمعرفة أن المعرفة أخص من العلم لأنها لا تكون إلا مفصلة والعلم يكون مجملاً ومفصلاً قال بعضهم: ولا يوصف الله بأنه عارف قال المؤلف وليس كما قاله. الفرق بين العلم واليقين أن العلم معرفة الشيء على ما هو به أو اعتقاده واليقين هو سكون النفس بما علم وبهذا لا يجوز أن يوصف الله باليقين ويقال اليقين لا يزال بالشك وقلَّ أن يقال العلم لا يزال بالشك. الفرق بين الشعور والعلم أن الشعور النظر الدقيق الموصل للعلم والعلم أعم. الفرق بين المعرفة الضرورية والإلهام أن الإلهام ما يبدو في القلب من المعارف بطريق الخير فيفعل وبطريق الشر فيترك والمعارف الضرورية أربعة عند المشاهدة وعند التجربة وعند الإخبار وعند أوائل العقل. الفرق بين العالم والمحقق أن المحقق هو المتطلب حق المعنى حتى يدركه ولهذا لا يقالان الله محقق وقيل التحقيق لا يكون إلا بعد الشك بخلاف العلم. الفرق بين العلم والعقل أن العقل هو العلم الأول الزاجر عن القبيح وكل من كان زاجره أقوى كان أعقل ولهذا لا يوصف الله تعالى به وقال بعضهم العقل الحفظ يقال عقلت الدرهم أي حفظتها ومن هذا الوجه يجوز أن يقال الله تعالى عاقل أي حافظ إلا أنه لم يستعمل. الفرق بين الذهن والعقل أن الذهن هو نقيض سوء الفهم وهو عبارة عن وجود الحفظ لما يتعلمه ولا يوصف الله تعالى به والعقل ما تقدم. الفرق بين الفطنة والذهن أن الفطنة هي التنبه على المعنى وضدها الغفلة ويجوز أن يقال أن الفطنة ابتداء المعرفة من وجه غامض وكل فطنة علم لا كل علم فطنة والذهن ما تقدم. الفرق بين الفطنة والذكاء أن الذكاء تمام الفطنة وفي الذكاء معنى زائد عن الفطنة. الفرق بين الفطنة والحذاقة أن الحذاقة هي سرعة الحركة في الأمور وأصلها الحدة والتناهي فلما كان الله تعالى لا تتناهى معلوماته لم يجز أن يوصف بالحذاقة والفطنة ما تقدم. الفرق بين الألمعي واللوذعي أن اللوذعي هو الخفيف الظريف مأخوذ من لذع النار وهو

سرعة أخذها من الشيء والألمعي هم الفطن الذكي الذي تبين له عواقب الأمور بأدنى لمعة أي لوح له. الفرق بين القريحة والطبيعة أن الطبيعة ما طبع عليه الإنسان أي خلق والقريحة فيما قال المبرد ما خرج من الطبيعة من غير تكلف وقولهم ماءٌ قراحٌ أي لم يخالطه شيءٌ وللأرض التي لا تنبت قرواح والشجرة إذا جاوزت الدهر قرواحة والفرس القارح القديم السن وأما القرح في الجلد والقرحة شبيهه. الفرق بين العلم والفقه أن الفقه هو العلم بمقتضى الكلام على ما تأمله بخلاف العلم ولهذا لا يقال أن الله تعالى تفقه لأنه لا يوصف بالتأمل. الفرق بين السمع والإصغاء أن السمع هو إدراك المسموع والإصغاء طلب إدراكه. الفرق بين السمع والاستماع هو الإصغاء للمسموع ليفهم بخلاف السمع ولهذا لا يقال أن الله تعالى يستمع. الفرق بين العلم والإدراك أن الإدراك موقوف على أشياء مخصوصة وليس العلم كذلك والإدراك يتناول الشيء على أخص أوصافه وعلى الجملة فالعلم يقع بالمعدوم ولا يدرك إلا الموجود والإدراك طريق من طريق العلم ولهذا العلم قوته ضعفه بالمدرك والدراية هي الفهم. الفرق بين الإحساس والإدراك على ما قاله بعضهم أنه يجوز أن يدرك الإنسان الشيء وإن لم يحس به كما يدركه ببصره ويغفل عنه فلان فلا يعرفه وقال أهل اللغة لما أشعرت به أحسست به أي أدركته بحسك وفي القرآن: فلما أحسوا بأسنا وفيه: فتحسسوا من يوسف وأخيه أي تعرفوا بإحساسهم وقال بعضهم الحس هو أول العلم ومنه قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم بالكفر أي علمه من أول وهلة ولا يجوز أن يقال الإنسان يحس بوجود نفسه. الفرق بين العلم والاعتقاد أن العلم أعم فلا يلزم من العلم الاعتقاد بخلاف عكسه. الفرق بين العلم والحفظ أن الحفظ هو العلم بالمسموعات دون غيرها من المعلومات ألا ترى لا يقال حفظت أن زيداً في البيت ولا يقال للعلم بالمشاهدات حفظ ويجوز أن الحفظ هو العلم بالشيء حالاً بعد حال من غير تخلل جهل أو نسيان ولهذا سمي حفاظ لقران حفاظاً ولا يوصف الله بالحفظ لذلك.

الفرق بين الذكر والتنبه أن الذكر هو العلم بالحادث بعد النسيان بخلاف التنبه. الفرق بين العلم والإحاطة أن الإحاطة كالدائرة من كل وجه تجيء بمعنى العام وبمعنى القدرة وقد جاء لفظة الإحاطة في القرآن كثيراً منه قوله تعالى وكان الله بكل شيء محيطاً وقد أحاط بكل شيء علماً والله محيط بالكافرين والعلم ما تقدم. الفرق بين المعروف والمشهور أن المشهور هو المعروف عند جماعة كثيرة والمعروف هو المعروف ولو عن واحد. الفرق بين العلم والشهادة أن العلم أعم والشهادة أخص. الفرق بين الشاهد والمشاهد أن المشاهد للشيء هو المدرك له رؤية وقيل رؤية أو سمعاً وهو في الرؤية أشهر ولا يقال أن الله لم يزل مشاهداً لأنه يقتضي إدراكاً بجله والشاهد هو يقتضي ذلك. الفرق بين الشاهد والحاضر أن الشاهد للشيء يقتضي العلم بخلاف الحاضر ألا ترى أنه يقال حضره الموت لا شاهده الموت ولا يصح وصف الموت بالعلم. الفرق بين الإعلام والإخبار أن الإعلام التعريض بما علم به والإخبار إظهار الخبر علم به أو لم يعلم. الفرق بين العلم والتقليد أن العلم معرفة الشيء واعتقاده على ما هو به على سبيل الثقة والتقليد قوبل الأمر ممن لا يؤمن عليه الغلط بلا حجة. الفرق بين النسيان والسهو أن النسيان إنما يكون عما كان والسهو يكون عما لم يكن يقال نسيت ما عرفته وبهذا يقال سهوت عن السجود الذي لم يكن ويقال النسيان عن ذكر والسهو عن ذكر وعن غيره. الفرق بين السهو الغفلة أن الغفلة تكون عما لا يكون والسهو عما يكون وفرق آخر وهو أن الغفلة تكون عن فعل الغير ولا يجوز عن يسهى عن فعل الغير. الفرق بين النوم والإغماء أن الإغماء سهو من مرض فقط والنوم سهو بمحدث من فتور جسم. الفرق بين الظن والحسبان على قول بعضهم أن الظن ضرب من الاعتقاد والحسبان ليس بالاعتقاد.

الفرق بين الريبة والتهمة وكلاهما مذمومتان أن الريبة في الإنسان تورث شكاً في صلاحه مثلاً والتهمة تورث مقالاً فيه فكل مرتاب متهم وكل متهم ليس بمرتاب. الفرق بين التصور والتخيل أن التصور لا يثبت على حال وقيل التخيل تصور الشيء على أوصافه والتخيل والتصور منافيان العلم كما أن الظن والشك ينافيانه. الفرق بين الحماقة والرقاعة أن الرقاعة على ما قال بعضهم حمق مع رفعة وعلو رتبة ولا يقال أحمق إذا كان سيداً أو رئيساً أو ذا مالٍ أو جاه. الفرق بين الحياة والعيش أن العيش سبب الحياة من أكل وشرب ونحوهما. الفرق بين الحياة والروح أن الروح من قرائن الحياة والحياة عرض والروح جسم رقيق من جنس الريح وقيل هي جسم رقيق حساس وزعم الأطباء أن موضعها في الصدر من الحجاب والقلب وذهب بعضهم إلى أنها مبسوطة في جميع البدن وفيه خلاف كير وسمي جبرائيل عليه السلام روحاً لأن الناس ينتفعون به في دينهم كانتفاعهم بالروح وبهذا المعنى سمي القرآن روحاً. الفرق بين الروح والمهجة والنفس والذات أن الروح ما تقدم والمهجة خالص دم الإنسان الذي إذا خرج خرجت روحه وهو دم القلب والنفس مشتركة يقع على الروح والذات. الفرق بين الإهلاك والإعدام أن الإهلاك أعم من الإعدام فكل إعدام إهلاك وليس كل إهلاك إعداماً. الفرق بين القدرة والقهر أن القدرة تكون على صغير لقدور كبيرة والقهر يدل على كبير المقدور. الفرق بين الغلبة والقدرة أن الغلبة من فعل الغالب وليست القدرة من فعل القادر. الفرق بين القهر والغلبة أن الغلبة من نتاج القدرة. الفرق بين القادر والقوي أن القوة أخص والقوة أعم فكل قوي قادر لا كل قادر قوي. الفرق بين القوة والشدة أن الشدة ليست من قبيل القدرة قال الله تعالى: أشد منهم قوة أي أقوى منهم وفي القرآن: ذو القوة المتين أي العظيم الشأن في القوة. الفرق بين الشدة والصعوبة أن الشدة ما ذكرناه والصعوبة تكون في الأفعال دون غيرها. الفرق بين الصحة والعافية أن الصحة أعم والعافية أخص.

الفرق بين الصحة والسلامة أن السلامة نقيض الهلاك والصحة نقيض السقم. الفرق بين القدرة والطاقة أن الطاقة غاية مقدرة القادر واستفراغ وسعه في المقدور ولا يقال تعالى مطيق. الفرق بين القدرة والاستطاعة أن القدرة أعم والاستطاعة أخص وكل مستطيع قادر لا كل قادر مستطيع. الفرق بين القادر والمتمكن قال بعضهم معناهما واحد وبعضهم فرق والاستطاعة والتمكن من صفات المخلوقين. الفرق بين الدوام والخلود أن الدوام هو استمرار البقاء في جميع الأوقات والخلود هو استمرار البقاء من وقت المبدأ والله تعالى موصوف بالدوام لا بالخلود. الفرق بين الدائم والسرمد أن السرمد هو الذي لا فصل فيه بل اتباع الشيء بالشيء. الفرق بين الخلود والبقاء أن الخلود استمرار البقاء من وقت له مبدأ وأصل الخلود اللزوم. الفرق بين القديم والباقي أن الباقي هو الموجود لا عن حدوث والقديم ما لم يزل كائناً موجوداً والقديم على الحقيقة هو الذي لا أول لوجوده. الفرق بين الأول والسابق أن السابق يقتضي أن يكون ثم مسبوق والأول لا يقتضي ثانياً ألا ترى أنك تقول هذا أول موجود ولد لفلان وإن لم يولد له غيره وأول عبد يملكه حي وإن لم يملك غيره وبهذا يبطل قول الملحدين أن الأول لا يسمى أول إلا بالإضافة إلى الثاني. الفرق بين الحب والود أن الحب فيما يكون يوجبه ميل الطباع والود من جهة ميل الطباع فقط. الفرق بين الإرادة والرضا أن الإرادة تكون الطاعة قبلها والرضا بها يكون بعدها أو معها والرضا نقيض السخط والسخط من الله تعالى إرادة العقاب فينبغي أن يكون الرضا منه إرادة الثواب. الفرق بين الإرادة والمشيئة أن الإرادة لما يتراخى وقته ولما لا يتراخى والمشيئة لما يتراخى وقتها فقط. الفرق بين المشيئة والعزم أن المشيئة تقدم والعزم إرادة يقطع بها المريد رؤيته في الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه ويختص بإرادة المريد لفعل نفسه لأنه لا يجوز أن يعزم على

فعل غيره. الفرق بين العزم والنية أن النية إرادة متقدمة لتفعل بأوقات والعزم قد يكون متقدماً للمعزوم عليه بأوقات أو توقت ولا يوصف الله تعالى بالنية ولا بالعزم. الفرق بين الإرادة والاختيار أن الاختيار إرادة الشيء بدلاً من غيره بخلاف الإرادة. الفرق بين القصد والإرادة أن قصد القاصد مختص بفعله دون فعل غيره والإرادة غير مختصة بأحد الفعلين دون الآخر والقصد أيضاً إرادة الفعل في حال اتحاده فقط إذا تقدمته بأوقات لم يسم قصداً إلا أنه لا يقال قصدت أن أزورك غداً. الفرق بين الهم والإرادة إن الهم إجراء العزيمة عند موافقة الفعل وقيل الهم تعلق الخاطر بشيء له قدر في الشدة والمهمات الشدائد. الفرق بين الهمة والقصد أن الهمة اتساع الهم وقوته فتقول فلان ذو همة وذو عزيمة. الفرق بين الغضب والغيظ أن الغيظ يكون من نفسه ولا يجوز أن يغضب على نفسه لأن الغضب إرادة الضرر للمغضوب عليه ولا يجوز أن يريد الإنسان الضرر لنفسه. الفرق بين الهم والحزن أن الحزن على ما فات والهم على ما هو آت فقلته من غير الكتاب المذكور. الفرق بين الغضب والسخط أن الغضب يكون من الصغير على الكبير ومن الكبير على الصغير والسخط لا يكون إلا من الكبير فقط. الفرق بين العداوة والشنآن أن العداوة إرادة السوء لمن تعاديه والشنآن على قول بعضهم طلب العتب على فعل الغير لما سبق من عداوته. الفرق بين المعاداة والمخاصمة أن المخاصمة من قبل القول والمعاداة من أفعال القلوب ويجوز أن يخاصم غيره من غير معاداة وأن يعادي غيره من غير مخاصمة. الفرق بين الاختراع والابتداع أن الابتداع إيجاد ما لم يسبق إلى مثله بخلاف الاختراع. الفرق بين الفعل والإنشاء أن الإنشاء هو إحداث الشيء حالاً بعد حال من غير ابتداءً على مثال بخلاف الفعل وقال بعضهم أن الإنشاء الابتداء والإيجاد من غير سبب والفعل يكون عن سبب قال آخرون الفعل إيجاد بعد أن لم يكن بسبب وبغير سبب والإنشاء ما يكون بغير سبب والوجه الأول أجود.

الفرق بين المبدئ والمبتدئ للفعل هو المحدث له ولا يقدر عليه إلا الله تعالى والمبتدئ بالفعل هو الفاعل لفعله من غير تتميمه. الفرق بين العمل والفعل أن العمل إيجاد الأثر في الشيء بخلاف الفعل. الفرق بين العمل والصنع أن الصنع ترتيب العمل وإحكامه دون العمل. الفرق بين الجعل والعمل أن العمل إيجاد الأثر في الشيء والجعل بغير صورته. الفرق بين الأخذ والتناول أن التناول أخذ الشيء للنفس خاصة والأخذ لنفسه ولغيره فهو أعم ويجوز أن يقال التناول يقتضي تسليم شيء بخلاف الأخذ قال الله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم. الفرق بين الواحد والفرد أن الواحد يقتضي الانفراد بالذات أو بالصفة والفرد نقيض الزوج. الفرق بين الانفراد والاختصاص أن الانفراد ما تقدم والاختصاص انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره. الفرق بين الواحد والأوحد أن الأوحد من فارق غيره ممن يشاركه في فن من الفنون بخلاف الواحد. الفرق بين الفرد والواحد أن الفرد يفيد التقليل دون التوحيد ولهذا لا يقال لله تعالى فريد كما يقال له فرد. الفرق بين الواحد والمنفرد أن المنفرد يقتضي التخلي والانقطاع عن الغرباء ولهذا لا يقال لله تعالى المنفرد بالنون كما يقال يتفرد بالتاء المتخصص بتدبير الخلق وغير ذلك مما يختص به من صفاته وأفعاله سبحانه وتعالى. الفرق بين الواحد والوحيد والفريد أن الوحيد والفريد يقتضي التخلي عن الأنيس ولا يوصف به إلا الله تعالى بخلاف الواحد. الفرق بين التفرد والتوحيد أن التفرد بالفضل والنبل والتوحيد التخلي. الفرق بين الوحدانية والوحدة أن الوحدة التخلي والوحدانية تقتضي نفي الأشكال والنظراء ولا يستعمل في غير الله تعالى واحد من طريق العدد. الفرق بين الواحد والأحد أن الواحد لا ثاني له والأحد لا يقبل التجزي والواحد يختص

بالصفات والأحد بالذات. الفرق بين الكل والجمع أن الكل عند بعضهم هو الإحاطة بالأجزاء والجمع الإحاطة بالأبعاض. الفرق بين البعض والجزء أن الجزء لا ينقسم وأن البعض ينقسم ويقتضي كلا والجزء يقتضي جمعاً. الفرق بين الجزء والسهم أن الجزء من جملة ما أقسمت عليه والاثنان جزءٌ من العشرة والثلاثة ليست بجزءٍ منها لأنها لا تنقسم عليه وكل ذلك يسمى سهماً كما قال بعضهم. الفرق بين الشبيه والمشبه أن الشبيه أعم والمشبه أخص. الفرق بين المثيل والنظير أن المثيلين ما تكافآ في الذات والنظير ما قل نظيره في حسن أفعاله. الفرق بين الصفة والهيئة من قبيل الأسماء واستعمالها في المسميات وليست الهيئة كذلك. الفرق بين الجنس والنوع أن الجنس أعم من النوع والصفة. الفرق بين الحظ والقسم أن كل قسم حظ وليس كل حظ قسماً. الفرق بين النصيب والحظ أن النصيب يكون في المحبوب والمكروه والحظ لا يكون إلا في المحبوب. الفرق بين الرزق والغذاء أن الرزق اسم لما يملك صاحبه الانتفاع به فليس كل ما يتغذى به الإنسان رزقاً كالمسروق وليس هو رزقاً للسارق إذ لو كان رزقاً له لما ذم عليه والرزق ما ينتفع به ليدخل الحرام والإلزام أنه لو عاش عمره بالحرام لم يكن له رزق وأما الذم علي فأمر آخر. الفرق بين البر والصلة أن البر يكون بسعة الفضل وبلين الكلام وبالملقة بجهل (؟) القول والفعل والصلة بالمواصلة بالفضل. الفرق بين البر والخير أن البر لا يكون إلا عن قصد والخير عن قصد وسهو. الفرق بين الغنيمة والفيء أن الغنيمة اسم لما أخذناه من أموال المشركين بقتال والفيء ما أخذناه من أموالهم بغير قتال إذ سبب أخذه الكفر. الفرق بين القرض والدين أن القرض يستعمل في الدين والنقد بخلاف الدين فكل قرض

دين ولا كل دين قرض. الفرق بين السخاء والجود أن الجود كثرة العطاء من غير سؤال والسخاء أن يلين عند السؤال. الفرق بين الكرم والجود أن الجود ما ذكرنا والكرم على وجوه فيقال الله تعالى كريم أي عزيز وهو من صفات ذاته ومنه قوله تعالى ما غرَّك بربك الكريم أي العزيز الذي لا يغلب والكريم الحسن في قوله تعالى من كل زوج كريم ومثله وقل لهما قولاً كريماً أي حسناً والكرم بالفضل في قوله تعالى أن أكرمكم عند الله أتقاكم أي أفضلكم ومنه قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم أي فضلناهم والكريم أيضاً السعيد في قوله عليه الصلاة والسلام إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه أي سيد قومٍ ويجوز أن يقال الكرم إعطاء الشيء عن طيب نفس قليلاً كان أو كثيراً هذا كلام من الكتاب وفي كتب الفقه أشياءٌ غير ذلك فلتراجع. الفرق بين الكرم والإيثار أن الإيثار بذل الشيء مع الحاجة إليه بخلاف الكرم والجود والسخاء. الفرق بين الشح والبخل أن الشح الحرص على منع الخير والبخل منع الحق. الفرق بين الصمد والسيد أن السيد المالك والصمد يقتضي القوة على الأصوب. الفرق بين سيد القوم وأكبرهم أن سيدهم هو الذي يلي تدبيرهم وكبيرهم هو الذي يفضلهم في العلم والسن والشرف. الفرق بين مالك وملك أن مالك يفيد مملوكاً وملك لا يفيد ذلك لكنه الأمر بسعة القدرة على أن المالك بيان أوسع من الملك لأنك تقول الله مالك الملائكة والأنس والجن. الفرق بين مالك ومليك أن المليك يقتضي المبالغة مثل سميع وعليم ولا يقتضي مملوكاً. الفرق بين العظيم والكبير أن الكبير الذي ليس فوقه أحد وقد يكون من جهة الكثرة ومن غير جهة الكثرة ولذلك جاز بأن يوصف الله تعالى بأنه عظيم ولم يوصف سبحانه بأنه كبير فقط وقد يعظم الشيء من جهة الحسن ومن جهة التثقيف وفرق بعضهم بين الجليل والكبير بأن قال الجليل في أسماء الله تعالى هو العظيم الشأن الذي يستحق الحمد والكبير من يستحق صفة الحمد والأجلُّ من ليس فوقه من هو أجل منه. الفرق بين الإله والمعبود أن الإله هو الذي يحق له العبادة فلا إله إلا الله وليس كل معبود

يحق له العبادة ألا ترى أن الأصنام معبودة والمسيح معبود ولا يحق لها ولا له العبادة. الفرق بين قولنا الله وبين قولنا إله أن قولنا الله اسم لم يسم به غير الله تعالى إلهاً على جهة الخطأ وأما قول الناس لا معبود إلا الله أي لا يستحق العبادة إلا الله. الفرق بين قولنا يحق له العبادة وقوله يستحق العبادة أن قولنا يحق له العبادة يفيد على أنه صفة يصح أنه منعم وقولنا يستحق يفيد أنه قد أنعم واستحق. الفرق بين الله وقولنا اللهم أن قولنا الله اسم وقولنا اللهم نداءٌ أي يا امه. الفرق بين النصير والولي أن الولاية قد تكون بإخلاص المودة والنصرة تكون بالمعونة والتقوية ولا تمكن النصرة مع الولاء. الفرق بين الحكم والقضاء والقدر والتقدير أن الحكم إلزام قد يكون عن خصومة وقد فصل الأمر على الأحكام مما يقتضيه الشرع والعقل والقضاء والفصل الأمر التمام (؟) وأما المقدر فهو على ما قاله بعضهم وجود القول على مقدار ما أراده ولا يستعمل إلا في أفعال الله تعالى وأما التقدير فيستعمل في أفعاله وأفعال عباده. الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة أبلغ من الرحمة. الفرق بين الضر والبؤس أن الضر يكون من حيث لا يعلم المقصود به والبؤس لا يكون إلا من حيث يعلم. الفرق بين المضرة والإساءة أن الإساءة قبيحة والمضرة قد تكون حسنة نحو المضرة بالضرب للتأديب والتعليم. الفرق بين الإمهال والإنظار أن الإنظار مقرون فيما يقع فيه النظر والإمهال فيه (؟) وقيل الإنظار تأخير العبد للنظر في أمره والإمهال تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله. الفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة التقدم فيما ينبغي أن يتقدم فيه وهي محمودة ونقيضها مذموم وهو الإبطاء والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة ونقيضها محمود وهي الأناة وأما قوله تعالى: وعجلت إليك رب لترضى فانه بمعنى أسرعت. الفرق بين الهداية والإرشاد أن الإرشاد إلى الشيء هو التطريق إليه والتسنن له والهداية هي التمكن من الوصول إليه.

الفرق بين الخير والصلاح أن الصلاح هو الاستقامة على ما تدعو له الحكمة في الضر والنفع والخير أعم وأفعال الله كلها خير. الفرق بين الصلاح والفلاح أن الصلاح ما يتمكن به من الخير أو يتخلص به من الشر والفلاح نيل الخير والنفع الباقي. الفرق بين الفساد والقبيح أن الفساد هو التغيير عما تدعو إليه الحكمة والقبيح ما يزجر عن الحكمة. الفرق بين الدين والملة أن الملة اسم لجملة الشريعة والدين اسم لما عليه كل واحد من أهلها. الفرق بين بين العبادة والطاعة أن العبادة غاية الخضوع ولا تكون إلا لله والطاعة الفعل الواقع على حسب الإرادة ويكون للخالق والمخلوق. الفرق بين الدين والشريعة أن الشريعة هي الطريق والدين ما يطاع به المعبود ولكل منا دين وليس لكل منا شريعة. الفرق بين الإجابة والقبول أن القبول يكون للأعمال والإجابة للأدعية. الفرق بين الحلال والمباح أن الحلال هو المباح بالشرع والمباح لا يعتبر فيه ذلك الشيء في السوق (؟) مباح لإحلال الحلال خلاف الحرام والمباح خلاف المحظور. الفرق بين الإسلام والإيمان أن الإيمان طاعة الله الذي يأمن بها العقاب على ضدها والإسلام طاعة الله التي يسلم بها من عقاب الله هذا كلامه في هذا الكتاب وليس فيه فرق بينهما والفرق مشهور في مظانه في كلام القائلين بالفرق. الفرق بين الفسق والفجور أن الفسق هو الخروج من طاعة الله بكبيرة والفجور الانبعاث من المعاصي فلا يقال لصاحب الصغير فاجر. الفرق بين الظلم والجور أن الجور خلاف الاستقامة في الحكم والظلم قيل ضرر من حاكم أو غيره فهو أعم وقيل وضع الشيء في غير محله وقيل نقصان الحق والجور والعدول عن الحق. الفرق بين القبيح والفاحش أن الفاحش الشديد القبح ويستعمل في الصورة فيقال الفرد قبيح الصورة لا فاحش الصورة ويقال فاحش القبح فاحش الطول أي جاوز الاعتدال مجاوزة حد

الاعتدال مجاوزة فاحشة والقبيح ليس كذلك. الفرق بين الحرام والسحت إن السحت مبالغة في حقيقة الحرام فيقال حرام سحت لا سحت حرام وقيل السحت الحرام الظاهر لأن كل سحت حرام لا كل حرام سحت ويجوز أن يقال السحت الحرام الذي لا بركة له. الفرق بين الإثم والخطيئة أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد ولا يكون الإثم إلا تعمداً. الفرق بين الإثم والذنب أن الإثم لغة التقصير والذنب ما يتبعه الذم وقولهم للصبي أذنب مجاز. الفرق بين الوزر والذنب أن الوزر ما يثقل صاحبه ومنه قوله تعالى ووضعنا عنك وزرك الذي والذنب ما تقدم. الفرق بين العدل والقسط أن القسط هو العدل الظاهر البين والعدل قد يخفى. الفرق بين الندم والتوبة أن التوبة أخص من الندم فكل توبة ندم ولا كل ندم توبة أما الحديث الندم تبة أي معظمها كالحج عرفة. الفرق بين الاستغفار والتوبة أن الاستغفار طلب المغفرة والتوبة الندم على الخطيئة والإقلاع عنها والعزم على ترك العود ولا يجوز الاستغفار مع الإصرار. الفرق بين التأسف والندم أن التأسف يكون على الفائت من فعلك وفعل غيرك والندم من أفعال القلوب يتعلق بفعل النادم وغيره. الفرق بين العفو والغفران أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثواب ولا يستحقه إلا المؤمن ولا يستعمل إلا في الله تعالى ويستعمل في غيره شاذاً قليلاً والعفو يقتضي إسقاط اللوم والذم ولا يقتضي نيل الثواب ويستعمل في العبد والمراد من العفو والغفران محو الذنوب. الفرق بين الغفران والستر أن الغفران أخص فيجوز أن يستر عنه ولا يغفره. الفرق بين الصفح والغفران أن الغفران ما ذكرناه والصفح التجاوز عن الذنب. الفرق بين الإحباط والتكفير أن الإحباط يطال الحسنات بالسيئات والتكفير ضده. الفرق بين الثواب والعوض أن العوض يكون على فعل المعوض والثواب لا يكون على فعل المثيب والثواب يقع مكافأة على الحقوق والعرض يقع على جهة المسامحة.

الفرق بين الثواب والأجر أن الأجر قد يكون قبل الفعل المأجور عليه بخلاف الثواب والثواب قد اشتهر في الجزاء على الحسنات والأجر يقال كذلك ويقال على معنى الأجرة على الانتفاع. الفرق بين العذاب والألم أن العذاب أخص من الألم فإن العذاب هو الألم المستمر والألم مستمر أو غير مستمر. الفرق بين الألم والوجع أن الوجع أهم من الألم. الفرق بين العذاب والعقاب أن العقاب ينبئ عن استحقاق والعذاب يجوز أن يكون باستحقاق وبغير استحقاق. الفرق بين البلاء والنقمة أن البلاء يكون ضرراً ويكون نفعاً والنقمة لا تكون إلا عقوبة وشدة وتسمى النقمة والبلاء لا يسمى نقمة. الفرق بين الخوف والخشية أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله والخشية تتعلق بمنزلة المكروه ولا يسمى الخوف من نفس المكروه خشية. الفرق بين التخويف والإنذار أن الإنذار تخويف مع إعلام موضع المخافة وإن لم يعلم لم يكن إنذاره. الفرق بين الخوف والفزع أن الخوف ما ذكرناه والفزع ما فاجأ الخوف عند هجوم عارض أو صوت ونحوهما وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه عاجل. الفرق بين الخوف والوجل أن الخوف يكون من متعد والوجل من غير متعد ومنه قوله تعالى: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. الفرق بين الخجل والحياء أن الخجل معنى يظهر في الوجه ارتداعاً بقوة ويجوز أن يكون الخجل عما كان والحياء عما يكون. الفرق بين الرجاء والطمع أن الرجاء هو الظن لوقوع الخير كالأمل والخشية والخوف ضدهما والرجاء لا يكون إلا من سبب والطمع ما يكون من غير سبب ولهذا مدح الرجاء وذم الطمع. الفرق بين اليأس والقنوط أن القنوط أشد مبالغة من اليأس. الفرق بين الكبر والجبروت أن الجبروت أبلغ من الكبر.

الفرق بين العجب والكبر أن العجب بالشيء شدة السرور به والكبر إظهار عظم الشأن وهي العزة والسلطنة. الفرق بين الخشوع والخضوع أن الخضوع فعل يرى فاعله وأن الخضوع له وقه وأعظم منه والخشوع يكون في الكلام خاصة لقوله تعالى: وخشعت الأصوات للرحمن وقيل هما من أفعال القلوب. الفرق بين التواضع والتذلل أن التذلل إظهار العجز عن مقاومة من يتذلل له والتواضع إظهار قدرة من يتواضع له سواء كان ذا قدرة على المتواضع أم لا. الفرق بين التذلل والذل أن التذلل فعل المتصف به وهو إدخال نفسه في الحكم والذليل المفعول به من قبل غيره. الفرق بين الخضوع والذل أن الخضوع ما ذكرناه والذل الانقياد كرهاً ونقيضه العز. الفرق بين الذل والإهانة أن الذل ما ذكرناه والإهانة أن يجعل كالصغير لا يبالى به. الفرق بين الذليل والمهين أن الذليل ما ذكرناه والمهين هو المستضعف. الفرق بين الحقير والصغير أن الحقير من نقص عن مقداره المعهود والصغير يكون بالإضافة إلى من هو أكبر منه. الفرق بين اليسر والقليل أن القليل يقتضي نقصان العدد واليسير ما يشتد تحصيله أو طلبه ولا يقتضي نقصان العدد. الفرق بين الكثير والوافر أن الكثرة زيادة العدد والوفور إجماع أجزاء العدد حتى يكمل حجمه. الفرق بين الجم والكثير أن الجم هو الكثير المجتمع والكثير قد يكون عن مجتمع. الفرق بين العبث واللعب واللهو أن العبث ما خلا عن الإدارة والإرادة حدوثه واللهو واللعب يتناولها غير إرادة حدوثهما وقيل اللعب عمل للذة لا يراعى فيه داعي الحكم كعمل الصبي واللهو للعب واللعب قد يكون ليس بلهو. الفرق بين المزاح والاستهزاء أن المزاح لا يقتضي تحقير من تمازحه بل إيناسه والاستهزاء يقتضي تحقير من يستهزأ به. الفرق بين الاستهزاء والسخرية أن السخرية تدل على فعل شيء يشتق منه السخرية

بخلاف الاستهزاء. الفرق بين المزاح والهزل أن الهزل يقتضي تواضع الهازل لمن يهزل بين يديه بخلاف المزاح. الفرق بين المزاح والمجون أن المزاح ما ذكرناه والمجون صلابة الوجه وقلة الحياء. الفرق بين الحيلة والتدبير أن الحيلة ما أحيل به عن وجهه فيجلب به نفه أو يدفع به ضر والتدبير هو إصلاح أمره أو أمر من يلوذ به وقد لا يكون حيلة. الفرق بين الكيد والمكر أن المكر كالكيد إلا أنه لا يكون إلا مع الفكر والكيد أقوى من المكر. الفرق بين الحيلة والمكر أن من الحيلة ما ليس بمكر. الفرق بين الغرور والخداع أن الخداع يستر عنه وجه الصواب ليوقعه في مكروه والخطر ركوب المخاوف رجاء بلوغ المراد. الفرق بين الحسن والبهجة أن البهجة حسن الفرح تفرح به القلوب والحسن لا يقتضي ذلك. الفرق بين الحسن والجمال أن الجمال ما يحمد من الأفعال والأخلاق وكثرة المال وليس هو من الحسن في شيء. الفرق بين الجمال والبهاء أن البهاء بهارة المنظر بخلاف الحسن. الفرق بين التمام والكمال أن التمام اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنه تام والكمال اسم لأجماع أبعاض الموصوف. الفرق بين البشاشة وطلاقة الوجه أن البشاشة إطلاق السرور عند اللقاء سواء كان أولاً وآخراً وطلاقة الوجه خلاف العبوس تكره الوجه عند اللقاء. الفرق بين الطهارة والنظافة أن الطهارة تكون في الخلقة والمعاني والنظافة لا تكون إلا في الخلقة واللباس لا في المعاني. الفرق بين القبيح والوحش أن الوحش الهزيل والقبيح في المنظر ويجوز أن يقال الوحش هو المتناهي في القباحة. الفرق بين السرور والفرح أن السرور لا يكون إلا بما هو نفع أو لذة على الحقيقة وقد يكون الفرح ما ليس بنفع ولا لذة كفرح الصبي بالرقص مثلاً.

الفرق بين الغم والهم أن الهم هو الفكر في إزالة المكروه واجتلاب المحبوب والغم معنى لتغص القلب معه لوقوع ضرر كان أو يكون أو لتوهمه. الفرق بين الهبوط والنزول أن الهبوط نزول يعقبة إقامة بخلاف النزول. الفرق بين المحض والخالص أن المحض الذي لم يخالطه شيء والخالص هو المختار من الجملة كالذهب المصفى. الفرق بين إخماد النار وإطفائها أن الإخماد يستعمل في الكثير والإطفاء في القليل. الفرق بين النجم والكوكب أن الكوكب اسم للكبير من النجوم والنجم على علم الثريا في صغيرها وكبيرها. الفرق بين الزلزلة والرجفة أن الجفة الزلزلة العظيمة الشديدة ولهذا سميت زلزلة الساعة رجفة. الفرق بين الرجوع والإياب أن الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد والرجوع يكون لذلك أو لغيره. الفرق بين المحق والإذهاب أن المحق يكون للأشياء الكثيرة ولا يكون في الشيء الواحد بخلاف الإذهاب ومن قوله تعالى: يمحق الله الربا يمحق ثواب عامله لقوله تعالى: ويربي لصدقات أي ثوابها. الفرق بين العكوف والإقامة أن العكوف هو الإقبال على الشيء والإحساس فيه ومنه الاعتكاف والإقامة لا تقتضي ذلك. الفرق بين الدنو والقرب أن الدنو لا يكون في مسافة بين شيئين والقرب عام في ذلك وفي غيره فيقال قلوبنا أن تتقارب ولا يقال تتدانى ويقال قرب بقلبه وإن كان بعيداً. الفرق بين الوسط والبين أن الوسط يضاف إلى الشيء الواحد وبين يضاف إلى شيئين فصاعداً تقول قعدت وسط الدار لا قعدت بين الدار وبين القوم والوسط يقتضي اعتدال الأطراف ولهذا قيل الوسط العدل في قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً الآية. الفرق بين الذوق والطعم أن الذوق ملابسة يحس بها الطعم وإدراك الطعم يتبين من ذلك الوجه يقال ذقته فلم أجد له طعماً. الفرق بين الركون والسكون أن الركون السكون إلى الشيء بالجبلة والاتصاف والسكون

خلاف الحركة وإنما يستعمل في غيره مجازاً. الفرق بين الفرق بين التابع والتالي أن التالي فيما قال بعضهم هو الثاني وإن لم يتدبر بتدبير الأول والتابع إنما هو المتدبر بتدبير الأول. الفرق بين قوله مالك لا تفعل كذا وبين قوله لم لا تفعل كذا إن لم لا تفعل كذا أهم لأنه قد يكون بحال إلى غيره ومالك لا تفعل بحال يرجع إليه. الفرق بين النار والسعير والحريق والجحيم أن السعير هو النار الملتهبة والحريق النار الملهبة المحرقة والجحيم ناراً على نار وجمر على حمر. الفرق بين النور والضياء أن الضياء ما يتخيل آخر النور. الفرق بين النطفة والمني أن النطفة تفيد أنه ماء قليل والمني يفيد أنه مستقذر. الفرق بين الصب والسكب أن السكب هو الصب المتتابع والصب يكون دفعة واحدة. الفرق بين التبديل والإبدال أن التبديل على ما قال بعضهم تغيير الشيء عن حاله والإبدال جعل شيء مكان شيء. الفرق بين الخوان والمائدة أن الخوان لا يسمى مائدة إلا إذا كان الطعام عليها وإن لم يكن عليها طعام فهو خوان. هذا آخر ما علقناه من هذا الكتاب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وفي غيره الفرق بين البشارة والتهنئة أن البشارة الإعلام بما يسر والتهنئة الدعاء بالخير للمرء بعد ما علم به ولهذا لما أنزل الله توبة كعب بن مالك وصاحبيه ذهب إليه البشير فبشره فلما دخل المسجد جاء الناس فهنؤوه. الفرق بين الحياء والإغضاء أن الحياء رقة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقع كراهته أو ما يكون تركه خيراً من فعله والإغضاء التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته.

رسائل الانتقاد

رسائل الانتقاد كلمة للناشر بينا كنت خلال العام الفارط أرسل رائد الطرف في بعض المخطوطات العربية القديمة عثرت على كتاب صغير الحجم جميل الخط عتيقه فتأملته فوجدته لمؤلف تونسي معدود من البلغاء. وإذا كان لي ولوع شديد بالاطلاع على مآثر الأدباء من بني وطني تعلقت رغبتي بتعريف هذا التصنيف. بيد اني لما أخذت أتلو رشيق معانيه وأحلل دقائق مبانيه وجدت نقصاً فادحاً بين أوراقه أفسد عقد جمله فحل بي من ذلك قلق عظيم. ثم بعد مدة وقعت في فهرست القسم العربي من مكتبة الاسكوريال بجزيرة الأندلس على اسم مقامة تحت عدد 536 منسوبة إلى أبي عبد الله محمد بن شرف القيرواني فانجلى خاطري وبادرت في الحال لطلب نسخة منها من بعض زملائي المستشرقين. فلما وافتني صورتها وطابقتها بما لدي عاودني سروري الأول وقوي عزمي إذ كانت القطعة الأندلسية مطابقة للقسم الأول من النسخة التونسية بزيادة ما نقص. فأسرعت حينئذٍ إلى النسخ وأتممت هاته بتلك حتى كمل والحمد لله ما كنا نرغبه وهو ما نقدمه اليوم للقراء الكرام. ومن المناسب أن نذكر شيئاً عن الأصلين اللذين أخذنا عنهما. فالأول وهي النسخة التونسية تشتمل على ستين صفحة شرقية يلوح منش كل خطها أنها من القرن السابع لكنها صعبة القراءة لانطماس الأحرف ودثور كتابتها دع عنك ما لحق الورق من العث الذي أهلك جانباً وافراً منها. أما القطعة الأندلسية التي أكملنا بها ما ضاع من التأليف فهي تحتوي على ثماني عشرة صفحة صغيرة الحجم أندلسية الخط قديمة النسخ كما يتبين ذلك من التاريخ الذي وضعه بعض المطالعين في الصفحة الآخرة حيث قال: طالعته في موفي سنة خمس وخمسمائة وبهذا يستدل على أن هاته القطعة كتبت زمن المؤلف مدة إقامته بالأندلس (حوالي سنة 455) أو قريباً من عهده. ومهما كان الحال فهي أقدم من أختها التونسية إلا أنها أخصر ولا تشمل إلا على المقامة الأولى. ويلوح لي أن مؤلفنا قصد بتدوين هذه الرسائل معارضة كتاب العمدة الذي وضع زميله ومعاصروه الحسن بن رشيق القيرواني كما سنبينه في ترجمته. إلا أن الرسائل المعارض

بها كانت أطول وأكثر مما وجدناه وأوردناه هنا. يؤيد ذلك ما جاء في سياق كلام ابن شرف في مقدمته للمجلس الأول حيث قال: فأقمت من هذا النحو عشرين حديثاً فالمظنون أنه يقصد بالحديث مجالسه مع الأستاذ الموهوم الذي سماه أبا الريان كما اختلق الحريري في مقاماته شخص الحارث بن همام واخترع الهمذاني عيسى بن هشام. فعسى أن يساعدني الحظ بالعثور على بقية هذا التأليف النفيس إن كان في عالم الموجودات. وقد احترمت في الاستنساخ الطريقة التي أتى عليها الأصل في الرسم وضبطه إلا ما نبهت عليه أسفل المتن مع التعاليق. ولما كان الاعتراف بالمعروف فريضة وجب عليّ أن أرفع شكري الخالص للكاتب البليغ والباحث المدقق أخينا في الله محمد بدر الدين أفندي النعساني الذي أعانني بعلومه النيرة لإزالة بعض مشكلات النسخة التونسية كما أقدم عبارات ودادي إلى العالم المستعرب المتمكن صديقي الأستاذ كارلو نالينو الذي أسعفني بالحصول على صور القطعة الأندلسية وهو لا يزال يفيدني بإشاراته العلمية وفكره الصائب فجزيا عني خير جزاء والله ولي التوفيق به أهتدي وإليه أنيب. تونس // حسن حسني عبد الوهاب ترجمة المؤلف نبغ أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني نحو سنة 390 من إحدى البيوتات الشريفة القادمة مع الجيش العربي الفاتح والقيروان إذ ذاك زاهية زاهرة بالعلوم رافلة بالمعارف والفنون فروى المعقول والمنقول عن أفاضل ذلك العصر كأبي الحسن القابسي وأخذ الفنون الأدبية من أساتيذتها كأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني ومحمد بن جعفر القزاز وغيرهما حتى برع فيها وأجاد فألحقه حينئذٍ المعز بن باديس الصهناجي أمير أفريقية بديوان حاشيته لما رأى فيه من الذكاء والنجابة. وهناك التقى ابن شرف بجماعة من الكتاب البلغاء والشعراء الظرفاء الذين كان يجمعهم املك مثل علي بن أبي الرحال الكاتب رئيس قلم التحرير والمراسلات وأبي علي الحسن بن رشيق صاحب العمدة ومحمد بن حبيب القلانسي وغيرهم. وطبيعي أن وجود ابن شرف في مثل هذا الوسط دعاء إلى تتبع الوجهة التي شب عليها وقوي نشاطه إذ كان أولئك الأدباء

الأجلاء يتسابقون في التقرب بنظمهم ونثرهم إلى الأمير رغبة في العطايا الهائلة والهبات الطائلة. وحصل على هذا التنافس والتزاحم حركة فكرية أدبية لم تر أفريقية مثلها في عصر من عصور السلطنة الإسلامية وصارت القيروان كعبة العلم التي يحج إليها العلماء من جميع أصقاع المغرب حتى من الأندلس. وقد خصص العز لصحبته من بين هؤلاء الزعماء المتقدمين ابن شرف هذا وابن رشيق فكان يلتفت تارة إلى الأول وأخرى إلى الثاني وجرى بسبب ذلك بين هذين الأديبين مناقضات ومهاجمات رسمها كل منهما في رسائل مستقلة ومقامات متنوعة لم يصل إلينا منها شيء فيما نعلم. حكى ابن شرب المترجم له في كتابه أبكار الأفكار قال: استدعاني المعز بن باديس يوماً واستدعى أبا علي الحسن بن رشيق الأزدي وكنا شاعري حضرته وملازمي ديوانه فقال: أحب أن تضعا بين يدي قطعتين في صفة الموز على قافية الغين. فضمنا حالاً من غير أن يقف أحدنا على ما صنعه الآخر فكان الذي صنعته: يا حبذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضغ قد لأن حتى لا مجس له ... فالفم ملآن به فارغ سيان قلنا مأكل طيب ... فيه وإلا مشرب سائغ والذي صنعه ابن رشيق: موز سريعٌ أكله ... من قبل مضغ الماضغ فمأكل لآكل ... ومشرب لسائغ فالفم من لين به=ملآن مثل فارغ يخال وهو بالغ ... للحلق غير بالغ فأمرنا للوقت أن نصنع فيه على حرف الذال فعملنا ولم ير أحدنا صاحبه ما عمل فكان ما عملته: هل لك في موز إذا ... ذقناه قلنا حبذا فيه شراب وغذا ... يربك كالماء القذى لو مات من تلذذا ... به لقيل ذا بذا وما عمله ابن رشيق:

لله موز لذيذ ... يعيذه المستعيذ فواكه وشراب ... به يداوي الوقيذ ترى القذى العين فيه ... كما يزيها النبيذ قال ابن شرف: فأنت ترى هذا الاتفاق لما كانت القافية واحدة والقصد واحداً. ولقد قال من حضر ذلك اليوم ما ندري مم نعجب أمن سرعة البديهة أم من غرابة القافية أم من حسن الاتفاق. وحكى المؤلف المترجم له أيضاً في كتابه المذكور قال: استخلانا المعز يوماً وقال أريد أن تصنعا شعراً تمدحان به الشعر الرقيق الخفيف الذي يكون على سوق بعض النساء فإني أستحسنه وقد عاب بعض الضرائر بعضاً به وكلهن قارئات كاتبات فأحب أن أريهن هذا وأدعي أنه قديم لاحتج به على من عابه وآسي به من عيب عليه. فانفرد كل منا وصنع في الوقت فكان الذي قلت: وبلقيسية زينت بشعر ... يسير بها ما يهب الشحيح رقيق في خدلجة رداح ... خفيف مثل جسم فيه روح حكى زغب الخدود وكل خد ... به زغب فمعشوق مليح فإن يك صرح بلقيس زجاجاً ... فمن حدق العيون لها صروح وكان الذي قال ابن رشيق: يعيبون بلقيسية أن رأوا لها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا وقد زادها التزغيب ملحاً كمثل ما ... يزيد خدود الغيد تزغيبها ملحا فانتقد المعز على ابن رشيق قوله يعيبون وقال: أوجدت لخصمها حجة بأن بعض الناس عابه فانظر ما ألطف هذه المناضلات وما أحلى هذه الحكايات ولولا خوف الإطالة لزدنا من هذه طرفاً تروق الخاطر. واستمر ابن شرف على خدمة المعز إلى أن زحف عرب الصعيد من هلاليين ورياح وغيرهم واستولوا على غالب القطر التونسي بعدما خربوه ودمروه واضطر الأمير المعز إلى ترك القيروان أمام تلك القبائل المتوحشة (سنة 49 هـ -) وفر إلى المهدية واتخذها دار ملكه وقد تبعه إليها شعراؤه وحاشيته. وفي خلاء القيروان يقول ابن شرف من قصيدة

رنانة: بعد خطوب خطبت مهجتي ... وكان وشك البين أمهارها ذا كبد أفلاذها حولها ... وقسمت الغربة أعشارها أطفالها ما سمعت بالفلا ... قط فعادت الفلا دارها ولا رأت أبصارها شاطئاً ... ثم جلت باللج أبصارها وكانت الأستار آفاقها ... فعادت الآفاق أستارها ولم تكن تعلو سريراً علا ... إلا إذا وافق مقدارها ثم علت فوق عشور الخطا ... ترمي به في الأرض أحجارها ولم تكن تلحظها مقلة ... لو كحلت بالشمس أشفارها فأصبحت لا تتقي لحظة ... إلا بأن تجمع أطمارها وأقام ابن شرف مدة بالمهدية مع زمرة شعراء الملك يخدم الأمير المعز وابنه تميماً إلى رحل عنها قاصداً جزيرة صقلية لما سمع عن كرم أميرها وإليها لحقه رصيفة ابن رشيق وقد قدمنا أنه كان وقع بينهما بالقيروان ما وقع بين جرير والفرزدق أو بين الخوارزمي وبديع الزمان. فلما اجتمعا بصقلية تسامحا وأقاما بها زمناً ثم استنهض يوماً ابن شرف رفيقه على جواز الأندلس فأنشد حينئذٍ ابن رشيق البيتين المشهورين بين الخاص والعام: مما يزهدني في أرض أندلس ... سماع مقتدرٍ فيها ومعتضد ألقاب سلطنة في غير مملكة ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد فأجابه ابن شرف بديهة: ان ترمك الغربة في معشر ... قد جبل الطبع على بغضهم فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم واجتاز ابن شرف وحده الأندلس وسكن المرية وغيرها وتردد على ملوك طوائفها كآل عباد بميلية وغيرهم وبهذه المدينة الأخيرة كانت وفاته سنة 460 هـ (1067 مسيحي) وخلف ابناً يدعى أبا الفضل جعفراً كان أديباً مجيداً أيضاً أورد له العماد في خريدته وانفتح في قلائده قصائد وفصولاً تشهد له بطول الباع. أما تآليف محمد بن شرف فكثيرة على ما نقله إلينا المؤرخون فمنها كتاب أبكار الأفكار

جمع فيه ما اختاره ونثره وهو أنفس مصنفاته (مفقود وقد يوجد منه شيء في بعض كتب الأدب). ومنها كتاب أعلام الكلام به نخب وملح (مفقود أيضاً). ثم رسائل الانتقاد والمظنون أنه ألفها بعد هجرته القطر التونسي كما يستفاد من سياق كلامه في مقدمتها. وغيرها من هذه المصنفات الأدبية النفيسة. وها نحن نأتي على منتحبات نثر وشعر من كلام محمد بن شرف ليرى القارئ براعة هذا المؤلف الجليل ومكانته من الأدب. فمن نظمه في الشوق إلى بلاده القيروان مدة إقامته بالأندلس: يا قيروان وددت أني طائر ... فأراك رؤية باحث متأمل يا لو شهدتك إذ رأيتك في الكرى ... كيف ارتجاع صباي بعد تكهل وإذا تجدد لي أخ ومنادم ... جددت ذكر أخ خليل أول لا كثرة الإحسان تنسي حسرتي ... هيهات تذهب علتي بتعلل لو كنت أعلم أن آخر عهدهم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل وله في شكوى الزمان: إني وإن عزني نيل المني لأرى ... حرص الفتى خلت زيدت على العدم تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم وأنشد في المعنى: عتاباً عسى أن الزمان له عتبى ... وشكوى فكم شكوى ألانت له القلبا إذا لم يكن إلا إلى الدمع راحة ... فلا زال دمع العين منهملاً سكبا وقال أيضاً: وما بلوغ الأماني في مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب وقد تخالف مكتوب القضاء به ... فكيف لي بقضاء غير مكتوب ومن شعره في الحكم قوله: احذر محاسن أوجه فقدت محا ... سن أنفس ولو أنها أقمار سرج تلوح إذا نظرت فإنها ... نور يضيء وإن مسست فنار وقوله:

لا تسأل الناس والأيام عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تطفيلا ولا تعاتب على نقص الطباع أخاً ... فإن بدر السما لم يعط تكميلا لا يؤيسينك من أمر تصعبه ... فالله قد يعقب التصعيب تسهيلا بع من جفاك ولا تبخل بسلعته ... واطلب به بدلاً إن رام تبديلا وصير الأرض داراً والورى رجلاً ... حتى ترى مقبلاً في الناس مقبولا وله: إذا صحب الفتى سعد وجد ... تحامته المكاره والخطوب ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وناد له الرقيب وله أيضاً: يا ثاوياً في معشر ... قد اصطلى بنارهم إن تبك من شرارهم ... على يدي شرارهم أو ترم من أحجارهم ... وأنت في أحجارهم فما بقيت جارهم ... ففي هواهم جارهم وأرضهم في أرضهم=ودارهم في دارهم ومن كلامه في التغزل قوله في ليلة أنس: ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... بالأرض فيها والسماء تذوب جمع العشائين المصلي وانزوى ... فيها الرقيب كأنه مرقوب والكاس كاسية القميص كأنها ... لوناً وقدراً معصم مخضوب هي وردة في خده وبكأسها ... تحت القناني عسجد مصبوب مني إليه ومن يديه إلى يدي ... فالشمس تطلع بيننا وتغيب وقوله أيضاً: قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخطو والميثاق والنظر تخطو فتولي الحصا من حليها نبذا ... وتخلط العنبر الوردي بالعفر تلفتت عن طلا وسنان وابتسمت ... عن واضح مثل نور الروضة العطر ما لذ للعين نوم بعدما ذكرت ... ليلاً سمرناه بين الضال والسمر

تساقط الطل من فوق النحور به ... تساقط الدر في اللبات والثغر وله من خمرية سمية: خليل النفس لا تخلي الزجاجا ... إذا بحر الدجى في الجو ماجا وجاهر في المدامة من يرائي ... فما فوق البسيطة من يداجى أمط عنك الكرى والليل ساج ... ودعنا نلبس الظلماء ساجا وهات على اهتمام الروح راحاً ... يعيد هموم النفس لها اقتراجا إذا مريخها اتقد احمراراً ... صببنا المشتري فيها مزاجا وله: بكيت دماً والقاصرات سوافر ... فلاحت خدود كلهن مورّد وقد وقف الواشون في كل وجنة ... على محضر فيه المدامع تشهد وله: يقول لي العاذل في لومه ... وقوله زور وبهتان ما وجه من أحببته قبلة ... قلت ولا قولك قرآن وقال: قل للعذول لو اطلعت على الذي ... عانيته أعناك ما يعنيني أتصدني أم للغرام تردني ... وتلومني في الحب أم تغريني دعني فلست معاقباً بجنايتي ... إذ ليس دينك لي ولا لك ديني وقال فيمن اسمه عمر: يا أعدل الناس اسماً كم تجور على ... فؤاد مضناك بالهجران والبين أظنهم سرقوك القاف من قمر ... فأبدلوها بعين حيفة العين وله أيضاً: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأني سبابة المتندم وقال يمدح أستاذه الكاتب أبا الحسن علي بن أبي الرجال: جاور علياً ولا تحفل بحادثة ... إذ ادرعت فلا تسأل عن الأسل اسم حكاه المسمى في الفعال فقد ... حاز العليين من قول ومن عمل

فالماجد السيد الحر الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل زان العلا وسواه شانها وكذا ... تميز الشمس في الميزان والحمل وربما عابه ما يفخرون به ... يشنا من الخصر ما يهوى من الكفل سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل ومن نظمه في أنواع شتى: قال في العود سقى الله أرضاً أنبت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس تغني عليها الطير والعود أخضر ... وغنت عليه الغيد والعود يابس وقال في الدرهم والدينار: ألا رب شيء فيه من أحرف اسمه ... نواه لنا عنه وزجر وإنذار فتنا بدينار وهمنا بدرهم ... وآخر ذا هم وآخر ذا نار وقال من قصيدة في وصف سيف: إن قلت ناراً أتندي النار ملهبة ... أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر وله من أخرى: وقد وخطت أرماحهم مفرق الدجى ... فيان لأطراف الأسنة شائبا ومن نثرة ما كتبه مستعطفاً محبوس في دين: قد حكمت بسجن الأشباح. وهي سجون الأرواح. فامنن علي ماشئت منهما بالسراح. فالحبس نزاع الأرواح. والعقلة أخت القتلة. وكلاهما فقد. ومهر للخطوب وفقد. وإنما بينهما نفس متصاعد. وأجل متباعد. فالحق بهما ما أجلت بما عجلت. وقد أخرنا الدين. إلى يوم الدين. ومن منثور كلامه في أبكار الأفكار: لما فني عمر الأمس. وطفئ سراج الشمس. لاحت بروق الثغور اللوامع. وجلجلت رعود الأوتار في المسامع. وبعث محارق وابن جامع. فلم يزل ذلك دأبنا. ما أقلع سحابنا. حتى مسأنا هجعة. وكنا نقول بالرجعة. وله في القرابة: الوجيه بين أقاربه. كالوادي بين مذانبه. تجذبن ماءه وتطلبن ظماءه. وفي العداوة: كم قاطعك من راضعك. وقابحك من مالحك. ونافقك من وافقك. وناصبك من

صاحبك. وحادك من وادك. في أنواع شتى: الجود أنصر من الجنود - من بخل بماله. سمح بعرض آله - الباذل كثير العاذل - الكريم كثير الغريم - احذر الكريم إذا افتقر. واللئيم إذا اقتدر - احذر التقي إذا أنكر. والذكي إذا فكر - المطل أحد المنعين. واليأس أحد الصنعين - العشق أحد الرقين. والسلو أحد العتقين - رفث الكلام أحد السفاحين. وموالاة القبل أحد النكاحين - جميل الرد أحد الجودين. وبقاء الذكر أحد الخلودين - طول الجمود أحد القبرين. وبقاء الثناء أحد العمرين - بئس النصير التقصير - المتحاسر خاسر - من كثر فجره. وجب هجره - من كرمت خصاله. وجب وصاله - سحابة صيف. وزيادة طيف - الوسيلة جناح النجاح - رب عين إذا رأت زنت - لأكرم بمن حرم - المستلم أحزم من المتسلم. هذا ما قصدنا إيراده هنا على أن ما جمعناه من كلام هذا الأديب البارع هو أطول من ذلك وقد لاقينا صعوبات جمة في نظم ما تشتت إذ لا يوجد تأليف يحوي تراجم فضلاء القطر التونسي والله المسؤول الإعانة. ح. ح. ع بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن برحمتك قال أبو عبد الله شرف القيرواني هذه أحاديث صنعتها مختلفة الأنواع. مؤتلفة في الأسماع. عربيات المواشم. غربيات التراجم. واختلقت فيها أخباراً فصيحات الكلام. بديعات النظام. لها مقاصد ظراف. وأسانيد طراف. يروق الصغير معناها. والكبير مغزاها. وعزوتها إلى أبي الريان الصلت بن السكن من سلامان. وكان شيخاً هماً في اللسان. وبدراً تماً في البيان. قد بقي أحقاباً. ولقي أعقاباً. ثم ألقته إلينا من باديته الأزمات. وأوردته علينا العزمات. فامتحنا من علمه بحراً جارياً. وقدحنا من فهمه زنداً وارباً. وأدرنا من بره طرفاً. واجتنينا من ثمره طرفاً. ونحن إذ ذاك والشباب مقتبل. وغفلة الزمان تهتبل. واحتذبت فيما ذهبت إليه. ووقع تعريضي عليه. من بث هذه الأحاديث ما رأيت الأوائل قد وضعته في كتاب كليلة ودمنة فأضافوا حكمه إلى الطير الحوائم. ونطقوا به على ألسنة الوحش والبهائم. لتتعلق به شهوات الأحداث. وتستعذب بسمره ألفاظ الحداث. وقد نجا بذا النحو

سهل بن هرون الكاتب في تأليفه كتاب النمر والثعلب وهو مشهور الحكايات. بديع المراسلات. مليح الكاتبات. وزور أيضاً بديع الزمان الحافظ الهمذاني وهو الأستاذ أبو الفضل أحمد ابن الحسين مقامات كان ينشئها بديهاً في أواخر مجالسه وينسبها إلى راوية رواها له يسميه عيسى بن هشام وزعم أنه حدثه بها عن بليغ يسميه الاسكندري وعددها فيما يزعم رواتها عشرون مقامة إلا أنها لم تصل هذه العدة إلينا وهي متضمنة معاني مختلفة. ومبنية على معاني شتى غير مؤتلفة. لينتفع بها من الكتاب والمحاضرين من صرفها من هزل إلى جد. ومن ند إلى ضد. فأقمت من هذا النحو عشرين حديثاً أرجو أن يتبين فصلها. ولا تقصر عما قبلها. ولعمري ما أشكر من نفسي. ولا أثني على شيء من حسي. إلا ظفري بالأقل مما حاولته على ما أضرمته نيران الغربة من قلبي. وثلمته صعقات الفتنة من لبي. وقطعت أهوال البر والبحر من خواطري. وأضعفت الوحشة والوحدة من غرائزي وبصائري. لكن نية القاصد وسعة المقصود. أعانا ذا الود على أتحاف المودود. والله أسأل توفيقاً. ينهج لنا إلى الرشد طريقاً. فمنها: قال محمد وجاريت أبا الريان في الشعر والشعراء ومنازلهم في جاهليتهم وإسلامهم واستكشفته عن مذهبه فيهم ومذاهب طبقته في قديمهم وحديثهم فقال الشعراء أكثر من الإحصاء وأشعارهم أبعد من شقة الاستقصاء. فقلت لا أعتبك بأكثر من المنهورين. ولا أذاكر راك إلا في المذكورين مثل الضليل والقتيل. ولبيد وعبيد. والنوابغ والعشو. والأسود بن يعفر. وصخر الغي وابن الصمة دريد. والراعي عبيد. وزيد الخيل. وعامر بن الطفيل. والفرزدق وجرير. وجميل بن معمر وكثير. وابن جندل. وابن مقبل. وجرول. والأخطل. وحسان في هجائه ومدحه. وغيلان في ميته وصيدحه. والهذلي أبي ذؤيب وسحيم نصيب. وابن حلزة الوائلي. وابن الرقاع العاملي. وعنترة العبسي. وزهير المري. وشعراء فزارة. ومفلقي بني زرارة. وشعراء تغلب ويثرب. وأمثال هذا النمط الأوسط كالرماح. والطرماح. والطثري والدميني. والكميت الأسدي. وحميد الهلالي. وبشار العقيلي. وابن أبي حفصة الأموي. ووالبة الأسدي. وابن جبلة الحلمي. وأبي نواس الحكمي. وصريع الأنصاري. ودعبل الخزاعي. وابن الجهم القرشي. وحبيب الطائي والوليد البحتري. وابن المعتز

العباسي. وعلي بن العباس الرومي. وابن رغبان الحمصي. ومن الطبقة المتأخرة في الزمان. المتقدمة في الإحسان. كأبي فراس بن حمدان. والمتنبي بن عبدان. وابن جدار المصري. وابن الأحنف الجنفي. وكشاجم الفارسي. والصنوبري الحلي. والنصر الخبزدزي. وابن عبد ربه القرطبي. وابن هاني الأندلسي. وعلي بن العباس الأيادي التونسي. والقسلطي قال أبو الريان لقد سميت مشاهير. وأبقيت الكثير. قلت بلى: ولكن ما عندك فيمن ذكرت. قال: أما الضليل مؤسس الأساس. وبنيانه عليه الناس. كانوا يقولون أسيلة الخد حتى قال أسيلة مجرى الدمع. وكانوا يقولون تامة القامة وطويلة القامة وجيداء وتامة العنق وأشباه هذا حتى قال بعيدة مهوى القرط وكانوا يقولون في الفرس السابق يلحق بالغزال والظليم وشبهه حتى قال قيد الأوابد ومثل هذا له كثير. ولم يكن قبله من فطن لهذه الإشارات والاستعارات غيره فامتثلوه بعده. وكانت الأشعار قبل سواذج. فبقيت هذه جدداً وتلك نواهج. وكل شعر بعد ما خلاها فغير رائق النسج. وإن كان النهج وأما طرفه فلو طال عمره. لطال شعره. وعلا ذكره. ولقد خص بأوفر نصيب من الشر. على أيسر نصيب من العمر. فملأ أرجاء ذلك النصيب بصنوف من الحكمة. وأوصاف من علو الهمة. والطبع معلم حاذق. وجواد سابق. وأما الشيخ أبو عقيل فشعره ينطق بلسان الجزالة. عن جنان الأصالة. فلا تسمع له إلا كلاماً فصيحاً. ومعنىً مبيناً صريحاً. وإن كان شيخ الوقار. والشرف والفخار. لبادئات في شعره وهي دلائله. قبل أن يعلم قائله. وأما العبسي فمجيد في أشعاره. ولا كمعلقته فقد انفرد بها انفراد سهيل. وغبر في وجوده الخيل. وجمع فيها بين الحلاوة والجزالة. ورقة الغزل وغلظة البسالة. وأطال واستطال. وأمن السآمة والكلال. وأما زهير فأي زهير. بين لهوات زهير. حكم فارس. ومقامات الفوارس. ومواعظ الزهاد. ومعتبرات العباد. ومدح يكسب الفخار. ويبقى بقاء الإعصار. ومعاتبات مرة تحسن. ومرة تخشن وتارة تكون هجواً. وطوراً تكاد تعود شكراً. وأما ابن حلزة فسهل الحزون. قام خطيباً بالموزون. والعادة أن يسهل شرح الشعر بالنثر. وهذا أسهل السهل بالوعر. وذلك مثل قوله: أبرموا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء من منادٍ ومن مجيبٍ ومن تص ... هالٍ خليل خلال ذاك رغاء

فلو اجتمع كل خطيب ثائر. من أول وآخر. يصفون سفراً نهضوا بالأسحار. وعسكراً تنادي بالنهوض إلى طلب الثار. ما زادوا على هذا إن لم ينقصوا منه ولم يقصروا عنه وسائر قصيدته في هذا المسلك شكاية وطلاب نصفة وعتاب في عزة وأنفة وهو من شعراء وائل وأحد أسنة هاتيك القبائل. وأما ابن كلثوم فصاحب واحدة بلا زياة أنطقه بها عز الظفر وهزه فيها جن الأشر فقعقعت رعوده في أرجائها وجعجعت رحاه في أثنائها وجعلتها تغلب قبلتها التي تصلي إليها وملتها التي تعتمد عليها فلم يتركوا إعادتها ولا خلعوا عبادتها إلا بعد قول القائل: ألهى بن يني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم على أنها من القصائد المحققات وإحدى المعلقات. وأما النابغة فأشعاره الجياد لم تخرج عن نار جوانحه حتى تناهى نضجها ولا قطعت من منوال خواطره حتى تكاثف نسمها لم تهلهلها ميعة الشباب ولا وهاء الأسباب ولا لوم الاكتساب فشعره وسائط سلوك وتيجان ملوك. وأما النابغة الجعدي فنقي الكلام شاعر الجاهلية والإسلام واستحسن شعره أفصح الناطقين ودعا له أصدق الصادقين وكان شاعراً في الافتخار والثناء قصير الباع لشرفه عن تناول الهجاء وكان مغلوباً في الجاهلية وطريد ليلى الأخيلية. وأما العشي بأجمعهم فكلهم شاعر ولا كميمون بن قيس شاعر المدح والهجاء واليأس والرخاء والتصرف في الفنون والسعي في السهول والحزون نفق مدحه بنات المحلق وكان في فقر ابن المذلق وأبكى هجوه علقمة كما تبكي الأمة. وأما الأسود بن يعفر فأشعر الناس إذا ندب دولة زالت أو بكى حاله حالت أو وصف ربعاً خلا بعد عمران أو داراً درست بعد سكان فإذا سلك هذا السبيل فهو من حشو هذا القبيل كعمرو بن زيد وسعد وسعيد. وأما حسان فقد اجتث بواكر غسان ثم جاء الإسلام وانكشف الإظلام فجاحش عن الدين وناضل عن خاتم النبيين فشعر وزاد وحسن وأجاد إلا أن الفضل في ذلك لرب العالمين وتسديد الروح الأمين. وأما دريد بن الصمة فصمة صمم وشاعر جشم وغزل هرم وأول من تغزل ي رثاء وهزل في حزن وبكاء فقال في معبد أخيه قصيدته المشهورة يرثيه: إرث جديد الحبل من أم معبد وهي من شاجيات النوائح وباقيات المدائح. وأما الراعي عبيد فجبل على وصف الإبل

فصار بالراعي يعرف زنسي ما له من الشرف. وأما زيد الخيل فخطيب سجاعة وفارس شجاعة مشغول بذلك عما سواه من المسالك. وأما عامر ابن الطفيل فشاعرهم في الفخار وفي حماية الجار وأوصفهم لكريمة وأبعثهم لحميد شيمة. وأما ابن مقبل فقديم شعره وصليب نحره. ومغلى مدحه. ومعلى قدحه. وأما جرول فخبيث هجاؤه شريف ثناؤه صحيح بناؤه رفع شعره من الثرى وحط من الثريا. وأعاد بلطافة فكره ومتانة شعره قبيح الألقاب فخراً يبقى على الأحقاب ويتوارث في الأعقاب. وأما أبو ذؤب فشديد أسر الشعر حكيمه شغله فيه التجريب حديثه وقديمه وله المرثية النقية السبك المتينة الحبك بكى فيها بنيه السبعة ووصف الحمار فطول وهي التي أولها: أمن المنون وريبه تتوجع وأما الخطل فسعد من سعود بني مروان. صفت لهم مرآة فكره. وظفروا بالبديع من شعره. وكان باقعة من حاجاه. وصاعقة من هاجاه. وأما الدرامي همام فجوهر كلامه. وأغراض سهامه. وإذا افتخر بملك ابن حنظلة. وبدارم في شرف المنزلة. وأطول ما يكون مدى إذا تطاول اخيار جرير عليه بقليله على كثيره. وبصغيره على كبيره. فانه يصادمه حينئذٍ ببحرٍ ماد. ويقاومه بسيف حاد. وأما ابن الخطفي فزهد في غزل. وحجر في جدل. يسبح أولاً في ماء عذب. ويطمح آخراً في صخر صلب. كلب منابحته. وكبش مناطحته. لا تفل غرب لسانه مطاولة الكفاح. ولا تدمي هامته مداومة النطاح. جارى السوابق بمطية. وفاخر غالب بعطية. وبلغته بلاغته إلى المساواة. وحملته جرأته على المجاراة. والناس فيهما فريقان. وبينهما عند قوم فرقان. وأما القيسان وطبقتهما فطبقة عشقة. توقة. استحوذت الصبابة على أفكارهم واستفرغت دواعي الحب معاني أشعارهم فكلهم مشغول بهواه لا يتعداه إلى سواه. وأما كثير فحسن النسيب فصيحة لطيف العتاب مليحة شجي الاعتراب قريحة جامع إلى ذلك رقائق الظرفاء وجزالة مدح الخلفاء. وأما الكميت والرماح ونصيب الطرماح فشعراء معاصره ومناقضات ومفاخره فنصيب أمدح القوم والطرماح أهجاهم والرماح أنسبهم والكميت أشبههم تشبيباً. وأما بشار بن برد فأول المحدثين وآخر المخضرمين وممن لحق الدولتين عاشق سمع وشاعر جمع شعره ينفق عند ربات الحجال. وعند فحول الرجال فهو يلين حتى يستعطف. ويقوى حتى يستنكف وقد طال عمره وكثر

شعره وطما بحره ونقب في البلاد ذكره. وأما ابن أبي حفصة فمن شعراء الدولتين وممن حظي بالنعمتين ووصل إلى الغنى بالصلتين وكان درب المعول ذرب المقول والد شعراء ومنجب فصحاء. وأما أبو نواس فأول الناس في خرم القياس وذلك أنه ترك السيرة الأولى. وانكب على الطريقة المثلى وجعل الجد هزلاً والصعب سهلاً فهلهل المسرد وبلبل المنضد وخلخل المنجد وترك الدعائم وبنى على الطامي والعائم وصادف الأفهام قد نكلت وأسباب العربة قد تخلخلت وانحلت والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت. فمال الناس إلى ما عرفوه وعلقت نفوسهم بما ألفوه فتهادوا شعره وأغلوا سعره. وشغفوا بأسخفه وكلفوا بأضعفه وكان ساعده أقوى وسراجه أضوا لكنه عرض الأنفق وأهدى الأوفق وخالف فشهر وعرف وأغرب فذكر واستظرف والعوام تختار هذه الأعلاق وأسواقهم أوسع الأسواق فشعر أبي نواس نافق عند هذه الأجناس كاسد عند أنقد الناس وقد فطن إلى استضعافه وخاف من استخفافه. فاستدرك بفصيح طرده طرفاً حد اللسان وحدوده وهو محدود في كثرة التظاهر على من غض منه بالحق الظاهر ليس إلا لخفة روح المجون وسهولة الكلام الضعيف الملحون على جمهور العوام لا على خواص الأنام. وأما صريع فكلامه مرصع ونظامه مصنع وجملة شعره صحيحة الأصول مصنعة الفصول قليلة الفضول. وأما العباس بن الأحنف فمعتزل بهواه وبمعزل عمن سواه دفع نفسه عن المدح والهجاء ووضعها بين يدي هواه من النساء قد رقق الشغف كلامه وثقفت قوة الطبع نظامه فله رقة العشاق وجودة الحذاق. وأما دعبل فمديد مقبل اليوم مدح وغداً قدح يجيد في الطريقتين ويسيء في الخليقتين وله أشعار في العصبية وكان شاعر علماء وعالم شعراء. وأما علي بن الجهم فرشيق الفهم راشق السهم استوصل شعره الشرفاء ونادم الخلفاء وله في الغزل الرصافية وفي العتاب الدالية ولو لم يكن له سواهما لكان أشعر الناس بهما. وأما الطائي حبيب فمتكلف إلا أنه يصيب ومتعب لكن له من الراحة نصيب وشغله المطابقة والتجنيس حبذ ذلك أويس جزل المعاني مرصوص المعاني مدحه ورثاؤه لا غزل له وهجاؤه طرفاً نقيض وخطباً سماء وحضيض وفي شعره علم جم من النسب وجملة وافرة من أيام العرب وطارت له أمثال وحفظت له أقوال وديوانه مقرو وشعره متلو قال ابن بسام أما صفته هذه لأبي تمام فنصفه لم يثن عطفها حمية ولا تعلقت بذيلها عصبية حتى لو سمعها حبيب

لتخذها قبلة واعتمدها مله فما لام من أدَّب وإن أوجع ولا سب من صدق وإن أقذع. وأما البحتري فلفظه ماء ثجاج ودرر رجراج ومعناه سراج وهاج على اهداء منهاج يسبقه شعره. إلى ما يجيش به صدره يسر مراد ولين قياد إن شربته أرواك وإن قدحته أوراك طبع لا تكلف يعيبه ولا العناد يثنيه لا يملّ كثيره ولا يتكلف غزيره لم يهف أيام الحلم ولم يصف زمن الهرم. وأما ابن المعتز فملك النظام كما هو ملك الأنام له التشبيهات المثلية والاستعارات الشكلية والإشارات السحرية والعبارات المجرية والتصاريف الصنوفية والطرائق الفنونية والافتخارات الملوكية والهمات العلوية والغزل الرائق والعتاب الشائق ووصف الحسن الفائق. وخير الشعر أكرمه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيد وأما ابن الرومي فشجرة الاختراع وثمرة الابتداع وله في الهجاء ما ليس له في الإطراء فتح فيه أبواباً ووصل منه أسباباً وخلع منه أثواباً وطوق فيه رقاباً يبقين أعماراً وأحقاباً يطول عليها حسابه ويمحق بها ثوابه ولقد كان واسع العطن لطيف الفطن إلا أن الغالب عليه ضعف المريرة وقوة المرة. وأما كشاجم فحكيم شاعر وكاتب ماهر له في التشبيهات غرائب وفي التأليفات عجائب يجيد الوصف ويحققه ويسبك المعنى فيرققه ويروقه. وأما الصنوبري ففصيح الكلام غريبه مليح التشبيه عجيبه مستعمل لشواذ القوافي يغسل كدرتها بمياه فهمه الصوافي فتجلو وتدق وتعذب وترق وهو وحيد جنسه في صفة الأزهار وأنواع الأنوار وكان في بعض أشعاره يتخالع وفي بعضها يتشاجع وقد مدح وهجا ونثر وشجا وأعجب شعره وأطرب وشرق وغرب ومدح من أهل أفريقية أمير الزاب جعفر بن علي منفق سوق الآداب فوصله بألف دينار بعثها إليه مع ثقات التجار. وأما الخبزرزي فخليع الشعر ماجنه رائق اللفظ بائنه كثيرة محاسنه صحيحة أصوله ومعادنه رائقة البزة مائلة إلى العزة تسليه عن الحب الخيانة ويروقه الوفاء والصيانة وله على خشونة خلقه وصعوبة خُلقه اختراعات لطيفة وابتداعات ظريفة في ألفاظ كثيفة وفصول قليلة الفضول نظيفة حتى أن بعض كبراء الشعراء اهتدم أشياء من مبانيه واهتضم طرفاً من معانيه وهو من معاصريه فقل من فطن لمراميه. وأما أبو فراس بن حمدان ففارس هذا الميدان إن شئت ضرباً وطعناً ولفظاً ومعنى ملك زماناً وملك أواناً وكان أشعر الناس في المملكة وأشهرهم

في ذل الملكة وله الفخريات التي لا تعارض والأسريات التي لا تناقض. وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن وسبرت في أشعاره العيون الأعين وكثر الناسخ لشعره والآخذ لذكره والغائص في بحره والمفتش في قعره عن جمانة ودره وقد طال فيه الخلف وكثر عنه الكشف وله شيعة تغلو في مدحه وعليه خوارج تتعايا في جرحه والذي أقول أن له حسنات وسيئات وحسناته أكثر عدداً وأقوى مدداً وغرائبه طائرة وأمثاله ثائرة وعلمه فسيح وميزه صحيح يروم فيقدر ويدري ما يورد ويصدر. قال أبو الريان هذا ما عندي في شعراء المشرق وقد سميت لي من متأخري شعراء المغرب من لعمري لا يبعد عن معاصرهم ولا يقصر عن سابقهم. فأما ابن عبد ربه القرطبي وإن بعدت عنك دياره فقد صاقبتنا أشعاره ووقفنا على أشعار صبوته الأنيقة وتكفيرات توبته الصدوقة ومدائحة المروانية ومطاعنه في العباسية وهو في كل ذلك فارس ممارس وطاعن مداعس وأطلعنا في شعر على علم واسع ومادة فهمٍ مضيءٍ ناصع من تلك الجواهر نظم عقده وتركه لمن يتجمل به بعده. وأما ابن هاني محمد الأندلسي ولادة القيرواني وفادة وإفادة فرعدي الكلام سردي النظام متين المباني غير مكين المعاني يجفو بعطنها عن الأوهام حتى تكون كنقطة النظام إلا أنه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه رمى عن منجنيق يؤثر في النيق وله غزل قفري لا عذري لا يقنع فيه بالطيف ولا يشفع فيه بغير السيف وقد نوه به ملك الزاب وعظم شأنه بأجزل الثواب وكان سيف دولته في إعلاء منزلته من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه لردادة عقله ورقة دينه وضعف يقينه ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر حتى يستعين عليها بالكفر. وأما القسطلي فشاعرهم ماهر بما يقول تشهد له العقول بأنه المؤخر بالعصر المقدم في الشعر حاذق بوضع الكلام في مواضع لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة وشكا ما دهاه في أيام المحنة وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه في أبعد الزمان وأقربه. وأما علي التونسي فشعره المورد العذب ولفظه اللؤلؤ الرطب وهو بحتري الغرب يصف الحمام فيروق الأنام ويشبب فيعشقق ويجب ويمدح فيمنح أكثر ما يمنح. هذا ما عندي في المتقدمين والمتأخرين على احتقار المعاصر واستصغار المجاور فحاش لله من الأوصاف بقلة الإنصاف للبعيد والقريب والعدو والحبيب.

قلت: يا أبا الريان أكثر الله مثلك في الإخوان ووقاك محذور الزمان ومرور الحدثان فلقد سبكت فهماً وحشيت علماً. قال محمد قلت لأبي الريان في مجلس عقيب هذا المجلس يا أبا الريان لقد رأيت لك نقداً مصيباً ومرمى عجيباً ولقد أرغب في أن أنال منه نصيباً قال النقد هبة الموالد. زفيه زيادة طارف إلى تالد ولقد رأيت علماء بالشعر ورواةً له ليس لهم نفادٌ في نقده ولا جودة فهم في رديئه وجيده وكثير ممن لا علم له يفطن إلى غوامضه وإلى مستقيمه ومتناقضه. قلت أنا شديد الرغبة إلى فضلك في أن تسهمني من ميزك وعقلك ما أستهدي بسراجه على مستقيم منهاجه فأقف من سرائره على بعض ما وقفت وأعرف من متأخره ومعانيه جزءاً مما عرفت. قال نعم أول ما عليه تعتمد وإياه تعتقد أن لا تستعجل باستحسان ولا باستقباح ولا باستبراد ولا باستملاح حتى تنعم النظر وتستخدم الفكر واعلم أن العجلة في كل شيء مودئٌ زلوق ومركب زهوق فإن من الشعر ما يملأ لفظه المسامع ويرد على السامع منه قعاقع فلا يرعك شماخة مبناه وانظر إلى ما فيّ سكناه من معناه فإن كان في البيت ساكن فتلك المحاسن وإن كان خالياً فاعدده جسماً بالياً وكذلك إذا سمعت ألفاظاً مستعملة وكلمات مستذلة فلا تعجل باستضعافها حتى ترى ما في أضعافها فكم من معنى عجيب في لفظ غير غريب والمعاني هي الأرواح والألفاظ هي الأشباح فإن حسنا فذلك الحظ الممدوح وإن قبح أحدهما فلا يكن الروح. قال: وتحفظ عن شيئين أحدهما أن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له والثاني أن يحملك أصغارك المعاصرة المشهود على التهاون بما أنشدت له. فإن ذلك جورٌ في الأحكام وظلم من الحكام حتى تمحص قولهما فحينئذٍ تحكم لهما أو عليهما وهذا باب في اغتلاقه استصعاب وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه أتعاب وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تشبثت القلوب بسيرة القديم ونفارها من المحدث الجديد فقال حاكياً لقولهم إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وقال لن نعبد إلا ما وجدنا عليه آباءنا وقد قلت أنت: أغري الناس بامتداح القديم ... وبذم الجديد غير ذميم ليس إلا لأنهم جسدوا الح ... ي ورقوا على العظام الرميم وقلت في هذا المعنى:

قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً ... ويرى للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان جديداً ... وسيغدو هذا الجديد قديما فلا يرعك أن تجري على منهاج الحق في جميع الخلق فيه قامت السموات والأرض وبه أحكم الإبرام والنقض وسأمثل لك في ذلك مثالاً وأملأ أسماعك مقالاً وفهمك عدلاً واعتدالاً. يتبع

مخطوطان ومطبوعان

مخطوطان ومطبوعان حاضر الإسلام ومستقبله تأليف الأستاذ مونثه من كلية جنيف (سويسرا) طبع على نفقة الكتبي بول كوتنز بباريز ص 157 في رجال العلم في الغرب فئة قليلة تجردت نفوسهم عن الغايات فإذا أصدروا حكمهم على أمر يصدروه أقرب إلى الصحة أحياناً أكثر ممن تربوا تربية القرون الوسطى وتشبعوا بأفكار أهلها أو نزعوا منزعاً سياسياً فصارت أقوالهم وأقوالهم تصدر وهي ترشح من مادة سياسة دولتهم. ومن أهل تلك الفئة الفاضلة الأستاذ مونته من جامعة جنيف في سويسرا ألقى ست محاضرات في حاضر الإسلام وماضيه وباللغة الإفرنسية في كوليج دي فرانس بباريز وهي دار العلم العامة ونشرها في كتاب أرسل إلينا لنبدي رأينا فيه فرأينا أن نلخص أقواله أولاً ثم نعقب عليها إذا وجدنا داعياً قال في المحاضرة الأولى في الأبحاث الإسلامية وإحياء نفوس أهل الإسلام وانتشار دينهم أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى وهولاندا هي الدول التي لها علاقة كبرى بالمسلمين لأن لها في مستعمراتها ملايين منهم تابعين لها وإن طبائع الحكومات الخاضعين لها تختلف باختلاف طبائعهم فيمكن إرجاع المسلمين المحكوم عليهم في آسيا وأفريقيا إلى ثلاثة أقسام كبرى الهنود والمالايو والأفريقيون وأنه يؤثر أن يتكلم على المسلمين الخاضعين لفرنسا بنوع خاص ولا يتعرض لمسلمي الهند وجاوه وسومطرا إلا بالعرض. المسلمون البربر يختلفون في طبائعم عن مسلمي العرب أو الفرس أو الهنود أو الصينيين أو المالايو كما تختلف النصرانية إذا نظر إليها نظراً إجمالياً لأنها تختلف باختلاف طبائع أهلها بحسب الأقاليم أوربية كانت أو أمريكية أو أفريقية أو آسياويه. إذا نظر إلى البلاد الإسلامية من حيث مجموعها يتأتى أن يقال له الإسلام في الجملة منتشر في جزء عظيم من قارة آسيا وجزء مثله من قارة أفريقية وفي بلاد عظيمة جداً من ماليزيا دع عنك النازلين من أهل الإسلام في قارتي أوربا وأمريكا وعددهم فيهما لا يستهان به. وإذا جئنا نحصي عدد المسلمين كان لفرنسا في أفريقية منهم 23. 108. 00 وربما بلغ المسلمون تحت علم إنكلترا 68. 000. 000 وتحت حكم هولاندا 38. 938. 000 منهم

زهاء ثلاثين مليوناً في جاوه والمسلمون في الصين ثلاثون مليوناً أما سائر بلاد الإسلام فليس لها إحصاء يعتمد عليه إلا مصر وعددهم فيها 10. 269. 000 وسكان المملكة العثمانية 24 مليوناً القسم الأعظم منهم مسلمون وفي إيران تسعة ملايين وفي مراكش مثلهم أو أقل أو أكثر فيبلغ عدد من ينتحلون الإسلام في العالم من 200 إلى 250 مليوناً. ولم يقف الإسلام عند حد البلاد التي انتشر فيها بل تعداها إلى غيره شأن إناء صببت فيه زيتاً أكثر مما يسع فض على جوانب الآنية. انتشر الإسلام بشرعة منذ أول ظهوره وقليل في الأديان التي شابهته وانبثت دعوته إلى اليوم مثله وإن النجاح الذي صادفه منذ انتشاره قد كان داعياً إلى التقول في أسبابه خطأ إذ عجب الناس كيف انتشرت سلطة محمد وإصلاحه خارج جزيرة العرب وقال القائلون ولا يزالون يقولون أن السبب الداعي إلى انتشار الدين الإسلامي قد كان منبعثاً من أسباب زمانية كانت من طبيعة محمد والخلفاء الأول وقبل كل شيء دعت إليها القسوة وقوة السيف ولكن الواقع قد كذب هذا الظن إذ لم ينظر الناظرون إلى الأسباب المختلفة التي نشأت عنها سرعة انتشار الدعوة إلى هذا الدين. لا شك عندي بأن مبادئ الإصلاح الإسلامي كانت بداءة بدءٍ دينية صرفة. فكان محمد رسولاً على ما عرف العبرانيون رسلاً مثله فقام باعتقاد خالص وأتى على الوثنية وتوخى أن ينقذ مواطنيه من دين بربري سخيف وأن يخرجهم من حالة في الأخلاق والمدنية منحطة كل الانحطاط. فلا مجال إلى الشك إذاً في إخلاصه وحماسته الدينية التي كانت متشبعة بها نفسه وفكره فقام يدعو بعواطفه إلى إصلاحه في مكة ثم في المدينة. ولما نقل مركز إصلاحه إلى يثرب لم يلبث عنصر جديد أن ينضم إلى إرادته الإصلاحية وهذا العنصر هو الشعور الوطني العربي والفكر الذي أخذ يسري في عقله بتوحيد بلاد العرب توحيداً سياسياً فنشأ بعد ذلك فكر الإصلاح الديني إلى فكر جمع كلمة القبائل العربية تحت سلطة دينية وسياسية واحدة ومن هناك نشأت جرثومة مزج السلطتين الدينية والمدنية اللتين تجلى أمرهما في الحضارة الإسلامية وكانت سبب عظمتها ومجدها كما أن بذلك يعلل سبب انحطاطها وخرابها وبهذا ساغ أن نميز بين انتشار الدعوة الإسلامية بادئ بدءٍ ووعظ القرآن والهداية الدينية وبين الفتح الحربي وتوحيد سياسة العالم العربي. وهذا

التمييز الأساسي الجوهري لا يفاجأ به إنسان تبحر في دروس التاريخ الديني فإن مؤرخي الإصلاح الذي قام به لوثيروس وكلفن شاهدون بما كان للسياسة من عمل في نشر المذهب البرتستانتي. وحقاً أن كبار المصلحين في القرن السادس عشر كانوا أرباب وجدانات وأخلاق ونوابغ في الدين من الطراز الأول ولكن جذبهم تيار السياسة في عصرهم فعملوا على أن يديروه بحيث يوافق رغائبهم الدينية. وإن في تاريخ البابوية أمثلة لا تقل ع ذلك في الظهور والدلالة على الصلة الشديدة في النشوء البشري بين المصالح الروحية والمصالح السياسية والاعتبارات الدينية والاعتبارات العملية والمادية. ولقد ذهب بعضهم مذاهب أخرى في تأويل هذه القضية المعروفة في سرعة انتشار الإسلام لأول أمره وأرى أن من الباحثين من أوغلوا في تعليل الأسباب على حين يكفي كما بينا أن تعتبر الأسباب العامة الاعتيادية في حياة كل مجتمع بشري فقال بعضهم إن القوة في انتشار هذا الدين نشأت من طبيعة هجرة العنصر العربي الذي كان يبحث عن مخرج يخرج إليه من أرضه لأن بلاده كانت ضيقة لا تكفيه وزعم آخرون أن السبب في انتشار العنصر العربي والهجرة التي انتهت في القرن السابع للميلاد بنشر الإسلام في جزء مهم من بلاد الشرق كان منبعثاً من بطء التبدل في بلاد العرب ألوفاً من السنين. فكان من نتيجة ذاك التبدل جفاف تلك الشبه الجزيرة التي تعادل بمساحتها ثلاثة أربع مساحة أوربا أما نحن فنخشى كثيراً أن يكون هذا التغير الأساسي في المناخ لا يصل بنا إلى أوقات عريقة في القدم قبل أن عرف التاريخ. أوجزنا الكلام على هذه الأسباب في انتشار الدعوة الإسلامية لأول عهد الهجرة لأن هذا الدين ما برح ينتشر إلى اليوم والعاملان الجوهريان فيه على الدوام هما اللذان أوردناهما أولاً وما انتشار الإسلام في القرن العشرين إلا ناشئ من أسباب منها الديني ومنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالأسباب الدينية إذا بحثنا فيها كان علينا بادئ الرأي أن تنظر فيما إذا كان للإسلام كما للنصرانية مبشرون فإنا نرى النصرانية تنتشر في الخارج بواسطة جمعيات التبشير وعوامل منفردة في المذهب البرتستانتي والمذهب الكاثوليكي بواسطة الرهبنات. وليت

شعري هل في الإسلام شيء يشبه هذا فالجواب لا ونعم. ففي افريقية مثلاً أناس من المرابطين هم دعاة تبشير حقيقيين وهناك طرق دينية أخذت على نفسها نشر الدين الإسلامي على أن الإسلام ينتشر بنفسه بواسطة المسلمين أنفسهم لأن كل مسلم في البلاد الوثنية داعية دين بحد ذاته. المسلم على الجملة مؤمن مخلص في إيمانه وربما كان ذلك لأنه قليل التعلم أو كثير الجهل ومن خصائص الإسلام أن يستولي على المعتقد به فيكون مأخوذاً به قلباً وقالباً ولئن كان ثمت من المسلمين الفاترين الذين قلما يعنون بمثل هذه الأمور إلا أن الحمية خلق أساسي فيمن يدينون بالإسلام. وإني أكرر أن في مطاوي المسلم أحياناً شيئاً يشبه المبشر فهو يدعو إلى دينه كما كان يعمل الالبيجوي والغودوي في القرون الوسطى يدعو إلى دينه وهو متوفر على تجارته أو عامل في صناعته والفرق بين هؤلاء الدعاة الملاحدة قديماً وبين المسلمين اليوم هو لمن الأولين كانوا يستعملون سراً هذه الطريقة في بث معتقدهم لأن الحاجة كانت تضطرهم إلى التقية فراراً بأنفسهم من الظلم فيخبئون كتبهم الدينية في متاعهم وخرائط بضائعهم أما الإسلام فينتشر من نفسه بواسطة القوافل التي ترحل في البلاد الوثنية أو الفتشية ودعاة الإسلام فما عرفوا به من الغيرة يعمدون إلى ذرائع مختلفة تناسب كل حال بحسب الأقطار والشعوب التي يبثون دعوتهم بين أهلها وللوسائط الاجتماعية والاقتصادية دخل كبير في الأسباب الدينية التي يعمدون إليها. وهكذا نرى الدعاة المسلمين قد أنشأوا قرى سكنتها المهتدون إلى دينهم من المحدثين في الإسلام ولطالما انتقموا من القحط الذي كان يلقي بجرانه في أصقاعهم كما حدث في وانكيا على شاطئ زنجيار ليظهروا دينهم في مظهر التفقه والإحسان وكم من مرة أعتقوا الرقيق لينشروا معتقدهم كما وقع في واداي فإن قافلة من العبيد وأصلها من واداي قد أطال إليها يد النهب أهل البادية على حدود طرابلس الغرب ومصر فاشتراهم سيدي محمد بن علي السنوسي وعلمهم في زاويتهم التعليم الضروري وأعتقهم وإذا يقن بعد بضع سنسن غناءهم في بث الدعوة أعادهم إلى وطنهم ليتوفروا فيه على نشر الإسلام. وإن دعاة المسلمين في الأقطار المتمدنة والشعوب المستنيرة ليجرون في دعوتهم على غير هذه الطريقة فيتوخون بما لهم من علم وتعليم راق إلى نيل الحظوة من الرؤساء وبواسطتهم

يؤثرون في الرأي العام ويسكتون عن بعض العادات المألوفة في ذاك القطر ويتغافلون عن بعض الأوهام الدينية والاحتفالات الوثنية فهكذا ترى المسلمين في الصين وقد فتحت في وجوههم جميع الأعمال فيها لا ينشؤون مساجد أعلى من سائر المعابد ولا يضيفون إليها منارات ويوصون أهل ملتهم أن لا ينقطعوا عن الاختلاف إلى مواطنيهم في أعيادهم التي لها صبغة دينية وطنية وهم عندما يقومون بالوظائف العامة يقومون بالفروض الدينية التي عينها القانون وإذا جاوروا المهذبين من غير أهل دينهم يظهرون لهم الإسلام بأنه دين الفطرة ينافي تقاليد الأجداد مجرد عن الزوائد والأمور المستحدثة التي علقت بمذهب كونفوشيوس. والمدرسة هي إحدى العوامل الفعالة في نشر الدين أيضاً فالمسلمون على الجملة عندما ينزلون ويتوطنون في بقعة جديدة يصرفون أول عنايتهم في إنشاء مسجد يجعلون بجانبه مجرسة وينظر إلى المسلم في بلاد زنوج الوثنيين في أفريقية بأنه أرقى من غيره وبذلك يخف إلى التعليم في مدرسته أبناء الوطنيين يريدون أن يصبحوا مثله معلمين مهذبين منظمين. وترى المرأة عند قبائل البحة النازلة بين النيل الأزرق وأعالي البلاد الممتدة من شمال سطح بلاد الحبشة أرقى بعقلها من الرجل ولذلك يختار دعاة الإسلام تعليمهن والاعتماد عليهن في بث الدعوة على نحو ما يفعل السنوسية بالزنجيات في طوبو. وهذه الطريقة في الدعوة قد اشتهرت هناك في حين أن تعليم المرأة في البلاد الإسلامية مزهود فيه على الغالب. وينتشر الإسلام بالزنوج أيضاً فالمسلم يتزوج على أهون سبب بامرأة من غير عنصره كالعنصر الأفريقي أو العنصر الصيني أو غيرهما على حين أن المسلم في الصين يتزوج عن رضى من امرأة من بنات بلاده ولكنه يحاذر أن يزوج بناته من الصينيين غير المسلمين. وينتشر الإسلام أيضاً باشتراء أبناء الوثنيين يربونهم على الدين المحمدي وقد شوهد في الصين أناس من المتحمسين يبتاعون بالمال عشرة آلاف طفل في أيام قحط حدث في شانغهاي تونغ لمي بق فيها ولم يذر.

وإذا اعتبرنا الإسلام من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية نراه ولا سيما في أفريقيا قوة أسمى من غيره وواسطة للنجاح من الطراز الأول وذلك أن الإسلام كالنصرانية لم يخرج عن كونه عبارة عن مدنية ذات أصل قديم انتشر انتشاراً طويلاً وأتت عليه أدوار في النشوء بطيئة وكتب له أن بلغ في الشرق وفي الغرب أوج مجده وهو إذا انحط الآن وتراجع فلم يبرح له وجود. وكانت هذه المدنية في أفريقيا حيثما دخلت أسمى من غيرها من حيث الوجهة الإدارية والاقتصادية ومن الوجهة العقلية والأخلاقية والدينية ولذا قال أحد الباحثين أننا إذا قايسنا مجموع النتائج في بث النصرانية في أفريقية وبث الإسلام لا من حيث العدد فإن عدد من دانوا بالنصرانية قلائل بالنسبة للمسلمين بل من حيث التأثير العقلي والأخلاقي والاجتماعي في الجماعات والأفراد المهتدين يتجلى لنا بلا شك أن الإسلام أسبق في هذا المعنى. فالإسلام بما فيه من مكانة إذا كتبت له الغلبة في الشعوب الأفريقية ولا سيما في الزنوج فذلك لأن فيهم خاصية الشعوب الأفريقية ولا سيما السود منهم فللإسلام بعض الأوضاع الأساسية المناسبة مع الحالة الاجتماعية في الزنوج وأعني بذلك تعدد الزوجات والرق وسذاجة الحياة الظاهرة في أهل الإسلام وأن هذه السذاجة في الإسلام هي قوة فيه قوى التجنس تؤثر في الزنوج قوة شخصية في تربية النفس بالنفس وتمكين الإرادة والشجاعة في قلب كل من دان به أن هذه السذاجة غريبة مدهشة لعمر الحق هي تطبيق حياة السذاجة التي يدعو إليها أرباب النظر السامي من أهل النصرانية في أوربا وأفريقية. ومن جملة الأسباب التي دعت إلى انتشار الإسلام أحوال سياسية قضت على القبائل وعلى الأفراد وأن يحفظوا مراكزهم بالإسلام وكان ذلك قبل أن تتقاسم دول أوربا بالفعل تلك الأقطار فقبلت قبائل الزنوج الإسلام لتحفظ حياتها لما في الإسلام من الإدارة والنظام ويستقلوا في حكومات لهم مستقلة ذات نظام اجتماعي حي راق وبهذه الطريقة انتشر الدين الإسلامي في بلاد كثيرة من أفريقية الوسطى والغربية. وانفي تاريخ حياة المامي ساموري أكبر دليل على ما للمصلحة السياسية من الدخل في بث الدعوة للإسلام فقد كان هذا الرجل قبل الاستيلاء على مدينة كانكان بحسب أغراضه السياسية فهو وثني لأول مرة ثم دان بالإسلام لما اتصل بصوري ابراهيما أحد أتباع محمد

ومؤسس مملكة تيديان الذي استقل واحتفظ بمدائن كونيا وكانكوما وتورو كوتو وكابادو كو وبعد حين عاد إلى الوثنية حتى إذا نشبت حرب كونيا عاد فدان بالإسلام وقد جرى على تعاليم المرابط ديالو من فتاح جالون والفاعثمان من أهل الطريقة القادرية الذي جاء عقيب إرشاد الحاج عمر فتوطن في تلك البلاد في مدينة اسمها ليلنكو ومنذ ذلك العهد ساعده الفاعثمان في جميع حملاته وباقتراحه أطلق على ساموري بعد فتح كانكان لقب المامي. وذها المأرب السياسي الذي حمل الوطنيين من الأفريقيين على انتحال الإسلام قد أتت عليه الدول الأوربية إذ لم يجد الزنوج داعياً بعد أن فتحت كل من فرنسا وإنكلترا مملكتيهما الأفريقيتين أن يعمدوا إلى هذه الطرق. فدخول الأوربيين إلى أفريقية حال دون انتشار الإسلام وبقاء الوثنية في الزنوج في مركزها وربما عاد بعض الوثنيين بعد انتحال الإسلام إلى سابق دينهم كما وقع لجماعة أصلهم من قيس وصوننكة أو ماركا دانوا بالإسلام واستوطنوا حوالي سنة 1830 في شمالي ياماكو واغتنموا وتأثلوا بما استرقوه من العبيد الذين توفروا على حراثة أراضيهم ولما احتل الفرنسيين تلك الجهات وأبطل الرقيق ولا سيما في سنة 1905 و 1906 عاد أولئك العبيد إلى مواطنهم الأصلية فاضطر أولئك الجماعة أن يغادروا المدينة وينزلوا القرى ليحرثوها بأنفسهم والغالب أن عدداً عظيماً منهم عادوا إلى الوثنية وهناك أمثلة أخرى للردة وهي كما تقدم منبعثة عن سبب سياسي كالسبب الذي دعا إلى انتحال الإسلام فالمصلحة الواحدة ظهرت في الوجهتين المتخالفتين وأعني بذلك المصلحة حفظ حقوق عنصرهم وامتيازاته. والظاهر اليوم أن الدواعي السياسية في أفريقية لا تعمل لما فيه نشر كلمة الإسلام إلا من حيث الوجهة المحلية الصرفة وهكذا في الجماعات الوطنيين من غير المسلمين حيث ترى مسلمين من أصل غريب وأحياناً كثار العدد ولهم سطوة حقيقية لذلك يصعب على نفوسهم أن تخضع راضية لمطالب الرؤساء وقد تجد أولئك الزعماء من يدين بالإسلام علناً جهاراً وما ذلك إلا دليل على سمو مكانة الإسلام من حيث هو دين ومن حيث هو ذريعة للمدنية. وقصارى ما ينتج من الحوادث التي عرضناها والإحصاءات وطرق الدعوة والأسباب المنوعة في إسلام من لم يدن بدين الإسلام إن هذا الدين ينتشر ويرتقي وأن له المكان السامي بين الأديان التي يبشر بها دعاتها وينشر رعاتها. وليس للأمثلة في الردة عن

الإسلام ونزع كلمته التي ذكرناها سوى شأن ضعيف وهي لا تمنع الإسلام كالنصرانبة أن تكون منذ قورن في دور دائم من الرقي والنجاح. ولا يبعد أن يأتي يوم تحدث فيه أمور لا يتيسر لنا التنبؤ بها مثل أسباب نشر الإسلام التي أتينا على ذكرها فيكون منها انتشار هذا الدين انتشاراً فوق العادة بحيث يعجل في هجرم الإسلام على بعض الأصقاع من الكرة على نحو ما حدث في تاريخ الإسلام ومهما يكن من هذه الظواهر في المستقبل فالإسلام ليس واقفاً في انتشاره من حيث هو دين بل لا يزال أبداً بعدد منتحليه والمتدينين به. يروى أن عقبة بن نافع لما سار في جنده سنة 62 للهجرة (678) إلى أقصى المغرب بعد أن جاز بلاد مراكش بلغ شاطئ بحر الظلمات فقفز على جواده وسط أمواج البحر فأصابت أمواج البحر فأصابت المياه صدر حصانه فوقف وهتف قائلاً: اللهم رب محمد أني لو تحل أمواج هذا البحر لسرت إلى الأقطار المتنائية أمجد اسمك في مملكة ذي القرنين أقاتل عن الدين وأقضي على كل من لا يؤمنون بك. بيد أن الإسلام قد حقق من الأعمال أكثر مما طمحت إليه نفس هذا القائد الجبار الذي قال ما قال آنفاً فالإسلام قد تجاوز البحار وطاف الأقطار ناشراً رسالة محمد. هذه المحاضرة الأولى من الكتاب وهي نموذج صالح منه وقد تكلم في المحاضرة الثانية على أصل الإسلام وما طرأ عليه من البدع والإلحاد والمذاهب وفي المحاضرة الثالثة على الأولياء وفي الرابعة على الطرق الإسلامية والتصوف وعملها الاجتماعي والسياسي وفي الخامسة على مذهب البابية والبهائية وفي السادسة على مستقبل الشعوب الإسلامية والميل إلى المناحي الحرة في الدين وقد ختم المحاضرة الأخيرة بطلب اتحاد العالم الأوربي مع العالم الإسلامي وأن يحسن الأوربيون إلى المسلمين ويحسنوا علاقاتهم في الصناعات والتجارة قال: الإسلام من حيث هو دين قوة أدبية فأول شرط في هذه الصلات الحسنة احترام الدين الإسلامي احتراماً مطلقاً وقد أخذ هذا الدين يعرف أحسن من ذي قبل حق المعرفة في أوربا بفضل ما نشره بعض العلماء وبعض السياح فإن خبرة الباحثين وسذج الزائرين للبلاد الإسلامية حربة بالنظر وكثير من السياح قد لاحظوا مثل ما لاحظت فقالوا أن أحسن منقذ للأوربي في الأصقاع الإسلامية التي يقل اختلاف المسيحيين إليها التي تقل راحتهم فيها هو احترامهم للإسلام وليس من الضروري إلا في أحوال خاصة أن ينتحل

المخالفون لدين الإسلام بل يكفي بأن يكونوا أحباباً للإسلام أو بعبارة أبسط محترمين لشعائر هذا الدين. وكم من سائح في البلاد الإسلامية سمع على أساليب مختلفة ما كان قاله سلطانة حايل إلى المأسوف عليه هوبر أنت مسلم في بلادي وبعد فإن من الاتحاد بين المسلمين والأوربيين بل بين المسيحيين والمسلمين تنتج ولا شك نتائج حسنة قد ظهرت تباشيرها الآن فإن اتحاد الإرادات الحسنة في أوربا يسهل ولا جرم بالتدريج دخول كثير من الشعوب الإسلامية في تيار المدنية الحديثة. وعساني بهذه المباحث الحقيرة أكون قد حملت حجراً فوضعته في أساس البناء الذي أقيم للوفاق الحسن بين المسلمين والأوربيين بل بين المسلمين والمسيحيين. والمقتبس يقول بارك الله بكل من تخط يده في تقريب الأمم بعضها من بعض خصوصاً متى كان قصده كما هو الظاهر من عبارات الأستاذ مونته خدمة الإنسانية والاجتماع لا خدمة سياسة مخصوصة ولا فكر خاص. التعليم في مصر وحظ المسلمين والأقباط منه للشيخ علي يوسف طبع بمطبعة الآداب والمؤيد بمصر (ص41) لو كان كل المفكرين من الكاتبين والعالمين لا يدونون إلا ما يعلمون ولا يقدمون إلا على ما يتقنون لما ظهر عوار مؤلف ولما بدت مقاتل منشئ وباحث. وأمامنا الآن كراسة في التعليم بمصر لمدير سياسة المؤيد أقدم الجرائد الإسلامية وأرقاها في القطر المصري وهي خطبة ألقاها في المؤتمر المصري الأول أجاد فيها كل الإجادة لأنه دعم كلامه بالأرقام والكتابة بالدليل المحسوس يقرها الموافق والمخالف فقد قال أن البعثات العلمية التي نقلت العلوم والمعارف من أوربا إلى مصر وكان لها أعظم عمل في تكوين مصر الحديثة بدورها الجديد كانت إسلامية محضة ليس بها إلا نحو عشرين طالباً من الأردن والروم والسوريين والأحباش وثلاثة من الأقباط وهؤلاء كانوا طلاب وظائف لا ناشري علوم ومعارف ولكن في هذا العهد الأخير قد توجهت رغبات الأقباط كالمسلمين إلى هجرة الأوطان في طلب العلوم والمعارف وإن لم يبلغوا في هذا الصدد شأواً يضاهي شأوهم في رغبة التعليم في مصر. فقد بلغ عدد الطلبة المصريين إلى سنة 1910 بفرنسا وسويسرا وألمانيا وبلجيكا وإنكلترا وإيطاليا وأمريكا والأستانة وبيروت على نفقة آبائهم 681 طالباً وبإضافة هذا

العدد إلى البعثة المرسلة من قبل الحكومة يكون عدد جميع البعثات العلمية المصرية الحاضرة خارج القطر المصري 740 طالباً. وإذا شئت أن تعرف مقدار عدد الأقباط في البعثات العلمية الموجودة الآن في القارات المختلفة سواء على نفقة الحكومة أو على نفقة آبائهم فإنهم لم يبلغوا خمسين طالباً أكثر من نصفهم في كلية بيروت وأكثر من ثلثهم على نفقة الحكومة فنسبة الأقباط إلى المسلمين في البعثات العلمية الحاضرة كلها لا تكاد تبلغ 7 في المائة. وبلغ عدد الذين تخرجوا من مدرسة الحقوق الخديوية التي كان اسمها مدرسة الألسن والإدارة حتى الآن 655 طالباً عد المسلمين منهم 498 وعدد الأقباط 137. ولم يدخل إلى مدرسة الطب التي أنشئت سنة 1824 أحد من الأقباط إلا في سنة 1888 وحاملو شهاداتها منهم حتى الآن 66 طبيباً ومن المسلمين 327 طبيباً ومن غيرهم من المسيحيين 26 وأنشئت مدرسة دار المهندسين سنة 1834 فلم يدخلها قبطي إلا في سنة 1896 بلغ المتخرجون فيها منهم إلى الآن 36 مهندساً مقابل 148 مهندساً ولم يتخرج في مدرسة المعلمين الخديوية وكان اسمها قديماً مدرسة قلم الترجمة سوى أربعة أقباط مقابل 83 من المسلمين وكذلك قل عن مدرسة المعلمين التوفيقية فإنها من سنة 1888 حتى الآن لم يخرج منها سوى 18 معلماً قبطياً مقابل 8 معلماً من المسلمين وتخرج في مدرسة دار العلوم الخديوية 422 أستاذاً مسلماً ولا يدخل هذه المدرسة إلا المسلمون ويوجد منهم اليوم في مدارس الحكومة بين نظار مدارس ومدرسين ومفتشين ومديري كتاتيب 294 شخصاً والباقون في سائر فروع الإدارة والأعمال. قال والفضل كل الفضل في ارتقاء مصر الحاضر للوظيفة الكبرى التي قام بها المسلمون وقد أحسنوا أداءها مدة قرن كامل سواء كان في جلب أنوار المدينة والعلوم والمعارف من الخارج أو في تأسيس المدارس وتنظيمها وتعليم أبناء مصر العلوم المختلفة في الأدوار المتعاقبة مع اشتغالهم بالتأليف وترجمة الكتب النافعة وأنهم الآن أساتذة المدارس النافعون المفيضون على الناشئة المصرية بركة العلوم والتربية ولم يشترك الأقباط في أداء هذه الوظيفة السامية مع المسلمين يل كانوا عالة عليهم أولاً ثم تلامذة لهم في العهد الأخير وكان مجموع التلامذة المسلمين في مدارس الحكومة الابتدائية والثانوية والخصوصية والعالية

سنة 1900 بالغاً 5984 تلميذاً ومجموع الطلبة الأقباط فيها 1555 وبلغ عدد الأولين سنة 1905 في تلك المدارس 7989 وعدد الآخرين 1815 وبلغ عدد الأولين سنة 1910 (11038) تلميذاً وعدد الآخرين 2256 وبلغ عدد المكاتب الأهلية التي شرط لها واقفوها أن تعلم أولاد المسلمين فأشركت الأقباط في تعليم أولادهم تسامحاً منها - عشرين مدرسة فيها 4942 تلميذاً قبطياً وبلغ مجموع تلامذة المسلمين في مدارس الأوقاف وكتاتيبها 1887 تلميذاً بينهم 242 من الأقباط مع أن هذه المدارس هي من أوقاف المسلمين. وختم خطابه بعد الأدلة التاريخية والشواهد التي تدل على بعد غوره في المسائل المصرية الحاضرة بطلب فصل جميع المدارس الأهلية ومدارس الأوقاف عن نظارة المعارف وجعلها إدارة قائمة بذاتها يراعى فيها تنفيذ شروط الواقفين وإبطال تعليم الدين المسيحي من جميع مدارس الحكومة لأنه لا يجوز تعليم غير الدين الرسمي فيها كما هو المتبع في الممالك المتمدنة فنثني الثناء الأطيب على غيرة المؤلف على بلاده وعساه يقف قلمه على الخوض في مسائلها فقط فالاستئثار بالمزايا كلها ضرب من ضروب المحال والإحصاء في الموضوعات أفضل وأشرف ما دام قول لا أدري نصف العلم وكل من تجاوز محيط والقدر الذي لقنه من العلم والمعرفة سواء كان في الصحافة أو غيرها من فنون التأليف والتعليم يوشك أن يعثر في كل خطوة فيخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهذا ما لا نرضاه للقائمين بإنهاض هذا الشرق التعس من كبوته وتعليمه التعليم النافع والأدب الرفيع. زراعة القطن تأليف أحمد أفندي الألفي طبع بمطبعة المقطم بمصر سنة 1911 ص 140 من العاملين المفكرين من ناشئة مصر مؤلف هذا الكتاب وضعه على هذا الأسلوب المبتكر في زراعة القطن ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه وذكر فيه جميع ما تحب معرفته لهذه الزراعة المباركة وتجويدها والانتفاع منها وقد دل أن زراعته في القطر المصري بدأت نحو سنة 1821 م وما زال ينتشر ويشيع حتى بلغت الآن المساحة المزروعة منه أكثر من مليون وستمائة ألف فدان محصولها في المواسم الجيدة نحو سبعة ملايين وربع مليون قنطار ومتوسط ثمن القنطار غالباً نحو أربعة جنيهات إلى خمسة فيقدر إيراد البلاد منه

سنوياً نحو ثلاثين مليون جنيه أو تزيد وإن القطن المصري أجود وأعلى جميع أقطار أميركا والهند والصين لا يدانيه إلا قطن جزيرة سي ايلند بأميركا ولكن محصول هذا عن نصف مليون قنطار وكان الوجه البحري مستأثراً إلى ما قبل بضع سنين بزراعة القطن لأن الري الصيفي عام فيه أما في الوجه القبلي فكان قاراً عل حيز محدود الوجه البحري كناية عن مديريات مصر الواقعة إلى شمال القاهرة وهي البحيرة والغربية والدقهلية والشرقية والمنوفية والقليوبية والوجه البحري عبارة عن المديريات الواقعة جنوبي القاهرة وهي الجيزة والفيوم وبني سويف والميناء وأسيوط وجرجا وقنا وأسوان. والشهير من أصناف القطن المصري الميت عفيفي والأشموني واليانوفيتش والعباسي والنوباري. والكتاب فاض بالفوائد الغزيرة لا يستغني عنه من يحب زراعة هذه الشجرة المباركة رنه حوى جميع ما يحتاج إلى معرفته للنجاح وهو نافع لأبناء سورية ممن يريدون اليوم تعلم زراعة القطن ولا سيما من أهل فلسطين فنحثهم على اقتنائه للانتفاع به فهو كتاب مادي عملي ليس فيه ما لا يفهم من الاصطلاحات الفنية وهذا من بعض حسناته. الواجبات تأليف سامي أفندي يواكيم الراسي طبع في المطبعة السورية في سان باولو. البرازيل سنة 1911 ص 174 أحسن المؤلف وهو من أدباء الجالية السورية نزلاء أميركا الجنوبية في وضع هذا التأليف اللطيف فأفاض في واجباتنا نحو نفوسنا وفي بيوتنا وواجبات الأبناء نحو والديهم والأخ نحو أخيه والرجل نحو أخيه والرجل نحو زوجته والزوجة نحو رجلها والوالدين نحو أولادهم وواجباتنا نحو أقاربنا ومعارفنا وأعدائنا والجنس بوجه عام والعجماوات وهذا هو الباب الأول وسماه بالواجبات العامة أما الباب الثاني فهو في الواجبات الإفرادية نحو واجبات التلميذ والمعلم والصحافي والطبيب والمحامي والمؤلف والحاكم والمحكوم والجندي والتاجر والزارع والصانع والمستأجر والكاتب أخلاقي وعظي حري بالناشئة أن تطالعه وتستفيد منه بتدبير فنشكر لمؤلفه الفاضل. الصاحبي

تأليف أحمد بن فارس نشرته المكتبة السلفية في القاهرة ص 245 كتاب في فقه اللغة وسنين العرب في كلامها جمعه ابن فارس أحد أئمة اللغة في القرن الرابع من تصانيف من تقدمه فكان له فيه كما قال اختصار مبسوط أو بسط مختصر أو شرح مشكل أو جمع متفرق وفيه من الفوائد الغزيرة ما يجدر بكل طالب أدب أن يتدارسه المرة بعد المرة. وقد أجاد الناشر كل الإجادة بإحياء هذا التأليف النفيس نقلاً عن نسخة صحيحة بخط الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي أحد حفاظ اللغة في العهد الأخير وقدم له ترجمة حافلة للمؤلف وأجاد طبعه بحيث استحق شكر العلم والآداب. مدينة العرب في الجاهلية والإسلام تأليف محمد أفندي رشدي طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1329 هـ - 1911 م (ص 200) البحث في مدينة العرب من أصعب الموضوعات وأصعبها وأوسعها لأن مظان النقل قليلة وما يوجد منها لا يتيسر لكل طالب وفي مصر منها الشيء الكثير لذلك كنا نأمل أن يكون هذا الكتاب أوسع مادة وأصح استشهاداً فقد اقتصر المؤلف على المبتذل المعروف وكان لديه في دار الكتب المصرية مادة واسعة يتأتى الاستقاء منها ليجيء مصنفه لائقاً بشأن العرب ومدنيتهم العظيمة. بيد أن الكتاب أشبه بالكتب التي يراد بها نشر شيء من المعلومات بين العامة كالتي يسميها الفرنسيين فقد تكلم المؤلف على العلوم التي عرفها العرب واهتماماتهم بالسياحات والتجارة وأسواقهم وعاداتهم وصفاتهم وحكمهم وحكمتهم العملية ونقل رسائل للمشاهير في السياسة والرياضة وألم بتأليف الوزارة والشورى والدواوين وختمه بمقال في أسباب انحطاط الأمم وبالجملة فنشكر المؤلف لاهتمامه وغيرته ونرجو أن يعود إلى كتابه فيضيف إليه من كتب العرب التي بحثت في مدنيتهم ومنها المطبوع في أوروبا ما تكون به الطبعة الثانية من هذا المصنف تامة حافلة بالبحث والتدقيق. كتب ورسائل ومجلات لقطة العجلانتأليف الإمام بدر الزركشي شرحه الشيخ جمال الدين القاسمي.

دروس الصرف والنحو للشيخ محي الدين الخياط يشتمل القسم الأول على أوليات الصرف وأوليات النحو. الدروس العربية للشيخ مصطفى الغلاييني وهو القسم الأول منه في النحو. التعليم الأدبي لجرجي بك ديمتري سرسق القسم الأول منه في الأخلاق والآداب. خديجة أم المؤمنين تأليف عبد الحميد أفندي الزهرواي وهي قصة حقيقية تاريخية اجتماعية. الجوهر المحبوك في نظم السلوك للسيد علاء الدين علي الملقب بعلوان الحسيني الحموي من أهل القرن العاشر. واقعة السلطان عبد العزيز تأليف أحمد صائب بك وتعريب محمد توفيق أفندي جانا. نظام الجهاد في الشريعة الإسلامية تأليف المسيو كولوزيو ' التقرير السنوي الأول لجمعية تهذيب الفتاة السورية فغي بيروت والشويفات. برنامج جمعية السيدات والأوانس الكاثوليكيات لتجهيز البنات العرائس الفقيرات في دمشق. خلاصة جمعية ترقي الآداب الوطنية في يافا لسنتها الثالثة. المدرسة مجلة فنية تصدر في تونس للسيد عبد الرزاق النطاسي مدرس الفنون بالخلدونية فيها ملخص دروسه ودروس أخوانه من أساتذة هذه المدرسة في التاريخ والجغرافية والعلوم الرياضية والحكمة الطبيعية والكيمياء والتاريخ الطبيعي إلى غير ذلك من الأبحاث المفيدة. العروس مجلة نسائية علمية أدبية صحية فكاهية لصاحبتها الآنسة ماري عجمي تصدر في دمشق مرة في الشهر وهي المجلة النسائية الوحيدة في سورية تكتبها كاتبة لا كاتب. العريس مجلة علمية أدبية اجتماعية فكاهية شهرية لمنشئيها نسيب أفندي نصار وفاضل أفندي الجمل تصدر في حمص وفيها شيء من تاريخ ذاك الوادي وآثاره ونفثات أقلام أدبائه.

بين بلاد الآراميين والفينيقيين

بين بلاد الآراميين والفينيقيين وادي العجم وإقليم البلان يفزع المشتغلين بعقولهم إلى الفلاة يروضون أفكارهم كلما آنسوا من نفوسهم مللاً وتعباً رجاء أن يخفف عنهم ما نابهم فيعاودون أعمالهم بنشاط أكثر ومضاء أوفى وأوفر. وعلى هذه السنة جرى كاتب هذه السطور فركب العربة من دمشق بعد ظهر الخميس في 13 ربيع الثاني 1327 (13 نيسان غربي 1911) قاصداً إلى قطنا مركز قضاء وادي العجم فبتنا فيه ليلتنا على مثل ما كان النهار سخية هطالة ورياحاً نكباء وزعازع وأعاصير وكنا نود لو نخلص من الغد إلى راشيا ولكن حالت الثلوج المتراكمة في سفوح جبل الشيخ دون الأمنية فعقدنا العزم على زيارة القنيطرة حاضرة الجولان أولاً ثم نقصد إلى جبل عامل ونجعل راشيا خاتمة المطاف. وعلى هذا ركبنا خيلاً من الغد قاصدين إقليم البلان ومنه إلى الجولان في يوم انقطعت أمطاره ولم تنقطع رياحه وذارياته وبعد أن سرنا ساعتين في شعاب وهضاب بلغنا قرية بيتيما وتخطيناها لنجتاز نهرها إلى كفر حور ولكن عجز حمار مكارنا عن قطع المخاضة إذ لا جسر يعبر عليه بين القريتين وصادف أن كانت عصارات ثلوج جبل الشيخ قد كثرت عصر ذاك اليوم فاضطرتنا الحال أن نعود أدراجنا إلى بيتيما نقضي فيها الليل عسى أن تخف مياه نهرها من الغد فنستأنف السير. ومعنى بيتيما بالسريانية بيت اليتيم وقيل بيت الماء ولكل من اسمه نصيب وهكذا فعلنا ونحن نضحك من حكم الأقدار في هذه الديار وكيف أدى ماء النهر وعدم الجسر إلى تخلفنا ليلة في الطريق. نعم استضحكنا لأن حمار المكاري لم يستطع العبور وأنا ورفيقي كيف نسير وحدنا ونهتدي إلى ما نقصده من البلاد بدون دليل فقلنا: يا سبحان الله كم من حمار يقطر بشراً فيؤخرهم عن السير هذا الحال في حمار حيوان فكيف إذا كانت حمراً كثيرة في صور بشرية. ليس في هذا الوادي والإقليم ما يستحق الذكر من الأمور التاريخية والأثرية فقد سكت التاريخ عن ذكر حالته في الأزمان القديمة كما سكت من أقاليم الشام فوادي العجم وإقليم البلان ليس لهما ذكر في تواريخ القرون الوسطى اللهم إلا ما كان من ذكر نهر وادي العجم

الأعظم المسمى بنهر الأعوج والمعروف في التوراة باسم فرفر أو فرفار أو فرفور. وهذا النهر يتكون من عدة عيون ومسايل تنبعث من سفوح جبل الشيخ منها عين في بيت جن ومن ينبوع آخر اسمه المنبج وعدم الشراطيط ووادي الدهامية وعين الطموسية وعين الطبيبية وهي أجود تلك العيون تحسن ماءه كما يحسن ماء عين الفيجة مياه نهر بردى باختلاطه بها وهكذا تجري إليه عشرات من العيون ومنها بيتمتا وعيون عرنة. ويسقي نهر الأعوج أو فرفر كثيراً من قرى وادي العجم التحتاني وأهم قرى هذا القضاء قطنا والجديدة وعرطوز وجونية وكوكب والمعظمية وداريا وصحنايا والأشرفية والخيارة وسبينة وسبينات وبلاس والقدم وكفرسوسة والمزة والماجدية وذا النون وأم القصور والدير والكسوة وزاكية وزغبر وحرجلة والمقيليبة وشورى والطيبة والدرخبية والبويضة ومرجانة والحسينية والأشرفية والعباسة وحوش النفور وحوش مرانة وبراق وخان الشيح وسعسع وكناكر ودير ماكر وشقحب وبويضان وماعص وسبسبة والعثمانية والدناجى والزريقية والهبارية وغيرها من الأحواش والمزارع. أما وادي العجم الفوقاني المعروف بإقليم البلان فهو قرى سفوح جبل الشيخ أو ما يقرب منها وطول هذا الإقليم نحو عشر ساعات وعرضه نحو سبع ساعات يحده جنوباً الجولان وشمالاً وادي العجم والديماس وراشيا وشرقاً وادي العجم التحتاني أيضاً وغرباً إلى الجنوب حاصبيا وأهم قراه عيسم وهي أول الإقليم على نحو ساعتين من قطنا ومن قراه عين البرج والقلعة وبيتيما وكفر حور وبيت سابر وحينة وبقعسم وعين الشعرة وريمة وعرنة ودربل وبيت جن وحرنة وخربة السوداء وحضر وسحيتة وترنجة وجباتا الخشب ومقروصة وحلس وبرقش وكفرقوق وصوجة ورضوان وأمبياودورين والبجاع والصبورة ورأس العين ورخلة ويعفور وإقليم البلان متوسط بزراعته لكثرة وجليدة وأهويته على العكس في وادي العجم التحتاني فإن تربته أخصب وتجود فيها الأشجار المثمرة أكثر. وفي بعض قراه إلى اليوم عاديات ونواويس تدل على عمران قديم زاخر وأن الآراميين والرومانيين واليونانيين سكنوا هذه البلاد فعمروها ولا تزال أسماء بعض بلاد الإقليم سريانية إلى اليوم وقد خلفوا فيها آثاراً صبرت على كرا الليل والبر وما برحت تنم عن حضارة وذلك مثل آثار بيتيميا كفر حور كفر قوق سحيتا وقد شاهدنا في ارض كفر حور أربعة نوارس

عظيمة نقرت على الصخر على صورة هائلة تدل على أنها مدافن أغنياء وأمراء لا مقابر فلاحين فقراء وفي كل قرية فقراء وفي كل قرية نواويس لا تقل عن هذه بمكانتها وقد طمست الأيام معالمها فلم يعلم اسم بانيها. والنفوس قليلة في هذين الإقليمين (وادي العجم وإقليم البلان) لا تزيد في الإحصاء الرسمي عن خمسة عشر ألف نسمة عدا القرى الملحقة بعمل دمشق مثل المزة وكفرسوسة وداريا وصحنايا والأشرفية وبلاس ومع أن البلاد تؤوي مائتي ألف وأكثر ترى الهجرة أيضاً إلى أميركا تقلل نفوسها سنة عن سنة وسكان هذه البلاد أخلاط بمذاهبهم فيهم المسلمون السنية ومسيحيون روم وكاثوليك وبروتستانت ودروز والدروز أكثرهم مضاءً وإقداماً على العمل ويليهم المسيحيون ثم المسلمون فكأن هؤلاء يكفيهم من المفاخر أن تكون حكومتهم منهم ولذلك جعلوا اعتمادهم عليها وكان عليهم أن يعولوا على تماسكهم ومضائهم كما فعل جيرانهم في اعتمادهم على أنفسهم ذر قرن الغزالة غذاة اليوم في بيتيما وشادينا الصديق الشيخ عبد الرحيم البابلي يردد في حديقة بيت أبي أحمد قول الشاعر المنطبق على ما نحن فيه من جمال الموقع وطرب النفس بالطبيعة: الروض مقتبل الشبيهة مونق ... خضل يكاد غضارة يتدفق نثر الندى فيه لآلئ عقده ... فالزهر منه متوج وممنطق وارتاع من مر النسيم به ضحى ... فغدت كمائم نوره اتفتق وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تشرق والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالمسيم يغبق والطير ينطق معرباً عن شجوه ... فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق غرداً يغني للغصون فينثني ... طرباً جيوب الظل منه تشقق والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق كان اليوم الثالث معتل النسيم صافي الأديم فحمدنا السير حتى وصلنا إلى قرية جباتا الخشب آخر عمل وادي العجم فبتنا في بيت مريود على أن نعاود السير من الغد ولكن عاد الجو فاضطرب وهبت الريح زعزعاً وكثر تهطال الأمطار والبرد حتى ذكرنا نيسان بكانون ثم زاد قلق الطبيعة حتى استيقظنا صباح اليوم الثاني وجبل الشيخ قد لبس حلة

نصع بياضاً من التي كان مكتسياً بها في اليوم الماضي وركبنا القنيطرة ورفيقنا البابلي يردد قول العفيف التلمساني: رياض بكاها المزن فهي بواسم ... وناحت لغير الحزن فيها الحمائم وأودت الأنواء فيهن سرها ... فنمت عليهن الرياح النواسم بيت الندى في أفقها وهو سائر ... ويضحى على أجيادها وهو ناظم كأن الأقاحي والشقيق تقابلا ... خدودٌ جلاهن الصبا ومباسم كأن بها للنرجس الغض أعيناً ... للبه منها البعض والبعض نائم كأن ظلال القضب فوق غديرها ... إذا اضطربت تحت الرياح أراقم كأن غناء الورق ألحان معبد ... إذا رقصت تلك القدود النواعم كأن نثار الشمس تحت غصونها ... دنانير في وقت ووقت دراهم كأن ثماراً في غصون توسوت ... لعارض خفاق النسيم تمائم كأن القطوف الدانيات مواهب ... ففي كل غصن ماس في الدوح خاتم الجولان الجولان كورة عظيمة من كور الشام تعد من بلاد حوران يحدها من الشرق نهر العلان ومن الغرب بحيرة طبريا والأردن الأعلى (الرقاد) ويفصلها نهر اليرموك عن بلاد عجلون من الجنوب وبحر الحاصباني بالقرب من بانياس وجيل الشيخ من الشمال وتسمى هذه المقاطعة بالعبرانية كولان كان يطلق هذا الاسم أولاً على مدينة إسرائيلية مقدسة من بلاد باشان تنزلها قبيلة منسى وهي اليوم مدينة سحم الجولان بعينها قرية على بعد كيلومترين شرقي نهر العلان وعلى سبعة كيلومترات من الشمال والشمال الغربي من زيزون ولا يزال فيها بعض آثار وخرائب منها برج مربع علو 15 متراً وبالقرب منه بناء جميل يظن أنه كان كنيسة وقد أقام فيها أدمون روتشيلد الإسرائيلي الغني الشهير مستعمرة للإسرائيليين. وكانت الجولان تمتد إلى شرقي المناذرة وتعد من بلاد بترا أو العربية الصخرية ومن جملة مملكة فيليبس ولبلاد الجولان ذكر قليل في تاريخ العرب نزلها الحرث الأعرج الغساني كما كان الحرث بن أبي شمر بن الأيهم مملكاً بالأردن ولعل علماء الآثار يوفقون

في المستقبل إلى الظفر بعاديات لغسان في الجولان كما ظفروا بقليل منها في حوران ولا سيما في جبل بني هلال الذي كان يعرف قديماً بجبل الريان لكثرة مياهه ويعرف اليوم بجبل حوران أو جبل الدروز رن الغساسنة ملكوا هذه الديار وبسطوا سلطانهم أيضاً على دمشق قبل الإسلام وافتتح الجولان شرحبيل ابن حسنة وورد ذكرها في شعر حسان بن ثابت بقوله: قد عفا جاسم إلى بيت راس ... فالجوابي فحارث الجولان ووردت في شعر أبي نواس في مدحه الخصيب بن عبد الحميد العجمي المرادي أمير مصر من قصيدة يصف بها طريقه من بغداد إلى مصر: رحلن بها من عقر قوف وقد بدا ... من الصبح مفتوق الأديم شهير فما نجدت بالماء حتى رأيتها ... مع الشمس في عيني اباع تغور وغمرن من ماء النقيب بشربة ... وقد حان من ديك الصباح زمير ووافين إشراقاً كنائس تدمر ... وهن إلى رعن المداخن صور يؤممن أهل الغوطتين كأنما ... لها عند أهل الغوطتين ثؤور وأصبحن بالجولان يرضخن صخرها ... ولم يبق من اجراحهن شطور وقاسين ليلاً دور بيسان لم يكد ... سنا صبحه للتاظرين ينير وأصبحن قد فوزن منة نهر فطرس ... وهن عن البيت المقدس زور طوالب بالركبان غزة هاشم ... وفي الفرما من حاجهن شقور ولما أتت فسطاس مصر أجارها ... على ركبها أن لا تزال مجير قاعدة الجولان اليوم القنيطرة وكانت صغيرة جداً قبل أن ينزلها مهاجرة الجراكسة والداغستانيين منذ زهاء ثلاثين سنة وقد كانت في القرون الوسطى قبل عهد الدولة العثمانية قاعدة البلاد قرية خان ولا ندري أخان أرينيبة أو خان الدوير تارة والشقراء أخرى والجولان اليوم أو قضاء القنيطرة هو ثلاث نواحي ناحية الشقراء وهي عبارة عن مجدل شمس وجباتا الزيت وبانياس وعين قنية وعين فيت وزعورة ومغور الشباعنة والغجر وخان الدوير ومزارع الفضل هذا ما كان منها إلى جبل الشيخ أقرب. وناحية الجولان وفيها قرى الجركس وأهمها المنصورة وعين الزيوان والصرَّمان والخشنية

وعشيرة التركمان ومزارعها وعشيرة الهوادجة والبجاترة وجبا وخان أرينبة وعشيرة الويسية والقصيرين والجعاتين والدياب وأراضي البطيحة ومزارعها ونعيمات الطاعة ولهذه العشائر مزارع وقرى تفلح فيها وتزرع وأغلب نزولها في المضارب ومساكنهم للفلاحين وإيواء الماشية فقط. والناحية الثالثة ناحية الزاوية وأهم قراها فيق والعال وكفر الما والشجرة وكوية وبيت الرَّا ومعربة والمناظرة. ويقدرون اليوم مزارع الجولان وقراه كلها بنحو مائة وستين مزرعة وقرية فيها أراض جيدة في الجملة وتجود حبوبها في الأكثر في السنين التي تقل أمطارها أما في سني الري الكثير فإنها تغرق فبينا تشكو الأقاليم المجاورة الشرق تئن الجولان من الغَرَق ولذلك تصلح أراضيها لتربة الماشية كثيراً ولا نغالي إذا قلنا أنها الإقليم الوحيد الذي يصلح لهذا الغرض كما يصلح جقوراووه أي سهل الهوات في ولاية أضنة من بلاد الأناضول أو الروم كما كان يسميها العرب. وهمة الفلاح في الجولان ضعيفة لأنه في الأكثر لا يملك أرضاً له بضع سنين ليتوفر على زراعتها بل أن الأراضي مشاعة بين أهل البلد الواحد فبينا يزرع هذه القطعة تراه من قابل تنزع منه وتعطى لغيره وهكذا لا يشاهد الرقي في الزراعة إلا في مزارع الجراكسة إذ اختص كل فرد منهم بأراضٍ تناسب حاله وشأنه فأصلحها ما ساعدته مادته وقوته وخدمها على مثل ما تخدم الزراعة في البلاد التي هاجر منها أي بلاد الروس اليوم وبنى البيوت بالحجر والقرميد وغرس الأشجار وعاش في الجملة أحسن من عيشة سكان البلاد الأصليين خصوصاً وأن المهاجرين يغلب عليهم الاقتصاد بحيث لا تعهد عندهم المضافات المفتحة الأبواب لكل قادم كما هي عند سكان هذه الديار من العرب وأكثرهم يعرفون دخلهم وخرجهم. ولو سار الجولانيون الأصليون على هذه الطريقة لحمدوا سيرهم ولما افتقر الأغنياء منهم بإسرافهم إسرافاً لا يعد من الكرم في شيء وبعبارة أوضح لا يعد فضيلة. وبلاد الجولان متسعة الرقعة يقل سكانها بالنسبة لعظم بقعتها ويكفي أن أراضي الفضل وهي من جملة عمل هذه البلاد تمتد من المنصورة قرب القنيطرة جنوباً حتى بانياس شمالاً وشرقاً إلى جباتا الخشب وغرباً إلى الحولة ولا يطوفها الراكب بالسير المعتدل في أقل من ثلاثة أيام. غلاتها جيدة وفيها بعض الأشجار المثمرة والكروم وكثير الغابات اجتزناها من

القرب من مركز القضاء إلى ارض بانياس في زهاء أربع ساعات فرأينا فيها صورة مصغرة من مناخ سورية رأينا فيها الربيع والصيف أو الصيف والشتاء في آن واحد. وأميرها وهو اليوم محمود الفاعور مالك هذه الأراضي كلها إذا شتا في أرضه بالقرب من الحولة يشتو في حرارة كحرارة الربيع وإذا اصطاف يصطاف في الأرض النجدية وإذا ارتبع يرتبع في واسط حيث بنى قصره على مثال قصور الأغنياء وهذا الأمير حاكم مطلق في عشيرته عرب الفضل المؤلفة من نحو 1500 بيت كما قال لي أحد أفرادها ولا يشاركه في ملكها سوى شيخ الهوادجة وبعض البحاترة وهم عبارة عن 180 بيتاً يملكون جزءاً صغيراً منها ومن عشائر الفضل العجارمة والربيع والفاعور ويجمعها كلها اسم الفضل وكلهم رحالة أو متنقلون ولكن رحلتهم في أرضهم لا يتعدونها إلى القاصية كما يرحل عرب بني صخر والروالة مثلاً وأميرهم يدفع ما على أراضيه من الأعشار الخفيفة وجماعته معفون من الخدمة العسكرية ليسوا مع أميرهم كصاحب أرض مع فلاحيه على ما هي عليه الحال مثلاً في الغوطة والمرج وقلمون ووادي العجم والجولان يخدمون أرضه ويقاسمهم غلاتها على الخمس أو الربع بل هو الحاكم المتحكم في أموالهم ومائهم وأعراضهم يأخذ ما يمكنه أخذه منهم وينفقه في وجوه مرافقه والتوسعة على ضيفانه. وأهل الجولان مسلمون على الأكثر وليس فيها سوى ثلاث قرى في آخر عملها اسمها عين فيت وزعورة وغجر سكانها نصيرية. وسلطان العدل في هذه البلاد ضئيل بحيث لايرى حتى بالمجهر والكبرة لفساد أخلاق الأهلين على الأكثر ولأن الحكومة لا تختار على الغالب لولاية أعمالها سوى من قلت كفاءتهم في الجملة. قال لي أحد فضلاء القنيطرة: لقد راقبت سير الحكومة في قضائنا منذ نحو ثلاثين سنة فلم أرها إلا تقذف علينا بأحط عمالها على الأغلب فإذا اتفق أن تولى العمل الأكفاء المستقيمون لا تطول مدتهم فيفارقوننا ليخلفهم من لا يرجعون إلى عقل في أحكامهم ولا إلى عدل في نظامهم هذا ما سمعته وحققته من مجموع حوادث نقلت لي إما من المعارف فلا تجد لها في القضاء عيناً ولا أثراً ويكفي بأني قال في وصف مدرستيها الأميريتين أن الأولاد يضربون معلمهم ويعبثون بلحيته وعمامته ولكن ما دامت إدارة المعارف تفضل من يعرف كلمتين من التركية على الكفوء من المدرسين ممن لم يسعدهم

الحظ بتعلمها من أبناء العرب وما دامت مقلة من رواتب المعلمين هيهات أن تجد أحسن من هذه الطبقة لتعليم أبناء البلاد وعندنا أن الجهل المطبق خير من هذا التعليم الناقص الدنيء لأن الفلاح الأمي لا يجد له مرتزقاً إلا من أرضه وماشيته أما الفلاح الذي تعلم هذا الأسلوب فتكبر نفسه عن الزراعة جهلاً منه وغروراً ولا يحسن عملاً اللهم إلا إذا كان خيال درك أو بواباً أو حرساً. بين قوم هذا حالهم أنشأ صديقنا أحمد حمدي أفندي الداغستاني مطبعة في القنيطرة سماها مطبعة الجولان فعسى أن يخادنه من التوفيق ما خادن بعض قرى سورية أو بليداتها التي انتفعت من نعمة الحرية في عهد الدستور ففتحت مطابع وأنشأت جرائد أو مجلات ونجحت في عملها على الجملة. الحولة بتنا الليلة السادسة في بانياس آخر عمل الجولان وحقها أن تعد من الحولة إذا نظرنا إلى تقسيمها الطبيعي وبانياس بالقرب من تل القاضي حيث ينبع نهر الأردن أو مدينة دان القديمة وبها آثار مهمة وغيرهم من الإسلام وبالقرب منها حصن الصبيبة وهذا الحصن هو القلعة المشرفة عليها في رأس جبل وبينهما نحو نصف ساعة قالوا في وصف بانياس أنها مدينة قديمة كثيرة الحدائق وهواؤها وبيء وترابها كذلك وبها مياه غزيرة وآثار لليونانيين قديمة وقال أبو الفدا بانياس اسم لبلدة صغيرة ذات أشجار محمضات وغيرها وأنهار وهي على مرحلة ونصف من دمشق من جهة الغرب بميلة إلى الجنوب والصبيبة اسم قلعتها وهي من الحصون المنيعة قال العزيزي ومدينة بانياس في لحف جبل الثلج (جبل الشيخ) وهو مطل عليها والثلج على رأسه كالعمامة لا يعدم منه صيفاً ولا شتاءً وقال ابن جبير في وصف بانياس أنها مدينة صغيرة ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر يفضي إلى أحد أبواب المدينة وله مصب تحت أرجاء وكانت بيد الإفرنج فاسترجعها نور الدين ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للإفرنج يسمى هونين بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ قال وعمالة تلك البطحاء بين الإفرنج وبين المسلمين لهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة فهم يتشاطرون الغلة على استواء ومواشيهم مختلطة ولا حيف يجري بينهم فيها.

وخرائب بانياس على ما انتابها من حوادث الأيام ولا سيما الزلازل تدل على عظمة من استولوا عليها ومياهها غزيرة للغاية لو توفرت العناية بإخراج الصخور والردوم من طريقها لتضاعفت كميتها ولما كانت تقل عن مياه بردى وللإفرنج كلام طويل في عمران هذه القرية الحقيرة اليوم والمدينة العظمى أمس فقد قالوا أن اسمها مطابق للاسم اليوناني الذي كان يطلق على هذه المدينة والكورة بأجمعها سميت بذلك لمغارة اختصت بعبادة بان وهي تحت منبع الأردن وقد أنشأ فيها هيرودس معبداً على اسم أعسطس وأنجز ابنه قيليبس بناء هذه المدينة وسماها قيسرية فيليبس تمييزاً لها عن قيسارية فلسطين وقد وسمها هيرودس أغريبا الثاني وسماها نيرنياس وهو اسم أطلق عليها مدة قليلة من الزمن وكان فيها منذ القرن السادس أسقيفة تابعة للكرسي الأنطاكي واستولى عليهاالصليبيون لما فتحوا هذه البلاد وهي قلعة الصبيبة التي لم يبق اليوم منها سوى أنقاضها وذلك سنة 1129 أو 1130 عندما حاولوا فتح دمشق وقد قال أحد شعرائها في وصف غارتهم: بشطي نهر داريا ... أمور ما تؤاتينا وأقوام رأوا سفك الد ... ما في جلق دينا أتانا مئتا ألف ... عديداً أو يزيدونا فبعضهم من أندلس ... وبعض من فلسطينا ومن عكا ومن صور ... ومن صيدا وتبنينا اذا أبصرتهم ابصر ... ت أقواماً مجانينا تخالهم وقد ركبوا ... قطائها حرازينا وبين خيامهم ضموا ال ... خنازر والقرابينا ورايات وصلباناً ... على مسجد خاتونا واستولى على بانياس تاج الدين بوري صاحب دمشق سنة 1132 م وأعيد الاستيلاء عليها سنة 1139م واستولى نور الدين على المدينة لا على القلعة سنة 1157م ثم أنقذها بودوين الثالث أحد ملوك الصليبيين وعاد نور الدين فاستولى عليها سنة 1165م ودك السلطان المعظم حصونها ومعالمها وذلك بعد أن استولى الإفرنج على تلك القلعة من سنة 1139 إلى 1164 وأكثر ما فيها إلى الآن من الكتابات العربية من القرن السابع. والإطلال من

قلعتها من أجمل مناظر سورية لأنها تشرف من جهة على قسم من بلاد الجولان وارض الحولة وبلاد الشقيف وبلاد الأردن. والحولة بحيرة قال أحدهم أنها المعروفة في الكتب المقدسة بمياه ميروم هكذا يسميها الرومان وأما اليونان فيسموها سمخونيتس واسمها عند العرب الحولة أو الملاحة أو بحر بانياس قال ابن فضل الله وأما بلاد صفد فحدها من القبلة الغور حيث جسر الصنبرة من وراء طبرية ومن شرق الملاحة الفاصلة بين بلاد الشقيف وبين حولة بانياس ويفهم من هذا أن الملاحة هي غير بحيرة الحولة وهي حوض من الماء على شكل زاوية إلا قليلاً يجري منها الأردن عمقها من 3 إلى 5 أمتار وفيها طيور مائية كثيرة كالبط ونحوه ويكاد لا يدخل إليها من جهة الشمال لكثرتها وكذلك لكثرة النبات المعروف بالبردي النابت على ضفافها ولا سيما الضفة الشمالية ويتألف من السهل في شمالي البحيرة حوض كبير منظم في الجملة عرضه نحو ساعتين ومعظم هذا الوادي العميق يحتوي على الأكثر على بطائح وتسوء الصحة هناك ولاسيما بعد جفاف قليل من تلك البطائح التي تتخللها عدة قرى. وحدود الحولة قبلة الطريق الفاصل بين نعران إلى جسر بنات يعقوب إلى قطانة والتليل من الغرب الجاعونة والملاحة والخالصة ويمتد إلى آبل القبح شمالاً ومزرعة المارية وجسر صريد المتصل بمزرعة حلتا والمحرويقة ومغور الشباعنة وبانياس من سفح جبل الشيخ وشرقاً عين فيت وخريبة السمن والمفتخرة والغرابة والدردارة. هذا إجمال عن بلاد الحولة وقد ذكر المقدسي في القرن الرابع أن الإقليم المتوسط الهواء أوسط سورية من الشراة إلى الحولة فانه بلد الحر والنيل والموز والنخيل. ولو جففت الحولة على نحو ما يسعى بعضهم بتجفيفها وهو سهل ممكن لأحييت بها عشرات الألوف من الدونمات قابلة لزراعة البقول والخضر تكفي أهل سورية في فصول السنة الأربعة بل سورية ومصر وغيرهما ولا سيما في فصل الشتاء لمكان الحرارة الطبيعية في تلك الأراضي وكثرة خصبها المريع وشمسها التي لا تكاد تغيب. كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض وتهوى من فروج الأصابع فعسى أن تصح العزائم على هذا العمل فينفع في صحة السكان وثروتهم بل صحة البلاد

المجاورة وثروة سورية عامة وكم فيها من خيرات لو حسن الانتفاع بها لكفينا مؤونة الفقر والهجرة. جبل عامل لم أجد تحديداً صحيحاً في كتب العرب لهذا الجبل المسمى اليوم بعضه بلاد بشارة أو بلاد الشقيف أو بلاد المتاولة فقد قال أبو الفدا إن جبل عاملة من الأماكن المشهورة وهو ممتد في شرقي الساحل وجنوبيه حتى يقرب من صور وعليه الشقيف الذي استرجعه الملك الظاهر ببيرس من أيدي الإفرنج وكانت رعاياه في حكم الإفرنج وفي شرقيه وجنوبيه جبل عوف عجلون وقال أيضاً وأما بنو عاملة فهم أيضاً من القبائل اليمانية التي خرجت إلى الشام عند سيل العرم ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة فمن عاملة عدي بن الرقاع الشاعر. قال في المشترك شقيف ارنون بين دمشق والساحل بالقرب من بانياس وارنون اسم رجل والشقيف المذكور معقل حصين والشقيف أيضاً شقيف تيرون بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وضم الراء المهملة وواو ونون قال وهي أيضاً قلعة بقرب صور بالساحل. وقال في شقيف تيرون أنها قلعة منيعة نافلة عن صفت (صلخد) على مسيرة يوم في سمت الشمال والشقيف أيضاً شقيف ارنون وهو في سمت الجبال عن شقيف تيرون وشقيف ارنون بعضه مغارة منحوتة في الصخر وبعضه له سور وهو حصين جداً. والأصح أن بلاد الشقيف من مقاطعات جبل عامل الثلاث وهي بلاد الشقيف وبلاد بشارة وإقليما الشحار والتفاح ويسمى جبل عامل أو عاملة وجبل الخليل (؟) وهو البلاد الواقعة في نواحي قلعة الشقيف سمي بعاملة القضاعية وهي أم الحارث بن عدي التي تنتسب قبيلته إليها نزلوا الشام مع بني جذام ولخم وغسان وشقيف تيرون هي المعروفة اليوم بقرية نيحا على حدود جزين من أعمال لبنان وفي شقيف ارنون أو أرنولد نسبة لأرنولد من ملوك الصليبيين شيء من أبنية الصليبيين. والغالب أن هذين الشقيفين كان يسمى أحدهما بالشقيف الكبير وهي شقيف ارنون وكان له بر وله وال كما كان لغيره من البلاد المشهورة، قال ياقوت: الشقيف كالكهف أضيف إلى ارنون اسم رجل إما رومي وإما فرنجي وهو قلعة حصينة جداً في كهف من الجبل قرب

بانياس من أرض دمشق وبينها وبين الساحل وشقيف تيرون وهو أيضاً حصن وثيق بالقرب من صور. وقال شيخ الربوة جبل عاملة عامر بالكروم والزيتون والخروب والبطم وأهله رافضة إمامية وجبل جبع جباع كذلك أهله رافضة وهو جبل عال كثير المياه والكروم والفواكه وجبل جزين كثير المياه والفواكه وقلعة شقيف تيرون قلعة حصينة على جبل عال ولها عمل ولها نائب ولم يحكم عليها منجنيق وجبل تبنين وله قلعة ولها أعمال وولاية وأهلها رافضة إمامية وقلعة هونين وهي على حجر واحد ولها عمل. وتبعد تبنين خمس ساعات عن صور إلى الشرق الجنوبي وبها قلعة بناها هيوسنت ادمير صاحب طبرية سنة 1107 م وحوصرت وجرت فيها مواقع إلى أن فتحها صلاح الدين. وأنت ترى أن شيخ الربوة فصل هذا الجبل إلى جبال وذلك في القرن الثامن ولعله كان يعرف كذلك في هده ومن المحقق أن قلاع هونين وتبنين والشقيفين ارنون وتيرون داخلة في جبل عامل وكم قاسى صلاح الدين بن أيوب في فتحها من الشدائد وقد مر الرحالة ابن جبير في أواخر القرن السادس بجبل عامل فسار من بانياس إلى قرية تعرف بالميسة ميس بمقربة من حصن هونين فبات فيها ثم رحل من الغد فاجتاز في طريقه بين هونين وتبنين بواد ملتف بالشجر وأكثر شجره الرند بعيد العمق كأنه الخندق السحيق المهوى تلتقي حافتاه ويتعلق بالسماء أعلاه يعرف بالإسطبل لو ولجته العساكر لغابت فيه لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه المهبط إليه والمطلع عنه عقبتان كؤودتان فعجب منه فجازه فمشى عنه يسيراً وانتهى إلى حصن كبير من حصون الإفرنج يعرف بتبنين وقال عنه أنه موضع تمكيس القوافل ووصف كيف أخذ الإفرنج من قافلته المكوس. وقال بعض المتأخرين أن جبل عامل يقال له بلاد بشارة نسبة لأحد حكامها في القرون الوسطى قيل أنه من الأمراء يعني معن وقيل هو بشارة بن مقبل القحطاني وكل ذلك لم يقم عليه برهان والذي يدور على الألسن أن مركز إمارته في قرية زبقين من أعمال صور حيث لا تزال الآثار الفخمة فيها تدل على ذلك والأرجح أن بلاد بشارة نسبت إلى حسام الدين بشارة من أمراء الدولة الأيوبية. وتقسم بلاد بشارة إلى قسمين بشارة الشمالية ونهايتها في الشمال نهر الأولي ويفصلها عن

الجنوبية نهر الليطاني وبشارة الجنوبية ونهايتها في الجنوب نهر القرن وكانت بلاد بشارة عامة تقسم إلى ثماني مقاطعات أربع في بشارة الجنوبية وهي تبنين وهونين وقانا ومعركة ويتألف منها الآن قضاء صور وقضاء مرجعيون وثلاث في بشارة الشمالية وهي الشقيف والشومر والتفاح المعروفة الآن بناحية جباع ويتألف من الثلاث الآن قضاء صيدا والثامنة مقاطعة جزين الداخلة في قضائها من جبل لبنان. وقد كان بعض الجغرافيين يعد مدينة صفد من جبل عاملة كما توسع بعض المتأخرين في تخومه وكادوا يدخلون فيه جبل الريحان وأقصى حدود مرج عيون والذي عليه العرف المعقول أن جبل عامل يحده جنوباً نهر القرن الجاري شمالي ترشيحا من بلاد عكا واختلفوا في الزيب هل هي داخلة في جبل عامل أم لا وشرقاً أرض الخيط والأردن والحولة وقسم من جبل لبنان وشمالاً نهر الأولي وبذلك تدخل صيدا في جبل عامل وغرباً البحر الرومي ويقسم إلى قسمين كما مر بك آنفاً شمالي وجنوبي فالقسم الأول يسمى ببلاد بشارة الشمالية والقسم الثاني ببلاد بشارة الجنوبية وطوله 18 ساعة وعرضه يختلف من 4 إلى 8 ساعات نزله بنو عاملة فنسب إليهم إلا أن هذه التسمية اليوم بجبل عامل أو بني عاملة بين الخاصة في الأكثر أما العامة فيطلقون عليه اسم بلاد بشارة ولا سيما قضاء صور وكان بنو عاملة نزلوا الحولة كما تفرقوا في الجبل وكما نزل الغسانيون في حوران والشام والمناذرة في العراق. وقد كانت حاضرة البلاد تبنين بادئ بدءٍ وهونين وقلعة الشقيف ثم تراجع عمرانها بما سطا عليها من المحن والاحن وكوائن الزمن وخلفتها جباع وغيرها والنبطية اليوم أكبر بلد في الجبل وهي قاعدة البلاد الوسطى سكانها نحو خمسة آلاف نسمة والمدينة الثانية بنت جبيل فيها نحو هذا القدر من السكان وهي على ثماني ساعات من النبطية وثلاث ساعات من صفت والثالثة جوبة في قضاء صور وتقدر قرى جبل عامل بنحو 300 قرية ففي قضاء صور 127 قرية وفي قضاؤ صيدا 147 وفي قضاء مرج عيون 54 فإذا حذفنا بعض القرى التي لا تدخل في عامل ولا سيما قرى المرج والحولة كانت قرى الجبل كما قلنا وهي نحو ثلث قرى جبل لبنان كما أن أهله نحو ربعهم ولكن أين لبنان بعمرانه من عامل. سرنا من بانياس إلى النبطية سبع ساعات في جبال شاهقة وعرة ولكنها مكللة بالخضرة

نضرة للغاية وقطعنا الجسر الممتد في مصف الطريق على نهر الليطاني الذي ينبع من أرض كرك نوح في البقاع ثم تصب إليه أعين وأنهار وهو يمتد من ذيل جبل لبنان حتى يمر بجبال مشغرا وتمده منها أعين كثيرة ثم يمر بالجرمق ثم بالشقيف ثم يعظم هناك ويمر فينصب في البحر الرومي قرب صور وعلى نحو ساعة ونصف من صور يمر بمدفن اسمه النبي قاسم فيسمى القاسمية وهو من أعظم أنهار الشام ولا سيما في الشتاء والربيع. وقد كان فكر بعضهم أن يجره إلى وادي الزبداني ليضمه إلى مياه نهر بردى والفيجة فيسقي دمشق وغوطتها وبلاد مرج الصفر منها ولكن ثبت له أن مجراه أسفل من دمشق فلا يركبها وكذلك يحاول أهل النبطية أن يجلبوا منه قسماً ببعض الآلات الرافعة يجعلون ماءه في أنابيب من حديد لتدخل بلدهم في طور المدن من حيث استسقاء الماء على نحو ما فعلت بيروت ودمشق وصيدا وهو يكلف بضعة عشر ألف ليرة وكأني بهم وهم فاعلون. وكذلك يفكر جماعة من مهندسي الإفرنج في تحويل مجراه قبيل مصبه بساعتين ليسقوا بمائه الأراضي المستطيلة على شاطئ البحر بين أقصى حدود جبل عامل وأرض صور من جهة صيدا ولو فعلوا لأتى عملهم بفوائد مادية لهم وللبلاد ولما ذهبت تلك المياه بدون فائدة وغدا الساحل من صور إلى صيدا والمسافة بينهما أربع ساعات في المركبة كحدائق دمشق بأشجاره ومزروعاته الصيفية. ويقدر المهاجرين من عامل بخمسة عشر ألف مهاجر دع عنك من قصدوا مدينة بيروت وغيرها من شبانة فاشتغلوا في الحمولة وطلاء الأحذية وغيرها من المهن الشاقة الرابحة ولا يقل عددهم فيما أحسب عن نصف هذا القدر فيكون بذلك قد فارق الجبل من أبنائه نحو السبع إذا فرضنا أن سكانه مائة وثلاثون ألفاً على ما قدره بعض العارفين ومع هذا فلا نجد انحطاطاً في زراعته ومن أهم غلاتهم الدخان التوتون يزرعونه في الصيف بعلاً فيجود من وراء الغاية كجودته في جبال اللجام الكلبية والتربة حمراء على الأكثر ويزرعون المزروعات الصيفية كالبقول وبعض الخضر فتنمو كلها بدون سقيا نمواً مدهشاً وزراعتهم الشتوية أحسن من كثير من الأراضي الجبلية في سورية. وكانت الزراعة تراجعت في القرن الحادي عشر لما أخذت سورية تلتهب بالفتن واشتغل الفلاح بالحروب عن النظر في زراعته فنضب معين الثروة وعاد أكثر الأراضي مهملاً

بوراً وبعد أن كانت الأراضي الزراعية متسعة الأرجاء في بلاد بشارة أصبحت على طول المدة حراجاً واسعة ومراعي إلا بعض الأراضي المجاورة للقرى والمزارع. وسكان الجبل شيعة إمامية وليس بينهم سنة إلا النادر جداً وبعض المسيحيين ممن التجأوا إلى أهل البلاد أيام حوادث لبنان منذ 51 سنة دع عنك من في صور وصيدا من السكان الأصليين وهذا الجبل مبعث التشيع في بلاد الشام ومنهم قسم في جزين والمتن والبترون وكسروان من لبنان وبلاد بعلبك وكان علماؤهم أو فقهاؤهم يدرسون في مدارس مهمة كانت لهم في هذه الديار مثل مدرسة جباع التي خرجت جلة فقهائهم وأدبائهم عرفناهم بكتبهم وأعمالهم ومدارس ميس وعيناتا وجزين ومشغرا والشقراء وكل هذه المدارس الدينية درست اليوم حتى اضطر القوم أن يرسلوا ببعض أبنائهم إلى النجف في العراق يتلقون العلوم الدينية عن أئمتهم هناك وبعد أن يقضوا بضع سنين يعودون وقد حفل وطابهم بما ثقفوه من مدرسة النجف التي هي للشيعة بمثابة الأزهر للسنة. وإني ليسوءني ما سمعته من تعصب بعض هؤلاء الفقهاء على المدنية الحديثة تعصباً ما كنت أخال صدوره ممن يدرك سر الحياة في الأمم فقد نقل لي أن بعضهم يحرمون إلى اليوم قراءة الصحف لأنها تضر بالدين بزعمهم وتشغل عن الآخرة حتى أن القحة بلغت ببعضهم أن حرم على المنبر قراءتها وجاهر بلعن من يؤازرها فاضطر كثير من ضعاف العقول أن يقطعوا اشتراكاتهم بالمجلات والجرائد ليعيشوا بدون نور إلا ما يرسله عليهم مشايخهم ممن خفت وطأتهم ولله الحمد بعد الدستور وكانوا مع الأعيان فيما مضى يعرقون لحم الفقير ويمتصون دمه ولا راحم فنفس القانون الأساسي من الخناق بعض الشيء وتوشك تلك البقعة من سلطة الجامدين من رؤساء الدين أن تذهب كأمس الدابر إذ ليس في متن الإسلام ولا في حواشيه وشروحه ما يقال له سلطة دينية. وفي الحال التي انتهى إليها المسلمون على اختلاف مذاهبهم عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد. تراجع التعليم تراجع التعليم الديني في عامل وكان إبطال امتحان طلبة العلوم الدينية أيام عبد الحميد من جملة الأسباب ولكن البلاد ما خلت ولا تخلو من مفكرين وعالمين ممن يعتبرون الأمور بمقاصدها وينظرون إلى النافع من حيث هو وقد كاد أعيان البلاد ينزعون تلك التقاليد التي وضعها الجامدون من الامتناع عن الاختلاط بالمخالف ولا سيما إذا كان

من غير أهل الإسلام ومنهم اليوم من يبعثون بأولادهم إلى المدارس العالية في بيروت وفي صيدا وكأني بهم وهم يرسلون أبناءهم غداً إلى الغرب ليستقوا العلوم من مصادرها كما فعل أخوانهم المسلمون في بيروت ودمشق وبعلبك وحاصبيا ولو بعثوا من ناشئتهم لتلقي شؤون الدنيا بمثل العدد الذي يبعثون به إلى العراق لتلقف مسائل الدين إذاً لأصبح عامل أرقى بمجموعه من لبنان وما لبنان عنه ببعيد. ولسائل أن يسأل ما إذا كانت عاقبة سلطة الرؤساء في المرؤوسين هنا فالجواب أنها علمت الكثير منهم الاحتيال وشهادة الزور والاستهتار بالشعائر سراً. أخلاق تجدها في كل مغلوب على أمره ارتضى غير قانون العقل دستوراً. ولا يفهم من هذا أن جبل عامل اختص بذلك من دون سائر بلاد الشام فإن هذا القطر متساو في أخلاقه إلا قليلاً ومتى تعلم أبناؤه التعليم الابتدائي لأن القارئين والكاتبين لا يزيدون في قرية من قرى عامل على عدد الأنامل ينزعون أيديهم ولا جرم من أيدي أولئك الذين قضى عليهم نكد الطالع أن يكونوا كالميت بين يدي الغاسل يحركونهم بحسب ما تملي الأهواء النفسية. هذا إجمال عن بلاد عامل بقي أن نقول أن الحكومات أخطأت في تقسيماته الإدارية فجعلت مراكز الحومة في أقاصي تخومه وتركت أواسطه بدون وازع جعلت الأقضية في صور وصيدا ومرج عيون وأنشأت من النبطية وتبنين مديريتين والمديريات ضعيفة السلطة بالنسبة للأقضية والألوية ففي مديرية النبطية مثلاً 43 قرية فيها من السكان نحو 25 ألفاً أفلا يجدر بها أن تكون قضاء برأسه وهكذا لو نظرت في التقسيم الماضي لرأيته غير معقول والجبل يحتاج لبعض مديريات وبضعة أقضية لتحسن طرق جبايته ويكون للحاكم قوة تحول دون التعادي بيد أن الأمن موفور فيه خصوصاً بعد الحملة الحورانية التي سرت منافعها إلى أقاليم سورية عامة وتحدث القوم بانتباه حكومة الدستور لكل مشاغب ومنتقض يجاذبها حبل الخروج عن الطاعة ولو جمعت الأسلحة من جبل عامل واللكام لاستراحت سورية بأجمعها آخر الدهر إن شاء الله. ورجاءنا أن يعود إلى هذا الجبل سكانه المهاجرون أو سوادهم الأعظم على الأقل وقد تهذبت عقولهم التهذيب الغربي في الجملة فيعمرون رباعه وبقاعه على نحو ما عمر اللبنانيون بلادهم ويبذروا فيها من المال في الطرق المحمودة ما يعود عليهم وعلى جبالهم

وأوديتهم المخصبة الصافية بالرفاهية والراحة يعمرونها كما يعمر الصهيونيون القرى التي نزلوها من أرض فلسطين والجليل فقد مر بنا مكارينا بقرية المطلة في أقصى حدود الحولة وهي لجماعة من الإسرائيليين فرأيناهم بتنظيمها كقرى أوربا فهلا رأى السكان مجاوريهم وقلدوهم في مرافق الحياة والشؤون النافعة. صيدا وصور ما الروض إلا ريض باكره السحاب ولا نسيم الصبا عطر بالشيح والملاب ولا مجامع الأنس ولقاء الأصحاب ولا العافية في بدن ذي أسقام وأوصاب ولا النضارة في خدود الغنيات الكعاب ولا تغريد العندليب وأنين العود والرباب ولا نيل الأماني بعد طول التطلاب ولا رنات الأوتار تلين لها الصم الصلاب ولا كشف غوامض المسائل بعد أن خفيت عن طالبيها الأحقاب - ما كل بهذا بأجمل من نزول صيدا في نيسانها وأيارها وقد طرزت ضواحيها وحواشيها وترنحت بالمرقصات المطربات أعطاف شاديها وتغنت أطيارها في أشجارها وتفتقت أنوارها وفاح أريج تربتها الزكية وتسلسلت سواقيها النقية فضمخت الأرجاء بماء أزاهيرها وورودها فكانت بهجة النفوس وريحانة الرواح. أتيتها من طريق صور وكنت قصدت هذه من النبطية قاعدة جبل عامل والمسافة بين النبطية أو النابطية وصور سبع ساعات عن طريق صعب في الجملة وليس في صور ما يستحق أن يذكر سوى تاريخها القديم أما حالتها الحاضرة فأشبه بقرية وسط جزيرة تتصل مع البر برمال وهي محصورة ضيقة وبلغني أن نفوسها لا يتجاوزون سبعة آلاف نصفهم من المسيحيين والنصف الآخر مسلمون وتجارتها ضعيفة جداً وزراعتها متوسطة وقد ذكر القدماء بأن صور هي التي أوجدت فن الزراعة وغرس الكرمة. كان لصور شأن في القديم دونه اليوم ميناء همبورغ ومرسيليا ولندن ونيويورك ومن مينائها وميناء صيدا سافرت سفن الفينيقيين واستعمرت شواطئ البحر الرومي حتى بلغت مضيق جبل طارق بل تجاوزته في بحر الظلمات إلى أن بلغت الجزائر البريطانية واستعمرتها وأقامت فيها مصانعها ومتاجرها على حين لا ترى اليوم إلا قوارب حقيرة ومراكب شراعية صغيرة لا تدل على عظمة ولا تشعر إلا بفقر ومسكنة. أصحيح أن صور التي لا تصدر الآن إلا قليلاً من القطن والدخان كانت فيما مضى تصدر

إلى باب العالم المدني السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات وعسل جبل عاملة وأرجوان صيدا. أصحيح أن هذه القربة الحقيرة الضيقة النطاق الكئيبة الدور والمنازل والحوانيت كانت ذات طبقات ست وسبع وثمان ويجلب الفينيقيون الماء في قوارب لتفاههم وهي مركز حكومة فينيقية التي كان طولها خمسين فرسخاً وعرضها نحو عشرة فراسخ يقصدها أصحاب النواحي المستقلين الذين يحكمون أنفسهم لفض المصالح المشتركة فكانت منذ القرن الثالث عشر أهم مدن فينيقية ضاقت على أهلها فأُقيمت مدينة جديدة قبالتها وأسس تجارها مستعمرات في البحر الرومي كله لأن زراعتها لك تكفهم. أسسوها ليصيبوا الفضة من مناجم أسبانيا وسلع العالم القديم وكم أسسوا مثل قرطاجة مدناً لا تزال أنقاضها شاهدة بعزها الداثر ولذلك كان تاريخ صور وصيدا عبارة عن تاريخ العالم القديم. أصحيح أن ملوك آشور حاولوا مرات الاستيلاء على صور أي مدينة الصخر فردوا عنها خائبين لحصانتها ولم تخضع لسلطانهم إلا بعد العناء الطويل محافظة بإدارتها الأصلية وأن بخت نصر بعد أن حاصرها فاشتد في حصارها ثلاث عشرة سنة اضطر أن يعقد مع صاحبها ابتوبعل معاهدة وأن أهلها قدموا للفرس أساطيل مهمة ولذلك كان أول هم للاسكندر المقدوني أن يضرب على عظمة صور حتى تكف عن مد يد المعونة لعدائه الأكاسرة. أصحيح أن القسم القديم من هذه المدينة المسمى ببالتيروس كان يمتد من نهر القاسمية في الشمال إلى رأس العين في الغرب أي على مسافة ساعتين ليس فيها الآن إلا رمال وبعض الزروع البسيطة وأن الاسكندر جعل عاليها سافلها ليبني بأنقاضها بين البر والجزيرة سدة الغريب وطوله خمسمائة قدم وعمقه ستون وأن حصاره لها دام سبعة أشهر وقد أجرى إليها الماء وأنها بعد هذا الحصار المنهك بسبع عشرة سنة تعاصت على أنتيفوس على عهد البطالة خمسة عشر شهراً وأنها كانت على أوائل انتشار النصرانية أهم مدن فينيقية وأولاها بالتقدم وظلت إلى القرون الوسطى من المواني التي صعب على الفاتحين أخذها ولو لم ينشأ اختلاف بين ملوك الطوائف لما وجد الصليبيون سبيلاً إلى الاستيلاء عليها سنة 1124 م ولقد حاصرها الملك الناصر صلاح الدين يوسف فكانت عليه صعبة المنال ولما سقطت عكا بأيدي المسلمين اضطر الإفرنج إلى الرحيل عنها بعد أن احتلوها 167 سنة

أقاموا بها بعض الأبراج في البحر لا يزال بعض أنقاضها بادياً وحكمها الأمير فخر الدين المعني وعبثاً حاول إنهاضها من كبوتها وإذا نظرت إلى البلاد رأيتها ... تشقى كما تشقى العباد وتسمد أصحيح أن عكا وصور وهما الآن فرضتان حقيرتان جداً من موانئ الشام كان لهما من المكانة في القديم ما لم تحز بيروت بعضه اليوم مهما بلغ من مجدها البحري وأن صور كانت هي وعكا ميناء دمشق وسائر المدن الداخلية منهما تصدر التجارات وترد الواردات وهمما مقصد السياح من الشرق إلى الغرب وبالعكس. قال ياقوت: إن صور مشرفة على بحر الشام داخلة في البحر مثل الكف على الساعد محيط بها البحر من جميع جوانبها إلا الربع الذي منه شروع بابها وهي حصينة جداً ركينة لا سبيل إلا بالخذلان وهي معدودة في الإسلام من أعمال الأردن بينها وبين عكة ستة فراسخ وهي شرقي عكة. وذكرها شيخ الربوة من جملة العجائب فقال: إن البحر الرومي منها رمية نشاب وهي مربعة البناء من خارج وهي مثمنة من الداخل وعمق الماء إلى أسفل ثلاثة وأربعون ذراعاً بالكبير ويخرج منها ماء كثير وجريته فرسخين يجري إلى المعشوقة يسقي أنصاباً ومزروعات وروى ابن فضل الله: إن صور كانت ولاية في القرن الثامن وفيها كنيسة يقصدها ملوك من البحر فلهذا لا يزال عليها الرقبة وهم على هذا يأتونها مباغتة ثم يفضون فيها ما أرادوا ثم ينصرفون ولعل تلك الكنيسة هي كنيسة اللاتين التي يقال أنها من بناء الملك قسطنطين وقال البكري إن السفن كانت تسلك من الاسكندرية إلى أبي قير فدمياط فبحيرة تنيس ثم إلى جزيرة دبقوا وهي التي تصنع فيها الثياب الديبقية ثم إلى تيدار ميماس (؟) ومنها إلى غزة فمليحة الواردية فعسقلان فقيسارية فرأس الكرمان (لعله رأس الكرمل) فحيفا فعكا فصور وهي داخل البحر وهي ساحل بيت المقدس ثم إلى صيدا ثم إلى بيروت ثم إلى طرابلس الخ. وأنت ترى اليوم أن من بين هذه الموانئ السورية ما لا تقف عليه المراكب مثل عسقلان وقيسارية وصور وصيدا فسبحان محول الممالك قرى وجاعل المجاهل معالم. وقال الشريف الإدريسي: بأن صور كانت مرسى يدخل إليه من تحت القنطرة وعليه سلسلة تمنع الراكب من الدخول قال ابن سعيد: صور التي لا يرام لحصار من جهة البر

وقد حفر الإفرنج حولها أداروا بها البحر قال العزيزي وبين صور وعكا اثنا عشر ميلاً وفتحت في سنة تسعين وستمائة مع عكا وخربت وقد نقل معاوية إليها وإلى عكا قوماً من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية سنة 42 وكانت خراباً يوم مر بها ابن بطوطة سنة 726 وبخارجها قرية معمورة سكانها من الستوزة؟ قال أن بابها الذي للبحر بين برجين عظيمين وبناؤها ليس في الدنيا أعجب وأغرب شأناً منه كما مر بها ابن جبير قادماً من عكا في طريقه على حصن كبير يعرف بالزاب لزيب وهي مطلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسورة تعرف بإسكندرية وقال في وصف صور: مدينة يضرب بها المثل في الحصانة لا تلقي لطالبها بيد طاعة ولا استكانة قد أعدها الإفرنج مفزعاً لحادثة زمانهم وجعلوها مثابة لأمانيهم هي أنظف من عكا سككاً وشوارع وأهلها ألين في الكفر طبائع وأجرى إلى بر غرباء المسلمين شمائل ومنازع فخلائقهم أسجع ومنازلهم أوسع وفسح وأحوال المسلمين بها أهون وأسكن وعكة أكبر وأطغى. وأما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يحدث به وذلك أنها راجعة إلى بابين أحداهما في البر والآخر في البحر وهو يحيط بها الآن من جهة واحدة فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعاً منها يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جداً معقود بالجص فالسفن تدخل تحت السور وترسى فيه وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها وعلى ذلك الباب حراس وأمناء لا يدخل الدخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع ولعكة مثلها في الوضع لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسي خارجها والمراكب الصغار تدخل إليها فالصورية أكمل وأجمل وأحفل قال وهاتان المدينتان عكة وصور لا بساتين حولهما وإنما هما في بسيط من الأرض افيح متصل بسيف البحر والفواكه تجلب إليهما من بساتينهما التي بالقرب منهما ولهما عمالة متسعة والجبال التي تقرب منهما معمورة بالضياع ومنها تجبى الثمرات إليهما وهما من غر البلاد. وقال ابن خرداذبة: وسواحل جند دمشق عرقة طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وحصن

الصرفند وعدلون وسواحل جند الأردن صور وعكا وبصور صناعة المراكب أي المسلحة (الترسانة) وفي نزهة المشتاق: ومن إسكندرية إلى مدينة صور خمسة عشر ميلاً وهي مدينة حسنة على ضفة البحر ومن صور إلى طبرية يومان كبيران ومنها إلى عدلون وهو حصن منيع على البحر ومنه إلى صيدا عشرة أميال وبين صور وصرفند يقع نهر ليطة ليطاني ومنبعه من الجبال ويقع هناك في البحر ومن صور إلى دمشق أربعة أيام وذكر ياقوت في المشترك أن صور أشهر مدينة بساحل الشام وحصنها وأحسنها افتتحت في أيام عمر بن الخطاب وبقيت في أيدي المسلمين إلى سنة 518 في أيام الآمر بالله فأخذها الفرنج. هذا كلام الإفرنج والعرب في صور وقد بتنا فيها ليلة انقبضت فيها النفس انقباضاً لم يعرض لها في أحقر القرى التي مررنا بها في رحلتنا ومن الغد ركبنا المركبة إلى صيدا في أراض مزروعة وجداول منسابه والمسافة أربع ساعات وليس في الطريق من أثر إلا بقايا أنقاض الصرفند وتعرف قديماً باسم الزاربات وعدلون ومغارة اسمها معارة البزاز يرشح الماء من أعلى صخر منها المتجمع من مياه المطر فيشرب منه الرعاة حيث يلجأون في الشتاء ويعتقد بعض العامة أن كل مرضع جف لبنها وانقطعت درتها تستشفي يرشح من قطرات الماء فيدر لبنها ولم يقم دليل على ذلك في الحس كما لم يقم حتى الآن دليل على الاستشفاء بالأماكن المباركة وبعض المعابد ومحال النسك وما النذور التي ينذرها بعض عامة المسلمين من السنة والشيعة والرحال التي يشهدونها من القاصية إلا من باطل السعي ومخلفات القرون الوسطى لا يؤيدها نقل ولا يقول بها عقل. وفي الطريق إلى صيدا بعض نواويس ومسلات منها ما هو يوناني ومنها ما هو فينيقي ومنها ما هو مصري كما تجد أحواضاً وقبوراً ومعاصر زيت وأنقاض معابد وغيرها والمهم مما كان هنا وفي صيدا نقله علماء الآثار إلى متحف الأستانة أو متاحف أوربا سراً. ومدخل صيدا بحدائقها الأنيقة مدخل المدن الكبرى وإن لم يتجاوز نفوسها عشر ألفاً ولذا رجح بعضهم أن الفينيقيين اختاروها لجمال جزين والريحان وعامل مطلة عليها إطلال الأب على ابنه أو العاشق على معشوقه. وكيف لا يبهج الأباصر رؤيتها ... وكل روضٍ بها في الوشي صنعاء

أنهارها فضة والمسك تربتها ... والخز روضتها والدر حصباء وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً ... ولا انتشار لآلي الطل أنداء وإنما أرج الند استسار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء اختلف المؤرخون في صور وصيدا وأيهما كانت أكبر وأفخم على عهد الفينيقيين ويقول استرابون أن صور أقدم مدن فينيقية وأعظمها بعد صيدا وقد جعل صور العتيقة على مسافة نحو خمسة كيلو مترات ونصف من صور الحديثة أما بلين فيقول أن المدينة القديمة والحديثة متصلتان ببرزخ إحداهما مع الأخرى ومحيطهما 27 كيلومتراً أما المدينة الأصلية فمساحتها زهاء أربعة كيلومترات. ظفر الباحثون بنقود فيها رسم أنطوخيوس الرابع قبل المسيح بمائة وثماني وستين أو سبع وستين سنة كتب عليها أنها ضربت في صور أم الصيدونيين ووجدت أيقونة أخرى كأنها رد على هذه الدعوى مكتوب عليها الصيدونيين مذلولون صور الكاذبة وهكذا تنازعت صور وصيدا شرف التقدم كما تنازعتا مدينة صرفند (صرفت) التي بناها أهل صيدا على 15 كيلو متراً ونصف جنوبي صيدون على الشاطئ ومعناها سبك المعادن من صرف العبراني أي ذوب. بيد أن التاريخ ناطق بأن صيدا وإن سبقت الفينيقيين بتأسيس المستعمرات منذ عهد عريق في القدم فأنشأت هيبون في نوميديا وقرطاجنة في شمال أفريقية فقد سبقتها صور فيما بعد وتبين أن صيدا كانت من عمل صور حتى كانت صيدا تعرف باسم صور صيدا وظلت صيدا مستقلة في شؤونها الداخلية وكان لها حق على عهد الرومان مجلس شيوخ وحاكم أكبر كالذي كانت تنصبه الجمهوريات اليونانية. ولم يشتهر الصيدونيون بأنهم والصوريين أساتذة العالم في تجشم البحار بل اشتهروا أيضاً بأنهم أساتذة أيضاً في علم النجوم والرياضيات. خربت صيدا سنة 351 ق. م عقب انتفاضها على ملك فارس وقتل وحرق فيها 40 ألفاً وفتحت أبوابها بنفسها للفاتحين اليونانيين ثم استولى عليها الرومان وكان يطلق عليها اسم قائدة المراكب وأم القرى والمستعمرة السامية وافتتح المسلمون صيدا سنة 637 و 38 م

بدون مقاومة وقامت على عهد الصليبيين أهوالاً ودفعت مالاً سنة 1107 حتى رفع الصليبيون عنها الحصار إلا أن بودوين الأول عاد فاستولى عليها سنة 1111 وبعد وقعة حطين دك السلطان صلاح الدين أسوارها سنة 1187 م ثم عاد الصليبيون فاستولوا عليها سنة 1197 واستخلصها منهم الملك العادل وخربها في تلك السنة فأعاد الإفرنج بناءها سنة 1228 فخربها المسلمون سنة 1249 ثم حصنها سان لوي سنة 1253وابتاعها فرسان الهيكليين الصليبيون وهاجمها المغول سنة 1260 فجعلوا عاليها سافلها ثم وقعت في أيدي المسلمين ودك الملك الأشرف حصونها. ولم تنهض صيدا من كبوتها إلا في القرن السابع عشر على عهد الأمير فخر الدين المعني أحد أمراء الدروز الذي جعلها مقر ولايته ونشط الأوربيين على نزولها حتى أزهرت تجارتها وأقام فيها قصراً له وخانات للتجارة وكان بعضهم من أهل طوسكانيا في إيطاليا وبعضهم من الفرنسيين وجلب تجارة الحرير إليها ثروة هائلة وظلت المدينة متقدمة في تجارتها إلى أواخر القرن الثامن عشر وامتدت ايالة صيدا سنة 1838 فتألفت من بلاد ساحل عتليت وعكا وشفا عمرو والجبل والشاغور وبلاد بشارة وطبرية وصفد والناصرة وتوابعها من القرى والعرب المخيمين في ضواحيها وقد ضربت أساطيل الأوربيين المتحدة سنة 1840 قلعة الرفاء وما زالت أنقاضها بادية. وكانت صيدا مرفأ دمشق الوحيد في القرن السابع عشر والثامن عشر كما كانت في القرون الوسطى وبين دمشق وصيدا ستة وستون ميلاً والميل ثلاثة آلاف ذراع أو ستة وتسعون ألف إصبع والفرسخ ثلاثة أميال وثلاثمائة ألف إصبع يقص اثني عشر ألف إصبع وكانت الطريق على رواية العزيزي من صيدا إلى مدينة مشغرا وهي أنزة بلد في تلك الناحية في واد في نهاية الحسن بالأشجار والأنهار والمسافة أربعة وعشرون ميلاً ومن مدينة مشغرا إلى مدينة تعرف بكامد (الغالب أنها كامد اللوز قرية في غربي البقاع) قاعدة تلك البلاد قديماً ستة أميال ومن مدينة كامد إلى ضيعة تعرف بعين الجر ثمانية عشر ميلاً ومن عين الجر إلى مدينة دمشق ثمانية عشر ميلاً. ولا يعرف بالتحقيق الباني الأول لصور وصيدا والأرجح أن الأولى بنيت في أيام جلعاد من سبط منشأ بني عمون اليهود والثانية بناها صيدون بكر كنعان. وكانت مدينة صيدون

أي صيدا أول ما أحدثه كنعان علة بضعة مراحل من جنوبي بيروت ولم تكن إلا قرية للصيادين (كما يدل عليه اسمها نفسه) بناها على ما جاء في روايتهم القديمة الإله بعل (المعروف عند اليونان بسم آجنور) على المنحدر الشمالي لرأس صغير يشرف بانعطاف نحو الجنوب الغربي وقد كان لميناها عند السلف شهرة فائقة وهي محصورة بين صخور منخفضة متتابعة تبتدئ من النهاية الشمالية لشبه الجزيرة ثم تمتد بحذاء الساحل على مساحة بضع مئات من الأمتار والسهل المحيط بها يسقيه نهر جميل يعرف باسم بوسترين نهر الأولي وفيها كثير من البساتين الغناء الاريضة حتى أوجب هذا الموقع الطبيعي وهذا الجمال الخلقي تسميه المدينة بصيدون الزهراء وبحوارها شمالاً نهر الدامور وهي تمتد جنوباً إلى مصب نهر الليطاني وفيما وراء ذلك من البلاد كان في حكم الصوريين. قالوا وفي الأحقاب الخوالي التي مضت على العالم أي أيام كان الآلهة يعيشون بين الناس اختط سمروم على القارة رسم مدينة من قصب الغاب وأمامها استقر أخوه هيزعوس في بضع جزار أقام فيها أعمدة مقدسة. وهيزعوس هذا أول بحري في العالم. وكان هذا مبدأ صور ثم جاءها بعد ذلك ملكارت وهو عند الصوريين مثل هرقل الجبار المشهور في جاهلية اليونانيين ويؤكد كهنة هذا الرب أن هيكله بني هو والمدينة في وقت واحد وقد مضى نحو ألفي سنة وثلثمائة سنة حينما زارهم المؤرخ هيرودتس فعلى حسابهم يمكننا أن نقول بأن مدينتهم هذه أسست في نحو سنة 2750 ق. م. استكانت صور صيدا للفاتحين كما استكانت جبيل وبيروت من مدن الفينيقيين فتفرغت إلى عهد رعمسيس الثاني أحد ملوك الفراعنة لاحتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر الأبيض المتوسط وفي القرن الثاني عشر ق. م حصلتا على استقلالهما لما ضعف أمر العائلة العشرين من الفراعنة وكان خلال ذلك العهد كل من صور وصيدا عبارة عن دولة صغرى تطمح إليها أنظار مجاوريها بسبب ما أحرزتاه من توفر أسباب الثروة ولكنهما قاومتا هذه الأطماع مدة بما كان لهما من الحصون والأسوار غير أنهما لم يتأت لهما البقاء زماناً على هذا الاستقلال فأقلع من عسقلون (عسقلان) أسطول فلسطيني سنة 1210 وتلاقى بعمارة الصيدونيين فدمرها تدميراً ثم استولى على مدينة صيدون ومن نجا من أهلها فروا إلى صور فقويت بهم حتى صارت أقوى دولة فينيقية وفي أيام حيرام الأول

(980 - 945 ق. م) بلغت صور ببحريتها أعلى الدرجات وانبسط سلطانها. كانت صور متفرقة في عدة جزائر يفصل بعضها عن بعض ألسنة من البحر ليست بالعميقة بل تتخللها صخور طافية رؤوسها على صفحات الماء من جنس الصخور التي يتعذر معها اقتراب السفن في بعض المواضع من سواحل الشام فردم حيرام تلك المضايق التي تتخللها مياه البحر بجسور حصينة وردوم أقامها فاتسعت رقعة المدينة ولكنها لم تكن لتسع سوى ثلاثين إلى خمسة وثلاثين ألفاً وأقام ملوكها وتجارها قصورهم في أواخر سفح لبنان وبقيت الجزيرة مركز الحكومة. وظلت صور راضية بأداء الجزية للفاتحين حتى نشب القتال بين ملكها ايلولي 768 - 692 والملك تغلات فلازار الثالث صاحب آشور انتهت بهلاكه ووقوع صور في قبضة الآشوريين ولما سقطت نينوى عاد لصور استقلالها وفازت بدفع بخت نصر عنها بمعاونة الفراعنة الصاوبين واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة من سنة 574 إلى سنة 587 ولكن نزفت قوتها بفتنتها الأهلية وفي سنة 557 أعيدت إلى سيطرة الكلدانيين ولما سقطت بابل في سنة 538 حصل لصور وفينيقية ما حصل لها فدخلت في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال. كان لكل من صور وصيدا كما كان لكل مدن فينيقية رب خاص بها بعل وله عشتاروت اسطارطوس وهي آلهة أنثى وكانت البعليم والعشتاروت تمثل قول الطبيعة والشمس والكواكب أو الأغراض التي تتجه إليها نفوس بني آدم مثل العشق والقتال وكانت هذه الآلهة متوطنة في المرتفعات والمشارف وفي الغابات وفي المياه وفي الأحجار الخام بيت ايل - بيت الإله وكانت هذه الآلهة تؤول إلى زوج واحد أعلى أو إلى سبعة آلهة كبراء تحف باشمون الذي هو الإله الخالق وكانت عبادة هذه الآلهة غير منتظمة ومحفوفة بأساليب القسوة فكان القوم يحرقون الأطفال تمجيداً لها وإذا حل الانقلاب الصيفي أخذوا يندبون أدونيس ثم إذا جاء الخريف احتفلوا ببعثه ونشوره. ثم دخلت بعض القواعد الدينية المصرية في ديانة الفينيقيين. أخذت فينيقية عن مصر حروف الهجاء ومن الحروف الهجائية الفينيقية اشتقت حروف الهجاء الأوربية. وأثرت في فنونهم من صياغة ونقش ونحت وعمارة وعمل زجاج

وصناعات كلديا تارة أخرى واشتهرت صناعة الفينيقيين عند القدماء فقد أتقنوا طرق اصطناع الزجاج وحفظوا زماناً سير تحضير الأرجوان وفي الآثار التي عثر عليها في أمريت أي مارات القديمة ما يستدل به أن المدينة المصرية أثرت كل التأثير في المدينة الفينيقية بل أن معاصر الزيوت ذات الأجهزة الضخمة تشبه الآثار المصرية كل الشبه وكذلك أواني الفضة والشبهان البرونزالتي كانت تصنع في صور تراها مزخرفة بأشكال مصرية وممثلة لموضوعات مصرية وكذلك الجواهر والأساور والخناجر ودروع الخواصر والخواتم والأقراط تشبه المصنوعات المصرية فلم يكن للفينيقيين قط فنون وطنية خاصة بهم متأصلة فيهم لأنهم اقتصروا في كل عصر على تقليد أعمال الأمم التي تحكمهم فكانوا يقلدون الصناعات المصرية والآشورية أيام كانت حكومة بلادهم في أيدي المصريين والآشوريين فلما حكمهم اليونان ثم الرومان حاكوا الصناعات اليونانية. وبالجملة فإن صور وصيدا كانتا مدينتي صناعة وتجارة يحمل أبناؤهما مصنوعاتهم ومصنوعات غيرهم إلى الجهات القاصية وهم وحدهم كانوا ينقلون البضائع في البحر المتوسط مدة قرون طويلة. هذا ما يساعد المقام على اقتباسه من تاريخ العاصمتين القديمتين أما حالتهما الحاضرة فمتأخرة وإن كانت صيدا ترجح على صور كثيراً خصوصاً بحدائقها الأنيقة التي يعود عليها منها دخل وافر لا سيما في البرتقال والليمون واللوز والمشمش والموز والبلح ويني دنيا وهو شجر حديث أدخل المالطيون زراعته إلى صيدا أولاً منذ نحو أربعين سنة وله طعم حلو مز وبذر كبير. إن تلك البقعة التي تقدر بنصف غوطة دمشق بمساحتها في ذاك السهل النضير الذي تطل عليه قمم لبنان مغطاة بالثلوج وجبل الريحان وتومات نيحا وصيدا في عمرانها اليوم صورة مصغرة من عمران بيروت وفيها من المعاهد والمصانع مثل ما في الأولى فلها مدرسة صناعة لمبشري الأميركان ومدرستان لهم للذكور والإناث كما فيها مدرسة لليسوعيين وأخرى للفرنسيسكان وثالثة للاتحاد الإسرائيلي ومدارس ابتدائية لجمعية المقاصد الإسلامية لا تعلق لها بجمعية بيروت المسماة بهذا الاسم ولا بجمعية النبطية التي أطلق عليها مثل هذا الاسم أيضاً وفيها مكتب ابتدائي ورشدي أميري وغير ذلك من الجوامع والكنائس كما

أن فيها مزاراً يقال أن فيه شيئاً من جثة يحيى الحصور عليه السلام وهذا غير ثابت في التاريخ كما لم تثبت الدعاوي التي من قبيله. وفي صيدا تصدر مجلة العرفان لمنشئها صديقنا أحمد عارف أفندي الزين وهي مجلة راقية خادمة للآداب العربية امتازت بما تنشره لعلماء جبل عامل والنجف وإيران وشعرائهم وكتابهم وما ترويه من آثار العلويين وتاريخهم ولها مطبعة متقنة وهي المطبعة الوحيدة في هذه البلاد وبالنظر لقرب المسافة بين صيدا وبيروت اكتفى الصيدونيون بجرائد بيروت ولم ينشروا جرائد لهم خاصة. وقد فتحت صيدا شارعاً طويلاً لها أقامت فيه الدور والحوانيت على الطراز الجديد في الجملة أما بناء المدينة القديم فضيق معوج مثل أبنية بيروت وطرابلس القديمة أو أدهى وماؤها عذب يأتي في أنابيب مثل ماء بيروت ويستقى منه في أعالي البيوت وبلديتها تعتني بتنظيفها أكثر من عناية بلدية دمشق وبيروت. وقصارى القول فإن صيدا كما قال أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري تصيد القلوب صيدا وعلى رأي ابن الساعاتي وقد مر بها يوم كانت بيد الإفرنج فرأى مروجاً خضراء كثيرة نباتها النرجس واتفق أنه هرب بعض الأسارى من صيدا فأرسلت الخيل وراءه فردته فقال: لله صيداء من بلد ... لم تبق عندي بلى دفينا نرجسها حلية الفيافي ... قد طبق السهل والحزونا وكيف ينجو بها هزيم ... وأرضها تنبت العيونا مرج عيون عدنا من صيدا إلى النبطية في مركبة وذهبنا من الغد في زمرة من الإخوان لزيارة قلعة الشقيف التي نسبت إليها البلاد المحيطة بها ويرد عهدها إلى قبل الصليبيين عرفها الإفرنج للمرة الأولى سنة 1179 ولما استولى عليها الصليبيون سموها الحصن الجميل وحق لهم أن يسموها كذلك لجمال موقعها المطل على نهر الليطاني المنسابة مياهه في أسفل الوادي العميق ومن الجانب الآخر بعض القرة المبثوثة في الخضرة التي تأخذ بمجامع القلوب ومن البعيد سهر مرج عيون الوارد ذكره في سفر الملوك وينتهي هذا المرج بجبل الشيخ

وبجانبه قلعة الصبيبة المطلة على حولة بانياس وبلاد بشارة أو جبل عامل وفي الجنوب بلاد نفتالي الجبلية إلى ضواحي صفد وعلى اليمين جبل الجرمق. ومن قلعة الشقيف أيضاً ترى قلعة هونين وفي الشمال الشرقي تصعد العين الوادي وفي أعلاه جبل الريحان منظر يملك على الإنسان مشاعره فيدهش له ويبتهج ينظر القلعة فيراها محلقة في الجو كالعقاب تدل كل الدلالة على قدرة الإنسان حتى في سالف الأحقاب ويقع نظره من جهة أخرى على أجمل مناظر سورية وتتمثل له هذه البلاد وما قاسته من مطامع الفاتحين وسيئات الظالمين المستبدين. وفي هذه البقاع التي منحتها الفطرة أسباب الصفاء والرواء تطاحنت سنين كثيرة جيوش أهل الصليب وأهل الإسلام فأهلك الإنسان أخاه بسائق الدين في الظاهر وسائق المطامع الدنيوية في الحقيقة ولولا عزيمة من صلاح الدين يوسف بن أيوب نسفت الأهواء لتجردها عن الأهواء لكانت بلادنا اليوم ملكاً لدول أوربا أو لأحداهن ولما بقيت للإسلام والعرب كله تسمع في هذه الديار كما وقع لشبه جزيرة الأندلس وجزيرة صقلية من قبل. وقلعة الشقيف كسائر قلاع القرون الوسطى في بلاد الشام من بناء كثير من الملوك والمتغلبين وأهم أبنيتها من أواخر العهد الروماني ومعظمها من بناء العرب وفيها معبد أو مصلى من القرون الوسطى من الجهة الشرقية وهي محاطة من الجنوب ومن الغرب بهوة عميقة محفورة في الصخر عمقها من 15 إلى 36 متراً ومن الجنوب فقط لتصل القلعة بذروة الجبل ومدخلها إلى الجنوب الشرقي وطولها 120 متراً وعمقها 30 من طرفها الشمالي بناء ناتئ طوله 21 متراً متجهاً إلى الشرق وفناؤها أو صحنها في الجهة الشرقية منها عمقه نحو 15 متراً ومثلها الأبنية الخارجية ولها انحدار يختلف من 6 إلى 9 أمتار وقد قام على الحائط الجنوبي برجان على شكل نصف دائرة. قامت القلعة على هذا المثال بحيث أعجزت المهاجمين ويقال أن صلاح الدين لم يستطع أخذها بالمنجنيق إلا بضربها به من قرية القليعة في الشق الآخر من الوادي على مسافة لا تقل عن أربعة كيلومترات وفي رواية تدور على ألسن أهل القرى هناك أنه حاصرها أشهراً ولم يستول على حاميتها إلا بحيلة دبرها قروي من أهل ذاك الجوار فدعا الحامية خارج القلعة لمأدبة أعدها لها وكانت الحامية مستأمنة له وقد أنهكها الجوع حتى صارت

تأكل الفيران والجرذان فما شعروا وهم مشتغلون ببطونهم إلا وعسكر صلاح الدين قادمون بطعام في زي النساء حتى اقتربوا منهم فباغتوهم فلم ينج منهم نافخ نار. والصحيح في فتحها ما قاله العماد الكاتب من أن صلاح الدين قد إلى شقيف ارنون من دمشق ماراً بقلعة بانياس وأتى مرج عيون رخيم منه بقرب الشقيف وجمع على من به من آلات الحصار أسباب التخويف وأقام عسكره في ذلك المرج الوسيع والروض الوشيع وكان الشقيف في سد صاحب صيدا ارناط فأمهله ثم أمهله ولم يجد صاحب الحصن ملجأ وتحول السلطان من مخيته إلى أعلى الجبل لمحاصرة الحصن ورتب له عدة من الأمراء إلى أن تسلمه بعد سنة بحكم السلم وكانت مرجعيون تتوافد إليها جموع المتطوعة من دمشق وحوران والمرج والغوطة قال: وفي يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول تسلم بالامان شقيف ارنون واستمر الحصار عليه منذ نزولنا في السنة الماضية بمرج عيون وصاحبه ارناط صاحب صيدا في دمشق لأجله معتقل وباب خلاصه دون فتح شقيفه مقفل وذلك أن الشقي فنى زاده وعز اجتهاده ومرد عليه في الحفظ مراده وخانه في البصر ارتياؤه وارتياده ونخب من الرعب فؤاده وأصلد باليأس زناده وامتنع عليه إصداره وإيراده فسلمه على أن يسلم صاحبه وتخلص في النجاة مذاهبه وخرج هو ومن معه وترك الشقيف بما فيه وتركه للإسلام بما يحويه وأفرج عن صاحب صيدا وصار إلى صور ولبس من التشريف والتسريح حبير الحبور. وبعد صلاح الدين نزلت القلعة الحامية الإسلامية وما زالت تتقلب عليها الأحوال حتى سكنها في القرن الماضي أبناء العشائر أو حكام جبل عامل ولم يغادروها إلا في النصف الأخير من القرن السابق أما اليوم فقد أمست زريبة يأوي إليها الرعاة بغنمهم وماعزهم. غادرنا عصر اليوم الخامس عشر من سياحتنا إلى مرج عيون أو مرجعيون كما يقال لها اليوم فاجتزنا إليها جسر الخردلة الممتد على نهر الليطاني ومرج عيون كانت مملكة من ممالك إسرائيل تحيط بها حدود رحوب وقادش وخاصور وافيق أي سهل هذا المرج الذي يمتد نحو عشرة كيلو مترات وعلى نحو كيلو مترين من الجديدة مركز مرج عيون اليوم تل دبين وهي ربوة في السهل فيها بعض خرائب تدل على أنه كان هناك مركز عيون وعيون هذه كانت عرضة لهجمات آرام وآشور منها أخذت هذه المقاطعة اسمها وقال بعضهم أن

عيون هي دبين وهي قرية على ميلين شمالي جديدة مرج عيون وعلى تل دبين آثار قديمة ذات شأن وقيل هي الخيام على ميلين إلى الجنوب الشرقي من الجديدة. واختلفت الأحوال على مرج عيون في الحكومات الإسلامية فكانت من أعمال صفد وسماها أبو الفدا مرج العيون بألف ولام وسماها غيره مرج عيون وهذه التسمية نشأت في الغالب للعيون الكثيرة التي تنبع من أرض الجديدة خصوصاً وهي عجيبة لا تكاد تخلو قطعة من عين تنبض فيها مع أن الجديدة على سطح مستو في رأس جبل لا اتصال بينها وبين القمم العالية حيث تبقى الثلوج أشهراً كما هو الحال في قمم صنين في لبنان الغربي وقمم حرمون أي لبنان الشرقي وإلى شرق مرج عيون جبل الشيخ وقراه وإلى الجنوب بلاد بشارة بحيرة الحولة وإلى الغرب قرى بلاد الشقيف وإلى الشمال جبل الريحان وتومات نيحة أو شقيف تيرون. وعلى ميلين من الجهة الثانية عند منفرج الوادي قرية ابل ويقال لها ابل السقي تمييزاً لها عن ابل القمح من أعمال مرج عيون أيضاً وفي منتصف الوادي على نفس السطح الذي قامت عليه قرية ابل قرية الخيام أو الخيم. والجديدة والسقي والخيام ثلاث بلدان كأنها بلد واحد ذات ثلاثة أحياءٍ لا تقل نفوسها عن اثني عشر ألف نسمة والغالب أن ابل السقي كانت بعد الإسلام مقر عمل تلك الكورة بدليل ما قاله ابن خرداذبة: كورة السقي وجرثبة والحولة وقال ومن أخذ من بعلبك إلى طبرية على طريق الدراج فمن بعلبك إلى عين الجر عشرون ميلاً وإلى القرعون وهو منزل في بطن الوادي خمسة عشر ومن قرعون إلى قرية يقال لها العيون تمضي إلى كفر ليلى عشرون ميلاً ومن قرعون إلى طبرية خمسة عشر ميلاً وعد ابن خرداذبة من جملة كور الأردن كورة آبل ولعلها أيضاً هي بعينها اوابل القمح. ويقول ياقوت أن السقي قرية بظاهر دمشق ولم يقل عن مرج عيون إلا أنها بساحل الشام والغالب أنها لم تكن مشتهرة في عهد وإن كان لها ذكر في الفتح الصلاحي. ويتبع قضاء مرجعيون اليوم كثير من قرى جبل عامل وعدد قرى قضائها 54 قرية منها المهم جداً بتاريخه وكثرة سكانه كبنت جبيل وهونين ودير ميماس ميس ولا تقل نفوس القضاء عن خمسين ألفاً ورما كان المهاجرون منهم نحو خمسهم كثير منهم الذين وفقوا بين أميركا وأثروا ولا سيما سكان الجديدة مركز القضاء ممن لا تجد بينهم أمياً من الذكور

والإناث ولا تشبهها بهذا المعنى بلدة في سورية إلا الناصرة فيما أذكر لأن تنافس الطوائف النصرانية على تأييد نفوذهم ودعوتهم فيها دعا كل منها إلى فتح المدارس وتعميم التعليم مع التعاليم وقد فطر أهل هذه البلدة على التقليد المفيد فإذا علم أحدهم ابنه لا يلبث جاره أن يحذو حذوه وهكذا حتى أصبح أهل القصبة وأكثرهم مسيحيون متعلمين. أما المسلمين فشأنهم شأنهم في كل مكان مررنا به: يضن الأغنياء منهم بأموالهم حتى على تعليم أولادهم والفقراء اتكلوا على الحكومة وهيهات أن يتعلم ولد يسلمه أبواه لمعلم تعينه المعارف هذا إذا فتحت لها مكاتب في مراكز الأقضية فما هو الحال في سائر القرى التي تمر بالعشرين والثلاثين والأربعين منها ولا تجد فيها مدرسة أميرية ولذلك ترى أبناء المسلمين ينصرف غنيهم على الأغلب إلى الفسق والاعتداء ولا يجد فقيرهم متسعاً له من العيش ليتعلم فيرعى الماشية ويعيش في الجهل المطبق عمره. دخلت جديدة مرج عيون بالمتعلمين من سكانها في طور المدن ومثلها بعدد السكان كثير في بلاد هذا القطر فهي أصغر من حرستا وعربيل وداريا وجوبر من قرى غوطة دمشق التي لا تكاد تجد فيها مكتباً جيداً في الجملة ولكن أهلها على قلة عددهم أهم من جميع أهل الغوطة على قرب هؤلاء من دمشق لأن الغوطتين اتكلوا على الحكومة فلم تعلمهم ولن تعلمهم أما أولئك أفضل عليهم اللاتين والروم والبرتستانت فأحيوا نفوسهم بالآداب والمعارف على مناحيهم فأقام من أقام منهم عزيزاً وهاجر من هاجر منهم قادراً متعلماً. وبينا تجد المسلمين يأكل كبارهم صغارهم على ما سمعته من تلك الدعوى الغريبة بين فقراء المسلمين في قرية الخيام وأعيانهم الذين سلبوهم فيما مضى على ما يقال أراضيهم لينجوهم من الخدمة العسكرية بكتم أسماء نحو ألفين منهم عن الحكومة نجد أغنياء المسيحيين يأخذون بأيدي ضعفائهم فيفضلون على المحاويج ويعلمون الأميين ويواسون من يستحق المواساة من البائسين ولا عجب فالعلم يعمر والجهل يدمر. في الجديدة تصدر جريدة المرجلصاحبها صديقنا الدكتور أسعد رحال وهي من جرائدنا الأسبوعية الراقية وقد كان أكبر دواعي رواجها من النشيط المهاجرين من أهل المرج ولا سيما سكان الجديدة العقلاء المنورون ولا أعلم في مدن داخلية الشام جريدة أسبوعية تضاهيها بالرواج اللهم إلا إذا كانت جريدة حمص التي تباع أيضاً من المهاجرين

الحمصيين بح بخ وزه زه. وبعد فإن هذا المرج بطبيعته من أجمل ما وقعت عليه العين من البلاد التي عرجنا عليها في رحلتنا يشرح النظر منه ما شاء في روض بهيج لو أكثروا فيه من زرع الأشجار المثمرة لفاق غوطة دمشق وأشبه سهول فرنسا وجبالها خصوصاً وأكثر دور الجديدة وابل والخيام أصبحت تبنى على الأصول الحديثة بالحجر الصلد والقرميد البديع ولكل دار حديقة تحيط بها كالهالة بالقمر وما أرض المرج إلا كما قال الشاعر: أرض إذا عبس الشتاء رأيته ... كملاءة ملئت من الكافور وإذا الربيع تكاملت وجناته ... فمدبجات عطرت بعبير وإذا المصيف تلألأت صفحاته ... ففواكه من يانع ونضير وإذا الخريف تقلصت أردانه ... فمتاع أقوات من المذخور جمعت بها شتى المنى فكأنما ... لقيا البشير بوصلة المهجور وادي التيم كتب لنا الطواف حول جبل الشيخ في هذه الرحلة ومشاهدة جهاته الأربع. وجبل الشيخ هو جبل حرمون بعينه المذكورة في التوراة وسماها العرب جبل الثلج قال حسان بن ثابت: من دون بصرى ودونها جبل الثل ... ج عليه السحاب كالقدد ويسمى أيضاً أمانة وبعل حرمون وسيئون وسؤيون وسنير زشنير وزعم بعض أصحابنا أن السبب في تسميته هو أن شيخاً من زعماء الطائفة الدرزية سكن مغارة في سفحه الغربي في القرن السادس للهجرة وتسمى مغارته الآن مغارة العباد وأقام هناك مع قومه السنين الطوال وبعض الإفرنج يعللون هذه التسمية ببياض الثلج الذي على قمته ويشبه رأس شيخ أشيب. وتسمية العرب لحرمون يجب الثلج تسمية طبيعية لأن علوه يحفظ الثلوج إلى آخر فصل الصيف ولا سيما في المنحدرات العالية التي لا تعبث بها الرياح الحارة والشمس على ما يجب وعلو أعلى قمة فيه 2670 متراً عن سطح البحر أو نحو 9400 قدم وطوله ثلاثون كيلومتراً أو ثلاثة وثمانون ميلاً أو سبع ساعات وهو إلى الجنوب الغربي من دمشق على بعد 30 ميلاً. ومن الغريب في أمر هذا الجبل أن العيون المنبجسة من ثلوجه تكثر جداً من شرقيه أي من

جهة وادي العجم وإقليم البلان كما تنبجس من جنوبيه أو ما يقرب منها مثل عيون نهر البانياسي والأردن وهو من سفوحه الغربية والشمالية ضنين بالماء جداً ولا سيما من جهات راشيا. وبعد ذوبان الثلوج في أواخر الربيع يصعد إلى أعلى قممه بعض النظارة للنزهة والصيد وغالب صعودهم إلى قمة اسمها قصر شبيب وفيها إلى اليوم أنقاض بناء ولكن الوصول إليها يحتاج إلى سبع ساعات صعداً سواء كان من حاصبيا أو من راشيا أو من إحدى قرى إقليم البلان فيشهدون منه سورية بأجمعها ويرون بالمناظير والمجاهير دمشق وكيف لا وقمم حرمون أعلى جبال في سورية. قدس القدماء حرمون وكان من الجبال التي يفزع إليها العباد كما تشهد لذلك المعابد الكثيرة في جواره بل في سفوحه وقممه وكان الإسرائيليون يعجبون بعلوه ويجلونه لأنه يجمع على ظهره وفي صدره الغيوم والسحب وقد ورد في نشيد الأناشيد كلام على الحيوانات الكاسرة التي تسرح فيه وتمرح ولا يزال فيه إلى اليوم جنس من الدب من النوع الذي يسميه الإفرنج وفيه أنواع من الثعالب والذئاب وضروب من الطيور وينبت فيه من النباتات ما ينبت في جبال سورية عامة وتجود فيه الكروم فوق 1440 متراً من سطح البحر وبعد هذا العلو يطلع البلوط والملول وعلى علو 150 متراً من الكروم ينبت نبات الصمغ السراس وعلى علو 1150 إلى 1650 يكون شجر مثمر ولكنه بري وثمره يؤكل وعلى السفح الغربي من الجبل يجود اللوز في مكان يدعى عقبة اللوزة. واللوز صنفان كما أن الخوخ الضخم صنفان وفي الجبل نوع من الكراز والأجاص وتنبت فيه أصناف أخرى من الثمار البرية وهو قاحل لا خضرة فيه إلا من سفحه الجنوبي حيث تنبت بعض النباتات مثل السيكران وغيره وجميع سفوح الجبل صعبة المرتقى غير مخصبة لقلة التربة فيها وفقدان المياه بعد أيام الربيع ولا يبعد أن السفوح القريبة منه كانتفي القديم مغروسة بالحراج والغابات الغبياء إلى الأمكنة التي يساعد هواؤها على الإنبات. وفي الأطراف الغربية من جبل الشيخ أي بين جبل الشيخ وجبل البقاع الشرقي أودية وتلول يقال لها وادي التيم نسبة إلى تيم الله بن ثعلبة تفله عن وادي الليطاني الأعلى سلسلة تلال تمتد شمالاً إلى عين الجر في البقاع وعلى تلاله قرى عديدة تبلغ خمسة وعشرين

قرية ومنها يتألف قضاء حاصبيا وقضاء راشيا أو التيم الأعلى وقاعدته راشيا كلمة سريانية بمعنى الرؤوس والتيم الأسفل وقاعدته حاصبيا كلمة سريانية ومعناها الجرار وإلى اليوم لا تزال آثار معامل الفخار في حاصبيا. ويحد ادي التيم شرقاًوادي العجم وإقليم البلان وشمالاً سهل البقاع وغرباً مرجعيون وجنوباً بلاد الحولة وغرباً جبل الشيخ. وليس فيما ظفرنا به من كتب السلف إشارة تشعر بمجد سابق لمدينتي حاصبيا وراشيا قبل الحروب الصليبية والغالب أنهما كانتا حصنين فقط لصد هجمات المهاجمين على المدن الداخلية على نحو ما كانت قلاع تبنين وهونين والشقيف والصبيبة وغيرها وباستيلاء أمراء الشهابيين عليهما كثر الكلام بشأنهما في التواريخ الحديثة ففي سنة 557 قام آل شهاب من حوران وكانوا فيها منذ الفتح الإسلامي وأصلهم من الحجاز وزحفوا إلى وادي التيم بزعامة الأمير منقذ وكان نزولهم في بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة الجديدة على ساعة ونصف من راشيا الوادي وكانت هذه البلاد تحت استيلاء الإفرنج فردهم آل شهاب واستنقذوها منهم في قصة يطول شرحها وكان المتولي على وادي التيم قبلهم الأمير ظهير الدين كرامة التنوخي صاحب ثغر بيروت فاتت جموع الإفرنج من صيدا وصور وعكا إلى حاصبيا فردهم الشهابيون على أعقابهم مدحورين وطردوا حاكمها الكونت أورا وبسطوا أحكامهم على هذا الوادي ثم اتصلوا بلبنان وتولوا أمره بعد الأمراء من آل معن واستولى الشهابيون على لبنان نحو قرن ونصف وقد تنصر بعض أفراد من أسرتهم ممن حكموا لبنان ولم يزل أعقابهم إلى اليوم مسيحيين أما من بقوا في وادي التيم فظلوا مسلمين ومنهم اليوم طبقة متعلمة تتولى الوظائف في الحكومة ولذلك غلط بيدكر في قوله أن بني شهاب هم من أمراء الدروز ولو كانوا من أمرائهم ما قتلوا في وقائع الشام المشؤومة سنة 1860 في راشيا وحاصبيا بيد الثوار من أشقياء حوران ولبنان أيام قتل 800 من المسيحين في راشيا و 970 من مسيحيي حاصبيا ولو لم ينج يعضهم إلى دار السيدة نائفة شقيقة سعيد بك جنبلاط لهلكوا عن آخرهم وأن معظم من نراهم ساكنين في حارة الميامنة اليوم في حي الميدان بدمشق هم ممن جلوا عن وادي التيم ولا سيما من حاصبيا وراشيا يوم تلك الوقائع المشؤومة ونزلوها وتناسلوا فيها فحسنت حالهم. أشرنا إلى هذه الوقائع والفظائع إذ لا يسوغ للمؤرخ أن يسكت عن حوادث لها علاقة كبرى

بعمران هذه الديار خصوصاً وقد حرقت في تلك الفتنة المشؤومة غابات وادي التيم ولا سيما حاصبيا وراشيا كما أحرقت أشجار جزين وإقليم الخروب من لبنان وجباع من جبل عامل وكان المنكوبون تحصنوا فيها فأشعلت فيها النيران ليهلك من لم يهلك بحد السيف والسنان. كان وادي التيم من أهم مراكز الدعوة الدرزية ولا يزال إلى اليوم كذلك. وفوق حاصبيا على نصف ساعة منها خلوات البياضة وفيها مجمع هذه الطائفة الديني زرتها فرأيت فيها معبداً في الوسط مفروشاً على نحو ما تفرش الجوامع وبالقرب منه مساكن وقف البياضة ومنها ملك خاص لأربابها يحب أهلها الانقطاع إلى العبادة ومن المنقطعين لهذه الغابة في البياضة أناس من وادي التيم وآخرون من الجبل الأعلى في حلب وجبال صفد وجبال لبنان وجبل حوران كما أن منهم المتزوج ومنهم المجرد وهم على جانب من النسك والتقشف شأن سائر العباد في معظم الأمم على الغالب. وموقع البياضة جميل يطل على كثير من قرى وادي التيم وترى منه قلعة الشقيف وغيرها من بلاد مرجعيون وجبل عامل والحولة فإذا أوقدت فيها النار شوهدت إلى مكان بعيد. ونحو نصف مكان وادي التيم دروز يحسنون الزراعة وهم على جانب من الأخلاق يتوفرون على أعاملهم ويحسنون عشرة جيرانهم شأن كل من يتعلم من أبناء هذه الطائفة ولا سيما في لبنان. ومن لنا برجالهم أن يهبوا لتعليم أولادهم كما هب أخوانهم المسيحيون من قبل فاستفادوا وأفادوا فإن في أبنائهم من الصفات الحسنة العربية ما لو توفروا على تنميته وتذكيته بالعلم الصحيح لجاء منهم شعب من أرقى الشعوب العثمانية بشجاعته ومضاءه وحسن أدبه وعزة نفسه وسماحته وذكائه وبعض من هذه الصفات مما يفخر به المفاخرون. وليس في حاصبيا ما يستحق الذكر سوى معدن الحمر الذي كان السلطان المخلوع يستثمره لنفسه وظهرت منه فوائد مادية لأهل هذه الديار وهو اليوم مهمل لقلة اليد العاملة في هذه الديار لأن الناس هاجروا بالألوف منها فاضطرت الحكومة أن تهمل هذا المعدن كما أهملت معدن سحمر في البقاع أيضاً وغيره من المعادن في سورية لم تفكر في استثمارها وقد أضر إهمال الحمر بأرباب الكروم فتصاعدت أثمانه وهو يستعمل كل سنة لتزبيرها

وتأبيرها فلحقته الدودة من أجل ذلك وقلت مداخيله. وقد سمعت أن من قرى ريشيا قرية اسمها بيت لهيا على ثلاثة أرباع الساعة من ريشيا وكنت قرأت في بعض الكتب أن بيت لهيا من أعمال دمشق تضاف إليها كورة تنسب إليها فإذا صحت روايتي تكون بيت لهيا وادي التيم غير بيت لهيا في غوطة دمشق التي ذكرها ياقوت ورد على من قال أن آزر أبا إبراهيم الخليل عليه السلام كان ينحت بها الأصنام ويدفعها إلى إبراهيم ليبيعها فيأتي بها إلى حجر فيكسرها عليه والحجر كان إلى عهد ياقوت بدمشق معروفاً يقال له درب الحجر قال والصحيح أن الخليل عليه السلام ولد بأرض بابل وبها كان آزر يصنع الأنام وفي التوراة أن آزر مات بحران وكان قد خرج من العراق فأقام بحران إلى أن مات ولم يرد في خبر صحيح أنه دخل الشام وللشعراء في بيت لهيا أشعار كثيرة منها قول أحمد بن منبر الاطرابلسي: سقاها وروى من النيربين ... إلى الغبطتين وحمورية إلى بيت لهيا إلى برزة ... دلاح مكفكفة الأوعية والنسبة إليها بتلهي ونسب إليها خلق كثير من أهل الرواية وقال أبو بكر الصنبوري: أمر بدير مران فاحيا ... واجعل بيت لهوي بيت لهيا ويبرد غلتي بردى فسقيا ... لأيام على بردى ورعيا ولي في باب جيرون ظباءٌ ... أعاطيها الهوى طبياً فظبيا ونعم الدار داريا ففيها ... حلالي العيش حتى صار أريا سقت دنيا دمشق ليصطفيها ... وليس يريد غير دمشق دنيا تفيض جداول البلور فيها ... خلال حدائق ينبتن رشيا مظللة فواكهها بأبهى ال ... مناظر في نواضرها واهيا فمن تفاحة لم تعد خداً ... ومن رمانة لم تخط ثديا والظاهر من شعر ابن منير والصنوبري أن بيت لهيا هذه والتي ذكرها الشعراء فأكثروا من ذكرها هي بيا لهيا الغوطة وبيت لهيا وادي التيم ومعنى بيت لهيا بيت الآلهة بالسريانية قال ياقوت بيت لهيا بكسر اللام وسكون الهاء وياء وألف مقصورة كذا يتلفظ به والصحيح بيت الآلهة.

ولم يذكر ياقوت وادي التيم في معجمه بل ذكر يبوس وقال أنها اسم جبل بالشام بوادي التيم من دمشق وإياه عنى عبد الله بن سليم بقوله: لمن الديار بتولع فيبوس. قلنا وجبل يبوس هو الغالب فيما رواه الزبداني ومنه الآن قرية كفر يبوس وهو المعروف بوادي الحرير ووادي القرن وإلى هنا كان يتصل عمل وادي التيم وكان هذا الوادي في القرن الثامن من معاملة كرك نوح بالبقاع وله إقليم مع ما يضاف إلى الوادي المذكور ثلثمائة وستون قرية تعد من عمل دمشق. وزراعة وادي التيم ضعيفة وأكثر قراه جميلة على أكمة الأرض وربما كانت نفوسه نحو 25 ألف نسمة فقط أما طرقه فأصعب وأوعر طرق ومياهه فليلة ومتوسطة الجودة بطعمها ونفعها وقد تشح أيام القيظ فيقاسي الأهلون منها شدة وعناء. هذا وفي اليوم الثالث والعشرين من أيام رحلتنا ركبت ورفيقي دابتين من راشيا فبعد أن اجتزنا سبل عيحا أو مستنقع قرية عيحا دخلنا في وادي بكة وجزناه في ست ساعات إلى التكية إحدى محطات السكة الحديدية بين بيروت ودمشق وبالقرب من هذه المحطة شلال بردى يولدون منه الكهرباء لمدينة الفيحاء ومنها ركبنا القطار عائدين إلى دمشق. ماذا رأينا في رحلتنا تحملنا في رحلتنا هذه المشاق المختلفة ما لا نكاد نكابد بعضه لو طفنا قارتي أوربا وأميركا وذلك رجاء أن نعود منها بفائدة نطلع عليها الأمة والحكومة وها قد كتب لنا ذلك بقدر ما سمح الوقت فرأينا أن لا نقصر بحثنا على أحوال البلاد الجغرافية والتاريخية والزراعية بل أن نتعداه إلى البحث إجمالاً في شؤونها الاقتصادية والإدارية. أول ما يقع عليه النظر ويسر يتحققه الفؤاد انتشار أعلام الأمن في الكور التي جسنا خلالها بعد أن كان السائح يخاطر بروحه وماله لو أحب فيما مضى أن يطوف تلك البلاد. والأمن ولا شك حسنة من حسنات هذه الحكومة الدستورية التي ترجو بالعدل دوامها بالمدينة الراقية أحكامها ونظامها. بيد أن في هذه الكور قصوراً يلحق الأهلين وقصوراً يعود على الحكومة وأهم ما نطالب به الحكومة بعد الأمن إحقاق الحق في البلدان الصغرى ليذوق الناس طعم الحكومة الحرة حقيقة لأنا لو نظرنا إلى حال الأقضية نراها وحواضر الولايات والألوية سواء من هذا

الوجه لا تنقطع شكوى الأهلين فيها. والشكوى طبيعية في الأمم ومنها المحق ومنها دون ذلك. لا جدال في أن العهد الدستوري قد أدخل في الإدارة شيئاً من روح النظام شعر به في الجندية والشرطة والمالية من فروع الحكومة ولكن سائر الفروع لم تبرح محرومة منه مثال ذلك القضاء والإفتاء في الأقضية فقد طغت سبعة منها أربعة من أعمال ولاية سورية وثلاثة من أعمال ولاية بيروت وأني لأستحي أن أقول أن أرباب هذه الوظائف إلا النادر ممن عصمهم الله حرموا من العلم والمعرفة والنزاهة والعاطفة الوطنية فلا دين لهم إلا أخذ الأموال من غير حلها ولا شريعة إلا التلاعب بالأحكام الدينية والمدنية ولا هدي إلا ما توحيه إليهم عقولهم القاصرة وأني لآسف لمن يجعلون على بساط الشريعة المطهرة ورائدهم الجهل وقلة الأمانة وللصيانة أن يكونوا على نحو ما ذكرت. إذا عرفت هذا فقل معي غير هياب ولا وجل أن المشيخة الإسلامية لم تخرج في توسيد هذه الوظائف الشريفة عن الحد الذي كانت رسمته حكومة الاستبداد المطلقة أي أنها في العهد الدستوري لم تأت على ما تحمد عليه خدمة على الشريعة والقانون. القاضي أو النائب في الأقضية هو الكل في الكل وربما كانت وظيفته أهم من القائم مقام لأن حكم هذا لا يجوز إلا في الأمور الإدارية والسياسية أما الأول فأحكامه تتناول الأحكام المختلفة فإن كان ممن قلَّت تربيته ورق دينه والسواد الأعظم كذلك أتت أحكامه متناقضة مرذولة فاسدة حشوها الدرهم والدينار وسداها ولحمتها تلوث الذمة وتلون القلب وإلا وهو النادر كان داعية من دعاة الإصلاح ومثالاً من الكفاءة تشفعها الأخلاق الطاهرة. والسبب في هذا الهزل المضني الذي أصاب حكام الشريعة في هذه المملكة أنه أتت أدوار كان ينظر إلى المناظر الخارجية في تولية القضاة لا إلى كفاءاتهم الشخصية فلم يتأهل أكثرهم لها بالعمل ولم يخضعوا لنظام كما خضع سلك القائم مقامين مثلاً ولذا ترى في نفوس أكثر هؤلاء عفة وغيرة ما لا ترى بعضه فيما انطوت عليه جوانح أولئك الذين أنبتوا نباتاً طبيعياً ونالوا حق التصدر بالرشى والمحاباة وارتكاب ما تنكره الفضيلة وتأباه أصول الحكومات الراقية. كان أحد كبار المصلحين في مصر يقون أن الإصلاح الديني في الشرق أول كل إصلاح.

وما الإصلاح الديني في الحقيقة إلا إصلاح عقول القائمين بالدين كالقضاة والمفاتي والحكام ولذلك كان من أهم الأعمال التي تمت في مصر على عهد نهضتها الأخيرة إنشاء مدرسة القضاء الشرعي حتى ر يقل القضاة الشرعيون في علمهم ومداركهم عن القضاة النظاميين ويتعب الأولون في إعداد نفوسهم وملكاتهم كما تعب الآخرون ويخلص الإسلام من الوصمات التي صمه بها الجاهلون به ليوقنوا أن الضعف أتى من المسلمين لا من الإسلام. أما سائر موظفي الإدارة في الأقضية فيرجعون على الجملة إلى شيء من النظام وأن كان يندر فيهم العفيف النزيه بحيث لا تكاد تعد صالحاً واحداً منهم في كل عشرة صالحين ويكثر استهتار أحدهم ويقل حسب ذكائه وشجاعته فإن كان على شيء منها وله من يحيمه في حاضرة الولاية أو عاصمة السلطنة من كبار الموظفين أغرق في أخذ نفسه به أي إغراق لأن حاميه يدفع عنه أذى أعاديه وإلا لاذ بالتقية واعتصم بالمراوغة والمصانعة والدهان لمن فوقه في المرتبة. هذا إجمال من حال حكومات الأقضية وإصلاحها منوط في الأكثر بتعيين متصرفين وولاة ممن خبروا أمور الإدارة بأنفسهم سنين طويلة وكانوا على جانب من العلم وحسن السياسة يحسنون لغة البلاد ويعرفون طبائعها حتى لا يكونوا آلة بأيدي فئة مخصوصة من الناس لا يكتبون إلا ما يملون عليهم ولا يعارضون إلا فيما لهم فيه مأرب خاص. ومتى أدرَّت الحكومة على الموظف الصغير رابتاً يكون على حد الكفاية وسألته عن عمله وراقبته في حركاته وسكناته فقل أن نظامنا الإداري دخله الإصلاح الحقيقي والافنيقي نرسف قيود الذل ونخبط على غير هدى. كل من يتجول في داخلية البلاد يرى عياناً رداءة الطرق وقلة أعمال العمران ولولا قليل من الهندسة دخلت في بناء الدور والمساكن والقرميد اللطيف الذي يزين سطوحها لأقسم من يرى تأخر هذه البلاد وما حنث بأنها لم ترتق درجة واحدة في هذا القرن عن القرون الخوالي وأنها كانت قبل ألف وألفي سنة أوسع عمراناً وأكثر سكاناً مما هي اليوم. إلى الآن لا تجد طريقاً معبدة حتى بين البلدان المهمة فإذا كان الطريق الآخذ من بيروت فصيدا فصور فصيدا فالنبطية فمرجعيون لم يزل مشعثاً متداعياً بعد أن صرف على رصفه بضع عشرات من ألوف الليرات فما هو الحال بطريق مرجعيون حاصبيا راشيا فطنا

دمشق وطريق دمشق القنيطرة بانياس وهي لم يصرف عليها شيء وبقيت لا تصلح لمرور المواشي دع عنك الإنسان. وبعد فإن كنا لم نرصف طرقنا إلى اليوم فأي أعمال أخرى ترجى أن نقوم بها مثل جر المياه من المحال البعيدة لسقيا الأرضين وشفاه الأهلين أو خزنها في خزانات أو تجفيف البحيرات والمستنقعات مثل بطيحة سهل عيحا قرب ريشيا الوادي البالغة مساحتها نحو أربعة آلاف دونم وبطيحة دير العشاير في وادي التيم أيضاً وبطيحة الحولة ومستنقعات الجولان مما يؤذي صحة السكان ويؤخر عمران الأرضين والبلدان. ثم أين يد الحكومة في إنهاض الزراعة من كبوتها بإعطائها الأهلين السكك والأدوات الزراعية والبذور والغراس التي تصلح وتجود في هذه الديار الطيبة بل أين يد الحكومة تعمل على الأقل بما فيه حفظ الحالة الحاضرة حتى لا تزيد البلاد خراباً فوق خرابها وأن العين لتنبو عن النظر إلى جبالنا وآكامنا الجرداء بعد أن علمنا أنها كانت شجراء خضراء إلى ما قبل عشرات من السنين وإذا دمنا نوسعها القلع والقطع والحرق والشق فاقرأ على حراجنا السلام الأخير بعد بضعة أعوام. بلاد تكفي لإعالة الملايين من البشر وتضيق عن عيش الألوف فمتى نعقل فنعمرها حتى نقوم حاجزاً حصيناً في وجوه من يهاجرون من السوريين إلى سائر قارات الأرض ولا سيما إلى أميركا الشمالية والجنوبية. كنا نظن أن الهجرة لم تتناول سوى لبنان وما اتصل به من الجبال لأن الجبليين أقوى من غيرهم على تحمل المشاق وفطم النفس عن الراحة والرفاهية ولأن بلادهم قاحلة لا تخرج لهم على الجملة أكثر مما تخرج ولكن الأمر على عكس هذا لأن سكان السهول أيضاً مما يسهل عليهم الارتزاق من أراضيهم وقد غادرونا إلى ارض المهجر في طلب الرزق كانت الهجرة مقصورة على المسيحيين أولاً فتعدت إلى المسلمين سنييهم وشيعيهم وإلى الإسرائيليين والدروز والنصيرية والإسماعيلية وكانت لا تتخطى لبنان الغربي ولبنان الشرقي فها قد امتدت اليوم حتى أخذت تستلب من سورية حتى سكان المدن المرفهين منها مثل أهل دمشق وحلب وبيروت وطرابلس وصيدا والقدس وتساوي أبناء هذا الوطن الواحد في مغادرة مساقط رؤوسهم إلى أصقاع اعتنى فيها أفراد ولم يزل عشرات الألوف في فقر

وفاقة. يهاجرون كل يوم بالعشرات حتى كادت بعض الأقاليم تخلو من شبانها كلهم فما هذا البوق الذي نفخ في سورية من غربيها إلى شرقيها ومن شماليها إلى جنوبيها حتى أسمع الصم فكاد عدد المهاجرين من أبنائنا يربو على ثلث مليون من الشبان العاملين وظل البنات عوانس في بيوت آبائهن والنساء معطلات عن التناسل حتى نشأت من ذلك مفاسد في الأخلاق لا توازيها الأرباح مهما كثرت والأمجاد مهما استطالت وربت. قلت اليد العملة بقلة الشبان في هذه الأقاليم حتى بقيت بعض الأراضي بائرة معطلة لقلة من يقوم على تعهدها وتعذر على أرباب الأملاك أن يجدوا عملة لأعمال الزراعة ولو أغلوا لهم الأجور. وأن أجرة البناء في وادي التيم لتبلغ الريالين ولا تجد بناء لا يعمل وأجرة العامل البسيط ثلاث أرباع الريال وقلما تحصل على القدر الذي تريده من أمثاله وأجرة فاعل الحراث مع الفدان ريال ونصف وقد لا تجده ولم يكتف الناس هنا ببوار أرضهم بل أن بعضهم في الحولة قلعوا بالألوف غراس التوت الجيد لأنهم لا يظفرون أيام مواسم الحرير بالقدر اللازم من اليد العاملة التي تقوم عليها وآثروا أن يزرعوا أراضيهم ما أمكن من القمح والشعير على غلات الحرير. كل هذا يجري في البلاد والحكومة لا تفكر في طريقة ناجعة تدفع عنها عوادي الهجرة التي كادت تسلب منها الروح. وأن هذا القطر الشامي الذي لا يزيد نفوسه على ثلاثة ملايين ونصف ليعز عليه أن يفارقه نحو عشر سكانه الأقوياء ولا يأتيه من المهاجرين إلا الخاملون الذين قد تعطيهم الحكومة أرضاً فيبيعونها وسكة ومحراثاً فيتخلون عنها بثمن بخس وبذاراً فيأكلونه ثم تراهم يتسولون وبنيهم في شوارع البلاد مؤثرين الراحة مع الذل الشديد على العناء مع العز الأكيد. وقد لاحظنا في سياحتنا أن كل قرية أو بلدة ليس فيها ولو بضعة من المسيحيين تكون إلى الخمول والخراب أكثر من القرى التي يكثر فيها أناس من غير المسلمين وذلك لأن جمهور المسلمين اتكلوا في الماضي على الحومة لتعلمهم وتربيهم فما استفادوا وهيهات أن يفلح قوم يعقدون رجاءهم بمن يكيفون المعارف بحسب أهوائهم ولكن المسيحيين نشطوا من عقالهم بعد حاثة الستين فتعلم أرثوذكسيهم في المدارس الروسية واليونانية وبابويهم في مدارس

الفرنسيس والطليان وبرتستانتيهم في مدارس الإنكليز والأميركان والألمان وهكذا حتى جاء منهم جيل راق في الجملة ارتفع عن مستوى الجيل الآخر مسلماً كان أو درزياً أو نصيرياً أو إسماعيلياً. ومن الأسف أن القرية التي يبلغ سكانها المسلمون ألفاً لا تجد لأبنائهم مدرسة والقرية التي لا يتجاوز سكانها المئة مسيحي تشهد لهم مدرسة ومدرستين كما لا تشهد للأولين جامعاً ولا مصلى وللآخرين الكنيسة والكنيستين ثم تجد التجارة بأيدي المسيحيين يزيد غناهم كل يوم يتعاضهم ومضائهم ويزيد أخوانهم المسلمون كل يوم فقراً بتفاشلهم وتكاسلهم. نقول هذا ونحن على مثال اليقين بأن هذا القطر كسائر أقطار العالم لا ينهض إلا بنهوض السواد الأعظم من أهله وهم هنا من المسلمين وإن من أكبر دواعي الأسف أن يرحل عن هذا القطر أكثر أبنائه تعلماً ومضاءً وهم المسيحيون ولو رجعوا ورجع سائر مواطنيهم على اختلاف مذاهبهم إلى هذه الديار لعمروها وأحيوها واضطروا الحكومة بعلمهم ومطالبتهم المشروعة أن تعمر لهم الطرق وتعطيهم الامتيازات بالمشروعات العمرانية التي تعود عليهم وعلى البلاد بالخير والنماء ويكفي بأنها تخلصها من وطأة الأجنبي والدخيل فإن الكثرة قوة وكثرة العيال إحدى اليسارين.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار مطبعة بدون حبر بالاتفاق وقع اختراع هذا الاختراع كما وقع اختراع كثير غيره فقد أراد مهندس إنكليزي منذ إحدى عشرة سنة أن يأخذ قطعة من النقود فتدحرجت على المنضدة فضغط عليها بدون اختيار على ورق ندي كان موضوعاً على صفحة من المعدن جعلت على موصل كهربائي غير منفرد فدهش لما رأى صورة القطعة قد طبعت طبعاً صريحاً على الورق بلون أسمر وكان الرجل ممن يحسنون معرفة الكهربائية فأخذ يبحث علمياً عن سبب هذا الطبع بالعرض فصرف عشر سنين في تطبيق هذا الاختراع على طبع الحروف وقد ذكرت إحدى المجلات العلمية المهمة أنه قد نجح مؤخراً في اختراعه فاستعاض عن الورق الندي بورق جاف مبلل بمواد كيمياوية تخلط مع الورق عندا يعمل وهذا الاختراع نافع جداً في طبع الكتب المهمة. عميان الأميركان في نيويورك سبع مدارس للعميان الفتيان يقرأ فيها الفتيات والصبيان مع المبصرين على معلمات يلقين عليهم دروساً واحدة معينة فيسأل الأعمى والبصير على السواء ولا فرق في تعليمهم إلا في الكتب والكتابة لأن العمي يقرؤون في كتب كتبت بحروف بارزة على أصول برابل وقد وقع تعديلها منذ أواخر سنة 1909 فقربت فائدتها وأصبحت ثمراتها مضمونة قريبة فيتعلم الولد الأعمى كما يتعلم البصير ويشترك في الألعاب الرياضية والأعمال الصناعية ويحصل على معلومات أرقى مما كان يتعلم سابقاً من ثل صنع السلال والأكياس والمكانس والجوارب كما هو الحال في مدرسة العميان في مصر بل قد أخذوا يعلمونهم ما يكونون به مستخدمي تليفون وكاتبين على آلة الاختزال يتوصلون إلى الكتابة بآلة عادية وإلى الاختزال بقلم رصاص بسيط ويعلمونهم الموسيقى والبيانو والكمنجة وغيرها من آلات الطرب فيصبحون قواماً بهذا الباب ويتمرن الفتيات منهم على الخياطة وتفصيل الفساطين والأردية وعمل الأزياء والطبخ. والعميان موضع عناية خاصة من الجميع فيأخذون بأيديهم ويقودونهم إلى بيوتهم ومتى أتموا دروسهم يتكفل القوم لهم بإيجاد أعمال في التجارة والصناعة ويرسلون بأذكاهم عقلاً إلى الكليات يأخذون من علومها ما

طاب لهم بحيث يخرجون ليكون منهم موظفون. فاللهم هي للمبصرين منا أسباباً كهذه حتى إذا كشفت أبصارهم وبصائرهم يفكرون في تعليم العمي. إعانة البائسين كان في فرنسا في آخر سنة 1908 (512000) إنسان محتاج للإعانة منهم (354000) شيخ تجاوز السبعين و (100. 000) عليل و (58. 000) مريض مرضاً عضالاً ومعظم هؤلاء البائسين ابعث إليهم نظارة الأعمال والإحسان الاجتماعي مرتباتهم إلى بيوتهم وتختلف من 5 إلى 30 فرنكاً في الشهر و (39) ألفاً منهم تؤويهم في أماكن إقامتها لهم كالمتشفيات وغيرها يصرف عليهم في السنة أربعة ملايين ليرة تدفع الحكومة نصفها والنصف الآخر جمعية الإحسان وفي فرنسا الآن (16118) مكتباً لجمع الإحسان غير جمعيات الحكومة تغيث زهاء مليون من السكان. سويسرا والغرباء تحاول جمعية الاتحاد الوطني في سويسرا أن تحل مسألة الغرباء في بلادهم لأنهم داهموها ولا سيما في البلاد الواقعة على التخوم بحيث كادت تصبح منهم في أمر مريع فقد بلغ عدد الغرباء في تلك الجمهورية الجميلة 565. 025 شخصاً وسكان البلاد 3. 750. 000 أي أن في سويسرا 151 غريباً عن كل ألف وطني سويسري وفي بعض الأماكن يكون عدد الأجانب 40 في المائة والغرباء في لوغانوا أكثر من السكان الأصليين وقد قررت الجمعية أن تعتبر سويسرياً كل من يخلق في أرض سويسرا من الأولاد بعد الآن. ومعلوم أن لغات سويسرا هي الألمانية والإفرنسية والإيطالية يتكلم بالأولى 69 شخصاً في المائة وبالثانية 21 وفي الثالثة ثلاثمائة ألف شخص فقط وفيها 56 ألف في المائة يدينون بالمذهب البرتستانتي و42 في المائة كاثوليك. الا لكحول في أميركا في أميركا كما في أوربا جمعيات كثيرة لمقاومة المسكرات فقد وفقت إحدى جمعياتها إلى إرجاع ثلثمائة ألف رجل فقط عن عادة تناول المسكرات القبيحة ومن الغريب أن ثلاثين ألفاً منهم أسسوا لأنفسهم جمعية وقاموا ينادون بالإقلاع عن الكحول وجمعيتهم هي الجمعية الوحيدة التي كان أعضاؤها كلهم من السكيرين قبل سنين.

عمران الولايات المتحدة وافق مجلس النواب الأمريكي على ميزانية سنة 2912 فكانت 5. 127. 448. 305 فرنكاً أو نحو 250 مليون ليرة عثمانية أي نحو تسعة أضعاف الميزانية العثمانية ومن هذا المبلغ 305 ملايين لاستهلاك الدين العام و 710 ملايين للأعمال العامة منها 245 مليوناً لفتح برزخ باناما و 632 مليوناً وكسر للبحرية وزهاء 466 مليوناً للبرية. ومنذ مئة سنة لم تكن ميزانية هذه الجمهورية سوى 42 مليون فرنك أو أقل من مليون ليرة عثمانية منها 16 مليون للجيش و 8. 500. 000 للبحرية و16 مليوناً للدين ولكن سكان الولايات المتحدة لم يكونوا على ذاك العهد سوى سبعة ملايين نسمة فزادوا اليوم 13 ضعفاً في مئة سنة وزادت نفقات الحكومة ثمانين ضعفاً عما كانت. حكاية العناصر كتب جان فينو رئيس تحرير المجلة الباريزية مبحثاً في هذا المعنى جاء فيه أن اختلاط الألسن والشعوب في برج بابل ليس إلا ألعوبة للأولاد بجانب تأليف الأمم الحديثة فإنك ترى في البودقة الواسعة التي تخلق فيها الأوطان والشعوب الفروق الفيسيولوجية تنحل بسرعة مدهشة كما تنحل العقول الآتية من أطراف الكرة كلها لأن سهولة المواصلات ونشر التجارة بين الأمم وانتشار الأفكار واشتراك الكافة بها كل هذا آخذ بتقريب الأميال والحواس المدبرة للإنسانية وكل يوم يكثر اجتماع الناس ويتناول المجموع كمية أكثر من البلاد والعباد. والغالب قد انقضى دور القائلين بعلو عنصر على آخر وانحطاط عنصر عن أخيه فإن يابان قد ساوت غيرها من أمم الغرب بعد أن عقدت المعاهدات مع شعبين هما في مقدمة شعوب الحضارة الإنكليز والفرنسيين وأصبحت الصين دستورية في حكومتها وستعود إلى سكانها أخلاقهم الحربية فيضطر الناس إلى احترام ألوانهم ومعتقداتهم والزنوج سائرون على سنة النشوء بسرعة تلقي الاضطراب في نفوس أشياع المتوهمين بالعناصر والألوان وقد ارتقى الزنوج في الولايات المتحدة منذ ستين سنة ارتقاء أنسى أن أصلهم أفريقي ولكن لا يمحو سيئات جنون البشر قروناً قرن في التعقل ولا بد أن تظل الحروب الآن بين أبناء آدم إذ تصبغ أديم الأرض بالدماء بضعة أجيال أخرى ويبقى للبلاد العظيمة من حيث

حضارتها الحق أن تكون قوية لئلا تفقد في حروب الغد تراثها من الحكمة والجمال. وإنَّا إذا أطلقنا اليوم كلمة عنصر فذلك لأنها أصبحت مشابهة لكلمة بلاد أو سكان البلاد فليس معنى قولنا عنصر الفرنسيين أنه كلهم من أصل غالي كما يدعي بعضهم بل قد امتزج بهم نحو ستين عنصراً وشعباً أقانت في فرنسا أو اجتازت بها فمنهم الاكيتون والبلجيكيون والغاليون والليكوريون والسميريون والنوتونيون والسويفيون والألمانيون والسكسونيون والفانداليون والسمرتيون والسبكيون والفسكونيون والفينيقيون الذين أكثروا من المستعمرات ومن جملة مستعمراتهم مدينة نيم وهي أجل مدنهم ثم العرب والسلافيون والفيندليون والتفاليون والروثنيون والاغاتيرسيون والبورغونديون والبلاسجيون والصليبيون والثيرنيون والاتروسكيون واليهود المراكشيون والأندلسيون الذين زحزحهم ديوان التفتيش عن أرضهم وديارهم ثم أن الفرنسيس الويغريون والمغول والهونسيون والاوز والخزر والابر والكومانيون وغير ذلك العناصر والشعوب مثل البولونيين والهلفتيين (السويسريين) والايبريين (الإسبانيين) وغير ذلك وربما بعض الزنوج. فوحدة الدم ليس بينها وبين ما تمتاز به أمة من الصفات الأخلاقية والعقلية بل أن امتزاج دم الشعوب بعضها ببعض تزيد في قيمة الشعوب والعناصر وما يدعيه بعضهم من أن العنصر الألماني كان اليوم أرقى من العنصر الفرنساوي لأنه حفظ في دمه شيئاً كثيراً من أصله وهو غلط ووهم لأن العنصر الآري والمدنية الآرية والجنس الآري لم توجد بل هي اختراع يكفي في تزييفه بأن قال بعضهم أن الآريين أتوا من الشرق وقال آخرون أن آسيا وغيرهم من الهند وآخرون من بكتريانيا وغيرهم من البلاد الواقعة بين بلاد أورال وبحر الشمال وادعى بعضهم أن الآريين أتوا من جنوبي غربي سبيريا وغيرهم أنهم من أواسط ألمانيا وغربيها وآخرون أنهم من الشمال وأكد غيرهم أن الآريين هم أوربيون حقاً هذه أقوال علماء اللغة فمنهم من يزعم أن الآريين أتوا من جنوبي غربي أوربا ومنهم من يقول بل من أواسط آسيا وغيرهم أنهم من الغولفا وآخرون من بحر البلطيق. وهكذا اختلف أولئك المشتغلون في ألوان الآريين وجماجمهم وقاماتهم ومدنيتهم وكيف مدنوا غيرهم وما كان عملهم وأظنهم لا يزالون مختلفين في الآريين قروناً بعد لأن الأوهام كالأكاذيب قد تطول حياتها ولا تأتي عليها الشدائد لتنسفها.

وما قيل في العنصر الفرنسوي يقال في العنصر اللاتيني على الجملة فإن الفرنسيس والطليان والأسبان والبرتغاليين والرومانيين والأرجنتينيين والبرازيليين وغيرهم من الشعوب الأخرى في أميركا الوسطى كل هذه الشعوب ليست من أصل واحد بل تختلف أصولها باختلاف سحناتها وما السحنات هي التي تربي الأرواح بل أرواحنا هي التي سحناتنا وماهيته الرؤوس التي هي تجمع بين الشعوب وتوجد بينها رابطة القرابة بل حالتهم المتشابهة في الاستمتاع بالحياة والعذاب بها. ولقد كان يظن بعضهم أنه يقتضي مرور عشرة أجيال حتى يختلط شعب بآخر وتذهب من بينهما الفروق ولكن مثال الولايات المتحدة أمامنا لا يحتاج إلى عرض فكلما كانت الأمة قوية رحب صدرها وسهل عليها أن تدرس فيها الصفات الأجنبية ومنذ بضعة قرون لا تجد عنصراً خالصاً من الامتزاج بغيره ولا شعوباً تألفت من وحدات متشابهة معلومة. وما الألمان في الحقيقة ونفس الأمر سوى البولونيين والأوبورترتيين والفانديين وغيرهم من القبائل والشعوب السلافية وهم الذين ساعدوا على تأليف ذاك العنصر بل قد قال نبتسش الفيلسوف الألماني وكان من أصل بولوني أن الجرمانيين الحقيقيين قد نزحوا إلى الخارج وأن ألمانيا الحالية في مرحلة تقدمها العالم السلافي. ومثل ذلك يقال في الطليان فليسوا أبناء الرومان في الحقيقة بل فيهم أجناس كثيرة امتزجت دماؤهم بدمائهم فقد دخل فيهم السيسكانيون والليبورنيون وهم من الشعوب الأفريقية والبلاسجيون ومن تفرع منهم والاتروكسيون والسلافيون والسليتون واللونكبارديون والبيزانطينيون والفاليون والمصريون وايونان والأسبان والصقالبة واليهود والنورمانديون والعرب والبروتون والجرمان وغيرهم من العناصر والشعوب كالعنصر السامي وغيره فأين الدم الإيطالي الصرف. وإن إنكلترا على اعتزالها في جزائرها لم تنج من اختلاط غيرها بها ففيها دم زنجي ودم أفريقي وفيها السرماني والجرماني والأبيري دع عنك الفرنسيس والألمان وغيرهم ممن امتزجوا بالدم الإنكليزي حديثاً. والإسرائيليون الذين يفاخرون بطهارة دمهم لا يستطيعون إلا أن يغضوا أبصارهم حياءً أمام الحقيقة التاريخية فقد كانوا قليلاً عددهم عندما وصلوا إلى فلسطين فامتزجوا بالعرب والفيلستينيين والهيتيين وغيرهم من القبائل وأعطوا دمهم

إلى كثير من الأمم وتناولوا منها دمها حتى أن شعباً تركياً برمته اسمه الشازار قد دان باليهودية وانتشرت شريعة موسى في العالم وأدخلت في مجموعها من كل العناصر. فالشعوب كالأفراد ليست كبيرة بأصولها التاريخية ولا معنى لاسمها وعددها ما دام الشك يتطرق إليهما والذي يهم في الأمم كنزها العقلي والأخلاقي وفضائلها الغيرية التي طبعت عليها أرواحهم ونور عقولهم الذي يطوف الأقطار والأمصار. وما من شعب يسمو على آخر وينحط عنه من حيث تركيبه بل أن هناك شعوباً تقل مدنيتها أو تكثر وتحسن المأتى أو لا تحسنه في جهاد الحياة والواجب على أمة تريد أن تمزج غيرها بها أن توجه عنايتها إلى أفكار الشعوب وتستميل أرواحهم. وما سعي روسيا في جعل جميع رعاياها روساً وسعي جرمانيا في جعل أهلها كذلك وسعي العثمانية في تتريك عناصرها وكل ما تعمد إليه هذه الدول من وسائل القضاء على القوميات إلا عقيمة باطلة فقد اضمحلت بوهيميا تحت السلطة النمساوية قروناً كثيرة وأخرج شعبها من عداد الأحياء ودثرت لغتها وآدابها ولكن الشعلة الضئيلة الوطنية بقيت حية تحت جبال من الرماد ولما سكنت العاصفة عاد التشك وأظهروا ذات يوم أنفسهم وعنصرهم ومقاومتهم للألمانية أكثر من ذي قبل. وجزيرة كريت الصغيرة الباسلة التعسة ستنضم عما قريب إلى يونان على الرغم من عناد الحكومة العثمانية (؟) وعمى رجال السياسة وكذلك الحال في بولونيا وفنلندا. وإن الاستيلاء على الشعوب استيلاءً وحشياً قد مضى وانقضى فالواجب استمالة القلوب واستتباع الأرواح وأن الأمل الذي يدفن في أعماق القلوب أقوى من طرقات المطارق على أجسامنا فالأمم تحيا ما دامت لا تريد أن تموت. الصحافة الإنكليزية زاد في الخمسين سنة الأخيرة نفوذ الصحافة اليومية وقوتها في المجتمعات الحديثة بحيث أصبحت إحدى الأدوات الهائلة التي ما قط استعلمت لخدمة المطامع والحاجات البشرية. فقد أصبحت السياسة والأعمال ونشر الأفكار العالية والدفاع عنها وخدمة المصالح المالية والاحتيال لها العضد العام والعامل الأكيد. فهي للمؤرخ الاجتماعي بانتشارها العجيب ودخولها يكثر في جميع أعمال الحياة الاجتماعية ذات فائدة قوية ومن تأمل آثار الصحافة في بلد وأسلوبها ومراميها يتأتى له أن يحكم حكماً معقولاً صحيحاً جداً على مميزات تلك

الأمة الاقتصادية والأخلاقية وعلى درجة عقولها وضعفها وقوتها وإيغالها واسترسالها وعلوها ونزولها في سلم الاجتماع. وعلى كل جريدة أن ترضي الأميال لتحيا وتعيش وتخاطب عقل قرائها وما مجموع صحافة كل أمة إلا أثر من آثار ترقيها. وما من مبحث أفيد وأعلق بالأذهان في هذا الشأن أكثر من الارتقاء الذي حدث في الصحافة الإنكليزية فإنها مثلت الأطماع والعظمة وكل ما فكرت فيه إنكلترا واهتزت. وصحافتها أسمى من صحافة منافسيها بما فيها من الحياة واتساع العمل وكمال الأسلوب وجلاء المبادئ التي تديرها والبحث فيها درس لا نظير له للمؤرخ والصحافي. ويرجع ارتقاء الصحافة الإنكليزية إلى أسباب عديدة منها ما هو آت من عنصر الإنكليز وعقله ومنها يرجع إلى ضرورات مادية حاضرة فالصحافة الإنكليزية لا تضاهيها صحافة مثلها بمعداتها وتنظيمها المادي المنقطع القرين وما مثلها صحافة تشخص على ما يجب روح بلادها وتؤثر مثل تأثيرها في الفكر العام والمصالح العامة ولم تبرح منذ قرن تدير دفة السياسة البريطانية وتوحي إليها الخطط الواجب ابتاعها وأن إنكلترا لمدينة بقيام ملكها ومجدها لرجال صحافتها لما تنبأوا به عن جرأة لمستقبل بلادهم ولما فطروا عليه من الوطنية العاقلة على نحو ما هي مدينة بجندها ورجال سياستها. ولقد كانت منافسة صحافتها على شدتها تظل دائماً إلى الأدب شكلاً ومعنى وما قط عمدت إلى الابتذال لأنها لا تراه كذلك ولا ترى الشتائم حجة ففي كل حوار كانت تعرض الشيء ونقيضه بعدل يدهش كل من لا يعرف أخلاق الإنكليز السياسية. وقد اجتهدت الصحافة الإنكليزية زهاء قرن إلى عهد ظهور الصحف التجارية بأن وضعت نصب عينيها في كل حال المصلحة العامة قبل المصالح كلها. ومهما كان من حالة الأحزاب التي تنسب إليها جرائدهم فمديروها لا يبيعون جرائدهم من الحكومة فليس لحكومة إنكلترا نفقات سرية تصرفها للجرائد ولا في نظاراتها موظفون يعهد إليهم أن يعطوا الصحف إيضاحات فجرائدهم لا تنطق بلسان الحكومة ولا هي غير رسمية ولا نصف رسمية. والفضل في ارتقاء صحافة إنكلترا رخص أسعارها وقبل صدور جريدة الديلي ميل منذ 14 سنة لم يكن في إنكلترا جريدة يزيد ما يطبع منها 250 ألف نسخة ولا تباع النسخة بأقل من عشرة سنتيمات. وجريدتا الديلي تلغراف ووالبال مال غازت وهما للطبقة العالية

والوسطى لم يقرب المطبوع منهما من هذا القدر وعلى ما بذلتاه من العناية ظلتا واقفتين. وجريدتا التيمس والستندارد اللتان بمركز أدبي راق كان يتأتى لهما زيادة المطبوع منهما لو صحت عزيمتهما عليه ولكنهما لم يريا حاجة ولا رغبة في ذلك فكانتا تتحكمان في إعلاناتهما بقدر ما تستطيعان ولم تجد حاجة للاستكثار من القراء أن تسرا مع الأذواق الجديدة أو تمسا مبدئيهما وخطتيهما وإذ كانت هاتان الجريدتان تصف حروفهما بالأيدي وتطبعان على عدة ورقات من 12 إلى 32 ورقة على ورق جيد قد يقع ثمنه قبل طبعه أغلى من القيمة التي يباع بها من الجمهور لم يكن أمامهما لكثرة المطبوع منهما إلا الإعلانات تتحكمان فيها تحكماً يسد به العجز في ميزانيتهما. ولما ظهرت الصحف التي تباع بخمسة سنتيمات على ورق رخيص مطبوعة ومصفوفة بآلات كاملة اتجهت الصحافة وجهة ثانية وتعدل بها الرأي العام والسياسة البريطانية وتأثرت الصحف القديمة في منافسة الصحف الحديثة كل التأثر وكانت تميل إلى رأي المحافظين ويقرؤها أهل الطبقة العالية أو الوسطى بخلاف الجديدة التي كانت ذات آراء متقدمة وقراءة كثيرين من العامة وخلفت جريدة الديلي ميل جريدة الايكو فظهرت الصحف الحديثة في مظهر أحسن من مظهر القديمة حسنة التحرير وافرة الأخبار كالصحف القديمة فلم تلبث أن أحرزت ثقة السواد الأعظم وإيثارها لها واقتطعت ألوفاً من قراء منافسيها حتى عجزت كثيرات من هذه عن المقاومة فانقطعت عن الصدور واضطرت أخرى مثل الديلي نيوز والديلي كرونيل أن تتخذ الأساليب الجديدة وتعدل خطتها وتنزل أمانها فجددت بذلك شبابها وأظهرت الجرائد العظمية كالتيمس والستاندارد والمورنن بوست والغلوب شيئاً من العناد وأخذن يعشن بشهرتهن القديمة وثروتهن التالدة وذلك بفضل إخلاص قرائهن الدائم لهن ولكن التيمس والستاندارد وهما مثال التدقيق المفرط والتقاليد المجسمة عادتا فجذبتا الضرورات التجارية ومالتا إلى تكثير المطبوع من لإعدادهما والميل بصحيفتيهما نحو الديمقراطية في مظهرها وبالصحافة الرخيصة تسربت إلى الجمهور أفكار جديدة نبهته إلى الحياة السياسية وقوت عزيمته فصحت إرادته على الانتفاع بها فهبط نفوذ الإشراف والطبقات الوسطى القديمة وارتفع نفوذ الاشتراكية السياسية وتحطمت الأحزاب القديمة بحيث عجزت عن البقاء أو كادت ودعت الصحف الجديدة إلى معاضدة العملة وبالغت

وأكثرت في الدفاع عن قوانين التضامن والمعونة حتى كادت تضر بمصلحة الوطن كل ذلك لتستميل قلوب القوم وتستكثر من القراء وكان في مقدمة الجرائد المسموعة الكلمة في هذا الباب الساهرة على إرضاء الجمهور بالتنزل إلى درجة أفكاره جرائد الدايلي مايل والدايلي اكسبرس والمورنن ليدر التي أخذت بعد قليل من صدورها تطبع مئات الألوف. وجريدة الديلي ميل هي التي أحدثت هذا التبدل في مظهر الصحافة الإنكليزية وأفكارها وصاحبها واسمه الفرد هرمسورت يدير اليوم بنفسه أو بواسطة رجاله معظم المشروعات الصحافية في إنكلترا. بدأ مديراً لجريدة أسبوعية أسست سنة 1888 وكانت أوشكت أن تكون إلى خطر بصنيع القائمين عليها فأورثها في أقل من سنة حياة خارقة للعادة بحيث بلغ المطبوع منها 78 ألفاً بعد أن كان 13 ألفاً وذلك بأن فتح سباقاً بين القراء ينال فيه جوائز مالية كل من يوفق إليها كأن يضع لهم سؤالاً وهو من يقدر كم دخل مصرف إنكلترا من النقود المعدنية والذي يحزر يكون له راتب يتقاضاه طول حياته قدره ليرة كل أسبوع فاهتم الجمهور لهذه المسابقة وكانت النتيجة بعد أقل من ثلاثة أسابيع أن ارتفعت المبيعات من جريدته الأسبوعية من 78 ألفاً إلى 200 ألف. وهكذا جرى الصحافي في كل المشروعات التي قام بها بالإيداع في الأسلوب والتيقظ والبذل في سبيل إنجاحها ولما أصدر جريدة الديلي ميل في 4 أيار سنة 396 لم يبع منها نسخة بل أرسلها إلى الوكلاء وجعلها في المستودعات وكان يطبع منها كل يوم مائتي ألف على أسلوب كل مستحدث ولم يكتب له النجاح بعد شهر من صدور جريدته إلا لأنه عرف حاجات الجمهور ورغائبه فقد كان القوم قبله يتلون الجريدة ليقفوا على رأيها في الحوادث والرجال ويأخذوا منها وذلك بأثمان تختلف من العشرة إلى العشرين إلى الثلاثين سنتيماً يبذلونها ولا يخافون أما اليوم فإنهم يبتاعون الجريدة للوقوف على ما يجري مثل الأنباء الخارجية والحوادث المختلفة وأخبار المحاكم والآراء في الأزياء والرياضات مهما يهتم له جمهور الناس ويميل إليه أكثر من جميع المناقشات الفكرية يريد أن يتناول معلومات بأرخص الأثمان وقد نشأ هذا النشوء في الأفكار في حالة الحياة الجديدة وما تتطلبه من السرعة والمضاء ومن انتشار التعليم العام وكان الفضل لصاحب الديلي ميل الذي لاحظ ذلك قبل غيره وعرف من أين تؤكل الكتف فيه ففي جريدته مثال جديد من الفواصل بين

الحوادث واختصار في النصوص وقليل من الإنشاء المكلف المدبج وكثير من الحوادث فتقدر بنظرة خفيفة أن تطلع في خمس دقائق على كل ما حدث ونقل في جريدته المقالات الافتتاحية وتكثر فيها الحياة والعنوانات تلفت النظر أبداً واللهجة أقرب إلى العامية والطبيعة والرسائل البرقية والنظرات الإجمالية مختصرة على الجملة والحوادث كثيرة فالقارئ يتلوها بسرعة غير محتاج إلى تأمل وغاية ما يلزمه قليل من الانتباه فجريدته ولا جرم جريدة رجل العمل المستعجل الجريدة التي تقرأ في المركبة والحافلة والسكة الحديدية والمرء مأخوذ بعمله وبعبارة أصح جريدته حديثة النشأة فهي تحوي جميع الأخبار التي تنشرها الصحف القديمة بتأسيسها ولكنها أجمل في الأسلوب وأقل كلفة على الجيوب أي أن ثمنها نصف ثمن أرخص الجرائد القديمة. وأما التيمس فقد أنشئت سنة 1785 وهي صاحبة المقام الذي لا يبارى بين صحف العالم بسعة واردها وكثرة أخبارها وصحتها وشدة استقلالها وحسن تلقي آرائها وكانت في أحرج ساعات إنكلترا صوت هذه الدولة وفكرها وهي من حيث الماديات لا تجارى كبيرة الحجم تطبع على ورق ذي 16 إلى 24 صفحة حجم كل منها أربعة أمتار مكعبة وقد حسبوا ما تحتاجه إدارتها كل صباح من الورق فكان عرضه مترين وطوله خمسمائة كيلو متر وورقها جميل متين وحروفها دقيقة حسنة التنسيق والوضع آية في تصحيحها وقد راهن أحد اللوردات على مائة جنيه بأن يخرج لها خمسين غلطة فأحدق في ستة أعداد منها حتى أحصى لها ثلاث غلطات مطبعية وفي إدارتها أربعون شخصاً إذا وقعت لأحدهم أدنى غلطة يطرد من وظيفته ويؤكدون أن أحد كبار مديريها قد أجلس في قاعة الانتظار أحد زوار إنكلترا أكثر من ساعة بينا كان يفتش عن كاتب مقالة مسؤول عنها نسي أن يضع علامة الاستفهام بيد أن قراء التيمس إذا عثروا على غلطة مطبعية لا يلبثون أن يشعروا الإدارة في الحال. ولكثرة عناية التيمس في مستنداتها ومراعاتها الذمة في نقولها وتجويد إنشائها أصبحت المجموعة التي تنشرها إدارتها كل سنة في الأحكام الصادرة أشبه بمجموعة دالوز في القوانين لا يعتمد في التاريخ إلا عليها. وأسرة ولتر هي مالكتها وقد أصبحت منذ سنة 1908 لنقابة خاصة يرأسها أحد أبناء مالكيها الأول ولكن ألفرد هرمسورت صاحب الديلي ميل وكندي جون هما يدها العاملة وروحها المدبرة.

وتجيء بعد التيمس جريدة الديلي تلغراف أنشئت سنة 1855 وشهرتها عظيمة وهي بإعلاناتها أشهر جريدة في إنكلترا بل في أوربا وتأثيرها الأدبي والسياسي أقل من التيمس ولكن أخبارها كثيرة واسعة النطاق وهي التي اشتركت مع جريدة نيويورك هرالد وبعثت هنري ستانلي للمرة الثانية للبحث ع داود ليفنكستون الذي اهتمت له إنكلترا وكان من ذلك افتتاح الكونغو وأصقاع البحيرات العظمى في أواسط أفريقية. وجريدة المورنن بوست أول الصحف اليومية بإنكلترا أنشئت سنة 1772 وهي لسان حال المنورين والإشراف تدعو إلى التوسع في الاستعمار وتخالفها الديلي نيوز وهي تدافع عن المسائل المهمة فقد دافعت عن إيطاليا ويونان وبلغاريا وأرمينية وارلندا وحملت على عدائهن حملات منكرة وهي الصحيفة الوحيدة التي لا تنشر أخبار المسابقات والرياضات. وجريدة الديلي كرونيل هي الجناح الأيمن للأحرار والستاندارد أسست عام 1827 مقبولة جداً في عاصمة الإنكليز وبين الأشراف المتوسطين وأشراف الأرياف. وجريدة المورنن ليدر غريبة مقبولة من العامة بترتيبها ووضعها وكثرة مكاتيبها في الخارج كثرة لا تضاهيها فيها جريدة اللهم إلا التيمس والديلي تلغراف. ثم تجيء الصحف الأسبوعية التي تصدر يوم الأحد فمنها جريدة النيواوف دي ورلد وجريدة اللويد وكل منهما يطبع مليوناً وأربعمائة ألف نسخة. بين هذه الصحف نشر صاحب الديلي ميل جريدته فنطر نظرة بليغة فيمن تقدمه فلم ير أن يسبقهن في إنشاء جريدته ولا في رخصها ورأى أن إصدارها قبل ميعاد الصحف مما يهيئ لها قراء كثيرين خارج لوندار فقد كانت صحف هذه العاصمة تطبع بين الساعة الثانية والثالثة بعد نصف الليل وتسافر الساعة الخامسة في القطارات فتصل إلى الأماكن التي تبعد مائة كيلو متر عن لندرا وقت الفطور وإلى الأماكن البعيدة ثلثمائة واثنين وعشرين كيلو متراً حوالي الظهر فاكترى صاحب الديلي ميل قطارات خاصة لجريدته تسافر إلى الجهات المختلفة فتوزع جريدته إلى أيعد الأماكن قبل أن يتناول المطالعون جرائد ولاياتهم نفسها مخافة أن يكتفوا بهذه عن مطالعة الصحيفة اللندنية وكان لذلك يطبع جريدته قبل ساعة ثم قبل ساعتين من طبع رصيفاته وبذلك استغنى كثير من القراء خارج لندن عن سائر صحفها وبعض صحف الولايات وارتفع معدل ما يطبع من الديلي ميل بعد بضعة أشهر من 250 ألفاً إلى 475 ألفاً ولم يلبث أن صار 700 ألف ولم تصل إلى السنة الثالثة

حتى بلغ المطبوع منها مليون نسخة وأصبحت اليوم تطبع مليوناً ومائتي ألف نسخة في حين تطبع التيمس 55 ألفاً فقط والديلي اكسبرس 700 ألف والديلي تلغراف 350 ألفاً والديلي نيوز 300 ألف والمورنن ليدر 350 والستاندارد 120 ألفاً والديلي ميرور 90 ألف وجريدة إيفنن نيوز وهي فرع للديلي ميل تصدر في المساء ويطبع منها 250 ألفاً. وقد فكر صاحب هذه الجريدة في شمال إنكلترا فرأى مدينة منشستر على ثلاث ساعات ونصف من لندار متوسطة بين بلاد إيكوسيا ونفوسها 750 ألفاً وهي مركز تجاري مهم فأنشأ فرعاً لجريدته هناك فيها جميع ما في جريدته اللندنية من الأخبار والمقالات منها ما يرسله من لندرا مع البريد ومنها ما يرسله على لسان البرق فتخرج الديلي ميل في منشستر في الوقت الذي تصدر فيه في لندن وبذلك تسنى له أن يبيع من الجريدة الثانية مائتي ألف نسخة فيكون مجموع ما يبيع من الديلي ميل 1. 400. 000 وقد أصدر فرعاً لجريدته في باريوبيبغ منه عشرين ألف نسخة كل يوم وأحبت بعض منافساته أن تحذو حذوه ولكنها لم تفلح لأنه أخذ دونها المقام الأول في القاصية كما أخذه في الدانية. وأغرب من هذا وذاك أن صاحب الديلي ميل أصدر فرعاً من جريدته بحروف برايل الناتئة يصفها عميان ويطبعونها ويوزعونها وهي للعميان فيها الأخبار السياسية وغيرها تصدر مرة في الأسبوع في 16 صفحة وهذه الجريدة هي لخدمة الإنسانية المحضة وذكرها أجمل سطور في تاريخ الصحافة المصرية. وبانتشار الديلي ميل إلى هذا القدر أقبل أرباب الإعلانات عليها وآثروها عل غيرها ولولا ذلك ما استطاع صاحبها أن يتكبد مثل هذه النفقات واستعمل أساليب التجارة في اصطياد المعلنين فلم يكتف كغيره من أرباب الصحف أن يقصد المعلنون إدارته بإعلاناتهم بل أخذ يبعث برسله إلى التجار يقاولونهم على إعلاناتهم. والإعلان في إنكلترا أهم أسباب التجارة بدونه تقل الأرباح كما قال بعضهم بل أن امتناع الصحف يوماً واحداً عن نشر إعلانات التجارة أصعب على الأمة من وقوف السلكك الحديدية وانقطاع الأسلاك التلفونية والبرقية ويكفي أن لندن وحدها تنفق في السنة على الإعلان فقط ملياراً ونصف مليار فرنك - انتهى ما عربناه عن المجلة الباريزية وعسى أن يكون فيه لهل الصحافة العرب غناء فيطرسون على آثار الصحافة الإنكليزية الراقية.

موظفو فرنسا الغالب أن فرنسا أكثر بلاد الحضارة موظفين ففيها الآن 967855 موظفاً على اختلاف الطبقات وإذا أضيف إليهم موظفو الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية يتقاضون رواتبهم من ميزانية تلك البلاد ناهز الموظفون من الفرنسيس مليون موظف فكان لفرنسا موظف واحد لكل 38 مكلفاً يتقاضون في السنة ملياراً وخمسمائة وعشرة ملايين يضاف إليها 108 ملايين رواتب رجال الملكية و 170 مليوناً رواتب العسكرية. بين القاهرة والرأس عزم رجلان ألمانيان أحدهما ضابط والآخر جيولوجي أن يجتازا المسافة بين رأس الرجاء الصالح والقاهرة في السيارة (اتوموبيل) والمسافة بين البلدين عشرة آلاف كيلومتر وذلك ليتأكدا إذا كان يتأتى لهذه المركبة أن تحمل ركاباً وبضائع بين جنوبي أفريقية وشماليها وسيقطران مركبة أخرى إلى السيارة التي تقلهما وتكلف نفقات إنشائها مائتي ألف مارك على أن الخط الحديدي المنوي به ربط تينك المدينتين إحداهما بالأخرى قد تم بعضه ومؤخراً افتتح فرع من واد مدني إلى سنار وقد بلغ طوله ما مدَّ منه من الجنوب 1501 ميل (نحو 2400 كيلو متر) والفرع الجنوبي تسير قطاراته الآن من كبتون إلى المحل المسمى ستار أوف كونغو في مملكة الكونغو الحرة أي على مسافة 2312 ميلاً (نحو 3700 كيلو متر) فيبقى بعيداً عن الخطوط بعد 2060 ميلاً (3200 كيلو متر) فيكون على هذا التخطيط طول هذا الخط كله 5873 ميلاً منها 3813 ميلاً قد نجزت والقطارات تغدو فيها وتروح وستجعل لها طبقة رابعة للفقراء. سكان طرابلس احتفل في الشهر الماضي بافتتاح الخط الحديدي بين طرابلس والشام وحمص وطوله 100 كيلومترات يقف القطار في ثماني محطات ويقطع المسافة بين البلدين في أربع ساعات وهو من الخطوط العريضة مثل بعض الخطوط الحديدية في سورية وبهذا الخط أصبحت كثر من مدن الداخلية في سورية مرتبطة بالسواحل فأول ما ربط منها يافا بالقدس ثم تبعتها دمشق بيروت فحوران ثم خط حيفا ودمشق وحيفا درعا المدينة وربطت بيروت بحلب واليوم ربطت طرابلس بحمص وما والاها.

كتب أولاد من مقالة لأحد العالمين من الأوروبيين أن كتاب الولد يجب أن يحوي شرطين رئيسيين أن يعجب القارئ به ويهتم له والإعجاب به يكون بما يحويه من الصور والاهتمام له يكون بما تضمنه من الموضوعات اللطيفة وهذه الصفات تحتاج لتأليف كتاب من هذا النوع إلى رجل مفنن ورجل كاتب وأن يكون كلاهما مفطورين على معرفة مخاطبة الأولاد وقلما يتوفر ذلك. وقليل في كتب الأولاد المفيد لان الأسفار التي تجعل بين الأطفال هي في العادة سقيمة الإنشاء عليلة التصوير كأن المؤلفين والمصورين يقصدون إلى إدخال السآمة على نفوس الصغار بما يكتبونه ويرسمونه على ما اتفق فالقصص التي يوردونها مملة يريدوا أن يعلموا بها بدون أن يسألوا وأن يعطوا دروساً في الأخلاق والتهذيب لا تستميل قلوبهم وليست سوى مواعظ وما أحرى تشبيهها بحقول بائرة لا تنبت فيها زهرة ولا تجد فيها ما يبعث حماسة الشبيبة نعم هي صور مضحكة يفهما الولد على حسب مداركه ولكنها لم تخرج عن كونها قصصاً عامية ينضم فيها الابتذال إلى فساد الأحكام. فارغة لا جاذب فيها تتعب قارئها إذا قرأ منها الصحف الأولى فيتخلى عنها قبل أن يتمها. فالآداب التي يدرسها الأطفال هي ولا جرم مخالفة للمقصد منها في معظم البلاد. قلنا هذه شكوى البلاد الإفرنجية من رداءة كتب الأطفال عندهم وهي ما هي فما هو الحال إذاً في مدارس البلاد العربية. تجار الأميركان لكل مخزن كبير في الولايات المتحدة مدرسة خاصة لتعليم مستخدميها وبائعيها تعليماً تجارياً خاصاً يدربون في الغالب كما يدرب الجند لان تجار الولايات المتحدة قد أيقنوا بأنه يصعب إيجاد مخازن كبرى إذا لم يكن فيها نظام مدقق ولذلك يدخلون الصبيان والبنات إلى هذه المدارس في الرابعة عشرة من سنهم فيعلمونهم في الصباح الحساب والإنكليزية ليجيدوا التكلم بها كما يعلمونهم الإفرنسية ويمرنونهم نصف ساعة على الألعاب الرياضية كل يوم لتكون حركاتهم منتظمة شأن المستخدم اللبق وفي النهار يشغلونهم في أعمال المحل ولكن بدون أن يختلطوا مع الزبن. وبعد تمرينهم ثلاثة أشهر على هذا النحو يبدأ بتعليمهم معرفة الأصناف التجارية وفي المساء يعلمونهم شيئاً من التعليم النظري فيدرسون مثلاً كيفية عمل البضائع ومحال عملها بحيث يستطيعون بعد أن يلقوا درساً مختصراً لمن تريد

أن تبتاع زوجاً من الجوارب ويوقفونهم على علم النفس لان هذا العلم نافع لهم نفعه للقصي والعالم. وأمهر البائعين المرغوب فيهم هم أهل ارلندا. التلغراف اللاسلكي زيد في هذا التلغراف اختراع جديد مركوني نجح بواسطة طيارة تنقل في النهار رسائل برقية كهربائية إلى مسافة 560 كيلو متراً وكانت رسائل التلغراف اللاسلكي حتى الآن لا تنقل إلا في الليل خاصة وبهذا الاختراع الجديد يمكن إرسالها في كل ساعة وإلى كل مكان وينحل الأشكال الذي كان ناجماً عن المخابرة التلغرافية من سفينة مبحرة مع أي محطة في الشاطئ كانت. حمى مالطية ثبت أن الحمى تنتقل في لبن الماعز وذلك لأن الحكومة منعت الحامية هناك من إعطائهم لبناً حليباً في جملة الجراية اليومية. وكان ثبت أن لبن البقر ينقل جراثيم السل ولا يفيد فيه إلا التعقيم الشديد.

حالة الجو الطقس

حالة الجو الطقس الفواعل الطبيعية التي تؤثر فيها وتدل على ما تصير إليه لا بد أن يتلقى قراؤنا الكرام هذا الموضوع بما يستحقه من الاحتفاء بعد أن ألفتت أنظارهم إليه الثلوج التي تراكمت في هذا الشتاء على ربوع البلاد فسدَت المسالك وساقت حيوانات البر من كهوفها وأوجارها لتشارك الإنسان في مساكنه وتشاطره شظف العيش في مكامنه. وقد خُيل لمن لا إلمام لهم بالنواميس الطبيعية أن كثرة شرورنا قد كانت السبب لهذه الضربة الإلهية والحقيقة أن خطايانا كثيرة في كل سنة فلو كانت هي الداعي لذلك لاقتضى أن لا تفارقنا الضربات على مر السنين. ومما لا ريب فيه أن الممسك أزمّة السماوات والأرض بيده قد سنَّ للطبيعة شرائع تسير بموجبها وتنتج معاً ما نشاهده من الظواهر الفلكية والتقلبات الجوية التي تختلف باختلاف اتجاه هذه الفواعل وكيفية ارتباطها معاً واجتماعها أو تفرقها على ما سنبينه. ومع أن العلوم والمعارف هي ومجموع اختبارات البشر لا تزال قاصرة عن إيضاح معظم ما تتوق النفس لمعرفته مما لا يزال وراء حجاب الغيب فإنها قد كشفت لنا الشيء الكثير عن أسرار الطبيعة حتى صارت الميتيورلوجيا أو الظواهر الجوية علما جزيل المنفعة للملاح والزراع والتاجر وغيرهم من أرباب المهن والحرف. وقد تبين من درس طبيعة الهواء والنور والحرارة وحركات الأرض ومهابّ الرياح والجاذبية وغير ذلك أن تقلبات الجو وظواهره بين صحو ومطر وحر وبرد الخ خصوصاً عن اتحاد أفعال السبع قوات الآتي بيانها: 1) دورة الأرض اليومية على محورها. 2) دورة الأرض السنوية في فلكها. 3) الجاذبية التي تشد الهواء إلى الأرض. 4) قوة التباعد عن المركز الناجمة عن دورة الأرض على محورها وعن قوة استمرار حركة الهواء. 5) قوة دقائق المادة المعروفة بالحرارة والنور والالفة والكيمية والكهربائية، وقوة الإشعاع التي تصل إلينا من الشمس، وجميع الاختلافات والتقلبات الموقعة على عرض الأماكن وحركتي الأرض اليومية والسنوية.

6) فقد الحرارة بالإشعاع من الأرض والهواء. 7) اختلاف تمدد الأجسام باختلاف توزيع الحرارة في الهواء لتوقف ذلك على مركز القارات والاقيانوسات وعلى وجود أبخرة سهلة التكشيف كالتي تكون ممزوجة بقارات لا تنفك عنها وعلى النتروجين والأوكسجين اللذين يتركب منهما معظم قارة الهواء. فأدنى تغيير في هذه القوات أو كيفية عملها يحدث تغييراً فيما يحيط بنا. ويتعب علينا التنبؤ بالدقة عن حالة الجو لأننا لا نزال نجهل ما وراء كرتنا الأرضية من الفواعل. ولكننا نعلم أن قوة ما تنتقل دائماً من الشمس إلينا بسرعة جاذبية الثقل وتتخلل الهواء المحيط بنا وبها يعلل تكوّن الشفق وذلم أن هذه القوة المسماة ليونس وإلكترونات متى تكهربت تنحرف عن سيرها المستقيم حالما تخالط الهواء وترسم منحنيات لولبية الشكل. وعندما تتصل هذه الدقائق ببعض الغازات من مثل الكربتون يستنير الغاز فيكون من ذلك النور الشفق الذي يشاهد في الأماكن القريبة من القطبة الشمالية أكثر من غيرها كأعالي اسوج ونروج وشمال كندا وغيرها. أما الغيم والمطر والثلج والبرد وسائر متعلقاتها فتكون بالطريقة الآتية: تلقي الشمس أِعتها على مياه الاوقيانوسات والأبحر والبحيرات وما ماثلها من المستودعات المائية فتسخن الهواء الملامس لها ولليابسة وتبخر الماء فيخفف ويصعد في الهواء المشبع رطوبة إلى الطبقة التي يتكون فيها الغيم ويتمدد الهواء بالحرارة أيضاً فيصعد بقوة يدفع بها الهواء المجاور لها من الجهات الأربع. ومعنى هذا الدفع أنه ينفق شيئاً من حرارته كلما صعد ودفع ما يجاوره حتى يبرد أخيراً وتغلب فيه الرطوبة فيبتدئ أن يتكاثف بشكل الغيم أو السديم. وهذا التكاثف إنما يتم بالتفافه حول ذرات الغبار ودقائق الإلكترونات التي تقدم ذكرها فتكسى هذه الذرات بالرطوبة كما يكسى في الصيف ظاهر إبريق زجاجي ملآن ثلجاً. وعلى ذلك فكلما زاد الغبار في الجو زاد تكاثف الغيم وقل المطر الذي لا يعطل إلا من أواسط الغيم أو فقلبه حيث الغبار قليل وذلك بعد أن يضغط على الغيم والهواء الأعلى منه وشرط في أن الغيم أن يكون مكهرباً بارداً إلى درجة تكون الندى. فمن غيمة كبيرة يكونها الهواء الرطب حول دقائق المادة قد يوجد جزءُ صغير فقط خال من الغبار فيتمدد بسرعة كافية لتكوين ماء المطر.

ومن هذا يتضح أن إطلاق المدافع الكبيرة في الهواء إذ وصل دخانه بما فيه من الدقائق إلى مساواة الغيم يحدث غيما ويمنع وقوع المطر لان المطر لا يسقط إلا من قلب الغيوم حيث يقل الغبار أو يخلو بتاتاً. أما إذا سقط المطر وكان الهواء بارداً جداً فإنه يجمد. فإذا كان الهواء يهب من جميع الجهات لعب فيه ودوَّره فيسقط برداً وإلا فإذا سكن الهواء سقط عطباً كنتف القطن وهو الثلج الذي تكسى به قمم الجبال وسائر الأماكن العالية الباردة. ولمعرفة أوقات سقوط المطر أو الثلج يجب أن ندرس مهاب الرياح وعلاقة البرد من كلف الشمس ومغنطيسية الأرض وغير ذلك مما يصعب معرفته بالدقة. غير أن الآلات التي اخترعت حديثاً للدلالة على حالة الجو وهي البارومتر والثرمومتر أي مقياس ضغط الهواء ومقياس الحرارة كثيراً ما تدل على حدوث الأمطار والزوابع بالضبط قبل وقوعها بزمن يختلف من 12 إلى 24 ساعة وما ذلك إلا لتأثرها بضغط الهواء ومبلغ ما فيه من الحرارة والرطوبة التي تقل اتكثر تبعاً للفواعل العديدة الطبيعية كما بيناه آنفاً. فرطوبة هواء الهند مثلاً تأتي من بعد شاسع أي من جهة الجنوب الغربي للاقيانوس الهندي وهواء أوربا يؤثر في أفريقية وهواء جنوب أفريقية يؤثر في آسيا وهكذا فكأن الهواء كرة مرنة ينتقل فعل الفواعل على أحد جوانبها إلى كل جانب ولذلك فجونا عرضة للتأثر من الأعلى أي من الفلك الذي ورداء حدود الهواء ومن القطبتين ومن جانبي خط الاستواء فلا يكاد يفعل فيه فاعل إلا ويظهر تأثير ذلك في مجموعه. ولهذه الأسباب لا يمكننا معرفة أوقات الأمطار والثلوج واشتداد الحر والبرد وغير ذلك إلا إذا عرفنا تأثير جميع الفواعل والمؤثرات في اتحاد العالم. وهذا ما يسعى العلماء لرصده ومعرفته حسبما تمكنهم الأحوال. وقد لا يمر بنا زمن طويل حتى تصير نبوات العلماء موضوع ثقة القوم فيعرف الناس جهات الرياح وأوقاتها وأزمان سقوط المطر والثلج بضبط يكاد يقرب من كنه الحقيقة. وفي أوربا وأميركا الآن معاهد خاصة فلكية تنبئ بتغيير حالة الجو أنباء جزيلة النفع للإنسانية. وعما قريب تتفتح عيون الناس في آسيا فيختطون هذه الخطة العلمية ويجاورون القوم في حياتهم العمرانية. بيروت // خليل سعد

السراسرة أو الزرازرة

السراسرة أو الزرازرة (1 - تمهيد) من أحسن ما يفيد اللغويين والكتاب والمعربين وأصحاب نادي دار العلوم تتبع الألفاظ الدخيلة في العربية ومعرفة الأصل الذي أخذت منه. فإن التنقيب عن هذا الأمر يكفينا مؤونة وضع بعض المصطلحات الجديدة مع وجودها عندنا. هذا فضلاً عن منع كثير من الألفاظ عن التسرب إلى لغة قريش الفصيحة وحبس مواد اللغة عن أن يعيث فيها عائث والذب عن حياضها ومناهلها الراقية وتخفيف حمل الحافظة لكثرة ما توقر في هذه الأيام بنشر الصحف المختلفة الموضوعات. وخفاً من أن تنوء بأثقالها فتبهض. ولهذا فأحسن واسطة تتخذ في هذا الباب أن يسعى إلى إقفاله بأقرب وقت وأخصر طريق يسعى في تحقيق أصول الألفاظ الدخيلة حتى تعاد إلى نصاب معانيها التي وضعت فيها ويحافظ على المعاني التي نقلت إليها في لغة العرب. وقد اهتديت في أبحاثي إلى بعض هذه الحروف وتحقيق أصلها من ذلك كلمة سرسور. (2 - حقيقة اللفظة نقلاً عن اللغويين) السراسرة جمع سرسور قال محيط المحيط: الزرزار (أو الزردار) (قلت: كذا بدال مهملة قبل الألف): البطرك (كذا. والأصح البطريق لأن العرب خصت لفظة بطرك أو بطريك أو بترك أو بتريك أو بطريرك بالرئيس الديني الذي هو فوق رئيس الأساقفة بخلاف البطريق فإنها قد وردت عندهم بمعنى البطرك وبمعنى كبير الشرفاء من الروم والرومانيين أي بكلا المعنيين) زرازرة (أو زرادرة). كلام المحيط وقال قزميرسكي: ; ' وقال فرريتاك: زرزارج زرزارة: ثم زاد في الاوقيانس: زروارج زروارةً. وفي التاج: الزرارزة البطارقة كبراء الروم وجمع زرزار بالكسر. وفي التكملة: الزراورة البطارقة. ولم يذكر الكلمة اللغوي الإنكليزي لين صاحب مد القاموس. وممن أغفل ذكرها صاحب الصحاح والمصباح وأساس البلاغة والنهاية ومختصرها. لا بل وصاحب لسان العرب أيضاً وهذا في منتهى العجب لأن الكتاب ضخم في عشرين مجلداً وقد حوى ألفاظاً دون الزرزار شأناً ومع ذلك فقد أهملها إلا أنه قال في مادة س ر ر: السرسور: الفطن العالم. وأنه لسرسور مال أي حافظ له. أبو عمرو: فلان سرسور مال وسوبان مال: إذ كان حسن القيام عليه عالماً بمصلحته. أبو حاتم: يقال فلان سرسوري وسرسورتي: أي حبيبي وخاصتي. ويقال: فلان سرسور هذا الأمر: إذا كان قائماً به.

ويقال للرجل: سرسر: إذا أمرته بمعالي الأمور. النص. ولم ينبه على أن السرسور هو تصحيف زرزار. ومن ثم فإنك لا ترى في لسان العرب أثراً لهذه الكلمة الأخيرة بالمعنى الذي أشار إليه اللغويون. أما السرسور فقد ذكرها جميع اللغويين أصحاب المطولات قال في التاج: السرسور: بالضم. الفطن العالم الدخال في الأمور بحسن حيلة. . . وعن أبي حاتم: الحبيب. . . إلى آخر النص الذي ذكره صاحب اللسان. وقد نقل أصحاب دواوين اللغة كلام أبي حاتم فلا حاجة إلى إيراد جميع نصوصهم الآخذين عنه عبارته هذه بدون تغيير وقد ذكرناها. وأما صاحب محيط المحيط فقد غلط في قوله زرادرة بالدال بعد الألف وإنما هي بالواو وقال في التكملة: البطارقة الواحد زورار كما نقلناه فويق هذا. ولم ينبه أحد من لغويي العرب إلى أنها من أصل أعجمي وأما الإفرنج فلا أعرف منهم إلا فرنكل إذ قال أنها من أصل فارسي أو آرامي قال: سفير: سيسار وفيها لغة وهي سرسور. والعربي إذا رأى كلتا اللفظتين: الزرزار والسرسور لا يتوقف في أن يقول أنهما من أصل واحد وهو: الزور مكررة مع تصحيف فيكون معناها: رئيس الرئيس أي الرئيس الكبير. لأن الزور هو الرئيس وليس الأمر كذلك ولا سيما الزرزار لأنهم شرحوها بمعنى البطريق أو الكبير من الروم. فلا يمكن أن تكون الكلمة إلا رومية أي لاتينية وهي أي سنسور ثم صحفها العرب وتلاعبوا بلغاتها كما فعلوا بلغتهم فتولدت منها ألفاظ كثيرة مرجعها إلى واحدة. وقلبهم النون رآها هين مستغاض في كتبهم والشواهد فيه لا تعد ولا تحد حتى في الألفاظ العربية الفصيحة كما قالوا في ريح ساكرة: ريح ساكنة. وقالوا الزون والزور. والواو والوكن. والهبور والهبون (العنكبوت) وتأسر عليه وتأسن وما فيه حبربر ولا حبنبر. والمركوس والمنكوس. إلى غير هذه من الألفاظ وعليه قالوا في سنسور: سرسور. ومن العرب من كان يقلب السين زاياً منقوطة ويجعل الالف المفخمة أي الإفرنجة تارة ألفاً وطوراً واواً كما في صلاة وصلوة. وحياة وحيوة. فقالوا على هذا القياس زرزار. ولعل الأصح أن اللفظة أول ما وردت في كلامهم جاءت مجموعة بصورة زنازرة أو زرزارة ثم توهموا مفردها زرزار حملاً لها على مادة عربية وكان السرسور أو السنسور من ولاة القضاء عند الروم وكان من وظيفته إحصاء أبناء الرعية الرومانية وتقدير أموالهم

وتدبير بيت المال أو خزينة المملكة. ثم امتدت سطوتهم حتى بلغت شأواً بعيداً في النفوذ وشأواً خطيراً في السلطة حتى قلد الزرازرة نقابة أشراف الروم فصارت وظيفتهم كوظيفة نقيب الأشراف عند المسلمين في عهدنا هذا. بل وأوغلوا في السطوة حتى قلدوا أمر مراقبة الآداب وتنزيل الأشراف عن مناصبهم العليا وإبعاد شيوخ المجلس الأكبر عن مناصبهم بل وربما طردوهم من المجلس طرداً لا مرد لهم إليه. وكانت هذه الوظيفة مقيدة بالبطارقة لا غير. ومن ذلك تعريف العرب للزرازرة بمعنى البطارقة. ثم أرخي عنان جوداها فقبض عليه صهواً كل من كان أهلاً للعلى وإن كان من السوقة. على أن أصح وجه اللفظ هو السرسور كما جاءت في أغلب كتب الأئمة إلا أنها وردت عندهم بالمعنى الفرعي لا بالمعنى الأصلي أي إنها جاءت بالمعنى الثالث الذي انتقلت إليه في الرومية واشتهرت به في عهد صدر الإسلام لأنهم قالوا في تفسيرها: الفطن العام الدخال في الأمور. وإن قيل لنا: إن سرسور هو تعريب سيرسور واصل معناه الشعبان فرحاً. (كتاب الألفاظ الفارسية المعربة تأليف السيد أدي شير ص 89). قلنا: لا يقول هذا الكلام إلا من أراد الهزء والسخرية بأهل العلم والتحقيق وإلا أي مناسبة بين هذين المعنيين. وكيف سمى الروم صاحب مقام من أهل المراتب العليا عندهم باسم فارسي. تلك أضحوكة من الأضحوكات المبكيات. هذا فضلاً عن أن العقل يأبى مثل هذا الوضع الغريب والتأويل البعيد العجيب ولا سيما أن جميع اللغويين متفقون على أن الزرازرة هم البطارقة أي علية أشراف الرومان. والسراسرة هم الفطنون العلماء الدخالون في الأمور كأن العرب جعلت لكل فرع من المعنى فرعاً من اللفظ تفنناً وتمييزاً لفظاً من لفظ وهم كثيراً ما يفعلون ذلك. هذا وتأويل السرسور بالمعنى الذي عقده بناصيته أهل اللغة يوافق كل الموافقة للتآويل المختلفة التي جاءت بها لفظة تعني ما يأتي: (1) الذي ينتقد مسلك الناس وأعمالهم. (2) الذي ينتقد مؤلفات المصنفين وما وقع فيها من الأوهام والأغلاط. (3) أحد عمال الحكومة تقيمه على فحص الكتب والجرائد والمجلات وهو الذيس سماه كتاب هذا العهد بالمراقب. (4) وسرسور الدروس عندهم القيم بشؤونها وبحفظ قوانينها. (5) وسرسور المصرف

(البنك) سرسور شركة تجارةٍ وقد فوض إليه تحقيق أعمال المدبرين والمقيمين بشؤونها. وهذا كله يصح فيه معنى السرسور على موجب ما أثبت معناه اللغويون أي الفطن العالم والحسن القيام على المال العالم بمصلحته. هذا ما أردنا إيراده بخصوص اللفظة وأصلها ومعناها عند العرب سابقاً ومعناها عند الإفرنج في عهدنا هذا. وإمكان دخول مختلف معانيها في لغتنا إذ الجامعة بين شعبها موجودة عندنا أيضاً وهذا كله من منافع الوقوف على أصول الألفاظ والبحث عن انسلالها في لغتنا. بقي علينا أن نذكر ما يتعلق بهذه اللفظة في أمرها في التاريخ فنقول: (3 - السرسور في التاريخ) كانت إقامة رتبة السرسور أو السنسور في الطبقة الأولى عند أمة الرومان. وكان ينتخب أصحابها انتخاباً إلى زمن محدود مضروب. وإذا قلدها واحدهم أصبحت سلطته توازي سلطة القنصل مع أن هذه السلطة هي ابنة تلك لا غير. وكان يقام السرسور في الأصل لتعداد النفوس كما يدل عليه اللفظ نفسه سنسور مركبة من سنس والأداة الدالة على الصاحبية والسنس هو تعداد النفوس ومن بعد ذلك امتدت سيطرته إلى إصلاح الأخلاق وتهذيب ضروب الجماعات وطبقاتها. ومن ثم كان يشارف السوقة والبطارقة حتى إذا أخذوا بشيء وجب عليهم أن يزكوا أنفسهم كلما اقتضت الحال أو دعاهم السرسور أن يتبينوا ما يعزى إليهم. ولم تكن وظيفة أو رتبة أو منصب من مقامات الدولة الرومية إلا وتخضع لسلطة السرسور أو الزرزار. ومما كان يكلف به السهر على كل ما يتعلق بالمصالح العامة كالجسور والأقنية والأبنية العامة والقناطر والمعابر إلى غيرها. وكانت هذه السطوة أو السلطة تعلو في الشعب الروماني بقدر ما كانت تنحط وتهوي في مجلس شيوخهم على أنهم لم تأخذ بالانحطاط إلا لما دب الفساد إلى الأمة كلها وسرى إلى الخاص منهم والعام سراً وجهراً حتى فشا في السراسرة أنفسهم ولقد كان للقب الزرزار من الشرف الرفيع ما حدا بقيصر وسائر الانبراطرة أن يتسموا به ويتخذوه لأنفسهم. وأما في بلاد اليونان فإن الزرازرة لم يفوزا بما حظي به من النفوذ زملاؤهم الرومانيون فإن زرازرة أثينة واسبرطة لم يقلدوا ذلك اللقب إلا تقليداً أدبياً ليس إلا. وقد بقي الزرزار حتى في عهد بعض جمهوريات إيطالية الأخيرة كجمهورية البندقية مثلاً ثم انقرض بانقراضها.

كان أول دخول هذا اللقب عند الرومانيين في نحو سنة 310 من تاريخ رومية أي سنة 444 قبل الميلاد. وكان قد لاحظ مجلس رومه الأعلى أن القناصل الذين كان من دأبهم الاشتغال بتسيير الوفود العسكرية كانوا يستطيعون أيضاً أن يحافظوا على أعمال الأفراد الخاصة فكان أول من ارتقى إلى هذه الدرجة العليا اثنان من البطارقة على ما رواه طيطس ليفيوس. ' وكانت مدة مقامهم بادئ بدءٍ خمس سنوات ينتخبونهم في مجالسهم الكبرى يسمون هذه المجالس مجالس القوامسة أو مجلس الزرازرة فقد قال أحدهم وقو ق. اسكونيوس بدبانس يعاد انتخاب الزرازرة كل خمس سنوات وهذه عبارته اللاتينية. إلا أن هذه المدة الطويلة وسوست في صدر الذين تقلدوها ما بكدر خواطر القناصل ويقلقها فقصرها الدقططور مامرقس أميليوس فأنزلها إلى مدة 18 شهراً فامتعض من ذلك الزرازرة وانتقموا من صاحب هذا الإصلاح بمحو اسمه من قبيلته وتقييده بين عداد دافعي الخراج. وكان من اللازم في بادئ الأمر لمن يريد الحصول على هذه المرتبة العليا أن يكون المترشح لها من أصل شريف. إلا أن هذا القيد لم يدم إلا مئة سنة ثم عدل لأن القناصل كانوا يؤخذون من سواد السوقة فساوَوا أولئك بهؤلاء. وأول من أخذ من ظهراني الشعب هوك. مرطيوس روتيليوس فانه علا وصار دِقططوراً ثم رقي فصار زرزاراً مع منليوس نفليوس ومع الزمان سنّ المدير الأعظم أو الدقططور ق. ب. فيلون سنة ومما جاء فيها أنه يجوز انتخاب السرسور من الرعية. والتاريخ يفيدنا أن ق. بمبيوس وق. متلس قلدا لازرزارية وهما من السوقة وذلك سنة 622 من تأسيس رومة. ولم يكن من الضروري قبل الحرب الفونية الثانية أن يكون المترشح ممن مارس أمراً من أمور القضاء الأكبر ليصبح أهلاً للزرزاربة بما أن طيطس ليفيوس بكر أن بيبلوس بيفينوس كراس لم يكن إلا أمير ابنية فانتخب زرزاراً وحبراً أعظم معاً. إلا أنهم بعد ذلك العهد لم يعودا يرقون إلى هذه الرتبة إلا من كان قنصلاً في السابق. ولم يكن لجوز لواحد أن يكون زرزاراً غير هـ، مرة واحدة في حياته إن كنت ممن وقف على ماء كتبه فاليرس مكسيمس تتذكر بأنه قال عن م. روتيليوس أنه من بعد أن أقيم زرزاراً للمرة الثانية وبخ الشعب توبيخاَ شديداً على

قلة احترامه لسنة أجدادهم إذ رأوا أن من المناسب تقصير مدة هذا القضاء لأنهم تحققوا أن من بقي بيديه عنان هذه السلطة مدة مديدة يصبح قهاراً عسوفاً عضوضاً ومن ثم غدا انتخاب الزرزار للمرة الثانية مخالفاً لسنن السلف وقد قال بلينيوس الأصغر أن من يوسد الزرزاربة للمرة الثانية عليه أن يأباها حباً بالمنفعة العامة. وكان سلاَّ أبطل الزرزاربة إلى وقت إلا أن أوغسطس قيصر أزالها بتاتاً. وكان القياصرة يزاولون بأنفسهم ما كان مترتباً على الزرازرة إلى عهدة اسبسيانس. وبعد وفاة هذا العاهل دُثر أثر هذا القضاء المطلق حتى لم يبق منه إلا الاسم. وحاول الإمبراطور دقيوس إعادته فلم يفلح. وممن اشتهر بالزرازية قاطو أو قاطون حتى غلب عليه لقب الزرزار وعرف به. وقد اعتمدنا فيما كتبناه على عدة أسفار لعدة كتاب من روم اولاتين وفرنسويين وإنكليز. بغداد سلتسنا

رسائل الانتقاد

رسائل الانتقاد تابع لما سبق هذا امرؤ القيس أقدم الشعراء عصراً. ومقدمهم شعراً وذكراً. وقد اتسعت الأقوال في فضله اتساعاً لم يغز غيره بمثله حتى أن العامة تظن بل توقن أن جواد شعره لا يكبو وحسام نظمه لا ينبو. وهيهات من البشر الكمال. ومن الآدميين الاستواء والاعتدال. يقول في قصيدته المقدمة. ومعلقته المفخمة: ويوم دخلتُ الخدر خدر عُنيزة ... فقالت لك الويلاتُ إنك مُرجلي فما كان أغناه عن الإقرار بهذا وما أشك غفلته عما أدركه من الوصمة به وبذلك أن فيع أعداداً كثيرة النقض والبخس منها دخولاً متطفلاً على من كره دخوله عليه. ومنها قول عنيزة لك الويلات وهي قوله لا تقال إلا لخسيس. ولا يقابل بها رئيس. فإن احتج محتجٌ بأنها كانت أرأس منه قيل له لم يكن ذلك لأن الرئيسة لا تركب بعيراً يدرج أو (يموت) إذا زاد عليه ركوب راكب بل هو بعير فقير حقير فإن احتج لأنه بأنه صبر على القول من أجل أنها معشوقة قيل له وكيف يكون عاشقاً لها من يقول لها: فمثلك حُبلى قد طرقت ومُرضعاً ... فألهيتها عن ذي تمائم مُحول وإنما المعروف للعاشق الانفراد بمعشوقته واطراح سواها كالقسيسين في ليلى ولبنى وغيلان بمية وجميل بثينة وسواهم كثير. فلم يكن لها عاشقاً بل كان فاسقاً. ثم أهجن هجنه عليه. وأسخن سُخنه لعينيه. إقراره بإتيان الحبلى والمرضع. فأما الحبلى فقد جبل الله النفوس على الزهد في إتيانها. والإعراض عن شأنها. منها أن الحبل علة وأشبه العلل بالاستسقاء. ومع الحبل كمود اللون. وسوء الغذاء. وفساد النكهة. وسوء الخلق وغير ذلك ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي. دع نفس ملوكي. وأعجب من هذا أن البهائم كلها لا تنظر إلى ذوات الحمل من أجناسها. ولا تقرُب منها حتى تضع أحمالها. أو تفارق فصلانها. ثم لم يكفه أن يذكر الحبلى حتى افتخر بالمرضع وفيها من التلويث بأوضار رضيعها. ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها. وقد أخبر أن ذا التمائم المحول متعلق بها بقوله فألهيتها عن ذي تمائم محول وأخبر إنها ظئر ولدها لا ظئر له ولا مرضع

سواها فدل بذلك على أنها حقيرة وقيرة. ومثل هذه لا يصبو إليها من له همة وهذه الصفات كلها تستقذرها نفس الصعلوك والمملوك. وقد قال أيضاً في موضع آخر من هذا الباب من قصيدة أخرى: سموتُ إليها بعد ما نام أهلها ... سُمو حباب الماء حالاً على حال فقالت لحاك الله أنك فاضحي ... ألست ترى السمار والنار أحوالي حلفت لها بالله حافة فاجرٍ ... لناموا فما أن حديث ولا صالي فأخبر ههنا أنه هين القدر عند النساء وعند نفسه برضاه قولها لحاك إله فحصل على لحاك الله من هذه ولك الويلات من تلك فشهد على نفسه أنه مكروه مطرود غير مرغوب في مواصلته. ولا محروص على معاشرته. ولا مرضي بمشاكلته. ثم أخبر عن نفسه أنه رضي بالحنث والفجور. وهذه أخلاق من لا أخلاق لها. ثم أقرّ في مكان آخر من شعره بما يكتمه الأحرار. ولا ينم بفتحه إلا الأوضاع الأشرار فقال: ولما دَنَوت تسديتها ... فثوباً نسيتُ وثوباً أَجُرْ وأي فخرٍ في الإقرار بالفضيحة على نفسه وعلى حيه واين هذا من قول يعقوب الخزيمي: ولا أسأل الولدان عن وجه جارتي ... بعيداً ولا أرعاه وهو قريب وإنما سهل عليه كل هذا حرصه على ما كان ممنوعاً منه وذلك أنه كان مبغضاً إلى النساء جداً. مفروكاً ممن ملك عصبتها لأسباب كثيرة ذكرت. وكل من حرص على نيل شيء فمنع منه فعلاً. ادعاه قولاً. وله أشباه فيما أتاه. يدعون ما ادعاه. إفكاً وزوراً وكذباً وفجوراً. منهم الفرزدق وهو القائل: هما دلياني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره فهذا أول كذبة ولو قال من ثلثين قامة لكان كاذباً لتقاصر الارشية عن ذلك وقد قرعه جرير في قوله تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلى والمكارم وكان مغرماً بالزنا مدعياً فيه. منها ما شهر به من النميمة بمن ساعده. والادعاء على من باعده. منها دمامته ومنها اشتهاره. والمشهور يصل إلى شهوة يتبعها ريبة. فكان يكثر في شعره من ادعاء الزنا. واستدعاء النساء وهن أغلظ عليه من كبد بعير. وأبغض فيه وأهجى

له من جرير. وخذ أطرف هؤلاء الأجناس. وهو سحيم عبد بني الحسحاس. أسيود في شمله. دنسة قملة. لا يواكله الغرثان. ولا يصاليه الصرد العريان. وهو مع ذلك يقول: وأقبلن من أقصى البيوت يعدنني ... نواهد لا يعرفن خلقاً سوائيا يعدن مريضاً هن هيجن ما به ... ألا إنما بعض العزائد دائيا توسدني كفاً وتحتو بمعصمٍ ... عليَّ وترمي رجلها من ورائيا فأنت تسمع هذه الأسود الشن وادعاءه. وتعلم لو أن الله أخلى الأرض. فلم يبق رجلاً في الطول ولا في العرض. لم يكن هذا الزنمة الزلمة عند أدراك السودان إلا كبعرة بعير. في معر عير. والممنوع من الشيء حريص عليه. مدع فيه. والمدع بما يهواه. كاتم له مستغن ببلوغ مناه. ودليل على ذلك أن المرقش الأكبر كان من أجمل الرجال وكانت للنساء فيه رغبة. وشدة محبة. وكان كثير الاجتماع بهن. والوصول إليهن وله في ذلك أخبار مروية ولم يكن في أشعاره صفة شيء من ذلك. فحسبك بذلك صحة على ما قلناه. فان قال قائل إنما وصفت عن امرئ القيس عيوباً من خلقه لا في شعره قلنا هل أراد بما وصف في شعره إلا الفخر. فإن قال لم يرد ذلك وإنما أراد إظهار عيبه قلنا ما أحمق الناس إذاً هو. وإن قال نعم الفخر قلنا فقد نطق شعره بقدر ما أراد وترجم وترجم عنه قريضة بأقبح الأوصاف فأي خلل من خلال الشعر أشد من الانعكاس والتناقض. وكل ما يخزي من الشعر فهو من أشد عيوبه قال ومن كلام امرئ القيس المخلخل الأركان. الضعيف الأسمكان. المتزلزل البنيان. قوله: أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في أثرهم منحدر وشاقذ بين الخليط الشطر ... وممن أقام من الحي هر وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر فانت تسمع هذا الكلام الذي لا يتناسب. ولا يتواصل ولا يتقارب ولا يحصل منه معنىً ولا فائدة سوى أن السامع يدري أنه يذكر فرقة من أحباب لكن ذلك عن ترجمة معجمه. مضطربة منقلبة. سأل عن الخيام أمرخ هي أم عشر وليست الخيام مرخاً: تراه إذا ما جئته متبهللاً ... كأنت تعطيه الذي أنت سائله مدح بها شريفاً أي شريف فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيئاً من عرض الدنيا

إليه وليس من صفات النفوس العارفة السامية والهمم الشريفة العالية إظهار السرور إلى أن تهلل وجوههم وتسر نفوسهم بهبة الواهب ولا شدة الابتهاج بعطية المعطي بل ذلك عندهم سقوط همة وصغر نفس وكثير من ذوي النفوس النفيسة والأخلاق الرئيسة لا يظهر السرور متى رزق مالاً عفواً بلا منة منيل ولا يد معط مستطيل لأنه عند نفسه أكبر منه ولان قدر المال يقصر عنه فكيف أن يمدح ملك كبير كثير القدر عظيم الفخر بأنه يتهلل وجهه ويمتلئ سروراً قلبه إذا أعطى سائله مالاً وهذا نقض البناء ومحض الهجاء والفضلاء يفخرون بضد هذا قال بعضهم: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جزع من صرفه المتقلب وإنما غر زهيراً وغر المستحسن بيته هذا ما جبلوا عليه من العطاء وما جرت به عاداتهم من الرغبة في الهبات والاستجداء وليس كل الهمم تستحسن ذلك ولا كل الطباع تسلك هذه المسالك. قال أبو الريان: وقال زهير أيضاً يمدح سادة من الناس فذمهم بأنواع الذم وأكثر الناس على استحسان ما قال أظن كلهم كلهم على ذلك وهو قوله: على مكثريهم حق من بعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل فأول ما ذمهم به إخباره أن فيهم مكثرين ومقلين فلو كان مكثروهم كرماء لبذلوا لمقليهم الأموال حتى يستووا في الحال ويشبهوا في الكرم والحال الذين قال فيهم حسان: الملحقين فقيرهم بغنيهم ... والمشفقين على اليتيم المرمل المرمل القليل المال وأرمل الرجل إذا قل زاده وكما قال غيره: الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي وكما قال الخرنق: الخالطين لجينهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقر فهذا كله وأبيك غاية المدح النقي من القدح ثم استمع ما في هذا البيت سوى هذا من الخلل والزلل قال: على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل ففي هذا القسم الأول عيوب على المكثرين. منها أنهم ضيعوا القريب كما قدمنا ودعوا حق

الغريب وصلة الرحم أولى ما بدئ به ومن مكارم العرب حميتها لذوي أنسابها وذبها عن أحسابها والأقرب فالأقرب وما فضل عن ذلك فللأبعد ثم أخبر أن المكثرين ليس يسمحون بأكثر من الاستحقاق بقوله: على مكثريهم حق من يعتريهم ومن أعطى الحق إنما أنصف ولم يتفضل بما وراء الإنصاف والزيادة على الإنصاف أمدح ثم أخبر في البيت أن المقلين على قدر قصور أيديهم أكرم طباعاً من مكثريهم على قدرهم في قوله: وعند المقلين السماحة والبذل والبذل مع الإقلال مدح عظيم وإيثار والسماحة إعطاءُ غير اللازم فمدح بشعره هذا من لا يحظى منه بطائل. وذم الذين يرجو منهم جزيل النائل وهذا غاية الغلط في الاختيار وفي ترتيب الأشعار ولزهير غير هذا من السقطات لولا كلفة الاستقصاء هذا على اشتهاره بأنه أمدح الشعراء. وأجزل الوافدين على الأشراف والأمراء وسيتعامى المتعصب له عن وضوح هذا البيان وسينكر جميع هذا البرهان ويجعل التفتيش عن غوامض الخطأ والصواب استقصاء وظلماً ومطالبة وهضماً وزعم أن جميع الشعر لو طلب هذه المطالة لبطل صحيحه وانعجم فصيحه والباطل الذي زعم والمحال الذي به تكلم فالسليم سليم والكليم كليم وإنما سمع المسكين أن أملح الشعر ما قلت عباراته. خاصة مثل قانون الجمعيات وقانون الجماعات. وقانون التجارة وكتاب الشركات من قانون المجلة. نعم كل القوانين تبحث هما يتولد من الاجتماع والاتحاد لأن موضوعها كناية عن المعاملات وهذه لا تكون بين فرد واحد مطلقاً بل على الأقل بين شخصين. إذاً يمكن تقسيم القوانين التي تبحث عن الاجتماعات إلى قسمين الأول ما يبحث عن المعاملات المعتادة والمتكررة مثل قانون مجلة الأحكام العدلية ومنها ما يبحث عن اجتماع قسم خاص من الخلق ولكنه أيضاً كالأول معتاد مثل قانون التجارة البري والبحري وقلما يتولد من هذا القسم ما يكدر الراحة العامة ولذلك لا تجد لموظفي الإدارة الملكية به علاقة مباشرة أما القسم الثاني فهو يبحث عن الاجتماعات التي لا تكون معتادة ومتكررة وقد يمكن

أن تكون في بعض الأحايين من الأمور العظيمة والمخلة بالأمن العام مثل الاجتماعات التي تقع لأجل الاحتجاج على عمل من أعمال الحكومة. ولهذا وضع قانون الاجتماعات دفعاً لكل محظور. ثم هناك اجتماعات منظمة ومتكررة لاستحصال أمر مقرر عند المجتمعين ولما كان من الممكن أن يكون هذا الاجتماع مغايراً لسياسة الحكومة ربطته أيضاً بقانون وسمته قانون الجمعيات. وهو غير قانون الاجتماع. أعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذا التذبذب الإداري المشهود الآن ناشئ عن أمرين الأول عدم حصول ملكة الإدارة عند رجال الإدارة والثاني جهل الشعب حقوقه وواجباته. وبعد فإن القانون عبارة عن مجموعة عادات راسخة في الذهان ولذلك لا تقبل الحكومات الاعتذار بجهله ولكن ذلك فيما إذا كان هذا القانون مجموعة عادات الأمة المكلفة بتطبيقه لا مجموعة عادات أمة أخرى لا تستطيع أن تفهمه فضلاً عن تطبيقه. ولو فرضنا الشعب شخصاً وأردنا إلباسه لباس شخص آخر لما أمكنه اكتساؤه ولظهر لأول وهلة بشاعة هذا اللباس المادي. وهكذا القوانين التي لا توافق مزاج الأمة فمن فقدان ملكة الإدارة وإشباع الذهن بوجوب التفرنج ونفرة الأمة من هذا الحال وجهلها القانون تظهر شرارة الاختلاف وحينئذٍ ينسى الموظف الخدمة العامة ويصبح آلة انتقام لمن يعاكسه والأمة أيضاً تقابله وهناك ما هناك والعياذ بالله. فلإزالة هذه الحال أرى الحاجة ماسة كل المساس لترجمة القوانين العربية حتى تكون أمتنا عارفة حقوقها مراعية واجباتها. ولما كانت الترجمة وحدها لا تكفي بالنظر لأن القوانين تكون مختصرة على الأغلب ومبنية على نظريات العلماء ومستندة على القوانين الأخرى ارتأيت أن أشرح ما أظنه محتاجاً للشرح، أقدمه لقراء المقتبس الشهر بعد الشهر. المادة الأولى: الجمعية هي كناية عن أشخاص عديدين وحدوا معلوماتهم ومساعيهم لوقت غير محدود لاستحصال مقصد معلوم غير مقاسمة الأرباح. إيضاح - لو كان القصد من توحيد المساعي استحصال الربح لقيل للمجتمعين وقتئذٍ شركة عوضاً عن جمعية. ثم معنى (لوقت غير محدود) كما هو مذكور في ضمن المادة وهو لفريق الجمعية عن الاجتماع. لأن هذا يحصل بغتة ويزول سريعاً. سواء كان مرتباً أو غير مرتب أما الجمعية

فهي اتفاق أشخاص عديدين بصورة الترتيب ولوقت غير محدود لاستحصال أمر معلوم. وقصارى القول أن الاجتماع يقع لأمر وقتي مثل الاحتجاج على عمل ما أو إلقاء محاضرة وينتهي عند انتهاء الاحتجاج أو إتمام إلقاء المحاضرة. ويكون مرة واحدة. أما الجمعية فاجتماعاتها تدوم وتتكرر. وقد مر في المتن كلمة (أشخاص عديدين) بدون تعيين العدد المطلوب. وهذه مسألة مهمة. والأغرب أن القانون ساكت عنها كل السكوت. والغالب أنه تركها لاجتهاد مأموري الإدارة. فلذلك نتحرى أقوال علماء أصول الإدارة الملكية والأوامر التي تصدر من مراجعها ودلالة القوانين الأخرى. يقول بعضهم أن اجتماع ثلاثة أشخاص بدون إعلام الحكومة ممنوع وبعضهم يقول يجب أن يكون العدد تسعة وبعضهم يقول أحد عشر والكل متفق على أن الحد الأعظم هو العشرون. وبعضهم يقول أن الحرس يتألف غالباً من شرطي وثلاثة أنفار درك وهؤلاء لا يقدرون على تفريق أكثر من ستة عشر شخصاً بالصورة الجبرية فلذلك يجب أن الحد الأعظم المسموح قانوناً ستة عشر وما زاد فهو ممنوع ومجلبة للجزاء. أما الأوامر فهي ضيقة جداً لأنها تعين حد الممنوع باجتماع عشرة أشخاص حتى أن الورقة المختومة بأحد عشر ختماً ترد ولا تقبل. وأما دلالة القوانين الحاضرة فتدل على أن حد الاجتماع ثلاثة أشخاص. وهذه المادة الأولى من قانون تعطيل الأشغال تقول إذا حصل اختلاف بين العملة وصاحب المشروع المالي فينتخب العملة من بينهم ثلاثة أشخاص للوكالة عنهم كلهم. وهذا يدل على أنه لو انتخب العملة أكثر من ذلك لما جاز اجتماعهم استناداً على المادة السادسة من قانون الجمعيات. والمادة الثالثة من قانون الجماعات. وهناك دلالة أخرى أيضاً وهي كذلك مستفادة من قانون تعطيل الأشغال وصراحة مادته الثالثة وهي: ما دام العملة ينتخبون ثلاثة وكلاء وصاحب العمل ينتخب ثلاثة من قبلة ونظارة النافعة تعين واحداً لرئاستهم إذاً يستنتج بأن عدد الاجتماع هو سبة أشخاص. ويا ليت واضع القانون عين هذا العدد وأراحنا من هذه الظنون. وسد لنا باب هذا الاختلاف الذي ربما قامت القيامة بولابه جمعاء منن أجله. كما نرى بأن الاختلافات تنشأ

من أقل الأمور تفاهة ثم تنمو وتكبر. سألت مرة متصرفاً عالماً ومدققاً اسمه جمال بك عن قصد واضع القانون من هذا السكوت وترك هذا الأمر المبهم مبهماً فقال لي إن القصد من ذلك هو افتراض واضع القانون بأن مأموري الإدارة أذكياء بعيدو النظر سريعو الانتقال ولذلك لم يرد تقييدهم بل ترك الأمر لفراستهم وهل تستطيع أن تنكر عليّ بأنه قد يمكن أن يتولد من اجتماع ثلاثة أشخاص من أرباب النفوذ المزورين الذين لا يخجلون وديدنهم ظلم الفقير وتلويث سمعة الشريف أضرار أكثر من اجتماع ثلاثمائة شخص آخرين ولهذا السبب ترك واضع القانون هذا الأمر بدون تحديد حتى يتسنى لمأمور الإدارة الضرب على أمثال هؤلاء الشياطين. المادة الثانية: ليس تأليف الجمعيات متوقفاً على استحصال رخصة من الحكومة إلا أنه يجب إخبار الحكومة عقب تأسيس الجمعية وفاً للمادة السادسة. أيضاً - ليس في هذا الكون شيء بلا مبدئ ومنتهى مطلقاً وهذا المبدأ والغاية يسمى حداً لما بينهما. نعم للأفراد الحرية بتأليف الجمعيات إلا أن لهذه الحرية حداً وهو عدم الاتفاق على شيء يخل بالراحة العامة أو ما يعاكس سياسة الحكومة وإدارتها. فلهذا يجب إخبار الحكومة عقب تأسيس الجمعية بتأليفها كما سيأتي في المادة السادسة من هذا القانون. مر في المتن أنه يجب إخبار الحكومة عقب تأسيس الجمعية على كل حال ولكن القانون لم يعين هذه المدة أيضاً بل تركها لاجتهاد مأموري الإدارة وأما العلماء فيعينون لهذا الإخبار مدة أسبوع. وبعضهم مدة أربع وعشرين ساعة. وبعضهم قال بوجوب الإخبار حين افتراق الأعضاء وختام المذاكرة وهذا هو الصحيح دفعاً لكل طارئ وهو أقرب لمآل هذا القانون وأنفع لمؤسسي الجمعية. لأن المادة السادسة من قانون الجمعيات تقول أنه يجب إخبار موظفي الإدارة الملكية بمجرد التأسيس لها ثم سرعة الإخبار أوفق لمصلحة المؤسسين للجمعية إذ لو فرضنا بأن الجمعية تألفت يوم الجمعة وأعطي القرار بالإخبار عنها يوم الأحد واستدل البوليس عل وجودها يوم السبت لجاز له منعها وجوزي المؤسسون بالجزاء المدرج في المادة الثانية عشرة من هذا القانون استناداً على دلالة المادة السادسة. مر بالمتن أن تأليف الجمعية لا يتوقف على أخذ رخصة الخ ومعنى هذا أن مأموري الإدارة الملكية مضطرون أن يرخصوا بتأليف أي جمعية كانت خلا ما هو مذكور في المادة

الثالثة والرابعة والخامسة. إذاً هذا الإخبار المطلوب بمقتضى المادة السادسة لا يتضمن الاستئذان بل لأجل التنبيه فقط. وبمجرد الإخبار يعطى للمخبر علم وخبر بموجب المادة المذكورة وهذا إجباري. وهذا يتضمن الاعتراف بوجود الجمعية ولا يسوغا لمأموري الإدارة التعلل بإعطاء هذا العلم والخبر. المادة الثالثة: ممنوع تأليف الجمعيات التي تكون مبنية على أساس غير مشروع مغايرة لأحكام القوانين الموضوعة وللآداب العامة أو مؤسسة على أساس الإخلال بحدود الدولة الملكية أو تغيير شكل الإدارة الحاضرة أو تفريق العناصر العثمانية سياسياً وتحتوي هذه المادة على قيود ستة وإليك تشريحها: إيضاح - منع القانون تأسيس الجمعيات القائمة على أسس ستة. وأباح جميع مقاصد الجمعيات التي هي غير داخلة ضمن هذه الستة أنواع. أولاً - مغايرة أحكام القوانين: الأرض التي لا تزرع ثلاث سنين تعد محلولة وتؤخذ من المتصرف بهاما لم يدفع بدل المثل فإن دفع فبها وإن لم يدفع فتباع بالمزاد من غيره بموجب المادة الثامنة والستين من قانون الأراضي. فلو أراد أناس تأليف جمعية لأجل منع هذا الحكم القانوني فلا يسوغ لهم تأليف جمعية لهذا المقصد. وحينئذٍ لا يأخذون علماً وخبراً من مأمور الإدارة الملكية وإن أسسوا فتمنع وفقاً للمادة الثانية عشرة من قانون الجمعيات. ثانياً - مخالفة الآداب العامة: لا يعطى علم وخبر بموجب المادة السادسة لمؤسسي جمعية تود ترويج عادة جلوس النساء في محال القهوة. لأن آدابنا الإسلامية لا تسمح بذلك. ثالثاً - العبث بحدود الدولة: هذا شيء مفهوم وغني عن الإيضاح. رابعاً - الإخلال بالأمن العام ولو بالواسطة: الطلاق عندنا شرعاً جائز فلو فرضنا أنه تألفت جمعية لمنعه لاقتضى منعها لأن مثل هذه الأعمال تؤدي إلى كسر خاطر المسلمين وبالنتيجة ربما تؤدي لما لا تحمد عقباه. فإذا أدى تأليف الجمعية والحالة هذه لإخلال الأمن العام مباشرة أو بالواسطة فهو بالحكم سيان في نظر مأموري الإدارة. خامساً - تغيير شكل الحكومة الحاضرة: وهذا أيضاً ممنوع لأنه ليس من خصائص الجمعيات بل من خصائص المجلسين. سادساً - تفريق العناصر: وهذا أيضاً ممنوع وغني عن التشريح.

المادة الرابعة: ممنوع تأليف الجمعيات السياسية على أساس القومية والمعنونة بعنوان الجنسية. إيضاح - الكلام هنا من شأن المبعوثين ولذلك أمرُّ به بدون أن أنظر فيه. المادة الخامسة: يجب أن لا تكون سن من يود الالتحاق بإحدى الجمعيات أقل من عشرين عاماً وأن لا يكون محكوماً عليه أو محروماً من الحقوق المدنية. إيضاح - هذه المادة تبحث في شروط من يود أن يكون عضواً لإحدى الجمعيات وهي ثلاثة: الشرط الثاني - أن لا يكون محكوماً عليه بجناية والقصد من هذا الشرط الترهيب منن الأفعال الجنائية لأن القوانين هي كناية عن ناظم للأخلاق والجناية هي الحبس في الكورك مؤقتاً أو مؤبداً والحبس في إحدى القلاع والنفي المؤبد والحرمان من المأموريات والسقوط من الحقوق المدنية. الشرط الثالث - أيضاً وضعت للقصد السالف الذكر والحقوق المدنية كناية عن (1) الحرمان من الاستخدام في الحكومة. (2) أن يكون محروماً من الحقوق البلدية مثل عدم استخدامه بأمر رسمي في بلده أو عد ملته عند أبناء صنعته. (3) أن لا يكون معلماً. (4) أن لا يستخدم في تحقيق أمر من الأمور. (5) أن لا تقبل له شهادة. (6) أن لا يكون وصياً. (7) أن لا يحمل السلاح. وهذا بموجب المادة الثالثة والحادية والثلاثين من قانون الجزاء. الشرط الأول - هذا داري خوفاً من أن تكون الجمعيات مجمع أولاد. المادة السادسة: تأليف جمعيات خفية ممنوع منعاً باتاً. وعند تأسيس جمعية من نوعها يجب في الحال إعطاء بيان لناظر الداخلية في فروق ولأكبر مأمور ملكي خارجها محتوياً على عنوان الجمعية ومقصدها وعلى مركز إدارتها واسم الكلفين بإدارتها ومهنهم وشهرتهم ومحال إقامتهم ويجب أن يكون هذا البيان مختوماً وممضياً. وحينئذٍ يعطى علم وخبر بمقابل هذا البيان. ولا بد من ربط نسختين مختومتين بختم الجمعية الرسمي لهذا البيان ثم بعد أخذ العلم والخبر يعلن مؤسسو الجمعية وجودها ويجب على الجمعيات إخبار الحكومة عن التعديلات التي يجرونها بنظامها الأساسي أو فيما يتعلق ببيئة إدارتها أم محل إقامتها

وإما حكم التبديلات والتعديلات تجاه شخص ثالث فهو يعتبر من يوم الإخبار بهذه التبديلات والتعديلات للحكومة ويجب قيد هذه التعديلات والتبديلات في سجل خاص لإبرازه عند كل طلب يقع من مأموري العدلية والملكية. إيضاح - الجمعية الخفية هي التي ليس معها علم وخبر من مأمور الإدارة سواء كان في الأستانة أو في الولايات لأن القسطنطينية أيضاً أصبحت اليوم ولاية كسائر الولايات ولها والٍ يقوم مقام ناظر الداخلية. يجب أن يحتوي البيان أولاً على عنوان الجمعية لنفوذ حكم المادة الرابعة. وثانياً على مقصدها وهذا لأجل مراعاة المادة الثالثة. وثالثاً على مركز إدارتها وهذا لأجل التفتيش وفقاً لحكم المادة الثامنة عشرة. ورابعاً عل اسم الأعضاء وصنعتهم ومحل إقامتهم وهذا أيضاً لمراقبة أحوالهم ولتنفيذ أحكام المادة السادسة والثانية أي مراقبة الحكومة لكل ما يجري بداخل المملكة. وخامساً على نسختين من نظامها الأساسي لتبقى واحدة عند مأمور الإدارة والأخرى عند مأموري الشرطة. والعلم والخبر لأجل دفع الشبهة بأنها جمعية خفية. المادة السابعة - يجب أن يكون لكل جمعية هيئة إدارة مؤلفة من شخصين على الأقل وإذا كان لها شعب ينبغي أن تكون لها هيئة إدارة في مركز كل واحدة منها. ثم يقتضي مسك دفتر عند كل هيئة لأجل قيد: (1) هوية أعضاء الجمعية وتاريخ دخولهم إليها. (2) مقررات هيئة الإدارة ومفاوضاتهم وتبليغاتهم. (3) وقيد واردات الجمعية ونفقاتها بحسب الأفراد. ويقتضي إبراز هذا الدفتر لمأمور العدلية والملكية عند كل طلب. المادة الثامنة: للجمعية التي تتألف وفقاً للمادة السادسة الحضور للمحاكم بصفة مدعي ومدعى عليه بالواسطة راجع المادة التاسعة وأما واردات الجمعيات فهي بقطع النظر عما تمدها به الحكومة أولاً كناية عن الحصة النقدية التي يدفعها الأعضاء المشروط عدم تجاوزها الأربعة والعشرين ليرة سنوياً. ثانياً المحل الخاص بإدارة الجمعية واجتماع أعضائها. ثالثاً بمقدار ما يلزمها من الأموال غير المنقولة لأجل مقصدها وعملها هذا يجب أن يكون وفقاً للنظامات الخاصة بمثل هذه المسائل وممنوع عمل الجمعيات بالأموال غير المنقولة عدا ما ذكر. إيضاح - كل حرف من هذه المادة مبني على قصد إداري وسياسي بعيد بآن واحد ولا

تسمح لي حالتي الجهر به الآن. المادة التاسعة: ينوب عن الجمعية في المجالس والمحاكم كاتبها العام أو مديرها ومراجعتهما هذه ينبغي أن تكون تحت تواقيعهم وباستدعاء عليه طابع ثم يجب تعيين هوية مثل هؤلاء الأشخاص في نظام الجمعية الأساسي. إيضاح - ذكر في المادة السادسة أنه يقدم للحكومة نسختان من النظام الأساسي فإذا كان هذا المدير أو الكاتب غير مستوف للشروط اللازمة والمذكورة في المادة الخامسة يرد ولا يقبل. المادة العاشرة: يسوغ لأعضاء الجمعيات الانسحاب منها في كل وقت شاؤوا ولو كان عكس ذلك مشروطاً في نظامها الأساسي بشرط أن يكون المنسحب أدى جميع ما عليه من التقاسيط ولا سيما تقاسيط السنة الحالية. إيضاح - لو فرضنا جمعية ذا نظام يحتوي على مادة تنبئ بعدم جواز انسحاب الأعضاء منها حتى الممات وأراد أحد أعضائها الانسحاب منها جاز له ذلك لأن هذا الشرط لغو بموجب هذه المادة ولكنه من المتحتم عليه دفع ما تعهد به لتلك السنة. المادة الحادية عشرة: ممنوع إدخال الأسلحة النارية والجارحة لمحل اجتماع الجمعيات وحفظها فيها ومع هذا يجوز وجود بعض أسلحة الصيد والسيوف الصغيرة لأجل التعليم بشرط أن يكون للضابطة خبر بذلك. المادة الثانية عشرة: الجمعيات التي لم تؤلف وفقاً للمادة الثانية والسادسة ولم تقدم بياناً للحكومة لأجل الإخبار والإعلان تمنع ويجازى مؤسسوها وهيئة إدارتها وصاحب محل الاجتماع ومستأجره بالتغريم من خمس ليرات إلى خمسة وعشرين ليرة. وأما إذا كانت هذه الجمعيات مؤلفة لأجل المواد المضرة والممنوعة والمدرجة في المادة الثالثة والمصرح بجزائها في قانون الجزاء فيكون الجزاء حينئذٍ وفقاً لذلك القانون. إيضاح - كل جمعية ليس معها علم وخير منن الحكومة فهي خفية لأن إعلان وجود الجمعية لا يجوز قبل أخذ العلم والخبر الذي يعطى بمقابله البيان المتضمن تفصيل أحوال الجمعية ومقاصدها إذ بمجرد الاستعلام عن مثل هذه الجمعية يشرع رجال الشرطة بمراقبتها وعندما يتحققون وجودها تمنع ومعنى المنع هو الإخطار أولاً بالكلام ثم الجبر

على كل حال أي يمنع البوليس الداخلين إليها فإن امتنعوا فبها ونعمت وإن لم يصغوا إليهم فيمنعهم بالقوة فإن قابلوه بالضرب يقابلهم وإن شهروا السلاح فيشهر هو السلاح أيضاً والحاصل معنى المنع رفع الفعل المنهى عنه قانوناً على كل حال ولو أدى لإزهاق الأرواح. والبوليس غير مسؤول عمده إلى القوة في الخطر. وقد ذكر جزاء المواد المدرجة في المادة الثالثة من هذا القانون في الفصل الأول والثاني من قانون الجزاء. فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك. وهذا الجزء المدرج في هذين الفصلين من قبيل الجنايات. أما الجزاء النقدي المدرج في متن هذه المادة فهو خاص بالجمعيات التي يكون مقصدها مباحاً وحسناً والسبب في ذلك التهاون الواقع بعدم إخبار الحكومة وفقاً للمادة السادسة فإذا لم يقدم للحكومة بيان يتضمن كيفية تأسيس الجمعية فالجزاء محقق سواء كان القصد مشروعاً أو غير مشروع إلا أن هناك فرقاً مهماً وهو إن كان المقصد حسناً فالجزاء النقدي خفيف وإن كان سيئاً فالجزاء جسماني وشديد. المادة الثالثة عشرة: من يخالف أحكام المادة السادسة عدا ما يتعلق بإعلان الجمعية والإخبار بها وأحكام المادة الرابعة والخامسة والسابعة والتاسعة يغرم بجزاء نقدي من ليرتين إلى عشرة وإذا تكرر الحال فيجازى بضعفي الجزاء. ومن يبقي الجمعية التي منعت طبقاً لمادة الثانية عشرة أو يؤسسها ويديرها مجدداً يجازى بالتغريم من عشر ليرات إلى خمسين وبالحبس من شهرين إلى سنة. وهكذا من يقدم محلاً لاجتماع أعضاء الجمعيات الممنوع يجازى بنفس الجزاء. إيضاح - تشرح هذه المادة الجزاء الخاص بمن يخالف بعض مواد هذا القانون أما من يخالف مندرجات المادة السادسة التي تبحث عن كيفية الإخبار بالجمعية والإعلان عنها فجزاؤه مصرح به في المادة الثانية عشرة وأما من لم يخبر الحكومة بالتعديلات والتبديلات التي تجريها الجمعية وفقاً للفقرة الأخيرة من المادة السادسة أو من لم يقيد هذه التعديلات والتبديلات في سجل مخصوص أو من يمتنع عن إبراز هذا الدفتر لمأموري العدلية والملكية فيجازى بحسب هذه المادة الثالثة عشرة. وهذا هو معنى القيد المدرج في المتن أي (ما عدا ما يتعلق عن الجمعية) وما سوى هذا فهو يستلزم الجزاء بموجب المادة الثانية عشرة لا بموجب هذه المادة.

وأما مخالفة المادة الخامسة والرابعة والسابعة والتاسعة فيكون بموجب هذه المادة. تنبيه: هذا بعد أن يفرقهم البوليس يجازون بهذا الجزاء. وأما من خالفوا البوليس وأصروا على عدم التفريق فيجازون بجزاء من يخالف أوامر الحكومة والبوليس معذور باستعمال جميع أنواع القسوة. المادة الرابعة عشرة: إذا انفسخ عقد جمعية برضى أعضائها واختيارهم أو انفسخت بموجب نظامها الأساسي أو منعتها الحكومة فتعطى أموالها إلى من تقرره هيئة الجمعية العامة فيما إذا لم يكن في نظامها الأساسي صراحة بذلك. وأما إن وجدت صراحة تعرف كيفية تقسيم الأموال فيعمل بموجب هذه الصراحة. وأما إذا كانت الجمعية منعت بالنظر لموافقة قصدها لمندرجات المادة الثالثة فتصادر الحكومة أموالها. المادة الخامسة عشرة: يجب على كل ناد أو يوفق جميع أعماله على هذا القانون. المادة السادسة عشرة: اعتباراً من تاريخ إعلان هذا القانون يجب على كل جمعية أن تعطي للحكومة بياناً وأن تعلن وجودها في خلال شهرين وفقاً للمادة الثانية والسادسة. إيضاح - نشر القانون في 3 آب سنة 1325 إذاً فاعتباراً من 3 تشرين الأول 1325 تجازى كل جمعية ليس معها علم وخبر من الحكومة وفقاً للمادة السادسة وتعد خفية وممنوعة وذلك بموجب المادة الثانية عشرة. المادة السابعة عشرة: لا تعتبر الجمعيات خادمة للمنافع العامة إن لم يصدق عليها شورى الدولة. ويصدق على ذلك من قبل الدولة. ولهذه الجمعيات إجراء جميع المعاملات الحقوقية التي لم يمنعها قانونها الأساسي. ويجب قيد الاسهام التي تكون باسم حاملها في دفتر الجمعية وعلى اسمها. ولا يسوغ للجمعية قبول الأموال التي يوصى بها وتوهب إليها بدون رخصة الحكومة. المال غير المنقول الذي يهدى للجمعية ويظهر بأنه غير لازم لقيامها بواجباتها يباع ويعطى لصندوق الجمعية ويجب التصريح بالمدة التي سيباع بها في قرار قبول هذا المال غير المنقول من قبل الجمعية. إيضاح - معنى التصديق من قبل الدولة هو الاقتران بالإرادة السنية ولو قيل في متن المادة من قبل الحكومة لكان القصد بذلك الأمر السامي أي من قبل الصدر الأعظم لأن تمثال الحكومة الصدارة وتمثال الدولة مقام السلطة العظمة. وقد مرت في المتن كلمة

(أموال) والمال قسمان منقول وغير منقول والجمعيات إذاً ممنوعة عن قبول جميع الوصايا والهبات على الإطلاق سواء كانت منقولة أو غير منقولة بدون رخصة الحكومة. والدليل على ذلك أن كلمة أموال ذكرت في المتن مطلقة بدون قيد والمطلق يجري على الكمال والتعميم وسبب الترخيص بذلك من قبل الحكومة مبني على مقاصد إدارية وسياسية ثم تقدير لزوم المال غير المنقول والموصى به أو الموهوب للجمعية فهو للحكومة أيضاً بموجب هذه المادة. وهذا تابع أيضاً لاجتهاد مأموري الملكية لحكم إدارية. ويجب على الجمعيات التي تقبل مثل هذا المال أن تصرح بقرار قبوله مدة بيعه وفقاً لمنطوق هذه المادة. وإن لم تفعل فلا تجري لها معاملة في أقلام الطابو. المادة الثامنة عشرة: للضابطة حق التفتيش على الجمعيات والأندية. ويجب أن يكون محل اجتماعهما مفتوحاً لزيارة الضابطة في كل وقت. ويجب على مأموري الضابطة إبراز ورقة من مأموري الملكية تتضمن أمرهم بالدخول لمحل اجتماع الجمعيات. إيضاح - قيل في المتن أنه يحق للضابطة التفتيش على الجمعيات في كل وقت ليلاً ونهاراً. لأن كلمة كل وقت مطلقة تشمل جميع الأوقات. أما منع قانون الجزاء الدخول للمساكن بعد الساعة الواحدة ليلاً فلا يعتد به هنا من وجهين الأول هو أن هذا القانون صدر بعد ذلك والثاني أن قصد قانون الجزاء المساكن الخاصة والقصد هنا معلوم من سياق الكلام بأن هذا التفتيش ليس لمساكن أعضاء الجمعية بل لمحل اجتماعهم. المادة التاسعة عشرة: ناظر الداخلية والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون. 29 رجب عام 1327 و 2 آب عام 1325. إيضاح - من العادة أن توضع مادة في آخر كل قانون تبين المرجع فيه وهذه المادة تدل بأن إجراء هذا القانون من وظيفة مأموري الداخلية والعدلية. منع الجمعيات الخفية والتفتيش عليها ومراقبتها من شأن مأموري الداخلية وتطبيق الجزاء على من يخالف هذا القانون من وظيفة رجال العدلية. بيروت // حسني عبد الهادي

مختصر تاريخ

مختصر تاريخ الطباعة والصحافة التركية العثمانية - 1 - الطباعة أول كتاب طبع بالحروف العربية كتاب الأدعية السبعة طبع سنة 1514 ميلادية في (فانو) من أعمال إيطاليا. وطبع القرآن الكريم في إيطاليا أيضاً عل يد رجل يدعى ديبسكيا سنة 1518 ثم طبعت كتب مهمة بالحروف العربية بين سنة 1585 وسنة 1590 في مطبعة قصر كيرينال البابوي التي كانت أسست في زمن البابا سكنوس الخامس وقد كان (ميخائيل زمرمان) النمساوي الذي كان أسس مطبعة كبيرة في فينا أوفد رسولاً إلى سورية لدرس الحروف العربية وبعد عودته صنع قوالب لهذه الحروف وطبع عليها في سنة 1554 تعريب بعض مزامير من الزبور. وفي خلال سني 1589 - 1611 أوصى (فرانسوا سافاري دربروف) سفير فرنسا في الأستانة على بعض قوالب حروف على قاعدة النسخ والتعليق فاستعملت هذه القوالب في باريز لطبع مقدمة كتاب نشر في ثماني لغات وبقي هذا الشكل من الحروف مستعملاً في مطابع فرنسا إلى الآن. وفي سنة 1657 طبع كتاب في مطبعة (روس كرافت) في إنكلترا في تسع لغات وفيه حروف عربية. هذه فذلكة تاريخ الطباعة بالحروف العربية في أوربا. أما في المملكة العثمانية فإنها دخلت إليها على يد جلبي زاده سعيد محمد أفندي (باشا) تولى فيما بعد منصب الصدارة العظمى وإبراهيم آغا متفرقة من حراس القصر السلطاني وقد كان سعيد محمد أفندي قصد باريز مع أبيه جلبي محمد أفندي من كبار خواجكان الديوان السلطاني الذي كانت الدولة أوفدته إلى فرنسا بمهمة فوق العادة فلفتت مطابع العاصمة الفرنسوية أنظار هذا الشاب المدقق الذي أدرك في الحال فوائد فن الطباعة وأخذ يفكر في تأسيس مطبعة في الأستانة لطبع الكتب بالحروف العربية ورأى نفسه في حاجة إلى مشاور مدقق من أرباب الصناعة وأصحاب الأفكار النيرة فكاشف إبراهيم آغا متفرقة المشار إليه بما ينويه بعد عودته إلى فروق وكان إبراهيم على جانب عظيم من العلم والدراية وتذاكرا ملياً في هذه المسألة

المهمة وقر رأيهما على فتح المطبعة وتم الاتفاق بينهما على أن يتعهد إبراهيم آغا إدارتها من الوجهة الفنية ووضع الثاني في الحال رسالة سماها (وسيلة الطباعة) شرح فيها فوائد صناعة الطبع وسهولة اقتناء الكتب المطبوعة بخلاف المخطوطات التي لا يقدر على اقتنائها إلا كبار الأغنياء وقدم هذه الرسالة إلى صدر أعظم ذاك الوقت فصادق على ما ورد فيها من الآراء الصائبة وألف لجنة من أفاضل العلماء العقلاء لدرس هذا المشروع والإقرار على فتح مطبعة تنفق عليها الحكومة من أموالها فقامت اللجنة بوظيفتها خير قيام وقررت استفتاء المشيخة الإسلامية قبل الشروع في العمل منعاً لتهيج العوام من دأبهم قاوم كل شيء جديد لم يألفوه قبلاً ظناً منهم أنه مغاير للشريعة السمحاء والمرء عدو ما جهل وهذه صورة الاستفتاء: ما قولكم دام فضلكم فيما يقوله زيد ويدعيه من أنه يقدر على نقش صور كلمات وحروف المؤلفات في العلوم الآلية القواميس والمنطق والحكمة والفلك وجمعها في قالب وطبعها على الورق واستحصال نسخ كثيرة من هذه الكتب فهل يجوز له ذلك شرعاً أفتونا مأجورين. فأصدر عبد الله أفندي شيخ الإسلام إذ ذاك الفتوى الآتية بعد أن قرظ رسالة وسيلة الطباعة: إن زيداً الذي برع في صناعة الطبع إذا نقش صحيحاً حروف كتاب مصحح وطبعه على الورق فإنه يحصل منه على نسخ كثيرة من غير وتعب ما يستوجب رخص أثمان الكتب والمؤلفات ومن ثم تداولها بين الأيدي وبذلك تعم الفائدة وتشمل كل طبقات الناس وعليه يجوز شرعاً الطبع على الوجه المذكور ويستحسن تأليف لجنة لتصحيح الكتب المراد نقش حروفها وطبعها والله أعلم. وبعد صدور هذه الفتوى أفتى أكثر العلماء الأعلام نور الله مراقدهم أثر شيخ الإسلام في تقريظ الرسالة المار ذكرها ورفعت الفتوى مع قرار لجنة الاستشارة والتقاريظ إلى السلطان أحمد الثالث فصدر الخط السلطاني إلى سعيد محمد أفندي وشريكه إبراهيم آغا آذناً لهما بتأسيس مطبعة لطبع الكتب وتألفت لجنة من كل من إسحق أفندي قاضي دار الخلافة وصاحب محمد أفندي قاضي سلانيك وأسعد أفندي قاضي غلطة وموسى أفندي شيخ تكية قاسم باشا المولوية وعهد إليها مراجعة الكتب المراد طبعها وتصحيحها وعلى أثر ذلك شمر

إبراهيم آغا متفرقة عن ساعد الجد والاجتهاد في إتمام معدات أول مطبعة في الملك العثماني التي افتتحت في سنة 1140 في دار إبراهيم آغا المشار إليه ولم تمض مدة قليلة على تأسيسها وافتتاحها حتى طبع كتاب وانقولي وهو قاموس صحاح الجوهري لمحمد مصطفة وهو أول كتاب طبع وإليك بعض المؤلفات التركية التي تم طبعها في المطبعة المذكورة: 1 - ترجمة صحاح الجوهري لمحمد مصطفى أفندي. طبع في 1141 وعدد ما طبع منه 1000 نسخة. 2 - تحفة الكبار في أسفار البحار. الكاتب جلبي. طبع في ذي القعدة 1141 وعدد ما طبع منه 1000 نسخة. 3 - ترجمة تاريخ السياح. طبع في غرة صفر 1141 وعدد ما طبع منه 1200 نسخة. 4 - تاريخ هند الغربية المسمى بالحديث الجديد (حديث نو) وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 5 - تاريخ تيمورلنك تأليف نظمي زاده البغدادي وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 6 - تاريخ مصر القديم والجديد المسمى بالدرة اليتيمة تأليف سهيلي. طبع في ذي الحجة وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 7 - كلشن خلفا تأليف نظمي زاده البغدادي. طبع في 1143 وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 8 - أصول الحكم في نظام الأمم. تأليف إبراهيم متفرقة. وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 9 - فيوضات مغناطيسية. تأليف إبراهيم متفرقة. وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 10 - جهاننما. تأليف جلبي. طبع في المحرم 1147. وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 11 - تاريخ نعيما (الجلد الأول). طبع يف المحرم 1147. وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 12 - تاريخ نعيما (الجلد الثاني). طبع في جمادى الأولى. وعدد ما طبع منه 500 نسخة. 13 - تاريخ راشد (الجاد الأول والثاني). طبع في ذي الحجة 1153. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.

وكانت المطبعة وقتئذٍ تدار بمعرفة إبراهيم آغا لاشتغال سعيد محمد أفندي بمهام منصبه إلى أن توفى الأول في سنة 1150 فقام بدلاً منه إبراهيم أفندي من القضاة السابقين الذي كان مساعداً لإبراهيم آغا في إدارة شؤون المطبعة وظل يديرها ويطبع الكتب النافعة إلى أن توفي هذا أيضاً في زمن السلطان مصطفى الثالث فتعطلت وتوقف الطبع لعدم وجود رجل قادر عل إدارتها ولكثرة مشاغل الدولة بأمور أخرى ذات بال وبقيت المطبعة معطلة أكثر من 20 سنة حتى قيض الله لها راشد محمد أفندي بكلسكجي الديوان العالي وواصف أفندي وقعه نويس أي مؤرخ الدولة فاشتريا المطبعة وآلاتها من ورثة إبراهيم آغا متفرقة فأصبحت خاصة بهما وقطع عنها الراتب الرسمي المخصص من الحكومة واحتفلا بافتتاحها ثانية وهو تاريخ سامي وشاكر وصبحي وذيله تاريخ عزي وأهم مطبعة تركية عثمانية أسست بعد هذه المطبعة هي المطبعة العامرة. أما المطابع الأجنبية في المملكة العثمانية فإن أول مطبعة منها أنشئت في الأستانة مطبعة كاسترو افتتحت قبل 140 سنة في غلطة وهي باقية باسمها القديم إلى ايامنا هذه ويأتي بعدها في القدم مطبعة قائول المعروفة الآن بمطبعة (زوليج) وقاؤول هذا هو الذي أدخل فن طباعة الحجر (ليثوغرافيا) إلى الأستانة وقد عهدت الدولة إليه سنة 1242 بتأسيس مطبعة حجر لطبع كتب الطب اللازمة للمكتب الطبي الذي كان وقتئذٍ في مكتب غلط، سراي السلطاني الحالي. هذا مختصر تاريخ مبدأ الطباعة في الأستانة أما في الولايات فإن أول مطبعة أسست في جبل لبنان سنة 1145 لطبع الكتب العربية قام بتأسيسها الراهب الماروني عبد الله طاهر وكان أغلب من يشتغل فيها من الرهبان وقد طبعت هذه المطبعة 34 مؤلفاً خلال ستين سنة. وقبل أن أختم كلامي على الطباعة أرى إتماماً للفائدة أن أورد ملخص ترجمة الرجلين اللذين قاما بإدخال فن الطباعة إلى المملكة العثمانية فأقول: سعيد محمد باشا - هو سعيد محمد أفندي ابن جلبي محمد أفندي المعروف بيكرمى يكز رافق والده الذي أوفد إلى باريز بمهمة رسمية فوق العادة سنة 1132 ولما عاد إلى فروق عين كاتباً في قلم مكتوبي الصدارة وأسس فن الطباعة مع إبراهيم

متفرقة سنة 1140 كما مر ذكره آنفاَ وبعد ذلك بمدة قليلة رقي إلى رتبة خواجكان وعين كاتباً للسباهيين وفي سنة 1153 عين مندوباً ثالثاً في لجنة الصلح وفي شوال من السنة المذكورة عين كاتباً للسلحدار وفي 1154 أرسلته الدولة سفيراً إلى باريز وأنعمت عليه برتبة روم ايلي وفي 1156 صار وكيلاً لأمين الدفتر وبعد سنة أوفدته الدولة بمهمة إلى القطر المصري وصار في سنة 1158 أميناً للدفتر وبعدها بسنة رقي إلى منصب كتخذا الصدارة العظمى وفي سنة 1160 أعيد إلى أمانة الدفتر وبعد سنة صار توقيعياً للباب العالي وفي المحرم 1163 تولى مرة ثانية منصب كتخذا الصدارة وبعد ثلاثة أشهر عزل منها وفي شوال 1166 عين توقيعياً للمرة الثانية وفي 1168 تولى منصب رئيس المحاسبين (باش محاسبة جى) ثم نقل إلى منصب كتخذا للمرة الثالثة وفي المحرم 1169 تولى الصدارة العظمى ونال رتبة الوزارة ثم عزل منها في رجب ونفي إلى جزيرة استانكوي وفي 1174 عين والياً على مصر وبعد سنة نقل إلى ولاية اطنة ومنها إلى قونية فمرعش حيث توفي سنة 1175 ولهذا الوزير مؤلفات طبية وأدبية تدل على مكانته العلمية والأدبية. إبراهيم آغا متفرقة - ولد في بلاد المجر وجاء البلاد العثمانية في عنفوان شبابه ودان بالإسلام وانتظم في عداد حراس القصر السلطاني فلقب بمتفرقة وقد توفي سنة 1150 كما مر ذكره آنفاً. - 2 - الصحافة إن أول جريدة تركية عثمانية على ما أعلم هي تقويم وقائع الرسمية أسسها السلطان محمود الثاني سنة 1247 لنشر قرارات الدولة وما تصدره من القوانين وقد كانت بادئ أمرها غير يومية رديئة الطبع والورق ليس فيها إلا تافه الأخبار والحوادث مثل التمجيد والتعظيم الفارغ المخجل وذلك لقلة الملمين بصناعة الصحافة في المملكة العثمانية وقتئذٍ ولاختلال إدارتها وظلت على هذه الحال إلى أن نبغ من الرجال من يقدر الصحافة حق قدرها فأخذت تنتعش الجريدة شيئاً فشيئاً وقد اعترض سيرها عوارض جمة كانت عقبة كبيرة في سبيل تقدمها وكثيراً ما توقفت عن الانتشار لأسباب استبدادية وكان تعطيلها الأخير في زمن

السلطان المخلوع لهفوة ارتكبها رشيد بك (والي بيروت الأسبق) مستشار نظارة الداخلية في ذاك الوقت الذي عزل من منصبه بصورة لم يسبق مثلها لأحد الموظفين من قبل وإن إلغاء هذه الجريدة الرسمية في الصحف وظلت معطلة إلى أن أعلن الدستور فنشرت من رمسها من جديد سنة 1326 وهي الآن تصدر كل يوم بانتظام مطبوعة على ورق صقيل وتحتجب أيام الجمع والأعياد والمواسم الرسمية وعدد صفحاتها أربع على الأقل وهو المقرر لها وإنما يزيد عدد صفحاتها زيادة كبيرة عندما يكون مجلس الأمة مجتمعاً لنشر محاضر المبعوثين والأعيان وثمن النسخة الواحدة 10 بارات أي متاليك واحد ولا ينشر فيها إلا الأخبار الرسمية ومنشورات الحكومة ودوائرها ومحاضر مجلسي الأعيان والمبعوثين والإعلانات الرسمية وتنقلات الولاة وتعيين الموظفين واللوائح الرسمية وقد كان لها في الدور السابق قسم خاص بالأخبار غير الرسمية وهو الذي سبب إلغاء الجريدة وعزل رشيد بك مستشار نظارة الداخلية المشار إليه آنفاً أما اليوم فإنها لا تنشر أخباراً وحوادث غير رسمية البتة وهي تابعة لنظارة الداخلية وتطبع في المطبعة العامرة ولها إدارة خاصة بها. والجريدة الثانية في القدم هي (جريدة حوادث) أسست في أواخر الحكم السلطان عبد المجيد في العاصمة ثم أخذت تكثر الجرائد من سياسية وفنية بعد تولية السلطان عبد العزيز فصدرت في سنة 1280 جريدة تصوير أفكار السياسة الأسبوعية لصاحبها ومحررها إبراهيم شناسي أفندي الكاتب التركي الشهير ومجلة (مخزن علوم) الفنية التي كانت تطبع وتنشر مرتين في الشهر بقلم بعض الكتبة المشاهير وتلا ذلك جريدة وقت وبصيرت وفي أواخر حكم السلطان عبد العزيز بدأت تصدر الجرائد الهزلية مثل جيلاق وقرة كوز وجانطة وغيرها وكلها في فروق وأخذت الصحافة التركية العثمانية بالتقدم وتترقى في أوائل حكم السلطان المخلوع لتأسيس الحكم النيابي الأول وصارت الجرائد تكتب ما تشاء بكل حرية واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن وضعت الحرب الروسية أوزارها وصار عبد الحميد يمد يده فيتناول الجرائد التي تنتقد خطة الحكومة وأعمالها ويعطلها ليحلو له الجو فبدأت الصحافة التركية العثمانية تنحط من ذلك الوقت ولم يمض 20 سنة على حكم عبد الحميد إلا وكانت الجرائد العثمانية عامة مكمومة الفم مكسورة القلم يضغط عليها

المراقب لا تجسر على النبس بنت شفة انتقاداً على ما تأتيه الحكومة من الأعمال بل أُجبرت على مدح الظلم والظلام وتعظيمهم بعبارات يمجها الذوق وتشمئز منها النفوس الأبية مما هو معلوم أمره للجميع لقرب العهد به. ولما أعلن القانون الأساسي قبل ثلاث سنوات أظهرت الصحافة التركية في العاصمة ومطبوعاتها نهضة كبيرة وانتشرت جرائد كثيرة بأسماء مختلفة بين يومية وأسبوعية وسياسية وعلمية وفنية وكثر إقبال القراء عليها وصار الناس يتهافتون على هذه الجرائد تهافت الجياع على القصاع وراج سق المطبوعات عامة وأخذ كل من يملك بضع مئات من الليرات يؤسس مطبعة لكثرة ما تأتيه من الأرباح الطائلة فتعددت المطابع في الاستانة وارتفعت أجور العمال وأصبح العامل الذي كان يأخذ 10 قروش في اليوم في الدور البائد لا يرضى بأقل من نصف ليرة عثمانية فسبب ذلك ارتفاع أسعار الطبع والورق أيضاً ولم ينقض الحول حتى بدأ إقبال الناس على مطالعة الصحف والكتب يزول بالتدريج إلى أن أدى إلى إفلاس أكثر المطابع وتعطيل أغلب الجرائد الحديثة ولم يبق منها في عالم الوجود إلا القليل منها ومع ذلك فإن عددها اليوم وتنوعها يدهش الشرقي ويدل على انتشار المعارف بين إخواننا الأتراك. تنقسم الصحافة التركية العثمانية إلى قسمين: صحافة العاصمة وحافة الولايات وتنقسم صحافة العاصمة أيضاً إلى قسمين: موالية ومخالفة. فالموالية تؤيد جمعية الاتحاد والترقي وحزبها في المجلس وتعضد وزارتها وتطري أعمال الحكومة وتطنب في مدح خطتها وتمجد سير رجالها تمجيداً غريباً وتتهجم على كل من تشتم مكنه رائحة المخالفة وتظنه مخالفاً للجمعية والحكومة وحزب الأكثرية. فتلص مثلاً بزيد من المخالفين الارتجاج وبعمرو خيانة الوطن وترمي بكراً بالتجرد من الشعور والعواطف العثمانية فهي أشبه بجرائد الدور السابق من حيث تعظيم الحكومة إلا أنها تمتاز عنها بالشدة ضد الجرائد والأحزاب المخالفة وثقل الوطأة عليها وأما الجرائد المخالفة فإنها تنتقد دائماً أعمال الحكومة المغايرة للقانون الأساسي (وما أكثر هذه الأعمال المغايرة) وروح الإصلاح وما يصدر من حزب الأكثرية من الأمور المغايرة للمبادئ النيابية وتحتج على تدخل الجمعية في شؤون الحكومة وسيطرة زعمائها الذين لا يتجاوزون عدد الأصابع على شؤون الحكومة وهيمنتهم

على الأمة واحتكار الوظائف والمناصب لأنفسهم ولذويهم وترفع عقيرتها بالشكوى من تحكم هؤلاء الرؤساء بالنواب الذين يقاومون نياتهم ومشروعاتهم واحتقارهم للعناصر التي تطالب بحقوقها المهضومة. وهناك قسم آخر من الجرائد السياسية لا يعرف لها مبدأ تميل مع الهواء فتراها يوماً مع الحكومة والجمعية على المخالفين ويماً آخر مع المخالفين على الجمعية والحكومة فهي تسير حسبما تقتضيه الأحوال. أما الجرائد في العاصمة فانه تقسم إلى قسمين: سياسية وفنية فالسياسية أيضاً تقسم إلى قسمين: سياسية جدية وسياسية هزلية وهذه أسماء الجرائد السياسة الجدية حسب قدمها: 1 - إقدام: جريدة رشيدة عاقلة يومية خطتها المخالفة اعتدال. صاحبها ورئيس تحريرها أحمد جودت بك. أسست قبل عشرين سنة وعطلت في الدور السابق مرة لهفوة صغيرة وردت في مقالة عيد الجلوس فحركت أشجان الاستبداد وتعطلت قبل سنتين مرة أخرى بسبب ما ورد في رسالة مكاتبها اليمني من الكلمات الجارحة عن الشعب العربي التي أوجبت هياج الطلبة العرب في الاستانة. وتصدر هذه الجريدة الآن باسم (بكى إقدام) أي إقدام الجريدة وعدد صفحاتها ثماني. يطبع منها ما يقرب من عشرة آلاف نسخة في اليوم. 2 - صباح. جريدة يومية أسست مذ 20 سنة لصاحبها مران أفندي الأرمني ورئيس تحريرها ديران كلكيان أفندي الشهير بأفكاره الصائبة. له مقالات شائقة تنشر في صدر الجريدة. يطبع منها كل يوم 10 - 12 ألف نسخة بقطع كبير ولا يعرف لهذه الجريدة خطة معينة فهي يوماً مع الحكومة ويوماً عليها ويعدها بعضهم لسان حال الشعب الأرمني. 3 - يكى غزته. جريدة يومية أدبية خطتها انتقاد مبدأ الجمعية وسير الحكومة والوزارة ومقاومة ما يصدر منها من الأمور المغايرة للقانون الأساسي. أسست قبل ثلاث سنوات وصاحبها وهجي بك ومديرها المسؤول شكري كامل بك. يطبع منها كل يوم ما يقرب من 8000 نسخة وقراؤها كثيرون في الأستانة وفي الولايات الأناضولية. ولكتاباتها وقع كبير في نفوس رجال الحكومة وفي المحافل الرسمية. 4 - سنين. جريدة يومية مفرطة في التعصب الجنسي مروجة أفكار القائلين بحاكمية الشعب التركي على بقية الشعوب العثمانية استناداً على حق تأسيس الدولة. أسست في الأيام الأولى من الدستور بأموال حسين كاظم بك والي حلب الحالي واشترك حسين جاهد

بك مبعوث الأستانة معه في تأسيسها وكان اسمها وقتئذٍ (طنين). وقد هاجم الثائرون مطبعتها في ثورة 31 آذار ودمروا إدارتها بعد أن نهبوا ما فيها من الأثاث والعدد والحروف والأدوات المطبعية فتعطل صدورها مدة ثم عادت إلى الانتشار بعد عودة السكون إلى ربوع فروق وانطفاء نيران ثورتها العسكرية. وأراد حسين جاهد بك الذي استقل بها بعد الحادثة المذكورة وأصبح صاحبها الوحيد لا يشاركه فيها مشارك أن يؤلف لها شركة ذات أسهم فلم ينجح لعدم إقبال الناس على شراء سهامها. وقد اشتدت في المدة الأخيرة المناقشات القلمية بينها وبين تنظيمات لسان حال حزب الأحرار المعتدلين فتدخل الديوان العرفي وعطل الجريدتين فصدرت (جنين) بدلاً من طنين لصاحبها جاويد بك ناظر المالية السابق ولم تستمر في عالم الصحافة إلا بضعة أيام فلحقت بأختها طنين وقام مقامها سنين الحالية لصاحبها إسماعيل حقي بك بابان مبعوث بغداد. وهذه الجريدة التي نشر بقلم حسين جاهد بك مشهورة بإلقاء بذور الشقاق بيت العناصر العثمانية فهي التي أوقدت نيران العداوة والبغضاء بين العنصرين التركي والرومي بعد أن انطفأت وزالت في أوائل الدستور وهي التي أيقظت فتنة الأرناؤود النائمة وهي التي حركت أِجان البلغلر بمطاعنها عليهم وهي التي فتحت باب مسألة العرب والترك بطعنها على النواب العرب ونسبة الارتجاع سوء النية إليهم ووسعت الهوة بين الشعب العربي والحكومة بنشر مقالات إسماعيل حقي بك بابان مبعوث بغداد الذي طعن على البغداديين وطلب تجريد الكتائب على العراق لتأديب أهلها كما طلبت أخيراً صب (دوش) بارد على رؤوس أهل سورية وزادت الطين بلة بنشر مقالات أحمد شريف مخابرها المتجول في سورية. وتعد هذه الجريدة نصف رسمية ولسان حال جمعية الاتحاد والترقي لعلاقتها الشديدة برجال الحكومة والتصاق صاحبها جاهد بك بالجمعية ولنفوذ كلمته في الدوائر الرسمية. وهي مثل جريدة إقدام من حيث الحجم وعدد الصفحات ويطبع منها كل يوم 6 - 7 آلاف نسخة وأكثر رواجها في مدن الروم ايلي مثل سلانيك وادرنة ومناستر. 5 - ترجمان حقيقت. جريدة اتحادية طائشة مفرطة في التعصب الجنسي تصدر مساء كل يوم ولها راتب معين من الحكومة. صاحبها مختار سيد بك ورئيس تحريرها حسين كاظم أفندي خطتها كخطة جريدة (سنين) يطبع منها كل يوم ما يقرب من ألفي نسخة يروج

أكثرها في الروم ايلي ولا شأن لهذه الجريدة في عالم الصحافة وقراؤها قليلون في الأستانة. 6 - ضياء. جريدة يومية شبه رسمية مفرطة في التعصب الجنسي لها مائة ليرة في الشهر مرتب من الحكومة. صاحبها ومحررها صفوتي ضيا بك وقد أسست قبل ثلاثة أشهر على نفقة الجمعية لتساند طنين في تأييد الوزارة الحاضرة وتقديس أعمالها. وخطتها ترويج حاكمية الشعب التركي وهيمنة الجمعية على شؤون الدولة والأمة وهي من المستميتة في الدفاع عن وزارة حقي باشا وتصدر على أربع صفحات بقطع وسط ويطبع منها كل يوم 3000 - 4000 نسخة وأكثر رواجها في الروم ايلي. 7 - حكمت. جريدة أسبوعية تصدر كل يوم خميس عل ثماني صفحات بقطع متوسط خطتها انتقاد أعمال الحكومة ومخالفة الجمعية والطعن على ما يأتيه رؤساء حزب الأكثرية من الأمور الشاذة والاحتجاج على أنانيتهم وغرورهم وتحكمهم بالمبعوثين المخالفين صاحبها فليه لي أحمد حلمي أفندي وعدد ما يطبع منها في الأسبوع يقرب من الألفين فقط وقد أسست قبل سنتين. 8 - شهراء. جريدة يومية عاقلة حكيمة أسست قبل شهرين صاحبها ورئيس تحريرها محمد خير الدين باشا التونسي الصدر الأسبق الشهير ومديرها المسؤول أخوه طاهر خير الدين بك. وتنشر هذه الجريدة كل يوم مقالة افتتاحية بتوقيع ج. ناظم المستعار عن أمور الدولة الاجتماعية والإدارية والسياسية تدل على وقوف كاتبها على أحوال الدولة وقوفاً تاماً وقد بلغني أن هذا الكاتب هو أحد ولاة حلب السابقين رشيد بك. أما خطة شهراء فهي المخالفة وانتقاد ما تأتيه الوزارة والحكومة والجمعية وحزب الأكثرية من الأمور المغايرة للدستور ولكتاباتها تأثير كبير في الأندية السياسية وأكثر قرائها من أهل الأستانة وسواحل البحر الأسود العثمانية وتطبع كل يوم 6000 - 8000 نسخة على أربع صفحات بقطع متوسط. 9 - تضمينات. جريدة يومية عاقلة صاحبها داود بك يوسفاني مبعوث الموصل ورئيس تحريرها ومديرها المسؤول لطفي فكري بك مبعوث درسم الشهير وهي لسان حال حزب الأحرار المعتدلين وقد أسست قبل شهرين باسم تنظيمات التي عطلتها الإدارة العرفية من أجل المناقشة الشديدة بينها وبين طنين فصدرت بدلاً منه جريدة زهرة ولم تعش هذه أيضاً

في عالم الصحافة إلا قليلاً حتى صدر الأمر بمنع نشرها فقامت تضمينات الحالية مقامها ومن الكتبة البارعين الذين يحررون فيها المقالات الشائقة فريد بك مبعوث كوتاهية الشهير بهجماته على الوزارة في المجلس. ويطبع من هذه الجريدة كل يوم 8000 نسخة يباع منها 6000 في العاصمة فقط وهي رائجة رواجاً كبيراً وأكثر قرائها في فروق وأواسط الأناضول وبلاد الأرناؤود. خطتها المخالفة للحكومة الحاضرة. 10 - أرناؤود. جريدة أسبوعية أرناؤودية لها قسم تركي. صاحبها درويش بك هيما الأرناؤودي المشهور وهو من الذين اشتغلوا للحرية في الدور السابق. وخطة هذه الجريدة المخالفة الشديدة للحكومات بعبارة قاسية قارضة جداً. أكثر قرائها من الأرناؤود ومنتشرة في الولايات الأرناؤودية انتشاراً كبيراً. هذه هي الجرائد التركية السياسية الجدية من موالية ومخالفة وإليك أسماء الجرائد السياسية الهزلية حسب قدمها أيضاً: 1 - قرة كوز. صاحبها ومصورها علي فؤاد بك ورئيس تحريرها محمود نديم بك وتصور هذه الجريدة الوقائع السياسية من إدارية واجتماعية وحربية ونيابية برسوم جميلة مضحكة وتصدر في يومي السبت والأربعاء على أربع صفحات بقطع صغير من حجم جريدة الراوي. خطتها موالاة الحكومة والوزارة الحاضرة وقد كانت هذه الجريدة في مقدمة الطاعنين على المرحوم حمادة باشا ناظر الأوقاف الأسبق وعلى أعماله بإيعاز من رجال جمعية الاتحاد والترقي لإسقاط فقيد الشعب العربي من منصبه. 2 - قلم. صاحبها صلاح جيموجوز بك صديق حسين جاهد بك وأحد أصحاب معدن (بروم) الذي استوضح ناظر المعادن من أجله في المجلس. تصدر هذه الجريدة كل يوم خميس بقطع صغير على 16 صفحة وفيها من الرسوم ما يسر الناظر ويضحك الثكلى وهي أحسن الجرائد الهزلية طبعاً وأصقلها ورقاً وأكثرها مادة وأوفرها رسوماً ولها قسم فرنسوي. وخطتها موالاة الحكومة وتأييد الجمعية والوزارة الحاضرة واستحسان قرارات حزب الأكثرية. ويطبع منها كل أسبوع ما يقرب من الخمسة آلاف نسخة وقد أنشئت منذ سنتين. 3 - يكي كوه زه. تصدر هذه الجريدة الهزلية التصويرية مرتين في الأسبوع وهي أقل

انتشاراً من بقية الجرائد الهزلية. صاحبها كيرقور أفندي الأرمني ومديرها المسؤول أحمد مختار بك ولا يعلم لها خطة معينة فهي تسير حسب ما تقتضيه الوقائع والأحوال وقد أسست منذ سنتين. 4 - غيديق. جريدة هزلية تصويرية صاحبها ح. يوسف سيف الدين بك ومديرها المسؤول عارف حكمت تصدر مرة في الأسبوع على ثماني صفحات برسوم جميلة مضحكة أما خطتها فموالاة الجمعية والحكومة والوزارة الحاضرة وعدم مخالفة أعمالها وقد أسست قبل شهرين فقط. 5 - جم. أسست منذ سنة ونصف وهي أقوى الجراد الهزلية حجة وأجملها رسوماً وأدقها صنعة وأسماها منزلة وأكثرها انتشاراً لما حوته رسومها من المعاني البديعة والإشارات السياسية المضحكة وإقبال الناس على مطالعتها واقتناؤها عظيم جداً يصدرها صاحبها ومديرها المسؤول جميل بك في الأسبوع مرة وتطبع هذه الجريدة طبعاً جميلاً جداً على ورق صقيل بست عشرة صفحة لها قسم فرنسوي. أما خطتها فالمخالفة الشديدة فهي تنتقد أعمال الحكومة بكتاباتها الشائقة وتمثل هذه الأعمال برسومها الجميلة المضحكة. 6 - جادالوز. أسست قبل شهرين صاحبها (جادالوز) ومديرها المسؤول حيدر رشدي أفندي خطتها موالاة الجمعية واستحسان خطة حزب الاتحاديين في المجلس وعدم التعرض لأعمال الحكومة. 7 - قره سنان. صدرت هذه الجريدة قبل ثلاثة أشهر باسم (اشك) أي الحمار فعطلتها الإدارة العرفية بحجة عدم ملائمة اسمها للآداب أو طعنها على الوزارة في العدد الأول منها الذي بلغ ثمن النسخة الواحدة منه 20 قرشاً ويقال أن صاحبها طبع من هذا العدد 20 ألف نسخة بيعت كلها في أقل من ثلاث ساعات. ثم قام بدلاً منها (معلوم) فما عتم أن ألحق بأخيه الحمار بأمر الإدارة العرفية وعليه صدرت جريدة قره سنان لصاحبها ومديرها المسؤول مصطفى أفندي ورئيس تحريرها فؤاد طلعت بك. وهذه الجريدة تطعن على الوزارة الحاضرة طعناً شديداً وتنتقد خطة الجمعية انتقاداً مراً ورسومها جميلة مضحكة جداً تطبع على ورق جيد بقطع وسط وقراؤها كثيرون يباع منها ألوف في الأستانة عدا ما يباع منها في الولايات.

أما الجرائد والمجلات الأدبية والفنية فهي كثيرة أيضاً هذه أشهرها: 1 - مجموعة أبو الضيا. صاحبها أبو الضيا توفيق بك مبعوث أنطاكية. تصدر في الأسبوع مرة في 30 صفحة وتبحث في السياسة أيضاً. جيدة الطبع والورق كثيرة المواد. أسست قبل 30 سن فهي أقد المجلات الأدبية الموجودة عهداً ولصاحبها الذي أتقن فن الطباعة شهرة كبيرة في عالم الصحافة وكان له مطبعة في الدور البائد يضرب بها المثل في الانتظام وحسن الذوق في الطبع قضى عليها عبد الحميد قضاء مبرماً بعد أن نفى صاحبها وعذبه تعذيباً. أما خطتها فهي انتقاد أعمال الحومة إذا صدر منها ما يستوجب الانتقاد. 2 - ثروت فنون. مجلة علمية أدبية فنية تصويرية أسبوعية صاحبها ومديرها أحمد إحسان بك أسست قبل 21 سنة. تطبع على ورق جيد بحجم المقتبس جيدة الرسوم متقنة الطبع أكثر ما يرد فيها مقالات أدبية لغوية شعرية ولها قسم سياسي إخباري. 3 - صراط مستقيم. مجلة دينية فلسفية علمية حقوقية أدبية تاريخية تبحث في السياسة أيضاً وتصدر في الأسبوع مرة على ورق جيد لصاحبها أبي العلا زين العابدين أفندي وح. أشرف أديب أندي ويحرر فيها كبار العلماء مثل موسى كاظم أفندي شيخ الإسلام وإسماعيل حقي أفندي مناسترلي. أُسست هذه المجلة قبلا ثلاث سنوات وخطتها تأييد مبدأ الجمعية والرضى بكل ما تفعله الوزارة. 4 - شهبال. أجمل الجرائد الفنية التصويرية. كثيرة الرسوم غزيرة المواد تطبع على أجود ورق طبعاً نفيساً فهي أشبه من حيث الإتقان بالجرائد الإنكليزية والفرنسوية التصويرية ولا تقل عنها انتظاماً ورونقاً ونفاسة وقد أنشئت منذ سنتين لصاحبها ومديرها المسؤول حسين سعد الدين بك وتصدر مرتين في الشهر وأكثر قرائها الطبقة الراقية من أهل الفروق وأصحاب المكانة الرسمية والعلمية من الأتراك العثمانيين. 5 - طبابت حاضرة. مجلة فنية طبية تصدر في الشهر مرتين وتبحث في الطب العصري والاكتشافات صاحبها ومديرها المسؤول الدكتور شكري كامل بك وأكثر محرريها من الأطباء. 6 - جريدة عدلية. مجلة رسمية غزيرة المواد بحجم المقتبس اليومي تصدرها نظارة

العدلية في الشهر مرتين تنشر فيها أوامرها ومنشوراتها والتنقلات القضائية والقوانين الجديدة ولها قسم غير رسمي يحرره كبار العلماء المتضلعين في علم الحقوق وقد أُسست قبل سنتين. 7 - دار الفنون. مجلة أدبية فنية مدرسية بحجم المقتبس الشهري طلية المباحث تطبع على نفقة الكلية العثمانية (دار الفنون) في الأسبوع مرة على ورق جيد وتحوي كل ما يلقى من الدروس في فروع الكلية المشار إليها. مديرها ساطع بك مدير دار المعلمين في الأستانة. 8 - تدريسات ابتدائية مجموعة سي. مجلة فنية أدبية مدرسية تطبع على نفقة نظارة المعارف وتصدر مرتين في الشهر يحررها معلمو دار المعلمين وهي بحجم المقتبس الشهري. مباحثها طلية جداً ولا دخل لها في السياسة. 9 - رسملي كتاب. مجلة أدبية فنية علمية تصويرية بحجم المقتبس الشهري تصدر مرة في الشهر متقنة الطبع جميلة الرسوم على نمط مجلة الفرنسوية. صاحبها ومديرها المسؤول عبيد الله أسعد أفندي ورئيس تحريرها محمد رؤوف أفندي وقد أُسست قبل ثلاث سنوات. 10 - تصوف. جريدة تبحث في التصوف والطرق الصوفية صاحبها ومحررها الشيخ صفوت أفندي مبعث أورفة تصدر مرة في الأسبوع وتميل إلى سياسة جمعية الاتحاد والترقي وتؤيد مبدأها وتأخذ بناصر الوزارة الحاضرة. وقد أُسست قبل ثلاثة شهور. 11 - قادين. مجلة نسائية تصويرية أدبية أسبوعية بحجم المقتبس اليومي وبست عشرة صفحة تبحث في شؤون النساء العثمانيات وما يستوجب تقدمهن ورقيهن. أسسها نظام الدين حسيب بك وعادل سليمان بك قبل شهرين. سياستها تعضيد الجمعية وشد أزر الوزارة الحاضرة. 12 - عثمانلي رساملر جمعيتي غزته سي. مجلة جمعية المصورين العثمانيين تطبع على نفقة هذه الجمعية وتصدر في الشهر مرة بقطع كبير وتنحصر مباحثها في التصوير على أنواعه. مديرها حسين هاشم بك ابن الشريف عبد القادر ورئيس تحريرها كمال أمين بك. 13 - بول مراقلينار ينه رهبر. أي دليل غواة الطوابع. مجلة تبحث عن طوابع البريد فقط وتصدر مرتين في الشهر لصاحبها ومديرها المسؤول استيان أفندي.

14 - يكي محيط المعارف غزته مي. مجلة علمية أدبية تبحث في السياسة أيضاً تصدرها لجنة دائرة المعارف التي أُلفت حديثاً لوضع قاموس كبير باللغة التركية على نمط دائرة المعارف الفرنسوية الكبيرة. يحررها أمر الله أفندي مبعوث قرق كليسا وناظر المعارف الأسبق وتصدر مرتين في الشهر على نفقة اللجنة المار ذكرها. 15 - مودا ملكه سي. مجلة تبحث في أزياء النساء وملابسهن تصدر مرتين في الشهر على ورق جيد باللغات التركية والرومية والفرنسوية. مديرها موسيو لقلر وقد أُسست قبل أربعة أشهر. 16 - رسالة موقوتة حربية. مجلة تبحث في الشؤون العسكرية تصدرها دائرة الأركان الحربية ويحررها ضباط هذه الدائرة. 17 - جريدة عسكرية. مجلة حربية رسمية تنفق عليها نظارة الحربية وتصدرها لنشر أوامرها وتنقلات القواد والضباط وترقيهم وإعلانات المناقصات والمزايدات والقوانين العسكرية الحديثة وكل ما يختص بالجندية. تحررها لجنة من الضباط ولها إدارة خاصة بها. 18 - موسيقى غزته سي. تبحث في الموسيقى فقط. تصدرها الجمعية الموسيقية العثمانية التي أُسست في العام الماضي تحت حماية الأمير ضياء الدين أفندي تجعل الحضرة السلطانية الفخيمة. هذه هي جرائد الأستانة التركية السياسية ومجلاتها العلمية والفنية والأدبية فيعلم القراء منها ومن كثرة عددها وسمو موضوعاتها وإقبال الناس على مطالعتها ما قطعه إخواننا الأتراك من الأشواط في مضمار الرقي الفكري السياسي والعلمي فيجب علينا والحلة هذه نحن معشر العرب العثمانيين أن نسعى لمجاراتهم بذلك حتى لا نكون أحط منهم في هيئتنا الاجتماعية ولنكون عضواً حياً نامياً عاملاً في جسم أمتنا العثمانية والله الموفق لما فيه خير الأوطان. الأستانة حقي العظم

بحث في نوع من البديع

بحث في نوع من البديع البديع فن جليل وركن من أركان البلاغة لا يستهان به وإن توهم كثيرون خلافه. ولكنه متى يقوم ضعاف النظر في الصناعة الشعرية ركبوا فيه متن التكليف وقصروا هممهم على نظم أنواعه بلا مراعاة ما تقتضيه الصناعة من المقتضيات وأهمها إبراز المعاني في قوالب يصح أن يسمى بها النظم شعراً فتراهم إذا ظفروا بإيداع البيت شيئاً منه ضربوا صفحاً عما عداه ولم يبالوا بعد ذلك بعلو أو انحطاط حتى كاد هذا الفن أن يكون مقصوراً على هذا الضرب من النظم وأصبح فيما نراه فيه من المهانة عند البلغاء. ومن العيوب المزرية بقدره مزجهم الغث بالسمين من أنواعه وإدراجهم فيه ما لا يصح أن يكون نوعاً بديعياً أو ما هو جدير من المقبحات لا من المحسنات بَلهَ خطبهم في بعض التعاريف والخطأ في الاستشهاد وإدخال بعض الأنواع في بعض بحيث أصبح في حاجة كبرى إلى تهذيبه وتخليصه من تلك الشوائب. وأنا ذاكر في هذه النبذة رأباً عنَّ لي في نوع منه وضعه ابن المعتز وسماه بتأكيد المدح بما يشبه الذم ودعاه بعضهم بالمدح في معرض الذم وآخرون بالنفي والجحود والتسمية الأولى أولى لسلامتها من الاعتراض ولكونها أوضح دلالة على النوع. وقد قسمه علماء البديع إلى قسمين قسم عرفوه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح وقالوا أنه أفضل القسمين واستشهدوا عليه بقول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فول من قراع الكتائب ويقول من يقول زيد لا عيب فيه سوى أنه يكرم الضيف. والقسم الثاني عرفوه بأنه إثبات صفة مدح ثم استثناء صفة مدح أخرى نحو أنا أفصح العرب بيدني من قريش ونحو قول النابغة الجعدي: فتىً كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا وكلامنا في القسم الأول فقط أطلت النظر فيما كتبه علماء هذا الفن قديماً وحديثاً فظهر لي أنهم تساهلوا في تعريفه فأداهم التساهل إلى الخلط بين شواهده كما ترى. والذي استبان لي ويستبين لكل متأمل أن بينهما فرقاً واضحاً يقسم به النوع إلى نوعين. ولبيان ذلك نقول أن استشهادهم ببيت النابغة استشهاد صحيح مطابق تمام المطابقة لاسم النوع الذي اختاره واضعه لأن وصف سيوف القوم بأنها مفلوقة مثلومة لا يشك أحد في أنه عيب يذمون به

ولكن لما كان سببه قراعهم للكتائب دل على إقدامهم وشجاعتهم وكثرة مباشرتهم الضراب بأنفسهم فصار مدحاً لهم وصح القول بأن الشاعر أكد مدحه بما يشبه الذم لإتيانه بتلك الصفة المذمومة المقرونة بما يصرفها إلى المدح ولا يخفى حسن هذا الأسلوب البديع على من نهل من حياضه العربية وتذوق بلاغتها بخلاف استشهادهم بقول القائل لا عيب في زيد سوى الكرم وبقول القال: ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم فليسا في شيء من المطابقة لاسم النوع كما يظهر لي ولا يصح عدهما مع الشاهد الأول من نوع واحد وإنما أداهم إلى هذا الخلط تساهلهم في التعريف كما قدمنا لأن قولهم نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح شامل لهذين الضربين من الاستشهاد أما في الثاني فظاهر لأن الكرم والمعطف اللدن والخد المنعم المستثناة من صفة الذم المنفية كلها صفات مدح وأما في الأول فلأن الصفة المستثناة وهي فلول السيوف وإن تكن صفة ذم فقد حولت إلى صفة مدح أيضاً فصح بذلك عندهم الاستشهاد بهما على نوع واحد لشمول التعريف لهما مع أن الفرق بين الضربين لا يخفى عل ذي بصيرة. ولزيادة التوضيح نقول أن الضرب الثاني من الاستشهاد ليس فيه من تأكيد المدح بما يشبه الذم سوى الأسلوب الذي صيغت به شواهده فقط لأن ذكر الاستثناء بعد نفي صفة الذم موهم لإثبات شيءٍ ما من الذم فلما استثنى القائل صفة مدح محضة كان موهماً للنوع بأسلوب وإن لم يأت به على حقيقته. والذي أراه في حل هذا الإشكال أن يقسم هذا النوع إلى نوعين يسمى بتأكيد المدح بما يشبه الذم ويقال في تعريفه أنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة ذم مقرونة بما يصرفها إلى المدح أو استثناء صفة مدح محولة من ذم أو غير ذلك مما يؤدي معناه وقد ظهر لي أن القرينة الصارفة قد تكون لفظية كما في بيت النابغة الذبياني لأن قوله من قراع الكتائب قرينة دالة على عدم إرادة الذم أو تكون معنوية كما يف قول القائل: ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنيسان الأحبة والوطن فإن جعلهم ضيوفهم ينسون أحبتهم وأوطانهم عيب ولكن لما كان سببه كثرة ألطافهم وإكرامهم إياهم صار مدحاً وهو غير مصرح به بل مفهوم من سياق البيت. (النوع الثاني) يسمى بإيهام تأكيد المدح بما يشبه الذم ويقسم إلى قسمين قسم يقال في

تعريفه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح محضة ليس فيها شائبة ذم ويستشهد عليه بنحو قولهم لا عيب في زيد سوى الكرم وبنحو قول القائل: لا عيب فيه سوى مكارمه التي ... نسبت لحاتم بخل كل بخيل والقسم الثاني يقال في تعريفه بأنه إثبات صفة مدح أخرى خاليتين من شائبة ذم ويستشهد عليه بقوله عليه الصلاة والسلام أنا أفصح العرب بيد اني من قريش وببيت النابغة الجعدي المتقدم وبنحو قول القائل: وظبيٌ ثناياه الصحاح كما ترى ... من الريق يرويها الرضاب المبرد وقد حاز أشتات البها غير أنه ... له مقلة كحلا وخدّ مورّد وقول البديع الهمذاني: هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الويل وإنما جعلنا هذين القسمين لنوع واحد لأنهما كما ترى من نمط واحد وليس فيما بينهما من الفرق ما يدعو إلى جعلها نوعين. أما أصحاب البديعيات فقد وقفت على عشرين بديعية فما وجدت بين ناظميها من تنبه لما ذكرت بل استقوا جميعهم من بحر واحد ولم يأتوا بغير إيهام النوع إلا صفي الدين الحليّ حيث قال: لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم وهو مأخوذ من قول القائل المتقدم: ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن وكذلك الشيخ ابن المقري في قوله: لا عيب فيه سوى تسليط نقمته ... على العدا ومواليه على النعم فانه قال في شرحه أن تسليط النقم عيب ولكنها لما كانت على الأعداء كانت مدحاً وعندي فيه نظر والله أعلم. القاهرة // أحمد تيمور

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه وعلى آله السلام جمع الشريف الرضي وشرح عز الدين المدائني المعروف بابن أبي الحديد المجلد الأول والثاني والثالث طبعت بمطلعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر على نفقة أصحابها مصطفى أفندي البابي وأخويه بكري أفندي وعيسى أفندي أبلغ كلام عربي بعد الكتاب العزيز والأحاديث النبوية كلام رابع الخلفاء كرم الله وجهه جمعه الشريف الرضي وشرحه بن أبي الحديد المعتزلي طبع مرتين في فارس على الحجر فكان السقم يغلب عليه وطبعته دار الكتب العربية الكبرى هذه المرة بالقاهرة طبعة حسنة جعلت الأصل بحرف غليظ مشكولاً والشرح بحرف وسط والشرح هو كما قال شارحه بسط القول في شرحه بسطاً اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان وما عساه يشتبه ويشتكل من الإعراب والتصريف وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشياء نثراً ونظماً وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والأحداث فصلاً فصلاً وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة ضعيفة ولوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب والأميال والنكت تلويحات لطيفة ورصعه من المواعظ الزهدية الدينية والحكم النفسية والآداب الخلقية وأوضح ما يومي إليه من المسائل الفقهية إلى غير ذلك مما كان حرياً أن يقال فيه أنه دائرة معارف وآداب إسلامية فيه من تاريخ الصدر الأول ما يأخذ بمجامع القلوب ويغني عن تقليب عشرات من المجلدات ومع هذا فقد جاء الكتاب كله (أربع مجلدات) في زهاء ألفي صفحة من القطع الكامل فنثني على طابعيه بنشره في هذه البلاد وتسهيل مقتناه على طلاب الآداب ونحث على اقتنائه إذ لا يجمل بمكتبة أن تكون خالية منه وفي مأمولنا أن نكتب مبحثاً ضافياً في هذا السفر النفيس عند نجار طبعه. تاريخ آداب اللغة العربية تأليف جرجي فندي زيدان طبع بمطابع الهلال بمصر سنة 1911 ص

320 ج أول لم تبرح المادة التي طبعت من كتب العرب نزرة بالنسبة لما يقتضيه تأليف كتاب في هذا الموضوع الجليل باللغة العربية ولكن رصيفنا صاحب الهلال استعان بما طبع من كتبنا في الشرق والغرب وبعض ما كتبه الإفرنج عن آدابنا بالإنكليزية والإفرنسية والألمانية فجاء هذا الجزء يشتمل على تاريخ اللغة العربية وعلومها وما حوته من العلوم والآداب على اختلاف موضوعاتها وتراجم العلماء والأدباء والشعراء وسائر أرباب القرائح ووصف مؤلفاتهم وأماكن وجودها أو طبعها. وهذا الجزء خاص بعصر الجاهلية وعصر الراشدين والعصر الأموي أي من أقدم أزمنة التاريخ إلى سنة 132 هـ -. وهو منسق مبوب مفهرس على طريقة حسنة وقد وجدنا له كلاماً في تفصيل كلام شاعر على شاعر كنا نود أن يعزوه لأهل هذا الشأن ممن كتبوا كتبهم في عصر نضارة اللغة وكانوا هم شعراء مطبوعين بالطبع كما رأينا المؤلف قال بما لم يقل به أئمة التاريخ والثقات من رواة الأخبار من أن الإسلام (المسلمين) أبادوا مكاتب الفرس ومصر وكما أرادوا هدم إيوان كسرى وأهرام مصر (ص 56) والمعروف الثابت عند المحققين من علماء العرب والإفرنج أن نسبة إحراق مكاتب الفرس ومصر للمسلمين فرية افتراها خصوم الفاتحين دسوها حتى تلقفها من لم يكن لهم عهد بتصحيح الأخبار والمعروف من هدم المسلمين لأهرام مصر أن المأمون أحب أن يعرف ما في داخله فأمر بنقب جهة واحدة منه خدمة للتاريخ والآثار لا عملاً بمبدأ الخراب والدمار. وإلا فإن في

بعض عصور الظلم قد دكت الجوامع والمدارس أيضاً وكثيراً ما تنقض بنية جامع مشهور لتؤخذ أنقاضه إلى جامع آخر في بلد آخر أو قطر آخر وهذا لا ينسب للإسلام بل للجاهلين من المسلمين وإن شئت فقل للمخربين من المتلغبين. وما نظن أحداً من المحققين قال بان الإسلام كان السبب لتكاثر الشعراء العشاق (ص 140) الانتشار التسري وركون القوم إلى الرخاء حتى إذا نضح المدنية الإسلامية تحول ذلك إلى التهتك والتخنث وكذلك قوله (ص 240) أن التشبيب هان على المسلمين بعد عهد الخلفاء الراشدين مع أن المعروف أن التشبيب موجود في الجاهلية والإسلام ولكن أخبار الجاهلية كلها لم تبلغنا وربما كان في مخطوطات بعض مكاتب الغرب والشرق شذرات منها تجلو لنا كثيراً من الغوامض إذا أردنا الاستقصاء في هذا المعنى وإلا فالحكم المبرم بقليل رأيناه عل كثير مما لم نره قد يؤدي إلى ركوب متون الأغلاط. وعلى كل فنشكر صديقنا المؤلف ونتمنى له التوفيق إلى إتمام كتابه. التاريخ الكبير للحافظ أبي القاسم بن عساكر عني بتربيته الشيخ عبد القادر بدران طبع بمطبعة (روضة الشام) بدمشق سنة 1329 لم يبق أحد ضرب بمعرفة تاريخ الإسلام إلا وتشوق كثيراً لنشر كتاب الحافظ ابن عساكر المتوفي سنة 571 هـ في تاريخ دمشق وقد صحت عزيمة الشيخ عبد القادر بدران من فضلاء دمشق على فنشره فنر منه إلى الآن 128 صفحة محذوفة التكرار والأسانيد وحذا أسانيد الأحبار في محلها ونقح الحوادث حسب الإمكان وبين مراتب الأحاديث التي رواها

المؤلف في الحاشية وكنا نود لوفق الناشر إلى نشر هذا السفر الكبير وهو في ثمانين مجلدة صغيرة على الأسلوب الذي كتبه المؤلف وإن كان هو بأسلوب المحدثين أشبه منه بأسلوب المؤرخين أو أن يظفر الناشر بمختصر من المختصرات التي اختصرها به بعض أئمة هذا الشأن ولكن الهمم تقصر عن درك مثل هذه الغاية البعيدة الآن ولعل انتشار الكتاب على هذا المثال يشوق أبنائنا وأحفادنا في مستقبل الأيام إلى نشر ما قاله ابن عساكر بالحرف الواحد على أننا نشكر للناشر والطابع عنايتهما وحرصهما على خدمة تاريخ أقدم مدن العالم الإسلامي ونعني بها دمشق الفيحاء. رسائل مختلطة (السفر المفيد في العالم الجديد) والدليل التجاري لأبناء اللغة العربية والشعوب المختلطة في العالم أجمع تأليف الدكتور نجيب طنوس عبده اللبناني في 676 صفحة كبيرة الحجم مع الرسوم وفوائد مختلفة عن البلاد ولا سيما أميركا الشمالية. (الفتوى والإسلام) تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي وقد طبعت في الأجزاء الأول من مجلد السنة السادسة من المقتبس وجردها المؤلف مع تقديم فهرس لها يبين فوائدها. (ديوان البحتري) الجزء الأول منه ضبطه بالشكل الكامل وعلق حواشيه رشيد أفندي عطية الأديب اللبناني وهو في 400 صفحة كنا نود أن لا يسقط الناشر طائفة قليلة من أبياته لأن من شروط الأمانة أن تنشر الكتب على علاتها وأن يشير الشارح إلى بعض ما ربما لم يشرحه لأنه توقف فيه ولا سيما في أسماء البلدان والأماكن. (برنامج جمعية النداء الخيري بدمشق) هذه هي إحدى الجمعيات الخيرية التي أسست في الحاضرة في السن الماضية. وقد كان دخلها 22235 قرشاً و35 بارة صرفت منها على تعليم أولاد الفقراء وإعطاء المحاويج 15915 والباقي احتياطي. (البيان السري) للكلية الإسلامية العثمانية في بيروت لعامها السابع عشر فيه نظام هذه المدرسة الراقية ومنزعها في التربية والتعليم وأمالها وكيفية الالتحاق بتلامذتها إلى غير ذلك مما يدل عل تدرجها في مدارج الارتقاء والنماء سنة فسنة. (الصهيونية) ملخص تاريخها غايتها وامتدادها حتى سنة 1905 لنجيب أفندي نصار وما جاء في دائرة المعارف الإسرائيلية عن مسألة الصهيونيين شفعها المترجم بما قاله في هذه

المسألة الحيوية في جريدته (الكرمل) في حيفا. التقرير السنوي السابع لجمعية تهذيب الشبيبة السورية في بيروت وهي الجمعية الخيرية التي تجمع المال لتهذيب الفتيان والفتيات بقطع النظر عن مذهبهم ولها فع نسائي وكان مجموع دخلها سنة 1910 55663 غرشاً ومجموع خرجها 11026 غرشاً وبلغ مجموع من علمتهم حتى الآن 44 فتى و 2 فتاتين صرفت عليهم من الغروش 45902 وذلك مدة سبع سنين.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار حرق مكتبة الإسكندرية كتب بعضهم مقالة في جريدة التيمس أيد فيها قول من قال أن عمرو بن العاص أحرق تلك المكتبة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب معتمداً على ما قاله جرجي أفندي زيدان في كتابه تاريخ مصر الحديث فرد عليه المستر بطلر مؤلف كتاب (الفتح العربي لمصر) داحضاً تلك التهمة. وقد نشرت التيمس رده في عدد 25 حزيران الماضي قال: غريب أن يتحدث الناس من جديد بحرق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية وأن ينشر مثل ذلك في جريدة كبيرة الشأن كجريدة التيمس وعندي أنه لا يمكن أن يكون الكاتب قد بحث في المسألة من وجهيها العلمي والتاريخي فانه لو فعل لعرف أن الحجج التي يحسبها براهين جديدة على صحة قوله ليست بجديدة ولا يركن إليها في بحث هذه المسألة. وقد عقدت في كتابي (الفتح العربي لمصر) فصلاً طويلاً على هذا المبحث وأظهرت فيه بالأدلة البينة ما يأتي: 1 - إن قصة حرق مكتبة الإسكندرية نشرت في الكتب الأوربية بعد الفتح العربي بخمسمائة سنة وناشروها هم عبد اللطيف وجمال الدين وأبو الفدا والمقريزي. ولا شك أن أبا الفرج اقتبس روايته عن عبد اللطيف. وليست هذه الحقيقة اكتشافاً جديداً بل هي أمر قديم معروف. 2 - إن تعليل الحادثة يخرجها عن الجد والصحة. 3 - إن بطل الحادثة هو يوحنا فيليونوس وهذا مات قبل الفتح العربي بكثير من السنين. 4 - كان في الإسكندرية مكتبتان مهمتان إحداهما مكتبة التحف والثانية مكتبة السيرابيوم. ولا بد أن تكون الرواية تشير إلى إحداهما: فالأولى أتلفت في الحريق الذي أحدثه يوليوس قيصر قبل الفتح العربي بأربع مئة سنة. وأما الثانية فيظهر من التاريخ أنها إما قد تكون نقلت قبل سنة 319 قبل المسيح وأتلفت وخربت في ذلك التاريخ. وعليه لم يكن في الإسكندرية مكتبة في سنة 642 بعد المسيح ولم يوجد ذكر للمكتبة في كتب القرن الخامس والسادس والسابع مطلقاً. 5 - لو كانت المكتبة موجودة في زمن الفتح العربي لكان نقلها بسهولة ممكناً في مدة الهدنة

التي أعطيت قبل تسليم الإسكندرية وفقاً لمادة في المعاهدة تسمح بنقل الأشياء الثمينة وكان طريق البحر يومئذٍ مفتوحاً. 6 - وأخيراً لو أن المكتبة نقلت لو أتلفت لما كان مؤرخ ذلك العصر العالم جون فيكيو أغفل ذكرها وسكت عن حادثتها كل السكوت. وعلى ذلك فمنشئ المجلة المصرية (جرجي أفندي زيدان) لم يكتشف إلا ما كان ظاهراً معروفاً. والكاتب لم يدرج في أعمدتكم إلا اعترافاً بجهلٍ ليس فيه أدنى برهان في علم التاريخ. فليتأمل. تربية النظر ذكرت إحدى المجلات العلمية أن إهمال النظر في المدارس الابتدائية والثانوية في أوربا بلغ مبلغاً لم يستطع معه أكثر التلاميذ أن يعرفوا بمجرد النظر تقدير مسافة أو قياس أو وزن. ولكن الولايات المتحدة أخذت في مدارس المعلمين تداوي هذا الداء فتعلم التلامذة أن يقيسوا ويزنوا بعيونهم وقد رأى الأساتذة أن الأولاد لا يتصورون طول المئة متر تصوراً حقيقياً فصاروا يمرنونهم عليها بعد درس الحساب فيخرج الأساتذة بتلاميذهم إلى النزهة عقيب الدرس في طريق ركزت على كل عشرة أمتار منها علامة ثم ترفع العلامة ويشار إلى الأولاد أن يضعوا العلامات بالنظر ومن أحسن وضعها في أماكنها يعطى مكافأة وهكذا تقدر الأبعاد العالية على هذه الصورة فيضعون وتداً من أعلى إلى أسفل ويتفننون في تقدير الأبعاد العالية. أما التمرن علة معرفة الأوزان فهو صعب أكثر من ذلك لأن وزن الأشياء لا يمكن تقديره من حجمها ولكن الأساتذة رأوا أن يبدؤوا تمرين الطلاب على الأشياء الثابتة مثل تقدير وزن الحديد أو الخشب أو غيرهما ثم ينتقلون بهم إلى أمور أخرى وعلى هذه الصفة يكون للتلميذ درس ولعب مسل يشغل الذهن وقد اتفق المعلمون على الاعتراف بأن هذه الطريقة قد أدت إلى أحسن النتائج في تربية النظر. المطاط لما اخترع ماكنتوس سنة 1823 الرداء الذي لا ينفذ إليه الماء واشتهر بهكان مقدار ما يستخرج من المطاط 120 طناً في السنة وما زال يكثر المستخرج منه حتى بلغ هذه السنة 80. 000 طن وقد وصل جان ديبوفسكي البولوني إلى استخراج 10 إلى 20 في المائة

من المطاط من صمغ اسمه جلتونغ وهذا الصمغ يتكون على نبان ينبت في جزائر مالايو يستخرج بسهولة وبثمن قليل بحيث بات الرجاء بعد المعامل التي أنشئت لاستخراج المطاط من هذا الصمغ أن تنزل أسعار المطار كثيراً وتجاري ما يستخرج منه من مملكة الكونغو. بين أوربا وأميركا تنوي سويسرا أن تؤسس مؤتمراً دولياً للنظر في إنشاء خط حديدي يقرب المسافة بين جنوبي أوربا وجنوبي أميركا بحيث يجعلها خمسة أيام وذلك بإنشاء خط حديدي بعد جبل طارق على الساحل الغربي من أفريقية قاصداً إلى دكر منتهياً بباتورس بحيث يصل الإنسان إلى برناميوك في ثلاثة أيام بدون ضباب ولا جليد كما هو الحال في بحر الظلمات وتكون المسافة بين جبل طارق دكر 2788 كيلو متراً وإلى باتورس 3000 كيلو متر ولا تكلف نفقات الكيلو متر كبير أمر لأن أجرة العملة رخيصة جداً في تلك الأصقاع وبذلك يصل الراكب بعد ذلك براً وبحراً من أوربا إلى برازيل في خمسة أيام وتنتفع أوربا ومراكش ومستعمرات إنكلترا وفرنسا وأفريقية وبرازيل وتقتصر المسافة بين الكونغو وجنوبي أفريقية وكذلك ألمانيا تستفيد من مستعمرتها الأفريقية ولكن هذا المشروع يحتاج إلى رأس مال كبير حتى ينقل العملة والأدوات وتهيأ أسباب المياه للشرب وغير ذلك. الزواج في الغرب أكثر البلاد تزويجاً المجر فإن معدل المتزوجين كان سنة 1908 - 91 في الألف وكان سنة 891 - 17 في الألف وفي ألمانيا زاد عدد المتزوجين زيادة قليلة بعد سنة 1890 ونهض معدله في إيطاليا من 15 إلى 16. 5 في الألف وفي فرنسا 15 إلى 16 وفي إنكلترا إلى 15 وارتقى في أيرلندا من 9 إلى 10 في الألف ونزل معدل الزواج في يابان من 17 إلى 16 سنة 1893 وشاع الطلاق فيها حتى كان 325 طلاقاً في كل ألف زواج وبعد سنة 1907 بلغ معدل الزواج عندها 18 في الألف وما زال عدد الأولاد غير الشرعيين يكثر في العالم ولا سيما في يابان وكذلك في فرنسا وألمانيا وأقل المماليك بأولادها غير الشرعيين إنكلترا وهولاندة. نهضة الجمال

في جميع بلاد الحضارة اليوم تنشأ جمعيات ومنتديات ومتاحف للبقاء على الجمال وإنهاضه من كبوته في المحال التي لا أثر له فيها فمن جمعيات لوقاية المناظر الجميلة القديمة وإبقاء رونق المدن والقرى والدساكر على حالها ومن جمعيات لإبعاد البشاعة عن مناظر المدن والإهابة بها إلى الجمال ومن أخرى لتنشيط الهندسة والنقش وغيرها لتجويد لعب الأولاد حتى تتربى فيهم ملكة الجمال والشعور به وفي إنكلترا وفرنسا تنشأ مدن كالحدائق بتربيتها ومن معارض تقام للصناعات النفسية ومن جمعيات لتنشيط زواج جميلات الصورة من النساء بجميليها من الرجال ليكون الجمال والكمال في أولادهم صنوين ومن جمعيات تعني بتحسين الجنس البشري ففي باريز جمعية تسعى إلى نقض عهود الزواج التي يكون منها أولاد ناقصون في خلقهم موهون في تراكيبهم وهكذا يدعون إلى الجمال ويعلمونه ناشئهم فأي عملاً لنا في الشرق مثل لك. أدبيات يابان كتب أحد الباحثين من الإنكليز أن المرأة اليابانية كانت ممتازة بقريحتها الأدبية منذ عهد بعيد فكانت منذ القرن الثامن مشهورة بمعرفتها معنى الحياة وسهولة التعبير بلغة أدبية مختارة ولكن لم يكن يتفق وجود النساء الكاتبات ولا يتفق وجودهن إلا في قصور الملوك ثم جاء دور هيان (800 - 1186) فكان العصر الذهبي للمرأة اليابانية وقد ارتقى تسع نساء إلى عرش الملك فامتزن بحكومة عاقلة متسامحة فكان بلاط الملك معهداً يتعلم فيه النساء ويتهذبن والظاهر أن أحسن التآليف الأدبية التي نشرت في ذاك القرن قد خطتها أنامل النساء ثم أتى دوريدو فاضمحلت دولة الآداب وكذلك الحال من سنة 1608 - 1867 فقد أطفأت في خلالها حياة المرأة العقلية. وظهرت المرأة اليابانية من سباتها إلى منذ أربعين سنة ونهضت للتعلم نهضة الشمير الخبير ففي سنة 1871 بدأ النهضة النسائية بذهاب الفتيات اليابانيات يتعلمن في أميركا فنشأت عن ذلك حركة مهمة بحيث بلغ عدد الطالبات اليوم 32 ألفاً ومعظمهن يدرسن الآداب. وفي يابان عدد كبير من الجرائد والمجلات يشارك النساء في تحريرها كل المشاركة ولهن مجلة سمينها مجلة القرن العشرين جعلنها لسان الحزب الراقي من النساء يطالبن فيها لبنات حواء بالحرية وحق الانتخاب. وزعمية أديبات يابان اليوم البارونة ناكاجيما وهي كاتبة سياسية معتبرة.

النصرانية والوثنية حكمت يابان على رجل اسمه كوتوكو بدعوى أنه من الفوضويين فقام أنصار الحرية وقعدوا قائلين أن لبعض رجال الدين يداً في مقتله كما كان لهم في مقتل فرير المصلح الأسباني. قالت المجلة الباريزية: ليس كوتوكو كما صورة خصومه بل هو كاتب وأخلاقي وكتابه الأخير الذي سماه نسخ المسيح قد أحدث رنة كبرى بين الطبقة المستنيرة في يابان وكان المؤلف عدواً للنصرانية يجاهرها العداء ولذلك عاداه المرسلون من جميع الطوائف. وهو من تلامذة المصلح الياباني ناكاشومن وتأليفه الأخير في نفي مجيء المسيح ذهب فيه مذهب الأستاذ دروس ولم يعمد إلى القذف في كتابه بل جعله سفر علم وبحث واستنتج فيه أن المسيح (عليه الصلاة والسلام) لم يثبت ظهوره في التاريخ وحث مواطنيه أن لا يتخلوا عن دين بوذا وكنفوشيوس ليدينوا بمذهب أسس على الوهم والوثنية (كذا). مميزات المجانين عُني اثنان من الأطباء بالمقابلة بين المجانين من الرجال والنساء وبين العقلاء من الجنسين فثبت لهما بعد أن نظرا في ستمائة شخص أن طول المجانين قصير في الأغلب وكذلك النصف الأعلى منهم بخلاف أعضاء النصف الأسفل فإنها عادية ففي مئة رجل عاقل وجدوا أن الرجلين كبيرتان 51 مرة وصغيرتين 18 مرة بخلاف أرجل المجانين فإن في 55 رجلاً كبيرة 24 رجلاً صغيرة وبالعكس في المرأة ففي مثل امرأة عادية 52 ذات أرجل صغيرة و 23 ذات أرجل كبيرة وفي مئة معتوهة 54 كبيرات الأرجل و 18 صغيراتها ورؤوس الرجال العاقلين أقل طولاً في الأكثر منها في المجانين والمرأة العاقلة تمتاز على الجملة بطول الرأس بخلاف المعتوهة فإنها صغيرته مستطيلته ومعظم رؤوس الرجال العاقلين قليلة العرض بخلاف المجانين عريضوها أما النساء العاقلات فميتزن إجمالاً بعرض الرأس المتوسط أو بكبره والمعتوهات بصغر عرض الرأس. والمعتوهون والمعتوهات كبار الآذان. التمثيل بباريز بلغت مداخيل دور التمثيل في باريز سنة 1910 57 مليون فرنك أي بزيادة عشرة ملايين عن السنة التي قبلها وكانت الزيادة أولاً للأوبرا ثم للأوبرا كوميك ثم للكوميديا الفرنسوية ثم

للأوديون ثم لغيرها من دور المثيل المدهشة المتقنة. العاملون في الأمم نشرة وزارة العملة الإنكليزية إحصاءً بالعملة في جميع البلاد المتمدنة فكان عدد العاملين في النمسا 51 ونصف في المائة وعددهم في فرنسا 51 وربع في كل مئة و 50 في إيطاليا و 46 في البلجيك و 44 في ألمانيا و 45 في إنكلترا و 35 في الولايات المتحدة. الجلد الصناعي اخترع منذ سنين أحد المخترعين جلداً صناعياً وثبت الآن غناؤه في مسابقة اللجنة الزراعية في مدينة ترني من إيطاليا ونال مخترعه الجائزة وهذا الجلد عبارة عن غمس قماش من القطن بمواد دهنية زلالية دابغة والأحذية التي تصنع به تقاوم كالجلد الطبيعي ولها مرونته وطول صبره والحذاء المعمول من هذا الجلد الصناعي يكلف مع أجرته أربعة فرنكات ويباع بستة عند التجار وهو نافع للفقراء والعملة خاصة صرعى الحروب ذكر بعضهم أن لحكومات تقل في العادة معلوماتها عن الحروب ونتائجها المدهشة وهكذا لا يعرف إلا القليل من كثير ممن فقدتهم فرنسا في الثورة الأولى وتأسيس حكومة نابليون فقد كانت جنود نابليون أوربا فاجتازت ألمانيا وبولونيا وهولاندة وأسبانيا وسويسرا والبرتغال وإيطاليا وكرواسيا ودلماسيا وترك في ساحة الوغى مئات الألوف من الأشلاء فهلك من الفرنسيس في حرب أسبانيا التي دامت خمس سنين 473 ألفاً وفي حرب روسيا 380 ألفاً ولا يعلم بالتحقيق عدد من هلك في معركة واترلو ومن المحقق أن الجيش العامل كان مليوناً وثلاثمائة ألف من الفرنسيس هلك معظمه. كل هذا ونابليون لا يهتم بمن يهلك حتى قال له مترنيخ السياسي النمساوي ذات يوم: ماذا تعملون متى هلك هؤلاء الشبان؟ فأجابه نابليون: لا أدفع فلساً لأجل حياة مليون من البشر. وقال نابليون لناربون أحد قواد فرنسا. إن حملة روسيا قد استلبت من رجالي ثلاثمائة ألف رجل هذا خلا من قتل من الألمان. قال من ننقل عنه أن فكرة الفتوح - بقطع النظر عن الحروب المدنية والدينية وحروب الاستقلال - كان زمناً طويلاً العامل الوحيد في الحملات العسكرية وقد نسي الناس في الغالب ما صحبها من الفظائع التي لا نفع فيها ولا محيص منها ولم تعلن للجمهور مخافة

أن يسقط تأثير الحكومات فيهم. وقد قالوا أن التاريخ يعيد نفسه وأنا أرى أن التاريخ لم يعرف على حقيقته حتى يردد ونشره بين الناس جلياً مسلسلاً بالروايات الأكيدة أعظم نافخ في بوق السلام بين الأنام. قلنا أما نحن فلا نعلم بأي وجه يغالي بعضهم في تكبير نابليون في العيون بأعماله وهو الذي قتل من قتل من البشر وكلف قومه لا أقل من ثلاثة ملايين من الرجال الأقوياء ومثلهم من سائر الأمم أو أكثر ولكن أنصار الملكية في فرنسا وفي مقدمتهم رجال الدين يموهون على العقول لينفروا الناس من حكم أنفسهم بأنفسهم وتكون لهم السيطرة على الإرادات والنفوس. مجلة فريدة بدا لجلٍ كاتب ومصور من أهل قرية في جوار سبرنجفيلد من أعمال ولاية ايلينوا في الولايات المتحدة أن ينشئ لأهل قريته مجلة خاصة بهم فريدة في أسلوبها ورسومها وشعرها ونثرها وكلها مما خطته براعته وريشته فأصدر منها عدداً واحداً وطبع منه سبعمائة نسخة بقدر عدد سكان القرية يريد بها أن يعلم أولئك الفلاحين ذوق الفنون والآداب ومن جملتها الشعر. يعلمهم به ويهذبهم وقد كانت الصور التي صورها في هذا العدد كأنها ناطقة تتكلم وتعلم مشفوعة بقصص تشرح مكانتها فمنها ما يمثل صورة شيطان الرذيلة خضع لسلطان المرأة المريبة ولطفها الساحر. ومن الصور التي صورها صورة قارب جذبه التيار في عرض البحر فمزق قلوعه وتلاعبت به الأمواج والرياح من كل جانب يشير به إلى قرية تتقاذفها الأهواء من فساد أخلاق وشرب مسكر وغير ذلك من الموبقات وهناك رسوم احتفالات ومواكب نشر الشعب أعلامها وقد كتبوا عليها مواعظ ونصائح في عمل الخير وحفظ الصحة وحسن التدبير وقد زاد المجلة رونقاً شعر صاحبها الذي ينبه الشعور ورأى أن نشر مثل هذه الصحيفة أفيد لبني قومه من موعظة يسمعونها في أبرشيتهم فيطير صداها في الفضاء. الاستقلال المادي نشر أحد رجال المجر كتاباً في حالة المجر الاقتصادية قال فيه أن السبب في ارتقاء هنغريا في مادياتها قلقها الدائم على استقلالها عملاً بقول ذاك الوطني المجري الكبير: إن كل ما

تسلبنا إياه الشدة يتيسر للزمان المسالم والأحوال الموافقة أن تعيده إلينا ولكن الحقوق التي نتخلى عنها بصنعنا نفقدها إلى الأبد بدون أن نأمن رجعتها. وعلى هذا شمر المجريون عن ساعد الجد وأعادوا قاحل أرضهم حدائق غلباً وحقولاً ممرعة وتلك المراعي التي يضل فيها الغنم أصبحت الآن تربى قطعاناً من البقر بحيث زاد عددها مليون رأس منذ عشر سنين وإن بلاد المجر كانت وما زالت بلاداً زراعية وستظل كذلك ومن الأرض تستخرج أهم مواد ثروتها على أنها بفضل جد الأفراد والحكومة بلغت في الصناعات شأواً بعيداً يحسدها عليه أرقى الأمم بحيث قدر صناعها بثلثمائة وعشرين ألفاً من أصل عشرين ميلوناً سكان المجر كلهم وقد جاوز محصولها السنوي ملياري فرنك فقدرت الزيادة في ثماني سنين بخمسين في المائة فلله ما يعمل الجد والعلم المادي ولا غرو بعد هذا إذا كان للماديات تأثير قوي في المعنويات. الصين الجديدة قلق الأوربيون لنهضة الصين الحديثة فمن قائل أن الخطر منها يوشك أن يتناول الأوربيين قريباً ومن قائل بان العهد ذلك بعيد الآن وقد انتدبت الجمعية الجغرافية في باريز عالماً ثقة ليدرس الحالة في بلاد الصين وعاد فكتب كتاباً في هذا الشأن قال فيه أن الخطر الأصفر ليس قريب الوقوع كما يدعي بعضهم وإن اليوم الذي يقوم الصينيون فيه ويقولون: آسيا للآسياويين بعيد ومتى حان يحيق الخطر بالقرب فالأقرب من الأوربيين (أي الفرنسيس في التونكين) كما وقع ليابان في استيلائها على كوريا ومحاولتها الأخذ بخناق منشوريا قال وإن السواد الأعظم من أبناء السماء ليحافظون على التقاليد القديمة كل المحافظة يقدسون أجدادهم ويكتوبن بخطوط صعبة يستحيل أن تنتشر بواسطتها مدنية وربما كان الإفرنج النازلون في بلاد الصين السبب الأعظم في كره الصينيين للغربيين على نحو ما جرى في ثورة البوكسر سنة 1900 فثارت البلاد على الأجانب بدون استثناء وهذه العداوة المتأصلة هناك تجعل في نشوء الصين وما هو يبطئ كما يظن فمنذ سنين قليلة كانت تمتنع الصين من إنشاء سكك حديدية ثم أعطت امتيازات لأناس من الأجانب وعادت فابتاعت منهم ما مدوه من الخطوط لئلا تكون لهم حجة في بلادها ونظامها العسكري حديث العهد وهو سائر سير نجاح وأوربا تحسن صنعاً إذا عاقت ارتقاء الصين في الجندية لا كما تعمل الآن فيقدم

تجارها لها ما تريد من عدة برية وبحرية من أحسن الأنواع. أكبر سد يبنون الآن على نهر المسيسبي بأميركا في شلال الرهبان بين مونترز وكشكوك أعظم سد في العالم يحوي خزاناً تنشأ منه قوه 150 ألف حصان وطول هذا السد 1400 قدم وسعته 43 وعلوه 37 وهو من الحجر ويكون طول الخزان 56 كيلو متراً وسعته الوسطى كيلومترين. الاكتشافات المقبلة ذكرت مجلة أدلة الترقي أن أديسون المخترع الأميركاني المشهور مقتنع كل الاقتناع بان حجر الفلاسفة التي شغل كثيراً من المغرمين بالكيمياء القديمة لتحويل المعادن إلى ذهب سيكشف في المستقبل فيستطيع الإنسان أن يسك نقوداً ودنانير على ما يشاء من الحجارة والمعادن وبذلك يختل نظام الحالة المالية في العالم وأنه لا يمضي زمن حتى تخترع أدوات زراعية تتحرك بالكهربائية بقوة خارقة للعادة فتحرث الأرض وستلفها (تشوفها) وتبرها وتقلع حشيشها وتسقيها وتحصدها وتكدسها وتدرسها وأن الفلاح في المستقبل سيكون عالماً بالنبات وطبيعياً وكيمياوياً وتكون أدوات ابن الأرض في الأيام المقبلة عبارة عن سلسلة مفاتيح ومحركات كهربائية. قال ولا ينتهي القرن إلا ويحل الفولاذ محل الخشب في صنع أثاث البيوت. فقد كان القرن التاسع عصر الورق فإذا انتهى القرن العشرون لا يبقى للورق من أثر ولا يعرف بماذا تصر الصرر إذ ذاك ولا على ماذا تطبع الصحف والمجلات أما الكتب فهو يرى أنها ستطبع على أوراق من معدن النيكل على ثخانة واحد من خمسة من الألف من الميليمتر. الأسر السويدية ملك الأسرة في السويد عبارة عن ارض زراعية أو بحديقة ينشأ في جوار القرى لا يتجاوز هذا الملك 15 ألف فرنك ويتأتى إحداث هذا الملك بمعاونة الحكومة أو بمعاونة شركات أسست لهذا الغرض فالحكومة تقرض مالاً لمن يريد أن يقتني ملكاً من هذا القبيل بفائدة 3 في المئة وكسراً وتقرض الشركات بفائدة 4 في المئة وقد كان لإحدى الشركات إلى آخر سنة 1909 - 155 فرعاً من فروع مصارفها وأعضاؤها 5490 عضواً أقرضت

2297305 كوروناً تعاون الأفراد على الاغتناء وترفع الشقاء عن الفقراء وهذا من أفضل ما سمع به باب التضامن الاجتماعي. سكر جديد استخرج سكر جديد من جذع الخيزران الأبيض ويوجد فيه بكثرة وقد سمي فرباسكوس حبوب السوجا السوجا نبات يزرع بكثرة في آسيا الشرقية ولا سيما في منشوريا ويحمل إلى أوربا أخضر أو حبوباً أو حلويات وقد بلغ المحمول منه في السنة الأخيرة زهاء مائتي ألف طن ويستعمل اليابانيون هذا النبات في تغذية الحيوان والإنسان. وخبز السوجا يحتوي على مواد مقوية أكثر من خبز الحنطة وأقل مادة نشوية منه وفيه من المواد الدهنية عشرة أضعاف ما في خبز الدقيق وينفع خاصة المصابين بالبول السكري. نواب الأمم كندا أقل الأمم نواباً ففي مجلس نوابها 214 نائباً وللمجلس النيابي العثماني 274 نائباً ولليابان 369 نائباً للولايات المتحدة 391 ولألمانيا 369 ولأسبانيا 406 ولروسيا 442 ولإيطاليا 508 ولفرنسا 594 ولمجلس العموم في إنكلترا 670 ولكننا لا ندري أي المجالس النيابية أحسن عملاً. الجراحة في بابل اكتشفوا في حفريات حديثة في أرض بابل اكتشافاً له مكانة سامية في تاريخ الاجتماع وهو عبارة عن حجر كتبت عليه كتابة برد تاريخها إلى نيف وأربعة آلاف سنة وفيها ذكر لأجور الجراحين وقد جاء في هذان الأثران أن أجور الأعمال الجراحية كانت معتدلة بالنسبة لهذه الأيام. فكان الجراح يتناول أجرة الساق المكسورة نحو ثمانية فرنكات ونصف وأجرة قلع السن والضرس 3 فرنكات وثلاثة أرباع وأجرة العملية الجراحية بالمبضع 15 فرنكاً. وكانت العقوبات التي تحل بغير الماهرين من الجراحين فاحشة جداً فإذا أساء الجراح القيام بعملية جراحية تقطع يداه. مكتبة لندرا

من أفيد الطرق في إعارة الكتب لنشر المعارف ما جرت عليه مكتبة لندرا من إعارة الكتب إلى من يشاء إلى حي يشاء على أن يردها أو لا يردها إذا شاء وفي أي وقت شاء وقد جربت هذه الطريقة منذ قام بإنشاء المكتبة كارلايل الإنكليزي المشهور فأسفرت عن نجاح أكيد بعد سبعين سنة من إنشائها لأنه قلما يضيع لهذه المكتبة كتاب وإذا ضاع فإنها تستعيض عنه في الحال غير آسفة عليه لأن كتبها غير نادرة ولا تجليدها نفيس والذين يفضلون على هذه المكتبة بعض الملوك والأفراد والعلماء المشاهير وقد كان ما لديها من المجلدات سنة 1843 - 15 ألف مجلد فأصبح الآن مئات الألوف. أفريقية الجديدة كتب أحدهم في مجلة الطبيعة أن تغييراً كبيراً طرأ على أفريقية منذ خمس وعشرين سنة وذلك باتصال الخط الحديدي من رأس الرجاء الصالح إلى القاهرة حتى كانكا سنة 1910 ويرد تاريخ استعمار أفريقية إلى سنة 1870 أيام اكتشفت معادن الماس في كمبرلي وقد أنفق الذين اغتنوا منها معظم أموالهم في عمران الترنسفال وردوسيا وتسهيل السبل إلى بلوغ الكونغو البجيكية من جهة الجنوب والدور الثاني من استجار الاستعمار الأفريقي يرد إلى سنة 1887 عندما اكتشفت مناجم الذهب في ويتواتر ساند التي هي اليوم أعظم مناجم العالم ولا تنس معادن القصدير والفحم الحجري والحديد في بلاد الترنسفال وامتد الخط الحديدي من الرأس إلى القاهرة فبلغ ردوسيا وكثت بذلك صادرات الذهب منها ومتى وصل الخط إلى كاتانغا سهل استخراج النحاس والمأمول أن تجاري أفريقية بما يستخرج من نحاسها بلاد أميركا كما جارتها بالمستخرج من ذهبها ولكن من الأسف العظيم أنه كله يستخرج لغير أبنائها. مدرسة الضعفاء قام جماعة من الجنس اللطيف تحت رئاسة الآنسة روزلا سنة 1919 في مدينة بوسطون بأميركا وأسسن في إحدى حدائق المدينة حديقة للأطفال المصابين بضعف في القوى كفقر الدم وغيره. ولما رأت إدارة المعارف نجاح المدرسة والفوائد التي تنجم عنها أوعزت إلى اللجنة بأن تربط مدرستها بمدارس الشعب وعينت لها الدكتور هارينكستون مستشارا صحياً في لجنة إدارة المدرسة فهي كناية عن حديقة واسعة بجانبها عدة غرف يلتجئ إليها التلامذة

إذا تعكر صفاء الجو وفي إحدى تلك الغرف يحضر طعام التلامذة وبرنامج المدرسة اليومي كما يأتي: الساعةالدقيقة (1) اجتماع التلامذة في المدرسة 845إفرنجيةرحلة صغيرة خارج السورمن 910إفرنجيةإلى 1030إفرنجية (2) أشغال هادئة كالغناء ومحادثات قصص تتعلق بحفظ الصحة وغيرهامن 1030إفرنجيةإلى 1100إفرنجية (3) ألعاب جسمية كالكرة والعدو والقفزمن 1100إفرنجيةإلى 1200إفرنجية (4) تمثيل رواياتمن 1200إفرنجيةإلى 1230إفرنجية (5) تناول الغداءمن 1230إفرنجيةإلى 130إفرنجية (6) قيلولةمن 130إفرنجيةإلى 300إفرنجية (7) رقصمن 300إفرنجيةإلى 330إفرنجية (8) ألعاب عقلية مثل ألغازمن 330إفرنجيةإلى 400إفرنجية (9) طعام خفيفمن 400إفرنجيةإلى 415إفرنجية (10) الانصراف إلى بيوتهممن 415إفرنجيةوكل أسبوع يستحمون مر ويركبون مرة في سفن في البحر لاستنشاق الهواء والتلامذة صبيان وبنات تختلف سنهم بين السادسة والعاشرة وجلهم من عائلات فقيرات وأما الطعام الذي يتناولونه في المدرسة فمؤلف من الخبز والزبدة والسمك والبيض والبقول والفواكه واللبن وشيء من الحلويات في بعض الأحيان وفي هذه السنة فحص التلامذة ووجدوا أن أجسامهم قويت وعقولهم نمت وشعورهم سما فلا غرابة في ذلك لمن أمعن في البرنامج السالف الذكر لأن المدرسة لم تهمل أجسام التلامذة كما أنه لم تهمل عقولهم وشعورهم. ملخصاً عن جريدة السورفي الأميركية. تصوير الكتب اخترع أحد البلجيكيين آلة تصوير يأخذ بها ما يشاء من الكتب والأوراق التي يراد حفظها دون أن تشغل محلاً فسيحاً فهي تنقل الصحيفة إلى جزء من أربعين من حجمها الأصلي وسيكون لهذه الآلة شأن في نقل المخطوطات النادرة. مستقبل الأولاد قام في ليفربول في إنكلترا جماعة وأسسوا جمعية غايتها مساعدة الصبيان والبنات بعد خروجهم من المدرسة في الحصول على عمل يضمن لهم مستقبلهم وهي تبذل جهدها لمنع الأولاد من الاستخدام في الأعمال المحدودة التي لا تحتاج لإتعاب فكر كتوزيع البرقية

والبريدية أو أن يكونوا مستخدمين في إحدى الحوانيت وهي تبحث في ميل الولد فتضعه في محل يوافق ميله. رقي الصين الصناعي مما يدل على رقي الصنائع الحديثة في الصين أن حكومتها ستصنع بعد الآن ما تحتاجه من المعدات الحربية كالأسلحة وغيرها في معامل في بلادها. قوة الماء في سويسرا من المحقق أن سويسرا تستعمل قوة الماء لتحريك آلات المعامل أكثر من كل البلاد بالنسبة لسعة أرضها فالقسم من البلاد الواقع في جبال الألب يستعمل الآن قوة 1. 200. 000 حصان وهو يزداد في استعمال هذه القوة سنة عن سنة ففي سنة 1908 كان ما أنشأه من الآلات إلى قوة 400. 000 حصان وأما في سنة 1910 فقد كان ما أنشأته من الآلات يحتاج إلى قوة 700. 000 حصان لإدارتها. العمي والحرف أُنشئ معرض في مدينة نيويورك تحت رعاية جمعية مساعدة العميان فيها لإظهار ما يمكن أن يقوم به من فقد حاسة النظر من الأعمال النافعة فافتتح المستر تافت رئيس الولايات المتحدة المعرض مع جماعة من أركان البلاد وأعجبوا بما قام به العمي من الأعمال كالضرب على الموسيقى والنجارة وحياكة المكانس والسلل وتنجيد الفرش والكي والكتابة المختزلة والكتابة عل الآلة الطابعة إلى غير ذلك من الصناعات اليدوية. وكان محل إعجاب المتفرجين تمثيل فصل من وراية لصوص مدينة البندقية لشكسبير الشاعر الإنكليزي قام بتمثيلها جماعة من معهد العميان في بنسلفانيا فتقدم عدد من البنات ورقصن برشاقة باهرة وتقدم بعض الصبيان بألعاب رياضية ابتهجت لها قلوب الحاضرين وهم أيضاً فاقدو البصر كإخوانهم. عن جريدة المراقب الأميركية. محصول الذهب بلغت قيمة ما استخرج من الذهب في العالم كله سنة 1910 - 450. 832. 000 ريال أميركي ويقدر محصوله في عشر السنين الأخيرة بثمانية أضعاف ما يستخرج سنة 1900.

المطالبات بحقوقهن كثير من النساء في لندرا يطلبن المساواة بالرجال في حق الانتخاب وقد أبين أن يعدن أنفسهن في دفتر النفوس إذ يعتبرن أن ليس للحكومة حق في عدهن من سكان البلاد لأنه لا يسمح لهن بحق الانتخاب وحاولن الهرب من وجه مأمور النفوس يوم الإحصاء. كبر القدم والرياضة وجد أحد معامل الأحذية في الولايات المتحدة أن معدل قياس أحذية النساء التي اشتغلها في السنة الأخيرة كان 5. 5 بينما كان معدل قياس ما صنعه منذ عشر سنين 4. 5 وبعد البحث وجد أن سبب الزيادة كان انتشار الألعاب الرياضية بين النساء في تلك البلاد وأن معدل طولهن ووزنهن قد زادا زيادة ظاهرة. هرباً من الثلوج ستنشئ إحدى شركات السكك الحديدية في الولايات المتحدة نفقاً تحت جبال السيرانبوادا ويكون طول ذلك النفق ستة أميال يكلف 1. 000. 000 ريال وذلك هرباً من الثلوج التي تطم الخط فيمتنع القطار عن المسير بضعة أيام وقت الشتاء فعسى أن تعمد شركة حديد بيروت - دمشق إلى احتذاء هذا المثال فتحفر النفق في حمانا بجبل لبنان فقد حالت الثلوج في هذا العام خمسة وأربعين يوماً دون سير القطارات.

البكتيريا

البكتيريا البكتريا والباشول أو الميكروبات كلمات حديثة الوضع للدلالة على الأحياء الصغيرة التي كشفها مؤخراً المجهر المسمى بالميكروسكوب. وهذه الأحياء ليست حييوينات كما يتبادر إلى الذهن من تسميتها بالأحياء بل نباتات في منتهى الصغر فلا ترى بالعين المجردة لأن معظمها خالٍ من الكلوروفيل أي المادة الخضراء التي تتلون بها النباتات فضلاً عن تناهيها في الصغر حتى لا يمكن لأحد من الناس بصراً أن يرى أكبرها بدون أن يستعين بالآلة المعظمة أو المجهرة وهي الميكروسكوب أو المجهر الذي ظهر إلى عالم الوجود في القرن الماضي. وذلك فالعلماء الذين عاشوا قبل القرن التاسع عشر لم يعلموا شيئاً عن عالم الأحياء هذه التي أصبح درسها الآن علماً قائماً برأسه كثير الفوائد للإنسان والحيوان من قبل الوقاية الصحية والفوائد الزراعية على ما سيجيء في هذه المقالة التي ضمناها زبدة أبحاث العلماء ذوي الاختصاص حتى سنتنا الحاضرة. صفة البكتيرا وماهيتها وانتشارها: هي أحياء نباتية ذات خلية أو حويصلة واحدة شفافة اللون غالباً، مستديرة أو أسطوانية أو مستطيلة الشكل تبعاً لأنواعها، تنمو بالانقسام الآتي فتمتاز عل غيرها بفقد القوة التناسلية العادية ويخلو جرثومها من النواة. ومعدل قطر حجم جرثومتها الحويصلية نحو جزء من ألف من الميليمتر. والمليمتر جز من ألف من المتر. وهي قديم العد جداً كما تدل على ذلك آثارها في الأحافير المتحجرة في عصر تكوين الفحم الحجري وما قله. وتود في البرك والأنهر والبحار، وتكثر في المراحيض وكوم الزبل، وفي التراب، وحيث تلقى المواد العضوية فتتعفن، وفي جميع السوائل كالدم واللبن والبيرا والماء على أنواعه، وفي المواد الغذائية الجامدة كاللحم والخضر وغيرهما. وكل مادة من هذا القبيل إذا ظلت مدة معرضة للهواء تنتابها البكتيريا وتتوالد فيها بسرعة وكثرة هائلة. ولذلك فهي منتشرة في كل مكان تحت سطح الأرض وعليه وفي الهواء وداخل الأجسام الحية. فهي عالم يعاشرنا ويعد بملايين الملايين ولم نكن نعلم عنه شيئاً يذكر حتى أواسط القرن الماضي. ويقل انتشار هذه الأحياء في الأعالي والبلدان المفتوحة الجوانب خصوصاً ي الشمال حيث تقل جداً بالقرب من القطبة الشمالية وتعدم بتاتاً. وينقى منها هواء الأبحر والأقيانوسات

لأنه في تقلبه كثيراً ما يلامس الماء فيلقيها فيه ولذلك فهواء البحار أقل نقلاً للمرض والعدوى به. وكلما ارتفعنا به في الجبال قل وجوها حتى تكاد تفقد على علو600 متر فما فوق ذلك. ولهذا السبب تنسب مناعة أهل الجبال على بعض الأمراض كالهواء الأصفر وغيره مما لا تنقل ميكروباته إلا محمولة على ذرات الغبار التي تقل جداً في هواء الأماكن المرتفعة. وتعيش الميكروبات على الحيوانات في درجات مختلفة من الحرارة. والنبات أقل ملاءمة لنموها لما فيه من السوائل الحامضة. إلا أنها تكثر أيضاً في الجذور والأغصان ذات الغدد تحت الأرض وفوقها. وهي تكثر في القناة الهضمية إلا حيث تجتمع المفرزات الحامضة لأن الحامض عدوها ولذلك يحسن معاطاته في أوقات انتشار الأوبئة. وقد علق بعض العلماء مكان كبرى على استعمال اللبن الرائب لما فيه من الحامض حتى نسب طول الحياة إلى طول استعماله غذاء. تولد الميكروبات ونموها فعلاً: تتولد الميكروبات بالانقسام الذاتي فتتخذ أشكال أنواعها المتعددة بين مستدير وضمني وخيطي الخ. والمعتاد أن يكون انقسامها عرضاً لا طولاً فتنشق كالبراءة إذا نصفناها بالشق طولاً. وقد امتحن بعضهم سرعة تولد هذه المخلوقات الصغيرة فزرع حويصله خويطية منها في مرق الساعة 11 صباحاً وكانت أشبه شيء بنقطة ترسم برأس إبرة فتضاعفت بعد ساعة بالانتفاخ وأفرخت عن الساعة 3. 5 بعد الظهر وصارت عشرة أضعاف حجمها الأصلي عند الساعة 8. 5 اتخذت شكلاً مستطيلاً معقداً وعند نصف الليل كان قد بلغت 12 عقدة كل منها حويصلة مستقلة. وبعد ذلك بدأت تنقسم عند ثلثها الأعلى انقساماً جانبياً بشكل قضبان دقيقة. وهذا الانقسام كثيراً ما يحدث في بعض الأنواع بعد نصف ساعة من زرعها وما يشتق منها يعود فينقسم أيضاً بمثل هذا الوقت فيبلغ عدد ما يتولد منها في 24 ساعة ملايين الملايين كما لا يخفى على الحساب. وبعد هذا الإيضاح نعلم شدة الخطر جلياً من كثرة تولد الميكروبات الضارة داخل الجسم بمثل هذه السرعة. ولا يكون على الجسم خطر منها إلا إذا كانت من الأنواع التي تترك في الدم مفرزات أو بقايا سامة أي لا تلائم بطبيعتها الدم

لاختلاف مادة عن مادتها اختلافاً عظيماً. أما فعل البكتيريا في الجماد والأحياء فعلى غاية الشأن. لأنها هي التي تخمر العجين والخل والخمر وسائر المشروبات وتعدل المواد السائلة من دم وماء فتضر أو تنفع تبعاً لكيفية هذا التعديل وهي التي تفتت الصخور وتسحل وجه الأرض وتساعد على نمو النبات وحياة الحيوان بل قد عدها بعضهم أصل جميع الكائنات العضوية. إليك أخص فعلها في الحيوان والنبات والجماد. فعلها في الحيوان: أهم أفعال الميكروبات بالنظر إلى حياة الحيوان ما تحدثه من المنفعة والضرر. فهي تفيد الحيوان من أوجه عديدة لا يتسع المقام لإيرادها هنا بالتفصيل ويكفي لتقدير نفعها مكانة وجودها في الماء الذي نشربه لأنه إذا خلا منها بالتقطير صار ضاراً وإذا خلت مياه أي نبع منه خلواً تاماً منها انقلبت سماً نافعاً كما يعلم ذلك من اختبار الينابيع الشديدة الصفاء في بعض أنحاء العالم فانه تضر شاربيها ضرراً بليغاً إذا انتفى منها وجود الميكروبات. وقد ثبت بعد امتحانات باستور أن لا حي يتولد من غير الحي ولذلك فلا يفسد اللحم ولا تختمر السائلات على أنواعها إلا بفعل هذه الميكروبات ومفرزاتها. فهي التي تهيئ لنا ما نتمتع به من المشروبات المختمرة كالخمر والبيرا واللبن الرائب والجبن والزبدة وغيرها مما لا يحيط به العد. فلو فرضنا فقد هذه الميكروبات فجاة لانقلبت أحوال المعيشة انقلاباً يهولنا تصوره. لأنها هي التي يتم بواسطتها الاختمار والتعفن ودبغ الجلود وتحضير النيل والتبغ وسائر ما له اتصال برغد العيش خصوصاً انتماء الزرع كما سيجيء. فمعظمها نافع لذات الحياة. غير أن بعضها يفرز في الدم مادة سامة فيمرض أو يهيئ للمرض. وقد ثبت الآن أن جميع الأمراض وفي جملتها القروح والبثور وغيرها مسبب عنها. ولا نستثني من ذلك العلل الناجمة عن فعل حييوينات ضارة. وبعد كشف كيفية هذه الميكروبات صار من السهل شفاء الجراح بحفظها سليمة من الفساد وما الفساد إلا فعل هذه المخلوقات الصغيرة في الدم. فكل ما يميتها من الأدوية والعقاقير يسمى مطهراً لأنه يمنع إفساد الدم.

وميكروبات الأمراض تختلف كثيراً في شكلها ومدة حياتها. فمنها ما هو ضمي الشكل كميكروب الكوليرا ومنها ما هو بيضوي أو مستدير أو غير ذلك. وبعضها لا يعيش بضعة أيام كميكروب الكوليرا الذي علم أنه يموت بعد أسبوع من ولادته أو أقل من ذلك. وغيره كميكروب الخناق أو الدفتيريا قد يعيش سنة كاملة. وميكروب السل يعمر أيضاً وتساعده المواد الحامضة على الفتك بالناس ليس لأن الحامض يلائم طبعه بل لأنه يهدم جدران الخلايا الرئوية المسلولة كما أعادتها التغذية المقوية إلى حالة كلسية. ولذلك فلا يجوز للمسلول تناول الأطعمة الحامضة مطلقاً. وإذا اقتصر على الأغذية القلوية ساعد الطبيعة على شفائها. فعلها في النبات: في التربة أنواع من البكتيريا لا تعيش إلا على المواد النباتية كما أنه يوجد غيرها مما يعيش على المواد المعدنية. فميكروبات النبات تتناول من الهواء المادة الكربونية فتمثلها أي تهضمها وتقتات بها فتفصل بذلك النيتروجين وتبثه في جذور النبات. ومنها أنواع تحل الماء والهواء إلى عناصرهما فتسهل على النيات الاغتذاء بما يلائمه من هذه العناصر. ومما يستحق الذكر من أن أفعالها أن بعضها يعمل عكس عمل الآخر فيتكون من هذه الأعمال دورة في تكييف المواد الغذائية تشبه الدورة المائية التي تم تبخير الشمس لمياه الأبحر وغيرها فتصعد المياه إلى الجو حيث تنعقد مطراً يعود إلى الأرض فيتبخر ثانية ويصعد ثم يعود وهكذا. وعلى هذا المنوال تحول أنواع البكتيريا المواد النشادرية في التربة إلى نيترات نباتية يتناولها الحيوان بعد تحولها إلى بروتيد ثم تعيدها البكتيريا إلى نشادر ثم إلى نيترات وهكذا كأن بيدها قياد العناصر الغذائية تصرفها طبقاً لنواميس حفظ الوجود. وفي التربة نوع من البكتيريا الخيطية الشكل تدخل أهداب جذور النباتات القرنية كالفول السوداني وتخترق نسيجها فتشله فتكوِّن عقاً أو غدداً تغذيها بالنتروجين. وهذا هو سر تولد البطاطا وسائر الأثمار التي تحت الأرض والغدد العفصية في السنديان. وهي التي تنخر قصب السكر وغيره. وقد عني الألمان بتربية الأنواع البكتيرية التي تخصب بعض النباتات وسموها بكتيريا النتروجين لكثرة ما تقدمه من هذا العنصر لتغذية النبات. وربى غيرهم غيرها مما يحسن

به نمو الورد والقمح والقطاني وغير ذلك فتفعل فعل السماد الزبل الطبيعي. وطريقة استعمالها أنهم يربون أنواع البكتيريا في مادة تلائم نموها ثم ينقعون بهذه المادة البذار أو يذرون منه في التربة المواد زرعها فيقبل الزرع إقبالاً غريباً. وفي هذه أكثر عواصم أوربا وأميركا الآن مستودعات لبيع هذا اللقاح البكتيري فما على المزارعين عندنا إلا أن يحذوا حذو مزارعي البلدان الراقية فيستفيدون ويفيدون البلاد. فعها في الجماد: أي المواد غير الآلية. من البكتريا أنواع إنما تعيش على الجماد كالصخور والمعادن على اختلاف أجناسها فيكون لها المكانة المهمة في بنائها وهدمها مما يشبه الدورة المائية المذكورة آنفاً. فبكتيريا الكبريت مثلاً تفعل هذا الفعل بتوليدها الكلتسيوم الذي تحوله إلى تجبسيوم ثم إلى كبريت ثم تحله وتعيده إلى سيرته الأولى. ويقال مثل ذلك عن بكثير الصخور والحديد وسائر المعادن. وتعد التربة لتكون صالحة لأن يغتذي منها النبات ولأن يغتذي من هذا الحيوان ثم تعود مفرزات هذا وبقاياه إلى التربة. فهي أول ممثل لأقدم أشكال الحياة المجهزة بقوة تحول عادمات الحياة إلى أشكال حيوية. ولذلك فلها المقام الأول في إنشاء الحياة على سطح كرتنا الأرضية حتى عدها بعضهم أول جرثومة حية في الوجود كان لها شأن على وجه البسيطة. وفوق ذلك كله قد اتضح أنها هي التي تحدث الحرارة بشدة حركاتها عند تنضيد التبغ بعضه فوق بعض وعند تكويم القطن والتبغ الخ حتى لقد تحدث اشتعال بعض هذه المواد إذا ساعدتها حرارة الطبيعة. وهي التي يضيء بها سطح البحر لأنها تؤكسد الهيدروجين المفصفر في الماء كما تؤكد الكحل في الخمر فينقلب خلاً. خلاصة: نحن عائشون في وسط عوالم خفية عن النظر تدعى البكتيريا أو الميكروبات. ومعظمها نافع للإنسان بما يحدثه من التغيرات المفيدة في الجوامد والسوائل. ويمكن اتقاء الضار منها بتلقيح الجسم بسم مخفف منها كمصل الدفتيريا ولقاح الجدري وغيرهما. وإن هذه الأحياء تعيش في درجات متفاوتة من الحر والبرد. فبعضها يعيش في قلب الثلج وبعضها يبقى حياً في حرارة تبلغ أكثر من مئة درجة بمقياس سنتيغرادولذلك يجب اتقاؤها بالحيطة الصحية التي قاعدتها الذهبية أحفظ يديك وصن شفتيك.

ولنا من أجسامنا من كريات الدم البيضاء خير واقٍ من كثير من الميكروبات الضارة لأن هذه الكريات تبتلعها فتمنع انتشارها وتوليد السم بمفرزاتها. وقد علم أن التعب والجوع الشديد والتعرض للبرد جميع هذه تقلل من مناعة الجسم فتزيده تعرضاً لفعل البكتيريا السامة. وإن الحوامض تخفف فتكها بكريات الدم الحمراء. بعض الناس يمتنعون على بعض الأمراض لعدم وجود إلفة كيمية بين خلايا أجسامهم وبين سم البكتيريا وهذا هو السر في نجاة الكثيرين من فعل الأوبئة في حين وقوع غيرهم فريسة لها. ويقال إجمالاً أن درس طبائع البكتيريا وإخضاعها لقوة الإنسان في كثير من الحالات من حسنات النصف الأخير من القرن الماضي الذي فتح باباً واسعاً للتوغل في البحث البكتيري الذي لا بد أن ينتهي إلى كشف حقائق نافعة تدهش العقول بما تحدثه من الانقلاب في سير العمران وترقية حياة الإنسان. بيروت // خليل سعد

أبيات العادات

أبيات العادات يقف الناظر في دواوين الأدب ومجاميع الشعر والأخبار على أبيات غامضة المعنى يشكل عليه فهمها يسميها علماء الأدب بأبيات المعاني. وقد عنوا قديماً بجمعها وتدوينها وشرح معانيها وتفسير مستغلقها إلا أن يد الضياع تلاعبت بتلك المؤلفات فلم يصل إلينا منها إلا القليل ولم نقف على هذا النوع من الشعر إلا مبعثراً مفرقاً في تضاعيف الأسفار المختلفة. أذكر أنني كنت أراجع مرة في شرح القاموس مع الأمير محمود سامي باشا البارودي فمر بنا قول القائل: فوردت مثل اليماني الهزهازْ ... تدفع عن أعناقها بالإعجاز فلم يتكشف لنا معناه مع إطالة الرواية وإجهاد الفكر إلا بعد أن سألنا عنه أستاذنا الإمام الشنقيطي رحمه الله فقال هذا من أبيات المعاني يذكر إبلاً وردت غديراً كالسيف الصقيل في الصفاء وقوله تدفع عن أعناقها الخ يعني أنها كثيرة الألبان ممتلئة الضروع وضروعها في إعجازها فإذا نزل الضيوف بصاحبها قراهم من لبنها فأغنى ذلك عن نحرها فتكون دفعت عن أعناقها بإعجازها قال وتمام الرجز (أعيت على مُقصدنا والرجاز) انتهى. وقد عثرت على ضرب آخر من الشعر إن لم يكن من هذا النمط فهو منه قريب رأيت أن أجمع ما تيسر لي منه وأسميه (بأبيات العادات) وهي أبيات ظاهرة اللفظ والمعنى إلا أنها غامضة من جهة القصد والمرمى فلا يفهم مراد قائليها إلا بمعرفة عادة من عادات العرب أو مزعم من مزاعمهم بني عليه البيت كقول الخنساء في رثاء أخيها معاوية: فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيتَ ولا عقوق ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق فليس في ألفاظ البيتين لفظ غريب غير مفهوم كما أن معناهما ظاهر في غاية الوضوح وإنما الإشكال في مرادها بالنعلين والرأس الحليق فإذا عرفنا أن العادة كانت عند نساء العرب إذا أصبن في حميم أن يحلقن رؤوسهن وتأخذ الواحدة منهن نعلين في يديها تصفق بهما وجهها زال عنها الإشكال واستبان لنا القصد. وفي معنى بيتي الخنساء قول عبد مناف بن ربع الهذلي: ماذا يغير ابنتي ربع عويلها ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حَلية لا رطباً ولا نقدا

إذا تأوب نوْح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا وهو نوع مستملح من الشعر لم أرهم اعتنوا بجمعه اعتنائهم بأبيات المعاني. فمنه قول زهير ابن أبي سلمى: ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطبع العوالي ركبت كل لهذم الزجاج بالكسر جمع زج بالضم وهي حديدة تكون في سافلة الرمح واللهذم السنان ويكون في عاليته وظاهر المعنى أن من أبى الصلح ذللته الحرب أو من لا يقبل الأمر الصغير اضطر إلى قبول الكبير والبيت مع صلاحه لهذا المعنى فإنه يتضمن شيئاً آخر من عاداتهم وذلك أن الفئتين من العرب كانتا إذا التقتا في القتال سددت كل واحدة منهما زجاج الرماح نحو صاحبتها ثم يسعى الساعون في الصلح فإن أبتا إلا التمادي في القتال قلبت كل واحدة منهما الرماح واقتتلتا بالأسنة. (ومن أبيات العادات) قول النابغة الذبياني: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السمّ نافع يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع السليم الملدوغ وكانت عاداتهم كما في لسان العرب وشرح الديوان أن يضعوا في أيدي الملدوغ شيئاً من الحلي لئلا ينام فيدب السم في جيده فيقتله. ومثله قول الآخر: فبت معنَّى بالهموم كأنني ... سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل قلت وغريب تقارب بعض العادات عند الأمم فقد حكة لي شيخ مسن من الجراكسة أن من عاداتهم في بلادهم أنهم لا يدعون الجريح ينام لئلا يموت عل زعمهم فيجعلون حوله من يقرع على طست أو قدر من النحاس ليوقظه كلما أغفى ولا يزالون يتناوبون ذلك حتى يتم شفاؤه. (ومن أبيات العادات) قول الربيع بن زياد في مالك بن زهير العبسي: من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار فإن مراده أن من كان شامتاً مسروراً بمقتل مالك فليأت نسوتنا وهن على هذه الحال ليعلم أننا أخذنا بثأره فلا يشمت به وذلك لأن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر وقد

حكى التبريزي أقوالاً أخرى في البيتين تخرجهما عما نحن فيه. (ومنها) قول الكميت: أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكلب جاء في معاهد التنصيص قال ابن الأعرابي: كانت العرب تقول أن من أصابه الكلب أو الجنون لا يبرأ منه إلا أن يسقى من دم ملك فهو يقول أن ممدوحيه أرباب العقول الراجحة ملوك وأشراف ومثله قول القاسم بن حنبل من شعراء الحماسة: بنات مكارم وأًساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاءُ وقد حكة التبريزي في شرحه نحواً مما حكاه ابن الأعرابي ثم قال وقيل في دوائه أن تشرط الإصبع الوسطى من يسرى رجل شريف ويؤخذ من دمه قطرة على تمرة فيطعم المعضوض فيبرأ وقيل أنه يسعط به انتهى. ومثله قول عبد الله بن الزبير (بفتح الزاي وكسر الباء) الأسدي في عبد الله بن زياد: من خير بيت علمناه وأكرمه ... كانت دماؤهم تشفي من الكلب وقول عبد الله بن قيس الرقيات: عاودتي النكس فاشتفيت كما ... تشفي دماءُ الملوك من كلب وقول ابن عباس الكندي لبني أسد في قتلهم حجر بن عمرو: عبيد العصا جئتم بقتل رئيسكم ... تريقون تاموراً شفاءً من الكلب التامور هنا الدم. وكلهم اقتصروا على ذكر الكلب وقد جمع الفرزدق بينه وبين الجنون فقال: ولو تشرب الكلبى المراضى دماءنا ... شفتها وذو الخبل الذي هو أدلف وذكر الجنون عاصم بن فرية الجاهلي فقال: وداويته مما به من مجنة ... دام ابن كهال والنطاسي واقف وقلدته دهراً تميمة جده ... وليس لشيء كاده الله صادف صادف بمعنى صارف. قال الجاحظ وكان أصحابنا يزعمون أن قولهم دماءُ الملوك شفاء من الكلب على معنى أن الدم الكريم هو الثأر المنيم وأن داء الكلاب على معنى قول الشاعر:

كلب من جس ما قد مسه ... وأفانين فؤاد مختبل وعلى معنى قولهم (كلب بضرب جماجم ورقاب) فإذ كلبَ من الغيظ والغضب فأدرك ثأره فذلك هو الشفاء من الكلب وليس أن هناك دماً في الحقيقة يشرب ولولا قول عاصم ابن الفرية (والنطاسي واقف) لكان ذلك التأويل جائزاً انتهى كلامه. قلت وقد تظرف البحتري فقال يهنئ من انتصد وأخرجه مخرج هذا الزعم عند العرب: ليهنك البرءُ مما كنت تأمله ... وليهنك الأجر عقبى صائب الوصب لئن فصدت ابتغاء البر من سقم ... فقد أرقت دماً يشفي من الكلب (ومن أبيات العادات) قول القائل: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام وأنا لا نخط على النمل النمل هنا جمع نملة وهي قرحة تخرج في الجسد ولو لم يكن البيت مبنياً على عادة لهم لما كان معنىً لافتخاره ممن لا يخطون على تلك القروح ولكن مراد الشاعر أننا لنا بمجوس نتزوج الأخوات لزعم العرب أن ابن امجوسي إذا كان من أخته وخط بيده على النملة أبرأها كذا في كتابات الجرجاني صاحب اللسان والعلامة ابن القيم في كتابه الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان أن ذلك من زعم المجوس أنفسهم. قلت لا مانع أن يكون انتقل منهم إلى العرب فاعتقدوه وأضافوه إلى مزاعمهم في الجاهلية كما انتقلت ليعضهم أشياء من التمجس عن الفرس. (ومنها) قول سبرة بن عمرو الفقعسي: أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ... وقد سال من ذلّ عليك قُراقر ونسوتكم في الروع باد وجوهها ... يُخان إماء والإماء حرائر وذلك لأن الحرائر كن في مثل ذلك الوقت يتشبهن بالإماء في كشف وجوههن ليزهد فيهن فيأمن السبي كما في شرح الحماسة للتبريزي وقال أيضاً في تفسير قول عمرو بن معد يكرب: لما رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدَّا وبدت لميس كأنها=بدر السماء إذا تبدى إن المعنى كاشفة عن وجهها كأنها قد أرسلت نقابها ودلّ على هذا بقوله كأنها بدر السماء

إذا تبدى فعلت ذلك إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء أو لما تداخلها من الرعب انتهى. قلت وليس من هذا ما أنشده الاشنانداني في كتاب معاني الشعر لذي الخرق الطهوي أو لغيره: ولما رأين بني عاصم ... ذكرن الذي كن أُنسينه فوارين ما كنَّ حسرنه ... وأخفين ما كنَّ أبدينه لأن معناه كما فسره أنهن نساءٌ قد سبين فنسين الحاء وأبدين وجوههن فلما رأين بني عاصم أيقن أنهن قد استنفذن فراجعن حياءهن فسترن ما كن أبدينه انتهى. (ومنها) قول عنترة: تركتُ جريَّة المعمري فيه ... شديد العير معتدل شديد فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يُفقد فحقَّ له الفقود يقول تركه وفيه سهم شديد العير والعير الناتئُ وسط النصل والبيت الثاني بني على عادة كانت لهم وهي أن الرجل منهم كان إذا رمى بسهم وأراد سلامة الرمية منه رقى سهمه وإذا أراد الإهلاك لم يفعل ذلك. (ومنها) قول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب: أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي ولا تأخذوا منهم أفالاً وأبكراً ... وأترك في بيت بصعدة مظلم البيت الأول مخروم وصعدة مخلاف من مخاليف اليمن والمعنى أن هذا المرثي أرسل يقول لقومه بلسان الحال لا تأخذوا بدل دمي عقلاً أي دية وتتركوني في قبرٍ مظلمٍ تريد بذلك تحريضهم على أخذ الثأر ولا يفهم من ظاهر قولها بيت مظلم إلا حكاية الحال لأن القبر لا يكون إلا مظلماً ولكن الأمر ليس كذلك بل هو مبني على ما كانوا يزعمون أن قبر المقتول لا يزال مظلماً حتى يثأروا به فإن فعلوا أَضاء. (ومنها) قول جرير يرثي قيس بن ضرار: أظن انهمال الدمع ليس بمنتهٍ ... عن العين حتى يضمحل سوادها وحقَّ لقيس أن يباح له الحمى ... وأن تُعقر الوجناءُ إن خف زادها وهو مبني على عادة لهم وهي أن الرجل كان إذا مرَّ بقبر رئيس وهو في صحبة أحب أن

ينوب عن المقبور في الضيافة وإذا لم يساعده من الطعام ما يدعو الناس إليه عقر ناقته إكراماً له. ولما قتل ربيعة بن مكدم كان لا يمر بقبره أحد من العرب إلا عقر عليه دابة أو بعيراً حتى مر به شيخ كبير فقال لا أعقر ناقتي ولكن أرثيه مكان ذلك ورثاه بقوله: لا بعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب لولا السفار وبعد خرق مهمة ... لتركتها تحبو على العرقوب فكان أول من ترك العقر عليه. (ومنها) قول الحطيئة: قد ناضلوك وسلوا عن كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلاً غير إنكاس قال التبريزي في شرح الحماسة أراد بالمجد التليد أن الشجاع منهم كان إذا أسر فارساً مذكوراً فمنَّ عليه جزّ ناصيته وجعلها في كنانته. وفسره ابن أبي الإصبع في كتابه بديع القرآن تفسيراً آخر فقال معنى هذا البيت لا يعرفه إلا من عرف عادة العرب إذا منّوا على أسير أعطوه نبلاً من نبلهم عليها إشارة تدل على أنها لأولئك القوم لا تزال في كنانته فقال الحطيئة لهذا الممدوح الذي عناه بهذا المدح أن عداك لما فاخروك سلوا عن كنانتهم نبلك التي أعطيتها لهم حين مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجداً تليداً لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بإنكاس يعني الصائبات التي لا تنكس إذا ناضلت بها عن العرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذا خبرناهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت لهم الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة انتهى كلامه. (ومنها) قول سحيم عبد بني الحسحاس: فكم قد شققنا من رداء منير ... ومن برقع عن طفلة غير عانس إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لابس جاء في شرح شواهد الجمل أن العرب كانت تقول أيّما امرأة أحبت رجلاً فلم يشق برقعها وتشتق هي رداءه فسد ما بينهما انتهى. ويروى (إذا شق برد شق بالبرد مثله) وحكوا أن

العرب كانت تزعم أن المتحابين إذا شق كل واحد منهما ثوب صاحبه دامت مودتهما ولم تفسد. (ومنها) قول عمر بن أبي ربيعة: أهيم بها في كل مُمسى ومصبح ... وأكثر دعواها إذا خدرت رجلي لأنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا خدرت رجله وذكر من يحب أو دعاه ذهب خدرها. ومثله لجميل: وأنت لعيني قرة حين نلتقي ... وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي (ومنها) قول الأعشى: ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق روى الثعالبي في فقه اللغة بتبن بدل قت. واليحموم فرس كان للنعمان بن المنذر والسنق في الدواب بمنزلة التخمة في الإنسان وليس في ظاهر معنى البيت ما يستحسن بل قال فيه بعض من لا يعرف عاداتهم أن القيام على الفرس والاعتناء بعلفه حتى يكاد يتخم ليس مما تمدح به السوقة فضلاً عن الملوك ومراد الشاعر وراء كل هذا لأنه بناه على عادة كانت لملوك العرب وذلك أنه بلغ من حزمهم ونظرهم في العواقب أن أحدهم لا يبيت إلا وفر سه موقوف بسرجه ولجامه بين يديه قريباً منه مخافة عدو بفجوه أو حالة تصعب عليه فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم يتعاهده كل عشية وهذا ما تتمادح به العرب من القيام بالمحيل وارتباطها بأفنية البيوت كما في العقد الفريد. وقد ذكر الأعشى اليحموم أيضاً في قوله: أو فارس اليحموم يتبعهم ... كالطلق يتبع ليلة البهر يعني بفارسه النعمان وقال لبيد: والحارثان كلاهما ومحرق ... والتبعان وفارس اليحموم (ومنها) قول الشاعر: كفاك الله يا عصم بن لأي ... خيال بني أبيك وهم عيام إذا مروا بجيزك لم يعوجوا ... ولو غطى سبيلهم الظلام عيام أي شهاوى إلى اللبن وبجيزك يعني بنواحيك جمع جيزة بالكسر. وكان من عادتهم أن

الرجل كان يحمل حبلاً ويسترفد عشيرته إذا أعطى الشاة والحاشية من الإبل ربطها بالحبل كذا في معاني الشعر للأشنانداني أقرب لأبيات المعاني منه لأبيات العادات. (ومنها) قول الآخر يصف حماراً: يلوي مجامع لحيه فكأنه ... لما تمخط في السحيل نقيب نقيب أي منقوب الحنجرة وكان من عادة العرب إذا اشتد الزمان نقبوا حنجرة الكلب أو غلصمته ليضعف صوته فلا يسمع الضيف صياحه فشبه نهيق هذا الحمار بصياح الكلب النقيب. وفي اللسان إن ذلك كان يفعله البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف باستماع نباح الكلاب. وأنشد الأشنانداني في معاني الشعر: تجاوبن إذ برّكن والليل غاسق ... تعاوي منقوبات حيي محارب وقال في تفسيره المنقوبات الكلاب كانوا إذا اشتد الزمان نقبوا لسان الكلب لئلا يسمع نباجه يقول فهذا الإبل كأنها منقوبات يصف إبلاً معيبة فهي ترغو رغاءً ضعيفاً. (ومنها) قول الآخر: تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدع فظاهر معناه أنه لشدة شوقه لمن في الحي أكثر التلفت نحوه حتى وجعته عنقه. ولكن الراغب الأصفهاني في محاضراته حمله على عادة كانت لهم وهي زعمهم أن المسافر إذا خرج فالتفت لم يتم سفره قال فالتفاته لأنه كان عاشقاً فأحب أن لاي تم سفره ليرجع إلى من يحب. (ومنها) قول بشر بن أبي خازم (بالخاء المعجمة والزاي): تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر المقاليت جمع مقلاة بالكسر وهي التي لم يبق لها ولد. والبيت مبني على ما كانت تزعم أن المقلات إذا وطئت رجلاً كريماً قتل غدراً عاش ولدها كذا في اللسان. (ومنها) قول متمم بن نويرة في أخيه مالك: لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا وكان المنهال قتل ملكاً والرداء هنا السيف وكانت العادة عند الرعب إذا قتل الرجل منهم رجلاً مشهوراً وشع سيفه عليه ليعرف قاتله كما في اللسان.

(ومنها) قول القائل: فقأت لها عين الفحيل تعيفا ... وفيهن رعلاءُ المسامع والحامي أنشده الجاحظ في البيان والتبيين والفحيل بفتح فكسر الفحل الكريم وأنشد أيضاً: وهب لنا وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران وأنشد أيضاً: فكان شكر القوم عند المنن ... كيَّ الصحيحات وفقءٌ الأعين وكلها مبنية على عادة كانت لهم ذكرها الجاحظ وهي أنهم كانوا إذا بلغت إبلهم ألفاً فقؤا عين الفحل فإن زادت فقؤا عينه الأخرى قال فذلك المفقأ والمعمي. وفي مادة (عمى) من اللسان قال الأزهري وقرأت بخط أبي الهيثم في قول الفرزدق: غلبتك بالمفقئ والمعمى ... وبيت المحتبى والخافقات قال فخر الفرزدق ف هذا البيت على جرير لأن العرب كانت إذا كان لأحدهم ألف بعير فقأ عين بعير منها فإذا تمنت ألفان عماه وأعماه فافتخر عليه بكثرة ماله قال والخافقات الرايات انتهى ما في اللسان. قلت إذا كان معنى البيت على ما فهمه أبو الهيثم كان الصواب أن يكون المفقأ بصيغة اسم المفعول لا بصيغة اسم الفاعل. وقد روى البيت في مادة فقأ (بالمفقئ والمعنى) بالنون ونقل المصنف عن الليث أن العرب كانت في الجاهلية إذا بلغ إبل الرجل ألفاً فقأ عين بعير منها وسرحه حتى لا ينتفع به ثم حكى عن الأزهري أن معنى المفقئ في هذا البيت ليس على ما ذهب إليه الليث وإنما أراد الفرزدق قوله لجرير: ولست ولو فقأت عينك واجداً ... أبا لك أن عد المساعي كدارم انتهى. قلت القول ما ذهب إليه الأزهري لما سيرد عليك والظاهر أن الذي حمل الليث على أن يفهم في المفقئ ما فهم كون المعنى يطلق على جمل كان أهل الجاهلية ينزعون سناسن فقرته أي حروفها ويعقرون سنامه لئلا يركب ولا ينتفع بظهره بفعل ذلك الرجل منهم إذا بلغت إبله مائة ليعرف أنه مميء فظن الليث أن الفرزدق أراده فحمل المفقئ عليه وكان وجهه على ما فهم أن يرسم أيضاً بصيغة اسم المفعول كما قدمنا. والصواب في معنى البيت ما ذكره صاحب اللسان في مادة (عنا) نقلاً عن ابن سيده أن مراد الفرزدق بالمفقئ بيته في جرير المتقدم ذكره ومراده بالمعنى (ضبط بكسر النون) قوله

له: تعنى يا جرير لكل شيء ... وقد ذهب القصائد للرواة فكيف ترد ما بعمان منها ... وما بجبال مصر مشهرات ونقل عن الجوهري أن مراده بالمعنى قوله: فإنك إذ تسعى لتدرك دارماً ... لأنت المعنى يا جرير المكلف قلت عليه ويصح ضبط المعنى في بيت الفرزدق بالفتح. قال وأراد بالمجتبى قوله: بيت زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبداً إذا عد الفعال الأفضل وأراد بالخافقات قوله: وأين يقضي المالكان أمورها ... بحق وأين الخافقات اللوامع أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع أي غلبتك بأربع قصائد منها هذه الأبيات وعلى هذا لا يعد البيت من أبيات العادات وإنما أطلت الكلام فيه لأنه كان سبب لخلاف واستطار شرره بين بعض الأدباء بمصر. (ومن أبيات العادات) قول آدم مولى بلعنبر: وان أراد جدل صعب أرب ... خصومة تنقي أوساط الركب أطلعته من رتب إلى رتب من رجز يقوله لابنه أنشده الجاحظ في البيان والتبيين وقد يسأل لمَ كانت هذه الخصومة لنقب الركب فالجواب أنه كان من عاداتهم إذا تخاصموا جثوا على الركب. (ومنها) قول عتيبة بن بجير المازني من شعراء الحماسة: ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوت فهو في الرحل جانح فقلت لأهلي ما يغام مطية ... وسارٍ أضافته الكلاب النوابح فقالوا غريب طارق طوحت به ... متون الفيافي والخطوب الطوارح وهذا مبني على عادة وهي أن الرجل من العرب كان إذا ضل وتحير في الليل فلم يدر أين البيوت أخرج صوته على مثل النباح فتسمعه الكلاب وتظنه كلباً فتنبح فيستدل بنباحها ويهتدي إلى المكان. ومثله ما أنشده أبو علي القالي في أماليه:

ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... فتاه وجوز الليل مضطرب الكسر رفعت له ناراً ثقوباً زنادها ... تليح إلى الساري هلم ال قدري وأنشد أيضاً في معناه: ومبدٍ لي الشحناء بيني وبينه ... دعوت وقد طال السرى فدعاني يعني كلباً نبح له فنبح فاهتدى به فكأنه دعاه بنباحه. والأبيات في هذا المعنى كثيرة لا فائدة من سردها في هذه العجالة. وفي معنى استنبح أيضاً كلب الرجل يكلب من باب ضرب واستكلب أنشد ابن سيده في المخصص على الأول: وداعٍ دعا بعدما أقفرت ... عليه البلاد ولم بكلب وأنشد صاحب اللسان على الثاني: ونبح الكلاب لمستكلب: (ومنها) قول لبيد: ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها الفرط بضمتين الفرس المتقدمة السريعة والمعنى أنني توشحت بلجام هذه الفرسوهو مبني على عادة ذكرها التبريزي في شرح المعلقات وهي أن الفرسان كان أحدهم يتوشح لجام فرسه ليكون ساعة يفزع قريباً منه وتوشحه إياه أن يلقيه على عاتقه ويخرج منه يده. ومنه قول زياد بن حمل من شعراء الحماسة: ليست عليهم إذ يغدون أردية ... إلا جياد قسي النبع واللجم (ومنها) قول القائل: قلبت ثيابي والظنون تجول بي ... وترمي برجلي نحو كل سبيل فلأيا بلأي ما عرفت جليتي ... وأبصرت قصداً لم يصب بدليل لأن عاداتهم كانت إذا ضل رجل منهم في فلاة قلب قميصه وصفق بيديه كأنه يومي بهما إلى إنسان يزعمون أنه إن فعل ذلك اهتدى. هذا ما تيسر لي جمعه الآن فإن ظفرت بشيء بعد ذلك ألحقته به. القاهرة // أحمد تيمور

الشرطي والورق

الشرطي والورق اللغوي إذا عثر على لفظة وقف على أصلها ومعدنها ومأتاها يقر عيناً ويطيب نفساً ويثلج صدراً كأنه وقع على كنزٍ ثمين. ومن أغرب الأمور أن المستشرقين يبذلون شطراً صالحاً من أوقاتهم لتتبع معرفة أصول جميع الكلم السامية ولا سيما العربية. ولا نرى من أبناء العرب من يعني بمثل هذا الأمر؟ وإذا رأيت نفراً يكتبون في هذا الموضوع من الناطقين بالضاد فلا تراهم يخرجون عما جاء في كتب الأجداد الأولين ولا يوردون من الكلام إلا ما تناقله الخلف عن السلف بدون أن ينتقدوا كلام القائل ولا ينعموا النظر فيه إذا كان مصيباً في رأيه هذا أو مخطئاً فترى كتبنا اللغوية الحديثة لا تخرج عن كتب الأقدمين ولو تقدم هذا العلم عند باحثي الإفرنج من اللغويين المستشرقين تقدماً عظيماً وظهر بمظهر النور في الدياجي. فإلى متى نبقى في هذه الحالة المفزعة في قالب الجمود أو الخمود والركود؟ ألم يحن الآن الذي نكسر فيه قيود الأسر والرق ونطلق نفسنا من هذه السلاسل الضخمة التي بقينا راسفين فيها إلى يومنا هذا؟ بلى. لقد حان بل لقد فات الوقت كما فاتنا في أمور جمة ونحن في غفلة عنها وذهول. على أن بعض كتاب العصر أخذوا يتابعون علماء الغرب المولعين باللغات الشرقية في أبحاثهم وآرائهم ومذاهبهم وهبوا يجارونهم وأي مجاراة حتى كادوا يفوقونهم في بعض الأبحاث. بيد أن بعضهم قاموا يقلدونهم تقليداً أعمى حتى أنهم إذا رأوا أن غريباً قال بقول من لم يعد الشرقي يتجاسر على مخالفة رأيه ظناً منه أن الإفرنج إذا أوتروا القوس أغرقوا فيها ولا يتركون لمن ينزع فيها من بعدهم منزعاً كما لا يبقون له منزعاً. وهذا وهم ظاهر لكل ذي عينين إذا ما أراد أن يتروى في الأمر أدنى تروٍ. هذا ولنا نحن عدة شواهد إثباتاً لقولنا هذا. وهي وإن كان يطول سردها جميعاً إلا أنه لا يجدر بنا أن لا نذكر منها بعضاً إثباتاً لقولنا وإظهاراً للحق. فهذه كلمة شرطي أو شرطة فإن اللغويين قد ذهبوا فيها مذاهب. فمنهم من قال بأنها عربية فصحى ومنهم من أنكر أصلها هذا وجماعة ذكرت أنها من معدن رومي أو لاتيني ومنهم من خالف هذه الآراء وها نحن ذا نورد بعض الشواهد. قال في القاموس: الشرطة بالضم واحد الشرط كصرد وهم أو لكتيبة تشهد الحرب وتتهيأ

للموت وطائفة من أعوان الولاة م وهو شرطي كتركي وجهني. سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها. وإلى هذا الرأي ذهب السيد المرتضى. فزاد على ما سبق: قاله الأصمعي. وقال أبو عبيدة: لأنهم أعدوا (أي أعدوا أنفسهم لذلك وأعلموا أنفسهم بعلامات). وبمثل هذا القول قال صاحب لسان العرب بل وجميع أصحاب المعاجم اللغوية بدون أن يشذ واحد منهم وتابعهم في ذلك لغويو الإفرنج أصحاب المعاجم العربية الإفرنجية كغوليوس وفريتاغ وقزميرسكي ولين وغيرهم. على أن هذا الرأي لا يمكن أن يتمسك به اللغوي. والسبب هو: لو كان الحرف مأخوذاً من الشرط لقالوا فيه شارط كضابط مثلاً من الضبط. أو مشترط كملتزم. أو نحو ذلك من المشتقات الدالة على الفاعلية لا شرطي بضم ففتح أو بضم فسكون بل وكيف قالوا الشرطة. فلا شك أن اللغوي المتتبع حقائق الأصول ودقائق الفصول لاي قنع بهذا القول غير المعقول. فهي ولا جرم لمن الألفاظ الدخيلة وقد انتبه لها المستشرقون. وأول من ذهب إلى هذا الرأي فرنكل الألماني صاحب كتاب الألفاظ الآرمية في اللغة العربية إذ قال: والأحسن إني أحب أن يقول علماء العربية أنها كلمة مصرية يونانية أو لعلها اليونانية وتأثره في ذلك الأب لامنس اليسوعي في كتاب الفروق إذ يقول: من المحتمل أن يكون معرباً عن مثل كردوسة. قلنا: وهذا أيضاً لا يمكن أن يكون صحيحاً لأن هذه اللفظة الأجنبية إن كانت مصرية أو يونانية أو رومية محضة فهي لا تدل إلا على طائفة أو جماعة من العسكر أو الجند ولا ترد بمعنى المفرد. والحال إن صح هذا الكلام عن الشرطة فلا يصح عن الشرطي فيجب أن تكون اللفظة الأصيلة المنقولة عنها مفردة ليصح فيها التعريب أو النقل عنها بصورة المفرد. وهذا يصح إذا قلنا أنها تعريب اليونانية وبالفرنسية أو وهي بمعنى الشرطي العربية كما أن الشرطي هي تعريب ويراد بها كتيبة الزحف أو الجيش الزاحف الذي يشهد الحرب ويتيهأ للموت. أو من بمعناها. ومن هذا القبيل كلمة ورق والرقة المراد بهما الدراهم المضروبة. فقد قال الفيروزأبادي: الورق مثلثة. وككتف وجبل: الدراهم المضروبة ج أوراق ووراق كالرقة. وزاد صاحب التاج: قال ابن سيده: وربما سميت الفضة ورقاً. يقال أعطاه ألف درهم ورقة

لا يخالطها شيء من المال غيرها. وقال أبو الهيثم: الورق والرقة: الدراهم خاصة. وقال شمر: الرقة: العين ويقال هي الفضة خاصة. ويقال الرقة الفضة والمال. عن ابن الأعرابي. . . إلى آخر ما هناك من الكلام الدال على أن الورق عندهم من الأصل العربي الفصيح الصريح حتى أنه لم يخطر على بال لغويي العرب أنها دخيلة على لسانهم. وتابعهم في ذلك لغويو الإفرنج أيضاً أصحاب المعاجم العربية ولم يرتابوا في عجمتها أو في عربيتها إذ قلدوا العرب في أغلب الأحيان عند نقلهم المعاجم إلى لغتهم. وأول من تنبه لعجمتها في العربية فرنكل اللغوي الألماني المذكور ذكر أنها من الآرامية (برق) أو من الحبشية رقة. قلت: وفي كلتا اللغتين لم ترد اللفظة في الأصل على ما يدل أنها بهذا المعنى في أول وضعها بل يحتمل أن اللغتين أخذتا هذا المعنى عن العرب أنفسهم. وممن قال بعجمتها أيضاً الأب لامنس اليسوعي في كتاب الفروق ص 260 في الحاشية وهذا نص كلامه: (أي الورق بمعنى الدراهم المضروبة) ثلاث لغات أخرى (كذا والأصح أربع لغات أخرى): وَرق. ورق. وِرق (وزد عليها: ورَق ككتف) ولا أحسبه عربياً ولم يوجد في الكتاب القديم. . (كذا لو تروى لما قال هذا القول. لأن لفظة الورق وردت في شعر ثمامة السدوسي وفي الحديث وفي شعر خالد بن الوليد وفي كلام كثيرين من الأقدمين عند مطالعة دواوينهم.). أما الصحيح عندي أن الورق من الفارسية تعريب بره بباء فارسية مثلثة رقيقة في الأولى ثم راء وفي الآخر هاء غير منقوطة. ويقال فيها أيضاً باره بمعناها. ويراد بها مطلق القطعة وتخصص بقطعة الفضة المضروبة كما هو معنى الباره عندنا قبل خمسين سنة. ثم عوض عن الباره الفضية ببارة نحاسية وبقي الاسم عليها وإن تغيرت المادة التي أخذت منها. هذا وأنت تعلم أن الهاء الفارسية في الآخر تنقل إلى القاف أو الكاف أو الجيم أو الهاء في العربية. وقد صرح بذلك أغلب اللغويين كما في بابونج ويرذعة وبورَق ونيزك وأصلها بابونه وبرزعة وبوره ونيزه وأما الباء المثلثة التحتية الفارسية فتكون إما رقيقة. وإما فخيمة وإما رقيقة وفخيمة فإن كانت رقيقة فتنتقل إلى الواو بالعربية أو الباء الموحدة

التحتية كما في بابوج وواشق أصلها بابوج وباشه وإذا كانت مفخمة فتكون فاء في العربية كما في فارس وأصفهان وإن كانت بين المفخمة والمرققة فهي تكون تارة بالباء وطوراً بالواو وأخرى بالفاء مثل قبان فيقال فيها قبان وقفان. قال الأصمعي: قفان: قبان بالباء التي بين الباء والفاء أعربت بإخلاصها فاء وقد يجوز إخلاصها باء لأن سيبويه قد أطلق ذلك في الباء التي بين الفاء والباء (التاج في قفف) ومعنى قفان كل شيء: جماعة واستقصاء معرفته. وعليه قالوا في بره: ورق. وفي باره: بارة. لكن لما توهم العرب أن الورق مشتق من ورق بل وأنها مصدر ورق أجازوا فيها الوجهين فقالوا فيها ورق ورِقة كما قالوا وعد وعدة. وأغرب من هذا أنهم جمعوا رقة على رقين كما قالوا في إرة: إرين. وقوم من العرب توهموا الجمع مفرداً فوزنوه على فعيل بفتح الأول فقالوا: الرقين وفسروه بالدرهم والرقيم ولعل الرقيم ورد بهذا المعنى أيضاً تصحيفاً للرقين بالنون وهم يكثرون مثل هذا الإبدال في آخر الألفاظ كقولهم: الأيم والأين. الغيم والغبن. أسود قاتم وقاتن. الحزم والحزن. البنان والبنام. القعم والقعن. ومثل هذه الألفاظ تعد بالمئات. فانظر حرسك إله كيف يتلاعب العرب بالألفاظ وكيف تتسع اللغة عندهم. وكيف يبعد مجرى الكلام عن ينبوعه ومصدره وكاد ينسيك الأصل الذي أُخذ عنه. كل ذلك من الأسرار الغامضة يتلذذ بالاطلاع عليها كل من له ذوق بهذه اللغة الشريفة البعيدة الغور. وإذ قد اطلعت على أصل لفظة الورق وعلى أنها من الفارسية علمت علم اليقين أن معناها كل قطعة من قطع المسكوكات كما تقول بالفرنساوية ثم أطلقت على دراهم الفضة أو على مطلق الدراهم أن فضية أو ذهبية أو نحاسية بشرط أن تكون قطعة معدن مضروب لا غير. هذا ما أردنا إيراده في هذا الباب ولنا عدة شواهد من هذا القبيل. بغداد // ساتسنا

رسائل الانتقاد

رسائل الانتقاد تابع لما سبق قال أبو الريان ومن شر عيوب الشعر كلها الكسر لأنه يخرجه عن نعته شعراً وليس مما يقع لمن نُعت بشاعر. فأما الاقواء. والسناد. والأكفاء. والزحاف. وصرف ما لا ينصرف فكل ذلك يستعمل الآن السالم من جميع ذلك أجمل وأفضل قال ومن عيوبه المذمومة مجاورة الكلمة ما لا يناسبها ولا يقاربها مثل قول الكميت: حتى تكامل فيها الدل والسنب وكما قال بعض المتأخرين في رثاء: فإنك غيبت في حفرة ... تراكم فيها نعيم وحور وإن كان النعيم والحور من مواهب أهل الجنة فليس بينهما في النفوس تقارب. ولا لفظة تراكم مما يجمع بين الحور ولا النعيم. ومثله قول بعضهم: والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا لعاد تفاح الخدود بنفسجاً ... لثمي وكافور الترائب عنبرا فالتفاح ليس من جنس البنفسج لأن التفاح ثمرة والبنفسج زهرة. وقد أجاد في جمعه بين الكافور والعنبر لأنهما من قبيل واحد. ولو قال: لعاد ورد الوجنتين بنفسجاً=لثمي وكافور الترائب عنبرا لأجاد الوصف. وأحسن الرصف. لكون الورد من قبيل البنفسج. فهذا النوع فافتقد. وهذا الشرع فاعتمد. قال أبو الريان ولفضلاء المولدين سقطات مختلفات في أشعارهم أُذاكرك منها في أشياء لتستدل بها على أغراضك لا لطلب الزلات. ولا لاقتفاء العثرات. كان بشار تتباين طبقات شعره فيصعد كبيرها. ويهبط قليلها كثيرها. وكذلك كان حبيب ابن أوس الطائي فإذا سمعت جيدهما كذبت أن رديهما لما. وإذا صح عندك أن ذلك الردي لهما أقسمت أن جيدهما لغيرهما. قال ومما يعاب من الشعر الافتتاحات الثقيلة مثل قول حبيب أول قصيدة: هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعوماً فقدماً أدرك الثأر أو طالبه ومثل قول ديك الجن أول قصيدة: كأنهايا كأنه خلل الخ ... لة وقف الهلوك إذ بغما

فابتدأ هو وحبيب بمضمرات على غير مظهرات قبلها وهو رديء قال ويعاب أيضاً الافتتاحات المتطير بها. والكلام المضاد للغرض كابتداء قصيدة أبي نواس التي أنشدها الفضل بن يحيى خالد البرمكي يهنيه ببنيانه الدار الجديدة فدخل إليه عند كمالها وقد جلس للهناء والدعاء وعنده وجوه الناس فأنشده: أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي فتطير الفضل من ذلك ونكس رأسه وتناظر الناس بعضهم إلى بعض ثم تمادى فختم الشعر بقوله: سلام على الدنيا إذا ما فُقدتمُ ... بني برمك من رائحين وغادي فكمل جهله وتمم خطأه وزاد القلوب المتوقعة للخطوب سرعة توقع. وأضاف للنفوس المتوجعة بذكر الموت شدة توجع. وأراد أن يمدح فهجا. ودخل ليسر فشجا قال وقريب من هذا ما وقع للمتنبي في أول شعر أنشده كافوراً: كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا فهذا خطاب بالكاف بفتح ولا سيما في أول لقية. وفي ابتداء واستعطاف ورقية. وفي هذا البيت غير هذا من العيوب سنذكره بعد. ووقع مثل هذا من قبح الاستفتاح في عصرنا وذلك أن بعض الشعراء أنشد بعض الأمراء في يوم المهرجان فقال: لا تقل بشرى ولكن بشريان ... وجه من أهوى ووجه المهرجان فأمر بإخراجه واستطار بافتتاحه وحرمه إحسانه قال أبو الريان ولو كان هذا الشاعر حاذقاً لكان إصلاح هذا الفساد أيسر الأشياء عليه وذلك بأن يعكس البيت فيقول: وجه من أهوى ووجه المهرجان ... أي بشرى هي لا بل بشريان قال ويبج جداً الإتيان بكلمة القافية معجمة لا ترتبط بما قبلها من الكلام وإنما هي مفردة لحشو القافية كقول بعضهم: فبلغت المنى برغم أعاديك ... وأبقاك سالماً رب هود فأنت ترى غثاثة هذه القافية وإله تعالى رب جميع الخلق وكل شيء فخصَّ هوداً عليه السلام وحده لضعف نقده وعجزه عن الإتيان بقافية تليق وتحسن.

قال ويقبح أيضاً الجفاءُ في النسيب على الحبيب والتضجر ببعده. وغلظة العتاب على صده. كقول أبي نواس: أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير فان كنت لا خلاً ولا أنت زوجة ... فلا برحت منا عليك ستور وجاورت قوماً لا تزاور بينهم ... ولا قرب إلا أن يكون نشور فلم أسمع بأوحش من هذا النسيب. ولا أخشن من هذا التشبيب. وذلك قوله إن لم تكوني لي زوجة ولا صديقة فلا برحت منا ستور للتراب عليك. ولا كان جارك ما عشنا نحن إلا الموتى الذين لا يتزاورون ولا يتواصلون إلى يوم النشور على أن كلامه يشهد عليه بأنه شاك وإنما المعروف في أهل الرقة والظرف. والمعهود من أهل الوفاء والعطف. أن يفدوا أحبابهم بالنفوس. من كل مكروه وبوس. فأين ذهبت ولادته البصرية وآدابه البغدادية. حتى اختار الغدر على الوفاء. وبلغت به طباعه إلى أجفاء الجفاء. فاعلم هذا وإياك أن تعمل به. قال ومن عيب الشعر السرق وهو كثير الأجناس. في شعر الناس. فمنها سرقة ألفاظ. ومنها سرقة معان. وسرقة المعاني أكثر لأنها أخفى من الألفاظ ومنها سرقة المعنى كله. ومنها سرقة البعض. باختصار في اللفظ وزيادة في المعنى وهو أحسن المسروقات. ومنها مسروق بزيادة ألفاظ وقصور عن المعنى وهو أقبحها. ومنها سرقة محضة بلا زيادة ولا نقص والفضل في لك للمسروق منه ولا شيء للسارق كسرقة أبي نواس في هذه القصيدة التي ذكرنا معنى أبي الشيص بكماله. قال أبو الشيص: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم فسرقة الحسن بكماله فقال: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير فهذا على أن بيت أبي الشيص أحلى وأطبع ومع حلاوته جزالة. وقد ذكر عن الحسن أنه قال ما زلت أحسد أبا الشيص على هذا البيت حتى أخذته منه وسرقة المعاصر سقوط همة. وبهذه القصيدة يناضل أصحاب الحسن عنه ويخاصمون خصماءه مقرين بأن ليس له أفضل منها. ولا لهم إلى سوى هذه القصيدة معدل عنها. فقس بفهمك واعمل فكرك على ما وصفناه من أبواب السرقة ما وجدته في أشعار لم أذكرها يظهر لك جميع ما وصفناه. ويبدو

لك جميع ما رسمناه. قال ومما يقع في عيوب الشعر ويغفل الشاعر عنه ويجوزه الأمر فيه لصغر جرم العيب وسلامة اللفظ لذي احتبي فيه ثم يكون ذلك سبب غفلة النقاد أيضاً عنه مثل قول المتنبي: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا فضع هذا الكلام على أنه إنما شكا داءَه ووصفه بالعظم فعاد شاكياً نفسه وجعلها أعظم الداء لأنه أراد كفى بدائك داءً فغلط وقال كفى بك داءً فصار كفى بالسلامة داءً فالسلامة هي الداء يريد طول البقاء سبب للفناء. وقال الله تعالى وكفى بنا حاسبين فالله هو أعظم شهيد فجعل المتنبي نفسه أعظم الداء ولم يرد إلا استعظام دائه وإصلاح هذا الفساد. وبلوغه إلى المراد. أن يقول: كفى بالمنايا أن تكن أمانيا ... وحسبك داء أن ترى الموت شافيا فيعود الداء المستعظم كما أراد تزول خشونة ابتدائه. وشدة جفائه. إذ خاطب للممدوح بالكاف فجعله داء عظيماً في أول كلمة سمعها منه. وقد تأدب خواص الناس وكثير من عوامهم في مثال هذا المكان فهم يقولون عند مخاطبات بعضهم بعضاً بما يخشن ذكره قلت للأبعد يا كذا أو كذا للأبعد. ومن عيوب هذا القسم أيضاً أن قائله قصد إلى سلطان جديد وإلى مكان يحتاج فيه إلى التعظيم والتفخيم وقد صدر عن ملك نوه به أعني سيف الدولة وأغناه بعد فقره وشرفه ورفعه. وأدنى موضعه. فورد كل كافور هذا في مرتبة شريفة. وخطة منيفة. فجعل بجهله يصفه في أول بيت لقيه به أنه في حالة لا يرى منها المنية. أو يرى المنية أعظم أمنية. وعلم كافور بذكائه ووصول أخبار الناس إليه أنه في حالة خلاف ما قال وأنه كفر النعمة من المنعم عليه وأراه أن جميع ما عامله به من الجاه الواسع. والغنى القاطع حقير لديه. صغير في عينيه. فعلم كافور في هذا الوقت أنه ممن لا تزكو لديه الصنيعة وإن عظمت. ولا تكبر في عينيه المواهب وإن جسمت. ولم يكن في خلق كافور من الصبر على اتساع البذل. ولا من الرغبة في أهل الآداب والفضل ما عند سيف الدولة من ذلك فزهد فيه بعد رغبة وعلله بالقليل. وشاوقه بالجزيل. ورأى المتنبي أن الأسود ليس له في قلبه من الحب والقرب ما له عند سيف الدولة فلم يدل عليه ولا كثر من التعتب والعتاب ما يعطفه عليه

فأضاع وضاع. وكان يتوقع الإيقاع. ولكفران النعم نقم. ثم نجاه ركوب ظهر الهرب وأقبل يعترف لسيف الدولة بالذنوب. وكان لحنه وشعره شريفين. وعقله ودينه ضعيفين. ومع ذلك فسقطاته كثيرة إلا أن محاسنه أكثر وأوفر. والمرء يعجز لا المحالة. وكان يميل إلى تعقيد الكلام ويعتمد على علمه بقبحه فيقول من ذلك ما يصف به ناقته: فعبيت تسئد مسئداً في نيها ... أسادها في المهمة الأنضاء يقول في المدح: أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد ويقول في بيت آخر من قصيدة أخرى يمدح بها والبيت لا يتعلق بشيء مما قبله فيما يظهر ولا فيما بعده بشيء: كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك ولا قاومت من لم تقاوم ومثل هذا كثير وهذه الأجناس من أبيات وإن ظهرت معانيها بعد استقصاء. وأطاعت غوامضها بعد استعصاء. فهي مذمومة السلك وإن اطلعت منها على أجزل الإفادة فكيف إذا حصلت منها على السلامة بلا زيادة. وكان أيضاً يغفل عن إصلاح أشياء من كلامه على قرب ذلك من الفهم. مثل قوله يرثي أخت سيف الدولة: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب فجعل يا أخت خير كناية عن اشرف النسب والكناية لا تكون إلا لعلل تتسع فيها التهم لأن الكناية ستر وتعمية فنا بال شرف النسب يورى عنه تورية المعائب. ويكنى عنه والتصريح به من المفاخر والمناقب. وقد غفل عن إصلاح هذا بلفظ فصيح. ومعنى صحيح. قد كاد يبرز من الجنان. إلى طرف اللسان. وهو لو فطن إليه: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... غنى بهذا وذا عن أشرف النسب قال أبو الريان وهذه الجملة التي أثبت لك فيها ما دخل على الشعراء المحيدين من التقصير والغفلة والغلط وغير ذلك كافية ومغنية عن إيراد ذلك وإن لقيتها بجودة بحث وصحة قياس. لم تحتج إلى كشف عيوب أشعار الناس. ولعل قائلاً يقول مال على هؤلاء وترك سواهم لميله على من بكت. ولتفضيله من عنه سكت. فقل لمن قال ذلك الأمر، عل خلاف ما ظننت لم أذكر إلا الأفضل فالأفضل. والأشهر فالأشهر. إذ كانت أشعارهم هي المروية.

فالحجة بهم وعليهم هي القوية. فقد نقلته علي من ميلي عليهم. إلى ميلي بالحق إليهم قال أبو الريان فأما نقد المستحسن فتمثيله لك يعظم ويتسع لكثرته فلا يسعنا إيراده ولكن ما سلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم. ثم تتسع طبقات الجودة فيه. وأحسن منه ما اعتدل مبناه. وأغرب معناه. وزاد في محمودات الشعر عل سواه. ثم يمدح الأدون فالأدون بمقدار انحطاطه إلى حيز السلامة. ثم لا مدح ولا كرمة. قال محمد فقلت لله درك يا أبا الريان فما ألين جانبك. وما أقرب غائبك. وما ألحح طالبك. وما أسعد صاحبك. فقال أنجح الله مطالبك. وقض مآربك. وصفى من القذى مشاربك. وبث الحواضر والبوادي مناقبك. تمت المقامة المعروفة بمسائل الانتقاد بلطف الفهم والاقتصاد والحمد لله أولاً وآخراً وصلاته على نبيه سيدنا محمد وآله وسلامه

نفس المرأة

نفس المرأة انصرفت أفكار الباحثين إلى درس طبائع المرأة ومميزاتها الجنسية وخلائقها الخاصة على أثر ما كان من نهوض المرأة لمباراة الرجل في ميدان الاقتصاد وتشوقها بعد ذلك إلى مشاركته في الحقوق السياسية فتوفر على هذا البحث جماعة من العلماء الأعلام عنوا بتمحيصه وتجريده مما لصق به من خرافات الأقدمين وأوهامهم جارين على أسلوب علمي لا يدع مجالاً للظن والشبهات العالقة بآراء الأقدمين والسادلة على الحقيقة ستاراً من الغلو ينهض بالمرأة إلى مستوى الملائكة أو يحطها إلى دركات الجحيم ومن الغريب أننا لا نجد باحثاً تصدى للموضوع إلا زعم أنه بين حقيقة المرأة وكشف عن أسرار نفسها على أن معظمهم جهلوا طبائعها الأصيلة وخواصها المميزة فجاءت أبحاثهم مهزعة فاسدة المقدمات والنتائج ولم يفرق بعضهم بين صفاتها الخلقية وبين الصفات العارضة التي اكتسبتها في أحوال خاصة. وربما اتفق العلماء أن رأوا المرأة في حال الضعف أو الخوف أو الاحتيال أو الرياء فزعموا أن هذه الصفات من طبائعها الخلقية وانتقلت هذه المزاعم إلى الأخلاف في الأجيال المتوالية فهي لا تزال تستنكف أو تعجب اليوم بطبائع في المرأة أتت عليها سنة النشوء والارتقاء فبدلتها أو محتها. ولقد مرت على المرأة عصور وهي بعيدة عن الحياة الفكرية والعملية تراد على الطاعة العمياء لوليها فكانت أشبه بالأطفال غير أن الزمان تغير والمرأة تبدلت وبقي معظم علماء النفس واقفين عند الآراء القديمة يحسبونها رقيقة غاية حياتها خدمة الرجل. تملصت المرأة من آثار الجمود وشاركت الرجل في الحياة العملية وتركت في زوايا القرون صفاتها القديمة وتخلقت بأخلاق جديدة فلا تصح فيها آراء المغالين في اعتبارها ولا المغرقين في امتهانها. ولا بد للباحث أن يتساءل هل للمرأة صفات نفسية خاصة بها تميزها عن الرجل وما هي تلك الصفات الجنسية التي لا يؤثر فيها مركزها الاقتصادي والاجتماعي؟ يقول علماء الحياة باختلافات جوهرية بين الخليتين اللتين تولد الحياة من انضمامهما وأن شروط الحياة متوفرة في الخلية المذكرة أما الأنثوية فهي هادئة شديدة الاحتفاظ بقوتها العضوية وهذه الصفات تبدو آثارها في الأحياء وكلما ارتقى الجنس البشري كانت

الخواص الجنسية أوضح أثراً تركيب المرأة وطبائعها تميل بها إلى السكون والدعة والراحة بينما نرى الرجل جلداً على مشاق الحياة يتحشم الأخطار ويخوض غمار الجهاد ويرى كل ما حوله يدفعه إلى المناجزة والإقدام. وإذا سلمنا بآراء علماء الحياة والنفس اتضح لنا سبب تخلق المرأة بأخلاقها الخاصة وإشغالها في المجتمع مركزها الخاص فللرجل الحرب والجهاد والمغامرة والنشاط والحزم وللمرأة اللطف والصبر والهدوء إلا أنها تشتد في بعض الأحيان فتفوق الرجل حزماً ومضاءٍ وقد يوقد الرجل نار الثورة فتسعى إلى إخمادها وتهدئة روعه ويحملها ميلها إلى السكون النفسي إلى الاعتصام بحبل الدين وهي أقل إقداماً على الجرائم من الرجل لما تتطلبه من تضحية القوى الجسدية والعقلية ويزعم علماء النفس أن المرأة ضعيفة المدارك مما يحملها الاستسلام لعواطفها فهي غريبة عن الحرب والعلم والفنون وسنرى فيما يلي فساد مزاعمهم في هذا الصدد. سار علماء النفس والحياة على أسلوب واحد في أبحاثهم فأدت بهم إلى نتائج متشابهة فقالوا أن المرأة اليوم هي ذات المرأة في القرون السالفة ويتبين لك خطل آرائهم من عرضها على أحوال الحياة الحقيقية وإذا تتبعنا ارتقاء العالم الحيواني وضحت لنا المناقضة بين آراء الباحثين في المرأة وبين حالتها الحاضرة على أنم أشكالها. المرأة المحاربة -. لنتقدم إلى البحث في إحدى صفات المرأة التي قالوا بها من الجبن وصغر النفس ونتخذ هذه الصفة أساساً لمبحثنا فقد أجمعت آراؤهم على أن المرأة لا تصلح للقتال والذود عن الوطن فلما ارتفع صوت النساء المطالبات بالحقوق دافعها المنكرون عليها بقولهم إنها لا تستطيع مشاركة الرجل في الحرب والذب عن حياض الوطن على أنَّا إذا أنعمنا النظر وجدنا هذه الصفة عارضة لا جوهرية وليست هي من صفاتها الخلقية التي لا تتغير فنساء الحبش يقاتلن مع أزواجهن جنباً إلى جنب راكبات على الجمال أو الخيل ومتقلدات سلاح الرجال ولا ينقصن عنهم شجاعة وإقداماً وصبراً على المشقات ويقول الرحالون إن النساء يتدربن على فنون القتال فينشأن شديدات القوى وقد أكسبتهن ممارسة الحروب بطشاً لا يتصف به سوى شجعان المقاتلة. ويقول تاسيت إن جيوش البربتونيين القدماء كانت تزحف إلى القتال والنساء في طليعتها

ويقول مومسن بمثل ذلك عن الإيبريين فقد كانت نساؤهم يفتتحن الحصون ويقتلن زرافات في الهجوم. وأكد جماعة من السياح أن النساء الأمازونيات القاطنات على ضفاف نهر الأمازون يشاركن الرجال في القتال ويغتذين بلحم البشر ويقص آخرون مثل ذلك عن نساء المركيتس والكواي موراس. وذكر ارفن أن نساء الانتيل يتمرسن بالفنون الحربية حتى يضارعن الرجال ولقد قاسى كولمبس الأمرين من بأس نساء الأمازون الهنديات وفي أميركا الجنوبية يتناقلون أخبار كثيرة عن وجود النساء المحاربات. وشاهد الرحالة تاتلي مقاتلة النساء في بلاط متزا ملك الأوغندا فعنده نساء من الأمازون يتقلدون الحراب الطويلة وتزحف نساء الغواتوتو الأفريقيات مع الرجال في الحرب. وفي الداهومي جيش من الأمازونيات مؤلف من صنفين أحدهما الصنف العامل وعدده ثلاثة آلاف والآخر المستحفظ يدعى في ابان الحاجة ويخضعن لنظامات حربية شديدة ويتمردن احتمال الجوع والعطش وغيرها من المشاق ويجبرون على مقاساة الآلام صابرات ويتميزن بالشجاعة والبأس فإذا أشار إليهن اقتحمن الأخطار وخضن الغمرات وقد شاهد أحد رؤساء المبشرين سنة 1861 مشهداً ملأه دهشة وإعجاباً فقد أمر الملك النساء الأمازونيات أن يقتحمن حواجز علوها متران وعرضها ستة أمتار وكانت الحواجز من النباتات الشائكة يؤلم لسعها فتهشمت سوق المقاتلات العارية غير أنهن ثبتن أي ثبات فتقدمت الفرقة الأولى وما زالت تجيد حتى أعيت فوقفن منهوكات يائسات ولكن الملك صاح بهن ونظر إليهن نظرة دفعت فيهن تياراً كهربائياً فعاودن الهجوم ببسالة نادرة حتى ظفرن بما أردن. وعند هياج البولونيين سنة 1863 تزيت نساؤهم بزي الرجال وأبلين في المعارك بلاء حسناً فأصبحت شجاعتهن مضرب المثل وسارت بأحاديثهن الركبان وتفردت منهن الآنسة بوستافويثو بالبأس والجلد حتى أصبح لها مجد حربي لا يقل عن مجد أعاظم الرجال. إن صيد الحيوانات الكاسرة ليس أقل خطراً من خوض المعارك ونساء التتر الصينيات يصحبن أزواجهن في صيدها ونساء الروس والبولونيين يشاركن بعولتهن في صيد الدببة

والذئاب والخنازير البرية غير عابئات بما في ذلك من المهالك. ولا يسع الباحثين بعد ذلك إلا أن يسلموا معنا باستطاعة النساء القتال ولا سيما في الحروب الحاضرة وقد أصبح معظم الاعتماد فيها على الحذر والتيقظ والحكمة ففي وسع المرأة أن تشارك الرجل في الدفاع الوطني ولا تقل عنه جلداً وإقداماً لولا أن ذلك يعوقها عن واجباتها المنزلية وإنجاز وظيفة الأم. قابلية الانفعال بين الجنسين -. كتبت ألوف من الجلدات في بسيكولوجية المرأة تراوحت بين الإغراق في تعظيم الشهيدة الأبدية وامتهان عدوة الرجل القديمة ولم ينتبه مؤلفوها أنهم رسموا خطوطاً لصورة المرأة في عصرٍ أو عصورٍ سالفة وأغفلوا وصف امرأة اليوم والغد فرماها بعضهم بكل شائنة وقال الآخر أنها أدق إحساساً وأرق شعوراً من الرجل وممن ذهب هذا المذهب الفيلسوف أوغست كونت فقال: تؤثر المؤثرات الطبيعية في المرأة بسهولة وشدة وقد برهن على ذلك علمنا نفر من الكتاب وترى انفعالها واضحاً في جميع الصروف فإنها تقطب جبينها وتغضب وتحتقر ويؤلمها الاضطراب وتنقاد لعواطفها فهي في ذلك أقرب إلى الطفل منها إلى الرجل وسرعة التأثر في المرأة تجعلها طوراً أرق وطوراً أقسى من الرجل ثم أن الفواعل يزول أثرها عن نفسه لأنه عرضة لمختلفاتها فالحزن يعقب السرور والبشر يتلو الأسى كما تتوالى السحب في السماء ولكن طبيعة المرأة الساكتة إذا لامستها الفواعل تركت فيها أثراً يصعب زواله فترى عواطف الحب والبغض والرحمة والقسوة أرسخ في المرأة مما في الرجل. على أننا نرى الرجل في بعض أطواره لا يقل عن المرأة في الاستسلام للعواطف ويرجع ذلك إلى أحوال البيئة والأخلاق الشخصية لا الجنسية. الحب ريحان حياة الرجل غير أنه حياة المرأة ذاتها ولكن ألا تفعل العواطف في الرجل فعلها في المرأة؟ قال لاكوردير في كتاب بعث به إلى إحدى صديقاته: يخطئ مني قول أن الرجل يعيش بالعقل والمرأة بالعواطف فالرجال يجبون أيضاً بالعواطف إلا أنها راقية تنزل لديكن منزلة العقل. وبعض علماء النفس ينكرون على المرأة هذه المزية ويعزون إليها نقصاً بيناً في شواعرها كافة ويصفونها بتطرف يسير إلى قمة المجد أو يهبط بها إلى دركات الشنار فهي مفرطة

في الحالين والأنانية والغيرية على أشدهما عند المرأة لأن فطرتها الثائرة ترمي بها إلى الغايتين المتناقضتين. وخالف هؤلاء نفراً ادعوا أنها ولعة بالاعتدال محمولة عليه بما لها من سكون الطبع ثابتة في أعمالها وأفكارها تقاوم الفواعل التي ربما أخرجتها عن بيئتها فقضاتها الأولون ينكرون عليها حق الحكم لأنها تطاوع في ذلك عواطفها وحماستها الخرقاء. ويوافقهم الآخرون على هذا الرأي مستندين في ذلك على مقدمات أخرى فهم يقولون أن إخلاد المرأة للسكون يبطل كل ارتقاء اجتماعي. تلك هي آراؤهم المختلفة باختلاف وجهة النظر تنبئك أن هذه الخواص ليست جنسية وإنما هي شخصية وإذا عاش الرجل في بيئة تشبه بيئة المرأة لا يلبث أن يتخلق بهذه الأخلاق لأن قابلية التأثر لا حد لها وهذه الصفات إنما هي نتيجة أحوال المحيط. ذكر هربرت سبنسر أن المرأة تفوق الرجل قسوة في البلاد التي يمثل أهلوها بالأسرى وقبيلة الداكوتاس تدفع الشيخ إلى النساء يتلذذن بتعذيبه ويقول ماكسيم دي كاسب أن النساء أثناء ثورة الكومون فقن الرجال فظاعة وشراسة. ومع عتاطفة القسوة يتلألأ الحنان الأنثوي فقد عطفت نساء البرابرة على الرحالين وأظهرن لهم ضروب اللطف والرقة واتفق على ذلك مشاهير الجوابين كستانلي ولفنستون وغيرهما. والباحث المنصف يجد للنساء مواقف مشهودة في الأخطار وعوارف محمودة في تسكين ثورة الرجل فدخول بعضهن في صفوف الثوار لا ينسينا بنات جنسهن ممن يعين السكينة في النفوس فحفظ لهن التاريخ صفحات مجيدة. المرأة والديانة -. رقة شعور المرأة جعلتها متدينة في جميع العصور والشعوب وهي أسرع تلبية لدعاة المذاهب فيجد هؤلاء بين النساء مؤمنات مخلصات كان لهن في ثبات الديانات ونشرها تأثير شديد. خضوع المرأة المستديم لسلطة الرجل سهل عليها الاعتقاد بعناية إلهية غامضة فهي لا تزال تقارع أنواع المشاق في الماس مصدر الرحمة الأزلي وينبوع السلام الأبدي وأدى بها ذلك إلى الاعتقاد بتفوق كل من يسودها وكيف لا تعتقد بإله أعلى وهي تتوقع منه المكافأة عل ما تتجسمه من المصاعب في هذا العالم فهي مسوقة إلى التدين لا عن ميل فقط بل عن

حاجة وتربيتها الاتكالية زادتها اعتصاماً بالإيمان لأنه يقول بإله قادر يحييها ويرعاها. وهي لا تشعر بخوف الله فقط بل تشغف بحبه وتبتهل إليه في النوازل الشداد فيخترق الظلمات المطيفة بها نور رجاء ينضر به عيشها وكلما قلت مطالبها في الحياة زادت استمساكاً بحبل الدين وكثيراً ما تنتابها اضطرابات دينية تذهل صوابها. ولا يجوز لنا الإغضاء عن أن الرجل هوة الذي أوجد في المرأة تلك الفطرة ودعا إلى الدين فأجابته مذعنة شأنها في الخضوع لما تعتقد به العظمة والتفوق من أفواه الإخبار مبادئ وتستعذب سلطته لأنه يمنحها غبطة دائمة ويمني آمالها بحياة مستقيلة تمحو جميع آلامها الحاضرة فلم يخطر لها قط أن ترغب عن ذلك الجمال الفتان والأمل المتلألئ. وعلينا أن نفرق بين الديانة والتدين فشعور الرجل بالدين يختلف عن شعور المرأة بذلك الدين وبين التقي والتقية والأخ والأخت أتباع المذهب الواحد اختلاف جنسي في الإيمان وتلازم العجائز المعابد واجدات في الصلاة غبطة ونعيماً وهن في ذلك أقرب إلى الرجال الطاعنين في السن منهن إلى أخواتهن في ريعان الصبا وكلما تعمق الباحثون في درس هذه العاطفة عند المرأة وجدوها منبعثة عن المركز الذي تشغله في المجتمع الحاضر فهي أقوى استمساكاً بحبل الدين وأشد خضوعاً للعقائد والأفكار. صفات للمرأة أفادتها إياها حالتها الاجتماعية والأدبية وتلك العاطفة الدينية ليست سوى نتيجة أعمال الرجل في ألوف من السنين. هل المرأة أرقى شعوراً من الرجل -. منذ خمسين سنة قام جدال بين علماء النفس على انحطاط إحساس المرأة فذهب لومبروزو وتلامذته إلى ضعف شعورها وخالفه في رأيه مانتكيزا ومن تابعه وينطوي في هذين المبدأين العامين نظريات ثانوية لا تكاد تحصى وإنما تنشا عن اقتصار الباحثين على بعض الموضوعات المحدودة وأوسع مجال الاختلاف أن التجارب أنجزت في ممالك مختلفة ومما لا ريب فيه أن للبيئة وطراز المعيشة تأثيراً في الشعور فالبرابرة أقل شعوراً بالألم من المتمدنين وهؤلاء متفاوتون أيضاً في شعورهم فإن أبناء الطبقات العالية المترفين ممن ألفوا الرفاهية أناقة العيش يشعرون بالألم فوق شعور المزارعين ومتى علمنا ذلك لم يسعنا أن نعزو التفاوت في الشعور إلى الجنسية بل إلى أحوال الحياة التي تفرق بين الجنسين.

قلنا أن بين العلماء اختلافاً كبيراً على ارتقاء حواس المرأة وانحطاطها وقد استشهد القائلون بانحطاطها على زعمهم بأنها لا تستطيع التمييز بين أنواع الخمور المختلفة وذلك يشير إلى ضعف حاسة الذوق ويقولون مثل هذا في سائر حواسها فيفند المعارضون حججهم قائلين إنما أعجز المرأة التمييز بين صنوف الخمر لأنها لا تدمنها كالرجال والمدمنات منهن يضارعن في ذلك أرقى الرجال. أما شدة إحساسها بالألم فيفسر كثرة الآلام التي تنتابها ويقول مانتكيزا أن شعورها به أضعاف شعور الرجل ويذهب سرجا إلى ما يناقض ذلك فيقول أن المرأة سريعة الانفعال كالطفل فتذري العبرات عند أقل طارئ وتبدو عل منحياها علائم الألم غير أن مظاهر الألم ليست هي ذاته وللتربية ونسق الحياة شأن خطير في الشعور فإن النساء الكثيرات الامتزاج بالرجال اللواتي يمارسن حياة العمل يصبح دمعهن عصياً فيجلدن على احتمال المصائب والأوجاع ويتصلبن على لقاء الخطوب ويقول لومبروزو إن ضعف حواس المرأة نعمة كبرى على المجتمع إذ يسهل عليهن تحمل آلام الحمل والوضع. سبب الانفعال -. نعود في ذلك إلى آراء الفسيولوجيين فقد برهنوا أن لنسق معيشة المرأة أثراً في جسمها ونفسها لأن حياتها المنزلية واقتصارها على إنجاز الواجبات العائلية قلل من مناعة جسمها وخفض من مضائها ونشاطها وقال بان تنمو العواطف الرقيقة حيث يضعف النشاط على أن سرعة الانفعال لا تعود إلى تركيبها العضلي بل تعزى إلى فقر الدم الناشئ عن قلة التمرين فالنساء العاملات أقل تعرضاً للانفعالات التي تنكد عيش غيرهن من النساء وقد قال أحد الباحثين أن امرأة العصور القديمة تختلف كل الاختلاف عن امرأة اليوم. ولا ريب في أن دخول النساء في الحياة العامة وأساليب تهذيبهن التي تبدلت كان لها أشد أثر عل حياتهن المعنوية فكلما تحكمت المرأة بالرجل فقدت صفاتها الأنثوية فهل يأتي يوم تضمحل فيه خواصها المميزة؟ إن ذلك بعيد الاحتمال. استبحار العمران وانتشار التمدن يخففان من ألم المرأة الناتج عن الأمومة فهل يرجى أن يقويا على هاتيك الأوجاع حتى يلاشياها؟ والذي نراه أن الأمومة كان وسيكون لها إلى الأبد شأن.

الحب والجمال المعنوي -. إن ما تخسره المرأة مادياً تربحه معنوياً وهذه الأمومة تكبدها آلام لا تطاق إلا أنها تحبوها أرقى الصفات التي يمتاز بها الجنس البشري وهي الحب والحنان فالمرأة في سهرها الدائم على طفلها وعنايتها به يرتقي شعورها بالمحبة والعطف. وفي حب الأمهات تسطع أسمى عاطفة في الوجود ويزدهر رجاء لا حد له لقربه عين الإنسانية وينفجر ينبوع هذا الحب في كل مكان فيرسم على كياننا آثاراً لا تمحى. ولا يضمحل حب المرأة إلا بانقراض آخر رجل فارتباطها بوجودنا يحملها على حفظ العهود وصيانة المواثيق ويحق للمرأة أن تفاخر بوظيفتها الاجتماعية فإن الأمومة هي مصدر الفضائل والمحبة الغيرية التي يحيا بها المجتمع الإنساني وهذا الحب الشديد الذي يفصل بينها وبين الرجل ليس إلا ليبوأها في الحياة الاجتماعية مكانة أسمى من مكانته إذا أعيا تكافل الجنسين دون مساواتهما في العظمة واشتراكهما في مقاساة الآلام. كذب المرأة -. تنمو على شجرة حياء المرأة في أحوالها المختلفة فروع تخيل للرائي أنها المميزات الفارقة بين الجنسين وكثيراً ما يمر بها المفكرون غير محتفلين بالأسباب الطارئة التي جعلت بعضها نضيراً زاهراً يستهوي العيون مرآه والآخر ذاوياً جافاً ينبو عنه البصر على أننا إذا بدلنا بيئة الشجرة تلاشت الفروع الذابلة ولو أحاطت بالمرأة صروف الرجل لكان لها فضائله ورذائله. وما وجدنا أعجز من رأي من يأخذ على المرأة اعتلاقها بأسباب الرياء وهي سلاح الضعفاء في النزاع الحيوي ولا بد لنا من كلام يزيد القضية وضوحاً ونحن نرى علماء النفس على اتفاق في هذا الحكم الذي يشمل المجتمعات الإنسانية من أرقاها إلى أدناها فإذا قضي على الضعيف أن ينازع القوي مال إلى المراوغة والكذب وذلك شأن المرأة فكلما تحرج موقفها لجأت إلى الإفك والبهتان ذوداً عن نفسها ويقول سبنسر: إن الكذب يرافق كل حالة اجتماعية قائمة على دعامتي القوة والخوف قوة السائدين وخوف المسودين قوة واقتداراً غير أن الفلاسفة والمتشرعين وعلماء النفس والشعراء والقصصين أغضوا عن مصدر الشر وجعلوا الكذب صفة غريزية في المرأة ومشى على هذا المذهب الشارعون فحرموا المرأة حق الشهادة زاعمين أنها أقل صدقاً من الرجل فأدى ذلك إلى استطرادها في هذا السبيل وما كان ذلك إلا ليزيد تعاسة الرجل فشقاؤه ورياؤها متلازمان والآلام التي

يكبدها إياها تفسد نظام حياته العائلية فالمرأة عنصر ينحل في حياة الرجل وفي وسعه أن يظهر ذلك العنصر أو يفسده. نفث في روعها على أنه لم تخلق إلا لإرضائه فتوسلت إلى هذه الغاية بوسائل مهلكة واضطرت أن تتصنع بتستر الطوارئ التي تلم بها فتذهب بروعة جمالها ومالت إلى استغوائه فتزينت وتبرجت وتخيرت جملاً عذبة تسردها من غير شعور وزاغ بها هذا التصنع عن طبيعتها وأكسبها صفات مستنكرة حتى سهل عليها بتوالي الأزمان كتم عواطفها والتظاهر بما لا تحس به فأصبحت تصرخ إذا مستها شوكة وتتمالك ذا استغرق الألم وجودها والتمست من الرجل أن يحميها لأنها رأته يميل إلى المرأة الضعيفة. ثم أضعفت فيها ملكة النقد والتمييز بإهمال تثقيفها فأصبحت تنظر إلى المحسوسات نظراً مزوَّراً وتفسرها على غير حقيقتها ولم يشعر الرجل إلا والمرأة قد تبدلت فبات ينكر الصفات التي أفادها إياها وما زال الإفك يعبث كل العبث في المجتمع حتى أصبح دعامة الحياة العامة. كذب الرجل -. لا ننكر أن المرأة أشد رياء من الرجل غير أنه ليس بفاقد هذه الصفة وإنما الفرق في الكمية لا في الكيفية وقد تكذب المرأة وتداجي فلا تجر مداجاتها على الهيئة الاجتماعية ما يجره بهتان الرجل من الويلات فمما يسمم وجودنا من الشواعر الكاذبة ويباعد بيننا وبين الغبطة يظهر لا بين الأفراد فقط بل بين الأجناس والشعوب وما السلم المسلح سوى أكذوبة هائلة نفذت إلى جميع الضمائر فمن التهذيب العام والخاص وعلاقات الطبقات الاجتماعية ومبادئ الحكومات والعدل وتحديد حقوق الوطنيين وواجباتهم تتولد تلك الآفة الهائلة فتفسد البيئة التي نعيش فيها وهذه العواطف غدت وسيلة الخداع والوطنية مدرجة المنافع الذاتية والتزوير عنصراً جوهرياً للحياة فالسلطة الفردية تستعين بالقول أن حق الملك من حق الله والديمقراطيون ينادون بوجوب المساواة وكلا الفريقين نازع إلى القبض على السلطة ولم يكتف مدعو الزعامة بإدخال السم في الحياة العامة حتى جاهروا بذلك غير خجلين وقد افترت الإنسانية على الديانات والأدبيات فبينا ترى التعاليم الدينية تقضي علينا بمحبة القريب نجد المتدينين يتنازعون ويتقارعون والشعوب تتطاحن في مضمار الجهاد.

والصنائع من أرقاها إلى أدناها مدعومة بالإفك والتزوير وهؤلاء السياسيون يأتون ضروب الغش والرياء ويرتقون المناصب على سلم من المواعيد التي يستحيل تحقيقها وكلما قام مصلح لمناهضة البهتان رموه بضعف الوطنية وكل ذلك من عمل الرجل. وحسبنا بما نقدم عليه دليلاً على مبلغ الرجل من الإفك ممات حمل المرأة في دورها على اقتفاء آثاره مسوقة بضعفها الطبيعي وعجز منتها فاقتصرت على الأكاذيب البسيطة وأفرط رفيقها في البهتان. يستحب الرجل في شريكه حياته الرقة والخضوع شأن كل كائن قوي فيزينها في عينه وداعة الورقاء ويحببه إليها القوة والرجولية ومهما بلغ من أخلاقه فالمرأة مدفوعة إلى مجاراته على أهوائه احتفاظاً بمحبته وصيانة للنوع الإنساني فلم يكفها في ذلك جمالها ورقتها بل سعت إلى استرضائه فغالبت فطرتها توسلاً إلى بلوغ هذه الغاية وما وقفت عند حد التبهرج والدل بل اتخذت مظهراً معنوياً ملائماً لميوله. فتأصل حب الاسترضاء في نفسها حتى غدا لها طبيعة ثانية وأثرت فيها الوراثة والانتخاب الطبيعي حتى حسبت إرضاء الرجل الغاية الكبرى من حياتها وارتاح الرجل إلى تلك المظاهر مأخوذاً بما فيها من الروائع الخلابة فألهته رياء الزهر عما فيه من السم الزعاف واستنفذت المرأة مجهودها في استمالته ولو شوهت تكوينها المعنوي فأًبحت كثيرة المجاملة قديرة على كتمان عواطفها تتظاهر بالابتسام والعاصفة تثور في داخلها لتلقي على نفسها ستاراً وخادعت شريكها بقولها وحركاتها وابتساماتها فبرهن ذلك على أنه لم تخسر طبيعتها الإنسانية في عصور العبودية والرق فهي تأفك لتحفظ مزيتها الإنسانية مما يدل على ثباتها وصلابتها ومقاومتها لما سامها الرجل من الحيف والضغط. تعاقبت القرون وتأثير الأحوال الخاصة يعمل في نفس المرأة حتى جعل لها سمة خاصة فطوت في إرضاء الرجل جميع غايات حياتها الدنيوية غير عابئة بما يسومها من ضعف فضيلتها ولكن مرونة النفس البشرية لا نهاية لها وفيها استعداد تام للرقي المعنوي فلما زالت الصروف التي تبدل من وجدانها نشطت للحرية واستعادت ما فقدته من المواهب وخرجت الشعوب المنحطة من بيئتها المظلمة لتضارع أرقى الشعوب مدنية ويكفي لمحو تأثير عشرين قرناً عقبان أو ثلاثة أعقاب فهذه قبائل الماوريس منذ قرن واحد ساردة في

ظلمات الجهل فما فتح لها باب المدنية حتى ضربت فيها بسهم وافر ونساؤها اليوم لسن دون النساء الإنكليزيات وزنوج الولايات المتحدة عدوا منذ مائة عام بين أحط الشعوب الأفريقية وقد بلغوا اليوم شأواً بعيداً في الحضارة وشغلوا مركزاً رفيعاً في عالمي الاقتصاد والاجتماع. وكان يحق لنا اليأس من المستقبل أو أن الإنسان استطرق في سبيل الأسلاف وأضاف إلى النقائص الموروثة ما تنتجه العصور بتواليها غير أن النفس مرنة ومرونتها تنعش الرجاء بالمستقبل والمرأة في ذلك على مستوى الرجل فيتبدل تهذيبها ومركزها الاجتماعي تستعيد الصدق إحدى صفات السادة واهجر الرياء وهو تركه عصور العبودية وعلى هذا المنوال يتغير مجموع الصفات الأنثوية لأن نفوسنا تتكيف على ما يلائم شروط البيئة فلم يخلق الرجل ولا المرأة كاذبين أو صادقين فإذا مازج البهتان حياتنا لم يكن إلا عقبى الصلات التي ربطت الجنسين. بعض الميزات -. تنبهت في المرأة خاصتا الفهم والملاحظة لتستكشف مقاصد الرجل وتعمل على بلوغها فاكتسبت من بيئتها فضائل خاصة كما استفادت نقائص خاصة وأصبحت قادرة على التخلص من المأزق والنظر في أعماق الرجل لمعرفة مظان الضعف فيها فعرفت كيف تلطف بكلماتها العذبة آلامنا وتهيج أشواقنا وأصبحت مداهنتها أوضح أثراً وأشد فعلاً واستطاعت لنقص شخصيتها أن تمتزج بشخصية الرجل إذ لا يمنعنا من الانقياد إلى الغير سوى وثوقنا بالقوة واعتمادنا على الذات أما المرأة ففقدت هاتين الخاصتين واستغرقت في حياة الرجل وأصبحت العنصر الجوهري لسعادتنا وشقائنا. ثم أن نفسها الساكنة جعلتها أيسر انفعالاً فحبها وبغضها وإعجابها فوق ما يشعر به الرجل على أن الأيام لا بد أن تخفف من هذه العواطف. مالت المرأة إلى الوهم ذلك الشعور المبهم العقيم ووجدت من تهذيبها ما تنزع بها هذا المنزع فولعت بقراءة الروايات وشغلت جل أفكارها في الحب لأنها تحيا لتحب وعكفت على مطالعة الأقاصيص الغرامية فأصبحت لها كالحب مصدر عواطف لا ينضب غير أن انصرافها إلى القصص أضعف فيها ملكة الذكاء. التصورات الحبية -. مال الرجل في دوره إلى الغرام وما وجد أجمل من حديثه وقعاً في

نفس المرأة فأصبح للحكايات الخيالية الشأن الأكبر في حياتنا وهي غير جديرة بالنظر وغدا القصصيون من رجال ونساء قادة الإنسانية يضعون دعائم مستقبلها واشتغل الناس بالأوهام والأحلام عن الحقائق الثابتة ولعل مؤرخاً ينشأ في القرن الثلاثين ينظر إلى ولوعنا بالخيال هازئاً بما ندعيه من الرقي العقلي وربما أوقفنا في مستوى المصريين القدماء الذين عبدوا الكوائن المنحطة فلا يبعد عن الحقيقة وها نحن ذا نرى المرأة مشغوفة بالروايات مستميلة إليها الرجل وقد استغرق الحب وجودهما وقربا على مذبحه أعظم الضحايا. حياة المرأة الضيقة الحدود القللية الواجبات جعلتها تتألم لأدنى مظاهر الحياة ومتى رأينا شدة حب المرأة وكرهها حكمنا أن العاطفتين أقوى فيها مما هي في الرجل والشجرة المنفردة في عرض البر تخيل للرائي أنها أكبر مما هي. أثبت الباحثون أن وجوه الشبه بين نفس المرأة والطفل أوفر مما هي بين نفسي المرأة الطفل والرجل وقد يفوق الرجل في بعض المزايا وينحط عنه في غيرها شأن المرأة فمركزها التاريخي عند جميع الشعوب أكسبها بعض الصفات الفاضلة وأفقدها أكثر منها. أطاعت الرجل وأصبحت مصدر أفراحه ومسراته فلم تقو على مضارعته في الفكر واقتبست خواص تقربها من الولد حتى وصفها بعضهم بقوله أنها رجل غير كامل إلا أنها تستطيع في دورها أن تعزو إلى الرجل ذلك اللقب ولقد يكون الطفل في حالة نموه أحد ذهناً وأوفر ذكاءً من الرجل إذا تراجع في سلم النشوء وهو على الإطلاق أطهر منه قلباً وأقل اهتماماً. الارتقاء العقلي لا يجري على خط مستقيم فينهض بنا طوراً إلى أعلى الذرى ويحطنا تارة إلى أعمق المهاوي وهذه المميزات التي تفصل بين الرجل والمرأة ليست سوى نتيجة عوارض طارئة تزول بزوالها ومهما يكن من موقف المرأة إزاء الرجل فهو أثر من آثار المركز الذي وجدت فيه خلال عصور متوالية فهي كما وصفوها رجل ناقص لأنها امرأة غير كاملة ومما يعزينا أنها لم تخسر في عصور العبودية ذرة من القوة العضوية فيعجزها فقدانها عن استعادة مركزها وأقل تغيير في شروط حياتها العقلية والخلقية يمكنها من استرجاع الصفات التي أضاعتها.

إن نجاح المرأة في عصرنا الحاضر ينعش في نفوسنا آمالاً ناضرة وبما أن ارتقاء الرجل قائم بارتقاء المرأة يحق لنا الوثوق بمستقبل الإنسانية الزاهر. معرباً بتصرف من مقالة لجان فينو في المجلة الباريزية. دمشق: // جرجي الحداد

ابن زيدون وابن جهور

ابن زيدون وابن جهور هذه رسالة ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن زيد المخرومي الأندلسي القرطبي (354 - 463) كتب بها إلى رئيسه أبي الوليد بن جهور من ملوك الطوائف بالأندلس توفي عام (443) يستعطفه بها لما كان في اعتقاله. يا مولاي وسيدي الذي ودادي له واعتمادي عليه واعتدادي به ومن أبقاه الله ماضي حد العزم واري زند الأمل ثابت عهد النعمة. إذا سلبتني أعزك الله لباس أنعامك وعطلتني من أحلى إيناسك وأظمأني إلى برود إسعافك ونفضت بي كف حياطتك وغضضت عني طرف حمايتك بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك وسمع الأصم ثنائي عليك وأحس الجماد باستنادي إليك فلا غرو فقد يغص الماءُ شاربه ويقتل الدواء المستشفي به ويؤتى الحذر من مأمنه وتكون منيته التمني في أمنيته والحين قد يسبق جهد الحريص. كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد وإني لأتجلد وأرى الشامتين إني لريب الدهر لا أتضعضع. فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها وجبين عض به إكليله وشرفي الصفة بالأرض صاقله وسمهري عرضه على النار مثقفه وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم هذا العتب محمود عواقبه وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع. ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سحابه أو تأخر غير ضنين غناؤه فأبطأ الدلاء فيضاً أملأوها وأثقل السحب مشياً أحفلها وأنفع الحيا ما صادف جدباً وألذ الشراب أصاب غليلاً ومع اليوم غد ولكل أجل كتاب. له الحمد على اهتباله ولا عتب عليه في إغفاله. وان يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك والتطاول الذي لم يستغرقه تطولك والتحامل الذي لم يف به احتمالك. لا أخلو من أن أكون بريئاً فأين عدلك أو مسيئاً فأين فضلك. ألا يكن ذنب فعدلك واسع ... أو كان لي ذنب ففضلك أوسع

حنانيك قد بلغ السيل الزبى ونالني ما حسبي به وكفى وما أراني إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت وقال لي نوح اركب معنا فقلت سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وأمرت ببناء صرح لعلي أطلع إلى إله موسى وعكفت على العجل واعتديت في السبت وتعاطيت فعقرت وشربت من النهر الذي أبتلي به جيوش طالوت وقدت الفيل لأبرهة وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة وتأولت في بيعة العقبة ونفرت إلى العير ببدر وانخذلت بثلث الناس يوم أحد وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة وجئت بالإفك على عائشة الصديقة وأنفقت من إمارة أسامة وزعمت أن خلافة أبي بكر كانت فلتة ورويت رمحي من كتيبة خالد ومزقت الأديم الذي باركت يد الله عليه وضحيت بالأشمط الذي عنوان السجود به وبذلت لقطام: ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالجسام المصمم وكتبت إلى عمرو بن سعدان جعجع بالحسين وتمثلت عندما بلغني من وقعة الحرة: ليت أشياخي ببدرٍ علموا ... جزع الخزرج من وقع الأسل ورجمت الكعبة وصليت العائذ على الثنية لكان فيما جرى على ما يحتمل أن يكون نكالاً ويدعى ولو على المجاز عقاباً. وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح ونبأ جاء به فاسق وهم الهمازون المشاؤون بنميم والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود منهم إلا: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب. والله ما غششتك بعد النصيحة. ولا انحرفت عنك بعد الصاغية ولا نصبت لك بعد التشيع فيك ولا أزمعت يأساً منك مع ضمان تكلفت به الثقة عنك وعهد أخذ حسن الظن بك ففيم عبث الجفاء بأزمتي وعاث العقوق في مواتي وتمكن الضياع من وسائلي ولم ضاقت مذاهبي وأكدت مطالبي وعلام رضيت من المركب بالتعليق بل من الغنيمة بالإياب وإني غلبني المغلب وفخر علي العاجز الضعيف ولطمتني غير ذات سوار ومالك لم تمنع مني قبل أن أفترس وتدركني ولما أمزق أم كيف لا تنصرم جوائح إلا كفاء حسداً على

الخصوص بنت وتنقطع أنفاس النظراء منافسة في الكرامة عليك وقد زانني اسم خدمتك وزهاني وسم نعمتك وأبليت البلاء الجميل في سماطك وقمت المقام المحمود في بساطك. ألست الموالي فيك غر قصائدي ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناءٌ يخال الروض منه منوراً ... ضحى ويخال الوشي فيه منمنما وهل لبس الصباح إلا برداً طرزته بفضائلك وتقلدت الجوزاء إلا عقداً فصلته بمآثرك واستملى الربيع إلا ثناء ملأته من محاسنك وبث المسك إلا حديثاً أذعته في محامدك ما يوم حليمة بسر وإن كنت لم أكسك سليباً ولا حليتك عطلاً ولا وسمتك غفلاً بل وجدت آجرَّاً وحصى فبنيت ومكان القول ذا سعة فقلت وحاشا لك أن أعد من العاملة الناصبة وأكون كالذبالة المنصوبة تضيء للناس وهي تحترق فلك المثل الأعلى وهو بي وبك أولى ولعمرك ما جهلت أن صريح الرأي أن أتحول إذا بلغتني الشمس ونبا بي المنزل وأصفح عن المطامع التي تقطع أعناق الرجال فلا استوطئ العجز ولا أطمئن إلى الغرور ومن الأمثال المضروبة خامري أم عامر وإني مع المعرفة بان الجلاء. . . والنقلة مثله. ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسبحا وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... بكن ما أساء النار في رأس كبكبا عارف بأن الأدب الوطن لا يخشى فراقه والخليط لا يتوقع زياله والنسيب لا يجفى والجمال لا يخفى ثم ما قران السعد للكواكب أبهى أثراً ولا أسنى خطراً من اقتران غنى النفس به وانتظامها نسق معه فإن الحائز لهما الضارب بسهم فيها وقليل ما هم أينما توجه ورد منهل بروحط في جناب قبول وضوحك قبل إنزال رحله وأعطي حكم الصبي على أهله. وقيل له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيت صالح ومقيل غير أن الوطن محبوب والمنشأ مألوف واللبيب يحن إلى وطنه حنين النجيب إلى عطته والكريم لا يجفو أرضاً فيها قوابله ولا ينسى بلداً فيها مراضعه قال الأول: أحب بلاد الله ما بين منعحج ... إليّ وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها هذا ال مغالاتي بعقد جوارك ومنافستي بلحظة من قربك واعتقادي أن الطمع في نيزك

طبعك والغنى من سواك عنا والبدل منك أعور والعوض لنا. وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضناً به نظري إلى الأمراء كل الصيد في جوف الفرا وفي كل شجر نارا واستمجد المرخ والعفار فما هذه البراءة ممن يتولاك والميل عمن لا يميل عك وهلا كان هواك فيمن هواه فيك ورضاك فيمن رضاه لك. يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم أعيذك ونفسي من أن أشيم خلباً واستمطر جهاماً وأكرم من غير مكرم وأشكو شكوى الجريح إلى العقباء والرخم فما أبسست لك إلا لتدر وحركت لك الحوار إلا لتحن ونبهتك إلا لأنام وسريت إليك إلا لأحمد السرى لديك وإنك إن سنيت عقد أمري تيسر ومتى أعذرت في فك أسري لم يتعذر وعلمك محيط بأن المعروف ثمرة النعمة والشفاعة زكاة المروءة وفضل الجاه تعود به صدقة. وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله لعلي ألقي العصي بذراك وتستقر بي النوى في ظلك وأستأنف التأديب بأدبك والاحتمال على مذهبك فلا أجد للحاسد مجال لحظة ولا أدع للقادح مساغ لفظة والله ميسرك من أطلابي بهذه الطلبة وأشكاي من هذه الشكوى بصنيعة يصيب منها مكان المصنع وتستودعها أحفظ مستودع حسبما أنت خليق له وأنا منك حريٌ به وذلك بيده وهين عليه. ولما توالت غرور هذا النثر واتسقت درره فهز عطف غلوائه وجر ذيل خيلائه عارضه النظم مباهياً بل كايده مداهياً حين أشفق من أن يعطيك استعطافه وتميل بنفسك ألطافه فاستحسن العائدة منه واعتد بالفائدة له وما زال يستكد الذهن العليل والخاطر الكليل حتى زف إليك منه عروساً مجلوَّة في أثوابها منصوصة بحليها وملابسها. وبعد أن أورد القصيدة قال: هاكها أعزك الله ببسطها الأمل ويقبضها الخجل لها ذنب التقصير وحرمة الإخلاص فهب ذنباً لحرمة وأشفع نعمة بنعمة ليتأتى لك الإحسان من جهاته ويسلك إلى الفضل مني طرقاته. دمشق // محمد رشدي الحكيم

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات تاريخ اليعقوبي مجلدان في 940 صفحة طبع بمطبعة بربل في ليدن سنة 1883 من جملة الكتب العربية الذي نشرها الأستاذ هوتسما أحد علماء المشرقيات هذا السفر النفيس لابن واضح من أهل القرن الثالث للهجرة وقد عني بطبعه عناية أخوانه المشتغلين بإحياء آثار الشرق الإسلامي فجاء وافياً بالمرام ساداً ثغرة مهمة في تاريخ الإسلام وقد وشحه باختلاف النسخ وشفعه بفهرس لأسماء الرجال وفهرس بأسماء البلدان التي ورد ذكرها في متن الكتاب ليتيسر الانتفاع به على الطالب في الحال. والنسخة التي ظفر بها الناشر ناقصة من أولها وفيها نقص من بعض فصولها لا يحول دون الانتفاع منها بدأ فيها المؤلف بذكر شيث بن آدم وبعد أن ذكر على عادة أكثر مؤرخي العرب تاريخ الأنبياء تتعرض للكلام على ملوك الإسرائيليين وملوك الموصل ونينوى وملوك بابل والهند واليونانيين والروم وفارس وملوك الجربي والصين ومصر من القبط والبربر والأفارقة والحبشة والسودان ومملكة البجة وملوك اليمن وملوك الشام وملوك الحيرة من اليمن وحرب كندة وأديان العرب وحكامهم وأزلامهم وشعرائهم وأسواقهم وبهذا ينتهي المجلد الأول ويبدأ المجلد الثاني بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام وبتاريخ الإسلام وخلفائه إلى أيام أحمد المعتضد على الله بعبارة سهلة موجزة. وإليك مثالين من الكتاب تعرف بهما طريقة ابن واضع قال في أسواق العرب: كانت أسواق العرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم فمنها دومة الجندل يقوم في شهر ربيع الأول ورؤساؤها غسان وكلب أيُّ الحيين غلب قام ثم المثقر بهجر يقوم سوقها في جمادى الأولى تقوم بها بنو تيم رهط المنذر بن ساوى ثم صحار يقوم في رجب في أول يوم من رجب ولا يحتاج فيها إلى خفارة ثم يرتحلون من صحار إلى ريا بعشرهم فيها الجلندي وآل الجلندي ثم سوق الشحر شحر مهرة فيقوم سوقها تحت ظل الجبل الذي عليه فرهود النبي ولم تكن بها خفارة وكانت سهرة تقوم بها ثم سوق عدن يقوم في أول يوم من شهر رمضان بعشرهم بها الأبناء ومنها كان يحمل الطيب إلى سائر الآفاق ثم سوق صنعاء يقوم في النصف من شهر

رمضان بعشرهم بها الأبناء ثم سوق الرابية بحضرموت ولم يكن يصل إليها إلا بخفارة لأنها لم تكن أرض مملكة وكان من عز فيها بز وكانت كندة تخفر فيها ثم سوق عكاظ بابلي نجد يقوم في ذي القعدة وينزلها قريش وسائر العرب اأن أكثرها مضر وبها كانت مفاخرة العرب وحمالاتهم ومهادناتهم ثم سوق ذي المجاز وكانت تتحل من سوق عكاظ وسوق ذي المجاز إلى مكة لحجهم وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا المحلين وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمين فأما المحلون فكانوا قبائل من بني أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة ابن كنانة وقوم من بني عامر بن صعصعة وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تيم وبني حنظلة بن زيد مناة وقوم من هذيل وقوم من بني شيبان وقوم من بني كلب بن وبرة فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس وكان العرب جميعاً بين هؤلاء تضع أسلحتها في الأشهر الحرم. . . وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجوهها البراقع فيقال أن أول عربي كشف قناعه ظريف بن غنم العنبري ففعلت العرب مثل فعله. أما المثال الثاني فنقتبس منه بعض الجمل فقط دلالة على حرية المؤلف ورداً على من يقول أن مؤرخي بني العباس اضطرتهم السياسة أن يحملوا على بني أمية إرضاء لبني هاشم مع أن أولئك المؤرخين من طعنوا الطعن المبرح بالعباسيين أنفسهم وهم معاصرون لهم كل ذلك بفضل الحرية التي تمتع بها العلم في القرون الأولى لبني العباس قال المؤلف بعد أن ذكر طرفاً من سيرة المتوكل على ما هي معروفة ومن قبض عليهم واستصفى أموالهم من عماله. وفي هذه السنة أمر المتوكل بلبس أهل الذمة الطيالسة العلية وركوبهم البغال والحمير بركب الخشب والسروج التي فيها الاكر ولا يركبون الخيل والبراذين وأن يصيروا على أبوابهم خشباً فيها صور الشياطين. وقال: وأمر المتوكل في هذا الوقت أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من عمل السلطان وأن تهدم الكنائس والبيع المحدثة ومنعوا من العمارة وكتب بذلك إلى الآفاق. ولعل ما دعا المتوكل إلى تشديد الوطأة على أهل الذمة الانتقام منهم عما كان يأتيه ملوك الروم من غزو الأطراف فقد ذكر ابن واضح في ترجمة المتوكل أيضاً أنه لما وجه عنبسة بن إسحاق الضبي لم يقم فيها إلا شهوراً حتى

أناخت الروم على دمياط في خمسة وثمانين مركباً فقتلوا خلقاً من المسلمين وأحرقوا ألفاً وأربعمائة منزل وسبوا من المسلمات ألفاً وثمانمائة وعشرين امرأة ومن نساء القبط ألف امرأة ومن اليهود مائة امرأة وأخذ السلاح الذي كان بدمياط والسقط وتهارب الناس فغرق في البحر نحو ألفين وأقاموا يومين وليلتين ثم انصرفوا. ومع هذا وجه طاغية الروم برسل وهدايا وكانت يسيرة فبعث إليه بأضعافها. وترى من خلال السطور أن المؤرخ يكاد يصرح بسوء حالة المتوكل خصوصاً في سخطه على بعض عماله وتعذيبهم ومما قال فيه: وبنى المتوكل قصوراً وأنفق عليها أموالاً عظاماً منها الشاه والعروش والشبذار والبديع والغريب والبرج وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار. قال وعزم المتوكل على المسير إلى دمشق ووصف له برد هواها وكان محروراً فكتب إلى محمد بن أحمد بن مدبر يأمره باتخاذ القصور وإعداد المنازل وكتب في إصلاح الطرق وإقامة المنازل والمرافد وسار من سر من رأى يوم الاثنين لعشر بقين من ذي القعدة سنة 243 ونزل دمشق يوم الأربعاء لثمانٍ بقين من صفر سنة 344 فنزل تلك القصور فأقام ثمانية وثلثين يوماً وبلغه عن بعض الموالي من الأتراك أمر كرهه فشخص عن دمشق إلى العراق ولم يسافر في ولايته غير هذه السفرة إلا في نزهة ولم ير في سفرته هذه شيئاً ولا نظر في مصلحة أحد وأصابت الشام كله زلازل حتى ذهبت اللاذقية وجبلة ومات عالم من الناس حتى خرج الناس إلى الصحراء وأسلموا منازلهم وما فيها واتصل ذلك شهوراً من سنة 245 وانتقل المتوكل إلى موضع يقال له الماحوزة على ثلثة فراسخ من قصر سر من رأى وبنى هناك مدينة سماها الجعفرية وحفر فيها نهراً من القاطول ونقل الكتاب والدواوين والناس كافة إليها وبنى فيها قصراً لم يسمع بمثله وذلك في المحرم سنة 246. ومما رواه المؤلف في سيرة المأمون وحريته وعلمه أن بشر بن الوليد الكندي قاضيه ببغداد كان قد ضرب رجلاً قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر وأضافه على جمل فلما تقدم المأمون (بغداد وكان متغيباً عنها في الشام) أحضر الفقهاء فقال إني قد نظرت في قضيتك يا بشر فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة ثم أقبل على الفقهاء فقال: أفيكم من وقف على هذا قالوا وما ذاك يا أمير المؤمنين فقال: يا بشر بما أقمت الحد على هذا الرجل قال: بشتم

أبي بكر وعمر قال: لا قال: فوكلوك قال: لا قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم قال: لا قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته فيبطل الحد قال: لا قال: فأمهما كافرتان أم مسلمتان قال: بل كافرتان قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة قال: لا قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق أفيشهد عندك شاهداً عدل قال: قد زكى أحدهما قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين قال: لا قال: ثم أقمت الحد في رمضان فالحدود تقام في شهر رمضان قال: لا قال: ثم جلدته وهو قائم فالمحدود يقام قال: لا قال: ثم شبحته بين العقابين فالمحدود يشبح قال: لا قال: ثم جلدته عريان فالمحدود يعرى قال: لا قال: ثم حملته على جمل فأطفته فالمحدود يطاف به قال: لا قال: ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد فالمحدود يحبس بعد الحد قال: لا قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك خذوا عنه ثيابه واحضروا المحدود ليأخذ حقه منه فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملاً بحقوقه عارفاً بأحكامه تقول الحق وتعمل به وتأمر بالعدل وتؤدب من رغب عنه إن هذا يا أمير المؤمنين حاكم اجتهد في رأيه فأخطأ فلا تفضح به الحكام وتهتك به القضاء فأمر به فحبس في داره حتى مات. والكتاب كله فوائد غزيرة يشف عن علم صاحبه وناشره فيا حبذا لو صحت العزائم في الشرق لإعادة طبعه على صورة أحسن تسهيلاً لاقتنائه لأن معظم الكتب التي نشرها علماء المشرقيات قصدوا بها فائدة بلادهم أو فكراً خاصاً لهم ولذلك يقللون من النسخ المطبوعة منها ما أمكن بحيث يتعذر على ابن المشرق ابتياعها لغلاء أثمانها بالنسبة لما ألف من رخص الكتب في بلاده وكثيراً ما يتطلبها فلا يظفر بها بنسخة لأنها تفقد في مدة قليلة ولا يصل خبرها إلى الشرق إلا وتكون قد نفدت أو كادت. تقويم البلدان قلنا غير مرة أن علماء المشرقيات من الفرنسيس قصروا في العهد الأخير عن اللحاق برصفائهم من الألمان وأن ما ينشرونه اليوم من الكتب العربية دون ما كان أسلافهم ينشرون في النصف الأول من القرن التاسع عشر وكتاب تقويم البلدان تأليف السلطان الملك المؤيد عماد الدين اسمعيل صاحب حماه أكبر شاهد على صحة هذا القول فقد طبعه في باريز بدار الطباعة السلطانية سنة 1840 المسيو رينود والبارون دميسلان بمناظرة

سلفستر دي ساسي شيخ المستشرقين في فرنسا الذي أفضل كثيراً على العرب والعربية بما نشره من آثار السلف. وتقوم البلدان الجغرافية العامة كما يفهم من اسمه عظيم الفائدة من وجوه أقلها أن المؤلف كان من يعد الطبقة الراقية بين علماء القرن الثامن مدقق في كل ما خطته يده من المصنفات فهو في ملوك الطوائف المتأخرين بعلمه وفضله بمنزلة المأمون من خلفاء العباسيين. ظفر الناشر أن كتابه هذا بنسخة صححت على المؤلف وكتب عليها بقلمه بعض التعليقات أو هي نسخة المؤلف فجاءت والعناية قد بذلت بها من أصح ما طبع علماء المشرقيات. اعتمد المؤلف على ما كتبه ابن حوقل والإدريسي وابن سعيد وعلى كتابي العزيزي واللباب ونقل عنهم حتى في جغرافية بلاده وكان أبو الفدا طاف سورية ومصر وقسماً من بلاد العرب من الحجاز وبلغ الفرات فعد كلامه ثقة فيما كتبه والغالب أنه تحدى بطليموس في تقسيماته الجغرافية قال في مقدمته: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله حمداً يليق بجلاله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وبعد فإني طالعت الكتب المؤلفة في البلاد ونواحي الأرض من الجبال والبحار وغيرها فلم أجد فيها كتاباً موفياً بغرضي فمن الكتب التي وقفت عليها في هذا الفن كتاب ابن حوقل وهو كتاب مطول ذكر فيه صفات البلاد مستوفياً غير أنه لم يضبط الأسماء وكذلك لم يذكر الأطوال ولا العروض فصار غالب ما ذكره مجهول الاسم والبقعة ومع ذلك لا تحصل به فائدة تامة وكتاب الشريف الإدريسي في المسالك والممالك وكتاب ابن خرداذبة وغيرها وجميعهم حذوا حذو ابن حوقل في عدم التعرض إلى تحقيق الأسماء والأطوال والعروض وأما الزيجات والكتب المؤلفة في الأطوال والعروض فإنها عرية عن تحقيق الأسامي وعن ذكر صفات المدن وأما الكتب المؤلفة في تصحيح الأسماء وضبطها مثل كتاب الأنساب للسمعاني والمشترك لياقوت الحموي وكتاب مزيل الارتياب عن مشتبه الأنساب وكتاب الفيصل كلامهما لأبي المجد إسمعيل بن هبة الله الموصلي فإنها اشتملت على ضبط الأسماء وتحقيقها من غير تعرض إلى الأطوال والعروض ومع الجهل بالأطوال والعروض بجهل سمت ذلك البلد فلا يعرف الشرقي منها ولا الغربي ولا الجنوبي ولا الشمالي.

ولما وقفنا على ذلك وتأملناه جمعنا في ها المختصر ما تفرق في الكتب المذكورة من غير أن ندعي الإحاطة بجميع البلاد أو بغالبها فإن ذلك أمر لا مطمع في الإحاطة به فإن جميع الكتب المؤلفة في هذا الفن لا تشتمل إلا على القليل إلى الغاية فإن إقليم الصين مع عظمته وكثرة مدنه لم يقع إلينا من أخباره إلا الشاذ النادر وهو مع ذلك غير محقق وكذلك بلاد البلغار وبلاد الجركس وبلاد الروس وبلاد السرب وبلاد الأولق (الأولاح) وبلاد الفرنج من الخليج القسطنطيني إلى البحر المحيط الغربي فإنها بلاد كثيرة وممالك عظيمة متسعة إلى الغاية ومع ذلك فإن أسماء مدنها وأحوالها مجهولة عندنا لم يذكر منها إلا القليل النادر وكذلك بلاد السودان من جهة الجنوب فإنها أيضاً بلاد كثيرة لجنوس مختلفة من الحبش والزنج والنوبة والتكرور والزيلع وغيرهم فانه لم يقع إلينا من أحبار بلادهم إلا القليل النادر وغالب كتب المسالك والممالك إنما حققوا بلاد الإسلام ومع ذلك فلم يحصوها عن آخرها ولكن كما قيل ما لم يعلم كله لا يترك كله فإن العلم بالبعض خير من الجهل بالكل وقد جمعنا في هذا المختصر ما تفرق في كتب عديدة على ما سنقف عليه إن شاء الله عند ذكرها وحذونا في تأليفه حذو ابن جزلة في كتاب تقويم الأبدان في الطب وسمينا كتابنا هذا تقويم البلدان. بدأ المؤلف بكر الأرض والأقاليم السبعة والأبحار والأطوال والخلجان والبحيرات والأنهار والجبال قال في الكلام على ترتيب كتابه: أما ترتيبه فانه مجدول على وضع التقاويم وقد ذكرنا فيه الإقليم الحقيقي والإقليم العرفي في بيتين والمراد بالإقليم الحقيقي أحد الأقاليم السبعة المقدم ذكرها والعرفي كل ناحية أو مملكة تشتمل على عدة كثيرة من الأماكن والبلاد مثل الشام والعراق وغيرهما. قال وقد جعلنا في الجدول بيتاً لضبط الأسماء فإن في هذه الأسامي أسماء أعجمية لا يهتدي إليها بغير ضبط وكذلك في الأسماء المشهورة أسماءٌ قد غيرتها العامة تارة بتغيير الفتحة إلى الكسرة أو الضمة وبالعكس وتارة بزيادة الحروف في الكلمة وتارة بالتنقيص مثل ما يقولون في تبريز توريز وتستر شثتر ومثل ما يقولون تدمر بضم التاء وهي بالفتح فلذلك احتجنا إلى ضبط الأسماء وذكرنا في الهامش من فوق وتحت كلاماً على ذلك الإقليم وتحديده وذكر بعض مسافاته ونحو ذلك وأما ترتيب الأماكن وتقديم بعضها على بعض في الذكر فانه أمر لم يتهيأ لنا فيه ترتيب يرضينا فتبعنا فيه ابن حوقل

وابتدأنا بجزيرة العرب لكون بيت الله الحرام وقبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام فيها. ومع أن مؤلفنا اعتذر بتعذر الوصول إلى أحبار بلاد الإفرنج فقد ذكر منها جملة صالحة فذكر منها مملكة بولية على بحر الروم عند فم جون البنادقة من غربية وهي تقابل مملكة الباسليسة التي من البر الآخر وملك بولية كان يقال له في زمانه الريدشار وذكر بلاد فلفرية والمرا (المورة) والملغجوط وافلرنس والتسقاله (إيطاليا) واستنبرى والروس وافرنسة وألمانية وذكر مدينة باريز فقال: مدينة بريس قاعدة فرنسا وهي ثلاث قطع كما هي مدينة الباب فالوسطى التي في الجزيرة لفرنسيس سلطان الفرنج والجنوبية للجند والشمالية لسائر قوامسهم وتجارهم ورعيتهم وذكر عن ابن سعيد بلاد الباشقرد وهم ترك جاورا الألمانيين على عهد متواثق وهم مسلمون من جهة فقيه تركماني نصرهم بشرائع الإسلام وأكثر عمائرهم على نهر دوما وعلى جنوبيه قاعدتهم قرات وهي مما دخله التتر وخربوه وأهلكوا أهله وفي شرقيها بلاد الصنقر (المجر) اخوة الباشقرد تنصر والمجاورة الألمانيين ولهم مدائن وعمائر على النهر الكبير مستعجمة وقاعدتهم مدينة ترتبوا وذكر بلاد اللنبردية وجنوة وبيزة والبندقية ورومية وبرشان (قاعدة امة البرجان) قال فيهم وكان لهم شهرة وبأس قديم الزمان فاستولت عليهم الألمانية وأبادوهم حتى لم يبق منهم أحد ولا بقي لهم أثر وذكر مدن أثينة وقسطنطينية وتسمى بوزنطيا وماقذوينية وصقجي وابروز وطرنو وبلاد (بلغار) وطلوزة قال ابن سعيد وفي شرقي بردال مدينة طلوزة يقال أن لصاحبها الفرنجي في الجبال التي في شمالية وشرقيه ما ينيف على ألف حصن وهو قريب من صاحب فرنسة والنهر في جنوبيها يصعد منه مراكب البحر المحيط إليها بالقصدير والنحاس اللذان يجلبان من جزيرة أنكطرة وجزيرة أرلندة وتحمل على الظهر إلى تربونة ومنها تحمل في مراكب الفرنج في الإسكندرية. وذكر مدينة مرشيلية ومدينة سبقلوا في شمالي جبل جرواسيا قال فيها نقلاً عن ابن سعيد أنه يصنع فيها السيوف الألمانية المشهورة ولها معدن حديد بحبلها ويقال أن في مكانٍ منه معدن حديد مسموم يصنع منه السيوف والخناجر لا يبيح الملوك انتسابها لغيرهم وفي شرقيها وسمت عرضها مدينة نفصين (هصن؟) وهي مخصوصة بعلماء ألمانية وحكمائهم. وذكر عراز ولو شيرة وسنقو ومشقة وبرغاذما. ومن هذه المدن ما دثر الآن أو تغير اسمه.

وقصارى القول أن كتاب أبي الفدا من أصدق كتب الجغرافية العربية التي ألفت في القرون الوسطى وكأنها ألفت في هذا القرن لم يفض صاحبها إلا فيما علم فكان حجة ثبتاً في كل ما روى تكاد لا تقرأ له خرافة ينكرها طبعك وتنافي ارتقاء العصر الحاضر فيا حبذا لو صحت همة أحد لطبعه فإن نسخة فقدت ولا تكاد توجد إلا في مكاتب الخاصة ودور الكتب العامة.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار بدائع الصنائع والمرأة المسلمة في العصور المتقدمة تكلمتم في الجزء العاشر من المجلد الخامس على كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع وبينتم فضل الكتاب وما له من المكانة عند المشتغلين بفقه الإمام الأعظم فأحببت أن أتحف قراء المجلة بترجمة المؤلف وترجمة أستاذه وبنت أستاذه زوجته فاطمة الفاضلة فإنها أنموذج مما كانت عليه الأمة الإسلامية من العناية بتربية النساء. قال الفاضل محمد عبد الحي اللكنوي الهندي في طبقاته المسماة بالفوائد البهية في تراجم الحنفية في صفحة 158: محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو بكر علاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء أستاذ صاحب البدائع شيخ كبير فاضل جليل القدر تفقه على أبي المعين ميمون المحكولي على صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي وكانت ابنته فاطمة الفقيهة العلامة زوجة علاء الدين أبي بكر صاحب البدائع وكانت تفقهت على أبيها (وحفظت تحفته) وكان زوجها يخطئُ فترده إلى الصواب وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها. وقال في الكتاب الموسوم بمدينة العلوم (وهو من البقية الباقية من نفائس مخطوطات مكتبة المدرسة العثمانية بحلب) كتاب التحفة للشيخ الإمام محمد بن أحمد بن أبي أحمد علاء الدين السمرقندي وهو الذي تزوج الكاساني ابنته فاطمة وشرح تحفته وفاطمة هذه كانت تنقل المذهب نقلاً جيداً وربما ترد فتوى زوجها الكاساني ويرجع هو إلى قولها وكانت الفتوى أولاً تخرج عليها وعليها خطها وخط أبيها السمرقندي ثم كانت تخرج بخطهما وخط زوجها الكاساني وكانت في يدي فاطمة سواران (باعتهما) وعملت بالثمن الفطور كل ليلة بالحلاوى واستمر ذلك إلى اليوم ولهذا سميت تلك المدرسة بالحلاوية (لم يزل هذا اسمها وهي من آثار نور الدين الشهيد عمرها سنة 554). وقال في الفوائد البهية أيضاً في صفحة 53: أبو بكر بن مسعود بن أحمد علاء الدين ملك العلماء الكاساني صاحب البدائع شرح تحفة الفقهاء أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي صاحب التحفة عن صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي وعن أبي المعين ميمون المكولي وعن مجد الأئمة السرخسي وله كتاب السلطان المبين في أصول الدين وتفقه عليه

ابنه محمود وأحمد بن محمود الغنزوي صاحب المقدمة العزنوية مات في عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة ودفن بظاهر حلب عند قبر زوجته فاطمة ابنة صاحب التحفة الفقهية العالمة والدعاء عند قبرهما مستجاب قال الجامع قال علي القارئ أنه مصنف البدائع الكتاب الكامل الجليل والسلطان المبين قيل وسماه المعتمد ومن شعره: سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همه ولاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال بالضلالة مدلهمه يريد الجاهلون ليطفؤوه ... ويأبى الله إلا أن يتمه وتفقه علي أحمد بن محمد السمرقندي وقرأ عليه معظم تصانيفه وزوجه شيخه ابنته فاطمة وقيل أن سبب تزويجها أنها كانت من حسان النساء وكانت حفظت التحفة لأبيها وطلبها جماعة من ملوك بلاد الروم ولما صنف صاحب الترجمة البدائع وهو شرح التحفة وعرضها على شيخه ازداد به فرحاً وزوجه ابنته وجعل مهرها منه ذلك فقالوا في عصره شرح تحفته وتزوج ابنته وأرسل صاحب البدائع رسولاً من ملك بلاد الروم إلى نور الدين محمود بحلب وكان قبل ذلك قدم الرضا السرخسي صاحب المحيط إلى صاحب فولاه نور الدين الحلاوية وأتقن عزله فولاه نور الدين الحلاوية فتلقاه الفقهاء بالقبول. وقال ابن العديم سمعت ضياء الدين الحنفي قال حضرت الكاساني عند موته فشرع في قراءة سورة إبراهيم حتى بلغ قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) فخرجت روحه ودفن عند زوجته داخل مقام الخليل بظاهر حلب والدعاء عند قبريهما مستجاب ويعرف عند الزوار في حلب بقبر المرأة وزوجها انتهى قلت إن الأشعار التي نسبها إليه وقد نسبها حسن جلبي في حواشي التلويح إلى الحكيم عمر الخيام والله أعلم. ونسبته إلى الكاساني بالكاف ثم الألف ثم النون بلدة وراء الشاش ذكره السمعاني وقد يقال في نسبته الكاشاني بالمعجمة بدل المهملة وفي مشتبه النسبة للذهني قاسان بلد كبير بتركستان خلف سيحون وأهلها يقولون كاسان وكانت من محاسن الدنيا خربت باستيلاء الترك عليها ومنها العلامة علاء الدين الكاساني من أئمة الحنفية بدمشق (صوابه بحلب) أيام الملك نور الدين انتهى. قال العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار في أوائل باب الطهارة ما نصه: هذا الكتاب (أي البدائع) جليل الشأن لم أر له نظيراً في كتبنا.

وقد أكثر العلامة المذكور في حاشيته من النقل عنه والمتتبع لها يرى أنه حينما يأتي بالنقل عنه يكون قد آّن بالإتيان بما فيه فصل الخطاب في المسائل المختلف فيها. فكتاب يلقب المؤرخون صاحبه بملك العلماء ويشهد فيه العلامة ابن عابدين هذه الشهادة ويكون عمدته في حاشيته التي عليها المعول في عصرنا هذا يدل دلالة واضحة على عظم فضل مؤلفه وجلالة قدره وغزارة مادته ومع هذا الفضل والعلم الزاخر كانت زوجته فاطمة ربما ردت فتواه ورجع هو إلى قولها ولا ريب أنه لم تقدم على ذلك إلا حينما آنست من نفسها أنها ضاهته في العلم وبلغت مبلغه في الفضل. وحسبنا هذا دليلاً على ما وصلت إليه المرأة المسلمة من الرقي في تلك العصور وقايس أيها القارئ بين أمثال هذه الفاضلة وبين المرأة المسلمة في عصرنا هذا وقل لي رعاك الله هل يوجد اليوم في مشارق الأرض ومغاربها امرأة مسلمة حازت من العلياء هذه الدرجة وقل لهؤلاء العلماء القائلين بتحريم تعليم المرأة الكتابة أكان صاحب التحفة السمرقندي الذي هذب ابنته فاطمة وعلمها ما علمها جاهلاً بالحكم الذي يعلمه هؤلاء. فهل لنا أن نأخذ من ترجمة هذه الفاضلة درس عظة يوقظنا من سباتنا ويبعثنا من أجداث خمولنا ويرشدنا إلى النهوض إلى تعليم بناتنا واجباتهم الدينية وحوائجهم الدنيوية لنحيى في الدنيا حياة طيبة ونعيش في الآخرة عيشة راضية. حلب // محمد راغب طباع (تنبيه) علم مما تقدم أن بدائع الصنائع هو شرح لتحفة الفقهاء لكن المتصفح للكتاب لا يرى فيه المتن البتة وذلك لأنه شرح على طريقة المتقدمين أي أنه أتى إلى كل بحث من أبحاث التحفة فوسع دائرته وجعله فصلاً ومزج المتن مع الشرح مزجاً لا يمكن التفرقة بينهما إلا لمن يرى التحفة على حدتها فالكتاب عبارة عن فصول متتابعة. تجدد إيطاليا كتب أحدهم في المجلة مقالة تحت هذا العنوان قال فيها ما محصله: كلما خرقوا جانباً من جبال الألب ينزل على إيطاليا ينبوع من الخصب والمال وبينا تجد العجز مستحكماً في ميزانيات ألمانيا وإنكلترا وفرنسا ترى ميزانية إيطاليا يزيد دخلها على خرجها فزادت تجارة إيطاليا الخارجية منذ أواخر القرن التاسع عشر بقوة عجيبة لم تضاهها به التجارة

الألمانية ولا تجارة الولايات المتحدة. نمت تجارة أميركا 85 في المئة وألمانيا 84 في المئة وفرنسا 50 وإنكلترا 40 أما إيطاليا فقد زادت 99 في المئة. ومدينة ميلان معهد المقدمين من الماليين كما هي معهد دعاة الاشتراكية المتحمسين ولكنهم يراعون النظام في حركاتهم ومطالبهم وما قط أهرقوا دماً حراماً واغتصبوا مالاً حراماً فالاشتراكيون على جرأتهم والماليون كذلك ويكفي أن مدينتي تورين وميلان قد أقدمتا على صنع السيارات (الأتومبيل) قبل فرنسا وربحتا أرباحاً طائلة. وبعد فإن إيطاليا مخصبة برجالها كما هي مخصبة بالأعمال والواردات ومعدل نفوسها أكثر من ألمانيا ففي كل كيلو متر من بلادها 117 ساكناً على حين لا يوجد في كل كيلو متر من ألمانيا سوى 104 أشخاص. وينسب الاجتماعيون نفوس الشعب الإيطالي المتزايد لاعتياد البكور في الزواج فقد تجد عروساً في الخامسة عشرة من عمرها وأمَّاً في السادسة عشرة في كل خطورة تسيرها في البلاد يغلب على العامل الإيطالي القناعة والعمل والاقتصاد وهو مولع بحب الأسرة فإذا ابتعد عنها فإنما يبتعد ليكون عوناً لها ولا يغادر المهاجر الإيطالي بيته إلا ليوطد دعائمه وهو أبداً يحلم بالعودة إليه. العامل الإيطالي مثال القناعة والتوفير والصبر أعطه من الأجر ما يموت مثله العامل الإنكليزي. وتراه مع ذلك وتراه مع ذلك يقتصد من أجرته جانباً في صندوق التوفير نعم إن أجرة اليد العاملة في إيطاليا رخيصة ولكن الوقود فيها قليل فتكاد لا تجد في تلك البلاد الخصبة فحماً حجرياً وليست ميناء جين دون مرسيليا بتجارتها فإذا كانت مارسيليا ثغر فرنسا تدخلها البضائع تنقل منها إلى غيرها فإن جين مصرف مهم لداخلية إيطاليا فقد وقف عليها سنة 1910 - 13 ألف سفينة في حين وقف على مارسيليا 17 ألفاً وكان حظ جين سبعة ملايين طن من البضائع وحظ مارسيليا ثمانية واعتصاب العملة غير مألوف كما هو مألوف في مارسيليا لأن العملة يعرفون أن مصلحتهم مرتبطة بمصلحة معلميهم ولذلك يحلون بينهم كل إشكال يقع بالحسنى. قال ولقد أوشكت إيطاليا أن تموت مرتين وما لاقته من الشدائد لا يخلو من عبرة فقد ماتت للمرة الأولى عندما داهمها برابرة الشمال وجعلوا أعزة أهلها أذلة وذلك لأنها نقضت عهد وطنيتها وأفسدت أخلاق ساكنيها وأهملت زراعتها وأضعفت جيشها فأعادت البابوية الحياة

إلى رومية وبدلاً من تأليه قيصر ثارت تذكر اسم الله ثم جاء دور النهضة والت بالمفننين والشاعرين ورجال الحرب والسياسة من أبنائها. وتراجع عمران رومية للمرة الثانية بما حدث من الغوائل بين البابا والإمبراطور حتى إذا كانت الثورة الفرنسوية انتفضت إيطاليا كما انتفض العصفور بلله القطر. وفي أواسط القرن التاسع عشر نشأت تلك الثورة الوطنية التي كان من نتائجها وصول إيطاليا إلى ما وصلت إليه. كانت إيطاليا منذ ستين سنة منقسمة إلى ممالك حقيرة كلحم على وضم فمن مقاطعة صقلية إلى رومان إلى اميليا إلى طوسكانيا إلى بيمون ومن كان يرجو أن يداً صناع تقدر على عجن هذه الأجزاء المنحلة لتوحيدها وإرجاعها إلى الحياة وكم من إيطالي عظيم مات وهو يفكر في هذا الأمر الجلل ويرسم هذه الخطة العجيبة. ولقد تهيأ لإيطاليا مثل غاريبالدي الذي قاد فتيانها ومازيني الذي كانت حظوته من الشعب سلاحاً أقوى من كلا سلاح وكافور رجل السياسة الذي أحيا الزراعة كما لمَّ شعث الجيش وأقام نصاب العدل والحق كما فاوض أوربا فجعل إيطاليا وطناً. وهكذا بني بناء الوحدة الإيطالية بسرعة ومواد متينة على أرض لا تتزعزع فتوطدت دعائم هذا البناء منذ خمسين سنة وعادت رومية عاصمة إيطاليا الجديدة وميلان وتورين ونابل هي مدن العمل النافع الرافع. ولا بسبيزيا وجين هما ولا مراء ثغران تنبعث منهما الحياة القوية فإيطاليا مملوءة بماض وهي كذلك في المستقبل ترى فيها بقايا العاديات كما تجد فيها المجددات والمبتدعات وأن أرواح عظماء رجالها المفننين أمثال ميشيل آنج وليوناردي فتسي لتسر بما ترى الآن من معامل لومبارديا المائة الكهربائية العجيبة والمناطيد الطيارة السابحة في الفضاء. كم من آمال تحققت في إيطاليا ففيها أرادت مملكة القياصرة ثم البابوية أن تلقي السلام في العالم وفيها نشأت الخطط الشريفة في الأبنية الاجتماعية والإلهامات الصناعية العجيبة وكل ما ينهض بالأمم ويعلي مقامها قد بدأ في صور بديعة لطيفة فإيطاليا من ثم معمل الكمال والخيال. المقعدون والصناعة في كل مجتمع أفراد مصابون بعاهات تمنعهم عن تعاطي كثير من الأعمال فما هي الوسائل التي يجب على المجتمع أن يقوم بها نحوهم؟ يجيب الإنسان لأول وهلة أنه يجب عليه أن

يعلمهم حرفة يحترفون بها وهذا ما قامت به المدرسة الخيرية في مدينة نيويورك من المساعدة للانتفاع من المقعدين فقد رأت بعد البحث العميق أن صنعة الصياغة أوفق ما يكون لهؤلاء المنكودي الحظ لأسباب أهمها أن هذه الحرفة لا تتطلب كثيراً القوة الجسدية وفي استطاعة الصانع أن يعمل طول النهار دون أن يضطر إلى الوقوف وطلب صناع ماهرين في هذه الصنعة متواصل ولا يخشى عليها من تهافت المهاجرين الأقوياء فيفسدونها على أهلها فيفسدونها على أهلها كما أفسدوا كثيراً من الصناعات البسيطة إذ هذه الحرفة تحتاج إلى مهارة لا تتأتى إلا بصرف وقت غير قصير في تعلمها. فلهذه الغاية أنشأت تلك المدرسة صفاً للمقعدين يتعلمون فيه هذه الحرفة تحت رعاية صانع ماهر وهم الآن يصلحون ما يدفع إليهم من العقود المجوهرات المنتثرة بالأجرة عدا عما يصيغونه ويبيعونه على حسابهم والمدرسة ستجد لهم محال في المعامل متى أتموا تعليمهم. نادي السجناء كثير من الأحداث الذين يدخلون السجون لجرائم ارتكبوها ثم يخرجون منها عازمين على أن يكونوا مستقيمين في مسلكهم ولكنهم لا يجدون عملاً ساعة خروجهم ينتج لهم منه ما يقوم بأودهم االناس تحجم عن استخدامهم لعدم الثقة بهم فيجبرون على ارتكاب جرائم أخرى طلباً للرزق فيزجون في أعماق السجون. فلمساعدة أمثال هؤلاء الأحداث أسس في بركلن أحد أحياء مدينة نيويورك نادٍ يأوون إليه ريثما يحصل الواحد منهم على عمل يقتات منه فعندها يترك النادي. والآن يوجد كثير ممن ساعدهم هذا النادي يقومون بأعمال مفيدة وهم يمدونه بما لديهم من الوسائل. طهارة اللبن قال أحد فلاسفة العصر حقق لي طهارة اللبن الذي يتناوله الطفل أؤكد لك سلامته وما زال علماء العالم منذ أمد بعيد يبحثون عن الوسائل لحفظ اللبن من الجراثيم المتعددة الأنواع التي تضر بصحة البالغين فضلاً عن الأطفال فلهذه الغاية اخترع وعاءٌ مؤلف من وعاءين الواحد ضمن الآخر الأول من المعدن والثاني من الخشب وبينهما فسحة لوضع الجليد لكي يحفظ اللبن رطباً والوعآن محكمان يمر من الوعاء الداخلي أنبوب يفرغ إلى وعاء آخر خارج الاثنين ذو نمر كل نمرة تشير إلى كذا من الوزن فلا يتكلف البائع إلا لفتح أنبوب

يفرغ إلى الوعاء المعير ويضع فيه قدر ما يطلب الزبون ثم يغلقه ويفتح أنبوباً آخر يفضي إلى أبريق الزبون فبهذه الواسطة يكون قد حفظ اللبن من الفساد بالحر ولم يدخل إليه شيء من الجراثيم وقت المناولة. الراحة في السفر قد فتح حديثاً في مدينة بونس آيرس عاصمة الجمهورية الفضية نزل يسع 3200 نزيل وهو زل حسن البناء والفرش ذو طابقين وفيه إدارة خصوصية لبيع طاقات السفر في السكك الحديدية فالنازل فيه لا يحتاج إلى الخروج منه إلا إذا كان يريد السفر في داخل البلاد لابتياع البطاقة وشحن أثقاله. إصلاح زي المرأة أهمل النساء في ملابسهن مقتضيات الصحة وراعين شروط الجمال فعمدن إلى المشد التماساً لدقة الخصر وبروز الصدر وارتدين بروداً لا تدفع تأثيرات الطقس إلى غير ذلك مما أنهك الأجسام وأعدها لعوادي الضعف والوهن والنشاء لاهيات بالمظاهر الخلابة عما وراءها من النحول والسقم ولما استفحل شر هذا الداء تألفت في ألمانيا جمعية نسائية غرضها إصلاح الأزياء عل ما تقتضيه شروط الصحة وانضم إليها كثيرات من علية نساء الألمان وأصدرن مجلة وضعن فيها رسوم الأزياء الصحية ودعت الأديبات فيها إلى خلع الأزياء الجديدة وفي مقدمة أولئك الكاتبات ملكة رومانيا. وسرت الحركة إلى فرنسا فاهتمت مجلاتها بهذا الإصلاح ونشرت فيه الفصول الضافية وحرضت الجمعيات النسائية في فرانسا على اقتفاء أثر الجمعية الألمانية. وانتشرت هذه الفكرة في بلاد الإنكليز فكانت الملكة أول من أبرزت الفكر إلى حيز العمل فأصدرت منشوراً نسائياً لنساء الشرفاء صرحت فيه أنها لا تقبل في البلاط إلا من ارتدين بأكسية واسعة عينتها لهن وأنكرت الترف والفخفخة على نساء الأغنياء. وعسى أن تنهض نساء الشرق إلى مجاراة أخواتهن في البلاد الراقية. السكر الآسيوي يصطنعون في الشرق أنواعاً من السكر غير معروفة في الغرب منها ما يصنع في نيبون ويدعى سكر الرز ويسميه الأهلون ميزيام أي السكر السائل لأنه غير جامد تماماً ولذلك لا

يمكن تداوله في التجارة وإنما يرسلون منه زجاجات محكمة السد تحتوي الواحدة منها من 500 غرام تباع بنحو ثمانية غروش وتلك الزجاجات تحفظ السكر من الفساد ولكنها إذا استمرت مفتوحة هنيهة خثر السكر وتفه طعمه والتجار يستعملونه لإلصاق الغلافات وطوابع البريد ويصطنع الصينيون نوعاً آخر من الجاروس فيستخرجون عصارة النبات ويضعونها أياماً في أوعية صغيرة معرضة لحرارة الشمس فتتبخر المياه ويرسب في قعر الوعاء مقدار من السكر ينشرونه على مائدة.

الاركيولوجيا

الاركيولوجيا //// الاركيولوجيا كلمة يونانية معناها الكلام على العاديات أو الآثار القديمة. وقد خص استعمالها مؤخراً بالبحث عن قدم الإنسان وحال معيشته حتى زمن التاريخ. وقبل الدخول في البحث عن تاريخ الإنسان القديم لا بد من تمهيد جيولوجي لشدة علاقة موضوعنا بعلم اليولوجيا - أي قدم العالم - فنقول: يرى معظم علماء الجيولوجيا أن الأرض كانت قديماً سديمية القوام ثم جمدت فبردت قشرتها الظاهرة بعد زمن طويل إلى أن صارت صالحة لظهور الحياة عليها فظهرت (بقوة علة العلل) منذ مئات الألوف من السنين. ويسمى زمن ظهورها بالدور الثلاثي وتلا هذا الدور الرباعي فوجد الإنسان في أوائله عل الأرجح. ويرى بعضهم أن الإنسان ظهر في أواخر الدور الثلاثي غير أن الآثار التي يعتمدون عليها لتعضيد رأيهم ليست بثبت. ثم جاء العصر الحجري الطويل المدة حين كان أسلافنا الأقدمون يستخدمون الأدوات الظرانية من حجارة العسوان. وعقب هذا الزمان البرونزي فالحديدي وفيه بدأت الحضارة الحقيقية ووضح التاريخ. والأزمنة الثلاثة الأخيرة من أخص مباحث الاركيولوجيا. وتختلف مدد هذه العصور في طولها فبعضها يتخطى عشرات الألوف من السنين وبعضها كالزمان البرونزي لا يتجاوز ثلاثة آلاف سنة. وبما أن ما اكتشف من آثار الدور الرابع لا يزال في معرض البحث والتخليص من شوائب الريب نبدأ ببيان عاديات العصر الحجري التي قد كشف للآن شيءٌ كثيرٌ منها. ويتبين من هذه الآثار أن الإنسان ظهر على الأرض منذ نحو عشرين ألف سنة على الأقل ومائة ألف سنة على الأكثر. العصر الحجري - هذا العصر قديم جداً سابق لأقدم التواريخ البشرية من مثل الهيوروغليفية المدونة على هياكل مصر وفي مدافنها. وانتهى على الجملة قبل المسيح بنحو ثلاثة آلاف سنة. غير أن بعض البلدان كمصر كانت قد تحضرت قبل المسيح بستة إلى سبعة آلاف سنة وغيرها بقي إلى ما بعد ذلك بزمن طويل في حالة الهمجية كما يرى اليوم في سكان أوستراليا الأصليين وبعض أهالي جزر المحيط وغيرهم المنفصلين عن العالم المتحضر.

وبقسم علماء الاركيولوجيا العصر الحجري إلى عدة أزمنة أضربنا عن ذكرها لنسوق الكلام عليه هنا خلواً من عرقلة التقسيم والتداخل. ويظهر من الآثار القديمة أن الإنسان لم يهتد في أوربا إلى استعمال المعادن إلا قبل التاريخ المسيحي بألفين إلى ثلاثة آلاف سنة حين بدأ باستعمال البرونز وبعد ذلك استعمال الحديد (قبل المسيح بنحو ألف سنة). ولذلك فالخصر الحجري في أوربا وكثير من أنحاء العالم انتهى في بدء زمان استعمال المعادن بعد أن استمر زمناً طويلاً. وقد وجدت آثار عديدة في جميع أنحاء العالم تدل على أن الإنسان استعمل الأدوات الصوانية في همجيته حيث حل في القارات الست. وكانت هذه الأدوات خشنة الملمس غير متقنة في أوائل عهد الهمجية ثم أتثنت شيئاً فشيئاً في زمن سكن الكهوف ثم صقلت وارتقت في أواخر العصر الذي تلاه زمن يسمى بالجديد وهو ما نسميه هنا بزمن العبور من العصر الحجري إلى الزمن المعدني أي استعمال المعادن. وفي جملة ما عثر عليه الباحثون من البقايا الحيوانية والآلات الصوانية في كنت ببلاد الإنكليز وفي بلجيوم وألمانيا وفرنسا ومصر وآسيا واليابان وأواسط أفريقية والمكسيك وغيرها ما يدل دلالة واضحة على كيفية معيشة الإنسان قديماً وعلى أنواع الحيوانات المعاصرة له التي انقرض بعضها الآن كالمموث والفيل الكبير ونوع من فرس البحر هائل الجثة وكثير من الطيور التي لو رأينا هياكلها الآن لهالنا كبر حجمها وغرابة منظرها. وقد وجدت عظام هذه لحيوانات المنقرضة بجانب أدوات الإنسان في مدافنه وكهوفه ورئي شيء من لحم بعضها لا يزال لاصقاً بالعظام. العصر الجليدي - واستدل علماء الآثار من أدلة عديدة وجدوها في طبقات متباينة العمق تحت الأرض وفي كهوف كلسية أن نصف الكرة الشمالي كان معتدل الهواء في أواسط الدور الثلاثي إلا أن سطح أوربا الشمالي كان في ذلك الوقت غير ما كان عليه في الدور الرباعي بعده. فكانت مياه الأوقيانوس الشمالي تغطي جميع الأراضي الواقعة الآن إلى الشمال من خط يمد من جنوب إنكلترا إلى بطرسبرج. وبعد ذلك شخصت جبال الألب والقوقاس والكربتيان وباقي الجبال فغبرت هواء تلك الأصقاع بما أحدثته من الرطوبة

والبرد فتجلدت المياه وكانت تذوب صيفاً فيتكون منها أنهر جليدية تكسح في طريقها الشواخص وتخدد المطمئنات حاملة الأوحال إلى أبعاد سحيقة وجارفة الصخور تسحل بها وجه الأرض. فنجم عن ذلك النواتيء الصخرية والرواسب الترابية في السهول كما نشاهده اليوم. ويقدر العلماء أن عمق الجليد في الدور المذكور المسمى بالجليدي أيضاً بلغ في جهات اسكندينافيا نحواً من ستة آلاف قدم. وجعل يقل شيئاً فشيئاً في الجنوب حتى محاذاة إنكلترا ولكنه لم يبلغ قط جنوبيها كما ظهر من تحليل تربة الأنهر الجليدية عند لندن. والغريب أنه كان يتخلل هذا الدور القارس مدد معتدلة الهواء تدل عليها بقايا الأشجار الحيوانات المتحجرة. فتقلبات كهذه لا يمكن تصورها كما هي حقيقة لعدم وجود مماثل لها في عصرنا الثابت أو القليل التغيرات. زمن سكنى الكهوف - حدثت في القرن السادس عشر أن عني أهل أوربا بالبحث عن قرن الكركدن القديم المعروف بوحيد القرن لاعتقاد عامتهم أن لهذه القرون خاصة الشفاء من كثير من الأمراض فجر البحث عنه ذلك إلى اكتشاف كثير من الكهوف والمغاور التي كان يسكنها الإنسان. ووجد فيها من الآنية والأدوات الظرانية ما يكفي للدلالة على نوع معيشة الإنسان في أواسط العصر الحجري. إلا أن هذه الأبحاث لم تأخذ وجهة علمية إلا منذ نحو قرن حين عثر على مغاور الضباع الهائلة التي كانت تفترس المموث وفرس البحر. وكان المظنون أن هذه الآثار سابقة لظهور الإنسان غير أهم اكتشفوا بعد ذلك كهف كنت وهو من هذا النوع فوجدوا فيه آثار الإنسان وآثار وهذه الحيوانات المنقرضة جنباً إلى جنب فعلوا أن الإنسان كان معاصراً لها وقد ارتقى شيئاً فشيئاً يشبه بعض متوحشي أوستراليا اليوم. ولكنه أرقى من متوحشي جزائر صندويج لأنهم اكتشفوا على نقوش ورسوم رسمها على العظام تشهد له بالتفوق حتى على بعض منحطي أهل زماننا. وإني شهدت رسم الوعل والمموث وغيره منقولاً عنه عظام محفوظة في متحف بريطانيا فدهشت لدقة صنعها وإتقان رسمها إتقاناً تقتضي له حنكة ورياضة وارتقاءٌ عقلي مما لا يمكن أن يتم إلا بعد عصور عديدة من التقدم التدريجي. ويتصف هذا الزمان بكثرة الأوهام حتى أن لمعظم أوهام أوربا علاقة بسكان الكهوف. زمن الظران المصقول - بعد أن مضى على الإنسان ردح من الدهر وهو يستعمل الآلات

الصوانية السمجة الخشنة الملمس توصل إلى صقلها وجعلها مستطيلة أكثر من سابقاتها المائلة إلى الاستدارة وجعل يعتني بمقالع الصوان ويبحث في الأرض بقرون الحيوانات كالوعل لاستخراج أفضل أنواعها. وكان من يستعمل المطارق من الصوان أيضاً ومن الحجارة المستديرة القاسية. وفي هذا الزمان أكثر انتشار الإنسان في الأرض لأن آثاره وجدت في معظم جهات العالم. زمن العبور من الهمجية إلى الحضارة - مر على الإنسان نحو ألف سنة حاول فيها العبور من استعمال الحجارة إلى استخدام المعادن. وكان الناس في آخر هذا الزمن قد ارتقوا كثيراً عن سابق عهدهم حتى أنه وجد عند اكتشاف أميركا من بقايا الهنود وآثارهم الراقية ما يخجل سادتهم الأسبانيين الفاتحين ووجدت كتابات رمزية في المكسيك لم يهتد العلماء إلى حل رموزها إلى الآن ولسوف تحل مع الزمان فيكون من وراء ذلك أعظم فائدة للتاريخ. لأن في المكسيك شيئاً كثيراً منها فلا تقل فائدتها عن كشف رموز اللغة الهيروغليفية في وادي النيل خصوصاً لأن رسومها تماثل شيئاً ما في الهند والصين وحيواناتها تشبه حيوانات هاتين المملكتين فإذا حلت هذه الرموز كانت للعلم من أثمن الكنوز. ويمتاز هذا الزمان بوفرة كوم بقايا الأطعمة من أصداف الأسماك وغيرها لأن معظم المساكن كانت بالقرب من البحيرات والأنهر وكان لها منافذ للنجاة إلى المياه عند الوقوع في خطر من هجوم الضواري. ووجد كثير من آثار الأبنية على الآكام وعلى مرتفعات صناعية محضة وحولها ركام من فضلات المأكولات وهي أسماك وحيوانات ونباتات بعضها مطبوخ بالنار. أما في سويسرا حيث البحيرات الجميلة تحيط بها الجبال فيظهر أن الإنسان هناك سبق جيرانه في الارتقاء مستقلاً استقلالاً نوعياً فكان يبني أكواخاً على ضفافها ويلقي فضلات طعامه فيها ويتقي الخطر بفتح نوافذ إلى المياه أو ببناء مسكنه في وسط الماء كمما شوهد في بعض الأماكن ولذلك انصرف أيضاً إلى زراعة القمح والشعير مع صيد الأسماك والحيوانات. وتوصل إلى صنع الخزف ونسج الحصر والحبال وشيء من الأثواب وكانت أهم أدواته الحجر وقرن الوعل. ويمتاز جميع أهل هذا الزمان بإقامة أبنية مستديرة الشكل متجهة إلى الشرق أو الغرب أو

إلى أحد الكواكب ولها دهاليز تحت الأرض. والأرجح أنها هياكل. وقد علم من انحراف اتجاه الشمس عن الهياكل التي كانت مخصصة لها أنها بنيت منذ نحو ألفي سنة قبل المسيح. وبعد هذا التاريخ بدا استعمال المعادن في إنكلترا مع أنها كانت مستعملة في مصر وغيرها قبل ذلك. الزمن البرونزي - كان البرونز هو المزيج من النحاس والتنك مستعملاً في آسيا وغيرها فأدخل استعماله في أوربا قوم من السلتيين سلالة الآريين هاجموا أوربا من جهات مختلفة. فاستعمل البرونز أولاً في كريت قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة وفي صقلية بعد ذلك بخمس مئة سنة وفي فرنسا بعد صقلية بخمس مئة سنة ولم يدخل إلى بريطانيا حتى سنة 1800 ق. م. وكان هؤلاء السلتيون عند دخولهم إنكلترا يحرّقون بعض موتاهم ويدفنون البعض الآخر. وإذا دفنوا أحداً وضعوا معه آلة عمله وشيئاً من الطعام ليتبلغ به في العالم الأسفل وأما لتشاؤمهم من بقاء عدته وطعامه بعد موته. ومن الغريب أن يستعمل الإنسان البرونز أولاً وهو مزيج مركب مع إمكانه استخراج الحديد حالاً من معدنه الأصلي. ولعل هذا المشكل يحل فيما بعد أما الآن فيظن أن الإنسان وقع عرضاً على شيء من هذا المزيج فوجده وافياً بالغاية وعلم نسبة تركيبه بالاختبار وهي 1 إلى 9 فجرى عليها. وعلم أن أول معدن نحاسي عثر عليه الإنسان وجده في السواقي والجداول حيث كان أهل العصر الحجري يبحثون عن مواد صوانية يصنعون منها أدواتهم. فسكب أهل الزمن البرونزي ما وجدوه منه في بوائق حجرية محفور فيها رسم الفؤوس والسيوف وغيرها بمهارة تقضي بإعجاب صناعنا اليوم. وكانت هذه الصناعة قد بدأت في مصر قبل أن يعرفها سكان شمالي البحر المتوسط. وفي هذا الزمن كان الذهب كثيراً في إيرلندا بدليل ما صنع من الأدوات المبتذلة منه. وإن وفرة ما كان يستخرج منه مما يدهش ولا ثل لها إلا في كولمبيا من أعمال أميركا الجنوبية. إلا أن الفضة لم تكشف إلا بعد الذهب بزمن ليس بقليل. وأول ما ظهرت على ما نعلم في سواحل أسبانيا بجوار الماريا حيث وجد منها كثير من الحلقات التي تستعمل لتمتين

المقابض الخشبية في أماكنها من تجاويف الفؤوس. ومن الغريب مشابهة رسوم الأدوات الحجرية في جميع أنحاء العالم مما يدل على تفرق الإنسان من بقعة كانت قديماً محتده الأصلي. وخلاصة ما تقدم أن للإنسان تاريخاً مقروءاً من هذه الأدوات الصوانية والمعدنية تدل على ارتقائه بارتقاء صنعها وتعدد ضروبها وأشكالها مما لا يترك محلاً للشك في كون الإنسان تدرّج في معارج النشوء والارتقاء من الآدمي العريق في الوحشية إلى البشري ساكن الكهوف ومفترس الحيوانات إلى صانع الآلات البرونزية التي اجتاز بواسطتها من طور التوحش إلى طور استعمال الحديد فالحضارة. وهو الآن قد أبدل الأعصر القديمة بعصر البخار جعل ينتقل منه إلى عصر الكهرباء. وعما قليل نجده يأكل ويشرب ويلبس ويسبح وينام ويستيقظ ويبني ويهدم ويزرع ويحصد ويطبع ويسافر ويشهد الألعاب والملاهي على الأرض وفي القبة الزرقاء بمساعدة قوة الكهرباء. هذا هو متوحش الأمس ومتحضر اليوم فما عسى أن يكون إنسان الغد؟ لا ريب أن الكثير من غرائب الزمان لا يزال مخبوءاً للإنسان ومن يعش ير. بيروت // خليل سعد

ماذا يقال

ماذا يقال الطابور أم التابور كان الكتاب دائماً يقولون دائماً الطابور ومنذ وقف أحد أعضاء نادي دار العلوم على كلمة تابور في تاج العروس وأذاعها بين الناس لم نعد نرى إلا القليلين يكتبون الكلمة بالطاء والسبب أن ورود الحرف المذكور منصوص عليه بالتاء في التاج ولم يتعرض له بالطاء. فيستنتج أن الطابور عامية وبالتاء أفصح. قلنا: 1 - إن تعاقب التاء والطاء وبالعكس بالعربية مما لا يحتاج إلى التصريح به. فإن الألفاظ من هذا القبيل تعد بالمئات لا بالعشرات. ربما تستطيع أن تملأ نصف عدد من أعداد المقتبس بمثل هذه الكلم التي تتعاور فيها التاء والطاء. على أننا نجتزئ بذكر بعضها من ذلك: القطر والقتر (الناصبة). وما أسطيع وما أستيع. وهرت الثوب وهرطه. وطاح وتاه. وعفت في كلامه وعفط. (لواه عن وجهه وكسره لكنةً) وذهب دمه تلفاً وطلفاً. . . وعليه فتكون تابور وطابور من هذا الباب ولا سيما لأن كلتا اللغتين مشهورتان. 2 - عدم ورود لفظة في ديوان لغة لا ينفي صحتها. لأن المعاجم لم تدون جميع ألفاظ العرب. وحسبك دليلاً على ذلك أن المعاجم التي أنشئت في صدر الإسلام هي دون المعاجم المؤلفة أخيراً في السعة وكثرة تعدد الألفاظ؟ أفيستنتج من ذلك أن ما جاء في هذه الكتب المتأخرة هو من أوضاع العوام أو دون الأولى فصاحة. مع أن ما قيد ودون في أخريات هذه الأزمان قد يكون أقدم عهداً مما جاء في دواوين اللغة المؤلفة في القرون السابقة. 3 - ليست طابور محرفة عن تابور وإنما الطابور كلمة دخيلة قديمة العهد في العربية ربما كانت قبل سنة 73 هـ (1331 م) وأما تابور بالتاء فإنها حديثة العهد لم تدخل لسان آل عثمان إلا بعد سنة 1561 م (969) ولم ترد في كتب العرب إلا بعد شيوع اللفظة التركية بين العثمانيين. والذي استنزل أهل النادي للقول بعربية اللفظة وجودها في تاج العروس بلا تنبيه على عجمتها. بيد أن صاحب التاج كثيراً ما يغفل عن أصل اللفظة. وإلا فسائر أمهات اللغة ودواوينها القديمة لا تذكرها وأما طابور بالطاء فأقدم منها بكثير. فقد جاء في تاريخ ابن خلدون المغربي في كلامه عن أحبار سيف ذي يزن: ولما استوثق لذي يزن

الملك جعل يعتسف الحبشة ويقتلهم حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولاً واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالخراب. وأنت تعلم أن ابن خلدون ولد سنة 732 هـ (1331 م) وقضى نحبه سنة 806 وقيل 808 هـ (1403 أو 1405 م) فتكون طابور وجمعها طوابير قبل استعمال ابن خلدون لها وبعد انتشارها بين العرب وفشوها في المغرب. إذاً: الطابور أفصح من التابور ولو كانت كلتا اللغتين دخيلة. أيقال طيارة أم مطيرة كثر الكلام في هذا العهد عن الآلة التي اخترعها الأجانب للتحليق في الجو المعروفة عند الفرنسيين باسم فسماها كتاب العرب طيارة إلا أن هذه اللفظة مشتقة من طار يطير اللازم فيكون معناها: هذه الهنة التي يتخذها الصبيان من الورق فيطلقونها في الهواء فترتفع فيه من ذاتها. وأما الآلة التي يتخذها الإنسان ليحلق بها صعداً فإنما تتخذ لتطير الإنسان وترفعه في الجو فهي مطيرة لا طائرة وبالأصل لأن راكبها هو الذي يسيرها بيديه. فالأصح فيها أن يقال مطيرة أي الآلة المطيرة لا طيارة لا سيما أن هذه اللفظة مخصوصة بالهنة المذكورة المشهورة. نعم قد يجوز أن يقال أنها طائرة أو طيارة لارتفاعها في الهواء ونسبة الفعل إليها كنسبه إلى صاحبها. لأنه إذا أطارها ولم تطر لم يفد عمله فتيلاً. وعليه فكلاهما طائران في الهواء إلا أن التحقيق أحب إلى اللغوي من إلقاء الكلام على عواهنه بدون تبصر وتدبر. ومن ثم فعندنا أن القول بأن المطيرة أصح من الطيارة في هذا المعنى هو أرجح ووجهه أبين. واستعمال الكتاب لها ينفي كل معنى ثان ويمنع الفكر من أن يتصور المعنى الأول المعقود بناصية الطيارة. أيقال وسط أم محيط أم حال أم بيئة أم مربى أم منشأ للإفرنج لفظة ومعناها حرفياً الوسط أو المحيط ويريدون بها مجازاً: المواطن الذي يوافق عيشة الإنسان الأدبية أو العلمية أو العمرانية. فقال كاتب يقابلها في العربية الوطن والإقليم وليس الأمر كذلك فالوطن والإقليم أو فقد يكون كل منهما وسطاً للإنسان إلا أن معنى الوسط أعم كما يظهر لأدنى تدبر. ثم عدل عن رأيه هذا وقال هي الحال وهذا أيضاً خطأ. فالحال يقابله عند الإفرنج ' أما البيئة فأفصح من الوطن والإقليم والحال إذا أردنا بها

الإبانة عما في خاطرنا من معنى الوسط أو المحيط. على أن الذي ورد عند العرب من هذا المعنى هو المربى والمنشأ. وقد وردت الأولى مراراً عديدة في مقدمة ابن خلدون. وترجمها ناقلها إلى الفرنساوية بلفظة المذكورة من ذلك مثلاً ما جاء في الفصل الذي عنوانه إن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم ومن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي. وهذه الفظة قد تكررت مراراً لا تعد في هذا السفر. وقد ورد بهذا المعنى لفظة منشأ ووجه الترادف واضح. على أننا لا نرى سبباً لرذل كلمتي وسط ومحيط فإنهما تفيان بالمراد من باب المجاز وباب المجاز واسع لم يقيده الأقدمون بقيود من حديد ولم يضعوا له قواعد غير القواعد المعروفة عند جميع أهل اللغات. وعليه فإن جاز للإفرنج أن يقولوا بهذا المعنى الوسط والمحيط فلماذا يحظر على العرب التلفظ بمثل هذه الحروف. إن هذا لمما يأباه كل عاقل عارف بآداب اللغة. بغداد // ساتسنا

الزلزلة العظمى

الزلزلة العظمى في دمشق وأعمالها قرأت في الجزء السابع من التذكرة الكمالية لجدنا المرحوم الشيخ كمال الغزي هذه الوقعة العظمى فأحببت أن أطلع القراء عليها تتمة لتاريخنا الحديث قال: إنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة والف سادس ربيع الأول الساعة العاشرة من الليل قد رجفت الأرض رجفة مقلقة برياح عواصف ورعود قواصف فطاشت لها العقول وحصل والعياذ بالله غاية الذهول وتخلعت السقوف وتشققت الجدران وهدمت في الشام بيوت لا تحصى وسقطت رؤوس مآذن دمشق فمنها المأذنة الغربية والشرقية من جامع بني أمية وقع منهما في تلك الساعة حصة ومنارة العروس في ذلك الجامع ذهب منها شيءٌ يسير وبقية منارات جوامع دمشق لم يسلم منها إلا القليل وتلتها رجفات وزلازل وفي ثاني يوم من تلك الليلة ضحوة النهار رجفت الأرض وتزلزلت زلزلة شديدة فسقطت من منارة الجامع الشريف الأموي الشرقية جدران الشرقي والشمالي وسمع لها صوت هائل وما من منارة بدمشق إلا وهى بناؤها حتى أن منارة السليمية المحيوية بصالحية دمشق طارت منها حصة وافية وسقطت والجامع المظفري بها أيضاً ومنارة جامع سيباي والجامع المعلق وجامع حسان وجامع الأمير منجك بمحلة مسجد الأقصاب ومنارات الجامع بمحلة الميدان وبقية منارات جوامع دمشق تقصفت ولم يسلم منها إلا النذر القليل وقبة النسر العظمى في الجامع الشريف الأموي تشققت ووهت وتشقق الجدار الشرقي من هذا الجامع ووهى وخرب أكثر دور دمشق وقعت تلك الليلة سقوف وبيوت لا تحصى ووقعت شراريف الجامع المزبور وكان طول كل شرافة مقدار خمسة أذرع على حائط حول سقف الجامع مقدار قامة من جميع الجهات الأربع بحيث أن الشخص إذا وقف على سطح الجامع لا يرى شيئاً من الدور التي حوله فسقطت تلك الشراريف وهدمت بعض الأماكن المجاورة للجامع كدار بني الغزي وحجرة الخلوتية الطباخية بالخانقاه السيمساتية ورمت قبو إيوانها وهذه الأماكن شمالي الجامع وفعلت ببقية جهاته كذلك وفعلت أفعالاً عنيفة في الأحجار وانصدع في الجامع العمود الذي تجاه باب مشهد المحيا الشريف النبوي تجاه العضادة الكبرى وبقت الرجفات والاهتزازات تتوالى ليلاً نهاراً إلى آخر شهر ربيع الأول والناس

يدعون الله تعالى في إذهاب تلك الشدة التي ما عهدوا مثلها وقرأوا صحيح البخاري مرتين والقرآن العظيم مراراً وتوسلوا في رفع ذلك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وانهدم في تلك الليلة المتقدمة في بيت الشهاب أحمد المنيني مكانان أحدهما فوق الآخر فسقط الأعلى فوق الأسفل فقتل تحت الردم في الأسفل ستة أنفس من أولاده وعياله جهزهم صبيحة ذلك اليوم ودفنهم جملة واحدة بمرج الدحداح وثلاثة أنفس أُخر سقطت عليهم منارة في محلة الميدان ورجل وقع عليه هلال منارة جامع حسان فقتل أيضاً. وفي تلك الليلة تزلزلت بلاد صفد فذهب أكثر أهلها قتلى وقتل بها من اليهود ألف وثلاثمائة نفس وذهبت حصة عظيمة من بلاد نابلس وقال بها خلق كثيرون وتزلزلت عكا وذهبت حصة من برجها في البحر وطبريا ودير حنا وقلعة الجندل وبلاد الشوف وسائر بلاد الساحل الشامي كصيدا وبيروت واللاذقية ويافا وحيفا وباقي تلك البلاد الشامية ولم يبق في جبل الدروز قرية إلا وأصابها حادث عظيم وبلاء جسيم وتهدمت الخانات على من بها من القفول وفي دمشق قتل ما لا يحصى من الرجال والنساء والذي أصاب مسجد دمشق ما عهد مثله وهذا الزمن الذي حصل فيه هذا البلاء في البلاد في أقل من درجة نسأل الله السلامة من أهوال الحشر والقيامة. ووافت الناس من سائر الأقطار من الوجه الغربي والساحل يقولون لأهل دمشق احمدوا الله تعالى على ما حفكم به من اللطف فإن الخارجين عنكم لم يسلم منهم إلا القليل وأغاث الله تعالى بكافل دمشق الدستور الأعظم الوزير عبد الله باشا ابن إبراهيم الشهير بجته جي ومتولي أوقاف الجامع المشار إليه شيخ الإسلام علي بن محمد بهاء الدين بن محمد مراد المرادي الحسيني النقشبندي مفتي السادة الحنفية بدمشق فبل الوزير الهمة في إصلاح المنارات ونقض المنارة الشرقية الهائلة التي أعجزت البنائين وأهل الصناعات أن يضعوا أيديهم فيها لما هي عليه من البناء الهائل المتداعي للسقوط وطلبت طائفة البنائين من النصارى أموالاً عظيمة على نقضها وأن يجعلوا لذلك السقايل الهائلة من الأخشاب حولها الأجل النقض فأمر الوزير بقطع الأخشاب ونقلها للجامع فقطع شيءٌ كثير من الغيضة الشهيرة الكائنة بالوادي بدمشق ومن غيرها ونقل إلى الجامع حتى امتلأ خشباً واجتمع جميع نشاري دمشق لنشره قطعاً ضخاماً كل قطعة سمكها مقدار ثلث ذراع أو ربع ذراع

وشر البناؤون في عمل السقايل لأجل النقض حول المنارة الزبورة واستعظم طائفة البنائين من النصارى نقضها فانتدب رجل من طائفة النجارين المسلمين لنقضها من غير سقالة وطلع إلى رأس المنارة إلى أن انتهى إلى هلالها ولم ينزع من ثيابه شيئاً بل خرج بقاووقه وشخشيره وأخرج معه مطرقة وإزميلاً حديداً صغيراً وصار يقلع بهما الأحجار ويلقيها في أسفل والناس ينظرون إليه من صحن الجامع ونقض في ذلك الوقت حصة من المنارة وكانت أعلا مما هي عليه الآن بخمسة وثلاثين ذراعاً وأغلظ بمقدار خمسة أذرع وهلالها فوق شاش من الحجر الكبير وبذل الوزير للنجار وكان حاضراً لما صعد إلى المنارة جائزة ووعده أنه إذا تم العمل أن يقابله بالجوائز السنية وأخذ البناؤون في تهيئة أسباب البناء من عمل الدواليب وحفر الأسس. ثم استهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء ففي ليلة الاثنين سادس الشهر المذكور بعد صلاة العشاء بالجامع الشريف بنحو ثلث ساعة رجفت الرجفة العظمى والزلزلة الكبرى التي لم ير ولم يعهد مثلها في سوالف العصور فصارت الجبال تمور والأرض تغور والمياه تفور وبقيت بعد سكونها تتوالى إلى رجفات لطيفة إلى أن أصبح الصباح واستمرت نحو درجتين فانخلعت لها القلوب وصار الناس يبتهلون بالدعاء والتضرع لعلام الغيوب وحارت العقول وطاشت الرجال الفحول وثار في ذلك الوقت الغبار والقتام واشتد في ذلك الآن الظلام وأدهش الناس في ذلك الخطب المهم والمرعب المدلهم الذي انعقدت له الألسن وخرست وغرات له العيون والشفاه يبست وصارت الأرض تفور وتغلي مثل المرجل وانكشفت تلك الساعة عن غالب منارات دمشق بالسقوط وبالقصف والمأذنة الشرقية الأموية المتقدم ذكرها وقعت إلى الأسفل ولم تحوج إلى فك وسقطت قبة النسر في الجامع المرقوم مع عظمها وسقط جميع الرواق الشمالي بأعمدته المحكمة وعضاداته وكان مشتملاً على عضادات وأعمدة بين كل عمودين عضادة مبنية بالرخام وأنواع الحجار المثمنة من أسفلها إلى أعلاها وسقطت المنارة الشرقية على جهة الجمع فهدمت مقدار ثلث المغارب الثلاث التي بقربها وتشققت غالب الجدران وأشرفت عل السقوط فسبحان الفعال لما يريد الحي القيوم الذي لا يموت. ولم تبق قبة في دمشق إلا وأصابها عاهة أو سقطت ولم يسلم منها إلا النادر وسقط جميع

جامع يلبغا مع قبته الهائلة ومنارته مع أن بناءه كان في غاية الرصانة والمتانة وسقط من الخان البديع الذي بناه الوزير أسعد باشا والي دمشق ونائبها ثلاث قباب هائلة وتهدمت دور دمشق إلا القليل وكثرت القتلى في تلك الليلة وتهدمت القرى التي حول دمشق وهلك بسبب ذلك من الأنفس والمواشي ما لا يحصى كثرة وكان من جملتها قرية التل قتل بها تحت الردم ما ينوف على خمسمائة ولم يسلم منها إلا القليل وقرى الجبل كالهامة والزبداني ووادي بردى هلك فيها تحت الهدم ما لا يعد ووقع سور مدينة دمشق في نهر عقربا أحد أنهار دمشق فسده وسور قلعة دمشق الغربي سقط جميعه وسد نهر بانياس وسدت الطرق بالتراب والأخشاب والصخور وصارت السماء مع الأرض تمور وتلف من الأموال والأنفس ما لا يحيط به حد ولا يحصره عد وذهب من الأثاث والأمتعة والأواني الصيني الشيء العظيم الكبير فسبحان من قضى بلك ليعلم العباد أن كل شيء هالك إلا وجهه فصار الناس لا يألفون الأوطان ولا يستقرون بمكان وخرج أهل دمشق جميعاً بأموالهم وأنفسهم وعيالهم إلى خارجها ونصبوا الخيام وبقوا ثلاثة أشهر وهي في الخارج وقد نظم في تلك الزلزلة الهائلة الفاضل العالم الأديب مصطفى بن أحمد بن محمد الدمياطي أبياتاً قال: إن تناسيت أوقات أنس تقضت ... لست أنسى ليالي الزلزال أذكرتنا كيف المنام بمهد ... وأرتنا بالعين رقص الجبال أشهدتنا تمايلات قصور ... باهتزاز كحالة الأطفال ولما عرض كافل دمشق الوزير عبد الله بن إبراهيم الشهير بالجتجي إلى الأبواب العالية السلطانية بقسطنطينية المحمية حال الجامع الشريف الأموي المزبور وقلعة دمشق وما أصابها من الانهدام وسألوا الدولة في تعميرها وكان صاحب التخت العثماني السلطان مصطفى ابن السلطان أحمد فلما وصل الخبر إليه صدر الأمر منه بتعميرها وأرسل أميناً على العمارة المزبورة أحد البوابين بالأبواب العالية مصطفى بن محمد الشهير باسبانخجي فلما وصل إلى دمشق بالأوامر والأموال وذلك في سنة أربع وسبعين ومائة والف نزل كافل دمشق الوزير عبد الله باشا المذكور إلى الجامع وحضر معه قاضي قضاتها إذ ذاك المولى ساطع علي بن مصطفى ختن علمي أحمد أفندي ومفتي الحنفية بدمشق ومتولي أوقاف الجامع المزبور المولى العلامة شيخ الإسلام علي بن محمد المرادي النقشبندي وبقية أعيان

دمشق من العلماء وكشفوا عما يحتاج إليه الجامع المزبور وجمعوا المعمرين والمهندسين وأرباب الصنائع من كل حرفة تتعلق بالتعمير فأمرهم المتولي عل العمارة أن يشرعوا في إعادة ما انهدم ومرمته انتهى. دمشق // محمد فهمي الغزي

في خمسين قرنا

في خمسين قرناً إليك أربعمائة وخمسين حادثة كبرى من حوادث خمسين قرناً أو منذ فجر التاريخ المعروف حتى فجر القرن العشرين. قبل المسيح في سنة 3100 أسس نمرود مدينة بابل. في سنة 2324 بدأ الكلدانيون برصد الأفلاك. في سنة 2255 ظهرت سلالة (الهبا) الملوكية في الصين. في سنة 2229 استعمر آشور بلاد آشور. في سنة 2188 استعمر مصر ايم مصر. في سنة 2000 شرع باستعمال الكتابة المسمارية. في سنة 2000 أسس نينوى نينوى. في سنة 1896 ولد إبراهيم الخليل. في سنة 1821دُعي إبراهيم من أور الكلدانيين إلى أرض الميعاد. في سنة1896 ولد إسحاق. في سنة 1856 أسست مملكة أرغوس. في سنة1837 ولد يعقوب وعيسو. في سنة 1729 بيع يوسف من المصريين. في سنة 1582 دُوِّن تاريخ الأربوندليين على صفائح رخامية جلبت إلى إنكلترا على عهد الملكة حنة سنة 1627 للمسيح. في سنة 1571 ولد موسى بن عمران وقضى نحبه في سنة 1450 في سنة 1500 ملك سيزوستريس مصر. في سنة 1491 انطلق بنو إسرائيل من مصر إلى أرض كنعان. في سنة 1352 بدأ حكم قضاة بني إسرائيل وانتهى سنة 1193. في سنة 1273 قامت دولة الآشوريين. في سنة 1136 قام شمشون الجبار بمجزرة الفلسطينيين ومات سنة 1120 في سنة 1184 حدثت حرب ثورجان.

في سنة 1125 ظهر صموئيل النبي. في سنة 1100 أُسست في العين مملكة (شوا). في سنة 1095 نُصب شاول ملكاً على بني إسرائيل ومات سنة 1056 ومات يوناتان في السنة نفسها. في سنة 1055 نُصب داود ملكاً على اليهود وفي سنة 1048 استولى على أورشليم ومات في سنة 1015. في سنة 1050 نُصب قودرس ملكاً على أثينا. في سنة 1048 - 1006 أزهرت صور على عهد الملك حيرام بالصناعة والتجارة والعمران. في سنة 1042 نقل تابوت العهد لبني إسرائيل إلى أورشليم. في سنة 1023 قام ابشالوم بالثورة. في سنة 1012 شُرع ببناء هيكل سليمان العظيم وفي سنة 1005 أتم الملك سليمان بناءَه. في سنة 975 تولى رحبعام أريكة الملك. في سنة 971 تمرد عشرة أسباط من أسباط بني إسرائيل بقيادة بريعام على الملك رحبعام. في سنة 971 استولى المصريون على أورشليم ونهبوها. في سنة 884 أصلح ليكرغس شرائع أسبارطة. في سنة 878 أُسست مدينة قرطجنة. في سنة 776 بدأ تاريخ اليونان وذلك في أول عهد الملاعب اليونانية التي كانت تحدث كل أربع سنوات يؤرّخون بها. في سنة 753 أُسست مدينة رومية. في سنة 747 استقلت مدينة بابل تحت حكم الملك نبوخذ ناصر (بختنصر). في سنة 730 أخضع الملك شالما ناصر فينيقية. في سنة 722 استولى سرغون ملك الآشوريين عل السمرة إحدى أقسام الأرض المقدسة التي هي السامرة واليهودية والجليل. في سنة 720 حاصر سنحاريب أورشليم وهلك جيشه.

في سنة 700 تولى يوليوس عرش الملك في رومية. في سنة 687 حدثت حروب مسينا للمرة الثانية. في سنة 598 حاصر نبوخذ ناصر أورشليم وفي سنة 586 دمرها وصيرها خراباً وفي سنة 579 ق. م استولى على مدينة سور. في سنة 586 أفلت شمس مملكة اليهود. في سنة 550 أسس قورش مملكة إيران. في سنة 540 بدأ دور فوطيفار سيد يوسف بن يعقوب في مصر ودامت مدته عشر سنوات. في سنة 539 استعمر الفينيقيون مرسيليا في فرنسا. في سنة 538 استولى قورش على بابل. في سنة 536 أعتق قورش اليهود من السبي. في سنة 535 تجدد بناء الهيكل في أورشليم. في سنة 529 مات قورش. في سنة 521 تولى داريوس (دارا) أريكة الملك في بلاد العجم وكان أول ملوك الفرس. في سنة 515 احتفل بافتتاح هيكل أورشليم للمرة الثانية. في سنة 510 صارت كل من رومية وأثينا جمهورية. في سنة 507 تغلب دارا الملك على مكدونية. في سنة 490 فاز اليونان على الفرس في معركة بارثونة وفي سنة 480 قهروهم في معركة باس. في سنة 471 نُفي استقولس عشر سنوات. في سنة 460جدد نحميا وعزرا بناء هيكا أورشليم. في سنة 430 ولد نيقودس. في سنة 405 حُطم أسطول أثينا. في سنة 400 ولد قينوفون. في سنة 399 مات سقراط مسموماً.

في سنة 385 ولد ديموستينس الخطيب الشهير وقضى نحبه سنة 322. في سنة 387 رفعت أعلام السلام فوق مدينة الفلاسفة أثنيا. في سنة 371 حدثت معركة ليوقترة. في سنة 362 حدثت معركة بأثينا. في سنة 342 نشبت حرب طاحن بين الأمتين اللاتينية والرومانية. في سنة 350 دُمرت صيدا. في سنة 338 حدثت معركة قورنية وتحرر اليونان يومئذٍ من ربقة الاستبداد والاستعباد. في سنة 334 حدثت موقعة غربنقوس. في سنة 332 اكتسح الاسكندر الكبير مدينة صور. في سنة 331 حدثت موقعة أربيلا (أربيل). في سنة 324 ظهر ديوجنيس الفيلسوف. في سنة 323 مات الاسكندر الكبير. في سنة 317 حاصر القرطجيون مدينة سيراقوس. في سنة 322 انتحر ديموستينس الخطيب. في سنة 316 قام أنطيخوس مقام اسكندر الكبير. في سنة 312 ظهر ستوقوس. في سنة 301 حدثت موقعة أنسوس. في سنة 284 نُقلت التوراة من العبرانية إلى اليونانية. في سنة 281 بدأت حروب ببرهوس الساحقة. في سنة 280 ظهر نيقراط الفيلسوف. في سنة 135 ابتدأ حكم المكاييبن على اليهودية. في سنة 72 قام السود بثورة هائلة. في سنة 30 أصبحت مصر إقليماً رومانياً. في سنة 30 تولى أغسطس قيصر الحكم. بعد المسيح

في سنة 4 مسيحية ولد المسيح. في سنة 29 صلب المسيح. في سنة 40 دعي تلاميذ المسيحي مسيحيين لأول مرة في التاريخ. في سنة 64 حدث أول اضطهاد للمسيحيين في روسية. وثاني اضطهاد في سنة 95. وثالث اضطهاد في سنة 110 ورابع اضطهاد في سنة 118. وخامس اضطهاد في سنة 167. وسادس اضطهاد في سنة 177. وسابع اضطهاد في سنة 202. وثامن اضطهاد في سنة 236. وتاسع اضطهاد في سنة 250 في رومية وأقاليمها. وعاشر اضطهاد في سنة 258 في رومية وأفريقية. وحادي عشر اضطهاد في سنة 303. في سنة 306 تبوأ قسطنطين عرش الملك. في سنة 330 فتحت مدينة القسطنطينية. في سنة 325 اجتمع مجلس الدول العام لأول مرة في نيقية. في سنة 381 اجتمع المجلس المذكور ثاني مرة في القسطنطينية (فروق). في سنة 394 أُبطلت شريعة عبادة الأوثان. في سنة 410 غادر الرومان بريطانية. في سنة 431 اجتمع مجلس الدول العام ثالث مرة في أفسس. في سنة 439 استولى البرابرة على قرطجنة. في سنة 449 غزا السكسونيون بريطانيا. في سنة 450 اجتمع مجلس الدول العام رابع مرة في خلكدونية. في سنة 455 نهب البرابرة رومية.

في سنة 476 سقطت المملكة المغربية. في سنة 488 حاصر الأشروغوطيون إيطاليا. في سنة 510 صارت باريس عاصمة الكلوفيين. في سنة 527 ابتدأ جستينن بالملك. في سنة 533 توالت انتصارات بالساريوس في أفريقية ومن سنة 536 إلى سنة 539 تتابعت انتصاراته في إيطاليا. في سنة 551 عرفت لأول مرة في التاريخ كيفية اصطناع الحرير في أوربا. في سنة 553 انتهى ملك الاستروغوطيين في إيطاليا. في سنة 568 ملك (لومباردس) إيطاليا. في سنة 571 ولد محمد نبي الإسلام (وعاش ستين عاماً). في سنة 595 بعث أوغسطينس برسالته الدينية إلى إيطاليا. في سنة 637 استحوذ عمر بن الخطاب على أورشليم. في سنة 640 اكتسح المسلمون الاسكندرية بقيادة عمرو. في سنة 668 - 675 انهزم العرب في القسطنطينية. في سنة 680 اجتمع مؤتمر الدول العام لسادس مرة في القسطنطينية. في سنة 711 حمل العرب حملتهم المشهورة على أسبانيا. في سنة 716 - 718 فشل العرب ثاني مرة في محاصرتهم القسطنطينية. في سنة 733 هزم (مارتل) العرب في موقعة (طورس) العظيمة. في سنة 752 تولى (تيبني لي ريف) عرش الملك في فرنسا. في سنة 787 اجتمع مؤتمر الدول العام سابع مرة في نيقية. في سنة 787 نزل (دانس) في إنكلترا. في سنة 788 ظهرت (أيرين) ملكة الشرق. في سنة 800 تُوج (كارلمفن) في رومية. في سنة 814 مات الملك المذكور. في سنة 827 حكم (أغبرت) إنكلترا.

في سنة 841 حدثت معركة (فونتانيل). في سنة 862 أسس (روق) مملكة روسيا. في سنة 871 ظهر الفرد الأكبر ملك إنكلترا. في سنة 875 أسس (هرولد فيرهير) مملكة نروج. في سنة 901 مات الفرد الأكبر ملك إنكلترا. في سنة 911 بيعت استريا من (رولو). في سنة 911 استحوذ الإمبراطور (كونراد) على جرمانا. في سنة 936 نبع (اوثو) إمبراطور جرمانيا الكبير. في سنة 940 ظهر لقب أمير الأمراء لأول مرة في التاريخ. في سنة 962 نُصب (اوثو) إمبراطور جرمانيا السابق الذكر إمبراطوراً على الغرب. في سنة 969 - 975 نصب يوحنا (زمسكس) إمبراطوراً على الشرق. في سنة 973 مات (اوثو) إمبراطور الغرب. في سنة 987 ابتدأت مملكة (كابتبن) في فرنسا. في سنة 1040 استحوذ نورمن على جنوبي إيطاليا. في سنة 1055 استولى الأتراك على بغداد. في سنة 1065 استولى المسلمون على أورشليم. في سنة 1066 بدأ ملك ملوك (نورمن) في إنكلترا. في سنة 1081 حدثت موقعة (دورزو). في سنة 1096 حمل الصليبيون حملتهم الأولى على الشرق. في سنة 1099 استحوذ الصليبيون على أورشليم. في سنة 1118 أسس الصليبيون معهد الفقه. في سنة 1147 حمل الصليبيون حملتهم الثانية على الشرق. في سنة 1152 نصب فريدرك إمبراطوراً على جرمانيا. في سنة 1154 بدأ ملك ملوك (بلانتيفتن) في إنكلترا. في سنة 1172 زحف هنري الثاني ملك إنكلترا على إيرلاندا.

في سنة 1176 انهزم الجرمانيون بقيادة الإمبراطور فريدرك في (لفانو). في سنة 1187 استولى صلاح الدين عل أورشليم. في سنة 1189 حمل الصليبيون حملتهم الثالثة على الشرق. وفي سنة 1195 حملوا حملتهم الرابعة. وفي سنة 1198 حملوا حملتهم الخامسة. وفي سنة 1203 استحوذوا على القسطنطينية. في سنة 1215 حاصر الملك يوحنا في إنكلترا (ماغاناكارنا). في سنة 1227 حمل الصليبيون حملتهم السادسة على الشرق. في سنة 1227 نشر جنكيزخان لواء سلطته على العرب. في سنة 1237 باشر المغوليون دفع لجزية لروسيا. في سنة 1248 حمل الصليبيون الحملة السابعة على الشرق. في سنة 1261 استرجع اليونانيون القسطنطينية. في سنة 1270 حمل الصليبيون حملهم الثامنة على الشرق. في سنة 1270 سقطت مصر بأيدي المماليك. في سنة 1273 نصب (ردلف هبسبورغ) إمبراطوراً على رمانيا. في سنة 1291 انتهت الحروب الصليبية. في سنة 1307 بدأت الثورة في السويس. في سنة 1302 حدثت معركة (كورثري). في سنة 1314 حدثت معركة (بانو كبرن). في سنة 1315 حدثت معركة (مورغرتن). في سنة 1346 حدثت معركة (كرسي). في سنة 1347 حكم (رينزي) رومية. في سنة 1352 اتحدت أقاليم السويس. في سنة 1361 - 1389 درخ مراد الأول آسيا الصغرى. في سنة 1377 عادت سلطة الباباوات إلى رومية.

في سنة 1392 اكتشف البرتغاليون رأس الرجاء الصالح. في سنة 1379 وقعت الملكة مرغريت على المعاهدة بين الدانيمارك وأسوج ونروج. في سنة 1398 استولى تيمورلنك على (دهلى). في سنة 1399 نصب هنري الرابع ملكاً على إنكلترا. في سنة 1402 تغلب تيمورلنك على الأتراك العثمانية. في سنة 1415 حدثت موقعة (أغنكورث). في سنة 1445 ارتقى قسطنطين عرش الملك في بزنطية وكان آخر ملوكها. في سنة 1453 بسط العثمانيون سلطانهم على بزنطية أي القسطنطينية غابراً والأستانة حاضراً. في سنة 1455 ابتدأت حروب (روزس) في إنكلترا. في سنة 1474 بلغ ميشيل انجلة أوج شهرته. في سنة 1479 اتحدت مملكتا فرديناند و (إيزابلا). في سنة 1485 حدثت موقعة (بوسورث). في سنة 1419 سقطت غرنادا. في سنة 1492 اكتشف كولمبس أميركا. في سنة 1494 حمل كارلس الخامس على إيطاليا. في سنة 1497 طاف القبطان قابوت شواطئ أميركا الشمالية. في سنة 1499 استقلت أسوج. في سنة 1515 نصب فرنسيس الأول ملكاً على فرنسا. في سنة 1516 نصب كارلس الأول ملكاً على أسبانيا. في سنة 1517 نشر لوثر زعيم الإصلاح الديني الشهير قضاياه الشهيرة على الكنيسة الرومانية وعددها تسعون قضية. في سنة 1529 سمي الإنجيليون بروتستانت لأول مرة في التاريخ. في سنة 1535 أسس (لويولا) نظام العدلية لأول مرة في التاريخ الحديث. في سنة 1552 وقع على معاهدة (باسو).

في سنة 1556 خلع كارلس الخامس. في سنة 1558 ارتقت اليصابات عرش الملك في إنكلترا. في سنة 1558 أنش مجلس التفتيش في فرنسا. في سنة 1571 تغلبت أوستريا على الأتراك العثمانيون. في سنة 1572 حدثت مذبحة القديس برتلماوس. في سنة 1587 قطع رأس ماري ملكة اسكوتلندا. في سنة 1589 نصب هنري الرابع ملكاً على فرنسا. في سنة 1603 انضمت اسكوتلندا إلى إنكلترا. في سنة1610 قتل هنري الرابع. في سنة 1649 قطع رأس كارلس الأول. في سنة 1653 ظهر كرومل الإنكليزي. في سنة 1660 رجعت أسرة (ستورتس) الملك في إنكلترا. في سنة 1683 تغلب القائد جان سبيسكي على العثمانيين في فينا. في سنة 1688 بدأت الثورة في إنكلترا للمرة الثانية. في سنة 1689 ارتقى بطرس الأكبر عرش الملك في روسيا. في سنة 1697 امتدت سلطة كارلس إلى أسوج. في سنة 1699 استعمرت ولاية لوزيانا في أميركا الشمالية. في سنة 1702 حطم أسطول فرنسا في (فيفو). في سنة 1709 اتحدت إنكلترا واسكوتلندا. في سنة 1714 ارتقت أسرة (غولفس) إلى العرش الإنكليزي. في سنة 1715 مات لويس الرابع عشر. في سنة 1718 قتل الملك كارلس السابع على أسوج. في سنة 1725 مات بطرس الأكبر إمبراطور روسيا. في سنة 1742 تمت معاهدة (برسلو). في سنة 1755 حدثت زلزلة في لشبونة.

في سنة 1755 ابتدأت الحروب السبع. في سنة 1757 حدثت موقعتا (روسباك) و (ليذن). في سنة 1785 حدثت موقعة (زوزندوف). في سنة 1759 حدثت موقعة (مينذن). في سنة 1759 حدثت موقعة (كوبك). في سنة 1762 ارتقت الملكة كاترينا عرش الملك. في سنة 1763 انتهت الحروب السبع. في سنة 1763 صارت كندا من مستعمرات إنكلترا. في سنة 1765 قُرر استعمال الطوابع لأول مرة في التاريخ. في سنة 1766 أُلغي استعمال تلك الطوابع. في سنة 1768 نشبت الحرب بين الدولة العلية وروسيا. في سنة 1769 ولد نابليون بونابرت. في سنة 1770 حدثت مذبحة بوسطن في الولايات المتحدة. في سنة 1774 رُقي لويس السادس عشر إلى عرش الملك في فرنسا. في سنة 1774 أقفل الإنكليز مرفأ بوسطن في الولايات المتحدة. في سنة 1775 بدأت الثورة في أميركا لأجل الاستقلال وفي السنة نفسها حدثت معركة (بنكرهل) على مقربة من مدينة بوسطن (ماس) الولايات المتحدة. في سنة 1776 حدثت موقعتا (لونغ أيلند) و (ترنتن). في سنة 1777 حدثت معارك (بننفتن) و (براندوين) و (جرمان ثون). في سنة 1778 جرى الوفاق بين أميركا وفرنسا. في سنة 1778 حدثت موقعة (مونومون) في الولايات المتحدة. في سنة 1779 تم الاتفاق بين الولايات المتحدة وأسبانيا. في سنة 1780 حدثت موقعتا (كارلتن) و (كامدن) قهر فيهما الأميركيون. في سنة 1782 انتهت حرب الاستقلال. في سنة 1783 استقلت أميركا عن الحكم الإنكليزي.

في سنة 1786 شبت الثورة في ولاية (ماس) الولايات المتحدة. وفي هذه السنة مات الملك فريدرك الأكبر. في سنة 1787 عقد أشراف فرنسا مؤتمراً عاماً تفاوضوا فيه بشأن الذب عن سلطتهم وسلطة فرنسا الملكية. في سنة 1788 طلب (غستيفس) الحرب مع روسيا. في سنة 1789 عقد قواد الولايات المتحدة مؤتمراً عاماً. في سنة 1789 بدت طلائع الثورة في فرنسا. في سنة 1789 أنشأت كل من الولايات المتحدة دستوراً لها يربطها مع أخواتها. في سنة 1789 رأس الولايات المتحدة جورج واشنطن وهو أول رئيس لهذه الجمهورية الكبرى. في سنة 1789 دُكت أسس سجن الباستيل في فرنسا. في سنة 1790 أعلنت نروج استقلالها. في سنة 1791 مات الخطيب ميرابو. في سنة 1791 تألف مجلس التشريع في فرنسا. في سنة 1791 منحت كندا الدستور. في سنة 1792 حدثت معركة (جيمابس). في سنة 1792 عقدت المؤتمرات في جميع الولايات المتحدة. في سنة 1793 قطع رأس لويس السادس عشر. في سنة 1793 اخُترع حلج القطن. في سنة 1793 اقتسمت بولندا بين روسيا وبروسيا. في سنة 1794 جعلت (توروتو) عاصمة لكندا العليا. في سنة 1795 طبع الدليل الجغرافي أول مرة في الولايات المتحدة. في سنة 1795 أطلق بونابارت سبيل الحراس. في سنة 1796 خيم بونابارت بعسكره الجرّار في بلاد إيطاليا. في سنة 1796 حدثت مواقع (لودي) و (اركولا) و (ربتولي) و (لافيفورتا).

في سنة 1797 عُقدت معاهدة (كامبوفوميو). في سنة 1797 انتخب جان أدموس رئيساً للولايات المتحدة. في سنة 1797 رفعت أعلام البلاد في (توليفنو). في سنة 1798 حدثت معركة الأهرام. في سنة 1799 أُعيد طبع الدليل الجغرافي في الولايات المتحدة. في سنة 1799 انتصر الفرنسيس في موقعة أبي قير أول مرة. في سنة 1800 قطع بونابارت جبال الألب. في سنة 1800 هزم بونابارت النمساويين في (مارنغو) و (هوهوخلندن). في سنة 1801 رأس تومس جفرسن الولايات المتحدة. في سنة 1801 انضمت إيرلندا إلى إنكلترا. في سنة 1802 عقدت معاهدة (أميين). في سنة 1802 أنشأ نابليون القنصلية في البلاد الأجنبية. في سنة 1803 تجددت الحرب بين إنكلترا وفرنسا. في سنة 1803 اشترت الولايات المتحدة لوزيانا من فرنسا. في سنة 1803 استقلت سويسرا. في سنة 1803 أُطلقت الحرية للسود في كندا. في سنة 1804 نُصب نابليون الأول إمبراطوراً على فرنسا. في سنة 1805 حدثت موقعة طرف الغار وأوسترلتز ومات فيهما القائد نلسن. في سنة 1805 عقدت معادة (برسبورغ). في سنة 1806 حدثت موقعة (جينا) وقتل فيها القائد بت. في سنة 1807 حدثت مواقع (ايلو) و (فريلاند) و (كوبنعاغن). في سنة 1807 فرّت هيئة محكمة ليسبون (فرنسا) إلى برازيل. في سنة 1808 بدأت حرب (بنسولر) وفي السنة عينها امتدت سلطة بونابارت إلى أسبانيا ودعي إمبراطوراً عليها. في سنة 1809 حدثت معركة (واغرم).

في سنة 1809 عقدت معاهدة (سكوبريون). في سنة 1809 طبق نابليون زوجته جوزفين. في سنة 1809 حرم البابا نابليون حرماً دينياً فغضب نابليون وسجن البابا. في سنة 1809 هزم (ولنفتن) جيوش فرنسا في معركة طرف الغار. في سنة 1809 انتخب (جيمس مادسن) رئيساً للولايات المتحدة. في سنة 1810 تزوج نيوليون (ماريا لوسيا). في سنة 1811 ولد ابن نبوليون ملك رومية. في سنة 1811 حدثت موقعة (تيبكانو). في سنة 1812 قامت روسيا بمناورات جيوشها الحربية إرهاباً للدول المناوئة لها. في سنة 1812 نشبت الحرب بين إنكلترا وأميركا. في سنة 1813 حدثت معركتا بحيرة (إيري) و (تومس). في سنة 1813 حدثت معارك (لوتزين) و (فوتيريا) و (ليبسك). في سنة 1814 نفي بونابارت إلى (الألب). في سنة 1814 حدثت موقعة (لاندي لين). في سنة 1814 حرق الإنكليز مدينة واشنطن. في سنة 1815 عاد نبوليون من منفاه وحدثت معركة وترلو ونفي إلى جزيرة القديسة هيلانة. في سنة 1815 نشرت رايات السلام في باريس للمرة الثانية. في سنة 1815 نظمت المعاهدة المقدسة. في سنة 1815 حدثت موقعة (نيواورلينس) وكان النصر فيها حليف (جكسن). في سنة 1817 انتخب جيمس منرو رئيساً للولايات المتحدة وهو الرئيس الذي سن شريعة أميركا للأميركيين. في سنة 1820 شبت الثورة في أسبانيا. في سنة 1821 مات نبوليون. في سنة 1821 بدأت حرب الاستقلال في اليونان.

في سنة 1822 انفصلت برازيل عن برتغال. في سنة 1824 بوشر العمل في قناة (ولاند). في سنة 1824 نصب كارلس العاشر ملكاً على فرنسا. في سنة 1824 مات اللورد بيرون. في سنة 1825 انتخب جان أدامس رئيساً للولايات المتحدة. في سنة 1825 قطعت لأول مرة باخرة المحيط الأتلانتيكي. في سنة 1825 هاج الشعب في كندا. في سنة 1826 حدثت معركة نافارين. في سنة 1829 انتخب أندرو جاكسن رئيساً للولايات المتحدة. في سنة 1829 ثار الشعب في كندا العليا طالباً حاكماً عادلاً. في سنة 1830 حكم اللورد (اللمد) كندا السفلى. في سنة 1830 نشبت الثورة في فرنسا للمرة الثانية. في سنة 1831 حدثت موقعة (اوسترولنكا). في سنة 1831 انفصلت بلجيوم عن هولاندا (البلجيك). في سنة 1832 نصب (أوثو) مليكاً على اليونان. في سنة 1832 منحت السلطة لمجلس النواب في كندا. في سنة 1835 قُرر عتق العبيد في إنكلترا. في سنة 1835 اخترع التلغراف الكهربائي. في سنة 1837 قامت الفتنة في كندا. في سنة 1837 تولت الملكة فيكتوريا عرش الملك في إنكلترا. في سنة 1837 انتخب مارتن (بيورن) رئيساً للولايات المتحدة. في سنة 1839 اتحدت كندا العليا مع كندا السفلى. في سنة 1840 نصب فريدرك وليم ملكاً على بروسيا. في سنة 1840 زفت الملكة فيكتوريا إلى البرت سكسكوبرغ. في سنة 1841 انتخب هرسن رئيساً للولايات المتحدة.

في سنة 1842 عدلت شريعة الذرة في الولايات المتحدة. في سنة 1844 انتقلت دائرة الحكومة في كندا إلى منتريال. في سنة 1845 ضُمت تكسس إلى الولايات المتحدة. في سنة 1845 حدث الحريق الهائل في كوبك كندا. في سنة 1845 انتخب بولك رئيساً للولايات المتحدة. في سنة 1846 نشبت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك. في سنة 1846 تم السلام بين الولايات المتحدة والمكسيك. في سنة 1846 رقي فرنسيس إلى عرش الملك في النمسا. في سنة 1846 أعلنت هنغاريا استقلالها عن أوستريا. في سنة 1846 افتتحت عساكر فرنسا رومية. في سنة 1851 حدث المعرض العام في لندن. في سنة 1852 تولى نبوليون الثالث إمبراطورية فرنسا. في سنة 1855 رقي ألكسندر الثاني إلى عرش قياصرة الروس. في سنة 1856 شبت نيران الحرب بين إنكلترا والصين وبلاد فارس. في سنة1857 نشبت الثورة في الهند. في سنة 1859 استعرت نيران الحرب بين أوستريا وإيطاليا. في سنة 1859 بدأ حكم كارلس الخامس عشر على أسوج ونروج. في سنة 1861 أشعلت نيران الحرب بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة. في سنة 1861 رقي فيكتور عمانوئيل عرش الملك في إيطاليا. في سنة 1861 شبت فتنة البلانديين. في سنة 1862 شهرت فرنسا الحرب على المكسيكك. في سنة 1862 تولى بسمارك رئاسة النظار في جرمانيا. في سنة 1863 حرر العبيد. في سنة 1863 دخلت الجنود الفرنسية إلى مدينة المكسيك. في سنة 1864 ضمت جزائر انديان إلى اليونان.

في سنة 1864 حدثت الحرب بين روسيا وأوستريا والدانيمارك. في سنة 1866 حدثت الحرب بين جرمانيا وأوستريا. في سنة 1867 حدثت الحرب بين إنكلترا والحبشة. في سنة 1867 ابتاعت الولايات المتحدة ألاسكا. في سنة 1870 استعرت جذوة الحرب بين فرنسا وجرمانيا. في سنة 1870 حدثت موقعة سيدان وحوصر نبوليون الثالث. في سنة 1871 رقي وليم إلى عرش إمبراطورية بروسيا. في سنة 1871 صارت فرنسا حكومة اشتراكية جمهورية. في سنة 1873 مات نبوليون الثالث في إنكلترا. في سنة 1875 تولى ألفونسو الملك في أسبانيا. في سنة 1876 دعيت فيكتوريا بإمبراطورة الهند. في سنة 1878 نشبت الحرب بين العثمانية وروسيا. في سنة 1878 نشبت الحرب في أفغانستان. في سنة 1878 مات الملك عمانوئيل وخلفه الملك هيومبرت. في سنة 1878 مات بيوس التاسع وخلفه ليون الثالث عشر. في سنة 1878 تمت معاهدة برلين. في سنة 1878 استقلت رومانيا ونتيفدو. في سنة 1879 حدثت الحرب بين شيلي وبيرو. في سنة 1880 حدثت المجاعة في إيرلاندا. في سنة 1880 أُطلقت حرية العبيد في كوبا. في سنة 1881 قتل اسكندر الثاني في روسيا. في سنة 1881 بوشر بمشروع اكتشاف القطب الشمالي. في سنة 1882 استعرت نيران الحرب بين إنكلترا ومصر. في سنة 1883 حدثت حرب الهنود. في سنة 1893 شبت ثورة برازيل وأرجنتين من أجل الحكم الجمهوري.

في سنة 1894 قتل كارنو رئيس الجمهورية الفرنسية. في سنة 1894 تولى نيقولا الثاني عرش الملك الروسي. في سنة 1894 نشبت الحرب بين الصين واليابان. في سنة 1894 أضرب عمال معادن الفحم والسكك الحديدية في الولايات المتحدة. في سنة 1894 شبت الثورة في كوبا لأجل الاستقلال عن الحكم الأسباني. في سنة 1895 حدثت المجازر الأرمنية. في سنة 1895 رأس فيلكس فور الجمهورية الفرنسية. في سنة 1896 توج قيصر روسيا. في سنة 1897 رأس مكنلي الجمهورية الأميركية. في سنة 1897 حدثت الحرب بين العثمانية ويونان. في سنة 1898 حطم الأسطول الأميركي في هافانا. في سنة 1898 نشبت الحرب الأميركية الأسبانية. في سنة 1898 قتلت اليصابات ملكة أوستريا. في سنة 1898 حدثت حادثة دريفوس في فرنسا. في سنة 1898 اكتشف الذهب في ألاسكا. في سنة 1898 مات بسمارك. في سنة 1898 عقدت المعاهدة بين الولايات المتحدة وأسبانيا. في سنة 1898 ابتدأت حرب الفيليبين. في سنة 1899 ابتدأت الحرب أفريقية الجنوبية. في سنة 1900 حدث معرض باريس. في سنة 1900 هجم الصينيون على دور السفارات الأجنبية في بكين عاصمة الصين. في سنة 1900 قتل هيومبرت ملك إيطاليا وخلفه ابنه الملك عمانوئيل. في سنة 1900 أعلنت الدول الغربية الحرب على الصين. في سنة 1900 رأس مكنلي الجمهورية الأميركية. لنكلن نبراسكا (الولايات المتحدة) // يوسف جرجس زخم

أم الطفيل

أم الطفيل ما للديار ترآى وهي أطلال ... هل خف بالقوم عنها اليوم ترحال كانت بها السمرات الخضر زاهية ... واليوم لا سمر فيها ولا ضال ما بالها وهي أنقاض مبعثرة ... تغبر فيهن أبكار وآصال هل هدَّ بنيانها من فوق صاعقة ... أو هدَّ بنيانها من تحت زلزال بل قد عفتها فلم تترك بها أثراً ... ريح لها من لهيب النار أذيال شب الحريق بها ليلاً مشيدة ... فما أتى الصبح إلا وهي أطلال أثارت النار في أطرافها رهجاً ... من الدخان كأن النار أبطال حتى حكت معركاً خرت بساحته ... صرعى بيوت وأموال وآمال دار السعادة أمست من تحرقها ... دار الشقاء وقد ضاقت بها الحال ترنو إلى البحر ترجو نقع غلتها ... لحظ المهجر إذ يبدو له الآل تنهال كالرمل بالنيران أدرؤها ... حتى تكاد لها الأرواح تنهال يا ريح مهلاً فلا تذري الرماد بها ... إن الرماد الذي تذرين أموال قد رحت للحي مذعوراً أيممه ... ولي عن الزمر الباكين تسآل وفي العراص ديار القوم خاوية ... وفي الشوارع نسوان وأطفال جلسن والشمس فوق الرأس دانية ... وللغبار بعرض الحي تجوال ولا خمار فيرددن الغبار به ... ولا يقيهن حر الشمس سربال حتى وقفت وقلبي كله جزع ... وأدمعي لجج طوراً وأوشال ما أنس لا أنس أم الطفل قائلة ... وفوق وجنتها للدمع تهطال إني تجردت عن دنياي حاسرة ... ما لي سوى طفلي الباكي بها مال أي امرئٍ بعد هذا اليوم ذي جدة ... يعولني حيث لا زوج ولا آل أودى الحريق بدارٍ كنت أسكنها ... وكنت من بعضها للقوت أكتال واليوم أصبحت لا دار ولا وزر ... آوي إليه ولا عم ولا خال إن الحريق خبت نيرانه ومضت ... وما خبت في فؤادي منه وجال يا رب رحماك إني اليوم عاجزة ... عما دها وبظهري منه أثقال يا رب قد ضقت ذرعاً في الحياة فما ... أدري حنانيك ربي كيف أحتال

وعندما قد شجاني من مقالتها ... لفظ يقطعه في البين أعوال دنوت منها قليلاً وهي باكية ... ومن بكاها بقلبي هاج بلبال حتى وقفت وإيناساً لوحشتها ... حني رأسي وحني الرأس إجلال وقلت يا أخت لا تستيئسي جزعاً ... فإنما الدهر إدبار وإقبال أتجزعين اكتآباً بين أظهرنا ... وكلنا عنك للبأساء حمال ما لي أراك بعين اليأس باكية ... كأن أمرك عند القوم إهمال ألست من أمة أيدي الرجال بها ... قد فك عنهن بالدستور أغلال حتى لقد أصبحوا أبناء واحدة ... في المرزئات وهم في الحكم أشكال مستعصمين بحبل من أخوتهم ... يسمو بهم للعلى فضل وأفضال أمسى التعاضد كالحصن الحصين لهم ... إذا تصادم بالأهوال أهوال فاستبشري اليوم فيما مس من ظمأٍ ... بأن وردك عند القوم سلسال وان حقل عول في مساكنهم ... وما همو بأداء الحق بخال تلك التي قد شجتني في مقالتها ... وكم لها في نساء الحي أمثال فهل يصدق قومي ما ظننت بهم ... حتى تقوم لهم في المجد أفعال فالمجد يدرك مرماه البعيد فتىً ... رحب الذراعين طلق الكف مفضال وأكثر البذل حمداً ما يعان به ... من عضهم من نيوب الدهر إقلال يا قوم هذي سبيل العرف واضحة ... فليمض فيها بكم وخد وأرقال ومن تك الحال فيها لا تساعده ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال الأستانة الرصافي

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الكليات الأميركية يخاف الكثيرون من التهذيب المشترك بين الجنسين أن يخرج النساء عن طورهن برقتهن ويفيدهن قسوة وصلابة لامتزاجهن بالذكور ولكن التجارب دلت على خطأهم وفساد مزاعمهم وانتشرت طريقة التعليم المشترك في معظم الكليات الأميركية فعدد الطالبات في جامعة نيلاند ستانفورد في كاليفورنيا يناهز الخمسمائة وقد حاولوا في جامعة شيكاغو أن يفصلوا بين الذكور والإناث في سن الطلب الأول. ولم تحافظ على القواعد القديمة سوى كلية هارفارد فإنها أصرت على إيصاد أبوابها في وجوه الطالبات وفي أميركا 321 جامعة وكلية ومدرسة عالية تقبل الطلاب والطالبات على السواء بدون أقل تمييز بين الجنسين. والتعليم في الجامعات الأميركية يقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول فيه أساليب خاصة بكل من الجنسين: والثاني يشترك فيه الذكور والإناث بدون تفريق ولا استثناء. والثالث يشترك فيه الجنسان ويختص الإناث بفروع تساعد في حياتهن المستقبلة. والمدارس المختصة بالإناث هي دون الجامعات في رقيها العلمي وأساليب تهذيبها وفي الولايات المتحدة الأميركية أربعمائة جامعة لكل منها رأس مال يبلغ عدة ملايين من الريالات ولها دخل سنوي لا يقل عن مليون ريال. فلا يستطيعون أن ينشئوا جامعات أنثوية تضارع الجامعات الراقية. ونرى من جهة ثانية أنه إذا وضعت خطط التعليم في الجامعات بدون نظر إلى الفروق الجنسية لم تجد الطالبات فيها ما يسعفهن على إنجاز وظائفهن الخاصة في حياتهن العائلية وقد نظر علماء الأميركيين في هذه القضية فأدخلوا دروساً كثيرة في بعض الجامعات يلقنونها للفتيات خاصة. وإليك مثالاً في خطة التعليم في جامعة شيكاغو: (1) حفظ الصحة الجسدية وعلاقاته الاجتماعية والأدبية. (2) الهيجين العمومي. (3) علم الحياة والبكتيريولوجيا.

(4) تدبير صحة الأطفال وينطوي هذا الدرس على المواد الآتية: الوراثة والبيئة. - ارتقاء الطفل الطبيعي والعقلي والأدبي. - حفظ الصحة في سن البلوغ. - ويضاف إلى هذه المواد ملاحظات عن الطفل في المدرسة واللعب والدرس وتأثير الأموال الطبيعية في ارتقائه الأدبي والعقلي. (5) الأسرة. - باعتبار الوجهة التاريخية والفيسيولوجية ويدرسون أيضاً أحوال الأسرة الاجتماعية والأدبية والاقتصادية. (6) درس في الشرائع الأكثر تأثيراً في حياة الأفراد والحياة التجارية. (7) العلم السياسي. وفيه درس تأليف الحكومات المتحدة وظائفها وإدارة المملكة ومبادئ الحقوق الأساسية. (8) تاريخ الصناعة ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء. فمسألة التهذيب المشترك قد حلت في الجامعات الأميركية بحضور طالبات الدروس العالية واختصاصهن ببعض الفروع. أساليب التعليم الجديدة تمتاز فرنسا بارتقاء مدارسها ولا سيما معاهد التعليم الحر ويصح أن يكون في ذلك قدوة سائر الأمم إلا أنها ينقصها بعض الأوضاع التهذيبية الحديثة التي اتخذتها المدارس في أميركا وانكلترا واسكندينافيا. اجتذبت أميركا انتباه العالم المتمدن بتعليمها المؤسس على قواعد البسيكولوجيا فجامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة شيكاغو فيهما معاهد خاصة لدرس هذه الطريقة وإصلاح ما تظهره الأيام فيها من الخلل وارتقاء خواص الطفل الأدبية والعقلية يرجع الفضل فيه إلى ذلك الأسلوب العملي المحض الذي يرقى بالطفل سنة فسنة بل شهراً فشهراً والطلبة من الجنسين ينتابون تلك المعاهد ويشتركون في تلقي الدروس وتراقب أحوالهم الصحية وتطبع تجارب الأساتذة وأبحاثهم في مجلة خاصة تدعى أخبار أساتذة الكليةفيطبقها الطلاب والطالبات الذين سيكونون أساتذة في المدارس الابتدائية والوسطى ويرفون جل عنايتهم إلى هذه الأبحاث والاختبارات التي كان لها أثر شديد في تربية الأطفال وترقية مواهبهم. أما في مدارس السويد فهم لا يعلقون على الذاكرة كبير أمر ولا يعنون بتلقين الطلبة دروساً

يستظهرونها بل يلقون إليهم مبادئ العلوم الطبيعية والجغرافية وغيرها في شكل حكايات يرتاح إليها صغار الطلبة ويحفظون فيها مبادئ العلوم ولا يشعرون. وهذا الأسلوب المتبع في التعليم يشابه طريقة الأميركان من وجود كثيرة وقد انتشر في ألمانيا أيضاً طريقة الاستظهار الفاشية في المدارس الشرقية وبعض أقسام أوربا وهي تؤدي إلى خلاف الغاية المطلوبة فلا توسع مدارك الطفل ولا تمرن شعوره بل تؤول إلى انحطاطها شيئاً فشيئاً ومتى دخل الطالب غمار الحياة العلمية لم يستطع الانتفاع بما تلقنه من تلك المعلومات ولا وسعه تطبيقها. والمدارس الإنكليزية تعني بتعليم الطلاب والطالبات الأشغال اليدوية وتحاول أن تكون الواصلة بين الحياة المدرسية والحياة العملية. وللطرق التي تجري عليها المدارس الأميركية في التربية والتعليم مزايا أخرى وهي أن الطالبات يشتركن مع الذكور في تلقي العلوم ويتقاسمون لذتها جميعاً فتتوثق بينهم صلات لا أثر للميل الجنسي فيها ومتى خرجن إلى معترك الحياة وقفن إزاء الرجال وقفة القادر المستقل الواثق بنفسه والمعتمد على حوله وهي خاصة تمتاز بها المرأة الأميركية عن شقيقتها الأوروبية لأنها اعتادت من صغرها أن تعد نفسها مساوية للرجل. ثم أن وجود الطالبات يلطف من عواطف الذكور ويدمث من أخلاقهم فلا يشذ أحدهم عن المنهج السوي خيفة من عيون رفيقاته اللواتي يراقبنه مراقبة لها في نفسه تأثير يفوق تأثير مراقبة الأساتذة. وانتشرت هذه الطريقة في شمالي أوروبا أي في بلاد نروج فأكسبت النساء قوة وجلداً على مشقات العيش ومباراة الذكور في الحياة العملية ومشاركتهم حتى في الأعمال السياسية فنلن حق التصويت في انتخاب بعض المجالس ونبغت منهن نساءٌ فقن الرجال في جميع الأعمال التي تعاطينها وأصبحن قدوة للنساء العاملات في الممالك الراقية. التعليم الأدبي في اليابان التعليم في اليابان علمي محض وليس للديانة أقل سلطة في المدرسة ففرنسا واليابان هما المملكتان الوحيدتان اللتان نشرتا أصول التهذيب اللاديني العلماني في العالم بأسره. وفي اليابان فصل التعليم عن الديانة حسب شريعة التهذيب الصادرة سنة 1872 ولا

ينحصر ذلك في المدارس العامة بل يشمل المدارس الابتدائية والثانوية حتى التي تنشئها الجمعيات الدينية إذ يحضر عليها أن تلن التعاليم الدينية وهذا الفصل بين التهذيب والديانة كان القاعدة التي جرت عليها الحكومة منذ سنة 1868 أي منذ فتحت البلاد اليابانية للأجانب. وقبل ذلك العهد لم يكن للحكومة أيسر اهتمام بالتهذيب العام بل تركته للأفراد حاشا بعض المدارس الأريستقراطية المختصة بأبناء الموظفين ولم تكن الحكومة تدير المدارس فقد نحن اليابان في التعليم منحى المدارس الغربية منذ نشر قانون التعليم سنة 1868 وألفت فيها نظارة المعارف عقيب صدوره بسنة فلم تحجم الحكومة عن المفاداة بأعز ما لديها في سبيل الارتقاء ونشر التهذيب بين ظهراني الأمة. وفكرة التهيب العلماني ليست من ابتداع الحكومة الجديدة بل يجدون ما يشبهها في تاريخ اليابان القديم. فقسوس البوذيين لم يعلموا الديانة في معاهدهم ولا في مدارسهم المجاورة للهياكل والمعابد ومعظم الطلاب اليابانيين لا يزور الكنيسة المسيحية ولا الهيكل البوذي وإنما تنشئتهم على الآداب وكارم الأخلاق فالتعليم في اليابان علماني محض ليس للديانة تأثير فيه والأهلون راضون بما يعقب ذلك التعليم من النتائج ولهم كل الثقة بالأساتذة الذين يحبهم الطلبة ويحترمونهم. ليس للحكومة اليابانية ديانة رسمية ولكنها لا تقاوم الأديان بل تترك لكل فرد حريته المذهبية. الأمر الملكي والتهذيب -. سنة 1890 صدر الأمر الملكي وفيه مثال للتهذيب الأدبي وجب على مدارس اليابان جميعها أن تتحداه وفيه كثير من الآراء التي تتفق مع آراء الفرنساويين وبعضهم يعزو وطنية اليابان إلى ما تبثه المدارس في نفوسهم بمقتضى الأمر الملكي لكنهم واهمون في ذلك لأن حب الوطن إحدى طبائع الرجل الياباني. والأمر الملكي قسمان أحدهما في التهذيب العام والآخر في التهذيب الوطني وإليك الواجبات التي ذكرت في الأول: حب البنين لآبائهم. تواد الأخوان والأخوات. اتفاق الزوجين. حفظ عهود الأصدقاء.

الحشمة والاعتدال. الرغبة في خير الجميع. طلب العلوم والفنون. ترقية المواهب العقلية. الاشتراك في خدمة الأمة والوطن. احترام الشورى. طاعة القوانين. تضحية المنافع الشخصية في سبيل المملكة. والحكومة والإنسانية هي تنطوي على جميع الواجبات ومنها تنشأ فضائل الإخلاص والشهامة والصدق والأمانة والشجاعة والوطنية وهذه هي حقيقة التهذيب الصالحة لجميع الأعصر والأمكنة تشمل الشريعة الأدبية التي يجب أن يخضع لها العالم بأسره. والقسم الثاني يتفرع عن أحوال الشعب فقد أدبتهم بآداب خاصة وغرست في نفوسهم فضائل ينفردون بها. الأمة اليابانية عريقة في القدم وهي تعتقد أنها أسرة كبيرة من أصل واحد يقوم الملك عليها بمثابة الوالد واعتقادها هذا سبب احترامها الشديد للإمبراطورية فحب الإمبراطور والوطن واحد في عرفهم والميكادو ممثل الوطن. ويبالغ اليابانيون في إكرام أسلافهم وتبجيلهم ويستميتون في سبيل الوطن لأنه بلاد آبائهم وأجدادهم ومنذ ستة وعشرين قرناً أسس الإمبراطور الأول المملكة الأولى ولم تنج من الغزاة غير أن أهل البلاد اتحدوا على الذود عن حوضهم فلم يستعبدوا للفاتحين. ولا يتيسر لمطالع أن يفهم حقيقة احترام اليابانيين للأسرة الملكية وشدة تعلقهم برب السرير ما لم يعرف مبلغ احتفاظ القوم بذكرى أجدادهم وأنساب سلالاتهم فكل فرد منهم يعرف آباءَه إلى عهد بعيد والأسرة المالكة اليوم هي نسل الحكام الذين تعاقبوا على عرش المملكة اليابانية منذ نشأتها حتى عصرنا الحاضر وكلهم من أسرة واحدة. ويلقب الإمبراطور بابن السماء لأن الشعب يحسبه من سلالة الآلهة ولكن آلهة اليابانيين أسلافهم وأجدادهم فاحترامهم للإمبراطور فيه شيء من مواجب الدين. وأول تمدن شاهده اليابانيون كان عند مجاوريهم الصينيين غير أنه لم يؤثر في الروح الوطنية شيئاً وكانت قاعدتهم في التهذيب الروح اليابانية ثم الحكمة الصينيةودخلت البوذية إلى اليابان في القرن السادس فكان لها في آداب اليابانيين شأن خطير. ومنذ إصلاح سنة 1868 طرأ على اليابان تغيرات جمة بانتشار المدنية الغربية ولكن النفس اليابانية لم تفقد شيئاً من خواصها ومزاياها.

وفي كل مدرسة أوقات معينة للتعاليم الأدبية وهي لا تدرس في المعاهد الابتدائية والوسطى بل تتعداها إلى المدارس العليا والتجارية والفنية والطبية وغيرها والغاية من هذا التعليم صقل نفس الطفل وطبعه على المبادئ القويمة ويعلقون عليه شأناً جليلاً فيقولون أن ارتقاء مملكتهم وانحطاطها منوطان به إذ لهم ديانة يتأدبون بآدابها. وعند اليابانيين سنة يدعونها سنة القربان أو البوشيدو وقد ذكرت فيها آداب هؤلاء وما يجب أن يتحلوا به من الفضائل وفي مقدمتها الإخلاص للإمبراطور وطاعته وفداء النفس من أجل الحاكم والشجاعة والإقدام ويجب عليه أن لا يعرف في حياته الخوف وأن يكون أبداً على أهبة الموت في قتال خصم من أكفائه وأن يجمع بين الصلابة والحزم والجود والسخاء فيحمي الضعفاء ويجير المساكين ويستقيم في أموره وقد خسرت البوشيدو مظهرها القديم ولكنها اكتسبت شكلاً جديداً في نفوس الشعب. على أن التعليم الأدبي تعترضه عقبات كؤود أهمها إنفاق جل وقت الطالب في دراسته وتحصيله وتخير الأساتذة الكفاة ممن يصح اتخاذهم قدوة في الفضائل الخلقية وكثرة التبدلات في حياة اليابان الاجتماعية بانتشار المبادئ الغربية وتأصلها. وإذا كانت اليابان قد اقتبست أصول العلوم الحديثة والفنون عن بلاد الغرب فإن التعاليم الأدبية لم تتصل بها عن ذلك الوقت وإنما هي تركة الأسلاف والأجيال القديمة يحرص اليابانيون عليها اشد الحرص ويحفظونها خالصة من شوائب الفساد علماً منهم أن مستقبل مملكتهم معقود بها. التعليم الأهلي ألقى في نادي المدارس العليا بمصر أحمد أفندي فهمي القطان أستاذ التربية بمدرسة المعلمين الخديوية خطاباً قال فيه: مهما أطنبنا في شرح حسنات القرن التاسع عشر فإننا لا نشك لحظة واحدة في أن نظامات التعليم التي أوجدها ستكون إما سببا في سعادة عيش الجيل القادم ورغده أو أنها ستجلب عليه المصائب والحسرات. كان يلتفت في العصور المختلفة في البلاد المتمدنة بنوع خاص لتربية الأفراد الذين يحكمون البلاد ويديرون شؤونها في المستقبل وكان هؤلاء في العادة من نسل الحكام والأشراف وقد تكرم بعض الغيورين من وقت لآخر فسهلوا سبل التعليم

لأفراد قليلين من أبناء الفقراء الذين أظهروا ذكاءً مفرطاً. استمر الحال على هذا المنوال حتى جاء القرن الماضي فتيقظ العالم المتمدن وإدراك كل وظيفة كبيرة كانت أو صغيرة وكل مهنة مهما كانت صغيرة لابد أن يستعد لها المحترف بها وذلك الاستعداد لا يكون إلا في المدرسة - وأقصد بذلك الاستعداد أن يربي جسمه وخلقه وعقله حتى يصبح قادراً على أمرين: الأول - أن يكافح الحياة ويصير قادراً على المعيشة وسط حبائل هذه الدنيا التي هي في تعقيد كل يوم عن سابقه. والثاني - أن يقوم بوظيفته أو مهنته القيام الذي يليق بالعصر الذي يعيش فيه وبالوسط الذي هو فرد منه. فما أدركت الأمم هذه الحقيقة بدأت تكون ما أسميه نظامات التعليم الأهلية - أي نظامات تضمن التعليم بجميع أدواره لجميع أفراد الأمة على اختلاف طبقاتها من غير تمييز بين وضيع ورفيع. ظهرت الاختراعات العلمية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر فأدخلت لتحسين الزراعة والصناعة وظهر في الوقت عينه أئمة للتربية رجال رأوا أن مستقبل بلادهم الحقيقي ليس بالزراعة والصناعة فقط بل هو بالتربية فقرروا نظريات شتى وبنوا عليها أعمالهم وأكدوا وجوب تهذيب الرجل الذي سيكون مزارعاً أو صانعاً في المستقبل - وجوب تهذيبه من الوجهة الجسمية والأدبية والعقلية. وقد قضت نفس تلك الاختراعات الصناعية على العمال بازدياد معلوماتهم حتى يصبحوا قادرين على إدارة الآلات الحديثة التي عهدت إليهم. ولا يخفى أن الرجل الذي يقضي كل حياته في تأدية عمل بسيط - نتيجة ثابتة مدى السنين كالفلاح مثلاً - لا تأتي عليه أحوال يحتاج فيها لإجهاد فكره أو تمرين قوته الاختراعية لمقاومة طارئ هو في الحقيقة لني قع - فالطبيعة تفقد عادة إجهاد النفس وفي المعتاد يصبح في درجة من الغباوة والجهل أقصى ما يمكن أن يصل إليها إنسان فكأنه اشترى مهارته في فلاحته بثمن غال ألا وهو فقد غرائزه الأدبية والاجتماعية والحربية ولكن واآسفاه هذه هي الحالة التي يصير إليها فقراء العمال أو بالأحرى أغلب السكان من كل أمة

متمدنة - إن لم تبذل حكومتها كل جهد لمداواة تلك الحال. وبالاختصار فإن ظهور تلك الاختراعات في القرنين الماضين سبب نتيجتين: (1) وجوب تربية الأمة بأجمعها تربية عامة خوفاً عليها من السقوط. (2) تربية الأفراد الذين سيناط بهم إدارة تلك الأعمال سواءٌ كانت زراعية أو صناعية أو تجارية - تربية خاصة تشمل دراسات العوامل الطبيعية التي اكتشفت وقتئذٍ. كانت إنكلترا في أول الممالك التي ظهرت فيها الاختراعات الصناعية الجديدة آخر الدول في تقرير التعليم العام فقد قررته بروسيا وسكونيا وورتمبرج في أواخر القرن الثامن عشر وفرنسا وكان لها نظام تعليم تم بكل حذافيره أيام نابليون أما إنكلترا فإنها لم تنشر المدارس الابتدائية لتعليم جميع أبناء الشعب إلا سنة 1870 - ويلتمس المؤرخون لإنكلترا العذر في تأخيرها تعميم التعليم ويقولون أن الانقلابات الداخلية التي طرأت على دار ندوتها كانت سبباً في تأخرها. أما نحن فلم نفكر في التعليم أصلاً إلا منذ سنين قلائل مع أن مصر كما قال إسماعيل باشا الخديوي الأسبق هي جزء من أوربا فيجب علينا أن نجاري الزمن الذي نعيش فيه - يجب علينا أن نعمل لنشر التعليم بين طبقات الأمة حتى تستنير وتسير إلى الأمام بحزم وعزم ثابتين. يجب علينا ونحن جزء من أوربا أن نجاري أوربا تعليماً إن كنا نريد أن نجاريها زراعة وصناعة وتجارة. ولقد قال أحد أئمة التربية بأميركا في زمن شبيه بزماننا. نحن الآن نختبر أنفسنا في الحكم الذاتي - أي أن الأمة تحكم الأمة - ومن العادات المتبعة من قديم الزمان أن يكون للحكام أوفر نصيب من التعلم إذا اقتضى أن يتعلم كل فرد من أفراد شعب ديمقراطي حاكم نفسه بنفسه إذ أن الشعب هو الحاكم الحقيقي. قال المستر روبرت في مجلس النواب الإنكليزي عقب التصديق على لائحة الإصلاح الدستوري سنة 1870: الآن وقد عيننا الشعب نواباً لتنفيذ أغراضه أو بعبارة أخرى وقد أصبح الشعب هو السيد الحقيقي فأول واجب مقدس علينا هو أن نربي جميع سادتنا. حارب نابليون البروسيين وكسرهم في واقعة بينا فجمع ملكهم شتات شملهم وخطبهم قائلاً: أيها الجنود ثقوا أن الفرنسيين لم ينتصروا علينا في ساحة القتال إن انتصارهم الحقيقي كان

في المدرسة. قال ملك البروسيين ذلك اعترافاً منه بأن رقي التعليم الفرنسي وقتئذٍ عنه في بروسيا كان سبباً في انتصار الفرنسيين على البروسيين لذلك أفراغ البروسيون جهدهم في إصلاح التعليم بمملكتهم وحذا حذوهم جميع المملك الجرمانية الأخرى وانضمت جميعها تحت لواء الإمبراطورية الألمانية وخطا التعليم فيها خطوات واسعة ونبغ كثير من أئمة التربية في ألمانيا حتى جاءت سنة 1870 فحارب الألمانيون الفرنسيين وكسروهم وأخذوا منها الألزاس واللورين ولكنهم في الحقيقة لم يأخذوا هاتين المقاطعتين في ساحة القتال، بل اكتسبوهما في المدرسة. إني لا أرى أن حالتنا الحاضرة تسمح لنا بمجاراة ألمانيا والسويد مثلاً في برامج مدارسها الأولية إذ هذا يحتاج لمالٍ أكثر مما يمكننا تديمه الآن - وعدد من المدرسين الأكفاء لا يمكننا الحصول عليه إلا بعد بضع سنين. فأرى أن نتبع الخطة الطبيعية ونبدأ صغاراً ثم نرتقي مع الزمن وبعد التجارب أراني مقتنعاً بنشر التعليم بواسطة الكتاتيب في الوقت الحاضر فإن المال الذي تحتاجه مثل هذه المعاهد قليل ومدارس معلمي الكتاتيب التي أخذت تنتشر في القطر كفيلة بتخريج العدد الكافي من المدرسين ما بين فقهاء وعرفاء فيجب علينا إذن أن يكون لدينا من الكتاتيب ما يفي بحاجة هذه الأمة. ولتنفيذ ذلك يجب على كل فرد غني أن يساعد الحكومة في إيجاد مثل هذه المعاهد وزكاة المال التي هي ركن من أركان الإسلام والتي من أجلها حارب أبو بكر الصديق رضي الله عنه المرتدين من العرب هذه الزكاة كفيلة ببناء الكتاتيب. لذلك أقول ثانياً يجب على كل فرد غني منكم ومن جميع أبناء هذا القطر من حلفا إلى البيت الأبيض أن يقدم زكاة ماله لمواطنيه في شكل يفيد الجميع ولا أرى أفيد من إنشاء معاهد التعليم في الوقت الحاضر. ترمي التربية الحقة إلى ثلاثة أمور تهذيب الجسم والأخلاق والعقل. فالتربية الجسمية مهمة جداً إذ يترتب عليها تخريج رجال ونساء أشداء أقوياء يقدرون على القيام بواجباتهم المختلفة ولأن العقل الحكيم في الجسم السليم.

أريد أن أرى أبناء مصر في صحة تامة وعضل متين ودورة دموية منتظمة. أما التربية الأخلاقية فلا يشك أحد في ضرورتها وجوبها فبها وحدها يتعلم الشعب الصدق والأمانة والوفاء بالوعد والإخلاص وآداب الزيارة والأكل والطريق واحترام الغير وغير ذلك. وبها وحدها تقل الجرائم على اختلاف أنواعها كالسرقة وكثير من المحرمات والمنكرات. وبالتربية العقلية تتهذب قوى العقل المختلفة ما بين ملاحظة وحفظ وذكر وتخيل وتفكر وبرهنة وحكم وقياس. فللعمل بموجب هذا التقسيم أقترح أن يكون برنامج التعليم بالكتاتيب كالآتي: أولاً - قراءة وكتابة ومبادئ اللغة العربية إذ هذه هي الواسطة الوحيدة للوقوف على ما يجري من الحوادث في العالم على وجه عام وبالوطن على وجه خاص. وبالكتابة تدون الكتب والتواريخ وهي الواسطة في المرسلة. ثانياً - حتى يعرف الشخص دخله ومصروفه ويعرف معنى التوفير والاقتصاد في المصروف ويعرف التاجر لدفاتره معنى والمزارع يدرك قيمة محصوله من القطن بالقنطار والجنية. ثالثاً - دروس الأشياء وتنتخب الموضوعات من الأشياء التي تحيط بالكتاب فإن كان في القرى وجب أن تكون أكثر الموضوعات زراعية وإن كان بالمدن تحتم أن يكون أغلبها صناعية ودروس الأشياء عظيمة الفائدة جداً إذ أنها تفتق الذهن وتدعو الطالب إلى ملاحظة ما يحيط به فضلاً عن كونها تعطيه معلومات مفيدة عما يحيط به من مزروعات أو مصنوعات. رابعاً - الخط. كي يتعود الطالب تحسين خطه ولا أرى أبداً ضرورة لتعليم الخط الثلث بمثل هذه المعاهد. خامساً - الأخلاق. وأرى أن يكون أساسها القرآن. وذلك أنه متى كان الدرس عل احترام الوالد مثلاً وجب على المعلم أن يستشهد بالآيات الكريمة التي تأمر بذلك وهكذا في الأخلاق الأخرى. ولسنا في حاجة لأن ندرس القرآن الشريف بأجمعه لمثل هؤلاء التلاميذ بل يكفي منه ما

يتعلق بقواعد الدين والمعاملات المختلفة وذلك هو الجزء الذي يستظهر ويلاحظ في انتخاب الآيات الشريفة احتياجات التلاميذ - فلا ضرورة لإعطائهم شيئاً عن الزواج والطلاق مثلاً في سنيهم الأولى بل هم في حاجة لمعرفة قيمة الصدق واحترام الوالدين وطاعة الله ورسوله. وأرى أن لا يكون العمل العقلي بالكتاتيب إلا في الصباح فقط وبعد الظهر يتعلم التلاميذ أشغالاً يدوية - ففي القرى يتمرنون على الفلاحة وفي المدن يتعلمون مبادئ إحدى الصنائع. أما البنات فيجب أن يتعلمن الطباخة والأشغال اليدوية ومبادئ الاقتصاد المنزلي عامة. يجب الاهتمام بتعليم الفتاة إذ أنها ستكون أمَّاً في المستقبل فيجب أن نعدها لأن تكون أمَّاً صالحة. يجب أن نعلمها ونربيها التربية الحسنة حتى تقدر هي على تربية أبنائها الصغار قبل دخولهم المدرسة. أرسلتني الحكومة المصرية لدراسة الأشغال اليدوية ببلاد السويد في صيف 1903 فدرست ما يتعلق منها بالتجارة على وجه خاص ثم بدأت أطوف البلاد السويدية لأرى نظامات التعليم بها وأكتب تقريراً عنها فزرت ذات يوم مدرسة للبنات في استوكهلم وكانت من أرقى مدارس البنات التي رأيتها في سياحاتي بأوربا. كان لتلك المدرسة مطبخ بالقرب منها تتعلم فيه البنات الطبخ فيذهب عشرون منهن كل صباح على التناوب ويطبخن الطعام نحن مراقبة ثلاث معلمات متخصصات بهذا الفن وكانت كل فتاة مرتدية الثياب الخاصة بالطباخات فوطة بيضاء طويلة على صدرها وقبعة صغيرة من التيل الأبيض فوق شعرها. وبجوار ذلك المطبخ قاعة كبيرة للأكل وبالقرب منها مصنع للأعمال اليدوية للذكور الفقراء الذين لا تقل سنهم عن اثنتي عشرة ولا تزيد عن ست عشرة. وكان هؤلاء الأولاد غالباً من المتشردين في الشوارع يؤتى بهم إما برضاهم أو بواسطة البوليس كي يتعلموا صناعة. والصنائع التي كانت تدرس بذلك المصنع هي النجارة والحدادة وعمل الأحذية والفرش سواء كانت للشعر أو للملابس أو غير ذلك. تطبخ البنات الطعام وتحضره للغذاء في قاعة الأكل وترتب الموائد وتقف في خدمة من

يحضر لتناول ذلك الغذاء - أما الآكلون فكانوا تلاميذ ذلك المصنع المجاور - يأكلون بلا ثمن ويخدمون بلا أجر وبعد ذلك يذهبون لصنعهم لمباشرة أعمالهم - وما يخرجونه من أثاث أو فرش أو غير ذلك بتهافت الناس على شرائه حباً في مساعدة ذلك المعهد والثمن يكفي للأمور الآتية: (1) شراء ما يلزم المطبخ من سمن وخضر ولحم ووقود ورواتب معلمات الطباخة. (2) شراء ما يلزم للمصنع من خشب وحديد وشعر وجلد ومشاهرات معلمي الصنائع. (3) يبقى احتياطي يعطى منه 10 جنيهات بصفة مكافأة لكل تلميذ أقام سنتين بالمصنع وأتقن صناعة ما وحسنت في حقه الشهادة - يعطى ذلك المبلغ مساعدة له في الشروع في فتح دكان للنجارة أو الحدادة أو غيرهما حتى لا يعود كما كان متشرداً بالشوارع وكنت عد زيارتي لذلك المعهد أتباحث مع مديره في فوائده. فبعد أن ذكرت له ما تراءى لي من تلك الفوائد قال لي: فاتتك فائدة كبيرة فإنك تعلم أن التعلم ببلاد السويد إجباري مجاني من زمن مديد فأبناؤنا متعلمون وخدمتنا متعلمون فالجو الأدبي في منزلي نقي طاهر والجو في المدرسة كذلك نقي طاهر - فإذا خفت على آداب ولدي مثلاً فلا أخاف إلا من الشارع حيث المتشردون - فهذا المصنع وأمثاله يجمع المتشردين من الطرقات وبذلك يصير جميع جو المدينة نقياً طاهراً لا تسمع فيه لفظاً واحداً يمش شعورك إذ تشمئز منه نفسك وقد جرت لي حادثة أثناء وجودي بقاعة الطعام - وذلك أنني رأيت فتاة تبلغ من السن نحو الرابعة عشرة ذهبية الشعر زرقاء العينين معتدلة القوام بيدها ممسحة بيضاء تنظف بها أواني الأكل وأدواته قبل تقديمه للأولاد - فذهبت لمحادثتها كي أعرف إن كانت تخدم هؤلاء المتشردين اضطراراً وخضوعاً لأمر مدرستها أم ماذا؟ وقلت لها أمثلك يخدم هنا المشرد القذر؟ فرفعت عينيها الزرقاوين وهزت رأسها في وجهي وقالت بعظمة وربما كان باحتقار لي: ومعناها بالعربية أما هو سويدي فشعرت بارتياح وأدركت أن هذه الفتاة الجميلة تخدم هذا الولد القذر طوعاً ر كرهاً - تخدمه لأنه سويدي وهي سويدية. وفي تلك اللحظة قرب مني مدير المصنع وأظهر اهتماماً زائداً بمحادثتي الفتاة ولما انتهيت أخذني على انفراد وقال لي أتعلم من اخترت لتوجيه سؤالك. قلت: لا قال هذه حفيدة الملك

- حفيدة الملك أوسكارا - فدهشت دهشة شديدة ثم أفقت لنفسي مسرعاً وقلت له: إن هي إلا برهان حي تأثير حسن التربية فالتربية الحقة تلطف الشعور التربية الحقة لقرب القلوب بعضها من بعض تغرس في القلوب حب الوطن والمواطنين. قررت إنكلترا أن يكون التعليم الإجباري من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة ولكن ألمانيا والسويد قررتاه من السادسة إلى الرابعة عشرة فكأن الممالك الثلاث اتحدت في تحديد نهاية التعليم الإجباري ولكنها اختلفت في سن الابتداء وعندي أن يعمل بموجب نظام ألمانيا والسويد إذ يجب أن يترك الطفل عدداً من السنين يرتع ويجري ويلعب ويقوى جسمه قب دخوله في مضمار التعليم حتى يكون له من الجسم والصحة المخ ما يضمن لنا قيانه بأعماله العقلية بدون تأثير في جسمه أو إضعاف لمخه كما يحصل كثيراً للمحترفين بمهن عقلية محضة - فمن رأيي إذن أن يكون التعليم الإجباري بهذا القطر من سن السادسة إلى الرابعة عشرة. يقضي التلميذ الثلاث سنوات الأولى بالكتاب وبعد ذلك يجب أن ينتقل إلى المدرسة الابتدائية فيمضي فيها خمس سنوات ويجب أن يكون برنامج المدارس الابتدائية على طراز يؤهل التلميذ للانخراط في سلك المدارس الثانوية إذا أراد أن يشمل برنامجها شيئاً من الصناعة والزراعة ولذا يجب أن لا يشتغل تلاميذ هذه المدارس بالمواد العقلية إلا في الصباح. فمتى اجتمع هذان الشرطان أمكن التلميذ دخول المدارس الثانوية ومنها إلى المدارس العالية أو الجامعية. أما إذا كان برنامجها لا يؤهل التلميذ لدخول المدارس الثانوية فنكون كأننا أغلقنا باب التعليم في وجهه عقب انتهائه من دور التعليم الابتدائي وبذا نكون قد أتينا جرماً لا يغتفر. هذا فيما يخص طالبي التعليم المجاني إما الأغنياء فعندي أنه يجب أن يكون نظام تعليمهم كالآتي مدارس بساتين الأطفال أو الكندرجارتن. كما سماها موجدها فردريك فرويل الألماني. وهي مدارس لصغار الأطفال من سن الرابعة إلى الثامنة تقريباً وفيها ينظر للطفل كما لو كان نباتاً صغيراً يقوم بحين العناية والمدرسة هي في هذه الحال بستان والبستان هي المدرسة إذ دلت التجارب على أن النساء وحدهن هن القادرات على إدارة

مثل تلك المدارس - فيرى الطفل في هذه المعاهد من الوجوه الثلاثة الجسمية والأدبية والعقلية. وبعد أن يخرج الطفل من بستان الأطفال يجب أن ينتقل إلى مدرسة ابتدائية تؤهله للمدارس الثانوية ومنها ينتقل إلى المدارس العالية أو الجامعات. أما الاختصاص في دراسة الزراعة أو الصناعة فيجب أن لا يأتي إلا بعد التعليمين الأولي والابتدائي على الأقل حتى تضمن لذلك المزارع أو الصانع مقداراً وافياً من الذكاء يؤهله للقيام بأعماله بفكر وروية. أما في الوقت الحاضر الذي يكثر فيه عدد الأميين من البالغين الراشدين فيجب أن نعمل عملاً آخر بجانب عملنا الخاص بالأطفال. يجب أن نسرع في إعطاء هؤلاء المساكين شطراً من التعليم يساعدهم على ترقية أحوالهم ويمكنهم من أن يكونوا أعضاء عاملين في المجتمع الإنساني بالمعنى الحقيقي. السينماتوغراف الناطق اختراع جديد لأديسون لم ينجزه بعد وإنما أجرى بعض التجارب في نيويورك فاتت بنتائج موافقة ويرجو المخترع أن يتغلب على ما يعترضه من العقبات. لغة الاسبرانتو وضعها ذاك الطبيب الروسي لتكون كما هو معلوم اللغة التي يتفاهم بها بنو البشر وهي لتنتشر يوماً فيوماً فلجمعية الاسبرانتو الألمانية 193 فرعاً يبلغ أعضائها 6000 وللجمعية البريطانية 130 شعبة يختلف أعضاؤها بين الأربعة والخمسة آلاف. أما فرنسا فقد سبقت عامة البلاد إلى درس لغة الاسبرانتو ففيها 340 جمعية أعضاؤها عشرة آلاف وعدد جمعيات هذه اللغة في العالم بأسه يناهز الألف وستمائة. المؤتمر النسائي السادس اجتمع في مدينة استوكهولم برئاسة العقيلة شبمان كات فافتتحت الحفلة بخطاب ذكرت فيه انضمام بلدين إلى الاتحاد النسائي وهما سربيا وايسلاندا فبلغ مجموع البلاد المنضمة 24 وقالت إن النساء في خلال سبع سنوات الأخيرة قربن من مطالبهن في خمس عشرة أمة وفي هولاندة والسويس نلن حق الانتخاب لعضوية الكنائس وفي الدانيمارك حزن حق

التصويت في المجالس العامة وفي أوستراليا ونروج وفنلاندا أو بعض أقسام أميركا الشمالية تعد النساء (منتخبات) وقد تألفت عند انعقاد هذا المؤتمر جمعية للرجال الساعين في إسعاف النساء بمطالبهن. انتباه الصين عين أحد أمراء الأسرة المالكة وزيراً فانتقد الناس تعيينه انتقاداً شديداً وقام الفوضيون يهددون حتى قال المارشال فوكي التتري أنه يوم الانتقام للأربعمائة مليون صيني الذين تظلمهم الأسرة المالكة. على أن الصحف الصينية تطري الأمير الوزير لأنه صرح أن الوطنيين في الحقوق سواءٌ وقد صدرت الأوامر إلى رجال السياسة والقنصليات أن يرتدوا بالملابس الأوروبية على بعض التغيير فيها وأصبح رجال الصين يؤمون بلاد أوروبا لتلقي العلوم الحديثة ولم يكونوا يجيئونها قبل ثورة البوكسر سنة 1900 وصدر الأمر بتبديل الأزياء على أثر ما كان من سخرية الأوروبيين بعظماء الصين الذين يشخصون إلى ديار الغرب ولكن نهضة الصين ترافقها جميع معايب المدنية الحديثة فالمبارزة دخلت حديثاً للبلاد وشرع الفوضويون باستعمال الديناميت. حوض البحر الميت يشغل البحر الميت 926 كيلومتراً مربعاً ومياه ملأى بالحمر وقد كانوا يستخرجون من جنوبه أيام عظمة بيزنطة المرمر الثمين والرخام السماقي والكبريت والنحاس والملح ومع هذه الثروة الطبيعية فقد أضرب القوم منذ عهد بعيد عن التعدين فيه حتى نال ملك الامتياز أحد موظفي الأتراك وقد أوشك أن يتنازل عن حقوقه إلى ماليين أميركيين لقاء مليون ونصف من الريالات. الموت جوعاً دل الإحصاء الرسمي على النتيجة المحزنة الآتية وهي أن 119 شخصاً هلكوا في إنكلترا جوعاً خلال سنة 1909 ومنهم 54 قضوا نحبهم في لندن عاصمة الدولة البريطانية وأكبر مدن العالم فاعتقد الكثيرون أن هؤلاء البائسين لم تسعفهم الجمعيات الخيرية بشيء. العمال الليليون

من أغرب ما يشاهد في نيويورك أن مائة وخمسين ألف عامل يقومون بواجباتهم ليلاً وبينهم قواد الترامواي والحوذيون والوقادون ومستخدمو البريد والتلفون وغلمان المطاعم والمسارح فدار في خلد بعضهم أن ينشئ ملهى يشتغل من الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الرابعة والنصف لأن معظم هؤلاء يودون أن يروا شيئاً من الملاهي عند إفاقتهم الظهر قبل العودة إلى أعمالهم فأنشئ الملعب ونجح نجاحاً باهراً فاقتفى كثيرون أثر منشئيه وقاموا بأعمال أخرى من إلقاء الخطب والمحاضرات والاجتماعات الدينية. الفنون في الدور الحجري بينت الحفريات التي جرت سنة 1875 في وادي الفيزيران أن الإنسان في الدور الحجري كان ماهراً في الفنون فقد استطاع أن يحفر على الحجر صور الحيوانات التي عاش بينها وفي الحفر دقة غريبة ومهارة معجبة وقد وجدوا أجمل تلك الرسوم في مغارة التاميرا فرأوا صور البقر والخيول الوحشية والخنازير البرية وقد رسمت بالتراب الأحمر والأسود في مظاهر مختلفة وبمهارة فنية مدهشة واكتشفوا رسوماً أخرى في كومبارس وكلها تروق النظر بدقة صنعها ومن أجمل ممثلات الفن في العصور الحجرية الرسوم التي عثروا عليها في مغارة نيو فقد وجدوا الرسوم مخطوطة بالمراود وبمزيج من الفحم وأوكسيد المنغنزيا ورأوا في غيرها من المغاور رسوماً ونقوشاً ترد إلى ما قبل العصر الحجري وقد نقشت على العظم والعاج ثم انحطت هذه الفنون في العصور التالية لأسباب لا تزال مجهولة. المناطيد في الحرب يتوقعون أن يستخدموا المناطيد في اكتشاف مواضع العدو فتحقن بذلك دماء جنود الاستكشاف ويفضلون في هذه الخدمة الطيارات على المناطيد المسيرة وميزة هذه أنها تستطيع الوقوف على علو شاسع إذا كان الهواء ساخناً لتفحص الأراضي بدقة ويحاولون اليوم نقل الأثقال في المناطيد وقد استطاع المهندس بريكث أن ينقل 12 شخصاً وزنهم 633 كيلو. إن قطعاً معدنية صغيرة تزن إحداها خمسة وعشرين غراماً إذا ألقيت من طيارة تجري على علو 1300 متر بسرعة 90 كيلو متراً تنفذ في الأجسام نفوذ قذائف البنادق وعشرة آلاف من هذه القطع لا تزن أكثر من 250 كيلو.

انتقال الطيور عكف العلماء على دراسة هجرات الطيور وتمكنوا من معرفة أمور عنها على أنها لا تزال محاطة بالأسرار الغامضة فلم يستطيعوا أن يفسروا كيف يجتاز بعض أنواع الطيور 3850 كيلومتراً فيعبر الأوقيانوس إلى جزائرها واي وكيف ينتقل سنونو البحر كل سنة من أقاصي الشمال إلى البلاد التي حول البحر المتوسط فيقطع في ذهابه وإيابه نحو 3500 كيلومتر وقد أبدى أحد العلماء ملاحظات غريبة بهذا الصدد فقال: إن هجرات الطيور بمسافات قصيرة فارتادت الأرض وكانت المسافة تبعد كلما جربت تجربة عند ما عرفت الطيور مزايا الهجرة التي اعتادتها. أما المسالك الهوائية التي ينتخبها النازحون فلم يقروا عليها إلا بعد أن أثبت لهم الاختبار أنها أمثل الطرق إلى أماكنهم الصيفية أو الشتوية والمزية التي جعلتهم يؤثرون تلك السبل على سواها هي أنهم يجدون فيها الغذاء الكافي أثناء رحلاتهم غير مراعين في ذلك طول الطريق وقصرها قال فالقمري ذوه الرأس الأسود يمعن في جنوبي الولايات المتحدة عند نهاية نيسان حتى يبلغ المكسيك ويرافقه في رحلة السنونو الأميركي وفي أيار يعود إلى الشمال في طرق أخرى فيتدرج قسم القمري نحو ألاسكا تواً يتخطف السنونو إلى كريلاندا فتزيد مسافة ما يجتازه 3200 كيلومتر ويتقوت في رحلته بما يعرض له من الهوام الطيارة. بحيرة تشاد ليس هذه البحيرة الأفريقية التي يكثر الجغرافيون من وصفها مزايا غيرها من البحيرات فقد قررت بعثة بتلهو أنها أشبه بمستنقع قليل العمق يمتد على مسافة واسعة ويختلف مقدار مياهه باختلاف الفصل وكمية الأمطار ومياه تشاد نقية تقل فيها كلورات الصوديوم مما يدل على وجود مصرف خفي لها تحت الأرض وقد اكتشفوا بحيرة أخرى جفت مياهها وكانت قبلاً بمثابة مصب لبحيرة تشاد واقعة على بعد 400 كيلومتر إلى الجنوب الغربي ويزعمون أن هذه البحيرة كانت إحدى موارد النيل. غدائر الصينيين كان الصينيون يفاخرون بذوائبهم المسدلة على ظهورهم حتى دخلت بلادهم المدينة الحديثة فشرعوا يجزونها ولهذا التبديل نتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة الشأن فإن الصيني كان

يصرف على هندمة شعره خمس عشرة دقيقة في اليوم على الأقل وإذا حسبنا إن الرجل يجب إن يدفع للمزين خمسة سانتيمات على الأقل عرفنا المبلغ الكبير الذي يقتصده الصينيون بالإقلاع عن تلك العادة ثم إن الذوائب تخلق الثوب الذي تسدل عليه فتقل مدة بقائه عشرة في المائة فإذا وفر الصيني على الوجه عشرين سانتيماً في السنة اقتصدت الأمة نحو مائة مليون فرنك سنوياً نضيف إليها ثمن أوقات الهندمة ونفقاتها فيبلغ المجموع بضع مئات ملايين من الفرنكات فجز الغدائر في الصين عمل اجتماعي اقتصادي تربح البلاد منه أرباحا طائلة. مستقبل الكونفوشيوسية ارتاح اليابانيون ارتياحاً شديداً إلى تعاليم الديانة الكونفوشيوسية وفي جميع البلاد اليابانية الكبرى يلتقون في فصلي الربيع والصيف محاضرات عن الفيلسوف الصيني العظيم فيأخذ الأساتذة البارعون يسردون فضائله ومزايا تعاليمه وتلتف حولهم الجماهير الغفيرة تتلقى عنهم العقائد كما تلقاها أول أتباعه لم يطرأ عليها خلل ولا تحريف. تاريخ الملاحة اسم رجل الأول الذي ركب البحر غائب في ظلمات العصور ولكننا نعرف إن الإنسان اقتحم البحر على جذع شجرة واستعان على التجذيف بغصن من غصونها ثم شرع بتجريف الجذع فبدأت الزوارق الحقيقية تطفو على وجه الغمر ثم استخدم الريح في تسيير السفن وأقدم ما نعرف من السفن الشراعية مراكب البابليين التي اخترعتها مصر وفي مؤخرتها غرفة للربان على سطح مرتفع يمكن الربان من مراقبة السفينة ويأتي الفينيقيون بعد المصريين وقد نشروا تجارتهم البحرية في جميع سواحل البحر المتوسط وركب اليونانيون اللجج في القرن الثالث عشر قبل المسيح وفي مراكبهم الحربية كانت تقف المقاتلة على جسر طاف ثم تجيء المراكب الرومانية وقد أصبحت أشبه بقلاع تطفو على وجه اليم مزدانة بقطع من الرخام وتماثيل محفورة وأصنام من البرونز وفيها المكاتب الواسعة على نحو ما كانت عليه سفن كاليغولا في سفراته على سواحل كامبانيا. ومركب الفكين صلب البناء قصدوا فيه إلى مقاومة الأمواج المتضاربة في بحور الشمال ولهذا بني الفريد الكبير أسطولا لإنكلترا.

على ذلك الطرز ولكن الملاحة الحديثة في تلك البلاد ترتقي إلى عهد تيدروس وأول باخرة اجتازت بحر الظلمات الاتلانتيك سنة 1819 بنيت في أميركا ودعيت سافانا ولكن الجمهور لم يرغب في ركوب السفن البخارية ولم تزل شكوكه ومخاوفه حتى كانت سنة 1838 فاجتازت الاتلانتيك أربع سفن تجارية كبرى بدون مساعدة القلوع. أسنان من خشب اخترعها أحد أطباء اليابان لتقوم مقام العاجية وغيرها ولا يزال فيها بعض الخلل غيران المخترع يرجوا أن يتداركه. الهجين العام شرع الصينيون يفكرون في حفظ الصحة فاتخذت مراكز الإمبراطورية الوسائل الفعالة لمقاومة الطاعون وأنشئت في البلاد الإدارات الصحية. جامعة باريز يزداد عدد الطلاب في هذه الجامعة سنة فسنة وعدد الأجانب فيها يقارب عدد الفرنساويين ففي قسم الآداب يوجد1800 أجنبي و1147 فرنسوياً وفي قسم الطب 350 أجنبي و318 فرنساوياً ومجموع طلبتها 2121. موسيقى المستشفيات ألفت في باريز موسيقى خاصة بالمستشفيات تعزف لتسلية المرضى ولا سيما الناقهين منهم فأتت بنتائج حسنة حملت جميع البلاد على اقتفاء أثر فرنسا في هذا العدد فتألقت موسيقى من نوعها في بطرسبرج عاصمة البلاد الروسية. الاتوموبيل في ألمانيا نجحت صناعة الاتوموبيل في ألمانيا نجاحاً باهراً فزاد من عدد معاملها من 15 إلى 58 في بضع سنوات وارتقى ثمن المصنوعات من ستة ملايين مارك إلى ثمانين مليوناً. قوة الولايات المتحدة بات حديث الحرب شائعاً في جميع أنحاء الولايات المتحدة وشرعوا يتساءلون عن مبلغ قوتها أبان الحرب فكتب كاتب أميركي يقول: عندنا جيش منظم ففي زمن الحرب نجهز

الميليس والمتطوعين فيستدعي الأولين رئيس الجمهورية على إن الآخرين لا يجتمعون إلا بعد قرار المجلس والميليس أنفسهم يقسمون إلى قسمين الحرس الوطني وغير المنظم ولنا حسب تقرير سنة 1910 جيش فيه 85392 جندياً وضابطاً وليس لنا من فرق الخفر سوى فرقة المدفعية الساحلية والتابور يؤلف من 800 إلى ألف رجل فيهم المشاة والمدفعية والفرسان وليس عندنا في زمن السلم سوى 34456 جندياً وضابطاً وينبغي لنا إن نجند 7000 آخرين ليكونوا قوة سيارة ومعظم ما يبلغه عدد الميليس المنظم 119000 بين جندي وضابط إما سائره فلا يعول عليه في غمرات الحرب وإذا ضمنا إليهم المتطوعة بلغ عدد جيشنا 224000 تملك 532 مدفعاً. يقولون إن الحاجة تسن الشريعة فعلينا إن نحشد الجيوش وندعو الأمة لحمل السلاح وفي الولايات المتحدة 16 مليونا من الرجال تختلف أعمارهم بين 18و45 فإذا دعي نصف هؤلاء للتدريب كان لنا جيش يبلغ الثمانية ملايين يذود عن بلادنا غارات الأعداء ولا ينكر إن موانينا محصنة ولكن تنقصها الذخائر والمؤن. جنازات المصريين كان قدماء المصريين في عهد الفراعنة يعتقدون أن الأموات يعبرون إلى ما وراء جبال ليبيا حيث تموت الشمس في المساء لتعبث في اليوم التالي فكانوا يشيدون أضرحتهم في الغرب ويحسبون إن الأموات ينزلون سهل عيرو وفي إحدى أوراق البردي المكتشفة رسم الشعائر الدينية التي قاموا بها في جنازة إحدى السيدات وكانوا يحاكمون الميت محاكمة عثروا على صورتها في ورقة أخرى ويضحون عن نفس الأموات. التلفون في الأبعاد الشاسعة تقدمت المراسلات التلفونية تقدما غير منتظر ونجح المكتشفون بنقل الأصوات في الأبعاد الشاسعة فمدوا أسلاكا تحت البحر بين أبونس كليف قرب دوفر في انكلترا ورأس كرينة في فرنسا وقد توفرت في الأسلاك جميع الشروط المطلوبة حتى إنها فاقت عامة الجهازات المستعملة للمخاطبة عن بعد سحيق ويمكن استعمالها بين محطات لا تتجاوز المسافة بينها ألفاً وخمسمائة كيلو متر ويعتقدون إنهم يستطيعون إن يصلوا بين لوندرا وأستراخان بالتلفون فيتجاوز مدن أوربا كافة ويؤكد المهندس الانكليزي إنه بعد عشر سنوات تقدر شيكاغو إن تخاطب بطرسبرج وشركات التلغراف والتلفون في أميركا ترى إنها بالغة يوما

يتسنى لها فيه الوصل بين شرقي الولايات المتحدة وغربيها بأسلاك التليفون وتعلن إنه قبل انقضاء هذه السنة يتم معظم المشروع ويسود في نيويورك ولوندرا اعتقاد بأن الاكتشافات الكهربائية ستجعل المخاطبة التلفونية ممكنة بين أي نقطة وثبت اليوم إن الأصوات المنقولة ممكنة بالجهازات الخفيفة تسمع بوضوح وجلا وعرفوا من التجارب إن ليس ثمت من فائدة في تغليف الأسلاك بالمطاط إذا لم يكن منه إضرار وفي التليفون أسرار لا تكتشف إلا تدريجيا كما هي الحال في التلغراف والفونغراف والنور الكهربائي ومحركات البخار وتوفر العمال على الإتقان يذلل كل يوم عقبات جمة حتى لنستطيع القول مع نابليون إن العالم ليس لديه مستحيل. باريز ميناء بحرية يفكرون اليوم بحفر قناة بين باريز والأقيانوس ويقدرون نفقاتها بنحو أربعمائة مليون فرنك ويبلغون في منزلة هذه القناة الاقتصادية والحربية غير إن باخرة واحدة تغرق فيها أيام الحرب تسدها وتجعل المرور فيها مستحيلا والقائلون بالمشروع يهيجون رغبة الناس إليه ويضربون الأمثلة إن انكلترا حفرت قناة مانشستر وألمانيا قناة كيال وإن بلجيكا تدأب لتحول عاصمتها بروكسل إلى فرضة بحرية. ولكن هذه الأفنية الأجنبية لم تكن للدول مورد غنم وفائدة لأن أرباحها ضئيلة جدا مقابل نفقاتها الفاحشة. المرض في روسيا نشر أحد الأساتذة في الأكاديمية الطبية إحصاء للأمراض التي تنتاب الروسيين جاء فيه إنه يمرض كل سنة منهم 17مليونا أي واحد في السنة ويحدث مليون وخمسمائة ألف وفاة. إما الإصابات فمنها ستة ملايين بالأمراض السارية يتوفى منها 12000000 وأشد تلك الأمراض فتكا الجرب والملاريا والسل الرئوي وحمى التيفوس. التعليم في نروج سنة 1885 أنشئ في نروج جامعة للفعلة مدت فروعها في البلاد منذ ذلك الحين فأصبح لها سبعون شعبة ونظارة المعارف تساعد هذه الجامعة والفعلة المتخرجون فيها يشهدونها بالهبات والاعطات ويبلغ عدد الحضور في جامعة كريستيانيا 42000 وهو عدد مفرط الكثرة بالنسبة لعدد الشعب وفي هذه الجامعات مكاتب للمطالعة ومعامل من الطراز الأول.

الجامعات في الدانيمارك الدانيمارك بلاد زراعية رأى النابغون من أبنائها أن يتلطفوا بنشر المعارف في أمتهم فأنشأوا الجامعات الوطنية تلقي دروسها في الشتاء فقط إذ لا يكون للزارع وقتئذ ما يجب عليه عمله فيجتمع إليها ألوف من فتيان الدانيمارك ومزارعيهم ممن يعملون صيفا في الحقول والمزارع فيقبلون علي الطلب ويتلقون الدروس في معاهد تقوم بها جمعيات مختلفة تمدها الحومة بالمال ويقصدون من هذه الدروس إلى تعريف العامل بوسائل تحسين الزراعة فيدرسونه الكيمياء والزراعة على الأصول الحديثة ويزودونه بالمعارف التي تفيده في حياته ولا يهملون فيها التهذيب العام. المدرسة الإفرنسية في بطرسبرج تسعى فرنسا لنشر تهذيبها في العالم بأسره فهي لم تكتف بمن يفد عليها من الطلبة الأجانب بل عمدت إلى نشر مدارسها في البلاد فأنشأت مدرسة فلورنسة وأخرى في مدريد وسيؤسس لها مثيل في بطرسبرج عاصمة الروس وقد قال أحد كبار الفرنساويين إن وجود مثل هذه المدرسة في عاصمة شعب يبلغ عدده 160 مليوناً شديد الارتباط بالشعب الفرنساوي يكون له نتائج جلى فأصغت أمته إلى قوله ولا يلبث المشروع إن يتحقق. دور المطالعة في أميركا سبقت أميركا سائر البلاد في إنشاء هذه الدور وتألفت الجمعيات للإكثار منها. وعقد مؤتمر لها في فيلادلفيا سنة 1876 قرر أن تنشر دور المطالعة في عرض البلاد وطولها لتهذيب الشبان والعمال وكانوا لا يسمحون بدخولها إلا لمن ناهز الثامنة عشرة من عمره ثم خفضوا ذلك إلى الثانية عشرة فالعاشرة فالثماني وقيموا تلك الدور مكلفون بإرشاد الأطفال إلى مطالعة الكتب الأغزر فائدة لهم وقد يجيئهم الطفل طالبا كتاب قصص عن ذوي الجلود الحمراء فلا يزالون به حتى يطلب كتابا أوفر نفعا وأجزل عائدة ولم تكتف الجمعيات بذلك بل أنشأت مستودعات للكتب في الحارات المختلفة قائلة يجب علينا أن نسير إلى الفتيان والفتيات ولا ننتظر مجيئهم إلينا. وأرادت المدرسين على تسهيل المطالعة للطلاب بإعارتهم الكتب التي يرغبون فيها أو بإنشاء مكاتب صغيرة للمطالعة في مدارسهم. وما أزدهرت هذه المكاتب إلا بفضل المتبرعين لها من أنصار العلم والإنسانية والباذلين في سبيلها مبالغ

جسيمة وحسبك بهبات كارنجي وغيره من كبار الأغنياء دليلاً على ما تقول وبنوا لمن بلغوا أشدهم مكاتب فيها جميع المجلات والصحف الصادرة في ذلك اليوم فيجيئها الشبان في أول أمرهم لمطالعة هاتيك الوريقات ثم يألفون المطالعة رويدا رويدا فيتشوقون إلى قراءة المصفحات النافعة الممتعة. وفي مدارس الشعب مكاتب عامة خدمت التهذيب العام أجل خدمة وعملت على ترقية روح الشعب. قلنا إن أغنياء الأميركيين تعهدوا تلك الدور بالهبات الطائلة ولقد أنشأ المستر أندروكارنجي الغني المشهور ألفا وثمانمائة مكتبة انفق عليها 51 مليون دولار ونيفا وكلها في البلاد التي يتكلمون فيها باللغة الإنكليزية فهي منتشرة في الولايات المتحدة وكندا وإنكلترا وبلاد الغال وأيرلندا وايكوسيا وزيلاندا الجديدة والهند الغربية الإنكليزية وأوستراليا وتسمانيا وأفريقية الجنوبية وغيرها.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات توجيه النظر إلى علم الأثر تأليف الشيخ طاهر الجزائري طبع بالمطبعة الجمالية بمصر على نفقة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه ص420 اعتاد استأذنا مؤلف هذا الكتاب إن يضع تأليفه في أكثر العلوم المختلفة التي هو أمامها المحقق بحسب المناسبات فبينا نراه يؤلف كتابا في البيان إذا هو ينظم بديعية ويشرحها وبينا هو يؤلف كتابا في الطبيعيات إذا هو يكتب كتابا في قصص الأنبياء وفيه رد على من طعن بالإسلام فتارة يؤلف في العقائد وأخرى في النحور وطورا في الخطوط وأحيانا في الحساب والمساحة ثم تراه يشرح رسائل ابن نباتة ويودعها من دقيق الأبحاث ما ينفع ويلذ ثم كتابا في الألغاز والأحاجي وآخر في الأدب ثم في اللغة ثم في التاريخ ثم في التفسير وآخر كتبه هذا المصنف الجليل ألفه على غير مثال احتذاه وإن كان المؤلف الأمام لا يسير خطوة بدون الإحالة إلى كتب الأئمة واستخراج درر بحورهم والانتفاع بعلومهم ولا نعلم اليوم عالما من علماء الإسلام جمع فأوعى في الفنون المختلفة مثل هذا المؤلف وأجاد كل الإجادة فيما ألف وأختار المناسبات لإظهار ما رزق من علم وفضل تجارب. وقد وصف كتابه الأخير في سطر فقال إما بعد فهذه فصول جليلة المقدار ينتفع بها المطالع في كتب الحديث وكتب السير والأخبار وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول الحديث ولكن ما نقله الأستاذ لا يسهل على كل عالم أن يظفر به دع عنك من درجة العلماء وقد ضمن أنفع ما وقع عليه في أبحاثه وما اطلع عليه من كتب السلف ومن أهم ما قرأناه فيه مقالة في الخط العربي والحركات العربية ما نظن عالماً شرقياً أو غربياً يكتب ما بدانيها في التحقيق والجمع بأطراف هذه المسألة مما دل على بعد غور العلامة المؤلف وإصلاحه الشديد في خدمة العلم أمتع الله الأندية العلمية بثمرات فضله. المجازات النبوية للشريف الموسوي السيد الرضي طبع بمطبعة الآداب في بغداد على نفقة سيد حسن صدر الدين ص287 كتاب جليل يشتمل على مجازات الآثار النبوية وفيها كثير من الاستعارات البديعة ولمع

البيان الغربية وأسرار اللغة اللطيفة وهو من أفيد ما أحي من آثار السلف قدم الطابع أمام الكتاب ترجمة مؤلفة وناهيك به من حبر كبير من أحبار الإسلام وبحر من بحور العلم والعرفان. وكنا نود لو عني الطابع بتصحيح الكتاب على أحد علماء العرب في العراق ليكمل تأليفا ووضعا وطبعا وشكلا وعلى كل فله من الآداب الثناء. تاريخ التمدن الإسلامي تأليف جرجي أفندي زيدان نقله إلى التركية زكي مغامر طبع بمطبعة قناعت في الأستانة سنة 1329 نشر المترجم وهو من الكتاب المجيدين بالعربية والتركية ترجمة تاريخ التمدن الإسلامي وسماه مدنيت إسلامية تاريخي عني بنقله طبق الأصل بحيث لا يشعر قارئه باللسان العثماني إنه مترجم ويوقن من قرأه بالعربية أولا ثم قرأه بالتركية إن المترجم استعمل غاية الأمانة في نقله فأستحق ثناء الآداب العربية ونفع بما نشر مكاتب اللغة العثمانية. وقد نشر منه حتى الآن ثلاثة أجزاء وبقي عليه الجزآن الآخران. كتب مختلفة رحلة قصيرة أفندي صياغ وقرينته العقلية نجلا (مطران) صباغ بين الولايات المتحدة الأميركية وسورية ولبنان طبعت بالمطبعة الأدبية في بيروت. العبر - نظمها ميخائيل أفندي الصقال بعد حوادث سنة 1909في إنطاكية وغيرها من بلاد قيليقية طبعت بحلب في المطبعة المارونية. صحيفة الوجدان - هي شذرات من منظومات محمود رمزي أفندي نظيم من ناشئة شعراء مصر في موضوع التربية والاجتماع وتربية النساء. سمير الليالي - الجزء الثاني مصدر الغرائب الزمانية في أشهر الحوادث التاريخية تأليف محمد أمين أفندي الصوفي في السكري طبع بمطبعة البلاغة بطرابلس الشام على نفقة المكتبة الرفاعية. أرجوزة في علم القيافة - للشيخ محمد أمين العمري المتوفي سنة 1204 طبعت بمطبعة دار السلام ببغداد. تحذير المسلمين عن أتباع غير سبيل المؤمنين للشيخ عبد العزيز البداح الكويتي طبعت

بمطبعة دار السلام في بغداد. منظومات جميل أفندي الشطي الدمشقي نظمها في أغراض مختلفة ومنها الاجتماعي طبعت بمطبعة الإنصاف بدمشق. ثلاث مجلات كان الشهر الماضي من أبرك الشهور على الآداب العربية في مصر والشام والعراق نشأت للغة العربية في هذه الأقطار ثلاث مجلات رائقة نشرها أربابها عن كفاءة بعد التخرج في الموضوعات التي عانوها سنين فجاءت مجلاتهم ناضجة في الجملة من أول صدورها فالمجلة الأولى صدرت بالقاهرة اسمها. البيان وهي تبحث في الآداب والتاريخ والفلسفة والأخلاق والتربية والاجتماع والنقد والروايات والصحة وتدبير المنزل وتعني بنشر آثار الغرب وآثار العرب لمنشئيها الشيخ عبد الرحمن البرقوقي ومحمد أفندي السباعي وهي شهرية في 80 صفحة واشتراكها السنوي 50 قرشاً مصرياً. والمجلة الثانية مجلة الآثار وهي عامة المباحث شهرية تصدر عن زحلة في لبنان لمنشئها عيسى أفندي اسكندر المعلوف واشتراكها في البلاد العثمانية ريال مجيدي ونصف وفي غيرها عشرة فرنكات وهي شهرية في 32 صفحة. والمجلة الثالثة لغة العرب وهي شهرية أدبية علمية تاريخية لمنشئها في بغداد الأب انستاس ماري الكرملي واشتراكها في الديار العربية تسعة فرنكات وفي الديار الأجنبية أثنا عشر فرنكا وعدد صفحاتها 40 تصفحنا الأعداد الأول من هذه المجلات المثقنة فرأينا فيها أبحاثا ممتعة وشذرات مفيدة تدل على بعد غور أصحابها العاملين الباحثين وأدبهم وغيرتهم على نشر الفضائل والمعارف ولكل منها ميزة تختلف عن الأخرى وكلها متناسبة في التنسيق والجمع بين ما يروق الخاصة ولا يتبرم به العامة فعسى إن تجد هذه الصحف من الناطقين بالضاد ما تستحق من الإقبال ليزيد ذلك في نموها ويضمن لها البقاء حتى تضاهي أكبر المجلات الأوربية بعون الله.

كتب اللغة الانتقادية

كتب اللغة الانتقادية أختلط العرب بالأجانب بعد الفتح فأثر التياثهم بهؤلاء فيهم آثار اسبقها التأثير في لغتهم لأن اللغة وهي آلة الترجمة والتفاهم أقرب إلى إلى الانتقال من الأخلاق والعادات بل هي المدخل إلى انفعال الآداب ولنا من اهتمام الأمم الحية بنشر لغاتها دليل بات على ذلك ولا أريد هنا شياع الألفاظ الدخيلة وتسربها إلى العربية فإن ذلك إنما ظهر بعد تبسط الأمة في العمران ولكن أريد بذلك اللحن الذي حدث بعد الفتح أو في أخرياته والعرب عرب في أزيائهم وأوضاعهم وشظفهم في المعيشة فقد بدأوا يلحنون في التراكيب ثم في المفردات وانتهى ذلك بوضع علمين علم يحفظ التراكيب عن الخطأ وهو النحو وآخر يحفظ المفردات الصحيحة وهو علم اللغة وابتدأ العلماء قبل عهد التدوين ينتقدون اللحن في محاوراتهم ثم دونت اللغة ودون في أثنائها فن يصح إن يسمى (اللغة الانتقادية) وهو فرع بمعنى خاص من علم اللغة تنتقد فيه المفردات المستعملة غلطا في كلام الخاصة والعامة فيذكر فيه المصحف والمحرف والمقلوب والمستعمل في غير موضعه والمتغير وضع حركاته وسكناته وقد ألف في هذا الفن جماعة من أقدمهم أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي البصري المتوفى سنة 211 وقيل قبل ذلك ألف كتاب (ما تلحن فيه العامة) ولعله أول من كتب في هذا الشأن فإني لم أجد غيره ممن طرق هذا الباب إلا أتلى منه وللإمام أبي بكر المازني المتوفى سنة 248 كتاب بهذا الاسم ولأبي حاتم سهل بن محمد السجتاني العالم الشهير المتوفى سنة 255 وقيل قبل ذلك بقليل كتاب (لحن الأمة) وبهذا الأمم كتاب لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة 290 وألف المفضل بن سلمة الفاضل الكوفي صاحب الاستدراك على العين وكان معاصر للفراء ومنقطعا للفتح بن خاقان كتاب (الفاخر) في لحن العامة وبهذا الاسم أيضا كتاب في لحن العامة لابن البلخي وكان مستوفيا في بلخ على عهد السلطان محمد السلجوقي وألف محمد بن الحسن الزبيدي الاشبلي المتوفى سنة 379 كتاب (ما يلحن فيه عوام الأندلس) ولأبي هلال العسكري صاحب كتاب (الصناعتين) المتوفى سنة 395 كتاب (لحن الخاصة) وألف ابن باني محمد بن علي السبتي المتوفى سنة 733 كتابا في لحن العامة وفيه كتاب لابن هشام لابن هشام محمد بن أحمد اللخمي المتوفي قبل الستمائة. وقد أنتقد جماعة من اللغويين كتب آخرين منهم فمن الكتب المنتقدة وهي في موضوع

انتقادي كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص) وهو الكتاب المعروف لأبي القاسم محمد بن عثمان الحريري البصري صاحب المقامات المتوفى سنة عشر وخمسمائة وقيل سنة 546 وقد أعتني به الأدباء فحشاه وشرحه واختصره وزاد عليه ورده ونظمه جماعة منهم وممن شرحه شرحا انتقاديا شهاب الدين شهاب الدين الخفاجي المصري صاحب الديوان المعروف وأبو الثناء الألوسي البغدادي صاحب (روح المعاني) وسمى شرحه (الطرة) وزاد عليه ابن منصور موهوب بن احمد الجواليقي المتوفي سنة 539 ملحقاً سماه التكملة ولكن في لحن العامة وممن رد عليه ابن الخشاب المتوفي سنة 567 ورد على الحريري في الدرة أيضاً أبو جعفر محمد بن عبد الله المكي اللغوي المتوفي سنة 565. ومن العلماء النقادين أبو نعيم علي بن حمزة اللغوي البصري المتوفي سنة 375 ردّ على ثعلب في الفصيح كما انتصر له ابن خالويه ولأبي نعيم هذا رد على جماعة من اللغويين وصنف أبو حاتم الهروي كتاب (الرد على أبي عبيدة) في غريب القرآن ولبعد السلام بن عبد الرحمن اللهخي الإشبيلي المتوفي سنة 627 كتاب يرد على ابن سيده صاحب المخصص المتوفي سنة 458. ومن كتب اللغة المشهورة التي انتقدها العلماء كتاب (العين) الذي يقولون أنه أول كتاب وضع في اللغة ولكنه لم يكمل واشتهر أنه للخليل بن أحمد الفراهيدي الإمام الشهير المتوفي سنة 175 ولكن أنكر العارفون أنه له كما جمعوا على تشويشه وسوء ترتيبه وتطرق الخطأ إليه واشتغل جماعة بترتيبه وتهذيبه واختصاره وانتقاد الأغاليط التي جاءت فيه وممن انتقده محمد بن عبد الله الإسكافي أحد أصحاب الصاحب بن عباد في كتاب جمع فيه كثيراً من أغلاط الأدباء واختصره أبو بكر المازني واستدرك عليه المفضل بن سلمة وألفت كتب كثيرة بشأنه وتوجد من كتاب (العين) نسخة على نقصها في بعض بيوت النجف خطها وورقها عاديان. ومن رجال الانتقاد في اللغة مجد الدين الفيروزأبادي صاحب القاموس فقد خطأ جماعة من اللغويين منهم أحمد بن فارس القزويني اللغوي صاحب (المجمل) المتوفي سنة 398 فإن الفيروزأبادي جمع عليه ألف وهم في كتابه المعروف بالمجمل وذلك في كتاب مستقل وكتاب المجمل هذا يقع في جزئين كبيرين ويوجد جزؤه الأول عند أحد الأدباء في النجف

مخطوطاً في القرن السادس على ما أظن ولا أحفظ السنة ويوجد منه جزءٌ في مكان آخر ولا أعلم أهو الأول أم الثاني وممن خطأه صاحب القاموس الإمام أبو نصر إسمعيل بن حماد الجوهري صاحب (الصحاح) المتوفي سنة 393 فإن من يتصفح القاموس يجد نسبة الوهم إلى الجوهري في مواضع كثيرة منه والقاموس إنما بني على انتقاد الصحاح والزيادة على ما فيه ثم أن الفيروزأبادي يتحامى ابن فارس أكثر مما يتحاشا من الجوهري على أن صاحبي المجمل والصحاح متعاصران ولا يعلم أن الجوهري أجاد فيما كتب أكثر من ابن فارس ولكنه إنما تناول الأول وحط منه لتوفر الناس على مطالعة كتابه واشتهاره أكثر من المجمل فنال غرضه وهو أن نبذ القراء الصحاح وأقبلوا على القاموس وهو وإن كان أوفر مادة إلا أنه أعجمي اللهجة ثقيل العبارة عكس الصحاح. وانتقد الصحاح جماعة غير الفيروزأبادي منهم الإمام عبد الله بن بري المتوفي سنة 576 سمى كتابه (التنبيه والإيضاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح) وللقاضي الأكرم علي بن يوسف القفطي مؤلف تاريخ النحاة من علماء القرن السادس كتاب (إصلاح الخلل الواقع في الصحاح). وللصفدي صاحب شرح لامية العجم المتوفي سنة 757 كتاب (نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم) وقد انتصر للصحاح على القاموس جماعة منهم القاضي أويس بن محمد المتوفي سنة 1037 في كتاب سماه (مرج البحرين) ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن عبد العزيز نزيل مكة في كتاب سماه (الوشاح في رد توهيم المجد للصحاح) وقد اعتمد المؤلف في رده على مجمل ابن فارس ومختصر العين للزبيدي وعلى نسخة من نهاية ابن الأثير بخط المصنف وعلى نسخة وقعت له من الصحاح خالية من التصحيف والتحريف العارضين اللذين أوهما بعض المنتقدين فرد على الجوهري في بعض المواضع وقد أحسن نصير الصحاح هذا في دفاعه ما شاء ولا يكاد يوجد هذا الكتاب الانتقادي على أنه مطبوع وهو يقع في 134 صفحة متوسطة طبع سنة 1281 ببولاق بالمطبعة الكبرى الممتازة. وقد ألف النقادون كتباً في الرد على القاموس نفسه منها كتاب (الدر اللقيط أغلاط القاموس المحيط) لمحمد بن مصطفى الشهير بداود زادة المتوفي سنة 1017 ولدي كتاب (القول المأنوس في شرح مغلق القاموس) وهو تعليقة جمعها مؤلفها من حاشيتين إحداهما لعبد

الباسط سراج الدين البلقيني والأخرى لجمال الدين الشهير بسعدي الرومي والكتاب مبني على إيضاح بعض الجمل والمفردات وقد تذكر فيه مواضع الخلاف بين صاحب القاموس وصاحب الصحاح وغيره ويزاد عليه من المعاني في الصحاح ما قد أغفله الفيروزأبادي وردت فيه بعض المواد التي ادعى إغفال الصحاح إياها إلى نسخة من الصحاح مصححة وجدت تلك الألفاظ في هامشها وخط التعليقة حسن متأخر وورقها جيد مذهب وصفحاتها 146 ولا أعرف لها ثانية. وممن انتقد القاموس ورد عليه السيد علي خان صاحب (سلافة العصر) و (أنوار الربيع) وهو أحد أعلام الأدب في القرن الحادي عشر فانه ألف كتاباً ممتعاً في اللغة سماه (الطراز) ولكنه لم يتم ويوجد جزآن منه في بعض المكتبات الخاصة في النجف وسمعت صاحبه يقول أنه تتبع سقطات صاحب القاموس كما تتبع سقطات صاحب الصحاح فهو يقول ووهم (الفيروزأبادي) كما يقول الفيروزأبادي ووهم (الجوهري) وآخر من تجرد للرد على القاموس فيما أعلم المرحوم أحمد فارس صاحب الجوائب وكتابه (الجاسوس) معروف عند المتأدبين وهو من أحسن الكتب الانتقادية. ولما نهضت العربية في نشأتها الأخرى أي بعد انتشار الصحف اخذ بعض الكاتبين ينتقد الألفاظ والأساليب العامية والركيكة المقتبسة من الأجانب ومن أشدهم جهاداً في ذلك المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي فانه كتب في مجلة (الضياء) وفي غيرها فصولاً في الإصلاح اللغوي صحح فيها أغلاط الكتاب وانتقد لهجتهم ولكنه أخطأ في أشياء بنى على خطأ القوم فيها ولا يزال يجيءُ في الجرائد والمجلات شيءٌ من الانتقاد اللغوي سواءٌ كان ذلك على الكتب المؤلفة أو في مقالات خصت بانتقاد أغاليط الكتابة المصرية والمقتبس هي المجلة التي تسير على هذا المبدأ الصحيح الذي يبشرنا بحياة جديدة لهذه اللغة التي امتهنها أهلوها وحمل الناس على إهانتها اقتعاد أبنائها غوارب الفرقة والجهالة. ومن الرسائل التي قرأتها في اللغة الانتقادية رسالتان وقفت عليهما في مجموعة ذات رسائل في موضوعات شتى واسم إحداهما (سقطات العامة) وهي كراسة صغيرة مرتبة على حروف الهجاء وقد شذ منها بعض حرف الهمزة والرسالة غير منسوبة لأحد ولم أجدها في كشف الظنون إلا أن لجهة كاتبها تدل على أنه من المتأخرين والرسالة الثانية

تقع في كراستين ونصف وهي كسابقتها مرتبة على الحروف لكنها خير منها وأجمع وأنصع لفظاً وأرصن تعبيراً ولم تنسب لمؤلف أيضاً وفي كثير من فصولها يذكر ما نصه (الزائد من كلام ابن الحوزي) ولعل هذا هو أبو الفرج عبد الرحمن صاحب كتاب (المدهش) الذي نشر المقتبس وصفه وخط الرسالتين سقيم حتى لا يكاد يقرأ هذا وإلى قراء المقتبس شيئاً مما جاء في سقطات العامة: فصل الهمزة مما جاء في (الإيوان) بكسر أوله الصفة العظيمة والناس يفتحون همزته وهو لحن إذ هو لفظ عربي كالدبوان ولكن يجوز الفتح في الدبوان حكاه في القاموس. فصل الباء مما فيه (البرية) بتشديد الراء الصحراء والجمع أبرار وتخفيف الناس راءها (عامة العراق تشددها اليوم) غلط إذ هي بالتخفيف من برأ الله الخلق أي خلقهم (البشارة) هي بالفتح بمعنى الجمال والاسم من البشرى بكسر الباء وضمها لا غير والناس (عامة العراق تسكن الباء) في الاسم من البشرى وهماً منهم (الباكرة) هي من مخترعات وليست من كلام العرب والصحيح البكر (بنيامين) هو كإسرافيل أخو يوسف عليه السلام ولا تقل (ابن يامين) وقد شاع بين الناس أن ابن يامين ظناً منهم أنه لفظ عربي وليس كذلك بل هو أعجمي وهو غير الذي في معلقة طرفة (البلور) على وزن تنور وسنور معروف فكسر الباء مع ضم اللام على ما هو المشهور لحن. فصل التاء مما جاء فيه (التوأمان) هذه اللفظة تثنية توأم يقال أتأمت المرأة فهي متئم إذا وضعت اثنين وغلط الناس أنهم يستعملونه بمعنى (التوأم) أي المفرد (الترجمة) بفتح الجيم مصدر على وزن فعللة من ترجمة وترجم عنه أي فسر وما شاع بين الناس من ضم الجيم خطأ (الترجمان) يقولونه بفتح التاء وضم الجيم ولم يقل به أحد من أصحاب اللغة. فصل الثاء مما فيه (الثقل) كعنب ضد الخفة ويستعمله البعض في المعنى بسكون القاف وهو خطأ قال في القاموس الثقل واحد الأثقال كجمل وأجمال (الثيب) يزيدون في هذه اللفظة تاءً ويقولون

(ثيبة) وهو خطأ لأنها وردت مجردة عن التاء بلا خلاف. فصل الجيم مما جاء فيه (جمادى الأولى والأخرى) فعالى كحبالى والعوام تستعمله (لم نسمع هذا الاستعمال) بالمعجمة المكسورة ويصفونها (هذا معروف) بالأول فيكون فيه ثلاث تحريفات قلب المهملة معجمة والفتحة كسرة والتأنيث تذكيراً وكذا جمادى الأخرى يقولون فيها جمادى الآخر بلا ياء والصحيح الآخرة أو الأخرى وهما معرفتان من أسماء الشهور وكذا ربيع الأول وربيع الآخر في الشهور وأما ربيع الأزمنة (يريد الفصول) فالربيع الأول باللام. فصل الحاء مما جاء فيه (الحباب) يستعمله الأكثر في النفاخات التي تعلو على وجه الماء بضم الحاء وهو خطأ إذ هو بضم الحاء المحبة فالصحيح فتح الحاء (كعب الأحبار هو بالحاء) المهملة واشتهر بين العوام بالمعجمة لكثرة ما يرويه من الأخبار قال يف الصحاح كعب الحبر منسوب إلى الحبر الذي يكتب به لأنه كان صاحب كتب وقال صاحب القاموس ولا يسمع الأخبار (أي بالمعجمة) إلا في الروايات (الحيدر) هو بالحاء المهملة من أسماء الأسد واللحانون يستعملونه (هذا الاستعمال لا يعرف في العراق) بالمعجمة وههنا حمل المؤلف على الناس متأففاً من الجهل والتقليد فكأنه يدعو هلم اعملوا مستقلين لا يضلكم القديم ولا العادات الموروثة فقال يستعملونه بالمعجمة لعدم زوال الكزازة منهم بتحصيل طرف من العلم بل ربما يسمعون الحق فلا ينتبهون لان ترك المألوف صعب! (الحيوان) هو بالتحريك جنس الحي وأصله حييان ذكره في القاموس فإسكان الياء كما فعله العامة لحن. فصل الدال مما فيه (الدعاوي) هي كصحاري جمع الدعوى وبكسر الراء خطأ (الديانة) هي معروفة فلحن بعض العوام بتقديم النون على الياء (هو غير معروف) وقولهم دناية عن الجهل كناية وعلى اللفظ جناية. فصل الذال من بعض ما فيه (الإذعان) الغلط فيه من حيث يستعملونه بمعنى الإدراك فيقولون أذعنت

بمعنى فهمت والصحيح أذعنت له ومعناه الخضوع والذل (الأذناب) وقع في مختصرات الصرف (الزاجر عن الأذناب) زعموا أنها الأذناب على وزن أفعال جمع ذنب بمعنى الإثم وإنما الأذناب جمع ذنب بفتح النون. فصل الراء جاء فيه (المرثية) هي بالتخفيف مصدر قال في الصحاح رثيت الميت من باب رمى رثاءً ومرثية أيضاً إذا بكيته وعددت محاسنه فتشديد الناس ياءها (وهذا شائع بين المنتمين إلى الأدب) لحن محض وأما القصيدة فهي مرثية فيها (ويصح إطلاق المرثية عليها) (الرفاهية) هي بالتخفيف كالطواغية يقال فلان في رفاهية من العيش أي في سعة وخصب ولين والناس يلحنون (هذا اللحن شائع أيضاً) فيها بتشديد الياء. فصل الزاي بعض ما فيه (الزعيم) هو بمعنى الكفيل قال سبحانه وتعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وفي الحديث (الزعيم غارم) فاستعمال الناس إياه على أنه الحسبان مبني على الزعم الفاسد. فصل السين مما جاء فيه (السبق) من باب ضرب والناس يزيدون فيه تاءً فيقولون (السبقة) فهو لحن منهم ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الثاءُ للمرة كالضربة لكن من تتبع استعمالاتهم يعرف أنهم لا يقصدون بها المرة بل يستعملونها بمعنى المصدر فقط فيقولون (وهو من قبيل سبقة اللسان) (السحور) هو بالفتح اسم لما يتسحر به كالغبوق والصبوح لما يشرب في العشاء والصبوح فضم السين (وبالضم يستعملونه اليوم بمعنى السحر الذي هو قبيل الفجر) كما يفعله بعضهم خطأ (السلس) على زن كتف تقول شيء سلس أي سهل ورجل سلس أي لين منقاد وفلان سلس البول إذا كان لا يمسكه فالسليس بزيادة الياء عل ما هو المشهور غير سلس بل هو لحن محض (مسيلمة) تصغير مسلمة اسم للكذاب المشهور فمن يقوله بالفتح ويدعي الصحة أكذب منه. فصل الشين فيه (الشباهة) هي لفظة مستعملة بين الناس ولكن لا صحة لها والصحيح الشبه بفتحتين

تقول بينهما شبه. فصل الضاد فيه (الصلاحية) اخترعها أصحابنا بتشديد الياء واستعملوها لكنها من الألفاظ المهملة والمصدر هو الصلاح والصلوح. فصل الظاء مما فيه (المظلمة) بكسر اللام على وزن محمدة مصدر ظلم قال في الصحاح ظلم يظلم ظلماً ومظلمة انتهى والناس يفتحون لامها فيقولون مثلاً ضرب اليتيم مظلمة أي ظلم وهو خطأ إذ هي بفتح اللام ما تطلبه من الظالم وهو اسم ما أخذ منك. فصل العين فيه (المعجب) شاع بين الناس بكسر الجيم وهو خطأ (المعدن) بكسر الدال منبت الجواهر من ذهب ونحوه من عدن بالمكان يعدن أي أقام ومنه (جنات عدن) أي جنات إقامة (الأعطاف) هو جمع عطف بكسر العين بمعنى جنب الشيء والجانبان العطفان والناس يحسبونه جمع العطف بفتح العين الإشفاق فيقولون (لا يبعد من ألطاف مولانا وإعطانه أن يفعل كذا) (عاميٌّ) بنخفيف الميم خطأ والصحيح بتشديد الميم منسوب العامة (العيش) هو بفتح العين وكسرها على ما أشاع خطأ لأن العين إذا كسرت تلتزم التاء كعيشة راضية. فصل الغين مما فيه (الغذاء) بالذال المعجمة على وزن كساء ما به نماء الجسم هكذا فسر في القاموس وقال في الصحاح (الغذاء) ما يتغذى به من طعام أو شراب وقد شاع بين الناس بالدال المهملة اسما لما يؤكل فقط ففيه غلطان (أي أهمل داله وتخصيصه بالطعام) وأظنهم يغلطون من (الغذاء) بالفتح والمد ضد العشاء بمعنى طعام الغد طما أن العشاء بالفتح والمد طعام (الغيبة) بالكسر من الاغتياب وفتح غينها لحن ازهي بالفتح مصدر بمعنى الغيبوبة. فصل الفاء فيه (الفراغة) هي لحن استعملوه من غير نكير لكن الصحيح الفراغ بلا تاء (الفلاكة) هي من الألفاظ التي اخترعوها يستعملونها في ضيق الحال كأنهم اشنقوها من لفظ (الفلك) فقالوا به فلاكة وهو مفلوك أي أصابه الفلك.

فصل القاف فيه القوابل يستعملونها جمع قابل وهو جمع قابلة لأن فاعلة في الصفة جمع فاعلة إلا فوارس جمع فارس على ما عرف في موضعه (القنديل) هو بكسر القاف معروف ووزنها فعليل لا فنعيل وفتح القاف لحن مشهور. فصل الكاف (الكراهية) هي بالتخفيف من مصادر كرهه فتشدد الياء على ما فعله البعض مما يكرهه السمع ويمجه الذوق. فصل اللام مما فيه (اللكنة) هي بضم اللام عجمة في اللسان يقال رجل الكن وقد لكن من باب ضرب كما ذكر في اللغة وما زلت اسمع من بعض العوام تحريف هذه الكلمة وارى بعض الناس حيارى في أمثال هذه الاغاليط تارة يصيبون ولا يدرون إصابتهم ويخطئون ولا يدرون ولك لا يرجعون إلى اللغة فيما أشكل عليهم حتى يخرجوا من ظلمة الشك إلى نور اليقين. فصل النون (المنبر) هو بكسر الميم لكن شاع بين العوام فتح ميمه (هو كذلك اليوم) وكذا ضم ميمه (النزل) بضمتين وبالتسكين ما يهيأ للنزيل أي الضيف والعوام يزيدونه واوا (لعلها من إشباع الضمة) وليس النزول إلا مصدرا بمعنى الهبوط والحلول (النزلة) وهي الزكام يقال به نزلة والجمع نزلات والجاهلون يعبرون عنها بالنازلة ويجمعونها على النوازل (تجمع كذلك الآن) وه وخطأ إذ النازلة هي الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس كما تفصح عنه كتب اللغة (النقرس) هو داء معروف وزيادة الياء على ما هو الشائع بين العوام خطا لأن النقر يس الدليل الحاذق (النكاة) بكسر النون جمع النكتة وإذا ضمت النون حذفت الألف (فيقال النكت) وكثير من الناس يضمون النون ويثبتون الألف هذا بعض ما جاء في الرسالة الأولى ولعلي في فرصة ثانية أتي بالرسالتين. النجف // محمد رضا الشبيبي

بين الفيحاء والشهباء

بين الفيحاء والشهباء عمران حلب القديم والحديث كان أجدادنا يقطعون المسافة بين دمشق وحلب في تسعة أيام على الدواب وها قد أصبحنا نقطعها في ست عشرة ساعة بالقطار وهو يمر مر السحاب ولو وجدت الشركة داعيا قويا لقطعت اليوم في ساعة فبفطر الراكب في الصباح في الفيحاء ويتعشى في حاضرة سورية البيضاء لأن المسافة تقل عن أربعمائة كيلو متر يتيسر قطع الخمسين كيلو مترا في ساعة واحدة من رياق إلى حلب والخط بينهما من النوع العريض وقطاراته منظمة أكثر من قطارات بيروت - دمشق - حوران أو يافا - القدس أو حيفا - دمشق - المدينة. أتيت الشهباء أو عاصمة سورية البيضاء لأول مرة فرأيت فيها الصورة التي كانت تتخيلها المخيلة إلا قليلا وذلك لأن القدماء والمحدثين اشبعوا الكلام عليها أكثر من كل بلد سواها ولان الحكومات التي توالت عليهم أرفعت من شانها وأعلت من بين البلدان ذكرها. وناهيك ببلد كان ينزله ويمدحه ويحن إليه مثل البحتري والمتنبي والصنوبري وكشاجم والمعري والخفاجي وابن جبوس والوزير المغربي وأبي العباس الصفري وأبي فراس والحلوي وابن سعدان وابن حرب الحلبي وابن النحاس وابن أبي حصينة وابن الحداد وابن العجمي والملك الناصر وياقوت وغيرهم من رجال الأدب والعلم. وما قاله الشعراء في مدحها يكاد يقترب مما قالوه في أختها الفيحاء فقد قال كشاجم: أرتك ندى الغيث آثارها ... وأخرجت الأرض أزهارها وما أمتعت جارها بلدة ... كما أمتعت حلب جارها هي الخلد تجمع ما يشتهى ... فزرها فطوبى لمن زارها وقال البحتري: أقام كل ملث الودق رجاس ... على ديار الشام ادرس فيها لعلوة مصطاف ومرتبع ... من بانقوسا وبابلي وبطياس منازل أنكرتنا بعد معرفة ... واوحشت من هوانا بعد إيناس يا علو لو شئت أبدلت الصدود لنا ... وصلا ولان لصب قلبك القاسي هل لي سبيل إلى الظهران من حلب ... ونشوة بين ذاك الورد والأس

وقال المتنبي: كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والنميل أول من استوطن بقعة حلب بنو حام بن نوح وكانوا ينزلون من شط بغداد إلى مصر وقد كانت فرقة منهم فيها قيل أنها تسمى الكيتا فسكنت بقعة حمص وحماة وحلب. وسكن حلب إبراهيم الخليل ثم جاء بعده بنو أرام بن لوط من بني سام واستولوا على تلك البقعة واخرجوا منها أولاد حام فسميت مملكة الآراميين والسريانيين وقسموها إلى ثلاثة أقسام الأولى جزيرة الآرام وهي من الخابور إلى الفرات والثانية المملكة الشامية وهي دمشق وما قرب منها الثالثة مملكة آرام صوبا وهي الجبول من ضاحية حلب وما قرب منها. ووصفت حلب بالشهباء لأن القادم إليها تتراءى له بيضاء من بعيد بخلاف غيرها من البلدان. ويقولون أنها منم بناء العمالقة بدليل الكتابة التي وجدت على الحجر الأسود في الحائط بظاهر جامع القيقان داخل باب انطاكية مكتوبة بالخط الهيروغليفي بلغة الكيتا أو الحماتيين وكانت هذه الكتابة مصطلحا عليها في أيامهم وكان اسم حلب بلغتهم هليون وهلبه واستمرت بأيديهم إلى إن أتى ملوك الفراعنة من مصر وحاربوهم وملكوها منهم وهم توتمس الأول وتوتمس الثاني وسيأتي ورعمسيس الأول وذلك قبل التاريخ المسيحي بألفين وخمسمائة سنة إلى ثلاثة آلاف سنة ثم استردها الكيتا منهم صلحا واتى بعدها ملوك بابل وحاربوا السريانيين وملكوها وذلك قبل التاريخ المسيحي بستمائة وستين سنة وقد عثروا في قرية من قرى جبل سمعان قرب حلب اسمها كفرنابو على الصنم الذي كان يعبده البابليون ومعنى نابو بلغتهم اله فيكون معنى كفرنابو قرية الإله وفي سنة 860 ق. م حارب شلمناصر الرابع الحماتيين وملك حلب في جملة ما ملك من البلاد فظل ملوك الحماتيين تحت سلطة البابليين إلى إن أتى ملوك العجم واستولوا على البلاد فاخرجوا البابليين منها وبقيت بأيديهم إلى إن جاء لاسكندر وأخذها منهم فصارت مسكنا للروم اليونانيين يقولون لها ما خيله ولما حولها خلبن بالخاء المعجمة وكانوا يقولون لها بروبا لأنها فيم أقيل تشبه إحدى مدنهم ولعلها عربية من قولهم بريرى لأن الناظر إلى البر من قلعة حلب يراه ممتدا إمامه.

وجدد سلوقس تيكاتور احد ملوك الرومان قبل المسيح بثلاثمائة واثنتي عشرة سنة بناء نحو النصف من مدينة حلب وبنى القلعة وأمر اليهود إن يختلفوا إليها التجارة ويقيموا بها فكثرت دورهم حتى بلغت نصف ساعة طولا ثم استولى الروم على حلب وجعلوها كرسي مملكتهم مع سورية وإنطاكية. وأراد السلوقيون أن يزيدوا في بناء حلب ثم عدلوا موثرين لقنسرين لأنها كانت أعظم والتجار يختلفون إليها أكثر فكانت تأتيها القوافل من البحر إلى الفرات ومن الفرات إلى البحر عن طريق قنسرين ولم يكن في حلب ما في قنسرين من الصناعات وغيرها حتى إن تجار أوروبا كانت تأتي إليها من السويدية في طريق إنطاكية ويأتي إليها تجار العجم من الفرات بطريق بالي (مسكنة) ولم تكن الطريق في ذلك الوقت سالكة إلى حلب إلا من يقصد الذهاب منبج (هيرابلس). وقنسرين هي التي نسب إليها احد أجناد الشام الخمسة وهي جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين والجند هنا بمثابة الفيلق في أيامنا يتجمع فيه الجند ويقبضون أعطياتهم قال ابن جبيرة: إن قنسرين بلدة شهيرة في الزمان لكنها خربت وعادت كان لم تغن بالأمس فلم يبق إلا أثارها الدراسة ورسومها الطامسة ولكن قراها منتظمة لأنها على محرث عظيم من البصر عرضا وطولا وقد فسر ياقوت سبب خرابها ووصف موقعها فقال أنها كورة بالشام منها حلب فتحت على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة 17هـ - وكانت مدينة بينها وبين حلب مرحلة من جبهة حمص بقرب العواصم وبعضهم يدخل قنسرين في العواصم ومازالت عامرة آهلة إلى إن كانت سنة 351 وغلبت الروم على مدينة حلب وقتلت جميع من كان بربضها فخاف أهل قنسرين وتفرقوا في البلاد فلم يكن بها في القرن السادس إلا خان ينزله القوافل وعشار السلطان وفريضة صغيرة وذكر ابن جبير الخانات من حلب إلى قنسرين إلى باقدين إن خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في غابة والعواصم حصون موانع وولاية تحيط بها بين حلب وإنطاكية وقصبتها إنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال فسميت بذلك وربما دخل في هذا ثغور المصيصة وطرطوس وتلك النواحي ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى

حمص حتى زمان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وانطاكية ومنبج وذواتها جنداً فلما استخلف الرشيد إفراد قنسرين بكورها فصيرها جندا وإفراد منبج ودلوك ورعبان وقورس وإنطاكية وتيزين وما بين ذلك من الحصون فسماها العواصم لأن المسلمين كانونا يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر وجعل مدينة للعواصم منبج واسكنها عبد الملك ابن صالح في سنة 73 فبنى فيها أبنية مشهورة ذكرها المتنبي في مدح سيف الدولة فقال: لقد أوحشت أرض الشام طراً ... سلبت ربوعها ثوب البهاء تنفس والعواصم منك عشر ... فيوجد طيب ذلك في الهواء جدد الملك كيرويس الشرواني ما انهدم من سور حلب وقت حرب العجم وعمر بالقرب من باب إنطاكية بيتا للنار لأنه كان ممن يعبدونها فاشتملت حلب إذ ذاك على أربعة أنواع من الديانات وهي اليهودية والنصرانية وعبدة الأوثان وعبده النار ثم دخل الإسلام وكانت حلب في المذاهب الإسلامية تختلف باختلاف الدول عليها شانها ذلك شان دمشق فتارة توالي عليا وأصحابه وأخرى توالي غيره. ولما أراد بدر الدولة أبو ربيع سلمان ابن عبد الجبار بن الرق صاحب حلب بناء أول مدرسة للشافعية في هذه المدينة لم يمكنه الحلبيون إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع وكان أهل حلب كلهم سنية حنفية حتى قدم شخص إلى حلب فصار فيهم شيعية وشافعية وهو الشريف أبو إبراهيم الممدوح. وقد أتى صلاح الدين يوسف بن أيوب وخلفاؤه على التشيع في حلب وكان المؤذنون في جوامعها يؤذنون بحي علي خير العمل وحاول السلجوقيون الأتراك مرات القضاء على التشيع في هذه الديار فلم يوفق لذلك إلا الملك الناصر صلاح الدين كما ضرب على التشيع في مصر وكان على أشده فيها على يد الفاطميين بحيث لا يكاد عالم مصري يصرح بمذهبه إذ ذاك ولا يزال إلى اليوم أثر من آثار التشيع بادياً على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل الجوشن بظاهر الشهباء وفيه ذكر الأئمة ألاثني عشرية وكان حكم بني حمدان وهم شيعة من جملة الأسباب التي نشرت التشيع في حلب وجوارها وابتدأت حكومتهم سنة 333 هـ وانقرضت سنة 381 وفي سنة 141 ظهر في حلب قوم يقال لهم

الرواندية خرجوا بحلب وحيران وكانوا يزعمون أنهم بمنزلة الملائكة وصعدوا تلا بحلب فيما قالوا ولبسوا ثيابا من حرير وطاروا منه فانكسروا وهلكوا. ولقد كان لحلب كما كان لغيرها من أمهات المدن الإسلامية غرامة وشدة في التعصب على المخالفين ويعد في سيئات الجامدين تاليهم على الشاب السهروردي الحكيم الإلهي العالم فقد حاورهم فبزهم في حضرة صاحب حلب الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف فلم يروا واسطة لإهلاكه أحسن من الاستشفاع بوالد مليكهم فكتبوا إليه محضرا وبالغوا في عاقبة أمر السهر ودي حتى صدر الأمر إلى الملك الظاهر بقتل هذا الفيلسوف فاختار إن يلتقي الله بمنع الطعام والشراب وعنه وهلك في قلعة حلب فيما بلغني معروف إلى اليوم ناعيا على الدهر أولئك المتلاعبين بالدين والمتعصبين لأهواء نفوسهم زاريا على العصور الظلمات ولو كره السفسطائيون عادا ذلك سيئة لصلاح الدين وان كانت أعمال هذا كلها حسنات وأيامه غررا محجلات. قضى السهروردي ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره وكم مثله من حكيم قضت عليه أهواء معاصريه ولو عمر لملا الدين علماً وعقلاً. وبعد فقد كان شان حلب في العهد الإسلامي شان سائر مدن الشام دخلت في حكم بني أميه ووليها عمالهم ثم انتقلت إلى أيدي بني العباس ووليها صالح بن علي سنة سبع وثلاثين ومائة فنزل حلب وابتنى بتا خارج المدينة من شرقها قصرا بقربه يقال لها بطياس بالقرب من النيرب وأثاره باقية ذكرها البحتري وغيره في أشعارهم وقد كان جماعة بني أمية اختاروا المقام بناحية حلب وآثروها على دمشق ومنهم هشام ابن عبد الملك انتقل إلى الرصافة وسكنها واتخذها منزلا لصحة تربتها ومنهم عمر بن عبد العزيز أقام بخناصرة واختارها منزلا ومنهم سلمة بن عبد الملك سكن بالناعورة وابتنى بها قصراً بالحجر الصلد الأسود. ومازال عمال بني العباس يتولون من أمر حلب ما يتولون من سائر بلاد الخلافة حتى ولي المعتصم اشناس التركي الشام جميعه والجزيرة ومصر وجاء القرامطة حلب سنة 290 فقاتلهم أهلها ودخل الاخشيد حلب وافسد أصحابه في جميعه النواحي وقطعوا الأشجار التي كانت ظاهر حلب كانت كثيرة جدا وقيل أنها كانت من أكثر المدن شجرا. وقال ابن

الخطيب: وكانت حلب كثيرة الأشجار وكان موضع باتقوسا (احد أحيائها اليوم) أشجار كثيرة كما ذكر ابن الملا في تاريخه أيضا فقد كان الإخشيد إذا نزل حلب يقطع أشجارها ويحاصرها فإذا أخذها ورجع إلى مصر جاء سيف الدولة بن حمدان وفعل ذلك الفعل وتكرر ذلك منهما حتى فني ما بها من الشجر ولذلك لما أمر الملك المؤيد شيخ بتسقيف قصر القلعة أمر إن يقطع له من الأخشاب من بلاد دمشق فقطعت وجيء بها إلى حلب في غاية الطول ونهاية الغلظ وقيل إن بعض الأخشاب المذكورة كانت من بعلبك ولما جاء الصليبيون حلب سنة 518 اخذوا يقطعون الأشجار من جملة ما أتوه من تخريبها وحدائقها المشجرة اليوم قليلة ليس بينها وبين ضخامة المدينة نسبة. وتشرب حلب من نهر قويق وهو نهر ينبعث على ستة أميال من دابق ثم يجري إلى حلب ثماني عشرة ميلا ثم إلى قنسرين عشرين ميلا ثم إلى المرج الأحمر عشر ميلا ثم يصب في بحيرة المطبخ وذلك في زمن الشتاء وقال يافون إن مخرجه من قرية تدعى سبتات وقيل إن مخرجه من شناذر قرية على ستة أميال من دابق ثم يمر في رستاتيق حلب ثمانية عشر ميلا إلى حلب ثم يمتد إلى قنسرين اثني عشر ميلا ثم إلى المرج الأحمر اثني عشر ميلا ثم يفيض في أجمة هناك فمن مخرجه إلى مفيضه اثنان وأربعون ميلا وماؤه أعذب ماء وأصحه فيما قال ياقوت إلا انه في الصيف ينشف فلا يبقى إلا نزور قليلة وإما في الشتاء فهو حسن المنظر طيب المخبر وقد وصفه شعراء حلب بما ألحقوه بنهر الكوثر ومن أمثال عوام بغداد يفرح بفلس مطلي من لم ير دينارا وقد أحسن القيسراني في وصفه قوله: رأيت نهر قويق ... فساءني ما رأيت فلو ظمئت وأسقي ... ت ماءه ما رويت ولو بكيت عليه ... بقدره ما اشتفيت واسم قويق القديم شالوس وسبب تسميته بقويق إن رجلا من رؤساء عشائر التركمان في القرن الرابع للهجرة اسمه قويق آغا انشأ لهذا النهر عدة دود ليجري جرية حسنة فأطلق اسمه على النهر من ذاك الحين وأرباب الرقاعة يسمونه أبا الحسن وهو ينبجس اليوم من قرية اسمها جاغد يغين من إعمال عينتاب ويجري إلى قرية تبعد عن حلب ثلاث ساعات اسمها حيلان ويصب نحو ثلثه إلى حلب تجري إليه فيه عدة ينابيع مجداول من قضاءي

عينتاب وكليس وينضم إليه نبع عين التل وعين البيضا المنسجمتين من جوار حلب وفي الشتاء تجري بقاياه إلى خان طومان من اعلي جبل سمعان وتكون من مياهه بحيرة تجف بحرارة الصيف قال أبو فراس: الشام لا بلد الجزيرة لذتي ... وقويق لا ماء الفرات منائي وأبيت مرتين الفؤاد بمنبج ... السوداء لا بالرقة البيضاء ويرى بعضهم إن نهر الساجور الذي كان إجراء ارغون إلى حلب ليزيد به نهر قويق إذا أضيف إلى ماء قويق تخصب أكثر ضواحي حلب واصل نهر الساجور من عينتاب وتجتمع إليه عيون أخر من بلاد تل باشر ثم ينتهي إلى الفرات ويصب فيه ويرى آخرون إن خير ذريعة لتكثير ماء حلب اقتطاع ترعة من الفرات وهو من حلب على 18 ساعة ولا يمنع انخفاض مجراه عن الانتفاع به في حلب على علوها وكيف كان الحال فمتى زاد عمران الشهباء يفكر أبناؤها في تكثير مائها. وبعد فقد كانت الحرب سجالا بين سيف الدولة ابن حمدان والروم منذ استقرت له ولاية حلب سنة 336 إلى حين وفاته سنة 356 فكان يغزوهم ويغزونه فتخرب حلب ثم تعمر واستولوا عليها سنة 351 وحرقها الدمستق وعاث فيها بالقتل والنهب والسبي وبعد تسعة أيام رحل عنها ولم تكن حكومة سيف الدولة مباركة على حلب بقدر ما صورها شعراؤه الذين كان يغدق عليهم هباته ليقطع ألسنتهم ويشغلهم عنه ومن جملة ما قراناه من مظالمه إن أبا الحصين علي بن عبد الملك الرقي ولي قضاء حلب وكان ظالما فإذا مات إنسان اخذ تركته لسيف الدولة وقال: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك. استولى الروم على معظم البلاد المجاورة كمرعش وأدنه وطرسوس إلا إن حلب لم يستولوا عليها وكذلك استولى الصليبيون على كثير من عمالاتها مثل إنطاكية والسويدية ولم يقدر بودوين اجدلا ملوكهم إن يستولي عليها سنة 1124 م ومازالت حالتها حال بلاد الشام على عهد الدولة الأيوبية حتى وافاها التتر وحاصروها سنة 658 حصارا شديدا وقتلوا من أهلها كثيرا وقتل هولاكو أهل حارم عن آخرهم وسبي النساء وخرب أسوار قلعتها عن آخرها وجاء قازان التتري سنة 699 فحاصر حلب وخربها وقتل واسر كثيرا من أهلها وجاء

تيمورلنك سنة 803 وأجرى في حلب ما أجراه في دمشق من الفظائع والنهب والقتل والسبي وفي سنة 863 وقع الطاعون بحلب فاحصي من مات بها وبضواحيها فأربى على مائتي ألف إنسان وكادت تخرب بالفتن الأهلية سنة 896 عن آخرها كتب ابن بطلان إلى هلال بن المحسن الصحابي في نحو سنة 440 هـ في دولة بني مرداس حلب فقال أنها بلد سور بحجر ابيض وفيه ستة أبواب وفي جانب السور قلة في أعلاها مسجد وكنيستان وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الأمامية وشرب أهل البلد من صهاريج مملوءة بماء المطر وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف وفي الوسط دار علوه صاحبه البحتري وهو بلد قليل الفواكه والبقول والنبيذ ومن عجائب حلب إن في قيسارية البز عشرين دكانا للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعا قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة والى الآن وما في حلب موضع خراب أصلا. قلنا وقد اشتهرت حلب في عامة أدوارها بإتباع تجارتها لوقوعها في طريق القوافل وتوسطها من بلاد الروم والجزيرة والعراق والشام ولذلك لم تنحط صناعة البز الو الأقمشة حتى في أيامنا هذه كما انحطت في معظم بلدان الشام لأن لها من بلاد الروم مصارف تنفق فيها سلعا ويعتقد أهل الروم الخير في تجار الشهباء فلا يعاملون غيرهم للألف والعادة وذكر المقدسي إن من التجارات التي كانت تجمل من حلب القطن والثياب والاشنان والمغرة. قال ياقوت ولأهل حلب عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال فقلما ترى من ناشئتها من لم يتقبل أخلاق إبائه في مثل ذلك فلذلك كان فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة ويتوارثونها ويحافظون علي قديمهم بخلاف سائر البلدان هذا ما وصف به الحلبيون منذ نحو سبعة قرون وهي أخلاق لم تبرح متسلسلة في أعقابهم إلى يوم الناس هذا ولذلك صح إن يقال أن الحلبيين أغنى من الدمشقيين والبيروتيين والحمويين والحمصيين والطرابلسيين والنابلسيين والمقدسيين والعكاريين واليافاويين والحيفاويين. وصف ابن حوقل مدينة حلب في القرن الرابع فقال إنها مدينة جند قنسرين وكانت عامرة جدا غاصة بأهلها كثيرة الخيرات كان لها سور من حجارة لم يغن عنهم من العدو شيئا فخرب الروم جامعها وسبي ذراري أهلها واحرقها وكان بها قلعة غير طائلة ولا حسنة

العمارة فلجا إليها قوم من أهلها فنجوا وهلك بها من المتاع والجهات للغرباء وأهل البلد وسبي بها وقتل من أهل سوادها ما في أعادته ارماض من سمعه ووهن على الإسلام وأهله وكان لها أسواق حسنة وحمامات وفنادق ومحال وعراص فسيحة وهي الآن كالمتماسكة ولم تنزل أسعارهم في الأغذية وجميع المأكل قديما واسعة رخيصة وعليهم ألان للروم في كل سنة قانون يؤدونه وضريبة تستخرج من كل دار وضيعة معلومة وكأنهم معهم في هدنة وليست وان كانت أحوالها متماسكة وأمورها رضية بحال جزء من عشرين جزءا مما كانت عليه من قديم أوقاتها وسالف أيامها. ووصف ابن جبير حلب في القرن السادس فقال: إن هذا البلد موضوعة ضخم جدات حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى إن تفرغ من جميع الصناعات المدنية وكلها بالخشب فسكانها في ظلال وارفة فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجباً وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا مطيفة بجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المراي الرياضية قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللها شرف خشبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم. وقصارى القول فان عمران حلب القديم يشبه عمرانها الحديث إلا قليلا ومن أعظم ما يجعل الشبه كثيرا بين أدوارها المختلفة ذاك الحجر الأبيض المتين بني الحلبيون به بيوتهم وحوانيتهم وخاناتهم وتكاد تظن الشوارع والحارات والمساكن قطعة واحدة لأنها كلها مبلطة معمولة من صنف واحد من الحجارة تنبسط له النفس بخلاف الحجر الأسود الكثيب المستعمل في النداء بدمشق وحمص وغيرها. وقد أصاب حلب من مقوضات دعائم العمران في القرون الأخيرة ما أصاب غيرها من بلدان سورية ومنها الزلازل والأوبئة التي انتشرت فيها عقيب استيلاء السلطان سليم العثماني عليها سنة 922 بعد وقعة دامت ست ساعات بين جنده المؤلف إذ ذاك من ثمانين ألفا وثمانمائة مدفع وجند الغوري الجركسي سلطان مصر والشام الذي كان ضعيف التدبير قليل النظام وذلك في مكان يعرف بمرج دابق على بضع ساعات من حلب ونهض

الحلبيون ففتحوا أبواب مدينتهم للفاتح بزعامة خيري بك والي حلب من الجراكسة كما تلقاه أهل دمشق كذلك لأن الناس كانوا سئموا في مصر والشام من الجراكسة وعلقوا الآمال الطويلة بدولة ابن عثمان الفنية القوية وقد استولى السلطان سليم على مليوني ذهب ومهمات كثيرة كان أذخرها الغوري في خزانة حلب ليقوى بها على محاربة العثمانيين والاستيلاء على القسطنطينية منهم فجعل الله بهلاك الغوري وانفض الناس حوله وأبقى السلطان العثماني البلاد على حالتها الأولى من حيث الإدارة في حلب وخطب فيها له لأول مرة تلقبا بخادم الحرمين الشريفين. والظاهر مما في أيدينا من تواريخ حلب أنها لم ترتق ارتقاء محمودا على العهد العثمانيين بعد إن كانت في عهد العباسيين تضاهي بعظمتها بغداد والموصل على قول شيخ الربوة وكان جيش الانكشارية (بكي جرى) وغيره من اكبر أدوات التخريب ينسفون العمران ولا نسف المصائب السماوية ولم ينتظم لها أمر بحكومة الاقطاعات والنهب إلا عندما جرى تأليف الولايات على النسق المتعارف اليوم في السلطنة سنة 1283 هـ -. فدخلت الحكومة في طور قليل من النظام وأصبحت الحال تحسن بإحسان الولاة الذين يتولونها فإذا كانوا أعفة قادرين على الإدارة يزيد عمران حلب وإلا فيقف أو يتقهقر وممن ساعد على عمرانها الحديث وتنظيمها وفتح الشوارع الجديدة فيها على الأصول المدنية جميل باشا ورائف باشا. ويكتفي في تقدير غنى حلب في القرون الوسطى والقرون الحديثة إيراد دخلها من الجباية والعشور وغيرها والمقابلة بينها. هذا مع غلاء النقود إذ ذاك ورخصها في الأيام الأخيرة فقد كان ارتفاع حلب سنة تسع وستمائة في الأيام الظاهرية دون البلاد الخارجة عنها والضياع والأعمال ستة ألاف ألف وتسعمائة ألف وأربعا وثمانين ألفا وخمسمائة درهم وذكر ابن شداد تفصيل هذه الارتفاعات من الزكوات والعشمر وضرائب البقول والفواكه والخيل والجمال والبقر والغنم والرقيق والصناعات والغلات والحطب والفحم والخشب والحديد والقنب وغير ذلك من الحكورة والمواريث وغيرها فكانت في بعض النسخ 7. 305. 000 درهم. وقال يايقوت ومسافة ما بيد مالكها في أيام الملك العزيز من المشرق إلى المغرب مسيرة

خمسة أيام ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية ملك لأهلها ليس للسلطان فيه إلا مقاطعات يسيرة ونحو مائتين ونيف قرية مشتركة بين الرعية والسلطان وهي بعد ذلك تقوم برزق خمسة آلاف فارس مزاحي العلة موسع عليهم. قال الوزير الأكرم ابن النفطي وزير صاحبها لياقوت الحموي: لو لم يقع إسراف في خواص الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بارزاق سبعة آلاف فارس لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف قارس يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم ويمكن إن يستخدم من فضلات خواص الأمراء ألف فارس وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها خارجا عن جميع ماذكرناه وهم جملة أخرى بسبحة ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الاقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم وقد ارتفع إليها العام الماضي وهو سنة 625 من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الإفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم وهذا مع العدل الكامل والرفق الشامل بحيث لا يرى فيها متظلم ولا متهضم وهذا بن بركة العدل وحسن النية وقد بلغ دخل حلب سنة 1322 شرقية من ضريبة الأملاك والبدل العسكري والأغنام والجمال والأعشار وغيرها 4564586 غرشاً صحيحا ودخل لواء حلب كله 29، 167، 416 غرشاً وبلغ دخل ولاية حلب كلها في تلك السنة ويدخل في ذلك لواء أمر مرعش وأورفة 41، 322، 107 قروش صيحة أنفقت الحكومة على جندها وموظفيها وغير ذلك 6، 715، 344 غرشاً هذا مع إن الجباية لعهدنا فاحشة والضرائب متعددة أكثر من الأدوار السالفة. ويقدرون قيمة الدراهم اليوم بثلاثة قروش صحيحة. غنى حلب ولغتها ومعاهدها وتدليها لما كانت حلب في طريق قوافل الهند أصبحت ممتازة بموقعها منذ القديم بين البلدان ومعدودة قاعدة شماليي سورية وقد كان الإفرنج ولا يزالون فيها أكثر عددا مما هم في دمشق لأنها اقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب فكان تجارهم يأتونها من ثغر السويدية يتجرون مع أهلها ويقايضون محصولاتهم ومحصولات الشرق ولا سيما الهند وفارس والعراق.

وكانت فرنسا والبندقية أول البلاد الأوربية التي اتجرت مع حلب وأقامت معها الصلات المهمة والمكاتب التجارية ثم جاء الانكليز في القرن السادس عشر وتلاهم الهولانديون ولا يزال الإفرنج فيها إلى اليوم يقربون من عدد إخوانهم نزلاء بيروت وبعضهم تناسلوا في حلب وارتاشوا وتأثلوا وعدوا كأنهم من أهلها. وقد كان البنادقة يتجرون بالبهار يأخذونه من حلب بكميات وافرة كما كانوا يجلبون منها الشب والقطن. واهم ما أصاب حلب من الزلازل زلزلة سنة 1170م على عهد نور الدين محمود بن زنكي فقام يرممها وقلعتها وقد أصيبت بزلزال مدمرة في قرون مختلفة وآخرها زلزال سنة 1822 الذي خرب به ثلثها وزلزال سنة 1830 ونهضت حلب على عهد حكم إبراهيم باشا المصري من سنة 1831 إلى 1840م إذ جعلها معسكراً له. لا يتجاوز سكان حلب في التعداد الرسمي ال - 30 ألفاً وربما كانوا في الحقيقة نحو 180 ثلثاهم أو أكثرهم من المسلمين والباقون روم ويهود وأرمن وموارنة وكاثوليك وبرتستانت ولكل طائفة من الطوائف الغير إسلامية عدة مدارس ابتدائية والمسيحيين متشبعون باللغة العربية أكثر من إخوانهم المسلمين النهم أكثر عراقة في التعلم بفضل مدارسهم والإفرنجية. أما المسلمون فان المتعلمين منهم يتعلمون على الطريقة التركية ليعيشوا عالة على التوظف اللهم إلا بضع مئات من الأتراك الأناضوليين الذين ينزلونها للتجارة أو الموظفين الذين يأتونها لخدمة الحكومة. وليس للمسلمين مدارس أهلية راقية والمدارس التي تصبغ المأمورين هي المدرسة السلطانية وكانت إعدادية من قبل فقبلوا اسمها كما قبلوا أيم كثير من أسماء المكاتب الإعدادية في أمهات المدن العثمانية والمكتب الرشدي العسكري ومكتب الصنائع وفيها 92 كتابا ومدرسة ابتدائية أميرية و39 مدرسة لغير المسلمين و32 مدرسة دينية وبعضها عامر و3 مكاتب للإناث و7 خزائن كتب عامة كما إن فيه 16000 منزل ونحو 8000 دكان مخزن و117 خانا و106 أحياء و169 جامعا و 182 مسجدا و19 تكية وزاوية و40 حماما و21 كنيسة وديرا و4 بيع و29 طاحون ماء و128 طاحونا على الدواب و3000 نول و112 فرنا و 8 مدابغ و27 معمل مناديل وزهاء 100 قهوة و12 معمل صابون و50 خمارة و1885 حديقة.

وحلب برزخ بين البلاد العربية والتركية وعلى نحو أربعين كيلومترا من شمالي حلب يقل المتكلمون بالعربية وتصبح البلاد تركية محضة وان كان من أقضية حلب القريبة من لا يعرفون غير التركية من الفلاحين أسكنتهم الحكومة هناك مهاجرين من بلاد بعيدة. فمعظم أقضية لواء حلب يتكلم أهلها بالتركية كما إن أهلي لواءي اورفة ومرعش يتكلمون بالتركية وبعض العشائر في لواء مرعش يتكلمون بالكردية وفي بعض الأقضية من التركمان والعرب. ويمكن إن نلخص من ذلك إن جهات الغرب من حلب كلها عرب وهي عبارة عن أقضية الدب وحارم وجسر الشغور ماعدا بعض قرى من إعمال حارم سكانها جركس وسكان العمق أكراد ومن الشمال من حلب إلى قبيل كليس عرب وتتكلم بعض قراهم بالتركية والعربية ومن كليس إلى اورفة فصاعدا كل السكان أتراك ومن الجهة الشرقية جميع السكان عرب وكل قضاء الباب في الشرق الشمالي من حلب عرب وفيهم قليل جدا من التركمان والأتراك والأكراد والجراكسة وكل قضاء منبج جركس نزلوه حديثا وفيهم عرب وقضاء الرقة عرب وقضاء المعرة في الجنوب عرب كله ويقال إن أهلي قضاء عينتاب يتكلمون بالتركية وقضاء كليس وان تكلم أهل المركز بالتركية فان النواحي يتكلم أهلها بالعربية والتركية والكردية. وأهل قضاء اسكندرونة يتكلمون على الأكثر بالتركية والأرمنية وأهل إنطاكية منهم من يتكلم بالتركية ومنهم من يتكلم بالعربية فيصح أن يقال فيهم أن تركيهم تعرب وعربيهم تترك وأهالي ادلب كلهم عرب وكذلك أهالي حارم وفي بعض قرى هذا القضاء مهاجرون من الأتراك والجركس والتاتار وأهالي قضاء بيلام يتكلمون بالتركية وأهل أقضية المرة والباب وجبل سمعان وأهالي مركز قضاء جسر الشغر وناحية المضيق عرب وناحية أردوا أتراك وأكثر أهالي قضاء منبج من مهاجري الجراكسة وأهل قضاء الرقة عرب وأهالي قضاء جران منهم من يتكلم بالعربية ومنهم الكردية. هذه هي اللغة الغالبة على حلب وأعمالها وليس اليوم في هذه المدينة ما يستحق الذكر من أعمال العمران سوى بناياتها الجديدة التي أقيمت إلا قليلا على مثال أبنية الأمم الراقية منفردة بعضها عن بعض ليتخللها الهواء والشمس بعيدة عن الطرق العامة لأن السكان من

عاداتهم اليوم أن يؤخروا بناء بيوتهم وحوانيتهم ما أمكن ويعطوا فضل أراضيهم للشارع حتى يكبر بحسب الخريطة التي تريدها البلدية ولذلك تجد الإحياء الجديدة مثل العزيزية والجميلية فسيحة عريضة كأنها بنيت في يوم واحد أو هي لرجل واحد وكان من ذلك أن صرفت واردات البلدية القليلة وهي لا تتجاوز الستة آلاف ليرة مسانهة على تنظيف المدينة وتطهيرها وتنويرها. ولقد كنا نود أن نرى في الشهباء نهضة علمية راقية لما عرف في أهلها من الذكاء والمضاء والحساب للمستقبل ولكن رأينا الخاصة الذين يرجى منهم إن يسيروا في المقدمة متشاغلين بخويصة أنفسهم ومن كان على خطتهم من المتأدبين دأبهم النيل من الكبراء وأرباب النفوذ والثراء ممن يتوفرون على اعنات الفقراء واجتجان الصفراء والبيضاء وربما صح أكثر هذه الشكوى ولكن لا حيلة فيمن اعجزوا الحكومة وعرفوا كيف يصرفونها على ما يشاؤون. وعندنا أن يترك الطعن جانبا ولتعارف الطبقة المستنيرة إلى الطبقة القابضة على زمام البلاد من الأعيان الموسرين ليتسنى بذلك النهوض بالشعب المسكين وتثقيف عقول الناشئة ومادام الاختلاف مستحكما بين المنورين والموسرين فالغرباء يجدون سبيلا إلى التلاعب وينطبق ذلك مع رغائبهم. نحن نعتقد انه ربما كان من أرباب اليسار من جمعوا ثرواتهم الطائلة من طرق غير مشروعة في حكومة عبد الحميد ولكننا نعتقد أن منهم من جمعوها بالاتفاق كان تتوالى سني الجدب - والخصب قلما يدوم سنتين كثيرة في حلب وعملها - فيأتي الفلاح باكيا شاكيا إلى ذاك الوجيه يتخلى له عن كل ما يملك من عقار وارض ليعوله وعياله ويدفع عنه الضرائب والعشور التي يتعذر عليه جدا في غير سني الخيران يقوم بها حق القيام. وسواء جمع أرباب اليسار ما يملكون الطرق القانونية المشروعة أو من السحت البحت وإرهاق الفلاح والعبث بمصلحة الفقير فان من ملك ملك ومن هلك هلك وليس من وسيلة الآن لنزع ما ملكوا من أيديهم فالا حجي أن تحسن سياستهم في الجملة للانتفاع من أموالهم تصرف على أعمال الخير وإنشاء الكتاتيب والمدارس وما نظن أكثرهم إلا قانعين من الطبقة المستنيرة بالسكوت عما مضى. وما تم في الغابر هو لا جرم نتيجة ضعف الحكومة وفسادها ولو عرفت منذ القديم كيف تحسن سياسة الرعية وتدفع الناس بعضهم عن بعض

لما اختل النظام ولرضي الخاص والعام. نحن نعلم أن أموال الأغنياء هنا بل وفي كل مكان تصرف على الأكثر فيما لا يرضى عنه الأدب والأخلاق وان أبناء الطبقة الوسطى أمضى عزائم وأجمل أخلاقا ولكن ليست المهارة في النقد من بعيد بل المهارة بدخول المجتمع وإصلاح ما أمكن من مفاسده ومهلكاته. أن في التباعد جفاء وفي الاجتماع حسن تفهم وكم من عدو لك بتحكك به ينقلب على الزمن صديقا وكم من صديق يكون بابتعادك عنه عقوقاً. أن ما رأيناه من حلب وهي ماهية من عظمتها وغناها وما نقل لنا وشهدناه من تنوع ضروب الفجور والملاهي فيها أبكانا على قاعدة من أهم قواعد الشام وكهف عظيم من كهوف الإسلام ودعانا إلى إن ننسب القصور للعالمين والجاهلين على السواء فلا يخلص من تبعه هذا الانحلال عاقل اللوم يلحق العالم أن ينال الجاهل. تالله لو صرفت حلب ربع ما تنفقه في سبيل اللهو والموبقات على المعارف والآداب الرافعة لأصبحت في بضع سنين ذات مدنية راقية. وبعد أليس من العار أن تكون نابلس في فلسطين وهي مشهورة بانغماسها في حماة الجهالة بعدد نفوسها اقرب إلى التعلم من حلب دخل من أبناء أعيانها بضعة وعشرون ليدرسوا في المدارس الأستانة العالية وبضعة قصدوا ديار الغرب ولا نرى إلا عددا قليلا من الحلبيين يقصدون الأستانة ليتخرجوا في مدارسها ليجيء منهم اتكاليون من عباد الوظائف وعبيد الحكومة ولا نرى في الغرب من أبنائهم سوى اثنين أو ثلاثة فقط وبهذا نرجو النهوض ونتوسل بأسباب الارتقاء. أليس من العار أن يكون بلد يبلغ بمساحته ضعفي مساحة دمشق وفي غناه التجاري من أهم المدن التجارية في البلاد العثمانية وفي طيب مناخه من أجود البقاع وفي مضاء سكانه مثلا مشهورا ثم لا تشهد فيه صحيفة عربية واحدة تصدر باسم رجل مسلم من أهلها بعرف طرق الإصلاح ويحسن المطالبة به. ولا مدرسة ابتدائية أهلية تعلم ابن الفلاح والتاجر والصانع ما يلزمه في دينه ودنياه ولا ناديا ولا جمعية ولا شركة تنفع في التعارف والتعاطف والتكافل. أن معظم البلاد استفادت من نعمة الدستور فهبت تتعلم وتفكر في الإصلاح ولكن حلب على ما ظهر لنا في مؤخرة البلدان التي لم تدرك حتى الآن ما يراد بالحرية.

أن تلك الطائفة التي تعتز اليوم بأموالها وبينها سيجيء عليها زمن تدثر هي وما جمعت ومن جمعت لهم أن لم تعالج ذاك الضعف المميت بقوة العلم والأخلاق ويستخلف ربنا غيرها في أرضهم ممن يصلحها شانه في خليقته منذ دحي الأرض ورفع السماء. قلعة حلب أصاب الآثار القديمة في هذه المدينة ما أصاب اثأر غيرها من البلدان فلم يبق منها إلا أنقاض تنبي بمغالاة السلف في تجويد البناء وإحكامه ومن أهم هذه العاديات قلعة حلب فهي أفخم ما في الديار الحلبية من القلاع بنيت وسط المدينة على أكمة ربما كانت صناعية ويحيط بها خندق عظيم كان القدماء يملئونه ماء ليتعذر الوصول إليها إلا من مدخلها وهذا من أحصن ما يتصور العقل ويقال أن مدينة أي حلب القديمة كانت كلها مبنية في هذه القلعة وقد تعاورتها الأيدي بالبناء في قرون مختلفة وظلت مسكونة إلى سنة 1822م أيام خربت بالزلازل. يسير الداخل إلى القلعة على جسر بديع أقيم فوق الخندق فيبلغ برجا خارجا جعل في واجهته أنواع من نوافذ الحديد البديع قيل انه من عهد الملك الظاهر لما وجد في مدخله من كتابة تاريخها سنة 605 مع بعض الآيات الكريمة وقد بذل بعض علماء الآثار قدرا وافرا من المال لقلع تلك النوافذ واخذ حديدها وأحجارها إلى متاحف أوربا فلم تقبل الحكومة ولا تزال تحظر الدخول إلى القلعة إلا برخصة لأنها جعلت فيها مستودعا لبعض المهمات العسكرية وفي دهليز القلعة المتعرج عدة كتابات ونقوش بارزة على الحجر ومنها صورة نمرين على الباب ويساره من أجمل ما زبرت أيدي الناقشين على الصخور فإذا دخل المرء من الباب وجد ساحة وأثار عدة شوارع وركاما من الأنقاض بعضها أنقاض جامع ومأذنة وأخرى أنقاض أروقة وأخرى محال لرصد العدو وفي الوسط صهريج كبير يستقى منه إلى اليوم ماء عذب والغالب انه من ماء المطر. والناظر إلى حلب من قلعتها يدرك عظمتها ويتجلى له برها الفسيح البديع ولا سيما زمن الربيع وقد اكتست السهول والجبال بجللها السندسية. قال ابن الشحنة أول من بنى قلعة حلب سلوقس الذي بنى مدينة حلب وهي على تل مشرف على المدينة وعليها سور محكم البناء وفي وسطها بئر ينزل إليها بمائة وخمس

وعشرين درجة قد هندست تحت الأرض ويقال لها الآن ساطوره وكان بها دير للنصارى ويقال أن في أساسها ثمانية آلاف عمود ولما ملك كسرى حلب بنى بها مواضع ولما فتحها أبو عبيدة في أيام عمر بن الخطاب (رض) رمم أسوارها لأنها خربت بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتح فاخر بت أسوار البلدة والقلعة. ولما استولى نقفور ملك الروم على حلب سنة 351 امتنعت عليه القلعة ولم يكن لها يومئذ سور محكم ومن ذلك الوقت اهتم الملوك بعمارة القلعة وتحصينها فبنى سيف الدولة وابنه سعيد الدولة وبنو مرداس وعماد الدين اق سنقر وابنه عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود وابنه الملك الصالح ولما ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حصنها وحصنها وبنى بها مصنعا للماء ومخازن للغلات وبنى سفح تلها بالحجر الهرقلي واعلي بها إلى مكانه ألان وبنى على الباب برجين لم يبن مثلهما قط وجعل لها ثلاثة أبواب حديد ولما تسلم التاتار القلعة أخربها وأخرب أسوارها واخذ ما كان بها من الذخائر والزردخانات والمجانيق ولم يبقوا بها مكانا للسكنى واستمرت خرابا إلى أن جددت عمارتها في أيام الملك الاشرف خليل بن قلاوون ولما أتى التمرلنك أخرب أسوار البلد والقلعة واحرقها واستمرت خرابا إلى أن جاء الأمير سيف الدين حكم نائبا من قبل الملك الناصر فرج برقوق فأمر ببناء القلعة وألزم الناس بالعمل في الخندق وأزال التراب منه حتى انه عمل بنفسه واستعمل وجوه الناس بحيث كان الأمراء يحملون الأحجار على ظهورهم. هذا أجمل تاريخ لهذه القلعة البديعة اكبر قلاع سورية واهما إلى القرن العاشر وما نظن العثمانيين جددوا فيها شيئا بعد إلى يومنا هذا وقد وصفها ابن جبير في رحلته فقال: ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ ابد الدهر والطعام يصير فيها الدهر كله وليس في شروط الحصانة أهم ولا أكد من هاتين الخلتين ويطيف بهذين الجبين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه وشان هذه القلعة في الحصانة أعظم من أن ننتهي لي أوصفة وسورها الأعلى كله أبراج منتظمة فيها العلا لي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا وكل برج منها مسكون وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.

وهذا أخصر وصف للقلعة زمن عزها وعمرانها أيام كان بها يضرب المثل في الحسن والحصانة لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندم بتراب صح به تدويره والقلعة مبنية في رأسه ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء وفي وسط هذه القلعة تصل إلى الماء المعين وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة وما أحرى هذا الحصن بقول البحتري من قصيدة يصف بها إيوان كسرى: لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتما بعد عرس وهو بنبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس ليس يدري اصنع انس لجن ... سكنوه أم صنع جن لأنس عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس ذاك عندي وليس الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنس زراعة حلب ليس في ظاهر حلب من الحدائق الأنيقة ما يبلغ نحو عشر ما في ظاهر دمشق على كثرة الماء وجودة التربة هنا. أما في أعمالها فتنبت أكثر الحبوب وتجود معظم الثمار ولولا قلة الري التي تحدث بعض السنين بقلة الغابات وتدرجها نحو الفناء وما يعشش في أرباضها من الجراد في معظم السنين لكانت زراعتها كزراعة بلاد دمشق وأكثر ومع هذا فان أقضية دمشق لا تعادل أفضية حلب في زيتونها قال المهلبي: وتجلب من كور حلب وضيعها ما يجمع جميع الغلات النفيسة فان بلدة معرة مصرين وجبل السماق بلد التين والزيتون والزبيب والفستق والسماق والحبة الخضراء وقال ابن شداد وفي بعض ضياع حلب ما يجمع عشرين صنفا من الغلات. وقال ابن الشحنة ومما اختصت به حلب ماء الورد النصيبي الذي يستخرج بالباب من إعمالها فانه لا يوجد في الدنيا مثله بحيث لا يقاربه شيء مما يجلب إلى الديار المصرية من الشام مع أن المجلوب من دمشق عند المصريين في غاية العظمة بحيث يصفه أطباؤهم للمرضى فيقولون ماء ورد شامي. وقال ياقوت ويزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكروم والذرة والمشمش

والتين والتفاح عذبا لا يسقى إلا بماء المطر ويجيء مع ذلك رخصاً غضاً روياً يفوق ما يسقى بالمياه والسيح. وقال ابن حوقل أن ما حول معرة نسرين من القرى أعذاءٌ ليس بجميع نواحيها ماءٌ جار ولا عين وكذلك أكثر ما بجميع جند قنسرين أعذاءٌ ومياههم من السماء وقال ابن جبير في بلاد المعرة وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين وهي من أخصب بلاد الله وأطهرها أرزاقاً. ويصدر من حبوبها اليوم الحنطة والشعير والأرز والقطن والحمص والعدس والبقلاء وبذر الكتان والاينسون والسمسم والخردل والكزبرة اليابسة والماش والقصب والدخان وغير ذلك ومن الثمار الفستق الجيد في أفضية حلب وقلعة الروم وعينتاب ويجود الزيتون كل الجودة في أفضية حلب وإدلب وكليس وحارم وعينتاب وإنطاكية وجسر الشغر ونزيب ويجود الليمون والبرتقال بين إنطاكية واسكندرونة وفي حلب والباب يجود الرمان وفي أريح الكرز والوشنة كما يجود في حلب وإعمالها أنواع الثمار والبقول على اختلاف ضروبها. ويجود التوت في أفضية إنطاكية إسكندرونة وبيلان وحارم بكثرة فيكون منه حرير جيد وفي أفضية الولاية ولواء مرعش مثل أفضية جسر الشغر وإنطاكية وبيلان وكليس وإسكندرونة وقلعة الروم من أعمال اورفة تخرج غابات كثيرة كالبلوط والدر دار والصنوبر والعفص والدفلة وغيرها وف جبال البستان تخرج على أطراف الأنهار والجداول أشجار برية من الحور والصفصاف وفي السهول عرق السوس ففي داخل الولاية يكثر التين والعنب والأجاص والدراق وفي السواحل الليمون والبرتقال والكراد والطورنج ويكي دنيا وفي هذه الولاية يكثر البصل والثوم ويجود البطيخ الأحمر (الجبس) من وراء العقل وتزرع البطاطا في بعض الأنحاء كما أن الكماءة تستخرج من باديتها وسهولها. هواء حلب وصحتها يبلغ ارتفاع حلب خمسمائة متر عن سطح البحر وبالنظر لتعرضها لحرارة الشمس من جهاتها الأربع وعبث الرياح التي لا يحول دونها حائل من الأشجار أو غيرها كان بردها شديداً وحرها على تلك النسبة فهوائها اقل اعتدالا من هواء دمشق يزيد في ذلك قلة مياهها

في الدور كما هي في دور الفيحاء المشهورة بقاعاتها وأحواضها فهواء حلب جاف معتدل للغاية ولولا بناء منازلها بالحجر لضاقت أنفاس سكانها أيام القيظ وقد تبلغ درجة الحرارة الأربعين أو أكثر بالميزان المئوي وقد نزلت الحرارة في الشتاء الماضي إلى تحت الصفر بخمس وعشرين درجة. ومع ذلك نجد لأهل حلب رجالا ونساء من صحة الأجسام ونضرة الوجوه مالا تكاد تجد مثله في معظم البلاد الداخلية من سورية. قال المهلبي وأما أهل حلب فهم أحسن الناس وجوها وأجساما والأغلب على ألوانهم الدرية والحمرة والسمرة وعيونهم سود وشهل. قلنا إما البياض الناصع فهو كثير للغاية ويزيده رونقا في بعض النساء تلك الحبة التي تخرج على الأغلب في الوجوه وتترك أثرا في الخدود بحجم الريال يزيدها رونقاً وحسناً. وهذه الحبة يقال لها في هذه البلاد حبة حلب وهناك يقال لها حبة السنة وليست في الحقيقة خاصة بأهل حلب بل يشترك فيها سكان الشرق حتى بلاد فارس واختلف العلماء في تعليلها فقال قوم إنها تخرج بخاصية في ماء حلب ولو صحت هذه النظرية لكان أهل عينتاب وروم قلعة (قلعة الروم) وبيرة جك (البيرة) واروفة (الرها) وخربوت ودباربكم والموصل ودير الزور وبغداد ناجين منها والحال أنها تصيبهم كما تصيب الحلبيين حذو القذة بالقذة. وقال قوم أنها منبعثة من الماء ولو كان الأمر كذلك لاقتضى من ذلك أن تطلع في سكان القرى البعيدة ساعتين عن حلب على انك لا ترى لها فيهم أثراً. وأغلب الأطباء على أنها من الإمراض السارية ودليلهم على ذلك أن إبراهيم باشا المصري لما قدم حلب كان في حملته رجل من قرية بشلمون في لبنان فأصيب بالقرحة المذكورة وقيل أن بئرا منها عاد إلى بلاده فعدى بها أهل قريته ويقال أنها لا تزال إلى اليوم موجودة ويقال لها الحبة الشامونية. والحقيقة أن أمر هذه القرحة لم يبرح سرا غامضا على الأطباء ومرضا جلديا يصاب به الأطفال في الطفولة وبعض الغرباء الذين ينزلون حلب في الكبر ويقيمون فيها سنة وقد ينجون منها وإعراضها عبارة عن بثور تظهر في طرف من أطراف الجسم ويكون في الوجه أو اليد أو الرجل غالبا حتى إذا شفيت بدون أن ينشا عنها وجع تترك اثأرا ونوبا بيضاء ويصاب بها الغرباء والوطنيون على السواء كما يصاب بها الكلاب والقطط وكثيرا

ما تخرج بعد أن يغادر المرء البلاد بزمن. متنزهات حلب تتغير أسماء المتنزهات كما تتغير أسماء البلدان بتغير الأزمان فمن متنزها تحلب القديمة اشمونيث قال أنها عين في ظاهر حلب في قبلتها تستقي بستانا يقال له الجوهري وان فضل منها شيء صب في قويق ذكره منصور بن مسلم بن أبي الخرجين يتشوق حلب أيا سائق الإظعان من ارض جوشن ... سلمت ونلت الخصب حيث تزود إلى أين عنها تشف مآب من الجوى ... فلم يشف مآبي عالج وزرود هل العوجان الغمر صاف لوارد ... وهل خضبته بالخلوق مدود وهل عين اشمونيث تجري كمقلتي ... عليها وهل ظل الجنان مديد إذا مرضت ودت بان ترابها ... لها دون اكحال الأساة برود ومن جرب الدنيا على سوء فعلها ... يعيب ذميم العيش وهو حميد إذا لم تجد ما تبتغيه فخض بها ... غمار السر أم الطلاب ولود بابلا قرية كبيرة بظاهر حلب بينهما نحو ميل وكانت عامرة آهلة في أيام ياقوت قال الوزير أبو القاسم بن المغربي. حن قلبي آلة معالم باب ... لا حنين الموله المشغوف مطلب اللهو والهوى وكناس ال ... خرد العنين والظباء الهيف حيث شطا قويق مسرح طرفي ... والاسامي مؤانسي وأليفي بطياس قال ياقوت أهل حلب كالمجمعين على أن بطياس قرية من باب حلب بين النيرب وبابلا كان بها قصر لعلي بن عبد الملك بن صالح أمير حلب وقد خربت القرية والقصر قال البحتري: يا برق أسفر عن قويق فطرتي ... حلب فأعلى القصر من بطياس عن منبت الورد المعصفر صبغة ... في كل ضاحية ومجني الأس ارض إذا استوحشت ثم أتيتها ... حشدت على فأكثرت إيناسي وقال أيضاً: نظرت وضمت جانبي التفاتة ... وما التفت المشتاق إلا لينظرا

إلى ارجواني من البرق كلما ... تنمر علوي السحاب تعصفرا يضيء غماما فوق بطياس واضحا ... يبض وروضا تحت بطياس اخضرا وقد كان محبوبا إلى لو انه ... أضاء غزالا عند بطياس احورا تل ماسح قرية من نواحي حلب ذكرها امرؤ القيس في شعره: بذكرها أوطانها تل ماسح ... منزلها من بربعيص وميسرا جوشن جبل مطل على حلب في غربيها في سفحه مقابر ومشاهد للشيعة وقد أكثر شعراء حلب من ذكره جدا فقال منصور ابن مسلم بن أبي الخرجين النحوي الحلبي من قصيدة: عسى مورد من سفح جوشن نافع ... فاني إلى تلك الموارد ظمآن وما كل ظن ظنه المرء كائن ... يحوم عليه للحقيقة برهان وقال ابن سنان الخفاجي: ابرق طالع من ثانية جوشن ... حلبا وحي كريمة من أهلها واسأله هل حمل النسيم تحية ... منها فان هبوبه من رسلها ولقد رأيت فهل رأيت كوقفة ... للبين يشفع هجرها في وصلها قال الخفاجي ومن هذا الجبل كان يحمل النحاس الأحمر وهو معدنه حربنوش قرية من قرى الجزر من نواحي حلب قال حمدان بن عبد الرحيم الجزري: الأهل إلى حث المطايا إليكم ... وشم خزامى حربنوش سبيل دابق قرية قرب حلب من أعمال عزاز بينها وبين حلب أربعة فراسخ عندها مرج معشب نزه كان ينزله بنو مروان إذا غزوا الصائفة إلى ثغر المصيصة وبقربها قرية أخرى يقال لها دويبق قال عيسى بن سعدان الحلبي ناجوك من أقصى الحجاز وليتهم ... ناجوك ما بين الحص ودابق أمفارقي حلب وطيب نسيمها ... يهنيكم أن الرقاد مفارقي والله ما خفق النسيم بأرضكم ... ألا طربت من النسيم الخافق وإذا الجنوب تخطرت أنفاسها ... من سفح جوشن كان أول ناشق الدارين هو ربض الدارين بحلب ذكره عيسى بن سعدان الحلبي في مواضع من شعره فقال:

يا سرحة الدارين آية سرحة ... مالت ذوائبها علي تجننا أرسى بواديك الغمام ولا عنا ... نفس الخزامى الحارثي وجوشنا أمنفرين الوحش من أبياتكم ... حبا بظبيكم أسا أو حسنا اشتاقه والاعوجية دونه ... ويصدني عنه الصوارم والقنا وقال الأعشي: وكاس كعين الديك باكرت خدها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب سلاف كان الزعفران وعندما ... يصفق في ناجودها ثم يقطب لها أريج في البيت عال كأنه ... الم به من بحر دارين اركب دير حشيان بنواحي حلب من العواصم ذكره حمدان بن عبد الرحيم فقال: يا لهف نفسي مما أكابده ... إن لاح برق من دير حشيان وان بدت نفحة من الجانب ال ... غربي فاضت غروب أجفاني وما سمعت الحمام في فنن ... إلا وخلت الحمام فاجأني وما اعتضت مذ غبت عنكم بدلا ... حاشا وكلا ما الغدر من شأني كيف سلوي أرضا نعمت بها ... أم كيف انسي أهلي وجيراني لا خلق رقن لي معالمها ... ولا اجتني انهار بطنان لكن زماني بالجزر اذكرني ... طيب زماني به فأبكاني ديرمارنين يعرف أيضا بدير السابان وهو بين حلب وانطاكية مطل على بقعة تعرف بسرمد وهو دير حسن كبير وكان خرابا في القرن السادس وآثاره باقية وفيه يقول الشاعر: ألف المقام بدير رومانينا ... للروض ألفا والمدام حزينا والكاس والإبريق يعمل دهرا ... وتراه يجني الأس والنسرينا ديرعمان بنواحي حلب وتفسيره بالسريانية دير الجماعة قال فيه حمدان بن عبد الرحيم الحلبي: دير عمان ودير سابان ... هجن غرامي وزدن أشجاني إذا تذكرت منهما زمنا ... قضيته في عرام ربعاني ومر أبو فراس بن أبي الفرج فقال مرتجلا:

قد مررنا بالدير دير عمانا ... ووجدناه دائرا فنجانا ورأينا منازلا وطلولا ... دارسات ولم نر السكانا وارتنا الآثار من كان فيها ... قبل تفنيهم الخطوب عيانا فبكينا فيه وكان علينا ... لاعليه لما بكينا بكانا لست أنسى يا دير وقفتنا في ... ك وان أورثتني نسيانا من أناس حلوك دهرا فخلو ... ك وأمسوا قد عطلوك ألامنا فرقتهم يد الخطوب فأصبح ... ت خرابا من بعدهم اسيانما وكذا شيمة الليالي تميت ال ... حي منا وتهم البنيانا حربا مالذي لقينا من الده ... ر وماذا من خطبها قد دهانا نحن في غفلة بها وغرور ... وورانا من الردى ماورانا دير مرقس من نواحي الجزر قال حمدان بن عبد الرحيم يذكره: الأهل إلى حث المطايا إليكم ... وشم خزامى حر بنوش سبيل وهل غفلات الدهر في دير مرقس ... تعود وظل له فيه ظليل إذا ذكرت لذاتها النفس عنكم ... تلاقي عليها وجدة وعويل بلاد بها أمسى الهوى غير أنني ... أميل مع الأقدار حيث تميل وذكر ابن الشحنة في تاريخ حلب طرفا صالحا من متنزهات حلب فقال أنها كثيرة فمنها ما يقصد في أيام الأعياد والمواسم ويستوي فيه الخاص والعام كباب المقام داخلا وخارجا يجعل فيه فيالات وتعمل فيه أنواع الفنون وتعقد به الحلق لأرباب الصنائع ويباع فيه أنواع المآكل وكذلك خارج باب النيرب وخارج باب الفرج إلى ارض الماتين والمجدية وخارج باب النصر وظاهر بانقوسا وظاهر باب قنسرين مادا إلى جسر الأنصاري. وإما ما يقصد في سائر الأيام والأوقات التي تخطر للمتنزهين فأولها من جهة القبلة الأبيض ثم مرج الخالدي وعين مباركة وعين اشمونيث وهي المعروفة بعين أشمول وارض بطياس والسعدي وهو قضاء فياح تجري فيه انهر متشعبة من نهر واحد بحافتيها مروج خضر وبها من الزهر المختلف مالا يبلغه الوصف ثم الجوهري وهو بستان قديم وصفه الشعراء والبلغاء ومنها الأنصاري وجسراه المعروف احدهما بحقل ابن رافع والفيض وجندبات

وزاوية عباس ومنها ارض الخوابي وطواحين السلطان ومشهد الزرازير وبستان شمس لولوا وجبل جوشن والقلوت وجسر الطواشي وبستان البقعة وبستان العجمي والكهف وبستان الجزيرة والحبشي وقيصر ومرجة الفرايين وجسر باب انطاكية وجسر باب الجنان وجنينة المهمندار المعروفة آخر وقت بابن نجيح وبستان الوزير وجهرة الانكليس ومنها بابلى وهي قرية قريبة متصلة أرضها بأرض بانقوسا بها عدة جواسق وبحرات وجنينات وغير ذلك. ومنها قرنبية وجبل البختي والهزازة والميدان الأخضر ومشهد سيدي فارس وقسطل الحاجب وبعادين ومرجة أغلبك وارض بالصفراء وعين التل والأرض المسماة بالجوز سميت به لأشجار جوز عظام كثيرة الظل على شاطئ النهر ممتدة إلى حيلان وحوش البدوية وهو مكان فياح على نشر من الأرض ينبت فيه الشيح والقيصوم والقرنفل والصعتر ومنها الخناقية وكتف الأزرق والأرض المجدبة وجورة الأسقف التي بها بستان النصيبي وتجاه مرج السلحولية ثم جنينة عبيد والناعورة وارض الحلبة ورأس الطابق والنهريات وهي مسافة يومين من اول المسلمية إلى تل السلطان. وللصنوبري الشاعر قصيدة طويلة في وصف بعض متنزهات حلب وقراها القريبة جاء فيها: حبذا الباات باءا ... ت قويق وراها بانقوساها بها ... باهى المياه حين باها وببا صفرا وباب ... لا وبا (؟) مثلي وتاها لاقلي صحراء نافر (؟) ... قل شوقي لأقلاها لاسلا أجيال باسل ... ين قلبي لا سلاها وبباسلين فليب ... غ ركابي من بغاها والى باشقليشا ... ذو التناهي يتناها وبعاذين فواها ... لبعاذين وواها بين نهر وقناة ... قد تلته وتلاها ومجاري برك يجل ... وهمومي مجتلاها ورياض تلتقي آ ... مالنا فيما التقاها

زاد اعلاها علوا ... جوشننا لما أعلاها وأزدهن برج أبي الحا ... رث حسنا وازدهارها واظبت مشرف الحص ... ن اشتياقا واطناها وأرى المنية فازت ... كل نفس بمناها ازدهواي العوجان السالب ... النفس هواها ومقيلي بركة الت ... ل وسيبات رحاها بركة تربتها الكا ... فور والدر حصاها كم غراني طربي حي ... تانها لما غراها إذ تلا مطبخ الحي ... تان منها مشتواها بمروج اللهو ألقت ... غير لذاتي عصاها وبمغنى الكاملي أس ... تكملت نفسي مناها وغرت ذا الجوهر ال ... مزن غيثا وغراها كلا الراموسة الحس ... ناء ربي وكلاها وجزى الجنات بالس ... عدى بنعمى وجزاها وفدى البستان من فا ... رس صب وفداها وغرت ذا الجوهر ال ... مزن محلولا غراها واذكر دار السليما ... نية اليوم إذ كراها حيث عجنا نحوها العب ... س تباري في براها وصفا العافية المو ... سومة الوصف صفاها فهي في معنى اسمها حذ ... وبحذو وكفاها وصلا سطحي وأحوا ... ضي خليلي صلاها وردا ساحة صهري ... جي على سوق رداها وامزجا الراح بماء ... منه أو لا تمزجاها حلب بدر دجى أن ... جمها الزهر قراها للرحلة صلة

قانون الجماعات

قانون الجماعات وشرح المغمض منه أبنت في جزء سبق أن القوانين التي تبحث عن أفعال الناس الناشئة من اجتماعاتهم تقسم إلى قسمين: قسم له مساس بالأمن العام رأسا وآخر بالواسطة وقلت أن أفعال الناس المجتمعة التي قد تخل بالأمن العام تظهر في مظهرين الأول: دائمي والآخر مؤقت والقانون الذي يبحث عن الاجتماعات الدائمة قانون الجمعيات وقد مرت ترجمته وشرح شرحا إجماليا. وأما القانون الذي يبحث عن الاجتماعات المؤقتة فهو قانون (الجماعات) وهو موضوع بحثنا اليوم. هذا القانون كناية عن (11) مادة فقط. وهو مأخوذ عن القانون الصادر في فرنسا عام 1881 وكثير الشبه به. وقد نشر في 20 جمادى الأولى عام 1327 موافق 27 أيار سنة 1325. عقيب حوادث 31 آذار المعلومة. المادة الأولى - العثمانيون أحرار في عقد الاجتماعات العامة بلا سلاح. وبشرط الرعاية للمواد الآتية فلا حاجة لأخذ الرخصة. إيضاح - أعلن واضع القانون حرية الاجتماع بهذه المادة بكل صراحة لأن هذا حق من حقوق الأمة الطبيعية متولد من حرية الكلام وحرية تعاطي الأفكار وحرية اتحاد الآمال. الاجتماعات قسمان (1) سياسي (2) غير سياسي وكلاهما جائز والدليل قول واضع القانون (الاجتماعات العامة) كما مر في المتن بدون قيد. وهنا تجد بيننا وبين فرنسا فرقا مهما يجلب نظر. وهو أن قانون الاجتماع الفرنساوي يمنع الاجتماعات لأجل الانتخابات وأما قانوننا فيجوزها كما هو مستفاد من إطلاق هذه المادة. أي أن قانون الاجتماع الفرنساوي لا يسوغ الاجتماع إلا للمرشحين والمنتخبين فقط، وإما قانوننا فهو مطلق الحرية للمرشحين والمنتخبين ولكل ناظر. ثم مر في متن المادة كلمة (العثمانيون أحرار) فيفهم من هذا بان الأجانب ممنوعون من الاستفادة من هذا الحق. لأن لكل كلمة مفهومين: مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فان ذكر احدهما يستدل على أن الآخر غير مقصود وغير مطلوب فقول واضع القانون هنا (العثمانيون) يدل بأنه قصد إخراج غير العثمانيين من مداول هذه الكلمة. ومن هنا يستدل

بأنه لا يسوغ لغير العثمانيين من حق الاجتماع. يقول بعض العلماء أصول الإدارة الملكية ولا سيما الأستاذ ضيا بك بحوار عقد الاجتماع من قبل الأجانب نزلاء بلادنا بشرط أن لا يتدخلوا بالسياسة المحلية. وإما هذا العاجز فيرى إن هذا القول من قبيل التوسع الفكري وليس من التفسير القانوني. لأن القانون حصر هذا الحق بالعثمانيين حصرا بينا بقوله (العثمانيون الأحرار) بدون تقييد بشيء آخر. أما إذا قيل بان هذا حق لكل الإفراد طبيعي لا يجوز نزعه من الأجانب فأقول بان القوانين توضع في الأصل لأجل تحديد كل حق يحتمل ظهور أقل ضرر منه. وناهيك بما يقول له الأجانب حق وهم منفردون وحينئذ احكم كما تشاء على ما يمكن حدوثه منهم وهم مجتمعون. فلهذا السبب أرى الاكتفاء بصراحة القانون أوفق للاحتياط والتبصر بعواقب الأمور وأما أن قيل: أما يسوغ لهم الاشتراك مع العثمانيين في اجتماعاتهم؟ فأقول أيضا لا يجوز لأن القانون وحساب العواقب هكذا يقضيان لأن اقل أمر يحدث في أثناء الاجتماع ربما يحدث أعظم المشاكل مع الدولة التي ينتسب إليها هذا الأجنبي ولذلك كان إتباع ظاهر القانون أوفق واسلم وانفع. ولاسيما إذا كان الاجتماع سياسيا فعدم قبول الأجنبي فيه من اضر الضروريات لا علاقة له به مطلقا. مر في المتن أيضا كلمة (بلا سلاح) فإذا كان المجتمعون مسلحين علنا أو سرا فهذا الاجتماع ممنوع. إما إن كان شخصان أو ثلاثة من بين هذا الجمع الغفير مسلحين فيجب على هيئة الإدارة تجريدهم من سلاحهم وإذا امتنعوا فيعد الاجتماع مسلحاً ويمنع. مر في المتن أيضا بان الاجتماع غير متوقف على اخذ إذن من الحكومة. نعم لا يجب الاستئذان لذلك إلا انه لما كان من الممكن وقوع مالا تحمد عقباه أثناء الاجتماع اشترط واضع القانون بعض الشروط على مسببي الاجتماع حفظا للأمن العام. وهذه الشروط مدرجة في المادة 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2 كما سيأتي بيانها. المادة الثانية - قبل الاجتماع يجب تنظيم بيان يتضمن يوم الاجتماع وساعته ومحل وقوعه وان يمضي من شخصين احدهما متوطن في محل عقد الاجتماع وان يكونا نائلين حقوقهما المدنية والسياسية على شرط أن يصرحا باسميهما وشهرتيهما وصفتيهما وبمحلي أقامتيهما. إيضاح - الاجتماع غير منوط بإذن الحكومة. إلا انه يجب إخبارها بوقوعه لأجل اتخاذ

التدابير اللازمة خوفا من وقوع ما يكدر المخاطر ولأجل منع الاجتماعات الغير الجائزة قانونا بمقتضى المادة 9، 8، 7، 6، 3 من هذا القانون. قيل في المتن أيضا ضرورة بيان (يوم الاجتماع وساعته ومحل وقوعه) وهذا أيضا ضروري. لتتخذ الحكومة التدابير اللازمة بالوقت المعين خوفا من إجراء الاجتماع قبل أن تتخذ الحكومة التدابير الاحتياطية. وهكذا قيل في المتن (يجب أن يمضى من شخصين احدهما متوطن في محل عقد الاجتماع فإذا أمضى البيان شخصان احدهما متوطن في البلد الذي سيقع فيه الاجتماع والثاني من بلد آخر فهو جائز بنظر القانون. وقصد واضع القانون من كلمة (محل) البلاد والقصبات والقرى. مر في المتن (نائلين حقوقهما المدنية والسياسية) واليك البيان: الحقوق المدنية - هي أن يكون غير ساقط من هذه الحقوق وهي مذكورة إجمالا في المادة 31 من قانون الجزاء ودرجة في الصفحة (465) من مقتبس هذه السنة في شكل خلاصة الخلاصة. الحقوق السياسية - هي الحقوق التي تؤهل المرء لاشتراك في إدارة المملكة مثل حق انتخاب المبعوثين وحقوق التوظف في دوائر الحكومة والعسكرية الخ. ثم يجب أن يصرح هذان الرجلان اللذان سيمضيان البيان باسميهما وبشهرتهما وبجميع علائمهما المميزة ليسهل على الحكومة البحث عنهما عند الاقتضاء. المادة الثالثة - يعطى البيان في استانبول لناظر الضابطة وفي الملحقات للولاة والمتصرفين والقائم مقامين والمديرين. وبمجرد إعطاء البيان يؤخذ بقابلة علم وخبر. وان يعطي علم وخبر فلمقدمي البيان تنظيم ورقة ضبط وإمضاؤها من شخصين من الحاضرين يكونان من الحائزين على الشروط المدرجة في المادة الثانية. وحينئذ يسوغ عقد الاجتماع. ويجب التصريح باليوم والساعة التي سيقع الاجتماع فيها في العلم وخبر وورقة الضبط. أما الاجتماعات التي تقع بلا علم وخبر وورقة ضبط فهي ممنوعة. ويجازى مرتبوا الاجتماع بالحبس من أسبوع إلى شهر أو بالتغريم بجزاء نقدي يختلف بين الثلاث ليرات وخمس عشرة ليرة.

إيضاح -. ورد بان البيان يعطى باستانبول لناظر الضابطة). إما وقد أصبحت استانبول ولاية كسائر الولايات فيجد والحالة هذه إعطاؤها للوالي بها. ثم إذا امتنع مأمور الإدارة عن إعطاء علم وخبر في مقابل البيان فعلى مقدمي البيان تنظيم ورقة ضبط تبين امتناع. ويجب أن يمضى هذا الضبط من رجلين آخرين غير مقدمي البيان. وبهذه الصورة تكون ورقة الضبط محتوية على أربعة إمضاءات. اثنان مدعيان واثنان شاهدان لأجل محاكمة المأمور. وجزاء من يمتنع عن إعطاء هذا العلم والخبر قطع راتب شهر لأول مرة وإذا تكرر فيطرد من مأموريته وفق للمادة (102) من قانون الجزاء. العلم وخبر لا يتضمن الترخيص بل يتضمن الاستخبار من قبل من هو مكلف بحفظ الأمن العام. أي أن معنى البيان الأخبار ومعنى العلم والخبر وثيقة لأجل عدم الإنكار في المستقبل. حتى إذا ما وقع محظور من الاجتماع وسئل عنه مأمور الإدارة الملكية وأراد الإنكار وادعى لأنه لم يعلم بوقوع الاجتماع ليتخذ التدابير اللازمة يقال له أن المجتمعين قد أخبروك وهذا العلم والخبر دليل على ذلك إذا أنت متهاون ولهذا أنت جدير بالجزاء هذا هو سر لزوم إعطاء البيان والعلم والخبر لا غير. لأن الاجتماع غني عن الاستئذان لكونه حقا من الحقوق الطبيعية. أما الاجتماع الذي يقع بدون أخبار الحكومة بتاتا فهو ممنوع. أي أن للبوليس الحق في فضه أولا بالكلام ثم بالتهديد ثم بالإكراه ثم أن الضرب والجرح والقتل الذي يقع من مأموري الضابطة أثناء إيفاء وظائفهم يؤدي إلى المعذرة بموجب المادة 189 من قانون الجزاء العام وقانون البوليس والجند رمة الخصوصيين وعلى هذا ففي كلمة (ممنوع) فسخ الاجتماع بكل التدابير حتى تصل إلى قتل من يخالف أمر البوليس. وهذا الأخير غير مسؤول عن هذا القتل بالنظر لما هو مصرح به في المادة المذكورة من قانون الجزاء. وبعد تفريق المجتمعين يجازى المرتبون بالجزاء المدرج في متن المادة المذكورة آنفاً. المادة الرابعة -. يجب أن تمر ثماني وأربعون ساعة بين إعطاء البيان وعقد الاجتماع. مر سبب هذا أعلاه في شرح المادة الثانية. المادة الخامسة -. يجب إيضاح سبب الاجتماع والمقصد منه في البيان. إيضاح -. حتى يتسنى للحكومة منع الاجتماع الغير القانوني ولأجل التبصر في مقدار

العسكر الذين يجب إرسالهم للمحافظة ولأجل إرسال مأمور خاص لمحل الاجتماع للنظارة عليه وحتى إذا ما خرج عن الموضوع يفسخ الاجتماع الخ. المادة السادسة -. الاجتماعات ممنوعة في المحال المكشوفة والقريبة مقدار ثلاثة كيلو مترات من سراي السلطان المعظم ومن دائرتي المبعوثان والأعيان إثناء انعقاد المجلس العمومي. إيضاح -. مر في المتن كلمة (مكشوفة) ومعناها إن الاجتماع يقع أما في محال مكشوفة أو في محال مغلقة أي ذات سقف وباب. ومثال الأول الساحات والعاص ومثال الثاني القهاوي ودور التمثيل والأندية. لماذا؟ لأن من الاجتماعات ما يجب إجراؤه في محل مغلق كالمحاضرات العلمية. لأن هذه لا تلقى على قارعة الطريق. ومنها أيضا ما هو واجب إجراؤه في المحال المكشوفة كالاحتجاج على عمل ما يخالف القانون صدر من الحكومة أو من شركة ما ولما كان هذا شاملا لجميع الآهلين غالبا فبالضرورة يجتمعون في الساحات والعراص على الأكثر. فلهذا السبب أساغ واضع القانون كلا النوعين من الاجتماعات. واستثنى منها ما يقع في المحال المكشوفة القريبة من سراي السلطان المعظم ومن مجلس المبعوثان والأعيان إثناء انعقاد المجلس العمومي مسافة ثلاثة كيلو مترات أي ثلاثة آلاف متر. كذلك قيل في المتن (سراي السلطان) والقصد من هذه الجملة سرايه في استانبول لا القصور العامة في الملحقات. لأن كلمة (همايون الملصقة بسراي في الأصل التركي أي سراي همايون) تفيد التخصيص بسرايه الخاص. أعرف والياً ممن ظلمهم الحظ وأجلسهم على عرش الولاية أراد منع احتجاج على عمله وذهب لتفسير (سراي همايون) بدار الحكومة. وبعد اللتيا والتي أقنعناه بحقيقة المسالة قيل في المتن أيضا (إثناء انعقاد المجلس العمومي) ومعنى هذا أيضا إذا لم يكن المجلس العمومي أي مجلس المبعوثين والأعيان منعقدين فالاجتماع جائز القرب منهما ولو بمسافة اقل من ثلاثة كيلو مترات. وهكذا يستفاد من كلمة (المحال المكشوفة) بان الاجتماعات التي تقع في المحال المغلقة في القرب من السراي السلطاني ومن المجلس ولو كانا منعقدين فهي غير ممنوعة أيضا ثم قيل

في أول المتن (ممنوعة) وقد مر معنى المنع القانوني في شرح المادة السابقة فالاجتماع الممنوع إذا (1) هو الذي يقع في المحال المكشوفة القريبة من سراي السلطان مسافة ثلاثة آلاف متر (2) التي تقع في المحلات القريبة من مجلس الأعيان والمبعوثين على مسافة ثلاثة آلاف كيلو مترات أثناء انعقاد المجلس العمومي. أما الاجتماعات التي تكون في محال مستورة فهي جائزة ولو كانت على مقربة من سراي السلطان والمجلسين. المادة السابعة - شرع الاجتماع ونظر إليه من قبل علماء فن تدبير المملكة بنظر حق طبيعي لأنه مؤد إلى نفع عام وخاص. أما إذا وقع في الطريق العامة فمن المحقق انه يعطل المارين والعابرين ويعوق سير التجارة ويخل بحرية أرباب الصنائع وسائر المسالك الأخرى. ولما كان درء المفسدة أولى من جلب المنفعة وفقا للمادة الثلاثين من قانوننا العام أي مجلة الأحكام منع هذا الاجتماع الذي يقع في الطرق العامة. لكي لا نكون جلبنا ضررا محسوسا لجلب نفع موهوم. هذا هو سبب الفقرة الأولى الإدارية من هذه المادة. وإما الفقرة الثانية فهي تبين وقت الاجتماع. فكما أن الاجتماع يقع في المحال المكشوفة من طلوع الشمس حتى مغربها. وأما في المستورة فيجوز دوامه ليلا أيضا كما انه يسوغ عقدة في منتصف الليل أو في آخره لأن المحافظة هناك سهلة جدا لا سيما والمحال المغلقة هي إما قاعة خاصة دار تمثيل أو قهوة كبرى. وهذه الإيضاحات مستنبطة من مفهوم المخالفة لقيود هذه المادة والتي قبلها. المادة الثامنة - يدار الاجتماع من هيئة مركبة على الأقل من ثلاثة أشخاص وعلى هذه الهيئة الاعتناء بمحافظة الانتظام ومنع ما يخالف القانون والاهتمام بعدم الخروج عن موضوع البيان وعدم إيراد الخطب المخلة بالأمن العام والآداب العامة ودم التفوه بأقوال تكون من قبيل التشويق لإيقاع الجرائم. وان لم تعين هذه الهيئة من قبل ممضي البيان انتخابها من المجتمعين. وإذا وقع فعل يخالف المادة السابعة وهذه المادة فالتبعة توجه على هيئة الإدارة وقبل تأليفها فالتبعة على ممضي البيان. إيضاح - يجب أن يكون الثلاثة الأشخاص الذين يؤلفون الهيئة الإدارة حائزين على الشروط الثلاثة المدرجة في المادة الثانية من هذا القانون. لأنه لا فرق بين هيئة الإدارة

وممضي البيان أبداً. لا سيما وهو مجاز للحكومة توجيه تبعة الاجتماعات على ممضي البيان كما هو مذكور في متن هذه المادة. هيئة الإدارة مكلفة بواجبات ستة واليك بيانها بمثال: أولاً - المحافظة على الانتظام: لأن التشتت يضيع الفائدة المنتظرة من الاجتماع وهي مثل تعارض الخطباء والصراخ وكل ما يخل السكون المطلوب. الاجتماع المنتظم هو الذي يخطب به الخطيب والناس تسمع له والذي لا يتكلم به احد سوى الخطيب فإذا عارض الخطباء بعضهم وظهر لكل واحد منهم حزب يؤيده فهناك بعد الانتظام مختلا يحتاج لمداخلة هيئة الإدارة. ثانياً - منع ما يخالف القانون: إذا ترك احد أرضه الأميرية ثلاث سنين متتالية معطلة تعد محلولة ويؤخذ من صاحبها الأصلي (بدل المثل) عنها وان لم يدفع هذا فتؤخذ منع وتباع بالمزاد من غيره. وهذا مؤيد في المادة (68) من قانون الأراضي. فلو أراد خطيب يخطب بعكس هذا لما جاز له ويجب هنا أيضا مداخلة هيئة الاجتماع الإدارية ويجب عليها منعه، وهكذا جميع القوانين بلا استثناء. أما من رأى اعوجاجا في القوانين فعليه أن ينبه مرجعها بلائحة خاصة أو بواسطة الجرائد وهذا مشروط بان يكون تصديق القانون التصديق الرسمي. ثالثاً - عدم الخروج عن موضوع البيان: مثلا لو قيل في البيان بان الاجتماع هو لأجل الاحتجاج على حكومة اليونان فقط فلا يجب الخروج عن ذلك ويجب المنع أن حصل احتجاج على حكومة الجبل الأسود لأن البيان كان عبارة عن الاحتجاج على اليونان لا غيره. وقس عليه البواقي. رابعاً - الأمن العام: غني عن الإيضاح خامساً - الآداب العامة: لو أراد الخطيب استعمال البيرا أو إحدى المشروبات الأخرى إثناء خطابه فيمنع من ذلك. لأن آدابنا الإسلامية تحظر علينا التهتك بالمنكرات. وهنا أيضا يجب على الهيئة الإدارية أن تتدخل بالأمر. وهذا الأمر يشمل الغير مسلمين أيضا. نعم يسوغ لهم استعمال المشروبات المسكرة ولكن في أماكن خاصة لا علنا لأن الآداب العامة الوطنية (وهي إسلامية بالنظر للأكثرية) لا

تجيز ذلك بتة والقصد من الآداب العامة مراعاة العواطف لا غير. وهل يجوز لغير المسلمين عقلا ومنطقا جرح عواطف إخوانهم المسلمين أكثرية المملكة باستعمال المشروبات علنا؟ كلا. إذن يجب منع الخطيب الغير مسلم أيضا أن أراد استعمال البيرا أو الكونيك على منبر الخطابة العلني وهم يعملون هذا التقليد للأوربيين أما آدابنا فلا نستطيع أن تهضم هذا بوجه من الوجوه. ولذلك منع واضع هذا القانون وأمثاله وبهذه الصورة حفظ الآداب العامة من طروء الخلل عليها: وهذا لا يحجز حرية أحد لأن الإنسان حر في بيته إن يفعل ما يشاء ويشرب ما يشاء. سادساً - عدم التفوه بأقوال تشق إلى ارتكاب الجرائم وهذا أيضا غني عن الإيضاح هذه الأمور الستة واجبات الإدارة يجب الانتباه لها وإذا حصل تهاون فالجزاء محقق بموجب المادة العاشرة من هذا القانون. قد يمكن أن لا يبين الشخصان اللذان يمضيان البيان أسماء هيئة الإدارة لأسباب عديدة. فإذا ما وقع مثل هذا الحال. وجب على المجتمعين انتخاب ثلاثة أشخاص من بينهم قبل كل شيء وتعريف الحكومة عنهم وإذا لم ينتخب أحد لهيئة الإدارة فتوجه التبعة على ممضي البيان والجزاء بكون بموجب المادة العاشرة. المادة التاسعة - يرسل من قبل الحكومة إلى محل الاجتماع مأمور أن يوجد في المحل الذي يعده مناسبا وله أن يفسخ الاجتماع إذا طلبت هيئة الإدارة ذلك أو وقعت منازعة ومجادلة تخل بالضبط والربط. إيضاح - إذا قيل حكومة يجب أن يخطر على البال رؤساء الإدارة الملكية أي المختار والمدير والقائم مقام والمتصرف والوالي وناظر الداخلية والصدر الأعظم. وإذا طلبت هيئة الإدارة فله أن يأمر البوليس والجند رمة فسخ الاجتماع. قيل في المتن (منازعة ومجادلة) وهذان قسمان قولي وفعلي. فان كانت قولية فلا يسوغ له المداخلة بدون طلب من هيئة الإدارة وإذا حصل ما يخالف القانون فتوجه التبعة على هيئة الادراة والفاعلين. إما إذا كانت المنازعات والمجادلات فعليه أن يتدخل من نفسه ويفسخ الاجتماع. وهذا منبسط من قول القانون (منازعة ومجادلة مخلة بالضبط والربط) والإخلال بالضبط والربط لا يكون بالقول مطلقاً.

إما إذا أتي احد المجتمعين بشيء يغاير الآداب أو تكلم بكلام يخل بالأمر فعلى الهيئة الإدارية أن تراجع المأمور الخاص وهو يمنع الرجل من عمله وكلامه وينظم ضبطا ويودعه للعدلية لأجل محاذاته بموجب المادة العاشرة. وان لم تراجع الهيئة الإدارية هو أيضا بقطع راتب شهر جزاء تهاونه. وفقا لقانون الجزاء لا لهذا القانون. المادة العاشرة - يجازى من يخالف إحكام هذا القانون بالحبس من 24 ساعة إلى أسبوع أو بالتغريم بجزاء نقدي من 25 غرشاً إلى ليرة. بشرط أن لا تخل أحكام القوانين الأخرى بحق من يأتون بالجرائم الأخرى. إيضاح - لو ضرب احد آخر إثناء الاجتماع فيجازى جزاء الضرب العادي المدرج في قانون الجزاء ولا يكتفي بهذا الجزاء الجزئي المحرر في هذه المادة. وهذا الجزاء خاص بمن يخالف هذا القانون المؤلف من إحدى عشرة مادة فقط فلو صرح مثلا احد المجتمعين إثناء الاجتماع يجازى بهذا الجزاء لأنه اخل بنظام الاجتماع. والحاصل أن هذا القانون لا يعارض قانون الجزاء العام بتاتاً. المادة الحادية عشرة - ناظر الداخلية والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون. في جمادى الأولى 327 و27 أيار 325. إيضاح - الداخلية والعدلية أبدا كحفظ الصحة والطب. فكما انه قبل المرض تراعى قواعد حفظ الصحة ولا يراجع الطبيب إلا بعد وقوع المرض فمأمور الداخلية والبوليس والجند رمة يتخذ كل أنواع الاحتياط ويتخذ جميع التدابير لأجل منع كل عمل يخالف هذا القانون. وإما إن حصل خلاف فهناك تبتدئُ وظيفة مأموري العدلية أي وظيفة العدلية تبدأ حيث تنتهي وظيفة رجال الداخلية. هذا هو قانون الاجتماع متنا وشرحا وقد استندت في شرحي له على أربع مسائل أقوال علماء أصول الإدارة الملكية وعلى دلالة القوانين الأخرى وعلى الأوامر الصادرة من المراجع العليا أقوال علماء الفقه والمنطق. وأشرت إلى ذلك فيما رأيت لذلك داعياً؟ وبعد ترجمة المتن وشرحه كما مر أرى الحاجة ماسة لبيان أقوال علماء فن تدبير المملكة يحق الاجتماعات على طريق الإيجاز الرائد ليكون القارئ على بصيرة تامة واليك البيان: يقول العلماء لهذه الاجتماعات العامة ويقسمونها إلى أقسام عديدة: اجتماع شامل واجتماع

خاص دنيوي ديني مشروع وغير مشروع مهيأ غير مهيأ أو مشوش ونبحث ألان في تعريف كل قسم من هذه الأقسام على وجه الإيجاز. الاجتماع الشامل - الذي يسوغ لكل الناس الاشتراك به سواء كان باجرة أو مجانا مثل الاشتراك لأجل سماع المحاضرات العلمية والسياسية والصناعية. الاجتماع الخاص - الذي لا يسوغ لكل الناس الاشتراك به لغير المدعوين مثل الضيافات بأنواعها. وهذه حرة عندنا بدون قيد أو شرط. الاجتماع الدنيوي - هذا الاجتماع بالجوامع والكنائس. لإقامة الشعائر واستماع النصائح. وهذه الاجتماعات أيضا غير تابعة بصور وشروط قانونية. الاجتماع المشروع - ما كان موافقا للقوانين. وأما الغير المشروع الغير موافق للقوانين الأخرى. الاجتماع المهيأ - الذي يكون مبنيا على نية معلومة وقصد محدود معين. الاجتماع المشوش - هو الذي يكون من قبيل التصادف أو التشويق الوقتي. فقانون الاجتماع الذي ترجمته وشرحته بهذا العدد من مقتبسنا يبحث عن الاجتماعات الشاملة والدينية والمشروعة والغير مشروعة والمرتبة. ولم يتدخل قد في الاجتماعات الخاصة والدينية والمشوشة قطعيا. ولابد أن تنتبه الحكومة لهذه الأقسام الثلاثة الأخيرة وتضع لها قوانين تبحث عنها أسوة بجميع الدول المتمدنة ووقاية لحال الأمة من تشويقات المشوقين الضالين المضلين ومن سوء تفسير رجال الإدارة صيغة الحظ والاتفاق. فان تسعة أعشار تذبذبنا الإداري ناشئ لعمر الحق من هؤلاء الضالين أرباب النفوذ ومن جهالة من يقال لهم آمرون. بيروت // حسني عبد الهادي

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الإسفنج لا يعرف العلماء حتى الآن إذا كان الإسفنج يعد من الحيوان مع انه أيضا مشترك مع النبات كما لا يعرفون كيف يغتذي فهو يتناول غذاؤه من منافذه ولكن ما هي ماهية هذا الغذاء الموزع على نصاب العدل وهذا من المجهولات أيضاً. وإن الإسفنجة المعتدلة لتبلغ 18 سنتميتراً في أربع سنين واهم مصايد الإسفنج في سورية وبحر الادرياتيك وعلى شواطئ تونس. وقد أخذت أميركا ولا سيما شواطئ فلوريدا تخرج الإسفنج منذ مدة أيضا ويجيء هذا الصنف من كوبا وجزائر براهاما. واستخرج الإسفنج على صور مختلفة وأكثرها استعمالا ما يغوصون عليه في أعماق تختلف من 10 إلى 15 مترا فينزعون هذا الحيوان من الصخر الذي علق فيه ومنهم من يستعملون أجراس الغواصة فيتراكض كلاب البحر فلا يتقيها الغائص الإبان يتماوت فتكف عنه لأن كلب البحر لا يقترب من الجثث الهامدة. وقد عني الدكتور مور بزراعة الإسفنج بدون ساق وهو ابقي من غيره من الأنواع وطريقته أن يقطع الحيوان قطعا قدر كل واحدة خمس سنتيمترات مربعة ويركزها إلى أوتاد مغموسة بماء البحر فتكبر هذه القطع ويصبح وزنها خمسة وعشرين ضعفا عما كانت عليه وذلك خلال ثمانية عشرة شهراً. العصر الحجري لم تدثر أجناس البشر التي باتت معروفة في العصر الحجري الغريق في القدم فان قبائل أواسط واستراليا تمثل آخر بقاياه. فقد باد قدماه التاسمانيين الذين كانوا فرعا من تلك القبائل ولم يتحقق أصل قرصان أندمان (أرخبيل في خليج بنغالا) واحتفظ أهل واستراليا بسحناتهم وصفاتهم وهم قوم رحل مختلفة لهجاتهم بعيدون عن كل مدينة أحط خلق الله في المعارف وصحة الأجسام ينزلون رمالا لا ينبت فيها غير العوسج يعيش رجالهم بالصيد بالحراب والنساء يقلعن جذوعا ويبحثن عن الديدان يغتدين بها. وكلهم من آكلة البشر لا يعرفون الثياب يسترون عوراتهم بزنار بسيط وإذا أكلوا إنسانا من البيض الضالين في أصقاعهم يأخذون قبعته يجعلونها على رؤوسهم وأحذيته وجواربه في أرجلهم علامة على الكبرياء والعظمة. ومساكنهم عبارة عن أكواخ من الأغصان لا يعرفون المعادن إلا منذ زارهم

بعض أرباب الرحلات وليس لهم آنية في مساكنهم ولا يحسبون إلا على أصابعهم إلى الصف الأول من الإعداد لا يتعدونها إلى أكثر ولكنهم ماهرون في رسم بعض الصور على الحجارة وفي تزيين أتراسهم بيد أن حذقهم في هذه الصناعة أحط من حذق آهل عصر الوعل في أوربا الغربية. ويقول العالم الأخصائي في أحوالهم أن سكان واستراليا الوسطى الأصليين جاؤوا من اختلاط بين زنوج بابوان وجنس من الخلق أرقى من الجنس القوقازي امتزج الجنسان معا منذ الزمن الأطول أيام كانت استراليا جزءا من قارة أسيت. السمك الأحمر كان الغربيون يتسلون بتربية السمك الأحمر كما نتسلى في سورية بجعله في بواطي وزجاجات وتغير مائه اليوم بعد اليوم وقد عدلوا عن تربيته ولم يتبق إلا جزيرة صقلية تالف تربيته فيجعلون فيها غدرانا مساحتها مئة متر مربع تفصل الواحدة عن أختها حواجز وسدود تفصلها بعضها عن بعض قليلا وهي قليلة العمق يجعلون ماء الأحواض على حرارة 50 درجة ولا يفتاون يغيرون عنها الماء ويلونونها أن يضعوا في الماء شيئا من الحديد والعطان (قشر البلوط المسحوق للدبغ) والعفص وطعامها من الهوام والدم المجمد وبقايا اللحوم والشعير به تنمو وتتكاثر ويكثرون في تلك الأحواض من الذكور أكثر من الإناث. ويقال أن السمك الأحمر قد يستغني عن الغذاء شهرا كاملا. صناعة الفنادق سبقت سويسرا غيرها من بلاد الغرب والشرق بان كانت أفضل البلاد بفنادقها ونزلها التي اجتلبت السياح بمئات الألوف كل سنة وتربح منهم الإرباح الطائلة وليس في هذا الشرق العربي اليوم من يحذو حذوها من البلاد غير جبل لبنان فإذا تم له ما ينبغي من دواعي الإصلاح وتوفرت في فنادقه وقصوره أسباب الراحة مع الاقتصاد وعدم الاشتطاط في الطلب وامتدت فيه كل الطرق المعبدة وعشرات من كيلومترات الخطوط الحديدية أيضا يصبح في آسيا بمثابة سويسرا في أوربا. وان بلد الفنادق أي سويسرا بل الفندق الأكبر في الغرب لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل العلم والمدارس وربما يعجب ابن الشرق إذا قلنا له أن صناعة الفنادق يتعلمونها هناك في المدارس تعليما نظريا وعمليا ولذلك سبقوا غيرهم من سائر أمم أوربا الذين لهم من بلادهم أيضا ارض طيبة ومناظر جميلة ولكن

ليسلهم استعداد السويسريين في جلب قلوب السائحين ولا يكتفي اليوم في النزل أن يعرف صاحب الفندق تقديم الطعام الجيد الطبخ بواسطة طهاته ولا إن يحسن اللقاء والتشييع وببش في وجه نزيله بل عليه أمورا أخرى كثيرة تستدعيها المدينة ولا يتعلمها إلا من دخل مدارس سويسرا أو لاسيما مدرسة لوزان الفندقية. فما أحرى احد أرباب الفنادق في سورية أن يبعث بأحد أولاده يتعلمون فيها ليطرس غيره على آثاره وتغنم البلاد فوائد كلية من دنانير السائحين والسائحات. سجون النساء نادت ليزابت فري في أوائل القرن الماضي بإصلاح سجون النساء فلم يتيسر في أميركا إجابة طلبها إلا في العهد الأخير فأنشأت بعض الولايات المتحدة سجونا تنفذ إليها الشمس مضاءة نقية طاهرة مستوفاة من حيث الصحة وجعلوا القائمات على السجينات من النساء يعنين بأمرهن كل العناية ويتحببن إليهن إذ رأت أميركا إن السجن وحده كاف في إصلاح النفوس فلا ينبغي إرهاق المسجون بل تعليمه بالقدوة والمطالعة ولذلك ترى العناية بصحتهن الأدبية وصحتهن الجسمية بالغة حدها من النيقة فيجتمع السجينات في أوقات الراحة في مكتبة حوت انفع الكتب لهن يطالعن ومما يصرفن فيه أوقاتهن زراعة البقول وغيرها فلا يخرجن من السجن ألا وقد تطهرت نفوسهن بالمطالعات وتعلمن تربية البقول والإزهار وبذلك تم للحكومة ما أرادت من انتشار صناعة الحدائق بفضل جودة التربة والتربية في تلك الولايات. فمتى يكون في هذا الشرق القريب سجون كهذه للرجال والنساء. الكليات الروسية تقول إحدى المجلات في روسيا أن حالة كلياتها اليوم أشبه بساحة وغى غداة القتال والنزال فان سيطرة الأساتذة أن لم تكن زالت فقد تضعضعت كثيرا والخلل مستحكم في صفوف الطلبة لأن للسياسة منذ زمن مقاما عظيما في حياة الكليات مما هو مضر بالغاية المطلوبة من هذه المعاهد. ومن العجب أن تساعد الكليات على نمو هذه الأفكار وإذ قد ضعفت سياسة التطرف في هاتيك المدارس أخذت الحكومة تدخل فيها سياسة حزب اليمين وذلك بإنشاء جمعيات تكون بحجة جمع شتات الطلبة آلة لبث الدعوة الارتجاعية أي العودة إلى سياسة

الحكم المطلق قالوا يجب العدول عن الاعتصابات لأنها لم تثمر ثمرة لتلك البيوت العلمية ولطالما أضرت بمن يأتيها والحكومة تعمد إليها للتخلص من الأساتذة والتلاميذ الذين عرفوا باستقلال الإرادة والفكر. والخلاصة فان روسيا تنمو بكلياتها من حيث الفكر السياسي نحو تقديس الحكومة المطلقة وألمانيا تنمو بكلياتها نحو تقديس الحكم المقيد تحت رعاية الإمبراطور وشتان بين الإمبراطور والإمبراطوريتين. الزحافات ذات العرف كان علماء المطمورات يدعون بان أعظم الزحافات ذات العرف في ولاية داكوتا وغيرها من الولايات المجاورة في أميركا الشمالية ولكن البحث في مطمورات افريقية النباتية وغير ذلك إبان تقيض هذا الزعيم. فقد اكتشفت في الطبقات الجيولوجية في جنوب افريقية من سهل كارو العظيم في مستعمرة الرأس مطمورات لها شبه بآثار الزحافات الأميركية الأولى وأيد احد أساتذة ألمانيا هذا القول وقال أن في افريقية الشرقية الألمانية جبلا أخرجت من صدره بقايا حيوانات تشبه هذه. وكان كارنجي المثري الأمريكي أهدى متحف برلين حيوانا سموه ديبلودوكوس زعمهم انه اكبر زاحف في الأرض ولكن تبين في المستعمرة الألمانية الإفريقية ما هو أضخم منه جثة يبلغ طوله مترين و45 سنتيمترا على حين بلغ طول حيوان كارنجي أكثر من متر و82 سنتيمترا وطول أعظم فقرة من عظمه من ناحية عنقه 62 سنتيمترا في حين أن مثلها في الحيوان الإفريقي مت و81 سنتيمترا وعظم العضد في الأول 92 سنتيمترا وعظم العضد الثاني يتجاوز المترين ورأس الزحاف الإفريقي صغير بالنسبة لحجمه جسمه. الهجرة الايطالية لم يهاجر منذ سنة 1866 إلى 1908 اقل من 5813460 مهاجرا إيطاليا أي ما يعادل مجموع سكان الجمهورية الفضية أو سكان الجزائر وقد كان المهاجرون عرضة لتلاعب اللصوص والمحتالين عندما يغادرون بلادهم فيتلاعب المتلاعبون بعقولهم وأكثرهم من ضعاف العقول بالطبع فانتبهت الحكومة الايطالية والشعب الايطالي للأمر تألفت جمعيات كثيرة في أمهات مدن أميركا الشمالية والجنوبية لاستقبال مهاجري الطليان والسير بهم في الطرق الموصلة القريبة إلى احتياز المال والعيش الخصال وهكذا تم لهم ذلك. وللسوريين

على ضعفهم ف تلك الأصقاع جمعيات من هذا القبيل وكانت ضئيلة ولكنها تخدم الهجرة والمهاجرة. السرطان البحري لما كان السرطان البحري في أميركا اكبر من السرطان الأوربي مرتين أصبح الطلب عليه كثيرا والرغبة فيه ولاسيما للتقليد أكثر مما يصاد منه. وقد عمدت أميركا إلى تنميته بالطرق الصناعية الكثيرة فلم تفلح وقضت بان يكف عن صيده ولو بضع سنين فلم يسمع لها خصوصا وأن كثيراً من الأسماك الكبيرة تسطو عليه عندما يكبر وإذا كان صغيرا فأبناء نوعه يأكلونه ولو لم يكن قليل الإمراض لفني منذ زمن طويل. وكان هذا النوع في أميركا ضعفي ما هو عليه اليوم ووزن الواحدة منه خمسة إلى ستة كيلو تباع بالواحدة إما اليوم فيباع بالوزن. ونوعه يقل كما يقل عندنا السمك البحري والنهري لأن الصيادين يصيدونه في الغالب بوضع قذائف من الديناميت تقتل كباره وصغاره والحكومة تمنع ذلك ولكن منعها حبر على ورق. الاقتصاد في الوقت من أعظم ما يشكو منه أرباب الصحف كثرة ما يرد عليهم من المقلات التافهة والعبارات الساقطة لا يعرف ذلك إلا من يعانيه ولذلك كثيرا ما يضطرهم الوقت إلى عدم إتمام قراءة ما يعرض عليهم فيدركون ضعفه لأول وهلة فيوفرون بذلك أرقاتهم. وقد شعر أرباب المطابع والمجلات والجرائد في أميركا بهذا الأمر فأصبحوا إذا لقيت إلى احد الطابعين رواية ليراها هل تصلح أم لا ينظرون إلى اسم مؤلفها فان كان ممن له شيء من الشهرة تدفع قصته إلى من يقرؤها وتكلف قراءة قصة مؤلفة من مئة إلف كلمة خمس ليرات فإذا جرى في كل قصة في إدارته نصف ريال فإذا كانت القصة من قلم من يجدر أن يقرا كتابة تدفع إلى أمين سر المحل وساعته تساوي اثني عشر فرنكا فتأمل. الحمامات عادة الاستحمام قديمة جدا ورد ذكرها في أساطير الأقدمين ويقال أن البطل هركول اليوناني بما استمتع به من القوة والعضلات المفتولة لاعتياده الاستحمام بالمياه فاشتهرت حماماته ودعي كثير منها باسمه وكذلك ديان وايزون المشهورتين في الأساطير اليونانية

فأنهما حفظا صحتها بل جعلت لهما بالمياه قوة زادت عن القوة المعتادة عشرة أضعاف. ولقد كان القدماء يعتبرون الماء البارد دواء ينجع في كل الأدواء ذكرت ذلك التوراة وأشارت إليه في مواطن كثيرة. وكان للعبرانيين حمامات منذ العهد الأقدم وهي ولا جرم ضرورية لهم لحرارة الجو في البلاد التي نزلوها وقد فرض موسى الاستحمام ولاسيما على النساء وكان المصريون يرون الاستحمام من الواجب وكذلك الآشوريون على ما تراه إلى اليوم فيما اخرج من آثار بلادهم من بقايا الحمامات وجميع أمم الشرق ترى الوضوء فرضا دينيا ومنها ديانة ماني وزردشت والإسلام. وكانت الحمامات في يونان على اختلاف أنواعها بحرية أو نهرية عامة للكل يستحم فيها من يريد والرشاش من الأمور العادية في يونان وكان لرومية حمامات فاخرة فيها أنواع الراحة من حجر للتعريق وأخرى للتمسيد وغيرها للتبريد وأخرى للدلك والتغميز. وكانت هذه الحمامات وسيما حمامات أغربيا ودبوكلسين وكاراكالا تنفع جد النفع وكثير من الرومانيين والرومانيات كانوا يستحمون في نهري التبر وكانون وكثيرا ما كان حكام رومية يطلقون ألسنتهم في إنكار اختلاط الرجال بالنساء وكان في القرون الوسطى في الغرب حمامات على اختلاف أنواعها وفي القرون الحديثة أدخلت عليها تعديلات جسيمة هذا ما قالته إحدى الصحف الإفرنجية إما حمامات الشرق فقد اشتهرت شهرة فائقة ومن أحسنها اليوم حمامات دمشق فيما نحسب وان كانت تحتاج لشيء من مراعاة قواعد الصحة كان يرجع أربابها عن استعمال المغطس يغوص فيه مئات كل يوم وفي بعضهم من الإمراض الجلدية وغيرها ما تمكن سرايته وتغسل المناشف كل مرة فلا يعطى لزيد مانشف به بدن عمرو ففي ذلك من الضرر مالا يخفى على لبيب محله فقد صار من المثل عندهم أن الشيء الفلاني مبذول لفوطة الحمام من بدن إلى بدن. المحاضرات والمسامرات أصبحت المحاضرات والمسامرات في الغرب من الأمور الطبيعية الشائعة في مجتمعاته فالمحاضرون درجات وكذلك الحضور ومنهم الوسط ومنهم العاطل والكل في الأغلب يصفق لهم تحسينا ويستمع لما يقولون استحسانا أو تصبرا أو تأدبا ويثنون عليهم في الجرائد. وهذا العلم يحتاج إلى قابلية لدنية وطبيعة كسبية ولا يجيد في

المجيدون إلا بالتدريج والاستعداد للإجادة متوقف على معلومات منوعة وأدلة لم تعرف وتفاصيل عربية جديدة والارتجال يصعب فيها فالواجب أن تعين لها خطة وحجج تجعل على نظام خاص. ويختلف المدخل والمخرج والمخرج منها باختلاف الموضوعات والأحوال وعلى المحاضر أن يتبين استحسان سامعيه له من النظر إلى عيونهم فان رآهم فرحين عرف أن لكلامه تأثير فيهم. وفي فرنسا وألمانيا وانكلترا وإيطاليا تلقى المحاضرات بدون لاحق فإذا تكلم التكلم سمع السامع أما في اليابان فان المنابر جعلت على صورة يشخص فيها المحاضر محاضرته أو مسامرته تشخصا يلذ سامعيه ويضحكهم كأن تجعل نافذة تحت رجله فتفتح وتبتلعه فيختفي عن الأنظار ويأخذ الحضور يقهقهون وفي افريقية الوسطى يتبع الخطيب خطابه بحركات متتابعة ويقف على ساق واحدة ويده اليمنى مستندة إلى ركبته المنحنية واليسرى فوق رأسه وهذا من أدوات الإقناع والتأثير في ذهن السامعين من الزنوج وحالة الحضور اضحك لما فيها من التصفيق وإشارة اليدين وفتحة الأفواه والأشداق. إصلاح اجتماعي التام في مدينة الله آباد من مدن الهند مؤتمر مثل فيه كثير من أعضاء الجمعيات الراقية الهندية فقرر المؤتمر إبطال زواج الأولاد لأن الصبيان كثيرا ما يخطبون بعض أقاربهم وهم بين الثانية عشرة والرابعة عشرة فلا يلبثون أن يتزوجوا منهن فتجيء ذرياتهم ضعيفة لا تقدر على مقاومة الطاعون ولا القحط فحدد المؤتمر سن الزواج وجعلها 16 للبنات و25 للرجال وقرر أيضا إبطال الزواج إلا من طبقات مخصوصة لأن طبقات الهنود تعد بالمئات وكل طبقة يفرض عليها أن لا تتزوج إلا من أهل طبقتها فإذا وقع وهي من الممالك الهندية المستقلة يقضي أن لا تكون سن الزواج اقل من ثماني عشرة وسن الزوجة ست عشرة. عمء العلم قالت إحدى المجلات الإيطالية أن الحكومات تشابهت منذ أربعين سنة فإذا ما نظرنا إلى التعليم العالي في الأمم على اختلاف قاراتهم نراه ينبعث من 218 مدرسة كلية 189 مجمعا علميا جامعا و 434 مجمعا علميا غير جامع و 39 مجمعا علميا (أكاديمياً) و 1363جمعية

علمية منتشرة في الأصقاع المختلفة ومنها واستراليا واسيا التي تهب من سباتها وافريقية التي تنتفض من قبور الظلمات. ولكي ندبر سرعة هذه الحركة يجب علينا أن نعتبر بان ألمانيا قد ارتقى عدد أساتذتها في المدارس العليا من سنة 1887 إلى 1908 من 2095 أستاذا إلى 3247 والنمسا من سنة 1885 - 1907 من 808 إلى 1308 وسائر البلاد تحذو هذا الحذو في ارتقائها وكذلك الحال في زيادة عدد المتعلمين وربما نما أكثر من عدد المعلمين فقد كان لفرنسا مثلا سنة 1907 - 781 طالبة في الأدب والفلسفة من الفرنسويات و 806 من الأجنبيات إما سائر الفروع فقد كان دارسوها في فرنسا 3160 طالبة منهن 1666من الفرنسيس والباقيات أجنبيات وكان لألمانيا في سنة 1908 (453) طالبة ألمانية و67 أجنبية في الفلسفة ومجموع الطاليات في الفروع الأخرى 1132 منهن 159 غير ألمانيات ولهولندا 506 طلبة ولرومانيا 440 وهكذا كثر الميل إلى التعليم العالي أكثر من زيادة عدد السكان. الاستعمار الألماني القي احد أساتذة كلية ميونيخ ومدير المدرسة التجارية العالية خطابا في سياسة الاستعمارية الألمانية قال فيه: أن ألمانيا دخلت ميدان الاستعمار منذ خمس وعشرين سنة في زمن تزايدت فيه الهجرة من بلادها أيام هاجر 540 ألفا بين سني 1880 - 1883 و875 ألفا بين سني 1881 - 1885 وكان قد مضى نصف قرن على ألمانيا وأبناؤها ينتشرون في الأرض. وادعى دعاة الاستعمار أنهم كانوا يستخدمون الهجرة بتحويل وجهة المهاجرين نحو البلاد التي يخفق عليها العلم الألماني. فقد ربحت ألمانيا من سنة 1884 - 1885 إلى سنة 1910 مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع كان فيها سنة 1910 - 20074 رجلا من البيض يدخل فيهم الجند ورجال الشرطة وهم 13662 رجلاً و3337 امرأة و3075 ولدا فإذا اخرج منهم الأجانب بقي من هذا العدد 16000 ألماني فقط. وليس للألمان اليوم حاجة للأراضي الجديدة ينزلها الفائض من بينهم كما كانوا قبل خمس وعشرين سنة فقد زاد عدد سكان ألمانيا من 45 مليون سنة 1882 إلى 65 مليونا سنة 1910 وكان يبلغ معدل المهاجرين 171 ألفا سنة 1881 - 1885 فلم يتجاوز معدله سنة 1906 - 1909 أكثر من 26893 ويستدل على أن الألماني يجد ما يعمل اليوم في بلاده وان عدد العملة قد زاد

في ربع قرن من أربعة ملايين إلى ثمانية ملايين وسدس وعدد عملة التجارة من 700 ألف إلى مليون وتسعمائة ألف وكان عدد الأجانب في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر 484423 فأصبح 1007179 سنة 1905. ومناجم فستقاليا والإعمال الزراعية الكبرى وأعمال البناء كلها تحتاج إلى عاملين في ألمانيا فيجيئها العملة من النمسا ومن روسيا بحيث بلغ عدد العملة فيها من غير أبنائها 585000 في سنة واحدة. وألمانيا تستخرج من مستعمراتها المواد الأولى اللازمة لها في صناعتها التي يعمل في صناعة القطن وحدها ثلاثمائة ألف من الألمان ومع هذا فان ما تصدره مستعمراتها إليها البالغ في السنة الماضية 70 مليون مارك أي واحدا في المائة من مجموع الواردات الألمانية فلا تصدر مستعمراتها مثلا أكثر من 800 الف مارك من القطن في حين يساوي قطنها اللازم لها 532 مليونا وليست المستعمرات الألمانية كلها صالحة الآن لسكنى البيض فإذا حذفنا مستعمرات ألمانيا في الجنوب الغربي من افريقية بلغت مساحة مستعمراتها 1، 800، 000 مليون مربع منها 5661 فقط يعمل فيها 70 ألف زنجي ويشارك الأوربيون في استعمارها واستثمارها وسكان مستعمرات ألمانيا كلهم 14 مليونا يصيب كل فرد من أهلها خمسة ماركات من الصادرات في حين يصيب الفرد في جاماييك 48 ماركا وفي ترنيداد 175 ماركا. وقد أنشا الألمان في مستعمراتهم 3526 كيلو مترا من الخطوط الحديدية و 1468 كيلو مترا آخذون بإنشائها. والصعوبة في مستعمرات الألمان أن العيش على البيض متعذر ولذلك تراهم يضطرون إلى الزواج من بنات البلاد السود فيأتي أولادهم خلاسيين وقد يكون فيهم عيوب آبائهم هذا مع أن العامل الأوربي يقبض عمالته زهاء خمسة ماركات والعامل الوطني لا ينال نصف أجرته إلا بشق الأنفس. وقد أساءت ألمانيا بسياستها العسكرية التي جرت عليها مع الزنوج فأبادت الهر وروس العصاة عن بكرة أبيهم ليحل محلهم البيض هذا وافريقية قليلة بسكانها وأرضها محتاجة لاستخراج كنوزها إلى أيد عاملة قد يتعذر جلبها من أوربا لرداءة المناخ لأن واستراليا قد جلبت من انكلترا 760 ألف انكليزي أعطوا جوائز عن عملهم أراضي يستثمرونها فكانت باعثة لهم على التوطن في البلاد. وحيثما يكثر السكان في افريقية يكتفي الأوربيون بالتجار مع الوطنيين. والمدنية الأوربية تقرض الزنوج فقد بلغ عدد من يموت من العملة السود في

الترنسفال 28 في المئة نصفهم بإمراض الكبد كما يهلك الكثير منهم ومن غيرهم بمرض النوام الذي يحاربه الغربيون ليتغلبوا على فتكاته بأدويتهم فيفيدوا الإنسانية والأمور الاقتصادية. وقد تبين بالاختبار أن سياسة الاستعمار التي ترمي إلى ملاحظة مصالح الوطنيين وتعنى بتكثير سوادهم هي نافعة من حيث الوطنية ورابحة من حيث المالية فالعمل الإجباري لا ينتج وما قط كانت له ثمرات كالعمل الحر المطلق - انتهي عن مجلة الاقتصاد بين الفرنسوية. نتائج الحروب نشرت مجلة أدلة الترقي مبحثا قالت فيه أن الأفكار العامة في أوربا اليوم اختلفت كثيراً في تصور معنى الحرب والسلام عن سنة 1880 وكثر العاملون للسلام والقائلون به والداعون إليه إذا نظر إلى الصلات الاقتصادية بين الأمم نرى أن الحروب لا تدوم كثيرا لأن الغالب يخسر كالمغلوب أو أكثر. وما الباعث الرئيسي للنجاح في الشعوب الأوربية إلا كثرة السكان والشدة في تحصيل الرزق فالإنسان مصرف لأخيه الأخر ولذلك كان العيش في البلجيك وسويسرا اشق مما هو في جرمانيا لكثرة نفوس هذه. وما تاريخ القرون الغابرة إلا فتوح طويل بطيء لاستحصال الخبز وهو إلى الآن غير مضمون الحصول للناس كلهم. إننا نسكن كتلة من التراب الموحل مساحتها 126 مليون كيلو متر مربع وفيها نحو1500 مليون من البشر والأراضي إلى عهد قريب كانت موزعة توزيعا غير معقول على السكان. إنا نسكن على هذه الأرض ويسكن معنا أنواع من الحيوانات وما قط رأينا أبناء الجنس الواحد منا يأكل بعضها بعضا ويفترس احدها الآخر. وللإسراع بالانتفاع من هذه الأرض في حاجاتنا وجب أن يكون الشرط الأول فيها أن يتفق جمهور العاملين من البشر. أن العقل يرشدنا إلى أن جهادنا عبارة عن التغلب على المصاعب والمصائب الطبيعية لا أحداث أمور من مثلها طبيعية. علينا امن نحفر أقنية ونخرق جبلاً لا أن نقيم سدودا كسدود الصين. ولذا وجب أن تزال تلك الحدود المصنعة ليعيش الناس العاملون عملا عاما. والاستعباد العسكري واستغراق ميزانيات الدول في الإنفاق على الجيوش هما من اكبر دواعي الضعف فان المدينة الأوربية تنفق في السنة عشرين مليارا من الفرنكات في هذه

السبيل فمنذ سنة 1870 انفق الغرب مبلغ خمسمائة مليار بلا طائل فلو أبطلت الحروب منذ أربعين سنة لاستطاع البشر كلهم أن يأكلوا كما يريدون اليوم. أيظن الظانون أن البشر يرضون بعد أن يعمل المرء ساعة كل يوم زيادة حتى يقف الملوك ورؤساء الجمهوريات يستعرضون الجيوش أيام الأعياد الوطنية فقد أدرك الناس اليوم أن الحرب ليست لا جناية وهي حماقة ورقاعة. ليس الجهاد في الحياة بين الأخ وأخيه بل بين الإنسان والطبيعة يذللها كما يشاء ليكون مقامنا في هذه الأرض مقبولا محمودا. وللوصول إلى هذه الحياة يجب نزع فكر الحروب من العقول وذلك بوجوه كثيرة أولها تربية الأطفال والبالغين. فإذا فكر كل إنسان كما يفكر كاتب هذه المقالة تنقلب الحال عما قريب. على أن العالم سائرون الآن للسلام وان كان على طريقة مهمة فالسبيل إلى ذلك أن يحدد حمل السلاح بحيث يؤول ذلك إلى نزعه بالتدريج وان يتحد المتجانسون من الشعوب اتحادا سياسيا فيتحد سكان الغرب من أوربا أي الفرنسيس والانكليز وتتحد الممالك البلقانية وتتحد الممالك الوسطى أي النمسا وألمانيا وتعقد معاهدات التحكيم بكثرة. لا جرم أن الأمم اليوم يقترب بعضها من الآخر بما ينشؤن من العهود ويعقدون من الوفاقات ويجتمعون عليه من السباقات والمؤتمرات والزيارات ولكن الطريقة الناجعة في ذلك أن يكون لمحكمة لاهاي الصلحية يد اقوي في إيقاف كل امة عند حد معين من التسلح وذلك بان يقاطعها كل الأمم على السواد فإذا وقع خلاف بين ألمانيا وفرنسا وكانت الأولى معتدية يعلن عليها الدول كلهن المقاطعة فلا تلبث أن تعود إلى رشدها في ثماني وأربعين ساعة على الأكثر فقد قاطع الصينيون اليابانيين والأمريكيين وقاطع العثمانيون النمساويون بتدبير إفراد منهم فكم تكون المقاطعات الدولية عظيمة إذا صدرت عن الحكومات مباشرة. طرابلس وبرقة يصدر هذا الجزء والحرب البرية البحرية يتلظى أوارها بين جيوش الدولة العلية ودولة إيطاليا لاعتداء هذه على طرابلس الغرب العثمانية بدون مسوغ دولي معقول وبهذه المناسبة رأينا إن ننقل للقراء شيئا من وصف تلك البلاد وتاريخها فنقول: طرابلس هي القسم الشرقي من بلاد البربر يحدها من الشمال البحر الرومي ومن الشرق لواء بنغازي ومصر ومن الجنوب الصحراء ومن الغرب الصحراء وتونس ومساحة

طرابلس مع بنغازي 1200. 000 كيلو متر مربع في رواية أي قدر ولاية سورية 13 مرة أو ستة أضعاف مساحة تونس ونحو ثلاثة إضعاف ونصف مساحة إيطاليا - وسكانها زهاء مليونين وهواء السواحل منها من جهة سهول برقة وما جاورها معتدل. إما في جهة الجنوب أي في فزان فالحرارة تغلب عليها وأنهارها قليلة ليست سوى جداول لأن مياهها تتبخر بشدة الحرارة وتضيع في الرمال المحرقة وأكثر شرب أهلها من صهاريج تملأ بماء السماء كان ذلك قديما ولا يزال إلى اليوم. وسواحلها منبتة في الجملة ولا سيما جهات برقة فإنها تخرج أنواع الحبوب والبقول والثمار والزعفران والحلفا البرية والتمر والبرتقال والليمون والتين والزيتون ومن سواحلها يستخرج الإسفنج والمرجان وأنواع الأسماك. ويقسم هذا الصقع بحسب التقسيم الإداري الأخير إلى ولاية ذات أربعة ألوية ولواء مستقل وهو بنغازي فلواء طرابلس يدخل فيه تسعة أفضية وهي قضاء طرابلس والنواحي الأربع وغربان وأورفلة وترهونة والزاوية وزوارة وعزيزية ويجيلات ولواء خمس وهو مؤلف من خمسة أقضية وهي القضاء ومصراطة وظلتين ومسلاطة وسرت ولواء الجبل وهو أربعة أقضية بفرين وغدامس ونالوت وفساطو ولواء قزان وهو أربعة أقضية مرزوق وسوكنة وشاطي وعات وفي هذه الولاية عشرون ناحية تنبع الأقضية وفي لواء بنغازي أربعة أقضية وهي بنغازي ودرنة ومرج وأوجلة وجابو وجداية وعشر نواح وبنغاري في المدخل الشرقي من السرت الكبرى وحاضرة برقة وتجارتها مع خانيا ومالطة ووادي في السودان الشرقي حسنة في الجملة وكان اسمها بيرنس وأشهر مدن هذا القطر اليوم طرابلس الغرب أضافوا أليها الغرب تمييزاً لها عن طرابلس الشام سميت الولاية باسمها وكانت الولاية ولا سيما قسمها الشرقي نحو بنغاري تسمى برقة قديماً ومدينة حمس على الساحل وقصر بفرين ومرزق وغات وبنغاري على الساحل ودرنة وأوجلة وهما واحتان مشهورتان. وسكان طرابلس محو أربعين ألف نسمة وسكان بنغاري زهاء عشرين ألفاً. وبرقة كما قال ياقوت اسم صقع كبير بشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وأفريقية (تونس) واسم مدينتها انطابلس وتفسيره الخمس مدن ولها ساحل يقال له أجية وساحل آخر يقال له طلموية وبين الإسكندرية وبرقة مسيرة شهر من الفسطاط (مصر) إلى برقة مائتان

وعشرون فرسخاً وهي مما افتتح صلحاً على يد عمرو بن العاص سنة 23 برقة إلى القيروان (تونس) مائتان وخمسة عشر فرسخاً قال المقدسي ومن مدن برقة ذات الحمام. رمادة. اطرابلس. أجدابية. صبرة. قابس. غافق. وبرقة قصبة جليلة عامرة نفيسة كثيرة الفواكه والخيرات والأعسال مع يسار وهي ثغر قد أحاط بها جبال عامرة ذات مزارع على نصف مرحلة من البحر في هوة قد أحاط بها تربة خمراء شربهم من آبار وما يحوونه من أمطار في جبات وهي على جادة مصر يحسنون إلى الغرباء أهل خير وصلاح واطرابلس مدينة كبيرة على البحر مسورة بحجارة وجبل شربهم من آبار وماء المطر كثير الفواكه والإجاص والتفاح والألبان والعسل واسمها كبير. وأجدابية عامرة بنيانهم حجارة على البحر وشربهم من الأمطار وسرت كذلك ولهما بواد وشعاري. وصبرة في بادية وهي حصينة بها نخيل وتين شربهم من ماء المطر. وقابس أصغر من اطرابلس لهم واد جرار وبنيانهم من الحجارة والآجر كثيرة النخيل والأعناب والتفاح مسورة باديتها بربر. وغافق ناحية واسعة كثيرة القرى والأسواق على أيام الجمعة بحرية ومن الناس من ينسبها إلى إفريقية (تونس) وذات الحمام مدينة عمرت من قريب. وكانت طرابلس من عمل تونس في القرون الأولى للإسلام ثم غلب اسمها على الكورة وأصبحت بنارة قصبتها وذلك بد ثورة برقة وغلبة الخراب عليها وقد وصف ابن حوقل الجغرافي هذه البلاد في القرن الثالث وقد زارها فقال: إن برقة مدينة وسطة ليست بالكبيرة الفخمة ولا بالصغيرة الزربة. ولها كورة عامرة وغامرة وهي في بقعة فسيحة يكون مسيرتها يوما كبيراً في مثل ذلك ويحيط بالموضع جبل من سائر جهاتها وأرضها حمراء خلوقية التربة وثياب أهلها بالفسطاط من بين أهل الغرب بحمرة ثيابهم وتغيرها ويطوف بها من كل جانب بادية يسكنها الطوائف من البربر وهي برية بحرية جبلية ووجوه أموالها جمة وهي أول منبر ينزله القادم منت مصر إلى القيروان. وبها من التجار وكثرة الغرباء في كل حين ووقت ملا ينقطع طلاباً فيها من التجارة وعبرواً عليها مغربين ومشرقين وذلك أنها تنفرد من التجارة التي ليست في كثرة من المغرب مثلها والجلود المجلوبة للدباغ والتمور الواصلة إليها من أوجلة ولها أسواق حارة

من بيوع الصوف والفلفل والعسل والشمع والزيت وضروب المتاجر الصادرة من المشرق والواردة من المغرب وشرب أهلها من ماء المطر في مداجن تدخر وأسعارها في أكثر الأوقات فائضة بالرخص في جميع الأغذية. ويليها أجابية مدينة على صحاح من حجر في مستوى بناؤها من طين وآجر وبعضها بحجارة ويطيف بها من أحياء البربر خلق كثير ولها زروع مباخس وليس بها ولا ببرقة ماء جار وبها نخيل حسب كفايتهم وبمقدار حاجتهم وواليها القائم لما عليها من وجوه أحوالها وصدقات بربرها وخراج زروعهم وتعثير خضرهم وبساتينهم هو لا ميرها وصاحب صلاتها ولها من وراء ذلك لوازم على القوافل الصادرة والواردة من بالد السودان وهي قريبة من البحر ترد عليها المركب بالمتاع والجهاز وتصدر عنها بضروب من التجارة وأكثر ما يخرج عنها الأكسية المغاربة وشقف الصوف وشرب أهلها من ماء السماء. وأوجلة منها على أيام بين غربها وجنوبها وهي بلد ذات نخيل عظيمة وغلات لتحصل منها لأهلها جسيمة ومنها إلى ودان طريق قصد هذه ناحية ومدينة في جنوب مدينة سرت وهي جزيرة لا لقصر في رخص التمور وكثرتها وجودتهاعن أوجلة. وسرت مدينة ذات سور صالح كالمنيع من طين وبها قبائل من البربر ولهم مزارع وهي على البحر ترد عليها المراكب بالمتاع وتصدر به عنها من جهاز الصوف ما لا يقصر عن أجدابية وبرقة. وأما طرابلس فكانت قديماً من عمل إفريقية وسمعت من يذكر أن عمل إفريقية لما كانت طرابلس مضافة إليها معروف معلوم وذلك أنه من صبرة وهي منزل من طرابلس على يوم وهي مدينة من الصخر الأبيض على ساحل ابحر خصبة حصينة كبيرة صالحة الأسواق واسعة الكورة كثيرة الضياع والبادية وارتفاعها دون برقة وبها من الفواكه الطيبة اللذيذة الجديدة الشبه بالمغرب وغيره كالفرسك والكثري اللذين لا شبه لهما في كثير من المواضع وبها الجهاز الكثير والصوف المرتفع وطيقان الأكسية الفاخرة الرزق النفوسية الرفيعة الثمينة إلى مراكب تحط عليها ليلاً ونهاراً وترد بالتجارة على مر الأوقات والساعات صباحاً ومساءً من بلد الرزم وأرض المغرب بضروب الأمتعة والمطاعم وأهلها قوم موقرون من بين من جاورهم متميزين بالتجمل في اللباس وحسن الصورة والقصد في

المعاش إلى مروات ظاهرة وله عشرة حسنة ورحمة مستفيضة ونيات جميلة إلى مراء لا يفتر وعقول مستوية وصحة بنية ومعاملة محمودة ومذهب في طاعة السلطان سديد وراطات كثيرة ومحبة للغريب وثيرة ولهم في الخير مذهب من طريق العصبة لا يداينه أهل بلد. وأما قابس فإنها ذات مياه جارية وأشجار متهدلة وفواكه رخيصة ولها من التمر والزروع والضياع ما ليس جاورها من زيتون وزيت وغلات وعليها سور يحيط به خندق ولها أسواق وجهاز كثيرة ويعمل بها الحرير ويدبغ بها الجلود وينئابها التجار ولها صدقات وزكوات وضرائب وجوال على اليهود وسائمة كبيرة أه -. وقال اليعقوبي في كتاب البلدان: وحوالي برقة أرباضص لها يسكنها الجند وغير الجند وفي دور المدينة والأرباض أخلاط من الناس وأكثر من بها جند قدم قد صار لهم الأولاد والأعقاب وبين مدينة برقة وبين ساحل البحر المالح ستة أميال وعلى ساحل البحر مدينة يقال لها أجية وساحل آخر يقال له طليمشة. وبرقة أقاليم كثيرة تسكنها بطون من البربر ولها المدن برنيق وهي على ساحل مدينة البحر المالح ولها مينا عجيب في الإتقان. والجود تجوز فيه الراكب وأهلها قوم من أبنائ القدم الذين كانوا أهلها قديماً وقوم من البربر ومن مدينة أجدابية إلى مدينة سرت على ساحل البحر المالح خمس مراحل وآخر حد برقة على مرحلتين من مدينة سرت بموضع يقال له تورغة وخراج برقة قانون قائم كان الرشيد وجه بمولى يقال له بشار فوزع خراج الأرض بأربعة وعشرين ألف دينار على كل ضيعة شيء معلوم سوى الأعشار والجوالي خمسة عشر ألف دينار بما زاد وربما نقص والأعشار للمواضع التي لا زيتون بها ولا شجر ولا قرى مقراة. ولبرقة عمل يقال له أوجلة وهو في مغزة مغر لمن أراد الخروج إليها ينحرف إلى القبلة صم يضير إلى مدينتين يقال له لإحداهما جالو وللأخرى ودان وهذه من أعمال برقة المضافة ومن مدينة شرت إلى وادي مما يلي القبلة خمس مراحل ووراء ذلك بلد زويلة مما يلي القبلى وسكانها أباضية أي خوارج وفران جنس يعرق بقزان أخلاط من الناس لهم رئيس يطاع فيهم وبلد واسع ومدينة عظيمة وتسمى برقة انطابلس هذا اسمها القديم. وبعد فهذا من أحسن ما وصفت به طرابلس وبرقة ومنه درجة عمرانها في القديم أما اليوم فقد قال واصفوهما فيهما بأنهما مختلفة أحوالهما باختلاف كورهما فسواحل الشمال من

سرت مقفرة ومن الشرق خضراء نضرة وهي برقة ومن نحو فزان مصخرة. وبلاد طرابلس أشبه بالصحراء وفي الساحل مناجم الكبريت وفي بحيرة قزان المالحة النطرون وشجر الحلفا ببناء تجارة الإنكليسز والصناعات محصورة في المدن الكبرى مثل طرابلس وبنغاري واشتهر بالتجارة سكان وغدامس وكانت القوافل تسير من طرابلس إلى داخلية إفريقية تحمل الأقمشة والخردوات والأسلحة والزجاج والبارود وتعود منها بالعاج والجلد والصمغ والشمع وريش النعام والتبر. وسكان طرابلس مزيج فالبربر ينزلون الجبال والعرب السهول ويكثر فيها الزنوج لأن سوق الرقيق قبل إبطاله كانت فيها رائجة وفيها نحو خمسة آلاف مالطي لقرب سواحلها من جزيرة مالطة وهم منتشرون في المدن الساحلية كما أن فيها زهاء ألف إيطالي ومحو خمسة آلاف يهودي أكثرهم في السواحل وليس في أخل البلاد مسيحيون أصليون وكانت طرابلس من أهم المدن التجارية ومنها كانت تسير القوافل المهمة إلى داخلية إفريقية فما برج الفرنسيس منذ استولوا على تونس يحاولون سلبها هذا المركز حتى فقدت مركزها التجاري وتحولت وجهة القوافل إلى تونس وخصوصاً بعد أن عمرت إنكلترا أعالي النيل والسودان الشرقي وفتحت الطرق الجديدة إلى بحيرة تشاد من النيجر والكنونغو فلم تعد برقة مركز الاتصال بين الساحل واواسط إفريقية. وكان اليونان في القرن السابع بل الميلاد أشأوا مدينة برقة متخيرين لها لجودة هوائها وغناها وازهرت على أيامهم كما أزهرت قرطاجنة واغتنى أهل برقة بتجاراتهم الواسعة مع داخلية إفريقية إلا أنهم انصرفوا إلى اليذخ والرفاهية فاضمحل عمرانهم بعد أن أخرجت برقة مثل أرشيب الفيلسوف وكاليماك وأيراتوستين وخلف بنوها من الآثار التاريخية التي تدل على عظمتها اليوم خرائبها المدهشة. وتاريخ طرابلس الغرب القديم غارق في ظلمات الخلفاء لا يعرف عنه إلا أن البربر بعض سكانها الحاليين كانوا فيها. وقبل المسيح ببضعة قرون كانت أنحاء طرابلس بيد الفينيقين وقسم منها للقرطاجيين أما جهة برقة فاتخذها اليونان مهجراً كما يهاجرون اليوم سواحل مصر وغيرها، ولقد أنشئت في جهات طرابلس ثلاثة بلاد (تربوليس) ومنها اشتق اسمها فقال العرب طرابلس وأنشأ اليونان في جهة برقة خمس قصبات سموها يندابوليس ثم صار

حكم طرابلس إلى يد حكام البرب في توميديا بعد سقوط دولة القرطاجيين واستولى البطالسة المصريون على برقة ثم استولى الرومان على كل من إقليمي برقة وطرابلس ووسعوا تخوم حكومتهم إلى قزان وغدامس. كانت طرابلس الغرب وجهات الشرق من تونس والجزائر معروفة عند الرومان باسم إفريقية وكذلك أطلق العرب على هذه الأصقاع اسم إفريقية. ولما تخلى الرومان عن هذه البلاد استولى عليها الروم اليزنطيين وفتحها عقبة بن رافع في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ثم استولى عليه الأمويين وبقيت مدة في يد بني الأغلب على عهد العباسيين ثم حكمها الفاطميون وكانت معقلاً من معاقل الخوارج ولذلك كانت فيها أيام مشهودة ولم يزل في بعض أنحائها بقايا منهم. ولقد تألفت فيها عدة حكومات صغيرة وبعضها كان مهماً على عهد الإسلام وأكثر ما تكون طرابلس تابعة لتونس في حكومتها وعلى عهد السلطان سليان خان استولة على طرابلس طغورت باشا مسترداً لها من فرسان مالطة وكانوا استولوا عليها بعد أن سقطت الأندلس في أيدي الإسبان فالحها هذا القائد بالمملكة العثمانية ودامت تدار شؤنها دهراً على صورة أيالة صم أقطعت لأسرة فره مانلي فلم يلبث أن استحكم الخلاف بين أفرادها فأرسلت الدولة سنة 1208 أسطولا ووالياً من لدنها ضبط البلاد. وفي سنة 1092 بعثت اسبانيا أسطولا إلى طرابلس فكادت تتغلب عليها لأن قلاعها يومئذ لم تكن فيها القوى الكافية فلما رأى الوالي عجزه عن المقاومة اتفق مع الأسطول على دفع غرامة حربية على عهد السلطان أحمد الثاني رفض الوالي الصلح الذي أبرمه سلفه مع حكومة اسبانيا فبعثت خمسة عشر مركباً بقصد احتلال طرابلس فاتفق الأهالي مع العساكر وتغلبوا على الأطول المذكور وفي سنة 1217 قدمت أساطيل أميركيا لطرابلس لأن أسطولها كان يعاكس مراكب أميركا التجارية ويغنم منها كثيراً فطلب قنصلها من يوسف باشا قره مانلي تعيين ضريبة تقدمها حكومة أميركا إلى حكومة طرابلس في كل سنة فعين ضريبة عدها القنصل خارجة عن الحد فطلب تخفيضها بواسطة والي الجزائر فرفض يوسف باشا وساطته وأصر على طلبه فمكث أسطول أميركا عشرين يوماً يرمي طرابلس بالقنابل وقلاعها ترميه ثم رجع بعد أن غنمت حكومة طرابلس جزءاً منه وفي كل هذه

المواقع كانت تشترك الأهالي مع العساكر في الدفاع. ثم انتقض أهلها فاستعاد الأمر يوسف باشا وحكن البلاد إلى سنة 1248 ثم اضطر لاستقالته من حكم فأصبحت البلاد في حال اضطراب وهاجمها بنو سلميان من القبائل المشهورة مرات ونهبوها ثم عاد الأهلون فطلبوا إنقاذهم من شرور الاختلاف فبعثت الحكومة أسطولاً فضبطت القلاع على أيسر سبيل ثم عينت لها والياً. وكانت قزان من القديم تتبع طرابلس وتتبع أحياناً حاكم السودان وأحياناً شرفاء مراكش وبعد أن ضبط طغورت باشا طرابلس ألحق قزام بها. وهذه الولاية الواسعة أو المملكة العظسمة ليس فيها شيء من الطرق المعبدة ولا من السكك الحديدية ولا تعرف الخزانات ولا أسباب الري وتكثر الأشجار ولانبات وتربية الحيوانات. تحمل بضائعها على الجمال وتقصد قوافلها ولا سيما قبل أن يستأثر الفرنسيين بها لتونس من تمبوكتو في أقاصي بلاد السودان مارة بواحات غات ومرزوق وغدامس أما مواصلاتها البحرية فلا يرمي في موانيها في الولاية غير البواخر الأجنبية ونصفها أو أكثر يحمل الأعلام الإيطالية ثم يجيء الإنكليز والفرنسيين وسائر الدول بكثرة مراكبهم وتبلغ تجارة طرابلس السنوية زهاء مليون ليرة منها 550ألف للواردات و460ألف ليرة صادرات منها 23ألف صادرات للبلاد العثمانية و42ألف ليرة واردات منها ولإنكلترا المقام الأول بين الدول بوارداتها البالغة 57ألف ليرة وصادراتها التي تبلغ 88ألف ليرة ثم تجيء فرنسا فالولايات المتحدة فالنمسا وقد بلغت مداخيل الحكومة منها سنة 323أش 16. 600. 000غرش. السكك الحديدية الصينية تقيم الصين الآن سكة حديد من عاصمتها بكين إلى كالقان مارة ببلاد المغول التي اجتازها التاتار في غاراتهم ولا تزال تجتازها القوافل وسيلتقي هذا الخط بخط ما وراء سبيريا الروسي ويختصر المسافة بين أوربا والشرق الأقصى بضع مئات من الكيلومترات. ومن الغرب أنه تم من هذا الخط حتى الآن زهاء مائتي كيلومتر وجميع العاملين فيه صينيون ونفقاته من دخل بعض الخطوط الصينية الأخرى وقد بدأ هذا المشروع يربح ولذا عزمت حكومة بكين أن لا تعهد لأجنبي مهما كان أن يمد لها خطوطاً من هذا النوع وبذلك

يقصتد المتعهدون من أجور اليد العاملة اقتصاداً كبيراً لأن الصيني يرضى بأجر أقل من أجر الأوروبي والأمريكي ويتبارى أبناء البلاد في العمل مدفوعين إلى تجويده بعامل الوطنية والصينيون اليوم يستخرجون من أرضهم الفحم الحجري اللازم لخطوطهم وليسوا الآن في حاجة لغير القاطرات يستصنعونها في أميركا ولكن يستغنون عنها عما قريب بما تنتجه مصانعهم فمتى تكون البلاد العثمانية وهي صاحبة الحضارات القديمة والذكاء الخارق كذلك. الهيتيون قال المجلة: دخلت دراسة الحضارات القديمة في آسيا الصغرى في دور جديد فقد تألفت جمعية ووضع لها دخل للإنفاق عليها من أجل إجراء الحفر في بلاد الهيتين والبت بتاً عملياً في علاقتهم مع شعوب يونان القديمة وسكان سواحل بحر إيجه (الأرخبيل) فإن مسألة الهيتين تهم في الدرجة الأولى علم الآثار وأصول الشعوب والجتماع. وإن هذا الشعب البائد كان مدة قرون منتشراً في آسيا الصغرى وسورية كما يستدل من الكتابات ومع هذا لم يعرف إلا بما أشارت إليه التوراة من الإشارات. ومنذ ثلاثين سنة أبان بحث علماء الشرقيات بحثاً عملياً أمثال الأستاذ سايس والدكتور وبرغت أن شعباً معاصراً للفراعنة كان ينزل حوض قزل ايرمق والفرات استولى عليه الكلدانيون مذ الزمن الأطول فاقتبس منه بعض أوضاعه المدينة التي كانت لها صبغة إقطاعية وكان الهيتيون قبل المسيح بعشرين قرناً مختلفين مع بابل ويمدون تخوم بلادهم إلى جنوبي سورية وإلى تخوم مصر التي نشب بينهم وبينها حرب على عهد رعمسيس الثاني. وفي القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد استولوا على جزء عظيم من آسيا الصغرى. وكان الآشوريون يدعونهم خاتيس والعبرانيون حتى ختين - ودمروا في قرون ولم يبق منهم إلا تذكارهم أيام فتح الإسكندرية وامتزجت بقاياهم بالآراميين أو لجأوا إلى مضائق جبل طوروس. وقد اكتشفت في خرائب مصانعهم القديمة ألواح كثيرة من الخزف كانت لهم بمثابة سجلات ولكن معظمها مما يصعب حله وليس للعلماء عنهم من المعلومات الحقيقية إلاى ما كان من الآثار المكتوبة بالخط الآشوري لتثبت عظمتهم أوائل الألف الأولى السابقة لمملكة الرومان بما كان من الأبحاث الحديثة فيهما حل مسألة تشغل العلم كثيراً ويعتبر الهيتيون اعتبارات

بأنهم أقدم الشعوب المتمدنة. إنكلترا والشاي تكثر إنكلترا من تناول الشاي سنة بعد سنة ففي إحصاء سنة 1909 إنه يبلغ مشروبها منه 140مليون كيلو غرام يصيب الفرد منها ثلاثة كيلو غرامات ومعظم هذا الشاي تجلبه إنكلترا من بلاد الهند يبذل 160مليون فرنك يلزم لها ثلاثة ملايين ونصف من الفرنكات ثمن ورق ومقوى لوضع الشاي فيه لعدل قيمتها بثمانية ملايين فرنك. فن تكثير السمك. إن في تنمية الأسماك الجارية والغدران في البلاد تنمية ثروتها الاقتصادية بيد أن دخول الحضارة في كثير من الممالك زهد في تربية الأسماك وقليل في الأقطار ما عنيت عناية حقيقية بالأسماك واتخاذ الذرائع لتنميتها وأهم مصاب الأنهار لاستخراجها الأسماك في العالم في النيوات أحدى ولايات أميركا الشمالية وفيها مصب نهر المسببي العظيم وطوله من 500إلى 600كيلو متر ووضعه الجغرافي وأسبابه الطبيعية تجعله صالحاً لتكثير الأسماك وتتغذى جميع تلك الولاية من أسماكه ووزم ما يستخرج منه سنة عشرة سلايين كيلو تقدر بنحوا أربعة ملايين ويستخدم 1767 رجلاً في صيدها.

رسالة في أسماء الأضداد

رسالة في أسماء الأضداد بسم الله الرحمن الرحيم حامداً لمن خلق الأشياء أضداد. . . ومصلياً على نبي نهى الناس عن اتخاذ لله أنذاراً وعلى عترتة وأسرته الممدين. امداداً. وبعد فلما اشتملت العربية على كلمات للدلالة علي الضدين وغفل عنها من أغفل تصفح اللغات ألتقطها حسب الاستطاعة. وجمعتها مرتبة ترتيب البضاعة. أستبضع بها في اكتساب الامتياز بين أولي النهي ورباب الدهى وتتبين الأشياء بأضدادها ومن الله العصمة عن الوصمة. (مقدمة) قال الكيا المشترك يعق على ضدين كالجون للأبيض والأسود وعلى مختلفين كالعين وقال ابن فارس من رأب العرب تسمية الضدين باسم واحد نحو الجون وأنكر ذلك ناس وليس بشيء فإن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً والفرس طرفاً هم الذين رووا أنهم يسمون المتضادين باسم واحد. الهمزة: (ثاثاً) الإبل أرواها وعطشها وثأثأت الإبل عشطت ورويت ضد لازم ومنعد (جفا) الباب أغلقه وفتحه ضد (خجيءَ) بالحجمة استحي وتكلم بالفحش ضد (دارأته) دافعته ولاينته ضد (ناء) نهض بجهد ومشقة وبالجمل نهض مثقلاً وبه الحمل أثقله وأماله كإناء وفلان أثقل فسقط ضد. الباء: (أترب) كثر ماله وقل ضد (أجلعب) الرجل اضطجع والإبل مضت جادة ضد (الحوشب) الثعلب الضامر والمنتفخ الجنبين ضد (خشب) في الصحاح خشب السيف أحكم عمله وصقله وخشبه لم يحكم عمله ولم بصقله وفي القاموس خشبة خلطة وانتقاه والسيف صقله وطبعه (أرتاب) شك وقال أبو علي تيقن ضد إذ يكون شكاً ويقيناً ذكره الطرطوشي في قوله تعالى إن أرتبتم فعدتهن الآية (الساقب) القريب والبعيد ضد (شرب) عطش وروي وأشرب سقى وعطش (شعب) الشيء أصلحه وأفسده ضد وأما شعب بمعنى افترق واجتمع فليس بضد بل كل حرف منهما لغة لقوم ومن شرط الأضداد اتحاد اللغة (الصقب) كلقب القرب والبعد ضد (أضب) صلح وتكلم وعَلَى ما نقل سكت ضد (الطب) الداء والدواء ضد في المثلث للبطليوسي (الطرب) محركة الفرح والحزن ضد في الأساس هو خفة من سروراهم (اطلب (في الأساس طلب مني فأطلبته فاسعفته وألبه الفقر أحوجه إلى الطلب

(استعتبه) أعطاه العتبي كالعتبة وطلب إليه العتبى ضد (العجباء) هي التي يتعجب من حسنها ومن قبحها ضد (استعذبه) استحلاء وامتنع عنه كضد (الإعراب) الفحش وقبيح الكلام والدرء عن القبيح ضد (التاب) كغراب الجبل الأسود الصغير المستدير والطويل ضد (العنبان) محركة النشيط الخفيف والثقيل من الظباء ضد (التغريب) الإتيان بأبناء بيض وبأبناء سود ضد (المغلب) المغلوب مراراً والمحكوم له بالغلبة عَلَى أقرانه ضد (قرضب) اللحم جمعه في البرمة والشيء فرق ضد سيف (قشيب) مجلو وصدئ وثوب قشيب جديد وخلق ضد (قعب) له العطية أجزلها وقعب له فعبة أعطاه (ضد (قاب) هرب وقرب ضد (اللجبة) كوجبة وقصبة وخربة وعنبة الشاة القليلة واللبن والغزيرة ضد (أنجب) جاءَ بولد شجاع وجبان ضد (النخب) الموت والأجل كضد (نصب) الشيء وضعه ورفعه ضد (الوثب) القفز القعود بلغة كضد (الوغب) الضعيف البدن والجمل الضخم ضد (الهلوب) هي المقتربة من زوجها والتجنبة منه ضد (تهيب) الشيء ضد في المزهر. التاء: (لامت) في القاموس هو المكان المرتفع والتلال الصغار والارتفاع والإنخفاض ضد (السبت) حلق الرأس وإرسال الشعر عن العقص. الثاء: (أفعث) له العطية أجزلها وقعث له أعطاه قليلاً ضد (ألالوث) المسترخي والقوي ضد. الجيم: (الزوج) الذكر والأنثى ضد (الفائج) الناقة الحامل والحائل ضد (الإفجيج) الوادي الواسع والضيق ضد. الحاء: (جمح) أسرع وأبطأ ضد (الزوج) تقريق الإبل وجمعها ضد (السبح) النوم والسكون والتقلب والانتشار في الأرض ضد (الشحشح) من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر والذي يسيل من أدنى مطر ضد (المشيح) الجاد والحذر ضد (قرجان) من الأمر وقراحي خارج ومن لم يشهد الحرب كالقراي ومن مسته القروح ضد (كثح) الشيء جمعه وفرقة ضد (المسيح) المبارك والملعون ضد يعني بالمبارك مسيح الهدى والملعون مسيح الهدى عيسى عليه السلاح وبالملعون مسيح الضلال الدجال (النحاحة) السخاء والشح ضد (نشح) نشحاً ونشوحاً شرب دورن الري أو حتى امتلأ ضد (يج) الله عظمه شدده ورضضه ضد. الخاء: (الصاروخ) المغيث والمستغيث ضد (الصريخ) صوت المستصرخ والمغيث ضد.

الدال: أسد كفرح دهش عند رؤية الأسد صار كالأسد (أفد) كفرح أسرع وأبطأ ضد (بعد) يمعنى قبل في قوله تعالى من بعد الذكر (جعد) للكريم وإذا أضيف إلى البنان أو الأنامل أو الكف فلبخيل في الأساس وأما قولهم لكريم جعد فمن الكناية عن سخياً عربياً لأن العرب موصوفون بالجعودة (أساد) ولد سيداً وأسود ضد وأسود عَلَى الأصل مثله (سجد خضع وانتصب (صبرد) السهم أخطأ ونفذ حده ضد (صعد) في الجبل وعليه علاء وفي الودي انحدر ضد (صفد) العطاء والوثاق ضد (الصماريد) الننم السمان ولمهازيل ضد (الضد) خيار الغنم ورذالها وفي الزهر صالجة الغنم وطالحتها ضد (الصمود) الناقة الكثيرة اللبن والقيليلة (أده) داواه من الصيد وآذاه ضد (الضمد) ركب الشجر ويابسه ضد (المعبد) المذلل والمكرم ضد (العيد) واحد الأعياد وعادك عيبد أي نزل بك حرم كضد (غمدت) الركية كثر ماؤها وقل ضد (أفاد) بذل المال واستفاده ضد (القعدد) القريب الآباء من الجد الأكبر والبعيد والآباء منه ضد (أشحذ المطر أقلع ودام (الصد) شدة البرد ضد (انجادة) السخاء والتح ضد في المزهر (النجدة) القتال والشجاعة والشجاعة والهول والفزع الظاهر أنه ضد (الناشد) طالب الضالة ومعرفها ضد الغزيرات اللبن من الإبل والتي لها ضد جمع نكداء (وطد) الشيء أثبته وثقله ضد والشيء رسا وسار ضد (الهاجد) المصلي بالليل وأثائم ضد (تجهيد) نام واستيقظ ضد فلان (هد) قال اين الإعرابي هو الكريم الجواد وأما الجبان الضعيف فهو الهد شبه ضد (أهمد) بالمكان أقام وفي السير أسرع ضد. الذال: (الحذاء) قصيدة فيها الحذذ وهو سقوط وتد مجموع من البحر الكامل من متفاعلن فينتقل إلى فعلن والقصيدة السائرة التي لا عيب فيها ضد (الخنذيذ) هو الفحل والخصي ضد (المخاوذة) هي المخالفة والموافقة ضد. الراء: (الأرز) هو القوة والضعف ضد (أبتر) أعطي ومنع ضد (البشارة) مطلقة لا تكون إلا بالخير ومقيدة لا تكون إلا بالشر فيشرهم بعذاب أليم (البهيرة) هي السيدة الشريفة والصغيرة الخلق الضعيفة ضد (ثغر) كمنع ثلم والثلمة سدها ضد (أثغر) الغلام ألقي ثغره ونبت ثغره ضد (الجبر) الملك والعبد ضد (جعقر) هو النهر والصغير والكبير الواسع ضد (الحرور) هي الريح الحارة بالليل وقد تكون بالنهار (حزور) هو الغلام القوي والضعيف ضد (الأحمر) ما لونه الحمرة والأبيض ضد (خشر) أبقي عَلَى المائدة الخشارة ونفي

الخشارة ضد (الخطر) كالشرف الأشرف عَلَى المكروه والقدر والمنزلة ضد (أم خنورة) النعمة والداهية ضد (الذفر) كل ريح ذكية من طيب أونتن ضد (المسجور) الموقد والساكن ضد (السادر) هو التحير ومن لا يبالي ضد (أسر) الشيء كتمه وأطهره ضد يقال ألقى عليه (شراشره) أي ثقله وحماه ضد (الصفرة) بالضم معروفة والسواد ضد (أعذر) أبدي عذراً وقصر ولم يبالغ وهو يري أنه مبالغ كضد (التعزيز) ضرب دون الحد والتوقير وتعزروه وتوقروه (غبر) مضي وبقي (القطرة كفرحة (؟) الناقة اللاحق والحائل ضد (قصر) الطعام قصوراً نما وغلا ونقص ورخص. الزاي: (الحوز) هو السوق اللين والشديد ضد (عز) أن يفعل كذا وعز ضعف ضد (الفوز) النجاة والهلاك ومنه المفازة للمهلكة والمنجاة في القاموس فأزمات ومنه نجاوبه ظفر. السين: (الرس) الإصلاح بين الناس والإفساد أيضاً ضد (عسعس) الليل أقبل ظلامه قال الفراء أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر_أمرس) مرس الجبل إذا وقع في أحد جنبي البكرة مرساً فإذا أعدته إلى مجراه قلت أمرسته وإذا أنشبته بين البكرة والقعو قلت أمرسته وهو ضد عن يعقوب (الميعاس) الأرض لم توطأ والطريق ضد (الويس) الفقر وما يريده الإنسان ضد. الشين: (الرعشيش) بالكسر الجبان والسريع إلى القتالي ضد الرمشاء هي الربشاء أي الكثيرة العشب والجدية من صفات الأرض ضد الروش الأكل الكثير والأكل القليل ضد الفياش المتكبر المعجب والسيد المفضال ضد. الصاد: قلص ماء البئر ارتفع بمعنى ذهب ومعنى تصعد لجومه انتهى فهو ضد. الضاد: أرض أبطأ وثقل وعدا شديداً غرض الحوض ملؤه والنقصان عن الملء ضد. الطاء: الأشراط الأرذال والأشراف قال يعقوب هذا الحرف ضد قسط جار وعدل حكى بان السكيت في الأضداد عن أبي عبيدة بالألف عدل لا غير هبط قا لالمفضل الهبوط الخروج عن البلد ودخولها أيضاً فهو من الأصل من قطف الأزهار للسيوطي. العين: باع بعت الشيء شريته وبعته أيضاً اشتريته وفي الصحاح شريت أي بعت في بد (كذا) الثعلة ما ارتفع من الأرض وما انهبط عن أبي عبيدة خلع ثوبه وعليه أعطاه خلعة الزمعان مجركة خفة الأرنب وسرعتها والمشي البطيء وفعله كمنع ضد السيمع السامع

والمسمع طلع عليهم غاب عنهم حتى لا يروه وأقبل عليهم حتى يروه فرع الجبل صعد وفي الجبل انحدر المفرع المصعد في الجبل والمنحدر الفزع الذعر والغوث ضد أفزع الإفزاع الإخافة والإغاثة أيضاً يقال إليه فأفزعني أي لجأت إليه من الفزع فأغاثني فزع فلاناً خوفه وعنه كشف عنه الخوف أقرع إلى الحق رجع وذل وامتنع القنوع هو السؤال والتذليل قال أهل العلم أن القنوع قد يكون بمعنى الرضى فهو من الأضداد الإفناع يكون رفعاً وخفضاً مقنعي رؤوسهم رافعيها من الأضداد أودع قال الكسائي لقول أودعته حجالاً دفعته إليه يكون وديعة عنده وأودعته أيضاً إذا دفع إليك مالاً يكون وديعة عندك وقبلتها وهو من الأضداد. الفاء: الخلوف حي غيب والحضور المتخلفون خاف بمعنى توقع من قبلهم أخافأن يرسل السماء السدمة الظلمة والشرة عند بعضهم وبعضهم يجعلها الظلام والضوء كوقت مابين طلوع الفجر والإسفار الشف هو الفضل والنقصان ضد العرف الريح طيبة كانت أو منتنة يقال عرف المسك تنصف خدم وفلاناً استخدمته ضد توذف وهو الأسرع عن أبي عبيدة ومريتوذف إذا مر يقارب الخطو ويحرك منكبيه من الصحاح وفيه إبطاء اليهفوف الجبان ويقال لحديد القلب من الصحاح ضد. القاف: المحاذيق الإبل الضمر والسمان ضد دهق الكأس ملأها وكأس دهاق والماء أفرغه ضد (سبقته بالتشديد أخذت منه أسبق وهو الذي يتراهن عليه المتسابقان وسبقته أيضاً أعطيه السبق قال الأزهري وهذا من الأضداد صفق الباب رده وأغلقه وفتحه المفرق كمحن القليل اللحم والسمين ضد فوق بمعنى دون بعوضة فما فوقها لمق الشيء لمقأ كتبه في لغة عقيل ومحاه في لغة أبي قيس ولعله لغة في نمق عَلَى أن اتحاد شرط في الأضداد. الكاف: إليك هو التفرق والازدحام كأنه ضد. اللام: (البسل) الحلال والحرام (الجلل) العظيم والصغير (حال) في متن فرسه وثب وعنه سقط واستوى على حال متنه (أزعله) نشطه ومن مكانه أزعجه (الشمل) ما جمع من الأمر فرق الله وما تشتت منه جمع الله شمله (الكل) بالضم اسم لجميع الأجزاء وقد جاء بمعنى يعض ضد (كلل) في الأمر جد وعن الأمر أحجم وجبن ضد (مثل) مثولاً قائماً وزال عن موضعه وتمثل مثله وفي الصحاح لعلي بالأرض وهو من الأضداد (تمهل) أتأد وتقدم النبل

الكبار والصغار انتبل مات وقتل ضد النجل يطلق على الولد والوالد فهو من الأضداد من نواهد الأبكار للسيوطي مصل السهم إذا خرج منه النصل وإذا ثبت نصله فلم يخرج نصل بالتشديد نزع النصل وركبه الناهل الريان والعطشان ضد. الميم: الجعشم كقنفذ وجندب القصير الغليظ والطويل الجسيم ضد الأدهمالأسود والجديد من الآثار والقديم ضد السلم ويطلق على اللديغ تفاؤلاً بسلامته سام البائع السلعة عرضها للبيع وسلمها المشتري شام السيف شيماً أغمده وسله وهو من الأضداد من إصلاح المنطق الصريمهو الليل المظلم والصبح الغريم الذي عليه الدين وقد يكون للذين له قامت السوق نفقت وركدت. النون: (بين) للقطع والوصل ضد (الجون) الأبيض والأسود والجونة الشمسي قال تبادر الجونة أن تغيبا دون بمعنى فوق في الأساس هذا ذاك أي أخس منه ودونه خرط القتاد إلي أماه وجلس دونه إي تحته المنة القوة والضعف. الواو: الرتو الشد والإرخاء الرهوة الارتفاع والانحدار الرجاء هو الأمل والخوف ألا قصر الشد واستطاع القفوة الخيرة والتهمة فلان قفزتي أي خيرتي وتهمتي عفا درس ومنه العفو وهو محو الجريمة وكثر حتى عفوا. الهاء: النبه من الأضداد يقال للضائع نبه وللموجودين نبه. الياء: الجادي السائل والمعطي أخفى الشيء كتمه وأظهره أكاد أخفيها الدواعي البواعث وصروف الدهر أرأى أرءاه صار ذا عقل وتبينت فيه الحماقة ضد الزبية هي المكان المرتفع وحفر الأسد جاءني سواؤه أي نفسه وغيره الشرى خيار المال ورذاله جمع شراة شرى الشيء باعه وشروه بثمن بخيس في الصحاح شريت أي بعت في برد (كذا) واشتراه أشكاه مله على الشكاية وأزال شكواه غبيت الكلام وغبي عني ليلة غاضية أي مظلمة ومضيئة أكرى زاد ونقص انتدى القوم وتنادوا اجتمعوا والشيء تفرق وراءه خلفه وقد يكون بمعنى قدام فهو من الأضداد وكان وراءهم ملك ولى أقبل وأدبر الونى كفتى التعب والفترة هوى من الجبل صعد والله أعلم وإليه يصعد الكلم الطيب.

بين الفيحاء والشهباء

بين الفيحاء والشهباء عمل حلب وحدودها أجمع الجغرافيون من العرب والإفرنج أن حد الشام من عريش مصر إلى الفرات ومن البحر الرومي إلى جبال طي ولكن مما يشوش الذهن أن جميع أعمال حلب اليوم هل هي داخلة حدود سورية أم بعضها خارج عنها يعد من آسيا الصغرى فقد قال بوليه في معجمه الجغرافي التاريخي أن حد سورية شمالاً إلى آسيا الصغرى من خليج اسكندرونة إلى نهر الفرات وشرقاً نهر الفرات والبادية إلى بلاد العرب وجنوباً قسم من العربية يسمى بني إسرائيل إلى تخوم مصر وغرباً إلى البحر المتوسط على هذه التخوم من الشمال إلى الجنوب نحو سبعمائة كيلومتر وعرضها من الغرب إلى الشرق نحو أربعمائة وخمسين كيلومتراً وهذا التعريف يدل على عمل حلب الحقيقي خصوصاً ويؤيده قول صاحب الخربدة أو الرها (أورفة) معدودة من الجزيرة لا من حلب قال أبو زيد البلخي فشرقي الشام غربي الفرات وغربي السام ساحل الروم وشماله جبال الروم وجنوبه فلسطين والأردن وبعض البادية قال إبن حوقل وأما الشام فإن من غربيها بحر الروم وشرقيها البادية من أيلة إلى الفرات ثم من الفرات إلى حد الروم وشماليها بلاد الروم أيضاً وجنوبيها حد مص وتيه بني إسرائيل وآخر حدودها مما يلي مصر رفح ومما يلي الروم الثغور المعروفة كانت قديمة بالجزرية وهي ملطية وأذنة وطرسوس وقد جمعت الثغور إلى الشام وبعض الثغور يعرف بثغور الشام وبعضها يعرف بثغور الجزيرة وكلها من الشام وذلك أن كل ما كان وراء الفرات فمن الشام وإنما سمي من ملطية إلى مرعش ثغور الجزيرة لأن أهل الجزيرة بها كانوا يرابطون وغزون منها لأنها من الجزيرة وكور الشام هي جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين والعواصم والثغور وبين الشام وثغور الجزيرة جبل اللكام وهو الفاصل بين الثغرين وجبل اللكام جبل داخل في بلد الروم ويقال أنه ينتهي إلى حد مائتي فرسخ ويظهر في الإسلام بين مرعش والهارونية وعين زربة فسمي اللكام إلى أن يجاوز اللاذقية ثم يسمى جبل بهراء وتنوح إلى حمص ثم يسمى جبل لبنان ثم يمتد على الشام حتى ينتهي بحر القلزم من جهة ويتصل بالمقطم من أخرى. وقال أبو الفدا: حدود الشام على وجه دخل فيه بلاد الأرمن وهي المعروفة في زماننا ببلاد

سيس والذي يحيط بالشام من جهة الغرب بحر الروم من طرسوس التي ببلاد الأرمن إلى رفح التي في أول الجفار بين مصر والشام ويحيط به من جهة الجنوب حد يمتد من رفح إلى حدوديته في إسرائيل إلى ما بين الشوبك وأبله إلى البلقاء ويحيط به من جهة الشرق حد يمتد من البلقان إلى مشاريق (لا مشارف) صرخد آخذاً على أطراف الغوطة إلى سلمية وإلى مشاريق حلب إلى بالس ويحيط به من جهة الشمال حد يمتد من بالس مخع الفراق إلى قلعة نجم إلى البيرة إلى قلعة الروم إلى سمياط إلى حصن منصور إلى بهنا إلى مرعش إلى بلاد سيس إلى طرسوس إلى بحر الروم ومن حيث ابتدأنا بعض هذه الحدود تقع شرقية عن بعض الشام وهي بعينها جنوبية عن بعض آخر في سمتها وبعد فهذا امتنع تعريف لبلاد الشام وبه تبين البلاد تعد من أعمال حلب من حيث التقسيم الطبيعي الجغرافي والبلاد التي تعد من الروم أواسيا الوسطى وكان عمل حلب في الحكومة السالفة منذ عهد الإسلام تابعاً في تحوله للأحوال السياسية الطارئة وإليك الآن وصفها من مصادر ثلاثة مختلفة ولكن وقتها وهو بين القرن الثامن والعاشر قال شيخ الربوة: إن لحلب من البلاد ذوات الكور دون العواصم الخناصرة (يقال لها الخناصر الآن) وهي على سيف البرية وجبل بني القعقاع وكان يسمى قصر ابن الثانية وقنسرين وكانت هي القصبة قبل حلب وفي مدينة رزمية كان اسمها صوما وسمرين وهي في طرف جبل السماق (يسمى الآن جبل الزاوية أو النصيرية) وهذا الجبل معمور بطائفة تسمى النصيرية ومن جند حلب معرة النعمان وتعريف بذات القصرين ولها عمل من أحسن الأعمال وهو شعراء ممدون وعالب شجرها التين والفستق واللوز والمشمش والزيتون ولرمان والتفاح وكثير من الفواكه وسائرها يشرب من ماء السماء لا يعتني في فلاحته بأكثر من الحرث تحته وجبل السماق من أعمر الأرض وأعملها فلاحة من رآه ورأى الأندلس لم يفرق بين فلاحتها وفلاحة الأندلس والفوعة ولها عمل حسن وشغر وبكأس ومعرة صرمين (سرمين أو مصرين؟) وتيزين بلدة طيبة ولها عمل متسع وحارم كذلك وكان ثغراً حسناً وشيزر مدينة حصينة وبيئة يشرب أهلها وأرضها من النهر العاصي ولها قلعة طولها ظاهر يسمى عرف الديك محاطة من ثلاث جهات بالعاصي وحندراس وله جومة أي كورة فيها أجمة كبيرة البناء لا يعلم العالم من أين يجئ ماؤها ولا أين يذهب ودلوك ورعبان (؟) وكيسوم

وفوارس؟ وكفر وفوذ؟ وفامية ويبرزية حصن منبع يضرب به المثل وتحته بالقرب بحيرة فامية بحيرة كبيرة بدخلها العاصي ويخرج منها ولها سكر سصاد فيها نوع من السمك شبيه بالحيات ويسمى إنكليس لحمه شبه بالألية المشوية وللنصارى فيه رغبة عظيمة يحمل في المراكب إليهم داخل البحر ضمانه في السنة نحو ثلاثين ألف درهم وعمورية بناها الرشيد على أثر عمارة قديمة رومية. ولحلب من جهة الشمال والشرق عين تاب بلدة ولها حصن مليح وأهلها تركمان ولها نهر يسيح وعليه بستان وهو جار أعزاز قلعة في المسال الغربي من حلب وتسمى عند الإفرنج. . . . . . . . . . وهو حصن والباب وبزاعة وهما مدينتان وبينهما واد يعرف ببطنان ولها نهر يسمى الساجور يجري إليهما من عين تاب و (بالس) وهي مدينة قديمة على الفرات وفي حيزها صفين وورصافة هشام بن عبد الملك بناها لنفسه على أثر بناء قديم كنعاني ومنبج وهي على مرحلة من الفرات بناها كشرى وسماها متبه أي جود وفي عملها قلعة نجم وكانت تسمى منتج وتل باشر ولها نهر يجرب أليها من عين تاب وهو الساجور. وبجلب أيضاً مما داخل في أعمالها وجندها قلعة الروم يقيم بها خليفة الأرمن وبطركها ومرعش ولها بحيرة متسعة وينهسا حصن مليح والكختا وكركر وتل حمدون وقلعة نجموقلعة حميص والرواندن وكل هذه ثغون تجاه الأرمن والتتار والبيرة حصن منبع شرقي الفرات ومن الثغور الساحلية الجبلية ديركوش ودربساك وبغراس (بيلان) وحجر شعلان وواسكندرونة و (قصير) و (انطاكية) و (يغرا) ولها بحيرة حلوة من نهر الأسود بينها وبين نغراص وبين إنطاكية وهي قصبة السوحال كانت قبل ثغورها وكانت إحدى كراسي الروم ويسميها الروم تعظيماً لها مدينة الله ما تسمى الأرض المقدسة وإنطاكية من المدن القديمة ويحيط بها سور كبير محيط على أربعة جبال وشعاري ولها بساتين ولها فرضة تسمى السويدية على الساحل عند منصبالعاصي في البحر والهارونية بناها هارون الرشيد. ومن أعمال حلب أيضاً (النقدة) و (حلقة سرمدا) و (حلقة تيزين) و (أرتاح) و (الجبول) و (جبرون) و (ريحا) وكثير مثل ذلك والمذكور نحو شتين عملاً وكل عمل يحتوي على أعمال وكور وضياع عامرة. ورساتيق منها قائم وحصيد انتهى اقاله شيخ الربوة ووصفها ابن فضل الله العمري بأخصر من هذا فقال:

وأما بلاد حلب فيحدها من القبلة المعرة وما وقع على سمتها إلى الدمنة والسلسة الرديشة ومجرى القناة القديمة الواقع ذلك كله بين الحيار والقرية المعروفة ملاعب ومن الشرق البر حيث يجد براً آخذاً على الثلج (؟) ونهر الخلاب على أطراف بالس إلى الفرات دائرة تحدها وبهذا القسم تكونم بلاد جعبر داخلة في حدودها ومن الشام بلاد الروم مما وراء بهنا وبلاد الأرمن مما وراء نهر جاهلن ومن الغرب ما أخذ مع بلاد الأرمن على البحر الشامي وبحلب قلاع وولايات فأما القلاع فهي البيرة وهي التي لا تماثل ولها عسكر ومنعه ولنائبها مكانة جليلة وقلعة المسلمين وهي المعروفة بقلعة الروم كانت مسكناً لخليفة الأرمن ولم يزل بها حتى افتتحها وسماها قلعة المسليمن وهي من جلائل القلاع والكخنا وهي ذات عمل متسع وعسكر متطوع مجتمع وكركر وبهسنا وهي الثغر المتاخم لبلاد الدروب والشتعل جمرة في الحروب بع عسكر من التركمان والأكراد ولا يزال لهم آثار في الجهاد ولنائبها مكانة جليلة وإن كان لا يتحلق بنائب البيرة وعينتاب وهي مدينة حسنة والرواندان والدربساك وبغراس وكانت تثر الإسلام في عز الأرمن حتى استضيفت إلى الفتوحات الجاهلية وبها الرصاص وهو عضو من أعضائها وجزء من أجزائها والقصير وهو لإنطاكية والشغر وهما كالشيء الواحد وحجر شعلان وأبو قبيس وشيزر فهذه جملة قلاعها وهي على هذا الترتيب وإن كانت عينتاب داخلة عن النطاق فإنها في موقعها بين ما ذكر وأما معها وجملة ولايات حلب كقرطاب وفامية وسرمين والجيول وجبل سمعان وعزاز وتل باشر غير ما في هذه القلاع مما له ولاية مضافة إليه ولمدينة حلب نفسها ولاية ما لدمشق فهذه جميلة البلاد الجبلية أه. وعدد غرس الدين الظاهري بلاد المملكة الجبلية فقال أنها مملكة متسعة إلى الغاية تشمل على مدن وقلاع ومعاملات وقرى عديدة وأعظم مدنها حلب ثم ذكر مدن إنطاكيةو وجعبر والرحبة وسجير (شيزر) وسرمين والباب وبزاعة وكليس وعزاز وإقليم العمق والجزيرة ومدينة الحديدة وأياس (بياس) وسيس وطرسوس ومصيصة (مسيس) وأذنة والرمضانية والأوزازية وقيسارية وعين تاب وشيخ وقلعة المسلمين والبيرة والرها وكركر وقلعة خروس وكختا وحصن منصور وبهسنا ودارندة (فوق مرعش بأربعة أيام) ودوركي وعر بكير وبمعاملتها عشر قلاع وجمشكزك وبمعاملتها أربع وعشرون قلعة وخربوت وهذه

المدينة وعر بكير وجمشكزك وقلاعها ومعاقلها كانت من ديار بكر فتحت في الأيام الأشرفية وأضيفت إلى المملكة الجلبية. وذكر أن لكل مدينة من هذه المدن إقليماً فيه عدة قرى وبعض هذه المدن اليوم من عمل ولاية شيواس والآخر من عمل ولاية ديار بكر والآخر من عمل معمورة العزيز والآخر من ولاية أطنة. وقال ابن جبير وعدة جميع قلاع حلب وحصونها ثلاثة وعشرون عملاً وهي عمل شيزر وقلعة النجم وعمل الشغر وبكاس وهس قلعة وعمل القصير وهي قلعة ديركوش وعمل حارم وشيح الحديد وعمل إنطاكيا وعمل بغراص هي قلعة حصينة والدربساك وهي قلعة وعمل حجر شعلان وهي قلعة وعمل الراوندان وهي قلعة ومعها تل هران وبرج الرصاص وتل باشر وعمل عينتاب ولها قلعة ومعها وقوص ومعها وعمل بهنسا وكركر وكختا والبيرة وقلعة الروم ومنبج والجيول والباب وبزاعا وتيزين وأعزاز وكيسوم وسرمين والفوعة ومعرة مصرين ومرتجوان وبالس وصفقين والرصافة وخناصرة وحيار بني القعقاع وقنسرين وحاضر فنسرين. وعلى الجملى فقد اختلفت تقسمات حلب فيما مضى وكانت في الأكثر ينتهي حدود عملها من جهة الشمال إلى دروب الروم وقد تكلم ابن شداد من بلاد حلب على بالس ولارصافة وخناصرة وحيار بني القعقاع وقنسرين وحاضرها وسرمين والفوعة ومعرة مصرين ومرتجوان وحارم والعمق وقال أنه كان في هذه النواحي ما يزيد على ثلاثين والياً يتصرفون من جهة من يكون نائباً عن السلطان بحارم. وذكر أيضاً ديركش وعزاز الرواندان وتل هرام ول باشر وعينتاب والرزبان وخروص والزرب وبهنسا والباب وبزاعا والشخر وذكر من الحصون التي استولى عليها الخراب حتى صارت قرى غير دافعة ولا مانعة حصن سلياب وحصن سلمان وحصن سويرك أويزريك وحصن تل رمان شمالي تكفالون وحصن باسوطا في المضيف وحصن عناقيب وحصن بابرك وسجح الحديد في الروج الشرقي وكفرميت في الروج الشرقي وحصن راشي وحصن هاب وسرفون غربي سرمدا في الحلقة وارتيا في بلدة الزاوية يقال لها الآن (في عهده) أرنبا وحصن أتب أو أنب وتل كشهان أوكشفان في الروج الغربي وحصن زردانافي بلد إدلب وحصن أزر قال والىن أزرعانن مقابل تل كشفان وبينهما العاصي وحصن عم وسلقين وتل عماد

غربي سلقين وتل خالد وأرمناز وسلمان وحصون العواصم وسلعوس وزياد وهو خرت برت بين آمد وملطية والعيون وكانت أذنة والمصيصة وطوسوس من الثغور الرومية داخلة من جملة عمل حلب. وقال ابن الشحنة وأعلم أن أعمال حلب قد زادت قبل الفتنة التيمرية وبعدها عما ذكره ابن شداد وعملها اليوم من جهة الروم بنتهي إلى دارندة وهي آخر عملها ومن جهة الغرب من الروم إلى البحر ومن الشرق إلى بعض أعمال الجزيرة كالرها والرقة وجعبر والبيرة وما والاها من جهة الشرق ومن جهة القبلة إلى قرب حماه وأما حماه فهي منفردة الآن (في عصر المؤلف) معمل وكانت من مضافات حلب. وأما المسافات فمن حلب إلى قنسرين يوم - على قول ياقوت - والي المعرة يومان وإلى إنطاكيا ثلاثة أيام وإلى الرقة أربعة أيام وإلى الأثارب يوم وإلى توزين يوم وإلى منبج يومان وإلى بالس يومان وإلى خناصرة يومان وإلى حماه ثلاثة أيام وإلى حمص أربعة أيام وإلى حران خمسة أيام وإلى اللاذقية ثلاثة أيام وإلى جبلة ثلاثة أيام وإلىة طرابلس أربعة أيام وإلى دمشق تسعة أيام. بلاد حلب وكورها وحصونها أتينا في النبذة الماضية على مجمل البلاد التي كانت من عمل المملكة الحلبية قبل دخول الدولة العلية العثمانية وقد رأينا هنا أن نعززها بجملة ثانية فيها وصف كل مدينة وحدها في الجملة معتمدين في ذلك في الأكثر على معجم البلدان لياقون الحموي وتقويم البلدان لأبي الفاد صاحب حماه نذكرها بإيجاز ما أمكن لما يتخللها من الفوائد العمرانية والاجتماعية والأدبية ونذبلها غالباً بما يعرفها للقارئ، اليوم ثم تردفها بما كتبه ابن حوقل في وصف الديار الحلبية. (الأثارب) قلعة معروفة بين حلب وإنطاكية بينها وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ وفيها يقول محمد بن نصر بن صغير القيسراني: عرجاً بالأثارب ... كي أقضر مآربي واسرقا نوم مقلتي ... من جفون الكواعب واعجاً من ضلالتي ... بين عين وحاجب

(الأحص وشبيث) ويقال الأولى الحص الآن بالقرب من مملحة جبول وهما موضعان والغالب أنهما بالقرب من قنسرين وأنشد الأصمعي في كتاب جزيرة العربلرجل من طيء يقال له الخليل بن قردة وكان ابن زافر وكان قد مات بالشام: ولا آب ركب من دمشق وأهله ... ولا حمص إذ لم يأت في الكرب زافر ولا من شبيث والأحص ومنتهى ال ... مطايا بقنسرين ين أو بخناصر (الأرتيق) كورة من أعمال حلب ارتاح حصن منيع كان مر العواصم وهو أعمال حارم (ارفاد) قربة كبيرة من نواحي حلب ثم من نواحي عزاز يقال لها رفاد (أرمناز) بليدة قديمكة من نواحي حلب بينهما نحو خمسة فراسخ يعمل بها قدور وشربات جيدة حمر طيبة ولا تزال كذلك (أفونا) اسم حصن كان قرب معرة النعمان بالشام افتتحه محمود بن نصر الكلابي ويقال لبها اليوم (عصر ياقوت) سفوهن فيما بلغني (الأعماق) كورة قرب دابق بين حلب وإنطاكيا والعمق اليوم فيها نحو مائتي قرية (أفلاطنس) حصن عظيم عال مشرف جداً من أعمال جبل وهرا من عمل حلب الغربية ولعله الشهور اليوم بقصر البنات (أنب) حصن من أعمال عزاز يبعد عنها نحوأربع ساعات. (إنطاكيا) لم تزل قصبة العواصم من الثغور الشامية وهي من أعيان البلاد وأمهاتها موصوفة بالنزاهة والحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء وكثرة الفواكه وسعة الخيرات زارها ابن بطلان في سنة نيف وأربعين وأربعمائة فقال إنالمسافة بينها وبين حلب يوم وليلة عامرة لا خراب فيها أصلاً ولكنها أرض تزرع الحمطة والشعير تحت شجر الزيتون قراها متصلة ولسورها ثلاثمائة وستون برجاً يطوف عليها أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية يضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في السنة الثانية وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد مع الجبل إلى قلته فتتم دائرة وفي رأس الجبل داخل السور قلعة وفي وسط المدينة بيعة القسيان وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين وكان بدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة وهناك من الكنائس ما لا يحد كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع وفي بيمارستان يراعى البطريك المضى فيه بنفسه ويدخل المذمين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم بيده ومثل ذلك يفعل الملك بلاضعفاء كل سنة ويعينة

على خدمتهم الإجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع. وقال ابن الفقيه ومن عجائب الجزيرة كنيسة الرها والروم تقل ما من بناء بالحجرة أبهى من كنيسة الرها ولا بناء بالخشب أبهى من كنيسة منبج لأنها بطاقاتمن خشب ولا بناء بالرخام أبهى من قسيان إنطاكيا ولا بناء بطاقات الحجارة أبهى من كنيسة حمص. قال ياقوت وبين إنطاكيا والبحر نحو فرسخين وله مرسى في بليد يقال له السويدية ترسي فيه مراكب الإفرنج يرفعون منه أمتعتهم على الدواب إلى إنطاكيا واستمرت هذه المدينة في أيدي الإفرنج إلى أن استفذها منهم سليمان بن قتملش السجوقي جد ملوك آل سلجوق 477 وقد فتحها المسلمون مع حلب ملكها الروم سنة 252 وفي غربي الفرات مقابل قلعة جعبر أرض (صفين) التي بها كانت الوقعة ومن قلعة جعبر إلى الرقة سبعة فراسخ. (البارة) بليدة وكورة من نواحي حلب وفيها حصن وهي ذات بساتين ويسمونها زاوية البارة (بارين) والعامة لقول بعرين مدينة حسنة بين حلب وحماه من جهة الغرب وهي الآن خربة على طريق العرة (باعربايا) بلد من أعمال حلب من مضافات أفامية خراب فيها بعض بيوت شعر (بالس) بلدة بين حلب والرقة وكانت على ضفة الفرات الغربية فلم يزل الفرات يشرق عنها قليلاً حتى صار بينهما في أيامنا (ياقوت) هذه أربعة أميال. قال أبو الفدا أن بالس كانت مسكونة وهي صغيرة على شط الفرات الغربي وذكر ابن حوقل أنها أول مدن الشام من العراق وهي فرضة لأهل الشام وفي شرقيها الرقة قال في العزيزي ومنها إلى قلعى دوشر المعورفة الآن بقلعة جعبر في شرقي الفرات حمشة فراسخ. (براق) من قرى حلب بينهما نحو فرسخ وهي اليوم ناحية برق من أعمالها قضاء الباب من أعمالها نحو خمسين قرية (برج الرصاص) قلعة ولها رساتيق من أعمال حلب قرب إنطاكيا وإياها عنى أبو فراس بقوله: فأوقع في جلباط بالروم وقعة ... بها العمق واللكام والربرج فاخر (الرزمان) قلعة من العواصم من نواحي حلب (بسرفوت) حصن من أعمال حلب في جبل بني عليم (بزاعة) بلدة من أعمال حلب في وادي جاربة وأسواق حسنة وهي اليوم قرية. وقال ابن جبير ف يوصفها بقعة طيبة الثرى واسعة الذرى تصفر عن المدن وتكبر عن

القرى بها سوق تجمع بين المرافق السفرية والمتاجر الحضرية وفي أعلاها قلعة كبيرةحصينة رامها أحد ملوك الزمان فغاظته باستصعابها فأمر بلثم أبنائها حتى غادرها عورة منبوذة برعاها ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط يطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب هي بين بزاعة وحلب وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الإسماعيلين لا يحصي عددهم إلا الله فطار شرارهم وقطع هذه السبيل فسادهم وأضرارهم حتى دخلت أهل هذه البلاد العصبية رحكتهم الآنفة والحمية فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصلوهم عن آخرهم وعجلوا بقطع دابرهم وكومت بهذه البطحاء جماجمهم قال وسكانها اليوم قوم سنيون. وروى أبو الفدا: الباب بلدة صغيرة ذات سوق وحمام ومسجد وجامع ولها بساتين كثيرة نزهة وأما بزاعا فضويعة من أعمال حلب في الجهة الشمالية الشرقية وفي بساتينها يقول المنازي وقد اجتاز بها: لقانا لفتحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم يصد الشمس إلى. . . . . . . . . ... فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذر ... فتلمس جانب العقد النظيم ووجدنا هذا البيت في مكان آخر: نزلنا دوحة فحنا علينا ... حنو الوالدات على الفطيم وأرشفنا على ظماء زلالا ... ألذ من المدامة للنديم (بغراس) مدينة في لحف جبل اللكام بينها وبين إنطاكيا أربعة فراسخ على يمين القاصد إلى إنطاكيا من حلب في البلاد المطلة على نواحي طوسوس قال البلاذري وكانت أرض بغرس لمسلمة بن عبد الملك ووقفها على سبيل البر وكانت بيد الفرنج ففتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 485 وقد ذكرها البحتري في شعر مدح به أحمد بن طولون. سيوف لها من كل دار غادً درى ... وخيل لها من كل دار غداً نهب علب فوق بغراس فضاقت بماجنت ... صدور رجال حين ضاق بها درب قال يحيى بن سعدي ين يخيى الإنطاكي أن نقفور ملك الروم نزل على إنطاكية سنة 357 وأقام عليا يومين وفتح العرة وحماه وحمص وطرابلس وعرفة وجبلة واللاذقية وانطرسوس

وخرب قرى كثيرة وبنى حصن بغراس مقابل إنطاكية في فم الدرب (إدلب). بكاس قلعة من نواحي حلب على شاطئ العاصي ولها عين تخرج من تحتها وبينها وبين ثغور الصيصة مقابلتها قلعة أخرى يقال لها شغر بينمها واد كالخدق يقال له الشغر. (بلاطنس) حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب (بياس) مدينة صغيرة في إنطاكية وغربي المصيصة (مسيس) بينهما قرية من البحر بينها وبين الإسكندرية فرسخان قريبة من جبل اللكام (أمانوس). (بيت لاها) حصن عال بين إنطاكيا وحلب على جبل ليون كان فيه ديدبان ينظر في أول النهار إنطاكية وفي آخره إلى حلب. (البيرة) (بيرة جيك) بلد قرب سيساط يسن حلب والثغور الرومية وهي قلعة حصينة ولها رستاق واسع وهي على حافة الفرات في البر الشرقي الشمالي لا ترام ولها يعرف بوادي الزيتون به أشجار وأعين وهي بلدة ذات سوق وعمل قال ابن سعيد وقلعتها على صخرة وهي اليوم ثغر الإسلام في وجوه النتر وهي فرضة على الفرات وهي في الشرق عن قلعة الروم على نحو مرحلة وفي الغرب عن قلعة نجم الجنوب والغرب عن سروج. (البضاء) أمم لمدينة حلب لبياض تربتها (تاذف) قرية بين حلب وبينها أربعة فراسخ من وادي بطنان من ناحية بزاعة ذكرها أمرؤ القيس في شعره فقال: ويا رب يوم صالح قد شهدته ... بتادف ذات التل من فوق طرطرا ويقال لهذه البلدة اليوم تاتف وهي على نصف ساعة من الباب ولا يقل نفوسها عن خمسة آلاف نسمة وفيها اليوم كنيس لليهود وبضع أرسات منهم يسكنونها بنيت فيما يقال قبل 2200سنة وهي محل مبارك عند الإسرائيليين يقصدونه للزيارة وقد زرته وزرت ضاحية البلد غراف أبي طرطر وهو بئر ماء لذيذ يمتاح ماؤه على مدار يحركه بغلان فيسقي حدائق هناك وهذا طرطر الذي زاره أمرؤ القيس في الغالب ويرى الإسرائيليون في تلك الأنحاء أن من زار منهم كنيس تاتف وشرب من غراف أبي طرطر واغتسل من عين العزير على مقربة منها آتي عملاً صالحاً ينيله الزلفى من المولى. (تل باشر) قلعة حصينة وكورة واسعة في شمالي حلب بينها وبين حلب بومان وأهلها أرمن ولها ربض وأسواق وهي عامرة آهلة. (تل خالد) قلعة من نواحي حلب (تل السلطان) موضع بينه وبين حلب مرحلة نحو دمشق وفيه خان ومنزل للقوافل وهو العروف بالفنيدق كانت وقعة بين صلاح

الدين يوسف بن أيوب وسيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل سنة 571 (تل منس) حصن قرب معرة النعمان وقيل من قرى حمص (توزين) ويقال تيزين كورة وبلدة بالعواصم من أرض حلب (جبل السماق) هو جبل عظيم من أعمال حلب الغربية بشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع عاملتها للإسماعلية وفيه بساتين ومزارع كلها عذي والمياه الجارية به قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع مخصوصة ولذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتى المشمش والقطن والسمسم وغير ذلك وقيل أنه سمي بذلك لكثرة ما ينبت فيه من السماق قال عيسى ين سعدان: وقولها وشعاع الشمس منخرط ... حييت يا جبل السماق من جبل ياحبذا التلعات الخضر من حلب ... وحبذا طلل بالفسح من طلل يا ساكني البلد الأقصى عسى نفس ... من سفح جوش يطفي لاعج الغلل طال المقام فوا شواقا إلى وطن ... بين الأحص وبين الصحيح الرمل (الجبول) قرية كبيرة إلى جنب ملاحة حلب وفي الجيول يصل نهر بطنان وهو نهر الذهب ثم يجمد ملحاً فيمتار منه أكثر بلدان الشام وبعض الجزيرة ويضمن بمائة وعشرين ألف درهم في كل عام ويجتمع على هذه الملاحة أنواع كثيرة من الطير قبل جمودها وصفها حسن الساسكوني الحموي بقوله: قد جبل الجيول من راحة ... فليس تعرو ساكنيها هموم كأنما الماء وأطياره ... فيه سماء زينت بالنجوم كأن سود الطير في بيضها ... خليط جيش بين زنج وروم قال ياقوت في نهر الذهب أن أهل حلب يزعمون أن وادي بطنان الذي يمر ببزاعة وهو الذي يقال له عجائب الدنيا ثلاثة دير الكلب ونهر الذهب وقلعة حلب والعجب فيه أن أوله يباع بالميزان وآخراه بالكيل وتفسير ذلك أن أوله يزرع على الحصا كالقطن وسائر الحبوب ثم ينصب إلى بطيحة طولها نحو فرسخين في عرض مثل ذلك فيجمد فيصير ملحاً يمتار منه أكثر نواحي الشام ويباع بالكيل وطول الملاحة الآن نحو3كيلومترات وعرضها 18 كيلومتراً. (الجرجومة) مدينة يقال لأهلها الجاجمة كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن

الزاج فيما بين بياس وبوقة قرب إنطاكية والجواجمة جيل كان من أمرهم في أيام استيلاء الروم أن خافوا على أنفسهم فلم ينتبه المسلمون لهم وولى أبو عبيدة إنطاكية حبيب بن مسلمة الفهري فغزا الجرجومة فصالحه أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيواً ومسالح في جبل اللكام وأن يؤخذوا بالجزية وأن يطلقوا أسلاب من بقتلونه من أعدء المسلمين إذا حضروا معهم حراً ودخل معهم في مدينتهم من تاجر وأجبر وتابع من الأنباط من أهل القرى ومن معهم في هذا الصلح فسموا الورادف لأنهم تلوهم وليسوا منهم ويقال أنهم جاؤوا إلى عسكر المسلمين وهم أرداف لهم فسموا روادف وكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم ويمالؤنهم على المسلمين ولما استقبل عبد الملك بن مروان محاربة مصعب بن الزبير خرج منهم إلى الشام مع ملك الروم فتفرقوا في نواحي الشام وقد استعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة في أيام بني أمية وبني العباس وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة. (جلباط) بجبل اللكام بين إنطاكية ومرعش كانت بها وقعة سبف الدولة ين حمدان بالروم. (حارم) حصن حصين وكورة جبلية تجاه إنطاكية وهي الآن من أعمال حلب وفيها أشجار كثيرة ومياه وهي لذلك وبئة وهي فاعل من الحرمان أو من الحريم كأنها لحصانتها يحرمها العدو وتكون حرماً لمن فيها قال أبو الفدا وقد خص الذي يظهر باطنة من ظاهرة مع غدم العجم وكثرة المياه على مرحلتين من حلب في جهة الغرب وبين حارم وإنطاكية مرحلة. (الحاضر) في كتاب الفتوح للبلاذي أنه كان يقرب حلب حاضر يدعى حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوح وغيرهم جاءه أبو عبيدة بعد فتح قنسرين فصالح أهله على الجزية ثم اسلموا بعد ذلك وكانوا مقيمين وأعقابهم به إلى بعيد وفاة أمير المؤمنين الرشيد ثم أن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم عنها فكتب الهاشميون من أهلها إلى جميع من حولهم من قبائل العرب يستنجدونهم فسارعوا إلى إنجادهم وكان أسبقهم إلى ذلك العباس بن زفر الهلالي فلم يكن لأهل الحاضر بهم طاقة فاجلوهم عن حاضرهم وضربوه وذلك في فتنة الأمين الرشيد فانتقلوا إلى قنسرين فتلقاهم أهلها بالأطعمة والكسى فلما دخلوا أرادوا التغلب عليها فأخرجوهم عنها فتفرقوا في البلاد قال فمنهم قوم بتكريت وقد رأيتهم منهم قوم بأرمينية وفي بلدان كثيرة متباينة وفي رواية أخرى أن يعقوب بن

صالح الهاشمي خرب الحاضر الذي كان إلى جانب حلب حتى ألصقه بالأرض وكان فيه عشرون ألف مقاتل فهو خراب اليوم. (حصن منصور) قال في المشترك وحصن منصور بالقرب من سميساط قال هو منسوب إلى منصور بن جعونة العامري وكان تولى عمارته في أيام مروان الحمار آخر بني أمية قال ابن حوقل وحصن منصور حصن صغير فيه مبرز زرعه عذى أقول (أبو الفدا) وهو الآن خراب ولكنه مزدرع وهو في مستو من الأرض شمالي النهر الازرق وجنوبي الفرات وغربيها قريب م كل منها والجبل واقع في غربي حصن منصور بينه وبين ملطية وفيه الدربند إلى ملطية. (حبيب) بلد من أعمال حلب بقال له بطنان حبيب (دانبت) بلد من أعمال حلب بين حلب وكفر طاب. (دركوش) حصن قرب إنطاكية من أعمال العواصم (دلوك) بليدة من نواحي حلب بالعواصم كانت بها وقعة لأبي فرا بن حمدان مع الروم قال بعضهم بذكرها: وإني إن نزلت على دلوك ... تركتك غير متصل النظام وقال عدي بن الرقاع: أهم سرلي أم غار للغيث غاثر ... أم انثابها من آخر الليل زائر ونحن بأرض قلا يجسم السرة ... بها العربيات الحسان الحرائر كثير بها الأعداء يحسر دونها ... بريد الإمام المستحث المثابر فقلت لها كيف أهتديت ودوننا ... دلوك وأشرف الجبال القواهر وجيحان جيحان الجيوش وألس ... وحزم حزاز والشعوب القواسر (الواندان) قلعة حصينة وكورة طيبة معشبة مشجرة من نواحي حلب قال أبو الفدا أنها قلعة حصينة عالية على جبل مرتفع أبيض ولها أعين وبساتين وفواكه وواد حسن ويمر تحتتها نهر عفرين وهي في الغرب والشمال عن حلب وبينهما نحو مرحلتين وهي في الشمال عن حارم ويجري من الشمال إلى الجنول على الروندان إلى عمق حارم في واد متسع بين جبال وبذلك الوادي قرى وزيتون طثيرة وهي كورة من بلاد حلب وتسمى الجومة بضم الجيم وسكون الواو وميم وهاء. (سلوقية) اقطع الوليد ين عبد الملك جند إمطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصير عليهم

وهو بسيط من الأرض معلوم كالفدان والجريب بدينار ومدي قمح فغمرها وأجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية (سمياط) قال في اللباب وسمياط من بلاد الشام قال ابن حوقل وأما سمياط فهي على الفرات وكذلك جسير منبج وهما مدينتان صغيرتان حصينتان لهما زروع سقي وغيره وماؤه من الفرات وسمياط في الغرب عن قلعة الروم وفي الشمال عن حصن منصور وكل واحدة على مسافة قريبة من الأخرى. (سرمين) بلدة ذات أشجار كثيرة وزيتون وغيره وليس لها ماء إلا ما يجتمع من الأمطار في الصهاريج ولها ولاية وعمل متسع وهي ذات خصب وأسواق ومسجد جامع وليس لها سور وبين سرمين وبين حلب مسيرة يوم وحلب في شماليها وهي على منتصف الطريق بين المعرة وحلب. (سروج) بلدة قريبة من حران من ديار مصر. (رعبان) مدينة بالثغور بين حلب وسمياط قرب الفرات معدودة في العواصم وهي قلعة تحت جبل خربتها الزلزلة في سنة 340 فأنقذ سيف الدولة أبا فراس بن حمدان في قطعة من الجيش فأعاد عمارتها في سبعة وثلاثين يوماً. (سات) بليدة بظاهر معرة النعمان وهي القديمة والمعرة اليوم محدثة اجتاز بها القاضي أبو يلعي عبد الباقي بن حصن العري والناس ينقضون بنيانها ليعمروا به موضعاً آخر فقال: مررت برمم في سيات فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعلول تناولها عبل الذراع كأنما ... رمى الدهر فيما بينهم خرب وائل انتقلها شلت يمينك خلها ... لمعتبر أو زائر أو مسائل منازل قوم حدثتنا حديهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل (الشغر) قلعة حصينة مقابلها أخرى يقال لها بكاس على رأس جبلين بينهما واد كالخندق لهما واحدة تناوح الأخرى وهما قرب إنطاكية قال أبو الفدا: الشغر وبكاس قلعتان حصينتان بينهما رمية سهم على جبل مستطيل وتحتهما نهر يجري ولهما بساتين وفواكه كثيرة ولها مسجد جامع ومنبر ورستاق وهما بين إنطاكية وفامية على قريب منتصف الطريق بينهما وفي شرقيها على شوط فرس جسر كشفهان وهو جسر النهر وهو مشهور وله سوق يجتمع فيه في كل أسبوع والشغر وبكاس في جهة الشرق والشمال عن صهيون وفي الجنوب عن

إنطاكية وبينهما الجبال. شقيف دركوش قلعة من نواحي حلب قلي حازم. شقيف دبين قلعة ضغيرة قرب إنطاكية ودبين ضعيفة طالربض لها عرض بلد في برية الشام يدخل في أعمال حلب وهو بين تدمر والرصافة الهشامية. (عزاز) بليدة فيها قلعة ولها رستاق شمالي حلب بينهما يوم وهي طيبة الهواء عذبة الماء. (عما) صقع في برية خساف بالس وحلب. العميق كورة بنواحي الشام وكان ألاً من نواحي إنطاكية. ومنه أكثر ميرة إنطاكية وإياه عنى أبو الطيب المتنبي حيث قال: وما أخشى نبوك عن طرق ... وسف الدولة الماضي الصقيل وكل شواة غطريف تمنى ... لسيرك أن مفرقها السبيل ومثل العمق مملوء دماءً ... مشت بك في مجاريه الخيول إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأول ما يمر به الوحول (عين تاب) قلعة حصينة ورستق بين حلب وإنطاكية وكانت تعرف بدلوك ودلوك رستاقها وهي الآن من أعمال حلب. ويقول أبو الفدا أنها بلدة حسنة كبيرة ولها قلعة منقوبة في الصخر حصينة وهي كثيرة المياه والبساتين وهي قاعدة ناحيتها ولها أسواق جليلة وهي مقصودة للتجار والمسافرين وهي عن حلب في جهة الشمال على ثلث مراحل وبالقرب من عينتاب في جهة الجوب عن قلعة الروم على نحو ثلث مراحل أيضاً وكذلك بين عينتاب وبهسنا وعينتاب في جهة الشرق والجنوب عن بهسنا. (فايا) كورة بين منبج وحلب كبيرة وهي من أعمال منبج في جهة قبلتها قرب وادي بطنان ولها قرى عامرة فيها بساتين ومساه جارية. (الفرزل) ناحية من نواحي معرة النعمان في العلاة والعلاة كورة من كورها. (الفنيدق) من أعمال حلب كانت به عدة وقعات وهو الذي يعرف اليوم بتل السلطان بينه وبين حلب خمسة فراسخ وبه كانت وقعات الفنيدق بين ناصر الدولة بن حمدان وبني كلاب من بني مرادس في سنة 452 فأسره بنو كلاب. (قلعة جعبر) على الفرات مقابل صفين التي كانت فيها الواقعة بين معاوية وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت تعرف أولاً بدوسر فتملكها رجل من بني نمير

يقال له جعبر بن مالك فغلب عليها فسميت به (قلعة الروم) قلعة حصينة في غربي الفرات مقابل البيرة بينها وبين سيساط بها مقام بطرك الأرمن ويقول أبو الفدا أن لها ربضاً وبساتين وقواكه ونهارً يعرف بمزربان يجئ من ناحية الجبل ويصب في الفرات تحت قلعة الروم والفرات تمر بذيل القلعة وهي من القلاع الحصينة التي لا ترام أنقذها من الأرمن السلطان الملك الأشرف اين السلطان الملك المنصور قلاوون وهي في البر الغربي الجنوبي من الفرات وهي عن البيرة في جهة الغرب على نحو مرحلة وهي في الشرق عن سميساط وهي في الجنوب من الرها وكل ذلك على الغرب منها. (قلعة النجم) قلعة حصينة مطلة على الفرات على جبل تحتها ربض عامر وعندها جسر يعبر وهي معروفة بجسر منبج ويعبر على هذا الجسر القوافل من حران إلى الشام وبينها وبين منبج أربعة فراسخ (قورس) مدينة أزلية بها آثار قديمة وكورة من نواحي حلب وهي الآن خارب وبها آثار باقية (كرزين) قلعة من نواحي حلب بين نهر الجوز والبيرة لها عمل (كشفريد) بلد في جبال حلب تتمبأ فيه رجل في سنة 561 وانضم إليه جمع فخرج إليه عسكر الشام فقتل أصحابه كفردين حصن بنواحي إنطاكية (كفر روما) قرية من قرى معرة النعمان وكان حصناً مشهوراً خربه لؤلؤ الشيعي المعروف بالجراحي المتغلب على حلب بعد أبي الفضائل ابن سعد الدولة في سنة 393 (كفرسوت) من أعمال حلب الآن قرب بهنسا بلد فيه أسواق حسنة عامرة (كفرطاب) بلدة بين العرة ومدينة حلب في برية معطشة ليس لهم شرب إلا من مياهع الأمطار في الصهاريج وبلغني (ياقوت) أنهم حفروا نحو ثلثمائة ذراع فلم ينبط لهم ماء فيها يقول أبو عبد الله ين سنان الخفاجي: بالله يا حادي المطايا ... بين حناك وارصنايا عرج على أهل كفر طاب ... وحيها أحسن التحايا وأهدلها الماء فهي ممن ... يفرح بالماء في الهدايا وقال عبد الرحمن بن محسن المعري: أقسمت بالرب الحرام ومن ... أهل معتمراً من حوله وسعى آن الأوان بنواحي الغوطتين وآن ... شط المزاربهم يوماًُ وإن شسعا أشهى إلى ناظري من كل ما نظرت ... عيني وفي مسمعي من كل ماسمعا

ولا كفر طاب عندي بالجمة عوضاً ... نعم سقى الله سكان الحمى ورعا قال أبو الفدا أنها بلد صغيرة كالقرية قليلة الماء يعمل فيها القدور الخزف وتجلب إلى غيرها وهي قاعدة ذات ولاية ولها عمل وهي على الطريق بين المعرة وشيزر قال في العزيزي ومدينة كفر طاب أخلاط من اليمن وبينهما وبين سيزر أثنا عشر ميلاً وكذلك بينهما وبين المعرة. (كفر غما) صقع بين خساف والسن من نواحي حلب (كفر لاثا) بلدة ذات جامع ومنبر في سفح جبل عال من نواحي حلب بينهما يوم واحخد وهي ذات بساتين ومياه جارية نزهة طيبة وأهلها إسماعيلية (كلز) قرية ن نواحي عزاز بين حلب وإنطاكية (مرعش) مدينة في الثغور بين الشام وبلاد الروم لها سوران وخندق وفي وسطها حصن عليه سور يعرف بالمرواني ثم احدث بعده سائر المدينة وبها رابض يعرف بالهارونية وهو مما يلي باب الحدث وقد ذكرها شاعر الحماسة فقال: فلو شهدت أم القديد طعاننا ... بمرعش خيل الأرمي أونت عشية أرمى جمعهم بلبانه ... ونفسي قد وطنتها فأطمأنت ولاحقة الآطال أسندت صفها ... إلى صف أخرى من عدة فاقشعرت قال ابن حوقل: الحدث ومرعش مدينتان صغيرتان عامرتان فيهما مياه وزرع وأشجار وهما ثغران قال في العزيزي وبينهما وبين إنطاكية ثمانية وسبعون ميلاً وبينهما وبين مخاضة العلوي على نهر جيحان أثنا عشر ميلاً. (معرة مصرين) بليدة وكورة بنواحي حلب ومن أعمالها بينهما نحو خمسة فراسخ قال حمدان بن عبد الرحيم يذكرها: جادت معرة مصرين من الديم ... مثل الذي من دمعي لبينهم وسألتها الليالي في تغيرها ... وصافحتها بد الآلاء والنعيم ولا تناوحت الإعصار عاصفة ... بعرصتها كما هبت على آرم حاكت يد القطر في أفنائها حللاً ... من كل نور شنيب الثغر مبتسم إذا الصبا حركت أوارها اعتنقت ... ومثلت بعضها بعضاً فماً لفم فطال ما نشرت كف الربيع بها ... بهار كسرى مليك العرب والعجم

(معرة النعمان) مدينة كبيرة قديمة مشهورة من أعمال حمص بين حلب وحماه وماؤهم من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين قال أبو العلاء المعري: فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليها الدهر منذ ليال فهل فيك من ماء المعرة قطرة ... تغيب بها ظمآن ليس بالي ونقل أبو الفدا عن السمعاني أن النسبة إلى المعرة معرتي قال لأن معرتي معرة النعمان ومعرة نسرين فالنسبة إلى الأولى معرتي وإلى الثانية معرنسي غير أ، أكثر أهل العلم لا يعرف ذلك. (منبج) قال ابن جبير بلدة فسيحة الأرجاء صحيحة الهواء يحف بها سور عتيق ممتد إلى الغاية والانتهاء جوها صقيل ومجتلاها جميل ونسيمها أرج النشر عليل نهارا يندى طله وليلها كما قيل سحر كله تحف بغربها وبشرقها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار والماء يطرد فيها ويتخلل جميع نواحيها وخصص الله داخليا بآبار مغنية شهدية العذوبة سلسبيلية المذاق تكون منها البئر وأرضها كريمة تستنبط مياهاً كلها وأسواقها وسككها فسيحة متسعة وداكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن أنساقاً وكبراً وأعالي أسواقها مستقفة وعلى هذا الترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات ولكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب حتى أخذ منه الخراب كانت من مدن الروم العتيقة ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنخار منها ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية وأهلها أهل فضل وخير سنيون وشافعيون. قال أبو الفدا: منبج إحدى بلاد الشام بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام وسماها منبه وبن بها بيت نار ووكل به رجلاً يسمى ابن دينار من ولد أزدشير بن بلهك وهو جد سليمان بن مجالد الفقيه فغلب على سام الميدنة قال اين حوقل: وهي في برية الغالب على مزارعها الأعذاء وهي خصبة أقول (أبو الفدا) وهي كثيرة القني السارحة والبساتين وغالب شجرها التوت لأجل القز ودور سورها متسع كبير وغالب السور والبلد خراب. (الهارونية) مدينة صغيرة قرب مرعش بالثغور الشامية في طرف السور والبلد خراب استحدثها هارون الرشيد وعليها سوران وأبواب حديد ثم خربها الروم فأرسل سيف الدولة غلامه غرقوية فأعاد عمارتها وفي اليوم من بلاد بني ليون الأرمني.

هذا ما تيسر جمعه من أسماء المدن ووالكور والحصون بقيت هناك أسماء قرى ذكرها ياقوت فأضربنا عن ذكرها لتغيير أسمائها اليوم وطموس معالمها على الأكثر وقد وصف الرحالة ابن حوقل المملكة الحلبية بقوله: وقنسرين مدينة نسبت الكورة أليها وهي من أضيق تلك النواحي يناء وإن كانت نزهة الظاهر مغوثة في موضعها بما كان بها من الرخص ماكتسحثها الروم فأكنها لم تكن إلا بقايا من فديتها من دمن ومعرة النعمان مدينة هي وما حولها ن القرى أعذاء ليس بنواحيها ماء جار ولا عين وكذلك جميع قنسرين شربهم من السماء وهي مدنية كثيرة الخير والسعة والتين والفستق وما يأكل ذلك من الكروم وبينها وبين جبلة التي على ساحل البحر الرومي. . . وكانت جليلة يسكنها وزير الجبلين فافتتحها الروم وسبوا منها خمساً وثلاثين ألف امرأ وصبي ورجل بالغ وجزيرة قبرس تحاذي جبلة في وسط البحر الرومي وبينها وبين جبلة مجرى يوم وليلة وكانت للمسلمين والروم فأحتوت الروم عليها بتفريط المسلمين وخذلان وأما الخناصرة فهي حصن يحاذءي قنسرين إلأى ناحية البادية وعلى شفيرها وسيفها كان يسكنه عمر بن عبد العزيز صالحة في قدرها مغوثة للمجازين عليها في وقتنا هذا لأن الطريق انقطع من بطن الشام باتيان الروم عليه وهلاك ولاته فلجأ الناس إلأى رطيق البادية وبالأدلاء والخفراء. والعوصم اسم الناحية وليس بمديمة تسمى بذلك وقصبها إنطاكية وهي دمشق أنزه بلد بالشام وعليها إلى هذه الغاية سور من صخر يحيط بها وبجبل مشرف عليها لهم فيه مزارع وأجنة وأرحية وما يستقل به أهلها من مرافقها ويقال أن دور سورها يوم تجري مياههم في أسواقهم ودورهم وسككهم ومسجد جامعهم وكان لهم ضياع وقرى ونواحي خصبة استولى عليها لاعدو فملكها وكانت قد اختلت قبيل افتتاحها في أيدي المسلمين وهي أيضاً في أيدي الروم أشد اختلالاً وفتحها الروم في أول سنة 359. وميدنة بالسن مدينة على شط الفرات من غربيه وهي أول مدن الشام من العراق وكان الطريق إليها عامراً ومنها سابلاً وكانت فرضة لأهل الشام على الفرات فعمت آثارها ودرست قوافلها وتجارتها بعد سبف الدولة وهي مدينة عليها سور أزلي ولها بساتين فيما بينها وبين الفرات وأكثر غلاتها القمح والشعير ومن مشهول أخبارها أن المعروف بسيف الدولة على بن حمدان عند انصراعه عن لقاء صاحب مصر وقد هلك جميع جنده أنقذ إليه

المعروف بأبي حصين القاضي فقبض من تجار كانوا بها معتقلين عن السفر ولم يطلق لهم نفوذ مع نالهم فأخرجهم عن إحما بن واطواف زيت إلى ما عدا ذلك من متاجر الشام في دفعيتن بينهما شهور قلائل وأيام يسيرة ألف ألف دينار وعلى الغرب منها مدينة منبج خصبة كثيرة الأسواق قديمة الآثار عظيمة الأسوار في برية الغالب عليها وعلى الأعذاء وهي حصينة عليها يور أزلي رومي وبقربها أيضاً مدينة سنجة وهي مدينة صغيرة بقربها قنطرة تعرف بقنطرة سننجة ليس في لاإسلام قنطرة أحسن منها ويقال أنها من عجائب الزمان. ومدينة سميساط على لافرات وكذلك جسر منتبج وهما مدينتان صغيرتان حصينتان لهما زرع ومباخس وماؤها من الفرات وكانت ملطية مدينة كبيرة من أكبر الثغور وأكثرها سلاحاً ورجالاً دون جبل للكام إلى ما يلي الجزيرة ويحف بها جبال كثيرة فيها الجوز والكرم واللوز وسائر الثمار الشتوية والصيفية مباحة لا مالك لها وهي من أقوى بلاد الروم في هذا الوقت يسكنها الأرمن وفتحت في سنة 319. وكانت المدينة المعروفة بحصن منصور صغيرة حصينة فيها منبر وبها رستاق وفيرى برسمها أعذاء فاستأثر بهلاكها على أيدي الروم ويني حمدان. والحدث ومرعش مدينتان صغيرتان افتتحهما الروم من قبل يومنا هذا فأعاد سيف الدولة على بن عبد الله وعاد الروم فانتزعوها من المسلمين ويجهادون ففسدت النيات وافتتحت الأعمال وارتفعت البركات وفسدت المذاهب ولج الملوك في الظلم والاستئثار بالأمول والعامة في الإصرار على المعاصي والطغيان فهلك العباد وتلاشت البالد وانقطع الجهاد وبذلك نطق الكتاب العزيز حيث يقول سبحانه وعز من قائل وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القوال فدمرناها تدميراً. وكانت الهارونية من غربي جبل اللكام في بعض شعابه ضغيراً بناه هارون الرشيد أدركته عامراً حسناً فأهلكته الروم. وكانت الاسكندرونة أيضاً حصناً على ساحل بحر الروم غذ نخيل وزرع كثير وغلة وخصب كثير فأتى عليه العدو وكذلك حصن الثينات حصن كان على شط البحر فيه مقطع لخشب الصنوبر الذي كان ينقل إلى الشام ومصر والثغور وكان فيه رجال فتاك أجلاد لهم

علم بلد الروم ومعرفة بمخائضهم وكانت الكنيسة حصناً فيه منبر وهو ثغر في معزل من ساحل البحر يقارب حصن المثقب الذي استحدثه عمر بن عبد العزيز وعمره وكان فيه منبر ومصحفه بخطة وكان فيه قوم سواة من عبد شمس اعتزلوا الدنيا ورفضوا المكاسب وكان لهم ما يقيم بهم من المباح. وكانت عين زربة بلداً يشبه مند الغور بها نخيل وخصب واسعة الثمار والزره والمرعى وهي المدينة التي كان فيها وصيف الخادم همَّ بالدخول منها إلى بلد الروم فأدركه المعتضد بها وكانت حسنة الداخل والخارج نزهة داخل سورها جليلة في جميع أمورها وكانت المصيصة مدنيتين أحداهما تسمى المصيصة والأخرى تسمى كفربيا على جانبي جيحان وبينهما قنطرة حجارة وكانتا حصينتين جداً على شرف من الأرض ينظر منها الجالس في مسجد جامعها نحو البحر أربعة فراسخ كالبقعة بين يديه خضرة نضرة جليلة الأهل نفيسة القدر كثيرة الأسواق حسنة الأحوال وجيحان نهر يخرج من بلد الروم وكان كثير الضياع وغزير الكراع. وكانت أذنة مدينة كأحد جانبي المصيصة على نهر سيحان في غربي لنهر وسيحان دون جيحان في الكبر عليه قنطر عجيبة البناء طويلة جداً ويخرج هذا النهر من بلد الروم أيضاً وكانت جليلة الأهل حسنة المحل في كل أصل وفصل وعلى أصل طريق طرسوس. فأما مديمة طرسوس فالمدينة المشهورة المستغنى بشهرتها عن تحديدها كبيرة عليها سوران من حجارة كانت تشمل على خيل ورجال وعدة وعتاد وكراع بينها وبين حد الروم جبل متشعبة من اللكام كالحاجز بين العملين. ورأيت غير عاقل مميز وسيد حصيف مبرز يشار إليه بالدراية والفهم واليقظة والعلم يذكر بها مائة ألف فارس وكان ذلك عن قريب عهد من الأيام التي أدركتها وشاهدتها وكان السبب في ذلك أنه ليس من مدينة عظيمة من حد سجستان وكرمان وفارس وخوزستان والجبال وطبرستان والجزيرة والعراق والحجاز واليمن والشامات ومصر والمغرب إلا وبها دار ينزلها غزاة تلك البلدة ويربطون بها إذا وردوها وتكثر لديهم الصلات وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة الجسيمة إلى ما كان السلاطين يتكلفونه وأرباب النعم يعانونه وينفذون متطوعين متبرعين ولم يكن في ناحية ذكرتها رئيس ولا نفيس إلا وله عليها وقف

من ضيعة ذات مزارع وغلات أو مسقف من فنادق فهلكوا فكأنهم لم يقطنوها وعفوا فكأنهم لم يسكنوها حتى لطننتهم كما قلا الله تعالى هل تحس منهم من أحد أو تسمع اهم ركزاً أولاس حصناً على ساحل البحر فيه قوم متعبدون حصين وكانت فيهم خضونة في ذات الله تعالى وكان في آخر ما على بحر الروم من العمارة فكانت مما بادية العداوة وبغراس كان فيه منبر على طريق الثغور وكانت فيها در ضيافة لزبيدة بالشام دار ضيافة غيرها كبيرة اه. ولاية حلب ويكانها وحيواناتها تبين من الأبحاث السالفة أن ولاية حلب أو مملكة حلب كانت تقسم بحسب الأزمان وقد يضاف إليها البعيد من البلدان ويتبع القريب منها غيرها. وتقسمات الولاية الحلبية بحسب التقسيم الأخير هي كما يلي نقلاً عن أصحاب المصادر التركية: إن ولاية حلب عبارة عن شمالي سورية وجزء من البلاد الجنوبية في آسيا الصغرى ومنها مرعش أو مملكة ذو القدرية وكانت تدعى قديماً كبدوكية وقسم من الجزيرة وهو لواء أورفة (الرها) وهذا اللواء قد انفصل عن ولاية حلب في هذه السنة فأصبح من الألوية المستقلة يخابر الإستانة في شؤونه الإدارية مباشرة كالقدس والزمر وبيغا وأذميت وغيرها. يحد الولاية بحسب تقسيمها قبل افصال لواء أوزفة من الجنوب ولاية سورية ومن الغرب البحر الأبيض وأطنة (أدنة) ومن الشمال ولايتا أنقرة وسيواس ومن الرق لواء الزور وولايتا ديار بكر ومعمورة العزيز وطولها من الشرق إلى الغرب 85 ساعة وعرضها 90 ساعة. يقولون إن الأصل سكان هذه الولاية من نسل سام والجنس القافقاسي بدليل إنه سكنتها قبائل الكينا الوثنية وهم من أولاد سام ين نوح ثم الآراميون وبعد أن تناقل الحكم عليها قل المسيح بنحو ثلاثة آلاف سنة المصريون والىشوريون والفرس انتهب إلى أيدي المسلمين ففتحها من أقطاها كل من الفاتحين العظيمين أبو عبيدة بن الجراح وخالد ين الوليد. فسكان ولاية حلب اليوم من السلمين العرب والترك والتركمان والجركس والأكراد والنصيرية ومن المسيحين الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والأرمن والأرمن الكاثوليك والسريان والسريان الكاثوليك والموازنة والبرتستانت والكلدان واللاتين وفي المدن والبلدان زمر من

اليهود. ويرد أنساب العرب النازلين في هذه الولاية على الاكثر إلى إبراهيم الخليل أما الأتراك فقد حلوا فيها على عهد الخلافة العباسية ونزلها التركمان أيام دولة بني مرداس والأكراد على عهد دولة بني أيوب وكثر الأتراك فيها على عهد الدولة السلجوقية التركية وعلى عهد الدولتين التركية والجركسية في مصر وزادت كبرى على عهد الدولة العلية. قال ابن جبران حلب مبنية بالحجر الأصفر الذي لا يوجد في البلاد مثله وهي أوسع الشام بلاداً وأوطاها أكنافاً ولها المرج الفسيح ولابر الممتد حاضرة وبادية وبها منازل عربان وأتراك وبها جند كثيف وأمم من طوائف العرب والتركمان وبلادها متصلة بسيس والروم وديار بكر وبرية العراق ويغلب السخاء والذكاء والمضاد على سكان هذه الولاية على اختلاف طبقاتهم. هذا كلام موجز على أنسابها أم حيوانها فإنك تجد في أطراف الولاية كلها الغنم والماعز وترى في بعض أقيةى مرعض كثيراً من البقر الحلوب والجاموس وكذلك في أقضية حارم والمعرة والباب وجبل اسمعان ومنبج والرقة وبكثر الجبل عند عشائر الأكراد في لواء مرعش وعفي مدينة حلب جنس من البقر يقال لها الشامي يدر لبناً كثيراً وفي أقضية حلب والمعرة والباب ومنبج والرقة جنس من الخيول المطهمة والأفراس العربية وفي جميع أطراف الولاية تكثر الأبقار والثيرا والبغال والحمير. وفي جبل بيلان (بغراس) والبلاد المجاورة لها وفي جبل باريشا من أعمال حارم وفي لواء مرعش والذئب والثعلب وابن آوى والخنزير والأيل والغزال والارنب والنمس وكلب الماء على أطراف الفرات تجد الأسد. ومن الطيور الدجاج الهندي والبط والسمن والشحرور والحجل والحمام والدجاج ودجاج الماء وأبو سعد والنسر واللقلق ومن الحشرات الحية والعقرب. جبالها وأنهارها وبحيراتها وسواحلها أهم جبال هذه الولاية جبل بركت وهو أعظم شعبة من سلاسل جبال طوروس - ومعناه جبل الثورة وهو سلسلة مشهورة بأسيا الصغرى وله في العربية أسماء كثيرة منها دوماوند وكورين - التي تنتهي بالبحر الرومي وهو الذي عرفه العرب بجبل اللكام وجبل سور والثغور القرمانية وهذا الجبل هو الحد الطبيعي بين سورية أوبر الشام وبين آسيا الصغرى

ولعله هو المعروف بالأبواب الشامية وهو اسم يطلقه القدماء على مضائق في لجبال الفاصلة بين بلاد الشام وأرض كليكيا وكليكيا عبارة عن لواء أطنة اليوم أو أذنة فالبلاد الواقعة شرقي هذا الجبل حتى الجهة الغربية ويدخل فيها بر الشام تعد من آسيا الصغرى ففي هذا الجبل قصبة امسها ياربوز وفي سفوحه أقضية خاصة وإصلاحية وعثمانية وبولانق وبياس وتسمى كلها جبل بركت من أعمال ولاية أذنة وفي سفح هذا الجبل قضاء اسكندونة وقضاء بيلان من أعمال حلب وعلى ذلك تعد أقضية بيلان وخاصة وإصلاحية وبولانق من أرض سوريةوفي سمالي جبل برك مرعش وقوزان يفصلها نهر جيحان ويمتد إلى الجنوب حتى يصل إلى بيلان وأعلى قمة أكمة معر المشهورة ترتفع 2500 متر عن سطح البحر وتشاهد من نفس حلب ويكون الثلج في قننها صيفاً وشتاءَ وطول هذا الجبل ثلاثون ساعة وعرضه عشر ساعات وسكانه نحو مائة ألف نسمة تسعون في المئة منهم من أهل الإسلام. ويخرج في هذا الجبل الصنوبر والسنديان والعفن والمصطكى والدردار والحور والصفصاف والدلب والأرز والعرعر وقزلجق ويوجد التفاح البري والإجاص البري بكثرة. وإن منظر هذا الجبل بما ينجس منه من المياه الغزيرة النفيسة لحلو جداً من أنحاء حلب وأطنة فإذا صعد المرء القمة العليا وألقى بنظره إلى جهة حلب يرى الخضرة الزرمدية والسهول البديعة ويشهد نهر العاصي والنهر الأسود ونهر عفرين ويمتع النظر بصخور الجبال الصعبة التي يتخللها أشجار الزيتون والصنوبر التي تنبعث من الجبل الأعلى وجبل الأكراد وسهول إصلاحية وبازارجق وحلب وفي ذلك مصور بديع يصعب على أبلغ الكاتبين والمصورين وصفه ورسمه وإذا عطف الناظر بصره إلى ناحية بياس لا يشبع من النظر إلى أشجار البرتقال والليمون ففي البر القلعة وفي البحر بر جقوراوه ويقسمه نهر جيحان وأكمات سيس وسلسلة جبال طوروس الواصلة إلى قزوان ومنفرج جزيرة قبرص وهناك ألوف من الطيور تشدوا بأحلانها فتطرب الأسماع. والمنظر الثاني الماطاغ الذي تزدان به سواحل بحر الروم وأودية أنطاكية ويفرق بين جبل طوروس وجبل لبنان. وهذا الجبل أي الما طاغ يتشعب من سلسلة جبال طوروس بإنفراج

بيلان عن جبل بركت متصلاً بالجنوب الغربي ويكون معظم ارتفاعه في خليج اسكندرونة ويمتد إلى الجهة الغربية على خط عمودي وتبلغ أعلى قمم هذا الجبل 1500متر واسمه القديم أمانوس (اللكام) وبقال له الآن الجبل الأحمر (قزل طاغ) وجبال أردو والقصير وموسى وسمعان من جملة شعبه ويفصل بين هذا الجبل وبين لبنان سلسلة منفرجة بين طرابلس الشام وطرطوس. وفي جبل أمانوس هذا علائم البراكين وفي سنة 1298 رومية بركان صغير بالقرب من فرضة أرسوز ويقال لجبال أردو الجبل الأقرع واسمه القديم كاسيوس وبالعبرانية جيل حلاق أو حالاق. ولقد أودى زلزال سنة 250 ق. م في إنطاكية بشطر من هذا الجبل وألقى به في البحر وانبعث منه دخان أسود كثيف وفي هذا الجبل من الأشجار الصنوبر والعفص والعرعر والدلب والقصب والبلوط بكثرة. والجبل الثالث جبل أخور وهو المؤلف من جبال زيتون ومرعش وليس بجسامته كالجبلين السالفين. ومن الجبال الحرية بالذكر جبل نور الحق من أعمال قضاء البستان ولا تخلو قممه من الثولج صيفاً وشتاء وفي هذا الجبل بحيرة صغيرة متسعة وبنيت فيه نوع من الزهر العطر الرائحة الجميل المنظر وهناك جبال صغيرة مصل جبل الأكراد من أعمال كليس وجبل قره بيلقي (ذة الشارب الأسود) في قضاء عينتاب وجبل الزاوية وجبل سمعن في قضاء إدلب والجبل الأعلى في قضاء حارم. أنهار حلب وبحيراتها في الولاية الحلبية عدة أنهار أولها نهر الفرات ينبع قسم منه من جبل في جوار ديادين من أعمال لواء بايزسد في ولاية أرضروم (كردستان) والقسم الآخر من بحيرة الألف (بيك كولي) من أعمال الولاية المذكورة فالشطر الذي ينبجس من بحيرة الألف يقال له في تلك الأنحاء قره صو (النهر الأوسد) ونهر مراد وينضم هذان النهران أحدهما إلى الآخر في جوار معدن كبان ويسمى هناك الفرات ثم يجري إلى محال كثيرة ويمر أمام قصبة بيره جك (البيرة) ويجتاز مسكنه (بالس) والرقة والزور وعانة ويجتمع في الورنة بين البصرة فطول نهر الفرات 1800 كيلومتر. ويكون عرض الفرات في الشتاء 1200متر أمام بلدة البيرة وعمقه سبعة أمتار والفرات من أكبر أنهار آسيا وأحد الأنهار الأربعة الكبرى. لا

جرم أن هذا النهر بالنسبة لجسامته إذ ظهر مجراه وعمقه يصلح لسير السفن ولذلك تغتنم الإدارة النهرية في بغداد فرصة فيضانه فترسل في لافرات إحدى بواخرها إلى مدينة مسكنة تقل الركاب والبضائع. وروى المؤرخون أن أويدة الفرات كانت على عهد الآشوريين أي قبل أربعة آلاف سنة تزرع كلها وكانت تقتطع منه ترع وأقنية كثيرة حتى كان يجف أقصى بلاد بابل ولا يصل من مائه إلى الخليج البصرة شيء وكان تجار بابل يحملون بضائع الأناضول (الروم) من قفقاسيا في قوارب معمولة من جلود البقر إلى مدينة بابل. والنهر الثاني من أنهار هذه الولاية نهر العاصي وارنط الأرند) قال البحتري: وكم نفست من حمص من متأسف ... غدا الموت منها آخذاً بالمخنق وكم قطعت أرض الأرند إليهم ... كتائب تزجي فيلقاً بعد فيلق وهو يخرج من عين اللبوة في جبل لبنان وبعد أن يجري إلى حمص وحماه ينتهي إلى سهل العمق ويجتاز قصبتي إنطاكية وجسر الشغر إلى أن يبلغ فرضة السويدية فيصب في البحر الرومي وكان يقال له في القديم الأورنت ثم أطلق عليه النهر الكبير ونهر المقلوب ونهر الميماس. والنهر الثالث من أنهر الولاية الحلبية نهر جيحان ينبع بالقرب من قصبة البستان ويصب فيه نهر سودلي (نهر اللبن) وخرمن (البيدر) وغيرهما فيعظم جرمه وبعد أن يجتاز قضاء زيتون وجوار مرعش يجري إلى ولاية أطنة ويصب في البحر الأبيض وكان اسمه قديماص بيراموس. والنهر الرابع نهر قره صو (الهر الأسود) يتبخس من جبل بركت فيسقي مزارع الأرز المقابلة لهذا الجبل وسهل العمق ويصب في بحيرة العمق ثم يجتمع إلى مياه العاصي ويسميهمؤخو العرب وجغرافيوهم بالنهر الأسود. والنهر الخامس من أنهار هذه الولاية نهر عفرين وهو يخرج من جبل الأكراد فيجتمع من عدة منابع وينضم إليه وادي صافي فيصبح نهراً مهماً وهو أيضاً يصب في بحيرة العمق كنهر الأسود ويختلط بالعاصي. في ولاية حلب ثلاث بحيرات أولها بحيرة العمق في سهل العمق تحيط بها شعاب من جبال طوروس وأمانوس وقسم من صخور الجبل الاعلى وجبل سمعان وطولها 20 ميلاً في

عرض سبعة أميال وماؤها عذب ويقال لها بحيرة إنطاكية ويقال لها اليحر الأبيض أيضاً يصب إليها من الشمال النهر الأسود ونهر عفرين وقسم من بحيرة يغرا المشهورة بكثرة أسماكها ومن الجنوب نهر بركت ويصب ماؤها بالقرب من الجسر الحديد في مجرى طبيعي إلى نهر العاصي. وفي هذه البحيرة البط والأوز وغيرهما من طيور الماء ويربي الفلاحون والتركمان في أطرافها أبقاراً كثيرة. وتسمى هذه البحيرة بحيرة إنطاكية قال أبو الفدا في وصف بحيرة أنطاكية أنها بحيرة بين إنطاكية وبين بغراس وبين حارم في أرض مستوية تعرف تلك الأرض بالعمق وهي من معاملة حلب على مسيرة يومين عنها في جهة الغرب ويصب إلى هذه البحيرة ثلثة أنهر تأتي من الشمال فأحدها وهو الشرقي يقال له عفيرين والآخر وهو الغربي منها تحت دربساك ويقال له النهر الأسود والآخر في الوسط بين النهرين المذكورين ويقال له نهر يغرا ويغرا قرية على النهر المذكور وأهلها نصارى ودور هذه البحيرة نحو مسيرة يوم ويحيط بها الأقصاب وبها من الطير والسمك قريب مما في بحيرة أفامية وتجتمع هذه الأنهر الثلثة أعني النهر الأسود ويغرا وعفرين وتصير نهراً واحداً ويصب في البحيرة من شمالها ويخرج من سماليها نهر واحد ويتصل نهر الأرنط تحت جسر الحديد وفوق إنطاكية على ميل منها وهذه البحيرة في شمالي إنطاكية اه. البحيرة الثانية من بحيرات الولاية بحيرة السمك وهي في سهل العمق أيضاً وكان يقال لها قديماً بحيرة يغرا وهي صغيرة الحجم تضمنها الحكومة لمن يصيد سمكها. والبحيرة الثالثة بحيرة المضيق في قضاء جسر الشغر وتكثر فيها لاأسماك فتضمنها الحكومة لمن يلتزم يستخرج أسماكها ويقال لهذه البحيرة بحيرة أفامية قال أبو الفدا في وصفها أنها عدة بطائح تفوت الحصر بين غابات من الأقصاب وأعظم تلك البطائح بحيراتان أحدهما جنوبية والأخرى شمالية وماؤها من نهر الأرنط هناك من جهة الجنوب فيصير منه تلك البطائح ثم يخرج النهر المذكور عند النهاية الشمالية لهذه البطائح والغابات والبحيرة الجنوبية من البحيرتين هي بحيرة أفامية وسعتها بالتقريب نحو نصف فرسخ وقعرها قريب دون قامة الإنسان وأرضها موحلة لا يقدر الإنسان على الوقوف فيها ويحيط بها القصب والصفصاف من كل جانب وفي وسطها جميم قصب وبردي ولذلك لا يكادان تنظر العين إلى جميعها

لأن الجمم التي بها تحجب بعضها ويكون بها وبغيرها من البطائح المذكورة من أنواع الطير التمات والغريرات والبجعات والأصواغ والأوز ولاطيور التي تأكل الأسماك مثل الجلط والأبضات وغير ذلك من طير الماء ما لم يكن مثله في شيء من البحيرات التي بلغنا خبرها وفي أيام الربيع ينبت بهذه البحيرة المذكورة النيلوفر الأصفر حتى يغطي جميعها بحيث يستر الماء عن آخره بورقه وزهره وتبقى المراكب سائرة بين ذلك النيلوفر وأما البحيرة الثانية الشمالية فبينها وبين البحيرة المذكورة غاب قصب وفيه زقاق يخرج فيه الراكب من البحيرة الجنوبية إلى الشمالية والبحيرة المذكورة من عمل حصن برزية وتعرف بحيرة الناصرى لأن صيادي السمك السمك نصارى ولهم بيوت على الخوازيق في شمالي البحيرة المذكورة وتكون بقدر فامية أربع مرات ووسط بحيرة النصارى مكشوف وبنيت النيلوفر في طرفيها الجنوبي والشمالي وبها من الطير نحو ما تقدم ذكره وبها السمك المعروف بالإنكليس ولشهرة بحيرة أفامية وبطائحها اقتصرتا على هذا القدر من وصفها وهذه البطائح في الغرب بميله إلى الشمال عن أفامية وقريبة منها فعرضها وطولها مقارب لعرض أفامية وطولها أه. موانيء حلب ومياهها المعدنية ومعادنها وملاحتها إن سواحل هذه الولاية عبارة عن جون سكندرونة وفرضتها المعروفة عند قدماء الجغرافيين بسنيوس وأسيوس والمعدودة من أشهر موانيء البحر الأبيض وفرضة السويدية المعروفة قديماً بسندلوس وفرضة قاب آومن أعمال اشكندرونة وقره طوران من أعمال جسر الشغر وتتألف هذه الفرض والموانيء من الصخور التي تتخللها ومن رأس الخنزير المشهور. ومعطم السفن التي تجر بين سواحل سورية ترسي في مسناء الاسكندرونة أما السويدية فإن بعض المراكب التي ترسي فيها تجارية وأكثرها شراعية. أما فرضتها فاب أو وقره طوران فا ترسي فيها إلا المراكب الشراعية. وبالقرب من السويدية في وسط البحر نبع ماء لذيذ كلفوارة وكانت هذه الفرضة قديماً مبينة بالحجر متينة للغاية قدكها الملك الظاهر ببيرس اليندقداري لما رأي من الحاجة إلى ذلك لإنقاذها من أيدي الصلبيين أيام استيلائهم على إنطاكية وجوارها في قضاء جسر الشغور حمامان معدنيان ماؤهما في الأمراض الجلدية وفي سهل العمق من أعمال حلب ماء كبيرتي

تبلغ حرارتها الدرجة لثانية والأربعين وفي قضاء بيره جك على الفرات حمة أخرى وفي كل من قضاء مرعش وقضاء زيتون حمة أيضاً وفي قضاء البستان مياه معدنية ايمها أيجمه نافعة للأمراض المختلفة. هذا وصف تقويم الحكومة لحمامات حلب ووصفها ابن شداد في القرن التاسع فقال إن الحمامات التي ينتفع بمائها في أعمال حلب خمسة بالسخنة ن أعمال قنسرين ماؤها في غابة الحرارة ينتفعون بها ن البلغم والريح والجرب ويناجيه العمق وبناحيةى أخرى ويكورة جومة من أعمال قنسرين عيون كبريتية تجري إلى الحمة والحمة قرية يقال لها حندراس لها بنيان عجيب معقود بالحجارة يأتيها الناس من كل الآفاق فيسبحون بها للعلل التي تصيبهم ولا يدري من أين يجيء ماؤها ولا أين يذهب. أما معادن الولاية فإن في جوار من جهة الغرب الجنوبي معدن نحاس وعلى عشرين ساعة من شرقي حلب في محل اسمه أبو فياض فحج حجري وفي جوار حلب معدن رخام أثفر وفي قضاء حارم معدن زجاج وفي ناحية أرسوز من أعمال اسكندرونة ممعدن بترول وفي ذاك الأصقاع وأعمال إنطاكية معادن اميانت وبوراسيت ورصاص وأنتمون وكرون وفي جوار قرية دير الجمال من اعمل كليس معدن جيسن تلزم الحكوم لمن يريد وفي جبل بايشا من أعمال حارم معدن رخام أصفر وفي قرية جاربين من اعمال عينتاب معدن رخام أحمر وفي جبال مرعش مناجم ذهب وفضة وحديد ورخام اصفر ورخام أسود وفي قضاء زيتون معدنا حديد. وفي ولاية حلب ملاحة واحدة وهي مملحة الجبول شرقي حلب من جهة البادية وهي عبارة عن عدة ملاحات وأعظمها ما كان في جوار قرية جبول على شكل مخروطي عظيم لاتطاف أطرافها في أقل من ثماني عشرة ساعة يجمد ماؤها في أيار إلىتشرين الثاني فيكون في هذه الفترة ملحاً تبيعه الحكومة كما تبيع الملح من ملاحة جيرود وملاحة حماة وملاحة الجليل هذه الملاحة جبل اسمه جبل الخاص وومن ورائه إلى لابادية سبع ملاحات واسمها الحمرا وخرايجة وعيتا وزرقة ورملة ورديهم ومراغة تبعد بعضها عن بعض من أربع إلى ست ساعات وتجمد في آن واحد وملحها كهلا جيد طيب ابيض قوي نظيف وفي لذاذته من أجمل ملح البلاد العثمانية.

أقضية حلب وعمرانها لحلب ثلاثة عشر قضاء هي من عملها مباشرة وهي: قضاء عينتاب أهم أقضية حلب يبعد عنها من شماليها 24 ساعة. ولم تكن عينتاب مشهورة بهذا الاسم حتر على عهد الصليبيين بل كانت مدينة دلوك إلى عينتاب في سنة 800كما فهم من سجلات المحكمة الشرعية هناك ومن هذا العهد ابتدأت شهرة عينتاب وهي اليوم بجسامتها وعمرانها تعد من المدن الثانية في هذه الولاية. وكان في قضاء عينتاب بموجب إحصاء الحكومة منذ أربع سنين 12. 531داراً و4851 دكاناً و220 مسجداً و25 مدرسة 10 تكايا و 3 مستشفيات و60 فرناً و16 دباغة و4 دور كتب و2914 نولاً لصنع الألاجة والاقمشة والعباآت والبسط وفيه 352600 دونم من الأراضي المزروعة و112000 دونم من الأراضي غير لمزروعة وسكن القضاء 89994 نسمة وللقضاء ثماني نواحي وهي ناور. رشي. قزلحصار. تل بشار. هزل. جار بين. جكدة. قزين وفيها 207 قرى. وفي الشرق الجنوبي من عينتاب على نحو ست ساعات منها خرائب تل بشار وتل خالد المشهورة في زمن الصليبيين وفي الغرب الجنوبي منها على مسافة ثلاث ساعات خرابة قلعة برج الرصاص. وعلى ثلاث ساعات من غربي عينتاب ينبع من مرزعة رأس الساجور نهر الساجور المشهور فيسقي عينتاب وبعض أراضيها ثميري إلى قضائي الباب ومنبج يسقي بعض زروعها ويصب في الفرات. ويكثر في قضاء عينتاب الفستق والعنب والتين والزيتون وتصنع فها بسط وسجادات متينة جميلة وشغل الأبرة وفوط الحمام والعاباآت والجلد المدبوغ والأواني النحاسية والكراسي والقاعد الخشبية وغيرها ومنه ما يسافر إلى أميركا وأوربا ومنه إلى مصر وال، اضول والإستانة ولها تجارة واسعة مع حلب وأورفة وممرعش واسكندرونة. قضاء كليس - هي في الجهة الشمالية من حلب علىمسافة 12 ساعة منها وفيالقضاء 4721 دارا و1955 دكاناً و37 جامعاً و14 مسجداً و24 تكية و28 مدرسة وخزانة كتب واحدة و74 معصرة زيت و50 خاناً و 31 فرناً وفيه 2272700 دونمات من الاراضي يزرع فيها الأرز والقطن وسائر الحبوب والفواكه وتكثر في هذا لاقضاء الكروم ولابساتين

وزيت زيتونها يرجح على ما يخرج من جميع البلاد العثمانية وسكان القضاء 72206 فيه تسع نواح هي تركمان. فلاح منبج. موسيكلي. شقاغي. عميكي. أوقجي عزالدين. الشيوخ. جوم و469 قرية بحيث يجدر أن يكون لاية قائمة برأسها لأقضاء صغيرة ملحقاً بالولاية. لا يعلم تاريخ بناء مدينة كليس وغاية ما عرف أنها كانت موجودة سنة 491هـ - يوم قدوم الصليبيين إلى هذه البلاد ومعروفة باسم كالجيس وكانت تابعة لمدينة عزاز فلما أخرب هذه تيمور لنك أخذ بعض أهليها يهاجرون إلى كليس فبدأت تكبر كما يشاهد من طرز أبنيتها ومعاهدها. وفي هذاالقضاء قلعتا عزاز وراوندة المشهورتان على عهد الصليبين وفي ناحية جوم خرائب مدينة جنديرس في مزرعة صغيرة وفي ناحية العزية خرائب قلعتي جم جمه وخروز. ومرج دابق المشهور ولامعركتين العظيمتين اللتين وقعتا فيه هو أيضاً منأعمال كليس بين هذه ومدينة حلب على أربع ساعات من الأولى وست من الثانية وهاتان الوقعتان كانت أولاهما سنة 803 هـ بين تيمورلنك والملك الظاهر برقوق ملك مصر دولة الجراكسة وكان عسكر تيمورلنك فيما قيل خمسمائة ألف جندي ومثله عدد العساكر السلطان سليم العثماني والسلطان الغوري صاحب مصر والشام التي بفتح الدولة العثمانية لبلاد الشام ومصر. قضاء اسكندرونة - هو على 105 كيلومترات من الغرب الشمالي عن حلب أو على 24ساعة واسكندرونة كانت من أهم سواحل سورية بتجارتها قبل فتح ترعة السويس لأنها ميناء ولايتي حلب وديار بكر والمنفذ الطبيعي للعراق إلى البحر الأبيض وفي قضائها 25550 دونماً من الاراضي وفي المركز 1199 داراً و446 دكاناً و5 معامل لعرق الوس وجامعان و5كنائس وأديار ومدرسة ودار كتب كتاتيب وفي القضاء 24قرية وناحية واحدة اسمها أرسوز وسكنه 193. 6 أنفس. ويقال أن الاسكندرونة هي مدينة ميرباندروس الفينيقية ولما غلب الاسكندر المقدوني دارا ملك الفرس في أياس سمى اسكندرونة باسم الكساندرا وأراد الاسكندر أن يشير إلى غلبته هذه فأمر ببناء الاسكندرونة الحالية سنة 955 قبل الإسلام وأصيبت المدينة بزلزال شديد سنة 1238هـ - جعلت عاليها سافلها ثم ترجع إليها عمرانها مع الزمن وفي هذا القضاء

ميناء أريسوس المشهور فيزمن الرومانيين ويقال لها اليوم أرسوز وكان يقال قديماً لخليج الاسكندرونة سينوس باللغة اللاتينة وأكبر دليل على ترقي الاسكندرونة تجفيف بعض بعض بطائحهاالتي كانت بصحة سكانها ويكثر في ارضها الليمون والبرتقال وقد رسا في مينائها مدة سنة 600 سفينة وباخرة محمولها أربعمائة ألف طن وكانت قيمة صادرها وواردها 3. 296. 774 ليرة عثمانية. قضاء إنطاكية - مدينة إنطاكية غربي حلب وهي منها على مئة كيلومترات أو اربع عشرة ساعة وفغيها 135 مسجداً وجامعاً وزاوية وتكية و30 مدرسة و 5 دور كتب و15 كنيسة وبيعة و18 مكتباً للمسلمين ولغيرهم وفي القضاء كله 10281 داراً و2553 دكاناً و330 مخزناً و24 خاناً 123 طاحوناًَ و15 معمل صابون و30 معمل حرير و50 معمل زيت و1602 أنبار ومستودع و3110 كروم و255 حديقة و49. 521 حقلاً وفيه أربع نواح وهي قصير. سويد. قره مورطة. حربية. وعدد قراه 176 وسكانه 78701. بنى إنطكية سلوقس نيكاتورا أكبر قواد الاسكندرونة المقدوني على اسم أبيه أنطيوخس قبل الهجرة ب - 882 سنة وأصبحت عاصمة المملكة السلوقية بعد وفاة هذا الفاتح وما برحت في ارتقاء وعمرانحتى سكنها سبعمائة ألف واستولى عليها سنة 723قبل الهجرة يوناتان اليهودي فقتل في يوم واحد مئة ألف نسسمة فيما يقال وقد وقعت فيها سنة 526 م زلازل هائلة هلك بها ربع مليون من البر ثم عاودتها الزلازل والحرائق في أوقات مختلفة حتى بلغ عددها عشرين زلزالاً وحريقاً ومثل ذلك من الحروب الطاحنة فخربت إنطاكية ولم يبق من عظمتها التاريخية سوى بعش جدار قلعتها القديمة والظاهر من هيئة الجسر الممتد على العاصي أنه من ابنية السلوقين ومن يدخل إنطاكية ويذكر فيها من القصور والدور والمعابد والهياككل اليونانية والحمامات الجسيمة والاقنية ودور التمثيل لايلبث أن يذرف دموع الاسى على بلد أنفقت العاهات السماوية والارضية على تخريبة ولقد قالو ان التمثيل أرتقى فيها حتى كانت تجلب الممثلين من صور وبيروت والمغننين من بعلبك ولا عجب فقد كانت في عصر الرومان ثالث عواصمهم بعد رومية والاسكندرية. راجت العلوم في هذه العاصمة ونفقت اسواق الصناعات ولا سيما الفلك والالهاميات ولا تزال إلى اليوم على ضعفها تحتوي على شيئ من المصنوعات وزراعتها وحدائقها تغل

كثيرا وميناء السويدية عنها على ست ساعات وهي فرضة ربة اليوم لا تطرقها السفن الا نادراً وكانت تعد من اهم مرافئ سورية واول فرضة منها عكا ثم صور وطرابلس والسويدية ولى ساعة من انطاكيا مدينة دفنة القديمة ويقال لها اليوم بيت الماء وكانت منتزهاً لإنطاكية على اعهد سلوقس نيكاتور وقد بنيت دفنة قبل إنطاكية وكان فيها الشوراع المتسعة ودور التثميل المهمة وفيها هيكل أبولون وغيره من الهياكل وأبولون هورب الصناعات والآداب واطب والشمس في إعتقاد قدماء اليوناننين وقد بقي هذا الهيكل 1188 سنة وعلى مقربة من دفنة كان ملعب الالعاب الأولمبية وقر خربت دفنة برمتها سنة 526 م بالزلزال ولم يبق منها اليوم سمى منماظرها الطبيعية المدهشة فقط. وعلى ستة أميال من السويدية من عربيها علىسفح جبل موسى مدينة سلوقية القديمة ويقول بعض المؤرخين أن سلوقية كانت من مدن الفينيقين ويقال لها إيليا هيريا وفي رواية سلوقس نيكاتور بناها على سامه وغدت بعد ميناء إنطاكية وكان اسمها بياربا وهو من أسماء الجبل الأقرع وإذ كان تسع مدن تعرف بسلوقية في ذاك العصر أضافوا اسم الجبل إلى هذه تمييزاً لها عن غيرها. وفي رواية أخرى أن القيصر طيباريوس جدد سلوقية وفي قرل آخر أنه أنشأها إنشاءً وقد خربت سلوقية في زلازل سنة 526 - 528 ولما استولى عليها المسلمون لم يكن فيها غير الاسم لا الرسم وسميت هذه الميناء بميناء مار سمعان في القرن السادس للهجرة أيام جاء الصليبيون إلى هذه الديار ومالأهم الأرمن ونصارى إنطاكية وغيرها وخدموا جيوش اللبيين واتحدوا وأياهم على المسلمين كما كان اللبنانيون ولا سيما أهل كسروان أدلاء الصليبيين يدلونهم على عورات أهل البلاد الأصليين. قضاء إدلب - قضاء إدلب في غربي حلب ييبعد عنها اثنتي عشرة ساعة وفي القصبة 37 مسجداً وجامعاً و3 مدارس و3 كتب و15 تكية وزاوية وكنيسة و17 كتاباً و10 حمامات و959 دكاناً و12 خاناً و56 معصرة و 2157 داراً ونفوسها 13230 وعلى ساعتين من إدلب مدنية ريحا وفيها 6جوامع ومساجد ومدرستان وثلاث تكايا وزايا وكثبين و14 كتابا وثلاثة حمامات و200 دكان و15 معصرة زيت و882 داراً و4868. وشاتهرت ريحا بجودة هوائها وهي في سفة جبلي الزاوية والأربعين وفي ظاهر ريحا عدة أبنية قديمة وعلى ثلاث ساعات منها خرابة البارة تكون في جسامتها بقدر مدينة حلب وفيها رسوم

هياكل وآثار قديمة وخرائب قلعة وفيها من أحجار البناء ما يبلغ طوله المترين والثلاثة وعرضه 75 سينتمتراً وبرتعليها حروف يونانية وقد اشتهرت قلعتها زمان الصليبيين وقاومت صدماتهم. وفي جنوبي البارة على مسافة مزرعة اسمها السرجلية فيها آثار فحمة قديمة يحيط بأطرافها بناء شاهق يسمى الحمم زين سطحة بحصا في حجم البندقة ورسمت فيه صور بعض الحيوانات والأسماك فكانت من أجمل المناظر. وشاتهرت أيضاً على عهد الصليبيين قرية زردنا وهي من عمل هذا القضاء. وفي ناحية ريحا خرائب رويحة وفيها أيضاً كثير من العاديات ولامصانع ومن عملها أيضاً قرية اسمها المنارة فيها مغارات وأحجار بديعة وقد زبرت صور حيوانات وغيرها في مدخل المغارات ونقشت أنواع النقش البديع. ومعرتمصرين ومن أعمال إدلب ساعتين منها وفيها 14مسجداً وجامعاً ومدرسة واحدة و15كتاباً و3 حمامات 201 دكاناً و7خانات و573 داراً و3261 نسمة من السكان وعلى ساعتين من إدلب سرمين وهي مدينة مشهورة خربت اليوم وفيها 8 جوامع ومساجد و3 تكايا و6كتاتيب و75 دكاناً و5 معاصر و367 داراً و 2054 نفساً. وفي الجوار سرمين على 11 ساعة من حلب قصبة من برية بنش وفيها 12 جامعاً ومسجداً و205 دكاناً و465 داراً و2722 نسمة. وفي ناحية أريحا في سهل الروج ينبع نهر من محل اسمه عرى في سفح جبل البالعة يفيض بعضه ويكد ماء الآخر فتتألف منه بطائح ولا يستفاد منه في إرواء الأراضي ولا في غير ذلك وهناك بحيرة صغرى فيها علق وأراضي القضاء 126000 دونم يزرع هاء أربعة أخماسها وهي الزيتون منبته للغاية جيدة الهواء وفواكهها وبقولها عذي تروى يماء السماء فقط وأهم محصولاتها الزيتون ويقدر محوله سنوياً بثلاثة أرباع المليون ليرة وزراعة القطن وترتقي هناك عن سنة وتخرج إدلب الصابون والحصر الرفيعة اللطيفة وفي القضاء كله 117 قرية عامرة سكانها 50185 نسمة. قضاء حارم - مركز هذا القضاء في قصبة كفر تخاريم في الجهة القريبة من حلب وعلى ست عشرة ساعة منها وفي القصبة جامع ومسجد وتكية و4كتاتيب للذكور و3 للإناث و672 داراً و106 دكاكينن و13 معصرة و3196 نسمة. وبلدة حارم على ساعتين ونصف من مركز القضاء وفيها جامع ومسجد وسكانها 1010 وعلى نصف ساعة من الركز بلدة

ارمتاز وفيها معمل واحد للزجاج والقزاز و 5 جوامع ومساجد و10 معاصر زيت و3 مدابغ ونفوسها 1068 وعلى المزروعة وغير المزروعة ب - 661099 دونماً ونفوسه ب - 27482 وقراه ب - 172 قرية وفيه ناحية بارشا وناحية الريحانية وفي ناحية الريحانية - وهي 77 قرية ومزرعة وأهلها عشائر من الأتراك والتاتار والجاركسة على طريق اسكندرونة - حمام معدني في محل اسمه عمر آغاوآ ثار الطريق المعروف بالرصاف الذي كان يمتد قديماً من فرضة السويدية إلى الموصل وفي هذه الناحية نهر عفرين وفي ناحية باريشا 36 قرية كلها وفيها ثلاث قرى كبرى فيها المرافق اللازمة للمدن وفي ترمانين ودانا وقوقينا وفي دانا وحوار باريشا معابد قديمة وخرائب مخازن فخمة ومصانع مهمة. وفي ناحية حارم 67 قرية منها من يتكلم بالعربية ومنها بالتركية وفي هذه الناحية جبل الأعلى وجميع سكانه من عشائر الدروز. وفي هذا القضاء خمسة أعين غزيرة وهي عين الجديدة وبكي شهر عين الجوز وعين عبيدة وحارم كلها تجري إلى نهر عفرين ويختلط هذا بالعاصي ولا سيما أيام الشتاء. ويفهم من الكتابات المزبورة على قلاع حارم وارتاح وسرمدا والحصن أنها من بناء سلوقس رممها الظاهر وقد اشتهرت من بين هذه القلاع في الأكثر على عهد الصلبيين قلعة ارتاح وكانت على عهد الفتح الإسلامي مدينة عظمى وشاتهرت تيزين من أعمال هذا القضاء على العهد العمري فكان لها شأ، وفيها أسواق وجوامع. وأكثر الحبوب تنبت في هذا القضاء ومن غلاته القطن والزيتون والأفيون. قضاء بيلان - مركز هذا القضاء على 34 كيلومتراً من شرقي جنوبي اسكندرونة وفي الغرب الشمالي من حلب على 27 ساعة منها وهي بين جبل بغراس وجبل طوزوس سكانها 5040 وهي مشهورة بدبسها ومصيرها (صوجقها) وفيها 5 مساجد وجوامع وتكية ومدرسة و7 مكاتب وكنيسة للأرمن و675 داراً و130 دكاناً و7 دباغات وتعرف عند العرب بمضيق بغراس وبياب اسكندرونة وهي منتصف مضيق طوب الممتد ثلاث ساعات مطلة على سهل العمق من الشرق وعلى ميناء اسكندرونة من الغرب وهي على طريق القاصد من حلب إلى الاسكندرونة وممر لخمس أو ست ولايات محاطة بالأحجار ذات مكانة حربية مهمة وقد أقام فيها السلطان سليمان القانوني سنة 960 - 250 نفراً من

الحراس وسماه دربند جبل بغراس واسكندورنة وأنشأ فيها جامعاً وحماماً وخاناً وبعد بضع سنين أمر هذا السلطان بترك القصبة وعلى مسيرة ساعة من جهاتها الأربع معفاة من العشر على أن تبقى رقبتها لبيت المال فهاجر إليها أناس فسميت مزرعة عين التل وزيد في عدد المهاجرين إليه سنة 1183 على عهد السلطان مصطفى الثالث وسنة 1217 صدر الأمر العالي بترك اسم مزرعة عين التل وأداله ببيلان ومعنى بيلان طريق بين جبلين شاهقين والألف والنون أداة التثنية بالعربية فصار الأصل تركيا والتركيب عربياً وفي هذا الاسم مطابقة للواقع والموقع. وأصيب بيلان بزلزالين شديدين سنة 1280و1288هـ - فانحطت وقد بدأت بالنهوض منذ زهاء ثلاثين سنة، وفي مضيق بغراس في محل اسمه قسطلي انقاض سد عظيم يعرف بباب الباشا في عرض عشرة أذرع. وفي هذا القضاء قصبة بغراس وقلعتها اشتهرت فيزمن الأمويين بعمرانها ولطافتها وكذلك في عهد الصلبيين ومدينة دربساك القديمة كانت في هذا القضاء وفي إلى الشمال من بغراس على مسافة مرحلة منها وربما كانت دربساك هذه في جوار جسر مراد باشا وفي القضاء خرائب بلدة كوندوزلي وفيه قرية و1215 نسمة. قضاء المعرة - هو على 84كيلومتراً من جنوبي حلب وعلى 18ساعة منها وفي القصبة 41 مسجداً وجامعاً و3تكايا وزوايا و5مدارس وخزائن كتب و3549 داراً و442 دكاناً و43 طاحوناًَ. وفي القضاء كله 44مزرعة (جفتلك أو أبعدية) و27 حديقة و3561كرماً و7302حقلاً و25978 عقاراً و1102799دونماً من الأراضي البائرة والصالحة وتكثر فيه الحيوانات لذلك تكثر السمون والأدهان والجبن والألبان كما أنه يخرج منه الخروع. وكانت المعرة معروفة على عهد الزرومان وسامها خالس وقد خربت قلعتها سنة 390 هـ بأيدي القرامطة الباطنية وجرت فيه بين عماد الدين زنكي والصليبين عدة وقائع فقدت معها المعرة عمرانها القديم. وفي قضاء المعرة محل كفر طاب الوارد في التوراة باسم كفر طوب وينزل في هذا القضاء عشائر الموالي والحديدي وبني خالد الجسيمة ويتوفرون على تربية الماشية ويبيعونها ونواتجها في حماه وحلب واللاذقية وبيروت وولاية سورية. وليس في المعرة من الفستق اليوم ما قاله اين بطوطة فيها وتصنع في بعض قرى القضاء العباآت

والأقمشة وفيه 167 قرية سكانها 18188 وعدد عشيرة الوالي 3800 والموال 3000 وبني خالد 1500. قضاء الباب - هو شرقي حلب على 37 كيلومتراً أو أربع ساعات في المركبة ومشهورة من القديم بباب بزاعة وفيه 15 جامعاً ومسجداً و6كتاتيب و4698 داراً و2910 دكاكين و30خاناً و19 طاحوناً و7معاصر وعلى نصف ساعة من الباب قصبة تاذف وفيها 52من اليهود ومعبد قديم بني بالحجارة الغليظة ويقال أنها مدينة ضوبا المذكورة في التوراتت ويقول اين حوقل أن مدينة صوبا في جوار الفرات تسمى كعب. واشتهرت بزاعة وهي على نصف ساعة من الباب أيضاً زمن الحروب الصليبية وهي في وادي بطنان المشهور وفيها ينابيع كثيرة وخرج من بزاعة كثير من الأدباء. وعلى 15 دقيقة من شمالي الباب محل قلعة تل بطنان القديمة وكان خربها الرومانيون ويسقي بعض هذا القضاء نهر الذهب ويعمل فيها البسط وفراء جلد الخرفان وفيه 198قرية وناحية واحدة اسمها ايلبكلوا وسكان القضاء 268160 وتنزل فيه خمس عشرة عشيرة رحالة عدد نفوسها 15045 وهي الفردون، شمر، أبو خميس، أبو حمد، بنوزيد، كيار، بكارة، جبارين، مجازمة، دمالخة، نعيم، أبو بطوش، غنليم، بنو صعب، أبو ضاهر. قضاء جسر الشغر - هو على مئة كيلومتر من حلب في الغرب الجنوبي أو على مسافة 21 ساعة على ضفة نهر العاصي يحد القصبة من الغرب لواء اللاذقية وقضاء صهيون ومن الجنوب حماه والمعرة وإدلب ومن الشمال حارم وإنطاكية وفي القضاء 20 مكتباً ابتدائياً إسلامياً و6مكاتب غير إسلامية و14جسراً على العاصي وفي المركز 225دكاناً و619 داراً و10 مطاحن. وقد كانت قصبة جسر الشغر قبل أربعمائة سنة عبارة عن 15 كوخاً من أغصان التجر فأنشأ فيها محمد باش كو بريلي المشهور جامعاً وخاناً وحماماً وأصبحت تنشاً فيها الدور والمساكن بعد قزاد عمرانها. وفي هذه القصبة تعمل سجوف الخيل من القطن والحرامات وستور الموائد وفي ناحية أردو من جهة الشرق على حدود اللاذقية بعض غابات ويخرج منها معد كروم والعاصي يسقي ناحية الغاب ويجتاز ناحية دركوش آخذاً إلى إنطاكية حيث يصب في البحر الرومي

فتجد على أطرافه الحدائق والمطاحن. ويخرج في هذا القضاء نهلا اسمه النهر الأبيض لذيذ الطعم خفيف على المعد ينبع من ناحية اردو بالقرب من قريتي قندونم ولقشون ويجتاز قريتي زورف وشغر القديمتين ويصب في العاصي على بعد نصف ساعة من مركز القضاء. وفي هذا القضاء قرية شغر القديمة وفيها قلعة خربة وفي المحل المسمى بقلعة المضيق خرائب مدينة أفاميا من بناء سلوقس وقد كان اتخذها معسكراً له وأنشأ فيها مدرسة لتعليم الفرسان وجعل في المرعى الكائن في رأس المدينة عشرين ألف حصان مدربة للحرب وثلثمائة رأس جاموس. وتعمل في هذه القلعة جواليق وخيام من الشعر وفي القضاء ماء معدني نافع اسمه حمام الشيخ عيسى يقصده المرضى في شهري نيسان وأيار وفي شهور الخريف للاغتسال بمائه. ويصاد سمك كثير من نهر العاصي في جهة الغاب ومن بحيرة المضيق وداليان تبيعها إدارة الديون العمومية بمئة وخمسين ألف قرش شنوياً ويحمل سمكها إلى حماه وحلب واسكندرونة واللاذقية وبيروت، وتبلغ أراضي القضاء 410000 دونم وكسراً وفيه أربع نواحي وفي قلعة المضيق وبداما ودركوش وأردو وعدد قراه 169ونفوسه 27901. قضاء جبل سمعان - هو على قيد غلوة من حلب ومركزه في نفس حلب وهو 113 قرية سكانها 25001 نسمة وفيه 183 جامعاً ومسجداً وتكيتان و20 مدرسة ابتدائية و286 داراً و32 دكاناً و18 خاناً و262 كرماً و104 حدائق و52675 حقلاً و78067 دونماً مزروعاً وغير مزروع وأهل القضاء مسلمون كلهم وفيه من الآثار القديمة خرائب سمعان وخان طومان وأرحاب والحاضر وأثارب يقصدها سياح الإفرنج للزيارة. وفي قرية دارة العزى بالقرب من خرابة سمعان وهي مرتفعة جداً جيدة الهواء يصعد إلى ذروة جبلة في ساعتين وفي هذا القضاء أنواع البقول والحبوب تأخذ منها حلب حاجياتها كما تأخذ دمشق من غوطتها ويجتاز نهر قويق هذا القضاء وتعمل فيع بعض الأنسجة. قضاء منبج - في الشرق الشمالي من حلب قصبة منبج على مسافة 110 كيلومترات أو 20 ساعة والطريق إليها في مستوى من الأرض يجتاز المسافر من حلب إلى الباب ومنها إلى منبج على طريق أورفة وهي مشرفة على البادية وفي قضائها 450 قرية ويقرب من

نصفها من الأراضي الأميرية وكانت للسلطان المخلوع وسكانها 6950 نسمة من الزراع و 17000 من سكان غيث وأكثر أهالي عشائرهم أبرز، كيار، أبو خميس، لهيب، عناطسة، تويمات، أبو غيث وأكطثر أهالي القصبة من مهاجري الجركس وفيها قلعة قديمة وجامعان وتكية واحدة وكتبان ابتدائيان وحمسة كتاتيب و 310 دور و60 دكاناً وعلى ثلاثة ساعات من شمالي القصبة يجري الساجور الذي يصب في الفرات ويسقي أهالي الجوار بمائه زروعهم والصيفية وتحدث عنه منافع جمة منها تدوير بعض المطاحن. وطل قضاء منبج من أول نهر الساجور إلى حدود لواء حماه والصقع المعمة هو ناحيته الشمالية أما أنحاء جبل الخاص فزراعتها محدودة وأراضي القضاء مستوية لا شأن للجبال التي تجتازه إلا ما كان من بعض الروابي والآكام في جهات حمر وكان الخراب ولم يزل كثيراً في أراضيه فأخذ الآهلون يزرعون أطثر ما يجود من الغلات ويتوفرون على تربية التين والعنب. منبج من المدن القديمة في سورية كانت تسمى هيرابوليس فتحها أبو عبيدة بن الجراح بعد فتح حلب وإنطاكية صلحاً والظاهي من عادياتها جميع أماكنها كانت قبل أن يتحيفها الخراب منتظمة للغاية وقائمة على عمد مزينة وفي هذه القصبة وجوارها نحو أربعة آلاف بئر تمناح منها المياه بالدلاء لسقيا المزروعات وفي جوار القصبة على عشر دقائق منها بناء جميل اسمه قصر البنات ويفهم من بقاياه أنه كان مصيفاً بهيجاً ولعله كان قصر أحد الملوك والأمراء. كانت منبج معمورة للغاية على عهد الدولتين العباسية والأيوبية فخر بها تيمورلنك سنة 824 وبقيت منذ ذاك العهد خراباً وفي سنة 1295 نزلها مهاجروا الجراكسة وبنيت لهم فيها الدور والمساكن وتوفروا على عمرانها. ولا تزال اليوم آثار الجداول التي حفرها القدماء من الفرات إلى القصبة تحت الأرض مائلة ومن أعمال القضاء خرائب بالس المعروفة اليوم بمسكنة وخرائب قلعة النجم مشهورة على عهد الفتح الإسلامي والدولة الأتابكية ومدينة خناصرة وكانت هذه العاصمة الثانية التي ينزلها عمر بن عبد العزيز الأموي رضي الله عنه. قضاء الرقة - الرقة شرقي حلب تبعد عنها 220 كيلومتراً أو40 ساعة وهي على الساحل الشرقي من الفرات وفي مركزها 228منزلاً و45دكانا وفي قضائها 56قرية و27مزرعة

جميع سكانها بادية رحالة وإذا اعتبرنا عدد خيامهم كانوا عبارة عن 2164 داراً وأراضيهم 12295 دونماً عامراً و294000 دونم غامرة. ومدينة الرقة قديمة جداً أنشأها الاسكندر الكبير وسماها نيكوفوريون وكانت مشهورة في سالف الأحقاب باسم البيضاء والفعة افتتحها سعد بن وقاص سنة17للهجرة صلحاً على يد عياض بن غنم فاتح الجزيرة. وعلى مسافة ساعتين ونصف مقابل مدينة الرقة من جهة الشامية في سفح الجبل كانت وقعة صفين بين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان فقتل فيها من المسلمين والصحابة جمهور عظيم. وكانت الرقة مركز ديار مضر وهي قسم مهم من الجزيرة وعلى مقربة من الرقة غربي الفرات كان مصيف هشام بن عبد الملك الذي يسمى الرقة أيضاً ولا تزال خرائبه باقية وقد أنشأ فيها هارون الرشيد معسكراً لموقعها من الثغور الإسلامية كما أنشأ فيها مرصداً فلكياً. وفي الرقة قاس بنو شاكر الجغرافيون الفلكيون طول العلم وعرضه. وفي قلعة جعبر من أعمال الرقة دفن السلطان شاه العثماني. ولا يزال أهالي قضاء الرقة بادية لم تسجل نفوسهم ويقدرون بنحو ثلاثين ألفاً وعشائر القضاء يتوفرون على الضرع أكثر من الزرع ولو أرادوا لاستفادوا كثيراً من مياه نهر بليخ في زروعهم وهو ينبع من قضاء حران ويمر شرقي الرقة على نحو ساعتين منها ويصب في الفرات. هذه نبذة من أقضية حلب وعمرانها بقي الكلام على لواءي أورفة ومرعش ولما كان أكثرها في الجهة الشرقية من سورية كان بعضها يحسب من بلاد الروم والآخر من بلاد الأكراد فمدينة البيرة (ييره جك) على 135 كيلومتراً من حلب هي على الفرات وما ندري إن كانت تحسب من سورية أم لا وكذلك قلعة الروم (روم قلعة) على ساحل الفرات.

في القطار

في القطار من بيروت إلى زحلة وناقلتي حيث يحلو في الهوى النقل ... يمشي به الدفعان الشوق والأمل كأنه جبل يشمي على جبل ... يرسو إذا شاء طوراً ثم ينتقل كأنه عند ما يجري على عجلٍ ... يجري على عجل يجري بها الأمل كالطير ليس يزيد السهل سرعته ... ولا يؤخره في سيره جبل لو سابق الأرض نحو الشمس ما اطلعت ... إلا وقد جازها في الغرب تغتسل أو طارد الزهر في ألفلاكها غلساً ... ما حط إلا ومن أرتاله زحل ما عاقه في السري برد ولا مطر ... كأن لعلم الحيا في وجهه قبل لا أنس فيه ركوبي والحبيب وقد ... بنتا وكل بصهباء اللقا ثمل قمنا عن (البور) والأفلاك قد غمضت ... منها وقد سهرت طول الدجى المقل يمشي نحو الشآم المل مكتملاً ... إلا وجفن الضحى بالنور مكتحل ينساب كالصل حرَّان الحشاشة حي ... ر وأنا كمن قطعت في وجهه السبل طوراً تخف إلى استقباله قلل ... وتارة كما قطعت في وزجهه السبل يمر كالسهم في الأنفاق مخترقاً ... حشاشة الأرض لا يلوي به الرجل خلو من الحب لا ينفك منتحباً ... يشكو ويبكي وما في جسمه علل مصعد زفرات كلما عصفت ... حسبتها طغمات الجن تنتقل تلتقي على الأرض من أبوابه بصراً ... يرده فشل في الطرق لا كلل لا يستقر على شيء لسرعته ... فلا ترى الأرض إلا عند ما يصل حتى إذا ما إنجلى سهل البقاع لنا ... بحراً يرى كل بحر عنده وشل أواجه الخضر بالأزهار مزبدة ... مثل الحلي إذا ازدانت بها الحلل عدا ومن خلفه ما لاحت له عجلن ... كأننا في سفين مالها عجل والكرم عن جانبيه مطرق خجل ... كالغيد خف إليها فارس بطل ترى العناقيد من أعناقها برزت ... مثل ال. . . . . ود لكن درها عسل حتى إذا الأرض من حر الهجير غدت ... كأنها كبد بالهجر تشتعل

صرنا إلى زحلة فالبعض قد ركبوا ... منها وكنت أنا من بعض من نزولوا يا من له هوس في كل ذي قدم ... هذا القطار فأين البغل والجمل؟!! رشيد الخوري

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار قصر بختنصر اكتشفا البعثة الأثرية الألمانية في بابل عدة آثار من زمن عصور الثوراة ومنها خرائب قصر الملك بختنصر ومعبد البعل وباب ايستار وغير ذلك من العمارات المهمة وفي لنية الآن أن يعيد أولئك الأثريون تلك العاديات إلى الصورة التي كنت عليها على عهد عظمة بلاد الكلدان يستعملون لذلك الأدوات التامة ومنها آلات لجر الأثقال عظيمة هائلة معمولة من حديد والفولاذ وبها ينقلون تلك الأحجار الضخمة والأسود المجنحة ويجعلونها في محالها وكانت تنتقل قديماً بإنضمام أيدي العبيد والأسرى وقواهم المجتمعة. وقد جعل الأمبراطور غليوم الثاني هذا المشروع تحت حمايته وبذل الماليون لأولئك العلماء من النفقة في هذه السبيل ما يلزم. ومعلوم أن مدينة بابل على بضعة كيلومترات من بغداد وإلى هذه ينتهي الخط الحديدي الألماني فبابل والحالة هذه داخلية في منطقة نفوذ الألمان كما يقول كتاب السياسة وترميم قصر بختنصر مما يساعد كثيراً على توطيد هذا النفوذ. وكل من قرأ التاريخ يعرف عهد بختنصر المجبد وما تبعه من الكوائن وقد بدأ انحطاط بابل على عهد خليفته بالتازار بعد فتح قورش الفارسي. أما القصر الذي يراد ترميمه الآن فهو على نشر من الأرض وفي جواره أراض متعسة للغاية وكان الرجالة يصعدون إليه على أدراج وكان ثمت طريق خاص بالمركبات والأسس معمولة بالحجر والحوائط من آجر لا يتفتت ولايذوب وواجهات البناء مزينة بالنقوش تمثل الصيد وقد لون الصيادون وما يصيدون بأنواع الأصباغ بالحمرة والزرقة والصفرة. والثيران المجنحة تحرس الأبواب المعمولة من النحاس وكن القصر نحو مائتي ردهة وغرفة ينزل في أكثرها نساء هذا الملك العظيم وفي الداخل ترى أنواع الطنافس والسجاد والزينات الفاخرة والأفاريز منقوشة عليها صور عزوات هذا الفاتح في مصر والقدس وصور. والغالب على الطن أن القائمين بترميم هذا القصر لا ينفكون بلذلك فقط بل يرممون أسوار المدينة وكان سمكها بضعة أمتار وهي ئاهقة العلو ولها أبراج حصينة يبلغ طولها زهاء 80متراً وسيرمم باب أيستار الربة الحامية لبابل مع ما كان عليه من الثيران والتنانين الحمر والرزق. وقد رأت البعثة موقع الحدائق المعلقة المنسوبة لسميراميس ملكة آشور وفي النية أيضاً إصلاحها.

لفحة الشمس كثرت ضربة الشمس في الصيف الماضي في بلاد الغرب فانتبه المختصون من العلماء للنظر في طرق الوقاية منها فرأى أحدهم في مونيج أن الجسم الإنساني لما كان مركباً من عناصر كيماوية فضربة الشمس ناشئة عن إضرابات كهربائية تحدث من فقدان الملح اللازم في تركيب الجسم فأبانت أبحاثه أن الأشخاص الذين يعرقون كثيراً ولا سيما من يعملون أعمالاًَ شاقة في اليوم الحار يفقدون جزءاً عظيماً من الملح الضروري لصحة الجسم واستنتج من ذلاك أن الجسم في هذه الحالة يضيع في اليوم من 30 إلى 40 غراماً من لملح الذي لا يعوضه في الأحوال العادية إلا الغذاء وشرب كمية من الماء لا يكون دواءً كافياً ونافعاً في هذه الحالة لأنه يحول دون جمود الدم وعنه ينشأ الدوار وهو أول أعراض الغثيان. ويعتقد العالم الألماني كل الاعتقادات أن ضربة الشمس تأتي بتعديل التراكيب الكيماوية في حياة الجسم تعديلاً سيئاً وذلك بحرمانه من الملح اللازم وذكر أن بعض السجون في ألمانيا كانت منذ أربعين سنة منعت من تمليح طعام السجناء بحجة أن الملح من الزوائد وهو دليل للرفاهية في التغذية فكان يحدث للسجناء مرض شبيه بالغثيان أو ضربة الشمس يقضون تحبهم معه. وقد تبين أيضاً أن السكيرين أ: ثر استعداداً من غيرهم للوقوع بضربة الشمس وذلك بأن الإلكحول إذا تناوله المرء فأفرط بالأغذية المالحة التي لا يستغني عنها الجسم وفي تقيه من الأخطار التي يتعرض لها كضربة الشمس ونحوها. التربة السوداء في كثير من أصقاع العالم أرض سوداء ولا سيما في مراكش وجنوبي روسيا واوتسراليا وغيرها فترى تربتها سواء فحمة وعي ومخصبة كل الخصب وتعطي غلاتها بدون أدنى سماد ويجود محصولها بضع سنين منوالية. ومن الغريب أن هذه التربة تكون كملها في السهول واطئة في الجملة معرضة للرطوبة والبيوسة في فصل المطر وفي أيام الجفاف تصلب وتتشقق. وقد نسب العارفون بطبائع التربة زمناً طويلاً سر هذا السواد والخصب في هذا الضرب من الأراضي إلى الكمية الوافرة من المواد المخصبة والمواد النباتية التي تغذي على رأيهم النباتات أثناء نوها ولكن أثبت البحث الدقيق أن هذه المادة النباتية تحتوي على كمية وافرة من البوتاس وحامض الفوسفور والنشاير بحيث أن المادة المخصبة هي

السبب العارض في غنى النباتات وأخصب التربة السوداء في العالم تربة تربة استرالية ولذلك انصرفت وجوه المهاجرين من أقطار الأرض إليها وقصدوها التربة الأشجار والحيوانات كل ما يغرس ويعرش ويخور ويبغم ويثغو. المطر الصناعي اخترع أحد مهندسي الجمهورية الفضية طريقة سهلة عملية لإرواء الحدائق والحقول حتى في أيام الجفاف بواسطة الماء الموزع في أسلاك كهربائية وهذه الطريقة نافعة في الزراعة تأتي على الحشرات والحلمات الطفيلية المضرة فتهلكها ويجري إليها الماء من نهر أو بئر ارتوازي أو نبع ثم يجعل في حوض من الحديد منفرد يوصل في أنابيب وجاري ذات مضخة رشاشة ويمتلئ الحوض بالكهرباء بواسطة دنمو وتستعمل الكهرباء لبعض التغيرات الكيماوي التي تولد شيئا من الأكسجين والأوزون والهيدروجين وغيرها مما يجعل الماء قابلاً للشرب وبهذه الطريقة التي جربها المهندس لإرواء حديقة في عاصمة تلك الجمهورية خلال الصيف الماضي وكان الماء عزيزاً في تلك الأصقاع تيسر أن ينبت عشب كثر لتربية الخيول لا جرم أن المطر الصناعي سيكون نعمة حقيقية للزارعين ويستعمل المجرى الكهربائي في إنارة بعض أجزاء من المدينة. أدب النشر في جميع البلاد التي لها قانون للمطبوعات مواد مخصوصة للحكم على من يخالفون العرف في مسطورهم ومنشورهم فيحيدون عن شرعة الأدب وقد حكمت إحدى المحاكم الألمانية على كل من رئيس تحرير مجلة (بان) الألمانية وعلى مديرها بخمسين ماركاً غرامة لأنهما نشرا قطعة من مفكرات الفيلسوف فلوبر فحكمت المحاكم عليها بدعوى أن هذه المجلة مخلفة للآثار وكانت نشرة منذ ثلاث ين سنة فلم يختلف اثنان في أنها غير أدبية بل أن كاتبها كان في وصفها كالجراح يشرح جثة ولا يرى في عمله ما يعبث بالأدب وتحمر منه الوجوه ومن الغريب أن أحد النقاد ترجم إلى الألمانية قطعة من الشعر الغزل كتبت بالفرنسية في القربي من الثامن العاشر ولم يكن ينشرها حتى حكمت عله المحكمة بالسجن ثمانية أشهر. التمثيل والمؤلفون

بلغت واردات دور التمثيل في باريس سنة 1910 - 1911 (27730062) وحقوق المؤلفين ثلاثة ملايين ونصفاً من الفرنكات وعدد أعضاء جمعية المؤلفين 304 وعدد من يستعدون للإنخراط في سلكهم 4543. الحرب العثمانية الإيطالية قالت المجلة ما تعريبه لقد حزن كل الحزن جميع أنصار السلام لانتشار الحرب الإيطالية العثمانية فماذا كان يا ترى من أمر المادة الثانية والأربعين من قانون محكمة لاهاي القاضية بأن جميع الدول يقضي عليهن أن يعمدن إلى التحكيم قبل أن تقرقع السيفو وتلمع الأسلحة فقد جائتنا من كل مكان رسائل الاحتجاج على ما جرى بين الدولتين مما من شأنه أن يكدر صفو الإنسانية ويذهب كل ما بذل لنفعها أدراج الرياح فكل الجمعيات الإنكليزية التي تعنى بحركة السلم قليلاً أو كثيراً قد أقامت الحجة في لندرة وعزمت أن تبعث إلى الأستانة بمؤازرنا الثاني وصديقنا المستر ستيد حتى تقرر الحكومة العثمانية طلب لاتحكيم (وقد جاء الأستانة واقبل السلطان الأعظم) والرجاء معقود بأن الدولة العليا تطلب هذا المطلب وماذا يكون من شأن إيطاليا يا ترى لا جرم أن المستر كارنخجي الذي منح محكمة لاهاي خمسين مليون فرنك لستعين بها على نشر السلام ينوي أن يتدخل لدى الدول الموفعة على عهدة السلم وذلك ما يدعو إلى الرجاء في حركة سلمية ربما نجحت في إدخال الشعبين المتحابين فغي مضمون مبادئ حقوق الدول الأصلية. عاهات الصناعة تبين بالإحصاء أن عدد من يصابون من العملة في الولايات المتحدة بعوارض قالة قد بلغت سنة 1908 35 ألف رجل من أصل 36 مليون عامل ولا يدخل في ذلك مليون عامل يعملون موقئاً وعدد الهالكين في الصناعات يزيد كثيراً فقد دل الحدث الإحصاآت أن معدل من يهلك بسببها 50 ألف رجل ولا تقل الجروح والرضوض الغير القتالية عن إصابة ملوني عملية على الأقل. أما نحن فما ندري إن كان في أحيائنا ما يوازي قدرا أمواتهم من العاملين في الصناعات. صحف العالم المتحضر

دل الإحصاء الأخير الذي وضعه المجمع العلمي الدولي للكتب أن فرنس في مقدمة دول أوروبا بكثرة جرائدها ومجلاتها فيصدر فيها 8940 صحيفة ثم يجيء ألمانيا ويصدر فيها 8050 ثم إنكلترا ويصدر فيها 4339 ثم إيطاليا وفيها 3068 ثم البلجيك 2023 ثم روسيا1661 ثم إسبانيا 1350 ثم سويسرا 11332 ثم بلاد القاع (هولاندة) 1302. وأما نظن الجرائد والمجلات التي تصدر على صورة مطردة تحت السماء العثمانية والمصرية تناهز الثلثمائة صحيفة فتأمل. العودة إلى الخلاء في أوروبا كثير من العقلاء يدعون إلى التبدي أي سكنى البادية والعودة إلى الخلاء واستثمار الأرض ولكن الحال مازال في ازدياد وسكان القرى ينهالون على المدن أي انهيال فقد كان معدل سكان المدن بالنسبة للقرى في الولايات المتحدة 36 في المئة سنة 1890 فبلغ سنة 1910 - 46 وكسراً والمأمول أن يبلغ 50 في المئة 1920 بتعديل قليل يدخل على أسباب الحياة الحديثة ويختلف هذا المعدل بين ولاية وأخرى ففي الماشوست يبلغ سكان المدن 96 في المئة وفي ولاية داكاتو الشمالية والمسيسبي 11 في المئة وقد كان نمو السكان هاتين الولايتين أكثر من سكان الولاية الأولى ومع هذا فإن المدن تجذب السكان وغم أقوال الخطباء وتأثيرات الكتاب. كليات أميركة كان بدء كطليات الولايات المتحدة ككليات أوروبا عبارة عن مدارس دينية وأولها وأقدمها كليتا هارفودويال فهما الكليتان المشهورتان اللتان تبدلت دروسهما بالتدريج ومسحا عنهما صبغة اللاهوتية فقد أخلتا إلى برنامجهما تعليم فلاسفة الوثنيين وكبار الكتاب المحدثين والأقدمين وكانت العلوم الطبيعية بادئ بديء يتسامح بتعليمها فيها فأصبح لها المكانة الأولى ثم المقام الأعلى وتعليم الدروس الوسطى أعفي منه النساء إلا قليلاً وانصرف الناس إلى تعلم ما تظهر نتيجته في الحال وتمس فوائده عن أمم ومنذ منتصف القرن التاسع عشر قد أقبلوا في التعليم بالأساليب الألمانية. والمدارس العالية في الولايات الشرقية قد أنشئت بعطايات الأفراد أما مدارس الغرب والجنوب فقد أنشأتها الحكومة والمنافسة قائمة على ساق وقدم ولا تزال بين المدارس الأهلين ومدارس الحكومة وكل مدرسة تريد أن تطهر

من تلاميذها النجابة والبلوغ وأن يكون لها أفضل المدرسين والباحثين وكليات الغرب غنية كثيراً في حين اشتهرت كليات الشرق بتأثرها الأخلاقي. الجنسية في روسيا لم تستطع روسيا على وسائط الشدة التي استعملتها في الجنوب الغربي من بلادها أن تنزع الدعوة إلى الجنسية والتناغي بحب القومية البولونية ففي كل مكان تبدو علائم النهضة والروسية لم تتأصل في مان وستزيد الدعوة إلى لاجنسية عندما تنشأ في تلك الولاية جرائد تدعو للاستقلال الإداري المحلي وعلى ما استعملت روسيا من الذرائع للقضاء على نفوذ كبار أرباب الأملاك البولونيين وحرمانهم من حقوقهم فإن الروسيين بل كبار المالكين منهم لا يكون لهم أدنى تأثير في تلك الجرائد التي هي ملك صغار المالكين وتصدر عن آرائهم. ولا جرم أن هؤلاء لحبهم لبلادهم ولغتهم وتقاليدهم يعملون على ما فيه نجاح كلمة الوطنية وستكوم مسألة اللغة أول مسألة تدخل فيها الحكومة مع الأهالي في أشكال فإذا توسعت الحكومة في اضطهادها يزداد الخرق بينها وبين المحكوم عليهم وتشتد العداوة والبغضاء. قالت إحدى المجلات الروسية ولا سبيل إلى حل هذه المعضلة إلا بأن تعمد الحكومة التي قضي بها العدل والحق فتجري عليها وهناك الراحة لها ولغيرها. منتدى المعمرين أنشيء في يابان منتدى لا يدخله إلا من بلغ مئة سنة من عمره سموه منتدى المئوييون ورئيسه الكونت أوكوما المشهور وجميع المشتركين معه متعهدون أن يحافظوا كل المحافظة على مبادئ الصحة الشديدة التي تضمن وتعد بطول الحياة وكلهم يودون أن يعيشوا أو يرغبون في أن يعيشوا مئة سنة أخرى على الأقل. قالت إحدى مجلات يابان وإن هذا العزم لا نفع جداً من أن يفزع المعمرون إلى المعابد ويستنزلوا رضا الأرباب لتطول شيخوخيتهم ومن مبدأ هذا المنتدى أن يبحث المرء ليكون نافعاً لإخوانه ما أمكنه ويتأتى له ذلك إذا عني بصحة الجسم كما يعني بصحة العقل وكل منهما نتيجة لأزمة أصحابه حتى أن رئيس هذا المنتدى يشترك مع القائلين بطول الحياة أن يعمر 185سنة!

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات نظام القضاء والإدارة تأليف أحمد بك قمحة طبع بمطبعة الجريدة في مصر سنة 1328هـ - 1910م ص343 لو كتب لمصر أن يرتقي فيها كل فرع من فروع العلم على نحو ما ارتقى القضاء لأصبحت كفرنسا لا تنقصها إلا أن أهل مصر ساميوةن عرب وأهل فرنسا توتونيون فرنسيس وأمامنا الآن هذا التأليف النفسي كتبه مرلفه من ألأساتذة القضاء بلسان سلسل وتنسيق بديع وضمنه النظامات القضائية والإدارية والمالية والسياسية في القطر المصري وطبع طبعاً نفسياً حتى جبب مطالعته والأخذ منه لكل من لا ميل عنده لمثل هذه الموضوعات وناهيك بمن يحتاجون إليها في بلاد الشرق ولا سيما العثمانية والمصرية. والناظر في هذا السفر يعرف مصر وطرفاً مهماً من تاريخها السياسي والإداري والقضائي. خذ مثالاً لذلك ما أورده في امتيازات الأجانب وتعليلها قال: وسبب ذلك أن الحكومات الإسلامية اعتادت من قديم الزمان أن تتساهل مع المسيحيين الذين في بالدهم فأجازت لهم عدم اتباع الأحكام المرعية وتركهم يتقاضون في أحوال مخصوصة بحسب قواعد دينهم وقوانينهم. فمع شدة الاختلاط وتمكين العلائع ومضي الزمن أصبحت هذه العادة بمثابة القانون وأضحى هذا التسامح حقاً لهم لا يحتمل النزاع. هذا ما نتج عن مجرد التساهل ومحض التسامح على أن هناك ما بني على المعاهدات فإنه توجد معاهدة عقدت بين سلطان مصر صلاح الدين بن أيوب وجمهورية بيزا مؤرخة في 15صفر سنة 569 (سنة 1172م) ستدل من عبارتها ومن المعادات التالية لها على أنه منح البيزانيين جملة امتيازات خاصة بالتقاضي والمملكة وقد حصل كذلك الفلونتيوم (الفلورنتيون والبيزانيون هم الطليان) من أبي النصر قائد باي سلطان مصر على عدة اتيازات قضائية بأمر أصدره في سنة 1488 جاء فيه ما يأتي: إذا حدث خلاف بين الفلورنتين أنفسهم ليس لحكامنا وقضائينا المسلمين أن يتدخلوا في مسائلهم ولكن الحكم في ذلك لقنصل الفلورنتين فيحكم في هذه الحالة بما يناسب القوانين الفلورنتية. ومما يلاحظ أنه حصل التوسع في العمل بهذه المعاهدات حتى عمت جميع رعايا الدول المسيحية الواحدة بعد الأخرى وبقي الحال كذلك إلى أن حلت الدولة العلية المحل الأول من

الدول الإسلامية فنسيت هذه المعاهدات النسيان ولكنها ما لبثت أن عادت بعودة الاختلاط ومقتضيات الأحوال فتعاقدت فرنسا على أرجاعها باتفاق جديد بصورة أنه معاهدة تجارية في سنة 1535 حررت بين السلطان سليمان الأول وفرنسوا الأول ملك فرنسا وكان مضمونها التأمين على أرواح الفرنسيين وتجارتهم. وقد ظل تجديد هذا التقاعد إلى أن عقدت معاهدة سنة 1740 بين السلطان محمود الأول ولويس الخامس عشر ملك فرنس وصارت هي صاحبة الشأن في حماية رعاياها وجميع الأجانب الذين يلتجئون إليها.، وقلدت فرنسا الدول الأخرى في عقد هذه المعاهدات المعروفة أيضاً باسم العهود نامات وأخذت الامتيازات تزداد شيئاً فشيئاً بمساعي الدول من جهة وبإهمال الحكومات الشرقية من جهة أخرى من طريق كونها أقرت بعض العادات وإن كانت خارجة عن نصوص المعاهدات في الواقع ونفس الأمر. ولا خلاف في كون جميع هذه العهود نامات نافذة على مصر كما تقدم لأنها جزء من ممالك الدولة العلية لا سيما أن الفرمان الصادر لمحمد على باشا في أول يونيه (حزيران) سنة 1840 اشترط فيه إعادة المعاهدات الموجودة والتي ستوجد فلا شك حينئذ في أن الأجانب متمتعون بالامتيازات في مصر أسوة بسائر بلاد الدولة العلية. والخلاصة فإن هذا المصنف ممتع نافع كتب هذا النموذج فجاء ناطقاً بالثناء على أبي عذره دالاً على فضله بين الأساتذة وجميل ذكره. تاريخ حرب فرنسا وألمانيا سنة 1870 - 1871 لجرجي أفندي يني طبع على نفقة يوسف البستاني بمصر سنة 1911ص 216 مؤلف هذا الكتاب رصيفنا صاحب مجلة المباحث من المشهود لهم في فن التاريخ ألف تاريخ سورية في حداثته وهذا الكتاب نشره أيضاً في جريدة الجنان أيام صدورها في بيروت وقد كتب المؤلف عدة أبحاث تاريخية في بعض المجلات ولا سيما في المقتطف أبانت عن تضلعه من هذا الفن الجميل وتاريخه هذا من أنفع ما يكون لأبناء العربية في تلك الحرب ولذلك أحسن ناشره في تجريده ونشره للناس عل هذه الصورة فلمؤلفه الرصيف أحسن الثناء على هممه وحسن بلائه.

مطبوعات مختلفة القراءة العربية في المعلومات المدنية - عربه من التركية السيد عبد القادر المبارك وفيه ما يلزم كل عثماني من المعلومات عن حالة حكومته. قانون أصول المحاكمات الحقيقية وذيله الجديد الذي صدرت الإرادة السنية آذنة بالعمل به بعد التصديق عليه من مجلس الأمة وقانون الجزاء الجديد وفيه القانون القديم والمواد والذيول الجديدة التي أضافها مجلس الأمة وبعض تعليقات معربة بقلم شاكر أفندي الحنبلي. وهذا الكتابات والكتاب الأول معربان أحسن تعريب تشهد لمعبيهما وهما من فضلاء دمشق معروفين بالأدب وطول الباع فعساهما يتوفران على تعريب كل ما كان من هذا القبيل ليطلع العثمانيون العرب على ما يسن بالتركية من القوانين ويكتب من الكتب النافعة في تقوية الشورى في النفوس. الجغرافيا الطبيعية - لجامعة عبد الله أفندي عمر التنير وهو يبحث في التربة والتلال والجبال والأودية والأنهار والبرك والبحيرات والأوقيانوس والهواء وغير ذلك من الأبحاث التي تنشئ التلميذ الصغير على حب العلوم والصناعات طبع في بيروت سنة 1329 في 116 صفحة مع بعض الرسوم. تحريم نقل الجنائز - رسالة لمؤلفها السيد هبة الدين الشهرستاني صاحب مجلة العلم في النجف الأشرف في العراق ذكر فيها رأيه ونصوص علماء الشيعة في تحريم نقل الجنائز من مكان لآخر كما يفعل بعض العامة من الشيعة فيأتون إلى كربلاء واللغري بموتاهم من أطراف العراق وفارس يدفنوها هناك وقد أجاد الرصيف في التنفير وهذه العادة المضرة الملتبسة شعار الدين. أسماء البنات - معانيها وعلاقتها التاريخية وأشهر نساءٍ دعين بها تأليف أمين أفندي والغريب صاحب جريدة الحارس البيروتية وفيه كلام نافع في فلسفة الأسماء ولا سيما الإفرنجية والقديمة.

أعداء الإصلاح

أعداء الإصلاح الطرق شتى وطرق الحق مفردة ... والسالكون طريق الحق أفراد لا يعرفون ولا تدري مقاصدهم ... فهم على مهل يمشون قصاد والناس في غفلة عما يراد بهم ... فجلهم عن سبيل الحق رقاد ما خلا عصر من عصور الإسلام من أعدء لكل جديد ومن جامدين ينكرون ما بلا يألفون. فقد لقي المعتزلة والفلاسفة والمتكلمون والنظار من أعداء العقل كل شدة في القرون الراقية وكان عقل الملوك هو الذي يحول على الأغلب بين الجامدين وبين ما يشتهون من الأعتداء على القائمين بتأييد سنن العقل والناصرين بأقوالهم وأفعالهم مذاهب السنة والنقل. ومن نظر نظرة مجردة عن الفرض في سيرة المناهضين للمصلحين على اختلاف الأعصار بجهدهم جروا على غير ما يعتقدون وطلبوا بمقاومة المصلحين إرضاءً العامة ونيل الحظوى لديهم واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين وقليل جداً من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآتيهم. يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته، ويتحامل الجاهل على العالم ليعرف بين قومه بأنه قسيمة في صناعته ومثيلته في فضيلته ويطعن الجامد الممخرق بمن يحب أن يعبد الله بعقل ويبحث في عالم الكون والفساد بروية ليتظاهر بأنه بعيد الغور شديد الغيرة وما أقواله الأرياء وما أفعاله إلا وساس وأهواء. لقي المصلحون من الأهاويل في الأمة العربية مما لقيه أمثالهم في الأمم الأخرى فيما نحسب وخصوصاً بعد القرن السابع وقو توزعت بلاد الإسلام ملوك الطوائف وكان أكثرهم على جانب من الجهل والغباوة لا يهمهم الإرضاء المشعوذين بالدين ليحولوا العامة أليهم فيقوى بهم ضعفهم وستعينون بهم على تكبير رقعة ممالكهم وبسط ظل سلطانهم على النفوس فيستمتعون بشهواتهم وبذخهم ورفاهيتهم. عجبت لمتاع الضلالة بالمدى ... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أعجب ساعد على الانتقام من العالمين العاملين ناس من أرباب المذاهب سرت أحكامهم بقوة أربابها فكان الحكم يجري على المبتدعة وأرباب الأهواء بزعمهم بموجب قوانين لهم سنوها ومنها المذهب المالكي الذي كان يحكم قاضيه بقتل أكبر عالم في الأمة - والقتل يعد

من التعزيز في مذهب مالك - خالف المألوف من العادات التي اعتقدتها من أصل الدين وعد الخروج عنها كفراً وإلحاداً وما أسهلها صدور الحكم بهما من أعداء الإصلاح المماحكين. سالت الدماء كالأودية في بغداد للفتن بين الحنابلة والشافعية مرات وسالت دماء كثير من الخاصة في كل قرن وعذبوا وأوذوا بواسطة أرباب المظاهر من المتنطعين ممن شق عليهم أن يروا كلمة الإصلاح الديني والدنيوي تفعل في الأرواح فعلها المطلوب فحدثتهم أنفسهم أن يتساوى المفكرون وغيرهم في نظر العامة أن يتمكنوا من إسقاطهم ليخلو لهم الجو ويقتصر في تقبيل الأيدي وطلب الدعوات وإلتماس البركات عليهم دون سائر المنتسبين للعلم والشريعة. ومن غريب أسرار الله في خلقه أن جمع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا وودثرت أسماؤهم وظلت أسماء من عادوهم وآذوهم تشهد بالجهل المركب على أعداء العقل السليم والتعاليم الصحيحة. أين أعداء الغزالي والسهو وردي والآمدي وابن جرير وابن تيمية وابن رشد ذهبوا كلهم كأمس الدابر وبقيت الأمة تردد على وجه الدهر أسماء هؤلاء المصلحين العاملين وتتناقل ما خطته أناملهم من سطور الإصلاح فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض لا يذكر التاريخ اليوم إلا أفراداً مم ناوأوا رجال العقل الرجيح والنقل الصحيح اشتهروا لاحتكاكهم بالحكام وموهوا على العامة بحسن حالهم لمظهر دنيوي وحطام من الدنيا تطالت نفوسهم لأن بقتنوه كأن يكون أحدهم قاضياً يخاف أن يشركه ذاك العالم المستنير في قضائه أو شيخ عامة حدثته نفسه بالاستئثار بهذا المظهر الذي يعتقده جماع فضال الدنيا والآخرة: أمثال هؤلاء الممخرفين المنفقين بدلوا المعالم والتعاليم مرضاة لأرباب الرئاسات والزعامات وسجلوا على أنفسهم العار للبت فيما ينزل به السلطان وجازوا أحد الشرع وهم يتظاهرون بأنهم المئتمنون عليه ومنهم ومن أعمالهم يشكو ويئن كما تشكو المدينة والإنسانية. نهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوءٍ ورهبانها

إن من يتظاهرون بالدين واطنهم منه برئ أضر على الدين ممن يعقونه. ومن يدعو في الغالب إلى لاإصلاح ويتخذ التقية أمام العامة درعه يكون أقرب إلى ال، حلال والضلال منه إلى من لا يطنطنون بأنهم عاة الدين والقائمون عليه وعنهم يؤخذ وبهديهم يهتدي. وشر الناس من يسرون غير ما يظهرون وتلونون باللون الذي يرون أنه وافق لهم لجر مغنم وإحراز مظهر. إن هؤلاء العامة ممن يتطالون إلى مقامات العلماء هم أفسد من العامة لأن شيطانهم يتكلم وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد. هم سوس الفسادد في كيان اهذا المجتمع يدعون معرفة كل شيء وهم لم يتقنوا شيئاً على المحارم ولو بحثت عن أعمالهم لرأيتهم أول المجترئين على انتهاك حرمات الأديان والشرائع وهم يقدسونها بلسانهم والعابثين بحدودها وهم يدعون الناس إلى الوقوف عند مراسيمها والسعاية بالمصلحين ليفنوا في أعضادهم ويفسدون عليهم أمرهم ويأبى الله أن يتم نوره ولو كره أبالسة التدجيل والتضليل من علماء السوء. لو كان أعدء المصلحين على شيء من التدين الحقيقي لكانوا اشتغلوا منذ قديم بإرشاد العامة وإنكار المنكرات المائلة في كل عصر أمامهم مثول الشمس في السماء رأد الضحى ولكن المتدلسة أمثالهم يتعلمون من قشور العلوم ما يستعينون به على الأخذ من أموال الحكومات والأغنياء والتعزيز بالعامة ولذلك كان أ: ثر اشتغال من سموا أنفسهم بالعلماء في كل عصر بالفقه لأنه سلم إلى ما يتطالون إليه من الجاه وحسن الحال قال حجة الإسلام الغزالي في الأحياء: أعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون وكانوا أئمة علماء بالله فقهاء في أحكامه وكاوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادراً في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة فيفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا بتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفيائهم في مجاري أحكامهم وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفوا الدين ومواظب على سمت علماء

السلف فكانوا إذا طولبوا هربوا وأعرضوا فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتوليه القضاء والحكومات فرأي أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم فاشرأبوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطليوا الولايات والصلات منهم فنهم الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين وبعد أن طانوا أعزة بالأعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم الأمن وفقه الله في كل عصر من علماء دين الله وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها فعممت رغبته إلى الماتظر والمجادلة في الكلام فأكل الناس على علم الكلام وأ: ثروا فيه التصانيف ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات وزعموا أن غرضهم النب عن دين الله والنضال عن السنة وفمع المبتدعة كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتلقد أحكام المسلمين إشفاقاً على خلف الله ونصيحة لهم ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه لما كان قد تولد من فتح بابه من التصعبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص تساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد رعمهم الله تعالى وغيرهم وزعمواً أن غرضهم استناط دقائق الشرع وتقرير علل المذهب وتمهيد أصول الفتاوى وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون إلى الآن وليس ندري ما الذي يحدث فيما بعدنا من الأعصار فهذا هو الباعث على الأكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع أمام آخر من الأئمة أو علم آخر من العلوم لمالوا أيضاً معهم ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما ساتغلوا به علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين اه. هذا موجز من تاريخ المتخلفين في الدين وصف به حجة الإسلام طغمتهم في عصره

الخامس من أفضل عصور النول في الإسلام فما بالك بأمثالهم بعده وقد حدثت من الأحداث ما كان الجهل سداها ولحمتها والنيل من المخلصين مبدأها وغايتها وما أصدق ما قاله حجة الإسلام أيضاً في هؤلاء الطغام أعداء الإسلام والسلام في أول كتاله التفرقة بين الإسلام والزندقة قال: وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبوهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم،، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعباتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحلية لما تقتضيه حشمتهم فهؤلاء من أين لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان أبالهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدوبات الدنيا لقبولها أم بكمال عملي وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهم هيئات هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى أو ينال بالهوينا فاشتغل أنت بشأنك ولا تضيع فيهم بقية زمانك و (أعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم أن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) وبعد فإن في هذا العصر فئات في هذا الشرق ممن اسعاذ منهم المصلحون في كل عصر ولكنهم وياللأسف حثالة الحثالة، ومثال الجهالة والضلالة، إن قلت لهم تعاليم فلان، قالوا لك أونسيت تعاليم فلان فهي أحسن وأسلم، وإن حرضتهم على علم كذا قالوا علم كذا أفضل،، عن شرحت لهم أساليب المدينة، قالوا إننا من قبل ديننا فتركناه فصار حالنا إلى ما ترى، وإن حدثتهم بطرق الارتقاء قالوا إنه يدعونا إلى الانحلال كأنه ما كفانا ما نحن فيه من البدع، وإن دعوتهم إلى الأخذ بما صح من أحكام الحلال والحرام، أوردوا لك من أقوال شيوخهم وأقاصيص عجائزهم وأحلام حالميهم ومثبطات المترهدين والمتورعين منهم ما تسأل الله معه السلامة، وإن حببت إليهم المعروف قالوا لك ما أكثر المنكرات. حملة أهواءٍ، لا حملة شريعة، وجعاب لغو وحشو لا قوام على ما يقوم العقل، سلاحهم المغلطة، ومجنهم السفسطة، رأس مالهم الثرثرة، وربحهم الغلبة بالباطل، والمهارة في المهاترة على غير طائل، مناهم، من دينهم ودنياهم، أن تفخم القابهم، وتملأ كراشيهم وعلبهم، وترفع بين الغاغة منازلهم، ويزيدوا بسطة في الجسم لا في العقل، وتكتب لهم في العالمين شهرة بعيدة بدون أن بعدوا لها أداة من أدواتها، ويصرفوا في التحصيل ساعة من

أوقاتهم، دأبهم الحط من الفضلاء، وهجيراهم النيل من العظماء، يرقعون ويلفقون، ويراوغون ويماحكون، وأكسون ماكسون، مدلسون مولسون، يعادون ما يجهلون، يجمدون على ما يعرفون، يصانعون ولا يتلطفون، يفتون وهم لا يعلمون، يجتهدون ويخطئون، يهرفون يما لا يعرفون، يعدون علوم البشر ذرة من معارفهم، ويحتقرون ما بلغه مداركهم كأن فل الله محصور فيهم، وكأن من لا يجري على هواهم محروم من السعادة هالك، أولئك هم ثعالب الإنس يأكلون لحم أخوانهم بالغيبة والوشاية، ويمشون بين الناس بالنميمة والسابة، أسود ولكن على نحت أثلاث مخالفيهم، نمور ولكن لا يحسنون الوثب إلا على من لا يصلحون خدمة لهم. يفترون ويغرون، يغرون ولا يخافون، يخربون ولا يدرون، يخرفون ولا يستحون، يمخرقون ولا ينتهون، فهم أضر على الناس من قطاع السابلة، وأفسد في جسم المجتمع من الأدواء القتالة، يرجعون بالأمة القهقري، والدواعي تهيب بها إلى التقدم، ويزينون لها الفناء والعدم، والمصلحة قاضية بالتماسك والتعاون، ويملون لها الذل والصغار، وركوب متن العار، والحالة تدعو إلى تحكيم العقل في كل قول وعمل. فألهم ثبت أقدام المصلحين وهيء لهم من الكفاءة ما يقوون به على رد غارات أعداء الأمة في إصلاحها فقد كفاها جهلاً وضلة بما كسبت أيدي المنافقين وما جلبوا عليها من الخزي المبين وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. . . . . والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا بالغو مروا كراماً

بين الفيحاء والشهباء

بين الفيحاء والشهباء المملكة الحموية حماه كلمة سامية معناها الحصن المنيع الحمي. والحماة عاصمة مملكة لا يعرف اتساعها تختلف باختلاف الدول والأزمان وقد ذكر موسى اليهودي حماة الكبرى وذكر بعض الإفرتج أنه كان انطلوخيوس الرابع أبيفان هو الذي سماها ابفانيا وسماها مؤرخة النصرانية الأول كذلك. هذه رواية الإفرنج ولم يصرح جغرافيو العرب بأن فامية هي حماه بعينها بل قالوا أن فامية ويقال لها أفامية هي مدينة قديمة ويطلق هذا الاسم على كروتها أيضاً وكانت فامية عظيمة قديمة على نشر من الأرض لها بحيرة حلوة يشقها النهر المقلوب (العاصي) وقال ياقوت أن أفامية مدينة كبيرة وكورة من سواحل حمص وقد ياق للها أفامية قال عيسى ين سعدان الحلبي يذكرها: يا دار علوة ما جيدي يمنعطف ... إلى سواك ولا قلبي بنجذب ويا قرى الشام من ليلون لا نحلت ... على بلادكم هالة السحب ما مر برقك مجتازاً على بصري ... إلا وذكرني الدارين من حلب ليت العواصم من شرقي فامية ... أهدت إلي نسيم البان والغرب ما كان أطيب أيامي بقربهم ... حتى رمتني عوادي الدهر من كثب وهذا دليل على أن أفامية كانت من المدن العوفة غير حماة يؤيد ذلك أن حماة معروفة بهذا الاسم في الجهلية فكان الشاعر حرياً بأن يذكرها بلفظها التعارف. افتتح حماة أبو عبيدة سنة 17 وكانت معروفة ف يالجاهلية بهذا الاسم وذكرها امرؤ القيس في شعره بقوله: تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية رحنا من حماة وشيزرا بسير يضج العود منه يمنه ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا قال ابن حوقل أن شيزر وحماة مدينتان صغيرتان نزهتان كثيرتا المياه والشجر والزروع والفواكه وقال ياقوت إن حماة كبيرة عظيمة كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار واسعة الرقعة حفلة الأسواق محكم وبظاهر السور حاصر كبير جداً فيه أسواق كثيرة وجامع مفرد مشرف على نهرها العروف بالعاصي عليه عدة نواعير وفي طرف الدينة قلعة عظيمة في

حصانيتها واتقان عمارتها وحفر خندقها نحو مئة ذراع وأكثر للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. ولم تكن قديماً مثل ما كانت في القرن السادس من العظم بسلطان مفرد بل كانت من عمل حمص وسماها أحمد بن الطيب قرية سنة 271 وذلك فيما ذكره من البقاع التي شاهدها في سيره من بغداد. واستولى الإسماعليون على حماة زمن الصليبين واستولى عليها تنكرد أحد ملوك سنة 1108م ثم استعادها طغتكين التركي من الإفرنج سنة 1110م وأصيبت بزلزال شديد سنة 552هـ - حتى ذكر المؤرخون أن أحد معلمي الكتانيب خرجد لحاجة وعاد وقد رقع السقف على رؤوس الأولاد كلهم قال ولم يحضر أحد من أوليائهم يسأل عن ابنه الهالك وذلك لأنهم هلكوا عن بكرة أبيهم. واستولى على حماة صلاح الدين يوسف اين أيوب. وإن ما عرف من تاريخ هذه المدينة ليشهد بأن أيام صاحبها أبي الفدا إسماعيل كانت أسعد من غيرها وبها وبه اشتهرت ولا عجب فالبلاد قد تسعد برجل وتشقى برجل فكما سعدت دمشق بعهد نور الدين وصلاح الدين وسعدت بغداد بالرشيد والمأمون هكذا سعدت حماة بأبي الفدا الملك المؤيد صابح حماة والمعرة وبرزين. ولم تر بعده وهو ملك من أهلها ومن أسرة صلاح الدين يوماً يشبه ذلك الأيام في السعادة وبقي الخراب يتحيفها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه لهذا العهد من الإنحطاط. وأحر بها أن يقال لها اليوم قرية كبيرة لا لقلة نفوسها فإنهم خمسون ألفاً ولا لتغير معالمها وضعف زراعتها فإنا مازالت بحالها لقلة عمرانها وجهل سكانها إلا قليلاً. لم يقل أبو الفدا في جغرافيته إلا أنها: مدينة أزلية ولها ذكر في كتب الإسرائيلين وهي من أنزه البلاد الشامية والعاصي يستدير على غالبها من شرقيها وشماليها ولها قلعة حسنة اليناء مرتفعة وفي داهلها الأرحية على الماء وبها نواعير على العاصي تستقي أكثر بساتينها ويدخل منها الماء إلى كثير من دورها وحماة بلدة قديمة مذكورة في التورات وهي وشيزر مخصوصتان بكثرة النواعير دون غيرهما من بلاد الشام. وحدد ابن فضل الله حماة من القبلة الرستن وما سامته آخذاً ما بين سلمية وقبة ملاعب إلى حيث مجرى النهر والآثار القديمة ومن الشرق البر آخذاً على سلمية إلى ما استقبل عن قبة ملاعب ومن الشام آخر حد المعرة من أنقراتا (؟) ومن الغرب مضافات مصياف وقلاع

الدعوة وليس لها نطاق يدور على غير ولاية برها الخاص بها نفسها وبارين والمعرة. وقال شيخ الربوة في القرن الثامن أن الشام كانت لتنقسم على عهد الدولة التركية إلى ثمانية أقسام أو مماليك والمملكة الرابعة من الثمانية حماة ويها سلطان ملك ونائب مستقل وهي مدينة حسنة خصبة كثيرة الخير والأرزاق يحوطها النهر العاصي وبأتيها جارياً من جانبيها ويجتمع بين الجانبين قنطرة ومن أعمالها الكبار بعرين وتسمى بارين وهي قلعة منيعة وسلمية وهي على سيف البرية بناها عبد الله بن صالح وعلي اين عبد الله بن عباس ولها قناة كبيرة. وذكر حماة غرس الدين الظاهري لفظ الملكة أيضاً وقال إنها متسعة على مدن وقلاع وأقاليم وقرى وأعظم مدنها حماة وإن قلعتها أخربها تيمورلنك وبها جوامع ومدارس ومساجد وأماكن ومزارات. ووصف ياقوت قورون حماة العروفة إلى اليوم فقال إنهما ثلثان متاقبلتان وجبل يشرف عليها ونهرها العاصي وبين كل واحد وبين دمشق خمشة أيام للقوافل وبينهما وبين حلب أربعة أيام. وحماة اليوم لواء في الشمال من ولاية سورية ومن أعماله سلمية وقسم من جبال الكلبية أو النصيرية وحمص وأكثر أراضيها هذا اللواء سهلية إلا ما كان من أنحاء جبل الكلبية ففيه ما في الجبال من سهول وآكام وتربة حسنة وما كان على مقربة من العاصي يستقي منه فينبت فيه القطن والقنب والحرير والبصل (النار) والخروع وأنواع البقول والأشجار وما كان بعيداً عنه يكون عذاً وخصوصاً في المحال التي يسمونها بالزوار فإنها على غاية من حسن التربة وقوة الإنبات بما يتوفر القائمون عليه من التسميد الذين يأتون بالسماد من القرى المجاورة بحيث يكون دخلهم منها يوازي دخلهم دخل أهل حدائق دمشق وبعض قراها مثل كفرسوسة والقابون وجوبر. وموقع مدينة حماة والعاصي يشطرها والنواعير تئن عن أيمانها وشمائلها من أجمل المناظر ولا سيما في فصل الربيع ومن أجمل النزهات عندهم الركوب في قارب وقطع جانب من العاصي فيرى المتنزه ضفاف العاصي مخضلة بلاثمار اليابعة تعكس على المياه خضرته وليس في حماة ما يستحق الذكر من أنواع العمران إلا بقايا صناعات قديمة مثل

حياكة الأقمشة للثياب والفوط والستائر والاعبشة والنزابيج (اللي) وغير ذلك من الأمور الحقيرة وليس فيها مدارس أهلية ولا خزائن كتب عامة ولا مطابع ولا صحف يومية أللهم إلا مطبعة واحدة وبعش صحف اسبوعية وشهرية ولا نسبة بينها وبين مكانة حماة القديمة. أما آثارها القديمة فأهمها دار أسعد باشا العظيم أحد ولاة سورية في القرن الثاني عشر وصاحب حماة بني هذا القصر منذ نحو 170 سنة على أجمل طراز على مقربة من نهر العاصي وزين بأنواع النقوش والتصاوير ويظن أن صناعه كانوا من الفرس لأن نقوشهم كثيراً من النقو العجمية وبعض الأبيات الفارسية ومن أبدع ما رأيناه فيها قطعتان من الخشب جعلتا في حائط الغرفة الكبرى ف يالداء البرانية ونقشت عليهما صورة حماة في ذاك العهد يجوامعها ومدارسها ونواعيرها وقصورها والناظر إليها يتبين أن المرسوم هو حماة بعينها وأنها كانت إذ ذاك أعم مما هي عليه الآن والغالب أن الزلزال الأخير أخربها إلا قليلاًُ. ولايجملة فأن قصر ابن العظم في حماة حري بأن يزار كقصره في دمشق وهندسة القاعة هنا وفي حماة واحدة والغالب أن من بنوا هذه بنوا تلك وكذلك الناقشون والمزينون. قلنا سكان خمسون ألفاً دع عنك من في ضاحيتها من أمها القرى وما تظن لواء حماة يقل عن أربعمائة ألف نسمة لأ بعض سكانها مكتوم في الإحصاء الرسمي ولاسيما سكان جبال الكلبية وهم نصيرية وإسماعلية بالنظر لما رأوا من الشغط والشدة في الأزمان الغابرة. وفي قضاء العمرانية حصن مصياف وفي قضاء المرقب القدموس وهما من الأماكن المعروفة عند الإسماعيلية ولها ذكر في التاريخ. على قبر أبي الفدا صاحب حماة حنانيك إسمعيل اجبني فدتك نفوس الملوك يا عالمهم وعادلهم وسيدهم. كنت في عصرك مثال العمل الصايح وها أنت لمن بعدك عبرة يعتبر. زرت قبرك الشريف وذكرت سيرتك المثلى فبكيت على الإسلام والعرب وقابلت بما قرأته على ضريحك بين السذاجة الغالبة عليك وفخفخة الألقاب بعدك. قرأت: هذا ضريح العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم اسماعيل بن علي بن محمود ابن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب عمر في شهور سنة سبع وعشرين وسبعمائة جملة لا

يجوز نقضها على قر أحد العامة فأين أنت منها يا أبا الفدا في مفاخرك وسؤددك ومجدك الخالد والطارف. حناتنيك اسماعيل كنت في حياتك قدوة الملوك العادلين تعلم الناس حب الخير وتعلم العلماء فيما توفروا عليه والفاتحين ما يفاخرون بمعرفته والحكماء ما هو أمجادهم وها أنت الىن رهين حفرة قد كاد ينسى بين قومك ذكرك فلا تبدي ولا تعيد وقومك نسوا دينهم فكيف لا ينسون رجالهم. نشأت أيها السلطان العادل من بيت عز وملك فلم تأخذ الزخارف بلبك بل تخرجت في العلم وربيت على أدب النفس وأدب الدرس حتى جاء منك عالم بل معلم للعلماء وتفننه. نشأت نشأة عالية في القرون الوسطى وغيرك من الملوك ولا سما بعدك نشأة جاهلية على الخمر والزمر والقمر لا يعرفون غير القصور والولدان ولاحور وغاية مفاخرهم أنههم يبطشون ولا يبالون يقتلون ولا يتأملون يتعاظمون ولا تواضعون فلا يراجعون يأمرون ولا يعدلون. أضحت أحكام بعض الملوك بيدك ذوقية وأعماله على الأكثر استبدادية. اتخذوا الإسلام ديناً وهو منهم برئ وعبثوا بلارخض والعزائم ليس لهم وازع من أنفسهم ولا رادع من أممهم. أصبحوا جبابرة لا ملكواً وشياطين لا إنسا وإنعاماً لا يعرفون إلا ما فيه راحتهم وتوفير قسطهم من اللذائذ والبذخ والنعيم. كنت أبا الفدا ملكاً بالأمم وملكاً بالفعل كنت شريفاً بماضيك وحاضرك أنت إلى يوم الناس هذا والي وإلى غد وما بعد غد شريف قي عامة أحوالك. لم نعه دلك كما عهدنما للملوك قبلك وبعدك أن عددت الرعية كالسائمة التي تملك فيتصرف مالكها بدرها ووبرها وجلدها ولحمها وبعمل مطلقاً في الاستمتاع بها لا ينازعه منازع. بلى عهدناك تؤاسي الضعيف ولا تجور على الفقير وتحسن للعلماء وتفضل على الفقهاء والأدباء والشعراء وتصرف أفضل أوقاتك في التأليف والتصنيف ياثاني المأمون بعملك وعقلك وثاني صلاح الدين بعدلك وجهادك. أباد الفدا إن قومك أغفلوك وسيرتك بل أهملوا صريحك ولو ذكروك لساروا ولو قليلاً على سنتك المحمودة فعلمت الملوك من بعدك بسيرتك الطاهرة كما كنت في عصرك خير معلم

للملوك العادلين والعلماء العاملين. أبا الفدا إن الملوك بعد عصرك جمعوا كثيراً وضاعوا كثيراً جمعوا فكان ملكك بجانب ماملكوا جزءاً صغيراً جداً وما خلفوا إلا ما تحمر وجههم خجلاً منه يوم يأتون في الآخرة وقد شهدت عليهم لا لهم أعمالهم وأنت سعتد يمن وليت عليهم وسعدوا بك فأبقيت ذكراً لا تمحوه الأيام. أنت علمت الخلق بأن القليل مع العقل بستفاد منه أكثر من الجزيل بدونه وإن وفرة المال والعقار لا تكون من السعادة في شيء إذا لم تسبقها نفس مهذبة بالآداب والفيلة وعقل يحسن التصرف بما يملك. من لي بنظرة منك لترى ما حل بالعرب اليوم من التمزق والفساد في المعاش والمعاد والجيل والمطبق وضعف العقول. رئم اخلاف من حكمت للمذلة وخنعوا للاستبداد وتفرقوا تحت كل كوكب فرثى لهم الصديق وشمت بهم العدو وهانهم الدهر وكل ذلك بما يفعله سفهاء الأحلام من أمرائهم وعلمائهم أنهم كانوا ظالمين. قم وانظر فقد بدلت الأرض بعد عصرك. اخترع الأفرنج في زماننا البخار والكهرباء ووفروا مرافق الحياة وقربوا الأبعاد وحسنوا العيش أما قومك فليس لهم من مدينة القرون الأخيرة إلا النظر وزادوا على جهلهم فساداً في أخلاقهم بحيث لم يبق لهم من الأمجاد إلا أن يعود إلى صحيفة أجدادهم ويفاخرون بما تم على أيدي أمثالك كالقرعاء تفخر بشعر أمها أو العجوز الشوهاء لا تفتأ تذكر ماضي شبابها. قالزا إن نظام الحكومات بعد أيامك أرتقى وإنكم كنتم في عصر تقل فيه القوانين الوضيعة وكان أكثر العمل بالقوانين السماوية فمن لنا بعصرك فإن القوانين الوضيعة ارتقت ولكن عند غيرنا من أهل الغرب والقوانين السماوية أرعضنا عنا إلا قليلاً فلم نحسن تقليد المقتنين المحدثين ولا احتفظنا بتراث الأقديمن فكنا كالعقعق أراد أن يمشي كالحجل فنسي ولم يمش مثله بل كنا من الأخسرين أعمالأً. رحماك أبا الفدا إن أمثالك أنفقوا أموالهم وأموال الأمة في شهواتهم على المغنين والمغنيات والكواعب الغانيات وأنت أنفتها على العلم والعلماء إنهم إذا كانوا جهلة أغبياء فقد كنت العالم المؤرخ الجغرافي الطبيب الحكيم ومصنفاتك شاهدة لك على غابر الدهر بأنك عالم

الملوك وملك العلماء. خلد اضرابك بسيرتهم صيت بطش وفتك وقطع وقت في العبث وأنت أقمت نصاب العدل علىمن وليت أمرهم فكانت أيامك رياض الأزمنة وبهجة العصور فجزاك الله عن أمتك أجزل ما يجازي ملكاً صالحاً عن رعيته وعالماً عاملاً يخدم الناس بعمله وفصيلته. المملكة الحمصية ربما يتسغرب البعض إطلاق لفظ مملكة على حمص فقد كانت عظيمة في الجاهلية والاسلام. كانت الشام على عهد الروم مقسومة أربعة أقسام قصبة دمشق وقسم قصبة طبرية وتسمى الأردن وقسم قصبة حمص وقسم قصبة إيليا (القدس) وتسمى فلسطين وكان لهم في كل عمل بطريق من البطارقة يحفظه وبعث الخليفة الأول لما أراد فتح الشام إلى كل عمل جنداً وأمر أميراً فعث إلى حمص أبا عبيدة بن الجراح وسيمت هذه الأعمال يومئذ إجناداً وكانت قنسرين مضافة إلى حمص ثم أفردت إلى حمص ثم صار الشام في خلافة الرشيد مقسوماً إلى ستة أجناد ثم قسم في الدولة التركية إلى تسعة أقسام منها قسم التناء والارمن والروم وانفصل عن الشام وسمي روماً. وكانت أقاليم حمص عبارة عن إقليم شيزر وإقليم فامية وإقليم معرة النعمان وإقليم صوران وإقليم لطمين وإقليم بل منس وإقليم الغلاس وإقليم كفر طاب وإقليم جوسية وإقليم لبنان وإقليم السعرة وخمسة أقاليم التمة وإقليم البلعاس وإقليم البارة وإقليم الرستن وإقليم زمين وإقليم القسطل وإقليم سلمية وإقليم عقبرتا وإقليم الجليل وإقليم السويداء ورفنية وتدمر. وخراج حمص ثلثمائة ألف وأربعون ألف دينار. وكان يحد عل حمص في القرن الثامن من القبلة قرية القصب المجاورة لقرية جوسية - وجوسية - من كور حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق بتم بها السكة الحديدة بين بعلبك وحمص وهي بين جبل لبنان وجبل سنير (قلمون) - آخذا هذا الحد إلى النبك إلى القريتين ومن الشرق السماوة إلأى لافرات ينتهي إلى مدينة سلمية ولها قلعة تقاربها تعرف بشمنش ومن الشام ما بين سلمية الرستن ومن الغرب نهر الأرنط وهو العاصي ومدينة هذه الصفقة حمص وهي دار ملك البيت الأسدي ولم يزل لملكها في الدولة الإسلامية سطوة تخاف وبأس يجذر وبها القلعة المصفحة ولا منعة لها ولها بناية جليلة وعسكر وتشتمل هذه

الصفقة على ولاية قارا وهي قبلي حمص وولاية مدينة حمص نفسها وولاية تدمر وهي ما بين القريتين والرحبة. هذه الدينة العظيمة التي كانت مملكة وولاية إلأى القرون الوسطى ضغفت في القرون الحديثة حتى أصبخت اليوم قضاء من عمل حماة وأما تاريخها قبل الإسلام فقد ورد ذكرها في مصنفات بلين الروماني باسم أميزا وذكر الحمصيون قبل عهده في جملة سكان الخيام الذين قاتلهم الرومان ومن مشاهير حمص قل الإسلام هليو كابال روبا سانيوس الكاهن الأعظم في معبد الشمس (بعل) في حمص الذي بويع امبراطوراً رومانياًَ سنة 217 وقد استولى الصليبون على حمص سنة 1099م. ولحمص وجند حمص ذكر كثير في كتب الفتوح منها أن أهلها صالحون أبا عبيدة على مائة ألف وسبعين ألف دينار وذلك لأن الحمصيين كانوا متخوفين لهرب هرقل عنهم وما كان يبلغهم من كيد المسلمين بأسهم وظفرهم فأمنهم الفاتح على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد واشترط الخراج على من أقام منهم وقسمت حمص خططاً بين المسليمن حتى نزلوها وأكنهم عاملها السمط بين الأسود الكندي في كل مرفوض جلا أهله أو ساحة متوركة وكانت مدينة حمص مفروشة بالصخر فلما كانت أيام أحمد ين محمد بن أبي إسحاق المعتصم بالله ضغبوا على عاملهم الفضل بن قارن الطبري أخي ما يزديار بن قارن فأمر بقلع ذلك الفرش فقلع ثم أنهم أظهروا المعصية وأعادوا ذلك الفرش وحاربوا الفضل بن قارن حتى قدروا عليه ونهبوا ماله ونساءه وأخذوه فقتلوه وصلبوه فوجه أحمد ين محمد إليهم موسى بن بغا الكبير مولى أمير المؤمنين المعتصم بالله فحاربوه وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها فقتل منهم البلازي وبحمص هري يرده قمح وزيت من السواحل وغيرها مم قوطع أهله عليه وسجلت لهم السجلات بمقاطعتهم. وفرش طرق حمص بالصخر قديم جدد مرات قال اين حوقل إن جميع طرق حمص من أواقها وسككها مفروشة بالحجارة والبلاط وذكر الجغرافيون من حسن حمص أنه لا يوجد بها دار إلا وتحتها في الأرض مغارة أو مغارتان وماء ينبع للشرب وهي مدينة فرق مدينة

وقال بعضهم إن مدينة حمص هي سوريا وكان بها مرصدان أشبه بالرصد الذي كان عند عين الهرمل وهو من مراصد الصابئة. قلنا إن الفاتح صالح أهل حمص على ربع كنيستهم للمسجد وقد ظلت كذلك إلى لاقرن الرابع وبعض بيعتها المسجد الجامع وشطرها للنصارى فيه هيكلهم ومذبحهم وبيعتهم من أعظم بيعالشام. وقد دخلها الروم في الإسلام مرات وأخربوها وأتوا على سوادها وزاد اختلالها بعد دخول الروم إليها ثم قوماًُ استوطنوا ممن سلم من الروم فأتت البادية عليهم تأكل زروعهم كما كان يحدث ذلك لها إلى عهد غير بعيد حتى القرن الماضي. سكان حمص والحثيون الأجح أن سكان هذه البلاد مزيج من أمم مختلفة باختلاف الفاتيحن ففيهم دم من معظم الأجناس التي حكمت هذه البلاد وأهم عناصرها الحثيون والروم والعرب فما وقع في ديار كلب من القرى تدمر وسلمية والعاصمية وحمص وهي حميرية وخلفها مما يلي العراق حماة وشيزر وكفر طاب لكنانة من كلب وحمص كدمشق وما يليهما ديار غسان من آل جفنة وغيرهم. أما الحثيون فهم جنوبيون وشماليون وكان الجنوبيون في جهات فلسطين والشماليون نزلوا أولاً جبل اللكام أمانوس ثم انشروا بكرور الأيام من الفرات إلى حماة وحمص ومن دمشق وبرية تدمر إلى كبدوكيا. ويطهر من الآثار البصرية أنه لم يكن لهم ملك واحد بل كان لكل فصيلة منهم ملك. ولم يعرف شيء عن الحثيين الشماليين قبل أن يمر الرحالة بوكهات الإنكليزي بحماة سنة 1812 يرى على جدار ازقتها خطوطاً قديمة بالخط المسند المصري أي الهيوغليقي تختلف عن الآثار المصرية ثم جاء بعده بعض رحالة من الأميركان والإنكليز. وأخذ العلماء بالتنقيب عن أمثال هذه الآثار فعثروا على كثير منها في حماة وحمص وحلب ومرعش وكركميش (أيرابوليس) وفي كبادوكيا وفي محال أخرى من آسيا الصغرى وقد علم من هيئة وجوه الحثيين الشماليين على ما رسموا في الآثار المصرية أنهم قبل الحثيين أو في الورتانو (كذا تسمى الآثار المصرية شعباً كان يسكن سورية في الآثار الشمالية قبل الحثيين أوفي جانبهم) منهم إلى سكان فلسطين ولون وجوههم أبيض ضارب إلى الحمرة.

قلنا أن أو محل احتلوه أودية جبل اللكام ثم أخذوا يبسطون ولايتهم شيئاً فشيئاً نحو الشرق والجنوب حتى اتصلوا شراقً إلى الفرات فاستحوذوا على كركميش وغراباً إلى وادي العاصي فاستولوا على حماة ثم على قادس في جانب حمص ثم غالبوا الآراميين في دمشق نفسها فحكموا فيها مدة وبسطوا سلطانهم في وقت غير معلوم إلى الشمال والشمال الغربي حتى ضبطوا آسيا الصغرى. وقادس كانت في برية حمص وقد صورت على الآثار المصرية لأن رعمسيس الثاني أحد فراعنة مصر حاصرها أيام غزا فراعنة الدولة الثامنة عشرة سورية وبالد آشور مرات ثم ضعفت مصر في آخر أيام هذه الدولة فنبدت سورية وفلسطين طاعتها. وكان الحثيون في هذه الأثناء تغلبوا على الروتان في شمالي سورية وأجلوهم من عقر دارهم وأنصفوا في مملكة واحدة فسيحة الأرجاء لنبسط من شاطئ الفرات إلى جبل طرطوس وإلى البحر المتوسط وتمتد جنوباً إلى قادس بل إلى دمشق أيضاً. أخفق رعمسيس الأول في إعادة سورية إلى طاعته لأن خصومه فيها كانوا قد جمعوا شملهم وقد لاحظ مسبرو في تاريخ الشرق أن الفراعنة لم يكونوا إلى تلك الأيام يعتبرون ملوك سورية بمنزلة ملوك مساوين لهم أو يتنازلون لقد صلح معهم بل كانوا يسحسبون أمراء يكلمون بهم أو عصاة يجرون عقابهم وكانت نهاية الحروب معهم صاغرين دون شرط أو تدميرهم التام. والظاهر من الآثار أن ساتي الأول ان عرمسيس أراد أن يستبيح حمى الحثيين فقاتلهم قرب العاصي على قلعة قادس وطالت الحرب الضروس وتعددت الواقع إلى أن افتتحها المصريون واستمات الحثيون في الدفاع حتى أصيو فرعون فاضطر أن يوقع على عهده صلح مع موتنار ملكهم عهدة ضمنت له سلامة ملكه حتى ردت عليهم قادس مدينتهم وبعد حروب طويلة على عهد رعمسيس الثاني مع الفينيقيين وقد كلت الأمتان المصرية والحثية من أهراق الدماء وعقدتا عهدة صلح وجدت صورته منقوشة على ظاهر جدار هيكل الكرنك بمصر انقطعت سائر الغزوات بين المصريين والحثيين مئة سنة وتزوج رعمسيس بابنة ملك فتوطدت دعائم الوفاق بين الشعبين. ويتلخص من أخبار تغلب فلا زار الأول ملك نينوى وكان نحو سنة 1130ق. م أنه كان

للحثيين في عهده صولة كبرى في شمالي سورية خاصة حتى كانت البلاد تسمى باسمهم لسلطانهم ولتسلط ولايتهم شمالاً إلى مدخل البحر الأسود فتوؤدي أليهم الجزية قبائل كباوكيا (في آسيا الصغرى) وكانت عاصمة الحثيين كركميش. وكانت هذه في محاربة الآشوريين للحثيين ما كانت قادس فيمحاربة المصريين لهم فكانت قادس حصناً منيعاً يخفر طريق آسيا في وادي العاصي وكركيش مثلها على الفرات وتفضلها بأنها كانت محطة تجارية أيضاً بين مغرب آسيا ومشرقها. وقد اكتشفت مدينة كركميش سنة 1875 وكان اسمها عند العرب جرابيلس. ويسميها الأتراك جرابيس محرف هيرابولس أي المدينة المقدسة وموقعها على الفرات في الشمال من نهر الساغور المعروف الآن بالساجور وفي الشرق من حلمان أو حلفان وهي حلب ومن خرزاز املعروف الآن بأعزاز في قضاء كلس وفي الجنوب من بالد كمكوما المعروفة الآن بلقيس فهي نحو الشرق من حلب وأعزاز وعلى ضفة الفرات الغربية وعلى بعد ثلاث ساعات تحت الساجور وست ساعات من البيرة. جدد شلمانصر ملك أشور حملات أبيه على الحثيين بل قضى أكثر مدة لملكه يحاربهم ومن جاورهم. وكان من عادة الحثيين أن يرسموا خطوطهم ناتئة لا محفورة فتطرق من الوراء على صفائح معدنية لتنتأ الحروف في جهتها الأخرى هكذا الأخرى هكذا كانت عهدتهم معغ مصر مكتوبة على صفيحة من فضة وتترأ هذه الحروف تارة من اليمين وتارة إلى الشمال وتارة بالعكس فإن كانت رؤوس الحيوانات المصورة بها متجهة إلى اليمين فتقرأ منها وكذلك إن كانت إلى الشمال وتقرأ أحياناً من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. وأما اللغة المكتوبة فيها هذه الخطوط فيرجع أنها ليست من اللغات السامية فالإعلام المذكور في الآثار المصرية والآشورية قل فيها ما يمكن رده إلى أصل سامي. واشتهر الحثيون بالبخت كما تشهد آثارهم الباقية ولا سيما في حصون بوغازكوي وأيوق في آسيا الصغرى واتقنوا فن تحصين الحصوة واستخراج المعادن وصناعة تحويل الحديد فولازاً وقد أخذ اليونان أشياء كثيرة في صناعتهم عن الحثين. قال سايس في كتب الحثين أن مصدر فلاح اليونان هو الحثيون الذين افتتحوا آسيا الصغرى من أقدم العصور ويظهر أن صناع الحثيين ألفوا من صناعة مصر ونينوى وبابل اسلوباً خاصاً بهم واخترعوا

صوراً منها النسر ذو الرأس الذي صار بعد ذلك شعاراً للسلاطين السلجوقيين ولبعض ملوك أوربا أما ديانة الحثيين فيظهر أنهم اقتبسوا عن بابل وبثوها في سورية وآسيا الصغرى وتطرقت إلى بلاد اليونان المذكورة واحدة وإن اختلفت اسماً. نبذة في عمران حمص ليس في الايدي مصادر يعتمد عليها لإصدار حكم مسمط على عمران حمص في القرون المختلفة وغاية ما يفهم من روايات مؤرخي العرب وجغرافيهم أن حمص في الإسلام كانت عامرة وأن الزلازل أضرت كثيراً بعمرانها وأن مدينة الرستن من الشمال وجوسية من الجنوب والقريتين ومهين حوارين وتدمر من الشرق كانت من أهم عمالاتها قال أبو نخيلة يمدح بني العباس ويشير إلى أنهم دكوا آثاراً الأمويين في الشام: وأمست الأنبار داراً تعمر ... وخربت من الشآم أدورُ حمص وباب اليتن والموقر ... ودمرت بعد امتناع تدمر والموقر حصن بالبلقان وكان ينزله الأمويين وكذلك حمص وباب التين وتدمر وإنا إذا أخضنا عياب معجم البلدان تقرأ فيه أساء مدن كثيرة أكثرها داثر اليوم فمنها مدينة المؤتفكة كانت بقر سليمة وعلى آثارها بنيت هذه وسليمة اليوم كحمص قضاءٌ من أعمل حماه ومنها مريمين وهي من قرى مص بين الرستن وحماه معروفة إلى اليوم ومرقية قلعة حصينة في سواحل حمص كانت خربت فجددها معاوية ورتب فيها الجند واقطعهم القطائع ولطمين كورة بحمص لها حصن وكفر نغد ولعلها كفرنان والقرشية قرية بسواحل حمص وهي آخر أعمالها وفوز من قرى حمص ولعلها محرفة عن فيروزة وغنثر واد بين حمص وسلمية والشام في قول أبي الطيب: غطا بالغثر البيداء حتى ... تحيرت المتالي والعشار وعقيربات ناحية بحمص لا تزال موجودة والطوبان وصوران اسم كورة بحمص وجبل وشيزر بينهما وبين حماة يوم كانت تعد في كورة حمص وسلمية كانت تعد من عمل حمص كذلك ورفينة كورة ومدينة من أعمال حمص يقال لها رفينة تدمر. والرستن قرية مشهورة قال ياقوت بليدة قديمة كانت على نهر الميماس وهذا النهر هر اليوم المعروف بالعاصي الذي يمر قدام حماه والرستن بين حماه وحمص في نصف الطريق بها آثار باقية

إلى الآن تدل على جلالتها وهي خراب ليس بها ذومري وهي في علو على العاصي. ودير ميماس بين دمشق وحمص على نهر يقال له ميماس وإليه نسب وهو في موضع نزه ولعله المنتزه الذي يقال لها الميماس اليوم ظاهر حمص ودير مسحل بين حمص وبعلبك لا يعرف اليوم ولعله بعض الخرب التي لم تشتهر إلا عند سكانها. ودير باعنتل غير معروفة وهي من جوسية على أقل من ميل جوسية من أعمال حمص على مرحلة منها على طريق دمشق وهو الدير على يسار القاصد لدمشق وفيه عجائب منها آزج أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها وهيكل مفروش بالرمر لا تستقر عليه القدم وصور مريم في حائط منتصبة كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك ودنوة كانت من قرى حمص بها قبر عوف بن مالك الأشجعي من الصحابة سألت عنها فلم يعرفها أحد مع أن قبور الصحابة والصالحين معروفة في الأكثر ولعلها في الوعر فإن وعر حمص كبير فيه آثار مهمة وهو يمتد من حمص إلى قرب طرابلس وأكثره وعرة ومن حمص إلى قرب حماه فما بعد ودير إسحاق غير موجود وهو بين حمص وسلمية في أحسن موضع وأنزهه وبقربه ضيعة كبيرة يقال لها جدر التي ذكرها الأخطر فقال: كأنني شارب يوم استبد بهم ... من قرقف ضمنتها حمص أو جدر ولأهل القصف والشعراء فيه أشعار كثيرة. وحوط قرية بحمص أو بجبلة من ساحل الشام غير معروفة والحص غير موجودة وهو موضع بنواحي حمص تنسب إليه الخمر قال أبو محجن الثقفي: إذا مت فأدفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفني بالفلا فإنني ... أخاف إذا ما مت لا أذوقها وتروي بخمر الحص لحدي فإنني ... أسير لها من بعد ما قد أسوقها وكانت أنطرطوس أول أعمال حمص وهي من سواحل بحر الشام وكذلك أفامية كورة من كور حمص على الساحل وأعناز بلد بين حمص والساحل. وعن ابن واضح معرة النعامان وتل منس وما والاها من إقليم حمص. والجبل كروة بخمص ويبرين من قرى حمص وبانياس كروة ومدينة ضغيرة وحصن بسواحل حمص على البحر. وبكسرائيل حصن من سواحل حمص مقابل جبلة هذه هي حمص وبعض ما عثرنا عليه من أسماء قراها وأعمالها

أما أسماء قراها الأميرية فإليكها الآن وعددها 137 قرية ننقلها عن سجلات الحكومة: أبو دالي. أمحارتين عتيق. أم شرشوح. أم القصب. أم حارتين يهودية. أبو همامة (الأصل أبو إمامة ونسبته إلى الصحابي المدفون بها) أكوم ومعيان. أم العظام. آبل. أكراد دياسنة. أعور. أم دولاب. بابا عمرو. بلقسة. برابو. بريح. بتيسه. بويضة شرقية. بوير. برج قعية. تلعمري. تلبيسة. تلدو. تلدهب. تارين تير معلة. تسنين. تلنبي. مندو. (تل النبي مندوقبلي حمص إلى الغرب عند مصب العاصي على البحيرة). تنونه (وقف جامع خالد بن الوليد) تليل. جرنايا. جوبانية. جوسية. (قبلي حمص منها خراب وعمار فالعمار من سكة الحديد للغرب والخراب في الشرق وهي البلدة الأصلية). جديدة شرقية. حفر. حمام. حلاموز. حوارين. حداثة. حيصة. حاويك. حديدة العاصي. حوز. حسية. حميدية. حميمة. خربة السودا. خربة حمام. خربة تين نور. خربة تين محمود. خربة غازي. دنحة. دبين. دير بعبة. دير فور. دمينة شرقية. دوير. دار الكبيرة. دلبوز. دمينة غربية. ستن. رام العنز. ريلة. ريان. ربيعة. رأس العين زور غربي العاصي. زور الموح. زعفرانة. زيتة وبويضة غربية. زراعة. زيدل. زور بقرايا. زيتا البحرة. سماقيا غربية. شماقيا شرقية. سمعيل. سكرة. سقرجة. شنشار. شمسين. شومرية. شيخ حميد. شرقلية. صيادية. صنون. صدد. حفر. طيبة. عين خاط. عين حسين. عز الدين. عامرية. عسيلة. عرقاية. عيصون وشلوح. عرجونم. غزيلة. غجرامير. غنثر وغنطو. غور. فرروزة. قطينة. قريتين. قناقيه. قزحل. قيرانية. وحوش السيد علي. قصير ميري. قره وشر (ولها اسم ثان وهو تل الفور) وكفر عايا. كفر موسى كفر لاها. كفر عهدي. كفرنان. كمام. لفتايا. مجيدل. مشرفية. مسكنة. مهين. مودان. مباركية. مرج القطا. مرج بولاد. منقطع. متعارض. معيصرة. مطيرية. نوحية. ناعم. أنقيرة. هرقل. هبوب الريح. هيت. وجه الحجر. بويت. وهناك أراض كانت للسلطان المخلوع عبد الحميد ثم أيرت إلى الخرينة وهاك أسماءها قرية قصير ورمزون دبابية. خربة الضبعة. كوكران. دحيرج. هزة. مضابع. عباسية. صايد. فرقلس. برهانية. بلها. رقامة. منزول. شعيرات. وزاعية. حربية. عزيزية. حمرات. وهيب. دردغان. عاليان. فحيلة. تلة الناقة. خرابة قنية. فيضة. يسبة. حولاية. دويليب. مخرم فوقاني. مخرم تحتاني. تل الطويلة. سليمية. نوا. حميدية - أم العمد.

شوكتية. جهنم. وريدة. جب عباس. تل الأغر القبلي. جوسة الخراب (قبلي الخط الحديد وغربيه). أم التين. سنكري شمالي. سنكري قبلي. أم العلب. تل الورد. دويعر شرقي. دويعر غربي. مسعودية. أم السرج شمالي. أم السرج قبلي. أم الجباب جنيات. حراقي. لثنان وأم قدوم. فطيم العنوقي. عيون حسين. مسيعيد مكسر الحصان. هبرة غربي. هبرة الشرقية (ولها اسم آخر مزرعة هنداوي). مزرعة جب الجراح. مزين البقر. تلول الهوا. رحم. مزرعة أم صهريج. مشيفرة. أم جامع. هذه أسماء قرى حمص وخرائبها وبعضها ناءٍ جداً عن مركز الحكومة لعيث البادية فيه مثل القريتين مثلاً فلو جعلت قضاء مع ما يصاحبها من القرى والمزارع وكذلك جب الجراح لزاد العمران والسكن لا محالة وخصوصاً إذا باعت الحكومة مزارعها وخربها من الأهلين ببذل المثل إذاً لاشتراها الحمصيون أنفسهم لأن من أهلها من هو غني جداً يتساوى في ذلك مسلموهم ومسيحوهم فالزراعة بيد المسلمين والتجارة بيد المسيحين وكثيرة من الفريقين هاجروا إلى مصر وأميركا فاغتنزا وتأثلوا حتى أن أهل حمص سموا لهم مدينة باسمهم في الولايات المتحدة على نحو ما سمى جندهم مدينة باسمهم يوم فتحوا بلاد الأندلس. قال ياقوت أن في حمص مدارس وقال ابن جبير أن بها مدرسة واحدة وليس بها مستشفى على رسم مدن هذه الجهات مثل حماه وغيرها أما اليوم فليس بها مدارس دينية مهمة فيما علمت سوى مدارس للعلوم الدنيوية مثل مدارس الروم والكاثوليك والبرتستان وبعض مدارس حديثة أهلية أنشئت للمسلمين وبها مدرسة رشدية أميرية وبها مطبعة اسمها حمص تطبع جريدة وجريدة حمص جادة لرشاء وغيرها. وثلث أهل حمص غير مسلمين والباقون مسلمون وكان أهلها كما قال ياقوت من أشد الناس على علي بن أبي طالب فلما انقضت تلك الحروب صاروا من غلاة الشيعة حتى أن في أهلها كثيرا ممن رأى مذهب النصيرية وأصلهم الإمامية أ / اما قاله طثير من المؤرخين والعمرانيين في أن البله يكثر في أهل حمص منذ القديم فهو مشهور عن عامتها لا عن خاصتها فقد اشتهر بذلك فصار يتناقل عنهم القرن بعد القرن وما خلا قرن فيها من خاصة فصلاء عقلاء ودليل عقلهم اليوم أنهم كانوا بعد الدستور أسبق البلدان السورية إلى ورود حياض المدينة وقد انتفعت بلدهم بمد السكة الحديدية العريضة الممتدة منها إلى طرابلس وكانت البضائع تصدر منها وترد على

الجمال والبغال والمركبات والحوافل وسيزيد عمرانها يوم يمتد منها خط حديدة ضيقة إلى تدمر ويجيئها الساح بالألوف وتحمل أشعة المدينة والأمن إلى تلك الربوع في الداخلية وتعيد إلى تدمر وأرباضها عهد زنوبيا. يوم في بحيرة قدس من يزور حاضرة من الحواضر ولا يشهد ريفها وقراها تظل عنها قليلة ويظل مقلداً فيما يكتبه وما كان كالمقلد سواء في شؤون الدين والدنيا. دعاني صديقي وصفي أفندي الأتاسي إلى قريته قره وشر فركبت وإياه عربة حتى وصلنا في ساعة وهي في جوار بحيرة قدس فجمعنا بين ثلاثة أمور الرياضة في الخلاء والإطلاع على نموذج من قرى حمص وزيادة تلك البحيرة التي كان لها ذكر في تاريخ سورية القديم كما نسمع اليوم باسم خزان أسوان في مصر للتشابه بينهما فخزان حمص يسقي تلعات وادي العاصي وخزان أسوان يسقي تلعات وادي النيل. وطول هذه البحيرة الصناعية ساعتان وعرضها ساعة وقد نسبت لقدس عاصمة الهيتين أوقد شو عاصمة الحثيين الثانية يجتازها العاصي وهي وهي مسدودة من مسافة كيلومترين وهناك برج قديم على الشاطئ الشرقي وعدة قرى. وقد وصف جغرافيو العرب هذه البحيرة فقال شيخ الربوة أن بحيرة حمص وهي بقعة محفوفة ببناء جص محكم وفيها أسماك كثيرة كبار ثم يخرج منها الماء عكراً مثل ماء النيل ولا يصفوا بعد ذلك إلى أن يدخل أرض الروج ويصل إلى السويدية ويصب في البحر الرومي. وذكر ياقوت أن طولها أثنا عشر ميلاً في عرض أربعة أميال بين حمص وجبل لبنان تصب إليها مياه تلك الجبال ثم تخرج منها فتصير نهراً عظيماً. وقلا أبو الفدا أن طولها من الشمال إلى الجنوب نحو ثلث مرحلة وسعتها طول السد وهي مصنوعة على نهر الأرنط فإنه قد صنع في طرف البحيرة الشمالي سد بالحجر من عمارة الأوائل وينسب إلى الإسكندر وعلى وسط السد المذكور برجان (الآن برج واحد) من الحجر الأسود وطول السد شرقاً وغرباً ألف ومائتان وسبعة وثمانون ذراعاً وعرضه ثمانية عشر ذراعاً ونصف ذراع وهو حابس لذلك الماء العظيم بحيث لو خرب السد سال الماء وعمت البحيرة وصارت نهراً وهي في أرض مستوية عن حمص بعض يوم في غربيها

ويصار بها السمك اه. أذكرتني هذه البحيرة أو السد أو الخزان بما في بلاد الشام من الأنهر والخلجان والبحيرات الكثيرة التي يذهب ماؤها بداداً ولا ينتفع به في السقيا وقد كان القدماء أعرف بما ينفع من هذا القبيل من أخلافهم شكان هذه الديار اليوم وذلك على قلة ما كان في عهدهم من الأدوات التي أحدثتها مدينة الغرب وتقدم فنون الحيل (الميكانيك) والهندسة والبناء. ولذلك رأينا أعمال أسلافنا شاهدة على الدهر بعظمتهم وأن عقولهم كانت أرقى من عقولنا وأعمالهم أفخم من أعمالنا. في سورية أنهار كثيرة تجري ولا من ينتفع بها من سكان الجوار فلو وقع الانتفاع بمياه نهر الفرات والعاصي وإبارهيم والأردن والليطاني والأزرق كما بمياه نهر الكلب وبردى والأعوج مثلاً لا خصبت كثير من الأراضي التي تحرم من المياه اليوم وكان في المكنة أن تسقي سيحاً وتغرس فيها أنواع الأشجار. ولا تشكو سورية في عمرانها قلة الأيدي العاملة ولا النفوس الذكية ولا قلة الخصب وسعة الرباع والأصقاع ووفرة الأمواه وجودة الأهوية بل إنها تشكو من قلة من يفكر في الانتفاع من ثروتها الطبيعية ولو كانت هذه الحكومة تفكر في عمران بلادها على الأقل على مستوى ما تفكر روسيا مثلاً من دول الأرض لاصبحت سورية في بضع سنيت من أعمر الأقطار تشبه ألمانيا والنمسا وفرنسا إن لم تفقها لاعتدل الفصول الأربعة فيها. ولكن جرت الأقدار بأن يتراجع عمراننا حتى بعد أن كانت سورية أنبار العالم في الجنوب ونحن تجلب الدقيق من روسيا وآسيا الصغرى وأميركا وفرنسا والحكومة ساهية لا هية لا يهمها إلا قبض الضرائب والعثور ولو أوشكت البلاد أن تبور في المثل الفرنسوي أن الأراضي تغل على نسبة اقتدار من يقوم عليها. ولا عبرة في الثروة إلا بما استخرج من كنوز الأرض إلا بما كان مذخوراً في عالم القوة. المملكة الطرابلسية كانت طرابلس الشام أيضاً مملكة أيام حكومة الإقطاعات كما كانت صفد والكرك وحماه وغيرها من مدن سورية وكانت طرابلس أو اطرابلس ألف في أولها في رواية أعظم مدن هذه المملكة بل كانت طرابلس في القرن الرابع كما قلا المقدسي أجل من صيدا وبيروت

وذكر الظاهري أن طرابلس مدينة حسنة بها جوامع ومدارس وأسواق وحمامات وعمائر حسنة وهي على شاطئ البحر يقال أنها مصرية لحسن هيئتا وكانت على عهده تشمل على عدة مدن وأقاليم وقلاع وقرى ومن جملة أعمالها قلعة صهيون في جبال الكلبية وقلعة المرقب وحصن الأكراد وقلعة قدموس واللاذقية وجبلة والكهف والردافة وما والاها من القرى وتشمل هذه المملكة الطرابلسة وتوابعها فيما قيل على قريب من ثلاثة آلاف قرية. وسمي شيخ الربوة مملكة طرابلس بمملكة الساحل وكرسيها طرابلس المستجدة بعد فتح طرابلس الشام بجيش الملمين في مملكة الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قال: وبنيت هذه المستجدة في سفح ذيل من أذيال جبل لبنان بكورة من أكوار طرابلس بعدها عن طرابلس القديمة المخروبة نحو من خمسة أميال على شاطئ نهر يجري إلى البحر وهي سهلة جبلية بحرية يتخلل الماء في جوانبها ولها قنطرة على واد بين جبلين يمر عليها الماء من منبعه إليها في ارتفاع نحو سبعين ذراعاً وطول هذه القنطرة نحو من مائتي ذراع والنهر يجري من تحتها إلى سقي الأراضي ويصب في البحر الرومي ولا يكاد يوجد فيها دار بغير شجر لكثرة تخرق أرضها بالمياه وهذا النهر ينبعث من جبل لبنان. وقد جمعت في بساتين طرابلس من الفواكه نا لا يوجد في سائر الأقاليم أصلاً قصب السكر والجمير والمحمضات الكثيرة الزائدة والتلقاس الذي لا يوجد مثله والثلج وسمك البحر الطري والطير الكثير ومجموعها لم يجمع في بلد غيرها ومن بلادها وأعمالها الساحلية البترون وهو حصن من فتوح الملك المنصور له عمل متسع وأنفة مدينة ساحلية محكمة البناء وأنطرسوس مدينة ساحلية. وعدد من أعمال طرابلس حصن عرفا وحصن حلبا قال ولها عمل متسع به ولايات ومراكز ومن أعمالها جون ومنه رجلية (؟) والحصان خراب في عصره ومدينة مرقية (مرقب؟) وجومة عكار أي كورة عكار وجومة بشرية والكورة والحدث بأذيال لبنان ولها أعمال يزيد عددها على ألف قرية. وحصن عكار حصن منبع من بناء الإسلام وينصب إليه ماء من الجبل المطل عليه ويدخل إلى القرية وحصن الأكراد حصن منيع مشرف بين الشام والسواحل ينظر الناظر منه إلى الشام وقارئ والنبك وبعلبك وإلى البحر والساحل. قال ومن أعمال طرابلس المستجدة قلاع الدعوة وهي التي ملكها راشد الدين محمد تلميذ

علاء الدين علي صاحب الألموت في العجم وهو صاحب الدعوة الإسماعليلة والحصون هذه هي حصون الخوابي وحصن الكهف وحصن القدموس وحصن العليقة وحصن المنيقة (البقيعة؟) وحصن الرصافة بأذيال طراز من جهة الشام وحصن إبي قبيس وثغر مصياف وهو أهم الثغور في إظهار الدعوة وإرسال الرجال الفداوية إلى البلاد والأقاليم في قتل الملوك والأكابر وحصن بلاطنس حصن منيع جداً وله أحد عشر باباًَ كل باب فوقه باب وحصن المرقب ثغر منيع على رأس شاهق مطل على البحر كبير مثلث الشكل بناه الرشيد على أثر قديم ثم بناه الصارى ثم ملكه المسلمون في عصره وعمرو حصن صهيون حصن منيع عادي قديم البناء يقال أنه من بناء أغسطس ملك رومية الكبرى المسمى قيصر وليس هو أغسطس صاحب التاريخ اليوناني وهذا الحصن صعب المرتقى على قبة جبل وعليه خمسة أسوار وله فرضة فيالساحب في طرف دخلة من الأرض كالجزيرو من البحر. وذكر أن اللاذقية محاطة بالبحر من جهاتها الثلاث وفي أشبه بالاسكندرية في بنائها وبأرضها معدن رخام أبيض وأخضر موثى وبها دير الفارس من أعجب اليناء في الديور ووله يوم في السنة تجتمع النصارى إليه والمينا الذي باللاذقية من أعجب المواني في البحر وأوسعها لا يزال حاملاً للسفن لاكبار وعليه سلسلة من حديد حاضرة لمراكبه مانعة من مراكب العدو وفرضة بالطنس مدينة جبلة بن الأيهم الغساني جددت باسمه في صدر الإسلام وكانت عادية بناها الصابئة وفيها آثار مقر الملك الذي كانوا اصطلحوا عليه في زمن نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام وكان له سرب يركب الراكب فيه تحت الأرض إلى ظهر السفينة بالبحر ويركب في السفينة إلى وسطه تحت الأرض محجوباً. وعد من عمل طرابلس مدينة بانياس فقال أنها عبرانية يونانية رومية وبها أنهار اسبحة قريبة المنبع وبساتين كثيرة من أعجب بساتين الساحل وذلك أن حيكان البساتين متصلة بضرب موج البحر بغير حائل وبين بانياس وجبلة جزيرة صغيرة عند نهر غزير يسمى النهر الأبتر وسمي بذلك لقصر حريته وقلة الانتفاع فلا يتشعب من شعب ولا يتفرع فرع مع غزارته وقوته وعلى الجزية دمن حصن يقال له بلدة كان من أحسن الحصون بناء وخربه أهله بأيديهم دون غيرهم ودخلوا البحر من غيظهم وبغضهم على بعض وهذه الجزيرة من أعجب الجزائر شأناً بالماء وذلك أن البحر محيط بنصفها وأكثر والنهر محيط

بالنصف الذي إلى البر والماآن مختلطان فالنصف ملح أجاج والنصف عذب فرات وهما في النظر ماء واحد محيط من سائرها. ومن أعمال طرابلس أيضاً البقيعة هي الحصن والناعم وجبال القصيرية نحو عشرين عملاً بين صهيون واللاذقية وإلى البترون العاقورة. هذا وصف مملكة طرابلس وعملها في القرون الوسطى وحدها ابن فضل الله فقال من القبلة جبل لبنان ممتداً على مايليه من مرج الأسل. حيث يتمد نهر العاصي ومن الشرق نهر العاصي ومن الشمال قلاع الدعوة ومن الغرب البحر وبلاد طرابلس لاها قلاع وولايات فذكر من قلاعها حصن عكار وحصن الأكراد وكانت محل النيابة ومقر العسكر قبل فتح طرابلس وبلاطلس وصهيون ثم قلاع الدعوة وهي العليقة والمنقة والكهف والمرقب والقدموس والخوابي والرصافة ومصياف وهي القلاع الإسماعيلية ولها على قللها الرتب العلية وأما ولاياتها فهي أنطرسوس واللاذقية وجبة المنيطرة وبلاد الضنتين (الضنية) ومنها بشرية وجبلة وأنفة وجبيل وما لها في تلك مما له ولاية. وبعض هذه البلاد اليوم تابعة للواء اللاذقية من أعمال ولاية بيروت والآخر من لواء حماه من عمل ولاية سورية وغيره من عمل متصرفية جبل لبنان وبعضه من عمل طرابلس كحصن الأكراد وعكار وصافيتا ونواحي وحذورة ونواحي المنية والقينة وطرطوس وأرواد وطرابلس هي أحد ألوية ولاية بيروت وهي اللاذقية وعكا ونابلس. ويبدأ أول عمل لواء طرابلس من السفح الجنوبي من لبنان ومن السفح الشمالي من جبال النصيرية فهو بين منفسحي هذين الجبلين وتكثر أنهاره وأعظمها النهر الكبير في عطار ويسميه القدماء نهر أيلوتروس ومن ضفته الشمالية تبتدئ البقيعة وهي سهل فسيح أشبه بسهل البقاع في لبنان الشرقي. سميت طرابلس بهذا الاسم أي البلاد الثلاثة (تريبوليس) لأن مهاجري ثلاث مدن فينقية وهي صور وصيدا وأرواد بنوها وكان كل حي من أحياء هؤلاء المهاجرين يفصله عن الآخر سور على أن اسم المدينة الفينيقي غير معروف على وجه الصحة وهذه التسمية أقرب إلى الرومية ولعل طرابلس لم تؤسس إلا قبل المسيح بسبعمائة سنة بعد تأسيس أرواد وقد جاء بعد بنائها من الصور بين والصيد وتبين والأرواديين دولة السلوقيينالرومية فأمتلكوها في جملة ما ملكوه منبلاد الشام صم الرومان فزينوها وأنشأوا فيها أبنية فخمة أتت

عليها كلها الزلازل المريعة التي أصابتها في عصور مختلفة ولما جاء الصليبين إلى طرابلس كان حاكمها ابن عمار من الحكام المستقلين بها فبدأ الكونت ريموند سان جيل من ملوك الصليبين يحصارها سنو 1104م وذلك بإشنائه حصناً سماه الإفرنج مو وسماه المسلمون سان جيل أو صان جيل ولم تؤخذ المدينة إلا بعد خمس سنين وذلك بأحراقها ومن جملة ما ذهب في حريقها طعاماً للنار كتبة عربية مهمة كان فيها بعض الروايات مئة ألف مجلد وفي رواية أخرى أكثر من ذلك بكثير ودام الصليبين في طرابلس 180 سنة ارتقت في خلالها كما يقول مؤخوهك على الرغم مما كان يتخلل تلك المدة من المصائب والحروب الأهلية واستهادها منهم سنة 1289 السلطان قلاوون الصالحي سابع ملوك المماليك البحرية في مصر والشام وبناها في الداخل بعيدة عن الساحل كما مر آنفاً. ودخلت طرابلس في الحكم العثماني على عهد السلطان سليم يوم فتح الشام وظلت مدة تعلو وتسفل بحكم الإقطاعات شأ، سائر المقاطعات والولايات وكانت مدة مركز أيالة ثم ألحقت بولاية سورية يوم تأسيس الولايت وكان حظها أ، تتبع بيروت يوم سلخت هذه عن دمشق وأصبحت ولايةبرأسها. تحتوي طرابلس من السكان على نحو ثلاثين ألف نسمة وفي أعمالها زهاء 1500 ألفاً ومساحة قضائها 191كيلومتراً مربعاً ومساحة قضاء عكار 285 وقضاء الحصن 513 وقضاء صافيتا 414 كيلومتراً والعنصر الغلب فيها المسلمون ثم يجيء أهل الأديان الأخرى ويقال أن أصل سكان طرابلس من جالية العجم ول1ذذلك غلبت عليهم طباع أشبه بطباع الفرس من حيث الأبهة والتأنيق. كان المأمول أن ترقى مدينة طرابلس الشام لاتصالها بخط حديدي عريض مع بلاد الداخلية طوله من طرابلس إلى حمص 105كيلومترات ولكننا رأيناها هذه المرة على تلك الصورة التي رأيناها عليها منذ نحو عشر سنين لم تكد تخطو خطوة تستحق أن تذكر ولولا شيء من الموبقات الجهرية التي زادت فيها بدخول الأجانب وانتشار الحرية وكان بعضها موجوداً من قبل على صورة سرية لقلنا طرابلس هي هي منذ بضع سنين. ومن الغريب أن بعضهم لا حظ بأن نفوس سكانها لم تزد زيادة في العهد الأخير ومع أن أهلها ليسوا أكثر من سائر مدن سورية وقراها في حب الهجرة، لولا قليل من الصحف

أنشئت فيها عقب الدستور كان يصح أن يقال أن الحكومة العلمية لم تزل بحالها أيضاً. وقد أثر هذه السنة ما شوهد من النقص في حاصلات البلاد الداخلية لراءة الاسم فخف إصدار الغلات من طرابلس وكانت بجالتها لاتي تنقل الحبوب إليها في السنين الغابرة من جهات عكار وصافيتا وحمص وحماه وسلمية أكثر حركة منها اليوم بسكتها الحديدية الجديدة ولكن هذه السنة لا تقاس عليها السنين ما منا موقنين بأن الإرتقاء بطئ الحصول كالإنحطاط ولا بد من قضاء دور الحضانة في الحضارة والسكك الحديدة إذا مدت في الأصقاع المقفرة أعمرتها فما بالك بقطر مخصب البقاع والرباع جيد التربة جيد ذكي الماء والهواء واسع المادة تجود فيه أكثر الغلات والثمرات. اللهم إن طرابلس ستكون بعد بيروت أهم موانئ سورية بعد سنين إذا تعاضد أهولها على فيه المصلحة تعاضدهم يوم نالوا امتياز سكة حديد طرابلس - حمص وتركوا اشتغال بعضهم ببعض مما هو من شأن البلدان التي لا عمل لأهلها ينهضون به فلا يجدون تسلية لهم سوى الاغتياب والنميمة وأكل بعضهم بعضاً وتسفيه آرائهم فتكون عاقبة التخاذل والتفاشل وذريعة الانحطاط المهين. تمثل لنا في طرابلس كل التمثيل أن العقلاء من المسيحيين أحسونا الانتفاع بالدستور أطثر من أخوانهم المسلمين فكان واسطة لنهوضهم إذ كانتلديهم مواد الارتقاء موفرة إلا قليلاً فلما جاء دور العمل بوا هبواً محموداً ولولا داء الهجرة الذي تفشى أكثر من غيرهم ولا سيما بسبب الجندية لبلغ أخواننا في الوطن مبلغاً تسحدهم عليه حتى الأمم الراقية. فعسانا نسمع عن هذا البلد الطيب كل ما يسر القلوب من دواعي الاتقاء فنقل وقائعها وحوادثها المزعجة وتكسد سوق الفسوق الرائجة يما ينهال عليها من أمول بعض أغنيائ عطار والحضن وصافيتا ممن يقصدون طرابلس ليفجروا فيها ويتخلون برضاهم عن ملاحظة زروعهم وعمران بلادهم. وإذا صح ما يسعى إليه بعضهم اليوم من نيل امتياز سكة حديدية من حمص إلى تدمر والمسافة بينهما لا تقل عنمائتي كيلومتر تحمل القطارات إلى طرابلس بغلات الداخلية من شرقي سورية كما ينقل الخط الحلبي محاصيل البلاد الشمالية. وبعد فقد اشتهرت طرابلس من القديم بمصنوعاتها الحريرية ولا سيما الزنابير الطرابلسية

اللطيفة وكل صناعاتها قد نازعتها المصنوعات الأوروبية اليوم وتوشك أن تبزها برخص أسعارها وجمالها الظاهري ومهارة المتجرين بها في قاعدة العرض والطلب ولكن أوروبا لا تستطيع منازعة طرابلس ولا غيرها من هذه البلاد بمحصولات أراضيها وخصوصاً الثمار والبقول والغلات وفي طرابلس يجود البرتقال والليمون جودته في صيدا ويافا من بلاد الساحل وقد رأى أرباب الحدائق كيف ربحوا من أراضيهم منذ توفروا على زراعة هذه الشجرة المباركة. خاتمة هذا ما شاهدناه ولاحظناه في الرحلة بين دمشق الفيحاء وحلب الشهباء سطرناه بعد الرجوع إلى نصوص علماء التاريخ والجغرافيا من العرب خاصة وذلك بقدر ما سمحت الأحوال وقد استغرقت هذه الساحة عشرين يوماً ولو صرفنا أكثر من هذه الفترة والزمن وكنا بما نجمع تستغني بعض الشيء عن الغربيين فيما يتعلق على الأقل بتاريخ هذه البلاد وعمرانها وتقويمها والحمد لله في المبادئ والخواتيم.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات المسالك والممالك نشر علماء المشرقيات مئات من كتب العرب وقلما نشروا شيئاًَ إلا وفيه فوائد جمة يتمم نقصاً في العلم ويسد ثملة في الآداب والفنون. وممن غنوا بنشر كتب الجغرافية التي ألفها علماء العرب الأستاذ دي غوي الهولاندي نشر في ليدن ثماني مجلدات لعلماء منوعين في صور بلاد الإسلام وسماها الكتبة الجغرافية العربية كما نشر مستشرقو الإسبان بضعة عشر مجلداً في تاريخ الإندلس وسموها المكتبة الاندلسية ومن جملة تلك المجلدات الثمانية كتاب المسالك والممالك لأبي القاسم محمد بن حوقل البغدادي من أهل القرن الرابع وقد اعتمد فيه على كتاب أبي القاسم محمد بن خرداذبة وقدامة بن جعفر الكاتب وأبي عثمان بن بحر الجاحظ وأفاض فيه بذكر المفاوز والمهالك والأقاليم والبلدان وطبائع أهلها وخواص البلدان في نفسها وذكر جباياتها وارجاتها ومستغلاتها وذكر الأنهار الكبار واتصالها بشطوط البحار وما على سواحل البحار من المدن والأمصار ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجارة مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار والنوادر والآثار. هذا أقل من يقال في كتاب المسالك والممالك وأهم ما فيه أن مؤلفه رحمه الله كان في الجغرافيين كما كان المسعودي في المؤرخين ممن رحلوا من بلدهم وضروبوا في طول الأرض وعرضها ولذلك تكلم فيما تكلم عنه من البلاد عنم ذوق ونر واختيار فخرج من بلده وطاف كثراً من أقطار العراق والجزيرة وأرمينية وخرسان والجبال وفارس وما وراء النهر والسند والشام ومصر وبرقة وإفريقية والمغرب الأقصى وصقلية والأندلس وغيرها من بلاد الإسلام ولم يتعرض للكلام على سائر الأقطار إلا بحسب ما بلغه من الثقات عنها ولذلك جاء كتابه من أصح ما كتب في عصره لأنه ميز ين الحق والباطل والحالي والعاطل. وللمؤلف طريقة في التأليف والتحرز من الوقوع فيما يقع فيه أغلب مؤلفي القرون الوسطى ما لا يكاد يداينه فيه كثيرين وكانت رحلته في التجارة على نحو ما كان شأ، ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان من أ: بر المساعدات له على إحراز هذه المملكة وإليك نموذجاً من احترازه خوف السقوط عند صيارفة النقد من بعد أن قال في كلام على اليمن:

ويحكى عن بعض الغيلان بها ما لا استجيز حكايته لأن المنكر لما لا يعلم أعذر من المقر بما يجهل وهكذا تجدده إذا شك في الأخبار يقدم بين يدي نجواها قوله ويزعمون أو يقال أو يروى ليكون المطالع على بصيرة مما يقرأه. وكتاب المسالك والممالك على صغر حجمه (406 ص من قطع الوسط) فيه عدا وصف البلدان ذكر خراجها وثروتها كما مر آنفاً فهو ليس كتاباً في جغرافية المماليك بل في جغرافيتها الاقتصادية والسياسية والطبيعية يدهش المطالع لتقريرها ويتراءى له أن المؤلف من أهل القرن التاسع عشر أو العشرين في أوروبا وأكثر ما ذكره من هذا القبيل مما حققه بنفسه من مصادر لأن رحلته وعمله وبعد نظره مكنته من الاجتماع بالطبقة العالية من الحكام في عصره فوقف على ارتفاع الملك وما تخرجه البلاد من الخيرات قال: وفي ذكر البلد ما يدل على ما كان عليه من العتاد ووصف ارتفاعه ما يعرب عن حاله ومكانه ويغني عن ذكر شرفه وشأنه وكذلك كل بلد ذكرته وأذكره فالعبرة بارتفاعه وجباياته هي التي تدل على قوته أهله إذ قوام الدنيا بالمال وهذه عبرة لجميع العقلاء ومرآة لسائر الفهماء وإن خرج بالخصوص عن بحر العموم في هذه القصية لم نحكم بهم وبم نلتفت إليهم. وإذ كان المؤلف ممن يشتغلون بالمال وتنميته مع العلم والتأليف تراه يستدل أحياناً على ثروة قوم ينزل بينهم بالسفاتج والأوراق المالية التي لهم فمما ذكر من هذا القببيل أنه رأى في أيدي بعض التجار وسمى أسماءهم في صقلية والمغرب وغيرهما سفاتج كل سفتجة بأربعين ألف دينار وأكثر لصاحبها دين على آخر فإذا كان تاجر واحد له على آخر مثل القدر فكم تكون ثروته. وإليك هذه القصة التي رواها أهل سيراف ومنها تعلم عظم نفسه وصورة من سور أخلاقه قال: ولقد رأيت بالبصرى منهم (أهل سيراف) أبا بكر أحمد بن عمر السيرافي في سنة 305 وقد قدمت عليه بكتاب ممن يعز عليه في مهم له فأخذ الكتاب من حيث لم ينظر إلى فقرأ ثم وضعه من يده ولم يعرني لحظاً وسأله في الكتاب مخاطبتي على معاينة واستعلام ما عرض فيه من مخاطبته وما بينهما مما يحب وقوفه عليه من جهتي كالمستشهد بعلمي بعد تعريفه في الكتاب صورتي ومحلي منه ثم أقبل على بعض خدمه وذكر مراكبه وحاله فوثبت غيظاً وأنا لا أبصر ما بين يدي من شدة ما نالني وداخلي بإعراضه فكأنه لحظ مكاني فقال: ما فعل الرجل فقيل: ومن هو فقال: صاحب فلان فقيل

له: وبصاحب فلان ما فعلت هذا الانقباض لقد خرج وهو لا يبصر ما بين يديه حنقاً فقال: على به فلحقني كتابه وقد بث جماعة في طلبي في الطريق التي قصدت له فقال إن الشيخ تألم من خروجك بغير إذنه وعرفناه ما ظهر لنا منك فأنفذها لردك فقلت: والله لقد رأيت ملوك الدنيا وأكثرهم ممن تحت أيديهم الآلاف من الناس على اختلاف أطوارهم وتباين أحوالهم وهم قطب الصلف فما رأيت رجلاً أكثر زهواً وبأواَ وأقبح صلفاً منه فقال: وحق له ذلك هذا رجل أعتل في سنة 48 على خفيف عليه منها فأوصى فبلغ ثلث ماله مع شيء واستزاده على الثلث لأنه لا وارث له بألف ألف دينار مركب قائم بنفسه وآلته ووكيل معلوم ما عنده وتحت يده بالحسابات الظاهرة والمقبوض المعروفة المعلومة من جهاتها وأوقاتها إلى بربها ومتاع من جوهر وعطر في خانباراته ومخازنه وقل مركب خطف له إلى ناحية من نواحي الهند أو الزنج أو الصين فكان له فيه شريك أو كري إلا على حسب التفضل على المحمول بغير أجره فافحمني قوله وعدت إليه فاعتذر مما كان وهذا وإن زاد على الثلث فلعله أوصى بنصف ماله فما سمعت أن أحداً من التجار ملك هذا المقدار ولا تصرف فيه ولا من وديعة سلطان لأنها حكاية إذا اعتبرت كالخرافات يستوحش من حكاها منها. وكثيراً ما يتعرض المؤلف لخصائص سكان البلاد وعاداتهم ومن ذلك ما ذكر في فارس من أن الأكراد في عهده كانوا يحكمون ويجبون خراجها وأنهم تغلبوا على الجزيرة وأرمينية مما دل على أنهم هناك الآن منذ عهد ليس بطويل وأن معظمهم كانوا في بلاد فارس وما ندري ما طرأ من الأحوال حتى انتشروا في هذا القسم من البلاد العثمانية اليوم فقد قال المؤلف: وأما أحياء الأكراد بفارس فلاكورمانية ومدثر وحي محمد بن بشير والبقيلية والبندامهرية وحي محمد بن إسحاق والصباحية والإسحاقية والأدركانية والهركية والطماهنية والزبادية والشهروية والبندادقية والخسروية والزنجية والصفرية والشهارية والمهركية والإستامهرية والشاهونية والفراتية والسلمونية والصيرية والأزاددخثية والبرازدختية والمطلبية والممالية والشاهكانية والجليلة فهؤلاء المشهورون ولا يتهيأ تقصيهم إلا من ديوان الصدقات ويزيدون على خمسمائة ألف بيت ويخرج من الحي الواحد ألف فارس وأقل من ذلك وأكثرهم ينتجعون في الشتاء والصيف المراعي إلا القليل منهم

على حدود الصرود وأما أهل الجروم فلا يزالون ولا ينقلبون بل يترددون فيها لهم من النواحي ولهم من العدة والبأس والقوة بالرجال والدواب والكراع ما يستصعب على السلطان أمرهم إذا أراد أن يخيفهم. ويزعم ابن دريد أنهم من العرب وأنهم من لد كرد بن عمرو بن عامر في حماسته وأبو بكر محمد ابن الحسن بن دريد ممن يستنبط علوم العرب وأخبارها محتج به ومسلم له ما يدعيه وهم أصحاب أغنام ورماك والإبل فيهم قليلة وليس للأكراد خيل عتاق إلا عند المازنجان المقيمين بحديد أصفهان وأما دوابهم فبراذين ومهاري وهم على حسن حال ويسار ومذاهبهم في القني والنجعة مذاهب العرب ويقال أنهم يزيديون على مائة حي وذكرت نيفاً وثلاثين حياً. وقال في فارس أيضاً: فأما زيهم ولباسهم وأحواله فالغالب على خلقهم النحافة وحفة الشعر وسمرة اللون وأهل الصرود أعبل أجساماً وأكثر شعوراً وأشد بياضاً ولهم ثلاثة ألسنة الفارسية التي يتكلمون بها. وجميع أهل فارس يفقهونها ويكلم بعضهم بعضاً بها إلا ألفاظاً تختلف لا تستعجم على عامتهم ولسانهم الذي به كتب العجم وأيامهم ومكاتبات المجوس فيما بينهم هو الفلهوية التي تحتاج إلى تفسير حتى الفارسي ولسان العربية الذي به مكاتبات والدواوين وعامة الناس وأما زيهم فكان السلطان زيه الأقبية وقد تلبس سلاطينهم الدراريع وإن كانوا فرساً ومن لبس الدراريع منهم أوسع فروجها وعرض جرباناتها وجيوب الكتاب والعمائم تحتها القلانس المرتفعة ويحملون السيوف بحمائل وفي أوساطهم المناطق وخفافهم عن خفاف أهل خرسان وقد تغير زي سلطانهم في وقتنا هذا لأن الغالب على أصحابه لبس الديلم وقضائهم يلبسون الدنيات وما أشبها من القلانس المشمرة عن الإذنين مع الطيالسة والقمص والجباب ولا يلبسون دراعة ولا خفاً بكسرة ولا قلنسوة حتى تغطي الإذنين وكتابهم يلبسون ملابس كتاب العراق ولا يستعملون القباء ولا الطيلسان وتناؤهم بين لبس كتاب والتجار من الطيالسة والأردية والأكسية التونسي والخز والعمائم والخف التي لا كير فيها والقمص والجباب والمبطنات ويتفاضلون في جودة الملابس والزي واحد كزي أهل العراق والغالب على أخلاق ملوكهم وخدمهم والبناء منهم والمخالطين للسلطان من عمال الدواوين والداخلين عليهم واستعمال المروة في أحولهم وإقامة الوظائف والطابخ وتحسين الموائد بالمطاعم وكثرة الطعام وإحضار الحلوى والفواكه قبل الموائد والنزاهة عما يقبح به

الحديث من الأخلاق الدنية وترك المجاهرة بالفواحش والمبالغة في تحسين دورهم ولباسهم وموائدهم والمنافسة فيما بينهم في ذلك والآداب الظاهرة فيهم والعلم الشائع في جميعهم وأما تجارتهم بالغالب عليهم محلة الجمع للمال والحرس فوق من سواهم من أهل الأمطار. وقال في كلامه على البلاد الشامية ما نصه: وطرابلس وهي كثيرة الخير والغلات والفواكه الجيدة بينه الخصب والرخص وهي قريبة من مدينة بيروت التي على ساحل بحر الروم وهي فرضتها وساحلها وبها يرابط أهل دمشق وسائر جندها وإليها ينفرون عند استنفارهم وليسوا كأهل دمشق في جفاء الأخلاق وغلطة الطباع وفيهم من إذا دعي إلى الخير أجاب وإذا أيقظه الداعي أناب، ولنفس دمشق خاصية بطابعها الجاري وضيائه وقل وصلقية وقال لا تصلح لسلاطينها ولا يستقيم سلاطينها بها وأكثر هذه المدن ولكن كيف كان الحال لم يخل كتابه من ذكر طبائع أهل البلاد أوردناه للدلالة على ذلك. وقد أجاد المؤلف من وراء الغاية في وصف المسافات بين البلاد بحيث جاء كتابه في عصره بل وإلى اليوم أشبه بدليل سائح لما عرف من بلاد الشام وإن أورث ذلك بعض الفصول طولاً أحياناً ولكن المؤلفات لا تكون كلها سلسلة واحدة في الجودة والفائدة والتسلية. كما أجاد في وصف معادن وهوائه وذكر نبذة من تاريخ عمرانه بحيث جاز كتابه لا في الجغرافيا فقط بل في المنيرولجيا (علم الأحداث الجدية) والكرونولوجيا (التاريخ والسير) والمنيرولوجيا (علم المعادن) والإينتوغارفيا (علم خصائص الشعوب) والأركيولوجيا (علم الآثار) والنوميسماتيك (علم النقود) وهكذا حوى من كل فن خبراً ولكن مع الثبيت والتنفيح على الأغلب ومما ذكره في تاريخ بني حمدان أمراء الجزيرة وهم الذين خلد مجدهم أبو الطيب المتنبي بشعره لما أغدقه عليه مقدمهم سبف الدولة المشهور من المكارم فقال فيهم ما لم نذكر أننا أطلعنا عليه في شيء من كتب التاريخ ما نصه: ولم تزل (نصيبين) على ما ذكرته من أول الإسلام تضمن بمائة ألف دينار إلى سنة 360 فأكب عليها بنو حمدان أن بصنوف الجور وتجديد الكلف إلى أن حمل ذلك بني حبيب وهم بنو عم بني حمدان إلى أن خرجوا بذراريهم ومواشيهم وثقلهم في اثني عشر ألف فارس على فرس عتيق وسلاح شاك من درع وجوش مذهب ومغفر مدبج وسيف فارد ورمح خطي وآلة وعدة على بلد الروم مطلة فقمع بها شكوكهم وسيبوم بها ذراريهم ويخربون حصونهم

ويخوضون ديارهم تقدمهم كهذه العدة من جنائب عتاق وبغال فره عليها الخدم والوالي فتنصروا بأجمعهم وأوثقوا ملك الروم من أنفسهم بعد أن أحسن لهم النظر في أنزالهم على كرائم الضياع ونفائس الحباء والمتاع وتخبيرهم في القروي والمواشي ورفدهم بلا نواحي والمواشي العوامل وعادوا إلى بلد الإسلام على بصيرة بحضارة وعلم بأسباب فاده وخبرة بطرقه ومعرفة بدقة وجله وقلوبهم تضطرم حقداً وضياعه فأطمعوهم فسما نالوه وعرفوه ما رجعوا إليه وجاؤوا فيه من قصد بلاد الإسلام واجتياحه واصطدم بقاعه ونواحيه وإن الملك أيدهم وقواهم وأنعم عليهم وآواهم فلحق به كثير من المخلفين عنهم وانتمى إليهم من لم بك منهم فشنوا الغارات على بلد الإسلام وافتتحوا حصن منصور وحصن زياد وصاروا إلى كفر توثا ودار فأتوا عليها بلا سبي والقتل وألحقوا أسوارها بالأرض وصارت لهم تلك عادة وديدناً يخرجون كل سنة عند آوان الحصاد إلى جزيرة ابن عمر فأهلكوا ظاهرها وسحقوا رأس عين وأعمالها وساروا إلى الرقة وبالس وعادوا إلى ميافارقين وأرزن فأخربوا قراها وضياعها وأحرقوا أشجارها وزروعها إلى أن جعلوها كالخاوية على عروشها وتزايدت ثقة الملك بهم والروم إلى أن جعلوا الأرزاق والأعطية وصاروا خاصة الملك وفتحوا له المضايق وتقدموا في المسالك وأطمعوه على مر الأيام وتعاقبت الأعوام وهلاك السلطان والإسلام في إنطاكية والمصيصة وحلب وطرسوس فدار لهم عليها ما كان القضاء قد سبق به والمقدار قد نفذ فيه وكان عمد المعروف بناصر الدولة الحسن بن عبد الله ين حمدان إلى نصيبين فاكتسح أشجاها وبذل ثمارها وغور أنهارها واستصفاها عمن دخل إلى بلد الروم واشترى من بعض قوم واغتصبت آخرين فملكها إلا قليل وجعل مكان الفواكه الغلات والحبوب كالقطن والسمسم والأرز فصار ارتفاعها أكثر مما كانت عليه وزادت ربوعها فسلمها إلى من بقي من أهلها ولم يمكنهم النهوض عنها وآثروا فطرة الإسلام ومحبة المنشأ حيث قضوا أيام الشباب على مقاسمة النصف من غلاتها على أي نوع كانت وعلى أن يقدر الدخل ويقومه عيناً إن شاء أو ورقاً ويعطي الجواب لمن وجب له حق القاسمة فيكون دون الخمس فلم يزالوا على ذلك معه إلى ألحقه الله لسلفه فما بك عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وأهلها مع ولده في وقتنا هذا على أقبح ما كانوا عليه مع والده من تقدير يستغرق أكثر الغلة وتقويم ما يبقى من سهم الزارع بثمن يرونه

ويحمل إلى مخازنهم وأرائهم إصابته فيقبض منه ما يحتاج لبذره ويرضخ له ما يقدر متمسكاً لرمقه وعيشه بالجهد. إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي طبع بمطبعة المقتبس سنة 1329 ص104 كما تأملنا في حل المسلمين وما بلغه بعض مشايخ الجمود من الضعف العلمي والعقلي نحكم بأننا اليوم كأهل أوربا في القرن الثاني عشر والثالث عشر للميلاد نكابر في البديهيات ونحارب المصلحين ونود أن ندخل كل شيء في الدين ومن ذلك إن قوماً جعلوا العمل الاعتراض على كل شيء يقولون في مثل هذا العصر بتحريم التمثيل وينكرون العمل بالأنباء البرقية في إثبات الآهلة ولذلك ترى دعاة الإصلاح الديني أمثال مؤلفنا صاحب هذا الكتاب تضيق صدورهم من هذه المماحكات في المحسوسات فيتوفرون على رد شبههم وافتراءاتهم بالنقول على الدين الذي صوروه بما أوحت إليهم عقولهم القاصرة. وقد أتى المؤلف بالنقول الصحيحة جاعلاً العقل رائده في حجاج المكابرين وذكر فتاوى بعض علماء العصر في جواز العمل بالتلغراف بما دل على نظره وتحريه في بحثه وكأنه أدرك أن بعض المماحكين يرمونه بالاجتهاد وهو بزعهم مسدود باب منذ قرون فقال مبيناً غرضه في جملة. قد يطن من لا خلاق له وبعض الطن أثن أن مراد دعاة الإصلاح العلمي الآن بالاجتهاد هو القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد والذوذ عن أقوال الأئمة والغض من كرامة من سلف (نعوذ بالله من الجهل وسوء الفهم) فإن من يفهم هذا لا ضل من الأنعام. وأي عاقل يدعو لتكثير الشيع والفر وزيادة الانقسام وإنما المراد إجهاض همم رواد العلم لتعرف المسائل بأدلتها والبحث عن مدركها ومآخذها والتنقيب عن كتب السلف والأئمة في الأصول والفروع وتعرف طرق التخريج والاستنباط وحجج الموافق والمخالف ثم توخي الأقوى فالأقوى دليلاً وتحري الأقوم فالأقوم قيلاً كما كان عليه السالف الصالح وثلة من الخلف الناجح والمتأخرين عيال على المتقدمين في جل علومهم وما ذخروه من كنوزهم وإنما التفاوت في إدراك القوي سلطانه الأصح برهانه وفي الوقوف على مقاصد الشريعة وأسرار التشريع ودرك اللباب من الحشو وتمييز الأصيل من الدخيل على أن

التخالف في الأمور المجتهد فيها الغير المنصوص عليها سنة جرى عليها السلف ومنهج سلكه هذا العصر كبار الخلف فنثني الثناء الأطيب على الأستاذ المؤلف فهو يعلم قومه يعلم قومه بعلمه وعمله ودروسه وتصانيفه ومقالاته ولا يفتر عن الاجتهاد في خطته وأمثال من يذكرون أسس الخرافات والأوهام ويرفعون من شأن العلم والعقل بين أهل الإسلام. كتاب القضاة الذين ولوا قضاء مصر تأليف أبي محمد ين يوسف ين يعقوب الكندي وذيله لأبي الحسن أحمد ين عبد الرحمن ابن برد نشره الأستاذ ريشارد غوتهل من جامعة كولمبيا في نيويورك وطبعه بول كوتنر في باريز في مدينة رومية العظمى سنة 1908م ص167 كان البحث في أحوال الشرق من خصائص علماء المشرقيات من الأوربيين وها قد أصبحنا نرى من الأميركيين ميلاً إلى الإطلاع على أحوال الشرق والنظر في علومه وآدابه وهذا الكتاب شاهد بذلك فقد طبع طبعة جيدة بحروفها وورقها وكنا نود أن يوفق ناشره إلى تعريته من أغلاط الرسم والتحريف وأكثره من الأصل بالطبع قضت الأمانة على المؤلف أن يبقي ما رآه على حاله ولكن غلط الناسخ لا يبرر الناشر والطابع كما أن الكاتب لا يرحم القارئ وعلى كل فقد ظهر هذا الكتاب على الأسلوب المتعارف في طبع الغربيين لكتبا محلى بتعليقات بالإنكليزية والفارسية والرواة وأسماء الواضع والقبائل والأمم الواردة في متن الكتاب. وأسلوب المؤلف على سبيل الرواية كالمحدثين حسن الأداء يستفيد المطالع منه أموراً كثيرة ولا سيما في الأقضية الغربية التي صدرت عن حكام مصر وغير ذلك من الحالة الاجتماعية في القرون الأربعة الأولى في مصر وقد قسم المؤلف كتابه إلى سبعة أجزاء دخل كل واحد منها في بضع ورقات والذيل فيه في جزء واحد والأصل المنقول كان في دمشق نقل في الخامس من صفر سنة أربع وعشرين وستمائة للهجرة وعجيب حال الكتب في تنقلها: كتاب عربي يؤلف في مصر فينقل من دمشق ويعثر عليه أميركاني فيلتزم طبعه فرنساوي وتطبعه مطبعة طليانية. وإليك أنموذجات تستدل بها على أسلوب المؤلف قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثني

انب أبي معاوية حدثني خلف عن أبيه عن جده أن أبا عون عبد الملك بن يزيد عزل عبد الرحمن بن سالم عن القضاء وولاه الديوان. وحدثنا محمد ين موسى الخضرمي قال حدثنا ياسين عن يحيى بن بكير قال أهل أبي سالم الجيشاني يقولون أنهم من معافر وفيما وجدت في ديوان بني أمية براءة زمن مروان ين محمد فيها بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلثين ومائة وقال في مكان آخر: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا أحمد بن داوود ابن صالح قال حدثني محمد بن أبي المغيرة عن ابن وزير عن أبي زين كيدان عبد الأعلى ابن سعيد الجيشاني تزوج امرأة من بني عبد كلال فقام بعض أوليائها في ذلك وأنكروه وترافعوا إلى أبي خزيمة فقال ما أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله إذا زوجها ولي فالنكاح ماض فارتفعوا إلى يزيد بن حاتم وهو الأمير يومئذٍ فقال يزيد ليس عبد الأعلى من أكفائها وأمر أبا خزيمة بسفخ نكاحها فامتنع أبو خزيمة من ذلك وفرق بينهما يزيد ابن حاتم حدثنا محمد بن يوسف قال حدثني أبن قديد عن عبيد الله عن أبيه قال، قال عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني لما فرق يزيد بين الكلالية وبينه: وأعلنت الفواحش في البوادي ... وصار الناس أعوان المريب إذا ما عبتهم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب وودوا لو كفرنا فاستوينا ... وصار الناس كالشيء المشوب وكنا نستطيب إذا مرضنا ... فصار هلاكنا بيد الطبيب وذكر المؤلف في ترجمة عبد الرحمن العمري الذي ولي قضاء مصر من قبل هارون الرشيد سنة خمس وثمانين ومائة أنه كان لا يشدد بأطراف الغناء على مغاني أهل المدينة ويبرز كثيراً في مجالسه ولا يتحاشى أن يقول هذا غناء ابن سرح وهذا به الدلال وهذا من جيد غناء العريض ولم يكن بمصر مستمعه (لعلها مسمعة) إلا ركب إليها يسمع غناءها وربما قوَّم ما انكسر من غناءها ويرى ذلك من الدين. ومما كتب عن هذا القاضي العمري من القضايا في مسجد رث واستهدم فأمر ببنائه قوله:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمر به القاضي عبد الرحمن بن عبد الله وهو يومئذ يلي القضاء بين أهل مصر في صفر سنة ثماني وثمانين ومائة بما ثبت عنده في المسجد الذي يقال له مسجد عبد الله الذي بالظاهر قبلة الطريق الأعظم إلى المسجد الجامع ويحويه الطريق الذي يسلك إلى سوق بربر وشرقيه السويقة التي يقال لها سويقة مسجد عبد الله على طريق الموقف وغربيه الطريق الذي يسلك منه على الجب الذي يقال له جب عبد الله حين رفع إلى القاضي عبد الرحمن بن عبد الله نفر من جيرة هذا المسجد أن هذا المسجد قد رثَّ وخيف عليه لانكسار خشبه وسقفه واحتاج إلى العمارة والمرمة وأنهم قد وجدوا من احتسب في إصلاحه وبنائه وتصيير حوانيت تحته في حقوقه ليكون غلتها مرمة لما استهدم منه وفي زيته وحصره وأجر مؤذنه وشأنه كله. فسألوا القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن يأذن لهم في ذلك فدعاهم بالبينة على ما ذكروا وأقاموا بينه وعدلوا وقبل شهادتهم فشهدوا عند القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في صدر هذا الكتاب خيف على سقفه من قبل خشبه واحتاج إلى العمارة والمرمة في جدره وأن أجنحته التي حوله وما تحت هذا المسجد ليس لأحد فيه حق وأن الذي طلب عمارته وبناءه وإصلاحه وتصيير حوانيت تحته في حقوقه ومرمة ما استرم منه وفي زيته وحصره وأجر مؤذنه وغير ذلك من نوائبه منفعة للمسلمين ممن صلى فيه وأن ذلك ليس بضرر على أحد وبعث القاضي عبد الرحمن بن عبد الله نفراً مكمن يثق بهم فنظروا إلى المسجد الموصوف في هذا الكتاب فرفعوا إليه مثل الذي شهد من الشهود في هذا الكتاب فلما ثبت عند القاضي ذلك رأى أن يأذن في عمارة هذا المسجد الذي وصف في هذا الكتاب وبنيانه وإصلاحه وتصيير الحوانيت التي أرادوها تحته في حقوقه ليكون غلتها في مرمة إن احتاج إليها ولما يصلحه في زيته وحصره وأجر مؤذنه وغير ذلك من شأنه ويكون فضلاً (؟) إن فضل من غلتها في وجوه الخير. ورفع إلى القاضي عبد الرحمن ابن عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب قد أصلح وفرغ من بنيانه وحوانيته وأتوا بشهود يقال لهم عبد الصمد بن سعيد وعمرو ابن عمر الابلي ومحمد بن سليمان بن محمد فشهدوا عند القاضي ين عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب كان أخاف سقفه من قبل خشبه واحتاج إلى العمارة والمرمة في جدره وإن كل ما كان تحت هذا المسجد وما فوقه والثلاثة

الأجنحة التي كانت حوله ملصقة به إن ذلك كله من حق هذا المسجد وحدوده ليس لأحد فيه حق ولا دعوى ولا طلبة بوجه من الوجوه وأن المجالس التي كانت حول المسجد خارجة منه كان يؤدي من يجلس فيها الكرى إلى من يقوم بأمر هذا المسجد إنها على حالها لم تدخل في السجد ولا في حوانيته وعدل الشهود عند القاضي عبد الرحمن بن عبد الله فقبل شهادتهم وسأل القاضي عبد الرحمن بن عبد الله من حضره من جيرة هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب أن يكتب لهم ما ثبت عنده فيه كتباً يضعها عند من يرى يكون ذلك حجة وقوة وأن يولي القيام به رجل من أهل الثقة فولى القاضي عبد الرحمن بن عبد الله السكن ين أبي السكن القرشي القيام بأمر هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب وإكراء حوانيته وإن ينفق من كرائها ما رأى من زينه وحصره وأجر مؤذنه ما يحتاج إليه في أمره كله وينفق بقية إن بقيت من كرائه حيث رأى من وجوه الخير وجعله في ذلك أميناً وأمره بتقوى الله وطاعته والعمل في ذلك بحق الله عليه وأنفذ القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن يكتب هذا الكتاب نسخاً تكون وثيقة في هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب فكتب ودفع منها كتاباً إلى عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي وكتاباً إلى حجاج بن سليمان الحميري وكتاباً إلى ربيعة بن الوليد الخضرمي وكتاباً إلى شعيب بن الليث بن سعد الفهم وكتاباً إلى أبي رجب العلاء بن عاصم الخولاني وكتاباً إلى عمرو بن يزيد الفارسي وكتاباً إلى أبي زرارة الليث بن عاصم القتباني وكتاباً إلى عبد الصمد بن سعيد الأنصاري وكتاباً إلى محمد بن سليمان بن فليح وكتاباً إلى الأشقر عبد الملك بن سالم وكتاباً إلى السكن بن السكن المقيم بهذا المسجد وكتاباً إلى محمد ين سليمان بن محمد بن عبيد وكتاباً في ديوان القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أشهد القاضي عبد الرحمن بن عبد الله الشهود المسمين في هذا التاب أنه ثبت عنده مت في هذا الكتاب وأمر به وأنفذه على ما سمي وفسر وذلك في صفر سنة ثماني وثمانين ومائة أه. ومن نكت الكتاب قوله: أخبرني أبو سلمة وابن قديد عن عيسى عثمان قال كان زي أهل مصر وجمال شيوخهم وأهل الفقه والعدالة منهم لباس القلانس الطوال كاوا يبالغون فيها فأمرهم ابن أبي الليث بتركها ومنعهم لباسها وأن يشبهوا بلباس القاضي وزيه فلم ينتهوا قال ابن عثمان فجلس ابن أبي الليث في مجلس حكمه في المسجد واجتمع أولئك الشيوخ

عليهم القلانس فاقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضرب رؤوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم قال وأخبرني محمد بن أبي الحديد حدثني عتبة بن بسطام قال رأيت قلانس الشيوخ يومئذ في أيدي الصبيان والرعاع يلعبون بها وكانوا بعد ذلك لا يدخلون إلى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه في قلنسوة. وانتدبنا اسمعيل بن اسحق بن إبراهيم تميم للجمل وأخفت أيام الطوال وأهلها ... فرموا بكل طويلة لم تقصر ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم ... والمشي نحوك بالرؤوس الحسر حتى تركتهم برون لباسهم ... بعد الجمال خطيئة لم تغفر يتفرعون بكل قطعة خرقة ... يجدونها من أعين ومخبر فإذا خلا بهم المكان مشوا بها ... وتأبطوها في المكان الأعمر فلئن ذعرت طوالهم فطال ما ... ذعرت ومن مرا بها لم يذعر كانوا إذا ألفوا بهن لفضل ... أمضي عليه من الوشيح الأسمر كم موسر أفقرته كم مفقر ... أغنيته من بعد جهد مفقر ما أن عليك لقيت منهم واحداً ... أو في العجاج مدججاً في مغفر لبسوا الطوال لكل يوم شهادة ... ولقوا القضاة بمشية بتبختر مالي أراهم مطرقين كأنهما ... دمغت رؤوسهم بحمى خيبر

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار طول الحياة نعرب للقراء في الموضوعات المعضلة كل ما نعثر عليه في المجلات الإفرنجية وأكثرها لا نعيد فيه ولا نبدي وآخر ما قرأناه للدكتور نوفيل في المجلة الباريزية القالة التالية: لما نشر خويستوف هوفلاند الطبيب سنة 1796 في أينا أول طبعة من كتابه علم إطالة الحياة الإنسانية ترجم كتابه إلى جميع اللغات حتى العبرانية فهبت على الأمم نسمات من روح الرجاء في هذا الباب. فقد كان العلم يبحث عبثاً منذ القدم عن حل لهذه المسألة في الحياة وإنقاذ الجسم من ضربات الأمراض والهلاك إن لم يكن إنقاذاً أبدياً فلا أقل إلى أجل معين وإبعاد المسافة بين المهد واللحد على الجملة. وكم من أحلام تصورتها عقول علماء منافع الأعضاء في القرن الماضي فذهبت تصوراتهم أدراج الرياح وظل البشر لا يعرفون ما يخبؤوه لهم الغد من الأقدار على الحياة. بيد أن هوفلاند فتح للدروس الحياتية مهباً جديداً بإثباته ضرورة الجري في الحياة على قواعد مقررة ف يعلم الصحة الطبيعية والأخلاقية التي أبان حقائقها ومن طرائقها على أنه لم يبد إلا قوانين نظرية استند فيها إلى معلومات مختلف في نتائجها ن حيث الأسباب الحقيقية في الموت والمبادئ الأولى في علم الأمراض وطبائعها وعللها الباثولوجيا ولم تكن الطرق التجريبية قد أحدثت وكانت أعمال العامل الكيماوية محصورة في نطاق ضيق وعلم الجراثيم غير معروف. جاء لوانهوك في القرن الماضي وقال إن في أحشاء الإنسان والحيوانات أحياء دقيقة اكتشفها بعض الاكتشاف بواسطة عدسة مكبرة ثم قال معاصر هوفلاند من رجال الدانيمرك الطبيعي موللر واستخدم المجهر الذي ترى به هذه الأحياء الضارة على جليتها وأتم أهر نرغ سنة 1833هذه الأبحاث وأبان بعض خصائص النقاعيات على اختلاف ضروبها ولكن كل ما عرف إلى ذاك العهد لم يكن شيئاً مذكوراً بالنسبة للارتقاء الذي ارتقاه علم الجراثيم. فكان باستور مبدأ الدور الحقيقي لعلم الجراثيم الذي كان هوفلاند وأترابه أوضحوا مقدماته فقرر أن ليس للحياة إلا عدو حقيقي واحد شديد العداوة مخادع مهلك بحيث لا يكاد يقع تحت اليد ونعني به تلك الحملة الطفيلية التي تبعث بالمرضى على اختلاف ضروبه وتتعهد

على الدوام بإرسال رسل الحمام إلى الأجسام بحيث بات يرجى أن يتوصل البشر ذات يوم بالقواعد التي سنها العلم أن يتيسر للناس اتقاء الأوجاع خفيفها وشديدها. وهذه الأماني قد تحققت منذ نحو نصف قرن قليلاً قليلاً حتى لقد طال معدل الحياة الإنسانية حمس سنين في الذكور وستاً في الإناث. ففي الجداول التي أخذت من الإحصائيات الأكيدة في العلم القديم والحديث أن في كل 100وفات 42لم تكد تحدث لو عمد أربابها إلى المداواة في الزمن اللازم لها وإن نصف الأمراض لا تنشأ إلى من جهل المصابين بها وعدم حيطتهم وقلة المعرفة في تطبيبهم أو الإهمال الذي يتحيفهم. ولو كتب لل - 42 وفاة في المئة أن ينجوا من أمراضهم لطال معدل الحياة في الجنسين خمس عشرة سنة. وهذا التقرير لا يدخل فيه التعديل الذي وقع في أسباب التطهير وإن كان مختلاً في بعض الأحوال ولكن نشأ عنه من عدة وجوه منافع عظيمة ويجب النظر إلى الأمراض التي يظن أنها عضالة اليوم وربما كانت في المستقبل مما يمكن تلافيه قبل الوقوع فيه ثم أن سن الثمانين التي يصاب صاحبها بالضعف لا محالة ويصبح في انتظار القضاء الإلهي عليه قد خف تأثيرها يما قرره منشنكوف من أن الشيخ مريض يستطيع أن يحتفل جذلاً بمرور المئة سنة على ولادته ولذلك أمثال كثيرة. قال الدكتور فيشر من كلية بال أن طول الحياة في أهم عواصم أوربا كما يلي: طالت الحياة في إنكلترا من سنة 1881 - 1900 - 14 سنة في الذكور و16 في الإناث وفي فرنسا كان معدل طولها من سنة 1881 - 1903 - 10 في الذكور و11 في الإناث وفي ألمانيا من سنة 1877 - 1900 كانت الزيادة 25سنة للذكور و29 للإناث وفي الدانيمرك كال معدل الحياة في مدة 57 سنة 13 سنة في الرجال و15 في النساء وفي السويد طال المعدل 17 في الرجال و15 في النساء خلال 67 سنة. وظلت مدة الحياة خلال ثلاثين سنة في بلاد الهند على وتيرة واحدة وهذه النتائج هي ولا جرم ابنة علم الصحة وقد رقي هذا العلم جداً في ألمانيا وفرنس وإنكلترا وهو من أدنى ما يكون في بلاد الهند. واستنتج الدكتور فيشر من ذلك أن ابن اليوم يعيش أكثر من أجداده على الرغم من كثرة عمله وشدائده فقد كان معدل الحياة في القرة السادس عشر 12. 2 والقرن السابع عشر 25. 1 في القرن الثامن عشر 33. 6 وفي القرن التاسع عشر 39. 7 ولم يزد في هذا القرن العشرين.

وهذا التقرير قد قدم إلى للجنة التي عينها مجلس النواب في الولايات المتحدة فهو بمثابة مستند رسمي مهم للغاية وعلى ما في إحصاءاته من النظر بعض الأحايين فإن المقابلات بين الحالة الماضية والحاضرة التي حوته تجعل له مقاماً وأحل السويد أطول البلاد أعماراً وأقصرها الهند وبعبارة أخرى معدل الحياة فيها وهاك جدولاً آخر في طول الحياة عن الأمم المختلفة. المملكةإحصاءذكورإناثالسويد1891 - 190050. 953. 6الداينمرك1895 - 190050. 253. 2فرنسا1898 - 190345. 749. 1بريطانيا العظمى1891 - 190044. 147. 7الولايات المتحدة1893 - 189744. 146. 6إيطاليا1892 - 190242. 843. 1ألمانيا1899 - 190041. 044. 5الهند190123. 024. 0وهذه الأرقام تختلف باختلاف الحالة الجوية والاجتماعية إن كانت عبارة عن تقديرات أخذت في أوقات تكاد متقاربة ويختف معدل الحياة أيضاً إذا نظرنا إلى البلاد التي يهاجر منها أهلها أو يهاجرون إليها فأنه يطول ويقصر على نسبة الاختلاف الذي يعرض لصحة المنتقلين من الآدميين ويقول فيشر أن الراحة والسعادة تطيل حبال الآجال لا جرم أن من بلغوا المئة من الناس لم يكونوا كلهم أغنياء ولكن من لم يحرموا شيئاً من أسباب الراحة هم أقرب إلى طول الأعمار من الفقراء فترى الموت أقل حركة في أحياء الأغنياء في باريز منه في أحياء الشقاء والفاقة. ولا يخفى أن الرجل أو المرأة الذي هو بمأمن من الحاجة يطعم الطعام الجيد ويلبس اللباس الحسن وينزل المسكن الصحي ويمتنع عن كل ما يؤذي صحته هو أقل عرضة للأمراض من التعس الذي لا يجري على نظام مطرد في معيشته ولا يكتسي كساء واقياً ولا يتناول الطعام الذي يسد جوعته وينزل على الدوام في منازل قذرة غير طاهرة. والأمثلة على ذلك كثيرة في المدن الكبرى لأن عملة المعامل بالقرب من الطبقة العليا والوسطى حيث الرفاهية. وإنك لترى أكفان الموتى تخرج من بيوت المحاويج في غلاسكوا أكثر مما تخرج من بيرت سادت فيها الدعة والغبطة. ويكون الهالكون في نيويورك وسائر المدن الصناعية الآهلة بالسكان على نسبة ما يتعاطون من الصناعات ويكون طرز معيشتهم فيموت من

التجار وأرباب الصناعات 12. 1 في الألف ومن الصناعات ما يهلك به أربابها كثيراً كالصناعات التي ينبعث عنها غبار متواصل أو روائح تتقزز منها النفوس وإن الدوام المتواصل على تطهير الأماكن والمدن قد أدخل الصحة إلى حيث كانت مفقودة إلا قليلاً فنشأ من ذلك أن الأرقام التي يوردونها بالقياس إلى زمن تتغير كثيراً في كل إحصاء يقع في الخمسين سنة. وهكذا نرى أن معدل الموت في خمس وعشرين سنة نزل في برلين من 33في الألف إلى 16وفي مونيخ من 41إلى 18 وفي واشنطون من 28إلى 19 وفي نيويورك من 25. 4 إلى 18. 6 وفي الهافان حيث لا يجري إحصاء إلى في كل قرن كان معدل الموت 45 في الألف فأخذ يختلف بين 20. 5و32. 6 وبديهي أن العوارض والحوادث التي تصيب الحياة فينشأ عنها هلاك كثيرين كالحروب والمصائب والغرق وغير ذلك قد يكثر معدل الموت ولكن ذلك لا يضر في هذه الإحصاءات لأن الربح أكثر من الخسارة. والربح نشأ بالعلم لأن الأولاد كانوا في الماضي يموتون كثيراً فبفضل الوسائط الصحية الحديثة صاروا يرجون البقاء أكثر من أجدادهم ولطالما كان الخناق والحميراء والتواء الأعصاب والسعال وغير ذلك من أمراض الطفولية تهلك الأولاد فلما اخترع المصل. والتطعيم وطرق التداوي المختلفة وارتقت الجراحة وكثر استعمال الكوكايين والديجيتالين ومضادات السميات ومضادات الفساد والمورفين خلصت نفوس كثيرة من لموت. وكان السل في الدهر الغابر يعتبر من الأمراض العضالة فأصبح وإن كان يهلك به كثيرون إلى اليوم من الأمراض التي يتأتى التفي في ها ومنا برح يعصي على العلم ويقضي على أكثر السحايا وإذا ضوعفت العناية بالصحة يرجى أن يقل عدد الهالكين بالسل 75 في المئة لا سيما في مسائل العدوى منه والنجاة منها وهكذا الحال في ذات الرئة التي تكثر بكثرة تناول المشروبات فيهلك له 11 في المئة من الناس وإذا ترك أسبابه ينزل معدل الهالكين به كثيراً والحمى التيفوئيدية قد قل الهالكون بها منذ عشر سنين ومتى عرف الناس كيف يتحامون الماء الملوث ويبتعدون عن لسع الذباب لبشراتهم لا يبقى له أثر في الوجود. وسيكون كذلك نصيب الحمى القرمزية التي كادت تكشف جراثيمها ومثل ذلك الجدري متى وقع تطعيم الناس كلهم وقد كان الناس في القرن الثامن عشر يموتون به قبيل جنر (طبيب

إنكليزي اخترع التطعيم) كثيراً بحيث لا يقل الهالكون عن 50 مليوناً ولا يزال يموت به القلائل جداً. وبذلك عرفت أن بعض الأمراض العادية يمكن اتقاؤها يتاتاً وإن غيرهم يقل الرجاء في شفائها مثل التهاب البريتون والسرطان وربما اخترع العلم لها أدوية تستأصل من الفتك بالبشر كما استأصل غيرها من الأوصاب والأوجاع. وقال جان فينو في كتابه فلسفة طول العمر إن الخوف من الموت كثيراً ما يهلك المرء قبل الأوان فإن المرء إذا بلغ قدراً من العمر يأخذ يتوقع الحمام كل ساعة ويزهد في الحياة فتسوء تغذيته ونومه ويجلب بيده رسل الهلاك فلو هزأ بالسبعين ولثمانين لبلغ المئة لا محالة وقد جرى كثير من الشيوخ على هذا النمط في الحياة فكانت النتيجة أن يبلغوا المئة بصحة ونشاط ومن أرهبه تصور الموت يموت فيكون قد أضاع على أمته شيئاً م حقوقها فيه وأضر بها ضرراً اقتصادياً ففي مليون ونصف من الموتى كل سنة يمرض ثلاثة ملايين ينقطعون عن الأعمال فيضرون بلادهم وذويهم مثال ذلك إنك تجد في الولايات المتحدة 500000 مصاب بالسل نصفهم لا يعملون عملاً أصلاً والنصف الآخر يعمل نصف عمل وهذه الولايات أيضاً نحو هذا القدر من المصابين بعوارض في أجسامهم أتتهم من الأعمال التي تعاطونها والرجل الصحيح في الجملة عن العمل خمسة أيام في السنة لوقوعه في أمراض عادية كالصداع ووجع الضرس والزكام فيضر بذلك الحالة الاقتصادية فلو عرف كل امرئ واجباته نحو المجتمع لما أتى ما يضر بصحته بتاتاً ورأي بذلك من فروضه الأدبية والحكومات والبلديات والمشرعون مسؤولون عن كثير من الأمراض التي تحدث من المسكرات والدخان لأن الإفراط كثيراً ما يؤدي بصاحبه إلى القبر والحكومات في الغالب تنشط هذه الأصناف من المكيفات مخافة أن تصاب ميزانياتها في الديون العمومية أو انحصار الدخان. ولم ينتظر أساليب العمل في المعامل والمصانع إلا منذ زمن قريب وكذلك لم تحدد أعمار العاملين والعاملات من البنين والبنات ولم ينظر في تقليل ساعات العمل والراحة الأسبوعية وبعض الامتيازات إلى في بعض البلاد حصلت عليها نقابات العمال من المجالس النيابية بالوسائط الكثيرة. وإنهاك القوى وعدم توفر أسباب الراحة والصحة في المدارس وغير ذلك من أسباب طول

الحياة لم ينظر فيها وزراء الأمم ومجالس معارفها إلا منذ عهد قريب وكذلك كل ما يوفر على البالغين قوتهم فقد أطلقت الحرية المفرطة للناس يعملون ما يشاؤون حتى أمد الدكتور فيشر أن 50 في المئة يفقدون 10 في المئة من قوتهم الحيوية لأنهم يسيئون استعمالها ولا يقتصدون فيها فإن هذا الإفراط يورث صاحبه أولاً اضطرابات عضوية ثم ينتهي بأمراض عضالية يعقبها الموت لا محالة. وبعد فإن الواجب لإطالة الحياة أن تراعى قواعد الصحة كل المراعاة فلتطويل حبل الأجل ينبغي اتقاء الأمراض على اختلاف ضروبها وعدم التعرض لأقل الأوجاع إذ ربما كانت مقدمة للعظيم منها والحياة أشبه بسفينة لا تنجو من تأثير الأنواء إلا إذا كانت متينة من الأساس إلى الرأس فالواجب على الأبوين والمجتمع أن يعتنيا بصحة الطفل منذ الولادة على الأصول الصحية وإن لا يسمحوا بزواج المجانين والمدمنين كما يفعلون في ولاية أنديانا في الحكومة تحظر هناك كل الحظر زواج المعتوهين وقدماء السكيرين وكل من نخشى أن يكون نسلهم ضعيفاً هزيلاً وتشدد في ذلك كل التشديد ولا عفو في ذلك عن أحد ليس معنى هذا أن يسن قانون يسمح به للوالدين أن يقتلوا من أولادهم كل من لا يرجى فيه أن يعيش بقوة كما كانت الحال عند بعض القدماء ولكن العناية يجب أن تصرف بحيث يقوى بالأساليب المختلفة كل طفل ضعيف ويأتي منه معمر حسن البنية نافع في المجتمع. لمعدل الحياة دوران الأول الطفولية والثاني الشيخوخة فالأولاد قد يعتني بصحتهم في السنين الأولى من حياتهم أكثر مما يعتني الشيوخ فلو طبق هؤلاء على أنفسهم نظام الصحة وطردوا من رؤوسهم الأوهام لطالت أعمارهم ورجي لها الهناء كما يرجى للأولاد وأحسن ما يجب في هذا الباب الرياضة الجسمية والحياة في الخلاء والابتعاد عما يهلك القوى. والموت يرصد الأقوياء والضعفاء على السواء وكل سبب صحي ينفع الأولاد ينفع الشيوخ لا محالة. حقيقة يجب أن تتمثلها جميع العقول أبداً وإن تذكر في البيوت أمام الصغار والكبار ويأخذ كل فرد نفسه بمراعاتها ولن تعرف حسنات المدينة إلا متى رأى كل إنسان من واجبه أن يعين على إبطال مقاومات الحياة في كل صقع وناد. ويعلم الناس أجمع أن الحياة مستودع سلمته الطبيعة فالشاب الكهل فالشيخ فالهرم في الاقتصاد هي هكذا: سنقيمته الاقتصاديةمن الولادة إلى سن الخامسة450 فرنكاًمن 5 إلى 104500 فمن 10

إلى 2010000 فمن 30 إلى 5020 إلى 30 ألف فمن 50 إلى 8015 ألف ف فنازلاًمن 80 إلى 1003500 فرنك فنازلاًبمعنى أنه كلما زادت سنة في حياة الفرد وأشهر تزيد ثروة المجموع وسعادته وهناؤه والله يعلم وأنتم لا تعلمون. أشجار الغابات نشر في أميركا كتاب مهم للغاية يخدم دروس تربية أشجار الغابات خدمة عظيمة وصف فيه مؤلفه المستر دوير بجلاءٍ تام جميع عطور العالم منسقاً لها أحسن تنسيق وقد صرف المؤلف خمس عشرة سنة متوالية في تأليف مصنفه فزار الحدائق والمغارس وغابات العالم بأسره وبحث في خزائن الكتب عامة مثل مكتبة باريز ولندن وبرلين وبطرسبورج وليدن ومدريد وفلورنسة وعشرين غيرها. وسيكون تأليفه خمس مجلدات ظهر الأول منها وسيكون الأخير فهرساً عاماً وتكتب الاصطلاحات بعدة لغات ومنها اليابانية والإفادات التي حواها الكتاب قد استلزمت أبحاثاً عظيمة بذل الجهد الجهيد في الحصول عليها فأنك تسقك في هذا المصنف على ما لا يخطر لك ببال من الاستعلامات ومنه تدرك مثلاً أن في إيطاليا 250 حديقة للنبات وإن النباتات التي وصفها هوميروس وفرجيل صالحة وإن دانتي وسرفانتس وشكسبير قد عبروا حسن تعبير عن عامة الزهور التي تكلموا عليها وكان للشعراء أشجار يستحسنونها وذكر ما كان يستحبة منها كيتس وشيلر وفيكستور هوغو لامارتين وغيرهم من كتاب الأمم. وفي هذا السفر أفادت مهمة عن رموز الغابات ولغة الأشجار المشهورة. البلاط الصناعي جربوا في همبورغ بلاطاً جديداً صناعياً وهو يحتوي على محلول كلور المغنيسيا أضيف إليه مسحوق المغنيسيا أيضاً ونشارة الخشب يجفف فتأتي منه طبقة غليظة للغاية ومتينة كالحجر تحفظ الحرارة أكثر من البلاط الطبيعي ومنظره يشبه الفسيفساء. المدفع الهائل أنشأت إنكلترا مدفعاً بحرياً جديداً قطره 406 أمتار مربعة ويقذف 1080 كيلومتراً منها 63 كيلو من المواد الملتهبة إلى مسافة 26 كيلومتراً وقذائفه تخرق أعظم بوارج دريدنوت المصفحة. ويعمل الأميركان مدفعاً يقذف مقذوفاته إلى بعد 26 كيلومتراً وقذائفه 1200

كيلو فيها 70 كيلو مواد منفجرة. السنور كان للسنور في كل زمان شأن وأي شأن فكان العامة يكتسون بفروه في القرون الوسطى بالغرب وأصبح فروه بجودة تحضيره العلمي من أحسن ما يلبس وقد أخذ لهذا العهد فرو الكلب ينافس الثعلب في أسواق التجارة. ويرغب الصيادلة في فرنسا وفي الغابة السوداء في اقتناء فرو السنانير البرية ليتداوى بها المصابون بداء المفاصل. وكان للقطط قديماً موقع مهم في أعياد الشعب يستعملونها في ملاهيهم فيعلقونها على الناي وينظرون إلى ألمها وهو يتحترق وكان بعض الأمم يعتقدون أن دفن قطط حية في أساس بناية تعرف بها متانة البناء. وكان ينظر إلى القطة السوداء عندهم بأن فيها سراً من السحر. وكان المصريون ينظرون إلى القطط بأنها حيوان مقدس والمسلمون والهنود يحترمونها كل الاحترام. وقد صورها المصورون في كل عصر وعنوا بإخراج مناظرها المختلفة وللقطط منافع عظيمة في قتلها الجرزان والظاهر أنها تتنبأ بالمطر يعرف ذلك ضمن انتفاشها وتنظيفها ووبرها ووضعها رجلها على أذنها. المدن العظمى ليست الحواضر والعواصم ابنة اليوم وتأسي ساعة فقد تنبأت العصور السالفة سيكون من شأن المدن العظمى فكانت بابل متسعة وعدد سكان رومية في القرن الثاني مليون نسمة وكان في قرطاجة دور ذات سبع أو ثماني طبقات وقد سن قانون في رؤيته على عهد فتروف لمنع تغطية الجو بالأبنية وكان سكان ميلان في القرن الثالث عشر 250ألفاً فضاقت المنازل وبسكانها فأخذوا يفكرون في الخلاص مما صارت إليه حالتهم وكان معظم الشعب يسكن في ثكن عظيمة. لا جرم أن سهولة المواصلات الحديثة واختراع السكة الحديدية قد دعت إلى هجرة الناس من الأرياف والمزارع إلى المدن والعواصم وكلما كبر حجم مدينة زادت أقدام المهاجرين إليها ففي ألمانيا زادت القصبات المحتوية على ألف نسمة من سنة 1875 - 1905مرة ونصفاً في المئة والمدن المتوسطة التي في 20إلى 100000 زادت 134 في المئة والمدن العظمة التي فيها ثلثمائة ألف 300 ضعف في المئة وأكثر ولأميركا القدح المعلى في إنشاء

المدن الحديثة فلم يكن في شيكاغو سنة 1831 سوى 100 ساكن وها هي الآن وفيها ملونا ساكن. وفي المدن في القرون الوسطى ذات زوايا بخططها وشكلها اليوم على شكل النجم ويصل كل يوم إلى مدينة لندرا أربعمائة ألف إنسان من الضاحية ولها خمسون كيلومتراً من الخطوط الحديدية للضاحية فقط ومدينة نيويورك مثال نقاط الاتصال في المدن فإن محطة خطوط هودسون بناية ذات 22طبقة فيها 5000 نافذة واتساع رقعة المساكن وازدياد عد السكان في المدن العظمة ينمو نمواً بنمو المواصلات وتسهيلها. الصحافيون والأدباء لم يكن اصحافيون في أوربا أصحاب اعتبار عن رجال الأدب في أوائل القرن الثامن عشر ولطالما كان الفيلسوف روسو وديدرو يشتدان عليهم وكان الشاعر فافر إذا جرى ذكر الصحفيين يغتاظ ويشتم ولقد تردد بريسو كثيراً قبل أن يدخل ملك الصحافة المنحط وما العلة في مقت الصحافة إذ ذاك إلا لأنها كانت توسع مجالاً كبيراً لنفذ الكتب الحديثة وكان الصحافيون نقاداً لا يبينون حسنات الكتب المؤلفة بل يكتفون بإيراد سيئاتها وإذا حدث أن أثنوا على كتاب فلا يلفتون نظر الناس إلى تلاوة ثم إن كتاب الصحف لم يكونوا من الطراز الأول بقرائحهم حتى أن جريدة العلماء في فرنسا التي كانت إلى الجد والفائدة أميل لم يكن بين مؤازريها من امتاز في العلم ولكن صحافة فرنسا خصوصاً دخلت عليها بعض تعديلات من سنة 1750 إلى 1780 ولما عمت أصول الدعوة ونشر الأفكار رأى الصحافيون أن جرائدهم أحسن الوسائط للتأثير في نفوس الأمة وهكذا اتسع أفق الصحافة حتى غدا يعزها اليوم مكان يتقرر منها أمس وأصبح مؤازروها في الغرب يتأهلون بمقالاتهم فيها لأعلى المناصب العلمية والسياسية. النفس الإسبانية كتب أحد من أقاموا طويلاً في إسبانيا مقالة في المجلة الفرنسوية وصف بها أخلاق الإسبانيين فقال إنهم أقاموا بينهم وبين أوروبا سداً كسد الصين عاشوا وراءه بمعزل عن معظم ما في ديار الغرب من مرافق الحياة وأسباب الدنية وهم يفخرون باعتزالهم هذا وقل أن ساح أحدهم إلى فرنسا أو إنكلترا أو إيطاليا اللهم إلا إذا كان من الإسبانيين نزلاء بونس أيرس عاصمة الجمهورية الفضية وأنه للجهل الذي عم الطبقات هناك إلا قليلاً تروي

جرائد إسبانيا عن ممالك أوربا أوهاماً وخرافات أشبه بما يروى عن بلاد الواق واق ويأجوج ومأجوج ولذا ترى صحفهم حتى الراقية منها مملوءة بالمطاعن فيمن يدعو قومه إلى الأخذ عن الفرنسيس أو عن الإنكليز في الضارة لأن الإسبانيين موقنون بأن عندهم كل شيء. دلَّ التاريخ على أن إسبانيا نزلتها أمم مختلفة منهم التاتاريون واللوزيتانيون والإيبريون والسلتيون والقرطاجنيون والرومانيون والويزعوتيون والعرب والجيتانيون وإن كل هذه العناصر بقت شيئاَ من أخلاقها وعاداتها لم تستطع إسبانيا الحالية أن تمزجها بعضها إلى بعض (كما حدث في الممالك العثمانية وعناصرها) لاعتزال كل فريق في صقع من أصقاع البلاد لا يخالط غيره ويرى الفخر له في عزلته. ويقال على الجملة أن أهل إسبانيا من حيث التركيب الطبيعي ولاأخلاقي يقسمون إلى أربعة أقسام وهم الباسكيون في الشمال والقشتاليون والأراغونيون في الوسط والكاتالانيون في الشرق والأندلسيون في الجنوب. والأندلسيون من أجمل الأجناس وأطولها وأحسنها تراكيب ولا سيما سكان الوادي الكبير الذي كان شأن على عهد العرب وفي سيرانيفادا تغلب النحافة على السكان وتظهر فيهم الحسنات العربية كل الظهور. وفي هل الأندلس من الإفراط في الحرية والتساهل في الأخلاق مالا تجد له مثيلاً في الأصقاع حتى لقد يكثر فيهم الفحش وأولاد النغول ويقل فيهم الزواج وإقليم كاتالونيا هو الإقليم الوحيد في إسبانيا الذي دخل في الحياة الجديدة وتوفر أهله على الزراعة والصناعة والتجارة معاً ومن يذهب من قشتالة أو الأندلس إلى كاتالونيا فكأنه فاق الموت ودخل في طور الحياة وسينهض الكاتالانيون غداً بإسبانيا كما نهض البيونيون أمس بإيطاليا. وذكر الكاتب الشحاذة في إسبانيا شائعة أكثر من جميع بلاد أوروبا وإن الشحاذين والشحاذات يطلبون الصدقات بسلاطة وقد يدعون على من لا يعطيهم كأن لهم جعلاً يتقاضونه من الغريب خاصة وربما رشق بعض الفتيات من لم يعطيهم شيئاً بالحجارة. وتشكو الصحف الكاثوليكية من ضعف الاعتقاد في الأفراد ولا سيما في الرجال ويسيء الأسبانيون معاملة الحيوانات لقلة تربيتهم لا لشراسة في طباعهم الأصلية فإنهم من أخضع الناس للقوة والأحكام يؤدون الأتاوات والخراج على صورة فاحشة ولا ينسبون ببنت شفة

وقلما تعهد لهم ثورة على الحكومة إلى في كل قرن والمرأة غير موقرة كثيراً في إسبانيا كما هي في سائر أصقاع الغرب. قلنا ومعظم هذه الأوصاف تنطبق على بلادنا العثمانية ولا عجب بعد هذا إذا رأينا مراكش لم تتأثر بالمدينة الغربية على قربها من جوار أوروبا فإن إسبانيا وهي قطعة من هذه القارة كانت لصلة الدين واللغة والجنس أولى بالتشبيه بالأوروبيين. اردياء النوم كتب أحد نطس الأطباء في مجلة الصحة يقول الظاهر أن الحالة المعدة دخلا كبيراً في النوم ومن المعلوم أنه يحدث أرق بعد الهضم المتعذر أو نوم ثقيل قليل الراحة فإن لحركة وظائف الأحشاء دخلاً مهماً في اضطرابات النوم فالواجب أن تمنع عمن أصيبوا بالأرق المشروبات المخمرة وفي كثير من الأحوال يمنع عنهم الشاي والقهوة على أن استعمال هذين المنشطين أوائل النهار لا يضر بالصحة. أما المرضى المصابون بفقر الدم فإنهم يشفون من الأرق بجلب النعاس إلى جفونهم بأن يقيلوا وقت الظهر فتساعدهم قيلولة النهار على النوم نوماً هنيئاً في الليل وتجب العناية بغرف النوم فإن من اعتادوا أن يناموا في كل فصل والنوافذ مفتحة يؤكدون أنهم ينامون نوماً جيداً يعوض ما فقدته في أتعاب النهار. والاستهواء من أنفع ما يجلب الكرى إلى عيون المؤرقين والمصابون ببعض الأمراض العصبية وهم عرضة للأرق يكون لهم من العمل العقلي المنظم بعد راحة مطلقة قليلة نتائج حسنة فينامون نوماً هادئاً مقوياً تحتاج إليه أجسامهم. باريز ومستقبلها نشر أحدهم في المجلة مقالة في هذا الشأن جاء فيها أن باريز كانت بعدد سكانها في سنة 1800 ثاني عاصمة في العالم فكان سكانها نصف مليون ولم تفقها غير لندرا وسكانها مليون واحد ثم تجئ بعد باريز موسكو وما زالت أحوال العمران تزيد وينبسط ظله حتى أصبحت في العهد الأخير مدينة لندرا وسكانها سبعة ملايين ومدينة نيويورك 4766883 ثم تجئ برلين وفينا وطوكيو وغيرها من المدن ليس لها شأن في القديم يذكر فقد كانت في أوائل القرن الماضي أكثر مدن أميركا سكاناً مدينة فيلادليفا وسكانها لا يتجاوزون 8911 ألفاً وهكذا زادت العواصم كلها بسكانها زيادة خارقة وباريز لم تتجاوز الثلاثة ملايين في

حين كان اللائق بها أن تكون ثاني مدينة بعد لندرا فإذا ظلت العناية بها فاترة لا تعتم أن تمسي بعد عقود من السنين من أصغر العواصم فتقل رغبات أهل الأرض في قصدها ولا تعود بلد النور وتنازعها في ثروتها التي يجلبها إليها السياح من القارات الخمس غيرها من العواصم الكبرى فستميل إلى النزول فيها علماء باريز والمغنيين من أبنائها لكثرة ما تبذله لهم من المال وعندها تسقط هذه العاصمة سقوطاً مريعاً. ويرى بعضهم أن قلة الرغبة في نزول الحواضر واعتزال الناس على الاشتغال بأعمالهم الزراعية في القرى والدساكر هو خير للبلاد وأبقى لأن كثرة ازدحام الأقدام والأنفاس مضرة بالصحة العامة والأحسن أن يتباعدوا ولكن هذه النظرية تعالج بشيء واحد وهو أن تبذل العناية بأمور الصحة أ: ثر مما تبذل الآن ويضاف إلى باريز ما في ظاهرها من القرى والمدن بحيث تعد منها وحكومتها حكومتها لا بدفع أبناؤها رسوماً (عوائد) ولا غيرها فتدخل في باريز تلك الحقول الواسعة والحراج الغياء في الضاحية ويساعد ذلك على تكبير ساحاتها العامة المفيدة في صحة السكان وبذلك تحفظ باريز مكانها في أقطار العالم المتحضر لأن ما تعده إنكلترا من العدد لمستقبل لندرا من أعجب ما سمع ومن ذلك جر المياه إليها فإنها ستكون كفيلة سنة 1940 بإرواء ستة عشر مليوناً من السكان وكذلك ترى نيويورك أن سكانها سيتجاوزون سنة 1940 أحد عشر مليوناً. وهكذا ترى الإفرنج يفكرون إلى ما بعد عشرات من السنين ونحن نقول ولك الساعة التي أنت فيها. مدارس المؤوفين إذا عرض لأحد العملة عارض أثناء عمله كأن يفقد عضواً من أعضائه أو يداً أو ساقاً أو عيناً فإن بلاد الغرب تكفلت لمن أصيبوا بهذه العاهات أن تعلمهم صناعات يكسبون بها رزقهم ففي البلجيك أنشئت عدة مدارس لهذه الغاية يفضل مال جاد به أحد محسنيها واسمه باستور من أعضاء مجلسها النيابي فيعلمون من نكبوا من العملة لفقد أحد أعضائهم في زمن قصير صناعة تقوم بعشهم كالتجليد والمقوى والمنافض (الفرشايات) ومماسح الأرجل مما يعمل على أيسر وجه بدون أن يكون عامله تام الأعضاء فيوزع الجدع لمبتورة أعضاؤهم بحسب قابليتهم على فروع مختلفة فمنهم من يستخدم في صنع السروج أو منهم في الأحذية وآخر يعين نوع العمل ويراقبه ويدفع أجوره بعد الثلاثة الأشهر الأولى من التعلم وتطول

مدة تعلم الأجذم أو الأكتع بقدر ما يستطيع استخدام أصابعه أو بعضها فقط فإن من فقد السبابة (الشاهدة) يتعذر عليه العمل بسرعة منافض للثياب وغيرها مما يشابهها وفي مونيخ وبونسدام وهمبورغ من بلاد ألمانية مدارس كثيرة للمؤوفين وانتشر هذا النوع من المدارس في الدانيمرك ويرد عهد إنشائها إلى سنة 1874 وقد بلغ عدد من أنقذتهم من العملة بتعليمهم ما يلزمهم نحو ستة آلاف فمنهم من جعلت له أيد صناعية وآخر أذرعة والنساء في مدراس المؤوفين في فرنسا يعملن علباً وكوات (أباجور) وتيجاناً. الزنوج تبين من إحصاء وقع في الولايات المتحدة سنة 1910 أن فيها نوعاً عجيباً من الزنوج تكون بشرته سوداء على اختلاط دمه بالدم الأبيض فقد كانوا فيما مضى يقسمون الزنوج إلى أربعة أنواع أكتورن وربع زنجي وخلامي وأسود وتكاد هذه المميزات الآن تفقد بتة ويخلفها جنس يشبهها ليس هو الجنس الزنجي الخالص السليم بل مؤلف تأليفاً آخر يدخل في دمه الثلث من دم أبيض ولكن لونه لا يشاهد محسوساً ويوصف هذا النوع من الزنوج بظهور لون جلده. وإن لون الزنجي في لوزيانا وأودليان الجديدة لمشرب مشبع أكثر مما كان عليه لون أجداده قبل حرب إلغاء الرقيق أو من الزنوج الواردين من إفريقية وسواده يلمع أكثر من زنوج الكونغو وسيماؤه إفريقية ظاهرة بعض الظهور وأشداقه كبيرة وشعره أقل صوفاً. ويصعب تعيين أسباب هذه الخصائص ولكن معظمها ناشئ من تغيير شروط الحياة. والزنجي الأميركي هو في العادة أقل قوة من الزنجي إنه ربما لا يوجد في شمالي أميركا زنجي واحد يون دمه خالصاً وإن الزنوج ليسوا زنوجاً حقيقية وإن جمع السود قد تبدلت دماؤهم وسحناتهم. ومنذ تحرير العبيد ألغيت الطريقة التي كانت متبعة في الزواج بأنه لا يسمح إلا بزواج المتناسبين في القوة ولذلك ضعفت تراكيب الزنوج الطبيعية. وشعر الزنوج أنفسهم بذلك حتى قل تزاوجهم بالبيض أو الهنود ولكن هذا النوع من السود قد تغلب اليوم ويرجى أن يعود بالتحسن مع الزمن إلى سابق قوته ورجوليته. كانون التبريد اكتشفت كراهام بل مخترع التلفون ومصلح أمور كثيرة في الطيارات السماوية اكتشافاً حديثاً يتبرد به الإنسان في شهور القيظ وهو داخل حجرته فصنع ما سماه كانون التبريد

والجليد فكان يتبرد بها في شهر آب الماضي في مدينة واشنطون بينما كان الناس يضيقون من الحرارة ذرعاً وذلك بأن صنع آلة عجيبة سهلة يتأتى لكل امرئ أن يعملها بدون كلفة وذلك لأن المخترع أذاع سرها ولم يأخذ بها امتياز كسائر المخترعات وهو أنه وضع على إطار نافذة الغرفة مروحة على شكل المراوح المتعارفة تتحرك على الدوام بمجرى كهربائي ويتأتى أخذ المجرى من آلة المصباح الكهربائي فيحدث من ذلك ريح بليل تحكم جريانه إلى أنبوب واسع دخل منه إلى صندوق متسع بعض السعة تجعل فيه كتلة من الجليد ويخرق الصندوق خرقين يجري فيهما المجرى الجليدي الذي ينشر في الغرفة التي تكون مقفلة ويكون من الهواء البليل الناشئ من المروحة والمار على الجليد رطوبة غريبة تنشط النفس وتقوي الحس. وتقام هذه الآلة بنفقة قليلة ولا تطلب من أنواع الاحتياط إلا أن يغير جليدها كل يوم. وسيتوفر الأستاذ المخترع على بسط اختراعه أكثر من ذلك وإدخال تعديلات عليه ليتمكن معها كل إنسان من استعماله ويكون للفنادق ومحال القهوة حظ كبير من هذه الآلة الجديدة يبردون بهاز بنهم وضيوفهم. دروس السيسمولوجيا السيسمولوجيا علم حديث النشأة فما من أحد يعلم أسباب الزلازل وكيفية انتشارها على سطح الكرة والإشارات التي يتأتى الانتباه بها للزلازل قبل وقوعها وهذه الأبحاث لا تهم من تصاب بلادهم بالزلازل تغديها هذه الأحداث الجيولوجية وتروحها بل تهم الإنسانية لأنها تقاسي منها الأهاويل ولذا أخذ العلماء منذ ربع قرن يبحثون في أسرار الزلازل وآخر مؤتمر عقد في منشيترناب فيه كثير من أهل هذا الشأن في الأمم ولا سيما من الممالك التي يكثر مصابها بهزات أرضية فشرح أحد الأمريكان أسباب زلزال سان فرنسيسكو وشرح أحد اليابان أسباب زلازل بلاده فتبين على الجملة الآن أن الأرض تهتز في أي نقطة كانت كل نصف ساعة على الأقل وتتجلى هذه الهزات غالياً في مناطق معينة فقد حدث في يابان منذ سبع سنين 8331 زلزالاً هذه الهزات غالياً في كل عام وهي تحدث في محيط من الأرض لا يتجاوز وضع مئات من الكيلومترات المربعة ولكن يوكوهاما في شباط سنة 1880 أجمع رأي العلماء على ضرورة إنشاء جمعية دولية تبحث في سر الزلازل واتقائها فهم عامة من الأمم إلى الاشتراك وفي المقدمة روسيا وإيطاليا. وقد اقترح أحد أساتذة

ستراسبورغ (ألمانيا) أن يقام مكتب للزلازل يعمل بمعاونة ثلاثة وثلاثين قطراً مختلفاً على تبادل الملاحظات وينشر كل سنة فهارس بالزلازل ويعني بوضع مصورات للزلازل تكون مستنداً نافعاً جداً لوضع الأسلاك البحرية وإنشاء البيوت فتعين فيها النقط التي تخلو من خطر الزلزال وبفضل هذا العمل المشترك يطن بأنه بات يرجى عما قريب أن يتنبأ بالزلازل قبل وقوعها ويتحامى ما ينشأ عنها من المضار. الأسرة في أميركا ظهر بالبحث والاستقراء أن نساء الولايات المتحدة ولا سيما من كان منهم من الأميركيات الأولى هن أقل النساء تناسلاً وإن غير الأميركيات من نزيلات الولايات المتحدة هن أكثر نسلاً وفي مقدمتهن المرأة البولونية فإن معدل أولادها 6. 2 وعدل الأميركيات البيض 2. 7 ويجئ بالكثرة بعد البولونيات نساء التشيك ثم الألمان ثم الإنكليز. إبادة الجرذان معلوم أن الجرذان تضر بالحقول في سنتي الجدب خاصة وتأكل الحبوب والنباتات وقد كان معول أرباب الزراعة على النمس يربونه ويدربونه على التهام الجرذان ولكن النمس يسطو أيضاً على الطيور وغيرها من الهوام النافعة وربما كانت القطط والكلاب أ، فع في إبادة الجرذان خصوصاً إذا كانت هذه قريبة من تلك لصيدها على أيسر سبيل. وقد اعتمد بعضهم على كربونات الباريوم في تسميم الجرذ وآخرون على سم دانيس وهذا السم يسري من المسمم به إلى غيره من الجرذ السليم قلا تلبث أن تهلك عن آخرها خصوصاً إذا وقع تحضيره في الأماكن التي يجري بها لأنه ظهر أ، هـ يفسد بعد شهرين من عمله فإذا حمل إلى القاصية ضاعت فائدته وهم الآن يبحثون في أقرب الطرق للانتفاع به فإذا ضحت تخدم الزراعة والنبات خدمة مهمة. النساء العاملات أنشأوا في الغرب منازل للفقراء من العملة يستأجرونها بثمن بخس جداً وفيها مرافق الحياة وأسباب الراحة وقد كانت إنكلترا سابقة غيرها في هذا السبيل فأنشأت بلديتا منشستر وغلاسكو فنادق للعاملات فيها مئات من الغرف تكري الواحد منها في الليلة من 7 إلى 12 فلساً وتربح البلدية أربعة بالمئة من ريع هذه الفنادق كما سبق لها أن أنشأت وأنشأ الأفراد

بيوتاً رخيصة. إحصاء الجنسين تبين من الإحصاءات الأخيرة أن عدد النساء لا يزيد كثيراً عن عدد الرجال في ألمانيا والزيادة ثمانمائة ألف امرأة فقط وما قيل من قلة الزواج لم يصح لأن 90في المئة من النساء يتزوجن ولكن العجيب أن بلد في العادة أولاد ذكور أكثر من الإناث وموت المرضعات يؤدي أبداً إلى نقص الذكور من الأطفال. شرب الشفة ما برحت الشعوب المتحضرة تبحث منذ الأزمان المغلة بالقدم في الطرق القريبة لجلب المياه إلى المدن فقد كان حمورابي يوزع المياه على بلابل من أحواض جعلها وسط هذه المدينة وعيون المياه في صور وأحواضها في القدس كانت من أهم ما عرفه القدماء في توزيع المياه لشفة وأن مجرى الماء الذي أنشئ في جزيرة ساموس هو اليوم من أجمل أعمال الصناعة في هذا الباب وكان الرومان يتفننون في جر المياه وما شوهد من آثارهم والمجاري التي أقاموها في كثير من أنحاء مملكتهم تدل على براعة زائدة. ولطالما كان إبقراط أبو الطب يحذر معاصريه من أخطار المياه القذرة الملوثة وتابعه على رأيه طثير من الأطباء وقد كانوا في أوروبا خلال القرون الوسطى يحظرون إلقاء القذر في الينابيغ العامة والآبار وكان معدل ما يلزم الرجل كل يوم في المدن من الماء 114 لتراً في رومية في حين أن الباريزي اليوم يصرف 200لتر والهندي 180 والفيناني 100لتر والماء الذي يستعمل في الصناعات غير محتاج إلى التصفية والتطهير بالنفقات الباهظة ولذا ينصح علماء الصحة أن يجري الماء على العواصم الكبرى في مجريين مختلفين على الأقل أحدهما لشرب الشفة يكون طاهراً نقياً والآخر للصناعات والسقيا والرش يكون ماؤها عادياً. الحرف والحياة تبين من إحصاء جرى في بلاد الإنكليز أن رجال الكنيسة أقل موتاً من جميع أبناء الحرف والمهن وأكثر الناس موتاً العملة الذين لم يتعلمون مهنهم على الأصول وبعد الكهنة والقسس يجئ أرباب الحدائق والمزارعون بطول أمارهم وقلة زيارة الحمام لهم وبعد ذلك يكون

دور الميكانيكيين والوقادين في الخطوط الحديدية. وتطول أعمار أرباب الصناعات النظيفة الذين يتعاونون فيها المعلمون. وأهل الصناعات تستلزم قوة كثيرة ويتعرض أصحابها للمخاطر هم مستخرجو الحطب من الغابات والبحرية فإنهم يموتون أكثر من غيرهم ومثل ذلك يصيب أرباب الصناعات التي تؤدي إلى السكر طباعة الخمور وتجارها. الهلام النباتي الهلام أو الجلاتين نوعان منه ما يستخرج من الحيوان ومنه ما يستخرج من النبات فالأول يكون بإغلاء جلود الحيوانات والعظام والأوتار والغضاريف في الماء الحار والثاني يستخرج من مواد منوعة نباتية بطريقة مشابهة لتلك وتصدر نزوج اليوم هلاماً من بنات لا يستعمل غذاءً بل يدخل في استعمالات أخرى فإذا صفي وبيض يستعمل في صقل الجوخ وفي بعض استحضارات أخرى ويستخرجونه من الخث (نبات الماء) الذي يكثر على شواطئ نروج فإذا حل جزء من عشرين جزءاً من هذا الهلام يكون منه هلام جيد وبياع حبوباً صغيرة لونها أسمة تصفر وتبيض فإذا حلت بالماء تنتفخ الحبات وكثير من أنواع الخث الحلوة الطعم تحتوي على هلام يستعمله الفقراء في أوروبا غذاء ويعملون منه رباً وهو منتشر كثيراً في بلاد يابان ويصدرون منه خارج بلادهم ويزرع الخث في أرخبيل يابان واشتهرت جزيرة يزو بهلامها ويمزج الجلاتين الياباني في الحساء الصيني المعمول بالسنونو ويباع منه في يابان بما قيمته مليونان ونصف من الفرنكات. متوسطو القرائح كتب ماكس نوردو من علماء الإسرائيليين مقالة في المجلة الباريزية تحت هذا العنوان فقال ما محصله: أحسن ما تهبه الفطرة لطفل منذ يوم ولادته أن تجعل له قريحة رائقة فهي أجمل الهبات بل أكد التعاويذ في نيل سعادة الحياة من الغناء والثروة. لا جرم أن القريحة تزين مشاهد العالم أكثر مما يزينها شرف المولد وجلالة المراتب فيها تستميل العواطف العادية في تصور الحقيقة إلى عواطف أنس وهوى وبها تتسع الثقة في القوة العاملة في شخصية المرء. ولك أن تحكم على قدر القرائح وتأثيراتها بما يصيب العظماء وأرباب المكانة في هذا العالم من المرح والحب فيتوفرون عليها إذا أحسنت بها إليهم الفطرة فقد كانت الملكة فيكتوريا

صاحبة إنكلترا تجد سبيلاً بين مشاغلها الكثيرة من تولي أمر 350 مليوناً من البشر أن ترسم على الورق والمقوى الرسم الملون وكان اين عمها ملك البرتغال يصور الأقمسشة والأقمشة التي تخرج من مناقشه إذا عرضت في المعارض تعرف من بين غيرها ويدرك الناقدون أن يداً تخلت عن الصولجان ساعات لتمسك المنقش. وترى الإمبراطور غليوم يرسم ويصور وينظم بعض الأناشيد والأغاني في آونة الفراغ وخال والدته الدوق أرنست الثاني ساكس كوبرع قد ألف قصة بأناشيد أبرزها للناس في دار التمثيل بقصره باسم مستعار وكان يجد لذة بين مشاغله أن يمثل التمثيل المضحك. وكان ماكسيمليان امبراطور المكسيك التعس الحظ شاعراً وقصائده الغنائية تشهد له بالغيرة وباحقية جهاده. وأصدرت الأرشيدوقة لويزدي توسقان مجلداً في الشعر يدل على أنه كان في رأسها الأصهب مكان للأوزان والقوافي الشعرية. وإذا نزلنا قليلاً في درجات أراب العروش ونظرنا إلى أهل الطبقة الأولى في المجتمع نجد غواة البدائع والفنون كثيراً عديدهم فإن الكونت بوست الذي يعزو إلى نفسه المشكلة النمساوية المجرية كان يكتب بالفرنسوية قصائد رقيقة تنبي عن أغرض عالية والدوقة ولية العهد دوزيس تعمل نصباً وهياكل حسنة. وللعقائل الكبريات في باريز منذ بضع سنين ردهة سنوية يسقط الناظر في قائمتها على جميع أسماء النبيلات ونساء الكبراء ولا يقبل فيها غير رسوم رسمتها أناملهن ويتبارين الإشراف مبتهجين أمام ما صنعته أيدي أزواجهن البيضاء. ولجميع الأعمال الحرة أيضاً مجتمعات فترى المحامين والقضاة والأطباء والممثلين والصحافيين يعرضون فيها ثمرات حبهم للصنائع النفسية من نقش ورسم وحفر ومنها يستدل على مبلغ ولوعهم بالرياضات البدنية ولوعهم بتشغيل عقولهم. لا جرم أن جميع غواة الشعر والموسيقى والفنون ينظرون انصراف أذهانهم إلى هذه الصناعات الجميلة خارجاً عن عملهم يتلهون بها فقط زيادة على ما أخذوا أنفسهم به من الأعمال مما دل على أن القريحة الصغيرة أو النصف القريحة تعد من البركات إذا نميت لذاتها فقط ولما فيها من النفع ولما لها من الوقع. ولكن إذا أضاف أمثال هذه الطبقة إلى عملهم طمعاً وطبعاً جاء منهم أناس يغضبون وييأسون لأنهم لم ينجحوا فيما هم بسبيله نجاح من استعدوا لهذه

الصناعات بالفطرة وبرزوا فيها فأقبل الناس عليهم وأعجبوا بما ترسمه يدهم الصناع. القريحة كائن يقوم به من العمل في العادة أحسن من السواد الأعظم الذي يحاول الحصول على ذلك الاستعداد. والمادة الأصلية في القريحة القدوة والتقليد ويتأتي للقريحة أن تعلم إلى حد محدود وفي مكنة كل رجل اعتيادي أن يجعل له قريحة وما القريحة إلا بتعهدها وهي صورة حية من آثار النظر فيها والقريحة تتعهد في عهدنا بحيث يأتي من كل اثنين واحد ذو قريحة ولكن الانتفاع من ثمراتها انتفاعاً مادياً غير مضمون بل يتعلمها كما يتعلم الناس ما يؤهلهم لأخذ الشهادة العالية في مبادئ العلوم فينال الشهادة المتعلمون ولكن لا يضمن لهم رزقهم منا بل هي أداة لتمدينهم. ويجب أن لا يعتقد من يستطيع نظم بيت أنه شاعر ولا من يمس القلم والريشة أنه مصور أن نقاش فإن هذا الاعتقاد حمل كثيرين على اعتقاد الكفاءات في أنفسهم وعتبوا على الدهر لأنه لم يعطهم حقهم من النجاح ووهموا بأنه يستحيل عليهم أن يرزقوا مما لم يتقنوه إتقان النابغين له ولا يقدر قدر ذلك إلا من يدخل المخازن وقاعات الصناعات فيرى أدعياء هذه الصناعات يعرضون ما خطوا ورسموا وبئس ما يريدون أن يشتروا به ثمناً ولو قليلاً ويحشرون أنفسهم في عداد العالمين والنابغين. وليت أولئك الأدعياء علم ما لا يعلمون التمسوا رزقهم من خدمة محال القهوة أو صنع الأحذية إذاً لرفعوا رؤوسهم في صناعاتهم بدون أن يوهموا أنفسهم بأن لهم قريحة حسنة ويداً صناعاً. وترى الدعوة أيضاً أكثر شيوعاً في الأدب فإن عشرين ألفاً من الناس يدعون الشعر والكتابة وقليل منهم من لم بكتب وينظم قصة ويؤلف قصة أو قصيدة وهم متوسطون فيما يخطون ويبقى تسعة أعشارهم خاملين لا شهرة لهم إلا في دائرتهم الضيقة وكم يقاسون من الألم يوم يحكم الناس على المجيدين منهم ويشهدون الكتبيين وإعلانات دور التمثيل والجرائد والمجلات لا تذكر إلا غيرهم من النابهين النابغين وهم قلائل يواتيهم الحظ ويخمل جمهوراً كبيراً من الغراب الأعصم والكبريت الأحمر. وبعد فاطلب لكل من تريد له الخير أن تعرى نفسه كل التعرية من القريحة كلها فذلك خير له من أن تكون له قريحة تافهة يرافقها طمع فيه وهو طمع بالنابغين الآخرين من الحاملين. الفيل في الكونغو

يقدرن عدد الفيلة في إفريقية من ثلثمائة إلى أربعمائة ألف فيل يقتل منها كل سنة نحو خمسين ألفاً لأخذ العاج منها وقد أخذت أساليب كثيرة لوقايتها مخافة أن ينقرض نسلها فحظرت بعض الحكومات إفريقية من الأوروبيين صيدها بالنار أو بشراك وأن يقتل إناثها وصغارها التي يكون نابها أقل في خمسة كيلوغرامات وعلى الفيلة في معظم أصقاع إفريقية يحمل الناس أثقالهم فيحمل الواحد منها ما لا يحمله ثلاثون أو أربعون زنجياً والفيل في إفريقية كما هو في الهند مورد ربح لصاحبه يساوي الواحد 250 ليرة ودخله من 15 إلى 20 ليرة وهو يحرث الأرض ويفتح الطرق وله غير ذلك من الفوائد. صناعات النساء تزداد الصناعات التي ينصرف إليها النساء في بلاد الغرب اليوم بعد اليوم ويقبلن خاصة في الصناعات الاجتماعية. ولقد أبرزن في هذا الباب صفات فائقة وكانت جذوة هذا النور منبعثة من ألمانيا والنمسا. فقد عهدت بعض مدن النمسا مثل فينا وغراز وبراغ ولمبرغ وبروم إلى النساء مناظرة العمل في الصناعات التي يشتغل بها العاملات من بنات جنسهن خاصة وأنشأ مجلس ولاية بومرانيا في ألمانيا مهنة جديدة للنساء يعهد إليهن أن ينشرن بين سكان الحقول مبادئ تربية الأولاد والاقتصاد الأهلي وحفظ الصحة والعمل اليدوي وغير ذلك. وعينت مدينة أونابروك في ألمانيا امرأة للعناية بالفقراء والنظر في أحوالهن ورأت بلدية كيال في ألمانيا أن تعتمد على النساء لمقاومة الكحول وإنقاذ من أصيبوا تعاطيها فعينت عشر نساء لمعونة المدمنين والتأثير فيهم فأسفر عملهن عن أحسن النتائج. وعينت حكومة الدانيمرك إحدى الأوانس مفتشة على مطاعم المدارس في القرى. ويزداد تعيين النساء في الشرطة بضفة مساعدات وقد أشأت فنلاندا - وهي مرتقية جداً من حيث الإصلاحات الاجتماعية وإن كانت مضطهدة من حيث أحكامها - سنة 1907 ثماني وظائف لمعاونة رجال الشرطة تولاها النساء وهن يقبضن رواتب كرواتب الرجال وأهم ما يعهد إليهن إنقاذ النساء والنبات مما يطرأ على أخلاقهن وإرجاعهن إلى حظيرة العمل الشريف ومحاربة الاتجار بالرقيق الأبيض وأن يجعلن العجوزات والأولاد الذين لم يرزقن حظاً من التأديب في أماكن لائقة وقد ظهرت فوائد ذلك كله حتى الزراعية للبنات تتكاثر في معظم بلاد الغرب وبها تهيأت مهن جديدة لهن فإن الجمعية الزراعية في جنوب إقليم

سواب من ألمانيا قد أنشأت مزرعة لتربية الطيور على الأصول الحديثة عهدت بإدارتها إلى امرأة وتقام فيها دروس خاصة بالنساء فقط وأحدثت نظارة التجارة في إنكلترا عدة وظائف مديرات لمكاتب وسطى لاستخدام عملة للزراعة. وشعرت بعض البلاد الألمانية بأن النساء يقتضي عليهن العوم والسباحة ولكن قلة الأساتذة من بنات جنسهن منعهن عن هذه الرياضة الجسدية المهمة فأنشأت جمعية هناك تعلم الفتيات اللاتي عقدن العزم في ألمانيا على تعلم السباحة وبعد أن يفحصن شهادات مؤذنة بكفاءتهن. وللنساء في ألمانيا شأن كبير في بيع الكتب فإن عددهن فيها يبلغ 12000 أي أكثر من ربع من يشتغلون بهذه التجارة. وقد أخذ النساء في ألمانيا في العهد الأخير يحترفن بالتجارة وصنع الجعة والنقش والتجليد والحلاقة والخياطة وعلى كثرة من كن منذ زمن يتعاطين الصناعتين الأخيرتين كان من المتعذر عليهن في ألمانيا أن يعملن بحسابهن أما الآن فهن في حل مما يردن. وفي فينا نساء يصنعن الزجاج وينلن بصناعته شهادات تؤذن بكفاءتهن ومن النساء من يتعلم صناعات الساعات. ومن النساء النبيلات في إنكلترا من اقتحمن أوهام محيطهن وقمن لإدارة المشروعات الاقتصادية وكثيرات منهن الآن مديرات لفنادق كبرى ولبعضهن محال لقض الشعور والغسيل وعمل المربيات. وقد أحدث النساء في أميركا حرفة جديدة وهي تنظيم السهرات فيعهد إلى بعضهن أن يقمن بلوازم ليالي الأنس والفرح. وكثير عدد النساء المستخدمات في السكك الحديدية وإدارات البريد حتى عمدت بروسيا مؤخراً أن تقبل باستخدام النساء في بعض الخطوط على شرط أن تكون ساعات عملهن مساوية لعمل الرجال ولكنهن يقبضن نصف الأجور التي يتقاضونها. وفي هولاندة قامت مؤلفة للأناشيد الوطنية فأصبحت مديرة جوقة مشهورة وبزت الرجال في هذا الشأن. وهكذا يعمل الغربيون رجالهم ونساؤهم كل بحسب قوته وغنائه فمتى يطرس الشرقيون على آثارهم في النافع من هذه المدينة المدهشة. الحس في النبات يظن بعضهم أن النبات لا إحساس له للأحياء وذلك لأنهم ينظرون إليه بالعين المجردة فيقع في نفوسهم أنها أحط في الإحساس من نباتات البحر إذا عمدت إلى جذوع ونزعت الإلودة الكاناداي الذي يطلع في المياه العذبة وبتأتي له أن يعيش بدون جذوع ونزعت منه ورقة

بمقص وقصصتها بالمجهر ووضعتها في صفحة فيها نقاط ماء لا تلبث أن ترى فيها خلايا مستطيلة قليلاً فيها عدة أجسام مدورة خضرة وحبوب الكلورفيل كل ذلك ساكن لا يتحرك حتى إذا مضت خمس دقائق أو عشر أو خمس عشرة دقيقة هكذا تدور في كل خلية ومنها ما يذهب ذات اليمين وذات الشمال ومنها ما يسري لسرعة ومنها ببطء كل هذا ما يدل على وجود الحس في النباتات وأعظم تلك الجوارح النظر الذي به ترى النور ولا يتميز المرئيات كما هو الحال في ديدان الأرض والمرجان وغيرها التي ليس لها حاسة النظر ولكنها تشعر بالاحتكاك ومن السهل أن نبين تأثير النور في النباتات وذلك بأن نغرس نبتة في مكان ليس له سوى نافذة واحدة من جهة واحدة ويهرب منه شأن من قوت هذه الحاسة فإنهم يستغلون من الشمس عندما تحمى جمراتها وأراق نباتات لتعرض للريح في النهار وهي تنام الليل فتغير حركتها ومن الثبات ما يرى فيها ذلك محسوساً أكثر من زهر العسل وعصفيرة والحت أو نبات لماء يسهل أن يدرس فيه تأثير الماء واللمس هو من الحواس المشهودة في النباتات وترى المستحيل لأن اللمس يترك وريقاتها بعضها فوق بعض ويعلق أوراقها نحو الأسفل وقد عللوا ذلك بأن هذا النبات متى مس يغادر وهناك نبات آخر اسمه طراد الذباب هو من النبات التي تلحق الأجسام المجاورة مثل الكرم والبطيخ فإنه إذ لم يجد في جواره ما يعرش عليه يخرج مستقيما فسبحان من خلق في خلقه إناس يفكرون الليل والنهار في تعليل هذه الكائنات وزهدنا في كل نافع فاحتقرنا كل علم. الجنس الأبيض البحث في أجناس البشر من أهم المباحث المحاضرة ويقولون أن الجنس الأبيض يسعى ليكون حاكماً على بقية الأجناس وأن يكونوا تحت سلطته وحكمه الجنس الأبيض من الأبحاث الاستعمارية فكل جنس من الأبيض يطلب هؤلاء وهذا ما حدا بالمسيو جونستون أن يتجشم الصعوبات والأسفار الشاسعة ليوفق إلى حل هذه المشكلة العظيمة. قال بعد تطوأه لهذا البحث هل في وسع الجنس الأبيض أن يسكن البلاد القبطية والأبيض قليل النسل بالسبة إلى هؤلاء وكذلك يستحيل على الأبيض أن يقوم بالأعمال الفادحة في البلاد الحارة. يفوق الأوروبي أهل هذه الأجناس باعتنائه بصحته والتوقي من الأمراض ولكنه لا يمكن

أن يعيش في إقليمهم ونحكم عله بالنقص في جسده وعقلهم إذ ربما فاق الأبيض فهذه الأمة الصينية واليابانية هي اليوم وغيرها بالأمس وكذل الزنوج لا يطول أمرهم وهم على هذه الحال من التأخر. إن هؤلاء يتأثرون في صدورهم البغضاء عندما يقرؤون في جرائدنا وكتبنا الحملات الفادحة إذ الإنسانية تقضي علينا أن نعامل المخلوقات باحترام ورفق لأجل احترام هذا المبدأ يجب أن نبحث ونتدين بدينٍ يكون عاماً للبشر كما في مراكش والكونغو وغيرهما من البلاد. الفنادق في سويسرا كان عدد الفنادق في سويسرا سنة 1889 - 1000 فندق تحتوي على ثمانية وخمسين ألف سرير وتشغل في عرصاتها 34 ألف عامل منهم 4000 يدأبون في العمل طوال السنة رأس مال هذه الفنادق 800 مليون فرنك منها 500 لأجل تشييد البناء فإذا اعتبرنا هذا الرأس المال مأخوذاً بالفائدة تكون الخسارة 5 في المئة بالنسبة للواردات.

خاتمة السنة السادسة

خاتمة السنة السادسة يختم المقتبس اليوم عامه السادس لإنشائه في القاهرة والثالث لصدوره في دمشق ويحمد الله على أن يجعل أعوامه الثلاثة في ربوع دمشق التي لا تقل عن أعوامه الثلاثة الأولى في ربوع مصر ونقل أوضاع الغربيين الشرقيين المحدثين منهم التي لا يغيرها تبدل أو نزاعات المذهبية والأهواء الحزبية أو الشعوبية والاستعمارية وهنا نعاهد القراء على بذل الطاقة في هذه الخدمة الشريفة مستعينين بالله وبمؤازرينا الكرام الذين جعلوا في هذه المجلة حديقة يانعة بثمار دروسهم وأبحاثهم وقد زدنا منذ السنة القادمة في صفحات مجلة السنة 160 صفحة فيدخل المجلد في السنة المقبلة في 960 صفحة بدلاً من 800 بحيث يصيب كل جزء 80 صفحة ولله نسأل المعونة والهداية والعفو عما طغى به القلم من الخطيئات والهفوات.

بسم الله وبه ثقتي نحمدهُ تعالى عَلَى أن يسر لنا الوفاء بما وعدنا به يوم إنشاء هذه المجلة من إرادة التحسين في موضوعاتها وتكثير موادها وتكبير حجمها وتجميل مظهرها بحسب سنة النمو الطبيعي. وها نحن أولاء نبدأ الآن بنشر السنة السابعة بزيادة عدد صفحات مجلد السنة بحيث يقع المجلد في 960 صفحة وكان كل مجلد في السنين الأربع الأخيرة يصدر في 800 وفي السنتين الأوليين في 672 وتوسيع الحجم يقتضي ولا جرم التوسع في الأبحاث وإشباعها نظراً وتدقيقاً. لم نتفرغ كل التفرغ في السنين الماضية إلى الانقطاع لما نحب المبالغة في البحث فيه لتجويد تأليف هذه الصحيفة لأن العمل في الصحف السياسية أضاع علينا جانباً من أوقاتنا بحكم الضرورة بيد أننا لم نغفل يوماً ونحن وسط ذاك العراك الشديد عن اقتباس كل ما نعتقد فيه الغناء لفائدة القراء الأعزاء. أضف إلى هذا أن السنين الثلاث الماضية من سني الدستور العثماني كانت ومازالت أيام اضطراب وفتن وبلاءٍ ومحن وفي مثل هذه الحال يصعب عَلَى من يعمل بعقله أن يصرف قواه كلها إلى تعزيز كلمة العلوم والآداب وهي لا تنمو إلا في ظل الأمن والراحة والقائمون بخدمتها أحوج الناس إلى السكون والانقطاع للتدبر والتفكر ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. فرجاؤنا أن يكون جو الأعوام المقبلة أكثر صفاءً لنحسن الاضطلاع بأعباء هذه الخدمة الشريفة ونبلي البلاء الحسن في نشر النافع في النهضة الفكرية في الديار العربية إذ كل سعي ضائع بدون لأن يسبقه نهوض علمي واقتصادي وأدبي والله ولي التوفيق.

ملقى السبيل

ملقى السبيل سانحة المعري وشبنهاور من عهد بعيد بحث كتاب الشرق والغرب عن حياة الشاعر الحكيم أبي العلاء المعري وتآليفه وعرفوه بما يستحقه من الإجلال والتعظيم فلا حاجة لإيراد ترجمته هنا. إلا أنّا لم نر أحداً أشار إلى المشابهة الغريبة الموجودة بين فلسفة المعري ومذهب شبنهاور الحكيم الجرماني. ولد أرثور شبنهاور بمدينة دنتسيغ بألمانيا سنة 1788 فاعتنت أمه بتثقيفه وكانت من مشاهير قصصي ذلك القرن فأحسنت تربيته. وبعد أن تلقى العلوم بجامعة برلين وحصل عَلَى أعلا شهاداتها أخذ يدون آراءه الفلسفية فألف عدة كتب أهمها (الإرادة في الطبيعة) و (أساس الحكمة) وأشهرها (حقائق تتعلق بالحكمة في الحياة) وفيه جمع شبنهاور حكمه في أقوال موجزة وفصول قصار وصف فيها أتعاب الحياة وآلام البشر بكيفية تؤلم القارئ لانطباقها في الغالي عَلَى الواقع. ومذهب شبنهاور مركوز عَلَى قاعدة أن جميع مشاق الإنسان وأتعابه الدنياوية الأصل فيما يسميه إرادة البشر يعني شهوات طبيعتنا وحبنا التمتع والتلذذ بالحياة. أوليس هذا رأي المعري عندما يقول: إنك إلى الدنيا مصغ. وحبها للبشر مطغ. لو أنك لشأنها ملغ. أبغاك ما تأمله مبغ؟ ولولا خوف الإطالة لأوردنا شيئاً كثيراً من تشابه أقوال الحكيمين. وتوفي أرثور شبنهاور بفرنكفورت عام 1860. ومن اطلع عَلَى طريقة هذا الفيلسوف الألماني تيقن أن معتقده ويأسه من الحياة وتشاؤمه المستمر يطابق كثيراً مذهب المعري خصوصاً في فحصه أتعاب البشر وآلامهم وجسه أسقام الإنسان كالباحث الماهر والطبيب العارف من غير حنان ولا شفقة عَلَى هذا النوع الإنساني وبدون أن يبين في وصف الأدوية التي ينبغي اتخاذها واستعمالها للاتقاء وتسلية تلك المواجع. وهناك علاقة وتشابه آخر بين أبي العلاء وشبنهاور وهو كونهما لم يتزوجا وعاشا في

عزوبة مستمرة وعزلة وانقطاع مما أثر في طبيعتهما وجعلهما يتشاءمان وينتقدان الهيئة الاجتماعية ويتناولان أهل الدين وأرباب العشائر والنساء والاعتقاد ويسيئان الظن بالدنيا وساكنيها. والفرق بين العالمين هو كون شبنهاور استقل في علم الفلسفة ودراستها والتدوين فيها بخلاف المعري الذي لم يشتغل بالفلسفة من حيث هي علم وإنما كان يبحث عن أسباب الأشياء وتعليل وجودها فتخطر له خطرات حكمية تستحوذ عَلَى مخيلته وذهنه الحاد فتسبكها قريحته الشعرية في تلك القوالب لعجيبة التي تظهر من قصائده. بقي أن نتكلم عن رسالة ملقى السبيل التي نقدمها اليوم إلى محبي الآثار العربية والمولعين بنثر شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ونظمه. يظهر من هيئة هاته الرسالة وإنشاءها أن المعري ألفها في الدور الأخير من حياته زمن عزلته وانقطاعه (حوالي سنة 430 هـ) وقد زهد في الدنيا لكبره واقتراب أجله. فكأنه أراد الرجوع للمبادئ الدينية وسلك طريقة الوعظ والنسك وتمسك بالاعتقاد. وأين قوله زمن صغره لما كان في غزارة قواه وعنفوان شبابه: ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةٌ ... وحق لسكانِ البسيطةِ أن يبكوا تحطمنا الأيامُ حتى كأننا ... زجاجٌ ولكن لا يُعاد لنا سبك ومن اعترافه بالبعث والمعاد في هاته الرسالة كقوله وفي الآخرة يكون المجمع وقوله وعند الباري تكون الزلف وهلم جرا. أما أسلوب هذه الرسالة في مجمله فهو يشابه كثيراً لهجة الخطب البليغة ذات الفصول القصار التي كان يلقيها خطباء العرب كسحبان وائل الباهلي وقس بن ساعدة وعامر بن الطفيل وأمثالهم بأسواق الجاهلية. وإليك نموذجاً من كلام قس بن ساعدة خطيب بني إياد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم رأيته بسوق عكاظ عَلَى جمل أحكر يقول: أيها الناس اجتمعوا فاسمعوا وعوا. من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آتٍ آت. في هذه آيات محكمات. مطر ونبات. وآباءٌ وأمهات. وذاهب وآت. ونجوم تمور. وبحور لا تغور. وسقف مرفوع. ومهاد موضوع. وليل داج. وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون. أرضوا فأقاموا. أم حبسوا فناموا. يا معشر إياد. أين ثمود وعاد.

وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي يشكر. والظلم الذي لم ينكر: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر أيقنت أني لامحا ... لة حيث صار القوم صائر وسوف يرى القارئُ ما بين الكلام المتقدم وحل المعري وعقده في ملقى السبيل من مطابقة المعنى ومشابهة اللهجة. أما النسخة التي اعتمدنا عليها في النقل فهي محفوظة بمكتبة الأسكوريال من بلاد الأندلس تحت نمرة 467 وهي بخط الراوي لها القاضي الإمام الشريف أبي محمد عبد الله ابن القاضي أبي الفضل عبد الرحمن بن يحيى الديباجي العثماني رسمها بالإسكندرية أوائل القرن السادس وقد اعتنى برسمها وضبط جملها بطريقة ثابتة مدققة وهي فيما اعتقده أقدم نسخة لملقى السبيل ولا يبعد أن تكون هي التي عول عليها أدباء الأندلس في معارضتهم لها فقد جاء في نفح الطيب أن الحافظ أبا الربيع الكلاعي الأندلسي المتوفى بالجهاد سنة 634 هـ. عارض هذه الرسالة بتأليف سماه مفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السبيل. كما تحتوي مكتبة الأسكوريال نفسها عَلَى كتب (نمرة 519) من وضع الكاتب الشهير أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وزير يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين عارض به ملقى السبيل أيضاً. ومن جهة أخرى يوجد بمقدمة النسخة التي لدينا وهي كما قدمنا صورة فوتوغرافية من الأصل الأندلسي كثير من الإجازات تنبئ بقراءَة هذه الرسالة عَلَى أساتذة متضلعين تلتحق رواياتهم بالراسم الأول نعني عبد الله الديباجي. وأقد توقيع من هذا النمط مؤرخ سنة 562 وهو مما يستدل به أيضاً عَلَى اهتمام الأندلسيين بتآليف المعري. وعسى أن ننشر فيما بعد رسائل أخرى من وضع هذا الفيلسوف الشاعر والله ولي التوفيق. تونس 10 ربيع الأنور 1329 ح. ح. عبد الوهاب

بسم الله الرحمن الرحيم أخبرني بملقى السبيل هذه الشيخ أبو المظفر سعد بن أحمد بن حماد المعري رحمه الله عن أبيه أبي العلاء ناظمها وكتب عبد الله بن عبد الرحمن العثماني. قال الشيخ الإمام أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري رهين المحبسين الهمزة كم يجني الرجل ويخطئ، ويعلم أن حتفه لا يبطئ، نظمه (مخلع البسيط) إن الأنام ليخطئوا ... ن ويغفر الله الخطيئة كم يبطئون عن الجمي ... ل وما مناياهم بطيئة الألف ابن آدم في سير وسُرى. يهجر بحصره الكرى. وطال ما كذب وافترى. ليصل إلى خسيس القرى. وإنما يحصل عَلَى الثرى. كأنه لا يسمع ولا يرى. نظمه (سريع) أما يفيق المرء من سكره ... مجتهداً في سيره والسرى نمت عن الأخرى فلم تنتبه ... وفي سوى الدين هجرت الكرى كم قائل راح إلى معشر ... أبطل فيما قاله وافترى عَلَى القرا يحمل أثقاله ... وإنما يأمل نزرِ القرى يفتقر الحي ويثري وما ... يصير الأُجثوةِ في الثرى اسمع فهذا قائل صادق ... أراك عقباك فهلا ترى الباء يفتقر إلى الله الأرباب. وبالكافر يحل التباب. وتنقطع بالموت الأسباب. وفي الخالق تحار الألباب. نظمه (رجز) دانت لرب الفلك الأرباب ... وبالكفور يلحق التباب

كم قطعت لميتة أسباب ... واقترفت برغمها الأسباب التاء النفس تصرفت وانصرفت. والأمضاء تألفت ثم تلفت. والأقضية بحق هتفت. ما أُعفيت المحلة لكن عفت. كم شفيت المدنفة فما اشتفت. نظمه (مجزو الرجز) نفس الفتي في دهره ... تصرفت وانصرفت تألفت عضاؤه ... وافترقت إذ تلفت أقضية الله دعت ... فأسمعت إذ هتفت ما أُعفيت ديارهم ... من الرزايا بل عفت كم شفيت مريضة ... من مرض فما اشتفت الثاء من أعظم الحدث. سكنى الجدث. نظمه (متقارب) يدوم القديم إلاه السماء ... ويفنى بأقداره ما حدث وما أرغب المرء في عيشه ... ولكن قصاراه سكنى الجدث الجيم العجب بجاهل مداج. يأسف لبين الأحداج. ويعصي الملك والليل داج. وما هو من الحنف بناج. نظمه (مخلع البسيط) يا أيها العاقل المداجي ... ليله بالسفاه داجي كأنه عينه إذا ما ... تحمل الحي في زجاج كم أعمل الناجيات حرصاً ... وليس من حتفه بناج رجا أُموراً فلم تقدر ... وكل من في الحي الحياة راجي الحاء

إن ابن آدم لشحيح. سوف يمرض من القوم صحيح. تعصف بعقله ريح. فإذا هو لقيَ طريح. ثم يحفر له ضريح. أن ذلك هو التبريح. نظمه (مخلع البسيط) يا أيها الممسك الشحيح ... سيمرض السالم الصحيح مالك لم تنتفع بعقل ... هل عصفت بالعقول ريح إن شيد القصر في سرور ... فبعده يحفر الضريح يطرح الهم بالمنايا ... من جسمه في الثرى طريح الخاء بكى عَلَى الميت مواخ. كان أجاء في تراخ. فلتنه الصارخة عن الصراخ. نظمه (مخلع البسيط) في الله آخى فتىً لبيب ... وأسلم الهالك المواخي بكى عليه فهل تراه ... في أجل دائم التراخي اعتقد الحق واعتمده ... لا تزرع الحب في السباخ الدال أما بصرك فحديد. وأما ثوبك فجديد. وظلك بقضاء الله مديد. وحولك العدد والعديد. ولكنك سواك السديد. طرقك وعد ووعيد. فهل تبديء وهل تعيد. أم غريك هو السعيد. نظمه (وافر) أرى ملكاً تحف به موال ... له نظر إلى الدنيا حديد ضفا برد الشباب عليه حتى ... مضت حقب وملبسه جديد يزول القيظ في صيف ومشتى ... ويستر شخصه ظل مديد وفت عُدد لديه فمن دروع ... وأسياف ينوء بها عديد وكان السعد صاحبه زماناً ... ولكن طال ما شقي السعيد بدا شخص المنون لناظريه ... وقيل له أتبدي أن تعيد تصعد في المرتب غير وإن ... وأحرزه عَلَى الرغم الصعيد تفرقت الجيود فما حمته ... وأبطلت المواعيد والوعيد

الذال أما العيش فيلذ. ولكن سببه يجذ. نظمه (متقارب) يلذ الفتى غفلات الحياة ... وليس بمتصل ما يلذ يمد له الظن آماله ... ولكنها عن قليل تجذ . . . العاجلة سبيل منفوذة. وهي عند أهل الرشد منبوذة. والأنفس بحق مأخوذة. لا الدرع تنفع ولا الخوذة. نظمه (سريع) أنفذ من الدنيا ولا تلتفت ... فأنها بالعنف منفوذة حازتك فانبذها إلى أهلها ... فهي لدى ألخيار منبوذة ولا تمسك بحبال لها ... تصبح من كفيك محذوذة مأخوذة مانعة في الورى ... نفس بحكم الله مأخوذة لا سقية أغنت ولا رقية ... ولا تميمات ولا عوذه الراء لقد هجرت الخدور. وغدر بها الزمان الغدور. فإذا الخدر عوضه قبر. هل ينفعك جزع أو صبر. من بارئك يجري المقدور. وتفنى الشهب والبدور. نظمه (مخلع البسيط) تظهر أسرارها الخدور ... بما قضى الواحد القدير كم دار في خاطر ضمير ... من فلك دائب يدور وضاق صدر بمشكلات ... تضيق عن مثلها الصدور يثبت فرد بلا قرين ... وتهلك الشهب والبدور الزاي لا تبرزي يا غانية. فإنها الدنيا فانية. سترك بكلة والداك. فتمسك بالنسك بداك. الورع ذهب إبريز. والجدث حرز حريز. قد تهلك فتاة رود. وتلبث مسنة ترود.

نظمه (مخلع البسيط) يموت قوم وراء قوم ... ويثبت الأول العزيز كم هلكت غادة كعاب ... وعمرت أمها العجوز أحرزها الوالدان خوفاً ... والقبر حرز لها حريز يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز السين يا ابن آدم كم تحرس وتحترس. والموت أسد يفترس. إن كنت بجبل أو واد. فإن الأودية مثل الأطواد. يسمعها من الله داع. جل رب العظمة والابتداع. نظمه (متقارب) أيحترس المرء من حتفه ... وما حاد عن يومه المحترس هل الناس إلا نظير السوا ... م وآجالهم أسد يفترس يحل الربا ويحل الوهود ... ولا بد للربع أن يندرس الشين لا تك ذا يش. وأعجب لما وهب من العيش. ما فعل آدم وبنوه. كم أدرك الثمر مجتنوه. يبدي التوفر أخو المعيشة. والجبل مثل الريشة. المنزل لأمر معروش. وبالقدر تثل العروش. نظمه (مخلع بسيط) أين مضى آدم وشيث ... وأين من بعده أنوش مر أبي تابعاً أباه ... ومد وقت فكم أعيش لا ملك إلا لرب عرش ... تُثل عن أمره العروش خف من الخوف كل طود ... حتى كأن الجبال ريش تطيش نبل الرماة منا ... وأسهم الحتف لا تطيش ولم يزل للمنون جيش ... تفل من ذكره الجيوش يحث بالنعش حاملوه ... وشد ما سارت النعوش لا حبذا الأنس والخطايا ... وحبذا النسك والوحوش

الصاد المرء عما وجب ناكص. والشخص للحدث شاخص. إن ظل الفانية لقالص. فهل خلص إلى الله خالص. إن دينك لرديعة في المحار. إنما يدرك بغوص البحار. وعُدِمَ دين في الأنام. وكان كالحلم في المنام. نظمه (سريع) من ادعى النسك عَلَى غرة ... فقل له ما صدق الخارص والنسك مثل النجم في بعده ... والخلق إن يبلغه ناكص كالدرة العذراء ما نالها ... إلا امروءٌ في بحرها غائص في لجة قامصة سفنها ... ويصرع المستمسك القامص تلعب بالألواح أمواجها ... كأَنما مركبها راقص نحن كنبت عامه مجدب ... وماؤُه مستنكر ناقص الضاد دينك عناه المرض. ضاعت النافلة والمفترض. وخدعك هذا العرض. وجسمك ضعيف حرض. لقد بعد منك الغرض. وسوف يطلب المقترض. نظمه (منسرح) دينك مضنىً أصابه سقم ... والخسر في أن يميته المرض وهل ترجى لديك نافلة ... من بعدها ضاع منك مفترض غرضت من هذه الحياة فهل ... غرك فيما ترومه غرض تميل من جوهر إلى عرض ... والروح في جوهرها عارض حرضك الشيب أن تنوب فما ... تبت فهلا تذكر الحرض أقرضت عمراً فما صنعت به ... سوف يرد الأنام ما اقترضوا الطاء فودك علاه الشمط. والمرء ينقص ويغمط. كالطفل كهلك فهلا يقمط. لقد عرف هذا النمط. والنفس تطعن ولا تضبط. وأَجر من كفر يحبط. أيبن موقف لا يغلط. والموت في العالم مسلط. وعائد الملك لا يقنط.

نظمه (هزج) إلا أحرص والرغبة في أشيب كالأشمط وكالطفل إذا الكهل ... فما للكهل يقمط ولا يغضب أخو الريبة ... أن ينقص أو يغمط فما الخاسر إلا كا ... فر أعماله تحبطك بني آدم إن تعصوا ... فما اخسر من يقنط غبطتم صاحب الثرو ... ة والزاهد لا يغبط أما تعنط في الدهر ... بأن توجد لا تغلط الظاء أنا دينك فمتشظ. وأنت عَلَى الفانية مقلظ. متقرب بالمين متحظ نظمه (مخلع البسيط) أصبحت في غمرة ولهو ... تجئُ بالمين كي تحظى احذر عَلَى الدين من تشظ ... فالدر ملقى إذ تشظى لو هاب حر اللظى مسبيء ... ما اهتاج حرصاً ولا تلظى فأبد للسائلين ليناً ... ولا تكن في الجواب فظاً العين المرء خدعه الطمع. مرأى في الزمن أو مسمع. يدأب الرجل ويجمع. خلب وميض يلمع. والعين للحذر تدمع. والسحب بالأقضية همع. وفي الآخرة يكون المجمع. نظمه (السريع) غرك ما يخدع من زخرف الدنيا فزاد الحرص والطمع علمت أن الدهر في صرفه ... مفرق عنك الذي تجمع سمعت بالخطب وعاينت هل ... كفك ما تبصر أو تسمع تدمع جفناك عَلَى زائل ... والعين للرهبة لا تدمع كم أومض البارق في عارض ... فألفي الكاذب إذ يلمع سحب تجلى خالياً دجنها ... عنكم وسحب بعدها همع

الغين إنك إلى الدنيا مصغ. وحبها للبشر مطغ. لو أنك لشأنها ملغ. أبغاك ما تأمله مبغ. نظمه (خفيف) صاغك الله للجمال بقلب ... معرض عن نصيحة ليس يصغي تكثر اللغو في المقال ولو وفقت ما كنت للديانة ملغي لم تزل تزجر الطغاة فلا تطغ فحب الدنيا لمثلك مطغي لو بغيت الذي أراد بك الله لأعطاك فوق ما أنت تبغي الفاء طال والكلف فأين الخلف والسلف. إن العافية هي التلف. وعند البارئ تكون الزلف. إلا تكذب وتحلف. وللإثم لو ظهر أَكلف. نظمه (متقارب) كلفت بدنياك شر الكلف ... فجاَءتك مما صنعت الكلف تبعت الغواة وما أسلفوا ... فهلا أخذت بقول السلف وصدقت نفسك في ظنها ... وكم قال مان لما حلف تخلف مالك للوارثين ... وكانوا بعلمك بئس الخلف ترجي الحياة وأسبابها ... وتطلب عند المليك الزلف ولو ظهر الأثم للناظرين ... لراعك في الوجه منه كلف نصحتك فأذن إلى من يقول ... تلاف أمورك قبل التلف القاف قلبك معنى يخفق. يخاف من عاجلتك ويشفق. وبارئك هو المرفق. أصبحت من عمرك تنفق. ترفع العذر وتلفق. وأنت في مطلبك مخفق. يطول تعبك فلا ترفق. نظمه (سريع) إن خفق البارق في عارض ... فالقلب من روعته يخفق تأسف إن أنفقت مالاً ولا ... تأسف من عمرك إذ تنفق تظل من فقد الغنا مشفقاً ... ومن قبيح الإثم لا تشفق

مرتفقاً في وطن حافظاً ... تسأل ما هان فلا ترفق يعود عن غيمك من شامه ... وهو شديد ظمؤُه مخفق الكاف سبح إِلهنا الفلك. وقدس البشر والملك. والجسم في العفر يستهلك. والمرءُ بالعارفة يملك. والنهج للآخرة يسلك. نظمه (مجزو الرجز) سبح مع الشهب كما ... سبح من قبل الفلك قدس إنسان عَلَى ال ... أرض وفي الجو ملك لا تبك للميت فكم ... مات كريم وهلك ما خبر الغابر عن ... دفينه أين سلك مالك شيءٌ وإذا أطعت فالرحمة لك اللام غرك تفصيل وجمل. والحي خدعه الأمل. سعيك فسد والعمل. ما نفعك هج ولا رمل. كأَنك بين الجهل همل. نظمه (سريع) مازلت مشغولاً بلا خشية ... يغرك التفصيل بعد الجمل تحملك الأرض عَلَى ظهرها ... وأنت سار فوق ظهر الأمل مالي أرى عينيك لم تهملا ... كأَنما أنت مخلى همل ما يشفع لحسن لأصحابه ... إن حسن الوجه وساء العمل رملت في مكة تبغي الهدى ... فهل نهاك السعي بعد الرمل الميم أفي مسمعك حل الصمم. أم لبك أصاب اللمم. وتحسن للأنيس الهمم. وفي التراب تطوى الرمم. وفي الباطن تخاف الذمم. عَلَى ذلك تمر الأمم. نظمه (سريع) مالك لم تصغ إلى عاذل ... أحل في المسمع منك الصمم

أجاهل أنت فتلحى عَلَى العصيان أم مس حجاك اللمم همتك العليا هوت في الثرى ... وشيمة الزاكي علو الهمم لم تف بالذمة للحر والحر مراع وافيات الذمم والذكر يبقى للفتى برهة ... وإن توارت في التراب الرمم تيمم الخير ولا ترهب الموت فللموت تصير الأمم النون لله الكرم والمنن. وعن بارئك تزول الظنن. ولا يسترك من الموت الجنن. وبالعاصف يراع الفنن. ولا تعصمك تلك القنن. نظمه (سريع) ويحك لا تمنن عَلَى منعم ... عليه فالخالق رب المنن فظن خيراً بالإخلاء وإلا فالخير يخفو الظنن يجنك القبر فلا تلف كالمجنون يبغي واقيات الجنن وافتن في خوفك رب العلا ... وأنت في سرحك مثل الفنن إنك قن لمليك حوى الملك فلا تعصم منه القنن لتفرغ السن غداً نادماً ... إن كنت ضيعت جميل السنن الهاء المرءُ نهي فما انتهى. مازال في العاجلة يزدهى. إن قبل ما أحسن وما أبهى. فأَيتن صاحبك لما وهى. وطال ما نعم ولها. ونال في العمر ما اشتهى. ما بين غزلان ومهى. دهاه الزمن فيمن دها. والله عمر باللهى. مصور القمر والسها. نظمه (السريع) المرء معتوب عَلَى فعله ... كم سمع النهي فألا انتهى زايله اللهو وزار البلا ... وطال ما عاينته مزدهى باهى زماناً بالذي ناله ... ثم أتى الموت فأين البهى وهت عقود كانفي عصره ... أحكمها لا عاقد ما وهى ما شهوات الحي إلا أذى ... إن نال من مدته ما اشتهى

كأن يرى في غزل دائماً ... ما بين غزلان له أو مهى دهاه بالمقدور لم يدفع الخطب عن مهجته إذ دهى سها عن الواجب فاغتاله ... مصور البدر ورب السها الواو أما صحبك فقد غووا. عبوا في المورد فما ارتووا. أبادتهم الأقضية حتى تووا. خلوا للوارث ما احتووا. طواهم القدر فانطووا. ولاقتهم الآخرة بما نووا. نظمه (سريع) لا تغو في دنياك مستهتراً ... فإن أصحابك فيها غووا عزلهم في سربهم مورد ... لو كان يروي مثله لارتووا نادتهم الأقدار يا ساكني الأرض ألا تنوون حتى تووا خلو أحاديثهم واحتوى ... آخذ ميراث عَلَى ما حووا انتشروا في عيشهم أعصراً ... ثم طواهم قدر فانطووا فلتحسن النية من بعدهم ... فالناس يجزون عَلَى ما نووا اللام والألف كل غدا يخدم أملاً. يسيءُ في ما بطن عملاً. يصبح بسيفه مشتملاً. لا يطلب رزقه محتفلاً. والرزق ولا يترك متوكلاً. لم يرد في العالم حيلاً. نظمه (بسيط) ما في البسيطة من عبد ولا ملك ... إلا حليف عناءٍ يخدم الأملا يحث نفساً عن الإحسان عاجزة ... وقد أساء بعلم الواحد عملاً فهل ترى الدهر أنثى أو ترى ذكراً ... يشابه امرأَة في الخلق أو رجلاً يروم بالسيف رزقاً جاء في عنف ... ما كان يخطوه في خفض لو اتكلا يبغي المعالي في أوفى مجاهدة ... فإن تخلف عنها لطف الحيلا يا ساكني التراب ما عندي لكم خبر ... فليت شعري عن المقبور ما فعلا لم تأتنا منكم رسل مخبرة ... ولا كتاب إلينا منكم وصلا الياء

الحي بعد العيشة رديء. وجاءه القدر فيما فدي. وشخصه بالقاضية ردي. لم يرزق النهل إن صدي. لكنه عن ذلك عدي. أظلته العاجلة فما هدي. وجادته الاسمية فما ندي. وقتلته الحادثات فما ودي. نظمه (سريع) المرء في أردية لونت ... ماش ولكن بعد هذا ردي فدى الأسارى زمناً ذاهباً ... وجاءه الموت فألا فدي فيا ردي العقل إن الفتى ... لم يدفع المقدور حتى ردي ظل صداه في الثرى ساكناً ... ولم يصادف منهلاً إذ صدي رنت له الأعداء إن عاينت ... صاحبها عن كل خير عدي كان الهدى يهدى إلى قلبه ... من سمعه لو أنه يهتدي جادت له اسمية برهة ... وعاد يبساً غصنه ما ندي لا يطلب الثأر لميت ولا ... بودي لعمر الله فيمن ودى نجزت والحمد لله وحده.

هل تسترد اللغة مجدها القديم

هل تسترد اللغة مجدها القديم يستطيع التاريخ الأدبي أن يبين حدود النشأة الحقيقية لكثير من اللغات الميتة والحية ولكنه لا يستطيع أو عَلَى الأقل لم يستطع إلى الآن أن يبين شيئاً من ذلك بالقياس إلى اللغة العربية التي ينطق بها من أهل الشرق الخلق الكثير. ولا شك في أني قد خصصت جزءاً من هذه المحاضرة للإشارة الموجزة إلى تكلم الظلمات الكثيفة التي حجبت لغتنا الشريفة عما يشرف به التاريخ عَلَى الأشياء من بصيرة ثاقبة ونظر بعيد ولكنني لم أستطع أن أخصص جزءاً منها لإيراد الأعاجيب والمضحكات التي يوردها أكثر الخطباء في خطبهم لأني لا أطمع فيما يطمعون فيه من التصفيق الحاد والإعجاب الشديد فإليكم أتقدم بالمعذرة ومنكم ألتمس المغفرة وأظنكم لم تجتمعوا في هذا النادي لتضحكوا أو تصفقوا فإني لم أر بلداً أهله أحوج إلى قلة الضحك وكثرة البكاء من هذا البلد. . . ولولا ثقتي بأنكم تعلمون من الأمر ما أعلم وتشعرون بالواجب كما أشعر لقلت لكم مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض خطبه لو تعلموا ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. أجل إنا قد أسرفنا في الهزل والمجون وقصرنا في الجد والعمل وكان حقاً علينا لو أنصفنا أنفسنا أن نقتصد من الهزل ما ننفقه في الجد ومن الفراغ ما نستعين به عَلَى العمل قبل أن يعضل الداء ويمتنع الدواء ونقضي ضحايا التقصير واللهو الكثير وهنالك لا ينفعنا الندم ولا يعذرنا التاريخ. قدم عهد اللغة العربية نشأت لغتكم أيها السادة والإنسان طريف عهد بالوجود لم يبلغ أشده ولم يستكمل قوته بل كان طفلاً ناشئاً حديث السن ضيق الفكر صغير العقل ولست أقول هذا القول يدبيجاً للفظ أو مبالغة فيه وإنما هي الحقيقة الثابتة التي ليس فيها مجال لشك ولا جدال فإن هذه اللغة هي أول غصن نبت من لغة سام بن نوح عليهما السلام وقد قطعت مع الإنسان هذا القدر من الزمان وعمرت معه منذ كان طفلاً إلى أن صار كهلاً وها أنتم أولاء تسمعونها مني فتشعرون بأنها لا تزال حية قوية تثبت بأجلى بيان أنها أطول اللغات عمراً وأشدها أسراً وأعظماه قوة عَلَى الخطوب وصبراً عَلَى الأحداث.

فكم ماتت اللغات وهي حية وفنيت اللهجات وهي باقية وكم حاربها الدهر فحربته وغالبها فغلبته ورامها بالسوء فامتنعت عليه. وقد أدركت هذه اللغة نضرة اللغات وذبولها وإشراقها وأفولها وشهدت مصارع أخوتها الساميات وهن يتفانين سراعاً ويتهاوين تباعاً حتى عمهن الموت وشملهن الفناء هنالك عاشت فذة فريدة تتمثل قول شاعر أبناءها المجيدين ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيوف فردا أجل وقد أدركت هذه اللغة هوي الأمم الهاوية ورقي الشعوب الراقية فشهدت عظمة بابل وآشور ومصر وأشرفت عَلَى نهضة إسرائيل ورأت مجد اليونان والرومان والفرس والهند وكانت خليقة بعد هذا كله أن تروي لنا التاريخ العام لمثل رواية وتحدثنا عنه اصدق حديث لولا جهل السالفين وضعف الخالفين من أبنائها فما أقدر هذه اللغة عَلَى الحياة وما أصبرها عَلَى الخطوب. صعوبة البحث التاريخي عن نشأة اللغة العربية ذلكم أيها السادة أول عهد اللغة بالحياة ولكن في أي قرن ابتدأ هذا العهد. .؟ وكيف كان ابتداؤه. .؟ وما هي الأصول الحقيقية للغة السامية التي اقتطعت منها هذه اللغة وكيف كان اقتطاعها.؟ هذا ما لم يعرفه التاريخ إلى الآن وقبل أن أُشير كما وعدت عَلَى أسباب ذلك يجب عَليَ أن أبطل مذهباً يلهج به بعض الكتاب الذين كثير عليهم العلم حتى ضاقت به صدورهم فأخذوا يقذفونه في الصحف من غير حساب ويبيعونه عَلَى الناس من غير ثمن وينتحلون به لأنفسم ألقاب العلماء والمؤلفين. .؟! زعموا أن اللغة العربية نشأت كما تنشأ لغة الطفل فكانت في أول أمرها أصواتاً أحادية المقطع لا يزيد اللفظ منها عَلَى حرف متحرك كباء الجر ولامه وكاف التشبيه وأحرف القسم وهمزة الاستفهام. ثم تركت هذه الألفاظ بتركب معانيها ومرونة الألسنة عَلَى النطق والحركة فبلغت مقطعين وثلاثة إلى أن استقرت في نصابها المعروف فلم تنقص في الاسم والفعل عن ثلاثة أحرف أصول لم تزد في الأول عن خمسة وفي الثاني عن أربعة إلا بحروف غير لازمة وهي الزوائد عَلَى أن هذه الحروف لم تستطع أن تبلغ بالفعل أكثر من ستة وبالاسم أكثر من

سبعة غير الحركات التي لا تحسب عند العرب حروفاً كما تحسب عند غيرهم من الفرنج. . والحقيقة أن هذا المذهب لا يصح إلا إذا قلنا أن العرب ليسوا من بني آدم أبي البشر وإنما هم أبناء رجل آخر نشأ في جزيرة العرب من غير أم ولا أب ونشأت منه زوجة واستقر نسلهما في الجزيرة لا يخالط الناس حتى تكونت لغته وضمنت لنفسها عدم التأثر بالأجنبي والدخيل. أما والعرب من أبناء سام بن نوح وبعبارة أوضح من أبناء آدم فليس لهذا المذهب من الصحة نصيب قليل ولا كثير. إنما تنشأُ اللغة هذه النشأة إذا اقتطعت من الطبيعة مباشرة من غير أن يكون لها مثال تحتذيه أو منوال تنسج عليه فأما اللغة التي لها أصل ثابت معروف كاللغة العربية فليس من المعقول أن يطرد فيها هذا المذهب وعَلَى هذا نستطيع أن نقول أن هذا المذهب يصح بالقياس إلى لغة واحدة وهي لغة الإنسان الأول التي اقتطعها من أصوات طبيعية وكما أن أُسرة الإنسان الأول قد تفرعت إلى أسر مختلفة ثم كانت منها أُمم وشعوب فإن لغتها الأولى قد تفرعت إلى لهجات متباعدة ثم كانت لغات متباينة وعَلَى هذه القاعدة استطاع الفرنج أن يترجموا كثيراً من اللغات الدارسة. أما الأسباب الحقيقية التي نشأت عنها صعوبة البحث التاريخي عن اللغة العربية حتى عميت علينا أسرارها وأسدلت دوننا أسرارها فوقفنا موقف الحائرين الذاهلين بغزاء كثير من ألفاظها لا نعرف لها أصلاً ولا نتميز لها اشتقاقاً فهي كثيرة أكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها الآن. الأول أن معرفة النشأة الحقيقية للغة رهينة بمعرفة أصلها الذي اقتطعت منه فما كنا لنعرف نشأَة اللغة الفرنسية لو لم نعرف اللغة اللاتينية. كذلك لا نستطيع معرفة نشأة اللغة العربية حتى نعرف اللغة السامية الأولى التي هي أصلها ولكنها مع الأسف قد بادت واندمجت في بناتها قبل التاريخ فلم يبق لنا إليها من سبيل. الثاني أن ضياع الأصل لا يقطع الرجاء في الوصول إلى بعض حقائق اللغة في نشأتها إذ استطعنا أن نستعين عَلَى البحث بالمقابلة بينها وبين أخواتها من اللغات الأخرى ولكنا مع

الأسف لم نفعل شيئاً من ذلك ولم نفكر فيه فقد كان أئمة اللغة رحمهم الله في عصر يمكنهم من ذلك لأن كثيراً من اللغات السامية كانت لا تزال حية عَلَى عهدهم ولكنهم قد عكفوا عَلَى جمع اللغة وتدوينها من غير أن يفكروا في البحث عن أصلها وقد أخذت تلك البقية الباقية تندمج في اللغة العربية بحكم القهر والتغلب الفطري حتى لم يبق لها من الأثر إلا قليل. ومن الغريب أيها السادة أن علماءنا رحمهم الله بدل أن يبحثوا عن اللغة السريانية من حيث علاقتها باللغة العربية بحثوا عنها من حيث أنها ستكون لغة الأروام وسيكون وأظنكم تضحكون إذا سمعتم قول بعض العلماء (ومن غريب ما تري العينان ... أن سؤال القبر بالسريان) (أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني) هذان بيتان يمثلان ضعف السليقة العربية وفسادها قبل كل شيء أقبح تمثيل ويمثلان سقوط الهمة وانحطاط النفس لأنها قد تركت النافع وبحثت عد ما لا خير فيه. وأي ضعف للسليقة العربية أكثر من جعل الأقوال التي تسمع بالآذن مرئية للعيون وأي انحطاط للنفس أكثر من أن تترك الحياة وتبحث عن الموت. ولو أني وكلت بإصلاح هذين البيتين لقلت (ومن سخيف ما تعي الأذنان ... إن سوءال القبر بالسرياني) (أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... وهو حديث كذب ومين) عَلَى أن المستشرقين من علماء الفرنج قد بحثوا هذا البحث الذي تركناه وسلكوا تلكم الطريقة التي أغفلناها فاهتدوا إلى حقائق في تاريخ اللغة العربية لا بأس بها وليس هذا موضع تفصيلها الآن فليس علينا إلا أن نتأثرهم في هذه الطريق فإنهم ليسوا أحق منا بالبحث عن لغتنا والتنقيب عليها. السبب الثالث أن العرب ولاسيما أهل الحجاز الذين نبحث عن لغتهم الآن قد كانوا أمة بادية لم تشترك مع غيرها من الأمم في تكوين الحضارة الإنسانية اشتركاً حقيقياً إلا بعد ظهور الإسلام فكانت في جاهليتها محتجبة عن التاريخ ولذلك لم يحفظ عنها إلا أساطير حظ الظن منها أكبر من حظ اليقين. اللغة العربية في الجاهلية

نشأت هذه اللغة وتكونت ألفاظها وأساليبها وهي بمعزل عن الناس قد جعلت البداوة بينها وبين التاريخ حجاباً مستوراً وكأنها قد سئمت الخفاء والاحتجاب ورغبت في الظهور ومجاراة اللغات الحية وظهرت للتاريخ في القرن الخامس لميلاد المسيح ومنتصف القرن الثاني قبل الهجرة فإذا لغة ضخمة الألفاظ فخمة المعاني متينة الأساليب رصينة التراكيب قد تم خلقها وكملت قواها فأصبحت قادرة عَلَى البقاء مستعدة للنماء وقد سلكت في الآداب الوجدانية كل مسلك فمدحت الخير والفضيلة وذمت الشر والرذيلة وأخذت بنصيب موفور من المدح والهجاء والوصف والرثاء والتشبيب بالنساءِ والفخر بشرف المناسب وكرم المناقب واشتملت عَلَى الجم الكثير من الحكم البالغة والأمثال السائرة ومن الخطب الرائعة والأسجاع البارعة ولم تدع فناً من فنون الأدب الوجداني إلا ضربت فيه بسهم وفازت منه بنصيب. إذ صح ما يقولون من أن مقاييس الرقي الأدبي لكل أمة من الأمم هي أشعارها وأمثالها وأغانيها لأن الأشعار مرآة النفس والأمثال صور الفكر والأغاني لغة القلوب. أقول إذا صحت هذه القاعدة وقسنا رقي العرب في جاهليتهم بهذه المقاييس الثلاثة كانت النتيجة مؤلمة جداً لأننا لا نستطيع أن نتردد لحظة واحدة في الحكم بأن العرب الجاهليين الذين لم يؤدبهم أستاذ ولم يثقفهم كتاب ولم يصلح أخلاقهم دين أرقى منا أنفساً وأذكى قلوباً وأبعد منا هماً وأصدق عزماً والدليل عَلَى ذلك سهل ميسور تعالوا نقارن بين أشعارنا وأشعارهم وأمثالنا وأمثالهم وغنائنا وغنائهم ثم نستخلص من هذه المقارنة نتيجة الحكم فأي الفريقين كانت له النتيجة فهو صاحب الغلب والفوز. غير أني أيها السادة أستحي أن أقارن بين قول امرئ القيس في التوصل عَلَى حبيبته سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً عَلَى حال فقالت حبالك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها ... عليه القثام سيء الظن والبال يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرءُ ليس بقتال أيقتلني والمشر في مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال

أستحي أن أقارن هذا الشعر الفخم الذي يمثل القوة والعزم ويظهر قائله مظهر المتسلط القاهر وبين ذلكم الغناء المصري القائل - يالموني يالموني ياللي في حبك ظلموني - يالموني وأنا أحب الخص يالموني ولا آكل الخص يالموني وحبيبي في مصر يالموني عَلَى مين يجيبولي. . . قفوا أنفسكم أيها السادة موقف الحاكم الفاصل بين الحق والباطل وحدثوني أي معنى لنداء الليمون في هذا الغناء وهو الذي ظلم هذا العاشق في حبه وما هي العلاقة بين أكل الخص وبين الحب ومن ذا الذي يستطيع أن يكون قواداً لهذا العاشق بعد أن قعد به العجز وضعف الهمة عن أن يصل إلى حب حبيبه إليه وأكرم كريم عليه. لندع ذلكم الشعر والغناء ولننتقل إلى شعر وغناء آخرين. هل تستطيعون أن تقارنوا بين قولكم ذلكم الشعر الجاهلي في عتاب حبيبته فإني لو تختلفني شمالي ... خلافت ما وصلت بها يميني إذاً لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني وبين هذا الغناء المصري القائل ارحم متيم له أحوال لما رآك تهدى خلافه صعبان عليه. . . حدثوني أيها السادة عن مقدار الفرق الكبير بين ذلكم الشاعر الجاهلي الذي يخاطب حبيبته بهذه اللهجة القاسية وهذا الشاعر المصري الذي عرف أن حبيبه قد هجره واستبدل به غيره فلم يستطع أن يعانيه بأكثر من قوله أن هذا صعب عليه بل إنه لم يستطع أن يقول هذه الكلمة إلا بعد أن قدم بين يديها مقدمة طويلة في الشكوى والاستعطاف. ستقولون أن هذا الفرق بين الشاعرين أثر من آثار الفرق بين البداوة والحضارة فذلك شاعر هيأت له بداوته أن يخاطب حبيبته بذلك الجفاء وتلك الغلظة وهذا شاعر هيأت له الحضارة أن يعاتب حبيبته بهذا الرفق واللين. كلا أيها السادة ليس تأثير الحضارة والبداوة في هذا الأمر كبيراً فإن الحضارة الصالحة لا تقتل عاطفة الغيرة من قلب الإنسان ولعلكم سمعتم خبر ذلكم الشاعر العباسي الناشئ في الحضارة إذا اشتدت به الغيرة عَلَى حبيبته حتى أشفق عليها من الهواء فقتلها وقال يرثيها يا طلعة الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الردى بيديها

حكمت سيفي في مجال وشاحها ... ومدامعي تجري عَلَى خديها رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها فوحق نعليها ما وطئ الثرى ... شيءٌ أعز علي من نعليها كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذباب عليها لكن ضنت عَلَى العيون بحسنها ... وأنفت من نظر الحسود إليها نعم إني لا أريد أن يكون الناس غلاة في الغيرة كهذا الشاعر ولكني أُريد أن أبين لكم أن هذا الفرق بين الشاعرين ليس من آثار البداوة والحضارة وإنما هو من آثار الفرق بين العزة والذلة فلكم شاعر أبي النفس حمي الأنف لا يقبل الضيم ولا يرضى العار وهذا عاشق ضعيف مستكين قد رضي بالدون وقنع بالقليل واطمأن إلى الهوان. ستقولون مالك تقارن بين الجيد من الشعر العربي والرديء من الكلام البلدي وتترك الشعر والنوابغ الأفذاذ والشعراء المفلقين أمثال شوقي وحافظ صبري. والحقيقة أيها السادة أن هذا الاعتراض محرج جداً لأنه يتعجلني في الحكم عَلَى هؤلاء الشعراء وقد لا أستطيع أن أرضيكم بهذا الحكم ولكني أقول أن هؤلاء الشعراء ليسوا في الحقيقة شعراء مصر وإنما هم بين رجلين رجل نهج منهج الفرنج فهو يعبر عن أذواقهم وأخلاقهم وعَلَى مناهجهم وأساليبهم وهذا لا ينبغي أن يحب عَلَى مصر وإنما يجب أن يلحق بأوربا ورجل نهج مناهج العرب القدماء فهو يكرر ما قالوه ويردد ما نطقوا به مع قليل من التغيير في اللفظ فهو يشبه القطا والظليم وهذا لا ينبغي أن يكون من شعراء مصر وإنما ينبغي أن يكون من شعراء القبور. لندع الشعر والغناء الآن فهذا مقدار يكفي للمقارنة بينهما ولنتقل إلى الأمثال فهل تستطيعون أن تقاربوا بين ذلكم المثل العربي القائل كل فتاة بأبيها معجبة. وهذا المثل المصري القائل الخنفسة عند أمها عطارة والقرد عند أمه غزال. كفى كفى أيها السادة فقد أثبتت المقارنة بالدليل والبرهان إنا لم نصل من الرقي الأدبي إلى ما وصل إليه أولئكم الأعراب وإن كنا أولي حضارة ومدنية وأصحاب علوم وآداب وذوي شريعة ودين. آداب اللغة العربية ومادتها في الجاهلية

ارتقت آداب اللغة العربية في السادس لميلاد المسيح بمخالطة العرب لأهل العراق والشام فقد أخذوا عنهم يهودية موسى ونصرانية المسيح وربما انتقلت إليهم بعض الآراء الفلسفية التي أدخلها القسيسون في الديانة المسيحية كما في قول الأعشى استأثر الله بالبقاء والعد ... ل وولى الملامة الرجل وكذلك أخذوا عنهم عقائد الصابئة وشيئاً من مذاهب المجوس ونقلوا عن حضارة الروم والفرس كثيراً من الأدوات التي لم يكن لهم بها عهد من قبل وتبع ذلك نقل كثير من الألفاظ الفارسية والروسية ولاسيما فيما يتعلق بالنبات والسلاح وأدوات اللهو والطرب وأنواع الدواء والعقاقير وفي أثناء ذلك كان الجيش قد احتلوا بلاد اليمن فأدخلوا فيها كثيراً من لغتهم وكانت التجارة بين الهند واليمن فاستتبع ذلك انتقال كثير من الألفاظ السنسكريتية إلى لغتها ولاسيما فيما يتعلق بأنواع التجارة وأظن هذا المقدار من الوصف قد مثل لكم اللغة العربية تمثيلاً حسناً فأنتم ترونها الآن جميلة رشيقة ولكن صدق المثل العربي القائل لا تعدم الحسناءُ ذماً. فإن تلك الجميلة الحسناء لم تخلُ من عيوبٍ فقد كانت لغة قوم متوحشين يزعقون الأنفس ويهدرون الدماء ويعيشون من النهب والسلب ويستبيحون لأنفسهم بيع السير والعبث بأعراض العدو والتمثيل بالمغلوب حتى أن أحدهم لينحصف نعله بإذن عدوه إن ظفر به أو قدر عليه. وهم عَلَى ذلك أولو شظف بالعيش وخشونة في الحال يسكنون الجبال والرمال وربما أكلوا الخنافس والضباب وغذوا أنفسهم بدماء الإبل وأوبارها فنشأ من ذلك في لغتهم حوشية الألفاظ وتنافرها وجفوة المعاني وتعقيدها وقد كانوا فوق ذلك متنافرين متدابرين قلما تطمئن قبيلة منهم إلى الأخرى فلم يكن من سبيل بينهم إلى التعارف وبعبارة واضحة لم يكن من سبيل إلى اتفاقهم في المنطق فقد تباعدت اللغات واختلفت اللهجات لتعدد الأوضاع وتباعدت الأصقاع حتى أنهم كانوا لا يفهم بعضهم بعضاً. وقد وفد أعرابي عَلَى ملك من ملوك حمير فقال له الملك ثب يريد الجلوس فظن الأعرابي أنه يأمره بالقفز كما هي لغة الحجاز فوثب من أعَلَى الجبل حتى تردى في أسفله فلما سأل الملك عن ذلك واطلع طلع الرجل قال من دخل ظفار حمر. . .

وقد أحس العرب من أنفسهم هذا الداء في أواخر القرن السادس لميلاد المسيح فأخذوا يطبون له وبعبارة جلية أخذوا يتهيئون لنهضتهم الجديدة في اللغة والدين والاجتماع فماذا صنعوا. .؟ مقدمات النهضة العربية أقاموا بالقرب من مكة أسواق ثلاثاً كانوا يقضون فيها كل عام شهراً كاملاً من الأشهر الحرم وهو ذو القعدة ولم يكن لقبيلة أن تتخلف عن هذا الاجتماع فكانوا يبيعون ويشترون ويتقاضون ويتخاصمون ويتنافرون ويتناشدون حسان القصائد ويتبادلون متان الخطب وكان يجلس لهم قضاة يفصلون الخصومة فربما أعلن قوم الحرب عَلَى آخرين فردهم القضاة إلى السلم وربما ظفر الرجل بقاتل أخيه أو أبيه فألزمه القاضي أن يطلقه ويقبل منه الفداءَ وكان يجلس للشعراءِ خاصة قضاة ناقدون يفضلون بعضاً عَلَى بعض ورئيس هذه الطائفة من القضاة هو نابغة بني ذبيان. وقد نتج من هذه الأسواق الثلاثة نتائج كبرى: الأولى - شعور العرب بحاجتهم إلى السلم واتفاق الكلمة واجتماع الرأي وائتلاف القلوب ولعلكم ترون ذلك ظاهراً في معلقة بن أبي سلمى حين يدعوا عبساً وفزارة إلى الصلح. الثانية - تهيؤُ قلوبهم لقبول الوعظ والدين واستعداد نفوسهم للبحث النظري عما اشتمل عليه هذا العالم من نظام بديع ولعلكم تجدون ذلك جلياً في شعر زهير وخطب قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وفي شعر لبيد بن ربيعة الذي قاله في الجاهلية. الثالثة - تقارب اللغات المتباعدة وائتلاف اللهجات المختلفة وتغلب لغة قريش عَلَى اللغات الأخرى. وإذا كانت الحوادث في هذا العالم إنما تحدث متوالية متتابعة وينتج بعضها من بعض كان حقاً علينا أن ندع هذه النتائج الآن حتى نصل عملها في الوجود لنجني ثمرها بعد حين. الشعر في ذلك العصر التهبت جذوة الشعر واستطار شرره فالتهم كل شيءٍ واحتكم في كل إنسان ولم تكن حكمة الإله ولا رأي الاع + ولا اعتماد إلا عليه وكان يكفي للشاعر أن يمدح الوضيع فيرفعه أو يذم الرفيع فيضعه أو يغري بالحرب فتتهالك النفوس وتتفانى القوى أو

يدعوا إلى السلم فتصبح الضغائن والأحقاد نسياً منسياً. اختلفت قبيلتان من قبائل العرب عَلَى بئر من الآبار حتى ذكت بينهما نار الحرب فلم يكن إلا أن وقف شاعر أحدهما وقال: كلا أخو بنا أن يرع يدع قومه ... ذوي جامل دثر وجيش عرمرم فما الرشد في أن تشتروا بنعيمكم ... بئيساً ولا أن تشربوا الماء بالدم هنالك ردت النفوس إلى أغمادها والسهام إلى كنائنها وأصبح القوم صديقاً متحابين بعد أن كانوا عدواً متباغضين. كان لعمرو بن عدي كرب الزبيدي أخت يقال لها كبشة وكانت متزوجة في بني مازن وكان لهما أخ يقال له عبد الله فزار عبد الله أخته ذات يوم فبينما هو جالس مع بني مازن يشاربهم الخمر وثبوا عليه فقتلوه ثم أفاقوا من سكرهم فاستشعروا الندم وذهبوا إلى عمرو بالدية معتذرين فعفا عمرو وقال: إحدى يدي أصابتني ولم ترد. فلما بلغ الخبر كبشة صبرت إلى يوم عيد من أعيادهم ثم خرجت وقد شقت ثيابها ولطختها بالدم وهي تقول: أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي ولا تقبلوا منهم أنالاً وأبكراً ... وارتك في بيت بصعدة مظلم ودع عنك عمرواً إن عمر مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم فلما سمع عمرو الأبيات ثارت في رأسه الحمية فغزا بني مازن وقتل منهم خلقاً كثيراً. ولقد كان للشعر عند اليونان إله معروف هو أبولون وأما العرب فقد كان للشعر عندهم شياطين لا تحصى وكان لكل شاعر منهم شيطان عَلَى الأقل وربما كان له أكثر من ذلك ولم تذهب هذه الخرافة بظهور الإسلام بل بقيت بعده وأيدها علماء المسلمين في القرن الرابع للهجرة وقد حدث صاحب الأغاني في كتابه أن بشر بن مروان كان يحب الإفساد بين الشعراء فلما ولي العراق أمر سراقة البارقي أن يهجو جريراً ويفضل عليه الفرزدق فقال أبياتاً منها: إن الفرزدق برزت أحسابه ... عفواً وغودر في الغبار جرير فأمر بشر أن تكتب هذه البيات إلى جرير وأن يؤخذ بالإجابة عليها فلما وصلت الأبيات

إلى جرير خلا إلى نفسه سواد الليل فلم يصنع شيئاً فلما كاد يأخذه اليأس سمع قائلاً يقول في زاوية من زوايا البيت ويحك يا جرير غبت عنك ليلة فلم تصنع شيئاً هلا قلت يا بشر حقاً لوجهك التبشير ... هلا انتصرت لنا وأنت أمير فقال له جرير حسبك حسبك ثم أتم القصيدة والآن أظنكم قد عرفتم مقدار ما كان للشعر في جاهلية العرب من مكانة سلمية ومنزلة عالية ومن استئثار بالقلوب واقتدار عَلَى الألباب ولم تكن الخطابة بأقل منه وحسبكم أن تعلموا أن القبيلة كانت لا تشرف ولا ينبه ذكرها إلا إذا كان لها شاعر وخطيب. الباقي للآتي

النهضة الفكرية في سورية

النهضة الفكرية في سورية الإقبال عَلَى الآداب منظومها ومنشورها أول ما تنصرف إليه وجوه الأمم الآخذة بالنهوض ثم تنبعث الرغبة في الفنون والعلوم بحسب الحاجة والدواعي. وبعد أن اضمحلت الآداب في سورية فبلغت حداً غريباً من الابتذال في القرن الثاني عشر للهجرة وآنت أدبيات أهل الطبقة الراقية في ذاك العصر تافهة بشعة لا شأن لها ولا ذوق فيها عادت فأخذت تسير نحو الحياة في منتصف القرن الثالث عشر بما هب عليها من نسمات التجديد السارية من عقول المنورين المتأدبين من السوريين والمصريين والتونسيين. فنشأ للغة كتاب وشعراءٌ من مصر والشام ومنهم أخذوا يعودون بمنظوماتهم ومنشوراتهم إلى سالف نضرة اللغة من الرصانة ويقلدون أدباء الإفرنج في تصوراتهم. وكان لمصر في هذا الشأن يد طولى أسداها إلى الآداب العربية جد البيت الخديوي الأول فعمت المعارف في مصر ومنها انتشرت إلى سائر الأقطار. وإن كان بعض من يريدون أن يحصروا الفضل كله في سورية ولاسيما في المدارس الأجنبية يتكررون هذه الحقيقة التاريخية المدركة. لا جدال في أن المدارس الأجنبية قد أحسنت عَلَى عهد نشأتها في بلاد الشام واهتمت بخدمة الآداب العربية اهتمامها بخدمة آداب لغتها الأصلية وإن بذلك كثرت صلاتنا التجارية والعلمية مع أوربا وأميركا وصار الإفرنج يطوفون أو يسكنون ديارنا وأمسينا لا نفزع من نزول ديارهم أو الرحلة إليها. وعَلَى هذه الصورة أخذنا ندرك اليوم بعد اليوم نقصنا بالقياس إلى الغربيين فيسعى المنورون منا إلى بث أنوار المعارف والفضيلة ويشعرون بالمصلحة العامة ويتوفرون عَلَى إصلاح الأفكار السقيمة. النهضة الفكرية في سورية متلونة كأبي براقش بتلون الأوعية التي تخرج منها فنهضة المسلمين مثلاً آتية من مدارس الحكومة عَلَى الأغلب عَلَى يد أُناس من العرب تعلموا التركية في المدارس الملكية والعسكرية في الولايات السورية أو في الآستانة وهؤلاء في الأكثر تعلموا ما تعلموا ليصبحوا موظفين وغايتهم أن يتدرجوا في سلك المراتب والمناصب ليعيشوا عيش الراحة والاتكال. ولولا نفر منهم تداركوا أمرهم بعد نيل الشهادات المؤُذنة بكفاءاتهم من المدارس الأميرية فأخذوا يحاولون أن يكتبوا بلغتهم

ويتذوقوا أدبياتها ليلموا عَلَى أمتهم بعض ما غلب عليهم من المعارف الجديدة لقلنا أن تلك المدارس لم تأتنا بخير إلا بكونها صاغت من سورية موظفين آخرين فزادت الدولة بهم عبثاً فوق عبثها الثقيل من الأتراك الذين جعلوا وظائف الحكومة أقصى ما يبلغونه من درجات الكمال وسعادة الحال والمآل. ثم أن طبقة الموظفين في جميع الأمم التي تسير عَلَى نظام الأوربيين لا يأتي في الغالب منها كبير أمر لأن الاستخدام مبني عَلَى الطاعة وارتقاء الموظفين مناط باعتزالهم وأحسن أعمالهم الخضوع لإرادة الرؤساء مهما كانت وهناك الارتقاء مضمون ولذلك قلما أثر موظف في نهضة الأمة الفكرية خلا أفراداً في مصر عرفوا منذ زهاء سبعين سنة إلى اليوم كيف يستخدمون أوقاتهم وحريتهم ليجعلوا لكل من حكومتهم وأنفسهم وأمتهم حظاً وتكون أعمالهم سلسلة نافعة من كل وجه. أما في سورية فإننا نجد من تذوقوا شيئاً من الأدب وحبسوا أنفسهم عَلَى التوظيف لم يأتوا بما نفع في النهوض اللهم إلا إذا كانوا يروون تلك الدواوين الشعرية والأماديح النثرية التي يرسلونها في تمجيد الحاكمين عَلَى اختلاف درجاتهم تعد من الآداب في شيءٍ ولا يحضرنا الآن اسم بضعة من الموظفين يصح أن نوردهم مثالاً صحيحاً نحتج به عَلَى من يوقن كل الإيقان أن الموظفين مهما بلغوا من التربية والتعليم فلا يرجى أن ينتفع بهم إلا في الفروع التي تمحضوا لها من خدمة الحكومة. وإذا كانت الشام واقفة عند حد الاعتماد عَلَى مدارس الحكومة والحكومة لا تعلم إلا ما ينفعها ومدارس الأجانب لا تعنى إلا بالعرض بما نفع البلاد بقيت النهضة الفكرية مذبذبة لا تركية ولا عربية ولا إفرنسية ولا أميركانية ولا إنكليزية ولا ألمانية ولا روسية ولا يونانية ولا إيطالية. كما أنها ليست إسلامية سنية ولا شيعية ولا باباوية كاثوليكية ولا مارونية ولا أرثوذوكسية ولا برتستانتية ولا إسرائيلية ولا درزية وبهذا صح أن نقول أن سورية بابل اللغات واللهجات كما هي بابل الأديان والمذاهب وإن النهضة في أصقاعها كأجوائها في التلون وأغوارها في الحرارة ونجادها في البرودة. لم تنشأ في البلاد مدارس أهلية إلا في دمشق وبيروت وحمص وطرابلس وصيدا مثلاً منذ عهد قريب وهي لم تطل أعمارها بعد حتى يتخرج منها تلاميذ يكون واحدهم بألف في

غنائه وكفاءته ويبذ المتعلمين في مدارس الأجانب ومدارس الحكومة معاً ويتلقن في مدرسته أن المقصود من العلم إنارة المتعلم نفسه وذويه ونفع قومه ولغته وأمته. وممن يساعدون اليوم عَلَى ترقية الأفكار وإزالة غشاوة الأوهام بعض الصحف وفئة من ناشئة الشام تتلقى العلوم المختلفة من مدارس الغرب ولاسيما في فرنسا وسويسرا وإنكلترا وألمانيا وأُناس من وجوه البلاد أخذوا يغشون ديار الغرب للزيارة وهم عَلَى قلتهم يفيدون فيم يتصونه عَلَى قومهم من مشاهداتهم وإعجابهم بأوضاع المدنية الحديثة وقصور سورية بالنسبة إلى ذاك التقدم المدهش. هذه العوامل الثلاثة في ارتقاء سورية وهي الصحف والمتعلمون في مدارس الغرب والسائحون في ديارهم إذا حسنت أكثر من الآن وقويت وكثر عديد الشاعرين بها تنهض بالبلاد ولاسيما مدن الداخلية كما أفادت هجرة اللبنانيين خاصة في تمدين لبنان فعد من سورية بمثابة باريز من ولاياتها أو القاهرة من بلاد أقاليم مصر ولذلك كانت الحركة الفكرية في لبنان وبيروت أرقى منها الآن في دمشق وحلب إذ التعلم فيهما أكثر من هاتين القاعدتين وحركة لبنان وبيروت في الفكر مادية ولذلك قلما ترى الرغبة اليوم في مدارس بيروت والجبل منصرفة عَلَى العلوم الأدبية والفنون بقدر انصرافها إلى إتقان اللغات الأجنبية ولاسيما الإنكليزية والإفرنسية يستخدمونهما في التجارة ويتسلحون بهما للاستعانة عَلَى الهجرة إلى أميركا الشمالية وأوستراليا وكندا وجنوبي أفريقية ومصر والسودان. وبعد فإن حال النهضة غريب في هذا القطر فكما كان العمران في السهوب والوهاد في كور محدودة معروفة هكذا تجد النهضة الفكرية في انتشارها موزعة عَلَى المدن الآن وبعضا لا حظ لها منها إلا بقدر حظ الدساكر والقرى فترى اللاذقية وعكا مثلاً بنهضتها الفكرية دون حيفا ويافا مثلاً مع أن للمدينتين الأوليين تاريخاً مجيداً مهماً ونابلس وحماة متشابهتان وإن كانت الأولى تفوق الثانية بكثرة الناهضين للتعليم من أبنائها وحمص تشبه طرابلس والصلت تشبه بعلبك ولكن هناك نحو مئة بلدة لا تقل نفوس الواحدة منها عَلَى بضعة ألوف من السكان وهي لا تخرج في نهوضها الفكري عن أحقر المزارع وذلك مثل دومة وجوبر وعربيل وداريا في غوطة دمشق ويبرود وجيرود ودير عطية والنبك في جبل سنير (قلمون) وحاصبيا وراشيا في وادي التيم والسويداء والرمتا ودرعا ونوى

وبصرى في حوران وغيرها من أُمهات القصبات في ولايات سورية وحلب وبيروت ومتصرفيات لبنان والقدس والزور وهي جماع أقاليم بلاد الشام. قلنا أن نهضة سورية ذات ألوان كثيرة وذلك لاختلاف مصالح الأمم الغربية في هذه الديار وللسياسة والدين تأثير شديد في هذه الحركة ولولاهما ما رأينا تلك المدارس المبثوثة في القدس والناصرة وبيروت ولبنان ودمشق وحلب ومرعش. بل في بعض القرى والقصبات. وبينا تجد الدولة تجدّ ولاسيما في العهد الأخير بنشر لغتها وكادت ولاية حلب تعد من الولايات التركية نجد الأرض المقدسة ولاسيما طبريا وحيفا ويافا والقدس توشك أن تعد ولاية إسرائيلية وذلك لكثرة المهاجرين في العشرين سنة الأخيرة من الإسرائيليين الروسيين والنمساويين والألمان وغيرهم ومنهم دعاة الصهيونية يريدون أن ينشئوا مع الزمن في فلسطين مملكة تكون سداها ولحمتها بيد أبناء إسرائيل من أجل هذا تراهم في مدارسهم لا يعلمون العربية ويجعلون اللغة العبرية لغة التعليم والتخاطب ولهم في فلسطين جرائدهم ومطبوعاتهم ينشرونها عَلَى مناحيهم بمأمن من مراقبة الحكومة وتوفيق الخطة عَلَى ما يلاءم مصلحة البلاد ولذا تشهد في مدن فلسطين ولاسيما في القدس ويافا وحيفا غرائب الألسن فتظنك في بور سعيد اليوم تشمع بضع لغات والبلاد عربية ولكن بالاسم فقط. ومهما يكن من صيغة النهضة في قواعد البلاد ومدنها فإن أعمالها من بلاد الأقاليم كالقرى والدساكر لا تزال بمعزل عن كل نهضة وحسبك أنك تمر إلى اليوم في بضع قرى ولا تجد من يستطيع أن يقرأ القراءة البسيطة فضلاً عن كتابة سطرين وهذا شان الأقاليم التي لم تدخل إليها الإفرنج أو دعاة البرتستانتية عَلَى القل مثل الصلت والكرك وتنشئُ المدارس لبث دعوتها كمعظم ألوية حوران والكرك واللاذقية والزور. نعم تسير الأيام الطويلة ولا تشهد السكان إلا كما كانوا منذ بضعة قرون تجتاز تدمر وجرش وبلاد موآب وأرض الشراة والبلقاء وارض منبج وحران والرقة وبلاد الجولان وارض الصفا واللجاة وغيرها فلا تكاد ترى مدرسة أهلية تذكر ماضي هذه الأقاليم فلا تلبث أن تنهل عبراتك عَلَى بلاد نام عليها رعاتها وأقاليم كل منها بمساحته وخصبه وذكاء أهله ومضائهم لا يقل عن أحسن أقاليم قارتي أوربا وأميركا.

ربما توهم واهم أن الحرية العثمانية أبرزت من القوى ما كان كامناً في النفوس ولكننا لم نشهد من علائمها شيئاً يستحق الذكر اللهم إلا أولئك النفر من المتأدبين الذين جربوا أنفسهم في نشر الصحف والمجلات وتأليف الأسفار والمترجمات يحاولون منها الرزق أولاً فخسر أكثرهم عَلَى أن معظم ما نشر في السنين الأربع الأخيرة من المصنفات والمقالات يدل عَلَى أن الأمة هنا لم تزل في دور التجارب وهيهات أن تعد في مصاف الأمة المصرية حتى بعد ربع قرن فالأسماء هنا أكثر من المسميات وإن تكن الهمم عالية أكثر من مصر في الجملة ولكن أين نحن من نضوج العلم في وادي النيل وتلك الفئة الرشيدة من العلماء والكتاب والمفكرين والسياسيين والخطباء الواعظين. يقولون أن الكليتين الأميركية واليسوعية في بيروت تخرجان رجالاً أكفاءً فأين آثارهم نستدل بها عَلَى فضلهم ووطنيتهم وما نخالهم يستطيعون أن يأتونا بغير مقالات خيالية أو قصص غرامية مسلوخة أو ممسوخة من اللغات الأجنبية. وكان في مقدرة أولئك المتعلمين عَلَى التواءٍ في نظام تعليمهم أن يأتوا وهم متوفرون عَلَى أعمالهم المادية بشيءٍ من المعارف لوطنهم يخدمونه بها ولكن القوم بلغت بهم الأثرة وحب الماديات حتى صاروا لا يتعلمون العلوم إلا إذا كانت تنفعهم لجلب الرزق وما عدا ذلك فليس له حظ من الأعراب في جملة حالهم. وهذا من آكد الأسباب التي دعت فئة من المتعلمين ولاسيما في لبنان والساحل أن يعرضوا عن درس اللغة العربية ويستعيضوا عنها بالانصراف إلى تعلم إحدى اللغات الأجنبية لأن هذه بزعمهم تعود عليهم بجماع الفضائل والمحامد والغنى وتلك لا تفيدهم في مادياتهم ولا في أدبياتهم ولكن فات هذا الفريق من المتعلمين إنهم مهما بلغوا من أحكام ملكة اللغات الأجنبية لا يتعدون فيها قدر الترجمان البسيط وإن من جميع من اشتهروا بإتقان اللغة الإنكليزية أو الإفرنسية حتى الآن من أبناء سورية لا نعرف بضعة أشخاص يستحقون أن تنشر مكتوباتهم في مطابع الغرب إلا بعد أن ينظر فيها أبناء تلك اللغة وينمقونها ويتعاورونها بالحذف والإثبات. وبعد فإن النهضة الفكرية لا تكون عَلَى أتمها إلا بالتعليم وهذا التعليم مفقود من سورية اللهم إلا علة مناحي الفرنسيس والأميركان وغيرهم ولذلك كانت النهضة السورية أشبه بجنين لم

تظهر سحنته وتتم خلقته. وما دام التفرنج من جهة والتترك من أخرى يستحيل عَلَى بلاد الشام أن تدعي بأن فيها نهضة فكرية عربية ولا يفعل أكثر من يتعلمون إلا أنهم ينقلون أنفسهم إلى أبناء اللغة التي يتعلمونها وينسلخون من قوميتهم. وربما يقول بعضهم ما هذا الغلو في تقدير هذا الخطر المداهم والمتعلمون أفراد والسواد الأعظم لا في العير ولا في النفير لم يبرحوا عَلَى الفطرة وسيتعلمون ما سيكتب لهم فالجواب أن الأفراد هم العمدة والفرد المتعلم اقدر عَلَى معرفة المدخل والمخرج من عشرة آلاف أُمي ولو كانت كثرة العدد تنفع كل حين لما رأينا سكان الهند يخضعون للإنكليز وجزائر الملايو أو جاوة يخضعون للهولانديين وغيرهم من الأمم الشرقية الضعيفة يخضعون لغيرهم من الأمم الغربية القوية. وعَلَى الجملة فإن نهضة سورية عَلَى غير ما تقتضي الحاجة الوطنية فهي لا شرقية ولا غربية بل هي من كل البلدان وثمرة كل الشعوب والناس قد شعروا بنقصهم ويسعون عَلَى تعليم أبنائهم في معظم الأقاليم والشعور بالنقص أول درجات الكمال كما أن ميل الناس إلى المشاركة في المسائل العمومية دعا إلى ترقية المحيط والتجافي عن تافه الأحاديث فعسى أن تنمو هذه الجراثيم وتنتقل من دور الحضانة إلى دور الطفولة والفتوة في قليل من السنين.

اليمن وسكانها

اليمن وسكانها (1) كيف عرفها وعرفهم علماء العرب مضى معظم السنة الماضية والدولة العلية تسير إلى اليمن الحملة تلو الحملة لإخضاع المتنقضين الثائرين من رجال الشيخ أحمد الإدريسي الشافعي في جهات عسير والإمام يحيى بن حميد الدين الزيدي في جهات صنعاءَ وقد أُغمدت السيوف الآن بعد أن هلك من جيش الدولة وعصابات المحاربين لها أُلوف ولا يزال يقتل في اليمن من العساكر العثمانية كل سنة نحو عشرة آلاف نسمة بعضهم في المناوشات والآخر باختلاف الأهوية وقلة الغذاء المناسب وذلك منذ أربعين سنة ومن قتل ومات من الجند والرعية لا يقلُّ فيما نحسب عن رجال مملكة صغرى من ممالك أوربا كسويسرا أو الدانيمرك أو السويد. والدولة الآن في صدد إعطاء بعض الامتيازات لليمانيين وربما صدر هذا الجزءُ ومجلس النواب العثماني يتناقش في لائحة الإصلاحات اليمانية وسيقسمون عَلَى الأغلب ما وقع تحت حكم الدولة مباشرة من البلاد إلى ثلاثة ولايات ولاية صعدة وولاية صنعاء وولاية عسير وقد جربت الدولة في السنة الماضية فسلخت لواء عسير فجعلته متصرفية قائمة برأسها تخاطب الآستانة مباشرة في أمورها كلواء القدس والزور فأتى ذلك بنتائج حسنة ولا عجب إذا أكثرت الدولة من مراكز الحكومات فمن الأقضية هناك ما تسير فيها أياماً وفيه من القرى ما لا تجد مثله في ولاية من الولايات العامرة في الدولة وإن عدد القرى الداخلة تحت حكم العثمانيين مباشرة يبلغ 8692 قرية و289 عزلة و227 قبيلة وكل هذا القدر العظيم المنقول عن تقويم الدولة الرسمي يحكمه 28 قضاء و56 ناحية ومن الغريب أن الأمية تكاد تكون مفقودة في اليمن بالنسبة لسائر البلاد العثمانية وأهلها مع كل ما ابتلوا به من الفتن التي جرتها عليهم تلاعب رؤسائهم ورداءة العمال ولا يزالون يعلمون أبناءهم القراءة والكتابة ويقدرون اليوم نفوس اليمن بنحو خمسة ملايين لو ارتقوا وعلموا لأتي منهم أعظم جيش محارب محضر نافع. وإليك الآن كيف عرفهم وعرف بلادهم علماء العرب اقرأه وأعجب في سر ما صارت إليه أرضهم من الانحطاط: صفة اليمن

قال الهمذاني سميت اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها والبحر بها من المشرق إلى الجنوب فراجعاً إلى المغرب ويفصل بينها وبين باقي جزيرة العرب خط واحد من حدود عمان ويبرين إلى حد ما بين اليمن واليمامة إلى حدود الهجيرة وتثليث وأنهار جُرش وكتنة منحدراً في السراة عَلَى شعف عنز إلى تهامة عَلَى أم جحدم إلى البحر حذاء جبل يقال كدمل بالقرب من حمضة وذلك حد ما بين بلد كنانة واليمن من بطن تهامة. وأول إحاطة البحر باليمن من ناحية دما فطنوى فالجمحة فرأس الفرتك فأطراف جبال اليحمد وما سقط منها إلى ناحية الشحر فالشحر فغبُّ الخيس فغب الغيث بطن من مهرة فغب القمر زنة قمر السماء فغب العقار بطن من مهرة فالخيرج والإسعاء وفي المنتصف من هذا الساحل شرقاً بين عمان وعدن ريسوت وهو موئل كالقلعة بل قلعة مبنية بنياناً عَلَى جبل والبحر محيط بها الأمن جانب واحد فالبر فمن أراد عدن فطريقه عليها فإن أراد أن يدخل دخل وإن أراد أن جاز الطريق ولم يلو عليها وبي الطريق الذي يفرق إليها والطريق المسلوك إلى عمان مقدار ميل. ثم ينعطف البحر عَلَى اليمن مغرباً وشمالاً من عدن فيمر بساحل الحج وأبين وكثيب برامس وهو رباط وسواحل بني محيد من المندب فساحل العميرة والعارة فإلى غلافقة ساحل زبيد فكمران فعطيفة فالحردة إلى منفهق جابر وهو رأس غرير كثير الرياح حديدها إلى الشرجة ساحل بلد حكم فباحة جازان إلى عثر فرأس عثر وهو كثير الموج إلى ساحل حمضة فهذا ما يحيط باليمن من البحر. وأصرح من هذا ما قاله المسعودي: وبلد اليمن طويل عريض حده مما يلي مكة الموضع المعروف بلجة الملك سبع مراحل إلى صنعاء ومن صنعاء إلى عمان وهو آخر عمل اليمن تسع مراحل والمرحلة من خمس فراسخ إلى ستة والحد الثاني من حكم ورحاء إلى ما بين مفاوز وحضر موت وعمان عشرون مرحلة ويلي الوجه الثالث بحر اليمن فجميع ذلك عشرون مرحلة في ستة عشرة مرحلة وأسماءُ ملوك اليمن كذي يزن وذي نواس وذي منار وغير ذلك مضافة إلى مواضع وإلى أفعال لهم وسير وحروب وغيرها من سمات لهم تميزهم عن غيرهم. فاليمن كما قال ابن خلدون صقع جليل ومملكةٌ عظيمة يشتمل عَلَى أربعة وعشرين مخلافاً (وفي رواية أربعة وثمانون عَلَى ما يجيءُ) والمخاليف الكور وكان اليمن في صدر الإسلام

عَلَى ثلاثة أقسام كل قسم منها في يد ملك أحد الأقسام قصبته صنعاء والآخر قصبته الجند والآخر قصبته ظفار والذي يعطيه التحديد أنه ينقسم عَلَى قسمين أحدهما تهامية والأخرى نجدية فالتهامية قصبتها زبيد وبها يكون السلطان والجبد وهي مدينة مسورة وعليها سبعة خنادق ولها نهر يجري إليها من الجبال وساحل يسمى علافقة ومن البلاد التهامية قحمة ولها نهر يأتيها من جبل يسمى فرع والكدرا ولها واد يجري إليها من السيول والمهجم وهي مدينة كثيرة الفواكه ولاسيما الموز ولها نهر يأتيها من النوب يسمى سرود والمجال ولها نهر يأتيها من جبال حور وحوض ولها نهر يأتيها بلاد دخولان والراحة ولها نهر يأتيها من نجد وأما البلاد النجدية وتسمى بلاد الجبال والنجد في اللغة قفار الأرض وما غلظ منها واشرف عَلَى الأرض فأعلاها تهامة واليمن وأسفلها العراق والشام وهو ممتد من بلاد مهرة عَلَى بلاد الحجاز ومسافة ذلك عشرون فرسخاً وقصبته عدن وتعرف بعدن + + + وبقعتها عَلَى البحر يدخل إليها من باب قد فتح في جبل كأنما يدخل إلى الكرك بالشام وهي فرضة لما يرد من كراكب الصين والهند وكرمان وفارس وعمان ويشرب منها مدينة أَبين ولها عَلَى ساحل البحر فرضة تسمى المحل ينزل الناس منه في اختصاص ولها كورة تشتمل عَلَى عدة قرى ومن بلاد ومن بلاد الجبل صنعاء وكانت القصبة لبلاد اليمن بأسرها وهي وبية كثيرة الفواكه ولها نهر يشقها يسمى السرار ويصب في سنوان فيكون منه بحيرة تمده الأمطار في الصيف. وحكي أن ظفار مدينة التبابعة ومن بلاد الجبل تعز وهي قلعة حصينة وبها السلطان في عصرنا (ابن خلدون) وهي بين مدينتين إحداهما المعزية والأخرى عدنة ينزل إليها واد من جبل صبر وهذا الجبل فيه قرى كثيرة قصبتها مدينة تسمى لاعة المرتقى إليه مسيرة يوم وصوله أربعة وعشرون فرسخاً ومدينة الجند مشهورة ومدينة جبلة وتسمى مدينة النهرين لأنها بين نهرين ومدينة الدحلوة وهي قلعة عَلَى ذرى شامخ وعر وقد امتلأت من أموال ملوك يمن وكبرائها تبراً ولجيناً يجمع المال بها والمدينة كالربض وتسمى أيضاً الجرد ومن حصون السلطان أيضاً باليمن أيضاً قلعة أنور وهي في ناحية تسمى وادي السيول يشتمل عَلَى قرى مشتبكة العمائر وقلعة مثوة وهي في ناحية زبيد كثيرة القرى وقلعة العروسين وهي في ناحية تعرف بعلوان الكردي كثيرة القرى ومن بلاد اليمن ذمار وهي مدينة مسورة

لها عيون وبساتين ومدينة صعدة وخيوان بها خانات وحمامات وأماكن وعمائر ومدينة مأرب بها عرش بلقيس وهي أساطين في غاية الغلظ والارتفاع ولها كورة بين صنعاء وحضر موت وبالقرب منها جبل شق عليه سد تجتمع إليه مياه الأمطار والعيون وإذا أرادوا سقي القرى فتحوا منه بقدر حاجتهم ثم يسدونه بآلات لهم أحكموا ومن بلاد الجبل أيضاً السروان أحدهما سرو جبل لبن والآخر سرو ميل وهما مختلطان ولهما قصور كالقرى وأسماؤها العجر والبيضاء وقرن وذوقيام ودوتق وهذان السروان يمتدان من جنوب اليمن إلى شمال الحجاز وسكانها فصحاء العربُ. ومن أقسام اليمن حضر موت وفيها تريم وشبام والشحر والأحقاف ومنها بلاد مهرة وغيرها. قال البلخي وكان أعمال اليمن مقسومة عَلَى ثلاث ولاة وال عَلَى الحرم ومخاليفها ووال عَلَى حضر موت ومخاليفها وهي أوسطها وأطيب بلادها وأبردها وأكثر ما ارتفع من أموالها ما جباه بعض عمال بني العباس ستمائة ألف دينار وأهلها قوم فيهم جهل وغباوة وسلامة صدر وضعف حال وأكثر فواكههم الموز وعامة لحومهم لحم البقر وفي مشارق سواحلهم صحار ومسقط وسوقطرا وشحر محلب ومن عندهم اللبان والصبر وهم ضعاف الحال سيئو العيش قليلو الحيل والصناعات ولهم لغة لا يفهمها غيرهم وتليهم الإحساءُ وهي من أرض العرب وقد استوطنها القرامطة في القرن الثالث. واليمن عَلَى رواية المقدسي قسمان ما كان نحو البحر فهو غور واسمه تهامة قصبته زبيد ومن مدنه معقر وكدرة ومور عطنة الشرجة دؤيمة الحمضة غلافقةُ مخا كمران الحردة اللسعة شرمة العشيرة رنقة الخصوف الساعد المهجم وغيرهن ناحية أَبين مدنها عدن لهج (لحج) وناحية عثر مدنها حلي السرين وناحيته السروات وأما ما كان من ناحية الجبال فهو بلاد باردة تسمى نجداً قصبتها صنعاء ومن مدنها صعدة نجران جُرش العرف جبلان الجند ذمار نسقان يحصب السحول المذيخرة. فزبيد قصبة تهامة وهو أحد المصرين لأنه مستقر ملوك اليمن بلد جليل حسن البنيان يسمونه بغداد اليمن لهم اذنى ظرف وبه تجار وكبار وعلماء وأدباء مفيد لمن دخله مبارك عَلَى من سكنه آبارهم حلوة وحماماتهم نظيفة عليه حصن من الطين بأربعة أبواب وحولها قرى ومزارع أعمر من مكة واكبر وارفق وأكثر بنيانهم الآجر ومنازلهم فسيحة طيبة وهو

بلد نفيس ليس باليمن مثله غير أن أسواقه ضيقة والأسعار بها غالية والثمار قليلة. ومعقر عَلَى جادة عدن وكذلك عبرة وعارة والمخنف وكلهن صغار وعدن بلد جليل عامر آهل حصين خفيف دهليز الصين وفرضة اليمن وخزانة المغرب معدن التجارات كثير القصر مبارك عَلَى من دخله مثر لمن سكنه مساجد حسان ومعايش واسعة وأخلاق طاهرة ونعم ظاهرة قد أحاط به جبل بما يدور إلى البحر ودار خلف الجبل لسان من البحر فلا يدخل إليه إلا أن يخاض ذلك اللسان فيصل إلى الجبل وقد شق فيه طريق في الصخر عجيب وعليه باب حديد من نحو البحر حائطاً من الجبل إلى الجبل وفيه خمسة أبواب ناءٍ عن الأسواق إلا أنها يابسة عابسة لا زرع ولا ضرع ولا شجر ولا ثمر ولا ماء ولا كلاء كثيرة الحريق والوكف. أَبين هي أقدم من عدن وإليها تنسب عدن لأن بُرَّهم وفواكههم وخضرهم منها لكثرة القرى والمزارع بها وكذلك لهج ومندم عَلَى البحر عامرة. ومُخا مدينة لزبيد عامرة كثيرة السليط وغلافقة فرضة زبيد عامرة آهلة بها نخيل ونارجيل وآبار حلوة إلا أنها وبية قاتلة للغرباء. والشرجة والحردة وعطنة مدن عَلَى الساحل بهن خزائن الذرة تحمل إلى عدن. وجدة بلد اللبن يحمل إليهم الماء من بعد وجوامعهم عَلَى الساحل وناحية عثر ناحية جليلة عليها سلطان برأسه ومدنها نفيسة وعثر مدينة كبيرة طيبة مذكورة أنها قصبة الناحية وفرضة صنعاءَ وصعدة بها سوق حسن وجامع عامر يحمل إليهم الماء من بعد وحمامهم وضر. وبيش أطيب هواء منها وأعذب ماءً بها ينزل السلطان. والجريب بلد الموز وهو أرخى مدن الناحية وأعجبها. وحلي مدينة ساحلية عامرة سرية رفقة. والسرين بلد صغير له حصن. مصنعة وهو فرضة السروات والسروات معدن الحبوب والخيرات. صنعاء هي قصبة نجد اليمن وقد كانت أجلّ من زبيد وأعمر وكان الاسم لها وأما اليوم فقد اختلت غير أن بها مشايخ لم أر بجميع اليمن مثلهم هيئة وعقلاً. ثم بلد رحب كثير الفواكه رخيص الأسعار. أخباز حسنة وتجارات مفيدة أكبر من زبيد ولا تسل عن طيب الهواء فإنه عجب ومع ذلك رفق معف. وصعدة أصغر من صنعاء عامرة في الجبال بها تصنع الركاء الجيدة والأنطاع الحسنة ومناه يرتفع ادم الجلد وهي مدينة العلوية وعملهم. وجُرش مدينة وسطة ذات نخل واليمن ليس ببلد النخيل ونجران مثل جُرش وهما دون صعدة وأكثر ما ترى من

الإدم فمن هذه المدن. والحميري هو بلد قحطان بن زبيد وصنعاء كثير القرى وسبأ بلد خلف هذه النواحي عامر المدينة خرب العمل. هذا وصف بلاد اليمن وفي رواية أن مساحتها السطحية 256 ألف كيلومتر مربع أما المسافات عَلَى تقدير العرب فهي من صنعاء إلى صداء 42 فرسخاً من صنعاء إلى حضر موت 74 فرسخاً ومن صنعاء إلى ذمار 16 فرسخاً ثم إلى نسفان وكحلان مرحلة ثم إلى حجر وبدر 20 فرسخاً ثم إلى عدن 64 فرسخاً ومن ذمار إلى يحصب مرحلة ثم إلى السحول مرحلة ثم إلى النجة مثلها ثم إلى الجند مثلها ومن صنعاء إلى الجند 48 فرسخاً ومن صنعاء إلى العرف مرحلة ثم إلى الهان 10 فراسخ ثم إلى جبلان 14 ثم إلى زبيد 12 ومن صنعاء إلى شبام مرحلة ومن صنعاء إلى عثر 10 مراحل ومن عدن إلى أَبين 3 فراسخ. مخالبف اليمن كور بلاد اليمن تسمى مخاليف وهي أربعة وثمانون في رواية وفي رواية أربعة وعشرون قال ابن خرداذبة مخلاف صنعاء والخشب ورحابة ومرمل وبصنعاء كان غمدان مسكن سيف بن ذي يزن الحميري وفيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي: اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالاً ومخلاف صعدة فمن صنعاء إلى خيوان أربعة وعشرون فرسخا ومن خيوان إلى صعدة ستى عشر فرسخاً ومن صعدة إلى المهجرة وهي تحت عقبة المنضح عند طلحة الملك التي هي أول عمل اليمن عشرون فرسخاً فبين المهجرة وصنعاء ستون فرسخاً. ومخلاف البون وفيه ريدة وبها البئر المعطلة والقصر المشيد التي ذكر الله تبارك وتعإلى ومخلاف خيوان ومخلاف نجدي خولان ذي شحيم وغوريها وفيها ريام النار التي كان يعبدها أهل اليمن. وعَلَى اليمين من صنعاء مخلاف شاكر ووداعة ويام وأَرحب ومخلاف الحردة وهمدان ومخلاف جوف همدان ومخلاف جوف مراد ومخلاف شنوءة وصدى وجعفي ومخلاف الجسرة ومخلاف المشرق وبوشان وغدر وفيه ناعط ومخلاف أعلا وأنعم والمصنعتين وبني غطيف وقرية مأرب قال النابغة الجعدي أو سبأَ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دونه سيله العرما

وبمأرب قصر سليمان والقشيب وقصر بلقيس قال ابن ذي جدن: أتغر من أهله القشيب ... وبان من رأيه الحبيب وصرواح والسد وهو العرم. ومن صنعاء إلى صدى وجعفي وشنوبرة اثنان وأربعون فرسخاً ومخلاف حضر موت وبينها وبين البحر رمال ومن صدى إليها ثلثون فرسخاً فمن صنعاء إلى حضر موت اثنان وسبعون فرسخاً. ومخلاف خولان رداع وفيه وادي النمل ومخلاف أحور ومخلاف الحقل وذمار عَلَى ستة عشر فرسخاً من صنعاء ومخلاف بني عامر وثات ورداع ومخلاف دثينة ومخلاف السرو وبحذائه مرسى الخيرج ومخلاف عنس ومخلاف رُعَين ونسفان وكحلان وفيه بحيرة يبنون قلل امرؤُ القيس بن حجر: ودر بني سواسة في رعين ... يجن عَلَى جوانبه الرجال ومخلاف ضنكان وذبحان ومخلاف نافع ومصحى ومخلاف حُجر وبدر وأَخلة والصهيب ومخلاف لحج ومخلاف أَبين وفيه عدن ومخلاف بعدان وريمان ور الثجة والمزرع ومخلاف ذي مكارب والأملون. ومن صنعاء إلى ذمار ستة عشر فرسخاً ومن ذمار إلى نسفان وكحلان ثمانية فراسخ ومن نسفان إلى حجر وبدر عشرون فرسخاً ومن حجر وبدر إلى قرية عدن وهي مخلاف أَبين أربعة وعشرون فرسخاً فمن صنعاء إلى عدن ثمانية وستون فرسخاً. ومخلاف السلف والأدم ومخلاف نجلان ومخلاف الجند ومخلاف السكاسك ويحصب مدينة ظفار وقصرها ريدان قال امرؤُ القيس تمكسن قائماً وبنى طمراً ... عَلَى ريدان أعيط لا ينال وبظفار كانت تنزل ملوك اليمن ومن علو يحصب إلى السحول ثمانية فراسخ ومن السحول إلى الثجة ثمانية فراسخ ومن الثجة إلى الجند ثمانية فراسخ فمن صنعاء إلى الجند ثمانية وأربعون فرسخاً. وذات الشمال راجعاً إلى صنعاء مخلاف ذي شعبين ومخلاف الزيادي ومخلاف المعافر ومخلاف بني محيد وفيه البقراني الجيد ومخلاف الكرب ومخلاف صلب ونفد والإيغار ومخلاف المناخيين وفيه المذيخرة قلعة حصينة يسكنها آل ذي مناخ وفيها منزل ابن أبي جعفر المناخي من حمير ومخلاف حمل ودمث وشرعب ومخلاف عنة

وعنابة ورجيع ومخلاف السحول وبني صعب ومخلاف حاظة ومخلاف سفل يحصب ومخلاف علو يحصب ومخلاف القفاعة والوزيرة والحجر ومخلاف زبيد وبغزائه ساحل غلافقة وساحل المندب ومخلاف رفع ومخلاف مقري ومخلاف أَلهان ومخلاف جبلان وفيه الجبلان من آل ذي شرح وجبلان ضقان شق الطاعة وشق المعصية ومخلاف ذي جرَة ومخلاف الحقلين ومخلاف العرف والأخروت. فمن صنعاء إلى العرف ثمانية فراسخ ومن العرف إلى أَلهان عشرة فراسخ ومن أَلهان إلى جبلان أربعة عشر فرسخاً فمن صنعاء إلى جبلان اثنان وثلثون فرسخاً ومن جبلان إلى زبيد ورمع اثنا عشر فرسخاً. ومخلاف خولان في ظاهر صنعاءَ ومخلاف جدد وحوشب ومخلاف عك بحذائه مرسى دهلك ومخلاف مهاع ومخلاف حراز وهوزن ومخلاف الأخروج ومجنح ومخلاف حضور ومخلاف مأذن وحملان وفيه مدينة ضير مخلاف شاكر وشبام وبيت أَقيان والمصانع يسكنها آل ذي حوال وهم ولد ذي مقار ومنهم يعفر بن عبد الرحمن بن كريب الحوالي قال امرؤُ القيس والحق بيت أَقيان وحجر ... ولم ينفعهم عدد ومال وقال أيضاً: أزال من المصانع ذا أَراس ... وقد ملك السهولة والجبال ومخلاف واضع والمعلل وهو بين صنعاء وشبام ومن صنعاء إلى شبام ثمانية فراسخ قال الشاعر: مازال ذا الزمن الخبيث يديرني ... حتى بقي لي خزيمة بشبام ومخلاف الصغر ومخلاف خناش وملحان ور حكم وجازان ومرس والشرجة ومخلاف حجور والمغرب ور قدم وهو يحاذي قرية مهجرة ومخلاف حية والكوذن ومخلاف مسح ومخلاف كندة والسكون وهي حضر موت عَلَى الإبل تسع سكك. مدن اليمن تهامية ونجدية عدن كما قال الهمداني جنوبي تهامية وهي أقدم أسواق العرب وهي ساحل يحيط به جبل لم يكن فيه طريق فقطع في الجبل باب بزُبر الحديد وصار لها طريقاً إلى البر ودرباً سكنياً المرَبون والحماحميون والملاحيون. ولحج وأَبين وبها مدينة

خنفر والروَّاغ وموزع والشقاق والمندب والحصيب وهي قرية زبيد وقرى بواديها حيس والقحمة والكدراءُ ثم المهجم وهي مدينة سرود ومور وبه مدينة تسمى بلحة ثم الساعد والسقيقتان والهجر قرية ضمد وجازان وفي بلد حكم قرى كثيرة يقال لها المخازف وصبيا ثم يبش وساحله عثر وهو سوق عظيم شأنها وقد تثقله العرب فيقولون عثر وأُم جحدم قرية بين كنانة والأزد وهي حد اليمن. وأول مدن اليمن عَلَى سمت نجدها الجند من أرض السكاسك وجبا مدينة المعافر وجيشان وبالقرب منها قرى لها بواد تنسب إليها مثل حجر وبدر والصهيب ثم منكث مدينة السخطيين ثم ذمار ورداع وهي بين نجد حمير الذي عليه مصانع رعين وبين نجد مدحج الذي عليه ردمان وقزن وفي جنوبيها مدينة حصى وبثرى والحنق من أرض السرو ثم مدينة صنعاء وهي أُم اليمن وقطبها لأنها في الوسط منها ما بينها وبين عدن كما بينها وبين حد اليمن من أرض نجد وحجاز وكان اسمها في الجاهلية أزال ويسميها أهل الشام صنعاء القصبة وتقول العرب لا بد من صنعاء لو طال السفر وينسب إلى صنعاء صنعاني وعَلَى كل واد من هذه الأودية ما لا يوقف عليه من القرى الصغار والأبيات وكل واد منها مخلاف يكون فيه سلطان يقوم به عوائده. قال الأصمعي اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران ثم يلتوي عَلَى بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان فينقطع من بينونة وبينونة بين عمان والبحرين وليست بينونة من اليمن قال ياقوت وقيل حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضر موت والشحر وعمان إلى عدن أَبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود واليمن تجمع ذلك كله. والسبب في قسمة اليمن إلى مخاليف أي كور ورسايق ما قاله ياقوت من أن ولد قحطان لما اتخذوا أرض اليمن مسكناً وكثروا فيها لم يسعهم المقام في موضع واحد فجمعوا رأيهم عَلَى أن يسيروا في نواحي اليمن ليختار كل بني أب موضعاً يعمرونه ويسكنونه وكانوا إذا ساروا إلى ناحية اختارها بعضهم تختلف بها عن سائر القبائل وسماها باسم أبي تلك القبيلة المتخلفة فيه فسموها مخلافاً لتخلف بعضهم عن بعض فيها ألا تراهم سوها مخلاف زبيد ومخلاف سنحان ومخلاف همدان لا بد من إضافته إلى قبيلة.

بعض معاهد بيروت

بعض معاهد بيروت الصحافة البيروتية سبقت بيروت غيرها من مدمن الشام بإصدار الجرائد ففيها صدرت سنة 1858م أول صحيفة عربية في هذه الديار باسم حديقة الأخبار ثم صدرت جرائد ومجلات أُخرى عَلَى عهد السلطان عبد العزيز وأوائل عهد السلطان عبد الحميد المخلوع ومناه ما كتبه الأكفاء أمثال البستاني والأحدب وبوست وصروف ونمر واليازجي والحوراني وغيرهم. ولما قويت شأَفة المراقبة عَلَى المطبوعات ولاسيما في الثلث الأخير من عهد المخلوع تراجعت الصحافة البيروتية وكان بعضها قد أقفل وبعضها نقل إلى قطر آخر وبعضها ثبت ولكن عَلَى مضدد وضعف لا يكاد يوصف. حتى إذا انتشرت الحرية كثرت الصحافة حتى بلغ ما صدر منها مجدداً 56 جريدة ومجلة أكثر من نصفها لم يزل ينشر وبها بلغ عدد الجرائد البيروتية 25 جريدة ومنها ثماني ويومية والباقيات أسبوعية ونصف أسبوعيات وبلغ عدد المجلات 12 مجلة حية وهو عدد كثير عَلَى سكان مدينة لا يتجاوزون المئة وخمسين ألفاً عَلَى حين لا يصدر في جميع بلاد الشام وبيروت في الجملة أكثر من مئة صحيفة بين يومية وأسبوعية ومجلة شهرية ونصف شهرية أو مرة في الشهرين عَلَى اختلاف النزعات ومنها الجدي الخباري ومنها الفكاهي الهزلي. إن هذه الهمة التي تبدت مظاهرها من أدباء بيروت ولبنان حرية بالثناء لو لاحظوا في نشر صحفهم حاجة البلاد أولاً ثم نظروا في أنفسهم وحكموا عليها أو لها من حيث الكفاءة والاستعداد بيد أنه لم تمض بضعة أشهر عَلَى نشر القانون الأساسي وقد بردت حماسة القوم للحرية وانفثأت صورة الغضب من أنصار الظلم والاستبداد حتى أذخ الزمان يمحص الصحف فيشعر بعض من تهجموا عليها عَلَى غير استعداد مادي وأدبي أنهم كانوا في غرور بأقدامهم عَلَى بث أفكارهم عَلَى رؤُوس الأشهاد واقتحامهم المنافسة مع الأكفاء بحث أضروا بهم وبأنفسهم معاً وستدعو الحاجة بعد إلى تراجع بعض هذه الصحف فيبقى منها الأصلح بحسب سنة الكون في الأعمال. نقول الحاجة لأن قراء الصحف في سورية محدود عددهم وقد أَصبحوا يجبهون ليشتركوا

حتى اضطر كثر من أرباب المظاهر أن يتناولوا عَلَى الرغم منهم عدة صحف في آن واحد ومعظمها متحد النزعة والمعنى تكفي منها الواحدة والثنتان وما زاد عن ذلك فضول وإضاعة وقت. ووطد معظم المشتركين أنفسهم عَلَى قطع اشتراكاتهم السنة بعد الأخرى فكان الوارد عَلَى إرادات الصحف لا يسد نفقات الطبع ويعول القائمين بها في الجملة فاضطرت إلى الاقتصاد غير المحمود حتى أصبحت لفترة في أجرة المترجم والمراسل وأثمان البرقيات وغيرها قصارى أكثرها أن تجيد النقل والاقتباس وتلفق مما حضر لديها من الأخبار أفاد القراء أو لم يفدهم خدم البلاد أو أضرَّ بها. إن صدور ثماني صحف يومية في ثغر صغير كبيروت دليل الإقدام وهذا العدد لا يصدر مثله من بلاد العرب إلا في مدينة القاهرة ولكن أين مكانة تلك العاصمة من بيروت وهل في مكنة بيروت أن يكون لها قراء كالمصريين استنارة عقولهم وكثرة غناهم وتشاجر الأغراض السياسية في بلادهم. ولولا أن معظم الجرائد الكبرى في نصر أصبحت تصدرها شركات وجمعيات كما هي الحال في الغرب لما عاش أكثرها ولما استطاع القسم الآخر أن يظهر بهذا المظهر من القوة والغناءِ. ومن أجل هذا فكر بعض أرباب الصحف اليومية هنا أن يتحدوا ويصدروا جريدة واحدة كبرى عَلَى مثال الصحف الرسمية الراقية وفيها ما في تلك من إمارات التحسين والفائدة ولو وفقوا لإتمام هذا المشروع الجليل ونجحوا فيه لخدموا البلاد خدمة تؤثر ووفروا من عنائهم وعناء القراء الفقراء وزاد مع الأيام ربحهم واثبتوا لأهل الشام أن بعض قادة الأفكار من دعاة الاتحاد والوئام علموا الناس بالمثال الحي أن صحافتهم ثرت عَلَى أقدام صحافة الغرب وأن ما يعجز الأفراد عَلَى الاضطلاع به لم يعجز الجماعة. ومتى تمت هذه المنية في الصحف السياسية يسهل تقليدها في المجلات العلمية فتدخل مطبوعاتنا في دور جديد يصح أن يلحق بالراقي من مطبوعات الأوربيين والأميركيين. إن بيروت التي اعتادت أن تصرف جرائدها في أقطار الشام لا تلبث إذا كانت لها صحافة راقية أن يقبل الناس عليها في جميع بلاد القطر وإلا فتظل كل ولاية بل كل لواء بل كل قضاء مكتفية بصحفها كما هو المشهد الآن في القدس ويافا وحيفا وصيدا وبعبدا وعاليه وجزين وطرابلس واللاذقية وحلب وحماة وحمص ومرج عيون والقنيطرة وزحلة ودمشق

فتكاد لا تبع فيها الصحف الراقية إلا أعداداً معينة سيتناقص عددها مع الزمن وصدور الأحسن فالأحسن. ولا مشاحة في أن الصحافة مثال من أمثلة ارتقاءِ الأمة وانحطاطها وإن صحافتنا يجب أن تقود إليها الناس بالحق والصدق لا أن تنقاد إلى أهواء الناس والعامة منهم الخاصة فإن بعض الصحف جارت العامة مثلاً عَلَى ما يريدون في نقل أخبار هذه الحرب الناشبة الآن في طرابلس الغرب بين العثمانيين والإيطاليين فراجت بعض الشيء ولكن هذه الهبة لا تدل عَلَى ارتقاءٍ في العقول ولا عَلَى إقبال حقيقي وكان أولى أن تنقل للقوم الأنباء بدون زيادة ولا نقص مع مراعاة السياسة المتبعة من تقوية القلوب والتفاؤل بالخير للمستقبل فإن من أبشع المظاهر أن يستتبع العامة الخاصة وما طرأ الفساد عَلَى أحوالنا الدينية والدنيوية إلا لمجاراة الخواص للعوام في أُمور كثيرة. وأي ارتقاء الآن والأمة نراها تقبل عَلَى الصحف الهزلية أكثر من إقبالها عَلَى الصحف الجدية وإن كان من جرائد الهزل ما هو سلوى النفس وأحماض القلب ولكن كثرة الإقبال عليها أكبر دليل عَلَى أن الأمة أميل إلى الخيال منها إلى الحقائق وأنها أمة كسل لا أمة عمل. هذا ولجرائد بيوت الفضل الأكبر في بث ملكة المطالعة في الناس وتعويدهم الفصيح من الكلام والصحيح من الآراء ولذلك تجد مجموع البيروتيين أرقى من مجمع غيرهم من سكان قواعد هذه الديار لكثرة توفر عامتهم وخاصتهم عَلَى مطالعة الجرائد والانتفاع بما تنشره من طريف المعارف والمبادئ والتكرار يؤثر في الأحجار وربك يفعل ما يشاء ويختار. مدرستان إسلاميتان إذا كانت بيروت تعد اكبر معاهدها العلمية المسيحية كلية الأميركان وكلية اليسوعيين فإن من الواجب أن تعد اكبر المدارس الإسلامية فيها الكلية العثمانية الإسلامية ودار العلوم والميزة بين المعهدين الأولين والمعهدين الآخرين أن الغرض في الأولين خدمة فكر خاص أقل ما يقال فيه تزهيد نفوس أكثر المتخرجين منهما في خدمة بلادهم وإضعاف الشعور الوطني أما الحالة في المدرستين الناجحتين فهي عَلَى خلاف ذلك تنمي العاطفة الوطنية

وتهيئُ رجالاً يبقون في بلادهم يخدمونها بما تصل إليهم طاقتهم. وهذا من أعظم ما تمدح عليه المدرستان الإسلاميتان. نشأت الكلية العثمانية منذ سبع عشرة سنة بهمة رجل أزهري لقي الأمرّين في سبيل مشروعه وقاومه أعداء الإصلاح والتجديد وأنصار المنافسة والحسد ما وسعتهم المقاومة فكان بثباته معلماً للمعلمين كيف يكون الصبر عَلَى ما أخذوا النفس به. ولا عجب فصبر المعلمين يجب أن يتعلموه من سيرة الأنبياء والمرسلين خصوصاً والمعلمون لا يخرجون عن كونهم مبشرين ومنذرين ولكن يوحي غيرهم وسيرة من تبعوهم من الحكماء والأنبياء. هذا الأزهري هو الشيخ هو الشيخ أحمد عباس أحد أساتذة بيروت ورئيس هذا المعهد النافع قام بقوته إلا ما كان من معاضدة بعض المستنيرين في هذا الثغر لعمله وخصوصاً من تألفت منهم عمدة المدرسة مؤخراً من رجال بيروت وبعض قادة الأفكار فيها فوفق حتى اليوم إلى تخريج زمرة من الشبان المنورين ومنهم التاجر والصحافي والطبيب والحقوقي وقد كان في كل دوار مدرسته يستعين بالأساتذة الأكفاء من أي مذهب كانوا يعلم تلامذته بذلك التسامح المحمود والأخذ عن المخالف فيما لا يخدم رأيه ومبدأه. زرنا مدرسته وقد زرناها عدة مرات في الأعوام الماضية فشهدنا النضوج آخذاً بتعاليمها والكمال قريباً منها والثبات متمثلاً في أرجائها والعناية بتربية جسم الطفل وعقله غايتها فهي في أجمل بقعة وأعلاها من أحياء بيروت (برج أبو حيدر) تطل عَلَى لبنان وقراه وبيروت وحدائقها الغناء لو تم لها ما يريده لها أحبابها أن تملك البنايات التي قامت فيها وأوى إليها أساتذتها لكانت كاملة في مادياتها كما كملت أو كادت بمعنوياتها. نعم لو كانت لها دار قوراءُ وقصور تؤوي الداخليين والخارجيين من تلامذتها لبلغ تلاميذها ضعف ما هم الآن (370) منهم (140) داخلياً من أبناء بيروت وأنحاء سورية وغيرهم ولكن المسلمين ليسوا من القوة عَلَى الأعمال بحيث يهتمون لمشروعاتهم العملية اهتمام الغربيين لها وليس الفقر وحده هو الذي يقعد بهم عن مجاراة الأمم الحية وإلا فإننا نرى أضعف منهم بما لا يقاس يهتمون لمثل هذه الأمور أكثر منهم عَلَى أن كثيراً في رجال نهضتنا يودون عَلَى الأقل لو سكت عنهم قومهم وخلصوا من أعمالهم لا عليهم ولا لهم لا تنشيط ولا تثبيط وهذا سر من أسرار انحطاطنا العجيب.

في الكلية العثمانية اليوم 30 أستاذاً فيهم العربي والتركي والإفرنجي و30 موظفاً في أعمالها المختلفة وتقسم مدة التعليم فيها إلى ثلاثة أقسام القسم الابتدائي ومدته سنتان والقسم الاستعدادي ومدته أربع سنين والقسم العلمي ومدته أربع سنين أيضاً وفيها قسم للصغار من سن الخامسة إلى العاشرة يبلغ عددهم 3 طفلاً تقوم عَلَى تربيتهم معلمة مسيحية ومربية (قهرمانة) أخرى تنام معهم وتعنى بشؤونهم كما تعنى الأم بشؤون أطفالها. ينال المتخرجون من هذه الديار شهادة تعادل شهادة البكلوريا في المدارس الأخرى العالية وأهم ما يتعلم فيها من المعارف والعلوم واللغات وتعليم النافع من الآداب الدينية العالية وإعداد أذهان المتعلمين إلى قبول النور الجديد ممزوجاً بالنور القديم وتخريجهم في مضمار الارتقاء. وفي بيروت مدرسة ثانية ناجحة نشأت منذ ثلاث سنين لهمة رجل هندي محمد عبد الجبار أفندي خيري وهو رجل درس في كلية عليكر الإسلامية ثم جاءَ بيروت وتخرج في كلية الأميركان حتى أحزر هو وشقيقه محمد عبد الستار أفندي خيري شهادة معلم في العلوم فحدثتهما نفسهما أن يخدما هذه البلاد خصوصاً بعد أن درسا أحوال مرسلي الأميركان واطلعا عَلَى مقاصدهم وقام في ذهنهما أن يبشرا بالإسلام كما يبشر أولئك بالنصرانية فأنشآ هذه المدرسة بمعاضدة فئة فاضلة من شبان بيروت وتجارها فقاما بعملهما وإنكار النفس مبدأهما والغيرة الدينية دافعتهما وقد تشبعا بتعاليم الغربيين ولاسيما السكسونيين وعرفا بالخبر والخبر كيف تنجح الأعمال وتنضج وأي الأساليب أولى بالإتباع في التعليم. يدهش المرء من تقلل هذين الأستاذين ومن تقشفهما وصبرهما واستنارة عقلهما وتوقد الذهن والغيرة في نفسهما ويعجب أكثر إذا رأى الرئيس أحدهما يرحل في السنة الماضية إلى أوربا يدرس في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وإنكلترا طرق التعليم في مدارسها وكلياتها ويؤوب إلى هذا الثغر المسعود بخدمة المهاجرين إليه يطبق فيه عَلَى الطريقة الإسلامية ما يلائمنا من أوضاع الغرب. لا أعلم مدرسة إسلامية في سورية تعلم صغار الطلبة المبادئ العلمية بالعمل مثل دار العلوم فطريقتها في تعليمهم طريقة السكسونيين في حدائق الأطفال (كندر جاردين) تترك التلميذ يختار له بقعة من حديقة المدرسة يحرثها ويزرعها ويسقيها بنفسه وينظر فيما يلائم

مغروساته ومستنبتاته ثم يعلم مبادئ الجغرافيا والطبيعيات والرياضيات بالعمل دون النظر ومنه يتطرق إلى النظريات. كان يبلغنا من نجاح صغار الأولاد في القديم والحديث أمور كثيرة وها نحن رأينا اليوم صورة من صور الارتقاء المهم في تثقيف عقول الأطفال بحيث لا نغالي إذا قلنا أن صغار أبناء دار العلوم يعرفون من مبادئ الأشياء وحوادث الكون الصحيحة ما لا يعرف بمثله من الصحة والمكانة شيوخ هذا الزمان. والاستظهار لا حظ له في هذه الدار كما له في الكلية العثمانية وطريقة هذه أقرب إلى النواحي الإفرنسية وطريقة تلك إلى الطرق الإنكليزية السكسونية. لم نر في دار العلوم أسماء الخطط الكثيرة والمواد المنوعة التي تورد في برامج التدريس من قبيل الإعلان عن المدرسة وتنوع فنونها عادة بل وجدنا فيها العمل أكثر من القول والتأني رائد العمل والإخلاص لحمته وسداه رأينا فيها القليل رأينا فيها القليل الملقن والقليل من المسائل مع النظر البليغ فيها أفضل من حشو الذهن بالمواد النظرية ولو اقتصر من تعليم اللغات عَلَى العربية والتركية والإنكليزية أو الإفرنسية فيها لانطبقت عليها هذه النظرية كل الانطباق وذلك لأن اللغة العربية لغة البلاد والدين والتركية لغة السياسة والدولة ولغة واحدة من لغات أوربا تكفي فيما نحسب اللهم إذا جعل تعليم أكثر من لغة اختياراً وإلا فالعمر يضيق عن درس اللغات وإتقانها واللغات آلة لا غاية. مدرسة دار العلوم الخارجية والسعي لها متواصل لابتياع أرض لها واسعة تقام عليها بناية المدرسة ومما أعجبني فيها فتاتان مسلمتان تتعلمان بجانب الفتيان وبهما وبما رأيته من نجاحهما ذكرت طريقة الأميركان في التربية المشتركة فعسى أن تكون الفتاتان مقدمة لهذه الطريقة التي ثبت غناؤها في ديار الغرب فيذكرنا بما كان من دروس المحدثات والقارئات في عصور ارتقاء المسلمين في المساجد والجوامع وإنا لنرجو أن يزيد عدد طالبيها بمرور الزمن وعددهم الآن 170 طالباً يتخرجون عَلَى أدب النفس وأدب الدرس. ربما يتبادر للذهن شيء من قصور معنى الكلية الإسلامية وليس أحسن في الجواب عَلَى ذلك من نقل ما تقوله هذه الدار عن نفسها في بيانها السنوي سنة 1223 - 1911 قالت: نعني بالكلية العثمانية الإسلامية معهداً علمياً راقياً يدرس جميع العلوم والفنون التي تخول

المتخرج منه أن يكون حاصلاً عَلَى شهادة البكلوريا - أن يكون رجلاً تام الأدوات علماً وأدباً - وأن يكون ذلك الرجل الذي تحتاجه هذه البلاد بعلم راسخ وحقائق راهنة متزوداً حسن الخلق بعرى الوطنية متسلحاً بسلاح العلم والمعرفة. هذه غاية العمدة. وهذه هي الإصلاحات التي أدخلت إلى المدرسة (1) إصلاح التدريس الابتدائي وجعله سنتين مفردتين عن التدريس الاستعدادي والعلمي - ثم إتباع طريقة المشاهدة والحس في التعليم فيه - وتقوية مفكرة الشباب وتعويده عَلَى الاستنتاج - وأن يكون أغلب التعليم في هذا القسم باللغة العربية كما سيظهره بروغرام التدريس المفصل. (2) يجب أن يرقى التعليم الاستعدادي وأن تفصل إدارته ثم أن ينظر في الكتب التدريسية وخصوصاً العربية وأن تتبع لأساتذة الطرق الحديثة في التربية والتعليم - وقد سافر الأستاذ الرئيس إلى مصر وزار معظم مدارسها الميرية والأهلية من ابتدائية وثانوية وعالية وشاهد طرقهم في التعليم وبحث في الكتب المدرسية في اللغة والفنون واستصحب معه كتباً جمة تفي بالحاجة وتقوم بالمطلوب. (3) السعي الحثيث في أن يكون تدريس العلوم باللغة العربية مستعملة لذلك الكتب المؤلفة أما الموضوعات التي يؤلف فيها حتى الآن فإن الكلية ستقوم بها وتستعمل الأساتذة طريقة إلقاء المحاضرات وطبعها في مطابع جلاتينية تسهيلاً للتلامذة وحفظاً لتلك المحاضرات. (4) أوقات التعليم لا تزيد عن خمس ساعات يومياً مع زيادة الاعتناء في الرياضة البدنية والحركات الجمبازية التي تدرس تدريساً خاصاً. (5) تعين الكلية قهرمانة للاعتناء بالتلامذة الصغار في القسم الابتدائي وملاحظة ثيابهم ونظافتهم. (6) العلوم والفنون والموضوعات التي زيدت: الفلسفة الأدبية والأخلاق الدينية. المطالعة العربية لعامة الصفوف في الأقسام الثلاثة. تاريخ الآداب العربي. النقد التاريخي. علم المثلثات. علم الفلك. الفلسفة العقلية. علم الرسم. أصول التجارة والمراسلات فيها وجغرافيتها. (7) زيادة أوقات التعليم العملي في الكيميا والطبيعيات. وجلب الأدوات اللازمة لذلك.

(8) يجب أن يكون التدريس والكلام سواء من الأساتذة أو التلاميذ بالعربية الفصحى. (9) تخصيص قطعة من الأرض لبعض التجارب النباتية والزراعية. اللغة العربية: هي الأساسية في الكلية يدرسها التلميذ في كل صف من صفوفها في الاستعدادية والعلمية عَلَى أن التعليم الابتدائي إن لم يكن كله فجله فيها وذلك لأن اللغة العربية هي اللغة الأساسية الأصلية فإذا تمكن الشاب من لغته الأصلية يمكنه أن يتفرغ بعد ذلك إلى بقية اللغات الأجنبية - فتعين لها الكلية الأوقات اللازمة لإتقان الصرف والنحو وعلوم البلاغة (المعاني البيان البديع) واللغة والعروض وقرض الشعر والإنشاء والتعريب بحيث يتخرج الشاب ضليعاًَ في لغته عربي الأسلوب فصيح البيان كتابة وخطابة. والكلية تنشط همم الأساتذة عَلَى نقل العلوم الحديثة إلى العربية لتدريسها فيها لأن بذلك خدمة اللغة والأمة العربية. اللغة التركية - تبذل الكلية العثمانية جل جهدها لأن يكون ابن العثمانية متقناً لغة دولته الرسمية قراءة وكتابة وإنشاء وهي تخصص لها في الدائرتين الاستعدادية والعملية الأوقات اللازمة لإتقان فروعها من مكالمات ومفردات وصرف ونحو وبلاغة وإنشاء وأدبيات وترجمة. اللغة الإفرنسية - هي اللغة الأجنبية التي اختارتها عمدة الكلية لتدريسها درساً متقناً والاعتناء بتعليمها اعتناءً تاماً ليطلع التلميذ عَلَى كنه أسرارها وحتى يمكنه التبحر في مختلف الفنون الحديثة والعلوم العصرية. أما مواد تعليم هذه اللغة فهي الصرف والنحو والبلاغة والبيان والنقد البياني والإنشاء والمراسلات التجارية. والترجمة وتاريخ علم الأدب الإفرنسي. إن ما سبق ذكره من اللغات هي إجبارية في المدرسة واللغة الاختيارية هي الإنكليزية أو الألمانية فتعلم منها الصرف والنحو والترجمة والإنشاء والمراسلات. وعلوم الكلية (1) العلوم الدينية. القرآن الشريف. التوحيد. الفقه. عملاً وعلماً من عبادات وفرائض ومعاملات (مجلة الأحكام الشرعية) وعلم أصول الفقه. والفلسفة الأدبية من القرآن الكريم والحديث الشريف. (2) التاريخ من قديم وأجيال متوسطة وحديث وحاضر. والسيرة النبوية. وتاريخ العرب.

(3) الجغرافيا. الرسم الجغرافي. الجغرافيا التجارية. والجغرافيا الاقتصادية سيما كل ما يتعلق بالمملكة العثمانية والدول الشرقية. (4) الرياضيات. الحساب. الجبر. الهندسة. علم الفلك. المثلثات. مسك الدفاتر. (5) العلوم الطبيعية من مواليد ثلاثة (حيوان نبات جماد) علم خواص الطبيعة. الكيمياء. حفظ الصحة. (6) الرسم. حسن الخط. الموسيقى. (7) المنطق. الفلسفة. الاقتصاد السياسي. علم الأخلاق. (8) تاريخ الأدب العربي. خطب في روح الاجتماع والعمران. فن الخطابة والإلقاء. أما دار العلوم فلها الآن أربعُ مدارس: (1) المدرسة التأسيسية (2) المدرسة الابتدائية (3) المدرسة الاستعدادية (4) المدرسة الصيفية. (1) المدرسة التأسيسية - يراجع الرئيس بشأن هذه المدرسة. (2) المدرسة الابتدائية - هذه تؤهل طلبتها للمدرسة الاستعدادية. فهي تعلمهم الدروس الأولية في الموضوعات الآتية: - (1) القرآن الكريم والتعليم الديني (2) اللغات - العربية والتركية والإنكليزية والإفرنسية مع علم آدابها وفن الخطابة (3) الرياضيات - الحساب وأشكال هندسية بسيطة (4) الجغرافيا الوطنية والطبيعية (5) التاريخ - حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص وتاريخ حياة بعض عظماء الرجال والنساء. (6) علوم عصرية - مبادئ في معرفة المحيط القريب. إشارات في الموضوعات الأساسية من علم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والأتربة والمعادن والكيمياء والحكمة الطبيعية والفلك ومنافع أعضاء الإنسان وحفظ الصحة والهيئة الاجتماعية الخ. (7) الرسم (8) التمرين العسكري العثماني وألعاب رياضية. وهذه المدرسة تستغرق أربع سنين مدرسية ولغة التعليم فيها هي العربية فقط. (3) المدرسة الاستعدادية - يقصد بها تهيئة طلبتها لدخول المدارس العالية والكليات في الوطن وفي الخارج فهي تتقن الدروس الابتدائية في الموضوعات المشروع بها في المدرسة الابتدائية مع زيادة تفصيل ودقة وترتيب وتزيد عليها كما هو مبين أدناه: (1) التفسير والحديث وعلم الأديان وعلم الأخلاق ومبادئ أساسية من حكمة الإسلام. (2)

دروس أعَلَى في اللغات وعلم آدابها وممارسة أكثر في الإنشاء والخطابة (3) مراجعة الحساب ودروس في مبادئ الجبر والهندسة (4) جغرافيا المملكة العثمانية المفصلة والجغرافيا السياسية العامة. (5) تاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ الإسلام والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وتاريخ المملكة العثمانية ومختصر تاريخ أوروبا القديم والحديث. علوم عصرية - حث عَلَى إمعان النظر في الطبيعة والمحيط القريب وإيضاحات في الموضوعات الأساسية من علم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والأتربة والمعادن والكيمياء (6) والحكمة الطبيعية والفلك ومنافع أعضاء الإنسان وحفظ الصحة والهيئة الاجتماعية البسيطة (7) الرسم بالألوان (8) إتقان التمرين والتهذيب العسكري العثماني وبالاختصار يربى الطالب من كل الوجوه. وهذه المدرسة تستغرق سنتين مدرسية. أما لغة التعليم فتكون غالباً اللغة العربية إلا في العلوم العصرية وغيرها من الموضوعات التي لم تترق بعد في العربية والتركية. (4) المدرسة الصيفية - هذه أنشئت خصوصاً للطلبة المقصرين الذين يرغبون في تعويض ما نقصهم والتخلص من جزاء لتقصيرهم ليرتقوا صفوفاً أعَلَى وأيضاً للطلبة الذين ليس لهم عند أهلهم أشغال نافعة ويرغبون في تقوية أنفسهم لدروس السنة الآتية. العربية في الكلية كان المأمول من الكلية السورية الإنجيلية الأميركية أن تكون في مقدمة معاهد التعليم في هذه الديار في العناية بآداب العربية وإحياء مدنية البلاد وإدخال المدنية الحديثة إليها بحيث يأتي من تعليم المدنية العربية ممزوجة بالمدنية الغربية نوع من هذه المدنية النافعة. هكذا بدأَت تلك الدار ولكن عمدتها رأَوا أن يجعلوا سنين التقدم للغة الإنكليزية بدعوى أن العربية يضيق صدرها عن الإفصاح عن العلوم الحديثة ولا يتيسر لها أن تسير مع المستحدثات العصرية جنباً إلى جنب. وهذا الخلاف هو الذي حمل فقيدي العلم والآداب الدكتورين كرنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات عَلَى مغادرة منابر التدريس في صفوف الكلية وكانا من أعظم عمدتها العاملين لأنهما أيقنا أن التعليم بالإنكليزية مؤخر لنشر العلم في هذه البلاد وداع إلى تراجع الكلية عَلَى ما هو المشاهد اليوم وإذا قل النافعون النابغون في المتخرجين من هذا المعهد العلمي

العظيم وانصرفت وجهة نظر المعلمين إلى الاستخدام في مصر والسودان وأميركا فهاجر إليها خيار أبنائنا كانت الكلية معهم أشبه بمحطة توضع فيها البضائع أياماً تنقل إلى قطر آخر فليس لبيروت بل لسورية من هذه الكلية إلا أنها موطن لتعليم أولادنا عَلَى الطريقة التي تريدها تلك الكلية ثم الرحلة بهم إلى حيث تروج بضائعهم رحلة أبدية ووقتية. فإذا كان لهذه الكلية التي ما دخلناها مرة إلا ورأينا فيها مثال العظمة الأميركية وقوة المتحمسين الأميركان لبث دعوتهم الدينية ثم المدنية - هذا الامتياز وتلك القوة العلمية والمادية أليست حرية بأن تنفع البلاد التي أُسست فيها وعاهدت النفس عَلَى خدمتها أكثر مما نفعتها: وذلك بعنايتها بتدريس اللغة العربية تدريساً يحمد أثره ويطيب خبره ومخبره. وهذا لا يكون إلا بانتقاء خيرة الأساتذة لتدريسها كما يختار للإنكليزية عَلَى الأقل ونشر الأسفار في العلوم الحديثة والقديمة وإلقاء المحاضرات والخطب عَلَى الدوام بالعربية كما تلقى بالإنكليزية. ربما شق هذا القول عَلَى غير المنصفين من تلامذة الكلية وأساتذتها ولاسيما من رأَوا نيل شهادة البكلوريا منها هي غاية علم الأولين والآخرين وأن شهادة الطب أو الصيدلة أو التجارة منها هي جماع المعرفة والنجاح العالمي وأن من لم يسعده الحظ بالدخول إلى أبواب الكلية والجلوس عَلَى دكات صفوفها يستحيل عليه أن يتعلم تعليماً نافعاً إلى غير ذلك من الدعاوي التي طالما تجلت في أقوال كثرة من المتخرجين في الكلية وأفعالهم أو في نفوس من وقفوا أنفسهم عَلَى خدمة الكلية بما تريد ليعدوا في جملة معلميها وإن كانت عمدة الكلية لا تحسب أبناء العرب بل أرقاهم كعباً بمثابة أصغر معلم أميركي فيها مهما صانعوا أو تلطفوا مع الأميركان. ومن الغريب أن بعضهم كان يشكو من سلب إرادة المرؤوسين من الرهبان الباباويين وفناء إراداتهم في إرادة رؤسائهم فلما رأينا أساتذة العربية في الكلية الأميركية ثبت لنا أن مرسلي البرتستانت ليسوا أقل سطوة عَلَى نفوس مرؤوسيهم من أولئك الرهابين وما نظن أن معلمي العربية متى أيقنوا أن المدرسة محتاجة إليهم أكثر من احتياجهم إليها تعاكسهم في إصلاح طريق تعليم العربية وإحكام ملكتها بالصحف والكتب والخطب والدروس. ومن الأسف أن تكون الكتب المخطوطة والمطبوعات العربية في مكتبة الكلية أقل من

عشر المطبوعات الإنكليزية بل لا تكاد تبلغ بمكانتها جزءاً من عشرين جزءاً من مكانة الكتب الإفرنجية وإن ما في مكتبة الكلية من قمطر الكتب أدنى إلى أن يكون مكتبة فرد صغيرة منه إلى أن يكون مكتبة جمعية كبرى لها في المصارف المالية نحو أربعمائة ألف ليرة تتقاضى يعها السنوي. نعم إن مكتبة الكلية لا تفي بحاجة مشتغل واحد بالعلم فكيف تكفي في سد حاجة مئات المشتغلين وكذلك الحال في مجلة الكلية التي تصدرها عمدة المدرسة باللغة الإنكليزية والعربية وتجعل موضوعاتها الإنكليزية أمتع وأوسع والعربية تافهة عَلَى الأغلب. هذه الملاحظة التي نلاحظها عَلَى كلية الأميركان نلاحظها أيضاً عَلَى كلية القديس يوسف الكاثوليكية في بيروت فإن القول الفصل للغة الإفرنسية فيها يتضلع منها المتخرجون فيها أكثر من تضلعهم من الآداب العربية وما رأينا نابغة بالإنشاء العربي مثلاً تخرج عَلَى أساتذتها عَلَى كثرة من يعد القائمون بأعبائها من أسماء المؤلفين والمترجمين والتجار الذين درسوا في الكلية اليسوعية اللهم إلا إذا كان ممن لم نعرفهم ولكن ما يشفع لهذه الدار أن عمدتها جمعوا لهم مكتبة شرقية منقطعة القرين في هذه الديار وسمحوا للمنقطعين للتأليف والبحث من قسيسهم المتعلمين أن ينشروا ما طاب لهم من الأسفار العربية خصوصاً ما وافق غرضهم الديني وخدم أفكارهم ولو بالواسطة فكان من أثر ذلك أن نشرت المطبعة الكاثوليكية الملاصقة لهذه الكلية الكاثوليكية نحو مئة كتاب عربي وبعضه خلا من المسخ والحذف وإن نشروا في مجلة المشرق عدة رسائل نافعة في جنب ما ينشرونه من المقالات الدينية. هذا ما نراه في الكليتين العظيمتين القديمتين الأميركية والإفرنسية ولغة التعليم فيهما وما نشأّ لهما من الآثار وما يرجى لهما منها إذا عنيا أكثر من الآن بلغة البلاد فعسى أن يحل من نفوس القائمين عليهما المحل المطلوب وينزل منزلته من الإخلاص وإرادة الخير حتى يكون في سلبهما أبناءَنا بتعليمهم لغات الأجانب بعض التعزية في تعلميهم لغة أمهاتهم وآبائهم ليقووا عَلَى بث الفكر المقصود بين أهل جيلهم وقبيلهم. معامل السيوفي كما تأَمل الناظر في الأعمال الكبرى التي قامت بهمم الأفراد في هذه البلاد لا يراها تخرج

عن القاعدة التي جرت عليها عند أهل الحضارة الحديثة والقديمة فينجح في العادة من تمرنوا سنين عَلَى العمل الذي يريدون أن يتمحضوا له وعرفوه بدقيقه وجليله وفروعه وأصوله. فالناجح في أرباب المطابع هو الذي سبق له وتعلم في صباه صناعة تنضيد الحروف واستعمال الأدوات والكتابة عَلَى الحجر. والناجح في زراعته هو الذي يحسن معرفة الحرث والكرث بيده ويجيد البذر والتسميد والتشذيب والعزق والسقي والتعشيب وأنواع البذار وما يجود منه وأجناس التربة وما يصلحها وتربية الأشجار والنباتات والقيام عَلَى المواشي والناجح بعمل الأقمشة هو الذي يلم إلماماً مهماً بكيفية نسجها وحياكتها وضروب الحرير والكتان والغزل والصوف. بل والناجح ففي كل فروع الأعمال الاقتصادية والصناعية والتجارية هو الذي مشى في عمله عَلَى سنة الكون فبدأ صغيراً ونمت معارفه بتقدمه في السن فينال من النجاح بقدر جهاده وملاءمة الأحوال له وحالة محبطة وأسبابه ورأس ماله المادي والمعنوي. هذه المقدمة تنطبق كل الانطباق عَلَى إلياس أفندي جرجي السيوفي صاحب المعامل المشهورة به للتجارة والفرش في بيروت. كتبت لي زيارتها هذه المرة فرأيت صورة مصغرة من صور الغرب في بلاد الشرق وتمثل لي فضل الذكاء العربي وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دون وإن يد أبنائنا صناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا أو تكاد في أكثر البلاد لا تجد لها أثراً بيننا وهي ترجع إلى أسباب رئيسية مهمة أولها الصبر عَلَى العمل وثانيها تجويد العمل وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة وخامسها تنشيبط الآهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ عَلَى الصادر والوارد وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن البلاد الخارجية في الجملة. دلت معامل السيوفي أن الشرقي بمفرده أمة وأن الأمة بمجموعها ضعيفة بمعنى أن الشرقي يعمل مفرداً أحسن من عمله مجتمعاً وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه اليوم ولو كانت معامل السيوفي في

بيروت لشركة لما رأينا فيها هذا النظام والنجاح وبذلك صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقي أمة بمفرده والأمة ضعيفة بمجموعها وأن لا سبيل إلى قيام الأعمال الكبرى في بلادنا وإن نقدر لها النجح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحينا وتعلمنا تعليماً وطنياً اقتصادياً واحداً. وأي دليل عَلَى ذلك أفضل من أن نقول بأن صاحب هذا المعمل بدأ منذ 24 سنة وهو في الثالثة عشرة من عمره لا يملك غير ثمانمائة قرش ومعلومات جزئية في التجارة تعلمها في الممارسة ومنها ما أحرزه بقانون الوراثة لأن والده كان يعمل بالحرير وجده دمشقي يجلو السيوف في دمشق إن صح أن تؤثر الوراثة في الميل إلى الصناعة. ولا شك أن هذا الميل نما فيه مع الزمن وزيارة أوربا وما فيها من آثار العاملين والمفنيين فكان يتوسع في معمله بحسب سنة النمو التدريجي حتى بلغ اليوم مبلغاً يعد به مفخراً من مفاخر سورية الصناعية ونموذجاً من أنموذجات الذكاء الشرقي الذي يبدع ويجيد إذا تهيأت له الأسباب وحملته الدواعي عَلَى العمل. عَلَى هضبة من هضاب بيروت الجميلة في حي الأشرفية في مكان بعيد عن مركز حركة هذا الثغر يطل عَلَى سفوح لبنان وبيروت من جهة وإلى البحر الرومي من أخرى قامت هذه المعامل البديعة في بقعة فسيحة من الأرض تدخلها فتخل نفسك في إحدى معامل الغرب الكبرى وأول ما يبدأوك بعد الدخول من الرتاج ساعتان عن اليمين والشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلى بيوت صغيرة وفي كل بيت مقواة كتب عليها اسم أحد العملة وطبع عليها ساعات الغدو والغداء والرواح فمتى وصل العامل بعد الفجر وقبل الإشراق في الشتاء مثلاً يضع مقواته في بيتها فلا تلبث أن تكتب عليها ساعة مجيئه والدقيقة التي جاءَ فيها بحروف عربية وفي آخر اليوم أو الأسبوع يرجع إليها مدير العمل ويحسب المتأخر من المتقدم ويحسبون ذلك بموجب نظام خاص لم جروا فيه عَلَى مثال نظام العمال في سويسرا والبلجيك والنمسا وألمانيا ومن قوانين العملة في هذه الممالك اختار مؤسس المعمل أحسن ما يلاءم هذه البلاد وينفع في نجاح عملته ويعود عليه وعليهم بالربح واقتصاد الوقت. وهذه الساعة من أنفع ما يجب استخدامه في معاملنا ومطابعنا ودواوين أعمالنا وبيوتنا

التجارية والمالية ودوائرنا العسكرية والملكة ليتعلم قومنا مراعاة الوقت والتدقيق في حسابه حتى يبارك لهم بساعات العمل وأيام الحياة ويتعلموا أن التدقيق في المواعيد أحد دعائم التنظيم في فروع الأعمال ومن أهم أساليب النجاح الذي غفل عنه معظم سكان هذه الديار وعدوا من ينظم أوقاته ويدقق في وعوده واستقبال خاصته ومن لهم علاقة به في ساعات محددة متكبراً أو مهوساً. يباكر العملة في معامل السيوفي في الصيف والشتاء والخريف والربيع عَلَى السواء وينقطعون ساعات وقت الظهر ثم يعاودون العمل الي قبيل الغروب أو إلى بعده بقليل بحيث لا يتجاوز معدل ساعات العمل في اليوم تسعاً بخلاف عملة أوربا فإنهم يعملون في بعض البلاد كبلجيكا مثلاً زهاء اثنتي عشر ساعة ولكن للمحيط وكثرة الأيدي العاملة والعادة والإقليم دخلاً كبيراً في هذا الاصطلاح ولو لم تكثر هجرة المسيحيين بعد الدستور لوجوب الخدمة في الجندية عليهم وجوباً عَلَى إخوانهم المسلمين فانسل معظم من هم في سن العسكرية إلى أميركا أو غيرها من أبناء الطبقة الدنيا خصوصاً لما قلَّ بذلك عدد العملة في معامل السيوفي فليس فيها اليوم في حي الشرفية وداخل المدينة أكثر من 280 عاملاً مع أن الأدوات والأعمال التي اقتناها صاحبنا تشغل ضعفي هذا العدد فيستفيدون ويفيدون. أكثر ما يعمل في هذه المعامل منجورات الدور الخشبية وأنواع الفرش وأثاث البيوت ففيها تعمل كما تعمل في الغرب فتتأنق الأيدي والعيون في تجويدها وتساعدها الأدوات التي تدار بالفحم الحجري وتبلغ نحو الستين آلة ومناه لقطع الخشب وصقله وحفره وتقويره وتنشيفه فترى في خشب الجوز والزان من واردات الروم - (أناضول) والأكاجو من كوبا وشوح النمسا وسنديان أميركا والخشب البياسي من قيلقية (أطنة) تعمل في تلك الأدوات الحجرية وتحركها تلك المحركات والآلات كأنها العجين في يد خبازه أو الملاط بيد البناء الحاذق. قال لنا صاحب المعمل أن الآلة الكبرى المحركة في معمله هي بقوة مئة حصان تنفق في النهار 13 فرنكاً من الفحم وكانت الآلات التي هي أصغر منها تصرف من قبل أكثر منذ ذلك وبهذا يستدل أيضاً أن نفقات المعامل الكبيرة أدنى إلى الاقتصاد وأعمالها أقرب إلى الجودة من مصنوعات المعامل الصغيرة لاسيما والمعامل الكبرى تتجلى فيها قاعدة تقسيم الأعمال فنجد العملة في معامل السيوفي مقسومين إلى عدة أقسام قسم الأدوات وله وكيلان

وقسم النجارة وله وكيلان وقسم الحفر وله وكيل وقسم البرداخ وله وكيل وفي هذا القسم نحو أربعين ابنة تعمل فيه وللمحل رسام خاص وكلهم من أبناء العرب ليس بينهم إفرنجي حتى الأدوات قد جعلت في مواضعها بمعرفة صاحب المعمل دون الاستعانة بأحد من غير أبناء وطنه. تختلف أجرة العامل في اليوم من ستين بارة إلى ستين قرشاً ويحاسب عن أجرته كل يوم سبت من كل أسبوعين في الشتاء ويحاسب في الصيف كل سبت قبل الظهر ليتيسر له الخروج إن أحب إلى الجبل يصرف ليل الأحد وليل الاثنين فيه للنزهة ويقضي عَلَى كل عامل أن يعمل ستة أشهر تحت التجربة. أولاً ثم تحسم من مياومته أجرة أسبوعين تجعل في صندوق المحل حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من المعمل كل يوم أو كل أسبوع كما يفعل بعض العملة في المعامل ويتركون أصاحبها معطلين. ومن جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة كبرى وموائد يتناول عليها العملة طعام الظهر وآلة تضغط النشارة عندما توضع فيها وهي من اختراع أحد العمال هنا وتلقي بها إلى مكان بعيد خارج بناية العمل ومن هناك يبتاعها أرباب القمامين ومما رايته خارج المعمل من النظام رصف الطريق الموصلة إليه عَلَى نفقة صاحب المعمل وغرس بعض الأشجار عَلَى جانبيها ويبلغ طولها نحو كيلومترين. هذا ما رأيته في معامل السيوفي من النظام الذي لا أبالغ بأني قلما رأيته في معمل يرأسه شرقي ولذلك بصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغيراً سنة 1888 في مدينة بيروت وكبره سنة 1908 في حي الأشرفية عَلَى الصورة التي رأيناها اليوم ونفقة عمارته وأرضه وأدواته تساوي خمسة وعشرين ألف ليرة ولكن لا يتيسر لمن معه مئة ألف ليرة أن يقيم مثله بأدواته ونظامه إذا لم تسبق له معرفة كمعرفة السيوفي ولم يقض سنين مثله في النجارة ويحيط بما جل وقل من أساليب العمل وتجويده فليت كل أعمالنا تجري عَلَى هذا المثال من النظام البليغ والنجاح الأكيد.

جنون الاستعمار

جنون الاستعمار إذا قيل أن السياسة لا قلب لها فيقال أن جنون الاستعمار فنون فقد ساق الغرور دولة إيطاليا إلى أن تخرق العهود وقوانين الدول وتبعث إلى طرابلس الغرب وبرقة بمدرعاتها وجيوشها للاستيلاء بدون مسوغ قانوني عَلَى بلاد طرابلس وبرقة من يد صاحبتها الشرعية دولتنا العثمانية ولو أتت دولة شرقية مع دولة غربية ما أتته إيطاليا مع العثمانية لقامت الدول الكبرى يداً واحدة والله أعلم أي تعريض كن يقضين عَلَى المعتدية به ولكن السياسة لا قلب لها وجنون الاستعمار فنون. قال الرحالة روهلفس الألماني وقد زار صحراء أفريقية مرة ثانية سنة 1877: إن طرابلس الغرب مفتاح أفريقية فمن يملكها يملك السودان كله وفي الواقع أن البحر المتوسط يكاد يمس الصحراء من طرابلس وإليها تنتهي ثلاثة أو أربعة طرق من الطرق المهمة في الصحراء فمن طريق غدامس يوصل إلى السودان الغربي ماراً ببلاد توات وتومبكتو ومن طريق مرزوق وغات ينتهي الطريق إلى بحيرة تشاد وطريق بنغازي (برقة) يؤدي إلى النيل ودارفور ولكن هذه الطرق لا أمن فيها وخصوصاً في جهات فزان من الجنوب حيث ال + + ة والجياع من الطوارق قد يمدون أيديهم بالأذى إلى أبناء السبيل ولاسيما أيام المجاعات وما أكثرها في طرابلس وبرقة. وهذا ما منع فرنسا وغيرها من دول الاستعمار من قطع المطامع من طرابلس لأنها متنائية الأطراف وعمران الصحراء هو والعدم سواء وبلاد هذا حالها من الفقر الطبيعي يستحيل عَلَى شركة عاقلة في الغرب أن تقد عَلَى إنشاء خط حديدي يرابط أدناها بأقصاها عَلَى الأقل ولذلك كانت نقاط اتصال الصحراء بالبحر من البحر الأتلانتيكي وخليج غينية والبحر الأحمر يفضلها التجار وأكثر طرقها لا ماء فيه أربعة أو خمسة أيام عَلَى الوصول إلى البحر المتوسط من إحدى موانئ هذا الإقليم طرابلس ودرنة وبرقة وطبروق والسلوم. بيد أن إيطاليا تحلم بالاستيلاء عَلَى طرابلس قبل أن تؤلف وحدتها لتكون لها مركزاً تعتمد عليه بين جزيرة كورس الفرنسوية وثغر برزت التونسي وجزيرة مالطة الإنكليزية وثغر تريسته النمسوي فتجعل طبروق من إقليم برقة مرفأً حربياً في نقطة وسطى بين تلك الجزائر والثغور. ويقول أنصار إيطاليا أنهم إذا تم لهم ما تريد فإنها تنتفع من الوجهة الاقتصادية من برقة عَلَى الخصوص لأنها تشبه تونس بعمرانها وقد غرس اليونان الكرم

والزيتون في أرضها وفيها من غلات الإسفنج شيء كثير فتصرف فيها وفي غيرها مصنوعات معامل بيمون ولومبارديا وبالنظر لقرب طرابلس وبرقة من جزيرة صقلية الإيطالية ولكثرة سكان هذه الجزيرة يجيء بعض أهلها يستنبتون الحقول ويستثمرون المعادن في طرابلس. ولكن فات أولئك الباعثين أن ذاك الحلم عَلَى فرض تحقيقه والرجاء أن يخيب أن إيطاليا كانت تستطيع الوصول إلى هذا الغرض من إفادة بعض أبنائها من خيرات هذا الإقليم العثماني بأن تبذر في مشروعاته النافعة جانباً من أموالها فتنال ما تريد بحكم المنافسة بين أرباب الأموال والأعمال ولاسيما الأوربيين منهم كما هو الحال في معظم أصقاع المملكة العثمانية. فقد رأينا فرنسا وضعت ملايين من أموالها في شركات السكك الحديدية في المملكة العثمانية فحفظت بذلك نفوذها ونفعت تجارتها ومعالمها فكان عَلَى إيطاليا لو أحبت الانتفاع بسلام أن تجرى عَلَى آثار الفرنسيس جيرانها وبذبك يتوفر لها من النفقة كل يوم عَلَى بريتها وبحريتها منذ نحو ثلاثة أشهر بمئة ألف جنيه وهذا مبلغ جسيم بالنسبة لمملكة تطبق مفاصل ميزانيتها بضرب الضرائب الفادحة عَلَى رعاياها حتى هاجر منهم إلى أقطار الأرض حتى الآن زهاء ستة ملايين رجل. قضت إيطاليا بنظامها الجائر في التملك أن يترك الناس بلادهم تنعي من بناها وكان أهل صقلية أقاليم جنوب إيطاليا أكثر البلاد هجرة حتى أن بعض القرى خلت من السكان جملة وأكثرها هجرة ثلثا ساكنيه وأصبحت الحال هناك في شقاء ليس بعده شقاء وفقر وعهر لا يدرك غورهما فكر وناهيك ببلاد يهجرها رجالها ولا يبقى فيها إلا البنون والبنات والعاجزون والعاجزات. لمثل هؤلاء القوم يستعد الخاصة من الطليان كما تقول إحدى مجلاتهم منذ الزمن الأطول للسياسة الاستعمارية ومعظم الشعب الإيطالي لا يهتم بتاتاً بمستقبل المستعمرات الإيطالية كأرتيرة والصومال بل يتجشمون البحار إلى أميركا الشمالية والجنوبية هناك يعملون ويرتزقون. فقد بدأ الخاصة سنة 1905 يلقون محاضرات عَلَى الاستعمار وبعد سنتين أنشئ ديوان الزراعة الاستعمارية الإيطالي وغايته أن يوجه الإيطاليون وجهتهم إلى

المستعمرات الإيطالية ويتخلون عن قصد أميركا وغيرها من ديار الأجانب فأُنشئت لذلك حدائق للنبات الاستعماري في مدينتي رومية وبلرمة وهذا الديوان يتلقى من المصادر المختلفة معلومات عن زراعة البلاد التي يراد استعمارها وحيواناتها وموادها ومناخها ومقدار المطار التي تهطل فيها ويقوم بأبحاث جيولوجية من حيث مساحة الأراضي وخصائص شعوبها وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية وفيه تلقى محاضرات في زراعة المستعمرات وحفظ الصحة في الاستعمارية وهو يؤسس مدارس إعدادية للاستعمار وينشر مجلات وكتباً في هذه الموضوعات. وهذه النظريات لم تستطع إيطاليا حتى اليوم أن تطبقها عَلَى العمل إلا في بلادها الأصلية العامرة بطبيعتها مثل الولايات الشمالية وعَلَى كثرة ما يؤلفون من الشركات والجمعيات لإنهاض شأن المهاجرين الإيطاليين في أميركا فإن الإسرائيليين هناك كما أكد محققوهم أنفسهم أقدر منهم عَلَى الأعمال فإن قسماً مهماً من التجارة الصغيرة والعظيمة بأيدي الإسرائيليين وكذلك المصارف الكبرى والحكومة والوظائف العامة وعَلَى قلة عددهم لهم مكانة دونها مكانة الإيطاليين الذين يدعون أنهم من نسل غاريبالدي ومازيني وميكل آنجل وليونارد دي فنسي ورافاييل سانتريو وأمثالهم من أرباب الصناعات النفسية ورجال الإدارة والسياسة. نحن نعلم أن الطليان كثير نسلهم يباكرون إلى الزوج رجالاً ونساءً وإن نسبة السكان منهم إلى كل كيلومتر مربع أكثر من نسبتها في ألمانية ففي الكيلو متر المربع في إيطاليا 117 ساكناً وفي ألمانيا 104 أشخاص وقد ارتقت التجارة الإيطالية ارتقاء مهماً ولاسيما بعد أن توطدت أركان الوحدة الإيطالية وتألفت من تلك الممالك الصغرى البندقية وطوسكانيا وجنوة وغيرها هذه المملكة الكبيرة وإن دين إيطاليا قليل بالنسبة لسائر الممالك الممدنة ولكن كل هذه الصفات لا تبرر عملها عند العقلاء وسوف تعلم أنها لو صرفت نصف ما صرفته حتى الآن من المال والرجال في الأعمال العمرانية سواءٌ كان في بلادها أو خارجها لكان أحسن لها وأبقى. وما نظن أن إيطاليا تستطيعان تنزع من أرباب الأملاك أملاكهم في طرابلس مهما نوعت أساليب الحيل ففرنسا بعد استعمار الجزائر منذ سنة 1830 عَلَى شدتها في استعمارها لم

تتمكن من الاستيلاء عَلَى ما تحب من الأراضي كما يفعل الرومانيون في البلاد التي يفتحونها وينزعون من المالكين ويستعمرونها بأبنائهم غالباً والرومانيون أجداد الإيطاليون الأول وإلى اليوم لم تربح حكومة فرنسا من الجزائر بل هي تخسر عليها. فهل يعقل أن تتحقق أماني إيطاليا في طرابلس والخصب فيها في أماكن معينة وعي ملك لأهلها ولطالما دافعوا عنها دفاعهم اليوم من اعتداء الفاتحين وطردوهم من عقر دارهم. فإذا كانت إيطاليا تقصد الإثراء ونفع أبنائها فهذه الطريقة من أعقم ما لجأت إليه دولة مستعمرة من دول المدنية الحديثة فإن ثروة الناس لا تزيد باتساع ممالكهم فالصيني ليس أغنى من الفرنسوي مع أن سكان الصين عشرة أضعاف سكان فرنسا والألماني ليس أغنى من البلجيكي من أن سكان ألمانيا عشرة أضعاف سكان بلجكا وقد تضيق أرض بسكانها حتى يقل الرزق عليهم فيها فتضطر حكوماتهم أن تمتلك بلاداً أخرى كثيرة الخيرات قليلة السكان حتى تسهل عَلَى الفاضل من أهاليها المهاجرة إلى تلك البلاد والارتزاق فيها كما فعلت إنكلترا وهولاندا وجرت فرنسا وألمانيا مجراهما. ولكن إيطاليا لم تعمر كل بلادها حتى الآن فليس بها حاجة إلى فتح بلدان أخرى وتعميرها للارتزاق منها فإن عندها جزيرة سردينيا مساحتها أكثر من 9300 ميل مربع وليس فيها من السكان سوى 810000 نفس مع أن صقليا تماثلها مساحة وسكانها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف وعندها مستعمرة ارتريا في أفريقية عَلَى حدود السودان ومساحتها 45800 ميل مربع أي نحو نصف مساحة إيطاليا كلها وهي من أغنى بلاد الدنيا بالمناجم والحراج وليس فيها من السكان نصف مليون نفس وعندها بلاد الصومال ومساحتها نحو 140000 ميل مربع أي أكثر من مساحة إيطاليا بنحو ثلاثين في المئة وسكانها نحو 400000 نفس وهي بلاد زراعية كثيرة الخيرات فعَلَى م لا يهاجر الإيطاليون إلى هذين البلادين ويعمرونها إن كانت بلادهم قد ضاقت عليهم. وهب أن إيطاليا اهتمت بإصلاح طرابلس الغرب واستثمار خيراتها فهي إما أن تستأثر بذلك لتنحصر الفائدة فيها وفي سكان طرابلس فتكون قد جرت مجرى إسبانيا والبرتغال في استعمارهما فتفشل فشلهما لأنهما فشلتا فشلاً تاماً في كل البلدان التي امتلكتاها وحاولتا استعمارها ومنعتا غيرهما من مشاركتهما في النفع وأما أن تجري مجرى إنكلترا وهو فتح

أبواب مستعمراتها لتجارات كل الأمم وحينئذ لا يكون السبق للإيطاليين بل للإنكليز والألمان لأن السبق في المناظرة التجارية للأغنى مالاً والأوفر علماً والأمهر صناعة. وهيهات أن تعيش إيطاليا في طرابلس الغرب بتعب غيرها وإعنات أهلها فإذا فعلت يحل بها الخراب كما حل برومية في أيامها الخالية. يحل بها الخراب لأن فكرة العظمة الرومانية يضيق عَلَى إيطاليا الحديثة خناقها ويحرج صدرها فهي تريد أن ترجع إلى أصولها البعيدة وتطمع في غير مطمع ولا تتنازل عن عجبها. تريد بالتهور في الاستعمار أن تغتني وتعيد إلى رومية الثالثة مجداً أضاعته الأيام وفساد الأخلاق والنظام بل تطمع بأن تجعل ممالك أوربا حافات من حول عرشها تسبح بحمدها وتفاخر بمجدها كما طمع نابليون الأول فكان في ذلك إضعاف أمته بأسرها فأهرق دماءها ودماء غيرها وأفقرها وأفقر جيرانها وكان مصيره أسوأ حال. تحاول إيطاليا اليوم الدعوة إلى إعادة مجد الرومان بجميع أساليب الدعوة من نشر الصحف وإلقاء الخطب وإنشاء المدارس حتى أن الكتب المدرسية التي تعلمها للأولاد تعد فيها نيس وكورس وترانتن من بلادها مع أنها للفرنسيس تسير في ذلك عَلَى سيرة إحياء الشعور الوطني كما كانت تفعل الحكومة عندنا في كتب الجغرافيا التركية فتذكر فيها من أملاكنا ما فقدناه من نحو مئة سنة ولم يبق لنا حق من الحقوق الدولية والشرعية فيه. تظن إيطاليا أنها تحمل المهاجرين من أبنائها بمئات الألوف إلى طرابلس وفاتها أن هذه البلاد حتى اليوم عَلَى قربها من أوربا ليس فيها سوى 2200 مالطي و1000 إيطالي و700 فرنسوي و600 إنكليزي و150 إسبانيولياً وبعض الهولانديين والنمساويين واليونان والألمان والأميركان لا يبلغ مجموعهم كلهم خمسة آلاف نسمة وإن أكفأ الناس في التجارة والصناعة والزراعة واقدر الأمم بالملل والرجال هم يستثمرون الأرض فأين هم من الألمان فقد بلغ من حذقهم أن استولوا عَلَى كثير من أعمال التجارة في لندن ونيويورك بل في باريز نفسها وناهيك بكره الفرنسيس لأعدائهم الألمان ولقد قدروا مؤخراً عدد الألمان في باريز وضاحيتها بمئة وأربعين ألفا يتجرون في نفس عاصمة الفرنسيس بجميع أنواع التجارة وينافسون الفرنسويين في أرباحهم فتجد منهم الكتبيين والخياطين والجوهريين والفرائين وشركات الضمان والصيارف وغير ذلك من فروع العمل فلو تدبرت إيطاليا أو

خاصتها المفكرة لعلمت أنها قادمة عَلَى معترك شديد في طرابلس وبرقة ولو سلم لها ما تنويه من الغوائل الأهلية ولو سلم من كل ذلك لكانت العاقبة في الاستعمار لأرقى الأمم في مذاهب المعاش وأعرفها بطرق الانتفاع والنفع ولكن هو فساد الإدارة وجنون الاستعمار تركب الأمم في سبيلهما العار وتهوي في مهاوي الدمار والبوار.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات طبقات الأمم عرف الأب لويس شيخو اليسوعي مدير مجلة المشرق بما نشره من كتب العرب في اللغة والتاريخ والأدب دع عنك ما خدم به طائفته وجمعيته وآخر ما أظهر إلى الوجود كتاب طبقات المم لأبي القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462 ظفر بنسخة منه عند أحد الوراقين بدمشق والتحريف غالب عليها لأن ناسخها الأصلي منذ نحو مائتي سنة عامي لا يحسن النقل فعارض الناشر أكثر فصولها وردها إلى أصولها عَلَى كتب عربية من مطبوعات علماء المشرقيات مثل الفهرست لابن نديم وتاريخ الحكماء لابن القفطي وطبقات الحكماء لابن أبي أُصبعة ووعد في آخر جزء من المشرق أن ينشر الكتاب عَلَى حدة مع الفهارس اللازمة له. وقد رأينا أن نلفت نظر الناشر الباحث إلى أغلاط وقعت له أو للناسخ الأصلي ولم يعمل الناشر في نظره فيها فجاءت مشوهة لطلعة هذا الكتاب النفيس عله يتداركها فيلحق بها جدولاً في آخر الكتاب فيستحق شكر المعارف والآداب. فقد ضبط (ص 567 - 862) المرية بكسر الميم وسكون الراء وفتح الياء والصواب بفتح الميم ثم الكسر وتشديد الياء بنقطتين من تحتها وهي مدينة كبيرة من كورة البيرة من أعمال الأندلس وكانت كما قال ياقوت هي وبجانة بأبي الشرق منها يركب التجار وفيها تحل مراكبهم قال القسطلي: متى تلحظوا قصر المرية تظفروا ... لبحر ندى ميناه در مرجان وتستبدلوا من موج بحر شجاكم ... ببحر لكم منه لجين وعقيان وقال ابن الحداد: أخفي اشتياقي وما أطويه من أسف ... عَلَى المرية والأنفاس تظهره والمرية بالكسر (والضم أيضاً) الشك والجدال. وفي (ص 568) الشابران وقد وضع عليها علامة استفهام إشارة إلى أنه هكذا وجدها وهي من مدن أرمينية والران وأذربيجان ذكرها الاصطخري في المسالك والممالك (طبعة ليدن) ونيشابور والصواب نيسابور. (ص 569) يتجستان والصواب سجستان كما قال في

الحاشية وقعت ألفاظ من مثل هذه في هذا السفر أثبت الناشر الرواية الضعيفة في المتن وترك الرواية الصحيحة للحاشية وكان الأولى أن يعكس ليصب. (570) خ بحر أقيابس ص أقيانس خ ولا رؤيت بها ص رؤيت لها. (571) خ يدور فيها مناجم الأمم ص مماجد أو محامد (572) خ وخلقه إلى نهاية المعمورة ص وخلفه خ السمت (بضم السين) ص فتح السين وهو الطريق خ لأنهم أجمعين مشتركون لأنهم أجمعون. ولا معنى لجملة: هذا التأليف الأليف العقل. (573) خ السباع التي تغاضي الإنسان أقدامها ص تقاضي خ وكذلك قالت العرب ص ولذلك (584) خ ولأنها حازت عَلَى الملوك وسط ص ولأنها فازت عَلَى. خ وأشدهم أسرا ص وأشدهم أشراً والأَشر البطر والنشاط. (575) ليستحبوا بذلك قواها ص ليستجلبوا أو ليسحبوا (576) في الفرقتين الأولتين (كذا) ص الأوليين وكان عليه أن يثبت الصواب وقد تكرر رسم الأولتين في مكان آخر (670) خفي المقالتين الأولتين ص الأوليين خ في المقالتين الآخرتين ص الآخريين. (577) خ أوجز حساب واحضره ص وأخصره خ ي حسن التواليد ص حسن التوليد خ في تقدمة المعرفة ص تقدم المعرفة (578) خ وتحملهم (بتشديد الميم) من الأمور ص وتحملهم بكسر الميم بدن تمديد خ وأحسن التئام ص حسن التئام خ أول ملوك بني إسرائيل ص أول ملوك بني سامان أو ساسان (579) خ يزدجرو بن شهريار ص يزدجرد بن شهريار خ وجود التدبير ص وجودة التدبير (581) خ وكان عرضه ألف وخمسمائة ذراع ص وكان عرضه ألفاً خ وكان بعد الطوفان عدة منهم عدة ذوو معرفة ص وكان بعد الطوفان (665) خ الثغور الخزروية ص الثغور الخزرية (668) خ طيماوش الروحاني ص طيماوس ومثلها نيقوماخوش والصواب نيقوماخوس (669) خ وجعها آلة ص وجعلها آلة. (671) خ مثبتة أساسها مزمومة قواعدها وثيق بنيانها ص مدعومة قواعدها خ اليد الحليلة ص اليد الجليلة. (672) خ ومنها رسالته جاوبه بها ص ومنها رسالته التي جاوبه بها خ الذي كان فيه البدرة (وقال في الحاشية لعله أراد البودة) والبودة متعين خ أقصدهم بكتب الفلسفة ص

أقعدهم. (673) خ وراد عليهم آراءهم بالحجاج (كذا) الصحيحة ص بالحجاج الصحيح أو بالحجج الصحيحة (675) خ أوعشطش ص أوغسطس (676) في غاية العلماء من بعده التي يحيرون. إليها وضع الناشر في الحاشية يجرون إليها مع أداة استفهام مع أن يجرون متحتم أو يقال يصيرون خ إلا ما لا خطب له ص خطر له خ اشتقت لها من سبعة أشياء ص من سبعة أسماء. (678) خ ونحل مذاهب الحكماء ص ونخل بالأعجام خ بأن يجمع العالم في واحد ص أن يجمع (680) خ في عدد اليونانيين ص في عداد. (754) خ فإن كان ذلك حق عنهم في أبعدهم في هذا الرأي من نظام الحكمة ص فإن كان ذلك حقاً فما أبعدهم (758) خ فلا يزالون في حل وترحال ص في حال وترحال. (759) خ وآراء الفرق مع أن عبدة الأوثان ص من أن عبدة الأوثان خ ولا واربة صاحب العقل ص ور دان به صاحب العقل. خ ما تعبدهم (بضم الباء وتشديدها) إلا ليقربونا إلى الله زلفى ص ما نعبدهم (760) خ والعرب أصحاب حفظة ورواية ص حفظ ورواية (762) رؤبت إلى أقاصي الأرض فأريت مشارقها وسيبلغ ملك أمتي مارؤي لي منها ص زويت لي أقاصي الأرض. . . . مازوي. وفي النهاية لابن الأثير (طبعة مصر) زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها أي جمعت يقال زويته أزويه زوياً. خ حكم من الله ماضياً وقضاه منه نافذاً ص حكمً من الله تعالى ماضياً وقضاء منه نافذاً. (763) خ من أحصائه لمنتحليها ص أخصائه (767) وقلما يشفع بها في العلوم ص ينتفع بها (768) خ ودنا أقواماً ص دانى أقواماً (769) خ وكان أبو نصر الفارابي معاصراً لأبي بشر متى بن يونس في علم المنطق تعديل العلماء ص لأبي متى بشر بن يونس وعَلَى تأليفه في علم المنطق تعديل العلماء. (846) خ عبد الله المرورزي ص لعله المروَزي أو المروُّذي كما في المشتبه في أسماء الرجال للذهبي (طبعة ليدن) (847) خ وكان ذلك (صبياً؟) إلى التمرس بها ص سبباً إلى التمرس بها (848) خ ذي نؤاس ص ذي نواس ومثلها التي بعدها بسطر (849) خ المرآي المحرقة ص المرائي المحرقة. خ وكان (مذهب منه إلى مذاهب ص وكان يذهب

فيه مذاهب. خ والجماعة سواهم ص وجماعة. (852) خ واتخذ القوط مدينة طليطلة مدائنها العتيقة قاعدة لملكهم ص من مدائنها خ ولم تزل مركز الملك المسلمين ص ولم تزل مركزاً لملك. خ عظيم ملوك الأندلس. وأهل بلاد الأندلس عرض المدينة المعروفة الجزيرة الخضراء ص عظيم ملوك الأندلس وأهل بلاد الأندلس. عرض الخ أي بدون نقطة بين ملوك الأندلس وأهل بلاد الأندلس وعرض المدينة الخ راجع إلى ما قبل أربعة أسطر وعرضها (طليطلة) 39 درجة الخ. (853) خ وكان عالماً لحركات الكواكب ص بحركات خ وبمصر من الزني (كذا) والربيع بن سليمان ص المزني وهو من الأئمة المجتهدين في مصر توفي سنة 264 واسمه أبو إبراهيم إسمعيل بن يحيى (راجع ترجمته في حسن المحاضرة للسيوطي طبعة مصر). (854) خ أنا كفرت بما قالا وما فعلا ص أني كفرت الخ خ وذلك في أيام أبيه إلى الغاية بالعلوم وإلى الثبار أهليها ص لم نفهم معنى الثبار وفي الجملة تشويش ومثله في (856) فداول عناية الحكم ذلك لم يظهر لنا فليحرر (861) خ كان بصيراً بالهندسة في النجوم متقدماً في اللغة ص كان بصيراً بالهندسة نافذاً في النجوم أو ما في معناها خ وولي القضاء الزتية آخر دولة زهيرة العامري ص وولي قضاء المرية آخر دولة زهير العامري. وذلك لأن زهير العامري تغلب عَلَى المرية وأعمالها وذاك الرسم المحرف أدنى إلى أن يكون المرية (راجع المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي طبعة ليدن مصر). (862) خ بعلوم البرهان واللسان والمسائلة. ص ومسائله خ نال هناك دنيساً عريضه ص نال هناك دنيا عريضة (863) خ له مع ذلك نقود في العربية ص نفوذ في العربية خ كانوا مشهورين بأسمائهم عندنا بالأندلس إلى هنا وفي وزماننا ص (إلى هنا) زائدة زادها منضد الحروف كما كرر سطراً بعد ذلك (924) خ أفراد من الأحداث متندبون بعلم الفلسفة ص أفراد من الأحداث مبتدئون بعلم الفلسفة لا منتدبون ولا متندبون (952) خ وصنف في مصنفات كثيرة ص وصنف فيها (العلوم الشرعية) (926) خ ولأبي محمد بن حزم بعد تصنيف وافر في علم النحو ص نصيب وافر (928) خ تمكنه في العلم وتحققه مذاهب للقدماء ص تحققه في مذاهب (930) خ ودخل البصرة ومصر ودبر مارستانهما ص ودبر

مارستانيهما. خ وكان في زمان ابن عبدون وبعده إلى آخر الدولة العامرة ص الدولة العامرية. وهي إحدى حكومات الطوائف بالأندلس جدها عامر الداخل إلى الأندلس مع طارق وجاور الخلفاء منهم بقرطبة جماعة أحدهم أبو عامر محمد بن الوليد الذي عرف آل عامر طراً به وساد بعده ولده عامر (راجع أخبارهم في البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشي طبعة ليدن). (931) خ حسن التوليد والتنتيج ص ولعله الاستنتاج. خ ولم يكن أحد بعد محمد ابن عبدون أبوزي أبا العرب ص يوازي أبا العرب (934) خ تطريقه للفضول وتطريفه لما غلظ ص تطريته للفضول (936) خ أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليفة ص بدء الخليقة. خ يسمون كل تسعة عشر سنة ص كل تسع عشرة سنة خ الحادية عشر والرابعة عشر والسابعة عشر والتاسعة عشر ص الحادية عشرة بإثبات تاء التأنيث فيها كلها لأن الضمير يعود إلى السنة. (937) خ تفرقوا في البلاد ودخلوا الأمم ص وداخلوا الأمم خ لطيف الذهن حسن النظر أخفر ص لعله اضر لأن أخفر لا معنى لها هنا خ واتصلت به العناية فسيوفي علي صناعة الفلسفة ويستوجب فنون الحكمة ص فسيوفي لا معنى لها والأولى يستوعب بدل يستوجب لمطابقته للمعنى خ والتعريف بنبذ من تواليفهم ص والتعريف بنبذة بفتح النون وضمها ولا تجمع ويغلط فيها كثيرون. هذا ما أمكن الوقت رده إلى الصحة من غلطات هذا الكتاب ومناه ما تركنا الإشارة إليه عمداً ولعل ناشره أو غيره من المدققين ينظرون فيه نظره أبلغ فيبرزون الكتاب منقحاً في الجملة عَلَى ما يجب ويحبه الراغبون في إحياء آثار السلف. المعارف (الكتاب الأول في علم الفلك) تأليف عبد الوهاب أفندي سليم التنير ومحمد طاهر أفندي التنير طبع في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1329 ص 82 لمؤَلفي هذا الكتاب يد طولى في العلوم واضطلاع بالنقل عن الإفرنج في الموضوعات التي تهم هذه الديار وتفيدها وفد أَلفا الآن مختصرات في علم الفلك والطبيعيات والكيمياء

والظواهر الجوية والجغرافية الطبيعية والحيوان والنبات ونشرا القسم الأول والغرض منها إحياء قو التصور في الولد لمعرفة قدرة الله تعالى وتنبيه إلى ما قد سخر الله تعالى من الأشياء المفيدة فلا يشب حتى يشمر عن ساعد الجد فينقب عن الكثير منها مما لا يزال مجهولاً فيكتشف فينفع الخلق وتنبيه إلى النظر والملاحظة إذ بذلك يزداد إدراكه فيرى حقيقة قدرة الله تعالى بما خص الكون من العجائب. وقد اعتمد المؤلفان عَلَى تأليف هولدن في المعارف وهو يعلم في أكثر مدارس الولايات المتحدة وكندا وإنكلترا وحذوا حذوه في نسقه واعتمدا عَلَى بعض الكتب العربية العلمية القديمة لوضع الاصطلاحات العلمية. والكتاب عَلَى طريقة محاورة بين أخوات وأبناء عم كانوا في الجبل فرأوا أقمار السماء فحدثهم كبيرهم بمعلوماته مختصرة يتشربها الصغير بل كل من لا عهد لها بهذا العلم الجميل. وقد عدلا في التأليف الأصلي ما جعله كأنه أُلف بلساننا مباشرة يستشهدان بآيات الكتاب العزيز عند الاقتضاء ويقولان أن العرب ولاسيما في الأندلس كانوا كأهل الغرب اليوم يعلمون الأولاد مبادئ العلوم العالية كعلم الفلك والطبيعيات وطبقات الأرض وغير ذلك من العلوم بأسلوب سهل وأن أهم علماء الفلك من القدماء هم العرب وقد اكتشفوا أشياء كثيرة في علم الفلك ولذلك ترون أن أكثر أسماء النجوم والكواكب هي عربية وقد أوضحا الكتاب بما حلياه من الرسوم فجاء علمياً عمياً ككتب الغربيين العلمية جدير بأن يطالعه من لهم ولوع بعلم الهيئة القديمة ومن تتسرب الخرافات إلى نفوسهم فيحكون عن صور الأفلاك أموراً لم تكن ففي جلسة يطالع المطالع هذه الحلقة الأولى من تلك السلسلة النافعة وإذا أراد الإمعان لا الاستظهار - لأن المؤلفين لا يقولان به بل يريان الاكتفاء بالقراءة والفهم فقط - يحتاج إلى بعض جلسات عَلَى الأكثر فيكون أخذ ما ينبغي له من هذا العلم بل ينبغي لمن أراد الاخصاء فيه أن يرجع إلى المطولات والمتوسطات وما أكثرها في كل علم وكل لغة من لغات الغرب. فللمؤلفين الفاضلين جزيل الشكر من خدمة العلوم بالعربية لثم معرفتها أهلها وكنا نود لو انتبهنا قليلاً لبعض الأغلاط النحوية والصرفية والبيانية التي وقعت في الكتاب ونود تصحيحها في الطبعة الثانية كما نرجو أن تكون تتمة السلسلة خالية من مثل ذلك ليكون العمل تاماً من كل وجه عَلَى أن مثل ذلك لا يقدح في نفعه ولكن ما ينشر ينبغي

أن يكون إلى الصحة ما أمكن حتى لا يعتاد أولادنا غير الفصيح فتكون كتب العلم من جملة المساعدات عَلَى إحكام ملكة البيان أيضاً. تقويم البشير تأليف الأب لويس معلوف اليسوعي طبع بمطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1911 ض204 اعتادت هذه المطبعة في بيروت منذ خمس وثلاثين سنة أن تصدر تقويماً سنوياً يعنى بتأليفه أحد الآباء اليسوعيين فجاء تقويمها هذه السنة حافلاً بالفوائد ونحو ثلثه ينفع المسيحيين خاصة والكاثوليك عَلَى الأخص كتقويم السنين والأعياد والأصوام والإقطاعات وذكر الرؤساء الروحيين ومجامعهم ودواوينهم وجداول في السنة الشمسية والقمرية والمالية وتحويل النقود ثم مختصر في التقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية وقد أطلق عَلَى الروم إيلي (تركية أوربة) وهو اصطلاح إفرنجي سقيم لا يجوز أن يطلق عَلَى بلاد الدولة العلية لأن المملكة ليست للأتراك وحدهم بل هي لاثني عشر عنصراً ومنهم العرب نصف هذه العناصر فالأولى أن يقال لها روم إيلي تركية آسيا الأناضول أو آسيا الصغرى كما قال المؤَلف وقد تابع تقويم غوتا في إحصاء سكان الولايات ومساحتها ونظن بعضه مبالغاً فيه وبعضه دون الواقع كقوله أن سكان مدينة دمشق 200 ألف وسكان بيروت 85 ألفاً وسكان حلب 35 ألفاً فإذا اعتبرنا الإحصاء الرسمي في دمشق مثلاً نراها أكثر من ذلك وهي لا تقل في الحقيقة عن ربع مليون وبيروت لا تبلغ في الإحصاء الرسمي هذا القدر. وتوسع في الكلام عَلَى لبنان وبيروت وإدارتهما وحكومتها حتى ذكر بجانب اسم كل موظف لبناني دينه وأفرد جدولاً بأسماء جرائد سورية ومجلاتها الباقية والزائلة وأسماء قناصل الدول في المملكة العثمانية وأماكنهم وفوائد وأمثالاً وبعض قوانين جديدة مثل قانون المطبوعات والمطابع والجمعيات وغير ذلك من الفوائد فنثني عَلَى مؤلفه ونرجو أن يزيده فوائد تاريخية وأثرية عن سورية ليسد في السنين المقبلة بعض الحاجة ويغني عن التقاويم الرسمية (سالنامات) التي كانت تصدرها ولايات بيروت وحلب وسورية قبل حرية المطبوعات الأخيرة وتضمنها من المواد ما يستفاد من أكثره ولاسيما ما يتعلق بالحركة العمرانية في البلاد أما الأخذ عن تقويم غوتا فلا يبرر العمل في اقتباس مواد هي منا عَلَى

طرف الثمام لا تحتاج إلا إلى قليل من البحث والعناية. كتب ورسائل مختلفة سلم الدروس العربية للمكاتب الابتدائية وهو الحلقة الأولى من كتاب الدروس العربي يشتمل عَلَى الأهم من أصول الصرف والنحو مع الأمثلة والتمرينات ويليه الحلقة الثانية وقد طبعت بعنوان القسم التمهيدي تأليف الشيخ مصطفى الغلايني طبع في المطبع الأهلية في بيروت عدد صفحاته 64. بشرى العالم بترك المحاربات واتفاق الأمم - تتضمن البشارات الإلهية والبراهين العقلية بقرب حصول السلام بين الأنام تأليف فرج الله أفندي زكي الكردي طبع بمطبعة كردستان العلمية بمصر سنة 1329 هـ ص 111. الإنجيل الشريف - بحث نظري تاريخي نقدي للأب أنطوان رباط اليسوعي طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1912. باكورة الكرم - خطابان وقصيدة تليت في احتفال غرف القراءة الوطنية في بحمدون (لبنان) طبعة بمطبعة الحسناء في بيروت. الجامعة المصرية - كراسة باللغة الإفرنسية ذكر فيها رئيس لجامعة المصرية الأمير أحمد فؤاد باشا خلاصة أعمال هذه الكلية العربية الجامعة مدة ثلاث سنين طبعت بالقاهرة. رسالة تسهيل المنطق - تأليف الشيخ أحمد الصابوني طبعت بمطبعة حماة سنة 1329. خليل الخوري - سيرة هذا الشاعر جمعت باهتمام إدارة حديقة الأخبار في بيروت وطبعت في مطبعتها سنة 1910.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار بحر الصحراء اقترح بعض العلماء منذ 29 سنة أن يسعى بتحويل صحراء أفريقية إلى بحر داخلي قائلاً أن هذه الصحراء الرملية ليست سوى سطح قديم من بحر جف وهو عَلَى طول ألفي كيلومتر فوق مستوى المحيط الأتلانتيكي وقد زيف بعضهم هذا الاقتراح وعده رابع المستحيلات إلا أن أحد العلماء عاد فجدد اليوم هذه النغمة مبيناً منافع هذا المشروع وأن الوصول إليه لا يقتضي له صعوبات ميكانيكية مهمة فتمتد بذلك المياه عَلَى محيط من الأرض يوازي نصف مساحة البحر المتوسط فتخصب بالبحر وهوائه تلك الأصقاع الأفريقية الواسعة لأن إجدابها ناشئٌ من قلة المياه ويسقط ألوف من البشر عَلَى ما يتبلغون به في أرض ليس فيها اليوم إلا الشقاء والجوع ويجود هواء البلاد الواقعة في شمالي أفريقية فتصبح مثل بلاد الناتال من هذه الوجهة. وقد ردوا هذا الفكر في العالم العلمي قائلين أن التغيير في مناخ أفريقية يؤثر في مناخ شمالي أوربا الذي يوشك أن يكون كمناخ القطب الشمالي وبذلك تتعذر الحياة فيه وتغرق إنكلترا وبلجيكا والدانيمرك في الثلوج أشهراً وربما حدثت من ذلك كوائن وأحداث جوية وأرضية ليست في البال. فحتام تحيل مدينة الغرب البحر براً والبر بحراً. المحسن كارنيجي ضاقت الولايات المتحدة عَلَى رحبها عن استيعاب حسنات المحسنين من أبنائها عَلَى العلم والإنسانية وأخر ما جادت به يد المستر كارنيجي المثري الشهير 125 مليون فرنك لنشر التعليم في الولايات المتحدة هذا عَلَى حين كان حتى اليوم الباسط يده بالعطاء عَلَى كل مشروع خيري وعلمي حتى بلغت عطاياه 1129 مليوناً في حين بلغت هبات روكفلر الغني الأميركي 813 مليون فرنك فقط ومازال كارنيجي يتوسل بكل ما يمكن من الذرائع ليرد للأمة ما كسبه من خيرها ويود لو قضى نحبه وهو لا يملك ريالاً واحداً قائلاً: من أعظم الجنايات أن يموت المرء غنياً. آثار في السامرة تتوفر في كلية هارفرد الأميركية عَلَى الحفر في فلسطين برئاسة الأستاذ ليون للبحث عن

الآثار وآخر ما ظفر به أحد أساتذة هذه البعثة الأثرية نموذجات من الخط العبراني أقدم كثيراً مما عرف من نوعها حتى الآن وهي عبارة عن 75 قطعة تشير كل منها إلى جودة الخمر والزيت المحفوظ في أوان منوعة الحجم ويرد تاريخها إلى ستة قرون قبل المسيح وقد وجدت في قصر الملك أشاب من بلاد السامرة (نابلس) والخط المرسوم بالحمرة وبالقلم هو فينيقي ويختلف كل الاختلاف عن الحروف المربعة المعروفة في النسخ الخطية من التوراة. ويرى رئيس هذه البعثة أن هذا النموذج مستند مهم في حل المسألة التي طالما جرى الجدال فيها في أصل اللف باء العبرية وأصلها الفينيقي. الأولاد المهملون عرفت أميركا منذ زمن طويل أن الشبيبة وقوة الشعب من أكبر العوامل في الغنى المادي إن لم تكن أكبرها وغنه ليس أصعب من فقد قوى الشباب بإهمال آداب الأولاد إهمالاً كثيراً ما يجئ به منهم مجرمون جانون ولذلك أنشأَت دوراً لإصلاح النفوس بحسب قواعد علم النفس الحديث. فقد دلت سجلات دار الإصلاح في ميشلفيل من ولاية أيوفا وما وضعته من إحصاء أعمالها أن عدداً عظيماً من البنات نكبن منذ حداثتهن باجتراح الرذيلة وكن لولا دخولهن تلك الدار من أليفات السجون فأصبحن بعد مغادرتهن هذا المعهد ينظمن حياتهن فيكون منها فائدة حسنة فقد ذكرت إحداهن أن أباها كان شريباً خميراً اعتاد أن ينزع عنها ثيابها ويجعلها عَلَى منضدة ليرقصها أمام رفاقه في السكر ويسقها ويسليها فتخلقت بالطبع بأخلاق محيطها وبدت فيها هذه الأخلاق عَلَى أتمها عندما تبنتها إحدى السر الشريفة فلم يروا أبداً من وضعها في الدار الإصلاح تقضي فيها سنتين اعتدلت في خلالها أخلاقها وميولها بحيث استطاعت بعد خروجها من هناك وعمرها خمس عشر سنة أن تجد لها عملاً شريفاً فتعلمت الاستملاءَ السريع وهاهي اليوم امرأة شريفة متزوجة. وقصة فتاة زنجية قصة فقالت أن نفسها كانت حدثتها أن تقتل من تبنوها ونزعت من قلبها كل خلق شريف وبعد بضع سنين من دخولها دار الإصلاح تغيرت بالمرة ولما غادرتها ذهبت تدرس في كلية العبيد وهاهي اليوم تخص حياتها وفكرها لنشر الدعوة إلى المدنية بين بنات جنسها.

وقد وردت في هذه الدار جملة تلامذتها القدماء رئيسة أمينات المال في إحدى المصارف الكبرى ومحامية مشهورة بأنها من نساء السياسة المنظورين إليهن ولولا دخولها في هذا المعهد لما استطاعت تلك الأمينة ولا تلك المحامية أن تتوقيا محيط اجتراح الجرائم الذي قضتا فيه شبيهتهما ولكانت كلتاهما سقطتا في الطبقة السافلة من ساكنات المدن العظمى. وطريقة هذه الدار مبهمة معقدة للغاية لا تستند إلى تعليم خاص ساذج ولا إلى عمل خاص معين بل هي عبارة عن تغيير عادات الطفل وخلقه بالطرق المنظمة العلمية ويتوخى هذا المعهد في فرقة البنات أن يثير فيهن حاسة الزينة لينبه فيهن الشعور الشريف فيعلمهن أن يكن معجبات بألبستهن وأن يخترن النظافة فيها وأن يقمعن أنفسهن ويكن لائقات أديبات وترعي في ذلك الأذواق الخاصة فتمنى فيهن ويعنى بها. كل يوم يقرع جرس هذه الدار عند الساعة الخامسة صباحاً تستيقظ البنات في الساعة السادسة يقضى عليهن أن يجتمعن لابسات لباساً نظيفاً ليتناولن طعام الفطور ثم يعمدون إلى سررهن فيرتبنها بأيديهن وفي الساعة السابعة بعد إنشاد أنشودتين لطيفتين يبدأ الدرس العام فينقسمن إذ ذاك إلى قسمين منهن يدرس دروساً نظرية والآخر يتعلم دروساً عملية من مثل الطبخ والغسيل في الحديقة ومعمل النجارة وتتبدل حقل التعليم بعد الظهر وتناول طعام العشاء الساعة الخامسة إلا ربعاً وفي الصيف يتنزهن في الخلاء زفي الشتاء يخصصن ساعات من وقت الدرس والتلميذات تطلق لهن حريتهن من الساعة السابعة إلى الساعة الثامنة فيعملن ما أردن وفي الساعة الثامنة يذهبن للنوم وفي كل قبة من القباب التي تتألف منها أبنية المدرسة يكون خمسون ابنة تحت إدارة امرأة يدعونها بأُمهن وتكون بمساكنهن أشبه بمنازل الأسرات لا بمساكن مدارس وإن تلك المعاهد ما حوت من اللطف والسذاجة الساكنة لتبتعد جداً عن الشبه بالسجون ولا يفارق الأولاد هذه الدار قبل سن الحادية والعشرين إلا البنات بحيث يؤمن عليهن بما يتهيأ لهن من الدرس ولاسيما بما لقن من حسن السيرة والأخرق والنظام أن يجرين في المستقبل عَلَى حياة منظمة وكثيرات منهم بعد تخرجهن في هذه الدار يستخدمن خادمات في بيوت خاصة وكثيرات يستخدمن في محال تجارية ويكن مربيات ومشتغلات بالفنون النفيسة. وشعار هذه الدار أن تنبه في تلميذاتها العواطف الشريفة التي كانت أطفئت جذوتها بالإهمال الذي كان أَليفهن بين ذويهن.

أولادهم أولادنا ولو كلن الغرب يكيل لأبنائه بمثل الكيل الذي يكيل به لأبنائنا في الشرق لقلت الفروق ومشى البشر خطوات مهمة نحو الإخاء العام والسلام الشامل هكذا شان مرسليهم في مدارسهم في الشرق وهكذا شان حكوماتهم في البلاد التي امتلكوها في آسيا وافريقية وجزر المحيطين. وإنا لنلوم الكلية الأميركية في بيروت كلما توفر العناية بأبناء البلاد فقد عزلتهم في مكان خاص ووضعت لهم أساتذة خصوصيين يعلمونهم غير التعالم التي يعلمونها أبناء البلاد كان العلم كالطعام في بيت شحيح يطعم من أنواعه ما طاب له ويمنع عن خدمته وإجراءه الأطايب ويقتصر فيه عَلَى الرخيص نفعهم أو لم ينفعهم وهكذا رأينا إنكلترا التي تحكم الهند منذ نحو قرنين وحياتها متوقفة عَلَى غنى تلك البلاد وتعليم أبنائها لا تفكر في تعليمهم وترقيتهم كما تفكر في ترقية اقل إنكليزي ولو كان خلاسياً أي دمه من هنود وبريطانيين فقد قدروا أن في بلاد الهند 300 ألف من عرق إنكليزي أو أوربي ليس بينهم سوى عشرة في المئة خرجوا من درجة الأمية فهل من اللائق أن يتركوا بدون تعليم كما يترك الوطنيون أم كيف السبيل؟ وإبذ قد لاحظوا أن الكاثوليك وهؤلاء الأوربيين يعلمهم مرسلوهم ولكن البرتستانت محرومون ممن يسهر عَلَى تربية أبنائهم فرأت الكنائس البرتستانتية أن تجمع ربع مليون جنيه لإقامة مدارس خاصة بأبناء البرتستانت من الإنكليز الهنود وتعيين أساتذة أكفاء بحيث يكون أبناؤهم مثال التربية الإنكليزية ويصبحون مادة قوة مهمة لإنكلترا في بلاد هي خمس العالم بسكانها. العقوبة الجسمية من أغرب الأمم في عاداتها وأخلاقها الأمة الإنكليزية فهي عَلَى ما بلغته من درجات الحضارة لا تفتأُ أن تحافظ عَلَى عاداتها الضارة في القرون الوسطى وتسعى إلى تعديلها وإصلاحها مع الزمن من ذلك أن لعقوبات الجسدية في مدارس لندِرا لا تزال مستعملة حتى اليوم فحذفت هذه العادة المضرة من مدارس أوربا ولكن مدارس لندرا حسنتها حتى أن لبعض المدارس الراقية هناك أسواطاً ميكانيكية تضرب المذنب بشدة أو بغير شدة بحسب الذنب الذي اجترحه. ويضيفون إلى هذا السوط الضارب آلة فوتوغراف تردد بعض آيات من التوراة وبعض النصائح الأدبية بصوت عال وذلك ليعلموا المضروب ويخفوا صراخه

من آلامه. حصاد البشر بينا نسمع علماء الاجتماع ينادون بمضار الحروب وينددون بها نشاهد رجال السياسة يصمون آذانهم عن سماع أقوالهم ويرسلون إلى ساحات القتال بأقوى الرجال وأنشطهم يهلكون بعضهم بأيدي الآخر. وآخر ما ذكرته مجلة الاجتماع الدولية قولها من مقالة أن فكر الحرية وحده تجعل الشعوب ولية أمرها فقط ولما فنيت رومية في فكر الاستيلاء والغلبة أضاعت عظمتها فامتد ظل الحروب المشئومة عَلَى الإنسانية وأصبح القحط في الرجال وذلك لأن حصاد البشر كان رديئاً. وضعف رومية بالحروب كان الحجة الأولى لغارات البربر. ومن العادات أن أحسن الرجال إذا أرسلوا إلى الموت يخلفهم المتوسطون الفاسدون. ومهما كانت الأسباب الداعية إلى الحرب فإن نتائجها تبذير في البشر فإن ماجنتا وورث وسيدان واينا وليبتسيك وواترلو التي جرت فيها تلك المعارك التي تشيب لها نواصي الأطفال ليست إلا مجموع عظام إنساني. وليت شعري من يعيد علينا أولئك الشبان والرجال الذين استوفوا نصيباً وافراً من الجمال فقضوا في ساحات النزال. وأنت خبير بما يقتضي قتل المرء أخاه من العدد والنفقة حتى قال فرانكين أن نفقات الحرب لا تؤدى خلال الحرب بل بعد أن تغمد السيوف في أغمادها. وإنا لنرى الأقوياء وأرباب النشاط من الناس في جهاد الحياة السلمي يتدبرون ويعملون وليسوا لتحصيل القوت في حاجة إلى الحرب يؤرثون نيرانها. وإنا لنرى إنكلترا التي بذلت في خارج بلادها قواها لا تستطيع أن تشاهد نصف أبنائها إذ قد سقطوا كلهم في الهند وزولولاند وكمبودج والترنسفال وغيرها وقد أفنت المستعمرات جميع أبناء الطيبين من الفلاحين وأهل الطبقة الوسطى أي العنصر القوي في الأمة. أما أميركا فلم تقو إلا في ظل السلم. وبعد فإن الحرب مهما كان من أسبابها المشروعة فنتائجها سيئة دع عنك إنها تثير في العالم الهواء الشريرة ولا يجب أن يعمد إلى الحرب إلا في أحوال خاصة لا مناص منها. الفحم الحجري يقول أحد رجال الإنكليز أن إسراف إنكلترا في الفحم الحجري من بلادها يدعو إلى نفاذه بعد 175 سنة. وقالت إحدى المجلات الألمانية أن أميركا التي تصدر ما يربو عَلَى نصف

مليون طن من الفحم الحجري قد بدأت تشعر بنقص ولا بد أن يكون حظها كحظ إنكلترا بعد قرنين وكذلك الحال في شمالي إنكلترا فإن آبار الفحم الحجري ستغلق هناك في سنة 2100م كما أنه ينفذ في أواسط فرنسا وبوهيميا نحو نصف القرن الحادي والعشرين وسيدوم استخراج الفحم الحجري من شمال فرنسا وحوض سارابروك في ألمانيا ما بعد 400 أو 500 سنة وسيكون حظ البلجيك ووستفاليا وسيلزيا العليا أحسن من ذلك فسيطول تعدين فحمها أكثر وسيطول عمر معدن سيلزيا البروسي ألف سنة أخرى فلا خوف عَلَى المدنية من ثم اليوم بنضوب الفحم الحجري ولعل العلم يوصل إلى اختراع مادة تقوم مقامه في إجماء المداخن في المعامل والسفن والبيوت وغير ذلك. زراعة اللؤلؤ يزرع اليابانيون وبعبارة أخرى اليابانيات اللؤلؤ في جون آغو من بلادهم فتنمو أصدافه في خلال بضع سنين ويعنى بها المربيات عناية خاصة فيدخلن في الصدفة لؤلؤات صغيرة من البحر أو عرق اللؤلؤ تكون بمثابة بزرة للؤلؤة التي يراد استنباتها وما يزرع من اللؤلؤ عَلَى هذه الصورية يشبه من حيث اللون والصفا اللؤلؤ الطبيعي الذي يأتي من ذوات الأصداف. قطران الطرق بدأَت أميركا تدهن بعض طرقها بالقطران فشاعت هذه الطريقة في أوربا ومنها انتقلت إلى مصر وقد ثبت مؤخراً أن هذا القطران يضع الأشجار المغروسة بجانبه بما ينبعث منه من الغبار فجربوا فعل الغبار بشجر الدردار والجوز فاحترقت أوراقها وورق الجميز (جرمشق) انتفخ وتشقق وضعف ورق الاس والرند والورد. الخطر السود تحاذر أوربا وأميركا من الخطر الأصفر أي نهضة الصين واليابان وزحفهما عَلَى بلاد الغرب لفتحها كما فعل المغول ودمروا المدنية في هذا الشرق الأقرب وفي الشرق الأوسط. وتحاذر ألمانيا اليوم من الخطر الأسود وهو أن فرنسا التي تقل نفوسها وألمانيا التي يتناسل أبنائها كثيراً لا بد أن تنتبه ذات يوم وتجند من أبناء مستعمراتها في شمالي أفريقية أناساً خلقوا للطعان أكثر مما خلقوا للعيش من زراعتهم وكدحهم فتستطيع فرنسا أن تجند من

السنغاليين وغيرهم مليون جندي وتسوقهم بما تنشئه من الخطوط الحديدية العسكرية ثم تقلهم في بواخرها إلى مرسيليا أو بوردو في مدة لا تتجاوز الأسبوع فإذا فعلت فرنسا ذلك أوجست ألمانيا خفية من جارتها أكثر مما توجس هذه من تلك وقد جربت فرنسا عَلَى عهد نابوليون وغيره استخدام طوابير من الجند الأسود في حروبها. الصحافة الألمانية اشتهرت الصحافة الإنكليزية بوفرة أخبارها واتساع مادتها وتحريها الصدق في الجملة في مرواياتها وقد نشر أحدهم في المجلة الكبرى الأفرنسية مقالة في وصف الصحافة الألمانية قال فيها أنها عَلَى وجه العام محتشمة كثيرة موارد الأخبار نافعة للصناعة والمالية بما تنشره من الأخبار الاقتصادية الدقيقة ويبلغ عدد الصحف التي تصدرها ألمانيا اليوم 4000 صحيفة كان فيها سنة 1905 - 2159 محلاً للطبع منها 1307 لها صحيفة خاصة والصحافة الألمانية تامة الأدوات من حيث الأمور النافعة في الصناعة وافرة الأخبار بحيث فيها 200 شركة تقدم للصحف ما يلزمها من المقالات الافتتاحية والأخبار والانتقادات والحوادث والنكات. وللإعلانات في الصحافة الألمانية مكان رفيع كما لها في فرنسا. والصحافي الألماني أقل اعتباراً في قومه من الصحافي الإنكليزي أو الإفرنسي وكم نشأ في إنكلترا وفرنسا كبار رجال السياسة من مقاعد التحرير أما ألمانيا فلا تجوَّز أن يكون النائب مثلاً صحافياً وإذا كانت مقالات الصحف تنشر مغفلة من التواقيع مثل الصحافة الإنكليزية وخلافاً للصحافة الإفرنسية امتنع كثير من أرباب الأقدار في السياسة أن يستخدموا الصحافة في مآربهم ومع هذا لا يمنع أن يكون للصحافة الألمانية مكانة مهمة في حياة الأمة أما الحكومة فلا تنظر إلى الصحافة إلا بأنها ضرر لا بد منه وتحاول أن تنال معاضدتها ولاسيما في المسائل السياسية الخارجية وإذا لم تكن الصحافة الألمانية معادية للحكومة فهي تحرص عَلَى رضاها لتعطيها هذه الأخبار بسرعة ولئن كانت جريدة نوردتش ألمان زيتونغ هي لسان حال ألمانيا فإن كثيراً من الصحف الألمان تنطق أيضاً بلسان حكومتها من هذا القبيل. المستشفيات في ظل المعابد قامت عَلَى أوائل الأُسرات الأولى من فراعنة مصر بعض الملاجئ ليأوي

إليها المرضى يطبهم الكهنة بالعزائم والرقى وهذه كانت المستشفيات الأولى التي عرفت فأصبحت هذه الأماكن المقدسة مدارس حقيقية للتداوي ثم أضيفت إليها حجر لتكون مستوصفات وقد كان معبد سيرابيس في منفيس مشهوراً من هذه الوجهة وزاره اسكندر الكبير لاستشارة أطبائه. وكان في أرض يونان لكل بيت غني غرفة أو غرفتان تحوي ما يلزم لمعالجة الأحباب من العقاقير وكان في يونان أيضاً مستشفيات تطب الغرباء ويهرع إليها الناس من القاصية يستشفون وكذلك كان في رومية مستشفيات وكان الأطباء يطبون الأغنياء بالاشتراك السنوي كما كان في رومية مستشفيات للجند فدثرت عندما غار برابرة الشمال عَلَى بلادهم ولم تعد إلى الانتفاع منها إلا بعد انتشار النصرانية فأُنشئت رهبنات تعنى بشفاء المرضى وتمريضهم ومن أقدم المستشفيات مستشفى سالرن في إيطاليا ومستشفى مونبليه في فرنسا الذي أنشئ سنة 1195 - قالته إحدى المجلات الإيطالية. رمال تتغنى للرمل في جزيرة كاياواي من أرخبيل هاواي وفي صحراء كولورادو خاصية غريبة إذا أثاره الريح فإنك تسمع له صوتاً يتغنى أو يطن وإذا قبضت عَلَى حفنة من الرمل وعركته بين يديك تسمع له صوتاً كصوت البومة وإذا وضعت منه في كيس وهززته بقوة تسمع له عواء كعواء الكلب وإذا فحصت الرمل بالنظارة المكبرة تجده مدوراً وهو يجري واحدة عَلَى الأخرى بأقل مس وبهذه الخاصية يمكننا أن نفسر السهولة التي تقذف بها إلى بعيد وتطوف المسافات. وينسبون الأصوات التي تنشأ عن هذه الرمال إلى قشرة رقيقة من النار تغطي وجه الرملة فإذا نقل هذا الرمل من هذه الصحراء يبطل صداه وغناؤُه. وقاية الخشب اخترع مهندس من بودابست طريقة لمنع العفن من أن يلحق عمد التلغراف وخشب السكك الحديدية وخشب الحوائط وبالجملة كل خشب يمس الأرض دائماً وسماها وهذا الاختراع عبارة عن تحضير التربة عَلَى طريقة كيماوية بحيث تسلم كل السلامة من المواد الضارة بالخشب فيصب في الثقب أو المنفذ سائل معقم يهلك الحشرات والحلمات الطفيلية وبهذه الطريقة يستغنى في الخشب عن طليه بالقطران.

اليمن وسكانها

اليمن وسكانها - 2 - نسب اليمانيين وتفرقهم لا خلاف في أن عرب اليمن من بني قحطان ويعدون من العرب العاربة وأكثر قبائل العرب من اليمن كما قال البلخي فمنهم السكون وخولان والأزد ومازن بن الأزد وميدعان بن الأزد ومارد بن سلامان ومنهم آل العنقاء والفراهيد وقساحل وبلادس وثهلان وحرحنة وبطون كثيرة قد دونت في كتب الأنساب حتى ما تسقط قبيلة ولا فخذ ولا رهط ولا بطن وأصل ملوك غسان بالشام من عرب اليمن. قالوا ربما أغار اليمانيون عَلَى البلدان فيرجعون إلى بلادهم. واليمن قبائل كثيرة إذا دخلت فيهم قضاعة وجذام ولخم وبجيلة وخثعم كان أول من ذكر اسمه وعرف قدره سبأُ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان فمن ولده كهلان بن سبأُ وحمير بن سبأُ وقضاعة من قبائل حمير تفرقت بعض هذه القبائل في البلاد فنزلت أزد شنوءة أرض الشراة وما حولها في الشام وسارت غسان إلى الشام حتى نزلت بأرض البلقاء وتنصروا وأقاموا مملكين بالشام من قبل صاحب الروم وسار من ولد حوالة بن الهنو بن الأزد إلى الموصل وقدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس حتى نزل أرض العراق فانشأ ملكاً بالحيرة. قال بعض آل أسعد بن ملكيكرب (كليكرب؟) تبع ذاكراً منازل من خرج من اليمن في سائر جزيرة العرب وغيرها وقد فراقت منا ملوك بلادها ... فصاروا بأرض ذات مبدى ومحضر وقد نزلت منا خزاعة منزلاً ... كريماً لدى البيت العتيق المستر وفي يثرب منا قبائل إن دعوا ... أتوا سرباً من دارعين وحسر هم طردوا عنها اليهود فأصبحوا ... عَلَى معزل منها بساحة خيبر وغسان حيٌ فعزهم في سيوفهم ... كرام المساعي قد حووا أرض قيصر وقد نزلت منا قضاعة منزلاً ... بعيداً فأمست في بلاد الصنوبر وكلب لها ما بين رملة عالج ... إلى الحرة الرجلاء من أرض تدمر ولخم فكانت بالعراق ملوكها ... وقد طحرت عدنان في كل مطحر

وحلت جذام حيث حلت وشاركت ... هنالك لخماً في العلا والتجبر وأَزد لها البحران والسيف كله ... وأرض عمان بعد أرض المشقر ومنا بأرض الغرب جند تعلقوا ... إلى بربر حتى أتوا أرض بربر هكذا ذكروا تفرق أهل اليمانيين وأصولهم أما مدنيتهم التي حملوها فقد أكد أحد علماء الآثار أن اليمن سبقت بتمدنها بابل ومصر ومنها هاجر أجداد الفراعنة ومنها كان أجداد البابليين والآشوريين وإلى مصر وبابل وآشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة وتوغل بعضهم حتى استنبط بعض اليمانيين أو الحميريين هم الذين مدنوا شواطئ آسيا وأفريقية وأوربا وقالوا أنهم كانوا أميل إلى التجارة لا إلى الغزو والغارة ولذلك كان معظم الأذواء يتجرون فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب عَلَى البلاد. والأذواء كثيرون منهم ذو الجناح وذو المنار وذو رعين وذو نواس وذو مجن وذو الكلاع سيف بن ذي يزن وقد استولى الحبشة بعد ذي نواس عَلَى اليمن فلم يدعوا رجلاً إلا قتلوه ولا بناء إلا هدموه ورئيسهم أبرهة الأشرم فخربوا المدن والخراب من عهدهم بدأ في الغالب وملك الفرس اليمن إلى عهد الإسلام وكان أراد كسرى أنوشروان عَلَى فتحها ابن ذي يزن يستنجده ويستعينه عَلَى السودان وامتدحه بالحميرية فأعجب كسرى بقصيدته لما ترجمت. ومن الأذواء علس ذو جدن كان كما في الأغاني ملكاً من ملوك حمير ولقب ذا جدن لحسن صوته والجدن الصوت بلغتهم ويقال أنه أول من تغنى باليمن. رووا أنهم حفروا حفراً في زمن مروان فوقفوا عَلَى أزج له باب فإذا هم برجل عَلَى سرير كأعظم ما يكون من الرجال عليه خاتم من ذهب وعصابة من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه أنا علس ذو جدن القبل لخليلي مني النيل ولعدوي مني الويل طلبت فأدركت وأنا ابن مئة سنة من عمري وكانت الوحش تأذن لصوتي وهذا سيفي ذو الكف عندي ودرعي ذات الفروج ورمحي الهزيري وقومي الفجواء وقرني ذات الشر فيها ثلاث مائة حشر من صنعة ذي نمر أعددت ذلك لدفع الموت عني فخانني قال الراوي فنظرنا فإذا جميع ذلك عنده. ولما سار حسان بن تبان أسعد أبو كرب بأهل اليمن يريد أن يطالبهم أرض العرب وأرض العجم كما كانت التبابعة قبله تفعل حتى إذا كان ببعض أرض العراق عَلَى رواية الطبري

كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم فكلموا أخاه أن يقتله ليخلفوه عليهم فقتله ومرج أمر حمير عند ذلك تفرقوا فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم يقال لخيعة ينوف ذو شناتر فملكهم وقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة فقال قائل من حمير يذكر ما ضيعت حمير في أمرها وفرقت جماعتها ونفت من خيارها تقتل ابناها وتنفي سراتها ... وتبني بأيديهم لها الذل حمير تدمر دنياها بطيش حلومها ... وما ضيعت من دينها فهو أكثر كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ... وإسرافها تأتي الشرور فتخسر ثم تهودت حمير وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى عَلَى الإنجيل أهل فضل واستقامة لهم من أهل دينهم رأس يقال له عبد الله بن تامر وكان موقع أصل ذلك الين بنجران وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها ثم أن رجلاً من بقايا أهل ذلك الدين وقع بين أظهرهم يقال له فيميون فحملهم عليه فدانوا به قال هشام زرعة ذو نواس فلما تهود سمي يوسف وهو الذي خد الأخدود بنجران وقتل النصارى وكانوا قريباً من عشرين ألفاً افلت منهم رجل وقدم عَلَى ملك الحبشة فأعلمه ما ركبوا به وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه فانجده برجال كما بعث إلى قيصر أن ينجده بالسفن والأخدود هو المذكور في القرآن قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود فجاء جيش النجاشي ورأسه أرياط فقتل ثلث اليمن وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها وقد أخرب مع ما أخرب من ارض اليمن سلحين وبينون وغمدان حصوناً لم يكم في الناس مثلها فقال: هونك ليس يرد الدمع ما فاتا ... لا تهلكي أسفاً في ذكر ماتا أبعد بينون لا عين ولا أثر ... وبعد سلحين يبني الناس أبياتاً وقد ساق أبو الفرج الأصفهاني كيفية مقتل حسان بن تبع عَلَى يد عمرو أخيه وكيف تشتت أمر حمير حين قتل أشرافها والتفت عليه حتى وثب عَلَى عمرو خيعة تنوف ولم يكن من أهل بيت المملكة فقتله واستولى عَلَى ملكه وكان يقال له ذو شناتر الحميري وكيف نشأ زرعة ذو نواس وكانت له ذؤابة وبه سمي ذا نواس وهو الذي تهود وتسمى يوسف كما مر

وهو صاحب الأخدود بنجران وكانوا نصارى فخوفهم وحرق الإنجيل وهدم الكنائس ومن أجله غزت الحبشة اليمن لأنهم نصارى كما ساق كيفية خروج سيف بن ذي يزن إلى كسرى يستنجده عَلَى الحبشة بسبب غزو ذي نواس أهل نجران وكانوا نصارى فحصرهم ثم ظفر بهم فحدد لهم الأخاديد وعرضهم عَلَى اليهودية فامتنعوا من ذلك فحرقهم بالنار وحرق الإنجيل وهدم بيعتهم. ملوك اليمن وعمرانهم قال ابن حوقل: كانت اليمن عظيمة خطيرة الملوك فمنهم من ملك أكثر الأرض في سالف الزمن كتبع الذي مدن مدينة صنعاء وسمرقند وكان يقيم بهذه حولاً وبهذه آخر ولم يكن فيما سلف من الزمان ومرر الدهور والأيام ممن علت كلمته واتسعت مملكته واستفحلت جبايته كفرعون وذي القرنين وتبع ممن ثبت الملك فيه وفي عقبه فأما أموالها في وقتنا (القرن الرابع) الواصلة إلى سلاطينها وملوكها وأربابها وأصحاب أطرافها فمن جلتها أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم بن زيادة بعد أهل البحرين كانوا بموالينا والذي تحت يده فمن الشرجة إلى عدن طولاً عَلَى ساحل البحر وارض تهامة اليمن ويكون مقدار ذلك اثنتي عشرة مرحلة وعرضه من الجبال إلى ساح اليمن من عمل غلافقه ويكون مقداره مسيرة أربع مراحل وأكثر أمواله المقبوضة من العثور وهي ما ينيف عَلَى خمس مائة دينار عثرية ومن قبالات زبيد هن جميع ما يدخلها ويخرج عنها وتشتمل عليه من وجوه الأموال مائتا ألف دينار عثرية وأكثر ملوك الجبال يخطبون له عَلَى منابرهم في وقتنا هذا ويصل إليه من جباية عدن عَلَى المراكب العثرية مما لا يقع بموافقة ولا ضمان ويعمل بالأمانات لربما زادت المراكب ونقصت وقد يرتفع له في السنة عن هذا المكان مائتا ألف دينار عثرية زائداً أو ناقصاً ويؤخذ العنبر بسواحل عدن وما يليها وله عَلَى ذلك ضريبة تصل إليه عَلَى صاحب جزائر هلك موافقة من هدايا ترد عليه فيها عبيد وعنبر وغير ذلك وملكة الحبشة تهاديه ولا تقطع مبرته ومواصلته ويتلوه في المكنة والمقدرة ابن طرف صاحب عثر وملكه يشتمل عَلَى وجوه من الأموال وضروب من الجبايات ويكون الواصل إليها كنصف الواصل إلى أبي الجيش من المال ويتلوه الخزامي صاحب حلي وهو دون ابن طرف في المكنة والسلطان والجباية. وهؤلاء الثلاثة ملوك تهامة اليمن وابن طرف والخزامي جميعاً

في طاعة ابن زياد في وقتنا هذا ويخطبون عَلَى اسمه. وملوك تهامة اليمن المعروفون بملوك الجبال كثيرة واجلهم ولد أسعد بن أبي يعفر وهو عَلَى الحجبة هو ملك صنعاء يخطب لأبي الجيش ويضرب دراهمه عَلَى اسمه وليس ينفذ إليه ميرة ولا هدية وجميع وجوه أمواله أربعمائة ألف دينار فتصرف في مروته وإلى أضيافه وقاصديه وهو من سلالة التبابعة ومن بالجبال من ملوكها فجبايته دون هذه العدة من المال ومرافقه بقدر كفايته. وأما الحسنيُّ صاحب صعدة فله جباية كثيرة ومستغلات من المدابغ وضرائب من القوافل كثيرة تضاهي ارتفاع ابن طرف وربما زادت ونقصت وصاحب السرين فما يصل إليه قوم به وبأهله ولسيت بحال تذكر وله عَلَى المراكب الصاعدة والنازلة من اليمن رسم يأخذه من الرقيق والمتاع الوارد مع التجار. إليك ملوك اليمن في القرن الرابع وما كانوا يتقاضونه من وجوه الارتفاعات مما تستدل منه عَلَى ثروة اليمن الغريب واتساع أقاليمها ومخاليفا وكثرة قراها ومزارعها وقد وصف ابن حوقل أيضاً المسافات بين بلادها فقال: وأما تهامة فإنها قطعة من اليمن جبال مشتبكة أولها مشرف عَلَى بحر القلزم (الأحمر) مما يلي غربيها وشرقيها بناحية صعدة وجرش ونجران وشماليها حدود مكة وجنوبها من صنعاء عَلَى نحو عشر مراحل وبلاد خولان تشتمل عَلَى قرى ومزارع ومياه معمورة بأهلها وهي مفترشة وبها أصناف من قبائل اليمن ونجران وجرش مدينتان متقاربان في الكبر بهما نخيل ويشتملان عَلَى أحياء من اليمن كثيرة وصعدة أكبر وأعمر منهما ويتخذ بها ما كان يتخذ بها ما كان يتخذ بصنعاء من الأدم ويتخذ بنجران وجرش والطائف أدم كثير وأكثره من صعدة وبها كان يجتمع التجار وليس باليمن جميعاً بلداً أكبر ولا أكثر مرافق وأهلاً من صنعاء وهو بلد في خط الاستواء وهو من اعتدال الهواء بحيث لا يتحول الإنسان عن مكان واحد شتاءً ولا صيفاً وتتقارب ساعات الصيف والشتاء والجذام به ظاهر لقلة سطوة الشمس به وفيه كانت تسكن ملوك اليمن فيما تقدم وبها بناءٌ عظيم قد خرب فهو تل كبير يُعرف بغمدان وكان قصراً لملوك اليمن وليس باليمن بناءٌ أرفع منه. والمذيخرة جبلٌ أعلاه نحو عشرين فرسخاً فيها مزارع ومياه وفيه ينبت الورث وهو نبات

أحمر في معنى الزعفران يصبغ فيه ولا يسلك إلا من طريق واحدة. وشبام جبل منيع جداً فيه قرى ومزارع وسكان كثيرة وفيه جامع ويرتفع منه الجسمت والعقيق والجزع حجارة تعمل فإذا عملت ظهر جوهرها لأن وجوه هذه الحجارة مغشاة وبلغني أنها تكون في صحاري فيها حصى ملون تلقط من بينها. وعدن مدينة صغيرة وشهرتها لأنها فرضة عَلَى البحر ينزلها السائرون في البحر وباليمن مدن أكبر منها ليست كشهرتها. وبلاد الإباضية بقرب حمدان وخولان وخيوان وهي أعمر بلاد بتلك النواحي مخاليف ومزارع وأغزرها مياهاً. قال وبأرض سبأ من اليمن طوائف من حمير وبحضر موت أيضاً وأما ديار همدان وأشعر وكندة وخولان فإنها مفترشة في أعراض اليمن وفي أصفافها مخاليف وزروع وبها بوادٍ وقراى تشتمل عَلَى تهامة وبعض نجد ونجد اليمن غير نجد الحجاز غير أن جنوبي نجد الحجاز يتصل بشمالي نجد اليمن وبين النجدين وعمان برية ممتنعة قال وباليمن قرود كثيرة بلغني أنها تكثر حتى أنها لا تطاق إلا بجمع كثير وإذا اجتمعوا كان لهم كبير يعظمونه ويتبعونه كاليعسوب للنمل وبها دابة تسمى العدار بلغني أنها تطلب الإنسان فتقع عليه فإذا أصابت منه تلك الدابة جرحاً تدود جوف الإنسان فانشق ويحكى عن بعض الغيلان بها ما لا أستجيز حكايته لأن المنكر لمن لا يعلم أعذر من المقر بما يجهل. وذكر ياقوت أن المذيخرة قلعة حصينة في رأس جبل صبر وفيها عين في رأس الجبل يصير منها نهر يسقي عدة قرى باليمن وهي قريبة من عدن يسكنها آل ذي مناخ وبها كان منزل أبي جعفر المناخي من حمير. قال عمارة اليمني: المذيخرة من أعمال صنعاء أن أعلاه نحو عشرين فرسخاً فيه المزارع والمياه ونبت الورث وفي شفيره الزعفران ولا يسلك إلا من طريق واحد وهو في مخلاف السحول ولما ملك الزيادي اليمن واختط زبيد وحج من اليمن جعفر مولى زياد بمال وهدايا بسنة 205 وسار إلى العراق وصادف المأمون بها وعاد جعفر هذا بسنة 206 إلى زيد ومعه ألف فارس فيها مسودة خراسان سبعمائة فعظم أمر ابن زياد وتقلد إقليم اليمن بأسره الجبال والتهائم وتقلد جعفر هذا الجبل واختط به مدينة يقال لها المذيخرة ذات انهار ورياض واسعة والبلاد التي كانت لجعفر تسمى اليوم (القرن السادس) مخلاف جعفر والمخلاف عند أهل اليمن عبارة عن قطر

واسع وكان جعفر هذا من الدهاة الكفاة وبه تمت دولة بني زياد ولذلك يقولون ابن زياد وجعفر. وذكر ياقوت في شبام أنه جبل عظيم فيه شجر وعيون وشرب صنعاء منه وبينه يوم وليلة وهو جبل صعب المرتقى ليس إليه إلا طريق واحد وفيه غيران وكهوف عظيمة جداً ويسكنه ولد يعفر وله فيه حصون عجيبة هائلة وذروته واسعة فيها ضياع كثيرة وكروم ونخيل والطريق إلى تلك الضياع عَلَى دار الملك وللجبل باب واحد مفتاحه عند الملك فمن أراد النزول إلى السهل في حاجه دخل عَلَى الملك فاعلمه ذلك فيأمر بفتح الباب وحول الضياع والكروم جبال شاهقة لا مسلك فيها ولا يعلم أحد ما ورائها ومياه هذا الجبل تصب إلى سد هناك فإذا امتلأ السد ما أن فتح فيجري إلى صنعاء ومخاليفها وبينه وبين صنعاء ثمانية فراسخ. قال عمارة اليمني في تاريخيه وكان حسين ابن أبي سلامة وهو عبد نوبي وزرلابي الحبشي بن زياد صاحب اليمن أنشأ الجوامع الكبار والمنائر الطوال من حضر موت إلى مكة وطول المسافة التي بني فيها ستون يوماً وحفر الآبار الروية والقلب العادية فأولها شبام وتريم مدينة حضر موت واتصلت عمارة الجوامع منها إلى عدن والمسافة عشرون مرحلة في كل مرحلة منها جامع ومئذنة وبئر ويقي مستولياً عَلَى اليمن ثلاثين سنة ومات سنة 432 وذكر له فضائل وجوامع في كل بلدة من اليمن. وذكر أبو الفدا من بلاد اليمن حصن تعز فقال هي في زماننا مقر ملوك اليمن وهي حصن في الجبال مطل عَلَى التهائم وأراضي زبيد وفوق تعز منتزه يقال له صهلة قد ساق صاحب اليمن المياه من الجبال التي فوقها وبني فيها أبنية عظيمة في غاية الحسن في وسط بستان هناك. وذكر حصن الدملوة وقال أنها خزانة صاحب اليمن قال ابن سعيد وهي عَلَى الجبل الممتد من الجنوب إلى الشمال ويضرب بامتناعها وحصانتها المثل في شمالييها تقع الجوة وهي بليدة مشهورة في جادة طريق الجبال وذكر الشرجة وجبلة وهذه بين عدن وصنعاء والجند شمالي تعز وذمار وحلى وظفار ونجران وعدن أَبين وصنعاء وصعدة وبلاد خيوان وجرش (غير جرش سورية) ومأرب يقال لها سبأ وشبام وقبة حضر موت ومرباط. وفي أحسن التقاسيم أن ولايات هذا الإقليم متقطعة فاليمن لآل زياد وأصلهم من همدوان

وابن طرف لع عثر وعَلَى صنعاء أمير غير أن ابن زياد يحمل إليه الأموال ليخطب إليه وربما أخرجت عدن عن أبديهم وآل قحطان في الجبال وهم أقدم ملوك اليمن والعلوية عَلَى صعدة يخطبون لآل زياد وهم أعدل الناس وعمان للديلم وهجر للقرامطة وعَلَى الأحقاف أمير منهم قال وصاحب صعدة لا يأخذ ضريبة من أحد وإنما يأخذ ربع العشر من التجار. في القرن السادس كان صاحب اليمن الملك المجاهد سيف الدين علي ابن الملك المؤيد هزير الدين داوود من بيت رسول وكان جدهم هذا رسول أميراً آخر للملك الكامل ناصر الدين محمد عادل أبي بكر بن أيوب فلما بعث الملك الكامل ولده المسعود أطسن وهو الذي تسميه العامة أقسيس بعث معه أميراًَ آخر في جملة من بعوثه معه ثم تنقلت الأحوال حتى استقل رسول بملك اليمن وصار الملك من عقبه. عجائب اليمن ذكر الهمداني منها باب عدن وهو شصر مقطوع في جبل كان محيطاً بموضع عدن من الساحل فلم يكن لها طريق إلى البر إلا للرجل لمن ركب ظهر الجبل فقطع في الجبل باب مبلغ عرض الجبل حتى سلكه الدواب والحمائل والمحامل والجفان. وقطع بينون جبل قطعه بعض ملوك حمير حتى خرج فيه سيلان وراءه إلى أرض بينون. وقلعة الجوة لأبي المغلس في أرض المعاقر هي تطلع بسلم فإذا قلع لم تطلع. ومنها جبل تخلى وهو جبل واسع الرأس ذو عرقة مطيفة به تنزل الوبر والقرد وتحت العرقة عرقة وفي مواضع منه عرق مترادفة وليس تعم جميعه إلا العرقة العليا والتي تحتها ورأسه واسع جداً فيه ثلاث قلاع حصون فأولها بيت فائس وهو من أرفع ما فيه وفيها مسجد قائم كان الناس يزورونه والمذمار مثلها في الرفعة وبيت ريب حصن ذو عرق منقطعة عليها قصور آل المنصور وحرمهم وأموالهم لا مسلك لها غير باب واحد والأراس حصن بينها وبين بيت فائس وهو حصن واسع وبعد أن ذكر أبوابها قال وتغلق هذه الأبواب عَلَى هذه الحصون وهذه الحصون وهذه القرى عَلَى ضياع تؤدي خمسة آلاف ذهب براً وشعيراً ليكون سبعة آلاف وخمسمائة قفيز وتغلق عَلَى ميدانه وأنوباته ومجزرته ومساجده ومراعيه وأغنامه وبقره وخيله ما خلا الإبل فإنها لا تطلعه وفي معظم حصونها زروع أعقار فيها ماؤها ومرعاها وجميع مرافقها ومدينة خولان العظمى صعدة وهي بلد الدباغ في الجاهلية الجهلاء وهي في

موسط بلد القرظ ربما وقع فيها القرظ من ألف رطل إلى خمسمائة بدينار مطوق عَلَى وزن الدجرهم القفلة وأما ظاهر خولان فهو أسل وفيه قرى زروع واعناب دافقين وجبل أبذر وأبذر مثل جبل ذخار من الجبال التي في رؤوسها الماء والمرعى والزرع والقرى. ويشتد في صنعاء البرد لايتحول الإنسان الشتاء والصيف من مكانه فإذا اشتد بها الصيف وحر فدخل الرجل يقيل عَلَى فراشه لم يكن له بد من أن يتدثر لأن بيوتها في الصيف باردة لأجل قصة الجير المسيع بها بواطن البيوت فيدخل في المخدع عَلَى فراشه ويطبق عليه الباب ويسبل السترين والسجف فلا يتغير ضياء البيت لأجل الرخام الذي يكون في الجدران والسقف بل إذا كان في السقف رخامة صافية نظر عوم الطائر بظله عليها إذا حاذاها وتؤدي الرخامة لمعان الشمس إلى القصة فتقبلها بجوهرها وبريقها. وأعشاب اليمن وحبوبها غريبة في بابها ومنها الورث واللبان اللذان لا يكونان في غير اليمن ويصيران في جميع الأرض. ومن الابار العجيبة البئر المطلة بريدة ومنها بئر سراقة لمراد في أسفل الجوف وطولها خمسون باعاً وماؤها عذب فرات لا يكدرها الدلاء وبئر سام بن نوح بصنعاء وكهالة بئر ذي يزن بين زبيد وعدن وبئر هوت بسفل حضر موت وبئر ميمون المذكورة في القرآن. أما معادن الفضة بالرضراض فما لا نظير له وبها معادن الحديد غير معمولة مثل نقم وغمدان وبها فصوص البقران ويبلغ الثلث بها مالاً وهو أن يكون وجهه أحمر فوق عرق أبيض فوق عرق أسود والبقران ألوان ومعدنه بجبل أنس وهو ينسب بن ألهان بن مالك والسعواني من سعوان وادٍ إلى جنب صنعاء وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان والعشاري وهو الحجر السماوي من عشار بالقرب من صنعاء والبلور يوجد في مواضع منها والمسني الذي يعمل منه نصب السكاكين يوجحد في مواضع منها والعقيق الأحمر والعقيق الصفر العتيقان من الهان وبها الجزع الموشى والمسير وفي مواضع منها منه النقعي وهو فحل العرف والسعواني والضهري منه أجنس والخولاني والجردي من غديقة والشزب يعمل منه الواح وصفائح وقوائم سيوف ونصب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك وليس سواه إلا في بلد الهند والهندي عرق واحد.

ومحافد اليمن وقصورها القديمة التي ذكرتها العرب في الشعر والمثل كثيرة فأولها وأقدمها غمدان ثم تلغم وناعط وصروح وسحين بمأرب وظفار وهكر وضهر وشباء وغيمان وبيون وريام وبراقش ومعين وروثان وأرياب وهند وهنيدة وعمران والنجير بحضرموت. وغمدان قصر عجيب قد بني ثلاثة أوجه ووجه بالجروب الأبيض ووجه بالجروب الأصفر ووجه بالجروب الأحمر ووجه بالجروب الأخضر ولجروب الحجارة وابتني في داخله عَلَى ما التقن من أساسه قصراً عَلَى سبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً وسقفه من رخامة واحدة وجعل عَلَى ركن تمثال أسد من شبه كعظم ما يون من الأسد فكانت الريح إذا هبت من ناحية تمثال من تلك التماثيل دخلت جوفه من دبره ثم خرجت من فيه فيسمع له زئير كزئير الأسد وكان يأمر بالمصابيح فتسر في بيوت الرخام إلى الصبح فكأن القصر يلمع من ظاهره كلمع البرق فإذا أشرف الإنسان ليلاً قال أرى بصنعاء برقاً شديداً أو مراً كثيراً ولا يعلم أن ذلك من ضوء السرج فكان كذلك حتى أحرق. قال ياقوت أن غمدان كان حصن كان ينزله الملك الذي يكون عَلَى اليمن وكان أعجمياً فلما ملكت الحبشة اليمن أخربته إلا بقايا هدمها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في الإسلام وقال ينبغي لمآثر الجاهلية أن تمحى وأن في الحصن مصنعة عليها قبة منطلق. وفيها يقول خلف الأحمر ومصنعة الطلق أودى بها ... عوادي الأحاديش بالصيدن وفيها يقول قدامة حكيم المشرق وكان صاحب كيمياء فارقد فيها نارة ولو أنها ... أقامت كعمر الدهر لم تنضرم لأن الطلق لو أوقد عليه ألف عام لم يسخن وبه يتطلى النفاطون إذا أرادوا الدخول في النار. وبنى أبرهة بن الصباح بصنعاء القيلسة وهي كنيسة بناها لصاحب الحبشة لم ير الناس أحسن منها ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر وجعل خشباً له رؤُوس كرؤُوس الناس ولكنها بأنواع الأصباغ وجعل لخارج القبة برنساً فإذا أن يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها حتى تكاد تلم البصر وسماها القليس (بضم القاف وتشديد اللام).

ون قصور اليمن قصر شوحطان وقصر كوكبان وأكثرها من عجيب البناء وقيل أن هذا القصر الأخير كان مبنياً بالفضة والحجارة وداخله بالياقوت والجواهر. ومن أعظم عجائب اليمن السد الذي كان باليمن عَلَى مثال سد أسوان في مصر اليوم ومأرب كما قال السهيلي أمم قصر كان لهم وقيل هو اسم لكل ملك كان يلي سبأ كما أن تبعاً اسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضرموت وهذا السد عَلَى ما قال المسعودي من بناء سبأ بن يشجب بن يعرب وكان سافله سبي وادياً ومات قبل أن يستتمه فأتمته ملوك حمير بعده وقال المسعودي أيضاً بأن بانيه لقمان بن عاد وجعله فرسخاً في فرسخ وجعل له ثلاثين شعباً. ومأرب بين حضرموت وصنعاء وبينها وبين صنعاء أربعة أيام وهي قرية ليس بها عامر في القرن السابع إلا ثلاث قرى يقال لا الدروب إلى قبيلة من اليمن فالأول من ناحية صنعاء درب آل الغشيب ثم درب كهلان ثم درب الحرمة وكل واحد من هذه الدروب كاسمه درب طويل لا عرض مله طوله حو الميل كل دار إلى جانب الأخرى طولاً وبين كل درب نحو فرسخين أو ثلاثة وهم يزرعون عَلَى ماء جار يجيء من ناحية السد فيسقون أرضهم سقية واحدة فيزرعون عليه ثلاث مرات وفي كل عام ويكون بين بزر الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين. وسد مأرب بين ثلاثة جبال يصب ماء السيل إلى موضع واحد وليس لذلك الماء مخرج إلا من جهة واحدة فكأن الأوائل قد سدوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يجتمع من ماء السيول فيصير خلف السد كالبحر فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا أرادوا. قال ابن حوقل ومجتمع الماء الذي بأرض اليمن في ديار سبأ إنما كان موضع مسيل ماء فبني عَلَى وجهه سد فكان يجتمع فيه مياه كثيرة يستعملونها في القرى والمزارع حتى كفروا النعمة بعد أن كان الله تعالى قد جعل لهم عمارات قرى متصلة إلى الشام فسلط عَلَى ذلك المكان آفة فكان لا يمسك ماء وهو قوله تعالى وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها إلى قوله ومزقناهم كل ممزق فبطل ذلك الماء إلى يومنا هذا. أما سيل العرم الوارد ذكره في الكتاب العزيز بقوله فأرسلنا عيهم سيل العرم فإنه كان عَلَى رواية في أيام ملك حبشان فأخرب الأمكنة المعمورة في أرض اليمن وكان أكثر ما أخرب

بلاد كهلان وعامة بلاد حمير وولد حمير وكهلان هم سادة اليمن في ذلك الوقت خربها حتى لم يبقى من جميع الأرضين والكروم إلا ما كان في رؤوس الجبال والأمكنة البعيدة مثل ذمار وحضرموت وعدن ودهيت الضياع والحدائق والجنان والقصور والدور وجاء السيل بالرمل وطمها عَلَى ذلك إلى القرن السابع. ومعنى العرم (بفتح أوله وكسر ثانيه) لسكر والمسناة التي تسد فيها المياه وتقطع وهي تلك المسناة التي كانت قد أحكمت لتكون حاجزاً ين ضياعهم وحدائقهم وبين السيل. وقيل العرم الماء الأحمر واسم واد بعينه أو اسم للجرذ لذي نقب السكر عليهم هو الذي يقال له الخلد وقيل العرم المطر الشديد قال المثلم بن قرط البلوي ألم تر أن الحي كانوا بغبطة ... بمأرب إذ كانوا يحلونها معا وقال الأعشى ففي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عفا عليها العرم رخام بنته لهم حمير ... إذا ما نأى ماؤهم لم يرم فأرى الحروث بأغنامها ... عَلَى ساعة ماؤهم إن قسم وطار الفيول وفيالهم ... بيهماء فيها سراب لم يلم فكانوا بذلكم حقبة ... فمال بهم جارف منهدم وقال جهم بن خلف: ولم تدفع الإحسان عن رب مأرب ... منيته وما حواليه من قصر ترق إليهم تارة بعد هجعة ... بأمراس كتان أمرات عَلَى شزر وقال عبيد الله بن قيس الرقيات: يا دبار الحبائب ... بين صنعا ومأرب=جاءك السعد غدوة=والثريا بصائب من حريم كأنما ... يرتمي بالقواضب=في اصطفاق ورنة=واعتدال المواكب

هل تسترد اللغة العربية أمجادها

هل تسترد اللغة العربية أمجادها (تتمة ما في الجزء الأول) نهضة العرب في الإسلام لندع جزيرة العرب الآن إلى ثلث القرن السابع الميلادي لميلاد المسيح ثم لنعد إليها بعد ذلكم ولنحدث عما نرى أمة متفقة الكلمة مجتمعة الرأي متحدة اللغة والدين قد قوي اجتماعها واشتد أسره حتى صار كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وقد كفوا سيوفهم عن أنفسهم وشهروها في وجوه عدوهم من الفرس والروم فطردوا كسرى من المدائن وأجلوا قيصر عن الشام. سلوني أين ذهب ما كانت توصف به الأمة من تفرق الكلمة وتشعب الرأي ومن تعدد الدين وتنوع اللهجات. .؟ أين شريعة موسى وتعليم عيسى. .؟ أين الوثنية وعقائد الصابئة والمجوس. .؟ أين حمية الجاهلية وعصبيتها. .؟ أين تلكم الضغائن التي كانت تثير الحفائظ وتأكل القلوب. .؟ كل ذلكم قد ذهب به الإسلام أيها السادة فلم يبق له في الجزيرة العربية أثراً ولست أريد أن ابحث عن مصدر ذلكم لأني إنما أحاضر في تاريخ اللغة لا في تاريخ الشعب. القرآن كان القرآن للعرب شمساً نسخت عنهم ظل الجاهلية وأضاءت منهم ظلمة النفوس ونقلت اجتماعهم من حال إلى حال فقد جاءهم بضروب من القول لم يعهدوها وفنون من الكلام لم يعرفوها مشتملة عَلَى أمتن قواعد الاجتماع وأصح أصول التشريع ممتلئة بنافع الحكم ونابغ الكلم وجيد الوصف والتشبيه وصادق القصص والتاريخ وقد أنكروه إذ سمعوا بادئة الأمر ولكنهم لم يلبثوا أن خضعوا له وأذعنوا لسلطانه طوعاً أو كرهاً بعد أن بهرهم جماله وسحرتهم روعته واصبحت قلوبهم حكمته وهذبت نفوسهم آدابه وظهر لهم الحق من ثناياه جميل الصورة وطلق المحيا يفتن رواؤه القلوب ويخلب الألباب ولست أريد أن أطيل في وصف القرآن لأن ذلك يحتاج إلى محاضرة خاصة وغنما أقول أنه قد غير العرب تغييراً

تاماً فلم يات عليه خمس وعشرون سنة إلا وقد أَلان من القوم قلوباً قاسية وصفى طباعاً جافية وأَرق كباداً غليظة وهذا ألفاظاً فجة ونقل الأمة من البداوة إلى الحضارة ومكن لا في الأرض وهيأها للفتح والتغلب عَلَى الجملة أنشأ من العرب خلقاً جديداً. هنالك خضعت اللغة لمؤثرين كبيرين أحدهما الإسلام والثاني الفتح. فأما الإسلام فقد صنع بالقوم ما عرفتم فحسنت لغتهم ورقت ألفاظهم وظهرت عليها بشاشة الدين وطهارة النفوس. وأما الفتح فقد استأثر عواطف القوم بعد كمونها وأطلق ألسنتهم بالخطب الرائعة والشعر الجميل نصراً للحق وزوداً عنه. مذهبٌ باطل وهنا يجب علي أيها السادة أن أبطل مذهباً اجمع عليه كافة المؤلفين في آداب اللغة من المحدثين يتبعون فيه رأي المؤرخ ابن خلدون رحمه الله. زعموا أن الآداب العربية ولاسيما الشعر قد وقفت أيام النبي والخلفاء الراشدين لأن العرب قد شغلوا عنها بالدين والفتح وتأسيس الملك فلما استقر الأمر لبني أمية نهضت الآداب من كبوتها واستيقظت من غفوتها إلى آخر ما يقولون. خطأ جداً هذا المذهب أيها السادة لأنه لا يستند عَلَى حجة ولا يعتمد عَلَى دليل. نعم إنهم لم يجدوا عَلَى ذلكم برهاناً إلا شيئين اثنين الأول أن لبيد بن ربيعو وهو من فحول الشعراء المخضرمين قد ترك الشعر في الإسلام اعتداداً بالقرآن واحتفالاً به وقد بعث عمر بن الخطاب إلى عامله عَلَى الكوفة استنشد من قبلك من الشعراء وابعث إلي بشعرهم فدعا العامل لبيداً وأبا النجم وأبلغهما أمر عمر فأما أبو النجم فقال أرجزاً تريد أم قصيدة ... طلبت شيئاً عندنا موجودا وأما لبيد فقد رجع إلى بيته ثم غدا عَلَى الأمير بلوح قد كتب فيه سورة البقرة وقال هذا شعري. الثاني أن محمد بن سلام وهو من علماء القرن الثالث للهجرة قال في كتابه طبقات الشعراء أن العرب في صدر الإسلام قد شغلوا بتأسيس الملك عن قول الشعر وروايته. والحقيقة أيها السادة أن ترك لبيد للشعر لا ينهض حجة عَلَى العرب كافة قد تركوه أو

قصروا فيه وإن ابن سلام رحمه الله قد أخطأَ في الأولى وأصاب في الثانية فإن العرب قد شغلوا عن رواية شعر الجاهلية في أيام الفتح والفتن ولكنهم لم يشغلوا عن قوله يوماً ما ولذلكم ضاع كثير من شعر الجاهليين بل من شعر المخضرمين لكثرة من استشهد من الرواة في أيام الردة والفتح وأيام الفتن السياسية الكبرى. وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه قد أشفق عَلَى القرآن الكريم أن يضيع بعد أن قتل من المسلمين خلق كثير في حروب الردة فكيف يكون حال الشعر. .؟ وكيف يشغل العرب عن قول الشعر والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويدعو إليه ويأمر شعراءه أن يدفعوا عنه بقصائدهم وأشعارهم والخلفاء الراشدون كانوا يكثرون استشهاده والبحث عنهم والقول فيه بل كيف يشغلون عن قول الشعر ومصادره الحقيقية قد كانت كثيرة موفورة فإن صدر الإسلام لم يخل من حروب ينشد فيها الشعراء قصائد المدح للقواد المنتصرين والرثاء للشجعان المستشهدين وتحريض الأولياء وهجاء العداء والفخر بحسن البلاء ولو أن هؤلاء المؤلفين قرأوا التاريخ في كتبه المطولة المبسوطة واستظهروا ما تشتمل عليه سيرة النبي وتاريخ الخلفاء من متان القصائد وجياد الأراجيز في فنون الشعر المختلفة ما استطاعوا أن يسجلوا عَلَى أنفسهم هذا القول ولا أن يصموا القرآن الكريم بأنه قد كان سبباً لانحطاط الآداب العربية يوماً ما. الخطابة كان شأن الخطابة في صدر الإسلام أرقى بكثير من شأنها في الجاهلية لأنها كانت صناعة الخلفاء والأمراء وحرفة الجيش والذادة عن الثغور فقد سن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين صلاة الجماعة وجعلها من حق الخليفة يقيمها في حاضرة الدولة ويستخلف عليها الأمراء في الولايات فكان يجب عَلَى الخليفة والأمراء أن يخطبوا المسلمين يوم الجمعة من كل أسبوع ولم تكن هذه الخطبة مقصورة عَلَى الوعظ والدين كما هي الآن بل كانت تتناولهما وتتناول الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكان اجتماع المسلمين في مساجدهم يوم الجمعة أشبه شيء باجتماع المجالس النيابية الآن إلا أن مجامعهم كان يرأسها الخليفة المسئول أمام الصغير والكبير ولم يكن يكره الخليفة أن يقوم له الرجل من أطراف المسجد فيرد رأيه أو ينافس خطبته بل كان ذلك لهم مصدر سرور وإعجاب.

وكما أنكم ترون الآن وزارات المم الراقية لا تستطيع أن تنهض بعملها إلا بعد أن تعرض خطتها السياسية عَلَى مجلس النواب كذلك كان الخلفاء الراشدون لا يستطيع أحدهم أن ينهض بأعباء الخلافة حتى يجمع المسلمين ويخطبهم خطبة يبين فيها نموذجاً لسياسته التي سيتبعها في أيام خلافته عَلَى أن حادثاً كبيراً قد حدث للعرب فاثر في أخلاقهم وآداب لغتهم ولاسيما الشعر والخطابة وهذا الحادث هو الفتنة التي ابتدأت بقتل عثمان ولم تنته آثارها إلى الآن. منشأ الفتن الإسلامية منشأ الفتن الإسلامية أيها السادة شيء واحد هو النزاع بين الملكية والجمهورية وقد بدئ هذا النزاع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فكان بنو هاشم يرون الملكية الشورية ويعدون أنهم أحق الناس بوراثة الملك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولسان هذا الحزب علي والعباس وكان أبو بكر وعمر وعامة الصحابة يرون الجمهورية عَلَى أن تنحصر في قريش لأن القرآن لم يجئ بوراثة الملك ولأن النبي قد قال الأئمة من قريش وقد انتصر هذا الحزب عَلَى جماعة الأنصار الذين كانوا يريدون أن يكون منهم أمير كما انتصر عَلَى بني هاشم أيضاً فبويع لأبي بكر وعمر ومن بعده لم يتخلف عن البيعة بنو هاشم لأنهم كانوا يرجون أن يؤول الأمر إليهم بعد موت هذين الرجلين ولما وضع عمر قاعدة الشورى بويع عثمان وجد بنو هاشم في أنفسهم وبايعوا مكرهين لأن بني أمية وهم رهط عثمان كانوا أكثر قريش عصبية وأشدها قوة وكان يخشى منهم أن ينهضوا فيثبتوا الملك لأنفسهم بالسيف ولذلك لم تمض عَلَى بيعة عثمان أعوام حتى ثارت أطراف الدولة عَلَى الولاة وكثر الطعن في الخليفة والنعي عليه ثم أقبلت وفود العراق ومصر إلى المدينة وقد اضمروا الشر واستشعروه فحصروا دار عثمان ولم يتركوها حتى قتلوه وبايعوا علياً وكان هذا أول عهد الإسلام بالفتنة ولما قتل عثمان وبويع علي خرج عليه طلحة والزبير وعائشة يطالبون بدم عثمان فكانت بينه وبينهم موقعة الجمل ولم تكد تخمد هذه الثورة حتى خرج عليه معاوية وأهل الشام يخلعونه ويطلبون قتلة عثمان ويردون الأمر شورى بين المسلمين فكانت بينه وبينهم مواقع صفين ولما التحم القتال بينهما ولجأوا إلى التحكيم خرج طائفة يقولون أن علياً ومعاوية ومن تبعهما قد كفروا بالله ومرقوا من الدين فحلت لنا أموالهم وأنفسهم

ونساؤهم وهكذا انقسم المسلمون أقساماً وتحزبوا أحزاباً. تفرقوا شيعاً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر قتل علي وتم الأمر لمعاوية ولكنه لم يمت حتى عاد الانقسام إلى المسلمين أشد مما كان ونشات فتن تمزقت لها وحدة الأمة وتفانت من أجلها القوى ولست أريد أن أذكر الفتن وأخبارها ولا أن أشرح غوامضها وأسرارها بل يكفي أن أذكر لكم الأحزاب التي أوجدتها هذه الفتن فأولها حزب الشيعة وهم أنصار بني هاشم وهؤلاء انقسموا قسمين كبيرين فمنهم من دعا إلى بني علي ومنهم من دعا إلى بني العباس - الثاني حزب الأمويين وهؤلاء انقسموا قسمين أيضاً فمنهم من دعا إلى بني ومعاوية ومنهم من دعا إلى بني مروان - الثالث حزب الزبيرية وهم أنصار عبد الله بن الزبير وكل هؤلاء يطلبون الملك ويطمعون فيه. الرابع حزب الخوارج وهؤلاء قد انقسموا اقساماً كثيرة ولكنهم يطلبون الجمهورية - الخامس حزب المرجئة ومه جماعة لم يظهروا الميل إلى حزب من الأحزاب ولم يحكموا عَلَى أحد بكفر ولا بإيمان وغنما تركوا ذلك لله وقد أظهروا الطاعة لكل ملك عادل من أي حزب كان. . . وكل هؤلاء الأحزاب كانت تحتكم إلى السيف والقوة وتدافع عن آرائها بالشعر والخطابة وقد سلكوا بالشعر في تلكم الأيام مسلك الصحف السياسية الآن وأنا أترك لكم تقدير ما ينال الشعر والخطابة في اثر ذلكم الاختلاف من علو المنزلة وسمو المكانة ولكني أقول أن الخطب قد طالت وتنوعت مناحيها وسلك بها الخطباء طرقاً جمة في الجدال وقد رقت ألفاظها واستعارت من القرآن الكريم شيئاص من رشاقة الأسلوب ومتانته ولم تكن تحسب الخطبة إلا إذا رصعت بشيء من آي الذكر الحكيم عَلَى طريقة الاقتباس وقد اختصت الخطابة في هذا العصر بوجوب ابتدائها بحمد الله والصلاة عَلَى نبيه فإذا لم تبدأ بالحمد فهي بتراء وإذا خلت من الصلاة فهي شوهاء وهذه هي المعذرة التي حملتني عَلَى أن أخالف في هذه الخطبة عادة العصر الجديد. الآداب العربية في أيام بني أمية تمالملك لبني أمية آخرة الأمر وقد ورث العرب أرض الفرس والروم وتهيأت لهم أسباب الثروة والغنى فسكنوا القصور الشامخة واتخذوا نضائد الحرير وسطور الديباج وطعموا في آنية الذهب والفضة وصحت فيهم نبوة أبي بكر رضي الله عنه حين قال لعبد الرحمن بن

عوف والله لتتخذن نضائد الحرير وستور الديباج ولتألمن النوم عَلَى الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم عَلَى حسك السعدان فلم يكن لأنفسهم بد من أن تتأثر بهذه الحضارة ولم يكن لألسنتهم مندوحة عن أن تخضع لهذا التأثر فرقت الألفاظ والمعاني ورشقت الأساليب والتراكيب وقد أعرب القوم عن أهواء أنفسهم وعواطف قلوبهم بالغناء ونشأت فيهم طبقة من الشعراء لم تحسن إلا ذكر النساء والتشبيب بهن وطبقة أخرى لم تجد إلا وصف الخمر والإشادة بمحاسنها وآخرون نبغوا في المدح والهجاء والوصف والرثاء والفخر والوعظ وغيرها من فنون الشعر وقد ظهر ميل القوم إلى العلم فأخذوا يبحثون عنه ويسعون إليه وبدأوا يضعون علوم الدين واستعاروا كثيراً من الألفاظ الأجنبية لكثير من المعاني المحدثة ولكن خطراً كبيراً قددهم اللغة ولم يكن إلى اتقائه من سبيل فلندع العرب الآن في جزيرتهم ولنقف آثار اللغة في مواطنها الجديدة لتعرف هذا الخطر من مصدره ونتبين ما أعدوه له من الدواء. كيف انتشرت اللغة العربية خرجت اللغة العربية من جزيرة العرب مع جيش المسلمين فصادفت لغة الفرس والروم في الشام والعراق فطردتهما ثم انتقلت إلى مصر فصادفت لغة الروم والقبط فطردت الأولى ومحت الثانية ثم أخذت طريقها في شمال أفريقية فلقيت لغات البربر فحصرتهن في رؤوس جبال الأطلس ثم جاوزت إلى الأندلس فالتقت باللاتينية والغوطية فحصرتهما في الكنيسة وبيوت المسيحيين. كل ذلك في مدة لا تتجاوز خمسة وثمانين عاماً فمن أين لها هذه القوة وذلكم البأس الشديد. .؟ هنا يجب أن نسير في البحث عَلَى مهل وأناة لأننا بإزاء شبهة عصرية ترد عَلَى الدين واللغة معاً. قالوا أن دين العرب ولغتهم لم يسودا إلا بالقوة والسيف ولست أريد الآن أن أذود عن الدين فربما أديت هذا الواجب في محاضرة أخرى وغنما أريدأن أدافع عن اللغة التي هي موضوع بحثنا الآن. اعتذر بعض القديسين من ظلم الكنيسة في القرون الوسطى فقال يضطهد الأشرار من

يكرهون ولكن الكنيسة تضطهد من تحب. أما أنا فأقول أيها السادة أن الإسلام لم يضطهد حبيباً ولا عدواً وإذا كانت حضارة الفرنج ومدنيتهم قد أباحتا لهم أن ينشروا لغتهم وهمجيتهم وعلومهم وآدابهم بالقوة والبأس فإن بداوة العرب وهمجيتهم لم تبيحا لهم شيئاً من ذلك في صدر الإسلام وكذب من يزعم أن في التاريخ العربي الجميل إشارة ما إلى أن اللغة العربية قد التجأت في سؤددها إلى القوة أو اعتمدت عَلَى السيف. وكيف لا يكذب ودواوين الحكومة الإسلامية في الشام والعراق ومصر بقيت أعجمية إلى عصر عبد الملك بن مروان أي إلى الزمن الذي استعربت فيه الناس وأصبح من خطل الرأي وسوءا السياسة معاملتهم بغير اللغة التي يفهمونها. إذاً فما هي الأسباب الحقيقية التي نشأ عنها انتشار اللغة وسؤددها. .؟ إن لبعض الأمم قوة طبيعية تمكنها من القهر والتغلب ومن الفوز والانتصار المادي والأدبي أَنى وجدت وإذا أردت لهذا النوع من المم فلن أجد له مثالاً الآن أصدق من الإنكليز في أمريكا. أولئك الذين يسحقون شخصية الأمم ويمحقون جنسيتها في أميركا ويغلبون عليهما جنسيتهم ولغتهم ودينهم من غير اعتماد عَلَى قوة ولا اعتداد بسلاح وقد كان العرب من هذا النوع فتمكنوا من التغلب الأدبي ولولا أن لغتهم صادفت من أهل الفرس عداءً وحقداً ومن لغتهم قوة وشدة لأتت عليها في وقت قريب. وهناك سبب آخر لانتشار اللغة العربية وهو الدين العربي الذي يأخذ كل مسلم بالصلاة ومعنى ذلكم أنه يأخذ كل مسلم بحفظ شيء من القرآن الكريم وليس عَلَى الدين من ذلك بأس فإن الله لم ينزله إلا ليجعل الناس أمة واحدة كما أنه لم يسد بالقوة ولم ينشر بالإكراه. ولقد نشأ عن اختلاط العرب بالعجم ومصاهرتهم شيء من فساد الألسنة واعوجاجها وظهر اللحن في اللغة من لمولدين والمستعربين وهذا هو الخطر الذي أشرنا إليه آنفاً ولما أحسه العرب في القرن الأول للهجرة نهضوا لإصلاح رسم المصحف ووضع النحو والصرف وجمع اللغة وتدوينها ولكن انقضت الدولة الأموية ولما يحصلوا من ذلك عَلَى شيءٍ كثير. الآداب العربية في أيام بني العباس

نهضت دولة بني العباس والعرب قد سئموا الغزو وزهدوا فيه لطول ما قاتلوا في الفت والفتوح فمالوا إلى الخفض والدعة واطمأنوا إلى الترف والتعليم. وقد نضج العقل العربي فنزع إلى البحث والتفكير ورغب في النظر في أنواع الموجود فانقسمت الأمة إلى قسمين كبيرين قسم ينل الحضارة ويهذبها وقسم يترجم العلم ويزيد فيه والخلفاء يشاركونهم في كل ذلكم ويشجعونهم عليه فلم يأت عصر المأمون رحمه الله حتى بلغت العرب من العلم والحضارة ما لم تبلغه الأمم ولم تصل إليه الشعوب. الخطابة ولعلكم لم تنسوا تلك الأحزاب السياسية التي أوجدتها الفتن الإسلامية واشرنا إليها آنفاً فقد أضعفت قوة العباسيين أمرها بالمشرق وفلت عزمها فاستحالت إلى احزاب دينية خالصة وقد تركت السيف والسنان ولجأت إلى القلم واللسان واعتمدت عَلَى الجدل والمناظرة معتدة بالعدل والحكمة معتزة بالفلسفة والمنطق فكان للخطابة من ذلكم جمال وروعة لم يكونا لها من قبل ولاسيما بعد أن عرفوا أصول الخطابة عند اليونان بما ترجموه من كتب أرسطوطاليس. . وقد أصبحت الخطابة في أيام بني العباس صناعة تعلم وقد انفرد لدرسها جماعة أشهرهم إبراهيم بن مخزنة السكوني وبشر بن المعشمر وقد وضعوا لها أدباً وشرائط خاصة دون بقية انواع القول واشتد حرصهم عَلَى مراعاة الآداب والشرائط ولكن ذلك كله قد تهيأت له الأسباب في أواخر أيام بني أمية كما هي القاعدة الفطرية فإن تغير الأحوال الأدبية وغيرها لا يحدث بقيام دولة وسقوط أخرى وإنما هو نتيجة تغير خفي في أفكار الأمة وعقائدها ومكوناتها. وهذا التغير الخفي هو المؤثر الحقيقي في جميع ما يحدث للأمة من الاستحالات الأدبية والسياسية الخلقية. وقد انحصرت الخطابة لذلك العهد في تلكم الأحزاب السياسية التي استحالت إلى دينية وسميت بالمتكلمين ولاسيما بعد أن استهان الخلفاء بصلاة الجماعة والخطابة وقد بدأت هذه الخصلة في أيام بني أمية وأول من أحدث ذلك فيما أعلم هو الوليد بن عبد الملك الذي أهمل أول أدب من آداب الخطابة فخطب جالساً عَلَى المنبر ولم يكن للناس بذلكم عهداً وكثيراً ما لها الخلفاء بجواريهم عن صلاة الجمعة وأنابوا عليها القواد ورجال الحاشية وقد

تحدث صاحب الأغاني أن الوليد بن يزيد اصطبح يوم الجمعة فلما نودي للصلاة كره أن يفارق الكأس فبعث إلى الناس في المسجد الجامع بجارية تؤمهم في الصلاة. ومما أبدع الوليد في الخطابة أنه شرب في يوم الجمعة فلما أردا الصلاة قال لندمائه والله لأخطبن الناس شعراً ثم صعد إلى المنبر فقال الحمد لله ولي الحمد ... نحمده في يسرنا والجهد ثم استمر في أرجوزته حتى أتمها. لذلكم فقدت الخطابة منزلتاه السياسية وعظم شأنها الديني عند المتكلمين فتنبغ فيها واصل بن عطاء وغيره وقد أدخل المتكلمون في الخطابة كلمات خصها العلماء بهم وحظروها عَلَى غيرهم فقالوا أليس وليس يريدون الإثبات والنفي وقالوا لاشى المادة يريدون جعلها لا شيء وقالوا ماهية الحيوان يريدون حقيقته وقالوا كيفية الجسم يريدون شكله وصورته إلى غير ذلكم مما يخطئ في كتابنا حفظهم الله يستعملونه بغير حق وما هم في استعماله إلا ظالمون وقد تحدث الجاحظ رحمه الله أن بعض المتكلمين سمع في مجلس بعض الخلفاء رجلاً يتكلم ويقول أليس وليس فكاد يطير فرحاً ويتقد غيظاً فأما الفرح فلأنه سمع كلمته الاصطلاحية وأما الغيظ لأنه سمعها من غير متكلم أي من غاصب لها معتد عليها ولم يأت عصر المعتصم بن الرشيد حتى اعتمد العلماء عَلَى الكتابة وأخذ ظل الخطابة في الزوال وربما كان آخر الخلفاء الذين خطبوا الناس من بني العباس هو المتوكل بن المعتصم. نستفيد ذلك من قول البحتري في تهنئته بالعيد. . ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر مرة وتبشر الشعر أما الشعر فقد رقي في أيام بني العباس حتى كاد يفنى حسناً ولطفاً وقد تصرف في أنواع من القول وتعددت مذاهبه ومناحيه باتساع الحضارة واستفحال العمران وكبر العقول والمدارك وأظنكم تفهمون مقدار الفرق الكبير بين الشعر العباسي وغره من أنواع الشعر العربي إذا سمعتم قول بشار في الشورى إذا بلغ الرأي المشهورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم

أو قوله في المدح إذا أيقظتك خطوب الزما ... ن فنبه لها عمراً ثم تم أو قول أبي نواس في الغزل دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب عَلَى الخد الثيل ذرفت في ساعة الب ... ين من الطرف الكحيل إنما يفتضح العشا ... ق في وقت الرحيل أو قول البحتري في الاستعطاف سيدي أَنت ما تعمدت ذنباً ... فأجازى به ولا خنت عهداً أتراني مستبدلاً بك ما عث ... ت بديلاً أو واجداً منك ندا حاش لله أنت لتن ألفا ... ظاً وأحلى شكلاً وأصلح قدا أو قوله في وصف عواطف الحب والبغض إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها عَلَى أن القرن الثالث للهجرة لم يكد ينصرم حتى ذهب معه جمال الشعر العربي وأخذ الشعر يبدو في منظر سمج ومعرض رث. الكتابة بقيت صناعة من صناعات الآداب العربي لم نتكلم عنها في الجاهلية ولا في جميع الأعصر العربية إلى الآن وهي الكتابة وأظنكم تعلمون أن الجاهليين لم يكونوا عَلَى شيء منها لمكانهم من الأمية فأما في صدر الإسلام وأيام بني أمية فقد كانت الكتابة موجزة مجزاة إلى أن جاء عبد الحميد كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء من بني أمية فأطال فيها وترسل قفى أثره كتاب العباسيين ولكنهم بالغوا في الأطناب وأغرقوا في الترسل وظهرت في رسائلهم صبغة الفلسفة التي اصطبغت بها عقولهم وقد أخذوا عن اللغات الأخرى كثيراً من الأساليب الجديدة ونبغ فيهم أمثال ابن المقفع والجاحظ وابن وهب ولم يأت القرن الرابع للهجرة حتى أخذت الكتابة العربية في الانحطاط وأخذ التكلف والمحاولة مكان الترسل والسهولة الفطرية.

العلوم في أيام بني العباس اشرنا في أيم بني أمية إلى ما أصاب اللغة من اللحن والتحريف وقلنا أن العرب أشفقوا عَلَى اللغة أن تفسد وعَلَى الكتاب أن تعبث به الألسنة فنهضوا لوضع النحو والصرف وجميع اللغة وتدوينها ولكن ذلك لم يتم الا في أيام بني العباس إذ نهض ائمة البصرة والكوفة فأخذوا اللغة عن قبائل العرب الخلص الذين وثقوا منهم بعد مخالطة الهند والفرس والروم والحبش والقبط ثم دونوها في الكتب فاستنبطوا منها قواعد الألفاظ من نحو وصرف واشتقاق ووضع الخليل بن أحمد علم العروض والقافية وأصلح الخط ووضع شكله المعروف إلى الآن مقتطفاً الفتحة من اللف والكسرة من الياء والضمة من الواو كما يظهر ذلكم في مقابلة هذه الحركات إلى تلكم الحروف وقد توسع سيبويه في النحو والصرف فألف كتابه المعروف الشائع إلى الآن وألف الخليل بن أحمد أول معجم لغوي وهو كتاب العين وأخذ العلماء يصنفون الكتب الأدبية يجمعون فيها أطرافاً من جيد الشعر وبارع النثر ليستظهرها الطلاب فيستعينوا بها عَلَى تقوية الملكة العربية وتقويم الألسنة وتفرغ قوم لرواية الحديث وآخرون لرواية المغازي والتاريخ وأيام العرب وغيرهم من الأمم وانفردت طائفة لاستنباط الحكام وتشريع القوانين وتدوينها وآخرون لرواية القرآن وعام القراآت واختصت جماعة بنقل الكتب الفلسفية في العلوم المتنوعة عن المم المختلفة وشرحها والزيادة عليها وعَلَى الجملة لم تجد اللغة العربية عصراً كهذا العصر أصبحت فيه لغة العقل واللسان والوجدان والدين ولكن ما ينفعها ذلكم وقد أصابتها الخطر الداهم الذي لا دافع له ولا مندوحة عنه فقد أصبح فساد الألسنة عاماً وأصبحت اللغة الفصحى في الحواضر مقصورة عَلَى العلماء والخاصة وأما عامة الناس فأخذوا يتكلمون بلغة سيئة اللهجة فاسدة التركيب سوقية الأسلوب وظهر إن ذلكم الدواء الذي التجأ إليه العرب لم ينفع إلا في حفظ اللغة والكتاب من الفساد فأما تقويم اللسنة وتهذيب المنطق فلم يكن قادراً عليهما قد أخذ العامة يخترعون لهم فنوناً خاصة من الشعر لا يزال كثير منها باقياً إلى الآن وهو الذي يدور عَلَى السنة العامة والمغنين ولم يأت القرن الرابع حتى بدأ عصر الانحطاط. سقوط اللغة العربية ففي ذلكم القرن بدت بوادر العلة عَلَى اللغة فذهبت نضرتها وتصوت زهرتها ومال الكتاب

إلى السجع البارد والازدواج الفاتر والتكلف الممقوت وأخذ العلماء يستنبطون علوم الأساليب كالبيان والمعاني فلهوا بالقديم من جيد الكلام عن أحداث الجديد من أمثاله وقد اخذ الشعراء يتعلقون بأهداب البديع ويتشبشون بمحسنات اللفظ ويغلون في المجاز والاستعارة حتى صار لشعرهم معرض رث ومنظر سمج ولعل لآخر من أجاد من الشعراء في هذا القرن عَلَى الطريقة الفنية الصحيحة المبرأة من العيب والنقد هو الشريف الرضي رحمه الله فأما المتنبي وأبو العلاء فقد عنيا بالمعاني أكثر مما عنيا بالألفاظ عَلَى أنهما كانا يحاولان الإجادة اللفظية فيقعان في التكلف الممقوت ليظهرا أنهما قادران عَلَى اللغة ومحيطان بها وحسبكم من ذلكم لزوميات أبي العلاء وما فيها من اصطناع الحواشي واتخاذ الطرق الوعرة. فأما المتنبي فلا أَستطيع أن أحصي سرقاته واستعاراته الباردة وتكلفه الممقوت وشغفه بالمحسنات اللفظية ولقد أحفظ من شعره ما لو أنشدتكم إياه الآن لظننتموه لغة فارسية أو هندية عَلَى أن كل ذلكم لا يغض من قدر الرجلين في الحكمة والفلسفة أما الخطابة فلم يبق لها أثر في ذلكم العصر وأما الكتابة فقد كثر فيها السجع والتكلف وكما قلنا وقد الفت كتب كلها عَلَى طريقة السجع وقد استعجمت الألفاظ ونشا في هذا العصر نوع من الكتابة ليس له نتيجة إلا الدلالة عَلَى المقدرة اللغوية كمقامات الحريري التي لا أريد أن أُصفها إلا بان كلام الجاهلين اقرب منها فهماً وأسوغ منها مذاقاً وأحسن في الإسماع وأدنى في الانطباع ولم يأت القرن السادس حتى لزمت اللغة العربية كلها وأخذت في الاحتضار وهنا يصعب علي أيها السادة أن أرافق اللغة وهي تحتضر فلأدعها الآن ولبحث عن أسباب نموها وسقوطها. أسباب نمو اللغة العربية في اللغة العربية مزايا ثلاث هن أسباب نموها وارتقائها وهن الاشتقاق والمجاز والتعريب. فأما الاشتقاق فهو تغيير مادة الكلمة تغييراً قريباً أو بعيداً أو أبعد إلى صور مختلفة للدلالة عَلَى معان متنوعة فكلمة الرفع مثلاً تدل عَلَى العلو فإذا غيرت إلى الفرع دلت عَلَى الغصن وإذا غيرت إلى العرف دلت عَلَى الطيب وإذا غيرت إلى العفر دلت عَلَى التراب ثم لنا أن نأخذ منها رفع بالتحريك للدلالة عَلَى الماضي وكذلكم يرفع ورافع ومرفوع الخ.

وأما المجاز فهو إطلاق الكلمة عَلَى غير معناها لعلاقة بين الجديد والقديم مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأول فنستطيع أن نطلق الغيث عَلَى النبات لأنه سببه وأن نطلق النبات عَلَى الغيث لأنه مسبب عنه وأن نطلق العين عَلَى الرجل لأنها جزء منه وأن نطلق الأسد والبدر عَلَى الشجاع والجميل لن بينهما مشابهة ومشاكلة وأما التعريب فهو نقل كلمة أجنبية إلى اللغة العربية واصطلاحها حتى تصير عَلَى الوزان المقبسة المعروفة وهذا النوع كثير في كلام الجاهليين وفي القرآن الكريم وكثرته في عصر الأمويين والعباسيين مدهشة. . . فهذه المزايا الثلاث التي توجد في اللغة العربية أكثر مما توجد في اللغات الأخرى وقد جعلت اللغة مستعدة للنماء والارتقاء قابلة لكل جديد مرحبة بكل طريف لا تضيق بها مهما كان أمره ولذلك استطاعت أن تسع حضارة الفرس والروم وأن تحيط بأنواع العلوم عَلَى اختلافها من غير أن تشكو فقراً وتظهر احتياجاً. وفي اللغة العربية عيبان عارضان وهما كثرة الترادف والإغراق في الاشتراك أما الترادف فهو دلالة الألفاظ الكثيرة عَلَى معنى واحد وأما الاشتراك فهو دلالة اللفظ الواحد عَلَى معان كثيرة. الترادف والاشتراك طبيعيان في كل لغة ومصدرهما اختلاف الأذواق وتباين المشارب في الواصفين وهما من أقوى الأدلة عَلَى أن اللغة من وضع الإنسان فهما ليسا من عيوب اللغة وإنما كثرتهما هي العيب وقد وجدت هذه الكثرة في اللغة العربية وبلغت حداً فاحشاً حتى أن بعض المعاني ليدل عليه المئات الكثيرة كما أن بعض الألفاظ بما دل عَلَى عشرات المعاني. ومع السرور أيها السادة أقول أن هذا العيب ليس طبيعياً في اللغة العربية وإنما هو عارض محدث وأول عهد الناس به بني أمية وبني العباس فقد علمنا أن العرب كانوا ذي لهجات متباينة ولغات متباعدة في الجاهلية ثم غلبت لغة قريش عَلَى اللغات بواسطة السواق وظهور الإسلام فلما نهض الأئمة لجمع اللغة وتدوينها اخذوا لغات القبائل الصريحة عَلَى علاتها وخلطوها من غير تفريق ولا تمييز فنشأ من ذلك كثيرة المعاني للفظ الواحد وكثرة الألفاظ للمعنى الواحد وهذان هما الترادف والاشتراك. هذه هي أسباب نمو اللغة العربية وثروتها وأنتم ترون بأنها كافية بان تجعل اللغة العربية

من أقوى اللغات وأقدرها عَلَى الحياة كما أنها قد جعلت في اللغة كثيراً مما لا حاجة إليه. أسباب سقوط اللغة أما سقوط اللغة فلم يكن عن ضعف فيها أو فتور في طبيعتها وغنما هو نتيجة سبب لا أعرف غيره وهو تغلب العجم عَلَى العرب وتعمدها إشهار الحرب عَلَى اللغة والدين والجنسية العربية حتى أتوا عليها جميعاً فأنتم تعلمون أن طبيعة الإنسان وتوجب عَلَى الأمة الغالبة أن تبذل قوتها في أن تجمع السيادة للغتها ودينها وآدابها ومن حسن حظ الإسلام أن الأمم التي تغلبت عَلَى العرب لمتلبث أن دانت به واتخذته ديناً ولولا ذلك لحاربته وناوأته كما حصل ذلكم في بلاد الأندلس أيام تغلب الفرنج عَلَى المسلمين فقد استحالت المساجد فيها إلى كنائس ولم يبق للإسلام بها أثر قليل ولا كثير ومن حسن حظ اللغة العربية أن الإسلام لا يستطيع أن يستغني عنها لأن القرآن عربي والسنة عربية والفقه القديم عربي ولولا ذلكم للحقت اللغة العربية بأخواتها القديمة الدارسة أو لأصبحت لغة صناعية كاللاتينية واليونانية القديمتين. نهضة اللغة العربية في العصر الجديد اقبل هذا العصر الجديد وقد أتت لغة الترك عَلَى اللغة العربية في الشام والعراق وبلاد العرب وطردتها فارس من بلاد الفرس فظلت لغة الدين في بلاد الدولة العلية وبها حديث العامة مع تحريف قبيح بلهجات سيئة يمقتها المصري وإن كانت لغته وقد أصابها من التحريف شيء كثير أنا الفرس فينطقون بها القرآن الكريم عَلَى غير ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم يفخمون حروفاً ويرققون أخرى وربما لم يتيسر لهم الإعراب في التلاوة وقد ناهضت لغات الإفرنج والبربر عربية المغرب في شمال أفريقية فشوهت محاسنها وجعلتها بحيث لا تكاد تفهم. نعم إنها لا تزال لغة المساجد والدين ولسان العامة ولكن الفرنج قد أتوها من ناحية لا تأمن معها الفناء فأخذوا يعلمون لغتهم للأحداث ويهملون تعليمهم اللغة العربية حتى ينشأ أحدهم وهو لا يعرف من لغته إلا الرطانة السوقية التي يصطنعها العامة في أحاديثهم وهي خليط من العربية والبربرية والفرنسية والإسبانيولية فقد ظهرت نتيجة هذه الحرب الضروس فكره شبان الجزائر لغتهم وزهدوا فيها حتى أن كتب الدين الإسلامي ربما ألفت لهم

بالفرنسية. أما في مصر فلم يكن نصيب اللغة من الفساد قليلاً بل كان كثيراً غالباً في الكثرة وحسبكم أن من العسير جداً أن تجدوا كاتباً مصرياً يجيد الإعراب في هذه العصور الأخيرة التي تنتهي قبل الآن بأقل من نصف قرن غير أن الأحوال قد تغيرت في مصر والسام تغيراً غير قليل في هذه الأيام فنهض من القطرين رجال حاولوا إتقان اللغة والنبوغ في فنونها فأدركوا من ذلكم نصيباً موفوراً ثم عكفوا عَلَى إحياء اللغة بنفس الطريقة التي اصطنعت أيام بني العباس وهي طريقة النقل والترجمة وليس من السهل ولا من المفيد أن نبحث عن أي القطرين كان أسبق إلى ذلكم وأحرص عليه ولكن يكفي أن نشير إلى أسباب النهضة ومقدماتها وذلكم غير عسير. للنهضة اللغوية في نمصر زعيمان لكن منهما ركن يأوي إليه ويعتز به أما أولهما فالمرحوم رفاعة باشا نهض لإحياء اللغة بفضل الأمير الجليل رأس الأسرة المالكة في مصر فقد أتقن العلم باللغة ونبغ في كثير من الفنون واخذ يترجم ويأمر أقرانه وتلاميذه بالترجمة ويصلح كثيراً من راجمه حتى وجد في اللغة العربية كثير من الكتب المختلفة في أنواع العلوم وكل ذلك يرجع الفضل فيه إلى الوفود العلمية التي كان يبعثها ذلكم الأمير الجليل إلى بلاد الفرنج لتدريس العلم وتعود إلى مصر فتنقله إليها بلسان عربي مبين. نعم عن ذلكم لن يتيسر كل التيسر فإن كثيراً من تلكم الكتب يشينها سوء السبارة وغموضها وسوقية اللفظ وسقوطه ولكن صدق المثل القائل ماش خير من لاش عَلَى أن هذه النهضة لم تكن إلا مقدمة فمن الخطأ أن نتمنى لو كانت راقية كل الرقي أو بالغة الكمال. أما الثاني فهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه ومعينه هو الوزير الخطير المرحوم مصطفى رياض باشا فقد نشا الأستاذ رحمه الله محباً للعلم عاكفاً عليه وكان كما تعلمون ذكي القلب ثاقب البصيرة ماضي العزم شديد الصريمة فلم يلبث أن نبغ في كثير من الفنون وبلغ ما لم يبلغه مصري قبله ولا بعده وعلي لا أغلي إذا قلت في جميع أيام التاريخ حتى الآن. وقد أتقن رحمه الله اللغة الفرنسية وعرف ما تشتمل عليه من العلوم فاخذ يحث مريديه عَلَى ترجمة الكتب النافعة ويشجعهم ويعمل هو لذلك بقد رما يستطيع وأخذ يجد أيضاً في

إحياء كثير من الكتب العربية القديمة وحسبكم أن كتاب المخصص في اللغة الذي ألفه ابن سيدة الأندلسي إلا أثراً من آثاره مساعديه من رجال الإصلاح المخلصين وقد مات رحمه الله وله عَلَى اللغة فضل كثير وقد أصلح من لسان الحكومة غير قليل فحل منه عقدة كان معها أعجم لا يبين. أما الآن فقد أصبحت نهضة اللغة في مصر فوضى ليس لها من زعيم ولذلكم كثر التخليط في الألفاظ والأساليب فالشعراء والكتاب يسترسلون في التعبير عن ضمائرهم غير جارين عَلَى قاعدة ولا معتمدين عَلَى قياس في كثير من الأحيان. الأزهر أجمع المؤلفون في تاريخ الآداب العربية من أبناء هذا العصر عَلَى أن الأزهر الشريف كان هو المعقل المنيع والحصن الحصين الذي احتمت فيه اللغة العربية من إغارة اللغات الأخرى عليها. واسمحوا لي أيها السادة بان هذا خطأ ليس له من الحق نصيب ولست أريد أن أستدل عَلَى ذلكم بل يكفي أن ترجعوا إلى كتاب المحاماة الذي ألفه الأستاذ الجليل فتحي زغلول باشا فإنكم ستجدون فيه من كلام العلماء وفيهم الأدباء المنشئون ما يضحك الثكلى ويسلي هم الحزين فإن أعياكم هذا الكتاب فارجعوا إلى كتب الأزهر بين انسهم فإنها تستطيع وحدها أن تبرهن عَلَى ما أدعيه فإن أعياكم فهم هذه الكتب فكتاب صغير يباع بثمن قليل اسمه إنشاء العطار أرجوا أن ترجعوا إليه فإنكم ستجدون فيه أحسن فكاهة لكم في أوقات الفراغ ولا تزال لغة الأزهر الشريف إلى الآن مع الأسف متأخرة عن لغة غيره من المدارس ومعاهد العلم وحسبكم دليلاً عَلَى ظلم الأزهر للغة العربية أن كتاباً واحداً من كتب الدب واللغة لم يكن يدرس فيه فلم جاء الأستاذ الإمام أنر أن يقرأ فيه كتاب الكامل للمبرود ولكنه لم يكد يخرج من الأزهر حتى ألغيت قراءة الكتاب إلى أن جاء شيخ الأزهر الحالي فارجع الأمر كما كان. والنظام الجديد هو الذي أدخل في الأزهر آداب اللغة كما أدخل غيره من العلوم الحديثة. المدارس نخطئُ كل الخطأ إذا اعتمدنا عَلَى المدارس في تقويم الألسنة وإصلاح المنطق فإن هذه

لمدارس لا تزيد عَلَى تلقن الطلاب شيئاً من قواعد النحو والصرف والبلاغة وليس ذلك بمغن عنا شيئاً وإنما السبيل والواضحة إلى ما نريد هي تمرين الطلبة عَلَى الإصابة في القول والإعراب في النطق مع درسهم مادة اللغة وأساليبها واستظهارهم الكثير الجيد من آداب القدماء وقد سلكت مدرسة القضاء شيئاً من هذا في أول أمرها فحظرت عَلَى الطلاب أن يتكلموا فيها إلا باللغة الفصحى وقال الأستاذ الجليل عاطف بك بركات فيما كتبه عن المدرسة في سنتها الأولى أنها إذا استمرت عَلَى السير في هذه الطريقة لم تلبث أن تصير قطعة من الحجاز في صدر الإسلام ولكن يظهر أنها قد أخطأت الطريق وجرت مع غيرها من المدارس في مضمار واحد. نهضة اللغة في العصر الجديد الصحف ولقد نخطئ خطأ كبيراً إذا جحدنا فضل الصحف عَلَى اللغة فقد جاهدت في ترقية اللغة وإصلاحها بما تخيرت من شريف الألفاظ والأساليب عَلَى انها لم تلبث أن التجأت كارهة إلى إدخال كثير من الأعجمي فيها وكثيراً ما تتعلق بالسجع وتتمسك بأهداب البديع حتى صار كثير مما ينشر فيها نوعاً من الأوابد والألغاز عَلَى أن المجيدين من كتابها قليلون. الصحف الرسمية يسوءني أيها السادة أن اقرأ في صدر الجريدة الرسمية الأمر العالي يختم باسم مليك مصر وارى في المجموعة الرسمية حكم القاضي مصدراً بهذا الاسم الكريم ثم أنظر في ألفاظهما فلا أرى من الفرق بينها وبين ألفاظ العامة إلا قليلاً ويسوءني أيضاً أن اقرأ في الصحف الرسمية رسائل الحكومة وقراراتها ثم أقران بينها وبين ما كان يصدر عن الحكومية العباسية والأموية من رسائل الصابئ وعبد الحميد فأرى الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء ولئن حق الاعتذار عن الحكومة في الأيام الماضية فإني لا أجد ما اعتذر به عنها الآن فقد أصلح الأستاذ الإمام رحمه الله جريدتها الرسمية وحلاها بمثير من الفصول النافعة ولكنه لم يكد يتركها حتى اقتطع نصفها وعادت إلى ما كانت عليه فيه من سوء اللهجة وفساد العبارة.

وإنه ليحسن بالحكومة التي تعمل عَلَى إصلاح اللغة في البلاد أن تصلح لغتها قبل كل شيء حتى يثق الناس أنها إنما تعمل ذلك في بنية صادقة وعزم صحيح. الشعر لم يكن للشعر العربي أن يرقى بعد فساد السليقة اعوجاج الألسنة لذلكم انحط في الأيام الماضية حتى يكاد ينسى ولكنه الآن قد ارتقى بعض الشيء عَلَى أنه لا يزال منحطاً بالقياس إلى الشعر العربي القديم وإلى رقي الإنسان في هذا العصر وإن كان بالقياس إلى شعر القرن الماضي في أرقى الدرجات عَلَى أن العامة قد سلكوا في التعبير عن شعورهم مسلك الإسجال والأوزان البلدية وانقطعت العلاقة بينهم وبين الشعراء الذين اصطنعوا اللغة الفصحى كما قلت في أول المحاضرة. الخطابة أما الخطابة فهي الآن قسمان أحدهما خطابة المسجد وهي عبارة عن ألفاظ فارغة قد ملئت بها كتب كثيرة يحفظها أئمة المساجد ويتلونها عَلَى الناس من غير أن يكون لها أثر محمود وأنا أترك لكم تقدير نكبة المنابر الإسلامية بهؤلاء الخطباء بعد أولئكم المصاقع المناطيق. ومن المضحكات أن القاعدة في صدر الإسلام هي اعتماد الخطباء عَلَى السيوف في البلاد التي فتحت عنوة وعَلَى العصي في البلاد التي افتتحت صلحاً فلما خلف هذا الحلف أصبح أئمتنا يعتمدن الآن عَلَى سيوف من خشب عَلَى نحو من التقليد الممقوت. الثاني خطابة الأندية والجماعات عَلَى حد سواء كانت سياسية أو علمية أو أدبية وهذا النوع كثيراً ما يشتمل عَلَى المباحث المفيدة ولكن آداب الخطابة العربية قد تنوسيت فيه واستبدلت منها آداب جديدة بين العامية والإفرنجية وقد استباح الخطباء لأنفسهم في الخطابة أشياء لم تكن مستباحة من قبل بل كانت محظورة عَلَى الخطباء كالسعال وشرب الماء وغيرها أما لغة الخطابة فليست بتلكم اللغة الراقية وإنما هي عامية في كثير من الأحيان وبما يخلط الخطيب بين اللحن والإعراب ومصدر ذلكم أنه لم يحسن درس اللغة حين بدأ في تعلمها. طريقة الإصلاح لا اعرف في إصلاح اللغة إلا طرقاً ثلاث قديمة غير جديدة أي أني لست مبتدعاً لها بل قد

سبقني لها المصلحون الأولى نشر الآثار القديمة للعرب وإحياء ما ألفوه من كتب العلوم والآداب ليقراها الناس فيحصلوا عَلَى نتيجتين لازمتين إحداهما معرفة الأساليب العربية الصحيحة واستظهار الألفاظ المتخيرة والوقوف عَلَى مبلغ ما كان للقوم من سعة المدارك والعقول - الثانية شعور القراء بفخامة ذلكم المجد الضائع والشرف المفقود شعوراً يدفعهم إلى النهوض لاسترداده وإعادة ما كان له من منزلة سياسية ومكان رفيع ويلحق بهذه الطريقة ترجمة الكتب النافعة مما ألفه الفرنج لنتسع بها العقول وترقى النفوس وقد جرى الأستاذ الإمام رضي الله عنه في هذه الطريق شأواً بعيداً فألف جماعة إحياء الكتب العربية التي نشرت المخصص وغيره من الكتب فلم يمت رحمه الله حتى نقض عقدها ولم يبق لها أَثر في الوجود وقد قرأت للحكومة في السنة الماضية قراراً في هذا الموضوع بفضل أستاذي الجليل أحمد زكي باشا وكن مضى عليه العام ولم تظهر له نتيجة أو أني لأخشى أن يكون قد لحق بأمس الدابر - الثانية تأليف جماعة من أُولي العلم باللغة والبصر بمادتها وأساليبها تقوم بما يحتاج إليه هذا العصر من تنمية المحدثات عَلَى إحدى الطرق التي أرت إليها آنفاً وهي الاشتقاق والمجاز والتعريب وتعمل عَلَى استبدال كثير من الألفاظ العامية بمرادفاتها من اللغة الفصحى وتشرف عَلَى أساليب الكتابة والشعر والخطابة فتذود عنها ما يدخله عليها الواغلون من أدعياء الشعراء والكتاب وإنما احتجنا إلى هذه الجماعة الآن لما تعلمون من أن اللغة الفصحى قد أصبحت الآن صناعية فلن تبلغ مكانتها الأولى إلا إذا وجدت لها من أهل السلم أطباء حاذقين يحسنون الطب لدائها والتلمس لدوائها وقد وجدت منذ سنين لسيء من هذا العرض في نادي المعلمين فاستبشرنا ورجونا الخير فاستقبلتها الصحف بالحمد والإغراق في الثناء ولكنها لم تلبث أن غطت في نوم عميق وأملها الآن تحلم بحسن الظفر وتحقيق الآمال. الثالثة تعويد الأطفال من أول عهدهم الإصابة وتخير الجيد من القول عَلَى الطريقة الممكنة حتى يشبوا وقد قويت السليقة العربية قلم يحتاجوا إلى القواعد إلا من حيث أنها نوع من الفلسفة اللغوية كما هو عملها الحقيقي ولست أرى لأكفأ لهذا العمل ولا أقدر عليه من الأستاذ أحمد أفندي القطان في بستانها الصغير الذي خطبكم فيه منذ أيام فإذا استطاع هذا الأستاذ أن يعدني بأنه سينشئ اللغة الفصحى في هذا البستان كما ينشئ الخلاق والعقول فقد

حق له عليّ الثناء الجميل وقد حق علينا جميعاً أن ننهض ونبذل ما نستطيع لإيجاد هذا البستان وأمثاله وبهذه الطرق الثلاث التي فصلتها الآن تفصيلاً نستطيع أن نضمن للغة استرداد مجدها القديم. طه حسين

الاشتيام أو الاستيام

الاشتيام أو الاستيام والمتلمظة أو المتملطة معنى الاشتيام (بالشين وبالسين) عَلَى ما أثبته اللغويون وصحة ورود اللفظة بلغتين وجمعها. ما معنى الاشتيام بالشين المثلثة النقط والاستيام بالسين المهملة؟ هذه اللفظة لم ترد في محيط المحيط لا في مادة ش ت م ولا في مادة س ت م بل ولا في اش ت م أو اس ت م وقد وردت في ذيل اقرب المورد نقلاً عن اللسان قال في مادة ش ت م: الاشتيام بالكسر: رئيس الركاب (اللسان) ولم يزد عَلَى هذا القدر. وأما أصحاب الصحاح والمصباح والأساس والقاموس والإقيانوس والبابوس ومطلع النيرين وابن الأثير والسيوطي وغيرهم فلم يتعرضوا لها. وقد ذكرها السيد المرتضى في مستدرك مادة ش ت م إذ قال: الاشتيام: رئيس الركاب. عن ابن برّي. ولم يفدنا عن أصلها ولم يذكر شرحها أكثر من هذا القدر. وأما الإفرنج من علماء اللغة العربية فلم يذكروها وقد نسبها غوليوس وفريتاغ وقزميركسي ودوزي. وقد ذكرها لين في معجمه مد القاموس قال: الاشتيام بالكسر (والظاهر من قوله (أي من قول صاحب تاج العروس) بالكسر أي أن يقال الاشتيام) وهو رئيس الركاب عَلَى ما فسره ابن برّي. (والظاهر من قوله: رئيس الركاب أي ركبان الخيل (كذا) لكن من أين أتت هذه اللفظة. ذلك ما لا أعلمه. اللهم إلا أن تكون معربة عن الفارسية استايام إن وجد عند الفرس مثل هذه اللفظ. ومعناها رئيس خيل البريد). أهـ قلت: هذا كله كلام لين اللغوي الإنكليزي العارف بأصول العربية إلا قولي: (أي من قول صاحب تاج العروس) وقولي: (كذا) فهي مني زدتها لفتاً للنظر. وهو في كلامه هذا بعيد بعد الثريا عن الثرى. ولعل البعض يرميني بسوء النقل أو الترجمة فماءنذا أورد هنا كلامه بنصه وحرفه الإنكليزي. قال: الاشتيام الاشتيام رئيس الركاب رئيس الركاب أستايام وليس هذا الغلط هو أول غلط وقع فيه هاويته هذا اللغوي الإنكليزي ولا هو الأخير ففي

معجمه من الأغلاط لو تجسمت لقامت بين يديك كالجبال الشامخة. وليس هنا موطن ذكرها. هذا فضلاً عن أنه فاته ألفاظ ومواد كثيرة جاءت في القاموس أو تاج العروس بل في أصغر معاجم اللغة ودواوينها وهي لا توجد فيه ولا ذكر لها أو لمادتها أو أصلها في ديوانه. قلت: والمراد من كلام ابن برّي: رئيس الركاب هم ركاب السفينة لا غير كما يتضح تبيانه في ما يلي من الكلام وإيراد النصوص وكما يظهر معناه لأول وهلة. وأما الاستيام بالسين فقد وردت في تاج العروس. قال في لسان العرب مصحح طبعه في هامش مادة م ل ط: قوله والمتملطة الخ كذا بالأصل هنا (أي الاشتيام بالشين) وشرح القاموس قال: وسيأتي في ل م ظ وقد ذكر الاستيام هناك بالستين المهملة وعزاه للتكملة. وحرر كتبه مصححه. أهـ قلت أنا: والاستيام وردت كثيراً من نسخ كتب التاريخ كمؤلفات الطبري والمقدسي لا بل وقد قال الجواليقي 154) أن اللفظ الفصيح الصحيح هو الاستيام بالسين وشرحها هناك بمعنى: صاحب المتاع مع أن الكاتب نفسه ذكرها في كتابه المعرَّب باشين وإن وردت في بعض نسخ كتابه القديمة بالسين إذ يقول: السبيحي والجمع السيابحة: قوم من السند يكونون مع اشتيام السفينة البحرية وهو رأس الملاحين أهـ. ولم يذكرها الخفاجي في كتابه شفاء العليل. والظاهر أن لغتها بالسين أي الاستيام أفصح من الاشتيام بالشين المعجمة. لأن بعض أهل الجزائر يقولون إلى عهدنا هذا: ستم السفينة أوقفها في المرسى أو أرساها هنيهة من الزمان. وقد تلقى دوزي هذه الكلمة من الكتب ورىها هناك مكتوبة بالميم الممتدة لا بالميم الطويلة والملم الممتدة تشبه الراء أي أنه رىها مخطوطة: ستم فقرأوها ستمر واثبتها في معجهمطه ستمر قال: معناها أي ستمر (وهو لم يضبطها بل وضع بجانبها الرقم الروماني للدلالة عَلَى أنها من وزن الأول من الرباعي أي ستمر وعزاها في الآخر إلى أي نقلاً عنه. فانظر إلى هذا النقل وإلى هذا الإسناد. وقد وقع مثل هذا الغلط المتولد من سوء قراءة الميم لطابع كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني وهو العلامة ذي خوي في الصفحة 9 قال: فيه (أي في البحر) سمكة يقال لها الأطمر (هكذا وردت مضبوطة بالوجهين أي عَلَى وزن دغفل وزيرج) وما هي إلا كلمة أطم كتبت ميمها الأخيرة ممدودة

بشكل راء أي هكذا أطمفظنها القارئ أو الناسخ أو الطابع أو من تشاء ميماً وراء. فصارت أطمر ونفس الكلمة أطم مصفحة عن أطوم. فانظر إلى هذه اللفظة التي تطورت أطواراً بيد الكتاب وقالوا فيها أيضاً لطوم. وظلوم ولطم. ولظوم ولطيم وغير هذه التصحيفات إلى ما شاءت أهواء النساخ والقراء. وممكن ذكر الاستيام بالسين المهملة غير الصاغاني في التكملة التاج في م ل ط ومصحح اللسان في م ل ط أيضاً والجواليقي وهو أبو القاسم في كلامه عن لغة الملاحين. وأما جمع اللفظة فلم يرد في كتب اللغة إلا أنه ورد مكسراً أو صحيحاً في كتب المؤرخين وأصحاب وصف البلدان. فقد جاءت اللفظة مكسرة في كتاب المقدسي المسمى بأحسن التقاسيم ص 10 قال وصاحبت مشايخ فيه ولدوا (أي في المحيط الهندي) ونشأوا من ربانيين وأشايمة أو في رواية وأسلمه (هكذا مكتوبة بدون نقط) وقد جاءت مجموعة جمعاً سالماً في تاريخ الطبري في عدة مواطن منها في قوله: حتى إذا استمرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير. . . ومنها في قوله الآخر: فصكت الشذوات بعضها بعضاً حتى لم يكن للاستيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل فاحفظ الجمعين تصب إن شاء الله تعالى. 2 - معنى اللفظة عَلَى التحقيق يتحصل هذا المعنى من كتاب تاريخ الطبري. قال في حوادث سنة 251هـ ... 865م ما قد مر بك أن لغويي العرب قالوا في معنى الاشتيام والاستيام: رئيس الركاب والملاحين ولم يخرجوا عن حيز هذا المعنى. إلا أن المعنى الأصلي كان لرئيس الملاحين أو لرئيس السفن البحرية الذي بيده الأمر والنهي وكل ما يتعلق بسير السفينة أو إيقافها إلى غير ذلك. نصه: ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة (إلى بغداد) عشر سفائن حربية تسمى البوارج. في كل سفينة اشتيام وثلثه نفاطين ونجار وخباز وثلثون رجلاً من الجذافين والمقاتلة ومن هذا النص يؤخذ أن الاشتيام (وفي نسخة الاستيام) هو كبير البارجة البحرية ويقابله بالفرنسية ' وقال في حوادث سنة 265هـ ... 878م: واستخلف (الجبائي) عَلَى الشذوات الاشتيام الذي يقال له الزنجي بن مهربان فهنا المراد بالاشتيام أمير الشذوات كلها (وهي ضرب من

السفن البحرية والنهرية التي تتخذ في الحروب) فيكون معناها بالفرنساوية وذكر في حوادث 267هـ ... 880م. محمد بن شعيب الاشتيام والمراد به رئيس المراكب البحرية الحربية لأنه يقول بعد ذلك: خرج الجبائي وسليمان في الشذوات والسميريات وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه فأمر نصيراً المعروف بابن حمزة أن يبرز للقوم في شذواته ونزل أبو العباس عن فرس كان ركبه ودعا بشذاة من شذواته قد كان سماها الغزال وأمر اشتيامه محمد بن شعيب باختيار الجذافين لهذه الشذاة وركبها إلى آخر الرواية مما يدل عَلَى أن محمداً هذا كان تحت إمرته عدة شذوات وسميريات. ومما يزيدنا ثباتاً في هذا الرأي كلام ابن صاحب الصلاة إذ يقول: تقلد الحكم عليها (السفينة) اشتيام ذو تيقظ واستبصار. وعليه فكلمة الاشتيام تدل عَلَى ما يقابله بالفرنسية هذا هو المعنى الأصلي عَلَى التحقيق في عهدالعباسيين. لكن لما انقطع العهد بالمحاربة عَلَى الشذوات والسميريات وبقي القوم يركبون السفن المذكورة لغاية التجارة والسفر أصبح الاشتيام بمعنى رئيس الركاب والملاحين معاً وله محل خاص كما في السابق لا يجلس فيه غيره وسموا هذا المقعد المتلمظة أو الملمطة كما سيجئ ذكرها. ولا يمكن أن يتصور الواحد أن يكون مقعد خصوصي لغير كبير السفينة. مثلاً أن يكون لخازن أمتعتها أو لخازن أطعمتها أو كما تخيله بعضهم فالمقعد الخاص هو للرجل الممتاز بين الجماعة والمتقدم فيهم لا غير. 3 - الاشتيام والاستيام من أصل يوناني لا من أصل فارسي أو إرمي قد مر بك أن لين العلامة الإنكليزي قال أن اللفظة من الفارسية وهي فيها أستايام أي رئيس خيل البريد والجال هذه اللفظة غير موجودة في لغة الفرس لا بالمعنى الذي ذكره لين ولا بمعنى آخر. وأما العرب فقد رايت أنهم يشيروا إلى عجمة اللفظة وكل مرة ذكروها اعتبروها كأنها عربية محضة مع أنها لا مناسبة بينها وبين مادة ش ت م أو س ت م وعليه فمن المحال أن تكون عربية المنبت. بقي علينا أن نقول إما أنها من أصل إرمي وإما من أصل يوناني. وزقد ذهب المستشرقون

إلى أنها من أصل إرمي فقد قال فرنكل وذي هوي وباين سمث ولاوي وبكسترف وكل من تلا تلوهم أنها من إشتياما أي الاشتيام مبنىً ومعنىً وفسروها بالخاتم أي الذي يضع الختم عَلَى الشيء بعد أن يسده أو يغلقه. وقالوا أن معناها كما ذكره بابن سمث صاحب المتاع المحمول في السفينة أي يقابلها بالفرنسية وهي مشتقة من ش ت م: الإرمية أي سد وختم وسدم وسطم. قلت: إني لا أنكر أن كون اللفظة جاءت أيضاً بمعنى صاحب الأمتعة المحمولة في السفينة. إلا أن هذا المعنى فرعي وأقدم معنى وصل إلينا هو المعنى الأول: أي رئيس الملاحين الموجودين في سفينة واحدة وفي عدة سفينة بحرية كانت أو نهرية. حربية أو تجارية ثم إن فعل شتم أو ستم الإرمي لم يرد إلا قليلاً وزلم يأت في كتب الإرميين بالمعنى المذكور فالذي جاء في معجم ابن بهلول في معنى اشتياما: هو صاحب المتاع المحمول في السفينة كما نقله عنه باين سميث. ولم يذكر الفعل شتم أو ستم الإرمي. وجاء في كتاب دليل الراغبين في لغة الآراميين ص44 اشتياما: صاحب وسق السفينة أيضاً: خليفة تاجر الصحراء ووكيله ويحمل له الأثمار إلى الأهرآء لوقت الغلاة بأجرة معلومة اهـ. ولم يذكر كلمة الاشتيام العربية كما لم يذكر في كتابه الفعل شتم أو ستم. مع أتن هذا الفعل قريب إلى العربية وهو فيها سدم الباب وسطمه بمعنى سده. وفسر الأب برون اليسوعي اشتيامابما معناه: الساد أو السادم ومنه: واضع الأمتعة في مكان مغلق ولاسيما أمتعة السفينة وعندي أن الاشتيام إذا كانت مأخوذة من الإرمية فالإرمية غير مشتقة من فعل شتم أو ستم بل من اليونانية وهو اسم فاعل من فعل أي أوقف وأرسى وهذه تقال عن السفينة كما تقال تلك الرجل بل عن كل شيء. ومنه الفعل العربي المعروف عند هل الجزائر أي ستم بمعنى اوقف السفينة وأرساها. ولهذا السبب أيضاً قال الجواليقي أن الاستيام أفصح من الاشتيام. كما أن الاستيام وردت في التكملة ولم ترد فيها الاشتيام. فالسين فيها تبعاً للأصل اليوناني والشين لغة فيها. زكثيراً ما يقلب العرب السين المهملة شيناً ولاسيما إذا جاورت التاء كما يفعل الألمانيون في لغتهم. فقد جاء في العربية: جاحشته في جاحسته: إذا زاحمته. (عن ابن السكيت) وشمرت السفينة سمرتها: إذا أرسلتها (وهنا السين لم تجاور التاء) وقالوا: أنشفت لونه وانتشفت بمعنى واحد (عن أمالي تغلب) إلى غير ذلك. واللفظة اليونانية توافق

كل الموافقة لمعنى الاشتيام لأن برئيس المركب أو المراكب يناط إيقافها وإجراؤها وتدبير أمرها كما يتضح لأدنى تأمل. 4 - المتلمظة أو المتلمطة والسلوقية لو كان معنى الاشتيام في الأصل صاحب الأمتعة المحمولة في السفينة لما أفردوا لبها محلاً خاصاً به كما بينا ذلك قبيل هذا. لأن مثل هذا الرجل يجلس عَلَى أمتعته أو بجانبها لا في موطن ينفرد فيه والحال إننا نعلم أن للاشتيام موطناً خاصاً به ومقعداً يقصد فيه هو ولا يقعد فيه غيره يسمون المتلمظة قال في تاج العروس في ل م ظ: الملمظة (وهو لم يضبطها لا بالقلم ولا بالنص) مقعد الاستيام (هكذا بالسين المهملة) وهو رئيس الركاب والملاحين كما في التكملة. وسبق مثل ذلك في م ل ط (أي المتلمطة بتقديم الميم عَلَى اللام) ولا أدري أيها أصح. اهـ كلام التاج. وما بين هلالين هو من كلامنا. قلت: الأصل هو المتلمظة بتقديم اللام عَلَى الميم وهي مشتوقة من تلميظ الحية يقال: تلمظت الحية: إذا أخرجت لسانها. لأن الاشتيام يكون في مكان عال مشرف منه عَلَى البحر لينظر إلى يمينه ويساره وإلى أمامه وورائه متلفتاً تلفت لسان الحية ليتمكن من تسيير سفينته وحفظها من الخطر وإجرائها في محل أمين. كما هو معلوم عن محل الأشاتمة في يومنا هذا. ويفردون له محلاً خاصاً لكي لا يلهو بأحاديث الناس أو بما يحدث حواليه فينصرف ذهنه إلى ما لا يهمه ويقابله بالفرنساوية ' واللسان لم يذكرها في (ل م ظ) إلا أنه ذكرها في مادة ر ب ع قال في الصفحة 456 في السطر 17: والمتلمظة (وقد ضبطها بضم الميم وفتح التاء واللام وكسر الميم المشدودة والظاء المنقوطة المفتوحة وبهاء في الآخر) مقعد الاشتيام وهو رئيس الركاب. أما صاحب التاج فقد ذكرها في كلتا المادتين (م ل ط) و (ل م ظ) وقد ذكرها اللسان في م ل ط المتلمطة (ولم يضبط حركة اللام المشدودة): مقعد الاشتيام. والاشتيام: رئيس الركاب اهـ. قلت: والمتلمطة تصحيف المتلمظة ولم يذكر هاتين اللفظتين لا القاموس ولا محيط المحيط ولا أقرب الموارد ولا مد القاموس تأليف لين ولا دوزي ولا الجوهري ولا الفيومي ولا صاحب الباروس ولا صاحب الأوقانيوس ولا سائر المعاجم الإفرنجية كغوليوس وفريتاغ

وقزميرسكي. فيا له من إغفال وقع فيه أغلب اللغويين. هذا وأنت ترى مما تقدم أن العربية تحتاج إلى معاجم تجمع جميع الألفاظ العربية المذكورة في دواوين اللغة الواردة في محلها أو في غير مظنتها. وأن يثبت فيها المعاني عَلَى اختلاف ما وردت في الأعصار ليكون ذلك المعجم مورداً ينتابه اللغوي كلما احتاج إليه ويجد فيه كل ما يحتاج إليه. إذ قد رأيت مما مر بك من الألفاظ ومباني لم تكن تظن أنها وجدت عند العرب لأنهم لم يكونوا من المشهورين بالملاحة والبحارة. ومع ذلك فقد تحققت وجود ألفاظ لا تجد لها حرفاً واحداً مقابلاً لها في لغة الأعاجم الحاليين مع تبحرهم في المدنية والعمران ومع تبسطهم في وضع الألفاظ لأدنى اختلاف في المعنى المرادف أو لأدنى تفاوت في معناه. فيا لها من لغة جمعت فأوعت ومدت سماطاً فأشبعت. وإن نسب إليها القصور بعض المتهوسين للغات الأجنبية وبهذا القدر كفاية ستبصر. ومثل المتلمظة: السلوقية: قال ابن عباد في كتابه المحيط ونقل نصه الصاغاني في العباب وأورده أيضاً الفيروز أبادي في القاموس: السلوقية: مقعد الربان من السفينة اهـ ولم يزيدوا عَلَى هذا القدر ولم يذكروا أصل اللفظة وعندي أنها آرامية الأصل من فعل سلق الذي اسم مصدره سلاقاً ومعناه الارتفاع والعلو. لأن الربان يكون في أعَلَى موضع من سفينته ليرقب ما حواليه من متسع البحر ويقابله بالفرنساوية وهي مشتقة من بل هي مصغرها ومعناها الكثيب تصغير كثيب وهو تل الرمل كأن السلوقية تكون بعلو الكثيب ليشرف منها الربان عَلَى البحر. (الخلاصة) يتحصل مما تقدم ذكره وشرحه أن الاشتيام والاستيام من باب الإطلاق والتغليب هو ' ' وإذا أريد به رئيس الملاحين فهو ' وإن جاء بمعنى رئيس الركاب فهو وإن عنيت به صاحب الأمتعة فهو ناظر المتعة أي وأما المتلمظة والمتلمطةفهو مقعد الاشتيام أي المقعد الذي يقوم بإجراء السفينة في نوبته لأن الأشاتمة يتناوبون في تدبير أمر السفينة ويقابله بالفرنسوية وأما السلوقية فهو أرفع مكان يكون في السفينة ويكون مقعداً للربان وهو بالفرنسوية. فقد جاء عندهم في شرحهم هذه اللفظة ما معناه: هي ما يبني بناية خفيفة فوق الجسر الأعَلَى من مؤخر السفينة وهو عبارة عن ربع طول المركب ويعلوا نحواً من مترين

ويشرف عَلَى عشر المؤخر كما تشرف المنظرة عَلَى ساحة المدينة. ويكون عليه الاشتيام عند قيامه بوظيفته لأنه يتمكن من ذلك الموضع من أن يرقب ما حواليه في البحر. اهـ. بغداد: ساتسنا

استرداد المجرمين

استرداد المجرمين في البلاد الأجنبية لا مراء في أن الردع لكثير من المخلوقات عن ارتكاب المنكرات الشخصية والاجتماعية والسياسية هو الخوف من العقوبة لا الخوف من الضمير. ولذلك نرى من الأخلاق لهم يرتكبون أفضح المنكرات إذا وجدوا للفرار والخلاص من وجه القانون سبيلاً. لا ترجع النفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر والخلاص من أحكام القانون يكون بوجوه كثيرة منها (1) الرشوة (2) شهود الزور (3) إغضاء المأمورين لأجل تطبيق قاعدة إدارة المصلحة (4) بلاهة بعض الحكام (الحاكم مأمور العدلية فقط). والدواء الوحيد لهذا الداء القتال تعميم العلم وتهذيب الأخلاق وتعريف الإنسان معنى الإنسانية. أي أنه خلق ليخدم أبناء قومه لا ليأكل ويشرب وينافق وينام كبهيمة الأنعام إذ لا ضرر من الأنعام إن لم يتحرش المرء بها، وأما هؤلاء فإنهم يمقتون من كان ذا مزية سواء وافقت أهواءهم أو لم توافق. لأن جل مراسمهم محق الحق والعدل والفضيلة ليس إلا. وأقوى سلاح يتخذونه هو الكذب والافتراء وغاب عنهم أن حبل الافتراء قصير. (5) فرار المجرم من بلاد دولة إلى بلاد أخرى. وهذا موضوع بحثنا هذا. لا يحق لدولة من الدول أن تكره مأموري دولة أخرى عَلَى تطبيق أحكام قوانينها مطلقاً. لأن حق القضاء محدود داخل المملكة ولا مساغ لتعديه حدود غيرها. فعدَّ من لا خلاق لهم من أرباب القلوب الصلبة والضمائر الميتة هذه القاعدة نعمة كبرى وأخذوا يفرون إلى الممالك الأجنبية ليتخلصوا من الجزاء وهكذا كان. بيد أن هنا مضرات عديدة اجتماعية لفتت نظر رجال الدول فطفقوا يفكرون بتدبير مؤتم يمنع هذا الفرار لأجل استعادة المجرمين. لماذا؟ لا شك أن المجرم إذا ترك بلا جزاء يكون سبباً داعياً لكثرة الجرائم واختلال الأمن العام مما ثبت تاريخياً فإنه من أعدى الأمراض وإنه سريع الانتقال من مملكة إلى أخرى. وهذا هو السر الذي يدعو الدولة أن تطلب المجرم الفار من بلادها. عَلَى أن المجرب إذا حل مريض بين أصحاب مرضهم أو فاسد بين أدباء أفسدهم فخوفاً من

هذا شعرت الدول التي يلتجئُ إليها أحد الفارين بلزوم طرد هذا المجرم الفار من وجه العدل أو تسليمه عَلَى الأقل لكي تطهر بلادها منه. ولهذه الأسباب نرى الدول في عهدنا تتهافت وأي تهافت لعقد المعاهدات التي تؤدي إلى استرداد المجرمين الفارين. وإليك القواعد العلمية: لا يجوز طلب استرداد المجرم إلا إذا كان للدولة الطالبة أي التي وقع الجرم في بلادها حق القضاء عَلَى المجرم الفار. ولما كان حق القضاء محصوراً داخل الحدود الملكية أراني مضطراً لبيان هذه الحدود ومحل تطبيق هذه السلطة ولهذا يجب قبل كل شيء تعريف أقسام ممالك الدول 1 - البلاد الواقعة ضمن الحدود الجغرافية. 2 - البحور الداخلية أي التي تحاط بممالك خاضعة لدولة واحدة والأنهر والمضايق البحرية والترع. 3 - المياه الساحلية أي ما يبعد عن الساحل ثلاثة أميا من البحر (الميل 1852 متراً) أو إلى وصول مرمى أحسن مدفع. وهذا يعد من بلاد الدولة المجاورة وما عداه فهو عام. 4 - البلاد المحتلة عسكرياً سواء كان بحال الصلح أو بحال الحرب. 5 - السفن التجارية وسفن النزه. فحق القضاء يشمل كل جرم وقع في هذه الأقسام المصرح بها أعلاه. ويحق لكل دولة طلب المجرم لمجازاته إذا ارتكب جرماً بها وفر إلى البلاد الأجنبية. وهذه مسألة من مسائل حقوق الدول تحل بواسطة السفراء ونظارات الخارجية وفقاً للمعاهدات أو العرف والعادة. ستلزم الجنايات العامة وبض الجنح المهمة الرد وأما ارتكبوا القبائح فلا يطلبون ولا يرددون. القاعدة العلمية في إعادة المجرمين -. أن يكون الجرم محظوراً بقانون كلتا الدولتين أي الفار منها والملتجأ إليها. مثلاً: تعدد الزوجات ممنوع عند الدولة الفرنساوية ومباح عند الدولة العثمانية. وعليه يعد جرماً بفرنسا ومندوباً بالمملكة العثمانية. فإذا فر فرنساوي والتجأ إلى الدولة العثمانية لارتكابه هذا الجرم هل يجوز تسليمه؟ لا يجوز قطعاً لأن الشرط يكون ممنوعاً عند الدولتين. أما لو كان جرمه جرم سرقة وجبت إعادته عَلَى شرط

أن يكون بين الدولتين معاهدة أو تعامل. أما لو التجأ أحد قرصان البحر إلى بلاد سويسرا وكان هذا فرنسوياً (من قبيل الافتراض) فهل يحق لسويسرا أن تمتنع عن تسليمه بحجة أن لا صراحة في قوانينها لهذه المسألة؟ كلا: لأن عدم الصراحة في قانون سويسرا لم ينجم عن افتراضها القرصانية أمراً مشروعاً بل من عدم وجود سبب لدرج أمثال هذا القيد بقوانينها وذلك لفقدان السواحل عندها هذه هي القاعدة العملية بخصوص إعادة المجرم فلنبحث الآن عن مستثنياتها. إن لهذه القاعدة استثنائين أحدهما يتعلق بالجرم والآخر بالمجرم فالذي يتعلق بالشخص هو كون الملتجئ من تبعة الدولة الملتجئ إليها. فلو أن ألمانياً مثلاً ارتكب جرماً في فرنسا ففر منها وأتى ألمانيا فلها الحق بأن تنتع عن تسليمه. وهذه قاعدة كلية سارية بين جميع الدول. إذ كيف يقبل قوم بخضوع فرد منهم لقانون قوم آخر؟ وأما الاستثناء الذي يتعلق بالجرم فهو أن يكون الجرم عسكرياً أو سياسياً فأرباب هذه الجرائم أيضاً لا تعاد بتة. وسبب ذلك أن الدولة لا تقبل الجندي الفار ولو أعيد لها لأنها لا تؤمل منه خيراً بل تعده كالغصن الفاسد فتقطعه من شجرتها وتلقي به عَلَى الأرض خوفاً من أن يفسد مجاوريه. إلا إذا كان ضابطاً في سفينة ونزل إلى البر وامتنع من الرجوع إليها. فيعاد خوفاً من تعطيل السفينة. وأما سبب عدم إعادة أرباب الجرائم السياسية فهو سر غامض وأمر مهم. لأن التاريخ يدل عَلَى أن أكثر الفارين من هذا القبيل كانوا عَلَى حق وإن سبب اضطهادهم وفرارهم لم يكن إلا من علو أفكارهم التي تعجز حوصلة العامة أو رجال الأمر والنهي عن إدراكها فيعدونه مخطئاً فيضطهدونه ويحكمون عليه حكماً جائراً ويخنقون فكرته. فلا جل الاستفادة من أفكاره في الحال والمستقبل لا تجوز إعادته بل إنهم يجلونه ويكرمونه. وهناك شرط آخر للاستعادة وهو عدم سقوط الجرم بمرور الزمان القانوني عَلَى حسب قوانين الدولتين. قد يمكن أن يطلب المجرم من قبل دول متعددة في آن واحد فالواجب حينئذ تسليمه إلى

الدولة التي وقع الجرم في بلادها. فإذا ارتكب ألماني مثلاً جرماً في فرنسا وهرب إلى بلجيكا وطلب من الدولتين في آن واحد، يجب تسليمه لفرنسا لا لدولة ألمانيا. أما لو ارتكب جرماً في ألمانيا دولته وفي فرنسا يسلم لدولته ألمانيا. وإن كانت جرائمه عديدة وفي بلاد مختلفة وطلبتهن كلهن بآن واحد ينظر: أي الجرائم أشد فيسلم التي وقع فيها ذلك الجرم الشديد. وإن كانت درجة الجرائم متساوية يسلم للتي تطلبه أولاً. أما إذا وجد بين دولة معاهدة فيسلم لربة المعاهدة دون أن يلتفت لأحد غيرها. والخلاصة فإن معاهدات إعادة المجرمين تبحث دائماً في مسائل أربع: 1 - لا تعيد دولة من الدول ملتجئاً إليها إذا كان من تبعتها. 2 - أرباب الجرائم السياسية لا يعادون. 3 - أن يكون الجرم ممنوعاً بقانون الدولتين. 4 - أن لا يحاكم إلا من أجل الجرم الذي كان سبباً لفراره بغض النظر عما عداه. ولا يذهلن عن نظرك أيها القارئ الكريم أن إعادة المجرمين ليست أمراً محتماً. فإن كانت الدولتان متعاهدتين فالإعادة ضرورية وإلا فلا. ومن الأسف أن الدولة العثمانية لم تتعاهد بهذا الباب مع إحدى الدول بتاتاً وقد مضى ردح من الزمن والدولة العثمانية تعيد لروسيا من يفر من بلادها لولايتي طرابزون وارض روم كما أن روسيا كانت تعيد من يفر من العثمانيين إلى قفقاسيا. إلا أن هذا الوفاق لم يدم كثيراً. وكان قد تقرر مع دولة الصرب إعادة مجرمي الطرفين مؤقتاً ريثما تعقد معاهدة بين الدولتين. وبعد أن أعيد كثير من الجهتين فسخ هذا التعهد الشفاهي لامتناع حكومة الصرب عن الإعادة. وأما المعاهدة التي عقدت في أيام عارفي باشا مع حكومة أميركا فلم توضع موضع الإجراء قط. وأما الآن فمن المقرر عقد معاهدة مع دولة اليونان حسبما يقتضيه الجوار ولاحتياج الطرفين لها. وأغرب ما يتصور أن الإدارة السابقة كانت تعيد كل مجرم التجأ إليها دون مقابل ولا

معاهدة حتى أن المجرم العثماني المحكوم بخمس عشرة سنة كان يفر إلى بلاد النمسا وبعد فوات الزمن يعود فرحاً فخوراً. أما المجرم النمساوي فكزان يعاد بمجرد وصوله إلى بلاد الدولة العثمانية. وما سبب هذه المسامحة والغفلة السياسية إلا الخوف من تعكير جو الرفاهية عَلَى زعمهم كأنه من الممكن اجتماع الشرف والتغافل السياسي! نابلس حسن عبد الهادي

الجنسية

الجنسية تأليف ماكس نوردو العالم الإسرائيلي الشهير نقلها إلى العربية. م ع ج كلمة للمعرب كل مطلع عَلَى مجرى الأفكار العصرية في الغرب يرى مسألة الجنسيات أو القوميات الشغل الشاغل لكبار الساسة وأعاظم الكتبة وفحول العلماء ويكفي المرء أن يتصفح بعض الجرائد والمجلات الأوربية ليرى فيها ذكراً لهذه المعضلة الكبرى ووسائل كثيرة لحلها. وقد لقب الكتاب والمؤلفون عصرنا هذا بعصر الجنسيات لكثرة ما حدث ويحدث في أيامنا هذه من الجدال والمناقشة بشأنها حتى تعدت إلى المشاكل والمشاحنات وكادت تجر إلى الحروب. فهي إذن مشكلة اليوم وكارثة الغد. لذلك رأيت من اللازم إطلاع بني قومي عَلَى مجمل ما وصلت إليه الآراء بخصوصها فلم أجد بحثاً أدق وأتم من رسالة وضعها بالألمانية العالم الاجتماعي الشهير ماكس نوردو وصف بها هذه المسألة في جميع أدوارها وأبدى من آرائه فيها ما هو جدير بالاهتمام فبادرت إلى نقلها للعربية علها تفيدنا ولو بعض الإفادة في أحوالنا الحاضرة. وماكس نوردو هو أحد نعلماء العصر المشار إليهم بالبنان، إسرائيلي الأصل ألماني المنشأ اشتهر بمؤلفاته العديدة ورسائله الجمة التي امتاز فيها بالجد والدقة في البحث وبعد النظر والصراحة. منه كتابه معنى التاريخ الذي أحدث ضجة كبرى عند ظهوره وقد أنجى فيه عَلَى الحقائق التاريخية والمؤرخين؟ و (السقوط البشري) وهو مجموع أبحاث فلسفية اجتماعية عصرية مثل: (الفلسفة الروحية) و (مذهب النانيين) و (آخر القرن) و (القرن العشرين) ومنها كتابه المسمى (أكاذيب مدينتنا المغنى عليها) و (مناقضات الاجتماع) و (مناقضات علم النفس) ومن أمهات كتبه العلمية (روح وفيسيولوجيا العبقرية والنبوغ) وعليه المعول في تدريس هذه المسائل. اهـ وإليك الآن رسالته في الجنسية قال: الجنسية إذا كنا لا تندري كيف تستحوذ المعتقدات الباطلة عَلَى أفكارنا، وكيف تحول صورة مغلوطة تخيلناها لحادث ما بيننا وبين إدارك حقيقة ذلك الحادث، حتى لا تقوى عَلَى تمييز الاختلاف الحاصل بين بين الصورة وبين الحادث نفسه، وبالاختصار إذا كنا لا نعرف

الخطأ الشائع أشد رسوخاً من الحكم العقلي وإن الخرافة أقوى أثراً من الحقيقة، فلا يمكننا أن نسلم بوجود نفر يعتقدون بان مسألة الجنسيات خطأ وقتي أو حاجة من حاجات البدئ (المودة) يصفونها بأنها قضية روحية استهوت كثيراً من العقول الكبيرة لكنها لا تلبث أن تتلاشى. وفي الواقع أن هناك فئة من الناس يدعون سياسيين يدعون أنهم يريدون مستقبل الأمم وهم يزعمون أن مسألة الجنسيات إنما اخترعها نابليون الثالث لإيجاد الصعوبات في داخلية الحكومات الأخرى فيكون له منها نصراء يظاهرونه في سياسته، سياسة التطوح. وما أحق أولئك الأدعياء من الساسة بنعوت الحماقة والبله لولا اعتبار أنهم مرتبط بشعب تنبه الشعور الجنسي فيما يعد خطراً عَلَى وحدتها، فتصدهم أطماعهم، وخوفهم عَلَى مستقبلهم، وبغضهم رقي الأمم، والحنق الذي يستولي عليهم بدنو فقد امتيازاتهم المغتصبة عن ملاحظة الحوادث ودرسها. مثل هؤلاء الساة نجده في فرنسا الذي أضاع سلطانها في أوربا تكون الوحدتين الألمانية والإيطالية، وفي النمسا حيث الأمم المغلوبة عَلَى أمرها تطالب الأمم الغالبة بحقوقها، وفي بلجيكا حيث ينتاش الفلمنكيون حريتهم من أيدي الوالونيين. وأما الذين لا تعمي بصيرتهم الأغراض الشخصية فيعترفون بأنه تنبه الشعور الجنسي حادثة طبيعية تظهر ضرورة عند حد محدود من النشوء البشري لا يمكن إعاقتها أو منعها إلا إذا أمكن إعاقة مد البحر وجزره أو منع حرارة الشمس من أن تصل إلينا إبان الصيف. فالذين يقولون بان الأمم ستنبذ جنسيتها فلا تعد تذكرها ليسوا أكبر عقلاً من ذلك الغلام الذي قال لأمه وهي تضمه: (متى أصبحت طفلاً صغيراً مثلي فانا أيضاً أحملك!). وما هو أساس الجنسية، وما هي علامتها الفارقة؟ لقد كثر البحث في هذه المسألة واختلفت فيها الآراء. فقال بعضهم بالجنس يعني الأصل الفطري. والخطأ في هذا القول محسوس بحيث يوجب الأنفة من الرد عليه. أنا لا أعتقد بوجود الجنس البشري وإنما الشعوب المختلفة أنواع ثانوية لجنسنا، والاختلافات الشكلية واللونية لم تنشا عن تغير الجنس الواحد بسبب تأثير الإقليم بل منشئوها الحقيقي تعدد الجنس، يظهر لي أن السبب بين الأبيض والحبشي أو بين البابو والهندي ليس أعظم من النسب بين الفيل الأفريقي والفيل الهندي أو بين الثور وبين الجاموس الأميركي. ولكننا قلما نجد في جنس واحد كالأبيض مثلاً من الاختلافات المهمة ما يسمح لنا بوضع ميزة فارقة وحدود بين أشكال الجنسيات المتنوعة.

ويوجد في كل شعب أبيض أفراد ذوو قامات كبيرة أو صغيرة وشعور زاهية أو قائمة وعيون زرقاء أو سوداء وهامات مستطيلة أو عريضة وأمزجة باردة أو حادة وبينا نرى بعض هذه الصفات متغلباً في شعب وغير متغلب في شعب آخر لا نجده في الصفات الطبيعية أو العقلية أقل معنى فيتمييز الفرد ونسبته نسب محدود مثلما نجد في البشرة السوداء وشكل الوجه وتجعيد الشعر من تمييز الحبشي ونسبته لجنس محدود. إن جميع التجارب التي جرت لإيجاد (شكل متوسط) خاص لكل شعب لم تجد اقل فائدة علمية. ولقد نكون قراءَة أوصاف هنا الشكل المتوسط لذيذة تهيج فينا عاطفة حب الذات لكنها في الواقع لم تخرج عن حد التخيل. عَلَى أن خطوط ذلك الشكل لو كانت غير خيالية ليست سوى رسوم ظاهرية في المرء - لا صلة بينها وبين حياته الداخلية - طبعت عَلَى بشرته ويمكن أن تمحى عنها متى تقدم في العمر، إنها لا ترسم عليه إذا نقل وهو طفل إلى بيئة غير التي ولد فيها وعرض لتأثيرات جنسية غريبة. إن (شاميسو) مؤلف كتاب بطرس شليمهل أو الإنسان الذي أضاعه ظله كان غلاماً متأدباً أيام لم يكن يعرف من الألمانية حرفاً فأصبح بعد ذلك شاعراً ألمانيا يضاهي أكبر الشعراء الألمان الذين يزعمون أن دم الجرمان القدماء (ضيوف تاسيت) يجري في عروقهم والمؤرخ (ميشليه) ولا أعني ذاك الإفرنسي المتحمس بل الفيلسوف (الألماني) بما ظهر عليه من الصفات العقلية التي عدها علماء الإنسان من ميزات الجرمان: كالحصافة، والجد الأدبي، حتى التعقيد في الإنشاء! والمفكر جول دوبوك العريق في إفرنسيه - كان أبواه يفتخران أن بدمهما الإفرنسي الخالص - وهو الذي اشتهر بكتاباته بالطريقة الأيديالسنيه الألمانية خاصة، ودوبواريموند الإفرنسي الذي أصبح المثل الأعَلَى للعالم الألماني، أما تيودور كونتان فإنه لم يكن ألمانياً فقط بل ألمانياً شمالياً بتأملاته الطبيعية وتحليله للنفوس. . . الخ الخ وهكذا قل عن أي شعب أوربي شئت فإنك تجد فيه مثل هذه الحوادث شيئاً. من ذا الذي قرأ مؤلفات لوثر أولباخ وجين موللر - مؤلفة رواية - وشوللر وديتز ولا يعتقد أنهم إفرنسيون أقحاح؟ بل من ذا الذي لا يرى في مؤلفات هرتزنبوخ وبيكر صفات الشعراء الأسبان؟ أو من يرى في دانتي شيئاً غير إنكليزي حاشا اسمه قد يكفي أن يعيش المرء في أمة ليقتبس عاداتها وأخلاقها الحميدة والذميمة دون أن يكون بينه وبينها صلة

رحم وإن ظهر لنا ما يناقض هذه الحقيقة في شخص بعض الكتاب وأرباب الفنون فيجب علينا إذن أن نبحث عما إذا كانوا أو كنا نحن متأثرين بأحد مصدرين للخطأ يصعب اجتنابهما. من البديهي أن نميل إلى البحث في شاميسو مثلاً عن صفات نلصقها بالإفرنسيين ظلماً فنجدها فيه والسبب في ذلك سرعة تغير صور الحوادث في أذهاننا فتتطور طبقاً لما علق في أفكارنا من الصور المغلطة، ومن جهة أخرى نرى أن من المألوف عند الشاعر أو صاحب الفن العائش في إنكلترا أن يبقي في رأسه فكرة وطن أجداده فيخيل إليه أنه من الواجب عليه أن يكون ذا أطوار تذكره بذلك الوطن وبسبب الاستهواء الناتج عن تلك الفكرة نراه لا يفتأ يغير في طباعه - من غير أن يشعر - ويألف أطواراً أخرى صناعية حتى يكون مماثلاً لمواطنيه الأصليين، والمضحك في هذا الأمر أن لا يظهر في صفات بني وطنه الحقيقية بل يلتبس الصفات التي ينسبها الإنكليز عادة لمواطنيه خطأً. فالجنس إذن لا يمنح حقاً في جنسية محدودة وها إن ابناء الهوهكنوت الذين هاجروا إلى مقاطعة (برادنبرخ) أصبحوا اليوم من أحسن الألمان وأبناء مستعمري أمستردام الجديدة من الهولانديين هم الآن أميركيون شماليون لا يختلفون عن الأميركان الأصليين في شيء. فالحروب وكثرة المهاجرة مع حركة الأفراد وتنقلهم جمعت بين العناصر المختلفة في بادئ الأمر ومزجتها مزجاً غير قابل للانحلال، وجميع شرائع الأمم الممدنة ظهر عدم الاهتمام بصلة الدم بما تبدي من ضرورة التساهل في قبول الأجانب في تابعيتها وتجنيسهم بجنسيتها بحيث يكون لهم من الحقوق والواجبات ما لرعاياها الأصليين. ولما كان أساس الجنسية المبني عَلَى الأنتروبولوجيا (علم الإنسان) غير كاف، حاولوا أن يخترعوا لها أساساً تاريخاً قانونياً فقالوا: إن ما يكون الأمة هو ماض عام ومستقبل عام هو الحياة العامة في ظل حكومة واحدة وشرائع واحدة، وهو ذكرى أفراح وأتراح تقاسمها أفراد الأمة سواءً. هذه القضية عَلَى ما بها من الزخرف الخطابي إن هي إلا سفسطة يرفضها العقل مؤيداً بالحوادث. سل من شئت من الروثانيين - أهل غاليسيا - عما إذا كان يشعر بأنه بولوني بالرغم من مشاطرة الروثانيين والبولونيين، منذ نيف وألف عام في حياتهم وشرائعهم وحكومتهم السياسية. واسأل أي (فيني) أو (سيومي) - كذا يلقبون أنفسهم - هل

يتعبر نفسه أسوجياً فنلندياً مع أنه يساكنه ويعيش معه تحت ظل حكومة واحدة منذ أكثر من ألف عام أيضاً. نعم عن اتحادهما في الشرائع وفي الحكومة ولاسيما في العادات وفي الأخلاق مما يستلزم تآلفهما وينبه فيهما عاطفة التضامن والتكافل. وعَلَى عكس ما يجري مع اليهود فإنهم قلما تعتبرهم المم يعيشون في حضنها جزءاً منها. وذلك بأنهم لا يزالون متعلقين تعلقاً أعمى لعادات أجدادهم - كاستعمالهم الميقات، وتعظيمهم أيام الأعياد والبطالة، واحترامهم الشريعة الخاصة بالمآكل واتخاذهم السكنى. . . الخ - التي تخالف كل مخالفة قواعد مواطنيهم المسحيين والتي من شأنها أن تنبه في هؤلاء عاطفة الاستقلال والافتراق عنهم. فمثل هذا الاتحاد قد لا يكفي لأن يؤلف من شعوب شتى شعباً واحداً ذا جنسية واحدة. كلا إن هذا إلا تمويه لا تلبث الحقيقة أن تبدده، وما أندر أن يظهر منشأ الإنسان الطبيعي مرسوماً عَلَى محياه إذ القاعدة العامة تنكره ولن تقوى عَلَى إثباته. إنه لا يشعر به في نفسه، وكل ما قيل في حق (صوت الدم) ليس إلا سفاسف يبني عليها القصصيون خيالاتهم، وليس للشرائع والإدارات السياسية وحدها من القوة ما يكفي لتحديد الجنسية عَلَى مالها في من التأثير في تهذيب أخلاق المرء. وما يحدد الجنسية في الحقيقة إلا اللغة. فيها وحدها يصبح الإنسان عضواً في جسم الأمة وهي وحدها تخوله الجنسية. فلنتمثل حق التمثيل مكانة اللغة للفرد وحظها في تكوين وجوده وفكره وشعوره ومظهره الإنساني. باللغة يتكيف نظر الإنسان حسب نظر الشعب الذي هذبه ورقاه وأودع فيه وفي تركيبه أدق حركاته الفكرية وارق خصائص عالم تصوراته، باللغة يصبح الإنسان ابن الشعب ووارث مفكريه وشعراءه ومؤدبيه وقادته، باللغة يخفض المرء جناحه لأدبيات الشعب وتاريخيه بفضل ما يؤثران في جميع أفراد ذلك الشعب فيجعلانهم سواء في الشعور والعمل. حقاً إن اللغة لهي الإنسان نفسه. بها يدرك صفات الحوادث الكوني العامة، وبها يؤثر في العالم الخارجي، إلا وأن فرداً واحداً من ملايين الخلق يفكر بذاته ويلبس تأثيرات الحواس عليه صوراً شخصية وسائر الملايين من الخلق تتبع ذلك الفرد عن بعد أو عن كثب، في أفكاره بما وصل إليهم منها بواسطة اللغة. كما أن فرداً واحداً يعمل، ويبث مدركاته في الناس والوجود بأعماله الآمرة، بينا ملايين الخلق تنحصر أقوالها في إظهار ما وصلت إليه

عقولها من الرقي. فاللغة هي أقوى صلة تجمع بين الناس. وأخوان شقيقان لا يتفاهمان بلغة واحدة تلقاهما غريبين أحدهما عن الآخر أكثر من شخصين غريبين التقا لأول وهلة فتبادلا التحية بلغة واحدة. وقد رأينا الإنكليز وأميركيي الشمال يتشجارون فيما بينهم لاختلاف المصالح ولكنهم سرعان ما يتحدون قلباً وقالباً أمام غير الإنكليز ويشعرون حينئذ بأنهم ابناء أبناء أم واحدة هي (بريطانيا العظمى) ولقد اشتعلت نار الحرب واشتد سعيرها بين الهولنديين والفلمنكيين عام (1831) وهم اليوم عَلَى وشك عقد اتحاد إخائي كبير. ولما حارب البوير الإنكليز أو لما دافع البوير عن أنفسهم من مطامع إنكلترا السياسية كان قلب الهولانديين يخفق لهم الماص وفرحاً بينما كانت العلائق بين هولاندة وحكومة الرأس (الكاب) قد انقطعت باتاً منذ قرن تقريباً. فلم يمنع استلاف الشرائع والعادات والأخلاق وذكر التاريخ من اشتراك بلجيكا وسويسرا الفرنساويتين (لغة) في الدفاع عن فرنسا في حرب السبعين. وعَلَى الرغم من كره النرويجيين الاحتلال الدنماركي الذي توصلوا إلى التخلص منه أخيراً وبقاء شيءٍ من ذلك الكره إلى أيامنا هذه فقد رأينا النرويجيين إبانوحرب (سلسويك - هولستاين) يتسابقون بحماسة إلى نصرة من لا تجمعهم بهم سوى رابطة صغيرة هي اللغة، وأعظم بها من رابطة. وقد اتى عَلَى اللغة حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وذلك حين كان الشعب في درك الانحطاط لا وظيفة له غير السخرة وتأدية الضرائب بينما كان الأمر والنهي في ايدي فئة قليلة منالمتسلطين. وكان يومئذ رجل الشعب لا حاجة له باللغة. وماذا تفيده اللغة، الأنين وصب اللعنات أو كتابة مزحات غليظة داخل مغارته؟ إنه لم يكن يختلط بغير رفقائه في القرية وهؤلاء لم يكونوا يعرفوا في اللغة أكثر منه. أما السياحة والاغتراب ورؤية الغرباء فأمر غير معهود. وما كانت حكومة ذاك الوقت تستعمل غير السوط تكلمهم به دون أن تعمد إلى النحو أو معجمات اللغة. وكانت الديار إذ ذاك بلقعاً خالية من المدارس. وكان رجل الشعب المطالب بحق من حقوقه في المحاكم لا يستطيع الإفصاح عما يكنه صدره أمام القاضي فلا يرى ثمة وسيلة غير الاستعانة بمحام يدافع عنه وما كان مأمورو الإدارة ليسفوا إلى مبادلة الشعب الحديث أو مطارحته الشؤون

وكان الشعب في الكنائس يطفح قلبه بالعواطف التعبدية فلا يقدر عَلَى الإفصاح عنها وذلك لأن الكثلكة كانت تمثل له الإله كسيد كبير أجنبي لا يعبد إلا بلغة أجنبية - اللاتينية - بواسطة قساوسة علماء في تلك اللغة فلم يكن في حاجة للفرد ولا في وسعه أن يخرج من مأزق الحالة الوراثية التي نشأ عليها إلى محيط أفسح مستعيناً بالكلام. وعندما ظهر شيء من الاستقلال في بعض المدن والدساكر أخذ السكان يجتمعون فيتحاورون ويتناقشون في أمورهم وهناك كان للغة دور مهم إذ تفرق الناس شعوباً وقبائل بحسب اختلاف لغاتهم متنازعين فيما بينهم عَلَى السيادة والإمارة. أما طبقة الأشراف فما كانت لتهتم باللغة لأسباب منها أن حقوقهم في السلطة كانت مضمونة لهم منذ ميلادهم. فكانوا سادة امراء دون أن يفتح الواحد منهم فمه أو يجر قلمه. اعتبر ما حصل في ايامنا في إنكلترا التي لا تخلو تقاليد حكومتها الحالية من بعض عادات القرون الوسطى، إذ أن هولاندياً من سلالة (أيقوسي) - اللوردراي - أصبح فجاة سيداً من أشراف إنكلترا أو عضواً في مجلس اللوردات وذلك لخلو عائلته من وارث إنكليزي ذكر يرث هذا اللقب العظيم. . . بمعتنى أنه أصبح ذا حق في الحكم التشريعي في المملكة البريطانية دون أن يكون مواطناً إنكليزياً أو أن يعرف كلمة واحدة من اللغة الإنكليزية!!! ولما كانت بعض الأحوال العامة تضطر الشريف إلى الظهور كان هذا السيد يتكلم باللاتينية أو ينيب عنه أمير سره باستعمالها. في مثل هاتيك الأحوال كانت الجنسيات محدودة لأن اللغة نفسها كانت محدودة أما في أيامنا هذه فقد سارت الأمم شوطاً بعيداً حتى في روسيا والعثمانية فالفرد اليوم حر وله حق - مهما كانت منزلته - إن يرقى ويعلو المنزلة التي شاءت الاقتدار أن يولد فيها. أصبح العدل شفهياً والإدارة مفتحة الأبواب لكل الناس تقبلهم في أحضانها وتساندهم بتعليماتها، وكذا المدرسة والجيش. وقد سهلت البرتستنتية عَلَى الشعب عبادة ربه بلغته واستماع التعاليم والمواعظ الدينية بها. فصارت مزاولة الكلام لازمة لكل حرفة ومهنة حتى اضطر أعاظم رجال الدولة بل الملوك أنفسهم إلى تعود سهولة النطق وارتجال الخطب. وهكذا اكتسبت اللغة مكانة عظمى حتى أن كل عقبة توضع في سبيل استعمالها أو كل ضغط يسهل استعمال غيرها من اللغات الأجنبية يشعر به الفرد كعار ألحق به وامتهان بشرفه.

إن من يعيش بسكينة بين مواطنيه في دولة يرتبط جميع أعضائها بجنسية واحدة والذي لم يقع له أن خجل من لغته أو أنكرها لا يقدر قيمة تلك الجنسية مثله كمثل الذي لم يشعر بمرض هل تكفي قراءة الأوصاف والأعراض أو قص أنواع الآلام والعذاب عليه لكي يشعر بها ويقدر مكانتها؟. . . أما من عاش في بلد مضطهدة فيه جنسيته ولغته غير لغة الحكومة ويرى نفسه مضطراً لتعلم لغة أجنبية لا يستعملها إلا كأجنبي - هذا إذا لم يشأ أن ينبذ شخصيته أو رفض الوظائف المالية أو التمتع بحقوقه المدنية في تلك الدولة ليعيش كأحد عبيد القرون الوسطى أو كأحد المجرمين المحكوم عليهم بالخروج من حقوقهم المدنية والإنسانية. . . هذا الذي يضطر للخنوع وتعفير الرأس أمام جنسية أجنبية، يقدر مزايا الجنسية الخاصة ويشعر بها! ليس الحرمان من حقوق الشرف التي تحكم بها بعض القوانين بشيء مذكور في جانب الحرمان من استعمال اللغة! ليس تصفيد الأيدي والأرجل بالأغلال بأشد من عقد اللسان! هناك يحاول المرء أن يخرج من سجن نفسه فلا يستطيعّ وتأكد أن في إمكانه أن يكون بليغاً فيرى نفسه مضطراً إلى أن يرطن بلسان أعجمي. بل يرى نفسه محروماً من أقوى الوسائل الفعالة في التأثير في الغير فيشعر بأنه مفلوج مقطع الأوصال! إن المرؤ الذي يعرف نفسه لا يرضى لها مثل تلك الأحوال. ومن ذا الذي يقوى عَلَى إنكار ذاتيته طائعاً مختاراً؟ بل من ذا الذي يرضى بأن يعيش عيشة خالية من أفضل المزايا وأعظمها: وهي استطاعة إبداء مظهري رقية النفساني الشعور والفكر؟ نحن عَلَى يقين بأن الهندي الوثني المعتقد يطرح بنفسه تحت عجلات مركبة (جاغزنات) طمعاً في أن يحيا حياة أخرى أنعم وأسعد من الأولى، نعلم علم اليقين أن (الفقير) يأبى استخدام بعض أعضائه ويعيش سنين عديدة كنصف إنسان أو كإنسان متنبت وذلك لأنه يجد من نفسه دافعاً ومن النعيم الموعود به مشجعاً إن هم قدم حياته لله قرباناً ولكنا لا نقدر أن نتصور أولئك الذين يولون لجنسيتهم الأدبار ويرضون باستعمال لغة أجنبية يرطنون بها طوال حياتهم بين استهزاء الآخرين بهم وخجلهم الدائم من أنفسهم وأما الذين يأتون بضحية مثل هذه جنباً أو عجزاً أو عن حماقة فعندي غنهم يستحقون الشفقة إلا الذين ينبذون لغتهم أي - أنانيتهم - وذاتيتهم المفكرة ويتسربون إلى أهاب أجنبي طمعاً بنيل بعض المآرب فأولئك هم

المذمومون الممقوتون بل هم أذل (السكويزي) الروسيين الذين يخصون أنفسهم لاعتقاد ديني أما الأولون فيخصون أنفسهم عقلياً طمعاً بمال أو بما يوازيه. . حقاً إننا لا نجد كلمة تقوم بوصف هذا الانحطاط الأخلاقي. ومن حسن حظ الإنسانية وشرفها أن أولئك الأنذال هم الأقلون. إذ الأكثرية تتمسك بلغتها وتذب عن جنسيتها كما تذب عن حياتها. إن للشعب المتسلط أن يشرع قانوناً يجعل به لغته لغة الدول ويسقط لغة المغلوبين عَلَى أمرهم حتى تصبح خليطاً عامياً للسوقة لا يدخل المدارس ولا الكنائس ولا المحاكم ولا المجالس. فإن كانت هذه اللغة راقية أو منتشرة في بلاد أخرى، ذات أدبيات وحظ واف في التعبير عن مظاهر الفكر سواء في السياسة أو في العلم فإنها لن تخضع لهذا العار. إذ تصبح الجنسية المضطهدة عدوة الشعب المضطهد تعض كغه الذي يحاول أن يكمها به وتصيح مستصرخة تريد التكلم الذي يأباه عليه غاصبها وبعد اليأس تحاول أن تهدم بنياناً سياسياً كان سجنها عوضاً عن أن يكون ملجأها. قال أحد الهزليين الفرنسيس: لا وسيلة في الدنيا تقنع رجلاً تام العقل باون يسلمك رأسه لتخز بالمصقلة (الغيلوتين) ونحن نقول بانه لا شريعة في الدنيا تقوى عَلَى إقناع أو إرغام شعب راق يشعر بوجوده أن يتنزل عن لغته وعبقريته. والدولة المؤلفة من جنسيات شتى لا بدأن تقع في منازعات وحروب داخلية لا تستأصل إلا بوسائل راديكالية أي إصلاحية مطلقة أهمها (اللامركزية) المطلقة بأوسع معانيها. لكنها ويا للأسف لم تخرج عن نظرية معقولة تخيلها بعض الساسة ولا يمكن تطبيقها عَلَى مجرى الأحوال. وليتصور القارئ إلى أي درجة يجب أن تصل اللامركزية، لكي ترضي جميع الجنسيات في دولة واحدة ويلزمنا أن نعرض لكل فرد الحق بتقلد الوظائف العامة في جميعه جهات الوطن وأن يشترك في الحقوق المسماة (بحقوق الإنسان وحقوق الوطني) دون أن يضطر إلى استعمال لغة غير لغة آبائه وأجداده فيجب والحالة هذه أن تستعمل في المصالح الإدارية - من مكتب البريد في القرية إلى النظارة - والعدلية - من قاضي الصلح إلى محكمة التمييز - جميع اللغات المتكلم بها في تلك الدولة وهكذا يجب استعمال جميع هذه اللغات في المجالس النيابية - سواء في ذلك القرى والأقضية والولايات - كما يجب أيضاً تأسيس مدارس ابتدائية وثانوية وعالية لكل شعب وبالاختصار ألا يضطر أحد لتعلم لغة غير لغته لنيل ما يناله

مواطنوه الآخرون فهل يمكن القيام بكل هذه الواجبات؟ اللهم هذا الأمر مما يستلزم تقسيم الدول إلىأجزاء صغيرة ليس بينها أقل رابطة محسوسة، إن مساواة تامة كهذه بين شعوب مختلفة في ظل دولة واحدة ليست ممكنة إلا بين أمتين فقط، متساويتين قوة كما هو الحال في بلجيكا حيث يوجد عشر أو اثنتا عشر أمة كما هو الحال في دو لة النمسا والمجر - مختلفات في اللغة وفي العدد وفي المعارف لا صلة بينها، متداخلة بعضها في بعض إذ ترى في القرية الواحدة ثلاث أو أربع أجناس ولغات وفي الولاية أكثر من ذلك. ولا بد لدولة كهذه من لغة رسمية والشعب الذي تكون لغته هي الرسمية يصبح وحده حاكم البلاد. وهكذا تعدم المساواة التامة وتمتهن الشعوب الأخرى فتعيش عيشة منحطة. هناك ترى بين الأفراد الوطني التام ونصف الوطني ذاك تطلق الشريعة لسانه وهذا تقضي عليه نفس الشرعة بالبكم. ومن يذكر تلك الأسطورة الألمانية (خرافة الغرايب السبعة) التي جاء فيها أن ابنة منعت من التكلم مدة سبع سنوات وأن شعباً كاملاً حرم من أبسط حقوق الإنسانية وأعلاها يجد أن هذه الخرافة أصبحت إدارة سياسية في أحوال لا تطاق كالتي وصفناها. يعتقد بعض الخياليين من رجال السياسة أنه سيأتي عَلَى الإنسانية المتمدنة يوم لا ترى فيه من حاجة إلى الأوضاع الدولية الكبرى إذ لا حرب ولا أمور خارجية: هناك يؤلف الناس جماعات كبرى أشبه بعائلات كبيرة أو جمعيات محدودة يتمتع فيها الفرد بحريته لترقية نفسه ويتكفل جميع أعضائها بالمساعدة الأدبية والمادية الضرورية لحياة الإنسان ويكون كل جماعة مستقلين عن الآخرين إلا في المشاريع النافعة واللازمة لجماعات متعددة والتي لا يستطيع القيام بها منفردات فتتفق إذ ذاك تلك الجماعات اتفاقاً وقتياً خاصاً بالعرض والطلب. وحينئذ تلغى الجنسيات لأن الجماعات المستقلة تكون صغيرة جداً ومؤلفة خاصة من أفراد يتفاهمون بلغة واحدة. وقبل أن أقتنع بإمكان تطبيق هذه النظرية في المستقبل فأنا أفضل نظرية أخرى وهي أن البشر ماداموا سائرين في طريق النشوء العضوي لا بد أن يستغنوا ذات يوم عن اللغة وعن الحركات الرمزية للإفصاح عن مشاعرهم فتقوم مقامها حركة ذات الرؤوس التي ستخاطب الأرؤس الأخرى مباشرة بنوع من الإشعاع أو التنقل المستمر! إني لأضع هذا النشوء الروحاني و1اك التقهقر الدولي في مستو واحد من حيث

جواز الوقوع ولئن سلمنا جدلاً بإمكان حصول أحد هذين الحلين فهل نسلم بان الزمن اللازم لذلك قريب كما يدعون؟ كلا إنه لأبعد مما يتوهمون ولا جرم بأن الأمم المضغوط عليها لن تقتنع بهذا كما أنها لن تسلم باستعمال لغة عامة. قد يمكن أن يستعمل بعض العلماء الراقين في الإنسانية جمعاء لغة واحدة عامة لتبادل الأفكار فيما بينهم. ولكن من الصعب التصديق لان أقواماً متفرقين يتحدون عَلَى تعليم هذه (اللغة المدرسية) لغة العلم ويخنعون لحكمها وسلطانها إذا أراد الراقون في أمته أن يلقنوا الشبيبة أسرار العلم أو يريدوهم عَلَى أمر خطير أو يبدوا لهم ما توحيه ضمائرهم من تحليل أو تحريم فلا يلجئون قط إلى إلباس أفكارهم ثوب تلك اللغة الأجنبية التي تحرف أوضاعها، وتغير شكلها، وتضيق عليهم نطاق حريتهم. بقي أمامنا دحض ما تقدم وسيلة واحدة من الوسائل الراديكالية الآنفة الذكر ألا وهي استعمال الشدة: إن أعمال التذبذب والتجارب الناقصة والضغط الضعيف قلما تفيد شيئاً في هذا الباب. لاسيما إذا كان المقصود اغتصاب ملك أسياسي قديم يحتوي عَلَى جزء جوهري من الذاتي كاللغة فالتنازع لأجل اللغة ليس إلا شكلاً آخر لتنازع البقاء فيجب أن يعتبر مثله: غما أن تقتل عدوك وإما تقتل أو أن تنهزم! وتنازع الجنسيات ليس إلا تكملة لحادث ظهر منذ قرون بل منذ ألوف السنين ثم سكنت ثائرته مدة فقام اليوم من رقدته ومشى مشية سريعة نحو الختام. ولسائل أن يسأل كيف اختلطت الجنسيات المختلفة وتدخلت بعضها في بعض؟ وهناك الجواب: دخل شعب غازياً بلاد شعب آخر فلم يطرده منه بتاتاً بل بقيت فئات من الشعب المغلوب بين الشعب الغالب، أو أن الشعب الغالب كان أقل عدداً من الشعب المغلوب فلم يبق منه إلا فئة قليلة. هنالك يشتد التنازع بعد أن كان ساكناً فيضطر الشعب الغالب لأن يستجمع آخر قواه ليدفع عنه الشعب المقهور أو أن يعدمه ادبياً بحرمانه من لغته بالقوة الوحشية اللهم إلا إذا نهض الشعب المغزو فجأة مدافعاً عن نفسه فيطرد الغازين خارج بلاده أو يضطرهم إلى نبذ جنسيتهم. ولقد تأتي الحوادث عَلَى صورة أخرى كان ينزح فريق من شعب عن ديارهم لأنها لا تكفي لعيشهم فيقطنون دياراً غيرها. فإن كانت هذه الديار خالية في الماضي ثم شاركهم في احتلالها مهاجرون من شعوب أخرى فللمحتلين الأولين أو يعتبروا الجهاد في سبيل لغتهم

جزءاً من جهادهم في تمهيد العقبات الطبيعية إذ أرادوا إنشاء دولة تكون لهم ملجأً حصيناً ويجب عليهم حينئذ أن يدافعوا عن أنفسهم خصومهم كما يفعلوا بالمستنقعات والسيول والثلوج والمنحدرات والحمر والوحوش الضارية والجوع والبرد وأن يعتبروا المعيشة الطيبة التي لم يظفروا بها في بلادهم والتي صادفوها في غير وطنهم كثمرة لتغلبهم عَلَى جميع العقبات الطبيعية البشرية بعد أن عرضوا في سبيلها حياتهم. أما إذا كانت البلاد التي استوطنوها آهلة من قبل فيجب عليهم أن يعرفوا الشروط التي بها نالوا الضيافة. فإن كزان من تلك الشروط أن ينبذوا جنسيتهم وكانوا قد رضوا بذلك فضعفهم وجبنهم لا يستحقان الشفقة. ولمضيفيهم أن يرغموهم عَلَى التنازل عن لغتهم وذاتيتهم لقاء الخبز الذي يجودون به عليهم. وغ1ذا كانوا قد احتلوا جزءاً من بلاد أجنبية دون أن يؤدوا ثمناً شائناً لها الاحتلال فيقتضي أن يكون عندهم الآن من الإدارة والقوة ما يمكنهم مما كان يجب عليهم فعله في بدء احتلالهم لو قوبلوا بالعداء فأما أن يبرحوا الأرض حالاً وأما أن يغتصبوا بحد السيف قطعة من البلاد أو أن يقعوا في تيهور كانوا عاجزين عن الخروج منه. عَلَى هذه الصورة تتمثل أمامي مسالة الجنسيات فهي كالفصل الخامس الأخير لقصص تاريخية محزنة بجا بعضها من زمن هجرة الشعوب وأكثرها بعد ذلك بكثير وقد طالت فترة ما بين الفصول لكنها لن تدوم، فالستار ارتفع والكارثة عَلَى وشك الوقوع، إنها ستكون شديدة قاسية وكذا تكون مقادير كل كائن حي إذ الحياة جهاد لا رحمة فيه. وليست هذه مسالة حقوق بل مسالة قوة في أعَلَى وأعظم معانيها. وما من حق يضطر الكائن الحي للتنازل عن الأسباب الضرورية لحياته، ولا يمكن ذلك إلا بالقوة، والقوة تسبب الدفاع والممانعة. وهل يطلب من الأسد أن يبرز صكاً يخوله الحق في افتراس الحمل. السد يغتصب الحمل اضطراراً وهذا مبدأ حقه في افتراسه. لا جرم أن للحمل الحق بقتل الأسد إن قدر عليه. . . وحيثما تكون الحياة أو يماثلها معرضة للخطر يتساوى الحق بالقوة وهذا ظاهر حتى أن الشرائع البشرية جميعها تبيح للفرد الدفاع عن نفسه أي أنها تسمح له في بعض الأحوال أن يستعمل القوة في الدفاع عن حقه. أوليست الحرب حالة من حالات الدفاع عن النفس بين الشعوب لا بين الأفراد؟ إذ رأى الشعب ما هو ضروري له مد يده لامتلاكه وحقه في هذا الشيء هو عين الحق الذي للسد في افتراس الحمل. فإذا شاء شعب

آخر منعه فيجب عليه إذن أن يعارضه بالقوة بنفس الحق الذي له أيضاً. ولا وجه للمغلوب بالتشكي مادام له الحق بإعادة الكرة مرة أخرى. فإن قهر نهائياً وأضاع الأمل بالقوة في المستقبل وجب عليه أن عن القضاء قائلاً: خلقت حملاً فيجب أن أعيش عيش الحمل، حبذا لو كنت أسداً! ولكن من الحمق مشاكسة الفطرة لأنها لم تخلقني أسداً. إن الشعب الذي يراد نزع لسانه لهو في حال الدفاع الشرعي ذو حق في المناضلة عن أثمن ملك لديه. لكن إذا لم يك قادراً عَلَى الدفاع فلا يحق له التذمر والشكوى. كما أن للشعب المتسلط أن لا يدع الضعف يتطرق إلى لغته بوجود لغة أخرى في البلاد وأن لا يسمح بما من شأنه أن يقلق راحته في المستقبل. فإن لم يقدر عَلَى خحفظ حقه بالقوة فعليه أن يعترف للشعب الآخر بتساوي الحقوق فيما بينهما وأن يهبط عن تلك المنزلة العليا منزلة الشعب المتحكم، وإن كان تحكمه شرطاً من شروط حياته فاحكم عليه بالهلاك. وغني لأطبق هذا الحكم بدون تحيز عَلَى جميع الجنسيات المتنازعة كالألمان في هنغاريا وبوهيميا وكالدنماركيين في مقاطعة شلسويك الشمالية وكالبولونيين في بوزن وكالرومانيين في ترانسلفانيا وكالإيطاليين في طارانت. للخمسة ملايين من المجر في هنغارايا الحق بصبغ الحد عشر مليوناً من الشعوب الأخرى بصبغة المجرية، فهم يتمون الفتح الذي بدئ به سنة 884 من عهد (إرباد) ولكن للألمانيين والسلافيين والرومانيين في هنغارايا نفس الحق في الدفاع عن أنفسهم وإن قووا يوماً عَلَى المجر ونزعوا عنهم جنسيتهم فليس لهؤلاء إلا أن يقبلوا ما كخبأ لهم القدر الذي قادهم منذ ألف عام إلى النزول عَلَى بلاد أجنبية كادوا يخسرون فيها حياتهم. وللتشيك أيضاً الحق بتأليف دولة مستقلة لا يقبلون فيها أحداً من الألمان وهكذا يستعيدون عهد الوقاع الدامية التي حدثت في مارش وفي الجبال البيضاء وللألمان الحق بأن يقاوموا بقوى أشد من أقوى التشيك ويصلوهم حرباً ثالثة تبرهن لهم أنهم ليسوا أقوياء عَلَى فتح بلاد خلوها منذ اثني عشر قرناً دون مقاومة. لا بد لوربا أن ترى مرجل الجنسيات ينفجر انفجاراً عظيماً هائلاً عندما يأتي دور تصفية الحساب والفرق المتبعثرة من كل شعب إما أن ترجع إلى أصلها فلتف حوله وإما أن تستصرخه وتستنجده فتنتصر بمعونته عَلَى الشعوب التي تستبد بها. ومصير الشعوب الصغيرة التي اكتسحت بلاداً بالاشتراك مع غيرها إلى الزوال إن لم يكن لها من قومها

عضد قوي يساعدها عَلَى الثبات أمام جيرانها الأقوياء. هناك لا تثبت إلا الأمم الكبرى، ومن الأمم الصغرى من تستطيع تاسيس دولة مستقلة بطرد أو محو سائر العناصر الأجنبية التي تعيش بينها. وقد لا يمضي القرن العشرون قبل أن يشاهد ختام هذا المشهد التاريخي. بل سترى أوروبا منذ الآن إلى ذلك اليوم العصيب شروراً كثيرة ودماءً مهدورة ومظالم عديدة وقساوة بربرية فستمحى شعوب وتمحى أقوام بدون رحمة ولا شفقة. وتبدوا أمام هذا التسفل البشري مظاهر شجاعة عالية: هنا شراذم أنذال يخضعون أدبياً بدون مقاومة وهناك أبطال يشربون كاس الردى ممزوجة بالعز والشرف. وبعد كل ذلك تتمتع الأمم الباقية بحقوقها الوطنية لا يرون فيها غير أنفسهم. إنها لنظرات مرعبة تتراءى لنا لكنها قلما تخيف من استعد لتحمل قساوة ناموس الحياة العام: الحياة جهاد وقوة الحياة تكسب الحق فيها. وهذا الناموس سار عَلَى الشموس في الأفلاك كما هو سار عَلَى المكروبات في مياه المستنقعات وهو جار أيضاً عَلَى الشعوب يدير مقاديرها إدارة لا تقوى عَلَى تغييرها شريعة غاشة ولا سياسة قادرة ولا مصلحة ملكية ولا خبث أنذال ولا تلاعب لؤماء. ولقد تدمع عين ذي العاطفة حينما يرى شعباً يجود بنفسه. أما ذو العقل فيعترف بأن هذا الشعب هلك لأنه لم يكن ذا قوة تكفيه للحياة ثم يضع هذا الشعب بين الأشكال البيولوجية (الحيوية) المغلوبة عَلَى أمرها والتي مر عليها نشوء الكون.

نقد كتاب البنين

نقد كتاب البنين لا تتجاوز عدد الكتب التي عربت في سورية منذ انتشار حرية المطبوعات عدد الأنامل وكتاب البنين تأليف بول دومر من رجال السياسة الفرنسوية هو من أنفع الكتب ولذلك أحسن عبد الغني أفندي العريسي أحد صاحبي جريدة المفيدة في نقله إلى هذا اللسان العربي وقد قدمه إلى رفيق بك العظم فقدم له صديقنا هذا مقدمة في علم الأخلاق عند العرب وذكر ما كتب فيه علماؤهم وعرب فيه حديثاً إلى لغتهم أجاد فيه كل الإجادة. والكتاب تأليف رجل جرب الأمور فقال عن تجربة أكثر مما يقول عن علم نظري قسمه إلى أبواب الباب الأول في الإدارة والملكة والواجب والإقدام والسعي والعمل وتهذيب الأخلاق والعدل والإخاء والحرية والتسامح وتهذيب العقل وتأثير الأخلاق في الجسم الباب الثاني في ذوي القربى والأرحام والمحبة والوداد والزواج والبنين والسعادة والثراء ونقص الأنفس الباب الثالث في الديمقراطية والدستور والواجبات الوطنية والمساواة في الحقوق وأنواع الحرية والتعليم والتعاون وتدارك البؤس الباب الرابع في حب الوطن والسفسطائيين وهذه الأمة وقوى الوطن والحرب والجنس البشري. لا نعلم الطريقة التي جرى عليها المعرب لأن الكتاب الأصلي غير موجود لدينا لنقابل بين الأصل والفرع ولم نره منذ أن عربنا عنه يوم صدور مقالة في السنة الأولى للمقتبس عَلَى سبيل النموذج ثم رأينا مجلة أنيس الجليس في الإسكندرية قد عربته أو أكثره ونشرته تباعاً والغالب أنها لم تنشره عَلَى حدة وقد لاحظنا المعرب قد التزم التعريب بالمعنى إلا في مواطن اضطر فيها إلى متابعة الأصل فجاء عَلَى تعريبه بعض الجمل شيء من الاضطراب. مثال ذلك تعريبه (ص135) لأبيات فيكتور هوغو يقوله: عهدنا إ لو ضمنا عمرنا ... ما حبا العمر لسن الأربعين عهدنا إذ يبسم الدهر لنا ... عن ثغور ملؤها عطف ولين عهد أيام كان بها الشتا ... ء علينا كربيع الياسمين وكذلك تعريبه أبيات هوغو أيضاً (ص141) إلهي لا تصب جسمي بسوء ... ولا قومي بشر مستطير ومنّ عَلَى أحبائي بلطفٍ ... وآبائي وإخواني بخير

ولا ترزأ بمكروه عدوي ... ولو أنحي بمكروه عسير ولا تجعل بلا زهر ربيعاً ... ولا قفص الطيور بلا طيور ولا تدع الفقير بغير نحل ... ولا بيت الفتاة بلا صغير وأسقم من هذا تعريب بيتين لنادو (ص122) ألا أيها الطفل الودود ألا ارحل ... فأنت من الأوهام حلم تلذ لي زعمت بحب للأميمة صادقاً ... وما حبكم للأمهات بأمثل ومثله في (ص58) خدموا بني أوطانهم فقضوا ... شهداء فيها للوفاء وحبا فذروا الزهور عَلَى رموسهم ... فلقد حكوا بوفاهم العربا وأنت ترى الضعف بادياً في هذه الأبيات وكان عَلَى المعرب أن يعرب المعنى ويكتفي به أو يدفع المعرّب بالحرف إلى شاعر كبير يعربه له بنظم سلس لا غبار عليه فإن الشعر كالموسيقى والخطاب العام والتصوير لا يستحب فيه إلا المفرط في الإجادة كما قال لابروبير العالم الفرنسوي في مقدمة كتاب الأخلاق. ثم أن المعرب أقحم عبارات في متن الكتاب ليست منه كما فعل في صفحة 101 فوقف موقف المؤلف وعدد الكتب التي يجدر بالفتى العربي أن يتلمسها ثم أقحم جملة فيمن وقع اختياره عليهم من رجال العصر الحاضر ومن الشعراء الغابرين والمعاصرين ومن المؤرخين القدماء والمحدثين فهذا الإقحام غير محمود خصوصاً والقارئ يجب أن يرى ما يقول المؤلف فقط أما المعرب فإذا كان له فكر خاص فما عليه إلا أن يؤلف رسالة خاصة في الموضوع تكون أوقع في النفس لأنها تعرب عما خصصت له إذ ربما تغير حكمه الذي أصدره اليوم غداً أو بعد غدٍ وهذا لا يجوز في كتاب الخلاق يتداوله الناس الجيل بعد الجيل. وقد رأينا الكلام مخطوماً (ص262) عند كلام المؤلف عَلَى العرب ودنيتهم اكتفى المترجم بوضع بعض أصفار دلالة فيما نحسب عَلَى أن هناك جُملاً لم ينقلها وكان الأولى أن تعرب بالحرف ليطلع عليها القارئ وإذا رأى المعرب أن المؤلف خرج حقيقة عن الصدد يذيل عليه مما يعلم في أسفل الصحيفة فإنة الأمانة تقتضي بأن ننقل الكتاب برمته وإلا فيسمى

تعريباًَ له مسخاً أو كما يسميه الإفرنج. وقد رأيانا المعرب يتوكأ عَلَى العويص في الأحايين فيستعمل الفصح الجديرة بالاستعمال لتتلقفها ألسنة الطلاب وأقلامهم فيدمجوها في تضاعيف منشآتهم ولذلك جعل في آخر الكتاب جدولاً للألفاظ اللغوية وتفسيرها بما يرادفها. ومع حرصنا عَلَى نشر الفصح كنا نفضل لو عري هذا المعرَّب من كل ما يشوش ذهن القارئ ويحصره في الاستفادة من الفكر الجديد. فبدلاً من أن يعمد الفتى أو الفتاة إلى المعجم ليرى فيه تفسير ما ورد (ص157) من معنى جلجلان القلب يكتفي المعرب بأن يقول حبة القلب أو سويداؤه وما نخال أحداً من البلغاء القدماء استعمل هذه اللفظة المتنافرة الحروف مثل مشمخر ومستشزرات وسجنجل التي نص عليها علماء البيان وحرضوا عَلَى إطراحها في الاستعمال لمنافاتها الفصاحة ولأن في اللغة ما يقوم مقامها. وقد وقعت للمعرب ألفاظ كررها في الاستعمال مثل تلابيب جمع تلبيب وهو جمع الثياب فاستعملها في استعارة غير لطيفة كقوله (ص30) (التي كتب لمن أخذ بتلابيبها السعادة) وقوله (ص204) قائم بين أسرته بتلابيب التهذيب والعلم) وص237 (أخذت بتلابيب الترقي). وسقط المعرب عَلَى بعض الاستعمالات البعيدة أو المنافية لروح الفصاحة واللغة مثل قوله (ص32): (لا تجدي لأعصابك) والأحسن تجدي أعصابك. وفي (ص33) (فلا يدع في أعماله للصدفة محالاً) والأولى أن يقال للاتفاق لأن الصدفة لم يرد بهذا المعنى ولذلك خطأوا من قال: في صدف الدهر صدف الدر وفي ص34 لكان بوسعها والأولى أن يقال لكان في وسعها وقد ورد هذا الاستعمال في عدة محال من الكتاب وفي الصفحة نفسها (يفضي إلى فتن مستطيرة ومحن معقودة) وما نظن الصفة الثانية مما سبق استعماله وفي ص37 (تمسك منه مواس الخير) (عمل يخلص عنك لمنفعة الناس) (يدأبون فيها ويلوون عليها) (فيسعى في مصلحة ذرارية) ولفظ مصلحة وقعت للكاتب غير ما مرة وهي من استعمالات جرائد مصر. وفي ص38 (أصبحوا بمكان الظنة والتهمة) ولعله يريد الظنة (لا يحرجون أن يحرجوا في أمرهم ويبرم بهم) (فعَلَى المرءِ متى جبه الواجب مصلحته أن ينأى عنها) 48 (حبابه أن

يستنيم له الوجدان) 50 (فإن الواجبات تتضارب كثيراً مع بعضها) والأولى بعضها مع بعض 51 (فمن كان يستمسك بحذافيره يستمسك بالأثرة الحسنة) 54 (أي رجل كب عَلَى عمله) الأولى أكبَّ ولعله من غلط الطبع الذي وقع كثيراً في الرسم والحركات مثل تشرأب إليها النفوس) والأولى تشرئب ومنها (أن يناوئ كل مكروه ومرزئية ومخوفة) 56 (أخذه رابط الروع) 58 (يجدر أن يكتب عَلَى صفائح ضرائحهم) 65 (فقد أربي فيها رجال القول وأصبحوا بمكان ثقة من البلاغة حتى امتدحوا منذ قرون مدحاً عرفوا كنهه أيام الخور) 66 (لا تدخله سآمة من دؤُب ولا إعياء من لغوب) والإعياء واللغوب يكاد يكون واحداً وإن كان اللغوب أشد الإعياء وفي الصحيح اللغوب التعب والإعياء ومثله في النهاية والغريبين وما ساق اليها إلا التقفية ومثله (بدرت منه بادرت نزاع إلى البطالة) ومثله 124 (فتق بعائدة من عطف وإحسان من رحمة) 96 (حتى يساهمه بديئة بدءٍ) لعله بادئ بدءٍ أو بدأة ذي بدءٍ 70 (لعملوا وأقدموا حزماً. فإن طيب الحياة ورغد العيش ليس لمن كان غنياً منكم. . . فاعملوا كداً كداً لأنفسيكم ولذويكم ولأمتكم فتروحوا النفس وتسروا الخاطر) جميل ركيكة ولاسيما أقدموا حزباً واعملوا كداً كداً. 71 (ومن ثم تطمئن نفسه فلا يستشير ميازين الجو) 72 (وهكذا الحال في النهامة) 78 (فإلى من نزغته نفسه إلى أن يتزيى بما هو ليس من أهله) 80 (ومن الضرورة أن تلحق بهذه المعالي مداني نستنكف منها ونعرض عنها إلا وهي الخلاطة والخلاعة. . .) (فعَلَى الفتيان أن يجزموا فيحترسوا من الخلود إلى هذه الملذات) (لأن من اعتار أن يأكل مطاعم توابلت لا يستلذ بعدها بمطاعم غيرها) 83 (لكنها رواحة للنفس) 87 (واتخذ كل عضوٍ من بني الإنسان أخاً لك توده عَلَى السواء فلا تضمر لأحد منهم وحراً ولا لأية أمة وغراً ولا داعي له ولا سبباً). 88 (نارت نائرتها فحاصت ولا بت حول الأمم) 96 (فالعقيدة أمر خاص بالوجدان يجرح ولو بخفيف المسيس) 99 (ويقدموا بيقظة انتبهاهم عَلَى مستقبلهم) 100 (ينبغي للمرء أن ينظر فيها نعماً حتى يتشرب عقله بها) 103 (إن العمل خير علاج لكرائه الحياة) 108 (فالرياضة واجبة لسداد الجسم نسعى إليها بهمة لا تفتر ولا تستنحر). 110 (ةالممرضات اللاتي يلازمن المصاح فإنهم يتعرضون للأمراض المعدية والأوبئة

المشؤومة ولا تلحق بهم أذية. . . فمن لم يفتأ عن أن يتداعى المرض ويتوجع نحو إلى المصائب وحواضر النوائب ويحاذر من طوارئ الخطار) 115 (غاب عني هذا الرجل بضعة سنين) 117 (فالأمم العظام والملل الشداد). 119 (يطالب اليوم بعبادة الناس الذي نسل منهم. . . ولم يسلسل آباءه إلى أجداده) 121 (واجب يتحتم علينا منذ نستمد الحياة منها) (وتكآدا (كابدا) الخطار لدواعي صحتك وصليا بالشاق في شؤون تربيتك) 122 (المودة تضمد جروحات المصائب) الأولى جراح أو جروح. 123 (سلاماً ورحمة أيها الأبوين! فقد قضيتما الحياة عَلَى القناعة في بيت حقير) (أما داخليني حماسك) حماستك. 125 (ولا ترأفن بنفسك عن محامد) لعله تربأن 126 (دينوا أبويكم أيها الناشئون كما داناكم بحب خالص) (سنة مطلق حكمها شديد وطأها (وطؤُها) وودوا فإن الوداد سحية رقيقة الجانب يوقع بها كل ناشئٍ ويواقع أمرها). 129 (فيحدوا عنه أكاذيب العواطف) (فإن الصبر ليأزر وإن الكراهة مع تداول الأيام لتزول) 130 (وليكن من الود والعقل إتحاد يسبلك أيها الفتى جنبات الصواب). 131 (عَلَى الرجل أن يأوي يؤوي المرأة تحت جناحه) 132 (وليس بقصد من إبداع الحياة إيجاد بنين فقط بل تربيتهم وتمكينهم من القيام حقه في شؤون الحياة وجعلهم رجالاً رجالاً). 132 (إن المرء لا يصدر عن الزواج إلا رجاءَ أن يلقى عن أكتاده مهام الأسرة) 137 (لم يكن أمهات أو كن إلا أنهن اضطررنا إلى. . . انحطت انحطاطاً ليس بعده من انحطاط) 138 (وعَلَى المرأة الفرنسية) (إلا وأن الانتظام بين المصاريف (النفقات) والأرباح لأمر تطلبه رفاهية الحياة) 139 (فتصبح مثل سافل أمرها عرضة لكل المثالب والمعايب). 143 (أحاجتهم للسعي أشحذوا وأحضأوا نيران شجاعتهم) 147 (لو لم يثبت ذلك بالبرهان أو بدءٍ) (نوجع أعلاق قلوبهم إلى أمهاتهم ونجعل كعبة ثقتهن فيهن لأن للام تأثيراً عليهم أقوى من تأثيرنا لرقة عواطفها) 148 (وإن في البنين زروح عظمة تناصب النساء مناصبة تفيدهم وتروضهم عَلَى أعمال الإرادة تحت ظل الأم بدون أن يتفيل حزمهم) 149

(وتأهل فأبا البنين يودهم وليس للثراء ولا للفقر يد عَلَى السعادة) (فإن قلت ذات يده عن حوز طيب الحياة فقد شقت عليه حياته وتعاظمته أوقاته. . . لأنه ما دام قاصراً عَلَى تنمية مورده مادام الفقر يدقعه ويذهب من جميل أنسه بأسرته). 150 (بيد أن الثراء وإن لم تكن به السعادة أداة ذات بال للسعي ببغيته، ولا بدع، سواد الناس، لأن من الحكمة أن يدأب المرء) (إن لا سعي له ولا عمل للحصول عَلَى المال مساق (مسوق) بالطبع مع الذين) 151 (بل عليه أن يكون في كل الأحوال بسيطاً في حياته قائماً (؟) أسرته) (يقنع بما بين يديه ويوافق مورده ومعاشه عَلَى الدقة وتقدير المنزلة فإن من كان مورده مساناة (مسانهة) خمسة آلاف ليرة ومصرفه (نفقته) خمسة آلاف ومئتين وخمسين ليرة كان فقيراً يتدرج إلى السآمة والمشكلات). 152 (إن من يقطع عن الناس شوابك العلاق علائق الذات والأسرة) 153 (واعلم أن للعلائق والتعارف مع الناس سيئات أكثر من حسنات) (واقتلوا أوقات فراغكم في المنزل) من التعبيرات الإفرنجية الأولى إبدالها باصرفوا واقطعوا وما شكل ذلك 154 (ولا تهاملوا في زخرفة الأثاث فيقولن أحدكم إني معيل لا قدرة لي عليه ففي سعة (وسع) كل الناس فقيرهم أو غنيهم أن) (أو تكلف في زينتها أو تماجن في صنعتها). 155 (تزبد المشرة وتزن الجسم والأخلاق) لعلها تعدل الجسم. 158 (إذا ضربنا صفحاً عن بلاد الروس المختلفة أصولها المجهولة سكانها في ذلكم العهد) (مضى عَلَى ذلك التاريخ ثلاثون ربيعاً) الأولى سنة لأن الربيع بهذا المعنى لم يرد في شيء من كلام العرب (بيد أن الأنفس فيها مازالت تزداد بذلك الحين ولكن في التناقض عن بقية الأمم) (ثم دهي الأمة الفرنسوية سنة 1871 فقد ولايتين الإلزاس واللورين تبلغ مساحتهما 15 مليوناً ونصفاً من الكيلومتر المربع) الصواب 14 ألفاً وخمسمائة كيلومتر مربع 160 (الأنفس تزداد لدى جميع الأمم ودمنا عَلَى موقف الجمود) (والإنكليز الذين لم يكن لهم في ذلك العهد إلا ثلثي ما للأمة من الأنفس). 161 (هذا إذا أخذنا بلاد الغال والإيقوس (إيكوسيا) وتركنا بلاد إيرلاندة عَلَى معزل) 163 (نقطع دابر الأمل من) استعارة غير حسنة (عرضة للاحتقار وموضع الصغار) (لا مرية إن ستلهم مادتنا الشعوب وتستلحم عنصرنا شعوب) 164 (ولقد كان في استطاعتهم ألا

يجيبوا سنة الوجود) (وأظن إن كان في الأعصر الخالية قبل وضع التاريخ رجال سفسطة). 165 (إلا أن هذا لا يكون طباب (ما يطبب به) لقص الأنفس فإن طبابه في الحمية الوطنية) (زُلقت عَلَى أحادير الانحطاط وأشفاءِ الموت). 168 (مبادئ لا يجوز لأحد أن ينكر عليها) 170 (تنقل هذه الصلاحية إلى أحد) والصلاحية كلمة لم يسبق للبلغاء استعمالها وهي من مواضع الأتراك تسربت إلينا من المترجمات والصحف والأولى استعمال اختصاص أو سلطة (فالديمقراطية والأريستوقراطية عرقنا في قلوب العالم) (كبرياء المتنفذين) ليس في اللغة تنفذ 171 (إن كل المظالم ثقيلة عَلَى النفس مكروهة لدى النفس) 173 (فاستدعى ذلك إلى توحيد القوى) والأولى دعا ذلك ومثله ص262 (يستنفع منها أكثر من ذلك) والصواب ينتفع فإن السين الطلب غير مقبولة كل حين. 174 (كما وأنه لا يخلو) كما أنه (عَلَى ما يظن البعض بل سارت في بلاد أوربة أبعد من ذلك فازدادت المصلحة العامة إلى درجة ألزمت الحكومة لتكثير الدوائر. . . مما يعود بالنفع عَلَى عموم أبناء الوطن والأحسن) بعضهم بدل البعض واضطرت الحكومة إلى تكثير بدلاً من ألزمت ويعود بالنفع عَلَى عامة أبناء الوطن بدلاً من عموم. 176 (لا تكون فيه الحقوق مضمونة مصانة) مصونة. 177 (فحكومتنا أصبحت بالتالي حكومة ديموقراطية) فبالتالي استعمال إفرنجي (فهي لا تضرب خناقاً عَلَى الحياة ولا تقف دون ترقي الأمة) 180 (جرحات الديموغجية) والأولى تعريبها هكذا نضار مماشاة العامة عَلَى أهوائهم أو خدمة العامة أو ما شاكل ذلك 181 (يتحمل تبعات أعمالها ودركات أمورها ويسئل عن مصيرها) (فيقرع صفاتهن أن تواقعوا إلى الوهدة ويشنع عَلَى زكمة السوء) فسر زكمة السوء بأبناء غير صالحين ويقرع صفاتهم ينتقصهم ويعيبهم وتواقعوا إلى وقعوا وراء بعضهم والجملة بدون شرح لا يفهمها إلا الحريري والمعري عَلَى تكلف في وصفها. 186 (رضاء مجلس الأعيان) والصواب بدون همز 187 (ومن ثم يصح لهم أن يحلوا غويص عويص الأمور السياسية بسكينة روع ويهتموا قبل كل أمر في مصلحة بلادهم

حتى إذا حفظت هذه المصلحة التفت كل منهم إلى مصلحة حزبه وقد ينبغي حتى في مصلحة الحزب أن يكون. .) (فالواجب في الأمور السياسية مهما كان صلباً متلبساً متضارباً). 190 لأن الوائف والمناصب هيكل لجسم هذه الأمة المتمدنة الممدنة أو المتحضرة (فإذا عرض له قرح طرأَ الداء). 191 (في مسألة تعيين أولياء الأمر وأن يقبلوا عَلَى وجدناهم يستشيرون بتلك القضية قبل العزيمة). 197 (لأن في ذلك مسيساً لحرية السعي) 198 (حجز النساء عن التعاطي في المعامل) 204 (أخذت من قلوبهم شطراً كبيراً يعلق في حبها). 215 (أتى عَلَى حاضر تكدر صفوه وجابه مستقبلاً خفي كنهه) 220 (رجعوا فيها ودايموا النظر ولا تخثروا) (ولو كانت ملؤ ألفاظة خشونة وأعمالها غلطة) 222 (ناقع القلب من أقدامهم مبرود الغليل من شجاعتهم) 224 (متى اعتقد الأغيار) جمع غير هي من استعمالات الأعاجم فيقولون بار أي المحب وأغيار أي العدو ومنهم سرت إلى بعض كتابنا (فاستفرغ العقل وهز القلب ورق دمك ولا تضن بقطرة منه صيانة لحياة الأمة وتعهداً لمصلحة الوطن) 225 (وكلما كان الاستمساك شديداً متراصاً كانت الأمة عَلَى عظمة وسؤدد) 226 (من جري ما بث به السفسطائيون) (فأدودا بهم تحت أيدي البرابرة أيداءَ هود اليم منحيهم الله أكتافهم فألبسوهم قناع القهر وطوقوهم طوق الذال وتوطوءهم بحر القتل) (نستدفع ما يقعر العنصر فإنا لا تزال أمة مستبصرة باقية النسيم غير نازعة إلى الموت). 230 (مرارة سخريته من هؤلاء السفسطائيين) والمرارة هنا مثل عقاب مر لم تألفها لغة العرب العذبة (في الأجيال الآتية) أي القرون والجيل غير القرن (الأوان خير أمة أخرجت للناس أمة تشربت الوطنية حتى الكفاف) 231 (بغير تشدق ولا جدل ولا حلجة إذا نادهم منادي الوطن) 223 (إقليم مرمعمعان تنازع يوآزر العزيمة ويستنب خفض العيش ورغد الحياة) 234 (ثم لاحت بين ظلامة هذه الأعصر بارقة عقل وشارقة عدل) (ثم تماسكت الأمة فرتقت الفتق ورأفت الخرق) 235 (لكن النائرة قد نارت والفائرة قد فارت).

238 (فأصبحت والألمان يفوقها بعشرين مليوناً عَلَى حين أن أرض الأمتين متساوية في المساحة والإنكليز بثلاثة ملايين عَلَى أن ربوعهم لا تكاد تعادل نصف ربوعنا). 240 (يدفعانها إلى أن تنهض من أغمض الهوات إلى أعَلَى الدرجات) (وادأبوا أيها البنون في مصلحة الوطن ومجد الأمة). 241 (قلبوا الطرف أيها الفتيان عَلَى موقع أمتكم من الأرض تجدونها عَلَى أجمل بقعة وأخطر قطعة) (بحيث أصبح من الواجب أن تضطلع لعبئهم وتحفظ الموازنة بينهم). 243 (تبذل النكيثة النفس والقوة حتى تصير قوة الجيش في البر إلى تناهيها) (عظيم الإجلاد عظيم التجاليد) فسرها بالضخم القوي (فإن من الضرورة أن يعتزم المرء عَلَى أمر الجندية فيرتاض عليها قبل أن يسلك في نظمها) (عن طيبة نفس وبسطة ذراع). 244 (إنه لقسم لو تعلمون جميل فينبغي لكل عضو في الأمة أن يؤلي عَلَى نفسه ذلك الإيلاء حين ينخرط في سلك الجندية) والإيلاء والانخراط هنا من أبشع الألفاظ 245 (الأنشودة التي تردد نأمتها في الفضاء) النأمة النغمة والصوت ويقولون أسكت الله تعالى نأمته أي أماته فالأولى عدم استعمالها في هذا المقام (تغرورق عيناه وتصطك شفتاه) وفسر شظاياه بعظام سافه 246 (ولا تذهلن إن الوطن أُمك) والأحرى أن يقول أبوك لأن الوطن مؤنث بالإفرنسية مذكر بالعربية. 247 (كونوا جنداً غلاظاً مستبسلين) والجمل شداداً بدل غلاظاً. 249 (بثبات قلب ورسوخه وطمأنينة) 250 (وبعد فقد وجبت عَلَى الأمة وراء أن تسعى أقصى مجهودها وراء أن تجعل الوطن عَلَى قوة وهمة). 251 (فكان ذلك مثلاً مراً استفادت منه حق الاستفادة) (حاجة الأمم الاقتحام عَلَى الحروب العادلة فبرهن بحجج عديدة وأمثلة كثيرة عَلَى وجوبها). 253 (ذلك مثل يجب عَلَى كل امرئ أن يحذو حذوه ويتحكك تحككه أيام الفت والمشاغب). 254 (والسعي وراء منفعتهم كما يفعل المرء وراء أن يجعل أمته) ولفظة الوراء هنا من استعمالات المولدة المبتذلة لا يريدها من يحب تقدم اللغة إلى الأمام. 256 (تسكن وسط أفريقية وجبال آسيا من كان عليه من سكان الأميركان) (تمدن الشرق الأدنى الذي ناهض تمدن اليونان والرومان زمناً طويلاً عَلَى الجهد وامتد من جنوب آسيا

وغربها إلى ردم سد حملايا المصمت ما لا فرجة فيه) 257 (فاعتراها ما اعتراها لما تحك بها تمدن آخر أكثر كمالاً من تمدنها). 258 (وكان حب الوطن والإقدام مزدرعين عَلَى حد السواء في قلوب الذين ينهضون بأمتهم) جملة لم تشم ريح العربية 259 (لاسيما قد بينت العلماء ذلك التاريخ في هذه الأيام عَلَى أحسن بيان) أي أَحسن بيان. 261 (حتى ماتت تلك الأمة المجيدة القوية في الهون) 264 (حتى كاد العنصر الأسود في أفريقية وعنصر الزنوج في أمريكا لا يبلان من عَلَى الانحطاط). هذا ما علقناه من هفوات الكتاب وهناك بعض أمور طفيفة لا يكاد ينجو منها كاتب في هذا العصر والعصمة لله وحده بيد أن هذه الهنات لا تقدح في فائدة هذا السفر البديع ولا تحط من مكانته فهو حري بالكبار والصغار أن يقتنوه ويتدارسوه ويتدبروا معانيه ومغازيه. ونثني عَلَى حمية صديقنا المعرب الذي أَخرج بتعريبه كتاب دومر زكاة فضله في وقت قل فيه جداً من يخرجون زكوات عقولهم كما ندر من يخرجون زكوات أموالهم.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات الأبطال تأليف توماس كارليل وتعريب محمد أفندي السباعي وفي ذيله تاريخ الثورة الإنكليزية. طبع بمطبعة البيان بمصر سنة 1329 ص245 مؤلف هذا الكتاب أحد فلاسفة إنكلترا في القرن الماضي (المتقتبس م اص57) هو من الرجال الذين اثروا أثاراً مهماً في نهضة أمته لسعة عقله وعمله وخلوص نيته وإنسانيتهوكتابه هذا اشتهر في المشارق والمغارب ولذلك أحسن للعربية مترجمه بنقله إليها بلغة قل أن نقل كتاب إلى لساننا بما يدانيها فصاحة وبياناً. وموضوع الكتاب الكلام عن عظماء الرجال فذكر البطل في صورة إله ومثل ذلك بوثنية أهل الشمال واعتقادهم بإلوهية أودين في الأزمان القديمة ثم البطل في صورة رسول وأورد لذلك سيرة محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى لصورة لم يكتب لغربي فيما نحسب أن كتب بقوته فجسم سيرته الشريفة في 42 صفحة بعبارات تشف عن إنصاف ليس بعده غاية. قال: لقد أصبح من أكبر العار عَلَى أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وأن محمد خداع مزور وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولو أن الكذب والغش يروحان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان مثل ذلك التصديق والقبول فما الناس إلا بله مجانين وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها ألا تخلق. فوا أسفاه ما أسوأ هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة وبعد فعلي ما أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً البتة من أقوال أولئك السفهاء، فإنها نتائج جيل كفر وجحود وإلحاد وهي دليل عَلَى خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان ولعل العالم لم ير قط رأياً أكفر من هذا وألأم وهل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره عجباً والله أن الرجل الكاذب

لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وما شكل ذلك فما ذلك أن يبنيه ببيت وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد نعم وليس جديراص أن يبقى عَلَى دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائة مليون من الأنفس ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن وإني لأعلم أنه عَلَى المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته وتعطيه بغيته. كذب الله ما يذيعه أولئك الكفار أن زخرفوه حتى خيلوه حقاً وزر باطل وإن زينوه حتى أوهموه صدقاً ومحنة الله ومصاب أن ينخدع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل وتسود الكذبة وتقود بهاتيك الأباطيل وإنما هو كما ذكرت لكم من قبيل الأوراق المالية المزورة يحتال لها الكذاب حتى يخرجوها من كفة الأثيمة ويحيق مصابها بالغير لا به. وهكذا أخذ المؤلف يسرد حالة العرب في الجاهلية وفي الإسلام وكيف قام الرسول وما عمله بعبارات تشف عن روح عالية ولا غزو فهي الفلسفة ومحال أن تنطلي عَلَى فيلسوف عارف مثل هذه الحقائق. ثم ذكر البطل في صورة شاعر واستشهد بدانتي شاعر الطليان وشاكسبير شاعر الإنكليز ثم ذكر البطل في صورة قسيس فذكر لوثير البرنستانتية ونوكس البيوريتانية ثم أورد البطل في صورة كاتب ومثل ذلك بجونسون وروسو وبارنز ذم ذكر البطل في صورة ملك ومثل لها بكرومويل ونابليون والثورة الإنكليزية. كل ذلك نقله المعرب كأنك تقرأوه بلغته مع الاحتفاظ بالسلاسة واستشهد أحياناً بأبيات من الشواهد العربية أدمجها بالمناسبات وتكاد الألفاظ غير الفصيحة التي وقع فيها المترجم تعد عَلَى الأصابع وهي مما عمت البلوى ونحب أن تكون مثل كتابة السباعي عارية منه وإن كانت كالوشم في الوجه أو الخال في الخد وذلك مثل قوله ص62 نوايا والصحيح نيات وفي الحديث إنما الأعمال بالنيات 66 تضحية النفس الأولى المفاداة 68 لأربعين من قرابته من ذوي قرابته 73 النقطة الهامة المهمة وص2 أوعرت فيه تلك السبيل وأوعشت وقامت فيها القحم والعقبات والموارط والهلكات. . . وأزمت الكروب وتشنعت المحن 39 بعقوبة صارمة والأولى شديدة 84 وأساليب وعوائد الأولى عادات. وقد صدر الكتاب برسم مؤَلفه كارليل وطبع أجود طبع فنثني الثناء الأوفر عَلَى معربه وناشره ونستمطر شآبيب الرحمة عَلَى مؤلفه.

فتح العالم الإسلامي اعتادت رصيفتنا مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية أن تصدر الحين بعد الآخر جزءاً كبيراً من أجزائها الشهرية تخوصه بموضوع خاص من الموضوعات التي تخوض عبابها وقد نشرت في تشرين الثاني مبحثاً في 327 صفحة تحت عنوان فتح البلاد الإسلامية توسعت فيه عمل البعثات الإنجيلية والسكسونية والجرمانية في بلاد الشرق فقدم له صديقنا المسيو لشاتليه مدير تلك المجلة وأستاذ عَلَى الاجتماع الإسلامي في كوليج دي فرانس بباريز مقدمة أبان فيها أن الإسلام ينهزم أمام تعاليم تلك المدارس التي يرى بعض القائمين بها أن كثيراً من المسلمين دانوا بالنصرانية لكثرة ما تلقنهم إياه تلك المدارس الإنجيلية ويرى المسيو لشاتليه أن المسلمين لا يدينون بدين آخر بل تتزعزع عقائدهم بما يلقنونه من الأفكار التي تصحب اللغات الأوربية وذلك بواسطة اللغة الإنكليزية والألمانية والهولاندية والإفرنسية فتجعل تلك البعثات احتكاكاًَ بين الإسلام والصحافة الأوربية وتسهل النجاح المادي في العالم الإسلامي وهكذا تصل تلك البعثات إلى العبث بالفكر الديني الذي كان قوته بعزلته. ثم قال أن تقسيم الإسلام (أي بلاد الإسلام) السياسي سيظهر في أتم مظاهره ويسهل أعمال التمدين الأوربي عَلَى أن الإسلام يزول سياسياً ولن تكون حاله إلا حال مدنية باقية في وسط التغلب الغربي ولا سبيل إلى نشل الدولة العلية بعد أن ضل أحرار العثمانيين سبيل إنهاضها إلا بتأليف ولايات متحدة إسلامية وإلا فإن تقسيم البلاد لا مناص منه. وبعد أن أفاض في أوضاع جمعيات التبشير وأعمالها العلمية والخيرية والدينية في بلاد لمسلمين وما تعده من الأسباب للقضاء عَلَى الإسلام قال الناشر في النتيجة: كان يرجى غداة الانقلاب العثماني أن يكون للإسلام دور نهضة اجتماعية ولكن زعماء حزب الإتحاد والترقي نسوا برنامجهم عندما استلموا زمام الأمر فدعت الغلاط التي ارتكبت في الآستانة وسلافيك وطهران وطوريس إلى أن تعرف أوربا أن دور السياسة انتهى وجاء دور العمل. إن هذه الكتلة البشرية الموزعة في آسيا وأفريقية من بحار الصين إلى المحيط الأتلانتيكي ستفقد موازنتها التقليدية بزوال الخلافة (والعياذ بالله) عما قريب وانقصام عرى الممالك المستقلة فماذا يكون والحال هذه مصير المدنية الإسلامية إذا نظرنا إليها بأنها جزء من المجتمعات البشرية وإلى أي وجهة يتجه نشوء الإسلام؟ إننا بما نراه من كثرة انتشار

الصحافة الإسلامية ووفرة طرق المواصلات وتأييد الروابط الإسلامية كل ذلك سيزيد في احتكاك الشعوب الإسلامية بعضهم ببعض ولذلك يرجى أن يعظم مركز المسلمين الاقتصادي في ظل الحكومات الأوربية بفضل السهولة التي تنشأ بينهم من وحدة الأوضاع الاجتماعية في الجملة ومن استعمال لغة أدبية دينية واحدة ولذلك كان عَلَى أمم أوربا أن تعمد إلى سياسة التعليم والتربية مع الشرق وستكون صلات مائتي مليون في البلاد الإسلامية بحسب تأثير التربية العقلية التي يربونها. هذا ما قاله صديقنا عربناه عَلَى ما بعض جمجمة فيه وخلاصته أن الحكومات الإسلامية تنقرض والعياذ بالله ولن يبقى للمسلمين إلا العمل بالمسائل الاقتصادية أي يبقون كالإسرائيليين بدون حكومة تحكمهم. كلام مر ولكن عَلَى رجال الإسلام أن يتدبروه ملياً وفي هذا البحث أسرار مهمة فيما تدخره السياسة الغربية لاكتساح الشرق ونزع دينه وسياسته وعاداته كما بدرت بوادر ذلك الآن باستيلاء فرنسا عَلَى بلاد المغرب الأقصى وإيطاليا عَلَى طرابلس وبرقة وروسيا عَلَى وإنكلترا عَلَى نزع استقلال إيران بحيث صح أن نقول أن بلاد الإسلام في صدد حرب صليبية ولكنها غير دينية كحروب القرون الوسطى بل مدنية للفتح وسلمية ببث الأفكار والتعاليم الغربية. الريحاني تأليف أمير أفندي ريحاني الجزء الثاني طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1910 ص232 اعتاد صاحب الريحانيات وهو من نوابغ المفكرين في سورية اخذ بحظ وافر من المدنية الغربية وحظ وافر من المدنية الشرقية أن يتحف عالم الأدب الحين بعد الآخر بنفثاته النافعة وأكثر ما في هذا الجزء هو مما كتبه في سورية وأكثر ما في الجزء الأول مما كتبه في الولايات المتحدة الأميركية والجزء الذي امامنا الآن هو مجموعة مقالات وخطب وشعر منثور والشعر المنثور هو كما قال عنه: يدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالإفرنسية وبالإنكليزية أي الشعر الحر أو بالحري المطلق وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج وبالأخص عند الأميركيين والإنكليز فملتن وشكسبير أطلقا الشعر الإنكليزي من قيود القافية وولت وتمن الأميركي أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية

والأبحر العرفية. عَلَى أن لهذا الشعر المطلق وزناً جديداً مخصوصاً وقد تجيء القصيدة منه من أبحر عديدة متنوعة. وولت وتمن هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها وقد انضم تحت اللواء بعد موته كثير من شعراء أوربا العصريين وفي الولايات المتحدة اليوم جمعيات وتمنية ينضم إليها فريق كبير من الأدباء المغالين بمحاسن شعره الجليلة المتخلقين بأخلاق الديمقراطية المتشبعين بفلسفته الأميركية. إذ أن شعره لا ينحصر مزاياه بقالبه الغريب الجديد فقط بل فيه من الفلسفة والتصور ما هو أغرب وأجد. ولا نقول في هذا الجزء إلا كما قلنا في الجزء الأول (م50 ص220) تتدفق حرية الفكر من أطراف ورقة الإحساس منت سطوره وبعد النظر من مراميه ومعانيه وكله معان فلسفية في قوالب عصرية وروح شفافة في شعور جديد فقد قل في أرباب الأفكار مثل هذا النفس في إصلاح الأفكار والتلطف في بلاغ العقول الجامدة محاسن الحضارة المدهشة والتجديد المفيد. وقلما شاهدنا أثر المحيط في كتابة كاتب كما شاهدناها في صديقنا الريحاني فكتابته يوم كان في أميركا تذكر سيئات المدنية الغربية التي لا تعرف إلهاً غير الماديات حتى إذا عاد إلى الفريكة مسقط رأسه في لبنان عاد يحبب العزلة وينفر من تلك المدنية المادية ولكنه يدعو إلى فك العقول من قيودها والأخذ بما ينفع من مدنية لا تكون شرقية ولا غربية كتلك الشجرة المباركة ولكنه كان في كل موضوع يخوضه يجعل للحرية المطلقة نسيباً وافراً من أقواله ولذلك نقم عليه أعداء العقل وعبيد القيود من المتنطعين من رجال الدين وحاربوه حرباً لم يكد يحاربه سوري ولكن إخلاصه شفع فيه فلم ينل بأذى وهو اليوم شعلة الذكاء الشرقي في بلاد الغرب وعنوان الهمة العالية أمام المشارقة. يعلم المؤلف جد العلم أن من يصرح بما يصرح به يحارب ويطعن فيه الطعن المبرح في بلاد لم يزل لأوهام المتنطعين شدة وعرامة وهم لا يرون إلى النيل منه أكثر من رميه بالإلحاد وإنكار الصانع ولكن من يقول (ص10) إنا للطبيعة وإنا إليها راجعون وشكرت الله شكراً جزيلاً لا يدل عَلَى أنه ملحد بالمعنى الذي يصورونه بل هو ملحد في التقاليد الضارة حر في إفصاحه عن رأيه عَلَى أساليب لم يألفها غير المنورين من سكان هذا الشرق الأقرب.

قال (ص13) إن الفرق بين الأولياء والأطباء قليل لا يستحث الذكر فكم من طبيب فاضل يستحق أن يطوب قديساً أو يدعى ولياً بعد موته فقد تعرفت بفضل آلامي العصبية بعدد وافر من هؤلاء الأفاضل وبان لي بالاختبار ما كنت أجهله. تحققت أن الفرق بين الطبيب والكاهن كالفرق بين الكاهن والمحامي كلهم نفعنا الله بعلمهم وبرهم يتعاطون الجربزة. كلهم يتاجرون بشيء من الحقيقة وكثير من الخزعبلات والأوهام عَلَى أن الطبيب أرفع درجة من الكاهن والكاهن أرفع درجة من المحامي. وصرح في (ص27 و29) بعيوب الإكليروس وتهاونه لا لمجرد الطعن بل للإصلاح لأنه لا يريد أن تظل آدابنا (48) تحت سيطرة المتدينين والمتنطعين (ولو قال المتنطعين من المتدينين لخلص من اللوم) وأنفسنا من ربقة رجال الدين وإن لم نتجرد من هذا الاستبداد الديني أو بالحري السفسطي كما تجردنا من الاستبداد السياسي تظل آدابنا مبتذلة جامدة خاسئة. هو يقول (51): عَلَى تقريرات رجال الدين وخزعبلات العبادات قام عبد الوهاب في نجد ولوثيروس في وتنبورغ وجون نكسن في إنكلترا وغيرهم في البلاد كثيرون فما ضرنا ولا استغنينا عن المتكهنين المدلسين وتفلتنا من ربقتهم واعتصمنا بدين الله وبأنبياء الله ثم قال: إني أحترم العاطفة الدينية التي تكاد تكون فطرية في الإنسان ولكني لا أجد في خزعبلات هؤلاء الناس وفي تنطعهم - وقد قيل هلك المتنطعون - ما يساوي ذرة من نفس امرئٍ راقية. ومن يقول فكرة بهذه الصراحة لا يرمى بالإلحاد والمروق ولكن المؤلف ينحي كثيراً عَلَى رجال الدين في قومه يريد بالقوارص التي يوجهها إصلاحهم ودعوتهم الوطنية لئلا تفرقهم المذاهب (131) فإن عدوا عليه مثل هذه الهنات وربما أتى بعضها من كونها لم يرزق كل حين حظاً من جمال التعبير أو أنه بين ولم يجمجم والجمجمة كالتقية لا بأس بها بين القوم المخالفين إذا خشيت الفتنة فقد أتى بحسنات لا ينكرها عليه أشد الناس حطاً من خصومهم قال (ص45): نحن اليوم واقفون بين هاتين المدنيتين بين مدنية غازية منتصرة وأخرى مدبرة فعلينا أن لا نخضع عَلَى الإطلاق لهذا الفاتح القوي وأن نمسك بما في مدنيتنا من الخير الروحي ولا

ينجينا من استبداد هذه المدنية الفاتحة القاهرة ويحفظ لنا حسنات تلك المدبرة سوى الآداب. ولا أريد بالآداب الكتب فقط بل أريد منها آداب النفس أولاً والأخلاق. إن الدين هو أبو مدنية الشرق يرفض بتاتاً مدنية الغرب والعلم المادي هو مدنية الغرب يرفض بتاتاً مدنية الشرق فالدين والعلم في هذا الموقف متغرضان كل لقومه ولا ينفعنا الواحد منهما دون الآخر. وإني لأجد في كل قوى الفكر والنفس وثمارهما أصلح وأنجع من الآداب تجمع بين الاثنين فينشأ عن ذلك مدنية جديدة قوامها الصنائع والفنون وشعارها الإخاء العام. واعلموا أن الفنون السامية الجميلة هي التي تتغذى من العلم والدين معاً والأمة التي تجعل مثل هذه الفنون أساس حياتها الاجتماعية تكون ولا غرو مجد المستقبل وأم الأمم. عَلَى شطوط البحرين وفي أودية الرافدين أحب أن أشاهد مثل هذه المدنية الجامعة بين محاسن المدنيتين. أحب أن أرى في قلب العالم جمال روح العالم وكمالها. أحب أن أرى في بلاد الشام وبلاد العرب ثمار الأنبياء وثمار العلماء عَلَى شجرة واحدة. أحب أن تزرع بساتين هذه الأرض المقدسة من تلك الشجرة المباركة شجرة لا غربية ولا شرقية. وقال في التساهل الديني وإنه موجود بين الدول في معاملاتهن إحداهن للأخرى ولكنه غير موجود بين الأوربيين ومن يدعونهم بالمتوحشين فالدول (123) لا تتساهل مع هؤلاء المساكين الضعفاء بل تتساهل بعضها مع بعض لأنها تضطر إلى ذلك وليس حباً بالمبدأ الشريف وكثيراً ما نراها تشهر الحروب عَلَى القبائل الضعيفة وتدعوها حروب الإنجيل وذلك لكي يدين البرابرة بالدين المسيحي كرهاً وجبراً. وهذا هو التعصب الدولي الديني هذي هي الاضطهادات التي تمارسها ضد البرابرة كما تزعم والبرابرة قوم يشعرون وهم يريدون مثلنا. هذه هي حروب شارلمان وحروب الملكة حنة الإنكليزية والملك كارلوس الإفرنسي هذه مذبحة ليلة القديس برتلماوس فعوضاً عن حدوثها في باريز وفي القرن السابع عشر تحدث الآن في صحاري أفريقية وفيافي آسيا وتلول السودان وفي أواخر القرن التاسع عشر. يا للعار ويا للشنار! عبثاً يكتب العلماء ويندد المصلحون ويبحث الفلاسفة عبثاً أتى المسيح إلى الأرض لمثل هؤلاء القوم. وبالجملة فالريحانية كلها آية في الحرية داعية إلى التساهل الديني محببة بالمدنية المعقولة المحبوبة مقربة بين القلوب جارياً عَلَى حد قوله الكتب المقدسة تصلح الحياة ولكنها لا تعمر

البلاد والعلوم المادية تعمر البلاد ولكنها لا تصلح الحياة إذن كتبكم المقدسة احفظوها وكتب العلم عززوها. كتب ورسائل مختلفة تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب للشيخ جمال الدين القاسمي طبعت في مطبعة مدرسة والدة عباس الأول بمصر سنة 1326 - 1908. رسائل الانتقاد - هي الرسائل التي أحياها بالنشر السيد حسن حسني عبد الوهاب تفي مجلة السنة الماضية من المقتبس تأليف عبد الله محمد أبي سعيد بن شرف القيرواني المتوفي سنة 460 هـ. طبعت في مطبعة المقتبس في 24 صفحة. ملقى السبيل - رسالة في الوعظ والحكم نشرت في الجزء الماضي من المقتبس بعناية السيد حسن حسني عبد الوهاب التونسي وهي لأبي العلاء المعري وقد علق عليها الناشر حواشي نافعة كما هي عادته وهي في 17 صفحة طبعت بمطبعة المقتبس. تمرينلى وإعرابلى لساتن عربي صرف قمى - هو كتاب في صرف اللغة العربية بالتركية لمحمد شاكر أفندي الحنبلي جعله مع التمارين والإعراب في 210 صفحة طبع بمطبعة رشادية في الآستانة 1329 هـ - 1327 ش. العقود اللؤلؤية في طريق السعادة المولوية - للشيخ عبد الغني النابلسي طبع عَلَى نفقة الشيخ محمد سعيد أفندي شيخ تكية المولوية بدمشق في مطبعة المقتبس سنة 1329 عدد صفحاته 32. مطول في إنشاء المكاتيب - تأليف أمين أفندي الخوري طبعة عاشرة في مطبعة الاقتصاد ببيروت سنة 1911 ص320. قصائد أحمدية من الميرزا غلام أحمد (المسيح الموعود والمهدي المعهود) طبعت عَلَى نفقة الجمعية الكبرى الأحمدية بمطبعة الميزكين بقاديان الهند ص158. نسمات الصبا في منظومات الصبا لجرجي أفندي شاهين عطية طبعت بالمطبعة العثمانية في لبنان سنة 1904. جدول في المنطق للشماس توما ديبو المعلوف طبع بالمطبعة البطريركية الأرثوذكسية بدمشق سنة 1911.

اثر حسن - مجموع مراثي الدكتور سليمان الخوري الحمصي جمعه رزقه الله أفندي نعمة الله عبود طبع بالمطبعة الأدبية في بيروت سنة 1904 ص288. البيان - مجلة دينية عمرانية تاريخية أدبية لمنشئيها مصطفى وهيب أفندي البارودي وجميل أفندي عبد القادر عدرة في طرابلس الغرب تصدر مرة في الشهر في 32 صفحة وقيمة اشتراكها في البلاد العثمانية مجيدي وربع وفي الأقطار الأجنبية سبعة فرنكات.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار تاريخ بيروت ألقى الدكتور بورتو مدرس التاريخ في كلية الأميركان في بيروت محاضرة في تاريخ هذه المدينة فقال: بيروت إحدى المدن الفينيقية القديمة أنشئت بعد دمشق وأقدم مدن فينيقية صيدا وبيروت وجبيل. ونحن لا نعرف بالتحقيق زمن إنشائها ولكن يوسيفوس المؤرخ العبراني ذكر اسم رجل فينيقي وقال أن موطنه بيروت وذلك دليل عَلَى قدمها. وفي أساطير الأولين أن ابنة إله جبيل تزوجت من ملك وكان اسمها بيروت فسميت زوجها بيروت باسمها. ونعرف طرفاً من تاريخ بيروت في القرن الخامس عشر قبل المسيح من الآثار المصرية وذلك أن توتميس الثالث جرد جيشاً عَلَى سورية وامتلكها ولما اشتد ساعد الحثيين والأموريين في الشمال أخذوا يطردون المصريين شيئاً فشيئاً وكان عمال المصريين في سورية يكتبون ويستنجدون فرعون لإغاثتهم. وقد اكتشف منذ عشرين سنة بعض هذه المكاتيب المحفورة عَلَى قوالب الآجر ومن جملتها مكتوب من حاكم بيروت إلى فرعون مصر يخبره فيه بحالته مع الحثيين والأموريين وتاريخ المكتوب في القرن الرابع عشر قبل المسيح. ومما يترجح أن بيروت مأخوذة من كلمة (بئر) وأظنها مأخوذة من اللغة الفينيقية لأن لفظ بيروت يقابل جمع كلمة بئر في اللغة الفينيقية. ومما يؤيد ذلك عندي أنني لما أتيت إلى هذه البلدة منذ أربعين سنة وكان في ذلك الحين لم يجلب ماء نهر الكلب كنت أينما اتجهت أرى آباراً والآن كثير منها ردم فيصح أن يقال أنها سميت بيروت أو مدينة الآبار لكثرة آبارها. وبيروت كانت منذ القديم عظيمة بتجارتها ويظن أن مركزها اليوم غير مركزها في العصور الخالية والمرجح أنه كان جنوبي مركزها الآن وذلك عند نهر الغدير وقد اكتشفت آثار بناء هناك وكما هو معروف أن الشاطئ هناك مرمل لا يصلح لميناء ولكننا لو نظرنا إلى حالة الفينيقيين البحرية نجد أن سفنهم كانت شراعية صغيرة لا تستطيع السفر وقت الشتاء وكانوا يخرجونها إلى البر وينقطعون عن الأسفار فلذلك يجب أن يكون الشاطئ رملياً إذ يسهل إخراج المركب إليه. ولما لم تأت نجدة من مصر سقطت بيروت في أيدي الحثيين ثم جرد رعمسيس الثاني عَلَى سورية حملة حارب الحثيين فيها فكسرهم وأخذ

بيروت ثم اقتسموا البلاد بينهم ولرعمسيس اثر عَلَى صخر عند مدخل وادي نهر الكلب. وهكذا ظلت البلاد تحت حكم المصريين والحثيين إلى أن قامت دولة آشور وقد وضع بختنصر (نبوخذ نصر) تاريخ هذه الحملة أيضاً عند نهر الكلب ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع قبل المسيح ولما قامت دولة الفرس أخذت بيروت كما أخذ أخوتها من مدن سورية ولكنها لم تذكر في التاريخ كما ذكرت صيدا وغيرها. وامتلك بيروت الاسكندر الكبير كما امتلك سائر مدن سورية بدون مقاومة إلا مدينة عكا. وقد حكم سورية بعد الاسكندر البطالسة وفي سنة 192 احتل السلوقيون سورية وفي سنة 140 قبل المسيح خربت بيروت بسبب حرب أهلية وفي سنة 64 احتل الرومانيون سورية وكان القائد عَلَى حملتهم بومبي. وأضحت بيروت في أيام أغسطس مستعمرة رومانية. والمستعمرات الرومانية كانت تؤسس في إيطاليا لإسكان العساكر الرومانيين الذين خدموا الرومان خدمة تذكر ولما اتسع ملك الرومان لم يبق أرض لإسكان هؤلاء العساكر فأخذوا يسكنونهم في أملاكهم خارج إيطاليا. ثم أصبحت بيروت مركز الفيلق الخامس والثامن من الجيش الروماني وعمرت بيروت عَلَى عهد الرومانيين وآثارهم فيها موجودة بكثرة. ولما أتيت بيروت رأيت كثيراً من العمدة القديمة عند إدارة الرسومات وقد ردمت هذه الأعمدة عندما بنيت الميناء الجديدة ولما قطعوا الطريق الجديدة في بيروت وجد كثير من الآثار الرومانية وقد أسس الرومان في بيروت مدرسة لدراسة الحقوق وسائر العلوم المعروفة في ذلك العصر وبجانب هذه المدرسة أهم مدارس الرومانيين في الشرق وعندما انتشرت المسيحية تنصر كثير من تلامذة هذه المدرسة وكانوا عرضة للاضطهاد وعند ظهور الإسلام احتل المسلمون سورية وخضعت بيروت لهم في خلافة يزيد. وبعد قطرن من خضوعها ظهر في بيروت الإمام الأوزاعي ويقول أبو الفدا أن مولده كان في بعلبك ومات قرب بيروت وأظن أن المقام المعروف بالأوزاعي الآن هو قبره ولما تراجعت قوة الأمويين وانتشرت سلطة الفاطميين خضعت بيروت لهم وذلك في خلافة الحاكم بأمر الله مؤسس الديانة الدرزية وكانت بيروت في عهد الصليبيين تختلف بين حكم المسلمين والإفرنج. وخربت بيروت الزلزال سنة 550 م وسنة 1511 أخذها السلطان سليم العثماني مع باقي مدن سورية ومنذ ذلك الحين لا تزال مدينة عثمانية اهـ.

الزراعة في روسيا تبين من الإحصاء الأخير الذي وقع في خمسين ولاية من ولايات روسيا في أوربا وعشر ولايات من مملكة بولونيا التابعة لها أن توزيع الأراضي عَلَى هذا النحو وذلك بمقياس ألف آكر تسمى مستعمرة الآكر يساوي 40 آراً 4671. فظهر أن مملكة روسيا والأسرة المالكة فيها والشركات الزراعية تملك 417618 مستعمرة زراعية أو 36 من المئة والمالكين ملكاً خاصاً 274656 أي 23 في المئة وفي البلاد 92456 مستعمرة أو 8 في المئة غير قابلة للزراعة أو تملك الحكومة والإمبراطور والمدن من مملكة بولونيا 2184 مستعمرة أي 74 في المئة وللفلاحين 12233 أو 41. 6 في المئة غير صالح للزراعة. ويكون في روسيا أوربا 34. 6 في المئة من الأراضي والحقول و16. 5 من الحدائق أو المروج و40. 9 غابات و8 في المئة بور وتبلغ الأرض القابلة للزراع في بولونيا 55. 6 في المئة والحدائق والمروج تكون 19 في المئة والغابات 21 في المئة من مجموع الراضي والأراضي البائرة 4. 4 في المئة فقط. وأهم مزروعات روسيا الحنطة والجاودار والزوان والشعير والبطاطا والعلف والكتان والقنب والتبغ. ويهتمون بتربية الخيل والبقر والغنم والعنز والخنازير وكان في البلاد الروسية سنة 1909 - 32114000 حصان و48491000 رأس من الماشية و80000000 غنم وماعز القهوة ومحالها كتبت مجموعة أبو الضيا التركية مقالة في القهوة ومحالها قالت فيها ادعى الدكتور لاند الألماني أن أول محل للقهوة أنشئ في الآستانة سنة 1551 كما أنشئ أول محل لها في إيطاليا سنة 1645 وفي إنكلترا سنة 1652 وفي فرنسا سنة 1659 وفي فرنكفورت وآم ماين سنة 1675 وفي وارسوفيا سنة 1681 وفي فينا سنة 1685 والغالب أن الكاتب ارتكب هذا الغلط لما علم من تاريخ انتشار القهوة وذلك أنه جيء بها من اليمن عَلَى يد السلطان سليمان القانوني سنة 958 فأخرجت فتوى بإغراق السفن التي تحملها مع حمولتها فأغرقت أمام دار المدفعية (طوبخانة) بالقسطنطينية وقد سرد كاتب جلبي أسباب ذلك في كتابه ميزان الحق في اختيار الحق ولقد دهخل الدخان إلى الممالك العثمانية عَلَى عهد السلطان أحمد الأول سنة 1012 وجرى استعماله في الآستانة سنة 1022 واسست محال

القهوة سنة 1024 في زاوية من زوايا خاليجير وفي سنة 1043 أحرقت في الحريق المشهور جميع محال القهوة وذلك عَلَى عهد السلطان مراد الرابع وعندها صدر الأمر بمنع التدخين وكل من رؤي بأنه شربه أو خبر عنه بانه شربه يقتل في الحال وهذه الشدة في المنع اتخذت إذ ذاك حجة سياسية وذلك لن السلطان مراد الرابع أراد أن ينتقم للسلطان العثماني الذي قتله أرباب الفتوة من اليكجرية (الإنكشارية). فكان عَلَى هذه الصورة ينكل ببغاتهم فتوضع عَلَى من يراد إعدامه منهم لأنه شرب الدخان علامة فارقة وهي عبارة عن مشعل ينيطونه به يبقى عليه إلى المساء موقداً وقد رأى ذات يوم السلطان مراد في إحدى الساحات رجلاً من الإنكشارية يتقدم إلى آخر من إخوانه مصلوب لأنه شرب الدخان فأخرج غليونه من جيبه وشعله من المشعل فعجب الناس من هذه الجرأة ولم يسع ذاك السلطان المستبد إلا أن أصدر أمره عَلَى لسان الدلالين يبيح استعمال الدخان كما كان سابقاً والغالب بان السلطان ظن بأن جرأة هذا الإنكشاري ناتجة عن تحرش بفتنة يدبرها إخوانه. أما استعمال السعوط في الآستانة فكان سنة 1050 ومن حسن الطالع أنه لم يشع استعماله قبل سنة 1049 وغلا لكان السلطان مراد قضى يجدع انف من يستعمله جزاء وفاقا. التعليم في روسيا يرجع أمر معظم المدارس الروسية إلى نظارة المعرف العمومية وقد قسمت بلاد هذه الإمبراطورية إلى خمس عشرة منطقة من حيث المعارف وهناك عدة مدارس خاصة تشرف عليها بعض النظارت الأخرى كنظارة الزراعة والأشغال وغيرهما. وكان عدد الكليات في روسيا سنة 1909 تسعاً وهي كليات بطرسبرج، موسكو، خاركوف، كيف، قازان، أودسا، دوربال، تومزسك، وأرسوفيا وقد أغلقت الكلية الأخيرة مؤقتاً ويبلغ عدد تلامذة هذه الكليات المستمعين فيها 39494. وافتتحت كلبية جديدة سنة 1909 في مدينة ساراتوف. ومنذ 1908 أنشئت في موسكو كلية للشعب أسسها القائد شاتفسكي وانفق عليها من ماله وسماها باسمه في كثير من المدن والحواضر مدارس للتعليم العالي وفي كيف وموسكو وبطرسبرج وقازان مجامع علمية لاهوتية وفي إشميازين من بلاد القوقاز (القافقاس) مدرسة لاهوت للأرمن وفي بطرسبرج مدرسة الكاثوليك. ولكل من بطرسبرج

وموسكو وخاركوف مدارس طبية ملكية وعسكرية. ثم أن المجامع العلمية ومدارس الهندسة والمعادن واللغة والغابات والصناعات النفسية وغيرها كثيرة جداً في المدن الكبرى في المملكة الروسية ولدوقية فنلاندة الكبرى كلية خاصة في هلنسكفور تضم حجرها سنة 1909 - 2000 طالب. وعدد الطلبة الذين يتعلمون في روسيا مجاناً أو عَلَى نفقة المحسنين نحو أربعة آلاف. وعدد المدارس الابتدائية 92501 منتشرة في طول البلاد وعرضها ونصفها لنظارة المعارف أو للمجمع المقدس (سينود) وفيها 170894 أستاذاً ومعلماً و5738289 تلميذاً وفي روسيا 10825 مدرسة من كل صنف من أصناف التعليم فيها 6164913 طالباً وتلميذاً ولا يدخل في هذا العدد 404171 تلميذاً يتعلمون في مدارس خاصة ومع كل ما تبذله الحكومة الروسية في سبيل نشر المعارف فإن عدد الأُميين من بينها مما يرتعش له فإن 77 في المئة أُميون في روسيا أوربا و87 في سيبيريا و94 في آسيا الوسطى. وفي الولايات المتقدمة جداً في روسيا مثل ولاية أُستونيا لا ينزل عدد الأُميين عن 20 في المئة وفي بطرسبرج عن 45 في المئة وفي غير ذلك من الولايات التي تعد راقية لا ينحط عن 50 في المئة. وقد بلغ ما أنفقته نظارة المعارف الروسية سنة 1910 والنظارات والمجمع المقدس عَلَى المدارس والتعلم 113. 595. 002 من الروبلات والروبل فرنكان و66 سنتيماً. الورق المعدني يؤكدون أنه لا يمضي أربعون سنة حتى تاتي المطابع عَلَى ما في الولايات المتحدة وكندا من الغابات بما تستنفذه كل يوم من أشجارها لصنع الورق اللازم للصحف والكتب ولكن اديسون مخترع التلفون هوّن الأمر عَلَى سائل سأله في هذا الشأن رأيه قائلاً أن الورق يعمل إذ ذاك من الفولاذ أو النحاس أو النيكل فيمتص الحبر كالورق المعمول من الخشب والخرق البالية اليوم وتكون سماكته واحداً وعشرين ألفاً من القيراط وهي أصلب وألين وأرخص من الورق المعروف.

أوروبا في سورية

أوروبا في سورية حياة المرء سلسلة تختلف حلقاتها بين سوداء وبيضاء يحكم قبل أن يستامن لبيض الليالي يتوقى سودها فيذخر قوة ومنعة ولا يقف إذ ذاك حائراً أمام الشداد قانطاً متذمراً بل متسلحاً أبداً ومتأهباً للمكافحة والنضال. وناموس الأفراد يشمل الأمم والمالك كبيرها وصغيرها فما من دولة إلا وكان لها من دهرها يومان يوم لها ويوم عليها. هذه صيرت فاعتبرت وفازت وتلك لم ترعو فتلاشت فخلفها من هو أقوى منها سنة الله في خلقه. اعتبر ذلك بدولتنا العلية التي اجتاحت الممالك ودوخت الأمصار فاستنامت واستأمنت ولم تتأهب لمقاومة غدرات الزمان فقامت في وجهها الأمم التي كانت خاضعة لها وكانت صدمة بل صدمات بين الشرق والغرب آلت إلى تقهقرنا وما كنا قبل لنعرف للتقهقر معنى وفقدنا القريم وملدفيا والفلاخ وبسرابيا في عهد السلطان سليم الثالث واضطر محمود الثاني للتسليم بمصر لمحمد علي. وكانت أيام عبد العزيز فتضعضعت الدولة بتداخل الأوربيين وشق البلغار عصا الطاعة وفازوا باستقلالهم. وكان ما كان في أيام عبد الحميد من احتلال الدول لهذه الجزيرة وتلك الولاية واستقلال هذه الإمارة وانسلاخ تلك حتى لم يبق من مملكة سليمان كبير سوى شبح حاول الأحرار أن يجسموه فاقتلعوا الدستور من أعين طاغية آخر القرن التاسع عشر وعمدوا إلى الاحتفاظ به متخذين من الاتحاد الثلاثي سنداً وعوناً ففاجأتهم إحدى الصديقات بسلخ البوسنة والهرسك فصاحوا وزمجروا ولكن لم يتعبروا فداهمتهم الصديقة الثانية باحتلال طرابلس الغرب لاعتقادها أن الدولة العلية لم تتجاوز مع النمسا حد الجعجعة وهي قريبة منها فما عساها تفعل الآن مع إيطاليا وهي بعيدة عنها. كل ذلك وساسة البلاد لا يعتبرون بل لم يزالوا ينتظرون حدوث عجيبة لاعتقادهم أن من أقسم عَلَى ضريح صلاح الدين لا يلبث أن يمتشق حسامه ويضرب به أعداء الإسلام الضربة القاضية. وكأني بهم أمام المحنة الأخيرة واقفين مستأمنين لا يحسبون للآتي حساباً متوهمين أن أزمة طرابلس الغرب هي آخر حلقة من سلسلة حياة الدولة فيحلون هذه العقدة ثم يستأمنون للدهر متعامين عن فلتات سياسة أوروبا القائمة بناموس بقاء الأفضل تاركين البلاد عرضة للمحن باختلال أحوالها وجهل أهلها وفقد الأمن منها.

قلب صفحات التاريخ لا تجد بلاداً اجتاحتها صروف الدهر ونابتها خطوب الزمان وكانت ميدان احتكاك المصالح فيها مثل بلاد الشرق. ولنضرب صفحاً عن العقد الكثيرة التي لم تحل فيها به كألبانيا ومكدونية والعربية ولننعم النظر فيما هو أقرب إلينا أي سورية وفلسطين ففيهما من مصالح الدول ما لا يوجد في غيرها من الولايات وبياناً لذلك نقول: كان نفوذ الدول الأوربية في سورية قليل جداً قبل أواسط القرن الغابر. وأبرمت معاهدة لندن سنة 1840 فانفتح باب واسع لذلك النفوذ وكانت الجمعيات الدينية في ذلك العهد تنقل إلى الشرق مدنية الغربيين فتحينت فرصة ملائمة وغمرت سورية وفلسطين بعمالها المتسترين برداء التبشير الديني. وكانت فرنسا السابقة في هذا المضمار فغمرت بلادنا بالمعاهد الخيرية والتهذيبية بمهمة جمعية أخوية المدارس المسيحية وجمعية راهبات المحبة ولا عجب فقد وثقت علائقها مع الشرق منذ القرن السادس عشر بحمايتها فيه كاثوليك أوربا جمعاء وزكان مبشروها ينزلون ربوع سورية بالرغم مما قام في سبيلهم من المصاعب والمشقات. ولم تغفل عن تأييد مصالحها في الشرق بكل الوسائل الفعالة عَلَى اختلاف الأحوال حتى في أيام حكومة الكونفاسيون والدريكتوار والاضطرابات الداخلية قائمة عَلَى قدم وساق ولم يحد نابليون عن سياسة فرنسا التقليدية في الشرق فأسرع بعد إبرام الصلح مع الدولة العلية سنة 1802 إلى تجديد الامتيازات والمحالفات القديمة وأمر سفيره في الآستانة أن يبسط حمايته عَلَى كل كاثوليك سورية وفلسطين ولاسيما قوافل الزوار القاصدين إلى الأماكن المقدسة. ولما كان يقتضي لهذا الأمر مبالغ وافرة من المال أخذت الحكومة الإفرنسية تمد عمالها بالمال المطلوب. ولا نعلم ما كان ينفق في سبيل ذلك قبل الإمبراطورية الثانية عَلَى أن الحكومة أدخلت في ميزانية وزارة خارجيتها كمية تنفق سنوياً عَلَى الأعمال الخيرية والتهذيبية تبلغ قيمتها 300000 فرنك فأصبحت سنة 1883 خمسمائة ألف وسنة 1892 سبعمائة ألف وسنة 1900 ثمانمائة ألف. عَلَى أن الحكومة لا تشتغل وحدها في إنشاء المدارس وتنظيمها فهناك جمعيات أخرى قامت للغاية نفسها. ففي سنة 1856 أسست جمعية أعمال مدارس الشرق ' ' وأخذت تجمع مبالغ وافرة وتوزعها عَلَى المعاهد الخيرية ومدارس الرهبنات في الشرق تبلغ قيمتها

300000 فرنك. ثم أخذ الميل ينمو في فرنسا لتوسيع نطاق أعمالها وتعزيز مكانتها فأسس إثر ذلك الاتحاد الإسرائيلي ' الذي يوزع عَلَى المدارس السورية عَلَى اختلاف أصبغتها أربعين ألف فرنك. ولم يكن لفصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا أدنى تأثير في حال المدارس السورية لأن الأحرار والمحافظين لم يختلفوا في أمر الاحتفاظ بمعاهد فرنسا الخيرية والعلمية في الشرق بل رأينا الأحرار كثيراً ما يوجهون إلى الحكومة الإفرنسية قوارص الكلام في مجلس الأمة لتخلفها عن خصومها في الشرق أي ألمانيا وإيطاليا. وفي سنة 1900 تحسنت ميزانية هذه المدارس إذ جعلها مجلس النواب بأكثرية الأصوات 850000 فرنك ما عدا نفقات مدارس الرهبات الإفرنسية التي لا تزال في نظره تافهة لمصالح الدولة وقرر بذل المجهود لنشر التعليم المدني وتقويته في أملاك الدولة العلية. عَلَى أن نجاح ألمانيا وإيطاليا الباهر في الشرق وسرعة انتشار نفوذهما حملا الحكومة الإفرنسية عَلَى انتهاج خطة أكثر حزماً وثباتاً مع توسيع ميزانية المدارس الشرقية بصورة قانونية بحيث لا تبقى عرضة للأخطار والتضعضع فحولت تلك الميزانية العرضية إلى بند خصوصي أدخلته في ميزانية نظارة خارجيتها لسنة 1911 تحت نمرة 22 بموجب هذا البند ينفق مليون فرنك عَلَى المعاهدة الإفرنسية في سورية وفلسطين ليوزع عَلَى الطريقة الآتية: 450000 فرنك لمدارس الرهبنات منها 30000 للمدارس العليا و60000 للمدارس الوسطى و360000 للمدارس الابتدائية. و383000 فرنك للمدارس المدنية منها 157000 للمدارس العليا و131000 للمدارس المتوسطة و95000 للمدارس الابتدائية. و45000 فرنك تنفق عَلَى مدارس مختلفة و122000 عَلَى المعاهد الطبية وتأخذ المعاهد المدنية علاوة عَلَى ذلك 170000 فرنك مساعدة من جمعية البعثة اللادينية (العلمانية) التي أسست سنة 1902. فما ذكر يبدو للعيان أن فرنسا تسعى سعياً حثيثاً في تحسين مركزها في سورية ولا تبخل بالمال في سبيل ذلك. ونعتقد أنها قد لا تكتفي بمليون فرنك لازدياد نفوذ ألمانيا وإيطاليا

اللتين تمدان يديهما إلى اقتلاع حماية الكاثوليك في الشرق الأدنى من يدها. ولا شك أنها لا تتوقف عن كل ما من شأنه المحافظة عَلَى اسم الجمهورية وشرفها. أما إنكلترا فإنها قد رافقت فرنسا في عمل نقل المدنية الغربية إلى سورية وفلسطين. وكان المبشرون من الإنكليز ينشرون في المدن الكبرى وفي ربوع لبنان حتى أقصاها وينشئون المدارس والكنائس والمستشفيات للمرضى فعمت اللغة الإنكليزية وراجت تجارة إنكلترا وعظمت المنافسة بين النفوذ الإنكليزي والفرنساوي. عَلَى أنا لا ندري ما تنفقه الحكومة الإنكليزية عَلَى مدارسها ومعاهدها الخيرية في سورية أما فلسطين فقد عرفنا من أوثق المصادر أنه ينفق عليها أربعمائة ألف فرنك ولإنكلترا في سورية أضعاف ما لها في فلسطين من المعاهد الخيرية وغيرها. ودخلت النمسا سورية بعد إنكلترا وفرنسا لاشتغالها عنها بالبلقان حيث كانت تسعى جهدها بتعزيز مركزها والبلقان مركز نفوذها دينياً وسياسياً. غير أنه لما رأت ما أحرزته إنكلترا وفرنسا من النجاح الباهر في سورية نوت من مناوأتهما لتفتح لتجارتها سوقاً جديدة وفازت بذلك بهمة جمعية الفرنسيسكان الغنية التي تنشر النفوذ النمساوي بهمة لا تبارى فتنشئ المدارس والمستشفيات للمرضى وبيوت العجزة وتجري الحفريات الأثرية وتبتاع الأماكن الثمينة بالنظر إلى تاريخها المقدس. ولم نتمكن من الوقوف عَلَى كمية المبالغ التي تنفقها الحكومة النمساوية في سورية وفلسطين عَلَى مدارسها ومعاهدها الخيرية لإبقائها ذلك في طي الكتمان إنما نترك للقارئ تقدير ذلك متى علم أن النمسا تنفق عَلَى دار الغرباء وحدها في القدس 12000 كرون وذلك بموجب ميزانية وزارة خارجيتها وأضف إلى ذلك الإعانات العديدة التي يمد بها الأهالي جمعية الفرنسيسكان وما يدفعه الإمبراطور فرنسيس يوسف من ماله الخاص. وهذا ما لا يمكن معرفة حقيقته. أما إيطاليا فإنها بعد اتحادها سنة 1861 فقد وجهت أنظارها إلى الشرق أسوة بغيرها من الدول الأوربية. وكانت الحكومة إذ ذاك فقيرة فخصصت في ميزانيتها اعتماداً زهيداً لا يتجاوز أربعين ألف فرنك إعانة لكل المدارس الإيطالية في الشرق. وفي سنة 1870 تضعضعت فرنسا في حربها مع بروسيا فطلبت إيطاليا أن تأخذ عَلَى

عاتقها حماية الكاثوليك فلم تقبل فرنسا أن تتنازل عن حقوقها. وبلغت المنافسة من هذا الوجه معظمها سنة 1883 فكانت إيطاليا تلج بطلب حماية المبشرين الإيطاليين وفرنسا تعارضها لاعتقاد الاثنتين أن في هذه الحماية ما يجعل لهما شأناً عظيماً في هذه البلاد. ولما كانت إيطاليا تبغي إيصال نفوذها إلى أقصى درجاته فتحت اعتماداً في ميزانيتها للدارس الشرقية لسنة 1883 - 1884 قدره ثمانون ألف ليرة. وما كان هذا المبلغ ليحسب عظيماً لو لم تكن ماليتها إذ ذاك في حالة يرثى لها. لكنها لم يتسنى لها مع ذلك حماية المبشرين الإيطاليين فقررت إنشاء عدد كبير من المدارس المدنية وخصصت لهذه الغاية سنة 1887 إعانة سنوية قدرها مليون ونصف من الفرنكات. غير أنها لم تفلح في هذا المسعى لما يقتضيه التعليم المدني من النفقات الباهظة ولعدم تمكنها من إيجاد معلمين لهم خبرة كافية للقيام بمثل هذا العمل. فعادت تحاول سلب حقوق فرنسا بحماية الكاثوليك وأَسست لهذه الغاية في فلورنسا جمعية جنسية لحماية المبشرين الطليان فاضطرت فرنسا أن تتنازل عن بعض حقوقها واتفقت مع إيطاليا في سنة 1905 عَلَى أن المعاهد وكان لهذا الفوز السياسي الباهر تأثير سيء في فرنسا اضطرب له الرأي العام أيما اضطراب. ولم تكن إيطاليا بعد فوزها عَلَى فرنسا لتكتفي بالمليون والنصف من الفرنكات لأجل مدارسها فجعلت كل سنة تخصص مبالغ أخرى لمدارس الحكومة ومدارس الرهبنات التي أنشأها الإكليريكيون المطرودون من إيطاليا بأمر الحكومة. وفي الخامس من تموز سنة 1905 صادق مجلس النواب عَلَى زيادة ميزانية المدارس السورية أربعمائة ألف فرنك فأصبحت نحو مليونين ادخل منها في ميزانية نظارة الخارجية 1350000 فرنك وفي ميزانية لجنة الاستعمار 550000 وتقرر توزيع المبلغ من قبل نظارة الخارجية بمعرفة نظارة المعارف. ولما التفتت ألمانيا إلى الشرق كانت الدول قد رسخت أقدامها في سورية وفلسطين. عَلَى أن ذلك لم يمنعها من بسط نفوذها ونشر لغتها بسرعة لا توصف شأنها في كل حالاتها مع الدولة العلية. وجعلت تخطو إلى الأمام بقدم ثابتة زاعمة أنها مدعوة للقيام بعمل حيوي لأن الحياة والتاريخ يدعوانها لتكون صلة التواصل بين الشرق والغرب ومرشدة روحية للشرقيين. وما من ينكر عليها أنها تقوم بهذا العمل أحسن قيام فما برحت تنقل إلى الشرق

ما اكتسبته من الغرب ومن المدنية بواسطة عمال ملكيين وعسكريين وعلماء وأساتذة ومعلمين ومهذبين الخ. ولم يفتها أن حماية الكاثوليك في الشرق كانت أعظم الأسباب الآيلة إلى تعزيز مركز فرنسا فأخذت تسعى للحصول عَلَى حقوق حماية الكاثوليك الألمانيين وأول عمل قامت به لنيل مآربها تأسيس جمعية فلسطين وعهدت إليها بإدارة المعاهد الألمانية الشرقية. وكانت بعد ذلك سياحة الإمبراطور في بلاد الشرق فقال وزير خارجية ألمانيا في مجلي الأمة نحن بعيدون عن فكرة حماية كل المسيحيين في الشرق لكن حماية الكاثوليك الألمان من حقوق الإمبراطور دون منازع. ولم تعارض فرنسا بل تنازلت عن حقوقها لألمانيا. . . وفي هذه السنين الخيرة نمت أعمال ألمانيا نمواً غريباً إذ أَسست كيراً من المدارس الابتدائية وعدة مدارس عالية ومدرسة إكليريكية في القدس وغيرها من صناعية ومستشفيات وهياكل معتمدة في كل ذلك عَلَى الجمعيات الكاثوليكية والإنجيلية الألمانية وعَلَى اللجان الجنسية التي تستمد قوتها من الاتحاد النمساوي العام. وحذت الحكومة حذو إمبراطورها الحكيم فقدمت الإعانات للجمعية عَلَى اختلاف المذهب لتبعد عنها روح المنافسة المضرة بالمصالح الوطنية. وما عدا ذلك فقد فتحت اعتماداً في ميزانيتها قدره 850000 مارك ينفق عَلَى معاهدها في سورية وفلسطين بمعرفة وزارة خارجيتها. ولم تغفل روسيا عن مساعي الدول الأوربية في سورية وفلسطين ونجاح الجمعيات التبشيرية. ومكان الشرق الأرثوذكسي قد اعتاد من القديم أن يعتبر روسيا حامية له في أيام المحن. واعترفت لها الدول بذلك بواسطة معاهدات دولية كانت نتيجة حروب كثيرة سالت فيها الدماء أنهاراً. فلم يسعها إلا الإقدام عَلَى مباراة الدول الأوربية بتأييدها مركزها في الشرق. فأسست لهذه الغاية سفارة روحية في القدس ما لبثت أن باشرت سنة 1847 بفتح المدارس وإنشاء المعاهد الخيرية وفي سنة 1858 بعد انتباه حرب القريم أقامت في المدينة نفسها أقامت في المدينة نفسها قنصلاً لها. عَلَى أن السفارتين لم يكن في وسعهما مباراة الجمعيات الأجنبية بالنظر لحرج المركز الذي لا يسمح لممثلي الحكومة أن يتوسعوا في العمل وأدت الحاجة إلى تأسيس جمعية خصوصية غير مقيدة بمركز رسمي نظير الإرساليات الأوربية تطلق يدها في العمل بدون

خوف وهكذا كان. ففي سنة 1882 وضع الأساس لجمعية فلسطين الأرثوذكسية التي أُطلق عليها سنة 1889 إمبراطورية ليتسنى لها جمع الإحسان من الشعب الروسي الذي يعتقد أن الإمبراطور لا يهب اسمه إلا لما فيه المنفعة للوطن. وباشرت الجمعية بإنشاء المدارس وصادفت صعوبات شتى لم تلق مثلها الجمعيات الأوربية لأن المعاكسات بدت من حيث لم ينتظرها أحد أي من الإكليروس اليوناني الذي يكره الروسيين فسهلت لهم سبل الوصول إلى الأراضي المقدسة وأقامت لهم الأبنية في القدس الشريف وغيرها وأنشأت عدة مستوصفات لهم ولتلاميذ مدارسها كل ذلك والخزينة الروسية لم تنفق بارة واحدة بل كان الشعب الروسي الساذج مصدر هذه النفقات الوحيد. وفي سنة 1892 فحصت كل أعمال الجمعية وما أنتجته خلال العشر سنوات التي مضت عَلَى تأسيسها فثبت أنها نجحت وأفادت الزوار كثيراً وآوت بعض اولاد الأرثوذكسيين وأمدتهم بالمساعدات الطبية وحق لها أن تكسب ثقة الحكومة الروسية ولما كان عدد الزوار يزداد من سنة إلى سنة والمدارس لم تسد كل الحاجة والإحسانات لا تقوم بكل ما تطلبه التحسينات الحيوية من النفقات طلبت الجمعية من الحكومة إعانة قدرها 600000 روبل أي 80000 ليرة وأيد طلبها رئيسها الغرندوق سرجيون وقد للحكومة ضمانة لهذا الدين كل ما تملكه الجمعية من عقار وغيره ما تبلغ قيمته مليوني روبل. فرفض وزير المالية (فيت) طلبه لتضعضع المالية في ذلك الحين. ولم يبق للجمعية إلا أن تتابع عملها متكيفة بالإحسان من الشعب الروسي ولكنها عادت سنة 1895 فطلبت من الحكومة أن تقرضها أربعة آلاف ليرة لتنفقها عَلَى المدارس السورية التي أنشأتها بطلب من البطريرك الأنطاكي سبيريدون ففتحت لها الحكومة اعتماداً بالقيمة المذكورة وأدخلته في ميزانية المجمع المقدس عَلَى أن تنفقه عَلَى السفارة الروحية في القدس. ولما لم يكن في الإمكان متابعة العمل حسبما تقتضيه الأحوال بدون مساعدة كبيرة طلبت من الحكومة ثمانين ألف ليرة تقبضها دفعة واحدة لتحسن أمورها وتستوفي من الاعتماد المذكور أعلاه في مدة عشرين سنة. فقبلت الحكومة بذلك وتكون الجمعية لم يحصل عَلَى مطلوبها إلا بعد سعي عشر سنوات وبشرط إيفاء المبلغ أقساطاً سنوية.

والأمر الغريب أن الحومة لم تنقدها المبلغ من مال الخزينة بل من ريع ملاك بسرابيا التي تديرها الحكومة ووفت الجمعية بوعدها. لكن الحرب اليابانية قللت من مداخيل الإحسان فلم تعد تستطيع وفاء دينها فاجلته إلى سنتين ثم إلى ثلاث واخيراً اضطرت إلى عدم الاحتفاظ بكل المعاهد التهذيبية والخيرية التي أنشأتها وصرحت للحكومة بأنها تضطر والحالة هذه إلى حصر أعمالها في دائرة ضيقة فتهدم ما بنته في سنين عديدة. فارسلت الحكومة مفتشين إلى سورية وفلسطين فحصواأعمال الجمعية وشهدوا بما تؤديه من المنافع الجمة للزوار الروسيين وللمدارس الأرثوذكسية فتقرر إيجاد مبلغ يدخل بصورة قانونية إلى نظارة الخارجية فتنفقه الجمعية عَلَى تحسين المدارس في سورية وفلسطين بحيث تفي باحتياجات الأهلين نظير المدارس الأوربية في هذه البلاد. ومن هنا نستنتج أن الجمعية الفلسطينية الروسية أنشأت معاهدها في هذه البلاد دون أن تساعدها الحكومة بشيءٍ بعكس ما رأيناه في أمر المدارس الأوربية الأخرى. وأنها لم تحصل عَلَى الوعد بالمساعدة المنظمة القانونية إلا بعد مضي 39 سنة عَلَى تأسيسها. هذا شيءٌ عن حالة أوربا في سورية بسطته للقارئ وله أن يستنتج ما عسى أن يكون مستقبل هذا الوطن المحبوب إذا لم تبادر الحكومة إلى إزالة كل ما من شأنه حمل الدول الأوربية عَلَى التدخل في شؤوننا. وما هي إلا فاعلة ذلك عن شاء المولى الكريم وهو حسبنا ونعم الوكيل. وطني

اليمن وسكانها

اليمن وسكانها 3 خيرات اليمن أجمع جغرافيو العرب أن اليمن الخضراء من أخصب القطار وأكثرها مرافق وخيرات حتى قال القرماني أن أهلها يزرعون أربع مرات في السنة ويحصد كل زرع في ستين يوماً. وقال بعضهم: اليمن ثلثة وثلاثون منبراً قديمة وأربعة محدثة وصنعاء أطيب البلدان وهي طيبة الهواء كثيرة الماء يشتون مرتين ويصيفون مرتين وأهل الحجاز واليمن يمطرون الصيف كله ويخصبون في الشتاء فيمطر صنعاء وما والاها في حزيران وتموز وآب وبعض أيلول من الزوال إلى المغرب يلقى الرجل الآخر منهم فيكلمه فيقول عجل قبل الغيث لأنه لا بد من المطر في هذه الأيام. قال ابن الفقيه: وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر ما يستصغر ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه فعجزوا عن مثل غمدان ومأرب وحضر موت وقصر المسعود وسد لقمان وسلحين وصرواح ومرواح وبينون وهندة وهنيدة وفلثوم بريدة. قال الأصمعي أربعة أشياء قد ملأت الدنيا لا تكون إلا باليمن الورس والكندر والعطر والعصب فأما المعرق من الجزع فإنه يتخذ منه الأواني لكبره وعظمه ولهم الحلل اليمانية والثياب السعدية والعدنية والشب اليماني وهو ماء ينبع من قلة جبل فيسيل عَلَى جانبه قبل أن يصل إلى الأرض فيجمد فيصير هذا الشب اليماني الأبيض ولهم الورس وهو شيء يسقط عَلَى الشجر كالترنجين ولهم البُنك ويقال أنه من خشب أم غيلان. قال الأصفهاني وكانت جمال عمان تحمل الورس من اليمن إلى عمان فتصفر. وذكروا من خصائص تهامة أديم زبيد ونيلها الذي لا نظير له كانه لازورد شروب عدن تفضل عَلَى القصب ومسد المهجرة يسمى ليفاً وبرود سحولاً والجريب وأنطاع صعدة وركاؤها وسعيدي صنعاء وعقيقها وقفاع عثر وورس عدن ومغلق قرح. ومن أراد العقيق اشترى قطعة أرض بموضع صنعاء ثم حفر فربما خرج له شبه صخرة واقل وربما لم

يخرج شيء منه. والعنبر يقع عَلَى حافة البحر من عدن إلى مخا. قال المقدسي اليمن معدن العصائب والعقيق والأدم الرقيق فإلى عمان يخرج آلات الصيادلة والعطر كله حتى المسك والزعفران والساج والتاسم والعاج واللؤلؤ والديباج والجزع واليواقيت والأَبنوس والنارجيل والقند والاسكندروس (لعله السندروس) والصبر والحديد والرصاص والخيزران والغضار والصندل والبلور والفلفل وغير ذلك وتزيد عدن بالعنبر والشروب والدرق والحبش والخدم وجلود النمور. مذاهب اليمن كان عند ظهور الإسلام في اليمن من الديانة النصرانية واليهودية والمجوسية عَلَى رواية البلاذي وقد كتب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ملوك حمير وهم الحارث ابن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشرح بن عبد كلال وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعامر وهمدان. وكان المجوس في هجر واليمن. ودخل عامل اليمن في الدعوة الإسلامية قال ابن خلدون وهو باذان عامل كسرى واسلم معه أهل اليمن فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى جميع مخاليفها وكان منزله صنعاء كرسي التبابعة ولمامات بعد حجة الوداع قسم النبي اليمن عَلَى عمال من قبله وجعل صنعاء لابنه شهربان بن باذان وقام الأسود العنسي فاخرج عمال النبي من اليمن وزحف عَلَى صنعاء واستولى عَلَى أكثر اليمن وارتد أكثر أهله ثم رجع عمال المسلمين إلى أعمالهم وقاتل أبو بكر الصديق المرتدين من أهل اليمن وولى اليمن عمال بني أمية ثم عمال بني العباس لأول أمرهم ثم تعاقبت الولاة عَلَى اليمن وكانوا ينزلون صنعاء حتى انتهت الخلافة إلى المأمون وظهرت دعاة الطالبين بالنواحي وظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مائتين ولم يتم أمره وكان يعرف بالجزار لسفكه الدم وبعث المأمون عساكره إلى اليمن فدوخوا حبه وحملوا كثيراً من وجوه الناس فاستقام أمر اليمن فولي محمد زياد عَلَى اليمن ضامناً له حياطتهم من العلويين فقدمها سنة ثلاث ومائتين وفتح تهامة اليمن وهي البلدة التي عَلَى ساحل البحر الغربي واختط بها مدينة زبيد ونزلاه وأصابها كرسياً لتلك المملكة وولى عَلَى الجبال مولاه جعفراً وفتح تهامة بعد حروب واشترط عَلَى عرب تهامة أن لا يركبوا الخيل واستولى عَلَى اليمن أجمع وأدخل في طاعته أعمال حضر موت والشحر وديار كندة وصار في مرتبة التبابعة.

وكان في صنعاء قاعدة اليمن بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة استبدوا بها مقيمين بالدعوة العباسية ولهم من صنعاء سحان ونجران وجرش ولما بلغ عاملها أبا الجيش اسحق ابن إبراهيم قتل المتوكل وخلع المستعين واستبداد الموالي عَلَى الخلفاء مع ارتفاع اليمن ارتفع بالمظلة شان سلاطين العجم المستبدين وفي أيامه خرج باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا بدعوة الزيدية جاء بها من السند وكان جده القاسم قد فر إلى السند بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا فلحق القاسم بالسند وأعقب بها الحسين ثم ابنه يحيى باليمن سنة ثمان وثمانين (ومائتين) ونزل صعدة وأظهر دعوة الزيدية وزحف إلى صنعاء فملكها من يد اسعد بن يعفر ثم استردها منه بنو أسعد ورجع إلى صعدة وكان شيعته يسمونه الإمام. وفي أيام أبي الجيش بن زياد أيضاً ظهرت دعوة العبيديين (الفاطميين) باليمن فأقام بها محمد بن الفضل بعده لاعة وجبال اليمن إلى جبال المذيخرة سنة أربعين وثلثمائة ويقي له باليمن من الشرجة إلى عدن عشرون مرحلة ومن مخلافه إلى صنعاء خمس مراحل وهلك أبو الجيش سنة لإحدى وسبعين وثلثمائة بعد أن اتسعت جبايته وعظم ملكه قال ابن سعيد رأيت مبلغ جبايته وهو ألف ألف مكررة مرتين وثلثمائة وستة وستون ألفاً من الدنانير العثرية ما عدا ضرائبه عَلَى مركب السند وعَلَى العنبر الواصل بباي المندب وعدناَبين وعَلَى مغائص اللؤلؤ وعَلَى جزيرة دهلك ومن بعضها وصائف وكانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادنوه ويخطبون مواصلته وانقرضت دولته سنة سبع وأربعمائة. ثم ملك نجاح وقيس من موالي مرجان مولى الحسن بن سلامة وتغلب نجاح بعد أن قتل أخاه في خمسة آلاف من عسكره وضرب السكة باسمه وكاتب ديوان الخلافة ببغداد فعقد له عَلَى اليمن ولم يزل مالكاً تهامة وقاعدته زبيد قاهراً لأهل الجبال وانتزع الجبال كلها من مولاه الحسن بن سلامة ولم تزل الملوك تتقي صولته إلى أن قتله الصليحي القائم بدعوة العبيديين سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة فقام الأمر بعده بزبيد مولاه كهلان. أما الصليحي فكان مبدأُ أمره مثل السيد أحمد بن إدريس الذي كان قائماً في عسير في السنة الماضي عرف بالصلاح فالتف الناس حوله وأظهر الدعوة العبيدية فاستولى أولاً عَلَى حصن بذورة جبل الحمام محصن ذلك الحصن ثم ملك اليمن كله ونزل صنعاء واختلط بها

القصور واسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم وهزم بني طرف ملوك عثر وتهامة ومازال الأمر كذلك حتى استولى بنو أبي بركات عَلَى بني المظفر في شيح وحصونه ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار ولم يزل يبيع معاقله حصناً حصناً حتى لم يبق له غير معقل تعز أخذه منه علي بن مهدي وبقي ملوك زبيد يخطبون للعباسيين والصليحيون يخطبون للعبيديين إلى أواخر المئة الخامسة والبلاد يتجاذبها ملوك حتى انقرض أمر آل نجاح سنة 554 وخلفهم غيرهم وبقي أمر اليمن في تقلقل والجبال لرجل وتهامة لآخر وعدن لغيرهم حتى جاء عبد النبي بن مهدي الخارجي من زبيد واستولى عَلَى اليمن أجمع وبه يومئذ خمس وعشرون دولة فاستولى عَلَى جميعها ولم يبق له سوى عدن ففرض عليها الجزية ولما دخل شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة 566 واستولى عَلَى الدولة التي كانت باليمن ونزل زبيد واتخذها كرسياً لملكه ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكاناً صحيح الهواء يتخذ فيه سكناه فوقع اختيارهم عَلَى مكان تعز فاختلط به المدينة كما اختلط الصليحي سنة 458 حصن ذي جبلة ونزلها وبقيت كرسياً لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول. وذكر ابن سعيد أن اليمن تشتمل عَلَى سبعة كراسي للملك تهامة والجبال وفي تهامة مملكتان مملكة زبيد ومملكة عدن ومعنى تهامة ما انخفض من بلاد اليمن مع ساحل البحر من البرين من جهة الحجاز إلى آخر أعمال عدن دورة البحر الهندي واليمن أخصب من الحجاز وأكثر أهلها القحطانية وفيها من عرب وائل ودامت دولة بني رسول باليمن عَلَى رواية ابن إياس نحو مائتين وثلاثين سنة وكان سبب تسمية جدهم برسول أن الخلفاء كانت تبعثه رسولاً إلى البلاد الشامية وغيرها من البلاد فسمي رسولاً وما زال يرتقي حتى ملك بلاد اليمن. ذكر المقدسي أن المذاهب المستعملة لعهده في الإسلام التي لها خاص وعام دعاة وجمع ثمانية وعشرون مذهباً أربعة في الفقه وأربعة في الكلام وأربعة في الحكم فيها وأربعة مندرسة وأربعة في الحديث وأربعة غلب عليها أربعة وأربعة رستاقية فأما الفقهيات فالحنفية والمالكية والنفعوية والداودية وأما الكلاميات فالمعتزلة والنجارية والكلابية والسالمية وأما الذين لهم فقه وكلام فالشيعة والخوارج والكرامية والباطنية وأما أصحاب

الحديث فالحنبلية والراهوية والأوزاعية والمنذرية وأما المندرسة فالعطائية والثورية والإباضية والطاقية وأما التي في الرساتيق فالزعفرانية والخرمدينية والأبيضية والسرخسية وأما التي غلب عليها أربعة من شكلها فالأشعرية عَلَى الكلابية والباطنية عَلَى القرمطية والمعتزلة عَلَى القدرية والشيعة عَلَى الزيدية والجهمية عَلَى النجارية. فهذه جملة المذاهب المستعملة اليوم (في عهد المؤلف) ثم تتشعب إلى فرق لا تحصى ولما ذكرنا ألقاب واسماء تتكرر ولا تزيد عَلَى ما ذكرنا يعرف ذلك العلماء وهن أربعة ممتدحة وأربعة منكورة وأربعة مختلف فيها وأربعة لقب بها أهل الحديث وأربعة معناهن واحد وأربعة يميزهن النحارير فأما الملقبة بالروافض والمحبرة والمرجئة والشكاك أو الممتدحة فأهل السنة والجماعة واهل العدل والتوحيد والمؤمنون واصحاب الهدى وأما المنكورة فالكلابية ينكرون الجبر والحنبلية ينكرون النصب ومنكرو الصفات ينكرون التشبيه ومثبتوها ينكرون التعطيل وأما المختلف فيها فعند الكرامية الجبر جعل الاستطاعة مع الفعل وعند المعتزلة جعل الشر بقدر الله تعالى وأن يقال أفعال العباد مخلوقة لله والمرجئة عند أهل الحديث من أخر العمل عن الإيمان وعند الكرامية من نفى فرض الأعمال وعند المأمونية من وقف في الإيمان وعند أصحاب الكلام من وقف في أصحاب الكبائر ولم يجعل منزلة بين منزلتين والشكاك عند أصحاب الكلام من وقف في القرآن وعند الكرامية من استثنى في الإيمان والروافض عند الشيعة من أخر خلافة علي وعند غيرهم من نفى خلافة العمرين وأما أربعة معناهن واحد فالزعفرانية والواقفية والشكاك والرستاقية وأما أربعة لقب بها أهل الحديث فالحشوبة والشكاك والنواصب والمجبرة وأما التي يميزهن كل نحرير فأهل الحديث من الشفقوية والثورية من الحنفية والنجارية من الجهمية والقدرية من المعتزلة. قال واعلم أن أصل مذاهب المسلمين كلها متشعبة من أربع الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة وأصل افتراقهم قتل عثمان ثم تشعبوا ولا يزالون متفرقين ولم أر السواد العظم إلا من أربعة مذاهب أصحاب أبي حنيفة بالمشرق وأصحاب مالك بالمغرب وأصحاب الشافعي بالشاش وخزائن ونيسابور وأصحاب الحديث بالشام وأقور والرحاب وبقية الأقاليم ممتزجون.

وقال أيضاً أن اليمن قليل الفقهاء والمذكرين والقراء كما هو قليل النخيل والمياه الغزيرة والبحيرات واليهود به أكثر من النصارى ولا ذمة غيرهم وسواد صنعاء ونواحيها مع سواد عمان شراة غالية وبقية الحجاز واهلب الرأي بعمان وهجر وصعدة شيعة وشيعة عمان وصعدة وأهل السروات وسواحل الحرمين معتزلة إلا عمان والغالب عَلَى صنعاء وصعدة أصحاب أبي حنيفة والجوامع بأيديهم وبالمعافر مذهب أبي المنذر وفي نواحي نجد اليمن مذهب سفيان والأذان بتهامة ومكة يرجع إذا تدبرت العمل عَلَى مذهب مالك ويكبر بزبيد في العيدين عَلَى قول أبي مسعود أحدثه القاضي أبو عبد الله الصعواني وقت كوني ثم العمل بهجر عَلَى مذهب القرامطة وبعمان وأودية لهم مجلس. ويؤخذ مما قاله الهمداني أن أهل عدن فيما يقال لم يدخل عليهم من الروم حد ولكن أهل الرهابنة ثم فنوا سكانها مهرة وقوم من الشراة وظهرت فيها دعوة الإسلام ثم كثر بها الشراة فعدوا عَلَى من بها من المسلمين فقتلوهم غير عشرة أناسية. الزيدية والزيدية هم اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة عليها السلام ولم يجوزوا ثبوت إمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين اللذين وعن هذا قالت طائفة منهم بإمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابني عبد الله بن الحسن بن الحسين اللذين خرجا في أيام المنصور وقتلا عَلَى ذلك وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويبكون كل واحد منهما واجب الطاعة واقتبس زيد بن علي مذهب الاعتزال فصار أصحابه كلهم معتزلة وكان من مذهبه جواز إمامة المفضول مع قيام الفضل فقال كوان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة تطييب قلوب العامة فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً وسيف أمير المؤمنين علي عليه السلام عن دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كم هي فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد وكانت المصلحة أن يقوم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتودد والتقدم

بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترى أنه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه زعق الناس وقالوا لقد وليت علينا فظاً غليظاً فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدة وصلابة وغلظ له في الدين وفظاظة عَلَى العداء حتى سكنهم أبو بكر رضي الله عنه وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والفضل قائماً فيرجع إليه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا. ولما قتل زيد بن علي وصلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد ومضى إلى خرسان واجتمعت عليه جماعة كثيرة وخرج محمد وإبراهيم بالمدينة والبصرة واجتمع عليهما الناس فقتلا ثم رأوا أنه لا يجوز خروج واحد من أهل البيت حتى يأذن الله تعالى بزوال ملك بني أمية الذين يتطاولون عَلَى الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها وهم يستشعرون بغض أهل البيت فقتل زيد بن علي بكناسة الكوفة قتله هشام بن عبد الملك ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان قتله أميرها ومحمد الإمام قتله بالمدينة عيسى بن هامان وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة أمر يقتلهما المنصور. ولم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان ناصر الأطروش فطلب مكانه ليقتل فاختفى واعتزل إلى بلاد الديلم والجبل لم يتحلوا بدين الإسلام بعد فدعها الناس دعوة إلى الإسلام عَلَى مذهب زيد بن علي فدانوا بذلك ونشأوا عليه وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم وخالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل الأصول ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول وطعنت في الصحابة طعن الإمامية وهم اصناف ثلاث جارودية وسليمانية وبترية والصالحية منهم والبترية عَلَى مذهب واحد. وقال صاحب الفرق بين الفرق أن الزيدية ثلاث فرق وهي الجارودية والسليمانية وقد يقال الحرورية أيضاً والبترية وهذه الفرق الثلاث طيجمعها القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في أيام خروجه وكان ذلك في أيام هشام بن عبد الملك ويذهب الجارودية أولاً إلى أتباع المعروف بأبي الجارود وقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عَلَى إمامة علي بالوصف دون الاسم وزعموا أيضاً أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي وقالوا أيضاً أن الحسن بن علي هو الإمام من بعد علي ثم أخوه الحسين

كان إماماً بعد الحسن. وافترقت الجارودية في هذا الترتيب فرقتين فرقة قالت أن علياً نص عَلَى إمامة ابنه الحسن ثم نص الحسن عَلَى إمامة أخيه الحسين بعده ثم صارت الإمامة بعد الحسن والحسين شورى في ولدي الحسن والحسين فمن خرج منهم شاهراً سيفه داعياً إلى دينه وكان عالماً ورعاً فهو الإمام وزعمت الفرقة الثانية منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نص عَلَى إمامة الحسن بعد علي وإمامة الحسين بعد الحسن ثم افترقت الجارودية بعد هذا في الإمام المنتظر فرقاً منهم لم يعين واحداً بالانتظار وقال كل من شهر سيفه ودعا إلى دينه ولد الحسن والحسين فهو الإمام ومنهم من ينتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولا يصدق بقتله ولا بموته ويزعم أنه هو المهدي المنتظر الذي يخرج فيملك الأرض وقول هؤلاء فيه كقول المحمدية من الإمامية في انتظارها محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي ومنهم من ينتظر محمد بن عمر الذي خرج بالكوفة ولا يصدق بقتله ولا بموته فهذا قول الجارودية وتكفيرهم واجب لتكفيرهم أصحاب رسول الله عليه السلام. ذكر السلمانية أو الجريرية منهم هؤلاء أتباع سليمان بن جرير الزيدي الذي قال أن الإمامة شورى وأنها تنعقد بعقد رجلين من خيار الأمة وأجاز إمامة المفضول واثبت غمامة أبي بكر وعمر وزعم أن الأمة تركت الصلح في البيعة لهما لأن علياً كان أولى بالإمامة منهما إلا أن الخطأ في بيعتهما لم يتوجب كفراً ولا فسقاً وكفر سليمان بن جرير عثمان بالأحداث التي نقمها الناقمون منه وأهل السنة يكفرون سليمان بن جرير من أجل أن كفر عثمان رضي الله عنه. وذكر البترية منهم فقال هؤلاء أتباع رجلين أحدهما الحسن بن صالح بن حي والآخر كثير المغوا الملقب بالأبتر وقولهم كقول سليمان بن جرير في هذا الباب غير أنهم توقفوا في عثمان ولم يقدموا عَلَى ذمه ولا عَلَى مدحه وهؤلاء أحسن حالاً عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير وقد اخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح ابن حي في مسنده الصحيح ولم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري حديث في الصحيح ولكنه قال في كتاب التاريخ الكبير الحسن بن صالح بن حي الكوفي سمع سماك ابن حرب ومات سنة سبع وستين ومائة وهو من ثغور همذان وكنيته أبو عبد الله. قال عبد القاهر: هؤلاء البترية والسليمانية من الزيدية كلهم يكفرون الجارودية من الزيدية

لإقرار الجارودية عَلَى تكفير أبي بكر وعمر والجارودية يكفرون السليمانية والبترية لتركهما تكفير أبي بكر وعمر وحكي شيخنا أبو الحسن الشعري في مقالته عن قوم الزيدية يقال لهم اليعقوبية أتباع رجل اسمه يعقوب أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر ولكنهم لا يتبرؤون ممن تبرأ منهم. قال عبد القاهر اجتمعت الفرق الثلاث الذين ذكرناهم من الزيدية عَلَى القول بأن أصحاب الكبائر من الأمة يكونون مخلدين في النار فهم من هذا الوجه كالخوارج الذين ايأسوا أُسراء المذنبين من رحمة الله تعالى ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. إنما قيل لهذه الفرق الثلاث واتباعها زيدية لقولهم بغمامة يد بن علي بن الحسن ابن علي بن أبي طالب في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد بعد زيد. وكان زيد بن علي قد بايعه عَلَى غمامته خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم عَلَى والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي قالوا له إننا ننصرك عَلَى أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب فقال زيد إني لا أقول فيهما إلا خيراً وما سمعت أبي يقول فيها إلا خيراً وإنما خرجت عَلَى بني أمية الذين قتلوا جدي الحسين واغاروا عَلَى المدينة يوم الحرة ثم رموا بيتاً لله بحجر المنجنيق والنار ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم رفضتموني ومن يومئذ رافضة وثبت معه نصر بن حريمة العنسي ومعاوية ابن اسحق بن يزيد بن حارثة في مقدار مائتي رجل وقاتلوا جند يوسف بن عمر الثقفي حتى قتلوا عن آخرهم وقتل زيد ثم نبش قبره وصلب ثم أحرق بعد ذلك وهرب ابنه يحيى ابن زيد إلى خراسان وخرج بناحية الجوزجان عَلَى نصر بن بشار والي خرسان فبعث نصر ابن بشار إليه مسلم بن أحوز المازني في ثلاثة آلاف رجل فقتلوا يحيى بن زيد ومشهده بجوزجان معروف. هذا منشأ مذهب الزيدية باليمن وغيرها قال ابن فضل الله: إمام الزيدية باليمن وهو من بقايا الحسينيين القائمين بآمل الشط من بلاد طبرستان وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتى كاد يطيح رداءها ويشمت بها أعدائها. وهذه البقية الآن بصنعاء وبلاد حضر موت وما والاها من بلاد اليمن وأمراء مكة تسر طاعته ولا تفارق جماعته والأمانة الآن فيهم من بني المطهر واسم الإمام القائم في وقتنا حمزة ويكون بينه وبين الملك الرسولي باليمن

مهادنات ومفاسخات تارة وتارة وهذا الإمام وكل من كان قبله عَلَى طريقة ما عداها وهي إمارة عربية لا كبر في صدروها ولا شمم في عرانينها وهم عَلَى مسكة من التقوى وترد بشعار الزهد يجلس في ندي قومه كواحد منهم ويتحدث فيهم ويحكم بينهم سواء عنده المشرف والشريف والقوي والضعيف وربما اشترى سلعة بيده ومشى في أسواق بلده لا يغلط الحجاب ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجاب يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسع ولا تكثر غير مشبع هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل وفضل كامل اهـ. نعم جاذب القوم الدولة العباسية كما قال العمري حتى كادوا يطيحون رداءها وكذلك فعلوا من بعد إلى عهدنا هذا وذلك شيء ناشئٌ ولا جرم من جودة هواء الجبال لأن الشدة تغرس في العادة نفوس الجبليين وما سكان الجبال من اليمانيين إلا أشبه بالإفريديين عَلَى حدود الهند وأفغانستان ولقد أوى الزيدية إلى الجبال كما أوى معظم أصحاب الدعوات إليها هكذا فعل الإسماعيلية والنصيرية فأووا إلى جبل اللكام والدروز إلى جبل الشوف والجبل الأعَلَى وجبال صفد وجبال حوران والشيعة المتاولة إلى جبل عامل وجبال بعلبك ولبنان من أرض الشام. قال بعضهم صعدة مملكتها تلو مملكة صنعاء وهي في شرقيها وفي هذه المملكة ثلاث قواعد صعدة وجبل قطابة وحصن تلا وحصون أخرى وتعرف كلها ببني الرس وأما حصن تلا فمنه كان ظهور الموطئِ الذي أعاد إمامة الزيدية لبني الرضا بعد أن استولى عليها بنو سليمان فأوى إلى جبل قطابة ثم بايعوا لأحمد الموطئ سنة خمس وأربعين وستمائة. وقال ابن فضل الله أيضاً في الزيدية: وأما الزيدية فهم أقرب القوم إلى القصد الأمم وقولهم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أئمة عدل وأن ولايتهما كانت لما اقتضته المصلحة مع أن علياً رضي الله عنه أفضل منهما ويرون جواز ولاية المفضول عَلَى الفاضل في بعض الأحيان لما تقتضيه المصلحة أو لخوف الفتنة ولهذه الطائفة إمام باق إلى الآن باليمن وصنعاء داره وأمراء مكة المعظمة منهم وحدثني الشريف مبارك بن الأمير عطيفة بن أبي نمي أنهم لا يدينون إلا بطاعة ذلك الإمام ولا يرون إلا أنهم نوابه وغنما يتوقون صاحب مصر لخوفهم منه والإقطاع (؟) وصاحب اليمن لمداراته لواصل المكارم ورسوم وكانت

لهؤلاء دولة قديمة بطبرستان فزالت إلا هذه البقية. وقال ابن خلدون فأما الزيدية فساقوا الإمامة عَلَى مذهبهم فيها وإنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص فقالوا بإمامة علي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه زيد بن علي وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة وقال الزيدية بإمامة ابنه يحي من بعده فمضى إلى خرسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين السبط ويقال له النفس الزكية فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله وهي معدودة في كراماته وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمرو هو أخو زيد بن علي فخرج محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه وقال آخرون من الزيدية أن الإمام يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعي الزنج وقال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد محمد ابن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هناك وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس وكان من بعده عقبة ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا وبقي أمر الزيدية بعد ذلك أمر غير منتظم وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان وهو الحسين بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي لن الحسين السبط أخوه محمد ابن زيد ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الطروش منهم وأسلموا عَلَى يده وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمرو وعمرو أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد عَلَى الخلفاء ببغداد. ذوكر ابن ساعد من جملة فرق الشيعة الزيدية القائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين وغمامة من اجتمع فيه العلم والزهد والشجاعة ظاهراً وهو من ولد فاطمة رضي الله عنها ويخرج لطلب الإمامة ومنهم من زاد صباحة الوجه وأن لا يكون مؤوفاً ويجوزون قيام إمامين معاً بمكانين ومن رفض زيداً هذا أطلق عليهم اسم الرافضة أولاً وهؤلاء الثلاث

طوائف من الشيعة أعني الإمامية والإسماعيلية والزيدية هم رؤوس فرقهم. قال ابن حزم اتفقت الأمة كلها عَلَى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ثم اختلفوا ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو في القلب فقط أو باللسان إن قدر عَلَى ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلاً وبهذا قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة بعثمان وغيره من الصحابة وبمن رأى لقعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأو ذلك ما لم يكن عدلاً فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العادل. وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا يبأسون من الظفر ففرض عليهم. وبعد فإن شيعة علي رضي الله تعالى عنه زيدي ورافضي وبقيتهم بدد لا نظام لهم قالت علماء الزيدية وجدنا الفضل في الفعل دون غيره ووجدنا الفعل كله في أربعة أقسام أولها القدم في الإسلام حين لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه ثم الزهد في الدنيا فإن أزهد الناس في الناس أرغبهم في الآخرة وآمنهم عَلَى نفائس الأموال وعقائل النساء وإراقة الدماء ثم الفقه الذي يعرف به الناس مصالح دنياهم ومراشد دينهم ثم المشي في السيف كفاحاً في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين وقتل عدوه وإحياء وليه فليس فوق بذل المهجة واستغراق القوة غاية يطلبها طالب أو يرتجيها راغب ولم نجد قولاً خامساً فتذكره فلما رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم وتقديمه دونهم. وذاك إنا سألنا العلماء والفقهاء وأصحاب الأخبار وحمال الاثار عن أول الناس إسلاماً فقال فريق منهم من هذه علي وقال قوم زيد بن حارثة وقال قوم خباب ولم نجد قول كل واحد منهم من هذه الفرق قاطعاً لعذر صاحبه ولا ناقلاً عن مذهبه وإن كانت الرواية في تقديم علي أشهر واللفظ به أكثر وكذلك إذا سألناهم عن الذابين في الإسلام والماشي إلى الأقران

في بسيوفهم وجدناهم مختلفين فمن قائل يقول علي رضي الله تعالى عنه ومن قائل يقول ابن عفراء ومن قائل يقول محمد بن مسلمة ومن قائل يقول طلحة ومن وقائل يقول البراء بن مالك عَلَى أن لعلي من قتل الأقران ما ليس فيهم فلا اقل من أن يكون علي في طبقتهم وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء رأيناهم يعدون علياً ممن كان أفقههم لأنه كان يُسأل ولا يسأل ويفتي ولا يستفتي ويُحتاج إليه ولا يحتاج إليهم ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم وإن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف والمعروفين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها قالوا علي وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعمار وبلال وعثمان بن مظعون عَلَى أن علياً أزهدهم لأنه شاركهم في خشونة الملبس وخشونة المأكل والرضا باليسر والتبلغ بالحقير وظلف النفس ومخالفة الشهوات وفارقهم بان ملك بيوت الأموال ورقاب العرب والعجم فكان ينضج بيوت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين ورقع سراويله ما فضل من ردائه عن أطراف أصابعه بالشفرة في أمور كثيرة مع أن زهده أفضل من زهدهم لأنه أعلم منهم وعبادة العالم ليست كعبادة غيره كما أن زلته ليست كزلة غيره فلا اقل من أن نعده في طبقتهم ولا نجدهم ذكروا لأبي الدرداء وأبي ذر وبلال مثل الذي ذكروا له في باب الغناء والذب وبذل النفس ولم نجدهم ذكروا للزبير وابن عفراء وأبي دجانة والبراء بن مالك مثل الذي ذكروا له من التقدم في الإسلام والزهد والفقه ولم نجدهم ذكروا لبي بكر وزيد وخباب مثل الذي ذكروا له من بذل النفس الغناء والذب بالسيف ولا ذكروهم في طبقة الفقهاء والزهاد فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه متفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب وهذه الطبقات علمنا أن أفضلهم وإن كان كل رجل منهم قد اخذ من كل خير بنصيب فإنه لم يبلغ ذلك مبلغ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه. قال الحافظ بعد كلام عَلَى هذا النحو وإنما قصدت إلى هذا المذهب دون مذهب سائر الزيدية في دلائلهم وحججهم لأنه أحسن سيء رأيته لهم وإنما أحكي لك من كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لن فيه دلالة عَلَى غيره وغنى عما سواه. الخاتمة تبين للقارئ من هذا البحث كيف كانت اليمن وكيف كان سكانها وما هي مذاهبهم وما نخال أن الداعي إلى كل ما وقمعن الفتن سوى المظالم التي دكت العمران أذعر بها السكان وهذا

واقع بهم منذ القرون الوسطى إلى اليوم وقد أصابهم منه في عهد الدولة العلية ما لم يصب معظم الولايات لبعد ديارهم في القاصية ولأنه لم يكن يقدم عَلَى الخدمة هناك من جيش الدولة وعمالها إلا من جعل الاغتناء بأي طريقة أول همه وهمامة نفسه. قال المقبلي اليماني: ولقد حكي عن باشا من أمراء الروم يسمى سناناً في صنعاء حين وطأتهم اليمن وخبره أشهره واكبر قد أنسى أهل اليمن ضرب المثل بالحجاج وصار علماً للظلم والفتك كأنه مولع بسفك الدماء والتفتن فيه بالسلخ والصلب والخنق والكرباج فبينا هو في خاصته يتأوه ويبتهل إلى الله في طلب المخرج من نفس مسلم قتله في الروم إذ قيل له هؤلاء الجماعة الذين أرسلت لهم فأشار أن اقتلوهم من دون اكتراث ولا نظر ولا استثبات في شأنهم فقال له بعض الحاضرين في ذلك فقال إنما أتأوه من قتل مسلم محترم وهؤلاء زيدية يحل دماؤهم إلى أن قال وكنت أن هذا شيء نادر في سنان المشؤم وجماعة قليلين وإذا هو مطبق عليه في من هو في دولة الأروام كان هذا شيء يتبع الدولة وكأنها نسخت الشريعة اهـ. كذا قال وهو عَلَى غلو فيه لا يخلو من حقيقة تاريخية فقد أثر عن الولاة المتأخرين أعمال كهذه يتناقلها اليمانيون بينهم ويدونونها في أخبارهم ولذلك قلما رأينا يمانياً ثاب إلى سكونه فعسى أن تعرف حكومتنا الحاضرة كيف تؤكل الكتف تسكن نأمة تلك الشرور المستطيرة قروناً في مملكو التبابعة وحمير.

تاريخ الحضارة

تاريخ الحضارة في القرون الوسطى والقرون الحديثة أصول الحضارة الآثار قبل التاريخ - تجد في الأرض أحياناً دفائن من سلاح وأدوات وعظام بشرية وبقايا من كل نوع تركها البشر ولا يعلم عنها شيء ويستخرج منها ألوف من الأنواع في جميع ولايات فرنسا وسويسرا وإنكلترا بل في أوربا كلها بل يستخرج مثلها من آسيا وأفريقية ولا شك أن لها مثالاً في العالم كله. وتسمى هذه البقايا آثار ما قبل التاريخ لأنها أقدم من التاريخ ومنذ نحو أربعين سنة أخذ العلماء يجمعونها أو يدرسونها. ولمعظم المتاحف اليوم قاعة أو عَلَى الأقل بعض بيوت من الزجاج مملوء من هذه البقايا. وعَلَى مقربة من باريز في (سان جرمان إن لاي) متحف من قبل عهد التاريخ. وقد جمعت الدانيمرك زهاء ثلاثين ألف قطعة من الآثار. وفي كل يوم يعثر عَلَى تحف أثناء الحفر وعند بناء بيت وحفر حفيرة لسكة حديدية. وهذه التحف لا ترى عَلَى سطح الأرض بل هي مدفونة في الأعماق وفي أماكن لم تنبش تربتها وهي مغشاة بطبقة من الحصباء والطين الندي تراكمت شيئاً فشيئاً فوقتها وجعلتها بمأمن من الهواء وهو ما يؤكد كل التأكيد بان تلك الدفائن هتاك منذ زمن بعيد. علم ما قبل التاريخ - فحص العلماء هذه الآثار فتساءلوا عمن خلفها لنا وحاولوا أن يعرفوا من عظامها وأدواتها كيف بقيت وكيف كانت تعيش فأثبتوا أن هذه الأدوات تشبه ما يستعمله بعض المتوحشين إلى اليوم. ومن درس هذه التحف نشأ علم جديد سموه علم الآثار قبل زمن التاريخ. العصور الأربعة - حدثت بقايا قبل زمن التاريخ من أجناس من البشر منوعة كثيراً فبقيت في الأرض أدواراً متطاولة جداً من الزمن كان يعيش فيه في بلادنا الماموت وهو نوع من الفيل العظيم له جلد كثير الوبر وأنياب محددة. وتقسم هذه السلسلة من القرون إلى أربعة أزمان تسمى عصوراً. فالأول عصر الحجر النحيت والثاني عصر الحجر الصقيل والثالث عصر النحاس والرابع عصر الحديد. سمت كذلك بسبب الأدوات التي كانوا يعملونها من الحجر والنحاس أو

الحديد. عَلَى أن هذه الزمان تختلف طولاً وقصراً وربما دام عصر الحجر النحيت مئة ضعف عصر الحديد. عصر الحجر بقايا الحصباء - أقدم الأطلال التي عثر عليها كانت مدفونة في الحصباء. وقد ظفر أحد علماء فرنسا المسيو بوشه دي برت (منذ سنة 1841 إلى سنة 1853) في وادي لاسوم بأدوات قاطعة من الصوان وكانت مطمورة عَلَى عمق ستة أمتار فالحصباء عَلَى ثلاث طبقات من أرض خزف وحصباءٍ وكلس صلصالية لم تحركها يد. كما عثروا في نفس تلك الأماكن عَلَى عظام بقر وأيائل وفيلة. وظل الناس يهزؤن زمناً بهذه الاكتشافات فكانوا يقولون أن هذا الصوان قد نجت صدفة بلا تعمل حتى إذا كانت سنة 1860 جاء عدة علماء بالقصد إلى وادي لاسوم واعترفوا أن هذا الصوان قد نحته يد بشر بلا مراءٍ. ومنذ ذاك العهد عثروا عَلَى زهاء خمسة آلاف قطعة تشبه تلك في طبقات من هذا الجنس نفسه وذلك في وادي السين وفي إنكلترا وكن بجانب بعض تلك الآثار بقايا عظام بشرية. ولا يختلف اثنان اليوم في أنه كان بشر في العالم في الزمن الذي تألفت فيه عَلَى تربتنا طبقات الحصباء. فإذا كانت الطبقات التي تغشى هذه الأطلال تقد تألفت بالبطء الذي تتألف به لعهدنا هذا فإن البشر الذي وجدت عظامهم وأدواتهم قد عاشوا قبل زهاء مئتي ألف سنة. رجال الغيران - ولطالما عثر الباحثون عَلَى أطلال في الغيران محفورة في الصخر تكون أحياناًَ قائمة فوق نهر وأشهرها مغارات شواطئ الفزير (أحد أنهار فرنسا) ويكثر أمثالها في كثير من الأماكن اتخذت قدماً مساكن للناس وأحياناً قبواً لهم. فتجد فيها هياكل عظامهم وأسلحتهم وأدواتهم وهي عبارة عن فؤوس وسكاكين وأزاميل أسنة رماح من الصوان وسهام وشفار كلاليب وإبر من العظام مثل ما كان يستعملها بعض المتوحشين وقد نثرت عَلَى التربة عظام الحيوانات فكان أولئك الناس القذرون كسائر المتوحشين بلقون بها في زاوية بعد أن يأكلوا الحيوانات وقد يشقون عظامه ليستخرجوا منه النخاع عَلَى ما يفعل اليوم المتوحشون. ولست ترى بين تلك الوحوش الأرنب والأيل والبقر والحصان وحوت سليمان بل تجد بينها أيضاً الكركدن ودب الكهوف والماموت والوعل وبقر السهل وجميع ضروب الوحوش المنقرض نسلها من فرنسا منذ زمن طويل. ولزقد عثر أيضاً عَلَى بعض

المنقوشة عَلَى عظام الوعل أو عَلَى أسنان الماموت تمثل إحداها قتال وعول والثانية حيوان الماموت أي فيلاً هائلاً إذ جلد له وبر كالصوف وأنياب معقفة. لا جرم في أن هؤلاء الناس كانوا معاصرين لذاك الفيل والوعل فكانوا كجنس الأسكيمو (سكان القطب في أميركا) في عهدنا هذا قوم دأبهم الصيد والقنص يحسنون صنع الصوان وإيقاد النيران. المساكن - انخفضت المياه في بحيرة زوريخ (سويسرا) سنة 1854 عقب ما حدث من الجفاف في صيف تلك السنة فاكتشف سكان الشواطئ أوتاداً غرزت للبناء وهي بالية جداً وماعوناً غليظاً غير محكم وكانت هذه بقايا قرية قديمة بنيت عَلَى الماء. ثم عثر عَلَى زهاء مائتي قرية تشبهها في بحيرات سويسرا ويدعونها القرى أو المدن المبنية عَلَى أوتاد في شواطئ البحيرات. أما الأوتاد التي قامت عليها تلك المساكن فقد جعلت من جذوع الأشجار غرزت من أطرافها في البحيرة عَلَى عمق عدة أمتار واقتضى لإنشاء كل قرية من ثلاثين إلى أربعين ألف جزع تحمل سطحاً من الخشب أقيمت عليه بيوت من خشب مغشى بالطين. ويستدل مما عثر عليه من مئات من الأمتعة في وسط تلك الأوتاد عَلَى العيشة التي كان السكان يعشونها فقد كانوا يأكلون من الحيوانات التي يصيبونها الأيل والوعل والخنزير البري عَلَى حين كانوا يعرفون من قبل الحيوانات الأهلية كالبقر والعنز والحمل والكلب ويحسنون زرع الأرض وحصاد الغلة وطح الحب لأنه وجد في أطلال قراهم حب الحنطة بل الخز (وبعبارة أخرى معجنات بدون خمير) وكانوا ينسجون الأقمشة الغليظة من القنب ويخيطون الثياب وقد عثر عَلَى إبر من عظام وكانوا يعملون الفخار عَلَى صورة ليس فيها شيء من المهارة وترى آنيتهم لا أثر للدقة فيها بل هي معمولة باليد مزدانة ببعض خطوط فقط وكانوا يستعملون السهام والسكاكين من حجر الصوان مثل سكان الغيران ولكنهم يعملون فؤوسهم من حجر صلب للغاية تعلموا صقله. ولذلك دعي عصرهم بعصر الحجر الصقيل وهؤلاء السكان أحدق عهداً من سكان الغيران لأنهم لم يعرفوا فيل الماموت ولا الكركدن وإن كانوا عرفوا الوعل والأيل في أرض فرنسا. المصانع أو البنية - تسمى البنية المصنوعة من ضخم الشقيف من الأحجار غير المصقولة البنية الميكاليتية أي الأحجار الضخمة ويكون الحجر فيها تارة عَلَى حاله وأخرى مغشى

بالطين. والمصانع التي يبقى فيها الصخر مكشوفاً هي عَلَى أنواع فمنها الدولمانوهو منضدة منالحجر مؤلفة من حجر مستطيل مركوز عَلَى عدة أحجار مغروزة في الأرض والكروماش وهي دائرة من الحجر يتألف من صخور كبيرة مصفوفة عَلَى صورة إطار ومنها المانهير وهي حجر طويل مؤلف من شقيفة جعلت عَلَى طرفها وكثيراً ما تكون عدة من المانهير مصفوفة صفاً واحداً. ولا تزال في الكرنك من إقليم برتانيا أربعة آلاف من هذا البناء قائمة عَلَى أحد عشر صفاً. ويذهبون إلى أنه كان قديماً عشرة آلاف واحد من نوعها جعلت عَلَى صف واحد في ذاك المكان. وإنك لتشاهد البنية الميكاليتية في فرنسا بالمئات في ولايات الغرب ولاسيما في إقليم برتانيا وتجد في إنكلترا منها عَلَى معظم الآكام ومنها زهاء ألفي بناية فقط في جزائر أوركاد. وتسمى المصانع المدفونة التومولوس وهي تشبه أكمة عن بعد وإذا فتحت يجد المرء في داخلها غرفة من الحجر وكثيراً ما تكون مبلطة بألواح من الصخر. وترى منها في بلاد الدانيمرك وألمانيا الشمالية مصانع منثورة ويسمي أهالي تلك البلاد تلك المصانع المدفونة قبور الجبارين. والمصانع الميكاليتية كثيرة خارج أوربا وفي الهند وعَلَى شاطئ أفريقية. ولا نعلم أي الشعوب استطاعت إخراج مثل هذا الشقيف ونقله ولقد جاء زمن طويل كانوا يظنون فيه أن قدماء الغاليين والسلتيين هم الذين عنوا باستخراجها ونقلها ومن هنا جاء اسم المصانع السلتية ولكن ذلك مردود إلى أن ثبت وجود مثل هذه المصانع في أفريقية والهند. وإذا فتحت بعض هذه المصانع المدفونة غير الممسوسة تجد فيها كل حين هياكل عظام وكثيراً ما يكون عدة هياكل وهي إما جالسة أو مضطجعة فهذه المصانع عبارة عن قبور فتجد بالقرب من الميت أسلحة وآنية ونقوشاً. وفي أقدم هذه القبور ترى الأسلحة عبارة عن فؤوس من الحجر الصقيل والنقوش هي أصداف ولآلئ وعقود من عظم أو من عاج والآنية بسيطة للغاية بدون عروة ولا عنق بل هي مزدانة فقط بخطوط أو بنقط وترى فيها عظام حيوانات ملقاة عَلَى الأرض مكلسة وهي بقايا طعام قدم في جنازة اتلميت قدمه احبابه إلى قبره. وليس بين هذه العظام أثر ولعظم الوعل وهذا ما يستدل منه عَلَى أن هذه المصانع بنيت عندما اندثر جنس الوعل ومن أقطارنا إلى بعد زمن القرى المبنية في

البحيرات. قرى المعادن القلز (النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد) استعمل البشر المعادن منذ عرفوا إذابتها ليصنعوا منها أسلحتهم مفضلين لها عَلَى الحجر. فأول معدن شاع بالاستعمال هو النحاس لسهولة استخراجه لأن منه الصافي السهل عَلَى التطريق إذ يمكن تطريقه بارداً ولكن لم يستعمل النحاس الخالص ومنه تصنع أسلحة سريعة العطب قابلة للتقليد. ولذلك مزجوه بـ 10/ 1 من القصدير ليزيد صلابته وهذا المزيج من النحس والشبه هو الذي يسمونه القلز. أدوات البرونز - صنعوا من القلز أدو ات العمل (كالمدى والمطارق والمناشير والإبر والصنانير) وأدوات للزينة (أساور وسفافيد وقراط) وصنعوا منها أسلحة بوجه مخصوص (مثل الخناجر وزج الرماح والفؤوس والسيوف) ويوجد من هذه المصنوعات في قارة أوربا عامة في المصانع المدفونة وفي نضائد الرخام الحديثة وفي معادن الحمر المشتعل ببلاد الدانيمرك وفي مدافن الحجر وكثيراًَ ما يكتشف بالقرب من هذه المصنوعات من البرونز أدوات الزينة من ذهب وأحيانا بقايا ثوب من الصوف. ولا يتأتى أن تكون جميع أدوات البرونز متشابهة بالعرض ومعمولة من مزيج معين. لا جرم أن تاريخها يرد إلى عهد واحد وهو مقدم عَلَى وصول الرومان إلى غاليا إذ لم يظفر بها قط في جانب الآثار الرومانية وإلى اليوم لم يعرف من كان يستعملها. قرن الحديد - لما كان الحديد أصعب عَلَى التطريق وأقسى عَلَى العمل من البرونز لم يعرف استعماله إلا مؤخراً. وإذا كان أكثر صلابة لم يستعمل غيره للسلاح منذ عرف. وكان الحديد عَلَى عهد هوميروس لبلاد اليونان معدناً ثميناً يدخرونه لصنع السيوف ويبقون القلز لسائر الاستعمالات ولذلك ترى كثيراً من القبور تحوي أشياء من القلز وأسلحة من الحديد كيفما اتفق. وهذه السلحة هي فؤوس وسيوف واقواس ودروع ويوجد منها في العادة بالقرب من هيكل عظام وفي قبر حجر أو خشب لأن المحاربين كانوا يدفنون مع أسلحتهم ويعثر منها في ساحة الحروب متفرقة أو ضائعة في قعر حوض من الحجر وقد اكتشف في أحد هذه الأحواض في شلزويك 100 سيف و500 رمح و30 فأساً و460 سهماً و80 مدية و40

منقشاً وكلها من الحديد وعَلَى مقربة من ذاك المكان في مجرى بحيرة قديمة رأوا مركباً عظيماً طوله 20 متراً محملاً كله من المحاز والسيوف والنصال والمدى فالأشياء المعمولة من الحديد التي يعثر عَلَى هذه الصورة لا تحصى وزهي أقل بهاء من مصنوعات البرونز لأن الصدأ يأكل الحديد بسرعة فتراها لأول وهلة أكثر قدماً ولكنها في الحقيقة أكثر جدة. عرف سكان شمةالي أوربا الحديد قبل دخول الرومان أي في القرن الأول ب. م. وقد اكتشف في مقبرة قديمة بالقرب من مناجم الملح في هالستاد في بلاد النمسا 980 قبراً تحتوي عَلَى أدوات من الحديد والبرونز ولم يظفروا معها بقطعة من النقود الرومانية وقد دام قرن الحديد إلى عهد الرومانيين. وإن المصنوعات الحديدية ليعثر عليها مع أدوات الزينة الذهبية والفضية والأواني الخزفية الرومانية ونواويس وكتابات ونقود رومانية عَلَى مثال صور الإمبراطور والمحاربون الذين نراهم مضطجعين بالقرب من سيوفهم ودروعهم كانوا في الأكثر إلى عهد قريب منا وكان كثير منهم عَلَى عهد الميروفنجيين وبعضهم أيضاً عَلَى عهد شارلمان. فليس قرن الحديد إذاً من القرون التي تعد قبل زمن التاريخ. الخلاصة ماذا يراد من القرون الأربعة - استعمل سكان البلد الواحد الأحجار المنحوتة فالأحجار المصقولة فالقلز فالحديد ولكن البلاد كلها لم تكن تستعمل في القرن الواحد المعدن الواحد فالمصريون استخدموا الحديد في حين كان اليونان يستعملون القلز وبرابرة الدانيمرك مازالوا عَلَى استعمال الحجر ولم ينته عصر الحجر المصقول في أميركا إلا عندما وصل إليها الأوربيون وظل المتوحشون من أهل أستراليا إلى أيامنا هذه في عصر الحجر النحيت ولا يوجد في منازل عسكرهم سوى أدوات من العظام وقداحات تشبه ما كان يستعمله سكان الغيران فليس للعصور الأربعة إذن أدوار في حياة الإنسانية بل في حياة كل مملكة عَلَى حدتها فقط. شكوك - ما برح علم الآثار قبل التاريخ من العلوم الحديثة النشأة وما نعرفه عن البشر الأصليين تعلمنها من بقايا حفظت بالعرض ووجدت كذلك وعَلَى ذلك وقد تؤدي صدمة جديدة وحفيرة أو خندق وانهيار أرض وجفاف مطر إلى اكتشاف جديد. ومن يعرف ما هو مدفون في بطن الأرض حتى الآن فإن ما عثر عليه اليوم من المدفونات حتى اليوم من

الأشياء لا يقع تحت الحصر ولكن قلما تفيدنا فيما نريد أن نعرفه. فكم من زمن دام كل عصر من العصور الأربعة؟ ومتى بدأ وانتهى في البلدان المختلفة؟ ومن أي الشعوب أتت صوب الغيران والكهوف والقرى في وسط البحيرات والمصانع المدفونة في النضائد الحجرية؟ وعندما تنقل مملكة من عصر الحجر المصقول إلى القلز هل يكون الشعب نفسه قد غير أدواته أو خلفه شعب آخر؟ وعندما يتعقد بعضهم أنهم ظفروا بجواب عَلَى ذلك يحدث اكتشاف جديد يكذب علماء الآثار فقد كان يظن أن النضائد الحجرية جاءت من السلتيين فوجدوا منها في محال لم يستطع السلتيون أن يجتازوها. مسائل محلولة - ومع هذا فإن ثلاث مسائل يظهر أنها محلولة (1ً) الإنسان هو قديم عَلَى الأرض لأنه عرف الماموت ودب الكهوف فكان يعيش عَلَى الأقل خلال العصر الذي يقال له العصر الرباعي (2ً) انتقل الإنسان من حالة الهمجية حتى وصل إلى المدنية وحسن بالتدريج آلاته وأدوات زينته من الفأس الحقير المعمول من الصوان والعقد المؤلف من أسنان الدببة إلى سيوف الحديد وحلي الذهب وذلك لأن الأدوات الغليظة كثيراً هي أيضاً عريقة في القدم (3ً) تقدم الإنسان تقدماً سريعاً ومكان كل عصر أقصر مما سبقه. غاليا شعوب غاليا المستقلة - كانت البلاد التي يسكنها (الفرنسويون) تدعى قديماً بلاد غاليا ويريدون بهذا الاسم جميع الصقع الممتد من جبال البيرينية إلى الألب والرين فالبحر هذه البلاد الواسعة لم تكن مملكة واحدة بل كانت تنوقسم بين مئة من الشعوب الصغيرة عَلَى الأقل ولكل منها حكومته وجيشه يحارب بعضها بعضاً. وهذه الشعوب مؤلفة من ثلاثة عناصر مختلفة (1ً) كان الإيبريون وهم من نفس عنصر سكان إسبانيا يتكلمون في الجنوب في البلاد الواقعة بين جبال البرنيه ونهر الغارون بلغة لا تسبه بوجه من الوجوه اللغات التي يتكلم في أوربا وما زال يتكلم بها إلى الآن الباسك في البرنيه. (2ً) كان السلتيون في الوسط أي من نهر الغارون إلى نهر المارن من عنصر سكان إيرلاندا نفسه ولغتهم تشبه اللغة التي يتكلم بها في إيرلاندا وفي بلاد الغال وبريطانيا. (3ً) في الشمال منة نهر المارن إلى نهر الرين الشعب البلجيكي الذي كان بعضه من

السلتيين والآخر من الجرمانيين أي من نفس الشعوب التي تسكن ألمانيا. فلم يكن في غاليا من ثم وحدة في الجنس ولا وحدة في اللغة. ديانة الغاليين - كانت ديانة الشعوب الغالية اشبه بديانة اليونان والرومان فيعبدون عدة أرباب تمثلها أصنام. ونحن لا نعرف أيضاً أسماء هذه الأرباب ولكننا نعرف أهمها. وهي رب الشمس (بلن) وربة القمر (بلزانا) ورب الفصاحة ويمثلونه في سلاسل ذهب خارجة من فمه لتقيد الحضور ورب مكلف بأن يقود إلى جهنم أرواح الموتى (توتاتس) ورب الرعد ورب يدعى المفزع كان يسكن الغابات المظلمة. وكانوا يقدمون لهذه الأرباب إكراماً لها وكثيراً ما يذبحون لها ذبائح بشرية يختارونها إما من الجناة المحكوم عليهم بالإعدام أو من أسرى الحرب وكان في غاليا طبقة من الناس وقفت نفسها عَلَى خدمة الدين وهم الدوروديون يجتمعون خاصة من شبان الأسر الشريفة وهم في العادة ينوون التبتل فلا يتزوجون وكان للدوريديين مذاهب دينية تخالف دين الشعب ولم ينته إلينا ما يعرفنا بهذين المذهبين ولا نعلم أنهم كانوا يعتقدون بخلود الروح. وكانوا يلبسون فسطاناً أبيض ونعالاً ويقبضون بأيديهم قضباناً بيضاء يستعملونها في الأعمال السحرية لنهم كانوا كهنة وأطباء وسحرة وقضاة في آن واحد. وكانوا يرون أن لبعض النباتات فضيلة ذاتية ولاسيما دبق (عنم) البلوط وهو النبات الذي يشفي بزعمهم من دعامة الأمراض فكانوا يجنونه باحتفال حافل بمناجل من ذهب في اليوم السادس من آخر شهر في الشتاء. أخلاق الغاليين وعاداتهم - كانت الشعوب الغالية إلى القرن الأول من التاريخ المسيحي برابرة متوحشين يعيشون إلا قليلاً كما يعيش اليونان قبل هوميروس أو الرومان في أوائل أمرهم وكانت البلاد مغشاة بغابات واسعة يسكنها الذئاب والأيائل والنعام والدببة وفيها بطائح مؤلفة من انهار ولم يكن فيها من طرق سوى الضيق المعوج ولم تمكن البيوت سوى أكواخ صغيرة من خشب أو من لبن مغطاة بقش لا نوافذ لها ولا مداخن ولها في السقف خرق يصعد منه الدخان حتى أنه لم يكن الأغنياء الغاليين أثاث ولا فرش بل كانوا ينامون عَلَى القش أو عَلَى جلود ويأكلون بأيديهم ولم يكن لهم مدن يصح إطلاق لفظ مدينة عليها بل لهم أسوار من الحجر يسكن داخلها القوم ويتحصنون أيام الحروب وهناك كانت تقام الأسواق وتعقد مجتمعات المحاربين والأشراف.

ولكم يكن سكان البلاد متساويين فيما بينهم فكان الفلاحون طبقة دنيئة والمحاربون الذين يقاتلون عَلَى خيولهم هم طبقة الأشراف وهؤلاء وحدهم هم الحكام وكان لبعض الشعوب زعيم سام أي ملك (ولفظ ريكس) الغالية التي توجد في عدة من أسماء رؤسائهم مثل أمبيوريكس بوايوريكس فرسينوجيتوريكس وغير ذلك هي نفس اللفظ اللاتيني ريكس. وكان المحاربون يتسلحون برمح لها سنان من القلز وبسيف ثقيل من الحديد ويلبسون خوذة وترساً من الخشب ولم يكونوا يلبسون الدروع. ويفوق الغاليون اليونان والرومان من جهة واحدة فقط هو أن ثيابهم كانت أكثر ملائمة وأحسن صنعاً للتوقي من البرد. فبدلاً من أن يلبسوا مثلهم ثياباً طويلة تربك صاحبها وتترك ساقيه عريانتين ونعليه تكشفان رجليه كانوا يلبسون نوعاً من السراويل (البري) ومشلحاً وضرباً من ضروب الأردية (السي) أشبه بما يلبسه الجيليون من أهل إيكوسيا وأحذية تسمى كاليكا الغالية ومنها جاءت لفظة كالوش الفرنسية واقتبس الرومانيون تلك السراويل الغالية. غالية الرومانية كيف أصبحت غاليا رومانية - استوطن الرومان بادئ بدءٍ الشطر الجنوبي من غاليما في جوار إيطاليا حيث طاب لهم الهواء وأطلق عَلَى البلاد جبال البيرنيه إلى جبال الألب اسم بروفانس أي ولاية (وبقي اسم بروزفانس يطلق عَلَى القسم الشرقي من شرقي نهر الرون) فلم يمض زمن طويل حتى اشبهت بلاد إيطاليا ولما افتتح قيصر بقية بلاد غاليا خف سكانها إلى التخلي عن عاداتهم واقتباس عادات الرومان فغادروا القرى ونزلوا المدن حيث انشئوا المعابد ودور تمثيل وحمامات وبيوت من رخام مفروشة بالفسيفساء عَلَى نحو ما اعتاد أغنياء الرومان. وحذا السكان حذوا الأشراف فتركوا بالتدريج حتى لغتهم واخذوا يتكلمون باللاتينية ومن اللاتينية التي تكلم بها العامة في المملكة الرومانية نشأت اللغات الرومانية كالفرنسوية والإيطالية والإسبانية ويكاد لم يبق في الإفرنسية سوى كلمات طفيفة من اللغات الغالية (مثل بك منقار كوك ديك ألويت قنبرة مارن تراب كلسي ممزوج بصلصال دون كثيب ليو فرسخ). نظام غاليا - لم تدثر الشعوب الصغرى التي كانت تتقاسم غاليا بل تألفت من كل واحد

منها مدينة سميت باسم سكانها (مثل سواسون تريف ليوج باريز) وكلما أنشئت مدن جديدة تضاف إلى ما أنشئ من نوعها قبلاً. وانضمت عدة مدن متألفت منها ولاية وكان لكل ولاية حاكم ينوب عن الإمبراطور وله سلطة مطلقة نافذة فهو يقضي بين الناس ويبيت المسائل ويبلغ المدن أوامر الإمبراطور وكان الواي في كالولايات الواقعة عَلَى الحدود حيث يرابط فيلق من الجيش هو القائد. وما قط كان لسكان غاليا غاية في تاليف أمة خارجة عن بقية المملكة حتى أمسوا عَلَى التوالي يعتبرون أنفسهم رومانيين فيطيعون الإمبراطور وحكامه عن رضى ولذلك لم يكن الإمبراطور في حاجة أن يضم شملهم تحت رايته بالقوة كما يجمع شمل الشعب المغلوب عَلَى أمره. وكان له جيش ولكن عَلَى التخوم فقط للدفاع عن الغاليين من غزوات برابرة الجرمانيين لا لإكراههم عَلَى الخضوع. ولم يكن في تلك البلاد الواسعة التي هي أكبر من فرنسا الحديثة من الجنود إلا حرس الولاة يبلغ عددهم عَلَى الجملة ثلاثة آلاف رجل. أصول المجالس البلدية في غاليا - ظل صغار الشعوب في غاليا يديرون أمور أنفسهم بأنفسهم وكان للإمبراطور التدخل في مسائلهم الداخلية ولكنه لا يسئ في العادة استعمال حقوقه بل يطلب إليهم فقط ألا يحارب بعضهم بعضاً وأن يؤدوا المطلوب منهم للحكومة في أوقاته وأن يحضروا أمام المحكمة الوالي وكان في كل ولاية عدة حكومات صغرى وتدعى كما كانت قديماً في المملكة الرومانية مداً أو بلديات. فالمدينة عَلَى عهد الإمبراطورية الرومانية كانت عَلَى مثال المدينة الرومانية نفسها فيها مجالس لعامتها وعمال ينتخبون كل سنة وينقسمون أقساماً كل قسم مؤلف من عنصرين ومجلسة الشيوخ يتألف من كبار أرباب الأملاك أي من الأشراف والأسرات القديمة وكان حال مجلس العامة أو الأمة كما هو الحال في رومية صورياً وفي مجلس الشيوخ أي الأشراف هم الحكام حقيقة أنا وسط المدينة فهو مدينة صرفة عَلَى الدوام أي رومية مصغرة ولها معابدها وأقواس نصرها وحماماتها العامة وعيونها ومسارحها وميادين لقتالها والحياة فيها صو رة من حياة رومية مصغرة من حيث توزيع الحنطة والدراهم والمآدب العامة والحفلات الدينية الكبرى والألعاب الدموية. إلا أن دراهم الولايات في رومية هي التي تؤدي النفقات أما في المدن فإن الأشراف أنفسهم يقومون بالنفقات اللازمة للحكومة والأعياد.

وكان الخراج الذي يجبى لحساب الإمبراطور يذهب إليه برمته لذلك اقتضى أن يقوم الأغنياء عَلَى نفقتهم بالاحتفال بالألعاب وإحماء الحمامات وتبليط الشوارع وإنشاء الجسور والمجاري والملاعب. قاموا بكل ذلك مدة قرنين وبذلوا عن سعة في إقامة المصانع المنبثة في أرض المملكة وألوف من الكتابات المزبورة عَلَى الأحجار شاهدة بذلك ابد الدهر. كان بين جبال البيرنيه ونهر الرين نحو مئة وعشرين مدائن ولم تكن كور ساذجة عَلَى نحو ما يوهمه نظام المجالس البلدية فيها بل إنه كان لمعظمها أرض مساوية لولاية أوابرشيه وهكذا كنت تجد بين نهري اللوار والسوم مدن سانس وسوسوان وأورليان وكانت باريز ونويون وساتليس وبوفي ولاون وسوسوان وامين فقط حواضر مدن وكانت المدن في إقليم البروفانس حيث نزل الرومان منذ عهد متطاول أكثر ازدحاماً وكنت ترى في إقليمي فوكلوس ودروم فقط مدن أفينون وكاربتراس واورانج وكافليون وفيزون وسان بونس ودي وفالانس. وفي ذاك الصقع حفظت أجمل المصانع ففي مدينة ليم ترى الملاعب والمعبد المسمى البيت المربع والقناة المسماة جسر الحرس ومفي مدينة آرلس الملاعب وفي مدينة أورانج المسرح وقوس النصر ولكن جميع المدن كان لها مصانع من هذا النوع. وقد عثروا في باريز أصغر مدن الغاليين عَلَى حمامات حارة وحمامات معدنية بالقرب من نزل كلوني وعَلَى ملاعب في شارع مونج. وما من متحف إلا وترى فيه محفوظاً إلى اليوم بعض بقايا المعابد والمجاري والفسيفساء أو قبوراص رومانية. أسباب الغارة الجرمان - كان يسكن وراء نهري الرين والدانوب (الطونة) في البلاد التي تتألف منها اليوم ألمانيا شعوب غير ممدنة كان الرومان يدعونهم الجرمانيين وكانوا كالهنود والفرس والرومان واليونان شعوب من عنصر آري نزحت في القديم من قارة آسيا وهم شعوب من الرعاة أصبحوا حراثين وشعوباً محاربين وكانوا ينقسمون إلى عدة قبائل (نحو أربعين) تحكم كل واحدة نفسها منفصلة عن الأخرى وكثيراً ما كانوا يناوشون بعضهم بعضاً الحرب. وكان معظم المقاتلين من الجرمانيين لا يعتبرون إلا الحرب ويقول تاسيت أنهم كانوا كلما انقطعت شأفة الحروب من بينهم يقضون أوقاتهم في الصيد ويتخلون عن كل عمل إلا النوم

والأكل. وكان أشجعهم وأشدهم شدة في القتال لا يتعاطون عملاً يتركون العناية ببيوتهم وحقولهم للنساء والشيوخ والضعفاء وهم يعيشون كالمخدرين. وكان في كل شعب كثير من الناس جعلوا الحرب والغارة صناعتهم فيجتمعون حول محارب شريف أو مشهور ويحلفوا بأن يخلصوا له الخدمة وعَلَى هذه الصورة تتألف عصابة من الصحاب مخلصة لزعيم يعيشون في داره ويأكلون عَلَى مائدته يحفون به أيام الحرب ويفادون بأرواحهم في سبيل الدفاع عنه. وكانت تشتد حاجة هاته العصابة إلى الحرب فالرفاق ليتسلوا عن هذه الحياة المقصورة عَلَى الأكل والبطالة والرئيس ليقوم بأود رجاله. وعندما يسود السلام في الشعب تنصرف عصابات المحاربين تقاتل مع زعمائها في جيش أحد الشعوب أو يحاربون عَلَى حسابهم وكانت الإمبراطورية الرومانية تستميلهم للقيام بهذه العمال فبعضهم ينهالون عَلَى ولايات الحدود ينهبونها وآخرون يدخلون في خدمة الرومانيين يقاتلون المهاجمين من البرابرة وكثيراً ما يعودون مستمتعين برواتبهم أو غنائمهم ولكن لذت لكثير منهم عيشة التشرد فلا يكادون يرجعون إلى مساقط رؤوسهم. وقد أدى هذا النظام إلى فناء جميع القبائل النازلة في التخوم فلم تمض ثلاثة قرون إلا وقد زالت العصابات الرحالة ولم يبق حثالة من حثالات الشعوب حتى إذا جاء القرن الثالث ظهرت معاهدات تحت أسماء جديدة ليست أسماء شعوب وهي ثلاثة الألمان في الذراع الذي يتألف من نهر الرين والدانوب العَلَى والفرنك عَلَى المجرى الأسفل من نهر الرين والسكسون معَلَى طول بحر الشمال وكان لكل جماعة من تلك الجماعات الصغرى التي تكون منها تلك المعاهدات زعيم يسمى ملكاً ويحارب في العادة عَلَى نفقته. إبذعرار السكان في الإمبراطورية الرومانية - جرى إذ ذاك في الإمبراطور الرومانية مثل ما جرى في جميع المجتمعات القديمة كإسبارطة ويونان وإيطاليا أي أنه قل عدد السكان واضمحل الأحرار وخلفهم العبيد ولم يكن لهذا الشعب من العبيد حظ من النمو بل كان إذ حدث كائن من الكوائن التي يكثر حدوثها في ذلك العهد من وباء وحرب وغارة يفنى زراع ذاك الصقع فتظل الأرض غير مأهولة ولم تلبث القرى عَلَى التدريج ولاسيما جهات التخوم أن فرغت من الرجال ولم يبق سكان إلا في المدن وأصبحت عدة أصقاع أشبه بالقفار منها بالأرياف.

وبعد أن اجتازت بالبلاد جيوش المخربين العظمى في القرن الخامس (أمثال راداكليز وأتيلا) حدث في البلاد فراغ استحال عَلَى الإمبراطور أن يملؤه ففي بلاد الغال وإسبانيا وإيطاليا بل في بلاد الغرب أجمع بار شطر كبير من الأراضي لقلة اليد العاملة وأصبحت الولايات الواقعة عَلَى التخوم مقفرة ولم يبق في كل البلاد التي يسبقها نهر الدانوب من سويسرا إلى البلقان ولا مدينة رومانية واحدة واضمحل السكان حتى أنه منذ القرن الرابع لم يبق في جميع هذه البلاد إلا شعوب جرمانية أو سلافية وهكذا الحال في البلجيك ولم يجد الفرنك فيها غير القفر. انحطاط الجيش الروماني - دعت هذه البلاد المقفرة الناس إلى سكناها فكان البرابرة يحاولون عَلَى الدوام أن يدخلوها وكان من السهل عَلَى الحكومة الرومانية أن تدفعهم عن البلاد كلما كان لها جيش في الجملة ولكن آلت الحال في قلة الجند كما صارت في قلة المال بحيث كان من الصعب أبداً تجنيد العدد اللازم فاعتاد السكان عيش الدعة ولم يعودوا يهتمون أن يفادوا أنفسهم في الجيش فاضطرت الحكومة أن تطلب جنوداً من كبار أرباب الأملاك وهؤلاء يسوقون بعض المزارعين (المستعمرين) في أراضيهم فيأخذونهم بالقوة من وراء سكتهم ومحراثهم فلا يكون منهم إلا جندي سيء النظام فقد أصبح المجندون في القرن الرابع من الضعف بحيث لا يستطيعون لبس الدرع واخذوا يعتاضون عن الخوذة بالقبعة. ولذا كان القواد يؤثرون أن يستخدموا محاربين من البرابرة لنهم يقاتلون في ساحة الوغى مستميتين وكان في الإمبراطور منذ عهد طويل جنود من الجرمان في خدمة الإمبراطور وفي آخر القرن الرابع اخذ الرومان يجندون عصابات برمتها يجعلونهم مع نسائهم وأولادهم في خدمتهم في أراض يعطونهم إياها ليأخذوا منها أرزاقهم وعلوفاتهم وهؤلاء المحاربون الذين نزلوا في البلاد الرومانية كانوا يحتفظون بلسانهم وعاداتهم وأصول حروبهم وزعمائهم ولكنهم يحاربون في الجيش الروماني ويدعونهم الأجراء أو المحالفين وجاء القرن الخامس فلم يكن منهم عصابات فقط بل شعوب يرأسها الويز غوت والبورغوندا فاجتازوا الحدود بالقوة أحياناً فبدلاً من أن يقاتلوا الإمبراطور آثروا أن يكونوا في خدمته. فتألفت إذ ذاك جيوش رومانية من شعوب بربرية يقودها قواد منهم فقد رأينا الجيش الروماني الذي رد غارات أتيلا سنة 451 مؤالفاً من ألويزغوت والفرنك

والبورغوند وأتيوس القائد الروماني هو في الأصل كأتيلا نفسه. أخلاق الغارة - كان في الإمبراطورية الرومانية أراض كثيرة وجند قليل وإذ كان البرابرة كلهم رجال حرب ويريدون أن يتملكوا أراضٍ اخذوا يتملكون تارة بالقوة والعداء وأخرى مقابل خدمة وفي صورة محالفين ودخول البرابرة إلى الإمبراطورية هو الذي نسميه غارة البرابرة (ويطلق الألمان عليه هجرة الشعوب) وهذه الغارة لم تحدث دفعة واحدة بل وصل الجرمانيون عصابة إثر عصابة وتاريخ العصابة الأولى سنة 376 والعصابة الخيرة وقعت سنة 568 فدامت الحركة إذاً في الغرب زهاء قرنين وظلت من جهة الشرق خلال القرون الوسطى كلها فلم يكن بذلك حرب ولا فتح ولم يؤلف الجرمانيون فيلقاً بل كانوا عَلَى العكس يثيرون السكان بعضهم عَلَى بعض بحيث استحقوا إعجاب كتبة الرومان بعملهم. قال بول اوروز إننا نرى كل يوم أمة من هذه الأمم البربرية تبيد أمة أخرى ولقد شاهدنا جيشين من الغوت يفني أحدهما الآخر ولكن هذه الشعوب تتقاتل لتموت وتهلك. والظاهر أن الجرمانيين لم يمقتوا الرومانيين بل كانوا يحاربون من أجلهم عن رضى دافعين غارات غيرهم من الجرمانيين أيضاً ولم يكن لهم مأرب في القضاء عَلَى الإمبراطورية بل كانوا يؤثرون أن يكونوا في خدمتها. قال أتولف أحد ملوك الغوت أنه كان يطمع أولاً في إبادة الاسم الروماني وأن يؤسس من طول الراضي الرومانية وعرضها إمبراطورية يدعونها الغوتية يكون شأنه فيها شأن القيصر أغسطس وإذ وقع في نفسه أن الغوت لا يعرفون النظام والترتيب ليخضعوا للقوانين عقد العزم أن يفادي بقوى الغوت لتوطيد سلطة الرومان وزيادة نفوذهم فكان يطمع أن يكون مصلح الإمبراطورية بدون أن يكون لهم منزع سياسي بل لمجرد أنهم كانوا يرجون أن تكون حالهم فيها أحسن من جرمانيا ولكن نشأت من نزولهم البلاد نتائج لم يتحدث بها أحد إذ ذاك. البربرية - كان من أقرب النتائج أن تصبح الإمبراطورية إلى التوحش أقرب منها إلى المدنية فمضى زهاء قرن وعصابات مسلحة تطوف البلاد أنواع التطواف تحرق المدن وتخرب المصانع وتقتل الحراثين أو تسوقهم أمامها ولقد أبقى الوانداليون أخوف ذكرى حتى غدت لفظة وانداليسم تطلق للدلالة عَلَى التكالب في التخريب. وكان يقول الهونس وهم شعب من فرسان التتار أن العشب لا ينبت البتة في التربة التي وطأتها حوافر

خيولهم. فقد خربت مدن كثيرة ولم تقم لها قائمة وبعضها تراجع عمرانه حتى غدا بمثابة دساكر حصينة فخربت دور التمثيل والحمامات والمدارس وجميع المصانع الرومانية شيئاً فشيئاً واتخذ السكان في كثير من المدن أحجارها ليبنوا به أسواراً وهلك أرباب الصناعات النفيسة فلم يبق سوى صناع قليل عددهم لا يستطيعون أن يبنوا إلا مباني ليس عليها مسحة من الذوق والجمال. واضمحل كل ما يقال له مشاهد ومدارس وأدب وغدا سكان الإمبراطورية يشبهون البربر. قال أحد القسيسين ممن كتبوا تاريخ ملوك الميرفيجيين والسف آخذ منه كل مأخذ: لقد هرم العالم وانثلمت فينا حاسة النكات البديعة فما من امرئ لعهدنا تحدث نفسه أن يبلغ مستوى خطباء الزمن الماضي. شعوب جديدة - قضى البربر في أوربا عَلَى نظام الإمبراطورية الرومانية فجاءت سنة 476 وليس في رومية إمبراطور وكل ملك من ملوك البربر سيد في الأرض التي نزلها قومه فانقسمت الإمبراطورية إلى عدة ممالك بربرية فنشأت في غاليا ممالك الفرنك والبورغوند وفي بريطانيا العظمى السبع ممالك من الإنكل والسكسون وفي إسبانيا مملكة ألويزغوت وفي أفريقية مملكة الواندال وفي إيطاليا مملكة الأوستروغوت ثم مملكة اللومبارديين وكثير من الممالك اضمحلت ودخلت في مملكة مجاورة ولكنه نشأت في كل أمة مستقلة عَلَى الأقل لها حكومتها وصناعتها وآدابها. أخلاق جديدة - انتهت أيام المدنية القديمة بدخول الجرمانيين إلى الإمبراطورية وليس ذلك أن الجرمانيين حملوا مدنية جديدة كالرومان إلى غاليا ولا أنهم اتخذوا العادات القديمة كما اتخذ الفرس عادات آسيا بل إنهم أتوا ولهم عادات في الحياة والحومة تخالف ما ألفه الرومان فيما انخفض من بلاد الإمبراطورية. فكزان أرباب الأملاك من الرومان يعيشون في المدن عزلاً من الأسلحة خاضعين لنظام الإمبراطور أما الجرمانيون فقد ظلوا يحملون أسلحتهم ونزلوا القرى وكان كل واحد في حلته جند من الخدمة المخلصين وكل امرئ سيد في أرضه لا يخضع البتة للحكومة وهم محتفظون بعاداتهم الجرمانية من عدم أداء الضرائب وبذلك قضوا عَلَى نظام بيت المال وعَلَى الاستبداد الإمبراطوري ومن هؤلاء المحاربين القرويين خرج فيما بعد الفرسان الأشراف.

وكان أصحاب الملاك من الرومانيين يحرثون أراضيهم بواسطة جماعة من العبيد أما الجرمانيون فكانوا يعتمدون في استثمار أراضيهم عَلَى أناس من المستعمرين أي عَلَى مزارعين تناوبون حراثتها بالإرث. فلم يبطلوا العبودية من الإمبراطورية بل تركوا العبيد يصبحون بالتدريج خدمة ثم مزارعين يملكون الأرض التي يتوفرون عَلَى زراعتها. وعليه لم يأت البربر بعقائد ولا باختراعات جديدة بل جاؤوا بدلت حالة أرباب أملاك الأراضي والفلاحين وغيرت جميع قواعد الحكومة. فغارة البربر حادث عظيم في تاريخ المدنية لأنه جدد المجتمع والحكومة في أوربا لكنه كما يحدث في التغييرات الكلية قضت الحال بمرور عدة قرون لإدراك نتائج ذاك التغيير. كيف دان الجرمانيون بالنصرانية الأرباب الجرمانيون - كان الجرمانيون كاليونان والرومان يعبدون أرباباً كثيرين يمثلونها في صورة بشرية فالأرباب الجرمانيون يؤلفون أسرة بأسرها وعندهم أن وتان والد الجميع ورب الحروب محارب أعور يتقلد رمحاً يخرق الهواء ولا يرى بل يركب عَلَى حصان أبيض وكان دونار أحد أبنائه ذا لحية حمراء وهو رب الرعد والعواصف ويسير في مركبة ويقذف المطرقة المخربة التي تعود إلى يده من تلقاء نفسها. وكان الرب تير أو ساكسنوت رب السيف والمغازي وفرير عَلَى العكس هو الرب الجميل المسالم اللطيف ينضج المزروعات ويشفي الأمراض وبالدير رب الحكمة والعدل والصلاح يتولى نصح سائر الأرباب. وهناك ربات مثل الربة مريغا امرأة الرب وتان وهي قاسية محترمة تترأس حفلات الزواج والربة فريا وهي فتاة بارعة الجمال لطيفة الشكل يسر مرآها الأرباب. وكانت هذه الأسرة السماوية تسكن قاعة علوية اسمها ألوالهالا حوائطها ذهب وسقوفها فضة ويربط تلك العلية بالأرض التي يسكنها البشر جسر وهو قوس قزح الذي يجتاز عليه الأرباب ويجلس الرب وتان في هذه القاعة عَلَى منصة من ذهب يحف به من الأرباب ذكورهم وإناثهم أولوالكلور وهن مرسلات سماويات وبنات الحروب والغارات مسلحات بالتروس والرماح راكبات عَلَى خيول مطهمة قاصدات إلى ساحة الوغى يلتقطوا من قضوا فيها وهم يحاربون ويأتين بهن إلى قاعة ألوالهالا حيث ينالون مكافأة عن شجاعتهم وهناك يعيشون بالقرب من الأرباب في المآدب التي يأدبها الربات المعروفات باسم والكلور

يسقينهم شراب العسل والجعة. ونحو الشمال من أعماق الأرض جهنم مظلمة يكثر زمهريرها اسمها نيفلهيم أي مسكن الضباب وفيها ينزل رب الشر ويدعى لوكي مع ولديه فنريس الذب المفرتس وهولا ربة الموت التي يمثلونها بان نصفها أسود تأكل في صفحة الجوع ولا تترك ما تتناوله بتة. وإلى هذا المسكن الهائل يذهب المحاربون الأشرار الذين تساهلوا بأن تجرعوا كأس الحمام بسبب مرض أو شيخوخة. وغلب الرب وتان الرب لوكي وربطه إلى ثلاث صخرات ذات زوايا مع حية تقطر سمها عَلَى رأسه ولكنه يرجى له الخلاص ذات يوم ويأتي مع الجن والشياطين الشريرة عَلَى سفينة بنيت بأظافر الموتى يهاجم الأرباب الساكنين في أوالهالا وبذلك تسقط الشجرة الكبرى التي تمسك العالم من السقوط ويحترق قصر الوالهالا ويغلب الأرباب عَلَى أمرهم وهذا ما يسمونه عندهم شفق الأرباب ثم تتجلى أرض أحسن من تلك تخرج من البحر المحيط مع أرباب جدد. العبادة - لم يكن للجرمانيين أصنام ولا شادوا لهم معابد لهم بل كانوا يعبدون أربابهم عَلَى الجبال أو في الغابات بالقرب من شجرة أو عين مقدسة وكان رأس كل أسرة يقيم باسمه الصلوات ويقدم القرابين ولم يكن عندهم كهنة جرمانيون في جرمانيا نفسها الماندرا حتى أن العصابات التي دخلت منهم إلى الإمبراطورية الرومانية لم تصحب معها أحداً منهم. ودين مبهم إلى هذا النحو لا يهتم أحد للدفاع عنه فلم يكن من شأنه أن يقاوم طويلاً ولذا كان الجرمانيون عندما داهموا الإمبراطورية ومستعدين لأن يدينوا بالنصرانية. البرابرة الآريون - لما نزل برابرة الشمال الأرض الرومانية دانوا إلا قليلاً بالكثلكة بل بشيعة الآريوسية فد كان الوزيغوتيون في إسبانيا والسترغوتيون في إيطاليا والبورغونديون في غاليا والوانداليون في أفريقية بل واللومبارديون الذين أتوا في القرن السادس كلهم من المذهب الآريوسي. والظاهر أن الجرمانيين صعب عليهم أن يقبلوا بالرمز الذي جرى التواطؤ عليه في مجمع نيقية وربما كرهوا التصديق بان الابن مساوٍ للب. وكان رعاياهم الرومان أرثوذكسيين في مذهبهم وقد أدى هذا الاختلاف في الدين مدة تزيد عن قرون إلى حروب واضطهادات وكثيراً ما كان أحد ملوك البرابرة يأبى تعيين الأساقفة الأرثوذكس وقد بقي كرسي قرطاجنة خالياً مدة أربع وعشرين سنة لم يكتف جنزيك ملك الواندال بنفي

الأساقفة بل رأى أن ينفذ عَلَى رعاياه الكاثوليك الأوامر التي كان طبقها الإمبراطرة عَلَى الملاحدة ومع هذا كتبت الكثرة للكثلكة عَلَى المذاهب النصرانية الأخرى ودان بها بالتدريج الملوك الآريوسيون وتمذهب بها شعوبهم فانتحل البورغونديون هذا المذهب في أوائل القرن السادس وانتحله ألوزيغوتيون الإسبانيون في سنة 589 واللومبارديون في أواسط القرن السابع أما سائر الممالك فقد خربتها جيوش الإمبراطور يوستنيانوس. انتحال الفرنك (الإفرنج أو الفرنك أو الإفرنسيس) للنصرانية - بقي الفرنك الذين نزلوا غاليا من الشمال عَلَى وثنيتهم. وقد فضل الأساقفة الأرثوذكسيون هؤلاء الوثنيين الذين كانوا يؤملون تنصيرهم بدلاً من البرابرة المسيحيين الذين ظلوا عَلَى أريوسيتهم ورضي أحد زعماء العصابات الفرنكية واسمه كلوفيس أن يتعمد عَلَى يد أسقف ريمس القديس ريمي فحذا حذوه ثلاثة آلاف رجل ولم يلبث زعيم العصبة هذا وقد عضده رجال الكهنوت الكاثوليكي أن أصبح وحده ملك غاليا كلها ومنذ ذلك العهد أصبح جميع ملوك الفرنك من نسل كلوفيس مسيحيين وعضدوا الكنيسة الأرثوذكسية وكان ذلك من جملة الأسباب في نجاحهم أما أمة الفرنك فقد أبطات في انتحالها هذا الدين فظل كثير من المحاربين زمناً طويلاً نعَلَى وثنيتهم ومنهم من كان من حاشية الملك. وفي أواسط القرن السادس صادفت الملكة رادغوند وهي مسيحية غيورة عَلَى الطرق العامة جنائز وثنية فأمرت المحاربين من أهل موكبها أن يأتوا عليها فقام الفرنك بسيوفهم وعصيهم. ومضى زهاء قرنين أي من القرن السادس إلى السابع حتى غدا الفرنك كلهم مسيحيين. قاعدة القديس بنوا - أنشئت في إيطاليا وإسبانيا وغاليا أخويات قسيسين ولكت العيشة التي يعيشونها في هذه الديار من بلاد الغرب لم تشبه عيشة النساك في ثيبة وفي أواخر القرن الخامس انقطع أحد أشراف الإيطاليين واسمه بنوا (480 - 543) إلى جبل كاسين في بلاد نابولي وذلك بعد أن عاش بضع سنين متنسكاً في غار وسط الصخور وكان ثمة معبد وغابة عَلَى اسم أبولون فنصر بنوا فلاحي ذاك الجوار وأمرهم بأن يخربوا ذاك المعبد وأقام بدلاً منه كنيستين وديراً عظيماً وغدا بنوا رئيس أخوية كبرى وانشأ نظاماً طويلاً لقسيسه قاضياً عليهم أن يتخلوا عن الدنيا وعن الأسرة والملك وأن لا يملكوا شيئاً لأنفسهم حتى ولو الصفائح (السفورات) والمناقش التي يكتبون بها وأن يلبسوا كساءً من الصوف الخشن أو

مسوحاً ذات قبعات (أسكيم) كان يلبسها الفلاحون وأن يخضعوا بدون تردد كل ما يصدر عن الرئيس من الأوامر قال القديس بنوا في المدخل: اسمعوا أيها الأبناء أوامر الرب ولا تخافوا من الائتمار بأمر أب صالح والعمل به وذلك حتى يقودكم الخضوع التام إلى ما أبعدكم عنه العقوق والكسل. وقد سمى الدير مدرسة العبودية الإلهية وفي ذلك لم يأت القديس بنوا شيئاً سوى الجري عَلَى مثال رهبان المشرق ولكنه يختلف عنهم في كيفية استعمال الوقت فبدلاً من التأمل وأعمال النسك أمر بالعمل قائلاً أن الكسل عدو الروح وعَلَى الجملة فإن حياة الراهب داخلة تحت القاعدة ساعة فساعة فعليه أن يعمل كل يوم بيديه سبع ساعات ويقرأ ساعتين وينقسم اليوم إلى سبعة قداديس يبدأ الأول منها في الساعة الثانية ليلاً. وإذا أراد رجل أن يدخل في هذه الطائفة يدخل فيها عَلَى سبيل التجربة مبتدئاً وبعد شهرين تتلى عَلَى مسامعه قاعدة: هذا هو القانون الذي يجب عليك أن تقاتل تحت لوائه فإن كنت في مكنة من الاحتفاظ به فادخل وغلا فأنت حر أن تذهب من هنا بسلام. وبعد سنة يوقع عَلَى عهد يضعه عَلَى المذبح بحضور جميع القسيسين ثم يركع أمام كل واحد منهم عَلَى حدته ومنذ ذاك اليوم يوقن بأنه لم يعد يملك شيئاً حتى ولا جسمه. ولم تلبث أن أصبحت قاعدة القديس بنوا قاعدة عامة عَلَى رهبان الغرب اتخذتها جميع الأديار القديمة وعليها أنشئت جميع الأديار الجديدة وأصبح بعد حين عامة رهبان الغرب من البندكتيين. الرهبان البندكتيون - عاد قسم من بلاد غاليا وإيطاليا في القرن السادس فأصبح خراباً يباباً وغشت الغابات العظيمة البلاد فدخل الرهبان الذين يحبون العزلة تلك القفار وبين العوسج والشوك يقيمون لهم معبداً وبعض الأكواخ ثم يأخذون بإحياء موات الأراضي المجاورة وكثيراً ما يعطيهم أحد الملوك أو الكونتية أو أرباب الأملاك بقعة واسعة (إذ كانت قيمة الأرض رخيصة إذ ذاك) فيؤسسون ديراً جديداً. ولقد كان الرهبان ينشئون الأهراء وفرناً ومطحنةً ومخبزاً ويحرثون الأرض ويصنعون الألبسة ويعملون حجار الطاحون والصناعات النفيسة وينسخون المخطوطات فكانت أديارهم حقولاً أنموذجية كما هي معمل وخزانة كتب ومدرسة وتتألف من العبيد والمزارعين في أصقاعهم قرية كبرى هكذا نشأت في فرنسا مئات من المدن حول الأديار وكثير من المدن سميت باسم القديس رئيس ديرها الأول (سان أويمر سان كلود رسيمرون) وأنشئت ألوف من الكنائس الخورنية عَلَى يد

بعض أديار البندكتيين. تنصر الإنكليز السكسونيين - يروى أن القديس غريغوريوس رأي قبل أن يصبح بابا وهو في سوق العبيد في رومية أولاداً شقراً بيض البشرة يباعون فسأل من أين أتى بهم فأجيب بأنهم آنكل فقال: لقد دعوا بأجمل السماء فهم حقاً ملائكة فهل هم مسيحيون؟ فقيل له أنهم وثنيون بعد. فأجاب هل من الممكن أن تحتوي هذه الجبهات الجميلة ذكاءٍ محروماً من نعمة المولى. ومنذ ذاك الحين رأى أن ينصر الإنكليز فلما غدا بابا بعث أربعين قسيساً يقودهم أغسطينوس إلى أحد ملوك بلادهم فوصل المرسلون يحملون لوحة رسم عليها المسيح فجمع الملك مجلس العظماء وسألهم فيما إذا كان يقتضي قبول الدين الجديد فوقف أحد الزعماء في المجلس فقال: ربما ذكرت شيئاً أيها الملك يحدث أحياناً في نهار الشتاء عندما تكون جالساً إلى منضدة مع مقاتلتك ونارك موقدة وغرفتك دافئة والسماء تمطر وتثلج والريح زعزع في الخارج وبينا أنت كذلك يطير طائر صغير فيجتاز الغرفة داخلاً من باب وخارجاً من آخر وهذه اللحظة التي يقضيها الطائر وهو داخل الغرفة تحلو له فلا يشعر قط بالمطر ولا ببرد الشتاء ولكن هذه اللحظة قصيرة لأن الطائر لا يلبت أن يهرب ويعود إلى الشتاء الذي كان فيه وعلى هذه المثال أرى حياة الناس في الأرض بالنسبة للوقت غير المؤكد الذي يمر في الآخرة فظاهر أن الحياة قصيرة ولكن أي وقت يجيء بعدها وأي وقت مضى قبلها هذا أمر نجهله فإذا كان هذا الدين الجديد يفيدنا في ذلك أموراً آكد فهي جديرة بأن تنتحل ويدان بها وكانت النصرانية تروق هؤلاء البرابرة الجديين لأنها تحدثهم عن اليوم الآخر. وقد نصح البابا المرسلين المسيحيين أن لا يناقضوا المعتقدات القديمة قائلاً يجب الاحتراز من تخريب معابد الأوثان بل الواجب تطهيرها وتخصيصها بعبادة الإله الحقيقي لن الأمة كلما رأت أماكن عبادتها القديمة باقية تكون أكثر استعداداً إلى الاختلاف إليها للألف والعادة فقد اعتاد رجال هذه الأمة أن يذبحوا البقر ضحايا فالواجب أن يبدلوا هذه العبادة بزياح مسيحي دعوهم ينشئون أكواخاً من أوراق الشجر حول معابدهم المحولة كنائس يجتمعون فيها ويقودون إليها حيواناتهم التي يذبحونها لا عَلَى سبيل ضحايا للشياطين بل عَلَى سبيل الله تعالى. ولم يضطهد الإنكليز السكسونيين المرسلين المسيحيين عَلَى أنهم لم يتنصروا إلا ببطء فهناك كان الملوك ولاسيما الملكات تحمي الديانة الجديدة

كما هي الحال في غاليا ولكن المحاربين لم يهتموا لقبولها. المرسلون الأيرلنديون - دانت إيرلاندة بالنصرانية منذ القرن الخامس وكانت إذ ذاك مشهورة بأديارها العديدة وحمية كنائسها الدينية فكانت تلقب بجزيرة القديسين فسافر مرسلون من أديار إيرلندا ونصروا جميع برابرة بريطانيا العظمى فالتقوا إذ ذاك بالمرسلين القادمين من رومية. وكان لكنيسة إيرلندا ومؤسسوها مسيحيون من أهل آسيا بعض عادات شرقية فتحتفل بعيد الفصح مثلاً في غير الوقت الذي تحتفل فيه كنيسة رومية واصطلحت عَلَى وضع إكليل الإكليروس عَلَى مقدم الرأس بدلاً من الإكليل عَلَى صورة تاج. وهذه الاختلافات في الصورة دعت إلى اشتداد الاعتراك بين المرسلين الايرلنديين والمرسلين الرومانيين فيحضر البرابرة نزاعهم بحسب ما لكنائسهم من المكانة وإليك ما ذكره أحد الكتاب الأرثوذكس من نزاع عظيم وقع في وتبي سنة 644 بحضور جميع مجلس الشعب. صرح كولمان الأيرلندي بان مواطنيه لا يستطيعون أن يغيروا طريقتهم احتفالهم بعيد الفصح لأن ذلك مما ألفه آباؤهم فأجابه ويلفريد السكسوني: إننا نحتفل بعيد الفصح كما رأيناه يحتفل به في رومية حيث عاش الرسولان بولس وبطرس وكذلك في غاليا وجميع الإمبراطورية والبروتون فقط يعاندون في مشاكسة بقية العالم وبعد فهل في المكنة أن يفضل أبوك كولومبا عَلَى قدسية فيه عَلَى السعيد أمير الحواريين الذي قال وله سيدنا يسوع: إنك بطرس (ومعنى بطرس الحجر) وبك يا حجر أبني كنيستي وأدفع إليك مفاتيح ملكوت السماوات - فسأل الملك حينئذ ذاك الأيرلندي قائلاً: أمحقق أن هذه الكلمات قالها سيدنا المسيح للقديس بطرس؟ - نعم صحيح ذلك - هل في وسعك أن تبرز لي حجة في مثل حجة كولومبا؟ - لا أستطيع - أنتم عَلَى وفاق بأن مفاتيح السموات أعطيت لبطرس - نعم - إذن هو بواب السماء ولا أريد أن أنازعه في قوله بل احجب أن أخضع له في كل أمر مخافة ألا أجد أحداً يفتح لي أبواب ملكوت السموات عندما أصل إليها. وهذه الحجة كانت بحسب درجة ذكاء البربري فاستحسن المجلس الخطاب وعزم أن يقبل في المملكة بأسرها العادات الرومانية وانتهت الحال بغلبة الرومانيين (في أوائل القرن الثامن) ومنذ ذاك الحين خضعت للبابا كنيسة بريطانيا العظمى بأجمعها. تنصر الجرمانيين في ألمانيا - كان يتألف من الجرمانيين الذين تخلفوا في ألمانيا عدة أمم

كلها وثنية في القرن السادس وبدأ قسيسون إيرلنديون بتنصرهم فسكن القس غال بين السواب بالقرب من بحيرة كوستانس في المكان الذي أنشئت فيه البيعة التي نسبت إليه. ونصر كيليان الفرنكونيين في بلاد مين ثم استشهد وتمكن القديس ولفران من عزم دون دي فريزون رادبود عَلَى تعميده وبينا كان الدوق يدخل إلى القبو سأل أين بقي أجداده فقيل له أنهم في جهنم فقال أنا أريد أن أصبح مسيحياً حتى لا أنفصل عن أجدادي. واستحق وينفريد من الإنكليز السكسونيين الملقب ببونيفاس الملقب برسول الجرمان إذ أرسله البابا إلى إنكلترا كما أرسل أوغستيتنيس يحمل هذه الرسالة: رغبنا في أن تتمتعوا معنا بالأبدية فبعثنا إليكم بونيفاساً يعمدكم ويعلمكم إيمان الرب فأطيعوه في كل ما يأمر ووقروه كما توقروا أباً واسمعوا مواعظه ثم أن بونيفاساً أوصى به شارل مارتن زعيم الفرك زعماء الجرمانيين وبفضل هذه المعاضدة تمكن من الدخول في قلب ألمانيا وعقد اجتماعات وفوض الأشجار المقدسة ومنع عبادة الأصنام وبذلك تيسر له أن ينصر شطراً من الزعماء والشعب في بافيرا وتورينغ وهس ثم سكون في المايانز ملقباً برئيس الأساقفة. وقد بقي السكسون شعباً وثنياً في بلاد ويزر (فيستفاليا وهانوفر) وبعد حروب دموية اضطر شارلمان زعماءه أن يتعمدوا ثم أسكن أساقفة وقسيسين في جميع البلاد ثم أفضل عليهم بما يمنع عنهم الحاجة وقضى بأن يقتل كل سكسوني يعبد أربابه القديمين أو يعمل القيام بالصيام الذي شرعته الكنيسة فمن ثم أصبحت ألمانيا كلها مسيحية وغدت كإنكلترا متعلقة برومية وخاضعة للبابا وأرسلت ألمانيا أيضاً مرسلين ذهبوا فنصروا الوثنيين في بلاد اسكاندنافيا ومقاتلين راحوا لتبديد شمل الوثنيين من السلافيين أيضاً. الإسلام دين العرب الأول - انتهت تخوم المملكة الرومانية في الشرق عند رمال بلاد العرب فظل هذا الشعب مستقلاً بربرياً منقسماً إلى عدة قبائل وكان لسكان الساحل من العرب بعض مدن صغرى تعرف بالزراعة وتبعث بقوافلها إلى الغرب تحمل إليهم البن والبخور والتمر ويطوف سكان الداخلية القفر بمواشيهم مسلحين راكبين صهوات خيولهم نصفهم رعاة والنصف الآخر قطاع طريق (كما هي عيشة البدو إلى اليوم) ويقتتل العرب فتقاتل القبيلة ولكن يعتبرون أنفسهم بأجمعهم من عنصر واحد وهو كالإسرائيليين من العنصر الذي

نسميه العنصر السامي ويمتاز عن آريي الهند وأوربة امتيازاً ظاهراً بلغته ودينه. ولقد كانت الغرب كلها تعبد إلهاً قادراً خارقاً وهو الله تعالى ولكنها تتعبد للجن خاصة وهي أرواح لا ترى وكان لكل قبيلة إله خاص تعبده في صورة نجم أو حجر أو صنم ولكنهم كلهم يرجعون في عبادتهم إلى الكعبة في مكة وهي البيت المتفق عَلَى تعظيمه عندهم والكعبة معبد عَلَى صورة الكعب أو زهر النرد حوائطها من حجر غير نحيت مغشاة بأقمشة من الصوف ويحفظون فيها الحجر الأسود المشهور المحترم عند العرب اجمع (وهو قطعة من حجر بركاني تحتت اليوم إلى اثنتي عشرة قطعة (كذا)) وقد وضعت كل قبيلة في الكعبة صنماً هاصاً بها ويقال أنه كان تفيه 360 صنماً ومنها صنم لإبراهيم وصورة العذراء مع ابنها يسوع وأنشئت قريش مدينة مكة الصغرى حوالي القرن الخامس في الوادي الضيق الذي تحيط به الصخور القاحلة محيطة بالكعبة ويقام بها كل سنة سوق وأعياد يتنافس بها الشعراء وتبطل في خلال ذلك الحروب فمكة كانت هي المدينة المقدسة التي يحج إليها الناس من أقطار بلاد العرب كافة. محمد (عليه الصلاة والسلام) - ولد محمد في قبيلة قريش المقدسة وهم سادة مكة وسادة الكعبة المقدسة بين سنتي (569 - 571) وعاش وهو اليتيم الفقير إلى سن الأربعين لا شأن له. وكان رجلاً جباناً سوداوياً تنتابه عوارض من الحمى ونوبات عصبية وكان حنفياً أي كافراً بعبادات العرب ويسمون بهذا الاسم من لا يعبد الأصنام بل يبعد إلهاً واحداً رب إبراهيم والد العنصر العربي. وكزان رجال قبيلة محمد تنظر إليه بغير عين الرضى فسكن بين الصخور الجرداء المحرقة وفي سنة 611 بحسب الرواية العربية حلم محمد بأنه صاحب دين وظهرت له روح فائقة في قوتها سماها محمد بعد ذلك الملك جبرائيل قالت له: اقرأ فقال محمد: ما أنا بقارئ. فقال له اقرأ. ومنذ ذاك لعهد رأى محمد نفسه بأن الله عهد إليه مباشرة بنشر الدين الحقيقي فبدأ يدعو زوجته وبناته فوراً ثم أصحابه ورجال مكة فقاومه زعماء القبيلة أجمع فاضطر إلى الهجرة إلى المدين (سنة 622) وإذ كان أهل المدينة أعداء لأهل مكة اعترفوا بنبوته وأخلصوا له الطاعة وأحاط المدنيون بالرسول في ثمانين من أصحابه هاجروا من مكة يتبعونه فبدأ إذ ذاك يناوش قوافل مكة القتال ويغزوها مما انتهى بخضوع مكة ثم حمل جميعاً لعرب عَلَى قبول دينه.

ولم يقم محمد بمعجزات ولم يدع أنه روح إلهي بل كان يرى نفسه فقط رجلاً ملهماً يتكلم ويعمل باسم الله تعالى ويظهر في مظهر الرسول والمصلح قائلاً أن الدين الحق كان منذ عهد آدم وهو أن يعتقد بواحد أحد وأن يخضع لأوامره التي تبلغها للبشر عَلَى لسان أنبيائه فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى كانوا رسلاً. وما اليهودية والنصرانية إلا أوهام مطلقة بل أشكال محرفة من دين الله الحق وهذا الدين الأبدي هو الذي جاء محمد يدعو إليه لخلوه من التحريف فهو خاتم النبيين وأعظمهم وباسم النبي عظمه أتباعه. وقد أخذ جانباً من تعاليمه عن التوراة والإنجيل ولذا ساغ أن يقال أن محمداً مبتدع مسيحي والإسلام بدعة من البدع النصرانية عَلَى اصطلاح العرب. القرآن - كان محمد أمياً فإذا أوحي إليه ودعا إلى دينه كانت تنقل كلماته فكتبت عَلَى الحجارة وورق النخيل وعظام الجمل. والقرآن (الكتاب) هو مجموع هذه القطع ضمت بعضها إلى بعض لا عَلَى الترتيب الذي أملاه محمد بل بدءاً بأطولها ولم تجمع إلا بعد وفاة محمد عَلَى يد أمين سره زيد وبعد حين دونه الخليفة عثمان تدويناً رسمياً وهذا هو الذي نراه بين أيدينا وفي القرآن مواعظ وقصص وقواعد وأحكام وبعثرة متفرقة فهو في آن واحد كلام متنزل في الدين والأخلاق والنظام والدستور. الإسلام - يسمى الدين الذي دعا إليه محمد دين الإسلام أي الاستسلام لإرادة الله تعالى والذين يدينون به يسمون المسلمين (أي المستسلمين) والإسلام عبارة عن هذه الكلمات: لا إله إلا الله محمد رسول الله فالواجب إذن الاعتقاد بالله الذي خلق العالم ويدبره وهو عَلَى عرشه والملائكة حافون به يجب الخضوع لإرادته التي أبلغه الناس عَلَى لسان أبيائه وقد جاء القرآن بأوامره الكتاب الذي يحوي الحقيقة ومن يعتقد بالقرآن ويأتمر بأوامره الإلهية ينال الزلفى من المولى تعالى ويكافأ عَلَى عمله ومن يختل إيمانه لوم يخضع لسلطانه فهو مذنب مع الله يعاقبه ويجازيه. وسيأتي يوم القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش فأما من ثقلت موازنه في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، وما أدراك ماهية، نار حامية. . . وسيق اللذين كفروا إلى جهنم زوراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات

ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب عَلَى الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق اللذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبابها وقال تلهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين. . . أولئك المقربون في جنات النعيم. . . متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكوابٍ وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. . . وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم. أما العبادات فهي فسهلة للغاية فليس المؤمن أن يصلي خمس مرات كل يوم في أوقات معينة وفي كل مدينة إسلامية يدعو المؤذن إلى الصلاة من أعلى المسجد بوقت معين وعلى المؤمن أن يتوضأ للصلاة وإذا لم يكن له ماء أن يتيمم بالتراب وأن يصوم شهر رمضان لا يتناول الطعام فيه إلا من الليل في الوقت الذي لا يتبين فيه الخيط البيض من الخيط الأسود من الفجر وأن يخرج من الزكاة عشر مال (؟) عَلَى الأقل وزأن يحج إلى مكة إن استطاع للحج سبيلا. وأدب الدين الإسلامي هو ألا يرتكب المرء عملاً دنيئاً ولا يشرب الخمر ولا يرابي أن يتلقى إرادة المولى راضياً لأن كل امرئٍ لا يخرج عما كتب له في الأزل ولا سبيل له إلى التخلص من المقدور فالإسلام هو دين القضاء والقدر. انتشار الإسلام - دعا محمد سنة 611 إلى دينه وكان العرب عامة يوم وفاته سنة (632) مسلمين أسلم نصفهم عن اعتقاد والنصف الآخر بالقوة وذلك مثل أهل قبيلة التاكيفيت (كذا) فقد بعثوا يقولون لمحمد أنهم يدينون بالدين الجديد إذا رضي أن يعفيهم من الصلاة وأن يترك لهم صنمهم اللات ثلاث سنين. فقال محمد أن ثلاث سنين في الوثنية يطول أمرها فعرض التاكفيون أن يمهلوا عَلَى عبادة الأصنام سنة فوافق محمد ولما أخذ يملي عهد الصلح ندم عَلَى هذا الامتياز وقال لا أريد أن أسمع بهذه العهدة فليس عليكم إلا أن تخضعوا أو نقاتلكم فطلبوا لأن يمهلوا عَلَى عبادة اللات ستة أشهر فأبى عليهم ثم اكتفوا بإمهالهم شهراً فلم يرض أن يمهلهم ساعة فأسلم بنو التاكيفيت ودخل المحاربون المسلمون المدينة وحطموا الأصنام.

وبعد وفاة محمد أخذ العرب ينشرون الإسلام بمثل هذه الطرق ولم يبعثوا لدعوة الشعوب الأخرى إلى الإسلام رسلاً كما فعل المسيحيون بل جيوشاً فقد قال الرسول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وحرب المشركين جهاد مقدس والله مع المجاهدين ومن قتل منهم فجزاؤه الجنة. وقد عني الخلفاء بعد الرسول بهذا الجهاد فكانوا يبعثون إلى جميع الشعوب المجاورة رسولاً يعهدون إليه أن يخيرهم بين ثلاثة أمور: القرآن أو الجزية أو السيف ومن يسلم يكون كمن سبقوه بالإيمان ومن يخضعون ويؤدون الجزية يصبحون رعايا وذمة ومن يقاومون يقتلون ولم يستطع أحد أن يقف في وجه هذه الجيوش المتعصبة فغلب المسلمون في الشرق عَلَى سورية وفلسطين وجميع مملكة فارس وأرمينية وتركستان وجزء من بلاد الهند وفي الغرب عَلَى مصر وطرابلس وأفريقية وإسبانيا وخضع جميع المغلوبين عَلَى أمرهم إلا قليلاً ولم يبق مسيحيون إلا في ولايات الإمبراطورية القديمة وفي أقل من قرن (622 - 717) انتشر الدين الجديد من بحر الظلمات إلى نهر السند وما من دين انتشر بهذه السرعة ولم تلبث مملكة الخلفاء أن انهارت عَلَى الأثر ولكن ظلت جميع البلدان التي أسلم أهلها عَلَى إسلامهم. وما قط أضاع الإسلام أرضاً دخل فيها إلا إسبانيا وكثيراً ما ربح بعد أراضي جديدة فإن الأتراك حملوا هذا الدين إلى القسطنطينية ولا يزال لعهدنا يدخل أمم في هذا الدين في بلاد الهند والصين وماليزيا ولاسيما بين زنوج أفريقية. والإسلام دين سهل عَلَى مستوى ذكاء الشرقيين ويبلغ عدد المسلمين اليوم نحو مائتي مليون فإذا كانت النصرانية دين أمم الشمال فلإسلام دين شعوب الجنوب. المملكة البيزنطية المملكة البيزنطية - كاد البربر الذين أغاروا عَلَى بلاد الإمبراطورية الرومانية يوجهون وجهتهم إلا قليلاً قبل المغرب ولذا بقي في القسطنطينية إمبراطور يحكم الشرق كله. ويقي قرنان (الخامس والسادس) والإمبراطورية الرومانية محتفظة بعد بنصف مملكتها القديمة عَلَى الأقل وحكمها نافذ في آسيا الصغرى وسورية ومصر وفي جميع البلاد الواقعة شرق البحر الإدرياتيكي حتى لقد خضعت لها إيطاليا وافريقية وشطر من إسبانيا بضع سنين ثم

هاجمها المهاجمون فاغتصب منها السلافيون إيبيريا وجنوب بلاد البلقان واقتطع منها العرب جميع أفريقية وسورية وجزءاً من آسيا ولم يبق لها سوى قطعتين عَلَى جانبي مدينة القسطنطينية في الغرب تراسيا (روم إيلي) وفي الشرق آسيا الصغرى. بيد أن العاصمة أيضاًَ قاومت هجمات المهاجمين العرب وفي ذاك الحمى الأمين احتفظت الإمبراطورية الشرقية بألقابها الضخمة وحكومته المطلقة وإدارتها المعتادة. وظلت عَلَى هذا النحو إلى أن استولى العثمانيون عَلَى القسطنطينية (1453) وهذه الإمبراطورية التي أصبحت قرى بيزنطية هي التي نسميها الإمبراطورية البيزنطية. يوستينيانوس - لأن كان منصب الإمبراطور وراثياً فإنه لم يبق في الإمبراطورية الشرقية أسرة مالكة فإن دسائس القصر وثرات عامة القسطنطينية لم تكد تمكن الإمبراطور إلا في الندر من نقل سلطته إلى أسلافه فكان معظم الأباطرة مغتصبين للمك. وأشهرهم يوستينيانوس (527 - 565) وهو ابن فلاح في ولايات الدانوب كان يرعى الغنم في طفولته دخل خاله يوستن بعد رعاية الغنم في الجندية ومازال يتنقل من رتبة إلى أخرى حتى غدى تؤثورن (قائد حرس القيصر) ثم إمبراطوراً واستدعى إلى القسطنطينية يوستنيانوس الذي اشتهر ببذله المال للجند وتمثيله الملاعب أمام العامة فنودي به إمبراطوراً عقب وفاة خاله. ومن شأن يوستينينوس أن يبحث عن كل ما يزيد في إعجابه فتوفر عَلَى الشهرة بفتح البلاد وإنشاء المعاهد والمصانع وتقنين القوانين فأراد أن يكون فاتحاً عمرانياً مشرعاً. وإذ كان غير صالح للحرب عهد إلى صديقه بليزير أن يفتح البلاد باسمه وكان للإمبراطورية إذ ذاك عدوان أحدهما من الشرق وهي مملكة فارس الحربية والآخر من الغرب وهي الممالك التي أسسها البرابرة الجرمانيون في ولايات الإمبراطورية القديمة وكان ملك الفرس صاحب حول وطول جيشه قوي نظامه موطد الأركان وملوك البربر ضعفاء أخمد البذخ مقاتلتهم يمقتهم الشعب الكاثوليكي لا نظام لهم ولا ترتيب. فكان يوستينيانوس من جهة الشرق يغلب ولم يستطع بليزير غير الدفاع عن آسيا الصغرى وأن يعقد الصلح عَلَى شرط أن يدفع الجزية (533) وفي آخر مدته (562) وقع عَلَى عهد صلح جديدة متعهداً عَلَى أن يؤدي كل سنة 3000 ذهب وقد وفق بليزير من جهة ممالك البربر كل التوفيق فافتتح

مملكة الوانداليين في أفريقية (534) بحملة واحدة ومملكة الأوستروغوت في إيطاليا بعد حرب ثمانية عشر سنة (525 - 533) وتغلب عَلَى جنوب إسبانيا أخذها من صاحبها أحد ملوك ألويزغوت. فحق ليوستينيانوس أن يفاخر أنه وطد شطراً من الإمبراطورية الرومانية القديمة ولكن استيلاءه عليها لم يكن له من القوة ما يدفع به ما افتتحه من البلاد فلم يحم إيطاليا من غارة اللومبارديين ولا أفريقية من العرب. وتوفر يوستينيانوس وهو البناء العمراني عَلَى أن يدافع عن الإمبراطورية بحصون أقامها ويزين القسطنطينية بمصانع ومشاهد وحتى لا ينسى الأعقاب ما قام به من جلائل الأعمال كتب يصف كل ما بناه فكان ما بناه عَلَى شاطئ الدانوب 80 قلعة وفي ولايات أوربا 600 وأشأ السد الذي يحول الخليج الذي قامت عليه مدينة القسطنطينية وخطاً من الحصون عَلَى طول الفرات. وأهم هذه المصانع الكنيسة الكاتدرائية في القسطنطينية المعروفة بآيا صوفيا أجمل أعمال الهندسة البيزنطية (وهي باقية إلى اليوم جعلها العثمانيون جامعاً). وقد عهد يوستينيانوس إلى الفقيه تريبونين أن يجمع في مجموعتين جميع الشرائع والقوانين الفقهية فوفق يوستينيانوس بفتوحه ومصانعه وقوانينه عَلَى ما يحب أن ينال شهرة ما زالت متأثقة إلى اليوم ولن ينسى عهده وكانت أيام حكمه تعسة تزوج امرأة وضيعة اسمها تيودورا كانت تدبر أمره حسب رغبته وهام جداً بألعاب الفروسية وبالشعر حتى نسي الحكم فثار الرق ونهبوا عاصمته خمسة أيام وأوشكوا يذبحونه فاضطهد أعداءه أيما اضطهاد وأغلق مدرسة الفلسفة في أثينا واشتط عَلَى الشعب في تقاضي الضرائب وغضب عَلَى القائد بليزير الذي افتتح باسمه كل هذه الفتوحات. الأعمال التشريعية - إذا كان الأباطرة لم تبذل لهم الطاعة إلا في البلاد التي كان يتكلم فيها في اللغة اليونانية فقد ظلوا يكتبون عقودهم الرسمية باللاتينية وبقيت محاكم الإمبراطورية تحكم بالقانون الروماني ولكن لم يبقى في الإمبراطورية منذ القرن الثالث فقهاء قادرون أن يكملوا الحقوق كأتن يتفننوا بالزيادة عليها فكانوا يكتفون بتكرار تعاليم فقهاء القرن الثاني والقرن الثالث كايوس وأولبين وبول وبابنين ومودستين. وقرر الأباطرة أيضاً أن يجري عمل القضاة في المستقبل في كل المسائل التي لم يسبق للقانون أن قدر وقوعها فيتبع رأي هؤلاء الفقهاء العظام وإذا كان بينهم خلاف يجري عَلَى رأي الأكثرية وظلوا ينشرون

الأوامر ويبعثون إلى حكام الولايات أجوبة عَلَى مسائل في الحقوق تكون بمثابة قانون وله نفوذه وأحكامه. وقد ألفوا في القرن الخامس مجموعة من هذه الأوامر الإمبراطورية سموها القانون التيودوزي. وصحت عزيمة يوستينيانوس عَلَى أن يجمع القانون الروماني برمته فعهد إلى تريبوتين أن يقتطف من أقوال جميع فقهاء الرومان ومن أعمال الأباطرة ما يتألف منه هذا العمل الذي عنيت به لجنة من الفقهاء اشتغلت نحو عشرين سنة فألفت ثلاثة تآليف وهي (1ً) مجموعة الفتاوي (بندكيت) مستخرجة من أفواه زهاء خمسمائة فقيه روماني من عصور مختلفة وتقسم إلى خمسين كتاباً (2ً) قانون يوستينيانوس وهو مجموع الأوامر والتقاليد الصادرة عن الأباطرة منذ عهد قسطنطين (3ً) كتاب الأحكام وهو سفر في الحقوق ألف للطلبة. ثم أن يوستينيانوس جمع في كتاب سماء السنن عامة الأوامر الصادرة في عصره وحظر أن يذكر اسم أحد من فقهاء الرومان بعد ذلك وبهذا بطل استعمال الكتب القديمة في الفقه الروماني في المحاكم فضاعت إلا قليلاً ونحن اليوم قلما نعرف شيئاً في الحقوق الرومانية إلا ما كان من قطع في مجلة يوستينيانوس ومن أجل هذا طارت شهرة هذه المصنفات. القياصرة والشعب - أصبحت المملكة البيزنطية مع الزمن أشبه بحكومة مطلقة شرقية والإمبراطور سيدها يأمر بقتل كل من ينالهم غضبه ويصادر الأموال كما شاء هواه وله السلطة الدينية ينصب الأساقفة ويعزلهم ويتحكم في المعتقدات ويضطهد المخالفين. ويحف به كبار الضباط والموظفون والخدم فيتألف منهم بلاط ذو أبهة ويكون لكل من الداخلين فيه رتبة شرف ويقدر كل شيء فيه برسوم دقيقة والقصر يستغرق جميع الأموال التي تجيء من البلاد ولا يذكر في الإمبراطورية غير الإمبراطور وتنقضي الحياة في القصر عَلَى معالجة دسائس النساء وبطائن الإمبراطور وفي المؤامرات. فمن 109 أباطرة تعاقبوا الحكم من القرن الرابع إلى القرن الخامس عشر 34 فقط ماتوا حتف أنوفهم عَلَى سرورهم و2 تنازلوا و18 ماتوا في السجن و18 جدعت أنوفهم وقطعت أيديهم و20 خنقوا أو سموا. وندر أن خلف الإمبراطور ابنه وكل إنسان حتى الخادم والعسيف تحدثه نفسه في الوصول إلى العرش فقد كان الإمبراطور ناستازا رئيس الحجب وجوستين رعى الخنازير وفوكاس جندياً بالعرض وكثيراً ما كان يحدث لبعض المتشردين أن يتنبأ له بعض العجائز

فتصح عزائمهم عَلَى تدبير المؤامرات ليصبحوا أباطرة. ويروى أن باردانوس بينما كان عَلَى وشك الانتقاض دله أحد الكهنة عَلَى خدمته الثلاثة الذين كانوا يأتونه بفرسه قائلاً له إن هذين الاثنين يبايعان بالملك وهذا يبايع ثم يقتل. وهؤلاء الخدم الثلاثة هم ليون الخامس وميشيل الثاني وتوماس الغاصب ولذا كان سلاح الإمبراطور في الدفاع عن نفسه التجسس والتعذيب الليم فقد قطع فوكاس (603 - 680) ألسن أنصار سلفه وفقأ عيونهم وقطع أيديهم وأرجلهم وكان الإمبراطور يضربهم بالسهام أو يحرقهم بالنار وكثيراً ما كانت تجري هذه العقوبات الشديدة عَلَى رؤوس الأشهاد. وقد شهد الإمبراطور يوستينيانوس الثاني وهو مجدع الأنف مشهد الألعاب ورجلاه عَلَى رأس منافسيه في العرش ثم أمر بهما فأعدما. ووضع باسيل أعداءه المجذومين المصلوبين في الساحة العامة قابضاً بيده مبخرة فيها كبريت كان يبخر بها بعضهم بعضاً ثم اضطرهم ثلاثة أيام أن يشحذوا وعيونهم مفقوءة ويد كل منهم مقطوعة. الجيش - لم تبق في الولايات سلطة غير سلطة الجيوش يجندون من المتشردين من أهل كل بلد يدرها عليهم الإمبراطور وفيهم الأروام والفرس والعرب والأرمن والصقالبة بل والفرنج والنورمانديون وكان معظمهم فرساناً لا يؤدون الضرائب ويملكون أراضي وقد دعاهم الصليبيون الفرنسويون في القرن الثالث عشر الفرسان والشرفاء وبطلت طريقة الحكام المدنيين في الولايات وسط الحروب فكل قائد جيش يحكم عَلَى منطقة ولايته وبعضهم ينقطعون عن كل صلة عن العاصمة فيدفعون عن أنفسهم بحسب ما يتراءى لهم فكانت مناطق كالإبرا وصقلية مثلاً مستقلة حقيقة. المجاميع - حفظت القسطنطينية خزائن كتب مملوءة بنفائس قديمة وكان فيها مدارس يتخرج فيها كل من يطمعون في تولي المناصب ويقضى عَلَى الموظفين في الدولة البيزنطية أن يكونوا أدباء كما هو شان حكام الصين ويدرس الأساتذة من الكهنة إلا قليلاً علوم الدين والشريعة والرياضيات والنحو وكان بعضهم ملماً بجميع علوم عصره ولم يكن علماء بيزنطة يحاولون أن يأتوا بأعمال مبتكرة بل كانوا يسقطون عَلَى التآليف القديمة فيقبسون منها ما يجمعونه في مصنفاتهم. فقد ألف فوتيوس في القرن التاسع كتاباً سماه عشرة آلاف مصنف ووضع سيمون المترجم وهو قائد سياسي من أهل القرن العاشر

مجموعة واسعة في حياة القديسين وجمع الإمبراطور قسطنطين البورفيروجنتي مجموعاً عظيماً. وكان البيزنطيون يرجون أن يضموا في بضعة مصنفات شتات عامة علوم القدماء وهو عمل متكبرين لا عمل عالمين ولكن عملهم حفظ شذوراً من أسفار ضائعة قديمة. الصنائع البيزنطية - ظلت الإمبراطورية البيزنطية خلال القرون الوسطى بأسرها تنشئ كنائس وقصوراً وتزينها فكان المتفننون بالصناعات كثيراً عددهم ولاسيما في بلاط بيزنطة وفي الأديار بين الكهنة والقسيسين. وأعظم الصناعات البيزنطية الهندسة وأهم مصانعها كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية أنشئت عَلَى عهد يوستينيانوس وحافظ عليها العثمانيون فحولوها جامعاً. وتتألف الكنيسة البيزنطية من قبة كبيرة وسطى فيها قباب صغرى يدخل منها النور ويحيط بالقبة الكبرى عدة قباب أو نصف أقباب صغيرة وجميع هذه القباب مذهبة من الخارج تتألق أنوارها إلى بعيد وفي الداخل ترى السواري من الرخام الثمين كاليصب والسماقي وكلها ذات خطوط حمر وخضر وأرضها مبلطة بالفسيفساء المتألقة والحوائط مزدانة بصور مرصعة من ذهب. يريدون من هذا التفنن إظهار الغنى. وغدت هذه الكنائس ذات القباب المستديرة والمذهبة أنموذجا للمهندسين منذ القرن السادس إلى القرن الحادي عشر لا في الإمبراطورية البيزنطية بل عند جميع البرابرة المسيحيين في الشرق. وبقيت هذه البيع في الشرق مثال الهندسة النصرانية وجماع الكنائس الروسية كنائس بيزنطة. وما النقش والتصوير عَلَى ما كان قديماً في مصر وآشور سوى صناعات ثانوية من شأنها تزيين أعمال الهندسة وتمثل صور الجدران صفوفاً طويلة من القديسين أو احتفالات كهنوتية والأشخاص منفصلة عن التهذيب فيها جفاء وهي عَلَى نسق واحد وعيونها واسعة الأحداق وأجسامها مقرنة لا معنى لها ولا حياة فيها وكذلك تماثيل القديسين ينتقد عليها ما ينتقد عَلَى صور الأشخاص وقد انقطع أرباب الصنائع عن صنع النقوش والتصوير والطبيعة واكتفوا بنقل نموذجات مقررة مبتعدين عن الحقيقة كلما أكثر النقل والاحتذاء. حفظت في المملكة البيزنطية أيضاً جميع أعمال الزينة كالنقش عَلَى الخشب أو العاج وصناعة الحلي والزمرد وتذهيب المخطوطات. ودام أرباب الصناعة من البيزنطيين مدة خمسة قرون من القرن السادس إلى القرن الحادي عشر مستأثرين بصنع ما يحتاجه الملوك

والأساقفة ورؤساء الأديار من البربر في غاليا وجرمانيا يعملون لهم زين البيع وبيوت الذخائر والكؤوس والعروش والتيجان والمخطوطات الثمينة وكان إذ تخرج أناس في الصناعة ببلاد الغرب يبدءون باحتذاء مثال الكنائس البيزنطية. كنيسة الشرق - لم تشأ الكنائس النصرانية في الشرق أن تخضع للبابا في رومية بل كانت ترجع إلى أساقفة المدن الكبرى (القسطنطينية والقدس وأنطاكية والإسكندرية) يدعونهم بطاركة وفوقهم الإمبراطور رئيس الكنيسة وهو ملك عَلَى الأجسام كما هو ملك عَلَى الأرواح عَلَى نحو ما هو حال قيصر روسيا إلى اليوم بل هو المرجع في حسم المسائل الاعتقادية. وقد أصدر زينون سنة 482 في الجدال الذي ثار بشأن طبيعتي المسيح أمراً قاضياً عَلَى الفريقين أن يقبلا بقانون عام وبعد مئة وخمسين سنة من هذا التاريخ والمسيحيون يتناقشون فيما إذا كانت للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتان اصدر هيراكلوس سنة 639 أمراً يقضي بأن للمسيح طبيعتين ولكن له إرادة واحدة فنشأت من ذلك بدعة جديدة وانقسمت كنيسة الشرق إلى عدة شيع فكان النساطرة يقولون بأن في المسيح طبيعتين الأولى إلهية والثانية بشرية وأن العذراء ليست أم الله بل أم المسيح وأسسوا الكنيسة الكلدانية نصبوا زعيمها في بابل. وقال القائلون بطبيعة واحدة في المسيح أن ليس فيه من الطبائع إلا الطبيعة الإلهية وهؤلاء أسسوا كنائس مصر وأرمينية وسورية (تحت اسم اليعاقبة) والقائلون بطبيعة وحيدة في المسيح اعتقدوا بأن له طبيعتين وإرادة واحدة ولا يزال الموارنة في جبال لبنان يعتقدون اعتقادهم. فلم تحتفظ الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية بغير روم آسيا الصغرى وأوربا ولم يتيسر لها أن تظل بكنيسة الغرب والكنائس مختلفة في عدة مسائل فالغربيون لم يقبلوا بزواج القسيس ولا بعبادة الصور وزادوا إلى هذه الجملة التي قيلت في مجمع نيقية الروح القدس منبثق من الأب قولهم ومن الابن أيضاً ولم يرض أحد الفريقين أن يتنازل عن دعواه ومنذ ذهاب الإمبراطور من رومية كان يعترف البابا وأساقفة إيطاليا بإمبراطور القسطنطينية عاهلاً عليهم ولكن لم يقبلوا بأن تحكم الإمبراطورية في الكنيسة وأن نفض مسائل الإيمان والقوانين. وأصبحت الصلاة نادرة ومتعذرة بين البابا والمشارقة ثم جاء إمبراطور من

القائلين بتحطيم الصور فأمر سنة 728 بأن لا يكون في البيع أقل تمثيل من تماثيل المسيح بل ولا العذراء ولا القديسين وأن تحطم التماثيل وتعفى آثار الصور فحرض البابا جماعته المؤمنين أن يقاوموا هذا الفكر وشجب القائلين بحطم الصور ولما غدا أحد ملوك الإفرنج (شارلمان) إمبراطور عَلَى الغرب انقطعت كل صلة بين رومية والشرقيين. ولم تبق الكنيسة الرومية محصورة في الإمبراطورية البيزنطية بل بعثت رسلاً لتنصير البربر الصقالبة في أوربا الشرقية كما نصر مراسلو رومية برابرة الجرمان وفي أوربا الغربية فكما غدا الجرمان في ألمانيا وإنكلترا كاثوليكيا رومانيين أصبح السلافيون (الصقالبة) في بلغارياً وبلغاريا كاثوليكيا روميين ومازال هؤلاء كذلك وتسمى الكنيسة الرومية (وهي تسمي نفسها الأرثوذكسية) وعدد الخاضعين لها نحو 80 إلى 90 مليوناً. مكانة الإمبراطورية البيزنطية - جرت عادة المؤرخين عند كلامهم عَلَى البيزنطيين أن يطلقوا عليهم عبارات الاحتقار. نعم إن روايات مؤرخيهم تشعر أن هناك شعباً ظالماً نذلاً فاسداً ولكن لم يبق غيرهم باقين عَلَى شيءٍ من مدنية بجانب الغرب الذي عاد فأصبح بربرياً فهم الذين حفظوا الحضارة القديمة ونقلوها إلى اسم أوربا الحديثة وبذلك شغلوا مكانة عالية في تاريخ العالم الممدن وإليك ما أنوه من الأعمال عَلَى سبيل الإيجاز: 1ً - حفظوا من التشذيب القوانين الرومانية التي لا تزال في كثير من الموضوعات القاعدة التي تجري عليها الشعوب الممدنة. 2ً - أنقذوا صناعات القديمة وكانت تضيع آثار كتاب اليونان لولا المخطوطات التي حفظها أدباء القسطنطينية وكهنتها فالبيزنطيون كانوا خزنة كتب الجنس البشري. 3ً - أنشئوا صورة عظمى من صور الصناعة وعلى الأقل في الهندسة ونعني بذلك الصناعة البيزنطية. 4ً - أسسوا كنيسة نصرانية نصرت العالم السلافي كله تقريباً. 5ً - قدمت الشعوب البربرية في أوربا الشرقية مثالاً من أمثلة المدنية ولاسيما الروس فإنهم طالما أعجبوا بالبيزنطية واحتذوا مثالها وما البيع الروسية إلا كنائس بيزنطية وألف باء اللغة الروسية مؤلفة من حروف يونانية والدين الروسي هو الكثلكة الرومية حتى أن أسماء العماد يونانية (اسكندر. ميخائيل. باسيل. حنة) وأخذ الشعب الروسي (وهو اليوم

يناهز المئة مليون نفس) دع عنك الصربيين والبلغاريين عن بيزنطية كتابه وديانته وصنائعه. وعلى الجملة فقد كان البيزنطيون معلمي الصقالبة كما كان الرومان معلمي الجرمان. مملكة العرب الخلافة الخلفاء - فتح المحاربون العرب في أقل من قرن (630 - 713) بلاد آسيا حتى بلغوا نهر السند وجميع أفريقية الشمالية وأسبانيا وخضعت البلاد التي فتحت للخليفة زعيمهم أمير المؤمنين خليفة الرسول وأقام الخليفة أولاً في المدينة المنورة مدينة الرسول (630 - 660) ثم في دمشق (660 - 750) ثم في بغداد عَلَى عهد العباسيين وعند ذلك تجزأت المملكة فصار الخلفاء ثلاثة في ثلاث عواصم: بغداد في أسيا والقاهرة في أفريقية وقرطبة في إسبانيا دع عنك الولايات المنتفضة (مثل خراسان ومراكش) التي لم تكن نخضع لخليفة قط. والقاعدة أن ينتخب المؤمنون خليفة بإلهام من الله. قال يزيد للناس عندما بويع له: أيها الناس إني أعاهدكم أن لا أقيم قصراً ولا أجمع من حطام الدنيا فإذا قمت بوعدي فعليكم أن تبذلوا لي طاعتكم وتدافعوا عني بأنفسكم وإلا فأنتم في حل من بيعتي ولكن عليكم أن تذكروني أولاً فإذا صلحت فاقبلوا معاذيري وإذا عرفتم برجل خبرتم أخلاقه بقوم لكم بما أقوم فاختاروه وأنا خاضع له. وفي الواقع فإن انتخاب الخليفة كان حراً خالصاً فتختار الأمة الخلف الذي يعينه الخليفة السابق أو رؤساء القواد في قصر الخليفة. الحكومة - كانت الحكومة ساذجة للغاية. متوارثة خلفاً عن سلف وعلى الخليفة كل جمعة أن يصعد المنبر ويخطب الناس ويعظهم ثم تركت هذه العادة وكان عليه أن يستقبل القوم جالساً عَلَى عرش يحف به ذوو قرباه وأعاظم دولته ولكن خليفة بغداد جعل له وزيراً يكون له خادماً ووزيراً أول يسليه بحديثه ويغنيه ويلاعبه بالنرد وينوب عنه في الحكم. وهو أيضاً يقضي وقته في قصوره أو حدائقه بين نسائه يحف به حرس من الجند المأجور من الأجانب (ويدعونهم الخرس لأنهم لا يتكلمون العربية). وكان لكل ولاية قائد لجيشها يحكمها وكثيراً ما ينتفض الخليفة وفي كل حاضرة قاض

يقضي بين المسلمين عَلَى أسرع وجه بدون كتابة ولا معاملة وذلك بمراعاة أحكام القرآن والعدل. ويقال عدل قاض يريدون به العدل الموجز. وكانت العرب كالرومان يتركون الشعوب الخاضعة لهم متمتعين بحقوقهم ومحاكمهم بل أساقفتهم (وكان في خلافة بغداد وحدها 25 أسقفاً مطراناً) ويتركون المسيحيين يقومون كما يشاءون بشعائرهم الدينية مكتفين منهم بتأدية الجزية فقط وأن يحترموا المسلمين وأن لا يحملوا السيف ولا يبيعوا الخمر ولا يقرعوا نواقيسهم كثيراً ولا يتلون أناجيلهم بصوت جهوري. المذاهب - لما كان بين الشعوب المختلفة التي دانت بالإسلام كثير من الاختلاف في الأخلاق لا يتأتى معه أن يقوموا بواجباتهم عَلَى مثال واحد انقسموا إلى عدة مذاهب فقدماء المؤمنين في العادة ولاسيما العرب منهم يؤمنون مع القرآن بأحاديث الرسول وما أُثر عن أصحابه وآله فيعززون الكتاب بالسنة ومنهم اشتق اسمهم أهل السنة. لا جرم أن هذه الأحاديث التي قبلت بسائق سرعة التصديق المعهودة في الشرقيين لا يرد عهدها إلى محمد (فقد أقر أحد الوضاعين الذي قتل سنة 772 بأنه وضع 4000 حديث) ولكنها مع ذلك من أصل عربي. إما المذهب المناقض لهذا فقد تالف بعد مقتل علي فأبى أهله الاعتراف بخلفاء الأمويين في سورية ونبذوا الحديث وزعموا أنهم يتمسكون بالقرآن فدعا العريقون في الإيمان هؤلاء المخالفين شيعة أو رافضة وكان معظمهم قد أسلوا حديثاً وأكثرهم من الفرس فمزجوا الإسلام ببقايا دين زردشت القديم وادخلوا فيه حكايات واحتفالات ومعتقدات تكرهها العرب وجعل أكثرهم استنارة بكثرة تفسير القرآن وفلسفة مجازية من الدين مثل صوفية الفرس حتى لقد شبهوا هؤلاء بالإباحيين وكان من أمر السواد الأعظم كرهاً بالأمويين أن اتخذ من أخلاف علي ختن الرسول آل بيت إلهي وقالوا أن الخليفة غاصب وأن الزعيم الحقيقي من آل بيت علي وفيه السر الإلهي وهكذا جاء اثنا عشر إماماً عاشوا خاملين في المدينة ثم انقرض آل البيت فكانوا يتوقعون زمناً خروج الثاني عشر وهو محمد من مغارة بالقرب من بغداد حيث كان مختبئاً عَلَى ما يقولون ومنذ ذاك العهد أخذوا ينتظرون إماماً يأتي ذات يوم لمقاومة الشر بمعونة عيسى ويلقي السلام عَلَى الأرض وفي كل مساء يضرعون إليه أن يظهر قائلين تمثل لنا أيها الإمام فإن الإنسانية في انتظارك لأن الحق والعدل هلكا والأرض ملئت جوراً وظلماً. وهذا المسيح يسمونه المهدي (أي الرجل

الذي يسوقه الله) وقد ظهر كثير من المهديين منذ القرن العاشر ولاسيما بين مسلمي أفريقية وأنشأ أحدهم خلافة في القاهرة وأسس آخر دولة الموحدين في مراكش وقام لعهدنا مهدي جديد آخر في السودان (1884). المدنية العربية منشأ المدنية العربية - كان الإسلام كالنصرانية مباحاً الدخول فيه لكل إنسان فإذا اسلم المغلوب يدخل في زمرة المؤمنين وكانت العرب الخلص في الصدر الأول التي تدعو أنفسها السود تحتقر هؤلاء الداخلين في الإسلام المدعوين بالحمر السبال ولكن الخلفاء وضعوا مبدأ المساواة قال عمر من الظلم أن يحتقر المرء أخاه المسلم. وقد أخذ الروم والفرس ممن دخلوا في الإسلام لو ظلوا عَلَى دينهم وهم أعراق في المدينة يتكلمون بالعربية ومزجوا عاداتهم بعادات الفاتحين وخرج العرب متوحشين من قفارهم فتحضروا كما كان شان الرومان قديماً وراحوا يمدنون الشعوب البربر التي مازالت عَلَى توحشها في أفريقية كما مدنت رومية بربر إسبانيا وغاليا. بغداد وقرطبة - هذه المدنية العربية التي نشأت في الشام وفارس هي شرقية محضة فقد اقتدى خلفاء دمشق بملوك فارس فكانوا يأوون إلى قصورهم المبلطة بالمرمر الأخضر وفي وسط الفناء حوض عظيم يفيض فيسقي حديقة غاصة بالطيار وحوله عبيده يغنون فيشرب شراباً بماء الورد وكانت العاصمتان اللتان أسسهما الخلفاء وهما بغداد وقرطبة أحسن حالة فإن بغداد مدينة العجائب أنشئت في بضع سنين وكان لها أربعة أبواب من حديد تحيط بها قبة مذهبة وكان عَلَى الداخل للوصول إلى القصر أن يجتاز ثلاثة ميادين وثلاثة أبواب وكان القصر مدينة مغلقة وسط المدينة. وفي ردهة الاستقبال شجرة ذهب أغصانها الحجار الثمينة واسود مقيدة وأحواض ومياه منبجة ترطب الهواء وكان لخلفاء القاهرة حديقة أشجارها من ذهب وأزهارها من الجوهر وبلاطها من الزمرد. قالوا أنه كان في قرطبة في القرن العاشر مئة ألف دار وستمائة جامع وثمانون مدرسة وثلثمائة حمام وثمانية وعشرون ربضاً. وقد سميت الراهبة هروسويسا الألمانية مدينة قرطبة بجوهرة العالم وكان الخليفة في قرطبة كما في بغداد يستدعي الشعراء والمغنين ويعيدهم مملوءة حقائبهم من الذهب. ولأغنياء التجار أيضاً حدائق مملوءة بالزهور والشجار العطرة والبسط الفاخرة وأقمشة

الحرير وآنية الفضة وطيوب بلاد العرب التي يحرقونها في مجامر ذهب. وهكذا بذخ الشرقي يرغب في الثمين الفاخر أكثر من رغبته في الموافق السهل. الزراعة - من أول واجبات الحكومة أن تفتح الترع اللازمة لزراعة الأرض. وهذه كانت قاعدة أمراء العرب التي جروا عليها وحفروا الآبار وجازوا من عثروا عَلَى الينابيع بالمال ووضعوا المصطلحات لتوزيع الماء بين الجيران فإن مصر والشام وبابل هي من البلاد الحارة التي تخصب وأي خصب عندما يسقونها قد علمت العرب قيمة الماء وطريقة الانتفاع منه فنقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير التي تمتح الماء والسواقي التي توزعه. وإن الهورتا (؟) في ضواحي بلنسية وهو سهل مزروع كما تزرع الحديقة هو من بقايا حومة العرب وديوان المياه الذي كان يفض مسائل السقيا نظمته العرب. وقد استعملت العرب جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملت كثيراً من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوربا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها وطنية وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الصفر والعنب العطر والورد الزرق والصفر والياسمين بل والقطن والقصب وقد دخل هذان الصنفان منذ اكتشاف أميركا. الصناعة - وجدت العرب في الشام وفارس صناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت ومنها نشئت صناعة أوربا الحديثة. وكانوا يعملون في معامل الزجاج في بغداد والشام زجاجاً معمولاً بالياقوت والصدف وتخرج من معامل الأسلحة العربية الفولاذ العجمي واليطقانات المنحنية في البصرة والسيوف في اليمن ثم أخذت سورية تصنع النصال الدمشقية المشهورة وإسبانيا السيوف المسقية في طليطلة. ويحوكون في جبال آسيا الصغرى السجاد من صوف ذي وبر. وفي دمشق قماش الدمسكو وأقمشة القصب وأقمشة الحرير والصوف الدقيقة ويصنع الشاش في الموصل. وقد انتقلت الرسوم العجمية التي كانت تزدان بها هذه الأقمشة من طيور وأسود وفيلة وحيوانات ونباتات يتخيلونها (ويرد عهد بعضها إلى الآشوريين) إلى تزييناتنا الحديثة وكان يعمل الورق في سمرقند وبغداد منذ القرن العاشر وربما قلدوا في صنعه الصينيين ومن هاتين العاصمتين انتقلت صناعة الورق إلى صقلية وكساتيفا (؟) في إسبانيا. وكانت في الغرب معامل الجلد الشهيرة وهي

مثال الجلد القرطبي (الكوردواني) نسبة لقرطبة (ومن هنا اشتق بالإفرنجية اسم كوردونية أي صانع الأحذية) كما يصنع السختيان (الماروكين) نسبة إلى مراكش. ويعمل في بغداد السكر الذي كان اخترع في بلاد الفرس وكانت العرب تحسن عمل المربيات والشربة والخمور الناشفة وروح الورد. التجارة - عاش الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال عَلَى عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة يتقاضون حاصلات أرضهم ومصنوعات معاملهم ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوربا وكانت الصنائع تنقل في البحار عَلَى مراكب وفي البر عَلَى ظهور الجمال وللعرب مرفآن تجاريان عظيمان متصلان بالعاصمتين أحدهما البصرة عَلَى خليج فارس كان يفتح للعرب بحر الهند وهناك تفرغ مراكب العرب وهي قادمة من الهند تحمل العطور والأباريز والعاج وتجيء الجنوك الصينية تحمل جميع صمغ اللك والحرير وتعود بالزجاج والسكر وماء الورد والقطن. والإسكندرية هي المرفأ الثاني فتحت عَلَى العرب طريق البحر الرومي وإليه كانت تصل مراكب إيطاليا فالبصرة مرفأ بغداد والإسكندرية مرفأ القاهرة. وتسير القوافل من بغداد إلى كل ناحية فمن الجنوب الغربي تقصد إلى دمشق وسورية وإلى الشرق نحو البصرة والهند ومن الشمال إلى طربزون عَلَى البحر الأسود حيث كانت تحمل بضائع المملكة البيزنطية وإلى الشمال الشرقي إلى سمرقند وبحر الخزر حيث كان يذهب التجار ليأخذوا جلود روسيا وشمعها وعسلها. وكانت القوافل من القاهرة تسير إلى الغرب في الطريق العظيم الذي يحاذي البحر عَلَى طوله ماراً بطرابلس والقيروان لينفذ من طنجة التي كانت تصل إليها تجارة إسبانيا ومن الجنوب طريق يصعد منها إلى النيل حتى بلاد السودان وآخر يسير عَلَى الشاطئ الشرقي من أفريقية حيث أنشأت العرب مقدشو وكلوة وسفالة. ومن هذه الجهة كان يجيء التبر والعاج والعبيد. وكان في جميع المدن العظمى كبغداد والقاهرة ودمشق والقيروان وطنجة وقرطبة وسمرقند حي للتجارة (البازار) يعرض فيه التجار أمتعتهم ويتفقون عَلَى الأسعار. العلوم - يقول المثل العربي من سار في طلب العلم سهل الله له طريق الجنة وكثير من

الرجال من ساحوا أشهراً في طلب حديث روي عن الرسول وبالحقيقة أن المسلم يعنى عناية خاصة بعلم الكتاب وفي البلاد الإسلامية كما في المسيحية يفضلون تعلم الفقه. فقد كان الطالب في مدارس قرطبة يقضي أربع سنين في تعلم قراءة القرآن وثمان سنين في حفظه ثم يتعلمون الكتابة وهكذا كان يتخرج العلماء وهم علماء في الفقه والكلام إذ ليس القرآن قانوناً دينياً فقط بل هو قانون مدني. ومن دراسة تراكيب القرآن نشأ علم النحو وما برح المسلمون يبرحون من العلوم الكلام والفقه والنحو وكان في الحواضر مدارس يجتمع إليها من يرغبون في التعلم أو التعليم وهؤلاء الأساتذة المرتجلون كانوا يلقون دروسهم علناً بدون مقابل أو لقاء رواتب يدفعها عليهم الحضور. وأنشئت في القرن العاشر في بغداد ودمشق وسمرقند مدارس كلية حقيقية تدفع الحكومة رواتبهن. وحفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندرية علوم الروم من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم وأكملوها ونشروها وقد كتب أحد علماء العرب أول كتاب في الجبر ترجم إلى اللاتينية ووصف جغرافيو العرب البلاد البعيدة التي كانت القوافل تختلف إليها. واستخرجت العرب من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي الذي كان المعول عليه في القرون الوسطى وهو طب العقاقير والحبوب وكانوا كاليونان يبحثون عن داء يشفي من كل الأوصاب ولكن أهم ما غلب عَلَى العرب من علوم علم الكيمياء وكان يحببه إليهم أمران مرغبان لعقل الشرقي وهما العثور عَلَى حجر الفلاسفة الذي يحول جميع المعادن إلى ذهب والإكسير الذي يعطي الحياة ويعيد الشباب وكانوا يحاولون إخراجها بمزج كل مادة وإغلائها وتقطيرها فوقع الكيماويون في أنابيقهم وأدوات استخراجهم ما لم يكونوا يبحثون عنه فبدلاً من الإكسير حصل معهم الألكحول (1669) ثم بعد زمن بينا كانوا يبحثون عن حجر الفلاسفة وجدوا في ألمانيا الفوسفور. وظلت الكيمياء وهماً ولكن نشأت منها الكيمياء الحديثة كما نشأ قديماً في بلاد الكلدان علم الفلك من علم التنجيم. فنون العرب - لم يكن للعرب كما للرومان صناعات وطنية خاصة بهم فكانوا إذا احتاجوا إلى قصور أو جوامع يعمرونها أولاً عَلَى الطراز الفارسي أو البيزنطي مثل جامع دمشق ولكن لم تلبث الصناعات الفارسية والبيزنطية أن اختلطت ونشأ منها صناعة جديدة هي

الصناعة العربية وأجمل هذه الصناعات الجوامع والقصور والجامع عبارة عن قاعة كبرى يجتمع فيها المؤمنون وفي الفناء حوض ماء يتوضئون منه ومأذنة تنتهي بسطح ومنه ينادي المؤذن المؤمنين للصلاة وكانت القاعة العظمى في قرطبة تنقسم إلى أحد عشر صفاً من السواري والقصر العربي هو بيت نزهة يكون بحسب عادة البلاد الحارة ولا يبدو منه إلى الخارج إلا حوائط عارية. والقاعات كما في الدور القديمة متجهة نحو فناء (صحن) داخلي معروس بالأشجار ويرطب هواءه حوض ماء وفي صحن الأسود في قصر الحمراء في غرناطة ينبجس الماء من كأس عظيمة من الرخام الأبيض يحملها اثنا عشر أسداً من الرخام الأسود والفناء يحيط به من الشواطئ سوار يتألف منها رواق والسواري العربية رقيقة عالية عَلَى مثال الهندسة الفارسية فلا تحمل إلا حوائط رقيقة خفيفة من الجبس أو الملاط والقناطر التي تجمع بين السواري هي عَلَى شكل رسم البيكارين أو هلال أو قرن فهي هندسة جميلة خفيفة سريعة العطب كأنها أصحاف كتاب بالمقوى. وليس للعرب نقش ولا تصوير لأن القرآن حرم عليهم تمثيل الأشخاص فبدلاً من التماثيل والصور تصوروا أن يصوروا الحوائط بألوان زاهية وأكاليل من الزهر والورق وآيات من القرآن وأشكال هندسية مشتبكة وهذه الزين التي أصبحت عَلَى الدهر مختلطة مرتبكة لا أصل لها إلا في خيال رساميها قد حفظت أسماء مخترعيها فقالوا عنها أرابسك أي النقوش عَلَى هيئة النباتات والأوراق.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات المجموع المشتمل عَلَى الدرر كما قيض الله سبحانه رجالاً في الهند لنشر مذهب السلف بطبع كتب الحديث وسننه ومسانيده وأجزاءه وكتب عقيدتهم الصحيحة كذلك أتاح لذلك رجالا من البحرين ومصر وجدة لا يألون جهداً في السعي وراء إحياء آثار السلف وبعثها من مراقد الإهمال الذي قضى عليها ضعف العلم في العصور الأخيرة. ومنهم الشيخ عبد القادر التلمساني الصل نزيل مصر فقد طبع في مصر الصارم المنكي، والكافية الشافية، وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجزء رفع اليدين، وجزء القراءة خلف الإمام، وغاية الأماني وآخر ما نشره مجموعة كتب من ألطف الكتب وأنفسها يودكل نهم بالعلم لان يقف عليها ويتمتع بفوائدها. اشتمل هذا المجموع - الذي طبع بمطبعة كردستان بأجمل ورق وألطف حرف - عَلَى تسعة مؤلفات (الأول) كتاب الرد الوافر عَلَى من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر للإمام حافظ الشام ناصر السنة محمد بن أبي بكر المعروف بابن ناصر الدين الشافعي المتوفى عام (846) جاء كتابه هذا في (136 ص) بالقطع الكامل افتتح خطبة كتابه بما ورد إتباع السنة واجتناب البدعة ثم نعى عَلَى المكفرين والمضللين وإن كل هؤلاء ركب هواه، فابتدع ما أحب وارتضاه وناظر أهل الحق عليهن ودعاهم بجهله إليه، وزخرف لهم القول بالباطل فتزين به وصار ذلك عندهم ديناً يكفر من خالفهن ويلعن من باينه، وساعد عَلَى ذلك من لا علم له من العوام، ويوقع به الظنة والإيهام، ووجد عَلَى ذلك من الجهال أعواناً، ومن أعداء العلم أخدناً، إتباع كل ناعق لا يرجعون فيه إلى دين، ولا يعتمدون عَلَى يقين، وقد رجوا به الرئاسة، وتزينوا به للعامة. وما ألطف قوله بعد ذلك عن الناطق بالتكفير، عن هذا القول الشنيع قد أبان قدر قائله في الفهم، وإن فصح عن مبلغه من العلم، وكشف عن محله من الهوى، ووصف كيف إتباعه سبيل الهوى، ولا يرد بعد روايته عنه ونسبته إليه كلام الإنسان عنوان عقله يدل عليه. وقد استقرأ من ترجم شيخ الإسلام ابن تيمية من مشاهير الأعلام ما يقرب تسعين إماماً مشهوراً وقد ذيل الكتاب بتقاريط أقران المؤلف ومعاصريه كالحافظ شهاب الدين ابنة حجر

شارح الصحيح وأَضرابه. ولمؤلفه الإمام ابن ناصر الدين شهرة كبيرة لقب بخاتمة حفاظ الشام وكان من أعلام القرن التاسع. (الكتاب الثاني) القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي لصفي الدين البخاري الحنفي ذكر فيه كلام الأئمة الأخيار في الثناء عَلَى الشيخ، ثم عقيدة الشيخ السلفية ثم ما وافق كلامه كلام من تقدمه من السلف والخلف، ثم الجواب عما أنكروه عَلَى الشيخ، ثم ما اختاروه الحنابلة من تسمية أنفسهم أهل الأثر لا الأشاعرة ولا ماتريدية وتصويبهم في ذلك، ثم ذكروا وفاة الشيخ وبعض ما قيل في رثائه وهذا الكتاب كان طبع عَلَى حاشية المحاكمة بين الأحمدين. (الكتاب الثالث) الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ مرعي الحنبلي أورد فيه ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية مسهبة، وسرد وقائعه مع الجامدين في عصره وتواريخ سعايتهم به إلى السلاطين والنواب، ثم من انتصر للشيخ من علماء البلاد ثم ما رثي به بعد وفاته من القصائد وعدتها خمسة عشرة والكتاب من أجمل الكتب التي جمعت سيرة الشيخ ومناقبه وقد طبع عن نسخة بخط السيد محمود شكري الآلوسي الحسيني أحد علماء العراق. (الكتاب الرابع) كتاب تنبيه النبيه والغبي في الرد عَلَى المدارسي والحلبي لأحمدين إبراهيم بن عيسى النجدي وكان رأى كتاباً لشخص يلقب بالمدراسي من أهل مدارس استمد ما جمعه مما كتبه الحلبي في رده عَلَى شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى شمس الدين الحافظ الذهبي في متاب العرش وكتاب العلو وحاول تأييد مذهب الجهمية عَلَى مذهب السلف وحذا حذو أولئك المؤولين الجامدين فأوسع من التأويل والحشو المعروف لهم فكر عليه هذا العالم النجدي ودحر شهادته أجمع وتبلغ صفحاته قريباً من مائتين وتسعين بالقطع الكامل ويجد فيه مجادل الحشوية في المسائل السلفية مادة كبرى. (الخامس) رسالة في زيارة القبور تأليف الحجة محي الدين البركوي أحد أولياء علماء الأتراك الشهيرين وصاحب لطريقة المحمدية وغيرها من المؤلفات ثم رسالته هذه في زيارة القبور وجمع من النقول في ذلك عن السلف والخلف وعن فقهاء المذاهب في آداب

الزيارة ومحظوراتها ما لا يوجد في كتاب غيره وهذه الرسالة كانت طبعت في الأستانة مرتين طبعاً محرفاً فطبعت في هذه المجموعة عَلَى نسخة مصححة غاية التصحيح وحقها أن تكون أماً يعارض بها كل مطبوع قبلها. (الخامس) عقيدة الشيخ الإمام موفق الدين ابن قدامة وهي من أنفس المختصرات في بيان عقيدة السلف. (السادس) كتاب ذم التأويل للإمام موفق الدين المنوه به قبل أورد فيه مذهب السلف من الصحابة والتابعين في أسماء الله وصفاته ليسلك سبيلهم من أحب لاقتداء بهم. وقد تخلل هذه المجموعة البديعة منظومة للحجاوي الحنبلي في تعداد الكبائر ومنظومة في عقيدة أهل الأثر لأبي خطاب الحنبلي، وكلها نفائس وغرر، جديرة أن تلقب بما لقب به بالمجموعة المشتملة عَلَى الدرر. دمشق (أبو الضياء). الاعتبار تأليف مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن مرشد الكناني الشيزري بالمعروف بأبي منقذ طبع بمطبعة بريل في ليدن سنة 1884. لمطبعة بريل في ليدن من بلاد القاع (هولاندة) يد طولى عَلَى اللغات الشرقية عامة واللغة العربية خاصة فقد طبعت جزءاً كبيراً من كتبنا في مطبعتها ولا تزال إلى اليوم تطبع كل ما يبيض وجه الآداب والعلم. وبآخر ما اطلعنا عليه من مطبوعاتها كتاب نشره هرتويغ درنبورغ أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس لهذا المؤلف الأمير وكانت أسرته صاحبة شيزر ولها تاريخ مجيد عَلَى عهد دخول الصليبيين إلى هذه الديار أما أسامة فكان في القرن الأول من تلك الحروب وطاف مصر والشام ورأى أهاويل وقص في هذا الكتاب - الذي ظفر ناشره بنسخة منه في مكتبة الأسكوريال ببلاد الأندلس - حكايات مهمة في شجاعة أهل تلك الأيام ونالوا من صروف الأقدار ما كانوا يألفونه من العادات والأحوال بحي أسدى الناشر إلى التاريخ ولاسيما تاريخ مصر والشام بدءاً محمودة فجاء القسم الثاني منه في 168 صفحة عدا الفهارس وأسماء الرجال والنساء والحيوان والأمم والأماكن والقبائل والأنساب التي لا يكاد كتاب من كتب علماء المشرقيات يخلو منها.

ذكر ابن منقذ فرقة العرب الذين رآهم عَلَى حدود مصر قال ورأيت بهم من الضر أمراً عظيماً وقد يبست جلودهم عَلَى عظامهم قلت: إي أنتم قالوا: نحن من بني أبي. وبنو أبي فرقة من العرب من طيءٍ لا يأكلون إلا الميتة ويقولون نحن خير العرب ما فينا مجذوم ولا أبرص ولا زمن ولا أعمى وإذا نزل بهم الضيف ذبحوا له وأطعموه من غير طعامهم قلت: ما جاء بكم إلى ها هنا قالوا: لنا بحسمى كثول ذرة مطمورة جئنا نأخذها قلت: وكم لكم هنا قالوا: من عيد رمضان إنا ها هنا ما رأينا الزاد بأعيننا قلت: فمن أين تعيشون قالوا من الرمة يعنون العظام البالية الملقاة ندقها ونعمل عليها الماء وورق القطف شجر بتلك الأرض ونتقوت به قلت: فكلابكم وحمركم قالوا الكلاب نطعمهم من عيشنا والحمير من الحشيش قلت: فلم لا دخلتم إلى دمشق قالوا: خفنا الوباء ولا وباء أعظم مما كانوا فيه وكان ذلك بعد عيد الأضحى فوقفت حتى جاءت الجمال وأعطيتهم من الزاد الذي كان معنا وقطعت فوطة كانت عَلَى رأسي أعطيتها للمرأتين فكادت عقولهم تزول من فرحهم بالزاد وقلت: لا تقيموا ها هنا يسبوكم الإفرنج. وذكر أنه سار مع أخيه من دمشق يقصد هو وأصحابه إلى عسقلان يريدون الغارة عَلَى بيت جبريل وقتالها فاجتمع الإفرنج من تلك الحصون وقال: وهي كلها متقاربة وفيها خيل كثير للإفرنج لمغادرة عسقلان ومراوحتها. وذكر من جملة كلام له في مسيره من مصر إلى الشام أنه وصل جبال بني فهيد في وادي موسى وطلع في طرقات ضيقة وعرة إلى أرض فسيحة ورجال وشياطين رجيمة من ظفروا به منفرداً قتلوه وتلك الناحية لا تخلو من بعض بني ربيعة الأمراء الظائيين فسألت من ها هنا من الأمراء من بني ربيعة قالوا منصور بن غدفل. وذكر أنه أخذ أماناً من الإفرنج وأرسل عياله وأشغاله من دمياط إلى عكا في بسطة من بسط الإفرنج فهب هؤلاء ما مع عياله وكان نحو ثلاثين ألف دينار قال وهو مما يدل أنه كان من غلاة الكتب: وحرمنا ذهاب ما ذهب من الملل إلا ما ذهب لي من الكتب فإنها كانت أربعة ألف (آلاف) مجلد من الكتب الفاخرة فإن ذهابها حزازة في قلبي ما عشت. وقال فهذه نكبات تزعزع الجبال تفني الأموال والله سبحانه يعود برحمته ويختم بلطفه ومغفرته وتلك وقعات كبار شهدتها مضافة إلى نكبات نكبتها سلمت فيها النفس لتوقيت الآجال وأجحفت بهلاك المال وكان لبين هذه الوقعات فترات شهدت فيها من الحروب مع

الكفار والمسلمين مالا أحصيها سأورد من عجائب ما شاهدته ومارسته في الحروب ما يحضرني ذكره وما النسيان بمستنكر لمن طال عليه ممر الأعوام وهو وارثة ابن آدم من أبيهم عليه الصلاة والسلام. وذكر ما وقع عَلَى أفامية مما دل عَلَى أنها غير حماة وذكر بالقرب منها وادي أبي ميمون وذكر رفنية وكان أتابك حاصرها ومما قاله في أفامية فلقينا فارسهم وراجلهم في الخراب الذي لها وهو مكان لا يتصرف فيه الخيل من الحجارة والأعمدة وأصول الحيطان والخراب. وشهد للإفرنج الصليبيين بالشجاعة ومما قاله بالحرف: والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى الشجاعة ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان ولا عندهم ناس إلا الفرسان فهم أصحاب الرأي وهم القضاء والحكم. وقال في وصفهم في مكان آخر: سبحان الخالق الباري إذ خبر الإنسان أمور الإفرنج سبح الله وقدسه ورأى بهائمك فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير في البهائم فضيلة القوة والحمل وقال: إن الإفرنج قوم تبلدوا وعاشروا المسلمين فهم من أصلح القريبي العهد ببلادهم ولكنهم شاذ لا يقاس عليه فمن ذلك أنني أنفذت صباحاً إلى أنطاكية في شغل وكان بها الرئيس تادرس بن الصفي وبيني وبينه صداقة وهو نافذ الحكم في أنطاكية فقال لصاحبي يوماً قد دعاني صديق لي من الإفرنج قد تجيء معي حتى ترى زيهم قال فمضيت معه فجئنا إلى دار فارس من الفرسان العتق الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج وقد أعفى من الديون والخدمة وله بأنطاكية ملك يعيش منه فاحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة ورآني متوقفاً عن الأكل فقال: كل طيب النفس فأنا ما آكل من طعام الإفرنج ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم خنزير فأكلت وأنا محترز وانصرفنا. وذكر قضية له معهم وهو أنهم سرقوا خرافاً من قطعان المسلمين ووصف كيف تشاور الفرسان بأمر الملك منهم وحكموا بالغرامة عَلَى صاحب بانياس وهو منهم فأخذ منه أربعمائة دينار. ومما ذكره أن الطور كانت ولاية لمصر بعيدة كان الحافظ لدين الله رحمه الله أن أراد إبعاد بعض الأمراء ولاه الطور وهو قريب من بلاد الإفرنج. ومما رواه أن

حصن مصياف كان لابن منقذ عم صاحب كتاب الاعتبار وكانوا يقاتلون الأتراك أو الإفرنج مما دل عَلَى أنه كزان في البلاد أتراك ولعلهم سكان مرعش وغيرها من أعمال ولاية حلب اليوم. هذه نموذجات من الكتاب وهو يصور الصليبيين ومبلغ انحطاطهم إذ ذاك في سلم المدنية حتى أنه ذكر أن أحد رجال الصليبيين دخل الحمام في المعرة فاستعمل له ما يستعمله الرجال لتنظيف الشعر فأتى بالغد بابنته الشابة يريد الحمام أن يعمل لها ما عمل له وذكر أموراً من مثل هذه غريبة ووصف قومه وصفاً دل عَلَى أن الفروسية هي جماع فضائل المشارقة والمغاربة في القرون الوسطى ولا يمتازون الأولون عن الآخرين إلا ببعض العادات الحسنة والمدنية التي تعد شيئاً بالنسبة لتلك الأعصر. ذيل تاريخ دمشق لأبي يعلى حمزة بن القلانسي المعروف بذيل تاريخ دمشق طبع في بيروت سنة 1908 لعلماء المشرقيات فضل كبير عَلَى العلم والتاريخ والآداب العربية لا ينكره عليهم إلا مكابر أو جاهل ومما أحيوه بالطبع هذا الكتاب أحياء الأستاذ أميدروس الإنكليزي طبعه في بيروت في مجلد لطيف وأخذ إلى الغرب جميع نسخه ووقعت له بعض أغلاط وتحريفات لا يكاد يخلو منها كتاب نشر حديثاً ولكن الفوائد والحسنات أكثر من غيرها يستفاد منه أمور كثيرة لم نقع عليه في تاريخ قبله وهو مرتب عَلَى السنين وأهم فصوله ما كان متعلقاً منها بأمور الدولة الفاطمية في الشام ومصر والقسم الأخير من الكتاب متعلق بأخبار الحروب الصليبية وربما كان فيها تفصيل بعض الوقائع التي ألم بها صاحب الروضتين وأخبار الدولتين وصاحب الفتح القدسي إلماماً خفيفاً لأن المؤلف كان قبلهما ووصف كيف انهال الصليبيون الأول عَلَى هذه الديار من أوربا قاصدين إلى آسيا الصغرى فبلاد الشام. وتوفي ابن القلانسي سنة 555 هـ بدمشق وكان تولى رئاستها مرتين وهو من بيت وجاهة وفضل نقل عنه كثير من ثقات المؤرخين أمثال الذهبي وابن الأثير وله شعر رائق ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق ودفن في سفح قاسيون. وكتابه هذا وصل به ما قاله هلال الصائبي في تاريخه واختصر عباراته واخذ منها ما يتعلق بتاريخ الشام عامة ودمشق خاصة.

وقد توسع المؤلف في الكلام عَلَى عادات أهل هذه البلاد وأصولهم وحكامهم وأحكامهم ودرجة عمرانهم وما أصاب البلاد من الأحداث الجوية والأرضية ولاسيما في زمنه وما نال هذه المدينة من عيث المغاربة والمصامدة وهم جيش الفاطميين كما نالها في عهد العثمانيين من مظالم اليكي جرية (الإنكشارية). ويستفاد من هذا التاريخ أن ولاية الفاطميين عَلَى دمشق كانت إلى الشقاء وكثرت فيها المصادرات وتغيير الولاة التي تبعث بهم مصر فلا يلبثوا أن يصلوا حتى يصدر إليهم الأمر بالعودة وقد زاد الناشر بالكتاب فوائد مهمة بأن حلاه بحواشٍ نقلها عن كتب تاريخية مخطوطة مثل تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي وتاريخ الأزرقي وتاريخ سبط ابن الجوزي ومما نقله عن تاريخ سبط ابن الجوزي فو حوادث سنة 467 أن أتسز (ابن أوق مقدم الأتراك في دمشق الذي أبطل الأذان بحي عَلَى خير العمل من هذه الحاضرة) عاد إلى دمشق ولم يبق بها من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمسمائة ألف أفناهم الفقر والغلاء والجلاء وكان بها مائتان وأربعون خبازاً فصار بها خبازان والأسواق خالية والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادى عليها عشرة دنانير فلا يشتريها أحد والدكان الذي يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار وكان الضعفاء يأتون للدار الجليلة ذات الأثمان الثقيلة فيضرمون بها النار فتحرق ويجعلون أخشابها فحماً يصطلون به وأكلت الكلاب والسنانير وكان الناس يقفون في الأزقة الضيقة فيأخذون المجتازين فيذبحونهم ويشوونهم ويأكلونهم ولامرأة داران قد أعطيت قديماً في كل دار ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولما ارتفعت الشدة عن الناس ظهر الفأر فاحتاجت إلى سنور فباعت أحد الدارين بأربعة عشر قيراطاً واشترت بها سنوراً اهـ. وهذا الوصف العجيب المتعلق بتاريخ عمران هذه القاعدة لم يذكره فيما أطلعنا عليه أحد المؤرخين وقد اكتفى ابن الأثير فو حوادث سنة 468 بقوله أنه غلت في دمشق الأسعار حتى أكل الناس بعضهم بعضاً وعدمت الأقوات فبيعت الغرارة (ثمانون مداً من القمح) إذا وجدت بأكثر من عشرين ديناراً. وإنشاء ابن القلانسي جيد وفكره خال من خرافات عصره ولا غرو فالمؤرخين ملقحة بالسداد وأفكارهم مهما انحطت عصورهم يكونون أرقى منها بمراحل خصوصا من كان

منهم قريباً من الاختلاط بالناس وأرباب الرحلات وسبق له أن تولى أمور الناس ولم يكتف بالدرس في المدارس أمثال أبي شامة وأبي الفدا والعماد الكاتب والقاضي الفاضل وابن خلدون وابن منقذ والصابي. تاريخ آداب العرب لأبي السامي مصطفى صادق أفندي الرافعي طبع بمطبعة الأخبار في مصر سنة 1330 - 1912 الجزء الأول صفحة 443 مؤلف هذا الكتاب من كبار شعراء هذا العصر اشتهر بالأدب منظومه ومنثوره وقد نشر حتى الآن ديوانه في الشعر في ثلاثة أجزاء وديوان النظرات وأكثره نثر دع عنك ما أودعه بالصحف والمجلات من مقالاته وقصائده وهذا الجزء يحتوي الكلام في تاريخ اللغة العربية وتاريخ روايتها وما يداخل هذين البابين وقد بقي من التاريخ عشرة أبواب تقع في أربعة أجزاءٍ أخرى. وإذ كان للمؤلف ذوق عالٍ عال في الأدب كان إلى الإجادة في موضوعه الصعب أكثر من معظم من طرقوا هذا الباب نعم إنه لم يأت فيه بمادة جديدة ولكنه صاغ من الموجود عقداً لا بأس به وقد عرض المؤلف في من سبقوه إلى ورود حياض هذا العلم فقال أنه علم كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عَلَى عجلة الرأي ولجاجة الإقدام وقد أخصب في الأوهام حتى تفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام فلم يمس علمائه كتاب حتى أصبح قراءه أدباء عَلَى أنهم تجاذبوه انتهاباً فحاء واهياً في وثيقته وتتناكروه اهتياباً فجاء ضعيف الشبه بين ظاهره وحقيقته وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده فمضى مرخى العنان مخلى له عن طريق السبق إلى الرهام إلى آخر ما ذكره في المقدمة وكله تعريض بمن خاضوا هذا البحر عَلَى حين كانت فيهم جهابذة من أدباء أهل هذا العصر أمثال حفني بك ناصف والشيخ محمد المهدي فمدح المؤلف كتابه لا يرفع من قدر الكتاب والمؤلفون كلهم طلاب حقيقة فمن داناها منهم يشكره الناس. وقد جعل المؤلف كتابه اثني عشر باباً تنطوي عَلَى جملة المأثور ويدو عليها التاريخ كما تدور السنة عَلَى عدة شهور وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تاريخ الأدب وأصل العرب. الباب الأول في تاريخ اللغة ونشأتها وتفريعها وما يتصل بذلك. الباب الثاني في

تاريخ الرواية ومشاهير الرواة وما تقلب من ذلك عَلَى الشعر واللغة الباب الثالث في منزلة القرآن من اللغة وإعجازه وتاريخه في البلاغة النبوية ونسق الإعجاز فيها الباب الرابع في تاريخ الخطابة والأمثال جاهليةً وإسلاماً الباب الخامس في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منه وما يلحق بذلك الباب السادس في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها الباب السابع في أطوار الأدب العربي وتقلب العصور به وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها ومصرع العربية فيها الباب الثامن في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب وما يجري هذا المجرى الباب التاسع في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهليةً وإسلاماً بالإيجاز التاريخي الباب العاشر في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية الباب الحادي عشر في الصناعات اللفظية التي أُولع بها كالمتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها الباب الثاني عشر في الطبقات وشيء من الموازنات. والكتاب منسق مرتب سلس العبارة لطيف المأتى علق عليه واضعه بعض الهوامش واقل فيه من العزو للمصادر التي أخذ عنها عَلَى أن معظمها من الكتب المتداولة بالطبع وكان يرجى أن يقتبس المؤلف من المخطوطات الكثيرة في مكاتب مصر ولاسيما في دار الكتب المصرية الخديوية وبعض الكتب العربية المطبوعة في الغرب. وقد وقعت للمؤلف بعض هفوات دعا إليها عدم الرجوع إلى الأصول منذ ذلك ما جاء في ص76 في الحاشية من قوله: كان أهل الشام وحوران في ذلك العهد يؤرخون من دخول بصرى عاصمة حوران في حوزة الروم. فتراءى للقارئ أن حوران ليست من الشام وما هي إلا جزء منها فكان الأولى أن يقال كان أهل حوران بل أهل الشام الخ وفي ص319: كانت بلاد قرامان - لعلها القريم - مدرسة مشهورة بمدرسة السلسلة. وبلاد قرامان في بلاد الأناضول معروفة في تاريخ العثمانيين ولها ذكر كثير فيه. وبالإجمال فإنا نثني الثناء الأطيب عَلَى صديقنا صاحب هذا التاريخ ونرجو له التوفيق إلى إنجازه عَلَى ما يحب ويحب له عشاق الأدب.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار فن الأكل دعا غلاء الحاجيات أحد الأطباء أن كتب في المجلة جاء فيها أن المرء إذا دقق في ميزانية طعامه يستطيع أن يقتصد منها اقتصاداً محموداً بدون أدنى ضرر يلحق صحته فيتمكن بذلك من النجاة من مخالب المضاربين بالأطعمة ممن يغنمون مثل هذه الفرص في الصعود فيغالون في مضاعفة أسعارهم ويقال عَلَى الجملة أن المرء يأكل أكثر مما تقتضيه حاجته الحقيقية وإن فيه مكيلاً إلى أن يكثر من الأطعمة الغالية ثم أن فقدان التربية البيتية تدعو إلى الإسراف حيث لا يحب. وبينا نرى الوقاد يهتم قبل كل شيء بان يعرف حق المعرفة قوة آلته المحركة وما يجب من المواد لإدارتها وما تعطيه من العمل ونرى مربي الحيوانات لا يقتصر عن درس طبيعة دوابه وما ينبغي لها من العلف وينفع أكثر في تنمية الحيوانات التي يتجربها نرى الإنسان لا يهتم بتة بوظائف أعضائه وما يجب لجسمه. ومن الأوهام الرئيسة في التغذية أن الإنسان يقوى كلما أكثر من الطعام ولذلك ترانا نحاول الإكثار ما أمكن من الأطعمة ونحمل أبناءنا عَلَى أن يقضموا ويخضموا من الطعام زيادة عَلَى رغباتهم ونشاهد الأمهات يحتلن أنواع الحيل ليجعلن من أولادهن شرهين يتناولون كميات كثيرة من الأغذية ولا يفاخرون بهم إلا إذا تناولوا كمية من الحساء بدعوى أن هذا يكبرهن. ومن الغريب أننا إذا التقينا برجل متعب في صحته وكثيراً ما يكون الإفراط في التغذية السبب في ذلك لا نلبث أن ننصح له أن يتناول أغذية مقوية وإنا إذا يحثنا في هذه المسألة عن أمم بنور التجربة والنظر الصحيح نرى أن الإقلاق من التغذية بكمية تقرب من الحد الوسط اللازم للأعضاء نتيقن أن من يعمل ذلك لا يضعف بل عَلَى العكس يقوى. فد جرب أحد أطباء الدانيمرك مدة شهرين الاقتصار من الطعام عَلَى ما رخص ثمنه وكثرت تغذيته فأصبح بعد ضعفه قوياً يستطيع التصعيد في النجاد وكان من قبل عاجزاً عن ذاك فكان يتناول في الصباح جريش الشعير مطبوخاً بالماء مضافاً إليه شيءٌ من اللبن والسكر والعنب وفي المساء يأكل في العادة قطعة بالخبز بالزبدة وسلطة من البطاطة أو

البقول وكان طعام الظهر أهم الوجبات وكلها تدور عَلَى الحبوب والبقول بين سوائل وموائع وهي بكميتها أقل مما يتناوله الفرد في العادة. وحذا حذوه كثير من زبنه سائرين في ذلك عَلَى خطة اليابانيين والهنود في الإقلال من كمية طعامه فجادت صحته وقويت أعصابه وكثر نشاطه عَلَى العمل ولكنه لم يحذف اللحوم والأسمال من وجبات أكله ثم جربوها في 11 جندياً مدة ستة أشهر فثبت منافعها بالتجارب والفحص الدقيق وكان الوقت شتاء والبرد قارساً فلم يشعروا ببرد ولم تنقص قوتهم بل زادت حتى أنهم ظلوا بعد هذه المدة سائرين عَلَى هذا النحو ثم جربها الأستاذ في جماعة من المصارعين فتبين أن قوتهم زادت كثيراً مما أدهش القائمين عَلَى هذه التجارب. وجربوا في فرنسا هذه الطريقة في رجل كان يصاب بوجع الشقيقة فلم يعتم أن شفي كل الشفاء فدام عَلَى إقلاله واقتصر عَلَى البقول والخضر وعلى القهوة والمربيات واللبن ولم يتناول شيئاً من المشروبات غير الماء الصافي وفي خلال هذه التجربة كان يرتاض بركوب الدراجة فيقطع من 60 إلى 85 كيلومتراً كل يوم بدون أن يشعر بتعب وقلت ساعات نومه وقويت نفسه عَلَى المشاق وسكنت أخلاقه من دون بلاهة. ويفهم من قائمة طعام الطبيب الدانيماركي الموما إليه أن اللحم قليل جداً في وجباته ثم أن الأستاذ شتيدن وصف الإقلال منه وأن الآخر كان حذف من طعامه اللبن والبيض واقتصر فقط عَلَى البقول. الجزر الطافية رأيت بارجة في صيف سنة 1892 في عرض البحر قرب نيويورك جزيرة طافية تقدر مساحتها بألف هكتار مغشاة بالأشجار عَلَى طول الواحدة منها عشرة أمتار وبعد شهرين شاهدت هذه الجزيرة باخرة أخرى قرب ترنوف فتكون قد قطعت في مدة شهرين نحو ألف ميل بحري أي 1852 كيلومتراً ولم يعد يراها أحد بعد. ومن المحتمل أن هذه الجزيرة قطعة من أرض ثابتة مفصولة من الشاطئ الشرقي من أميركا حملتها المياه إلى بعيد ثم غمرتها وتركيب هذه الجزر قد يحدث من ثقل المياه التي ترتفع فجاءت بتأثير المياه الغزيرة أو بسبب آخر. وتكون هذه الجزيرة في العادة ولكن منها ما هو معروف مثل الجزيرة القريبة من ويتنغام أحد بلاد ولاية ورمون. وتنشأ هذه الجزر بطبيعتها بدون يد

البشر وأحياناً تكون في حر الشمال من الجليد الذي يتكسر. ومنها الصناعي ينشأ كما هو الحال في أميركا من عمارة السدود والسكور التي تحدث تغييراً غير منتظر في معدل المياه. ففي بعض البحيرات ترى جزر عَلَى سطحها ثم تغيب في أوقات معينة فإن كتلة من الحشائش قد تغمر بحيرة برمتها إلا قليلاً فإذا ارتفعت المياه تنفصل هذه الكتلة عن البحيرة ويكون منها جزيرة طافية ثم تعود المياه فتغمرها وهكذا لا ترى الجزيرة إلا إذا انحسر الماء أو يحدث سبب سابق يرفع الجزيرة فتراها العيون. الخبز عهدت الحكومة الإنكليزية إلى الدكتور هاميل أن يقدم تقريراً عن الخبز فأثبت أن الطرق الحديثة المستعملة في طحن الدقيق في مطاحن اسطوانية ليست أحسن من الطريقة القديمة في طحن الطحين بين حجرين ولكن هذه الطريقة القديمة لا تصلح لطحن حنطة أميركا الصلبة وأقام الحجة عَلَى من يدعي أن الخبز الأسمر أنفع للصحة من الأبيض وقال بتفضيل الأخير عَلَى الأول في التغذية ورأي أن يعطى الأطفال خبزاً أبيض وشيئاً من الخبز الذي لم يقطع وفيه شيء من السمرة الأصلية وذلك للأولاد الذين يجعلون الخبز أهم غذائهم لا لمن يتناول اللحم والبقول. نقل الدم كان بعض الأطباء ينقل الدم من جسم الصحيح إلى جسم العليل بواسطة أدوات لهم معروفة عندهم ولكن كان الدم المنقول لا يخلو من كدورات مضرة وقد اخترع الآن أحد الأطباء في نيويورك آلة غريبة تنقي الدم المنقول الذي يحقن به بإضافة شيء من الأوكسجين ومحلول قلوي والحديد في الماء فجرب ذلك في الضفادع والكلاب أولاً ثم جرب في المستشفيات في الآدميين فأسفر عن نتائج حسنة جداً. دين مجهول اكتشفوا في جبال هندوراس مجموعة أشياء من قبل التاريخ تدل عَلَى وجود عبادة غير معروفة اليوم وذلك في مكان ظنوه أولاً معدن نحاس مهجور فرأوا مغارة مقدسة تدل عَلَى وجود ديانة كانت موجودة منذ ألوف من السنين أن بها الماياس وهم شعب قديم جداً كان يعبد الخفاش وهذه الأشياء هي أجراس صغيرة تبلغ عشرة آلاف جرس ذات حجم مختلف

وأشكال كثيرة وهذه الأجراس يشبه الصغير منها أزراراً عادية والكبير منها الأجراس أو سقاطة الباب ومن الغريب أن أصوات كل جرس يختلف بعضها عن بعض وفي المغارة صور أيضاً يظن أنها كانت من متممات العبادة وعرض مدخل المغارة نحو عشرة أمتار وعمقه 18 متراً إلى 20 والأجراس مدورة هنا وهناك ومنها ما وضع في بعض الثقوب والجحور وأكبرها لا يكون حجة عدة سنتيمترات من الديامتر ومن هذه الأجراس ما يشبه الحيوانات الغليظة ومنها ما يشبه السلاحف ذات العنق الطويل ومنها ما هو عَلَى صورة التنين الزحاف ومخلوقات غريبة ومنها ما يشبه الخفاش ذات القرون والعيون المفترسة وغيرها من الحيوان ومن هذه الأجراس ما هو معمول من المعدن المطروق ومنها من المعدن المطرق مما دل أن المغارة كانت ملجأ لرهبان كان يدينون لرب اسمه زوتياشيمكان ورد ذكره في التقاليد وكان له عَلَى أمة الماياس سلطة غريبة ولعل علماء الآثار يهتدون إلى سر هذه الموجودات لقرب عاصمة ناكو القديمة من بلاد هندوراس لأنه ورد ذكر تلك العاصمة في تاريخها. البصل استعمل بعض الأطباء البصل مؤخراً لمريض أصيب بضعف الكبد المشوش في الاستسقاء فأبان عن أحسن النتائج وسهل البول بحيث لا يتأتى ذلك بالأدوية المعتادة وهذا ما يدل عَلَى بعد نظر القدماء في القديم في تعويلهم تعلى البصل فقد كان أطباء المصريين والعبرانيين واليونانيين والرومانيين يحلون استعماله المحل الأرفع وكان جند قيصر يمتانه في سيره أثناء قتاله للغلو وشاع استعماله في أوربا في أواخر القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر في مداواة وجع المفاصل والرثية وأمراض الصلب أما في الطب الحديث فقد ترك استعماله بتاتاً وها هم قد عادوا إليه. الحكم عَلَى فرنسا طاف المستر أديسون المخترع الأميركي الشهير بلاد أوربا فسئل رأيه عن فرنسا فاصدر الحكم الآتي: إن مساكنها قبيحة لا راحة فيها ولا رفاهية وهي متأخرة عن بيوت الأميركان قروناً وفرنسا فائقة بطرقها البديعة التي تربط قراها وبلاد الأقاليم فيها بالحواضر والمدن وعلى مهندسي الممالك الأخرى أن يأتوا إلى فرنسا ليتعلموا عَلَى مهندسيها أحسن دروس

في صناعتهم أما طبخ الفرنسيس فقد حوى الذوق وجودة الطعم وحسن الأسلوب بحيث جاء مطبخهم أفضل مطابخ الأمم الممدنة وهذا ما دعا إلى علو كعب الفرنسيس فبجودة الطعام ضمنوا لبلادهم الصحة وحسن الخلق والنجاح. التلغراف اللاسلكي أفاد هذا التلغراف في مواطن كثيرة وثبت غناؤه في الدول والأفراد فعزمت إنكلترا أن تمد منه خطين الأول بين مالطة وقبرص وعدن وبومباي وسنغافورة وادلايدا إلى زيلاندة الجديدة واثنان آخران يسيران عَلَى شاطئ أفريقية من الشرق ومن الغرب فتتصل الهند بأفريقية الجنوبية واستراليا بجزيرة موريس وجزيرة نيلسون ومونترال تفاوض الهند الغربية تواً فيكون لها 25 محطةً تحتاج إلى 37 مليون ونصف مليون من الفرنكات يتخابر بها الناس كل كلمة بعشرة سنتيمات وتربح منها الحكومة 15 مليون فرنك مسانهة ولا تنفق سوى 5 ملايين. الألكحول في أفريقية يحاول عقلاء الإنكليز أن يحظروا استعمال المشروبات الروحية في بلاد خط الاستواء وجنوبي أفريقية وذلك بوضع العقبات في سبيله لأنه ثبت أنها آذت الوطنيين بصحتهم وقرض أو كاد جنسهم وكانوا قبل دخولهم عليهم سالمين أقوياء وما كانوا من قبل يسكرون إلا بالمشروبات المخمرة المستخرجة من ماء النخل وجوز الكاكاو والذرة وهي مشروبات يقل ضررها بالنسبة لخمور أوربا ولذا أخذ زعماء الوطنيين يدعون إلى الإسلام لأنه يحظر استعمال المكيفات إذ قد وقع في نفوسهم أن عنصرهم آخذ من هذا الكحول بالانحطاط. ويقول المقترح أن هذا الخطر واقع عَلَى الحكومة الإنكليزية لأن تلك الأقاليم الاستوائية تكتفي من المنبهات بالقهوة وجوز الكولا فهي أقل ضرراً من الجين والويسكي. وإذا منعت الحكومة الإنكليزية المسكرات من تلك الأقاليم الأفريقية تخسر ثمانمائة ألف جنيه كل سنة من جنوبي نيجيريا فقط وستعتاض عن هذه الرسوم التي تنقص ميزانيتهم بضرب ضرائب عَلَى الأنفس. الصحافة الصفراء يسمون بهذا الاسم الحديث تلك الصحف الأميركية التي تنشر أخباراً مزعجة ملفقة تقيم

وتقعد والحال أن هذا النوع من الصحافة قديم يرد عهدها في الحقيقة إلى يوم قام بنيت مؤسس جريدة نيويورك هرالد وأعلن أنه سيتخلون عما يسمونه بالمبادئ ويبحث خاصة فينشر رصائفه أخباراً كثيرة وحوادث اليوم مفعلاً فيما ينقل ويروي ماله دخل بحوادث البيوت وقصص العاشقين والسارقين والقاتلين وأخبارهم الشخصية فما كاد يطبق هذه الخطة عَلَى العمل حتى سلقه الناس بألسنتهم وضرب غير مرة بالسياط وما كان يجيب ذلك بغير طبعة خاصة من جريدته يقص فيها بنثره الشديد القارص ما يكثر به جمهور قراءه الجدد ثم تبعه في ذلك صاحب جريدة الورلد. وأهم ما في هذا الضرب من الصحف اليوم أحاديث بعضها موهوم وتواريخ جنايات وطلا قات وفضائح وفظائع وفي أعداد أيام الآحاد وهي أكبر حجماً وأغزر مادة ملحق مصور بالألوان وكثير من الأخبار أكثر من العادة وحوادث من شأنها أن تحدث تأثيراً شديداً وحركة اضطراب في القراء وتحبب إليهم الفضول والفزع. وقد امتازت الصحف الصفراء في سرد الجنايات فلا تكتفي أن تورد لقرائها تفصيلاً وافياً عن أعمال اللصوص عَلَى اختلاف ضروبها بل تعلمهم أيضاً الطرق الغريبة في القتل والسرقة. وهذه هي سيئات هذه الصحافة ولكن لها مزية أخرى هو أنها داعية بل أكثر داعية للارتقاء والإصلاح الاجتماعي تنصرف لخدمة المصلحة العامة مستقلة في أفكارها تحمل عَلَى الرشوة حملات هائلة تنتقد الأفكار وتكشف القناع عن أعمال رجال السياسة وفضائحهم وتقاوم الحكومة البلوتوكراتية والامتيازات فهي خادمة أمينة للديمقراطية من هذا الوجه. ملح تونس ثبت أن أرض تونس بطبيعتها قابلة لاستخراج الملح الصناعي الذي هو أنفع لتمليح الأسماك التي تصطاد من شمال أوربا أكثر من الأملاح التي تستخرج من صقلية وإسبانيا والبرتغال بل هو أحسن ملح في العالم لأنه خالٍ من المواد قابلة التحليل ويستخرج منه الآن خمسمائة ألف قنطار يخرج منها 200 ألف إلى إيطاليا و120 ألفاً إلى نروج و100 ألف إلى بلغاريا و20 ألفاً إلى النمسا وقليل من القناطير تصدره تونس إلى الجزائر وفرنسا ويمكن أن يستخرج من هذا الملح سنوياً ستمائة ألف طن واستخراجه متوقف عَلَى امتياز من حكومة تونس.

الأمومة والعزوبة لما رأت بعض الولايات المتحدة أن زيادة المواليد في أميركا الشمالية ليست مما يرضي وأن المهاجرين إليها يقل نسلها في الجيل الثاني من مقامهم فيها رأت أن تعمد إلى قوانين تسنها لإكثار النسل وهكذا قرر مجلس النواب إيلينوا أن كل امرأة تلد بعد سنتين من زواجها ولداً تقبض 500 فرنك وتقبض كلما ولدت ولداً آخر أما إذا ولدت توأمين أو ثلاثة فجائزتها تكون أكثر والحكومة تتقاضى هذه الجوائز من العزب فتأخذ من كل عزب تجاوز الخامسة والثلاثين ولم يتزوج خمسين فرنكاً في السنة ويتناقش مجلس النواب في ولاية فيسكونسين في ضرب ضريبة قدرها خمسة وعشرون فرنكاً في السنة عَلَى كل امرأة بلغت الخامسة والعشرين ولم تتزوج وربما ألفت هذه الولاية لجنة رسمية لتجد زوجاً لكل طالبة. التعليم في بورتوريكو بورتوريكو جزيرة في أرخبيل البحر المحيط غربي هاييتي سكانها زهاء المليون نسمة لم يكن فيها سنة 1907 خزانة كتب بتة وها قد أصبح فيها اليوم 233 خزانة كتب عامة ولما استولت الولايات المتحدة عَلَى هذه الجزيرة لم يكن فيها مدارس أما اليوم فقد بلغ عدد من يتعلمون من بنيها 121. 453 أي نحو تسع السكان وفي المدارس حدائق أطفال (الكندر جارتن) 230 طفلاً في المدارس الابتدائية التي أنشئت في 66 مدينة من مدن الجزيرة 39. 907 تلامذة وفي مدارس القرى 71. 630 وفي 158 مدرسة ليلية 8. 624 تلميذاً تلامذتها من البالغين وعدد تلامذة المدارس العالية 1078 وعدد تلامذة كلية سان جوان 300 وقد أنشئت في هذه الكلية في ريو بدراس في البرية عَلَى 11 كيلومتراً من سان جوان وفيها مدرسة للزراعة وأخرى للصناعات الحرة وغيرها للمعلمين يتعلم فيها المعلمون والمعلمات. ولا تزال الحكومة في قرى بورتوريكو تعلم باللغة الإسبانية وقد بدأت تعين من أبناء الجزيرة نفسها ولكن معظم المعلمين يأتون من الولايات المتحدة وتسعة أعشار التلامذة يتعلمون العلوم اليوم بالإنكليزية وعما قريب تقوض اللغة الإسبانية خيامها من تلك الجزيرة وتحل محلها اللغة الإنكليزية إلى أبد الآبدين. مدارس الأمهات أنشئوا في الغرب مدارس لتعليم الأمهات ما يستطيعون معه دفع المهالك عن أولادهم

وتقوية أجسامهم وحفظ صحتهم إذ قد ثبت أن جهل الأمهات كثيراً ما يودي بالبنين والبنات وهذه المدارس تزداد انتشاراً في مدن أوربا.

تاريخ الحضارة

تاريخ الحضارة مملكة الإفرنج الممالك البربرية تأسيس الحكم الإمبراطوري - لم يشأ ملوك البربر النازلين في الإمبراطورية الرومانية أن يأتوا عَلَى المعاهد الإمبراطورية فيبيدوها بل آثروا أن يخلفوا الأباطرة ويسنوا الشرائع ويصدروا الأحكام ويجبوا الضرائب وعلى الجملة أن يحكموا كما حكم الإمبراطور. هكذا كان شأن ملوك البورغوند والويزغوت والواندال في القرن الخامس لكن ملك الأوسترغوت في إيطاليا تيودوريك قد بلغ في احتذاء ذاك الماثل أرقى درجاته في القرن السادس فكزان له في فارون قصر بني عَلَى مثال قصر الإمبراطور مع وزيره وصاحب حاشيته ووكيل خرجه وأمناء ماله وكان له ولاة ومحافظون يجبون الضرائب أما الغوت فظلوا محاربين ومنهم يتألف الجيش تحت أوامر الدوقات والكونتية منهم. وفي ظل هذا الحكم كان الإيطاليون يعيشون بسلام كما كانوا عَلَى عهد الإمبراطورية فانشئوا يصلحون المجاري والحمامات ودور التمثيل بل شادوا أيضاً مصانع جيدة مثل قصر فارون ومسلة رافن وبدأ التمثيل يعود إلى ما كان عليه وتفتح مدارس البيان لقبول الطلاب وعلى ذلك العهد نبغ بويس آخر شعراء اللاتين القدماء (470 - 524) بيد أن الغوت لم يخضعوا زمناً طويلاً لهذا النظام فبعد موت تيودوريك كانت الملكة أمالازونت تربي أبنائها عَلَى يد أساتذة رومانيين فجاء رؤساء الجند يطلبون أن يربوا والطفل مع أترابه عَلَى الصيد وحمل السلاح عَلَى نحو ما تقتضي به العادة البربرية. حكومة الميروفنجيين - كان ملوك الإفرنج في غاليا أكثر توحشاً من تيودوريك وحاولوا مع ذلك أن يحكموا البلاد عَلَى الطريقة الرومانية فمنح إمبراطور القسطنطينية لكلوفيس لقب قنصل وبطريق فظهر في مدينة تور لابساً رداء من الأرجوان وعلى رأسه التاج واقتسم أخلافه المملكة بينهم كما يقسم الملك ولكن كان لكل منهم قصره في البقة التي كان يحكم فيها كلوفيس فيجلس عَلَى عرض من ذهب يحف به رجال الدولة بألقابهم الرومانية من قومس (كونت) إلى صاحب الخاتم إلى الحاجب وكان لبعضهم شعراء في قصورهم مثل الشاعر فنانتيوس فورتوناتوس الذي جاء من إيطاليا ونظم إكراماً لزواج برونهوت أبياتاً

مختلة مصنعة أظهر فيها كوبيدون (إله الحب) فرحاً بالزواج والزهرة (آلهة الجمال) لتذكر أن برونهوت جميل مثلها وكان الملك شيلبريك نفسه ينظم أبياتاً باللاتينية غاية في السقم والركاكة واخترع حروفاً جديدة مثل وكان يأمر الكونتية أن يمحوا بالنشاف (الخفان) رقوق كتب التعليم في المدارس العامة ليعيدوا كتابتها بحروفه الجديدة ويعنى بعلوم الدين أيضاً ودعي أن العزة الإلهية يجب أن يطلق عليها اسم واحد وقد قال لأحد الأساقفة هكذا أريدك أن تعتقد أنت وأخوانك من علماء الكنيسة. ولما أتاه من أرسلهم إلى القسطنطينية بالأقمشة والزين وأيقونات الذهب عرض ما أتوا به في قصره وعرض في الوقت نفسه حوضاً عميقاً من الذهب الذي كان أمر بصنعه فكان يريه للناظرين بإعجاب قائلاً أن الذي استصنعته للزينة ولا رفع من لأن قدر أمة الإفرنج ولعمري كم استصنع إذا عشت من الأعلاق والتحف. تخاذل الميرونجيين لم يستطع هؤلاء المقلدون في المدنية الحديثة أن يطول عهدهم فإن الإفرنج كالغوت بلغوا من التوحش مبلغاً ولم يقبلوا معه عَلَى النظام الملكي فكان المحاربون يحترمون ملوكهم لأنهم كانوا من العنصر الميروفنيجي ولكن خضوع مؤقت وكان المقاتلة أكثرهم عرامة يعيشون بالقرب من الملك وفي موكبه ويسميهم الملك رجاله وكثيراً ما يكون هؤلاء أكثر سلطة من الملك. وفي سنة 534 بينا كان الملك شيلدبر وكولتيبر ذاهبين لتخريب بلاد البورغوند وأراد تيري أن يبقى في مملكته جاءه رجاله يقولون لهذا لم تذهب إلى بورغونديا مع أخوانك نتخلى عنكم ونلحق بهم. يريدون تيري أن يقودهم لتخريب أوفرنيا. وبعد حين قال أحد المقاتلين لملك كونتران: نحن نعلم أين خبئت تلك الفأس الندبة بدم أخوانك فإنا نستطيع بها أن نقطع رأسك وقد أخذ كونتران الفزع فقال ذات يوم في الكنيسة أمام جمهور المؤمنين: أقسم عليكم أيها الرجال والنساء الحاضرون هنا ألا تقتلوني كما قتلت أخواني من قبل. وكان هؤلاء المقاتلين الذين لا تدريب لهم يرضون بأن يحلقون بملوكهم في الحروب. لأنهم كانوا يرجون في الحرب أن يعودوا وأيديهم ملأى بالأسرى والغنائم عَلَى أنهم كانوا لا يودون أداء الضرائب وحاول بعض الملوك أن ينفذوا القانون الروماني الذين كانوا يرونه نافعاً في جباية المال وقد عهد تيودير ملك الإفرنج في أوسترازيا إلى وزيره بارتينوس أن ينظم أمور الجباية فلما قضى نحبه انتقض الإفرنج

وذبحوا بارتينوس في كنيسة تربف (547) وبعد ثلاثين سنة أمر شيلبريك بتنظيم قوائم بالأملاك وأن تضرب ضريبة عَلَى الأراضي والعبيد وخربت مملكة شيبلريك في السنين التالية بما أصابها من الطوفان والحريق والأوبئة وأوشك الملك أن يهلك بعد أن فقد ابنيه وكان القوم يذهبون إلى أن الله عاقب شيلبريك عَلَى الجناية التي ارتكبها بوضع الضرائب عَلَى الناس. ولما رأت الملكة فريدغوند أولادها قد مرضوا ألقت إلى النار سجلات ضرائب المدن التي كانت خاصة بها وإذ تردد زوجها أن يلقي سجلاته قالت له: وماذا يمنعك أن تحذي حذوي فاعمل عملي حتى إذا فقدنا أولادنا الأعزة نخلص عَلَى الأقل من العقوبات الأبدية (580). وفي سنة 1614 اجتمع الأساقفة ورجال الملك واكرهوا الملك كولتير أن ينشر أمراً بإلغاء الضرائب. الحقوق الرومانية وملوك البربر - كان ملك الإفرنج في القرن السابع ملكاً عَلَى جميع جرمانيا ولم يكن سكان هذه المملكة الواسعة أمة واحدة متحدرة أجزاؤها بل كان لكل شعب لغته وعاداته ولم يكن في البلاد قانون واحد يخضع له الجميع عَلَى السواء وكان لكل إنسان قانونه الشخصي خلال زهاء ثلاثة قرون (من القرن السادس إلى التاسع) وقد احتفظ قدماء سكان الإمبراطورية بالقانون الروماني أما البربر فكان كل واحد منهم يتبع عادات شعبه القديمة. وقد كتبت هذه العادات باللغة اللاتينية في عصور مختلفة فسميت قوانين البربر فنشأ بذلك قانون الإفرنج (وهو يمنع النساء وأولادهن من كرسي الملك) وقانون ريبوير وقانون الأمان وقانون ألفريزون وقانون البافاريين وبالجملة كانت القوانين بقدر عدد الشعوب. وهذه العادات التي جعلت فيها المواد كيفما اتفق تحتوي عَلَى بعض الفصول في حقوق التملك والمواريث ولكن معظمها نظام فما يجب عمله في السرقات وحوادث القتل. وكان البربريون يرون أن الخصومات بين أفراد ليست سوى جرائم ليس من شأن الحكومة التدخل بها فإذا وقعت جناية قتل فمن شأن القتيل أو أسرته أن ينتقموا من القاتل أو من ذوي قرباه فكل شدة تؤدي إلى انتقام اضطراري بين الأسرات تشبه الانتقام المألوف إلى اليوم في جزيرة الكورس. ولقد كانت المحكمة لإبطال هذه الفظائع تكره المجرم أن يدفع غرامة إلى آل القتيل ليكفوا عن أخذ الثأر. وفي قوانين البربر تحديد دقيق لقيمة هذه الغرامات فلكل امرئٍ قيمة بحسب حاله فإذا هلك فالقاتل يؤدي قيمته برمتها وإذا جرح يدفع

القاتل جزءاً من قيمته عَلَى نسبة شدة الجرح وإذا ضرب رجل رجلاً في رأسه وشجه يدفع 15 سولاً من ذهب (السول خمسة فرنكات) وإذا ضربه برأسه واخرج منه ثلاث عظام يغرم بثلاثين سولاً وإذا ضربه بأم رأسه فظهر مخه يغرم بخمسة وأربعين سولاً. وإذا قطع رجله أو يده أو جدع أنفه يغرم بمئة سول وإذا بقيت اليد المقطوعة معلقة يغرم بخمسة وأربعين سولاً وإذا قطع له إبهام يده أو رجله يغرم بخمسة وثلاثين وفي الإصبع الثالثة يغرم بخمسة عشر سولاً وعن الخامسة يغرم بخمسة سولات وعن الخنصر يغرم بخمسة عشر سولاً. وكانوا يحكمون عَلَى كل فرد في المحاكم بقانون شعبه قال أسقف في ليون في القرن التاسع ليس من النادر أن يجلس خمسة أشخاص معاً ويكون لكل منهم قانونه الخاص. مملكة شارلمان الكارولنجيون - لم يوفق ملوك الإفرنج أن يخضعوا رعاياهم البربر إخضاع الطاعة وعلى العكس فإنهم منحوهم عَلَى التدريج جميع الملاك في الإمبراطورية ليكون مقاتلتهم عَلَى مقربة منهم فغدا المحاربون أرباب أملاك عظمى وسكنوا في أراضيهم بين عبيدهم وخلعوا ربقة الطاعة فأمسى الملك الميروفينجي شخصاً خاملاً منعزلاً. وقد نشأت في شرقي المملكة من أنحاء أردين أسرة من كبار أرباب الأملاك لها بعض احترام من قومها يؤهلها إلى خضوع مقاتلة بلادها لأمرها ودعا رئيس هذا البيت نفسه بدوق الإفرنج ولما كان هؤلاء الإفرنج في الشرق أكثر مضاء ونظاماً استباحوا كحمى إفرنج الغرب وغدى ملكهم مدير القصر لدى ملك الميروفنجيين وأصبح السيد الحقيقي في المملكة عامة وبعد نصف قرن أراد أحد الدوقات وهو ببين لبريف أن يلقب نفسه ملكاً فسئل البابا زاخري رأيه فأجاب بأن من حصلت له السلطة الملوكية يجب أن يكوم (752) وعلى ذلك نودي ببين ملكاً عَلَى الإفرنج وجاء القديس بونيفاس يمسحه هو وامرأته بالزيت المقدس فأصبحت الأسرة الكارولنجية من ثم أسرة ملوكية يحترمها الشعب وتقدسها الكنيسة. شارلمان - كان شارلمان بن ببين اقدر ملوك البربر عَلَى الإطلاق فقد اخضع في جنده جم يع شعوب ألمانيا وتقدم إلى الشرق نحو الألب وإلى الغرب نحو الإيبر ومملكته عبارة عن فرنسا وألمانيا وإيطاليا الشمالية وقلق الباباوات في إيطاليا عَلَى ذاك العهد وحاذروا من

اللومبادريين وملوك البيزنطيين حتى أنهم لم يكونوا في رومية من القوة بحيث يحترمهم الناس عَلَى الدوام. وكاد البابا ليون الثالث ذات يوم أن يذبح في إحدى الفتن وضرب ودبس بالأرجل واضطر إلى الفرار واستنجد الباباوات غير ما مرة بملك الإفرنج (ببين وابنه شارلمان) وكانوا يحتاجون إلى حزام قادر يحميهم فظهر من شارلمان أنه كفؤٌ ااذب عن حماهم ومنابذة من عاداهم. انتخب البابا ليون الثالث الجديد سنة 795 فبعث إلى شارلمان بمفاتيح قبر القديس بطرس المقدس وعلم مدينة رومية طالباً إليه أن يبعث بأحد ليأخذ باسمه بيعة الشعب الروماني فأجاب شارلمان إنني راغب أن أعقد معكم محالفة لا ينقض إبرامها يكون سداها الإخلاص ولحمتها الحب حتى أنال البركة الرسولية من قداستكم ويكون لكرسي الكنيسة الرومانية المقدسة من إخلاصي مدافع عَلَى الدهر. وجاء شارلمان إلى رومية سنة 800 فتوجه البابا ونادى به إمبراطوراً وعلى رواية اجنهارد صديق شارلمان أن هذا لم يتعمد هذه الحفلة بل ترك البابا يفعل ما يريد قال ولو شعر بما يراد عمله لما دخل الكنيسة ومع هذا رضي بأن يلقب بإمبراطور الرومانيين وأغسطس وما عدا أحوالاً نادرة لم يرض أن يتخذ بديلاً عن اللباس الإمبراطوري واحتفظ بلباسه الإفرنجي وهو سروال من الكتان مشدود بعصيبات وقميص من الصوف يناط به زنار ثم رداء واسع. وهذا التتويج لم يزد في سلطة شارلمان ولم يكن حادثاً خطيراً وغاية ما في الأمر أن أصبح في الغرب بعد ذاك الحين إمبراطوراً يعترف البابا والأساقفة بأنه ملكهم وإنه حامي الكنيسة. وأصبحت هناك سلطتان رسميتان البابا والإمبراطور يحكمون الشعب ورجال الدين حكماً مشتركاً. حكومة الكونتية - لم يحاول شارلمان العمل بقانون الإمبراطورية الرومانية بل ترك أرباب الأملاك معفون من الضرائب غذ رأى من ريع أملاكه الخاصة ما يكفي للإنفاق عَلَى قصره والجيش لا يكلفه شيئاً فليس عليه من ثم إلا أن ينشر الأمن ويقيم ميزان العدل إذا احتيج إليهم فكان الكونتية هم الذين يتولون هذه الوظائف ولكل مدينة (مثل تور انجر شارتر) كونت واحد وهو في العادة أعظم أرباب الأملاك في ذلك الصقع فكان هذا الكونت يحكم باسم ملك في مكورته وحكمه نافذ عَلَى من تحت يده فيدعو المحاربين للحملات ويطارد

الأشقياء وكان كثيراً عددهم يومئذ ويجمع كل سنة عدة مجالس للحكم في الخلاء يحضرها أرباب الأملاك في تلك الكورة مدججين بأسلحتهم وكانت الكونتية في حاجة إلى من يراقب حركاتهم إذ كانوا من السطوة والاستقلال في بلادهم حتى أن بعضهم دعوا أنفسهم كونتية بنعمة من الله ولذا كانوا كثيراً ما يستعملون سلطانهم لاضطهاد السكان. قال الكابيتوليرلميون نريد أن لا يكره الكونتية الرجال الأحرار أن يجزوا لهم عشب مروجهم أو يحصدوا لهم حصادهم وأن لا يأخذوا بالقوة والاحتيال أملاك الفقراء. فكان المرسلون من قبل الملك يطوفون كل سنة البلاد ليراقبوا أعمال الكونتية فيجمعون السكان في كل بلد ويسألونهم عما يشتكون منه ثم يحملون الكونت عَلَى إنصافهم مهددين إياه بغضب الملك عليه ولما سقط اعتبار الملك لم يستطع إنقاذ مرسليه غدا كل كونت ملكاً صغيراً وتألفت من كل كونتية مملكة صغيرة. رجال الدين في الحكومة - أصبح الأساقفة ورؤساء الأديار منذ ذاك العهد من علية القوم وأرباب الأملاك الواسعة فيهم. ودخلوا عَلَى عهد شارلمان في الحكومة فكانت تعقد جلسة سنوية في قصر الملك للنظر في المسائل فيتشاور الأساقفة ورؤساء الأديان مع الكونتية ورجال الجيش وإذا كانت هذه الفئات منورة أكثر من غيرها فهي التي كانت تسن القوانين وتدونها. وكان لكل مدينة كونتها وأسقفها فجعل شارلمان كالأسقف مساوياً للكونت وأمرهما أن يحكما معاً قائلاً إننا نريد أن يعين الأساقفة الكونتية ويساعد الكونتية الأساقفة ليتمكن كل من الفريقين أن يقوم بعمله حق القيام. فكان عَلَى الأسقف أن يحرم اللصوص والعصاة وعلى الكونت أن يكوه بالقوة من كانوا يعصون الأسقف ومكافأة للسلطة التي منحها الإمبراطور لرجال الدين أصبح هو نفسه زعيم الكنيسة أو أسقف الأساقفة فكتب إلى البابا: إن من شأني أن أدافع عن كنيسة المسيح المقدسة في الخارج من سطوات الكافرين وأن أعززها في الداخل بتعريفي للإيمان الحقيقي، فالإمبراطور هو الذي يعين الأساقفة ورؤساء الأديار وهو الذي يرأس المجامع المقدسة. ولم يكن ملوك الإفرنج من ثقوب الذهن بحيث يميزون بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية بل كانوا يمزجونهما ويجعلون زمامهما في يد واحدة. وهذا المزج في السلطة هو العلامة الفارقة في الحكومة الكارولنجية. فأنتجت نزاعاً دام عدة قرون بين الإمبراطور

زعيم الدولة والبابا زعيم الكنيسة. ولم تدم معاونة الأساقفة للكونتية أيضاً فقد كتب شارلمان سنة 881 في مرسوم صدر عنه: إننا نريد أن نخلوا بأساقفتنا وكونتيتنا ونكلمهم خاصة ونبحث عن السبب الذي من أجله لا يحبون أن يعين بعضهم بعضاً وعندها تجري المناقشة فتقرر الخطة التي يجب عَلَى الأسقف أن يخطتها لنفسه في المسائل الدنيوية والخطة التي يسير عليها الكونت أو غيره من رجال الدنيا في المسائل الكنيسية وكان هذا هو الحد الفاصل بين سلطة رجال الدين والحكومة التي يبحث عنها شارلمان ولكن هذا الحد لم يوافق هو ولا أحد من أباطرة القرون الوسطى إلى الظفر به. الجيش - عرف شارلمان أنه زعيم المقاتلين فقد قام بحياته بثلاث وستين حملة ولذلك قضت الحال أن يكون الشعب جيشاً ليكفي تلك الحروب التي لا تفتا ناشبة. كان جميع أرباب الأملاك من المحاربين الغزاة بحسب عادة الشعوب الجرمانية فإذا أراد الملك أن يجمل حملة يصدر أمره إليهم بالاجتماع في مكان يعينه فإذا بلغهم الأمر اليوم لا مناص لهم من الوقوف عَلَى قدم الاستعداد غداً أما الخوالف منهم فيغرمون غرامة شديدة وعلى الأساقفة ورؤساء الديار من الخاصة أن يجيبوا الدعوة كما يجيبها العامة وإليك كتاباً للدعوة للاجتماع ورد عَلَى رئيس الدير فولا: نأمركم أن تحضروا في اجتماع 20 حزيران في رجالكم المسلحين المستعدين عَلَى ما يجب فتذهبون إلى المكان المعين وانتم عَلَى الاستعداد عَلَى جانب يتيسر لكم معه أن تحاربوا في كل مكان نأمركم به ونعني بذلك أن تكونوا مسلحين تامة أدواتكم وذخائركم فيكون لكل فارس ترس ورمح ونصف سيف وسهم وجعبة مملوءة وتحمل مركباتكم أدوات مختلفة من الأجناس مثل الفؤوس والمبراة والمثاقب والمحافر والمعاول والمساحي وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها في الجيش وتحملون مئونتكم عن ثلاثة أشهر وألبسة عن سنة. فكان يقضي عَلَى الغزاة أن يتجهزوا ويتسلحوا عَلَى نفقتهم ومن قل ماله يأتون رجالة وسلالهم ترس طويل ولكن كل من كان لهم مال يحاربون فرساناً راكبين ومدججين بشكة حديد. وهذه الشكة غير مستحدثة بل استعملها الفرسان البارتيون وكانت أجسام الفرسان الذين يقاتلون في الجيش الروماني في القرن السادس مسلحة عَلَى تلك الصورة ولما أطلقت للمحاربين حريتهم أن يتجهزوا كما يشاءون آثروا من الجهاز ما يقيهم الخطر أكثر من

غيره وهكذا لم يبق مشاة في الجيوش في أواخر القرن التاسع لم يبق في أوربا الغربية من المقاتلة إلا الفرسان اللابسون للحديد وهؤلاء هم فرسان القرون الوسطى. دستور الحكومة - إن المراسيم الصادرة عن شارلمان هي مجموع ما كتبته حكومته وهي عبارة عن مناشير وتقارير وكتب ولوائح بسيطة ولم يكن معظم هذه المناشير إلا ابن ساعته صدرت في غرض خاص ولكن من القوانين ما يجب تطبيقه في المملكة كلها وقد حفظ بعضها ودخل في مصطلحات الشعوب في القرون الوسطى. الآداب والمدارس - كان شارلمان يجب الآداب حباً ساذجاً ما يحب غير المتعلمين أن يروا أحياناً السطور المكتوبة يحبها لأنها تتراءى له أنها غير منفصلة عن الدين المسيحي واليك ما كتبه سنة 787 إلى جميع أساقفة مملكته ورؤساء أدياره: أحسنوا استعمال ذكائكم بعد مشاورة المخلصين لنا فقد رأينا أن الأسقفيات والأديار في حكومتنا يجب عليها زيادة عَلَى الحياة المنظمة والقيام بالدين لمقدس أن تبذل غيرتها فيدرس الآداب وأن تعلمها إلى من يقدر عَلَى تعلمها بعناية الله فإن من يريدون أن يرضوا الخالق بان يعيشوا عيشة راضية لا يتماهلون في سبيل مرضاته بأن يتكلموا أطيب الكلام. ولما كان قد كتب إلينا في السنين الأخيرة يعرفوننا أن الإخوان الذين يعيشون فيها يضاعفون صلواتهم لنا فقد لاحظنا في معظم هذه المكتوبات التي فيها شعور الحق كلاماً غثاً لا متانة فيه ولذلك بدأنا نتخوف من أن يقل العلم في أسلوب الكتابة وأن يفقد الذكاء فيكون أقل مما يجب في تفسير الكتب المقدسة ولذا نحرضكم أن تتنافسوا في الغيرة عَلَى التعلم لتستطيعوا أن تحسنوا فهم الكتب المقدسة عَلَى أيسر وجه تحيطوا بأسرارها إحاطةً راسخة وعليه فقد أمر بأن يكون لكل كنيسة كتدرائية أو دير مدرسة فيكون في صحنها صف يقوم رجال الكنيسة عَلَى تخريج الأولاد فيه وكثيراً ما كان يحضر شارلمان بنفسه في الدروس فيتعلم الأولاد القراءة والكتابة اللاتينية وترنيم الصلوات ومن هؤلاء الأولاد كان شارلمان يختار الأساقفة ورؤساء الأديار. ولقد كان شارلمان يحب الأدباء فجمع حوله عصابة بمجمع علمي مصغر ولقب الرجال الذين يؤلفون هذا المجمع باسم رجل عظيم من القدماء فاسم الكوين هوراس واسم أدالارد أوغسطينيون واسم أنغليبر هوميروس واسم تيودولف بينادر واسم شارلمان داود. فيقضون الوقت في تأليف أشعار لاتينية وفي القراءة والإنشاد وحل المعميات والأحاجي وإليك جملة

مسرجة مما كتبه الكوين: ما هي الكتابة؟ _حافظة التاريخ - ما الكلام؟ _خيانة الفكر - من يولد الكلام - اللسان - ما هو اللسان؟ _المدقق الذي يضرب الهواء - ما هو الهواء؟ _حافظ الحياة - ما هي الحياة؟ _فرح السعداء وترح البائسين وتوقع الموت والأدبيات المأثورة عن هؤلاء الأدباء يرغبون فيها مع أنها صبيانية تشبه تمارين أبناء المدارس ولم يكن للبرابرة من الثقة بأنفسهم ما يجرؤون معها أن يكونوا مبتكرين هم أنفسهم بل كانوا يطمعون كل الطمع باحتذاء مثال القدماء ولذلك لم يوقفوا إلى إيجاد أدبيات ذات قيمة عَلَى أن العناية التي بذلها شارلمان ورجال الدين وأدباء عصره لم تكن عقيمة بأسرها فإنه منذ نحو قرنين لم يكن في غالية شيء يشبه الأدب وما قط دونوا كتباً بل ولا أخباراً وتكتب الكتابات بالرسمية التي لا يستغنى عنها (كالمواثيق والهبات والوصايا) باللغة اللاتينية البربرية وهي من سقم الخط بحيث يصعب حلها وبعد شارلمان أصبحت اللغة اللاتينية مضبوطة جداً والكتابة مقروءة للغاية تكاد تشبه الكتب المطبوعة. خراب مملكة شارلمان - لم طل عمر مملكة شارلمان فإن الإفرنج لم يستطيعوا أن يقلعوا عن عاداتهم في أن يروا الممالك كالأملاك تقسم بعد موت الملك بين أولاده عَلَى السواء بيد أن نفسه وزع بلاده بين أولاده الثلاثة. فعاش لويز وحده وورث الكل ورزق لويز هذا ثلاثة أولاد أيضاً فأراد مستشاروه من رجال الكنيسة أن يرث الملك بكر أولاده فقط لتبقى مملكة واحدة وعضد الغزاة الإفرنج أصغر الأولاد سناً ذلك غلب حزب الوحدة عَلَى أمره وتعددت الممالك بتعدد أولاد كل ملك فكان تقل وتكثر عَلَى تلك النسبة. أما لقب الإمبراطور فلم تتأتى تجزئته بل كان يطلق عَلَى ملك واحد ويكون عَلَى العادة من أضعفهم سلطة مثل ملك إيطاليا وبعد سنة 924 لم يعد أحد يليق لهذا اللقب. فرأى مؤلفو ذاك العهد ولحزن آخذ منهم تلك المملكة العظمى تتفتت. وقد ألف فلوروس لشماس ليون مرثية بعقد عقد عهدة فردون قال فيها: بدلاً من ملك لنا عدة أفيال وبدلاً من ملكة لنا أجزاء من مملكة. وما من أحد إذ ذاك كان يظن أن تلك القطع تصبح أيضاً أمماً وإن ذلك لاختلاف أبرك من تلك الوحدة الرومانية. النظام الإقطاعي المجتمع الإقطاعي

الطبقات الجديدة - اضمحلت في القرن العاشر القوانين الخاصة بالأمم البربرية المختلفة فقبل سكان جميع أوروبا تقريباً عادة واحدة وامتاز مذ ذلك الحين بعضهم عن الآخر لا برمتهم بل بغناهم وعملهم ولم يعد يجري ذكر للإفرنج (الإفرنك) ولا للرومان ولا للبورغونديين. بل أصبت الشهرة للفرسان والسادة والشمامسة والفلاحين قال أحد الأساقفة في القرن الحادي عشر أن بيت الله المثلث فمن أبناءه من يحارب ومنهم من يصلي وغيرهم من يعمل. وبهذا المجتمع الجديد ابتدأ نظام دام إلى أواخر القرن الخامس عشر. الفرسان - قضي عَلَى كل رجل حر منذ عهد شارلمان أن يكون جندياً وقد جاء بعض الإسبانيين ممن طردهم المسلمون يسكنون في إقليم لانك دوك فقال لويز لادبونير وقد منحهم أراضي يستثمرونها إنهم كسائر الرجال الأحرار يذهبون إلى الجيش. وكل من لا يريد أن يخدم الجندية أو لا يستطيع أن يجهز نفسه للحرب يفقد حريته. فلم يكن غير رجال السلاح يعدون من أهل المجتمع ومنذ القرن التاسع كان الجندي يحارب راكباً حصانه عَلَى الدوام (وأصبحت كلمة ميل اللاتينية ومعناها الجندي مرادفة لكلمة فارس) فيتقلد حساماً من الفولاذ ورمحاً طويلاً من خشب الدردار ويحمل للتوقي من الضرب مجناً طويلاً من الخشب والجلد ويلبس في الوغى قميصاً مغشى بحلق الحديد وفي أواخر القرن الحادي عشر استعيض عن هذا القميص بآخر من زرد الحديد يصل إلى الركبة ويغمر حتى الذقن والرأي محفوظ بخوذة من الفولاذ والأنف بمنخرين يتنفس بهما. وهذا الجهاز ثقيل متشعب يقتضي لاستخدامه عادة طويلة وخادم خاص ليحمل المجن ويضع الخوذة والدرع وهذا الخادم يسمى حامل المجن وباللاتينية حامل الأسلحة. في القرن الحادي عشر انتهت لحال بهؤلاء الرجال المسلحين أن يؤلفوا منهم طبقوا وراية فكان الأبناء في أسرة من الفرسان يصبحون فرساناً وبنات الفرسان لا يتزوجن إلا من فرسان ولا يحق لأحد أن يتسلح فارساً إلا إذ كان ابن فارس. وليست الفروسية صناعة بل منصب ورتبة ولم يكتف الفرسان عَلَى ذلك العهد أن يكونوا رجالاً أحراراً بل دعوا أنفسهم (الأشراف) ودخل في تلك الطبقة الممتازة الخدمة وحاملو المجان من بعد القرن السادس شر فأصبحت كلمتا فارس وبحامل المجن مرادفتين لكلمة شريف. السادة - كل رجل عظيم في هذا المجتمع العسكري بأسره يعد رجل حرب حتى الكونتية

والدوقات والملوك فبين الفرسان إذاً كثير من كبار أرباب الأملاك وقد نالوا من الملك أملاكاً عظيمة عَلَى سبيل الهبة أو ورثوها من آبائهم وتكون هذه الأملاك عَلَى الأقل قرية برمتها وفي الأعم الأغلب أن تكون عدة قرى. ويدعى هؤلاء المالكون العظام بحسب البلاد فمعنى البارونات الرجال ومعنى سير أو سنيور السادة أو الأغنياء ويلقب نساؤهم بدام أي سيدة. وإذا كان أولئك السادة الأغنياء فهم في حل من أن يأخذوا في خدمتهم فرساناً آخرين ويذهبوا إلى الحرب في رأس جيش صغير واصطلحوا عَلَى اتخاذ علم لهم يجتمعون تحته فيضم من شلهم ولذلك سمو العلميين العطايا والإقطاعات - اعتاد المقاتلة البرابرة منذ عهد شارلمان أن يقسموا بالزعيم الذي يقوم بالإنفاق عليهم بالإخلاص له والاستماتة دونه فالمقاتل عندما يقسمك هذا اليمين والزعيم متى قبله يكون ارتباطهم طول الحياة فكان لزعيم يدعوا المقاتل أميني أو رجلي أو مقاطعي أو عبدي وهذا يسمي زعيمه سيدي فالمقاطع يصحب سيده إلى الحرب ويخدمه حتى عَلَى المائدة فكان خادمه ورفيقه في الحرب. والسيد يؤدي إليه لقاء خدمته ما يعوله ويعطيه أسلحة وألبسة وحصاناً وأحياناً يعطيه ملكاً. ولقد أصبحت العادة في الإفضال عَلَى المقاطعين بأراض يستثمرونها عامة في فرنسا أواخر القرن التاسع (وربما نشأ ذلك من كون رجال الحرب نادرين في البلاد الفرنسوية) فالأرض تعط لقاء أجرة إقطاعاً أو مستعمرة ثم أصبح في حكم العادة المطلقة أن طل مقاطع يتناول إقطاعاً وأنه لا سبيل إلى أن يملك المرء إقطاعاً إن لم يكن مقاطعاً لأحد أرباب الأملاك. وإذا مات الإقطاعي يحق لابنه أن يخلفه وهكذا يتولى الفرسان أباً عن جد شؤون إقطاعاتهم فيغدون مستقلين عن سادتهم إلا قليلاً ثم أن السادة أقسموا لساداةٍ أعلى منهم بأن أملاكهم نالوها منهم عَلَى سبيل الإقطاع فيقسم الدوقات والكونتية للملك الذي كان يمنحهم الحكم إقطاعاً. ويكاد يكون جميع السادات سادة ومقاطعين في آن واحد والأراضي إلا قليلاً كانت تعتبر إقطاعات ومن هنا نشأ نظامها. وهذا النظام الذي وضع في القرن العاشر قلما يشبه طرائد عهد شارلمان عَلَى أن الأسماء والاعتبارات بقيت بحالها فإن المقاطع يقسم أيضاً يميناً يرتبط بها مدى الحياة وهذا ما يدعونه العطية سموها لأنها تعل المقاطع رجل السيد وإليك الصورة الشائعة في هذا

الباب: أيها السيد لقد أصبحت من رجالك صاحب الإقطاع الفلاني وأعدكم أن أرعى لكم حقكم وأدفع عنكم كيد كل من يحيا ويموت. ويعد المقاطع لسيده الإخلاص والمعاونة والمشورة ومعنى الإخلاص أن لا يضم مقاطعته ولا يقاتله ولا يعتدي عَلَى امرأته وأولاده. ومعنى المعاونة له أن يعونه سواء في المقاتلة دونه أو في إنزاله أحسن منزل وإعطاءه دراهم ومعنى المشورة أن يتقرب منه ينصحه ويعينه خصوصاً عَلَى الحكم والتصدر. انتهت هذه الواجبات بأن ضعفت وقلت حتى أن العطية لم تكن إلا اصطلاحات مألوفة ولما غلب جوفروي دانجو تيبو دي بلوا في القرن الحادي عشر اضطره لأن يتنازل له عن كونتية تورن عَلَى سبيل المقاطعة وأن يعطي لأسيره عطية. رجال الدين - كان ينظر إلى رجال الدين (أعضاء الكهنوت) وكانوا قادرين بغناهم أيضاً. وكانوا يعتقدون بإعطاء مال أو أرضاي للكنيسة كان من أكد الأسباب لمحو السيئات وإنقاذ الروح فكان زعيم الكنيسة المقدس والرهبان خدمة القديس يكافئون المعطي بتدخله في أمرهم مع الله. وقد عثر في عطية خصصت لإحدى الكنائس المخصصة للقديس إيتن (1145) ما نصه: أعطيت إلى ايتن الشهير العظيم جزءاً من ارثي في الأرض ليكون لي من صلواته وصلوات أتباعه العفو عن خطيئاتي والنجاة الأبدي وكانت صكوك الهبات تبدأ بالعبارات الآتية: علاجاً لروحي وأرواح أجدادي وأحياناً يزيدون لدفن جسدي ولذلك يهب الواهبون أموالهم ليدفنون فيها. فكان رجال الدين يأخذون قرى برمتها وهي عطايا السادات العظام وأحيانا قطع ارض أو ملكاً وهي عطايا الفرسان والفلاحين فالدير الذي يبدأ بأن يمنح ملكاً واحداً يملك مئات من القرى بعد والأساقفة ورؤساء الأديار وهم أصحاب تلك الأملاك العظيمة يصبحون سادة عظماء ليس بعد عظمتهم عظمة. العامة - أصبح جميع أرباب الملاك خلال حروب القرن التاسع مكرهون عَلَى الحضور إلى الجيش وكانوا إلا قليلا من حلقة الفرسان فالأرض كانت من ثم ملك الكنائس والسادات والفرسان وكلهم من أرباب كبار الأملاك لا يزرعون بأنفسهم وكانوا منقسمين إلى محلات كبرى تسمى المدن وفي العادة أن المدينة كان عبارة فيما ندعوه اليوم قرية والمحلة كانت بسعتها كالمديرية. وتكاد تكون جميع القرى الفرنسوية ريد عهدها إلى تاريخ تلك المحلة في القرون الوسطى فالفلاحون الذين سكنوا هذه المدن سموا باسمها فسموهم العامة فلم يكونوا

مالكين للأرض بل كانوا يتوفرون عَلَى زرعها فقط فمنهم من كان من قدماء الرجال الأحرار الفقراء دخلوا في خدمة أرباب الملك كالمزارعين والمستعمرين ويسمون الأحرار والآخرون هم من نسل قدماء عبيد أرباب الأملاك ويدعون باسم العبيد الرومانيين وهؤلاء هم العبيد عَلَى أن العبد لم يكن كما كان العبد الروماني بل كان ساكناً في الأرض التي يتوفر عَلَى زراعتها وله أسرة وبيت وحقل فسيده لم يكن يستطيع أن يجليه عن قريته ببيعه إلى مكان بعيد ولا أن يأخذ امرأته وأولاده ولا أن يأخذ منه داره ولا الحقل إذا منحطا بدرجته عن العامي الحر. حالة العامة_كان في المحلة العظمى في القرون الوسطى نوعان مون الأراضي فبعضها (القسم الأعظم) ترك ليحرثونها ويحتفظن بغلاتها والآخر (في العادة أن تكون الأملاك قريبة من دار السيد) يبقى لصاحب الملك ويقضي عَلَى الفلاحين أن يحرثوها ويزرعوها ويحصدوها له وفي أيامنا ترى الزراع عندما يكونون غير مالكين هم عملة بالمياومة أو مزارعون وزراع القرون الوسطى أو مزارعون في أرضهم وعملة بالأجرة في أراضي المالك وهم بعضهم مع البعض من الأب إلى الابن إلى صاحب الملك لا يستطيع أن يأخذ أرضه التي يشغلونها ويتوارثونها كما يتوارث الملك ولكن لقاء ذلك يتحملون عدة أعمال وحقوق إقطاعية (1ً) يعطون المالك أجرة الأرض وضرائب ومخصصات من الحنطة والعلف الأبيض والدجاج ويسمونها العادات لأنها مقررة بحكم العادة ويميز الفلاحون العادات الجميلة أي المخصصات الموضوعة من القديم عن العادات السيئة التي يضعا السيد بالقوة خلافا للعادة. (2ً) يجب عليهم أن يذهبوا إلى أرض السيد يزرعونها ويحصدونها ويسمدونها ويقصلونها ويجففونها ويقطعون الخشب ويأتون بالقش وهذه هي السخرة. (3ً) عليهم أن يحملوا حنطتهم لطحنها في طاحون السيد وأن ينقلوا الخبز إلى فرن السيد ويحملون العنب إلى معصرته ويجب عليهم أن يدافعوا عن هذه الخدم المقررة عليهم لها ما يتقضي من النفقات كما يحتم عليهم في السوق أن يستخدموا قياس السيد وميزانه ويدفعوا أجترتهما. (4ً) يتقاضون في قضاياهم إلى السيد وإذا ارتكبوا جنحة يدفعون للسيد غرامة يأخذها

لنفسه وإذا ارتكبوا جناية يحكم السيد عليهم بالإعدام ويصادر جميع ما يملكون. والعدل أي حق جباية الغرامات هو دخل يتسرب إلى جيب السيد ويعد في جملة ما يملكه فيقول السيد: عدلي في المحلة الفلانية. فهو يبيعه ويعطيه إقطاعاً ويقسمه بين بنيه وليس من الأمور النادرة أن يملك فارس نصف أو ربع القضاء في قرية أو القضاء في بعض البيوت. وينصب السيد في أرضه رمزاً إلى حقه واللصوص الذين يصلبهم عليها دليل ناطق بحقه في هذا الشأن. وإذا تنازع سيدان في تولي أحكام العدل في قرية (كما يحدث أحياناً) يجيء رجال السيد المطالب ينزعون المصلوب ويأنون به إلى مشنقة سيدهم وإذا ربح القضية السيد الذي صلب المصلوب تعاد إليه جثة مصلوبه وإلا فيرجع إليه قميص مملوء تبناً بدله ويعيد الجثة أو صورتها. فالعامة خاضعون كل الخضوع لسيدهم ولا يحق لهم أن يجتمعوا لفض مصالحهم وإذا فعلوا يغرمهم بغرامات باهظة فهو قاضيهم الوحيد. قال أحد مشرعي القرن الثالث عشر: إنك يا هذا إذا أخذت شيئاً من عبدك زيادة عَلَى المخصص لك في القانون تأخذه وأنت عَلَى خطر كما يأخذه اللص وليس بينك وبين عامليك من قاضٍ إلا الله. ومع هذا فحال العامة كان أقل شدة مما كان عليه حال الفلاحين العبيد في القديم ولكنهم ليسوا بعد أحراراً حقيقة فالفرسان يحتقرونهم لأنهم يشتغلون في الأرض ولأنهم عزل من السلاح وأصبحت كلمة عامي عندهم مرادفة لكلمة نذل. الأخلاق الحروب - جرت عادة الفرسان أن يتقاتلوا عادةً لهم أصبحت قاعدة فيحق لكل رجل يحمل السلاح أن يخوض غمار الحرب لإهانة تلحق به أو لاعتداء عَلَى محلته فيبعث الفارس إلى خصمه قفازه أو بعض شعرات من خروفه دليلٌ عَلَى إعلان الحرب. ويدخل أتباع الخصمين وذوو قرباهما في الحرب شاؤا أم أبوا ينثالون عَلَى محلات العدو ويستاقون ماشيته ويحاصرون قصره ويحاولون القبض عليه لينفدي نفسه منهم. وتصبح الحرب من ثم لعباً وتجارة فاللعب ليس فيه خطر كبير عَلَى المسلحين من الرجال بالدروع. وإليك كيف وصف أوردريك فيتال حرب بريمول (1119) بين ملك فرنسا وملك إنكلترا: سبقي 140 فارساً أسرى عند الغالب ولكني علمت أنه لم يقتقل من التسعمائة شخص الذين حاربوا

سوى ثلاثة أشخاص فقط وذلك لأنهم كانوا مكتسين كلهم بالحديد من مفرقهم إلى قدمهم وكان خوف الله والأخوة في حمل السلاح تدعوهم إلى الاقتصاد في الطعان والتوقف في ضرب الأقران فيؤثر القرن أن يأسر صاحبه عَلَى أن يقتله. وكثيراً ما يرى الفرسان من الأوفق أن يطلبوا من الفلاحين والتجار الفدى فتنقلب الحرب إلى لصوصية. وكان في عامة البلاد سادة مثل توما دي مارل الذي كان يستوقف التجار عَلَى الطرق ويسلبهم أثقالهم ويسجنهم في قصره ويعذبهم ليكرههم عَلَى أن يفتدوا منه أنفسهم. وقد ظل حق الحرب مرعياً في جميع الولايات إلى القرن الخامس عشر فلم يرد الفرسان أن يتخلوا عنه فكانت الحرب شغلهم الشاغل طوال حياتهم. وإليك كيف قص فوك كونت دانجو سير خاله جو فروي: إن خالي صار فارساً في حياة أبيه وكانت حربه الأولى هي التي شهرها عَلَى جيرانه فقمام بقتالين أحدهما عَلَى كونت بواتو والآخر عَلَى كونت مين واسرهما كليهما وحاب أباه أيضاً ولما قضى أبوه صارت إليه كونتية آنجو فحارب كونت بلوا وأسرته في ألف من فرسانه واضطر أن يتخلى له عن تورين ثم حاب غليوم حاكم نورمنديا وحارب كونت بورج وكونت بواتو وفيكونت توار وكونت نانت وكونتية البريتونيين في رين وهوغ وكونت مين الذي خان عهده. ومن أجل هذتن الحروب وما بذله فيها من الشجاعة لقب بمارتل وحسنت خاتمته لأنه رجع عن الفروسية وعن زخارف هذه الدنيا قبل وفاته بليلة وترهب في دير القديس نقولا الذي بناه هو وأبوه تزهداً ووقفوا عليه الوقوف من الأملاك. الأبراج والقصور - كان السادة في عهد تلك الحروب في حاجة إلى تحصين بيوتهم وكانت التحصين في القرن العاشر مشعثاً جداً وهو عبارة عن حفرة عميقة يحميها من الخارج منحدر عليه عرائس وأشجار وفي وسط ذاك السور ينشئون أكمة وبيت السيد بني في ذروتها وما هو إلا برج قوي من الخشب وبابه عالٍ جداً عن سطح الأرض ولا سبيل بالوصول إليه إلا عبر المرور عَلَى لوح من الخشب متحرك منحدر من الباب إلى آخر الخندق. ولمنع العدو من غحراق البرج يغطونه بجلود حيوانات سلخت حديثاً وهذه القلعة الغليظة هي البرج أو بيت السيد أما سائر الأماكن فتعمر في السور في سفح الأكمة (فمنها مساكن للخدم واصطبلات وأهراء) وكلها من توابع البرج. واخذ القوم في القرن الجحادي عشر (في بلاد الجنوب أولاً) يستعيضون عن العرائش

وبرج الخشب بحائط أو برج من الحجر عَلَى نحو ما كان للرومان حوالى مدنهم الحصينة وسموا هذه القلاع باسم لاتيني كاستل أو قصر (موقع صغير من الحصن) فقصر القرنين الثاني عشر والثالث عشر عبارة عن سور من الحجر عَلَى جوانبه أبراج وهو محاط من كل جانب بخنادق عميقة أو هوى ووهاد وبنيت عند الاستطاعة في مكان حصين عَلَى منحدر عقبة كؤود أو شقيف في أرض سهلة عَلَى أكمة صناعية فيها أنواع الدفاع فإذا جاء العدو يرى أولاً في مقدمة النخندق ما بصده عن المرمى ثم الخندق الذي يجتازه سكان القصر يصل بينهما معبر نقال معلق بسلاسل وعليه حواجز ثم يصل إلى أسفل حوائط السور التي أغلظوا سمكها ويقف المدافعون عَلَى الطريق المدور الذي يمتد في الداخل عَلَى الحائط فيقذفون السهام والحجار من الشرفات (زغاليل) ومماشي الخشب المعلقة فيحتوي عَلَى مساكن أهل القصر والمحاربين والاصطبلات والحظائر والأهراء والكنيسة وب السيد وهذا البيت هو برج جسيم (من طراز بوجانسي من القرن الحادي عشر علوه أربعون متراً وعمقه 24 وطراز كوسي من القرن الثالث عشر علوه 64 متراً وعمقه 31) وهناك القاعة العظمى التي يستقبل فيها السيد ضيوفه (للسادات العظام فقط خارج قصورهم ردهة استقبال وهي القصر) وغرفة منامه وغرفة أسرته وخزانته وسجلاته وفي ذروة ذاك المكان السطح الذي يشرف منه الديدبان عَلَى الضواحي وفي الأسفل عَلَى طبقتين من الأرض المحيس أو المطبق وهو مظلم رطب لا يخرج منه إلا بسلم. فإذا داهم العدو السور يستطيع المحاصرون الذين يعتصمون في القصر أن يدافعوا عنه رويداً رويداً وطبقة طبقة مادام الدرج الدوار ضيقاً. ويعيش السيد في قصره وباسمه يعرف بعد فيسمى بوشاردي مونمورانسي أو إنجراند دي كوسي. وللفارس كذلك بيت حصين ويطلق اسم بيته عَلَى اسم أسرته. الفروسية - أسلحة الفرسان ثقيلة الجرم فالواجب أن يتعلم الفارس استعمالها وحملها امتياز يجب أن يرخص للمرء بحملها فالمرء لا يولد فارساًَ حتى ولو كان ملكاً فمن القواعد المطلقة ألا يكون المرء فارساً إلا بعد التخرج في ذلك والاحتفال به. فعلى الشاب اللبق التمرن عَلَى ركوب الخيل وأن يحسن الضرب بالرمح والحسام وأن يصعد السلم. ومادام يتمرن عَلَى ذلك في بيت ابيه يبعث به ابوه إلى سيد من أصحابه فيصبح الشاب بعد بضع

سنين خادماً يحمل أسلحة معلمه فيقود كراعه ويعنى بتربيتها ويلبسه شكته ويخدمه عَلَى مائدته ويجعله في فراشه. فقد كان القدماء يرون من أعظم العار أن يخدم الإنسان إنساناً فلما أتى البربر أصبحت الخدمة منة إمارات الشرف فالسائس يخدم الفارس وهذا يخدم سيده القوامسة (والكونتية) والدوقات أيضاً يخدمون الملك عَلَى المائدة في الحفلات. فإذا بلغ السائس أشده يقبله أحد الفرسان في جملة رجاله باحتفال وكان هذا ساذجاً أولاً والفارس يدفع إلى المبتدئ سلاح فارس وهو عبارة عن ترس ودرع ورمح. ثم يصفعه عَلَى نقرته بجمع يده فالفارس الجديد يقفز عَلَى السرج ويرمح قليلاً وأحياناً يتسايف مع مجدار (شخص من خشب) منصوب أمام القصر وبهذا يكون الفارس فارساً وبعد حوالي القرن الثالث عشر أصيف إلى هذه الحفلات حفلات دينية في الكنيسة فيقام قداس وصلوات ووعظ يوجه إلى الفارس أما العادات الفخمة في قبول الفارس عَلَى ما يصفونها في الأقاصيص الحديثة فلم توضع إلا في القرن الخامس عشر. ولكل سائس الحق أن يصبح فارساً ولكن الواجب أن يكون غنياً ليتجهز بالسلاح والعدة ويعول سائساً وخدماً ولذلك يبقى معظم الشرفاء مواساً طوال حياتهم. أخلاق الفرسان - لا يمتاز شرفاء القرون الوسطى عن الفلاحين بتعلمهم ولا بتهذيبهم فمعظمهم لم يكونوا يعرفون القراءة وما شانهم إلا الشرب والطعام والصيد والحرب وكانوا في العادة متوحشين قساة وأحياناً حفاةً غلاظاً فقد قتل ريشاردس قلب الأسد مثال الفروسية 2500 أسير من العرب وقد فقأ عيون خمسة عشر فارساً أسروا في حرب أثارها عَلَى فيليب أغسطس وأعادهم إلى ملك فرنسا تاركاً لهم دليلاً منهم أبقى له عيناً واحدة يبصر بها فأجاب فيبليب أغسطس عَلَى عمله بأن فقأ معيون خمسة عشر فارساً من فرسان ريشاردس وأعادهم إليه تحت قيادة امرأة حتى لا يظن أحد كما قال مادحه بأنه دون ريشاردس قوة وشجاعة ولا أن يذهب إلى أنه يخافه. وفي سنة 1119 فقأ أوستاش دي بروتل أحد كبار السادة النورمانديين وصهر ملك إنكلترا عيني أحد الأشراف الذين كانوا عنده رهينة فاحتال والد المقلوعة عينه أن اخذ بنات أوستاش بواسطة جدهم وفقأ عيونهن وجدع أنوفهن. وهذا الإغراق في الشدة والقسوة البربرية لم يزل مالوفاص إلى القرن الرابع عشر والقرن الخوامس عشر. وقد أصبح الفرسان بحياة التشرد عَلَى هذا النحو قساة القلوب غلاظ الطبع

ولكن منحتهم بعض الفضائل التي تتطلبها الحروب وجعلتهم شجعاناً مفاخرين. والفارس التام الأدوات الذي يتغنى الشعراء بمديحه ويحاول كل إنسان تقليده هو الشجاع أو صاحب الأمانة والتدبر. وكانوا إذا سلحوا فارساً يقولون له: كن شجاعاً. والشجاع عندهم هو المقدام المفاخر الصادق الذي لا يتلكأ بتة ولا يرجع عن قوله ولا يحتمل أبداً إهانة. فالشجاعة والصدق كانت ودامت الصفات الرئيسية في الشرف. والشجاعة معتبرة لا من حيث الخدم التي تؤديها بل لأنهم كانوا يرونها جميلة في ذاتها والفارس قد يقتل نفسه حتى عَلَى غير جدوى لئلا يخالج أحداً شك بأنه أوجس خيفة. والموت خير من أن يدعى الرجل نذلاً كما جاء في قصيدة قديمة. وعلى الفارس أن يكون صادقاً براً بوعده وقوله ويفتضح خاصة إذا خان يمين الإخلاص الذي يقسمه لسيده ويكون كاذباً في إيمانه خائناً في فروسيته ومن العادة في برشلونة أن من لطم سيده بيده أو طعنه بلسانه أو استباح قصره واستصفاه هو من أعظم من ارتكبوا أعظم الخيانات. يفهم ذلك من روح عدة قصائد نظمت في القرون الوسطى. فقد اضطر روندي منتوبان أن يعلن الحرب عَلَى سيده شارلمان فحاذر أن يؤذيه أقل إيذاء ولما أسر وقع عَلَى رجليه طالباً الصفح عنه. ولقد نال برنيه تابع روال دي كامبري ما جلب عليه العار من سيده فسأله سائر الفرسان كيف يستطيع أن يظل عَلَى خدمته فأجاب: إن راولا هو سيدي هو أكثر خيانة من جودا ولكنه سيدي فقالوا لهم أجمعون إنك محق يا برنيه. الشرف - يفاخر الفارس أنه شريف وجندي ويعرف لنفسه فضائلها فلا يشك فيه أحد بل ولا يلاحظ ذلك. وليس عَلَى أحد أن يضربه أو يهينه أو يعاكسه لأن ذلك مما يؤدي إلى أنه متهم بأمانته وهو أيضاً لا يتحمل ضربة ولا إهانة ولا تكذيباً ويثلم شرفه في إظار الفرسان وفي نظر نفسه إذا لم ينتقم لذاته ممن رماه بالعار والشنار. وهذا الشعور هو الشرف وهو نتيجة كبرياء أو إعجاب شديدين فهو ينزل نفسه منزلة رفيعة ويشعر بالحاجة بأنه يريد أن يشركه غيره بهذا الفكر. ولم يكن لليونان وللرومان لفظ للتعبير عن هذه الصفة بل إنها أنشأت في القرون الوسطى وستظل إلى أيامنا دليل عَلَى الشرف الحقيقي. فنقطة الشرف والرغبة في بقاء الشرف سالماً يصبح قاعدة سلوك الأشراف ومنقذاً لمكانتهم. حكومة الإقطاعات

استقلال أرباب الأملاك - ضعفت سلطة الملك منذ القرن التاسع فضعفت طاعة رعيته فاعتاد السادات من العامة والخاصة أن يكونوا مستقلين في بيوتهم فكل صاحب ملك (فارساً كان أو رئيس دير) هو كالمليك الصغير في أملاكه فحراثوه وخدمته هم رعاياه وله الحق أن يقودهم ويغرمهم ويحبسهم ويشنقهم وله مشنقة خاصة وله مناد يبلغ أوامره إلى السكان ويحارب جيرانه وكثيراً ما يصك نقوداً. قال أحد فقهاء القرن الثالث عشر أن كل بارون هو مليك في أرضه. وكل محلة هي مملكة صغيرة بحيث أن رجال ذاك الحي يدعون أهل القرية المجاورة غرباء عنهم وكان في البلاد عدة ألوف من هؤلاء الأفيال وكثير هم فرسان فقط لا يملكون إلا قرية واحدة أما غيرهم من الأغنياء فيلقبون بألفاظ سير وبارون ثم أن في كل ولاية رجل يلقب بلقب كونت أو الدوق ويكون أعظم أرباب الأملاك في الولاية ولم يكن أجداده عَلَى عهد شارلمان سوى حكام في خدمة الملك بيد أن الملك في القرن العاشر لم يكن له قوة ليستعيد منهم السلطة لأنهم أصبحوا كونتية ودوقات أباً عن جد وأصبحت دوقياتهم وكونتياتهم إقطاعاً أي ملكاً وزهي كسائر الأملاك يمكن بيعها وو قفها وتنسيقها أيضاً (كما وقع لدوقية غاسكونيا) أو أن تنضم إلى غيرها (كما وقع لكونتيتي بولوز وشامبانيا) وإذا لم يعقب صاحبها ولداً ذكر تنقل أملاكه إلى ابنته ويكون لها منها بائنة (دوطة) تعطيها زوجها (ويقول عندها أن الملك صار لامرأة) وغذ ذاك يكون لكل مالك في ملكه سلطة ملك وكل ملك يجعل مملكته كملك. وقد بانت بهم الحال أن يمزجوا بين التملك والملك ولذلك كانت جميع سياسة الملوك في القرون الوسطى سياسة بيوت وأسرات وكل ملك كالفلاح لعهدنا يحاول أن يوسع ملكه وأن يعول عياله. الملك - كان الملك أعلى سادات فرنسا كعباً وارقاهم منزلة وله لقب سامٍ ويخضع له الجميع ولكنه لم يكن أقدرهم بل كان لدوق نورمانديا وكونت تولوز املاك أوسع من أملاكه ولم يكن يمين الإخلاص الذي يرتبط به أولئك السادة العظام مع الملك إلا عبارة عن حفلة أدبية يمنعهم من أن يعلنوا الحرب عليه حتى أنهم كانوا إذا لم يريدون نقض العهد علناً قلما يتضايقون منه. وقد وضع بروبرت كونت فلاندر سنة 1101 وفي عهدة عقدها مع ملك إنكلترا الشرط الآتي: إذا هاجم لويس ملك فرنسا الملك هنري ملك نورمانديا يذهب روبرت بعشرة من الفرسان فقط إلى جيش لويس ويبقى الخمسمائة فارس الآخرون في خدمة الملك

هنري وإذا زحف الملك لويس عَلَى إنكلترا وأخذ معه الكونت يتحتم عَلَى الكونت أن يأخذ معه أقل ما يمكن من الرجال. ولقد بلغ العجب مبلغه في بلاط لويس السابع عندما جاءه اسقف ماند إلى باريز يعترف بسلطة ملك فرنسا وقيل أن هذا البلد لم يخضع قط إلا لأسقفه ولم يكن الملك كسائر السادة مطاعاً إلا في محلته واقتضى له إذا أراد أن يطاع في مملكة فرنسا أن يوسع أملاكه عَلَى مر القرون ويدخلون ولاياتها في ملكه الواحدة بعد الأخرى. العادة - لم يمكن لأهل القرون الوسطى قوانين محررة بل كانوا يعملون في كل مسألة بما سلف لأجدادهم منها ويسمون ذلك اتباع العادة ولم تكن العادة مكتوبة بل تحفظ تقليداً حتى في القرن الثالث عشر أيضاً إذا حدث حادث مشتبه به يجتمع أقدام السكان ويسألون عما رأوه يعمل في مثل هذا الشأن وهكذا كان لكل قرية عاداتها حدثت مع الزمن ولم تكن تشبع عادة القرية المجاورة قال بومناروا لا يوجد في هذه المملكة سيدان حاكمان يعملان بعادة واحدة ومع هذا فإن الصقع الواحد الذي تتشابه عاداته بعض الشيء يتألف منها عادة واحدة. والفرق الكبير كان بين بلاد الشمال حيث العادة كانت منبعثة من العادات الجرمانية وبين بلاد الجنوب التي احتفظت بعادات الحقوق الرومانية. وبعد فقد كان أهل القرون الوسطى يحبون العادة ويحترمونها لأنها كانت القاعدة الوحيدة التي يهرع إليها والسد الوحيد في وجه الظلم وعندهم أن العادة يجب بقاؤها ومن لا يحفظها يوشك أن يفتح سبيل الخصام الكثير بين الناس. السلم والعدل - كان أرباب الأملاك في القرون الوسطى يوطدون دعائم السلام بين عبيد محلتهم ويحكمون بينهم (أحكاماً تختلف جوراً وعدلاً) ولكن لم يوطد أحد دعائم السلام بين أرباب الأملاك وكل منهم يحكم لنفسه بنفسه وذلك بإشهار الحرب عَلَى جاره ويقتضي لتقرير السلام أن يعدل الفرسان عن عاداتهم في التقاضي إلى السلاح وأن يقبلوا بعض قضاياهم في محكمة أن يستعاض عن الحروب بقضايا ولذا كان لفظ وسلم من الألفاظ المترادفة في القرون الوسطى ولقد كان للملك في بعض البلاد (مثل نومانديا وإنكلترا ونابل وإسبانيا) من الاقتدار ما يستطيع معه أن يكره الفرسان أن يحفظوا السلم للملك أو للدوق وحاول الأساقفة في البلاد الأخرى أن يقنعوا الفرسان بتوطيد سلام الله ولكنهم لم يفلحوا أن يؤسسوا محكمة منتظمة.

فإذا اختصم اثنان من أرباب الأملاك قد يقرر جيرانهما أن يفضوا الخلاف بينهما بواسطة محكمين أو أن يكون سيدهما من السلطة بحيث يكرههما عَلَى المثول أمامه وفي تلك الحال ينظر في الخلاف ضباط قصره وبعض الفرسان المجاورين وهذا ما يسمى محكمة السيد ولكن هذا الفصل متقطع وغير ونافذ أحياناً لأن من يخسر في الحكم لا يسعه إلا أن يعمد إلى القتال. فقد كاتن هوغ في القرن الحدي عشر أحد التابعين لأسقفية كامبري يستوقف تجار المدن ويقطع لحاهم ويطلب الفداء منهم ويخرب قرى الأسقف. فطلب سيده هذا ثلاث مرات متتابعة ثم مثل بين يديه ولكن أبى أن يعطي أقل تعويض فحكم فرسان محكمة الأسقف عليه بأنه يؤخذ من لإقطاعه فلم يهتم هوغ بالأمر وعاد إلى منزله وبعد مدة أوقف الأسقف بالذات. المبارزة - كانت قضية من القضايبا التي ينظر فيها الفرسان في محاكمهم أشبه بحرب فمتى اجتمع الخصمان يتضارب أحدهما وصاحبه ومن فاوز ربح القضية وكان ي1ذهب القوم إذ ذاك إلى أن الله كتب له الغلبة لأنه محق في أمره وهذا ما يسمونه بالقتال أو المبارزة. فالقضاة الذين تتألف منهم المملكة يعمدون إلى أن يحلفوا الخصمين بأنهما يزعمان بأن مع كل منهما الحق وأن يخطتوا الأرض التي تقع فيها المبارزة وأن يراقبوهما فالمحكمة تأمر بالمبارزة لا عند حدوث جناية أو إهانة بل للبت في أمر محلة لمن تكون وفي أي قاعدة في العدل يجب إتباعها. وقد تبارز خصمان في القرن الثالث عشر بأمر الفونس ملك قشتالة للحكم فيما إذا كان يدخل القانون الروماني إلى مملكته. وكان الفرسان يعتبرون المبارزة أسهل ذريعة وأشرفها للبت في قضية فلم يكن إذ ذاك مناقشة تجري ولا حجة تدل بها فلا جواب يجاب به الخصم إلا القتال. ولم تؤلف المبارزة فقط في محاكم الفرسان بل في محاكم المدن بين أهل الطبقة الوسطى وأحياناً بين الفلاحين في البرية فيتسلح المتقاتلون بالترس والعصى وإذا كان أحد الخصمين ليس من القوة بحيث يستطيع البراز يعهد إليها إلى آخر ينوب عنه فكان القتال يجري في باريز حتى في محكمة الأسقف ولقد وقع شك في هذه العادة فسئل البابا أوجين الثالث رأيه فأجاب عليكم باستعمال عاداتكم. ولقد تأصلت عادة البراز تأصلاً تعذر معه استئصالها ولما الغي البراز في المحاكم ظل

ينظر إليه أنه الواسطة الوحيدة في قضايا استرداد الشرف المثلوم فهو كالمروءة بقية ما أبقته القرون الوسطى من عاداتها ولم يبق إلا بفضل الإباء والمروءة. حكم الله - لا يستطيع النساء أن يتبارزن وكثيراً ما يمنع منه الفلاحون وفي تلك الحال يعمد القوم إلى استخدام ضرب آخر من ضروب أحكام الله. فبعد قداس أو صلوات تقام علنية للتوسل إلى الله أن يظهر الحق كان يقتضي عَلَى الرجل أو المرأة بان يحمل حديد محماة بضع خطوات وأن يغمس يده في إجانة ماء مغلي فإذا بخت يده بعد بضعة أيام من الجرح فحكم الله يكون له. وأحياناً كانوا يلقون به في مستنقع الماء فإذا غرق فقد ربح وإذا عام فقد خسر وبيناهم عَلَى أن يلقوه في الماء يستحلف الكاهن الماء بهذا الكلام: يا ماء أناشدك الله القادر الذي خلقك وأمرك بأن تقوم بحاجات الإنسان بأن تقبل هذا الرجل إذا كان مجرماً بل اجعليه يطوف عَلَى وجهك. وأحياناً يكتفون بأن يبلع المشتكى عليه قطعة من الخبز والجبن بعد أن يكونوا استحلفوهما بأن تبقى في حلق المشتكى عليه إذا كان كاذباً. وهذه المحن يسمونها الحكم. وقد كتبت الكنيسة كتاباً في الطقوس لكل واحد منها ولما اجتمع المجمع العام في لاتران سنة 1215 أمر بإلغاء تلك الكتب. الكنيسة في القرون الوسطى تنظيم الكنيسة الأسقفيات - احتفظت عامة المدن في المملكة الرومانية القديمة بأسقفياتها وأبرشياتها. وكلما كانت البلاد في ألمانيا تين بالنصرانية كان الملوك ينشئون كراسي أساقفة. فكما أن الكنيسة كانت تحظر أن تقيم أسقفاً في غير المدينة كان القوم يؤسسون في آن واحد مدينة وأبرشية. وكانت الأبرشيات بأجمعها قديمها وحديثها غنية جداً فلها أملاك واسعة وقد تملك أحياناً ولاية بأسرها وقد منح الملوك للأساقفة براءات يحكمون بموجبها بلادهم بأنفسهم. وجاء في صك الإعفاء أنه ليش لموظف عام أن يدخل إلى ارض هذه الكنيسة لا لجباية خراج ولا للحكم ولا للقبض عَلَى العبيد والأحرار الذين يسكنون فيها. وبذلك أصبح الأسقف ملكاً حقيقياً فكان أساقفة كولونيا وماينس وتريف ثلاثتهم أكبر الأمراء في ألمانيا. مجامع الرهبان - خضع قسيسو الكاتدرائية (يسمون الكاتدرائية كل كنيسة في حاضرة أبرشية) أولاً للسقف وأخذوا منذ القرن التاسع يعيشون عيشة مشتركة بحسب القاعدة التي

جرى عليها الرهبان ومن هنا اشتق الاسم الذي أطلق عليهم وهو كاهن قانون أي الخاضع للقاعدة ومجامعهم هي مجامع الكهنة أو الرهبان. وكان الكهنة القانونيون يعيشون بادئ ذي بدء مما خصص لهم من الطعام واللباس ولما وهب القوم للمجامع عطايا أصبحت تلك المخصصات ملكاً وكثيراً ما يكون متسعاً. فكان كل راهب قانوني يتمتع بدخل مخصص يتيسر له به أن يعيش عيشة سيد ومعنى عاش فلان عيشة الكاهن القانوني أنه عاش في سهة وبلهنية وإذ استقلت المجامع عن الأساقفة أصبح القائمون عليها أيضاً أقيالاً وملوكاً. الأديار - ما من أبرشية في القرون الوسطى إلا وكان فيها عدة أديار للرهبان وكلهم محافظون عَلَى السنة التي سنها القديس بنوا ولكن كانت كل أخوية تؤلف ديراً مستقلاً يرأسه رئيس. والدير عبارة عن مساكن للرهبان وبيت للرئيس وكنيسة ودار ضيافة (ينزلون فيها الغرباء) ومعامل ومخازن وبيوت الخدم والمزارعين فكان الدير عَلَى الأقل كناية عن قرية كبرى وأحيانا مدينة صغيرة (مثل لاربول وسان مسكان وفيزيلاي) وللدير أملاك واسعة منتشرة وأحياناً في عدة ولايات فيبعث رئيسه إلى الأملاك القاصية بضعة رهبان للسكنى تحت إدارة رئيس عليهم وهذه الأديار الصغيرة التابعة للكبيرة تسمى الطاعة. وتجري أحكام رئيس الدير بمعونة الرهبان المجتمعين في مجمعه ويكون تحت يده في الديار الكبيرة رهبان لكل منهم وظيفة مدير الدير ونائبه وقيم الثياب وقيم الطعام وقيم الخزانة وقيم الكتب ورئيس المنشدين ومدير المدرسة فيعيش الرهبان بعضهم مع الآخر وعليهم أن يلتزموا السكوت إلا في بعض الساعات ويجتمعون قبل طلوع الفجر ليترنموا بصلاة السحر عند الإشراق ثم يقومون بالفرض الأول ثم يجيء وقت القداس والصلوات كأحد أجزاء الفرض الكهنوتي وصلاة النوم. وإذا كانت سنة القديس بنوا يقضي بأن يعمل كل راهب كانوا يعنون بحرث الأرض أو ملاحظة خدمتهم أو صنع أمتعة لزينة الكنيسة أو نسخ المخطوطات. وقد وصف كثير من الرهبان عيشتهم في أديارهم ولكن الصورة تختلف باختلاف غنى الدير وفقره وجدته وقدمه وحسن إدارته وسوءها. الخورنيات - لم تكن كنائس ولا قسيسون في غير المدن أيام الرومان ولما غدت البلاد مسيحية كلها اخذ كبار أرباب الأملاك والسادة ورؤساء الديار والأساقفة ينشئون بيعاً ومعابد في محلاتهم فيعطي المؤسس لكنيسة قطعة ارض كافية تقوم بنفقات الكنيسة وطعام راهب

ويصدق الأسقف عَلَى هذا التأسيس وعندئذ يخدم ككاهن تلك الكنيسة (يكون لمؤسسها وأعقابه الحق في تعيينه) أرواح أهل القرية ويجب عَلَى السكان أن يأتوا إلى كنيسته ويطيعوه والأرض التي يدير شؤونها راهب تتألف منها خورنية أو إدارة ولما تم هذا العمل (وكان ذلك نحو القرن العاشر في فرنسا) انقسمت جميع البلاد المسيحية إلى خورنيات كما هي إلى اليوم وأصبح لكل قرية كنيسة أو تبعت كنيسة القرية المجاورة لها. ودخل الدين إلى المزارع الشاسعة واستطاع الفلاحون أن يتعبدوا بدون أطن يأتوا المدن وغدوا يقيمون صلواتهم في كنائس قراهم حيث يجتمعون وصارت أبراج أجراسهم وقبابها ترى من بعيد وتدعو الأجراس المؤمنين إلى الصلاة وهم أجران معمودية لتعميد أولادهم وقبور ليدفنوا فيها موتاهم وبين أظهرهم كاهنهم يعلمهم الدين ولهم قديسهم أو حامي كنيستهم وعيده عيد للقرية وكثيراً ما كانت تسمى القرية باسمه. الحرم - كان رجال الدين في العصور الوسطى أغنى من العامة وأكثر تهذيباً وتعليماً منهم ولهم مع هذه قوة لا تغالب وهو أنهم كانوا ينالون القربان الذي لا يستغني أحد عن تناوله ولم يكن عَلَى ذاك العهد ملاحدة وإذا حدث أحيانا لأحد العامة أن نشز عَلَى الكنيسة أو أنه أساء إلى راهب في حالة غضب فإنهم كلهم يعتقدون اعتقادا راسخاً في اليوم الآخر ويثوبون وينيبون لينالوا الغفران وكان رجال الدين يستعملون الأسلحة الروحية كما كانوا يسمونها في تأديب الجناة والعصاة فكان المجرم محروماً أي مطروداً من تناول القربان مع جمهور المؤمنين فكان الأسقف يقول إننا بموجب السلطة الإلهية التي منحها القديس بطرس إلى الأساقفة ننبذ فلاناً من حجر أمه الكنيسة المقدسة فيلعن في المدينة وفي الحقول وفي بيته وعلى كل مسيحي أن لا يكلمه ولا يواكله وعلى أي راهب أن لا يقيم له القداس ولا يناول القربان وأن يدفن كما يدفن الحمار كما أن هذه المشاعل التي ألقينا بها من أيدينا ستنطفئ وأن ضوء حياته سيخمد إن لم يتب ويقدم ترضية. وقد بدء في القرن الحادي عشر باستعمال المتع الكنائسي ضد السادة الذين كانوا يزدرون الحرم فكان رجل الدين يحرم من تناول القربان السيد ومحلته فلا يعقد عقد زواج في كل أرضه ولا يدفن ميت ولا يقرع جرس وينال السكان ما ينال سيدهم ولذلك يقضى عليهم أن يصوموا ويرسلوا شعورهم علامة عَلَى الحداد. وعلى هذه الصورة كلن رجال الدين

يكرهون السادة عَلَى أن يحترموا القوانين الدينية ويحظرون عليهم الاستيلاء عَلَى أرزاق الكنيسة. إصلاح الكنيسة اختلاط السلطات - كانت الميزة ضعيفة جداً في القرن الحادي عشر بين السلطة الروحية عَلَى الأرواح والسلطة الزمنية عَلَى الأجساد فلم يكن الأساقفة ورؤساء الأديار رؤساء دينيين فقط بل كانت لهم حصة كبرى من السلطة السياسية فكانوا لما يملكون من الأملاك يعدون في السادة العظماء أي حكاما عَلَى فلاحيهم وأتباعهم من الفرسان ثم أن الملوك والأمراء وكلهم من رجال السيف كانوا في حاجة إلى رجال الكنيسة في شؤون الحكومة المرتبكة فالأساقفة هم الذين كانوا يتولون عنهم ذلك فيجلسون في قصورهم يكتبون أوامرهم ويملون أحكامهم ويحكمون. وبم يقف الأمر عند هذا الحد بل قد منح الأساقفة منذ عهد شارلمان نصيباً في إدارة الولايات وكان لكثير من الأساقفة في ألمانيا سلطة كسلطة الكونت. وهم مع حصولهم عَلَى سلطة سيد من العامة يخضعون لما يقضي به السيد. هم تابعون للملك كالكونتية فيتحتم عليهم أن يقدموا للملك كالكونتية منائح ويخدموا في الجيش وكان جيش الملك في ألمانيا مؤلفاً من فرسان أتي بهم أساقفة ورؤساء أديار ولكن الملك كان يضطرهم أحياناً أن يجيبوا الدعوة إلى حمل السلاح بأنفسهم. فقد كتب فيليب الأول إلى دير سان ميدار أي سواسون أن القاعدة القديمة تقضي عَلَى فرسان الدير أن يحضروا بقيادة رئيس الدير للاشتراك بالحملات الملوكية وأن عَلَى رئيس الدير أن يخضع لهذه العادة أو يستقيل. فاستقال رئيس الدير وجاء خلفه إلى الجيش. الفكر السائد إذ ذاك - كان الأساقفة ورؤساء الأديار في القرن العاشر من أبناء السادات في العادة والكهنة والقسيسون من أبناء الفلاحين وخلوا في الرهبنة بدون ميل منهم بل لمجرد طاعة أهلهم أو للاستمتاع بنعم الكنيسة. فكانوا يأتون إلى كنائسهم بأخلاق العامة فيقضون أوقاتهم في الصيد والشرب واللعب والتقاتل ورؤساء الأديار يبددون أموال الدير ليعولوا عصابة من المتشردين وكثير منهم يتزوجون ويقفون كنيستهم عَلَى أولادهم. وقد شوهد في نورمانديا كهنة يتنازلون عن دورهم بائنة لبناتهم وكثير منهم كانوا أميين يحرفون كلام القداس بجهلهم وابتاع معظمهم مناصبهم من أناس من العامة وكانوا يبيعونها إلى غيرهم من

رجال الكنيسة. وتسمى هذه التجارة بيع المقدسات الروحية (سيمونية) وأصبح الإكليريكيون الخاصة جفاة غلاظاً جهلاء طماعين كالعامة وكان بقال أن الكنيسة قد سرى إليها الفكر السائد في ذاك القرن. رهبنات جديدة - أوجس رجال الكنيسة المخلصون لآدابها خيفة من هذه الفضائح فحملوا أرباب الغيرة منهم عَلَى تأسيس رهبانيات جديدة فجاء بعضهم في هذا العالم الفاسد وهربوا إلى البادية مثل القديس برونو الذي جاء منة شمالي فرنسا وتوغل في جبال دوفينيه المتوحشة في بضعة من رفاقه وأسس رهبنة القلايين (شارتر أو الكرتوسيين) وأسس أحد عظماء الطليان القديس رومولاد في جبال طوسكونيا رهبنة الكامالدويين. وأراد آخرون استئصال هذه الفضائح مباشرة بعد بإدخال رجال الدين تحت قاعدة فبدءوا يشددون في نظام أحد الأديار ليكون نموذجاً في إصلاح غيره. وأهم مراكز الإصلاح كان دير كلوني أقدم الأديار وقد جرى إصلاحه في القرن الحادي عشر ودير سيتو الذي أسس سنة 1094 وكلاهما في إقليم بورغونيا ودير كليرفو المؤسس سنة 1115 وبرمونتره المؤسس سنة 1120. ولم يقصدوا من ذلك أن يستعيضوا عن القاعدة القديمة التي وضعها القديس بنوا بل عَلَى العكس أن يضعوها موضع العمل بإنفاذ نظام العمل عَلَى الرهبان والطاعة والفاقة مما بطل في الأديار بما تسرب إليها من أفكار ذاك القرن. فمنع مؤسس دير كليرفو القديس برنارد رهبانه من لبس الفراء والدثر والقبعات وقضى بحظر جميع أنواع الزينة حتى في الكنائس ولم يسمع بغير صليب من الخشب المنقوش وشمعدان كبير مشعب من الحديد ومباخر من النحاس. وبقي الرهبان كلهم بعد الاصلاح من البندكتيين وتقرر لتوقيف الخلل الذي دخل عَلَى أيسر وجه إلى دير مستقل أن ترجع للدير المصلح إدارة الأديار المؤسسة أو المصلحة عَلَى يده. وهكذا أصبحت أديار كلوني وسيتو وبرمونتره زعيمة رهبنة ولم تعد أديار رهبنتها أدياراً كبرى بل بيعاً ومعابد تخضع لرئيس واحد وتبعث بمفوضين من قبلها يمثلونها في المجتمعات العامة في الرهبنة. فنجحت الرهبنات في أسرع ما يمكن فكان لكلوني في القرن الثاني عشر أربعمائة راهب وينظر في شؤون ألفي دير وكان لسيتو تحت طاعتها نحو 1800 دير منتشرة في جميع أوربا وعند ذلك بدأت المنافسة بين رهبان

كلوني السود ورهبان سيتو البيض. وكان هؤلاء الرهبان المصلحون هم الذين اضطروا بقية رجال الدين أن يصلحوا أخلاقهم وهم الذين عضدوا البابا أحسن عضد وحملوا المسيحيين كافة عامتهم وخاصتهم أن يحنوا رؤوسهم لسلطته. فقد كان غريغوريوس السابع العظيم المصلح الحاكم من رهبان كلوني والقديس برنارد اللاهوتي العظيم في القرن الثاني عشر من رهبان سيتو. كان من العادة القديمة في الكنيسة إذا أقرأ أحد المؤمنين بخطيئة ارتكبها أن يقضي عليه القسيس بالتوبة قبل أن يغفر له ويدعه يدخل الكنيسة بين الناس وتجري هذه التوبة علنية إذا كانت الخطيئة ارتكبت كذلك. وكتبت في القرن الثامن كتب توبة فيها العقوبة المقدرة لكل خطأ. . مضت قرون وهذه التوبات مثال القسوة وإذلال النفس ففي بعض التوبات التي تطول سبع سنين كان يتحتم عَلَى التائب في السنة الأولى أن يقف حافياً أمام باب المدينة يركع أمام الداخلين يتوسل إليهم أن يصلوا له. والتوبات عبارة عن الصيام وترديد صلوات وضرب البدن بالعصي ثم انتظمت هذه الطريقة فرأى رجال الكنيسة أن ثلاثة آلاف ضربة بالعصا تعادل سنة في التوبة. وقد اشتهر أحد نساك الطليان في القرن الحادي عشر واسمه دومينيك ولقب بالدارع بأنه يتمكن في خمسة عشر يوماً أن يقوم بمئة سنة من التوبة وأقروا أيضاً عَلَى ابتياع التوبة بالأعمال الصالحة مثل الحج ومنح العطايا إلى الكنائس وكانوا يقولون أن للقديسين من الفضائل أكثر مما يجب لخلاصهم وهذه الفضائل الزائدة قد تألفت منها كنز الغفرانات التي بها تشترى خطيئات المخطئين. ولدى الكنيسة هذا الكنز في الغفران تنفق منه عَلَى المؤمنين وفي وسعها أن تفضل منه عَلَى أرواح الموتى التي يراد تطهيرها وتطلب لقاء ذلك بعض المال. فالخاطئ لا يشتري الغفران (كما قيل ذلك خطأ) بل يبتاع التوبة فقط وبعبارة أخرى أن الكنيسة تعطيها له. هذه هي نظرية الغفرانات. فقد قال داميانوس إننا بما نأخذه من أراضي التائبين نمنحهم كمية من التوبة بحسب ما يعطوننا. وعلى هذا كانت التوبة قسمين أحدهما وهي السهلة (ما ينال الغفران من العطايا والحج) وهكذا يكفي الأرواح الفاترة وأوقات السكون والآخر وهو بربري (ضرب العصي) تطمئن إليه الأرواح المتحمسة وقد كان الغيورون من المسيحيين مثل القديس لويس والقديسة إليزابثة يلبسون قميصاً من الشعر ويضربون بعصا يد من يعترفون له. وفي أوقات الفزع

الديني خلال الأوبئة والحروب تتألف عصابات من المضروبين بالعصي يجتازون البلاد وأكتافهم عريانة وهم يضربون أنفسهم حتى تسيل دماؤهم. انفصال الكنيسة الرومية - مضى دهر طويل لم يؤلف المسيحيون الروم في بلاد الشرق سوى كنيسة واحدة مع مسيحيي الرومان في الغرب فكان لهم عدة بطارقة في الآستانة والإسكندرية والقدس وأنطاكيا ويعترفون أيضاً بتقدم أسقف رومية ولكن بعد أن فتح العرب مصر وسورية لم يبق في الإمبراطورية سوى سوى بطريرك واحد هو بطريرك القسطنطينية الذي أخذ ينافس البابا. ولما قطع البابا العلائق مع الإمبراطور في القرن الثامن بشأن عبادة الصور بدأ المسيحيون الروم أن لا ينظروا إلى مسيحيي الغرب أخوانهم وكان بين الفريقين من أهل العالم المسيحي بعض فروق خفيفة في أمور التعبد والمعتقد فالروم يعتقدون أن روح القدس لم ينبثق إلا من الأب والغربيون يعتقدون أنه ينبثق من الآب والابن معاً وأن الابن من مادة الآب نفسها. والروم يستعملون الخبز في المناولة والغربيون خبزاً بدون خمير والروم يسمحون بزواج القسوس والغربيون يحظرونه. وظهرت تلك العداوة الخفية بين الكنيستين جهاراً في القرن التاسع فعزل الإمبراطور أغناس بطريرك القسطنطينية وأقلم عوضاً عنه فوتيوس أحد قدماء الساسة والقواد وهو أكثر الناس تعلماً في زمنه ولم يكن راهباً بل اجتاز درجات الكهنوت كلها في بضعة أيام فتحزب البابا نقوى للبطريرك المقال وحرم فوتيوس وأشياعه فجمع فوتيوس في الآستانة مجمعاً حكم عَلَى معتقدات اللاتين الخاصة بأنها إلحاد وحرم نقولا (867) فاغتنم البابا فرصة تبديل الإمبراطور ليجمع في القسطنطينية مجمعاً مسكونياً (869) قضى بعزل فوتيوس وفسخ أعماله. وفي سنة 879 فسخ مجمع جديد أوامر مجمع سنة 869 وأعلن أن البابا ليس سلطاناً عَلَى الكنيسة إلا في الغرب فأجاب عَلَى ذلك بجرم فوتيوس الذي انقطع إلى أحد الأديار وبدا بذلك أن التقاطع بين الكنيسة أصبح مبرماً ولكن الباباوات في أواخر القرن التاسع أصبحوا في أيدي بارونات رومية فأمسوا من الضعف بحيث لا يستطيعون المقاومة في هذا الباب ولما شعر البابا أواسط القرن الحادي عشر بتوطيد مركزه في رومية والغرب بعث بنائبين من قبله يضعان باحتفال في كنيسة القسطنطينية براءة الحرم الذي صدر من البابا عَلَى البطريرك وأشياعه (1054) فأبت كنيسة الشرق أن تخضع وظل

المسيحيون منذ ذاك العهد منقسمين إلى كنيستين الكنيسة اللاتينية أو الكاثوليكية التي خضعت للبابا والكنيسة الرومية أو الأرثوذكسية التي اعترفت ببطريرك القسطنطينية وليس الروم فقط هم أتباع هذه الكنيسة بل الروس والبلغار والصرب والرومانيون. الإلحاد - كان الملاحدة (الهراطقة) نادرين متفرقين في القرون الأولى والوسطى فبدأوا في القرن الثاني عشر يتكاثرون ولاسيما في جنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا وانقسموا إلى شيع مختلفة يصعب علينا تمييزها ولا نعرفها إلا بما ينقله عنها أعداؤها فمنهم من اقتبسوا من ملاحدة بلغاريا مذهب المانوي الفارسي القديم في تنازع الخير والشر وآخرون هم الكاتاريون (الأطهار) فقراء ليون الفورديون كانوا ملاحدة بغضاً بمفاسد رجال الكهنوت في عصرهم وزعيم شيعة الفوديين فالدوس تاجر غني من أغنياء ليون كان ترجم له الكتاب المقدس باللغة العامية فأحب عملاً بحكمة الإنجيل أن يوزع جميع ما يملك عَلَى الفقراء وأخذ يدعو إلى الدين عَلَى رغم منع الأسقف عليه ذلك وكان أنصاره يرفضون كل ما لا يرونه مسطوراً عندهم في التوراة مثل الصور والماء المقدس والقديسين والذخائر والمطهر والصوم والغفرانات وكانوا يقولون أن الكنيسة الرومانية ليست كنيسة المسيح بل كنيسة الشيطان وما الأحبار إلا فريسيون يجب أن لا يملكوا شيئاً من حطام الدنيا بل أن يعملوا كل عمل الحواريون وأن لا يقودوا إذ ليس في الكنيسة الحقيقة إلا أهل التساوي فالعامة ليست دون الخاصة ولهم الحق أنة يبشروا كما كان يبشر الرسل والعامي التقي هو أشد عراقة في الرهبنة ويحسن أن يناول القربان من رجال الكهنوت أهل الخطيئات الحاكمين المتحكمين بالكنيسة فسر القربان المقدس والغفرانات لا فائدة فيه لأن الإيمان والتوبة يكفيان في السلامة. وكانت قوة هؤلاء الملاحدة باختلاطهم مع الشعب مباشرة يلكمونه بلسانه ويعيش وعاظهم عيش الفقر والشدة المخالفة لأخلاق أحد رجال الدين الأغنياء الفاسدين أحياناً ولكن معظم المسيحيين كانوا يفزعون من اسم إلحاد وطفقوا عن رضى يخدمون رجال الكهنوت ليقضوا عَلَى الملاحدة ودعا البابا فرسان فرنسا فأعلنوا عليهم حرباً صليبية كما أعلنوا عَلَى المسلمين فذبحوا جميع سكان بزيير عَلَى نحو ما فعل الصليبيون في الشرق من ذبح الرجال والنساء في أورشليم. وقد حرم البابا الإمبراطور فريدريك الثاني في ألمانيا وهو نصف عربي بشدته فاحرق كل من اشتبه فيهم أنهم ملحدون.

ديوان التفتيش الديني - بعث البابا إلى مدن إقليم لانكدوك بموظفين عهد إليهم البحث عمن يشتبه بهم بالإلحاد وذلك ليستأصل الملاحدة عن بكرة أبيهم ومنحهم كل سلطة في إلقاء القبض عَلَى كل شخص ومحاكمته والحكم عليه وأطلق لهم الحرية أن يعملوا بما يرونه مناسباً مبيحاً لهم أن يغفر بعضهم لبعض إذا بدرت منهم بادرة وهؤلاء المفتشون (وفي العادة أن يكونوا قسوساً) يستقدمون الرجال الذين يرمون بالزندقة ويسألونهم بدون أن يقولوا لهم أسماء من أظهر أمرهم فإذا أبى المشتبه به الكلام يسجنونه ويضيقون عليه الخناق ولقد قال أحد هؤلاء المفتشين ولطالما رأيت أناساً حبسوا عَلَى تلك الصورة سنين كثيرة فانتهى بهم الحال أن اقروا أيضاً بأجرام لهم قديمة وعادوا أيضاً ليحملوهم عَلَى الإقرار يستعملون معهم طريقة التعذيب التي تركت منذ عهد الرومان وأخذت بالاستعمال عند ظهورهم وكانت محكمة التفتيش تحكم بطريقة عرفية بدون استئناف تحكم عَلَى بعضهم بغرامات فاحشة أو بحج بعيد وعلى غيرهم أن يحملوا عَلَى ثيابهم صلباناً صفراء تخاط عليها فتشعر بأنهم مشتبه بأمرهم أمام القوم ويقضى عَلَى الآخرين أن يطوفوا تائبين يحملون العصي ليجلدوا. وغيرهم يسجنون مؤبداً في مطبق صغير مظلم عَلَى خبز الكرب وماء العذاب وبعضهم يحرقون في وقود الحطب وديوان التفتيش لا ينفذ الحكم عليهم بنفسه بل يكتفي بان يدفعهم إلى القاضي المدني العامي وهو يعيدهم إلى الجلاد. الرهبان الشحاذون - أصبحت الرهبنات الدينية التي حملت في القرن الحادي عشر عَلَى الفساد المستحوذ غنية عنىً فاحشاً فكان رئيس دير كلوني يسيح في موكب مؤلف من ثمانين فارساً والرهبان البيض الذين أرسلوا لتنصير الملاحدة قد حملوهم عَلَى العصيان بما رأوه من بذخهم ولذا دعت الحال إلى وضع نظام جديد وذلك بما قام به القديس فرانسوا الإيطالي والقديس دومينيك الإسبانيولي. فكان القديس فرانسوا (ولد سنة 1182) ابن تاجر غني في آسيز تخلى عن المال وراح إلى المدن يستوكف الأكف ويدعو الناس. فظنه القوم مختل الشعور ولعنه أبوه ولكن لين جانبه ولطفه وحماسته لم تلبث أن عقدت القلوب عَلَى حبه فأعجبت به وجاءه من تلقوا دعوته زرافات فعزم أن يضم شتاتهم وأنشأ رهبنة الأخوان القاصرين (الفرنسيسكان) وكان القديس فرانسوا يعيش عيش التنسك يسهر ويصلي ويصوم ويلبس مسحاً ويمزح رماداً في

طعامه لئلا يلذه طعمه ويجلد نفسه كل ليلة بسلاسل من حديد (ثلاث مرات واحدة عن نفسه وأخرى عن أرباب الخطايا الأحياء وثالثة عن أرواح المطهر) ومات مضجعاً عَلَى الأرض بلا وطاء وكان خلافاً للحبساء منخفض الجناح راغباً في خلاص غيره يريد أن يكون من جماعته الفرنسيسكان نساك أبداً فقراء ولكن نساك يعيشون بين أظهر الناس ليحرضوهم عَلَى التقوى قال لتلامذته: اذهبوا اثنين اثنين مبشرين الناس بالسلام والتوبة للعفو عن خطيئاتكم. لا تخافوا شيئاً لأننا نبدو للناس كالأطفال أو المعتوهين ولكن بشروا فقط بالإنابة والتجدد وكونوا عَلَى ثقة بأن روح الله الذي دبر العالم ينطق بلسانكم. وكانت قاعدته بسيطة للغاية وهو أن لا يملك الأخوان شيئاً بل أن يمضوا في هذا العالم كالحجاج والغرباء يخدمون الله بالفقر له والضراعة إليه والصدقات قصارى ما يتبلغون به ولا يخجلون من حالهم لأن السيد المسيح سن لنا من سنة الفقر. ويلبس الفرنسيسكان لباس الحاجين وهو عبارة عن ثوب من الصوف الغليظ له قبعة ومن هنا اشتق اسمهم (الكبوشيون) ويلبسون في أرجلهم نعالاً ويتمنطقون بحبل (ومن هنا سموا أيضاً بالحباليين) ولا يعيشون إلا من الصدقات. وكان القديس دومينيك (ولد سنة 1170) من النساك أيضاً لا يشرب الخمر ويلبس مسحاً مع سلسلة حديد ومات مضطجعاً عَلَى الرماد وكان واعظاً وعظ عشرين سنة في البلاد الألبية لهداية الملاحدة وهناك رأى كيف يطمع الشعب لسماع كلام الله وهو يتألم لما يرى من بذخ رجال الكهنوت. وسن سنة السير عَلَى القدم بألبسة ساذجة للغاية وأراد أن يكون عَلَى شاكلته في الأمة رسل مبشرون فأنشأ جمعية الأخوان الواعظين جعل شأنهم أن يتكلموا في كل مكان بما فيه سلامة الأرواح ووضع الفقر قاعدة لهم. وهكذا كان الفرنسيسكان شحاذين فأصبحوا واعظين والدومنيكيون واعظين فأصبحوا شحاذين وكانت الرهبنتان تتشابهان من وجوه كثيرة وكانتا كلتاهما منظمتين ولهما قائد يقودهما يطيع البابا مباشرة ولكن الدومنيكيين كانت علاقتهم بالسادة والملوك أكثر والفرنسيسكان بجمهور الشعب وامتدت كلمة هاتين الجمعيتين امتداداً لا يكاد يصدق فلم تدخل سنة 1277 إلا وكان للدومنيكيون 416 ديراً وكان للفرنسيسكان سنة 1260 - 1808 أدياراً وفي كل دير اثني عشر راهباً عَلَى الأقل وإذ كان اعتمادهم عَلَى الله الذي

كان هريهم وخوانتهم كانوا يقبلون في جملتهم من الإخوان ما جاءهم فمن يقصدونهم يعطونهم ثوباً وحبلاً وما عدا ذلك فيكلون أمره للعناية الإلهية. ولقد عاش قدماء الرهبان خارجين عن العالم أما الرهبان الشحاذون فاختلطوا بالمجتمع وأذن لهم البابا أن يبشروا ويعرفوا ويدفنوا فاخذ المؤمنون يهرعون إليهم تاركين قسوسهم المعتادين وكان بذلك ثورة عظيمة وطدت سلطة البابا كل التوطيد. عدل الكنيسة - كان في كل أبرشية منذ القرن الثالث عشر محكمة للكنيسة يجلس فيها مندوب الأسقف للحكم فينظر فيها في عامة القضايا التي لها مساس بأحد الإكليريكيين إذ لم يكن يقبل أن عامياً يرفع يده عَلَى رجل من رجال الله فالإكليريكي إذا ارتكب جرماً لا يحاكم عليه إلا مثله وهذا من جملة امتيازات رجال الدين امتيازات يرغب فيها لأن قضاة الكنيسة لا يحكمون بالإعدام بتاتاً وكثيراً ما كان أحد الأشقياء فراراً بنفسه من المشنقة يدخل في درجة من درجات الإكليروس ويتعلم صلاة باللاتينية ويظهر بمظهر ديني وقد امتدت سلطة المحاكم الكنائسية عَلَى العامة. فالكنيسة التي تدير أسرارها القربان المقدس يجب أن تبت في كل المسائل التي لها علاقة بهذا الشأن ومثل هذه المسائل ليست بقليلة. فقد أصبح الزواج منذ ظهور الدين المسيحي سراً من أسرار القربان فيأتي الزوجان في شهودهما يقفان تحت دهليز الكنيسة فيسألهما الكاهن فيما إذا كانا يقبلان الزواج فيقول الزوج أنا يا هذه أرضاك زوجة وتقول العروس أنا يا هذا أرتضيك بعلاً ويأتي أهل المرأة ويضعون يدها في يد زوجها ويبارك القسيس خاتم الزواج إشارة العقد ثم يدخلون كلهم الكنيسة فيتلو القسيس القداس عَلَى الزوجين الراكعين المستورين بشعار خاص وهذه الحفلة جعلت الزواج في يد الكنيسة وكانت تكفي في عهد الرومان إرادة الزوجين لعقد القران كما يكفي إرادتهما لفسخه أما المسيحيون فعلى العكس لا يستطيعون الزواج إلا إذا سمحت الكنيسة (وكثيراً ما تحظره حتى بين الأهل البعيدين) فإذا تزوجوا كان زواجهم طول العمر لأن سر الزواج لا ينحل. وهكذا بطل الطلاق وإذا تعذر التئام الزوجين لا تسمح الكنيسة إلا بالتفريق بينهما ولا تحل رابطة الزواج مطلقاً. والكنيسة تحكم أيضاً في الوصايا لأن الرجل لا يتأتى له أن يوصي إلا بعد الاعتراف والاعتراف سر من الأسرار وتأبى الكنيسة أن تدفن من لم يعترف ولم يوص والعادة

تقضي أن يكون في كل وصية وقف يحبس للكنيسة وترجع جميع القضايا في الوصية إلى محكمة الكنيسة. والكنيسة تحكم أيضاً عَلَى العامة المتهمين بجريمة تخالف الدين أمثال الزنادقة والمجرمين والمرابين (وذلك لأن الكنيسة تحظر الربا) وزعم أينوسان الثالث أن من واجب الكنيسة أن تحكم في جميع الخطايا وكانت محاكم الكنيسة إلى القرن السادس عشر أكثر عملاً من المحاكم العادية. البابوية البابوية - الباباوات في القرن العاشر كسائر أساقفة إيطاليا سقط تحت سلطة العامة من السادات الذين هم نصف لصوص في رومية فكانوا يخلون بعضهم بعضاً في خرائب المعاهد القديمة ويتوافرون عَلَى اختيار البابا الذي يشاؤن. فكان الكرسي المقدس ملكاً لأسرة من البارونات زمناً طويلاً ونساء تلك الأسرة تيودورا وماروزيا تنتخبان الحبر الأعظم فشوهد بابا في الثانية عشرة من عمره وآخر باع البابوية من خلفه وقد جعل الإمبراطور هنري الثالث حداً لهذه الفضائح وذلك بأن أخذ عَلَى نفسه تعيين البابا وما كان أنصار الإصلاح يرضون أن تكون أرقى مناصب الكنيسة خاضعة لسلطة رجل من العامة وقد وقف ليون التاسع الذي نصبه ابن عمه الإمبراطور بابا عَلَى أبواب رومية بصفة حاج وأراد أن يجري انتخابه بحسب القانون من قبل رجال الإكليروس وشعب رومية ثم قرر مجمع لاتران سنة 1061 أن يجري انتخاب الباباوات في المستقبل بمعرفة أساقفة المدن الصغرى في بلاد الأقاليم الرومية وأن يصدق الإمبراطور عَلَى انتخابه ولكن لم يلبث هذا القرار أن صرف النظر عنه. وهذه القاعدة في الانتخاب التي جرى العمل عليها بعد قد جعلت للبابوية استقلالاً عن شعب رومية والملوك الأجانب. ولما أصبح البابا مستقلاً أخذ يطهر الكنيسة من روح العصر بمنع زواج الرهبان وبيع الأشياء الروحية وتولية العامة للبابا. خصام عَلَى التولية - تقضي القوانين القديمة في الكنيسة أن ينتخب الأسقف بمعرفة الكهنة القانونيين ورئيس الدير بمعرفة رهبانه وإذ كان لكل أبرشية ولكل دير أملاك واسعة أعطاها له الملك عَلَى سبيل الإقطاع وكان الملك ولاسيما في ألمانيا يطالب بحق تعيين من يستمتعون بهذه الإقطاعات فإذا مات أسقف أو رئيس دير يحملا الكهنة القانونيون أو

القساوسة إلى الملك علامات المنصب الأسقفي أو الرئيس وهي العكاز رمز السلطة والخاتم رمز اتحاد الحبر مع الكنيسة فيختار الملك من يريده وفي العادة أنه يختار أحد رجال الكنيسة في قصره ويحلفه يمين التابعية له ويوليه أي يملكه زمام منصبه بان يدفع إليه العكاز والخاتم. وهذه العادة قد ثار لها المصلحون في الكنيسة. قال البابا أوربانوس الثاني أمن الممكن أن تكون الأيدي التي تشرفت بالشرف العالي في إيجاد الخلق (كذا) بحيث يؤول أمرها إلى العار بالخضوع إلى أيد ملوثة بالسم والدم. وما معنى قبول منصب كنائسي من عامي إلا الاتجار بالأشياء المقدسة وبذلك ارتكاب الخطيئة المميتة في بيع هذه المقدسات فطالب البابا من ثم أن يتخلى الإمبراطور عن انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديار ليكون انتخابهم بحسب القواعد القانونية. وكان الإمبراطور يجيب عَلَى هذا المقترح بان الأبرشيات والأديار جزء من الأملاك الإمبراطورية وللإمبراطور وحده الحق في أن يوليها من أراد. وعلى هذا الوجه ثار بين الإمبراطور والبابا خصام عَلَى التولية. وأنصار البابا في مطالبه القسيسون وأنصار الإصلاح وأنصار الإمبراطور الأساقفة ورؤساء الأديار في ألمانيا ولومبارديا أتباعه والقساوسة المتزوجون وعندما حضر أسقف كوار سنة 1075 ليبلغ رئيس أساقفة مايانس الأمر البابوي في حظر الزواج عَلَى القسيسين قام جميع الإكليروس الذين كانوا حاضرين المجلس مغاضبين شاتمين رئيس الأساقفة ومانعيه من قبول هذا الأمر. ودام الأخذ والرد في ذاك نصف قرن (1075 - 1122) وتعذر التوفيق فيه بسبب حقوق مداخيل الكنيسة أو سلطة الأساقفة السياسية وقد حل البابا باسكال الإشكال بأن قرر تنازل الأساقفة عن المدن والكونتيات والنقود والمكوس والقصور والأملاك والحقوق التي يعطيها الإمبراطور لهم فلم يرض رجال الإكليروس عن هذا النظام ولما عقد الصلح سنة 1122 احتفظ الأساقفة بحقوق مداخيلهم وسلطتهم السياسية فسمح الإمبراطور بانتخاب الأساقفة ورؤساء الأديار من قبل الكهنة القانونيين أو القسوس وأن يعطوهم العكاز والخاتم ولكنه أبقى حق توليتهم بالعلم كالأمراء من العامة. مناوشات البابا مع الإمبراطور - كان البابا والإمبراطور متفقين عَلَى أن يحكموا مشتركين كما وقع عَلَى عهد شارلمان فلم يكن من حاجة لتمييز سلطة أحدهما عن الآخر وتحديد حقوق كل منهما وكان يقال أن الله أعطى سيفين سيف السلطة الزمنية للإمبراطور وسيف

السلطة الروحية للبابا ليحكموا العالم معاً ولكن عندما استعلت جذوة الخلاف بين البابا والإمبراطور اقتضى أن يتساءل الناس ما هي حقوق السلطة الروحية والسلطة الزمنية وعند أي حد تقف. وهي مسالة صعبة لم يتيسر للعصور المقبلة أن تحل عويصها ولا تزال تتناقش فيها تحت اسم صلات الكنيسة بالحكومة. ولقد كان الناس في العصور الوسطى يسيئون فهم سلطتين متساويتين مستقلتين وهل البابا أو الإمبراطور هو الذي يحكم عَلَى الآخر وكل منهما يزعم أن سلطته رفيقة سامية فكان الإمبراطور وارث القياصرة والملقب بألقابهم يطالب بحق الزعامة عَلَى العالم أجمع والبابا يقول أن الله بإعطائه إلى القديس بطرس الحق المطلق أن يحل ويربط في السماء وعلى الأرض لم يستثن أحداً بل أخضع إليه الأمراء وجميع دول العالم وولاه أميراً عَلَى ممالك الدنيا. والبابا أسمى مقاماً من جميع الأمراء وهو قاضيهم ففي وسعه إذا رآهم غير لائقين للحكم أن يحرمهم وأن يعزلهم وأن يجعل رعاياهم في حل من إخلاص البيعة لهم. وقد نفذ غريغوريوس السابع هذه الحكمة بعزل هنري الرابع. فطال الخصام بين السلطتين فبدأ في القرن الثاني عشر عَلَى التولية ودام بشأن حقوق الإمبراطور عَلَى مدن لومبارديا إلى سنة 1250 فغلب الإمبراطور لأن سلطته عَلَى العالم وهمية ولم تكن له سلطة في ألمانيا وإيطاليا ثم أنه عجز عن أن يبذل له الطاعة أمراء الألمان ومدن الطليان. نفوذ البابا - أصبح البابا في القرن الثالث عشر وسنده رجال الكهنوت الذي قوي بالإصلاح والتهذيب زعيم العالم المسيحي بلا منازع فهو بصفته نائب المسيح يحكم عَلَى رجال الإكليروس كافة وهؤلاء يحكمون عَلَى جمهور من المؤمنين وحفظ لنفسه الحق أن يجمع المجامع ويعزل الأساقفة ويغفر لكبار المجرمين ويعطي ما يلزم من النفقات فيتناول القربان عَلَى عرش عالٍ ويقبل جماعته رجليه ولرسائله قوة الشريعة في الكنيسة كلها وإليك كيف تحدد سلكته قال إينوسان الثالث: لقد وضع الخالق في سماء الكنيسة منصبين أعظمهما البابوية فهي تحكم عَلَى الأرواح كما تحكم الشمس عَلَى النهار واقلهما الملك فهو عَلَى الأجسام كالقمر والليل فالبابوية مفضلة عَلَى الملك كما تفضل الشمس عَلَى القمر. وقد عهد سبحانه وتعالى إلى القديس بطرس أن يحكم لا الكنيسة العامة فقط بل العالم فكما أن جميع مخلوقات السماء والأرض والجحيم تثني ركبتيها أمام الله. هكذا كلهم يجب أن

يخضعوا لنائبه حتى لا يكون في الأرض سوى قطيع واحد وراع واحد. وقد كتب بونيفاس الثامن سنة 1296 إلى ملك فرنسا يقول: اسمع يا ولدي كلام أب شفوق وإياك أن تعتقد بأن ليس فوقك يد وأنك غير خاضع لزعيم رجال الدين. وكتب سنة 1300 في المنشور المشهور أن الكنيسة واحدة هي جسم واحد ليس له إلا رأس واحد لا رأسان كالمسخ هو خليفة القديس بطرس علمنا الإنجيل أن في الكنيسة سيفين زمني وروحي تستعمل الكنيسة ويد البابا أحدهما والثاني الكنيسة ويد الملوك بأمر البابا. مضتى القرون الأولى وليس في الكنيسة سوى قوانين أي قواعد وضعتها المجامع وعندما عرف البابا سلطته إلى جميع رجال الإكليروس أصبحت أوامره قوانين للكنيسة عَلَى نحو ما كانت قديماً أوامر الإمبراطور الروماني شرائع للملكة وقد جميع كراتين الراهب الإيطالي في القرن الثاني عشر الأوامر التي نسبت لقدماء الباباوات وألف منها كتاباً سماه الديكري أي الأمر. فزاد عليه الباباوات في القرن الثالث عشر عدة مجاميع جديدة مؤلفة من رسائل الباباوات التي ظهرت بعد جميع الرسائل الأولى وهكذا فكما أن يوستينيانوس ألف مادة الشريعة المدنية ألف الباباوات مادة الشريعة القانونية التي ظلت قانوناً للكنيسة. المدنية الشرقية في الغرب تقدم شعوب الشرق في القرون الوسطى - ليمثل القارئ لعينيه المدنيتين اللتين كانتا في القرن الحادي عشر تقتسمان العالم القديم ففي الغرب مدن حقيرة صغرى وأكواخ فلاحين وقلاع لا هندسة لها وبلاد مضطربة عَلَى الدوام بالحرب لا يتأتى أن يسير فيها السائر عشرة فراسخ بدون أن يسلب وينهب في الشرق مدن القسطنطينية والقاهرة ودمشق وبغداد وجميع مدن ألف ليلة وليلة بما فيها من قصور المرمر والمعامل والمدارس والأسواق والحدائق الممتدة عَلَى بضعة فراسخ وبرية تروي أحسن إرواء غاصة بالقرى والضياع وحركة التجار التي لا تنقطع فتراهم يذهبون بسلام من إسبانيا إلى فارس ولا شك أن العالم الإسلامي والعالم البيزنطي كانا أغنى وأحسن نظاماً ونوراً من العالم الغربي فكان المسيحيون يشعرون بنقصهم في التهذيب ويعجبون ببلاهة بما يبدو لهم من غرائب الشرق ومن يحب التعلم يقصد إلى مدارس العرب. وبدا العالمان الغربي والشرقي في القرن الحادي عشر يتعارفان ودخل المسيحيون البرابرة إلى حمى المسلمين الممدنين من طريقين

الحرب والتجارة. الحروب الصليبية - انتهى المسلمون من جهادهم المقدس فتسرع النصارى بجهادهم فكانت الحروب الصليبية. وقد دبر شأن الحروب الصليبية البابا أوربانوس الثاني في كلرمون وكان فرنسوياً. وكان يقصد من هذه الحرب إنقاذ البيت المقدس (أي قبر المسيح) من أيدي غير المسيحيين فمن يسافرون يجعلون عَلَى أكتافهم صليباً أو صليب البابا ومن هنا اشتق اسم الصليبيين. فكان الصليبي حاجباً مسلحاً ووعد البابا كل من يشترك بهذه الحملة أن يعفو عنه من كل التوبات التي تحملها لقاء خطاياه. وانضم إلى هؤلاء التائبين أناس من تجار الطليان وفرسان رغبت أنفسهم بالغنيمة وانتفعوا من غلبات الصليبيين عَلَى المسلمين ليقيموا في سورية حيث أنشئوا أربع إمارات (كانت تسمى الإفرنج) وفي سنة 1204 سير البنادقة حملة عَلَى القسطنطينية وفتحوا إمبراطورية الروم ولقد بدأت هذه الحرب أواخر القرن الحادي عشر ودامت إلى القرن الثالث عشر وكثيراً ما كانوا يتحدثون حتى القرن الخامس عشر بمعاودتها. وكانت آخر حملة من حملات الصليبيين في إسبانيا سنة 1492 انتهت بأخذ غرناطة. صفة الحروب الصليبية - كانت الحروب الصليبية حملات مؤلفة من المسيحيين منظمة بمعرفة البابا زعيم النصارى العام فكان كان صليبي حاجاً مسلحاً تعفو الكنيسة عن جميع الذنوب التي وقف فيها فكان الحاجون يجمعون جيوشاً ضخمة حول السادات القادرين أو حول نائب البابا ولكن لا نظام في صفوفهم فهم أحرار أن يتنقلوا من جيش إلى آخر أو أن يتركوا الحملة عندما يرون أن نذرهم قد تم. فالجيش الصليبي لم يكن سوى اجتماع عصابات تسير إلى مقصد واحد من طريق واحد فكانوا يسيرون مشوشاً نظامهم عَلَى مهل راكبين خيولاً ضخمة لابسين دروعاً ثقيلة يحملون أثقالهم فينؤون بها كما ينؤون يخدمهم وبالنهابين معهم فكانوا يضيعون أشهراً في اجتياز الإمبراطورية البيزنطية وقتال فرسان الأتراك في آسيا الصغرى والرجال والخيول تموت في القفار التي لا ماء فيها ولا سبيل إلى أخذ الميرة جوعاً وظمأ وكانت الأوبئة التي تحدث في المعسكرات التي ينزلونها من قلة العناية والصوم المتعاقب بعد الإفراط في الطعام والشراب تحصد أرواحهم بالألوف. وكان من يبلغون سورية قليل عددهم ففي الرجال وأي فناء في القرن الثاني عشر عَلَى هذه

الصورة عَلَى طريق الأرض المقدسة فضاق صدر الصليبيين من هذه الرحلات القاتلة في البر واخذوا يعدلون عنها وفي القرن الثالث عشر قصدوا كلهم البلاد المقدسة من طريق البحر فكانت السفن الإيطالية تقلهم وخيولهم إلى الأرض المقدسة في بضعة أشهر حيث يجاهدون الجهاد الحقيقي. كان الفرسان في قتالهم المسلمين إذا تساوى عدد المقاتلين قد يكتب النصر لهم وذلك لأنهم كانوا بخيولهم الضخمة وسلاحهم الذي لا يتأتى خرقه يؤلفون كتائب متراصة لا يستطيع فرسان العرب الراكبون عَلَى خيول صغيرة أن يخرقوها بسهامهم وسيوفهم. نعم عن حروبهم لم تسفر عن نتيجة فعاد الصليبيون الظافرون إلى أوربا ورجع المسلمون. وهذه الجيوش المتقطعة كانت تستطيع فتح الأرض المقدسة ولكن لم تكف لحفظها بيد أنه كان ينضم إلى أهل الصليب الذين أتوا للنجاة بأنفسهم من الخطايا رجال من الفرسان والتجار الذين قصدوا البلاد ليغتنوا فكانوا يعنون بحفظ البلاد وبهؤلاء كتب التوفيق التام في الحروب الصليبية باستخدامهم القوة المؤقتة التي كان يوليها سواد الصليبيين. فكانوا يديرون الأعمال الحربية وينشئون أدوات الحصار ويأخذون المدن ويتحصنون فيها بحيث يتوقعون عودة العدو. ولو ترك أولئك الصليبيون وأنفسهم لما استطاعوا أن يقاتلوا في تلك البلاد القاصية فإن الحملات ذات الأبهة التي كان الملوك قوادها (مثل لويس الثاني عشر وكونراد وفريدريك بربروس وفيليب أغسطس وملك المجر وسان لوي) قد أخفقت كلها إخفاقاً ذليلاً. والحروب الصليبية الوحيدة التي نجحت حقيقة (الأولى التي فتحت سورية والرابعة التي فتحت إمبراطورية الروم) وكان قواد الأولى النورمانديين من إيطاليا والأخرى البنادقة. وكانت حماسة الصليبيين وشجاعتهم قوة عمياء لا ينتفع بها إلا إذا كان المدبرون لها أناساً من أهل التجربة. وما كان الصليبيون سوى معاونين والمؤسسون الحقيقيون للمالك المسيحية هم المتشردون والتجار ممن كانوا يشبهون المهاجرين المحدثين الذين كانوا يسافرون لاستيطان الشرق. وما كان هؤلاء المهاجرون قط من الكثرة بحيث تأهل بهم البلاد بل ينزلوها متخذين لهم معسكرات بين أهلها الوطنيين ولم تكن الإمارات الإفرنجية سوى عبارة عن حكم أشراف يقوم به بضعة ألوف من الفرسان الفرنسويين والتجار الإيطاليين فليس لها من تماسك الأجزاء ما كان لممالك الغرب التي تستند عَلَى

الأمم والشعوب. فأشبهت هذه الإمارات الممالك التي أسسها زعماء المحاربين العرب أو الأتراك حيث تمتزج الحكومة والجيش وتهلك وإياه. وطال عمر هذه الإمارات قرنين وهي حياة تعد طويلة في الممالك الشرقية ولو تيسرت هجرة قوية لها لتوطدت أسسها إزاء آسيا الإسلامية والبيزنطية ولكن أوربا في القرون الوسطى لم تستطع أن تقوم بهذه الهجرات. مضى نصف قرن ولم يشتغلوا بغير حرب صغار الأمراء في سورية وكان مسلمو مصر يعيشون معهم بسلام وهذا زمن نجاحهم ولما أتى صلاح الدين عَلَى الخلافة بمصر فقرضها وتألف بدلاً منها حكومة عسكرية في القاهرة وهوجم المسيحيون من جهة مصر فلم يستطيعوا أن يقاوموا زمناً طويلاً (كما دلت عَلَى ذلك انتصارات صلاح الدين) فإذا كانوا احتفظوا بممالكهم قرناً آخر فذلك لأن السلاطين لم يحرصوا أن يبيدوهم. لا جرم أن هذه الحرب كانت في نظر المسلمين جهاداً مقدساً ولكنها انقطعت بمهادنات بضع سنين ولا ينبغي لنا أن نتصور جميع أمراء المسيحيين متحدين عَلَى أمراء المسلمين بل كانت المصالح السياسية أشد قوة من البغضاء الدينية وما برح أمراء النصارى يتقاتلون بعضهم مع بعض كما كأمراء المسلمين يقتل بعضهم بعضاً وقد حدث أن أميراً مسيحياً تحالف مع أمير مسلم عَلَى أمير مسيحي. وما قط كان الاتفاق تاماً في جيش النصارى فالحماسة التي كانت تجمعهم لم تأت عَلَى منافستهم في التجارة ولا عَلَى تباغضهم الجنسي وكان النزاع دائماً بين الأمراء من مختلفي الممالك بين الفرنسيس والألمان والإنكليز بين تجار جنود جنوة وتجار البندقية بين التامبلية والإسبتالية (فرسان الهيكليين والمقرين) وكثيراً ما تقاتلوا. ومثل ذلك الخلاف بين الصليبيين القادمين من أوربا والإفرنج المقيمين في سورية. ولقد اتخذ الإفرنج عادات الشرقيين لما عاشوا بين أظهرهم فاستعملوا الحمامات والألبسة المسترسلة ونظموا خيالة مسلحين عَلَى الطريقة الإسلامية وانشئوا يعاملون المسلمين معاملة المجاورين ولا يحاربونهم بدون داعٍ. وأراد فرسان الغرب القدمين وقد ملئت صدورهم غيظاً من المسلمين أن يبيدوا كل شيءٍ وقد حنقوا من هذا التسامح فكانوا إذا خرجوا من البحر ينقضون عَلَى الأرض الإسلامية ويهرعون للتقاتل والنهب وكثيراً ما كانوا لا يسمعون لما ينصح لهم به مسيحيو البلاد الواسع اختبارهم في الحرب في الشرق أكثر منهم. ولقد وصف مؤرخو الغرب نصارى الأرض المقدسة بالنذالة والخديعة والفساد

ونسبوا إليهم خرائب ممالك سورية. وليت شعري ماذا يكون منة الصدق في هذه التهم؟ ولا جرم في أن أولئك المتشردين من الإفرنج قد اغتنوا عَلَى أسرع وجه وأخذوا يعيشون في بذخ باحتكاكهم بشعوب فاسدين قد سرت إليهم مفاسد كثيرة ولاسيما من ولد منهم في سورية وكانوا يدعونهم المهارى ولكن الصليبيين لم تكن لهم من المكانة ما يخولهم إصدار مثل هذه الأحكام فإنهم أنفسهم بفعلهم قد أحدثوا من المصائب أكثر مما أحدث نصارى سورية بترفههم.

يا شرق

يا شرق لا الصبر ينفعه ولا الجزع ... قلب يكاد شجاه يطلع يا ليل هذا ساهر قلق ... يرعى النجوم وقومه هجعوا هل فيك ذو شجن يشاركني ... أشكو له ما بي فيستمع سرت الهموم فقمت أدفعها ... وإذا هموم ليس تندفع حلت بصدري لا تفارقه ... إن ضاق عنها فهي تتسع من بات تدمع عينه أسفاً ... فأنا فؤادي بات يدمع أشفقت من دهري عَلَى أملي ... واليوم أنظر كيف ينقطع ويلي عليه وهو يخدعني ... أدري حقيقته وأنخدع يا شرق لج بك العداة هوى ... يا شرق أغراهم بك طمع عاشوا يؤلف بينهم وطن ... فتخالفوا فيه وهم شيع يتفرقون عَلَى مذاهبهم ... وعلى الإخاء الناس تجتمع جهلوا فأخضعهم تعصبهم ... والله لو علموا لما خضعوا أنذرتهم يوماً صوادعه ... لو مست الأفلاك تتصدع واريتهم زمناً ألم بهم ... يبري لهم السهام وينتزع هنأتهم بالأمس إذ نهضوا ... واليوم أرثيهم وقد وقعوا أهديتهم ودي فما قبلوا ... أخلصتهم نصحي فما اتبعوا والشيء يرخص حين تبذله ... والشيء يغلو حين يمتنع ماذا عَلَى الأقدار لو نزعت ... عن حربها فعداتها نزعوا واسترجعت عهد الصفاء لهم ... وإذا تشاء فذاك يرتجع قد أجهدتهم وهي عادمة ... وأظنها يوماً سترتدع أبني بلادي قد مضت أمم ... هذا طريقهم الذي اشترعوا إنا حللنا في منازلهم ... وقد انتجعنا حيثما انتجعوا ولئن بطرنا مثلما بطروا ... فلسوف نصرع مثلما صرعوا إن تصبروا فلطالما صبروا ... أو تجزعوا فلشد ما جزعوا لم تعدنا حال لهم عرضت ... فحياتهم وحياتنا شرع

أبداً تعيش عَلَى مغالبة ... الدهر يخفضنا ويرتفع ونراه يبتدع الخطوب لنا ... حتى تفانت عنده البدع لم تنتفع بتجارب سلفت ... وأخال لسنا بعد ننتفع أشياخنا يمشي بهم كلف ... وشبابنا يجري بهم ولع يتحاربون عَلَى فؤادهم ... والحرب تأخذ ضعف ما تدع ماذا لهم لله درهم ... الناس قد عفوا وهم جشعوا إن القصور بهم مقتعد ... مثل القبور بهن مضطجع أبني المسيح وأحمد انتبهوا ... ودعوا رجالاً منكم هجعوا جاؤوا الورى والأمر ملتئم ... ثم انتثنوا والأمر متصدع لم يرض أحمد والمسيح بما ... صنعوا فلا ترضوا بما صنعوا أرواحكم من بعضها قطع ... وجسومكم من بعضها بضع لا تحسبن خلافكم ورعاً ... إن ائتلافكم هو الورع الملك تعليه مدارسه ... تلك المساجد فيه والبيع ويحب تموز (لعاشره) ... لا تذكر الآحاد والجمع لمن الطلول كان عرصتها ... للموت منحرث ومزدرع آياتها ورسومها درست ... وخلا بها مشتى ومرتبع سكانها عن محلها نزعوا ... ولطالما في خصبها رتعوا أسلافها في غابها أمنوا ... وبنوها في سوحها فزعوا شمخ الزمان بهم وقد شمخوا ... واليوم يخشع إذ هم خشعوا وقد زل عنه الصفو أجمعه ... وانتاب فيها الأزلم الجذع كم عاش في آجامها بطل ... كالليث لا وإن ولا طلع ثبت نجرد في مفاضته ... يلفي الدجا درعاً فيدرع يلقى الردى والبيض مصلته ... وأسنة الخطى تشترع والخيل غضبها في أعمتها ... والنطق منطبق ومنقشع تمشي اللواحظ منه في ملك ... يسو الجلال به فيتضع

حتام هذا الجهل مطرد ... ولي م ذاك ألغي منبع وكأن ريب الدهر في يده ... سيف عَلَى الأعناق يلتمع ما يرتجي الأحرار من زمن ... يزداد تيهاً كلما ضرعوا أوفي عَلَى المضمار مرتقباً ... يتسابقون به ويقترع إن بلغوا غاياتهم هنئوا ... أو قصروا من دونها فجعوا هل تحت هذا الأفق من أمم ... جرعت كؤوسهم التي جرعوا أحشاؤهم حرى فما ابتردوا ... وكبودهم ظمأى فما انتقعوا إنا لأقوام لنا همم ... للمجد تدفعنا فتندفع العمر أهون أن يضيق بنا ... والموت للأحرار متسع القاهرة ولي الدين يكن

أدب الدارس والمدرس

أدب الدارس والمدرس من استقرأ ما كتب في هذا الباب الواسع قديماً وحديثاً يرَ عدداً من المؤلفات والمقالات لا يأتي عليها الحصر، ولا يخفى أن لروح كل عصر مظهراً فيما كتب في واجباته ومطالبه، وكثير منها يتبدل بغيرها لمسيس الحاجة إلى ما هو أهم منها أو اختلاف العادات في أطوارها وشؤونها إلا أن ما يتقاضاه العلم من آداب القائمين عليه درساً وتدرساً تتلاقى أصوله مع كل زمان ومكان، لذا رأيت من المهم نقل أبدع ما كتب في هذا الباب، غذ الأمة لا تبلغ أوج المجد إلا بالعلم ولا علم إلا بصلاح الدارس والمدرس والعالم والمتعلم إذ هم القائمون عَلَى تهذيب الملكات وإرشاد العقول، والهادون إلى صراط الحق وميزان العدل والصدق. وقد رأيت من أحسن ما جمع في مقاصد هذا البحث الجليل ما أَورده محيي الدين النووي - أحد أئمة الرواية والدراية المشاهير - في مقدمة (شرح المهذب) فآثرت عنه خلاصة ما أثره عن أساطين الحكمة المتقدمين وجعلته مقالة موجزة. أحكام درس العلوم الشرعية - أنواع العلوم الشرعية لا تعد وفي أحكامها ثلاثة أقسام. القسم الأول فرض العين منها ويقال له الضروري وهو درس المكلف ما تصح به عقيدته وتجزئ معه عباداته، وتنفذ عقوده ومعاملته، وما لا غنى له عنه مما يتناوله ويستعمله. ويدخل في ذلك درس أمراض القلب كالحسد والعجب والبخل وأمثالها من المهلكات فقد قال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين: القسم الثاني فرض الكفاية ويقال له الِحاجي وهو درس ما لابد للناس منه في إقامة دينهم كحفظ القرآن والأحاديث وعلومها والصول والفقه والنحو واللغة ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف. ومنه يحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب والهندسة. ومنه تعلم الصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالزراعة ونحوها. القسم الثالث النقل ويقال له التحسيني وهو كالتبحر في أصول الأدلة والإمعان فيما رواه القدر الذي يحصل به فرض الكفاية والتوسغ في فنون الأدب والمعقول. آداب المدرس

أهم ما يطلب منه أن يعتني به أدبه في نفسه وأدبه في درسه القسم الأول أدبه في نفسه - وذلك في أمور (منها) أن يقصد بتعليمه وجه الحق سبحانه وتعالى لا توسلاً إلى غرض دنيوي كمال أو جاه أو شهرة أو تكثير المختلفين إليه أو نحو ذلك كما كان عليه سلف الأمة فقد قال الشافعي رحمه الله: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم عَلَى أن لا ينسب إليَّ حرف منه: وقال أيضاً: ما نظرت أحداً قط علي الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق عَلَى يده: (ومنها) أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها والخلال الحميدة والشيم المرضية التي أرشد إليها كالحلم والصبر والسخاء والجود وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة وملازمة الورع والوقار والتواضع والتنظف في البدن واللبسة. (ومنها) الحذر من الحسد والرياء والإعجاب وتزكية النفس وإزراء الناس وإن كانوا دونه بدرجات. (ومنها) أنه إذا ترخص في أمر جائز وخيف أن يظن خلافه أن يخبر أصحابه ومن يراه حقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلا يأثموا بظنهم السيئ. القسم الثاني أدبه في درسه - وذلك أن لا يزال مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة ومطالعة وتعليماً ومباحثة ومذاكرة وتصنيفاً. وأن لا يستحي من السؤال عما لم يعلم روي أمير المؤمنين عمر أنه قال: من رق وجهه رق علمه: وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين: وأن لا يمنعه منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه فقد كان كثير من السلف يستفيد من تلامذته ما ليس عنده، قال الإمام النووي: قد ثبت في الصحيح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين وروى جماعة من التابعين عن تابعي التابعين، وهذا عمرو بن شعيب ليس تابعياً وروى عنه أكثر من سبعين من التابعين، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ لم يكن الذين كفروا عَلَى أُبي بن كعب وقال أمرني الله أن أقرأ عليك: ويسمون هذا النوع وراية الأكابر عن الأصاغر. وأن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبة به ورأس ماله فلا يشتغل بغيره فإن اضطر

إلى غيره في وقت فعل ذلك الغير بعد تحصيل وظيفته من العلم. أدبه في تصنيفه قال النووي: ينبغي أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له فيه يطلع عَلَى حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة، والتحقيق والمراجعة، والاطلاع عَلَى مختلف كلام الأئمة ومثقفه، وواضحه من مشكله، وصحيحه من ضعيفه، وجزله من ركيكه، وما الاعتراض عليه من غيره، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد. وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له فإن ذلك يضره في دينه وعلمه وعرضه. وليحذر أيضاً من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره. وليحرص عَلَى إيضاح العبارة وإيجازها فلا توضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى المحق والاستغلاق. وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر والمراد بهذا أن لا يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه في جميع أساليبه فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب. وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه. آداب تعليمه التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين والدنيا وبه يؤمن أمحاق العلم وفي التنزيل الحكيم: وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتموه وقال النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد منكم الغائب. يجب العلم لأن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، وأن أي جعله وسيلة إلى غرض دنيوي لأن ما كان خالصاً كان مستمراً غضاً في كل حين وما كان لغرض زال عند الظفر به فقات ما قصد له. ولا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فإنه يرجى له حسن النية. وربما عسر في كثير من المبتدئين وتصحيح النية فالامتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثير من العلم مع

أنه يرجى له تصحيحها إذا أنس بالعلم وقد قال بعض السلف طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله:: معناه أن كانت عاقبته أن صار لله. وينبغي أن يؤدب المتعلم بالتدريج بالآداب السنية والشيم المرضية، ويحرض عَلَى الإخلاص والصدق وحسن النية. وينبغي أن يرغبه بالعلم ويذكره بفضائله وفضائل علماءه. وينبغي أن يحنو عليه ويعتنى بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده، ورجي مجرى ولده في الشفقة، عليه والاهتمام بمصالحه، ويعذره في سوءِ أدب وجفوة تعرض معه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرض للنقائص. وينبغي أن يكون سمحاً ببذل ما حصله من العلم سهلاً عَلَى متبعيه متلطفاً في إفادته طالبه مع رفق ونصيحة وإرشاد إلى المهمات وتحريض عَلَى حفظ لم يبذله لهم من الفوائد. ولا يذخر عنهم من أنواع العلم شيئاً يحتاجون إليه إذا كان الطالب أهلاً لذلك. ولا يلقي إليه الشيء لم يتأهل له لئلا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يجبه ويعرفه أن منعه ليس شحاً بل شفقة ولطفاً. وينبغي ألا يتعظم عَلَى المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع وفي التنزيل الحكيم واخفض جناحك للمؤمنين. وينبغي أن يكون حريصاً عَلَى تعليمهم مهتماتً به مؤثراً له ويرحب بهم عند إقبالهم إليه ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه، ويحسن إليه بعمله وماله وجاهه، ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته. وينبغي أن يتفقدهم ويسال عمن غاب منهم. وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهمهم وتقريب القائدة إلى أذهانهم حريصاً عَلَى هدايتهم. ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كل واحد عَلَى قدر درجته وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً ويوضح العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار. ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويذكر الدلائل لمحتملها.

ويذكر ما يرد عَلَى المسألة وجوابه إن أمكنه. ويبين الدليل الضعيف لئلا يغتر به فيقول: استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا ويبين الدليل المعتمد ليعتمد. ويفهمهم عَلَى غلط ما غلط فيها من المصنفين فيقول مثلاً: هذا هو الصواب وأما ما ذكره فلان فغلط أو فضعيف قاصداً التضحية لئلا يغتر به لا تنقيص القائل فإن الانتقاد إنما يكون للقول لا لقائله. ويبين له جملاً من أسماء المشهورين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فمن بعدهم من الأئمة المشاهير وأنسابهم وكناهم وأعصارهم وطرق حكايتهم ونوادرهم، وضبط المشاكل من أنسابهم وصفاتهم، وتمييز المشتبه من ذلك، وجملاً من الألفاظ اللغوية والعرفية ضبطاً لمشكلها ومخفي معانيها فيقول هي مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة مخففة أو مشددة. مهموزة أولاً، عربية أو أعجمية أو معربة وهي التي أصلها عجمي وتكلمت بها العرب، معروفة أو غيرها، مشتقة أولاً، مشتركة أم لا، مترادفة أم لا، وإن المهموز والمشدد يخففان أم لا، وأن فيها لغة أخرى أم لا. وإذا وقعة مسألة غريبة لطيفة أو مما يسأله عنها في المعاياة نبه عليها وعرفه حالها في كل ذلك ويكون تعليمه إياهم كل ذلك تدريجاً ليجتمع لهم طول الزمان جمل كثيرات. وينبغي أن يحرضهم عَلَى الاشتغال في كل وقت ويطالبهم في أو قات محفوظاتهم ويسألهم عما ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظاً مراعياً له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك، ومن وجده مقصراً لامه ويعيد له حتى يحفظه حفظاً واضحاً. وينبغي أن يصنفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيراً. وينبغي أن يقدم في تعليمهم إذا ازدحموا السبق فالأسبق ويتحرى تفهيمهم بأيسر الطرق ويذكره مترسلاً مبيناً واضحاً ويكرر ما يشكل من معانيه وألفاظه حتى يفهموه، وإذا لم يكن البيان إلا بالتصريح بعبارة يستحى في العادة من ذكرها فيذكروها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الأدب من ذلك فإن إيضاحها أهم من ذلك، وإنما يستحب الكناية في مثل هذا إذا علموا المقصود منها علماً جلياً وعلى هذا التفصيل يحمل ما ورد في الأحاديث من التصريح في وقت والكناية في وقت، ويؤخر ما ينبغي تأخيره ويقدم ما ينبغي تقديمه،

ويقف في موضع الوقف، ويصل في موضع الوصل. ويحسن خلقة مع جلسائه ويوقر فاضلهم بعلم أو سن أو شرف أو صلاح، ويتلطف بالباقين. وينبغي أن يصرف يديه عن العبث وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة، ويعم الحاضرين بالتفاته ويجلس في موضع يبرز وجهه لهم. ويقدم من دروسه أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الأصولين ثم الأهم فالأهم، ولا يقرأ الدرس وبه ما يزعجه كمرض أو جوع أو مدافعة الحدث أو شدة فرح أو غم. ولا يطيل مجلسه إطالة تملهم أو تمنعهم فهم الدرس أو ضبطه، وليكن مجلسه واسعاً ولا يرفع صوته زيادة عن الحاجة ولا يخفضه خفضاً يمنع بعضهم كمال فهمه. ويصون مجلسه من اللغط والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة، وإذا ظهر من أحدهم شيء من مبادئ ذلك تلطف في دفعه قبل انتشاره ويذكرهم أن اجتماعنا ينبغي أن يكون لله تعالى فلا يليق بنا المناقشة والمشاحنة بل سبيلنا الرفق والحياء واستفادة بعضنا من بعض واجتماع قلوبنا عَلَى ظهور الحق وحصول الفائدة. وإذا سال سائل عن أعجوبة فلا يسخرون منه. وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحققه ولا يستنكف عن ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فمن العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكفلين رواه البخاري. قالوا: وينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري: معناته يكثر منها، ولا يضع ذلك من منزلته بل يدل عَلَى وقور عقله وعظم محله لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة، بل يتمنع من لا أدري من قل علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من عين سائليه أو سامعيه وهو جهالة منه بإقدامه عَلَى الجواب فيما لا يعمله يضر نفسه وغيره وقد يبوء بالخزي العاجل أولاً ثم الآجل وفي الحديث المتسبع بما لا يعطه كلابس ثوبي زور. آداب الدارس المتعلم أما آدابه في نفسه فكآداب المدرس وقد أوضحناها

وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم واستثماره، أن يقطع العلائق الشائكة عن كمال الاجتهاد، ويرضي باليسير من القوت ويصبر عَلَى ضيق العيش قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يستعان عَلَى العلم بجمع الهم ويستعان عَلَى حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة. وقال الخطيب البغدادي: يستحب للطالب أن يكون عزباً ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم. وأن يتواضع للمعلم وينقاد له ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح. ولا يأخذ العلم إلا ممن كم لت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته وكانت له دربة وخلق جميل وذهن صحيح واطلاع تام. وينبغي أن ينظر معلمه بعين الاحترام والرجحان عَلَى أكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ما تسمعه منه في ذهنه وقد قال الشافعي: كنت اصفح الورق بين يدي مالك رحمه الله صفحاً رفيقاً هيبة له لئلا يسمع رفعها. وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له. ويروى عن علي كرم الله وجهه قال: من حق العالم عليك أن تسلم عَلَى القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، وتشير عنده بيدك ولا تغمزن بعينيك غيره ولا تقول قال فلان خلاف قوله ولا تغلبن عنده أحداً ولا تسار في مجلسه ولا بأحد بيوته ولا تلح عليه إذا كسل ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو عليك كالنخلة تنتظر متى يسقط عليها منك شيء. ومن آداب المتعلم أن يتحرى رضاء العلم وإن خالف رأي نفسه ولا يفشي له سراً وأن يرد غيبته إذا سمعها فإن عجز فارق المجلس وأن لا يدخل عليه بغير إذن وإذا كان معه غيره قدم الأفضل والأسن وأن يدخل كامل الهيبة فارغ القلب من الشواغل متطهراً متنظفاً بسواك وقص ظفر وإزالة ريح ويسلم عَلَى الحاضرين بصوت يسمعهم ويخص الشيخ بزيادة إكرام وكذلك يسلم إذا انصرف. ولا يتخطى رقاب الناس ويجلس حيث انتهى به المجلس إلا أن يأذن المعلم أو الحاضرون بالتقدم والتخطي أو يعلم من حالهم إيثار ذلك ولا يقم أحداً من مجلسه فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذ إلا أن يكون في ذلك مصلحة للحاضرين بأن يقرب من الأستاذ ويذاكره

مذاكرة ينتفع منها الحاضرون بها ولا يجلس وسط الحلقة إلا لضرورة ولا بين الصالحين إلا برضاهما وإذا فسح له وقعد ويحرض عَلَى القرب من الأستاذ ليفهم كلامه فهماً كاملاً بلا مشقة عَلَى شريطة أن لا يرتفع في المجلس عَلَى أفضل منه. ويتأدب مع رفقته وحاضري المجلس فإن تأدبه معهم تأدب مع الأستاذ واحترام لمجلسه ويقعد قعدة المتعلمين ولا يضحك ولا يكثر الكلام بلا حاجة ولا يعبث بيده ولا غيرها ولا يلتفت بلا حاجة بل يقبل عَلَى الأستاذ منصتاً إليه ولا يسبق إلى شرح مسالة أو جواب سؤال إلا أن يعلم رضاه فيستدل عَلَى فضيلة المتعلم. ولا يقرا عَلَى أستاذه عند شغل قلبه وماله وغمه ونعاسه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه استيفاء الشرح ولا يسأله عن شيء في غير موضعه إلا أن يعلم من حاله أنه لا يكرهه ولا يلحح في السؤال إلحاحاً مضجراً ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه ويتلطف في سؤاله ويحسن خطابه ولا يستحي من السؤال عما أشكل إليه بل يستوضحه أكمل استيضاح فمن رق وجهه رق عمله ومن رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال. وإذا قال له الأستاذ فهمت فلا يقل نعم حتى يتضح له المقصود إيضاحاً جلياً لئلا يكذب ويفوته الفهم ولا يستحي من قوله لم أفهم لأن استيثاقه يحصل له مصالح عاجلة وآجلة فمن العاجلة حفظ المسألة وسلامته من كذب ونفاق بإظهاره فهو ما لم يكن فهمه منها ومنها وثوق الأستاذ باعتنائه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه ومن الآجلة ثبوت الصواب في قلبه دائماً واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية وعن الخليل بن أحمد منزلة الجهل بين الحياء والأنفة. وينبغي إذا سمع الأستاذ يقول مسألة أو يحكي حكاية وهو يحفظها أن يصغي لها إصغاء من لا يحفظها. وينبغي أن يكون حريصاً عَلَى التعلم مواظباً له في جميع أوقاته ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً ولا يذهب من أوقاته شيئاً في غير العلم إلا بقدر ما لا بد له من أكل ونوم وراحة وما أجمل قول الشافعي: حق عَلَى طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم والصبر عَلَى كل عارض دون طلبه وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.

يقال: أجود أوقات الحفظ الإسحار ثم الغداة وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار لفراغ البال وهدوء الحركة ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع عن بعد المهيبات ولا يحمد الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق لأنها تمنع غالباً خلو القلب. وإذا جفاه الأستاذ رجع إليه بالاعتذار واظهر ندمه وخطأه فذلك أنفع له ديناً ودنيا وأبقى لقلبه قالوا: من لم يصبر عَلَى ذل التعلم بقي دهره في عماية الجهل. ومن آدابه الحلم والأناة وأن تكون همته عالية فلا يرضي باليسير من إمكان الكثير وأن لا يسوف في اشتغاله ولا يؤخر تحصيل فائدة وإن قلت إذا تمكن منها لأن للتأخير آفات ولا يحمل نفسه ما لا تطيق مخافة الملل. وإذا جاء مجلس أستاذه ولم يجده انتظر ولا يفوت درسه. وإذا وجحده نائماً لا يستأذن عليه بل يصبر حتى يستيقظ أو ينصرف والأحسن الصبر كما كان السلف يفعلون. وينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن وبداهة الخاطر وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة فقد قال الشافعي: تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه: ويعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه تصحيحاً متقناً ويكرره مرات ليرسخه رسوخاً متأكداً ثم يراعيه بحيث لا يزال محفوظاً جيداً، وليذاكر محفوظاته وليدم الفكر فيها. وينبغي أن يبدأ من دروسه وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصراً ويبدأ بالأهم، ومن أهمها الحديث والأصول والنحو ثم الباقي. وكلما أتقن مختصراً انتقل إلى أكبر منه مع المطالعة المتقنة والغاية الدائمة المحكمة وتعليق ما يراه من النفائس والغرائب وحل المشكلات مما يراه في المطالعة أو يسمعه من الأستاذ. ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب عَلَى

مطالعة ما كتبه. وليعتن بكل الدروس ويعلق عليها ما أمكن فإن عجز اعتنى بالأهم. وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم من الطلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة ويذكر لهم ما استفاده عَلَى جهة النصيحة والمذاكرة. ثمرة ذلك قال الإمام النووي إثر ما تقدم: وإذا فعل ما ذكرناه، وتكاملت أهليته، واشتهرت فضيلته، اشتغل بالتصنيف، وجد في الجمع والتأليف، محققاً كل ما يذكره، ومبيناً في نقله واستنباطه، متحرياًُ لإيضاح العبارات، وبيان المشكلة مجتنباً العبارات الركيكات، والأدلة الواهيات، مستوعباً بعظم أحكام الفن غير مخل بشيء من أصوله منبهاً عَلَى القواعد فبذلك تظهر له الحقائق وتنكشف له المشكلات، ويطلع عَلَى الغوامض وحل المعضلات، ويعرف مذاهب العلماء والراجح من المرجوح، ويرتفع عن الجمود عَلَى محض التقليد، ويلتحق بالأئمة المجتهدين أو يقاربهم إن وفق الله وبالله التوفيق اهـ كلام النووي. آداب يشترك فيها العالم والمتعلم ينبغي لكل منهما أن لا يخل بوظيفته لعروض مرض خفيف ونحوه مما يمكن معه الاشتغال وأن لا يسأل أحداً تعنتاً وتعجزاً فالسائل تعنتاً وتعجزاً لا يستحق جواباً. وأن يعتني بتحصيل الكتب شراءً واستعارة وليشتغل بنسخه أو استنساخه إذا كان نفيساً وليعتن بتصحيحه، ولا يرتض الاستعارة مع إمكان تحصيله، فإن استعاره لم يبطئ به لئلا يفوت الانتفاع به عَلَى صاحبه ولا يكسل عن تحصيل الفائدة منه، ولا يمتنع من إعارته غيره لأنه أعانه عَلَى العلم مع ما في مطلق العارية من الفضل (روي) أن رجلاً قال لبي العتاهية: أعرني كتابك قال: إني أكره ذلك قال: أما علمت أن المكارم موصولة بالمكاره: فأعاره، ويستحب شكر العير لإحسانه وليحذر من الإبطاء بها عن أربابها قال الزهري: إياك وغلول الكتب: يعني حبسها عن أصحابها، وبسبب حبسها امتنع غير واحد من إعارتها وانشدوا من ذلك أشياء كثيرة. (خاتمة) هذه النبذة من آداب المدرس والدارس أو المعلم والمتعلم مختصرة بالنسبة إلى ما جاء فيها

وقد اردت إحياء ما قاله الأئمة المتقدمون في هذا وتطرية ذكره لما فيه من الفوائد والحكم والنصائح التي هي نتيجة ما أوصى بها السلف أيام استبحار العلوم ونضارتها في حضارة القرون الأولى، فليحرص المدرس والدارس عليها وليحافظ العالم أو المتعلم عَلَى التخلق بها والاهتداء بها، فثمرة العلم العمل وبالله الاستعانة وعليه المتكل. دمشق جمال الدين القاسمي

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سورية ولبنان من سنة 1840 إلى سنة 1910 المجلد الثالث من 26 تشرين الأول سنة 1860 إلى 5 آذار سنة 1861 ص 480 تعريب الشيخين فيليب وفريد الخازن صاحبي جريدة الأرز طبع بمطبعة الصبر في جونية (لبنان) سنة 1911 أحسنا لتاريخ هذه البلاد كل الإحسان معرباً هذا السفر النافع فإن جميع الناس لا يتيسر لهم الوصول إلى المظان الإفرنجية التي أخذ عنها والبلاد في حاجة إلى الاطلاع عَلَى ما دار بشأنها وعن أفكار الجانب فينا. وإن هذه المجموعة إذا كانت تفيد لبنان خاصة فإن سورية عامة تستفيد من تعريبها لأن حياة هذه البلاد كالسلسلة ترتبط حلقاتها بعضها ببعض. وكنا نود أن لا يتوسع المعربان في نقد إعمال معتمدي الدول ذوات الشأن في حوادث 1860 في سورية وأن لا ينظر لها كل ما أتته فرنسا في ذاك الحزين بأن الحكمة والإنسانية وحب الخير والتجرد عن كل طمع سياسي فإن آمال فرنسا في سورية معروفة منذ القديم وحمل أعمالها عَلَى مجرد الإحسان للبلاد ضرب من التجوز لا يحسن صدره ممن يقف موقف المؤرخ والأيام تدل عكس دعواه. وقد اجاد المعربان في الترجمة عن الإنكليزية والإفرنسية واكثر مصادرهما فرنسوية فجاء الكتاب مستوفى لولا وقوع بعض هنات لغوية واستعمالات غير مألوفة يسقط فيها أكثر كتاب العصر خصوصا من لا يساعدهم الوقت عَلَى النظر البليغ فيما ينشئون وينقلون كأرباب الصحف ولو كان في البلاد شيء من الرقي العلمي لتناورت عدة أيدي ما تخطه الأقلام بالنظر فيه قبل نشره كما هو الحال في بعض بلاد الغرب إلى اليوم ولاسيما قبل أن يكون أهل كل لغة من اللغات الإفرنجية محكمين لملكة الانشاء في لسانهم ويا حبذا نرى في كا مطبعة من مطابعنا عالماً مصححاً يعني بقويم الهفوات اللغوية والبيانية وغيرها ليخرج جميع كما نكتبه ونعربه سالماً من العيوب من كل وجه. وفي هذا المقام نعيد شكرنا للمعربين عَلَى نشاطهما وحسن بلائهما ونرجو لهما التوفيق إلى إتمام بقية أجزاء الكتاب ونحث محبي الاطلاع ودرس تاريخ هذه البلاد أن يقتنوه ويتدارسوه فهو أول كتاب سياسي يتعلق بحياة هذه الديار.

دروس الجغرافيا للسيد عبد الهادي الأعظمي طبع بمطبعة دنكور في بغداد سنة 1330 ص55 نرحب بكل كتاب علمي يصدر بالعربية في مصر وتونس والشام والعراق لأنه دليل النهوض الحقيقي والأمة العربية لا ترقى إلا إذا كان فيها كتب ابتدائية ووسطى وعليا في كل فن من فنون الحضارة. وقد اعتمد مؤلف هذه الرسالة عَلَى الكتب التركية وفقاص لبرنامج المعارف وتوسع في القسم الآخر وهو المتعلق بالبلاد العثمانية والقطر العراقي منها خاصة وخاطب فيه التلميذ الصغير خطاباً يروقه ويغرس فيه غرسة الوطنية ولسنا في رأي المؤلف في كلامه عَلَى تونس ولا في كلامه عَلَى طرابلس وبنغازي فقد قال في الأخيرتين وهي التي عليها تحاربنا بل تحاربها اليوم إيطاليا تريد اغتصابها وهيهات فستبوء بالخسران عاجلاً إن شاء الله. . . وهناك أخوانكم المجاهدون يدعونكم الآن للاشتراك معهم في هذه السعادة الأبدية الشهادة في سبيل حفظ الدين والوطن قال هذه العبارات لا دخل لها في وصف البلدان تعلم للصبيان كما أن القصيدة التي اقتبسها في الأسطول آخر الرسالة لا صلة بينها وبين الموضوع بمحال. وقد وقعت في الرسالة تحريفات مطبعية ونحوية وجغرافية وغيرها شوهت وجه المعنى وأخرجته عن القصد أحياناً وكنا نود لو يعرى منها مصنف من ألف للأحداث حتى ينطبعوا منذ نشأتهم عَلَى الصواب. منها قوله الجغرافيا الطبيعي والجغرافيا الرياضي والجغرافيا السياسي والصواب الطبيعية الرياضية السياسية لأن لفظة الجغرافيا مؤنثة وقد طبع بذلك التركية ومنها قوله البر العتيق (لأوربا وآسيا وأفريقية) والاصطلاح أن يقال العالم القديم كما يقال العالم الجديد لا البر الجديد ومنها قوله (ص16) ساورينا سلجيا للجزيرتين المعروفتين في البحر الأبيض والصواب سردينيا وصقلية ومنها أن اسم عاصمة الجبل الأسود شتنبه والصواب ستنية أو جتنية وقوله جنوة في بلاد تركستان والصواب خيوة وجنوة في إيطاليا ومنا قوله أن مساحة سورية تبلغ 100 ألف كيلومتر مربع والأصح 115 ألفاً وفي تقويم غوتا أن مساحة لواء القدس 16 ألف كيلومتر مربع ومساحة متصرفية لبنان 3100 ولواء الزور 78 ألفاً (ويعد معظمه من سورية) وولاية سورية 95900 وولاية بيروت 16 الفاً وولاية حلب 86600 ونحو نصفها من بلا سورية. واخطأ في قوله

أن الجزائر دخلت في حوزة فرنسا منذ قرن تقريباً والصحيح أنها بدأت بامتلاكها سنة 1830. ومن التحريفات في الإعلام قوله أن قصة جرابوب أهم مدن السنوسيين في أفريقية والصواب جغبوب وتابع اصطلاح بعض الكتاب في استعاضتهم عن صلى الله عليه وسلم بصلعم والأجدر بمقام النبوة أن يذكر اللفظ كله فإن بعض علماء المشرقيات في مطابع الغرب جروا عَلَى هذا الاصطلاح حب الاقتصار بادئ بدءٍ ثم رجعوا عنه فعسى أن يصلح ذلك في طبعة ثانية ويعارض أسماء البلدان عَلَى ما طبع من كتب الجغرافيا لعلماء العرب في أوربا ليتابعهم في اصطلاحهم وذلك مثل كتاب معجم ما استعجم للبكري وتقويم البلدان لأبي الفدا ومعجم البلدان لياقوت والمسالك والممالك لابن حوقل والتنبيه والإشراف للمسعودي ومسالك الممالك للإصطخري وصفة جزيرة العرب للهمداني والأعلاق النفيسة لابن رسته وأحسن التقاسيم للمقدسي وكتاب البلدان لابن الفقيه ومسالك الممالك لابن خرداذبة وزبدة كشف الممالك للظاهري وعجائب البر والبحر لشيخ الربوة وغيرها من الكتب الممتعة التي نفهم منها اصطلاحات العرب وتعابيرهم ومعظم ما ذكروه لم يطرأ عليه تغيير عَلَى كثرة ارتقاء علم الجغرافيا في العهد الأخير. وفي الخاتم لا نرى بداً من الثناء عَلَى المؤلف راجين أن يظل عَلَى نشر كل ما يبث المعارف بين الناشئة العربية. كتاب خالد هو مجلد في 349 صفحة نشر بالإنكليزية في نيويورك صديقنا أمين أفندي ريحاني وهو رواية فلسفية اجتماعية جموع فيها عن الكلام عن المدنية الشرقية والدنية الغربية أتى عَلَى ذكر الأوضاع الدينية والسياسية بلسان رشيق مفرط في الحرية شهد له العارفون بآداب اللغة الإنكليزية أنه يعد في الطبقة الأولى من أحكام بيانها وأنه شاعر غير مدافع في منظومه ومنثوره فعسى أن يكون لكتابه بين العارفين بتلك اللغة من الواقع ما كان لكتبه باللغة العربية من الأثر في إزالة غشاوة الأوهام وعساه ينقله إلى العربية فيستفيد منه المشارقة والمغاربة عَلَى حد سوى فالأقربون أولى بالمعروف ومثله من يغار عَلَى إنهاض الأمة العربية ويتوفر عَلَى تعليمها مما علم. العقود اللؤلؤية

- ; ' ' لليمن تواريخ كثيرة مختلفة الأزمان ومن أكبر مؤرخيها أبو الحسن علي بن حسن الخزرجي النسابة المعروف بابن وهاس المتوفي سنة 812 قال كاتب جلبي أنه عني بأخبار اليمن فجمع تاريخاً عَلَى السنين وآخر عَلَى الأسماء وآخر عَلَى الدول وغيرها. ومن جملة مصنفاته كتاب العقود اللؤلؤية فهو خاص تقريباً بتاريخ الدولة الرسولية نسبة لعلي بن رسول التي حكمت بلاد اليمن زهاء قرنين (626 - 845) وقد ظهر بعض علماء المشرقيات بنسخة منه في الهند فترجموه بالإنكليزية ونشرت الآن جمعية تذكار جب ثلاث مجلدات من الترجمة وسينشر الأصل العربي عما قريب وقد ترجمه ونشره أربعة من أئمة المشرقيان في إنكلترا وهم ريدهوس وبراون ونيكلسون وروجرس وسنفيض في الكلام عَلَى هذا التاريخ متى صدرت النسخة العربية منه ونكتفي الآن بإسداء أطيب الثناء من تمحضوا لخدمة الآداب والتواريخ العربية من العارفين بلغات الشرق من الغربيين ومن يعنون بنشرها أمثال لجنة تذكار جب. دروس التاريخ الإسلامي تالي فالشيخ محي الدين الخياط القسم الرابع ص248 طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت وبنفقة المكتبة الأهلية فيها سنة 1329 تكلمنا عن الأجزاء الأولى من هذا الكتاب وهذا الجزء يشتمل عَلَى مجمل تاريخ الدولة العباسية وقد جعله المؤلف جملاً كل جملة أو قطعة تحتوي خبراً يصح السكوت عليه وجعل في آخر كل درس أسئلة للطالب يجيب عليها فيدل بذلك إن كان فهم ما مر معه من الحوادث أو لم يفهمه. وذلك بتنسيق حسن وعبارة سهلة فصيحة لا شائبة فيها بحيث جاء كتابه مستوفى في موضوعه لصغار الطلاب في التاريخ وقد جعل في الأخير صفحات فيها زبدة ما مر بالدارس ثم اتبعه بجدول يبين فيه أزمنة دولة الخلفاء الراشدين والأموية والعباسية بالتاريخين الهجري والميلادي كل ذلك بحرف جلي وطبع مشرق ويا حبذا لو شكل بعض الأعلام التي قد تشبه عَلَى أكثر الطلاب وعساه يتدارك ذلك في الطبعة التالية وفقه الله لإتمام هذه السلاسل النافعة. أريج الزهر

تأليف الشيخ مصطفى الغرييني طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1329 - 1911 ص240 وهو كتاب أخلاقي اجتماعي أدبي حوى ما كتبه المؤلف من المقالات في الموضوعات المختلفة في الصحف والمجلات بعبارات سليمة من التعقيد عارية من الغلط اللغوي والبياني ترضاها الخاصة ولا تنبو عنها أسماع العامة كما اعتاد قلم المؤلف في الكتب المدرسية وغيرها مما نشره حتى الآن من منظومه ومنثوره. وكتابات مثل صديقنا المؤلف هي الحلقة الموصلة بين أكثر طبقات القراء والكتب العالية في الدب والاجتماع والأخلاق ومسهلة طرق تفهمها. وقد قدم لهذا الكتاب الشيخ محي الدين الخياط الفاضل المشهور مقدمة رائقة بناها عَلَى حب الظهور وشرح ماله من الدخل في ارتقاء الأمم بعبارات تجمع المتانة سلاسة ثم عرف بصاحب المجموع واتى بنموذج من ادبه الغض وعرف المجموع وصاحبه بهذه الجملة هذا المجموع هو زهرة شبيبة فاضلة فاح أريجها غذ لم تدنسها أوضار الغرب ولم ينهكها ذبول الشرق فهو زهر أخلاق وفضائل بل هو غيرة مجسمة وحماسة تريد النهوض بناشئة الشرق والإشراف بهم عَلَى مدنية الغرب شأن أصحاب النفوس الكبيرة التي تريد الصعود من مدارج المجد والظهور من شرفات العلاء. . ومن مقالات هذا السفر اللطيف. نهج البلاغة أو أساليب الكلام العربي. أيها الإنسان. أقحط رجال أم قحط وجدان. إلى الأمة العربية. التربية أساس النجاح. الأنانية وحب الذات. رجال الإصلاح. الإدارة. الألقاب والرتب. حديث مع النابتة. الانتقاد ومشارب المنتقدين. سعادة الحياة. دلائل التوحيد. أم القرى. مجلس الأمة. المال والشرف. العادات. الميسر. الاستقلال الشخصي. القابلية والفاعلية. النظامات والأمم. الثورة الأدبية. السد الاجتماعي. الرابطة الدينية. الخرافات والبدع الدينية. العرب والترك. اللغة العربية وغير ذلك مما لا يخلو من الخطابيات للتأثير في الجمهور وهي تشف عن غيرة وطنية وإرادة قوية في السعي لإنهاض العقول من كبوتها في الشرق الإسلامي. فتحث المتأدبين عَلَى اقتناء هذا الكتاب وفق الله مؤلفه إلى إتمام ما يريد من التأليف والنشر فإن المؤلفين من المسلمين في بلاد الشام قلائل جداً والمجيد فيهم أقل وبعض من يقتدرون عَلَى الوضع والنقل شغلوا

بالخوض في الموضوعات السياسية الزمنية في الصحف فأضاعوا ملكاتهم إلا قليلاً وهيهات أن ترتقي أمة يكون معظم أهلها ساسة ولذا وجب علينا تكريم كل من يتصدى لنفع أمته من طريق الإصلاح العلمي والأدبي والديني من أهل هذه الديار وفي جملتهم مؤلف أريج الذهب. البصائر مجلة جديدة تصدر في بيروت مرة في الشهر لمنشئها جميل بك العظم وقيمة اشتراكها ريالان وعدد صفحاتها 40 ومن مقالاتها مقالة في التنجيم والمنجمين وأخرى في الخط ومشاهير الخطاطين وهي تطبع كل شهر ملزمة من مخطوط قديم وبدأت الآن بنشر كتاب تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين للفيروز آبادي صاحب القاموس. والمؤلف من الفاضل الذين يحسنون الكاتبة بالتركية والعربية له اطلاع مهم عَلَى المخطوطات العربية ووقوف عَلَى الأدب وما ينبغي له ولذلك يرجى أن ينفع الآداب العربية بمجلته لأنه يعرف الانتقاء ويحسن التأليف ويعد في جملة الأكفاء الذين أفدوا عَلَى نشر المجلات في الشام بعد حرية المطبوعات فعسى أن يثبت في خطته التي اختطها في مجلته والثبات أس النجاح في كل الأعمال ولاسيما العلمية التي قلما يجد عليها صاحبها تنشيطاً مادياً أو معنوياً في بلاد تسعة أعشار أهلها أميون والمتعلم منهم لا يعرف غير القشور دع عنك من كتب لهم الدروس العالية ومعظمهم لا يهتمون بغير التجارة والوظائف.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار العرب والتجارة بين تخوم آسيا وأفريقية تيقظ شعب يعهد سكوتاً لكنه سيستولي عَلَى البحر الرومي ثم يتدخل لينافس الغربيين ونحن الآن لا يمكننا أن نقول شيئاً عن الحروب الصليبية قبل أن نذكر طرائف تلك الأمة ونبيها محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى البعثة المحمدية. كان العرب أنسباء اليهود يعيشون العيشة الرعائية غير أنهم عشاق سفر امتازوا بحب التجول وقوة الهجوم وشدة الانفعال وليس لهم إلا الشرف وحب الشعر والأدب وبغض الكذب مذهب يدينون به عَلَى أن أكثر الأديان التي وجدت قبل البعثة المحمدية كانت تشابه العقيدة الفتشية وتجير الاستلاب لا رابطة بين القبائل تضم الشعث سوى احتفالهم العام في أم القرى كل عام. كان الأنبياء الحنيفيون منذ القرن السادس من التاريخ المسيحي تثرى عَلَى العرب لقطع شأفة الوثنية وإرجاعهم لملة أبيهم إبراهيم ومحمد أحد هؤلاء الحنيفيين بيد أنه أفصحهم لساناً وأكثرهم إقناعاً للعقول. ولد محمد في مكة عام 570 بين القرشيين سدنة الكعبة ومروجي سلع عقائدهم القديمة فما قام ينذر ويكبر حتى خاصمه أهل قبيلته بل اقرب الناس إليه وقاوموه جد المقاومة فلم ير بداً من المهاجرة إلى يثرب التي سميت بعدئذ بالمدينة وهنا ابتدأ تاريخ المسلمين الهجري موافقاً 16 تموز 622م. وبعد دخول يثرب وجد بلداً طيباً لبذر بذور دعوته فاتخذ له أنصاراً مخلصين اشتد بهم أزره فأعلن الحرب عَلَى المكيين ثم دخل مكة وطنه ظافراً وكسر فيها الأصنام ونشر الحكمة والكتاب وجمع شملهم بآصرة الوحدة الإسلامية العربية ثم توفي بعد أداء وظيفته العظمى عام 632. الإسلام أو الاستسلام إلى الله بعث إلى أتباع محمد وأنصاره روح النشاط والغيرة وعصبية ملكتهم زمام العالم وجعلتهم أساتذة إذ في قرن واحد أي من 632 إلى 732 استولى خلفاؤه الصحابة الراشدون والأمويون الوارثون ومن بعدهم عَلَى سورية وفلسطين والجزيرة سنة 638 ومصر 639 وفارس 642 ثم تتابع استيلاؤهم عَلَى تركستان وقطعة من الهند وبلاد

الأرمن وقبرص وإقيريطش (كريت) وطرابلس الغرب وأفريقية الشمالية كلها وعلى صقلية وسردينيا والجزائر البالبارية ثم هجم تيارهم عَلَى بلاد غاليا الإفرنجية وهدد هناك كيان النصرانية إلا أنه وقف هذا التيار الجارف في بواطيه عام 732م وإن استبحار عمرانهم وسرعة انتشار سلطتهم في المسكونة لما يساعد كثيراً عَلَى فهم مكانة المدنية العربية تلك المدنية التي يعتقد بدينها اليوم أكثر من 300 مليون من البشر فقد كانت هذه الحضارة الباهرة في القرون الوسطى مزيجاً من المدنية البيزنطية والمسيحية وتم هذا المزيج المدني بأمرين الأول عشق العرب للتجارة والثاني غرامهم بالاستعمار وقد قال نبي العرب الذي كان قائد قوافل في حداثته ثم صار تاجراً: (إن الله يحب المؤمن المحترف) وأمر العرب أن يدرسوا فنون الأدب والعلوم قائلاً (الناس عالم ومتعلم ولا خير فيما بينهما) ولذلك أصبحوا لذكائهم الوقاد وحب اطلاعهم عَلَى كل شيء يخوضون غمار العلوم الطبيعية والرياضية فابتدعوا الكيمياء وبرعوا بها وطبقوا تلك العلوم عَلَى الزراعة والصناعة ولهم المنة عَلَى سائر الأمم بأرقامهم العربية النائبة مناب الرومانية وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة واختصارهم الهندسة وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سميت الشمس ومعادلة الليل والنهار والبقع الشمسية فقد اصطنعوا الآلات العجيبة الفلكية كالإسطرلاب ونحوه واكتشف كيماويوهم وأطباؤهم خواص الألكحول والنشادر وحامض الآزوت والكبريت والمياه المعدنية وأدخلوا في كثير من علاجاتهم مواد من نبات بلادهم الوطنية كالكافور والراوند والسنامكي وقد أوصلتهم قرائحهم التاريخية لإنشاء عمل شعري بديع وهو ألف ليلة وليلة أقول وهم أسرع الناس إلى تدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم والكتابة في الفلسفة والتاريخ وفنون الاجتماع كابن خلدون وغيره من جهابذة الإسلام. أما الفنون الجميلة فإن العرب نهجوا فيها نهج البيزنطيين ولم يخالفوهم إلا بعدم تجسيم الحيوان ولكنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتي من تشبك أوراق وأقواس باهرة وفصفصة زاهرة وآطام ومعاهد ساحرة كقصور تونس ومصر وبغداد وجامع عمر في القدس وجامع قرطبة والقصر في أشبيلية والحمراء في غرناطة الخ. والعرب عمال زراعة ورجال براعة فقد برعوا في سقي الجنائن واخترعوا النواعير

العجيبة بل ووطنوا النباتات والأشجار الأفريقية والآسيوية في أوربا كالنخل والبرتقال والتوت والقطن وقصب السكر والذرة والأرز والحنطة السوداء والزعفران والهندباء والخرشوف والسبانخ والباذنجان والطرخون والبصل والياسمين الخ. وينسب إليهم اختراع طواحين الهواء ونواعير الماء وهم هم الصناع المجيدون الأولى صنعوا الجلود القرطبية وعملوا البسط الفاخرة ونسيج الشف (برنجك) والحرير سيما الأقمشة الموصلية والأقمشة والأسلحة الدمشقية وبخارى دمشق وبلنسية ومعامل الزجاج الملون ومصانع الفخار اللامع والأواني المغربية وموارد أخرى عديدة بها أثرت بغداد طليطلة وقرطبة. وفي التجارة أحرز العرب فوق النضال عَلَى سواهم فقد رقوا الصناعة البحرية ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة واستعاروا بيت الإبرة من الصينيين (بوصلة) وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أي ضبط وشرحوا الكفالة وأنشأوا المصارف للفقراء ووضعوا السفاتج (كمبيالة) المألوفة وردود التمسك (بروستو) وبعثوا روح الحركة في مصارفنا الحديثة. وكنت تراهم حيثما سكنوا مهدوا السبيل وعمروا المرافئ والفرض وأصلحوا وأنشأوا الفنادق والرباطات ورتبوا سير القوافل الاقتصادية ولم تكن المدن الإسلامية غير أوساط تجارية كبرى وبغداد دار السلام لم تكن من القرن الثامن للعاشر وميناؤها الصرة غير مستودعات للشرق بحذافيره فقد كان بها مليون من السكان وكان لتجارها الكبار علائق مع الموصل والبلاد الأرمنية وفارس وتركستان (بخارى وسمرقند) والهند وجزائر الصوند (جاوة وسومطرة) التي كانت تبيع الأخشاب الثمينة وكانوا يواصلون الصين بطريقتين بري وهو ما نهجه الرومانيون ممتد في سهول البابير ووادي تاريم والآخر بحري وهو المحيط الهندي ومحطاته مرفأ قانطون وستيغارة القديمة التي كانوا يجلبون منها الأقمشة الحريرية والأواني الصينية وقطن نانكين والورق الأرزي وصمغ اللك ثم يرجعون أدراجهم إلى بغداد لتوزيعها عَلَى سائر الجهات التي يستعمل أهلوها سكة الخلفاء. والدرهم الفضي كان يساوي نحو فرنك والدينار الذهبي مقدار 13 أو 14 فرنكاً وقد أهدى هارون الرشيد خليفة بغداد لشارلمان الأقمشة الحريرية والعطور وشمعداناً مشعباً من القلز (برونز) وساعة مائية كانت سبباً لإعجاب فرنجة إيكس لاشابل فقابله عَلَى ذلك بالخيول المطهمة

والبغال المزينة وكلاب الصيد وأقمشة مدنية فريز الصوفية. وكانت بغداد متصلة بكابل لأسواقها الشهيرة مع سمرقند وحلب المرتبطتين بحبل من القوافل السيارة متين. وهكذا كان ينقل شال كشمير وأقمشتها ومسك التبت وتركستان وعقاقيرها عَلَى ظهور الجمال في الغدو والآصال. وكانت دمشق مدينة الصناعة الجميلة مركز تجارة شبه جزيرة العرب ومصر وسورية. وبواسطة ثغر السويس كانت تصل العرب بضائع عدن وجدة. وقد تحول لمصر قسم عظيم من الحركة التجارية وذلك من البلاد التي نبتت فيها البذور الإسلامية كالشرق الأقصى ومنه الصين وماليزيا وأصقاع قروناندل ومالابار وجزيرة مدغسكر وقد أنشأ الخلفاء الفاطميون مصر القاهرة أي مدينة النصر ولا تبعد عن منفيس القديمة كثيراً. واحتفظت مدينة الإسكندرية ملياً بمكانتها السابقة وجرفت عربها نهر تراجان مرة ثانية وبه شدد وثائق النيل بالبحر الأحمر وسبروا بأسفارهم أغوار بلاد الحبشان وكردوفان وأسسوا المكاتب التجارية في أقطار أفريقية الشرقية ومونباسا وكيلوا وموزامبيق وصوفيا وميلندا وجلبوا منها المسحوق الذهبي والعاج وحراشف السلاحف البحرية وأصبح في المغرب من العواصم الشهيرة كالقيروان ومرفأها السوس الصغير وأرغلا وواحتها الغنية في الصحراء الجزائرية وتلمسان وفاس وغيرها من المدن الكبرى التي كانت ينابيع البيع والشراء والأخذ والعطاء. وكان سكان فاس 500 ألف وتصدر مختلف الأصواف والجواهر (المعادن) والعطور والجلود المراكشية واستعمرت مستعمرات في فزان وطواط والسودان وكانت طمبكتو التي يقطعها نهر النيجر مجمعاً كبيراً من مجامع الوكلاء التجارية. وأما قرطبة عاصمة الأندلس فقد كانت تحتوي عَلَى مليون من البشر وعلى 273 ألف بيت و60 ألف قصر (خلعت عليه جمالها الأيام) وكانت في أشبيلية 300 ألف نسمة وطليطلة 200 ألف وكذلك غرناطة وقادس ومالقة والمرية ومرسية وجيان وطليطلة وسرقسطة وبرشلونة فقد كانت هذه البلاد تضم بين جوانحها مختلف الشعوب الإسبانية ومتباين الأمم الغربية التي كانت ترد حياضها لتناول أقداح العلوم والصنائع والفنون ولجلب صنائع التبرج والزينة ودامت العلائق الاقتصادية زمناً بين بيزر ومونبليه الفرنسويتين وبين إسبانيا المسلمة.

وأما برشلونة وأشبيلية فكانتا من أكبر الموانئ الإسبانية وكانت الأولى ترسل سفنها للمغرب وآسيا الصغرى ورودس والقسطنطينية وعقدت في مصر معاهدات شتى مع بيزا وجنوة الإيطاليتين في مسائل الحوالات وسائر أعمال المصارف. وأما أشبيلية فكانت تبعث أساطيلها وعماراتها للأوقيانوس الأطلانطيكي لمداهمة الجزائر البريطانية وبلاد القاع (هولاندة). وإن تعجب فأعجب للعرب كيف نبغ بينهم لأسفارهم المترامية أساتذة جغرافيون شذبوا بأقل وقت كتاب بطليموس واكتشفوا بلاداً أخرى بغير أقدامهم لم توطأ ووسعوا المصورات التقويمية للغربيين وأشربوهم ذوق التنقل وحب الترحال نخص بالذكر منهم المسعودي وابن حوقل وابن بطوطة والإصطخري ونرفع بين مشاهير الرواد راية سليمان وأبي زيد حسان اللذان عاشا للقرن التاسع ولقبا بالمحمديين وجاب أولهما شبه جزيرة مالقا واكتشف سلسلة الجبال المسماة باسمه لليوم وسبر طول نهر السند واطلع ثانيهما عَلَى أحوال ماليزيا والتبت وأقطار المحيط الهندي الأفريقية. وكم وكم عادت الحروب الصليبية عَلَى الغرب بخيرات لا تستقصى ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصبي الكنيسي لكفى. وذلك لما رآه الصليبيون من تسامح المسلمين وتساهل مشاهير أمرائهم مثل صلاح الدين الأيوبي والملك العادل اللذين لقي منهم أهل الصليب كل شرف ولطف وتفضل وبضدها تتميز الأشياء ولذلك يمكننا أن نقول أن الكنيسة ورؤساءها كبطرس الراهب الذين أرادوا تقويتها ورفعة شأنها لم يسعوا لحتفهم إلا بظلفهم لأن تلك الحروب لم تجدهم إلا شراً. وإذا تألم الوجدان من تصالح الغرب مع الشرق وانقطاع ينابيع الدماء لذلك فقد اكتسبت هاتان الأمتان من الفوائد المادية والأخلاقية التي أذاقتهم طعم السعادة ما نساهم أيام الشقاء. وهكذا ترى البحارة انتشرت بعد الحروب الصليبية أكثر من انتشارهم أيام الممالك الرومانية فتعودت أوربا من العرب عادات الفضيلة والمدنية وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس وابتدأ الغربيون يطوفون اقتباساً عن العرب مختلف أنواع النبات والحيوان واخذوا يصنعون الأقمشة القطنية والحريرية وسكر القصب والألكحول وقلدوا العرب في أزيائهم وعمل الأسلحة العربية ثم توطد الأمن واتحدت العلائق والإسلاميون وذاق الصليبيون لذة الأسفار بعد حروبهم حتى صار الآسيويون من الرأس الأصفر لا يخشون من رحيلهم إلى

رومية وليون وبرشلونة وباريس بل ولوندرا العصيبة. انقلب مجن الزمان بعد تلك الحروب وزالت الريب والمخاوف وابتدأ المتصالحون يمتلكون هذه الأرض يسبرونها ويشكون في هيئتها حتى جرهم ترقي الجغرافيا لاكتشافات عديدة في العلوم الطبيعية والفلسفية بله نقول أيضاً أن تلك الحروب الصليبية وإن سبقت رواج أسواق النجارة غير أن هذه التجارة قد قربت متفرق المتحاربين ورأبت منهم الصدع وأسقطت السلاح من أيديهم وقدمت الهيئة الاجتماعية كثيراً. دمشق المترجم: عز الدين شيخ السروجية أخوان روح القدس كل دعوة تجد في أميركا بلاد الغرائب أنصاراً وكل مذهب يصادف أخواناً وأخداناً. وقد قرأنا في المجلة مقالة في مذهب جديد نشأ منذ بضع عشرة سنة يزعم أربابه أن المرضى مأخوذون لا يشفون إلا بطرد الشيطان عن أجسامهم بضربات من التوراة. نشأ هذا المذهب في ولاية مين في دورها. ثم انتشر بفضل رئيسه فرانك ستانفورد الذي يدعوه أشياعه إلياس الثاني ويرونه ظل الله عَلَى الأرض عَلَى أن من لا يعتقدون فيه يرونه من أبرع المشتغلين بالروحانيات أما الملحدون فيعتبرونه متعصباً محتالاً. ولما شرع هذا الرجل بتأسيس معبد لشيعته لم يكن يملك قرشاً فتبرع أحد الأخوان بالأرض وعمروها في مدة قليلة ومنهم المهندس والبناء ومنهم الذي أتى بالأحجار وآخر بالأخشاب وغيره بمواد البناء ومنهم من وقف ماله كله بحيث لم يمض عَلَى تأسيس هذه الشيعة 15 سنة إذ تأسست سنة 1896 حتى أصبح رأس المال لها نصف مليون فرانك أتت كلها من صلوات يتلوها صاحب المذهب والأخوان يعتمدون عَلَى الله ولذلك يرون أنهم يغنيهم رب السماوات وقد زعموا أن الله بذاته أوعز بإنشاء هذا المعبد وقدر انجازه عَلَى أتم صوره مع ما يتبعه من مستشفى ذو أربع طبقات ومدارس ومساكن وغير ذلك فكانت الدراهم إذا نضبت يأتيهم الفرج من حيث لم يحتسبوا فيغادرون العمل ويزعمون أن مئات أووا إلى هذا المستشفى فشفوا من أوصابهم من فالج وغيره بضرب كتاب التوراة عَلَى الحائط فما هو إلا أن تغادر أجسامهم الشياطين التي تلبستها وقد ثبت ذلك فيما قالوا بألوف من

الشهادات عَلَى أن التطبب في هذا المستشفى مجاني يدخله الأخوان وغيرهم. ويدعي ستانفورد أنه ينفذ إرادة الله عَلَى الأرض فيصعد كل يوم إلى برج عالٍ في المعبد ويكلم المولى كما كزان يفعل موسى الكليم يستملي أوامره تعالى ثم يبلغها أخوانه فيجيبون عليها بالسكوت. وأصل ستانفورد قس من أهل كنيسة الباتيست في نيوهاميشر وهو قوي نشط شاب تخلى أول أمره عن كل ما يملك وبقي يسيح ثلاث سنين ونصفاً فنصح له أصحابه أن لا يأتي ما أتى من ترك راحته وزوجته فلمك يسمع وبث دعوته فقبلها من قبلها متأثرين من هيئته العظيمة وحركته الآمرة وكلامه المقنع وأسسوا المعبد في مكان عالٍ مشرف عَلَى مدينة مين ووضعوا تحت أمره مصرف الله وكل ما فيه للرب أقام ستانفورد وكيلاً عنه. ثم رأى هؤلاء الأخوان أن يبثوا دعوتهم في أقطار الأرض فاتخذوا لهم أسطولاً يركبونه هم وحدهم وهم يتولون بأنفسهم جميع أموره وهو عبارة عن سفينتين ويخت وهذا الأسطول ساعد ستانفورد وأشياعه أن يطوفوا أهم بلاد الكرة الأرضية فبينا كنت تراهم في ليفربول إذا هم في فلسطين وكانت الصلوات تقام في غياب ستانفورد كما لو كان حاضراً يقيمها أكبر الجماعة سناً ويعتقدون بأن روح صاحب المذهب لا تفتأ تدبر أمرهم. وهم اشتراكيون بالفعل فينال كل أخ في اليوم كمية محددة من الخبز والطحين تقل وتكثر بحسب الإيجاب من السماوات التي ينفذ أمرها ستانفورد وجميع الخوان يعتمدون عَلَى الله ولا يحسبون حساب الغد بل الله كفيل بحاجاتهم ويتعلم الأولاد كلهم في المدارس الاعتماد عَلَى الله بحيث أن هؤلاء الجماعة لا يحزنون ولا يتأثرون حتى لمصابهم في أعزتهم فإذا مات لهم عزيز يجعلونه في نعشه بدون احتفال ولا أبهة ولا يبكون عليه ويعتقدون أن الجسم هو غشاوة الروح التي يرفعها الله إليه وهو حر مطلق فيها وما التألم للمصاب إلا وهم وعبارة عن قامة الحجة عَلَى عمل المولى ولا يحفلون كثيراً بقبور موتاهم بل يكتبون اسم المتوفى بدون اسم أسرته بحيث يدرس بعد حين. وكان عدد هذه الشيعة إبان إنشائها نحو مائتي نسمة ولم يزد عددهم كثيراً بعد ولكن لهم في جميع الولايات المتحدة أشياع يمثلون ستانفورد في مذهبه ومن هؤلاء الأخوان من كانوا أغنياء فتخلوا عن كل ما تملك أيديهم للطائفة ومنهم من كان يملك الخمسين أو المئة ألف فرنك.

وقد كتب ستانفورد كيف تدار آسيا وأفريقية وأوربا والشرق الأقصى والصين واليابان وجزائر مالايو ومصر وفلسطين وإيطاليا وفرنسا وإنكلترا لخدمة طائفته قال لقد أقنعتني هذه السياحات بأنه من المتعذر نشر الإنجيل بسرعة في مجموع شعوب الكرة الأرضية فإن هذا العمل من الأوهام لأن كثيراً من البشر لم يسمعوا باسم الله قط ولا يعتقدون بشيءٍ في حين ينبئ كل شيءٍ بوجود الله إلا هذا الإنسان الذي يكفر به كما قال شاتوبريان فإن عشب الوادي وأرز الجبل تقدسه والحشرة تطن بمديحه والفيل يسلم عليه في الصباح الطير يتغنى باسمه في الأوراق والصاعقة تبث قدرته والبحر المحيط يعلن عظمته واتساع ملكوته وما غير الإنسان منكر للصنائع ولا أكاد أجد ثلاثة ملايين من سكان الرض كلهم لا يعرفون من هو المسيح وإني لا أعتقد بأن الناس سيعرضون عَلَى الديان في اليوم الأكبر مقسومين إلى قسمين قسم يقوده المسيح والآخر المسيح الدجال إلى غير ذلك من العقائد وبعضه ملفق من الأديان السماوية وبعضه من عادات القوم وتقاليد صاحب المذهب. محصول الذهب والفضة كتب إيف كويو الاقتصادي الشهير رئيس تحرير مجلة الاقتصاديين الباريزية مقالة في الذهب والفضة قال فيها ما تعريبه ملخصاً: كانت أوربا عَلَى عهد اكتشاف أميركا سنة 1492 فقيرة جداً بالمعادن الكريمة تملك ما قيمته نحو مليار فرنك من الذهب والفضة وباكتشاف أميركا انصرفت الرغبة إلى جلب الأبيض والأصفر. ويؤخذ من تقرير وضعه بعض الاقتصاديين متخذ ين الكيلو غراماً واحداً قياساً فقدروا كيلو غرام الذهب بـ 3444 فرنكاً و44 سنتيماً وكيلو غرام الفضة بـ 222 فرنكاً - إنه بلغ محصول الذهب من سنة 1493 - 1520 5800 كيلو غام قيمتها 20 مليون فرنك ومحصول الفضة 47 ألف كيلو قيمتها 10 ملايين فرنك وهكذا تدرج المحصول بحسب الأدوار حتى بلغ ما استخرج من الذهب من سنة 1581 - 1600 7380 كيلو من الذهب قيمتها 25 مليون فرنك و418900 كيلو من الفضة قيمتها 93 مليوناً. وكان مجموع محصول الذهب والفضة من سنة 1561 إلى سنة 1580 - 1800 مليون وفي العشرين السنة التالية بلغ مجموع ثمن المستخرج من المعدنين 2370 وهكذا بلغ مجموع قيمة ما استخرج من الذهب والفضة خلال مئة وسبع سنين 4170 مليون فرنك أي نحو أربعة أضعاف ما كان في أوربا عَلَى

عهد الفتح الأميركي سنة 1492 ومع كل هذا فإن إسبانيا لم تغتن بما ورد عليها أكثر من جميع ممالك أوربا من الذهب ووقعت في ضائقة لا مثيل لها وأصبح جند فيليب الثاني بلا طعام ولا علوفات فيعيشون بالنهب والحاجيات غالية غلاءً فاحشاً أدى لوقوع الشكايات العامة. فحددوا سعر الحنطة ومنعوا إصدار المصنوعات إلى أميركا كما منعوا إخراج الصوف فكان المعدنان الكريمان ينهالان عَلَى انفرس بواسطة صيارفة جنويين. وما برح الاقتصاديون منذ بودين في القرن السابع عشر إلى لوك إلى مونتسكيو إلى دافيد هوم إلى جايمس ميل إلى نيكلسون وإضرابهم يقولون في ارتفاع أسعار الذهب والفضة آراء وإن اختلفت في ألفاظها فمآلها واحد فقد قال هوم: زيدوا البضائع تنزل قيمتها وزيدوا النقود ترتفع قيمتها. وقال الأستاذ نيكلسون: الذهب ريح التجارة ومد الصناعة وجزرها وكثرته وقلته يعلي أو يخفض الأسعار العامة كالريح أو الجزر يزيد أو يخفف سرعة البواخر. وبعد فقد كان محصول الذهب مدة 358 سنة أي من سنة 1493 إلى 1850 4752000 كيلو قيمتها 16736 مليون فرنك ومحصول الفضة 149826000 كيلو ثمنها 40617 مليون فرنك وبلغ محصول الذهب من سنة 1851 إلى 1875 (16448) مليون فرنك أي أنه تضاعف وبلغ محصوله من سنة 1876 - 1910 (39) مليار فرنك أي أن مجموع محصوله في 35 سنة ساوى المجموع السابق كله وزاد عليه 18 في المئة وقد زاد محصول الذهب منذ اكتشف مناجمه في كاليفورنيا سنة 1849 وفي أوستراليا سنة 1850. وزادت حركة الغنى في أوربا بعد سنة 1847 وقت المجاعة ثم وقفت وقوفاً مؤقتاً زمن الثورات التي حدثت من سنة 1848 إلى 1849 في بعض بلاد أوربا وبعد قبول إنكلترا لقانون حرية المقايضة فقبض الناس أيديهم وتعطلوا عن العمل ونهبت الأموال فلما زالت تلك الغشاوة عادت الحركة أكثر من قبل وكثر الطلب أكثر من العرض كما هي العادة في مثل هذه الأحوال بعد اشتداد النوازل وتكاثر الأهوال وكلما كان معدنوا الذهب في كاليفورنيا وأوستراليا يغرقون بما يستخرجونه منة هذا المعدن الكريم وهم في حاجة للمصنوعات والمأكولات كانت الحركة تزيد بين الأمم وتربح من ذلك البلاد الصناعية

أرباحاً هائلة فضاعفت إنكلترا من سنة 1850 إلى سنة 1856 خطوطها الحديدية فحدث 4000 ميل زيادة وأنفق من هذا الذهب في حرب القريم كمية ولكن كل حرب يعقبها ارتفاع في الأسعار. فالنشاط في الصناعة قد بدأ من جلب الذهب من كاليفورنيا وأوستراليا إلى شرقي الولايات المتحدة فانشأت خطوطاً حديدية كثيرة بحيث بلغ ما مدته من سنة 1849 - 1857 (21) ألف كيلومتر ومن ذلك راجت سوق المضاربات والمصارف وكان من أمر هذه الحركة في ارتفاع السعار أن عادت فحدثت أزمة مالية في أميركا فاغلق فيها 150 مصرفاً دع عنك شركات الضمان التي أفلست ولم يبق من مصارف نيويورك سوى مصرف واحد من 69 مصرفاً استطاع أن يؤدي ما عليه واصاب إنكلترا من هذه الضائقة شيء كثير إذ كان لها في أميركا من الأموال ما تبلغ قيمته ثمانين مليون ليرة وعقيب حرب إيطاليا وحرب الشمال مع الجنوب في أميركا عادت الأسعار فارتفعت لا لكثرة الذهب بل لأن الذهب أصبح يقايض عليه بورق. ولئن كان المعول عَلَى الذهب في مقايضات الأمم فإن البلاد ذات العيارين أي التي تتعامل بالذهب عَلَى حد سواء ظلت ينهال عليها الذهب ومع هذا لم ترتفع أسعار الحاجيات عَلَى تلك النسبة فالحنطة لم ترتفع إلا بفضل الولايات المتحدة والسكر نزلت أسعاره لكثرة انتشار زراعة الشوندر وبفضل فتح برزخ السويس وتسهيل طرق الملاحة لم ترتفع أسعار الشاي وكثر محصول الحديد وخف سعره ولكتن كثر الطلب عليه بسرعة وزادت أسعار اللحم والجلد زيادة فاحشة وكان من نتائج حرب النمسا وبروسيا ارتفاع الأجور كما كان من نتائج حرب فرنسا وألمانيا أن صرف فيها مباشرة أو بالواسطة 14 مليار فرنك ثم أنشئت في الولايات المتحدة والنمسا وروسيا ألوف من الكيلومترات من الخطوط الحديدية. وكان من أمر الغرامة الحربية التي أخذتها ألمانيا من فرنسا أن زادت الحركة في ألمانيا زيادة عظمى وكانت النمسا قد دخلت في جميع ضروب المضاربات وفرنسا تحتاج للمال وإنكلترا تحتاج للنقود لكثرت ما أصدرت منها إلى خارج بلادها فحدثت فيها أزمة سنة 1875 وبها نزلت الأسعار وظل نزول الأسعار مطرداً من سنة 1873 ما خلا بعض الأحوال القليلة ومنذ ذاك الحين لم يحدث من الحروب المهمة سوى الحرب الروسي العثماني الذي أنفقت فيه نفقات هائلة ولكن وسائط النقل وذرائع الانتفاع كثرت ونز لت ونزلت أسعار الحبوب

بما ورد عَلَى أوربا من حنطة الولايات المتحدة وكندا والهند وروسيا ثم حدثت حرب الترنسفال التي أنفقت فيها عدة مليارات من الفرنكات فأخذت السعار بالصعود ثم حدثت الحرب الروسية اليابانية فانفق عليها بضعة ملايين من مليارات الفرنكات ومن جملة الأسباب في ارتفاع الأسعار قلة مواشي أوستراليا التي كان من جفاف 1903 أن نزل عددها من 106000 رأس إلى 54 ألفاً وكثر الطلب عَلَى الصوف وكذلك زاد محصول الحرير والطلب عليه ومع تكاثر الناس والطلب عَلَى الحنطة كان محصول الذهب واحداً بالنسبة للحنطة واللحم بيد أن الذهب عَلَى زيادة محصوله السنة بعد الأخرى لم يكن السبب في ارتفاع الأسعار بل عن كثرته أقل من ترقي صناعات الفحم الحجري والحديد وإذا قيس محصول الذهب بالنسبة لمجموع صناعة العالم فقيمته طفيفة جداً. فما يخرج من المعامل من أنواع الصناعات والمصنوعات وما يخرج من المزارع من أنواع الغلات والثمرات أكثر بكثير مما يخرج من ركائز الذهب وإذا حسبنا مجموع ما يخرجه سكان الأرض وهم ألف وستمائة مليون لا يعد محصول الذهب شيئاً في جانبه بل لا يكون واحداً في المئة من مجموع أعمال العالم وحاصلاتهم ثم إن ما يحصل من الذهب لا يتعامل بنحو نصفه فإن المحصول الذي بلغ منذ اكتشاف أميركا إلى اليوم 69 مليار فرنك قد قدروا ما هو موجود في المصارف وبين أيدي الناس منه فلم يبلغ أكثر من 36 ملياراً ونصف المليار من الفرنكات والنصف الآخر من محصول الذهب خزن أو استعمل في بعض الصناعات واختلف الأخصائيون فيما تستغرقه الصناعات من الذهب ولم يتجاوز تقديرهم النصف من محصوله ولم ينقص عن الثلث إلا قليلاً. وختم العالم صاحب هذه المقالة مبحثه بالنتيجة التالية: (1) إن زيادة محصول الذهب كانت أبطأ بكثير من زيادة محصول الصناعات الرئيسية (2) إن استخراج الذهب ليس إلا صناعة صغيرة (3) إن زيادة المستخرج من الذهب وإن أكثرته فالطلب ما زال يتجاوز العرض عَلَى الدوام (4) إن زيادة المستخرج من الذهب في السنين الأخيرة لم يؤثر في أدنى تأثير في ارتفاع أسعار بعض البضائع (5) إن القائلين بنظرية الكمية لا يقاومون من مراقبة الواقع. الشيوخ في أوربا أحصى أحد علماء الدانمرك عدد الشيوخ في أوربا الذين بلغوا المائة من عمرهم فوجدهم

7000 ووجد من إحصائه أن أكثر البلاد التي يوجد بها من هذا القبيل هي البلقان إذ يبلغ عددهم 5000 من السبعة آلاف المذكورة. ويوجد من كل مجموع هؤلاء الشيوخ 3883 بلغاريين و1074 رومانيين و573 صربيين و410 إسبانيين و213 فرنسويين و197 إيطاليين و113 نمسويين ومجريين و92 إنكليزاً و89 روسيين و76 ألمانيين و23 نروجيين و10 أسوجيين و5 بلجيكيين و2 دانمركيين. هبات الأميركيين قالت مجلة العالم الجديد كان مبلغ الهبات المالية التي وهبها المحسنون الأميركيون في سبيل الخير والنفع العالم في سنة 1911 عَلَى ما أعلن في ختام هذه السنة 258. 751. 695 دولاراً وهو أعظم مبلغ وهب في سنة واحدة في أميركا بل ربما في العالم حتى الآن وكان الفائز بقصب السبق في مقدار البذل المثري والمحسن الشهير أندرو كرنجي الذي بلغت هباته هذه السنة فوق الأربعين مليون دولار ولم تبلغ هبات روكفلر المثري الآخر الشهير غير ثلاثة ملايين وثمانمائة وعشرين ألفاً. كيفما نظرت وأينما حللت في أميركا تجد آثار هبات المحسنين ظاهرة تنطق بفضلهم وتخلد الذكر الجميل لهم. فالمكاتب الجميلة ومعاهد العلم الجليلة والمستشفيات والملاجئ الخيرية المؤسسة والمدارة بالهبات الخصوصية من هذه الآثار كثيرة جداً وفي كل سنة تنفق الملايين من إحسانات الأفراد في سبل متنوعة عَلَى الفقراء والمحتاجين عدا ما تبذله الحكومة والبلديات من هذا الوجه. وترى ملاجئ العجز ودور الصم والعميان والمقعدين والأيتام قائمة في كل جهة شواهد عَلَى كرم أفراد المحسنين. خلِّ عنك ما يبذل في سبيل المتاحف ومعاهد الآثار والتهذيب وما ينفق عَلَى إرسال المبشرين ومساعدة رجال العلم وغير ذلك ألف أمر أخر تبسط له أكف المحسنين بسخاء يدل عَلَى محبة صحيحة للخير والنفع العام. وقد يتصور معظم الناس أن بذل المال عند كبار المحسنين أمر هوين مازال هذا المال موجوداً وليس عليهم غير إنفاقه إلا أن الحقيقة تناقض هذا التصور لأن بذل المبالغ الكبيرة من المال علم مستقل بنفسه يقتضي درساً دقيقاً حين يقصد القيام به بحكمة تضمن حصول النفع. ولهذا يستخدم جون روكفلر جماعة خصوصيين من الرجال الذين لا اهتمام لهم إلا

بتوزيع هباته حيث يمكن تحقيق إتيانها بفائدة ومعظم المحسنين الكبار يتصرفون بنوع من التأني في بذلهم وكثيرون منهم يدرسون المشايع التي يراد البذل في سبيلها درساً خصوصياً بنفوسهم عَلَى نحو ما يفعل مورغن وشيف وفي بعض الأحيان روكفلر لنهم يعتبرون أنهم قد يبذلون ثرواتهم جزافاً إذا لم يترووا أو يسلكوا. يؤثر عن أندرو كرنجي قوله أن لا خير في الرجل الذي يموت غنياً ويذهب كثيرون عَلَى أنه عامل عَلَى إنفاق كل ثروته قبل وفاته. إلا أن محسناً أميركياً آخر سبق كرنجي إلى العمل بمنطوق هذه العبارة فبذل كل ثروته البالغة سبعة ملايين دولار دون أن يحتفظ منها بشيء وهو الآن مقيم في أحد الملاجئ التي أنشأها كرمه يقضي بقية أيامه بسلام. وهذا المحسن هو الدكتور د. ك بيرسون من هايندزدايل إيلينويز الذي وهب في هذه السنة آخر ما كان يملك بما فيه أرضه والبيت المحيطة به. ولكن الدكتور بيرسون لا يعد من كبار محسني سنة 1911 وإن تكن هباته بإجمالها كبيرة. بل يرد في المقام الثاني بعد كرنجي الدكتور صموئيل بالا أحد أطباء لوس أنجلس كاليفورنيا الذي وهب ثروة لا تقل عن عشرة ملايين دولار ورثها من أسرته في بلاد المجر. وتخلى عن جميع ألقاب الشرف التي كانت له حينما تجنس بالجنسية الأميركية. وإن مثل الدكتور بالا وأندرو كرنجي - وكلاهما غير أميركي المولد - أكبر برهان عَلَى استحقاق المهاجرين وعظم إفادتهم لوطنهم الجديد ومقدار شعورهم مع إخوانهم الأقل منهم حظاً. ومن تنوع الغايات التي تناولتها إحسانات سنة 1911 أن السيدة ماري تروترشاستيان وقفت ثروتها البالغة خمسة ملايين دولار عَلَى إقامة ملجأ للنساء من بنات النعمة اللواتي أخنى عليهن الدهر وأصبحن بلا ملجأ. وقد أقيم هذا الملجأ في لكسنتن كنتكي وهو الوحيد من نوعه في هذه البلاد. ومنها أيضاً ما يسعى إليه أحد أعظم تجار شيكاغو جيمس باتن من تطهير الأرض من السائل الرئوي أو الطاعون الأبيض فقد خصص لذلك حتى الآن لا أقل من أربعة ملايين دولار وهو يوالي تبرعاته بدون حساب في هذا السبيل. أما دافعه إلى ذلك فهو أخاه توفي بالسل أولاً ثم ما لبث أن توفى ابنه فكان له بذلك باعث شخصي عَلَى مقاتلة المرض

الوبيل زيادة عَلَى الباعث الإنساني العمومي. ومنها أيضاً أن الصحافي الأميركي الشهير جوزيف بولتزر صاحب جريدة الورلد النيويوركية الذي توفي هذه السنة خصص مبلغ مليوني دولار لإنشاء مدرسة صحافية في جامعة كولمبيا. وقد كان بولتزر مهاجراً أيضاً إلا أنه أصبح من أعظم الرجال الأميركيين العموميين وكان قوة معدودة في السياسة ومن أكبر قادة الرأي العام عَلَى الرغم من ابتلاءه بالعمى في العشرين سنة الأخيرة من حياته. أما أعظم هبات هذه السنة وهي التي تفوق قيمتها المليون ونصف المليون عَلَى اختلاف غاياتها الخيرية والعلمية والتهذيبية فبيانها كما يأتي: أندرو كرنجي 40711300 الدكتور صموئيل بالا 10000000 السيدة ماري تروترشاستيان 5000000 بيتر بنت بريغهام 5000000 جيمس باتن 4000000 متشل فالنتين 2559514 جون د. روكفلر 3820000 جون م. بورك 2000000 الآنسة كاترين اوغستادي بوسيتر 2000000 جوزيف بوليتزر 2000000 القائد ك. كولمان 2000000 السيدة روسل ساج 1500000 جورج كلايتون 1500000 المرأة في الولايات المتحدة كتب البارون دوستورل دي كونتثان من أعضاء مجلس الشيوخ في فرنسا مشاهدته في الولايات المتحدة فقال أن مسألة التربية المشتركة في الولايات المتحدة أي تربية الشبان مع الشابات قد انحل أشكالها في ولايات الغرب أما في ولايات الشرق فقد اخذوا يتناقشون فيها

وذكر ما رآه في كليات الشرق من امتزاج البنين بالبنات في المدارس الداخلية فتراهم يتعلمون ويلعبون ويرتاضون معاً وللفتيان أماكن خاصة لنومهم كما للفتيات بحيث ترى ربات الجمال يعملن فلا يخفن الهواء ولا البرد ولا الحر ولا عيون الرجال وما قط سمع بعار ارتكب أو فضيحة أتيت. ولقد كان يخامر خاطري وأنا أرى أولئك الفتيان والفتيات يتراكضن ويتدارسن متروكين لغرائزهم ثم بدا لي بعد الاختيار أن هذه التربية هي آكد الطرق إلى الفضيلة وأن استعمال الحرية أحسن ذريعة وأتم نظام وأن فتيان الفرنسيس ليغلطون إذا وهموا أن هذا النوع منة التربية الأميركية لا يخرج رجالاً أكفاء ونساء ذات كفاءة فإنا نرى أبناء هذه التربية يسيحون في أوربا وأكثرهم لا يعرفون لغاتها وبحسن رجولتهم ومتانتهم يحسنون التخلص في كل مكان فهم يرون أن تربيتهم المستقلة لا تفصلهم عن سائر العالم بل تقربهم. ولكالما سألني النساء ولاسيما في اقصى الغرب من أميركا حيث بلغ ارتقاء الجنس اللطيف أقصى كماله عن رأيي في حالة المرأة الأميركية والمرأة الأوربية وقالت لي إحداهن أنك أتيت من أوربا بأوهام وتقاليد بشأن المرأة وكيف جاز للأم الفرنسية أن تشك في عفاف ابنتها فلا تتركها بعد الغروب تسير وحدها فاجبتها بان بناتنا قلما نخاف عليهن من الوطني بقدر ما نخاف مثلاً عَلَى الفتاة التي تسير وحدها في جادة باريز لكثرة ما يجيء هذه العاصمة من أخلاط الزمر الذين يجيئون لينفقوا فيها أموالهم والفتاة لا سلاح معها لا ضد القانون فقط بل ضد الأخلاق التي يجب تحسينها قبل كل شيء. وقال لي إحداهن: ولا تظنن أن المرأة الأميركية سعيدة أكثر من المرأة الإفرنسية فإن زوجها وإياها لا يشركها في حياته كما يشارك الفرنسوي زوجته أو ابنته فالزوج الإنكليزي يمر أمام امرأته والمرأة الأميركية تمر أمام زوجها أما المرأة الفرنسوية فإنها تمر مع زوجها كتفاً إلى كتف. نغم المرأة في فرنسا ولاسيما في البلاد التي لا يسمح فيها السائحون مثل مسقط رأسي السارات هي الحاكمة الحقيقية في بيتها وبعبارة ثانية أن الحاكم هو الرجل والمرأة هي الساهرة الرجل يأمر والمرأة توحي وتبذل كل ما بوسعها للقيام بكل ما يقتضيه منزلها من الإعمال فهي تباكر قبل زوجها توقد النار وتهيئ الطعام وتوقظ الأجير أو تضع العلف

للدواب بيدها وتنفض ثيابها وتطلي الأحذية وتعين زوجها لشد دوابه فإذا ما انصرف زوجها تضع كل شيء في الغرفة في محله وكذلك المطبخ والدار والقن والفناء والاصطبل وتلبس الأولاد وتفطرهم وترسلهم إلى المدرسة وتصلح الثياب وتغسلها وتكويها وهي تتكلم وتحدث وتقدم الطعام الجيد لزوجها وتعمل له الحلويات وتبتاع حاجياتها من البقال وتتقبل ضيوفها باسمة وهي بهندام نظيف آمنة مطمئنة وهي تحسب حساب بيتها ومنهم في هذه المقاطعات من لا يعرفن الكتابة إلا قليلاً ومع هذا ترى المرأة لا تخطيء فتدفع لهذا وتسلف ذاك وتوفي زيداً وتسلي زوجها وتدخل السرور عَلَى قلبه إذا كان كئيباً وتباحثه وتجادله فهي مستشارته وصاحبته ونصفه بل أحسن نصف فيه ولذلك لا ترى هذه المرأة تطالب بمثل ما يطالب به غيرها من نساء أميركا وإنكلترا من حق الانتخاب لأن القانون وضعها موضعها اللائق بها. أقول هذا وأنا ألوم من استعملوا الشدة في إنكلترا مع النساء المطالبات بحقوق الانتخاب فوضعوا المرأة في طبقة أحط من طبقات الإنسانية أما في الولايات المتحدة فلم يرتكب أحط الساسة خطأ قط مع النساء كما ارتكب أحرار الإنكليز حتى أن الرئيس روزفلت نفسه القائل بالشدة لم يقاوم المرأة في وقت من الأوقات وعاملها بالحسنى عَلَى الجملة. وإن مسألة تصويت المرأة لتنحل عقدة بعد أخرى في الولايات المتحدة وما اللذين يضحكون اليوم من مطالبة النساء بهذا الحق إلا أناس سيضحك منهن غداً وهكذا كان حال كل المدافعين عن المطالب الشريفة وجميع المقدمين والمخترعين ضحك الناس منهم وهزأوا بهم ثم أخذوا بعد ذلك يجلونهم ويقدسونهم وكقد نجح النساء في الولايات المتحدة بإشراكهن في انتخابات البلدية حتى أن منهن رئيسات في بعض البلديات كما هن أمهات صالحات ويشاركن الرجال في الإقرار عَلَى ميزانيات المعارف وانتخاب المعلمين للمدارس أو أعضاء لدور الكتب دع عنك من دخل مرتين في التعليم وإدارة المدارس وغرف التجارة والزراعة وقد كان للنساء الأميركيات يد طولى في تحرير الزنوج ثم عاد الرجال فاضطهدوهن وأخرجوهن من دائرة العمل في إنهاض بلادهن عَلَى نحو ما يخرج من الجناة والمجانين فهم الآن لا يقنعن إلا بمشاركة الرجل فلا يكتفين بالنفوذ بل يردن العمل بل العمل مباشرة. وقد ثبت لي أن النساء ممتعات في الانتخاب في المدن الداخلية حيث

المرأة هي صاحبة الأمر والنهي في منزلها لا حيث النساء يلتهين بملاهي السواحل وحاناتها كما هو الحال في سان فرانسيسكو ولولا النساء في هذه الولاية لاشتعلت جذوة الحرب بين الولايات المتحدة واليابان ولكنهن يلطفن من تغالي الرجال ويعدنهم إلى حظيرة التعقل في كل حال. المدارس الابتدائية في أوستراليا أوستراليا أو هولاندة الجديدة جزيرة كبرى للغاية في المحيط الكبير وهي من أهم المستعمرات الإنكليزية سكانها زهاء أربعة ملايين نصفهم من الأوربيين جاؤوها لاستثمار ما فيها من معادن الذهب والفحم والتوفر عَلَى تربية الماشية ومساحتها عبارة عن 8. 215. 673 كيلومتراً تقسمك إلى عدة ولايات وتعد هذه الجزيرة إحدى قارات العالم الخامس وقد كتبت إحدى العقائل فيها مبحثاً في مجلة مستندات الترقي الباريزية تصف مدارسها الابتدائية اللادينية التي تقتصر عَلَى العلوم فقط فقالت أن لنظام التعليم في أوستراليا مبدأين التعليم الإجباري والمجاني. وقد كان عدد من دخخلوا المدارس العامية في السنة الماضية من الأولاد 728000 ولد ومجموع ما أنفقته ولايات هذه الجزيرة عَلَى التعليم 75 مليون فرنك. ولئن كانت المواد الجوهرية في التعليم الابتدائي الجيد موجودة ثمت منذ زمن طويل إلا أن مدارس حدائق الأطفال لام تنشأ إلا في العهد الأخير وكذلك مدارس تعليم البالغين. كان التعليم الابتدائي في أوستراليا دهراً طويلاً لا دخل للدين فيه بتة ورأى الشرع هناك بالنظر لكثرة المذاهب الدينية أن ليس من الحكمة إدخال مسائل الدين ومناقشته في المدرسة وإن غايتها يجب أن توفي بحاجات التعليم والتربية وليس في البلاد غير ولاية غاليا الجديدة في الجنوب شذت عن هذه القاعدة منذ وزمن بعيد وأدخلت إلى مدارسها تعليم التوراة نازعة في تعليمها منزعاً لا يشعر بالتشيع لمذهب خاص من مذاهب النصرانية ومنذ زمن غير بعيد حذت هذا الحذو أيضاً ولايتان أقل مكانة من تلك وهما ولاية أوستراليا الغربية وولاية تاسمانيا فأخذتا تقرئان في مدارسهما شيئاً من كتب الدين بيد أن الولايات الراقية من حيث الصناعة والعلم مثل ولاية فكتوريا وأوستراليا الجنوبية وكنسلاندا قد احتفظن كل الاحتفاظ بمبدأ المدارس العلمانية.

ولم يببرح ولاة الأمور ولاسيما في فكتوريا يحرصون عَلَى تعرية المدارس من كل جدل ديني ويظهرون فضل هذه الطريقة وتنشئة أخلاق الأولاد ويبينون ما ينشأ من العدول عن كهذا المبدأ الذي ظهر ثمراته. وشعار مدارس ولاية فكتوريا في التعليم: الإجبارية والمجانية والعلمانية ومعلوم أن الإجبار المدرسي مناف للتعليم الديني الإجباري لأن هذا ربما مس العواطف الدينية في الأولاد وفي أهليهم ممكن قد تكون عقائدهم مخالفة لما يلقن أولادهم في المدارس. أما الكنائس فإنها مخالفة لهذا المبدأ وهي بوجه الإجمال تناقض مبدأ التعليم اللاديني ولاسيما الكنائس البرتستانتية فإنها تطالب بإدخال تعليم التوراة عَلَى مثال ولاية غاليا الجديدة في الجنوب ولطالما حاولت نيل ذلك فكانت الأكثرية في جانب المدارس العلمانية أما الكنيسة الكاثوليكية فإنها تفضل أن يكون التعليم علمياً محضاً من أن تعلم في المدارس التوراة فقط عَلَى الطريقة البرتستانتية وتوشك أن تؤسس مدارس لأبنائها خاصة يوم يقال لهم تعلموا علماً دينياً يخالف مذهب آبائكم. أما غير المتدينين والطبيعيون فإنهم لا يقولون بتعليم ديني ولا بإقامة شيءٍ من الشعائر وقد سمحت حكومة فيكتوريا آباء التلامذة أن يعلموا أولادهم تعليماً دينياً بواسطة قسيسين من مذهبهم وذلك بعد إلقاء الدروس النظامية أو قبلها. وليست قراءة التوراة إجبارية حتى في مدارس الولايات التي تعلم الدين. وعلى الجملة فإن من ولايات أوستراليا من لم تلزم الخطة اللادينية في التعليم ومنها من قبلت بتعليم التوراة مع سائر العلوم ولكل من التعليمين أنصار ولهما الأثر في تربية أرواح الأولاد. ويقول خصوم التعليم اللاديني في أوستراليا أن حالة أخلاق الشبيبة في ولاية فكتوريا أحط مما هي في سائر الولايات التي تعلم فيها التوراة ويقولون إن إحدى دور توليد النساء في ملبورن كان فيها نصف الأمهات من الفتيات من سن الـ 15 إلى الـ 20 وبعضهن من سن الـ 12 إلى الـ 13 أو الـ 14 فيجيبهم خصومهم عَلَى ذلك بأن أمثال هذه الدور للتوليد لا تقبل إلا من كن بكريات من البنات ولذلك كان عدد عظيم ممن تؤويهم من النساء هن شابات للغاية. وقال الأستاذ آدم من كلية ملبورن أن عدد الجرائم قد تضاعفت في فرنسا من سنة 1866 إلى 1896 بسبب المدارس اللادينية وفاته أن التعليم الديني في خلال نصف هذه المدة كان

إجبارياً في مدارس الفرنسيس وقد ادعى أحد القائلين بالتربية اللادينية أن مدارس ولاية غاليا الجديدة أتت بأنفع الثمرات في مدارسها اللادينية أكثر من مدارس ولاية فكتوريا اللادينية وأن عدد الجنح والجنايات أكثر في الولاية الأخيرة من الولاية الأولى عَلَى أنه لا يجب أن يفوتنا أن الإحصاء الذي يوردونه تأييداً لمدعاهم لا ينطبق مع حقيقة الواقع لأن من الولايات ما زاد نفوسها أكثر من غيرها ولذلك زادت جرائمها لا لفقدان التعليم الديني منها والحقيقة أن عدد الجرائم كان هكذا سنة 1908 ولاياتتعليمها لا دينيولاياتذات تعليم ديني247كنسلاندا496أوستراليا الغربية216فيكتوريا320غاليا الجديدة الجنوبية129أوستراليا الجنوبية292تاسمانياوقد كان معدل الولادات غير الشرعية سنة 1907 6. 66 في المئة في إيكوسيا عَلَى حين كان 3. 99 في المئة في إنكلترا وبلاد الغال من بريطانيا وكانت فينا من سنة 1900 إلى 1902 تعد في كل ألف امرأة غير متزوجة أو عزبة سنها من 15 إلى 45 61 ولادة غير شرعية في حين كانت باريز تعد 36 في كل ألف أما سدني عاصمة أوستراليا كلها وفيها تعليم ديني فكان منها معدل الولادات غير المشروعة خلال تلك المدة 17. 9 في المئة وكان معدل الولادات في ولاية ملبورن اللادينية 13. 5 في المئة وإديمبرغ 1. 3 في المئة ولندرا 6. 4 في المئة. ومتى علم لم انتشرت الرذيلة في بعض المدن التي ذكرناها ولاسيما في لندرا يعجب المرء أن يرى إلى أي درجة يمكن تأثير طريقة التسجيل في الإحصاءات وكيف انتشرت طرق مقاومة الحبل انتشاراً فاحشاً. وما هذه الإحصاءات في الحقيقة بمستند يصدق عَلَى سمو الأخلاق بل ولا عَلَى انحطاطها إلا إلى حد محدود فإن كثيراً من الولادات غير المشروعة تكون في أمة دليل الجهل أكثر مما هي دليل فساد الأخلاق ولا يصير إلى دور التوليد إلا الجاهلات أما الفاسدات من النساء فإنهن يعرفن من أين تؤكل الكتف إذا وقعن في مأزق وحملن من حرام. بيد أن الإحصاءات في أوستراليا ثبتت مكانة الأخلاق في الولايات التي اتخذت في مدارسها الحياد قاعدة في مسائل الدين ولكن هذه المكانة يحتزر المربون اللادينيون من نسبتها خاصة إلى التعليم اللاديني ولا يعمدون إلى الاستشهاد بالإحصاءات إلا لرد حجج

خصومهم في فوائد المدارس اللادينية. هذا ما قالته كاتبة المقالة ونحن لا نثبت ولا ننفي الآن من ترجيح إحدى الطريقتين الدينية واللادينية ولاسيما في هذه الديار المجهول أمرها فعسى ألا يتأذى أحد بما تنقله الشهر بعد الشهر عن مجلات الغربيين للعبرة والاستفادة وما القصد خدمة رجال الدين ولا غيرهم بل عرض أوضاع الغرب وأهل الشرق معها وما يختارون. مدينة في حديقة ينشئون الآن عَلَى مسافة خمسين كيلومتر من شمالي لندرا مدينة في حديقة غناء لإيواء اللقطاء واليتامى من الأولاد وكانت ربت إدارة هذه المدينة في معاهدها حتى اليوم منذ أربعين سنة وهو وقت إنشائها 70436 طفلاً وأنشأت 25 ألف معهد في المستعمرات الإنكليزية لهذا الغرض والغاية من إنشاء هذه المدينة الجديدة تدريب الأولاد عَلَى حياة الزراعة ولاسيما في سهول كند الفسيحة وستقسم المدينة إلى 28 داراً كل منها تؤوي 30 ولداً ولكل دار حديقة وحقل يعمل فيه الأولاد يفصل كل بيت عن جاره وهناك مستشفى وحوض لتربية السماك. وقد سبقت ألمانيا وأنشئت هذا النوع من المدن الحدائق الخارجة عن الحواضر والعواصم لتبقى هذه للأعمال التجارية وتكون المدن الحديثة للصحة والراحة تعود بالإنسان إلى الطبيعة التي فقد الإنسان الاستمتاع بها بما يراه في المدن الحديثة من بنايات ذات أربع أو خمس طبقات. وقد رأي القائمون بذلك من الألمان أن الراضي في الضواحي البعيدة رخيصة لا تخضع لقانون المضاربات ويشترط عَلَى كل صاحب بيت مالكاً كان أو مستأجراً أن يزيد في جمال بقعته جمالاً بما يغرسه فيها من الأشجار وينشئه من الحدائق الأنيقة ويشترط عليه أيضاً أن يبقي قطعة يغرس فيها أنواع الزهور وحديقة وراء بيته يلعب فيها أولاده وقد أنشأ هؤلاء المفكرون في الضواحي حمامات ومحال اللعب ومكاتب للمطالعة ومحال للسماع مجانية ودور تمثيل ومتاحف ومستوصفات مجانية وملاجئ للأمهات وغير ذلك من المنشطات وكلها بلا مقابل. اللبن معظم بلاد الغرب تخرج من اللبن الحليب والزبدة والجبن وسائر ما يتفرع من اللبن صنوفاً

وضروباً وللبن تجارة واسعة تعد بالملايين وقد ساعدت عَلَى إنمائها ونمو الزراعة بالمراعي الكثيرة والوسائط العملية الوفيرة ولذا رأينا في أوربا فلاحاً يعيش هو وأسرته من بقرة أو غنمتين ولذلك أمثال في هذا الشرق أيضاً ولكن المتوفرين هنا عَلَى تربية المواشي الحلوبة أقل بكثير من المتوفرين في الغرب عليها. فتجد في سويسرا ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية مخصصة للمراعي وتقدر مساحتها بعشرين مليون هكتولتر وثمنها بـ 333 مليون فرنك ونصف المراعي يصرف بطبعه وسبه ملايين هكتولتر تصرف لعمل الزبدة والجبن والباقي للحصول عَلَى الطحين اللبني والشوكولاتا باللبن. وسويسرا تصدر معظم ما تعمله من اللبن المجمد والجبن والطحين اللبني إلى البلاد الخارجية وفي سويسرا مليون ونصف مليون رأس من الماشية و360 ألفاً من المعزي ولكثرة ما يرد عليها من الأجانب السائحين تجلب من البلاد الخارجية 47 ألف رأس بقر و118 ألفاً من الخرفان و150 ألف خنزير في السنة وهكذا الحال في فرنسا وألمانيا وغيرها من البلاد فمن تكون واردات المملكة العثمانية كلها من ألبانه بقدر واردات سويسرا فقط وسويسرا بمساحتها أقل من نصف ولاية سورية فقط وبنفوسها تقرب من نفوس القطر السوري فتأمل. المدارس الفرنسية في الشرق يستفاد من تقرير المسيو ديشانل أن عدد التلاميذ الذين تلقوا علومهم في المدارس الفرنسية في بلاد السلطنة وفي الشرق قد بلغ في العام المدرسي الأخير 104 آلاف منهم 74 ألف تلميذ في السلطنة و21 ألفاً و500 في القطر المصري و2900 في اليونانية و325 في كريت و667 في قبرص و2000 في بلغارية و200 في رومانية و2800 في إيران. أنا عدد الذين تلقوا العلوم العالية فبلغ 752 والعلوم التجارية وغيرها 1695 والعلوم الثانوية 9943 والعلوم الابتدائية 91 ألفاً و485. الطلاق في يابان يزداد الطلاق في الغرب اليوم بعد اليوم لكنه في الشرق أكثر ولاسيما في الشرق الأقصى فقد ذكرت إحدى مجلات يابان أنه كان سنة 1870 بالنسبة للزواج 84 في كل عشرة آلاف فتجاوز معدله اليوم 250 في العشرة آلاف والمرأة هي التي تطلب في الغالب طلاقها وذلك بفضل التربية والتعليم فقد ارتقت المرأة اليابانية وشعرت بحب الحرية أنها لا ترى أن تقيد

بزوج قيداً أبدياً. ولو تعلمت ما ينفعها في منزلها وأسرتها عَلَى نسبة ما ينفعها في توسيع عقلها لما آثرت عَلَى عيش الأسرة حياة غيرها وليس السبب في طلب المرأة اليابانية الطلاق سوء الأخلاق وخيانة الزوج والزوجة بل توسع المرأة في تقاضي حقوقها. قالت وقد اختلفوا في الغرب بأمر الطلاق فالكاثوليك يحرمون من يأتيه ويرون أن عقد الزواج لا ينفصم إلا بالموت والبرتستانت يحلونه ولكن بشرط والملحدون يعقدون ويحلون عَلَى هواهم ويرى بعض الاجتماعيين أن الطلاق هو الدواء الوحيد الشافي من أصعب أمراض المجتمع ونحن نقول ما قاله أسلافنا أن أبض الحلال إلى الله الطلاق. براميل القمامات تضع مدينة باريز براميل أمام البيوت والمحال ليلقي فيها الباريزيون القمامات والكناسات التي يكسحونها من دورهم وشوارعهم يسمونه نسبة لأحد ولاة باريز السابقين الذي ابتكر هذه الطريقة فوضع هذه البراميل لئلا تلقى القاذورات في كل مكان فيتأذى بها أبناء السبيل وتضر بصحة السكان ومن العجيب أن الإفرنج يحسنون استخدام كل شيء وينتفعون من كل مادة ومن كان يخيل إليه أن عشرة آلاف رجل وامرأة وولد يتوفرون كل يوم عَلَى البحث في هذه العلب والبراميل قبل أن يرفعها الكساحون في عجلاتهم ويلقونها في أماكن لتستخدم لتسميد أراضي الضاحية فيعثرون فيها أحياناً عَلَى لقط لا تخطر في بال ويتناولون منها فضلات تقدر بعضها ببضعة ملايين وهكذا يستخرج اليوم اللانولين الذي لم يكن معروفاً منذ عشرين سنة وهو يتألف من بقايا أنسجة الصوف والخرق التي تغسل مما علق بها من المواد الدهنية والزيتية وغيرها ومن اللانولين يربح أرباب المعامل أرباحاً مهمة وكذلك الحال في قطع الزجاج التي يعزلونها من هذه العلب ويسحقونها أو يمزجون مسحوقها بملاط بورتلاند فيأتي منه مزيح يكون منه بلاط شفاف أقبل الماس عَلَى تبليط الدور والحوانيت به ويعملون من هذا المسحوق أيضاً قرميداً دخل في بعض الأبنية. ويستخدمون أيضاً الزجاج المكسور وصوالة بقايا البقول والجلد والأحذية العتيقة والقفافير البالية والمسامير القديمة المصدبة والمفاتيح والأقفال المحطمة مما تظنه ربة المنزل لا فائدة فيه. وقد جرت بعض مدن أميركا عَلَى هذه القاعدة في أنه لاشيء بدون نفع فأخذت تسحق هذه

القمامات عَلَى اختلاف تركيبها وتجعلها ذروراً يصير منها سماد نافع يحتوي عَلَى المواد النباتية والحديد النافع في إخصاب الأرض. وكم للإفرنج في هذه السبيل من أعمال يحيلون بها ما لا يعتقد غناءه إلى مواد نافعة حتى لقد بلغ بهم التفنن في العلم أخذوا يجمعون الدخان الذي تقذفه المواقد العالية فيضر بالمزروعات ويحولونه إلى قلي طيار وهذا النشادر يباع بأثمان مهمة ويتجر به المتجرون. الخبز البلدي في بودابست أنشئ هذا المخبز في عاصمة المجر سنة 1903 وهو يكاد يكفي حاجات المدينة ومعاهدها ويخبز كل يوم 28 ألف كيلو من الخبز تخبز كلها بواسطة أدوات لا تمسها يد إنسان في أمكنة مستوفاة من حيث حفظ الصحة وقد كاد يقضي هذا المخبز عَلَى الخبازين في المدينة فاضطروا أن يخفضوا أسعار الخبز ولكن الناس يقبلون عَلَى خبز المخبز لنظافته ورخص أسعاره والمخبز يدفع أجوراً لعملته أكثر من سائر الخبازة ويعملون في النهار ساعتين أقل من أخوانهم في الأفران الأخرى.

اللغة الانتقادية

اللغة الانتقادية هذه الرسالة الثانية في اللغة الانتقادية التي وعدت بها في رسالتي الأولى أسوقها محذوفاً منها ما لا حاجة إليه ومقفاة بعض حروفها بما يعين للناشر قال المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين هذا كتاب يشمل عَلَى ما صحفته العامة وغلطت فيه من كلام العرب الجاري في الألفاظ والكتب رتبت ذلك أبواباً عَلَى حروف المعجم ليسهل عَلَى متأمله وجود ما يريد وحفظ ما يستفيده وبالله القوة والحول والمنة والطول فمن ذلك. حرف الألف تقول العامة لك عليَّ إمرة مطاعة بالكسر والصواب أَمرة بالفتح ويقولون هذه ضبارة والصواب إضبارة بالألف ويقولون قفلت الباب وغيره بغير ألف والصواب أقفلته بالألف ويقولون وقية للتي يوزن بها والصواب أُوقية بالألف بالفل مضمومة ويقولون عقدت العسل بغير ألف والصواب أَعقدت العسل بالألف ويقولون وعيت المتاع بغير ألف والصواب أوعيت بالألف إذا جعلته في وعائه ويقولون غفوت من النوم بغير ألف والصواب أَغفيت بالألف. قلت يعلق في الذكر أن بعض المحدثين استعمله كذلك. ويقولون شليت الكلب يذهبون بذلك إلى إغرائه بالصيد والصواب أشليت والإشلاء أن تدعوه إليك وكذلك للناقة والشاة فأما إغراء الكلب فهو الإيساد تقول أوسدته وأسدته إذا أغريته ويقولون للفارسي عجمي والصواب أَعجمي باللف ويقولون عق الفرس بغير ألف والصواب أعقت الفرس بالألف ويقولون حسبت فرساً في سبيل الله والصواب أحسبت بالألف ويقولون أطعنا من قطايب الجزور والصواب أن يقول من أطايب الجزور ويقولون لية الشاة والصواب أن يقال لها أَلية الشاة مفتوحة الألف والجمع أَليات ويقولون الرجل أَبردة بفتح الألف والصواب إِبردة بالكسر. قلت الأَبردة برد الخوف. ويقولون خذ لذلك الأمر هبته والصواب أن يقال أُهبته بإثبات الألف وضمها وإسكان الهاء ويقولون في صدره عَلَى حنة والصواب أن يقال إِحنة بالألف ويقولون عود يسر الذي

يوضع عَلَى بطن المأسور وهو الذي يحبس بوله والصواب أن يقال عود أُسر بإثبات الألف وضم السين ويقولون غلق الباب وهو مغلوق والصواب أن يقال أغلت الباب وهو مغلوق ويقولون غليت الماء فهو مغلىً والصواب أن يقال أغليت الماء فهو مغلىً بإثبات الألف قال أبو الأسود: ولا أقول لقدر القوم قد غليت ... ولا أقول لقدر الدار مغلوق ويقولون أوميت له والصواب أومأت إليه بألف مهموزة مكان الياء ويقولون في استزادة الحديث إيهاً وذلك غلط وإنما يقال في الاستزادة إيه فإن قلت إيهاً فقد كففته عن الحديث ويقولون طفيت المصباح بالياء والصواب أطفأت المصباح بالهمزة وإثبات الألف في أوله ويقولون هو الانجاص بنون قبل الجيم والصواب الأجاص بتشديد الجيم وإسقاط النون قلت تتولد هذه النون في المضاعفات كثيراً حتى صححه بعضهم وأثبته بالنون. ويقولون قد ابريته من الدين والصواب أبرأته بالهمزة وإنما يقال إبريت الناقة إذا جعلت أنفها برة. قلت البرة حلقة توضع في أنف الناقة لقول أبريتها وبروتها أيضاً والجمع براة وجمعه بعض المتأخرين من شعراء العراق عَلَى برىً قال: لا تسمها جذب البرى أو تدري ... ربة الخدر ما البرى والنسوع ويقولون هي خية والصواب هي آخية ممدودة مشددة وجمعها أواخي قلت وهي الطنب. ويقولون مشيت حتى عييت بغير ألف والصواب أَعييت بالألف ويقولون واكلت فلاناً إذا أكلت معه والصواب آكلته ويقولون قد وازيت فلاناً بمعنى جاريته والصواب آزيته. ويقولون رجل أدر بتشديد الراء والصواب آدر ممدود مخفف بين الأدرة قلت والأدرة انفتاق يصيب الرجل في إحدى الاثنيين. ويقولون هي الوزة (الطائر) والصواب الإوزة بالألف. ويقولون جبر القاضي رجلاً عَلَى قول كذا بغير ألف ويريدون قصره (أي رده إليه) والصواب أَجبر بالألف. ويقولون شهدنا فلاس فلان بغير ألف والصواب أن يقول إفلاس فلان بالألف. ويقولون صار فلان حدوثه والصواب أُحدوثه ويقولون هو الرز والصواب الأَرز بتشديد الزاي. ويقولون قد انتقع لون فلان بالنون وذلك غلط والصواب امتقع بالميم. ويقولون تولعت والصواب أُولعت بالصيد

بألف مضمومة. ويقولون شرعت باباً إلى الطريق بغير ألف والصواب أَشرعت بالألف. ويقولون هدرت دم الرجل بغير ألف والصواب أَهدرت بالألف. ويقولون إذا كبر الرجل قد سن بغير ألف والصواب أَسن بالألف. ويقولون قلت الرجل في البيع بغير ألف والصواب أَقلت بالألف. قلت الإقالة في البيع الفسخ تقول أقلته البيع وقلته بالكسر ولا تقل قلت بالضم لأنه من القول. ويقولون قد حصره المرض بغير ألف إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها والصواب اَحصره المرض بالألف. ويقولون القوم إذا صاحوا وجلبوا بغير ألف والصواب أَضجوا بالألف. قلت ويقال للمغلوب الجازع ضج إذا صاح. ويقولون قد وهمت في الصلوة بغير ألف والصواب أَوهمت بالألف ويقولون عتقت العبد بغير ألف والصواب أَعتقته بالألف. قلت ويقال عتق العبد يجعله فاعلاً إذا ملك نفسه وخرج عن الرق. ويقولون كريت الدار وهي مكرية بإسقاط الألف وتشديد الراء والصواب أكريتها فهي مكراة. ويقولون زرى فلان بفلان بغير ألف والصواب أزرى بالألف ويقولون عجلت الرجل إذا استعجلته بغير ألف والصواب أعجلته إذا استعمله بالألف. ويقولون أبطيت علينا والصواب أبطأت علينا وقد استبطأتك. ويقولون بيني وبين فلان إمارة بالكسر والصواب أَمارة بالفتح قلت الأمارة هنا هي الموعد. الزائد من كلام ابن الجوزي وتقول في اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر هذه أيام البيض أي أيام الليالي البيض وسميت الليالي بيضاً لطول القمر من أولها إلى آخرها والعامة تقول الأيام البيض حتى أن بعض الفقهاء جرى في كتبه المصنفة عَلَى عادات العوام في ذلك وهو خطأٌ لأن الأيام كلها بيض وقرأت عَلَى أبي المنصور اللغوي قال العرب تسمي كل ثلث من الليالي باسم. ويقولون قد راحت الجيفة ويقولون والصواب أروحت. ويقولون أعرني سمعك والصواب ارعني ويقولون اللهم صل عَلَى محمد وذويه وهذا غلط لأن العرب لم تنطق

بذي إلا مضافاً إلى اسم جنس كقولهم ذو مال والصواب عَلَى محمد وآله أو أَهله وقال أبو هلال العسكري يقول العوام شيءٌ أزلي قديم ويصفون الله بالأزلية وكل ذلك خطأ لا أصل له في العربية وإنما قول الناس لم يزل موجوداً ولا يزال بنوا منه هذا البناء. قلت هذا عجب من أبي هلال فإن العلم لا بد أن يؤثر في اللغات ولا مفر من أن يزحزحها عن دائرة الجمود الضيقة فإن هذا البناء هو بناء علمي وكذلك أمثاله وكل الاشتقاقات التي لا أصل لها في العربية الأولى ثم انقلاب أساليب البيان والإلقاء والخطاب أمور طبيعية لا مناص عنها في لغة يتكلم بها الفلاسفة وتسيل بها أقلام كتاب الأمة العربية يوم كانت أرقى أمم العالم. عَلَى أن لهذه الكلمة مخرجاً عربياً فإنها جاءت في الأدعية الفصيحة وقال اللغويون إن أزلي منسوب إلى لم يزل مثل نسبتهم الرمح الأزني واليزني إلى ذي يزن فكأنهم أبدلوا الياء ألفاً. حرف الباء ويقولون قد بنى فلان بأهله والصواب قد بنى فلان عَلَى أهله ويقولون هذا غلام حين بقل وجهه بتشديد القاف والصواب بقل بتخفيفها ويقولون أنة بكر بفتح الباء والصواب بكسر الباء وإنما البكر الفتي من الإبل ويقولون بديت بالشيء والصواب بدأت بالهمز ويقولون قد بسق الرجل بالسين لا يكادون يفرقون بين السين والصاد والصواب قد بصق بالصاد من البصاق وأما البساق بالسين فهو من قولهم بسق الرجل إذا طال وكذا قولهم بسقت النخلة إذا طالت قال تعالى (والنخل باسقات لها طلع نضيد) ويقولون بهت إليه والصواب بهت إليه بضم الهاء. قلت معنى بهت إليه تنبهت وتفطنت وقد رويت بالكسر أيضاً ولعل الأصوب ما في الرسالة. ويقولون بطيخ بفتح الباء والصواب بطيخ بكسرها. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون بزر وبزور لما يزرع ويؤكل وهو خطأ والصواب بذر وبذور قلت وقد دون اللغويون الاثنين بهذا المعنى ويقولون لما يعجل من الزرع والثمار هرَّفَ والصواب قد بكر وهو الباكورة.

قلت ويقول فلاح العراق اليوم للمبكر من الزرع (هرفي) وهرف موجود في معاجم اللغة وكذلك أَهرف. ويقولون هو البورق لهذا الذي يلقى في العجين بضم الباء والصواب البورق بفتحها لأنه ليس في الكلام فوعل بضم الفاء وكل ما جاء عَلَى (فوعل) فهو مفتوح الفاء نحو جورب وروشن ويقولون هذا البخور بضم الباء والصواب فتحها ويقولون البهار بفتح الباء والصواب بضمها والبالوعة والعامة تقول بلوعة بغير ألف وتشددها ويقولون بلعت اللقمة بفتح اللام والصواب بكسر اللام ويقولون بعلاً للزوج وإن لم يدخل بها والصواب أن يقال إن دخل بها بعل وقيل ذلك يسمى زوجاً وهو زوج عَلَى كل حال (قبل الدخول وبعده) ويقول خرج فلان إلى برّا (بتشديد الباء وبألف وهكذا يقولها العراقيون) والصواب برٍ ويقول بررت والديَّ بفتح الراء والصواب بررت بكسر الراء قلت وكلاهما مدون. ويقولون بخست عينه بالسين والصواب بخصت بالصاد ويقولون بينهما بين والصواب بون بالواو ويقولون امتلأت بطن فلان يؤنثون والصواب امتلأ بن فلان مذكراً لأن العرب تذكر البطن قال الشاعر: وإنك أن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الدم أجمعا ويقولون للأسود خاصة بهيم والصواب أن يقال لكل لون خالص لا يخالطه لون آخر بهيم سواء أسود أو غيره. حرف التاء ويقولون تثاوبت والصواب تثاءبت بالهمز والمد ويقولون توضيت للصلوة والصواب توضأت بالهمزة ويقولون تعتيت والصواب بالدال ويقولون تجشيت بالياء والصواب تجشأت بالهمزة والجيم والاسم الجشأة ويقولون تخوم الأرض بضم التاء والصواب تخوم بفتح الخاء (كذا) ويقولون ذيك المرأة والصواب تيك المرأة ويقولون أَترسة جمع ترس والصواب ترسة ويقولون تغليت بالغالية (عطر) والصواب تغللت بالغالية. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون ما هذا التباطي بالياء والصواب التباطؤ بالهمزة والواو ويقولون دابة لا تردف والصواب لا ترادف ويقولون هذه الشاة تشتر بالشين والصواب بالجيم ويقولون جاءت

المرأة بتوأم والصواب بتوأمين وإنما التوأم أحدهما ويقول تكريت للبلدة بكسر التاء والصواب بفتحها ويقولون ششتر ودوستر للبلدة المعروفة (من بلدان إيران الجنوبية) بالدال والشين والصواب تستر بالتاء (والسين أيضاً) ويقولون التغار والصواب تيغار بياء بعد التاء عَلَى وزن تفعال. قلت والتيغار الأَجانة وفي العراق اليوم يستعملونه في الموزونات ويقولون ثفل فلان بالثاء والصواب بالتاء ويقولون التذكار للمعاهد يهيج الحزن بكسر التاء والصواب بفتحها ويقولون تواترت رسل فلان بجعل التواتر بمعنى الاتصال الذي ليس فيه انقطاع وهذا غلط منهم والصواب تواترت رسل فلان إذا جاءت منقطعاً بعضها عن بعض بين كل اثنين هنيهة قال الله تعالى (ثم أرسلنا رسلنا تترى) واصلها وترى من المواترة ومعناها منقطعة بين كل نبيين دهر قال أو هريرة (لا بأس بقضاء رمضان تترى) أي منقطعاً. ويقولون تنهس النصارى بالهاء إذا أكلوا اللحم قبل صومهم وهو خطأ والصواب تنحس بالحاء إذا تركوا أكل اللحم وقرأت عَلَى أبي منصور اللغوي قال هذا غلط في اللفظ وقلب المعنى إلى ضده فأما اللفظ فإنما يقال بالحاء وأما المعنى فإنما يقال لهم ذلك إذا تركوا أكل اللحم ولا يقال لهم ذلك إذا أكلوه وقال ابن دريد وهو عربي معروف لتركهم أكل الحيوان ويقال تنحس إذا تجوع كما يقال توحش. حرف الثاء ويقولون ثدي المرأة بكسر الثاء والصواب بفتحها ويقولون هو الثوم بفتح الثاء والصواب بضمها ويقولون هو الثاءلول بفتح الثاء وألف والصواب بضم الثاء وواوٍ مهموزة مكان الألف والجمع ثآليل ممدود مهموز قلت والثآليل والبثور. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون رجل أثط بألف زائدة والصواب ثط بغير ألف (وهو الكوسج من الرجال) وربما قالوا ثدي الرجل وإنما هو ثدوة الرجل قلت قيل إن الثدي عام وروي فيه الكسر أيضاً وقد تقدم أن الصواب الفتح. ويقولون لما يكثر ثمنه هذا مثمن بكسر الميم الثانية وإنما المثمن الذي صار له ثمن والصواب ثمين كما يقال رجل لحيم لما كثر لحمه وشحيم لما كثر شحمه.

حرف الجيم ويقولون جفن السيف بكسر الجيم صوابها بفتحها قلت والكسر مروى ويقولون جفيت الرجل بالياء صوابها جفوت بالواو ويقولون عندي في جمام القدح ماء بفتح الجيم والصواب بكسر الجيم خاصة ويقولون جمام في الدقيق وغيره قلت الجمام أن يمتلئ المكيال وروي مثلث الجيم ويقولون جنازة بفتح الجيم وهي لغة والصواب جنازة بالكسر ويقولون الجدي بكسر الجيم والصواب الجدي بفتح الجيم وسكون الدال ويقولون في الجد الأب أبي والأم هو جد فلان بكسر الجيم وذلك غلط وإنما الجد الحزم في الأمر تقول له جد في الأمر أي حزم والصواب فتح الجيم ويقولون جليت السيف والعروس بالياء وليس كذلك وإنما الصواب جلوت بالواو ويقولون لضرب من الحرز الجزع والجزع صوابها فتح الجيم وإسكان الزاي فأما الجزع بكسر الجيم فجزع الوادي وهو منقطعه وقيل منحاه وأما الجزع بتحريك الزاي فهو الخوف ويقولون هو الجد ضل الهزل بفتح الجيم صوابها بكسرها ويقولون للتي يغتسل بها جفنة بالكسر وصوابها بالفتح قلت وهي هنا البئر ويقولون الحراب بالفتح وهي لغة صوابها بالكسر. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون ثياب جدد بفتح الدال والصواب بضمها ويقولون هذا الجورب والجوذاب والريح الجنوب بالضم والصواب بالفتح قلت الجوذاب عَلَى مثال فوعال في الرسالة وفي القاموس الجوذاب بتقديم الألف عَلَى الذال وبضم الجيم أيضاً وهو طعام. ويقولون في الجمع والواحد جوالق ولا تفرق بين الجمع والواحد صوابها إذا ضمت فهو للواحد وإذا فتحت فهو للجمع قرأت عَلَى شيخنا أبي المنصور اللغوي قال الجوالق أعجمي معرب واصله بالفارسية (كواله) وجمعه جوالق بفتح الجيم وهو من نوادر الجمع ويقولون جهدت جهدي بكسر الهاء صوابها بفتحها ويقولون جرعت الماء والصواب الكسر ويقولون لبثرة تخرج في العين الكدكد والصواب الجدجد بجيمين مكان الكافين وهي لغة تميم وربيعة تسميها القمع ويقول الجرد بالدال المهملة والصواب بالذال المعجمة ويقولون لجمع جواب الكتب الجوابات والأجوبة وهو خطأ والصواب ألا يجمع لأنه كالذهاب قال سيبويه الجواب لا يجمع وقولهم جوابات كتبي وأجوبة كتبي مؤلف (مخترع) وإنما يقال جواب كتبي.

حرف الحاء وقع عَلَى حلاوة القضا بفتح الحاء صوابها ضمها ويقولون دقيق حواري بفتح الحاء والتخفيف من صوابها حواري بضم الحاء وتشديد الواو قلت وهو الأبيض من الدقيق والمحور منه المبيض ويقولون في أسنانه حفر بفتح الحاء والفاء وصوابها بإسكان الفاء ويقولون حنيت عَلَى الرجل إذا عطفت عليه بالياء صوابها بالواو ويقولون امرأة حصان بكسر الحاء صوابها بفتحها ويقولون حمة العقرب بالتشديد صوابها بالتخفيف ويقولون للطيرة حدة وحدي بالتاء والياء غير مهموزة صوابها حدأة بكسر الحاء وفتح الدال وألف مهموزة والجمع حدآءٌ ويقولون رجل حدث السن والصواب حديث السن فإن قلت حدث لم تذكر السن فتقول فلان حدث لا غير ويقولون لما يحسى من الطعام الحسو بضم السين وإسكان الواو والصواب الحسو بضم السين وتشديد الواو ويقولون حسبت في الحساب بكسر السين والثواب بفتح السين وإنما يقال بكسر السين في معنى ظننت ويقولون حشيت الوسادة والوعاء بالياء والصواب حشوت بالواو. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون الحمام للدواجن التي تستفرخ في البيوت خاصة والصواب أن يقال لجميع ماله طوق الحمام مثل الفواخت والقماري والقطا ويقولون أحدرت السفينة أحدرها بكسر الدال من المضارع والصواب أحدرها بضم الدال ويقولون قد آن أحدار السفينة والصواب قد آن حدرها ويقولون حلفت الشيء إذا ألقيته من فوق إلى تحت وهو خطأ والصواب حلقت إذا رميته إلى فوق بقال حلق الطائر في كبد السماء إذا ارتفع ويقولون كان ذلك في حسابي والصواب في حسباني وليس للحساب ههنا وجه. قلت قالوا أن الصحيح كان في حسباني وأما قولهم في حسابي فله وجه أيضاً ويقولون حلا الشيء في عيني بفتح اللام ص حلي بكسر اللام وإنما حلا في فمي (لا في عيني) فهذا من الحلاوة والأول من الحلية. ويقولون في عيني حور بكسر الحاء وصوابها بفتحها قلت ويظهر من بعض المعاجم الضم فقط ويقولون قد حسن الشيء وحمض بكسر السين والميم والصواب بضمها ويقولون في كنية الثعلب أبو الحسين والصواب أبو الحصين ويقولون للخارج من الحمام طاب حمامك خطأ صوابها طاب حميمك أو حمتك أي طاب عرقك لأن

عرق الصحيح وعرق السقيم خبيث ويقولون قد حدث أمر عظيم بضم الدال قياساً عَلَى قولهم أخذني ما قدم وما حدث ويقولون فلان يحث في السير وفي الخير أيضاً صوابها أن يقال يحث في السير ويحض عَلَى الخير وقد فرق الخليل بن أحمد فقال الحث في السير والسوق والحض فيما عداهما ويقولون أحميت المريض صوابها حميته بغير ألف ويقولون إذا وجدوا في أبدانهم سخونة أجد حمى وصوابها أجد حمياً وقد بلغنا عن الصاحب بن عباد أنه رأى أحد ندمائه متغير السحنة فقال ما الذي بك فقال حمى فقال الصاحب (قه) فقال النديم (وه) فاستحسن عليه الصاحب ذلك وخلع عليه. حرف الخاء يقولون خمرت العجين إذا جعلت فيه الخمير وصوابه خمرت العجين بالتخفيف ويقولون أخصيت الفحل بالألف والصواب بغير ألف فهو مخصي ولا يقال مخصيً ويقولون فعلت ذلك خصوصية بضم الخاء والصواب بفتح الخاء قلت والضم معروف أيضاً. ويقولون خليت به بالياء والصواب بالواو. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون مائدة للخوان الذي يترك عليه الطعام سواء عليه طعام أو لم يكن ص خوان بكسر الخاء إذا لم يكن عليه طعام فإذا كان عليه طعام فهو مائدة ويقولون خاتمة للحلقة إن كان فيها فص أو لم يكن ص إن كان فيها فص فهو خاتم وإن لم يكن فهي حلقة ويقولون للذهب المصوغ هذا خلاص بفتح الخاء ص بكسرها قلت هو ما أخلصته النار من الذهب وهو الخلخال والخشخاش بفتح الخاء والعامة تكسرها وهي الخصية والعامة تقول الخصوة بالواو ويقولون أخطأ الرجل إذا تعمد الذنب ص خطئ فهو خاطئٌ ومنه الخطية وإنما أخطأ يخطئُ إذا أراد شيئاً فأصاب غيره وقال بعض المتأخرين: لا تخطون إلى حط ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا فأي عذر لمن شابت مفارقه ... إذا جرى في ميادين الصبا وخطا ويقولون لمن هلك له والد أو ولد أخلف الله عليك وهو خطأ ص أن يقال لمن هلك له من يتعوض عنه كالولد أخلف الله عليك ولمن لا يتعوض عنه كالوالد خلف الله عليك أي كان خليفة.

حرف الدال ويقولون الدهليز بفتح الدال ص بكسر الدال ويقولون دحية الكلبي بفتح الدال ص بكسر الدال ويقولون هو الدخان بتشديد الدال والخاء ص بالتخفيف وجمعه دواخن والعامة تقول دخاخين ويقولون دم بتشديد الميم ص بالتخفيف ويقولون دنيت من الرجل إذا قربت منه ص دنوت منه بالواو ويقولون دوخلة بتخفيف اللام ص دوخلة بالتشديد قلت والتخفيف منقول فيها وهي ما تصنعه من أخواص النخل ظرفاً لتموره. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون دجاجة ودجاج بكسر الدال وهي لغة رديئة ص بفتح الدال ويقولون دمشق بكسر الدال والميم ص فتح الميم ويقولون دستور بفتح الدال ص ضمها وهو قياس كلام العرب كأسلوب وعرقوب وخرطوم ويقولون وري فلان بكسر الراء ص بفتحها ويقولون الرية وموضع دفي بتشديدهما ص التخفيف فيهما ويقولون دنياً بالتنوين وهو غلط ص من غير تنوين لأنها لا تنصرف بحال وسمعت بعض المتعبدين يقول اللهم أصلحنا في ديننا ودنيانا وهذا قبيح قلت وقال الفيروز آبادي إنها قد تنون. ويقولون في النسبة إلى الدنيا رجل دنيائي بهمزة قبل ياء النسبة ولا وجه لذلك لأنه اسم مقصور لا ينصرف ص دنياوي أو دنيوي ويقولون أيضاً للذي يحمل الدواة دواتي وهو غلط ص دووي لأن تاء التأنيث تحذف في النسب كما تقول في النسبة إلى مكة مكي وإلى فاطمة فاطمي ويقولون للشيء الحقير ذميم بالذال المعجمة ص بالدال المهملة وإنما الذميم بالذال المعجمة السيئ الخلق وقرأت عَلَى شيخنا أبي منصور قال الدمامة بالدال المهملة في الخلق وبالذال المعجمة في الخلق ويقولون للدودة التي هي كثيرة الأرجل التي تدخل في الأذن دخان الأذن بالنون يشبهوه بالدخان ولا معنى لذلك ص دُخَّال الأذن من الدخول حرف الذال لابن الجوزي وتقول للجماعة القليلة من إناث الإبل ذود ولا يقال للذكور ذود والعامة لا تفرق دقن بالدال المهملة وإسكان القاف وصوابها بالذال المعجمة المفتوحة وفتح القاف ويقولون ذبل الريحان بضم الباء ص فتحها ويقولون فعلت كيت وكيت وقلت كيت وكيت ولا يفرقون بين المقال والأفعال ص أن يقال ذيت وذيت كناية عن المقال وكيت وكيت كناية عن الأفعال.

حرف الراء ويقولون أرهنت الرهن بالألف ص بغير ألف ويقولون رميت بالقوس ص عن القوس ويقولون الرصاص بكسر الراء صوابها فتحها ويقولون رصغ الدابة صوابها بالسين ويقولون رباعية بالتشديد صوابها بالتخفيف وكذلك رفاهية بالتخفيف ويقولون رقيت في السلم بفتح القاف صوابها بكسرها ويقولون الرق للذي يكتب به بكسر الراء صوابها أن يقال بفتح الراء وإنما الرق بكسر الراء الملك ويقولون للمتكلم عَلَى رسلك بفتح الراء صوابها بكسرها ويقولون شيءٌ ردي بتشديد غير مهموز صوابها رديءٌ مخفف مهموز. الزائد من كلام ابن الجوزي والرئة مهموزة والعامة تشددها ورضى الله مقصورة والعامة تمده ويقولون قد هبت الأرياح صوابها الرياح ولو قالوا الأرواح كان صحيحاً ويقولون هذا خبز الرقاق بكسر الراء وصوابها ضمها ويقولون رمح عَلَى أية حالة كان صوابها أن يقال له رمح إذا كان له زج وسنان وإلا فهو قناة ويقولون للمزادة التي هي وعاءُ الماء رواية ص أن يقال للبعير أو الحمار الذي يستقى عليه رواية فأما التي فيها ماء فهي مزاده ويقولون لكل راكب ركب وهو غلط وإنما الركب لراكب الإبل دون غيرها ويقولون أردمت الباب فهو مردوم وصوابها ردمته فهو مردوم ويقولون فلان أحمق من رجله يضيفون إلى قدمه وصوابها من رجلة وهي البقلة الحمقاء لأنها تنبت في مجاري السيول وليس لها أصل ثابت فتخطفها ويقولون رب مال كثير أنفقته وهذا كلام يناقض كلام العرب لأن العرب تقول رب مال أنفقته تشير إلى القليل فلا يخبر بها عن الكثير. حرف الزاءِ ويقولون في خلق فلان زعارة بالتخفيف ص زعارة بالتشديد وهي الشراسة ويستعملونها مخففة ويقولون عندي زوج من الحمام ص زوجان يعني بذلك الذكر والأنثى ويقولون الزيبق بفتح الباء من غير همز ص بكسر الباء والهمز ويقولون زهوت علينا بأرجل بفتح الزاي وبالواو ص زهيت علينا بضم الزاي وكسر الهاء ويقولون هي: أَزحة جمع زج ص زججة بغير ألف قلت وزجاج أيضاً الزائد من كلام ابن الجوزي

ويقولون هذا الزعرور والزنبور بالفتح ص الضم والزبيل بفتح الزاي فإن كسرتها رددتها نوناً فقلت زنبيل والعامة تقول زنبيل بفتح الزاي ويقولون زرنيخ بفتح الزاي ص كسرها ويقولون زهقت نفسه بفتح الزاء وكسر الهاءِ ص فتح الهاء ويقولون زيت الطعام إذا جعلت فيه الزيت ص زِته والزهم من الطير والدجاج والبط والدسم من دهن السمسم والجوز واللوز والزيتون والودك من الإبل والبقر والغنم والعامة لا تفرق بين ذلك. (حرف السين) ويقولون للطائر سماني بتشديد الميم ص سماني بالتخفيف ويقولون سفود بضم السين ص بفتحها والتشديد ويقولون كم سقي أرضك بالسين يريدون كم حظها من الماء وذلك غلط ص بكسر السين وإنما السقي بفتح السين مصدر سقيت ويقولون سخرت به ص سخرت منه. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون انساغ الشراب فهو منساغ ص ساغ فهو سائغ وهو السميدع والسفرجل والسفود والسمور والسعوط والسفوف والسوسن لنبوع من المشموم والعامة تضم الجميع وهو السرداب والسقاء وسلخ الحية والسرقين واصله السرجين معرب بكسر السين والعامة تفتحها ويقولون هذا سداد من عوز بالفتح ص بالكسر ويقولون سيلان السكين بفتح السين والياء ص بكسر السين وسكون الياء وأنشدوا. ولن أصالحكم ما دام لي مرس ... واشتد قبضاً عَلَى السيلان إبهامي ويقولون الريح السموم بضم السين ص بفتحها ويقولون للعوام السوقة ص أن يقال لمن دون الملك سوقة لأن الملك يسوقهم فينساقون له عَلَى مراده!!! والواحد من أهل السوق سوقي والجمع سوقيون ويقولون جذ في السرى وقت كان سرى ص جدَّ في السرى إذا سار ليلاً ويقولون لا أكلمك سائر اليوم أي ما بقي منه مأخوذ من سؤر الإناء وهو بقية ما فيه والعامة تشير بسائره إلى جميعه ويقولون للمرأة سني قال ابن الإعرابي إن كان من السودد فسيدتي وإن كان من العدد فستتي ولا أعرف في اللغة لستي معنى قال شيخنا أو منصور قد تأوله ابن الأنباري قال يريدون يا ست جهاتي وهو تأول بعيد مخالف للمراد ص سيدتي. يتبع

النجف: محمد رضا الشبيبي

الروضة الفيحاء

الروضة الفيحاء في مشاهير النساء هذا كتاب جليل صنفه الإمام العلامة أديب زمانه الشيخ يسن الخطيب ابن العلامة الشيخ خير الله بن محمود بن موسى الفاروقي الموصلي كان من أفاضل أوائل القرن الثالث عشر في الموصل وهو أحد أسلاف عائلة المرحوم سامي باشا الفاروقي صنف كتباً كثيرة منها تاريخه الذي ابتدأ فيه من الهجرة النبوية إلى عصره ومنها كتابه الموسوم بعنوان لأعيان ذكر فيهم ملوك الزمان ومنها كتابه الذي سماه الروض الزاهر ورتبه عَلَى حروف الهجاء ذكر فيه الملوك والسلاطين والوزراء وأرباب المناصب والأمراء ثم القضاة الأعلام ومشايخ الإسلام. ومنها الدر المنتثر في تراجم أدباء القرن الثالث عشر وغير ذلك مما يطول ذكره ويفوت حصره وقد رأيت في خزانه كتب مدرسة مرجان نسخة من كتاب الروضة الفيحاء بخط المصنف قال في ختامه تمت النسخة المباركة عصر يوم الثلاثاء غرة ذي القعدة الحرام عَلَى يد جامعها ومؤلفها الفقير إليه سبحانه يسن بن خير الله بن محمود ابن موسى الخطيب العمري غفر الله لهم ذنوبهم وستر بثوب غفره ثلوبهم وذلك سنة أربع ومائتين وألف من هجرة النبي المكرم صلى الله عليه وسلم. أول الكتاب الحمد لله الذي خلق الإنسان علمه البيان وميزه بالإدراك عَلَى سائر أصناف الحيوان إلى أن قال: وبعد فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني يسن الخطيب العمري الموصلي منذ نشأت لم أزل أطالع كتب التواريخ المتقدمة وأسرح نظري في رياض آداب أهل الكمالات حتى جمعت كتاباً فريداً ابتدأت به من سنة الهجرة إلى أواني ثم جمعت كتاباً آخر سميته عنوان الأعلين ثم جمعت بعده كتاباً آخر سميته الروض الزاهر ثم أحببت أن أجمع كتاباً في مشاهير النساء إلى أن قال وسميته الروضة الفيحاء قال ورتبته عَلَى مقدمة ومقالتين وخاتمة فجاء بحمد الله كتاباً فائقاً وزهراً رائقاً ونشراً عابقاً معانيه ظاهرة ومحاسنه زاهرة. كتاب في محاسنه سرور ... مناجيه من الأحزان ناجِ كراح في زجاج أو كروح ... سرت في جسم معتدل المزاج

قال وجعلت المقدمة في فوائد لا يستغنى عنها ولا بد للمرء منها والمقالة الأولى في ذكر النساء بالصلاح والمقالة الثانية في ذكر نساءٍ اشتهرن بغير ذلك والخاتمة في ذكر بعض أذكياء النساء مع فوائد أخر وبعد أن ذكر المقدمة بنحو ست صحائف قال: المقالة الأولى في ذكر النساء الصالحات وذكر منهم حوا أم البشر وأنها كيف خلقت وما جرى عليها بعد الأكل من الشجرة وما كانت عليه من العلم والحلم وغير ذلك من صفاتها الحميدة. ثم ذكر بعض أزواج الأنبياء وأمهاتهم فذكر سارة زوج إبراهيم وهاجر أم اسمعيل ولوخا أم موسى وصفورة زوج موسى وآسيا وزليخة ورحمة زوج أيوب وحنة أم مريم ومريم العذراء البتول وإيشاع زوج زكريا وسارة زوجة داود وآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وعماته وخالاته ومرضعته حليمة السعدية وبناته وأمهات المؤمنين وأم معبد وهند بنت أبي سفيان وأختها عزة وأم كلثوم بنت عقبة وهند وفاطمة ابنتي عتبة وفاطمة ابن الوليد ورملة بنت شيبة وقتيله بنت النضر بن الحارث وهي التي كتبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام لما قتل أبوها النضر بن الحارث بن كلدة: يا راكباً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ به ميتاً فإن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تخفق مني إليه وعبره مسفوحة ... جادت لما حيها وأخرى تخفق إلى آخر البيات المشهورة. وبسرة بنت صفوان والحولاء بنت ثويبت وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأختيها أُم كلثوم وأُم فروة وأُم الخير بنت صخر أم أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأم حكيم بنت الحارث ودرة بنت أبي جهل وأختها جويرة ودرة بنت أبي سلمة وزينب أختها وأم كلثوم أختها الأخرى وأم جميل فاطمة أخت الفاروق رضي الله تعالى عنه وعاتكة بنت زيد بن الخطاب والشفاء بنت عبد الله وسهلة بنت سهيل وحبيبة بنت عبد الله ربيبة الرسول صلى الله عليه وسلم وجمانة بنت جحش وأختها أم حبيبة وأم قيس بنت محصن وأم عبد الله بنت الوليد وفاطمة وزينب ابنتي الفاروق رضي الله عنه وأم كلثوم بنت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعائشة بنت طلحة اليتيمية وفاطمة بنت

الإمام الحسين رضي الله عنه والخيزرانة زوج المهدي العباسي وهي أم موسى الهادي وهرون الرشيد وفاطمة بنت عبد الملك لن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز. خولة بنت ثعلبة. حبيبة بنت سهل. السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن ين علي رضي الله عنهم دفينة مصر. ميسون بنت بجدل أم زيد بن معاوية وأقامت عند معاوية ثلاثة أعوام ودخل عليها يوماً فوجدها تنشد: ولبس عباءة وتقر عيني ... أَحب إلي من لبس الشفوف وبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف إلى أن قالت: وخرق من بني عمي نحيف ... أحب إلي من علج عنيف وذكر قصتها المشهورة. وأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وبوران بنت الحسن بن سهل وزير المأمون تزوجها المأمون وضربت الأمثال بعرسها. زبيدة بنت جعفر بن منصور العباسي. الحرة السيدة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحي ملكة اليمن مولدها سنة أربعين وأربعمائة تزوجها الملك المكرم حمد بن علي الصليحي صاحب صنعاء. أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر. أم خالد زوجة يزيد بن معاوية. قبيحة جارية المتوكل عَلَى الله الخليفة العباسي وتسميتها بذلك من باب تسمية الضد باسم الضد. شغب جارية المعتضد بالله الخليفة العباسي. جميلة بنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان صاحب الموصل. تركان زوجة السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي. زمرد بنت جاولي صاحب الموصل تزوجها تاج الملك بن صاحب دمشق. زمرد زوجة الأمير طغتكين الأيوبي صاحب بلاد اليمن حنيفة بنت العادل أبي بكر بن أيوب ولدت في قلعة حلب سنة 581. ملكة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب تزوجها الملك الظاهر بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب. مملكة بنت الملك العادل أيضاً تزوجها الملك المنصور محمد بن عبد الملك صاحب حماة ولما توفيت رثاها أحد شعراء عصره بقوله: الطرف في لجة والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشرر

لو كان من مات يفدى قبلها الفدى ... أم الظفر آلاف من البشر ما كنت أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى عَلَى القمر وربيعة بنت نجم الدين أيوب وهي أخت صلاح الدين يوسف وشجرة الدر جارية أيوب وقد قامت بالملك في مصر مدة وخطب باسمها وضربت السكة باسمها وكان نقس السكة المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين ووالدة الملك المنصور الخليل وتحاربت مع الإفرنج وانتصرت عليهم وفي ذلك يقول ابن مطروح: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤُل نصيح أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر بالطبل ريح وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفاً لا يرى منهم ... غير قتيل وأسير جريح وقل لهم إن ضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لأخذ صحيح دار ابن لقمان عَلَى حالها ... والقيد باقٍ والطواشي صبيح وأم الواحد بنت القاضي العلامة حسين المحاملي. وأم الفضل بنت عبد الصمد الهروية. وفاطمة بنت الحسين بن علي الأقرع. وفاطمة أم الخير بنت علي المعروفة ببنت زعبل. وشهدة بنت أحمد بن الفرج. وتقية بنت غيث بن علي الصوري وكان لها مع فضلها شعر جيد من ذلك قولها: خذ من أهواه يهوى زحلاً ... صبغوه من دمي كالعندم ولماه عسلاً فيه الشفا ... وحماه كعبتي بل حرمي ونفيسة بنت عبد الله الطرابلسي. وفاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني. وخانم سلطان بنت السلطان سليمان خان. وهي خاتمة من ذكرن في المقالة الأولى. وقد بسط المصنف الكلام في بيان فضلهن وأدبهن وذكر في الوصف بعضهن أنها كانت أحسن من أهل زمانها خطباً وأدباً وعلماً في معقول ومنقول. ثم قال: المقالة الثانية في ذكر من اشتهرن بغير الزهد والصلاح ونذكر منهم دلوكة بنت الزباء قال وكانت في زمن موسى عليه السلام. وقطام وإقبال وكانتا من ثمود زمن صالح عليه السلام. ورقاش أخت جذيمة الأبرش. وعفيراء بنت عباد ويقال

لها الشموس وهي أخت الأسود من قبيلة جديس. والنضيرة بنت الساطرون واسمه الضيزن ملك الحضر وهو من قبيلة قضاعة واصله من الجرامقة والزباء بنت عمرو الملكة وسودة الكاهنة وزينب بنت الحارث اليهودية. وسجاج بنت الحارث التميمية ولها قصة مشهورة مع مسيلمة الكذاب. وحبابة جارية يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي وقطام وهي امرأة من الخوارج من تيم الرباب. وست الملك بنت العزيز بالله العبيدي وزنبي ملكة الروم كانت من بيت الملك ولاه حسن رأي وتدبير ملكت الروم سنة ثمانين ومائة وأقامت بالملك سبع سنين أيام هارون الرشيد. وتفانو ملكة الروم وهي زوجة أرمانوس ملك الروم. وعزة بنت جميل وهي التي قال فيها الكثيرون: قضى كل دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ومزنة بنت عبد الله الكناني. وعنان جارية الناطفي. وبديعة بنت عبد الله زوجة السلطان قاتيباي الشركسي سلطان مصر. وعباسة بنت الخليفة محمد المهدي العباسي. وبيرخان بنت الشاه طهماسب بن الشاه اسمعيل بن حيدر الصفوي. وبدونة زوجة توفيل ملك الروم وأم جنكيزخان. وتركان خاتون بنت أحد ملوك الترك. وسلطان بخت بنت تيمورلنك. ثم قال الخاتمة في ذكر أذكياء النساء وتنبههن للمحة والإشارة وذكر جملاً من نوادرهن وقصصهن فيما جرى منهن وأحسن أجوبتهن من ذلك أن الملك العزيز كان في أيام أبيه يهوى جارية قينة فمنعه أبوه عنها فيسرت له شمامة عنبر مع الخادم فكسرها فوجد فيها زراً من ذهب فلم يفهم مرادها فنقل ذلك إلى القاضي الفاضل فأنشده ارتجالاً: أبدت لك العنبر في وسطه ... زر من التبر قليل اللحام فالزر في العنبر تفسيره ... زر هكذا مستتر في الظلام وقد امتد ذلك نحو عشر صفائح وبها تم الكتاب وجميع صحائفه مائتان وثمانون صفحة بقطع الربح نحو صحيفتنا هذه ومباحثه كلها ممتعة فيها فوائد كثيرة استطرادية وأدب وافر وشعر باهر ونثر كالروض المزهر زاهر والكتاب شاهد عَلَى علو كعب مصنفه في العلوم الأدبية وكمال معرفته بالفنون التاريخية تغمده الله برحمته. بغداد

محمود شكري الآلوسي

أبيات العادات

أبيات العادات من أبيات العادات قول الشاعر: يهب الجلاد بريشها ورعانها ... كالليل قبل صباحه المتبلج وهو مبني عَلَى عادة كانت لملوك العرب ذكرها الجاحظ وذلك أنهم كانوا يغرزون الريش في أسنمة جمالهم يحملونها بذلك شرف أصحابها ومنه يظهر لك المراد من قولهم في أحاديثهم فرجع النابغة من عند النعمان وقد وهب له مائة من عصافيره بريشها. والعصافير إبل كانت للملوك نجائب وفي لسان العرب وأعطاه مائة بريشها قيل كانت الملوك إذا حبت حباءً جعلوا في أسنمة الإبل ريشاً وقيل ريش نعامة ليعلم أنها من حباء الملك وقيل معناه برحالها وكسوتها وذلك لأن الرحال لها كالريش اهـ. وأما قول ذي الخرق الطهوي: لما رأت إبلي حطت حمولتها ... هزلى عجافاً عليها الريش والخرق قالت ألا تبتغي عيشاً تعيش به ... عما تلاقي فشر العيشة الرنق وقول الآخر: كأنها ريشة في غارب الجرد ... في حيثما ضربته الريح يتصرف فليسا مما تقدم بل المعنى أن هذه الإبل قد دبرت ظهرها لأنهم كانوا إذا ظهرت دبرة بظهر بعير غرزوا في سنامه إما قوادم نسر أسود وإما خرقة سوداء لتفزع الغربان فلا تسقط عليه لأن الغراب مولع بنقر الدبر وعقرها حتى يبلغ الدأيات وهي عظام الكاهل ولهذا سمت العرب الغراب بابن دابة. (ومنها) قول الحرث بن حلزة اليشكري في معلقته: عنناً باطلاً وظلماً كما تعتر عن حجرة البيض الظباء الحجرة بالفتح الناحية والمراد بها هنا موضع الغنم وأصل العتر الذبح في رجب وكانت العرب تنذره لآلهتها فيقول أحدهم إن رزقني الله مائة شاة ذبحت عن كل عشرة شاة في رجب ويسمى هذا الذبح العتيرة والرجيبة وهو مما نهى عنه الإسلام. والبيت مبني عَلَى عادة كانت لهم وهي أن الرجل كان إذا ضن وبخل بما نذر صاد الظباء فذبحها عوضاً عن الشياه والمعنى أنكم تطالبوننا بذنوب غيرنا كما تذبح الظباء بدل الغنم. وقول كعب بن زهير في رثاء جويءٍ المزني:

لنذرك والنذر لها وفاء ... إذا بلغ الخزاية بالغوها كأنك كنت تعلم يوم بزت ... ثيابك ما سيلقى سالبوها فما عتر الظباء بحي كعب ... ولا الخمسون قصر طالبوها معناه أننا وفينا لك ولم نقنع بأخذ ثأرك بشيءٍ يغني عما نذرته كما تذبح الظباء بدل الغنم وهو مثل ضربه وكان جويء لما أصيب مر به رجل فقال أخا مزينة ما طرحك هذا المطرح فو الله إنك من قوم يحمونك فرفع رأسه إليه وهو يجود بنفسه فقال أعطي الله عهداً ليقتلن منكم خمسون ليس فيهم أعور ولا أعرج وبلغ قوله قومه فوفوا له بما قال. (ومنها) قول عروة بن الورد أشد صاحب اللسان وغني وإن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمار إنني لجزوع عشر الحمار نهق أو تابع النهيق عشر نهقات ووالى بين عشر ترجيعات في نهيقه فهو معشر ونهيقه يقال له التعشير. وكانت عادتهم أن الرجل منهم إذا ورد أرض وباء وضع يده خلف أذنه فنهق عشر نهقات نهيق الحمار ثم دخلها لزعمهم أنه إن فعل ذلك أمن من الوباء. وكان عروة قد خرج في رفقة إلى خيبر فلما قربوا منها عشروا وأبى هو أن يفعل فعلهم. (ومنها) قول امرئ القيس بن حجر من قصيدة يصف بها رحيله إلى قصره: إذا قلت روحنا أرن فرانق ... عَلَى جلعد واهي الأباجل أبثرا عَلَى كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا الفرانق الذي يدل صاحب البريد عَلَى الطريق وبربر قبيلة توصف خيلها بالصلابة وقد يسأل لم كانت هذه الخيول مقصوصة الأذناب فالجواب أنه كان من عادتهم قص أذناب بغال البريد ومنه قول الفرزدق: أتغضب أن أُذنا قتيبة حزناً ... جهاراً ولم تغضب لمقتل ابن حازم وما منهما إلا نقلنا دماغه ... إلى الشام فوق الشاحبات الرواسب تذبذب في المحلاة تحت بطونها ... محذفة الأذناب جلع المقادم يعني بالشاحبات البغال والمراد هنا التي للبريد كما في كامل المبرد. وأما الخيل فكانت خاصة ببرد ملوك العرب في الجاهلية ولهذا ذكر امرئ القيس في بيته المتقدم لأنه كان ملكاً

بريده الخيل أما تخصيصه خيل بربر بالذكر دون سواها من خيل العرب فقد قال عنه ابن رشيق في العمدة كانت الخيل البربرية تلهب أذنابها كالبغال لتدخل مداخلها في خدمة البريد وليعلم إنها للملك اهـ قلت لعل ذلك كان لصلابتها كما قدمنا وأما قص أذنابها فربما للإعلام بأنها للبريد ولا يبعد أنه كان طلباً للخفة في العدو كما كانوا يعقدون شعر الأعراف والأذناب في الحرب قال الشاعر: عقدوا التواصي في الطعان فلا ترى ... في الخيل إذ يعدون إلا أنزعا وقال المتنبي: ويوم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد والسبائب جمع سبيب وهو شعر الذنب ويجوز أن يكون لسبب آخر لم أقف عليه. ثم اعلم أن عادة قص الأذناب كانت خاصة عندهم بخيل البريد دون عامة الخيل فإنهم كانوا يستحبون طول أذنابها ويمتدحون به كما قال النابغة: وكل مدجج كالليث يسمو ... عَلَى أوصال ذيال رفن وكما قال امرؤ القيس: لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر الفرج الفرجة التي بين الرجلين قال ابن رشيق أراد طوله لأن العروس تجر ذيلها إما حياءً وإما من الخيلاء اهـ. قلت وإن عندي امرأ القيس لم يصب كل الإصابة في هذا الوصف لأنهم قالوا يكوه من الفرس أن يكون قصير الذنب وإن يكن طويلاً بطأ عليه فليته جرى هنا عَلَى ما قاله في معلقته: ضليع إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل فوصف ذنبه بالطول إلا أنه جعله فويق الأرض لأنه إذا بلغها وطئه برجليه وربما عثر به وذلك عيب منه يظهر لك ما في البحتري من الخطأ والوصف: ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل (ومنها) قول أنس بن مدرك: إني وعقلي سليكاً بعد مقتله ... كالثور يضرب لما عاقت البقر لأن العرب كانت إذا أوردت البقر فلم تشرب لكدر الماء أو لقلة العطش ضربوا الثور

ليقتحم الماء لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل وكما تتبع أتن الوحش الحمار وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب فتهلك. وقال الجوهري إذا البقر امتنعت عن شروعها في الماء لا تضرب لأنها ذات لبن وإنما يضرب الثور لتفزع هي فتشرب اهـ. وقيل أراد بالثور ثور الماء وهو الطحلب فإذا أورد البقلر القطعة من البقر فعافت الماء وصدها عنه الطحلب ضربه ليفحص عن الماء فتشربه فيكون ذكره هنا بعد البقر للإلغاز به عَلَى المسامع. ومنه قول الأعشى: كالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشرباً والجني هو اسم الراعي لا الواحد من الجن في قول. (ومنها) قول النابغة لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكون غيره وهو رائع هكذا رواه الأعصمي وروى وابن عربي (حملت عليَّ ذنبه وتركته) والعر بضم العين المهملة قروح تخرج من مشافر الإبل وقوائمها والبيت عَلَى عادة كان يفعلها جهال العرب فكانوا إذا وقع العر في إبلهم اعترضوا بعيراً صحيحاً فكووا مشفره وفخذه يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العر من إبلهم كما كانوا يعلقون عَلَى أنفسهم كعوب الأرانب خشية العطب ويفقؤن عين فحل الإبل لئلا تصيبها العين وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو وأكثر اللغويين كما ذكر ابن السيد في الاقتضاب. وقيل إنما كانوا يكوون الصحيح لئلا يعلق به الداء لا ليبرأ السقيم. وقيل هذا أمر لم بكن وإنما هو مثل لا حقيقة. وقيل أصله أن الفصيل إذا أصابه العر لفساد في لبن أمه عمدوا إلى أمه فكووها فتبرأ ويبرأ فصيلها لأن ذلك الداء إنما كان يسري إليه في لبنها قال ابن السيد وهذا أغرب الأقوال وأقربها إلى الحقيقة. (ومنها) قول عبد الله بن عداء البرجمي: لو كنت جار بني هند تداركني ... عوف ابن نعمان أو عمران أو مطر قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... لم يسلموه ولم تسنح له بقر وذلك لأن العرب كانت تتشاءم بالبقر لحدة قرونها. (ومنها) قول المثلم بن عمرو التنوخي:

يمنعني لذة الشراب وإن ... كان قطاباً كأنه عسل حتى أرى فارس الصموت عَلَى ... أكساء خيله كأنها إبل وليس المراد أنه امتنع عن خمر لمجرد حزنه أو لاشتغاله بأخذ الثأر كما هو ظاهر المعنى بل هو مبني عَلَى عادة كانت لهم وهي أن الواحد منهم إذا أصيب بوتر كان يعقد عَلَى نفسه نذراً في مجانبة بعض اللذات. (ومنها) قول مرة بن محكان التميمي في وصف ناقة نحرت وهو من شعراء الحماسة: زيافة بنت زياف مذكرة ... لما نعوها لراعي سرحنا انتحبا أمطيت جازرها عَلَى سنانها ... فصار جازرنا من فوقها قتباً ينشنش اللحم عنها وهي باركةٌ ... كما تنشنش كفّا قاتل سلبا ينشنش أي يكشف ويفرق قال التبريزي في شرحه قال أبو محمد الأعرابي لو قال قائل لما قال وهي باركة ولم يذكروا وهي مضطجعة وليس شيء من الحيوان يسلخ إلا مضطجعاً قيل له عن عادة العرب أنهم إذا نحروا الناقة وخشوا أن تضطجع رفدها الرجال من جانبيها حتى تموت وهي باركة وذلك إن جزرهم إياها وهي باركة مستوية هو خير من جزرهم إياها وه مضطجعة عَلَى جنبها فإذا ماتت جزلوها والجزل أن يحزوا أصل العنق ما بين المنكبين حتى يسترخي العنق ولم يقطعوه كله وقد فصلوه ثم يكتنفها الرجال فيكتف السنام رجلان وذلك أن يكون أحدهما من جانبها من شق والآخر من الشق الآخر منة قبل الكتفين وآخران من قبل العجز فثلاثة من جانب وثلاثة من جانب والسالخ واحد وهي باركة. (ومنها) قول القائل: إذا انتدى واحتبى بالسيف دان له ... شوس الرجال خضوع الجرب للطال كأنما الطير منهم فوق هامهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته أو بيديه ومنه الحديث الإحتباء حيطان العرب أي ليس في البراري حيطان فإذا أرادوا أن يستندوا احتبوا لأن الإحتباء يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار وقوله انتدى أي جلس في النادي والبيت مبني عَلَى عادة كانت لهم ذكرها التبريزي في شرح الحماسة وهي أنهم كانوا يحتبون بالسيوف عند عقد جوار أو

حرب أو تسويد رئيس وما يجري هذا المجرى لأن السيف في أمثال هذه الأحوال ربما مست الحاجة إليه ولذلك قال جرير: ولا يحتبى عند عقد الجوار ... بغير السيوف ولا يرتدى وفي غير هذه الأحوال إنما يحتبون بالأردية وغيرها. (ومنها) قول حاتم: أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم المعنى أن أقري الضيف وأنا طاوي الحشا لأني أوثره عَلَى نفسي. وقد يسأل عن مراده في البيت الثالث ولم يكن يأكل في الظلمة والجواب أنه بلغ من إكرام العرب للضيف إن أحدهم ربما أطفأ النار وأمسك عن الأكل أوهم الضيف أنه يأكل ليشبع الضيف. (ومنها) قول الفرزدق: ولما تصافنا الأدواة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم وجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليسقي عليه الماء بين الصرائم عَلَى حالة لو أن في القوم حاتماً ... عَلَى جوده لضن بالماء حاتم التصافن اقتسام الماء بالحصص وكانت عادتهم إذا كانوا في فلاة وقل الماء ولم يوجد معهم إناءٌ صغير يقسمونه به تصافنوه بأن يضعوا في الإناء الكبير حصاة ويسكبون فيه الماء بقدر ما بغمر الحصاة فيعطاه كل رجل منهم وقصة كعب بن مامة في المصافنة وتفضيله النمري عَلَى نفسه حتى مات عطشاً مشهورة وبسببها ضربوا به المثل في الجود وهو الذي عناه جرير بقوله لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا وبقي في هذه الأبيات جرهم لفظ حاتم والوجه رفعه عَلَى أنه فاعل تضن ولكنهم رووه هكذا تبعاً لقوافي القطعة وخرجوه عَلَى أنه بدل من الهواء في وجوده ولهم في ذلك خلاف وكلام طويل الذيل ليس هنا موضع استيفائه ولو خيرت لكنت اختار رفعه عَلَى الإقواءِ تخلصاً مما تكلفوه. وقال التنوخي في الأقصى القريب ويروى (ضنت به نفس حاتم) ولا إشكال

حينئذ والظاهر أن هذا إصلاح لا رواية انتهى كلامه. (ومنها) قول القائل: لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لذي الأزمات بالعشر أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر العشر بضم ففتح والسلع بفتحتين ضربان من الشجر والبيقور البقر وكانت عادتهم في الجاهلية الأولى إذا اسنتوا جعلوا السلع والعشر في أذناب البقر وعراقيبها وأشعلوا فيها النار وحدروها من الجبال فتضج البقر ويمطرون عَلَى زعمهم وتسمى هذه النار نار الاستمطار. والبيت الثاني ذكر صاحب القاموس في مادة (سلع) أن فيه تسعة أغلاط لم يبينها هو ولا شارحه وبينها السيد عبد الرحمن العمادي عَلَى ما ظهر له وذكرها صاحب خلاصة الأثر في ترجمته وكلها أوجلها ليس من الغلط في شيء والله أعلم. القاهرة أحمد تيمور

كتاب ألف با

كتاب ألف با وقعنا خريف السنة الفائتة عَلَى مخطوط عند الشيخ ناصر المخزومي العرابي من فضلاً، جبل نابلس المعروفين عنوانه الجزء الأول من كتاب الألف باء نسخه ناسخة في ثالث رجب الفرد لسنة ألف وهو مما وقفه أحمد باشا الجزار عَلَى مدرسة جامعه نور أحمدية في مدينة عكة عكا التي كان لها في ماضي الأيام شأن مذكور ولا يوجد فيها الآن من أمهات الكتب سوى بعض المطبوعات لن الثورات الأهلية التي طار شرارها في القرن الثالث عشر تناولت تلك الكتب القيمة وفرقتها أيدي سبا وتجد اليوم بقية صالحة منها مبعثرة في أنحاء فلسطين. وقد سألنا صديقنا صاحب المقتبس عن هذا الكتاب فأجابنا بأنه من أنفس المؤلفات التي طبعت في مصر وبعثت إلينا بالجزأين الأول والثاني من مكتبة سليم أفندي البخاري من علماء دمشق نتطالعها ونكتب عنها مبحثاً ولولا أن أعاد علينا هذا الطلب وشجعنا بقوله: ما كل مخطوط مهم ولا كل مطبوع يعرفه الناس لما رأيتنا ننقل إلى قراء المقتبس بعض فصوله وهنا مجال لأن نشكر الأستاذ البخاري عَلَى حواشيه التي علقها عَلَى الكتاب فجاءت كعقود نضيدة في جيد غادة حسناء أما المطبوع فقد طبع سنة 1287 هجرية عَلَى نفقة جمعية المعارف التي طبعت 1100 كتاب من طرزه. قال الشيخ الفقيه المحدث الزاهد أو الحجاج بن يوسف بن محمد البلوي عرف بابن الشيخ بعد البسملة والحمدلة والصلولة أما بعد دام لنا ولكم السعد فإني عزمت بعد استخارة ذي الطول ومن بيده القوة والحول ورغبني إليه في السداد في العمل والقول عَلَى أن أجمع في هذه الأوراق كل معنى رق أو راقٍ مما هو عندي مستحسن لا مستخشن ومستملح لا مستقج واثبت فيه من الفوائد ما يزري بالفوائد ومن بدائع العلوم والفهوم ما يرتقي به من التخوم وجعلن ما أولف فيه وابني لبعد الرحيم ابني ليقرأه بعد موتي وينظر إليَّ منه بعد فوتي إذ لم يلحق بعد لصغره درجة البلاء ولم يبلغ مرتبة العقلاء وارجوا أن يجعله الله منهم ولا يقطع به عنهم فيكون إن شاء الله بقراءة هذا الكتاب في الو يادة عَلَى أن يلحق بالسادة. . وبعد أن استطرد الكلام في أسباب تأليفه الكتاب عقب عليه بقوله: إني أكرر الألف مع الباء وما شاكلها مراراً شتى ثم أشفعها بالوزن حتى تكون بيتاً بعد أن أضم إليها كلمتين متشاكلتين باسم القافية دامت لنا ولكم العافية ويكون الشكل في الكل واحداً

والمعنى عَلَى خلاف فأفهم ثم افعل ذلك بالألف مع سائر حروف المعجم ليكبر الكتاب ويكثر الكلام وتعظم الفائدة وتعم المنفعة إلا أنه لم يصح لي إلا بضم الأشكال المؤتلفة في حروف المعجم عَلَى تأليف بلادنا بعضها إلى بعض مثل الباء والتاء والثاء في بيت والجيم والحاء والخاء في آخر والدال والذال وغير ذلك وبالحري باجتماعها فيكمل منها كلها بيت وبيت وربما يضيق بعض الأبيات عن جملتها فأذكرها خارجاً عن البيت وربما لا يكتمل إلا بمعكوس اللفظة فأكمله بها ثم أفسر اللفظة بما أدريه وما وجدته في كتب اللغة وما ذكره العلماء واستشهد عَلَى ذلك بما أحفظه من الشعر وبما قالته العرب وربما ذكرت ما قاله غيرهم من المولدين المشهورين وربما ذكرت شعر من لقيته من أشياخي وإن لم يكن في ذلك حجة ففه أنس مع الثقة بمعرفتهم وفضل التقدم علينا في كل أمرهم مع أني رأيت الفقيه القاضي أبا الفضل عياض بن موسى رحمه الله قد ساق في أحد تواليفه شعراً للوزير أبي عبيد الله محمد بن شرف رحمه الله وكان متأخراً قرأت في أحد تواليفه خبراً أرخه بثمان عشرة وأربعمائة فاستشهد الفضل بذلك الشعر في ضرب من البلاغة ذكره وسيأتي ذلك الشعر في هذا الكتاب إن شاء الله لأنه أعجبني فحفظته وبعد حفظه فيه أثبته ولي أيضاً في مثل ذلك الإنشاد عَلَى غرضي استشهاد وبيني وبين أبي الفضل هذا في الإسناد شيخي الجل الرفيع العماد أبو إسحق إبراهيم بن محمد الخبري عرف بابن قرقول رحمه الله لقيه وسمعت عليه وأجاز لي جميع ما لديه. رجع الكلام بعد فائدة عَلَى ما تقدم زائدة وربما ذكرت من شعري ما يليق الباب وإن لم يعد في اللباب لكن المرء بشعره شغف وإن لم يكن ذا شرف كما يعجب بابنه وهو الجون ومن غير اللون ألم تسمع قول بعضهم والمرء يعجب بابنه وبشعره نعم ويطيب له غناؤه وإن طال فيه عناؤه ويولع بتصنيفه ويأبى من تعنيفه إياك أعني يا مؤلف الكتاب تاب الله علينا جميعاً أحسن متاب ولي في هذا المعنى ما كتبت به إلى الفقيه الخطيب أبي محمد عبد الوهاب بن علي رضي الله عنه أعرض عليه شعراً قلته بعد كلام ولا غرو كل امرئٍ مادح لهره ومعجب بشعره وأنا الذي أقول: كل امرئٍ يعجب بشعره ... حق يراه ناقد غيره في أبيات ذكرتها بكمالها في كتاب سميته تكميل الأبيات وتتميم الحكايات مما اختصر للألبا في كتاب ألف با وقد ذكرت سببه في أوله فأنظرها هناك إن أردتها وبالله التوفيق وما

أحسن ما به أعتذر صاحب كتاب الزهر إذ قال: ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون ويروي بأتيك وهو بشهره مفتون. لكن يا بني إن العاقل رحل عن هذه المعاقل وترك فيها الجاهل فعادت كالمجاهل. أحسن لله لي عزائي بنفسي ... إن يكن يحسن العزاء مذنب تدري من العاقل في هذا المعنى ابن المقفع الذي ارتدى بعقله وتقفع ومع هذا فإن الشعر ترفع وكان من البلاغة في قلمه ولسانه بحيث لا يبلغه أحد من أهل زمانه. قيل له مالك لا تقول الشعر قال الذي أرضاه لا يجيءُ والذي يجيءُ أرضاه وقيل للمفضل لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به قال علمي به يمنعني من قوله وأنشد: أبى الشعر إلا أن يفئَ رديه ... عليَّ ويأبى منه ما كان محكماً فيالتني غذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت محكماً ثم عاد فقال في صدر الكتاب: رجع القول إلى صفة الأبيات التي ذكرها بعد لم يأت مثال ما ذكرته لك أب في بابه وأخ واد وكذلك فكذلك إلى آخر حروف المعجم فلما لم يتزن لي ذلك احتلت عليه وتركت هذا المعنى وقلت أب الذي هو المرعى وأخ واد وجئت بواو العطف في اللفظة حتى تدخل في الوزن ويصح دخولها في العروض التي بنيت عليها وهي المتقارب الذي يحتاج من فعولن ثمانياً وسقت مع أب وأت وأث مما يكون عَلَى وزن فعل أو فعل أو فعل أو فاع لأن هذا كله في الوزن مع فعولن سواء وكذلك أفعل في سائر الحروف وأذكر خارج البيت ما هو عَلَى هذا الشكل مما لم يتزن أو ما يتزن واستغنى عنه البيت عَلَى ما تراه إن شاء الله تعالى بعد هذا فإذا فرغت من البيت سقت معكوسه مثل وبا وتا وثا ثم أفسره كذلك ثم أقول مقلوبه بين ألف ثم حرفين مثل وباب وتاب وثاب ثم أفسر كل لفظة منها ثم أفسر مقلوبه أيضاً حرف بين ألفين مثل وابا واتا واثا ثم أرجع إلى القافية فأفعل فيها مثل ذلك وربما كانت الواو من نفس الكلمة إذا لم أجد غيرها فأسوقها وأنبه عليها مثل وكل الذي هو الرجل الضعيف العاجز سقته مع وكل اللفظة التي هي ضد بعض وكذلك وشل الماء الجاري من الجبل مع وشل بعض أنامله وغير ذلك مما أقيم به شكل البيت ووزنه وربما جلبت فائدة ثانية وعكساً آخر يفيد علماً زائداً ثم أذكر مخارج الحروف

وعملها إن كانت عاملة مع ما تشترك في قافية واحدة ليقرب المخرج وما يجعل عوض صاحبه في النطق ثم أذكر آخر البيت فصلاً من الكلام المطول يكون أوله المعول وسيأتي تفسير هذا الفصل إن شاء الله فيما يستقبل فأقبل وقد اجتمع لي من ذلك تسعة وعشرون بيتاً عدد حروف المعجم لكن منها ما تكرر معكوساً ومقلوباً ومنها ما لم يتكمل البيت إلا بمعكوسه لقلة دوره في الكلام وزدت في أول الشعر ثمانية أبيات وفي آخره أربعاً من الكلمات المزدوجات المتشابهات الحروف المتماثلات الصنوف مثل الذي صنع ابن شرف في قوله غرّك غزك فصار قصار ذلك ذّلك فاحشَ فاحش فعلك فعلّك بهذا تهدا وله أيضاً مثل هذا نعمه يعمه تغمه نعمه بعمه تعمه نعمة اسم رجل ويعمه يتحير من قوله تعالى وفي طغيانهم يعمهون وباقي الكلمات مفهوم إلى غير ذلك مما يشكل حتى وبنقط ويشكل ومثل ما للحريري في مقاماته: زينت زينب بقد يقد ... وتلاه ويلاه نهد يهد في أبيات له وهذه الأبيات المذكورة قبل الشعر وبعده أخذتها من شعر لي مطول من هذا النوع عدده ثمانية وعشرون بيتاً جمعته في جزءٍ مع ما لابن شرف من ذلك من منثور مع أبيات لي أُخر عددها أحد وأربعون بيتاً قصدت بها نوعاً من المعمى واللغز منها أبيات ثانية لا تقرأ البتة إلا أن تشكل وتفسر مثل: تصيخ تصيح نضيخ بصبح ... تصبح بضيح نضيج تصح وسأفسر لك هذا البيت مع الأبيات الاثنى عشر قبل الشعر وبعده في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى وقد أودعت الكراسة المذكورة في كتاب التكميل المذكور وهذا الكلام الذي سقته منثوراً وفي صفة الأبيات مذكوراً قد نظمته في أرجوزة لزومية ذات قافية لامية واعتنيت به هذا الاعتناء عَلَى ما فيه من العناء لأنه الأصل في الباب وعليه مدار الكتاب منه نبعت عيونه وتفرعت فنونه وهاهي هذه فيه حليتها فئة تزيد عَلَى المائة: قال ابن شيخ يملي ... عَلَى الذي يستملي هذا كتاب أصلي ... أعددته لأصلي به عظيم الجهل ... حتى يرى يا أهلي بالقرب لا بالمهل ... يذوب ذوب المهل

صنعته من أجل ... عهد الرحيم نجلي وذاكم لعلي ... اسقيه من ذا العل إذ قدوري من نهل ... فهو أعز الأهل باسم الحكيم العدل ... سبحانه من عدل ما أن له من عدل ... رب بعلم عدلي قربه لا تبعد لي ... أملأ منه عدلي أُفرغه فأملي ... منه عَلَى المستملي فصلاً وأي فصل ... في وصف شعر الأصل هو قصيد يسلي ... قارئه في رسل يدر در الرسل ... ليس بقول فسل ولا حرام بسل ... بل من بلي نسلي لكل هم مسلي ... ضمن وزن فِعل أو فَعَل أو فَعُل ... واحتيل في المعتل منه في المختل ... حتى إذا ما حلي وزن فعول خلي ... وبعد هذا الفعل زوجته كالنعل ... لأختها في الشكل لكنه بالشكل ... يدري سم من فعل وثَعَل من بَعل ... ونَغل من بَغل وجُعَل من جَعل ... وحَمل من حِمل وجمل من جمل ... وجبل من جبل وحبل من حبل ... ورمل من رمل وذا كثير المثل ... يعجز عنه مثلي فمثل هذي السبل ... تخفى عَلَى ذي النبل إلا بضبط الرجل ... بالقيد أو بالحجل فارضع لبان الثفل ... واعلم بأن فعلي

لم أره يا شبلي ... لأحد من قبلي جئت به في حفلي ... مسبباً للنفل فانهد به للختل ... ولا تخف من قتل فهو كمثل النصل ... أبرزته للفصل والفصل ضد الوصل ... تعلو به وتعلي لأنه مستعل ... مستغلق لجعل عليه أي قفل ... فصار شبه الغفل واللغز حين يغلي ... قلوبنا بالشغل حتى إذا ما جلي ... عنه بكشف الجل صقل أي صقل ... وخف بعد الثقل واعلم يا ذا العقل ... إن ليس ذا من نقلي للغز بل للكهل ... من لم يكن ذا جهل جمعته في مهل ... من جبل وسهل فاختلطت بالهزل ... ألفاظه والجزل وهاكه يا خلي ... كعسل أو خل فخذه أو فخل ... فرغت من سجل نفسي دعا الأجل ... بصوتي المهل ودمعي المنهل ... يا رب ألف شملي يا رب خفف حملي ... واغفر لعبد قل بالذنب مستقل ... يا سيدي وقل لي رضيت بالأقل ... منك فسر في حل لا شرف المحل ... جنة عدن نزلي لا تخشين عذلي ... مؤملاًَ لوصلي مؤمناً من فصلي ... لك متاح فضلي لك مباح بذلي ... وبعد ذا أصلي

عَلَى الكريم الأصل ... أحمد خير الرسل وآله والنسل ... والحمد وهو الكلي لله مولى الكل ويلي ذلك قصيدة مهملة ثم شرحها وهي كموسوعة عليمة جمعت من كل شيءٍ أحسنه وهاك مثالاً من الشرح في أول بيت: وآبَ أبٍ وأب وأَب ... وأتَّ أثَّ وبلٍ وَبل فأما آب فمعنى رجع قال الشاعر: فآب معصوله بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل وهذا البيت سيأتي تفسيره إن شاء الله في باب الضاد يقال منه آب يؤوب أوباً وإياباً قال الله تعالى إن إلينا إيابهم وآبت الشمس وغابت والمآب المرجع وائتاب مثل آب فعل وافتعل بمعنى قال الشاعر: ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤ تاب وغادي ومآبة البئر حيث يجتمع الماء واسم الفاعل منه آيب ومنه الحديث آيبون تائبون وتوباً توبا لربنا أو با لا يغادر علينا حوبا الحوب والحوب الإثم وقد جاء في الحديث رويته حوباً بضم الحاء وقع في المعاني للنحاس إن أبا أيوب طلق امرأته أو عزم عَلَى أن يطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلاق أم أيوب لحوب وقال المهدوي في قوله تعالى غنه كان حوباً كبيراً الحوب الإثم واصله الزجر للجمل فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه والتحوب التأثم وهو أيضاً التحزن وهو أيضاً الصياح الشديد كالزجر وقرأ الكل حوباً بالضم وقرأَه الحسن حوباً بالفتح كما وقع في الحديث والحاب مثل الحوب تقول حبت بكذا أي أثمت يحوب حوباً وحوبة وحيابة وفلان أحوب وأعق والحوبة أيضاً القرابة من ذوي الأرحام يخاف عليها الضيعة تقول أنا لي حوبة أصلها ويقال الحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة فلان يتحوب من كذا أي يتأثم والتحوب أيضاً التوجع والحزن قال الشاعر: من الغيظ في أكبادنا والتحوب وأما الأوب فيقال جاء القوم من كل أوب أي من كل وجه والتأويب في السير تباري

الركاب وفي القرآن العزيز يا جبال أَوبي معه قيل المعنى سيري معه حيث شاء من التأويب الذي هو سير النهار وقيل من التأويب الذي هو الرجوح ومبيت الرجل في منزله فعلى هذا يكون التأويب سير الليل والنهار واصله من سرعة رجع أيدي الأبل وأرجعها في السير الحثيث وقيل معناه سجي ويكون معناه ترجيع التسبيح ومن الأوب الذي هو سرعة تقليب اليدين والرجلين في السير قال الشاعر: كل أوب مانح ذي إلب ... مدارك النهر سريع التعب أوب يديها بدقاق سهل ويقال فلان سريع الأوبة أي الرجوع قال أبو عبيد وقوم يحولون الواو ياء يقولون سريع الأيبة ويقال ناقة أأوب عَلَى وزن فعول وأما آب فاسم فاعل من أبى يأبى إباية وإِباءً فهو آب وإبيان بالتحريك قال الشاعر: وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي ... وفقأت عين الأشرس الأبيان قالوا أبى يأبي بالفتح فيهما مع خلوه من حروف الحلق وهو شاذ ومعنى آب كاره وأبى فلان كذا إذا كرهه وفي أسماء رجال الحديث مولى آبي اللحم وأنشد الفراء: لقد غدوت خلق الأثواب ... أحمل عدلين من التراب بعوزم وصبية سغاب ... فآكل ولاحس وآبي قال والعوزم العجوز وهي الناقة المسنة أيضاً وفيها بقية من شباب ومنه قولهم رجل أبي من قوم أباة قال الزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويعلم من حولى أنا ... أُباة الضيم نمنع كل عارِ وأما أب من قوله تعالى وفاكهة وأباً فقال ابن عباس رضي الله عنه الفاكهة الثمار التي يأكلها الناس والأب ما ترعاه من البهائم وعنه أيضاً الأب الثمار الرطبة ذكره المهدوي وقال صاحب كتاب العين الأب الكلأ وهو ما رعته الأغنام مثل الأول قال الشاعر: جذمنا قيس منجد دارنا ... ولنا الأب بها والمكرع يقال كرعت الماشية إذا شربت الماء وهي فيه واقفة ثم كثر ذلك حتى سمي كل شارب كارعاً. وأما أب فعلى وجوه شتى يقال أب الرجل يؤب إبابة إذا تهيأ للمسير وهو في إبابه أي

جهازه وأبت إبابة الشيء طريقته وأب للشيء إذا تهيأ له قال الأعشى: صرمت ولم أصرمكم كصارم ... أخ قد طوى كشحاً وأب ليذهبا أي تهيأ وشمر للذهاب وأبَّ الرجل أباً إذا حن لوطنه قال هشام بن عقبة أخوذي الرمة: وأب ذو المحضر البادي أبابته ... وقوضت نية أطناب تخييم ويقال أبَّ يؤوب وأَوَّب يؤوب وأبَّ الرجل يده إلى سيفه إذا ردها إليه ليستله. وأما أتَّ فيقال أتَّه يؤته أتا إذ غلبه بالكلام أو كبته بالحجة قال ابن دريد في الجمهرة وأما أث فمن قولهم أث النبت يأث ويئث أكثر من يأث اثا إذا كثر ونبت أثيث وكذلك الشعر أثيث أيضاً وكل شيءٍ وطأته ووثرته من بساط أو فراش فقد أثثته تأثيثاً وأثاث البيت من هذا قال الراجز: يخبطن منه نبته إلاثيثاً ... حتى ترى قائمه جثيثا أي مجثوثاً مقلوعاً وفي القرآن العزيز من هذا اجتثت من فوق الأرض والأثاث متاع البيت قال الله عز وجل أثاثاً ورئياً يقال أث الرجل يأث إذا صار ذا أثاث قال الأعمش الأثاث المال يتمتع به إلى حين الموت وقال المهدوي واحد الأثاث أثاثة كحمام حملعة قاله الحمر وقال الفراءُ لا واحد له من لفظه ويجمع عَلَى أثثة وأثث وما قبل ذلك فمن الجمهرة وأنشد ابن دريد قول النمري وهو محمد بن نمير ابن أبي نمير: أهاجنك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث قال وأحسب أن الاشتقاق من اسم الرجل أثاثة من هذا ويقال أثاثة بالضم والفتح وأنشد لرؤية: ومن هواي الرجح الأَثائث ... تميلها أعجازعها الأواعث الوعثة العظيمة العجز والوعث من الرمل ما غابت فيه الأرجل وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من وعثاءِ السفر أي مشقته والأثائث الوثيرات الكثيرات اللحم وقد جمعوا أثيثة أثاثاً ووثيرة وثاراً قال صاحب العين أث الشعر يؤث أثاثة وهو أثيث وكذلك النبات وتأثث فلان أصاب خيراً وقال امرؤ القيس يصف الشعر: وفرع يغشى المتن اسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل فرغ البيت وبقية قافيته وقد أخرتها إلى آخر بيت من هذا الباب ومما ضاق عنه ولو

احتجته لأخذته مثل آت اسم الفاعل من أتى يأتي وسيأتي الكلام عليه في باب أتا وآب اسم شهر من شهور العجم وهو أغثت. ثم يأخذ بعد ذلك بسرد حكايات وأمثال لها صلة بالبحث ومن مروياته في فضل البلاغة وفضل العلم. وصف يحيى بن زياد رجلاً بالبلاغة فقال أخذ بزمام الكلام فقاده أحسن مقاد وساق أحسن مساق فاسترجع به القلوب النافرة واستصرف به الأبصار الطامحة. ومدح شاعر كاتباً فقال: إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كمي هز عام له وإن أقر عَلَى رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له وهذا البيت من أبدع كلام سمع والتزام جمع. . وقيل لرجل قرشي ما بال العرب تطيل كلامها وتقصرونه معاشر قريش فقال بالجندل يرمي الجندل إن كلامنا يقل لفظه ويكثر معناه ويكتفى بأوله ويستغنى بآخره. ومما يروق في الكتاب من الشوارد والفوائد أسماء الأيام والشهور عند العرب وهي كما يلي وإن أتى ذكرها في بعض الكتب إلا أنها تدل عَلَى مبلغ العناية التي بذلها المؤلف. الأيام الأحد أول الاثنين أهون الثلاثاء جبار الأربعاء دبار الخميس المؤنس الجمعة عروبة السبت شيار الشهور المحرم مؤتمر صفر ناجر

ربيعه الأول خوان ربيع الآخر بصان وونصان جمادى الأولى الحنين جمادى الآخرة ربة أو ربى رجب الأصم شعبان وعل رمضان ناتق شوال عاذل أو وعلان ذو القعدة هواع ذو الحجة بركا ويسمي العرب كل ثلاث ليالي من الشهر باسم خاص. الثلاث الأولى (غرر) 3 نفل 3 تسع أو عفر 4 عشر 5 بيض 6 درع 7 ظلم 8 حنادس 9 دآدئ 10 محلق. وقوله رواية ما رؤيت قبور اشد تباعداً بعضها من بعض من قبور بني العباس بن عبد المطلب عم الرسول ولدتهم أمهم أم الفضل في دار واحدة واستشهد الفضل بأجنادين ومات معبد وعبد الرحمن بأفريقية وتوفي عبد الله بالطائف وعبيد الله باليمن وقثم بسمرقند وكثير وأمه سبا أخذته الذبحة بينبع رحمهم الله. وقال في عرض كلامه عَلَى الخال وقد جمع أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي رحمه الله في شعر به بعد أن ذكر الخال كذا والخال كذا نحو ما تقدم ثم قال والخال لفظة مشتركة تتصرف عَلَى معانٍ كثيرة وقد وجدت ثعلباً والفضل وابن مقسم قد أنشدوا ثلاثة عشر بيتاً آخر كل بيت منها خال بغير معنى الآخر ورأيت قاتلها وقد أغفل ألفاظاً أُخر كان ينبغي أن تضم إليها فزدت فيها أبياتاً ضمنتها ما لم يذكره الشاعر بلغت اثنين وعشرين بيتاً وفي الروايات اختلاف ذكرت منها ما وقع عليه الاستحسان وهي: أتعرف أطلالاً شجونك بالخال ... وعيشاً غزيراً كان في العصر الخالي ليالي ريعان الشباب مسلط ... علي بعصيان الإمارة والخال

وإذ أنا خدن للغوي أخي الصبا ... وللغزل المريخ ذي اللهو والخال وللخود تصطاد الرجال بفاحم ... وخد أسيل كالوذيلة ذي الخال إذا رئمت ربعاًَ رئمت رباعها ... كما ريم الميثار ذو الريبة الخال زمان أفدي من يروح إلى الصبا ... بعمي من فرط الصبابة والخال وقد علمت إني وإن ملت للصبا ... إذا القوم كفوا لست بالرعش الخال ولا ارتدي إلا المروءة حلة ... إذا ضن بعض القوم بالعصب والخال وإني إذا نادى الصريخ أجبته ... عَلَى سامج عبل السوى أو عَلَى الخال إذا قطعت عنس وذم خلاؤها ... فما هو بألواني القطوف ولا الخال وإنا لنقضي الخيل دون عيالنا ... فمن غابق طرفاً بمحض ومن خال جياد تباري العاصفات ولا ترى ... بها من لجان يسببن ولا خال وإني لحاد للكماة إلى العلا ... ولست بجاد للعروج ولا خال وإني لخلو للصديق مرزأ ... ولست بخيس في الرجال ولا خال وإن ضن خال المزن يوماً بنيله ... فإن ندى كفي مغن عن الخال نهابي إلى العلياء كل سميذع ... تراه إذا حلت حبا القوم كالخال حوينا جميع المجد جوداً ونجدةً ... فما شئت من ليث هصور ومن خال وما أبصرت عين لنا قط سيداً ... عَلَى حدج يزجى إلى الرمس بالخال فحالفت بحلفي كل قرن مهذب ... وألا تحالفني فخال إذاً خالي وما زلت حلفاً للسماحة والعلى ... كما احتلفت عبس وذبيان بالخال وثالثنا في الحلف كل مهند ... لما ريم من صلب العظام به خالي حرام عليك الدهر خدع سراتنا ... فلاقهم في مجمع القوس أو خال الحاء والظاء في غير لغة العرب من الحروف حرفان تختص بهما العرب دون الخلق وهما الحاء والظاء وزعم آخرون أن الحاء في السريانية والعبرانية والحبشية كثير وأن الطاء وحدها مقصورة عَلَى العرب ومنها ستة أحرف للعرب ولقليل من العجم وهي العين والصاد والضاد والقاف والطاء والثاء وما سوى الباقي فللخلق كلهم من العرب والعجم إلا الهمزة فهي ليست في كلام العجم

إلا في الابتداء وهذه الحروف تزيد عَلَى هذا العدد إذا استعملت فيها حروفاً لا تتكلم بها العرب إلا الضرورة فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها فمن تلك الحروف الحرف الذي بين الباء والفاء مثل بور إذا اضطروا إليها قالوا فور ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف وبين الجيم والكاف وهي لغة سائرة في اليمن مثل جمل إذا اضطروا قالوا كمل وأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف بالكاف فتغلظ جداً فيقولون الكوم في موضع القوم فتكون القاف بين الكاف والقاف اهـ من كلام ابن دريد. أول خطبة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: أما بعد أيها الناس قدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالاً وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ثم ينظر قدام فلا يرى شيئاً غير جهنم ومن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق ثمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. آلات النبي صلى الله عليه وسلم قوسان اسم أحدهما الزوراء. والأخرى الصفراء. وكنانة اسمها الجمع. وسيف اسمه ذا الفقار لفقرات في وسطه. وراية تسمى العقاب وحربة تسمى النبعة. ودرعان تسمى أحدهما ذات الفضول والأخرى فضة. وترس فيه تمثال كرأس الكبش. وقضيب يسمى الممشوق. ومرآة يقال لها المدلة. ورداء يسمى الحضرمي. وجفنة عظيمة يقال لها الغراء. وخمس من الخيل أسماؤها السكب، اللحيف، المرتجز، العيبوب، اللزاز. وبغلة اسمها دلدل وحمار اسمه العفير. الفرق بين الأيدي والأيادي فرق العرب بين يد النعمة ويد الرجل أو بين المجاز والحقيقة فجمعوا التي من النعمة عَلَى أيادي والأخرى عَلَى أيدي ومن أحسن ما رأيت في أيادي جمع أيد قول أبي تمام يمدح: لقد زدت أوضاحي امتدادً ولم أكن ... بهيماً ولا أرضي من الأرض مجهلاً ولكن أيادٍ صادفتني حسامها ... أغر فحلتني أغر محجلا

وقال بعضهم الأيادي ثلاثة بيضاء وخضراء وسوداء فاليد البيضاء الابتداء بالمعروف واليد الخضراء المكافئة واليد السوداء المن بالمعروف. الفرق بين القول والتكليم إن التكليم لا يكون إلا ثناء وفضيلة كما قال تعالى وكلم الله موسى تكليما والقول قد يكون ذماً أو إبعاداً كما قال تعالى لإبليس قال اخرج منها مذؤماً مدحوراً والمسلمون مجمعون عَلَى أنه لا يقال كلم الله إبليس ولا هو كليم الله ولا أنه تعالى كلم أهل النار ويقال في هذا قال لإبليس كذا وقال لأهل النار كذا. الفرق بين السنة والعام تسمي العرب السنة عاماً والعام سنة اتساعاً ولمكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقاً ولا كلام أفصح من القرآن فقد جاء فيما هو من هذا الغرض قال الله تعالى تزرعون سبع سنين دأباً والعرب تعبر عن الشدة والجوع بأسنم السنة تقول أكلتهم السنون ويعبرون بالعام عن الرخاء والخصب قال تعالى بعد ذكر السنين التي تدل عَلَى الشدة ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون فاتسق الكلام والتأم أحسن التئام. آنية الشراب قال ابن الإعرابي: 1 - أول الأقداح الغمر بالضم وهو الذي لا يبلغ الري. 2 - القعب بالفتح وهو قدر ري الرجل. 3 - القدح: وهو يروي الاثنين أو الثلاثة وعلى رأي بعض اللغويين لا يقال له قدح إلا إذا كان ملآنً بماءٍ أو غيره وإلا فيطلق عليه إناء. 4 - العس بالضم يعب فيه العدة. 5 - الرفد: بالكسر أو بالفتح أكبر من العس. 6 - التبن: بالكسر أكبر من الرفد. 7 - الصحن: أكبر من الاثنين الأخيرين قال الشاعر ألا هبي بصحنك فأصبحينا 8 - العلبة: كالقدح الضخم يحلب فيها قال الشاعر

ولم تسق دعد بالعلب 9 - الجنبة: أكبر من العلبة وهي تعمل من جلد البعير. 10 - الجوباة: دلو واسعة ضخمة قال أبو زيد كل إناءٍ يدعى مهدى بكسر أوله مثل الجفنة والقصة والقدح. 11 - الفرق: إناء يسع ثلاثة آصع والصاع أربعة أمداده إلى آخره. آنية المداء قال الكسائي: (1) الصُّحيفة: تشبع الرجل. (2) المئكلة: تشبع الرجلين والثلاثة. (3) الصحفة: تشبع الخمسة. (4) القصة: تشبع العشرة. (5) الجفنة: أعظم القصاع. أوقات الشراب الصبوح: شرب الغداة. القبل: الشرب نصف النهار. الغبوق: شرب العشي. الفحمة: الشرب بين المغرب والعشاء. الجاشرية: شرب السحر. الصفح: الشرب في كل وقت. ألعاب صبيان العرب (1) المفايلة: لعبة لفتيان الأعراب يخبئون الشيء في التراب ثم يقسمونه فإذا أخطئ المخطئ قيل له فال رأيك يقال منه رجل فال الرأي وفيل الرأي ويقال ما كنت أحب أن أرى في رأيك فيالة قال الكميت: بنى رب الجواد فلا تفيلوا ... فما أنتم فتعذركم لفيل أي لستم أولاد الضعيف الرأي وهو الفيل. (2) عظم وضاح: لعبة الصبيان بالليل وهو أن يأخذوا عظماً أبيض شديد البياض فيلقوه ثم يتفرقوا في طلبه فمن وجده ركب أصحابه. (3) الخطرة: وهو بالمخراق. (4) الخراج: وهو أن يمسك أحدهم شيئاً بيده ويقول لسائرهم أخرجوا ما بيدي. (5) الضب: وهو أن يصور الضب في الأرض ثم يحول أحدهم وجهه ويقول ضع يدك عَلَى صورة الضب ثم يقال عَلَى أي موضع من الضب وضعته فإن أصاب قمر بمعنى غلب. (6) النقيري: وهي بالتراب أيضاً يقال أنقر الصبيان فهم يتفرقون وقال الأصمعي في

رجزه: كأن آثار الضرابي تلتفث ... حول نقيري الوليد المنبحث تراب ما هال عليك المجتدث (7) المبحثة: وهي تشبه الأولى ولعلها هي بعينها يخبئون شيئاً تحت الأرض في التراب ثم يصدع صدعين ثم يضرب الصبي بيده عَلَى أحدهما أو عَلَى بعضه فإن قبض عَلَى الخبء فيه قمر. (8) المقلا والقلة: المقلا عود يلعب به الصبيان فيضربون به القلة بالتخفيف والقلة قطعة خشب صغيرة ينصبونها. (9) العرعار: لعبة أحرى. الخيل المعروفة عند العرب بنات الأعوج، الوجيف، لاحق، بنات المسجد، آل ذو العقال، داحس، الغبراء، الجرادة، الحبقاء، النعامة، الشماء، حافل، الشقراء، الزعفران، الحرون، مكتوم، البطين، قرزل، الصريح، الذبير، وغلوي. كنى الحيوانات عند العرب الجدي أبو الحبيب، الفيل أبو الحجاج، الأسد أبو الحارث، الذئب أبو الجعدة ويقال أبو جعفر، الضبع أن عامر وأم عمرو، الدب أو رياح، الخنزير أبو قادم ويقال أبو عقبة، الثعلب أبو الحصين، الكلب أبو خالد وأبو ناصح عند بعضهم، السنور أبو خراش ويقال أبو غزران، الغزال أبو الحسين، الجمل أبو صفوان ويقال أبو أيوب، الثور أبو مزاحم، الكبش أبو حاتم، النعجة أم فروة، التيس أبو مطرف، النمر أبو وثاب. الفهد أبو قرة. الفرس أبو طالب. الضب أبو حسيل. الإتان أم حلس. البذون أبو مضاء. البغل أبو المختار. الحمار أبو زياد. القرد أبو قيس. كنى الطيور النسر أبو يحيى. الغراب أبو زاجر ويقال له ابن دابة. الديك أبو اليقظان وأبو حسان وأبو نبهان. أبو براقش طائر يتلون ألواناً وتسمية العامة أم حبيش ويقال هي الحرباء. العقاب أم هيثم. الجرادة أم حبين. الحمامة أم عوف. الدجاجة أم مهدي. الهدهد أم حفص.

وصف العيون الأعشى الذي لا يرى إذا أظلم عليه الوقت بالليل. الأغطش الضعيف البصر. الأخفش كذلك يزيد عليه صغر العين. الأحول الذي ينظر إلى المحاجر. الأقبل الذي ينظر إلى عرض أنفه. الأزرق الأخضر الحدقة. الأملج أشد من الزرق وهو الذي يضرب إلى البياض. الأدعج الشديد سواد العين. الأحور الشديد سواد العين الشديد بياض الأبيض منها. الأنجل الواسع العينين في حسن. الأشكل الذي يخالط الحمرة سواد عينيه. الأشهل أن تكون الحمرة أكثر من صاحب الشكلة. ومن رائع شعر المؤلف قطعة منها: حبذا غادة كحوطة بان ... لو رآها الحكيم كر رآها أدباً جمعت وخلقاً وخلقاً ... أبواها بذلك كحبوها رحماها عن أن تطار حماها ... وحماها عن أن تضام حماها كم بها هام ويحه من همام ... فنهاها عن القبيح نهاها رام منها الحرام قبلة ثغر ... فأبت أن يبوس فاها سفاها قبل الأرض حين لم يلق فاها ... ثم لما ولت قفاها قفاها وذكر في بحثه عن الجد ومعانيه أن الجد بضم الجيم البئر وتكون في الكلاء قال الأعشى: مثل الفرآتي إذا ما طما ... يقذب بالبوصي والماهر ما تجعل الجد الظنون الذي ... جنت صوب اللجب الماطر الظنون البئر التي يظن أن فيها ماء ولا يكون والظنون الذي لا يوثق بما عنده واللجب السحاب الذي له صوت واختلاط الأصوات من كل شيءٍ لجلب من الناس وغيرهم والبوصي السفينة والماهر السابح الحاذق وتفسير السابح العائم سبح في الماء سباحة من قوله تعالى كل في فلك يسبحون أي يسيرون وجد كل شيءٍ جانبه والجد أيضاً شاطئ النهر وهو الجدة وأكثر ما يقال جده بالهاء وبها سميت جدة لأنها ساحل البحر. والغريب أن الجد التي بمعنى بئر في الكلام لم ترد في كتاب البئر لبن الإعرابي من رجال القرن الثالث: والكتاب كله عَلَى هذا النحو من جزالة الأسلوب ومتانة المعنى وقد راينا من المناسب أن

نختم مبحثنا هذا بوصف منارة الإسكندرية إحدى عجائب العالم السبع قال: أما أنا فأخبرني مخبر الإسكندرية أن داخل سورها أربعة آلاف مسجد وقل آخر ستة آلاف وإن خارجها ألف مسجد وكان ذلك غذ دخلتها سنة إحدى وستين وخمسمائة وهي أصغر مما كانت أولاً إذ بناها الإسكندر بأضعاف كثيرة رأيت بخارجها عَلَى نحو ميلٍ منها باباً عظيماً أعني بناء باب قد تهدم ما حوله وبقي عَلَى قارعة الطريق بقبلتها يقال من ذلك المكان كانت المدينة أولاً وأما منارتها فبينها وبين المدينة نحو ميلٍ أيضاً أو أكثر بجنوبيها وهي في جزيرة صغيرة في الماء وقد بني منها إلى البر رصيف في الماء طوله ستمائة ذراع أو زيد وعرضه عشرون ذراع وارتفاعه فوق الماء ثلاثة أذرع فإذا هاج البحر غطى الماء ذلك الممشى ولكنه بحر لين بسبب الجزيرة والأحجار التي حول ذلك الموضع فيمشي الماشي عليه في الماء إلى الكعبين أو نحو ذلك فإذا انحسر الماء مشي في اليبس والمنارة في آخر الجزيرة وهي مربعة كل وجه خمسة وأربعونباعاً والبحر يكثر في الممشى الذي حول البناء من جهة الشرق والجنوب بينه وبين الجدار اثنا عشر ذراعاً وارتفاعه من الماء إلى الهواء ذلك المقدار إلا أنه من جهة البحر أوسع أعني أول البناء الذي عَلَى الحجارة تحت الماء كأنه جبل ثم كلما طلع ضاق حتى يرتفع عن وجه الأرض ويبقى بينه وبين جدار المنارة القدر المذكور أولاً وقد أحكم إلصاقه وبناؤه وأفرغ بالرصاص في أقفال من حديد تمسك ذلك الكدان المنحوت الذي كل كدانة منه أطول من لوح البناء وأغلظ من عرضه وهذا البناء الذي أصفه محدث لأنه كان قد انهد ذلك الجانب فبني أحسن من البناء القديم وفي الحائط الذي يلي البحر من جهة الجنوب كتابة بالخط القديم لا أدري ما هو وليست كتابة بقلم إنما هي صور وأشكال من حجارة صلبة طوال سود قد أدخلت في الكدانوقد أكل البحر وهواءه الكدان فبرزت الحروف لصلابتها طول الأنف منها فوق الذراع ورأس الميم قد خرجت من البناء كدور فم البرمة الكبيرة وهكذا أكثر تلك الحروف عَلَى هذا الشكل وباب المنارة مرتفع عن الأرض قد بني له ممشى طوله نحو مائة باع وتحت الممشى قبة قسي شبه القنطرة يدخل الفارس تحت القوس منها ولو رفع يده ما أدرك السمك في الكبار منها وعددها ستة عشر قوساً أولها قصير ثم كلما مضى ارتفع حتى يتصل آخرها بالباب وهو أرفعا سمكاً ودخلنا عَلَى الباب فمشينا نحو أربعين باعاً فوجدنا

عَلَى اليسار باباً مغلقاً لم ندر ما فيه ومشينا نحو ستين باعاً فوجدنا باباً مفتوحاً فدخلنا من بيت إلى بيت ثمانية عشر بيتاً سوى الزقاق التي تمشي فيها وهي بيوت ينفذ بعضها إلى بعض وحينئذ علمنا أن جوفه فارغ وإنما عددنا من عين يمين الزقاق ويساره ومشينا ستين باعاً فوجدنا أربعة عشر بيتاً ومشينا أربعة وعشرين باعاً فوجدنا سبعة عشر بيتاً ومشينا خمسة وخمسين باعاً وانتهينا إلى الحزم الأول وليس هناك درج إنما هي أرض مرتفعة قليلاً تدور بعجل عظيم تجد عن يمينك غلظ الحائط الذي لا أدري قدره وعن يسارك العجل الذي فيه البيوت المذكورة كأنك تمشي في زقاق سعته سبعة أشبار وفق الرأس سقف ألواح من حجارة رأينا إذ أطلعناه فارساً يهبط وآخر يصعد حتى التقيا في الطريق ولم يضيق أحدهما عَلَى الآخر فلما انتهينا إلى الحزم الأول ذرعنا منه إلى الأرض بشريط في طرفه حجر فوجدناه إحدى وثلاثين قامة وستارة حائط نحو من قامة وقام في الوسط فحل مثمن في كل وجه عشرة أبواع وبينه وبين الستارة خمسة عشر شبراً وغلظ الستارة سبعة أشبار أو تسعة أشكل عَلَى هذا الحرف من الأم التي نقلت هذا منها لأني كتبت هناك هذا كله ومضيت إليه بالمداد والكاغد والشريط حتى لا أسقط منه شيئاً فإنه عجب وأي عجب والله خلقكم وما تعملون وأكثر ظنى أنه تسعة ورأس هذا الحزام أضيق من أسفله فدخلنا في جوفه ومشينا خمسة عشر باعاً ووجدنا درجات رقينا فيها ثماني عشرة درجة وانتهينا إلى الحزام الأوسط فذرعناه بالشريط فوجدنا منه إلى الحزام الأول خمس عشرة قامة وقام في وسط ذلك الفضاء فحل آخر مدور غلظه أربعون باعاً وبينه وبين الستارة تسعة أشبار ونصف فدخلنا فيه أيضاً وصعدنا إحدى وثلاثين درجة وانتهينا إلى الحزام الثالث فذرعنا منه إلى الحزام الأوسط أربع قامات وفي وسطه مسجد يفتح عَلَى أبواب أربعة كالقبة ارتفاعه في الهواء نحو ثلاث قامات وغلظه عشرون باعاً وأمام ستارة غلظها شبران ومنها إلى المسجد خمسة أشبار فجميع بيوت التي دخلناها سبعة وستون بيتاً سوى الأول المقفل يقال أن فيها مهاوي تنفذ إلى البحر وطول المنارة عَلَى هذا الحساب ثلاث وخمسون قامة ومن الأرض إلى الماء خمس وتحت الماء الظاهر نحو القامة أو أكثر ترمي بالحجر من أعلاه فلا يقع إلى الأرض حتى يمس في الحائط لسعة أسفله وضيق أعلاه وإنما بني هناك ليستدل به عَلَى البلد السائرون اليه في البحر وتوقد في أعلاه النار لأهل المراكب لئلا

يضلوا ولقد فاتنا رؤيته فلم نقدر مرسى البلد وكان رئيسنا أيضاً لم يكن دخله قبل ذلك فخفناه وراءنا وادخلتنا الريح في موضع ليس مرسى ثم سلم الله بعد أن أشرفنا عَلَى الهلكة وخرجت إلينا القطائع من البلد فأدخلونا البلد يوماً آخر وكانت العافية والحمد لله اهـ. ولم نر بأساً من إيراد أسماء بعض العلماء الأعلام الذين عاصرهم المؤلف وعاشرهم في القرن السادس من الهجرة وأسماء بعض الكتب التي نقل منها أو روى عنها. العلماء الأستاذ الفقيه عبد الله بن سورة. أبو إسحاق إبراهيم محمد الحميري عرف بابن قرقول. الفقيد المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم عرف بابن الفخار. الفقيه الخطيب محمد عبد الوهاب بن علي العيش. الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني. الفقيه المحدث محمد عبد الحق الأزدي الأشبيلي. جعفر بن غياث. القاضي أبو محمد العثماني الديباجي. الأستاذ أبو محمد القرطبي. الشريف أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني نسبة إلى عثمان بن عفارن رضي الله عنه. الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن حسن الخعثمي السهيل ويكنى أبا القاسم. الإمام الزاهد الورع أبو عمران موسى بن عمران اتلقيسي الميرتلي. وغيرهم من رجالات الفضل. أما الكتب التي نقل منها أو روى عنها فهي كما يلي: (بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد) اسم المؤلف القاضي أبو الفضل عياض (أدب الكتاب) ابن قتيبة (الشمائل) الترمذي (فضل القرآن) أبو عبيد (مشكل القرآن) ابن قتيبة (الدلائل) ثابت بن قاسم (شرح الشهاب) أبو القاسم إبراهيم بن الوراق (السير) ابن هشام (آداب الإسلام) ابن أبي زمنين (حلية الأولياء) أبو نعيم الحافظ (الموطأ) مالك (المحكم) أبو عمر المقري (الكامل) محمد بن يزيد (التفصلة في تأديب المتعلمين) أبو الحسن علي بن محمد الغالبي (السير) ابن إسحاق (تاريخ الطبري) الطبري (شرح السيرة) أبو القاسم السهيلي (المقصورة) ابن دريد (التسلي عن الدنيا) أبو القاسم علي بن محمد عبدوس (بعض التواريخ) إسحق بن الحسن (المعجم) البكري (الأموال) أبو عبيد (قوت القلوب) أبو طالب المكي (الأربعين) الثقفي (شرح خطبة أدب الكاتب) ابن السيد (الهداية) المكي (المعلم) المازري (الأمالي وذيله) أبو علي (المعاني) النحاس (الجمهرة) ابن دريد

(التفسير) ابن عباس (الفوائد) أبو قاسم الإدريسي (الأمثال) أبو عبيد القاسم بن سلام (شرح الأمثال) البكري (تاج اللغة) الجوهري (اللآلي في شرح الأمالي) أبو عبيد البكري (شرح الحديث) يوسف الخطابي (المعجم) أبو عمر المقري (التفسير) ابن سلام (شرح السير) عبد الرحمن الخثعمي (الكبير) ابن إسحاق (المسند) البزار (السير) ابن داود (تفضيل العرب وعيون الأخبار والمعارف) ابن قتيبة (الجامع) معمر (القناعة) ابن البستي (الأربعين) الطوسي (المقنع) أبو عمرو المقري (شرف المصطفى) القاضي عياض (أحوال السنة) ابن زمنين (الغريب) أبو عبيد (الفاصل بين الراوي والواعي) القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرمهرمزي (الفصل للوصل) ابن ثابت (الطاعة المعصية) علي بن معبد (الأعداد) القضاعي (الوثائق) ابن الهندي (النوادر) أبو علي (الأعلام) الخطابي (الناسخ والمنسوخ) ابن شاهين (المعاني) أبو جعفر النحاس (النبات) أبو حنيفة (المسالك والممالك) أبو عبيد البكري (جامع الخير) أبو قاسم عتيق بن محمد الصقلي (الإخبار بفوائد الأخبار) الإمام الحافظ أبو بكر إبراهيم محمد بن يعقوب البخاري (الأمثال) أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني (الرقائق) ابن مبارك (الصحابة) أبو جعفر العقيلي. وغير ذلك من أمهات الكتب كالبخاري وتاريخه والترمذي والنسائي والمسعودي والأغاني انتهي. حيفا فلسطين عبد الله مخلص.

نخبة الدهر في عجائب البر والبحر

نخبة الدهر في عجائب البر والبحر كثير من كتبنا كادت تفقد بتة لو لم يتداركها الإفرنج بابتياعها منا أولاً وينشرها بالطبع ثانياً ومن جملة هذه المخطوطات هذا الكتاب لشمس الدين أبي عبد الله محمد ابن أبي طالب الأنصاري الصوفي الدمشقي المعروف بشيخ الربوة. فبينا نجد منة نسخ هذا التأليف أربع نسخ في شمال أوربا فقط الأولى في كوبنهاغ والثانية في ليدن والثالثة في بطرسبرغ والرابعة في لندن وفي هذه عدة نسخ منه لا نجد من هذا الكتاب الذي ألف في دمشق بل ولا في سورية نسخة مخطوطة فيما نعلم حتى تداركه المستشرق فرين الروسي والمستشرق مهرن الدانيمركي وطبعاه سنة 1865م 1386هـ ونسخة طبعه اليوم غزيرة جداً كسائر الكتب العربية التي يطبعها المستشرقون الأوربيون لمنفعتهم الخاصة في الأكثر. وشيخ الربوة هذا كان من أعجيب الدهر معاصراً لأبي الفدا صاحب حماة العلامة المشهور قال فيه صاحب الدرر الكامنة أنه كان يصنف من كل علم سواءٌ عرفه أم لا لفرط ذكائه. قال الصفدي ولد سنة 645 وعانى الأشغال فمهر في علم الرمل والأوفاق ونحو ذلك وكان ذكياً وعبارته حلوة ما تمل محاضرته وكان يدعي أنه يعرف الكيمياءَ ودخل عَلَى الأفرم فأوهمه شيئاً من ذلك فولاه مشيخة الربوة وله السياسة في الفراسة مطبوع وله غيره مثل كتاب في الأصول ومن شعره: للنفس وجهان لا تنفك قابلة ... مما تقابل من عال ومستفل كنحلة طرفاها في مقابلة ... فيها من اللسع ما فيها من العسل توفي في صفد سنة 727 بعد أن لحقه صمم قبل موته وذهبت عينه الواحدة وكان صبوراً عَلَى الفقر والوحدة كثير الآلام والأوجاع وكتابه هذا في العلم بهيئة الأرض وأقاليمها وتقاسيمها واختلاف القدماء في ذلك وعلاماتها ومعمورها من البحار المتصلة والمنفصلة والجزائر والجبال والأنهار والجرارات والآجام العظيمة والعيون والممالك ومسالكها والأمصار للكبار ورساتيقها والآثار القديمة والعمائر العظيمة والعيون والآبار والينابيع العجيبة والحيوان النادر الشكل والنبات الغريب والمعادن الذائبة المتطرقة وتوابعها في المعدنية والأحجار الشريفة الثمينة والتي تليها في الشرف والقيمة والتي تلي ذلك مما هو ممتاز من التراب لوصف خاص أو خاصة ذاتها ووصف ألوان الأحجار الثمينة وطبائعها وخواصها ونعت بقاعها ومعادنها وذكر أسباب توليدها عَلَى ما ذكره الأقدمون وذكر مساحة

الأرض ومسافات أقسامها بالساعات والأميال والبرد والفراسخ والدرج الفلكية وأطوال الجبال وعرضها ونعت الأمم المبثوثين فيها وذكر معالم أنسابهم وآبائهم الأولين وذكر عامة اختلاف الأمم المشهورين منهم ونعت خلقهم وذكر كخصائص البلاد المختصة ببقعة دون بقعة وبلد دون بلد وذكر ظاهر خصائص البشر المشتركة فيها مع النوع الإنساني دون باقي الحيوانات ونعت معالم رسوم الملليين وأسماء شهورهم وأعيادهم وقرابينهم عَلَى ما وجد من آثار علومهم وما يتعلق بلوازم ذلك ولواحقه وختمته بصور جغرافية دهاناً بالأصباغ وتخطيطاً محرراً عَلَى مثل مواقع الأطوال والعروض والأصقاع في المعمور لتكون مثالاً حسياً مشاهداً بالحس يشهد منه ما وضعت وصفه من الهيئة وليكون الوصف برهاناً لما مثلت أمثلته بالجغرافية المذكورة وكل ما هو من الدهان بها أزرق فهو مثال بحر مالح صغر أو كبر دق أو عرض وفي الزرقة من لون مخالف فهو مثال جبل أو جزيرة وكل ما هو في ذلك وفي باقيها من لون أخضر فهو مثال بحيرة حلوة ونهر جار وكذلك طال أو قصر أو دق أو عرض وكل ما هو فيها لون جلناري أو خمري أو أصفر أو حجري أو أبيض أو غير مستطيل مخطط خطوطاً بالسواد فهو مثال جبال أو ربوة مشهورة وكل ما هو صورة خط أسود مستطيل من مشرق الجغرافية إلى مغربها فهو مثال فصل ما بين إقليم وإقليم من الأقاليم السبعة وما وراءها وما خلف خط الاستواء منها وكل ما صورة عمارة وتفصيل حجارة بالتخطيط فهو مثال سور أو برج أو مدينة أو هيكل مشهور في الأرض. هذا ما ثقاله المؤلف في وصف كتابه وهو كما تراه يحوي غير فن الجغرافيا فنوناً كثيرة مثل علم طبقات الأرض وعلم المعادن وعلم خصائص الشعوب وعلم الإنسان وعلم الحيوان وعلم الأنساب والتاريخ والآثار وغير ذلك وقد أجاد كل الإجادة في وصف جغرافية بلاد الشام بحيث يصور لك حالتها في القرن السابع والثامن والغالب أنه طافها كلها ولم يقتصر في جغرافية مصر عن هذه الغاية. أما في بحثه عن الآثار فإنه في الغالب يتلقى كلامه عن الأفواه أو عمن ألفوا في القصص والحكايات ليدهشوا العامة وهنا يؤخذ كلامه بالحذر خصوصاً وكتابه قد وسمه بعجائب البر والبحر فهو يحشوه من هذا القبيل ومنها المفيد من ذلك.

أما في الجغرافية فقد وصف فيه بلاد السودان والزنج والبربر وغيرهم في أواسط أفريقية ما لم يطلع عليه علماء الجغرافية إلا في العهد الأخير وقد وصف من أمم جزائر البحر المحيط الهندي وما والاه من الأمم وأورد من أسمائهم ما لا يعرف الآن ولعله قد حرف بالطبع لأن طبع هذا الكتاب يغلب عليه التحريف في الأكثر أما في أوربا فقد ألم إلماماً خفيفاً ببعض مدن جنوبها أما شمالها فقد اكتفى عَلَى عادة أكثر جغرافيي العرب بان قال بأنه يسكنها أقوام من الإفرنج أما أميركا فلم تكن قد كشفت في عهده ولكن أجاد في الكلام عَلَى بحر الظلمات والأقيانوس الأطلانطيكي وما فيه من الجزر وعلى سواحله من المدن وبالجملة فإن الكتاب نافع يدل عَلَى ارتقاء ذاك القرن وفيه صور ولكن لا كالتي أشار إليها في مقدمته من الأصباغ الملونة والتفريق بين المدن والأصقاع بألوان متباينة ولكن ما فيه من الصور يدل عَلَى تفنن وإن قومنا العرب كانوا في أيام حضارتهم أشبه بحال الغربيين اليوم يميلون إلى تصوير المواد العلمية وإن كان الأوربيون مبالغين في ذلك حتى يكادون لا يصدرون كتاباً بدون صور. وهاك الآن نموذجات ننقلها من الكتاب دلالة عَلَى فضل مؤلفه خلافاً لمن رماه بأنه يخلط في تأليفه فما منا إلا من رد ورد عليه وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. قاتل شيخ الربوة في ذكر توليد الجبال والهضاب والرمال والكلام عَلَى كيفية تكوين ذلك وعلته وسببه: قال العلماء بذلك أن الجبال الصغار والتلال قد تكون من الزلازل الكائنة من الرياح المحقونة في الأرض المتموجة تحتها حيث ترفع بعضاً وتخفض بعضاً ومن صحة ذلك أنه في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة كان المطر في الشام قليلاً وقصرت ينابيع العيون أرسل الله عز وجل زلزلة في أيام الصيف فخرجت العيون وزادت الأنهار زيادة بقدر ما كانت ثلاث مرار وأربع مرار وهذا صحيح وقد يكون باستيلاء الرياح العاصفة عَلَى بعض أجزاء الأرض بالكشف والحفر إلى أن يصير ما غلبت عليه صوراً ومن صحة ذلك أنه في سنة تشع عشرة وسبعمائة كان الجبل الأقرع شجر زيتون كثير نيف عَلَى ثلاثمائة فحمله الريح إلى أرض بعيدة بترابه وكأنه لم يكن مخلوقاً إلا من تلك الأرض وكأنه لم يكن عَلَى الجبل شجر مزروع قط وفي تلك السنة أيضاً حملت الريح ديراً قال له دير سمعان قريب من تلك الأرض بحجارته ورهبانه وما كان في الدير من قمحهم وخزينهم

وبقرهم ودوابهم وعددهم حتى كأنهم لم يكونوا ولم يعلم لهم خبر ولم يطالع لهم عَلَى أثر وسطر بذلك محضر شرعي وطلعوا به إلى السلطان محمد بن قلاوون خلد الله سلطانه ورحم ملوك المسلمين أجمعين. وفي سنة سبعمائة نزل جبل عالٍ شامخ في بيت المقدس بقرب من عين فروج التي عَلَى الطريق فبقدر ما كان مرتفعاً توطأ في الأرض وهو الآن أرق مياه تتفق لها حركة عَلَى جزء من الأرض دون الآخر فيحفر ما يسيل فيه ويبقى ما لا يسيل فيه رابياً ثم لا تزال السيول تغوص في الجزء الأول إلى أن يعود غوراً ويبقى ما انحرف عنه سامياً ومن العجب العجيب مغارة بالشام يخرج منها جدول ماء ما يجاوز كعبي قدم الخائض فيه فإذا دخلها الإنسان وجدها واسعة طويلة المدى نحواً من أربعة آلاف خطوة تحت الأرض والماء يقطر من جوانبها وهي كصورة الأزج الطويل والقبو المبني ولكنها مغارة منحوتة وتجد تحت كل ماء قطر من سقفها حجارة جامدة من الماء المتقاطر مختلفة الألوان والشكل فمنها كهيئة العسل في لونه وكهيئة الثمار وهيئة النجوم وهيئة الأعضاء وهيئة الحبوب وهيئة النقل وهيئات منوعة وكلها حجارة جامدة من تقاطر الماء. أَصباغها صادقة في الحمرة والسواد وغيره وسميت مغارة العجب لذلك قالوا قد تتكون من أنواع الحجارة في النار. وقال في ذكر نوادر الأحجار الثمينة المهدي بها بعض الملوك إلى بعض وذكر قيمتها ومن ذلك وجد في خزائن الخلفاء والوزراء من الجوهر النفيس والذخائر الفاخرة والدرة اليتيمة وسميت بذلك لأنه لم يوجد لها في الدنيا نظير حملها مسلم بن عبد الله العراقي إلى الرشيد فابتاعها منه بتسعين ألف دينار ومنه الفص الياقوت الأحمر المسمى بالجبل كأن وزنه أربعة عشر مثقالاً ونصفاً اشتراه الرشيد بثمانين ألف دينار وكان للمتوكل فص ياقوت أحمر وزنه ستة قراريط اشتراه بستة آلاف دينار وكان له سبحة فيها مائة حبة جوهر وزون كل حبة مثقال اشتريت كل حبة منها بألف مثقال. وأهدى بعض ملوك الهند إلى الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع عَلَى رأسه تمثال طائر ياقوت أحمر لا قيمة له فقوّم هذا الطائر بمائة ألف دينار. ودفع مصعب بن الزبير حين أس بالقتل إلى مولاه زياد فصاً من الياقوت الأحمر وقال: أُنج بهذا كانت قيمته ألف ألف درهم. وسقط من يد الرشيد فص من ارض كان يتصيد بها فاغتنم لفقده فذكر له فص ابتاعه صالح

صاحب المصلى بعشرين ألف دينار فأحضره ليكون عوضاً عما سقط منه فلم يره عوضاً. ووهب المأمون للحسن بن سهل عقداً قيمته ألف ألف درهم ومائة ألف درهم وشتة عشر ألف درهم. وكان فيما أَهدى ملك الهند إلى كسرى جام ياقوت أحمر فتحه شبر في شبر مملوء دراً قيمة كل درة ألف وخمس مائة مثقال. وكان لمحمود صاحب غزنة حجر ياقوت كمصاب المرآة إذا ركب قبض عليه وبيمينه فتبين طرفاه من جانبي يده حيث ينظر إليه الناس. ولما انهزم أبو الفوارس بن بهاء الدولة من أخيه سلطان الدولة بن بويه أباع جوهرتين كانتا عَلَى جبهة فرسه لزين الدولة بعشرين ألف دينار فقال له من غلطك تجعل هذا عَلَى جبهة فرسك وهذه قيمتها. ووجد في خزائن مروان بن محمد مائدة وجزع أرضها بيضاء فيها خطوط سود وحمر وسعتها ثلاثة أشبار وأرجلها ذهب يقال لها أنها صنعت عَلَى شكل المشتري من أكل عليها لا يشبع ولا يتخم (؟) ووجد في خزانته أيضاً جام زجاج فرعوني محكم غلظ إصبع وفتحه شبر وفي وسطه أسد ثابت ولم تعرف له خاصية وكان لأنوشران بساط يسميه بساط الشتاء مرصع بأزرق الجوهر وأحمره وأصفره وأبيضه وأخضره فعمل أخضره مكان أغصان الشجر وألوانه بموضع الزهر والنوار فلما أخذ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقعة القادسية حمل إليه في الفيء فلما رآه عمر قال إن أمة أدت إلى هذا إلى أميرها لأمناء ثم فرقه فوقع منه لعلي بن أبي طالب قطعة في قسمه مقدارها شبر في شبر باعها بخمسة عشر ألف دينار. ولما فتح الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله سيس ودخل بعض الغلمان إلى دار صاحب سيس فوجد نرداً بيادقه ياقوت أحمر وأصفر وسكرجته من حجر الماس ورقعته زركش فخطف الغلام النرد فوقع منه قطعتان تركهما داهشاً فوقعت القطعتان المنسيتان في يد الملك الظاهر فقال ما كان إلا كاملاً فاستدعى بعريف سوق الصرف وأراه القطعتين وقال له إن مسكت من هذا قطعة مع أحد الناس فعلت معك كل خير فما كان إلا قليلاً وأتى الغلام ليبيعها فمسك وأتي به إلى الملك الظاهر فوجدوا الباقي معه فأخذه الظاهر بيبرس ودفع إلى الغلام عشرة آلاف درهم. ولما كان الملك المنصور قلاوون رحمه الله بدمشق سنة اثنين وثمانين وستمائة أُحضر إليه

من المدرسة الجوهرية مائدة ذهب وزنها ثمانية أرطال وربع بالدمشقي وعليها تمثال دجاجة من ذهب وصيصان من ذهب في منقار كل واحد لؤلؤة بقدر الحمصة وفي منقار الدجاجة درة بقدر البندقة وفي وسط المائدة سكرجة من زمرد سعتها مثل كفة الميزان التي للدرهم السوقي الكبير مملوءة حبات من الدر قيل أن الملك الناصر صاحب حلب أودعها لنجم الدين الجوهري فأكنزها بدهليز مدرسته فوشى بها إلى لملك المنصور جارية من جواري الجوهري وكان عَلَى جميع المائدة شبكة من ذهب منسوج صغيرة الأعين حاوية لكل ما في المائدة ولها ثمان قوائم. وأهدى مقدم زاوية عكا إلى الملك المنصور طشتاً في وسطه بيت مربع له أربع خروق في أسفله يدخل منها دم الفصاد إلى داخل البيت وفي البيت سقفه تمثال إنسان متواري في البيت ورأسه وعنقه بارز من سقفه وكلما سقط في الطشت من دم الفصاد وزن عشر دراهم ارتفع ذلك التمثال بصدره وظهرت عَلَى صدره كتابة عشرة الدراهم ولا يزال كذلك إلى مقدار ثلاث أواق دمشقية فيقف التمثال قائماً ويسمع في جوفه كلمة يونانية معناها حسبك حسبك اهـ. تقول ولا عجب فيما رواه شيخ الربوة في هذا الشأن ولكن من عرف ثروة العمال وثروة الملوك في القرون الوسطى لا يستعظم ما يبلغه من تلك الأخبار فقد ذكر ياقوت أن علي بن أحمد الراسي كان من عظماء العمال وأفراد الرجال في أيام المقتدر وزراة علي بن عيسى وكان يتقلد من حد واسط إلى حد شهزور وكورتين من كور الأهواز جنديسابور والسواس وبادرايا وباكسايا وكان مبلغه خمسمائة ألف ألف وأربعمائة ألف دينار في كل سنة. ولم يكن للسلطان معه عامل غير صاحب البريد فقط لأن الحرث والخراج والضياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه فكان ضابطاً لأعماله شديد لها من الأكراد والأعراب واللصوص وخلف مالاً عظيماً وقد حمل من تركته لأنه لم يعقب ما هذه نسخته: العين أربعمائة ألف وخمسة وأربعون ألفاً وخمسمائة وسبعة وأربعون ديناراً الورق ثلاثمائة ألف وعشرون ألفاً وتسعمائة وسبعون مثقالاً. آنية الفضة ألف وتسعمائة وخمس وسبعون رطلاً. ومما وزن بالشاهين من آنية الفضة ثلاثة عشر ألفاً وستمائة وخمس وخمسون درهماً ومن الند المعمول سبعة آلاف وأربعمائة مثقال ومن العود المصري أربعة آلاف وأربعمائة

وعشرون مثقالاً ومن العنبر خمسة آلاف وعشرون مثقالاً ومن نوافج المسك ثمانمائة وستون نافجة ومن المسك المنتور ألف وستمائة مثقال ومن المسك ألفا ألف وستة وأربعون مثقالاً ومن البرمكية ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعون مثقالاً ومن الغالية ثلاثمائة وستة وستون مثقالاً ومن الثياب المنسوجة بالذهب ثمانية عشر ثوباً قيمة كل واحد ثلاثمائة دينار ومن السروج ثلاثة عشر سرجاً ومن الجوهر حجران ياقوت ومن الخواتم الياقوتية خمسة عشراً خاتماً خاتم فصه زبرجد ومن حب اللؤلؤ سبعون حبة وزنها تسعة عشر مثقالاً ونصفاً ومن الخيل الفحول والإناث مائة وخمسة وسبعون رأساً ومن الخدم السودان مائة وأربعة عشر خادماً ومن الغلمان البيض مائة وثمانية وعشرون غلاماً ومن خدم الصقالبة والروم تسعة عشر خادماً ومن الغلمان الأكابر أربعون غلاماً بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم ومن أصناف الكسوة ما قيمته عشرون ألف دينار ومن أصناف الفرش ما قيمته عشرة آلاف دينار ومن الدواب المهارى البغال مائة وثمانية وعشرون رأساً ومن الجماز والجمازات تسع وتسعون رأساً ومن الحمير النقالة الكبار تسعون رأساً ومن قباب الخيام الكبار مائة وخمس وعشرون خيمة ومن الهوادج والسروج أربعة عشر هودجاً ومن العصائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر أربعة عشر صندوقاً اهـ. ووصف شيخ الربوة خلجان النيل وخراج أرضه فقال خلجان النيل وهي سبعة كل واحد منها بحر أحدها خليج الإسكندرية والثني خليج دمياط والثالث خليج فيوم والرابع خليج دوس والخامس خليج المنهى والسادس خليج سخا والسابع خليج القاهرة وبلبيس وهذه الخلجان كان خراج النيل بها في أيام كيقاوس أحد ملوك العالم الأول مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار وجباه عمرو بن العاص في أيام معاوية اثني عشر ألف ألف دينار وجباه عبد الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار وجباه القائد جوهر مولى العبيديين ثلاثة آلاف ألف دينار ومائتي ألف ألف قال المعتنون بعلم ذلك أن سبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسها بما كان يصرف في الرجال المتوكلين بحفر خلجانه وإصلاح جسوره ورزم قناطره وسد ترعه وكانوا عَلَى ما حكاه ابن لهيعة مائة ألف رجل وعشرين ألف رجل مرتين عَلَى كور مصر سبعون ألفاً للصعيد وخمسون ألفاً لأسفل الأرض. ويقال أن ملوك القبط كانوا يقسمون الخراج أربعة أقسام قسم لخاصة الملك وقسم لأرزاق

الجند وقسم لمصالح الأرض وقسم آخر لحادثة تحدث ومسحت أرض مصر في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان فكان ما يركبه الماءُ العامر والغامر مائة ألف ألف فدان واعتبر أحمد بن المدير ما يصلح للزرع بمصر وقت ولايته فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان والباقي قد استجر وتلف واعتبر مدة الحرث فوجدها ستين يوماً والحرث الواحد يحرث خمسين فداناً فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف حراث وأربعين ألف حراث والله أعلم. كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً إلى عمرو بن العاص وكان عاملاً بمصر يقول: أما بعد يا عمرو إذا أتاك كتابي فابعث لي جوابه تصف لي مصر ونيلها وأوضاعها وما هي عليه حتى كأنني حاضرها فأعاد عليه مكتوباً جواب كتابه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين فإنها تربة غبراء وحشيشة خضراء بين جبلين جبل رمل وجبل كأنه بطن أَقب وظهر أجب مكتنفها وزرقها ما بين أسوان إلى منسا حد البر يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات يجري بالزيادة والنقصان كمجاري الشمس والقمر له وإن تظهر إليه عيون الأرض ومنابعها مسخرة له بذلك ومأمورة له حتى إذا اطلخم عجاجه وتغطغطت أمواجه واغلولوت لججه لم يبق الخلاص إلى القرى بعضها إلى بعض إلا في حقاف العقاب أو صغار المراكب التي كأنها في الحبائل ورق الأبابيل ثم عاد بعد انتهاء أجله نكص عَلَى عقبه كأول ما بدا في دربه وطما في سربه ثم استبان مكنونها ومخزونها ثم انتشرت بعد ذلك أُمة مخفورة وذمة مغفورة لغيرهم ما يعوا به من كدهم وما يناولون بجهدهم شعثوا بطون الأرض وروابيها ورموا فيها من الحب ما يرجون به التمام من الرب حتى إذا أحدق فاستبق وأسبل قنواته سقى الله من فوقه لندى ورواه من تحته بالثرى وربما كان سحاب مكفهر وربما لم يكن وفي زماننا ذلك يا أمير المؤمنين ما يغني ذبابة ويدر حلابة فبينما هي برية غبراء إذ هي لجة زرقاء إذ هي سندسية خضراء إذ هي ديباجة رقشاء إذ هي درة بيضاء إذ هي حلة سوداء فتبارك الله أحسن الخالقين وفيها ما يصلح أحوال أهلها ثلثة أشياء أولها لا تقبل قول رئيسها عَلَى خسيسها والثاني يؤخذ ارتفاعها يصرف في عمارة ترعها وجسورها والثالث لا يستأدى خراج كل صنف إلا منه عند استهلاله والسلام اهـ.

بضعة أيام في الجليل

بضعة أيام في الجليل لا تعرف البلاد كما هي إلا برؤية القرى والدساكر قبل القواعد والحواضر فالفلاح ميزان العمران إن سعد سعدت البلاد كلها وإن شقي شقيت خصوصاً في مثل هذا القطر الذي يعول عَلَى الزراعة في حياته وتجارته وصناعاته ضعيفة ضئيلة. قصدنا إلى عكا هذه الآونة فشهدنا فيها ما لم نتمكن في العام الفائت من مشاهدته رأينا حيفا بلدة يهودية إلا قليلاً وسالنا أحدهم عن عدد طلبة العلوم الدينية فيها يقيمون الشعائر وينظرون في أحكام الحلال والحرام فلم نر أحداً حتى إذا جئنا عكا كان أول أسئلتنا عن عدد طلبة العلوم الدينية فأخبرونا أن عددهم اليوم يتناقص وهم يبلغون نحو الثلاثين فقلنا فأل خير إذا أتقنوا كلهم ما لقنوه يسدون بعض الحاجة في ارض الجليل الذي ضعف فيه المسلمون في كل شيء ولاسيما في دينهم. والمسلم مهما تقلبت به الأجوال يحتاج إلى إمام وخطيب ومفتٍ ونائب وواعظ. ولئن لم يساعدنا الوقت عَلَى الاختلاط ببعض هؤلاء الطلبة ولكن شهدنا من فضل أستاذهم الشيخ عبد الله الجزار وتقواه ما رجح عندنا أن الفرع يتبع أصله والناس تبع لأئمتهم ومرشديهم. ليس الأستاذ الجزار اليوم كالجزار (أحمد باشا) أمس كان هذا يرهق الأشباح في هذه البلاد أيام استيلائه عليها وذاك يحيي الأرواح بالعلوم الدينية واللسانية. الثاني بوشناقي والأول عربي. ذاك تولى زمام الأحكام فأفسدها في القرن الماضي وهذا عَلَى قلة النصير يعلم في بلد قل فيه من يحب أن يتعلم. هذا أقام مدرسته عَلَى أنقاض المدرسة التي بناها ذاك فأعاد لبلده شيئاً من رونقها وجمع لطلبته مكتبة حافلة بالأسفار العلمية الدينية المختلفة يثقف بها عقول الطالبين المسترشدين. ولو سعى كل فقيه من فقهاء الإسلام أن بتعليم قومه عَلَى نحو ما فعل الشيخ الجزار لما اضمحلت العلوم الإسلامية فوصلت إلى الحالة السيئة التي نراها عليها الآن وأكثرهم يفتون ويؤمون ويخطبون ويعظون ويعلمون بلا علم ولا تقى. بتنا ليلتنا في قرية ظاهر في عكا اسمها المكر ولعلها المقر. ومن الغد ركبنا ومعنا دليل يدلنا عَلَى طريق صفد فأعددنا السير حتى وصلنا قرية الرامة وهي في منتصف الطريق عَلَى نحو خمس ساعات من عكا وخمس من صفد بعد أن مررنا بقرية مجد الكروم وارض دير الأسد وبعن ونحف ويجور. وزراعة هذه البلاد الحنطة والشعير والكرسنة والحلبة والبطيخ وأشجارها التين والزيتون والليمون الحلو وهو في قرية الرامة فقط كما أن

زيتونها أجود ما وقعت العين عليه في هذه الديار وما ذلك إلا لأن أهلها توافروا عَلَى العناية بأشجارهم وحموها من فؤوس المحتطبين وأسنان المواشي وحوطوها وحرثوا أرضها وتلطفوا في قطف ثمرها حتى جادت غلة زيتونهم كل سنتين والزيتون هنا كما هو في معظم البلدان يحمل سنة ويمحل أخرى وتضمن أعشار زيتون الرامة فقط بألف مائتي ليرة. مررنا بأرض يجور فرأيناها عامرة أكثر من غيرها من القرى المجاورة وسألنا عن صاحبها فقيل لنا أنه غني من أهل عكا اسمه فؤاد بك سعد فقلنا: سبحان الله أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. هذا الرجل ينفق نعمة غناه في إصلاح التربة والغراس والفقير في جواره بكسله وقلة وسائطه يكاد لا يجد سناداً من عوز ويعيش عيشة القلة. نحن ممن يقول بحفظ ثروة الأغنياء وإيجاد الأسباب ليزيدوا غنىً وإقداماً عَلَى تنمية ثروتهم لأنهم مادة الاقتصاد في البلاد ولكن عَلَى شرط أن يكونوا مثل ابن يملك بضع قرى في لواء عكا وهو أغنى غني فيه تربو ثروته فيما بلغنا عَلَى مئة وخمسين ألف ليرة جمع هو بعضها والبعض الآخر ورثه عن أبيه وورث عنه مضاءً ومعرفة عملية وأهلية للإثراء عَلَى الأصول جعلت منه رجلاً يفيد ويستفيد من غناه. نحن لا نعرف هذا الرجل إلا بالاسم ولكننا عرفناه بأعماله في ترقية زراعته وإيجاد المعامل مثل معمل ثلج لعكا وآخر لحيفا ومعصرة زيت عَلَى الطرقة الأوربية في الرامة وأخرى في المغار وغير ذلك من تجارته وزراعته. أعجبنا بعمله لأننا رأينا في دمشق وحلب وبيروت وحمص وحماة ونابلس عشرات مثله بل أغنى منه فلم نرهم مكترثين بالكسب عَلَى الأصول والإنفاق كذلك رأينا غالبهم اغتنوا بالعرض إما بارتفاع قيم الأملاك والعقارات أو بطرق أخرى غير شريفة فحرصوا عَلَى ما بأيديهم ورأوا الخروج عن مألوف عادات الآباء في الاكتساب مما يقربهم من الفقر. قال لنا ثقة أن ابن سعد هذا ينفق في السنة من فضل ماله عَلَى تعليم بعض أبناء طائفته وإقامة المعابد والمدارس لها في القرى مبلغاً لا يستقل به وقد كانت زراعته ومعاصره خير مرشد لجيرانه ولاسيما المسيحيين فقلدوه وأصبحت المعامل القديمة تخرج الزيت أحسن من ذي قبل وتربح كذلك ونحن لو جرى الأغنياء عَلَى هذه الصورة في تحسين مزارعهم

والإفضال من أموالهم بحسب الطاقة لرقيت البلاد في بضع سنين درجة مهمة في العمران ولكن من أغنيائنا من ابتلوا بالشح الممقوت والجهل المطبق حتى أنهم ليضنون بالقرش في تعليم أولادهم ولا يستكثرون المئات ينفقونها عَلَى شهواتهم وتكبير مظاهرهم بالباطل في عيون العامة والجهلاء. رأينا من أغنياء دمشق وحلب وبيروت من افسدوا أخلاق الناس بما حملوه إلى هذه البلاد من الموبقات وضروب الملاهي والشرور فسميحيهم منفرنج ومسلمهم منترك عبد القوة وربيب الشهوة يرون المجد كل المجد في التزالف من الحكام لا يوقرون إلا من يخافون ولا يجودون إلا عَلَى ما يشتهون. مسلمهم أبطل الزكاة أهم أركان الإسلام حتى يكاد يحبب إلى النفوس الاشتراكية المفرطة والفوضوية الضارة. ومسيحيهم يرضخ لأبناء طائفته بدراهم معدود حب الشهرة وقطعاً للألسن كأن القوم نسوا أن إنفاق المال في عمران البلاد والأخذ بأيدي الفقراء من أهلها لنشلهم من فاقتهم وإنقاذهم من جهالتهم سيعود عليهم ولو بعد حين بغنىً أكثر ولذة ونفع والعمران سلسلة يرتبط أعلاها بأدناها ويهتز أولها بحركة آخرها عَلَى السواء. نقول المسيحي والمسلم وما أحرانا أن نقصر الكلام عَلَى المسلم الغني لأنا رأيناه أشد إيغالاً في الارتباك بحياته وحياته والعدم سواء. نعرف رجلين في حلب ودمشق يملكان من المزارع الواسعة عشرات وتحسب ثروتهما بمئات الألوف من الليرات ورثا ذاك الغنى فأساء إلى العمران والإنسانية فترى مزارعهما خربة لا يتوفران عَلَى تعهدها ولو صرفا عليها بضعة ألوف من الليرات لأحييا بها الموات العظيم ونفعا بها خلقاً كثيراً من السكان شغلاهم فيها عن الهجرة إلى أميركا وقد أفدوا الأخلاق بما ألفاه من الشهوات كل ذلك لأنهما لم يربيا التربية المطلوبة فنشآ كالسائمة وقد فتحت عيونهما عَلَى ثروة لم يسعها عقلهما. إن الأسف عَلَى عقول لا يستفاد من ذكائها كالأسف عَلَى تربة لا يستفاد من زكائها وكم في البلاد من أراضٍ معطلة لا يستطيع أكثر مالكيها تعهدها لكزازة في أيديهم وصغر في عقولهم وضعف في نظرهم. نحن لا نلوم الصهيونيين وغيرهم من المستعمرين في بلاد الجليل وفلسطين بقدر ما نلوم أولئك الذين يملكون الأملاك الواسعة مما لو طبقت الحكومة عليهم قانونها القاضي بنزع الملك من صاحبه إذا لم يزرعه ثلاث سنين متوالية لنزعت

جانباً مهماً من الأراضي الزراعية في السهول والقيعان والجبال من يد مالكيها أو مغتصبيها. نوجه هذا الكلام القارص إلى الأغنياء لأنهم هم مادة البلاد ولأنا لا نتوقع من الفقير عملاً يذكر وحكومته لم تربه التربية المطلوبة في الأمس ليحسن العمل المطلوب منه اليوم. فقد مررنا في طريقنا إلى صفد بقرىً كثيرة وكنا نشهد الفرق محسوساً بين قرى المسلمين وقرى المسيحيين أولئك لم تعمل لهم حكومتهم إلا أنها أسلمتهم لجباة الضرائب والعشور والإعانات وسوق من تسوق إلى الجندية وتركهم بقمة في يد صاحب النفوذ وشيخ البلد لم تعمر لهم مدرسة ولا جامعاً ولم ترسل لهم طبيباً ولا واعظاً أما جيرانهم المسيحيون فقد اعتمدوا عَلَى أبرشياتهم ومطارنتهم وأكثر هؤلاء عَلَى جانب عظيم من الغيرة والفضل فأسسوا لهم بيعاً ومدارس وكتاتيب وهزوا أكف أغنيائهم وأهل الخير في بلاد الغرب واستعانوا بأموالهم عَلَى الأعمال الناهضة عَلَى ما ترى ذلك ماثلاً في كاثوليك حيفا والبصة وشفا عمرو وترشيحة والمغار من أهل هذه الديار ومطرانهم غريغوريوس حجار يسعى ليله ونهاره في إنهاضهم ومن وراءه ووراء الطوائف النصرانية الأخرى الجمعيات الروسية والفرنسوية والألمانية والإنكليزية والأميركانية والإسرائيلية تفتح المدارس في كل قرية ومزرعة فيها بضعة من الكاثوليك أو الروم أو البرتستانت أو الإسرائيليين. نعم إن المسلم في بلاده هذه جاهل لقلة من يتعهد أمره وغيره يرقى السنة بعد الأخرى ومعرفة ذلك سهلة لكل من يختلط بالفريقين فيفهم درجة عقولهم ويقرأ صورة معايشهم وترتيب بيوتهم ونظام أسراتهم. ورقي الراقي منهم ناشئٌ من خروجهم عَلَى الأقل من درجة الأمية واستنارة عقله بالتربية الجديدة. وبينا نرى وجيه قومنا إذا قدر له أن يفكر في تربية ولده يعهد بها إلى مدارس الحكومة وهي احط مدارس يتصورها العقل في بلاد تدعي المدنية رجاء أن يجيء غداً موظف يعيش كلاً حَلَى عاتق الأمة تشهد الوجيه في غير المسلمين يعلم أولاده الصناعات الحرة كالهندسة والزراعة والتجارة وغير ذلك ولك بهذا أن نحكم عَلَى مستقبل أولادهم وأولادنا. نحن لا نعجب لارتقاء الزراعة في قرية الجاعونة من بلاد صفد ولا المجدل من أعمال طبرية ولا زمارين من عمل حيفا مثلاً لأنها ملك لجمعيات صهيونية غنية في الغرب تنفق

عليها لمقصد ديني سياسي عن سعة. ولكننا نعجب كل العجب من مسلم لا يحذو في ترتيبه ومعاشه حذو أخيه المسيحي ففي مزارع الإسرائيليين تعمل رؤوس أموال شركاتهم ومعارف أوربا في تجويد الزراعة وفي مزارع الوطنيين غير المسلمين يعمل حب الترتيب وحسن التربية وإرادة الكسب والرفاهية فقط. وبعد فكلما تقم السائر من بعد قرية الرامة يتراءى له انحطاط الزراعة وإهمال الفلاح المسلم لزيتونه وتينه وكرمه بل لغلاته السنوية بحيث أصبح دون مواطنه الدرزي وللدروز عناية في الجملة بأراضيهم وغرسهم ومنهم في بعض قرى عكا ومنهم في قضاء صفد وبلادهم جبلية كما هي العادة. وأهم ما شهدناه قبل صفد بساعتين شلال ماء يسقي إحدى القرى هناك يجري من شاهق جبلٍ عالٍ ويضيع بين الصخور في الطريق وهو بمائه دون شلال تل شهاب في حوران إلا أنه يمكن استخدامه فيما نحسب لتنوير عكا وحيفا بالكهربائية وتسيير ترام كهربائي فيهما. وقد أصبحت بلاد صفد وهي 49 قرية ومزرعة جرداء من غاباتها بفضل الإهمال وكانت منذ عشرين سنة كثيرة ومنها الضخم تسد الحاجة وتلطف الهواء وتعد نزول الأمطار حتى أن القوم هنا يبحثون عن جذوع الحراج للوقود والتدفئة الآن وما ندري بم يصطلون ويوقدون بعد سنين. ومدينة صفد تربو نفوسها عَلَى ثلاثين ألفاً نصفهم من الإسرائيليين وهي عَلَى عدة قمم وآكام عالية وفيها المياه مثل مدينة مرجعيون وقد جلب الماء في أنابيب حديد إلى أكثر أحياءها من جبل بيرية الواقع جنوب صفد عَلَى نصف ساعة منها فكلف نحو ألفي ليرة خفف عَلَى السكان بعض العناء في الاستقاء وحفظ ماءهم من الكدر ولو صرفت إدارة النافعة خمسة آلاف ليرة عَلَى طريق يربط صفد بطبرية والمسافة بينهما خمس ساعات أيضاً لاتصلت صفد بالخط الحجازي وأصبح ابن دمشق يأتي إلى صفد في يوم واحد خصوصاً والعلائق التجارية والزراعية مستحكمة بين الصفديين وأهل ولاية سورية المتاخمة قضائهم لقضاء القنيطرة حتى أن في صفد حياً خاصاً بالأكراد كما لهم في صالحية دمشق. وطول جبل الزابود المشهور في كتب وصف البلدان نصف ساعة من شمال ميرون للغرب

وفي قمته مياه عذبة ويناوحه من الجهة الثانية جبل كنعان وهو أخصب وأمرع وأنقى هواء فصفد بين منفرج هذين الجبلين ولكنها هي أيضاً مبنية عَلَى رؤوس جبال أشبه بمدينة الآستانة ويذكرون أن في رأس وادي الطواحين غربي صفد عيناً اسمها عين جن يتجبس منها ماء وينقطع في الساعة ولا تزال كذلك عَلَى الدهر وماؤها يدير مطحنة. والطريق من صفد إلى طبرية كله انحدار قوي حتى يصل إلى بحيرة طبرية والهواء يختلف في الحال من البرودة إلى الحرارة لوقوع صفد في رؤوس الجبال وارتفاعه 838 متراً عن سطح البحر وهو أعلى ارتفاع في أرض الجليل ولانحطاط طبرية عن سطح البحر 208 أمتار. ولئن كانت صفد تعد من المدن المقدسة عند اليهود وينزل المسيح إلى الأرض منها بحسب رأيهم فإن المستعمرين من الإسرائيليين لم ينزلوها إلا في القرن السادس عشر وقد استولى عليها الصليبيون واستخلصها منهم صلاح الدين يوسف ثم سقطت في يد الظاهر بيبرس واحتلها الفرنسيس سنة 1799 مدة قليلة وفي سنة 1837 أصابها زلزال جعل عاليها سافلها ولم يعد إليها بعض الرونق إلا في العهد الأخير. ويقل الزيتون في قضاء طبرية اللهم إلا ما كان في قريتي حطين ولوبية وعدد قرى هذا القضاء 26 أكثرها ملك للصهيونيين ويوشكوا أن يبتاعوا البقية الباقية فيحيونها بعد مواتها.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار مخطوطات نادرة في مكتبة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى للشيخ إبراهيم بن محمد الأسيوطي. الأعلام بإعلام بلد الله الحرام للشيخ قطب الدين المكي النسفي. أعلام العلماء الأعلام بحال بناء المسجد الحرام للشيخ عبد الكريم بن فخر الدين القطبي. الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل للقاضي مجير الدين أبي اليمن عبد الرحمن العليمي. الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك الغرب وتاريخ مدينة فاس للأديب أبي الحسن علي بن عبد الله أبي زرع الفاسي. إهداء اللطائف من أخبار الطائف للشيخ حسن بن علي العجيمي. البدر المتألق في محاسن جلق ويعرف بمحاسن الشام للسيد محمد بن السيد مصطفى الشهير بابن الراعي الدمشقي. بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد لعبد الرحمن بن علي الشهير بالديبع. تاريخ حلب مجهول مؤلفه. تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام للقاضي بدر الدين محمد بن أبي بكر بن جماعة الكناني الحموي. تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام لتقي الدين الحسيني. تحفة الدهر ونفحة الزهر في أعيان المدينة من أهل العصر للعلامة عمر بن المدرس عبد السلام الداغستاني المدني. التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية للشيخ عبد الغني النابلسي. تاريخ السخاوي في المدينة المنورة (في دار الكتب المحمودية). تراجم أعيان أبناء الزمان للفاضل حسن البدري الدمشقي الشهير ببدر الدين. ترغيب أصل المودة والوفا في سكان دار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيخ اسماعيل المدني. الترغيب في سكنى المدينة المنورة دار الحبيب له أيضاً. التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة للحافظ محمد بن أحمد المطري (وهو كتاب مهم في تاريخ هذه المدينة). الجواهر الثمينة في محاسن المدينة للسيد محمد كبريت المدني. الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية للشيخ عبد الغني النابلسي. الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز له أيضاً. الحلية الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية الثانية له أيضاً، ومنها أراد أن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان له أيضاً. دار السحابة في بيان مواضع وفيات الصحابة للعلامة حسن بن محمد الصنعاني. درر الفرائد المنظومة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة لعبد القادر بن ممد الأنصاري. الدرة المنصان (؟) فيما يحدث في دولة آل عثمان

لمحسن بن كمال. رحلة الإمام الشافعي من مكة المكة إلى المدينة المنورة والتقاؤه بالإمام مالك لسيدي عبد الوهاب الشعراني. رسالة في دعوى الشرف من جهة الأم هل تصح أم لا لإسماعيل تائب. الروض المعطار في أخبار الأقطار في السير والأخبار لمحمد بن عبد المنعم الحميري. الروض المغرس في فضائل البيت المقدس لعبد الوهاب بن عمر الحسيني. الروضة المستطابة فيمن دفن في البقع من الصحابة (مجهول). زيارات الحرمين والقدس والشام وبيان مآثرها وفضلها عَلَى الدوام لأحمد بخاري. شذرات النصب في أخبار من ذهب في التراجم المترتب عَلَى السنين من ابيداء الهجرة إلى أخر القرن العاشر لعبد الحي الصالحي. الشرف المعلى في ذكر قبور مقبرة باب المعلا لجمال الدين القرشي الشيبي. شرف الإنسان لمحمود بن عثمان المعروف بلأمعي. الشعور بالعور وبيان أخبارهم لخليل بن أيبك الصفدي. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام لتقي الدين الناسي. الصادح الصادع بأطيب النغم في ترجمة عارف الحكم لمحمود الآلولسي. غربال الزمان المفتتح بسيد ولد عدنان وهو مختصر مختصر السيد حسين الأهدل. اختصار تاريخ الإسلام لعبد الله بن يحيى العامري. الفتح القسي المقدسي في الفتح القدسي لمحمد الأصفهاني الشهير بالعماد الكاتب. فهرست كتب العلوم القديمة من تصانيف العرب واليونان والفرس والهند وغيرهم لأبي الفرج محمد بن إسحاق الوارق المعروف بلبن أبي يعقوب النديم. فيض المنان بذكر دولة آل عثمان لمحمد البكري الصديقي. قوة العيون في أخبار اليمن الميمون لوجيه الدين الشيباني. القصيدة اللامية في تاريخ الدولة الإسلامية للشيخ صدر الدين الغزي وفيه شرح القصيدة. اللباب في معرفة الأنساب وهو مختصر كتاب الأنساب للسمعاني لابن الأثير الشيباني. مثير الغرام في فضل سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام لتاج الدين إسحاق ويليه فصول في مولد سيدنا موسى ويونس وما ورد في فضل الصحابة. محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر تلخيض كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل لعلي دده. المختصر في أخبار البشر للملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة. المذيل عَلَى الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية لشهاب الدين المقدسي المعروف بأبي شامة. المستجاد من فعلات الأجواد لأبي محسن بن علي التنوخي. المستقصى في فضائل المسجد الأقصى لنصر الدين المقدسي. مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام لشمس الدين المزالي. منايح الكرم في

أخبار البيت وولاة الحرم لتقي الدين الناسي. نبذة في أمور النقود الإسلامية للمقريزي. النجوم الزواهر في معرفة الأواخر لأحمد بن خليل الدمشقي الصالحي. اليمين في تاريخ عين الدولة السلطان محمود بن بكتكين للعتبي. الدر المنتظم في مناقب عارف الحكم لإبراهيم أفندي بن أحمد أفندي. تاريخ المدينة للمراغي. المحاضرات والمحاورات للإمام السيوطي وبخطه كتاب عجيب. أحمد إبراهيم خربوطلي. الكبريات أطول الأقنية في العالم أطول قناة في العالم قناة مونت سانت غوذرد (إيطاليا) طولها 48480 قدماً أو نحو عشرة أميال. وطول قناة مونت قينز (إيطاليا) 39840 قدماً أو نحو سبعة أميال. وطول قناة هوساكِ (ماستشوستس الولايات المتحدة) 25031 قدماً أو نحو أربعة أميال ونصف الميل. وطول قناة نوخستونغو 21659 قدماً أو نحو أربعة أميال. وطول قناة سيوترو 20028 قدماً أو أربعة أميال. وطول كل من قناتي بامسن وميدوي (إنكلترا) 1880 قدماً أو حوالى الميلين. أشهر جسور العالم جسر بروكلين - بوشر ببناء جسر بروكلين نيورك العظيم في سنة 1870 وأتم بناؤه في سنة 1883 وقد كلف خمسة عشر مليون دولار. جسر شلالات نياغارا - بني هذا الجسر الهائل فوق شلالات نياغارا الشهيرة (الولايات المتحدة) من الفولاذ طوله 910 أقدام وبلغ وزن الفولاذ الذي ذهب في سبيل بنائه اثني عشر ألف قنطار وبلغت نفقاته تسعمائة ألف دولار. ولهذه الشلالات العجيبة جسراً آخر شيد بين سنة 1852 وسنة 1853 طوله 821 قدماً ويعلو عن سطح البحر 245 قدماً ويتحمل ثقل أربعة آلاف وثمانمائة قنطار.

جسر الهافر - يبلغ طول ذلك الجسر 3271 قدماً وهو مقام عَلَى حجر سماقي من الصوان كلف عشرات الألوف من الدولارات. جسر بريطانيا - يقطع هذا الجسر الكبير ميناوالس عَلَى علو 103 أقدام عن سطح البحر طوله 1511 قدماً وقد أكمل في سنة 1850 وكلف 3008000 دولار. جسر لندن - بوشر ببناء جسر لندن الجديدة في سنة 1824 وأتم في سنة 1831 وشيد من الصوان وبلغت نفقاته 7291000 دولار. وهو أول جسر حجري أقيم في العالم. وجسر كولبرودال (إنكلترا) بني سنة 1779 وجسر بروتون (إنكلترا) البالغ طوله 1545 قدماً بني في القرن الثالث عشر للميلاد. جسر ريالتو (فينيقي) قيل أن بناء هذا الجسر هو عَلَى شكل أو هيئة الملك ميخائيل وهومبني من عقد واحد من الرخام طوله 890 قدماً ونصف قدم وأتم بناؤه في سنة 1591 وأما جسر سايز (فينيقي) القاطع مسافة بين دار المجرمين ومكان الإعدام فقد بني سنة 1589. جسر الثالوث الأقدس - بني هذا الجسر في (فلورنس) سنة 1569 من الرخام الأبيض طوله 322 قدماً ولا ند له من حيث إحكام الصنعة وجمال الفن. وجسر كوفد في (بافيا) بني في القرن الرابع عشر وله مئة عمود من الأعبل (الصوان) الجميل. جسر سنت لويس - هذا الجسر يقطع نهر ميسيسيبي العظيم في الولايات المتحدة طوله 1524 قدماً وعرضه 50 قدماً وله ثلاثة عقود كبرى من الفولاذ طول قطر وسطها 502 من الأقدام وارتفاعه 47 ونصف قدم وطول قطر العقد الثالث 502 من الأقدام وارتفاعه 46 قدماً ودعامات تلك العقود مركوزة عَلَى ركائز صخرية عَلَى عمق 136 قدماً في الماء. جسر شيكاغو - أقيم جسر شارع (رش) في شيكاغو (الولايات المتحدة) في سنة 1884 وكلف 132000 دولار وهو أكبر جسر يفتح ويغلق في العالم للتجارة العامة. جسر فكتوريا - بني هذا الجسر في مونتريال كندا وهو من اكبر وأشهر جسور العالم طوله نحو ميلين. جسر كليفلند أوهايو الولايات المتحدة طوله 3211 قدماً وعرضه 64 قدماً وسمكه 42

قدماً. أكبر أشجار العالم أكبر أشجار العالم هي في قضائي كلفرس ومربوسا كلفرنيا الولايات المتحدة اكتشفها لأول مرة صياد اسمه (دود) في ربيع سنة 1852 علو أصغرها 275 قدماً وعلو أكبرها 335 قدماً وقطرها 43 قدماً وهي غريبة الشكل ويبلغ عددها 427 شجرة. أكبر حدائق العالم أكبر حدائق العالم حديقة الصخر الأصفر في غربي الولايات المتحدة طولها من الشمال إلى الجنوب 65 ميلاً ومن الشرق إلى الغرب 55 ميلاً فتكون مساحتها 3575 ميلاً مربعاً وتعلو عن سطح البحر أكثر من ستة آلاف قدم ومشاهدها الطبيعية لا مثيل لها في الدنيا. علو أعظم الأنصاب والبنايات قدم 1000: علو برج إيفل (باريس). 555: نصب واشنطن الولايات المتحدة 545: بناية الأمة في فيلادلفيا 485: أهرام مصر 465: كاتدرائية انتيورب بلجيكا 474: كاتدرائية ستراسبورغ فرنسا قدم 448: كنيسة القديس بطرس رومية. 411: كنيسة مارتن لاندشت ألمانيا. 400: كاتدرائية سالبسري إنكلترا. 465: كنيسة القديس بولس لندن 386: كاتدرائية فلورنس إيطاليا 386: كنيسة فربورغ ألمانيا.

360: كاتدرائية سيفيل إسبانيا. 355: كاتدرائية ميلان لومباردي 365: كاتدرائية بورتست هولاندا. 284: كنيسة الثالوث الأقدس نيورك. 260: برج بروكتلي في نانكن الصين. 224: كنيسة نوتردام في باريس 221: نصب بانكرهل في مستشوشتس. 179: برج لنن في إيطاليا. 175: نصب واشنطن في بلتيمور الولايات المتحدة. 153: نصب فندوم في باريس. أوسع المعابد والدور في العالم نفس 54000 تسع كاتدرائية القديس بطرس في رومية. 37000: كاتدرائية ميلان. 32000: كنيسة القديس بولس في رومية. 25000: كاتدرائية القديس بولس في لندن. 24000: كاتدرائية كنيسة القديس بترونيو في بولفانا. 24000: كاتدرائية فلورنس في إيطاليا. 24000: كاتدرائية أنتيورب. 23000: جامع صوفيا في الآستانة. نفس 22000: كنيسة القديس يوحنا في رومية. 21000: كاتدرائية نوتردام في باريس. قدم 12000: كنيسة القديس ستيفن في فينا.

12000: كنيسة القديس دومينيك في بولفانا. 11400: كنيسة القديس بطرس في بولفانا. 11000: كاتدرائية فينا. 10000: كاتدرائية القديس بطرس في مونتريال. 8000: دار الخطابة في شيكاغو. أعلى جبال الدنيا 28170 جبل حملايا 25380: سوراتا أنداس. 21780: إليمانيا بوليفيا. 21444: خمبورازواكيدور. 20600: هند وأفغانستان. 19408: كوتوباكسي اكيودور. 19550: أنتسيانا أكيوردور 18000: سنت إيلياس أميركا 17735: بوبوكا تابتل المكسيك. 16000: راوا هاواي. 15900: بردن. 15776: مونت بلاس. 15700: موناروس أوياهي. 15550: روزا ألب ساروينيا. 15200: نبخينكا أكيوردور. 15000: هوتني كلفرنيا. قدم 14796: فيروز ألاسكا. 14450: نشاستا كلفرنيا.

14320: بيك بيك كلوريدو. 13800: أوفر سومطرة. 13570: فرومونت بيك وايامن. 13400: لونك بيك كانتوما. 13000: رايز واشنطن. 12700: أراراط أرمينية. 12236: بيك أوف تزف جزائر كناري. 12000: ميلتسن مراكش. 11570: هوادوريغن. 11542: سلبون ألب. 11000: حرمون سورية. 10950: بروديو فرنسا. 10158: القديسة هيلانة أوريفن. 10050: أتنا صقلية. 9754: أُليمبس اليونان. 9080: غوذار ألب. 8000: سينا بلاد العرب. 7677: بنديوس يونان. 5467: بلاك كالدونيا الجديدة. 6234: واشنطن نيو همشر. 5467: مارس نيورك. 4400: هياقلا أيسلندا. 4400: بني نفس سكوتلاند. 4280: مانسفيلد فرمونت. قدم

4260: أوترييكس فرجينيا. 4030: بن لورس سكوتلاند. 3850: بارناسيوس يونان. 3930: فيسنس نابلس. 3280: بن لوفند سكوتلاند. أعلى براكين العالم 23000 علو بركان شاهاما (بيريو). 21000: ليوليلك (شلي). 20500: أركيويبا (بيرو). 19813: كيامبي (أكيوردور). 19500: كوتوبكسي (بيرو). 19200: أنتسينا (أكيوردور). 18150: سان جوزي (شيلي). 17900: سنت إيلياس (ألاسكا). 17884: بوبكاتبتل (المكسيك). 17370: أوزبزابا (المكسيك). 17126: القبار (أكيوردور). 17120: سانفي (أكيوردور). 16512: كانتخيوسكيا (كامتخاكا). 15700: أزتا كيون (المكسيك). 15500: توليكا (المكسيك). 14400: شاستا (الولايات المتحدة). 14000: فيجياما (يابان). 13953: مايوناكيا (جزائر سندوش). 13760: مايانالوا (جزائر سندوش).

12236: تاتريفي (جزائر كناري). قدم 12000: القديسة هيلانة (الولايات المتحدة). 11225: هود (الولايات المتحدة). 10850: تاهيتي بيك (جزائر فرندلي). 10874: أتنا (صقلية). ومن البراكين المشهورة في جميع أصقاع العالم بركان فيزوف علوه 3978 قدماً وبركان هيكلا علوه 1970 قدماً وبركان سترمبولي علوه 3000 قدم. لنكلن نبراسكا (الولايات المتحدة): يوسف جرجس زخم. المسكرات في أوربا صارت المسكرات في أوربا كأنها سيل جحاف لا يرد أو طاعون مبيد لا يدفع وذلك عَلَى رغم الجمعيات المقاومة لها والوعاظ الناهين عنها وتقاويم الطب الدالة عَلَى شدة فتكها وعظم تأثيرها ولذلك ربما تنحط أوربا فيما بعد بسببها انحطاطاً شديداً لا يدفعها عنها كل هذا العلم الشامل ولا كل هذه الاختراعات العامة. ولقد انبرى أحد الكتاب لذكر هذا الخطر الوبيل وبيان تأثيره في الشعوب والممالك عَلَى ما عربه البصير فكانت إنكلترا في مقدمة ما ذكر لكثرة اشتهارها بالخمر وإدمان شعبها إياها ولكنه أشار إلى كون السكر قد اخذ يتناقص فيها بمساعي الحكومة نفسها دون الجمعيات وذلك لأنها فرضت عَلَى استخراج الخمر ضرائب شديدة فغلا ثمنها وقل المستخرج منها ولكن ويله مع ذلك يكون شديداً فيها لأن أهلها ينفقون عليها كل سنة نحو 155 مليون كما أنهم ينفقون من أرواحهم ما ينطبق عَلَى ذاك المقدار الجسيم ولهذا أخذ عددهم يقل وتناسلهم يضعف. ثم أشار إلى ألمانيا فذكر أن الخطر وذلك لأن أهلها ينفقون في السنة عَلَى خمورهم 150 مليون جنيه مع أنهم أقل ثروة من الشعب الإنكليزي كما أنه قد تبين من أمرهم أن الخمر بينهم عَلَى ازدياد متصل فإنه بعد أن كان الفرد منهم يستهلك 30 ليتراً من الجعة في سنة

1903 صار الآن يستهلك 124 ليتراً بزيادة 37 بالمئة وقد دلت أحوالها الحاضرة عَلَى أن المستهلك فيها يزيد كل سنة 40 ليتراً لكل فرد من أهلها وهو ما ينسبونه إلى شدة التساهل من الحكومة بل إلى ترغيبها وتسويقها لأنها تجد من الخمور مورداً عظيماً لها يعينها عَلَى الإنفاق الحربي كما أن نفس الشعب الألماني شديد الميل إلى الشرب ولذلك روي عن بسمارك أنه قال مرة أن الذي لا يشرب الجعة لا يعد إنساناً وقد اجتمع مرةً بكريستي وزير إيطاليا قديماً وكان لا يشرب فقال له: عجب كيف أنت سياسي ولا تشرب. ومما يقوله ذاك الكاتب أن بلجيكا تعتبر أشد الممالك استهلاكاً للخمور ولاسيما الجعة التي تفوقها المملكة ولذلك ارتاعت حكومتها للأمر وأخذت تساعد جمعيات المنع بكل جهدها حتى أنها تمد جرائدها بالإسعاف وتعفيها من رسوم البريد قصد أن تزداد انتشاراً بين الرعية ويزداد خوفهم من عواقب ما يفعلون. أما سويسرا فالأمر فيها أشد لأن أهلها يميلون إلى الكحول أكثر منهم إلى الخمور ولذلك حدثوا عنها أنه يموت بها10 بالمئة من شبابها الذين فوق العشرين وإن 40 بالمئة من جرائمها تنسب إلى السكر. ولكن الدانمرك أشد منها ويلاً فإنه يموت من شبانها 22 بالمئة وقد جن فيها سنة 1899 - 1694 نفساً كان منهم 352 بسبب الخمور كما ظهر أن 43 بالمئة من جرائمها منسوب إلى السكر وعواقبه. أما إيطاليا فلم يذكر عنها تقويماً ولكنه أشار إلى أن السكر يتزايد فيها بازدياد غنى أهلها عَلَى حين مشهور أن الفقير هو الذي يشرب لأن أوقاته أطول وهمومه أكثر. أما فرنسا فقد ذكرت عنها أنها كانت من 50 سنة معدودة أقل الممالك استهلاكاً للخمر فصارت الآن في مقدمتها وذلك بسبب الإبسنت وحده فإنه عَلَى انتشار عظيم كما أنه مشروب شديد الفتك والأذى فقد كان الفرنسوي الفرد لا يشرب في السنة كلها منذ 50 سنة إلا ثلاثة بينتات ونصف (البينت 150 درهماً) فضار الآن يشرب 70 بينتاً قوة كحولها مئة درجة وهو مقدار يعادل 156 بينتاً من الكونياك. ولقد كان في فرنسا منذ 30 سنة خمارة واحدة لكل 109 من سكانها فصار الآن يوجد فيها خمارة لكل 40 نفساً. وقد بلغ عدد حانات باريس وحدها حسب التقويم الأخير 30 ألفاً مع لندن التي تبلغ ضعفيها لا يزيد عدد الخمارات عن ستة آلاف. ومما ذكره عن تأثير السكر

في فرنسا أنه يموت فيها كل سنة 50 ألف نفس بالسل الرئوي وقد ذكر الأطباء أن أكثر هذا العدد يذهب في ذمة السكر ولولاه لكان السل ضعيفاً بسبب انتشار معرفة الصحة بين الجميع. ويقال أنه يندر أن يمضي يوم دون أن يسقط في شوارعها عدة أناس موتى فجأة بسبب تأثير الإبسنت بالخصوص. أما أسوج ونروج فإنهما أقل الممالك سكراً لن حكومتيهما تقاومه بشدة وقد يكون ذلك لأنهما اقل الدول تجهيزاً واستعدادً للحرب عَلَى خلاف سائر أوربا فإن اضطرارها الدائم للاستعداد قد صير أهلها عَلَى حرب دائمة مع الخمر لأنها تقف معها عَلَى الحياد ولا تفصل بينهما ولذلك تقتل الخمر من أبنائها من أجل ما يسمونه (السلم المسلح) أكثر ممن تقتلهم الحروب الحقيقية كحرب طرابلس الحاضرة فإنه لو نظر إلى عدد الذين يسقطون من قتلاها كل يوم ونظر إلى عدد الذين يسقطون بالسكر في المستشفيات والشوارع لكان عدد قتلى الخمر أكثر عدداً من غرقى البحار لأن التقاويم تدل عَلَى صدق ما قال. أما الخطر الذي يحيق بأوربا الآن فليس من تأثير الخمر مباشرة بل من تأثيرها غير مباشرة وذلك أنه تبين للباحثين أن مدمني الخمر يلدون ابناء ميالين إليها كما أن أكثر مواليدها يكونون ضعافاً ليس في أجسادهم قوة لمقومة السقم. وقد قال أحد الباحثين أن الذين تظفر بهم الشرطة من السكيرين والمجرمين بسبب السكر إنما هم أقل جداً من الذين يظفر بهم الأطباء وسائر الناس أي أن الخمر لا يفضي إلى ما يتعلق بالشرطة والحكم العمومي إلا جزءاً يسيراً من أفضالها إلى الخبال التدريجي وضعف الذاكرة فضلاً عن الانتحار ولذلك أجمعوا عَلَى أن السكير يؤذي نفسه أكثر جداً مما يؤذي سواه. ومما حدثوه أيضاً عن الخمور الطبيعية كالنبيذ أو المصنوعة كالجعة إنها لا تؤذي بل قد تعد أحياناً داخلة ضمن الغذاء لأن نسبة الكحول فيها إلى الماء وسائر المواد الممتزجة بها تعد نسبة مقبولة بخلاف الكحول كالإبسنت والويسكي والكونياك وسائر المستقطرات القوية فإنه لم يثبت لهم أنها تكون غذاء للجسم إلا من جهة كونها تحترق فداء عما كان يجب أن يحترق من الطعام نفسه أي أنها تحترق في الجسم كما يحترق المنديل المبلول بالسبيرتو فإنه حين يشتعل لا يحترق منه أولاً إلا السبيرتو ويبقى المنديل سليماً فكان السبيرتو بذلك قد رد عن المنديل خطر الاحتراق إذ قام للنار مقامه ولكن المنديل مع بقاءه سليماً يصير

متشوهاً ضعيف النسيج وعلى مثل هذا يكون الإنسان الذي يغذي جسمه بالكحول دون الطعام. الزواج الهندي يعتبرون الزواج في بلاد الهند من الضروريات المبرمة التي تلحق تبعتها الأبوين ولذلك ظهر من إحصاءٍ أخير أن 250 ألفاً من البنات ممن لم يتجاوزن الخامسة قد عقدن لهن وتزوجن ومليونان من الفتيات الهنديات أصبحن زوجات قبل العاشرة من سنهن وستة ملايين ممن تختلف أعمارهن من 10 إلى 15 وتسعة ملايين بين سن الـ 15 والـ 20 ومعلوم أن الخطبة والاحتفال بها متى انتهى لا تسلم الفتاة لعروسها قبل العاشرة أو الثانية عشر من عمرها وبذلك كثير ما تشاهد في الهند أمهات في الثالثة عشرة وجدات في الخامسة والعشرين. حماية الأطفال في إنكلترا ألف القس بنيامين واف جمعية لحماية الأطفال من سوء معاملة الوالدين لأن كثيرين من هؤلاء يجورون عَلَى أولادهم ولا يصل إلى المحاكم إلا ما قل من هذه الحوادث وهي تحكم فيها بشدة وتفرض العقوبات الرادعة عَلَى الوالدين غير أن ذلك لم يفد في تدارك الخلل إذ نذر من الأطفال من يجرأ عَلَى شكوى والديه فتألفت هذه الجمعية لتتخلل البيوت وتنقذ الأولاد من خشونة المعاملة والجور والقسوة. أولاد الإنكليز سنت إنكلترا مؤخراً قانوناً جديداً لحماية الأطفال فقضت أن يغرم بخمسة عشرة ليرة إنكليزية كل والد أو والدة يترك ابنه في غرفة فيها نار مشتعلة وكل والدين يحملان ابنهما أو ابنتهما عَلَى الكدية ويمنع رجال الشرطة الفتيان والفتيات من استعمال الدخان إن لم تتجاوز سنهم السادسة عشرة وكذلك يحظر عَلَى كل طفل أن يدخل حانة إن لم يكن تجاوز الرابعة عشرة من عمره. الصحافة في العالم تعد أميركا في مقدمة الدول بالنسبة لكثرة عدد الصحف فيها ففي الولايات المتحدة 21435

جريدة منها 2500 يومية ومن هذه 700 تطبع باللغة الألمانية و20 باللغة الهولاندية والبقية بالإنكليزية. ويبلغ ثمن الورق الذي تنفقه الصحافة الأميركية 130 ميلوناً من الفرنكات في العام ويبلغ دخلها السنوي 900 مليون من الفرنكات منها 450 ميلوناً قيمة البيع والاشتراكات و500 مليون قيمة أجور الإعلانات. وفي كندا يبلغ عدد الجرائد 1200 منها مائة يومية وفي كل جمهوريات المكسيك والبرازيل وشيلي 300 وفي الجمهورية الفضية 750 وفي جمهورية فنزويلا 170 وفي جمهورية خط الاستواء 20. أما في أوربا فظهر في ألمانيا عشرة آلاف جريدة منها 1500 يومية ثم تليها فرنسا وفي النمسا 5600 وفي إنكلترا 4400 منها 230 يومية وفي البلجيك 2000 منها عدداً كبيراً يصدر يومياً. وفي إيطاليا 3500 منها مائة يومية وفي إسبانيا 2000 وفي روسيا 2000 منها 200 يومية. وفي سويسرا 1200 منها 800 باللغة الألمانية و350 باللغة الفرنسوية و50 باللغة الإيطالية وفي الدانيمرك 1450 وفي أسوج 1000 وفي هولاندا 2000 وفي نروج 600 وفي العثمانية 300 وفي اليونان 160 وفي بلغاريا والبرتغال والصرب أقل من مائة جريدة وفي اليابان 3000 منها 400 يومية أما في مصر والجزائر وأفريقية الجنوبية فالصحف قليلة وفي أوستراليا 1000 وفي الهند الإنكليزية 1800 وفي سيبريا 20 وأما في الصين فلم يتيسر إحصاء جرائدها بوجه التقريب وغنما يقال أن لكل مليونين فيها جريدة واحدة لأن فيها نحو مئتي جريدة. واجب المدرسة من المسائل التي لا ينازع عليها منازع أن من واجب المدرسة أن يعتني بها عناية عنايتها بالتعليم وأن المدارس تؤثر في الأخلاق كما تؤثر في العقول وإذ كان هذا التأثير حاصلاً فالواجب أن يكون تأثيراً صالحاً وهناك الصعوبة في هذا الشأن. ومن النظريات التي وضعها كبار أرباب العقول الراجحة في القرن الماضي أن نور العلم وحده يحرر العقل البشري من رقه ويسعده ويصلحه ولكي تقوم المدرسة بواجبها في التربية يقتضي لها أن تقرن التربية بالتعليم بقطع النظر عن التمييز بينهما فهي بتثقيفها العقل وتدريسها القضايا العلمية والنسب بينها يتأتى لها أن تقول أنها تعمل في تربية الإردَة.

ولا جرم أن حل مسألة التربية في المدرسة من المسائل التي لا تنحل بسرعة فقد تساءل روسو في القرن الثامن عشر عما إذا كان النجاح العقلي ينتج الارتقاء الأخلاقي وزعم أن المدنية إذا أرادت الحصول عَلَى نتيجة حسنة بتحرير المرء من أوهام غريزية وتحويله إلى عاقل حر عليها أن يقول القول الفصل فيها لغايات الأخلاق في الطبيعة الإنسانية وقد دلت التجربة وأحكام العقل أن التعليم صناعة يحسن ويقبح استخدامها كاللسان في مكنة التعليم أن تكون منه مادة للتربية ليست فيه ولذا كان من اللائق أن تعنى المدرسة بمهمتين مزدوجتين وأعني بهما التربية والتعليم وتعمد إلى اتخاذ الطرق الجديرة بكل منهما علينا أن نربي لا أن نقف عند حد التعليم وعند ذلك ينبغي لنا أن ننزل البيت والمجتمع منزلتهما من التأثير لا أن نعمل عَلَى تربية وجدان الطفل في المدرسة فقط. ويرى بعضهم أن تناط التربية بالحكومة تسن نظامها وهذا الاحتكار الضار الذي يسود التربية في عيون الأبناء وما التسلط عَلَى فكر الولد وعقله بالشيء المحمود أيضاً فالواجب عَلَى المربي أن ينشئ رجالاً قادرين عَلَى التفكر وأن يسيروا بأنفسهم لأنفسهم عَلَى نظام الأخلاق مدفوعين بعامل الواجب وأن تصح إرادتهم عَلَى ذلك بحيث يشعرون بأنهم يعملون في هذا الشأن أحراراً. يجب أن لا يفوتنا أن عقل الطفل فارغ من الأفكار وأن ميله إلى أن يكون رجلاً مذكوراً مما يستميله ويغويه. ويتأثر ضعفي تأثره إذا أضفت إلى عمله الطبيعي في التعليم بما يمتعه بالحرية الشخصية فإنه يتلقن أفكاره عَلَى أيسر سبيل بل بشوق عظيم ويرى نفسه أنها أفكاره بعينها ويدعيها لنفسه. يصبح عَلَى مثل حال الرجل الذي ينومه رجل بارع بالتنويم المغناطيسي فتكون إرادته إرادة منومة. هذه هي العثرة التي يجب عدم الاصطدام بها وآكد الطرق أن لا يقترب من تربية الضمير إلا باحتراز شديد لأن المدرسة لا ينبغي لها أن توهم الأسرة والمجتمع بأن يستندا إليها فقط في تربية أولادهما بل إن المدرسة تساعد عَلَى ذلك بكل ما فيها من قوة عَلَى صورة مساعدة معاونة لا مربية مسؤولة وحدها. هب أن المعلمين كانوا من أخيار الناس وهذا مما يجب حتماً - في أخلاقهم - وأن حياهم وأشخاصهم وحشمتهم في مهنتهم وكل أعمالهم وأقوالهم كل ذلك يكون منه تعليم أدبي نافع ألا وهو التعليم بالقدوة والمثال ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد لأن بين التعليم الذي هو مهذب مباشرة وبالضرورة وبين التربية التي ينظر إليها بأنها منفصلة عن التعليم نقطة

متوسطة ألا وهي التربية بالتعليم وهذا هو من واجب المعلم فإن وظيفته أن يعلم لا أن يعظ ولكن من مواد التعليم ما له علاقة بالأخلاق مباشرة فيجب والحالة هذه أن لا يفوتنا أن المعرفة ليست أمراً عظيماً ولكن الفائدة في العمل وشتان بين درس استظهره التلميذ بلا غلط وبين الجهد في تطبيق ما تعلمه بالعمل. فقد قال سقراط أن من تشبع بعلم الخير تشبعاً حقيقياً لا يلبث أن يتقدم إلى العمل به. لا جرم أن كل علم لا يؤَثر بحيث يجعل الإنسان أحسن مما هو ولكن علم الأخلاق الصرف هو عامل مهم يؤثر في حياة المرء ويكون ذلك أشد أثراً فيه إذا رأى أساتذته يطبقون بأنفسهم خطتهم عَلَى تعليمهم. ولقائل أن يقول أي التعاليم يجب أن يعملها الأستاذ هل التعاليم النظرية أمثال تعاليم أرسطو وكانت. أنا أقدر هذه التعاليم قدرها ولكن المدار في تربية الطفل اليوم عَلَى تعليمه معنى الحياة لا الفكر لأن تعاليم ذيتك الفيلسوفين قد لا تقبلهما عقول ليس لها عهد بالتمرن وهذه المبادئ هي الواجب والسعادة والحشمة والحق والحرية والسرور والمصلحة والتكافل والجهاد في الحياة والحياة الاجتماعية والمساواة والحياة الوطنية. أمور كلها تبقى بدون أن يتغلب فيها فرع عَلَى آخر وإذا كانت نظريات مجردة تبقى إلى الإبهام والغموض عرضة للأهواء في تبدلها وللأشخاص في حظوظهم فقد قال ديكارت أن الأخلاق إذا أُريد بها منطوقها لا يتأتى لها تجيء إلا بعد جميع العلوم وكيف تكون الأخلاق تامة والعلوم لا تزال في طور الاتقاء لم تمم وهل يرجى التمام من نقص وأفضل الأساليب يتخذها من يريد في الحياة فلاحة أن يعمل بما يجري عليه أهل العرض والشرف في حياتهم الحقيقية وبعد فإنا كما نلجأ إلى مهندس في حل مسالة في الميكانيكات العملية فنحن أحرى بأن نشاور من صناعته علم الأخلاق والواجبات للحصول عَلَى حل مسالة أخلاقية ولكن لفكرنا الذي تتطلبه الحياة بنظرنا وحديثنا ومطالعتنا ومعلوماتنا علاقة ببعض الأفكار تتراءى لنا أنها أهم وأصدق وأجمل وأكثر متانة من غيرها ومن هذه الأفكار نؤلف قانوناً نرى من الواجب أن لا نخونه وكلما اتسعت معلوماتنا وذهننا يتسع أساس أخلاقنا ويعظم جهادنا ليكون لها اتساق وتماسك. إن رجل العمل يعلم جد العلم أن الخير مناط بالشر في كل شيءٍ فيتقبل كل ذلك صبرة واحدة عَلَى شرط أن يكون الخير متغلباً عَلَى نقيضه. ولا يسع المربي إلا أن يعلم ما هو

موضوع قصورنا في الحياة الحقيقية فهو يأخذ أجمل التعابير عن الضمير الأدبي وامتنها عَلَى مثال الرجل الذي يعمل ويرى في حجر المجتمع ويبحث عن التوفيق بينها ويوقن بأن المدنية التي اكتفى بها اليونان لا تكفي ابناء العصر الحديث وأن هؤلاء يرون أيضاً أموراً جميلة في ذاتها في الأسرة والأخوة الإنسانية والعلم والعدل واحترام الشعور والحرية والعمل والمساواة ويلقي في العقول إن أحسن سلوك هو ما يوفق بين المصالح ويقلل من الأضرار ويتجنب إلقاء الأفكار غير العملية في الأمور الجازم بها وهو يعلم أن أعمال الإنسان كلها يتطرق إليها الخلل من بعض الجهات فالاقتصار عَلَى حفظ الجيد منها من كل وجه يكون منه الحكم عليها كلها. قال أرسطو الرجل الصالح هو بذاته قاعدة الفضيلة ومقياسها ولذلك كان خير الأخلاق ما علم بالعمل قبل النظر وخير المعلمين من لم يستند عَلَى فكره وما تفضله نفسه بل من يعم في قوله ولا يخصص يتكلم ما يستحب سماعه الكل فيقول لمستمعيه هذا خير وهذا شر كما يقول رب الأسرة هذا لا يعمل ويجب أن يعمل بهذا. إلا وأن الحكمة الصالحة لتنطبع في الذهن وتتردد في الخاطر وتختلط بأجزاء النفس بلطف تركيبها واتساع فكرها ويكون لنا منها باعث أو مبدأ للعمل ومادة للإرادة فعلى المعلم الذي يريد أن يحسن التربية أن يملي عَلَى تلامذته كل يوم قطعة فيها عمل صالح أو حكمة شريفة مستخرجة من متن الدين والأخلاق والآداب الإنسانية يتعلمها الأولاد ويستظهرونها ويشرحها لهم الأستاذ ويستخرج منها مادة الحكمة ولم يعمل كبار الوعاظ عملاً سوى أنهم شرحوا حكم التنزيل. وما التربية الخالصة الساذجة إلا التي تصل إلى غايتها بدون تصنع بل بالوسائط التي يوحيها العقل أو الحب أو يعلمها النظر والاختبار ويتأفف بعض مشاهير علم التربية والتعليم من هذه الطرق الطبيعية ويحاولون أن يحلوا محلها الأساليب العلمية والصناعية فيرون أن الولد يطبع عَلَى نحو ما يريد مطبعه وأن الغاية تبرر الواسطة ولذلك لا يرون باساً باستعمال الحيل معه والكذب النافع عليه قال لوك (فيلسوف إنكليزي 1704) إذا أردت أن تأخذ بيد الأطفال للبحث عما ينفعهم فعليك أن تقدم بين أيديهم ما تريد تلقينهم إياه عَلَى نحو ما تقدم المسليات لا كما تعرض الواجبات وحتى يوقنوا أنك لا تتحزب لفكر

خاص عليك أن تنفرهم من كل ما تريد أن يتقوه وذلك بحملهم عَلَى عمله بأساليب تستعملها حتى يتبعوا ويستسلموا لما تقرر لهم. إنك إذا شاهدت ابنك يلعب كثيراً بالخذروف (الدوامة) فمره أن يلعب به عدة ساعات من النهار فلا يلبث أن يمل ويترك هذه التسلية فإذا عرفت أن تلقي في نفسه عَلَى هذه الصورة كراهية الألعاب التي يحبها فصور لها العمل في صورة الأمر فلا تعتم أن تراه في الحال يرجع من ذاته فرحاً نحو الأمور التي تريد أن يحبها ولاسيما إذا عرضتها عليه في مظهر المكافأة لعمله للقيام بواجب اللعب الذي تأمره به وكيف يكون له من نفسه دافع وحماسة لطلب كتبه إذا وعدته بها جزاء تعجله في ضرب خذروفه خلال الوقت المعين للعب. أراد روسو أن يعلم إميلاً أصل التملك فأودع في نفسه أن يزرع حديقة فعمل معه لا إجابة لهوى نفس إميل بل إجابة لهواه كما اعتقد إميل ذلك وأصبح معه كأنه أجير فدهش إميل عندما رأى البقلاء تنبت فقال له المربي إن هذا لك فإن هذه الأرض شيئاً منك لك أن تطالب، أياً كان ورأى البقلاء ذات يوم مقلوعة والأرض محروثة فصاح يا للمصاب ويا لليأس ولدى البحث ومشاركة الطفل في الماء تبين أن البستاني هو الذي قطع البقلاء ولما سئل عن ذلك أجاب أي حق لكم أيها السادة أن تتدعوا ما هو ملكي وتزرعوا في أرضي البقلاء بدل البطيخ غني أمنعكم فيما بعد أن تتنزهوا في حديقتي. وبهذا تم للمربي ما أراد من تعليم إميل معنى الملك. ويرى بازدوو (أخلاقي ألماني 1790) أن لا تحدد حرية اللعب في الأولاد بل أن يعمل المعلم بحيث لا يختار الأولاد ألعاباً أخرى غير التي يريد أن يراهم يدرسونها وأن تحدد رغائب الولد وقمع نفسه عَلَى ما يكره فيمنع عنه الشيء ولا يقال له السبب في منعه فإذا كان لا يحب اللعبة الفلانية يكره عَلَى لعبها أو الأكلة الفلانية يجوَّع ولا يقدم له غيرها وهكذا حتى يعتاد الحرمان والتقشف وهذا ما سماه بالرجوع إلى الطبيعة بيد أن الواجب أن يجعل الأولاد أمام الحقائق وجهاً ولجه لا أمام أشباح مصنعة في التربية. والحقيقة وحدها حرية بأن تعرض عليهم ولها قوة النفوذ إلى عقولهم وأي فرق في التأثير بين تعليم ينظر فيه للأشياء كأنها ألفاظ وبين تعليم يبحث فيه تحت الألفاظ عن الأشياء فالقانون الذي يجب العمل به هو أن يكون المربي رجلاً ويحسن تربية الرجال أي الأطفال بتقريبهم من حجر

الإنسانية. اليمن والدولة العلية من الأخبار التي لها علاقة كبرى بالاجتماع والعمران في هذه الديار الاتفاق الذي وقع بين الإمام يحيى إمام الزيدية في اليمن وعزت باشا قائد اليمن العام بعد أن تكبدت الأمة والدولة أموالاً وأرواحاً عشرات السنين واليك نص الوفاق ليحفظ في التاريخ وثيقة: بسم الله الرحمن الرحيم 1 - يجري الوفاق بين حضرة سمو الإمام المتوكل عَلَى رب العالمين يحيى بن محمد بن حميد الدين وبين حضرة صاحب العطوفة قائد الحملة اليمانية عزت باشا المأذون من طرف الحكومة السنية عَلَى الوجه الآتي ويكون تصديقه من المرجع العالي وذلك فيما تصلح به أحوال جبال اليمن الآتي بيانها التي تجري فيها الآن إدارة الحكومة السنية العثمانية فعلاً وهي لواء صنعاء وما يحويه من أقضية صنعاء وعمران وحجة وكوكبان وحراز وما عدا صفعان وابن مقاتل ثم آنس وذمار وبريم ورداع ومن بلواء تعز من الزيديين إن كانوا نصف الناحية فصاعداً. 2 - يكون أجزاء الأحكام الشرعية بين المتحاكمين ممن يسكن البلدان المذكورة آنفاص في جميع المواد وإقامة الحدود عَلَى كل مرتكب لأسبابها كل ذلك عَلَى المذهب الزيدي ويكون تعيين الحكام وتبديلهم من قبل الإمام وذلك بأن يكتب الإمام للولاية كتاباً بتعيينهم وتطلب الولاية تصديق ذلك من الآستانة عَلَى أن لا تتأخر مباشرتهم الوظيفة عندما يكتب الإمام وتنفذ الحكومة جميع الأحكام التي تصدر من حكام الشرع ابتداءً ومن حكم الاستئناف إن لم يقنع المحكوم عليه وطلب الاستئناف. 3 - إذا لم تظلم أحد من محكمة الاستئناف واشتكى إلى الإمام يسأل سمو الإمام الحكومة عن حقيقة ذلك وإذا ظهر صدقه عَلَى صحته تظلمه أعيدت المحكمة. 4 - تؤلف محكمة الاستئناف في مركز الولاية من رئيس وأعضاء ينتخبهم الإمام وكما يصدق عَلَى تعيين الحكام يصدق عَلَى تعينهم. 5 - إذا حكمت محكمة الاستئناف عَلَى الوجه المتقدم ذكره بالقصاص الشرعي الذي هو إعدام شخص قاتل قد لاستحق الحكم عليه بالإعدام شرعاً فعلى الحاكم أن يسعى أولاً في

طلب العفو عن القاتل من ورثة القتيل أو إرضائهم بقبول الدية من القاتل فإن لم يساعدوه رفعت المحكمة الاستئنافية الأمر إلى الآستانة وطلبت الإذن بإجراء القصاص بعد التصريح بأن الحاكم قد بذل مجهوده عند الورثة في طلب العفو وقبول الدية فلم يعفوه بشرط أن لا تزيد مدة صدور الإرادة في ذلك عَلَى أربعة أشهر من وقت إرسال تقرير المحكمة المذكورة. 6 - عند ظهور ما يستوجب تبديل الحاكم من سوء حاله فعلى الولاية أن تخبر الإمام بذلك مع تبيين الأسباب الموجبة لتبديله والدلائل الشرعية وعلى الإمام أن يبدل ذلك القاضي. 7 - للحكومة حق أن تنصب قضاة يحكمون بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بين من كان حنفياً من غير أهل جبال اليمن. 8 - إذا حصلت دعوى بين زيدي وآخر من أهل المذاهب الأخرى الإسلامية من غير أهل الجبال يكون الرجوع في تلك الدعوة إلى محكمة مختلطة تتألف من زيديين وحنفيين وإذا اختلفت القضاة في الحكم فالمعتبر حكم القاضي الذي من جهة المدعى عليه. 9 - للقضاة المعينين في النواحي والأقضية أن يتخذوا لهم معاونين ممن يثقون بهم تستخدمونهم في أمورهم والمحافظة عَلَى أنفسهم في إحضار الخصوم عَلَى شرط أن لا يزيد عددهم عن ستة رجال في النواحي وثلاثة في الأقضية وعلى والحكومة أن تؤدي لهم رواتبهم بصفة مباشرين أو شرطيين أما إذا كان هؤلاء غير كافين فالحكومة تمدهم بمعاونين من رجال الضبط بحسب ما تقتضيه الحال. 10 - ولاية الأوقاف والوصايا إلى الإمام. 11 - تعفو الحكومة السنية عن كل ما سبق من أهالي الجبال المذكورة من الجرائم والبقايا المقيدة إلى تاريخ هذا المقرر والمقصود من الجرائم هي السياسية التي وقعت أثناء الحرب وتفرعاتها. 12 - تعفو الحكومة السنية مثل عفوها عن أهل الجبال عن جميع السوابق والجرائم والبقايا في خولان ونهم وأرحب مطلقاً وتعفو عن مقطوعيتهم إلى مدة عشر سنين بشرط توقف أهل هذه الجهات عن كل ما يورث نقصاً في جانب مأموري الحكومة وعن التعرض لما يخل بالأمن العام في الطرق فإن حصل من أحد منهم أو جماعة منهم مخالفة لما ذكر

أدب المخالف بخصوصه بما يستحقه شرعاًً وإذا صدرت المخالفة من أهل بلدٍ أو جهة بالاتفاق وثبت ذلك عليهم لزم تأديبهم وسقطوا من مزية استحقاق العفو فيما بعد. 13 - لا يطالب أحد من أهالي الجبال المذكورة بشيء غير التكاليف الشرعية الاعيار (بالخرص) والأغنام وبقية النعام بالنصاب الشرعي. 14 - إذا وقعت شكاية إلى الحكومة أو إلى حاكم الجهة المعين بنصب الإمام من ظلم الجباة والحراصين (العشارين) أو تبين من هؤلاء شيء من سوء الاستعمال لزم أولاً تحقق الأمر من جهة الحاكم وأكبر موظف في الحكومة المحلية وما ثبت بوجه شرعي كان الحكم به والإجراء من الحكومة. 15 - لا مانع لمن أراد أن يعطي الإمام شيئاً عن طيبة خاطر وذلك أن يسلمه لسمو الإمام رأساً أو إلى مأموري الأوقاف أو أمناء الأراضي المرتبطة بالإمام أو بواسطة مشايخ الدولة المختارين من الأهالي أو بواسطة الحكام. 16 - للإمام أن يأخذ بواسطة من يأتمنهم حاصلات الأراضي المرتبطة به وتأخذ الحكومة السنية أعشارها الشرعية. 17 - ناحية الحبل الشرقي التابعة لقضاء آتس المؤلفة من العزل التي هي جبل الشرق وينو قشيب وبنو اسعد والمناورة وبنو خالد وبنو سويد تعفى من جميع التكاليف مدة عشر سنين وبعد انقضاء هذه المدة فعليها أن تؤدي للحكومة الأعشار وسائر التكاليف الشرعية مثل غيرها من محلات الجبال. 18 - يطلق الإمام من عنده من رهائن جوار صنعاء وهي بنو الحارب وبنو حشيش وهمدان وبلاد البستان وسنحان وبلاد الروس وبنو بهلول وكذلك رهائن لأهل حراز وعمران. 19 - تأمين أصحاب الإمام وأصحاب الحكومة وسائر الناس في ذهابهم وإيابهم بتجارة أو غيرها وإذا اتهم أحد من الذين يدورون لاكتساب المعيشة بالسعي لما يسلب راحة الناس قبض عليه وسلم إلى حاكم الشرعية لتحقيق حاله. 20 - بعض إمضاء هذا الوفاق لا يتعدى فريق عَلَى الآخر في ما هو في إدارته الآن. حرر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف عربية

وفي السابع من تشرين الأول سنة سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف رومية اهـ. الإصلاح المدرسي يشتغل علماء التربية في النمسا منذ سنين في إصلاح التعليم الثانوي والابتدائي فقرروا بعد البحث والنزر أن يكون الإصلاح أولاً بتطبيق التعليم عَلَى حاجيات الحياة الحديثة وأن تقل تمارين الذاكرة. وإذ كان التهذيب العام ينشئ شخصيات قوية فإن التهذيب الخاص هو الذي يمكن الطالب من أن يكون له ثمرة من تعليمه فالواجب الإقلال من العلوم وإن تضاعفت العناية بالعمليات وأن يقل الخضوع الأعمى وتكثر الحرية الذاتية والشخصية وبذلك يتيسر للطالب أن يكون لسرته عوناً بدىً من أن يكون مدة سنين عبئاً ثقيلاً عليها وهذا يتم بمعاونة ألياء التلامذة ومراقبتهم فيما يتعلمون فلا يتركون أولادهم وشأنهم يختارون من الصناعات ما يروقهم ومن المواد ما يسهل عليهم بل بل يهيئون ليتأتى لعقولهم أن تقبل أنواع البناء عليها للانتفاع منها. أفكار الشبان وضع أحد المولعين بالإحصاء سؤالاً عرضه عَلَى نحو ستمائة أستاذ من أساتذة الكليات في فرنسا وهو بأي رجل من رجال التاريخ أو أهل العصر الحاضر أو الأشخاص الذين تعرفهم تحب أن تتشبه وما السبب في ذلك. فأجاب عليه 1600 طالب عَلَى اختلاف تفسيرهم الموضوع المقترح فبعضهم اختار أن يتشبهة برجال من أهل محيطه مثل أحد أترابه أو أقربائه ولاسيما أخواله أو معلموه وبعضهم آثر أن يتعلم الصنعة الفلانية فمن هؤلاء 380 تلميذاً فهموا السؤال كذلك فاختار منهم 58 تلميذاً الجندية و50 الزراعة و37 الطب و30 الهندسة و40 التجارة وقليل منهم اختار التوظف والمحاماة والأدب. وستمائة طالب رأوا أن يكونوا كأحد رجال التاريخ فوزعوا أصواتهم بين أقدم رجال العصور الغابرة إلى عهدنا هذا فبدأوا بأورفيس وسقراط وانتهوا بلوتي ولبين وفيهم الشعراء والقصصيون والأمراء ورجال السياسة والقواد والأقوياء والبطال وكان ذلك لباستور 57 صوتاً ولنابليون 42 ولفكتور هوغو 36 وللاماتين 18 ولغاميتا 17 وقد تبين لجامع هذه الآراء التي لا تتجاوز أعمار كاتبيها الخامسة عشرة أنهم اختاروا من اختاروا التشبه بهم والانتساب لصناعتهم لما رأوه فيها من مظاهر النفع والبهرجة فالذين اختاروا الجندية

أحبوها لأن فيها ثياباً براقة وخوذات لطيفة والذين اختاروا السياسة لأنها تؤهل صاحبها إلى أن يكون نائباً عن مقاطعته في مجلس النواب ويقبض 15 ألف فرنك مسانهة وقد عللوا في أجوبتهم السبب في إيثارهم للأشخاص والصناعات وكلها يستدل منها عَلَى نقص الروح الأدبية مما يكتبون وشيوع الأنانية وفقدان الغيرة والأماني الكريمة وقد علل جامع هذه الأجوبة قلة عناية الطليعة بالإنشاء بأن من العدل أن لا نطالب التلميذ بتجويد كتابته في عصر الماديات وعصر الطيارات والكهربائية وإن الروح الأدبية في الكتابة كانت تحمد في القرون الماضية أما نحن فإنا إذا وضعنا هذا السؤال عَلَى مثل أولئك التلامذة فلا شك أن معظم الأجوبة تكون مائلة إلى التطلب للمناصب الإدارية والجندية وقل من يحب أن يكون زراعاً أو تاجراً أو مهندساً أو معلماً لما وقر في نفوس القوم أن الشرف كل الشرف في خدمة الحكومة وما عدا ذلك فلا يخلو من غضاضة.

مدن العرب

مدن العرب يظن بعض الجاهلين أو المتجاهلين لحسنات المدنية الإسلامية أن العرب إبان عزهم لم يأتوا شيئاً يذكر في أعمال العمران وأن قصاراهم أن تلقفوا بعض المدن الفارسية واليونانية وتمتعوا بها قرون ثم نقلوها إلى من بعدهم من أمم المدنية الحديثة في الغرب يقول بعضهم أنهم كانوا في فن البناء دون الرومان وأن قصورهم الباقية لا تشهد بتفنن عجيب في الهندسة عَلَى أن الباقي من آثارهم إلى اليوم في الأندلس ومصر والشام والعراق وفارس والهند شاهد أبد الدهر بإبطال دعوى المدعين وما يحيك في صدورهم من الأهواء. ولقد رأينا بعضهم يتوكأُون في الحط من أدار العرب في العمران عَلَى الفصل الذي عقده ابن خلدون في مقدمته في إن العرب إذا تغلبوا عَلَى الأوطان أسرع إليها الخراب الذي قال في آخره وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه وأقفر سكانه وبدلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قراراهم خراب إلا قليلاً من الأمصار وعمران العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع والشام لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحقت بها وعادت بسائطه خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً تشهد به آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناءِ وشواهد القرى والمداشر. هذا ما يحتجون به ولو علموا أن مقصد ابن خلدون بالعرب هنا البدو أو البادية أو العربان الرحل كما نسميهم لعهدنا لارتفع كل إشكال وإلا فإن المدن التي مدنها العرب أيام عزهم والأمصار التي مصروها والقرى التي عمروها لا تدخل تحت حصر في كل قطر دخلوه ولو أياماً مما يتيسر لغيرهم من الأمم كالترك مثلاً الذين حكموا الأقطار الواسعة العامرة بطبيعتها ستمائة سنة ولا تكاد تعرف مدينة لهم أسسوها ولا مواتاً أخصبوه ولا ماء أسالوه وشغلهم الشاغل حروب وغزوات هكذا مضوا أيام القوة وهكذا الحال زمن الضعف. ومن قرأ كتب وصف البلاد تتجلى له مقدار عناية العرب ببناءِ مدنهم خذ لك عَلَى سبيل المثال ما رواه الأقدمون في كيفية بناء سامرا أو سُرَّ من رأى إحدى المن العباسية التي أنشئت عَلَى دجلة عَلَى مسافة ثلاثين فرسخاً من بغداد فقد قالوا أن السفاح أراد أن يبني سامرا فبنى مدينة الأنبار بحذائها وأراد المنصور بعد أن أسس بغداد بناءها فابتدأ بالبناء

في البردان ثم بدا له وبنى بغداد وأراد الرشيد بناءها فبنى بحذائها قصراً وهو بإزاء أثر عظيم قديم كان للأكاسرة ثم بناها المعتصم ونزلها في سنة 221 وكان الرشيد قد حفر نهراً عندها سماه القاطول وأتى الجند وبنى عنده قصراً ثم بنى المعتصم أيضاً هناك قصراً ووهبه لمولاه أشناس فلما ضاقت بغداد عن عساكره وأراد استحداث مدينة كان هذا الموضع عَلَى خاطره فجاءه وبنى عنده سر من رأى بنى داراً وأمر عسكره بمثل ذلك فعمر الناس حول قصره حتى صارت أعظم بلاد الله وبنى فيها مسجداً جامعاً في طرف الأسواق وأنزل أشناس بمن ضم إليه من القواد كرخ سامرا وهو كرخ فيروز وأقام ابنه الواثق بسامرا حتى مات بها ثم ولي المتوكل فأقام بالهاروني وبنى به أبنية كثيرة وأقطع الناس في ظهر سر من رأى في الحيز الذي كان احتجره المعتصم واتسع الناس بذلك وبنى مسجداً جامعاً فأعظم النفقة عليه وأمر برفع منارة لتعلو أصوات المؤذنين فيها وحتى ينظر إليها من فراسخ فجمعوا الناس فيه وتركوا المسجد الأول واشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامرا واشتق نهر آخر وقدره الدخول إلى الحيز فمات قبل أن يتمم وحاول المنتصر تتميمه فلقصر أيامه لم يتمم ثم اختلف الأمر بعده فبطل وكان المتوكل قد أنفق عليه سبعمائة ألف دينار. ولم يبن أحد من الخلفاء يسر من رأى الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل فمن ذلك القصر المعروف بالعرس أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم والجعفري المحدث عشرة آلاف ألف درهم والغريب عشرة آلاف ألف درهم والشيدان عشرة آلاف ألف درهم والبرج عشرة آلاف ألف درهم والصبح خمسة آلاف ألف درهم والمليح خمسة آلاف ألف درهم وقصر بستان الإيتاخية عشرة آلاف ألف درهم والتل علوه وسفله خمسة آلاف ألف درهم والجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف درهم والمسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف درهم وبراكون للمعتز عشرين ألف ألف درهم والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له الماحوزة خمسين ألف ألف درهم والبهو خمسة وعشرين ألف ألف درهم واللؤلؤة خمسة آلاف ألف درهم فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف ألف درهم. وكان المعتصم والواثق والمتوكل إذا بنى أحدهم قصراً أو غيره أمر الشعراء أن يعمل فيه شعر فمن ذلك قول علي بن الجهم في الجعفري الذي للمتوكل:

وما زلت أسمع أن الملو ... ك تبني عَلَى قدر أقدارها وأعلم أن عقول الرجل ... ل تقضي عليها بآثارها فلما رأينا بناء الإما ... م رأَينا الخلافة في دارها بدائع لم تراها فارس ... ولا الروم في طول أعمارها وللروم ما شيد الأولون ... وللفرس آثارهم أحرارها وكنا نحس لها نخوة ... فطامنت نخوة جبارها وأنشأت تحتج المسلمين ... عَلَى ملحديها وكفارها صحون تسافر فيها العيون ... إذا ما تجلت لإبصارها وقبة ملك كأن النجو ... م تضيء إليها بأسرارها نظمن الفسافس نظم الحلي ... لعون النساء وأبكارها ولو أن سليمان أدت له ... شياطينه بعد أحبارها لا يقن أن بني هاشم ... تقدمها فضل أخطارها وقال الحسين بن الضحاك: سر من را أسر من بغداد ... قال عن بعض ذكرها العتاد حبذا مسرح لها ليس يخلو ... أبداً من طريدة وطراد ورياض كأنما نشر الزه ... ر عليها محبر الأبراد وأذكر المشرف المطل من الت ... ل عَلَى الصادرين والوارد وإذا روح الرعاء فلا تن ... س رواعي فراقد الأولاد وله فيها وبفضلها عَلَى بغداد: عَلَى سر من راَء المصيف تحية ... مجللة من مغرم بهواها إلا هل لمشتاق ببغداد رجعة ... تقرب من ظليلهما وذراها محلان لقى الله خير عباده ... عزيمة رشد فيهما فاصطفاهما أفي كل يوم شفت عيني بالقذا ... حرورك حتى رابني ناظراهما قال ياقوت ولم تزل كل يوم سر من رأى في صلاح وزيادة وعمارة منذ أيام المعتصم والواثق إلى آخر أيام المنتصر بن المتوكل فلما ولي المستعين وقويت شوكة الأتراك

واستبدوا بالملك والثولية والعزل وانفسدت دولة بني العباس لم تزل سر من رأى في تناقض للاختلاف الواقع في الدولة بسبب العصبية التي كانت بيد أمراء الأتراك إلى أن كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء وأقام بها وترك سر من رأى بالكلية المعتضد بالله أمير المؤمنين كما ذكرناه في التاج وخربت حتى لم يبق منها إلا موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أن به سرداب القائم المهدي ومحلة أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامرا وسائر ذلك الخراب يباب يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلها أحسن منها ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكاً منها فسبحان من لا يزول ولا يحول. وذكر الحسن بن أحمد المهلبي في كتابه المسمى بالعزيزي قال وأنا اجترب بسر من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد ما عليه من جانبيه دور كأن اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلا الأبواب والسقوف فأما حيطانها فكالجدد فما زلنا نسير إلى ما بعد الظهر حتى انتهينا إلى العمارة فيها وهي مقدار قرية يسيرة في وسطها ثم سرنا بعد الغد عَلَى مثل تلك الحال فما خرجنا من آثار البناءِ إلى نحو الظهر ولا شك أن طول البناء كان أكثر من ثمانية فراسخ. وكان ابن المعتز مجتازاً بسامرا متأسفاً عليها وله كلام منثور ومنظم في وصفها ولما استدبر أمرها جعلت تنقض وتحمل أنقاضها إلى بغداد ويعمر بها فقال ابن المعتز: قد أقفرت سر من رأى ... وما لشيءٍ دوام فالنقض يحمل منها ... كأنها آجام ماتت كما مات فيل ... تسلُّ منه العظام وكتب عَلَى وجه حائط من حيطان سامرا الخراب: حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من ... حكم الخلائف آبائي عَلَى الأمم فكل ما فيه مبذول لطارقه ... ولا ذمام به إلا عَلَى الحرم وكتب عبد الله بن المعتز إلى بعض أخوانه يصف سر من رأى ويذكر خرابها ويذم بغداد وأهلها ويفضل سامرا: كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها واقعد جدرانها فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر فكأن عمرانها يطوى وكأن خرابها ينشر وقد وكلت إلى الهجر نواحيها واستحث باقيها إلى فانيها وقد تمزقت بأهلها الديار فما يجب فيها

حق جوار فالظاعن فيها ممحو الأثر والمقيم فيها عَلَى طرف سقر نهاره أرجاف وسروره أحلام ليس له زاد فيرحل ولا مرعى فيرتع فحالها تصف للعيون الشكوى وتشير إلى ذم الدنيا بعدما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض وقرارة الملك تفيض بالجند أقطارها عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد كأن رماحهم قرون الوعول ودروعهم زبد السيول من خيل تأكل الأرض بحوافرها وتمد بالنقع سائرها قد نشرت في وجوهها غرراً كأنها صحائف البرق وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين ونوطت عذراً كالشنوف في جيش يتلقف الأعداء أوائله ولم ينهض أواخره وقد صب عليه وقار الصبر وهبت له روائح النصر يصرفه ملك يملأ العين جمالاً والقلوب جلالاً لا تخف مخيلته ولا تنقض مريرته ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب قابضاً بيد السياسة عَلَى قطار ملك لا ينتشر حبله ولا يتشظى عصاه ولا تطفى جمرته في سن شباب لم يجن مأثماً وشيب لم يراهق هرماً قد فرش مهاد عد له وخفض جناح رحمته راجماً بالعواقب الظنون لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم ساعياً عَلَى الحق يعمل به عارفاً بالله يقصد إليه مقراً للحلم ويبذله قادراً عَلَى العقاب ويعدل فيه إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام تطير بها أجنحة السرور ويهب فيها نسيم الحبور فالأطراف عَلَى مسرة والنظر إلى مبرة قبل أن تحث مطايا الغير وتسفر وجوه الحذر ومازال الدهر ملياً بالنوائب طارقاً بالعجائب يؤمن يومه ويغدر غده عَلَى أنها وإن جفت معشوقة السكنى وحبيبة المثوى كوكبها يقظان وجوها عريان وحصاها جوهر ونسيمها معطر وترابها مسك أذفر ويومها غداة وليلها سحر وطعامها هنيءٌ وشرابها مريءٌ وتاجرها مالك وفقيرها فاتك لا كبغداد كم الوسخة الومدة الهواء جوها نار وأرضها خبار وماؤها حميم وترابها سرجين وحيطانها نزور وتشرينها تموز فكم من شمسها من محترق وفي ظلها من غرق ضيقة الدار قاسية الجوار ساطعة الدخان قليلة الضيفان أهلها ذئاب وكلامهم سباب وسائلهم محروم وملهم مكتوم لا يجوز إنفاقه ولا يحل خناقه حشوشهم مسابل وطرقهم مزابل وحيطانهم أخصاص وبيوتهم أقفاص ولكل مكروه أجل وللبقاع دول والدهر يسير بالمقيم ويمزج البؤس بالنعيم وبعد اللجاجة انتهاءٌ والهم إلى فرجة ولكل سائلة قرار وبالله أستعين وهو محمود عَلَى كل حال.

غدت سر من را في الغناء فيالها ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأصبح أهلوها شبيهاً بحالها ... لما سجتها من جنوب وشمأل إذا ما امرؤٌ منهم شكا سوء حاله ... يقولون لا تهلك أسي وتجمل ويطول بنا المقال إذا أردنا استقصاء أسماء المدن العربية كلها من شواطئ بحر الظلمات في الغرب إلى شواطئ المحيط الهندي في الشرق قال البلخي: ومن يحصي بناة المدن وواضعي القرى ومن يعلم مبادئ إنشائها إلا الله غز وجل وهبنا أخبرنا بمدن فارس عَلَى نحو ما نجد في كتبهم والمدن التي أُحدثت في الإسلام لقرب العهدة وجدة التاريخ فمن لنا بمدن مصر والهند والروم والترك وليس كل مدينة أو قرية مبنية منسوبة إلى بانيها لأنه قد تسمى المدينة باسم الباني أو باسم لها قبل حدوثها أو باسم ماء أو شجر أو شيءٍ ما وقد يجوز أن يجتمع قوم ما بموضع من المواضع فيصير ذلك مدينة فهذا يبين لك أن كل مدينة لا يوجب بانياً لها قاصداً إليها إلى أن قال والكوفة مصرها سعد بن أبي وقاص وكان بها رمل فسميت به ويقال لها الكوفان والبصرة مصرها عتبة بن غزوان وسماها بحجارة بيض كانت في موضعها وواسط بناها الحجاج ويقال لذلك واسط القصب ويقال بل توسعت الكوفة والبصرة وبغداد سميت باسم موضع كان قبلها ويقال لها الزوراء ويقال بغ اسم صنم وسمتها الخلفاء مدينة السلام وأول من بناها جعفر المنصور بنى بها قصر الخلد بناها في الجانب الغربي من دجلة وجعل حواليها قطائع لحشمه ومواليه وأتباعه كقطيعة الربيع والحربية وغيرها ثم عمرت وتزايدت فلما ملكها المهدي جعل معسكره في الجانب الشرقي فسمي عسكر المهدي وتزايدت بالناس والبناء. قال البلخي: فاعلم أن المدن تبنى عَلَى ثلاثة أشياء عَلَى الماء والكلأ والحطب فإذا فقدت واحدة من هذه الثلاثة لم تبق. قال بعض الجغرافيين: مصرت البصرة عَلَى يد عتبة بن غزوان سنة أربع عشرة وعظم أمرها حتى سميت قبة الإسلام ولها نخيل متصلة من عبداس إلى عبدان نيف وخمسون فرسخاً ثم بني بعد ذلك واسط بناها الحجاج بن يوسف سنة ثمان وسبعين وهي جانبان بينهما جسر عَلَى دجلة طوله ستمائة وثمانون ذراعاً وفي الجانبين جامعان ولما استخلف الله من بني العباس السفاح بنى مدينة قريبة من الكوفة وسماها الهاشمية ثم رحل عنها إلى الأنبار فعمرها وسكنها ولم يزل بها إلى أن مات فلما

ملك أخوه المنصور بنى عَلَى دجلة بغداد ويقال أن اسمها بك دار معناها دار العدل بالتركية كأنهم قالوا الحاكم العادل وسميت مدينة السلام لأنها يسلم فيها عَلَى الخلفاء ولأنها عَلَى نهر دجلة نهر السلام وفي تسميتها بغداد وبغذاد وبغداذ وكان ابتداء بنائها في سنة خمس وأربعين ومائة وتم بناؤها في سنة تسع وأربعين ثم ضاقت بالجند والرعية فبنى المهدي ولد المنصور مدينة تجاهها سماها الرصافة سنة إحدى وخمسين ولبغداد من المدن والبلاد صرصر وقصر ابن هبيرة مدينة بناها يزيد بن عمر بن هبيرة. وإليك الآن شذرة قليلة مما عثرنا عليه بالعرض من مدن العرب وأمصارهم فمنها شيراز وهي مدينة إسلامية بناها محمد بن أبي القاسم الثقفي عَلَى أثر بناء قديم ومدينة قم كورها الرشيد وجعل لها اثنين وعشرين رستاقاً بنيت زمن الحجاج سنة ثلاث وثمانين وكان مكانها تسع قرى فجمعت وصارت محالاً وكان اسم إحدى القرى كميدان فأسقطوا بعض الحروف للإيجاز والاختصار وأبدلوا الكاف قافاً. والمنصورية في الهند مدينة بنيت في صدر الإسلام وتسمى بالهندية تاميران كان موضعها غيضة يحيط بها خليج من نهر مهران. والحلة في العراق بناها سيد الدولة صدقة بن دبيس سنة خمس وأربعين وأرع مائة وتسمى الكوفة الصغرى لكثرة ما فيها من التشيع وأردوبل وتسمى أردبيل في بلاد أذربيجان ومصرت أيام الرشيد وإنما سميت باسم أردبيل بن أرميني ومراغة بناها محمد بن مروان بن الحكم وكانت قبل مراغة لدوابه فسميت بذلك ومرند بناها الأفشين عَلَى أثر بناءٍ قديم ومزيد بناها مراد بن الضحاك ومن بلاد أرمينية مدينة شكور وكانت مدينة قديمة أخربتها الصناوردية ثم جددها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية. ومن مدن الجزيرة مدينة أذرمة بناها الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي. وبنى المنصور إلى جانب مدينة الرقة قصبة ديار مضر مدينة سماها الرافقة سنة خمس وسبعين فخربت الأولى وبقي الاسمان واقعين عَلَى مدينة واحدة ومنة مدن حضر موت في اليمن مدينة الشحر ولم تكن بمدينة وكان الناس ينزلون منه في أخصاص فبنى الملك المظفر صاحب اليمن مدينة به حصينة بعد سنة سبعين وتسعمائة. وكذلك بلاد المهرة ومصرها ظفار بناها أحمد بن محمد وسماها الأحمدية في سنة عشرين وستمائة. وجدد قتيبة بن مسلم سمرقند وأحاط بها سوراً دوره سبعون ألف ذراع وذلك سبعة عشر

ميلاً ونصف ميل هو بالفرسخ نحو ستة فراسخ ومدن بخارى كرمينية وبيكند والطواويس بناها قتيبة بن مسلم أيضاً. ومن مدن خراسان الجبلية ذوات الكور العريضة والأعمال الفسيحة سرخس وبورجان وسامان وبيورد مدينة وزوزن وكومن بناها عبد الله بن طاهر. كما مدينة شهرستان من أعمال خراسان وبنى في إقليم مازندران ودهسيان ثغراً عَلَى طرف مغارة كما بنى يزيد بن المهلب سنة ثمانٍ وتسعين مدينة بكر آباد في ذاك الصقع نفسه. وبنى عمرو بن العاص الفسطاط (مصر) وبنى أحمد بن طولون القطايع ولما ملك العبيديون مصر بنى جوهر مولى المعز مدينة فوق القطايع وسماها القاهرة. وفي أفريقية مدينة المهدية بناها المهدي العبيدي سنة ست وثلاثمائة ومدينة بونة بنيت بعد الخمسين وأربعمائة ومدينة بجادته وهي مدينة حسنة البناء طيبة الفناء بناها الناصر بن علناس أحمد بني حماد سنة سبع وخمسين وأربع مائة. ومدينة وهران بنيت سنة تسعين ومائتين. ورباط الفتح في سلا من أعمال طنجة بناها عبد المؤمن وصر الفرج بناه المنصور من بني عبد المؤمن. والسوس الأقصى يقال أن أول من عمره وأجرى فيه الأنهار عبد الرحمن بن مروان بن الحكم وفيه مدن كثيرة وقصبتها تامدلت مدينة سهلية جبلية مسورة من بناءِ عبد الله بن إدريس. ومن بلاد السوس مدينة إيغلي بانيها عبد الله بن إدريس أيضاً ومراكش بناها يوسف بن تاشفين الصنهاجي سنة 490 ويلي مدوينة مراكش فاس وهي مدينتان إحداهما عدوت الأندلس بنيت سنة 292 والأخرى عدوة القرويين بنيت سنة ثلاث وتسعين ومائة. وسوق حمزة بناها حمزة بن سليمان العلوي وأشير بناها زيري والمسيلة بناها محمد بن عبيد الله المهدي المنعوت بالقائم وسماها المحمودية وقلعة بني حماد بن زيري والقيروان اختطها عقبة بن نافع ومدينة بطليموس بالأندلس بناها عبد الرحمن بن مروان ومدينة نطيلة بنيت أيام الحكم بن هشام والهارونية من أعمال الفاكية بناها هارون الرشيد. وسلمية بالشام عَلَى سيف البرية بناها عبد الله بن صالح وعلي بن عبد الله بن عباس وطرابلس المستجدة بعد طرابلس الشام بجيش المسلمين في مملكة الملك المنصور وسيف الدين قلاوون الصالحي بنيت في سفح ذيل من أذيال جبل لبنان بكورة من أكوار طرابلس بعدها عن طرابلس القديمة الخربة نحو من خمسة أميال عَلَى شاطئ نهر يجري إلى البحر وهي المدينة المعروفة اليوم البعيدة عن الميناء المعروفة بمدينة طرابلس الشام والممصر

لمدينة الطرسوس معاوية بن أبي سفيان في أيام عثمان بن عفان حين غزا قبرص ومدينة عكا بناها عبد الملك بن مروان ومرعش من بناء خالد بن الوليد وجددها مروان ابن الحكم ثم المنصور بعده وسميت الثغور لأن المتطوعين من أهل الحوزة كانوا يرابطون فيها ويغزون مدن الروم. وأذنة (أطنة) بناها الرشيد عَلَى نهر سيحان. وطرسوس بنيت في أيام هارون الرشيد والمصيصة بناها المنصور وعسكر مكرم نزلها مكرم بن مطرف اللخمي فصارت مدينة ونسبت إليه. ومدينة الأقلام بأفريقية مدينة أحدثها آل إدريس وسيله مدينة أحدثها علي ابن الأندلسي أحد خدم القائم بحانه وهي المرية من الأندلس محدثة ومدينة الزهراء بناها عبد الرحمن بن محمد خط فيها الأسواق كما قال ابن حوقل وابتنى الحمامات والخانات والقصور والمنتزهات واجتلب إلى ذلك بناء العامة وأمر منادية بالنداء إلى من أراد أن يبني داراً ويتخذ مسكناً بجوار السلطان فله أربعمائة درهم فتسارع الناس إلى العمارة فتكاثفت وتزايدوا فيها فكادت أن تتصل الأبنية بين قرطبة والزهراء. هذا ما التقطناه في هذه العجالة ولعل بعض الباحثين يتوسعون في هذا الموضوع في رسالة عَلَى حدة يذكرون فيها جميع ما أقامه العرب من الأمصار والقرى وأعمال العمران كالطرق والجسور والأنهار والترع وغير ذلك مما يفيد في تصور المدينة العربية ويدعو الأخلاف إلى التطريس عَلَى آثار الأسلاف.

اللغة الانتقادية

اللغة الانتقادية 2 حرف الشين ويقولون أشغلني الأمر ص شغلني بغير ألف ويقولون الشفة بكسر الشين وتشديد الفاء ص بفتح الشين وتخفيف الفاء ويقولون شتان ما بينهما ص شتان ما هما وشتان ما عمرو وأخروه فأما إنشادهم: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم فإنما هو بيت مولد وليس بحجة عَلَى الفصحاء وبيت الأعشى يقضي عليه وهو قوله: شتان ما يومي عَلَى كورها ... ويوم حيان أخي جابر ويقولون دابة شموص بالصاد ص شموس بالسين وهي بينة الشماس إذا كانت تقمص عن الإسراج والركوب ويقولون أشرقت الشمس إذا طلعت وهو غلط وإنما يقال أرشقت إذا أضاءت وصفت وشرقت بغير ألف إذا طلعة. قلت ولا فرق بينهما عند بعض أهل اللسان ويقولون شلت يده بضم الشين ص بفتح الشين قلت لا مانع من أن نقوله بالضم مبنياً للمفعول ومثله أشلت بالألف. ويقولون أشحنت السفينة بالألف ص شحنت بغير ألف ويقولون في أذن الجارية شنف بضم الشين ص بفتحها ويقولون شويت اللحمة حتى اشتوى ص حتى انشوى وإنما المشتوي الرجل الذي يشوي قلت وقد دون الحرفان معاً في هذا المعنى. ويقولون في يد فلان وفي رجله شقاق وذلك غلط إنما الشقاق داءٌ يكون في حوافر الفرس والدواب ص في يد فلان ورجله شقوق ويقولون لما يكون في الحائط وغيره من صدع شق بكسر الشين ص بالفتح فأما الشق بالكسر فهو نصف الشيءِ والشق أيضاً المشقة ويقولون شللت الثوب بالتشديد إذا خطته خياطة ضعيفة ص شللت أشله شلاً بالتخفيف. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون شخص شهق البصر بكسر الخاء وشهق الرجل بكسر الهاء ص فتحها. قلت فأما في شهق فالكسر مدون في المعاجم مثل الفتح ويقولون شراع السفينة بضم الشين ص الكسر ويقولون الشجنة بفتح الشين ص بكسرها. قال شيخنا أبو المنصور هو اسم

الرابطة من الخيل في البد من أولياء السلطان لضبط أهله وليس باسم الأمير أو القائد كما تذهب إليه العامة والنسبة إليه شجني وهذه الكلمة عربية صحيحة واشتقاقها من شجنت البلد بالخيل إذا ملأته بها ويقولون للذي تأمره بالشم شم بضم الشين ص بفتحها ويقولون شفعت الرسولين بثالث وهو خطأ ص شفعت الرسول بآخر لأن النفع في كلامهم بمعنى الاثنين ويقولون للمريض أشفاك الله وهو فساد للمعنى المقصود لأن معنى أشفاك ألقاك عَلَى شفى هلكة ص شفاك الله ويقولون للكساء الذي يطرح تحت السرج ويلقى طرفه إلى كفل الدابة (الكبش) وهو من تعريب المولدين ولم تعرف العرب ذلك ص الشليل ويقولون في تصغير الشيء (شوي) ص شيئي. حرف الصاد ويقولون سنجة الميزان بميم مكسورة ص صنجة الميزان بصاد مفتوحة وهو سماخ الأذن بالسين ص بالصاد ويقولون أصرفت الصبيان عن المكتب بالألف ص بغير ألف ويقولون امرأة صبورة ص صبور بغير هاءٍ ويقولون الصندوق بفتح الصاد ص بضمه. قلت الفتح وارد ولكنه غير مشهور ويقولون بالسين أيضاً. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون رجل صعلوك بفتح الصاد ص ضمها ويقولون الصحرا مقصور ص مدها ويقولون الصفر عن النحاس بكسر الصاد ص بضمها. قلت حكى الكسر أبو عبيدة وحده وهو غير معروف إنما هو الكسر بمعنى الخالي يقال مكان صفر من أهله أي خالٍ وهذا بالكسر لا غير والظاهر أن (الفيروز آبادي) أخطأ إذ ظن أنه يضم بمعنى الخالي والصفر يقع عَلَى النحاس الأحمر واللاطون وهو ما يسميه العراقيون (الشبه) والشبه أيضاً عربية وهو بالفارسية (برنج). حرف الضاد ويقولون فلان لا يملك ضراً ولا نفعاً ص ضراً بفتح الضاد لا بالضم. قلت ويقال أنه يضم ويقولون بفلان أي ببدنه ضعف بالفتح ص ضعف بضم الضاد. قلت الضعف في الرأي مفتوح وفي البدن مضموم ويقولون ذهب مال فلان ضياعاً بكسر الضاد ص بفتحها قلت بالكسر جمع ضائع.

ويقولون ضمر البطن بفتح الضاد وضم الميم ص فتح الضاد والميم قلت والأول وارد أيضاً. ويقولون الضفدع بفتح الضاد والدال ص كسرهما قلت وصحح بعضهم فتحها وضم الضاد وفتح الدال. والضبع بضم الباء وهو اسم للأنثى والذكر ضبعان والعامة تقول الضبع بتسكين الباء وإنما الضبع (بالتسكين) العضد ومنهم من يقول في الأنثى ضبيعة. قلت وعن الصاحب في الأنثى ضبعة وضبعانة وقد جمعوا الأنثى والذكر عَلَى ضباع وهناك جموع أخرى. ويقولون قوى الله ضعفك وهذا دعاء عَلَى الشخص لا له ص قوى الله منك ما ضعف. حرف الطاء ويقولون طنفسة بضم الطاء والفاء ص طنفسة بكسرهما ويقولون امرأة طاهرة من الحيض وطالق من الطلاق بالهاءِ فيهما ص طالق وطاهر بغير هاء ويقولون طاطيت رأسي بالياء ص بألف مهموزة ويقولون الطيرة بإسكان الياء ص الطيرة بفتح الياء. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون أعوذ بالله من طوارق الليل والنهار وهو غلط لأن الطروق الإتيان بالليل خاصة ويقولون قرأت السبع الطوال (وهي سور القرآن الطويلة) بكسر الطاء ص بضمها وإنما الطول بالكسر اسم للحبل ويقولون طوبيك وطوباك ص طوبى لك. قلت قيل أن طوباك لغة وعلى هذا ينزل قول القائل: طوباك يا لينتي إياك طوباك وهو فيما أذكر مولد وطوبى قيل أنها مصدر وقيل أنها تأنيث الأطيب وهو عند سيبويه اسم حامل للدعاء وذكر فيروز آبادي أنها جمع الطيبة وليس صحيح كما قال ابن سيدة وطيبى لغة بعض العرب وهنا قصة ممتعة تدل عَلَى شدة تمسك العرب العرباء بمصطلحاتهم ولغاتهم حتى كان وراءهم دافعاً فطرياً يحجرهم عن التفوه بما لا يعرفون. قال أبو عمرو ابن العلاء العالم المتوفى سنة أقرأ علي أعرابي بالحرم (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طيبى لها) قلت له طوبى هم قال طيبى فعدت فعاد فلما طال علي قلت طوطو قال طي طي

فتأمل ويقولون عَلَى وجهه طلاوة بفتح الطاء وهي لغة ص بضمها. حرف العين ويقولون أعبث الرجل بألف ص يغير ألف ويقولون في العود والحائط عوج يكسر العين ص عوج يفتح العين قس كل ما ينتصب وإنما تكسر العين في قولهم في دينه عوج وفي الأرض أيضاً بالكسر ويقولون هي عصاتي بتاء قبل الياء ص هي عصاي وزعم الفراءُ أن أول لحن سمع في العراق (هي عصاتي) وقالوا هذه عجوزة بإثبات الهاء ص بغير هاءٍ ويقولون عرج (من العرج) الرجل بفتح الراء ص بكسرها ويقولون عرج بالسلم بكسر الراء ص فتحها لا غير ويقولون عمدت كذا إذا قصدته بكسر الميم ص فتحها وإنما يقال عمد بكسر الميم في قولك عمد البعير إذا اشتكى وعمد سنامه. قلت العمد في البعير أن ينشدخ سنامه ويقال للمحب عميد ومعمود كم ذلك ويقولون عجم الزبيب وغيره بإسكان الجيم ص عجم الزبيب بفتح الجيم وإنما العجم بإسكان الجيم صغار الإبل ويقولون ماله دار ولا عقار بكسر العين ص بفتح العين والعقار النخال يقال أيضاً بيت كثير العقار (وقد يضم) إذا كان كثير المتاع ويقولون عفيت عنه بالياء ص بالواو ويقولون عبرت الرؤيا بالتشديد ص بتخفيفها. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون استكثر من الزاد خوف العوز بكسر العين ص بفتحها ويقولون رجل أعزب ص عزب ويقولون كثرت عيلة فلان ص كثرت عيالة والعيلة الفقر ومنهم من يقول عائلته وليس بشيءٍ ويقولون للمرأة أيام البناء عروس ص أن يقال للمرأة والرجل أيضاً عروس وفي أمثال العرب - كاد العروس أن يكون أميراً - قال الشاعر: وهذي عروس بالميامة خالد ويقولون في تصغير عين عوينة ص عيينة ويقولون عذع لغة عمرانية ص عبرانية وقال عايرت الميزان والمكيال وعاير ميزانك ومكيالك ولا تقل عيره وهم المعايرون ولا تقل المعيرون وقل عيرت فلاناً كذا ولا تقل بكذا قال ليلى: وعيرتني داءً بأمك مثله ... وأي حصان لا يقال له هلا ويقولون لجميع الأغاني عزف ص أن يقال لما فيها عود عزف وإذا لم يكن لم تقل لها

عزف ويقولون لجميع أوكار الطائر عش ص إذا كان من عيدان مجموعة فهو عش وإن كان نقباً في جبل أو حائط فهو وكر. حرف الغين ويقولون هو منديل الغمر بإسكان الميم ص بفتح الميم. قلت والغمر الدسم ويقولون أغاظني الشيء وقد اغتظت يا هذا بألف ص بغير ألف. قلت وبالألف موجودة يقال أغاظه وغايظه وغيظه أيضاً. ويقولون فلان كثير الغيبة بفتح الغين ص بكسرها ويقولون يغير عَلَى أهله وهو كثير الغيرة بكسر الغين ص يغال بألف وهو كثير الغير بفتح الغين. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون الغضارة بكسر الغين والغسول بضم الغين ص فتحهما ويقولون غربت الشمس بضم الراء ص فتحها ويقولون للمطر في أي وقت جاء غيث أو مطر ولا مفرق ص إن كان في إبانه فهو غيث وإن لم يكن فهو مطر. قلت الظاهر أن المطر اسم عام يقع عَلَى السحاب في جميع أوقاته أما الغيث فقد يقال أنه المطر الذي يغاث به البلاد في إبان الحاجة إليه. حرف الفاءِ ويقولون فقعت عينه وفقيتها ص فقأت عينه بالهمزة ويقولون فالّ مشدد اللام بغير ألف ص وهو الفأل مخفف مهموز. قلت فعله مهموز في الأصل أما الاسم فكثيراً ما يحذف الهمز منه. ويقولون فكاك الرقبة بكسر الفاء ص فتحها ويقولون فصح النصارى بفتح الفاء إذا أكلوا اللحم وأفطروا ص بالكسر. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون هي الفلكة (الفلكة تل صغير مستدير) بكسر الفاء ص فتحها والفص أيضاً مفتوح الفاء وكسره لغة رديئة. قلت الشائع اليوم ضم فائه وهي لغة أيضاً إلا أن الأفصح الفتح ففاؤه إذاً مثلثة. ويقولون الفلفل بكسر الفائين ص ضمهما. قلت وبكسرهما مدون أيضاً. ويقولون فلسطين بفتح الفاء ص كسرها ويقولون فركت المرأة زوجها بفتح الراءِ ص

بكسرها. قلت إنما بالفتح شاذ وليس غلطاً. والفيء لا يكون إلا بعد الزوال وأما الظل فمن أول النهار إلى آخره والعامة تسمي ألفي ظلاً ولا تفرق ويقولون لبائع الفاكهة فاكهاني والعرب لا تلحق الألف والنون في النسبة إلا في أسماء مخصوصة زيد فيها للمبالغة كما قالوا للعظيم الرقبة رقباني وللكثيف اللحية لحياني ص فاكهي. حرف القاف ويقولون قتل فلان شر قتله بفتح القاف ص بكسر القاف والمراد الحالة لا المرة الواحدة فالحالة كالركبة والجلسة والأكلة والمرة الواحدة لا تكون إلا مفتوحة ويقولون قد أخذته قصراً بالصاد ص قسراً بالسين ويقولون قنع الرجل بفتح النون إذا رضي ص قنع بالكسر يقنع إذا رضي وقنع (بالفتح) إذا سأل. قلت الفيروز آبادي فتح عين الفعل في الاثنين وهو خطأ عَلَى الظاهر فإنك تقول قنع قنوعاً إذا سأل بالفتح وقنع قناعة بالكسر إذا رضي. ويقولون أقريت الضيف بألف ص بغير ألف. قلت قريت الضيف واقتريته أيضاً لا أقريته. ويقولون قد قصر الصلاة بالتشديد ص قد قصر من الصلاة بتخفيف الصاد. ويقولون قسطنطينية بتشديد الياء ص بتخفيفها وهي قوارة القميص بضم القاف والتخفيف وكذلك قياس كل ما كان فضله كالقصاصة والقراضة والعامة تفتح القاف وتشدد الواو. قلت قوارة الثوب ما تقطعه مستديراً منه تقول قاره وقوره وكذلك أقتاره. ويقال للأنبوبة المبرية قلم لأنها قلمت أي قطعت فإذا لم تبر لم تسم قلماً بل يقال أنبوبة والعامة تسميها قلماً كيف كانت ويقولون للمسافرين الراجعين منهم والمارين (الذاهبين) قفل ص يقال قفل للراجعين خاصة. قلت يعلق في الذهن من الشوارد أنهم يقولون للمسافر الذاهب قافل تفاؤلاً بقفوله أي رجوعه. ويقولون القفاء ممدودة ويجمعونه عَلَى أقفية وهو غلط ص قفا مقصور وجمعه أقفاءٌ ممدود. قلت لم يذكر بعض أهل اللسان جمعه عَلَى أقفية ولا لوح إلى مده كما في الرسالة ورسمه آخرون ممدوداً أثناء الكلام عليه بعد ذكره مقصوراً في العنوان والظاهر جواز جمعه في

الكثرة عَلَى أقفية أيضاً أما مده فإما أن يكون قليلاً أو ضعيفاً مأخذه. ويقولون هذا قوم أمرك بفتح القاف ص بكسرها ويقال ما فعلت هذا قط تريد به الماضي لأنه من قططت أي ما فعلته فيما انقطع من عمري ولا أفعله أبداً والعامة تقول في المستقبل لا أفعل هذا قط ولا افعله أبداً وهو غبط وقط هذه مشدودة الطاء فأما قط فهي اسم مبني عَلَى السكون مثل قد ومعناها حسب وربما استعملت العامة كل واحدة في معنى الأخرى. حرف الكاف ويقولون الكتان بكسر الكاف ص بالفتح ويقولون كافيت الرجل عَلَى ما فعله بالياءِ بغير همز ص مهموز ويقولون كلوه بالواو ص بالياءِ مكان الواو. ويقولون أكببت الرجل لوجهه ص كبيته بغير ألف. قلت لا يصح عند كثير من أهل اللسان أن تقول أكبه لوجهه كما تقول كبه لوجهه بمعنى ألقاه عليه فتعديه بهذا المعنى وإنما تقول أكب عَلَى الشيءِ أي لازمه وأقبل عليه وهو قاصره غير متعمد أو تقول كببته لوجهه فأكب لمطاوعة الفعل وهذا قاصر أيضاً وقيل أن هذا الحرف من النوادر التي يعدى ثلاثيها (كب) دون رباعيها (أكب) ومجد الذين الفيروزبادي أجاز أن يقال كبه وأكبه أيضاً أما في القرآن فلم يرد الأكبه وجاء في بعض الروايات (فأكبوا رواحلهم) فقيل أن الصواب (كبوا) فالقدر الذي لا نشك فيه أن كبه أفصح من أكبه إن لم نقل أن الثانية من الأغاليط. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون أكرة بألف ص بغير ألف (كرة). قلت إنها في القاموس لغاية فيها وكذلك هي في كثير من كتب الفلسفة القديمة. ويستعملون في الجمع (أكر) أكثر من (كرات). وتول أكريت النهر أكريه وأكريت الدار أكريها والعامة تقلب هذا فيقولون أكريت النهر وكريت الدار ويقولون كفة الميزان بفتح الكاف ص بكسرها. قلت قيل أن الفتح لغة وقال الأصمعي كل مستدير فهو كفة بالكسر ككفة الميزان وكل مستطيل فهو كفة بالضم ككفة الثوب وهي حاشيته. وكفة كل شيءٍ حاشيته. ويقولون للإناءِ من الزجاج كأس وإن لم يكن فيها شراب ص إنها لا تسمى كأساً إلا إذا كان فيها شراب فإن لم يكن فيها فهو قدح وزجاجة وقد تسمى قدحاً وزجاجة وإن كان فيها

شراب قال حسان: بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل ولم يسموها كأساً إلا وفيها شراب سموا الشراب كأساً قال الأعشى: وكاس شربت عَلَى لذة ... وأُخرى تداويت منها بها ويقولون اللهم صل عَلَى محمد وعلى آل محمد وعلى كافة أصحابه وهو غلط لأن كافة ما يكف الشيء في آخره كقولك جاء الناس طراً والصحيح أن يقال عَلَى آله وأصحابه كافة وفي العامة من يقول حدثني كافة الناس والصحيح حدثني الناس كافة ومنهم من يقول حدثني الكافة وهو غلط لأن كافة لا يدخلها ألف ولام. حرف اللام ويقولون لص بكسر اللام ص بفتح اللام. قلت الظاهر أن الأفصح الفتح قال بعضهم وبالضم لغة وفي القاموس ويثلث. ويقولون لثة بتشديد الثاءِ وفتح اللام ص بكسر اللام وتخفيف الثاء وجمعها لثاث ويقولون لهوت عن الشيء إذا تركته ص لهيت بالياء لا بالواو وإنما هو بالواو من اللهو لا غير ويقولون لجيت إليه بالياء ص لجأت إليه بالهمزة ويقولون للشطرنج والنرد لعبة بكسر اللام ض بضم اللام ويقولون قد لبست عليه الأمر بتشديد الباء ص بالتخفيف. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون لمحت الشيء بكسر الميم ولهث الكلب بكسر الهاء وهو في ليان من العيش بكسر اللام ص فتحهن قلت الليان الرخاءُ والرفاهية. ويقولون لثمت فاهاً بفتح الثاء ولججت يا هذا بفتح الجيم ولحست الإناء بفتح الحاء ولعقت العسل بفتح العين ص كسرهن ويقولون اللحاق بكسر اللام ص فتحها وهي لحمة الثوب بفتح اللام والعامة تضمها أم لحمة النسب فبالضم ويقولون لسعته الحية والعقرب ولا يفرق ص لسعته لكل ما يضرب بذنبه كالزنبور والعقرب فأما ما يضرب بفيه كالحية يقال لها لذع ويقال لما يأخذ بأسنانه كالسبع والكلب نهش ويقولون فعلت هذا بعد اللتيا والتي بضم اللام ص فتحها لأن العرب إذا صغرت الذي والتي أقرت فتحه أوائلها وزادت ألفاً في أواخرها عوضاً عن ضم أولها (للتصغير) فقالوا في تصغير الذي والتي اللذيا واللتيا وفي ذاك وذلك وذيالك ويقولون لعل فلاناً قد قدم صلعله

قد يقدم لأن لعل لترقب الآتي المستقبل. ويقول بعض من يتفاصح مثل بغداد والبصرة (ما بين لابتيها مثل فلان) وهذا خطأ وإنما ذاك في المدينة لأنها بين لابتين واللابة الحربة وهي الأرض ذات الحجارة السوداء. حرف الميم ويقولون حديث مستفاض ص مستفيض ويقولون حديث مقارب بفتح الراء ص بكسرها. قلت والمقارب من الحديث والدين والرأي وما أشبه ما كان بين الجيد والرديء والمقبول والمردود. ويقولون مرأة بلا همز ص بالهمز والجمع مرأتي ويقولون ماء مالح ص ملح ويقولون سمك مالح ص مليح ومملوح ويقولون مغزل للذي تغزل به المرأة بفتح الميم ص بكسرها ويقولون ملحفة ومروحة ومطرقة بفتح الميم ص بكسرها ويقولون ميزر بفتح الميم وإطراح الهمز ص بكسر الميم وبالهمزة ويقولون للمقراض المقص بفتح الميم ص بكسرها ومنهم من يضمها فيقول المقص. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون المنارة والرقاة بكسر الميم ص فتحها والمريخ بمسر الميم والعامة تفتحها والمعدن بكسر الدال ومسست الشيء بالكسر (وبالفتح أيضاً). ويقولون المطران بكسر الميم ص بضمها قال ابن السكيت يقال أخذ في فؤادي مغص (بسكون الغين) ولا تقلبها بتحريك الغين ويقولون المروحة بفتح الميم ص بكسرها ولا تفتحها إلا أن تريد الموضع الذي تخترقه الرياح قال الشاعر: كان راكبيها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل ويقولون للذي يستصبح عَلَى أبواب الملوك منيار ص منوار. لأنه من النوار أو من النار ويقولون الميضة لما يتوضأُ منه وفيه ص ميضأة ويقولون طريق مخوف ومرض ومخوف ص مرض مخيف وطريق مخوف ويقولون (المارستان) بكسر الراء ص بفتحها وبعضهم يتفاصح فيقول النمايارستان وهو أعجمي عرب. ويقولون للشيءِ المبسوط مبرطح ص مفلطح ويقولون مهندز بالزاء ص بالسين لا غير قال شيخنا أبو المنصور وهو مشتق من الهنداز فصيرت الزاءُ سيناً لأنه ليس في كلام العرب

زاءٌ بعد الدال والاسم الهندسة ويقولون الذي للفنون من العلوم متفنن ص مفنن وقد افتن أخذ من كل فن والمتفنن الضعيف وقد تفنن أخذ من الفن وهو ما لان وضعف من أعلى الغصن ويقولون ملاك الدين الورع بفتح الميم ص بكسرها ويقولون هذا شيء معيوب ومثبوت ص معيب ومثبت وشيءٌ مصلح ص مصلح. وقلت متعب والعامة تقول متعوب ورجل مبغوض ص مبغض ويقال خاتم مصاغ وشعر مقال وبيت مزار وفرس مقاد في الجميع أن تجعل موضع الألف واواً ويقول رجل مهيوب يهابه الناس ص مهيب وإنما الهيوب الجبان الذي يهاب من كل شيءٍ ويقولون فلان أعله الله فهو معلول وذلك خطأ وإنما يقال عله فهو معلول إذا سقاه العلل وهو الشرب الثاني ص أعله فهو معل ويقولون فلان قد جدر (بالتضعيف) فهو محدور لتكثير الفعل وتكريره وهو خطأ فإن الجدري داءٌ لا يتكرر ص جدر بالتخفيف ويقولون مقص ومقراض للحديدتين يقص بهما ويقرض ص المقصان والمقراضان. وحكى شيخنا أبو المنصور اللغوي أن النضر مرض فدخل عليه الناس يعودونه فقال له رجل من القوم مسخ الله ما بك فقال لا تقل مسخ وقل مصخ ألم تسمع قول الأعشى: وإذا الخمرة فيها أزبدت ... أفل الإزباد فيها فمصخ. فقال الرجل لا بأس فيها بالسين فإنه قد يعاقب الصاد فيقوم مقامها فقال النضر فينبغي أن نقول لمن اسمه سليمان صليمان ونقول قال رصول الله. ثم قال النضرة لا يكون إلا في أربعة مواضع إذا كانت مع الطاء كسطر وصطر ومع الخاء كسخر وصخر ومع القاف كسقب وصقب ومع الغين كصدع وسدغ فإذا تقدمت هذه الأحرف السين لم يجز ذلك فلا يجوز أن نقول خصر وخسر وقسب وقصب وطرس وطرص. حرف النون ويقولون أنعشه الله رفعه بالألف ص بغير ألف. قلت أنعش مثبت عند بعض اللغويين ولكن الجوهري يأباه. ويقولون كأنجع فيه الدوآء بالألف ص نجع بغير ألف. قلت أنجع مضعفاً وأنجع أيضاً مدونان.

ويقولون قد نشوت في نعمه بالواو ص نشيت بالياء ويقولون مكان ندي بتشديد الياء ص ندٍ منقوص ويقولون نصحتك ص نصحت لك. قلت إنما نصحت لك أفصح وإلا فإن نصحتك موجودة وكثير استعمالها. ويقولون النكس في المرض بفتح النون ص ضمها ويقولون أبو نواس بفتح النون وتشديد الواو ص ضم النون وتخفيف الواو ويقولون نثر كنانته ص باللام (نثل) ويقولون جاءَ نعي فلان بسكون العين ص كسر العين وتشديد الياء وإنما النعي بتسكين العين هو مصدر نعيته نعياً ويقولون نشقت ريحاً بفتح الشين ص بكسرها ويقولون مائة ونيف بتخفيف نيف ص تشديده. قلت قيل أنه قد خفف وقيل هو لحن عند الفصحاء ويقولون نبحت عليه الكلاب ص نبحته الكلاب. حرف الواو ويقولون أوعدت الرجل يريدون الخير ص بغير ألف ويقولون الوداع بكسر الواو ص بفتحها ويقولون أوعيت العلم إذا حفظته ص وعيته بغير ألف ويقولون في صدره عَلَى وغر بتحريك الغين ص إسكانها قلت ويحرك. ويقولون للحمل وقر بفتح الواو ص بكسرها وإنما الوقر بفتح الواو الثقل. الزائد من كلام ابن الجوزي ويقولون الوقود يضم الواو يعنون الحطب ص بفتحها ويقولون هذا الإناء قد وسع الطعام بفتح السين ص كسرها ويقولون لدويبة اصغر من الضب الورن بالنون وهو خطأ باللام وجمعه الورلان وقرأت عَلَى شيخنا أبي المنصور قال لم يجتمع الراء مع اللام من لغة العرب إلا في حروف يسيرة إحداها وارول جبل معروف وجرل وهي الحجارة المجتمعة. حرف الهاء. ويقولون هجيب الرجل بالياء ص بالواو ويقولون الناس في هرج بفتح الراء ص بساكنها فأما الهرج بفتح الراءِ فهو أن يسدر البعير من شدة الحر وشدة الطلاء بالقطران. الزائد من كلام ابن الجوزي. ويقولون هاتم وهاتموه ص هاتوا وهاتوه ويقولون فيما يشيرون إليه هو ذا ص هاهو ذا. قلت ويغلط كتاب العصر هنا كثيراً.

ويقولون هوى الشيء إذا هبط ص أن يقال هوى الشيء سواء كان هابطاً أو صاعداً قال الشاعر: بينما كنا في ملاكة فالق ... اع سرعاً والعيس تهوي هوياً خطرت خطرة عَلَى القلب من ذكر ... اك وهنك فيما استطعت مضياً قلت للشوق إذ دعاني لبيك ... وللحاديين ردوا المطيا قلت يقال أن الهوي بالفتح للصعود وللهبوط أم البيت فيشبه أن لا يكون شاهداً في المقام لأن الهوى في السير المضي فيه دون قيد إصعاد أو انحدار. حرف الياء. ويقولون نظرت شملة ويمنة ص يمنة وشامة ويقولون فلان لا يحلي ولا يمري ص لا يحلي ولا يمر ويقولون فلان ما يندى عَلَى أصحابه ص ما يتندى عَلَى أصحابه. الزائد من كلام ابن الجوزي. ويقولون مص يمص وشم يشم بالضم في المضارع ص بالفتح ويقولون يسوى ألفاً يساوي قلت يساوي أفصح ويسوى قليل. ويقولون للمعرض عنهم هو يلهو هنا ص يلهى عنا بفتح الهاء يقال لهى عن الشيء يلهى إذا شغل عنه ويقولون الفأر يقرض بضم الراء ص بكسرها قال ابن دريد ليس في الكلام يقرض (بالضم) البتة. باب يشتمل عَلَى ما وضعته العامة في غير موضعه وهو كلام من الخليل ابن أحمد البصري. فمن ذلك أشفار العين تذهب الناس إلى أنها الشعر النابت عَلَى حرف العين إنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر والشعر هو الهدب. فصل. ومن ذلك الطرب يذهب الناس إلى أنه الفرح دون الجزع وليس كذلك وإنما الطرب خفة تصيب من شدة السرور أو من شدة الجزع ومن ذلك الرفقة يسمونها قافلة ذاهبة وراجعة ص أن تسمى قافلة إذا رجعت ومن ذلك الحشمة يضعها الناس موضع الاستحياء وليس كذلك إنما بمعنى الغضب ويقولون للمصيبة مأتم وكنا في مأتم يريدون بذلك المصيبة وإنما

المأتم النساء الذين يجتمعن في الخير والشر والجمع مآتم ص أن يقال كمنا في مناحة والحمام يذهبون إلى أنها الدواجن التي تستفرخ في البيوت خاصة ص الحمام ذوات الأطواق مثل الفواخت والقماري والقطا ويسمون الظل فيأ يذهبون بذلك إلى أنهما شيءٌ واحدٌ ص أن يكون الظل غدواً وعنياً من أول النهار إلى آخره والفيء لا يكون إلا بعد الزوال فلا يقال لما قبل الزوال فيء وإنما سمي بالعشي فيأ لأنه ظل فاء عن جانب إلى جانب أي رجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق والفيء الرجوع ويجعلون أيضاً الفقير والمسكين شيئاً واحداً فالفقير الذي لا يملك شيئاً والمسكين الذي له بلغة من العيش ويجعلون الخلف والكذب شيئاً واحداً فالخلف لما يستقبل وذلك أن تقول سأفعل كذا ولا تفعله والكذب فيما مضى وذلك أن تقول فعلت كذا ولم تفعله ويغلطون ويقولون قد احتسب له ابناً وبنتاً إذا ماتا صغيرين أو كبيرين إنما الصواب أن يقال احتسب ابنه وبنته إذا كاتا كبيرين فإن ماتا صغيرين قيل افترط فرطاً ويقولون فلان حسيب يعنون بذلك أنه جيد الآباء ما جدهم وذلك الغلط إنما الحسيب في نفس الرجل يقال رجل حسيب وإن لم يكن له آباء أشرف وأمجاد فإن كان مجد الآباء شريفهم قلت رجل شريف أو ماجد لا غير. باب اللفيف ويقولون اختفيت من كذا أي استترت وإنما الاختفاء إظهارك الشيءَ ص أن يقال في الاستتار استخفيف ويقولون آخر الداء الكي ص آخر الدواء الكي وقال آخرون آخر الطب الكي ويقولون شن عليه دره أي صهبا بشين معجمة ص بسين مهملة وإنما يقال شن عليهم الغارة بشين معجمة أي فرقها وذكلك شن الماء عَلَى شرابه إذا فرقه عليه فإن أراد أن يصبه عليه صباً سهلاً قال سن الماء عَلَى وجهه بسين مهملة ويقولون هزل الرجل والدابة بفتح الهاءِ ص هزل بضم الهاءِ وكسر الزاءِ في الرجل والدابة من الهزال وإنما يقال هزل بفتح الهاءِ والزاءِ في المزح خاصة ويقولون خمست القوم أخمسهم وعشرتهم أعشرهم بضم الميم من خمست وضم الشين من عشرت إذا صرت لهم خامساً وعاشراً وليس كذلك إنما الصواب أخمسهم بكسر الميم وأعشرهم بكسر الشين إلا الأربعة والسبعة والتسعة فإنك تقول فيها أربعتهم وأسبعهم بالفتح. النجف

محمد رضا الشبيبي.

مباحث لغوية

مباحث لغوية كلمتان لهما من مناقب الحرب والجدال ما لا عظم الأمم المجاهدة وإن الخوف ليأخذ مني ما أخذه أمامهما وكأَني أسمع تلك المشاتمات التي علت زمناً كلمات أردت أن أخطو خطوة إلى حمامها. وكذلك فإن المناقشات اللسانية عندنا كثيراً ما ظهرت في شكل المناقشات اللغوية عَلَى أني لم أملك نفسي اليوم منأن أكتب شيئاً في هذه المسألة وأنا أعلم ماضيها المهيب وما ذلك لأني أراها سهلة ذات جاذبة بل لأني أجدها في هذا الزمن الأخير تحتاج إلى بحث وتدقيق عَلَى أنه لو لم يكن هذا الاحتياج وسيلة كافية للعود إليها لكان لنا من تلك السابقة التي اخترعها شبهال أكبر سائق للتمسك بأهدابها. نعد من الاستيلاء أنواعاً فنقول الاستيلاء السياسي والاستيلاء الاقتصادي الخ وله نوع آخر لطيف يتميز عن غيره بأنه يطلبه من يريد هو أن يستولي عليهم ألا وهو الاستيلاء العلمي فلا أصول الحماية في المكوس ولا بناء السدود ولا جمع الجيوش في الحدود يمنعه إن كان مقدراً. يمر مثل الطيارة فوق هذه جميعاً وهو آمن في سربه يتبختر حتى يصل إلى المحل الذي تخير. يأبى عليك أن دعوته ويجور عليك إن تركته، وهو كضياء الشمس يحرم من الحياة من لم يتطلبه. إن رمت أن ترفع إليه فاخضع وإن شئت أن تكون حراً فاستسلم إليه أسراً. . . . ما أشد تضرعنا لأعتابه الآن! نذهب أفواجاً إلى برلين وباريز ولوندرا ونيويورك حتى يابان ولسوف ندعوه سنين عديدة أن يجيبنا لطفاً منه وتفضلاً فإذا أجاب فلسوف يحملنا من غير شفقة علينا. أحماله الكثيرة ذرة ذرة ... نعم ذا تذلل ولكن العز فيه * * * إن أصلح الاحتلال بصلح هو الاحتلال العملي ولكن إذا تأخرك قليلاص عن تدارك ما يلزم لثوائه - أعني الكلمات والاصطلاحات - فإنه يأتي بها من عنده. أما هو فهو من النجابة وحسن العشرة بمكان وأما توابعه اللفظية فإنها ويا للأسف شكسة شرسة سيئة العشرة فإذا رأت قليلاًَ من التسامح هجمت عليكم فأذهب حسن الذوق من أفواهكم. فإن كنتم تحبوا أن تدفعوا عنكم هذه التهلكة فبادروا بإحضار الكلمات والاصطلاحات. هذه إحدى حاجاتنا التي لا تتناهى. نحن اليوم في موقف إذا أردنا أن نحفظ استقلال لساننا - كما نحفظ استقلال ملكنا - وجب علينا فيه أن نزيد - كما زدنا قوة الجيش - كتيبة

كلماتنا وننسقها وننظمها. وكما أنه من المفروض منع نفوذ الغرب إذا أخذنا حضارته فكذلك من اللازم وضع سد منيع أمام حلول لسانه عندما نأخذ علومه وفنونه. ولكن نرى معيشتنا الجديدة تسهل علينا سرعة اختلاط اللغات. دخلت بيننا اليوم كلمات كنا ننظر إليها بعين غريب قبل ثلاث سنوات مثلاً. قال بكارتويست آنكت بارلمانتير ديمو كراسي بريكوتازالخ ولست أشك في أنه سو يتزايد هذه الحلول الوخيم بسائق المدنية وحرية المداولات. لست ممن يميل إلى الفرار من الأجانب وإني لأرى من الإفراط أن نطرد من حدودنا كلمات تترّكت. ونقيم بدالها كزلمات من مصنوعاتنا المحلية. ولكني أعد ذلك ربحاً كاذباً إن كانت كل إفادة جديدة تحوجنا إلى أخذ كلمة غربية وأقول أنه لا ينبغي من الآن فصاعداً أن نترك دائرة ملك لساننا مفتحة لكل طفيلي من الكلمات غريب ولو عنينا بهذه القاعدة إلى الآن وتجشم كل محرر كلفة اختراع كلمة تركية مقابل كلمة أجنبية يرى نفسه مضطراً إلى استعمالها لما كان تكدر صفو لساننا بتلك الكلمات المبرقشة التي تباين لهجتنا ولكان لتلك الكلمات المخترعة رجاء في حياتها عند من يسمعها لأول مرة ويتعلمها. إبداع اصطلاح جديد لنا إليه حاجة ووضعه في زَي مقبول هو أصعب من تبديل كلمة عمت. وكم من كلمة جديدة أحدثها أهل الفضل والإحسان من الكتاب دخلت منذ زمن غير بعيد إلى لساننا وهي تستعمل فيه بكل رشاقة. حتى أنه ليمكنني أن أسمي الواضع وأبين كيف تلقاها الناس منذ وضعتها إلى الآن وأصور صفحات حياتها وإني لأذكر بعض تعبيرات لم يتم دور تأليفها ولم يمض عليها عمر تشتد فيه قوتها بأن يقبلها فيما يكتبه كاتب غير الذي اخترعها وها نحن نرى أحد الكتاب المحترمين استعمل ثلاث أربع مرات كلمة ذهنيت بمعنى وغني بدون أن أناقش في مكانتها اللغوية - حتى ولو كان فيها غلط من جهة - فإني أرضى باستعمالها بكل منة لأنه لا ينبغي للعطشان أن يرد نصف قدح من الماء إذا لم يجد كأساً دهاقاً. ولا ريب في أن المترجمين من بين الذين خدموا الوطن بأفكارهم وأقلامهم هم أكثر الناس تشيكاً من النواقص اللغوية والأسلوبية في هذا اللسان. إن الأفكار الجامحة التي فهمت ولكنها استعصت عَلَى من فهمها أن يفهمها غيره هي غول المترجمين أن معرفة اللسانيين - كيفية

وكمية - لها دخل عظيم في أداء الترجمة حقها لكن لا ينكر أن أقدر الناس ترجمة تنتابه الفينة بعد الفينة حمى الحمية المتولدة من فقر اللسان عندما يترجم كتاباً له قليل علاقة بدقائق الأفكار والمعاني. إنها لا تزول جميع المشاكل باختراع كلمة تقابل كلمة أجنبية إذ أنه يوجد طرق مختلفة في أداءِ البيان يستحيل أن يؤدي مآلها بتلك البلاغة بوسائط أُخرى. وهذا القسم من الرقي في الأسلوب مؤخر عن تكامل الكلمات وأبطأ منه سيراً فيجب علينا اليوم إذاً أن نعجل في رقي الكلمات. حدود رخصتنا في إبداع الكلمات كل يوم ينال لساننا قطرة لفظ أو معنى يسير به سيراً مطرداً وإن كان غير محسوس فتوسعت حتى تجمعت لدينا في ربع عصر كتابة كلمات لو كان من الممكن أن نخابر أجدادنا لأمكننا - مع فضلهم المحتمل - أن نملأ لهم صحائف مكاتيب طويلة عريضة بتركية لا يفقهونها. فمن أين أتت هذه الكلمات الجديدة مسألة؟ ذات بال؟. كان التجدد في الماديات والمجردات يأتينا ويأتي معه بأسمائه فكلمة تياترو، غرته، دوكتور، أومنيبوس، لوكوموتيف، سيغورطه، بروتستو، نوطه، بيهس، آنسيكلوبويا الخ وغيرها مما تتوالى لواردنا عدها طفيلية دخلت بيننا لأنها لم تترجم بكلمة معقولة تقابلها ومهما كانت لهذه الكلمات من السلالة اللفظية في لسانها فلا أحد ينكر أنها تستثقل عندنا لتباين اللهجتين. وما عدا جماعة هاته الكلمات الأجنبية التي تعيش معتزلة عن كلماتنا اعتزال الأجانب في بلادنا عنا فإنك تجد معمورة لسانية أُسست في مولداتنا القومية وضعها أرباب الحمية من الكتاب هي أصل الثروة عندنا عَلَى ما أرى. وغني لأذكر عَلَى وجه المثال بعض كلمات من تلك الكلمات المحترمة المجاهدة التي تسعى في قضاء حاجتنا المبرمة: تدرج، صائت، صامت، عنعنة، تعويض، تصوت محيط، كراسة، واحة، طيارة، إحصائيات. إن الكلمات الوطنية ويا للأسف تتألم لسوء طالعها من أنها عرضة للاستثقال من لدن أهلها أكثر من الكلمات الأجنبية إذ إنا في الأغلب نعامل اصطلاحاتنا الجديدة معاملة شديدة، ولا ترى تلك الكلمة العثمانية المحدثة في وجهنا أثر تبسم مقدار ما تراه كلمة غيرها أجنبية. نحن أولاً أهل العنف والشدة نوقف تلك الكلمات المسكينة أمامنا ونفحص عن حسبها

ونسبها ثم نتوهم لها عيباً في زيها وحضارتها ورشاقتها كأنه شرف لها أن تكون مملوكة لنا وأما الألفاظ الأجنبية فإنها ترى منا حسن المعاملة كأن بها فخرنا فلا نسال - وحاشاها - من أين أنت أو ذهبت ونرى البحث عن زيها وحضارتها ورشاقتها منافياً لعلو شأنها وإن لها عندنا لزلفى. وكيف لا تمن علينا وهي في الأغلب برهان إملائنا؟ إذا كانت نظارة المعارف لا تفكر في اتخاذ تدبير ينجع أو أنها لا تقدر أن تفكر أو أنها تفكر وليس في وسعها أن تطبق ما تريد فقد وفي الواجب حقه أركان الصحافة التركية مثل شهبال وغيرها إذا فتحوا لهذا البحث صحائفهم. أيستحق المؤاخذة من يضع المشكلات أمام كلمات تدخل إلينا من جديد؟ إذا كنا كذلك فهذا أثر صلاح يحق لنا أن نسر به لأنا لم نتباعد ولا قليلاً في التصرفات اللسانية عن هذا الإهمال مرض اجتماعي اشتهرنا به في جميع شؤوننا وكانت نتيجته أن امتلأَ لساننا بالكلمات الأجنبية وتغير معنى كثير من الكلمات التي أَخذناها من العربية والفارسية منبعين فياضين لإثراء لساننا. فلو طلبنا قبل التصاق الكلمات الأجنبية بلساننا مقابلها وأخذنا الكلمات العربية والفارسية بمعانيها الصحيحة لخدمنا لساننا خدمة يتدرج بها إلى الكمال وإني لآمل أن يشترك جميع أرباب القلم بكل ارتياح بتلك المسابقة التي وضعتموها رجاء اختراع كلمات تقابل تلك الكلمات الأجنبية. وإن مداولة الأفكار في ساحة المطبوعات ليكونن سداً منيعاً أمام تلك المخاطرة أعني استيلاء الكلمات الأجنبية. إن من يقول أن لا إذن لنا في اختراع كلمة تركية أو فارسية أو عربية لم يقل شيئاً ولكن من لا يرى اتباع قيد لساني عند وضع اصطلاح جديد يضمه لسلسلة اللغات العثمانية فهو أيضاً عندي عَلَى غير شيء. إذا كانت الكلمة المخترعة تركية فيها وإلا فإن كانت عربية فإني أحب أن أقول: أنه ينبغي أن تكون مما يحويه اللسان العربي وأن تكون مما يجوز استعمالها قواعد ذاك اللسان. إن المناسبة المعنوية بين ونشب ظاهرة جداً ولكن إذا كانت العرب لم تستعمل صفة مشبهة من مادة نشب فأنك تصيب، عَلَى ما أظن، من لا يهش إليها ولو كانت من السلاسة بمكان ويقول: لنا الحق بإيجاد كلمة جديدة تدل عَلَى فكر جديد ومعنى جديد وضمها إلى مجموعة اللغات العثمانية ولكن لا حق لنا باختراع كلمة عربية في لساننا التركي.

لابد أن نشير إلى كلمة نشيبة الجديدة عندما ندخلها إلى لغتنا بأنها عربية ولكن العرب لا يقبلونها بين كلماتهم العربية بدعوى أن نشيبة من مادة نشب غير مستعملة عند العرب. أفلا يكون هذا من الغرائب؟! نعم قد تغير معنى بعض كلمات عربية في كلماتنا مثل كلمة تحسس من مادة حس فإن معناها في العربية طلب الشيء والبحث عنه فهل نقصد بها هذا المعنى بعينه. إذا قلنا تحسسات وطنبروري؟ لا. وكذلك بعض المصادر الثلاثية فقد جرى عَلَى لساننا مزيدها خلافاً للعرب ومنها تسرير فإنه وإن يكن موجوداً في العربية إلا أنه بمعنى بلغ من ماء النهر أو الحوض سرة الرجل. فهل نستعمله نحن بهذا المعنى؟ قال أرباب القلم من الأتراك في أنفسهم يشتق من الفرح تفريح فلا يشتق من الشرور تسرير فعلوها وزادوها كلمة مغلوطة لا تقبلها العرب بالطبع بين الكلمات العربية. عَلَى أن هذه الأحوال لا تكون لنا سنداً يساعدنا أن لا نتبع قيداً في إحداث كلمات جديدة لأن الباطل لا يقاس عليه. ولنا احتياج لتعلم العربية فينبغي أن تنفعنا في العربية تلك الكلمات المستعملة في التركية ومن الغرائب بل من المؤلمات أن لا نقدر أن نستعمل في العربية كلمة عربية نستعملها في التركية أو أن نضطر إلى استعمالها بغير معناها الذي نعهده. فعلنا ذلك ولكن ينبغي أن لا نفعلها بعد هذا وأن لا نزيد في سقطات لساننا. رأيت في إحدى جرائدنا التركية قبل سبع أو ثماني سنوات أن في مصر وجدوا مقابل كارت دوويزيت تركيب بطاقة الزيارة أما البطاقة فهي موصلة بوصلة توضع بين الأمتعة يكتب فيها مقدار تلك الأمتعة وقيمتها فاقتبسوا تلك الكلمة وأحدثوا هذا التركيب وهو جميل يقابل الإفرنسي كل المقابلة. وأنا أظن أن أمثال محرر شهبال من أرباب القلم ممن لهم قدرة كافية في اللسان إذا تعمقوا في أبحاثهم وجدوا أوفق مقابل للكلمات الأجنبية التي تدل عَلَى معانٍ وأفكار جديدة. * * * هذا ما أردت تعريبه وأنا أرى تلك المسابقة الثالثة وما يتلوها من أمثالها فرصة لتكثير سواد الكلمات العربية فاغتنموها وعندكم من علك اللغة بلحييه فلا يعسر عليه إذا سئل أن يجيب من غير تردد بما يوافق المطلوب. وعلى الجرائد العربية والمجلات نقل هذه المسابقات عيناً أولاً وترجمة الكلمات الأجنبية بجملة - لا بكلمة - تؤدي معناها حق الأداء

ثانياً حتى إذا كان رجل يحسن اللغة العربية ولا يعرف الأجنبية فلا نحرم من علمه وينظر إلى المعنى الذي ذكرناه له بجملة أو جمل فينتخب له كلمة توافقه فنقول له مثلاً ماذا تسمى آلة من خشب أو حديد تسمر عَلَى جدار وفيها أعواد يعلق عليها الثياب فلا أظنه إلا قائلاً لكم يمكن أن نسميها شجاراً. وأن نضع من نفسها مسابقات أخرى مثلها ثالثاً ومن كان منها ذات ثروة جعلت للمجيد جائزة عَلَى أني أرى اكبر جائزة للعالم أن يخدم لغته وأن يقال أنه أبو عذرة هذه الكلمة. وكيف يجوز لنا أن نبقى عَلَى الحياد وأن ننظر من بعيد وغيرنا يتصرف في لغتنا كيف يشاء ولست أريد بذلك أن نمنعهم عن الاقتباس والتصرف لكني أريد أن يعلم أخواننا العرب أن من الواجب عليهم أن يشتركوا في تلك المباحث اللغوية ولو بلغتهم إن لم يعرفوا التركية ويناقشوهم حتى يتبين الحق فنفيد ونستفيد. نفيد أخواننا الأتراك إذ نعطيهم كلمة خيالية عن الغلط الصرفي في مؤديه للمعنى المراد هم في حاجة إليها ونستفيد إذ نحن أيضاً أحوج منهم إلى أمثال تلك الكلمات.

الألقاب العلمية

الألقاب العلمية ليس في الأيدي من مستند يركن إليه في تاريخ حدوث الألقاب العلمية في الملة الإسلامية والظاهر أنها حدثت في النصف الأخير من عهد بني العباس وشاعت وتأصلت زمن ملوك الطوائف ثم عَلَى عهد الدولتين الجركسية والعثمانية في هذه الديار أيام أصبح العلم عبارة عن رسوم والعلماء هم الذين يقربهم الملوك والحكام ولو كانوا أجهل من قاضي جبل بل أصبح أمر الألقاب أقرب إلى الهزل منه إلى الجد فصارت جملة أعلم العلماء المحققين تطلق عَلَى كل صعلوك نال منصبه في القضاء أو الإفتاءِ أو التدريس بالشفاعة أو القرابة أو الإرث لأن العلم في الثلاثة القرون الأخيرة أصبح يورث كما يورث الماعون والحرثي والعقار والمزرعة. نعم غدت الألقاب العلمية التي لم تطلق عَلَى أبي حامد الغزالي وأبي عمر والجاحظ وأبي الوليد وابن رشد وأبي النصر الفارابي إلا بشق الأنفس تطلق عَلَى ما يحتاجون أن يرجعوا إلى الكتاب بل عَلَى عامة ليس لهم من أدوات العلم إلا أنهم اهتموا بالبياض ولبسوا الجبة عَلَى الزي المتعارف لهم. وإن ألفاظ العالم والعلامة والإمام والرباني والحبر التي لم تطلق عَلَى أكثر حملة الشريعة والعلم أيام نضارة الدين أصبحت تطلق عَلَى الجهلاء لعهدنا فبعد أن كانت هذه الألفاظ تجعل لأفراد في الأمة امتازوا ميزة ظاهرة بعقولهم وعلومهم وقد تستعرض القطر بل الأقطار بل العصر والأعصار ولا تجد واحداً استحق هذه الألقاب صرت إذا دخلت في عهدنا إلى مدينة صغير كطرابلس الشام تظن نفسك وجميع من لهم شيء من الذكر قليل أو تولوا منصباً ولو حقيراً في خدمة الحكومة يعطون لقب العالم الفاضل والعلامة الفاضل والإمام المحدث بدون نكير. كان يقال لجبير بن زهير الحضرمي عالم أهل الشام وللخليل بن أحمد علامة البصرة ولمالك بن أنس إمام دار الهجرة ولعبد الله بن العباس رباني هذه الأمة أما اليوم فألفاظ عالم وعلامة وإمام تطلق عَلَى الممخرقين والمتنطعين الذين لم ينفعوا الأمة بشيءٍ فقد كان يلقب بالعلامة الأول قطب الدين الشيرازي كما يطلق لقب العلامة الثاني عَلَى سعد الدين التفتازاني عَلَى نحو ما أطلق عَلَى أرسطو لقب المعلم الأول والفارابي لقب المعلم الثاني. تشدد القوم في إطلاق ألقاب التفخيم حتى عَلَى العلماء صيانة لألقابهم من الابتذال فرأينا

العصام في حاشيته عَلَى الجامي لا يوافق الجامي بإطلاقه عَلَى ابن الحاجب لفظ العلامة المشتهر في المشارق والمغارب فقال أن في وصف ابن الحاجب بالعلامة نظراً لأن هذا اللفظ إنما يناسب فيما بين العلماء من جمع جميع أقسام العلوم كما هو حقه من العلوم العقلية والنقلية وليس ابن الحاجب إلا من العلماء في العلوم النقلية. ولذا خص من بين العلماء قطب الملة والدين الشيرازي بالعلامة حيث سبق العلماء كلهم في جميع أقسام العلوم. هكذا كان أدب سلفنا أما اليوم فقد استرسل عباد المظاهر في هذا الشأن فسموا إلى تلك الألقاب الشريفة التي لم يجوزوا إطلاقها عَلَى مثل ابن الحاجب الإمام المحقق في فنه وبلغت الحال ببعضهم أن صاروا يكتبونها بأيديهم عن أنفسهم كأن العلامية أو العالمية والإمامية لا تثبت بالأذهان إلا بمثل هذا العمل. وعندنا أن الأحرى بمن تدور معارفه عَلَى الفقه وحده أن يسمى فقيهاً إن كان ممن برزوا حقيقة في أصوله وفروعه ومن اقتصر عَلَى الأصول وحده أن يسمى أصولياً ومن غلب عليه علم الحديث أن يقال عند حديثياً وإلا كلمة عالم لا تقال إلا لمن يعلم بما يعلم كما قال بعضهم وإن شئت فقل لمن يظهر فيه أثره ويمتزج بأجزاء نفسه أي امتزاج قال ابن جني: لما كان العلم قد يجوز الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة ولم يكن عَلَى أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان متعلماً لا عالماً. جرت عَلَى هذه القاعدة الأمم الراقية قديماً وأمم المدنية الحديثة لعهدنا فلم يطلق عَلَى سقراط أو أفلاطون أو أرسطو الفلاسفة ألقاب العلماء في بلاد اليونان إلا بعد أن قضى كل منهم سنين في التعلم وسنين في التعليم وهكذا رايتنا الأمم الحديثة لم تطلق عَلَى نيوتن وهكسلي وكونت وكانت وكيتي اسم عالم إلا بعد أن درسوا الدروس النظامية كلها وبرزوا عَلَى رجال عصرهم بفنون مخصوصة أبرزوا فيها آثار علمهم وأثروا في محيطهم. ومن عجيب الأخلاق أن من ينتسبون لشيء من علوم الدين في عهدنا يعز عليهم إلا أن تبقى ألفاظ العالم والمحقق والعلامة محصورة بأهل طبقتهم كأن من يعلم الهندسة أو الطب أو الحقوق أو الصحافة أو السياسة لا يستحق أن يعد من العالمين ولو أيدت عامه أمثلة كثيرة يريدون أن تبقى هذه الألفاظ لهم وكذلك بعض المشتغلين بهذه العلوم الدينية يعز عليهم أن يطلقوا الألقاب العلمية عَلَى من لا يعلمون علومهم في حين رأينا صاحب إرشاد

القاصد وصاحب كشف الظنون عدا العلوم كلها دينية ودنيوية وسمياها كزلها علوماً حتى السحر والطلسمات والشعبذة فذكر الأول من أنواعها مئة والنوع الثاني مئة وخمسين نوعاً. وغريب كيف أخرج بعضهم في القديم إسحق بن إبراهيم الموصلي من سلك الفقهاء وكان أحرى أن يعد بينهم لأنه يلحن الأنغام ويخترع ضروب الغناء ويشتغل بآلات الطرب مع أنه ليس دون علماءِ عصره بعلومهم ولكن غلب عليه الغناء فعدوه في الندماءِ كما غلب الشعر عَلَى بعضهم فعدُّوه في الشعراءِ أمثال أبي نواس وما هو في الحقيقة إلا من كبار علماءِ العربية. وإنا إذا استقرينا التاريخ عَلَى اختلاف العصور نجد أن المنصفين من المؤرخين يذكرون العالمين بغير العلوم الدينية كما يذكرون علماء الدين لأنهم كلهم أعضاء نافعون في المجتمع فقد كان خالد بن يزيد الأموي من أهل القرن الأول عالم قريش بالكيمياء والطب بصيراً بهذين العلمين وكان أبو الفضل الحارثي من أهل القرن الخامس عالماً بالهندزسة والفلك والحساب والتقسيمات والهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب ومحمد القيسراني من أهل القرن الخامس أيضاً عالماً بالمساحة والميقات والفلك ورضوان الخرساني من أهله أيضاً عالماً بالرياضيات وأبو المجد ابن أبي الحكم من أهل القرن السادس عالماً بالطب والهندسة والنجوم والموسيقى والعدد والغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات عمل أرغناً وبالغ في إتقانه وكان أبو صلاح من أهل السادس عالماً بالطب والفلسفة وابن المؤيد العرضي ورفيع الدين الجيلي وعز الدين الأربلي من أهل السابع علماء بالفلسفة والرياضيات. وهكذا لو استقصينا كتب التراجم لعثرنا من أسماء المشتغلين بغير العلوم الدينية عَلَى سلسلة طويلة وكلهم أطلق عليهم اسم العالم والمحقق والإمام والعلامة عَلَى رغم أنوف المكابرين وذكرتهم الأعصار بآثارهم أكثر مما جعلوا مناصب الدين وألقابه سبباً إلى الدنيا ونيل الحظوة من العامة والزلفى من السلاطين والأمراء. وقد رأينا بعض المشتغلين بعلوم الشريعة لعهدنا يتخلصون من إطلاق لفظ عالم وعلامة عَلَى من لم يتزي بزيهم الخاص بأن يطلقوا عليه اسم الكاتب عَلَى أن لفظة كاتب التي يحتقرونها قلَّ في المعدودين من يستحقها قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر ينبغي

للكاتب أن يتعلق بكل علم حتى قيل كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه فيقال فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول فلان الكاتب وذلك لما يفتقر إليه من الخواص في كل فن اهـ. وهذا التحكم البارد في الحط ممن أخصوا في بعض الفنون التي يجهلها أكثر المتعلمين ولا يعدونها علماً في نظرهم يخرج كثير من الأئمة في عداد العلماء ممن لم تكن الكتابة إلا من جملة ما يعملون أمثال الجاحظ فإنه بحسب عرفهم كاتب فقط لأنه مجيد في الإنشاء للغاية وكذلك القاضي الفاضل ابن خلدون وابن فضل الله وأبو الفدا وغيرهم من مشاهير العلماء الذين كانوا أئمة في الإنشاء هذا لأن أولئك الأعلام لم يؤلفوا أم لم يريدوا أن يؤلفوا في الفقه والأصول والكلام والحديث عَلَى حين ورد في الكتاب العزيز يعمله علماء بني إسرائيل فأطلق الله عليهم لفظ علماء وجاء فيه والذين أوتوا العلم درجات قال الراغب أن هذا تنبيه منه تعالى عَلَى تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها. ولقد شاهدنا ما يضحك من تحكم بعض أرباب الصحف السيارة في الألقاب العلمية حتى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا في ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم بحال لأن محرر كل صحيفة يعطي من الألقاب لمن يستحي العاقل من إطلاقه عَلَى أفضل أهل العصر ويمنع ذلك عن المستحق يريد بذلك إسقاطه حتى قال بعضهم من العلامة أن لا تكون للمرء علامة فما دامت لفظة علامة تطلق عَلَى المغفلين من الطلبة فأجدر بمن يستحقون هذه اللفظة أن يزهدوا فيها وهكذا لفظ الأستاذ والمعلم والفاضل وهذه اللفظة اليوم تطلق عَلَى تسعة أعشار من يقرأون ويكتبون. وبعد فإن سلسلة الارتقاء وسلسلة الانحطاط نمط واحد يتبع بعضها بعضاً في كل أمة والتغالي في الألقاب من جملة تعلق الأمة بل من يطلق عليهم الخاصة منها القشور دون اللباب. وما أجدر أرباب الصحف والمجلات أن يتخلوا عن هذه الألقاب التي لا ميزان لها ولا مقياس وأن يذكروا الأسماء مجردة كما هو اصطرح الأمم الراقية كالإنكليز والأميركان والفرنسيس والألمان بل كما كان اصطلاح أجدادنا العرب في صدر الإسلام والجديرون بالوصف تم أوصافهم عنهم من مثل التعليم زمناً وتخريج طلبة راقين أو الإجادة في التأليف وغير ذلك من سمات الفضل والعلم قال المقدسي إن مراتب السادات مثل جليل وفاضل

رسم الرسائل لا رسم التصانيف. والجرائد والمجلات كالكتب لا تخرج عن حد التأليف في صورة أخرى ولذا وجب أن تعرى من ألفاظ التمجيد ولاسيما إطلاق الألقاب العلمية عَلَى من تذكرهم لأن في ذلك تضليلاً للعقول واستهزاء بمقادير أهل الأقدار.

الخزانة التيمورية

الخزانة التيمورية في مصر عَلَى انحلال محسوس في العزائم بعد سن طلب العلم همة عالية تشهدها لبعض الأفراد فيكفر العالم عن ذنب الخامل ويشفع العالم بجهل الجاهل فقد انقطعت الرغبات في المطالب العالية بعض الشيء وقل في مصر النوابغ وإن عم التعليم أهل الطبقتين الوسطى والعليا في المدن والحواضر وكانت أكبر آفة عَلَى العلوم والمعارف هنا ما وقر في نفوس القوم من أن العلم يراد منه التوظف والكسب لا لما فيه من الفوائد المعنوية الشريفة وقلّ أن رأينا رجلاً في مصر اشتغل بالعلم من حيث هو علم لا لمغنم عاجل يغنمه أو لمظهر مبهرج يفوز به ومن تلك الفئات الصالحة التي تنزع لخدمة العلم والآداب من حيث منافعها المعنوية وأغراضها السامية أحمد بك تيمور أحد سراة هذه العاصمة وعلمائها العاملين عرفناه منذ اثنتي عشرة سنة يختلف إلى شيوخ والدب في القاهرة يذاكرهم ويأخذ عنهم ويجعل منزله مجمعاً للعالمين والمتأدبين والطالبين لم تبهره النعمة ولم يبطره المال والجاه بل كان يصرف فضل نعمته في ترقية نفسه ومن استطاع إبلاغ النور إليهم وما كتبه في الصحف والمجلات حتى اليوم أدل دليل عَلَى ما هناك من أدب غض ونظر سديد فيما يعانيه من الأبحاث ولقد كنا نلحظ أن صديقنا من غلاة الكتب كما هو من الغلاة في اللغة والتاريخ والأدب ولكن ما كان يدور بخلدنا أن يجمع مع الزمن خزانة كتب قلَّ لشرقي أن جمع مثلها في هذا العصر إلا ما يقال عن خزانة كتب رضا باشا في الآستانة ولكن المزية التي في الخزانة التيمورية أن صاحبها عارف معرفة كافية بما حوته من أسفار العلم وقد اقتناها بمعرفته وفضل نعمته من مال حلال مال الزراعة المبارك ولعل خزانة كتب شيخ الإسلام عارف حكمت بك التي سبلها عَلَى الناس في مدينة الرسول تشبه الخزانة التيمورية كما تقرب منها بعدد المجلدات. تفضل تيمور بك بإعارتنا كل ما طلبناه من مخطوطات خزانته ومطبوعاتها في السنين الثلاث الأولى لهذه المجلة فتكلمنا عَلَى بعض النوادر منها ولكن لم يكتب لنا أن نراها كلها إلا هذه المرة وقد دعانا والأستاذ الشيخ طاهر الجزائري إلى إحدى مزارعه في قويسنا من عمل مديرية المنوفية في الدلتا فاغتنمنا هذه الفرصة لنصف هذه الخزانة التي طالما أعجبنا وأعجب بها غلاة الكتب في المشرق والمغرب خصوصاً ونحن في صحابة أحد كبار شيوخ العلم العارفين بدرر الأسفار في ديار العرب وهو الذي تولى الترجيح في اختيار الأندر

فالأندر وناهيك بما يرجحه الأستاذ. أقام تيمور بك ردهة كبيرة في أعلى قصره في قويسنا نقل إليها كتبه من القاهرة ليخلوا هناك بنفسه ويتوفر عَلَى المطالعة والمراجعة في ذاك الهواء الطلق البعيد عن الضار من جراثيم المدينة الحديثة ويخلص من تزاحم الأنفاس وتشعب العوامل القاطعة في العواصم عن الطلب والتبحر والتأمل ففزع بكتبه وأدبه إلى أرض الدلتا أخصب بقاع هذا الوادي الخصيب يحمل أسفار العلم والأدب إلى ركائز الإبريز ورغام الذهب. وبعد فقد رأينا عملاً خاصاً أو عاماً منسقاً تنسيق المكتبة التيمورية فالمكتبة بالفهرس البديع الذي دونه لها جمعها فجعل كل علم مع علمه وقرن كل شكل مثله ليسهل إحضار أي كتاب منها في دقيقة مع أن مجلداتها لا تنقص عن ثمانية آلاف مجلد منتقاة ومن خلق صاحبها أن لا يضن بأندر كتبه عن المشتغلين والمستنسخين عَلَى خلاف سنة بعض غلاة الكتب في مصر والشام ممن لا يسمحون بالنظر إلى كتبهم ولا باستنساخها والأخذ منها ولو كانوا ينظرون فيها آونة الفارغ لهان الخطب فيهم ولكنهم منعوها عن الناس فأمست مظلومة في قماطرهم ويا بئس ما يعملون. وهاك الآن النادر من مخطوطات هذه الخزانة التي نرجو لها زيادة النمو عَلَى هذا النحو تنشر قائمتها خدمة لأهل العلم والدب ممن أخذوا النفس بإحياء آثار العرب ولاسيما علماء المشرقيات في ديار الغرب وكبار الطابعين في هذا المشرق العربي داعين لصاحبها المنوه بقدره أن يظل عَلَى مضائه وبذله في اقتناء كل نفيس وعلى همته وصحته بالوفور والنماء. التفسير مختصر الانتصاف لابن هشام النحوي تفسير ابن عطية الأول والثاني زاد المسير لابن الجوزي (الثاني والثالث) نظم الدرز في تناسب الآي والسور للبقاعي (الأول) تفسير جزء عمَّ للرّماني تعليق عَلَى أماكن من التنزيل لابن أبي شريف أحكام القرآن للقرطبي (الجزء الأول)

البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني الجزء الثالث من إعراب القرآن لابن النحاس كتب سنة 641. إعراب مشكل القرآن لمكي كتب سنة 490 ونيف. مبهمات القرآن للسهيلي (منه نسختان إحداهما في المجاميع). الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي. مختصر العقد النظيم في كنايات القرآن وغريبه لابن أبي المعالي الأنصاري. الرعاية في تجويد القرآن لمكي. النشر في القراآت العشر لابن الجردي. مصطلح الحديث الخلاصة في معرفة الحديث وأصوله للطيبي (نسختان الثانية في مجموعة 172). ألفية السيوطي (نسختان). شرح ألفية العراقي للمصنف (وهو الشرح الصغير ولم يعثر عَلَى الكبير إلى الآن). شرح بغية الطالب الحثيث للشمني. الحديث مختصر استدراك الحافظ الذهبي عَلَى مستدرك الحاكم عَلَى الصحيحين. جامع الأصول لابن الأثير. مختصر جامع الأصول للمروزي. فضائل القرآن وأدبه ومعالمه لأبي عبيدة القاسم ابن الإسلام. شهاب الأخبار للقضاعي وشرحان عليه. حاشية الشمني عَلَى الشفا. علل الحديث لأبي حاتم الرازي (وهو من أهم كتب علل الحديث). العقائد المطالب العالية للفجر الرازي. شرح العبري عَلَى صوالع البيضاوي. التحبير في أسماء الله للقشيري.

المجلد الثاني من الإبانة لابن بطة وهو سبعة أجزاء. الجزء الرابع من الجمع بين العقل والنقل لابن تيمية من النسخة الكبرى والذي طبع مختصر. عمدة الأكياس في عقائد الزيدية لبن صلاح الشرفي. رسالة إنقاذ البشر من القضاء والقدر للشريف المرتضى ضمن مجموعة 169 عقائد. المعارف العقلية للغزالي ضمن مجموعة 252 عقائد. الأصول المحصول للفخر الرازي. الجزء الأول من الأحكام للآمدي. شرح ركن الدين عَلَى مختصر ابن الحاجب. شرح العبري عَلَى منهاج البيضاوي. الجزء الأول من نهاية الوصول للأرموي. الفقه الفتح الرباني للإمام المتوكل ملك فاس 283. 320 جزء من تقريرات ابن رشد عن المدوّنة. 797 القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام. 288 القواعد للزركشي. 306 نظم مفردات الإمام ابن حنبل للمقدسي. 193 الفتح الرباني في مفردات ابن حنبل الشيباني للدمنهوري. 229 و233 نسختان من الإفصاح في اختلاف المذاهب الأربعة لأبي هبيرة. أخلاق 185 صولة العقل عَلَى الهوى لابن الجوزي. الحكمة 67 تعليقات الشيخ الرئيس ابن سينا. اللغة

الغريبين للهروي. التنبيه عَلَى ما وقع في الغريبين من الخطأ للسلامي. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. مشارق الأنوار للقاضي عياض وهو في غريب الحديث (نسختان). الزاهر في غرائب ألفاظ الإمام الشافعي للأزهري. المغرب للمطرزي (ثلاث نسخ). الغريب المصنف لأبي عبيد. المرصع لابن الأثير (وقد طبع في أوربا) في الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأذواء والذوات. تبين المناسبات بين الأسماء والمسميات. مختصر إصلاح المنطق الأصل لابن السكيت والاختصار لأبي القاسم الراغب والظن أنه لأبي الحسين الوزير المغربي. تحرير الرواية لتقرير الكفاية وهو شرح كفاية المتحفظ لابن الطيب الفارسي. شرح ابن دريد عَلَى منظومته في الممدود والمقصور. المترادف للأصمعي. مثلث قطرب (في كراسة وهو أول مؤلف في المثلثات). المثنى تأليف محمد بن بدر الدين المنشي. التكملة والذيل عَلَى درة الغواص للجواليقي (نسختان). الصرف تصريف ابن مالك ويليه شرحه لابن إياز النحوي. متن عقود الزواهر للقوشجي في الوضع والصرف والاشتقاق. النحو وسر العربية الخصائص لابن جني. حواشي ابن هشام عَلَى الألفية. رسالة في معاني الحروف للرماني.

المسائل الحلبية لأبي علي الفارسي. البلاغة قانون البلاغة لأبي طاهر محمد بن جبلة البغدادي. الجامع الكبير لعز الدين ابن الأثير. التبيان لابن الزملكاني وهو مختصر دلائل الإعجاز. الشعر شرح الأعلم الشمنتري عَلَى الدواوين الستة (النابغة وعنترة وطرفة بن العبد وزهير وعلقمة الفحل وامرؤ القيس وقد طبع منه شرح طرفة). ديوان قيس بن الخطيم. ديوان سحيم عبد بني الحسحاس. شرح ديوان جرير. شرح ديوان ذي الرمة. شرح المعلقات للنحاس. 270 شرح معلقة عمرو بن كلثوم للنحاس. شرح لامية العرب لابن الأجدك والعكبري (ولشرح العكبري نسخة أخرى). المبهج في شرح أسماء رجال الحماسة لابن الجني. معاني الشعر للأشننداني. حماسة الخالديين. الحماسة البصرية لعلي بن فرج البصري. شرح ديوان أبي تمام للتبريزي وقطعة صالحة من شرح الصولي. ديوان ابن الرومي في ثلاث مجلدات. عبث الوليد لأبي العلاء المعري. نسخة من ديوان أبي فراس بها زيادة عَلَى المطبوع. رد عَلَى رد وهو رد لابن السيد البطليوسي عَلَى ما رد به عليه أبو بكر بن العربي في شرحه شعر أبي العلاء.

منتخب نزهة الألباء فيما يروى عن الأدباء للشيخ عبد العزيز بن جماعة والأصل له أيضاً (بخط مؤلفه). شرح ابن بدرون عَلَى قصيدة ابن عبدون بها زيادات كثيرة من غير المصنف نمرة 399. الأدب 19 مختارات رسائل الجاحظ. جلوة المذاكرة وخلوة المحاضرة للصرح الصفدي. المضنون به عَلَى غير أهله لعز الدين الزنجاني. رسالة في الحنين إلى الأوطان للجاحظ (ضمن مجموعة رقم 351). التاريخ مختصر تاريخ الإسلام للذهبي. طبقات الحفاظ للسيوطي لخصها من طبقات الذهبي وذيل عليها. الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء أعالي الصعيد للأدفوي. الوافي لاوفيات للصفدي (ستة أجزاء منه). ذيل الدرر الكامنة لمؤلفه ابن حجر وبخطه. أعتاب الكتاب لابن الآبار. الكوكب الثاقب لعبد القادر السلوي الأندلسي. الطب شرح أرجوزة ابن سينا لابن رشد. أصول الطب لعلي بن رضوان. مختصر مفردات ابن البيطار لابن منظور صاحب لسان العرب. غنية اللبيب حيث لا يوجد طبيب لأبي الحسن القرشي. الفلك منتهى الإدراك في تقاسيم الأفلاك بمحمد بن أحمد الحسيني الخرقي المتوفي سنة 533. كتاب الإمام يوسف بن عمر بن رسول ملك اليمن في صناعة الإصطرلاب وعملياً عليه إجازات من علماء الهيئة.

فنون منوعة كتاب المسائل والأجوبة لابن السيد البطليوسي. القانون في علم البيرزة وهي تربية الصقور للصيد وأصناف معالجتها. الأقوال الشافية والفصول الوافية للملك عي بن داود الغساني الشهير بابن رسول في الخيل وما يتعلق بها. الصعقة الغضبية في الرد عَلَى منكري العربية للطوفي. المجاميع 12 رسالة في أصول الهمزات التي في الأسماء والأفعال والحروف لابن خالويه وقبلها وبعدها رسالة في الهمزات أيضاً. 39 نكت عَلَى مقامات الحريري مما علق من مؤلفها. عرض الإمام بن المعطي. بديع الإمام ابن المعطي. نسب عدنان وقحطان للمبرد. 50 ما يذكر ويؤنث من الإنسان واللباس لسليمان بن محمد النحوي. أسماء الخيل وفرسانها لابن الأعرابي. نسب الخيل في الجاهلية والإسلام لابن الكلبي. كتاب الأمثال لأبي عكرمة الضبي. 80 عجالة المبيتدي في علم النسب للحازمي. 89 بغية المؤانس من بهجة المجالس لأبي عثمان بن ليون. لمح السحر من روح الشعر له أيضاً اختصره من روح الشعر لابن الجلاد. 105 أسماء الأسد وكناه وأسماء الذب وكناه لابن الصاغاني. 139 قصيدة ابن الدريهم في حل المترجم. 152 المقالات الفاخرة في النصيحة الباهرة للزمخشري. ذيل التفسير الدر النثير شرح التيسير للممالقي.

التسهيل في علوم التنزيل لابن جزيّ. مشكلات الكتاب للشاطبي (لأبي عبد الله محمد الأندلسي عرف بالشاطبي). الإشارات الإلهية للطوفي. بديع القرآن لابن أبي إصبع. الحديث المغني عن الحفظ لعمر بن بدر الدين الموصلي (أورده صاحب القاموس في سفر السعادة). التمهيد لما في الموطأ في المعاني والأسانيد لابن عبد البر (الجزء الخامس). الأصول البحر المحيط للزركشي في ثلاث مجلدات. الفرائض. كفاية الفارض المرتاض في التنبيه عَلَى ما أغفله جمهور الفرائض لابن صفوان. الأخلاق الآداب الشرقية والمصالح المرعية لابن مفلح. اللغة التوقيف عَلَى مهمات التعاريف للمناوي. غريب الحديث لأبي عبيد (مخروم الأول والآخر). أبنية الأفعال لابن القطاع. شرح ابن جني المسمى بالمنصف عَلَى تصريف المازني. سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي. الشعر شرح الشريف الغرناطي عَلَى مقصورة حازم. الأدب التشبيهات المشرقية لابن عون الكاتب. الرياضيات

تكميل التذكرة لعمر الفارسي ألفه للملك أبي الفدا. الفنون المنوعة رسالة في الفتوة لإدريس ابن بيدكين التركماني. هذه هي الأسفار التي تشتد الحاجة إلى طبعها وإحيائها في الدرجة الأولى وإليك أسماء ما يطبع وينشر بعدها: التفسير 154 تفسير أبي الليث السمرقندي. الجزء الثالث من الوسيط والوجيز. تقريب التفسير للغالي. تفسير علم الدين السخاوي. نواهد الإبكار للسيوطي حواشي البيضاوي تفسير سورة الرحمن للزبيدي. أحكام البسملة للفخر الرازي. تفسير إنا عرضنا الأمانة عَلَى السموات والأرض الآية وكتاب آخر. 123 كتاب أسباب النزول. الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ضمن ثلاث رسائل. رسالة في إثبات واو الثمانية. كتاب الوقف والابتداء للغزالي. العنوان في القراآت السبع لابن خلف. شروح الشاطبية. شروح مورد الظمآن في الرسم. إرشاد المبتدي للقلانسي في مجموعة 186 ومعها أرباع القرآن. مصطلح الحديث حاشية ملا علي قاري عَلَى نزهة النظر نسختان.

شرح جاد المولى عَلَى البيقونية. حديث التنقيح للزركشي والتوشيح للسيوطي. شروح مشارق الأنوار. الدرر الزاهرة للسامي. أمالي الباغندي. مختصر درر البحار للسيوطي. زيادات الجامع الصغير للمؤلف. شرح الأربعين النووية (أنظر مجاميع الحديث). 257 رسالة في الأحاديث المتشابهة. 175 تخريج الأحاديث والأذكار النووية لابن حجر. 229 أسباب الحديث لابن حمزة. العقائد 203 قصد السبيل للكوراني. 191 تحقيق الأولى للزملكاني. 59 الأمانة الكبرى للذهبي. 60 طريقة الاستعاذة في الإمامة لأبي هاشم. 176 روضة الإفهام أو التاريخ عن سيرة ابن عبد الوهاب الإحسائي. 178 كتاب في الفرق الإسلامية والكفرة للفخر الرازي. 177 رسالة في الرد عَلَى البكتاشية. أصول 86 لباب الأصول للسيد الجرجاني. الفقه 236 الكلمات الشريفة في تنزيه أبي الحنيفة لنوح أفندي ابن مصطفى. 159 نزهة العين في زكاة المعدنين للعلامة حسن الجبرتي.

نسختان من شرح الصدر الشهيد عَلَى الجامع الصغير. 321 حاشية أبي السعود عَلَى الأشباه والنظائر (في جزأين غير كاملة التأليف). 285 تعارض البيتين للخضاف. 281 تحرير المقال في أحكام بيت المال للدنوشري. 88 الحدود والأحكام. 307 خبايا الزوايا للزركشي. 310 البيان فيما يحل ويحرم من الحيوان لابن العماد. 220 تيسير الوقوف للمناوي. 912 توقيف الحكام في الأنكحة لابن العماد. 359 جزء من مسائل الخلاف للدبوسي. 163 تقويم النظر بجداول في الخلاف. 312 كشف المروط عن محاسن الشروط. 366 الكشف التام عن إرث ذوي الأرحام للمحلي الشافعي. التصوف 78 القول المحمود لسبط الشر بلالي. 112 تأييد الحقيقة العلية للسيوطي. 40 معه محض النصيحة للغزالي. 95 مجموعة لسيدي أحمد زروق. الأخلاق 182 وصية الإمام الشافعي وبهامشها وصية ابن خفيف. 183 الآداب الملوكية لأبي نصر الفارابي. 117 عيون الأخبار للخمي. 1 الذريعة للراغب نسخة يغلب عليها الصحة. 167 محاسن الإسلام. 199 رسالة للعضد في الأخلاق.

94 لمح الفكر لبسط الغزالي. 109 نصيحة الحكام. أربع رسائل في الأخلاق. 141 غرائب الأول للغزالي. 112 نهاية الرغبة في الحسبة. 195 أحكام الاحتساب ألفه سنة 1267. 149 فيض الحرم. الحكمة 194 فيض الحرم. رسالة المعاد لا بن سينا. شروح عينية ابن سينا. 83 الاستبصار فيما تدركه الإبصار للقرافي (في علم المناظر). 53 مجموعة في الحكمة. 55 مجموعة أخرى. 86 مجموعة أخرى. المنطق 44 الآيات البينات. 77 تعريب الرسالة الفارسية للسيد لولده. 17 مجموعة. آداب البحث 11 شيخ الإسلام عَلَى السمرقندي. 13 مجموعة في آداب البحث. اللغة 6 سفر السعادة للسخاوي 32 الوجوه والنظائر.

35 تحفة الأريب في غريب القرآن لأبي حيان. 55 دستور اللغة. 56 تاج المصادر لأبي جعفر محمد البيهقي. نسخ من مقدمة الأدب. 78 نظم الفصيح لابن جابر. 85 سر الصناعة لابن جني. 86 المعجم لأبي هلال العسكري. 116 كتاب التذكير والتأنيث لبي حاتم السجستاني. 117 مختصر في المؤنث والمذكر. 118 عقد الجوهرة في المؤنث والمذكر. 160 الألفاظ المعربة للسيوطي. 163 المقتضب. 164 بحر العوام. 179 مجموعة بها الأحاجي النحوية للزمخشري. 184 مجموعة في اللغة. 185 مجموعة في اللغة. الصرف 30 الهارونية وعليها شرحان. 32 إتحاف الرفاق في الاشتقاق. النحو وسر العربية 190 الخصائص للقرافي. 184 الكواكب الدرية في استخراج الفروع من القواعد النحوية للأسنوي. 145 فرحة الأديب لأبي محمد الأعرابي. 173 شرح ابن باشاد عَلَى مقدمته. 157 اختصار المفصل.

129 اللباب للعكبري. 167 شرح ألفية ابن معطي المشريشي. 155 المقدمات لابن إياز. 273 شرح شواهد التحفة الوردية للمغني. حاشية الدماميني عَلَى المغني. 62 شرح الإرشاد. 172 النكت للسيوطي. رصف المباني في حروف المعاني. إعراب الكلمات الغريبة. إعراب بعض مشكلات في الحديث والشعر. 271 مجموعة في النحو. ألفية ابن معطي. 272 مجموعة بها حاشية المكي عَلَى التوضيح. البلاغة نصرة الثائر. زهر الربيع للتنوخي. 100 رشف النبيه من ثغر التشبيه. شرح بديعية صفي الدين الحلي للجزائري. 83 الدر الثمين في محاسن التضمين. 71 الأحاجي والألغاز للخطيري. شروح عروض ابن الحاجب للفيومي. الشعر 317 ديوان جيران العود الوزير ابن الزيات. السري الرفا.

ابن نباتة السعدي. ابن حيوس. إبراهيم الغزي. الأمير صلاح الدين الكاملي وبه خروم. محي الدين ابن عبد الطاهر. ديوان الباعونية. 298 وسائل السائل. 322 شرح القصيدة الحميرية لنشوان. شرح المقرية للسندوبي. نسخ من شرح بانت سعاد للتبريزي. شرح القشرطاسية شمن نمرة 412. قصيدة ابن الدريهم في المديح النبوي. شرح لامية أبي العلاء لتاج الدين في مجموعة نمرة 342. الأدب 31 رسالة الحصكفي. جمع الجواهر للحصري. 300 العزيز المحلي. 302 منثور الحكم ناقص الآخر. 290 سوابغ النوابغ شرح الكلم النوابغ. التاريخ الإعلان بالتوبيخ. 648 تاريخ الأفغان والعجم. المدينة للمطري. تحقيق النصرة. شرح البسامة في تاريخ اليمن.

724 تاريخ الكبسي. نسختان من كوكب الروضة. الوفا والمختار كلاهما في السيرة النبوية. نور العيون لابن سيد الناس. تنزيه المصطفى المختار عن ما لم يثبت من الآثار. الجزء التاسع عشر من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. الكاشف في رجال الصحاح الستة. تقريب التهذيب لابن حجر وبخطه. كتاب الألقاب لابن حجر. 54 طبقات الحنفية للتميمي. طبقات الشافعية للأسدي. طبقات الحنابلة للعليمي. الأول من تاريخ بغداد. المجموعة التاجية. شرح قلائد العقيان لابن ذاكور. مختصر قلائد العقيان لابن فضل الله العمري. الطب أغذية المرضى للسمرقندي. التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي خلف. الصناعة عمدة الكتاب في صفة الأقلام والمداد. فنون متنوعة الفوائد الخاقانية. مفتاح السعادة. مدينة العلوم.

الأحكام الملوكية لابن متكلي. المجاميع 25 بها أرجوزة في فصول السنة لابن سينا. 32 بها أصول وضوابط للنووي. 36 بها رسالة في الأحاجي النحوية ذيل رسالة ابن هشام. 38 رسالة الملائكة للمعري. 587 نصاب الاحتساب للشيخ عمر الشامي. 58 موضوعات الصاغاني. 62 القانون في حكم العالم والمتعلم والعلم لليوسي. 69 رسالة لابن كمال باشافي إعراب كلمات دائرة عَلَى السنة. مجاميع 89 به الثغر البسام في قضاة الشام. 00 ومعه البرق السامي في تعداد منازل الحج الشامي. 80 بها عدة رسائل منها النساء المتزوجات من قريش. 87 نسخة أخرى من نصاب الاحتساب. 89 القصيدة اللغزية في المسائل النحوية لأبي سعيد الأندلسي ومعها شرحها وملحق بألغاز الزمخشري وابن هشام. 92 الفتح الرباني في الرد عَلَى البنياني للدماميني. 105 الزهر اليانع في قول العامل والصانع. 106 شرح الربعين النووية لابن دقيق العيد. 114 لسان العرب في علوم الأدب لابن شعبان. 115 مقدمة الجزولي في النحو. 124 رسالة الاشتقاق. 125 حدائق الحقائق لمحمد بن أبي الرازي. 127 الدروس في العروض لابن الدهان.

133 رسالة في ما يجب عَلَى السلطان وله. 139 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء. كتاب المغتالين من الأشراف. 144 قمر التمام في شرح آداب الفم والإفهام. 159 رسالة في أسماء الرسوم التي عَلَى الآلة ذات الصفائح. 161 شرح الربعين النووية لأربعة من العلماء التاودي وابن شقرون وبيس وابن كيران شرح كل واحد عشرة أحاديث. 162 ألغاز ابن فرحون. 171 رسالة في قضاته عليه الصلاة والسلام وبها تحذير الخواص من أكاذيب القصاص وبها رسالة للشيخ عيسى العروضي وجبل المقطم. 172 رسالة الصاغاني في موضوعات شهاب الأخبار يليها رد عليها المحافظ العراقي. 175 رسالة في آداب حملة العلم للحافظ الذهبي. 186 رسالة المحاسبي في التصوف. ذيل التفسير فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن لابن الجوزي. شرح ملا علي قاري رائية الشاطبي في الرسم. البرهان في علوم القرآن للزركشي. الفتوحات الربانية للمرجاني. مصطلح الحديث تدريب الراوي للسيوطي وبها تقريرات وزيادات. الحديث عوالي الإمام مالك. الأصول تشنيف السماع للقوصي. التصوف

حاشية الخوافي عَلَى عوارف المعارف. الحكمة الإبصار والمبصر لأبي الحسن العاملي. النحو الحاشية الهندية للدماميني. شعر نزول الغيث للدماميني.

العنجوس أو الشبث أو المالوش أو الكاروب

العنجوس أو الشبث أو المالوش أو الكاروب 1ً: مدخل البحث ثلاثة أشياء ترقي البلاد أعظم الرقي وترفعها إلى أوج المدنية والعمران وهي العلم والصناعة والزراعة فإذا وجدتها في صقع قلت: هناك أيضاً الفلاح والنجاح والحال أن المقتبس كثيراً ما بحث عن العلوم وطرق أبوابها المختلفة وتعرض أيضاً في بعض الأحيان للصنائع، إلا أنه كثيراً ما أغفل الزراعة، معين ثروة البلاد وسبب رقيها. ولست أريد الآن ذكر منافع هذا الفرع من الحضارة فهذا مذكور عَلَى الألسنة ومستفيض الخبر بين الناس كلهم أجمعين. إنما أريد أن أبين هنا ضرر آفة تفتك بالزراعة أعظم فتك وتتلف أتعاب الزراعين لعدة سنين في قليل من الزمن. أريد الكلام عن العنجوس، وقبل أن أمعن في البحث أذكر ما لهذه اللفظة ومرادفاتها من الحظ في اللغة فأقول: 2ً: حظ هذه الألفاظ من اللغة العنجوس لم ترد في ديوان من دواوين اللغة التي في أيدينا إن مطولة وإن مختصرة. وهذا يدلك عَلَى أن معاجمنا عَلَى ضخامة مجلداتها لا تحوي كل اللغة بل جزءاً منها. ويستحب أن يسعى اللغويون في وضع معجم جامع للشوارد والأوابد والضوابط والروابط ولمصطلحات أصحاب العلوم والصنائع والفنون عَلَى ضروبها وفروعها حتى تكون تلك الدواوين مرجعاً يعود عليه كل عربي في كل موضوع ومصطلح. هذه اللفظة وإن لم تذكر في كتب فنون اللغة إلا أن الإسكافي نص عليها في كتابه مبادئ اللغة والمؤلف كما تعليم من أهالي أوائل المائة الخامسة من الهجرة وكان من المجلين في اللغة في عصره. فالاعتماد عليه مما يركن إليه فقال المذكور في الصفحة 157 من النسخة المطبوعة بمصر بمطبعة السعادة ما نصه: العنجوس (وضبطها وزان صعفوق أي بفتح وسكون وضم. والمشهور أن ما جاء عَلَى وزن فنعول يكون مضموم الأول كزنبور وصندوق (ويجوز في هذا فتح) والصنبور والطنبور والعنتوت والعنبوج والعنجوف والعنجول والعنجوج ونحوها. دخال الأذن وقيل: بل هو الذي يفسد المزارع ويخلخل مساد الماء بالفرسية وأرسوه (كذا) وبيدنا أوسع المعاجم الفارسية ولم نرى فيه هذا اللفظ

الفارسي. وشك أن الواقف عَلَى طبع هذا الكتاب صحف هذه الكلمة كما صحف كثيراً غيرها. وقد يقال في معنى هذا الحرف أنه يدل عَلَى معنى دخال الأذن عند قوم من العرب ويعني المالوش عند قوم آخرين أو عند أغلب العرب. فإن كان بالمعنى الأول فهو من أصل سامي قديم من عجش بالشين المثلثة في الآخر ومعناه لسع ولذع وغرز في اللغة الآرامية. وإن كان بالمعنى الثاني فهو عجس العربية ومعناها: قبض عَلَى الشيء أو شد القبض عليه. وهو من خواص المالوش. كما ستراه فيما في وصفه العلمي.) الشبث وزان السبب مثل العنجوس في الاختلاف في وصفه قال في اتلتاج: دويبة كثيرة الأرجل عظيمة الرأس من أحناش الأرض (وهذا هو وصف دخال الأذن الكبير) وقيل: هي دويبة واسعة الفم مرتفعة المؤخر تخرب الأرض وتكون عند الندوة وتأكل (صغار) العقارب وهي التي تسمى (عند قوم من العرب) شحمة الأرض اهـ. وهذا أدق وصف جاء للقدماء في المالوس. واللفظة مشتقة من لفظة سامية مشتركة المعنى في جميع الحروف من شيث به بمعنى تعلق لتعلق كلتا هاتين الحشرتين بفريستهما. العنجوس والشبث من كلام العرب الفصيح. وأما أهل الشام فيسمون هذه الدويبة المخربة المالوش والكلمة من أصل سرياني (أرميّ) من ملش أي نزع الشيء ونتفه وخرطه وقشره وخربه: وكل ذلك من أعمال المالوش هذا فضلاً عَلَى أن اللفظة سريانية المعنى والمبنى واللفظ عَلَى أنه قد يكون من أصل عربي فصيح من ملش الشيء. إذا فتشه بيده كأنه يطلب فيه شيئاً. عَلَى أن فاعول من الأوزان الخاصة بالآرامية وإن وردت ألفاظ عربية موزونة هذا الوزن الأرجح إذاً أنها أرمية أي سريانية. وأما أهل العراق يسمون هذه الدويبة الكاروب وزان الماوش واللفظة مشتقة من كرب الأرض آثارها وقلبها. وهذا العمل كما رأيت من خصائص هذا الحييوين. عَلَى أن بعضهم يربطون فيسمونه الكرنيب ويلفظونها الجرنيب بجيم مثلثة فارسية وهو غلط. لأن الكرنيب هو نوع من الجعل يقع في كرناف النخل وأهل العراق يسمون الكرناف كرنيباً وهو أصول السعف التي تبقى بعد قطعه في جذع النخلة. وكان الصل في هذه اللفظة جعل الكرناف أو الكرنيب فحذف المضاف وبقي المضاف إليه من باب شهرة الشيء. 3ً: وصفه العلمي

العناجيس: طائفة من الأحناش من رتبة مستقيمات الأجنحة من جنس الجدجد. اسم هذه الدويبة الفرنسوية العامي - واسمها الفصيح عندهم والإنكليز يسمونها - أي الخلد الجدجد واسمها العلمي بالمعنى الإنكليزي وسميت كذلك لمشابهتها لهذين الحيوانين معاً بظواهرها. يدا هذه الدويبة عريضتان مفلطحتان قويتان كأنها يدا الخلد وهم مسننتان وقاطعتان من الداخل. تتخذهما بمنزلة منشار ومر وهي تنشر بهما ما يمكن نشره من أصول الشجار وعروقها وجذورها، وتحفر بهما ما يمكن حفره. وفكاها قويان صلبان. بدنها ضخم كالإبهام مكتل وهي تجر نفسها جراً عَلَى الأرض. وهي دميمة الصورة جهمة الوجه لونها أسمر وغريبة الخلقة كأن بها قعساً لبروز صدرها واندغام رأسها فيه. ورأسها بيضي الشكل منحنٍ نحو الأرض يذكرك شكله بشكل رأس السرطان تقريباً ما خلا لونه. وجناحاها طويلان كفا ية ومطويان طي الشباك ويتجاوزان الغمدين. وقدها كبير بالنسبة إلى مجموع سائر أعضائها وينتهي بطنها بشوكتين مفصلتين شعراوين طويلتين بعض الطول. والعنجوس يرى في جميع الربوع ويعيش كما يعيش الخلد أي تحت الأرض وهو كثير من الضرر ولا يعرف له منفعة إلى الآن. وللعنجوس تباينات منها: العنجوس المشهور أو طوله من 3 إلى 5 سنتيمترات ولونه أطحل وفي عصعصه شوكة مخروطة معوجة حادة وغمداه بطول البطن ضعيفين. وهو يقضي شتاءه غائراً في الأرض في حالة الخمول والجمود فإذا أقبل الربيع نشط من عقاله وغادر خلوته المظلمة خارجاً منها بثقب يثقبه صعباً ويبقى مرقى له وطريقاً ينسل منه عند الحاجة. وعند الهيج يقف الذكر ربيث عند فوهة الثقب ويسمع دوياً دقيقاً رخيماً تلتذ به الأنثى فتقرب منه. وبعد اللقاح تضع الأنثى من 200 إلى 300 بيضة في ثقب محفور تحت قارعة رزدق من الرزادق فتنقف بعد شهر عن فراخ شديدة البياض لا أجنحة لها كأنها الخراطيم فتنمو رويداً رويداً وتتحول من حالة إلى حالة حتى تبلغ أشدها في الصيف التالي. والعنجوس يحفر الدهاليز والأروقة الطويلة في باطن الأرض ويخددها أخاديد كثيرة. وهو

بلية من بلايا البساتين والحقول والزارع وقد ظن جمهور من الناس في سابق العهد أن هذه الدويبة من أكلة الحشائش والبقول. وليس الأمر كذلك إنما تقطع الجذور والأصول والعروق التي تقف في وجهها وقوف العقبة الكؤود طلباً لرزقها. وهي لا تأكل إلا ما تجده من دود الهوام والحشرات وصغارها. إلا أن قطعها للجذور يتلف أشجاراً كثيرة ويميتها بتاتاً. 4ً: طريقة إتلافها هذا العنجوس أعيى حياة الفلاحين والزراعين حتى أيسوا من اتخاذ الو سائل لمحاربته أو لمطاردته. فأشار بعضهم أن تحفر في الأرض موارد عديدة تكون جدرانها مقطوعة قطعاً تامة قياماً فإذا جئت لتردها سقطت فيها ولم تعد تستطيع أن تخرج منها. ذكر آخرون أن أحسن طريقة لإتلاف العناجيس هو أن تحفر في الأرض حفر مربعة ويلقى فيها السماد فتسرع في الحال تلك الدويبات لتطلب فيها رزقها من الحشرات فإذا صارت فيها أخذت بمئات وقتلت. وإن شئت طريقة ثالثة فادفن في الأرض جرارً مدهونة الداخل بدهان الخزف فإذا دخلتها لن تستطيع الخروج منها لزلقها كلما حاولت الخروج منها. إلا أن هذه الذرائع ليست مما يعمل بها في الأرضين الواسعة بل في البساتين الصغرى. ومما يساعد عَلَى إتلافها الجرذان والفئران وكثير من الطيور والله الواقي. بغداد (ساتسنا).

التعليم في مصر

التعليم في مصر انحصر الأمل في العهد الأخير بارتقاء المعارف في اللغة العربية بالقطر المصري لأنه من بلاد العرب في نقطة متوسطة ولأن الذين يتكلمون بالعربية من أبناء هذا اللسان في شمالي أفريقية وغربي آسيا هم تحت سلط حكومتين تريد كل منهما أن تنشر لسانها وتقضي عَلَى لسان البلاد الأصلي ففرنسا لا تعنى إلا بتعليم اللفة الإفرنسية في الجزائر وتونس وستكون كذلك في مراكش والدولة العثمانية لا تعلم غير التركية حتى في المدارس الأميرية الابتدائية في الشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس وبرقة ولذلك بات الرجاء معقوداً بمصر وحدها. وهذا الرجاء قد عظم خصوصاً بعد أن أصبح التعليم الابتدائي وأكثر التعليم الثانوي بالعربية وأصبح مدرسة الزراعة العليا تدرس منذ هذه السنة بالعربية. وإذا دام هذا الارتقاء الذي حدث بهمة ناظري معرف مصر سعد زغلول باشا وأحمد حشمت باشا فسيكون المصير تدريس الطب والحقوق والهندسة وغيرها أيضاً من التعليم العالي باللغة العربية فيعود للبلاد رونقها. نعم إن مصر تنفق عَلَى التعليم قليلاً بالنسبة لما تنفقه اصغر الحكومات الأوربية كسويسرا أو هولاندة أو البلجيك مثلاً وكلن الزيادة إذا أطردت في ميزانية المعارف توشك بعد مدة أن ترقى درجة عالية وإناطة التعليم المحلي بمجالس المديريات منذ سنة 1910 بزيادة مبلغ طفيف في المئة عَلَى أموال الأطيان سيكون من ورائه فائدة كبرى وبعض المدارس التي أنشئت ثانوية وبعضها مدارس للبنات وعند مجالس المديريات الآن 45173 صبياً و5500 بنت في الكتاتيب عدا 10000 صبي في المدارس التي هي أعلى منها وهذه المدارس ستقلل عدد الأُميين في مصر. وبلغ عدد التلامذة في المدارس التي تحت إدارة نظارة المعارف في سنة 1911 15169 و2713 في مدارس تعليم معلمي الكتاتيب و7749 في المدارس الابتدائية و1644 في المدارس والفرق الصناعية و2160 في المدارس الثانوية و56 في الرسالات المصرية وتراقب نظارة المعارف 3590 كتاباً للذكور والإناث فيها من الجنسين 211485 و32 مدرسة ابتدائية ومنها 19 لمجالس المديريات فيها 5522 و14 مدرسة صناعية زراعية فيها 2093 ومدرسة ثانوية فيها 222 و3 مدارس لتعليم معلمي الكتاتيب وفيها 226 ومدرسة لتعليم الممرضات والقوابل وفيها 29 وإصلاحية الجيزة وفيها 598. والتقدم في ترقية التعليم في الكتاتيب مطرد تحت مراقبة الحكومة وقد بلغت مساعداتها التي

أعطتها 22982 جنيهاً وعدد الكتاتيب الخصوصية التي تراقبهم الحكومة وتعطيها الإعانات 3455 وكان عند نظارة المعارف 146 كتاباً تحت إدارتها الخاصة فيها 361 معلماً و71 معلمة و9901 من الصبيان و5268 من البنات و13 من هذه الكتاتيب خاصة بالبنات. ولا يزال عدد المدارس الابتدائية تحت إشراف نظارة المعارف رأساً 32 مدرسة منها 11 في القاهرة و31 في الأقاليم ونقص تلامذتها 888 عن العام السابق لتوسع مجالس المديريات في أمر التعليم إما بإنشاء مدارس ابتدائية جديدة أو بإسعاف بعض المدارس التي كانت موجودة من قبل ومجموع ما في مدارس الصبيان الابتدائية التي للمعارف وعددها ستون 12405 وأُعدت الموال اللازمة لإنشاء مدرسة ثانوية جديدة في أسيوط تحت مراقبة المعارف وتفكر الحكومة في مراقبة المدارس الثانوية الخصوصية ومساعدتها كما فعلت في الكتاتيب والمدارس الصناعية. وزادت الغربة في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة في تعليم البنات وأنشئت لهن مدارس جديدة أنشأتها المعارف أو الأفراد ثانوية وكتاتيب وأصبح عدد مدارس البنات التابعة لنظارة المعارف والتي تحت مراقبتها 2713 وعدد التلميذات فيها 25023 وكان نمو التعليم الزراعي والتجاري والصناعي سريعاً سنة 1911 فمدارس المعرف من هذا النوع 12 مدرسة وغيرها 14 وعدد التلامذة في الأولى 2097 وفي الأخرى 1968 وأنشئت بعض المدارس الزراعية وأصلحت دروسها وبرامجها ويبلغ عدد التلامذة في المدارس الصناعية 1617 فشمل التعليم العملي في مدرسة الهندسة علمي السائلات والميكانيكات واستخدم مكان توليد النور للتجارب في الصناعة الكهربائية وجعلت مدرسة الفنون التي أنشئها الأمير يوسف كمال في القاهرة سنة 1908 وفيها الآن 115 تلميذاً تحت مراقبة المعارف وأدخل فيها عملاً برغبة منشئها أسلوب جديد يزيد ميل التعليم فيها إلى الخطة العملية ويزيد ارتباطها بالفنون الوطنية ومنشئ هذه المدرسة يقوم بنفقاتها ووسعت مدرسة التدبير المنزلي وسيعلم البنات تدبير المنزل إلا قليلاً. وفتحت مدرسة للمحاسبة والتجارة فيها 150 تلميذاً ما عدا الدروس التجارية الليلية التي تعطى في القاهرة والإسكندرية ونال شهادة مدرسة الطب 27 والحقوق 79 وبلغ عدد مدارس المعلمين سبعاً للرجال واثنتين للنساء وعدد تلامذتها كلها 1182 وكان عدد الرسالة المصرية في أوربا 52 تلميذاً في إنكلترا و6

في فرنسا و1 في النمسا وأرسل مجلسا مديريتي الدقهلية والجيزة تلامذة إلى أوربا ليتعلموا علم التعليم فأرسل أربعة إلى بلجيكا و3 إلى إنكلترا و3 إلى فرنسا. وبلغ عدد طلبة الأزهر والمعاهد الدينية الأخرى في الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط 14000 و524 أستاذاً وفي مدرسة القضاء الشرعي الآن 391 طالباً 35 في القسم الأعلى وتخرج منها هذه السنة 12 طالباً وهو الصف الأول. هذا خلاصة ما تم وأهم شيءٍ أن الحكومة منحت مئة ألف جنيه لمجالس المديريات تستعين به عَلَى إنشاء المدارس الحديثة وتأثيثها وتجهيزها وأكثر هذه المدارس قد نجز كما زادت ميزانية المعارف ثلاثين ألف جنيه لإصلاحات وأعمال قامت بها لمعاهد التعليم.

بين دمشق والقاهرة

بين دمشق والقاهرة سادتي الأخوان يعجز البيان عن توفية صداقتكم حقها ومقابلة عواطفكم الجميلة بمثلها فقد كسوتهم وطنيكم هذا حلة تقصر عنها قامته وظهر إحساسكم الشريف في مظهر أنساه ما لقيه من المشاق في سبيل الوصول إلى حماكم فدمتم ودامت عوارفكم كيفا يلجأ إليه في الملمات وعلم نور يستضاء به في الظلمات، ولقد كنت بيت العزم منذ شهرين أن أزور مصركم في الشتاء المقبل لألقى من خلفتهم فيها من خلص الأصدقاء مصريين وعثمانيين ولكن قضت الأقدار أن أهبط مصر في صيفها وأهلها يرحلون عنها عَلَى أن مصر حلوة في فصولها الأربعة لأن السر في السكان لا في المكان كما كنت أود أن أشخص إليها من طريق البحر المطروق في ست وثلاثين ساعة موفورة لي أسباب الراحة لا أن أوافيها من طريق البر المهجور عَلَى مطية أقضي في السير والسرى من دمشق إلى القاهرة أربعة عشر يوماً وألقى فيها من فقد الراحة ما يلقاه العادة السفار في القفار. إن ما حملني عَلَى انتيابكم في هذه الحال تعرفونه بأجمعكم وليس ببدع أن ينال مثله كل من يتصدى لطلب الإصلاح وينشد الحق والعدل في بلاد حكمت قروناً بالاستبداد ولم تكتب لها السلامة منه، ومن ابتلى بذلك يستطيب الأذى إذا أنتج عمله نفعاً للخير العام. قضيت في الشهر الفائت ثلاثة وعشرين يوماً في زيارة مدينة الرسول وآثار وادي موسى أو بترا المعروفة بالعربية الصخرية وبلاد مآب أي الكرك وارض الشراة التي كان يسكنها بنو العباس في أيام بني مروان ومنها خرجوا بالدعوة لدولتهم وأرض البلقاء التي كانت مصايف لني أمية أيام حكومتهم في دمشق وغير ذلك من الأقاليم في أقصى حدود بلاد الشام الجنوبية ومن هذه الأقاليم ما وصل إليه الخط الحجازي ومنها ما يقصد إليه عَلَى الدواب فلما عدت إلى دمشق أستريح من وعثاء السفر فاجأتني الحكومة المحلية بما عودتنيه أيام الحكم المطلق والحكم المقيد من خرق قانون الحرية الشخصية والفكرية ومحاولة النيل مني بلا موجب. سعيت وطائفة من أصدقائي في سورية بعد انتشار القانون الأساسي أن يكون في بلادنا دستور حقيقي يستمتع به العثمانيون عَلَى اختلاف عناصرهم ونحلهم ولكن الفئة المتغلبة عَلَى الحكومة في الآستانة والمرسلة بصنائعها إلى الولايات أبت وخصوصاً بعد سقوط

وزارة رجل السياسة العثماني كامل باشا إلا أن يكون الدستور استبدادياً في صورة حرية فكنا كلما طالبنا بمطلب من مطالب الإصلاح الطفيف اتهمونا بأنواع التهم بل كنا معهم كما قال ابن أبي طالب كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم فالحكومة بل الحاكم الذي كان يرهقنا زمن الاستبداد ويشردنا عَلَى أننا ناقمون عَلَى حكومة المخلوع حتى اضطررنا أن نقضي أربع سنين في هذا القطر فراراً من الحيف عاد في الدور الذي يدعونه بالحرية يرمينا بالارتجاع ثم الدعوة لإنكلترا ثم بالدعوة لحكومة عربية إلى غير ذلك مما يختلقون من ضروب الافتراءِ الذي لا يستنكف كل ضعيف في حكومة هذا الشرق التعس من أن يلصقه بمن لا يقدر عَلَى حجابه بالبرهان إذا دله عَلَى عيوبه ليتقيها ونصح له بالاعتدال لتطويل أيامه ولا تساوره أسقامه. ففي مثل هذه الحالة يسارع مثلي إلى الهرب من وجه الظلم إذ لا قانون هناك يأخذ للضعيف من القوي وما القانون عندهم إلا هوى النفس ولا رواج إلا للزور والنفاق ولا عجب فقد قال ابن خلدون أن الدول إذا تنزهت عن التعسف والميل والأفن والسفسفة وسلكت النهج الأمم ولم يجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وإن ذهبت مع الإغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي الباطل نفق البهرج الزائف. ولذا أرسلنا ساقينا للريح ساعة بلغنا أن الحكومة المحلية في سورية تريد القبض علينا عَلَى نحو ما قبضت عَلَى شقيقنا أحمد المدير المسئول لجريدة المقتبس فسرنا (يوم 17 نيسان (أبريل) 1912) بدون ريث بين حدائق صالحية دمشق حتى بلغنا الزاوية الغربية الشمالية منها في المكان المعروف بقبة السيار ومنها قصدنا من دمر إلى المزة بالتصعيد في الجبل أيضاً وهناك اختبأنا في إحدى قرى وادي العجم أياماً حتى تهيأت لنا أسباب الهزيمة عَلَى حصان في صحابة صديق لنا قديم رافقنا من أقصى حدود وادي العجم فمررنا من طرق معوج اجتزنا فيه أرض المزة وبلاس والأشرفية وصحنايا والدرخبية والطيبة وشقحب ثم دير العدس والحارة من قرى إقليم الجيدور المعروف عند الإفرنج بايتورة حتى بلغنا النقرة من بلاد الجولان التي يسميها الفرنجة غولانيتيد فقدنا بالقرب من نهر الرقاد وكنا هومنا في الليلة الفائتة عَلَى مقربة من نهر الأعوج المعروف في الكتب المقدسة باسم فرفر من عمل

وادي العجم. وفي الجولان اتصلنا بجماعة من تجار الإبل ذاهبين إلى مصر فسايرناهم وقطعنا سهول الجولان ومراعيه وبتنا في الليلة الثالثة دون عقبة فيق ومن الغد هبطنا العقبة وهي لا تقل عن ساعتين وتعد من أعظم عقاب بلاد الشام ومنها يشرف المرء عَلَى أراضي الغور غور بيسان وبحيرة طبرية ونهر الشريعة أي الأردن وليس عَلَى هذا النهر العظيم سوى جسر قديم متداع وجسر بنات يعقوب فقطعنا الأول سباحة عَلَى الدواب ثم توقلنا الجبل إلى موقع الدلايكة وهو وادٍ بين جبلين منفرجين متآزيين من عمل طبرية عاصمة الأردن القديمة بل عاصمة الجليل أصبح أكثره ملكاً للصهيونيين من مهاجرة الإسرائيليين الأوربيين يستنبتونه ويستثمرونه عَلَى طريقتهم المتعارفة في ديار الغرب حتى لقد تحس للحال بالفرق بين زراعة الوطنيين وزراعة المهاجرين فقرية مما ملكهم أرقى بزراعتها مرات من قرية كفر سبت وسكان هذه من المهاجرة الجزائر فبتنا تلك الليلة في سوق الخان بلد الصبيح عَلَى ساعتين من الناصرة وفي سفوح جبل الطور المشهور في التاريخ المسيحي. وفي اليوم الرابع اجتزنا غابة غبياء من شجر البطم فرأيناها آيلة للخراب كما تؤول الآن غابات سورية كلها اللهم إلا ما كان من غابات لبنان التي تزيد ولا تنقص وقطعنا هذه الحراج في ساعة ونصف حتى بلغنا قرية دبورية وفي منقطع أرض هذه الدسكرة يبتدئ مرج ابن عامر أو سهل يزرعيل المذكور غير ما مرة في التوراة، قطعنا بالعرض في أربع ساعات حتى بلغنا قرية اللجون ومنها دخلنا في وادي عارة من عمل نابلس وطوله ثلاث ساعات وهو ضيق النطاق متوازي الأضلاع خصب الرباع وفي آخره كان آخر عهدنا بجبال سورية إذ لم نعد نرى بعده جبلاً يذكر حتى بلغنا أرض مصر في جهات العريش وقطية فلمحنا عن بعد جبلاً في الرمال يسمونه جبل الحلال وبتنا الليلة الخامسة في عيون الأساور عَلَى ساعتين من قيسارية وهي قرية يسكنها مهاجرون من البوشناق وكانت من المدن الكبرى العامرة في القديم، وفي اليوم السادس اجتزنا قرى بلاد نابلس مثل قاقون وقلنسوة والطيرة ومسكة حتى بلغنا نهر العوجاء عَلَى ساعة ونصف من يافا وعنده حططنا رحالنا وطريق هذا اليوم الذي قبله عامر بالحبوب ويكثر الزيتون في بلاد نابلس إحدى أمهات مدن السامرة من كور فلسطين وتقل المياه حتى يضر الأهلون أن يستقلوا من أماكن

بعيدة، وفي اليوم السابع اجتزنا بقرى الساحل أمثال جبنة سدود مجدل بربرة بئر هديهد غزة وقضينا الليل في دير البلع وفي اليوم الثامن بدأ سيرنا في رمال عَلَى نحو ثلاث ساعات من غزة وبعد أن سرنا ست ساعات دخلنا في رفح أول حدود مصر والشام وقد كانت تنتابني الهواجس تلك الليلة أحاذر أن أقع في يد عدو للحرية أو أن أجالس من يستدل بذكائه عَلَى أنني لست من تجارة الإبل في العير ولا في النفير أو لا ناقة لي في ذاك القطيع ولا جمل فما فتحت عيني قبيل الغسق إلا وأنا أنشد بيت المتنبي: تدبير ذي حنك يفكر في غد ... وهجوم غرّ لا يخاف عواقبا فتفاءلت خيراً بالنجاة وإن كنت لا أحب التفاؤل ولا التشاؤم ولا أبني أعمالي عَلَى الأحلام والمرائي حتى إذا قيل لي ها أنت في رفح تدوس تربة مصر قلت ما أحراها أن تدعى فرحاً لا رفحاً ليكون لكل شيءٍ من اسمه نصيب ولا غرو فليس أحلى من النجاة عَلَى من كان يتوقع الخطر أو من الوصل عَلَى ما يطال به السهاد. ومن عجيب ما لاحظته في أراضي فلسطين أنني شهدت لحكومتنا بعض أثر من عمل مثل إنشائها بعض الجسور عَلَى الأودية في حين لم أر عملاً عمرانياً في ولايتي سورية وبيروت كأن مجاورة لواء القدس للأراضي المصرية عدت فلسطين أو القسم الأعظم منها من ارتقاء بلاد الفراعنة فصحت عزيمة حكومة القدس عَلَى أن تمد جسوراً عَلَى الأقل وتعبد الطرق بعض الشيء ولا جرم أن العلى تعدي كما قال أبو تمام، ولقد كنا كلما اقتربنا من غزة نحس بتغير المشاهد في بلاد أشبه بهوائها وزراعتها بالبلاد المصرية والناس يكادون يشبهون سكان الصعيد بألبستهم ولهجاتهم وهذا من عدوى الجوار وكثر اختلاط المتجاورين من سكان القطرين فإنك كما ترى جمهوراً كبيراً من جالية المصريين في يافا وغزة هكذا تجد الجميز والموز من أشجار البلاد الحارة شائعين في صقيع غزة. دخلنا اليوم التاسع في رمال ولم يكن يتغير شكلها خمسة أيام متوالية إلى أن قالت الإسماعيلية ها أنا ذا. وهذه الرمال كانت تعرف قديماً بالجفار جمع جفر وهي البئر القريبة القعر الواسعة لم تطو قال ياقوت وهي ارض من مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل والخشبي بينه وبين الفسطاط ثلاث مراحل كما في معجم البلدان فيه خان وهو أول الجفار من ناحية

مصر وآخرها من ناحية الشام قال أبو العز مظفر بن إبراهيم ابن جماعة بن علي الضرير العيلاني معتذراً عن تأخره لتلقي الوزير الصاحب صفي الدين بن شكر وكان قد تلقي إلى هذا الموضع: قالوا إلى الخشبي سرنا عَلَى لهفٍ ... نلقى الوزير جمعاً من ذوي الرتب ولم تسر قلت والمولى نعمته ... ما خفت من تعب ألقى ولا نصب وإنما النار في قلبي لغيبته ... فخفت أجمع بين النار والخشب وكل الجفار رمال سائلة بيض في غربيها منعطف نحو الشمال بحر الشام وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها ولا شرب لسكانها إلا منها وكان فيها لعهد ياقوت نخل كثير ورطب جيد وهو ملك لقوم ميفرقين في قرى مصر يأتونه أيام لقاحه فيلقحونه وأيام إدراكه فيجتنونه وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخيل والحلفاء وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة عَلَى القوافل وهي رفح والقس وزعقا والعريش والواردة وقطية وفي كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكاين قال المهلبي واعيان مدن الجفار العريش ورفح والواردة والنخل في جميع الجفار كثير وكذلك الكروم وشجر الرمان (أما نحن فلم نر كرماً ولا رماناً ولا دكاناً ولا خاناً) وأهلها بادية متحضرون ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها منهم كثير ويزرعون في الرمل زرعاً ضعيفاً يؤدون فيع العشر وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرغ (والمرغ هو الطير بالفارسية) يصيدون فيه ما شاء الله يأكلونه طرياً ويقتنونه مملوحاً ويقطع إليهم من بلد الروم عَلَى البحر في وقت من السنة جارح كثير فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق وقل ما يقدرون عَلَى البازي وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الرأس لأنه لا يقدر أحد منهم يعدو عَلَى أحد لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئاً من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشاب من الشيخ والأبيض من الأسود والمرأة من الرجل والعاتق من الثيب فإن كان هذا حقاً فهو أعجب من العجائب.

قلت وبعض ما قاله هذا المؤرخ من الاستدلال بالإقدام عَلَى الأشخاص صحيح والوطء يبقى أثره في الرمل أياماً وليس من الصعب أن يتأثر المرء هنا من استباح جنته فإنه إذا علا نشزاً من هذه الرمال وهي عبارة عن تلعات ومنعرجات ومنفرجات وأحادير لا يلبث أن يشاهد السائر من مسيرة ساعات وفي اليوم العاشر اجتزنا بالعريش وهو من البحر الأبيض عَلَى نصف ساعة فالمسعوديات عَلَى الساحل وفي الحادي عشر نمنا بالمزار وفي الثاني عشر بالجنادل وفي الثالث عشر بأبي العفين وفي الرابع عشر مررنا بقطية وبتنا بعراص، وفي الخامس عشر بلغنا الإسماعيلية فالقاهرة. هذا هو الطريق الذي كان يطرقه المصريون والشاميون منذ علاف التاريخ وكثيراً ما كان بعضهم يؤثرونه عَلَى ركوب المراكب والسفن الشراعية لما كان فيها من الأخطار أيام لم يكن البخار يسير مراكب البحار قطعناه في أربعة عشر يوماً وكان أجدادنا يقطعونه في أربعة أيام عَلَى خيل البريد ومن هذا الطريق سار عمرو بن العاص سنة 19 للهجرة لفتح مصر فنزل العريش ثم أتى الفرها وبها عَلَى رواية البلاذري قوم مستعدون للقتال فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم ومضى إلى الفسطاط، والفرما أو الفرماء كان حصناً عَلَى ضفة البحر يحمل إليه مياه النيل في المراكب من تنيس ويخزن أهله ماء المطر في الجباب وكان بعض أهلها قبطاً وبعضهم من العرب وقد ورد ذكرها كثيراً في شعر أهل القرون الأولى وفي الفرما أوق الخليفة المأمون رضي الله عنه لما سار إلى مصر فبلت فيها وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال: لليلك كان بالميدا ... ن قصر منه بالفرما غريب في قرى مصر ... يعاني الهم والسدما والميدان من أحياء دار الإسلام والسدم الهم مع الندم والحزن ذكر المقريزي أن الدرب الذي يسلك فيه إلى مصر في القرن التاسع للهجرة لم يحث إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة عندما انقرضت الدولة الفاطمية. وفي المسالك والممالك أن الطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلاً (كذا والميل بحسب اصطلاحهم ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع أربع شعيرات ظهر واحدة إلى ظهر الأخرى والشعيرة أربع شعيرات من ذب بغل) ثم إلى جاسم بلد أبي تمام الطائي أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى فيق

أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلاً ثم إلى القلنسوة عشرون ميلاً ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلاً والطريق من الرملة إلى أزدود (؟) اثنا عشر ميلاً ثم إلى غزة عشرون ميلاً ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى جرير ثلاثون ميلاً ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى مسجد قطاعة ثمانية عشر ميلاً ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلاً ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلاً فهذه ثلثمائة وخمسة وستون ميلاً تبلغ نحو سبعمائة كيلومتر. وكان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي كانت تعرف ببلاد السباخ من الجوف ويسلك من الفرما إلى أم العرب وهي بلاد خراب عَلَى البحر فيما بين قطية والواردة فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة أغار بغدوين صاحب الشوبك عَلَى العريش وهو يومئذ عامر بطل حينئذ من مصر إلى الشام وصار يسلك عَلَى طريق البر مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فصار يسلك هذا الدرب عَلَى الرمل إلى أن ولي ملك مصر الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل فأنشأ مدينة الصالحية في سنة أربع وأربعين وستمائة فلما ملك الظاهر بيبرس البندقداري رتب البريد في الطرقات حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين ويتحكم في ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة وأنفق في ذلك مالاً عظيماً حتى تم ترتيبه وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة. ومازال أمر البريد مستمراً فيما بين القاهرة ودمشق يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيول المعدة للركوب وتعرف بخيل البريد وعندها عدة سواس وللخيل رجال يعرفون بالسواقين وأحدهم سواق يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه مدة مسيره ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني وتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطاني قال صاحب الخطط وكانت طريق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر

من زاد وعلف وغيره ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زاداً ولا ماء فلما أخذ تيمورلنك الشام وسبى أهلها وحرقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن عن إقامة البريد فانخل بانقطاعه طريق الشام خللاً فاحشاً. قالوا والبريد خيل تشترى بمال السلطان ويقال لها السواس والعلوفات وهي مقررة عَلَى عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة تحضر في هولال كل شهر إلى كل مركز أصحاب النوبة بالخيل فإذا انسلخ الشهر جاء غيرهم وهم لهذا يسمون خيل الشهارة وعلى الشهارة والٍ من السلطان يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه ويدوغها بالداغ السلطاني وقد أنشأ أمراء مصر وملوكها مثل كريم الدين وكيل الخاص الناصري والملك الأشرف خليل ومفخر الدين كاتب المماليك وناصر الدين الداوادار التنكزي وطاجار الداوادار وكافل الشام الطنبغا والظاهر بيبرس البندقداري وغيرهم خانات ورباطات وفنادق ومساجد وآباراً ودساكر لأبناء السبيل وكان الطريق في بعض الأدوار يتحول قليلاً من أول الكورة إلى آخرها ولكنه لم يخرج قط في كونه من مصر من الغرب إلى الشرق ثم يعرج في بلاد الشام نحو الشمال قليلاً حتى دمشق. وكان حمام الزاجل الذي هو بمثابة تلغراف أجدادنا يسير من القاهرة إلى ببليس ومنها إلى الصالحية ومن الصالحية إلى قطية ومن قطية إلى الواردة ومن الواردة إلى غزة ومن غزة إلى القدس ومن عزة إلى نابلس ومن غزة إلى لد ومن لد إلى قاقون ومن قاقون إلى جنين ومن جنين إلى صفد ومن جنين إلى بيسان ومن بيسان إلى إربد ومن إربد إلى طفس ومن طفس إلى الصنمين ومن الصنمين إلى دمشق. وكان الثلج ينقل عَلَى الهجين من بلاد الشام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل بالقاهرة وقد جاء زمن وهو لا يحمل إلا في البحر خاصة - كما جاء في التعريف بالمصطلح الشريف - من الثغور الشامية بيروت وصيدا ويفرض عَلَى البقاع وبعلبك إرفادهما في ذلك وكان يسيراً فكثر وقرر منه عَلَى طرابلس ممن استقر عَلَى جبة بُسري والمنيطرة من عمل لبنان اليوم. والمراكب تأتي دمياط في البحر ثم يخرج الثلج إلى الشرابخانات الشريفة ويخزن في صهريج أعد له وأصبح في القرن الثامن يحمل في البر والبحر ومدة ترتيب حمله من

حزيران (يونيو) إلى آخر تشرين الثاني (نوفمبر) وعدة نقلاته في البر 71 نقلة متقاربة مدة ما بينها وقد صار يزيد عَلَى ذلك ويجهز بكل نقلة بريدي يتداركه ويجهز معه ثلاج خبير بحمله ومداراته يحمل عَلَى فرسه بريد ثان والمرصد في كل نقلة خمسة أحمال والمستقر في كل مركز له ستة هجن خمسة للحمل وواحد للهجان قال العمري ولا يصل الثلج متوافراً إلا إذا أخذ الثلج المجلد وأجيد كبسه واحترز عليه من الهواء فإنه أسرع إذابة له من الماء. وكذلك قال المناور مواضع رفع النار في الليل والدخان في النهار للإعلام بحركات العدو وقد أرصد كل منور الديادب والنظارة لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم وهي من أقصى ثغور الإسلام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل حتى أن المتجدد بكرة بالفرات كان يعلم بها عشاء. وهذه المناور بدخانها ونيرانها أشبه بالهليوستا والإبجكتيف لعهدنا. هكذا كان طريق مصر إلى القرن التاسع للهجرة وهذا أقصى ما بلغته مدينة القوم في أسباب النقل والراحة وينزل اليوم في هذه النفوذ أي الرمال المتراكمة كما يسميها العرب أناس من عرب مصر يرجعون في أصولهم إلى يطون وأفخاذ معروفة عندهم تعرفهم بسيماهم ضئال الأجسام صفر الوجوه عَلَى نحو وصفهم واصفوهم في القرون الوسطى وهم شاوية يقومون عَلَى تربية الشاء ولهم جمال قليلة وزرعهم في الأكثر الشعير في الشتاء والبطيخ في الصيف ولهم نخيل قليل في بعض واحاتهم وبالقرب من سبخاتهم ولا حجر في ديارهم يبنون به بيوتهم ومساكنهم حقيرة يصنعونها من الخوص فلا هم بادية يؤون إلى الخيام ولا هم حضر كالعرب النازلين منذ القديم في ريف مصر كالفيوم والشرقية وغيرهما من مديريات القطر مثلاً ولهجاتهم أقرب إلى لهجات سكان جنوب سورية منها إلى اللهجة المصرية ومن فلسطين يكتالون وفي فلسطين يقضون شطراً من السنة في رعي أغنامهم وماعزهم ولم تعمل الحكومة المصرية شيئاً لارتقائهم سوى أنها نشرت أعلام الأمن عَلَى ربوعها. ولذلك ترى تجار الإبل يأتون بها من بلاد مجد والجزيرة والشام ولا يزالوا يحاذرون اعتداء السراق عليها حتى يبلغوا رفح وعندها يوقنون أنه لا يضيع لهم في تلك البادية عقال بعير ركان العرب هذه النفوذ من قبل مثلاً سائراً في الاعتداء عَلَى السابلة وهم اليوم معفون من الضرائب والخدمة العسكرية وغريب كيف لا ينالهم قسط من مدنية

مصر فحرموا منها كما حرموا من الاستمتاع بماء النيل العذب وتربه واديه الممرعة. هذه النفوذ هي الحد الطبيعي بين مصر والشام بل الحد الناعي الذي اصطلحت عليه مؤخراً الحكومتان المصرية والعثمانية في رفح والعقبة بل الحد الفاصل بين قارتي آسيا وأفريقية لم يحل كل الزمان دون اختلاط أهل هذين القطرين الشقيقين ومن قرأ تواريخ الجبربي وابن إياس والسخاوي وابن حجر والغزي وغيرهم يدرك أن هجرة السوري إلى مصر ترد إلى مئات من السنين ومن بحثوا في أنساب من تولوا أعمال الحكومة المصرية وشاركوا مصر في سعودها ونحوسها من العلماء والتجار والصناع يجد فيهم كثيراً من الشاميين وكذلك الحال في المصريين ببلاد الشام فلا عجب إذا كان حظ مصر والشام واحداً في السراء والضراء وعلائقهما الاقتصادية موفورة مستحكمة وليس أعلق بالقلوب من الصلات المالية. وإنا لنرى العوارض السماوية أو الأرضية كلما اجتاحت الشام فمصر والشام هما قطران بالاسم ولكن بالفعل قطر واحد جرى الاصطلاح عَلَى تسمية كل منهما باسم وكل منهما متمم لصاحبه حتى لقد سئل أحد عمال الدولة العلية في القرن الماضي عن رأيه في القطرين فقال مصر مزرعة حسنة والشام مصيف جميل. وإذ قد عرفنا أن أجدادنا قد أحسنوا الانتفاع من مجاورة القطرين العزيزين ساع لنا أن نطالب في هذا العهد بزيادة أواخي الإخاء بينهما من طريق البر عَلَى نحو ما هي عليه من طريق البحر فيسعى العقلاء من الماليين إلى نيل امتياز يربط عاصمة الشام بعاصمة مصر بخط حديدي عريض حتى يأتي الراكب في أربعة عشرة ساعة بدلاً من أربعة عشر يوماً وإذا أحب القائمون بالأمر الاكتفاء بوصل السكة الحديدة مع أقرب الطريق إلى مصر فما عليهم إلا أن يكتفوا الآن بإيصاله إلى القدس وهذه ستتصل هذا العام بخط حيفا مبدأ السكة الحديدة من محطة العفولة والمسافة بينهما مئة عن لا تقل كيلومتر تمد عَلَى نفقة أداوة الخط الحجازي ومعلوم أن حيفا مرتبطة بدرعا ودمشق وعندها يسهل عَلَى ابن مصر الاصطياف في جبال الشام وتةبعث هذه يحبونها وثمارها وترسل مصر إلى دمشق بشيءٍ من مدنيتها وعلومها وانتظامها ويخلص كل من يريد أن يخلص إلى مصر من هذه الرمال الموحشة المرعشة والمفازة المدهشة المعطشة التي تعوذ منها كل من اجتازها وقاسى الأمرين من مائها البشع المر الهوع المتروح ولولا أنني تسليت عن المأكل والمشرب في الأيام الخمسة

التي قضيتها في اجتياز هذه المفوز بما سمعته في أحاديث رفاقي العرب في الإبل حتى صرت كأني بعض رعاتها لطال علي أمرها ولكني حملت النفس عَلَى أن تتعلم الصبر من تزلك الجمال وطبقت فيها بالعمل ما قرأته بالنظر أيام الطلب من مصطلحات العرب في إبلهم وحدائهم فصار مذهبي ولا فخر جمالياً بعد أن كان جمالياً وعملي بالأباعر عملياً وكان من قبل نظرياً. وكأن رحزلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي عَلَى أهل البادية من أهلب المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مواكلة الأعراب في صفحة واحدة والتخلي عن الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس والأكل من أطعمتهم وهي الثمن أرز العراق والبرغل جيش الحنطة والتمر والخبز المعمول بالملة أو عَلَى الصاج يسجر ببعر الأباعر والإدام في هذه الأيام يخالطه رمل وهذا يدخل في كل مأكول ومشروب تسفوه الرياح طوعاً أو كرهاً ولقد صدق الواصفون منذ القديم لهذه الجفار بأن الخبز إذا أكل يوجد الرمل في مضغه فلا يكاد يبالغ فيه. وإني أحمد الله إليكم عَلَى أني قضيت أيام هذه الرحلة ولياليها برمتها لم أطالع فيها جريدة ولا مجلة ولا كتاباً ولا وقعت عيني عَلَى ورقة ولا مسكت قلماً ولا كتبت مقالة ولا محاضرة ولا نكتة ولا قيدت شاردة ولم أسمع غير حداءِ الإبل وغناءِ الأعراب ولم يصل فكري إلى أبعد من عمل القهوة البدوية أو أكل التمر ولم يبلغ أذني غير أحاديث الإبل فأصبحت ولله المنة استعذب تردادها استعذابي لترديد أخبار المدنية. ومن نعم المولى علي أني رأيت صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب تمشي بين بلاد الشام ومصر ودرست نموذجاً صالحاً من أخلاق العرب بالاختلاط بتجار الجمال ورعاتها ممن كانوا يختلفون إلينا ونختلف إليهم كل مساء وصباح فلم اسمع كلمة هجر وبذاءِ وتجديف قط وما تبيت في أخلاقهم إلا الجد الذي ليس وراءه جد والعزيمة التي تخور أمامها العزائم والبحث عَلَى الدوام فيما هم بسبيله من التجارة والعناية برعية إبلهم والقيام عَلَى صحتها فكان وجود السبط والإرطة والقطف والحمط من العريش إلى قطية فالإسماعيلية وغير ذلك من الشواك والأعشاب كالشيح والرثم التي تستطيبها أنعامهم أهم إليهم من كل حديث واشهى لقلوبهم من كل نغمة وأفعل في نفوسهم من كل نعمة من نعم الجمال والكمال.

قضيت ويا لسعادتي أسبوعين كاملين في عالم الأباعر والبعران والإبل والحوار والبطين والبطنان والكثيب والكثبان وشين وزين وترد وتصدر وندلج ونسري وننشد ونمرح ونضحي ونعشي وغير ذلك من فصح العربية الباقية عَلَى أسلات ألسن أولئك العرب الأميين ولو أردت أن أستوفي ما سمعته في هذا القبيل لاستغرق مجلداً برأسه وما أحلى ما سمعته من أحدهم يقول لصاحبه يا فلان خذ من فلان كذا وأنت الفالج أي الرابح من الفلج وهو الظفر وكيف لا أوخذ بما وعيت ورأيت وأنا طول هذه الفترة لم أسمع نميمة ولا غيبة ولا شهدت كذباً ولا منكراًَ وكان أولئك الأعراب بأجمهم مواظبين عَلَى صلواتهم بدون تكلف يتيممون يوم يقل ماؤهم ولا يسرفون فيه إذا وجد. أخلاق طاهرة متينة ما كنت أظنها باقية في البادية وأرجو أن لا تفقد بتاتاً من أهل الحضر ولو تهيأ لسكان اليمن ونجد خاصةً شيءٌ من المدنية الصحيحة لفاقوا ولا جرم الإنكليز والسكسونيين بأخلاقهم وأناتهم ورويتهم وإني لما أخبرت القوم أيقنت بفساد القضية التي وضعها أحد الباحثين من أصول الشعوب من أن الطيش والرعونة والفسق تغلب عَلَى سكان البلاد الحارة ومع أن بلاد هؤلاء الأعراب من الأقاليم الحارة جعلت منهم التربية الدينية المعتدلة أهل اعتدال وكمال وأهل مال وأعمال. هذا وقد أطلت حواركم حتى خفت عليكم التبرم بحديثي وإني حامد شاكر لكل ما تم عليَّ لإيقاني بأن الحوادث أكبر معلم ولولا الحادثة الأخيرة في دمشق لما تيسر أن ابلغ مصر من شرقها وأن أستمتع بلقياكم الآن وأرجو أن يدوم لي هذا الاستمتاع ولكن عَلَى شرط أن يقيض الله للبلاد العثمانية من يغار عَلَى مصلحتها وينقذها من سقطتها وأسأل قاهرة الجبابرة والسلاطين أن يمن علينا بنعمة الراحة أجمعين.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الحضارة القديمة تأليف أحمد بك كمال (ص383) طبع بمطبعة مجلة الجامعة المصرية أهدانا محمد كامل أفندي فيضي مدير مدرسة القاهرة وأحد أصحاب الجامعة المصرية نسخة من هذا الكتاب النفيس والمؤلف أعظم أثري في هذا القطر وكتابه هذا محاضرات كان يلقيها عَلَى تلاميذ الجامعة في حضارة القدماء المصريين يلخص بها خلاصة اختصاصه بهذا الموضوع الجليل وهو مكتوب بأسلوب ساذج ومحلى بالرسوم والصور بحيث يلمُّ قارئه إلماماً كافياً بالتاريخ القديم وآثار الفراعنة في مصر. الحضارة الإسلامية تأليف أحمد زكي باشا (ص84) طبع في مجلة الجامعة المصرية مؤلف هذا الكتاب من خيرة الخطباء والكتاب في مصر نشر عدة رسائل وكتب تعريباً وتأليفاً وآخر كتبه هذا السفر اللطيف الذي جعله في صورة رواية والحقيقة أنه كتاب في الإصلاح السياسي والاجتماعي والأدبي ومن فصول الكتاب ما يأخذ بمجامع القلب ويفيد إثارة عواطف النفس ومنها ما يشير به المؤلف إلى أمور لا يوافقه عليها الكثيرون اليوم في هذا الشرق كتبها بأسلوب صريح دل عَلَى تفانيه في الحرية والتسامح. حكم نابليون ترجمة محمد لطفي أفندي جمعة طبع عَلَى نفقة مكتبية التأليف بمصر سنة 1912 (ص169). وهي حكم أثرت لنابليون أعظم الفاتحين في القرن الماضي صدرها بترجمة حياته وعربها عَلَى أسلوب سهل حرية بأن يتدارسها أبناء المستقبل فيستفيدون الكلم الملاح من المأثور

عن ذاك السفاح. كلمات نابليون تعريب إبراهيم أفندي رمزي طبع بمطبعة الهداية بمصر سنة 1912 (ص135). هذا الكتاب هو عين الكتاب الذي سبق الكلام عليه وعربه الكاتبان عن مصدر واحد ويا ليتهما اكتفيا بإحدى الترجمتين وصرفا الوقت في نقل كتاب آخر وهذه الترجمة كالتي قبلها حسنة والمترجم أيضاً من أدباء مصر العاملين. إياك تعريب إبراهيم أفندي رمزي طبع بمطبعة الهداية (ص56). رسالة فيما يجب للرجل المتحضر أن يتخطاه ولا يقع فيه من الأطوار والأقوال والعادات حرية أن يتدارسها ناشئتنا ليربوا عَلَى العادات الصحيحة والأطوار الرجيحة. الوسيط في تراجم أدباء شنقيط تأليف الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي طبع بمطبعة الجمالية بالقاهرة 1329 - 1911 (ص542). أهدانا محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي طابع هذا الكتاب وعشرات غيره من الكتب النفيسة نسخة من هذا السفر وفيه كلام بديع عَلَى أدباءِ ذاك القطر وشعرائه وعلمائه وتخطيط البلاد وعاداتها وأخلاقها واقتصادياتها والمؤلف من كبار اللغويين في هذا العصر أملى هذا الكتاب من محفوظة فسد بما نقله من شعر أبناء قطره وأخبارهم ثلمة مهمة في عالم الأدب وزاد الكتاب رونقاً جمال وضعه وطبعه وشكله. الإعلام بمثلث الكلام لمحمد بن مالك النحوي الأندلسي المتوفى سنة 672 ويليه كتاب المقصور والمدود له أيضاً وعليهما شرح لناشرهما الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي.

طبع بالمطبعة الجمالية سنة 1329 (ص288). هذا الكتاب من المهمات التي لا يستغنى عن الانتفاع بها كل طالب لإحكام ملكة اللغة وكيفية النطق بالفصيح نظمها ابن مالك شعراً سلساً مشكولاً بالشكل الكامل وعلق عليها الشيخ الشنقيطي ما يقتضي لها من شرح لئلا يتعاصى عَلَى الطالب فهمها فجاءت من الكتب الجديرة بأن لا يغفل عنها عشاق اللغة وأن يتدارسوها كما يتدارس طلاب النحو ألفية ابن مالك فنشكر معلق حواشيها عَلَى همته ونشاطه. ديوان الشماخ طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1327 ص120. نشر هذا الديوان للشماخ بن ضرار الغطفاني الصحابي الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي أيضاً وهو من الدواوين التي تقوي ملكة الأدب ويستفاد من سلاستها وحكمها وقد جاء الشرح أوسع من الأصل. مختارات البارودي لمحمود سامي باشا البارودي المتوفى سنة 1322 بالقطع الكامل طبع بمطبعة الجريدة بمصر سنة 1327 - 1329. أربعة أجزاء في 1803 ص. البارودي أكبر شعراء العصر والشعراء قد يكون في اختيارهم أعظم منهم في شعرهم كما قيل عن أبي تمام الطائي في حماسته ولعل البارودي الذي صرف شطراً من أوقاته في أخريات أيامه قد وفق إلى ذلك فقد جمع من شعر ثلاثين من فحول الشعراء المولدين ما فر به عَلَى الطلاب عناءً كبيراً ورتب مختاراته عَلَى سبعة أبواب وهي الأدب والمديح والرثاء والصفات والنسيب والهجاء والزهد وأما الشعراء الذين اختارهم فهم بشار بن برد العباس بن الأحنف أبو نواس مسلم بن الوليد أبو العتاهية ابن الزيات أبو تمام البحتري ابن الرومي ابن المعتز المتنبي أبو فراس الحمداني ابن هاني الأندلسي السري الرفاء ابن نباتة السعدي الشريف الرضي أبو الحسن الهائي مهيار الدليمي أبو العلاء المعري صرد ابن سنان الخفاجي ابن حيوس الطغرائي الغزي ابن الخياط الأرجائي الأبيوردي عمارة اليمني

سبط ابن التعاويذي ابن عينين. وقد علق عليه جامعه شرحاً وجيزاً لغوياً وعني بتصحيحه كاتب يده الشيخ ياقوت المرسي وفيه شكل عَلَى الأبيات المشكلة وطبعه جيد وحرفه مشرق يوفر عَلَى أبناء العصر ممن ضاقت أوقاتهم عن أن تتسع لكل شيء إذا اقتنوه وتدارسوه فعلى جامعه فقيد الأدب والشعر تنتهل ديم الغفران.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار المستعمرة اليهودية في أسوان جزيرة أسوان أو مدينة الفيل المعروفة عند اليونان باسم الفنتين وتسمى أيضاً قبح وبالعربية جزيرة البربا وجزيرة الذهب وبالمصرية القديمة مدينة أبو هي من البلاد التي توفر علماء الآثار عَلَى البحث فيها والتنقيب في أرجاء عادياتها وصرفوا عَلَى ذلك الأموال الطائلة فظفروا ببعض المستندات التاريخية وقد كتب أحد علماء الفرنسيس في مجلة الكورسبوندان مقالة في نزول اليهود هذه الجزيرة قال إننا نجهل فيها الحوادث الخاصة التي دعت جماعة من الإسرائيليين أن يأتوا من مملكة اليهودية فنزلوا جزيرة أسوان ولا نعلم إلا أن هناك حملة عسكرية أقامها المصريون عَلَى ما يظهر تقوية للحامية في مدخل القطر المصري الجنوبي. وقد كان من افتتاح بختنصر لمدينة أورشليم أكبر حامل لكثير من اليهود عَلَى أن يهاجروا إلى مصر عرفنا ذلك مما كتبه النبي أرميا وقد قادهم نيكاو إلى تلك الأصقاع ونزلوا فيها بصورة قطعية وأصبح معظمهم جنوداً وزراعاً وكانوا يسقون حقول القثاء ويزرعون الحبوب ويجنون التمر ومع هذا لم ينسوا بلادهم الأصلية بل توطنوا عَلَى شاطئ النيل ولم يبرحوا يتذاكرون في العجائب التي حدثت زمن موسى الكليم ومازال بهم الدهر حتى ألفوا هذه الجزيرة التي نزلوها وتعلموا لغتها وعاداتها ولقد كانت أوراق البردي كلها سنة 400 قبل المسيح أيام استقلت مصر تحت سلطة ملك بينها مكتوبة باللغة الآرامية وهي اللهجة التي أصبحت عَلَى عهد الفرس لغة دولية تعلمها الإسرائيليون في وقت قليل. ولم يكن من فرق يمتاز به يهود مصر إلا من حيث الدين فهم يعبدون رب آبائهم ويدعونه أياهو رب السماء والمصريون يعبدون كيروم ورأسه رأس حمل وهم يركعون أمامه في حين يذبح اليهود الحمل قرباناً كل يوم. وقد كتبت الغلبة للمصريين عَلَى الإسرائيليين فدكوا لهم معبدهم وجعلوا عاليه سافله حتى قال الإسرائيليون في أسوان لقد أتى علينا ثلاث سنين ونحن نلبس الخيش ونصوم وأصبح نساؤنا كالأيامى ولم نتطيب ولم نشرب خمراً ولم نقدم قرباناً ولا بخوراً ولا ذبيحة في هذا المعبد الذي تداعت أركانه. وإذ قد حرموا من معبدهم في أسوان انحصروا في دائرة ضيقة مقفلة عَلَى صورة تذكرهم بما ألفوه من العادات في بلادهم وما برحت هذه الحالة بالديانة الموسوية حتى أتت عليها عبادة الأوثان الشائعة في

ذات الزمن وعندها قام النبي أرميا يهتف قائلاً أن جميع رجال بلاد اليهودية النازلين في أرض مصر سيفنيهم السيف ويأخذهم الجوع وتمت هذه الكلمات بالفعل إذ هلك اليهود في أسوان في ثورة عامة عَلَى ما يظهر. وإنا إذا لم تصلنا أخبار ما أبداه الإسرائيليون من المقاومات في الغارات فقد انتهت إلينا أحوالهم الخاصة فنعلم مثلاً أن شريعة موسى تضيق جداً عَلَى النساء أما النساء الفنتين مدينة الفيل فالظاهر أنهن كن أقل رقاً من غيرهن ونعرف عادات الأسرة اليهودية وأن البائنات (الدوطات أو الجهاز) هي عبارة عن مرايا وكؤوس من الصفر وألبسة من الصوف وفرش من ورق البردي ونعرف أولئك المهاجرين عَلَى ما كان لهم من الشواغل الحربية والمدنية وإنهم كانوا يصرفون آونة فراغهم في النظر في الآداب ومكن الأسف أن العلماء لم يظفروا بشيءٍ من رسائلهم المقدسة ولو وفقوا لذلك لأقاموا بها عماد التاريخ الأدبي بل أثمن عمدة في بيانه. الكبريت والخصب أثبت العلماء أن زهر الكبريت إذا أضيفت منه كمية قليلة إلى التربة المنوعة التي تجعل في الأواني لتربية الزهور ونحوها يؤثر تأثيراً مهماً جداً في الإنبات ويزيد غلة المزروع زيادة كبرى خصوصاً في التربة المستعملة عَلَى الدوام. سماد البوتاس للأملاح المحلولة من البوتاس شأن عظيم بين مخصبات التربة وما من نبات ينمو بدون أن يتناول ولو كمية قليلة منه في التراب وكم استعمل في هذا السبيل فكان منه أن ضاعف غلة الأرض وأهم مناجم البوتاس في بلاد ألمانيا ولذا احتكر تجار هذه البلاد تجارة هذا السماد في العالم بما ألفوه من النقابات وتحكموا في أسعاره عَلَى ما شاؤا. وإذ كانت تربة الولايات المتحدة عَلَى خصبها لا تستغني عن هذا السماد فقد بلغ ما جلبته من السماد الألماني سنة 1900 21 مليون فرنك وفي سنة 1910 61 مليوناً وفي 1911 76 مليوناً وإذا دامت هذه الزيادة مطردة مما لا مناص منه كان عَلَى الولايات المتحدة بعد عشرين سنة أن تنفق في السنة عَلَى هذا الغرض ملياري ومائتي مليون فرنك وقد بذل مجلس نواب أميركا ثلاثة ملايين للبحث عن السماد الذي يمكن استخراجه من بعض جبال البلاد حتى لا تضطر إلى إخراج مبلغ كبير لشراء السماد الألماني ولكن أعمال اللجنة في ذلك لم تأت

بثمرة وكذلك فعل غيرها وإذ يئس الباحثون من العثور عَلَى السماد المطلوب من اليابسة أخذوا يفكرون في استخراجه من البحر إذ أن في ماء البحر كمية من أملاح البوتاس ولذا كان المحيط الكبير حوضاً لا ينفذ منه البوتاس وحسبوا أنه إذا استخرجت من البحار جميع أملاح البوتاس الموجودة فيه يتأتى الحصول عَلَى طبقة من السماد تغطي أراضي الولايات المتحدة عَلَى علو 30 متراً عَلَى أنه من الصعب استخراج ما ينبغي الآن للفلاحين من الكميات وإن ثبت للطبيعيين أن النباتات الكبرى في المحيط الهادئ تحتوي عَلَى كميات وافرة من الأملاح وهذه النباتات اسمها باللسان النباتي بيروستيس ويمكن استنباتها بكميات وافرة في البحار الأميركية من تخوم المكسيك إلى المحيط الشمالي ويبلغ طول الواحدة عشرين متراً تتألف منها غابات غبياءُ وكل طن يجفف من هذه النباتات يحتوي عَلَى 240 كيلو من ملح البوتاس تساوي مئة فرنك ويقدرون أن كل هكتار من سطح البحر يحتوي عَلَى مائتي طن من هذا النبات والحكومة الأميركية تفكر كل التفكر بهذا المشروع الحيوي. تلفون الصم البكم تأسف أحد العرفين من الصم البكم في الغرب واسمه ويليام شواف لأنه محروم هو وإخوانه من التخاطب بالتلفون فاخترع طريقة جديدة تفي بهذا الغرض واستعمل النور بدلاً من الصوت عَلَى طريقة أسهل من الردايوفون لا يحتاج معها المخاطب إلى الكلام مع مخاطبه إلا أن يمعن النظر في آلة أمامه فيها الحروف والأرقام التي تتألف منها الكلمات والأعداد والمصابيح الكهربائية لا تضيء إلا إذا اشتغلت الآلة الكاتبة وتنطفئ بانطفائها. هذا اختراع الصم البكم بأنفسهم لأنفسهم فمتى يخترع يا ترى في الشرق من سلمت حواسهم من الآفات. أعماق البحار ثبت لأحد الأخصائيين في درس الأبعاد أن المحيط الأتلانتيكي يمتد من أسلاندة فيبلغ 150 ألف كيلومتر طولاً وعلى جانبيه حوضان يبلغ عمق البحر فيهما من 4000 إلى 6000 متر وفي بعض الأماكن لا يكون أكثر من مئة متر وإن هذه المحال كثيرة الأسماء وأعمق محل في البحر الأتلانتيكي يقدر بـ 8340. الفلسفة الحسية واضع هذه الفلسفة المسماة بالبوزيفيتيزم هو أوغست كونت وعن فلسفته أخذ الفيلسوف

سبنسر الإنكليزي ولهذه الفلسفة في ديار الغرب أنصار كثيرون ولم يعدم الشرق أناساً يقلدون أيضاً في قبول مبادئه فمنهم فئة في القاهرة وأخرى في الآستانة ولا ندري إن كانوا قبلوا الفلسفة الحسية بعد دراستها أو تناولوها تقليداً. ولهذا الفيلسوف ميل شديد للإسلام وحسن الظن به وكثيراً ما يوصي بتلاوة القرآن والتوراة والنظر فيهما وكان لكونت اعتقاد جازم بمستقبل الإسلام ويعجب بما قام به من الخدم للمدنية ذكر ذلك غير مرة في كتبه ولاسيما في كتابه إلى الصدر الأعظم رشيد باشا سنة 1853 وذكرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية أن المسيو كريستيان شرفليس قد جمع مؤخراً أقوال الفيلسوف كونت في المادة مقدماً لها مقدمة طلب فيها التضامن بين الإسلام والفلسفة الحسية قال وعلى فرض أن الإسلام صار إلى خطر فلا يكون له ملجأ أضمن من دين الإنسانية أي فلسفة كونت. عيون النبات أثبت أحد كبار أساتذة النمسا في النبات أن لكثير من النباتات حاسة النظر ويمكن تشبيهها بالحيوانات الصغرى وخلاياها تشبه خلايا الهوام التي بها تبصر ومعلوم أن للذباب العادي أربعة آلاف خلية وسبعة عشر ألفاً للفراش وقد أيد هذا الرأي بعض أساتذة من إنكلترا وقالوا أن للنباتات عيوناً حقيقية كعيون النحل تميز بها ما يعرض أمامها بعيداً كان أو قريباً. غلاة الكتب يعلق غلاة الكتب مكانة زائدة عَلَى الجلود ولذا بعثت إليهم جمعية الفنون في لندرا بإنذار جميل تدعوهم فيه إلى السهر عَلَى المضار التي تحدث من الحشرات التي تغشى الجلود وهي معرضة لها في الأكثر لا مناص لها منها. وجلد السختيان والخنزير والرق الحقيقي أقل تعرضاً لعبث هاته الهوام وليس جلد الثيران وجلود روسيا ممن يجدر الاعتماد عليه في وقاية الكتب أما القماش والمقوى البسيط فيجب البتة إبعادهما من كل مكتبة يحترم ما فيها ويغالى بحفظه وبقائه. النفقات الكمالية لو ارتقى في الشرق فن الإحصاء ولاسيما في مصر لثبت أن التغالي في الكماليات والتفاني

في سبيل الطرب والموبقات يزداد شهراً فشهراً بل يوماً فيوماً وما غلاء أسباب المعاش بالذي يحول عَلَى الإقبال عَلَى دور التمثيل والصور المتحركة والموسيقى والتزحلق والألعاب المختلفة ولكن ليس هذا شأن البلاد الراقية فقد أحصت باريز ما أنفق الناس في دور تمثيلها فبلغت مداخيلها في السنة الماضية نحو 59 مليوناً من الفرنكات أو نحو مليونين وأربعمائة ألف جنيه هذا عَلَى حين لم يتجاوز مجموع ما جمع لإغاثة البائسين في تلك العاصمة الكبرى 254 ألف جنيه فتأمل كيف يقبل الناس عَلَى المسليات ويرغبون عن الباقيات الصالحات. ملك الصحافيين يعرف قراء الصحف اليومية أن من جملة من غرقوا في الباخرة تيتانيك التي غرقت في شهر إبريل الماضي في مياه أميركا وغرق فيها نحو 1500 رجل وامرأة من أنحاء العالم المستر ويليام ستيد صاحب مجلة المجلات وملك الصحافيين في إنكلترا مغيث الملهوفين وخادم الإنسانية الأمين ولسنا نطال هنا إلى كتابة ترجمة الرجل فترجمته تشبه تراجم أكثر العصاميين في العالم تعلم في مدرسة ابتدائية فقط ثم عمل في التجارة سبع سنين ثم اتصل في الصحافة مدفوعاً إليها بعامل الولوع بها وأنشأ منذ سنة 1889 مجلة المجلات الإنكليزية وهو في الأربعين من عمره فامتازت وهي شهرية بمقالاتها السياسية المؤثرة ولكننا نريد لأن نذكر له مزية من أكبر المزايا فيه وهو أنه يلتهب إذا سمع ظلماً نال شعباً مظلوماً ولطالما شدد الوطأة عَلَى حكومته في تهورها بحرب البوير ودافع عن البوير حتى اضطرت حكومته بعد إنفاق النفقات الطائلة وبذل عشرات الألوف من الأنفس أن ترجع إلى رأيه العادل العاقل وكل الأمم كما قال أحد واصفيه مهما بلغ من عظمتها تراها كالأطفال تكشر عن نابها قبل تناول الدواء الذ يصفه الطبيب. وله اليد الطولى في إنشاء محكمة السلام في لاهاي وهو الذي قابل معظم ملوك الأرض وأعاظمها وعلمائها واشتهر بمحادثاته السياسية التي سن سنتها ولطالما كان يدل عَلَى الملوك والأمراء وأرباب المال من ذلك إدلاله عَلَى قيصر روسيا وقوله له تنصرف الآن عظمتكم لترى القيصرة والأولاد فصرف هو القيصر بدلاً من أن يصرفه القيصر ومن ذلك أنه اجتمع مع سلطان العثمانيين في صدد اعتداء الطليان عَلَى طرابس الغرب وأراد السلطان أن يهديه هدية فخاف ستيد

من ذلك أن يكون وساماً أو غير ذلك من أدوات التشريف في الحكومات فلحظ السلطان ذلك وقال له مثلك لا يمنح وساماً فرتبتك أعظم الرتب وأراد السلطان أن يهديه علبة لفائف من الذهب فقبلها ولكن بعد أن أهدى هو للسلطان مسكة قلم من ذهب أيضاً ولم يرض ستيد أن يأخذ قط نفقة ينفها في سبيل من السبل لأجل غرض يتعلق بملك أو أمة بل كان يصرف من جيبه مع أنه ليس من أرباب اليسار الزائد وقد رأينا من يزيدون عليه مئة ضعف بثروتهم حتى في إنكلترا يسعون إلى المطامع الدنيئة ولذلك عظم موقع ستيد من النفوس حتى أنه نسي حقوق الصداقةمع سسل رودس الغني الإنكليزي الكبير يوم الحملة البويرية وحمل عليه حملة منكرة لأن هذا كان من النافخين في ضرام حرب الترنسفال في حين كان رود يريد أن يدفع مليون جنيه لستيد لينشئ بها جريدة يومية لا مثيل لها بين صحف العالم الممدن تباع عَلَى مكانتها مجاناً لتبث الأفكار الصحيحة خالية من مؤثرات رجال السياسة والماليين والتجار والمحتالين والمشتركين والمبتاعين وغيرهم لتكون صحيفة بيضاء نقية لا تقول إلا الحق ولا تدعو لغير العدل. كان ستيد الحركة الدائمة في العالم يطوف لإقناع الأمم والحكومات بإقامة العدل يفكر أثناء السفر ويكتب في البحار وعنايته بمجلته جعلتها في مقدمة مجلات العالم وكذلك كان في كل عمل تولاه قبلها ولاسيما رئاسة تحرير البال ما غازت وكان عَلَى جانب من التدين كبير يقول بأمور في الأرواح لا يقول بها المشتغلون بالأبحاث الطبيعية وبقي عَلَى تدينه إلى آخر حياته فهو خدم الإنسانية طوال حياته وخدم أمته أجل خدمة وسجن مرة لفرط حريته وخرج بعد ثلاثة أشهر أقوى همة مما كان قبل السجن وبالجملة فهو تمثال الصحافي الحقيقي بعلمه وتجاربه ومضائه وشرف نفسه وبعده عن المطامع لا كأثر الصحافيين في الشرق والغرب لصوص في صورة صلحاء وأبالسة يقولون في الملائكة ويفعلون فعل الخنازير وما الفضل حقيقة في نبوغ هذا الصحافي العظيم إلا لسلامة محيطه ومن كانت أمته كالأمة الإنكليزية في حبها الحق والعدل كان حرياً أن يعمل مثل ستيد الأعمال الكبرى التي لا يحلم بها كل إنسان. فقيد دمشق فقدت دمشق عالماً أديباً من الطراز الأول أستاذنا السيد محمد المبارك الجزائري عن 67 سنة كان فيها مثال الأدب الرائع والأخلاق الفاصلة كرم النفس. درس كما يدرس أهل

عصره فحفظ القرآن وأتقن العلوم العربية والدينية واختص باللغة والأدب ثم التصوف ومما استظهره مقامات الحريري فكان يتلوها كلها لا يخرم منها جملة وعلى أسلوبها نسج في شعره ونثره فكثرت ألفاظهما وجناساتهما أكثر من معانيها ومقاصدها وله قدم راسخة في النقد الأدبي واللغوي قل أن يدانيه أحد في سورية. وللأستاذ محاورات وقصائد ورسائل ورحلات أهدى معظمها في صباه للأمير عبد القادر الحسيني الجزائري واشتغل في آخر عهده بالطريق بما زجه حسن العشرة والظرف وكان مجلسه عَلَى وقار فيه أشبه بمجالس الأدباء منه بمجالس المتصوفة والفقهاء هذا مع سماحة اليد وطلاقة الوجه بحيث لم يدخل منزله أحد عَلَى كثرة من كان يغشاه من مريديه إلا ويكرمه جهد طاقته ويصدر عنه بفائدة أدبية أو أخلاقية تستميل قلبه وكانت له طريقة في معالجة صرع المصابين بالنوبات العصبية وغيرها لا تعرف لها تعليلاً عليماً. وقد قرأ لتلاميذه ومريديه كتباً كثيرةً في التصوف والأدب الحديث والتفسير وصحح ما وقع في أكثرها من الأغلاط والأوهام فبرهن لم عرفه أنه أديب في حقيقته صوفي في مظهره طويل النفس حتى في الجزيئات طاب ثراه.

قصة

قصة نتائج الإهمال دخلت عيشا ذات يوم مكاناً عاماً تعرض فيه الصور المتحركة لأقضي ليلة من ليالي همومي فأنصرف بالفرج عن السياسة فبينما أسرح الطرف لأختار مكاناً للجلوس لفتت نظري فتاة مسلمة لا تتجاوز الرابعة عشرة سنة تمشي رقصاً وتتيه عجباً بملاءة من الحرير الأسود مزركشة بأنواع التخاريم ضيقة الأطراف والأذيال تكاد تظهر أعضاؤها فيرى الناظر إليها خصرها النحيل الذي زاد نحولاً بضغط المشد وهو محاط بزنار من الحرير الأسود ويرى نهديها نافرين وكفلها بارز وكأن هذا المظهر غير كاف حتى أخرجت شعرها المتجعد من فوق جبينها الوضاح كأنه إكليل من الأزهار وزان الخالق جبينها بقوسي حاجبيها وأما عيناها النجلاوان وأجفانها المتكسرة وأهدابها البارزة فقد زينتها بكحل أسود يخص بغانيات مصر كحل يزدن به كحلهن جمالاً يسحرن بغمزهن قلوب الناظرين ولها أنف مستو يعلو نصفه برقع شفاف من الحرير الأبيض عَلَى أنها قريبة من البياض ولما دخلت لفتت رأسها إلى الجانب الأيمن فتراءى من تحت البرقع جيد أشبه بجيد الغزال مطوق بطوق من الذهب وهي مكشوفة الزندين كأنها ذاهبة إلى مرقص عَلَى النمط الإفرنكي فقلت في نفسي ما هذا التبرج؟ وهل بعد ذلك أقول أنها في حجاب! عَلَى أنه أعجبني تستر بعض السيدات المصريات بما يطلقن عليه الحجاب الشرعي إذ لا يتيسر للمرء لا يراهن متبرجات تبرجاً جاهلياً وكيف يجوز للشريفة العفيفة أن تتبرج لغير زوجها؟ وما التبرج الجاهلي إلا دليل السذاجة وسلامة الطوية أو دليل خبث النية وعادة سيئة. أسفت عندما رأيتها دخلت إلى مثل تلك الأمكنة العامة وحيدة وليس منها مكلف من محارمها يدفع عن أذى المتهكمين ومن الأسف دخول السيدات إلى الأمكنة العامة حيث يختلطن بالرجال ويسمعن من الألفاظ ما يؤذيهن ونما هذا العمل الأخرق لآداب الشرق وشرف الحجاب. دخلت تلك الفتاة محلاً خاصاً فدعاني حب الاطلاع عَلَى الأمور مغروس في فطرة الإنسان أن أراقب أعمالها فدنوت من المحل الذي جلست فيه وما أشد دهشتي وقد شاهدتها تتعاطى

كؤوس حتى دخل فتى مصري وبصق في وجه الفتاة وعنفها بكلام مخجل فلما رأته ارتعدت له فرائصها ووقعت هي وحبيبها في اضطراب ووجل ثم رجع الفتى وأتى برجل من الشرطة وأخذ يراقب مكانهما فسمعتها تقول يا دهوتي بعرضك يا سيدي وأنا أعمل إيه دي الوقت فقال لها تربصي وخرج وأتى بعربة فركب فيها مع الفتاة وذهب فتبعه الفتى والشرطي بعربة أخرى فتبعتهما بعربة ثالثة إلى أن وصل الحبيبان إلى أحد المخافر ونزلا معاً ونظرا إلى الفتى نظرة تهديد وهما بالدخول إلى المخفر لكن الفتى المصري ظل سائراً مع البوليس فتبعتهما مسافة قليلة ثم نزلت ووقفت أراقب أعمال الحبيبين فرأيت أنهما لم يدخلا بل ركبت الفتاة المركبة بعد أن كلمت الشاب بضع كلمات وذهبت وبقي هو أمام المخفر ثم رجع ذلك الفتى وكلم حبيبها هنيهة غير قليلة وأنا أنظر إليهما وأستخرج المعاني من حركاتهما وإشاراتهما فتبين لي أن الحبيب كان يؤنب الفتى عَلَى عمله وكان الفتى يأتي بحركات تدل عَلَى الاعتذار. ثم تصافحا وتفارقا. هم الحبيب بالرحيل فدنوت منه وخاطبته بلطف: أيسمح لي سيدي بأن أكلمه وأسأله عن بعض الأمور وأنا راج عفوه عَلَى جرأتي لمشافهته من غير سابق معرفة فأجاب بكل لطف لك ذلك وكرامة. سيدي أعلم أني رجل غريب عن هذه الديار قام في ذهني أن أدرس أحوالها لأقف عَلَى الحياة الاجتماعية لهذا القطر وقد راقبت أعمالك وما جرى معك مع الفتاة المسلمة من أوله إلى آخره ولاحظت أن في المسألة غرابة وأمراً ذا بال وأن وراء الستار أموراً لم أكشفها عن بعد فهل تسمح لي بأن تقص عليّ جلي الأمر لأعلم إن كنت مخطئاً في ظني أم أنا مصيب ولا يدخلك ريب مني لأني فهمت أكثر كا تخلل القصة ولا يحتاج إلا إلى كشف الحقيقة فأطلعني عليها لثلا أخلط في ظنوني. ـ ما اسمك ومن أين أنت قبل كل شيء. - أنا فلان. ـ أو أنت فلان كم سمعت باسمك. - نعم أنا فلان. ـ لي الشرف بمعرفتك أما أنا فاسمي. . . . ـ تشرفت بحضرتك هات إذاً قص عليّ أمرك كله ولك الفضل. ـ ما دمت في علم من أمرنا فهاءنذا أقص عليك ما وقع لي بجملته ولكن تعال وتفضل

لنجلس في مكان فجلسنا في قهوة قريبة ثم شرع في الحديث يقول: اعلم يا سيدي أن لي صديقاً عرفني إلى هذه الفتاة وهي من عائلة كريمة ولا تزال تلميذة في إحدى المدارس الداخلية وكان بينها وبين الصديق روابط واجتماعات دامت نحو عام وصادف أني وجدتها عند صديقي فقدمني إليها فمال قلبي إليها واقتنصت الفرص فطلبت الاجتماع بها فوعدتني هذه الليلة إلى ذاك المكان لأن ليلة السبت ليلة دخولها المدرسة فالمدرسة لا تهتم لتأخرها عَلَى ما يظهر وأهلها يعلمون أنها ذهبت إلى المدرسة فتحتال عَلَى عمدة المدرسة وأهلها في آن واحد وهكذا كانت تفعل مع صديقي الذي أغواها إغواء الشيطان ولعب بعقلها في كتبه الغرامية وهي لا تزال في سن طفوليتها لا تعرف كيف تفكر في مستقبلها وشرفها مع شرف أسرتها فسحر لبها واستحوذ عَلَى عواطفها فانقادت له طيعة حتى صارت لا تبالي بشيءٍ يمس عفافها ولا يخفى عليك أن أكثر الجاهلات يعتقدن أن الفتاة إذا كانت بالغة فهي حرة تتصرف بشخصها كما تشاء. ـ فقلت تباً لك أيتها الحرية كم أساء إليك الجاهلون والجاهلات وكم ارتكبت باسمك الفظائع البشرية دخلت الشرق من الغرب بعد فقد حريته الطاهرة فلم يأخذ منك إلا حرية الرقص والمداعبة وحرية تناول الكؤوس عَلَى رؤوس الأشهاد والتفاخر بالمقامرة واعتبار القمار دليلاً عَلَى المدنية وحرية التبرج وفي الجملة حرية كل شيء يمس الفضائل ومحاسن الأخلاق وما يجرح العواطف الشريفة ولم يأخذ منك حرية الكلام والاجتماع والجمعيات ولا حرية الكتابة والطبع والمطبوعات ولا حرية التعليم التي فيها الحياة ولذلك فشا الفاسد في الشرق وأصبحت الرذائل مكان الفضائل عَلَى أننا في حاجة إلى حرية فاضلة وأما حرية تلك الرذائل فإنها لا تثمر إلا فساد الأخلاق وموت الفضيلة وتحذير الشعور والإحساس وقتل الشعب وإماتة الجامعة وذلك الأمة. وحبذا غيرة الحكومة المصرية في منعها الحشيش حبا بإحياء النفوس التي أماتها والعواطف التي خدرها وليت الحكومة تبذل مثل هذه العناية في منع التنهتك ولعب القمار الذي فيه الدمار. مهلاً يا سيدي لقد حركت عواطفي وجرحت فؤادي وأخجلتني عَلَى أنها هي التي شجعتني فلولا أني رأيت منها ميلاً وأنست منها حنواً لما أقدمت عَلَى طلب الاجتماع بها.

ـ تباً لكم معشر الرجال ما أقسى قلوبكم تصرفون اقتداركم ومعارفكم في التسلط عَلَى قلوب النساء الضعيفة وهل تنتظر مقاومة تتمثل فيها العفة والعقل عفة تمنع قلب هذه الفتاة الضعيفة التي لا تزال في مهد الطفولية بين صفوف الطالبات من تضليل الرجال وحبائلهم الشيطانية ولا ريب بأن صديقك هو الذي أغواها وأفسد أخلاقها أنا لا أشك بأم الوسط الذي تنشأ فيه الفتاة من أكبر العوامل المؤثرة في نفسها ولكنني لا أجهل أيضاً أن حسن التعليم وإتقان التربية في المدارس وشدة الاعتناء تصلح ما فسد في البيت وربما قرأت عن جيش المجاهدين في بلاد أسوج كيف يحاربون البغاء ويخلصون الباغيات من العهر والفجور فتصبح العاهرة بفضل هذا الجيش المنظم مثال الطهر والعفة فالفتاة التي نشأت عَلَى تربية حسنة ثم زينتها المدرسة بالآداب والفضائل وثقفت عقلها وأحسنت تعليمها ولا يستهويها فاسد مثل صديقك ولكن نقص التربية البيتية وعدم الاعتناء في المدرسة وهذه الحرية الفاسدة ومهارة أمثال صديقك تفسد الملائكة فما بالك بالنساء وما قلوبهن الأهواء فلنرجع إلى حديثنا. ـ كان موعدنا هذه الليلة فخرجت الفتاة من بيت أبيها تحمل ما يلزمها في المدرسة وأتت إليّ لأقضي معها ساعة أنس وطرب فلما جاءت أدخلتها المحل الذي أعددته لها فلما دخلت طلبت لها الجعة فما بدأنا بالشرب حتى فاجأنا الفتى المصر وبصق في وجهها وشتمها وخرج يستقدم الشرطي كما رأيت فأخذها الخوف الشديد وداخلني الريب فسكنت أكثر منها خوفاً فسألتها عنه فقالت هو ابن عمي فطار عقلي وأخذت أفكر بماذا أفعل فخطر ببالي التظاهر بالشجاعة لأني خفت من أن يكون الأمر مدبراً ليتهموني بها عَلَى أن الجاني كان صديقي فخرجت من المكان وأخذتها معي فركبنا العربة وذهبنا إلى المخفر لأشكو أمر الرجل والشرطي لأنهما اعتديا عَلَى حريتنا. ـ بئست تلك الحرية. ـ ولما رأى الفتى دخولنا إلى المخفر ذهب مع الشرطي فسارعت بإركاب الفتاة وإرسالها إلى مدرستها وإذ رجع الفتى عرضت له قصتي فقال أنه من جمعية سرية تناهض البغاء والفجور وأنكر أنه ابن عمها ولكنه يعرفها وأخبراني عن أسرتها ثم تفارقنا عَلَى ذلك وأشهد والله عَلَى أني تبت توبة نصوحاً ولن أفعل مثل هذه الأفعال لأن الخوف الذي استولى عليَّ

لم أصادفه في حياتي وبعد أن مكثنا هنيهة من الزمان تفارقنا عَلَى أمل دوام المحبة. فهذه قصة واقعية حذفت منها ما حذفت لئلا يفهم الناس أبطالها ونشرتها لتبرهن للذين لا يفهمون معنى الحرية وأن الحرية الفاضلة إنما وجدت لرقي الشعوب وراحتهم ولكن أمثال هذه الحرية الفاسدة لا تقوم بشعب بل تكون علة وانحطاطه بعلمه وأدبه وأخلاقه ونفوسه وماله.

صدور المقتبس

صدور المقتبس يعود المقتبس اليوم إلى الصدور في القاهرة بعد أن فارقها نحو أربع سنين إلى دمشق متخلصاً من مشاغب السياسة ومتاعبها. وكأننا شعرنا بما نلقاه في خلال هذه السنة السابعة لإصدار المجلة فاشرنا في المقدمة إلى أننا سنتخلى عن السياسة الآن لننصرف جملة واحدة إلى خدمة العلم فها قد تحقق ظننا مكرهين وعدنا إلى هذا القطر السعيد مغبوطين وسيكون لنا من محيطه الواسع ومدنيته الغضة ما يدعونا بحمد الله إلى تجويد عملنا هذا أكثر مما جودناه فنخدم قراء العربية فيما نؤلفه ونترجمه ونبحث فيه ننتقده ويكتبه لنا مؤازرونا الكرام في البلاد العربية وغيرها حتى نبلغ بالمقتبس الدرجة التي نتوخاها هاله بالنسبة لرقي البلاد والأمة والله المسؤول أن يمدنا إلى الصواب ويجلو لنا غامض العلوم والآداب بمنه وحسن تيسيره.

تاريخ الحضارة

تاريخ الحضارة مترجم عن الإفرنسية نتائج الحروب الصليبية - كانت نتيجة الحروب الصليبية قصيرة العمر فلم تستطع مملكة القدس أن تقاوم المسلمين بل انحلت سنة 1291 ودك البيزنطيون أساس الإمبراطورية اللاتينية التي أسست سنة 1204 ولكن القبر المقدس أخذ يجذب إليه كل سنة ألوفاً من الحجاج فخصصت لهم سفن تقلع من البندقية وجنوة ومرسيليا وهكذا ابتدأت الصلات المنظمة بين إيطاليا والشرق. ولم تكن توجد أدوات الزينة وحاصلات البلاد الحارة وأباريز الهند (كالفلفل وجوز الطيب والزنجبيل والقرفة) والعاج وحرير الصين والأقمشة والبسط والسكر والقطن والأوراق إلا في أسواق الآستانة وبغداد والإسكندرية وكانت هذه السلع التي يرغب فيها الغربيون من وراء الغاية ويبذلون في سبيلها كل مرتخص وغالٍ تربح أرباحاً فاحشة فقد بدأ أهل البندقية رعايا الإمبراطورية البيزنطية يتجرون مع بيزنطة: وأخذ الناس في أوربا في القرن الثاني عشر يؤثرون أن يذهبوا لاستبضاع متاجر الشرق من مصادرها فتبعث المدن التجارية الكبرى في ذاك العهد كالبندقية وجنوة وبيزا سفنها إلى موانئ فلسطين حيث كانت تصل قوافل دمشق وبغداد وكان للبنادقة في القرن الثالث عشر حي خاص في القسطنطينية بعد أخذها ومكاتب تجارية حتى البحر الأسود حيث يتجرون وطربزون وسمح أمراء المسلمين في مصر وطرابلس الغرب بالتجارة مع رعاياهم وعقدت البندقية وجنوة معاهدات تشبه هذه فأخذت مراكب البندقية وجنوة ترد بصورة منظمة إلى الإسكندرية تقل الأباريز والأقمشة وعلى هذا فالصلات بين الغرب والشرق قد بدأت بحرب بين المؤمنين وانتهت بمسائل بين المتجرين وآثر التجار الألمان وكانوا إلى القرن الحادي عشر يجلبون بضائع الآستانة بركوب المراكب في نهر الدانوب أن يجتازوا جبال الألب ويبتاعوها من تجار إيطاليا فتغير طريق التجارة الأعظم وترك طريق الدانوب وأصبح طريقها من الإسكندرية ماراً بالبندقية فثنية برنير فأكسبورغ فنورمبرغ. الصلات بين الشرق والغرب - تحضر الغربيون باحتكاكهم مع الشرقيون وأنه ليعتذر القول في تحديد الطريق التي دخل منها إلى أوربا اختراع من اختراعات الشرق فهل

انتهت إلينا من طريق أهل الصليب في فلسطين أو من طريق التجار الإيطاليين أو الحرب في صقلية أو من المغاربة في أسبانيا ولكن يمكن تقدير الحساب بما نحن مدينون به للعرب وهذا الحساب يطول شرحه. فقد أتانا من العرب (أولاً) الحنطة السوداء والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر التي أصبحت من أهم زراعات أميركا (ثانياً) معظم صناعاتنا في التزين مثل الأقمشة الدمشقية القطنية والسختيان وأقمشة الحرير المزركشة بالذهب أو الفضة والشاش الموصلي والشفوف (البرنجك) والصندل والحبر والمخمل الذي زيد إتقانه في إيطاليا بعد حين والزجاج والمرايا التي قلدوا في البندقية والورق والسكر وعمل الحلويات والمشروبات (ثالثاً) مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعباً. دع عنك السحر وعمل التعاويذ التي اعتقد فيها الإيطاليون إلى يوم الناس هذا وحجر الفلاسفة الذي كان بعض أمراء الألمان يبذلون من مالهم للبحث عنه حتى القرن السابع عشر وذلك بواسطة صناع الذهب أو الكيماويين. ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند بل والصين) وهم الذين نقلوها إلينا ودخلت كثير من الألفاظ العربية في لغاتنا وهي تشهد بما نقلناه عنهم. وبواسطة العرب دل العالم الغربي الذي أصبح بربرياً في غمار المدنية فإذا كان لأفكارنا وصناعتنا ارتباط بالقديم فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة قد جائنا من العرب. تأثير الحروب الصليبية في المعتقدات - أثر الاحتكاك بالشرق في الأفكار الدينية بين المسيحيين أيضاً فقد تحمسوا أولاً للنزال والطعان ولما شاهدوا المسلمين عن أمم رأوا بينهم رجالاً أشداء منورين كرماء أمثال صلاح الدين الذي أخلى سبيل أسرى المسيحيين بدون فدية وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين وقد مرض ليداويه فبدأ المسيحيون يحترمون المسلمين وإذ أراد الصليبيون أن يثبتوا فضائل الديانة المسيحية للمسلمين واليهود تناقشوا بينهم فاضطرتهم المناقشة أن يقابلوا بين الأديان الثلاثة ومن هذه المقابلة استنتج بعضهم أن الأديان الثلاثة باطلة إذ أن كل واحد منها يدعي أنها حقيقية وما عداها باطل فقالوا أنه لو

جاء ثلاثة دجالين عظام (كذا) موسى ويسوع المسيح ومحمد (صلوات الله عليهم) فخدعوا اليهود والنصارى والمسلمين وهذه الجملة نسبت خطأ إلى الإمبراطور فريدريك الثاني وسرت في إيطاليا في القرن الثالث عشر. واستنتج آخرون العكس فقالوا أن الأديان الثلاثة حسنة كلها وقصوا هذا المثل: كان لرجل خاتم له ارتباط بإرثه وكان يحب أولاده الثلاثة بدرجة واحدة فصنع خاتمين اثنين يشبهان خاتمه ودفع إلى كل واحد منهم خاتماً ثم مات الأب فأنشأ كل من الأولاد الثلاثة يطالب بالإرث الذي له علاقة بالخاتم فقضى القاضي أن يرث الإرث ثلاثتهم فالنصارى والمسلمين واليهود كلهم ثلاثة أبناء لأب واحد سماوي أراد أن يكون لكل منهم حظ من إرثه. وقد جعل المسيحيون في آخر هذه القصة اختلافاً فقالوا أنهم أتوا بمريض وأمسكوه الخواتم الثلاثة فشفى عندما يمس الخاتم الحقيقي والمعجزة محك الدين الحق. والمعجزات قالت أن النصرانية أفضل. فرنسا في القرن الثالث الملكية الفرنسوية في القرون الوسطى ارتقاء الملكية عَلَى عهد الكابتيين - لم يكن ملك فرنسا سيداً إلا في محلته جاء القرن الثاني عشر وأملاكه لا يعتد بها فكانت سياسة البيت الملكي في فرنسا سياسة أسرة من الفلاحين تبحث في توسيع أملاكها فيقتنى أفراده بالبيع والزواج والفتوح أملاكاً يضمونها إلى أملاكهم رويداً رويدا فيبسطون يديهم مرة عَلَى ولاية وأخرى عَلَى كونتية صغيرة (سانس وملون) وأحياناً عَلَى محلة صغرى (مثل مونتلرة وبوجنسي) وقد زادت أملاك البيت المالك عَلَى عهد فيليب أغسطس ثلاثة أضعاف ما كانت عليه بأخذ أملاك دوج نورمانديا. فكثر عديد الفرنسان في جيش الملك كما كثر المال في خزائنه والرعايا في أملاكه أكثر من كل أمير في فرنسا وأصبح أقدر سيد في مملكته وأناب عنه في أملاكه المنتشرة في أقطار فرنسا حكاماً أخذوا يضيقون خناق وكلاء كبار السادات ليجعلوا اسم سيدهم محترماً في كل صقع وناد. باريز عَلَى عهد فيليب أغسطس - كانت باريز في القرن التاسع عشر عَلَى عهد حصار النورمانديين لا تتجاوز رقعة الجزيرة وفي أواخر القرن الثاني عشر امتدت عَلَى ضفتي السين ولكن يجعل فيليب أغسطس الحياء الجديدة بمأمن من هجمات العدو أنشأ حول

المدينة التي وسعها عَلَى هذه الصورة سوراً غليظاً ذا أبراج لا تزال ترى إلى اليوم بعض بقاياه وظلت المدينة أبداً في الوسط وهناك كانت الكنيسة الكاتدرائية (التي أصبحت بعد كنيسة نوتردام) ومقر الأسقف وقصر الملك (حيث جمع سان لوي فيما بعد مجلس نوابه وأصبحت دار العدل أو ديوان المظالم) وعلى الشاطئ الأيسر من ناحية جبل سانت جنيفيف طلبة المدارس ورجال الكهنوت الذين يختلفون إلى المدارس ومن هذه الجهة انتهى السور أمام طرف جزيرة تورنل ماراً بجبل سانت جنيفيف وامتد إلى نهر السين قبالة متحف اللوفر. وعلى الجانب الأيمن يبدأ السور قبالة المدينة وينتهي باللوفر. وكان السكان في هذه البقعة الضيقة يزدحمون حتى لا يضيعوا فراغاً عظيماً فكانت الأزقة ضيقة معوجة ومظلمة لا بلاط فيها ولا نور. وليس فيها بوليس تقرع كل مساء علامة الانصراف إلى البيوت فيعود الأهالي الوديعون إلى منازلهم ويغلقون أبوابهم وكانت الأزقة عرضة للصوص والمتشردين من كل جنس ومن خطر الجلل أن يلقي المرء نفسه في التهلكة باجتيازها. وما كان لمدينة بايز إدارة عامة بل كانت مبنية عَلَى أرض شطر منها فقط ملك الملك وكانت عدة أحياء ولاسيما ما بني منها خارج السور من الأرباض مبنية في أملاك الأديار التي كانت بادئ ذي بدء بنيت في القرى مثل سان جرمان دي برى (بالقرب من برى أو كلرك الذي كان يمتد إلى شاطئ السين) سان مرتان دي شان وسان جنيفيف وليس الملك هو السيد في هذه الأحياء بل رئيس الدير وله الحق لا أن يتقاضى كراء البيوت التي بنيت في أملاكه بل أن ينظر في محكمته في قضايا السكان والجرائم المرتكبة في حيه أجمع. وبعد فما كانت باريز جسماً واحداً حتى أن شطرها الذي هو ملك خاص للملك يكن منظماً تنظيم المديريات كما كانت كثير من المدن الصغرى (مثل أمين وسواسون وبوفى وغيرها) وليس لباريز سجل مديرية ولا شيخ بلد ولا مراقب بل كان العملة الذين يعملون عملاً واحداً والتجار الذين يتجرون بنصف واحد في باريز وفي غيرها من المدن يجتمعون اجتماعات لكل منها نظامه وصندوقه وزعماؤه. وكانت أقوى النقابات في باريز نقابة تجار الماء أي النواخذة مجزي المراكب الذين كانوا يتجرون عَلَى السفن في نهر السين ولهم زعيمهم وسموه أمين التجار (شاهبندر) ومجلس إدارة مشايخ البلد وما لبث أمين التجار

ومشايخ البلدان عدوا بمرور الأيام ممثلي الطبقة الممدنة في باريز وسمي البيت الذي كانوا يجتمعون فيه منزل المدينة أو المجلس البلدي وسمى اجتماعهم جماعة المدينة ولا يزال لمدينة باريز إلى اليوم شعار من قارب بقلوع رمزاً إلى جماعة تجار الماء وأول من سعى في تحسين عاصمته فيليب أغسطس رأس ملوك فرنسا فلم يسورها بسور فقط بل رصف بعض أزقة المدينة وطم البواليع القذرة التي كانت حول قصره وما بدأت إقامة المصانع الجميلة إلا في القرن الثالث عشر ولم يبق في باريزنا الحديثة من باريز فيليب أغسطس سوى قبة جرس سان جرمان دي برى وكنيسة سان جوليان لوبوفر الصغرى. سان لوى - كان بسان لوى ملكاً تام الأدوات عَلَى نحو ما يطلب في القرون الوسطى مسيحياً خاضعاً وفارساً شجاعاً وقاضياً شديداً حاز جميع الفضائل التي تبلغها مدارك أهل عصره من مثل التقوى والشجاعة والعدل يحضر قداسين في اليوم ويصلي الغداة ويلبس المسح ويغسل أرجل الفقراء ويعترف ويتناول تكفيراً عن سيئاته ويأمر بطرد اليهود وإحراق الزنادقة وثقب ألسن المجدفين بحديدة محماة فتراه في الحرب يتقدم صفوف رجاله وما قط شوهد فارس مثله كما قال جوانفيل فهو حكيم القرن يتأدب مع الله ويشعر بما يجب عليه بأن يحكم بين الناس بالعدل وكثيراً ما يذهب إلى غابة فنسين ليجلس تحت سنديانة أو في حديقة المدينة وكل من لهم شأن يأتونه فيكلمونه بدون أن يزعجوهم مزعج من الحجاب فيحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون وأقصى أمانيه أن يحكم في الجميع حكماً عادلاً لا هوى للنفس فيه. صلب أحد كبار سادات المملكة أنكر أن دي كوسى ثلاثة من الطلبة لأنهم اصطادوا في قصره فقبض الملك عليه وجاء به إلى قصره فطلب بقية السادات بحسب العادة أن يدفع هذا السيد عن نفسه البراز فأبى سان لوى ذلك قائلاً أن مسائل الفقراء والكنائس والأشخاص الذين تنبغي لهم الشفقة لا يجب المرء أن يسترسل فيها عَلَى هذه الصورة فيجعل الحكم للغالب. فاغتاظ السادات وخرجوا من قصره فترك الملك هذا الموضوع ووضع المسألة عَلَى بساط الحكم فهتف أحد الأشراف مستهزئاً لو كنت ملكاً لصلبت بارونياتي فسمعه الملك وقال له: ما تقول يا جان هل تقول أن الواجب أن أصلب باروتياني لا ليس الأمر كذلك بل إني معاقبهم إذا أساؤا. ولقد كان الشعور بالعدل عظيماً في سان لوى بحيث رفعه عَلَى مستوى أعلى السادة وحظر البراز في كل بلاده وأصبحت

جميع المسائل التي يتحاكم فيها إلى البراز يحكم فيها بحجج وشهود لأن القتال كما قال ليس طريقاً إلى الحق وبهذا فقد قدس سان لولى المملكة الفرنسوية وعود القوم أن يروا ملك فرنسا مصدر العدل كله. معاهدة سان لوى - نفع سان لوى بالقدوة والاحترام الذي حازه أكثر مما نفع بالقوانين والأنظمة ولقد ظن زمناً طويلاً أنه سن جملة من القوانين كانوا يسمونها نظامات سان لوى ثم أدركوا أن هذه النظامات الموهومة لم تكن سوى تأليف مجموعتين من الحقوق أخذتا من العادات وكتبتا في أواخر القرن الثالث عشر عَلَى يد أناس من أرباب التجارب غير معروفين ولا علاقة لهم بالملك. وظن أيضاً أن سان لوى ألف براءة أو لوائح حقوق الكنيسة في فرنسا ثم ثبت أن هذه اللوائح المزعومة قد وضعت في القرن الخامس عشر وربما كانت بعد لوائح شارل السابع والأوامر الصادقة حقيقة عن سان لوى هي أوامر البراز ولوائح لتنظيم حسابات المستخدمين في أملاكه. الحياة العقلية والصناعية كلية باريز - كان لباريز كما كان لعامة الأبرشيات مدرسة ملحقة بالكاتدرائية وكان لكثير من الديار مدارس خاصة بها (مثل سان جرمان دي برى وسان جرمان لو كسروا وسانت جنيفيف) وقد كثر عدد الطلبة حتى ضاقت بهم الجزيرة فأخذوا ينزلون الضفة اليسرى من السين وهناك بين سنتي 1103 و1125 كان احد العامة من الشبان الذين جمعوا إلى الجمال طلاقة وبياناً واسمه أبلارد وهو أكثر أهل عصره استنارة (ويعرف قليلاً من اليونانية والعبرانية) يلقي دروسه في الفلسفة عَلَى ثلاثة آلاف مستمع وما كانت تسع هذا الجمهور قاعة ولا ردهة فجعل أبلارد يلقيها بين الكروم في جبل سان جنيفيف. وكان من العادة الجارية أن يعقد أهل الحرفة الواحدة اجتماعات فكما يجتمع الخياطون والحذائون وصانعوا الأجواج وأهل كل حرفة عَلَى حدتها هكذا ألف الرجال الذين يعنون بالمدارس اجتماعاً خاصاً وقد وقع استحسان البابا عَلَى هذا الاجتماع في القرن الثالث عشر فسمى مدرسة باريز كلية (أي مجموع) المعلمين والطلبة في باريز وكان لها رئيس منتخب وخدمتها ومحكمتها التي لها الحق وحدها في أن تقضي بين الأساتذة والتلامذة وكثيراً ما تختلف كلية باريز مع أمير التجار فيعطيهم الملك الحق دونه. وقد صلب أمين تجار باريز

سنة 1403 طالبين قبض عليها في منازعة كالتي كانت تحدث كل يوم في تلك الطرق الضيقة الغاصة بالمتشردين فأغلقت الكلية صفوفها فكانت هذه الوسيلة ذريعة لنيل تعويض فاضطر أمين التجار أن يذهب لإنزال المصلوبين باحتفال وأن يدفنهما ويقدم اعتذاره للكلية لأنه خرق امتيازاتها. وانقسمت الكلية إلى حلقات انقسامها إلى ضروب من التعليم فبعد أن أدخل إليها تعليم الحقوق والطب (ولم يكن هذان العلمان يدرسان في باريز قبل القرن الثالث عشر) صار لها أربع مدارس اللاهوت والحقوق والطب والفنون. وكانت مدرسة الفنون تحتوي عَلَى جميع علوم الترفيوم (النحو والبيان والمنطق) والكوادرفيوم (الحساب والموسيقى والهندسة والفلك والفلسفة) ويقبض الأساتذة رواتب كما يتناولون أجوراً من المستمعين ودرسهم مكتوب عَلَى دفتر فيأتون فيتلونه عَلَى المسامع ويسكن الطلبة وهم من أعمار مختلفة في المدينة ولكن منذ قام بعض المحسنين في القرن الثالث عشر وأنشأوا أدواراً لقبول الطلبة الفقراء أخذ الكثيرون يعيشون داخليين في هذه المدارس عَلَى طريقة جروا فيها عَلَى نظام الأديار وكان لكل مدرسة ثلاث درجات في التعليم ينتقل الطالب من إحداهما بعد أن يثبت علمه بفحص وقضية يثبتها أو جدل يناضل فيه ثم يصبح بكلوراً أو معلماً أو دكتور وكان القوم يرغبون في نيل هذه الدرجات الثلاث لأن صاحبها يجد له عملاً في الكنائس والمحاكم أو المدارس عَلَى أيسر وجه. وكانت كلية باريز في القرن الثالث عشر أعظم مدرسة في أوربا تؤوي زهاء عشرين ألفاً من الطلبة عَلَى اختلاف بلادهم. وهي التي رسمت لوربا صورة التعليم العالي وحذت كلية أكسفورد وكمبردج الإنكليزيتان حذوها ولما أراد أمراء الألمان تأسيس مدارس في بلادهم أنشأوا كلهم كليات جروا فيها عَلَى مثال كليات باريز ومنها انتهت غلينا طريقة الرتب وتقسيم المدارس الذي لا يزال عَلَى حاله القديم في ألمانيا. الحقوق الرومانية - ما فتئ الإيطاليون يضعون الحقوق الرومانية موضع العمل وقد أخذوا في القرن الحادي عشر يدرسونها في إيطاليا درساً أصولياً في كتب يوستنيانوس فكان الأساتذة والطلبة يجتمعون في بولون وبلغ عددهم عشرة آلاف طالب واشتغلوا قرنين في تفسير كتب القوانين الرومانية والتعليق عليها سطراً سطرا وتألف من شروحهم ذيل علق

عليه علماء القانون في القرن الثالث عشر شروحات جديدة وكانت الولايات الجنوبية في فرنسا فقط (حتى ولاية أوفرن) تعمل بالقانون الروماني أما ولايات الشمال فتجري عَلَى العادة ويحكم مجلس النواب في باريز بموجب العادة. بيد أنه كان للقوانين الروماني الترجيح عَلَى العادة وذلك لأنها هي التي دونت وهي وحدها تدرس في المدارس فكانت تسمى العدل أو الحق خلاف العادة بلا زيادة ولا نقص ويقضي القضاة والمحامون الذين يحملون شهادات الحقوق بضع سنين في دراستها بعضهم في بولون والآخر في أورليان أو مونبليه. وكان القانون الروماني في عدة مواد يحكم بخلاف العادة فتسبع العلماء بهذا الحق وادخلوه بالتدريج حتى عَلَى غير معرفة منهم في العادة وبدأ إدماج القانون الروماني في القرن الثالث عشر إلى آخر القرن السادس عشر فتعدلت به العادات القديمة كل التعديل ولاسيما قد أضعف سلطة السادة والمديريات التي سكت عنها القانون الروماني وقوى سلطة الملك وحكامه لأن المشرعين قد طبقوا عَلَى الملك كل ما كان يعطيه القانون للإمبراطور الروماني من الحقوق كما طبقوا عَلَى عماله كل ما يطبقه القانون الروماني لولاة الرومان وحكامهم وفي القانون الروماني (إن ما يقضي به الأمير يكون قانوناً نافذاً) فأصبحت هذه الحكومة قاعدة الحكومة في فرنسا ثم في ألمانيا وكانت أساس السلطة المطلقة.

رحلة إلى المدينة المنورة

رحلة إلى المدينة المنورة البلقاء عَلَى نحو مائتين وأربعين كيلومتراً من جنوبي دمشق بين نهر الأردن غرباً وزملة العليا في طريق الحج شرقاً ونهر الزرقا شمالاً ووادي الموجب جنوباً إقليم واسع خصيب سهلي جبلي اسمه البلقاء كوله من الشمال إلى الجنوب 18 ساعة للفارس المجد وعرضه من الغرب إلى الشرق 16 ساعة أو نحو مئة كيلومتر في مئة كيلومتر وهذا الإقليم الذي يبلغ بمساحته ربع جمهورية سويسرا هو اليوم جملة قضاء عمل السلط ما عدا مسيرة ساعتين من الجنوب داخلة في عمل الكرك وقد حد القدماء إقليم البلقاء بأنه بين الشام ووادي القرى وقالوا أن فيه مدناً عظيمة كثيرة وأن قاعدته عمان وقيل أن السلط هي راموت جلعاد إحدى مدن اللجاء ومد اللاويين المذكورة في الكتاب المقدس وربما اشتق لسمها الحاضر الصلت أو السلط من لفظة لاتينية سالتوس ومعناها الجبال المشجرة وكانت فيا مضى مدينة أسقفية في العهد المسيحي وقد دك المغول قلعتها ثم عاد بناءها الظاهر بيبرس البندقداري. وموقع السلط عَلَى منحدر جبلين متناوحين أشبه بمدينة زحلة في لبنان وكانت منذ ثلاثين سنة خالية من الحدائق والبساتين فتوفرت همة أهلها عَلَى استثمار الشجار والبقول فجاد أكثرها بما عندهم من العيون التي تروي زروع الوادي أما ما كان وراء المدينة من التلعات والآكام فقد كان حراجاً إلى عهد قريب وآثار بعض سنديانه وملوله ما برحت مائلة للعيان ولكن القوم قطعوها واستعاضوا عنها بزراعة الكروم التي يعد عنبها وزبيبها أجما ما تحمله هذه الشجرة المباركة في سورية وقد يكون العنقود الواحد رطلاً شامياً وأكثره بلا بزر يصدر من زبيبه ما تقدر قيمته كل سنة بنحو خمسة عشر ألف ليرة وفي جوار السلط قليل من شجر الزيتون سألنا أحد شيوخهم عن السبب الذي دعا إلى عدم استكثار القوم من غرسه فقال لا تذكرنا بغباوتنا فقد حملنا سعيد باشا شمدين أحد متصرفي نابلس أيام كان قضاؤنا تابعاً لنابلس عَلَى أن نغرس في هذه الولاية التي تراها مئة ألف زيتونة فوقع في نفسنا أن في الأمر دسيسة من الحكومة تريد بها وضع الضرائب الفاحشة عَلَى أملاكنا وتسجيل أراضينا عَلَى صورة لا نعود معها ملاكها الحقيقيين فصدعنا في الأمر في الظاهر وغرسنا أولفاً من شجر الزيتون ولكن أتدري كيف تخلصنا منه بعد؟ كان أحدنا يجيء ليلاً

إلى غرسة الزيتون فيحركها حتى لا يطلع جذعها وهكذا لم يبق من كل ما غرسه السلطيون إلا ما تشاهده اليوم في جوار القصبة وقليل ما هو. قلنا عجيب تبدل تصورات الناس فرجال الحكومة بالأمس كانوا يحملون الناس عَلَى زرع الأشجار ويزينون لهم اقتناء الأراضي للزراعة واليوم يطالب الأهلون في هذا القضاء وفي غيره الراضي الموات ليحيوها ولا يعطون طلبتهم وكذلك الحال في كل مكان نزلناه في طريق يثرب فإن الأهلين أحسوا بفوائد الأرض هكذا رأينا أهل الشراة من عمال الطفيلة ومعان وهكذا سمعنا شكوى أهل الكرك وتبوك ومدائن صالح أجمع عَلَى ذلك الطلب الحاضر والبادي ولكن لا حياة لمن تنادي في حين ورد في قانون الأراضي أن كل من يحيي أرضاً مواتاً تبعد عن القرى والدساكر مقدار ما يسمع الصوت فهي له فأين هذا القانون المسطور من عمل الحكومة اليوم. قرانا وجوه الهمة والنشاط في وجوه السلطيين مسلميهم مسيحييهم وإن كانت القاعدة في سورية كلها أن يكون المسيحيون أكثر نشاطاً وتعلماً من إخوانهم في الوطنية. وبلدهم هذا ساعدته الطبيعة فساعدها أهله أيضاً ودخل في طور العمران ويوشك أن يعد في جملة العظيمات من المدائن والبلدات. وسكان مدين السلط اليوم نحو 16 ألف نسمة يبلغ المسيحيون منهم عَلَى اختلاف الطوائف نحو أربعة آلاف ومعظمهم إلى اليوم يلبسون زياً كزي أهل حوران وهو كوفية وعقال وعباءة وجزمة حمراء وعادات القوم هنا أشبه بعادات البادية مع أنهم حضر. وفي السلط قليل من الصناعة وتجارتها واسعة مع القبائل النازلة في البلقاء والرحالة في تلك الأرجاء وبين عمان عَلَى الخط الحجازي والسلط نحو خمسة وعشرين كيلومتراً جعل بعضه من جهة السلط طريقاً معبداً ومتى أكمل تسافر العربات والسيارات بين السلط والخط الحديدي في ساعتين وهي الآن أربع ساعات عَلَى الدواب وإذا تم اتصال السلط بالقدس بطريق معبدة تسير عليها المركبات أيضاً تعمر السلط عمراناً مهماً وهي عَلَى بعد 40 ميلاً إلى الشمال الشرقي من بيت المقدس و40 ميلاً إلى الجنوب الشرقي من نابلس ونحو 18 ميلاً شرقي الأردن. ومن سوء حظ هذا القضاء أن معدن الفوسفات الذي نال امتيازاً بتعدينه من جبل السرو في

منتصف الطريق بين عمان والسلط المهندس نظيف أفندي الخالدي المقدسي عَلَى أن ينشئ فرعاً بالخط الحديدي من السلط إلى عمان يتصل بالسكة الحجازية ومرفأ في حيفا - من سوء الحظ أن قد حسبوا فوجدوها لا تفي بها وارداته ولعل الحكومة تتساهل بعض الشيء في شروطها لتقوي عزيمة تلك الشركة عَلَى استثمار هذا المعدن من قضاء السلط فيتسنى لها أو لشركة أخرى تعدين سائر المعادن التي حبتها بالفطرة. عَلَى نحو ساعة من قصبة السلط منظر من أجمل مناظر سورية ونعني به جبل يوشع الواقع عَلَى علو نحو 1096 متراً عن سطح البحر وهو مشرف عَلَى جزء عظيم من فلسطين فيمتد أمامك وادي الأردن كأنه بساط ذو ألوان كثيرة ومن خلال ذلك نهر الأردن تراه كالحية بتلويه حتى يصل إلى البحر الميت أو بحيرة لوط. ومن النبي يوشع تشاهد جبل الزيتون في الشمال الغربي ويقابلك جبل عيبال وجزريم ثم جبل الطور وما يناوحه من الجبال المحيطة ببحيرة طبرية ومن بعيد جبل الشيخ وبه تنتهي هذه المنظرة من الشمال. ويقول العارفون من الإفرنج أن الاعتقاد بالنبي يوشع الذي يذبح له البدو ويتقربون إليه هو من التقاليد الإسرائيلية القديمة وإن بناؤ قبره يرد إلى زهاء ثلثمائة سنة. وليوشع مقام أيضاً في قضاء نابلس قرب قرية حارث وجبل يوشع في البلقاء أشبه بيوشع تبه شي أي ذروة يوشع في قرية بكوز المطلة عَلَى بحر مرمرة وخليج القسطنطينية هذا منظره بحري وذاك منظره بري ومن غريب التقاليد أن البدوي يحلف بالله ولكنه لا يحلف بشعيب ومقام شعيب عَلَى ساعتين من السلط أيضاً. كانت عمان قصبة البلقاء فانحطت في أواخر القرن الماضي بما تواتر عليها من الزلازل وغارات البادية حتى جلا عنها بقايا سكانها الأصليين فأنزلت فيها الحكومة منذ 34 سنة ستمائة أسرة من الجركس من عشائر مختلفة هاجروا إلى البلاد العثمانية من ولاية كوبان الروسية وأخذوا يردون غارات البادية واعتمدوا في عمرانها عَلَى مضائهم وشجاعتهم وبنو عَلَى أنقاض مدينة ضخمة قرية لهم وساعدتهم مياه نهر الزرقا فغرسوا الأشجار وأنشأوا الحدائق واتوا بطريقتهم المألوفة لهم في الزراعة ببلادهم وقد هلك منهم أناس كثير من الفتن والأمراض حتى توطدت أقدامهم واغتنوا وأصبحت الحكومة بعد أن كانت تأخذ من

عمان مئة ريال في السنة تقاضى نحو ثلاثة آلاف ليرة ولا تلبث أن تزيد بزيادة عمران عمان واتساع تجارتها عَلَى أيدي الناشطين من النابلسيين والدمشقيين ومعظم تجارة البلقاء في أيديهم اليوم. نقول أنها كانت مدينة عظيمة والدليل عَلَى أن أنقاض دار تمثيلها كبيرة جداً تكفي لجلوس ثلاثة آلاف نسمة وفي مسرحها 45 صفاً عَلَى شكل نصف دائرة وفيها آثار قلعة مهمة ومعظم بيوتها بنيت بأحجار المدينة القديمة وكذلك قرية رأس عمان الحديثة الواقعة عَلَى قيد غلوة من عمان وسكانها جراكسة أيضاً. لا جرم أن الجركس أدخلوا روحاً جديدة إلى هذا القضاء من التوفر عَلَى الزراعة والنشاط المستمر وأن الأهلين تعلموا منهم بعض الشيء إلا أن عمال الحكومة أساؤا الاستعمال فسلبوا ما كان للأهلين من الأراضي والمزارع العامرة ليعطوها للمهاجرين الجركس والششن والتركمان كما فعلوا بعين صويلح وعيون الحمر فقد كانتا مسجلتين باسم أصحابهما فأعطتها الحكومة للمهاجرين وذلك لأنه كتب للجراكسة أن يتولى مأمورية الطابو في هذا القضاء ثلاثة منهم عَلَى الولاء فكانوا يساعدون إخوانهم وأبناء جلدتهم عَلَى سلب الأراضي منهم وتسجيلها باسم المهاجرين وعلى هذه الصورة أخذ المهاجرون الناعور ووادي السير والزرقا والرصيفة وغيرها. صبر الناس عَلَى هذا الجور زمناً حتى صحت عزيمة بعض عشيرتي الخرشان والجبور عَلَى أن يزرعوا الموقر والعليا والنقيرة وهي عَلَى نحو ثلاث ساعات من شرقي معان يسير في أراضيها الراكب عشر ساعات كما أن بعض السلطيين يزرعون اليوم في سهل الكبد في الغور وهذا السهل جيد التربة جداً لا حجر فيه ولا مدر ولو أحبت الحكومة إحياء الموات حقيقةً لأوعزت للهلين أن يحيوا أراضي الموقر والعليا كلها فإن فيها زهاء ألف بئر معطلة تحيا بعناية قليلة. وأعظم عشائر هذا القضاء بنو صخر وهم يتنقلون بين الغور في الشتاء وأراضي البلقاء العالية في الربيع وفي الصيف يتوفرون عَلَى حصاد الأراضي التي لهم في جهات الزيزاء ومادبا وهما مديريتان تابعتان للسلط كما أن عمان مديرية تابعة لها أيضاً. ونفوس قضاء السلط المحررة اليوم 42 ألفاً ولو أحصي بنو حسن وبنو صخر والبادية لبلغ سكانها مئة ألف أو يزيدون ولو ارتفع فيه علم الأمن كما يجب وأعطيت الأراضي الموات للأهلين

وسجلت عليهم بحيث لا ينازعهم فيها منازع لأن أكثر المنازعات تثور عَلَى الأراضي لبلغ سكان هذا القضاء نصف مليون نسمة بعد عشر سنين. وأهم العاديات التاريخية في هذا القضاء قصبة مادبا فقد كانت كإحدى الخرب منذ نحو ثلاثين سنة فهاجر إليها جماعة من مسيحيي الكرك أعطتهم الحكومة إياها خربة فعمروها فما هو إلا وجدوا فيها آثاراً مهمة مثل سوق طوله 140 متراً له عمد عَلَى الجانبين وبينا كانوا يحفرون في أنقاض الكنيسة ليقيموا كنيسة جديدة عثروا سنة 897 عَلَى قطعة من الفسيفساء في الصحن فرفعوا عنها المعاول وأزالوا ما كان علقاً عليها بتوالي الأيام من التراب والأحجار فإذا هو أثر عظيم من آثار القدماء هو مصور (خريطة) فلسطين وما فيها من المعاهد المقدسة والكنائس ولو سلمت كلها من معاول الذين حفروها لبلغ ثمنها المليونين والثلاثة من الليرات ولكن القطعة الصالحة الباقية منها تدل عَلَى تلك المدنية القديمة التي تمتعت بها مادبا قديماً منذ عهد الإسرائيليين إلى الموآبيين إلى العرب النبطيين إلى المكابيين وكانت في عهد هؤلاء قلعة مهمة واستولى عليها هيركان ملك اليهود قبل المسيح وأصبحت عَلَى عهد الرومانيين جزءاً من بترا أو العربية الصخرية. وآثار الفسيفساء كثيرة في هذه القرية رأينا بعضها في الدور الخاصة تلمع فتأخذ الأبصار أما أنقاض دورها ومعابدها وأحواض مياهها فحدث عنها ولا حرج وقد دخل أهلها في المدينة اليوم بفضل مدرستي الروس واللاتين اللتين أنشئتا فيها وليس بين سكانها من المسلمين إلا بعض باعة والحراثين. قال ابن خرداذبة أن ظاهر البلقاء كان كورة من كور دمشق كما أن جبل الغور وكورة مآب وكورة جبال وكورة الشراة وكورة عمان كانت كل منها إقليماً برأسه قال الشاعر: سلم عَلَى دمن أقوت بعمان ... واستنطق الربع هل يرجع بتبيان قال ياقوت أن مدينة جرش هي شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وعرف السواد بأنها نواح قرب البلقاء سميت بذلك لسواد حجارتها وفي أرض البلقاء عدة بلاد ورد لها ذكر في التاريخ العربي مثل قرية جادية التي ينسب إليها الجادي وهو الزعفران وفرية مؤتة من المشارف التي كانت بها تطبع السيوف المشرفية والموقر الذي كان ينزله يزيد بن عبد الملك قال كثير:

سقى الله حياً بالموقر دارهم ... إلى قسطل البلقاء ذات المحارب والقسطل نزله الوليد بن يزيد وهو قرب البلقاء وخلفه فيه عمه العباس وكان الوليد يستوطن الزيزاء. وفي البلقاء قصر الأزرق والفدين قريب من حصن الزرق وهذين قيل أنهما من عمل حوران ومعظم الراويات عَلَى أنه من عمل البلقاء. العمران والسكة الحجازية إن كان لدور الاستبداد حسنة فأعظم حسناته سكة حديد الحجاز التي مدت في عهد المخلوع وبتزيين قرينه أحمد عزت باشا العابد ولننهي منها حتى الآن القسم الأعظم من دمشق إلى المدينة المنورة وطوله 1303 كيلومترات ومن حيفا إلى درعا 161 كيلومتراً فانفق عليها فيما بلغنا ثلاثة ملايين ليرة ونصف صرف قسم مهم منها فقي مدينة دمشق فانتفع منه الملتزمون والتجار والزراع والعملة وبعض أرباب الصناعات والفنون وأنفق القسم الأعظم في ثمن أدوات وقطارات ومركبات حديد من معامل أوربا. وما كاد ينتهي الخط إلى المدينة حتى نهضت البلاد بعض الشيء ولاسيما دمشق والمدينة وحيفا نهضة اقتصادية لا يستهان بها وحسن حال التاجر والمزارع وسارت الأمور الاقتصادية عَلَى نسق مرتب معقول فلم يعد في التجارة ذاك الكساد الذي نعهده في دمشق ولا التقهقر الذي كان في حيفا ولا الغلاء الفاحش في أسعار المدينة وهكذا انتفع المحطات عَلَى طول الخط من دمشق إلى المدينة وعددها 75 محطة ومحطات حيفا ودرعا وعددها 15 فأخذت كل محطة بقدر حظها من العمران وانتفع منها في الأكثر ما كان له أثر قديم في الارتقاء. ولو كانت الحكومة تلتفت بعض الالتفات لعمران البلدان لأخذت بأيدي كل من يودون إنشاء بيوت ودكاكين وخانات وفنادق في المحاطات وأعطتهم مئات الدونمات يجعلونها حدائق ويبنون عليها مساكن عَلَى شرط أن يعمروها في مدة تعينها لهم وإذا أمكن أن تمنح بعض محاويجهم إعانة مالية قليلة يستعينون بها عَلَى التعمير فكيف لا ندهش والحالة هذه إذ رأيناها ورأينا عمالها يوقفون من يبنون المساكن في مثل مدائن صالح وعددها لا يقل عن خمسين محلاً بدعوى أنه لا يسوغ إنشاء مدينة إلا بإرادة سنية فهلا استصدرت الإرادات السنيات في الحث عَلَى مثل هذه المشروعات التي لا يتصور أنفع منها في البلاد.

هكذا فعلت الحكومة مع من يريدون إقامة الدور والحوانيت ولم تقصر في وضع العقبات في سبيل من يريد غرس أشجار البرتقال لأنه ثبت أنها تجود في تربة هذه البلدة الرملية. وليت الإدارة تحمل الحكومة عَلَى ترغيب الناس في إنشاء الدور والحدائق لما في ذلك من الفوائد لعمالها إذ يستغنون بأسراتهم عن صرف أوقات الفراغ في المقامرة ومعاقرة الخمر ويقل عدد من يتعاطونها منهم. نعم إن المحطات مالاً ينبت فيه كل شيء بحسب الظاهر ولا تمطره السماء إلا ساعات غير معلومة في السنة ولاسيما بعد ارض البلقاء وهواءها جاف حار محرق وعمرانها متوقف عَلَى عمل كثير طويل ومال غزير ليس بقليل فأمثال هذه المحطات تترك الآن وينشط كل من يود اعتمار الأراضي الموات قرب المحطات وإنشاء دور وحوانيت فيها ولو فعلت الحكومة لاستغنت مع الزمن من حراسة هذا الخط بكتائب من الجنود ترابط عَلَى طول السكة وإقامة اثنتي عشرة قلعة من الهدية إلى المدينة وهي اليوم تجعل في كل قطار يسافر بعد لواء حوران إلى المدينة جملة من الجند النظامي المسلح لحماية الركاب من عيث البادية إذا حدث حادث لا قدر الله. نقول عيث البادية ولو أعملت الحكومة الفكر منذ اليوم الذي نوت فيه تمديد هذا الخط الحربي الديني التجاري لأوسعت لهم من تلك السهول الخصيبة في لواء الكرك ما كانوا الآن استغنوا بزراعته عن شن الغارات وإيذاء السابلة طمعاً في اقتناص ما يتبلغون به ولتوفروا عَلَى تربية مواشيهم وزروعهم كما يتوفر اليوم بنو حسن في قضاء عجلون وينو صخر في قضاء السلط والحويطات في معان والمجالي في الضمور والطراونة في الكرك وغيرهم في غيرها وكل هؤلاء من العرب الرحل يتأنسون بقدر ما يدخل النور عَلَى أولادهم ويستثمرون أرباح الزراعة والماشية ولاشك أنهم يعدلون بتة عن الغرة كلما أسكنت الأصقاع التي في جوارهم وخف الاعتداءُ عليهم. ولسكة الحجاز الفضل الأكبر في تأنيس شارد البدو إذ عرفوا بأن قوة الدولة مهمة في كبح جماح كل معتد. وقد أخذت تصدر حاصلاتهم إلى الأسواق التجارية الكبرى فكانت الجنوب تكسد في بعض السنين الماضية في جهات لواءي الكرك وحوران فأصبحت اليوم تسافر إلى القاصية. وأبواب الشام والحجاز والبحر منفتحة أمامها. وهكذا يقال في السمون والجبن

والألبان والأصواف التي تحصل من نياقهم ومعزاهم وأغنامهم وأبقارهم. في لواء الكرك وحده أرض موات تكفي لإعالة كل أهل البادية من العرب خصوصاً وهم الموصوفون بذكاء فطرتهم ومضاء عزائمهم فإذا توفرت لهم الأسباب تحصل الفائدة الاقتصادية والعمرانية المطلوبة من السكة الحجازية فتعمل هذه في نقل الأنفس والأموال والمتاجر السنة كلها لا كما هي اليوم تشتغل أشهراً معدودة من السنة في موسم الحج ثم تبلى بالفتور إلا قليلاً. وأن من عرف أن هذا الخط قد عمر بالإعانات التي جمعت من أقطار العالم الإسلامي وهمة ضباط العثمانيين وكتائب جنودنا وإن مئات هلكوا في سبيل إنشاءه بحيث لم يكن يمد الكيلومتر الواحد إلا عَلَى أشلاء بضعة من رجالنا يوافق عَلَى تساهل إدارة السكة مع الضباط والجنود والخط خط عسكري. ولقد لاحظنا أن القطار الحجازي يقطع المسافة اليوم بين دمشق والمدينة في ثلاثة أيام بلياليها يقف منها في المحطات الكبرى مثل درعا ومعان وتبوك والمدائن نحو اثنتي عشرة ساعة دع عنك الوقت الذي يصرفه في المحطات الصغرى ون معدل سيره عَلَى عشرين كيلومتراً في الساعة فلو تدبرت الإدارة في اختصار هذه المدة في الوقوف وحملت قاطراتها عَلَى الإسراع قليلاً في سيرها وسراها لجاز القطار المسافة بيد دمشق والمدينة وبين حيفا والمدينة في يومين وليلتين فتوفر عَلَى الناس بعض عناء السفر وإذا رأت الإدارة أنه مما يلائم مصلحتها الاقتصادية تنزيل أسعار الركوب في الدرجة الأولى والثالثة وأرجة الركوب في الثالثة من دمشق إلى المدينة أربع ليرات وفي الدرجة الأولى ثماني ليرات فأسقطت منها عَلَى الأقل ثلاثين في المئة استفادت فيما نحسب أكثر وكثر الذاهبون والجاثون وعظمت الفوائد من ذلك فعندها تقصد المدينة أكثر من الآن للزيارة والتجارة ويقصد الحجازيون بلاد الشام ليصطافوا أو يتجروا. وليت الحكومة تتساهل في الاعتماد عَلَى أبناء البلاد وتختار الجند الذين يحرسون الخط من أبناء حوران مثلاً فهم أقدر عَلَى تحمل المشاق من ابن مدن آسيا الصغرى وسورية ومقدونية ونظنها في التجربة التي جربته في الطابور الذي ألفته من الشروق بالأجرة وسمته هجين سوار أي فرسان الهجين والشروق هم سكان شرقي المدينة أي نجد قد ثبت لها أن ابن هذه البلاد أنفع من خدمتها إذا شبع من ابن البلاد القاصية والفارس النجدي اليوم

يتناول 450 قرشاً صحيحاً في الشهر هو وهجينه وما الجندي يكلف الحكومة أقل من ذلك فضلاً عن تعرضه للهلاك من هواء بادية العرب وكذلك يقال لإدارة السكة أن تختار عمالها من العارفين لغة البلاد قبل أن يعرفوا التركية لأن في ذلك فوائد مهمة للخط نفسه وإذا كان لا بد من الاستكثار من أبناء آسيا الصغرى وغيرها في جملة عمالها فما عليها إلا أن تشترط عليهم تعلم العربية وبذلك تتضاعف خدمتها للإدارة وللبلاد معاً عَلَى أن ابن العراق والجزيرة والحجاز أقدر في كل حال عَلَى تولي أعمال هذه السكة خصوصاً في النصف الأخير منها من جهة المدينة. وقد لاحظنا عَلَى إدارة السكة إهمال عمالها للنظافة في المركبات ولاسيما في الدرجة الأولى بحيث أنها لا تزيد الراكب فيها راحة إلا بكون مقاعدها مفروشة بالمخمل (القطيفة) وهي أضيق من مقاعد الدرجة الثالثة ولا يخفى عَلَى أمر القائمين بأمر السكة الحجازية أن التدخين محظور في القطار في الدرجات الثلاث بأوربا دع تعاطي المسكرات وإنه ليسوءنا ما رأيناه من أن بعض موظفي الحكومة الذين كانوا آتين من المدينة المنورة يبسطون في مركبات الدرجة الأولى سفرة الشراب ويتعاطونه مع النقول اللازمة له والأغاني التي يطربون بها كأنهم في حانة أو بيت خاص من غير نكير يؤذون بذلك جلسائهم وهم يكونون بعملهم أعظم عارٍ عَلَى المسلمين والإسلام. فليت إدارة الشركة تحظر الشراب في القطارات والمحطات عَلَى ركابها وعمالها مباشرة وتغرم من يجرأ عَلَى خرق حرمة شريعة الإسلام وقانون المدنية الحديثة غرامة ثقيلة تربي كل مقترف لهذه الكبيرة فإن كان من عمال الحكومة الأمن عصم الله من يفسدون أخلاق الرعية بما يعودونهم إياه من احتساء كؤوس الراح في المديريات والأقضية والألوية والولايات فما أحرى الحكومة أن تكف مفاسدهم عَلَى الأقل عن قصاد البلد الطيب رحمة بالإنسانية والإسلام. بعض أعمال الكرك قال غرس الدين الظاهري وأمما المملكة الكركية فليست هي من الشأم وهي مملكة بمفردها وتسمى مآب وهي مدينة حصينة معقل من معاقل الإسلام بها قلعة ليس لها نظير في الإسلام ولا في الكفر تسمى حصن الغراب لم تكن فتحت عنوة قط وإنما فتحها المرحوم

صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد أن فتح القدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكانت بيد البرنس أرنلط وكان يتعرض إلى حجاج بيت الله الحرام. وقال أن الشوبك كانت مدة بيد الإفرنج وهي مضافة إلى الكرك وحصينة أيضاً ومسيرة معاملة الكرك من العلى إلى زيزة مقدار عشرين يوماً بسير الإبل وهي بلاد عدية بها قرى كثيرة والمعاملات والمسلك إليها صعب من مقطعات قليلة الماء حتى أنه إذا وقف أحد عَلَى درب من دروبها يمنع مائة فارس اهـ. بلدان في لواء الكرك طالما سمعنا بهما وهما قصبة الكرك وقصبة السلط فالأولى كنا نتوهمها أهم مما رأيناه والثانية رأيناها أهم مما سمعنا به من وصفها وهذا من جملة الأسباب التي تدور أهالي البلقاء أن يطلبوا إلى الحكومة جعل السلط في التقسيمات الإدارية مركز لواء بضم أراضي بني حسن من قضاء عجلون وعمل حوران إليه وجعل مادبا قضاء وعمان قضاء والزيزاء قضاء وبذلك توفر عَلَى أهل القاصية من لواء الكرك العناء الشديد الذي يلاقونه بشد الرحال إلى حاضرة اللواء كلما عرض لهم عمل فقد بلغني أن أكثر الناس يستنكفون من أداء الشهادة إذا طلبوا إليها من السلط إلى الكرك مثلاً وينكرونها ويتحملون الإثم في ذلك لأن الشاهد يستحيل عليه أن يضيع بضعة أيام في الذهاب والإياب ويتكلف مالاً طائلاً نفقه في السكة الحديدة وأجرة دواب. فإذا اختار ابن السلط مثلاً أن يذهب إلى الكرك يضطر إما إلى المسير ثلاثة أو أربعة أيام عَلَى الدواب ذهاباً ومثلها إياباً وإما أن يركب دابة 25 كيلومتراً من السلط إلى عمان ومن هذه وهي في الكيلومتر 222 يركب القطار الحجازي إلى القطرانة وهي في الكيلومتر 326 ومنها يركب دابة إلى الكرك مسيرة ست ساعات. وهكذا يتكلف من له عمل طفيف في مركز اللواء إلى مال جزيل ووقت طويل. وأنكى من ذلك أن معان وهي في الكيلومتر 489 بل أن تبوك وهي في الكيلومتر 692 بل أن مدائن صالح وهي في الكيلومتر 9555 إذا اضطر أهلها إلى قصد الكرك يقطعون هذه المساوف في السكة الحديدية أو الدواب وكلاهما شاق يحتاج إلى وقت ومال فتقسيم لواء الكرك الإداري مشوش مضطرب وما أحراه أن يقسم لوائين أحدهما مركزه السلط كما تقدم والثاني يجعل مركزه في معان أو إذرح وهي مدينة متوسطة من اللواء ولكنها اليوم خربة

لا ساكن فيها وكانت من المدن العامرة قبل الإسلام وبعده حتى أن أهلها صالحوا في غزوة تبوك عَلَى الجزية فبلغت مائة دينار في كل رجب وذكر المقدسي أنها مدينة متطرفة حجازية شامية وعندهم بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وهو مكتوب في أديم وبذلك يستدل أنها كانت عامرة في القرن الخامس للهجرة بل إلى عهد قريب وكانت هي وموآب مدينتي الشراة. وارض الشراة من الشوبك إلى رأس النقب كما يحددها الأهلون اليوم أي مسيرة يوم طولاً وعرضها ساعتان وهي الأرض المفلوحة مؤلفة من تلعات وأودية وفيها عيون غزيرة لا تقل عن أربعين عيناً لا ينفع بأكثرها وقسم منها الآن في عمل قضاء الطفيلة والآخر في قضاء معان وعلى جنوب الشراة بلاد طيءٍ أو جبال طيءٍ وهي الحد الجنوبي لسورية كما عرفها العرب قال خاتم الطائي وقد أغارت طيّ عَلَى إبل للحارث بن عمرو الحفني وقتلوا ابناً له: إلا أنني قد هاجني الليلة الذكر ... وما ذاك من حب النساء ولا الأشر ولكنني مما أصاب عشيرتي ... وقومي بأقران حواليهم الصير ليالي نمسي بين جوز ومسطح ... نشاوى لنا من كل سائمة جزر فيا ليت خير الناس حياً وميتاً ... يقول لنا خيراً ويمضي الذي ائتمر فإن كل شر فالعزاء فإننا ... عَلَى وقعات الدهر من قبلها صبر سقى الله رب الناس سحا وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زعر بلا امرئ لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي وليس له الكدر وفي أذرح عين ماء غزيرة فوق أرض واسعة يمكن تشجيرها كلها ولها قلعة لا تحتاج إلا إلى ترميم خفيف وهي عَلَى أربع ساعات إلى الغرب الشمالي من معان وعلى ثلاث ساعات من وادي موسى وأنقاض دورها وعقودها وعمدها موجودة لا تحتاج إلا إلى بنائين فتكون مدينة تامة الأدوات في بضعة أسابيع وفيها اليوم أنقاض ثلاثة طواحين. ربما يستهجن بعضهم أن نقترح جعل مركز لواء الكرك في أذرح وهي خراب وتترك الكرك وهي المشهورة بتاريخها خلقت بما لها من المركز الحصين الواقع عَلَى جبل عال خال من أطرافه لتكون عاصمة كبرى فضلاً عن مركز لواء ولكن مراكز الحكومات يجب

أن تكون في بقعة متوسطة والكرك منحرفة عن طريق السكة الحديدي ومنحرفة عن نقطة دائرة اللواء وعمرانها القديم لا يشفع لها أن تكنون الحاكمة عَلَى مدائن صالح وهذه من الكرك زهاء 660 كيلومتراً! بل الأجدر أن تكون العقبة وتبوك ومدائن صالح كلها لواءاً خاصاً برأسه إذا أرادت الحكومة تحضير البادية وحكم أهلها عَلَى ما يجب. ولعل بعضهم يعترض بقوله أن العمران مستحيل في هذه الأصقاع ما دامت خالية من السكان ولا ماء فيها ولا كلاء ولكن الحكومة الصالحة تجذب إليها الأنفس كما تحمل الأموال وناهيك بأن عشيرة الفقرا وهي لا تقل عن 800 بيت تنتقل بين تبوك ومدائن صالح تسكن في مدة قليلة وذلك لأن الراضي الموجودة بكثرة والمياه إذا حفر بالأرض ثلاثة أو أربعة أمتار تنبط حالاً والبقاع التي ينزلونها مستعدة كل الاستعداد لزراعة البرتقال والنخل فإذا أخذت الحكومة بأيديهم فذاقوا لذة الكسب يعدلون عن عيش الغزو الذي يسوقهم إليه فقرهم ولا يلبثوا أن يصبحوا كسائر العرب الساكنة يدفعون الضرائب ويخدمون في الجندية مثل عامة العثمانيين. لا نعتقد أن الكرك يتراجع عمرانها إذا نقل منها مركز اللواء لأنه بما دهمها من الفتنة الأخيرة فتخربت بحيث لم تعد صالحة لسكنى أهليها ولا موظفيها إلا بعد بضع سنين عَلَى أن الحكومة جعلتها عَلَى نحو عشرين سنة مركز لواء ولم ترمم قلعتها ولا أتمت مكتبها الكبير ولا مسجدها الجامع فأنت الآن إذ دخلتها تنقبض نفسك من بلد ترى الخراب يتحيفه من كل جانب فتشاهد وعينك تدمع خراباً في العقول وخراباً في النبات وخراباً في الجماد ومثل هذا البلد يعمر بالعلم والعرفان أكثر من عمرانه بالسيف والسنان. تنقبض النفس في الكرك عَلَى جمال في طبيعتها وهي تطل من جهاتها الأربع عَلَى مناظر لطيفة ومنها البحر الميت ووادي الأردن إلى أعالي جبال أريحا وذلك لأنها كانت في معظم أدوارها التاريخية ظالمة مظلومة واشتهر أهلها بحب الغارة عَلَى عهد الإسرائيليين والموآبيين وحاربها شاول وداود وقامت قائمتها جوارم وملك اليهودية فرجعا عنها مدحورين واضمحل الموآبيون في القرن الثاني قبل المسيح وأصبحت الكرك مفتاح تلك البلاد عَلَى عهد الصليبيين واستولى عليها رنودي شاتليون الذي يسميه المؤرخون العرب البرنس أرنلط وذلك لأنها حاكمة عَلَى طريق قوافل مصر وبلاد العرب القادمة إلى سورية

وذلك حاربها صلاح الدين يوسف بن أيوب حباً عواناً وأقام الأيوبيون فيها وحصنوها ومازال ملوك مصر والشام يحاصرونها ويقتتلون أهلها وآخر أعمال الكركيين ذبهم عسكر إبراهيم باشا المصري ثم فتنتهم الأخيرة المشؤومة ويبلغ المسيحيون في الكرك نحو أربعة آلاف أكثرهم روم وفيهم لاتين وقليل من البرتستانت وفيها مدارس حقيرة لذكروهم وإناثهم ولئن كان المسيحيون اليوم عَلَى مستوى من جيرانهم المسلمين وكانوا نحو 15 ألفاً قبل الحوادث الأخيرة أو أرقي بقليل في المدنية فسيكون مستقبل هذه البلاد لهم وناهيك بأن تلامذة المكتب الرشدي اليوم وهي زهاء ثلاثين تلميذاً كلهم من أولاد المسيحيين وإذا كان فيهم التلميذ الواحد أو الاثنان من أبناء المسلمين فيكون كلانا غير مواظب هذا في مدارس الحكومة فما بالك في المدارس الطائفية المسيحية وتجارة البلد في أيدي أناس من أهل دمشق والخليل فقدوا أموالهم في الفتنة ولم يعوضوا عنها حتى الآن سوى سبعة في المئة مما قدر لهم. ولم تبق الفتن من العاديات القديمة ما يذكر في هذه المدينة اللهم إلا أنقاض دائرة وجميع هذه الديار كانت عامرة وهي اليوم مأوى الغراب والبوم ناهيك بأن اللجون الواقعة عَلَى ساعتين من الكرك كانت بحسب ما رأينا من أنقاض ارتجتها الضخمة من المدن المهمة فأصبحت اليوم والحكومة تسكن فيها طائفة من المهاجرين وتعمر لهم دوراً فلا يلبثون أن يرحلوا عنها إذا أردوا تناقص النفوس فيها بسبب الماء والهواء وتركوا منازلهم خاوية فأنزلتهم الحكومة في بعض أنحاء البلقاء وما ندري كيف انقلبت طبيعة تلك البلاد المأهولة قديماً حتى لم تعد المدينة منها تصلح لأن تكون مزرعة حقيرة لفساد هوائها ومائها فسبحان القابض الباسط المعمر المدمر. العربية الصخرية طريق الكرك من القطرانة وطريق وادي موسى من معان يبتدئان بتراب كلسي ممزوج بصلصال لا استعداد فيه للزراعة اليوم ولذلك تظنك إذا توسطت تلك السهول وعرضها نحو ثلاث ساعات من الخط الحديدي تظنك في قفر بلقع حتى إذا انتصف الطريق تتراءى لك بعض عيون وزروع والمسافة بين معان ووادي موسى سبع ساعات للراكب كما هي بين القطرانة والكرك. ووادي موسى هو قرية اللجي وعلى نحو ساعة منه بترا أو العربية

الصخرية كما يسميها الإفرنج وسماها العرب سلعاً والسلع الشقوق في الجبال والغالب أن السلع قسم من العربية الصخرية وهي عبارة عن جبال (إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها) وحدثنا من زار خرائب الحجر أو مدائن صالح أنها دون خرائب بترا بمكانتها. وكان لبترا هذه أيام عز طويلة عَلَى عهد الدوميين والنبطيين العرب وقدماء الرومان والمكابيين وامتد حكمها إلى دمشق وكانت بيدها زمام التجارة مدة قرون في هذا الشرق الأقرب ولم تنحط إلا بارتقاء مملكة فارس وانبساط ظل سلطان تدمر ولما جاء الإسلام كانت خرائب كما هي اليوم والغالب أن بقايا مجدها أتت عليها الزلازل فدكتها كما دكت غيرها من المصانع والآثار. إذا اشرف الراكب عَلَى قرية وادي موسى يرى روح النعيم فيها خصوصاً ويكون قد قطع ساعات في صقع أجرد أمر ليس فيه من الأشجار إلا الزعرور ولا من الغلات إلا قليل من الحنطة والشعير ولكن في وادي موسى حدائق بديعة تسقى من العيون الدافقة عليها من الهضاب المجاورة حتى تخال لنفسك لما تراه من بهجة الخضراء أنك في صقع عامر زاهر فإذا قصدت إلى العاصمة بترا أو تجبلت في السيك أي دخلت بين الجبلين المتناوحين العاليين وكل قطعة منهما تبلغ ألوفاً من الأمتار المربعة علوها من 30 إلى 50 متراً وأنت تسير في طريق لا يقل عن خمسة أذرع ولا يزيد عن عشرة ليس فيه إلا الأحجار والحصا أو مسايل ماءٍ لا ينبت فيها إلا الرتم والطرفاء تشاهد في الأعالي النواويس والقصور والمسلات محفورة في الصخر وينفرج الطريق مسيرة نحو ثلث ساعة وينقسم إلى قسمين قسم ذات اليمين وفيه تتمة المدينة والقسم الآخر جبال طبيعية تمتد إلى بعيد وتتصل بجبل هارون من أجمل المناظر المشرفة عَلَى تلك الأودية والجبال. وهنا يتمثل أمامك قصر فخم يسميه الناس خزنة فرعون والغالب أنه كان معبداً لإيزيس أنشئ عَلَى عهد الإمبراطور أدريانوس الذي زار هذه المدينة سنة 131 وفي واجهة هذا القصر رواق يتقدمه بضعة أعمدة كبرى وفوقها ثلاثة أعمدة أصغر منها ونقوش وتيجان وربما كان يصعد إلى العلية بلولب من الصخر بدليل ما يشاهد في الحائط من أثر الأدراج وإذا دخلت هذا الرواق ترى عَلَى اليمين قاعة كبرى تلمع أحجارها وتتموج وكأنها خرجت

الآن من يد نقاشها وفي الجهة اليسرى قاعة مثلها وفي الصدر القاعة الكبرى أو الردهة المدهشة وكل هذه العمدان والسواري والتيجان والقاعات والرواق محفور في الصخر أو في هذا الجبل قطعة واحدة فكأن الحجر كان بيد صانعي هذا الهيكل وغيره من الهياكل والنواويس والقصور كالطين يجعلون منه ما يشاؤن والذي يزيد في الدهشة أن الحجر أحمر في هذه الجبال أو نوع من الحجر الرملي ولكنه بمتانته كالصخر الأصم ثم ترى عليك ذاك اللمعان فمن موجة حمراء إلى أخرى زرقاء إلى مثلها بيضاء إلى جانبها دكناء فسبحان من أنشأ هذا الصخر هنا منقطع النظير ورزق بانيه يد صناعاً تتفنن في تقطيعه ونقره بما فاق به البناة في سائر عاديات سورية. فإن كانت قلعة بعلبك تنم عن ذوق سليم وعلم واسع في النقش وجر الأثقال فإن هذه العاديات الخالدة الأزلية تنادي بلسان حالها هذه عظمة الديان إلى جانب عظمة الإنسان. وترى إلى جانب الآثار قساطل من الفخار في جانب السيك الذي يشبه بعض جهاته الفج الواقع في شمالي قرية معلولا في جبل سنير (قلمون) وذلك عَلَى علو القامة استحجرت عَلَى الصخر حتى كأنها بعضه وهناك عَلَى بضع دقائق من خزنة فرعون كان في الغالب يخزن ماء هذه العاصمة برمتها وعلى مقربة من مخزن الماء وهو منقور في الجبل أيضاً ملعب التمثيل نقر في الصخر وله 33 ممشى لجلوس المتفرجين ويسع 3000 نسمة وفي هذا الجوار أقدم النواويس وأهمها وبعد ذلك يجيء قصر البنات وهو بناء من الحجر رصفت حجارته كما ترصف الأبنية الضخمة من قلاع وأبراج وأسوار ونحوها والغالب كان للمتأخرين شبه دار للحكومة وهو مما عمر قبل عهد الإسلام وهناك ولاسيما في خربة النصارى آثار بعض أديار يدل اسمها قبرسمها عَلَى أنها من عمل المسيحيين عندما كانت لهم حكومة هنا عَلَى عهد الرومان واليونان وعلى مقربة من تلك الجبال الشوامخ والمنفرجات والأودية بعض نواويس وآثار ولكنها دون آثار بترا في المكانة وفي جبل الصبرا ملعب أو صورة تمثل قتالاً بين سفن حربية. ويقول بعض علماء الآثار من الألمان أن معظم القبور التي حفرت عَلَى مثال قبور الحجر يرد عهدها إلى الملك أرتياس الرابع أحد ملوك بترا أي 9 و30 سنة قبل المسيح وبعده وليس في وادي موسى أعمدة من قبل الحكم الروماني عليها. وإن ما يشاهد من صور أبي

الهول وإيزيس ورؤوس الحملان يدل عَلَى أن هذه البلاد تأثرت بالمدنية المصرية والمسلتان الموجدتان في النجر تمثلان ربي النبطيين اللات ودوزارس وإنها كانت مركز عبادة النبط قبل العهد اليوناني بستة قرون عَلَى الأقل وإن المدنية اليونانية دخلت وادي موسى عَلَى عهد البطالسة فاختلط العنصران المصري والسوري وظل القول الفصل فيها للمدينة اليونانية إلى عهد أرتياس الرابع وفي بترا 851 مصنعاً من القبور والمعابد والمذابح. وبالجملة فإن من أراد أن يتوسع في درس هذه المدينة الأزلية وجب عليه أن يصرف أياماً في خرائبها كما يفعل بعض سياح الإفرنج وعلماء الآثار منهم فيقصدونها يضربون فيها خيامهم ويصرفون في إمتاع النظر الأسبوع والأسبوعين وعلى من يحب التوسع في البحث أن يستعين بما كتبه علماء الآثار من المصنفات في وصف هذه المصانع بالإنكليزية والألمانية والإفرنسية وغيرها من لغات المدنية الحديثة. في جوار هذه العاديات المدهشة المنبئة بمدينة راقية + + ينزل نحو ألف نسمة من العرب يأتون أياماً قلائل إلى الحي أو وادي موسى لتعهد زورعهم السقي ثم ينتقلون في الصيف والشتاء في جبال الشراة عَلَى ساعتين أو ثلاث أو أربع من بلدهم في خيام الشعر وهم فرقتان تؤلف الأولى من عرب الشرور ومن بني عطا والثانية من الهلالات والعبيدية والعلايا ويغلب عليهم الفقر ومنهم من يزرع أراضي الحويطات والنعيمات عَلَى مقربة من بلدهم بالخمس وليس فسهم من يقرأ ولا من يكتب وفي وادي موسى مدير عين حديثاً يتبع قضاء عمان كما أن في الشوبك مديراً ويلبس أهل وادي موسى الكوفية والعقال ويسمونه المرير أي المفتول والعباءة وقفاطاناً مسدولاً بدون سراويل وفي أرجلهم نعل يعملونه من جلد البعير وينوطون به حبلة يدخل منها باهم الرجل لتعلق وفي ألفاظهم بعض فصح مثل قولهم لسير الليل وقولهم الهدوم للثياب العتيقة وقولهم الريف للأراضي الخصبة والقابلة للداية وغير ذلك. ويعنون كثيراً بتربية البقر والغنم والماعز والإبل عندهم مثل بني صخر. وما يشكوه أهل معان يشكو منه أهل وادي موسى يشكون ممن أن الأراضي للمهاجرين غير مسجلة بأسمائهم وأن عشيرتي النعيمات والحويطات تدعي ملكيتها عَلَى حين هذه لم تسجل نفوسها في سجلات الحكومة ولا تدفع إلا ما يصيبها من الأموال الأميرية وهي في

رحالة تضرب في الفجاج إلى نجد وأبعد من نجد ولا تتوفر عَلَى زراعة الأرض كلها وإذا قتل البدوي أحد أهل البلدين يفر فلا يلوي عَلَى شيء وإذا قتل الفلاح من أهل معان ووادي موسى رجلاً من أولئك البدو تتقاضاه الحكومة الدية وتحبسه وترهقه فكأن الحكومة لا تقوى إلا عَلَى كل ضعيف خفيف الحال. سألنا أحد كبار شيوخ وادي موسى هل زرت يا عماه مدينة دمشق في حياتك فأجاب إنني لم أزرها أنا ولا أحد من أهل بلدي وأني لي وبزيارتها والطريق عشرة أيام لراكب المطايا وفي السكة الحديدية احتاج إلى أجرة لم أملكها في حياتي فتأمل. وبعد فإن أجمل المناظر إذا خرجت من السيك أو من الصدفين أي من جانبي الجبلين وفارقت تلك القنن والقلل تقصد إلى عين موسى صعدا في هضاب عنقاء شماء واطلت عَلَى تلك المدينة التي يستحيل أي جيش من جيش العالم أن يفتحها ويستبيح حمى من فيها إذا أرادت الدفاع تشرف من ورائها عَلَى أرض واسعة جداً تظنها بحراً من أشعة الشمس وهي وادي عربة طوله ثلاثة أيام إلى الغرب وعرضه إلى الشمال أربعة من العقبة إلى الغور وفي تربته حصا وأحجار ورمال وأملاح وينابيع قليلة منها بعض الخضرة كما تجد هنا وهناك بعض الشجار البرية ويقصد البدو هذا الوادي في الشتاء لأنه غور يرعون فيه مواشيهم كما يقصد أهالي الطفيلة والكرك والسلط وما جاورهم من الأغوار إلى الغرب من ديارهم ويقصدون جهات الشرق في الربيع ويتوسطون في الشتاء والصيف. هذا نموذج من عيش أهل المجر والمدر من البوادي ممن تشهد خيامهم السوداء كما قال ابن معتوق في وصفها: قطع من الليل البهيم عَلَى الثرى ... سقطت وفيها أنجم الجوزاء والتي قالت فيها الشاعرة الأعرابية يوم زوجت في دمشق وأسكنت القصور والدور من اللبن والحجر: لبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إليّ من قصر منيف أو كما قال الشاعر: الحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر ولقد أحببنا أن نجربه للمرة الأولى فنزلنا ليلة في أرض إيل عَلَى شيخ من عرب الشرور

واسمه محمد إبراهيم وأخرى في بير البيطار عَلَى محمد أبي فرج شيخ بني عطا وهذان المنزلان عَلَى مقربة من وادي موسى وكنا بتنا ليلة في الزيزاء عند فواز بن سطام شيخ مشايخ بني صخر فرأينا العيش البدوي عَلَى اختلاف طبقاته ديمقراطية وارستقراطية ونمنا في العراء تخفق علينا الرياح وخرجنا عن مألوف العادات فشربنا من كاس شرب بها عشرات من قبلنا فلم تغسل كفناجين القهوة وأكلنا الجريش ممزوجاً باللبن الرائب والمرق عليه رقاق تعلوها قطع اللحم والدهن بدون ملعقة ولا شوكة ولا سكين ولا صفحة خاصة ولا منديل فواكلناهم وسامرناهم وحدثناهم وحدثونا واستنصحنا بعضهم لنصرح له أي العيشين أفضل لهم البداوة أم الحضارة فقلنا لهم أنتم بالنظر لما نشأتم عليه أبقوا عَلَى بداوتكم واقتربوا من المدنية ما سمحت لكم أنفسكم ولكن إياكم أن تغفلوا عن تعليم أولادكم لينشأوا نشأة مدنية أكثر من نشأتكم وعندها إذا أحبوا أن ينقطعوا عن عيش الخلاء بتة يتيسر لهم ذلك. إني أخاف عليكم أيها العرب إذا عاشرتم الحضر فأكثرتم من عشرتهم أن تنسوا المكارم العربية ويختلط عليكم أمركم وتضيعون فطرتكم السليمة إلى ما تئن منه حضارتنا من النفاق والكذب والمزور والخديعة ولولا الغارات لآثرت أن أعيش في هذه الديارات بين البوادي ولو أشهراً معدودة من السنة. يتبع

مصر والمملكة الإسلامية

مصر والمملكة الإسلامية لعالم جغرافي عربي من أمهات كتب الجغرافيا العربية القديمة التي أحياها بالطبع دي كوي أحد أئمة المشرقيات في الغرب وطبعتها مطبعة بريل في ليدن من بلاد هولاندة طبعة ثانية سنة 1906 كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي المعروف بالبشاري ذكر فيه الأقاليم الإسلامية وما فيها من المفاوز والبحار والبحيرات والأنهار ووصف أمصارها المشهورة ومدنها المذكورة ومنازلها المسلوكة وطرقها المستعملة وعناصر العقاقير والآلات ومعادن الحمل والتجارات واختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم وألسنتهم وألوانهم ومذاهبهم ومكاييلهم وأوزانهم ونقودهم وصروفهم وصفة طعامهم وشرابهم وثمارهم ومياههم ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم وما يحمل من عندهم وإليهم وذكر مواضع الأخطار في المفازات وعدد المنازل في المسافات وذكر السباخ والصلاب والرمال والتلال والسهول والجبال والحواوير والسماق (؟) والسمين منها والرقيق ومعادن السعة والخصب ومواضع الضيق والجدب وذكر المشاهد والمراصد والخصائص والرسوم والممالك والحدود والمصادر والجروم والمخاليف والزموم والطساسيج والتخوم والصنائع والعلوم والباخس والمشاجر والمناسك والمشاعر. قال: وعلمت أنه باب لا بد منه للمسافرين والتجار ولا غنى عنه للصالحين والأخيار هو علم ترغب فيه الملوك والكبراء وتطلبه القضاة والفقهاء وتحبه العامة والرؤساء وينتفع به كل مسافر ويخطى به كل تاجر وما تم لي جمعه إلا بعد جولاني في البلدان ودخولي أقاليم الإسلام ولقائي العلماء وخدمتي الملوك ومجالستي القضاة ودرسي عَلَى الفقهاء واختلافي إلى الأدباء والقراء وكتبة الحديث ومخالطة الرهاد والمتصوفين وحضور مجالس القصاص والمذكرين مع لزوم التجارة في كل بلد والمعاشرة مع كل أحد والتفطن في هذه الأسباب بفهم قوي حتى عرفتها ومساحة الأقاليم بالفراسخ حتى أتقنتها ودوراني عَلَى التخوم حتى حررتها وتنقلي إلى الأجناد حتى عرفتها وتفتيشي عن المذاهب حتى علمتها وتفطني في الألسن والألوان حتى رتبتها وتدبري في الكور حتى فصلتها وبحثي عن الأخرجة حتى أحصيتها مع ذوق الهواء ووزن الماء وشدة العناء وبذل المال وطلب الحلال وترك

المعصية ولزوم النصح للمسلمين بالحسبة الصبر عَلَى الذل والغربة والمراقبة لله والخشية بعدما رغبت نفسي في الأجر وطمعتها في حسن الذكر وخوفتها من الإثم وتجنب الكذب الطغيان وتحرزت بالحجج من الطعان ولم أودعه بالمجاز والمحال ولا سمعت إلا قول الثقات من الرجال. وقال في موضع أخر في ذكر الأسباب التي عاينها في تأليف كتابه ويفهم منها مبلغ تعبه في وضعه ترجمته لنفسه عَلَى أسلوب هو الأدب بعينه والإبداع الغريب قال: اعلم أن جماعة من أهل العلم ومن الوزراء قد صنفوا في هذا البابوإن كانت مختلة غير أن أكثرها بل كلها سماع لهم ونحن فلم يبق إقليم إلا وقد دخلناه وأقل سبب إلا وقد عرفناه وما تركنا مع ذلك البحث والسؤال والنظر في الغيب فانتظم كتابنا هذا ثلاثة أقسام إحداها ما عايناه والثاني ما سمعناه من الثقات والثالث ما وجدناه في الكتب المصنفة في هذا الباب وفي غيره وما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها ولا تصانيف فرقة إلا وقد تصفحتها ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها ولا أهل زهد إلا وخالطتهم ولا مذكروا بلد إلا وقد شهرتهم حتى استقام لي ما ابتغيته في هذا الباب. ولقد سميت بستة وثلاثين اسماً دعيت وخوطبت بها مثل مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي وخراساني وسلمى ومقرئ وصوفي وولي وعابد وزاهد وسياح ورواق ومجلد وتاجر ومذكر وإمام ومؤذن وخطيب وغريب وعراقي وبغدادي وشامي وحنيفي ومتأدب وكري ومتفقه ومتعلم وفرائضي وأستاذ ودانشومند وشيخ ونشاسته وراكب ورسول وذلك لاختلاف البلدان التي حللتها وكثرت المواضع التي دخلتها ثم أنه لم يبق شيء مما يلحق بالمسافرين إلا وقد أخذت منه نصيباً غير الكدية وركوب الكبيرة فقد تفقهت وتأدبت وتزهدت وتعبدت وفقهت وأدبت وخطبت عَلَى المنابر وأذنت عَلَى المنابر وأممت في المساجد وذكرت في الجوامع واختلفت إلى المدارس ودعوت في الحافل وتكلمت في المجالس وأكلت مع الصوفية الهرائس ومع الخانقائية الثرائد ومع النواتي العصائد وطردت في الليالي من المساجد وسحت في البراري وتهت في الصحاري وصدقت في الورع زماناً وأكلت الحرام عياناً وصحبت عباد جبل لبنان وخالطت حيناً السلطان وملكت العبيد وحملت عَلَى رأسي بالزنبيل وأشرفت مراراً عَلَى الغرق وقطع عَلَى قوافلنا الطرق

وخدمت القضاة والكبراء وخاطبت السلاطين والوزراء وصاحبت في الطرق الفساق وبعت البضائع في الأسواق وسجنت في الحبوس وأخذت عَلَى أبي جاسوس وعاينت حرب الروم في الشواني وضربت النواقيس في الليالي وجلدت المصاحف بالكرى واشتريت الماء بالغلا وركبت الكنائس (؟) والخيول ومشيت من السمائم والثلوج ونزلت في عرضة الملوك وبين الأجلة وسكنت بين الجهال ومحلة الحاكة وكم نلت العجزة والرفعة ودبر في قتلى غير مرة وحججت وجاورت وغزوت ورابطت وشربت بمكة من السقاية والسويق واكلت الخبز والجلبان بالسيق ومن ضيافة إبراهيم الخليل وجميز عسقلان السبيل وكسيت خلع الملك وأمروا لي بالصلات وعريت وافتقرت مرات وكاتبني السادات ووبخني الأشراف وعرضت عَلَى الأوقاف وخضعت للأجلاف ورميت بالبدع واتهمت بالطمع وأقامني الأمراء والقضاة أميناً ودخلت في الوصايا وجعلت وكيلاً وامتحنت الطرارين ورأيت دول العيارين واتبعني الأرذلون وعاندني الحاسدون وسعي بي إلي السلاطين ودخلت حمامات طبرية والقلاع الفارسية ورأيت يوم الفوارة وعيد بربارة وبئر بضاعة وقصر يعقوب وضياعه ومثل هذا كثير ذكرنا هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا إنا لم نصنفه جزافاً ولا رتبناه مجازاً ويميزه من غيره فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من مصنف كتابه في الرفاهية ووضعه عَلَى السماع. ولقد ذهب لي في هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم سوى ما دخل عليّ من التقصير في أمور الشريعة ولم يبق رخصة مذهب إلا وقد استعملتها قد صليت عَلَى القدمين وصليت بمدها متان ونفرت قبل الزوال وصليت الفرائض عَلَى الدواب ومع نجاسة فاحشة عَلَى الثياب وترك التسبيح في الركوع والسجود وسجود السهو قبل التسليم وجمعت بين الصلوات وقصرت لأفي سفر الطاعات غير أني لم أخرج عن قول الفقهاء الأئمة ولم أؤخر صلاة عن وقتها بتة وما سرت في جادة بيني وبين مدينة عشرة فراسخ فما دونها إلا فارقت القافلة وانتقلت إليها لأنظر هاقا يمد وربما اكتريت رجالاً يصحبوني وجعلت مسيري في الليلة لأرجع إلى رفقائي مع إضاعة المال والهم. وبعد فقد أجاد المقدسي في تأليفه ما شاء وشاءت الإجادة ومن يتعب في جمع مواد مصنفه مثل ما تعب يجيء منه آية يستفاد منها عَلَى الدهر فلم يترك شاردة في الجغرافية الطبيعية

مما يتعلق بطبائع الأرض ومياهها وجبالها وبحيراتها وسهولها إلا وذكره عَلَى حسن صورة عرفها العالم وكذلك لم يدع فائدة في علم خصائص الشعوب والجغرافيا السياسية والاقتصادية إلا ألم به إلماماً لا يستطاع أكثر منه في عصره وهو القرن الرابع. وعلى كثرة ما أتى من المواد في كتابه الذي لا يتجاوز الخمسمائة صفحة من هذه الطبعة فإنك تجد كل فائدة قد ذكرت في موضعها بتنسيق غريب أدهش من نظر فيه من علماء المشرقيات في الغرب فأيقنوا بما رأوه أن فضل الله غير محصور بأمة معينة ولا بزمن خاص. ولقد كنا نقول ونحن نطالع ما ورد في كتاب أحسن التقاسيم في وصف بلاد الشام وفلسطين أن هذا الفصل أجمل فصول هذا السفر لأن المؤلف قدسي يحسن معرفة بلاده ووصف ما حوت من الميزات والخيرات ولكن من طالع الكتاب برمته تتجلى له إجادته في وصف جميع بلاد الإسلام وما يجب عَلَى المطالع معرفته منها وإليك الآن ما قاله في إقليم مصر. هذا هو الإقليم الذي افتخر به فرعون عَلَى الورى وقام عَلَى يد يوسف بأهل الدنيا فيه آثار الأنبياء والتيه وطور سيناء ومشاهد يوسف وعجائب موسى وإليه هاجرت مريم بعيسى وقد كرر الله في القرآن ذكره وأظهر للخلق فضله أحد جناحي الدنيا، ومفاخره فلا تحصى، مصره قبة الإسلام ونهره أجل الأنهار وبخيراته تعمر الحجاز وبأهله يبهج موسم الحاج وبره يعم الشرق والغرب قد وضعه الله بين البحرين وأعلى ذكره في الخافقين حسبك أن الشام عَلَى جلالتها رستاقه والحجاز مع أهلها عياله وقيل أن هو الربوة ونهره يجري عسلاً في الجنة وقد عاد فيه حضرة أمير المؤمنين ونسخ بغداد إلى يوم الدين وصار مصره أكبر مفاخر المسلمين غير أن جدبة سبع سنين متوالية، والأعناب والإتيان به غالية، ورسوم القبط به عالية، وفي كل حين تحل بهم الداهية، عمره مصر بن حام بن نوح عليه السلام وهذا شكله ومثاله. وقد جعلنا إقليم مصر عَلَى سبع كورست منها عامرة ولها أيضاً أعمال واسعة ذات ضياع جليلة ولم تكثر مدائن مصر لأن أكثر أهل السود قبط ولا مدينة في قياس علمنا هذا إلا بمنبر فأولها من نجد الشام ثم الجفار ثم الحوف ثم الريف ثم الإسكندرية ثم مقدونية ثم الصعيد والسابعة الواحات. فأما الجفار فقصبتها الفرما ومدنها البقارة الواردة العريش. وأما

الحوف فقصبتها بلبيس ومدنها مشتول جرجير فاقوس غيفا دبقو تونة بريم القلزم. وأما الريف فقصبتها العباسية ومن مدنها شبرو دمنهور سنهور بنها العسل شطنوف مليج محلة سدر محلة كرمين المحلة الكبيرة سندفا دميرة بورة دقهلة محلة زيد محلة حفص محلة زياد سنهور الصغرى بريس. وأما إسكندرية فهي القصبة أيضاً ومنة مدنها الرشيد مريوط ذات الحمام براس وأما المقدونية فقصبتها الفسطاط وهو المصر ومن مدنها العزيزية الجيزة عين شمس وأما الصعيد فقصبتها أسوان ومن مدنها حلوان قوص أحميم بلينا علاقى أجمع بوصير الفيوم أشمونين سمسطا تندة طحا بهنسة قيس وبازاء الحوف جزيرتان في بحيرتين فهما تنيس ودمياط. الفرما عَلَى ساحل بحر الروم وهي قصبة الجفار عَلَى فرسخ من البحر عامرة آهلة عليها حصن ولها أسواق حسنة وهي في سبخة وماؤها مالح وحولها مصايد السلوى معدن الأسماك الجيدة وبها أضداد عدة وخيرات كثيرة وهي مجمع الطرق مذ كورة سرية غير أن ماءها مالح وطيرها مزمن وهذه الكورة كلها رمال ذهبية والمدن التي ذكرناها وسطها وفيها طرق ونخيل وآبار وعلى بريد حانوت إلا أن الريح ربما لعبت بالرمال فغطت الطريق والسير فيها صعب. بلبيس قصبة الحوف كبيرة كثيرة القرى والمزارع عامرة بنيانها من طين والمشتول كثيرة الطواحين ومنها يحمل أكثر ميرة الحجاز من الدقيق والكعك وأحصيت في وقت من السنة فإذا هو يبلغ ثلاثة آلاف حمل جمل في كل أسبوع كلها حبوب ودقيق. والقلزم بلد قديم عَلَى طرف بحر الصين يابس عابس لا ماء ولا كلأ ولا زرع ولا ضرع ولا حطب ولا شجر ولا عنب ولا ثمر يحمل إليهم الماء في المراكب ومن موضع عَلَى بريد يسمى سويس عَلَى الجمال ماء آجن ردي ومن مثلهم ميرة أهل القلزم من بلبيس وشربهم من سويس يأكلون لحم التيس ويقدون سقف البيت هي أحد كنف الدنيا مياه حماماتهم زعاق وحشمة ملولة والمسافة إليها صعبة غير أن مساجدها حسنة وبها قصور جليلة ومتاجر مفيدة هي خزانة مصر وفرضة الحجاز ومعونة الحاج واشترينا يوماً بدرهم حطباً فاحتجنا له بدرهم حطباً وهذه الدورة غير طيبة ولا أرى في ذكر بقية مدائنها فائدة.

العباسية هي قصبة الريف عامرة طيبة قديمة شربهم من النيل موضع الريف والخصب بنيانهم أفرج من بنيان مصر بها أضداد تحمل عليها وجامع حسن من الآجر رفقة سرية والمحلة الكبيرة ذات جانبين اسم الجانب الآخر سندفا بكل جانب جامع وجامع المحلة وسطها وجامع تلك عَلَى الشط لطيف وهذه أعمر وبها سوق زيت حسن والناس يذهبون ويجيئون بالزوارق شبهتها بواسط ودمية أيضاً عَلَى الشط طويلة عامرة بها بطيخ نادر. الإسكندرية قصبة نفيسة عَلَى بحر الروم عليها حصن منيع وبها بلد شريف كثير الصالحين والمتعبدين شربهم من النيل يدخل عليهم أيام زيارته في قناة فيملأ صهاريجهم وهي شامية الهواء والرسوم كثيرة الأمطار جامعة الأضداد جليلة الرستاق جيدة الفواكه والأعناب طيبة نظيفة بناؤهم من الحجارة البحرية معدن الخراب وبها جامعان عَلَى جبابهم أبواب تغلق بالليل كيلا يصعد منها اللصوص وسائر المدن عامرات طيبات وفي نواحيها خرنوب وزيتون ولز ومزارع عَلَى البعل ومن ثم يصب في بحر الروم وهي مدينة ذي القرنين ولها قصة عجيبة. الفسطاط هو مصر في كل قول لأنه قد جمع الدواوين وحوى أمير المؤمنين وفصل بين المغرب وديار العرب واتسع بقعته. وكثر ناسه. وتنضر إقليمه واشتهر اسمه. وجل قدره. فهو مصر مصر. وناسخ بغداد. وفخر الإسلام ومتجر الأنام وأجل من مدينة السلام. خزانة المغرب. مطرح المشرق. وعامر الموسم ليس في الأمصار آهل منه. كثير الأجلة والمشايخ. عجيب المتاجر والخصائص. حسن الأسواق والمعايش إلى حماماته المنتهى. ولقيا سيره لباقة وبها. ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه ولا أحسن تجملاً من أهله ولا أكثر مراكب من ساحله. آهل من نيسابور. وأجل من البصرة. وأكبر من دمشق. به أطعمة لطيفة. وأدامات نظيفة. وحلاوات رخيصة كثير الموز الرطب. غزير البقول والحطب. خفيف الماء صحيح الهواء. معدن العلماء. طيب الشتاء أهله أهل سلامة وعافية. ومعروف كثير وصدقة. نغمتهم بالقرآن حسنة ورغبتهم بالخير بينة. وحسن عبادتهم في الأفاق معروفة قد استراحوا من أذي الأمطار. وأمنوا من غاغة الشرار. ينتقدون الخطيب والإمام. ولا يقدمون إلا طيباً وإن بذلوا الموال قاضيهم أبداً خطير والمحتسب كالأمير ولا ينفكون أبداً من نظر السلطان والوزير ولولا عيوب له كثير ما كان له في العالم من نظير

وهو نحو ثلثي فرسخ طبقاتها بعض فوق بعض. وكانت جانبي الفسطاط والجيزة ثم شق بعض الخلفاء من ولد عباس خليجاً عَلَى قطعة منها فسميت تلك القطعة الجزيرة لأنها بين العمود والخليج وسمي خليج أمير المؤمنين منه شربهم ودورهم أربع طبقات وخمس كالمناير يدخل إليهم الضياء من الوسط وسمعت أنه يسكن الدار الواحدة نحو مائتي نفس وإنه لما صار إليها الحسن بن أحمد القرمطي خرج الناس إليها فرآهم مثل الجراد فهاله ذلك وقال ما هذا قيل هؤلاء نظارة مصر ومن لم يخرج أكثر. وكنت يوماً أمشي عَلَى الساحل وأتعجب من كثرة المراكب الراسية والسائرة فقال لي رجل منهم: من أين أنت قلت: قلت من بيت المقدس قال: بلد كبير أعلمك يا سيدي أعزك الله أن عَلَى هذا الساحل وما قد أقلع منه إلى البلدان والقرى من المراكب ما لو ذهبت إلى بلدك لحملت أهلها وآلاتها وحجارتها وخشبها حتى يقال كان ههنا مدينة. وسمعتهم يذكرون أنه يصلي قدام الإمام يوم الجمعة عشرة آلاف رجل فلم أصدق حتى خرجت مع المتسرعة إلى سوق الطير فرأيت الأمر قريباً مما قالوا. وأبطأت يوماً عن السعي إلى الجمعة فألفيت الصفوف في الأسواق عَلَى أكثر من ألف ذراع من الجامع ورأيت القياسير والمساجد والدكاكين حوله مملوءة من كل جانب من المصلين وهذا الجامع يسمى السفلاني من عمل عمرو بن العاص وفيه منبره حسن البناء في حيطانه شيء من الفسيفس عَلَى أعمدة رخام أكبر من جامع دمشق والازدحام فيه أكثر من الجوامع الستة قد التفت عليه الأسواق إلا أن بينها وبينه من نحو القبلة دار الشط وخزائن وميضاة وهو أعمر موضع بمصر وزقاق القناديل عن يساره وما يدريك ما زقاق القناديل والجامع الفوقاني من بناء بني طيلون أكبر وأبهى من السفلاني عَلَى أساطين واسعة مصهرجة وسقوفه عالية في وسطه قبة عَلَى عمل قبة زمزم فيها سقاية مشرف عَلَى فم الخليج وغيره وله زيادات وخلفه دار حسنة ومنارته من حجر صغيرة درجها من خارج والحد بين أسفل وفوق مسجد عبد الله قد بنى من مساحة الكعبة. ويطول الوصف بنعت أسواقه وجلالته غير أنه أجل أمصار المسلمين وأكبر مفاخرهم وآهل بلدانهم ومع هذه الكثرة اشتريت الخبز الحواري ولا يخبزون غيره ثلاثين رطلاً بدرهم والبيض ثمانية بدانق والموز والرطب رخيص يجيء أبداً إليه ثمرات الشام

والمغرب وتسير الرفاق إليه من العراق والمشرق ويقطع إليه مراكب الجزيرة والروم تجارته عجيبة ومعايشه مفيدة وأمواله كثيرة لا ترى أحلى من مائه ولا أوطأ من أهله ولا أحسن من بزه ولا أبرك من نهره إلا أنه ضيق المنازل كثير البراغيث عفن كرب البيوت قليل الفواكه مياه كدرة وآبار وضرة ودور قذرة وبق منتن وجرب مزمن. ولحوم عزيزة. وكلاب كثيرة. ويمين فظيعة. ورسوم وحشة أبداً عَلَى خوف من القحط وانقطاع النهر وإشراف عَلَى الجلاء وتربص بالبلاء. لا يتورع مشايخهم عن شرب الخمور ولا نساؤهم عن الفجور للمرأة زوجان وترى الشيخ سكران وفي المذهب حزبان في سمرة وقبح لسان. والجزيرة خفيفة الأهل الجامع والمقياس عَلَى طرفها عند الجسر مما يلي المصر وبها بساتين ونخيل ومنتزه أمير المؤمنين عند الخليج بموضع يسمى المختارة والجيزة مدينة خلف العمود كانت الطريق إليها من الجزيرة عَلَى جسر إلى أن قطعه الفاطمي بها جامع وهي أعمر وأكبر من الجزيرة والجادة منها إلى المغرب ويلقي الخليج العمود تحت الجزيرة. والقاهرة مدينة بناها جوهر الفاطمي لما فتح مصر وقهر من فيها كبيرة حسنة بها جامع بهي وقصر السلطان وسطها محصنة بأبواب ممدودة عَلَى جادة الشام ولا يمكن أحد دخول الفسطاط إلا منها لأنها بين الجبل والنهر ومصلى العيد من ورائها والمقابر بين المصر والجبل. والعزيزية قد اختلت وخربت عامتها وكانت المصر في القديم وبها كان ينزل فرعون وثم قصره ومسجد يعقوب ويوسف. وعين شمس مدينة عَلَى جادة الشام كثيرة المزارع بها مسند النيل أيام زيادته جامعهم في السوق. والمحلة مدينة عَلَى نهر الإسكندرية بها جامع لطيف وليس بها كثير أسواق غير أنها عامرة نزيهة الشط حسنة النهر يقابلها صندفاً به جامع عامر شبهتها بواسط إلا أنه ليس بينهما جسر يعبرون في المراكب. وحلوان مدينة من نحو الصعيد ذات مغاير ومقاطع وعجائب بها حمام من فوق حمام آخر وسائر المدن عَلَى عمود النيل وخليجه. وأسوان قصبة الصعيد عَلَى النيل عامرة كبيرة بها منارة طويلة ولها نخيل وكروم كثيرة وخيرات وتجارات وهي من الأمهات وأحميم مدينة كثيرة النخيل عَلَى بعض شعب النيل ذات كروم ومزارع منها كان ذو النون الزاهد وهذه الكورة أعلى أرض مصر وفيها يخرج

النيل والفيوم جليل به مزارع الأرز الفائق والكتان الدون ولها قرية سرية تسمى الجوهريات والعلاقى مدينة في آخر الكورة عَلَى طريق عيذاب وأما الواحات فإنها كانت كورة جليلة ذات أشجار ومزارع وإلى اليوم يوجد فيها صنوف الثمار وأغنام ونعم وقد توحشت متصلة بأرض السودان تمس إقليم المغرب وبعض يجعلونها منه. تنيس بين بحر الروم والنيل بحيرة فيها جزيرة صغيرة قد بنيت كلها مدينة وأي مدينة هي بغداد الصغرى وجبل الذهب ومتجر الشرق والغرب أسواق ظريفة وأسماك رخيصة وبلدة مقصودة ونعم ظاهرة وساحل نزيه وجامع نفيس وقصور شاهقة ومدينة مفيدة رفقة إلا أنها في جزيرة ضيقة والبحر عليها كحلقة ملولة قذرة والماء في صهاريج مغلقة أكثر أهلها قبط والبلاذات تطرح إلى الطرق وبها يعمل الثياب والأردية الملونة وثم موضوع قد نضد فيه موتى الكفار بعض عَلَى بعض ومقابر المسلين وسط البلد. دمياط تسير في هذه البحيرة يوماً وليلة ربما لقيك ماء حلو وأزقة ضيقة إلى مدينة أخرى وهي أطيب وأرحب وأوسع وأفسح. وأحزب وأكثر فواكه. وأحسن بناء وأوسع ماء. وأحذق صناعاً. وأرفع بناء وأنظف عمالاً. وأجود حمامات. وأوثق جدارات. وأقل أذيات. من تنيس عليها حصن من الحجارة. كثيرة الأبواب وفيها باطات كثيرة خربت ولهم موسم من كل سنة يقصدها المرابطون من كل جانب وبحر الروم منها عَلَى صيحة دور القبط عَلَى ساحله وثم يفيض النيل في البحر. وشطا قرية بين المدينتين عَلَى البحيرة يسكنها القبط وإليها ينسب هذا البز وطحا قرية بالصعيد يعمل بها ثياب الصوف الرفيعة ومنها كان الفقيه الإمام أبو جعفر الأزدى ويصنع ببهنسة الستور والأنماط والكتان الرفيع مزارعه ببوصير. جمل شؤن هذا الإقليم هذا إقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه ورخصه وإذا أجدب فتعوذ بالله من فحطه يمد سبع سنين حتى يأكلون الكلاب ويقع فيهم الوباء المبرح اشد حراً من سواحل الشام ويبرد في طوبه برداً شديداً به نخيل كثيرة وعامة ذمته النصارى يقال لهم القبط ويهود قليل. كثير المجذمين وبيت الجرب لأنه عفن وأكثر أدمهم السمك. وعلى مذاهب أهل الشام غير أن أكثر فقهائهم مالكيون ألا ترى أنهم يصلون قدام الإمام ويربون الكلاب.

وأعلى القصبة وأهل صندفا شيعة سائر المذاهب بالفسطاط موجودة ظاهرة وثم محلة الكرامية وجلبة للمعتزلة والحنبلية والفتيا اليوم عَلَى مذاهب الفاطمي التي تذكرها في إقليم المغرب. والقراآت السبع فيه مستعملة غير أن قراء ابن عامر أقلها ولما قرأت بها عَلَى أبي الطيب بن غلبون قال دع هذه القراءة فإنها عتيقة قلت: قيل لنا عليكم بالعتيق قال: فعليك بها. قرأت عليه لأبي عمرو فكان يأمرني بتفخيم الراء من مريم والتورية والغالب عليهم والمختار عندهم قراءة نافع وسمعت شيخاً في الجامع السفلاني يقول: ما قدم في هذا المحراب أمام قط وهو يتفقه لمالك ويقرأ لنافع غير هذا يعني ابن الخياط قلت: ولم ذلك قال لم نجد أطيب منه وكان شفعوياً أبو عمر يا ولم أر في الإسلام أحسن نغمة منه لغتهم عربية غير أنها ركيكة رخوة وذمتهم يتحدثون بالقبطية وهو بلد التجارات يرتفع منه أديم جيد صبور عَلَى الماء ثخين لين والبطائن الحمر والهملختات؟ والمثلث هذا من المصر ومن الصعيد الأرز والصوف والتمور والخل والزبيب ومن تنيس لا دمياط الثياب الملونة ومن دمياط القصب ومن الفيوم الأرز وكتان دون ومن بوصير قريدس الكتان الرفيع ومن الفرما الحيتان ومن مدنها القفاف والحبال من الليف في غابة الجودة ولهم القباطي والأرز والخيش والقباداني والحصر والحبوب والجلبان ودهن الفجل والزنبق وغير ذلك. الخصائص. ولا نظير لأقلامهم وزواجهم ورخامهم وخلهم وصوفهم وخيشهم وبزهم وكتانهم وجلودهم وحذوهم وهملختاتهم وليفهم ووزنهم وموزهم وشمعهم وقندهم ودقهم وصبغهم وريشهم وغزلهم وأشنانهم وهريستهم ونيدتهم وحمصهم وترمسهم وقطرهم وقلفاسهم وحصرهم وحمرهم وبقرهم وحزمهم ومزارعهم ونهرهم وتعبدهم وحسن نغمتهم وعمارة جامعهم وحالومهم وحيسهم وحيتانهم ومعايشهم وتجارتهم وصدقاتهم كل ذلك في غاية الجودة. وقد اجتمع بها من خصائص فلسطين القلقاس وهو شيء عَلَى قدر الفجل المدور عليه قشر وفيه حدة يقلى بالزيت ويطوح في الشكباج والموز وهو عَلَى مقدار الخيار عليه مزود رقيق يقشر عنه ثم يؤكل له حلاوة وعفوصة والجميز وهو أصغر من التين له ذنب طويل والترمس وهو عَلَى قدر الظفر يابس مر يحلى ويملح والنبق وهو عَلَى قدر الزعرور فيه نواة كبيرة حلوة وهو ثمرة شجر السدر ويزيدون عليهم بالنيدة وهي السمنوا غير أن

عجيب الصنعة يبسط عَلَى القصب حتى يجف وينعلك دهن البلسان من نبت ثم. والنقود القديمة المثقال والدرهم ولهم المزبقة خمسون بدينار ويكثرون التعامل بالرضي وقد غير الفاطمي النقود إلا هاذين وأبطل القطع والمثاقيل. والمكاييل الويبة وهي خمسة عشر منا والأردب ست ويبات والثليس ثمانٍ وهي بطالة والرسوم بجوامع هذا الإقليم إذا سلم الإمام كل يوم صلاة الغداة وضع بين يديه مصحفاً يقرأ فيه جزءاً ويجتمع الناس عليه كما يجتمع عَلَى المذكرين ولهم آذان ينفردون به عَلَى طريق النياحة ثلث الليل الأخير وله قصة يأثرونها بين العشائين جامعهم مغتص بحلف الفقهاء دائمة القراء وأهل الأدب والحكمة ودخلتها مع جماعة من المقادسة فربما جلسنا نتحدث فنسمع النداء من الوجهين دروراً وجوهكم إلى المجلس فننظر فإذا نحن بين مجلسين عَلَى هذا جميع المساجد وعددته فيه مائة وعشرة مجلس فإذا صلوا العشاء أقام البعض إلى ثلث وأكثر سوقهم إذا رجعوا من الجامع ولا ترى أجل من مجالس القراء به وبه مجلس للمتلعبين ولهم إجراء ويضربون عَلَى جوامعهم شراعات وقت الخطبة مثل البصرة ويخلو أسواقهم أيام الجمع. قال ما يلبسون ثوباً غسيلاً أو نعلاً قد امتعطت ولا يكثرون أكل اللحم ويكثرون الإشارة في الصلاة والنخع والمخاط في المساجد ويجعلونه تحت الحصر ويخبزون في الرساتيق وقت البيادر ما يكفيهم إلى عام قابل ثم ييبسونه ويخبئونه ولهم باذهنجات مثل أهل الشام تحمل وترو وتملق يمينهم الكبرى ورأس الله والصغرى وحق عَلَى يحبون رؤوس الأسماك ويقال أنهم إذا رأوا شامياً قد اشترى سمكاً اتبعوه فإذا رمى رؤوسها أخذوها يكثرون أكل الدلينس أقذر شيء حيوان بين زلفتين صغيرتين يفلقان ويحسى مثال المخاط. ومن عيوبهم ضعف قلوبهم وقلة ثمارهم وأهل الشام أبداً يعيبونهم ويسخرون منهم ويقولون مطر أهل مصر الندى وطيرهم الحدا وكلامهم سيدي رخو مثل النسا أعزل الله مالك كذا أكلهم الدلنيس ونقلهم الحمص وجبنهم الحالوم وحلواهم النيد وقطائعهم الخازير ويمينهم كفر. وأما النيل فلم أذق ولا سمعت أن في جميع الدنيا ماء أحلى منه الأنهر المنصورة وزيادته من شهر بؤنة إلى شهر توت وقت عيد الصليب ولهما سدان أحدهما بعين شمس ترعة تسد بالحلفاء والتراب قبل زيادته فإن أقبل الماء رده السد وعلا الماء عَلَى الجرف أعلى القصبة

فيسقي تلك الضياع مثل بهتيث والمنيتين وشبرو ودمنهور وهو سد خليج أمير المؤمنين فإذا كان يوم عيد الصليب وقت انتهاء حلاوة العنب خرج السلطان إلى عين شمس فأمر بفتح هذه الترعة وقد سد أهل الجرف أفواً أنهارهم حتى لا يخرج الماء منها وجعلوا عليها الحراس فينحدر الماء إلى ضياع الريف كلها والترعة الأخرى أسفل من هذه وأعظم غير أن السلطان لا يحضرها ويبين بفتحها النقصان في النيل وهي بسردوس والمقياس بركة وسطها عمود كويل فيه علامات الأذرع والأصابع وعليه وكيل وأبواب محكمة يرفع إلى السلطان في كل يوم مقدار ما زاد ثم ينادي المنادي زاد الله اليوم في النيل المبارك كذا وكذا وكانت زيادته عام الأول في هذا اليوم كذا وكذا وعلى الله التمام ولا ينادى عليه إلا بعد أن يبلغ اثني عشر ذراعاً إلا ما يرفع إلى السلطان حسب والاثنا عشر ما يعم ضياع الريف فإذا بلغ أربعة عشر ذراعاً سقى أسفل الإقليم فإذا بلغ ستة عشرة استبشر الناس وكانت سنة مقبلة فإن جازوها كان الخصب وسعة فإذا نضب الماء أخذوا في الحرث والبذر وفي أيام زيادته تتبحر مصر حتى لا يمكن الذهاب من هذه الضيعة إلى الأخرى إلا في الزواريق في بعض المواضع. الفسطاط جبل فيه معدن الذهب ولهم معادن زاج الحبر لا ترى مثله وطين يسمى الطفل وفي المقطم مقاطع حجارة بيض حسنة تنشر كما ينشر الخشب. ثم ذكر مشاكل مصر مع الاحتراز من الخرافات الشائعة بشأنها في الجملة قال وعلى صيحة من الفسطاط موضع يسمى قرافة فيه مسجد وسقايات حسنة وخلق من العباد وموضع خلوة وسوق لطلاب الآخرة وجامع حسن ومقابرهم في غاية الحسن والعمارة ترى البلد غبراء والمقابر بيضا ممتدة عَلَى طول المصر فيها قبر الشافعي وذكر بعض عجائب مصر مثل هرمي الجيزة وقال إنها مقابر ألا ترى إلى ملكوك الديلم بالري كيف اتخذوا عَلَى قبورهم قباباً عالية وأحكموا جهدزهم وعلوها طاقتهم كيلا تندرس وذكر منارتي عين شمس أو مسلتيها ومغائر حلوان وبرابي الصعيد ومنارة الإسكندرية وعدد الشهور القبطية وقال أن طول مصر من بحر الروم إلى النوبة أقل من شهر وعرضه من الجنوبي ثمان مراحل ومن الشمالي اثنتا عشرة وللدخلة فيه عند بحر القلزم أربع مراحل أما الولايات فللفاطمي وهم في عدل وأمن لأنه سلطان قوي غني والرعية في راحة ومن ثم سياسة ونفاذ أمر وكل سامع مطيع من

الأركان سراً وعلانية لا يخطب إلا لأمير المؤمنين حسب. ثم ذكر خراج مصر نقلاً عن قدامة ابن جعفر وابن الفقيه إلى أن قال: وسألت بعض المصريين ببخارى عن الخراج فقال ليس عَلَى مصر خراج ولكن يعمد الفلاح إلى الأرض فيأخذها من السلطان ويزرعها فإذا حصد الناس ودرس وجمع وشمت بالعرام وتركت ثم يخرج الخازن وأمين السلطان فيقطع كرى الأرض ويعطى ما بقي للفلاح قال وفيهم من يأخذ من السلطان تقوية فيزاد عليه في كرى الأرض بمقدار ما اقتطعه قلت فلا يكون لأحد ثم ملك وضيعة قال لا اللهم إلا أن يكون رجل اشترى ممن أقطعه السلطان في القديم ووهبها فاحتاج هو أو ذريته إلى ثمنها فباعها لعامة الناس. وقال: وأما الضرائب فثقيلة وخاصة تنيس ودمياط وعلى ساحل النيل وأما الثياب الشطوبة فلا يمكن القبطي أن يتسبح (لعله يتشح) شيئاً منها إلا بعدما يختم عليها بختم السلطان ولا أن تباع إلا عَلَى يد سماسرة قد عقدت عليهم وصاحب السلطان يثبت ما يباع في جريدته ثم تحمل من بطونها ثم إلى من يشدها بالقش ثم إلى منإذايشدها في السفط وإلى من يحزمها وكل واحد منهم له رسم يأخذه ثم عَلَى باب الفرضة يؤخذ أيضاً شيء وكل واحد يكتب عَلَى السفط علامته ثم نفتش المراكب عند إقلاعها ويؤخذ بتنيس عَلَى زق الزيت دينا ومثل هذا وأشباهه ثم عَلَى شط النيل بالفسطاط ضرائب فقال رأيت بساحل تنيس ضرائبياً جالساً قيل قبالة هذا الموضع في كل يوم ألف دينار ومثله عدة عَلَى ساحل البحر وبالصعيد وساحل الإسكندرية وبالإسكندرية أيضاً عَلَى مراكب الغرب وبالفرما عَلَى مراكب الشام ويؤخذ بالقلزم عَلَى كل حمل درهم. وهنا ذكر المسافات بين الأقاليم بحساب المراحل وكل ذلك مشبع بالفوائد العمرانية التي لا تكاد تراها في الكتب الأخرى الملة بذكر البلاد الإسلامية ولا بأس بأن نختم هذا الفصل بنموذج آخر من كتاب المقدسي في ذكر مملكة الإسلام قال: اعلم أن مملكة الإسلام حرسها الله تعالى ليست بمستوية فيمكن أن توصف بتربيع أو طول وعرض وإنما هي متشعبة يعرف ذلك من تأمل مطالع الشمس ومغاربها ودوخ البلدان وعرف الممالك ومسح الأقاليم بالفراسخ وسنجتهد في تقريب الوصف وتصويره لذوي العقول والإفهام إن شاء الله تعالى الشمس تغرب في حافة بلد المغرب ويرونها تنزل في

البحر المحيط وكذلك أهل الشام يرونها تنزل إلى بحر الروم وإقليم مصر يأخذ من البحر الرومي طولاً إلى بلد النوبة ويقع بين بحر القلزم وتخوم المغرب ويمتد المغرب من تخوم مصر إلى البحر المحيط مثل الشريطة يضغطه من قبل الشمال بحر الروم ومن قبل الجنوب بلدان السودان ويمد إقليم الشام من تخوم مصر نحو الشمال إلى بلد الروم فيقع بين بحر الروم وبادية العرب وتتصل البادية وبعض الشام بجزيرة العرب ويدور عَلَى الجزيرة بحر الصين إلى عبادان من أرض مصر ويتصل أرض العراق بالبادية وبعض الجزيرة ويتصل بتخوم العراق الشمالية إقليم أقور فيمتد إلى بلد الروم وقد تقوس عليه الفرات من نحو الغرب ووقع خلف الفرات بقية البادية وطرف من الشام فهذه أقاليم العرب ووقعت خوزستان والحبال عَلَى تخوم العراق الشرقية وطائفة من الجبال وإقليم الرحاب عَلَى تخوم أقور الشرقية ووقعت فارس وكرمان والسند خلف خوزستان عَلَى صف واحد البحر جنوبيها والمفازة وخراسان شماليها وتاخمت السند وخراسان من جهة الشرق بلدان الكفر وتاخمت الرحاب بلد الروم من قبل الغرب والشمال ووقع إقليم الديلم بين الرحاب والجبال والمفازة وخراسان فهذه مملكة الإسلام فتدبرها وفيها تقتل وتعرج لمن شقها من شرقها إلى غربها ألا ترى أنك إذا أخذت من البحر المحيط إلى مصر كنت عَلَى الاستواء ثم تميل يسيراً إلى العراق ثم تنفتل في أقاليم الأعاجم وخراسان مائلة إلى جهة الشمال أولا ترى أن الشمس تطلع عن يمين بخارا من نحو إسبيجاب. وأما مساحتها عَلَى الوصف الذي شرحناه فإنك تأخذ من البحر المحيط إلى القيروان مائة وعشرين مرحلة ثم إلى النيل ستين مرحلة ثم إلى دجلة ستين مرحلة ثم إلى جيحون ستين مرحلة ثم إلى ثونكت خمسة عشر يوماً ثم إلى طراز خمسة عشر يوماً وإن عطفت إلى فرغانة فمن جبحون إلى أوزكنت ثلاثون مرحلة وإن عطفت إلى كاشخر فأربعين مرحلة. ووجه آخر تأخذ من سواحل اليمن إلى البصرة خمسين يوماً ثم إلى أصفهان مائة فرسخ ثمانية وثلاثين ثم إلى نيسابور ثلاثين مرحلة ثم إلى جيحون عشرين مرحلة ثم إلى طراز ثلاثين مرحلة وهذا عَلَى الاستواء ويسقط إقليم مصر والغرب والشام. وأما العرض فمختلف جداً لأن إقليم المغرب قليل العرض وكذلك مصر ثم إذا حاذيت الشام اتسعت المملكة ثم لا تزال تتسع حتى تصير وراء جيحون إلى بلد السند نحو ثلاثة أشهر وأما أبو

زيد فجعل العرض من ملطية ماراً عَلَى الجزيرة والعراق وفارس وكرمان إلى أرض المنصورة ولم يذكر المراحل إلا أنها تكون نحو أربعة أشهر غير عشرة أيام والذي ذكرنا أبين وأتقن فمن أقصى المشرق بكاشخر إلى السوس الأقصى نحو عشرة أشهر. قدر للخليفة سنة 232 ما يرتفع من الخراج والصدقات سوى الحماميات والجبايات من جميع المملكة فبلغ ألفي ألف وثلاثمائة ألف وعشرين ألفاً ومائتين وأربعة وستين ديناراً ونصفاً قال وحسب خراج الروم للمعتصم فبلغ خمسمائة قنطار وكذا قنطار فإذا به أقل من ثلاثة آلاف ألف دينا فكتب إلى ملك الروم أن أخس ناحية عليها أخس عبيدي خراجها أكثر من خراج أرضك. وطول المملكة عَلَى ما قدمناه ألف وستمائة فرسخ كل مائة فرسخ ألف ألف ومائتا ألف ذراع فالفرسخ اثنا عشر ألف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست حبات شعير مصفوفة طولا بعضعها إلى بعض الميل وثلث الفرسخ وفي البريد خلاف بالبادية والعراق اثنا عشر ميلاً وبالشام وخراسان ستة ألا ترى كيف بنى بخراسان عَلَى كل فرسخين رباط ورتب فيه أصحاب البريد فبهذا نأخذ اهـ. ولا يسع المنصف بعهد تلاوة هذه النموذجات من المصنف العلامة إلا أن يحبذ العلماء العرب فيما دنوه بحسب ما انتهى إليه ارتقاء العلم في عصورهم وإذا وقع لهم ما يؤخذ اليوم عليهم وهو قليل جداً بحسب ما أدانا إليه البحث والتنقيب فإن هذا لا يقدح في أسفارهم ولا يحول بيننا وبين إحيائها وتدارسها عَلَى علاتها خلافاً لما يتبجح به المنطعتون من المتفرنجين منا ممن لم يسعدهم الحظ أن يدرسوا كتاباً عربياً وغاية علمهم أنهم قرأوا مبادئ العلوم باللغات الإفرنجية وجمدوا عليها جمود بعض الفقهاء عَلَى ما قاله المتأخرون منهم وترك الرجوع إلى الأصل الصحيح من كتب السنة بدعوى أن المتأخرين جرروا كل شيء فلم يبق بنا حاجة إلى الأخذ عمن قبلهم.

اللغة الانتقادية

اللغة الانتقادية رأينا في اللغة مجلد شاذ الطرفين قديم الخط والورق صغير الحجم والقطع غير أن أسلوبه وصحة عبارته ورصفها تقتضي قدم تأليفه كما أن ترسل المؤلف ووفور مادته وسعة اطلاعه حتى إنا لم نعثر فيما قرأنا منه عَلَى نقل أو تعويل إلا نادراً توجب أن يكون أحد أئمة اللسان ولعل أديباً من صرعى الكتب والآثار يطلع عَلَى ما ننشره منه فيطلعنا عَلَى مصنف الكتاب وعلى حقيقة الكتاب. هذا وفي الموجود من أول المجلد كلام عَلَى المترادفات ثم أبواب في مباحث لغوية مفيدة مرتبة عَلَى زنات الأسماء والأفعال وفيه فصول مختلفة ممتعة والذي يهمنا مباحثه الانتقادية فقد جاء فيها ما نصه. باب ما هو مكسور الأول مما فتحته العامة أو ضمته مما فتحته الصنارة والجنازة والرطل للمكيال والجص والرخو والأثمد وضربت علاوته أي رأسه وأيضاً ما علق عَلَى البعير والجمع العلاوى وعلاوة الربح وسفالتها بالضم واستعمل فلان عَلَى الشام وما أخذ أخذه وأخذت بأخذنا أي بخلائفنا والجراب والإهليلجة واللثة وفلان ينزل العلو والسفل والطنفسة والدهليز وشاعرت المرأة نمت معها في شعار وشعار القوم في الحرب والترياق والدرياق والسواك والوشاح والديوان والديباج وجمام القدح وأما الجمام (بالضم) ففي الدقيق ونحوه وفصح النصارى إذا أفطروا وأكلوا اللحم والمرفق مرفق اليد وما يرتفق به وأنفخة الجدي وقيل منفخة وأنت عَلَى رياس أمرك ورياس السيف مقمضة والعامة تقول رأس أمرك. ومما تقوله العامة بالضم صوان الثوب لما يصان به ودابة بها قماص وتمر شهرين وكسرى ومما الفتح فيه لغة الرطل للمكيال والمسترخي من الرجال والبزر ويوم الأربعاء وأما جرو الكلب والإصبع فبالكسر والضم والفتح. باب ما يتكلم فيه بالصاد مما تتكلم العامة فيه بالسين وبالعكس نبيذ أو لبن قارص يقرص اللسان ويوم قارس والبرد قارس وسمك قريس وليلة ذات قرس ولا تقل بالصاد. بخصت عينه وبخست حقه وبصق بصاقة وبزق ولا تقل بسق وبسق النخل طال وبسق

فلان في علمه علا ويقال + + + يتألق (بصاقة القمر) فص الشاة والفس تتبع النمائم وقد أفرصك الأمر وأصل الفرصة أن يتفارص القوم الماء القليل فيكون لهذا نوبة فيقال جاءت فرصتك أي وقت استقائك قمرة قهره وقصره حبسه وامرأة قصيرة مقصورة أي محبوسة دابة شموس أي بينة الشماس عند الإسراج أو المشي والصندوق وصنجة الميزان ولا تقل سنجة والرساغ حبل يشد في رشغ البعير يمنعه من الانبعاث والصماخ ولا تقل السماخ وأصاخ إلى الشيء استمع وتقصصت أثره وتقسست صوته بالليل وأخذه حصر احتبس بطنه وأسر احتبس بوله. باب ما يغلط فيه العامة فيتكلم بالياء وإنما هو بالواو جفوت الرجل فهو مجفو ولا تقل جفيته وأما قول الشاعر فليس بالجافي ولا المجافي. فمبني عَلَى جفى جنوت عليه وحنيت امرأة حانية أقامت عَلَى وادها فلم تتزوج وحنيت العود والظهر وحنوتهما هجوته فهو مهجو ولا تقل هجيته فلوت المهر وافتليته فصلته عن أمه غذوته غذاء حسناً عروته أتيته فهو معرو وعزوته إلى أبيه نسبته وعزيته لغة واعتزيت إلى أبي وقروت الأرض قروا نبتعتها وقريت الضيف أقريه قرى وقرا غلوت في القول غلواً وغليت عليه من شدة الغيظ أغلى غلياً وغلياناً وخلوت به أخلو خلوة وخليت دابتي خلياً جزرت لها الخلى وهو الأخضر أو الرطب من النبات يقال أخلت الأرض أي كثر خلاها والواحدة خلاة. عنوت أي خضعت وعنوت من بني فلان صرت فيهم عانيا أي أسيراً وعنت الأرض بالنبات تعنو عنواً ظهر نبتها وأعناه المطر وعنيت فلاناً بكلامي حزا السراب الشخص يحزوه حزواً رفعه وحزى فلان الشيء يحزيه حزياً خرصه وتقول كم تحزى هذا النحل عتوت يا فلان تعتوا عتواً ولا تقل عتيت وجلوت الصفر وجلوت عن البلد أجلو جلاء وعفوت عنه عفواً وبينهما بون بعيد أي تفاوت وما أحوله إذا كان محتالاً وقد تحول أي احتال ورجل حول ما أحيله لغة وهي الحول والحيل. أبوت الرجل أبوه صرت له أباً وماله أب يأبوه وأبيت الشيء أباه أباء وسروت الثوب عني أسروه سروا وسريت الليل وأسريت.

ما جاء عَلَى فعلت مما تكسره العامة أو تضمه عسيت ودمعت عيني وعطس وشعل وسبح ولمح ونكل وكللت من الإعياء وكفل به وجهد ووجد وعتب وحرص ولعب سال لعابه ونحل جسمه ونحلت فلاناً أعطيته ونحلت القول نحلةً ولغب وغثث نفسه وغثا السيل وغلت القدر وولغ الكلب ولهث من الإعياء وذوى العول وذبل وجمد الماء وخمدت النار تخمد وعمد وقصد وعجر عن الأمر وعجزت المرأة كبرت عجيزتها وعجزت (مضعفاً) صارت عجوزاً وهدت النار وهمد الثوب بلى وغوى الرجل جهل وغوى الفصيل لم يرتو من لبان أمه ثم لا يروى من اللبن حتى يموت هزالاً وأما زعف وصلح وفسد فالضم في ثلثتها لغة. باب من يتكلم فيه فعلت مما تغلط فيه فتقول أفعلت نعشت الرجل رفعته ومنه نعش الميت ونجع في الرجل الدواء وفي الدابة العلف ونبذت النبيذ والشيء من يدي وشغلته وسعرهم شراً وجملت الشحم واجتملته أذبته وهزلت دابتي وفي المنطق هزلاً ووقفته عَلَى كذا وذابتي وبشيء عَلَى ولدي وجنبت الريح وشملت ودبرت وأجنبنا وأشملنا وأدبرنا ودخلنا وجنبنا وشملنا أصابتنا وبرق ورعد الشماء والرجل يتهدد وحكى أرعد وعدته خيراً وشراً فإن اسقطوا الخير والشر قيل في الشر أوعدته وكذلك إذا ذكروا الباء معه قالوا وعدته بشر وكبه الله لوجهه وعلف الدابة أو رسنتها وخششت البعير وعظت فلاناً وحميت المريض. باب ما يتكلم فيه بأفعلت مما تتكلم العامة فيه بفعلت أديته أعنته واستأديت الأمير عليه أنبته أعطيته وأنبته قصدته أبدرنا طلع علينا البدر وبدرنا إلى كذا أبريت الناقة جعلت لها براً وبريتها حسرتها وأبسست للغنم بالماء وبالإبل للحلب صوت بها وناقة بسوس تدر بالإبساس وبس السويق لته بالسمن بشرت الأرض عند نبتها وما أحسن بشرتها وبشرت الأديم قشرت باطنه أبعته أعرضته للبيع وبعته من فلان أبغيته أعنته عَلَى الطلب وبغيته طلبته أبقل الرمث فهو باقل وبقل وجهه خرج شعره وناب البعير طلع أترب استغنى وترب افتقر أتلد في أرض كذا أقام وتلد قدم اتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم واتبعتهم وتبعتهم مروا بك فمضيت معهم أثرى بنوا فلان كثر مالهم والأرض كثر ثراها وثرى بثرى فرح وثروناهم كثرناهم أثللت كذا أصلحته وثللت البيت

أهدمته ومنه ثل عرشه أي ذهب عزه أجبرته عَلَى الأمر أكرهته وجبرت الفقير أعطيته والعظ فجبر أي انجبر أحد قل خيره وجحد أنكر أجرب فلان جربت إبله جرباً أجررت الفصيل شققت لسانه بخلال يمنعه عن الرضاع وفلاناً الرمح طعنته فتركته فيه يجره والفرس رسنه وجر الحبل وجريره جناية أجز النخل حان أن يجز وجززت النعجة والكبش وحلقت التيس والعنز ولا يقال فيها جززت أجم الأمر وجم الماء جموماً اجتمع في البئر والفرس جماماً ترك أياماً من الركوب وأجرم جريمةً جنى جناية وجرم الصوف جزه والنخل صرمه ونخل جريم أجززت القوم أعطيتهم وجزرة يذبحونها أي شاة سمينة والجمع جزر وجزرت الجزور نحرتها وجزر الماء قل أجلب قتبه جعل عليه جلدة رطبة ثم تركها حتى يبس وجلب عَلَى فرسه جلباً صاح أجمع أمره عزم عليه وجمعت الشيء جمعاً وجمعت المرأة لبست الخمار والدرع والملحفة ما أجمل الحساب وفي صنيعه إجمالاً وجمل الشحم واجتمله أذابه والجميل المذاب منه أجنى الثمر أدرك وجنيته جناً أجبته بكذا إجابةً وجابة وجبت الصخرة خرقتها أحددت السكين وحددت حده عضبّت وحدت المرأة وأحدت تركت الزينة أحبر جلده ترك حباراً وحبراً ترك أثراً وحبره سره والحبرة والحبر السرور احتبست فرسي في سبيل الله وأحبسته فهو محتبس وحبست فلاناً في الحبس أحجل بعيره أطلق يده اليمنى وقيد اليسرى وحجل الغراب أحجم عن الأمر كف وحجم الحاجم فلاناً والصبي ثدى أمه وفلان جمله جعل له حجاماً لئلا يعض وبعير محجوم أحذيته أعطيته وحذوته جلست بحذائه وحذوت النعل بالنعل وحذت الشفرة يد قطعتها والنبيذ يحذي اللسان أحسبته أكثرت له حتى قال حسب وحسبت الحساب حساباً وحسباناً وحسبة أحمدته وجدته محموداً أحصره منعه من سير أو حاجة وحصره العدو ضيق عليه والحصير المحتبس ورجل حصير وحصور لا يخرج من ثمن الشراب ما يخرجه أصحابه. أحميت المسمار وحميت المكان أحمات البئر ألقيت فيها الحماة وحماتها نزعت منها الحماة وأحال حالت إبله فهي حيال والماء صبه وبالدين عَلَى فلان وحال انقلب عَلَى العهد والقوس انقلبت عن العطف والحول يقال فيه حال وأحال أخطبك الصيد أي أمكنك أخطب الحنظل صار خطباناً وذلك إذا صار فيه خطوط خضر وخطب في النكاح خطبة وعلى المنابر خطبة أخنق فلان لم يغنم والنجم تولى للمغيب وخفق الطائر بجناحه خفقاً والريح خفقاناً وخفقه

بالسيف وأخفقه ضربه أخلفت النجوم إذا لم يكن فيها مطر والرجل في ميعاده واخلف الله عليك يقال لمن ذهب ماله وخلف الله عليك فيمن مات له ميت وخلف فلان فلاناً صار له خليفة وجاء بعده وفوه خلوفاً تغير والشيء فسد أخليت المكان أصبته خالياً خالياً اخلد بالمكان أقام به ورجل مخلد أسن ولم يشب وخلد خلوداً بقى أدلجت سرت ليلاً وهي الدلج وأدلجت سرت من آخره أذممته صادفته مذموماً وذممته عبته أذال فرسه أو غلامه استهان بها وذال يذيل تبخر أرم القوم سكتوا والعظام صار فيها رم أي مخ وقد رمت عظامه أي بليت وفلان شاته والغنم نباته أكلته أربع ولد له في شبابه وأربع وربع حم ربعاً وربع الحبل فتلته عَلَى أربع قوى أرجع أهوى بيده إلى خلفه ليتناول شيئاً أرمل فلان نفذ زاده وأرمل الحصير ورمله نسجه ورمل بين الصفا والمروة رملاناً أرمى عَلَى السبعين وأربى وأرماه عَلَى ظهر دابته وأذراه ورمى الرقبة ارهن في كذا أسلف ورهن الرهن ولا يقال أرهن الرهن وأما قول الشاعر: فلما حسبت أظافيره ... نجوت أرهنهم مالكاً فمن روى وأرهنهم مخطئ أزبد الماء وزبده أعطاه وأطعمه الزيد أزهر النبت ظهر زهره وأزريت به قصرت وزريت ليه عبته أسفر أشرق وسفر بيته كنسه والريح السحاب وفلان بين القوم سفارة صار رسولاً فيهم والمرأة نقابها كشفته والسفير ما نحات من ورق الشجر فتكنسه الريح وأسررت الشيء كتمته وأعلنته وسررت الصبي قطعت سره والسرة التي تبقى أساف الرجل هلك ماله وهاف المال يسوف هلك ورماه بالسواف قال الأصمعي هو السواف بالضم كالقلاب والبخار وسافه سوفاً شمه اسمك الثوب خلق وسمك عينه فقاها أسد قال السداد. النجف (العراق) محمد رضا الشبيبي (الباقي للآتي).

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد الشهير بابن رشد الحفيد المتوفى سنة 595 طبع بالمطبعة الجمالية بمصر. كلما بحث الباحثون في تركة السلف الصالح يعثرون عَلَى أسفار ممتعة تدل عَلَى علو كعب القوم في التفنن في التأليف ولاسيما ما خدم الشريعة واللغة والأدب منه. وهذا الكتاب الذي طبعه محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وشركاؤه نقلاً عن النسخة المولوية المخطوطة بخزانة كتب أحمد بك تيمور هي إحدى تلك الحسنات ادخرتها الأيام في القماطر لتخرج للناس في هذا العصر الحاضر والكتاب في مجلدين أجيد طبعه وشكله فجاء تاماً كأكثر مطبوعات الخانجي الكتبي وقد أثبت فيه المؤلف من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها والتنبيه عَلَى نكت الخلاف فيما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد عَلَى المسائل المنطوق عنها في الشرع وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق به تعلقاً قريباً وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد وقبل ذلك فنثني عَلَى طابعه وبحث المشتغلين بالفقه والقانون عَلَى اقتناء هذا الكتاب البديع بأسلوبه وموضوعه. الأدب الصغير لابن المقفع نشره أحمد زكي باشا بمطبعة العروة الوثقى الإسلامية بالإسكندرية (1329 - 1911 ص78). نشر أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري في السنة الثالثة من المقتبس كتاب الأدب الصغير لابن المقفع نقلاً عن مخطوط عثر عليه عند أحد أعيان بعلبك ثم ضممناه إلى رسائل البلغاء التي نشرناها تحمل في مطاويها جميع ما عرف لعبد الله بن المقفع ولعبد الحميد الكاتب من الرسائل والشذرات وها قد نشر صديقنا زكي باشا هذه الرسالة مرة ثانية نقلاً عن مخطوط ظفر به في إحدى مكاتب الآستانة وقدم لها مقدمة في الأخلاق وأشار عَلَى عادة ثقات

العلماء الأمناء إلى مصدر رسالته وأنه استعان بما نشره الشيخ الجزائري في المقتبس وعلق شروحاً لغوية عَلَى المتن بطبع مشرق للغاية وورق جيد بحيث جاء قرار نظارة المعارف العمومية بمصر بشأن تدريس هذا الكتاب في جميع مدارسها الابتدائية أحسن دليل عَلَى مساعدة حكومة مصر للآداب واختيار النافع من المطبوعات لإنهاضها من كبوتها فللناشر الثنية عَلَى همته العالية. حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن لمنشئه محمد بك المواليحي طبعة ثانية عَلَى نفقة الشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي بمصر (سنة 1330 ص463). منشئ هذا الكتاب من كتاب الدرجة الأولى في مصر بل في البلاد العربية كان نشر مقالات متتابعة في مجلة مصباح الشرق خيالية في الظاهر وحقيقية في الباطن وصف فيها حال مصر في أخلاقها وعاداتها ثم جمعها في كتاب أعيدت طلعته الأولى قال فيه ما أبعد فهذا الحديث حديث عيسى بن هشام وإن كان في نفسه موضوعاً عَلَى نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال لأنه خيال مسبوك في قالب حقيقة حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم وأن نصف ما عليه الناس في مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعين اجتنابها والفضائل التي يجب التزامها وقد وفى الكتاب بهذا الغرض ومن كل وجه فمثل حياة مصر الاجتماعية ولاسيما أهل السرف والترف من بنيها وربما بالغ في الأحايين في ذلك التأثير في قلب القارئ بقوة البلاغة التي كثيراً ما يعمد عَلَى التسجيع في إبرازها ولكنه سجع لا أثر للتكلف فيه عَلَى الجملة يدل عَلَى علو كعب المؤلف في الأدب ومبالغته في التنميق والتنسيق. وقد رأينا بعض ألفاظ لا تلتئم مع تلك الدرر والغرر منها. في ص33 يرتكن عَلَى توقد ذهنه و112 ارتكانا عَلَى نهر صومه و157 كنا نرتكن عليه ص57 فلا يأبهون بها و200 كنت آبه بها ص64 المقاطعة عَلَى الشاهد 68 امتثلت لنصائحك ص73 امتلأ الباشا تعجباً واندهاشاً ص79 كان يضرب بغنائي (غناي) المثل ص87 سيما الرضاء بالمقسوم ص190 أخذت هذه الحانوت ص115 لا يثقون ببعضهم بعضاً. وفيها تحرير الأوراق وتسطير الصكوك و136 حرر طلباً ص125 تحصلت عليها بطرق مختلفة. يتحرى عن مسألة 137 صعد ثانياً إلى السلم فوجدناه مزدحمة بجملة أناس

186 سبب الهلاك والنجاء (النجاة) 262 أسرعت بالخروج أطلب النجاء 188 احتذاءٍ لما ترسمه ظروف الأحوال 202 وهو بالسن الذي لم يصل فيه بعد إلى التمام 208 لكنما الأضمن عندي 120 وهؤلاء المتمشدقون 244 لا يؤثر عليهم 322 فأحصى ما فيه عدا 379 رأس متصدعة 396 نستفيد من واسع علمه أموراً شتى مسافة من الزمن 407 يعد طول التنقل والتطور مثل هذه الأهرام وخلافها 428 وعدنا إلى المدينة وقد مد من الغروب حبالته ليقتنص من الأصيل غزالته فتفرقت نفسها شعاعاً 444 طلب مني أن نحيي الليلة بالسمر وأن قلتها معه بالسهر الخ. ومن هذه الألفاظ والتراكيب ما هو بعيد عن مناحي الفصحاء دخيل في اللغة أو ضعيف في التركيب ولفظه في غير موضعه ولعل المؤلف الفاضل يعيد نظره في هذه النقدات فإن منها ما هو من لغة الجرائد ومنها ما هو من اللغة العامية المصرية ولعله لا يضن عَلَى الآداب بنفاثته بعد اليوم فهو من أعظم الناعين عَلَى الموظفين فعسى أن لا تشغله الوظائف عن معاناة الكتابة لإنارة الأفكار كما شغلت غيره ممن ابتلوا مؤخراً في مصر بالتوظيف فطلقوا الأقلام طلاقاً بتاتاً. مجموعة أعمال المؤتمر المصري طبع بالمطبعة الميرية بمصر سنة 1912. عقد بعض أقباط مصر مؤتمراً في السنة الماضية طلبوا فيه إلى الحكومة المصرية والإنكليزية بعض مطالب سياسية واجتماعية منها أن تعطل الحكومة يوم الأحد بدلاً من الجمعة أو مع الجمعة ومنها يمكن بعض أبنائهم تولي بعض الوظائف الكبرى كالمديرين (الولاة) اسوة بالمسلمين إلى غير ذلك من المطالب فهب مسلمو مصر عَلَى الأثر وعقدوا في مصر الجديد من ضواحي القاهرة مؤتمراً عاماً من كبار أرباب العقول والمفكرين والأعيان في القطر دام من يوم السبت 30 ربيع الثاني 1329 إلى يوم الأربعاء 5 جمادى الأولى 1329 تليت فيه خطب عديدة ومطالب في الإصلاح رشيدة فجاء ما قالوه نسخة صحيحة تتمثل فيها حالة مصر الفكرية وإن مصر عَلَى انحطاط في بعض شؤونها الاجتماعية هي أرقى بلاد الإسلام لا محالة. وكل من قرأ ما دار في ذاك المؤتمر من المطالب وبسط فيه من الآراء وفصل فيه من

الخطب البليغة المدهشة يوقن بأن خاصة المصريين لا يقلون خاصة الأوربيين ولكن قضي عَلَى الشرق أن يكون بأفراده مهماً قوياً وبمجموعه ضعيفاً ضئيلاً ومما راقنا من خطب المؤتمرين في الاقتصاد والاجتماع والإدارة خطبة محمود بك أبو النصر المحامي ومحمد حافظ بك رمضان المحامي وصالح بك حمدي حماد من الكتاب وإبراهيم بك غزالي من الأعيان وأحمد بك عبد اللطيف المحامي والشيخ عبد العزيز شاويش من الكتاب وإبراهيم بك الهلباوي المحامي والسيدة باحثة بالبادية من الأديبات ومحمد بك أبو شادي المحامي والسيد علي يوسف الصحافي (وقد تكلمنا عَلَى خطابه في السنة الماضية) وعلي بك الشمسي من الأعيان وإبراهيم بك رمزي من أرباب الصنائع وجبرائيل بك كحيل المحامي وعبد الستار بك الباسل من الأعيان وعبد الخالق بك مدكور من التجار. ويوسف بك نحاس الحقوقي وعمر بك لطفي المحامي وهاشم بك مهنا المحامي ومحمد بك علي المحامي وأحمد أفندي الألفي من أرباب الزراعة. وأنت ترى أن عدد المحامين أكثر من غيرهم ومعظمهم كانوا بمقترحاتهم وأقوالهم إلى أقصى ما يتصور من السداد مما دل عَلَى أن مصر غنية برجال القضاء فيها ولو تيسر أن يشارك في المؤتمر موظفي الحكومة المصرية لتليت فيه من الآراء السديدة أمور كثيرة غير ما سمعناه فأعجبنا فيه فإن فيهم رجالاً هم من خيرة المفكرين والعالمين ولكن كان للمؤتمر شبه صفة سياسية ورجال الإدارة والقضاءِ يمنعون في معظم الأمم من المشاركة في الأعمال السياسية الظاهرة. تنزيه القرآن عن المطاعن لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد المتوفى سنة 415. طبع بالمطبعة الجمالية عَلَى نفقة المكتبة الأزهرية لصاحبها الشيخ محمد سعيد الرافعي سنة 1329 ص436. مؤلف هذا الكتاب شيخ المعتزلة بل هو من أكبر مشايخهم الذين قال فيهم الحاكم وليس تحضرنني عبارة تحيط بقدر محله في العلم والفضل فإنه الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب. وكان الصاحب يقول فيه هو أفضل أهل الأرض ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض ومصنفاته كثيرة قيل أنها بلغت أربعمائة ألف ورقة في كل فن. وكتابه هذا أملاه في تفصيل ما بين المحكم والمتشابه

عرض فيه سور القرآن عَلَى ترتيبها وبين معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها. وهو لا يستغني عنه مولع بالبحث في الكتاب العزيز وأسراره. ويليه مقدمة التفسير لأبي القاسم الراغب الأصفهاني وناهيك بكل ما خطته أنامل هذا المؤلف الذي أجاد في كل ما كتب. والغالب أن الناشر اعتمد عَلَى نسخة دار الكتب الخديوية في طبع الكتاب الأول وعلى نسخة أحد العلماء في نشر مقدمة التفسير أو يا حبذا لو أشار في المقدمة إلى الأصل المطبوع عنه تتميماً للفائدة وليزيد شكر العلم الإسلامي له. الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري المتوفى سنة 281. لمصححه وضابط ألفاظه وناشره الشيخ محمد سعيد الرافعي. طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1330 ص383. طبع هذا الكتاب في ليدن من بلاد هولاندة وتداوله أهل العلم واستفادوا منه عَلَى ما فيه من الأخبار الواهية الضعيفة وقد أعاد طبعه صاحب المكتبة الأزهرية عاهداً إلى السيخ محمد الخضري من فضلاء المدرسين في هذه العاصمة أن يعلق عَلَى كل قطعة عنواناً لئلا يكون الكتاب جملة واحدةً وبذلك أصبح قريب المنال عَلَى أهل هذا الشرق ويا ليت الناشر أشار إلى النسخة التي أخذ عنها حرمة لعمل العاملين سواء كان اعتماده عَلَى نسخة مخطوطة أو مطبوعة لتزيد الثقة. الدولة والجماعة لأحمد شعيب بك ترجمة محب الدين أفندي الخطيب. طبع بمطبعة المؤيد بمصر 1330 - 1912 ص67. أحمد شعيب بك من علماءِ العثمانيين وكتابهم خلف كتباً ورسائل مهمة وكتب في مجلات الترك مقالات دلت عَلَى عقل واسع وتحقيق لا يستهان به وقد ترجم له محب الدين أفندي الخطيب أحد كتاب المؤيد هذه الرسالة البديعة التي قصد بها تنبيه قومه إلى سلوك محجة الصواب في نشأتهم الدستورية وتجنب الطفرة في تكييف نظام الحكومة وقدم لنا صديقنا رفيق بك العظم مقدمة أبانت عن غرض الرسالة والمت بذكر من ضرب العلوم الاجتماعية

بسهم وذكر المعرب ترجمة المؤلف وتأثيراته في إندابة الترك فله الثناء عَلَى نشاطه وعساه يوفق إلى ترجمة المفيد من أمثال هذا الكتاب. ديوان أبي الحسن نظم الشيخ محمد خير الطباع طبع بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1330 (ص98). جمع هذا الديوان أحمد أفندي عبيد في دمشق وفيه ما قاله الناظم في أوقات مختلفة وأغراض شتى وشرحه محمد سليم أفندي الحنفي وشعر الناظم بين شهر الفقهاء وشعر متوسطي الشعراء ولو طال عمره لجادت ملكته ولو اتسع الوقت لكل من يعانون القريض وتدبروا أساليب شعر القدماء والبارعين فيه من المحدثين أو لو كتب لأكثرهم لأن يطلعوا عَلَى ما نظمه شعراء الإفرنج بلغاتهم لما أقدم معظمهم عَلَى نشر شيءٍ من منظوماتهم فإن المديح والغزل والتشطير والتخميس من أعظم ما ابتليت به هذه اللغة ولاسيما في أيامها الأخيرة. والشعر لو أنصف الناس لما نشروا منه إلا أبلغه فإنه مما يطاق فيه التوسط مثل الموسيقى والخطابة والتصوير. ومن لم يرزق طبعاً سليماً في البيان منظومه أو منثوره فالأشبه به أن يمشي مع طبعه واستعداده وإلا بدت مقاتلة وقصر في خدمة أمته.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الكاثوليك في أميركا إذا كانت الكثلكة تتراجع في بعض الممالك الأوربية فإنها عَلَى تزايد في الولايات المتحدة وهي البلاد التي اتسع صدرها لكل مذهب ونحلة وطريقة. فقد بلغ عدد الكاثوليك فيها 15015569 نسمة هذه السنة وكانوا منذ عشرين سنة 10978757 وعدد رهبانهم هناك 17491 ولهم 12939 كنيسة و40 رئيس أساقفة وثلاثة كرادلة و83 مدرسة أكليركية فيها 6006 طلاب و229 مدرسة عالية للذكور و701 مدرسة للإناث و5119 معبد مدرسة فيها 1333786 تلميذ يتعلمون في المدارس التابعة وعندهم 47111 يتيماً يربون في ملاجئ اليتامى وبذلك بلغ عدد من يتعلمون التعليم الكاثوليكي في أمريكا الشمالية 1540049 تلميذاً وتلميذة فتأمل هذا التفاني في بث الدعوة الدينية في بلاد هي أعرق الأمم في حب المادة والماديات. عملة الهند خمسة عشر مليوناً من الشعب الهندي البالغ زهاء ثلثمائة مليون نسمة يعملون في المعامل والمناجم والتراموايات ويتنقلون في البلاد يبحثون عن عمل لهم لا يهمهم إلا أن يدخنوا ويشربوا ويأكلوا ولا يدخرون شيئاً لمستقبلهم بل يصرفون في المشروبات الروحية واللذائذ الجسمية ما يحصلونه ورزقهم قليل وإن العامل الإنكليزي ليعمل هناك ثلاثة أضعاف العامل الهندي وبالطبع تزيد عمالته أي أجرة عمله عَلَى تلك النسبة. خزانة كتب عجيبة افتتحت في نيويورك خزانة كتب من أدهش الخزائن وكانت ثلاث خزائن أولاً فجمعت في واحدة فيها أسباب الراحة للمطالعين بحيث تراهم في غرفها كأنهم في بيوتهم يخرجون الكتب اللازمة لهم بأيديهم ويعيدونها كذلك عَلَى صورة لا تحدث تشويشاً عَلَى سائر المطالعين. وهذه المكتبة تعير الكتب اللازمة إلى البيوت خاصة وفيها مطبعة لطبع الفهارس ومعامل للتجليد وأدوات لتوليد الكهربائية لإيقاد عشرين ألف مصباح ولو جمع طول قماطر هذه الخزانة لبلغ مئة كيلومتر وقد كلف نحو مليوني جنيه. المعمرون

أثبتت إحدى الأوانس المهذبات أن أرباب الصناعات والفنون أطول الناس أعماراً واستشهدت بأسماء كثير من المصورين والنقاشين ممن كانوا يحركون أناملهم وهم بعد السبعين والثمانين والتسعين والمئة من عمرهم وقالت أن بعد المفننين يجيء جمهور اللاهوتيين والفلاسفة بطول أعمارهم وبلاد بلغاريا أطول الناس أعماراً ففيها 1383 ممن بلغو زهاء مئة من عمرهم أي واحد في المئة من السكان ثم تجيء رومانيا وفيها 1074 والصرب وفيها 573 ثم إسبانيا 410 ثم فرنسا 213 وإيطاليا 197 ثم النمسا فإنكلترا فروسيا فألمانيا فنورمانديا. الخشب الصناعي اخترع أحد الفرنسيين خشباً صناعياً يقوم مقام الخشب الطبيعي ويخدم النجارة خدمة جلي وطريقة ذلك تحويل القش إلى مادة صلبة كالبلوط والزان فيخمر وتضاف إليه بعض المواد الكيماوية ثم يضغط هذا العجين في قوالب بحسب الطلب منها الدقيق ومنها الكثيف ومنها الطويل ومنها القسر ومنها الاسطواني ومنها متوازي الأضلاع ويمكن نشر هذا الخشب كما ينشر الخشب الطبيعي وإذ كان القش رخيصاً جداً في كل محل أصبح سعر هذا الخشب رخيصاً أيضاً وهذا الخشب يستعمل للدفء تتأجج منه نار عظيمة ولا ينبعث منه دخان كثيف ويستعمل أيضاً لصنع الثقاب أو عيدان الكبريت وخشبه أحسن من الحور وأقل ثمناً ويصنع منه الورق الصر ويستعمل في أمور أخرى. الخطر عَلَى المدنية كتب أحد كتاب الإنكليز مبحثاً في هذا الشأن قال فيه أن فلسفة التاريخ قد جلت الماضي أحسن تجلية ولذلك يسوغ اتخاذها خطة معينة للحاضر والمستقبل والأمم كالأسر تكبر وتنمو كل النمو ثم تنحط بالتدريج فتستبدل قوتها ضعفاً وعظمتها انحطاطاً وكم من أمة حكمت العالم فأصبحت اليوم نسياً منسياً خلفتها غيرها وهذه سينالها ما نال سالفتها. وقد اختلفت أزمان الحضارات في القديم فلم تدم حضارة مصر أقل من خمسة آلاف سنة ودامت حضارة بين النهرين ثلاثة آلاف ومثلها حضارة الصين في حين أن حضارة فارس وأثينا وإسبارطة والبندقية لم تدم كل منها أكثر من بضعة قرون. ومثل هذه العلائم مشاهدة في عامة الأمم وهي من المثول بحيث أن المؤرخ عندما يكشف عن أعراض الأمراض في أمة

يحكم عَلَى آخرتها حكماً أكيداً. وقد لاحظ بعضهم أن ترك التقاليد الدينية يتقدم أبداً سقوط الممالك وإن الإفراط في قبول الدخيل من الناس والتفاني في الديمقراطية والاشتراكية مجلبة الانحلال في الشعوب عَلَى أن هذه الآراء قد لا تصدق وتمر بها الأمم لا تصيبها بائقة. ويؤكد كثير من المتشائمين أن فرنسا ذاهبة لانحلالها وأول ما ينعونه عليها قلة تناسلها وعدم الاتحاد بين أجزائها مما يورث البلاد ضعفاً وحب المال الذي ساق الشعب الفرنسوي لاحتقار الفنون والجمال بل الشرف وكل ذلك ليس من الحجج الدامغة في هذا الشأن فإن هناك حوادث تقلق الاجتماعيين كل القلق من مثل زيادة عدد المجانين سنة فسنة فقد كان عدد البله في الولايات المتحدة سنة 1881 - 363 في كل مئة ألف فأصبحوا اليوم 429 وصعد عددهم في بروسيا من 22 في العشرة آلاف سنة 1781 إلى 26 سنة 1895 وكان عدد المختل شعورهم في أيرلاندا سنة 1889 - 75 ألفاً فأصبحوا سنة 1908 تسعين ألفاً ومعدل المجانين في إنكلترا 4 في المئة وعدد الجرائم يزيد كثيراً وبعض البلاد كإنكلترا تتحسن حالتها من هذا القبيل. وخير الذرائع التي يعمد إليها للإصلاح إدخال التحسين الطبيعي والأخلاقي. الخطر الأصفر لا يزال المفكرون في الغرب يذهبون مذاهب في تقدير الأخطار التي ستنشأ بعد قرن أو قرنين من الخطر الأصفر أي ترقي الصين واليابان وانكفاء شعوبهما عَلَى الغرب يخربون مدنيته ويجعلون أعزة أهله أذلة وقد كتب أحد المحققين من الإنكليز قالاً في هذا الصدد قال فيه ليس الخطر في تجريد الصين مليوني رجل من جندها يسيرون متراصة صفوفها عَلَى أوربا يخربون كما خربت الهونس البلاد فالصيني يكره الحرب بفطرته ولا يدعى لحمل السلاح إلا لتوطيد الأمن أيام السلام وما منهم من يعرض حياته للخطر لقاء بضع دريهمات يقبضها أجرة عمله بل الخطر كل الخطر في انحلال نظام الصين الحالي وهجرة أهلها إلى أوربا وأميركا بالملايين يكاثرون أهلها ويزاحمونهم في الصناعة والأعمال المختلفة وقد عرفوا بمضائهم وصبرهم الذي لا يوصف بحيث إذا كثروا في بلاد الغرب تختل بوجودهم الميزانية الاقتصادية والصناعية فهم إذا هاجروا إلى بلد كالحلمة الطفيلية يورثونها ضعفاً ويقوون بمواردها ويقطعون عيش أهلها هذا ما أدركته أميركا وأوستراليا فوقفتا تقاتلان

أخطارهم بما فيهما من قوة. التعليم الديني الياباني لا تعلم يابان في مدارس الحكومة ديناً من الأديان مثل فرنسا وسويسرا وإيطاليا وأميركا وهذه القاعدة جرت عليها منذ ثلثمائة سنة سنها لها يياس مؤسس دولة توكو كانا وحافظت عليها الحكومات التي خلفته وكان الكهنة البوذيون قبل أسرة الشوغن ومجموعة المائة قانون التي حصرت السلطة كلها في يدها يعلمون قواعد الدين في معابد المدارس. وعلى تسامح يياس مع البوذيين الذي أنشأ لهم معابدهم باضطهاد أشياع المذاهب الأخرى رأى أن حكم كونفوشيوس عَلَى النحو الذي يستعمله اليابانيون تكفي الشبيبة وتحظر عَلَى كهنة بوذا أن يدخلوا في مدارس الحكومة ثم تبين أن الكنائس عَلَى اختلاف مذاهبها التي كانت تحاول تنصير اليابانيين لا ينشأ منها إلا مشاكل في الآراء فلما أعلن الميكادو سنة 1871 دستوره الجديد أغلق أبواب المدارس كلها عن دخول دين من الأديان إليها وهذا العمل السديد وقع الاستحسان عليه ودلت التجارب في هذه المدة عَلَى ضرورته عَلَى أن كثير من البوذيين والمتنصرين ما زالوا يزعمون أن سبب انحلال الأخلاق في اليابان حظر تدريس المذاهب في المدارس ولكن التعليم الديني يمكن تعليمه خارج المدرسة بدون عائق وهذا ما جرت عليه الحكومات بالتدريج لأنه من أثقو الدواعي إلى استقلال العقل ويرى بعض كتبة اليابان - وعنهم ننقل هذه الآراء وغيرهم يدخلون في التعاليم الدينية مبادئ لا تنطبق عَلَى مبادئ الحكومة ولذلك كان حظر تعليم الدين أولى. سكة الصحراء قالت المجلة الباريزية أن مشروع سكة حديد الصحراء الذي كبرت في تصويره الأماني لم ينا من التنشيط ما كان يتوقع له عَلَى ما فيه من الغناء والفائدة والقوم يفكرون اليوم في مشروع أوسع منه أي أن المشروع الجديد لا يقتصر عَلَى مد خط حديدي في صحراء أفريقية فيجتاز المسافة من وهران في الجزائر إلى رأس الرجاء الصالح في الجنوب أي قارة أفريقية بأجمعها وهو خط حديدي طوله عشرة آلاف كيلومتر وبذلك يتيسر السفر من لندرا إلى الترنسفال في تسعة أيام ومن إنفرس إلى الكونغو البلجيكية في خمسة أيام وقد مدت الآن ثلاثة آلاف كيلومتر في أفريقية الجنوبية وستمائة في ولاية وهران فبقي إذاً

6400كيلومتر وهي مسافة أقل من مسافة خط سيبيريا الحديدي التي تمد عَلَى طول 8600 كيلومتر وأهم عقبة في هذا الباب اجتياز الصحراء أي بين الجزائر والسودان والمسافة ألفا كيلومتر تكون في بلاد قاحلة لا تجارة فيها وإذا استطاع عقل الإنسان أن يحول الفيضانات السنوية التي تجري في نهر النيجر بواسطة خزانات وسدود بها ذاك السطح العظيم الممتد شمال تمبكتو عَلَى نحو ما يجري في مصر وبعبارة ثانية إذا بلغ من الذكاء الإنساني أن يحول مياه النيجر إلى صحراء تسقط معظم الصعوبات المنتظرة من مد هذا الخط. شرائع بابل كتب أحدهم يقابل بين شرائع بابل وشريعة موسى فقال أن شريعة البابليين عبارة عن أحكام صادرة في أحوال معينة خاصة ومنها ما عرف منذ عرف تاريخ أشور إلا أن الفكر القائل بأن هذه الشريعة كانت مجموعة في كتاب واحد قد رده المؤرخون ولكن ثبت أن بابل كان لها قانون مسطر منذ عهد حمورابي المعاصر لإبراهيم وكان الناس خاضعين لأحكامها في جميع أنحاء المملكة من بلاد عيلام إلى فلسطين ومن أحكام هذه الشريعة عقوبة الاعتداء عَلَى الملكية أو التملك فقد كان السارق يعاقب بالإعدام إلا قليلاً وذلك لأن بلاد بابل كانت تجارية والاعتداء عَلَى الأمن العام يعد أعظم ماسٍ للملكية والأمن هو عامل عظيم في الحياة الإنسانية فشريعة بابل من هذه الجهة تختلف عن شريعة موسى لأن هذه الشريعة في الزمن الذي وضعت فيه كانت الحرب أكثر من التجارة شغل الإسرائيليين الشاغل وبينا كانت حياة الفرد نافعة للمجموع برمته كانت ملكية الأفراد قليلة المكانة بالنسبة وهكذا الحال في الاختلاف بين الشريعتين يعرف ذلك من قانون الإرث فقد كان الأب في بابل حراً بأن يقف جزءاً مهماً من ماله عَلَى ولده يتبناه أو يحبه أكثر من أولاده بوصية يوصي بها والنساء قد يمنعن بإرث أزواجهن في حالات مخصوصة مما لا أثر له في الشريعة الموسوية. وإن توريت الثروة بوصية يوصي بها المالك لتدل عَلَى تقدم في درجات المدنية وأفكار راقية في مسائل حقوق الملكية. قال وإن جمع قوانين بابل قد أثر في شرائع آسيا الغربية كما أثر في الشعوب السامية. القهوة وسمها عرف منذ زمن قديم أن في القهوة مادة سمية تحدث في بعض الأشخاص تأثيرات

فسيولوجية وأوجاعاً عصبية وقلبية واضطرابات معينة وضعفاً في المجموع العصبي وقد استخرجت هذه المادة التي سموها كافيين سنة 1820 واستعملت دواءً مسهلاً ومشهياً ولكنها إذا أخذت بدون معرفة تضر كل الضرر وكثير من الناس يقعون في أخطارها إذا أفطروا في تناول القهوة عَلَى غير معرفة. وقد شبهوا الأعراض التي تصيب المكثرين من القهوة بالأعراض التي تصيب المكثرين من الألكحول فالقهوة كالمشروبات الروحية تلذ بطعمها وريحها وقلما تورث نشاطاً في الجسم إلا أن الكافيين يضاعف وظائف القلب ويحدث قلقاً قد يشفعه دوار وأوجاع رأس واضطرابات أحياناً فينبغي والحالة أخذ رأي الطبيب في استعمال القهوة لأن المئة غرام من القهوة الخضراء تحتوي من المادة المسمة بحسب جودة القهوة ورداءتها ما لا يقل عن ثمانية بالألف ولا تزيد عن اثنين في المئة والقهوة المستعملة عادة تحتوي عَلَى جزءاً واحداً في المئة من الكافيين وثلاثة فناجين قهوة في اليوم لا يقل ما فيها من هذه المادة عن ثلاثة في الألف. والعلماء يبحثون اليوم لإيجاد طريقة يستخرجون بها المادة السامة دون أن تفقد القهوة رائحتها وطعمتها. غلات طرابلس الغرب بحثت إحدى المجلات الإفرنجية في حاصلات طرابلس بمناسبة احتلال الطليان فقالت أن تجارتها اليوم تجري بالمقايضة إلا قليلاً فيعطى البائع مثلاً تمراً مقابل بضائع أخرى وأشجار النخيل أهم غنى السكان يدفع عنها خراج بقدر عددها كما هو الحال في مصر حيث تدفع كل نخلة عوائد نحو 40 سنتيماً. ويقدر عدد النخيل في طرابلس نحو مليوني نخلة تجود محصولاتها بقدر ما يستطيع أهلها ريها من العيون الطبيعية أو من آبار الواحات وتحتاج كل نخلة لثلث لتر ماء في الدقيقة حتى لا تهلك ولكنها إذا سقيت نصف لتر تجود أكثر من ذلك. الماء موجود بكثرة تحت سطح الأرض ولكن قلة معرفة الأهالي بأصول الري الزراعي دعتهم إلى أن يعتمدوا عَلَى الطرق القديمة العقيمة في السقيا فأول ماء يستخرجونه مالح وحار لأنه مستقى من عمق قليل والأحسن أن ينزل في امتياح الماء إلى العرق الثاني والثالث ليكون الماء نقياً بارداً غزيراً. والأمطار غزيرة عَلَى الجملة في طرابلس ويكون منها ماء شروب بقدر الكفاية وإن يكن هطولها رذاذاً لا وابلاً ولا ينشأ عنها فيضان في العادة إلا نادراً والآبار الارتوازية العادية التي حفرت في ذاك الصقع قد

أتت بفائدة وتروي البئر الواحدة أربعة آلاف نخلة وغلات الزيتون حسنة للغاية ولكن الزيت الذي يصنع منه في البلاد غير حسن الطريقة وإذا استخرج عَلَى الطريقة المدنية يكون منه مورد ربح عظيم ويزرع في طرابلس شجر يدعى السمارتي المعروف بخاصياته في التداوي وفي طرابلس مناجم كثيرة والطبقات الجيولوجية في البلاد منوعة مثل الفوسفات والنطرون والكبريت. ويمكن أنيربى النعام في ذاك القطر لأنه لا يحتاج إلا الأماكن الفسيحة ويتغذى في الأحايين بالعلف والحبوب فينافس ريشه وتجارته أسواق رأس الرجاء الصالح في جنوبي أفريقية خصوصاً بعد إنشاء طرق للمواصلات وعدم الاعتماد في النقل عَلَى الجمالة والجمال. خزن الماء وفق أحد كبار المهندسين في أميركا إلى اختراع طريقة تخزين الماء في الشتاء لتستخدم في الزراعة زمان الصيف وهو أن تجعل الأرض أثلاماً كبرى وتحفر في بعضها خنادق تساق إليها أمطار الشتاء وقد نفعت الطريقة العلمية التي اعتمد عليها وإذ أظهر نجاحها أكثر لا تلبث أن تعم عالم الزراعة فتخصب بها كل أرض غير قابلة اليوم للزراعة بحسب الظاهر ولاسيما في شمالي أفريقية وغربي آسيا. الحرب عَلَى الغبار أثارت بعض الولايات المتحدة الأميركية حرباً عواناً عَلَى الغبار إذ أثبت في الصحة ما يعلق منه الحلويات والفواكه المعروضة للبيع في حوانيت الباعة ينقل جراثيم مضرة أقلها ارتباك في معد الآكلين وقد وضعوا لذلك قيوداً يغرم بغرامات فاحشة كل من يخالفها ورسموا بأن يغطى كل شيء إن لم في ألواح زجاج فلا أقل بأقمشة تغطيها كلها بل أن ولاية تكساس حظرت بيع البياعات في الأزقة للفواكه والبقول لأنه لا يعقل أن يسرن بما يحملن ساعات في الشوارع ولا يصيبها الغبار دع عنك جس المبتاعين لها وكثيراً ما تكون أيديهم قذرة. وقد ارتأى أحدهم أن أحسن واسطة لاتقاء الأخطار المنبعثة من الغبار إذا عجزت الحكومات عن دفعه أن يكون للناس من أنفسهم لأنفسهم مراقب فلا يبتاعون من بائع يعرض ما يبيع من المأكولات عَلَى هذه الصورة وبذلك يفهم الباعة ما ينبغي لهم اتقاؤه حتى تروج بضائعهم فيتعلمون بالقدوة وهو رأي حسن نافع خصوصاً في مثل بلاد الشرق

حيث فقدت قوانين الحسبة القديمة ولم يخلفها من قوانين المجالس البلدية الحديثة ما يشدد عَلَى السوقة والمرتزقة في بياعتهم ليراعوا الصحة فيها ويتقوا الوجدان فقد رأينا الناس علموا باعة المشروبات أن الأولى غسل الأواني كل مرة بماء جديد فشاعت هذه الطريقة في بعض المدن وحبذا لو تسري إلى بلاد الأقاليم والأرياف. القرود الضخمة للقرود الضخمة في جنوب أفريقية ذكاء مدهش حتى أن سكان تلك البلاد يظنون جنسها قد رزق مزية التكلم وإنه يمتنع عنه مخافة أن يستعبد ويكره عَلَى العمل وقد استشهد أحد رحالة الإنكليز إلى تلك البقاع بحادثتين تثبتان ذكاء القرود الأولى أنه لكان لأحد عمال السكة الحديدية قرد يربيه فأصيب صاحبه بعاهة اقتضت قطع ساقيه فكان قرده يتولى أكثر عمله وعمله عبارة عن فتح إبرة الخط في أوقات مرور القطار والحادثة الأخرى هو أنه كان لصاحب قطيع قرد يرسله في غنمه بدلاً من الراعي يقيها من كل سوء بل يبالغ في وقايتها ولاسيما في أوقات الخطر والعواصف ويفهم القرد بأدنى إشارة ومنه ما يستخدم في تقديم الشراب ومناولة الكؤوس والأكواب. اكتشاف أميركا ألقى الرحالة نانسن محاضرة في الجمعية الجغرافية في لندن قال أن أول من نزلوا إلى أميركا قبل كابوت هم النومانديون في القرن العاشر للميلاد وهم المهاجرة الأولى الذين اجتازوا البحر المحيط وكانت الملاحة قبلهم محصورة عَلَى التنقل بين الشواطئ القريبة ولا يتجشمون خطر البحار واجتيازها من عرضها وسافر الأيسلانديون في القرن العاشر أيضاً فبلغوا غروانلاندة وأسسوا عَلَى الشاطئ الجنوبي الغربي منها مستعمرتين تشهد لذلك أسماء المدن التي وردت في أدبياتهم القديمة وسنة 999 كانت أول رحلة رحلها الرحالة أريك الحمر الأيسلاندي في المحيط. نساء الحثيين اثبت الأستاذ كارستان من كلية لفربول أن كاهنات الحثيين كن من أشجع النساء المتشابهات بالرجل في الأمم القديمة. والحثيون إحدى الأمم السبع التي حالت دون تقدم الإسرائيليين نحو الأرض المقدسة وهؤلاء الحثيون هم أول شعب جند النساء في الجيش

فالنساء الشبيهات بالرجال المشهورات في علم الأساطير اليونانية هم الأصل فيها. وقد كشف الأستاذ المشار إليه في قبور حفرت في الصخر في بوغار كوي من آسيا الصغرى صوراً من هذه الكاهنات المسلحات ومنهن من كانت تقاتل فارسة ومنهن تقاتل راجلة وهن من حول رب لهن يدافعن عنه وبوغار كوي (أو بوغتا كوي) من مدن الحثيين المشهورة وقد فقد نساء الحثيين صفتهن الدينية عندما داهم الحثيين الفريجيون والمصريون والإسرائيليون فأبلى نساء الحثيين في تلك الحروب بلاءً حسناً مدافعات عن أربابهن ووطنهن وقد أخذت بعثة إنكليزية تبحث عن آثار تلك البلاد لما عرف من أن الحثيين هم أكبر أمم آسيا الصغرى قبل زمن إبراهيم وكانت لهم مستعمرات في القرن الرابع عشر قبل الميلاد تؤدي لهم الجزية مثل مستعمرات قيليقية وليكاونيا وفريجيا وليديا قاوموا الإسرائيليين زمناً طويلاً ولم يضحل عمرانهم إلا بعد تسعة قرون قبل الميلاد فضعفت شجاعة نسائهم. الطب في نينوى جرت حفريات في السنة الماضية في محل مدينة نينوى القديمة وظفر فيها بأشياء تدل عَلَى أن علم الطب وعملياته قد ارتقت في بلاد آشور قبل المسيح بستة قرون فمن عشرين ألف لوحة اكتشفت وهي من مكتبة الملك آسور بانيبال الفاتح العظيم لمصر وبابل الذي نقل رعاياه إلى بلاد السامرة - مئات تبحث في المداواة وطرق الوقاية ووصفات الأطباء فكانوا يصفون للسكيرين الامتناع عن كل شراب كما يصفون الصيام لمن أفرطوا في الأكل. وأكثر ما كان يستعمل في بلادهم من الأدوية الزيت وزيت الخروع وشراب التمر والعسل والملح وكثيراً ما كانوا يستعملون التغميز (التسميد) ومن أصيب بالصفراء يدلك ببصلة إلى غير ذلك من الوصفات الساذجة والمداواة العجيبة. القبلات الضارة تبين من أبحاث مدير المعمل الكيماوي في ولاية إنديانا بأميركا إن من الأولاد كثيرون أصيبوا بالسل متنقلاً إليهم من قبلات قبلهم إياها بعض المصابين من أقربائهم في أفواههم فنقلوا إليهم جراثيم العدوى فتأصلت فيهم وأضنتهم وإن القبلات أوردت الأطفال حياض المنيات فالحسن التقليل من التقبيل وإلا فيصاب الصغار والكبار بأمراض سارية من هذا

القبيل. ألمنة البولونيين وضع الدكتور نيكير كتاباً في الألمان والبولونيين وصف فيه الطريق التي سلكتها ألمانيا لألمنة البولونيين أي جعلهم المان في إقليمي بوزانيا وسيلزيا قال بسمارك غداة الحرب السبعينية قضى بأن يعلم بالألمانية في جميع بلاد بولونيا البروسية وتناول هذا التعليم سنة 1900 التعليم الديني فأخذ البولونيون يقاومون ذلك كل المقاومة والحكومة تعمد إلى كل قوة في إخضاعهم لتعلم الألمانية وترك لغتهم حتى تلقى الأساتذة في المدارس أوامر من الحكومة لاستخدام العصا والضرب باليد والرجل ومع أن الحكومة عاقبت آباء التلامذة الذين حاولوا إقامة الحجة عَلَى هذا الضرب من التعليم بعقوبات شديدة للغاية لا يسعنا أن نقول بأن ألمانيا استطاعت أن تبدل الروح البولونية ولا أن تضعف الولاء البولوني ولا الرجولية البولونية. فحبذا لو عملت كذلك كل أمة تحاول أخرى أن تقضي عَلَى لغتها خصوصاً إذا كانت اللغة المحكومة أشرف من اللغة الحاكمة وأفيد مادة ومعنى. مدارس تدبير المنزل كثرة المعامل في أوربا دفعت النساء في معظم الممالك أن يقبلن عليها ويتركن ما خصص له من إدارة البيوت حتى أن بعض بلاد ألمانيا وسويسرا أخذت تجد صعوبة زائدة في إيجاد خادمات وغيرهن لإدارة شؤون البيت فارتأت سويسرا أن تنشئ مدارس تعليم تدبير المنزل للفتيات فيعلمن الطبخ والخبز وعمل الحلوى والمربيات وشغل الإبرة والغسيل والكي وهندام البيوت ومبادئ الصحة والحساب وينان لدن خروجهن شهادات تسمح لهن بإيجاد عمل للحال وكثيرين منهن يرجعن إلى بيوت آبائهن وقد ثبتت حسنات هذه المدارس وهذا التعليم في تلك البلاد فيا حبذا لو أن مثلها في هذه الديار فإن الفتيات الفقيرات لا يجدن ما يعشن به وكثيراً ما يضطرون إلى الاتجار بالأعمال المحظورة ليأكلن ويشربن ولو كن متعلمات بعض المبادئ في إدارة شؤون البيوت لهان عَلَى أكثر أهل اليسار في هذا القطر وغيره أن يستخدموهن بدلاً من الأجيرات والطهاة الغرباء. الموسيقى العربية

رفع نجيب أفندي نحاس المحامي إلى معتمد إنكلترا بمصر تقريراً باللغة الفرنسوية عن الموسيقى العربية قال فيه: يظن الأوربيون أن موضوع الموسيقى العربية فقير للغاية لا يستحق الاهتمام وهذا ناتج عن كون الموسيقى العربية غير متقنة في أيامنا هذه لأنه تنقصا قواعد التأليف وامتزاج الأصوات ولكن من تأمل ألحانها ألفاها غاية في الرقة واللذة وتأكد أنها بقية علم كان زاهراً في العصور الغابرة. ولذلك سعيت منذ 15 سنة في البحث عن أصول هذا الفن الجميل ووقفت إلى مؤلفات مكتوبة بخط اليد ومحفوظة في أوربا ففي مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة نظارة المستعمرات في لندن عثرت عَلَى 15 مؤلفاً باللغة العربية والفارسية. وكذلك في مكاتب باريز وفينا وميلانو وليدن فإنني عثرت عَلَى 14 مؤلفاً أخرى. وقد اتضح لي منها أن الموسيقى كانت زاهية زاهرة أيام الخلفاء. فاجتهدت في استخراج الأبعاد التي يتكون منها المقام العربي من القرار إلى الجواب فألفيتها 17 بعداً خلافاً للأبعاد الأوربية فإنها 12 بعد فقط. وقد أجمع المؤلفون الأوربيون عَلَى ذلك عدا بعضاً منهم فإنهم خالفوهم إلى درس ناقص في هذه المؤلفات. وضمن من كتبوا في هذا الموضوع فايتس وأبروس وكيزفيتر والبارون همر بورجستال ولاند والبارون كارا دي فو وألي سميث وىخرون وقد امتحنت الأرقام الحسابية بالطريقة الجبرية وبطريقة التونومتر وفحصت الآلات المحفوظة في متحف سوت كنسزنجتن الذي تكلم عنها كارل أنجل في كتابه الثمين عن ذلك المتحف. ولما كان هناك فرق بين الأبعاد العربية والأوربية فلا يمكن إحداث الأنغام العربية عَلَى الآلات الأوربية ولذلك اهتممت بصنع بيانو شرقي في برلين وقد خصصت جانباً من سفري هذا إلى أوربا لتتميم هذا البيانو ومتى تم أسعى في طريقي اصطناع الآلات الأخرى كآلات النفخ الخشبية والنحاسية وقد وضعت طريقة لكتابة الموسيقى العربية بعلامات تكتب من اليمين إلى الشمال عَلَى سبعة اسطر لسهولة الاستعمال ومتى تم تركيب هذه الآلات سأؤلف جوقة تضرب وأؤلف أوبرا كوميك وما أشبه ذلك. ولما كن ذلك يستلزم اهتماماً فائقاً مني وقضاء وقت طويل ومصاريف اصطناع هذه الآلات وإنشاء مدارس لتعليم الموسيقى العربية بحسب الطريقة العلمية التي سأدونها في الكتب الذي سأطبعه قريباً فقد فكرت في أن اشرف واضع مشروعي هذا تحت رعاية فخامتكم

السامية فكل بلدة في أوربا لها مدرسة للموسيقى عَلَى نفقة الحكومة وسيكون ذلك في مصر أيضاً إذا شملتم مشروعي هذا بعين الرعاية وكلفة نظارة المعارف العمومية في مصر الاهتمام بمساعدة هذا المشروع مساعدة مالية وأدبية. ولا يخفى أن هذه المدارس الموسيقية في مصر ستساعد عَلَى تربية الشبيبة المصرية وتهذيبها لأن الموسيقى لغة الأرواح ترفع النفس إلى الرغائب الحميدة وتميل بالعقل والقلب إلى محبة الخير. ومتى وجدت في مصر موسيقى عربية مؤلفة عَلَى قواعد العلم ومنظمة تنظيم الموسيقى الأوربية صار لمصر مزية أخرى في عيون السياح وكتب لها في سلم الحضارة والارتقاء درجة أعلى لأن الموسيقى هي لغة التمدن والارتقاء. إحصاء زراعي لمصر أحصت الحكومة المصرية الأراضي الزراعية في السنة الماضية التي ابتداؤها شهر سبتمبر (أيلول) سنة 1911 وانتهاؤه شهر أغسطس (آب) سنة 1912 فكان الشتوي. النوعس فدن خشخاش09655 ترمس059900 قرطم221079 جنائن1828119 الجملة حمص101121 حلبة 1153000 كتان 077324 عدس0763344 أصناف مختلفة 7315827 شعير 22364050 فول17517318 بصل0926392 جلبان 0432797

برسيم 191368365 قمح191282935 الصيفي: بطيخ وشمام0432595 نيلة 13 حناء151342 قصب 06795738 أرز0820624 قطن نوباري 14968566 عباسي1336354 قطن يانوفيتش11249231 بقول1422129 سمسم022691 فول سوداني1412573 ذرة قطن عفيفي أصلي0139836 أشموني09244265 ميت عفيفي 0281910 سكلاريدس 02197450 إجمال المزروع 063671288 تنزيل منزرع بالتكرار 052395834 صافي الزمام 01538454 ضم بور تالف232393248 أصل التكليف187683332 اللدنيات

مات مؤخراً في البلجيك رجل اسمه أنطون الشافي أو الكريم وكان يعمل النصال فلم يكتب له أن تعلم ما يخرجه عن الأمية وقضى بعض حياته وهو يدعي شفاء المرضى وكم مقعد أقامه عَلَى رجليه ومن أعمى رد إليه بصره وكان يدعي أن الإيمان هو العامل الوحيد في شفاء قاصديه للاستشفاء عَلَى يديه ممن يغشون منزله بالمئات كل يوم حتى ضاقت صدور الأطباء الرسميين منه لأنه كاد يقطع أرزاقهم فأقاموا عليه دعوى فحكمت المحكمة براءته لأنه لم يكن يتقاضى أجرة عن عمله وعند ذلك أسس له مذهباً سماه الأنطونيني نسبة إليه فكثر أشياعه وأي كثرة في أقطار العالم. وقد تبرع أحد عشاقه بمئة ألف فرنك ليبني له في جمييس من بلاد بلجيكا معبد وقدم محضر فيه 130 ألف توقيع يطلب فيه للحكومة البلجيكية أن تعترف بالمذهب الأنطونيني بأنه من الأديان الرسمية وتأسست شعب لمذهبه في بعض مدن فرنسا. قالت المجلة التي ننقل عنها بعد أن أوردت أحاديث لبعض من أولعوا بهذا الرجل أن دعوى شفاء الإسقام كانت مألوفة في كل عصر عرفتها الهند ويونان ورومية بل الغاليون أجداد والفرنسيس ولطالما ملأوا الحواضر والقرى وهم متوفرون عَلَى ممارسة صناعتهم التي كانت تعد من توابع السحر تحرمها الكنيسة أو تتسامح فيها أو تقتل أهلها إلا أن هذا الاضطهاد لم يفتر عزائمهم وعادوا كل قرن يحيون من رمادهم فالظاهر أن عنصرهم لا يفنى ولو فني الدهر يقاومون بعقولهم ارتقاء العلم ونشوء الأخلاق واتساع الأفكار بالبحث والنظر وكم فيهم من جلبهم الملك حتى في هذا العصر وسألوهم أسئلة وغمروهم بنوالهم والأغرب من ذلك أن في باريز بحسب إحصاء دائرة الشرطة زهاء عشرة آلاف عراف وعرافة انتشروا في أشرف أحياء الأشراف منها وأكثرها سكاناً يمارسون صناعتهم بمأمن ويعشون من هذه الأباطيل تحت سمع حكومة الجمهورية مؤلهة العقل ونظر العلماء الذين كشفوا كل غامض أو كادوا. المصافحة والصحة قالت إحدى المجلات الإفرنجية أن المصافحة تكفي للدلالة عَلَى صحة المتصافحين فهزة الكتف إذا كانت ثابة حرة من رجل مخلص حسن الصحة يكون فيها دائماً قليل من القسوة إذا تجاوزت حد اللياقة في اللمس والأدب تدل عَلَى ضعف مؤقت في الإرادة وتشعر باضطراب من يهز كفك وإن اليد التي تمتد رخوة بدون ضغط تدل عَلَى ضعف في الجسم

والفكر ولو مؤقت وإذا صافحك مصافح بسرعة وعصبية فتستدل من ذلك عَلَى مزاج حاد سريع الانفعال واليد التي لا حركة فيها الكسلانة تدل عَلَى ضعف صاحبها والحمى ليست دلالة أكثر من اليد عَلَى مزاج صاحبها فأقل لمس للمصاب بها يكفي في تشخيص مرضها. إزالة البقع إذا سقطت الدهون والشحوم عَلَى خشب غرفة الطعام فإزالة بقعها سهل للغاية عَلَى شرط أن تتداركها في الحال وهي طرية وذلك بأن تضع عَلَى البقع روح التربنتين وتتركه عليها ساعتين ثم تمسحه بدون فرك وتلقي عَلَى البقع طبقة صغيرة من السعوط وتمر حديدة محماة فوقها فالسعوط يأكل الدهن والشحم كما يأكل التربنتين والبنزين والسبيرتو بقع الثياب. أصل الجعة قالت مجلة التواريخ السياسية والأدبية: ليس من السهل أن نبين أصل البيرا والجعة التي تصرف مكنها اليوم كميات وافرة وغاية ما علم أن البشر حاولوا في أدوار مختلفة أن يتبردوا بغير مياه العيون الصافية من الأشربة فكان لهم من اللبن وعصير الفاكهة والعسل والحب المسلوق مادة يعملون منها أشربة مخمرة ومنها جاء شراب القوميس (ابن الفرس) والخمر وخمر التفاح (السيدر) والإنجاص والجعة وشراب العرعر اهتدى البشر إلى صنعها كلها بعقولهم فنقلها الخلف عن السلف وقد بحث الباحثون المحققون في إنكلترا وألمانيا والنمسا وهي البلاد التي يبالغ سكانها في تعاطي الجعة عن زمان ظهورها وكتبت المجلدات الضخمة في قدم الجعة ولم يستطع أولئك الباحثون أن يصلوا إلى أصلها وغاية ما عرف أن ديودور الصقلي وهيرودوتس المؤرخ أثبتا أن المصريين عرفوا الجعة قبل المسيح بألفي سنة والغالب أن الملك أوزيريس كان رأس صناع الجعة وبائعيها وقد دلت أوراق البردي التي عثر عليها أن مدينة بلوزة عَلَى شاطئ النيل اشتهرت بمعاملها لصنع الجعة وقد يرد عَلَى هذا الرأي أن صنع الجعة انتقل من الهند كما انتقلت مبادئ سائر الحضارات.

تاريخ الحضارة

تاريخ الحضارة مترجم عن الإفرنسية علم الكلام - بقي علم اللاهوت خلال القرون الوسطى العلم الرئيسي (ولمدرسة اللاهوت في جميع الكليات التقدم عَلَى كل المدارس) وقد توفر عَلَى الفلسفة خاصة أرباب العقول العاملة وكان لمشاهير علماء القرون الوسطى أمثال أبيلاروسان توما ودونس سكوت وألبر الكبير القدح المعلى في الفلسفة وليس علم المدرسة أو علم الكلام سوى فلسفة مطبقة عَلَى اللاهوت فكان المتكلمون يتقبلون تعاليم الكنيسة كلها. قال كيتموند أسقف فرنسا لا يجب أن يفهم المرء أولاً ليعتقد بعد بل يجب أن يعتد أولاً ليفهم بعد ذلك. وقال سان توما بعد حين من الدهر: إن حقيقة العقل ليست عَلَى تناقض مع حقيقة الإيمان المسيحي. ثم أن علماء الكلام درسوا فلسفة أرسطو (عرفوها من ترجمات رديئة باللغة اللاتينية نقلت من ترجمات عربية) وقد أعجبوا بمنطقه فكانوا يذهبون إلى أنهم باستعمالهم طرق البرهان يحلون المسائل التي لم تحلها الكنيسة. وهذه المسائل: قد تكون دقيقة مثل قول بطرس لومبارد: إذا كان الله يقدر أن يعرف من الأشياء أكثر مما يعلم. وقال دونس سكوت: إذا كانت الصعوبة في أن يكون مولوداً هي خاصية في تركيبة الشخص الأول في اللاهوت. وقال سان توما: إذا كان جسد المسيح عاد إلى الحياة وعليه جروح وفيما إذا كانت الحمامة الي ظهر فيها الروح القدس هي حيوان حقيقي. وكان علماء الكلام من أكبر العاملين فقد مات دونس سكوت (الدكتور المحقق) في الحادية والثلاثين وقد ألف 12 مجلداً من قطع النصف ولخص سان توما (الدكتور العام) في كتابه السوم جميع أفكار العصور الوسطى وعلى كتابه المختصر المعول في اللاهوت بالمدارس الإكليركية الكاثوليكية. واخترع ريموند لول في القرن الرابع عشر الصناعة العظمى وهي أداة للبرهان يتأتى بها حل جميع المسائل بدون استخدام الذهن. وإذا كان المتكلمون لا يستخدمون إلا البرهان الاستقرائي دون ملاحظة الحوادث لم يزيدوا شيئاً عَلَى العلم البشري وظلت فلسفتهم كما يقولون هم أنفسهم خادمة لعلم اللاهوت. خزائن الكتب والأدب العلمي - كان في الديار العظمى أبداً بعض القسوس لا عمل لهم إلا استنساخ الكتب وتزيينها فينقلون المخطوطات التي استعارتها أديارهم من غيرها. وعلى

هذه الصورة أسست خزائن الكتب فلم تتجاوز بضع مئات من المجلدات (فمكان في فيكان 148 وفي سان يفرول 138) لأن الكتب كانت نادرة والرق عزيزاً وجميع الكتب كانت باللاتينية ومعظمها كان كتب عبادة وتنسك مثل الكتاب المقدس وآباء الكنيسة وكتب الطقوس وحياة القديسين وكان القسوس عَلَى صلابتهم لا يسمحون لغير هذا النوع من الكتب ويقولون أن كتب شيشرول وكتب فرجيل لا تنفع في سلامة النفس بيد أنه كان في بعض الأديار التي يغلب عليها حب الأدب بالأكثر شيء من المؤلفات اللاتينية الأخرى مثل مصنفات شيشرون وفرجيل وهوراس وبلين لجون والتعزية لبويس. كتب رجال الإكليروس كالأساقفة ورؤساء الأديار والقسس في القرون الوسطى كثير من المؤلفات لأنفسهم فكانوا يؤلفون في الشعر والأدب ورسائل في اللاهوت وتواريخ يسرد فيها جميع أحداث العالم منذ البدء إلى زمن المؤلف ووقائع مؤلفة من أخبار جافة جداً تكتب سنة فسنة تذكر فيها أخبار المجاعات والأوبئة والمذنبات والحروب ووفاة الملوك أو رؤساء الأديار. كل ذلك باللغة اللاتينية وإنشاء مطول مزهر مصنع تكثر فيه الاستشهادات أشبه بلغة تلميذ يتعلم اللاتينية. وكان رجال القرون الوسطى جبناء الفكر يعتقدون أنفسهم أحط جداً ممن سلفوهم ولا يطمعون إلا في أن يقلدوهم وإنك لتجد في آدابهم بعض الأفكار صرح بها بقوة وبعض صحف حية في تواريخهم ولكن أدبياتهم أدبيات طلبة فهم طلبة اجتهدوا وأعوزهم الإبداع. أدب العامي - أم عامة المدن والقصور ممن لا يعرفون اللاتينية فقد اقتضت لهم كتب باللغة العامية لغة الرومان (المشتقة من اللاتينية) وهكذا نشأ نحو أواخر الحادي عشر الميلادي الجديد فابتدأ من الشعر كما جرت العادة في أنواع الآداب فسموا هؤلاء الشعراء المتجولين وهم الذين يتجولون في شمالي فرنسا ويؤلفون أشعارهم بالفرنسوية ويسمون شعراء الجنوب الطوافين وهم يؤلفون بلغة أقاليم البروفانس (البروفنسال) وكان بعضهم فرساناً وصناعة الآخر الشعر ويسمونهم المتشعبدين كانوا يذهبون إلى الأسواق الكبرى حيث يجتمع أغنياء التجار ويقصدون قصور أعاظم السادة في أيام الأعياد ويغنون ومعهم ربابة صغيرة وهذه الشعار ذات الثمانية أو العشرة مقاطع سميت بالأغاني لأنه كان يتغنى بها وسميت (بلغة البروفنسال الرومانية) لأنها كانت باللغة الرومانية. وكان شعراء الجنوب

أكثر خفة ولغواً فينظمون قطعاً صغيرة من الهجاء أو أغاني العشق أو أغاني الليل أو غاني السحر. وشعراء الشمال أميل إلى الجد يترنمون بالحروب والغارات وحملات شارلمان ورفاقه وارتور ملك الغال وبحروب الإسكندر فكانت أغانيهم أغاني العمل وقد نظموا من هذا القبيل مدة ثلاثة قرون في الولايات الفرنساوية في الشمال ووجد في أيامنا منها زهاء ألف قطعة في مخطوطات منسية من القرن الرابع عشر ومن يعلم كم فقد من نظائرها. ومن المتفق عليه أن أجملها ما كان قديماً مثل أغاني رولاند وراول دس كامبري وكارن لوتهرين واشعار كريتن دي تروا. ومما يسقم قصائد القرون الوسطى سواء كانت بلغة الرومان أو اللغة اللاتينية الهوس في التقليد والشرح وإذ لم يكن لشعراء لالقرن الثاني عشر أمثلة يحتذونها ذهبوا مع الطبع ونطقوا بما شعروا به ووصفوا ما رأوا. ولم يأت الشعراء في القرون التالي غير التوسع في القصائد القديمة وأصلحوها ثم حدثت القصائد ذات العشرين والثلاثين ألف بيت التي لا يحكم عَلَى غير المتأدبين بتلاوتها. منشأ الهندسة الرومانية - لما أخذ المسيحيون في القرن الرابع يحتفلون عَلَى ملأ الناس بعبادتهم كانوا يجتمعون في كنائس كبرى وهي قاعات عظيمة مسطحة السقف تكون محكمة مدنية وسوقاً للتجار في آن واحد فكان المؤمنون يقعدون في ساحة التجار أو الصحن وهو مقسوم إلى رواقات تقسمها صفوف من السواري ومحل المحكمة عَلَى شكل نصف دائرة وأعلى الصحن كان بمثابة محراب يجلس فيه الأسقف أو القس. وقد احتفظت الكنائس المسيحية زمناً باسم البازيليك (البيعة الكبرى) وصورتها أن تتألف من صحن كبير عَلَى جانبها صحنان صغيران ومحراب يسمى عقداً بسبب العقد الذي يغطيه ثم تصوروا أن يبنوا في مقدم الكنيسة برجاً أو برجين يجعلون فيه الأجراس وأن يستعيضوا عن السواري الخفيفة بدعائم مصمتة وأن يجعلوا بدلاً من الخشب والسقف المسطح المعرض للحريق بناء من حجر عَلَى شكل عقد وبذلك نشأت هندس جديدة سميت الرومانية لأنها نشأت في بلاد الرومان. فقد بدأت في إيطاليا الشمالية وجنوبي فرنسا في القرن الحادي عشر ولكنها انتشرت في جميع أوربا الغربية والكنائس الكاتدرائية الكبرى في ورمس وسبير في ألمانيا هي كنائس رومانية ولا يزال في كثير من القرى في وادي الرون أو في أوفرنيا ونورمانديا كنائس قديمة عَلَى الشكل الروماني إذ لم تمكنها حالتها المالية من إبدال ذاك

القديم بطرز من البناء الجديد. الهندسة الرومانية - لما كانت الكنائس الرومانية قد بنيت في بلاد مختلفة وعصور متطاولة عَلَى يد مهندسين لم يتبعوا أصولاً واحدة في الهندسة فقد بعد الشبه بينها ولذلك لا ترى لأوفرنيا هندسة خاصة بها ومثل ذلك لنورمانديا ولألمانيا. ولكنها كلها ترجع إلى مبدأ عام وهو أن الجزء الأكثر زينة أي الواجهة متجهة نحو الغرب وقبة الجرس (وأحياناً تكون قبتان) تقوم فوق الواجهة وتنتهي بذروة محدودة وتشرف عَلَى الكنيسة بأسرها والرتاج أو الباب الأعظم يكون في أسفل الكنيسة ومنه يدخل المصلون وهو نجايا منقوشة وأحياناً لا يبغ الداخل الرتاج قبل أن يجتاز دهليزاً وهو ذو سوار في مقدم البناء والرتاج يؤدي إلى صحن الكنيسة الأعظم في الوسط وعلى الجانبين عمد متينة تضمها أروقة تمل الحوائط الداخلة التي تجتمع في أعلى البناء فيتألف منها عقد ومن كل جهة من الصحن الأكبر بين صف الأعمدة والحائط الخارجي من الكنيسة صحنان صغيران ويسميان الجانبان الواطئان فالصحن الكبير والجانبيان الواطئان بفضل بينها رواق عريض عالٍ ينتهي في كل طرف من أطرافه برتاج متطرف يشبه رتاج الواجهة (وأحياناً تعلوه قبة جرس) ثم يكون الخورس عَلَى شكل مدور عَلَى خط مستقيم مع الصحن الأعظم ولكنه أعلى منه ببضع درجات والصحنان الواطئان يمتدان عَلَى جانبيه وكثيراً ما يحيطان به من الوراء وكل هذا الشطر من البناء الذي يسمونه الرأس مغطى بقبة. وتحت الخورس غرف معقودة وهي الناووس فيها ذخائر القديسين وتضيء الكنيسة بنوافذ تطل عَلَى الصحنين الواطئين أو الصحن الأعلى وقد أقيم في الخارج لتدعم الحوائط الخارجية لتحمل ثقل العقود الباهظ دعائم قوية جعلوها سنداً من جانبي الكنيسة بين النوافذ وأرتجة الصحنين الواطئين وقباب الجرس كلها وأقبيتها ونوافذها عَلَى صورة العقود أي عَلَى شكل نصف دائرة مثل البنية الرومانية القديمة وقد جعل شكل الكنيسة عَلَى صورة الصليب ورجله الذي هو عبارة عن ثلاثة أرباع مجموع رقعة المكان مؤلف من الصحن وما عَلَى جانبيه من الفنائين الواطئين وفيه يجتمع الناس والرواق العريض العالي يمثل ذراع الصليب والرأس المدور هو القلب وهو المحل المقدس من الكنيسة يجلس فيه رجال الدين وتقام فيه الحفلات الدينية.

هندسة رسم البيكارين - بدأ المهندسون الذين بنوا الكنائس نحو القرن الثاني عشر يستعيضون عن العقود المدورة بعقود عَلَى رسم البيكارين. وقد احدث هذا الاختراع الذي تيسر به إنشاء عقود أعلى وأخف انقلاباً في هندسة الأبنية. فظل الرسم العام في الكنيسة واحداً: صليباً رجله الصحن ورأسه محرابه (خورس) وبلكن بدلت جميع تفاصيل البناء إذ بنيت العقود كلها عَلَى رسم البيكارين لا عَلَى صورة قوس فارتفع الصحن الوسط إلى علو شاهق وارتفع الصحنان الواطئان أيضاً وأصبحا فنائين حقيقيين. واستغني عن العمد المصمتة التي كانت تمسك العقود بجملة من العمد الصغيرة الخفيفة وجعل فوق الإسناد التي تمسك فوق الحوائط الخارجة زوافر (نصف قناطر) عظمى مارة مثل جسر هوائي فوق الصحن تدعم حائط الصحن الأكبر الأوسط من جهة وإذ كانت القناطر الضيقة موطدة البنيان عَلَى هذه الصورة ساغ أن تكون فروج البناء أكثر علواً وسعة فانفرج الحائط الذي كان في الكنيسة الرومانية يشغل أكثر من نصف الجانبين وجعلت مكانه نوافذ. فغدت النوافذ القسم الرئيسي من الكنيسة وهي عَلَى ضروب منوعة منها نوافذ عَلَى شكل المبضع تستعمل لقباب الأجراس خاصة وهي فروج عظيمة تقسمها عميدات طويلة رقيقة إلى قسمين وتشبه فرجة تتخلل الكنيسة من أعلاها إلى أسفلها والنافذة من الجوانب الخارجة مزينة منقوشة من داخلها وخارجها بتخاريم من الحجر زينت بالزجاج وفوق الأرتجة نافذة عظمى مدورة يسمونها الوردة وهي أيضاً تتخللها تخاريم عَلَى شكل الورد وليس للسواري تيجان بل تنتهي في ذروتها بباقة من الورق معمولة من حجر. تغشى الكنيسة كلها من داخلها وخارجها نقوش من الحجر فمنها ما هو عَلَى الرتاج والنوافذ فوق الإسناد وفي طرف الزوافر وفي جميع طبقات قبة الجرس ومقدم البناء. ولقد مهر النقاشون فغدوا ينوعون تزييناتهم فكانوا يرسمون أوراق الحجر عَلَى مثال نبات البلاد مثل القراص والعوسج والحسك والورد وعليها مسحة من الظرف وتماثيل القديسين التي لا تزيد الأرتجة والكوى والمشاهد المصورة فوق الرتاج مشهورة بما فيها من الحياة والحقيقة وتمثل الميازيب حيوانات خيالية وشياطين غريبة الصور أو بشعتها معلقة في الفضاء وكل ذلك اختراع غريب مستفيض. وصور القبور ولاسيما في القرن الخامس عشر كثيراً ما تكون من بدائع النقش وقد بدأت هذه الطريقة في البناء نحو القرن الثاني عشر في أرباض

باريز من أملاك ملك فرنسا (وربما كان ذلك في كنيستي سان ديني ونويون) ومن هنا انتشرت في أنحاء فرنسا كافة ثم في سائر بلاد أوربا وكانت هذه الطريقة هي المعول عليها منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر في كل من فرنسا وألمانيا وإنكلترا. وأخذ المهندسون الإيطاليون في القرن السادس يبنون عَلَى مقال القدماء فنازعوا بذلك هندسة القرون الوسطى نزاعاً شديداً إذ كانوا اتخذوه بمثابة اختراع للبرابرة الذين داهموا إيطاليا وهم الغوت فقد سموه الغوتي وبقي هذا التعبير لتحقير هذا الطراز من البناء يطلق عليه. وليس من ينكر اليوم أن الهندسة الغوتية هندسة متانة وإبداع فأجمل كنائس القرون الوسطى مثل كنيسة نوتردام دي باري وكاتدرائيات ريمس ولاون وأمين وبوفي وكولون وستراسبورغ وبال وفريبورغ كلها كنائس غوتية. الطراز الغوتي المدني - استعملت الهندسة الغوتية بادئ ذي بدء للكنائس ثم استعملت في لأبنية الأخرى. ففي القرن الرابع عشر والخامس عشر خصوصاً نهض بعض السادة وأغنياء المدن فبنوا لنفسهم قصوراً وفنادق وبنت المدن مجالس بلدية ولا يزال كثير من هذه الأبنية باقياً إلى اليوم أثراً باهراً من آثار الهندسة ففي إقليم الفلاندر مجالس البلديات في بروج وإيبر وأدونارد وفي فرنسا قصر العدلية في روان ونزل جاك كور في بورج. وأهم ما في هذه الأبنية المدنية مقدم البناء فهي في المجالس البلدية تشبه مقدم بناء الكنيسة والمرقب يوم مقام قبة الجرس وواجهة الفنادق خاصة تطل في العادة عَلَى عَلَى فناء داخلي ويفصل بين النوافذ صليب من الحجر (ومنه اشتق اسم المشبك) وهي مزينة بأبراج صغيرة من الورق وقد فتحت في السقوف طيقان بديعة والأجنحة والأبراج عَلَى شكل حقة الفلفل وهي في جميع الزوايا بارزة عن الواجهة والزوايا كلها مزدانة بتماثيل صغيرة وداخل الحجر مزين بغصون أو صور منقوشة بألوان جميلة. وربما لم تعمل أبنية كهذه في البهجة واللطف. الطرز الغوتي المتلألئ - كلما تقدمنا نحو أواخر القرون الوسطى رأينا الكنائس مغشاة برسوم ونقوس منوعة بديعة وأكثرها في الاستعمال ورق الملفوف المعوج اعوجاجاً غريباً فالكنيسة كانت وإحالة هذه تشبه وشياً من الحجر وهذا ما يسمونه الغوتي المشعشع شاع في القرن الخامس عشر خصوصاً وأهم ما صنع منه في ذاك العصر كنيسة وستمنستر في

إنكلترا وبرج سان جاك في فرنسا وسان أوان في روان. واعتاد القوم أن يزهدوا في الطرز الغوتي المتلألئ وأن يعدوه إفساداً للطرز الغوتي الخالص. لا جرم أن أجمل الكنائس بناء هي من العهد الأول لاختراع الطرز الغوتي ولكن معظم الدور الجميلة هي من بناء القرن الخامس عشر. صفة البناء الغوتي - لم يتفق الناظرون عَلَى التأثير الذي ينشأ من الكنائس الغوتية فإن معظم الزوار تملك عليهم مشاعرهم بما يروه من جلال تلك العقود العالية والسواري الصغيرة كالغابة بكثافتها وهي في الجو محلقة وبمنظر هذه القباب للأجراس المحددة والأوراق المعوجة والغيلان المتخيلة والأنوار التي ترسل من خلال الزجاج الملون وقفص الحجر والزجاج الذي يظهر أنه لا يقوم إلا بمعجزة كل ذلك مما يحدث اثر صناعة قابلة العطب ومخالفة للطبيعة واجتهاد قوي لبلوغ السماوات العلي. ومن هنا نشأ هذا الرأي الشائع وهو أن الهندسة الغوتية هي نتيجة سامية لعصر متألم تعذبه الحاجة إلى اللانهاية. ويقول بعض أهل هذه الصناعة أن هذه الهندسية عَلَى العكس تمتاز بنظامها المعقول وترتيبها المدقق في أطرافه وأعطافه والتأثير العام الذي يحدثه تأثير حياة قوية راقية فيها البهجة والأنس. التوسع في الحريات السياسية وارتقاء الطبقات النازلة تحرير المدن صكوك التحرير - معظم مدن فرنسا قرى قديمة يملكها أحد السادة عَلَى ما استبان من أسمائها فأن (فيل) (المدينة) أو في معناها المحلة حتى أن المدن التي يرتقى عهد تأسيسها إلى الرومان قد سقطت في أيدي أساقفتها (مثل أمين ولاون وبوفي) أو في يد الملك (مثل أورليان وباريز) أو في أيدي بعض الأمراء (مثل أنجر التي كانت للكونت دانجو وبوردو للدوق أكيتين) فكان السيد أو وكيله يحكم كما يحكم السيد عَلَى سكانه فيكرههم عَلَى أداء المال ويقضي بينهم ويحكم عليهم وكثيراً ما يأخذ منهم بضائعهم أو يوفقهم بدون سبب لأنه كان القاضي فيهم وحده. وكانت المدن في القرن العاشر حقيرة للغاية لا تمتاز عن القرى إلا أنها محاطة بسور. غدا السكان في القرن الثاني عشر أكثر غنى فأخذوا يرغبون في النظام المرتب واخذ

بعضهم بشقه عصا الطاعة أو بأدائه مبالغ باهظة يتوصلون إلى أن يناولوا من سيدهم وعوداً يسجلونها في صك فكان السيد يقول إنني أعلم الجميع إنني أمنح أهل مديني العادات الآتية وذلك بأن يدفعوا إلي من الآن فصاعداً المبلغ الفلاني كل سنة في وقت كذا وأتعهدهم بأن لا أتقاضاهم شيئاً غيره. وجرت العادة في هذا الصك أن يشفع بقائم الغرامات مثل قولهم من يضرب غيره بجمع كفه يؤدي إلى 3 سولات غرامة ومن يلبطه برجله يدفع خمسة وإذا سال دمه سبعة ومن يستل مدية أو حساماً بدون أن يضرب بها يؤدي 60 سولاً وإذا ضرب عشر ليرات ومن يبصق عَلَى غيره يسمى أجذم ويدفع لي 7 سولات الخ ويشترط أحياناً أن لا يعد الدم الذي يجري من الأنف دماً مسفوحاً وأن الأولاد في سن الثانية عشر ونازلاً إذا تضاربوا لا يغرمون ومن شأن الصك أو العهد أن يحدد كل التحديد مبلغ الغرامة أي ما يحق للسيد أن يتقاضاه عن كل خطأ يرتكب. وإليك الصورة التي عرف بها أحد رؤساء الأديار في القرن الثاني عشر واسمه كيبردي نوجان هذا العقد الذي عقد بين المدينة وسيدها: إن لفظة مديرية من الألفاظ الجديدة الممقوتة ومعناها أن العبيد يدفعون مرة في السنة فقط إلى سيدهم الدين المعتاد لقاء عبوديتهم له وإذا ارتكبوا بعض الذنوب لا يؤدون سوى غرامة معينة من قبل أما سائر السخرات والتكاليف التي تتقاضى في العادة من العبيد فإنهم يعفون منها بتاتاً. وهذه العادة في تعيين الواجبات نحو سيدهم تسمى عادات وحرية أو تحريراً. فقد عنيت جميع المدن أن تنال مثلها فبدأت الحركة في أواخر القرن الحادي عشر في مدن الجنوب وفي الشق الآخر من فرنسا في إقليمي فلاندر وبيكارديا حيث كان التجار الذين يغتنون من التجارة ومنها امتدت إلى أوربا بأسرها بحيث أنه لم ينقض القرن الرابع عشر حتى لم تبق بلاد لم تحصل عَلَى حريتها. المديريات - كان في المدن عدة ضروب من السكان وأرباب الصناعات والعملة المرتبين بحسب حروفهم ومهنهم وتجار وبيوت لها شيء من الغنى تعيش به بدون أن تعمل ويدعى مجموعهم البورجوا أي سكان مدينة حصينة (بروج) وهم محافظون عَلَى الاعتصام بطاعة سادتهم ولكن بحسب الشروط المذكورة في عهداتهم وهذه الشروط تختلف اختلافاً كثيراً. فلم يكن لهؤلاء السكان في معظم المدن من الحقوق إلا أن يعينوا أناساً منهم يسمونهم أهل الحشمة وهؤلاء هم نصحاء وكيل السيد ويعينونه عَلَى جباية الضرائب. أما في المدن التي

نالت حظاً أوفر (مثل بوفي وليل وديجون وناربون وتولوز) فقد رخص لسكانها أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وهناك كانت المديريات الحقيقية. جاء في صك العهد الذي نالته مدينة بوفي أن كل واحد يعاون الآخر ولا يسمح بأن يؤخذ منه شيء. وكان يكفي إذا اعتدى غريب عَلَى أحد سكان ليل أن ينادي للبرجوازية أي بالسكان المدينة فيهرع إلى نجدته من كان حاضر منهم ومن يختلف يغرم وللمديرية ما للفارس من حقوق فلها أن تحارب أعدائها وتخرب بيوتهم. ولها طابع تختم به عهودها علامة عَلَى حقها كما أن لها خزانة تضع فيه مالها ومرقباً فيه جرس تدعو به سكان المدينة إلى حمل السلاح (والمرقب هو كبرج الجرس عند سكان المدن) ومجلساً بلدياً أي داراً يجتمع فيه رجال المدينة يعني مجلس الرجال الذين يحكمون المدينة. رجال المدينة - يتألف رجال المدينة من أعضاء المديرية فيكونون تارة أربعة وأخرى اثني عشر وآونة مئة وأحياناً متساويين في العدد ويرأسهم رئيس في الأحايين فيعون في الجنوب القناصل وفي الشمال شيوخ البلد أو مشايخ الحرف أو الحكام يختارون من أشراف المدينة وكثيراً ما ينتخب بعضهم بعضاً أو يتوارثون الحكم أباً عن جد ولم يفكر أحد قط في القرون الوسطى أن يطالب بالمساواة سواء كان ابن المدن أو من الأشراف. ولهؤلاء الأشراف عَلَى السكان سلطة مطلقة فهم الذين يقضون في الدعاوي ويحكمون عَلَى المجرمين ويجبون الخراج ويحتفظون بمفاتيح الأبواب فيمدون السلاسل في الشوارع وقت الخطر ويقرعون جرس المرقب وعلى صوته يهب السكان بأجمعهم مدججين بأسلحتهم ويقفون طوعاً وإرادة رؤسائهم وعليهم أن يحضروا أيضاً إلى المجلس العظم إلى الساحة وإلى المقبرة أو إلى الكنيسة للمفاوضة في المسائل العامة لاسيما قرارات رجال المدينة. العدل المدني - ليس لابن المدينة أن يأخذ حقه بسلاحه كما هو شأن الفارس بل عليه أن يعمد إلى رجال المدينة أو نائب السيد ليعيدوا إليه حقه المهضوم وذلك في محكمة أبناء المدينة ويطبقوا في هذه المحكمة مقاصل العادة القديمة فالمهان أو قريب المصاب يقف موقف المدعي فيبين الجرم ويركع عَلَى الأرض ويضع يده عَلَى ذخائر القديسين ويقسم بأن ذلك الرجل ارتكب الجرم ويحلف المدعي عليه بالعكس كلمةً كلمة وقد تقضي المحكمة أحياناً عليهما بأن يتبارزا بالعصي ومن غلب منهما يحكم عليه. وإذا أتي المدعي بشهود

يجب عَلَى كل منهم أن يقسم اليمين مردداً الكلمات ذاتها من أن المدعى عليه مجرم وإذا حلف شاهدان يحكم عَلَى المدعى عليه ومن الصعب إيجاد شاهدين كل حين إذ يطلب من الشاهد أن يكون قد رأى المجرم يرتكب بعيني رأسه. يجري كل ذلك علناً في العراء ولا يسجل شيء مما يقرر فبعد البراز أو الأيمانات تصدر المحكمة حكمها قرأ أفتوه علناً وهو: بحسب الحقيقة التي وعاها مشايخ البلد نقول لكم أن هذا وجد مجرماً ذا قلنا لكم تعاقبون بما تستحقون. ويحترم رجال البلد في القرون الوسطى الصور بحيث أن أقل هفوة تكفي في خسارة الدعوى. فقد جاءت في عادة ليل أن كل من ينزع يده من القديسين (أي من ذخائرهم) قبل أن يقسم اليمين وينطق بالكلمات التي يقضي بها القانون والعادة يخسر دعواه. وكل كلام يربط من يلفظ به لأن القضاة لا يعتبرون إلا الكلام ولا يحكمون إلا عَلَى النيات وتقدر العقوبات عَلَى صورة مبرمة لا نقض فيها وليس في مكنة القضاة أن يغيروا فيها. فالقاتل يقطع رأسه وهو الذي قتل متعمداً فيجر عَلَى طبق إلى المشنقة ويصلب والذي يحرق يحرق والمرأة التي يحكم عليها بالإعدام تدفن حية وهذه القاعدة لا تتخلف في التنفيذ. وإذا أقر المحكوم عليه تعدم صورته فيحرق أو يصلب مجدار (صورة من خشب) عَلَى صورته ومثاله. وإذا انتحر أحدهم تجر جثته عَلَى نطع ويصلب فيفعل به كما يقضي العدل بأن يفعل به ل ثبت أنه قتل آخر. وإذا قتل ثور رجلاً أو افترست خنزيرة ولداً يصلب الجلاد الخنزيرة أو الثور وقد دام قتل الحيوانات عَلَى هذه الحالة إلى أواخر القرون الوسطى. تخفيف العبودية - حسنت أيضاً في القرون الوسطى حال السكان في القرى (وإن كان تحسينها عَلَى ضعف) وكنت ترى في القرن الحادي عشر العامة عبيداً أكثر مما كنت ترى أحراراً فكان معظم الفلاحين من المكلفين بأداء الجبايات عَلَى نحو ما يريد سيدهم وبقدر ما يستنسب وإذا ماتوا يخرجون عن ملكهم فتعود الأرض التي حرثوها إلى السيد واضطر عبيد القرى بعد القرن الثاني عشر كما اضطر سكان المدن سادتهم أن يحددوا ما يقضى عليهم أداؤه من مال ويعدلوا عن استصفاء الأرض لأنفسهم بعد موت صاحبها وكان يسمى ذلك التحرير أو الاشتراك (تحديد الحدود) وتكلف هذه العناية كثيراً لأن السيد لا يبذلها إلا مقابل مبالغ باهظة يتقاضاها ولكن عمله لا ينقض متى أبرم فقد أصبح العبد المشترك وهو

لا يدفع هو وأخلافه إلا جباية معينة دائمة وأمسى من العامة الأحرار وهكذا كلما نالت بعض القرى الجديدة صكوكاً بذلك يقل عدد العبيد. ولم يبق أثر لذلك في بعض الولايات خلال القرن الرابع عشر وبقي من هذا الإصلاح شيء إلى القرن الثامن عشر (ولاسيما في مقاطعات بورغونيا وكونته وأوفرنيا) لكن عَلَى قلة. ولقد نال من يحررهم سادتهم حريتهم وقضت العادة بأن كل عبد يستطيع مغادرة قريته عَلَى شرط أن يخلع طاعة سيده والسيد يحتفظ بالأرض ويجب عليه أن يطلق سراح خادمه. معاهد إنكلترا في القرون الوسطى السكسونيون - كان ينزل جنوبي بريطانيا العظمى منذ القرن السادس أناس من المحاربين الجرمانيين سكسونيين وإنكليزيين الذين كانوا يأتون من سهل ألمانيا الشمالية الواسع المضب (المملوء بالضباب) القاحل بلغو هذه الأرض مسلحين عصابات مع أسرتهم وقد أبادوا الشعوب القديمة أو طرحوها إلى أطراف البلاد إلى جبال كورنوال القاحلة وبلاد الغال وكانوا من الجرمانيين الخلص شقر الشعور زرق العيون ضخام الجسام مفتلي العضلات بيض الوجوه عظاماً في مآكلهم عظاماً في حروبهم يقضون النهار عَلَى المائدة (في قصور ملوكهم أربع وجبات من الطعام كل يوم) فيزدردون أبقاراً برمتها ويشربون شراب العسل ملء أوانيهم كما يتعاطون شراب العسل المخمر الذي يسكر أقوى الرجال ومتى طفحوا يغتنون بملاحم محاربيهم يحبون الحروب حتى أنهم لما انتصروا أيضاً كانوا يحبون أن يموتوا والأسلحة بأيديهم. قال الدوق دي نور تومبرلاند وهو عَلَى فراش المرض: أي عار علي يلحقني إذا أنا لم أمت في الحروب التي خضت غمراتها وأن أموت كما يموت البقر ضعوا لي درعي وسيفي وخوذتي وترسي وفأسي المذهبة حتى يموت المحارب العظيم وهو في حالة القتال. ولقد كانوا يقتتلون سكسونيهم مع سكسونيهم والأقرباء بعضهم مع بعض. رأينا توستي أخا آرولد في القرن الحادي عشر مغاطباً من نيل أخيه الحظوة من الملك ذاهباً إلى أحد القصور الملوكية حيث كان أدب آرولد مأدبة ويقتل خدمة آرولد ويقطع رؤوسهم ويبتر أعضاؤهم ويجعلها في أواني الجعة وشراب العسل ويبعث إلى الملك يقول له: إذا قصدت قصرك تجد فيه زاداً طيباً من اللحم المملح. وبذلك يعد رجال تلك الأحقاب شجعاناً

مخلصين صادقين لآبائهم وساداتهم في لعب السيوف أشداء عَلَى الأعداء والأولياء وقد ورد في القصيدة السكسونية الوحيدة التي أبقتها الأيام أن بيوفولف البطل مات دفاعاً عن شعبه بإنقاذه من تنين كان يحرس كنزاً. وإليك منشأ الأمة الإنكليزية: مقاتلون متوحشون سفاكون ولكنهم أهل مضاء وإخلاص. النورمانديون - كان السكاندينافيون (الدانيمركيون والنرويجيون السويديون) في القرن التاسع كما كان الجرمانيون في القرن الرابع أهل غارة متوحشين وثنيين تقضي عادتهم أن يرث ولد واحد من أبيه بيته وماله أما سائر الأولاد فينضمون عصابات بعضهم إلى بعض ليذهبوا في طلب الثروة. فالمقاتل البربري إذا لم يخلف له أهله ما يعيش به يرى من دواعي شرفه أن ينال الغنى بحد الحسام ويعتبر العمل مخلاً بشرفه فإذا لم يكن مالكاً يسرق وينهب وإذا جاور السكاندينافيون البحر أصبحوا قرصاناً فتبحر العصابة منهم في قوارب خفيفة ذات قلوعي بقيادة زعيم تختاره من بين ملوك البحار الذين طالما فاخروا بأنهم لم يناموا تحت سقف ولم يفرغوا قرن الجعة بالقرب من الدور المأهولة. ذهب تلك العصابات ذات اليمين وذات الشمال فمنها من ضربت نحو الشمال تفتح أيسلاندا وغيروانلاندا واعتصمت أخرى في القلاع تنهب السفن وتستاق القطعان هكذا كان شأن رؤساء القرصان المشهورين في جمسبورغ الذين أرغوا البحر البلطيكي وأزبدوه خلال قرنين وقد آثر أكثر تلك العصابات أن يذهبوا إلى البلاد التي حازت شطراً من المدنية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا فنزلوا فجأة عَلَى الشواطئ وساروا في الأنهار ينهبون الدور ويهاجمون المدن إذا كانت حصينة ويشتدون في بمعاملة الكهنة لكراهة فغيهم بصفتهم وثنيين فكانوا يقولون لهم إنا أقمنا لهم قداساً من الرماح. وكانوا يدعون فقي إنكلترا الدانيمركيين وفي غيرها رجال الشمال (النورمانديين) وقد قبلت العصابة الرئيسة فيهم أن تستوطن فرنسا وكانت الولاية التي اصبحت نورمانديا خاملة لم تشتهر قط وبعد قرن ونصف عرفت في جميع أوربا فاقتبس النورمانديون في الحال الدين المسيحي واللغة الفرنسوية (ولم يتكلم باللغة الدانيمركية إلا في بايو) وتألفوا مجتمعاً وكان هذا المجتمع المؤلف من قرصان عَلَى نظام وترتيب أكثر من غيره. فكان الدوق مطاع الكلمة فيهم يعدل بين قومه كلهم وإقليم نورمانديا الوحيد في أقاليم فرنسا الذي حظرت فيه الحرب الخاصة وكان العدل منظماً عاماً

للجميع. ولقد رويت من هذا القبيل قصة خاتم الذهب الذي ظل معلقاً عَلَى شجرة بدون أن يجرأ إنسان أن يسرقه ومع هذا فقد احتفظ النورمانديون عَلَى كر الدهور بأجسامهم الضخمة الشقراء وبالمضاء والإقدام عَلَى العمل الذي انتقل إليهم من أجدادهم المتشردين. الفتح النورماندي - زعم غيليوم دوق نورمانديا أن ورث من تاج إنكلترا فأعطاه البابا الحق في ذلك وبعث إليه بعلم مقدس فجمع جيشاً قوياً نحو ستين ألف متشرد ليسترد مملكته وكلهم من الفرنسيس ووعدهم بأن يمنحهم أراضي وبعد أن كتبت لهم الغلبة أهمل أمر جنده وتركهم يعولون أنفسهم ويسكنون بيوت السكسونيين اللذين حاربوه ويحلون في أملاكهم ويأخذون بالقوة أياماهم أو وراثاتهم وهكذا يصبحون أرباب أكلاك وشرف (وهذا ما دعي بفتح إنكلترا) وأصبح بعد ذلك معظم الأشراف والأحبار فرنسيساص لم يقتبسوا أخلاق السكسونيين إذ كانوا يحتقرونهم بل ظلوا يتكلون بالإفرنسية ويعيشون عيش فرسان الفرنسيس فيبعثون بأولادهم إلى نورمانديا ليعلموهم اللغة وقضى بأن لا يتكلم في المدارس إلا باللغة الإفرنسية أو اللاتينية وبقيت اللغة الإفرنسية مدة ثلاثة قرون لسان الملك والبلاط والأشراف والقضاة وظلت الحال عَلَى هذا المنوال حتى أواخر القرن الرابع عشر والقوم يؤلفون قصائد إفرنسية وقد اعتذر شاعر يقصد القصيد باللغة الفرنسوية عما ارتكب من غلطات اللسان بقوله عفواً عما بدر عني فإني إنكليزي. الملوكية - حكم الملوك الجدد مملكة إنكلترا كما حكموا دوقية نورمانديا والناظم والترتيب رائدهم وأخذوا يستنبطون أسرار مملكتهم واختار الملك أناساً من الأشراف (البارونات) يطوفون البلاد طولاً وعرضاً يبحثون عن الأراضي ويسجلون جميع أملاك إنكلترا مبينين لكل واحد كيف تسمى الدار ومن يملكوها وكم كان ثمة من الأراضي والعبيد والعامة والأحرار والحراج والمروج والمراعي والمطاحن مع أثمانها كلها وهكذا ألف كتاب - وبفضل هذا الإحصاء العام استطاع أن يعرف مبلغ قوته ومن هو الشعب الذي يبذل طاعته وذلك من الشروط الضرورية في الحكم عَلَى ما نرى ولم توفق غير نورمانديا وإنكلترا أن يتحققاه في القرون الوسطى ثم ذكر الملك أن كل إنسان حر (لا كبار السادة من أتباعه بل جميع الفرسان) ويقسم أن يذود عن حياض أرضه ويحمي شخصه من اعتداء العدو واستطاع الملك عَلَى هذه الحال أن يجمع في جيشه جميع فرسان إنكلترا.

ولقد استخدم الملك في كل كونتيته التي قسمت المملكة بها أقساماً عاملاً وهو الفيكونت واخذ منذ القرن الثاني عشر يبعث بقضاة جوالين وكان لدى الملك مجلس يبيت بالمسائل الكبرى وقضاة يقضون في المسائل التي لها علاقة بالملك (وتسمى هذه المحكمة مقعد الملك) وقضاة للنظر في حساباته ومداخيله (وكان هؤلاء هم قضاة الرقعة. سموا كذلك لأنهم كانوا يجتمعون حول منضدة مغشاة ببساط عَلَى صورة رقعة الشطرنج) وكان المستشارون والقضاة ونواب القواسة (فيكونت) ينصبون ويعزلون من قبل الملك ولهم الحق باسم مواليهم أن يسيطروا عَلَى أعظم السادات وأن يطلبوهم إلى التقاضي وأن يحكموا عليهم. ويحظرون عليهم أن يتحاربوا بينهم كما كان شأن أشراف فرنسا وكل من كان بداهم عدوه في إنكلترا بحجة أنه يريد أخذ حقه بيده يحاكم لأنه نقض سلام الملك ولم يكن في جميع أوربا مملكة حازت مثل هذا النظام ولا ملك أطيع هذه الطاعة. النبالة الإنكليزية - قسمت إنكلترا إلى محلات كبرى يقوم عَلَى زراعتها العامة والمزارعون وتسمى كل محلة بيتاً أي منزلاً وتتألف منها قرية وكان للسادات الذين يدعون بالفرنسية بارونات وبالإنكليزية لوردات عدة بيوت مجموعة في سمط واحد وملك أعظم سادات إنكلترا من خمسمائة إلى ستمائة محلة ودعوا بقلب (كومس كونت) (وبالإنكليزية آرل) وكانت هذه البيوت منبثة في أنحاء إنكلترا عامة ولم يكن للقومس كما في فرنسا ولاية هو الحاكم المتحكم فيها وحده يشهر حربها وإليه يرجع أمرها وكان قوامسة إنكلترا من الغنى عَلَى جنب عظيم بيد أنهم لم يكونوا ملوكاً كما كان أمثالهم في فرنسا. ولقد كثر عدد الفرسان بادئ بدء فكانوا في القرن الحادي عشر ستين ألف رجل شاكي السلاح وصاحب الملك ومن العادة أن يملك كل واحد بيتاً وإذا حظر عليهم الملك أن يقاتلوا لم يلبثوا أن نسوا سريعاً المران عَلَى الحروب والذوق فيها وبينا كان الفرسان في فرنسا يحاربون مدفوعين بعامل الهوى والتلذذ كان فرسان إنكلترا منذ القرن الثاني عشر يرون خدمة الجندية وطاعة الملك فيها ضرباً من ضروب السخرة الشاقة ولذلك عت الحاجة أن يحمل الملك أرباب الأملاك أن يتجهزوا بجهاز الفرسان ولما عرض عليهم أن يشتروا منه أنفسهم بدفع بدل مالي عن الخدمة قبل أكثرهم مقترحه والجدل آخذ منهم. وجاء زمن (1278) أصجر فيه الملك أمره إلى نواب قوامسته أن يكرهوا جميع الرجال الذي يتجاوز

دخلهم العشرين جنيهاً إنكليزياً عَلَى الدخول في غمار الفرسان. ولقب فارس عَلَى كثرة رغبة الناس فيه في فرنسا كان مزهوداً فيه كل الزهد في إنكلترا فيكتفي هنا أن يظل أشراف الإنكليز من حملة السلاح (سلاحدار) يعيشون في الفلاة متوفرين عَلَى حرث أراضيهم وما من فارق يميزهم عن صغار الأحرار في حين كان في فرنسا لمن أراد أن يكون شريفاً أن يكون من نشل أب شريف أما في إنكلترا فيرون شريفاً كل من كان له دخل كاف ليعيش برفاهية فإن المزارع الذي اغتني يصبح شريفاً. ولم يكن من فرق بين أشراف الحقول في القرن الخامس عشر وبين صغار أرباب الأملاك غير الثروة ولذا لم تصبح النبالة بالإنكليزية طبقة لا يدخلها غير أهلها مناقضة لسائر الطبقات كما في فرنسا. العهد العظيم - كان الملك في إنكلترا قوياً والأشراف ضعفاء وهو عَلَى يقين بأنه ما من رجل من رعاياه يستطيع أن يقاومه ولذلك يسيء استعمال قوته فيضطر الأشراف أن يمدوه بالمال ويغتصب منهم أراضيهم وغلاتهم وماشيتهم ويسجنهم من دون ما سبب ويعدمهم بلا حكم. ولقد شوهد رجل يقتل لأنه ضرب أيلاً كان في غابة الملك وبقيت طريقة الحكم قرناً ونصفاً عَلَى هذا المنوال وانتهى الأمر بالبارونات أن بلغوا من الضعف مبلغاً لم يستطيعوا معه أن يقاموا منفردين بل اشتركوا ليقاموا تلك القوة يداً واحدة فاغتنموا فرصة كان فيها جان سان تر في حرب مع ملك فرنسا وحاجته ماسة إلى معاضدتهم فهددوه سنة 1215 بأن يتخلوا عنه حتى أكرهوه أن يقسم لهم أيماناً علناً بان يحترم في المستقبل جميع ضروب الحرية أي حقوق الرجال الأحرار في مملكته. وكتبت وعوده في عهد دخل في 63 ماجة ختمه الملك بطابعه وكان هذا هو الصك العظيم المرشد وإليك المادتين الرئيسيتين منه: لا يوضع مال جديد عَلَى جميع المملكة قبل أن يراجع مجلسها العام. لا يوقف رجل حر ولا يحبس ولا ينفى ولا يؤذى بوجه من الوجوه ولا نقبض ولا نأمر بالقبض عَلَى أي شخص إلا بحكم عَلَى الأصول بين أقرانه وبحسب عادة البلاد. وهكذا تعهد الملك (أولاً) أن يكف عن أموال رعاياه ويعف عن أخذ حاجاتهم إلا برضاهم (ثانياً) أن يحترم أشخاصهم بحيث لا يجازيهم إلا بعد صدور حكم عَلَى الأصول. عَلَى أن هذا التعهد لم يخرج عن حد الوعد وما من قوة تحظر عَلَى الملك أن ينقضها وكثيراً ما نقضه إلا أن الملك عند جلوسه يجدد هذا الوعد (وقد جدد الصك العظيم 33

مرة). وهذا القسم ينبه الملك الجديد عَلَى الأقل إلى واجبه وهذه الوعود مسجلة في عهد علني يعرفها كل إنكليزي يذكر للرعايا فيه أن لهم الحق أن لا يؤخذ مالهم ولا يوقفوا بحسب رغائب الملك. ومن هذين الفكرين نشا ترتيبان ابقيا عليهم حريتهم وهما مجلس النواب ومجلس المحكمين. فالعهد العظيم يقضي بأن للملك حقوقاً كما أن للأمة حقوقاً فهو أساس حريات إنكلترا. أصل نجلس المحكمين - للملك في إنكلترا الحق فقط في أن يقضي في الجنايات ويحكم بالإعدام فهو يعين القضاة ويبعث بهم يطوفون مملكته. فلي كل سنة وفي كل بلد في أوقات معينة يأتي قاض من قبل الملك يؤلف باسمه مجلساً عاماً يحضره الأحرار والأشراف وسادات الكورة ويسمونه مجلس قضاء الجنايات (وقد حفظ هذا الاسم وانتقل إلى اللغة الإفرنسية) فينظر القاضي في الدعاوى والجنايات التي ارتكبت في المملكة ويستعين باثني عشر رجلاً شريفاً ويحلفهم أن يقولوا بعدل ما يعرفونه ويبدأ بالتحقيق لكشف الغطاء عن الحقيقة ويسألهم أي المدعيين محق في دعواه إذا كان المدعى عليه مجرماًَ أو بريئاً يحكم في مسائل الجنايات بموجب أجوبتهم بين الخصمين وكان يسمى هذا الضرب من الحكم التحقيق البلدي والاثنا عشر رجلاً منة الفرسان الذي أخذت آراءهم يسمون المحلفين أو المحكمين وهكذا نشأ مجلس المحلفين (ولم ينظر أولاً إلا في القضايا المتعلقة بالأملاك ومنذ القرن الثالث عشر أصبح ينظر في المسائل الجنائية) وقد اخترع القضاة هذا المجلس لتسهيل عملهم فكان أعظم ضمان من ظلم القضاة لأنه يطلق الحكم عَلَى المتهم للوطنيين. وما مجلس المحلفين إلا من الأوضاع في إنكلترا وعنها أخذ جميع أمم أوربا تقريباً. مجلس نواب إنكلترا - كانت الأموال التي تجبى للملك من أملاكه والغرامات التي تتقاضى باسمه تكفي لنفقة داره والإدرار عَلَى رجاله وإذا نشبت الحرب لا تعود تكفيه بتاتاً فيكتب إلى جميع أرباب الشأن من أمته ويستدعي الأساقفة والبارونات برسائل خاصة فيجتمعون لديه ويقررون بينهم الضريبة التي يرخص للملك أن يجبيها وكانت هذه المشورة مقصورة زمناً عَلَى كبار الرجال (وهم الذين أخذوا من (جان) العهد العظيم) وفي أواخر القرن الثالث عشر سمح لكل مدينة وقصبة أن تبعث برجلين من أبنائها. ولكل مجلس مديرية أن يرسل فارسين يختارهما ولم يجيء هؤلاء النواب أولاً إلا لاستماع ما يقرره كبار السادات ليحملوا

خبره إلى بلادهم ثم قبلوا في الدخول بالمناقشة. وقد سمي هذا المجلس الكبير بالبرلمان (مجلس الشورى) ولا يستدعيه الملك إلا ليسأله تقريراً في جباية مال إلا أن العادة جرت بأن البرلمان قبل أن يمنح الملك ما يريد يضطره إلى سماع شكاويه وكثيراً ما يسأله إصلاح إدارته أو عزل عماله. وهذه طريقة في الحكم بالواسطة وحاول البرلمان مرات أن يجعل عَلَى الملك رقباء إلا أن هذا تخلص منهم ولم تثبت العادة في ذلك إلا أن القوم اعتادوا الاستئناس بفكر أن الواجب عَلَى الملك كل سنة أن يجمع المجلس. مضى زمن طويل والسادات الأساقفة يدعون وحدهم فقط ولذا كانوا يجلسون عَلَى انفراد ويتألف منهم مجلس اللوردات (النبلاء) وفرسان الكونتيان سكان المدن الذين تبعث بهم البلاد يؤلفون مجلساً جديداً هو مجلس العموم (النواب). وإلى هذا التنظيم ترجع شؤون إنكلترا فبدلاً من أن يتخذ صغار الأشراف مع كبارهم لمقاومة الطبقة الوسطى (كما حدث في فرنسا) قد اتحدوا عَلَى العكس معها وظل اللودرة قرنين يقودون مجلس النواب وفي خلال حرب الوردتين أفنى بعضهم بعضاً بحيث لم أنه يبق سنة 1486 غداة تولت أسرة تودور زمام ملك إنكلترا سوى 25 لورداً وأحدث الملك لوردات من جديد إلا أن الجدد منهم لم يحوزوا ما كان القدماء من الاعتبار. وأخذ مجلس النواب في القرن السادس عشر يدير شؤونه بنفسه ويستمتع بماله من السلطة. هكذا نشأ مجلس نواب إنكلترا الذي تكفل وحده بجعل الإنكليز بمأمن من الدفاع عن حقوقهم من الاستبداد الملكي فالبرلمان هو من الأوضاع المبتكرة خاص بإنكلترا حدا جميع الأمم الممدنة أن يروا من الشرف حذا مثاله. الأمة الإنكليزية - امتزج السكسونيون والنورمانديون كل الامتزاج في القرن الخامس عشر فتألفت منهما الأمة الإنكليزية بعد أن كانا شعبين متباينين وأصبحت لغاتهم لغة واحدة جديدة وهي اللغة الإنكليزية والتي أصلها اللغة السكسونية القديمة وهي لغة الشعب وتشبه لغة الأقاليم التي لا يزال ألمان الشمال يتكلمون بها إلى اليوم. أما اللغة الفرنسية لغة الشرفاء فإنها لم تأت إلا بألفاظ علمية ومصطلحات في الحقوق السياسية والفلسفة (بيد أنها تهزعت في النطق بحيث لا تكاد تعرف) فامتزجت اللغتان حتى بات من المتعذر تركيب جملة إنكليزية بدون الرجوع إلى الكلمات السكسونية. وما كانت الأمة الإنكليزية في أواخر القرن الخامس عشر أمة رجال البحر والتجارة كما

هي اليوم وما من شيء كان يدل عَلَى ما يكون مصيرها فقد كانت المدن صغيرة حقيرة إلا أربع منها فقط يزيد سكانها عَلَى عشرة آلاف نسمة حتى أن صوف الغنم الإنكليزي لم يكن ينسج في إنكلترا بل يبيعه الإنكليز من حاكه فلا ندر عَلَى نحو ما تقدم أوستراليا اليوم صوفاً للمعامل الإنكليزية وما كان لهم بعد أسطول ولا ملاحون وهم عبارة عن فلاحين ومربي حيوانات ومع هذا فقد كان يلاحظ الناظر فيهم صفات تكون أمة عظمى ألا وهي النشاط وفكر الاستقلال وبطل القصائد الإنكليزية روبين هود زعيم اللصوص عاش في الغابة يقتل حراسها وبطل الشحنة ومع هذا كان يجود عَلَى فقراء الأكارين وقد صادف ذات يوم عَلَى جسر جان الصغير الذي لم يرض أن يذل له فأخذا يقتتلان بالعصي حتى رنت عظامهما فسقط روبين في الماء وهكذا أصبحا أحباباً وأخذ الإنكليز يحبون هذه المقاتلات التي يخرج منها المتقاتلان وقد كسرت ثناياهما وانثلمت خاصرتاهما وإليك المديح الوحيد الذي مدح به أمته أحد أشراف الإنكليز السير جون فورتسكو: كثيراً ما شوهد في إنكلترا ثلاثة أو أربعة من اللصوص ينقضون عَلَى سبعة أو ثمانية من أبناء الحشمة ويقتلونهم بأجمعهم أما في فرنسا فلم يشاهد سوى سبعة أو ثمانية من اللصوص ليس لهم من الجرأة إلا ما يستطيعون معه ثلاثة أو أربعة من أهل العرض ولذا كان المصلوبون من الرجال في إنكلترا خلال سنة بدعوى اللصوصية والقتل أكثر مما كان في فرنسا محكوم عليهم منهم بمثل هذه الجرائم مدة سبع سنين. ولذا احتاج هؤلاء الإنكليز حاجة لا تغالب إلى الاستقلال. قال هذا المؤلف بعينه: إن الملك لا يستطيع أن يحكم عَلَى هذه الشعوب بغير القوانين التي أقروا هم عليها ولذلك لا يستطيع أن يجني منهم ضرائب بدون رضاهم. ثم قابل بين رفاهية الفلاح الإنكليزي وشقاء الفلاح الفرنسوي فقال أن كل ساكن في هذه المملكة يتمتع بالثمرات التي تأتيه به أرضها وماشيته يستعملها كما يشاء وما من أحد يحول دونه ودون الاستمتاع بها اغتصاباً ولا يطلب قط إلى التقاضي إلا أمام القضاة العاديين وبحسب قانون البلاد ولذا اغتنى أهل هذه الديار فملكوا الذهب والفضة وجميع الحاجيات فتراهم لا يشربون ماء بتة اللهم إلا أن يكون ذلك عَلَى سبيل التوبة ويطعمون لحوماً وأسماكاً بكثرة وأقمشتهم من جيد الصوف قهم أغنياء بأثاثات بيوتهم وبأدوات الزراعة وفي كل ما من شأنه أن يجعل الحياة وديعة.

مدن القرون الوسطى الفتح الألماني - تخلت الشعوب الجرمانية بهجرتها إلى الغرب لتدخل إلى الإمبراطورية الرومانية عن بلاد الشرق لشعوب من عنصر آخر وهم السلافيون (الصقالبة) حتى لقد غدت جميع البلاد الواقع شرقي الألب ملكاً لقبائل من السلافيين وقد صادف القديس بونسياس حتى عَلَى شواطئ الفوادا أناساً من السلافيين هزؤا منه وسخروا وبقي ما وراء ذلك من مستنقعات شواطئ بحر البلطيق شعوباً قديمة (كالبروسيين والليتوانيين والفنلنديين) وهو الشعوب وثنية محاربة ولكنها رديئة السلاح منقسمة إلى قبائل لا قبل لها بالمقامة فشرع الألمان في تنصيرهم وإخضاعهم وأنشأ ملكوك جرمانيا بلاداً عَلَى التخوم وأطلقوا لقومها حرية الحكم كما يشاؤون ومن هذه البلاد نشأت الثلاث إمارات الألمانية الرئيسية وهي إمارة براندبورغ مملكة بروسيا وإمارة ميسني وسط مملكة الساكس والإمارة الشرقية في جنوب مملكة النمسا وأسسوا أيضاً أسقفيات بعثت من قبلها المرسلين. أخذ التنصر يجري ببطء (من القرن العاشر إلى الرابع عشر) بطرق مختلفة فدان بالمسيحية أمراء الصقالبة في معظم البلاد عَلَى أيدي نسائهم اللاتي تنصرن وحطموا الأصنام وأكرهوا رعاياهم عَلَى قبول الدين المسيحي وكان من يتناول اللحم في الصوم الكبير من أهل بولونيا تقلع أسنانه عقاباً له. وبقى السكان في تلك البلاد صقالبة. ونال زعيمهم الوطني لقب دون أو ملك ويعترف أنه من عمال الإمبراطور ولم تكن معظم هذه الأمم عَلَى شيء من التعصب ولما جاء برنارد الإسباني إلى بومرانيا لينال الشهادة أخذ في تحطيم الأصنام المقدسة فاكتفى الوثنيون بضربه وإذ قد ظل عَلَى الدعوة الدينية اركبوه عَلَى قارب في نهر الأودر قائلين إذا كنت كثير الرغبة فيما أنت آخذ نفسك بسبيله فاذهب لبث دعوتك بين الأسماك والطيور. وعلى العكس تمرد بعض الشعوب في الشمال فإن الأوبتريين ذبحوا ملكاً يريد أن ينصرهم (1066) وبعد ذلك قام الليفونيون وكان أتاهم الفرسان الألمان وعمدوهم مكرهين يسرعون في أثر الجيش يلقون بأنفسهم في نهر الدونا ليتسلوا من العماد وعلى أولئك أعلن الألمان حرباً أبادوهم فيها وقد فتح قوامسة الرهبنة التوتينية بلاد بروسيا وفرسان حملة السيوف ليفونيا وليستونيا فكانوا يحرقون القرى ويذبحون الرجال ويعودون بالنساء والأولاد وقد

كثر بيع الأسرى السلافيين في بلاد ألمانيا كلها حتى أصبحت كلمة سلافي في الإفرنسية والألمانية مرادفة لكلمة عبد وبقيت كذلك وقد باد الوانديون (ولم يبق منهم إلا بقايا لجأوا إلى مستنقعات سبرى وعاد البروسيون والليفونيون رعايا هكذا فتح العنصر الألماني ثلاث ولايات جديدة براندبورغ وبروسيا وليفونيا). الاستعمار الألماني - كانت السهول العظيمة من نهري الأودر والفيستول منخفضة رطبة ومغشاة بغابات وسط البطائح فولاية براندبورغ (رملة ألمانيا) لم تكن غير صحراء كئيبة من الرمل ولا يزال الرمل إلى اليوم عندما يهب الريح يسد أبواب البيوت وعند شيخ البلد في أرض فلامن مفاتيح عين البلد يوزع كل صباح عَلَى السكان ما يحتاجون إليه من الماء فاستدعى أمراء الألمان والسلافيون من ألمانيا فلاحين وأرباب صنائع يأتون إن أحبوا لزرع هذه الرمال واستثمار الغابات وتأسيس المدن وأنشأ الألمان يهاجرون عن رضى خلال قرنين وأتت ألوف من السر ألمانية تتوطن في القفار الشاسعة من الشرق كما يذهب الناس في أيامنا لاستيطان صحارى أميركا الشاسعة. فكان الأمير يبيع من أحد الملتزمين قطعة من غابة أو طريدة من الأرض تكفي لإنشاء قرية فيجلب الملتزم فلاحين ويوزع عليهم الأراضي حصصاً حافظاً لنفسه مالاً ويجبيه في أوقات معينة فيكون حاكمهم الوارث إلا أن الفلاحين يبقون أحراراً لأنهم هم الذين أحيوا موات الأرض ويحتفظون بعاداتهم الألمانية. وإذا أريد تأسيس مدينة يقيم لها الملتزم خنادق وحوائط في جهاتها الأربع ويؤسس فيها سوقاً يحفظ لنفسه الحق أن يأخذ منهم رسوماً. جرت هذه الأعمال عَلَى مهل تحت طي الخفاء ولقد شغل مؤرخو تلك الأيام بذكر حروب الأباطرة فلم يفكروا بأن يلموا في الصورة التي جرت في تأسيس ألوف من القرى ومئات من المدن في براندبورغ وبومرانيا وبروسيا وسيلزيا وبوهيميا. ونشأت في الجهة الأخرى من نهر الألب ألمانيا حديثة ألمانيا العاملين والجنود ألمانيا النمساويين والبروسيين الذين آل إليهم فيما بعد أمر جميع أمم ألمانيا القديمة. المدن الحرة - أسست المدن الرئيسية في ألمانيا حول قصر الملك أو حول بيت أسقف أو أمير فالملك أو الأسقف سيد المدينة والتجار مستأجرون لأن أرض المدينة ملكه وأرباب الصناعات عبيده يعملون له ولرجاله وفرسانه وخدامه يحكمون عَلَى الصناع والسوقة. وكلما نما الشعب يتخلى الملك عن النظر في شؤون السكان حتى انتهت الحال أن لا يتناول

سوى رسوم مقررة من الصناع أخلاف العبيد فلم يعد في المدن سوى رجال أحرار فالمدن التي زاد نجاحها في القرن الثاني عشر هي من أملاك الأساقفة جاء في المثل الألماني ما أحلى عيش المرء في ظل العكاز فيجمع الأسقف خدامه وأهم التجار في مجلسه ليحكموا مدينته ولم يكن هذا المجلس سوى مجلس للأسقف. ولما قوى نفوذ المدن في القرن الثالث عشر وطردت أساقفتها أصبح ذاك المجلس مجلس المدينة وغدت له سلطة أمير فكان يقضي ويشهر الحرب ويخاطب الإمبراطور مباشرة وتسمى المدينة المدينةُ الحرة لأنها لم تخضع لسيد. الصنائع - قسموا الصناع إلى طوائف منذ كانوا عبيد الأسقف يعملون له ولرجاله وكل طائفة تؤلف من صناع يحترفون حرفة واحدة ويخضعون لأحد خدام الأسقف وتسمى مهنة (أي خدمة) وزعيمها وكيل المدير أو شيخ الحرفة وذلك مثل مهنة الحدادين ومهنة السروجيين ومهنة الخياطين وغيرها ومن هنا اشتق اسم صنعة بالمعنى الذي نطلقه عليها وأصبح أرباب الصناعات أحراراً بالتدريج فبدلاً من أن يصنعوا لسادتهم وهم يعولونهم يعملون لحسابهم ويبيعون ما يعملون في السوق ظلوا منظمين طوائف بحسب الحرف ويتألف من كل حرفة جماعة ولهم صندوقهم العام وعلمهم الذين يحملونه في الحفلات ويرفعونه إذا خرجت المدينة لقتال ولهم حاميهم المقدس (ويسمون في فرنسا شيوخ الحرف) ولهم نظاماتهم بحسب عادة القرون الوسطى كانت عادات لا حاجة لتدوينها. وفي فرنسا لم تدون عادة صناعات باريز إلا في أواسط القرن الثالث عشر وهذا القانون يبين الشروط التي يقبل بها المرء في هذه الصناعة. فيبدأ الولد بأن يكون خريجاً عَلَى معلم في الصنعة فيعلمه المعلم صناعته ويطعمه ويؤويه فالخريج يعمل لحسابه ويخضع لها وللمعلم الحق بأن يضربه وبعد بضع سنين يصبح الخريج رفيقاً ولا يزال يعمل باسن معلمه وله أن يغادر معلمه ويذهب إلى غيره فالرفقة هم أناس متنقلون وكثير منهم يتنقلون من مدينة إلى أخرى يعرضون عَلَى أرباب الصناعات أن يشتغلوا معهم وبقيت هذه العادة جارية في فرنسا في تنقل صاحب الصنعة في أطراف البلاد. ومن كانوا عَلَى شيء من الغنى يفتحون حوانيت ويصبحون معلمين ولهؤلاء فقط الحق في أن يعطوا آرائهم في مجلس أهل الصناعة وتبين القوانين كيف يجب العمل ويحظ عَلَى العامل أن يشتغل في غير دكانه وبذلك يتيسر

للجمهور أن يراقبه. ويحظ عليه أن يعمل تحت نور المصباح حتى لا يعمل عملاً رديئاً ويمنع من استعمال مواد أخرى أو عمل أشياء تخالف القدر الذي أمر به القانون فالصياغ مثلاً لا يطلون الذهب بالفضة وصناع التماثيل لا يستعملون إلا أجناساً مخصوصة من الخشب وإذا كان ثوب الجوخ أكثر أو أقل عرضاً من مقياس المقرر يصادر ويغرم صانعه ويحتفظ أهل الصنعة بشرفهم وشرفهم أن يبيعوا إلا بضائع حسنة السرد والتقدير ولذا كان يراقب بعضهم بعضاً أشد المراقبة ثم أنهم يعضدون بعضهم بعضاً أمام الغرباء وأمام سائر أرباب الحرف وليس لأحد في المدينة الحق أن يصنع سلعة أو يبيعها إلا معلمو الصناعة فيغرم كل رجل يفتح دكان خياط قبل أن يقبل في صناعة الخياطين وتغلف دكانه فحق عمل شيء من الصناعة وبيعها ملك خاص لأهل تلك الصناعة فالخياطون يمنعون باعة الخلق (الأسمال) من بيع ثياب جديدة لأن لهم وحدهم الحق في عمل ذلك وما عمل باعة الخلق إلا أن يبيعوا ألبسة عتيقة وصانعوا اللحم يتقاضون عَلَى السروجيين ليمنعوهم من عمل اللحم وذلك لأن صناعات القرون الوسطى كانت تحاذر من المنافسة كثيراً. وأهم أرباب الحرف هم الخبازون والقصابون والحاكة والصباغون والبناؤون والدباغون وصانعوا الأسلحة والنجارون وعدد الصناعات متوقف عَلَى مكانة المدينة وليس في كثير من المدن الألمانية سوى 18 أو 20 صناعة وكان في باريز زهاء مئة حرفة وذلك لأن عدة صناعات مختلفة يمكن جمعها في صناعة واحدة أو أنه يتيسر تجزئة الصناعة الواحدة إلى عدة حرف (في باريز مثلاً ثلاث حرف لصناعة السبحات).

الخزانة الزكية

الخزانة الزكية أو مجموعة كتب أحمد زكي باشا المصري ليس في بلد الإسلام بلدة كمصر ضاهتها بنهضتها وضارعتها برجالها. ولا أرض كتب لها أن اقتبست من مدنية الغرب القدر الكافي الذي قام منذ نحو قرن بفضل عصابة فاضلة تشبعت بالحضارة الحديثة والحضارة القديمة فأتت من جلائل الأعمال ما أعجب به البعيد والقريب. واسم أحمد زكي باشا أمين سر الوزارة المصرية (سكرتير مجلس النظارة) وأحد نوابغ مصر في هذا العصر يجب أن يثبت في القائمة الأولى من أسماء أولئك العاملين الأخيار. ربما تقول بعض الحاسدين (وهل خلا يوم ذو نعمة من حاسد جاحد) ـ: إن عين الحب رمداء، فأنت يا هذا تنوه بأصدقائك كثيراً في حين ينزلهم المصنفون منازلهم، ويزنونهم بمعيار نراك لا تحسن استعماله. فلا تستهويهم المحبة في نقد رجالهم وتقدير أعمالهم وجوابنا لمن يقول هذا ويدعي أن زكي باشا يعرف فقط كيف يظهر لقومه مسائل يحسنها: إن من حفظ حجة عَلَى من يحفظ، ونحن قد نظرنا في أكثر أعماله العلمية منذ زهاء اثنتي عشرة سنة وأطلنا التأمل في كتبه تأليفاً كانت أو ترجمة وفي مقالاته ومحاضراته وحكمنا العقل ونبذنا الهوى ثم انقلبنا ونحن عَلَى مثل اليقين بأن أمثاله قلائل في مصر والشرق، وأنه عامل أمين في خدمة أمته، ولغته جدير أن يقرن في العلم والعمل مع نظرائه من أساتذة الغرب. أمثال صديقنا هذا وهم لا جرم صفوة أجيال أتت عَلَى مصر وهي تنهض حتى وصلت بفضل حكومتها - لا التي تناهض أبناءها الراشدين بل تأخذ بأيديهم - إلى هذه الدرجة من الرقي ويمتاز عَلَى كثير من الخاصة بمضائه ونشاطه. عرفه بذلك قومه وهو يافع فشاب، وهو اليوم كذلك في سن الكهولة. وقد وصل بجده وعصاميته إلى المناصب العالية، فلم تشغله الزخارف والبهارج عن السير بما أخذ النفس به من التعلم والتعليم منذ وعى ورشد. وأكبر دليل نقدمه عَلَى إثبات دعوانا هذه خزانة كتبه التي جمعت فأوعت من نفائس القدماء والمحدثين والشرقيين والغربيين ولا عجب فاختيار المرء شاهد عقله. قد عرفناك باختيارك إن كا ... ن دليلاً عَلَى اللبيب اختياره

بدأ زكي باشا بجرثومة مكتبته وهو تلميذ بمدرسة الحقوق الخديوية سنة 1883 فكانت النقود التي كان يعطيه إياها أخوه محمود بك رشاد رئيس المحكمة الابتدائية الأهلية بالقاهرة سابقاً يشتري بها كتباً إفرنجية مما يستطيع التلميذ أن يقتصده من نفقته أما الكتب الثمينة فكان أخوه يشتريها له فيضم إليها الكتب التي كان أخذها من المدارس وجوائز ومن الأساتذة الفاحصين عَلَى سبيل التشجيع ومن ذلك تولد فيه الغرام بالكتب كما قال لنا عن نفسه. فمكتبته والحالة هذه جمعت انتخاباً واختباراً. وما برح يضم إليه من الكتب العربية والإفرنجية التي يمكن أن تفيد الإنسان في مباحث عمومية ترجع إلى ارتقاء الشرق ولما قرأ التواريخ وتخيل المجد الكبير الذي أثله العرب في مدنيتهم من غير أن يقف عَلَى تفاصيل ذلك حدثته نفسه بأن يجعل خزانة كتبه مرجعاً لمن يريد إرجاع المجد إلى الشرق. ولذلك كان يقتني كل كتاب كان يصل إليه أو يقع تحت طاقته حتى يكون منها مجموعة ابتدائية فكانت أكبر مساعد للاستمرار عَلَى تكثيرها. ولما دخل صاحب هذه الخزانة في خدمة الحكومة أخذ يخصص نصف راتبه الشهري لمشترى الكتب والنصف الثاني لسائر حاجياته وكثيراً ما كان يزيد النصف المخصص لابتياع الكتب عَلَى نصف الضروريات وما برحت أكثر ديونه إلى هذا العهد إلى الوراقين والطباعين وبائعي الكتب الجديدة والعتيقة في أوربا ومصر. ولما سافر إلى أوربا أول مرة سنة 1892 رجع ومعه غنيمة كبرى من الكتب وكلها إفرنجية مما يلزم الشرق وبعد ذلك اتسعت أمانيه وأصيح همه أن يكون لخزانته مزية حتى غدت الآن تستحق أن تكون مرآة يرى فيها الطالب معارف الشرق وعلومه سواء كانت من نفثات الشرقيين العرب مسلمين أو غير مسلمين أو قرائح الإفرنج. وأكثر كتب الإفرنج عنده بالإفرسية ومنها ما كتب باللاتينية والألمانية والإنكليزية والإيطالية. وهو يحس الفرنسية إحسانه بالعربية وله إلمام بالإيطالية والإنكليزية والإسبانية يستعين به في معرفة ما قد يحتاج إليه أثناء مباحثه. ولطالما سمع الخطبة العلمية في الجمعية الجغرافية الخديوية التي هو وكيلها باللغة الفرنسية فنقلها ارتجالاً إلى العربية وبالعكس من العربية إلى الفرنسية ولطالما فعل ذلك في مؤتمرات المستشرقين في أوربا وهو ينوب عن الحكومة المصرية فيها. وهذا من جملة

الأسباب التي كثرت بها صلاته مع علماء المشرقيات في الغرب حتى لا يكاد إمام من أئمتهم إلا ذاكره في الموضوع الذي يغلب عليه واستفاد منه. ومازال صاحب هذه الخزانة يسعى وراء غايته كلما ذب إلى أوربا في مهمة علمية فيعود بنفائس الكتب وغرائبها مما يرجع كله إلى إظهار حضارة العرب وفضلهم حتى اجتمعت إليه الآن معظم الكتب العربية التي طبعها علماء الإفرنج المستشرقين منذ القرن الخامس عشر للميلاد إلى يوم الناس هذا. وحصل أيضاً عَلَى مجموعة نادرة تحوي كل التراجم أو المباحث التي خاض غمارها علماء الفرنجة ولاسيما ما يتعلق منها بالعرب والإسلام وقد زار سورية زيارة رسمية عقاب انتشار الدستور العثماني وكان لبناء دمشق حظ وافر من الأخذ من معارفه وانتفع ناشئتا بحديثه وخطبته الرنانة وأعجب الخاصة من القوم ببيانه وتحقيقه العلمي وودوا لو زار سورية كل سنة واحد من أمثاله فتوخى إفادتها وتعليمها. ذهب إلى الآستانة مرات فوجد المجال فسيحاً فيما هو بصدد من إحياء آثار العرب ووقع عَلَى كنوز في مكاتبها قلما وفق للاطلاع عليها أحداً قبله. وبمعاونة حسين حلمي باشا الصدر الأسبق تيسرت له المطالب وفتحت له الأبواب بعد الحرية العثمانية واشتغل كما يشاء. ولما علم الجناب الخديوي بالأمر عاونه عَلَى ما اخذ النفس به ولا عجب فالحكومات الرشيدة تعرف أن لا رونق لبلادها بدون علم. والعلم في الشرق لم تقم له سوق نافعة إلا في ظل الملوك العاقلين فإن تنشيطه من خصائص الجمعيات والأمراء المفصلين. عَلَى نحو ما كان في العرب ولا يزال إلى عهد قريب. فرأى صديقنا (وذلك مذهبه منذ القديم) أن الناسخ ماسخ لا يعول عليه في نقل الكتب النادرة فاستحسن النقل بالفوتوغراف ليكون لديه الصل برمته. واستحضر من سفرته هذه زهاء مئة كتاب بالتصوير الشمسي وكلها نفائس كان يظن أنها مفقودة. فلما رأت الحكومة المصرية هذه الهمة الفائقة وبحثت في هذا العمل المجيد كان أول مظاهر له الجناب الخديوي ورئيس الوزارة الحالي محمد باشا سعيد وناظر معارف مصر أحمد حشمت باشا فأحبوا أن يكون الشرف كله لمصر لا لمصري واحد، خصوصاً ومصر اليوم هي المكلفة بإحياء مجد العرب ووراثة تراثهم المأمونة عليهم. فرأى أمام هذه العناية العالة أن يقدم هدية لأمته وأهل بلده فأوقف مكتبته كلها ولا يقل ثمنها عن اثني عشر ألف جنيه بمكاتبها وخزائنها وقماطرها وكراسيها وكل ما يتعلق بها. فأكبر

الجناب الخديوي هذه الخدمة فاصدر أمراً بتخصيص قسم مستقل من دار الكتب الخديوية منعزلاً عنها وخاصاً بأحمد زكي باشا يشتغل فيه طوال حياته لنفع أمته وبلاده. والذي حدا الواقف عن هذا العمل منذ الآن أنه خشي أن يأتيه القدر المحتوم فجأة فيبدد كتبه أيدي سياء خصوصاً وقد رأى العبرة بعينه في كتب علي باشا مبارك والأمير محمد إبراهيم والشيخ رضوان العفش وحسين باشا حسني وغيرها من المكاتب المصرية الخاصة التي اشترى بعض نفائسها وضمها إلى خزانته. فأوقف ما يملكه منذ اليوم وأخرجه من داره قال: أخرجت المكتبة من ملكي حتى إذا جاءني أمر ربي ذهبت وليس في النفس حاجة. لأن ثمرة عمري وهي المكتبة موضوعة في كلاءة الأمة والحكومة فلا يعبث بها وارث ولا شبه وارث خصوصاً وأني أعتقد أن من يوقف شيئاً عَلَى الخير يؤجل نفاذه إلى ما بعد موته لا يكون له الحق في طلب الثواب عند الله لأنه تبرع مما آل إلى ورثته. وإني أحب تجديد العمل بالسنة الشريفة. فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال: أن تتصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان (رواه البخاري في صحيحه). لم يقف الواقف عند هذا الحد بل إنه ما برح في كل يوم وفي كل شهر يشتري كتباً من أوربا ويستحضر الأسفار الثمينة بالفوتوغرافيا نت الآستانة ويضم هذا وذاك إلى مجموعته النفيسة ليكتفي الباحث بما فيها عن غيرها. ومن مميزات مكتبه إنها تضم أمهات الكتب في كل فن وعلم ومطالب لأن جامعها أراد أن يغتني بها عن الرجوع إلى دار الكتب الخديوية. وفيها كتب كثيرة من المطبوعات في مصر والهند والعراق والشام وغيرها مما لا يكاد يوجد في دار الكتب الخديوية. دع الكتب الكثيرة المحفوظة التي حوتها وقلت نظائرها في دار الكتب الكبرى هذا مع حفظ النسبة الاعتراف الصحيح بأن دار الكتب الخديوية بالنسبة لهذه الخزانة أوسع مادة وأغزر قيمة ولكن خزائن الأفراد قد يكون فيها من النوادر والوفاء بالحاجة ما لا يسقط عَلَى مثله في الخزائن العامة. وكيف يكون وجه للمفاخرة بين مجموعة جمعها رجل فرد بوسائله الذاتية وهو لم يرث عن أهله قرشاً واحداً وبين دار كتب هي مجمع ما بقي مما خلفه السلاطين والملوك والأمراء وأهل الثروة والكبراء من أعيان المصريين. قال صديقنا في عظمة دار الكتب الخديوية: وناهيك بمكتبة نفحها إسماعيل

بنفحاته، وتولاها توفيق بعناياته، ثم شملها عباس برعاياته. ولا يمكن التنصيص عَلَى تعيين ما عنده من النفائس ولطالما شهد عمال الكتب الخديوية أنفسهم عَلَى ما فيها من الذخائر والأعلاق ويكفي أنك مها درت في ديار مصر وقلبتها من أدناها إلى أقصاها من دور الحكومة الرسمية ومعاهد العلم العمومية حتى لو ذهب إلى الدفتر خانة المصرية لا تجد فيها أثراً لجريدة الوقائع المصرية التي كانت تصدر في أوائل عهدها أيام محمد علي. ولكنك إذا أتيت الخزانة الزكية تجد قسماً عظيماً منها وتقرأ فيها المعجب المطرب مما يدل عَلَى حالة البلاد في تلك الأيام وأنت لو التمسته بالمنكاش في تضاعيف الكتب أو بمسائلة الشيوخ لا تصل إليه بتة هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة. وتمتاز هذه الخزانة بأنها تجمع الكتاب النفيس بما تقلب عليه من الأدوار والأطوار فتجد منه مخطوطاً بخط اليد أولاً ومطبوعاً ببولاق ثم نسخة مطبوعة منه في الشرق والغرب إن لم تجد ترجمته إلى اللغة الفرنسية في الغالب أو الإنكليزية أو الإسبانية أو اللاتينية أو الإيطالية أو الألمانية. ثم الكتب التي كتبها جهابذة العلماء عَلَى الكتاب أو عَلَى المؤلف. بحيث أن الباحث يتيسر له والحالة هذه أن يستوفي موضوعه بأسهل شيء وأن يكمله بحسب حاجته ومقدار همته. ومن الكتب المخطوطة النادرة عنده أربعة أجزاء لا بن عساكر وأربعة أجزاء مرآة الزمان لابن الجوزي ونسخة كاملة من تاريخ ابن خلدون عليها خط الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر ونسخة من الجزء الرابع من تاريخ الجبرتي ويظن أنه يحتوي عَلَى فصول كثيرة اضطروا إلى حذفها من النسخة التي طبعت في بولاق لأن فيها ما فيها مما يختص بمحمد علي ولكنه لم يحقق ذلك بطريقة يقينية غير أن ضخامة الجزء تجل الظن أقرب إلى اليقين خصوصاً والصفحة من المخطوط تعادل ثلاث صفحات من المطبوع عَلَى الأقل فتزيد باقل تقدير 153 صفحة م المخطوط وإذا أضيف إليها 40 صفحة من المخطوط أيضاً فيكون المجموع المطبوع في النهاية العظمى ومع التسامح الزائد معادلاً لألف صفحة من المخطوط وربما كان ما بقي بعد ذلك من المخطوط هو عبارة عن مجموع الفصول والجمل والعبارات التي استصوبوا حذفها من الأصل لبعض الاعتبارات وذاك يعادل خمسين صفحة من نسخة بولاق المطبوعة سنة 1297 هـ ومن الغريب أن صاحب

النسخة المطبوعة نص عَلَى أن طبعته بلا زيادة ولا تنحسين ولا إجادة ولكنه لم يفصل هذا المجمل ولم يقل لنا أنه لم ينقص منها شيئاً. وفيها مجموعة الكتب التي صدرت في بولاق وفي مطبعة أركان حرب الجهادية المصرية وفي مدرسة الطب المصرية. ومما يجب إلفات النظر إليه في هذه المناسبة أن محيي مصر محمد علي كان يأمر بأن يذكر في كل كتاب طبع بعهده بأنه هو الثاني أو الثالث أو الرابع من نوعه. يعرف ذلك من النظر في كتب زكي باشا. فعنده قاموس للغة العربية، والطليانية مطبوع في زمن محمد علي وهو ثاني كتاب ظهر في مطبعة بولاق الأميرية أم الكتاب الأول الذي طبع في بولاق لا نعلمه وليس لهذا الكتاب أثر في الخزائن الأخرى ذلك عدا الكتب المطبوعة في ديار الشام والجزيرة (الموصل) وتونس والجزائر ومراكش وجزيرة مالطة وغيرها. ومن ميزاتها أن فيها مجموعة من المجلة الاسياوية الباريزية منذ أو عدد صدر منها سنة 1822 إلى الآن، ونسخة من لسان العرب عَلَى ورق الكتان،. وفيها أكبر مجموعة في الشرق لما كتب عن اللغة العربية مما هو من أبحاث علماء الشرق وعلماء الإفرنج بحيث أن الحكومة المصرية تجد فيها كل ما يلزمها في وضع معجم للشوارد والأوابد والضوابط والروابط ولمصلحات العلوم والصنائع والفنون عَلَى ضروبها وفروعها حتى تكون تلك الدواوين رجعاً يعود عليه كل عربي في كل موضوع ومصطلح يوم تصح عزيمتها عَلَى إبراز هذا الأثر النفيس الخالد. ومن الكتب النفيسة كتاب الفتوة في الإسلام وفيه أبواب في مكارم الأخلاق بحسب الطريقة الإسلامية وينتهي بفصل طويل في مجالس الفتوة ونظامها الداخلي وهو أشبه شيء بنظام الماسون واصطلاحاتهم ورموزهم وأعمالهم وقبول الجانب في زمرتهم. وهو فصل مهم ولا يوجد هذا الكتاب في مجموعة أخرى فيما نعلم. ومنها كتاب تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد الذي تكلمنا عليه منذ بضع سنين في مجلة المقتطف وهي النسخة الوحيدة المعروفة من الكتاب. ومن مميزاتها كتب الطب المطبوعة في أوربا بالعربية والإفرنجية، ومنها ما يتعلق بالفلسفة والعلوم كالكيمياء والطبيعة والفلك والميكانيكا والآلات الروحانية (المفرغة من الهواء)

وكتب ابن سينا ومنها القانون وجزء من الشفاء مطبوع في مدينة رومية سنة 1593 بعد اختراع الطبع بمدة قليلة ويتلوه كتاب النجاة في المنطق. ومن مخطوطات هذه الخزانة قطع من تاريخ الدولة الأموية من أول خلافة الوليد لبن عبد الملك إلى انقراض الدولة العباسية وهي عَلَى رأي صاحب الخزانة أوفي تاريخ معروف لهاتين الدولتين ويظهر أن المؤلف كتب كتابه في مصر عقب انقراض الدولة العباسية مباشرة لأنه يشير إلى شيخه وأستاذه ابن الأنجب الساعي. ومنها تاريخ محمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية للشيخ خليل بن أحمد الرحبي بعثه عَلَى وضعه الشيخ محمد العروسي يحتوي عَلَى حالة مصر قبل الفرنسيس وحالة أمرائها وأخلاق محمد علي وعلى إخراجه من كان بمصر من المفسدين من المماليك وغيرهم وعلى تعميره لأرض مصر وإحياء قطرها بالزرع وعلى بعض آثاره من البنية والعمارات وعلى ذكر إحياء الدولة الكتبة المسلمين وعلى ما انشأه من السفن وعلى ذكر العساكر الجهادية ووجوب اتخاذهم بالأدلة الشرعية والسؤال عن القوانين الموسومة للعساكر الجهادية هل هي مطابقة بعد للشرع الشريف أم لا. ومن مخطوطاتها الدر الثمين في تاريخ اليمن في أيام الإمام محمد بن عايط، وكتاب روح الروح فيما حدث بعد المئة التاسعة من الفتن والفتوح في اليمن. وفي الخزانة كتب منقولة بالفوتوغرافيا وهي من الأمهات أو النوادر ولا بأس أن نشير إلى بعض ما حوته خزانتنا الزكية من الكتب المأخوذة بالتصوير الشمسي فمنها تاريخ السودان في أيام محمد علي وكتاب المجاراة والمجازاة للصفدي ونسختان من الهدايا والتحف للخالديين ومختصر ذخيرة ابن بسام للأسعد بن مماتي والتذكار الجامع لمن ملك طرابلس ومن كان بها من الأخيار وهو التاريخ الوحيد في ما نعلم الذي ألف في هذه المملكة عَلَى انفراد. والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (في ثلاثة أجزاء) والبصائر الذخائر له أيضاً (في خمسة أجزاء) ومقدمة ابن خلدون وفيها تصحيح المؤلف وخطه. والشعور بالعور وهو قاموس لأعظم المشاهير الذين أصيبوا بفقد إحدى أعينهم، وصبح الأعشى نسخة كاملة سبع مجلدات فرغ المؤلف منها سنة 814 وهذه النسخة مكتوبة سنة 817 وهي أجود من النسخة المبتورة الموجودة في دار الكتب الخديوية وروايات المبرزين وأعلام المميزين لابن سعيد الأندلسي.

ومن المخطوطات رحلة الشيح محمد بشير البرتلي من بلاد توات إلى الحرمين وصف فيها الصحارى والبلاد في القرن الثاني عشر للهجرة وقطعة منقولة بالفوتوغرافيا من كشف البيان عن وصف الحيوان، وهو موسوعات ألفها فتح الله السكندري الذي كان في أيام السلطان الأشرف برسباي وهو عبارة عن ستين جزءاً موجودة بخط المؤلف في المكتبة السليمانية وفي مكتبة طوبقبو بالآستانة. وفي هذه القطعة معلومات وافية غريبة عن المؤلف والمهم ذكر قائمة الكتب التي نقل عنها وهي تربو عَلَى الثلاثة آلاف كتاب. من المخطوطات من عيون التواريخ لابن شاكر جزآن (ومنه عدة أجزاء في المكتبة الظاهرية بدمشق وكتاب ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه وأرجوزة الصفدي في جميع من حكموا دمشق الشام عَلَى عصره ورسالة أخرى في ذات الموضوع عَلَى ترتيب حروف الهجاء وفي المكتبة الأحمدية في حلب) ومن المنقول بالفوتوغرافيا سير أعلام النبلاء للذهب أصله في أربعة عشر جزءاً ضخمة وكان موجوداً في القاهرة وفيها فقد الجزء الأول والثاني ثم انتقلت النسخة كما قال زكي باشا في جملة ما انتقل من كتب مصر إلى القسطنطينية وهناك ضاع الجزء الأخير فبقي من الكتاب ثلاثة عشر جزءاً. ومن المخطوطات كتاب الداني في حروف المعاني لبدر الدين ابن أم القاسم ومنها التحفة الوردية للعلامة عبد القادر البغدادي وهو كتاب مفيد جداً بالأدب وحسبنا في التعريف به نسبته لمؤلفه. وألطف ما فيه ما كتبه المؤلف بخطه في آخره: قابلها مؤلفها وصحح ما تيسر منها فإن كاتبها لا يكاد يكتب كلمة صحيحة لا بارك الله فيه فإنه أتعبني في تصحيحها من غير نسخة فإن الأصل كان عنده ليكتب منه ستكتب هذه النسخة كان مسافراً نفع الله بها من كتبت لأجله وهو الوزير الجليل والصدر النبيل عبده باشا الشهير بنشانجي باشا لطف الله به في الدارين آمين. قاله بفمه وكتبه بقلمه الفقير إلى الله تعالى محبه عبد القادر البغدادي لطف الله به وبأسلافه وبجميع المسلمين. وتم ذلك في الليلة الرابعة عشرة من شهر رمضان من شهور سنة 1087. وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله عَلَى عبده وخليله محمد وآله وصحبه وسلم إلى يوم الدين. . وأهم المخطوطات في هذه المكتبة مجموعة كاملة للمؤلفات العربية الخاصة بالكتابات السرية المعروفة الآن بالشفرة وكيفيتها عند العرب واستخراجها. قال صاحب هذه الخزانة

وكان العرب تسمي هذا الفن بفن الترجمة ورحل التراجم وحل المترجم والذي يشتغل بذلك المترجم (بكسر الجيم) ولذلك ترى المؤلفين الأقدمين مثل ابن النديم وغيره عندما يتكلمون عن الكتب المنقولة عن اليونانية والفارسية يستعملون في الغالب لفظة النقل ولا يستعملون لفظة المترجم ولا الترجمة إلا نادراً. ولما كان هذا العلم خفياً خاصاً بأسرار الحكومات الإسلامية فكان مضنوناً به ولا يصل الجمهور إليه فلذلك جهل كثير من الناس معنى هذه الكلمة حتى أن كتب اللغة لا تشير إليها بل إن شراح المقامات (عندما أشار الحريري إليها في إحدى مقاماته) جهلوها ولم يفسروها وتمحلوا فيها بل إن صاحب لسان العرب نفسه لم يذكرها كان عارفاً تمام المعرفة بهذا الفن وكان هذا الفن مستعملاً في الدولة الإسلامية من أيام المأمون إلى الحروب الصليبية فأخذ الإفرنج عن المسلمين الذين أخذوا مبادئه عن اليونانيين ثم رده الإفرنج إلينا. ولجهلنا بمعارف أهلنا اخترناه باسمه الجديد عند الإفرنج وهو الشفرة التي نقلها الإفرنج عن كلمة صفر العربية واستعملوها بمعنى الأرقام لأنهم استخدموا الأرقام بدلاً من الحروف في الكتابات السرية ثم غننا جعلنا بدلاً من الشفرة لفظة الجفر لتقارب المخرجين خصوصاً وإن الجفر كان يستعمل في الألغاز بالحوادث المستقبلة فصار من هناك شبه علاقة جعلت العامة تعتقد أن الجفر المستعملة الآن هي مأخوذة من لفظة جفر المستعملة في كتابة الملاحم. والصواب غير ذلك. ويضيق بنا المجال إذا أردنا الإفاضة أكثر من ذلك في وصف هذه الخزانة. ومما فيها كثير من المصورات (الخرائط) المعمولة في أيام العباسيين وبعدهم وخريطة إفرنجية صنع العلامة فلاماريون الفلكي عن السماء وما فيها من الكواكب عليها أسماء الكواكب بالعربي والفرنساوي وضعها زكي باشا. ومنها مجموعة الفرمانات الصادرة باللغة التركية بخصوص الحكومة المصرية من أول محمد علي إلى آخر إسمعيل. ومجموعة أخرى من المصورات لبلاد الأناضول المشهورة مرسومة مدنها بالألوان تريها ظاهرة مجسمة لواحد من أرباب الفنون المسلمين. وفيها صورة جميلة للسلطان صلاح الدين الأيوبي. ومن مزايا هذه المكتبة أن صاحبها مثل صديقنا أحمد بك تيمور يعرف ما في خزانته، ليس جماعة للكتب فقط. وعلى بعض شروح وحواش وورق ومفكرات. وتجد فيها الكتب المطبوعة النفيسة أكثر من المخطوطة العربية وأكثر من الإفرنجية والخزانة التيمورية

أغنى بمخطوطاتها وأحسن بتنسيقها كما أن الخزانة الزكية أغنى بمطبوعاتها النادرة. ولكل منها مزية تختلف باختلاف محيط صاحبها وأسبابه ومعارفه. ومن غريب الاتفاق أننا كنا هذه المرة أيضاً مع أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري يوم زيارة المكتبة الزكية زيارة طويلة لنستملي من صاحبها البحاثة بعض ما لقفناه عنه آنفاً. عَلَى أننا نعرف خزانته منذ ثماني سنين وكان حفظه الله رخص لنا بالاختلاف إليها يوم كانت في داره بعابدين أي وقت أحببنا، كما فعل الآن، وإنا نأخذ منها ما نشاء ونرجعه متى نشاء، وقد فعل هذه المرة كذلك ولم يخص بهذه النعمة الأدبية إلا أفراداً معدودين من أصحابه. وإنا لنرجو في الختام أن تطول أيام أحمد زكي باشا لينفع مصر وكل قطر يعلمه ويعلم هذا الشرق العربي بهمته ويزيد في نهوضنا العلمي والأدبي بمشاركته الغربيين ومنافستهم في إحياء آثار سلفنا.

اللغة الانتقادية

اللغة الانتقادية بقية ما في الجزء الماضي. أشرعت الباب في الطرق وشرت لكم في الدين شريعة. أشب الله قرنه والرجل شب ولده وشب الغلام يشب شباباً والنار والحرب شبوباً وشباً. اشتهرنا في المكان أقمنا فيه شهراً وشهر سيفه وأمره شهراً وشهرة. أشكيته ألجأته إلى أن يشكون وإذا نزعت عن شكايته وشكوته شكاية. أشجاه أغصه وشجاه حزنه. أشكل عليّ الأمر وشكلت الكتاب والظاهر فيها شكولاً. أسررت الشيء أظهرته، وسررت الملح والأقط نشرته ليجف، أشاف عَلَى كذا وأشفي أرشف، وشفت كذا أشوفه جلوته، أشخص الرامي جاز سهم الهدف، وبفلان اغتابه وشخص لسفره شخوصاً وببصره فتح عينه. أشم مر رفعاً رأسه وشممت الشيء شماً وشميمياً، أشاد بذكره رفعه وبالشيء عرفه، وشاده يشيده شيداً أي جصصه بالشيد وهو الجص، أشعب الرجل مات أو فارق فراقاً لا يرجع وشعب كذا ألم بينه وفرق بينه ومنه سمي المنون شعوباً، أصحت السماء وصحا السكران يصحو صحواً أصعد في الأرض وصعد في الجبل قال أبو زيد ولم يعرفوا أصاف الرجل ولد له بعد ما أسن، وصاف السهم عن الهدف عدل. أضاح الرحل كثر ضياعه وضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعاً وضاعه كذا يضوعه حركه ومنه تضوع الطيب تحركت ريحه، اضرب عن الأمر في بيته أقام وضرب في الأرض خرج فيها باغياً للرزق، أضجوا صاحوا وجلبوا وضجوا وجزعوا، أطل عليه أشرف، وطله دمه أبطله أطرق الرجل سكت فلم يتكلم، وأطرق الإبل تبع بعضها بعضاً وطرق طروقاً أتى ليلاً. أطلى الرجل مالت عنقه، وطليت الإبل من الجرب، وهو يطليه أي يرضه، أطاع له المرتع أي اتسع وأمره إطاعة لا غير، وطاع له أن قاد، أطلع النخل خرج طلعه وألعت من فوق الجبل وأطلعت، أطاف به ألم، وطاف حوله يطوف طوفاً وطاف طوفاً، وأطاف يطاف أطيافاً إذا ذهب إلى الغائط وطاف الخيال يطيف طيفاً، أعجمت الكتاب وعجمت النوى عضضته، أعرضت عن الشيء وعرضت العود عَلَى الإناء والسيف عَلَى الإناء والسف عَلَى فخذيه والجند قيل قد فاته العرض كقولك القبض والنقض والحبط والرفض لما يقبض ويرفض وينقض، أعنته من العون وعنته صبته بعين فهو معيون أعرته كذا وعرته صيرته أعور، أعلق الحابل وقع في حبالته

الصيد، أعيت في المشي وعييت في المنطق فأنا عيي وعى. أغلقت الباب ولا تقل مغلوق وأغفيت ولا تقل غفيت أغث الحديد فسد، وغاثت الشاة هزلت. أغل الجارز ترك في الإهاب لحماً وأغل وغل خان وغل صدره غلا وأغل صار له غلة. أغبر في طلب الحاجة جد فيها وأثار الغبر وغبر بقى والغبر بقية اللبن في الضرع وبقية الليل. أفلق في كذا جاء بفلق أي أعجب وفي العلم برع وقلق الهامة والصخرة أي شقها. أفرى الذئب بطن الشاة إذا شقه، وهو يفري ال فرا إذا جاء بالعجب، أفرق من علته وفرق شعره وبين الحق والباطل، أفليت صرت في فلاة وفليت رأسه وشعره وفليت بالسيف، أفتق قرن الشمس أصاب فتقاً فبدا منه وفتق الطيب والناس من عرفات دفعوا أفرضت وجبة فيها الفريضة، أفصح الأعجمي وفصح اللحان. أقفلت الجند من مبعثهم فقفلوا قفلاً وقفولاً وخيل قوافل ضوامر. أقرن له أطاقه، والرمح رفعه، وقرن بعيرين في حبل وبين الحج والعمرة أقلعت عنه الحمى وهو في قلع من حماة، وأقلع عما كانت عليه، وقلعت الشيء من أصله، أقبرته صيرت له قبراً يدفن به، وقبرته دفنته. أقصيته أبعدته وقصوت البعير فهو مقصو، قطعت طرف أذنه وجمل مقصو مقصي ولا ت قل أقصى أقبست الرجل علماً وقبسته نار جثته له فإن طلبها هو قيل أقبسته أقم الفحل الإبل لقحها جميعاً، وقم الكبيت كنسه، أقدته أسقته أعطيته خيلاً يقودها ويسوقها، أقرأت المرأة إذا طهرت وإذا حاضت. أقات عَلَى الشيء اقتدر عليه وقات أهله قوتاً والقوت الاسم وما عنده القيت ليلة وقيتها، أكرى الكرى ظهره وأخذ كروته (كذا) أو كرى نقص وق يل زاد والحديث أطاله والشيء أخره وقال فقيه العرب من سره النسا ولا نسا فليبكر العشا وليباكر الغذاء وليخفف الرداء وليقل غشيان النسا، وكروت بالكرة كرواً ضربت بها أكب عَلَى العمل وكب الإناء وكبع لله لوجهه. الأح من ذلك أشفق وبحقي ذهب به ولاح البرق والسيف يلوحا لوحاً. ألوى به ذهب به والقوم بلغوا الرجل والبقل صار لوياً أي بعضه يابساً وبعضه فيه ندوة ولوى يبده لياً ولواه بالدين مطله لياناً. أمقر الشيء صار مرّاً والمقر الصبر ومقر عنقها دقها. الإمحاق أن يهلك المال كمحاق الهلال وماحق السيف شدة حره وحقت الشيء أمتعت عنه استغنيت وقول الراعي: خليطين من شعبين شتى تجاوزا ... قديماً وكانا بالتفريق أمتعا

قال الصمعي ليس أحد يافرق صاحبه إلا أمتعة الشيء يذكره فكان ما أمتع هذان تفرقا ومتع النهار ارتفع ونبيذ مانع شديد الحمرة وحبل مانع جيد انصلت الرمح نزعت نصله أنصلته ركبت عليه النصل ومنصل الأسنة (رجب) لأنهم كانوا يتنازعون السنة فيه فلا يتحاربون. أنهدت الحوض أي ملأته وحوض نهدان ونهدت للعدو أي نهضت له. انصف فلان صاحبه وقد أعطاه النصفة ونص ف النهار ينصف والأوار ساقه بلغ نصفها والقوم نصافة خدمهم والناصف الخادم أنضيت البعير هزلتها فهو نضو ونضيت السيف وانتضيته سللته ونضا بربه ألقاه والخضاب نصل. أوعيت المتاع في الوعاء ووعيت العلم حفظته أوهمت مائة في الحساب أسقطها ومن صلاتي ركعة أوغل في البلاد تباعد ووغل في القوم دخل فيهم وهم يشربون من غير أن دعي ورجل واغل ووغل وفي الطعام وارش أو نزعه أغراه ووزعه كفه وقيل (لا بد للسلطان من وزعة) أي كففة. أولع بكذا والاسم الولوع وولع يلع ولعاً وولعاناً كذب. أهجد البعير ألقي جرانه عَلَى الأرض وهجد هجوداً أنام ليلاً. باب ما يضعه العامة في غير موضعه أطعمنا خبز ملة وخبزاً مليلاً ولا تقل أطعمنا ملة فإنها الرماد الحار، ماء اغمر وما اشد غموره ورجل غمر الخلق واسمه وفي صدره غمر أي غل ورجل غمر من قوم إغمار تبين فيهم الغمارة والغمر القدح وفي فلان ميل (بالسكون) وفي الحايط ميلٌ (بالتحريك) وفاض افناء يفيض فيضاً. عرج صار أعرج وعرج عليه أقام. لاح سهيل بدا ولاح تلألأ. تسمع بالمعيدي لا أن نراه منسوب إلى تصغير معد فاجتمع التشديدان فخفف الغل في الطش وفيما يقيد به والغل العداوة ويقال خرجنا نتنزه إذا خرجنا إلى البساتين وإنما التنزه التباعد عن الماء والريف فلان بنزهة عن الناء والشراب وفلان نزيه بعيد عن اللوم وتنزهوا بحرمكم عن القوم أبعدوها عنهم عزت إليك بكذا وأوعزت. صدقة المرأة وصداقها. ماء ملح وسمك مليح ومملوح ولا تقل مالح افعل كذا وخلان ذم أي لا تذم ولا يقال ذم ضربة لازم وقيل لازم ولاتب بإضبارة من كتب وإضمامة وللجمع أضابير وأضاميم. شيء رزين وثقيل وامرأة رزان الفحال لا يقال إلا في النخلة جمعه فحاحيل وعينان الكتاب عنوانه وعلوانه وقد عنونته وعلونته مهلاً يقال للواحد والجمع والمذكر والمؤنث عَلَى لفظ واحد ولا يقال يغنى عنك مهل وهلم كذلك ومنهم من يقول هلم وهلموا

وهلمي وهلمي تقول إيه إذا استزدته وأيها إذا كففته وويها إذا أغريته وواها إذا تعجبت منه وتقول صه ومه إذا سكت عليه وإذا واصلت قلت صه ومه يا فلان وإذا قيل هل لك في كذا قلت فيه حاجة فحذفت الحاجة من السؤال والجواب. إن أخطأت فخطئي وإن أصبت فصوبتي وإن أسأت فسؤ علي أي قلت لي أسأت وسوأت عليه ما صنع أي قبحته وأخطأ خطئ لغتان يقال (مع الخواطئ سهم صائب) لمن يخطئ كثيراً ويصيب مرةً ورجل أعسر يسر ولا تقل ايسر ويأمن بأصحابك وشايم أخذ بهم يمنة وشامة تكلم فلان فما أسقط حرفاً وما أسقط بحرف كقولك أدخلته ودخلت به وغفلت عنه وغفلته وأغفلته وجن عليه الليل وأجنه وقيل جنه بالضيح (الشمس) والريح ولا تقل الضيح النقد عند الحافرة أي عند أول كلمة وقال تعالى (إنا لمردودون في الحافرة) أي في أول أمرنا فلان يسئل ولا تقل يتصدق في معناه فلان وفلانة كناية عن الآدميين والفلان والفلانة عن البهائم. عايرت الموازين عياراً ولا تقل عيرتها وعيرته بذنبه. عاد الظليم صاح يعار عراراً ولا تقل عر. كانا متهاجرين فأصبحا يتكلما أخوه بلبان أمه ولا تقل بلبن أنه وهذه عصا وعجوز وأتان وعرس وفهر. وقتب لواحد الأقتاب أي الأمعاء وقدوم وأضحى كلها مؤمنات لا يدخلن الهاء وسميت الأضحى بجمع أضحاة أي الشاة التي يضحى بها بقال أضحاة وأضحى واضحية والجمع أضاحي وضحية وللجميع ضحايا. ومما تضعه العامة في غير موضعه تقول للمعلف أرى وإنما الأرى والأخية محبس الدابة وللجميع الواري والأواخي تأدبت بالمكان تحبست فيه وارت القدر لصق بأسفلها شيء من الاحتراق كبر حتى صار كأنه قفة أي الشجرة البالية لا يقبل منها طرف ولا عدل الصرف الحيلة من قولك أنه يتصرف يقال أكذب من دب ودرج أي أكذب الأحياء والأموات يقال درج القوم إذا انقرضوا هو نشيج وحده لمنلا شبه له وأصله أن الثوب الكريم لا ينسج عَلَى منواله غيره أحمق ما يتوجه إلى ما يحسن أن يأتي الغائط وأصل الغائط المطمئن في الأرض وزكان من يقضي حاجته إلى الغائط فقل ذلك لمن قضى حاجة التيمم أصله القصد وصار اسماً لمسح. الوجه واليدين بالتراب المسافة المفازة أصلها من السوف الشم وكان الدليل إذا ضل بفلاة شم التراب فعلم أنه عَلَى الطريق وكثر استعماله فصار يسمون البعد المسافة. لبيك وسعديك تأويله البابا ليعد

الباب أي لزوماً لطاعتك يقال ألب بالمكان اقام به مرحباً وأهلاً اتيت سعة وأهلاً فلا تستوحش حياك الله وبياك حياك ملكك والتحية الملك وبياك اعتمدك بالخير يقال إعرابي جلف أصله من إجلاف الشاة وهي الشاة المسلوخة بلا رأس ولا قوائم ولا بطن خاس. الطعام والبيع اصله من خاست الجيفة في أول ما تروج فكأنه كسد حتى فسد. لا لاتبلم عليه أي لا تقبح أصله من أبلمة الناقة ورم حيائها من شدة الضبعة وأبلم الرجل ورمت شفتاه توحش للدواء أي اخل جوفك له يقال بات وحشاً إذا لم يطعم وباتوا أوحاشاً ليلتين. الأسير أصله أنه كان يؤخذ فيربط بالقد وأسره أي شده فصار الأسير اسماً للمأخوذ قال الله تعالى ابن عوف رجل قوي. رجع بخفي حنين لمن رجع عن حاجته قيل أنه كان رجل ادعى إلى أسد بن هاشم فأتى عبد المطلب وعليه خفان أحمران فقال عبد المطلب لا وثياب هاشم ما أعرف شمائل هاشم فيك فارجع فقالوا رجع حنين بخفيه فصار مثلاً. الشرف والمجد يكونان بالآباء يقال شريف ماجد والحسب والكرم بالنفس وإن لم يكن آباء لهم شرف. يقال فلان شولة الناصحة وشولة كانت أمة رعناء تنصح مواليها ونصيحتها وبال عليهم. الطفيلي منسوب إلى طفيل رجل من أهل الكوفة يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها يسمى طفيل الأعراس فكان يقول ودد أن الكوفة بركة مصهرجة فلا يخفى عَلَى شيء منها والعرب تسم ي الطفيلي في الطعام. الوارش وفي الشراب الواغل. بقرطكي مارية هي مارية بنت أرقم. قولهم في تحية الملك (أبيت اللعن) أي أبيت أن تأتي ما تلعن به. قرم إلى اللحم وعام إلى اللبن ورجل عمان وامرأة عيمى. يقال أم وعام أي هلكت امرأته وماشيته فصير إيماً وعميان. ووحمت المرأة اشتهت شيئاً عَلَى حملها والماشية تكون من الإبل والغنم وناقة ماشية كثيرة الأولاد البعير كالإنسان للمذكر والناقة كالمرأة والبكر كالفتى والبكر كالفتاة والقلوص كالجارية. الفقير الذي له بلغة. والمسكين من لا شيء له، الأرامل المساكين من الرجال والنساء وأرمل نفذ زاده. وعام أرمل وسنة رملاء قليلة المطر. رمح ذو الحافر وركض ذو الخف وضبط البعير بيده. المزاد ما يستقى فيه الماء والراوية ما يحمل عليه الماء وقد رويت القوم استقيت لهم الماء ضفرت. المرأة الشعر ولها ضفيران وضفران ولا تقل ضفيرتان. الزوج يقال للرجل والمرأة وقيل زوجه وزوجته. امرأة تزوجتها وليس من كلامهم تزوجت بها وأما قوله تعالى

(وزوجناهم بحور عين) فمعناه قرناهم وهي لغة ويقال زوجا حمام للذكر والأنثى. الغلط في الكلام والغلت في الحساب يقال غلط وغلت. توضأت وضوءاً وقد وقدت النار وقوداً ووقدا وقدة والوقود حطب يوقد به والطهور والغسول والبخور والذرور والسقوف والسعوط والسنون والسحور والفطور ما يفعل به ذلك. واللبوس ما يلبس. والقرور والبرود ماء بارد يغسل به وقد اقتررت والسدوس الطيلسان وسدوس اسم رجل. والعلوق ما يعلق به الانسان وبه سمت المنية علوقاً. السموم والحرورالريح الحارة. والذنوب لحم أسفل المتن. والدلو فيها ماء القيوء دواء يشرب للقيء. العقول دواء يمسك به البطن والمشوش ما تمش به اليد أي تمسح والمش مسح اليد بالشيء. الخشن والرقوء ما يرقأ به الدم هو شبوب لكذا أي يزيد فيه ويقويه والصعود مكان فيه ارتفاع والمؤد العقبة الشاقة وهبوط وحدور وحطوط شبوب اسم للمنية خاصة القرقل لما تقول له العامة القرقر والقافوزة والقازوزة فمولدة هو مضطلع بحمله أي قوي مفتعل من الضلاعة وفرس ظليع ولا يقول مضطلع والراكب الذي عَلَى البعير وإلا ركوب أكثر من الراكبوهم أصحاب الإبل والركاب الإبل الواحد ولا واحد من لفظها لها. زيت ركابي يحمل عَلَى الإبل والفارس راكب الفرس والحمار والبغال قيل حمار وبغال ورحالة وخيالة رجل نابل ونبال من النبل فإنه يعلمه فنابل رجل سايف وسياف وتراس ودراع ومتقوس ومتنبل معه هذه الأشياء وفارن معه سيف ونبل ومقنع عليه مغفر والمؤدي والمدجج والشكاك والشانك التام السلاح. البغايا الفاوجر والطلائع فواحدة الإماء بغي وواحدة طلائع بغية أي طليقة في سبيل الله أنت ولا تقل في سبيل الله عليك طوبى لك ولا تقل طوباك ما به من الطيب ولا تقل من الطيبة سخرت منه ولا تقل وعجوز ولا تقل عجوزة تلك وتيك ولا تقل ديك كلية ولا تقل كلوة وكليته أصبت كليته حسبي كذا أو حسبي من كذا واحسبني كذا كفاني ولا تقل بسى قدى من كذا وقدني وقطي وقطنا وبحسبي كذلك. النجف (العراق). محمد رضا الشبيبي.

آثار العرب الخالدة في أوربا

آثار العرب الخالدة في أوربا اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء! بيدك الخير إنك عَلَى كل شيء قدير قرآن شريف. سادتي أقرئكم تحية العرب فأقول لكل فرد: سلام عيكم، وأثني بتحية الإسلام فأقول لكم جميعاً: السلام عليكم، وأعزز هذه التحية المزدوجة بما أخذه الإفرنج عن العرب فأقول لكم بمراعاة المعنى الصحيح: هذه الكلمة، أيها السادة، وإن كان الإفرنج قد نقلوها إلى معنى التملق والمبالغة في الخضوع والخنوع والخشوع، لكنها في الحقيقة تدلنا عَلَى تأثير الحضارة الإسلامية عَلَى أمم الغرب في أوريا. أفليس من سنة هذا الكون ومن نواميس العمران أن الاحتكاك بين الأقوام المختلفة وإن اختلاط الشعوب المتباينة لا بد أن يترتب عليهما تأثيراً لبعضهما عَلَى البعض الآخر حتى يظهر هذا التأثير في الأحوال العامة وفي الشؤون الخاصة؟ وذلك التأثير مصدره قوة الحضارة. فيكون ضعيفاً ضئيلاً أو قوياً جسيماً بحسب ما وصلت إليه الأمة الغالبة من الارتقاء في سلم المدنية، وبقدر ما نالته من السيطرة والرجحان. فأيما أمة استبحر العمران بين أبنائها فلا بد لها من التبسط في الأرض والتغلب عَلَى الأمم، فلا يلبث أن يكون لها سلطان (ولو معنوي) عَلَى البطون والعشائر التي تجاورها أو تمازجها أو تأتمر بكلمة منها. وأثر ذلك أن يظهر للمتأمل المتفكر كجبين الصبح ووضح النهار في الأمور المعاشية من زراعة وصناعة وتجارة، بل في الأخلاق والعادات والطباع، بل في العلوم والمعارف، بل في الجد والهزل والوقار والخلاعة. لست أذهب بكم بعيداً في إثبات هذه الظاهرة العمرانية وهذا الناموس الاجتماعي وإنما أناشدكم أن تنظروا عن أيمانكم وشمائلكم وفيما بين أيديكم، أفلا ترون الرجل من قومنا ممن لا يحسن التلفظ بلغة أمه وأبيه، ولم يرزقه الله إلماماً قليلاً برطانات الأعاجم، أفلا ترونه يبادر صاحبه ومشاكله عندما يلقاه في ليل أو نهار: بونجور مون شير، بون سوار؟. أفليس من المحقق المجزوم به أن أبنائنا سيلقون في الغيط وفي البيت جود مورننج ماي

دير، جود نايت؟ بل قد خرجت هذه الكلمة من أفواههم! ذلك لعمري من خور النفوس وضعف الطبيعة وانحطاط الأخلاق. وقد يكون من باب التنطع عند العلماء، ومن باب الحذلقة (الحفلطة) في أنصاف العلماء (وهم شر الناس). وأما الجاهلون فحسبهم أنهم جهال. ويقيني أن التنطع والحذلقة من الأمور التي لا بد لنا من محاربتها لنكون قوامين عَلَى لغتنا وذاتيتنا، وليكون لنا سعي مشكور في إحياء آدابنا وإحياء بلادنا. عَلَى أن موضوعي في هذه الليلة سيضطرني في كثير من المقامات إلى التذكير بألفاظ أجنبية مأخوذة عن العربية لأبين ما تركه أجدادنا من الآثار الباقية والمآثر الخالدة في الأمم الأوربية. فعلى سبيل التمهيد ومن باب الدخول في الموضوع أستأذنكم في إلقاء جملة صغيرة باللغة الفرنسية يتغلغل بها الكلام وليأخذ الحديث برقاب بعضه بعضاً. لا جرم أن يأخذكم العجب وتتولاكم الدهشة إذا قلت لكم يا سادتي إن كلمتي مشتقتان عن جرثومة عربية محضة فالأولى (ونظيرها عند الطليان فعل مأخوذة من قول فلان حائر بائر. وأما الثانية فهي من قولهم بهرت فلاناً فانبهر. فهل يصح لأحد أن يحار بعد الآن في ذلك الاشتقاق) وقد ظهر السبب فبطل العجب؟ وهذا كما ترى. أقف هنا قليلاً. ولا أزيدكم علماً بأن الفرنسيين كثيراً ما يستعملون كلمتي وتحليلها اللغوي وانظر إلى ذلك أو كما يقول عامتنا أهو كده هو كذا ويضارع ذلك قول العرب: وهذا كما ترى تلك الجملة ترد كثيراً في مسامرات أبي حيان التوحيدي مع وزير بغداد كما نراه في كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي أحضرته في هذا العام من خزائن القسطنطينية. وربما حاضرت قومي به وبموضوعه في فرصة أخرى. ذكرت لكم في الجملة الفرنسية كلمة ثالثة وهي كلمة وأصلها عربي أيضاً. ولو نطقنا بها عَلَى الطريقة الطليانية لقلنا: سوكي أو لو بحثنا ما يقابله عندهم لوجدنا فلو سقنا الآن آية من القرآن لظهر أصل الاشتقاق. قال الله تعالى في وصف الصحابة: (رحماء بيتهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل

كزرع أخرج شطأه (فراخه وورقه) فآزره فاستغلظ فاستوى عَلَى سوقه يعجب الزرّاع) (الآية). أخذ الإفرنج كثيراًَ من طرق العرب واساليبهم في الزراعة كما سنبينه فيما يجيء، واخذوا معها اللفاظ تارة وهي في حالة المفرد وتارة في حالة الجمع. ومن هذا القبيل كلمة التي نحن بصددها أخذوها عن سوق جمع ساق ثم حرفوا معناه عن أصله فنزلوا بها إلى باطن الأرض وجعلوها بمعنى الجرثومة والأصل: ثم توسعوا فيها فأطلقوها عَلَى جميع المعاني التي تدل عليها الجرثومة في اللغة العربية حساً ومعنى، حقيقة ومجازاً. وهناك ألفاظ كثيرة جداً تدل عَلَى تأثير العرب في الإفرنج تأثيراً باقياً إلى الآن: نعم إن المعالم ذهب بها الأيام والعوادي، ولكن أثرها قد بقي. فالأطلال تحدث الشاعر الباحث. وتستوقف الناظر والمسافر وتناجي الضمائر والخواطر، بما كان للعرب في تلكم البلاد من المآثر والمفاخر. وسأغترف لكم نذراً يسيراً مما علمت أنه مأخوذ عن العربية وقد تأصل في اللغة الفرنسية الجميلة (وما يتبعها من اللهجات الخاصة ببعض الأصقاع في فرنسا) وفي اللسان الطلياني (وما تولد عنه أو من اللهجات الشائعة في شبه الجزيرة الطليانية وما إليها من الجزر الأخرى) وفي لغتي الإسبانيين والبرتقاليين (وما تفرع عنه أو تفرع عنهما في ربوع الأندلس بحسب الاصطلاح الجغرافي العربي من الرطانات المتداولة الآن أو التي قضى عليها ناموس النشوء والارتقاء بالدخول في خبر كان). قلت لكم إنني سأغترف من ذلك شيئاً، ولست أتعدى كلمة الاغتراف قبل أن أحيطكم علماً أن الإفرنج أخذوا عنها كلمة الفرنسية الطليانية الصقلية الإسبانية. ولكنهم كلهم تطابقوا عَلَى تناقل اللفظ العربي من المصدرية إلى الاسمية. فهو عندهم لإناء من الزجاج يوضع فيه الخمر أو الماء. ومن ذا الذي في مصر الآن إذا ذهب إلى محل تجارة مذكور لا يكون قوله مفهوماً إذا طلب المشتري الكاراف؟! نعم إن الطالب والمطلوب يتفاهما وكلاهما بغير العربية لا يتراطتان أرهما بها يتراطتان. لا اريد أن أتشبه بهذا البائع وبهذا المشتري، فلا أجول أمامكم في مضمار لست من فرجائه. فاللغة الإنكليزية قليل وبالألماني هو والعدم سواء، وباليونانية كالصفر عَلَى يسار الأقلام، إلى ما هنالك من لغات أخرى قد أخذت عن

العربية طائفة صالحة من الألفاظ والمسميات مما يتعلق بالعلوم أو بحاجات المعيشة والأرزاق، كما أننا الآن نأخذ منهم بعقل وبدون تعقل، وبفكر وبلا تروٍ حتى أصبحنا عالة عَلَى تلك الألسنة الأعجمية فيما قد نجد له بديلاً وعنه غناء في لغتنا. دع عنك الألفاظ التي يتواضع العلماء عليها لأغراض مخصوصة أو لمستحدثات لم تكن معروفة، فهذا النوع من الألفاظ ملك شائع لجميع بني الإنسان. وهكذا سنة الله في خلقه: يوم لنا ويوم علينا، (وتلك الأيام تداولها بين الناس). وأنا أملي (أستغفر الله) بل الواجب علينا جميعاً معاشر الناطقين بالضاد، وأهل مصر عَلَى التخصيص، أن نتضافر ونتعاون في هذا العصر العباسي الزاهر وفي ظل مليكنا الرحيم وبعناية رجال حكومته الحاضرة، فنكون عصبة واحدة ونعمل عملاً متواصلاً متوالياً حتى يسنا لنا إحياء آدابها لتجديد العلوم فيها، ولإيجاد بواعث الارتقاء المنشود. فتلك هي لعمري الخطة الوحيدة التي تجعل لنا مقاماً كريماً بين الناس، كما كان لأجدادنا السابقين إلى الغايات. أيها السادة سبق لهذا العاجز الذي يناجيكم الآن أنه ألقى محاضرة بين يدي سيدي العباس بمناسبة افتتاح الجامعة المصرية. وقد أبنت فيها أن أهل الإسلام إنما تسنموا ذروة المجد بالرحلة إلى الأمصار وبقطع البحار وعملاً بالأمر الرباني الذي اوجب علينا المشي في مناصب الأرض، والسعي في طلب الرزق، والرزق عَلَى معنيين: مادي وأدبي، كما لا يخفى. عمل أسلافنا بهذه الآية الحكيمة فنالوا ما نالوا، وعكسناها فصرنا إلى ما صرنا هؤلاء نحن نرى مئات المصريين إذا جاء القيظ يقولون هلم بنا إلى أوربا للاصطياف! هذه رحلة الصيف التي كانت لإيلاف قريش! وفاتهم أن رحلة الصيف كانت لكسب المال الحلال من التجارة، وللاستفادة من المنافع المرتبطة بالارتحال: أما قومنا الآن، فالسواد الأعظم منهم يهرع إلى أوربا في كل عام، وأنتم أعلم بالغرض الذي يرمون إليه وبالهدف الذي يترامون عليه وحواليه. أهم ينفرون خفاقاً وثقالاً (أستغفر الله) بل خفاقاً متأبطين ما خف حمله وثقلت موازينه، يحملون ورقاً يغني عن الورق تكذيباً للشاعر الذي قال لممدوحه: أهديتني ورقاً لم تهدني ورقاً ... قل لي بلا ورق ما ينفع الورق

ولو عاش هذا الشاعر إلى عصرنا لاكتفى من ممدوحه بالتوقيع عَلَى ورقة من السفاتج (التي يسميها أصحابنا بالكمبيالات) أو من المصرف الذي يخزن فيه أمواله بإمضاء عَلَى شيك من الشيكات، تلك الكلمة الثانية أصلها عربي عن اللغة الفارسية فهي الصك وجمعه الصكوك أخذ الإفرنج هذا اللفظ عن العرب في جملة ما أخذوه عنهم من اصطلاحاتهم التجارية والمالية فقال شيك أصحابنا يهجروننا في الوقت الذي تحتاج فيه زراعاتهم إلى عنايتهم! وفي ذلك ما فيه من الضرر عليهم وعلى بلادهم! ناهيك أنهم لا يتشبهون بالطير! تغدو خماصاً وتروح بطاناً. وأما أصحابنا فيتهافتون عَلَى أوربة بطاناً وقد تأبطوا ما جمعوه أو اقترضوه من المال ويرجعون إلينا خماصاً بل صفر الوجوه، صفر الجيوب. أفرأيتم أولئك الفلاحين الذين أغناهم الحظ، وهم لا يكادون يفقهون لغة أمهم وأبيهم، أفرأيتموهم حينما يقولون: إنا ذاهبون إلى البلد الفلاني لأجل الكور يقولون في أفواههم ما ليس في قلوبهم كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وما هي الكور (الاستشفاء والتدبير الصحي) كلمة سمعوها فأعجبتهم غرابتها واستعملوها ولا يدرون لها معنى ولا يقيمون لها وزناً ولا يعملون عَلَى تحقيقها فعلاً وعملاً! غير أنني في هذا الشهر المبارك شمت بارقة من الأمل ولعلها مبشرة بغيث ينهمل في المستقبل، وأعني به المستقبل القريب. فقد تشرفت وجمهوراً كبيراً (الواو هنا واو المعية) من أكابر الموظفين بتناول الإفطار أمس عَلَى طاولة الخديوية في حضرة ولي الأمر في مصر حفيد محمد علي ولا فخر، الجالس عَلَى نحت المعز وبنية القابض عَلَى صولجان صلاح الدين وذراريه، الوارث لتاج الظاهر، المتحلي بإكليل النصر، المستوي عَلَى عرش المؤيد، المتبؤ لأريكة الأشراف، مولانا وولي نعمتنا المقر الأشرف الحاج عباس حلمي الثاني محيي الآداب، العربية. فقد حدثنا عن إعجازه بفتى من فتيان مصر رآه يجول في جبال الألب فيما بين فرنسا وسويسرا منقباً في بطون الوهاد منقراً فوق ظهور الأنجاد مستجوباً صياصي الأجبال. وغايته من ذلك أن يتعرف ما أبقاه العرب هنالك من المآثر والآثار أو ما تركوه من الرسوم الدوارس والأطلال.

لم يكتف المليك بهذه الرعاية التي تتطال نحوها رقاب المجتهدين من أبنائه، بل بالغ في الفضل فأوصى رجال حكومته بأنة يساعدوا هذا الرجل (وهو محمود بك سالم) عند عودته ليتمكن من إتمام عمله الجليل وسعيه المشكور فيما يرجع بالفائدة عَلَى مصر خصوصاً وعلى الشرق عموماً. لا ريب عندي أن رجال الحكومة فاعلون لأنهم يقدرون كل عمل نافع حق قدره ولأنهم قادرون عَلَى تعضيد كل مشروع مفيد. ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين عَلَى التمام كيف لا والإشارة صدرت من الأمير أدام الله لنا وجوده، وأتم عليه نعمته وأيده بروح منه حتى يكون حكمه السعيد مرشداً إلى سر التقدم الذي نبتغيه لتجديد المكارم بفضل حشمه ورجاله الذين وهبهم الله من العلم والحلم ما يؤذن برفع شأن الأمة المصرية. لهذا السبب أردت أن أتعجل في القيام بالمفروض علي من امتثال هذه الإشارة والعمل بها فيما يدخل في دائرتي ويصل إليه مقدوري. أردت أن أمهد الطريق أمام ذلك الصديق. حتى إذا ما عاد بالسلامة محمود بك سالم وجد النفوس متشربة بفائدة المشروع ورأى الأرض صالحة لهذا الغرس الطيب. فيكون شعارنا كلنا: حيَّ عَلَى عمل الخير! ذلك هو البعث الذي نبتغيه بعد أن طال السابت، ذلك هو النشور الذي ننشده للشرق! فالحياة تتجدد في كل يوم عن يمينه في الشرق القصى وعن شماله في أوربا وأميركا وهو جامد في موقفه كأنه في البرزخ. أفلا تكون حركة من وراء هذا السكون؟ نعم فالحركة من مميزات الحياة. ونحن والحمد لله فينا بقية وإن كان بعض الناس ينظر إلينا فيخالنا كالنائمين في البراري، أو كاهل الكهف؟ بماذا تتجدد الحياة في الشرق بالرحلة لعمري! كما ابتدأ دبيبه انتعشت بها الأمة العربية في أيام الأمويين والعباسيين. فمن المعلوم أن الوسيلة الواحدة تنتهي دائماً إلى غاية واحدة وأن المعلوم يدور مع العلة وجوداً وعدماً. فلعل هذه الخطة الجديدة التي كنت ولا أزال أسعى وراءها منذ ربع قرن تصبح سنة بيننا

وأنا اليوم عَلَى يقين من تحقيق الأحلام. فالداعي إليها اليوم ليس أحد أفراد الأمة وإنما هو صاحب التاج، والناس عَلَى دين ملوكهم. هذا وإنني لا أبيع الحكمة إلا بحسن الاستماع ولا آخذ عليها ثمناً إلا فهم القلوب وهذا كما ترى! يطربني وأيم الله أن أرى هذه السنة الجديدة متداولة بيننا معاشر المصريين فيرحل المقتدر منا إلى أوربا بشرط أن يجعل نصب عينيه العمل عَلَى الاستفادة مما وصل إليه أهلوها في حلبة الفضل وميدان التقدم. لست أنكر عَلَى الراحلين أن يضيعوا معظم وقتهم وأن يصرفوا جل مالهم في لذات أنفسهم وشهوات بطونهم. ولكني أناشدهم وأناشدهم أمهم (مصر) أن يجعلوا الثلثين لهم والثلث لها وأن يعملوا بقول الشاعر: والله مبني جانب لا أضيعه ... واللهو مني والخلاعة جانب بل أكتفي منهم أن يخصصوا لوطنهم نصيباً زهيداً من اغترابهم فالذرة يتكون منها الطود الشامخ والقطرة هي أصل العباب الزاخر. أملي فيهم أن يعودوا لنا بكتاب من كتب أجدادنا التي ليست في خزائننا (والخطب سهل فما عليهم إلا أن يصدروا أمرهم لأي إنسان من المشتغلين بالنقل بواسطة التصوير الشمسي) أملي فيهم أن يرجعوا إلى أهلهم وأهل بلادهم بفائدة (والأمر ميسور فما عليهم إلا ألأن ينظروا بالعيون التي خلقها الله وأن يعتبروا بالعقول التي أودعتها الحكمة الربانية في رؤوسهم). إن في أوربة الآن لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو رشيد. فكما كانت الرحلة سبباً في تقدم الشرق في أيام السلف الصالح، فكذلك تكون إن شاء الله بفضل الجيل الحاضر وما يتلوه من الذراري والأعقاب. كيف وصل المسلمون إلى أوربة؟ يقطع البحر الفاصل بيننا وبينها. هذا البحر الذي نسميه الآن بالبحر البيض المتوسط والذي كان يسميه أسلافنا بالبحر المتوسط لتوسطه بين أراضي أفريقية وآسية وأوربة واسمه المشهور عندهم بحر الروم. ولو أنهم سموه بالبحيرة الإسلامية لكانوا قالوا حقاً وأثبتوا صدقاً. فقد امتلكه المسلمون وامتلكوا ما فيه من الجزائر مثل: ميورقة ومنورقة

(وهي المعروفة الآن بجزائر الباليار وكان المسلمون يسمونها بهذين الاسمين وباسم الجزائر فقط وأما القطر لجزائري المشهور فاسمه عندهم مأخوذ من اسم عاصمتهم جزائر بين مزغنة وابن مزغونة) ثم صقلية، وقوسقة وأقريطش (المعروفة الآن باسم كريد) وكل هذه الجزائر كانت الحضارة الإسلامية فيها باهرة زاهية زاهرة. أما الجزائر الصغرى فكان شأنها كذلك مثل قبرص ورودس ومالطة. وآثار الإسلام ما تزال باقية إلى الآن ولعلكم ترتاحون إلى العلم بأن مالطة كانت سوق الأدب العربي فيها رائجة كان صحبها اسمه القائد يحيى صنع له احد المهندسين صورة لمعرفة أوقات النهار بالصنج فقال أبو القاسم بن رمضان المالطي لعبد الله بن السمط المالطي أجز الله هذا المصراع. جارية ترمي الصنج ... بها النفوس تبتهج فقال: كأن من أحكمها ... إلى السماء قد عرج فطالع الأفلاك عن ... سر البروج والدروج أما بحر الأرخبيل وجزائره فلم يدخلا في حكم العرب بصفة أكيدة حقيقية وإنما كانوا يغيرون فيه عليها من حين إلى حين تبعاً لعلاقاتهم مع الروم صلحاً وهدنةً وسلماً وحرباً. هذا البحر هو بحر الأرخبيل أو بحر هيجاي فانتم ترون أنه شيء وبحر سفيد بشيءٍ آخر. ولا عبرة بما يذكر في هذه الأيام في كثير من الجرائد العربية بمناسبة الحرب الحاضرة والكلام عَلَى الأرخبيل وجزائره العثمانية - فإن الذين وقفوا أنفسهم عَلَى الترجمة فيها قد وقفوا عندما رأوا بحر إيجة ورأوا في كتب الجغرافية والتربية أو المعربة عن هذه اللغة لفظة بحر سفيد فاغتروا وغرروا بالقارئين إذ قالوا أنه بحر سفيد وأطلقوا عَلَى هذا البحر اسم سفيد لأنه غير متعارف في مصر وظنوا أنهم أفادوا وأدوا الأمانة حقها. فكانا مصداقاً جديداً للمثل السائر عند الطليان وهو ومعناه الترجمان خوان ويضح لنا أن نترجم ذلك مع التساهل ومراعاة ملكة اللسان المصري بقولنا المترجم مبرجم والبرجمة غلط الكلام. فأملي أن تصل كلمتي هذه إلى أرباب الأقلام فلا يعودون إلى مثل هذا التخليط.

قلت لكم يا سادتي أن المسلمين عبروا البحر فامتلكوا جزائره وجعلوها قواعد تقوم عليها أعمالهم في الفتوح كما هو شأنها اليوم مع الدول العظمى. ومنها ذهب المسلمون إلى أوربة فامتلكوا ما قدروا عليه واحتلوا ما تيسر لهم، وأغاروا عَلَى ما أرادوا. ذهبوا بأساطيل مؤلفة من الجوارى المنشآت في البحر كالأعلام. تلك الأساطيل التي تغنى بها الشعراء بما لا حاجة للإشارة إليه الآن لئلا يتشعب معنا الكلام فيخرج عمال يقتضيه المقام، وإنما أردت لفت الأنظار إلى أن الدول التي تريد إعلاء كلمتها وحفظ بيضتها لا بد لها من امتلاك ناصية البحار وذلك لا يكون بتلك الحصون الماخرات الشامخات المشمخرات. فإن البحر له الشأن الأكبر في رفع شأن الدول وسلاطة بعضها عَلَى بعض بحق وبغير حق. وحسبكم ما هو حاصل الآن بين سمعكم وبصركم في البحر الأبيض المتوسط وفي بحر الأرخبيل بل وفي البحر الأحمر المعروف في كتب الجغرافيا العربية ببحر القلزم نسبة إلى مدينة القلزم التي قامت مقامها وعلى القرب منها مدينة السويس. أخذ العرب عن اليونان اسم الأسطول للدلالة عَلَى مجموع السفن التي تباشر الحرب في البحر كما أخذنا نحن الآن عن الإفرنج كثيراً من اصطلاحاتهم البحرية. ومن ذا الذي ركب منكم البحر ولم يحتجز له قمرة في الباخرة؟ هذه القمرة هي طليانية المنبت والمحتد ومعناها الغرفة والحجرة والأوضة. فإن هي إلا معاوضة ومقايضة كما أن البحر إذا انحسر عن البر من هنا طغى عَلَى الشط المقابل له في ناحية أخرى. ناموس عام تتجلى ظواهره في كل أعمال الإنسان وفي سائر أحوال العمران كذلك كان شأن الإفرنج منذ قرون ولقد بقيت الأسماء العربية متعارفة عندهم وفي كل لغاتهم وليس لهم سبيل إلى تبديلها بغيرها. إذ من ذلك مثالاً واحداً لأنه الأس وبمثابة الرأس فلفظة أميرال عربية الأصل وهو عندنا أمير الماء كما تراه في موسوعات النويري. بتر القوم القسم الأخير من باب التلطيف والتخفيف كما هو شأننا أبضاً في تعريب الكلمات الأعجمية. وقد جئنا الآن فجاريناهم عَلَى التعبير بهذا الحرف وبما تركب معه فنحن نقول: أميرال، كنتراميرال، فيس أميرال. من هو أول أميرال مسلم؟ هو العلاء بن الحضرمي الصحابي الجليل عليه رحمة الله فهو أول مسلم ركب البحر للغزو وكان ذلك من جهة الشرق والخليج الفارسي من عمان والبحرين.

وأما أول أميرال مسلم ركب بحر الروم للغزو فهو معاوية بن أبي سفيان حينا كان عاملاً عَلَى الشام في خلافة عثمان بن عفان. ثم أن المسلمين شغفوا بالجهاد في البحر وامتلاك بعض جزائره. والذي يهمنا بصفتنا مصريين هو أن نعرف أن أول تأسيس دار الصناعة كان في جزيرة مصر (جزيرة الفسطاط) في سنة 54 هجرية وأن الأسطول بالمعنى الحقيقي كان أنشأه للمرة الأولى في بلادنا في أيام عنبسة ابن إسحاق وإلى مصر باسم الخليفة المتوكل العباس الذي سنذكره بمناسبة المنجنيق عما قريب وكان ذلك في سنة 238 وكانت مصر إنما تصد بأسطولها غارات الروم وغيرهم من أمم أوربة. وأما الهجوم فلم يكن من شأنها إلا في حالة العدوان عليها. وذلك لأنها من حيث الفتح والتوسع في الاستعمار ما كانت تطمح في غير رودس وقبرص. والسبب في ذلك أنها تركت أمر الجزائر الأخرى للبلاد الإسلامية القريبة منها فكانت تونس توجه همتها البحرية إلى صقلية وسرادينة، وكان المغرب الأقصى متكفلاً بجزائر ميورقة ومنورقة ويابسة وشطوط الأندلس وسواحل فرنسا. ولكن تونس سبقت مصر في اتخاذ الأساطيل في أيام عاملها حسان بن النعمان بأمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة69 للهجرة. بلغت الأساطيل الإسلامية من الجلالة أنه كان لا يدخلها غشيم - عَلَى قول الإمام المقريزي - ولا جاهل بأمور الحرب وكان لخدامها حرمة ومكانة ولكل أحد من الناس رغبة في أن يعد من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقر فيه. وقد أفادنا أيضاً أن العناية بالأساطيل الإسلامية في مصر إنما قويت منذ قدوم المعز لدين الله إليها. وأن المقدم عَلَى الأسطول كان أميراً كبيراً من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفساً (وهو الأميرال) وكان الأسطول يزيد في أيام العز عَلَى ثمانمائة قطعة ثم اخذ في الانحطاط ولكن لم ينقص قط عن مائة قطعة فكان الخليفة يحض بنفسه تجهيز الأسطول وتفريق النفقة عَلَى رجاله. حتى إذا تهيأ للإقلاع ركب الخليفة إلى منظرة المقس (محل جامع أولاد عنان الآن) لتوديعه في احتفال باهر فيكون له يوم مشهود يزيده بهاء ورواء حركات الأسطول المعروفة الآن بالمناورات البحرية والحربية وقد بلغ من عنايتهم بالأسطول إن دار الصناعة في مصر ما كان

يدخلها أحد راكباً إلا الخليفة ووزيره وذلك يوم الاحتفال بفتح النيل أي جبر الخليج الذي انطمس الآن وصار طريقاً للترمواي وأصبح الاحتفال الآن معروفاً بموسم وفاء النيل. كان للأسطول في أيام صلاح الدين ديوان مخصوص يسمى بديوان الأسطول وسلمه إلى أخيه الملك العادل. فكان هذا الديوان يشبه ما كان معروفاً في أيام محمد علي بديوان البحرية وما هو معروف بديار أوربة بنظارة البحرية. وهو الآن صفر في مصر لا عين ولا أثر. وكانت إسكندرية ودمياط هما الميناءان الحربيان البحريان في ديار مصر وضف إليها مدينة تنيس التي هي الآن خراب بلقع وأما الفسطاط (مصر القديمة) وقوص (من أعمال الصعيد) فكانتا من أعظم الموانئ النيلية وفيهما يكون إنشاء السفن الحربية التي ترابط بتلك الثغور وتذهب للغزو والبحر لأجل إعلاء كلمة مصر وجعل رايتها خفاقة في الخفاقين. ما هي القطع التي كان يتألف منها الأسطول في الدول الإسلامية؟ هي الأعواديات والأغربة والبركوشات والحراريق (أو الحراقات) والشلنديات والمسطحات. ويتبعه سفائن أخرى تأتي في المرتبة الثانية من المكانة وإن كانت حاجته إليها شديدة وسنتكلم عليها عما قريب. سارت الأساطيل الإسلامية باسم الله مجراها ومرساها فأرست عَلَى سواحل الجزر وشطوط أوربة. وألق مراسيها وهي الأناجر جمع أنجر لفظة يونانية عربوها فقال الفرنسوين واشتقوا منها المصدر ثم ربط العرب مراكبهم بالحبال الغلظة وهي الأمراس والمرار جمع مر فسمى الطليان ذلك الحبل وتوسع فيها الفرنسيون فقالوا مثل ما صنع العرب حينما قالوا أمر السفينة أو الشيء أي ربطها بهذا الحبل الغليظ القوي المتين وعلى ذكر الحبل أذكر بأنه هو الفرنسية بمعنى واحد وأن اللفظة الثانية مأخوذة عن ذلك الأصل العربي. ولا يسعني أن أتجاوز الشط وأن أتتبع العرب في سيرهم قبل أن أقول أنهم حينما استقرت قدمهم بالسواحل أنشأوا فيها دور صناعة عَلَى مثل مذ ذكرنا في مصر وتونس فقال الطليان في أول الأمر (دور الصناعة) فكان مثلهم في هذا مثل أهل أسبانيا والبرتقال. ثم قال الطليان ثم ثم ثم واستمروا عَلَى هذا اللفظ الأخير إلى يومنا هذا ومنه كلمة الفرنسيين فلما جاء محمد علي وتقلد أمر مصر وأراد إحياءها رأى أن ذلك لا يتم إلا بإنشاء

الأسطول. فاستحدثت دار الصناعة في الإسكندرية وأشنأ الأسطول واستخدم في ذلك الكثير من الأتراك والطلبيان وغيرهم من بني الأصفر فلذلك جارى أجدادنا الأقربون هؤلاء القوم فاستردوا منهم كلمتنا العربية البحتة المحتة المحضة مصبوغة بلون إفرنكي ضاعت معه معالمها الأصلية فقالوا كما قال الترك ترسانة بل تركها بعضهم أكثر من الترك أنفسهم فقالوا ترسخانة من باب المبالغة في التضليل وتعفية آثاره الأصلية. وقد استحكمت هاتان الكلمتان في استعمال الخاصة والعامة حتى لا سبيل لاقتلاعهما أو الإقلاع عنهما مع أن الطليانيين لا يزالون إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم يقولون ولكن للدلالة عَلَى القسم الداخل في جوف الميناء حيث يربطون السفن المحتاجة للتعمير بعد نزع آلاتها وجهازتها. ما هي الوظيفة الأساسية لدار الصناعة؟ إنشاء السفن وإصلاح ما عساه يحدث فيها من العور؟ أخذ الإفرنج الكلمة الثانية وصنعوا منه كلمة ثم أطلقوها أيضاً عَلَى جميع أنواع العوار في السفن والسلع وغير ذلك. ومن المعلوم أن إنشاء السفن يدعو إلى ما نسميه نحن الآن بالقلفطة عَلَى يد القلفاط فهذان اللفظان نالهما ما نال دار الصناعة فإنهما معربان عن اللغات الأوربية التي أخذتها عن اللغة العربية. وهذا كما ترى. رأى أجداد عملة المسلمين يشتغلون في دور الصناعة بالقلافة فيقلفون المراكب فقالوا من فعل قلف العربي ثم أضافوا إليه علامة المصدر في لغتهم بعد زيادة حرف التاء للتوصل للنطق بين ساكنين كما يقولون في حالة الاستفهام ?) قال في تاج العروس قلف السفينة قلقاً بحرز ألواحها بالليف وجعل في خللها القار (الزفت) والاسم القلافة بكسر القاف أفليس هذا هو الذي يفعله القلفاط يا أبناء السبالة وأولاد الأنقوشي؟ فأنتم في ذلك شهود عدول. كل أسطول لا بد له من سفائن تحمل له الزاد والمتاع والكراع. فمنها التي نسميها اليوم (بالنقالات) أما الأساطيل الإسلامية فكانت تخدمها القراقير جمع قرقور اخذ الطليان هذا اللفظ فقالوا وقال الفرنسيون لا تعجبوا بين الصل والفرع فإن الإنتقال من لغة إلى أخرى يلدنا عَلَى ما هو أشد وأبعد ولتعلمن نبأه بعد حين ولكن إذا علمتم أن البرتقاليين يقولون في تسمية هذه السفينة ثبت لكم صدقي وقد استرجعنا اللفظ منهم في هذه العصور الحديثة

ولكن مفرنجاً فقلنا كركاة من قول الطليانيين ولكن بمعنى آخر لنوع آخر من السفن التي تستعمل لنزع الطين والرمال من قاع النهر والترع والخلجان ومن قاع المواني والمعابر البحرية في نظير المركب المسى عن الفرنسيين وكان لابد لكل أسطول من سفائن خصوصية لحمل الخيل وهيب التي تسمى بالطرائد جمع طريدة (وذلك خلاف الطراد وجمعه طرادات) أخذ الإفرنج هذا الاسم فقال الطليان ثم وقال الفرنسيون ولكن للدلالة عَلَى سفائنها الشراعية التي تمخر في البحر الأبيض المتوسط غرباً. ومن توابع الأسطول الفوالك جمع فلوكة فقال الطليان وقال فرنسيون وكذلك الشباك - ومن توابعه القارب فقالوا من اللفظ المفرد وهو قارب وربما يصح القول أنهم أخذوه من غرائب بقيت عَلَى شكل كلمة بشأن الشلنديات التي ذكرتها في أسماء مراكب الأسطول. فمفردها شلندي (ولا ادري ما أصله في العربية) وربما كان أصله عن اللاتينية وهو واخذوه الروس فقالوا وقال الطليان والفرنسيون واسترجعناه منهم بطريقة التعريب والتقريب والتمثيل والتأهيل فقلنا (صندل) وأصبح هذا الاسم بتحريفاته عندهم وعندنا عَلَى السفائن المخصصة لنقل البضائع مثل الماعين جمع ماعون التي قال فيها الفرنسيون وقال الطليان رجعوا قليلاً بنا إلى البحر فإن الأسطول قد تصادفه الرياح بما لا تشتهيه وقد تعاكسه الأمواج فيلقى النوتية أو النواتية منه الأمرين وهو البحر وهولته بعرفهما كل من اقتحم لجتة فالملاحون يسمون إضراب الموج الشديد بالهولة فقال الفرنسيون في ذلك للموج المتعالي كالجبال وقد تعاكسه الرياح التي تهب من الجنوب الشرقي فبقى السم الثاني في ذاكرة اففرنج فقال الطليان - وأما الفرنسيون أطلقوا عليه وكل ذلك مأخوذ من الشرق وأما رياح الموسم فيسمسها الفرنسيس والطليان ولا تعجبوا لوضعهم النون بدل الميم في آخر الكلمة فلهم في التبديل شيء كثير من هذا القبيل وحسبنا جنميعاً أنهم يسمون مدينة سواكن فلنأخذ النون من هناك ونضعها بدل الميم هنا لنرد كل شيء لأصله لأن كلمة عندهم ماخوذة من الأصل العربي وهو الرد ولا عجب فإن اللاتينيون قالوا بإضافة علامة المصدر فزاد الطليان والفرنسيس نوناً من عندهم وليس لنا في ذلك شأن عندهم ولكنهم عند نحت الاسم يردون الكلمة التي جرثومتها العربية فيقولون في تقديم الحساب وفي تسليم الحصون. '

نعود إلى السطول ونقول أنه بعد أن لقى من البحر ما لقى دخل إلى الميناء ولعدم خبرة الربان اصطدم بشعب فقال إفرنجي في ذلك تشبيها له ببروز الرصيف في الشوارع والطرقات التي أنشأها العرب فيما بعد بتلك البلاد ثم دخول الأسطكول إلى الميناءفي كلاءة الله وحفظه وفعل ما سنأتي عَلَى بيانه. وصل إلى المحل الذي يأمن فيه من عبث الرياح وثوران المواج وهو الموضع الذي يسميه الإسبانيون والبرتقاليون والفرنسون وقد استعمله الفرنسيون من كلمة. ألفاظ أصلها مشتق من كلمة كلأ العربية بمعنى حرس وحفظ. وهذا كما ترى. ماذا صنع الأسطول؟ اصطف للقتال ونصب المنجنيق. هذه كلمة يونانية استلحقها العرب وأضافوا إليها النون الأولى لتدخل في أوزانهم. عادة المغاربة جرت بأنهم لا يضعون نقط الأعجام فوق الفاء والقاف وتحت الياء متى كانت هذه الحروف مفردة أو في أواخر الكلمات. غذ في هاتين الحالتين لا يمكن حدوث التباس بينهما وبين ما يشابههما من الحروف الأخرى. فلو تصورنا أن بعضهم كتب اسم هذه الآلة الحربية عَلَى هذا المثال منجنيق وفرضنا أن ذيل الحرف الأخير انطمس بسبب ما فأصبح منجنيو فإننا لو أردنا أن نرسمها وهي عَلَى هذا الشكل بحروف إفرنكية لتحصلنا عَلَى منجنيو وبنطقهم منجنو بغير تشديد النون وإن كانت مكتوبة مرتين وهو الاسم الذي القه الفرنسيون عَلَى المنجنيق. أتعبتكم بذكر البحر والحروب وأنتم أهل السلام فهل تحبون الذهاب إلى العراق والدخول بمدينة السلام، مدينة بغداد؟ كانت مدينة أبي جعفر (بغداد) جنة الدنيا في عهد هارون والمأمون وخصوصاً في أيام المتوكل. وكان فيها شاعر يسمى أبو العبر له أحوال عجيبة وأمور غريبة وكان من المجان الذين يقل نظيرهم في الدنيا. وقد تكفلت كتب التواريخ والأدب بشرح أموره وكان يزيد في كل سنة حرفاً في اسمه حتى انتهى بعد بضع سنوات إلى: أبي العبر طرد طيل طليرى بك بك بك كان المتوكل يلبسه قميصاً من حرير ثم يرمي به في المنجنيق إلى نهر دجله فمتى

حذفه المنجنيق في الهواء قال: الطريق الطريق (كما تقول الان وسع وسع) ثم يقع في الماء فيأتي السباح ويستخرجونه من الماء. وكان في أحد قصوزر المتوكل زلاقة ما اشبهها بالتوبوجان الموجود الآن في مصر الجديدة (واحة عين شمس) فكان الخليفة يامره بالجلوس عليها ومن هناك ينحدر ساقطاً من فوق الزلاقة حتى يقع في البركة فيطرح الخليفة الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك. وفي ذلك يقول شاعرنا: ويأمرني الملك ... فيطرحني في البرك ويصطادني بالشبك ... كأني من السمك فعل المنجنيق بالحصون أفاعيله وتم له النصر فخلا الجو البر للعرب فنزلوا وقاتلوا وفازوا ثم شنوا الغارات عَلَى الأقطار النائية تمهيداً للتسلط عليها فقال أصحابنا في الغارة وقال الإسبانيون في المغاورين ولا يزال أهل إيطاليا يقولون للدلالة عَلَى الجندي وعلى المرزاق الذي يعتقله وقالوا في الغازي (وذهب بعضهم إلى أنها ماخوذة من الوزير) ولا عجب من إضافة الجيم في هذه الحالة الثانية فإنهم يضيفونها عَلَى جميع الكلمات العربية المبدوءة بحرف الواو فيقولون في الوضوء وفي الوادي الكبير وهكذا من كلمة اشتق الفرنسيون قولهم لحارس المذنبين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة ورأوا العرب يستعملون البسطانة وهي آلة لرمي البندق وصيد الطيور فقال الإسبانيون والبرتقاليون وأما الطليانيون فقالوا واقتصر الفرنسيون عَلَى رأوهم يستخدمون قاطعة وهي من نوع السكاكين فقالوا وربما كان هذا اللفظ مأخوذ عن صيغة الأمر من قول العرب: قط يقط قطاً أما الخنجر فقال الطليان فيه والفرنسيون وعلى ذلك قول شاعرهم: وقالوا في الزغاية وهو نوع من الحراب العربية: تجتمع العساكر عادة عَلَى سوت البوق ولكن الإسبان حينما أخذوا هذه الكلمة ونقلوها إلى لغتهم قالوا لزمارة الراعي. ومتى اجتمعت العساكر للعرض والتمرين فإن الفرسان تختال بخيولها وقد يختال الفرس فيدور عَلَى نفسه وذلك قول العرب كركر الفرس أخذ الفرنسيون ذلك اللفظ فقالوا وما أجمل امرئ القيس حين وصف الفرس بشطرة واحدة كل كلمة منها تدل عَلَى حركة مخصوصة

وتجعل السامع يتخيلها واقعة حاصلة بحضرته قال: مكر نفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عَلَى. وكانت السهام في ذاك الوقت هي التي يترامى المحاربون بها. ولا يزال العرب مشهورين بإصابة القبلة وهي الهدف والغرض والقرطاس. فقال الفرنسيون في هذا المعنى من كلمة قبلة. ولا أزيدكم علماً بأن السهام توضع في الكنانة وهي الجعبة غير أن اشتباك العرب بالفرس والترك جعلهم يختارون كلمة من غير لسانهم وهي التركاش بهذا المعنى فقال الطليان ثم قالوا كما قال الإسبان وكما قال البرتقاليون والفرنسيون وانتم تعلمون أن الفرنسيين كانوا إلى عهد قريب ينطقون بحرفي كما ينطقون بحرفي ولكنهم عدلوا عن كتابة في مثل هذا المقام وأبقوا عَلَى حال رسمها ونطقوها بالنطق الجديد فلذلك صار بينها وبين أصلها العربي بون كبير. إلى هنا وضعت الحرب أوزارها فاستقرت قدم الفاتحين وعرضوا جيوشهم تخفق فوقها الرايات والأعلام والبنود. فأخذ الفرنج هذه الكلمة الأخيرة فقالوا في بند المعربة عن الفارسية دلالة عَلَى الجماعة المنضوين تحت لواءٍ واحدٍ ثم اطلقوها من هذا القيد وقال الطليانيون في ذلك والفرنسيون وأخذنا عن الطليانيين كلمتنا مطلينة فنحن نقول الآن بنديرة. ماذا كان لون راياتهم؟ كان تبعاً لشعار الدولة القائمة في دمشق أو بغداد أو القاهرة. فشعار بني أمية من الألوان الخضرة في الملابس والبياض في الرايات أخذوا البياض عن اللون الذي كان يعمم به النبي صلى الله عليه وسلم وأما بنو العباس فشعارهم السواد في الحالتين. لأخذوا ذلك فيما يقال عن اللون الذي اختاره رسول الله يوم حنين ويوم فتح مكة. فإنه عقد لعمه العباس راية سوداء وقيل أن ذلك يرجع إلى حزنهم عَلَى إبراهيم بن محمد أول القائمين بالدعوة العباسية. فإن مروان بن محمد الجعدي المنبوذ بالحمار هو آخر بني أمية حينما ضيق عليه الخناق قال الرجل لشيعته: لا يهولنكم قتلي. فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم العباس. فلما قتله مروان لبس أشياعه كلهم السواد حداداً وحزناً عليه حتى إذا صار إليهم هذا الأمر أعني الخلافة جعلوا السواد شعارهم في كل أمرهم وكانت جنودهم تعرف باسم المسودة

فكانت المسودة تتقابل مع المبيضة (أي لابسي البياض من الموالين للأمويين) والناس عَلَى فريقين بعضهم يسود وبعضهم يبيض حتى عم السواد سواد العراق وخفق عَلَى جميع الآفاق. اللهم إلا في الأندلس فإنها عادت أموية بفضل عبد الرحمن الداخل وكان شعارهم الخضرة في الرايات كما يراه الإنسان في البقايا المحفوظة إلى الآن في دور التحف بمدريد وغيرها من أمصار إسبانيا. وقد تغالى الأندلسيون في أيام دولتهم في كراهة السواد حتى أنهم لم يستعملوه في الحزن والحداد فكانوا يلبسون الثياب البيض فقط في الحداد لئلا يشتبهون بالعباسيين في شيء ما حتى عند وقوع المصائب وكوارث الأيام. ولقد تجددت في هذه الأيام ذكرى الأندلسيين في حدادهم عَلَى يد غادة من فتيات أميركا وهي تظن أنها مبتدعة للبس البياض في حالة الحداد. أشير إلى أرملة الخواجة استور صاحب القناطير المقنطرة من الدنانير والملايين المملينة من الذهب الوهاج. فإنه بعد أن غرق حديثاً في الباخرة تيتانيق وهي لا تزال في ربيع العمر وريعان الشباب رأت من الواجب عليها أن لا تشوه محاسنها بلبس السواد عَلَى ما جرت به العادة الشائعة الآن في جميع أقطار العالم فاختارت البياض. فمن لي بتعريف هذه العادة المعينة بأنها ليست من المجتهدات وإنها كانت لعرب الأندلس من المقلدات. ومن غريب ما يتعلق بالسواد والنساء أن الظافر خليفة الفاطميين بمصر لما قتله وزيره. بعث نساء الخليفة بشعورهن إلى الصالح طلائع بن رزيك وهو يومئذ عامل بمنية ابن الخصيب (أعني أنه كان مدير المينا بحسب اصطلاحنا الإداري الآن) فأسرع لنجدتهن. ورأى أن يستميل الأمة المصرية وأجنادها إليه لأجل إغاثة الحريم والدفاع عن بيضة الخلافة فعقد تلك الشعور عَلَى رؤوس الرماح (كما هو الحال الآن في وضع جدائل الشعر فوق المزاريق التي يتعلقها الرماحة في أوربا وفي مصر) وأقام الرايات السود من باب الحزن عَلَى الخليفة المقتول وعلى ما حل بالقصرين وساكنات القصرين من بيت الخلافة وإعلاناً بالحرب لأخذ ثأر الظافر فدخل القاهرة عَلَى هذه الصورة. فكان ذلك من الفأل العجيب وهو أن مصر انتقلت إلى المسودة (بني العباس) ورجعت إلى حكمهم بعد ذلك بخمسة عشر سنة في أيام العاضد آخر الفواطم وعلى يد صلاح الدين الذي يسميه الإفرنج

كلهم فكان السواد شعارها الرسمي تبعاً لراية أمير المؤمنين حتى جاءت دولة المماليك فصار لون الرايات هو الصفر. كانت لهم راية سلطانية صفراء وهي مطرزة بالذهب وعليها ألقاب السلطان. وبعدها راية عظيمة صفراء أيضاً وفي رأسها خصلة من الشعر وهي التي تسمى بالجاليش. ويتلو ذلك رايات صفر صغار تسمى السناجق. فلما جاءت الدولة العثمانية صار اللون الرسمي هو الأحمر يتوسطه الهلال المحبوب الذي ترمقه العيون وتلتف حوله القلوب. فلنقف الآن تحت الهلال ونترك البقية الباقية لمحاضرة أو محاضرات تالية إن شاء الله. أحمد زكي.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات مؤلفات الدكتور شميل قليل من المؤلفين المتقدمين والمتأخرين من رزقوا شجاعة الدكتور شبلي شميل وصراحته في المجاهرة بآرائه العلمية والفلسفية والاجتماعية عرف ذلك منذ نحو أربعين سنة فعد في مصر والشام أحد أفراد قلائل جداً وربما كان فرداً في بابه نبت المؤلف في كفر شيما من جبل لبنان ودرس الطب في كلية الأميركان وأتفن الفرنسية فسهل الكتابة بها كما سهل عليه الكتابة بالعربية وهو ينظم الشعر يتوخى فيه المعاني العلمية والاجتماعية وهاجر إلى مصر منذ أربعين سنة ولولا ذاك لاضطهد وأوذي كثيراً خصوصاً ومن مذهب الدعوة إلى العلم المحض الجديد والزهد في التعاليم القديمة كيف كانت حالها وهو ناشر مذهب دارون في النشوء والتحول باللغة العربية وهذا المذهب هو الذي يدعي بعضهم أن أصل الإنسان قرد والحقيقة أنه لا يقول أن القرد أصل الإنسان وأن الحمار أصل الفرس بل إن افنسان والقرد والفرس وسائر الأحياء في الطبيعة قاطبة من أصل واحد في نشوئها من مواد الطبيعة وبمجرد قواها وقد تغيرت تبعاً لناموس المطابقة حتى بلغت مبلغها الآن بالانتخاب الطبيعي فمذهب دارون الذي أثار ضجة كبرى في هذا الشرق الأدنى يوم ظهوره بالعربية هو مذهب علمي محض يدرس اليوم في المدارس الحرة من غير نكير وهو لا يضر بجوهر الأديان عَلَى ما يقول بعض الباحثين فيه بيد أن الحكمة تقضي عَلَى المتشبعين به أمثال صديقنا الشميل أن يدعوا إليه ولا يغضوا من شأن تعاليم رسخت في النفوس فوقرتها عَلَى توالي القرون وعندنا أن المبادئ العلمية كانت تربي قبولاً من النفوس في بلادنا أكثر مما رأت لو لم يعرض أربابها بما هو أعز عزيز عَلَى الناس شربوا تقديسه مع لبن أمهاتهم وهيهات أن يتحولوا عنه بمجرد دعوة داعٍ أو تعريض معرض. والكتب التي بين أيدينا من مؤلفات الشميل هي كتاب فلسفة النشوء والارتقاء وقع في 377 صفحة طبع بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1910 وكان نشر أكثره في مجلة المقتطف العلمية كبيرة المجلات العربية ومجموعة ثانية وهي كجزء ثانٍ للكتاب فيها موضوعات شتى عمرانية طبيعية علمية تاريخية أدبية سياسية تقريرية انتقادية فكاهية مما نشره المؤلف في جرائد مجلات كثيرة فضم شتاته وقد طبع في مطبعة المعارف بمصر وهو يقع

في 341 صفحة والكتاب الثالث رسالة في آراء الدكتور شبلي شميل طبعت بمطبعة المعارف بمصر سنة 1912. مؤلفات الحسيني من الناس يؤلفون إرادة النفع العام ومنهم من يؤلفون للاتجار بما يؤلفون وكلتا الطبقتين نافعة ومن أهل الطبقة الأولى صديقنا أحمد بك الحسيني أحد سراة القاهرة وفقهائها القانونيين وآخر ما أهدانا من كتبه ورسائله ما طبعه بمكتبة كردستان العلمية كتاب بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة أموال الأوراق وهو بحث عصري ديني بحث فيه الوراق المالية عند الأمم كلها وحكمها ونظامها وطبق ذلك عَلَى الشريعة الغراء وهو في 221 صفحة والكتاب الثاني البيان في أصل تكوين الإنسان وهو في 208 صفحات والرسالة الثالثة في كتاب أعلام الباحث بقبح أم الخبائث في 154 صفحة والرسالة الرابعة في الصول المسماة تحفة الرأي السديد الحمد لضيا التقليد والمجتهد في 84 صفحة وهذه الرسائل كلها مما تشتد حاجة العصر إليه لدفع الحرج عن الناس وتعليمهم الدين أو بعض مسائله العويصة مطبقاً عَلَى أحكام العلم والعقل فجزى الله المؤلف أفضل ما جازى عاملاً لا يتوقع من عمله إلا الصلح والنفع. طبقات الأمم تأليف جرجي بك زيدان طبعه بطبعة الهلال بمصر سنة 1912 ص286 لمنشئ الهلال جرجي بك زيدان نفس طويل في التآليف وتفنن في ابتداع المبتكرات من الموضوعات ولاسيما ما راق منها طبقة خاصة من القراء وآخر تآليفه هذا السفر وهو يبحث في أصول السلائل البشرية وكيف نشأت وتفرعت إلى طبقات وانتشرت في الأرض وما تقسم إليه كل طبقة من الأمم أو القبائل وخصائص كل أمة البدنية والعقلية والأدبية ومنشأها ودار هجرتها ومقرها الآن وعاداتها وأخلاقها وآدابها وأديانها وسائر أحوالها وقد اعتمد فيه عَلَى أشهر ما كتب بالإنكليزية في هذا الموضوع وأضاف عليه بعض ما يلذ ويفيد من المعلومات العربية وحلاه بأنموذجات من صور كل جنس من أجناس البشر فجاء

يجمع إلى الفائدة العلمية الخفيفة النكتة الفكاهية الظريفة تنتفع به الخاصة وتحرص عليه العامة فنهنئه بكتابه الجديد ونرجو له التوفيق إلى تأليف العشرات من أمثاله خدمة للغة وآدابها. حكم النبي محمد للفيلسوف تولستوي وشيء عن الإسلام وأوربا نقله عن الروسية سليم أفندي قبعين طبع بمطبعة التقدم بالقاهرة سنة 1912 - 1330 ص79. اعتاد صديقنا المعرب أن يتحف العالم العربي الحين بعد الآخر بشيءٍ مما يكتبه المفكرون في روسيا ولاسيما ما له علاقة بالإسلام والمسلمين يتلطف في ترجمته ويوشك أن يكون وحده الذاهب بفضل هذه المزية في النقل عن الروسية ولا نذكر من المعربين عنها إلا أناساً لا يبلغون عدد الأنامل من أبناء سورية عربوا شيئاً قليلاً عن لغة السلافيين. أما هذه الرسالة فقد قال في وصفها المترجم رأى الفيلسوف تحامل جمعيات المبشرين في قازان من أعمال روسيا عَلَى الدين الإسلامي ونسبتها إلى صاحب الشريعة الإسلامية أموراً تنافي الحقيقة تصور للروسيين تلك الديانة وأعمال صاحب تلك الشريعة بصورة غير صورتها الحقيقية فهزته الغيرة عَلَى الحق إلى وضع رسالة صغيرة اختار فيها عدة أحاديث من أحاديث النبي محمد عليه السلام ذكرها بعد مقدمة جليلة الشأن واضحة البرهان وقال هذه تعاليم صاحب الشريعة الإسلامية وهي عبارة عن حكم عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل ولا تقل في شيءٍ عن تعاليم الديانة المسيحية. وقد رد المعرب الأحاديث إلى أصولها وضم إليها مقالات نشرها بعض كتاب الروس في مجلاتهم بفضائل الإسلام وحقيقته فنشكر للمترجم وترجو أن تصح عزيمة كل عارف بلغة أجنبية أن ينقل لقومه ما يهمهم من الموضوعات وينقصها من المعلومات والإيضاحات. الحكمة الشرقية تعريب محمد لطفي أفندي جمعه طبعه عَلَى نفقة مجلة البيان ص100. معرب هذا الكتاب من رجال المحاماة والقلم والخطابة يعرفه القراء بما عرب وألف حتى اليوم فهو مثال النشاط المصري ونموذج الكاتب الاجتماعي العصري وكتابه هذا آخر ما نشره للناس وهو ذو اسفار ثلاثة الأول حكم فتا حوتب الجكيم الوزير المصري الثاني

كلستان للشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازي الثالث كتاب التعليم الراقي للمرأة في اليابان للفيلسوف الياباني أونادايجاكو. وفيها كبها من الحكم الروائع والكلم النوابغ ما يجدر بالمتأدب الأخذ به وحبذا لو ضاعف المترجم وأمثاله من الإكثار من مثل هذه الأسفار ليدفعوا عن الناشئة قليلاً من السموم التي تنفثا في النفوس روايات الغرام والفوضى وأخبار اللصوص التي أضرت بآداب الجمهور كبير من المطالعين في هذا القطر وفي غيره من الأقطار العربية وحبذا لو صحت همة نظارة المعارف المصرية عَلَى منعها فهو أول واجباتها ومحاربة الرذائل لا يقل في النفع العام عن الأخذ بأيدي الفضائل. بلوغ المرام من أدلة الأحكام لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني طبعه عبد الرحمن أفندي بدران سنة 1330 - 1912 ص280. إن ما طبع من كتب الحديث في هذه الديار لم يبلغ القدر الذي طبع منه فيما نعلم في بلاد الهند وهذا المختصر يشتمل عَلَى الصول والأدلة الحيثية للحكام الشرعية بين المؤلف عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة وهو نافع لطلاب الأثر وطلاب الأحكام معاً فلطابعه الشكر الجزيل. عجائب المتأدب ويليه رسالة لقط الحكمة تأليف صالح بك حمدي حماد طبع سنة 1330 - 1912 بمطبعة مدرسة والدة عباس الأول بالقاهرة. مؤلف هذه العجالة كتب وترجم كثيراً في الموضوعات التي تنفع وتنهض بالقراء إلى مستوى راق وتلقنهم الأفكار الصحيحة وآخر كتبه هذا السفر جمع فيه حكماً ومواعظ قديمة وحديثة منظومة ومنثورة عزاها لأربابها وقدم لكل فصل كلاماً نافعاً من عنده يؤثر في نفس القارئ وبعده لتناول الحكمة المستشهد بها جزاه الله عن الآداب خير. بلاغة الإنكليز أو مختارات لوبان تعريب محمد أفندي السباعي طبع بمطبعة التقدم بمصر سنة 1912 في ثلاثة أجزاء صغيرة تبلغ زهاء 350 صفحة.

أهدتنا مكتبة البيان لصاحبها عبد الرحمن البرقوقي هذا الكتاب النافع معرباً بقلم السباعي أفندي وهو مختارات من كبار مؤلفين الإنكليز في الحكمة والأدب والتاريخ والأخلاق والاجتماع منها ما يلذ المطالع العربي ومنا ما لا يقدر لها قيمة إلا من قرأه بلغته الأصلية وتشبع بروح اللغة المنقول عنها وعرف عادات أهلها ومناحيهم وما يستطيبونه من القول وما يمجونه والكتاب عَلَى عادة المعرب في ما نقله جيد ممتع وفقه الله إلى ترجمة أمثاله من الكتب النافعة ككتاب التربية لسبنسر والأبطال لكارلايل وغيرهما من معرباته. كتب ورسائل مختلفة أحسن القصص تأليف صالح بك حمدي حماد فيها ثلاث روايات عصرية مصرية. مؤلفة الأولى رواية الأميرة يراعة في 142 صفحة والثانية رواية ابنتي سنية في 152 والثالثة رواية بين عاشقين في 137. حقائق عن الانتخابات النيابية في العراق وفلسطين وسورية لحقي بك العظم. الإسلام والإصلاح قرير رسمي للسر ريشار وود في الإسلام نشره محب الدين أفندي الخطيب.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار ثرثرة النساء يقول احد علماء الإنكليز أن ما شاع عَلَى الألسن من أن في دم المرأة أن تكون ثرثارة أمر ثابت من طريق العلم أيضاً وناشئ حقيقة من تواد الدم إلى دماغها عَلَى صورة تخالف توارده إلى رأس الرجل فالمرأة يرد عليها أعظم كمية من الدم الشرياني واصلاً إلى نقرتها عَلَى حين يصل إلى الرجل أحسن دم وأغزره إلى الدماغ من جزئه الأعلى أو إلى الجبهة وعلى ذلك فيكون عمل الدم في الذكر والأنثى مختلفاً فالقسم الورائي من الدماغ هو مركز الحواس وهو محل حاستي النظر والسمع في حين أن القسم الأعلى يحتوي عَلَى مركز الإرادة والشهوات والرغبات الناشئة من الشعور الداخلي. فالتأثير المنبه الناشئ من غزارة الدم في كلا القسمين يدل إذا عَلَى السبب في رؤية المرأة الأشياء بسرعة ولماذا تتلو بسرعة أكبر وتتكلم أسرع من الرجل وتلتذ بكلامها وتهنأ أكثر من الرجل فإن لطف قواها في المدارك الحساسة وشدة ذكائها وتأثرها متنبه فيها أكثر من رفيقها الرجل ثم أن مجرى الدم في الرجل أغزر في الجزء الخارجي يهبه غرابة في ظواهره العالية من حيث الأعمال العقلية وحكماً أهدأ وإرادة أقوى ولذلك كانت المرأة ثرثارة أكثر من الرجل - قالته جريدة المايتن. تفوق الرجال نشرت الكاتبة المدونة صوفيا نادجدا في إحدى صحف لندن أبحاثاً جديدة بشأن اختلاف الإحساس في الحواس فقالت أن المرأة أسمى من الرجل في اللمس والرجل أسمى منها في الشم ويختلف الرجل والمرأة في الحكم عَلَى الطعم فالرجل يشعر بالمرارة أكثر من المرأة وهذه تشعر بالحلاوة أكثر وحاسة السمع في الرجل أقوى منها في المرأة وغلط رؤية الألوان عند المرأة أندر منه عند الرجال وبينا نرى من يغلطون في تمييز الأوان من الرجال عَلَى معدل واحد في كل 25 أو 30 نرى عدد النساء واحدة في كل 250 بل 1000 وهكذا في القابليات الأدبية في الجنسين فقد تبين بالاستقراء أن صفة الهدوء هي في الرجال عَلَى معدل 25 في المئة في حين أنها في النساء عَلَى معدل 20 وقد فرض عَلَى 25 طالباً و25 طالبة أن يكتبوا في آن واحد ومهلة حددت لهم ما يستطيعون كتابته من

الكلمات فكان معدل ما كتبه الطلاب 1375 كلمة وما كتبته الطالبات 1128. البقول الشافية كتب طبيب في جريدة ألطان مبحثاً في البقول الشافية قال فيه أن الحروب في القديم لم تكن ضارة كل الضرر بل أتت بمنافع عادت عَلَى الفاتحين بالشيء الكثير فإن نساء مقدونية كن يسرن مع جيش الإسكندر ليهيئن لأزواجهن المحاربين طعامهم وبذلك عرفن البصل اليابس والبصل الطري والجرجير التي يتناولها المصريون ولو لم يداهم الإسكندر ابن فيلبس بلاد الهند لما استطاع العالم القديم أن يعرف الفاصولية واللوبيا. وأخذ أهل غاليا عن أهل فوسة اليونان الذين داهموا إقليم البروفانس الزيتون وصنع الخبز وعاد القرطاجنيون من حملتهم عَلَى سردينيا يحملون البقدونس ووجد أحد الإنكليز في فرجينيا البطاطا عَلَى عهد الملكة إليزابيث وبالجملة فإنا عرفنا معظم البقول المائية بالاختلاط كثيراً مع شعوب الشرق والغرب وهذه البقول البصل فقد عرف القدماء خواصه في إدرار البول ولطالما كان حساء البصل الدواء الحقيقي يورث الرجال قوة وقد رأى أحد كبار أطباء القرن الثامن عشر أن أربع بصلات تسحق في قليل من الخمر الأبيض تفتح الكلى وتسهل مجرى البول كما تسهل جميع العقاقير الحادة وقد عاد أحد أطباء بوردو منذ سنتين بعد أن نسي الاستشفاء بالبصل يسمح لأحد المصابين بالاستسقاء باستعماله مقلياً ومشوياً ومطبوخاً فبعد أن كان بطنه مملوءاً ماء أخذ يخف انتفاخه ويرجع إلى حالته الطبيعية وعللوا ذلك لما فيه من آزوت البوتاس الطبيعي الموجود بكثرة في لب البصل وقد استعمل الدكتور دلكاشه في باريز البصل علاجاً لإحدى البنات كانت قد أصيبت بالخناق ثم بالكلب وامتلأت ساقاها ماء وعسر عليها البول فلم تكد تستعمل البصل إلا وارتفع البول من 250 غراماً إلى لتر واحد وخف الورم وزال هذا ويلاحظ أن بعض المعد ترى البصل بطيئاً عَلَى الهضم. ولطالما استعمل الثوم في الشفاء من الطاعون والوباء ورائحته تتبخر من الجلد والرئتين والتنفس ولذلك حظر اليونان الدخول إلى المعبد عَلَى كل من تناوله فهو مضاد للتعفن أحسن من المواد غير الطبيعية التي نستعملها اليوم وكنا نشير عَلَى الناس بالإكثار من استعماله لولا أنه نمام تنم عليه روحه وأنفاسه. ثم أن الرضي شوكي زمنً مسحوقاً للشفاء من الحميات المتقطعة ولبه إذا طبخ في الزبدة

(القشطة) يكون لذيذاً للناقبين وينفع المصابين بالبول السكري ومثل ذلك يقال في الجزر والفاصولية وأحسن طريقة في الانتفاع من البقول أن لا تغلى كثيراً لتفقد خاصية ما فيها من الأملاح النافعة بل أن تطبخ عَلَى البخار كما يطبخها من حتموا عَلَى أنفسهم التغذي بالبقول أو عَلَى الطريقة الإنكليزية ويكف أن تجعل في سلة من المعدن تناط في القدر فوق ماءٍ غالٍ وبذلك تجمع إلى اللذاذة فائدة. ويحتوي الجزر عَلَى صبغة كيماوية وأملاح وفوسفات البوتاس وسكر وغير ذلك من الحجيرات والمواد النافعة في التداوي. واختلف العلماء في الهليون فمن قائل بأنه دواء أكثر منه طعام ومن مدع أنه سم وقد قال الطبيب فريدريك في أوائل القرن الثامن عشر أن الشراب المعمول من جذوع الهليون يسكن الخفقان وهو أحسن مسكن للقلب والهليون أحد الجذوع الخمسة المدرة للبول وأحسنه البرى أما المزروع في الحدائق فقد فقد من خاصياته بقدر ما زاد في طعمه ولذاذته وتكثر مائيته فتكون 93 في المئة منه وإذ كان الهليون يهيج الكلى خصوصاً فيمن تجاوزوا الخمسين بحيث قد ينشأ عنه ضرر فالأولى لهم الابتعاد عنه أو يستشيرون طبيبهم في ذلك. ولقد كان الخس مما يرغب فيه القدماء ومنهم من يستعمله عقيب الطعام ويرون أنه مرطب للون وفيه من المواد ما ينفع في تنقية الأحشاء من الفضلات ويدخل مع الكراث في حساء البقول. وهذا الحساء إذا أخذ بارداً عَلَى الريق يكون مصلاً نافعاً شافياً من اضطراب المعدة ومن الإمساك الشديد ومانعاً من التعفن ويمكن أن يتناول حاراً ممزوجاً بقليل من الشعرية والسميد وتحضيره سهل وهو أن يغلي لتر من الماء مع ملعقة صغيرة من الملح الأسمر وتلقى فيها كراثتان وجزرة ولفتة ونصف خسة وقليل من الهندباء المسحوقة وأن تغلى من عشرين إلى خمس وعشرين دقيقة لا أكثر وإلا فتصبح مرة والمقصد مزجها لا جعلها حساء. وكان للملفوف أيضاً عند أجدادنا موقع مهم ولطالما وصفه كبار الأطباء الأقدمين لما فيه من الكبريت وقد أوصى كوبلر احد أطباء القرن التاسع عشر في استعماله لمراض الجلد وتحسين التنفس وإذا صعب هضمه فلا بأس أن يضاف إليه أثناء طبخه ملعقة من بيكربونات الصودا وكذلك السبانخ فإن فيه حديداً حياً بكمية وافرة ولذلك ينفع كثيراً أرباب فقر الدم وفساده وهو ملين يحتوي الكثير من المواد الغروية والكر والحسن لمن فيهم مغص

أن يبتعدوا عن تناوله. ومثل ذلك يقال في القرع والجرجير والخردل الذي يهيج الأحشاء ويطهر الأمعاء ولا ينبغي الإكثار منه لفتح القابلية للطعان في البلاد الحارة فإنه يضر. هذا وأن البطاطا فقد ارتأى أحد كبار أطبائنا أنها نافعة للمصابين بالبول السكري يتناولها المصاب به 1500 غراماً لما فيها من أملاح البوتاس الخاصة الغزيرة بحيث أن الكيلوغرام منها يحتوي من المواد القلوية التي لا تحويها معظم المياه المعدنية التي تستعمل في أمراض الكبد. عظمة الجبان وشقاؤه كتب بول غولتيه في الطان مقالة تحت هذا العنوان قال فيها أن من لم يدخل الجبن قلبه بعض الأحايين ينعي عَلَى نفسه أنها متوسطة في مداركها وقابلياتها وانها غير مستعدة للبلوغ والتفنن ومن لم يدخل في طور من الجبن ولو قليل في صباه يستحيل عليه أن يلبس لكل حالة لبوسها بدون تردد عَلَى العكس في الشبان الذين يجربون أنفسهم في مواطن الجبن والشجاعة فإنهم من أرباب العقول المبتذلة عَلَى أن الجبن في المرء ينبغي أن يكون محطة واحدة في حياته وصعب إذا تأصل الجبن بقليل من الخجل والخوف فهو نوع من الاضطراب لا يخلو منه امرؤ وأن وشفور زعيم الاشتراكيين ليصفر وجهه ويجبن قليلاً أمام الجمهور وكذلك المحامي بالي المشهور وكذلك كان شأن نابليون الأول وهو يقف أمام شعبه فيتماسك وكم أصيب بهذا الجبن رجال ولاسيما من الممثلين والمحاضرين والواعظين وكم من رجل يعد من كبار الخطباء فإذا جئت تقدم له رجلاً يحمر خجلاً وكم من آخر يخوفه ابنه ويحسب له ألف حساب ومن الوف يخشون باس نسائهم ومن آخرين يخشون بأس الرجال وكم من أستاذ يخاف من تلاميذه فيجبن أمامهم وكان وهو تلميذ لا يخاف بادرة أحد وكم من رجل كبير العقل واسع المدارك يجبن إذا التقى وأحمق لأنه يدرك هول الموقف فلا يتيسر أن يتفاهم واباه للفروق بينهما. والجبناء هم الذين غرز الجبن فيهم بالفطرة بدون أن يجبنهم أحد فيجبنون لأنفسهم بدون أدنى سبب فيخفق قلبهم ويحمرون ويصفرون ويهتزون وتضيق أنفاسهم وقد يصابون بمغص وغشيان وكم من ممثلة كبيرة أصيبت قبل الدخول إلى المسرح بمثل هذه الأعراض وكم من امرئ أضاع صوابه فلم يعرف ماذا يقول وماذا يريد فسلبت منه حاسة القول

وحاسة الإرادة وغاب فلم يع عَلَى نفسه يسكت فلا يحير جواباً ويغيب عن حضور ذهنه ومثل ذلك يصيب الطلبة في الفحوص وكم منهم من أخفق بسبب هذا الجبن. ولطالما شكا الفيلسوف جان جاك روسو المقنن مونتسيكيو من جبن ينالهما حتى قال الأخير عن نفسه أن الجبن كان آفة حياتي. الجبان يضحك الناظرين منه فقد يرفع صوته في محل يجب خفضه ويخفضه في محل الرفع وتختل حركاته وقد يخرج من الغرفة ويقع من تعلق رجله بالبساط وربما حقر الكبير وكبر الصغير وربما ظنه الحضور أحمق أخرق لا عقل له ولا معرفة ولذلك لا ينجح في حياته وكم من واحد يدفعه حب المال أن يذهب إلى أقصى الأرض فيستفيد من ضعفه ويظهر كذلك وليس هو سعيداً في حبه وربما كان هو المحب الحقيقي بحيث أن كل إنسان مولع بالحب مهما بلغ من جسارته يصبح جباناً أمام محبوبه فلا يحب. والنساء لا يؤخذ بمجامع قلوبهن إلا الجسورون وليس للجبان حظ مع النساء وما أقسى الحكم عليه في ذلك لأنه لم يكن جباناً إلا طمعاً في العواطف. وفي تلبك الحال يغير الجبن أخلاق المصابين إذا لم يستطيعوا التخلص منه ومن يتفوقون عليه يكونون في الغالب دونه عَلَى أن الجبان قد يختار العزلة عن الناس لئلا يناله منهم ما يضره في عزة نفسه وينزله عن كبريائه عَلَى أن الجبان لا يظل عَلَى جبنه إلا لضعف في إرادته وتضاؤل في امتلاك اضطراباته والدليل عَلَى ذلك أن الجبن يزيد وينقص بحسب الحالة الصحية والاحمرار يكون عَلَى أتمه فيكون فيهم يحمرون بسبب وبلا سبب فهم يشبهون راكب الدراجة يخاف السقوط فتخونه رجلاه فيسقط وكم منهم بقوا عازبين ولم يستمتعوا باللذائذ وكم منهم فكروا بالانتحار ليخلصوا مما هم فيه. وأحسن دواء للخلاص من الجبن إن لم يكن سهلاً فهو ممكن أن يعمد إلى عمل كل ما يقوي المجموع العصبي وأكثر ما ينجع فيه التأني وتربية الإرادة. وبالجملة فإن الجبن محطة في الحياة يجب أن يقف فيها الشاب وهي جوهرية تنقذ الرجل الذي يتربى بان تكرهه عَلَى أن يحسن قياد نفسه وتعد لحياة داخلية دع أن الجبن في أكثر الأحيان هو نتيجة استعداد لأن يأبى صاحبه بالبدع والرغائب وقصارى القول ينبغي أن يتفاءل خيراً للجبان عَلَى شرط أن يداوي نفسه ومثله هو الذي يخاذله التوفيق لأن يكون رجلاً في هذه الحياة.

الأمم والحمامات أرسل الدكتور كين أحد أطباء مانشستر بلاغاً من ألطف ما كتب إلى المجلس الصحي في يور ك من بلاد إنكلترا بشأن نظافة الجسم الإنساني والحمامات قال بعد البحث الدقيق أنه في كل عشرين نزيلاً في الفندق واحد فقط يستحم وفي مقدمة المستحمين الضباط ثم من اعتادوا الألعاب الرياضية أما رجال الدين فهم أقل الطبقات استحماماً وإذا وضعنا للأمم ترتيباً في الاستحمام فيكون رجال الإنكليز في المقدمة ثم الإيكوسيون ثم الأيرلانديون ثم نساء الأميركان ثم نساء الإنكليز ثم رجال أميركا ثم الفرنسيس والألمان وهؤلاء عَلَى مستوى واحد والسر في تفوق نساء الأميركان عَلَى نساء الإنكليز في النظافة هو أن نساء الأميركان لا يتحاشين الخروج بألبسة النوم في الفنادق أمام النزلاء بخلاف الإنكليزيات فإنهن يتحامين ذلك أدباً وتعففاً هذا ما قاله إنكليزي في حين كان من الأمور الثابت في أوربا أن أكثر أهلها نظافة هم الإنكليز والسر في نزافة الإنكليز أن الاستحمام في معظم فنادقهم مجاني في حين أن الاستحمام في الفنادق ولاسيما في البلاد التوتونية يكلف الفرنكين والثلاثة كل مرة أما في الشرق فمن العجيب أن تقل النظافة مع بذل الماء وتسهيل الوسائط عما كانت عليه في القرون الوسطى مثلاً. اللؤلؤ تشرت المجلة الفرنسوية بحثاً في اللؤلؤ آثرنا تحصيله فيما يلي: كان اللؤلؤ الذي يرغب فيه كل ذات ظرف اليوم مشهوراً عند المصريين والبابليين والآشوريين والصينيين ورد ذكره في العهد القديم والعهد الجديد ولطالما أولع بحبه الشرق ولا تكمل حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة إلا إذا كان فيها كلام عن اللؤلؤ ومازالت جميع بلاد الإسلام تبتاعه ويكتفون منه بما حضر مهما كان حجمه لأن أسبابهم المالية لا تساعدهم عَلَى ابتياع المدور منه ولا يستعملونه إلا مثقوباً يجعلونه في الأساور والعقود ويدخل في بعض العقاقير ولاسيما في بلاد الصين التي تستعمل مسحوق اللؤلؤ في كثير من الأدوية زعماً منهم أن مسحوقه يعيد إلى الشيخ نشاط الشباب في الخامسة والعشرين من عمره وهذا الاعتقاد في نفع اللؤلؤ قديم فقد قيل أن كيلوبطرا ملكة مصر تناولت لؤلؤ حلتها في الخل وكانت تعتقد بغناء هذا الدواء. وقد دخل استعمال اللؤلؤ إلى فرنسا عَلَى عهد هنري الثاني عَلَى يد كاترينا دي

ميديسيس ولم يستعمله الناس كلهم إلا منذ نحو عشرين سنة بل كان خاصاً بالعظماء والعظيمات ولطالما أحبت إسبانيا وبولونيا وجزءاً من روسيا الشرقية اللؤلؤ وعدته من أنواع الزينة الوطنية ومنذ نحو عشرين سنة شاع استعماله في إنكلترا وإيطاليا شيوعه في فرنسا ثم اخذ ينتقل إلى جميع بلاد أوربا ويصل أميركا الشمالية والجنوبية والنساء يرغبن اليوم في اقتناء اللؤلؤ بحيث كادت الأثمان التي تبذل فيه تعد في فصل مالاً ينتج من رأس المال فأصبح مغاوص اللؤلؤ لا تقوم بما يطلب منها كل سنة حتى رأوا أن يبتاعوا القديم منه المستخرج من جمهوريات أميركا الوسطى وهو الذي يصاد في بنما وكوستاريكا فبلغت أثمانه عشرين ضعفاً مما كانت تساوي ويبتاع أهل إسبانيا وروسيا وبولونيا لؤلؤهم من الهند والصين فيرقبون أنلاس الراجات أو ملوك الهند بعض السنين ليخرجوا عن لؤلؤهم العظيم وإن كان يعوز عليهم ذلك كما يعز عَلَى الصينيين أن يبيعوا لؤلؤهم خصوصاً ما كان منه مدفوناً مع آبائهم وأجدادهم لأن العادة أن تدفن مع الميت جواهره وحليه ولا يلبث اللؤلؤ القديم أن يبتاع من المشرق فينقطع أثره وهذا السبب في غلاء ثمن اللؤلؤ فإن ما يعاد منه أصبح نادراً ولا يعاد اليوم إلا الصغير الحجم ففي سنة 1911 التي كانت من السنين الجيدة في صيد اللؤلؤ في الخليج الفارسي لم يستخرج سوى أربعين لؤلؤة تتجاوز الواحدة الخمسة والعشرين قمحة وهو أحسن موسم للؤلؤ في بحار العالم كله وتقدر قيمة ما يستخرج من الخليج الفارسي سنوياً من أربعين إلى ستين ملون فرنك ويختلف شكل اللؤلؤ بحسب أصدافها وقعر البحار التي تعيش فيها فإذا كان قعر البحر كلسياً جاء اللؤلؤ أبيض وإذا كان حديدياً جاء لؤلؤه ملوناً واللؤلؤ يستخرج وعن منطقة مستطيلة في بحار الأرض في خليج فارس إلى جزيرة مرغريتا إلى فنزويلا فمصايد أستراليا فمصوع وتاهيتي وبناما وكليفورنيا والجزائر الهولاندية وغير ذلك وخير الصدف ما استخرج من المصايد القديمة أما المصايد الحديثة فتنضب بسرعة ولا توازي العناء في الاستثمار. قد يظن بعضهم أن من يصيدون اللؤلؤ أغنياء والحقيقة أن صائديه فقراء ويختلف عددهم بين ستين وثمانين ألفاً في شاطئ جزيرة العرب والمتجرون به من تجارهم الأغنياء لا يزيد عددهم عن خمسة عشر شخصاً ومصائد اللؤلؤ عَلَى 150 إلى 200 ميل من شاطئ بلاد العرب يقضون أعظم المشقات في صيده ويغوصون ثلاث دقائق في الغالب ومنهم من

يهلك غرقاً أو أن تعضه سمكة ولا يستطيع أن يغوص أكثر من خمس سنين ثم يضعف. قال الكاتب ولما رأيت ما حل ببعض هؤلاء الغواصين ذكرت أوباش باريز فقلت في نفسي ليت الحكومة ترسلهم ليعملوا في صيد اللؤلؤ الأشغال الشاقة فإن هلاكهم واقع لا محالة والبلاد تنجو منهم وأعظم سوق تقام للؤلؤ في العالم مدينة بومباي يقصدها تجاره من بلاد العرب ومصوع وسيلان وجزائر جاوة وغيرها من مصائد المحيط الهندي وفيها تكون لسماسرة هذا الحسم الكريم شدة وعرامة وأهم تجاره إنكليز كما أن أهم مصائده بيد إنكلترا وقيمة المستخرج منه تقل سنة عن أخرى وربما جاء يوم استعيض عنه في الزينة بالأحجار الكريمة كالياقوت والزمرد والزبرجد عَلَى أن بعض معادن هذه آخذة في النقص أيضاً وتجارته اليوم تساوي مئات الملايين من الفرنكات وكم اغتنى منه من تجار الإنكليز والإيطاليين والألمان خصوصاً بعد أن كان يباع لثمن بخس ولم تكن الأنظار متجهة إليه أما اليوم فندر من يبيع بثلاثة أضعاف ما يشتري وفي الماضي كان ذلك من المألوف. الإسراف في القهوة يزيد غرام العالم اليوم بعد اليوم باستعمال القهوة فالفرنسوي يصرف في السنة كيلوغراماً ونصفاً من البن والألماني كيلوغرامين ونصفاً والأميركي ثلاثة ونصفاً والبلجيكي خمسة ونصفاً والعثماني ستة ونصفاً والبرازيلي سبعة والإنكليزي يكتفي بكيلو واحد. قالت المجلة رواية هذا النبأ وليت شعري هل اعتدال الإنكليز في القهوة نشأ عنه سكوته في عراك هذا العالم العصبي. الألكحول والأمية لاحظوا في ألمانيا أن لانتشار الألكحول علاقة بتعليم الشعب فالعملة الذين يطالعون أكثر من غيرهم ولاسيما الصحف أقل استعمالاً للألكحول ممن لا يطالعون ففي إقليم ورتمبرغ حيث تجد للسكان رغبة دائمة في المطالعة وتباع الصحف كثيراً يقل شاربو المسكرات أكثر من ولاية بورن الألمانية التي يرغب سكانها عن المطالعة وتقل صحفها وبذلك تسقط دعوى من قال أن العملة يزيد تعاطيهم المسكرات كلما قل عملهم وكثر فراغهم. أكبر محطة تعمر الآن في أميركا أكبر محطة من محطات السكة الحديدية في العالم وهي محطة سكة

بنسلفانيا نيويورك وتنتهي سنة 1915 تكلف تسعمائة مليون فرنك وأهم ما فيها الشرفات التي تبنى لقبول الركاب وهم نازلون من القطار والخطوط الحديدية تعلو قليلاً عن سطح الأرض وتقام فوق المحطة عمارات ذات عشرين طبقة. الحمى المعاودة قالت الطان: إن للحمى المعاودة شدة خاصة بسبب انتشارها العفني وهي تكثر في أفريقية الشمالية وأفريقية الوسطى وينتقل ميكروبها الحلزوني بواسطة الحشرات الطفيلية ولاسيما القمل وقد أكد نيكول وبيلزو ونسل أن هذه الحشرات لا يمكن أن تنقل الميكروب إلى الأشخاص الذين ليس في جلدهم آفة أو جرح فبحث العلماء منذ ذلك العهد عن كيفية انتقال المرض فأثبتوا أن الميكروبات عندما تلحق بالحشرات تتبدل وتصبح مرئية بالمجهر وتدخل إلى الباطن فتنمو وتتكيف تكيفها الأول بعد ثمانية أيام وهكذا يمكن التوقي من الحمى المعاودة إذا اعتنى السكان بإهلاك حشراتهم بدون سحقها والظاهر أن الحميات المعاودة المنتشرة في بعض أقاليم روسيا وآسيا وإيرلاندة وكندا التي يسكنها أناس قلما يحفلون بالقواعد الصحية لها نفس هذه الوسائط في الانتقال والعدوى. الصناعة في النمسا وجدت الصناعة النمساوية لها مصرفاً عظيماً في بلادها إذ زادت في الجمهور القدرة عَلَى الابتياع بزيادة أجور العمال وسهولة استخدام العاملين لأيديهم وأبدانهم ويستدل عَلَى زيادة المصروف من البضائع وقلة الصادر منها بنمو عدد العمال في تلك الإمبراطورية فقد كان عددها سنة 1902 - 11954 مشروعاً لصنع الحاصلات الصناعية وتحويلها فأصبح عددها سنة 1901 - 14517 أي بزيادة 2563 منها 2639 معملاً للنسيج و2967 معملاً لصنع الحجر والفخار والخزف والزجاج و2225 معملاً للمواد المأكولة و1518 معملاً للمعادن و1467 معملاً للسلال و925 معملاً للحاصلات الكيماوية وقد كان يعمل 1723000 شخص سنة 1902 في هذه المعامل المختلفة والبيوت وعددها كلها 103114 وتبلغ أجورهم 105 ملايين كورون فأصبح عددهم سنة 1910 2666000 شخص وأجورهم 1890 مليون كورون يعملون في 23000 معملاً ومحلاً فزيادة عدد العملة 31 في المئة والأجور 57 في المئة يدل عَلَى أن قوة الاستهلاك في الناس قد نمت في النمسا

عَلَى معدل واسع. السكك الحديدية الهوائية يراد بالسكك الحديدة الهوائية النقالات المحتوية عَلَى أدوات للجر وطرق للدفع مؤلفة من سلك أو أسلاك معروفة من القديم ولم تستخدم في الصناعة ببلاد الغرب إلا في سنة 1823 في حين كانت معروفة في نابولي ففي متحفها قطعة من السلك نحاس وجدت في خرائب بومبي وقد عرفت هذه النقالات الهوائية منذ زهاء ألف سنة في يابان والصين وجعلوا لها أسلاكاً من ألياف نباتية ليجتازوا عليها الأنهار والأودية العميقة ولكن أول وصف لسكة حديدية هوائية لم يجر إلا سنة 1411 كما شوهد مسطوراً في مخطوط محفوظ في مكتبة فينا ثم شاع استعمالها واخذ اللومبارديون يعمدون إليها في اجتياز الأنهار ونقل التراب لعمارة الحصون وفي كتاب لرجل ظهر في البندقية نحو سنة 1617 أول تخطيط لسكة حديد هوائية تستعمل لنقل الأشخاص وكانت ألمانيا في العهد الحديث أسبق الأمم إلى استخدامها فقد استعملوها سنة 1872 في بناء الحصون في متز ثم أولع بذلك الأميركان. الحبوب النافعة للفوسفور دخل كبير في قوام الجسم الإنساني كان البشر في أيامهم الأولى يحصلون عليه من ألبانهم ولحومهم ولما شرعوا يزرعون الحنطة ويمصرون الأمصار ويختطون القرى أخذوا يعمدون إلى البقول في الحصول عَلَى الفوسفور اللازم قال الدكتور هالم في الطان أن الأرز الذي هو أن الأرز هو أساس غذاء المشارقة يحتوي عَلَى 14 في المئة من الحامض الفوسفوري وفيه غذاء كاف حديدي ومطبوخه نافع في الشفاء من الإسهال أكثر من جميع الأحسية والعدس عَلَى ما يظهر من تاريخ عيسو كان له شأن عظيم في القديم وفي العدس 7 غرامات و55 في الألف من الفوسفات وهو نافع جداً للمصابين بالبول السكري. والحنطة كانت في كل قرن غذاء نافعاً تأتي بالفوسفات المطلوب في الأجسام وكان أجدادنا يتناولون الخبز أسمر بما فيه فنفعهم لأن فيه 77 في الألف من هذه المادة في حين لا يحتوي الأبيض أكثر من نحو واحد في الألف من الفوسفات ولذلك يفضل الأسمر عَلَى الأبيض في الصحة وقد قال أحد علماء الصحة أن انتشار داء ضعف المجموع العصبي (النوراستنيا) ناشئ من تناول الدقيق الأبيض في الخبز وأحسن الخبز ما كان

وسطاً لا أبيض ولا أسود والأبيض منه قد كان منه مرض الزائدة الدودية المنتشرة في هذا العصر. وقد قال الدكتور أن الحب والرضاع يأخذان المرأة فوسفوراً كثيراً وكذلك يفقد المرء فوسفوراً كثيراً إذا كان مصاباً بإحدى الأمراض المعدية كالسل والقرمزية والحمى التيفوئيدية ومن أصيب بالهم والغم وإنهاك عقله بالأشغال الفكرية ومن استرسل في شهواته وفي بيض الدجاج معوض مهم عن الفوسفور لأن فيه 13 في الألف فأوصى المتعوبين والمعمرين أن يتناولوا في الصباح عند قيامهم من النوم صفار بيضة تمزج بسكر ناعم معنجان قهوة وتخلط بلطف في قهوة سوداء لا تكون غالية كثيراً.

كتاب الأدب والمروءة

كتاب الأدب والمروءة عني بنشره الشيخ طاهر الجزائري بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين قال صالح بن جنان: اعلم أن العرب قد تجعل للشيء الواحد أسماء وتسمي بالشيء الواحد أشياء فإذا سنح لك ذكر شيء فاذكره بأحسن أسمائه فإن ذلك من المروءة وإنما الرجل بمروءته فالمروءة اجتناب الرجل ما يشينه واجتناؤه ما يزينه وإنه لا مروءة لمن لا أدب له ولا أدي لمن لا عقل له ولا عقل لمن ظن أن في عقله ما يغنيه ويكفيه عن غيره وشتان بين عقل وافر معه خمسون عقل كلها وافر مثله ومن عقل وافر لا فائدة معه ومن ذلك قول الشاعر: وما أدب الإنسان شيء كعقله ... ولا زينة إلا بحسن التأدب وقال أن الأفئدة مزارع الألسن فيمنها ما ينبت ما زرع فيه من حسن ولا ينبت ما سمج ومنها ينبت ما سمج ولا ينبت ما حسن ومنها ما ينبت جميع ذلك ومنها لا ينبت شيئاً وإن من المنطق لما هو أشد من الحجر وأنفذ من الإبر وأمر من الصبر وأحر من الأسنة وأنكد من زحل ولربما احتقرت كثيراً منه عَلَى حرارته ومرارته وتنكد مخافة ما هو أحر منه وأمر وأفظع وأنكر وفي ذلك قول الشاعر: لقد أسمع القول الذي كاد كلما ... يذكر تيه الدهر قلبي يصدع فأبدي لمن أبداه مني بشاشة ... كأني مسرور بما منه أسمعه وما ذاك من عجبٍ به غير أنني ... أرى أن ترك الشر للقمر أقطع وقال في ذي الوجهين: من أظهر ما تحب أو تكره فإنما يقاس ما أضمر بما لا أظهر لأنك لا تقدر أن تعرف ما أسر وقال: ليس المسيء إذا تغيب سوء ... عندي بمنزلة المسني المعلن كم كان يظهر ما أحب فإنه ... عندي بمنزلة الأمير المحسن والله أعلم بالقلوب وإنما ... لك ما بدا منهم بالألسن ولقد يقال خلاف ذلك وإنما ... لك ما بدا منهم بالأعين وقال في الصدود: أما بعد فقد أحضرتني من صدرك ما آيسني من ودك ولم يزل يجري في

لحظك ما يدخلني في رفضك ويدلني عَلَى غل صدرك وفي ذلك أقول شعراً: نظل في قلبه البغضاء كامنة ... فالقلب يكتمها والعين تبديها والعين تعرف في عيني محدثها ... من كان من حزبها أو من يعاديها عيناك قد دلتا عيني منك عَلَى ... أشياء لولاهما لم كنت أدريها أن الأمور التي تخشى عواقبها ... إن السلامة ترك ما فيها وقال في كثرة المال وقلته: لا تستكثر مال أحد ولا تستقله حتى تعلم ما عياله فإن من كثر ماله وعياله فهو مقل ومن قل ماله وعياله فهو مكثر. وقال في ذكر الأحمق ودخوله فيما لا يعنيه: وأكثرهم دخولاً فيما لا يدخل فيه وأرضاهم بما لا يكفيه - عدوه أعلم بسره من صديقه وصديقه قد غض منه بريقه ولا يثق بمن نصحه ولا يتهم من خدعه ولا يأمن إلا من يخونه زلا يتحفظ إلا ممن يحفظه ولا يكرم إلا من يهينه أشبه شيء خلقاً باللئيم إن أحسنت إليه لم يشكر وإن أسأت إليه لم يشعر لا ينفعك من وجهه إلا ضرك من وجوه: إن أقبل عليك لم يسرك وإن أدبر عنك لم يضرك إن أفسد شيئاً لم يحسن أن يصلحه وإن أصلح شيئاً أفسده إن أحببته فرأى منك حسناً لم يحسن أن ينشره وهو مع ذلك بخطئه أشد إعجاباً من العاقل بصوابه إن جلس إلى العلماء لم يزدد إلا جهلاً وإن جلس مع الحكماء لم يزدد إلا طيشاً وإنما جعل نفسه المحدث لهم يكلفهم أن يكونوا المنصتين له أعيا الناس إذا تكلم وأبلدهم إذا تعلم واصحبهم لمن يشينه وأرفضهم لمن يزينه وأشدهم في موضع اللين وألينهم في موضع الشدة وأجبنهم في موضع الشجاعة أن افتقر عجب من الناس كيف يستغنون وإن استغنى عجب من الناس كيف يفتقرون لا يفهم إلا حدثته ولا يفقه إن أفهمته ولا يقبل إن وعظته ولا يذكر إن ذكرته وفي ذلك أقول شعراً: المرء يصرع ثم يشفى داؤه ... والحمق داء ليس منه شفاء والحمق طبع لا يجول مركب ... وما أن لأحمق فاعلمن دواء وقال في ذكر الهوى: إن من الناس من إذا هوي عمي ومنهم من إذا هوي أبصر مرة وأعمي أخرى ومنهم من إذا هوي لم يكد يخفى عليه شيء وهو اللبيب العاقل الحليم الكامل الذي إن أعجبه أمر نظر إلى هواه وعقله فإن اتفقا اتبعهما وإن اختلفا اتبع عقله وترك هواه وكان أمراً معتدلاً يشبه بعضه بعضاً وقليل ما هم في ذلك أقول شعراً:

أملك هواك إذا دعاك فربما ... قاد الحليم إلى الهلاك هواه الله يسعد من يشاء بفضله ... وإذا أراد شقاءه أشقاه وقال أيضاً في أناس تحسن وجوههم عند حاجاتهم وتغير وجوههم عند غناءهم شعراً: أرى قوما وجههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا وإن كانت حوائجنا إليهم ... تغير حسن أوجههم علينا ومنهم من سيمنع ما لديه ... ويغضب حين يمنع ما لدينا فإن بك فعلهم شحا وفعلي ... قبيحاً مثله فقد استوينا وقال فيمن فعل أمراً لا يحسن أن يحتال له: اعلم أن من قاتل بغير عدة أو خاصم بغير حجة أو صارع بغير قوة فهو الذي صرع نفسه وخصم نفسه وقتل نفسه فإن ابتليت بقتال أحد أو خاصمته أو مصارعته فأحسن الإعداد له واعرف مع ذلك عدته وأبصر حجته وأخبر قوته كما يخبر قوتك وحجتك وعدتك فإن رأيت تقدماً وإلا كان التأخر قبل التقدم خيراً من التندم بعد التقدم وفي ذلك أقول شعراً: إذا ما أردت الأمر فاعرفه كله ... وقيه قياس الثوب قبل التقدم لعلك تنجو سالماً من ندامةٍ ... فلا خير من أمر أتى بالتندم وإن من الناس من يرزق حجة أو عدة أو قوة فتكون عدته هي التي تقتله وقوته التي تصرعه وحجته التي تخصمه وذلك أنه ربما أدل فقاتل قبل أن يعلم أهو أعد أم الذي يقاتله وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم أمام الذي يقاتله وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم فلم ينفعه جودة عدته ولا قوة حجته حين أتى الأمر من غير جهته وفي ذلك أقول: إذا ما أتيت من غير وجهه ... تصعب حتى لا ترى منه مرتقاً فإن الذي يصطاد بالنفخ إن عنا ... عَلَى الفخ كان الفخ أعتى وأضيقا وقال في الذي يعاقب الناس بغير مودتهم ويوجب حق نفسه عليهم: لا تدع الناس إلى برك وإجلال أمرك وتعظيم قدرك بالمعاتبة ولكن ادعهم إلى ذلك بما تستوجبه منهم وانظر الأمر الذي أكرم به من هو أبعد منك وقرب به من أنت أقرب منه فألزمه فإنك إن تلزمه لم تحتج معه إلى معاتبة ولا استبطاء حق لأنك إن دعوتهم إلى تكرمتك بغير ما تستوجب التكرمة به

فإنما دعوتهم إلى أهانتك إما بكلام يحرجك وإما بفعال تقدحك وإن دعاهم إلى ذلك فضلك أجابوا إما بثناء يرفعك وبجزاء ينفعك. وقال في معرفة الأخوان إنك لن تعرف أخاك حق المعرفة ولن تخبره حق المخبرة ولن تجربه حق التجربة وإن كنتما بدار واحدة حتى تسافر معه أو تعامله بالدينار والدرهم أو تقع في شدة أو تحتاج إليه في مهمة فإذا بلوته في هذه الأشياء فرضيته فانظر فإن كان أكبر منك فاتخذه أباً وإن كان أصغر منك فاتخذ ابناً وإن كان مثلك فاتخذ أخاً وكن به أوثق منك بنفسك في بعض المواطن وقال: كن من الكريم عَلَى حذر إن أهنته ومن اللئيم إن أكرمته ومن العاقل إن أحرجته ومن الحمق إن مازحته ومن الفاجر إن عاشرته ولا تدل عَلَى من لا يحتمل أدلالك ولا تقبل عَلَى من لا يحب إقبالك وكن حذراً كأنك غرو وكن ذاكراً كأنك ناسٍ والتزم الصمت إلى أن يلزمك التكلم فمن أكثر من يندم إذا نطق وأقل من يندم إذا لم ينطق وإذا ابتليت فعند ذلك تعرف جودة منطقك وقلة زللك وسعة عفوك وقلة حيلتك ومنفعة قوتك وحسن تخلصك واعلم أن بعض القول أغمض من بعض وبعضه أبين من بضع وبعضه أخشن من بعض وبعضه الين من بعض ولو كان واحداً فإن الكلمة اللينة لتلين من القلوب ما هو أخشن من الحديد وإن الكلمة الخشنة لتخشن من القلوب ما هو ألين من الحرير وإن عظم الناس بلاء وأدومهم عناء وأطولهم شقاء من ابتلى بلسان مطلق وفؤاد مطبق فهو لا يحسن أن ينطق ولا يقدر أن يسكت واعلم أن ليس يحسن أن يجيب من لا يسألك ولا تسأل من لا يجيبك وفي ذلك أقول شعراً: ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه إن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا وقال في الرفق في الدواب: إن رفق الرجال بدوابه وحس تعاهده لها وقيامه عليها عمل من أعمال البر وسبب من أسباب الغنى ووجه من وجوه المروءة وقال التدبير مع المال القليل وخير من المال الكثير مع سوء التدبير وإنما المنفقون ثلاثة جواد مبذر وكريم مقدر ولئيم مقتر وفي ذلك أقول شعراً: رب مال سينعم الناس فيه ... وهو عن ربه قليل الغناء كان يسقي به وينصب حيناً ... ثم أمسى لمعشر غرباء

ماله عندهم جزاء إذا ما ... أنعموا فيه غير سوء الثناء رب مال يكون غماً وذماً ... وغني بعد في الفقراء وقال في تصنيف الطعام إذا كنت ممن يؤكل طعامه وتحضر مائدته ويؤكل معه فليكن الذي يتولى صنعة طعامك من ألب الناس في عمله وأنظفهم في يديه ولا تدع أعلامه إن أحسن ولا إنذاره إن أساء فإن تعتبك عليه خير من تعتب الناس عليك واعلم أن لكل شيء غاية وإن غاية الاستنقاء التنظيف في الاستنجاء والإكثار من الماء حتى يستوي اليدان والريح والمنظر فإنه لا طيب أطيب من الماء ولو أنه المسك وما أشبهه من الأشياء وإنما يستدل عَلَى نظافة الرجل بنقاء أثوابه وإنما يكون القذر في الحمقى من الرجال والنساء ويستدل عَلَى بلادتهم وفي ذلك أقول شعراً: ولا خير قبل الماء في الطيب كله ... وما الطيب إلا الماء قبل التطيب وما أنظف الأحرار في كل مطعم ... وما أنظف الأحرار في كل مشرب وقال في صفة العدو والصديق: احرص أن لا يراك صديقك إلا أنظف ما تكون ولا يراك عدوك إلا أحصن ما تكون فأما الصديق فإن كان الذي أعجبه منك خلقك أو خلقتك ولهما كان بحبك فكلما ازددت حسناً كان حبه لك أكثر ورغبته فيك أوفر (وأكثره عندك وأكبر لك في صدره) وأدوم له عَلَى عهدك وأما العدو فليس شيءٌ أعجب إليه من دمامتك وخساستك فاحترس منه وأظهر الجميل فليس شيء أعجب إليه من التمكن منك فانظر أن لا يكون شيء أعجب إليك من التحصن منه. وقال في العقل والأدب: اعلم أن العقل أمير والأدب وزير فإن لم يكن وزير ضعف الأمير وإن لم يكن أمير بطل الوزير وإنما مثل العقل والأدب كمثل الصيقل والسيف فإن الصيقل إذا أعطي السيف أخذه فصقله فعاد جمالاً ومالاً وعضداً يعتمد عليه ويلتجأ إليه فالصيقل الأدب والسيف العقل فإذا وجد الأدب عقلاً نفقه ووفقه وقواه وسدده كما يصنع الصيقل بالسيف وإذا لم يجد عقلاً لم يعمل شيئاً لأنه لا يصلح إلا ما وجد وإن من السيوف لما يصقل يسقي ويخدم ثم يباع بأدنى الثمن ومنها ما يباع بزنته دراً وزبرجد وذلك عَلَى نحو الحديد وجودته أو رداءته وكذلك الرجلان متأدبان بأدب واحد ثم يكون أحدهما أنفذ من الآخر أضعافاً مضاعفة وإنما ذلك عَلَى قدر العقل وقوته في الأصل وفي ذلك قلت شعراً:

وقد يصلح التأديب من كان عاقلاً ... وإن لم يكن عقل فلن ينفع الأدب وقال في المراء: إذا اجتمع أهل نوع فتذاكروا عَلَى نوعهم ذلك لم يكن أصل كل واحد منهم أن ينفع بما أسمع وينتفع بما سمع فاعلم أن تذاكرهم ذلك من أول المراء يصدع العلم ويوهن الود ويورث الجمود وينشئ الشحناء وينغل القلب وفي ذلك أقول شعراً: تجنب صديق السوء وأصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصاً فداره وأحبب صديق الخير واحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره وقال في الحكمة: أما ما يسمع من كثير من الحكمة فإنه أوله شيء يخطر عَلَى الأفئدة إذا خطر وهو أصغر من الخردلة وأدق من الشعرة وأوهن من البعوضة ثم تحركه اللسنة وتنبذه الأفئدة كما يحاك البرد وكما يمد النهر فيعود أكثر من الكثير وأوثق من الحديد وأثمن من الجوهر وأحسن من الذهب وأنفع من كليهما لأنه يزيد في المنطق ويذكي الذهن ويعين عَلَى الإبلاغ ويتجمل به القائل ويتقلب فيه كيف يشاء ويختار منه ما يشاءُ فينتفع به اللطيف ويقبل به السخيف ويتزيد به الكثيف ويتأيد به الضعيف ويزداد به الأيدي قوة من منطقه وبلاغة في كتبهم وللكرماء في بشاشتهم وللشعراء في قصائدهم فإذا كنت ممن يؤلف حكمة أو يضع رسالة أو يذكر في مهمة فلا تكمه قلبك ولا تكره ذهنك فإنه إذا أكره كل ووقف ولكن إن كنت في شيء من ذلك فاستعن بالتفرغ منه عَلَى التفرغ له والتأخر عنه عَلَى التقدم فيه فإن الذهن يجم كما يجم البئر ويصفو كما يصفو الماء. وقال في الكلام وإخراجه: اعلم أن مثل الكلام كمثل الحجارة فمنها هو أعز من الذهب والفضة ومنها ما لا يعطى في الصخرة العظيمة منه درهم وفي ذلك أقول شعراً: وما الحجر الكبير أعز فيما ... ظفرت به من الحجر الصغير وكم أبصرت من حجر خفيف ... صغير بيع بالثمن الكبير وقال في طلاقة الوجه وحسن الخلق: كن أسهل ما تكون وجهاً وأظهر ما تكون بشراً وأقصر ما تكون أمداً وأحسن ما تكون خلقاً وألين ما تكون كنفاً وأوسع ما تكون أخلاقاً فإن الأيام والأشياء عقب ودول فإن أنكرت منها شيئاً يوماً ما كان (ما) أنكرت منها شيئاً خفيفاً عَلَى أهل الشمانة وأهل الصفاء واحذر أن تحزن من يحبك وتفرح من يحسدك فلم أر في مصاب الدهر مصيبة أوحش من تغيير النعمة وإن أنت لم تنكر منها شيئاً ودامت لك بما

تريد فما من الدنيا شيء تناله بدعة ولا رفق إلا وهو أهنأ مما نيل بتعب ونصب فأما من كفي وعوفي فما يصنع بالغضب والتضايق وأنهما هما العمر ونكد الدهر وفي ذلك أقول شعراً: ما تم شيء من الدنيا علمت به ... إلا استحق عليه النقص والغير ولا تغير من قوم نعيمهم ... إلا تكدر منه الورد والصدر فعاد غماً ولن تلقى أمراً أبداً ... (أغمّ) من ملك أيام يفتقر وقال في الكذب: كذبت ومن يكذب فإن جزاءه ... إذا ما أتى بالصدق أن لا يصدقا وقال فيه أيضاً: إذا ما رأيت المرء حلواً لسانه ... كذوباً فأيقن أن لا حيا له ولا خير في الإنسان إن لم يكن له ... حياء ولا في كل من لا وفا له وقال في الأخوان: ليس من كان في الرخاء صديقاً ... وعدو الصديق بعد الرخاء عدة في إخائه لصديق ... إنما ذاك عدة الأعداء لو صدفنا بذي إخاء أمين ... لاشترينا إخاءه بالغلاء لو وجدنا أخاً متيناً أميناً ... لاتخذنا أخاه للشفاء أما الرفقاء في السفر والجلساء في الحضر والخلطاء في النعم والشركاء في العدم فاحفظ مصاحبتهم وواظب عَلَى إخائهم وفي ذلك أقول شعراً: وكنت إذا صحبت رجال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم ... واجتنب الإساءة إن أساؤوا وأبصر ما يعيبهم بعين ... عليها من عيوبهم غطاء أريد رضاهم أبداً وآتي ... مشيئتهم واترك ما أشاء لا تبتدئن أحداً بصغير مما يكره ولا بكبيره ولا بقليل مما يسخط ولا بكثيره فإن ابتداك أحد بشيء من ذلك فقدرت عَلَى الانتصار منه فعفوت أو انتصرت فما أحسن جميع ذلك إلا أن العفو أكبر والانتصار أعز وكلاهما حظ وفي ذلك أقول شعراً:

(فماذات باب بحمده فيما علمت عليه من طريق الصواب. . كم) وأي الناس الأم من سفيه ... بقول لا يخاف من الجواب وقال في الجهل: إياك والجهل فإنما تجهل عَلَى ثلاثة رجل أنت أعز منه ورجل هو أعز منك ورجل أنت وهو في العز سواء فأما جهلك عَلَى ما أنت أعز منه فلؤم وأما جهلك عَلَى ما هو أعز منك فحيف وأما جهلك عَلَى من هو مثلك فهراش مثل هراش الكلبين ولن يفترقا إلا مفضوحين أو مجروحين وليس هذا من فعال الحكماء والعلماء الحليم أرزن والجهول أنقص وفي ذلك أقول شعراً: ما تم علم ولا حلم بلا أدب ... ولا تجاهل في قوم حليمان ولا التجاهل إلا ثوب ذي دبس ... وليس يلبسه إلا سفيهان وقال في رؤية الرجل وخبره إن من الناس من يعجبك حين تراه وتزداد عند الخبرة إعجاباً (به) ومنهم من تبغضه حين تراه وعند الخبر تكون له أكثر بغضاً ومنهم من يعجبك مخبره ولا يعجبك منظره ومنهم من يعجبك منظره ولا يعجبك مخبره وفي ذلك أقول شعراً: ترى بين الرجال العين فضلاً ... وفيما أضمروا بالغبن الغبين ولو الماء متنبه وليست ... تخبر عن مذاقته العيون فلا تعجل بنطق قبل خبر ... فعند الخبر تنصرم الظنون وقال أيضاً في ذلك: وما صور الرجال بها امتحان ... وما فيها لمعتبر بيان ولكن فعلهم ينبيك عنهم ... به تحب الكرامة والهوان وما الإنسان لولا أصغراه ... سوى صور يصورها البنان وقال أيضاً: لم أزل ابغض كل امرئ ... وجهه أحسن من خبره فهو كالغصن يرى ناضراً ... ناعماً يعجب من زهره ثم يبدو بعده ثمن ... فيكون السم في ثمره وقال في النهي عن القبيح: وإذا رأيت من أحد أمراً فنهيته عنه قلم يحمدك ولم يذمم في نفسه عَلَى مكانة أو يحدث حدثاً تعلم أنه قد انتفع بمقالتك فإن ذلك عيب آخر قد بدا لك منه

لعله أقبح من الذي نهيته عنه وفي ذلك أقول شعراً: ولا نهيت غوياً من غوايته ... إلا استزاد كأني كنت أغريه ولا نصحت له إلا تبين لي ... منه الجفاء كأني كنت أغويه وقال في المؤاخاة: لا تؤاخ أحداً إلا عَلَى اختيار منك له وارتضاء منك به واتفاق منه لك فإذا اتفق أمركما كذلك فاعلم أن كلاكما يحسن ويسيء ويصيب ويخطئ ويحفظ ويضيع فوطن نفسك عَلَى الشكر إذا حفظ وعلى الصبر إذا ضاع وعلى المكافأة إذا أحسن وعلى الاحتمال والمعاتبة إذا أساء فإن معاتبة الصديق إذا أساء أحب إلى الحليم من القطيعة في معاشرة من تؤاخيه وفي ذلك أقول شعراً: وإذا عتبت عَلَى امرئ أحببته ... فتوق ضفر عتبه وسبابه والن جناحك ما استلان لوده ... واجب أخاك إذا دعا لجوابه واحرص من أن تعرف موقعك من كل أحد حتى من أبيك وأمك فمن السخافة أن تكون لأخيك فيما يحب ويكون فيك فيما تكره وما أقبح أن تكون له فيما يكره ويكون لك فيما تحب واعلم أن من تنفعك صداقته ولا تضرك عداوته الكريم الذي إن أحسنت إليه كافأك وإن أسأت إليه عاقبك وأما من تضرك عداوته ولا تنفعك صحبته فهو الجاهل السفيه اللئيم وفي ذلك أقول شعراً: من الناس أن يرض لا تنتفع به ... ولكن متى يسخط فما شئت من ضرر ضعيف عَلَى الأعداء لكن قلبه ... اشد إذا لاقى الصديق من الحجر وقال في تقلب الدنيا شعراً: إنما الدنيا سراج ... ضوءه ضوء معار بينما غصنك غصن ... ناعم فيه اخضرار إذ رماه الدهر يوماً ... فإذا فيه اصفرار وكذاك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار وقال في المداراة: إذا هبطت بلداً أهلها عَلَى غير ما تعرف وأنت عَلَى غير ما يعرفون فألزم كثيراً من المداراة فما أكثر من دارى ولم يسلم فكيف لم يكن منه مداراة وفي ذلك أقول شعراً:

يا ذا الذي أصبح لا والداً ... له عَلَى الأرض ولا والده قد مات من قبلهما آدم ... فأي نفس بعده خالده إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينيك الواحدة وقال لا تقاتلن أحداً تجد من قتاله بداً فإنما الحق لمن غلب ولا غالب إلا الله وإن آخر الدواء الكي فلا تجعله أولاً وفي ذلك أقول شعراً: وكم رأينا من أخي غبطة ... أصبح مسروراً وأمسى حزيناً وكم رأينا فتى يركب طاحونة ... للحرب قد أصبح فيها طحيناً وقال في الإعسار والإيسار: كم من صديق لنا أيام دولتنا ... وكان يمدحنا قد صار يهجونا إني لأعجب ممن كان يصحبنا ... ما كان أكثرهم إلا يراؤنا لم ندر حتى انقضت عنا إمارتنا ... من كان ينصحنا أو كان يغوينا من كان يصنفنا ما كان يصحبنا ... إلا ليخدعنا عما بأيدينا وقال في الصلة والتفضل: لا يكن من وصلك أحق بصلتك منك وبصلته ولا من غير تفضل عليك أولى بالتفضل منك عليه فإنما أتت وهو كرجلين ابتدرا كرومة فقصر أحدهما وبلغ الآخر فإنما القاصر قصر عن حظ نفسه وأما البالغ فبلغ بجميل أمره وعظيم قدره. وقال في القدر: إذا كان الرجل لبيباً فاعلم أنه كامل ولكن لن يقدمه ذلك إلى ما كان يطالب ولن يؤخره عما كان يحاذر إلا بقدر يلحق به ما طلب ويسبق به ما يحذر وإن من الناس من يؤتى منطقاً وعقلاً ولا يؤتى مالاً ومنهم من يؤتى مالاً ولا يؤتى غيره فيحتاج مع ماله إلى عقل ذي العقل ومنطقه ويحتاج ذو العقل إلى مال ذي المال ورفده وينهض هذا بهذا وهذا بهذا (فليس لأحدهما إذاً غنى عن الآخر) فأحوج الملك إلى السوقة وأحوجت السوقة إلى الملك. وقال في التفاضل: لا تقل فلان أغنى مني وأنا أحزم منه فإنه لو جمع العقل والشدة والشجاعة والمال وأشباه ذلك القوم وبقي قوم لا شيء لهم لهلكوا ولكن الله عز وجل قال أهم يقسمون رحمة بك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضهم درجات فأوتي بعضهم عقلاً وبغضهم قوة وبعضهم مالاً مع أشياء مما يكون فيه

صلاحهم وبه معايشهم ثم أحوج بعضهم إلى بعض فعاشوا وإنما مثل الرجل ورزقه ومثل أدبه وعقله ومروءته وحكمه كمثل الرامي ورميته فلا بد للرامي من سهم ولا بد لسهمه من قوس ولا بد لقوسه من وتر ولا بد لجميع ذلك من قدر يبلغ به ما رشق ويصيب به ما يبلغ ويحوز ما أصاب وإلا فلا شيء فالرامي الرجل والرمية الرزق ولا يجمع بينهما عقل ولا عز ولا شيء من ذلك إلا بقدر وفي ذلك أقول شعراً: ما القوس إلا عصا في كف صاحبها ... يرعى بها الضان أو يرعى بها البقر أو عود بان وإن كانت معقفة ... حتى يضم إليها الشهم والوتر وإن جمعت لها هذين فهي عصا ... حتى يساعد من يرمي بها القدر وقال: إن حسن السمت وطول الصمت ومشي القصد من أخلاق الأتقياء وإن سوء السنت وترك الصمت ومشي الخيلاء من أخلاق الأشقياء فإذا مشيت فوق الأرض فاذكر من تحتها وكيف كانوا فوقها وكيف حلوا بطنها وكيف كانوا أمما واعلم أن ابن آدم أعز من الأسد وأشد من العمد ما لم تصبه أدنى شوكة وأدنى مرض وأدنى مصيبة فإذا اصابه شيء من ذلك وجدته أهون من الذرة وأمبن من البعوضة فلا يغررك تجبره وتكبره وتفر عنه واستطالته وفي ذلك أقول شعراً: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً ... فكم من تحتها قوم هم منك أرفع فإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم طاح من قوم هم منك أمنع وقال في الغنى والقنوع: إن الغنى في القلب فمن غنيت نفسه وقلبه غبيت يداه ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه وفي ذلك أقول شعراً: إذا المرء لم يقنع بشيءٍ فإنه ... وإن كان ذا مال من الفقر موقر إذا كان فضل الله يغنيك عنهم ... فأنت بفضل الله أغنى وأيسر وقال في الرأي والمشاورة: إذا استشير نفر أنت أحدهم فكن آخر من يشير فإنه أسلم لك من الصلف وابعد لك من الخطأ وأمكن لك من الفكر وأقرب لك من الحزم وفي ذلك أقول شعراً: ومن الرجل إذا زكت احلامهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق حق يجول بكل وادٍ قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق

فبذاك يطلق كل أمر موثق ... وبذاك يوثق كل أمر يطلق إن الحليم إذا تفكر لم يكد ... يخفى عليه من الأمور إلا وفق وقال في النهي عن مجالسة أهل الأهواء والبدع ومحادثتهم: أما هذه الأهواء فإني لم أر أحداً ازداد فيها بصيرة إلا ازداد فيها عمى لأن أمر الله اعز من أن تلحقه العقول ولم أر اثنين تكلما فيها إلا رأيت لكل واحد منهما حجة لا يقدر صاحبه عَلَى دفعها إلا بالشبهة والمغالطة وأما بالنصيحة فلا ومن غالط في هذا أو مثله فإنما يغالط نفسه وعليها يخلط وإياها يخدع أو أراد أن يخادع ربه والله أعز من أن يخدع لقد نبئت أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لا تجادل أهل الأهواء فيوقعوا في قلبك شيئاً يوردك به إلى النار فهذا أمر نهى عنه موسى عليه السلام وقد أعطى التوراة فيها هدى الله وكلم الله موسى تكليماً فكيف بغيره من الأهل الأهواء ولم يزل الصالحون يتناهون عن الهوى والمراء فيه والجدل به وبم أر قيا ساقط ثم ولا كلاماً صح إلا وفيه كلام بعد كثير فالسنة إن لا يتكلم في شيءٍ من الأهواء بالهوى وبغير الإتباع للكتب المنزلة والسنن للرسل الصادقة وفي ذلك أقول شعراً: إذا أعطي الإنسان شيئاً من الجدل ... فلم يعطه إلا لكي يمنع العمل وما هذه الأهواء إلا مصائب ... يخص بها أهل التعمق والعلل وقال في النميمة: إياك والنميمة فإنها لا تترك مودة إلا أفسدتها ولا عداوة إلا جددتها ولا جماعة إلا بددتها ولا ضغينة إلا أوقدتها ثم لا بد من عرف بها أو نسب إليها أن يتحفظ من مجالسته ولا يؤتى بناحيته وأن يزهد في مناقشته وأن يرغب عن مواصلته وفي ذلك أقول شعراً: تمشيت فينا بالنميم وإنما ... يفرق بين الأصفياء النمائم فلا زلت منسوباً إلى كل آفة ... ولا زال منسوباً إليك اللوائم وفي مثله قوله: كالسيل في الليل لا يدري به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه فالويل للعبد منه كيف ينقصه ... والويل للود منه كيف يبليه وقال: إذا قيل لك شيء أطول فقل الكلام وإذا قيل لك أي شيء أقصر فقل الكلام لأن الكلمة

الواحدة قد تكون جواباً لألف كلمة وقد يكون جوابها ألف كلمة وأكثر ولن تدرك الكلام حتى تذره ولن تذره حتى تحذره وفي القول خطأ كثير وبعضه صواب وإن الصمت منه لأصوب فاترك منه ما لا تنتفع بأخذه وخذ منه ما لا تقدر عَلَى تركه واسجن لسانك كما تسجن عدوك واحذره كما تحذر غائلته. وقال في تأديب النفس: إذا أبصرت بعض ما تكره من غيرك فأسرع الرجعة منه قبل أن يبصر منك ما يستربيه واحمد الله الذي أحسن إليك وبصرك عيوب نفسك ونبهك الرجوع عن غيك وإذا أخبرك بعيبك صديق قبل أن يخبرك به عدو فأحسن شكره واعرف حقه فإن خبر العدو تعييب وخبر الصديق تأديب وفي ذلك أقول شعراً: ولن يهلك الإنسان إلا إذا اتى ... من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه وقال في الحاسدين: اعلم أنك لن تلقى من الخير درجة ولن تبلغ منه رتبة ولن تنزل منه منزلاً إلا وجدت فيه من يحسدك وإنما الحاسد خصم فلا تجعله حكماً فإنه إن حكم لن يحكم إلا عليك وإن قصد لم يقصد إلا إليك وإن دفع لم يدفع إلا حقك وفي ذلك أقول شعراً: ولو كنت مثل القدح ألفيت قائلاً ... إلا ما لهذا القدح ليس بقائم ولو كنت مثل النصل ألفيت قائلاً ... إلا ما لهذا النصل ليس بصارم تم أدب صالح بن جنان بفضل منشئ الروح ومجري الرياح والملك الوهاب الفتاح وذلك في سلخ شهر ذي القعدة سنة 1086 والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

تنبيه

تنبيه لم نقف عَلَى ترجمة صاحب هذا الكتاب فيما بين أيدينا من الكتب وإنما رأينا له ذكراً في كتاب العلم للحافظ بن عبد البر. حيث قال أحسن ما قيل في الصمت ما ينسب لعبد الله بن طاهر وهو: أقلل كلامك واستعذ من شره ... إن البلاء ببعضه مقرون واحفظ لسانك واحتفظ من عيه ... حتى يكون كأنه مسجون وكل فؤادك باللسان وقل له ... إن الكلام عليكما موزون فزناه وليك محكماً في قلة ... إن البلاغة في القليل تكون وقد قيل أن هذا الشعر لصالح بن جنان والله أعلو وهو أشبه بمذهب صالح وطبعه اهـ.

الحكومات وشرائعها

الحكومات وشرائعها عرف الإنسان منذ نشأته أن الاتحاد ذريعة لنيل سعادته ووسيلة للحصول عَلَى مراده فمال بالقسر إلى الاجتماع تكاتفاً عَلَى ما يتعلق بأمر معيشته من هجوع وترحال ومأكل ومشرب ودعاه إلى ذلك داعي العجز والتقصير للقيام بمقتضيات حياة المدنية كالزراعة والصناعة عَلَى اختلاف أصنافها والعلم عَلَى تعداد أنواعه فكان اجتماعه قسرياً ضرورياً لراحته ورفاهته عبرت عنه الحكماء بقولها الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم. ولما كان الإنسان ميلاً بالطبع إلى الظلم والعدوان كان من الضروري لاجتماعه وجوب وجود وازع يدفع بعض الناس عن بعض ويهتم بإصلاح شؤونهم وأحوالهم ومعيشتهم وإلا تضعضعت دعائم العمران ووهت أسبابه وقواعده لأنه ليس من الممكن عقلياً اجتماع أفراد بدون اتفاق فيما بينهم عَلَى كيفية نيل المعاش واقتسام الرزق ولا يمكن ذلك الاتفاق إلا بوجود وازع عادل يحدد حقوق كل فرد وواجباته طبقاً لقواعد أدبية واجتماعية تعرف الآن بالشريعة وهي لئن الآن اختلفت مبدأ باختلاف العادة والمكان لا تختلف غاية وهي المحافظة عَلَى حقوق الإنسان لقيام المجتمع البشري كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: ولكي يتم للإنسان الاجتماع لابد له من سنن يكفله ولابد من العدل في هذه السنن أي مراعاة مصالح الجمهور المتبادلة ولا بد من احترامها كذلك وإلا انفصمت عروة الاجتماع وتداعت دعائمه: ولكن لما كان الإنسان كثيراً ما لا يسلك م نفسه الطرق المثلى المؤدية إلى ذلك إما عن عتوا أو غرور أو عن جهل وذهول كان لابد له من إقامة قوة يناط بها المحافظة عَلَى المقرر من السنن والاقتصاص ممن يحيد عن جادتها وإلا آل به الحال إلى الفوضى أي لابد له من وازع يكون من إذا لم يمكن أن يكون سواه يدفع عدوان بعضه عن بعض ويتهم بإصلاح شؤونهم اهـ. فهكذا نشأت الشرائع والحكومات ولم تكن الأولى بداءة بدء سوى مجموعة عوائد وآداب بعضها ما فرضته الأديان وأخرى ما قضت الأحوال بإتباعه عفواً فأخذت ترتقي بعدئذ بالاتقاء الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن كما أنه لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان. فما الشريعة سوى خطة تسري الحكومة بموجبها فتحدد حقوق الجميع وهي مسئولة بالطبع

لدى هذا النظام عما تفعله بالنظر إلى رعاياها كما أن أرباب العائلات مسئولون أمام نظامهم عما يفعلون بالنظر إلى عائلاتهم لا بل تبعت الحكومة أعم من مواجب أرباب العائلات لأن رب العائلة تطالبه أُسرته وهو مسؤولية لها ولذمته في حين تكالب الرعية الحكومة والرعية مجموع أُسر عديدة فتكون مسئولة لها وللوطن كما قال أرسطو: العالم بستان سياجه الدولة والدولة سلطان تحيا به السنة والسنة سياسة يسوسها الملك والملك نظام يعضده الجنود والجند أعوان يكفلهم المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية عبيدٌ يكنفهم العدل والعدل مألوف وبه قوام العالم. فينتج إذن مما تقدم أن نشوء الشرائع والحكومات كان قديماً بقدوم أول اجتماع نظراً لما في طبيعة الإنسان الحيوانية من الأثرة والعدوان التي تحول دون اجتماعه وتآلفه لولا حاكم عادل يحد لكل حقوقه حسب الشرائع المفروضة فتاريخ الشرائع مرتبط بتاريخ الحكومات وتاريخ الاجتماع البشري كل ارتباط أي لم يكن الاجتماع دون الحكومات لتحفظ كيانه وتذب عن حماه وتدفع عن حوزته ولم تكن الحكومات دون الشرائع لتسير بموجبها فتحدد بالقسط والسوية حدود الجميع لم تكن الشريعة بدون حكمة تسنها ولم تكن الحكومة بدون جمعية تحكمها كما قال الموبذان بن بهرم في حكاية البوم التي نقلها المسعودي الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة ولا قوام بالشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخلقة نصبه الله وبه قوام العالم. اهـ. قلنا الشريعة لم تكن بادئ بدءٍ سوى مجموعة آداب وعوائد قضت الأحوال بإتباعها عفواً ثم أخذت ترتقي بارتقاء الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن من الرقي والفلاح فهي إذاً مرآة صافية ينعكس عليها مركز الأمة في الجسم الاجتماعي كما ينعكس عليها أيضاً من عوائدها وأخلاقها ما يظهر لنا تأخرها أو تقدمها. فمن اطلع عَلَى شرائع الفرس واليونان قديماً وأهل سومطرة مثلاً في القرن الماضي ووقف عَلَى ما جوزته شرائعهم من سلخ جلد المجرم بالقتل وسحقه بين صخرتين أو طمره حياً في الرماد حتى يموت تحته خنقاً إلى غير ذلك من الفظائع الحيوانية كأن يلقوا المجرم إلى السباع أو يمزقوا جسده بالكلاليب أو يحرقوه حياً أو يشدوا أطرافه إلى أربع أفراس فيمزق المجرم بالقتل إرباً إربا عرف حق

المعرفة فظاظة طبائعهم وقسوة قلوبهم وغلظة أكبادهم وحكم حكماً باتاً عَلَى تلك الأمم بسكرة الجهل وتسكعها في مهامه الخمول لأن قساوتها وانحطاط أخلاقها وعوائدها كانت تتجلى في شرائعها بأجلى بيان عَلَى بقائها تحت وقر الجهل ووراء ظل الارتقاء. وإذا رجعنا فوقفنا عَلَى كثير من شرائع أمم أوربا المتمدنة الآن كإنكلترا وفرنسا وألمانيا وغيرها من أمم العالم المتمدن كأميركا وخصوصاً شرائع مملكتنا العثمانية نحكم بالطبع عَلَى وجوب رقي تلك الأمم لما ينجلي منعكساً عَلَى مرآة شرائعهم الصافية من حسن العوائد وطيب الأخلاق ما يضطرنا أن نقول بارتقاء تلك الأمم طبقاً لارتقاء شرائعها. ولكن لماذا لا يصدق هذا الحكم عَلَى أمتنا العثمانية وشريعتها من أحسن الشرائع ونظامها من أقوم النظامات؟ لماذا لا يصدق علينا هذا الحكم بل لماذا نحن في تأخر؟ إلا أننا من جنسية غير جنسيتهم ونحن ذرية الذين اشتهروا بالصناعة والتجارة والحماسة والشجاعة والفتوحات والفصاحة والمعارف والحكمة؟ أم لأنهم أقرب منا استعداداً للارتقاء ونحن من القوم الذين أفاض الله عليهم من بركات الحجى ما أقام لهم الاندماج في سلك الرتبة الأولى بين مراتب بني آدم؟ كلا ليست هذه من الأسباب التي أودت بأمتنا بعد أن كان لها من بسطة الملك واستفحال الكلمة ونفوذ الشوكة ما لم تصل إليه أمة من أمم أوربا الراقية. ولكن هو ضعف الإدارة في الأعمال وعدم تنفيذنا الأوامر الشرعية والقوانين المفروضة وقلة رجالنا الأمناء المخلصين كانت من جملة أمراضنا الاجتماعية فقلدنا كما قيل كبائر الأعمال لصغائر العمال أي وضعنا الشيء في غير موضعه فأصبح الوالي ظالماً والقاضي محابياً والجندي خائناً وأمر الشريعة لغوٌ لا يعمل به ولا ينفذ فلا بدع إذا فسدت الأمة بفساد الحكومة التي هي بمنزلة الرأس منها وقد أجاد القائل: وإذا رأيت الرأس وهو مهشم ... أيقنت منه تهشم الأعضاء وهكذا يستنتج بأن سلامة الوجود موقوف عَلَى سلامة النظام وسلام الناظم يكفله حسن العمل وذلك مترتب بالطبع عَلَى إدارة مستقيمة حسنة تصدر عن رجال مخلصين أمناء لأن إدارة ميزان كل حكومة وقوام كل مملكة كما أن الرجال سياج الأمة يذوبون عن حوضها ويدرؤون طوارئها فيذهبون بها من غمرات الخلل إلى سواحل النظام والسعة كما قال أنو شروان الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل

والعدل بإصلاح العمال واستقامتهم وتنفيذهم أوامر الشريعة المفروضة من الله. فإذا كانت شريعتنا من أقوم الشرائع ونظامنا من أحسن النظامات وحكومتنا لا تعمل به فهو لغو ومعتبر حين تسير بموجبه الحكام فتحدد بالسوية حقوق الكل وواجباتهم. التعليم إجباري بمملكتنا المحروسة ولكن من يرد عليه هذا الأمر ولا يسقط في يد ومن يعمل به من الحكومة؟ توسيع الطرق وتطهير الشوارع وتسهيل أسباب النقل ومراقبة أسعار ضروريات الإنسان من واجبات المجلس البلدي في كل ولاية مثلاً ولكن هل تسير أعضاؤه عَلَى خطة واجباتهم فتحافظ عَلَى راحة الشعب ورفاهته وتوسع الطرق وتطهر الشوارع حتى قال بها أحدهم مرة إن أهالي دمشق تود لو تزرع الشجار في شوارعها لتكثر الأمطار فنتخلص من الغبار الذي لا يسكنه غير مياه السماء. شريعتنا تحرم الرشوة بالطبع فتقول ما حرم أخذه حرم إعطاؤه ولكن العاملين بها قلبوا الآية فحللوا الأخذ والعطاء. التصرف عَلَى الرعية - كما ورد في القانون - منوط بالمصلحة فيلزم أن يولى المناصب أهلها ولا يكلف الناس ما لا يحتمل ويدفع الظالم عن المظلوم ويؤمن السبل ويدفع الأذى ولكننا نحن نقلد الوظائف لمن لا يصلح لها فنضع الشيء بغير موضعه ونساعد الظالم عَلَى المظلوم وإن كنا ندري بأن ذلك مبدأُ الخلل. . وخلاصة القول أن شريعتنا من أحسن الشرائع وأقومها ولو نعمل بموجبها ولكن فساداً طرأ عَلَى أفكار العاملين بها فغيروا المعاني وصحفوا الألفاظ وحرفوها طبقاً لمآربهم ومقاصدهم. الكلية بيروت: حبيب جرجي كحالة

النحام ومرادفاته

النحام ومرادفاته 1ً تمهيد أصعب ما في اللغة العربية تحقيق الألفاظ العلمية ولاسيما ما يتعلق منها بعلم المواليد فترى أغلب المعاجم تخبط هذا البحث ولا خبط عشواء. ولهذا يحسن بالعلماء أن يحققوا تلك الألفاظ ويتتبعوها تتبعاً علمياً محضاً حتى يصرح اللبن عن الرغوة ويعول عليها الكتاب من مؤلفين ومعربين ولا يبقوا سائرين في الوعث فيكابدون من العناء والجهد الأمرين. ومن جملة الألفاظ التي تحتاج الي تحقيق كلمة نحام من الطير وها نحن نثبت ما يزيل الشك في هذا الباب فنقول. 2ً النحام في كتب العربية قال في حياة الحيوان: النحام طائر عَلَى خلقة الإوز الواحدة نحامة. يكون آحاداً وأزواجاً في الطيران وإذا أرادت المبيت اجتمعت رفوفاً، فذكوره تنام وإناثه لا تنام وتعد لها مبايت فإذا نفرت من واحد ذهبت إلى الآخر. اهـ المقصود من إيراده - وقال داود الإنطاكي: النحام: طير دون الإوز، قيل أنه شديد الحرارة ينفع المبرودين وهو مجهول - وقال ابن البيطار: النحام هو من طيور الماء. ابن ماسويه: لحمة من أكرام لحوم الطير وأفضلها. . . وفي التاج: النحام، كغراب: طائر أحمر كالإوز أي عَلَى خلقته. قال الجوهري يقال له بالفارسية سرخ آوي وهكذا ضبطه الزهري وابن خالوية. وغلط الجوهري في فتحه وشده وضبطه السهيلي كضبطه الجوهري. اهـ - قلنا: الاسم الفارسي الحقيقي هو سرخ آب أو سرخاب ويلفظها بعضهم سرخ آوي عَلَى لغة قلب الباء واواً وهي لغة كثيرين من الفرس الأقدمين والمحدثين ومن أسمائه بالفارسية أيضاً خرجال كما جاء في برهان قاطع - وعلى ذلك يكون النحام هو المسمى بالفرنسوية أو وبالإنكليزية وبلسان العلماء أو اللاتينية 3ً سبب تسميته عند العرب لم يتعرض اللغويون لسبب تسمية هذا الطائر بهذا الاسم. وعندنا أنه مشتق من النحم أو النحيم وهو صوت كالزحير أو فوقه، يخرج من هذا الطائر عند الطيران. وفعال بالضم من الصيغ الدالة عَلَى الفاعلية وإن لم ينبه عليها النجاة كشجاع وخشاش (وهو الماضي من الرجال) وقد يزاد عَلَى هذه الصيغة الياء للمبالغة ويبقى المعنى عَلَى ما هو كقولهم:

القطامي وهو الصقر. قال الأصمعي: القطامي مأخوذ من القطم وهو الشهوان للحم غيره. وهذا الكلام يدل عَلَى أن اللغويين انتبهوا إلى صيغة فعال أو فعالي للفاعلية. 4ً تصحيف النحام ومرادفاته صحف كثير من الكتاب هذه الكلمة لجهلهم إياها. ومن أشهر من صحفها أحمد فارس الشدياق الشهير فقد قال في كتابه شرح طبائع الحيوان ص282: النحاف (بفاء في الآخر) هذا طائر طويل ضخم وفي غاية الحسن إلى آخر ما نقله عن الإفرنج. وقد جاءت بهذه الصورة القبيحة في عدة مؤلفات نقل عنها دوزي في كتابه الملحق بالمعاجم العربية في مادة نحف. وممن أخطأ في أسماءه الأب بلو اليسوعي في معجمه الفرنسوي العربي المطبوع سنة 1900 قال في تعريب غواص، طائر طويل الأرجل لونه أحمر زاه، نحام اهـ. فالغواص غير النحام عَلَى ما أثبته العرب والعلماء الأقدمون والمحدثون. ونحن العراقيين نسميه في ديارنا الغرنوق وهو كثير الوجوه في البطائح والآجام والمستنقعات وفي القاموس: الغرنوق كزنبور وفردوس: طائر مائي أسود وقيل أبيض أو الغرنوق أو الغرنيق: الكركي أو طائر يشبهه. اهـ. ويجب أن تصلح عبارة القاموس هكذا: الغرنوق كزنبور وفردوس: طائر مائي ويريد به العراقيون النحام والكلمة المعربة عن اليونانية بمعنى الكركي وقد وردت بهذا المعنى أيضاً عندهم والغرنوق في بلاد السودان هو نوع من الكركي اسمه العلمي وعند أهل المغرب هو نوع آخر من الكركي اسمه العلمي - ومن أسمائه في العربية الشرخاب قال السيد المرتضى في التاج في مادة سرخب أو في مستدركها: السرخاب بالضم، أهمله الجماعة وذكره أحمد بن عبد الله التيفاشي في كتاب الأحجار وقال: إنه طائر في حجم الإوز (أي أن كبر جسمه بكبر جسم الإوز وهو أمر لا اختلاف فيه لكن لا يراد بذلك أنه بطول الإوز كما يؤخذ من كلام الدكتور أمين أفندي المعلوف في المقتطف 36: 766) أحمر الريش ويوجد ببلاد الصين والفرس وأهل مصر يسمونه البشمور (واليوم يسمونه البشروش وهي تصحيف أختها) ويعلقون ريشه في المراكب للزينة. يوجد في عشه حجر بقدر البيضة أغبر اللون فيه نكت بيض رخو المحك في خواص لإنزال المطر في غير أوانه. اهـ. نقله ولم يذكر المؤلف

أن اللفظة الفارسية الأصل. وهي كذلك قد وردت في دواوين لغتهم. وهي كلمة مركبة من سرخ أي أحمر. وآب أي ماء وأظن أن الصل في هذا الاسم ما معناه: الطائر الحمر السابح في الماء ثم اختصروا العبارة فقالوا ما معناه: الأحمر الماء - والظاهر أن الإفرنج المستشرقين الذين نقلوا المعاجم الفارسية إلى لغتهم لم يهتدوا إلى حقيقة هذا الطائر. فقد قال فلرس في معجم الكبير الفارسي اللاتيني ما هذا نصه: ومعناه ضرب من الطير المائي أحمر اللون. ولم يذكر اسمه باللاتينية ثم قال: ويسميه البعض خرجال أيضاً. ثم زاد عَلَى ما تقدم: أي بط بري. فأنت ترى من هذا أنه لم يُعرف ما يقابله عند العلماء. وكذلك لم يعرف حقيقته جنصن في ديوانه الكبير الفارسي العربي الإنكليزي. وذكر هناك أنه نوع من البط المائي. والبط والإوز عند العرب بمعنى واحد في كتبهم اللغوية. فهذا القول يوافق وصف العرب للنحام أي أنه عَلَى خلقة الوز. ولم يذكر صاحب التاج البشمور في مظنتها وإن كان ذكرها استطراداً في مادة سرخب ولم أعثر عليها في معاجم اللغة العربية التي وصلت إليها يدي. ومن أسمائه الفارسية أيضاً ميش مرغ أيضاً. لكن البعض يقولون أن المسمى بهذا الاسم هو الحباري. لا النحام. عَلَى حد ما اختلف العرب في تعريف الغرنوق. وأما لفظ البشاروش أو البشروش فقد وجدتها في كتب منون اللغة الفرنسية التركية منها. معجم و. ويزنطال المطبوع في مطبعة قره بت في الآستانة في مادة إلا أنه ذكرها مصحفة بياءٍ مثلثة فارسية في الأول بدلاً من الباء الموحدة أي يشاروش وهكذا ذكرها أيضاً ش. سامي في معجمه الفرنسي التركي. والأصح في كل ذلك البشاروش بباءٍ مثلثة فارسية في الأول وشين أو سين في الآخر وهي من أصل فارسي بشرو أو بيش رو أي المقدم أو الإمام أو الماشي أمام الكل. وسبب هذه التسمية هو أن هذا الطير إذا سارت في طلب رزقها تولى أحدها قيادتها ليحذرها من الخطر إذا داهمها وحالما يشعر هذا الوالي الأمين بمشقة تحصل وإن كانت بعيدة يبادر إلى الإهابة بصوت عالٍ كصوت البوق فتتهيأ كلها للطيران حالاً. (راجع شرائح طبائع الحيوان لأحمد فارس الشدياق ص283). وقد صحف التونسيون كلمة بشاروش أو بشروش بصورة شبروش وقد نقلها دوزي في معجمه المذكور وقال أن بوسيه وتريسترام ذكراها بمعنى النحام. قلنا: وكذا نقلها أيضاً

غاسلين في معجمه الكبير الفرنسوي العربي. فانظر حرسك الله كيف يجيء الاسم الواحد مصحفاً بموجب لغات البلاد والعباد. وكيف أن للحيوان الواحد أسماء عديدة بدون أن تذكرها المعاجم. وحاصل ما جاء من أسماء النحام الفصيحة والمصحفة هي: النحام والنحاف والغرنوق والسرخاب والبشمور والبرشوش والبشروش والشاروش والبشاروس ولعل له أسماء أخرى لم نقف عليها وأحسن الأسماء كلها هو النحام لأنها من أصل سامي إذ هو كذلك باللغة الآرامية مع الألف الزائدة في الآخر وهو من مزايا لغتهم أي (نحاما) وأما سائر الألفاظ فهي من أصل يوناني أو فارسي أو تركي ونحن في غنىً عنها. 5ً النحام عَلَى ما وصفه علماء الإفرنج العصريون قال علماء الإفرنج في تعريفه ووصفه: جنس من الطيور يدنو من السوابح بمنقاره ويشبه الشاهمرجات بساقه لطولها ولهذا عزل كلتا الطائفتين وجعل في طائفة خاصة به هي فرع من طائفة الشاهمرجات أو الخوائض أي الطويلات الساق. وهو صغير الجسم طويل الساق حتى يبلغ طولها زهاء متر ورأسه صغير ومنقاره صلب في حافيته صفيحات عَلَى عرضيهما عَلَى حد ما يرى ذلك في البط وهو مموج عند منتصفه وإذا أراد أن يصطاد فريسته كالهلامات والدود والهوام والحشرات وبيض السمك التي يراها عَلَى أرياف الغدران والمستنقعات يلقب رأسه بأن يضع الفك الأعلى أسفل حتى يتمكن أن يتصرف في عقافته - وهو يطير جماعات تعرف بالرفوف (جمع رفٍ) لكثرة أفرادها ويتقوم من هيئتها مثلث عَلَى حد ما تفعله الكركي. وإذا حطت عَلَى الأرض اصطفت صفين كالعسكر وعشها عبارة عن مدورةٍ تركبها ركوباً عند الحضانة كما يركب الإنسان الحصان ولها صوت كصوت النفير وهو النحيم ولحمها لذيذ ولاسيما لسانها. واليوم يرغب في هذا الطير لريشها وهي أصناف منها البشروش أو نحام الأقدمين وبالفرنسوية وبلسان العلم وريشه كله وردي بديع اللون ما خلا الجناحين فغنهما أحمران ملتهبان ومثل لونها لون المنقار وهو كثير الوجود في العراق وفي ديار فرنسا الواقعة عَلَى سواحل بحر الروم. - والنحام الأحمر أو البهمن وبلسان العلم وهو كثير الوجود في أصقاع أميركا الجنوبية وهي اصغر قداً من النحام السابق ذكره وألوانه أزهى وأبهى. والنحام ذو الرداء الناري وبلسان العلم ولونه أحمر واضح وهو يوجد في أحاء باتاغونية وبرونيس آيريس. -

والنحام القزم وباللاتينية ويكون في ربوع الرجاء الصالح وفي سنغال وهو دون ما جانسه من هذا الطائر بنصف. وهذه الطيور تعيش غالباً في القصباء والحلفاء والآجام والغياض وهي تبحث عن رزقها فيها كما يفعل البط والوز تغط مناقيرها فيها لتقع عَلَى قوتها. وأكثر ما ترى أنها تجتمع جماعات من 20 إلى 30 طائراً. وسيرها ثقيل ومرتبك وإذا نامت قامت عَلَى رجل واحدة وضمت الأخرى إلى الأولى أو تحت بطنها وتخفي رأسها تحت جناحها وإذ كانت كثيرة الحذر يقوم أحدها ديدباناً إذ نام سائر الأخوة والأخوات وإذا ذهبت تسترزق. وهي تخاف الإنسان أكثر ما تهاب الحيوان. ولهذا إذا أراد الصيادون قنصها اختفوا في جلد حصان أو بقرة وذهبوا إليها. وإذا أطلقوا عليها البندقية نالوا منها عدداً وافراً والسبب لأنها تروع من طلقاتها ولا من رؤية ما يموت منها ولهذا لا تبتعد كثيراً عن مسقطها فيصاب منها كثير. هذا جل ما يقال عن النحام، وفي الختام أُقرأك السلام. بغداد ساتسنا.

كتب مخطوط

كتب مخطوط عثرنا في هذه الأيام عَلَى كتاب مخطوط ذهب منه الجزآن الأول والثالث ويدل عَلَى ذلك ما جاء في خاتمة هذا الجزء. تم الجزء الثاني يتلوه إن شاء الله تعالى أول الجزء الثالث المقصد الثاني في ممالك جزيرة الغرب الخارجة عن مضافات الديار المصرية. وتاريخ كتابته 1193 هـ كتبه عطوة بن علي الهونيني موطناً العباسي الأول. صحائف الكتاب 456 طوله 33 سانتيماً وعرضه عشرون سنتيماً ورقه نياتي وخطه واضح جلي أسطر كل صحيفة ثمانية وعشرون سطراً. أما المؤلف الكاتب فلم نجد له ذكراً فيه ويظهر أنه شافعي المذهب ومن رجال أوائل القرن التاسع الهجري ودليلنا عَلَى ذلك أنه في ذكره لملوك الطبقة الرابعة من ملوك مصر وهم الترك ذكر آخرهم الملك المنصور عبد العزيز وحصره في قلعة دمشق والقبض عليه واستبداد المستعين بالله بالأمر من غير سلطان وذلك في ثاني عشر ربيع الأول سنة خمس عشرة وثمان مائة. موضوع الكتاب أول الكتاب الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الأولى في الكلام عَلَى نفس الخط وفيه سبعة أطراف وفيه هنا مباحث في فضيلة الخط وحقيقته وفي وضعه وفي عدد الحروف وفي تحسين الخط وقواعد تتعلق بالكتابة وفي مقدمات تتعلق في أوضاع الخط وقوانين الكتابة وذكر قوانين يعتمدها الكاتب في الخط وهنا بحث عن الأقلام المستعملة في ديوان الإنشآت بزمانه وقال وسيأتي في النقالة الثالثة في الكلام عَلَى ما يناسب كل مقدار من مقادير قطع الورق من الأقلام وذكر المذاهب في أصل الأقلام وهي ستة (1) مختصر الطومار (2) وقلم الثلث الثقيل (3) والخفيف (4) قلم التوقيعات (5) قلم الرقاع (6) قلم الغبار هذا مجمل ما في هذا الجزء من المباحث وكلها جليلة ويظهر أن هذا الجزء يشتمل عَلَى مقالتين المقالة الأولى في عَلَى الكلام عَلَى ما يحتاج إليه الكاتب وقد فقدت من هذه المقالة الباب الأول. والمقالة الثانية موجودة برمتها وهي في المسالك والممالك تشتمل عَلَى أربعة أبواب وتحت

كل باب تقسيمات وتفريعات تفوت الإحصاء وكلها في موضوعات مفيدة. الباب الأول في ذكر الأرض عَلَى سبيل الإجمال وفيه بحث عن معرفة شكل الأرض وما اشتملت عليه من الأقاليم وفي أطوالها وفي ذكر البحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان وفي كيفية استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها هذا إجمال ما يشتمل عليه الفصل الأول من الباب الأول والفصل الثاني في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء ومقراتهم في القديم والحديث وما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم ومات كانت عليه من الترتيب وما هي عليه في عهد مؤلف الكتاب قال وإما من وليها (الخلافة) فعلى أربع طبقات الطبقة الأولى الخلفاء من الصحابة (رض) الطبقة الثانية خلفاء بني أمية الطبقة الثالثة خلفاء بني العباس الطبقة الرابعة خلفاء بني العباس في الديار المصرية وذكر خلفاء الطبقات الأربع وسني توليتهم الخلافة ووفياتهم ومقراتهم. وفي الفصل الثاني من الباب الثاني بحث جليل عن ترتيب الخلفاء في الصدر الأول وشعارها وبحث في توليه الملوك من الخلفاء والوظائف المعتبرة عندهم. والباب الثالث في ذكر مملكة مصر ومضافاتها وفيه طرفان الطرف الأول في الديار المصرية وفيه سبعة مقاصد المقصد الأول في فضلها ومحاسنها المقصد الثاني في ذكر خواصها وعجائبها وما بها من الآثار القديمة المقصد الثالث في ذكر نيلها ومبتدئه ومنتهاه وهنا قال وقد ذكر الحكماء أنه ينحدر من جيبل القمر إما بفتح القاف والميم كما هو المشهور وإما بضم القاف وسكون الميم وهنا بحث في طول النيل وعرضه والبلاد التي يمر فيها وفي زيادته ونقصه ومقاييسه. المقصد الرابع في ذكر خلجانها وبحيراتها والخامس في جبالها والسادس في زروعها ورياحينها وفواكهها والسابع في ذكر مواشيها ووحوشها وطيورها والثامن في ذكر حدودها والتاسع في ابتداء عمارتها والعاشر في ذكر قواعدها القديمة والمستقرة والحادي عشر يشتمل عَلَى ذكر خططها. والفصل الثالث في المقالة الثانية في ذكر كور الديار المصرية وأعمالها والفصل الرابع في ذكر ملك الديار المصرية جاهلياً وإسلاماً وطبقاتهم والفصل الخامس من الباب الثالث من المقالة الثانية ذكر في ترتيب أحوال الديار المصرية وفيه بحث في ذكر معاملاتها وما

يتعامل به وزناً وما يتعامل به معاده وفي الفلوس المطبوعة بالسكة وغير المطبوعة وفي المثمنات والمكيلات والمقيسات وأرض الزراعة والأبنية والأقمشة والأسعار. وفي الجسور والمعابر والجسور البلدية وري السواقي وهنا بحث في طرق زراعة الأرض وصنوف الزروع. وبحث في وجوه أموالها الديوانية والمقصد الثالث في ترتيب المملكة وفيه بحث عما كانت عليه في زمن أعمال الخلفاء من حين الفتح إلى آخر الدولة الإخشيدية كذكر الآلات الملوكية من التاج والقضيب والسيف والدواة والرمح والدرقة والحافر والمظلة والأعلام والنقارات والخيام وفي حواصل الخليفة وهذا فيما كانت عليه أحوال الديار المصرية في عهد الفاطميين وفي هذا المقصد أبحاث تتعلق في الوظائف والدواوين وفي مواكب الخلافة المختلفة ويذكر في هذا المقصد قصيدة عمارة اليمني التي يرثي فيها الفاطميين بعد انقراض دولتهم واستيلاء السلطان صلاح الدين الأيوبي عليها وصف بها مملكتهم وعد مواكبهم وحكى مكارمهم وجلى محاسنهم وأوردها برمتها. ثم يذكر أحوال الدولة الأيوبية ورسومها وأحوال الدول التي انتقلت إليهم الديار المصرية إلى زمان المؤلف. وهنا أبحاث مفيدة يتجلى منها ما كانت عليه أحوال الدولة القديمة من الترتيب والانتظام. والفصل السادس من المقالة الثانية في المملكة الشامية وما يتصل بها من بلاد الأرمن وبلاد الجزيرة بين الفرات ودجلة مما هو مضاف إلى هذه المملكة وفيه أربعة أطراف. الطرف الأول في فضل الشام وخواصه وعجائبه وفيه مقصدان الأول في فضل الشام الثاني في خواصه وعجائبه وهنا يذكر ما يراه فيه من العجائب كحمة طبرية وقبة العقارب بمدينة حمص وعين الفوارة داخل البحر المالح عَلَى القرب من ساحل مدينة طرابلس ووادي الغور إلى غير ذلك. الطرف الثاني في حدود وابتداء عمارته وتسميته شاماً وفيه مقصدان الأول في حدوده والثاني في ابتداء عمارته. الطرف الثالث في أنهاره وبحيراته وفيه خمسة مقاصد الأول في ذكر الأنهار العظام في بلاد الشام الثاني في ذكر بحيراته الثالث في ذكر جباله وهنا جاء فيه عن جبل عاملة ما

هذا نصه: وهو جبل ممتد في شرقي بحر الروم وجنوبيه حتى يقرب من مدينة صور وعليه شقيف أرنون نزله بنو عاملة بن سبأ من عرب اليمن عند تفرقهم بسيل العرم فعرف بهم المقصد الرابع في ذكر زروعه وفواكهه ومواشيه والخامس في ذكر مواشيه والسادس في ذكر النفيس من مطعوماتها. الطرف الرابع في ذكر جهاته وكوره وقواعده المستقرة وأعمالها وفيه مقصدان الأول في ذكر جهاته وكوره القديمة وهنا يذكر اصطلاح القدماء بتقسيمه إلى خمسة أجناد جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين. المقصد الثاني في ذكر قواعده المستقرة وأعمالها القاعدة الأولى دمشق وأعمالها غزة والرملة وقافون وهي الجهات الساحلية والجبلية وهي القدس والخليل ونابلس والقبلية عمل بيسان وبانياس ومنها قلعة الصبيبة وعمل الشعراء وعمل نوى وعمل أذرعات وعجلون والبلقاء والصلت وصرخد وبصرى وزرع والشمالية وهي بعلبك وعمل البقاع البعلبكي وعمل البقاع العزيزي وعمل بيروت وعمل جبيل وعمل صيدا والشرقية وهي عَلَى ضربين الضرب الأول ما هو داخل في حدود الشام وهو غربي الفرات ويشتمل عَلَى خمسة أعمال حمص ومصياف وقارا وسلمية وتدمر الضرب الثاني وذكر منها الرحبة وجعبر. القاعدة الثانية حلب وذكر أعمالها الساحلية والجبلية ومن أعمالها الرها. القاعدة الثالثة حماة وذكر أعمالها القاعدة الرابعة طرابلس وذكر أعمالها والخامسة صفد وذكر أعمالها وهي إحدى عشر عملاً وهي عمل تبنين وهونين وجاء فيه عند ذكرهما وهما حصنان بنيا بعد الخمس مائة بين صور وبانياس بجبل عاملة المتقدم ذكره في جبال الشام المشهورة وجعل العثماني قلعة هونين من عمل الشقيف وأهل هذا العمل رافضة. القاعدة السادسة الكرك وذكر أعمالها وهي الشوبك وزعر ومعان. الطرف الثاني من الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة الثالثة فيمن ملك البلاد الشامية وملوكها وهو عَلَى قسمين الأول ملوكها قبل الإسلام وهم أربع طبقات الطبقة الأولى الكنعانيون الثانية الإسرائيليون الثالثة الفرس الرابعة اليونان والرومان.

القسم الثاني من ملوك الشام ملوكه في الإسلام وهم عَلَى ضربين الضرب الأول عمال أصحابه (ص) فمن بعدهم من نواب الخلفاء إلى حين استيلاء الملوك عليه. الضرب الثاني من وليها ملكاً الطرف الرابع من الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة الثانية في ذكر أحوال المملكة الشامية وفيه مقصدان. المقصد الأول في ترتيب نياباتها عَلَى ما هي مستقرة عليه قال قد تقدم أن الممالك المعتبرة بالبلاد الشامية ست ممالك في ست قواعد وكل مملكة منها قد صارت نيابة سلطنة مضاهية للملكة المستقلة. ثم ذكر كل نيابة وأحوالها في المعاملات ونحوها عَلَى مثال ما ذكره من أحوال الديار المصرية في الفصل الخامس من الباب الثالث من المقالة الثانية. المقصد الثاني ترتيب ما هو خارج عن حاضرة دمشق وهو عَلَى ضربين الضرب الأول ما هو خارج عن حاضرتها من النيابات والولايات قال وقد تقدم أن لدمشق أربع صفقات غربية وهي الساحلية والقبلية والشمالية والشرقية ففي الصفقة الأولى وهي الغربية عشر نيابات وخمس ولايات فأما النيابات فمنها غزة والقدس والولايات فمنها ولاية الرملة واللد وقاقون وبلد الخليل ونابلس. وأما الصفقة القبلية وهي الثانية ففيها نيابات وثمان ولايات فأما النيابات فالأولى منها نيابة قلعة صرخد ونيابة عجلون وأما الولايات فالأولى ولاية بيسان وواليها جندي الثانية ولاية بانياس وواليها جندي تارة وتارة أمرة عشرة والثالثة ولاية قلعة الصبيبة الرابعة ولاية الشعراء الخامسة ولاية أذرعات السادسة ولاية حسبان والصلت من البلقاء السابعة ولاية بصرى واليها جندي الصفقة الثالثة الشمالية وفيا نيابة واحدة وثلاث ولايات فأما النيابة فنيابة بعلبك وأما الولايات فالأولى ولاية البقاع البعلبكي الثانية ولاية بيروت الثالثة ولاية صيدا الصفقة الرابعة الشرقية وبها ثلاث نيابات وأربع ولايات. ثم ذكر نيابة حلب عَلَى نحو نيابة دمشق ونيابة طرابلس ونيابة صفد ومنها ولاية تبنين وهونين وولاية الشقيف. الفصل الثالث من الباب الثالث من المقالة الثانية المملكة الحجازية وفيه طرفان الطرف

الأول في فضل الحجاز وخواصه وعجائبه الطرف الثاني في ذكر حدوده وابتداء عمارته الخ. وذكر قواعده وهي مكة المشرفة وهنا ذكر ملوكها قبل الإسلام وفي الإسلام وهم طبقات وبين ترتيبها والمدينة الشريفة وذكر نواحيها وأعمالها وملوكها من بني إسرائيل وفي الإسلام وهم أربع طبقات الطبقة الأولى من كان بها في صدر الإسلام الطبقة الثانية عمال الخلفاء من بني أمية الطبقة الثالثة عمالها في زمن خلفاء بني العباس الطبقة الرابعة أمراء الأشراف من بني حسين إلى عهد المؤلف. ثم ذكر ترتيب المدينة النبوية فقال أما معاملاتها فعلة ما تقدم في الديار المصرية من المعاملة بالدنانير والدراهم الخ. الباب الرابع من المقالة الثانية في الممالك والبلدان المحيطة بمملكة الديار المصرية وفيه أربعة فصول الفصل الأول في الممالك والبلدان الشرقية عنها وما ينخرط في سلكها من شمال أو جنوب وفيه أربعة مقاصد الأول في الممالك الصائرة إلى بيت جنكيزخان وفيه جملتان الجملة الأولى في التعريف باسك جنكيزخان ومصير الملك إليه والثانية في عقيدة جنكيزخان. ثم ذكر ممالك جنكيزخان عَلَى التفاصيل وهي مملكتان الأولى مملكة إيران ويذكر حدودها وأقاليمها وهي بابل والمدائن وبغداد وسر من رأى والإقليم الأول الجزيرة الفراتية الإقليم الثاني العراق وقواعدها ومدنها ومن المدن التي بالعراق هيت والحيرة والكوفة والبصرة وواسط وحلوان والحلة والنهروان والإبلة والقادسية وعبادان. ثم يذكر بعد ذلك طبقات ملوكها جاهليةً وإسلاماً وترتيب هذه المملكة كعادته في غيرها. المملكة الثانية مما بأيدي جنكيزخان توران. هذا جل ما في الكتاب من الموضوعات وندع الكلام عنه بتفصيل أكثر حتى نقف عَلَى آراء الباحثين فيه ولعل فيهم من لا يجهل اسم الكتاب واسم مؤلفه المجهول لنا. عَلَى أننا سنوالي البحث عن الجزئين لمفقودين منه علنا نعثر عليهما والكتاب عثرت عليه أنا وصديقي الأستاذ الشيخ أحمد رضا. النبطية - جبل عامل:

سليمان ضاهر.

مرآة الشباب

مرآة الشباب أيصدقه العلاء فيستريب ... ويدعوه الفسوق فيستجيب وتخطيه الكؤوس فيجتبيها ... شمولاً دون لذعتها اللهيب كأن شروبها إذ يحتسيها ... ربيبٌ حين أعوزه العجيب يحرق إرماً إثر ارتعاص ... بدا منه بجبهته قطوب تحجب لبه استارعي ... فكنفه المثالب والعيوب سرى يبغي العلاء فحين دانى ... ورود حياضه شع القريب وحالت دونه أكواب دن ... ترشفها فأدركه الشحوب فتى عبثت به أيدي التصابي ... كما في الطير قد عبث الربيب رماه بدائه وانسل كوب ... وهل يأتي بغير ألفي كوب وراقته مداعبة الغواني ... ففلز يرشده الصوت الرطيب ارتهن لحاظهن ضروب سحر ... وللغادات من سحر ضروب فبات كان في أذنيه وقراً ... إذا ناداه مرشده اللبيب وظل ولا طبيب لما عراه ... وهل ينجي من الموت الطبيب إذا خطبته مكرمة تولى ... وإن نادته غانية يجيب تعاطيه الكؤوس فتاة دل ... فيطرب وهو لو علم الكئيب وتطوي عرسه الأيام صبراً ... وساقيه بدرهمه لعوب ترى الدينار يرقص في يديه ... وقد اضني بنيه طوى مذيب إذا ما مومي خطرت تدلى ... وتابع خطوها وله وثوب يحن إلى دنو فتاة سوء ... وقد ظمأت حليلته العروب ويؤنسه حديث ذوات تيه ... وقد مجته منهن القلوب ينام نهاره حتى إذا ما ... تصرم هب يحوه الغروب تؤم به غواتيه فيسعى ... فلا نصب يقيه ولا لغوب يجوب بغاء غانية قفاراً ... وما لسوى الهوى قفزاً يجوب ويركب متن حدثان الليالي ... فيلوي حيثما ابتدأ الركوب يهب إلى الشبيبة بعد عجز ... ويهرجها إذا يبدو النضوب

كأن شبابه كرة ازدهاء ... فجاد من الحياة بما يطيب كأن حياته هانت عليه ... فجاد من الحياة بما يطيب كأن سنينه أحلام صب ... صحا فإذا نضارتها نكوب كأن حجاره غادر أصغرية ... وآلى في الشبيبة لا يؤوب متى يدن المشيب يثب هداه ... إليه كأنما الموت المشيب وزجر الشيب أعمل في نفوس ... من السمر اللدان إذا تصيب دمشق: خير الدين الزركلي.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات ثلاثة كتب كتاب الألفاظ الكتابة وكتاب الألفاظ الأشباه والنظائر وكتاب الألفاظ هذه ثلاثة كتب مختلفة العناوين ومختلفة أسماء المؤلفين والموضوع واحد والنص واحد والمؤلف الحقيقي واحد لكن قضى التسرع عَلَى ناشريها أن يصدروها بأسماء مؤلفين هم غير كاتبها أو مصنفيها كما سترى. فالعنوان الأول هو اسم الكتاب الذي تولى طيه الأب لويس شيخو. فقد جاء في مفتتح السفر المذكور وهو الذي بأيدينا ما هذا نقل حرفه: كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيس الهمذاني. اعتني بضبطه وتصحيحه الأب لويس شيخو اليسوعي. طبع سابعة بمطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1898 برخصة نظارة المعارف الجليلة في الآستانة العليا. حق الطبع محفوظ للمطبعة. . والعنوان الثاني هو اسم الكتاب الذي عني بنشره أحد عليما بغداد وإليك ما جاء في صدره: كتاب ألفاظ الأشباه والنظائر للإمام اللغوي عبد الرحمن بن سعيد الأنباري عليه رحمة الباري. وهو كتاب لم ينسخ عَلَى منواله ناسخ، ولم يسلك طريق مناهجه ناهج، مشهور عند أرباب اللغة والأدب، منتزع من أوعية السنة العرب. قديم التصنيف، عجيب الترتيب والتأليف، سليم من الغلط، حسن الأسلوب والنمط، وقد طبع بعد تصحيح أبي البركات خير الدين السيد نعمان ابن المفسر المشهور محمود أفندي الألوسي زاده، مفتي بغداد، سهل الله تعالى له كل مطلب ومقصد يراد، آمين. - التمثيل الأول. - طبع برخصة نظارة المعارف في القسطنطينية سنة 1302. (هـ - 1884 - 1885 م) طبع في مطبعة أبو الضيا. . والعنوان الثالث هو اسم الكتاب المذكور عَلَى رواية صاحب كتاب الفهرست (أي ابن النديم الوراق) فقد قال في ص137 عبد الرحمن بنن عيسى الهمذاني (بالدال المهملة) كاتب بكر بن عبد العزيز أبي دلف. وكان شاعراً كاتباً وله من الكتب: كتاب الألفاظ. وقال في ص 171 من الكتاب المذكور: كتاب الألفاظ (وفي الأصل مطبوع ألفاظ وهو غلط الطبع) لعبد الرحمن بن عيسى الهمداني (بالدال المهملة). فأي العناوين هو الأصح وما اسم المؤلف من التحقيق؟

قلنا: أصح هذه العناوين هو ما ذكره ابن النديم لأن المؤلف قديم وله أتم الوقوف عَلَى أسماء الكتاب والمصنفين وكل من يطالع كتابه الفهرست يشهد له بسعة الإطلاع وغزارة العلم فعنوان الكتاب هو إذن كتاب الألفاظ وزيادة الكتابية في من النساخ، وزيادة الأشباه والنظائر هي من زيادة الناسخ أيضاً أو من الواقف عَلَى طبعه وعليه فالأوفق أن يعاد العنوان إلى صحته بدون زيادة. وأما اسم المؤلف الحقيقي فلا جرم أنه الاسم الذي أورده ابن النديم أي: عبد الرحمن بن عيسى الهمداني (بدال مهملة) وميم ساكنة نسبة إلى همدان وهي قبيلة باليمن من حمير ينسب غليها جماعات عديدة من العلماء. لا نسبة إلى همذان بميم مفتوحة وذال معجمة فإن هذه اسم بلدة من بلاد فارس. ووهم الطابع في هذا الاسم هين. لكن وهم العلامة الآلوسي عظام لأنه وإن كان قد كتب عَلَى أول صفحة من الكتاب أنه لابن الأنباري فكيف جاز له أن يكتب عَلَى رأس كل صفحة من صفحاته (وهي 132) هذه الكلمات: كتاب الألفاظ لعبد الرحمن بن عيسى. فكان يجب عليه أن يطابق أحد الأمرين عَلَى الآخر إما أن يقول إنه لابن الأنباري في صدر الكتاب ومثانيه وإما أن ينسبه لابن الأنباري أولاً وآخراً. عَلَى أن عمله هذا أبان كل الإبانة أنه غالط لا محالة. ومن غريب الأمر أن الشيخ الآلوسي ذكر ترجمة ابن الأنباري قبل أن يذكر مقدمة المؤلف ولها أورد هذه المقدمة قال فيها: قال عبد الرحمن بن عيسى حماد: الصناعات مختلفات. . . فكيف لم ير البون البين بين النسبين وهما واضحان متميزان. عَلَى أن الإنسان إذا تذكر هذا الكلام المأثور: لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة. تحقق أن أعظم العلماء قد يزل مع عليه من حسن النية وإخلاص الطوية. وفي نسخة صاحب كتاب الألفاظ بعض الاختلاف فطبعة بيروت تقول في ترجمة عبد الرحمن وفي المقدمة: عبد الرحمن بن عيسى بن حماد الهمذاني الكاتب. وطبعة الآستانة تقول: عبد الرحمن بن عيسى بن حماد وابن النديم يقول: عبد الرحمن بن عيسى الهمداني. فلا غرو أن نسب حماد داخل في نسب عبد الرحمن لكن هل ترى كان من أجداده أم لقب أبيه. فهذا ما لا يتضح إلا بعد التنقيب عن هذا الاسم في عدة نسخ وفي ذكر نسب المؤلف كمعجم الأدباء لياقوت. ولهذا لا نجزم فيه. ومن غريب الأمر أن طابع النسخة البيروتية مع وفرة اطلاعه عَلَى المطبوعات العربية

في الشرق والغرب لم يذكر طبعة هذا الكتاب في القسطنطينية، فهل كان منه جهلاً أم تجاهلاً؟ نقول: الأليق أن نقول أنه فعل ذلك منه لأن نسخة الآستانة وإن طبعت قبل نسخته فإنها لم تطبع إلا قبل أربعة أشهر فقط ولما كانت مطبوعات الآستانة قليلة الشهرة لخلو الحاضرة من الجرائد العربية يومئذ هان لنا أن نفهم جهله لما يطبع هناك. وعلى كل فكان الأجدر به أن يذكر هذه الطبعة في النسخ التي جدد نشرها بعدئذ. ولعل الأمر فاته بالمرة وهذا ليس ببعيد. وأما بعد الآن فهو ليس بمعذور. وإن سألتني أي النسختين هي الفضلى: ألطبعة الآلوسية أم الطبعة البيروتية؟ قلنا: عليك أن تعلم قبل هذا أن الطبعتين وإن كانتا تتفقان بعض الأحيان تختلفان في أغلب المرار. وهذا الاختلاف موجود في الأبواب وفي كثرة المواد. فإنك مثلاً تجد أبواباً غير مذكورة في الطبعة الآلوسية وهي مذكورة في الطبعة البيروتية طوراً وبالعكس. ثم إنك تجد في الباب الواحد مادة وافرة في نسخة دون النسخة الأخرى. هذا فضلاً عن الاختلاف في تتالي الأبواب وفي عناوينها ثم إنك تجد في الطبعة الآلوسية أغلاط طبع لا تحصى كما أن أغلاط الطبعة البيروتية في اللغة كثيرة. وقبل أن نصدر حكم المفاضلة بين النسختين نذكر باب المعايب في كلتا الطبعتين ليمكنك أن تقبل حكمنا أو ترذله بعد الاطلاع عَلَى مثال يكون لك بمنزلة قياس تقيس عليه ما ورد في كلتا الطبعتين. 1ً جاء في الصفحة 12 من كتاب الألفاظ المطبوع في الآستانة ما هذا نصه: باب المعايب يقال ثلب فلان (حاشية: قال الواقف عَلَى تصحيحه: لعل فلاناً بالنصب، ولكنه كتب بالدفع (كذا. وهذا من غلط الطبع والأصح: الرفع) في الأصل مصححه). قال صاحب هذه المقالة: الصح أن يقال: ثلب فلاناً. وأما فلان فمن غلط الناسخ لا غير. وقصبهن وشتره، وضرسه، وسمه به، وندد به، وشرديه، وسعيه، وتنقصه، وعابه، وجد به، ووقع به، وشعث منه، وألحم عرضه، وقرع صفاته، ورتغ في عرضه، وسبه، وقذعه، وزوده الخنا، وأخذ من جنبه، وقرع مسامعه، ومزق أديمه، وقرع مروته، ونحت إثلته بالفتح، واخذ من عرضه، واتبعه القبيح، وذكر معايبه، ومثالبه، ومعايره، ومشانيه، ومناقصه، ومخازيه،

ومساويه، ومقابحه، ومقاذره ومفاضحه، وسوآته، ومسآته. قالت ليلى الأخيلية: لعمرك ما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا لم تصبه في الحيوة المعابر والقذع، والخنا، والرفث، والفحش هو قبيح الكلام، ويقال فلان بذي اللسان، ملحب، سباب، وقد بذو يبذوه بذاءة، والإزراء، والطعن والقدح، والغميزة (كذا) والتعبير، في طريق واحد، ويقال: كان من فلان نوافر، وبوادر، وقوارص، وشتايم، وقد سفه علينا غلان سفاهة، ولم يكن سفيهاً تقول: نعوذ بالله من قوارعه، وقواذعه، ونواقره، وقوارص لسانه. 2ً: وجاء في هذا الباب في الصفحة 20 من الطبعة البيروتية بهذه الصورة: باب الثلب والطعن تقول: مازال فلان يذكر معايب فلان، ومثالبه. ومساوئه. ومقابحه. ومشايينه. ومقاذره. ومناقصه. ومخازيه. ومعايره. ومساءته. وسوآته. قالت ليلى الأخيلية في المعايير: لعمرك ما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا لم تصبه في الحيوة المعابر ويقال: ثلب فلاناً، وتنقصه. وعابه. (ويقال:) عيرته كذا، ولا يقال بكذا. قال النابغة: وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل عليَّ بأن أخشاك من عارِ ويقال: نكرت عَلَى فلان ما صنع وأنكرته ونكرته. (ومنه قول القرآن الجليل:) نكروا لها عرشها أي غيروه. ويقال: شبعة، وجدبه جدباً، وقصبه، وجرحه، وشز به، وشزبه، وشز عليه، وضرسه، وشعث منه، وسمع به، وندد به، وزرى عليه. (يقال:) زرى فلان عَلَى فلان فعله إذاً عابه. ونقصه زرياً، وأزرى به إذا صغره إزراءَ. وقدح فيه، وطعن عليه، ونقم عليه ومنه وفي عرضه سبه، وقذعه، وقفاه يقفوه، وطاخه بقبيح إذا لطخه به، ووقع فيه، وقرع صفاته إذا قال قبيحاً في عرضه، ونحت أثلته، واستطال في عرضه (والفحش، والقذع، والخنا، والرفث، القبيح من الكلام). (يقال: فلان بذئ اللسان، ملحب، وسباب، ألحمته عرض فلان إذا أمكنته من شتمه. (والإزرار، والطعن، والقدح، والغميزة، والتعبير (في طريق واحدة). (وتقول:) قد كانت في فلان قوارص، ونواقر، وشتائم. (فنقول:) نعوذ بالله من قوارعه.

ولواذعه، ولواذعه، وقوارص لسانه، وبذئ فلان يبذأ، وبذؤ يبذؤ بذاءة، وقد رسفه غلينا سفاهة، ولم يكن سفيهاً وقد سفه. قال ترى بين هاتين النسختين فرقاً ظاهراً. والصواب والغلط يتجاذبان الطرفين فمرة يكونان في هذه النسخة ومرة في تلك فتمسك أنت بما يوافق الصحة. وبعد هذا التبيين نقول: إن نسخة بيروت أصح طبعاً من نسخة الآلوسي. فإن الأغلاط التي وردت في طبع هذه الأخيرة تنفر كل إنسان من مطالعتها. ومع ذلك ففيها من الفوائد ما لا تراه في النسخة البيروتية. ولهذا يجدر بأحد الأدباء أن يجمع بين النسختين ويصحح الواحدة. عَلَى الأخرى ليكسب رضا الجميع في إحياء مآثر السلف. الخلاصة كتاب الألفاظ (ولا يجوز لك أن تغير هذا العنوان بقولك: كتاب الألفاظ الكتابية. أو كتاب ألفاظ الأشباه والنظائر) هو لعبد الرحمن بن عيسى (بن) حماد الهمداني نسبة إلى همدان القبيلة اليمانية المشهورة. وليس لعبد الرحمن بن محمد بن سعيد الأنباري، لاسيما إن علمت أن ابن الأنباري ولد سنة 513 وتوفي سنة 577 وأن الهمداني توفي سنة 320 وإن من النسخ القديمة الكتابة التي ظفر بها الطابع البيروتي ما كتب سنة 522 أي تسع سنوات بعد ولادة ابن الأنباري فلا يعقل أنه ألف كتابه في هذا العمر. وعليه يجب تصحيح ما ورد من الخطأ والوهم في هذا الباب. فإن تفعل تحظ بالصواب. ساتسنا. وصف كتاب جامع التعريب، بالطريق القريب من تأليف أحد علماء القرن الثاني عشر الهجري أو السابع عشر الميلادي. في جامع مرجان من جوامع بغداد خزانة كتب جليلة من وقف نعمان الآلوسي المؤلف الشهير ابن المؤلف الكبير محمد الآلوسي. وبين كتبها الخطية كتاب اسمه جامع التعريب، بالطريق القريب. إلا أن صاحبه لم يذكر اسمه لا في صدر الكتاب ولا في عجزه. والظاهر أنه عالم من علماء القرن الحادي عشر للهجر نقول ذلك تقريباً وتكهناً ولا تأكيداً وتثبتاً

اعتماداً عَلَى كلام صاحب كشف الظنون المتوفى سنة 1068 هـ 1658 م إذ يقول عن معرب الجواليقي: وهو كتاب لم يعمل فيه أكثر منهفالظاهر من هذا القول أن الحاج خليفة لم يعرف هذا الكتاب الذي نشير إليه لعدم وجوده يومئذ. وإلا لما قال تلك العبارة. ثم أن مؤلف جامع التعريب لم ير كتاب الخفاجي لأنه لو رآه أو كان ممن عاش قبله لذكره أيضاً في مقدمته وعليه نظن أن الكاتب كان في عصر الحاج خليفة والخفاجي نفسيهما. وهذا الكتاب من أوسع وأحسن ما كتب في هذا الموضوع والنسخة الموجودة أمامنا حسنة الخط طولها 22 سنتيمتراً في عرض 17 وفيها 360 صفحة وفي كل صفحة 25 سطراً وهي مجلدة بالسختيان والكاغد أخضر اللون. قال الناسخ في آخرها: تمت كتابته في سلخ جمادى الأولى سنة 1203 بخط أفقر الوردي وأضعفهم إلى الغنى القوي عبد الكريم بن أحمد بن محمد الطرابلسي الخلوتي الحنفي غفر الله له ذنوبه آمين. . وإذا وقفت عَلَى مقدمته عرفت بعد منزلته. قال: الحمد لله الذي صان بلغة العرب الكتاب والسنة. واظهر بها عَلَى غيرها من اللغات الفضل والمنة. ومنع بمن أقامه بضبطها الأجنبي والغريب. وميز لهم ما وقع بها من الأعجمي وما فيه من التعريب أحمده عَلَى التوفيق لسلوك الأدب. ولزوم تحصيل فضائل العجم والعرب أما بعد فإني بعد أن وقفت عَلَى كتاب المعرب ابتداع الأستاذ أبي منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الجواليقي شكر الله مسعاه. وجعل الجنة مقره ومثواه. كان محتاجاً إلى تتمة في الترتيب. وزيادات فائقة في آثار التعريب. ظفرت بكتاب التنزيل والتكميل. مما استعمل في اللفظ الدخيل. الذي جمعه الفاضل المنيع جمال الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن أبي بكر بن موسى العذري الرثوثي الشهير والده بشيشي (ويروى سيسي) بخطه. فوجدته والله قد أفرغ الوسع في التتبع والاستشهاد بهمة تقارب رتبة الاجتهاد. بل أحسن فيه الجمع وحسن الترتيب. ومعونة للطالب والأديب. غير أن فيه تكراراً وإطالة ربما تفضي إلى الكسل والملالة. فأحببت أن أختصر من الأصل ما زاد جرياً عَلَى المألوف والمتعارف والمعتاد، مع رعاية الاختصار والإيجاز. وتبيين ما يتحقق الإحاطة به والامتياز. مع زيادات وحسن تلخيص. تباعداً عن الإسهاب والتمحيص. وسميته: جامع التعريب. بالطريق القريب. والله أسأل المعونة والتوفيق. - ثم قال: باب الهمزة مع الألف: آب وهو

يكتبها هكذا آاب أب بألف ممدودة وراءها ألف هاوية كما كان يفعل الأقدمون في مثل هذه الألفاظ. ثم يذكر بعدها آاجاص. آاجر. آاجنقان. آاذار. آادم. . . الخ. وهو يشرح كل لفظة شرحاً مشبعاً لا يبقي لمستزيد زيادة. إلا أن الناسخ وإن كان حسن الخط وخطه تعليق إلا أنه لا يحسن النسخ ولهذا فقد مسخ ألفاظاً كثيرة ولجهله معناها فصورها بصورة مألوفة السمع سهلة الفهم لكن لا تنطبق عَلَى بقية العبارة: فلهذا يحتاج القارئ إلى التيقظ التام في تصفح الكتاب. وفي شرحه بعض الألفاظ شروح إضافية الذيل، ناقلاً إياها عن عدة كتاب سبقوه مما يحرص عليها كل الحرص. وربما خرج في كلامه إلى ما محل له كما كان يفعل المصنفون في سالف العهد. - والمؤلف قد أدخل في سفره ألفاظاً جمة لم ترد في معربات الجواليقي ولا في شفاء الغليل ولا فيغيرهما من مؤلفات هذا القبيل. ولهذا نرى طبعه من الضروريات. وربما ذكر في كتابه أعلام المدن والرجال لكنها دون الألفاظ الجنسية عدداً واعتناء. وقد حان لبنا أن نعطي مثالاً من كلامه ونذكر ما جاء في أبو جاد من الشرح وقد ورد في الصفحة 11 من النسخة المذكورة. وهذا نصه بحرفه: أبو جاد لفظ سرياني قيل أنه اسم ملك من الأول وكذا هوز. حطي قيل اسم لأول أيام الأسبوع عن سيبويه. أبو جاد وهوز وحطي بياء مشددة أسماء عربية وأما كلمن وسعفص وقريشات فإنهن أعجميات لا يتصرفن وأنشد: أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أحرف متتابعات وخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصاً وقريشات قال أبو سعيد السيرافي: فصل سيبويه بين أبي جاد وهوز وحطي فجعلهن أعجميات. وكان أبو العباس يجيز أن يكن كلهن أعجميات. وقال بعض المحتجين بسيبويه: إنه جعلهن عربيات لأنهن مفهومات المعاني في كلام العرب. ودقد جرى أبو جاد عَلَى لفظ لا يجوز إلا أن يكون عربياً تقول إن هذا أبو جاد. ورأيت أبا جاد. وعجبت من أبي جاد قال أبو سعيد: والذي يقول أنهن أعجميات غير مبتعد عندي إن كان يريد بذلك الأصل فيها العجمة لأن هذه الحروف عليها يقع تعلم الخط السرياني وهي معارف. وقال بعضهم: جاد في قولك: أبو جاد مشتق من جاد يجود أو من الجواد وهو العطش أو من قولهم جوداً له أي

جوعاً له! ووقع الناس في أبي جاد أي في باطل قال الإمام قطرب: قولهم أبجد وهو أبو جاد وإنما حذفت واوه لأنه وضع لدلالة المتعلم. فكره التطويل والتكرار وإعادة المثل نمرتين فكتبوا أبجد بغير واو وألف لأن الألف في أبجد والواو في هوز قد عرفت صورتاهما وكل ما مثل من هذه الحروف استغني عن إعادته. قال أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني يقال: إن أول من وضع الكتابة العربية قوم من الأوائل نزلوا في عدنان بن أَدد فاستعربوا ووضعوا هذه الكتابة عَلَى عدد حروف أسمائهم فكانوا ستة نفر أسماؤهم: أبجد. هوز. حطي. كلمن. سعفص. قرشت. وأنهم ملوك مدين رئيسهم كلمون فهلكوا يوم الظلة مع قوم شعيب عليه السلام فقالت أخت كلمون ترثيه: كلمون هد ركني ... هلكه وسط المحلة سيد القوم أتاه الحتف ثاو وسطه ظله جعلت نار عليهم ... دارهم كالمضمحلة هذا وقد توهم الصغاني أن حمزة قائل هذه الأبيات في كتاب التنبيه عَلَى حدوث التصحيف. وليس كذلك ثم وجد ما جاء بعدهم حروفاً ليست من أسمائهم وهي ستة الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين فسموها الروادف. ويدل عَلَى كون أبجد وما بعدها أسماء رجال وضعوا الكتابة العربية عليها كون هذه الكلمة الواقعة عَلَى حروف الهجاء لم تزل مستعملة عَلَى ممر الدهور عند كل أمة وجيل من سكان الشرق والغرب متداولة في الأعداد النجومية وكذا هنا عند السريانيين فهي الأصل الذي يتعلم منه الهجاء تبعهم في ذلك الإسرائيليون من اليهود والنصارى يدرسونه صبيانه في كنائسهم قائلين هجاء العبرانية ألف. باء كمل. دالث. يتبعونه بما بعده عَلَى حكاية لغتهم وهذا هو الذي عربه عرب الإسلام فقالوا أبجد مكان ألف. بأكمل دالث. قال ابن دريد: في حروف الهجاء العربي حرفان لا يجريان إلا عَلَى لسان العرب ولا يوجدان في لغات سائر الأمم وهي الظاء والحاء وخوالف في الحاء بأنها موجودة في السريانية والعبرانية والحبشية وقيل الضاد لا تقع في لغة الروم كما أن الصاد لا تقع في لغة الفرس والذال لا تقع في لغة السريانيين كما أنه لا يقع في لغة العرب لام بعدها شين وكما لا يقع فيها حرفان من حروف الهجاء لفظهما واحد متجاورين في أوائل الأسماء نحو ششن كك وقد يقعان في أواخرها نحو تكك ومشش

إلا في أسماء أصلها فارسية كحوببات وددان كما أنه لا يقع الدال في لغة الفرس في أوائل الأسماء والأفعال وغنما تقع في أواخرها وأواسطها وكون أصل الهجاء العربي مؤسس عَلَى: أبتث جحد ذرزس شصضط ظعغف قكلم نوهي هو قياس اب ت ث وألف من حروفها وبا وجمل تجري في العربية مجرى أبجد في السريانية لكن هذا الخبر صادر عن رجل كان يولد الأخبار عَلَى الأمم الذين بادوا كعاد وثمود وطسم وجديس وأضرابهم وإذا احتاج البى توليد أشعار يؤكد بها تلك الأخبار خرج ملتمساً ممن يحسن الشعر من الأعراب تقديره أن يقول شعراً من جنس مراده فكانوا يعلمون مثل كلمون هدركني وهذا الرجل هو الذي ادعى عَلَى آدم عليه السلام أنه أنشد: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم وريح ... وزال بشاشة الوجه المليح وبدل أهلهم إثماً وخمطاً ... بجنات من الفردوس فيح وجاورنا عدو ليس يتأتى ... لعين لا يموت فتستريح فلولا رحمة الرحمن أضحى للع من جنان الخلد ريح (؟) كذا. والأصح: بكفك. فيا أسفاً عَلَى هابيل ابني ... قتيلاً قد توسد في الضريح فنسب معاواته إلى نبي الله شعراً ركيكاً واهن الركن ضعيف الأسر ذا أقواء مع ثبوت أن الأقوآء من أقبح عيوب الشعر وعدم مطابقة قوله تغيرت البلاد ومن عليها وأين كانت بقاع تلك البلاد ومن كان عليها إذ ذاك. علي بن هشام قال في كتابه التيجان بعد إنشاده هذا الشعر. قال جبير بن مطعم ليس هو إلى آدم عليه السلام بل هو متحول إليه وهود عليه (كذا) واستخف منه زعم من قال أن إبليس أجاب عنها بقوله: تنج عن البلاد وساكنيها ... فقد في الخلد ضاق بك الفسيح وكنت تعيش وزوجك في رخاء ... وقلبك من ذوي الدنيا فريح فما انقلبت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثمن الربيح فلولا رحمة الجبار أضحى ... بكفك من جنان الخلد ريح. ولعمري كم من مفسر ومؤرخ يذكر هذا الشعر ولم ينبه عَلَى ضعفه ووضعه فكم ترك الأول للآخر. وكم دام من السخف عَلَى الخواطر. وقد جاءت روايات عارية من الحال

محققة للمحال من الأنبار إلى الحيرة ثم من الحيرة إلى مكة والطائف وتسويده ما روي عن يحيى بن جعدبة أنه قال سالت المهاجرين من أين صارت إليكم الكتابة بعد أن لم تكونوا كتبة فقالوا من الحيرة فسألنا بعده من أهل الحيرة ممن أخذتموها فقالوا من أهل الأنبار وروى ابن الكلبي والهيثم بن عدي: أن الناقل لهذه الكتابة من العراق إلى الحجاز حرب بني أمية وكان قدم الحيرة قدمة فعاد إلى مكة بها. قال: وقيل لأبي سفيان بن حرب ممن أخذ أبوك هذه الكتابة. فقال من أسلم بن سدرة وقال سالت أسلم ممن أخذت هذه الكتابة فقال من واضعها مرار بن مرة فحدوث هذه الكتابة للعرب قبيل الإسلام صحيح يؤيده حدوث آلات لم تكن لهم من قبل كالخطاب والشعر والبلاغة فإنها قريبة الميلاد من إقبال دولتهم وقد كانوا عبروا الدهر الطويل وهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون وكان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكانت مباينة لكتابة العرب عَلَى حدة في اللغة السير بعيدة الدار من بلادهم في منقطع الترب عَلَى شاطئ البحر جيراناً للحبشة والزنج وكانوا يحظرون تعليمها عَلَى العامة مع أنه كان لا يتعاطاها إلا من أذن له في تعلمها فلذلك دخلت دولة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب. . . وجل كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة وهي العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية. فخمس منها اضمحلت وبطل استعمالها في بلادها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي الحميرية والقبطية والهندية واليونانية والصينية وأربع مستعملات في بلاد الإسلام وهي العربية والفارسية والسريانية والعبرانية وأما العبرانية فنوع واحد لا تتفنن وإنما تتغير بخصيص أقلامهم حال التجويد أو التعليق. وأما الفارسية فتسعة فنون عَلَى ما ذكر أبو جعفر محمد بن المؤيد المتوكلي فإنه زعم أن الفرس كان إمام ملكها مقر عن أصناف إيراداتها (كذا) سبع كتابات وهي برم دفيره وكشته ودفيره ونيم كشته دفيره. وفروده دفيره. وسف دفيره. فمعنى الأولى الكتابة العامية والثانية الكتابة المغيرة والثالثة الكتابة المغيرة نصفها والرابعة كتابة الرسائل والخامسة كتابة السر وكانت كالترجمة والسادسة كتابة الدين وكان يكتب بها قرآنهم وكتب شرائع دينهم والسابع جامع الكتابات يشتمل عَلَى لغات الأمم من الروم والقبط والبربر والهند والصين والترك والنبط والعرب

وكانت كتابة العامة من بينها ترسم قلماً وعشرين قلماً لكل فلم منها اسم عَلَى حدة نحو ما يقال في الخط العربي خط التجاويد. وخط النحاس. وخط القراطيس. وخط التحرير وخط التعليق وكانت صناعة الكتابة ذات أسماء مختلفة تلزم فنون طبقات الأعمال وقد نسي أكثر أسمائها لكثرتها فقد كانت غير ذلك فدرست وصاروا يستعملون منها هذه الأنواع السبعة كما كانوا يستعملون في المخاطبات اللغات الخمس الفهلوية والدرية والفارسية والخوزية والسريانية. فالأولى كان بها كلام الملوك في مجالسهم وهي منسوبة إلى فهله الواقعة اسماً عَلَى خمسة بلدان وهي: أصبهان والري وهمذان وماه نهادوند وآذربيجان والثانية لغة مدن المدائن وبها كان يتكلم من بباب الملك وهودر بالفارسية والغالب عليها من لغات أهل المشرق لغة أهل بلخ والثالثة كان يجري بها كلام الموابدة ومن ناسبهم من كور بلاد فارس والرباعة منسوبة إلى خوزستان وكورها الثلاث وبها كان يتكلم الأشراف في الخلوات كالتعري في الحمام والإبزن والمغتسل والخامسة منسوبة إلى كور بلد سورستان أعني العراق والسريانيون هم النبط وبها كان كلام حاشية الملك عند التماس الحوائج وتشكي الظلامات وكان للفرس كتابة العصا حكاها السلماني وكانت ملوك الفرس تودعها الأسرار في مخاطبة خواصها وعمالها ولم يكن بخط ولا بأعداد ولا بما يجري مجراها وإنما كانت تعمد إلى جلد أبيض فتقد منه سيراً طويلاً ثم تعمد إلى عصي الفيج أو المكاري فتلف السير عليها وتضم حروف السير بعضها إلى بعض ثم تدعو بمسامير تركبها عليها ثم تكتب فإذا انتهت الكتابة سلت تلك المسامير وكشف ذلك السير عن العصي فكان ما كان منها إلا نقط متفرقة ثم تلف السير وتجعل كالطبق ويقال للمكاري إذا نزلت منزلاً فضع طعامك عليه لتوهم أنه طبق طعامك فيكون هذا دأب الرسول إلى مبلغ المكتوب فح يرد لف السير عَلَى العصي كما كان رسم بأن يجعل الثقب التي في السير تجاه الثقب التي في العصي ويشك المسامير في الثقب ثم يضعها عند المكتوب إليه فهذه المتابة التي كانت إذا ضم بعضها إلى بعض أمكن قراءتها وإذا نشر زالت صورتها وتعذرت قراءتها. وسئل أحمد بن علي المتوكل عنها فأخذ درجاً من كاغد فكسر منه شبيهاً بورقتين وضم أثناءه بعضه إلى بعض ثم كتب عليه شيئاً يقرأ ثم نشره وبسطه فصار في كل موضع من الورقتين كالعلامة والنقطة فهذا الذي أريد بقول الشاعر:

أي كتاب بالطي تعرفه ... وعندهم تبين أحرفه وأشر مما يزيل صورته ... وكتبنا كلها تخالفه. اه بجرفه فأنت ترى من هذا المثال، طويل المقال، الواسع المجال، إن هذا الكتاب الجليل من أحسن ما صنف في هذا القبيل. ولاسيما أن الكاتب قد أحاط بكثير من الألفاظ التي لم يذكرها من سبقه إلى هذا الموضوع. بل ولم ينوه عنها من جاء من بعده. ولهذا نتمنى أن يخرج هذا التصنيف اليتيمة إلى عالم المطبوعات. لينتفع بها محبو اللغات. ويقف عَلَى بعض محتوياته ما لا يوجد في كثير من المصنفات. قيض الله أديباً فاضلاً يعنى به. إنه عظيم كريم. بغداد: ساتسنا. تقارير المجمع العلمي السميثوني عن سنة 1909 - 1910 - 1911 1909 - 1910 - 1911 عودنا هذا المجمع أن يمتعنا كل عام بتقرير عن أعماله السنوية وذلك بكتاب ضخم يخصص القسم الأكبر منه لنشر ما يظهر في عالم المطبوعات من الأبحاث والمحاضرات العلمية سواء ظهرت في أوربا أو أميركا. وأمامنا الآن ثلاثة من هذه التقارير الأولى لسنة 1909 وأهم ما فيه من الأبحاث بحث في مستقبل العلوم الرياضية وبحث فيما إذا يميز المناطيد وآخر في تقدم الطبيعيات وآخر في مسألة النتروجين من الوجهة الحربية وآخر في مذنب هالي وعودته وآخر في طبقة الهواء العليا وآخر في المبلورات وغيره في الصخور النارية وفي البراكين وفي حفظ الموارد الطبيعية وفي البعثة البريطانية إلى القطب الجنوبي وآخر في رسم بحر غرينلاند ورحلة في أفريقية من النيجر إلى النيل ومحاضرة في ماضي العراق وحاضره ومستقبله ألقاها السير ويليام ويلكوكس في الجمعية الجغرافية الإنكليزية. ومبحثان في النشوء الحيواني ومذهب دارون. وآخر في قدم الإنسان في أوربا وآخر في نسبة العلم إلى حياة البشر وآخر في نسبة الحشرات إلى الأمراض

وآخر في المقاومة الطبيعية للأمراض السارية وإسعافها وهذه الأبحاث كلها من أقلام نخبة رجال العلم في أوربا وأميركا. أما تقرير سنة 1910 فهو كالذي سبقه في الحجم والإتقان وإن كان أدق وألطف من الأول ورقاً وأهم موضوعاته: بحث في تزاويق البسط والسجاد وفي تقدم فن الطيران حديثاً وآخر بالانتفاع في الأراضي المقفرة في غربي الولايات المتحدة وآخر في القوة الكهربائية من نهر المسيسبي وآخر وسائط التأمين في معامل الفولاذ في الولايات المتحدة وغيره في نقل الرسوم بواسطة التلغراف السلكي واللاسلكي والآراء الحديثة في تركيب المادة. التقدم الحديث في وسائط تجربة المفرقعات. السكنروسكوب. مسائل فلكية في المناطق الجنوبية. صلاح الأرض للحياة في المستقبل. حفظ الغابات. بحث في معرفة نوع الجنين وآخر في ريش النعام. نظرة من الوجه الاقتصادية والجغرافية في الشعوب السلافية المعاصرة. وآخر في سكان الكهوف في العالم الجديد والقديم. حالة المزارع الصحية والسل وانتشاره. ويحوي تقرير سنة 1911 كغيره أبحاثاً مفيدة في الطبيعيات والفلك والحيوان والكيمياء وطبقات الأرض وحفظ الصحة إلى آخر ما نشر من الموضوعات الحديثة خلال تلك السنة. وهذه التقارير في الجملة غاية في الإتقان والدقة مزدانة بالرسوم حسب ما تتطلبه الأبحاث والناظر إليها يشعر برقي هذا المعهد العلمي سنة عن سنة نفع الله العلم به وأكثر من أمثاله في العالم. وقيض لهذا الشرق العربي أناساً يخدمونه في الماديات ليخرجوا به من عالم الأدبيات والخطابيات.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار إيطاليا والإسلام قال لنا ذات يوم أحد علماء الشرقيات من الألمان أتدري السر الأعظم في غلبتنا الفرنسيس في حرب السبعين فذكرنا له ما حضرنا من الأسباب فقال: لا هذا ولا ذاك وإنما كنا معاشر الألمان عارفين بما عند جيراننا حق المعرفة أما هم فكانوا يجهلون حقيقتنا ولذلك كتب النصر لنا. ولقد حملت مجلة العالم الإسلامي الباريزية مبحثاً للمسيو أنطوان كاباتون من مستشرقي فرنسا تحت عنوان إيطاليا دولة إسلامية فآثرنا ننقل لبابه إلى العربية ليعلم من لا يعلم أن كل أمة لا تعرف ما عند جارتها تغلبها كما غلب الألمان الفرنسيس وأن التمجد بالقديم وحده دون أن يكون لصاحبه شيء من دواعي الشرف الحقيقي الطريف مما يلقي بالأمم من قمم العز إلى دركات الذل وأن الشرق ينون أن يعد له قوة تعادل قوة الغرب يزدرده هذا ويقضي عليه سنة الله في خلقه. قال العالم الفرنسوي: إن معاهدة لوزان الخيرة التي اعترفت بامتلاك إيطاليا الفتاة لليبيا قد أدخلت إيطاليا في مصاف الدول الإسلامية فإن أثرت الحرب بين إيطاليا والعثمانية في المسألة العثمانية البلقانية كل التأثير فقد أثرت في مكانة إيطاليا ونفوذها ووجهتها السياسية والاقتصادية أيضاً. واعتبرت حملة طرابلس حادثاً جديداً لقسمة قارة أفريقية بين الدول الأوربية وعنواناً حديثاً لسلطان المدنية الغربية الطامعة القوية عَلَى الغفلة الشرقية. وراحت إيطاليا مدفوعة بعوامل التذكارات الماضية وما أصابها من الفشل بين جاراتها ومنافساتها تريد الظهور في القبض عَلَى قيادة بلاد البحر المتوسط. وما من حرب منذ سنة 1859 وقعت موقع القبول عند الشعب الإيطالي مثل الحرب الأخيرة إذ تلقتها الأمة الإيطالية بالبهجة عَلَى اختلاف طبقاتها ومن النساء من أرسلن ثلاثة أولاد لا رابع لهن إلى ديار الحرب وخرجن يوعونهم ويقلن نتجبي الحرب فلقيت الحملة في ذهابها وإيابها من ضروب الإكرام في بلادها شيئاً كثيراً ولا تسل عن فرح القوم يوم شاهدوا أبناءهم عائدين يحملون شارة الاستعمار لبلاد ربما كان أولادها في المستقبل جيش إيطاليا السود.

وحدث ما شئت أن تحدث عما صدر في إيطاليا من الكتب والرسائل والصحف في وصف طرابلس وبرقة وما إلى ذلك يوم نادت إيطاليا: هيا إلى الحرب وعضدتها الصحف والحكومة عَلَى اختلاف صبغاتها في هذه الدعوة لا ليكون لإيطاليا مجد ومصرف اقتصادي فقط بل لتكون عَلَى قيد غلوة من بلادها أراض مخضبة ينزلها أبناؤها الذين يكثرون كثرة زائدة ولذلك كانت إيطاليا تمجد بحماسة تمازجها سذاجة أقل حرس يعود من ليبيا وكيسه عَلَى ظهره كما كانت تتألم لأقل نقد يأتيها من الخارج. فالأسلوب العلمي العظيم الذي وفقت إليه إيطاليا لوضع الحرب أوزارها انتهى بتمجيد الأمة الإيطالية. بعثت إيطاليا مئة ألف مقاتل عَلَى أسطولها الفاره لتقضي كل القضاء عَلَى الأتراك والأعراب ممن لم يتيسر لحماستهم الدينية وحبهم للاستقلال أن ينوبا مناب الأسلحة المنظمة والذخائر والجند والنظام. اغتبطت إيطاليا بفتح طرابلس وبرقة وأثبتت أنها الوارثة الوحيدة لمملكة رومية التي كانت الحاكمة عَلَى العالم في القديم وحققت أمانيها منذ خابت يوم ضمت فرنسا تونس إليها سنة 1881 وانهزمت في الحبشة سنة 1889 لأنها عادت فأصبحت مملكة مستعمرة بما فتحته من ليبيا التي فتحتها رومية منذ الزمن الطول أيام كانت ضفاف البحر المتوسط للروح الإيطالية مهمازاً يحفزها كما كانت الآستانة مهمازاً للروح الصقلبية السلافية. ولقد طمحت إيطاليا في كل زمن إلى هذا الشاطئ من البحر المتوسط فحملت أولاً القوة والسلام الروماني ولما انحلت عرى هاتين المادتين تحت ضربات البرابرة عادت توجهه وجهها إلى تلك الوجهة أيضاً لا إلى الشمال فكان البحر المتوسط ميدان عمل جنوة وبيزا والبندقية وأمالفي وباري وسالرن ولم يقنع تجارها بأن يغتنوا بالاتجار بأقمشة الهند وفارس وجزيرة العرب وأفاؤيتها وأباريزها بل أخذوا برزانة يؤيدون النفوذ اللاتيني في آسيا الصغرى ومصر والحبشة وكان من انتشار الإسلام وقوته في القرن الثامن أن ضربت هذه الفتوح التي تذكر بفتوح رومية أيام عظمتها ضربة شديدة فاحتقر المسلمون إيطاليا عَلَى سمو مدارك أبناءها ومرونة أخلاقهم وأغاروا عليها فأدخلوا عَلَى قلوب أهلها الهول والفزع فكان الجلاد عظيماً ولئن وفقت إيطاليا إلى طرد العرب من صقلية فإن نجاح مدنها الساحلية في الجنوب قد تراجع وظلت جنوة وبيزا متأثرتين وعادت البندقية فوجهت

وجهتها إلى آسيا الصغرى. وكان من الحروب الصليبية أن تهيأت لإيطاليا أسباب الانتقام فهذه الغارات وإن كان باباوات رومية هم الذين أملتها عقولهم قد بذل فيها العنصر الإيطالي بما عرف به من الحمية الممزوجة بقليل من التبجح من حسن السياسة أكثر مما بذل من الشجاعة. فاقتصر الإيطاليون في الحرب الصليبية عَلَى مرافقة جيوش أوربة إلى آسيا وبينا كان ملوك الأمم الأخرى تقيم ممالك صغرى في الأرض المقدسة كان الإيطاليون يقطفون ثمرات تلك الحملات. وقد ثبت هذا الدهاء السياسي الإيطالي في الحملة الصليبية الرابعة فإنه أنتج لجنوة وبيزا أن ربحتاً كثيراً واستأثرت البندقية بتجارة آسيا الصغرى وامتلاك أراضٍ مخصبة عَلَى الشواطئ الشرقية من البحر المتوسط وجزء من الآستانة. ولما سقطت القسطنطينية عَلَى يد محمد الثاني سنة 1453 حالت دون هذا السير النافع وهذا فإن البندقية مع ما أتته من عجائب المهارة وحسن المأتى بل بجهادها العلني قد احتكرت جميع تجارة أوربا مع الشرق. وبهذا الاحتكاك غير المنفصل تمت للبندقية عَلَى قوتها البحرية والتجارة معرفة الشعوب الإسلامية حق المعرفة أكثر من كل أوربا وكان من العادة الجارية مع طبقة التجار من أبناءها أن يتكلموا التركية والعربية ويألفوا بعض العادات والمصطلحات الشرقية ولكن جاءت قوة في القرون الثلاثة التالية أكثر من قوة البندقية عَلَى ما لها من الصلات التجارية مع العناصر ألإسلامية فزادت عليها لأنها تطمع في امتلاك العالم ونعني بها الباباوية. فإن كنيسة أحلام رومية استطاعت أن تمتد إلى الخارج ويكون لها مطلب أعلى من الزنج حتى أنها في عهد غارات الجرمانيين كانت تحلم أن تقبض ذات يوم عَلَى قياد الوحدة وحب الاستيلاء الذي سقط بسقوط دولة القياصرة فأحسن صلاتها مع المسيحيين بل ومع الوثنيين في الشرق ممن تطع في تنصيرهم وأدركت كل الإدراك الخطر الناشئ من امتداد كلمة الإسلام عَلَى أوربا المسيحية. ومع أن الحملات الصليبية قد أخفقت وقوة الإيمان قد انثلمت في القائمين بها ما برحت كنيسة رومية إلى أوائل القرن السابع عشر تطالب بأعمال أخرى وفي هذا العهد كان العف أخذ ينال العثمانيين. بيد أن رومية شعرت في الحرب الصليبية الثانية أن السيف وحده غير كافٍ في مثل هذا

الجهاد ورأت أن تعارض التعصب الإسلامي بطوائف متماسكين في اتحادهم من غيوري الأوربيين أو الشرقيين لتقطع أوصال المسلمين قطعاً أدبياً بعد أن أوقفتهم عن سيرهم المادي. وما فتئت رومية منذ القرن الثاني عشر والثالث عشر تحاول تنصير جميع الشعوب الآسياوية التي ظلت عَلَى وثنيتها فبعثت إلى بلاد المسكوب وفارس وأرمينية والتاتار والتبت ومغوليا والصين والأرخبيل الهندي وفوداً من أهل الذكاء والحصافة ممن خلفوا لنا رحلاتهم ومذكراتهم اليومية عهدت إليهم أن يسبروا غور أمراء لينصروهم أو ليتحالفوا وإياهم صد المسلمين عَلَى الأقل. وكان نصيب مصر والحبشة أيضاً البحث عن مثل هذا الشأن. فلم تلبث الرهبنات العظمى قد أنشئت مثل الدومنيكينيين والفرنسيسكانيين واليسوعيين والكبوشيين والكرمليين واللعازريين ليكونوا جنداً مخلطاً في خدمة إمام الأحبار وتفتح تلك البلاد لدخول النصرانية إليها فأثبت جيش من الرهبان عَلَى اختلاف مظاهرهم في قارتي آسيا وأفريقية الشمالية لافتتاحها ونشر الإنجيل فيها ثم نشر المدنية الغربية فحبط القائمون بالأمر أولاً ولم يهتدوا لأحسن الطرق في العمل فانهال الفرنسيسكانيون والدومنيكينيون يفادون بأرواحهم ويصبرون عَلَى ضروب العذاب في سبيل دعوة الشعوب الإسلامية في أفريقية الشمالية إلى الدين المسيحي وكانت الطرق التي عمدوا إليها عَلَى تحمس فيها ممزوجة بكثير من الجهل فشعروا في الحال أن الضرورة تقضي عَلَى من يريد دعوة أحد إلى دينه أن يتكلم بلغته عَلَى الأقل ليتفاهم الداعي والمدعو فنادا القوم في كل مكان بضرورة إنشاء مدارس لتعليم اللغات كان رايموند لول داعيتها الذي لم ينله تعب ولا نصب. فقضى مجمع فينا سنة 1311 الذي كان يرأسه أكلمنتس الخامس لأن يؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وسلمنكة دروساً عربية وعبرانية وكلدانية من شأنها تخريج وعاظ وأهل جدل أشد لتنصير المسلمين واليهود وأنشأ الفرنسيسكانيون والدومنيكينيون في ايدارهم دروساً من هذا القبيل ليعدوا رهبانهم لنشر الإنجيل ومنذ ذاك العهد أصبحت إيطاليا مهد حركة بالمشرقيات وأخذوا بنوع خاص يدرسون العبرية لفهم أسرار التوراة لتنصير اليهود واللغة العربية لتنصير المسلمين وكان أساتذة العبرية يتخرجون بأعلم العلماء الربانيين

وأساتذة العربية كانوا ممن رحلوا إلى البلاد اللغة التي أخذوا يدرسونها ويصحبهم بصفة معيدين أناس من المسلمين أو من السوريين الموارنة ممن كانوا يعلمونهم العربية بالعمل ورأى هؤلاء القسس بحكم الضرورة أن يتقنوا من اللغة العامية إلى الفصحى ليشتد ساعدهم في فهم المسائل الفلسفية ورد حجج المخالفين بأسلوب فسلفي أدبي. ومن أجل هذه الغابة اهتموا أيضاً بمصر والحبشة ومن مدارسهم نشأ العلماء الأول من الأقباط والحبش والأمحريين ولكن دراسة اللغة العربية بقيت الحاكمة المتحكمة في شبه جزيرة إيطاليا فكان ينظر إلى تعلمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية. فقد وضع أحدهم سنة 1265 باللغة العربية كتاب المعاهدة التجارية بين تونس وجمهورية بيزا وظلت العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية فكانت في بلاط ملوك نورمانديا وهوهانستوفين وفريدريك الثاني ودي منفروا لغة العلم العالي والشعر والأدب. وما كانت العربية عَلَى ما فيها من القصائد المقيمة المقعدة والعواطف المؤثرة لتحمل أمثال شارل دانحو عَلَى تحمسه لدينه أن يخاف عاديتها بل كان الطباء والطبيعيون في قصره إما من الإسرائيليين أو من المسلمين المنحلين في عقائدهم وكان الطب هو الجواز التي سارت به الفلسفة العربية عندما قام جيرارددي كرمون الشهير في أوائل القرن الثالث عشر في ظل دولة فريدريك الثاني يترجم بعض كتابات ابن سينا الفيلسوف. وفي القرن الثالث عشر ترجم المعلم موسى من أهل بلرمة من اللاتينية إلى العربية كتاب أبقراط في أمراض الخيل فتسربت فلسفة ابن رشد من أمثال هذه الطرق ولم تلبث أن صادفت قبولاً بين ناشئة إيطاليا حتى شكا من ذلك جهاراً بترارك في القرن الخامس عشر إذ رأى في تلقف فلسفة ابن رشد الإلحاد والازدراء باليونانية واللاتينية. وكثير من العلماء والأدباء من غير طبقة الرهبنان كانوا يرون في موجبات الفخر في القرن التالي أن يعرفوا العربية سائرين عَلَى سنة بيك دي لاميراندول. وعلى توفر بعضهم عَلَى نشر كتب في الجدل مع المسلمين حتى قبل أن يترجم القرآن بإحدى اللغات الغربية فإن عشاق العربية كانوا يرون من الحيطة ودواعي الغيرة أن يمرنوا أنفسهم عَلَى ترجمة رسائل في الطب ينقلونها عن العربية إذ لم يكن أحد يجهل مكانة

العرب في هذا الفن وبذلك يرون أنهم ينجون من الاتهام بالزندقة وقد أصبح أندري أريفاين في البندقية حجة في هذا الباب وأنشأ هؤلاء المترجمون يدققون علاوة عَلَى ذلك كل التدقيق فيما ينشرون فكان لهم أسلوب علمي حقيقي. ولما رأي أندري مومكاجون بللون في القرن الخامس عشر لأن تراجم ابن سينا القديمة وأطباء بلاط فريدرك الثاني ليس فيها عناية ذهب يحكم دراسة اللغة العربية في دمشق وأتم تعليمه الشرقي بالرحالة في مصر وسوريا وفارس وآسيا الصغرى رحلة طويلة وذلك قبل أن يعود إلى كلية بادو ليشرح لتلامذته فلسفة ابن سينا. وقصد جيرولا مورانوزيو أحد أطباء البندقية بلاد الشام أيضاً في سنة 1483 ليتبحر في فهم فلسفة ابن سينا ويعلق شروحاً عَلَى ترجمته عليها. وكان من سقوط القسطنطينية وهجرة علماء من اليونان إلى إيطاليا وكثير من نصارى الشرق واختراع الطباعة وقيام الإصلاح أن هبت في أرجاء إيطاليا حركة النهضة العلمية التي تجلت في أجمل مظاهرها في الدروس الشرقية ولاسيما في دروس العربية والإسلام. كانت الحركة في تعلم المشرقيات عامة وإفرادية معاً انتشرت كل الانتشار بفضل الكاردينال فريدريك دي مديسيس في فلورنسا والباباوات في رومية والكاردينال بورومة في ميلان والكاردينال بارباريكو في بادو ومن تقدمهم مثل باباغانيني الذي نشر في البندقية أول طبعة من القرآن باللغة العربية ولكن هذه الطبعة لم تلبث أن أبيدت بغيرة دينية خرقاء وكان من الأسقف أغوستينو جويستنياني المشغوف بالدروس الشرقية ولاسيما العربية والعبرية أن يقبل من فرنسيس الأول بتدريس اللغة العبرية بعد أنصرف ثروته واقتناء مجموعة من المخطوطات المهمة في العبرية والعربية والكلدانية والرومية وكان تيزايوامبرو كيو قومس (كونت) ألبونز مستشرقاً مدققاً. وهكذا كانت إيطاليا كلما أُولع علمائها باللغة العربية وتشربوا روحها تميل كل الميل إلى الأقطار التي كان يتكلم فيها. وقد نشر أندريا أريفابن من مانتو أول طبعة إيطالية من القرآن إن كل كل هذه الأعمال عَلَى جلالتها لا تعد شيئاً في جانب إنشاء مطبعة أشر ميديسيس المالكة والمطبعة الشرقية لبث الدعوة ومطبعة بادو وكليتها وإحداث مملكة أمبروز في ميلان وكل ذلك بغية تنصير المسلمين والوثنيين. فقد طبعة مطبعة ميديسيس 18 ألف نسخة من الإنجيل باللغة العربية سمته (أربعة أناجيل يسوع المسيح سيدنا

المقدسة) وأرسلتها مع تجار لتباع ثمن بخس في البلاد العربية أو التي تفهم بها العربية عَلَى صورة حازمة لا يظهر منها القصد الذي يرمي إليه دعاة الدين. وكانت النية معقودة قبل كل شيء عَلَى إعلان حرب صليبية جديدة روحية عَلَى الإسلام يدخل إليها بالوسائل العلمية وعني الباباوات الأدباء أمثال ليون العاشر أو إكلمنتيس السابع عناية خاصة بتأسيس خزائن كتب من المخطوطات تسلب من المسلمين الأعداء القدماء لتكون بذلك مجموعات نفيسة في دار كتب الفاتيكان أما غريغوريوس الثالث عشر فكان لا يرى أحسن في النجاح من تنصير الناس وإبادتهم وأنشأ يوليوس الثاني في مدينة فانو عَلَى بحر الإدرياتيك أول مطبعة عربية احتفل ليون العشر بافتتاحها سنة 1514 بنشرها أول كتاب طبع بحروف عربية وهو كتاب صلاة السواعي. وكان في رومية مطبعة حجرية شرقية أنشاها سافري دي بريف الذي ظل سنين طويلة سفيراً لملك فرنسا في القسطنطينية وهو نفسه الذي حفر أمهات الحروف العربية التي نقلت عنها مطبعة الأمة في باريز أشكالها. ونشر منذ سنة 1613 كتاب التعليم المسيحي. وظل الكاردينال فرديناند دي ميديسيس متمماً لذوق أسرته في حب المعارف الشرقية فابتاع مخطوطات شرقية باسم البابا وكان يدير بطرياركية أنطاكية والإسكندجرية ومملكة الحبشة إدارة روحية وأنشأ عَلَى نفقته مطبعة ميديسيس وولى عليها ريموندي الذي ولد سنة 1536 في نابولي وهي أكثر البلاد التي كانت العربية منتشرة فيها. فكان باللغات الشرقية التي كان يتقنها ولاسيما العربية قدوة الداعين إلى تعلم المشرقيات ونشر بالعربية كتاب نحو وكتاب ابن سينا وغيرها فكانت مطبوعاته بحسن طبعها ووضعها موضوع الإعجاب العام وبعض أن قضى ريموندي نحبه لم تعد أسرة ميديسيس تفكر في إعلان الحرب الروحية عَلَى المسلمين بواسطة الكتب بل عمدت إلى إحداث الاضطرابات العملية. ولم تشأ رومية أن تكون في خدمة المعارف الشرقية بالمطابع والمكاتب والمدارس دون أسرة ميديسيس في بث هذه الدعوة لتنشر بها الدعوة للإسلام فقد صارت بفضل الباباوات ميدان درس ونشر كل ما يرقي عقول القسيسين الذين تنتدبهم رومية لفتح العالم فتحاً روحياً يتخرجون في المدارس ما أمكن بلسان البلاد وعاداتها ومعتقداتها التي يريدون بث دعوتهم فيها ودار الكتب تتمم لهم هذه المعلومات فيعثرون فيها عَلَى ما سطره أسلافهم في رحلاتهم

إلى البلاد التي عنوا بتنصير أهلها وما تلقفوه من معتقداتهم وعاداتهم ولهجاتهم وصناعهم ويقضى عَلَى كل قسيس أن يكتب مقامه في القاصية كتابة أو رسالة تخدم هذا الغرض. ومطبعة بث الدعوة تنشر كل ما يؤلف من هذا القبيل وتترجم إلى لغات شرقية كثيرة الكتب المسيحية والردود عَلَى الإسلام وكان للغة العربية الشأن الأول من بين هذه اللغات التي تطبع فيها المطبعة وهي عشرون لغة شرقية. وما كان القصد من هذه العناية إلا دينياً محضاً بادئ بدءٍ ولم يكن العلم الشرقي إلا واسطة تساعد عَلَى علم الجدل وكذلك اللغة العربية لم تكون إلا سلاحاً تقاتل به الإسلام ولذلك كانت المدرسة الإكليركية الشرقية في بادو لا ترى غضاضة عليها أن تشتغل بالعلم المجرد أحياناً للأثر الذي يحدث عنه وكانت المطبعة والمكاتب الشرقية من المتمات لتك المدرسة لذهابها بفضل الشهرة وتأثيرها في الأفكار. وقد تخرج بالأستاذين ماراسي وأغابيتو عد تلاميذ باللغة العربية فصنفوا فيها وأفادوا وتعاقب اثنان من الكرادلة عَلَى أبرشية بادو كان ل منهما يتنافس في عصره في خدمة الدروس الشرقية. وهكذا كان شأن ميلان فإن فريدريك برورومة بث فيها روح العلوم الشرقية وبعث منذ سنة 1609 إلى الشرق يبتاع بالأثمان الباهظة كتباً ومخطوطات شرقية فأسس المكتبة الأمبروزية الشهيرة ولم يكثر تلامذة المدرسة التي أسسها لهذا الغرض بل كانوا قلائل امتازوا بإخصائهم وكان ثمة أساتذة خاصة من مسيحيي الشرق أو المسلمين الملحدين ولطالما عطف عليهم ونشطهم وتخرج في مدرسة امبرواز أنطونيو جيجي باللغة العربية فكان لها مجداً أثيلاً. عد القرنان السادس عشر والسابع عشر عصر ازدهار الدروس الشرقية ولاسيما الدروس العربية في إيطاليا أما القرن الثامن عشر فكوان عصر الانحطاط التام إذ قلت فيه حتى الغيرة الدينية والحماسة العقلية ولم ينشأ فيه سوى الكاردينال ميزوفانتي الخارقة في إتقان اللغات المنوعة فكان مفخراً للعلم الإيطالي وقد تقاسم جمهور الشعب أقيال وملوك متوسطون صار معهم إلى الشقاء والعبودية أما الطبقة العالية فقد حرمت من الاشتراك في إدارة شؤون بلادها ينهكها الاستبداد المدقق أو اضطهاد النمسا الشديد فنسيت في لذائذها المادية حريتها وعلو منزلتها العقلية.

وفي سنة 1790 احترقت مطبعة ميديسيس ثم أعيد إنشاؤها وبعد أن تقلب عليها الأحوال ونقلت إلى باريز بأمر الإمبراطور نابليون أعيدت إلى إيطاليا وفيها طبع أعاظم مستشرقي الطليان أمثال أماري وسيكابارللي وكويدي كتبهم وما نشروه عن آثار العرب. ولما فتح نابليون مصر وأعلن أنه يراعي للمسلمين معتقداتهم وحقوقهم وأنه لا أرب له إلا قتال المماليك أحلاف إنكلترا رأى أن يستولي عَلَى قلوب المصريين فظهر لهم بمظهر الحياد وحسن الخدمة وبعث يجلب مطبعة لبث الدعوة الشرقية من إيطاليا فأتته إلى مصر واخذ بها يطبع الكتب خدمة للسياسة والتجارة. فأصيبت من ثم المطابع الشرقية في إيطاليا بضربات السياسة والحوادث وبقيت المدرسة الإكلركية وخزائن كتبها في معزل وعلى ما عرف به المستشرق العالم بالعربية أسيماني من سعة الفضل فإنه من لم يتيسر لبلاده أن تعيد الحياة للمشرقيات بعد انطفأت جذوتها بالفتن والكوائن وانقراض بيت ميديسيس. ونشأ للعربية أستاذ في القرن الثامن وهو القس فللا درس في كلية بلرمة ونشر بعض الكتب ولكن القرن التاسع عش امتاز بآدابه كما امتاز بالحياة في إيطاليا التي هبت قوة حرة وراحت ترفرف نحو كل ما كان فيه مجد ما أيام تاريخها المجيد فأزهرت فيه الدروس الشرقية ولاسيما الدروس العربية والعلوم الإسلامية. فكانت الولايات الجنوبية في إيطاليا تخرج أبطالاً في المشرقيات أمثال المؤرخ والسياسي ميشيل أماري الذي نشر أحسن تاريخ للمسلمين في صقلية وكثير من الكتب التي تدل عَلَى فضل علم وتدقيق. ودروس العربية في كليتي فلورنسا وبيزا ونشأ معه الأستاذ سيكا بارللي مدرس العربية في فلورنسا ثم بونازيا مدرسة كلية نابولي وأغناس كويدي الذي هو اليوم أحد زعماء المجلين من علماء المشرقيات من الطليان وهكذا نشأ لإيطاليا أجلة من المتجرين في علوم الشرق ولغاته وأمراء يفضلون عَلَى العلماء في طبع ما يلزم ونشره. وكان امتياز إيطاليا قديماً في نشر المعارف في كل البلاد فأصبحت كذلك في عهد وحدتها تريد أن اجعل لكل إقليم حظاً من هذه الخدمة ولمتلبث صعوبة الحياة الحديثة والأطماع القديمة التي يظهر أنها اليوم العامل في حياة الممالك الأوربية أن تحدو إيطاليا السياسية إلى الانتفاع من هذه المعارف النظرية انتفاعاً عملياً.

ولما تمت لإيطاليا وحدتها لم ترى لها نصيباً في المغانم في أرض أوربا فوجهت وجهتها منذ ثلاثين سنة إلى أن تضع يدها عَلَى ما لم يكتب له الاستعمار الأوربي من حوض المتوسط فرأت أولاً أن تبعث بالفقراء من أبنائها في صقلية وسردينيا إلى تونس إذ قد رأت فرنسا قبضت عَلَى قياد الجزائر وإسبانيا عَلَى الريف وإنكلترا عَلَى مصر ولكن سرعان ما أخفقت أحلامها بإعلان فرنسا حمايتها عَلَى تونس سنة 1881 فبقيت أمامها طرابلس الغرب ولكن لم تجرأ أن تحلم بها ولذلك أبعدت في أطماعها بادئ بدءٍ فأرادت الاستئثار ببلاد الشاطئ الشرقي من أفريقية فكان فيها مراسلوها وعلمائها دعاة لما تريد إيطاليا القيام به. وإذا كانت مصر عَلَى قربها من إيطاليا وغناها وعراقتها في الإسلام مما يكون الخطر كانت هي أول غاية انصرفت إليها كهنة الطليان وتجارهم وكانت إيطاليا منذ القرن السادس عسر مركزاً لتعليم الآداب القبطية وقد أنشأت تعلم علم الآثار المصرية القبطية في بيزا لتثبت بذلك أنها لا تريد أن تكون غريبة عن علم كانت لها القدم الراسخة قديماً في الإبداع فيه وكانت للغة الحبشية المقام الأول في إيطاليا لأنها رأتها أقرب إلى بث الدعوة في نساطرة الحبش وإن التجارة تمكن ودن أن يصطدم الإيطالي مع الإسلام الذي لا يتساهل. وفي أوائل القرن التاسع عشر أنشأت إيطاليا مجمعاً ومدرسة لتنصير الأفريقيين وتعلم دعاة لهذا الغرض تأخذهم من أبناء تلك البلاد وتربيهم ليعودوا إلى مساقط رؤوسهم يحيون فيها روح دينهم الجديدة لكن هذا العمل في التنصير أخفق لما حال أمامه في كل مكان من بث دعوة الإسلام ونشر الدعوة البرتستانتية فاقتصرت إيطاليا من ثم عَلَى غرس نفوذها في تلك البلاد وإعداد الأسباب للمطامع الاستعمارية. فكانت سياسة إيطاليا حازمة محتشمة أولاً ففي سنة 1869 عندما فتحت ترعة السويس ابتاعت شركة الملاحة الإيطالية روباتينو من زعيمين مستقلين مرفأ أساب بالقرب من جزيرة بريم عَلَى الشاطئ الأفريقي من البحر الأحمر فجعلته محطة لسفنها الذاهبة إلى الشرق الأقصى ولما خاب ظن إيطاليا في الاستيلاء عَلَى تونس ابتاعت من هذه الشركة سنة 1882 جميع ما تملكه في تلك الرجاء بمبلغ 410 آلاف فرنك فكلفتها كثيراً وأرسلت

حملة لتأديب قبائلها المجاورة مثل الدناكل والصومال من المسلمين فذبحوا لها رجالها سنة 1894 وعادت فبعثت بحملة إلى مصوع وبعثت إنكلترا جيشاً إلى البحر الأحمر للدفاع عن سواكن ومصوع من عصاة السودان واقترحت عَلَى إيطاليا أن تكون الحملة مشتركة عَلَى أن تكون مصوع لإيطاليا ويحق لها بسط سلطاناه عَلَى الجبشة فبادرت إلى احتلال مصوع وتيسر لإيطاليا بأعمال حربية قليلة أن تضم أرضهما إلى أرض أساب. ولكن بسط حمايتها عَلَى الحبشة نشأت عنه كارثة غير متوقعة وذلك أن جيوشها ما كادت تصل إلى البحر الأحمر حتى تحالف أمراء الحبشة وجعلوا نجاشيهم جوهانس إمبراطوراً عليهم فقتل هذا حملة للطليان مؤلفة من ستمائة شخص عن بكرة أبيها سنة 1887 فأرسلت إيطاليا عشرين ألف رجل فلم يكادوا ينزلون إلى البر حتى فيهم الجوع والحصار ودهمهم ثمانون ألفاً من الحبشان فانهزمت إيطاليا شر هزيمة في ساكنتي (1888) ثم استمالت إليها النجاشي منليك واعدة إياه بأن يكون هو إمبراطور الحبشة دون جوهانس ولكنه لم يتغرر بأمانيها بل رد الإيطاليين رد الأبطال عن حياض داره فذبح سنة 1895 أناس من المستعمرين الإيطاليين في أمباألاكاخي وبعد بضعة أشهر سحق الحبشة لإيطاليا جيشاً مؤلفاً من خمسة وسبعين ألف إيطالي في أدوا فاضمحلت آمال الإيطاليين بعد ذلك وقنعت بما ترك لها من المواني هناك وراح أبناؤها ينتشرون في تونس ومصر وعلماء المشرقيات من المتضلعين من العربية من أبنائها يرفعون شأنها الماضي كفي الحضارة وتقاليدها القديمة في النصرانية. واتفق أحد رجال البيت الخديوي الأمير أحمد فؤاد باشا تعلم في المجمع العلمي في تورينو فكان منه بعد ذلك أن عقد أنفع الصلات مع إيطاليا كما بدأ ذلك منه سنة 1908 وقد عين رئيساً للجامعة المصرية لتعلم العلوم الحديثة للمصريين ونظم الجامعة بمشورة عالم فرنساوي مشهور المسيو مسبور وكانت أكثر الدروس تلقى بالعربية فكان من الأساتذة كويدي ونالينو ومالو الإيطاليين الذين درسوا الدروس التي عهدت إليهم بالعربية. ومنذ ذام العهد مالت الأفكار في إيطاليا إلى طرابلس الغرب لتكون لها أهراء حنطة كما كانت للرومان قديماً وذلك لأن صرف المال وبذل الوقت والعناية بزراعتها سيكون منها مورد ربح عظيم وتجد فيها اليد العاملة من الطليان مجالاً واسعاً للاستعمار فرأت إيطاليا أن

يكون الفتح الاستعماري مشفوعاً بالرفق والرحمة والتساهل في معاملة الشعوب الإسلامية وأن يكون أساس الاستعمار في تلك الأقطار المصالح الاقتصادية وأن تدار البلاد بأيدي أعظم رجل الإدارة ممن تتعلم منهم وزارات الأوربية دروساً في الاستعمار. واخذت إيطاليا بتنظيم كلية بادو التي كانت اتخذتها جمهورية البندقية منذ قرنين مدرسة لتخريج رجال سياستها وتراجمتها وسماسرتها تدرس فيها اللغة العربية والفارسية والتركية ولاسيما العربية وستعنى هذه المرة بالعربية أكثر ليكون من متخرجيها أعظم الإداريين المستعمرين لليبيا وتضاف إلى دروسها اللهجات البلقانية المنوعة ممن تتجر معهم البندقية وإيطاليا. ولجنوة درس عربي طالما تناوب تدريسه أعظم مستشرقيها وهي اليوم تطالب بأن يكون لها امتياز بتخريج رجال الإدارة والاستعمار بإنشاء كلية بحرية استعمارية فيها وكذلك سيكون لكلية بولون أثر عظيم في تخريج رجال بالعربية كما منهم حظ ليس بقليل الآن. وفي رومية في مدرسة الدعوة إلى الإيمان درسان للعربية والسريانية وكذلك مدرسة القديس أبولينير فإن درس العربية يدرسه فيها الأسقف بوغاريني وتفتخر الحكومة اللادينية في رومية بأن فيها درساً للغة العربية وآدابها بزعامة الأستاذ سكياباريللي والحبشية تحت نظارة كويدي. وفي جنوب شبه جزيرة إيطاليا المملوء بتذكارات إسلامية والقريب من حيث الوضع الجغرافي من بلاد المسلمين كلية بلرمة التي تدرس العربية فيها كل من الأستاذين ناينو وبوبونازا واقتصرت نابولي عَلَى تعليم العربية بالعمل كما تعلمها بالنظر أيضاً. وفي نابولي مجمع شرقي يعلم بالعمل اللغات الحية في آسية وأفريقية وفيه تلامذة صينيون وهنود وبلغاريون وصربيون وفلاخيون وألبانيون ويونان. وفي سنة 1901 عيد تنظيم هذا المجمع عَلَى مثال مدرسة اللغات الشرقية في باريز ويمتاز بأن دروسه مجانية ولا يمتحن الطلاب فيه. لا جرم أن فتح طرابلس سيزيد في نجاح هذه المدرسة فيكون لإيطاليا الحظ بأن تكون دولة تحيا فيها المدنية الشرقية في البحر المتوسط عَلَى ما يبدو الآن لأعين الشعوب الإسلامية النازلة في البحر المتوسط من أن هذه الدولة حديثة العهد بنفوذها بما ترسله من فقراء المستعمرين والعاملين القادرين عَلَى منافسة اليد العاملة الوطنية. اهـ. كليات ألمانيا

الكليات أو الجامعات أو دور الفنون في ألمانيا هي المدارس العالية المحتوية عَلَى الفرع الآتية: الأولى شعبة الإلهيات، الثانية شعبة الحقوق، الثالثة شعبة الطب، الرابعة شعبة الفلسفة (وهذه أربع فروع، (1) الفلسفة المجردة وعلم التربية والمنطق (2) علم الألسن والأدبيات (3) التاريخ والجغرافيا وتاريخ الصنائع والموسيقى (4) السياسات وعلم الاقتصاد) الخامسة شعبة الرياضيات والطبيعيات (وهي الرياضيات وعلم الفلك والحكمة الطبيعية والكيمياء والحيوانات والنباتات وطبقات الأرض). فعدد كليات ألمانيا اثنتان وعشرون. نصفها في بروسيا ونصفها في سائر الحكومات المتحدة وهاك أسماء الموجودة بها مع تاريخ تأسيسها وعدد طلابها السنة التدريسية الشتائية من سنة 1911. تاريخ التأسيس عدد الطلاب الكليات 1908 14543برلين (بروسيا) 1472 07596ميونخ (بافيرا) 1409 05804 ليبسيك (سكسونيا) 1818 01407 بون (بروسيا) 1502 02811هالله (بروسيا) 1567 02506 استراسبورغ (إلزاس ولورين) 1702 02429 برسلاو (بروسيا) 1457 02387 فرايبورغ (بادن) 1737 02355 غوتنغن (بروسيا) 1771 02296 مونستر (بروسيا) 1386 02181 هايدلبرغ (بادن) 1527 01936ماربورغ (بروسيا) 1477 01913 توبينكن ورتمبرغ 1558 01753 يينا ساكس وإيمار 1544 01614 كنغسبرغ بروسيا 1665 01570 كيل بروسيا

1402 01509 ورتسبورغ بافيرا 1607 01409 كيش هس 1743 01099 أرلانكن بافيرا 1456 01034 كرابغسوالد بروسيا 1419 00903 روشتوك مكلمبرغ 1913 جديدةفرانكفورت عَلَى ماين بروسيا 63755المجموع ومن هذا المجموع 5000 طالبة تقريباً. وعدا ذلك فإن في غالب المدن مدارس عالية علمية، هندسية، زراعية، صناعية، تجارية، حربية ومراصد فلك ودور معلمين ومعلمات. الحنطة في فرنسا قالت الماتين: إن أكثر الأمم مقطوعية للحنطة هي الأمة الفرنسوية ثم أيدت قولها بالإحصاء التالي وهو إحصاء سنة 1909 الذي يمكن اعتباره كمتوسط كمية الحنطة التي تناولتها مقطوعية 1909. مقطوعيتها (ألف قنطار) المقطوعية الفردية فرنسا984322. 5 ألمانية576130. 9 النمسا والمجر 571201. 1 إسبانيا401672. 1 الجزر البريطانية739441. 7 إيطاليا644481. 9 روسيا (أروربا وآسيا) 1784001. 1 الولايات المتحدة1490051. 6 فيتبين مما تقدم أن المقطوعية الشخصية هي في فرنسا أكثر منها في سواها. وإن في الإشاعات المتداولة عَلَى ألسنة الناس في الخارج أو الفرنسويين يكثرون في أكل الحنطة والضفادع شيئاً صحيحاً أي أن قسمي الخبز صحيح أما الثاني فخرافة.

ثم إذا اعتبرت المقطوعية من الوجهة العامة كان الفرنسيون بعد روسيا الشاسعة الأطراف والولايات المتحدة في طليعة سائر الأمم في المقطوعية. وإن في الجدول الآنف دلالة عَلَى مقطوعية كل شعب من الحنطة. بقي أن نعرف كيف تتحوط كل أمة لإملاء أهرائها التي تفرغ في كل عام. عَلَى أنه لا بد من التمييز بين البلاد التي تزيد مقطوعيتها من الحنطة عن حاصلاتها والتي تزيد حاصلاتها الخاصة عن مقطوعيتها فمن الفئة الأولى. حاصلاتها (ألف قنطار) الفرق ألمانيا3755720056 النمسا والمجر499367184 حاصلاتها (ألف قنطار) الفرق إنكلترا 1748656458 إيطاليا 5181312635 فأعظم البلاد استيراداً للحنطة هي إنكلترا ثم ألمانيا حليفتها. أما فرنسا وإسبانيا فإن محصولهما من الحنطة يعادل عَلَى نوع ما مقطوعيتهما وبيان ذلك. حاصلاتألف قنطارالفرق فرنسا 97752680 إسبانيا 39219948 أما البلاد التي تزيد حاصلاتها عن مقطوعيتها فروسيا وحدها في أوربا ثم رومانيا. أما البلاد الأخرى فكلها واقعة وراء البحار وبيان ذلك. المقطوعيةالحاصلات روسيا178400 230288 رومانيا 704016022 الولايات المتحدة 149005 185980 كندا30051 45318 الهند الإنكليزية 66487 77616 أوستراليا14137 24607

الأرجنتين 884835655 ولهذه الأرقام من الوجهة السياسية مكانة عظمى فالجزر البريطانية تستطيع أن تستمد من مستعمراتها ثلاثة أرباع ما ينقصها لمقطوعيتها. وإن ما نقوله هنا عن الحنطة ليصح أيضاً في اللحوم وسائر الحبوب الغذائية. فالقوة البحرية الإنكليزية الضخمة تضمن ورود الأقوات عليها بانتظام وهي مسألة حيوية بالنسبة إليها لأنه إذا استطاع العدو أن يمنع عنها القوات اللازمة هلكت بالمجاعة. ومثل ذلك يقال في دول التحالف الثلاثي فهي لا قوام لها بدون وصول المؤونة اللازمة لها من الخارج. وأهم البلاد التي تستورد منها روسيا وهي عدوتها. فإذا أمسكت عنها الحنطة في إبان الحرب وكانت لها (أي روسية) بحرية قوية هلكت أمم التحالف الثلاثي جوعاً. وإن هذه الجاة حاجة استيراد المؤن من الخارج لتزيد عاماً فعام بسبب ازدياد الناس في أوربا في الآونة الأخيرة وتجد البرهان عَلَى ذلك المقارنة التالية: الكمية المستوردة (ألف قنطار) 1881 1909 ألمانيا 3085 2056 النمسا والمجر 4137184 إنكلترا35520 56458 إيطاليا48512605 أما فرنسا التي كانت ما قط تستورد كميات كبيرة فقد استوردت في سنة 1881 اثني عشر مليوناً و864 ألف قنطار أي أكثر مما استوردته دول التحالف الثلاثي بثلاث مرات. وسبب ذلك أن سكان ألمانيا كانوا في ذلك العهد 44 مليوناً مقابل 64 مليوناً في 1909 و67 مليوناً اليوم. وكانت النمسا 38 مليوناً وهي اليوم 53 مليوناً. وإن ازدياد عدد السكان في أوربا كلها ليضطرها أن تستورد حاجتها من الحنطة من الخارج. وهذا الاضطرار يقضي بوجوب الاعتماد عَلَى عمارة تجارية كبيرة وأسطول حربي ضخم. اهـ. أموال الفرنسيس لفرنسا وحدها في القروض التي عقدتها الدولة منذ سنة 1885 إلى الآن مبلغ 846 مليون

فرنك يضاف إليها ما لها من الأموال في المشاريع الآتية: مليون فرنك في البنك العثماني63 سكة حديد أزمير 71 القدس ويافا 18 دمشق حماة121 سلانيك 127 معدن هركلي 29 مرفأ أزمير11 بيروت14 الآستانة 37 مياه الآستانة 17 شركة حصر الدخان 16 يكون المجموع ملياراً و370 مليون فرنك يضاف إليها الديون غير المنتظمة وهي: فرنك الديون الموحدة العثمانية83. 600. 000 تحويلات الرومللي11. 400. 000 ديون أخرى 75. 000. 000 سلفات متفرقة7. 000. 000 3000000000 20/ 15 100 هذا عدا عن الأموال المستثمرة في بعض المشاريع الثانوية وهي كثيرة أيضاً فإذا أضفنا إليها سائر الديون العثمانية بلغ المجموع نحو ثلاثة مليارات من الفرنكات تزيد فائدتها 25 في المئة من مجموع دخل الدولة ويضاف إلى ذلك القرض الأخير وهو 700 مليون فرنك. طلابنا في فرنسا

الغالب أن معظم من يدرسون العلوم من أبناء العثمانيين في كليات أوربا ينزلون ويختارون من كلياتها كلية باريز وكلية ليون فكرونو بل فمونبليه فنانسي ثم يكون من طلبتنا أناس في كليات ألمانيا فإنكلترا فالنمسا. وقد ذكرت الطان إحصاء في عدد طلاب الكليات في فرنسا جاء فيه أن عدد طلاب الكليات في فرنسا 41109 طالب وطالبة منها 4056 من الفتيان والباقون ذكور أي نحو عشر الداخلين في المدارس الجامعة هن من الجنس اللطبف وبلغ عدد الأجانب من الطلبة 3819 أي نحو عشرة في المئة من مجموع الطلبة و4056 طالبة فيوكن مجموع الطالبين والطالبات من غير الفرنسويين في كليات فرنسا 7875 من أصل 41. 109. واكثر الطلبة الأجانب يدرسون الحقوق ويأتون من الشرق فقد بلغ عدد طلاب رومانيا 257 والروس 243 والمصريين 163 والعثمانيين 124 أي نحو ثلثي عدد الأجانب ثم 83 بلغاريا و36 ألمانياً و28 يونانياً و27 صربياً و25 نمسوياً ومجرياً و33 لوكسمبرغياً و21 أميركانياً جنوبياً و17 سويسرياً وثلثة الطلبة الأجانب في الطب هم من الروس الذين يبلغ عدد أبنائهم 861 ثم يجيء العثمانيون وعددهم 87 والبلغار 67 والرومان 59 واليونان 39 والذين يدرسون العلوم من الروس 950 ومن العثمانيين 70 أما عدد الدارسين في الآداب فهم 709 من الروس و233 من الألمان و141 من الإنكليز و70 من الطليان فيكون مجموع الطلبة الأجانب في كليات فرنسا كما يلي: 2769 روسياً 408 رومانياً و323 عثمانياً و289 ألمانياً و233 بلغارياً و214 مصرياً و190 إونكليزياً و154 نمسوياً ومجرياً و130 إيطالياً و106 من الولايات المتحدة و106 من اليونان و68 سويسرياً و81 من أميركا الجنوبية و52 صربياً و52 أفريقياً و47 لوكسمبرغياً و40 إسبانيولياً و36 من الإلزاس واللورين و31 سويدياً ونروجياً و27 بلجيكياً و36 من أميركا الوسطى و25 إيرانياً و23 برازيلياً و19 برتقالياً. تربية النساء بينا نحن مع قومنا في ول درجة من سلم الارتقاء ولما لم نصعدها إذاً بنساء الغرب قد بلغن شوطاً في التعلم لا يكاد يصدقه شرقي فقد ثافن الرجال في التعليم والتهذيب حتى كدن يفقنهم وبالغن في إنهاض بنات جنسهن حتى تطاولن في بعض الممالك إلى المطالبة

بإشراكهن في الحياة السياسية فنلن في فنلندة ونروج وأوستراليا والولايات المتحدة الأميركية ما أملن في هذا الشأن ولا يمض زمن طويل حتى ينال نساء بريطانيا العظمى حقوقهن في الانتخاب كما نال سكان تلك الممالك الأربعة المذكورة وهن يحاولن في فرنسا أن يكاثرن الرجال في المجاميع العلمية فيكون منهن أعضاء في اكبر مجالس العلم في باريز وعمالاتها. وإن الباحث ليمل إذا أراد نقل بعض ما يكتب النساء الغربيات من المقالات والأبحاث ويلقين من المحاضرات والخطب في هذا الشأن وفيهن مديرة المدرسة العالية والمحامية والصحفية والطبيبة والعالمة بالطبيعة والفلك والكيمياء والهندسة والمعلمة وآخر ما قر عليه قرارات العالمات من النساء في إنكلترا أن بين الرجل والمرأة اختلافاً أساسياً هو في المرأة بالنسبة للرجل صعوبة الحياة وطولها وطول سلسلة مصائبها وقوتها عَلَى مقاومة الأم راض وندرة نبوغها وبعض ما اختصت به من العاهات كالجنون والجرائم. وهن يحاولن هناك أن تربى المرأة تربية تتأهل بها للكسب وتصير صالحة للقيام بوظيفة الأمومة عَلَى ما يجب. قال إميل فاكي: كانت المرأة لأول عهدها دابة ثم حيواناً داجناً ثم رقيقة ثم خادمة ثم قاصرة ثم هاهي اليوم تحاول أن تثبت رشدها وتسجله في سجلات القانون. ولقد صح أن النساء النبيلات وبنات الطبقة الثانية في الناس ككن في القرون الوسطى يشاركن في الحياة البلدية ويدخلن المجالس فقد قادت جان دارك الجيوش وأرسلت كاترين دي سين في القرن الرابع عشر سفيرة إلى أفنيون إلى حضرة البابا وحكمة مرغريتا دوجة سافوا بلاد القاع عَلَى عهد ابن أخيها شارت الخامس وكثيرات من الأميرات في ذاك العهد تولين الأحكام وتعاطين التجارة والإدارة ومنهن من عملن في كليات إسبانيا وإيطاليا. ولما جاء القرن الخامس عشر والسادس عشر انقلب الأمر فكانت من نتائج الإصلاح الديني أن اتجهت الأفكار نحو إحياء العبرانية ومصطلحاتها كما كان من نتائج النهضة الاتجاه صوب الأوضاع اليونانية بيد أن التعليم الذي كان لا بأس به ويلقنه الفتيات في الأديار قد حرمن منه بعد إقفالها. فالتربية التي حيل دون النساء خلال ثلاث قرون الأخذ بها في الغرب قد بدأن بتربيتها

فأنتج ذلك تلك الحركة الأدبية الباهرة في القرن الثامن عشر في فرنسا وبريطانيا العظمى وما كان عزوف نساءِ إسبانيا عن الاختلاط واعتزالهن اعتزال الشرقيات في خدورهن وجهلهن إلا سبب انحطاط أمتهن. يجب أن يصبح النساء أمهات قبل كل شيء ولهذا وجب عليهن أن يقوين مداركهن وينرن عقولهن. إن مميزات الرجل وميزات المرأة متمم بعضها للآخر وهي ضرورية لارتقاء المجتمع. الارتقاء الذي نتخيله للمستقبل وكل تغيير يحدث في تربية المرأة وفي قبولها في الأعمال الخاصة اليوم بالرجال يجب أن يجري عَلَى فكر عملي وعلى طريقة التجربة وباحتراز واحتياط وأن يلاحظ فيها الأخلاق الفطرية في المرأة ويميز بينها وبين الصفات الثانوية الخ. هذا ما حكم به العلامة المشار إليه عَلَى المرأة وهو الحكم المعتدل لمعقول أما نحن فعلى رأيه تحب أن تكون المرأة أماً قبل كل شيء ولكن أماً مهذبة التهذيب الراقي في الجملة تخفف عن الرجل عناءه وتنشل هذا المجتمع من سقوطه فتأثير المتعلمة الواحدة أكثر من ألف جاهلة وأنا موقون بأن ارتقاء المرأة البلغارية واليونانية والصربية كان أعظم باعث لارتقاء تلك الأمم والظفر بنا في مواقع الدفاع عن ذمارنا وديارنا لجودة سلاحهم وكثرة نصائرهم أما نحن فقد حرمنا التربية البيتية كما حرمنا التربية المدرسية وهذا جماع انحطاطنا. نريد لنساء الإسلام التعليم الابتدائي الراقي الآن ثم ترتقي درجته. معادن القطر المصري أنشأ المستر جون والس المفتش الأول في مصلحة المعادن المصرية سابقاً نقالة شائقة عن المعادن في هذا القطر قال فيها: اختلف الناس في مسألة التعدين في القطر المصري في السنوات العشر الماضية وتضاربت آراؤهم فيها فوضعها بعضهم موضع الهزء والسخرية وأحلها آخرون محلاً رفيعاً من الاهتمام ولاسيما الذين جالوا في هذا القطر وجابوا صحاريه وتمكنوا من مشاهدة الأعمال التي عملها القدماء لاستخراج الذهب والنحاس والحجارة الكريمة والتنقيب فيها. فالحصون القديمة والآبار والمحطات التي لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم تشهد عَلَى ما بلغته مصر

من حسن النظام في عهد حكامها الأقدمين وكذلك اتساع بعض المناجم القديمة والطرق التي كانت تستخرج بها المعادن لا تترك مجالاً لتخرص المتخرصين. ولكن الناس في أيامنا هذه لا ينظرون إلى الشيء من الجهة الخيالية بل ينظرون إليه من الوجهة المادية أو الربح الذي يعود عليهم منه. فهل المعادن التي في مصر كافية لأن تكفل الربح للذين يستخرجونها والفائدة للقطر المصري؟ ومن رأيي أن المعادن موجودة في مصر بكميات وافرة تعود عَلَى القطر بفائدة اقتصادية كبيرة ولكن بشرط أن تعير الحكومة المصرية هذه المسألة الاهتمام اللازم وأن تشجع رواد التعدين في بلادها وأن تحسن شروط الامتيازات الحاضرة وتحمي مصالح أصحابها أكثر مما تحميها الآن. ولا يسعني المقام في هذه العجالة أن أبحث في مسألة التعدين بحثاً مستفيضاً فأحصر كلامي لذلك في المعادن التالية وهي أهم المعادن التي في مصر. الذهب - في الصحراء الشرقية كثير من المناجم القديمة وبعضها كبير جداً ولكن ظهر من الأبحاث التي أجريت فيها أن استئناف العمل فيها بنمط عظيم لا يعود بربح يذكر عَلَى الشركة أو الشركات التي تقوم به إلا أنه يستدل من العروق الغنية التي في تلطك المناجم أن استئناف العمل فيها قد يعود بالربح عَلَى الشركات الصغيرة أو المعدنين الذي يملكون رأس مال كان للقيام بذلك. ولا مشاحة في أن الأبحاث التي أجريت في مصر إلى الآن كانت قاصر جداً ولا يبعد أن تؤدي الأبحاث المقبلة إلى اكتشاف رواسب مهمة جداً من التبر الدنيءِ في الصخور المتبلورة والمتكتلة. وقد اظهر التعدين في بعض المناجم ولاسيما في منجمي أم يارت برامية ما خصت به عروق الذهب فغي بعض الطبقات الصخرية في مصر من الغنى فإن هذين المنجمين استخرج منهما ما قيمته مئتا ألف جنيه من الذهب الإبريز من كمية قليلة من التبر والدلائل كلها تدل عَلَى أنه لا يبعد أن يعثر عَلَى عروق تكون غنية بتبر الذهب مثل العروق التي عثر عليها في الأيام الغابرة. النحاس - موجود في أماكن عديدة ولكن لا يؤمل أن يكون من استخرجه ربح يذكر في أي مكان من الأماكن الموجودة فيها تبره. الرصاص - موجود في الطبقة الطباشيرية المتوسطة من طبقات الأعصر الثلاثية وفي

الصخور الكلسية التي في سواحل البحر الأحمر بين الدرجة 26 والدقيقة 30 والدرجة 24 من العرض الشمالي بكثرة تدعو إلى البحث عنه عَلَى نمط عظيم. وقد اهتم لأمره في جبل الرصاص منذ أربع سنوات أو خمسة. الزمرد - في سقايظ وأم حربة وسواهما مناجم قديمة لاستخراج الزمرد وبعض هذه المناجم كبير جداً وقد بلغ العمل فيها أعظمه في العصر اليوناني الروماني واستأنفت شركة من شركات المستر ستيتر العمل فيها عَلَى نمط صغير فعثرت عَلَى حجارة جميلة من الزمرد ولكن الشركة لم توال العمل ولم تكن مهتمة به الاهتمام اللازم علاوة عَلَى أن أحوال المعيشة في الصحراء الشرقية كانت غاية في الصعوبة ولم تكن أسباب الوصول إليها سهلة في تلك الأيام مما جعل مواصلة العمل فيها ضرباً من المحال. الزبرجد - يوجد منه حجارة جميلة في جزيرة القديس يوحنا (جزيرة الزبرجد) الواقعة إزاء رأس بناس في درجة 24 من العرض الشمالي. وفي هذه الجزيرة شركة إنكليزية فرنسوية تستخرج حجارة الزبرجد منها الآن. المغنيس - يوجد أكسيد المغنيس في شبه جزيرة سيناء وهو طبقات متسعة في دوائر كبيرة يبلغ مسطح الدائرة منها عدة أميال مربعة وهذه الدوائر تعد الآن ليستخرج منها المغنيس حتى تسهل سبل النقل والشحن. الحديد - يوجد طبقات متسعة من معدن الحديد إلى الشمال من رأس بناس ولكنه يحتوي عَلَى كمية كبيرة من التيتانيوم ولا ينتظر أن يأتى في حالته الحاضرة بفائدة اقتصادية تذكر. الفوسفات - القطر المصري أغنى بلاد العالم بصخور الفوسفات وهي توجد بمقادير عظيمة في سواحل البحر الأحمر بين الدرجة 26 والدرجة 27 من العرض الشمالي وفي الضفة الشرقية من النيل جنوبي قنا وفي الواحتين الداخلة والخارجة. أما في الطبقات التي في سواحل البحر الأحمر فإن شركات عديدة تعمل فيها الآن لاستخراج الفوسفات منها وكل الدلائل تدجل عَلَى أنها ستنجح نجاحاً باهراً. والأفكار متجهة الآن إلى استخراج ما فوق الفوسفات (سوبر فوسفات) والأبحاث جارية الآن في ذلك. الزيت - تقدمت الأبحاث التي بدئ بها في خليج السويس منذ بضع سنوات تقدماً عظيماً فثبت منها أن مقادير كبيرة جداً من زيت البترول موجودة عَلَى عمق غير بعيد في رأس

جمسه. والزيت التي ظهر هناك من أعلى الأصناف وأجودها ويحتوي من 15 إلى 30 في المئة بنزيناً ومن 30 إلى 40 في المئة من زيت الإضاءة وقليل من زيت الثخين الذي يستعمل في تزيت الآلات ومن 3 إلى 6 في المئة من الشمع ولا يحتوي شيئاً من زيت الوقود أو الفضلات. ولكن مستقبل الزيت في القطر المصري يتوقف بالأكثر عَلَى وجوده في الطبقة الرملية التي يختلف عمقها بين 2600 و3500 قدم فإذا ظهر من المباحث التي يجرونها الآن أنه موجود في هذه الطبقة صارت مصر في مقدمة البلدان التي تستخرج الزيت. الملح - موجود في القطر المصري بمقادير كبيرة جداً وتختلف سماكة الطبقات الموجودة فيها من بضعة أقدام إلى ألف قدم. الصودا - توجد كربونات الصودا بمقادير وافرة جداً في وادي النطرون والصحراء الغربية. حجارة البناء الثمينة - في الصحراء الشرقية بالقطر المصري أجمل أنواع الحجارة التي تستعمل في زخرفة الأبنية وتزويقها وأشهر هذه الحجارة وأجملها كلها الحجر السماقي الأحمر (البرفير) الذي في مقاطع جبل الدخان والحجر الناري اللماع (ديوريت) في مقالع كلوديانوس. صلصال الخزف - في القطر المصري نحو ستة آلاف نفس يشتغلون بضع مواعين الخزف البسيطة. والأتربة الصالحة لصنع جميع الأنواع من الخزف القاسي المشوي والمواسير موجودة بكثرة في مصر ولكن لا ينتظر أن تتقدم هذه الصناعة إلى حد تصير كافية لسد حاجة القطر وإصدار شيءٍ منها إلى الخارج إلا بعد أن تحل مسألة الوقود وترخص أثمانها ويسهل الوصول إليها. الوقود - لم يبحث إلى الآن عن الوقود عدا زيت البترول بحثاً وافياً. والحطب المتحجر في صعيد مصر لا يقابل بسائر أنواع الفحم التي ترد من الخارج فهو والحالة هذه من أدنى أنواع الوقود وأقلها قيمة ولكنه يحتوي عَلَى كمية كبيرة من الكربون وقد يمكن تحويلها إلى غاز محترق بواسطة أحد الأجهزة الملائمة فإذا تحقق ذلك سهل الانتفاع بالطبقات الدلغانية التي تكثر في الصعيد واستخدامها في إدارة الآلات الرافعة وغيرها من الأعمال الصناعية.

وقد لا يبعد أن يوجد الغاز في حالته الطبيعية بجوار السويس وحلوان والأحوال الجيولوجية هناك تحمل عَلَى إجراء المباحث بهذا الصدد. الفحم - لا دليل إلى الآن يثبت وجود الفحم في مصر ولكن يحتمل العثور عَلَى فحم تجاري في شبه جزيرة سيناء إذا بحث عنه بحثاً منتظماً إلا أن معلوماتنا الجيولوجية القديمة عن تكوين الصخور الكربونية في سيناء لا تخولنا إبداء رأي قاطع في هذه المسألة المهمة. دول الحضارة بحث إحدى المجلات الأوربية عن مساحة الدول الثلاث ألمانيا وإنكلترا وفرنسا وعن عدد نفوسها وثروتها العامة وأوردت سكانها وحكومتها وتجاراتها الخارجية ومحمول بواخرها التجارية والحربية وجاء فيها ما يلي: مساحة أراضيها عدد سكانهازيادة النفوس ألمانيا 540. 858 64. 926. 000 13. 6 في الألف إنكلترا 313. 607 44. 902. 000 11. فرنسا 536. 463 39. 600. 000 1. 8 الثورة العمومية الواردات السنوية العامة ألمانيا 340 مليار فرنك50 مليار فرنك إنكلترا320 45 فرنسا287 25 واردات الحكومة سنوياً (عن سنة 1911) ألمانيا 10 مليارات فرنك إنكلترا 5 فرنسا 5 التجارة الخارجية محمول السفن التجارية (عن سنة 1912) ألمانيا24 مليار فرنك3023 ألف طن إنكلترا27 11683 فرنسا 14 1462

محمول السفن الحربية ألمانيا995400 طن إنكلترا6016500 فرنسا643000 فضل القراءة خطب إرنست لا فيس عالم الفرنسيس ومؤرخهم في إحدى القرى في فرنسا خطبة عَلَى من أتموا دروسهم من أبناء الفلاحين قال: يا أولادي الأعزة. أخاف أن يكون بينكم من يغادرون منكم المدرسة الآن أناس يقولون في نفوسهم: لا دروس ولا فروض ولا دفاتر ولا كتب خلص من كل هذا. فإلى أمثال هؤلاء أوجه كلامي أريد أن أزيل عنهم ما انخدعوا به. كلا أيها الأصحاب الصغار ليس الأمر كذلك ولم يقف عند هذا الحد. فإن زمان الدراسة قصير لا يتأتى تخريج رجل في خلاله فالواجب أن تظلوا عَلَى طلب الاستفادة والتعلم ولكنكم ستقولون أنكم مضطرون أن نعمل لنتعلم كيف نعيش. أعرف هذا وثقوا بأني لا أرغب في أن يقضي جماع الفرنسيس حياتهم عَلَى نحو ما يقضيها أهل صناعتي في القراءة والكتابة جالسين عَلَى الكراسي. فسترون الآن بأني لا أطالبكم بما يشق عليكم القيام به مهما كان نوع الحرفة التي تحترفون. يجب عليكم أن لا تتوقعوا من أساتذتكم كل تهذيبكم وأن تتعلموا أن تكونوا أساتذة أنفسكم فأنتم لا تدركون كم يعمل المرء في إنهاض نفسه إذا أراد. وما من امرئ ينهض بكم أكثر من نهوضكم بأنفسكم. إني آمل بادئ بدءٍ منكم أن تبقوا كتبكم المدرسية عندكم وربما لم تروقكم مطالعتها واستظهارها واللعب يشغلكم ولكنكم الآن لستم مضطرين إلى تلاوتها لاستظهارها بل تتلونها متى راقكم وعلى النحو الذي يروقكم. بعد أيام قليلة إذا أمطرت السماء ذات يوم أو كان اليوم يوم أحد تذكروا بأن الصفحات الفلانية من الكتاب الفلاني قد أعجبكم فأعيدوا قراءتها وأني لا أعجب إذا لم ترقكم أكثر من ذي قبل لأنكم تفهمونها أحسن لسببين الأول لأنكم في سن النمو العقلي والثاني لأنكم تقرأون لا لتسمعون بل للتلذذ. في كل مديرية من مديراتنا دروس ومحاضرات تلقى عَلَى الكبار في الأعمار فاحضروها

وفي كل مدرسة مكتبة فاستعيروا من كتبها وابتاعوا كل مدة كتاباً ولا تكثروا بل اكتفوا بثلاثة أو أربعة كتب في السنة فالكتب اليوم رخيصة وبضعة فرنكات تكفي لأن تؤلفوا منها مكتبة حافلة بالجملة وتصبحون مثالاً لأبناء الطبقة الوسطى ممن لا تحدثهم أنفسهم أن يبتاعوا كتاباً واعتنوا مهما كان نوع المسكن الذي تسكنون فيه أن تنصبوا لكم لوح خشب تضعون عليه كتبكم وغطوها لتأمن من الغبار واللوثات. ومن اللائق أن تكون الكتب مغطاة أحسن تغطية وإن تقدمتم قليلاً في السن عودوا أنفسكم تلاوة الجرائد فتجدون في جرائد الشعب مادة تنيرون بها عقولكم في الحوادث العظمى التي تجري في بلادكم وبلاد العالم أجمع. أننتم هنا من أبناء المزارعين وستكونون كذلك في المستقبل والشتاء والليالي طويلة في المزرعة فالأولاد يرقدون في فراشهم والحيوانات في حظائرهم ولا شيء يشغلكم في الليل فكيف بقضاء الوقت النافع وقد كان الزارع في القديم يحيك كزوجته جوارب وغيرها وقد أهملت هذه العادة. وقيل لي أن عادة قضاء السهرات والزيارات بين الجيران قد بطلت أيضاً. دقاق الساعة يروح ويجيء في السكون فكأنه يعيد الحياة قطرةً قطرة ويقول عند كل دقة ها قد سقطت نقطة أخرى والمرء من وراء ذلك يكتئب ويمل. ولكل حرفة ساعات من الملل تشبه هذه. افزعوا إذا انقطعتم عن العمل لتلاوة كتاب واقرأوا بصوت جهوري وكرروا ما تقرأونه فقد كان خالي في هذه القرية عشاباً فلاحاً وهو يتلوا قصص لافونتين آونة فراغه لم يبق عَلَى غيرها من كتبه المدرسية فكان يتلوها بتدبر في خلواته وجلواته بصوت عال وبأدبها تأدب وبحكمتها قضى حياة طيبة أوقات الفراغ فدفعت عنه الملل. أما أنتم فعصركم عصر لا يجوز فيه اللغو فقد طويت المساوف في الأرض وكانت من قبل واسعة الأطراف بحيث تكفي المرء الآن بضعة أسابيع ليطوفها وبعض الثواني لنبعث بفكرنا بل بصوتنا إلى أبعد ألوف من الكيلومترات وقد قربنا من السماء والنجوم قريبة من مجهر الراصد والتبحر بما فيها من الأودية والجبال المرسومة عَلَى خارطة كأنها تشير وتنادي ببحاثة يبحث فيها. وقرب ما بين القطبين الشمالي والجنوبي وأرباب الرحلات اقتربوا منها والجبال قد خرقت وجعلت في بطونها الأنفاق والطيارات تحوم من فوق قممها

والثلوج ترى عليها م فرقها إلى قدمها والترع تحيط بالأرض وقد فتحت والصحاري بعدت إلا بالحديد الذي يخرقها وهاهم يخططون الآن سكة حديدية بين المحيط الأتلانتيكي والبحر الهندي والبحر الرومي والبحر الجنوبي. وممالك أوربا القديمة تنشئ ممالك في القارة السوداء وسيكون من هذا الاختلاط أجناس جديدة وأمم لا يعلم مستقبلها كما لم يكن يعلم مستقبل أوربا منذ خمسة آلاف سنة حكماء مصر ولا بلاد كنعان. لم تكن أوربا في عصر من العصور أعمل منها الآن أخذت شعوبها تتحاب وما قط أحب أحد وطنه حبه له الآن والحروب وإن يوم انتشبت فسيأتي يوم تقدس كل الأمم معبد الهاي أو قصر السلام الذي يؤمل دعاته أن تثبت كلمتهم في الشعوب فتبطل الحروب. الأمم تطمع في الحرية أكثر من قبل وبهاء التيجان قد اصفر وفي كل مكان انتشر الفكر الديمقراطي واضطر الحكومات إلى العناية بكل ما يجعل الحياة موطدة الأركان. والعلم لا يزال يرتقي في المكاتب والمعامل الكيماوية والصناعية وفي كل يوم خبر عظيم. أول أمس بلغنا أن يابانياً من تلامذة باستور اكتشف في معمل كيماوي في أميركا ميكروب الكلب وأمس وصل علم الطيارات في الهواء إلى ما وصل فماذا تعلم غداً. ولذا أوصيكم ألا تبقوا منعزلين عن هذه الحركة وجاهلين بزمانكم وبلادكم أي أناس بدون تاريخ ولا وطن. إنكم بذلك تنحطون ولا يكون لكم ما تفاخرون به فعليكم أن تتعلموا بكل الطرق: بإطالة المكث في المدرسة، بالقراءة، بإطالة الروية في تجارب الحياة. تقومون اليوم بشيءٍ وغداً بآخر عَلَى التدريج تزداد معلوماتكم وتنسق في رءوسكم وتنشأ مادتكم من الأفكار والعواطف فتعرفون زمانكم وتحسنون كيف تعيشون. وأختم كلامي بتوصيتكم باقتناء لوح خشب تضعون عليه كتبكم وأعدكم بأني أعطي لوحاً لمن يطلبه مني وهو مدهون وملمع أيضاً. اهـ. المرأة القديمة حاضر المسيو بنلفه من أعضاء مجمع العلوم في باريز نادي الطلاب في تلك العاصمة فيما كان للمرأة في القديم من التأثير العقلي والأدبي ومما قاله: إننا نتخيل بأننا نتهور ونبتدع شيئاً جديداً لأننا نفتح السبل أمام المرأة والفتاة اليوم للتوافر عَلَى دراسة العلوم والآداب والصناعات العقلية وهذا وهم لا حقيقة وذلك لأننا نحن أخلاف الرومان مباشرة أولئك الذين

رزقوا عقولاً لا تحب الحقيقة المجردة وفيها من المتانة شيءٌ كثيرٌ ولكنها قصيرة قصر سيوفهم نخدع بجسارة مجتمعنا الحاضر ونظن أننا أتينا أمراً فرياً. ولكل إذا رجعنا إلى الأمم التي كانت أعظم الشعوب في إشراك غيرها بثمرات الارتقاء البشري وكانت الموحدة الحقيقية للمدنية وأعمي بهم اليونان ومصر ولاسيما آشور يثبت معنا أن المرأة شاركت الرجل منذ العصور القديمة لا في الجمال فقط بل في البحث عن الحقيقة. والظاهر أن المرأة في تلك القرون التي كان فيها الرجال أقرب إلى الطبيعة بما خصت به من الإدراك هي الدليل البصير الفطري تقود الرجل في أبحاثه الطويلة المعقولة المدققة. ولقد تجلى تأثير النساء العرافات عند جميع الشعوب اليونانية الذين كانوا تلامذة كهنة بلاد آشور وكلدية. فقد كان الفيلسوف فيثاغورس ناشر تعاليم العلم الآشوري في يونان يحنو عَلَى امرأته تيانو الجميلة حنو حب وعبادة ومن فلسفته أن الرجل اختص بالعقل والقوة المنطقية والمرأة بالنظر العقلي فإذا كان الرجل في هذا العالم الغريب في أسراره مفكراً فإن المرأة ناشرة للأفكار. وكان هذا الفكر الذي هو نتيجة الأزمان القديمة والمأثور عن كهنة الوثنيين والبابليين عَلَى الجملة جماع العلوم المأثورة عن البشر وهذا الفكر هو الذي تترجم عنه للجمهور أساطير اليونان ومصر وما كان للمرأة من الشأن في مواعظ الوحي الغريبة فكان النساء العذارى في غابة دودون المظلمة المختصات بعبادة المشتري هن اللائي يحسن التعبير عن اللغة السبيلية المنبعثة من البلوط المقدس وكان العذارى أيضاً في غابة سيكلوب عن عمد الكرنك يستقبلون حجاج المصريين الذين يسألون المولى تعالى. ولقد قام في دودون والكرنك عَلَى ما جاء في أساطير هيلاد ومصر فتاتان أُخذتا أسيرتين من مركب فينيقي وهما اللتان أنشأتا المعبدين وأصبحت كاهنتين وسماهما اليونان الرسولتين أي الناقلتين من بلاد القاصية الحقائق الجديدة. الفلاح الغربي يختلف التعليم في أوربا وأميركا باختلاف البلدان فتعليم البلاد التي تغلب فيها الصناعات غير تعليم الأقاليم الزراعية والكور التي يكثر بها التجار غير الكور الساحلية البحرية وتعليم بلاد الغابات غير تعليم بلاد البقول والزرع وأقاليم المعادن والمناجم غير تعليم

الصيد البحري وهكذا يلقن أطفالهم التعليم الذي يناسبهم ويتعدى العلم قصور الأغنياء إلى أكواخ الفقراء ويشترك بالنور المدني والقروي وترتقي الأمة بمجموعها والبلاد بجملة أطرافها. وبقد عرف الغربيون أن العمل الزراعي يشبه معملاً ومهماً تقلبت عليه العناية والتحسين لا يزال عبارة عن منزل ولا يصلح الفلاح إن لم يصلح تدبير البيت وبذلك يتأتى له أن ينتفع الانتفاع المطلوب من تربية الحيوان والألبان كما ينتفع فلاح الدانيمرك مثلاً فتقل موفيات الأطفال بانتشار المعارف الصحية وتقل السرقات والموبقات بتعليم الفلاحين جوهر الدين الصحيح وتتعلم الأم الفلاحة فتخرج الفلاحين الصالحين. قالوا أن الغربيين أكثروا لفائدة الرجال من تأسيس المعاهد لتكميل الرجل الفلاح في صناعته ولم يكتفوا بالمدارس فقط بل عنيت به الجمعيات والنقابات وكثرت عليه المحاضرات والمسابقات والمعارض يرى فيها الأدوات وتحسينها وأنواع الزراعات ونموها وأن بعض بلدان الغرب اقتصرت من تعليم الفلاحين القدر الكافي من الدروس الابتدائية وحبستهن في قن الدجاج والمطبخ ومعمل اللبن يعملن ما خلقن له والفنة فلم تحصل لهن أنسة بالأساليب الزراعية الحديثة لينتفعوا عَلَى ما يجب من الألبان والبيوض والطيور. رأت بعض الأمم أن المدارس الزراعية وغيرها لا تفيد الفائدة المطلوبة من إنارة عقول جميع أبناء القرى القاصية كما تنار عقول القرى الدانية فأنشأت مدارس مؤقتة سيارة تقيم في القرية بضعة أسابيع تعلم أهلها ما يلزمهم لتحسين حالهم وتقوم بعملات سريعة وإن كانت غير منتظمة قليلاً ولا تامة ولكنها نافعة في الجملة. لسويسرا مدارس للخادمات ومدارس لإتقان تدبير المنزل ومدارس عالية لتعليم المعلمين والمعلمات في الفنون وأنشأوا في إيرلاندا وبولونيا وهنغاريا جمعيات نسائية وأنشأ النساء في القسم الفلامندي من بلجيكا أندية الفلاحات وهي عبارة عن مجتمعات ومدرسة للنساء والبنات معاً بل هي ضرب من الكليات الشعبية وفرع للإناث من مدرسة جامعة للعامة يعمى فيها بالتعليم الصناعي والأخلاق المحلية وهي لهن خير ملاجئ تؤويهن. تكلم أحدهم في جريدة الطان عَلَى هذه الأندية فقال أن برنامج التعليم فيها يدهش بسعته وقد تبين مع هذا أنه أسفر عن نتيجة حسنة لما دل من الكلام عليها في المؤتمر الدولي الثالث

الذي عقده القائمات بهذا الأمر من البلجيكيات من مدينة غاند فظهرت بالأرقام فائدة هذه الأندية التي بلغ عددها في تلك البلاد الصغيرة فقط 183 منتدى فيه من الداخلات 21. 406 نسوة وانتشرت الأندية في بولونيا والولايات المتحدة وغيرها انتشار الحانات من جديد في بلادنا. أما برنامج الدروس التي تعلمها الأندية للبنات والنساء فهي علم ولادة الأطفال وتربية أجسامهم وعلم التربية والتعليم وصحة البيت والاصطبل وقواعد التغذية المقوية الاقتصادية ومضار الألكحول والإسعافات الطبية المؤقتة للمرضى والجرحى ونظام القن وأصول عمل الجبن والسمن وتربية الطيور وتربية الأشجار وتربية النحل وتعهد المباقل وعلم عمل المربيات والحلاوى وعلم الحساب ومضار الاشتراء بالدين والخياطة وتفصيل الثياب والغسيل والكي واحترام التقاليد وطاعة مبادئ الخلاق الدينية. وبالجملة يتعلمن دائرة معارف مختصرة سهلة يتعلمها بناتهم ونساؤهم في القرى لينجبون فلاحين صالحين ويتوفرن عَلَى حسن استثمار الثروة من الأراضي والحيوان ويعشن عيش المرفهات الطاهرات المقتصدات والنساء في بلجيكا هن اللائي أخذن عَلَى عاتقهن هذا الواجب مع القسيسين في أميركا يتولى ذلكلمبشرون والكهنة وكذلك في بولونيا.

رسالة في الكلمات المعربة

رسالة في الكلمات المعربة لابن كمال باشا المتوفى سنة 942. عني بنشرها سليم أفندي البخاري عن مخطوط قديم في مكتبة جميل أفندي الشطي. بسم الله الرحمن الرحيم زدت نعماً جدت بها يا كريم حامداً لم علم آدم الأسمى وعند اختلاف الألسنة من الآيات العظمى ومصلياً عَلَى بعض من شرف بعض لغة الفرس بالتلفظ فسن التكلم بها وأفاد للتعريب نوع تيقظ وعلى فارسي ميدان صحبته من آله وصحابته. وبعد فهذه رسالة في التعريب عَلَى ترتيب أنيق غريب جمعتها حين التصفح لكتب اللغات المعزوة إلى الإثبات الثقات تمييزاً للعربي القح من الأعجمي الكح رفعاً للالتباس وإشارة لفوائد الاقتباس. (مقدمية) في القاموس التعريب تهذيب المنطق من اللحن وفي الصحاح تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب عَلَى مناهجها عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء وغيرهم أن طه والميم والطور والربانيون بالسريانية والقسطاس والفردوس والصراط بالرومية ومشكاة وكفلين بالحبشية وهيت لك بالحورانية وبه قال فقهاء العلماء. وزعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العجم شيء لقوله تعالى عربي مبين قال أبو عبيد الصواب عندي مذهب فيه تصديق للفريقين وذلك أن هذه الحروف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء إلا أن العرب حولتها عن العجمة إلى ألفاظهم ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلامهم فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال أنها أعجمية فهو صادق قال في الارتشاف: الأسماء الأعجمية عَلَى ثلاثة أقسام قسم غيته العرب وألحقته بكلامها فحكم أبنية العرب نحو دروهم وبهرج وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها فلا يعتبر في القسم الأول نحو آجر وسيسنبر وقد تركوه غير مغير فلما لم يلحقوها بأبنية كلامهم لم يعد منها مثال الأول خراسان لم يثبت فيه فعالان ومثال الثني خرم الحق بسلم وكركم ألحق بقمقم قال أئمة اللغة تعرف عجمة الاسم بوجود (1) النقل من أئمة اللغة (2) خروجه من أوزان العربية نحو إبريسم (3) وجود نون ثم راء نحو نرجس فإن ذلك مفقود في لسان العرب (4) وجود دال بهدها زاي نحو مهندز (5) اجتمع الصاد والجيم نحو

جص والصولجان (6) اجتماع الجيم والقاف نحو جردق (7) أن يكون خماسياً أو رباعياً خالياً من حروف الذلاقة وهي الباء والفاء والراء واللام والنون فإن مثى كان عربياً فلا بد أن يكون فيه شيءٌ منها نحو سفرجل وقذعمل وقرطعب وحجمرش. فائدة: حروف لا يتكلم بها العرب إلا إذا اضطرت فحينئذ يحولونها عند التكلم إلى أقرب الحروف من مخرجا وذلك الباء العجمية والباء والفاء والجيم العجمية بين الجيم والشين والكاف العجمية فإذا تلفظوا بلفظ بر قالوا فر وفي جون شون في قولهم جون بو أي كيف كان في كل جل كما في جلنار. الألف: (الله) أصله لاها حذفت ألفه الأخيرة للدلالة عَلَى التعريب وأدخل عليه الألف واللام ليدل عَلَى أنه غير مشتق (آمين) هو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب كرويد وقيل تعريب همين أي همين في خواهم أو همين في بايد (الآنك) الأُسرب أعجمية (إبراهيم) أعجمي اختلف في تعريبه (أبرويز) معرب برويز (الإبريسم) مو القز النيئ معرب أبريشم وأما الحرير فهو الإبريسم المطبوخ (الإبريق) كوز له عروة وأنبوبة آبريخ (الأجاص) أعجمي إذ الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة عربية (آزر) عد في العرب عَلَى قول من قال أنه ليس بعلم لأبي إبراهيم ولا للصنم وعن معتمر بن سليمان أنه قال سمعت أبي يقرأ وإذ قال إبراهيم لبيه آزر بالرفع قال بلغني أنها بمعنى أعوج إنها اشد كلمة قال إبراهيم لأبيه وقال بعضهم هي بلغتهم يا مخطئُ (الأستاذ) معرب أستاد (الإستبرق) أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه الديباج الغليظ معرب استبره (الإسطرلاب) هي مرآة للمشمس وضعت لمعرفة الأوضاع الفلكية لغة رومية في القاموس اللاب بجل سطر أسطراً وبنى عليها حساباً فقيل إسطرلابٍ ثم مزجا ونزعت الإضافة فقيل الإسطرلاب معرفة انتهى ومدار هذا التفسير عَلَى المناسبة اللفظية مع ثبوت أن اللاب اسم الواضع (الأسطوانة) هي السارية والعمد والنون أصلية وهي أُفعولة مثل أقحوانة لأنه يقال أسطاين مسطنة معرب أستون (الإسفست) هي الرطبة معرب سبست (إسماعيل) قال الجواليقي في المعرب أن العرب كثيراً ما يجترئون عَلَى الأسماء الأعجمية فيغيرونها بالإبدال قال إسماعيل وأصلها إشمائيل فأبدلوا لقرب المخرج قالوا ويبدلون مع بعد المخرج وقد ينقلونها إلى أبنيتهم ويزيدون (أشتة) لقب جماعة من المحدثين من أهل أصفهان (أصفهان) اصلها أسباها أي

الأجناد لأنه كانوا سكانها أو لأنه دعاهم نمرود عَلَى محاربة من في السماء كتبوا في جوابه: أسباه آن ندكد باخداجنك كند. أي الجند ليس ممن يحارب الله (الإفرنجة) جيل من أهل الإنجيل معرب الإفرنك (إفريز) الحائط بالكسر طنفه معرب (الإقليد) قال ابن دريد الإقليد والمقليد المتاح معرب كليد (الأملج) دواءٌ معرب أمله (الأميص والآمص) مرق السكياج المبرد المصفى من الدهن معرب خاميز (الإنبج) ثمرة شجرة هندية معرب إنب (الأنج) هي المرساة من آلات السفينة تلقى في البحر إذا رست رست (الإنجيذخ) هو الذي يثبت فيه ما عَلَى الناس معرب ناجيره (أنقره) بلد بالروم معرب أنكرويه (الأرواج) وما ينقل إليه الإنجيذخ ثم ينقل إلى جريدة الإخراجات وهي عدة أوراجات معرب أوراه (الإيارجة) بالكسر وفتح الراء مسهل معروف وجمعه إيارج معرب إياره وتفسيره الدواء الإلهي. الباء: (الباج) اجعل الباجات باجاً واحداً أي لوناً واحداً وأصله بالفارسية باها أي لون الأطعمة (الباذق) هو النيئ من العنب إذا طبخ أدنى طبخة حتى يذهب أقل من ثلثه وغلى واشتد وقذف بالزبد وإنه حرام قليله وكثيره قال خواهر زاده هو فارسي معرب لأنه في العجم يسمى باده (الباري) والبارية والبارياء والبوري والبورية والبورياء هي الحصير المنسوج معرب بوريا والجمع بواري (الباشق) نوع من ذوات المخلب معرب باشه (الباطية) إناء متسع معرب بادية (البابغاء) بالمد إلا كارع نعرب بايها (؟) (البخت) الجد الفارسي (البد) بالضم الصنم معرب بت (البرباد) هو العلاوة فارسي (البردج) السبي معرب برده (بزرج) بضم اوله وثانيه وفتح أوله علم معرب بزرك أي الكبير (البرق) الحمل معرب بره (البريد) هو في الصل البغل وهي كلمة فارسية أصلها بريره دم أي محذوف الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب فعربت الكلمة ثم خففت ثم سمي الرسول الذي يركبه بريداً وفي الحقائق هو البغلة المبترة ثم الرسول المحمول عليها ثم سميت به المسافة (بز) بالضم لقب إبراهيم بن عبد الله النيسابوري المحدث معرب بز الماعز (البستان) هو الحديقة معرب بوستان (البسد) كسكر المرجان معرب بشد (بسطام) بلد معرب أوستام (البطاقة) رقع فيها رقم المتاع رومية (البطريق) القائد سمي به عظيم رهابنة النصارى (البط) طائر معروف معرب (بغداد) اسم أعجمي معناه عطية الصنم

معرب بيك داد سماها الأصمعي دار السلام (بغشور) بالفته بلد بيد هراة وسرخس والنسبة بغوي عَلَى غير قياس معرب كوشور أي الحفرة المالحة (البوس) التقبيل فارسي معرب (البهرمان) العصفر أو الحناء فارسية (البوصي) ضرب من السفن معرب بوزي (بوشنج) معرب بوشنك بلد من هراة منه أو الحسن الدوادي المحدث (البيزار) حامل البازي معرب بازيار (البيعة) ذكر الجواليقي أنه معرب. التاء: (تاريخ) الكتاب كلمة معربة (التخت) السرير معرب (التخريص) بالكسر بنيقة الثوب معرب تهريز (الترياق) دواءُ السموم رومي معرب ترياك والفصحى الدرياق بالدال المهملة (التنور) الكانون يخبز فيه وصانعه التتار ذكر الثعالبي أنه معرب تنير (التوت) أعجمي معرب أصله توث أو توذ فأبدلت العرب من الثاء المثلثة أو الذال المعجمة تاء ثنوية (التوتياءُ) حجر يكتحل به معرب. الجيم: (الجاموس) معرب كاوميش (الجبت) صنم لقريش ليس من محض العربية إذ لا يجتمع الجيم والتاء في كلمة من غير حرف ذولقي كذا في المزهر (الجرامقة) قوم بالموصل من العجم (الجربان) بالضم والتشديد لبنة القميص معرب كريبان (الجربز) هو الخب المحتال ومنه الجزيرة معرب كربز (الجردق) الرغيف كرده إذ الجيم والقاف لا تجتمعان في كلمة إلا أن يكون معرباً أو حكاية صوت (الجرزة) خرجوا بأيديهم الجرزة هي المقامع جمع جرز أظنه معرب كرز (الجرصن) دخيل قيل هو البرج وقيل هو مجرى ماء مركب في الحائط عن البزودي جزع يخرجه الإنسان من الحائط ليبني عليه (الجرم) الحار معرب كرم (الجرموق) شيء يلبس فوق الخف معرب غرموك إذ الجيم والقاف لا تجتمعان في كلمة عربية (الجريب) المزرع أو الفدان منها عرب كري (الجزر) بالتحريك أَرومة تؤكل معرب (الجزاف) معرب كزاف ومنه المجازفة في البيع وبيع جزيف ومجتزف (الجص) ويكسر معرب كج إذ الجيم والصاد لا تألفان في كلام العرب فأبدلت الجيم من كاف لا تشبه كاف العرب والصاد من جيم أعجمية لا تشبه جيم العرب (الجلاهق) البندق (الجلسان) قال الأعشى: لنا جلسان عنده وبنفسج، يريد نثار الورد معرب كلنار (الجلنجبين) الورد مع العسل معرب كل إنكبين (الجناح) الإثم معرب كناه (الجنبذة) ما ارتفع واستدار كالقبة معرب كنبد (الجوارش) مركب حاضم معرب كوارش (الجواليق) وعاء ماء معرب

جوال (الجوز) فارس معرب (الجوزل) فرخ الحمام معرب جوزه (الجوهر) كل ثمين من الأحجار معرب كوهر وأما الجوهر المقابل للعرض ففوعل من الجهر سمي به لظهوره (الجهابذة) جمع جهبذ هو البندار أي الصراف والتاء للدلالة عَلَى التعريب في القاموس بالكسر هو النقاد الخبير (جهنم) طبقات النار معرب كهنام ويمكن اعتبار أخذها من الجهم وهو الباسر (الجيسوان) جنس من أفخر النخل معرب كيسوان ومعناه الذوائب. الحاء: (الحب) هو الدن معرب حنب وخم مخفف منه ذكر أبو حاتم أن الحاءَ في الحب بدل من الخاءِ وهذا لم يذكره النحويون وليس بالممتع. الخاء: (خجسته) بضم الخاء وفتح الجيم وسكون السين اسم نساء أصفهانيات من رواة الحديث أعجمية معناها المباركة (الخرص) بالكسر البد معرب خرس (الخز) فارسي معرب (خش) في قول الأعشى معرب خوش إلى الطيب (الخشكنانج) نوع من الخبز محشو بلب اللوز والسكر معرب خشك نان (خشنام) أي الطيب الاسم معرب خوش نام (الخلنج) كسمند شجر فارسي معرب قال: يضرب الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج (الخبجة) الدن الصغير معرب خنبجة (الخندريس) الخمر القديمة معرب (الخندق) معرب أطله كنده أي المحفور (الخوان) هو السماء معرب بـ خوان (الخوذة) هي البيضة معرب خود (الخورنق) كغضنفر قصر للنعمان الأكبر معرب خورنكاه أي موضع الأكل والشرب (خيوق) بالكسر بلد بخوارزم معرب خيوه. الدال: دار بجرد بلد بفارس معرب دار بـ كرد (الداناج) العالم معرب دانا (الدرابنة) البوابون جميع دربان بالفارسية (الدرب) الباب الواسع معرب دروازه (دروز) الثوب معروفة معرب (درواسنج) بالفتح ما قدام القربوس من فضلة دفة السرج معرب دروازه كاه (الدست) هو الوسادة والصدر واللباس ودست القمار في الأساس فلان حسن الدست شطرنجي حاذق (الدستبند) ما يجبر به الكسر فارسي الدستجة الحزمة من البقل وغيره معرب الدستيج إناء يحول باليد معرب دستي الدشت الصحراء معرب أو اتفاق اللغتين الدكان فارسي معرب الدلق دويبة معرب الدمق ثلج وريح معرب دمه الدمهكر الأخذ بالنفس معرب دمه كير الدولاب شيءٌ عَلَى شكل الناعورة يستقى به الماءُ فارسي معرب الدهبرج

مشددة الراء معرب ده بره أي عشر ريشات الدهقان رئيس القوم ومقدم أصحاب الزراعة معرب ده خوان الدهليز ما بين الباب والدار فارسي الدينار معرب أصله دنار فأبدل من إحدى النونين ياء الديبوز ثوب ذو نيرين معرب دو بود. الراء: الراهنامج كتاب الطريق يسلك به الربابنة البحر ويهتدون به في معرفة المراسي وغيرها معرب بـ راه نامه الرزداق والرستاق هو السواد والقرى معرب بـ روستاه الرصاص معرب أرزيز فأبدلت الزاء صاداً وحذفت الهمزة من أوله واسمع بالعربية الصرفان الرمق قطيع الغنم معرب رمه روزة البيت فارسي معرب الروشن معرب معناه جيزي بيرن آورده براي روشناي الروح معرب روحا حذفت ألفه للتعريب الروط بالضم النهر معرب رود الرهوج في الصحاح يشبه أن يكون فارسياً معرباً وفي أدب الكاتب الرهوج الهملاج وأصله راهورا. الزاء: الزئبق كدرهم وزبرج معرب بـ زيوه ومنه ما يستقى من معدنه ومنه ما يستخرج من حجارة معدنية بالنار الزاج ملح معروف معرب بـ زاك الزرافة في كتاب سيبويه خلق الله الزرافة يديها اطول من رجليها هي مسماة باسم الجماعة لأنها في صورة جماعة من الحيوان وجاء بها ابن دريد مضمومة الزاي وشك في كونها عربية الزرجون بالتحريك الخمر وقيل الكرم قال الأصمعي هي فارسية معربة أي لون الذهب والأنسب ذهبي اللون الزردج ماء العصفر المنقوع معرب الزرمانقة بالضم حبة صوف معرب بـ اشتربانه أي متاع الجمل الزرياب بالكسر أي ماء الذهب معرب الزط جيل من الهند معرب جت والقياس يقتضي فتح معربه الزماورد معرب والعامة تقول بزماورد الزنج جيل من السودان معرب زنك الزنديق معرب بـ زند اسم كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت المزعوم أنه نبيهم فنسبوا إليه ثم عرب وعن ابن دريد عن أبي حاتم الزنديق فارسي معرب كأن أصله عنده زنده أي يقول بدوام بقاء الدهر وفي القاموس هو بالكسر من الثنوية أو القائل بالظلمة والنور أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دي أي دين المرأة. لها بقية.

نحن وأوربا

نحن وأوربا أيها السادة الأخوان: التاريخ كما لا يخفى عليكم يلقح فكراً جديداً وتاريخ كل أمة مرآة أعمالها تنعكس عليها صورتها. فلا يشقن عَلَى بعضكم إذا سمعوا في هذه الجلسة كلاماً في تاريخنا السياسي الأخير لم يعهدوه من قبل أو لم ينطبق مع رغائبهم فالأفضل لكل أمة تريد النهوض أن تعرف ماضيها حق معرفته وتقف عَلَى ما دبره ويدبره أعداؤها لها من أن تتحدث بالخيالات وتتمجد بالأباطيل فصديقك من صدقك لا من صدّقك. وفي الماضي لمن بقي اعتبار. موضوعنا الليلة علاقة أوربا بالمملكة العثمانية وعلاقتنا بأوربا نفيض فيه بقدر ما تساعد الحال لتتلجلي لنا الحوادث والكوارث التي جرت في هذا الشرق العثماني وخصوصاً في بلاد البلقان التي قامت حكوماتها الصغرى منذ أسبوعين تجاذبنا حبل السلطة في مقدونية بل في بلاد الروم أيلي أي أملاك الدولة العلية في قارة أوربا. قد يعد من يلقي أقل نظر في تاريخ العرب الفاتحين من أغلاط الفتح التي ارتكبها بنو أمية أن قذفوا بأحد قوادهم إلى شبه جزيرة إسبانيا يفتحون جزؤاً مهماً منها سموه الأندلس فهزم العرب سكان البلاد الأصليين إلى الجبال ولم يفكروا من جاء بعد الفاتحين في طريقة للخلاص من عاقبة أمرهم كأن يدخلوهم في الإسلام أو يخضعوهم بحد الحسام أو يجلونهم عن أرضهم بسلام. وقد أدرك سيد بني أمية أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مغبة نزول المسلمين في أرض يحيط بها أصحابها الأول من أطرافها فأمر أحد عماله أن يرسم له مصور بلاد الأندلس ويريد إجلاء العرب عنها لأن مقامهم فيها غير طبيعي. وبعد وفاة هذا الخليفة ترك ذاك الأمر وشأنه وتأصل الإسلام في ربوع الأندلس وأزهرت فيه مدنية العرب هناك فقامت الأندلس بنحو النصف من هذه المدنية الباهرة والباقي تم في بغداد وفي باقي عواصم الإسلام الكبرى ولم ينجل المسلمون عن غرناطة آخر عاصمة للعرب في بلاد الأندلس إلا سنة 897 للهجرة أي أن نظرية عمر بن عبد العزيز صحت بعد ثمانية قرون وكأنه أدرك بسديد نظره رحمه الله أن الأخلاف لا يسيرون عَلَى سنة الأسلاف في الحساب للعواقب وأنهم ربما شغلوا بما في الأندلس من الخيرات عن قطع شأفة العدو

وكذلك كان. ففتح الأندلس وإن أورث العرب ذلاً في الآخر فقد أورثهم عزاً وأي عز في الأول واستفادة أوربا كلها من حضارة الإسلام باحتكاكها بالأندلسيين العرب ووقوفها عن أمم عَلَى علومهم وآدابهم وصناعاتهم وزراعتهم ومصانعهم فالأندلس كانت أو فتح للمسلمين في قارة أوربا انتهت بإجلائهم عنها كما كان فتح العباسيين في جزيرة صقلية سنة212 كان من الأغلاط في الفتح فلم تدم في يد المسلمين سوى نحو قرنين ونصف فاستولى عليها الملك روجار سنة 485 هـ بعد أن انقطع إمداد المسلمين عنها لاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن. هاتان الغلطتان لبني أمية وبني العباس فيفتح بلاد قصية عنهم انتهتا بإخراجنا عما ملكنا بعد قرون وبنو عثمان ارتكبوا مثل هذا الغلط في الفتح بأن توسعوا في مد سلطانهم شرقي أوربا بعد فتح القسطنطينية وتركوا لأهل البلاد المغلوبة حريتهم المذهبية ولغاتهم القومية فظلوا في حرب دائمة معهم لا تكاد تلقي أوزارها حتى فيوقد العدو أُوارها. واوربا لم تبرح تسر إخراجنا من قارتها منذ أزمان لاعتقادها بأننا شعب آسيوي لا يليق بنا أن نأوي إلى غير كننا إذ القاعدة عندهم أن أوربا للأوربيين كما أن أميركا للأميركيين ولكنا نشهد الآن ويا للأسف أن آسيا ليست للآسيويين وافريقية ليست للأفريقيين. إن ما يسميه الإفرنج بالمسألة الشرقية يرجع في الحقيقة إلى امتلاك العرب أرض الأندلس وانتباه أفكار الأوربيين إلينا يرد عهده إلى اليوم الذي تقدم فيه جيش المسلمين إلى بوتيه من أرض فرنسا فهزم شارل مارتل جيش المسلمين في أزاخر الثلث الأول من القرن الثامن للميلاد. واكثر من ناصبونا العداء من الأوربيين في حروب الصليبيين هم فرنسا وألمانيا وبولونيا وبريطانيا وإيطاليا في الأغلب وكانت هذه الأمم إذ ذاك عَلَى مستو واحد تقريباً بقوتها ومدنيتها. وبحرية البرتقال والإسبانيول أعظم بحرية حربية للدول الأوربية في القرون الوسطى كما كانت أقوى بحرية تجارية في تلك الأزمان للبيزيين والطوسكانيين والجنويين أهل إيطاليا اليوم. ولقد عرف إدوارد دريول المسألة الشرقية بما ترجمته: ملك الإسكندر الكبير البلاد الواقعة بين البحر المتوسط والبحر الأسود والصحراء من الغرب ونهر السند الأندوس من الشرق أي الطريق من أوربا إلى الهند وجاء بعده الرومان فلم يصلوا إلى نهر دجلة إلا نادراً وكان

للفرس أيضاً بعض العظمة والمجد. وفي القرن السابع والثامن امتدت المملكة العربية أيضاً من البحر المتوسط إلى نهر السند واتصلت تخومها من آسيا إلى المملكة المقدونية ما عدا قسماً طفيفاً في الجنوب. ومن القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر كانت غارات البرابرة الذين توطنوا أوربا واضطربت آسيا الغربية تلك المنطقة التي هي أوربية وآسيوية معاً بمن هاجر إليها من الشعوب واستولت مملكتا جنكيزخان وتيمورلنك عَلَى جميع البلاد من آسيا الصغرى إلى نهر القنج. وظلت القسطنطينية زمناً آخر سياجاً لأوربا في وجوه الفاتحين المداهمين من الشرق الأقصى أو من نجاد آسيا الوسطى. ودك آخر تيار من هؤلاء المهاجمين ألاسيويين سنة 453 أسوار مدينة القسطنطينية معقل النصرانية من الإسلام وامتدت المملكة العثمانية زهاء أربعة قرون عَلَى أوربا الشرقية وآسيا الغربية من الخليج الفارسي إلى نهر الطونة (الدانوب) إلى البحر الأدرياتيكي وتدخل سلطان القسطنطينية في القرن السادس عشر في مسائل أوربا وكان قد حالف ملك فرنسا واخضع علىنهر الطونة الأوسط التخوم الألمانية وقد بلغت هذه السطوة في عهد سليمان الكبير (1520 - 1566) ذروة المجد والعظمة. . ولكن تغلب العثمانيين لم يغرس في البلاد المنفتحة وسيما في أوربا جذوعاً عميقة فزلوا عَلَى الأمم المغلوبة بدون أن يحاولوا الامتزاج بها وربما كان من المتعذر مزج العثمانيين وهم من عنصر تتري مع اليونان أو الصقالبةالسلافيين وهم من عنصر آري واختلاط المسلمين بالمسيحيين. واكتفى العثمانيون بإلقاء الرعب في سطوتهم في نفوس المغلوبين عَلَى أمرهم وبإطفاء كل ثورة بالشدة المتناهية. دام ذلك إلى زمن ضعفت فيه تلك القوة أيام أصبح السلاطين يؤثرون العيش بين جواريهم عَلَى اقتحام الحروب وغدا البنجربة الإنكشارية وهم متزوجون رحالون وأمر الحرب في أيديهم يشتدون فيه اشتداد وقسوة وجبروت ومنذ ذاك العهد أي منذ القرن السادس عشر ضعفت المملكة العثمانية وراجعت حدودها مضغوطة عَلَى نفسها وذهبت نضرتها وجمدت مائيتها كالثمرة تتغضن إذا عتقت. . فنزول المسلمين في أوربا وفي آسيا عَلَى ضفاف خليج القسطنطينية البوسفور وجناق قلعة الدردنيل قد نشأت عنه المسألة الشرقية وما تاريخها في الحقيقة سوى تاريخ ارتقاء الأمم

المجاورة باقتطاع بلاد من الشعوب الإسلامية. ثم أن لهذه المسألة صفات دينية وذلك لأن تغلب محمد الثاني وسليمان القانوني عَلَى أراضٍ هي من صميم الأراضي المسيحية كان بمثابة تغلب راية الهلال عَلَى الصليب فإن محمداً الثاني قد نزع من جدران كنيسة آيا صوفيا الصور النصرانية وركز السلطان سليمان علم النبي الأخضر عَلَى أسوار بلغراد وحمله حتلا وصل به إلى أسوار فينا وطرد من رودس فرسان القديس يوحنا الأورشليمي وهم بقايا الصليبيين وما نراه في عهدنا من تغلب الروس عَلَى العثمانيين وثورات المملك المسيحية في البلقان إن هو إلا أخذ لثأر الصليب من الهلال. وإن الشعر المسيحية في كل مكان سواء في تركستان أو جنوبي القافقاس وعلى نهر الطونة وفي الأرخبيل وسورية ومصر حتى الهند لتهزم علم الإسلام. وهذه حرب صليبية هائلة تعد حروب الصليبيين في القرون الوسطى بالنسبة إليها ألاعيب أطفال. ولما كان امتلاك هذه الأصقاع ذات التاريخ القديم ذا شأن خطير وكان للأمم الأوربية في آسيا فيما وراء نهر السند وبحر ىرال مصالح حيوية وكان يتأتى لصاحب القسطنطينية وآسيا الشرقية أن يكون سيد القارة القديمة أصبحت أوربا تنظر والقلق آخذ منها إلى تطور المسألة الشرقية وتكونها فروسياً بما لها من رقعة الملك وما فيها من جدة الشباب وقوة اليقين تشرف عَلَى الشرق من شماله من نهر الطونة إلى جبل البامير ولفرنسا عَلَى عامة صفاف البحر المتوسط الشرقية مصالح مادية ومعنوية قديمة للغاية لا يتيسر لها أن تتخلى عنها بدون أن تغدر بمن اعتادوا منذ الحرب الصليبية أن يعتمدوا عليها ومملكة النمسا والمجر التي هي من بلاد الطونة لا تريد أن يقطع عليها طريق الأرخبيل وألمانيا البروسية تحاذر أن تعود النمسا فتتطلع إلى أصقاع الرين والألب تدفعها إلى الجنوب وإنكلترا التي لا تود أن تقطع طريق الموصل من البحر المتوسط إلى الهند ومن قبرص ومصر وأفغانستان تحاول أن تحصر الروس فيما وراء عبر البحر الأسود وبحر الخزر خصوصاً وهي ترى تلك الكتلة من الجليد وأعني روسيا لا تزال أبداً في تزلق وانهيال. . وهكذا يتواثب جميع أبناء يافث لاتينيهم ويونانيهم جرمانيهم وإنكليزيهم السكسوني وصقلبيهم وروسيهم عَلَى بلاد البامير طائفين حول شعر بمصر والساميين بين النهرين والعثمانيين في آسيا الصغرى يتواثبون عَلَى ضرب هذه الشعوب الغريبة التي أتت عَلَى

غير مياد فاحتلت البلاد الواقعة بين نهر السند والبحر المتوسط فاصلة بين الفرعين العظيمين من الأسرة الهندية الأوربية ممن قضت الأقدار عَلَى ما يظهر أن ينضم أحدهما إلى الآخر. بيد أن تاريخ المسألة الشرقية لعهدنا قد برز في مظهر اقتصادي فهي إحدى صور الجهاد في الحياة الذي قد يقتتل في سبيله شعبان عَلَى ما بينهما من لحمة القرابة ولقد فتحت بفتح ترعة السويس الطريق التجارية العظمى إلى العالم القديم فربط بين 350 مليوناً من الأوربيين و250 مليوناً من الهنود و400 مليون من الصينيين وفيها تحمل من المحيط الهادئ إلى المحيط الأتلانتيكي بحر الظلمات ماراً بالعالم القديم جميع الحاصلات التي نعيش بها كل يوم. ولإنكلترا المقام السامي عَلَى البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي وتملك فرنسا الشاطئ الشمالي والشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط الغربي ولها وفي الشرق مصالح وتقاليد أعظم منها ولها في الشرق الأقصى مصالح حديثة تزعم الانتفاع منها. ولا ترضى روسيا أن تظل منعزلة في سهول بلاد الشمال بل يقتضي لها مصارف عَلَى بحر حر كالبحر المتوسط والمحيط الهندي والمحيط الباسيفيكي وجميع الأمم الأوربية محتاجة لمكان عَلَى هذه الطريق التجارية العظمى إذ الظاهر أن من يتنحى عنها من الأمم يقضى عليه أن يعدل بأن يكون له شأن في الحركة الاقتصادية الشديدة في الأزمان المقبلة. . فالشرق الذي بدأ فيه التاريخ عاد فغدا أخص ميدان للتاريخ وتاريخ الجديد إذا جرى التنظير بينه وبين التاريخ الماضي ذو ألوان وأشكال غريبة يحمل في مطاويه عَلَى الجملة فجائع وفظائع لما فيه من تداخل الحوادث التي تتألف منها السياسة الحديثة وربما كانت حياة الشعوب القديمة لم تبد لأنظارنا ساذجة أكثر من حوادث اليوم لأننا لا نعرفها حق المعرفة ولم نعش عيش أهلها اهـ. . هذا ما قاله دريول في كتابه المسألة الشرقية ترجمته بحرفه وفيه عَلَى إيجازه حقيقة تاريخية راهنة وإن كانت روح التحامل تبدو في معظم ما يكتبه الغربيون عَلَى الشرقيين والعاقل من يأخذ من كل كلام عبرة. مسألة البلقان من أهم فروع المسألة الشرقية إن لم تكن أهمها. ومادتها التي تحيا بها نزوع الشعوب البلقانية إلى الثورة والانتفاض وإثارة إحدى

الدول الأوربية ذات مصلحة لمن يريد أن يتحرر من الحكم العثماني قال رينه بينون في كتابه أوربا والمملكة العثمانية وعليه أكثر اعتمادي فيما سيمر يكم: إن الأمم في أوربا الغربية بما لها من القوة تعارض المشارع العظيمة فلم يبق إلا الشرق حيث الخميرة لينة والحدود تكاد تكون غير معينة حيث شبه جزيرة البلقان ولاسيما آسيا العثمانية فهي ميدان جديد للتوسع الاقتصادي والنفوذ السياسي وإلى تلك الأصقاع توجه الدول العظمى أطماعها ومنافساتها. ثم أن المملكة العثمانية هي الحاكمة الشرعية عَلَى تلك المواقع الحربية المشرفة عَلَى الطرق العظمى في الأرض تلك الطرق التي هي شرط في كل تغلب بحري وفي كل تفوق عالمي وهي البوسفور والدردنيل والسويس فجميع طرق الهند تجتاز البحار العثمانية أو الأرض العثمانية ولذلك دارت جميع المحالفات الكبرى والوفاقات الأوربية منذ زهاء قرن حول المسألة الشرقية وبأسبابها تنحل تلك العقود والمواثيق. فسياسة أوربا ترجع بالنظر إلى الدولة العلية ومستقبلها إلى مبدأين متعارضين أحدهما يؤدي إلى التدخل في شؤونها والآخر يرمي إلى سلامتها. فالمبدأ الأول منبعث من تأثيرات دينية أو فلسفية أو إنسانية كما يدعون وعلى ضروب من الأشكال ومنه حدثت في القديم الحروب الصليبية. وقد اخرجت أوربا الدين من السياسة فلم تفلح في القضاء عَلَى العواطف المستكنة في حنايا التضامن المطلوب بين الشعوب المسيحية أمام غير المسيحية وكثيراً ما بدت في التاريخ الحديث آثار هذا التضامن وزاد عليها بعد الثورة الفرنسوية مبدأ حقوق الشعوب وحقوق الإنسان فأصبحت حجة يتوكأ عليها أرباب الأحزاب الحرة أو الثورية في الغرب وبها يستعينون عَلَى دك عروش الظالمين الذين عدونا نحن في جملتهم معاشر العثمانيين عَلَى غير إنصاف. ومن نتيجة مبدأ التدخل طرد العثمانيون من جميع البلاد التي لا يؤلف المسلمون فيها أمثرية السكان وتحرير جميع الشعوب المضطهدة. يريدون بالشعوب المضطهدة الشعوب البلقانية وغيرها وتدخل الدولات في شؤوننا نحن المعدودين في مصاف الدول الأوربية العظمى ولكن عَلَى طريقة فيها الغبن الفاحش علينا. وكلما قمعنا ثورة أو اشتددنا في إرهاق من يريد الخروج عن الجماعة وهو حق لنا لو

أنصفونا لأنهم يأتون مثله مع من ينبذ طاعتهم يرموننا بكل كبيرة وقد عدوا علينا من الكبائر التي لا تغتفر ما أتيناه من الشدة سنة 1877 و1894 - 1895 التي قالوا عنها أنها لا تناسب ماحي الممدنين كأنهم يريدوننا أن نعاقب القاتل بالعفو حالاً ومن يريد أن يؤسس مملكة في مملكتنا بالابتسام له وطلب رضاه. ضمنت المعاهدات لدولة العثمانية مركزها من الحق العام الأوربي ولكن سرعان ما تنقض تلك العهود المسطورة إذا كان من ورائها نفض عنصر من شعوب البلقان يده من طاعة سلطنتنا. ولقد تعهدت ثلاث دولات أوربية في حرب القرم سنة 1856 بموجب معاهدة باريز أن تدافع بالسلاح عن سلامة المملكة العثمانية ولما استبيح حماها سمة 1877 أي في الحرب الروسية لم ينتطح عنزان ولا تحك منهم لحق الدماء إنسان قال بينون: إنا إذا أحببنا إنصاف العثمانيين في كثير من المواطن نقول أنهم ليس لهم ذنب إلا كونهم عثمانيين. وهو كلام المؤرخ العاقل. ولطالما حجة حماية غير المسلمين في المملكة العثمانية من الأسباب التي تتذرع بها حكومات الغرب ولاسيما فرنسا التي سبقت غيرها إلى هذه الدعوة منذ عهد فرنسيس الأول بما أفضل عليه أحد سلاطيننا العظام من الرعاية واللطف ولذا ترى حقوق العناصر في هذا الشرق تذكر في المعاهدات فقد ذكرت في المادة التاسعة من معاهدة باريز وفي المادة الثالثة والعشرين والحادية والستين من معاهدة برلين ولكن عَلَى صورة مرنة كالمطاط يعمد إلى تأويلها حينما يكون مأرب لإحدى الدول تريده منا ويغض عنها إذا لم يكن لهن ثمت باعث عَلَى التدخل في أحوالنا. ولقد كان من سياسة إنكلترا منذ استولت عَلَى بلاد الهند أن تكون الطريق إليها سالمة من العوائق والمضايق لأن في الهند ثروة إنكلترا والهند شرط وعلامة عَلَى استيلائها عَلَى البحار وقبضها عَلَى الشؤون الاقتصادية فالهند هي المملكة كما عرفها ديزرئيلي الوزير الإنكليزي المشهور وجرى عَلَى ذلك أخلافه. وقبل فتح ترعة السويس كان من حكم الآستانة وجناق قلعة وله منفذ إلى بحر الأرخبيل أو كان له سلطة عَلَى بحر قافقاسيا يستطيع منها النزول عَلَى أرمينية أو فارس إلى ما بين النهرين والخليج الفارسي - من كانت هذه قوته وبلاده يكون منه خطر دائم عَلَى الطرق الأرضية أو البحرية إلى الهند أو

التجارة الشرقية فإن القفار المحيطة بمصر ليست مما يحمي ترعة السويس حماية كافية وكثير من الشعوب منذ عهد كيكاوس (كمبيز) والإسكندر داهموا مصر وفتحوها براً آتين إليها من آسيا فإن جيش نابليون سافر من مصر وداهم سورية وجيش إبراهيم باشا هدد الآستانة مرتين فليس القفر والحالة هذه سداً يحول دون إغارة المغيرين وهجمات الفاتحين. ولذا كان هم إنكلترا منذ رفعت علمها عَلَى الهند أن لا يكون في الآستانة حكومة تخاف عادياتها وأن تكون أرمينية وسورية وفارس عَلَى سلام وإياها ومن أجل هذا مدت إنكلترا يدها إلينا غير مرة تريد مؤاخاتنا في السياسة ومحالفتنا عَلَى السراء والضراء وكانت تريدنا عَلَى أن نتحضر ونقوى كما حضرت اليابان وقوتهم فضربت عدوتها أمس في الشرق الأقصى ضربة تشيب لها النواصي ولكن قدر الله بأن يبعث عبد الحميد وأعوانه مدة طويلة بالسياسة العثمانية سائرين فيها عَلَى الهوى ثم قامت في عهد الدستور تلك الفئة المتغلبة وقبضت عَلَى أمر الأمة وسارت بنا تيه لا يؤدي إلى خدمة أفكار الجامعة الجرمانية. تريد روسيا أن يكون لها عَلَى البحر المتوسط لا تدوس للوصول إليه إلا أرضها ولذلك كان لها من وصية بطرس الأكبر كل حين حادث يستحثها والنمسا تطمح أن تخلص إلى سلانيك كذلك عَلَى الخطة التي تتصورها فالآستانة وسلانيك هما بيت القصيد في السياسة الشرقية ونقطة الدائرة في الحقيقة طريق الهند لا تزعج فيه إنكلترا. ولذلك كانت تهتم بالمسألة الشرقية أكثر من جماع الدول والاهتمام عَلَى قدر المعرفة بالواجب ومن يهدد في حياته لا يلام إذا عمد إلى اتخاذ كل سبب يقيها من المصارع وسلامة المملكة العثمانية مما قالت به إنكلترا سنة 1833 واستعملته سلاحاً ضد محمد علي ولوزير فيليب. قال بينون: إن إنكلترا تقوي الجولة العلية كمن يقوي معقلاً للدفاع فهي التي تدفعها في سبيل الإصلاح واللامركزية للقضاء عَلَى المطالب المزعجة التي تتذرع بها شعوب البلقان وهي تنصح للسلطان أن يمزجها عَلَى التدريج في السلطة الناهضة إلى التجدد المتسامحة في تقاليدها البحرة النيابية وبهذا المؤثر كتب خط كلخانة سنة 1839 وتمت التنظيمات الخيرية سنة 1856 وتطبيق أصول الحكومة الحرة الإنكليزية قد أتى بأحسن النتائج لبلاد الدولة العلية. إن كل ما يتم في بلاد للذين الشأن الأول في تأليف الوطنية فيها بغية التدرج

بها إلى مدارج اللامركزية الإدارية كان معرضاً للإخفاق وكذلك الإصلاح السياسي والاجتماعي يؤدي إلى فشل تام أما إلغاء الإنكشارية والإصلاح العسكري في السلطنة فقد تكللا بالنجاح بحيث أن الدولة العثمانية بعد انقلابها في قبول التجدد أصبحت أشد إسلاماً مما كانت بل أقرب إلى الآسياوية بل أقوى من حيث الجندية مما كانت. ولشد ما بذلت إنكلترا من الجهد بعد ولاسيما في الحرب الروسية العثمانية للدفاع عن مصلحة العثمانيين لأن في الدفاع عنها مصلحة لها تريد سلامتنا ليسلم لها طريق الهند بقوتنا وروسيا تريد أن يكون الخليجان (جناق قلعة وخليج الآستانة) حرين للتجارة البحرية ولبسط سلطانها لتحرير الشعوب السلافية ولكن إنكلترا علبت عَلَى أمرها ونجحت سياسة بطرسبرج وبرلين وفينا وكانت متفقة يداً واحدة عَلَى تحرير شعوب البلقان الشمالية واحتلال النمسا للبوسنة والهرسك واقتطاع روسيا لبعض ممتلكاتنا مثل باطوم والقرص وأردهان من أرمينية واحتلت إنكلترا جزيرة قبرص لتكون مشرفة عَلَى طريق أرمينية وآسيا الصغرى وسورية لئلا تداهم جيوش روسيا ذات يوم طريق الهند من طريق الخليج الفارسي أو من الإسكندرونة أو من سورية فخرجت إنكلترا ظافرة بحسن سياستها فنالت روسيا منا ونالت هي من روسيا ومنا ولله ما يفعل العقل والتوفيق السياسي. ولقد تجلى في مؤتمر باريز وكان البرنس بسمارك رأسه ورئيس سلطان الدهاء في السياسة فتلطف الوزير الألماني في مراعاة حقوق النمسا وروسيا وحكومات البلقان كل التلطف فهو بدفعه النمسا إلى التقدم نحو سلانيك يخدم الأمة الجرمانية لأن تزايد السكان في ألمانيا سيضطرها ذات يوم لأنه يكون لها منفذ خاص مثل سلانيك نحو البحر المتوسط إن لم يكن في يدها مباشرة فلا أقل من أن يكون في يد النمسا وأغلق في روسيا طريق الآستانة عن سكة رومانيا وأصبحت رومانيا صديقة الألمان وعدوة الروس لأن هؤلاء اضطروها إلى إخلاء إقليم بسرابيا لقاء دبروجيه وكان من نتائج مؤتمر برلين أن أخفقت آمال الروس من البلقان بعد حربها معنا ونالت حقوقاً ضعيفة فمن مؤتمر برلين نشأ التحالف الثلاثي بين النمسا وألمانيا وإيطاليا والوفاق بين روسيا وفرنسا وكان من دهاء إنكلترا أن أشركت ألمانيا في الدفاع عن مصالح الشرق من اعتداء روسيا فتمكنت في مؤتمر برلين بإبعاد القوة المسكوبية عن ترعة السويس وطرق الهند وأن قربت منها ألمانيا. والحقيقة أن ألمانيا قد

ربحت في مؤتمر برلين سنة 1878 بفضل بسمرك كما ربحت إيطاليا بفضل كافور في مؤتمر باريز سنة 1855. سلكت من الحكومات الصغرى الأربع التي تكونت في معاهدة برلين في سياستها مسلكاً يوافق مصالحها فاقتربت رومانيا من ألمانيا لتنجو من روسيا والطريق التي توصلها إلى الآستانة واقترب الجبل الأسود من روسيا لئلا تكون النمسا وصية عليه وأرادت الصرب أن تحذوا هذا الحذو ولكن علائقها الاقتصادية بالنمسا دعتها إلى أن تمسك بيدها الأولى النمسا وبالأخرى روسيا. أما بلغاريا فإن الحرب التي شهرت لأجلها قد أحيت في النفوس فكرة عودة بلغاريا العظمى إلى العالم فتكون لها حتى بحر الأرخبيل وإلى حدود ألبانيا وأبواب سلانيك ولكن معاهدة برلين قضت بأن تكون بلغاريا الأصلية ولاية مستقلة وتكون الروم إيلي الشرقي للعثمانيين هي وسائر البلاد المقدونية إلا أن الروم إيلي الشرقي عاد وانضم إلى تلك الولاية المستقلة سنة 1885 وعين أميراً عليهما البرنس باتنبورغ ابن القيصر وهذا الضم مغاير لبنود معاهدة برلين ولولا المحالفة الثلاثية لنقضت تلك المعاهدة عروةً عروة مع معاهدتي فرنكفورت وسان ستفانو. ولما أخفقت الدول في المحافظة عَلَى حالة البلقان قامت اليونان والصرب تريدان أن تنالا تعويضاً يوازي ما نالته بلغاريا من الروم إيلي الشرقي وبلغ الحنق من إمبراطور روسيا إسكندر الثالث أن حمل البرنس باتنبورغ عَلَى التنازل عن الملك فانتخب مجلس الأمة البلغارية سنة 1887 بنفوذ النمسا وألمانيا البرنس فردينان دي ساكس كوبورغ غوتا من ضباط الجيش النمساوي والمجري وهو الأمير الحالي الذي بايعوه ملكاً عَلَى البلغاريين منذ أربع سنين. وفي سنة 1895 - 1896 أحدثت الوقائع الأرمنية المشؤمة في الآستانة وأرمينية مبنية عَلَى أحلام أخفقت وقد نجحت فغيها السياسة الروسية كثر من الإنكليزية لأن قسماً مهماً من الأرمن هم في أرض روسيا وهم لا يؤلفون أكثرية في ولايات أرمينية وكردستان. ولما رات روسيا نفسها محصورة عَلَى تخوم البلقان أرادت أن يكون لها منفذ ولو إلى الشرق الأقصى وكانت سكتها الحديدية في سيبيريا قد أشرفت عَلَى النجاز فقلقت من ذلك

إنكلترا واغتنمت فرنسا هذه الفرصة ففتحت جزيرة مدغسكر وضمت مستعمراتها الأفريقية بعضها إلى الآخر وحلت المسائل المختلفة عليها بينها وبين إنكلترا في أفريقية وفي آسيا ثم نشأت مسألة الكونغو وسيام وشاطئ غربي أفريقية. وكان لإنكلترا يد طولى في تأخير مسألة كريت ونزعها منا وكريت أخت أرمينية في الصورة والشكل وإن كانت غاية كل منهما متباينة ولألمانيا يد كبرى في جعل كريت تحت حماية السلطان وغمارة البرنس وجورج اليوناني آثرت عَلَى ذلك أن تراها لقمة سائغة لإنكلترا كما كانت مصر وقبرص من أجل طريق الهند وبذلك ازداد نفوذ ألمانيا في الآستانة وصار لسياستها الموقع الأول الذي بدأ في مؤتمر برلين فكان منه عموم النفع لشؤونها التجارية والاقتصادية. وفي سنة 1897 عقدت روسيا مع النمسا والمجر معاهدة عَلَى حفظ السلام في البلقان وكبح جماع المتناغمين بجنسيتهم من عناصرها في سنة 1903 اتفقت ذانك الدولتان عَلَى بروغرام مورزتج لإصلاح مقدونية وذلك تعدل نفوذ الألمان في الآستانة. مسألة المضايق أو المضيقين البوسفور والدردنيل مرتبطة بالمسألة الشرقية أي ارتباط ولطالما تألمت روسيا من اعتزالها وراء البحر الأسود تملك بعض شواطئه ولكناه لا تستطيع أن تنفذ منه فشبهوا مقامها هناك بالمسجون فيلا قصر لا يستطيع الخروج منه ولولا إنكلترا لقبض الروس عَلَى قياد المضيقين ومن قبض عليهما قبض عَلَى منافذ البحرين الأسود والأبيض ولما سار إبراهيم بن محمد علي باشا المصري بجيوشه سنة 1833 من سورية إلى آسيا الصغرى وكان يهدد الآستانة لم تر الجولة إلا أن تستعين لدفع غائلته بالأسطول الروسي فبعثت دولة القياصرة أسطولاً إلى قرن الذهب في خمسين ألف جندي حتى إذا أمنت السلطنة شرد ذاك المهاجم وأراد الأسطول أن يعود من حيث أتى بعد أن كان مروره في المضيقين لأول مرة وبوارجه الحربية ترفع أعلامها أراد تعويضاً عن ذلك فعقد الباب العالي مع حكومة القيصر معاهدة خنكار أسكله سي وبموجبها تحمي روسيا المضيقين حماية حقيقية بحد السلاح فغضبت إنكلترا من هذا العقد الذي يضر بمصلحتها ومازالت تتفنن في أساليب السياسة حتى اضطرت الدول أن تعقد مؤتمراً في لندرا سنة 1841 وكتبت فيه معاهدة جاء في بندها الرابع أن المضيقين لا تفتح لدولة من الدول تسير

فيهما بوارجهما فسقطت بذلك معاهدة خنكار أسكله سي وأصبح من حق سلطان العثمانيين أن يغلق المضيقين في وجوه الدول وليس من حقه أن يفتحهما فتقيد بذلك تقيداً لا ينطبق مع ما تدعيه حكومات أوربا من مراعاتها لحقوق السلطنة وسلامة استقلالها. ثم أن إنكلترا اضطرت روسيا بموجب هذه المعاهدة أن لا يكون لها سوى عدد معين من السفن في البحر الأسود ولا تنشئ دوراً للصناعة (ترسانات) عَلَى شواطئه وبذلك سد البحر الأسود في وجه روسيا فلم يبق بحيرة عثمانية كما كان عَلَى عهد كاترينا الثانية وبطرس الأكبر ولا بحيرة روسية كما قضت معاهدة خنكار أسكله سيوهذا المنع لا يتناول بالشدة المعينة سائر دول أوربا الخمس الكبرى ولاسيما كبيرتها إنكلترا فقد دخل الأسطول الإنكليزي والفرنساوي ليضربا مع الجيش العثماني قلعة سواستبول الروسية وهكذا اصبح ما يحرم عَلَى روسيا لا يستحيل عَلَى غيرها فكأن معاهدة لندرا يقصد بها اتقاء عادية الروس عَلَى البحر المتوسط فقط وقد أيد البند القاضي بالحجر عَلَى روسيا وراء المضيقين سنة 1841 في معاهدات 1856 و1871 و1878. في الأمثال العربية لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع وهذا مما ينطبق عَلَى حكومات البلقان الأربع المجاورة للأملاك العثمانية فإنها بعد أن استقلت الاستقلال التام وصار لها عَلَى صغر حجمها ملوك ومجالس نيابية حداها الغرور أن تتوسع في بلادها ولا سبيل إلى ذلك باقتطاع شيء من الأراضي العثمانية وكي السبيل إذا كان علم الأمن مرفرفاً في ربوعنا؟ ولذا عمدت اليونان والصرب والبلغار إلى تأليف عصابات من أبنائها وفيهم كثير من خاصتهم المتعلمين في المدارس العليا تلقي الفوضى وترتكب أعمال التعذيب والقتل في ربوع مقدونية التي تريد كل منها الاستئثار بها أو ببعضها ومقدونية هي عبارة في عرفهم عن ولايات سلانيك ومناستر وقوصوه والحقيقة أن مفدونية هي مهد الإسكندر حيث ترى عاديات بللا وييدا وأمفيبوليس فكان معدل من تهلكهم عصابات الهول والإرهاب من الأهلين ألفي نسمة كلب سنة يذبح اكثرهم كما تذبح النعاج فخربت هذه البلاد وكانت من قبل من أكثر بلاد الله عمراناً وعادت كما يقول بينون زراعتها بائرة وخصبها جدباً ولطالما قاصت تربتها السوداء في تلك السهول المنبسطة لبناً وعسلاً فأمست لا تعطي سوى غلات

ضئيلة لا تكاد تسد عوز السكان وكثرت في حقولها النباتات الطفيلية من العوسج والأعشاب الضارة وتجردت الآكام من غابتها الغبياء بما سطى عليها من أسنان المواشي واتخذت المطار تنهال عَلَى المنحدرات لا يقف شيء في سبيلها تحمل التربة الصالحة للزرع فتؤلف منها بطائح ويتجمع كثير من هذه التربة الزكية تحملها السيول إلى خليج سلانيك بحيث لا يأتي عليه مئة سنة إلا ويطم كالحوض المطبق وانحصرت القرى في أعماق الأودية أو رؤوس الآكام المنحدرة ولم يبق في تلك الأرض مزرعة ولا بيت منفرد وأخذت الأكواخ ينضم بعضها إلى الآخر خوفاً وهلعاً. نعم إن هاته العناصر التي ادعت المدنية هي التي تهرق دماء الأبرياء وتدعي أنها من رسل المدنية والسلام والذنب في ذلك عَلَى أوربا التي كانت بعض حكوماتها تسر حسواً في ارتقاء وتدفع البلقانيين إلى ارتكاب المنكرات من الإيقاع بالنفس والعبث بالأموال وبالعروض وقد اشترطت وربا في مؤتمر الآستانة ومؤتمر سان ستفانو أن تجرى الإصلاحات في الولايات العثمانية من قارة أوربا ولكن أي إصلاح تقوم به دولة والعدو المجاور يرسل عليها كل يوم عصابات تستبيح السفك والفتك وإن المرء ليحزن إذا أراد إحصاء ما بذلت هذه الأمة من دمائها منذ قرن فقط في سبيل بقاء الروم إيلي في أيدينا. لما استقلت حكومات البلقان الشمالية في مؤتمر برلين لم تعط ولاية الروم إيلي الشرقية لبلغاريا لأن البلغاريين ليسوا فيها أكثرية ولكن بلغاريا خرقت هذا البند من المعاهدة وضمت إليها تلك الولاية وهكذا الآن تحدثها نفسها أن تستولي عَلَى مقدونيا أو جزء منها مع أن العنصر البلغاري هو بعض سكان هذا الإقليم إذ فيه صربيون ويونان وفلاخيون دع الأتراك والأرناؤد فمقدونية هي مزيج من عدة عناصر وليس في حقوق البشر قانون يقضي بانفصالها عنا وذلك لأن الفاتحين لتلك البلاد منذ عهد البلاسجيين قد تركوا فيها آثاراً وهذه البلاد التي نشأ فيها الإسكندر فاتح العالم قد اقتبست أموراً من اليونان ومن الرومان ومن الصقالبة ومن البلغار ومن العثمانيين لأن كل أمة حكمتها استولت عَلَى سهولها أما الجبال فكانت معاقل طبيعية لمن ارادوا الاحتفاظ من السكان بقومياتهم ولغاتهم ومن هؤلاء تألفت كتلة قامت تتناغي بعد بالاستقلال وكل أمة من أمم الطونة الأربع أي بلغاريا والصرب ورومانيا واليونان تدعي أن سكان مقدونية جزء من عناصرها مع أن لغاتهم متباينة وكذلك

أديانهم وكل منها بذلت في سبيل الناطقين بلغتها أموالاً طائلة وعلمت تاريخا وأمجادها وأنسابها حتى انك لتجد في مناستر تاجراً ولد ألبانياً ثم تبلغراي صار بلغارياً ثم يونانياً أما الآن فهو روماني وهذا من أضحك ما سمع في التبدل. ومن خان لغة أبيه وأمه كان بالطبع خائناً للغة التي يتعلمها أيضاً ويدعي الانتساب لأهلها زوراً. بقول كاتب الإفرنج أن الدولة العلية لم تقم بالإصلاحات التي تقررت في الولايات المقدونية ولو وفت بالوعود لما فتح سبيل لتلك الدويلات أن تطالب بشيء للبلاد المجاورة لها ولما قامت يونان تقول أن لغتها ومدنيتها هي الحاكمة المتحكمة في مقدونيا منذ عرف التاريخ ولا ادعت الصرب ولا بلغاريا ولا رومانيا مثل هذه الدعوى ولكن الموظفين العثمانيين إذا تركوا وشأنهم يهملون إصلاح حالة البلاد ونحن ما قاله صديقنا لطفي فكري بك لو قمنا من أنفسنا بالإصلاحات في الروم إيلي وطبقنا القانون الذي كنا سنناه لننفذه في أرجائها لما احتجنا إلى من يحثنا عَلَى ما يجب علينا القيام به من تلقاء أنفسنا ولكن أمراض الشرق كثيرة ومرض الإهمال أحد تلك الأدواء القتالة. ولقد انتهت الحال سنة 1902 في مقدونية عقيب حدوث حوادث مزعجة أن بعث الباب العالي مفتشاً عَلَى الولايات الثلاث وتألفت لجنة مختلطة من خمس دول لإصلاح مالية هذه الولايات وحي بضباط إيطاليين وفرنسويين وألمان وروس وإنكليز لإصلاح سلك الجندرمة الذي طالما جلب الولايات بخلله عَلَى البلاد العثمانية فدرست اللجنة المالي الولايات الثلاث فإذا ميزانيتها سنة 1906 تبلغ 2. 680. 050 ليرة عثمانية يصرف منها 1. 480. 080 عَلَى الجندية ويصيبها 354 ألف ليرة من ديوان الدولة فلم تقدر اللجنة أن تعدل شيئاً من النفقات الحربية ونظرت في ميزانية الملكية وهي 822 ألفاً فتعذر عَلَى الدول أن يطالبن حكومتنا بتطبيق الإصلاحات العمرانية وكان من ذلك تساهل معتمديها في قبولهن زيادتنا ثلاثة في المئة عَلَى الرسوم الجمركية ولإنكلترا ستون في المئة من مجموع ما يرد للسلطنة العثمانية من الواردات فنالت بريطانيا وغيرها من الدول ذات الشأن امتيازات وتمديد مهلات ومنحت حقوقاً أخرى علاوة عَلَى مالها في الأرض العثمانية. تمكنت الحكومة العثمانية بعد سنة 1904 من كبح جماع العصابات لأن كثيراً من رؤسائها ولاسيما البلغارية منها هلكوا في أيدي جنودنا. وهنا جيب أن يعرف أن سواد البلغاريين في

مقدونية أكثر من غيرهم من العناصر غير المسلمة وهم أهل النشاط والحرب وثلاثة أرباع من هاجر من بلاد مقدونية إلى أميركا هم من البلغاريين والمهاجرون فيها لا يقلون عن مئة ألف. وقد اغتنوا كما اغتنى بعض السوريين ومنهم من عاد إلى بلاده فابتاع الأراضي بالثمن الباهظ ومنهم من تخلص من سلطة الأغنياء أرباب المزارع الواسعة وعمروا الدار والعقار. ولسيت الهجرة من ممالك البلقان إلى أميركا وغيرها اقل من هجرة سكان الروم إيلي حتى لقد هاجر خمسة عشر ألف يوناني من جهات وارنه في بلغارا سنة 1906 إلى أثينة وغيرها عقيب مناوشات قتل فيها أفراد من اليونانيين والبلغاريين وذلك بداعي تعيين أسقف يوناني في وارنه. أقول عقيب مناوشات وما أحرانا أن نقول عداوات فإن اليوناني يكره البلغاري والبلغاري يكره الصربي والبلغاري يمقت الروماني والجبلي يتألم من الصربي عَلَى صورة يستغرب من قرأ تاريخهم أمس كيف يتفقون اليوم اتفاقاً مربعاً لم تخرج عنه سوى رومانيا المرتبطة مصالحها بمصالحنا وأعجب منه أن نرى روسيا عقب مؤتمر برلين بعد أن كانت في البلقان هي الكل والكل رضيت بأن تشاركها في نفوذها دولة النمسا والمجر واغرب من كل هذا أن إيطاليا والنمسا وألمانيا وروسيا وإنكلترا كلها تنادي بسلامة المملكة العثمانية وحفظ الحالة الحاضرة في البلقان مراعاة لمصالحها لأن كل واحدة تستفاد من الروم إيلي وهو في أيدي العثمانيين من حيث التجاور والأمور العمرانية والمالية أضعاف أضعاف ما تستفيد منه لو كان لا قدر الله في أيدي غيرنا من حكومات البلقان وذلك لأن القوم في أوربا يستفيدون من إهمالنا وعدم عنايتنا بالمصالح المالية بخلاف غيرنا لو كان سلطان عَلَى شبه جزيرة البلقان كلها فإنه يقطع عَلَى الماليين والمتجرين الأوربيين أرزاقهم ويحاربهم حرباً اقتصادية شعواء. نعم تعلم الدول الست أن أهل كل عنصر من العناصر البلقانية أقوى عَلَى قلة عديدهم في التشيع لأبناهم الناطقين بلغتهم من العثمانيين بمجموعهم عَلَى كثرتهم فإن الصربي مسلماً كان أو كاثوليكياً أو أرثوذكسياً يهتم لمصلحة بلاده أكثر مما يهتم التركي أو العربي! وكأن هذا الحق خاص بشبه جزيرة البلقان إلا قليلاً فقد رأينا الأرانؤط مسلميهم مسيحييهم يدافعون يداً واحدة عن كل ما فيه سلامة وطنيتهم ولغتهم لم تفرق بينهم المذاهب والنحل

وكذلك البلغار يتعلقون بجنسيتهم أكثر من تعلقهم بدينهم وهذا الخلق ضعيف جداً في ديارنا وما برح أهل كل نحلة يتناغون بحب بعضهم بعضاً ولو كانوا لا تجمع بينهم لغة ولا وطن ولا قرابة جنسية. اقترحت إنكلترا لما رأت عجزاً في ميزانية الولايات المقدونية الثلاث لكثرة ما ينفق من أموالها عَلَى الحامية هناك أن ينزل عدد الحامية ليتوازى الدخل والخرج ويستطيعوا أهل الشأن إذ ذاك أن يقوموا بالإصلاح المطلوب لمقدونية ولكن الدولة العلية تعلم أكثر من كل دولة أن سلامتها في الروم أيلي معقود بناصية جيشها وأنة عهود الدول ومحالفتهن تستعمل عليها لا لها فقد ضمنت لها معاهدة باريز سلامة أملاكها من التمزق ومع هذا فقدت بعدها ولايات كثيرة ولم يقم من دول أوربا من يقول أن اقتطاع أرض عثمانية مخالف لتلك المعاهدة التي أقرتها الدول أو معتمدوها. وإنا إذا وصمتنا أوربا بالظلم في بعض شؤونها فلا يسعها إلا أن تعدنا مظلومين عَلَى الأكثر ولاسيما فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية الحيوية من استثمار الخيرات والتجارات والصناعات في السلطنة قال بينون: لا تزال ميزانية النافعة (الأشغال العمومية) في السلطنة في حالة التكون أو كالجنين لم يتكون فالأجانب هم الذين ينشئون الخطوط الحديدية والمرافئ والأرصفة والترموايات والفنادق وهم الذين يبيعون المدرعات والنسافات والمدافع والبنادق وكل المعدات التي تلزم للجيش وهم يعنون المناجم ويؤسسون شركات الملاحة وقد اعتادوا أن يحملوا إلى البلاد العثمانية أدوات المدنية الحديثة عَلَى شرط أن يكون فيها ربح لهم وتجتهد كل حكومة في أن تنال مشاريع أكثر ثمرة من فغيرها وبذلك تنحصر منافسة الدول العظمى في الآستانة يراد بها الأعمال الاقتصادية. ولطالما كان للمعتمدين السياسيين سماسرة من المتجرين والصانعين ولم ير غليوم الثاني حطة عليه أن يكتب إلى السلطان عبد الحميد شخصياً ليضمن طلبية كبرى للصناعة الألمانية والعثماني يدخن نارجيلته في ظل شجرة دلب قديمة. يرى هذا وهو يدهش من تكالب الغربيين عَلَى الأعمال وتنافسهم في سبيل الكسب واغتنائهم من بلاده ووضع أيديهم عَلَى مصادر ثروتها وحياتها والسلطان هو الذي يمنع هذه الامتيازات (هذا الكلام قبل الدستور) في الظاهر وهو صاحب الوقت ولا حرية له في لارفض ما يعرض عليه لأن

للدول التي تطلب مدرعات وجنوداً تستعملاه حين الحاجة لضمانة ديونها ولاستصناع بضائع في معالمها وهي تراقب المالية وتنظر في مسائل الديون العمومية ولا يعمل شيء إلا بفضل رؤوس أموالهم وعلى أيدي مهندسيهم ولا يخضع رعاياهم بموجب قانون الامتيازات الأجنبية للقوانين العثمانية ولا يحكم في مسائلهم غير قناصلهم. وللأجانب مدارس لأولادهم ومدارس داخلية وكليات ورهبان وأطباء وإدارات بريد وبرق وليس للبوليس العثماني ولا لجابي الأموال أقل سلطة عليهم فكل واحد منهم كائن لا يمس فالسلطان يحكم ولكن الأجانب يتمتعون و1ذلك لأنهم ملوك المال اهـ. يتمتع الأجانب في البلاد العثمانية بسعيهم الحثيث ونفوسهم التي لا تمل وأعلام دولهم التي تحميهم فبعد أن كان لفرنسا منذ القديم المقام الأول في التجارة نازعتها إنكلترا حتى استأثرت بأكثر من مجموع نصف الصادرات والواردات ثم جاء الدور لألمانيا بعد مؤتمر برلين فإن كانت هذه الدولة قد فتحت ولايتين هما الإلزاس واللورين فتحاً سياسياً فقد فتحت الولايات العثمانية فتحاً اقتصادياً فأنشأت البيوت التجارية والمصارف والمدارس ومن أهم الامتيازات التي نالتها سكة حديد بغداد تصل بين الآستانة والخليج الفارسي ولكن إنكلترا لم تغفل عن ذلك لأنها تحاذر من أن يصل أحد إلى الهند من غير طريقها وإرادتها فسلحت البادية فيما يقال بسلاح إنكليزي هندي وبعثت عيونها طول الخط الحديدي ولما لم يمد ثم انتبهت للتجارة مع العثمانية حكومة إيطاليا والنمسا وكل الدول تنازعنا بل تتنازع حياتنا الاقتصادية والمملكة العثمانية كما قال بعضهم فيها مجال لك طالب عَلَى فقرها بل إن فيها مجالاً للعثمانيين أنفسهم لو يعملون. ولما أيقنت إنكلترا بالخطر عَلَى مصالحها في الشرق ولاسيما الهند بتهديد الألمان لخليج فارس بسكتهم الحديدية الجديدة من الآستانة إلى بغداد أرادت تأمين طريقها إلى هندها بتطويق بلاد العرب بطوق من حمايتها فأثارت أولاً مسألة تحديد التخوم بين مصر وسورية وذلك في المسألة التي عرفت بمسألة العقبة وطابة سنة 1906 فاستأثرت مصر التي هي محتلة لها بشبه جزيرة سيناء وأمنت إنكلترا من هذه الجهة وكانت قد عقدت مع فرنسا عقداً في سنة 1904 يكون إنكلترا بموجبه حرة في وادي النيل كما تكون فرنسا حرة بعملها في شمالي أفريقية وينتج من ذلك قبض فرنسا عَلَى قياد حكومة مراكش حتى أصبحت جرائد

الفرنسيس تذكر اليوم أخبار المغرب الأقصى في باب المستعمرات كما ت1ذكر تونس والجزائر والسنغال ومدغسكر وسيام والهند الصينية. وهكذا جعلت السياسة للعقبة وطابة اسماص في التاريخ وكانت من قبل نكرة كما جعلت الحملة التي سيرتها فرنسا منذ بضع سنين من أعالي وادي النيل مثل ذلك لقرية فاشودة وانتهت بالوفاق الفرنساوي الإنكليزي وكما اشتهر بورارثو في الشرق الأقصى الذي زحزح اليابان عنه الروسيين عقيب معركة لم يسمع في التاريخ بأعظم منها زكان من ذلك أن عاد الروس أدراجهم من الشرق الأقصى واشتهرت بورارثو. نقول طوقت إنكلترا شبه جزيرة العرب بطوق من حمايتها ومن عرف كيف أخذت مضيق باب المندب وعدن وبريم منذ القديم لا ينكر وضع حمياتها عَلَى صاحب الكويت لتدعي بعد أن حوض الخليج الفارسي إنكليزي محض كما وضعت حمايتها عَلَى أمير مسقط أهم سلاطين عمان وحمت صاحب البحرين وصاحب لحج فطوقت بذلك الجزيرة لتأمن غائلة الألمان والله أعلم ماذا يخبئ المستقبل للعراق وللشام واليمن والحجاز ونجد والجزيرة وكل هذا تسأل عنه حكومة الاستبداد الماضية التي أرادت إرضاء ألمانيا فأغضبت إنكلترا فكانت النتيجة خسارتنا عَلَى كل حال. وكذلك الشرق يقتسمه الغرب وحكوماته تشتغل بالباطل كما حدث لجارتنا إيران فوقعت بين أيدي إنكلترا وروسيا ادعت أن هذه منطقتها من الشمال وتلك استأثرت بالجنوب وكان من اختلال الأمن في بلادها حجة توكأت عليها السياسة الحديثة كما كان كذلك في العهد الأخير من مراكش مع فرنسا. ومن أخلاقنا معاشر الشرقيين أننا نذكر الداء عند وقوعه ولو قيل لنا أن نتخذ شيئاً من الاحتياط القليل بادئ بدء هزأنا بالمشير علينا واستسلمنا للأقدار فالأخطار فقد رأينا مثلاً فرنسا نشرت مدارسها في الشرق العثماني والمصري أي انتشار حتى كادت تدعي أن لها حق الحماية عَلَى رعاياها بعض أصقاعنا بحجة حماية أناس في الشرق وقد حذت حذوها إيطاليا فنشرت عَلَى فقرها مدارسها بأموال خصصتها لها في ميزانيتها في طرابلس وبرقة. وإن ذكر هذين القطرين ليرمض قلب كل عثماني اليوم. وفعلت مثل ذلك بعض بلاد الأرناؤد وكذلك تفعل ألمانيا في بلاد الأناضول ووادي الفرات فتنشئ اليوم مدارس ألمانية

تحت رعاية إمبراطورها كما أنشئت في فلسطين ومثل ذلك فعلت روسيا في ديارنا وكل يوم امتيازات جديدة وحقوق علينا أكيدة. ومنذ حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا لم تر أوربا دولتين أو ثلاث التقتا في حرب ما عدا حرب الصرب وبلغاريا سنة 1885 ونرى مصالحها تقض بينها بالسلام سلام عليهم وحرب عَلَى غيرهم. وكل مدة نسمع بعض زعمائهم وملوكهم يجتمعون ويتفاوضون سراً فلا نلبث أن نرى أزمة في إحدى بقاع الشرق لا تنحل إلا بربح جماعة المتفاوضين. نعم يشرب بعضهم نخب الآخر كما قال بينون ويتآخون ويتصافحون وهم في الحقيقة هم يجسون عَلَى الأرض ليكونوا ثقة منها فبما إذا نشبت عليها حرب حقيقية وهذه سياسة غريبة كل الغرابة في مظاهرها المتناقضة في هذا العهد وما قط كانت الحقائق العميقة مختلفة عن الظواهر التي تغشاها كل هذا الاختلاف قال: وعلينا أن لا يفوتنا أنه ربما تحدث مشاكل غير منتظرة في الشرق لأنه فيه تجد أوربا بلاداً بكراً واصقاعاً جديدة لم ترزق حتى الآن أدوات الاقتصاد الحديث فليس يرجي في أوربا الغربية والوسطى الآن حروب فتح وغلبة وليس فليس فيهما أمة تستطيع أمة تستطيع أن تربح من الأخرى ولذلك ظهرت منافستهن فيلا الأصقاع النائية وإذ كانت أوربا مغلقة في وجوههن وآسيا الشرقية لا تقبل وصاية دولة عليها بتة وأفريقية لم تأت حتى الآن بثمرة تذكر لم يبق أمام أمم أوربا غير التنازع في المملكة العثمانية عَلَى مصارف جديدة لصناعاتهم وأعمالهم وتجاراتهم. هذه جملة حالنا مع أوربا وهي اقرب أن تكون لهجتها لهجة المتشائم لا لهجة المتفائل ومع هذا فإننا بما عرف من تاريخنا وتاريخ غيرنا من الأمم لا يزال الرجاء معقوداً في مضائنا وعقول القائمين بالأمر فينا ولا ينقصنما إلا أن نجمع عَلَى الخير كلمتنا ونجعل العلم والعمل رائدنا فليس الخطأ فيما وقع علينا من الحيف هو خطأ الحكومة فقط بل أن المحكوم عليهم مسؤولون كثيراً عن كل ضعف بدا وكل شر نجم يسألون عن تفاشلهم وتخاذلهم وعن فساد أخلاقهم وقلة نظرهم في عواقب أمرهم وثبرهم عَلَى جهلهم وادعاء المعرفة وبذلهم في التافه وكذاذة أيديهم في المآزق. كلنا يعلم أن حياتنا السياسية مقرونة ببقاء هذه الدولة العلية العثمانية آخر مملكة قوية مستقلة من الممالك الإسلامية وإن دولتنا اليوم في بحران شديد فأين أغنياؤنا يبذلون عن

سعة لإعانة الأمة عَلَى الأقل في كسوة أبنائنا المجاهدين في الروم أيلي بعض ما يصرفونهم عَلَى شهواتهم. إنني والله أخجل من تسطير تلك الصدرات والجوارب والأعبئة القليلة التي لم يجد ملوك المال فينا بغيرنا وقد رأينا واحدهم وثروته كلها من رقاب الفلاحين وسرقة الخزينة لا ينفق في هذا السبيل ربع ما أنفقه لاستحصال رتبة أو أخذ منصب أو مكافأة عَلَى وسام فاين هذا وأمثاله من ذاك اليوناني الذي تبرع لحكومته بأربعة ملايين فرنك تبتاع بها بارجة حربية! إن هذا التضامن المنشود عَلَى أشده في الحكومات الأوربية والأميركية هو الذي أعوزنا اليوم فتركنا هدي كتابنا الكريم وأردنا تقليد المحدثين فصرنا كالعقعق أراد مشية الحجل فنسي مشيته ولم يحسن تقليد من يريد تقليده. إننا إذا تضامنا نضع الأشياء مواضعها وإذا تفاهمنا ننجح في تأليف أحزابنا وحزب عدونا ونأمن عَلَى مستقبلنا السياسي والاقتصادي وإلا فكل كلام ضائع وكل سعي في إنهاضنا هباء فتدبروا رحمكم الله وإياكم فليس للدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب والسلام بعدد ما سجل التاريخ لأجدادكم من المآثر وعد لهم من الأيام الغر المحجلة فقد قيل: الناس كالناس والأيام واحدة ... والدهر كالدهر والدنيا لمن غلبا

مدينة كربلاء

مدينة كربلاء 1ً معناها اللغوي كربلاء بالمد تطلق اسم علم لبلدة من ديار عراق العرب واقعة في البر بعيدة عن الفرات، وكانت فيما سلف اسم قطعة من أرض فيها قرية بجانبها المزارع وفي اشتقاق كلمة كربلاء آراء عديدة منها: أولاً أنها مأخوذة من كربل وهو نبات له نور أحمر مشرق يقال أنه الحماض. ثانياً إنها مشتقة من الكربلة بهاءٍ وهي الرخاوة في القدمين. وقيل ثالثاً أنها من الكربلة بمعنى المشي في الطين يقال جاء مكربلاً كأنه يمشي في الطين. وقيل رابعاً أنها من الكربلة بمعنى الخوض في الماء والخلط، وقيل خامساً أنها مأخوذة من الكربلة بمعنى تهذيب الحنطة وتنقيتها من القسطل كالغربلة ومنه نما جاء في هذا البيت: يحملني حمرآء رسوباً للثقل ... قد غربلت وكربلت من الصقل سادساً قال قوم: إنها حديثة الوضع مشتقة من الكرب والبلاء فحففت ونحتت وصارت كربلاء. سابعاً قيل أنها كلمة كلدانية معناها حرم الله وهذا القول أقرب إلى الصحة من غيره لأنه كان في تلك الديار معبود وله حرم فسمي باسم الهيكل. ثامناً ذكر صاحب دبستان المذاهب أن المجوس يزعمون أن لفظة كربلاء مشتقة من كلمتين فارسيتين معناهما العمل العلوي. واللفظتان هما كاربالافعربتها العرب بكربلاء وهذا رأي ضعيف وضعفه ظاهر. وهم يزعمون أنها كانت بيوت نيران ومعابد لهم في الزمن السالف، والعصر الغابر. 2ً كربلاء القديمة ذكر لي ثقات أن كربلاء الحالية التي فيها قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما هي غير كربلاء القديمة التي كانت المزارع في ربضها حين ورود الحسين إليها بل إن كربلاء القديمة واقعة في الجنوب الشرقي من البلدة الحالية ويطلق عليها اليوم اسم كربلة بهاءٍ. وذكر آخرون أنها واقعة في الشمال الغربي من كربلاء الحالية مما يلي أرض القرطة وهي اليوم مكان مرتفع يسمى باصطلاح الناس العرقوب ويبعد موقعها عن قبر الحر بن يزيد سبعة آلاف متر، وأرضها من أملاك آل بحر العلوم وهي أسرة شريفة من كربلاء. ويستدلون بما ذكره المؤرخون في دواوين أخبارهم أن الحسين رضي الله عنه حين إقامته بأرض الطف ابتاع الأرض التي تلبي قبره من أهل نينوى والغاضرية بستين ألف درهم

وتصدق بها عليهم وشرط أم يرشدوا إلى قبره من يزوره ثلاثة أيام ولم يذكروا أنه اشترى أرضاً تسمى كربلاء، وهو دليل واضح يشير إلى أن كربلاء كانت من أرض الطف بعيدة عن قبر الحسين. ولهم دليل آخر وأوضح بياناً من المتقدم وهو: إنه لم يسمِّ في وقت من الأوقات سابقاً محل القبر الشريف وما اتخذ حوله من الدور والأبنية باسم كربلاء وتأييد ذلك يؤخذ من كلام علي رضي الله عنه: كأن بأوصالي يتقطعها عسلان الفوات بين نواويس وكربلا فنفى بكلامه هذا أن يكون محل قبره الشريف كربلاء بل إنها عَلَى ما يظهر خارجة عنها. ونما أطلقت لفظة كربلاء عَلَى هذه القطعة الحالية لمجاورتها للقطعة التي كانت تسميت بهذا الاسم وهي كربلة. 3ً ما يجاور كربلاء من المواطن المختلفة وحول كربلاء مواطن مختلفة منها: الطف بالفتح والفاء مشددة. وهو في اللغة ما أشرف من أرض العرب عَلَى ريف العراق قال الحموي فيما رواه عن الأصمعي وإنما سمي طفاً لأنه دنا من الريف من قولهم خذ ما طفالك واستطف أي ما دنا وأمكن. . وقال أبو سعيد سمي الطف لأنه مشرف عَلَى العراق من أطف عَلَى الشيء بمعنى أطل وقيل إنما سمي بالطف لأنه طرف البرية مما يلي الفرات وكان يجري بجنبها، وطف الفرات ما ارتفع منه، وقيل هو الشاطئ منه، وكان في الطف عدة عيون جارية وقرى ومزارع كثيرة. وفي حدوده مواطن منها (باخمرا) بالراء عَلَى سبعة عشر فرسخاً من الكوفة وهي التي قتل فيها إبراهيم بن عبد الله أخو صاحب النفس الزكية بأمر المنصور العباسي، ومنها السماوة قريبة من ذي قار ونضرب صفحاً عن سائر ما في حدودها ونقتصر عَلَى ما تلي حدودها وهي الفرات في شرقيها وشماليها وعين التمر التي من قراها شفاثا والقطقطانة وعين الصيد والرهيمة في جنوبيها. وكانت أرض الطف من ديار الفرس ومسالحهم بالقطقطانة، وينصب من قلبهم الحكام عليها ثم تملكها الإسكندر المقدوني بعد محاربته ملك فارس دارا بن بهمن وتقسيمه ديارهم بين ملوك الطوائف فانتهز العرب الفرصة لما في أنفسهم من ريف العراق وكثرة خصبه واستبشروا بما وقع بين الملوك من الاختلاف وطمعوا بغلبة الأعاجم عَلَى ما يلي بلادهم

منه أو مشاركتهم فيه، فاجتمعوا رؤساء العرب وقرروا المسير إليها وانتزاعها من أيدي أكاسرة الفرس وكان أول من سار إليها عَلَى ما ذكر الطبري الحيقار بن الحيق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس ثم سار مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم اللات، ومالك بن زهير بن فهم بن تيم اللات وغطفان بن عمرو وزهير ابن الحارث، وصبيح بن صبيح فيمن تنحى عنهم من عشائرهم وحلفائهم، ونزلوا الأنبار إلى محل الحيرة في طف الفرات وغربيه وما والاها من المظال والألخيبة، لا يسكنون بيوت المدر، ولا يجامعون أهلها فيها، واتصلت جماعتهم فيما بينها، وكانوا يسمون عرب الضاحية. فكان أول من ملك منهم عليهم مالك بن فهم إلى أن ظهر أردشير بن بابك وتغلب عَلَى سائر ملوك الطوائف وقهرهم ودان له الناس وضبط الملك واسترجع الطف من العرب وأقر جذيمة الأبرش عَلَى ما هو عليه من تملكه الحيرة وكان ملك جذيمة الأبرش عَلَى الحيرة وبشاطئ الفرات والاها بعد أبيه مالك بن فهم وفي آخر عهد الدولة الساسانية كان ينصب عَلَى أرض الطف عامل من قبل كسرى مستقل بأمره لا يتأمر عليه ملك الحيرة، وكان العامل عليها في عهد كسرى يزدجردقيس بن مسعود بن خالد وهو الذي أمره كسرى أن يعين إياس بن قبيصة الطائي عَلَى هانئ بن مسعود الشيباني وكان إياس ملكاً في الحيرة مكان النعمان بن المنذر ملكه كرى بعد قتله النعمان. وكان سبب وقوع هذه الحرب وقعة ذي قار وذلك أن كسرى طلب تركة النعمان بن المنذر من هانئ فأبي تسليمها فوقعت تلك الحرب الطاحنة كما تقدم. وكانت قرى الطف قبل الفتح الإسلامي ضياعاً لكبار العجم، ولما ورد سعد بن أبي وقاص العراق كتب من لهم الضياع إلى كسرى وحرضوه عَلَى إرسال الجيوش لصد غارات المسلمين خوفاً من أن يستولوا عليها فسببوا حضور رستم القائد الفارسي الكبير لحرب الإسلام فوقعت بأيدي المسلمين بعد حرب القادسية والمدائن وتشتت شمل الفرس فيهما، ولما تم الأمر للمسلمين أقطعوها وإليها يشير الأقيشر الأسدي في قصيدته المشهورة: إني يذكرني هنداً وجارتها ... بالطف صوت حمامات عَلَى نيق نبات ماءٍ معاً بيض جآجئها ... حمر مناقرها صفر المحاليق أبدي السقاة منهن الدهر معملة ... كأنما لونها رجع المخاريق أفني تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القوافيز أفواه الأباريق

4ً ما يرادف اسم كربلاء تعرف كربلاء أو المحل الذي فيه قبر الحسين بأسماء مختلفة منها الحائر واختلف علماء اللغة في وجه تسميته، قال ياقوت مع اللغويين: الحائر حوض يصب إليه مسيل الماء من المطار سمي بذلك لأن الماء يتحير فيها ويرجع من أقصاه إلى أدناه، وقيل أنها سمت بالحائر بعد أن أطلق المتوكل العباسي الماء عَلَى القبر الشريف فحار حول القبر، وارتفع القبر في الهواء بإذن الله، أو لأمر آخر حاصله عدم وصول الماء إلى القبر، وقيل هو المكان المطمئن فيجتمع فيه الماء فيتحير فيه ولا يخرج منه ونشاهد اليوم مصداق هذا القول من انخفاض محل القبر الشريف وما حوله من الحرم والأورقة والصحن والغرف المحيطة بالصحن والمتشرف بالزيارة إذا أراد الدخول من أي جهة شاء إلى أرض الصحن الشريف وهو الآن قد ارتفع كثيراً بالنسبة إلى ما كان عليه من الانخفاض عند بناء السراديب وفرش أرض الصحن بالرخام. 5ً موقع كربلاء الحالي قد رأيت فيما تقدم من كلامنا ما هو موقع كربلاء في الزمن الحالي ونأتي بذكر حدودها في الزمن الحالي فنقول: كربلاء واقعة عَلَى ضفة نهر الحسينية قريبة من الدرجة 32 عرضاً ونحو الدرجة 42 طولاً من باريس، وهي في الحنوب الغربي من بغداد وعلى بعد 30 كيلومتراً منها، ويحدها من الشمال الشرقي مدينة بغداد، ومن الشرق الجنوبي مدينة الحلة أو خرائب بابل القديمة، ومن الجنوب والغرب بر الشام. وهي تعد من أمها مدن العراق لكثرة نفوسها واتساع تجارتها، وخطورة مركزها، والذي أذاع شهرتها الحالية فطبق الخافقين وجود قبر ريحانة الرسول وأخيه وإذ يأتي لزيارة هذه الأماكن المشرفة كثير من المسلمين من كل حدب وصوب، فيزرونها كل عام، كما يزورون البيت الحرام، وهي الآن تعد مركز لواء يقسم إلى عدة أقضية ونواحٍ وقرى. 6ً مساحتها ونفوسها وتقسيماتها تقدر مساحة لواء كربلاء بـ 23000 كيلومتر مربع، وأرضها خالية من الجبال والآكام، قليلة الغابات، كثيرة العيون الينابيع، وهي بلدة متموجة بالسكان يبلغ عدد سكانها 75000 ألف نسمة منها 20 ألفاً من العثمانيين و40 ألفاً من الإيرانيين وبعض الأجانب مختلفي

العناصر، و15 ألفاً من الزوار والغرباء الوافدين من ديار قاصية، وربوع نائية، كديار العجم والهند والأفغان وكورقاف (قفقاسية) وفيها عدد قليل من اليهود وليس فيها نصارى، وهذا كبير بالنسبة لمدينة من مدن العراق ككربلاء، ولكن هذا ربما زاد إلى ضعفيه أيام الزيارات في شهر ذي الحجة المحرم فإنك ترى أزقتها ضيقة عَلَى اتساعها، وفنادقها الكثيرة مملوءة بأخلاط الناس. ويقسم لواء كربلاء إدارياً إلى ثلاثة أقضية وهي مركز قضاء كربلاء والهندية والنجف، وإلى سبع نواحٍ، وهي ثلاثة منها في مركز القضاء وأسماؤها: المسيب والرحالية وشفاثا، وواحدة في الهندية وهي الكفل. وأربع في النجف وهي: الكوفة. والرحبة. والتاجية. وهور الدخن. 7ً زراعتها وتجارتها ووارداتها أرض كربلاء خصبة للغاية. وتمتاز عن كثير من أراضي العراق بكثرة ينابيعها. وزراعتها متقدمة بعض التقدم إلا أنها ويا للأسف لم تزل عَلَى النمط القديم. وبدون أصول علمية. وتقدر الأرض المزروعة في كربلاء بـ 336569 فدانً. وحاصلاتها عبارة عن القمح والشعير والعدس والذرة والأرز وفي كربلاء بساتين كثيرة فيها النخيل. وأهلها يعنون عناية عظيمة بزراعته وهم خبيرون بما يعودون عليه بالجودة ونمو الثمر. والتمر عندهم من المعايش الثانوية بعد القمح. وليس فيه شيء إلا وله منفعة واستعمال عندهم. وقد بلغ من عنايتهم بالنخل أن طول جذع النخلة في بعض بساتينهم ربما تجاوز 68 قدماً وطول سعفها اثنتي عشرة قدماً. وجاء في الإحصائيات الأخيرة الرسمية أن غلة التمر في لواء كربلاء تقدر سنوياً بثلاثين ألف طن. وهي كمية وافرة تدل عَلَى ما وصلت وهي كمية وافرة تدل عَلَى ما وصلت إليه كربلاء من الرقي والتقدم المادي في عالم الزراعة. وحيواناتها الأهلية كثيرة. ويولد في كربلاء كل سنة من البقر 42000 ومن الجاموس 20000 ومن الخيل 15000 ومن الحمير 18000 ومن البغال 16000 ومن الجمال20000 ومن الأغنام وسائر الماشية 500000 والمحصولات عَلَى كثرتها لا تكاد تسد عوز السكان لكثرة المختلفين إليها. وأما تجارتها فخطيرة جداً وواسعة ممتدة إلى سائر الجهات العرقية. ولها علاقة تجارية

بإيران. ومما يزيد امتداد تجارتها واتساعها وجود كثير من الإيرانيين والهنديين. ومن أهالي ما وراء النهر الذين اتخذوا كربلاء موطناً لهم يجلبون إليها بضائع وأموالاً من بلادهم ويأخذون بدلها من حاصلات كربلاء ويرسلونها إلى ديارهم ومن أجل ذلك ترى أسواق كربلاء مشحونة ببدائع الصنائع ونفائس المنسوجات وأغلبها فارسية. ويباع في أسواقها من السجاد الثمين البديع الصنع ما لا يباع نصفه في بغداد. وترى في حوانيتها الزعفران الفاخر الخالص من كل شائبة وغش مما لا تجد مثله في أغلب المدن العراقية. وتختلف واردات كربلاء مع توابعها بين 45 ألف و70 ألف ليرة عثمانية. ونفقاتها لا تتجاوز 7 آلاف ليرة. ولو عنيت الحكومة بإرسال موظفين عارفين لغة أهلب البلاد غيورين عَلَى مصالح الدولة. وأسرعت فأنجزت أعمال سدة الهندية وشقت الجداول وحفرت الأنهار القديمة المندرسة. وعاملت الفلاح بالرفق واللين وصانت حاصلاته من كل أذى لازداد دخل الخزينة وتضاعفت وارداتها ولما احتاجت في السنوات الأخيرة إلى أن تمد يد العوز إلى الغرب. 8ً هواؤها وأنهارها يختلف هواء كربلاء باختلاف فصول السنة. ولا يختلف كثيراً عن سائر مدن العراق والحر والبرد شديدان في كربلاء ولكنهما في بعض الأحايين يابسان. وأحياناً تشتد وطأة الشتاء. وربما نزلت الحرارة إلى 8 درجات في المدينة و16 في البرية. ويشتد الحر كل سنة حتى تبلغ 48 درجة في الظل. وكان قبل نصف قرن يبلغ 50 درجة إلا أنه كان يحتمل بعض الاحتمال إذا كان يابساً والهواء غربياً أو شمالياً. أما إذا كان شرقياً فتضيق الأنفس وتحرج الصدور. ويشتهي السكان سكن القبور. ويقتل الحر كل سنة عدة أناس بأمراض مختلفة تتولد من حمارة القيظ. ومما تقدم تعلم أن هواء كربلاء ردئ جداً في فصلي الشتاء والصيف. أما في فصلي الربيع والخريف فمعتدل للغاية. ليس في كربلاء نهر يعتمد عليه غير الحسينية (بالتصغير). وهذا قد حفره السلطان العثماني سليمان خان القانوني سنة941 هـ 1534م لما افتتح بغداد وكان أهل كربلاء يشربون مياه الآبار قبل حفر الحسينية لبعدها عن الفرات. وامتداد الحسينية سبع ساعات أو 35 كيلومتراً وصدره من نهر الفرات عَلَى بعد 3 كيلومترات من جنوبي ناحية المسيب.

ويصب ماؤه في بطيحة (أبو دبس) عَلَى بعد أربع ساعات من جنوبي غربي كربلاء وتنضب مياه الحسينية في القيظ. فتحرج الصدور وتضيق الأنفس. ويغلو ثمن الماء ويضطر الأغنياء إلى جلب الماء من أماكن بعيدة وأما الفقراء فيحفرون الآبار. ويشربون مياهها فتتولد الأمراض. وتفشوا بينهم فشواً ذريعاً. وتفتك بالنفوس. والأشهر التي ينضب في أثنائها ماء الحسينية هي: حزيران. تموز. آب. أيلول. وسبب ذلك أن الحكومة أهملت أمر هذا النهر وتهاونت في كري مجراه بادئ بدءٍ حتى استفحل الخطر ويخشى من انقطاع المياه طول فصول السنة. 9ً وصف كربلاء وعمرانها كربلاء مدينة واسعة الرجاء حافلة الأسواق. كثيرة المساجد. منظرها بهيج يسر الناظرين. وموقعها يوقف الأبصار. لها سور خرب كان أقيم لحفظها من غارات الأعراب بعد وقعة الوهابية ثم هدمه والي بغداد نجيب باشا سنة 1258هـ و1842م بأن سلط المدافع عليه من الجهة الشرقية عَلَى أثر ما وقع في كربلاء من الفتن في ذلك العهد. وإذا أتيتها وأنت قادم من النجف أو المسيب يذهب ببصرك نور مآذنها وقباب جوامعها المغشاة بصفائح من الذهب الإبريز. وتدهشك ساعاتها المبنية عَلَى بروج شاهقة ترى من مكان بعيد. وكربلاء تقسمك إلى قسمين عتيق وجديدة. فالعتيق ضيقة الأزقة تكثر فيها التعاريج لا يتجاوز عرضها المترين. وبناؤها عَلَى الطراز القديم. وشوارعها مملوءة أوساخاً وأقذاراً ودورها عَلَى غير نظام. إلا أن ما يباع في أسواقها بديع الصنع. ونفيس الطرز. وأكثر سكانها إيرانيون وبينهم عدد قليل من مختلفي العناصر. وأما القسم الجديد. فاسواقه عريضة وشوارعه فسيحة عَلَى خط مستقيم تجري فيها الرياح جرياً طلقاً لا حائل يحول دونها. وليس فيها تعاريج. ويخترق هذا القسم عرضاً خمس جادات وطولاً أربع متصلة بعضها ببعض ويختلف عرض أزقتها بين 16 و18 متراً وطولها بين 200 و250 متراً عَلَى شكل هندسي جميل. وهناك ساحة تعرف بساحة الميدان تنار بروح الزيت الحجري ويوجد في وسطها بناء أقيم تذكاراً للحرية. وفي هذا القسم دوائر البلدية والبرق والبريد. وبيوت الكبار والأشراف وعمال الحكومة. وسائر الطرق تنار بالقناديل والمصابيح ذات الزيت الحجري.

وفي كربلاء مستشفى فخم ذو بناء شامخ يناطح السحاب محفوف بالأوراد والأزهار من جميع جهاته ومنظره بهيج يأخذ بمجامع القلوب صرف عَلَى بنائه 5000 ليرة ولم يكمل بعد. وفيها دار حكومة حسنة مشيدة الأركان. وثكنة قوية للجند ودائرة بلدية. وقنصلية إنكليزية وروسية وإيرانية ووكلاء مسلمون. ومدارس دينية كثيرة ومدرستان ابتدائيتان إحداهما للهنود والأخرى للإيرانيين فيهما ما يناهز 150 طالباً ويصرف عليهما من جيوب أهل الفضل. ومدرسة ابتدائية وأخرى من نوع الرشدي. يصرف عليهما من واردات الحكومة. وفيها كتاتيب عددها زهاء 50 يتردد إليها ما يناهز ألف صغير يتعلمون مبادئ القراءة والخط. وفيها جامعان كبيران فخمان أحدهما يسمى جامع الحسين. والآخر جامع العباس. وهما أهم ما في كربلاء من الآثار وسيأتي ذكرهما مع تاريخ بنائهما ووصفهما في فصول خاصة ننشرها في أجزاء مقبلة: بغداد إبراهيم حلمي.

رحلة إلى المدينة المنورة

رحلة إلى المدينة المنورة تتمة ما في الجزء السابع في مدينة الرسول ماذا يرجى لراكب القطار الحديدي أن يراه ليصفه والقطار يسرع في سيره مواصلاً الليل بالنهار وكل بقعة من البقاع بين دمشق عاصمة الإسلام الثانية ويثرب عاصمة الإسلام الأولى تحتاج إلى عدة علماء يتوافرون عَلَى دراسة ما فيها من الآثار العادية والتاريخية والطبقات الأرضية والأحداث الجوية والمواليد الثلاثة الطبيعية أو المملكة النباتية والحيوانية والجمادية ولكن عابر سبيل يمر كالسهم لا يطالب بمثل ما يطالب به الباحث محققاً مدققاً فمعذرة إلى من يتوقعون منا أن يروا في رحلتنا هذه فائدة تخرج عن حد ما وقع عليه النظر في أيام معدودة. ركبنا من محطة القطرانة في الكيلومتر 326 إلى المدينة فوقف بنا القطار ساعات في المحطات الكبرى وهي معان في الكيلومتر 489 وتبوك في الكيلومتر 692 ومدائن صالح في الكيلومتر 955 ثم المدينة في الكيلومتر 1303 وكانت المناظر تختلف علينا اختلاف الأهوية وكلما تقدمنا نحو الحجاز نشعر بالحرارة. وكان الوقت شهر آذار والطريق التي سلكها الخط الحجازي غريبة تدل عَلَى حذق في الهندسة وتفنن وهي لا تبعد كثيراً عن الطريق التي يسلكها الراكب الشامي مدة ثلاثة عشر قرناً فيما نعلم اللهم إلا ما اقتضته الهندسة من التعاريج كما شاهدنا ذلك في المحل المسمى ببطن الغول وغيره. والجبال غريبة التكوين في الطريق من بعد تبوك فبعضها هرمي الشكل والآخر أسطواني وبعض متساوي الأضلاع وآخر زاوية منفرجة أو حادة أو قائمة جعلت في بسائط منظمة منفرجة تسير ساعات بل أياماً بسير الجمال ولا ترى إلا رمالاً وصخوراً وليس من الغابات إلا الهشيم (الهيش) في بعض الأصقاع أو السلم والسمر وهما أكثر شجر الحجاز. والجبال مصهورة حمراء أو كما قال البكري (معجم ما استعجم) في وصف الجبال بين مكة والمدينة أنها كلها تضرب إلى الحمرة تنبت الغرب والغضور والثمام. وإن المرء لتحدثه نفسه وهو يطوي البيد طي السجل للكتاب من دمشق إلى المدينة كيف كان الحجاج قبل السكة الحديدية يقطعون هذه الأودية والتلول والجبال والحرات والبرقات

في ثلاثين يوماً عَلَى الجمال والبغال والخيول من يتعب وهو راكب في القطار الحديدي ثلاثة أيام كان حرياً بان يهلك عَلَى ظهور المطايا أو في المحفات والهوادج والمحارات ثلاثين يوماً يضاف إليها عشرة أخرى من المدينة إلى مكة ولكن هي العادة تسهل الأشياء والتعب ينال الراكب في الأيام الأولى ثم يدمن ويمرن. أعلى نقطة في هذا الطريق اليوم العقبة تعلو 1153 متراً عن سطح البحر والمطالع تعلو 1142 متراً وفي بعض هذه الرمال يمكن إنباط المياه وفي بعضها مياه يستقي منها العرب الرحالة هنا وأبناء السبيل فإن عشيرة الفقراء ومنازلها من تبوك إلى مدائن صالح لا تقل عن ثمانمائة بيت وقبيلة بني عطية تنزل من المدور إلى المعضم وهي تزيد عن ألفي بيتفلو صرفت عناية الحكومة إلى إسكان هاتينم العشيرتين وإعطائهما الأراضي مجاناً والصالح منها للزراعة كثير لما أتت بضع سنين إلا ودخلت هذه الموامي والمغارات في دور عمران تغني ساكنيها عن شن الغارات أو مد الأكف لأبناء السبيل في أستوكاف الصدقات. ومن آسف ما رأيناه في الخط الحديدي ولاسيما بعد بلاد الشام أن الأولاد والبنات والرجال والنساء يأتون يلتقطون ما تجود به أكف الراكبين من الخبز والأدم يلتهمونه التهاماً وقد كان يقتلهم الجوع كما صهرت شمس الحجاز أبدانهم وإنك إذا أعطيتهم نقوداً لا ترضيهم بمثل ما يرضون بكسرات من الخبز القفار. فكأن القفار لا ينفع فيها إلا الخبز القفار. وعندنا أن أعظم صدقة يتصدق بها قاصدو البقاع الطاهرة في السكة الحجازية أن يحملوا معهم ما تسمح به نفوسهم من الخبز والأدم يوزعونه في المحطات عَلَى هؤلاء المجاويع المدقعين وذلك ريثما تصح عزيمة ولاة الأمر عَلَى تهيئة أسباب المعاش لهم. ليس من الرأي السديد أن يعلم شعب أو أكثره عَلَى الشحاذة بل أن يعود العمل والاعتماد عَلَى النفس ولكن أرضاً لم تشفق عليها سماؤها حرية بأن يكون لأبنائها عناية من حكومتها فإن معظم ما نسمع به من الغزوات والغارات منبعث عن جوع مذيب والجوع كافر. فيساق الغازون إلى الموت أو ينالون ما يتبلغون به لسد رمقهم. وكل من قطع الطريق من مكة فالمدينة فدمشق يحدثك من فقر عرب تلك الأنحاء ما هو العجيب العجاب أو من الغريب أن الحكومة العثمانية لم تفكر حتى اليوم في إحداث موارد للرزق يعيش عليها عرب الحرمين

وغيرهم ممن أرمضت نفوسهم القلة. وإذا كان بعض قبائل الحرمين يعيشون بأجور الجمال بإكرائها في موسم الحج للحجاج بين جدة ومكة وبين هذه والمدينة تعذر تمديد الخط الحجازي من المدينة إلى مكة الآن أو تفتح الحكومة موارد جديدة يعيش منها عشرات الألوف من أهل البادية تعيضهم عن العيش من كري جمالهم في الجملة وما يتصوره بعض عمال الدولة ممن قضوا سنين في نجد والحجاز من أن العرب لا يتحضرون إلا إذا أهلكت جمالهم برمتها فيضطرون إلى السكنى ويكفون عن الغزو فهو كلام لم يراع به قائله حالة العمران والمكان وكيف يتخلى الأعراب عن تربية الأنعام وهي تدر عليهم رزقاً يسدون به حاجاتهم يستثمرون ألبانها وصوفها وشحمها وجلدها وعظامها ويبيعون حوارها وما يكبر من نياقها وجمالها. ومصر وحدها تبتاع من جمال الجزيرة العربية كل سنة ما لا يقل عن مئة ألف ليرة. في الحجاز منافع كثيرة غفلت عنها الحكومة فلم تعرف حتى الآن غير إرهاف الحد وعندي إنها لو استعاضت مثلاً عن بناء اثنتي عشرة ثكنة من العلا إلى المدينة التي صرفت عليها 184 ألف ليرة ببعض حقول تنشئها لأعراب تلك الأنحاء وطرق للكسب توجدها لهم ومدارس ساذجة تعلم فيها بنيهم وبناتهم موجزات تنفعهم في دينهم ودنياهم لأحسن صنعاً. ولا يستهان بعدد السكان هنا فإن جهينة وبلي والحويطات لا تقل عن سبعين ألف رجل وأكبر قبائل المدينة حرب وهي خمسون ألفاً ففي الوجهة وينبع والعلا والعقبة من أعمال المدينة مائتا ألف محارب كما قدر بعض العارفين وفي قضاء السوارقية عرب مطير وهتيم. وهتيم بقد مطير في العدد والمدد. وحدود المدينة تمتد إلى الفرع من جهة مكة وسكانها بادية كلهم وفيها قرى واسعة وقرى جوار المدينة اثنتا عشرة قرية. والفرع لا تحكمها مكة ولا المدينة وقوتهم كلهم الأرز الهندي والدقيق والتمر واللبن والأقط وأقل العرب واشرهم في أطراف هتيم ومطير. ومع كل ما في هذا القطر من الفقر تصدر منه بعض الحاصلات كالجلد والصمغ والتمر والأغنام والجمال والخيل والصوف والسمن ولو مد الخط الحجازي إلى مكة فالبحر الأحمر ومن مكة إلى صنعاء اليمن لتضاعفت صادرات الحجاز واليمن والشام ووارداتها وأمكن الناس ولاسيما الحجاج الخلاص من عاديات البدو بين الحرمين وزاد عدد الحاجين كل سنة ثلاثة أو أربعة أضعاف عددهم الآن.

نقول عرب الحرمين هم كالسائمة أشرار منذ القديم عَلَى ما أنبأنا التاريخ ظلوا عَلَى جاهليتهم الأولى لم يلطف الإسلام من شرتهم إلا قليلاً فهم يحاولون بكل ممكن أن يحولوا دون تمديد الخط أو تجعل لهم مرتبات سنوية يتقاضونها ويأمنون تقاضيها عَلَى الدهر وهي لا تقل مسانهة عن ربع مليون جنيه والعقل يعذرهم فيما لا يأتون لأن من يدافع عن رزقه يعذر والحكومة وهي الوصية الطبيعية عَلَى الضعفاء حتى يقووا مضطرة بحكم الشرائع أن تنظر في حياة أبنائها لا وأن تهلكهم جوعاً وعرياً وتعفي فقيرهم وغنيهم كما هي الآن من الجندية ودفع شيءٍ من الضرائب ولو كانت تأخذ من الموسرين لتفضل عَلَى المعسرين لحمدت خطتها أكثر. يعيش كثير من سكان المدينة ومكة من الصدقات والأوقاف ورواتب الحكومة وربما غالى بعضهم في هذا الاتكال ولكن كيف السبيل وتجارة بلادهم ضعيفة لا تروج إلا أياماً مخصوصة من السنة في موسم الحج وتكاد زراعتهم تنحصر في بعض البساتين الضئيل ريعها التي تروى من مياه الآبار بالدلاء ثم أن العلوم التي تبعث الهمم عَلَى الأعمال الاقتصادية مفقودة في بلادهم لندرة من يعرفها منهم وبلادهم لا يدخلها إلا المسلمون وربما كان فيمن يزورونها طبقات راقية ولاسيما الهنود والمصريون ولكنهم لا يطيلون مقامهم إلا بقدر ما يزورون أو يجيء الراقون منهم ولا عمل لهم إلا التجرد عن الدنيا لا يخالطون ولا يعاشرون. لا جرم أن سكة الحجاز قد نفعت سكان يثرب كمما نفعت سكان دمشق لأن الزوار كثر عددهم عَلَى طوال السنة والتجارة دب فيها روح جديدة في الجملة والاختلاط بالأمم نبه أفكار سكان طيبة الأصليين إلى قصورهم في ميدان العلم والتعلم. نقول السكان الأصليون وعددهم لا يكاد يبلغ ثمن السكان والباقون شاميون ومصريون ونجديون وعراقيون وتركيون وجاويون ويمانيون وزنجباريون وسودانيون وجزائريون وتونسيون ومراكشيون وسنغاليون وصينيون وهنديون وقفقاسيون وطاغستانيون وجراكسة وأكراد وكرجيون وغيرانيون وأفغانيون وبخايون وبلوجستانيون وغيرهم من شعوب الإسلام يأتون هذه البلدة الطيبة ينقطعون فيها للعبادة في مسجد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وسلم. للمسلمين معرضان دينيان مهمان أحدهما وهو الأكبر في جبل عرفات كل سنة مرة والآخر

مسجدي مكة ويثرب طول السنة ولذلمك تسمع فيها كل اللغات في آسيا وأفريقية وترى فيها كل السحنات من أبيض وأحمر وأصفر وأسود ممن تفرع من الجنسين الآري والسامي ولذلك نجد المدينة المنورة أقرب إلى أن تكون برج بابل لاختلاط اللغات والسحنات والعادات منها إلى أن تكون عربية وهي بلد النبي العربي وفي صميم بلاد العرب. والمدينة بطبيعتها تشبه إحدى مدن الأرياف في مصر لأن نحو ربع سكانها مصريون صعايدة ونصف الربع مغاربة والباقون مجنسون عَلَى ما يخمن المخمنون لا عَلَى ما يحصي العادون لأن البلاد العثمانية كلها ليس فيها إحصاء يعتمد عليه بل كثير من أصقاعها ليس له إحصاءٌ بالمرة كالحجاز مثلاً. كنت أؤمل أن أرى عناية الحكومة بالمدينة وهي مهبط أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من عنايتها الآن إذا صحة إثبات شيءٍ من العناية لها هنا ومن الأسف أنها لا تقدر هذا الامتياز المعنوي العظيم الذي تتمتع به دولة الخلافة العظمى صاحبة الحرمين الشريفين ولو قدرته حقيقة لذلت كل ما عز وهان في سبيل عمران البلدين الطيبين ولما استطاعت نظارة الأوقاف فيما بلغنا أن تلتهم أوقاف الحرمين عَلَى كثرتها وهي لا تقل عن 17 ألف ليرة في الشهر لا يصرف منها عَلَى الحرم النبوي كل سنة أكثر من خمسة آلاف ليرة لأن الأئمة والخطباء والمؤذنين ليس لهم من الرواتب ما يكفيهم فقد تجد الواحد يتناول راتباً قدره ريالان ونصف في الشهر! وليس معنى هذا أن تصرف كل هذه الأوقاف رواتب للأئمة والخطباء والمطوفين والمزورين والناظرين والمؤذنين بل يصرف قسم منها عَلَى عشرات منهم تكفيهم ذل الطلب ويصرف الباقي في مرافق الحرمين الشريفين ثم عَلَى تزيين البلدين وفتح الشوارع والجادات فيها وجلب المياه وتوزيعها في مناهل وغرس الحدائق وإنشاء المتنزهات والساحات فمن أعظم ما شهدناه أن لا يكون في طيبة سوى شجيرات مع أنه كان عَلَى الحكومة لو غرست كل سنة عشرين شجرة أن يصبح لديها منها ألوف تحسن الهواء ويكون منها مورد يصرف في مرافق المدينة وكل حكومة تريد العمران لا يصعب عليها تحقيقه مهما حاربها الجو وما طبيعة هواء المدينة بأصعب من طبيعة عدن ومع هذا أصبحت عدن بحكومتها جنة عدن بعد أن كانت جحيماً تعوذ من نزولها كل سائح منذ عرف التاريخ.

تقول العمران: وما أحرانا أن نقول الأمن والأمان أولاً لأنه هو أول ما تطالب به الحكومة فقد شهدنا الحامية وافرة جداً في المدينة بالنسبة لسائر المدن العثمانية ومع هذا ترى اللصوص وقطاع الطريق يسلبون وربما يقتلون كل من يصادفونه خارج السور ليلاً وأحياناً نهاراً. ولقد كنت نازلاً في الفندق الوحيد الكبير الذي بناه أحد الوطنيين خارج سور بالحجر السود طبقات كلف نحو عشرين ألف ليرة وهو عَلَى قيد غلوة من سور البلدة أقضي عند بعض الأحباب إلى أول الهزيع الثاني من الليل ومع أن الحكومة الاتحادية كانت أصحبتني بدون طلب مني شرطيين يراقبان أعمالي إرساباً لي فإن أصحابي كانوا يتكفلون إيصال ي إلى النزل كل ليلة خوفاً من اللصوص أما أنا فكنت أعد الخطب سهلاً مع قطاع السابلة أكثر من الخطب بأولئك اللصوص الطغام في صور حكام ومن يكتفي بالمال والمتاع ويعفو عن قطع الأعناق لا يسوءك بقدر من يسرق ويقتل. القتل أنواع ومنه القتل المعنوي الذي ارتكبته عصابات الهول والإرهاب وبلغت بها أنقحة في استعماله حتى في البلد الطاهر في حين من دخله كان آمناً. نعم إنني لا أعجب لتراخي الحكومة هناك في تقرير الأمن في نصابه فإن احتلال أسباب الراحة قضت عَلَى صاحب كل عربة نقل للحجارة يدفع خوة أو باجاً للصوص الأعراب الذين يستوفون خوة أيضاً من بساتين المدينة ما خلا بساتين كبار الأشراف. وهذه المساءل المحسوسة لا يجرأ أحد من أهل المدينة أن يكتبها في الصحف أو يرفعا إلى المقامات العليا لأن طواغيت الحكومة هناك هم لا يعدمون أنصاراً من الأهلين المنافقين يرهقون الكاتب ويختلقون عليه الزور للإيقاع به إذا شُهروا. ومن أغرب ما تحققت أن الحكومة قلما ترسل محافظاً للمدينة ممن ترضي سجاياهم في الجملة بل أن معظمهم عَلَى شاكلة بصري وعثمان: شدة في غير موضعها وعدم معرفة بالأمور الإدارية وأشياء ليس هذا محل سرودها. تأملت كثيراً في مسجد الرسول أثناء الصلوات وغيرها فما رأيت خشوعاً من جميع من يختلفون إلى الحضرة النبوية الشريفة ولاسيما من غير الناطقين بالعربية فقلت في نفسي - وقد سمعت خطبة الجمعة وهي لا تخرج عن حد التزهيد في العمل والإعراض عن الدنيا كسائر خطب الجوامع في بلاد الإسلام خلافاً لما كانت عليه سنة السلف الصالح ولكن لبس

الإسلام لبس الفرو مقلوباً كما قال علي كرم الله وجهه فوارحمتاه لغربة الإسلام ـ هو أدار هذه القوة المعنوية رجال دين سليم وعقل راجح لكانت فوائد هذا الاجتماع من حيث الدين والمدنية أضعاف أضعاف فوائده اليوم فكما أرسل عليه الصلاة والسلام شعاعاً من نور حكمته قلب به العالم وغير بشريعته الطاهرة نظام الأمم هكذا يحمل دعاة دينه والمؤتمنون عَلَى تراثه سياسة المهتدين بهديه ما تستنير به العقول في هذا المجمع الجامع ويعم ضياؤه سكان الخافقين وهذا من القوى المهمة التي أضعفناها وكم ضاعت في بلادنا مواهب وقوى. لم أشهد في المدينة عناية بأمور النظافة والإسلام جعلها من أولى الفروض فإن في المدينة عشرات من التكايا والزوايا منها نحو 25 تكية للبنود فقط كلها تحتاج لإشراف رجال الصحة وكذلك الحال في المستشفيات. أما المدارس والكتاتيب فهي تشبه بضعفها سائر فروع الأعمال واللغة العربية لا تكاد تجد لها من العناية في المدارس الأميرية نصف ما لها في مدارس لبنان الأهلية! فكأننا أبت الأقدار إلا أن نكون حتى في بلادنا غرباء. ويكفي أن يقال من جملة التمثيل في هذا الباب أن الورق الروسي والروبيات الإنكليزية معمول بها في المدينة أكثر من النقود العثمانية. وأهم خزائن الكتب في المدينة خزانتان مكتبة السلطان محمود العثماني ومخطوطاتها ومطبوعاتها تافهة لا شأن لها وأكثرها من المشهور ونظامها وسط. وأحسنها وربما كانت خير مكتبة في البلاد العثمانية كلها بنظامها وانتقاء أمهاتها في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت أفندي ففيها نحو عشرة آلاف مجلد كتبت بخطوط المشهورين من الخطاطين كأن تجد الكتاب ذا العشرين جلداً مكتوب بخط مشرق بديع في مجلد أو مجلدين وفي هذه المكتبة من التسهيل من المطالعين والعناية براحتهم ما لا تكاد تجد مثله في دار الكتب الخديوية بمصر لعهدنا وما ذلك إلا لكثرة ريعها وإنفاقه في سبله واختياره القيمين عليها وإدرار المشاهرات الكافية عليهم. وبعد فإن مسجد الرسول عَلَى كثرة عناية ملوك الإسلام بأمره في كل دولة وحكومة ليس من السعة وجودة البنيان بأكثر من جامع السلطان أحمد أو آيا صوفية من جوامع الآستانة وإن كان يشبههما في طراز بنائهما فهو أقل سعة من جامع الأزهر بالقاهرة والجامع

الأموي بدمشق كان هذا المسجد الشريف والمسلمون قليل عددهم لا يتجاوزون عشرات الألوف ثم كبره بعض الملوك بحسب ما اقتضت الحال ولو نظرنا اليوم إلى عدد المسلمين وهم لا يقلون عن 250 مليوناً وعددنا من يحج ويزور منهم كل سنة لأقضى لا أن نجعل سعة الحرم المدني أربعة أضعاف ما هو الآن عَلَى الأقل ونزينه بجميع أسباب المدنية الحديثة التي لا يحرمها الشرع ولا تنم عن إسراف. قال ابن قتيبة في المعارف: روى إبراهيم بن صالح عن سعد بن كسيان عن نافع أن عبد الله بن علي أخبره أن المسجد يعني مسجد المدينة كان عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً بلبن وسقفه الجريد وعمدوه خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً وزاد فيه عمر ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة وبالفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ووسعه المهدي سنة ستين ومائة وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه والمؤذنون فيه من ولد سعد القرظ مولي عمار بن ياسر وقرأت عَلَى موضع زيارة المأمون أمر عبد الله عبد الله بعمارة مسجد رسول الله سنة اثنتين ومائتين طلب ثواب الله وطلب جزاء الله وطلب كرامة الله فإن عنده ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً أمر عبد الله عبد الله بتقوى الله ومراقبته وبصلة الرحم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عيه وسلم وتعظين ما صغر الجبابرة من حقوق الله وإحياء من أماتوا من العدل وتصغير ما عظموا من العدوان والجور وأن يطاع الله ويطاع من أطاع الله ويعصى من عصى الله فإن لا طاعة لمخلق في معصية الله والتسوية بينهم في فيئهم ووضع الأخماس مواضعها.

معجم ما استعجم

معجم ما استعجم المؤلفات كالأشخاص منها ما يخادنه السعد فيشتهر وتتداوله الأيدي الجيل وبع الجيل والقرن بعد الآخر ومنها ما ينسى ولا يظهر ومنها ما بينَ بين. وكتاب معجم ما استعجم لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن أبي مصعب البكري الوزير هو من الطكتب التي عزت قبل الطباعة وبعدها لقلة ما استنسخ منها فيلا عصر مؤلفها وبعده في الغالب حتى أن ياقوتاً الرومي في معجم البلدان قال أن لأبي عبيد كتاب المسالك والممالك (ولعله مطبوع) وكتاب معجم ما استعجم من أسماء البقاع ولم أره بعد البحث عنه والتطلب له. ولكن ما عز عَلَى المتقدم تهيأ للمتأخر فإن إبراهيم الجنيني من أهل دمشق أكمل نسخ هذا الكتاب الممتع سنة 1100 في دمشق وكان أكمل الجزء الثاني سنة 1095 إذ لم يجد الأول ثم بلغه أن في مكة منه عند الشيخ حسن بن العجيمي وبعد ثلاث سنين أرسل له هذا أنه جءا مع رجل نسخة من مصر فنسخها وبعثها لصاحبه الدمشقي فأكمل نسخته وهذه النسخة بعينها هي التي نقلت من جملة ألوف كتب العلم في دمشق عاصمة الشام وعمرت بها مكاتب ألمانيا منذ منتصف القرن الماضي إذ كان القوم هنا لا يحرصون عَلَى غير الدينيات واللسانيات من الأسفار. ولقد قيض الله لنشر هذا المصنف البديع عالماً من علماء المشرقيات من الألمان الأستاذ وستنفليد شيخ اللغة العربية في عصره المتوفى سنة 1899 فنشره كما نشر معجم البلدان لياقوت ونشر نحو مائتي كتاب من كتب المسلمين في التاريخ والجغرافيا والنسب وغيرها مثل طبقات الحفاظ للذهبي والاشتقاق لابن دريد وسيرة ابن هشام والأنساب للسمعاني والمشترك وضعاً والمختلف صقعاً لياقوت وعجائب المخلوقات وآثار البلاد للقزويني ووفيات الأعيان لابن خلكان فاستحق شكر الأمة العربية بل الآداب العربية كما استحق ذلك الأستاذ دي كوي الهولاندي الذي طبع ثمانية تآليف في الجغرافيا لأئمة هذا الشأن من الأقدمين وسماها المكتبة الجغرافية العربية. وأبو عبيد البكري هم كما قال ابن مكتوم عبد الله بن عبد العزيز محمد البكري من أهل شلطيش سكن قرطبة يكنى أبا عبيد روى عن أبي مروان بن حيان أبي بكر المصحفي وأبي العباس العذري سمع منه بالمرية وأجاز له عمر بن عبد البر الحافظ وكان غيرهم من أهل اللغة والآداب الواسعة والمعرفة بمعاني الشعر والغريب والأنساب والأخبار متقناً لما

قيده ضابطاً لما كتبه جميل الكتب مهتم بما يمسكها في ثياب الشرب إكراماً لها وصيانة وجمع كتاباً في أعلام نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام أخذه الناس إلى غير ذلك من تواليفه وتوفي رحمه الله في شوال سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وترجمة الفتح ابن خاقان في قلائد العقبان بما صورته: عالم الأوان وقدره ومصنف البيان ومشنفه بتواليف كأنها الخرائد وتصانيف أبهى من القلائد حلى بها من الزمان عاطلاً وأرسل بها غمام الإحسان هاطلاً ووضعها في فنون مختلفة وأنواع وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع أما الأدب فهو كان منتهاه ومطحل سهاه وقطب مداره وفلك تمامه وإبداره وكان كل ملك من ملوك الأندلس يتهاداه تهادي المقل للكرى والآذان للبشرى عَلَى هناة كانت فيه فإنه رحمه الله مباكر للراح ولا يصحو من خمارها ولا يمحو رسم إدمانه من مضمارها ولا يريح إلا عَلَى تعاطيها ولا يستريح إلا إلى معاطيها قد اتخذ إدمانها هجيره ونبذ من الأقلاع نبذ عاصم بن الأيمن مجيره فلما حال انقراض شعبان وانصرامه كانت فيه مستبشعة الذكر مستنشعة النكر تمجها الأوهام والخواطر ويثبتها السماع المتواتر. وقد أثبت ما يشهد لك بتقدمه ويريك منتهى قدمه رايته وأنا غلام ما أقمر هلالي ولا نبع في الذكاء كوثري ولا زلالي في مجلس ابن منظور وهو في هيئة كأنما كسيت بالبهاء والنور وله سبلة يروق العيون إيماضها ويغرق السواد بياضها وقد بلغ سن ابن ملحم وهو يتكلم فيفوق كل متكلم فجرى ذكر ابن مقلة وخطه وأفيض في رفعه وحطه فقال: خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه وأصبحت مقلاً فالدر يصفر لاستحسانه حسداً ... والورد يحمر من إبداعه خجلاً وله فصل من كتاب راجع به الفقيد الأستاذ أبا الحسن بن دريد رحمهما الله: وتالله إني لا أطعم جنى محاورتك فيقف في اللهاة وأجد لتخيل مجالستك ما يجده الغريق للنجاة وأعتقد في مجاورتك ما يعتقده الجبان في الحياة. متى تخطئ الأيام في بأن أرى ... بغيضاً يناءي أو حياً يقرب ورأيت رغبتك في الكتاب الذي لم تحرر ولم يتهذب وكيف التفرغ لقضاء إرب والنشاط قد ولى وذهب فما أجده إلا كما قيل: نزراً كما استكرهت عائر نفحة ... من فارة المسلك التي لم تفتق

وإن يعن الله عَلَى المراد فيك والله يستفاد وبرغبتك أخرجه من الوجود إلى العدم وإليك يصل أدنى ظلم بحول الله. وله فضل من رقعة يهنئ بها الوزير الأجل أبا بكر بن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدي الدنيا والدين وأجرى لها الطير الميامين ووصل بها التأييد والتمكين والحمد لله عَلَى أمل بلغه وجدل قد سوغه وضمان حققه ورجاء صدقه وله المنة في ظلام كان أعزه صحبه ومستبهم غداً شرحه وعطل نجر كان حليه وضلال دهر صار هديه. فقد عمر الله الوزارة باسمه ... ورد إليها أهلها بعد إقصاد هذا هو المؤلف أما تأليفه فقد جعل عَلَى حروف المعجم ولكن عَلَى طريقة الغاربة أو الطريقة الإفريقية لا طريقة المشارقة فبدأ: اب ت ث ج ح خ د ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ وي. وحقق فيه أسماء البقاع والبلاد والمياه والجبال والبحيرات في بلاد العرب من الحجاز وتهامة واليمن والشام والعراق ونجد والموصل. وغريب والحال حال مؤلفي الغرب: أندلسي يعني ببلاد المشرق يجيد ولا إجادة المشارق أنفسهم. وهذا الكتاب ضروري كما يقول دوزي المستشرق الهولاندي لمن يدرسون التاريخ القديم والجغرافيا وشعراء الأقدمين والحديث فيذكر المؤلف رسم البلد أو البقعة ويعين مكانها ويستشهد بكثير من الأشعار التي وردت فيها ذكر هذه البلدة. قال المؤلف هذا كتاب معجم ما استعجم ذكر فيه جملة ما ورد من الحديث والأخبار والتورايخ والأسفار من المنازل والديار والقرى والأمصار والجبال والآثار والمياه والآبار والدارات والحرار منسوبة محددة. وقد أفاض في المقدمة في الكلام عَلَى جزيرة العرب وحدودها وقبائلها وما إلى ذلك من الفوائد الجغرافية فاستغرق نحو 55 صفحة من هذه الطبعة التي طبعت في غوتنغن في (ألمانيا) سنة 1876 عَلَى الحجر والغالب أنها بخط ناشره الأستاذ وستنفيلد أجزل الله ثوابه. وإليك مثالاً من وصفه خراسان: خراسان بلاد معروف قال الجرجاني معنى خركل أو أسان معناه سها أي كل بلا تعب وقال غيره معنى خراسان بالفارسية مطلع الشمس والعرب إذا ذكرت مطلع المشرق كله قالوا فارس فخراسان من فارس وعلى هذا تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من أهل فارس إنه عنى أهل خراسان لأنك إن طلبت مصداق

هذا الحديث في فارس لم تجده أولاً ولا آخراً وتجد هذه الصفة نفسها في أهل خراسان دخل الإسلام رغبة ومنهم العلماء والنبلاء والمحدثون والمتعبدون وأنت إذا أجملت المحدثين في كل بلد في كل بلد وجدت نصفهم من خراسان وجل رجالات الدولة من خراسان البرامكة والقخاطبة وطاهر وبنوه وعلي بن هاشم وغيرهم وأما أهل فارس فكانوا كنار خمدت لم يبق لهم بقية ولا شريف يعرف إلا ابن المقفع وابنا سهل الفضل والحسن. ومما قاله في رسم ضرية وحليت (ص 637) جبل أسود في أرض الضباب بعيد ما بيبن الطرفين كثير معادن التبر وكان به معدن يدعى النجادي كان لرجل من ولد سعد بن أبي وقاص يقال له نجاد بن موسى به سمي ولم يعلم بالأرض معدن أكثر منه نيلاً لقد أثاروه والذهب غال بالآفاق كلها فأرخصوا الذهب بالعراق والحجاز ثم أنه تغير وقل نيله وقد عمله بنو نجاد دهراًَ قوم بعد قوم. . ومن فوائده أيضاً قوله فيما يؤنث من البلاد ويذكر قال: الغالب عَلَى أسماء البلاد التأنيث والمؤنث منها عَلَى أحد أمرين إما أن تكون في علامة فاصلة بينه وبين المذكر كقولك مكة والجزيرة وإما أن يكون اسم المدينة مسغنياً بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولك حمص وفيد وحلب ودمشق وكل اسم فيه ألف ونون زائدان فهما مذكر بمنزلة الشام والعراق نحو جرجرا وحلوان وحوران وأصفهان وهمذان أشد الفراء: فلما بدا حوران والآدل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظراً وانشد أيضاً عن الكسائي: سقيا لحلوان ذو الكروم وما ... صنف من تينه ومن عنبه هكذا رواه صنف بضم الصاد ورواه يعقوب صنف بفتحها يقال صنف التمر إذا أدرك بعضه ولم يدرك بعض فإن رأيت شيئاً من ذلك مؤنثاً فإنما يذهب فيه إلى معنى المدينة والأغلب عَلَى فيد التأنيث وكذلك بعلبك وقد تقدم ذكر ذلك في رسومها وقال أبو هفان هي مبني وهو مبني وأنشد اللوجي: سقى منى ثم رواه وساكنه ... وما ثوى فيه واهي الودق مُنبعق وقال الفراء الغالب عَلَى منى التذكير والإجراء والغالب عَلَى فارس التأنيث وترك الإجراء قال الشاعر:

لقد علمت أبناء فارس أنني ... عَلَى عربيات النساء غيور وهجر الغالب عليه التذكير وربما أنثوها وقد أنشدنا شعر الفرزدق في تأنيثها وسجع العرب قال الفراء إنما أجرت العرب هنداً ودعداً وجعلاً وهي مؤنثات ولم يجروا حمص وفيد وتوز وهي مؤنثات عَلَى ثلاثة أحرف لأنهم يرددون اسم المرأة عَلَى غيرها ولا يرددون اسم المدينة عَلَى غيرها فلم تردد لم تكثر في الكلام لزمها الثقل ونرك الإجراء وقال أبو حاتم حجر اليمامة يذكر ويؤنث قال وفلج مذكر عَلَى كل حال وعمان الغالب عليها التأنيث وقباء وأضاخ فيذكران ويؤنثان وبدر مذكر قال الله عز وجل ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وحنين مذر لأنهما اسمان للماء قال الله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم وربما أنثته العرب لأنه اسم للبقع قال حسان: نصروا بنيهم وشدوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال والحجاز واليمن والشام والعراق ذكران ومصر مؤنثة قال الله تعالى ملك مصر وقال تعالى ادخلوا مصر وقال عامر بن وائلة الكناني لمعاوية أما عمرو بن العاص فانطفته مصر وأما قول الله عز وجل اهبطوا مصراً فإنه أراد مصراً من الأمصار وقرأ سليمان الأعمش اهبطوا مصر وقال هي مصر التي عليها سليمان بن علي فلم يجرها. ودابق يذكر ويؤنث من ذكر قال هواسم للنهر ومن أنت قال هواسم للمدينة قال الشاعر في الإجراء: بدابق وابن مني دابق وأنشد الفراء في تلك الأجزاء: لقد ضاع قوم قلدوك أمورهم ... بدابق إذ قيل العدو قريب ونجد مذكر قال الشاعر: قال تدعى نجداً دعه من به ... وأن تسكني نجداً فيا حبذ نجدا وبغداد تذكر وتؤنث وقد مضى القول في ذلك وذكرنا كم من لغة فيها وصفون وقنسرون وماردون والسليحون. وكذلك نصيبون وفلسطون وقد مضى القول في أعرابها وجرت الغالب عليه التذكير والإجراء وربما أنثوه وقد مضى الشاهد عَلَى ذلك وأجاز الفراء أن تقول هذا حراء بالإجراء تقول هذه ثم تذهب إلى الجبل كما تقول ألف درهم والكلام هذا ألف درهم وثبير مذكر وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما تغير وكبكب معرفة مؤنث لا تجري

وهو اسم للجبل ما حوله وقد تقدم إنشاد بيت الأعشى فيه اهـ. هذه نموذجات من الكتاب وهو جعبة فوائد للمتأدبين والعالمين وقد وقي في زهاء 850 صفحة وأضاف إليه ناشره فهراساً عاماً بأعلامه عَلَى عادة علماء المشرقيات في أسفارنا التي يحيونها بالطبع في بلادهم.

مصير ومسير

مصير ومسير كل فرد لغاية هو غاد ... لا يرى غيرها طريق السداد باذلاً جهده وراء الأماني حثيثاً يسعى لها في الجهاد غير أن الغايات مختلفات ... فهي بين الإصلاح والفساد والذي ينظر في الدن ... يا بعيني بصيرة واتنتقاد لا يرى غير طامع بجمع الما ... ل ويغنى وطامع بازدياد فكأن الإنسان ما جاء إلا ... لمعاش ما بين ماءٍ وزادِ قل لمن يجهل الحياة تفكر ... في مصير الاباء والأجداد كيف كانوا واين صاروا واين الرسل وأين القرون من قبل عاد أينَ أين المكلوك وأين الرعايا ... أين أين القواد والأجناد أين أين البناة أين الباني ... أين من شيدوا كذات العماد أين إسكندجر واين هرقل ... اين نمرود اين ذو الأوتاد اين قارون اين فرعون موسى ... اين كسرى وقيصر ذو الآد اين من كتبوا الكتاب للحر ... ب وصالوا بالمرهفات الحداد اين من كانوا يحرضصون عَلَى الما ... ل ومن كان كعبة القصاد هذه ذورتهم تجيبك عنهم ... لو يجيب الجماد صوت المنادي! صرتهم كأس المنون لما ... يستفيقوا حتى أوان التنادي وغدوا يحملون من بعد عرش الملك في موكب عَلَى الأعواد وجفاهم إخوانهم وبنوهم ... وجميع الحجاب والقواد واستقروا في ضيق اللحد يا سعد مقر السيوف في الأغماد ووضعوا بالتراب بعد فراش ... من حديد مؤثر ووساد جمعتهم دار المنون جميعاً ... وهم من قبائل وبلاد فغدا الضد يألف الضد طوعاً ... وغريب تآلف الأضداد ومليك الزمان منهم له الدو ... د نديم بعد الحسان الخراد كل هذا وأنت تطغى وتغتر ... بدنيا مصيرها للنفاد! أنت في كل حالة حيث صاروا ... صائر خلفهم بلا استعداد

سعد أن الإنسان أصلحه الله ... ظلوم من ساعة الميلاد ذو نفاق وذو جداع وذو ... مكر وذو شرة وذو استبداد أيها المرء أنت اشرف مخلو ... ق عَلَى الأرض ذو حجى وقاد أيها المرء أنت أحسن خلق الله خلقاً وأحسن الإحاد لم يكن خلقك الذي جئت فيه ... عبثاً كالوحوش أو الجماد بل لأمر بل أمور كثار ... أنت عنهن غافل في رقاد طاعة الله رأسها فوق رب النا ... س رب الفناء رب العباد مرسل الريح منشئ السب داحي ال ... أرض بل رافع الطباق الشداد واحد ما له بكل شريك ... جل عن والد وعن أولاد قربته الظنون من كل شيء ... نزهته العقول عن الأنداد إنما الفضل لو علمت هو العلم ... وبذل الندى وبيض الأيادي والنهي والإباء مع شمم الأنف ... وغوث اللهيف بالأنجاد طلب المجد عزة النفس حسن الذكر نيل الفخار طول النجاد سعة الخلق عفة الجيب نفع ال ... ناس طرداً من حاضر أو باد سيرة العدل لهجة الصدق حفظ ال ... عهد حفظ الذمام صدق الوداد أيها الغافل انتبه من رقاد ... إن ذاك العصر ليس عصر الرقاد إن ذا العصر عصر رب المساعي ... إن ذا العصر عصر واري الزناد إن ذا العصر عصر جذب ودفع ... عصر نيل العلا بطول السهاد إن ذا العصر عصر نور وهدى ... عصر علم الحجى والسداد عصر سبق ومفخر ورقي ... عصر سير البخار والمنطاد ليت شعري متى تلين القلوب ... من اناس قست كصم الصلات فيؤاسي الغني منهم أخا الفقير ويضحي الشحيح سمج الأيادي ويعيش الفتى بأرغد عيش ... لا يرى عيشه خسة ونكاد وتمر الأيام طراً عَلَى النا ... س يعدونها من الأعياد ويصير الغني منهم نبيهاً ... عارفاً بالإصدار والإيراد

ويعودون من قد دعي لأذاة ... حين يدعو كنافخ في الرماد ثم تغدو ترعي مع الذئاب شاء ... وظباء النقا مع الأسياد لست ادري وليتني كنت أدري ... أي يوم تزول فيه العواري أي يوم يموت فيه غواة! ... قد تمادوا في ألغي أي تماد كم أضلوا عن الهدى واستبدوا ... بالديانات أي استبداد! كلما قلم مصلح ثم يدعو ... هم إليه رموه بالإلحاد فمتى يا ترى يبدد شمل ... ذو اجتمع من عصبة الأوغاد ومتى تسترد بغداد مجداً ... سالفاً لهفتي عَلَى بغداد! يوم كانت في عصر ههرون تزهو ... مثل زهور الربيع بالأوراد وتمر المياه منها فتستقي ... جنة بعد جنة في الوهاد وتشد الرحال من كل فج ... لحمى ربعها ومن كل واد كل ركب قد سار يقفوه ركب ... أمها من شواسع الأبعاد فهي ملتقى الآمال نجح الأماني ... منجع الناس منهل الوراد يا سواد العراق (بيضك) الجد ... ب فصرت البياض وسط السواد! يا سواد العراق فيك كنوز ... يعلم الله ما لها من تفاد يا سواد العراق أمجلك القو ... م وقد كنت روضة المرتاد يا سواد العراق ابنك ذا اليو ... م من الضغط في ثياب حداد! يا سواد العراق تبكيك عين ال ... شعر ذا اليوم عن سواد المداد! يا سواد العراق شلت يمين ... ذات إثم دلت عليك الأعادي ليتني كنت في الزمان إماماً ... شيمتي شيمة الكريم الجواد وهماماً تهخشى لقاه كماة ال ... حرب في يوم معرك وجلاد فأذيق الطغاة طعم المنايا ... وأكبد البغاة أهل العناد وأبيد الخمول والجهل والظلم وجيش النفاق من بغداد وأرى القتل والشهادة في دع ... وا غاي المنى وكل مراد حبذا الموت في سبيل المعالي ... والمنايا في خدمتى لبلادي

إن خير القريض ما كان منه ... يطرب السامعين بالإنشاد والذي نظمه يقص عَلَى القا ... رئ وعظاً يذيب صم الجمال فهو طوراً ما بين أمر ونهي ... وطوراً بين حاد وهاد وهو حيناً بين المآتم ناعٍ ... وأوانا بين العرائس شاد خالي الذكر من أحاديث لبنى ... وسليمى وزينب وسعاد سلس اللفظ والعبارة جزل ... معجز باهر كشعر زياد إن هذا يا سعد غاية سؤلي ... إن هذا يا سعد جل اعتقادي هو مقصودي الذي طول عمري ... أتمناه من صميم فؤاد إن أكن مخطئاً فأنا ابن أنثى ... أو مصيباً فمن صحيح اجتهاد بغداد كاظم الدجيلي

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات إلى القارئ الكريم بعض ما عثرنا عليه من المخطوطات النادرة في دار كتب شيخ الإسلام عارف حكمت بيك في المدينة المنورة التي ورد ذكرها في مكان آخر من هذا الجزء مما هو جدير بالإحياء ولم يطبع فيما نعلم. الزبد والضرب في تاريخ حلب لشيخ الإسلام رضي الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي الحلبي في المجموع نمرة 59 وهو المجموع الثالث وقع في 14 ورقة وهو مختصر لكتاب زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن جرادة المقلي الحلبي انتزعه من تاريخه الكبير للشهباء المرتب عَلَى الحروف والأسماء وضمنه ما وصل إليه ووقع عليه من ذكر أمراء حلب وولاتها وملوكها ورعاتها وبعض من عثر عليه من الوزراء والقضاة والملوك والرعاة. طبقات القراء تأليف محمد بن سلام الجحمي أوله قال: أبو محمد أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصير بن يحيى القاضي أنبأنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجحمي قال أنبأنا أبو عبد الله محمد بن سلام الجحمي قال وللشعر صناعة وثقافة يعرفهما أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تتقنه العين ومنها ما تتقنه الأذن ومنها ما تتقنه اليد ومنها ما يتقنه اللسان ومن ذاك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره وهو تحت نمرة 668. كتاب التشبيهات لأبي إسحاق البغدادي قال فيه زادك الله في الآداب رغبة وللعلوم محبة ودلك عَلَى الحجة ووفقك للمحجة وأعانك عَلَى طلبك بالرشد وأظفرك بالغرض عند الفحص سألتني أعزك الله أن أثبت لك أبياتاً من تشبيهات شعراء الواقعة وبدائعهم فيها الظريفة وقد تقدم الناس أعزك الله في اختيارك الشعر وتمييزه غير أنهم لم يصنفونه أبواباً وذلك أن الشعر مقسم عَلَى ثلاثة أنحاء منه المثل السائر كقول الأخطل: فأقسم المجد حقاً لا يحالفه ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر وكقول الفرزدق: ذل العدو فإنا لا نلين له ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر فقلت لها يا أم بيضاء إنني ... هريق شبابي واستشن أديمي وكقول الحطيئة:

وقد ناصلوك فأبدوا من كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلاً غير إنكاس ومنه التشبيه الواقع النادر كقول امرئ القيس في العقاب: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي والكتاب في جزء لطيف كتب سنة 466 وخطه مقروء. التعريف بما أنست الهجرة بمعالم دار الهجرة لجمال الدين أبي عبيد الله بن أحمد المطري فيه فضل المدينة وما جاء في فضل مسجد الرسول والروضة ووصف الجامع وأبوابه ومساجد المدينة والآبار التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأودية المدينة ووادي العقيق وحدود الحرم. الجواهر الثمينة في محاسن المدينة للسيد محمد كبريت المدني كتب عام 1270. تقديم الأبدان في تدبير الإنسان للعلامة أبي الحسن علي يحيى بن عيسى بن جزلة المطبب البغدادي أوله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأمراض وشفاء وصلواته عَلَى أنبيائه ورسله إلا منا من عرف أن الله رشحه بكماله الذي هو صلاح ماله ضن بعمره أن يغبن في أيامه وتدبيره أن يغلب عَلَى أعوامه فلا يتفق عمره إلا في أهم أموره إليه ولا يقطع دهره إلا بما عودوها عليه من مصالح دنياه وأخراه وعمارة عاجلته وآجلته: قد للمقتدي بالله وهو مجلد ضخم بالحجم الكامل جمع فيه ما عرف من أنواع الأمراض وطرق علاجها وخواص النباتات والعقاقير وغير ذلك مما يفيد جداً وقد كتبت هذه النسخة سنة 297 (؟) وعبارة الكتاب من السهل الممتع تذكر بعبارة القانون لابن سينا المطبوع في أوربا. نصر من الله وفتح قريب للسيد محمد كبريت المدني فيه تراجم فضلاء المدينة المنورة. غربال الزمان المفتتح بسيد ولد عدنان اختصار يحيى بن أبي بكر العامري من تاريخ الإمام أسعد اليافعي وهو مرتب عَلَى السنين فيه الوقائع وتراجم المشاهير إلى سنة 750. البرق المتألق في محاسن جلق للراعي الشهير بابن خداو بردي المتوفى سنة 1195 فيه وصف محاسن دمشق شعراً من شعره ومن شعر غيره وآثار عمرانها وذكر أنهار دمشق نهر المنيحي والزبديني والوسطاني والغربي ودرمينا والناصية والحاجي والبالاني والزبوان والملك والشيداني بهر تل الذهب بيت نائم حزرما الغريفة والبلالية العبادة

الجامعي البيروكليبا وعين ترما وكفر بطنا جسرين حوريا وسقبا الإفتريس وغير ذلك من الأنهار التي لا تعرف اليوم والعيون والأودية ومنها ما لا يعرف أيضاً نسخة سنة 1199 (ومنه نسخة في دار الكتب الخديوية بمصر). النجوم الزواهر في معرفة الأواخر للبودي الدمشقي من أهل القرن التاسع ذكر فيه الأواخر كما ذكر السيوطي الأوائل أي آخو من صنع كذا وآخر من كان كذا. مخدرات القصور في تاريخ أهل العصور تأليف ابن قطري البجيري المؤرخ المصري المتوفى سنة 898 وهو مختصر في التاريخ. كتاب ايمان العرب لأبي إسحاق النجيرمي الكاتب في المجموع نمرة 54 وهي في خمس ورقات بالخط الدقيق فيها ما كان يقسم به العرب وبه يستدل عَلَى أديانهم ومعتقداتهم قبل الإسلام. الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية لمؤلفه الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطا النجفي. طبع بمطبعة العرفان في صيدا الجزء الأول صفحة 224. لم يظهر هذا الكتاب إلى عالم الوجود حتى تسابقت أنامل الكتاب لتقريظه واستفزاز الهمم لمطالعته فتاقت نفسي للوقوف عليه إذ أن موضوع الدعوة للإسلام من المباحث التي يهتم لها كل الاهتمام لاسيما ومعالم الهمم قد رست للدعوة والعزائم قد خارت لإظهار مميزاته من مطابقة أصوله للعقل والعلم ونواميس الاجتماع فلقد تلاعبت به أيدي الجهلاء وسه محاسنه من انصاع للأمراء من العلماء الذين حجبتهم شهواتهم ونفوسهم الدنيئة عن الدعوة إليه وعن معرفة ما عليهم من الواجبات نحوه وقل من زمن بعيد من انبرى لتبرئته من الوصمات التي ألصقها به بعض من يجهلون حقيقته أو الذي يحكمون عَلَى الإسلام بالمسلمين والإسلام محجوب بالمسلمين حتى قبض الله لنا يعسوب المصلحين الشيخ محمد عبده المصري فجاهر بمؤاخاة الدين للعلم والعقل وفسر قسماً من الكتاب الكريم عَلَى أسلوب صحيح لم يسبقه إليه أحد من العالمين ولطكن قضت المشيئة الإلهية أن يقضى عليه قبل أن يتم عمله العظيم وما ينويه من الأعمال المصلحة للمسلمين. لم يقع نظري عَلَى هذا الكتاب حتى أخذته وطالعته وإنعام فألفيته كتاباً نفيساً بل درة يتيمة

جمع فأوعى من المسائل الدينية والعلمية والاجتماعية وقطع بقوة حججه ألسنة الملحدين المقلدين الذين بخسوا من قدر العقل وكادوا يقضون عَلَى الإنسانية بمزاعمهم الفاسدة فأوجدا الشرور في البشر وزينوا للناس حب الشهوات وهتك الأعراض حتى استباحوا الرذائل وأفسدوا الأخلاق. عَلَى أني لاحظت بعض الأمور أثناء مطالعتي هذا السفر النفيس لم أر بداً من إظهاره حرمة لحرية النقد التي يحترمها ولا ريب أمثال الأستاذ المؤلف. (أولاًَ) نهج المؤلف في كتابه منهج التطويل الذي يأباه عصرنا الحاضر في حين تخوله ملكته البيانية وقوته العربية في فن الكتابة أن يسلك طريق الاختصار الممدوح عَلَى قاعدة (ألفاظ قليلة وأفكار متعددة) فإن مؤلفات المرحوم محمد عبدة التي هي خير مشكاة يجب عَلَى علمائنا أن يحذوا حذوها قد سلك فيها مسلكاً غريباً لما حوته من الفصاحة والاختصار حتى سهل عَلَى جميع طبقات الناس مطالعتها فجمع في رسالة التوحيد تلك الأفكار العظيمة في هذه الوريقات القليلة ولقد وفاه حقه السيد لطفي المنفلوطي بقوله: كاد يكتب الشريعة الإسلامية بلسان صاحبها. فلو سلك المؤلف هذا المسلك في كتابه لكان حجمه نصف ما عليه اليوم فتسهل مطالعته عَلَى جميع الناس ويعم نفعه وهي أقصى الغاية التي ننشدها لأن الكتاب المطول مهما كان له من الشأن لا يقرأه غير الخواص من الناس. (ثانياً) لقد حمل المؤلف عَلَى الملحدين حملة شعواء وكان الأجدر به أن يتجنب تلك الألفاظ ويجتزئ بالأدلة الناهضة التي أقامها لأن الحكمة تقتضي باستعمال الرفق واللين مع المعاندين وأن تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة فيسلكون طريق الحق. ولقد اثبت علماء الاجتماع أن المكابر المعاند يزداد طغياناً إذا دعي بالشدة نعم إن الملحدين لعمر الحق اكبر ضربة قاضية ولكننا بغير الرفق واللين لا نستطيع أن نستحوذ عَلَى قلوبهم حتى يميلوا إلى الحق ولقد علمنا القرآن كيف يجب علينا أن ننهج مع مثل هؤلاء الجامحين فقال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقال أيضاً: فقولا قولاً ليناً لعله يذكر أو يخشى فهذا فرعون مع ارتكابه أكبر جريمة عَلَى البسيطة أمر الله نبيه أن يسلك معه سبيل الرفق واللين فاستعمل المؤلف الشدة مع هؤلاء مدعاة المنفور فلو أضاف مع البراهين الثابتة التي أقامها قلاً ليناً لكان أولى.

(ثالثاً) لو تجرد الكتاب عن بعض الفلسفة القديمة لكان أقوى لإقناع الخصم لأنها أصبحت أمام العلم الحديث ضعيفة الدعائم عَلَى أن المؤلف قد أيد أكثر القضايا بالأدلة المنطقية والفلسفية الحديثة إلا أنه استعمل في باب الإلهيات بعض التعليلات القديمة. (رابعاً) تعرض المؤلف أثناء بحثه لعلي كرم الله وجهه وعصمته وكان الأجدر بأمثال المؤلف ممن نضج علمه وكمل إدراكه أن يترك هذا البحث لغيره المشتغلين بالقشور لأنهم أحق بالخوض في غماره لأن الجزئيات قد حجبتهم بالكليات وليس معنى هذا الآن مناظرة المؤلف في هذا البحث أو نقض القضايا التي أقامها لأن الاشتغال بمثل هذه الأمور مدعاة لضياع الوقت دون جدوى لاسيما والأجانب تتوثب لتقسيم أملاكنا وذهاب استقلالنا وقد قال مرة أحد فلاسفة الألمان بينما نكون في الجبال والآكام نستخرج المعادن يكون المسلمين مشتغلين ببعض مسائل دينية فرعية يتناظرون ويتناقشون. وكان الأولى بالمؤلف أن يضرب كشحاً عن هذا البحث وهب أن الحق في جانبه فإن العقل يقضي عليه بارتكاب أخف الضررين لأن المسلمين لم تتفرق كلمتهم ويذهب مجدهم إلا بمثل هذه الاختلافات الضئيلة التي لا يقام لها وزن فصرنا نقول شيعي وسني ووهابي وو الخ وما نحن إلا أخوة نجتمع متحدين تحت لواء التوحيد. عَلَى أن هذه الهفوة تستكبر من المؤلف لأنه عالم غزير المادة كبير العقل درس حالة المسلمين الروحية والاجتماعية وصف لها أنجع ترياق لدائها. عَلَى أن هذا التشيع لم يكن إلا بقية من بقايا التقليد الذي جرى عَلَى المسلمين هذا الويل والثبور. وصفوة القول أن هذا الكتاب من أنفع الكتب الدينية والاجتماعية والفلسفية الحديثة فيجدر بالكبار والصغار أن يقتنوه فهو خير دعوة أخرجت للناس. دمشق // عبد الفتاح السكري التاريخ الكبير للحافظ أبي قاسم ابن عساكر طبع بمطبعة روضة الشام سنة 1329 - 1330 (ص363 ج1) (ص464 ج2).

مضت الأعوام والباحثون من العلماء وجمهور المتأدبين من المطالعين يتشوقون لأن يروا تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر متداولاً في أيديهم لكن ضخامة حجمه بكثرة المكررات والأسانيد عَلَى أسلوب المحدثين دعت إلى إحجام الطابعين عن طبعه حتى قيض الله له في السنة الماضية خالد أفندي قارصلي صاحب مطبعة روضة الشام فطبع تاريخ دمشق في دمشق عاهداً إلى الشيخ عبد القادر بدران بحذف ما يراه زائداً بالكتاب ولا يضر إغفاله بالجوهر فحذف ما ارتآه الصواب وأبقى ما يوسع حجم الكتاب فجاء وإن لم تقر به أعين العلماء لأنهم يحبون أن يشاهدوا التآليف عَلَى الصورة التي صدرت بها عن مؤلفيها خصوصاً وفيه ما أغفل المصحح تصحيحه من الأغلاط التي تدل عَلَى ضعفه في التاريخ فهو بالنظر لشهرة مؤلفه رحمه الله سينفع طبقة كبيرة من الجمهور ويغنيهم عن المطول ولو إلى وقت معلوم ولذلك لا يكاد يستغنى عن اقتنائه كل محب لمطالعة راغب في الوقوف عَلَى ماضي هذه العاصمة ورجالها الذين طبقوا الآفاق بشهرتهم. فنشكر الطابع جزيل خدمته. بعد همته في زمن قل جداً الآخذون بأيدي العلم والآداب الراجعون إلى الماضي بل تراهم كلهم وقد شغلهم الحاضر والمستقبل عن النظر في الماضي وهيهات أن ينجح في حاضره من لم يعرف حالة غابره. دروس الجغرافيا تأليف فوزي بك العظم طبع في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1912 - 1330 (ص48 مع 24 شكلاً) يسرنا جداً أن بعض المنورين من أبناء هذا الوطن العزيز اخذوا ينقلون إلى اللغة العربية الشريفة مبادئ العلوم التي لم يستغن البشر عن معرفتها في دور من أدوراهم ومن ذلك ما أصدره مصنف هذه الرسالة في الجغرافيا العامة فقد أودع موجزاً ما يقضي عَلَى الصغار بل والكبار الانتفاع منه لأني علمي الجغرافيا والتاريخ لا يزهد فيهما إلا ناقص العقل راغب في الجهل. فما أحرى مدارسنا الأهلية أن تعتمد مثل هذا الكتاب تنشيطاً لمؤلفه ورغبة في تعليم الناشئة علم تقويم البلدان عَلَى هذا الأسلوب النافع للشيب والشبان.

العباسة هي إحدى روايات رصيفنا جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال بمصر نقلها إلى الإفرنسية وطنينا ميشيل أفندي بيطار احد أساتذة مدرسة اللغات الشرقية في باريز ونسق لغتها المسيو شارل موليه وقدم لها المسيو كلود فارير مقدمة قال في أولها ما ترجمته: في 732 للميلاد حدثت فاجعة ربما كانت من أشأم الفجائع التي انقضت عَلَى الإنسانية في القرون الوسطى وما كان منها أن غمرت العالم الغربي مدة سبعة أو ثمانية قرون إن لم نقل أكثر في طبقة عميقة عَلَى التوحش لم يبدأ بالتبدد إلا عَلَى عهد النهضة وكان عهد الإصلاح يعيدها إلى كثافتها. هذه الفاجعة هي التي أريد أن أمقت حتى ذكراها وأغني الغلبة المكروهة التي ظفر فيها عَلَى مقربة من بواتيه برابرة المحاربين من الإفرنج بقيادة الكارولنجي شارل مارتل عَلَى كتائب العرب والبربر التي لم يحسن الخليفة عبد الرحمن جمعهم عَلَى ما يقتضي من الكثرة فانهزموا راجعين أدراجهم. في ذلك اليوم المشؤوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء ويكفي المرء أن يطوف في حدائق الأندلس أو بين العاديات التي لا تزال تأخذ بالأبصار مما يبدو من عواصم السحر والخيال إشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطلة ليشاهد والألم الغريب ذاهب منه ما عساها لو تكون البلاد الفرنسوية لو أنقذها الإسلام الصناعي الفلسفي السلمي المتسامح - لأن الإسلام مجموعة كل هذا - من الأهاويل التي لا أسماء لها وكان منها أن أنتج خراب غاليا القديمة التي استعبدها أولاً لصوص أوسترازيا ثم اقتطعوا جزءاً منها قرصان النورمانديين ثم تجزأت وتمزقت وغرقت في دماءٍ ودموع وفرغت من الرجال بما انبعثت في أرجائها من الدعوة للحروب الصليبية ثم انتفخت بالجثث بما دهمها من الحروب الخارجية والأهلية كثيرة العدد حدث ذلك عَلَى حين كان العالم الإسلامي من نهر الوادي الكبير إلى نهر السند يزهر كل الأزهار في ظل السلام تحت أعلام أربع دولات سعيدة الأموية والعباسية والسلجوقية والعثمانية. ليس هذا فصلاً رسمياً في التاريخ الرسمي من التاريخ الكاذب الذي تعمله المختصرات لصغار الطلبة من الفرنسيس بل هو التاريخ الحقيقي الذي يتعلمه المرء بنفسه مما يجتازه من البحار أو يقطعه من الأراضي ويقلبه من خزائن الكتب الأجنبية وليس هذا بعزيز عل

حياة سائح يريد أن يثبت عقيب رحلة له ما يمس منه بأطراف إصبعه تلك الكذبة الكبرى السفيهة التي أراد معلمونا ولا يزالون يريدون وضعها أمام أعيننا كأنها حقيقة بل هي الحقيقة. إني لمعجب أن أقدم لجميع الفرنسويين من أصحاب الإرادة الذين يتوخون نبذ الأوقات القديمة وليس لهم وقت ولا فراغ لمباشرة رحلتين أو ثلاث في الأرض للبحث عن الحقيقة - الحقيقة الناصعة - هذا الكتاب البسيط الذي يوفر عنهم الرحلة إلى بغداد ودمشق وإسبانيا الجنوبية فيوحي إليهم كل ما هو مسرة للعيون والعقول ويصور لهم الصورة الحقيقية بل الصورة الطبيعية للإسلام في القرن السابع والتاسع ذاك الإسلام الذي قضى عليه الكارولنجي المتوحش ونبذه خارج فرنسا بضربات عظيمة من مطرقته. . . . الروضة البهية في فضائل دمشق المحمية طبع بمطبعة المقتبس سنة 1330 (ص105) غالى معظم من كتبوا في دمشق من أبنائها في الوصف أو أفرطوا في الشكاية ولكن المقرر الثابت أنها من خيرة البلاد بطبيعتها وها قد ألف أحد الدمشقيين محمد فندي عز الدين عربي كاتبي هذه الرسالة فلم يخرج فيها عن خطة المادحين المعجبين والمديح مما تألفه نفوس الجمهور في الأغلب فذكر ما نقله القصاصون في فضائل دمشق ومن نزلها من الصحابة وبعض معاهدها ولاسيما الدينية واحسن في وصف أعمالها الجديدة مثل الخطوط الحديدية والأحياء الجديدة وماء الفيجة ومستشفى الغرباء فحبذا من أراد تحبيذهم تزلفاً ولم يذكر السلطان نور الدين محمود بن زنكي النعروف بالشهيد وإن هذا المستشفى بني ببقايا أموال مستشفاه النوري وما جمع من الإعانات بعد بالضرب والتجبية والترويع. وقد اودع كتابه شيئاً من الأقاصيص التي نقل بعضها عن ضعاف العقول ممن حشروا أنفسهم ظلماً في العصر الأخيرة بين المؤلفين مثل ما نقله (ص25) عن الشيخ أبي العباس أحمد بن قدامة صاحب الكرامات والأحوال الظاهرة إنه مشى عَلَى نهر يزيد بقبقاب في رجليه فلم تبتلا فطالع ليلة فكدرت عليه الضفادع بأصواتها فقال أيتها الضفدع قد أذيتمونا بأصواتكم فإما أن ترحلن عنا وإما أن نرحلن عنكن فأصبح وليس في النهر شيء من الضفادع ومن ثم لم يسكن نهر يزيد ضفادع إلى الآن!

ومن هذا البحر والقافية أتى المؤلف بأمور منتقدة عند جمهور المحققين من رجال الدين والمدنية مما نبه عليه الأعلام في كل عصر أمثال ابن تيمية وابن الحاج وعشرات غيرهم. وكنا نود أن تعرى التآليف الحديثة من نقل هذه الأخبار الواهية وأن لا ينقل المؤلف مثلاً من جملة الفوائد أن دمشق النائم بها كالعابد بغيرها حتى يزيدنا خبالاً فوق خبالنا فإننا أحوج إلى من يقوي همتنا منا إلى من يضعفها برواية هذه المثبطات. فعسى أن يحذف الباحث كل ما لم يصححه المتحدثون والمتفقهون والمؤرخون من الأخبار المضعوفة المرذولة ويقتصر عَلَى الصحاح وإلا فتكون مضار هذه الكتب أكثر من منافعها بكثير. الدعوة إلى الإصلاح للشيخ محمد خضر بن الحسين طبع بالمطبعة الرسمية العربية بتونس عام 1308 - 1910 (ص41). تتم معظم تآليف التونسيين الأخيرة عَلَى فضل علم وأدب وإن خاصتهم لا يؤلفون في الغالب إلا إذا اعتقدوا واعتقد الناس فيهم الكفاءة العلمية وقد تلطف مؤلف هذه الرسالة في موضوعه الجليل فأفاض في الحاجة إلى الدعوة وفي الدعوة في نظر الإسلام وفي شرائطها والإخلاص فيها وآدابها وآثار السكوت عنها والإذن في السكوت عنها وأسباب إهمالها وقال في خاتمة ما يدعو إلى إصلاحه وهوو ما نورده نموذجاً عَلَى نبذته النافعة: ولما افترقت الأمة في حفظ بقائها وصلاح عيشها إلى جملة من الوسائل كالصنع وبعض الفنون الحكمية كانت داخلة في واجبات وفيها كما صرح بذلك أبو إسحاق الشاطبي وغيره من الراسخين في علوم الشريعة فإن عظم مصلحتها والخطر الذي ينشأ عن إضاعتها واضح في الدلالة عَلَى وجوب التعلق بأسبابها ولكن الإسلام لم يفتح عين المكلف في كل موضع من مواضع إصلاحها أو أعطى لتفاصيلها قواعد كما تفعل في قسم العبادات والمعاملات والجنايات وغنما أرشد إلى أصول مطالبها ثم فوض في وجوه عملها معرفة ما هو الأصلح في وسائلها إلى الفطرة السليمة والعقول الراجحة كما قال صلى الله عليه وسلم في واقعة تأبير النحل (أنتم اعلموا بأمور دنياكم) فإن التمييز فيها بين الحسن والقبيح من المطالب التي لا تفوت مداركهم ويسعها طوق عقلهم. وقد يسبق غير العارف الشرائع إلى الخبرة ببعض نظامات مدنية ولهذا لم يضع الإسلام حرجاً عَلَى أخوانه إذا كانوا غير المسلمين وعملوا عَلَى مثالهم فيما يحسن في نظرهم من

مقتضيات المدنية وترتيبها كالصنائع والفلاحة والتجارة وحفظ الصحة وما شاكلها فإن إعراضنا عن أخذ ما بأيدي المخالفين من المعارف والاستنباطات المفيدة في هذه الحياة يقضي بنا كما قال أبو حامد الغزالي إلى أن نضرب عن كل صالح سبقونا إليه. ويتعين عَلَى المرشد لإصلاح هذا القسم أن يجيد البحث عن أحوال الأمم الأخرى ويعرف أسباب ارتقائهم وعلل سقوطهم وتركيب الأقيسة ويؤيد بها الأفكار المستقيمة ويثبت بها صواب ما تهديه إليه البصيرة الكاملة. هذا ما يقوله احد أستاذة الجامع الأعظم الزيتونة في تونس ثاني مدرسة دينية عالة في العالم الإسلامي فمتى يكون كذلك لسان حال سائر مدرسينا ومقالهم فتجمع هذه الأمة الدين إلى الدنيا ونور العقل الصحيح إلى التعليم السماوي الرجيح. الحرية والإسلام كتاب للأستاذ التونسي المشار إليه ألقاه في صورة مسامسرة وأجاد في تحديد حقيقة الحرية والشورى والمساواة والحرية في الأموال والحرية في الأعراض والحرية في الدماء والحرية في الدين والحرية في خطاب الأمراء وآثار الاستبداد كل ذلك بعبارات تستعذبها النفوس لسلاستها وتدل عَلَى بعد غور منشئها وبعد نظره في المسائل الاجتماعية والدينية. حياة اللغة العربية هي مسامرة طبعت أيضاً في تونس لصاحب كتاب الدعوة إلى الإصلاح والحرية في نشر الإسلام المنوه بقدره تكلم فيها عَلَى تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية وأطوار اللغة خصائصها وتراكيبها وأساليبها وإبداع العرب في التشبيه واقتباسهم من غير لغتهم وارتقاء اللغة مع المدنية واتحاد لغة العامة والعربية إلى غير ذلك من الفوائد التي أجاد المؤلف في سردها وبيانها فله الشكر عَلَى خدمته الإسلام ولغته خدمة عقل وروية. التبيان في تخطيط البلدان لإسماعيل بك رأفت طبع بمصر سنة 1329 (ص509). لصديقنا مؤلف هذا الكتاب يد طولى في التاريخ والجغرافيا وهو اليوم أستاذ الجغرافيا وعلم الشعب أتنوغرفيا في الجامعة المصرية وأستاذ التاريخ العام والجغرافيا في دار العلوم في

القاهرة وهذا الكتاب هو الجزء الأول من سلسلة كتب سينشرها بعد أن يلقيها دروساً عَلَى طلاب الجامعة وهو يحتوي عَلَى وصف قارة أفريقية وأحوالها الطبيعية والجغرافية مثل أنهارها وبحيراتها وجبالها وجزائرها ومعادنها وحيواناتها وأجناسها البشرية وصناعاتها ووصف ضاف لبلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس وبرقة والصحراء الكبرى وما فيها من الأمور الطبيعية والصناعية عَلَى أسلوب استبيان به أن المؤلف ذاق فنه كل الذوق وأحسن في شرحه وجميع المواد اللازمة من كتب الجغرافية القديمة والحديثة والتاريخ والرحلات ولاسيما الرحلات التي كتبت بالألمانية والإنكليزية والإفرنسية بحيث جاء الكتاب مجموعة فوائد يود كل عربي أن يرى مؤلفه موفقاً إلى نشر الأجزاء الباقية من كتابه بهذا التوسع النافع والوصف المشبع وقد رأينا بعض تساهل طفيف وشيء من الألفاظ نقل عن الإفرنجية بغير الألفاظ المألوفة مثل قوله الكوارتز (ص35) وهو الصوان والبازلت (ص55 و63) والمشهور الحجر البركاني والجرانيت وهو المعروف بالشام بالشحم واللحم وهو نوع من الصوان والكوتشو ويترجمه المترجمون بالمطاط والأردواز ويترجمونه بلوح الحجر وقال أيتوبيا ورأس عشم الخير والدين الفتشي وجزيرة زنزبار ولو قال بلاد الحبشة والزنوج ورأس الرجاء الصالح والدين الوثني وجزيرة زنجبار لتابع العرب والمألوف في ترجمته. وهناك بعض أغلاط مطبعية مثل قسنطينة وعسى أن يحرر كل ذلك صديقنا المؤلف في الطبعة الثانية ويضيف إلى كتابه الخرائط العربية التي وعد بها فأغفل الطابعون إلحاقها بها ونشكره عَلَى غيرته عَلَى الآداب والمعارف. التجارة العصرية تأليف السيد عبد الحق بن وكاف طبع بالمطبعة المولوية بفاس عَلَى نفقة مولاي الحفيد سنة 1329 (ص376). ربما كانت هذا الكتاب من أوائل الكتب العصرية التي أبرزتها عقول أبناء الإسلام في الغرب الأوسط وقد ضمنه المؤلف مباحث تجارية وقتية عَلَى أصول الفقه المعمول به في الجزائر أفاض في القسم الأول في الفقه التجاري الفرنسوي وفي الثاني بمسك الدفاتر وفي الثالث بالمراسلات التجارية الوقتية بعبارات سهلة كثيراً ما يمزجها المؤلف - وهو محدث ومدير مدرسة فاس - بألفاظ إفرنجية لها مقابل بالعربية ولكنها شاعت كذلك في تلك البلاد

لاختلاط السكان بالفرنسيس والطليان والإسبانيين والبرتقاليين. وقد أهدى كتابه وهو من أبناء الجزائر إلى علماء بلده ومشايخه مسلمين وإفرنسيين ممن أخذ عنهم هذا العلم وغيره وأجادت المطبعة في طبعه بحروف مشرقة مشرقية غير الخروف المعهودة المغربية أكثر الله من أمثال المؤلف الساعين لترقية أبناء بلادهم من طريق العلم والعمل عَلَى المناحي العصرية النافعة. آداب العرب لإبراهيم بك العرب طبع بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1911 ص112 كانت جريدة المقتبس تنشر الحين بعد الآخر قصائد بتوقيع العرب عَلَى لسان الحيوانات مثل قصائد الشاعر لافونتين الفرنسوي فوقعت من قراءها موقع الاستحسان الكثير لسلاستها وتضمينها الحكم الرائعة وقد انتبهت نظارة المعارف المصرية إلى فوائد هذه القصائد فطبعتها عَلَى نفقتها أجمل طبع بالشكل الكامل لتكون مثالاً يحتذيه طلاب الآداب ولغة العرب وقلم الشاعر إبراهيم العرب وهي مئة قصيدة يقرأها كل طبقات القراء فيعجبون بما فيها من أدب غض وحكمة ناصعة وهي تقرر تدريسها في المدارس الابتدائية بمصر بنين وبنات فعسى أن يعتمد عليها أيضاً مديرو المدارس الأهلية في الشام ليقتبس من فوائدها أبناء الفرات والساجور والعاصي والأردن وبردى والكلب بعض ثمرات أبناء النيل المبارك الذي أصبح عيالاً عليه استقاء المعارف والآداب العربية. تاريخ مدينة زحلة تأليف عيسى أفندي إسكندر معلوف طبع بمطبعة زحلة الفتاة في زحلة (لبنان) سنة 1911 (ص298). اشتهر مؤلف هذا الكتاب بين الباحثين من أهل هذه الديار بما نشره حتى اليوم من رسائله وكتبه ومجلته الآثار وكتابه هذا نافع في تاريخ أكبر مدينة لبنانية وما جاورها مثل بلاد المتن وبعلبك والبقاع ووادي التيم ووادي القرن ووادي الزبداني وغيرها ومعظم الكلام عَلَى هذه البلاد ورد بالعرض فأطال المؤلف الكلام عَلَى تاريخ سهل البقاع خاصة كما

أطال عن زحلة وذكر أخبار البيع والمآوي (أنطيوش) وتاريخ إنشائها. وبيع لبنان ليست من الكاتدرائيات المهمة ولا من العاديات القديمة بل إن أكثر بيوتها صغيرة حديثة لا يهم التاريخ ولا فن البناء متى أنشئت. ونحن نسامحه فيما اقتبسه من مجلة المقتبس (ص40) من نقل خلاصة ما كتبناه في رحلتينا إلى قلمون الأسفل وقلمون الأعلى فيالسنة الرابعة والخامسة ولم يعزه إلينا مع أنه من مشاهداتنا وتحقيقاتنا الخاصة لم يسبق لأحد قبلنا أن خاض عبابه فيما نعلم. ولا نوافق المؤلف دعواه في أن اسم زحلة مأخوذ من زحل الرجل عن مكانه إذا تنحى متباعد منه المزحل اسم مكان للموضع يزحل إليه أو مصدر ميمي وتمحله الأسباب لهذه التسمية وكذلك لا نستحسن استشهاده بقصيدته في وصف مناظر زحلة (ص11) فإنها ليست من الشعر المستملح وأين قصيدته من قصيدة خليل أفندي مطران في وصف خرائب بعلبك وكان عَلَى المؤلف أن لا يفوته ذكرها خصوصاً وقد استشهد بشعر هو دون تلك الطبقة بمراحل مثل شعر المعلم نقولا الترك فإنه ليس من الشعر الواجب تدوينه إذ هو عار عن صفات الشعر. وقد توهم (ص37) أن القبة الكائنة عَلَى جبل قاسيون بدمشق هي قبة المرصد الفلكي الذي كان بناه الأمويون (والحقيقة أن الباني هو المأمون العباسي ثم أولغ بك التتري) مع أن هذه القبة محدثة من جملة المناور التي كانت توقد فيها النار لنقل الأخبار في الليل كما كان الحمام الزاجل يطير بالنهار وطرز بناء القبة لا يتجاوز المئة السابعة للهجرة ولا نذكر أننا قرأنا لها اسماً إلا في كتاب عجائب المقدور في أخبار تيمور وهو مما كتب في القرن التاسع. وأخطأ في قوله (ص38) أن بيت لهيا هي الآن من قضاء راشيا وكانت قديماً من غوطة دمشق والصحيح أن قريتين كانتا معروفتين بهذا الاسم إحداهم في وادي التيم لا تزال معروفة والأخرى في الغوطة خلافاً لما قلناه في رحلتنا بين بلاد الآراميين والفينيقيين في السنة السادسة من المقتبس كما أنه أخطأ في استنتاجه (ص40) أن جبل قلمون سمي بهذا الاسم اليوناني ومناه الإقليم ومناخ لأن جودة هواء هذا الجبل مشهورة وليس في اليونانية ما يشعر بهذه التسمية.

وجوّد صاحبنا عَلَى جغرافية زحلة هوائها ومائها وعمرانها ونباتاتها وحيواناتها وتربتها وصخورها وحوادثها القديمة والحديثة ومشاهيرها وأسرها ونهضتها بعبارات سهلة خالية من الشوائب وتنسيق لطيف وعلق عَلَى كلامه حواشي مفيدة عَلَى البلدان والقرى التي يذكرها فنرجو له التوفيق إلى إبراز غيره من الرسائل والكتب النافعة في التاريخ والسير. ديوان الهلالي طبع بمطبعة حماة سنة 1329 ص268. ناظم هذا الديوان الشيخ محمد الهلالي الحموي المتوفى سنة 1311 من مشهوري الشعراء المتأخرين ديوانه أماديح لأناس من معاصريه وإن كان بعضهم يستحق المديح غير أن أكثرهم لا يستحقون أن يذكروا بكلمة خير لأنهم ما جلبوا لا عَلَى الشر ولكن أناساً من متأخري الشعراء جعلوا الاكتساب بالشعر حرفة الشعراء جعلوا الاكتساب بالشعر حرفة لهم فيطنبون في كل من يفضل عليهم ويتمحلون له المناقب التي لو تيسر جمع بعضها في فرد لعد مصلح عصره وعالم دهره وسيد مصره. وهاك نموذجاً المحمود في عالم الأمراء في زمانه الأمير عبد القادر الحسيني الجزائري: شام برق الشام وقت السحر ... فاستفزته دواعي السهر وصبا لما استمالته الصبا ... من شذا الربوة ذات الشجر ربوة ذات قرار وصفا ... ومعين ونسيم عطر جنة الله في الأرض قد ... فاخرت زهر السما بالزهر بقصور لم تزل تجلى بها ... قاصرات الطرف فوق السرر وخدور لبدور طلع ... قد سبلن الحور حسن الحور خرد من كل خود وجهها ... عبرة بالحسن للمعتبر وفتاة كمهاة في الخبا ... تأسر الأسد بطرف الجؤزر بانة قامتها غصن نقا ... في كثيب بارز مستتر بأبي ناهدة بن ثما ... ن وست ضرة للقمر أخت شمس في سماء مطلع ... فرقد الفرق بليل الشعر بجبين إن تندى عرقاً ... رصع الشمس بشهب الدرر

ما سواها الكوكب الدري في ... أفق الحسن البديع الأنور لست أنسى إذا غدت تسفر عن ... غرة تشرق تحت الطرر حبذا سين ثنايا صانها ... ميم ثغر فيه عين الخضر وبروحي أعين نرجسها ... يحرس الورد يروض الحفر أعين سكرى وكسر في الهوا ... أبداً من جفنها المنكسر لا يغرنك منها ضعفها ... إنها عندي لإحدى الكبر وأعنائي بقس من حوا ... جب ترمي بسها القدر إلى أن يقول في مدحه: سيدي الغازي الذي منه الجزا ... ئر كانت للندى في أبحر أسد الله عَلَى أعدائه ... حين يسطو بالحسام الذكر لو تراه والعدى في رهج ... قسورة الفتك ببهم الحمر قسور منه يفرون كما ... فر إبليس الغوي من عمر بطل منتقم لله لا ... لهوى النفس ولا للبطر وقال يهجو أهل بلده من قصيدة: تفر عن النور المبين من العمى ... تفروا إلى ظلم الضلالة نفارا حمر لقد خلق الشعير لهم فلا ... عجب إذا لم يفهموا الأشعارا فقهاء أني يفقهون وإن من ... عاداتهم أن يحملوا الأسفارا عدد بلا عدد لذاك نعدهم ... لصغار بين الكبار صغارا أف لما غرسوه من عيب ومن ... غرس المعايب يجن منه العارا شركاء مكر لم تزل أشركهم ... تصطاد من أوكارها الأطيارا خسروا فلا ربحت تجارة خاسر ... أضحى بأسواق الأذى سمسارا شروا الضلالة بالهدى عمداً ومن ... غالي الشريعة أرخصوا الأسعارا علماء تصريف بتحريف الكلا ... م عن المواضع يمنة ويسارا لبسوا الرياء فشف عن أوزارهم ... وكفى بذلك فضيحة وشنارا ركبوزا الكبائر معجبين لكبرهم ... بنفوسهم فاستصغروا استصغارا

وتبادروا فتفاخروا في أخذهم ... مال اليتيم مغانماً ومغارا من كل محتال تراه ثعلباً ... طوراً وطوراً بالمكابد فارا متفلسف كالسامري كهانة ... وكعجلة تركيبة وخوارا كالماء ديناً والتراب كثافة ... والنار خلقاً والهواءِ قرارا حبري إذا لم ترشه قدري إذا ... استعطفته وأريته الدينارا فاسأل صلاة الصبح عنه هل لها ... علم به واستخبر الإعصارا شيخ إذا استدعيته لخصومة ... بوديعة لا يدعي الإنكارا بل يدعي ضاع المتاع ولم يخف ... يوم اللقا التقرير والإقرارا أو جئته مستشفعاً في ششفعة ... علماً بأن الجار يرعي الجار يسعى ليسقط حقهاً متحيلاً ... في صرة مجهولة مقدارا حيل إذا حولت ظاهر أمرها ... تلقى بواطنها رباً ومقدارا وأضيعة الإسلام في وادي حما ... لو لم يكن لبني النبي جوارا واد به العاص تجرأ واعتدى ... وعلى الشريعة قد طغى وتجارا إلى أن قال: وطن توطنه البلا وسطا عَلَى ... جيرانه داعي البلاء وجارا وعلى نواحيه نواعير النوا ... ح من البيوت تساجل الأنهار حزناً عَلَى الأرض التي قد انبثت ... بعد القرنفل والورد بهارا كانت حماة الشام تدعى شامة ... بين البلاد وللحماة ديارا واليوم حمى شؤمها عمت فلا ... تروي لها السبع البحار أوارا سل سيدي علوان عن عنوانها ... لما عليها بالدعاء أشارا واستقص ذلك بالتواتر أنه ... عند الثقات يصحح الأخبارا فدع الملام فإني لست أو ... ل قاطع بفروعها الأشجارا هي منبتي وإلى حماها نسبتي ... ولرب شوك أنبت الأزهارا وهي العروس محاسناً لكنما ... شؤم الحماة ينفر الأصهارا نبذة مختصرة في الصحف العربية المصورة

للفيكونت فيليب دي طرازي طبع بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1912 ذكر كاتب هذه الرسالة وهو عربي من أهل بيروت الجرائد العربية المصورة الذي صدرت منذ عرفت الطباعة إلى الآن في القطار المختلفة فكان مجموع صحف المسلمين المصورة في سورية 17 وعدد صحف المسيحيين 14 وفي القطر المصري 42 مسيحية و21 إسلامية و7 لجمعيات وفي تونس 4 للمسلمين واثنتان لليهود وواحدة لجمعية وفي أوربا أربع لمسيحيين و11 لإسرائيليين وفي أميركا 6 للمسيحيين فبلغ مجموعها 129 صحيفة ظهرت أكثر من نصفها في مصر كما أصدر أكثر من نصفها عَلَى أيدي نصارى سورية. سورية نشر صديقنا خير الله أفندي خير الله مبحثاً طويلاً في سورية باللغة الإفرنسية صدرت به مجلة العالم الإسلامي الباريزية عددها الثاني من السنة السادسة فجاء في 143 صفحة محلى بصور بعض مشاهير الأدباء والأديبات من أهل بلادنا فبدأه بوصف بلاد الشام وأصول شعوبها وإحصاء نفوسها وأديانها وشيعها المستقلة والحركة العلمية فيها ووصف بلاد الأجانب والوطنيين من المسيحيين وأفاض في صحافتها ولاسيما الصحافة البيروتية واللبنانية ومطابعها قديماً والحياة الاجتماعية والأدبية والسياسية فيها إلى غير ذلك من الفوائد التي تشف عن بحث وتجارب والإيضاحات التي يحتاج إلى معرفتها ابن البلاد دع غيره من الغرباء. وقد أفاض في موضعين من مبحثه بذكر أيادي فرنسا عَلَى سورية في نهضتها العلمية فقال إننا قوم نحب فرنسا وقد تأدبنا بلسانها وآدابها ولكن حبنا لها لا يدعونا لأن ننسى أنفسنا وقد استشهد بجملة من مبحثه المفتد المسألة الاجتماعية والمدرسية في سورية الذي لخصناه للقراء في مجلد السنة الثالثة من المقتبس فأبان عن علم فيما خاض عبابه فقال لم نتشرف بأن نكون فرنسيساً نحن معها كالسويسريين من سكان لوزان والبلجيكيين من سكان لبج يتكلمون الإفرنسية لكنهم ليسوا فرنسيساً يجب أن تكون لنا اللغة الإفرنسية لا أداة من أدوات الزينة الفارغة بل دعائم متينة من دعائم الأخلاق ومن مصلحة سورية كما أنه من مصلحة السياسة الإفرنسية أن يحتفظ الرجال في بلادنا بأخلاقهم الوطنية ومشخصاتهم

الخاصة متعلمين في مدرسة فرنسا متبعين بأفكارها ودارسين آدابها وهذا أمر سهل لأنا إذا آثرنا التربية الإفرنسية فذلك لأنها توافق عقولنا وميولنا أكثر من سواها. وقال أن عَلَى فرنسا ألا تنسى ما قدمت لسورية وتختار من رجالها من يحسنون تنمية تلك البذرة من المدنية التي بذروها في تربة الشام. والخلاصة أن الكاتب تساهل جداً في تسرب التربية الإفرنسية إلينا مما هو ولا جرم مدرجة إلى ضياع مشخصاتنا وقوميتنا وقوله أن التربية الفرنسوية موافقة إلى ميولنا ودرجة عقولنا فيه نظر لأن من نشأ عَلَى التربية التركية أو التربية الأميركانية أو الإنكليزية أو التربية الروسية أو الرومية من أبنائنا يدعون هذه الدعوى أما نحن فالأجدر بنا أن نأخذ عن كل أمة من أمم أوربا ما عندها من الفضائل والصناعات والعلوم ونكون لنا مع الزمن مدنية عربية وطنية تلتئم مع الكل لكنها ليست لأحد. وقد لاحظنا عَلَى المؤلف أن قد غالى في تقدير عدد الموارنة في سورية بأربعمائة وخمسين ألفاً والظاهر أنهم لا يزيدون عن ثلثمائة وخمسين ألفاً عَلَى أن الإحصائيات ناقصة في هذا الباب كما قال. كما أنه غالى في ترجمة بعض الأشخاص فقد رأيناه قال في أحدهم أنه فوق الأحزاب وأنه لم يخدم إلا المصلحة العامة وما قط فكر في نفسه ولو تعمق في البحث لعرف أن الواقع يخالفه وليس مثل كلام المرء وأعماله دليلاً عَلَى نياته ومبادئه. وقد تفضل الصديق المنشئ فاستشهد بقولنا في ارتقاء المسيحيين عن جيرانهم المسلمين وهو الفكر الذي طالما جاهرنا به ولكنه فاته أن في المسلمين والمسيحيين أيضاً من رجالاً من أبناء سورية عملوا للمصلحة العامة وخدموا الآداب والمدنية بكتابتهم ورسائلهم وكتبهم أمثال الشيخ طاهر الجزائري والسيد عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد بدر الدين النعساني والشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان الظاهر والشيخ أحمد عارف الزين وزكي بك مغامز وعبد الله أفندي مخلص وجرجري أفندي يني والشيخ عبد القادر المغربي والدكتور عبد الرحمن شهبندر وفارس أفندي الخوري وعبد الوهاب بك الإنكليزي وشفيق بك المؤيد وشكري بك العسلي وقسطاكي بك الحمصي ومحمد علي أفندي حشيشو وغيرهم من حملة الأقلام ودعاة الإصلاح ولعله لم يلم بتراجمهم إلماماً كافياً فاقتصر عَلَى من عرف منهم. بساط العقيق

في حضارة لقيروان وشاعرها ابن رشيق تأليف السيد حسن حسني عبد الوهاب طبع بالمطبعة التونسية سنة 1330 في تونس صفحة 92. عرف هذا المؤلف بما نشره في مجلة المقتبس من رسائل الانتقاد لابن شرف القيرواني ملتقى السبل لبي العلاء المعري وما علق عليها من الحواشي المفيدة الدالة عَلَى أنه من الأساتذة الذين يعملون عَلَى طريقة غربية شرقية أي عَلَى الصول الأوربية الحديثة يمازجها التشبع بروح الحضارة العربية وقد ألم في كتابه هذا بشيء من حضارة الإسلام في أفريقية وما وصلت إليه القيروان من درجات الرقي الباهر ونظام الحكومة العربية والهيئة الاجتماعية عَلَى أسلوب جديد لا حشو فيه يدعم أقواله بالأدلة التاريخية نقلاً عن ثقات المؤرخين والجغرافيين فيصور لك ما بلغته بلد الكاتب من الاتقاء عَلَى عهد ابن رشيق أديب القطر التونسي وشاعره الذي وضع له ترجمة حافلة آخر الكتاب الذي دل بمجموعه عَلَى علو كعبه في التاريخ والأدب ولو كان جميع من يبرزون تآليفهم للناس يتعبون بالبحث فيها كما بحث هذا المؤلف لظلت معظمها من التآليف التي تصير عَلَى غابر الأحقاب ولذلك نشكره باسم الأدب العربي ويا حبذا لو حذا حذوه غيره من نبهاء الأقطار وكتبوا عن أقطارهم وشعرائهم وأدبائهم عَلَى الطريقة المشار إليها. تاريخ الحرب العثمانية الإيطالية تأليف سليم أفندي قبعين طبع بمطبعة التقدم بمصر سنة 1330 - 1912. عرف صديقنا مؤلف هذا الكتاب باختيار أجمل الموضوعات في ما يكتب وينشر مما يجمع بين العلم واللذاذة وآخر ما أبرز من قلمه هذا السفر الممتع جعله عشرة أجزاء تقع ضمن ستمائة صفحة ضمنها حالة طرابلس وبرقة وجغرافيتهما وتاريخهما ثم الحرب الطرابلسية وما كان من أثرها وما تخللها من الوقائع نقلاً عن مصادر إنكليزية وروسية وإفرنسية وتركية وغيرها وحلى كل جزء برسوم عديدة تصور الوقائع والمواقع لنظر المطالع فجاء

كتابه فرداً في بابه سد نقصاً كبيراً في باب التواريخ العربية وخلد له ولمن عاونوا في الحرب معاونة بدنية أو مالية أو عقلية أجمل ذكرى لا تمحى من الأذهان أو يمحى مصر طرابلس وبرقة من كتب تقويم البلدان فنهنئ المؤلف النشيط عَلَى عمله النافع ونسأل له التوفيق إلى إبراز أمثاله ترجمة كان أو تأليفاً. الرحلة اليمانية تأليف السيد شرف عبد المحسن البركاتي طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1330 - 1912 ص127. دون المؤلف في هذه الصفحات رحلته مع الأمير الأكبر الشريف حسين باشا أمير مكة المكرمة إلى بلاد عسير لمقاتلة السيد محمد بن علي الإدريسي القائم في ذاك القطر فذكر المراحل وما وصل إليه من المعلومات عن أحوال تلك الجهات في العلم والاقتصاد وغيرهما فدل عَلَى بعد نظر وفضل وذكاء. وافاض في الكلام عن اليمن ثم تكلم عَلَى جزيرة العرب إلا أننا رأيناه غالى في وصف شعبذات الإدريسي مما لا نظن أن رجلاً تعلم في مصر عَلَى ما هو المعروف تحدثه نفسه في مثل هذا النصر يأتيه وكنا نريد أن تتنزه هذه الرحلة النافعة عن التعرض لمثل هذا غذ أن من عادات السياسيين أن يتهموا خصومهم أنواع التهم وما ننس ما قاله مؤرخو الحكومة في الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي وجماعته وما افتروه عليهم ثم ثبت للتاريخ خلافه. وإنا نتلقى العبارات التي أوردها صاحب هذه الرحلة وربما كان نقلاً عن غيره بغاية الاحتراس وعساه ينظر في ذلك ويبحث عن الثقات ويضيفه في طبعة ثانية من كتابه فتكون رحلته تاريخاً حقيقياً خالداً لا أثر فيه لأهواء السياسة وعلى كل فنشكر الكاتب عَلَى رحلته ونرجو أن ينظر نظراً بليغاً في عبارة الكتاب وطبعه المرة التالية. مطبوعات الآباء اليسوعيين ثلاثة كتب أهدتنا إياها إدارة المطبعة الكاثوليكية في بيروت الأول أطيب الشعر وأطيب النثر من قدماء الأدباء وأهل العصر وهذا القسم الأول وهو أطرب الشعر كان ظهر في مجلة الشرق ومعظمه في موضوعات دينية لأناس إذا تجوزنا وعددناهم نظامين فلا نعدهم

في الشعراء بحال لأن الشعر شعوراً وأكثر هذه القصائد التي رآها مدير الشرق من الكلم النوابغ كالخرنوب رطل نشارة في دريهمات من العسل بل معظم القصائد لا وزن فيها ولا قافية ولا لفظ ولا معنى وغريب بعد كل ذلك أن تنشر هذه القصائد عَلَى أنها عنوان البلاغة والفصاحة ليتحداها طلابهما ولو أنصف ناشرها لرمى بها في سلة سقط المتاع ولما أتعب الطابع بصف حروفها والقراء بمطالعتها لئلا تخدش عليهم ملكتهم العربية وكان الواجب أن ينشر لهم الشعر العالي لمن اشتهروا في هذا العصر بجودة قريضهم وسلاسته أمثال إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وشكيب أرسلان ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظمي وطانيوس عبده ونقولا رزق الله وعشرات غيرهم في مصر والشام والعراق وهم حملة راية القريض وأمراء البيان بلا جدال ومثل هذه القصائد أو معظمها تخجل الجرائد الساقطة من نشرها دع تخليدها في كتاب وبيعها من الناس لتفسد لهم ملكتهم وما الداعي لنشرها إلا لأنها تضرب عَلَى نغمة تهتز لها أوتار قلوب ناشريها وحبك الشيء يعمي ويصم. الكتاب الثاني المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية هي كراسة في 64 صفحة من قلم الأب هنري لامس الهولاندي اليسوعي كان نشرها في مجلة الشرق وقد ألم بها حالة سورية الطبيعية والاقتصادية وببعض ما كتب العرب في وصفها في القرون الوسطى وأجاد المؤلف كل الإجادة في التعريف بذلك وكنا نود لو أتم هذه السلسلة المفيدة لأنه يكتب عن بحث طويل وينقب في كل ما نشره في هذه الديار من المصنفات تنقيب عالم ضليع في موضوعه واسع الأفق في المادة العربية والإفرنجية التي يستقي منها ولو كان لكل من يؤلفون من الكفاءة في موضوعاتهم ما للأب لامس لاستراح النقاد من نقد التآليف الغثة التي تصدر من مطابع الشام ومصر خصوصاً ولتوفرت عَلَى الأمة أغلاط وخرافات تزيدها أغلاطاً عَلَى أغلاطها وخرافات إلى خرافاتها. الكتاب الثالث قانون بني عثمان المعروف بآصف نامه تأليف لطفي باشا وزير السلطان الكبير نشره الأب لويس شيخو علق عليه بعض حواش وفيه فائدة تاريخية نافعة لمن يتتبع تاريخ العثمانيين يعرف أسلوبهم في إدارتهم وسياسة بلادهم أيام عزهم. البرامكة

اعتاد صديقنا الموسيو لوسين بوفا من علماء المشرقيات أن يأتي الحين بعد الآخر إلى عالم العلم بأبحاث شرقية دقيقة تعد ابتكاراً وإبداعاً في بابها وآخر ما كتب بالإفرنسية بحث في البرامكة وتاريخهم نقلاً عن مؤرخي العرب والفرس وقد وقع بحثه في 144 صفحة أفاد فيها وأجاد عَلَى عادته وألم بجميع ما ينبغي أن يعرف عن هذه الأسرة التي كان لها شأن وأي شأن في أوائل الدولة العباسية. تقويم البشير عن سنة 1913 هذه هي السنة السادسة والثلاثون لظهور هذا التقويم المفيد وهو في هذه السنة من تأليف الأب لويس معلوف اليسوعي مدير جريدة البشير وفيه فوائد غزيرة مثل حساب السنة بل السنين والأوقات والأعياد والأصوام وأسماء الرؤساء الروحيين ورؤساء الممالك وقناصل الدول ومعلومات نافعة عن ولاية بيروت ومتصرفية لبنان والولايات العثمانية وأحوالها الإدارية وأسماء قرى جبل لبنان وشذرات مدنية وتاريخية وجدول السلاطين العثمانيين وولاة العهد والجرائد والمجلات العربية في السلطنة وتعريفات البرد والتلغرافات والسكك الحديد وجداول النقود وإلى غير ذلك من الفوائد التي تهم مما دل عَلَى أن العناية بهذا التقويم تزيد سنة عن سنة بفضل مؤلفه وبعد نظره. دروس الفقه تأليف الشيخ محي الدين الخياط طبع في المطبعة الأهلية في بيروت تعنى المكتبة الأهلية في بيروت بطبع مختصرات مدرسية عَلَى نفقتها ومنها هذا الموجز اللطيف وهو يشتمل عَلَى ثلاثة فصول في أربعة وثلاثين درساً تفصل بها عقائد الإسلام وأحكام العبادات عَلَى الطريقتين النقلية والعقلية في 72 صفحة. المطالب العلية في الدروس الدينية تأليف الشيخ محمد راغب الطباخ طبع في مطبعة البهاء بحلب سنة 1330 هذا القسم الأول من هذه الدروس النافعة العملية في العبادات وما يقتضي للصغير معرفته

وقد قررت اللجنة العلمية ومجلس معارف ولاية حلب تدريسه لتلامذة السنة الأولى والثانية في المكاتب الابتدائية. والمؤلف من رجال النهضة السورية بفضله وفضائله. بغية الراغبين وقرة عين أهل البلد الأمين فيما يتعلق بعين الجوهرة السيدة زبيدة أم المؤمنين تأليف السيد عبد الله الزواوي طبعت بالمطبعة الخيرية سنة1330. هذه الرسالة تشتمل عَلَى ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل مكة المكرمة وما لها من المنافع العمومية للقاطنين بتلك البقاع المقدسة والوافدين عليها من جميع الأقطار مع بيان الإصلاحات التي أحدثته اللجنة المؤلفة لذلك تحت رعاية سيادة شريف مكة وذكر مباحث تتعلق بخطط هذا البلد الأمين وغير ذلك. الأربعون حديثاً في المسلسلة جمعها عبد الله أفندي الكزبري طبعت بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1330. هي أربعون حديثاً مسلسلة بالسادة الأشراف متصلة سلسلتها بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه مرفوعة إلى النبي صلي الله عليه وسلم رآها جامعها في ثبت محدث الديار الشامية في عصره الشيخ عبد الرحمن الكزبري. وقد جعل لها مقدمة بنسب بيت الكزبري أجداده فله الشكر. قاموس القضاء العثماني لسليمان أفندي مصوبع طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1330. كتاب من أحل الكتب التي صدرت تحت سماء سورية في العهد الخير يحتوي عَلَى جميع الأحكام الشرعية والقانونية المتعلقة بالمعاملات العادية والتجارية والمناكحات والعقوبات والفرائض والأوقاف ومقررات المعاهدات والامتيازات المعطاة للجانب وللرؤساء الروحيين من الملل غير المسلمة مضافاً إلى بعض الغامضة الشروح المعلقة عليها والمقررات الرسمية المفسرة لها مع مقررات الدوائر التشريعية التي وضعت لتحل محل بعض الأحكام القانونية. كل ذلك عَلَى حروف المعجم يسهل الاهتداء إلى مواده. وقد اعتمد فيه المؤلف وهو من رجال المحاماة في صيدا عَلَى مصادر منوعة عثمانية ومصرية تدل عَلَى تضلعه

من هذا الفن الجليل وتلطفه في التنسيق والوضع وقد صدر من الكتاب حتى الآن ثلاثة أجزاء وقعت في 360 صفحة فنرجو من المؤلف التوفيق إلى إكمال عمله العلمي النافع. في بلاد الناس أو رحلة الشتاء والصيف لصاحبها عبد المجيد أفندي كامل الجزء الأول طبع بمطبعة الترقي بدمشق سنة 1330 - 1912 هي رحلة موجزة رحلها المؤلف في بعض بلاد إيطاليا وسويسرا وفرنسا ووصف فيها ما أثر في نفسه وفيه النافع كما فيه شؤون لا تخلو منها بعض الرحلات الحديثة من الأحاديث الخاصة التي لا علاقة لها بالعموميات ولا تفيد الجمهور مثل الكتاب المنشور في صفحة 42 وما تبع ذلك من اتهام المؤلف المصري بتهمة التجسس بعض أبناء وطنه في أوربا. وقد قدم المؤلف رحلته إلى عبد المجيد أفندي نجل ساكن الجنان السلطان عبد العزيز خان. كتاب الملهوف عَلَى قتلى الطوف للإمام رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس البغدادي. طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1329. مؤلف هذه الرسالة من علماء الشيعة في القرن السادس جسم فيها مقتل آل البيت عليهم السلام وما تقدم هذا العمل الفظيع في تاريخ الإسلام وما تأخر عنه من الوقائع المؤلمة عَلَى أسلوب مؤثر وقد وقع في 160 صفحة صغيرة. هداية المتعلمين إلى ما يجب في الدين للشيخ أحمد رضا طبعت بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1330. هي رسالة مختصرة فيما يجب عَلَى المسلم معرفته وما يتحتم عليه الاعتقاد به عَلَى طريقة السؤال والجواب ألفه المؤلف لإفادة أبناء المدارس من ناشئة الوطن العاملي أي لأبناء الشيعة في بلاد بشارة وقد مزج فيه الاعتقاد الديني بالاعتقاد الزمني وأورد ما يجب عَلَى من يتمذهب بمذهبه اعتقاده في الإمامة.

آثار ذوات السوار لجامعه محمد عَلَى أفندي حشيشو طبع بمطبعة العرفان في صيدا صفحة 160. أجاد مؤلف هذا الكتاب وهو من نوابغ مدينة صيدا في اختيار هذا الموضوع لإفادة الجنس اللطيف والجنس النشيط معاً وذلك بجمعه عن أوثق كتب الأدب والحكايات والقصص. الأشعار والأجوبة التي صدرت عن النساء في صدر الإسلام وعهد نضارة لغة العرب وقد علق عَلَى بعض الألفاظ اللغوية شرحاً موجزاً يحل غامض المعاني فجاء كتابه جديراً بأن تعتمده في التدريس مدارس البنات العربيات ليعرفن كيف كانت جداتهن في الفضل والكمال ويأخذن البلاغة من معينها الصافي من الكدورات. ديوان الأدب في نوادر شعر العرب لنسيم أفندي الحلو طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1912. خص جامع هذا الكتاب الجزء الأول في نوادر الشعراء الأقدمين والثاني في نوادر الشعراء المعاصرين وعزا كل قصة أو قصيدة أو بيت لقائله فجاء كتابه مسلياً لطيفاً وحبذا لو كثرت أمثال هذه الكتب والرسائل التي يراعى فيها الأدب وذوق البلاد لتقوم مقام بعض الأقاصيص المعربة عن اللغات الإفرنجية التي كتبت لأمة غير أمتنا وهي لا تفيدنا في آدابنا ولا قلامة ظفر دع ما في أكثرها من الركاكة المستهجنة وقلة الأدب. رسائل منوعة الأولى ثلاث رسائل للشيخ حسن الشطي طبعت بمطبعة روضة الشام سنة 328 وهي رسالة في الكلام عَلَى البسملة الشريفة ورسالة في مبحث التقليد والتلفيق ورسالة في فسخ النكاح عَلَى المذهب الحنبلي. الثانية كتاب مصر وسورية وهي مجموعة مقالات أدرجت في جريدة النصير البيروتية لنسيم أفندي ملول. الثالثة أبناء الفقر أكثر تأثيراً في ترقية الهيئة الاجتماعية من أبناء الغني للمقيلة سلمى

صائغ كساب وهو خطاب طبع في مجلة الحسناء. الرابعة تقرير جمعية الملجأ الصحي التدرني في ظهر الباشق قرب قرية رومية لبنان 1911 - 1912 وفيه خلاصة أعمال هذا الملجأ ومن تبرعوا له وقانونه.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار المستعمرات الاجتماعية أحدثت حماية الأولاد المهملين المتشردين والمجرمين عناية فائقة في جميع بلاد الغرب منذ ثلاثين سنة وكان السابق إلى الدعوة للنظر في هذا الأمر الخطير جول سيمون الفيلسوف الفرنسوي ثم تابعه كثير من أهل البحث والنظر والفلسفة وفي جملتهم الفيلسوف ريبو وقد ذهب الباحثون في ذلك مذهبين فمنهم من رأى أخذ الولد المجرم من أهله لئلا يؤثر فيه محيطهم وأن يسلم إلى أسرة شريفة تنظر في تربيته وتقدم عَلَى تهذيبه وقد نجحت هذه الطريقة كثيراً إلا أن بعض الباحثين في الجرائم يزعمون أنها لا ينتج نتيجة حسنة حقيقية في أحوال كثيرة من شأنها أن تحمل الولد عَلَى ارتكاب الجرائم منذ صغره لفساد طرأ عليه ومن رأيهم أن مدارس الإصلاح أو مستعمرات التوبة تنجح في تحسين حالة الأولاد الفاسدين ليس إلا وبهذا النظر أنشئت معاهد للأولاد فيلا البلاد الغربية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا والمجر والبلجيك وهولاندة وسويسرا. وأهم ما أنشئ من نوعها ما كان في سويسرا فإن أساسها النظام يعيش فيها الولد مطلقة حريتهم بدون أن يخضعوا لمراقبة الحراس عليهم ويعنى بهم عناية لا يشعرون بالثقل عليهم بها وهم محفوفون بكل ما يساعد عَلَى تربيتهم في محيط أدبي وإذا نظر إليهم المرء لأول وهلة يظنهم تلامذة داخليين متمتعين بحريتهم ولهم حرية تامة في أعمالهم يذهبون ويجيئون كما يشاؤن ويتكلمون كما يفكرون ويعملون بدون أن يستولي عليهم أدنى خوف من سلطة فوق رؤوسهم ولا يلاحظون أنهم مراقبون يعيشون كأنهم في عائلة متمتعين بحماية خالية من القسوة الظاهرة ومن مرض منهم يعنى بأمره عناية فائقة كأنهم بين أهلهم وذويهم وهكذا لا يزالون بهم حتى ينسوا أن ماضيهم كان سيئاً ويكفرون عما أقدمت أيديهم بتحسين الخلاق وتوسيع العقل وهذه الطريقة تعدهم للدخول ذات يوم في المجتمع الذي يتلقاهم كأنه نسي ما أتوا سابقاً. وبعد ظهر كل أحد يعطون دروساً في التربية في صورة محاصرات تؤخذ موضوعاتها من تاريخ مدنيات الأمم. وتكون هذه المحاضرات بحسب سني الأولاد يلقيها معلمون أو معلمات وإذا شوهد أن أحد الأولاد لم ينجع فيه نصح القائمين عَلَى إصلاحه يعزل عن رفاقه بدون

أن تساء معاملته. وبالجملة فكان خير طريقة في هذا الباب طريقة التربية عَلَى الأسلوب البيتي وتكون هذه المستعمرات في الفلاة وسط الغابات حيث يجتمع الأولاد فرقاً فرقاً كل فرقة مؤلفة من خمسة عشر ولداً تحت نظارة معلم يسمونه أبا الأسرة ويسكن معهم في مستعمرتهم ويعيش وإياهم يلعب ألعابهم ويعنى بإصلاح ذكائهم أو إعداده ويهيئ لهم مستقبلهم بان يعلم كل واحد منهم صناعة وقد كان سنة 1900 في سويسرا 36 معهداً مثل ذلك فيه 1578 ولداً. حماية الطيور تفكر إنكلترا بسن قانون تحظر فيه صيد الطيور إلا قليلاً إذ ثبت أن النافع منها في إهلاك الحشرات قد يصاد فيعود من ذلك ضرر كبير عَلَى الزراعة. والناس بعد التفنن في أسلحة الصيد عادوا فأنشأوا أسلاكاً كهربائية يضعونها فيصعقون بها دفعة واحدة عشرة آلاف طير فإذا شاعت هذه الطريقة في كل مكان لا تلبث ضروب الطيور أن تنقرض وقد حسب العلماء أنه أذا انقرض الطير لا تمض ثمان سنين حتى لا تعود الأرض صالحة لسكنى الإنسان. ورأى بعضهم أن خير طريقة لمنع صيد الطيور أن تشدد الحكومات فيه كثيراً وأن يعاونها الناس في تنفيذ القوانين كأن يعلم المدرس في المدرسة منافع الطيور ومضار فقدها لأنهم تحققوا فيلا أوربا أن المدارس التي عني معلموها بنصح التلاميذ أن لا يأخذوا أعشاش الطيور ليلعبوا بها قد أتت بنتائج حسنة وقد أقاموا في المجر سنة 1907 عيداً سنوياً للطيور اشترك فيه زهاء مائتي ألف ولد وقد زرعت النمسا في السنة الماضي أربعة عشر عش صناعي مجاناً وفي ألمانيا يعاقب من يزيل وكنة أحد الطيور بغرامة مائتي مارك وربما حبس أحياناً ولكي ينال المرء الحق في وضع بلبل في قفص يجب عليه أن يطالب رخصة خاصة ويدفع رسماً لمنفعة بيوت الإحسان أما سويسرا فقانونها لحماية الطيور أشد منكل بلد حتى لقد يصبح أن تسمى الجمهورية محبة الطيور - عن مجلة الديبا الفرنسوية. لاتقاء الحر اشتدت الحرارة هذه السنة في أكثر الأقطار وقد كتبت بعض المجلات الأوربية نصائح الصحية للناس خلال فصل الصيف جاء فيها أن ما يعمد إليه الناس من استعمال المثلجات

والمبردات قد ينشأ من احتقان مختلف الأشكال ويحدث تعباً في الجسم وإعياء فالمبردات لا تبرد الجسم بل تثقل عَلَى المعدة وتفسد الطعام الذي فيه وتتعب الكلى والمثانة بيد أن العرق مفيد لأنه عبارة عن غسل الداخل نحو الخارج لأنه يحذف المواد الوسخة من الجسم ولاسيما جوهر البول والحامض البولي ولكن ذلك لا يطلب بتناول المثلجات بل الرياضة المعتدلة عَلَى شرط أن يغير المرء ثيابه كلما عرق لئلا يبرد جسمه بهذا التبخر وينبغي الامتناع في الحر عن المشروبات الروحية وأن لا يتعرض المرء للشمس فلا يخرج إن أمكن من محله وقت اشتدادها وإذا خرج فلا باس أن يحمل شمسية ويجعل عَلَى عنقه منديلاً ويلبس ألبسة رفيعة تكون إلى البياض أقرب واسعة بحيث يتخللها الهواء وأن يقلل الطعام ولاسيما ما كان منه مهيجاً ويكون عَلَى الأكثر ألباناً وبقولاً وينبغي أن تكون الثمار ناضجة جداً مطبوخة عند الاقتضاء وأن يمتنع عن الزبدة والمربيات وأن يقتصر عَلَى الماء المقطر النقي يؤخذ عند العطش بكمية قليلة أو تؤخذ مياه معدنية مكفولة من ينابيعها وأن يستحم المرء وينام مغطى قليلاً لئلا يختلف الهواء في الليل فما يضر بصحة النائم التقلب من حر إلى برودة ولا بأس بأن يفتح باب غرفة النوم إذا كانت متصلة بغرفة أخرى يلعب فيها الهواء أو تكون متصلة بدهليز.

رسالة في الكلمات المعربة

رسالة في الكلمات المعربة لابن كمال باشا المتوفى سنة 942 تابع ما قبله السين: الساباط موضع بالمداين معرب بلاس آباد وبلاس اسم رجل وصوب تعريبه من شاه آباد معناه معمور الملك والساباط سقيفة بين دارين تحتها طريق (الساذج) هو المجرد أو الأطلس معرب ساده (السبج) هو الخرز الأسود معرب شبه (السبيج) البقير وهو القميص معرب شبي (السبذة) بالتحريك شبه المتكتل معرب (الستوقة) هي التي وسطها نحاس أو رصاص ووجهها فضة معرب سه تويه (السجنجيل) هي المرآة رومية معربة (السجيل) عن مجاهد أنه فارسي أوله حجارة وآخره طين معرب سنك أي حجارة الطين (السجين) ذكر أبو حاتم في كتاب الزينة أنه غير عربي (السخت) قال أبو عبيدة ربما وافق الأعجمي العربي كما قالوا غزل سخت أي صلب وقيل السخت الشديد وربما استعملت العرب بعض ألفاظ العجم كما قالوا للمسح بلاس (السختيان) ويفتح جلد الماعز إذا دبغ معرب (السدير) فارسي معرب أصله سدلي أي قبة في ثلاث قباب متداخلة (السرداق) ستر الدار معرب سرابرده هذا ما عليه الأكثر وأما ما قيل أنه معرب سرطاق فمبني عَلَى المناسبة اللفظية (السرداب) بناء تحت الأرض للصيف معرب (السرقين) الروث معرب سركين (السفتجة) كقرطقة أن يعطى مالاً لأحد وللآخذ مال في بلد المعطى فيوفيه إياه ثمة فيستفيد أمن الطريق وفعله السفتجة بالفتح معرب سفنه (السكباج) حساء حامض معرب سركبا (السكر) ما ينعقد من ماء القصب معرب شكر (السكنجبين) شراب قامع للصفراء معرب سركنكبين (السمرج) استخراج المال قي ثلث مرات معرب سامره (سمرقند) معرب شمر كند قال ابن خلكان أن شمر اسم جارية الإسكندر مرضت مرضاً شديداً فوصف لها الأطباء أرضاً ذات هواء طيب وأشاروا له بظاهر صفة فأسكنها إياها فلما طابت بنى به مدينة وكند بالتركي المدينة فكان يقول بلد شمر (السمند) دابة نارية معرب سمندر (السميد) نوع من الخبز معرب (السنباذج) حجر المسن معرب (سنجة) الميزان مفتوحة وبالسين أفصح من الصاد فإنه معرب سنك (السندس) بالضم ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف (السوذنيق والسوذق) بفتح السين فيهما الصفر وقيل الشاهين عن الغوري وكذلك

السوذانق بضم السين وكسر النون وكلها فارسي معرب (السور) الضيافة فارسية شرفها النبي صلى الله عليه وسلم (السياسة) في النجوم الزاهرة أن جنكيزخان قسم ممالكه بين أولاده الثلاثة وأوصاهم بوصايا لم يخرجوا عنها وبقوا مع كثرتهم واختلاف أديانهم عَلَى ذلك يعبرون عن ذلك سه سيا فثقل عَلَى لسان العرب فغيروا الترتيب فقالوا سياسة (السيب) التفاح فارسي معرب ومنه سيبويه أي رائحته لقب عمرو بن عثمان النحوي الشيرازي (السيرج) معرب شيره روجن. الشين: (الشاروف) هي المكنسة معرب جاروب (الشاكري) الأجير والمستخدم معرب جاكر (الشبكرة) العشا معرب فعلله من شبكور وهو الأعشى (الشص) ما يصاد به السمك معرب شت (الشطرنج) معرب شترنك والسين لغة فيه أو من الشطارة من القاموس في الأخير نظر (الشفارج) كعلابط وهو الطبق فيه الكرجات معرب بيشارج (الشمختر) كسفرجل اللئيم المنحوس معرب شو اختر أي منحوس الطالع (الشنقار) نوع من ذوات المخلب معرب سنقر (الشوذر) هي الملحفة معرب جادر (الشيطرج) بالكسر دواء معروف معرب جرنك. الصاد: (الصرد) البرد فارسي معرب (الصرم) الجلد معرب جرم (صرمنجان) ناحية من نواحي ترمذ معرب جرمنكان (الصقر) نوع من ذوات المخلب معرب جرخ (الصك) كتاب الإقرار معرب جك (الصنار) في الأساس الدلب الصنار منه يتخذ النواقيس معرب جنار (الصنج) آلة بأوتار يضرب بها معرب جنك (الصولجان) هو المحجون لعله معرب جوكان. الطاء: (الطاجن والطجين) مولدة إذا الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية (الطارج) الطري معرب تازه ومن الحديث الصحيح الجيد النقي (الطباشير) معرب تباشير (الطبرزذ) نوع من السكر كأنه نحت بالفأس معرب تبرزذ وعربيته المبرت ومعناه المضروب بالبرد وهو الفأس (الطراز) بالكسر علم الثوب معرب (الطرخون) نبات معروف أصل عروقه العاقر قرحا (الطست) معروف معرب تشت (الطشختان) معرب تشت خوان (الطنبور) معرب أصله دنبهء بره شبه بالية الحمل (الطنجير) بالكسر معرب تنجره (الطيلسان) مثلثة اللام عن عياض معرب تالسان.

العين: (العراق) قال الأصمعي أصلها بالفارسية ويران شهر أي بلد الخراب فعربوها فقالوا العراق (العسكر) أصله لشكر في الأساس له عسكر من مال أي كثير وشهدت الكسرين أي عرفة ومنى فلا يطلق إلا عَلَى جم غفير وجمع كثير (عيسى) عَلَى مسماه الصلاة والسلام معرب أيشوع. الغين: (الغيذا) الحمار معرب من الرومية (المغناطيس) حجر يجذب الحديد معرب (الغساق) البارد المنتن بلسان الترك. الفاء: (الفالج) مكيالضخم معرب بياله (الفالوذ والفالوذق) معربان ونقل فالوذج (الفاليز) أرض يزرع فيها مثل البطيخ والخيار معرب باليز (الفانيذ) ضرب من الحلواء معرب بانيد (الفرانق) دليل البريد معرب بروانك (الفرجار) معرب بركارا (فرزان) الشطرنج بالكسر معرب فرزين بالفتح (الفرسطون) هو القباون رومية (الفستق) كقنفذ معرب بسته (الفلفل) معروف معرب بلبل (الفلج) بالتحريك معرب فتك (الفنزج) رقص للعجم يأخذ بعضهم بيد بعض معرب بنجه (الفوتنج) دواء معرب بوتنك (فور) بلد بساحل بحر الهند معرب بور (فهرس) الكتاب معروف فهرستت (الفيج) هو المندب الساعي معرب بيك (الفيلسوف) محب الحكمة معرب أصله فيلا سوفا وفيلا هو المحب وسوفا هي الحكمة ومنه اشتقت الفلسفة كما اشتقت السفسطة من سوفسطا معناه الحكمة المزخرفة منه أسطا بالتركي (الفيهج) ما يكال به الخمر معرب. القاف قابوس قابوس ممنوع للعجمة والمعرفة معرب كابوس القالب بفتح اللام معروف كالبدر اتفق أنه وازن الخاتم والعالم فظن أنه من القلب القانون الطريق والقياس دخيل القبج معرب كبك لأن الجيم والقاف لا تجتمعان في كلمة عربية القراميد هي الآجر لعلها معربة بقال بناء مقرمد مبني بالآجر وبنى بيته بالقراميد القرد العنق معرب كردن القرمز دود يصبغ به قرميسين بالكسر بلد قرب الدينور معرب كرمانشاهان قسبند معرب كسبند لما يشد في الوسط أو كوسبند للشاة القسطاس صلاية الطيب رومية القسي هو الدرهم الذي خالطه غش وتدليس قال وخمسميء منها قسي وزائف قال الفارسي أن هذه اللفظة معربة ليست بأصل في كلامهم ويقال فعيل من القسوة القطوفا الذي يضاف إليه البزر فيقال بزر قطونا أعجمي معرب القنشليل المغرفة معرب كغجه ليز القمنجر القواس معرب كمانكر

القنطار اثنا عشر ألف أوقية رومية القهندز هو الحصن القديم كهن دز ولا يوجد في كلامهم دال ثم زاي بلا واسطة القوش الصغير معرب كوجك (القيراون) معرب كاروان. الكاف: (الكاغد) هو القرطاس معرب (الكراسة) بالتشديد واحدة الكراس الجزء من الصحيفة والكراريس جمع معرب كراسة بالتخفيف (الكرباس) بالكسر ثوب من القطن معرب أصله بالفتح غيروه لمزة فعلال (الكرج) كقبر هو المهر معرب كره (الكرد) العنق معرب كردن (الكسيج) كبرقع الكسب معرب (الكستيج) بالضم خيط غليظ يشده الذي فوق ثيابه دون الزنار معرب (كسرى) لقب ملوك الفرس معرب خسروا أي واسع الملك (الكس) الهن فارسي معرب (الكعك) نوع من الخبز يتزود به معرب كاك الكلاب خشبة يشد في رأسها عقافة أو من الحديد معرب قلاب الكنز المال المدفون لعله معرب كنج الكنيسة في القاموس هي معبد اليهود أو النصارى أو الكفار وذكر الجواليقي أنه معرب كنشت وتبين من تحرير صاحب القاموس عدم اختصاص الكنيسة باليهود ولا يقدح بذلك اختصاص كنشت بهم لأن اختصاصهم لا يوجب اختصاص معربه الكوز إناءٌ له عروة معرب كوزة الكيمياء دخيلة. الميم: (الماجشون) لقب عالم مشهور معرب ماه كون (المارستان) دار المرضى معرب بيمارستان ويسمى دار الشفاء تفاؤلاً كالسليم والمفازة (المالج) ما يطين به معرب ماله المترس خشبة توضع قبل الباب فارسية أي لا تخف المج بالفتح حب معرب ماش المجوس ذكر الجواليقي أنه معرب المرنج المرد والوجه ضم ميمه لأنه معرب مرده المرجان ذكر الجواليقي أنه معرب المرداسنج وقد تسقط الراء الثانية معرب مرداسنك المرزجوش بالفتح المردقوش معرب مرزنكوش المستقة فرو طويل الكمين تفتح التاء وتضم معرب مشته المسك بالفتح معرب مشك المسك بالكسر معرب مشك المسيح لقي عيسى ع م وهو من الألقاب المشرفة معرب مشى معناه المبارك عبرية كما يقال في موشى موسى مشكدانة بالكسر وبالشين المعجمة لقب عبد اللع بن عمر بن أبان المحدث لطيب ريحه وأخلاقه فارسية معناه موضع المسك مصر علم بلدة عظيمة مشهورة بأم الدنيا معرب مصراييم المنجنيق جمع موبذان أو موبذ بضم الميم وفتح الباء فقيه المجوس المواتيد هي البقايا واحدها معرب ماتده المهرجان هو فصل الخريف معرب مهركان المهرة هي الخرزة

كان النساء يتحببن بها معرب المينجتج هو المطبوخ من الأنبذة معرب مي نجته الميزاب فارسي معناه الأصلي بل الماء هربوه بالهمز ولهذا جمعوه عَلَى مآزيب. النون: الناخذاة مالك سفينة البحر أو وكيله والجمع النواخذة النارجيل جوز الهند أعجمي عَلَى غير أبنية العرب الناريج ثمر معروف معرب نارتك النبريج بالكسر الكبش يخصى فلا يجز له صوف أبداً معرب نبريده النبهرجة هي الزيف الردئ معرب نبهره النردشير لعب معروف وضعه أردشير بن بابك ولهذا يقال له النردشير. النسف كجبل معرب نخشب النشا لب القمح المنقوع معرب نشاسته حذف شطره. نهاوند مثلثة النون والكسر عن الصغاني والضم عن اللباب بلد من بلاد الجبل جنوبي همذان أصله نوح آوند لأنه بناها النموذج بفتح النون مثال الشيء ن معرب نموده والأنموذج لحن النيرنج معرب نيرنك وجمعه النيرنجات النيروز أول يوم من السنة الشمسية معرب نوروز نيسابور قال نصر بن محمد بن أبي الفنون النحوي سين العربية شين في العبرية فالسلام شلام واللسان لشان والاسم اشم. الواو: الونج بالتحريك مدينة نسف معرب ونه ومنه الإمام المحقق أبو حفص عمر بن أحمد النسفي. الهاء: الهاون المنجار معرب هاوون الهربذ كزبرج خادم نار المجوس معرب هربذ جمعه هرابذة الهملاج بالكسر من البرازين المهملج فارسي معرب الهنداز بالكسر الحد معرب أندازه ومنه المهندز لمقدر مجاري القني والأبنية وإنما صيروا الزاي سيناً لأنه ليس في كلامهم زاي قبلها دال وإنما كسروا أوله وهو في الفارسي مفتوح لغزة بناءِ فعلال في غير المضاعف. مهندم يقال شيء مهندم أي مصلح عَلَى مقدار وهو معرب إندام مثل مهندس أصله إندازه الهيولى أصل الشيء من اصطلاحات الحكماء وليس بعربي محض في القاموس الهيولى القطن وشبه الأوائل طينة العالم به. الياء: اليارق الجبارة وهو الدستبند العريض الياسمين نوع من الرياحين معرب الياقوت نوع من الجواهر أجوده الأحمر معرب اليشب حجر معروف معرب يشم اليوم معرب يوماً حذف الفه للتعريب اليهود فارسي معرب يهوذا كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب أو عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل.

إنما الله آله واحد ... فرية الشرك وبال الجاحد بسم الله الرحمن الرحيم حامداً لمن جعل العقل في جامع هيكل الإنسان كالشمع ومصلياً عَلَى أشراف أفراد وصفوا بالجمع وعلى آله وأصحابه كل واحد منهم كالألف وخلف من بعدهم خلف وبعد فهذه جامعة الألفاظ وضعت بالعربية بالجمع اعتباراً للأجزاء كالأفراد نطفة أمشاج جمع مشج أو مشيج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها (برمة أعشار) مكسرة عَلَى عشر قطع أو عظيمة لا يحملها إلا عشرة ثوب أسمال أي أخلاق وما عليه الأسمل وأسمال رمح أقصاد جمع قصد وجمع قصدة في القطعة من الشيء إذا انكسر من قصدت العود إذا كسرته ورمح أقصاد قال الأخفش هذا أحد ما جاء عَلَى بناء الجمع قلب أعشار أي متوزع (بلد أخصاب) و (بلد سباسب) يكون الواحد يراد به الجمه كأنهم جعلوه أجزاءً (أرض أحامس) أي جدبة (جفنة أكسار) أي عظيمة موصلة وفي الأساس هي المقاري الكبار المشعبة (حبل أرمام) أي خلق رم قوسه أصلها ورم العظم والحبل حبل أرمام (بئر أنشاط) تخرج دلوها بجذبة واحدة (حلة أنواف) من النوف نقاط بياض في أظفار الأحداث (حبا أرماث) أي خلق (ماء أسدام) عَلَى وصف الواحد بالجمع مبالغة أي متغير (ثوب شراذم) لما بلي وتقطع (معا جياع) أي ساغبه (نعم إغفال) لا سمات عليها (ثوب أكياش) هو الذي أعيد غزله (غزل أنكاث) استفدته من قوله نقضت غزلها إنكاثاً (حبل إنكاث) منكدث (ثوب أخلاق) إنما قالوا أثواب أخلاق أرادوا أن نواحيه أخلاق (نعل أسماط) أي غير مخصوفة (سراويل أسماط) أي غير محشوة.

المدنية السياسية

المدنية السياسية في القرن العشرين أما حان خوض المأزق المتلاحم ... وهز يراع فيه سم الأراقم فقد ضج من وقع البلاء وبرحه ... (بنو الشرق) حتى ضاق ذرع المكارم وأكبر أقطاب الشعوب تعصباً ... رمونا به من قبل شد التمائم فلو مر منهم طارق الطيف بيننا ... وريع لدكوا مشمخر الدعائم وثارت أساطيل. وطارت مطاود ... ودبت جيوش بالقنا والصوارم ولو عقدت الموت الزؤام عجاجه ... وخيم مثل العارض المتكارم وسدت فجاج الشرق أشلاء أهله ... وجاش بآذي الدم المتلاطم لما انحدرت من مقلة الغرب عبرة ... ولا ارتفعت في الغرب صيحة لائم ولا قيل أين السلم؟ والعدل؟ والحجي ... ولا أين - إنجيل المسيح المسالم ـ فقد بات في (مراكش) السيف مصلتاً ... يراوح ما بين الطوى والحلاقم ودارت رحى الأهوال في أرض (برقة) ... وذاق (بنو طهران) من العلاقم وهبت إلى (دار الخلافة) عصبة ... من القوم والأضغان ملء الحيازم وهدد (فردينند) قوم (محمد) ... بأندلس آخر غداة التصادم فأين ملوك الغرب؟ أين رجاله ... فتأخذهم للسلم غضبة ناقم فإن كان ضعف المرءِ ذنباً يشينه ... فلا خير في ملك ولا شرع حاكم وكيف يكون النهي والأمر في يد ... ملوثة من مهدها بالجرائم فيا لك من عصر يلوذ بظله ... ثعالب في زي الليوث الضراغم يخالب فيهم (ذو السياسة) تره ... ويرهف للعدوان غرب العزائم وما الشر طل الشر إلا لأنه ... يحاول باسم الخير جر المغانم ولله در الغرب فالقوم كلهم ... ملائك لم يعلق بهم وهم واهم فما انتفخت أوداجهم من تعصب ... ولا امتلأت أحشاؤهم من شخائم ولله أرض شرفوها بوطئهم ... فما عرفت من بعد عيب واصم

وإن غض منهم خوضهم في ضلالهم ... وشعث منهم سعيهم بالنمائم تعرض سيف. وانبرت بندقية ... ودافع عنهم مدفع غير واجم وذلك ما يدلي به القوم إن كبت ... بهم حجة أو عز قمع مخاصم جهلنا ولم ندرك حقيقة أمرهم ... وران عَلَى الألباب ريب المزاعم كنار يجول الليل دون دخانها ... فيخفى ويبدو ضوئها غير قاتم فيا ليت أسرار الطبيعة لم تزل ... محجبة في الغيب عن كل عالم فلا يرفع البارود في الناس صوته ... ويبرم فيه حكمه غير راحم ولا تذر الأرجاء مخترعاتهم ... تموج بأنواع الحتوف الغواشم فنقنع في الجهل الذي فيه راحة ... وننعم في غي الظنون الرواجم فلا يزرع (العلم الحديث) عن الهوى ... نفوساً أبت إلا ركوب المظالم فما هذبوا بالعلم إلا سلاحهم ... ويا ويح علم بات معول هادم يصب عَلَى البلدان صوت عذابه ... وينسف فيها كل عال وقاتم ويعصف بالأرواح في كل غارة ... تقام بها الأعراس بين المآتم يقولون - هذا القرن - تم شبابه ... فهذا ربيع الدهر جم المواسم وحسبك (بالعشرين) طيشاً وخفة ... تجر عَلَى الإنسان شل المغارم فيا رب قد كنت (لآدم) وحده ... جنانك ما من كاشح أو مزاحم يروح ويغدو في النعيم مسبحاً ... بحمدك مغموراً بفيض المراحم فما هي إلا هفوة منه مرة ... فأصبح ذاك المجد أضغاث حالم فهل جنة من بعد هذا لنسله ... وقد هتكوا بالبغي ستر المحارم وبات طلاع الخافقين فجورهم ... ولم يقرعوا من أجله سن نادم ففجر من الطوفان ثجاج مائه ... ليغشل عنها رجس تلك المآثم أجل!! أنت عدل!! تلك آثار (تدمر) ... (وبابل) في طي المدى المتقادم وقد باد ملك الروم إلا رسومه ... وكم قيل ملك الروم غير مقاوم وكم شحذ اليونان رأياً مسدداً ... فطاش بهم عند الخطوب الدواهم وذلك ما زاد التفجع والأسى ... وعلمان كيف احتقار العظائم

فيا دولاً ذل القضاء لأمرها ... فساد صروح الملك فوق الجماجم وكاثر كثبان الرمال عديدها ... وقامت بأعباء الأمور الجواسم رويداً - فإن الدهر مازال صرفه ... يدور - وإن الملك ليس بدائم ويا رمم القتلى بكل تنوفة ... ويا لهب النيران بين العواصم ويا دارس الأطلال في كل دمنة ... ويا ماثل الآثار بين المعالم ويا موج (بحر الروم) في كل ساحة ... ويا خفقات الريح بين العوالم ففي حدثي التاريخ عن مدنية ... يشارك فيها الوحش أبناء آدم الديار المصرية // فؤاد الخطيب

تذكرة ابن العديم

تذكرة ابن العديم ابن العديم هو عمر بن كمال الدين العقيلي الحلبي رئيس الشام المتوفى سنة 666 كان محدثاً فاضلاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً درس وأفتى وصنف وترسل عن الملوك وكان رأساً في الخط المنسوب لاسيما النسخ والواشي وله التصانيف الرائقة منها تاريخ حلب أدركته المنية قبل إكمال تبييضه وله كتاب الدراري في ذكر الذراري صنفه للملك الظاهر غازي وقدمه له يوم ولد ولده الملك العزيز وكتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني جرادة وكتاب في الخط وعلومه وآدابه ووصف ضروبه وأقلامه وكتاب رفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وكتاب تبريد حرارة الأكباد في الصبر عَلَى فقد الأولاد. قال ياقوت: وكان إذا سافر يركب في محفة تشيله بين بغلين ويجلس فيها ويكتب. وقد رحل إلى العراق ومصر والحجاز وتولى من أجداده خمسة قضاء القضاة في حلب عَلَى التوالي ومن شهره. فوا عجبا من ريقه وهو طاهر ... حلال وقد أضحى عَلَى محرما هو الخمر لكن أين للخمر طعمه ... ولذته مع أنني لم أذقهما ولابن العديم شعر مستملح ونثر عذب ومن كتبه التي أبقتها الأيام كتاب التذكرة دخل دار الخديوية بالقاهرة جزء منه في بضعة أجزاء أولها الجزء الخامس وآخرها الجزء السادس عشر في 205 ورقات صغرى أولها: جفني بجفنك قد جفاه هجوعه ... والقلب واصله عليك ولوعه وسقام جسمي فيك عز ذهابه ... والنوم عز عَلَى الجفون رجوعه ومما جاء فيها: أنشدني منجب الدين ابن الأمان المذكور قال أنشدني القاضي وجيه الدين ميلف ابن الصنديد الشيزري قال أنشدني للأمير شرف الدولة ابن المنقذ نفسه وكانت الزلزلة قد خربت شيزر اثنتين وخمسين وخمسمائة وسقطت القلعة عَلَى أخيه وأولاده وزوجته الخاتون أخت شمس الملوك فسلمت دونهم ونبشت من الردم فجاء نور الدين محمود بن زنكي إلى شيزر وتسلمها وطلب من زوجة أخيه أن تعلمه بالحال وتهددها فقالت له أن الردم سقط عليها وعليهم ونبشت سالمة دونهم ولا تعلم بشيء وإن كان لهم شيء فهو تحت الردم وكان شرف الدولة غائباً فلما حضر وراى شيزر وما حل بها وعاين زوجة أخيه بعد

العز في ذلك الذل عمل: ليس الصباح من المساء بمثل ... فأقول لليل الطويل ألا انجلي شلت يد الأيام أن قسيها ... ما أرسلت سهماً فأخطأ مقتلي لي كل يوم كربة من نكبة ... يهمى لها جفني وقلبي يصطلي يا تاج دولة هاشم بل يا أبا ... التيجان بل يا قصد كل مؤمل لو عاينت عيناك قلعة شيزر ... والستر دون نسائها لم يسدل لرأيت حصناً هائل المرأى غداً ... متهيلاً مثل النقا المتهيل لا تهنئني فيه السعادة لمسلك ... فكأنما تسري بقاع مهول ومنها يشير إلى زوجة أخيه المذكورة: نزلت عَلَى رغم الزمان ولوحت ... يمناك قائم سيفها لم ينزل فتبدلت عن كبرها بتواضع ... وتعوضت من عزها بتذلل نها وأنا أخوك مقال جا (؟) محصلاً ... سبلاً وأزمع وهو غير محصل ودفنت بين ثلاثة ضاجعتهم ... كالليث ضاجعه ثلاثة أشبل وقال قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم في المجلد الثني: نقلت من خط أبي عمرو الطرطوسي لأبي القاسم الحسن بن الحسين التميمي الواساني يمدح الأمير أبا الفضل سعيد بن شريف بن سيف الدولة بن حمدان ويسأله في رد حمامه وداره وكانتا مقبوضتين مقتطعتين لبعض الجند: لو كنت أمدح للجدا ... لشرعت في بحر الندا وأقمت بالتأميل مولا ... نا الأمير السيدا أولى الملوك بأن ينا ... ط به الرجاء ويقصدا وأحق أن يهب الطري ... ف لسائل والمتلدا داري وحمامي أق ... ل لديك من أن يوجدا فهما الغداة كقطرة ... مدت خليجاً مزبدا فوعده أبو الفضائل بإطلاقهما فكتب إليه يتنجز توقيعاً بذلك: يا أيها الملك الجليل ... ظني بك الحسن الجميل

ولعبدك المسكين في ... حمامه خطب جليل مالي إليه بغير تو ... قيع أرواح به سبيل فأمنن بتوقيع به ... يأمن له المجد الأثيل فأطلق له ذلك وسلمه إليه فقال يشك ره لما تسلم ذلك: أيها السيد استمع قول عبدك ... لم يشبه بالزور والبهتان بل هو الحق اشهد الله والنا ... س وآتي عليه بالبرهان أتت والله فهي بالغة الإ ... يمان أهل لليمن والإيمان وحقيق بأن يبلغك الل ... هـ برغم العداء أقصى الأماني يا أمير القلوب قاد هواها ... واشتراها بأوفر الأثمان فهي تعنو له وتمحضه النص ... ح بلا ريبة ولا أدهان ذاك أن القلوب تملك بالإحسان والخوف مالك الأبدان لا يرى أن يقول لا أبداً ... لفظاً بها أو إشارة ببيان وكريم المزاح إن حضر الزا ... د لبسط الإكليل والندمان أقرب القوم منه من جاء للحا ... جة غرثان عند وضع الخوان وحفي بفتية ليس منهم ... غير ماض العزيم ثبت الجنان ووفي بعهده طاهر القل ... ب جدود في نصحه غيروان دهره بين نثره وحسام ... وجواد ذي ميعة رسنان غير صاغ إلى سماع أغان ... مطربات ولا كعاب أغان فهو والمجد مثل طرفي رهان ... أو شقيقين ارضعا بلبان ما تكنى أبا الفضل حتى ... فضل الناس بين قاص ودان وتسمى باسم السعادة والأس ... ماء موصولة العرى بالمعاني هو والله مشتري فلك أصبح باليمن دائم الدوران سار في برجه فأطفأ بالسعد نخوس المريخ والدبران طرف الله عين عداه وإن ساء عدوا ما قلت عين الزمان وكفانا فيه الملمات ما صوب نجم أو لاح برق يمان

فوحق الأنعام والكهف والطو ... ر وطه وسورة الرحمن لو تركنا نختار بين الأماني وضقنا وهن بالأرسان ما بلغنا في الحدس والظن مع ... شار سرور نراه رأي الأعيان يا كريماً آباؤه أمراء الع ... رب والعجم من بني ساسان أل حمدان سادة الناس مذ كا ... نوا قديماً في سالف الأزمان وأحق الملوك بالفخر من أضح ... ى أميراً عَلَى بني حمدان سيد يشتري الثناء ويخشى الل ... هـ في سره وفي الإعلان فلأنت الأحق قد علم الل ... هـ بأن تصطفى لهذا المكان باتفاق من سائر الناس من ح ... بي معد معاً ومن قحطان نحن ما دمت آخذاً بزمام الملك من ريب دهرنا في أمان لا يخاف البريء منا ولا ... ييأس جان من رأفة وامتنان أحمد الله يا سعيد عَلَى أنك كهفي من كل إنس وجان وعلى أنني بجودك في ظ ... ل من العيش ناضر فينان وقد تحيرت والمهيمن في شكرك مالي بما بديت يدان أي شيء يجز بك عني ومالي ... غير ودي وغير شكر لساني وهما يقصران عنه ولو كنت كقس في النطق أو سبحان غير أني قد بعت نفسي ... مولانا وإن لم أساو ما أولاني فخذ الآن عهدتي وارض من عبدك ما يستطيعه إمكاني لأكون امرءاً تقصيت جهدي في جزاء الإحسان بالإحسان للسابق أبي اليمن محمد بن خضر المعري حلب معهد الصبا والتصابي ... فسقاها الوسمي ثم الوالي موطني بعد موطني فكأَني ... لغرامي بحبها البحتري فلديها كل الفنون وفيها ... ما اشتهاه الشرعي والفلسفي غير إني أرى الأطايب شرزاً ... وحليف الإفلاس عنها قصي وقال في عبد الودود النحوي

كشف رأس النحوي غير عجيب ... هل رأى الناس أَيلا بعمامه هو صدر إن كان زهداً وعلماً ... قصر الثوب وانكشاف إلهامه ودعوه فالعذر فيما أتاه ... ليس يخفى وظالم من لامه لو تخلى من المحال لأمسى ... بيته في خلو أطلاله رام طالما جاع في الزمان محق ... مثل ما ضاع زاهد علامه وكتب إلى بعض الرؤساء يشكو رجلاً يقال له ابن العقيدة من أهل حلب. العبد يشكو علة في جسمه ... وإليك يشكو علة في حاله وابن العقيدة في الإساءة زائد ... لا ينتهي عن لومه وسفاله بك أبيها الكافي الأمير أعوذ من ... وغد أصر عَلَى قبيح فعاله الخادم عَلَى صورة لا يمكنه منها المثول بالحضرة السامية وشكوى ما استمر عليه من سوء معاملة هذا الوغد المذكور والله لولا الحياء وإنه ممن لا يخفضه الهجاء لكويته بميسم يشقى لناره ويبقى عَلَى الأعقاب إثر شناره ولكن طليق عرضه اللئيم وفي ذمة مقداره الذميم والرأي للحضرة في زجره عما هو عليه وأمره بما يعود لمصلحة الخادم علوه إن شاء الله تعالى. وكتب إلى إنسان صانع عمل له شيئاً فيسر إليه أجرته واعتذر. خذ ما تيسر يا أبا منصور ... واعذر فقد أسرفت في التقصير ومع الثناء فما تضيع صنيعة ... عندي لرب صناعة وأمين الدراهم المراهم أطال الله بقاء مولاي. فأما صناعته فتجل عن الورق والعين ولا تقابل بالكثير من هذين النوعين ورأيه في قبول ما تبعث به والرجوع في ذلك إلى كرم أخلاقه ومنصبه الموفق إنشاء الله هـ. وقال: كتب لي كمال الدين القاسم بن القاسم الواسطي يطلب تبناً. مازلت تحفر تبراً ... ونحن نطلب تبناً وللكرام تشاد ال ... عَلَى وبالحمد تبنا وقد رميناها سهماً ... من المديح وصبنا فاستقي الثرى الجعد يا غيث كل جدب وصبنا

ففي كمالك داع ... دعا بنا فأجبنا وأنشدني عز الدين عبد العزيز بن سالم بن محمد الحراني لو كنت تعلم كل ما علم الورى ... طراً لكنت صديق كل العالم لكن جهلت فصرت تحسب أن من ... يهوى خلاف هواك ليس بعالم فاستحي أن الحق أصبح ظاهراً ... عما تقول وأنت شبه النائم هذه نموذجات من هذه التذكرة فيها الممتع النافع ويا حبذا لو صحت عزيمة أحد علماء مصر بنشر الموجود منها لأنها أثر نفيس خصوصاً وهي مكتوبة بخط صاحبها وفيها من الأشعار والأخبار ما يلذ ويفيد.

حب الوطن

حب الوطن خطب ارنست لافيس من مشاهير علماء الاجتماع والتاريخ واحد أعضاء المجمع العلمي الفرنساوي في إحدى المدارس الفرنساوية خطبة في حقيق الوطن قال فيها: الوطن أرض ينزلها أناس يخضعون لنظام واحد. ولقد صرفت العناية الكبرى لتأليف مثل هؤلاء الجماعة وتحديد مثل هذه الأرض. حتى أنك لترى الأقاليم المتنائية التي هي اليوم خاضعة لسلطان واحد تكاد تكون متحدة في ميولها ورغائبها بعد أن كانت من قبل مشتتة. جاء زمن كان فيه إقليم بيكارديا (من أعمال فرنسا) أبعد عن إقليم برتانيا وإقليم برفانس (فرنسا) مما ترى عليه اليوم فرنسا بعيدة عن أميركا والهند. ولطالما عملت الطبيعة ثم السياسة ثم الحديد ثم النار ثم العقل والقلب قروناً عديدة حتى هيأت لنا هذه الأرض التي نسكنها والسماء التي تظلنا. علمكم التاريخ كيف عمل ملوكنا لتأليف أجزاء المملكة الفرنسوية فضموا أشتات ولاياتها واحدة بعد أخرى فكانت أول صلة ربطت إقليم بيكارديا بإقليم برتيانيا وإقليم غاسكونيا بإقليم بروفنسيا وغيرها. إنها خضعت لملك واحد فأصبح آباؤنا بأسرهم فرنسويين لأنهم صاروا كلهم رعايا ملك فرنسا فكان بذلك أول اجتماع وطني وهو اتحاد الجميع في الطاعة لملك واحد. فاهتم الشعب لما يصدر عن الملك من الأعمال وراح أجدادنا يتحدون يداً واحدة في الأعمال الحربية فقدموا لذلك مالهم ومهم فكان إذا كتب النصر لملك الفرنسيس تغتبط الأمة بأسرها وتسر وإذا نكست أعلامه تبتئس وتكتئب. وتأصلت العادة في النفوس بأن تضطرب لأنر واحد في ساعة واحدة فنشأ في ذلك في بلادنا شعور وطني. ثم تجلت مظاهر الاجتماع بما أنتجته العقول من الأعمال فأحدثت الأمة الفرنسوية لغتها. فإن كنا اليوم نتكلم بلغة هي من أجمل لغات العالم فذلك لأن أجدادنا قد بذلوا كل نفس ونفيس قروناً عديدة حتى يجعلوها في هذا الجمال والقبول. فعلم الأدب هو بمنزلة الاعتراف العام في أمة تودعه تصوراتها في الوجود وتصوراتها في الإنسان. وكانت الآداب الفرنساوية ترجماناً عبر فكر فرنسا وأخلاقها الخاصة بها وجعل من الجماعة التي ضمت السياسة شملهم جماعة زبطت بينهم الأخلاق. مضى زمن طويل كانت فيه فرنسا متفقة مع مليكها في الأفكار وذلك لاعتقاد الفرنسيس أن الملك كان نائب الله تعالى عَلَى الأرض يجب حيه وخدمته كما يحب المولى ويطاع.

أيها الجمهوريون الصغار إنه يصعب عليكم قليلاً أن تدركوا هذا الشعور. ولكل زمن أخلاقه والمتأخر قد لا يعي حال المتقدم. ومن الضلال أن لا يعترف أن هذه الأخلاق كانت فيما سلف مستحكمة شائعة كما أن من الضلال أن يحاول بعضهم إحياءها بعد أن ماتت واضمحلت. جاء يوم عَلَى فرنسا استشاطت فيه غضباً من مليكها لأنه كان يحب الخصام فتصلب في رأيه واشتد في عناده وفي معاملتها ولكن صبر أجدادنا كان غريباً في شكله طويل النفس من وراء الغاية. فكانت الأمة تقاسي ضروباً من سوء الاستعمال من عدم التساوي وقلة العدل والظلم المطبق. ولم تلبث أن أقامت الحجة ولكن كلمتها ذهبت كصرخة في واد ثم رفعت صوتها بالشكوى أعلى من ذي قبل وأخذت تتناغى بالحرية والعدل والإنسانية فكان من ذلك الثورة فسقط مع الملك طبقات الأشراف وزالت امتيازاتهم وكان لهم من قبل حقوق خاصة بين ظهراني الأمة فاشترك جميع الفرنسويين عَلَى السواء في الوطن الذي اتحدت كلمته وتماسكت أجزاؤه وطفقت فرنسا تتحاب مباشرة وأحبت فوق حبها لنفسها ما تناغت به من العدل والحرية والإنسانية ولذلك حق لها أن يحب أبناءها أنفسهم كما أحبوا بلادهم حباً مازج اللحم والدم. فوطنيتنا الثورية كانت من أجمل العواطف التي عرفها التاريخ. أيها الأولاد: ليس وطننا أرضاً فقط بل هو عمل إنساني بدئ به منذ قرون ونحن نكمله وأنتم تتناوبون العمل بعدنا. إن ما قام به أجدادنا منذ الأصل وذكرى أعمالهم وأفكارهم وحركات عقولهم ولغتنا وفكرنا وكيفية فهمنا معنى الحياة مع ما خصت به أرضنا من الخصب والأمراع وما تجود به علينا سماؤنا من الحسن والإحسان وما عرفت به أصقاعنا من المناظر المبهجة وبلادنا الشمالية من الضباب المتكاثف والجنوبية من الصحو الممتع وبحارنا الخضراء وبحرنا الأزرق - كلها إرثنا العزيز هي وطننا ابنة الطبيعة وابنة الفكر. ولكن وطنكم ليس وحيداً بين الأوطان في هذا العالم. هناك أوطان كثيرة تحيط بكم تألفت عَلَى غير الصورة التي تألف بها وطنكم كألمانيا وإيطاليا التي كان نشؤهما بطيئاً وكإنكلترا التي كان نشؤها سريعاً. هذه الأوطان قننت قوانينها وأنشأت لغاتها وآدابها وكل منها قد أبانت عن أفكارها وعواطفها في الطبيعة والإنسانية كما ابنا نحن. ولكل منها أفكارها التي تخالف أفكارنا ونبوغها الذي لا ينطبق مع نبوغنا وكل من تلك الأوطان يحبه أبناؤه كما

تحب فرنسا أبناءها. ماذا يجب أن تكون عليه عواطف تلك الأوطان وسلوكها بعضها مع بعض؟ هذه مسألة هي الآن مما يشغل الأذهان ويهيجها وتنقسم في تصورها الأفكار. فقد كان الشعور الذي تشعر به كل منها مدة قرون هو البغض والسلوك الذي تسلكه هو الالتجاء إلى الحرب. والظاهر أنه لم يكن يتأتى للمرء أن يحب وطنه بدون أن يكره وطن غيره. وظاهر أن الحرب لم يكن يتيسر اتقاؤها في زمان كانت فيه التخوم غير مستقيمة عَلَى حال واحدة بين الممالك لأن هذه لم تكن بعد تألفت وعرفت لها كياناً. ولطالما كانت الحرب حادثاً يدعو إلى نماء الوطن وعملاً يؤدي إلى تحديد تخومها. وهكذا ربيت فينا غريزة الشدة المغروسة فكانت من موجبات بقاء تلك الممالك وذلك لأن الإنسانية ليست طبيعية في الناس وأصبحت الحرب من وظائف الحكومة فيولد الملوك زعماء حرب والناس ضباطهم ومن كان أدنى طبقة منهم يختارون الدخول في الحرب ليرزقوا منها ويحترفوا بها. ولطالما كانت الجيوش تقف عَلَى قدم الدفاع أبداً وتنشب الحرب لاستخدام تلك الجيوش وتمرينها. وتتجلى أعوام السلام كأنها أعوام فارغة عَلَى أن تلك الأعوام الخالية كانت قليلة. ومن جملة الدواعي التي تدعو المحاربين إلى إهراق الدماء قديماً كنت ترى المصلحة السياسية والكبر والتشهي والعادة هي الفاعل الأكبر فيها. وكان ذلك من الأدوار الهائلة في تاريخ الإنسانية ونحن نعده اليوم من آثار البربرية وعلائم التوحش. وخطب المشار إليه في إحدى المدارس وقال: إذا سئلتم لماذا يدرس لكم أساتذتكم النحو والحساب تجيبون للحال: ليعلمونا التكلم والحساب وهما أمران ظاهرة ضرورتهما. وإذا سئلتم لماذا يعلموكم تقويم البلدان تبادرون بالجوب في الحال فتقولون حتى نعرف فرنسا بلادنا ونتصور الأرض التي هي بلاد البشر. ولكن ربما ارتبكتم إذا سئلتم فائدة دراسة التاريخ. ابن الربعين في السنة التي أنتم فيها يبدو كأنه شيخ هرم منذ مائة سنة أو مائتين أو ثلثمائة أو أكثر. ولا شك أنكم تنكرونه ولا علاقة لكم بهم وإذا كانوا هم آمنين مطمئنين في موتهم فعليهم أن يتركوا صغار الأحياء آمنين بدلاً من أن يملؤوا دروس أسمائهم وقائمة أسمائهم بحركاتهم وسكناتهم وبأرقام تواريخهم وأزمانهم.

ولكنكم أيها الأبناء مخدوعون باعتقادكم بأن المضي بعيد. هو قريب منا ومجاور لنا وهاءنذ أبينه لكم في بضع كلمات: ولد لويس الرابع عشر سنة 638 أي منذ 260 سنة وأنا الذي لم أبلغ سن الهرم بعد عرفت في نوفيون رجلاً أدرك المعاصرين للويس الرابع عشر. ويدعى هذا الرجل كؤول وكثيرون ممن جلسوا الآن عَلَى هذه المقاعد يذكرون ألوما إليه فقد مات سنة 1856 في التسعين من عمره كما تشاهدون ذلك مزبوراً عَلَى شاهد قبره المصنوعة من الرخام الأبيض. وكانت سني إذ ذاك أربع عشرة سنة وكنت أراه كل يوم إلا قليلاً وكان خال خالي الكبير شهد أموراً هائلة مدهشة فرأى لويس السادس عشر يرفع عَلَى المشنقة دستور فرنسا القديم يمزق كل ممزق وفرنسا مولعة بحياة خيالية جديدة. فأخذ يوحي بروح القرن الثامن عشر الذي تعلمت مذ ذاك أن أحبه في أوهامه وخيالاته لأنه كان قرناً في الشقاء والبربرية وتلاه قرن من الهناء والإنسانية. فالمسيو كؤول ولد إذاً سنة في سنة 1766 وبلغ سنة 1776 سن الرشد. وفي ذلك الزمن لقي ولا شك بعض أناس من أبناء الثمانين في نوفيون. وعليه فالرجل الذي كان في سن الثمانين سنة 1776 قد ولد سنة 1696 وكان في سنة البلوغ عندما قضى لويس الرابع عشر نحبه سنة 1715. وبهذا فأنتم ترون أن هذا الملك الذي يتراءى لكم أنه بعيد العهد جداً قد مسستموه بأيديكم إلا قليلاً. إن المائة والتسعة والثمانين عاماً التي مرت بين موته وبينكم هذه مدة قصيرة من الزمن ينبغي لها ثلاثة رجال وأنا الذي أخاطبكم وخالي وذاك الرجل الثمانين إذا مسك أحد بيد صاحبه نصل إلى هذا العهد وعلى هذا فليس من حاجة إلى سلسلة طويلة من الرجال لبلوغ الزمن الذي جاء فيه المسيح إلى العالم بل يكفي ثلاثون رجلاً. لعد بضع سنين ترون يا أولادي متى انقضت ألوف من القرون أن الإنسانية تتكلم عن الأزمان القديمة. أما الآن فإننا لا نستطيع أن نقول عن رجل مات منذ أمد بعيد جداً فلا حق لكم إذاً أن تحيدوا عن الماضي كما تحيدون عن أمر بعيد جداً وإذ كان قريباً منا كثيراً لا يجب أن يتطلع أحدكم لئلا يحمل عَلَى النظر فيه قليلاً. إن هذا التطلع إذاً ينفعكم وبه تطيلون حياتكم أن تضيفوا أزمنة إلى زمانكم كأنكم عشتم فيها. نحن قلما تنعم في حياتنا القصيرة ولذلك نحلم بخلود روحنا. أما التاريخ فيه ضروب من الخلود وراء حجب

الماضي ويظهر لي أني بصرف حياتي في دراسته قد بلغت الآن من العمر عَلَى الأقل خمسة أو ستة آلاف سنة. وأنا أتنزه في فضاء واسع طافح بالأنوار والظلمات والحركات وأتنفس برئتين واسعتين. بيد أن معرفة التاريخ شيئاً غير هذا وأحسن منه في الأثر فالتاريخ هو الفراق العظيم بين الإنسان والحيوان. فالكلب يجهل ما بذل من العناية الطويلة. وما اثر فيه نوع التربية حتى صار كلب صيد أو كلب راع. فهو لا يتمثل أمامه تاريخ جنسه من الكلب الأول جده الأعلى إلى أيامنا هذه. والرجل الذي لا يصعد إلى طبقة أجداده وهم في مغاورهم الأولية ليراهم حيث كانوا يأتون بالصيد ويمتصون نخاع العظام المكسرة بقدوم من الحجر هو كلب وزيادة. هو لا يتبع آثاره الإنسانية إلى الدرجة التي بلغناها من المقام الإنساني. والإحساس الظاهر من تكريم الإنسانية لا يقتبس من غير التاريخ. معرفة التاريخ توضح سبيل محبة الوطن. والوطن مكان الإنسانية الذي ولدنا فيه ويمتاز عن سائر الأوطان بالطبيعة بل بالتاريخ أي بمجموع أعمال وأفكار متتابعة تألف منها ما قدر لنا من سعادة وشقاء. فعليكم ألا تجهلوا كيف أصبحت فرنسا من أعظم الأمم - ولا يكفي لأن يكون المرء فرنسوياً أن يولد في فرتنسا كما هو شأن أشجار الحور والصفصاف عندنا بل إن التاريخ هو الذي يطلعنا عَلَى ما قام به أسلافنا ويعلمنا ما يقتضي علينا القيام به. فمن السهل أن يميز العمل الذي تم في خلال القرون الأخيرة. إن هذا المعاصر للويس الرابع عشر الذي ذكرته لكم منذ حين كان رعية لملك كان يعتقد نفسه - بل وكان بالفعل - سيد رعاياه ومالك أرواحهم وأشباحهم فأبادهم بحربه وبما أنفق عَلَى قصوره وأعياده وأفراحه وتركهم يعذبون في ظل إدارة ممقوتة كره العقول عَلَى الإغضاءِ هن أفكارها واضطهد الوجدانات وحبس وشرد ملأ سجون بالرجال والمطابق المؤبدة عَلَى أنه لم يكن رديئاً كما لم يكن غبياً لأنه كان عَلَى جانب من الذكاء. ولم يكن ساقطاً لأنه كان محتشماً في سره وعلى شيء من العدل. ولكن الزمن إذ ذاك كان يبيح تلك الأخلاق. وكان كل ما يأتيه الملك يعتقد - ومعظم الشعب يوافقه عَلَى اعتقاده - بأن له الحق أن يعمل ما يريد بحيث أنه لا يحزن إلا إذا قلبت الأيام له ظهر المجن ولا يتأثر وجدانه بل إنه يأسف قليلاً يبد

عليه في حفلته وهو عَلَى سرير الملك يكلم وارثه المحزون الذي دعي لويس الخامس عشر. نعم كانت تلك الأعصر عصور عدم المساواة الاجتماعية المعتدلة بدون نقض ولا إبرام. فكان يوصف الفلاحون من حرج في مملكة فرنسا - التي هي ضرب من جدول الأيام الوطني - بأنهم (وإن كانوا أكثر عدد من غيرهم فليسوا مما يجب الاحتفال به بل لنا أن نقول فقط بأن منهم تجبى الضرائب وأنهم يزرعون الأرض ليغذوا المدن) وغليك أيضاً كيف كانوا يعرفون الأعمال الصناعية الميكانيكية بأنها سافلة ساقطة. وكان الفقراء وحدهم يزرحون تحت أعباء الحكومة بأسرها وهي تطلب من الناس ما لا يستطيعون أن يقوموا ببعضه وأرباب الطبقات المختلفة من الأعيان سامت الملوك برفاهيتها وهي تستند إليها ويستندون عليها وعاقبة ذلك سحق الفقير. لكم أن تقيسوا ما قمنا به من الأعمال وما حدث من الفروق بين هذا العصر والعصر السالف وما أظن أحداً في صحة من عقله يزعم بأن عصرنا عصر سيئات. نعم إن الإصلاح لم يتم إذ لا نزال نرى الشقاء الطبيعي والأدبي والظلم مستحكماً. إنكم عَلَى صغر سنكم تعرفون تلك الولايات وكثير منكم يراها قريبة منه. فمن بيوت ضيقة رديئة تحوي عوامل الفناء والأسر الوحيدة العديدة التي بقيت في فرنسا تصفر ألوانها في الأكواخ الساكنة فيها وينهكها السكر الذي ربما نشأ من الشقاء وربما أزاده وأدامه وبذاء الكلام والحركات السفيهة. وأنكى من ذلك مشاهد أولئك المحتشمين الذين لا يفتأون يقلقون ويخافون الفاقة وهم عَلَى طيب قلوبهم يحيون منقطعة آمالهم. وبين السواد الأعظم وخيار الناس من الفرق العظيم الناتج من اختلاف التربية ما هو معروف موصوف. فالجهل في السواد الأعظم يكاد يكون عاماً يتناول صفات الناس وصفات الوطن. إن ما يجب أن يعمل أيها الأولاد هو تتابع العمل فيما بدأنا به لنحرر المجتمع الفرنسوي ما أمكن من ضروب الشقاء والمظالم الإنسانية التي لم تستأصل شأفتها. هذا العمل شاق ولا يخلو من مخاطر وذلك لأننا نحاول للمرة الأولى أن نرفع ما سقط ونقوم ما انحنى. وظاهر بأن الناس كلهم كيفما دارت الحال لا يقدرون عَلَى الاضطلاع بأعباء الزعامة وأنه يجب شيء من النظام أبداً وشيء من الترتيب وبديهي بان بعضهم

يتساءلون عمن يقوم عَلَى هذا النظام وهذا الترتيب. لا تعجب أن ترى كثيراً من الناس وفيهم أهل الحشمة والصلاح يضطربون ويقلقون وينكرون علينا ما نعد الأمة له ونحلم به من تحسين مستقبلنا. هذه الفئة من الناس هي التي تريد منا أن نرجع أفكار أجدادنا وأخلاقهم ولكني لا أرى بأي حق يقفون في النقطة الفلانية بدل النقطة الفلانية من الطريق المؤدية إلى الكهوف؟ التاريخ بأجمعه طافح بأخبار الرجوع عن التقاليد وبعبارة ثانية ليست التقاليد إلا انتقالاً من الماضي للحاضر يأخذ منها الناس ما يريدون وما يستطيعون ويبذلون ما شاؤوا أو يخدمون أو فيقون ما أرادوا. وما تقليد يقف في زمن معين إلا أنه اشبه بحدود لا تتعدى. نعم أنا مدرك ما هناك من مخاوف وأسمع أصوات الأهواء وأشعر بآهات الأحقاد. تذكر الصحف وقائع يومية محزنة وهناك الأحلام اللطيفة تعدنا بأمور جميلة. ولكن الإنسانية لم يهدأ لها بال قط. وما قط عاشت بدون شهوات وأحقاد وبدون أحلام ومطامع. أما أنا فإني معجب بما مر علي من أيام البؤس والسخط عجبي من الكون الذي يتم فيه هذا العمل العظيم في العالم. ولو ذكرت لكم ما حدث هناك في تلك المقاطعة وحدها لطال بي المطال ولطالما أصابها ما أصاب باريز نفسها. اذكروا فيها أيام 1848 والفتن اليومية التي حدثت عَلَى عهد لويز فيلي وأيام الثورة والتمرد عَلَى أيام الحكم القديم عهد لويس الرابع عشر وحركات القرون الوسطى الهائلة أما اليوم فليس فيها شيء من هذا يباكر الناس مضاجعهم فينامون ملء جفونهم آمنين مطمئنين. أنا لا أتنبأ فلا أقول بأن الدهر لنا بالمرصاد عَلَى أنني لا أعتقد بالتقلبات الدائمة المحزنة فقد حدث نجاح عظيم في العقل العام. إن حق الكتابة والخطابة وحق الانتخاب قد أتت عَلَى حق الثورة. أيها الأصدقاء إنكم لن تنسوا أبداً كل قسوة يعد جناية في البلاد المتمتعة بروج الجهورية. يعلمونكم في المدرسة روح التكافل والتضامن وقاعدته أعن نفسك بنفسك وشعاره أعينوا بعضكم بعضاً وهذه القاعدة هي أساس الإخاء العلمي ثم تجيء بعد أعمال المحسنين الشريفة أي إرادة الأمة الفرنسوية لتحفظ الحياة من الأمراض التي تهددها والطفولية من

العمال وسوء التربية والعمل من الحوادث والشيخوخة من الشقاء وتعطي الضعيف واسطة للمناقشة مع القوي وتقسم العمال العامة والتكاليف الأميرية العسكرية عَلَى نصاب العدل. وما النظام الجمهوري إلا باحث عن العدل. ألا فلنكبر دائرة الرجاء والآمال بحسن المآل وما الخير إلا ثمرة جهادنا العظيم وسرعته أكثر مما نتصور. واذكروا أن الطريق قصيرة بين معاصر لويس الرابع عشر وبيننا فالتاريخ ما خلا الفضائل التي قلتها لكم يحوي أجمل الفضائل ألا وهو تقوية الأمل اهـ. ها ما قاله علامة الفرنسيس لطلبة بلاده ترجمناه لتتدبره هذه الأمة العربية لأن الأمم متشابه في تواريخها وأحوالها وليت كبار رجالنا يتنزلون تنازل كبار رجال الغرب إلى مخاطبة الناشئة بمثل هذا اللسان العذب والأفكار السديدة فلا خير إلا في التعليم ولا تعليم إلا للشبان رجال المستقبل.

الجغرافي الإدريسي وصاحب صقلية

الجغرافي الإدريسي وصاحب صقلية من مبحث لأحمد باشا زكي لما آلت إلى الملك رجار النورمندي مقاليد الأحكام في جزيرة صقلية رأى ما عليه المسلمون من الحضارة والعرفان ومكارم الأخلاق فجعل بطانته منهم وتقرب إليهم رغبة في رفع منا ملكه عَلَى ما جرت سنة الإسلام وقد تولع بعلم الجغرافيا وبحث في ممالكه عن أساطينه في تلك الأيام. فأرشده المسلمون إلى شريف من سلالة الأدارسة الذين تملكوا مراكش وانتهى إليهم الحكم في مالقة راحوزاها بجنوب الأندلس ثم دالت دولتهم وبقي نفر منهم كانوا ملوك العلماء وإن كانوا أضاعوا التاج والصولجان وفقدوا الحكومة والسلطان. ذلك هو الشريف أبو عبد الله محمد بن محمد عبد الله بن إدريس المعروف باسم الشريف الإدريسي. فاستقدمه رجار وبالغ في إكرامه والعناية به ليفوز بشيء م علومه وليتعرف بواسطته ماهية بلاده صقلية وأحوالها وبلغ من إكرامه له أنه كان كلما دخل عليه هرع لاستقباله عند الباب ثم أجلسه إلى جانبه عَلَى سرير الملك، حتى إذا ما أتم المحاضرات معه وأفاده بما أراد ثم هم بالخروج، شيعه الملك بنفسه إلى عتبة القصر. وقد انتهى الأمر بذلك الملك العاقل أنه طلب من صاحبه تأليف كتاب ليعرف به جغرافية بلاده وجغرافية المعمورة بأسرها وصنع له كرة من الفضة تمثل الأرض وما عَلَى سطحها من البلدان ثم صنف له كتابه الذي كنا نسمع به ولا نرى إلا ترجمته الفرنسية الكاملة وبعض شذرات عربية طبعها الإفرنج وهي خاصة ببعض البلاد التي تهمهم مثل كلام الشريف عَلَى الأندلس فقد طبع الإسبان مع ترجمته إلى الإسبانية ومثل كلامه عَلَى إيطاليا وصقلية فقد طبعه اثنان من افاضل علماء الطليان ونقلاه إلى لغتهما أيضاً. ومثل كلامه عَلَى فلسطين فقد طبعه أحد علماء الألمان باللغة العربية لاحتوائه عَلَى البيت المقدس وما يليه من البقاع التي ظهرت فيها النصرانية. ثم طبع اثنان من أفاضل العلماء الهولانديين قطعة من هذا الكتاب تتضمن ذكر الأندلس وبلاد الغرب ومصر والسودان وعنيا بترجمتها إلى اللفة الفرنسية مع الشروح اللغوية والجغرافية الضافية الشافية.

هذه خلاصة وجيزة عما أعمله (وهو كثير) من هذا الكتاب الفريد الجليل وقد كنا أبناء العرب ولا نزال إلى هذا اليوم لا نعرف سوى ما سبق من القطع التي تفضل الإفرنج بل تصدقوا علينا بطبعها من هذا الكتاب النفيس المكتوب بلغتنا ولفائدتنا. فانعكست الآية وجاءنا النور ضئيلاً من الغرب ومازلنا إذا احتجنا إلى شيء من ثمراته اضطررنا لاقتطافه من الترجمة الفرنسية وفيها ما فيها. وفي حاجتنا وفاقتنا إلى تلك الترجمة من العيب علينا والحط من كرامتنا فضلاً عن عدم إمكان الوقوف عَلَى الحقائق كما هي. ولم يكن في دار الكتب الخديوية إلا الجزء الأول مكتوباً بخط جميل ومتضمناً للمصورات (الخرط) الجغرافية ولكت فيها تشويها كثيراً وتحريفاً يجعل الفائدة منه قليلة. فلذلك كانت عنايتي كانت منصرفة للحصول عَلَى نسخة كاملة منه حيثما وجهت عزيمتي لجمع نفائس الكتب التي تكون أساساً لإحياء الآداب العربية بديار مصر. وقد وفقني الله لطلبتي وحصلت عَلَى أربع نسخ كاملة منه وهي الآن بدار الكتب الخديوية. ومتى حان الوقت المناسب لطبعها أخرجناها للناس وإظهاراً لمجد العرب وتعريفاً للكاشحين بمآثرهم الخالدة التي لا ينكرها إلا من كان في قلبه مروض ولا يجحدها إلا الجاهل الذي يعميه الغرض. أما الكتاب فعنوانه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) ولما كان علماء الإسلام يعرفون الفضل لذويه فقد كادوا يتناسون العنوان ولا يذكرون هذا الكتاب إلا مقرناً في مصنفاتهم باسم (كتاب رجار) إذا كانوا من أهل المشرق وباسم (كتاب اجار) إذا كانوا من المغاربة وذلك تخليداً لذكرى ذلك الملك الفاضل. ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن رجلاً طلب من الإدريسي قبل اشتغاله بتأليف هذا الكتاب أن يصنع كرة تمثل الأرض بما عليها وقدم للشريف كمية وافية من الفضة الخالصة فصنع له الكرة عَلَى ما يشتهي. وقد بقي من هذا المعدن النفيس شيء كثير جداً فتركه الملك له. ورجاه رجار أن يقبله دليلاً عَلَى أنه يعرف فضله. ولم يكن عَلَى الشريف قاصراً عَلَى الجغرافية والفلك بل كان بارعاً في معرفة الطب وعقاقيره. وقد ألف في هذا الفن كتاباً أصبح الآن معدوماً بالكلية. ولكن من يمعن النظر في مفردات ابن البيطار يعرف قيمة هذا الكتاب. فقد نقل عنه كثيراً في كتابه الباقي بين أيدينا بأصله العربي وبترجمته الفرنسية.

ولا بأس أن نذكر شيئاً من مقدمة نزهة المشتاق في اختراق الآفاق لتعريف القارئ بالثناء المستطاب الذي خلد به الإدريسي ذكرى رجار عَلَى ممر الأدهار والأعصار. قال الشريف الإدريسي: أفضل ما عني به الناظر، واستعمل فيه الأفكار والخواطر، وما سبق إليه الملك المعظم رجار المعتز بالله، المقتدر بقدرته، ملك صقلية وإيطاليا وانكبردة وقلورية معز أمام رومية الناصر للملة النصرانية. إذ هو خير من ملك الروم بسطاً وقبضاً. وصرف الأمور عَلَى إرادته إبراماً ونقضاً، ودان قي ملته بدين العدل، واشتمل عليهم بكنف التطول والفضل، وقام بأسباب مملكته أحسن قيام، وأجرى سنن دولته عَلَى أفضل نظام وأجمل التئام وافتتح البلاد شرقاً وغرباً. وأذل رقاب الجبابرة من أهل ملته بعداً وقرباً. بما يحويه من جيوش متوفرة العدد والعدد. وأساطيل متكاثفة متناصرة المدد. صدق فيها الخبر الخبر. واستوى في معرفتها السمع والبصر. فأي غرض بعيد لم يصل إليه. ولم يخطر عليه؟ وأي مرام عسير لم يحظ به ولم يتيسر لديه؟ إذ الأقدار جارية بوفق مبتغياته وأرادته. والسعادات خادمة له ومتصرفة عَلَى اختياره في حركاته وسكناته. (واستمر الشريف عَلَى هذا المنوال إلى أن قال): لما اتسعت أعمال مملكته. . . . . أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة ويقتلها يقيناً وخيرة. ويعلم حدودها ومسالكها براً وبحراً. وفي أي إقليم هي. . . . مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار. . . . يطلب ما في الكتب المؤلفة في هذا الفن. . . . مثل كتاب العجائب للمسعودي، وكتاب أبي نصر سعيد الجيهاني، وكتاب أبي القاسم عبيد ابن خرداذبة، وكتاب أحمد بن عمر العذري، وكتاب أبي القاسم محمد الحوقلي البغدادي، وكتاب جاناخ ابن خاقان الكيماكي، وكتاب موسى بن قاسمك القردي، وكتاب. . . . اليعقوبي، وكتاب إسحق بن حسن المنجم، وكتاب قدامة البصري، وكتاب بطليموس القالوذي، وكتاب أرسيوس الإنطاكي، فلم يجد ذلك فيها مشروحاً مستوعباً مفصلاً. . . . فأحضر لديه العارفين بهذا الشأن. . . . فلم يجد عندهم أكثر ما في الكتب المذكورة فلما رآهم عَلَى مثل هذه الحال، بعث إلى سائر بلاده فأحضر العارفين بها والمتجولين فيها. . . . . ثم اشار الإدريسي إلى صنع الكرة الفضية وأنها عظيمة الجرم ضخمة الحجم، في وزن أربعمائة رطل بالرومي، في كل رطل مكنها مائة درهم واثنا عشر درهماً، وقال أنها

تضمنت صور الأقاليم ببلادها وأقطارها وسيفها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاري مياهها ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها. . . والطرقات. . . والأميال. . . والمسافات. . . والمشاهد. . . إلى أن قال أنه طلب تأليف كتاب مطابق لما في أشكالها وصورها غير أنه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأرضين في خلقها وبقاعها وأماكنها وصورها وبحارها وجبالها وأنهارها ومواتها ومزدرعاتها وغلاتها، وأجناس بنائها وضواحيها والاستعلامات التي تستعمل بها والصناعات التي تتفق فيها والتجارات التي تجلب إليها وتحمل عنها والعجائب الذي تذكر عنها وتنسب إليها، وحيث هي من الأقاليم السبعة مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيهم وملابسهم ولغاتهم وأن يسمي هذا الكتاب بنزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وكان ذلك في العشر الأول من ينير الموافق لشهر شوال الكائن في سنة ثمان وأربعون وخمسمائة فامتثل فيه الأمر وارتسم الرسم. وعندما جاء ذكر جزيرة صقلية قال الإدريسي ما نصه: إن جزيرة صقلية فريدة الزمان فضلاً ومحاسن ووحيدة البلدان طيباً ومساكن وقديماً دخلها المتجولون من سائر الأقطار والمترددون بين المدن والأمصار وكلهم أجمعوا عَلَى تفضيلها وشرف مقدارها، وأعجبوا بزاهر حسنها ونطقوا بفضائل ما بها وما جمعته من مفترق المحاسن وضمته من خيرات المواطن. ثم تخلص إلى مدح رجار الأول بن تنقريد ثم عاد إلى مدح رجار الثاني. ثم عاد إلى الكلام عَلَى الجزيرة وقال: (فأما صقلية لقدم ذكرها فأقدارها خطيرة، وأعمالها كبيرة، وبلدانها كثيرة، ومحاسنها جمة، ومناقبها ضخمة، فإن نحن حاولنا إحصاء فضائلها عدداً وذكرنا أحوالها بلداً بلدا، عز في ذلك المطلب، ضاق فيه المسلك، لكنا نورد منها جملاً يستدل بها ويحصل عَلَى الغرض المقصود منها إن شاء الله تعالى!).

الأمة والتعليم

الأمة والتعليم نشر جبرائيل سيايل من علماء فرنسا كتاباً أسماه (التربية والثورة) تكلم فيه عن واجبات الحكومة نحو الرعية وواجبات الرعية نحو الحكومة ولاسيما عامة الشعب وسوادهم الأعظم وقع في 250 صفحة وهاك تعريب ثلاثة فصول منه قال في حقوق الأمة في التعليم وهو مقدمة الكتاب: من راقب الأمور بنظر الناقد البصير لا يلبث أن يسجل بأن الانطباع عَلَى الديمقراطية لا يتأتى إلا إذا كان له عون من الأفراد أنفسهم فالديمقراطية هي في الحقيقة تربية وتعليم لا خلقة وملكة أرثية ولا تنشأ العبودية إلا من ضاعة النفس، ولا يتمثل الظلم إلا من لؤم الطباع من يخنعون له ويتقبلونه بقبول حسن. فينبغي الحالة هذه إبدال الأوضاع والقوانين. طرائق الاستملاك كما يقتضي قلب حالة الأفراد حتى إذا تم لهم ذلك لا يعتمون أن يقبلوا كيان المجتمع عَلَى صورتهم وأمثالهم. ولهذا اقتضى ألا تخضع الأمة خضوعاً أعمى فتكتفي بأن يكون لها رأي في انتخاب نوابها. بل كان عَلَى عامة أفرادها أن يكون لكل منهم وجدان وقوف عَلَى ما هم آخذون أنفسهم به من مؤازرة مجتمعهم وحكومتهم. وهكذا يتبدل الأشخاص إذا أبدلت الأشياء فيتعلمون بالتربية كيفية الوصول إلى معاملة حكوماتهم لهم بالعدل والقسط وينشأ لهم مجتمع مستل لا يكون الظلم حليفه ولا الإعنات رديفه. إذا قلنا أن العليم حق للجميع وأنم عَلَى العارفين المتعلمين فروضاً عينية يقومون بها لنفع الجاهلين الأميين فلا ترانا أتينا بفكر خارق للعادة لم يعهد له نظير فقد اعتقد جميع العارفين والعلمين بأنه ينبغي تصفية ينابيع المعارف والعلوم ليتيسر أن يستقي من مرودها أفراد الأمة وتعد فوائدها هذا الحيوان الناطق. ومن العبث أن نقول أن العلماء يعملون عَلَى بث فضل علومهم سعياً وراء أغراض لهم خاصة وإرضاءً لما في صدروهم من الأنانية وحب الذات وحرصاً عَلَى فائدة ينالها بعضهم أو لبلوغ مرقاة من مراقي الكمال تقتصر عنها يد المتناول وما عَلَى المدارس والكليات الجامعة إلا أن تأخذ بيد الأمة في هذا السبيل وتعرفها مصالحها وتعلمها ما يحفظ به كيانه. وحري بنا أن ندعو إلى الأفكار التي تقل العناية بها لأنها تبدو في مظهر يفهم منه أنها طبيعية عامة لا تحتمل الجدال والقيل والقال وأن تتدبرها ليتجلى لنا معناها وأصلها لآنا

كثيراًُ ما نراها تحمل في مطاويها معتقدات نشكو من وجودها ومبادئ هي في الحقيقة قوة هذا العصر وشرفه الأثيل. وهذه الأفكار الجديدة الغريبة هي أن يكون لجميع الناس حق الاشتراك في درك الحقيقة وأن يكون عليهم واجبات يقضي بها عليهم واجب العلم وأن تكون بين العلماء وعامة الأمة روابط أدبية ليوحوا إليهم بما في صدورهم من علم صحيح ويشاطروهم ما حازوه من نعمة العقل الواسع والفهم الجم. وإذا استفتيت التاريخ عن هذه الطريقة التي نراها أنجع الطرق في تعليم الأمة لا تجد لها أثراً في العصور السالفة إذ لم يكن إذ ذاك رابطة روحية بين خاصة الأمة وعامتها بل كان الخاصة يحكمون والعامة يخضعون. وكنت ترى السياسة بأيدي الملك ومستشاريه وتضعف بضعفهم وتقوى بقوتهم والمملكة تفنى في شخص واحد يعمل ما يزن له هواه وحسابه عَلَى الله. وكنت تشهد تحت أيدي المفكرين والعاملين أصنافاً وأجيالاً من الخلق هم الدهماء وعامة الشعب يعملون ويشقون وقلما تتنبه أذهانهم للمطالبة بحقوقهم إلا إذا بلغت منهم الشدة والإعنات والجور مبلغاً. أما في هذا المجتمع الحديث فإن العلماء والفلاسفة - وعلماء الدين يراقبونهم - يتعرضون للبحث عن الحقيقة التي لا تخلو من خطر لما ينجم عنها من القلب والإبدل وهم يؤلفون مجتمعاً صغيراً هو إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة. مجتمعاً لا نظام له وليس له قانون مكتوب. نشأ بنفسه لنفسه تحدوه مطالب ارتقاء العلم وتسوقه ضرورة المراقبة عَلَى العقول. وهذا المجتمع الذي تتجلى فيه وحدة المجتمع البشري هو مشترك بين الأمم ينتقل من بلد إلى أخرى. وأعضاءه المتشبعون بأفكار واحدة والمتضامنون في عمل مشترك لا دخل فيه لهوى الأفراد يتراسلون ويعرضون المشاكل بعضهم عَلَى الآخر ويقترحون جلها بينهم وإذا ساحوا فإن سياحتهم ليمتعوا أبصارهم برؤية بعضهم وليتعارفوا ويتعاطفوا ويتبادلوا أفكارهم عَلَى صورة مخاطبات تكون عاقبتها بينهم كثرة المراسلة. وفي رسائل الفيلسوفين ديكارت الفرنسوي وليبنتز الألماني شهادة حية ناطقة بائتمار العلماء في مبادلة الأفكار وتوفرهم عَلَى تحرير العقول من رقها للبحث عن الحقيقة وكان من دواعي الاتصال بين العلماء اعتمادهم عَلَى اللغة اللاتينية وهي اللغة التي كان يتكلم ويكتب بها جميع المنورين.

وكلما كان هذا النهج يتضح ويصير إلى المحسوسات أقرب وإلى البحث لا إلى التصور وإلى تقسيم الأعمال بين أهل الاشتغال من الرجال - كان العلماء يدركون بأن حاجتهم بعضهم إلى بعض ماسة كل المساس. إن أعمالهم ينبغي لها أن تكون متجهة إلى مركز واحد وأنهم كلما اتحدت وجهتهم نحو فكر واحد واشتركوا يداً واحدة في عمل واحد أصبحوا كأبناء الوطن الواحد الذين يسعون إلى إبلاغ بلادهم مبالغ الكمال. قام بيل الكاتب الفرنسوي (1625 - 1798) المبشر بدعوة الفيلسوف فولتير بالإصلاح والتجأ إلى هولاندة لأن ظلم لويس الرابع عشر جعل تلك المملكة الصغيرة أرض الأفكار الحرة وهناك اخذ بنشر كراسة عَلَى شكل مجلة تحت عنوان ينبئ بما ينطوي عليه من المعاني الحسان وهو أخبار جمهورية الآداب وهذه الجمهورية التي حد لها ولا تخوم ولا جرم تجل عن المصالح المادية والمطامع ومزاحمة الأمراء ومنها أخذت الإنسانية تدخل في طورها المعهود وعظمتها الفائقة ولكن ما الفائدة من تعارف العلماء واجتماعهم وأي خير يرجى إذا ألفوا من أفرادهم نخبة لا اتصال بينهم وبين عامة الأمة وجهلوا أحوال الأمة لأن كيانها عدن واجتماعها منحل العرى. جاء القرن الثامن عشر فامتزجت الفلسفة بالحياة وأصبحت تنطق بلسان الناس وتبدو بأشكال منوعة. فدخلت روحها في الراويات والقصص والوقائع التمثيلية والهزلية والمحاورات واستخدمت لغاياتها ما بدر عَلَى قلم الفيلسوف فولتير من قوارص الاستهزاء والتهكم ما انبعثت له قريحة الحكيم ديدرو وما تدفق من معين البلاغة عَلَى لسان جان جاك روسو. أخذت الفلسفة تحمل حملات عَلَى السلطة المطلقة وتدك معالم الأوهام وتفتح العيون لتريها سخف السخفاء وكانت تنظر إلى ذلك من قبل نظر الاستئناس لتكرره عَلَى النظر. وتنبه الأفكار التي أصيبت بها الناس في عاداتهم وأخلاقهم وتهزأ بمن لم ينطبع بطابع التسامح وبمن لا تشمئز نفسه من الظلم الفاضح وتبن مسافة الخلف الذي حدث بالتدريج بين هذه الأعمال البربرية والوجدان البشري ذلك عَلَى الرغم من أنصار التقليد والمحافظين عَلَى الأوهام الخيالات وهناك نشأت قوة جديدة وأعني قوة الرأي العام عَلَى أن هذا الرأي العام لا يزال مقصوراً عَلَى أرباب القصور وصادراً عن خاصة الناس وعلية القوم من أرباب الأموال والأملاك وقادة الأفكار من الفلاسفة وربات الأفكار من النساء وكلهم بما

امتازوا به من ضروب التميز عَلَى غيرهم من عامة الشعب قد أحرزوا نعمة التميز والفكر. وقال من فصل آخر: وسعت الثورة الفرنسوية دائرة الإنسانية فأدخلت فيها الناس عَلَى اختلاف أجناسهم. عمت ولم تخصص وتوسعت في مراميها ومعانيها وراحت تعامل جماع الخلق مطبقة ما ورد في فلسفة أرسطو من تعريف الإنسان أنه حيوان عاقل قائلة بأنه إذا كان ذلك فلا يتأتى إبعاده من حيز العقل كما لا يتيسر طرده من الإنسانية. فالتعليم حق لا يفادي به المرء إلا إذا فادى بنفسه. لقد قرأت في قاعدة تمثال السياسي دانتون هذه الكلمة: التعليم أول ما تحتاجه الأمة بعد الخبز الذي تأكله وكلنا يعلم أن الديمقراطية نشأت من المعاكسات والمناهضات والمقاومات ولا تزال تسلك سبل النجاح والارتقاء. لا غنية للديمقراطية عن خيرة رجال كما لا يسعها أن تقدر الذكاء والعلم والفضيلة حق قدرها ولا مشاحة في أن الديمقراطية تأتي عَلَى الحواجز التي كانت تحول بين الطبقة العالية وجمهور الأمة فتدكها من أساسها ذلك لأن المجتمع يختار كبار الرجال من جمهور أهل البلاد ممن ينشؤن أبداً بين ظهراني عامة الناس. لا يزالون ينمون ويتحدون بما يصدر إليهم من حوض القوة والنشاط وأعني بهذا الحوض البلاد فإذا اعتزل هؤلاء الرجال واقتصروا عَلَى الاجتماع بأبناء طبقتهم محتقرين ما عداها فإنهم يقضون عَلَى أنفسهم بالضعف وعلى أمرهم بالفشل. ليس الشعب هو الجمهور بل هو الأمة وهو الحاكم المتحكم. والفكر لا يكون إلا مجردات ونظريات إذا لم يكن له كيان وحقيقة تؤثر في عقول أبناء الأمة وإرادتهم. وعلى الطبقة الخاصة من الناس وهي في الأصل ممتزجة بجهلاء الأمة وأهل الوضاعة منهم أن يكون لها اتصال بالشعب وعليها أن تعمل عَلَى إقناعه لتنال ثقته. تتصل به وتشركه في معرفة لحقيقة السامية التي تخضع لناموسها الإرادات المختارة. ولى مجموع يتألف منهم المجتمع الديمقراطي أن يشتركوا في الحياة الوطنية. مطالب الوطن بأن مطالب التمدن هي هي أعز مصالحنا التي نرمي إلى نيلها وتستلزم هذه المطالب أن لا يكون حث الأمة في التعليم من الشرائع المنسوخة فقد فرضنا آنفاً من باب التجوز أن كل امرئ هو شخص في ذاته وأن كل حي خلق عَلَى صورة البشر هو إنسان وقسمنا بينهم السلطة التي كانت في القديم محصورة في يد فرد واحد فعلينا أن لا نحجم فيما

ندعو إليه وقد أوشكنا أن نفلح فيه إلا وأنه يجب إذا أرنا أن تتفق الأخلاق مع الأوضاع ولا تناقض الحقيقة مبادئ الوطنية الرئيسة أن يقدر كل فرد عَلَى القيام بالواجبات الناشئة من الحقوق التي له ومن الضروري أن يكون الإنسان خلقاً يعقل لأنا فرضنا له ذلك وبنينا قواعد كلامنا عليه. تعليم عامة الأمة هو من النتائج المعقولة في إشراكها بانتخابات ينبغي أن يكون للأمة من العقل ما تتقي به غوائل التفرق واختلاف الآراء. أن يكون لها من معدات التعليم ما تحسن معه أن تسير في الخطة المثلى وتجري مع مهيع السداد وهذا لا يصح لها إلا إذا أحرز أفرادها نصيباً من الذكاء والنظر في العواقب وثبات الجنان. الديمقراطية لا تغفل عن تعليم الأمة إلا إذا أوكلت أمرها لجماعة من المتوحشين من أجل هذا ضاعفت الجمهورية الفرنسية عدد المدارس والكتاتيب ودور المعلمين والصنائع. من أجل هذا عرف العلماء والفلاسفة ما يجب عليهم القيام به من خدمة البشر فاهتموا من وراء الغاية بكشف القناع عن محيا الحقيقة ورأوا من أقدس فروضهم أن يسعوا السعي الحثيث إلى بثها في عقول الأمة صغيرها وكبيرها. ومن أجل هذا نريد أن نجعل للعقول حظاً من إدراك القوانين الضرورية وأن يتناغى الأفراد في بلوغ أسمى الماطالب والأمة تصير إلى انحطاط إذا نزعت منها هذه الفكرة. فيتألف من ذلك المجموع أمة تعضدها إرادتها في اختيار أحسن الأمور وتوقن أن العلم يهيئ وحده حقيقة ما ينبغي وما يجب أن يكون. ومن أرباب الأفكار من يذهبون إلى أن فرنسا أخطأت القصد في ثورتها فكان عليها أن تنير عقول العامة قبل أن تسعى إلى تحريرهم من رق السياسة وأنها بعملها هذا قد حلت عرى الصلة التي كانت بين الخاصة والعامة وأصبح قبول الفصل للأكثرية الجاهلة لا الأقلية العاقلة وأن فرنسا بدأت من النهاية وهي طريقة غريبة في العمل ويقولون أننا أسأنا بتأسيس أوضاعنا عَلَى الأماني الواهين باستنادنا عَلَى العامة والغوغاء من مجموع الأمة وأخطأنا أن بنينا عَلَى خيوط العناكب هذا الشبح من هذيان الفلسفة. فلسفة المساواة بين أبناء الوطن الواحد وأسلمنا المجتمع والتمدن إلى من. إلى الرجل الفطري الذي بين أيدينا. إلى العالمي الذي يطوف الشوارع. إلى حيوان شرير مفترس فاسق. عَلَى أنني أرى عَلَى الرغم مما يقولون أولئك المتفلسفون أن من الأمور ما ينبغي أن يبدأ من غاياته وهكذا

يشرع في الأعمال العظيمة كلها. فالشاعر لا ينظم قصيدة من أبيات ملتحم آخرها بأولها. والمصور يرسم التقاطيع أولاً. والصانع يرى بادئ بدءٍ ما يريد صنعه دفعة واحدة فيتصوره في مجموعه ويحصر فيه ذهنه. وهذا الباعث الداخلي هو الذي يحمله عَلَى أن يفادي بصرف عمره كله ليحكم صناعته ويشرك الناس فيما وقع في نفسه أنه جميل نافع فالفكر يخترع صوراً جديدة من الخير ليحققها ليجدر بالأمم كلها كما يجدر بالأفراد أن يجعلوا نصب أعينهم في حياتهم واجباً كبيراً لا يغفلونه. وليت شعري هل كان أرباب الإصلاح منا يحظون بالجل الرشيد لو قعدوا ويتوقعون طلعته وهل كانوا يفوزون من عملهم بطائل ويقوم بيننا داعي الحضارة ينادي حي عَلَى الفلاح. إلا أن تعليم الأمة من أعز مصالحنا لأن فيه السلامة العامة. عَلَى أني لا آسف إذا كانت المصلحة طوعاً أو كرهاً من جانب العدل والحقيقة. ولكن دعونا من التلميح فالأمور لا تسير يدون مسير وتعليمنا لا تقوم له قائمة بما تصدره نظائرنا من المنشورات وما يلقيه لعضهم من الخطب وما يصرح به آخرون - كل هذه لا تعفينا من الاعتماد والسعي في إصلاح الحال والاعتماد عَلَى أنفسنا لإصلاح المآل. لا نقعدن ونحن نتوقعه أن تجري الأمور من نفسها عَلَى محو السداد فلن يقع إلا ما نحسن إرادته ومصيرنا بيدنا وسعادتنا مناط همتنا. فعلى كل فرد منا أن تكون له إرادة ثابتة كما أن يكون كما يحق له وكما يجب أن يكون عليه. عَلَى الرجل الحر أن يتعلم ويتيقظ كل التيقظ لما فيه عظمته التي هو ضمن حارس لها وأن يثق كل الثقة أن ليس في الأعمال ما هو وضيع في ذاته وأن العظائم في هذه الدنيا هي مجموع ثمرة أعمال كثيرة فإذا عمل المرءُ لنفسه فنتيجة عمله عائدة عليه وعلى الناس أجمعين. وقال في معنى المدارس الحرة أي اللادينية ما نصه: الحنق والغضب أيها الأساتذة هو من العواطف التي لا يليق أن تسري إلى قلوبكم لأنها منافية للمهمة التي عهدت إليكم من إنارة العقول وتربية الملكات. فالمدرسة ولا أزيدكم علماً ليست لشيعة مخصوصة ولا لأهل حزب معين بل هي للأمة بمجموعها ولذلك لا ينطبق مع مصلحتها أن تكون خطتها إلقاء بذور الكراهة والتناكر لأن لأبناء البلاد عَلَى اختلاف

أصولهم وأديانهم الحق أن يتبسطوا في بقاعها ورباعها وعليهم حقوق يقضونها عَلَى حد سواء. وإني لأغتبط كلمت رأيت بأن عَلَى الأستاذ ألا يدرك قواعد الأوهام والخرافات إلا بإقامة ما يخلفها من الحقائق السامية وكلما رأيته مضطراً بحكم الضرورة إلى تجنب كل مشاغبة واعتراض وأن يلقي في الأذهان ما ثبت ووقع موقع الحسن ولم يقبل النقض من حقائق العلم ولا ينكر إلا ما لا يسعنا الاعتقاد به عن إيمان وإخلاص. المدرسة الحرة التي لا تمس فيها الشعائر والعواطف ليست مما تجعل التعليم مشوشاً لا قيمة له ولا تأثير وتسلب المعلم الجرأة التي تعينه عَلَى القيام بعمله الشاق. وما معنى المدرسة الحرة الذي أقصده إلا أنها لا تنكر عَلَى معتقد اعتقاده ولا تحمل عَلَى الوجدانات وتنزع إلى ما دخل أعماق القلوب. المدرسة الحرة هي التي تهتم من وراء الغاية بمناهضة الأوهام كما تعنى بإقامة دعائم الحق بمعنى أنها تبذل جهدها فيما يجمع العقول في ظل مشرب واحد لا يوزعها ولا يهزعها. المدرسة الحرة هي التي إذا ناهضت الكاذب في كذبه والكافر في كفره والمتعصب في تعصبه فمناهضتها بأن توحي إلى القلوب حقائق أدبية لا يجسر امرؤ أن يجادل في صحتها جهاراً. ليست المدرسة سلاحاً تستخدم للحرب ولا أداة تستعمل للغلبة بين الأحزاب. وليست المدرسة الحرة من الأوضاع الصناعية العارضة بل أرى لها في الماضي أصولاً تشعبت منها وقواعد قامت عليها. إن لها من التاريخ أثراً وحكمة وهي موافقة لما تم للعلم من الارتقاء وما نشأ عليه الوجدان البشري. قام العلم المجرد منذ القرن السادس عشر مقام علم اللاهوت بفضل المذاهب الفلسفية العملية ووضعها موضع التطبيق. قام العلم المجرد يحقق نفسه ويزكيها بما عظم من أمره واتسعت به سلطته التي أمديها الإنسان وسلطة فيها عَلَى الوجود. لم تقم قط الوحدة الوطنية منذ ثار ثائر الثورة الفرنسية عَلَى وحدة الدين والمذهب. وهذا ما دعا إلى أن يكون في المجتمع المدني مبادئ تخوله البقاء والنهوض. وهكذا يرجع الحق الديني القديم القهقرى عَلَى التدريج أمام الحق البشري. وينبعث من ذلك بالتدريج فكر جديد بأن يكتفي المجتمع بما لديه من المقومات والمشخصات. وأنه بما ينشأ في وسطه من الأوضاع البشرية ثمين فقي

ذاته غني باسمه وصفاته ويورث الناس قوة تبعثهم عَلَى ورود موارد الكمال. وأم لهم مهما كانت أديانهم وفلسفتهم ومزاعمهم عن العالم الثاني من المجتمع الذي يوليهم الذكاء والإرادة ما يرتفعون به إلى الإنسانية الحقيقية. والمجتمع في مكنته بل هو مضطر إلى أن يهب أعضاؤه المؤلف منهم تربية فيها جميع المواد اللازمة والحاجات المبرمة والغايات السامية. يتعذر عَلَى المدرسة الآن أن تتصبغ بصبغة الدين لأن العلم والمجتمع قد نزعا عنهما تلك الصبغة ولأن المرء أصبح له مجموعة أفكار بشأن العالم والحياة هو كان أصلاً لها وعنه انبعثت وصدرت لأن الأديان التي يزعم كل منها أن الله أوحى لها بالحقيقة المطلقة وعهد إليها بالدعوة إلى انتحالها. هذه الأفكار التي أتت من الإنسان نفسه هي التي بها تتحد الإرادات في الناس عَلَى قدر القرائح والعقول. إنا ندعو في مدرستنا الحرة إلى تحرير العقول من التشيع للمذاهب وندفع فيها التأثيرات التي لا يقول فيها العلم. نريد في هذه المدرسة أنه لا بقاء للمجتمع إلا إذا عمل بسنة العقل وتأثر بالمؤثرات الدنيوية فالعقل يعرب في كل وجدان عن نتيجة العمل الإنساني الجليل الذي يبني الفكر عَلَى أسلوبه ومباديه. وقال في المدرسة الحرة ما تعريب: أعيذك من اتخاذ الوطن موطناً للبغضاء والشخناء ومن جعل اسمه مردفاً للحرب والفتن الشعواء. علم يا هذا الأمم الكبرى الحديثة بأنها متضامنة لا غنية لإحداها عن الأخرى وأن مصالح كبار أهل الوطن الواحد متحدة فيهم يبطلون الحروب ويتوصلون إلى كبح جماح الأمم وحظر الانتقام عليها ويصنعون لها ما يجب عليها من أسباب التحكيم في مسائل الخلاف ويجيبون إلى نفوسها الإحسان والسلام إذا كنت تريد يا هذا أن تجنب بلادك إلى الناس فإياك أن تعمد إلى قلوب الناشئة الموكل إليك تهذيبهم فتغرس فيها ما يعبث بوجداناتهم بل حاول أن تطهر قلوبهم وتعرضها كما ينبغي لنا أن نراها. علم الناشئة واغرس في نفوسهم ملكة الشعور بعظمة أمنيتهم الحقيقية. اكشف لهم حجاب الماضي واعرض عَلَى أنظارهم تاريخهم ولا تنس أن تطلعهم عَلَى حاضرهم وترشدهم إلى مستقبلهم. علمهم ما يقوي إرادتهم في طلب العدل وثقتهم في الحق ولقنهم ما يستطيعون معه أن يفادوا بنفوسهم ليهيؤا مدنية أفضل من المدنية الحاضرة.

ثق بأن الناس لا يتوقفون عن ورود مواد الردى مدفوعين بتوهم الكمال إذا عرفت كيف تلقي في نفوسهم أن هذا الكما لهو مادة حياتهم وبدونه لا تقوم لهم قائمة فإن صح أن هاذ التناهي في الكمال مناف للشدة وإزهاق الأرواح وجميع ضروب القتل ولا يكون إلا بتوطيد دعائم السلم بين الأمم فلا تطلب إلى ما تريد صلاحهم أن يتطاولوا فقط إلى الدفع عن حياتهم وحبها والإدلال بقدرها بل سهل في نظرهم بذل مبهجهم في سبيل حرب الوحدة وأعني بها حرب المطالبة بحقوقنا والحرب فقي الدفاع عن استقلال أمتنا. أنشئت المدارس لتخريج جميع من يخرجون فيها أحراراً وطنيين. فوظيفتكم أيها المعلمون أن تعلمون أولاد الأمة. ومن المتعذر عليكم أن لا تخلفوا بمطالبها المشروعة أو أن تعاكسوها في مقاصدها عَلَى حين أنكم تعرفون حاجاتها وآلامها نعم أنتم معلمون وظيفتكم قد هدتكم إلى ما لا يعرفه غيركم أو يعرفه وينساه. استفدتم من تجاربكم اليومية ما مكنكم من الوقوف عَلَى حالة الطبيعة البشرية وأن هذه الطبيعة وكثيراً ما نخطئ محجة الصواب وأنها في ذاتها ليست صالحة وأنه ينبغي لها أن تخضع فينا كلنا لنظام العقل والإرادة. تحظر عليكم مهمتكم أيها السادة أمراً واحداً وهو أنه لا تيسير لكم أن تعتقدوا بأنه يكفي انتظار الجنة أو الحلم بها. أنتم عارفون بأنه لا يكفي تغيير الأوضاع السياسية لتبديل الناس تبديلها وأن ضمن طرق في تربية المجتمعات أن تربي الأفراد الذين تتألف منهم العناصر التي هم في الحقيقة سداها ولحمتها. فسياستكم في تعليم الأولاد أن تعرفوهم قدر الكد والعمل وأن صلاح المجتمع بصلاحهم أنفسهم. إذا فعلتم ذلك تبدؤون بتحرير الأمة عَلَى ما ينبغي من قيودها وإذا حررتموها بقدر ما في وسعكم من عبودياتها الباطنية فإنكم تعدون المجتمع المقبل بعملكم هذا لأن يكون فيه رجال أكفاء أحرياء بتولي الأعمال والعيش في المجتمع. يتهكم خصوم المدرسة الحرة بأن مدرستكم أداة حرب يقصد بها حرب الكنيسة وأنها مخالفة لروح السلطة الروحية. ولكن فاتهم أن التعليم العلمي العلماوي هو نقيض التعليم الديني وأن من شأن المدرسة الحرة أن تبتعد عن إشهار الحرب بين العقول وأن تعمل عَلَى ربط أواخي الإخاء والسلام المتبادل بين العالمين. قال إدغار كيني سنة 1849 في كتابه تعليم الأمة: طالما ذهبت إلى أن المجتمع الحديث قائم عَلَى مبدأ لا يستطيع القيام به غيره. وعلى هذا المبدأ قام حقه المطلق في تعليم العلوم

المدنية. أساس هذا المجتمع الذي يربط بين أجزاءه ويمنعه من السقوط هو أن فيه نقطة لا يمكن تعليمها بمثل السلطة التي اتخذتها لنفسها إحدى الأديان الرسمية. هذا المجتمع يقوم عَلَى مبدأ حب أهل الوطن الواحد بعضهم بعضاً بقطع النظر عن معتقداتهم. فمن الذي يا ترى يتولى نشر هذا المذهب الذي هو في الحقيقة مادة العلم الحديث وهيولاه؟ يتولاه بالفعل لا بالقول. من يعلم الكاثوليكي أن يكون أخا اليهودي؟ هل يعلم ذلك وهو الذي من أصول دينه أن يلعن اليهودي؟ من يعلم البرتستانتي حب البابوي؟ ألوثيروس صاحب الذهب البرتستانتي؟ أم البابا إمام الأحبار. ومع هذا ينبغي أن يجتمع أهل الأديان الأربعة الذين اعتادوا أن يتبادلوا كره بعضهم بعضاً تحت لواء واحد يضم شملهم الحب المشترك؟ من يأتي بهذه الآية؟ ومن يجمع هؤلاء الأعداء الألداء؟ لا شك أنه لا يجمعهم إلا مبدأ واحد سام عام. يجمعهم مبدأ ليس لأهل بيعة خاصة. هذا هو أساس التعليم الحر اهـ. هذا الكلام عَلَى شده فيه مسلم به كله إذ أن وظيفة المدرسة تنقل تجارب الإنسانية في الأدب تنقل هذا الإرث المشترك في الحقائق المنشودة التي يهم أن يشترك فيها الناس أجمعون. يتيسر جمع الناس تحت لواء الحقائق الكبرى فمن العقل أن يتعلم أولاد الأمة الواحدة أن يتكلموا لغة أخلاقية مشتركة ويفزغوا إلى مبادئها ليتخذوها قاعدة تجري عليها أفكارهم وأعمالهم. يقولون أن من غرض المدرسة الحرة أن تدك قواعد البيعة الكاثوليكية التي تزعم أن لها عَلَى المجتمعات البشرية حق السيطرة الروحية ممنوحة لها من الخالق تعالى. ولبكن مما توصف به القرون الحديثة منذ عهد الإصلاح إلى عهد الثورة الفرنسية التي لم تنته من عملها إلى اليوم أن تكون البلاد بجميعه ما فيها من الأعمال آخذة تنصبغ بصبغة دنيوية. ليست المدرسة الحرة العامية من العوارض التي نشأت في المجتمع من ذاتها بل هي نتيجة حوادث ماضية وهي من لوازم المجتمع في فصل الشؤون الدينية عن الدنيوية. فالمدرسة الحرة ليست بهذا النظر عدوة الأديان الصحيحة بل تجهلها وترى أن في مكنتها أن تربي أبناءها عَلَى يدها وحدها. جاء زنة كانت فيه العادات والأخلاق بل الحق برمته مرتبطة بالدين فكان من الكنيسة أن توسعت في سلطتها الروحية بدون رقيب. من يقصر حقه عَلَى الظلم يضطهده والظلم

يقضي بأن تكون القوة تحت أمره ويدير دفة الشؤون الدنيوية ويقمع العصاة ولكن المجتمع المدني بعد أن قاسى كثيراً من الظلم قد تخلص منه ورأى أن يحسن القيام بإدارة نفسه بنفسه. وتاريخ الفرنسويين لو نظرنا فيه مناف للكهنوتية ولطالما حاول أجدادنا أن ينزعوا ربقة الخضوع للكنيسة. فصل الكنائس عن الحكومات بعقبه جعل المدارس حرة هو تنفيذ لمبدأ واحد هو لا يترجم بالفعل إلا عما هو مغروس في طبائعنا وقوانيننا وأفكارنا وأعني بذلك فصل الحياة السياسية عن الحياة الدينية وأن تقول في ذلك الخصوم ما تقولوا. إلا أننا لقوم لا نريد الانحناء عَلَى الأديان ونزعها من النفوس ليدين الناس بالعدم بل نريد أن لا تكون عَلَى أعمالنا وعمالنا وحكومتنا ومجتمعنا مسحة دينية. نريد أن يكون الدين كما هو حقيقة. نريد أن تفي عنه ما ليس له. نروم أن يكون الدين لله وللمرء بينه وبينه نفسه لا علاقة بينه وبين الحكومة ونحن بعملنا هذا لا نشهر حرباً بل نلقي سلاماً. وقال أيضاً في المدرسة الحرة: أيها السادة: إننا لم نتخلص من سلطة الكنيسة لنبدلها بظلم طائفة الموظفين المنافقين. نحن لا نقول بالإلحاد الرسمي ولا ندعو إلى الاعتقاد بالدين بحجة شرعية وضمان الحكومة. فالإلحاد الرسمي هو أبشع مظاهر التعصب وعدم التسامح. إن الحكومات الجديدة تقصد إلى إلباس العامية التدريجية فلا علاقة للقانون أصلاً بالمذاهب والنحل بل إن له من الأوضاع البشرية ضماناً ومن المصلحة العامة ما يقوم عَلَى أساسه. فليس الزواج سراً من الأسرار الدينية بل هو عقد مدني وليس الملك كما قيل تعضده قوة سماوية ويسمح المسحة المقدسة ويستمد حقه الإلهي من السموات العلي بل هو من الشعب وهو ممثل إرادة مجموع الأمة. وسوف يكون بعد الآن كل ما هو ديني لا علاقة له بالاجتماع: الدين من خصوصيات النفس لا اتصال له بالوجدان الشخصي. ألقت اختلافاتنا الدينية بيننا العداوة والبغضاء فانقسمنا بها عَلَى أنفسنا ولا يتأتي أن يحف السلام أرضنا والائتلاف ديارنا ولا أن يكون لنا منها أدب مشترك. لا يسوغ ن تكون المدرسة العامة إلا كما تكون الحكومة مصبوغة بغير الصبغة الدينية فإذا استوفت هذا الشرط وجحده تصبح ما يجب أن تكون وتقوم بما هو دعامتها ومادة حياتها. إن جمهوريتنا

لا تبحث عن مبدأ وحدتها في التعليم الديني بل هي تعن باستقلالها عن كلب سلطة روحية وترى أن لها من نفسها ما يرفع بنيانها وأن لها من مراميها الخاصة جميع ما هو قوام حياتها وبقائها. وفي وسع جمهوريتنا أيها السادة أن تنفح أبنائها كلهم تربية أساسها ما يجمع شملهم لا ما يشتت جامعتهم. وبدون الاتحاد في الأفكار والمقاصد لا سيكون المجتمع الإنساني إلا موطن مكره وتشتيت حقيقي. وبدون التربية المشتركة والتعليم الأخلاقي العامي لا وطن ولا جامعة. فالتربية الوطنية ي الحكومات التي تدعي أنها تملك رقاب الناس بحق سماوي هي من توابع التربية الدينية. ووجود القس فيها ضروري ليدعو إلى الطاعة العمياء ويؤله الشخص الحاكم الذي يحكم المملكة بأسرها. أما الديمقراطية فلا تخرج عن حدودها ولا تخضع المرء إلى إرادة عرفية بل تطلب إلى أفرادها أن يخضعوا للقانون ليس هو إلا ما يرضي الجميع عَلَى شروط تضمن فيه السلام والبقاء. ترى الجمهورية أن تقبض عَلَى عنان التربية. ولكن أي تربية وماذا يكون نوعها وكيف يلتئم هذا النوع من التربية مع احترام الحرية والوجدان الشخصي. إننا نحصر أنفسنا في أمور تافهة ونقتصر عَلَى تعداد الواجبات بدون أن نعد لها أسبابها فيتعلم أولادنا هذه القواعد المزوقة المتسلسلة بدون أن يفهمها فالطفل يتعلمها ولكنه لا يفهمها. إن كنتم أيها الأساتذة تريدون أن تعدوا أفكار حرية قوية فعليكم أن تخففوا من الإكثار عَلَى الذاكرة وتستعيضوا عن ذلك بتمرين العقل. ينبغي لكم إذا رغبتم في أن تجعلوا التعليم الأخلاقي تربية للضمائر أن تقوموا مع من عهد إليكم أمرها من الأطفال بما يتجلي لأعينهم معه الق وتذكروا لهم قواعد التربية عَلَى اختلاف ضروبها هي نتائج مبدأ يفهمه الفكر وترضية الإرادة ويحييه الشعور. وبهذه الشروط فقد تصبح الحقائق التي تعلمونا حقيقة حية مرتبطة بأعمال الفكر الذي يوليها عَلَى الدوام ما يكشف القناع عنها ويظهرها في مظهر الحق كلما جد تطبيقها. وما دمت يا هذا تعدد الواجبات العامة وتأمر بالنظافة والاعتدال والشجاعة فالعالم يوافقونك عَلَى ما تقول ومتى حاولت أن ترجع هذه الأمور إلى مبدأ عام وصرحت بفكر عام في الحياة وقيمتها ومعناها فهناك تختلف الأفكار وتتعارض.

لا تعملوا عَلَى ما فيه هضم حقوق الوجدانات واستعبادها بل تلقونها اعتقادات لا تحلم النفوس أن تدافع عنها بحجة أنكم تريدون أن تعدوا عقولاً حرة ذات كفؤ للعمل. الحكومة الجمهورية لها الحق في البقاؤ بل يجب عليها أن تحرص عليه وتحتاط لنفسها وتدافع عن حوزتها. فهي قائمة عَلَى محض احترام الحريات المتبادلة ومن حقها بل من واجبها أن تعد جيلاً من الناس يكون منه ضمان بقائها وارتقاء قوانينها. يعتقد بعضهم في جمهوريتنا بأنها جعلت للفرد مكياناً فراح يتخيل إليه بأنه عنصر من المجتمع لا يقوم بغيره. نعم إن أفراد جمهورية حرة لا يتأتى إلا أن يكونوا رجالاً فيحب أن يكون لهم من أنفسهم ما يعلي مقامهم في عيونهم وما يرفع من دركات البهيمية لتكون لهم إرادة وحرية فيفهمون معاني الاعتدال والحكمة والمفاسد والخرافات. فالمرء إذا انقسم عَلَى نفسه واستعبد لشهواته لا يكون إلا متعدداً مشتتاً له علاقة بكل شيء إلا نفسه. وأول ما يفرض عَلَى الإنسان أن يجعل لنفسه كياناً في أفكاره وأعماله ومضاء نفسه. لا يعد الإنسان إنساناً إلا بين الناس وكل ما يحرره من عبوديته القديمة ويعلي مقامه عن دركات البهيمية ويصفه بالأوصاف الجميلة ويحدد له عمله (سواء كان بالعلم أو بالصنائع أو بالأخلاق) ينشأ من مساعدة الأفكار بعضها لبعض ومن مشاركة الإرادات والمقاصد. أنا لست إنساناً حقيقياً إلا إذا ارتضيت بقانونه الاشتراك والتضامن بحيث أكون مديناً للمجتمع ومساعداً لجميع أخواني فغي البشرية ولهم علي من الحقوق مثل مالي عليهم اهـ. هذه شذرات من هذا الكتاب النافع ولو اتسع لنا المجال أكثر من الآن لاقتبسنا منه فوائد كثيرة وهو كلمة عَلَى سق واحد ولا حشو فيه ولا لغو فمن فصوله الممتعة الفصل الذي عنوانه تعاون الأفكار وكليات الشعب وفصل التعليم العالي عند الشعب وفصل التربية والثورة أو الانقلاب وفصل قصر الشعب وفصل كلية الشعب وأعمال العملة وكليات الشعب وفلسفة الشعب والتعليم الثانوي والفلسفة وغير ذلك من الممتع الرائق فيا حبذا لو صحت عزائم من يحسنون التعريب عن اللغات الإفرنجية إلى ترجمة مثل هذه الأسفار النافعة باللغة العربية فيبثوا فيها روحاً عالية جديدة وذلك أفيد للناس من مشاغب السياسة والأحزاب لأنه هو الأساس ولا بناء بدون أُس قوي.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار حفظ المكاتب يحسن أصحاب المكاتب صنعاً إذا أرادوا بقاء كتبهم سالمة أن يقوموا باحتياطات الآتية: يقون أولاً استعمال الخزائن ذات الزجاج ما عاد بعض الكتب الثمينة جداً التي تنفض عَلَى الدوام وذلك لأن الهواء لا يتخللها ويبقى جوها محصوراً مما يساعد الحشرات الضارة كالأرضة عَلَى الإضرار بها وتكون مستوبلاً للعفن والجراثيم. ثم أنه يجدر وضع وراء الكتب بعض قطع من الجوخ أو الصوف مغموسة بروح صمغ البطم التربنتين والبنزين وحامض الفنيك أو عصير التبغ بحسب ما يتيسر للإنسان. وهذا الاحتياط إذا جدد من حين إلى آخر يعطي نتائج حسنة. أوائل المعادن نشرت المجلة الأسبوعية مقالة في أول استعمال للمعادن قالت فيه ما ترجمته: يجب الرجوع إلى ما قبل التاريخ أيام استخرج الإنسان من الحجر والقرن والعظام مواد صناعته واكتشف اكتشافاً رنَّ في العالم صداه ونعني به المعادن فكان باكتشافه إياها كأنه ظفر بالطبيعة واتجهت أعمال البشر بعد إلى وجهة لا تزال إلى اليوم تتكاثر فوائدها فقد بدأ عصر المعادن حوالي نحو العشرين قرناً من الميلاد ولا تبرح سلسلته آخذة بالتسلسل حتى يأتي العلم عَلَى تسجيل موارد الأرض. فيطلق الكيماويون اسم معدن عَلَى جسم بسيط قابل للتأكسد إذا أصابه الأوكسجين ويرى الاقتصاديون في المعدن أداة نقدية غلاؤها ناشئ من ندرتها ويرى أرباب الصنائع الاختراعات المتنوعة التي ظهرت من مادة مختلفة كان حسن استعمالاتها عَلَى الدوام أن تكثر الغنى وتدمث العناصر وتستخدمها. كان الذهب أول معدن استعمل في حين أن الفضة عَلَى كثرتها في أيامنا لم تستخدم إلا مؤخراً وآخر معدن اكتشف هو الراديوم وبين المعدن الأول والمعدن الأخير زهاء خمسة وخمسين معدناً منوعاً دخلت في الاستعمال وأصبحت مساعدة عَلَى المدنية عَلَى اختلاف الأعصار. إننا إذا أردنا الوقوف عَلَى تاريخ المعادن مدققاً يجب علينا الرجوع إلى العهد الذي كان الناس يعملون من الحجر سلاحهم وهذا لا يقل عن خمسة آلاف سنة وبفضل بحث العلماء

تبين أن الذهب كان يستعمله القدماء إذ وجد في مقابرهم مطرقاً عَلَى صورة حلي وبالنزر لندرة الذهب في الجملة لم يدخل في استعمال الأدوات العادية بل اقتصروا عَلَى جعله صلة بين العصرين العظيمين العصر الحجري الذي انقضى والعصر النحاسي (البرونزي) الذي أدى الإنسان إلى اكتشاف الحديد أي إلى أبواب الأزمان التاريخية. ثم ظهر النحاس وعم استعماله في أشياء كثيرة ولكنه قليل البقاء فقد اعترف مطرقوه بادئ بدء بينه فمزجوه بغيره ليقوى فخلطوه بالزرنيخ والأنتيمون أولاً ثم بالقصدير. عَلَى أن ظهور المعادن في العمل يوافق بحسب ما يظهر أول عهد عدنت فيه المعادن وليس الأمر كذلك لأن المناجم سابقة ذاك الحادث المهم فإن البشر مذ عرفوا يصقلون الحجر قبل أن يعرفوا المعادن بأزمان بحثوا في الأرض وكان من المعدنين الأولين أن استثمروا أولاً حجر الصوان فكانوا يحفرون الآبار والدهاليز برؤوس الأيائل ليستخرجوا منها المعادن وكان من الحركات الجيولوجية التي ساعدت عَلَى تأليف الكرة الأرضية غنية برؤوس عروق المعادن فظهرت عَلَى سطحا وأخذت المياه الغزيرة الجارية إلى قرارة الأنهار تلقي عَلَى الضفاف أجزاء معدنية فلم يكن المعدنون بل الباحثون الذين حملوا إلى بوتقة الإنسان الأول المعادن الأصلية المخلوطة بالأتربة وغيرها. ومنذ ألوف من السنين جرى تعجين كثير من المعادن في طور سيناء بالشرق وفي كونرال في إنكلترا وفي مورييهان وإليه والبكرزو في فرنسا بلا كما جاء في كتاب علم الآثار قبل التاريخ أنه انتشرت من البحر المتوسط الشرقي معرفة مزج المعادن في بلاد الغرب بواسطة الطرق التجارية التي فتحت في العصر النحاسي وأحدث العصور قبل العصر الحجري الصنائع في أوربا الجنوبية وانتقلت تجارة المعادن من قبيلة إلى أخرى عَلَى شواطئ الأتلانتيك حتى بلغت الجزائر البريطانية وفي هذا أيضاً اكتشفت مناجم غزيرة نفق ما استخرج منها في أسواق الشمال والغرب بل والجنوب. وقد انتقل تطريق المعادن من الشرق إلى الغرب ودلت بعض الآثار التي وجدت مصورة في صورة تصفية بارزة من عهد الدولة الخامسة المصرية وبعض ما وجد من الأثقال الحديدية في سويسرا بأنه كان في ذاك العهد مقاييس قابلة للوزن وأن التجارة كانت تربط إذ ذاك جمعاً من البشر أو من الأجناس.

المالوش قرأت أخيراً في مجلة المقتبس ما كتبه البحاثة اللغوي ساتسنا في العنجوس فازددت بفضله معرفة وبأبحاثه العديدة شغفاً منها بحثه في تلك الحشرة الفاتكة مما شف عن تفانيه في خدمة لغتنا العربية ونهضتنا الحديثة. وفي بحث العنجوس اللغوي حقه فوفر عَلَى طلاب الزراعة عناء تنقيب كثير ثم وصف خلق العنجوس جيداً وذكر بعض طرق إتلافه وما يتعلق من البحث بالزراعة العملية وجيزاً. لذلك أحببت تفصيل ما أجمل في ذلك ملماً بأطراف الموضوع، ذاكراً أصدق الوسائل المتخذة في ديار الغرب لمحاربة ذلك العدو ليعجب الزراع ويفيد البقاع إن شاء الله فأقول: المالوش أو العنجوس أو الشبث أو الكاروب أو ما يسمى في الشام بالحالوش حشرة من رتبة المستقيمات الأجنحة من جنس الجداجد (الصراصير) تسميه عامة الفرنسويين تارة بالحراثة وطوراً بسرطان الأرض وأخرى بالخلد الجدجد. واسمه العلمي الخلد الجدجد العام لأن يدي هذه الدويبة القبيحة عريضتان مفلطحتان قويتان جداً تشبهان دي الخلد ويقيم الخلد بالأراضي المزروعة ضيفاً كريماً ويفضل حدائق البقول والمغارس الشجرية والحقول الخفيفة التربة والأماكن الرملية الرطبة كالأباطح والمنخفضات فيحقر ليلاً سراديب سطحية عديدة يطول بعضها كثيراً ويسير عَلَى الدوام في تلك الدهاليز المحددة للأمام ولا يلوي عَلَى شيء فيمزق بفكيه الجذور الدرنية كالبطاطة والجزر والشمندر فتكون له تلك السراديب ميادين يطارد فيها مختلف الحشرات. أما المواضع التي خددها المالوش فتعرف باصفرارها وذبول نباتاتها. اختلف علماء الحشرات كثيراً في مأكول هاته الحشرة فقال بعضهم: أنها من آكلات النبات والحيوان معاً ومنهم المهندس العالم الزراعي غينو أحد مؤلفي دائرة المعارف الزراعية الكبرى. وقال آخرون: أنها من آكلات الحشرات فقط ولكنه قد يأكل بقايا النبات والحشرات المخلوطة وفرقة ذهبت إلى أنها لا تأكل سوى الحشرات والديدان منها الأستاذ بيكار فقد برهن عَلَى قوله بعدة تجارب ناطقة بفساد مذاهب الآخرين وقد امتحنت هذه الحشرة في عطلتي الصيفية الحاضرة بأن وضعت مالوشين في إناء وتركتهما في الجوع الشديد ثلاثة

أيام مع النبات الأخضر ثم بعد ذلك فحصت النبات فإذا هو كما وضعته لم يتغير ثم أتيت للمالوش الكبير ببعض ديدان التفاح فكان يلتهمها بنهم وسرعة. كذلك اختلف علماء الحشرات والزراعة في ضرر المالوش ونفعه والمذهب المعتدل أن العناجيس نافعة في الأرض المزروعة حبوباً لا يأكلها الديدان والحشرات الضارة وعد إضرارها بالحبوب ضرراً يذكر ولكنها ضارة جداً فيما إذا كانت كثيرة في بساتين الخضر فقد تتلف الزرع برمته إذا كانت قليلة في الأرض فتستوي كفة نفعها مع كفة ضررها ثم لنفرض أنها مفقودة فإن الدويبات الضارة التي كانت تلتهمها في وجودها تتسلط عَلَى النباتات في غيابها ولربما كان مما تفترس ما هو أضر في بعض البلاد منها فتنتفع الأراضي كثيراً ولما كانت بلادنا العربية لم تعتد بعد محاربة هذه الحشرات الفتاكة اعتيادها الحروب الدينية التي أخرتنا قروناً كثيرة. باضت الحشرات لا تبالي، وفرخت خالية الهم والبال حتى صارت من ألد أعداء الفلاحة الشرقية وأكبر مصائب الزارعين ولذلك وجب علي أن أشرح أصدق الحيل المتخذة في ديار الغرب لإتلافها وهي: 1ً - أن تسقي الأرض قليلاً لإخراج الحشرات منها عند الهجيرة لأن هذه المواليش تعشق الماء والرطوبة ومتى صارت عَلَى سطح الأرض سهل التقاطها وإهلاكها وقد ذكر لي رفيقي في درس الزراعة هاشم أفندي البهلوان المعري من أبناء طرابلس الشام أن فلاحي القرى الطرابلسية كالمنية وغيرها يتخذون هذه الطريقة في قتل المواليش. 2ً - أن تصب في ثقوب سراديب المواليش الخارجية بعض السوائل الخاصة كالزيت وكبريت الفحم أو مستحلب البترول والصابون وتستحضر المستحلب بأخذ 40 جزءاً من البترول وجزءٍ من الصابون و20 جزءاً من الماء والصابون يقطع قطعاً صغيرة ويغلى في الماء حتى يذوب فيرفع عن النار ويزاد عليه البترول ويحرك جيداً وهو سحن حتى يختلط البترول بمذوب الصابون وعند الاستعمال يمزج الرطل بعشرة أرطال ماء ويصب في ثقوب المواليش ويعد هذا المستحلب من قاتلات الحشرات بأنواعها فليستعمل لضربة الليمون برش الأشجار بالمضخة. 3ً - يهلكون كل سنة في الأراضي الرملية حوالي برلين أكثر من مئة ألف من هذه المخربات وذلك أنهم يملئون قصريات (شقفات الفخار للزهور) ماء يصبون عليه أربعين

نقطة من زيت النفط (خلاصة التمر تينا) ويدفنون هذه القصريات في عمق خمسة سنتيمترات في الأرض فتتباهت المواليش لتموت في مائها غرقاً وقد ذكر هذه الطريقة الألمانية الأستاذ لاربالترية مدير دار الاستحضار الزراعية في مقاطعة الألب المنخفضة وأحد أساتذة مدرستنا. 4ً - أما في الأراضي المزروعة تبغاً (توتون) فقد ظفر المفتش الزراعي العثماني في ولاية آيدين بطريقة نجح بها كل النجاح في إبادة المواليش وهي: أن تسلق عرانيس الدرة وترفعها من المرجل والقدر قبيل النضج وبعد تجفيف الذرة تطحن حبوبها مع حامض الزرنيخوس وتذر الدقيق عَلَى الأرض ثم يدفن فيها بواسطة المشط قبل الزراعة الدخان بعشرة أيام وعندئذ يجب إبعاد الطيور الداجنة عن تلك الأرض المسمومة. وإني أوصي أهالي جبل عامل ولواء اللاذقية بهذه الطريقة الناجحة الفعالة. 5ً - أن لا تهمل التفتيش عن أوكار المواليش في أشهر أيار وحزيران وتموز تظهر مثل كتل من التراب مرتفعة محاطة ببعض النباتات الجافة وحينئذ تحفر في هذه الكتل مقدار 65 سنتيمتراً فتجد فليجة (شرنقة) من التراب يابسة فتأخذها بعناية واحتياط لئلا تكسر الفليجة فيقع بيض المالوش عَلَى الأرض ثم تسحق الفليجة كل السحق والأحسن أن تطرحها في النار. 6ً - ذكر بعض كبار المزارعين في فرنسا حيلة تتمكن بها من إتلاف هذه المواليش من الأرض بتاتاً في مدة سنتين أو ثلاث وأرى طريقته هذه أنفع الحيل المتخذة في حين أنها قليلة النفقات ولا تضايق المزروعات وهي أن تحفر في الأرض قنوات معوجة يكون بين القناة والأخرى ثلاثة أو أربعة أمتار وعمقها يختلف من 25 إلى 30 سنتمتراً. ثم يمل تلك الأقنية سرقيناً زبلاً خالطه قش ويعمره سواء كان سرقين خيل أو بقر ثم تغطي الجميع بالتراب فإن سرف المواليش تهرع للقنوات كي تدفأ في السرقين وتتخذه لها مشتى حيث تدخل في دور النطور والاستحالة وينبغي فتح القنوات في شهر أيار المقبل برفع السرقين بالتدريج فتجد أن تلك المواليش بالغة والسرفات التي لم يتم بعد تطويرها فتبيدها عن آخرها. وفي الأرض كثير من الحشرات تأكل بيوض المواليش. والبيض ينقف بعد ثلاثة أسابيع أو

أشهر عن فراخ بيضاء صغيرة. وقد زعم بعض علماء الحيوان أن المالوشة تأكل جزءاً من فراخها وأثبت قوم أنها تدافع بالعكس عنها وتفتش لها عَلَى ما يغذيها والغالب أن المالوشة تموت بعد ما تبيض كأكثر الحشرات المنظورة. أما البيضة فصفراء بحجم بزرة القنب (القنبزة) وقشرتها متينة جداً توجد متلاصقة مع أخواتها. أما الفراخ فإنها تعيش العيشة الاشتراكية مدة شهر ثم تتفرق فتتطور إلى ثلاثة أطوار إلى آخر تشرين الأول وحينئذ يكون طول الذويبة سنتمتراً ونصفاً فإما أن تحفر لها حفرة أو أن تلتجئ للمزابل لقضاء فصل الشتاء في حالة التخدر والسبات الطويل فتبقى كذلك للربيع القادم وفيه تتطور أيضاً طورين ثم تبلغ في أيار أو حزيران وفيها ترتكب هذه المواليش أكبر فظائع التخريبات في المزروعات. أوريزون (فرنسا) // عز الدين شيخ السروجية. اليابان والأفيون ذكرت الصحف الأوربية عام 1853 مع الأسف أن عادة تدخين الأفيون لم تقتصر عَلَى بلاد الصين بل تعدتها إلى إنكلترا تقل إليها استعمالها أناس من البحارة الصينيين كانوا مستخدمين في إخراج شحن البواخر أما اليوم فقد اختلفت الأحوال كل الاختلاف فما من بلد في الغرب إلا سرى إليها استعمال هذا المخدر المضر فسرت إلى أوربا عدوى فاحشة إذ ثبت في أحوال مدهشة أن المواني الغربية تؤدي أموالاً طائلة في سبيل الحصول عَلَى الأفيون الذي انتشر في مواني ألمانيا بواسطة بحريتها كما سرى إلى مواني فرنسا. وأميركا الشمالية مصابة به كثيراً حتى ثبت الدكتور ورخت بالإحصاء أن 5800 رجل من البيض في نيويورك يستعملون الأفيون وزهاء 8000 في شيكاغو يستعملونه عَلَى الرغم مما يبذلونه في محاربة هذا المخدر المضر. ولم تنتج سوى مملكة واحدة من هذا الخطر. ومن الغريب أنها اقرب جارة للصين ونعني بها اليابان المتصلة معها عَلَى الدوام مباشرة. وقد ألف المسيو مرابن كتباً ممتعاً يفهمه العامة ولا ينفر منه الخاصة يقصد به إثارة حرب صالحة صحية عَلَى الأفيون أبان فيه أن الياباني الذكي العفيف لاحظ بادئ بدء السقوط الشخصي وضعف الجنس الناشئين من هاتين الرذيلتين: الأفيون والألكحول. ولذا عفت نفس الياباني عن أن يكون حشاشاً

وسكيراً. ولم يخطئ حكام تلك البلاد الاهتداء للجادة المثلى في اتقاء هذا السم الهائل ومنعه من التسرب إلى بلادهم بل صدرت الأوامر لأول العهد بأن يعاقب بالقتل كل متعاط للأفيون وإلى اليوم يجازى شاربه بالأشغال الشاقة وضربت عقوبات وغرامات شديدة عَلَى من يهرب الأفيون حتى لم يعد يجرأ صاحب سفينة أن يحمله. والأحسن من ذلك أن يابان لما ملكت بلاد فورموز وكوريه شرعن في العمل لما من شأنه إبطال استعمال الأفيون فيهما عَلَى أسلوب بطئ ينقذ السكان من تلك المفسدة فجعلت التدخين بالأفيون عَلَى المصابين به من قبل متوقفاً عَلَى رخصة ينالونها ليستطيعوا الجري مع شهواتهم وهذه الرخصة تحدد الكمية التي يسمح لهم بأخذها. واحتكرت الحكومة عمل الأفيون وبيعه وهي لا تبيعه لغير من ألف شربه وثبت في لجنة خاصة أنهم مبتلون به وذلك بأثمان فاحشة تضطرهم إلى إبطال استعماله. قالت الطان الباريزية بعد إيراد ما تقدم: وهذا خير مثال في الوقاية الاجتماعية قامت به مملكة الشمس المشرقة عَلَى ما رأيت. أنا نحن فنقول أن الحكومة المصرية عَلَى محاربتها في الظاهر لاستعمال الحشيش ما برح شائعاً في أهلها ويا للأسف عَلَى اختلاف طبقاتهم أما فتح العثمانية والمصرية صدر بلادهما لما يرد من بلاد الغرب من المشروبات الروحية المختلفة الصنع والاسم فإنه مما نسأل الله منه السلامة عَلَى صحة السكان وعقولهم وآدابهم وبينا نرى عجائب في الشرق الأقصى من سهر حكومته عَلَى كمال سكانه نشهد العكس من حكومات الشرق الأدنى بتساهل فقيما يورث أهله النقص والانحلال. عصابة ضد الجنون الجنون من أعظم النوائب التي اشتدت وطأتها عَلَى الجنس البشري فقد أثبت الإحصاء في جميع البلدان أن معدل المختل شعورهم أخذ بالتضاعف إلى حد يدهش المفكرين وجميع طبقات المجتمع يصاب منها أفراد وكثير من الناس يعلمون أسبابه ولا يتقونها. يعلم الشبان والشيوخ والكهول أن كثرة التأثر ومجارات الشهوات من أعظم العوامل في الجنون ومع هذا تراهم لا يتوقفون عن إتيان الرذائل التي تقودهم إلى المستشفيات فالموت الزؤام. وما من أحد لا يعلم أن الإفراط في استعمال الألكحول والمشروبات مدرجة إلى اختلال الشعور

ومع هذا ترى السكارى مدمنين عَلَى أقداحهم وأهل الشهوات في مسراتهم وأفراحهم وهذا ما حدا القائمين عَلَى الصحة والآداب في الغرب أن يحابوا تعاطي المسكرات بكل ما في وسعهم وأنشأوا لذلك النقابات والجمعيات فانتفع من ذلك كل من إنكلترا وإيرلاندا وفرنسا ورأت جمعية التعاون الأميركية أن نشر التعليم العلمي النفسي بين العامة أنجع الذرائع في القضاء عَلَى الجنون أو عَلَى الأقل في تخفيف ويلاته وذلك لأن الإنسان إذا لم يكن أبله يؤثر الصحة عَلَى المرض والحرية عَلَى السجن في ملجأ فعمدت إلى استعمال الطريقة التي كانت استعملت في نشر التوراة بين الخاصة والعامة. وقد ترأس تلك الجمعية مديرو المستشفيات والمصالح وأشهر أطباء العته وأخذت تنشر بمئات الملايين نشرات فيها بيان ما يصيب المرء بتسامحه في تعاطي المسكر الذي يؤدي إلى الجنون فتتداولها الأيدي ويقراها بإمعان الشبان والأطفال والبالغون والبنات والنساء والأمهات فتتم ثل لأعينهم هذه البلية وتنهال أمثال هذه النشرات عَلَى الأطباء ونظار المدارس ورجال الكنائس ومديري المعامل والمصانع والنجار الذين يستخدمون الرجال والنساء وأرباب المطاعم والفندق وباعة المسكرات والمرتزقة مشفوعة بالرجاء إليهم أن يساعدوا تلك العصابة الشريفة عَلَى بث دعوتها في العامة وقد ثبت مؤخراً أن معدل الداخلين الشهري إلى المستشفيات من المعتوهين والمعتوهات قد نزل عن ذي قبل. قلنا ألا يليق بمن عدوا أنفسهم منا في زمرة الخاصة القائلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يفكروا في مثل هذه الإصلاحات الاجتماعية ومداواة العلل التي حدثت فينا من انتشار الو بقات والمسكرات بدلاً من أن يكثر بعضهم عَلَى بعض عَلَى غير طائل ويسعوا للشهرة من غير أبوابها ناسين بأعمالهم هدي كتابهم وسنة رسولهم وهيهات أن يرزق العقل السليم من حاد عن سنن الشرع السمح والمدنية الصحيحة. جيش السلام مات في إنكلترا رجل غريب الشأن من رجالها وهو القائد نوت مؤسس جيش السلام توفي عن 81 سنة قضاها في خدمة الإنسانية وكان أجير خياط في السنة الخامسة عشرة من عمره ثم بلغ به تقواه وحنانه الغريب عَلَى نحو ما يكون عليه بعض أهالي مذهبه فقام في ذهنه أن يدعو قومه وأبناء نحلته خاصة إلى العطف عَلَى البائسين ومواساة المنكوبين

ووعظ السكيرين والفاسدين واللاعبين وغذ كان هو من أسرة فقيرة وعرف معنى الفقر بالعمل جاء لندن سنة 1848 وتوطن في أفقر أحيائها بين المحاويج من أبنائها وبدأ يعظهم بعملهم ويبث دعوة الإنجيل فيهم فاستمال ببلاغته قلوب الشعب وتعدى من الوعظ الخاص لأبناء مذهبه إلى الوعظ العام فاخذ يطوف إنكلترا وينشر الكلم الطيب ويؤاسي من أخنى عليهم الدهر ويدخل أناساً في جمعيته ولم يلبث أن خرج عن أهل مذهبه وأسس له مذهباً جديداً وذلك عقيب زواجه فنشر في الناس تعلماً مسيحياً كان أيضاً نظاماً عسكرياً فكسا رجاله كسوة الجند وأوجد رتباً ووزع مناصب وأدخل في جيشه الرجال والنساء ثم أنشأ عدة جوقات موسيقية وجريدة وأخذ ينشر الإعلانات الكثيرة عن مذهبه. ولقد سخر القوم بصاحب هذا المشروع لأول مرة ولكنه ثبت عليه فأخذ ينمو السنة بعد الأخرى وكثر أشياعه وجيشه في أقطار الأرض ودخل فيه حتى الزنوج وقد اضطرت فيكتوريا ملكة إنكلترا أيام ملكها أن تستدعي إلى قصرها القائد بوت وتلتمس معونته في الهند وأوستراليا فقام في هذا السبيل بأعظم الخدم للأمة الإنكليزية. هذا ما قرأناه في الصحف الإفرنجية وقد ذكرت مجلة التواريخ السياسية والأدبية نبذة في وصف جيش السلام بقلم أحد أعضاء المجمع العلمي الكونت دوسونفيل قال فيها: إن هذا الجيش كان سبب السخرية منه لأول مرة وإنك لا تتمالك من الضحك عندما ترى ضباطه يلبسون في رؤوسهم قبعات من القش صغيرة سوداء تحيط بها شريطة حمراء ومنذ تأسيس هذا الجيش سنة 1878 عَلَى يد القائد بوت ما يزال عرضة للمعارضة الشديدة الوحشية بل بالاضطهاد ولاسيما في البلاد البرتستانتية من إنكلترا فتغلب هذا القائد عَلَى جميع هذه المصاعب بنشاط غريب وحقق جزءاً عظيماً من نياته التي ألم بها في كتابه الشقاء ببلاد إنكلترا وهو كتاب يبين ما في مطاوي المدنية الإنكليزية من الجروح النغارة وما في نظامها السياسي المدهش من النواقص فتمكن بذلك أن يجعل من جيش السلام جمعية زاهرة غنية يلجأ إليها الناس من حكومات وبلديات وجمعيات. والذي يزيد قوة جيش السلام في لندرا وغيرها هو أنها تجمع في إدارة واحدة الأعمال المختلفة التي يتمم أحدها الآخر ولها الآن في عاصمة إنكلترا نحو خمسين معهداً مختلفة المقاصد منها ما يؤوي الأمهات ومنها ملاجئ للبائسين يبيتون فيها ومنها مخابز ومعامل

للمعاونة بالعمل وملاجئ للنساء وللأولاد والغاية الأساسية التي يرمي إليها هذا الجيش أن يقوي ملكة الأخلاق في أفراده ويرى والحق معه فيما يراه أن المرء الذي صار إلى البؤس بصنعه أو بتأثير الأحوال فيه فعاش فقيراً يتكفف الأيدي لا يعود إلى حالة حسنة إلا بالعمل فإيجاد عمل للداخلين في جيش السلام هو أعظم هم الجمعية لأنها ترى أن العمل يرفع الإنسان ويساعده عَلَى التخلق بالأخلاق الفاضلة. ولهذه الجمعية في لندرا سبعة معامل للمعاونة بالعمل في الصناعات المختلفة وفي تنوع الأعمال مجال للانتفاع لكفاآت البائسين عَلَى اختلاف ضروبهم ممن لا عمل لهم فلهم معمل نجارة عظيم لا يعمل إلا بتوصية ما يطلب منه من الأعمال وجميع مصنوعاته حسنة وله معمل كبير يجمع فيه الخرق البالية من شوارع لندرا فتسير كل صباح 21 عربة إلى جهات مختلفة تحمل قمامات المدينة ولاسيما الورق القديم والمقوى العتيق والجرائد البالية والخرق والكساحة عَلَى أنواعها فتحملها إلى فناء المحل فتوزع عَلَى غرف تنقيها ثم تجعل أكداساً ترسل إلى فرنسا والولايات المتحدة تباع من معامل الورق. ويعمل في هذا المعمل ثلثمائة نسمة يعيشون من حاصلات عملهم. ولهذا الجيش معامل للنساء كما له معامل للرجال وهي معامل المعونة بالعمل وملاجئ الليل ومعامل النساء للخياطة وغسيل الثياب. ويستخدم في إدارة هذه المعامل ستمائة امرأة ولكل منها رتبة من رتب الجندية ففيه كما في الرجال قائدة عشرة وأخرى قائدة مائة وأخرى قائدة ألف وغير ذلك مما قالوا ن السبب في إطلاقه عَلَى أفرادهم وأفرادهن حفظ النظام والطاعة وهذا القانون يشبه قانون الجمعيات الدينية عند الكاثوليك ولكنه جاء في صورة أخرى والجميع يعلمون الإحسان والشفقة عَلَى بني الإنسان ومن النساء الداخلات في الجمعية من هن من بنات الطبقة الأولى طبقة الأشراف وفيهن من أهل الطبقة الوسطى يتأدبن كلهن بآداب الإنجيل عَلَى مذهب مؤسس طريقتهن القائد بوت. الشعب الإنكليزي في المدينة الغربية رذائل وفضائل ومن الأسف إننا أخذنا في الشرق رذائلها قبل فضائلها فتسربت إلى أبنائنا وكادت تقوض أركان مجتمعنا وكل يوم نحن منها في شأن ولكن الحضارة في العادة تدخل ويدخل معها كل شيء فإذا ارتقى فرع من فروعها يتبعه الفرع

الآخر وإن كان لا علاقة له به أو هو يخالفه من كل الوجوه والفرق بيننا وبين الأمم الغربية أن خاصيتهم هناك يحاربون تلك الجراحات بمواعظهم وأقلامهم وجمعياتهم وحكوماتهم ونحن معها سكوت لا نتكلم كالبله المتناومين ومن نسميهم منا الخاصة لا يحلمون بغير منافعهم ومظاهرهم. الشعب الإنكليزي باتفاق الآراء أرقى شعوب الأرض أخلاقاً وأكثرهم حرية واستقلال أفكار ومع هذا ترى الجنون يزيد معدله فيهم بهذه الحضارة وتكثر أمراضهم من آثارها وذلك لانتشار المسكرات بينهم وشدة الجهال في الحياة ثم أن العهر يزيد عَلَى معدل ذلك الشقاء المستحوذ وقلة الاحتفال بالدين مع أن الشعب الإنكليزي من أكثر الشعوب تمسكاً بالأديان. ظهر في باريز تاريخ الشعب الإنكليزي في القرن التاسع عشر للمسيو هالفي من علماء الفرنسيس وفيه العجب العجاب من أحوال البريطانيين قال فيه أن أخلاق هذه الأمة غريبة الشكل في المحاكم فإن منظر الجلسات في المسائل الجنائية يدهش به الغريب وذلك ترى أن مكتب القاضي غاصاً بالزهور وكذلك مكتب كاتب المحكمة ويحمل الضباط المحضرون باقات الزهور أيضاً ويجعل القاضي عَلَى رأسه شعراً مستعاراً فإذا أراد إصدار حكمه يخلي سبيله للناس فيسمح بدخولهم وفيهم كثير من الجميلات المعشوقات من بنات الولاية أو المقاطعة فيقفن فيستمعن للأحكام ومنها ما يكون الإعدام شنقاً فيتظاهرون بالتأثر ثم يخرجن من هناك ولا يلبثن أن يرقصن رقصهن اللطيف والمحكوم عليه يفكر في صدور الحكم عليه وهو بين ذاك الجمع من ربات الدلال والظرف. وكذلك ترى الغرابة في الانتخاب لمجلس العموم فإنها تدوم خمسة عشر يوماً ويدفع المترشحون جميع نفقات الناخبين ومن انبسطت يده بالعطاء أكثر ورد أطعمته وأشربته فاستطابها منتخبوه كانت غلبته للنيابة مضمونة ويكفي أن يقال أن ثلاثة مرشحين عن يوركشير سنة 1807 أنفقوا لنيل كرسيين في مجلس النواب خمسمائة ألف ليرة إنكليزية حتى إذا ظفر اثنان منهم لم يسلما من إهانة الأمة التي كانت تلقى عليها الأوساخ والأوحال فكان الإنكليز بذلك يقتدون بإجراء طرق الرومان في رومية ممن لم يكونوا يصعدون القلعة يوم مبايعتهم قبل أن ينالهم خصومهم بأنواع السخرية والشتائم. وليس تاريخ الإنكليز غريب فقط بل هو معلم أيضاً وفيه مثال واضح من تغالي القوم في

الأمور الاقتصادية حتى أدى ذلك إلى مفاسد لم تحمد مغبتها وهو أنهم يريدون أن تخرج من معملهم أعمال مهمة بقليل من الوقت والنفقة ولذلك اضطر أربابها إلى استخدام النساء بدل الرجال لخضوعهن أكثر من الرجال ولقلة أجورهن قال المؤلف وهناك فوائد أخرى وهو أن النساء قد يستخدمن في جلب رضا أرباب المعمل والزائرين له والأخذ في عنان الشهوات ثم أن المعامل ما يستخدم صغار الأولاد في الأعمال الخفيفة فيدخلون تلك الأماكن الرطبة يعملون خمسة عشرة ساعة فتتأثر صحتهم وأناملهم ويصابون بعاهات تشوه وجوههم وتضر عقولهم. ولقد كاد حب الذات في أرباب الأعمال الاقتصادية يزيد في المعامل عدد المشوهة أجسامهم الفاسدة أخلاقهم لو لم يفكر القوم باتخاذ الدواء الناجع فلما رأوا ما حل بتلك الطبقات مما وصف أعراضه الشعراء والأدباء والصحافيون ورجال السياسة ووعاظ الدين عَلَى اختلاف مذاهبهم قاموا كلهم يداً واحدة ليزيفوا هذا الضرب من العبودية وخف بعض أباب المعامل العاقلين فقللوا من ساعات العمل وأكثروا من أجور العمال مع مراعاة النسبة بين دخلهم وخرجهم وبذلك وجد الإنكليز بعض المسكنات لتلك الأدواء ولعل عقول خاصتهم تهديهم إلى معالجة غيرها وإلا فتوشك أن تصاب المدنية الإنكليزية بما أصيبت به المدنية الرومانية وغيرها. الخوف خطب إرنست لفيس علامة الفرنسيس خطاباً في الخوف في مدرسة نوفيون ىن تيراش (فرنسا) قال فيه أن من النقائص التي يجب أن تتغلب عليها التربية نقصاً تتساهل فيه المدرسة والأسرة معاً وذلك لأن المدرسة لا يبدو فيها هذا النقص خصوصاً وأن غير المطيع والطائش من التلامذة يلقي الاضطراب في نظام المدرسة أكثر من الجبان فهذا وديع والمعلمون يقدرون وداعة التلامذة قدرها أما الأسرة فغالباً قد ترتكب غلطاً كبيراً باعتمادها عَلَى الخوف أداة من أدوات التربية ولقد نشأت من الخوف شرور كثيرة لأن صاحبه يخشى الألم والموت بل إن حياته كلها معذبة بنتائجه وليس الذنب عَلَى الأولاد بل عَلَى من ربوهم وأورثوهم خلة الخوف فإن لقانون الوراثة تأثيراً كبيراً في الخوف سواءٌ كان فيلا الإنسان أو في الحيوان والخوف قديم كقدم الإنسان وليس فيه عار عليكم معشر الطلبة.

ولقد قال ديكارت الفيلسوف العظيم: لا تكفي الإرادة لبث الشجاعة من مرقدها ونزع الخوف من أصوله بل تجب العناية في النظر إلى المعقولات والمحسوسات والأمثولات التي تقنع المرء بأن الخطر غير عظيم وأن الأمن يكون في الدفاع أكثر منه في الفرار وأن المجد والسرور في الظفر في حين لا يتوقع الأسف والعار من الفرار. إنكم يا هؤلاء تخافون في العادة من البر والصاعقة والقعقعة المسموعة والأشباح المرئية في الظلمة والكلب الذي تصادفونه في الشارع والبقرة التي تحدق النظر فيكم بينا أنتم تجتازون إحدى المراعي ولكن قولوا لي كم بقرة نطحتكم وكم عدد الكلاب التي عضتكم فإن الأشباح التي ترونها في ظلام الليل الدامس قد لا تكون إذا وقدتم النور + + فسطانكم أو سراويلكم وكم من قعقعة سمعتموها ونشأ عنها ظهور لص أمامكم والرعد كم من مرة أهلككم. لا جدال بأنه قد تحدث صواعق وسرقات واعتداآت ولكنها لا تخرج عن كونها حوادث تحصى وتنشر في الصحف إذا عراكم الخوف فاذكروا بأنكم شعرتم به أكثر من مرة ولم يصيبكم منه شيء فهو إذاً قد هزأ بكم فقولوا له: يا هذا أنا عارف بك فدعني مستريحاً. إذا فعلتم ذلك فأنتم ولا شك سائرون في طريق الشجاعة. أريد أن أقنعكم الآن بالقاعدة التي سنها ديكارت بأن الأمن قد يكون مع الدفاع أكثر مما يكون في الهرب. وهذا الكلام مؤيد بالمثل القائل بالخوف لا يتوقى الخطر (العرب يقولون من التوقي عدم الإفراط في التوقي) بل إن الخوف كثيراً ما يحدث الخطر. الكلب دائماً ينتصب عَلَى رجليه لأنه اعتاد ذلك فإذا وضع أنفه في الأرض وشم حيواناً يسرع في العدو والبقرة إذا خلصت من رعيتها تنظر بعينيها أمامها فيظن الولد أن الكلب يتأثره والبقرة تريد أن تبطش به من عدا أمام الكلب والبقرة كان أقرب إلى الخطر عَلَى نفسه. ولعل الوقت قد حان لأن يدرس الأولاد في المدارس الابتدائية دروساً في الشجاعة يكون أول عمل لها التغلب عَلَى الخوف والدهشة. ولكن كل تربية لا تأثير لها إذا لم تؤازروها أنتم أنفسكم يجب عليكم أن تقنعوا أنفسكم بالجرأة أنكم إذا قستم أنفسكم بأناس من أترابكم لا يرون إلا ما يقع نظرهم عليه مباشرة ولا يحاولون الهروب تؤكدون أنكم دونهم في القدرة عَلَى السير وضعاف في النظر وإياكم أن

تفوتكم وسيلة لغرس الشجاعة في نفوسكم. إنكم لا تتمكنون من التغلب كل التغلب عَلَى الخوف بل تتخلصون منه بعض الشيء وإني طالما كنت في طفولتي وإلى الآن أخاف الرعد لأنني رأيت صاعقة انقضت عَلَى بضعة أمتار مني وأخشى الفئران إلى اليوم وقرضها الخفيف وإن قيل لي عندما كبرت أن الحيوانات الصغيرة لا تأكل الكبيرة. فما يطلب منكم اليوم هو أن لا تخافوا بتة بل أن لا تخافوا من خوفكم وأن تحاربوه وتغلبوه وبعد ذلك تحرزون مكافأة حسنة. تحرزون المجد والسرور كما قال ديكارت والمجد من شأن الكبار أما أنتم معاشر الصغار فالسرور خاص بكم لاسيما إذا وقعت أبصاركم عَلَى الشجعان فإن نفوسكم تحدثكم بأنكم لا تغارون منهم لأنكم صرتم شجعاناً بصنيعكم وأصبحتم معجبين بعملكم إعجاباً لا يمازجه هزؤ أبناء هذا الزمان بل إعجاباً يستحثكم في الأوقات الضنكة بمجرد الاعتماد عَلَى نفوسكم. إذا اهتزت عظام أرجلكم وسوقكم خوفاً وهلعاً فخاطبوا ما علا فوقها من جثمانكم خاطبوا العقل وقولوا له أن له هيكلاً عظمياً إذا اضطرب فإن جزءنا الأعلى مأوى العجب بأنفسنا ومقر الشعور بالواجب ومنهما بلغ من حالتنا في حياتنا فقد تعرض لنا أحوال تدعونا إلى أن نختار طريق الشرف أو غيره فلنبتعد عن الجبن يسير في طريقه ولنسر في طريق السلامة. أيها الأطفال الأعزة إن هذا هو شعور عظمتنا الشخصية وشرفنا وواجبنا الذي يحدث الشجاعة في كل فرد منا ويقويها هذا هو الشعور نفسه الذي يمازجه حب الوطن فيدعو إلى الشجاعة الوطنية. للأمم ساعات من الخطر. فإنكم تسمعون الحين بعد الآخر أنه ستنشب الحرب غداً نعم إن الحرب حادث عظيم مدهش إن فرنسا التي غلبت وهي تشكو من جرح لا يزال فيها نغاراً تعرفه حق المعرفة ولكنها مع ذلك لا تبدي حراكاً هي ليست دون سائر المم في إعجابها بنفسها واحتقارها لها ولكنها في الباطن تعرف قيمة نفسها تشعر بأن فيها فضائل وقوى أخرجتها عن ما مر في القرون لماضية من الهوى التي ظن بأنها تدهورت فيها تاريخها عظيم مجيد بسلاحها محيد بعقلها. إنها كسائر الأمم قد أتت شيئاً من الشر فاستحقت عليه بعض الأحايين اللعنات ولكنها كفرت عن سيئاتها بحسنات كثيرة فقد حررت شعوباً من رقهم لا يزالون يذكرون لها يدها عليهم وأوحى عليها عقلها السمح

المستنير فلقنت أناساًَ من بلاد مختلفة قيمة الإنسان ولم يبرحوا يذكرونها بعملها فهي تعرف نفسها شريفة بين الأمم معم إن العالم حولها قد تغير كثيراً من نصف قرن فقام شعب بالقرب منا يذكرنا كل حين بلسان البغضاء والقحة بأنه عظيم قوي. ومع أن هذا الشعب عظيم وقوي فإن فرنسا التي تهدد أحداً لا تخاف أحداً بتاتاً بل تعلم إنها فرنسا عَلَى كل حال. الإفرنج والنزهات لا تكاد تطلع عَلَى صحيفة سياسية وعلمية من صحف الإفرنج في الصيف غلا وتجدها ملأى بوصف المنتزهات والحمامات والجبال والبحيرات والغابات وأخبار الرحلات الخاصة منهم إلى الأصقاع ذات البهجة والرياض الممرعة الخصيبة فمن قائل مثلاً أن جان جاك روسو الفيلسوف هو الذي سن للفرنسيس سنة التنقل في البلاد وحبب إليهم عيش الخلاء وعشق الطبيعة ومن مدع أن برناردين دي سان بيير هو داعية ذلك ومن زاعم أن شاتو بريان كان أمتن وأحكم في دعوته ومن قائل أن من حبب الحمامات البحرية إلى الناس هما الأب بوهورس ومامونتل ومن حبب التصعيد في الجبال هو لاروشفو كولد الحكيم والخلاصة فإن للغربيين غراماً في الطبيعة يريدون أن يرجعوا إليها في مآكلهم وملابسهم وأجسامهم ومنامهم ورياضتهم. وكل واحد من خاصتهم يبحث في فرع من هذه الفروع ويتفانى في حث قومه عَلَى جلب المصالح ورد المفاسد والأخذ بحظ وافر من هذا الوجود اغتناماً للصحة قبل المرض واستدامة للنعمة والرخاء والرفاهية وحباً بصد الناس عن غشيان المدن الكبرى مخافة أن تفرغ الحقول والقرى لأن سكنى العواصم مضر بالصحة مضعف للأبدان مقصر للأعمار وعمران هذا العصر في عواصمه عَلَى كثرة ما فيها من أنواع الراحة والرفاهية أقرب إلى إفساد الصحة وإنهاك القوى مما كان في العصور السالفة ومكيف يطيب الهواء في مدينة كباريز سكانها ثلاثة ملايين ولندرا سكانها سلعة ملايين هذا ما يخوض أدباء الغرب وعلماؤه عبابه فما قول سادتنا الخاصة في مصر والشام والعراق وتونس فمن منهم خاض في مثل هذه الموضوعات وحبب إلى الناس النزهات والرحلات عَلَى طريقة الغربيين ليحبب إليهم أوطانهم ويعرفهم رجالهم ويبحث عن أمور لا يتيسر لكل إنسان أن يحصل عليها ويتعب المفكرون في جمعها ونشرها

فيأخذها جمهور القراء هينة لينة. الحج المشوق الإفرنج عَلَى تغاليهم بالبحث عن شؤونهم الداخلية وعاداتهم ورجالهم وأعمالهم وبلادهم لا يغفلون عن شؤون غيرهم وقد أصاب بلادنا حظ وافر من عنايتهم فكانت بلاد العرب أو مصر والسام والجزيرة والعراق واليمن والحجاز ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس وبرقة موضوع أبحاثهم العلمية والأثرية والتاريخية والاقتصادية مما نخجل من كثرته إذا سمعنا بأسمائه ولا نكاد نجد الفرد والفردين منا يتوفرون عَلَى البحث في النافع من حالات بلادنا وآخر ما كتب عن الأرض المقدسة رحلة للمسيو كومز كاريللو ذكر البلاد التي نشأ منها عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وزارها وكان زار من قبل بلاد اليونان والصين واليابان وكتب فيها رحلات كثيرة وقد وصف مسيره من دمشق وما رآه من جلالة موكب الحجاج القاصدين إلى بيت الله الحرام فوصف الأماكن التي حط فيها رحاله حتى بلغ القدس وقال أنه لم يبق من طبرية عاصمة الأردن غير خرائب وقصور هيرودوت والبحيرة المقدسة ووصف قنا والناصرة وما يتخلل تلك الربوع من الجلال والجمال الروحاني وذكر في رحلته ما تهم معرفته من أحوال البلاد ولم يكثر من التفاصيل المملة وقال أنه بات في قصر أحد باشاوات سورية واستغرب من عظمة ذاك القصر كيف لم تكن فيه امرأة تؤنس ربعه وتدخل السرور عَلَى ساكنيه. وقد وصف مواكب الحجاج من دمشق وقال أنهم مجموعة منوعة من العادات واللغات والقوميات وأن التركي يريد العثماني - والعثمانيون كما قال أكثر المسلمين تأثراً بالمدنية الغربية - يضع عَلَى رأسه منديلاً أبيض مزيناً بالزهور يجعله عَلَى طربوشه ثم وصف الفارسي والعربي وعبابه وأبناء جبل طوروس والتتر من أهل تفليس وأزوف وسباستابول وغيرهم وقال لابد أن يكون بينهم من يملك القصور الفخمة والحدائق الغناء ويعيش عيش الكبراء في الرخاء ومع هذا إذا قصدوا إلى الأماكن الطاهرة يتناسون كل هذا العيش الخضال ويساوون الفقراء من الحجاج في مآكلهم التي لا يوجد منها إلا الجشب الغليظ في البادية وينامون في العراء لا يبالون بحماوة القيظ ولا صبارة القر وعجب الرحالة من قوم لا تربطهم جامعة غير رابطة الإيمان وقال ما أعجب صفوفهم وكتائبهم وهي تسير عَلَى

هذا النحو وعجب من وساخة الآسياويين من الحجاج وكيف يتواكلون من صفحة واحدة وفيهم ذو العاهة ولا يأنف الباقون ولا ينكر المنكرون وقال أنه لو كان بعض لك في الغرب لقامت القيامة فالشرقي في نظره لا يحسن النظافة وقال أنه علم من بعض علماء دمشق أن المسلمين لا يحجون كلهم فلو كان من كتب عليهم الحج ستين مليوناً مدة خمس عشرة سنة لاقتضى أن يحج كل سنة أربعة ملايين في حين لا يجتمع في عرفات أكثر من مائة ألف وقال إن إخلاص المسلمين في العبادة يوم يقصدون الحج لم ير مثله في كنيسة القديس بطرس في رومية يوم يحضر المسيحيون من أقطار الأرض في الحفلات العامة ولا في البيع الكبرى القديمة في ساجان دي كومو بوستل أمام ضريح الرسول (الحواري) ولا في لورد من أعالي جبال البيرنيه وهي محج كثيرين ولا في أشبيلية في الجمعة المقدسة ولا في روسيا يوم يأتي فلاحوها المتعصبون يضربون رؤوسهم وجباههم عَلَى بلاط المعابد ولا في أية مدينة مسيحية. وهكذا استرسل في وصف تقوى المسلمين وتفانيهم في إقامة شعائر دينهم نقل بعضه عن أحد علماء دمشق وبعضه مما عليقه عنده وقال أن المسلمين مولعون بلقب حاج أكثر مما أولع أهل المملكة العثمانية بلقب بك أو باشا وفي الكتب أمور حرية بالتدبر فكأن كاتبه مغرم بإظهار فكره في شأن البلاد التي دخلها والمعاهد التي زارها وقد حمد مقامه في فلسطين في أديار الفرنسيسكان ووصفهم بالطبع أجمل وصف. حياة بابل ذكرت بعض الصحف العلمية أن التوراة ترجع تاريخ بابل إلى أكثر من سبعة وثلاثين قرناً قبل المسيح وكانت عَلَى عهد ملكها العظيم بختنصر أي قبل الميلاد بستة قرون عاصمة العالم بأجمعه وسكانها خمسة وعشرين مليوناً وهي من الارتقاء عَلَى جانب عظيم جداً وموقع بابل عَلَى الفرات وقد اشتق اسمها حديقة الحدائق من خصبها وأمراعها. دمرها الفرس عَلَى عهد قورش وخلفائه وتركوها أنقاضاً ينعق فيها غراب الدمار وها هي اليوم منذ أكثر من ألفي سنة عبارة عن قفر يجيء بعض العلماء فيستنطقون آثاره ويتعرفون أخباره. وسكان هذا المكان الذي طالما بكى في أرجائه أبناء صهيون الإسرائيليون هم أناس من العرب الرحالة ولكن ذلك لم يطمس من ذكرى حضارتها معلماً فقد ذكر هيرودوتس المؤرخ

أن بابل أخصب البلاد بحنطتها تأتي حبتها مئة وزيادة بيد أن العلم الحديث حل هذا المعمى في خصب بلاد تلك الأصقاع وهو أنه كانت تروى كلها فلو تهيأت لها خزانات وسدود كما كان لها عَلَى عهد سعادتها كما تهيأ لمصر خزان أسوان فروى النيل عشرات الألوف من الأفدنة التي كانت محرومة من السقيا لعاد إلى بابل خصبها المدهش وأتت السنبلة مئة سنبلة وزيادة. ولقد وقع في ذهن الإسكندر الكبير في آخر عهده أن يعيد إلى ذلك الصقيع بهاءه القديم فأنشأ ترعتي بالأكوبوس والنهروان وطول الواحدة 480 كيلومتراً وطول الثانية 256 كيلومتراً ليجلب مياه دجلة إلى داخل المدينة إلا أن أخلافه غفلوا عما بدأ بعمله فعادت البلاد باهتة خربة وهاان السير ويليام ويلكوكس الإنكليزي قام في ذهنه منذ سنين أن يعيد ما كان بدأ به الإسكندر المقدوني فوضع مشروعاً في الري عَلَى صورة أوفق من المشروع القديم وهو يكلف 750 مليون فرنك ويقسم تلك البقعة إلى ست مناطق تحيا الأولى بعد الثانية وكل ما تم لإحداها أمر سقياها تقوم بنفقات ما صرفته عَلَى أعمال الري فيها وبذلك تحيا الراضي الواقعة عَلَى شاطئ دجلة والفرات فالبذار يزرع في الخريف فترويه الأمطار حتى إذا جاء آذار ونيسان وفاض الرافدان دجلة والفرات تسقى تلك الأراضي بمياههما الصيف كله فهل تتحقق يا ترى هذه الأحلام ويعود لبابل عزها في سالف الأيام أم يبقى أنر ري العراق في عالم الخيال أو كلاماً في كلام. خمر الشام اكتشف بالقرب من مدينة بوردو الفرنسية ناووس من القرن الأول للميلاد وشوهدت عَلَى مقربة من هيكل العظام رجاجة مستطيلة وشكلها يخالف شكل الزجاج المعمول في بلاد غاليا وقد حلل العلماء ما فيها فرأوه خمراً واستدل الباحثون أن هذا الخمر من صنع سورية إذ كانت خمرها تحمل إلى جنوبي فرنسا كثيراً ويستطيبها الناس كل الاستطابة وذلك بفضل ما كان من الصلات التجارية المستحكمة القديمة بين بلاد الشام وفرنسا. المدنية كتب أحد علماء فرنسة في المجلة الباريزية مقال تحت عنوان هل المنية في ارتقاء أو انحطاط قال فيها: إن الناظرين إلى المدنية فريقان فريق يرى ما فيها من العظمة والمنافع

المادية التي سخرها الإنسان لأمره وآخر يذهب إلى أن الارتقاء عَلَى عمومه لا يتأتى له إلا أن يسير عَلَى الدوام سيراً سريعاً. ويرى هذا الفريق الأخير أن كل شيء ينمو من حسن إلى أحسن وأن البشر يبذلون الجهد للوصول إلى هذه الغاية النافعة ويقولون أن العالم ارتقى في مدارج النشوء والنمو حتى صار الإنسان إلى ما صار إليه فورث قوى عاملة وما نشوء نظام الكون إلا نشوء العقل البشري والانقلابات الشديدة تحث اضطراباً مؤقتاً ولكن ينشأ عنها ما يبعث الكفاءات من مرقدها ويضم القوى المبعثرة ويحملها عَلَى أن تتجه وجهة جديدة يستقيم جريها وبالإجمال فالمدنية لا تعود القهقرى ولا تقف في مركز واحد بل هي سائرة عَلَى الدوام بيد أن التاريخ علمنا أن الأعالي تسفل والاستعباد يزول وفكر العظمة والانحطاط متلازمان تلازم الجبال والأودية والليل والنهر والشباب والهرم والحياة والموت. إنه من المتعذر الوقوف فإما الارتقاء متواصل أو سقوط تام وبقدر الصعود يكون النزول فالولد الذي يكذب مرة يقوى في المرة الثانية أكثر عَلَى التفوه بالأكاذيب فتضعفه أخلاقه عَلَى تلك النسبة ويعود ويرتكب أفظع من ذلك وكذلك الحال في الاجتماعات فإن من يغوي فتاة يغوي فتى وهذان يغويان آخرين ومن تسومح في عقابه من المجرمين يعود فيبث دعوته في العقول ويكثر سواد أصحابه فيكثر في المجتمع الفاسدون. الرجل المتحضر لا يقابل الرجل المتوحش أي الذي يعيش وحده بعيداً عن المجتمع نعم إن المدنية لا أثر لها إذا فقدت الصلات الاجتماعية ولكن الحياة الاجتماعية تستلزم عادات كثيرة وأشكالاً منوعة من الحياة وأساليب منوعة الصفات والحالات فقد قال اللغويون أن اللغويون أن المدنية هي مجموعة آراء وأخلاق تنشأ من الهمل المتبادل في الصناعات والديانات والفنون النفيسة والعلوم. وزاد بعضهم عَلَى هذا التعريف ما يلحق ذلك من المناحي العديدة في الصلات الاجتماعية كتبادل المحاصيل وتبادل العواطف والأفكار. بل أن هذا التحديد لا يشعر بأن المدنية كذا كاملة فرب شعب ذي مدنية ولكنها جميلة أو قبيحة رائقة أو غير رائقة إنسانية أو ظالمة عَلَى نحو ما يكون للمرء خلق حسن أو رديء فالصناعات قد تكون جميلة أو رديئة والأديان سليمة أو خرافية والعلوم نافعة أو ضارة. كل شيء يرتقي مع هذه المدنية في مآكلها ومشاربها وملابسها وسائر حالاتها وما ننس لا

ننس أن ألفاً وستمائة شخص غرقوا في باخرة واحدة (تيتانيك) وكان منهم من دفع 22000 فرنك أجرة سفره خمسة أيام ونصف يوم ليركب في حال من الكبر والتفخل ليس بعدها غاية. إن الحرص عَلَى هذه المدنية هو الذي أورث أمراضاً وهموماً وأفقد العالم الحياة الطبيعية فكثرت الأمراض العصبية وداء المفاصل والبول السكري وضعف المجموع العصبي بل لقد كثر الجنون حتى أكد أحد العارفين من أطباء الإنكليز وقد هاله تكاثر عدد المختل شعورهم من أمته في العهد الأخير أن إنكلترا سيعادل عقلاؤها مجانينها بعد ثلثمائة سنة. إن المدنية أتت عَلَى الكثير من محسنات الطبيعة وعادات الأجداد الفاضلة فانتزعت من النفوس وفي هذه الحركة الاجتماعية يقول بعضهم كلما كثر عدد الناهضين يزيد عدد الساقطين. لا جرم أن التجارة ول لم توجد لما عرف الإفلاس ولو لم تنشأ السكة الحديدية لما وقعت هذه الوقائع المزعجة في المصادمات وغيرها ولكن الشعب الأعرق في المدنية هو الذي يقلل من الإفلاس بين التجار وبين المصادمات في الخطوط الحديدية بدون أن يوقف حركة التجارة ولا حركة القطارات بل يفعل ما بينهما ويجعل أعمالهما في مأمن. ومثل ذلك يقال في كل شيء. يقال في التعليم والصحافة وحقوق الانتخاب والمضاربات والأدب والصناعة بل ينطبق عَلَى كل ما في حركة المدنية من قمح وزوان ونظام خلل وجرأة وجبن. إن تغلب الأجسام عَلَى العقول هو انحطاط في المدنية. إن ضعف نظام الأسرة وروابطها واحتقار الخيار والتنصل من التبعات والزهد في التقاليد والخلاص من كل شكيمة ووازع هو دليل انحطاط المدنية. إننا إلى نظرنا إلى المتمدنين وهم الأقلية في العالم نراهم فيلا معاملة المتوحشين هم دونهم عَلَى ثلاثة ضروب فمنهم من يعاملون من هو الأحط منهم باستثمارهم ومنهم باستعمارهم ومنهم بتمدينهم وهم قلائل جداً فالمستثمرون يبحثون عن مورد ثروة عند الأمم التي يبيعونها مصنوعاتهم والمستعمرون ينقبون عن زيادة ثروة ونفوذ بأن يحملوا بالتدريج الأمم لمنفردة عَلَى الاشتراك بالحياة الاقتصادية والتشبه بالنازلين عليهم وهؤلاء يدوم لهم استعمار الأرض طويلاً بالنسبة لغيرهم. أما الساعون في تمدين أمة فهم الذين يلقنوها معنى الحياة السامية والعمل لما فيه نشر الفضائل والسلام في الأسر وبث الوطنية والدين عَلَى نحو ما

كانت تعمل الأمم القديمة في أيام عزها. ولقد قيل أن فرنسا لم تحسن استثمار من وضعت أيديهم عليهم من الأمم وهذا مما يدعوا إلى مدحها لا إلى القدح فيها وذلك لأن فرنسا ليست من الطمع عَلَى جانب عظيم غيرها وهي رحيمة بمن تغلبهم عَلَى أمرهم. ويقولون أيضاً أنها لا تحسن الاستعمار وفي هذا الكلام شيء من الحق وذلك لأن أولادها ليسوا كثاراً فلا تستطيع أن تبعث إلى القاصية منهم بمن يستحقون اسم المستعمرين الحقيقيين وإنها في البلاد التي أرسلت غليها أبناءها كما هو الحال في الجزائر وتونس قد عملت والثقة ملء صدرها ما تستطيع أن تري أعدائها وأحبابها النقاط الضعيفة منه ومم لا ينكر عَلَى لغتنا أنها كانت ولا تزال في مقدمة من يحمل علم المدنية والتمدين وذلك لأن أبائها يستهينون بالأتعاب ويبذلون قلوبهم وحياتهم لنشر ما يعتقدونه. إن مستعمرينا يعلمون من يستعمرونهم الذوق عَلَى العمل واحترام المرأة والبعد عن المسكرات (؟) ومرسلينا يعلمون السود والصفر تعاليم التوراة يضاف إليها تلقينهم الاعتدال والفضائل البيتية ومثال الإحسان لأنهم يجمعون أيتامهم ويعنون بمرضاهم ويلقنون معنى التوفر عَلَى الزراعة وتربية الحيوانات والبناء ويمهدون السبيل للعاملين. فالمدنية إذا لم تمدن أبداً فإن لها بانتشارها عَلَى هذه الصورة المقام الأول بين وسائطنا في الحضارة فإن من لا يمدن يستعمر استعماراً رديئاً ومن لا يستعمر لا يأمن أن تكون له قدرة عَلَى الاستثمار طويلاً وبالجملة فإن كل أمة لا تحتفظ بسلسلة المراتب في طريق العمل والنفوذ عَلَى أساليبها الثلاثة بل إن لكل أمة تلقي الاضطراب في ذلك تدخل عليها جراثيم من الانحطاط تنمو اليوم بعد اليوم. ها قد انقضى الزمن الذي كان يعتقد فيه المعتقدون أن لا سبيل إلى الكسب من شعب إلا بإفقاره للمنافسة بين المعطي والآخذ وهذه القاعدة منافية للحقيقة لأن من يفقر رعاياه والتابعين له ومستعمريه بل وجيرانه يفتقر هو أيضاً وما يغني التاجرين في المقايضات يغني المتقاضيين في المدنيات والاستعمار الذي يذل البعض يفسد الآخرين وكلاهما يتأثران منه. شعرت بذلك الممالك الكبرى في القديم وكذلك كان الحال في إسبانيا والبرتقال: نعم إننا نعرف اليوم كيف تضاعف المقايضات والتجارات ولا نطلب أكثر من أن نرى الزنوج يغلون من نبات المطاط لنربح منه ما نبتاع به قطناً كثيراً وأدوات نشغلها. لا نطلب أكثر

من أن نرى شواطئ دجلة والفرات وقد أصبحت من الخصب بما تستطيع معه أن توصل في بلادنا عَلَى خطوط حديدية وقاطرات. ويا ليت شعري هل يجد أولئك الشعوب أسباباً تمكنهم من بناء عاصمة كبابل التي كان محيطها المسور يستغرق محيط مدينة باريز وسان ديني وسان جرمان وإذا وفقوا لذلك حفظها زمناً من الانحطاط كما احتفظ بها أسلافهم. إن أول قدم يخطوها السائر نحو المدنية هو إصلاح الأسرة وإعداد طبقة مختارة من الأمة وتكثير عددها وتجديد أعمالها وما السلام إلا في البيوت والمدن والمعابد وعند الأمم ومتى أثبتت الأفعال أننا بلغنا الغاية فيها يتيسر لنا أن نقول أن من ينشأُ في ارتقاءٍ. جراثيم البيض يقول العارفون أن البيض النظيف عقيم لا ينقف وأن البكتريا لا تدخل إلا في البيض المشقوق أو المكسور الذي تكون قشرته ملوثة بالأوساخ ممسوسة بالأيدي وبفتح البيضة يدخلها الهواءُ وقد تدخله الجراثيم الضارة فالأجدر بربات المنازل أن تتحامى استعمال البيض المكسر ولو كانت طرية لأن من استعمالها قد تنشأُ مضار ولا يخشى البيض إذا كان خارجه سليماً من الوسخ والماء الغالي. فالبيضة التي تؤكل نصف مسلوقة عَلَى الصورة المذكورة لا يخشى من تناولها. نبات السود خاضت المجلات العلمية بالنبات البديع الذي يكثر في النيل الأزرق والنيل البيض ويسمى السود ولم يعرف أحد يحسن الانتفاع من هذا النبات حتى الآن حتى قام عالمان ألمانيان وأثبتا أنه ينفع للوقود بدل الفحم وذلك بأن يقصل ويجمع كالقش حزماً ويحمل في النيل ولا يلبث أن ينشف ويقطع ثمن كل طن ثمانية وعشرين فرنكاً في حين تباع مثل هذه الكمية من الفحم بمائة وأربع فرنكات ويرجي باستنبات هذا النبات والاستكثار منه أن يكون ثمنه أرخص من ذلك وقد أُنشئ في الخرطوم عاصمة السودان أول معمل لإحضار هذا النبات الذي يخدم الصناعة خدماً كثيرة. أضخم الكتب قالت المجلة تملك المكتبة الملوكية في استوكهلم كتاباً مخطوطاً عرف باسم توراة الشيطان ويدعى أيضاً مارد الكتب بسبب حجمه العظيم فإن طوله 90 سنتمتراً وعرضه 50

ويقتضي ثلاثة رجال لحمله ويحتوي عَلَى 390 صفحات ينقصها 7 صفحات وفي كل صفحة عمودان وقد حسبوا ما اقتضى لهذا المخطوط من الرق فكان جلد 460 حماراً. وجلده من البلوط الفارغ سمكه أربعة سنتمترات ونصف وله لسان من المعدن. وفي سان فرنسيسكو بأميركا كتاب يعد من مردة الكتب أيضاً وهو الذي عرضته تلك المدينة أيام معروضات كليفورنيا ليكون سجلاً توضع عليه أسماء الزائرين الذين بلغوا 135 ألفاً وضعوا تواقيعهم عَلَى سبعة آلاف صفحة. وطول كل صفحة 775 سنتمتراً ووزنه 250 كيلوغراماً. نفقات حرب عامة حسب الأستاذ شارل ريشه ما تكلفه حرب عامة إذا نشبت في أوربة فكانت كل يوم 274 مليوناً ونصف مليون من الفرنكات تنفقها الدول العظمى فقط. نجاح أميركا كانت رؤوس الأموال التي وضعتها الولايات المتحدة منذ سنة 1900 إلى 1910 في الأعمال الزراعية فقط 20439000 دولار فبلغت 40991000 دولار أي أنها تضاعفت وتجاوزت رؤوس الأموال التي وضعت في المشاريع الزراعية في العشر سنين المذكورة من 8975000 دولار إلى 18429000 دولار أي زادت عن الضعف أما الأموال التي استخدمت في السكك الحديدية فكانت سنة 1900 1263000 دولار فأصبحت سنة 1910 1437000 فتأمل. جرحى الحروب قالوا أن الخرطوش في العهد الجديد يقل القتل به أكثر من الخرطوش قديماً ولكن الإحصاء دل عَلَى خلاف ذلك فقد قتل في حرب ألمانيا سنة 1870 واحد من كل خمسة أشخاص واليابان في منشوريا قتل لهم واحد من كل ثلاثة فقد كان المحاربون الألمان عَلَى ذلك العهد 650 ألفاً فبلغ مجموع جرحاهم 116 ألفاً ومجوع محاربي الروس 590 ألفاهم فبلغ جرحاهم 170600 واليابان في منشوريا 540 ألفاً جرح منهم 220 ألفاً. مالية الدولة العثمانية

ها قد مضى زهاء نصف قرن عَلَى عقد الدولة العثمانية قرضاً لها وذلك عَلَى عهد حرب القريم فكثرت سنداتها في العشرين سنة التالية في أسواق الشرق ولما بهظتها ديونها توقفت سنة 1876 عن الدفع خمس سنين تألفت إدارة الديون العمومية فكان أول حجر أساس المالية العثمانية. وبمناسبة الحرب بين الدولة وحكومات البلقان الأربع كثر تحدث الاقتصاديين في مالية دولتنا وهاك خلاصة ما قالوه مؤخراً قال بعضهم: لا تزال مواد القراطيس العثمانية في أسواق غريزة ويؤخذ من الخزينة العثمانية الأخيرة أن الدين العثماني الموحد كان في أول آذار الماضي 126 مليوناً و9391 ليرة يضاف إليها مليون ليرة اقترضته بلدية الآستانة والشطر الرابع من قرض ولاية بغداد وهذا بيانه: 50. 146. 757 الدين الموحد والسندات 18. 275. 620 دين مضمون بجزية مصر وقبرص 2. 319. 944 قرض تتناول ضمانته مباشرة 30. 763. 414 قرض مضمون بدخل صندوق الدين 24. 603. 656 قروض تديرها الحكومة. وينبغي أن يحذف من هذه القروض قرض سنة 1855 وفائدته 4 في المئة وقرض 91 وفائدته 4 بالمئة أيضاً وقرض 94 وفائدته 3 ونصف بالمئة لأن هذه مضمونة بجزية مصر وزيادة دخل جزيرة قبرص وهي من أضمن القروض في نظر حملة القراطيس. ثم أن قروض 93 و94 تدفع شركة حصر التنباك وشركة السكك الحديدية الشرقية ضمانتها للمصارف مباشرة وعليه يكون الباقي قرض الموحد العثماني وقروض سندات اليانصيب العثماني وهذا قد خص بهما بموجب أمر سلطاني بعض الموارد كالثمغة ورسوم الكحول والحرير والملح والدخان يتولى إدارتها صندوق الديون العمومية وقد أربى الدخل كثيراً عَلَى النفقة اللازمة للصندوق والأسهم. ففي سنة 1910 إلى 1911 بلغ دخل صندوق الدين 5 ملايين و61. 335 ليرة أخذ منها لنفقات الإدارة 964. 237 ليرة وبقي 4 ملايين و97. 091 ليرة يؤخذ منها لاستهلاك الأسهم المخصصة بهذه الموارد ولدفع سندات اليانصيب مليونان و157. 375 ليرة فتكون زيادة الدخل مليوناً و939. 723 تعطي الحكومة الثلاثة الأرباع والربع الآخر يعطى لخزانة صندوق الدين. هذا ويظل الدخل أكثر من النفقة ولو حذفنا نقص دخل الصندوق من الولايات التي احتلتاه

الحكومات البلقانية فقد جاء في الكتاب الذي قدم للسفراء في شهر ك1 الماضي أن معدل دخل تلك الولايات في العام 713051 ليرة يضاف إليه مبلغ 48990 ليرة من أثمان الملح فيكون المجموع 762005 ليرات أي عبارة عن 22 بالمئة من مجموع الدخل وإذا افترضنا نقص الدخان من هذه النسبة كان مجموع النقص مليوناً و48305 ليرات وقد ذكرنا قبلاً أن زيادة دخل الدين الصافية هي مليون و939723 ليرة وعليه تكون الزيادة الباقية حتى بعذ حذف دخل الولايات التي يحتلها البلقان 865418 ليرة. وقال بعضهم: لا ينكر أن الدولة العلية بفقدها الولايات الأوربية قد خسرت 20 في المئة من دخلها لكن من عرف أن هذه الولايات كانت تستهلك في السنوات الثلاث الأخيرة 23 في المئة من مجموع نفقات السلطنة يرى أن خسارة مدخولها لا تؤثر في حال الخزينة. ثم أن الحرب الأخيرة لم تضطر العثمانية إلى أن تنفق أكثر مما كانت تنفقه عندما كان لها 60 ألفاً من الجنود في ألبانيا لإخماد ثورتها و50 ألفاً في أزمير ومن 60 إلى 70 ألفاً في طرابلس الغرب ومثلهم في اليمن ولم يتأخر رعايا الدولة عن دفع الأموال المفروضة عليهم حتى أن زيادة الدخل في بيان نظارة المالية الأخيرة بلغ 2. 509. 731 ليرة عثمانية وبلغ مجموع ضريبة الحرب في شهر واحد 422. 495 ليرة عثمانية. وعليه إن الحكومة العثمانية تحتاج إلى المال فما ذلك إلا لسد العجز السابق. مدارس الفلاحة في الدانيمرك نشرت المجلة الفرنسوية مبحثاً مهماً تحت هذا العنوان بقلم العقيلة لونر كروبي فآثرنا ليضم إلى ما سبق لنا نشره من نوعه في سني المقتبس السابقة قالت الكاتبة: عَلَى شاطئ بحر البلطيق بلاد صغيرة سعيدة وأعني بها الدانيمرك التي تضاعفت تجارتها الخارجية في الخمس عشرة سنة الأخيرة لتوفرها عَلَى استثمار أرضها وقيامها عَلَى تربية الماشية حتى أصبح لديها الألبان دافقة كالسيل المنهمر وجمعت بواسطة معامل اللبن منها ما تجعله جبالاً من الزبدة والسمون ترسله إلى إنكلترا فتتناول أثمانه ذهباً وهاجاً. تقسمت في هذه البلاد الثروة تقسيماً كثيراً ومع هذا لا ترى الفلاح يعجز عن القيام بالأعمال الكبرى التي يقتضي لها رؤوس أموال عظيمة قد تألفت شركة تعاون ضمت إليها نحو تسعة أعشار أرباب الأراضي وغدت البلاد تستثمر بأدق قواعد العلم الحديث فيحلل اللبن مرتين في الشهر في

معامل التحليل التي تشعر صاحب الملك بأقل تغيير يحدث في حالته وتبين له ما يجب إدخاله من التعديل في تغذية الماشية. وبهذه العناية والحذق في اختيار أجناس البهائم أصبح معدل السنوي للبقرة الدانيمركية يزيد عن واحد من خمسة في خلال العشر سنين الأخيرة. وهكذا تفحص التربة أيضاً فحصاً في المعامل ويجري إصلاحها عَلَى هذا النحو والفلاحون هم الذين يتولون أعمال هذه الشركات بأنفسهم يحاسبون أربب الأملاك ولا يقع حيف عَلَى أحد ولذلك لا تقام دعوى ولا يحد خصام بينهم. وهؤلاء الفلاحون العاملون عَلَى غاية الأخلاق يرأسون بيوتاً وأسرات وكل ولد يولد لهم يكون مادة رزق جديدة ودرجة تعلمهم أرقى من عملة المدن بل أرقى من أهل الطبقة الوسطى. فتجد لكل قرية حتى الصغرى منها قاعة لإلقاء المحاضرات يتباحث فيها الفلاحون عَلَى الدوام في المسائل الاجتماعية والزراعية السياسة والدينية وأحياناً تجد لكل قرية قاعة للاستحمام وداخل بيوتهم عَلَى غاية من الذوق والنظافة. والفلاح الدانيمركي المتعلم يفهم المصالح الاقتصادية فيدل عَلَى ذكاء وبعد نظر في مستقبل بلاده الذي هو في الألبان والسمون والبيض. وقد استطاع الفلاحون الدانيمركيون الذين يؤلفون السواد الأعظم من الأغنياء وأرباب الأملاك أن يقبضوا بذكائهم عَلَى قياد بلادهم وأن يكون لهم في مجلس النواب الأكثرية المطلقة التي تتصرف بالبلاد كما تريد وتتولى مناصب الحكومة وكم من فلاح يبحث في أعوص المسائل فيحلها في حقل عقل وتجارب. فالفلاح الدانيمركي وحيد في هذا الباب في أوربا بفضل التربية التي ربيها أولئك الفلاحون في المدارس العليا فدخل فيها 47 في المئة من مجموع السكان وتلقنوا التربية العقلية والأخلاقية اللازمة للحقول. وما القائمون بالشركات الزراعية إلا تلامذة تلك المدارس التي بنيت بأموال الفلاحين فهي مدارس خاصة يبذل لها الفلاحون عن سعة مع ما عرف به الفلاح من الاقتصاد في كل هذه البلاد. ولذا ترى كل كورة من كور الدانيمرك أن من موجبات شرفها أن يكون لها مدرسة عليا ومن لم يدخلها في عرف الفلاحين يكون من الطبقة الدنيا ليس له من أسباب الشرف لا قليل ولا كثير. أنشئت المدرسة العليا في الدانيمرك ممثلة لأفكار ممثلها غروندفيج الذي عاش من سنة 1783 إلى 1872 ولقب بنبي الشمال وبروحه قامت وارتقت وإنك لترى إلى اليوم في المدارس التي أحدثها خطبه وأشعاره وكتاباته تقرأ وتشرح باحترام يوازي ما تقرأ به

التوراة وتفسر به. حتى أن الأساتذة يرون أن من الواجب الاحتفاظ بتعاليمه وإنك لترى صورته معلقة في كل قاعة من تلك المدارس وهو شيخ يجري أبيض اللحية كبيرة السحنة تظهر عليه الشهامة والنشاط. وكان هذا الرجل من بيت أدب وعلم وكتب في التاريخ والأساطير والشعر القديم والتراجم ما بلغ ثلاثين ألف صفحة وهو عمل عظيم حتى عَلَى من عاش 91 سنة مثله ممتعاً بصحته وتقواه. وكانت أمه من بيت علم وأبوه واعظاً دينياً فتعلم من والدته في صباه حب القديم والميل إلى القصص ولطالما غنت له الأغاني الوطنية والأناشيد الدينية التي كان بها في حياته الفرد المقدم فأصبح شاعراً بما لقنته إياه أمه من الشعور وبواسطة الأناشيد الدينية التي ينشدها الفلاحون كل يوم أثر في أفكار فلاحي بلاده وتعلم اللاتينية وكان يحمله معلمه عَلَى الاختلاف إلى بيوت الفلاحين فاستفاد من هذه الزيارات أكثر مما استفاد من دروس النحو والصرف فتعلم كيف يحب الفلاح وكان إذ ذاك عَلَى غاية الفقر وشعر بتنمية حبه للطبيعة والخلاء مما كان أحد مصادر شعره. لبس ثياب الوعظ وانخرط في سلك المبشرين وبعد سنين خلع ثيابه وذهب إلى لندرا فأثرت هذه الرحلة تأثيراً شديداً فيه إذ لم يكن قبلها يعيش إلا عيش الكتب والدفاتر فأخذت نفسه بما رآه في الإنكليز من الحياة العملية والنشيطة وما خصوا به من الذوق في الرياضات الطبيعية وتأصل فيهم حب الاستقلال الشخصي ولاسيما ما عرف عن مدارسهم من حيث إعداد الخلاق شبانهم ورجع من هذه السياحة والشمس في عينه وعالم جديد في قلبه وأخذ ينسج في أشعاره باللغة الدانيمركية الدارجة عَلَى مثال قدماء شعراء الإنكليز وهي ترمي إلى أنه ليس من شعور وطني بدون شعور ديني وأن الأدوار التاريخية التي خلت من الإيمان هي أدوار لا مجد لها وكل يقظة مسيحية هي يقظة وطنية وعلى هذا المحور يدور المترجم به في أشعاره وكتاباته كلها وأعماله الاجتماعية ولقد صرح في إحدى المجتمعات أنه من العبث أخذ السلاح للدفاع عن الوطن إذا لم يكن المرء متشبعاً بالشعور الديني. فمن ثم كان يرى إثارة الشعور الوطني والإيمان في مدارسه الجديدة. وفي سنة 1832 نشر لأول مرة في مقدم كتابه الميثولوجيا الكبرى فكرة مدرسته وفي سنة 1844 في اجتمع حضره بضعة ألوف من الفلاحين الوطنيين خطب القوم فأثرت خطبته

في النفوس فراح وهو عَلَى أبواب الشيخوخة يعزي نفسه بأنه سيرى أعماله تكلل بالنجاح ولو كان في هذه السن إذ له أسوة حسنة يستوف كولمب الذي ذهب ففتح العالم الجديد وقد ابيض فوده وعارضه. دعا بخطابه امته إلى إحياء الشعور الديني والوطني وإن أنقى مصادر الحياة العقلية والأدبية يجب أن تكون منه عَلَى طرف الثمام تتناولها عَلَى أسرع وجه وأن ينشأ في المدارس الجديدة تعليم حي عصري وطني لنسى الدانيمرك ما أصابها من المصائب والهزائم وانسلاخ أراضيها وانفصال النروج عنها وضياع مقاطعة شلشويق وكانت الدانيمرك تشعر بحاجتها إلى النهوض وأن تدافع عن الفكر الوطني في النفوس لأن تيار الشعور الألماني يدفق عليها فاقتضى لها أن تحمي حمى لغتها الدانيمركية وعلى هذا الفكر أنشئت مدرسة روديج التي أصبحت بعد كلية أزوف ومنها انبعث نغمة الوطنية الدانيمركية واللغة الدانيمركية ورأى غروندويج في مدرسته أن تجري عَلَى غير الأسلوب الفني المتعارف وأن يقصد منها تربية العقول وتفتح أمام التلاميذ كل السبل الجديدة ويقوي الشعور الوطني والديني والأخلاقي والجمالي ويعلم وطنيين مستنيرين مستعدين إذا خرجوا من بيوتهم أن يتعلموا الزراعة أو صناعة أخرى ولذلك سمى مدارسه كلية الشعب تعلم تعليماً جديداً ولا تخول المتخرج منها امتيازاً ولا تعطيه شهادة. فلم يطلب هذا الرجل من مدرسته أن تخرج تلامذة عَلَى النحو الذي تخرجه مدارس الحكومة فيمتاز متخرجها بما ناله من الدرجة بين أقرانه ومجتمع أخوانه بل يكون من تخرج منها عَلَى استعداد للرجوع إلى المكان الذي غادره ولكن بروح غير روحه الأولى. أفق غروندويج ونجح وإخفاقه لم يزده إلا مضاءً حتى بلغ عدد مدارسه العليا من سنة 1864 إلى 1904 (71) مدرسة ولطالما شكا من أن الأشعار التي نشرها محتذاة من الإنكليزية أو من اللغة الدانيمركية القديمة لم تؤثر إلا في طبقة مستنيرة من الشعب في حين يؤثر أن تراها تفعل في عقول الفلاحين ولكن نفعت في إحياء لغة القوم عَلَى نحو ما نفعت كليات الحكومة ومدارسها عَلَى أن تلك الأشعار لم يكن يمض يوم ولا ليلة إلا وتنشد في البلاد اشتركت في الإقبال عليها مدارسه ومدارس الحكومة وكنائس الدانيمرك وأديارها. يبقى التلميذ إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من سنه في المدرسة يتقن فيها اللغة الدانيمركية ثم يعود إلى المدرسة العليا فيزيدها إحكاماً كما يبالغون في تعليم التاريخ

الدانيمركي وبذلك انبعثت الوطنية الدانيمركية من مرقدها ولا يسأل كل تلميذ في مدارسه سوى سؤالاً بمفرده بل يوجه إلى التلاميذ كلهم سؤال واحد يجيبون عليه ومدارسه تدفع أجورها وأجرة كل تلميذ من 200 إلى 250 كوروناً (الكورون فرنك واحد وأربعون سنتيماً) ويجتهد المعلمون أن لا يضغط التلامذة عَلَى أولادهم ويضطروهم إلى الذهاب للمدرسة حتى المعلمين إذا رأوا التلميذ يريد الهرب يفتحون له الباب ولا يسألون عنه عَلَى أن ذلك من النوادر. وصف غروندويج فكر مدرسته بما يلي: يجب أن تحسن تعليم التلامذة معنى الحياة البشرية وطبيعتهم الخاصة وأن يلقنوا الفروض المتجثمة عَلَى الوطني ويعرفوا واجبات الوطن وأن يؤثر فيهم ببسيط الكلام فيعلمهم التاريخ والإنشاد الحي والإعجاب بما هو عظيم وجميل وبالاجتماع يلقنهم العمل المتبادل المشترك والابتهاج السليم واللذة واللعب. وقد قاوم طريقته كثير من أهل العلم والطبقة العليا والفلسفة في بلاده وقالوا أن طريقته تخرج تلامذة محدودة عقولهم في حين يجب تعليمهم تعليماً أوربياً يحتوي أموراً كثيرة ولطالما هز بهذه الطريقة الفيلسوف العظيم كيركجارد وقال عبثاً يحاول غروندويج نشر التعليم عَلَى هذا الأسلوب ولذا أخفقت طريقته في المدن ولم تجد لها مكاناً إلا في قلوب الفلاحين وهذا ما كان يتناغى به صاحبها. ز رت إحدى مدارس الفتيات عَلَى طريقة غروندويج في فريدريكسبورغ وفيها مائتا فتاة وكان الوقت شتاءً وفي الشتاء تعمر المدارس لأن الحقول لا عمل فيها فرأيت الدار ساذجة لا زينة فيها ولكنها البهجة بين النضرة والخضرة والنباتات المعرشة ويدخل الهواء العطر من النوافذ المفتحة والتلميذات يستمعن إلى ما يقلى عليهن من المنبر وهن في الغالب لا جمال لهن بل هن شقر الوجوه والشعور فيهن ظرف ولطف وحسن صحة وكلهن عَلَى غاية من النظافة وحسن الهندام ويلبسن فساطين من القماش الزاهي. وهن من طبقة لا تجد فيهن شريفة ولا من بنات الأعيان بل هن أجيرات في الحقول والمزارع وخادمات وترى أيديهن مسمرة عَلَى نحو مما تشاهد أيدي كل الفتيات في بلاد السكندنافيا حتى تلميذات الكليات العليا لأنهن عرفن بحبهن للرياضيات البدنية فيتلو عَلَى مسامعهن الأستاذ قطعة في تاريخ الدانيمرك كوصف معركة فريدريسيا التي قضى فيها القائد ري وكان فيها الظفر

مؤقتاً وعقبه ضياع مقاطعة شلشويق هولستاين ويذكر الخطيب تذكارات مؤلمة وقد حضر الاجتماع مستمعات من مقاطعة شلشويق عَلَى الرغم من حظر الحكومة الألمانية عليهن الحضور. حضرن ليأخذن ما لا يتيسر لهن في مقاطعتهن من الآداب الدانيمركية فكن موضوع التأثر كما كان كلام الخطيب وانكفأن كلهن يبكين وينتحبن ويرفعن أصواتهن متأثرات ولاسيما عندما يختمن الجلسة بإنشاد النشيد الدانيمركي القديم وبعد ساعة عادت البهجة إلى المدرسة إذ انتقل الفتيات إلى قاعة الألعاب الرياضية لهذه الألعاب في هذه المدارس العليا كما هو في جميع سكندينافيا مكانة عظمى في حياة كل فرد عَلَى نحو ما يرى في الألعاب الأولمبية في استوكهلم. ومنذ عشر سنين زاد الإقبال عَلَى الرياضات الجسمية حتى أنك لتجد العملة والمستخدمين والفلاحين ذكورهم وإناثهم يعمدون إلى التريض بعد عملهم واقتنع القوم بفائدة هذه التربية الطبيعية حتى أخذ كثير من أساتذة الألعاب الرياضية في الدانيمرك يلقون دروساً مجانية في الليل عَلَى من يريد إنسانية منهم ووطنية. ومن عرف أن هؤلاء الفتيات يصبحن بعد أمهات وتلد الواحدة من ستة إلى ثمانية أولاد وهي في صحة تامة يوافق بأن للألعاب الرياضية مكانة وطنية حقيقية. وكما أن للعب مقاماً سامياً في المدارس العليا للبنات فكذلك الإنشاد والغناء يروحن ب نفوسهن ويتعلمن الأفكار السديدة بما يتسرب إليهن من الحكم خلال النغم. ويتعلمن بالإنشاد الصوتي كيف يكون النظام والاجتماع وما أناشيدهن إلا مظهراً من مظاهر حسن أخلاقهن وصحتهن واتفاق إرادتهن ومتى انتهت الرياضة يتفرقن في الحديقة فيأخذ بعضهن يخيط وأخريات يقرأن وغيرهن يركبن الدراجات وهي الرفيقات التي لا تفارقها المرأة الدانيمركية. ولا يشتغلن بالحديقة لأن مؤسس هذه الطريقة كان يرى أنهن إذا تعاطين هملاً يدوياً لا يبلغن العمل العقلي إلا وهن متعبات. ويدققن في هندامهن ولا شيء يحول دونهن أو يحظر عليهن فحريتهن تامة مطلقة يعشن مع أساتذتهن ومعلماتهن وأسرات معلميهن ومعلماتهن عيشاً بيتياً مشتركاً لا شيء يشق عليهن ويحسن استعمال ما يخولن من الحقوق. قال أحد أساتذة هذه المدارس أنني قضيت حياتي برمتها في هذه البيوت فلم أسمع فيها قط كلمة هجر تنافي الأدب ولم أشهد خصاماً رديئاً وهذا ناشيء من شيئين وهما امتياز هذا الشعب الوديع اللطيف المعتدل واللسان المهذب الذي يستعمله الأساتذة منذ أول يوم مع التلاميذ

والتلميذات فيبلغون به شغاف القلوب ولامرأة مدير المدرسة تأثير في جعل حياة الفتيات مفرحة لطيفة والمدير يكون مستشار الأسرات عَلَى كثرتها لأن أولادهم درسوا في مدرسته. أما مواد التعليم فتدور عَلَى التاريخ والجغرافيا وعلم الأدب واللغة الدانيمركية والرياضة البدنية وحفظ الصحة والاقتصاد الاجتماعي ومبادئ التاريخ الطبيعي والنفسي والكيمياء وتعطى دروس خاصة لم يتأخرن وهم نوادر في نفوس النحو والحساب وإذ كان من الصعب في بضعة أشهر من السنة تعليم مختصرات من هذه العلوم دع المطولات كانت الدروس تلقى بصفة محادثات تنبه شعور التلميذ وتبعثه أن يدرس بواسطة المكاتب العامة المملوءَة بأنواع الكتب كل ما يغلب عليه من الفنون وتكون المحاضرات مما يعين عقله عَلَى التفكير والعمل ولذلك كانت المسامرات والأحاديث التي يلقيها القائمون عَلَى تلك المدارس منوعة الأساليب. وشخصية المدير تؤثر في إدارة المدرسة بنوع خاص فمن المديرين من يغلب عليه التاريخ فيخاطبون العواطف في طلبتهم ومنهم من تغلب عليهم الاجتماعيات فيخاطب العقل ومنهم الدين ومنهم العلم فالتعليم منوع الأساليب ويرجع إلى دائرة واحدة. وتقبل بعض المدارس تلاميذ من كلا الجنسين اللطيف والنشيط وقد أكدت مدرسة أسكوف وفيها أربعمائة تلميذ وهي في مدينة وعليها شيء من مسحة الارستوقراطية أن تعليم الجنسين قد أسفر عن نتائج حسنة عَلَى نحو ما أكد غيرها من المدارس التي اتبعت هذه الطريقة وبين معلمي مدارس الحكومة ومعلمي هذه المدارس صلات كبرى ومن أو لئك من يحضر دروس معلمي المدارس العليا عملاً بقاعدة مؤسسها من أن التعليم العلمي عند من أخذوا أنفسهم بتعلم الأدب وتمحضوا له يضل جادة الصواب أن لم يشفعه تعليم حالة الشعب فيتعلم المتعلم الحياة ويقف عَلَى الحركة الحاضرة قال وهكذا الحال في التعليم الأهلي فإنه يفقد مكانته عَلَى أسرع ما يمكن ويكون قشوراً ل لباب فيه إن لم يمزج عَلَى الدوام بالدرس العلمي. يعيش المعلمون في هذه المدارس مع أسراتهم ويذهبون خلال العطلة المدرسية وهي ثلاثة أشهر في السنة إلى جميع أماكن الاجتماع. يختلفون إلى الأعياد الدينية والمحاضرات والأسواق الكبرى وإلى كل مكان يعلمون أن أناساً فيه يجتمعون فيتكلمون عن مدرستهم ويدعون الفلاحين إليها في الخريف. وبذلك يستكثرون من الطلبة والحكومة لا تراقب هذه

المدارس وتدفع لكل واحدة أتى عليها ثلا سنين إعانة نقدية من 3 إلى 4 آلاف كورون والمعلمون من الطبقة الراقية في علمهم ويكونون في الغالب ممن شعروا بميل إلى صناعة التعليم وهم في سن العشرين ولهم اجتماعات ونقابات فلا يدخل في سلكهم ضعيف ولا ساقط في فضائله وعلمه والشعب يعرض عن كل من لا يسوغ أن يتولى تربية بنيه ممن عرف بالإلحاد ولم يترب بآداب الدين. وفي كل سنة تدعو المدرسة من تخرجوا في مدارسها من الفتيان والفتيات وأسراتهم فيأتون من كورتهم مسرعين يصرفون اليومين والثلاثة في الغناء والرقص وسماع المحاضرات ومن كان منزله بعيداً ينام في المدرسة. وبهذه الطرق التي تعمد إليها المدارس العليا وفقت للتأثير في الأفكار فصار الفلاحون في الدانيمرك ألف كورون وأعطيت لمدير المدرسة لقاء وصل بسيط يتصرف فيها كما يشاء نعم إن المعلمين والمديرين يعيشون عَلَى ما يجب في هذه المدارس التي نجحت بأفضالهم وفضائلهم فأخذوا يحتكون بالفلاح عَلَى حين تجد أمثالهم في الممالك الأخرى قد يترفعون عنه واستماتوا في تربية الشعب فبذلوا كل قوتهم وبإرادتهم المتجمعة ودعواتهم التي لم يملوا من بثها نبهوا الفلاح الدانيمركي من غفلته التي كان فيها منذ قرون. وكل بلد يقوم فيها مثل هذا النشاط تخصب في ربوعها العلوم والآداب لا محالة. مدينة لا ذباب فيها أجمعت الآراء عَلَى ضرورة قتل الذباب ولكن لم يظفروا حتى الآن بالطرق للخلاص من هذا الضيف الثقيل المخطر الذي ينشر جراثيم العدوى بدخوله في كل مكان وتلقيحه في كل مادة مضار عدواه. وقد وضع مؤتمر الصحة في ولاية إنديانا إحدى الولايات المتحدة قاعدة أوصى فيها بإبادة هذه الآفة وهي اقتلوا الذباب بأي صورة كانت ولكن اقتلوه جملة يرددونها في كل صفحة من صفحات كتاب الصحة. وكانت مدينة ويلمنتون في أركانساس أكثر البلاد ابتلاء بهذه الهوام تنشر من الأوبئة أشياء منها فعمد رجال الصحة فيها إلى استعمال الأدوية كلها للوقاية فيها فخابت مساعيهم. وقد قررت لجنة خاصة أن الواسطة الوحيدة أن تطهر أماكن العدوى وأن يحارب الذباب بكل حيلة فعهدت البلدية إلى أحد الأخصائيين أن يعد دواءً ناجعاً للقضاء عَلَى العفن فأكثر في المدينة من حب حمض البيرولنجين ويحدد رشه أربع مرات في النهار ودامت هذه الحرب شهراً فلم يبق بعده أثراً

لهذا العدو الهائل وتخلصت المدينة من الذباب فخفت حمى التيفوس بذلك عَلَى التدريج وجادت الصحة أي جودة وبذلك يفهم أن الحكومات إذا أرادت أن تعمل الحسن للأمم توفق له مهما كان صعب الطريقة. نادي المعمرين أنشئ حديثاً في طوكيو عاصمة اليابان ناد للشيوخ الذي لا يقل عمرهم عن التسعين سنة برئاسة الكونت إوليما الياباني ويقال أن بين من يضمهم النادي الآن اثني عشر عضواً عمر الواحد منهم 110 سنوات وقد قيل شبيه الشيء منجذب إليه. إن الطيور عَلَى أشكالها تقع. إزالة الحبر عن البسط إن أسهل طريقة يمكنك بها إزالة الحبر عن الطنافس أو البسط أن تأخذ شيئاً من الملح الناعم وتذره عَلَى الحبر وتى اسود الملح ترفعه وتضع غيره مكانه. أحياء الأزهار ميتة إن الطريقة لإحياء الأزهار بعد ذبولها هي أن تقطع قليلاً من أصولها ثم تغمس هذه الأصول في ماء يغلي فالحرارة الشديدة تنبه الزهرة تعد إليها الحياة التي أوشكت أن تفقدها وتجعلها كأنها مقطوفة منذ هنيهة. أكلة الخبز في الإحصاءات الأخيرة أن كل دانيمركي يأكل في السنة 287 كيلوغراماً من الخبز والبلجيكي 274 كيلوغراماً والفرنسوي 234 والسويسري 212 كيلوغراماً والألماني 209 كيلوغرامات والإسباني والنمساوي 195 كيلوغراماً والإيطالي والبرتقالي 102 كيلوغرامين. أما العربي فليس له محل من الإعراب في هذا الإحصاء ولعله من أكثر الأمم تنازلاً للخبز إذ ليس عنده الآن إلا الخبز القفار وربما جاء زمن لا يحصله فيكتفي بأكل البقول والثمار. ثروة سويسرا أحصى الأستاذ ستيجر ثروة سويسرا عَلَى وجه التقريب فكانت نحو 14528 مليون فرنك

وأغنى مقاطعاتها مقاطعة برن التي بلغت ثروتها العامة 2444 مليوناً ثم مقاطعة فود 1742. نساء فنلندة تبين بالاستقراء أن المرأة في فنلندا لما صار له شأن في توظيف الشرطة في بلادها قل الفجور بل كاد يقضى عليه كل القضاء وذلك أن من وظيفة الشرطيات الفنلنديات أن يسهرن عَلَى أخلاق الفتيات وأن يسعين في إيجاد أعمال ومحال يأوي إليها المهملون أو اللقطاء والعجائز. العناية بالمرأة لما كان للمرأة بولاية كولورادو في الولايات المتحدة حق الانتخاب كالرجل منذ زمن طويل فقد وفقت إلى وضع قانون لحماية الأمومة في البلاد ذلك أن كل الأمهات اللائي لا مورد لهن يعشن سواء كن عازبات أو متزوجات أو أيامى يقبضن من خزانة الحكومة معاونات مالية مهمة تسمح لهن بتربية أولادهن عَلَى ما يجب. الأنسجة الجديدة آخر الأزياء الجديدة من ألبسة النساء الفساطين المصنوعة من الخرز المنسوج الذي يشبه الحرير بلمعانه ومرونته وقد اخترع هذا النسيج في النمسا وألوانه عَلَى غاية من اللطف تختلف بين الأبيض والأخضر والوردي والبجلي (الليلكي) والأصفر وله لمعان كلمعان الماس. وتصنع أيضاً أقمشة من ألياف معدنية معمول من أحجار ليفية لطيفة عَلَى اللمس جداً ومتينة للغاية. ولهذه الألبسة امتيازاتها يمكن تنظيفها عندما تتجعد أو تتسخ ويكفي لذلك أن تكوى. ويصنعون أيضاً جوخاً يدعونه جوخ الحديد يستعمله الخياطون لعمل قبات الثياب. ويعمل هذا الجوخ من الصوف المعمول من الحجر الكلسي وهذا الحجر يمزج ببعض المواد الكيماوية وينشف في تنور أو يطلق عليه مجرى هواء شديد الحرارة فيستحيل إلى مادة بيضاء صوفية تكون عند إخراجها من التنور ملونة الأشكال معمولة طويلة وقصيرة عَلَى نحو ما يعمل الجوخ والثوب أو السروال المعمول من هذا الجوخ الحديدي لا يتلوث بلوثات من الدهن ومرونته تشبه مرونة أدق صوف الماعز. ومن جملة الأصناف الجديدة من هذا النوع نسيج الورق أو الحطب أو القنب فإن نسيج الورق قد خدم

اليابانيين خدمة نافعة خلال حربهم مع الروس وهو أحسن ما يكون لصنع الأزياء العسكرية الرسمية وتعمل منه اليوم فساطين للسهرات وألبسة للحمامات وأن مدينة طوكيو عاصمة اليابان لتصدر إلى إنكلترا وألمانيا وفرنسا كميات وافرة منه. ويعمل اليابانيون من هذا القماش قفافيز للأيدي أيضاً. أما قماش القنب والحطب فيكون متيناً للغاية يمزج مع بعض المواد الكيماوية التي كتم مخترعوها أسرارها فيباع بكميات رابحة في المستعمرات البريطانية. ذكاء الحيوان كان للناس منذ القديم آراء متناقضة في مسألة ذكاء الحيوان فقد قال بيكورس الفيلسوف اليوناني أن للحيوانات روحاً كالإنسان وقال أرسطو والرواقيون من فلاسفة اليونان أن ليس للحيوانات ذكاء يعتد به ورأت النصرانية مثل هذا الرأي الأخير فأثبت لهم الغريزة ونفت عنهم العقل الذي لا حاجة لهم به واعتبر الفيلسوف ديكارت الحيوانات بأنها أدوات بسيطة تعمل من نفسها ولا تعرف ما تعمل وكانت فلسفة القرن الثامن عشر مناقضة لهذا الرأي ونسب الفيلسوف لايبنز للحيوانات عملاً نفسياً منحطاً عن القوى الإنسانية وذهب الماديون من الفلاسفة مذهب أبيكورس مثبتين أن النفس متعلقة بالدفاع وأن النفس البشرية غير خالدة كالحيوان وذهب مثل هذا المذهب أيضاً ملاحدة القرن التاسع عشر فأثبت كارل فونت ولويزنجتر فكراً سامياً للحيوان في الذكاء وقال داروين وهو الذي يرى أن الإنسان مرتق عن الحيوان بترقي الأنواع بأن غريزة الحيوان هي الممثلة لصفاته القوية التي هي قوية في الحيوان وقد بلغت في الإنسان أرقى طبقاتها. واقترب العلم الحديث من هذه النظريات بان أثبت للحيوان قوى ودرجه بحسب أجناسه وأصوله بأن وضع في الدرجة ذوات الثديين التي هي سلم الكائنات قريبة من الجنس البشري فاعترفوا بأن للكلب شعوراً من العقل والذكاء اللذين طالما أقام البراهين عليها وثبت أن حصان هانس يحسب ويجمع ويطرح بلا غلط ويجيب عَلَى المسائل العويصة بإشارات لا خطئُ وذبك ثبت بأن للحيوان نفوساً كما للإنسان وإنها من الذكاء عَلَى جانب. الإتحاد الأوربي تكتب المجلات الكبرى في الغرب الحين بعد الآخر مقالات في الدعوة إلى اتحاد أوربي

عام تكون به دول أوربا يداً واحدة في الخصام والسلام ومن ذلك ما نشرته إحدى المجلات الإنكليزية الخطيرة قالت مؤخراً أن من الأمور الثابتة أن الحالة الحاضرة في أوربا ليست مما يبعث عَلَى الرضى فهي تفقد عَلَى التدريج المكانة وإن كانت لها فيما سلف من الأيام عَلَى حين تنشأُ أمم أخرى أمامها ونبلغ بالتدريج الدرجة الأولى. والسبب في هذا الانحطاط هو أن ممالك أوربا لا تبرح عَلَى الدوام مسلحة بعضها عَلَى الآخر سواء كان للدفاع أو للإغارة. والإفراط في التسليح عَلَى هذا النحو يدل بصراحة عَلَى ما بينهن من الحذر والحسد فإن أوربا تنفق كل سنة عشرة مليارات من الفرنكات لإطعام جيوشها فإذا نشبت الحرب تحتاج إلى ثلاثة أضعاف هذا المال لنضرب العدو المفاجئ. والطريقة التي جرت عليها أوربا ستقودنا لا محالة إلى حرب وإنا إذا نظرنا إلى حالة الأمم المختلفة نجد ألمانيا بعد حروب كثيرة قد وفقت إلى تأييد سلطانها ولكن من يحميها من المشاكل مع البلاد الخارجية إن لم تكن قوائم سيوف أبنائها. وهكذا الحال في فرنسا وغيرها من الممالك. فإن نزع السلاح من أوربا لا يمكن الحصول عليه إلا بعقد اتفاق عام وائتلاف ثم إذا فرضنا أن ذلك ميسور فكم ينبغي له من الوقت وكم تدوم مدته عَلَى أن المتحتم عَلَى أوربا أن تشبه من حيث الاقتصاد الولايات المتحدة الأميركية فيكون إذ ذاك نفوذها عظيما ويتيسر لها أن تقاوم المهاجمات وتخرج ظافرة من جميع حروبها. يبحث الآن في عقد اتفاق بريدي عام في تأليف مكتب للعمل دولي وأشياء من هذا القبيل مما يكون من وراءه إعداد المواد لعقد التحالف الأوربي العام ونحن نقترح الجمع بين أُسرة كبيرة أوربية تكون ممالكها الجنوبية أبناء ذاك فسكون هذا مؤلفاً من ست دول وهي تدعو سائر الدول إلى الاشتراك معها ويدور محور التحالف عَلَى الاحتفاظ بالحالة الحاضرة ولا شك أن كثيراً من الأمم تفادي بمصلحتها العامة وإذ كانت الحكومة لا تحكم بدون مظاهرة الشعب فعلى الشعب أن يعد الأفكار لقبول هذه الدعوة للإتحاد العام. تبدل المناخ تنبأ كثير من العلماء بإمكان تبدل يطرأ عَلَى الأرض وقدروا بأن كثرة ما ينفق من حامض الكربون في الهواء لكثرة إنفاق الفحم سيكون السبب في ذلك وقد أكد أحد أساطين العلم مؤخراً بأن المناخ يتغير والحرارة تشتد مستشهداً لذلك بترقي البشرية في صرف الفحوم

وزيادته سنة عن سنة وأن كمية الحامض الكربوني تنمو عن ذلك المعدل وقد أُحصي ما أنفق من الفحم سنة 1899 فكان 823. 287. 454 طناً ولم يكن المنفق منه قبل عشر سنين أكثر من 511. 518. 258 في القرن العشرين بمليار طن عَلَى سرعة الزياد ويدعو إلى تقدير ما سينفق من الطنات في القرن العشرين بمليار طن فتتضاعف كمية الكربون في الهواء وتحفظ الكرة حرارتها فتكون الحرارة في الأرض كلها أكثر من الأول. والعلماء يتوقعون فيما إذا كانت هذه الزيادة في الحرارة تضر بوجود الهواء. الأشجار التاريخية في سنة 1860 غرس البرنس دي غال في حديقة نيويورك الوسطى بيده شجرة دردار أميركية وشجرة بلوط إنكليزية احتفالاً بمرور خمسين سنة عَلَى معاهدة غاند ومنذ ذلك العهد نجحت هاتان الشجرتان وأصبحتا من الجمال بحيث لا تضاهيهما شجرة من نوعهما وعمرهما. ومن الأدواح الضخمة التاريخية في العالم شجرة البارون همبولد القائمة في وادي أرغوا في جمهورية فنزويلا فإنها اكتشفت في القرن السادس عشر ولا تزال إلى اليوم عَلَى مثل ضخاتها يوم اكتشافها وكانت استدارة أغصانها 561 قدماً وهي الآن كذلك. ومن الشجار الضخمة في العالم الشجرة المعروفة بشجرة التين في أوروتثا التي ما برح طائفة الكواتش في تنريف تعظمها وقد ثار إعصار هائل سنة 1871 فألقى بها إلى الأرض وكان قطر جذعها 46 قدماً. ويقال أن يونان لم تبرح فيها الشجرة التي كانت تظلل بأغصانها أفلاطون وهو يحادث سقراط. ومن الشجار التاريخية ثلاثة شجرات في جزيرة القديسة هيلانة التي نفي إليها نابليون وبين جذوعها قضى هذا الفاتح. ومنها نخلة جورج واشنطن محرر أميركا ولا يقل عمرها عن قرنين وهي أجمل مثال في الأشجار التاريخية. سكر النبا النبا نوع من النخيل ذو ورق كبير مركب عل شكل ريش أو مشط مجتمع في رأس ساقها. وهو يكثر في عدة أصقاع من الأرض ولاسيما في جزائر الفلبين ويستخرج منه الكحول بلغ دخله في العام الماضي زهاء 80 ألف هكتولتر ويستعمل ورقه في نسج الحلفاء كما تصنع منه أغطية للدور وورق للفائف ويؤكل ثمره نيئاً أو مطبوخاً وقد أنبأ المكتب العلمي في مانيلا جمهور الزراع والصناع أنه اكتشف طريقة يمكن معها استخراج مادة سكرية

تنافس سكر القصب وتفوقه بالرخص. وتعيش شجرة النبا خمسين سنة وكل فدان زرع من النبا يعطي غلات وافرة جداً. ولعل بهذا السكر يرخص سكرنا. أعاجيب الحاسبين ظهر في المكسيك حيسوب من أعاجيب الدهر هو فتى الآن في الثامنة من عمره اسمه ميشيل ألبرتو مانتيلا وهو ابن صراف في تلك البلاد ومنذ سنتين كان كأقرانه ليس فيه شيء من خوارق العادات بينا كان أبوه ذات ليلة يجتهد في حساب أحد التواريخ ليكون مطابقاً ليوم أحد دهش لما رأى ولده يجيبه في الحال عَلَى هذه الأشكال وإذ رآه يحسن الإجابة عاد فسأله عن يوم 24 كانون الثاني 1839 أي الأيام كان فأجابه الطفل بعد تفكر ثانيتين أنه كان يوم خميس. وعند ذلك دعا والد الطفل جيرانهما لإلقاء الأسئلة عليه فكان من جملة ما سألوه عنه أي يوم يكون يوم 24 كانون الثاني سنة 2000 فأجاب يوم الاثنين وقد فحصت المجامع العلمية هذا الولد فأعجب به إذ لم تجد في قواه النفسية شيئاً فوق العادة لأنه كاد يقرأ ويكتب قراءَة وكتابة بسيطة. ولهذا الولد أمثال فإن في جامعة هارفرد الأميركية تلميذاً اسمه ويليام جايمس سيديس كان منذ الخامسة من سنه يحسب الأيام والسنين بحساب سريع عقلي وفي إيطاليا ولد أُمي جاء باريز فأدهش العلماء بسرعته في الحساب وقد سأله ومن جملة الأسئلة أن يخرج لبهم الجذع المكعب للرقم 27 فحل هذا الإشكال في عشر ثوان. وجاء في القرن الماضي حيسوب زيراه كولبورون اشتهر أي شهرة فسئل وكان في السادسة من عمره إذا كانت الساعة الدقاقة تدق 156 مرة في اليوم فكم دقة تدق في مائتي سنة. وسألوه عن مكعب الرقم 1449 وأي مبلغ إذا ضرب بنفسه يكون حاصله 998000 فكان جوابه لا يطول عَلَى كل سؤال من هذه الأسئلة أكثر من أربع ثوان. وجاءَ في الفرنسويين هنري موندر فأدهش لمجامع العلمية وكان مرة ذاهباً إلى تور من طريق الحقول فصادف فتاتين غريبتين وكان هو في الخامسة عشرة من سنه فسألهما هل لكما أن تقولا لي سنكما بتقدير السنين وأنا أقول لكم كم يبلغ من الثواني فقالت له إحداهن أن سني تسعة عشرة سنة فقال لها في الحال إنك عشت 599 مليون ثانية و184 ألف ثانية. وممن يحشر في هذه الزمرة فيتو مانجيا ميل الذي حرز في نصف دقيقة ما هو

الجذر المكعب من عدد 3. 596. 416 والحيسوب المشهور الألماني زخريا داز الذي كان في الخامسة عشرة من عمره يعمل جلسات عامة يسأل فيها هذه الأسئلة المشكلة مع القلم والدواة. ومثلهما جديدياه بركسثون الذي كان يجد بواسطة الحساب العقلي الجذع المكعب من عدد 60 رقماً. ومن الغريب أن هؤلاء الأولاد الخوارق الذين يحصرون أبداً أذهانهم في هذه الموضوعات ليسوا في الأغلب إلا أبناء فلاحين لا يقرأُون في لا يكتبون وهم بينما يعرفون ما لا يتصور العقل أصعب منه من المسائل لا يحسنون معرفة طريق البلدة التي عاشوا فيها وهم يعمرون حافظين لقواهم العقلية فسبحان من خص ما شاء بما شاء. فن الإعلانات لا يعرف منشأ الإعلانات حق المعرفة فقد اكتشف في ثيبة إعلانات عَلَى ورق البردي كتبت منذ زهاء ثلاثة آلاف سنة. واستعمل اليونان واسطة لطيفة للإعلان فكانوا يخرجون منادياً ينادي في الشوارع يكون من أهل الفصاحة والبلاغة ليأخذ بمجامع القلوب في الأزقة والجواد ويختارونه ممن خفت مشيته وكان جميل الشكل ويصحبونه مع هذا بموسيقار ليلفت الأنظار عَلَى طول الشوارع بأدواره ونغماته وهذه العادة بقيت في أوربا بقية إلى اليوم عند المعلنين. واستعمل الرومانيون الإعلانات ليعلنوا عن دور التمثيل وقتال المتصارعين وكانوا يلصقونها في بومبي تحت الأروقة. ولقد تألفت في فرنسا منذ القرن الثاني عشر نقابة للمنادين ينوبون عن الإعلانات وعن السماسرة وتستخدمها الحوانيت والحانات للمبالغة بمديح بضائعها فيسير المنادون في الشوارع العظمى ومصباح في أيديهم وقد ملؤا سروراً وظرفاً وزاد اختراع الطباعة في انتشار الإعلانات كثيراً فمنذ انتشرت الصحف الأولى زادت الإعلانات. وافتتح بارتولوزي واشياعه في القرن السابع عشر عهد الصور والنقوش بماء الفضة وظلت طريقتها وحيدة بصنعها. ثم جاء فاتو الذي تفنن في الإعلانات عَلَى ما رزق من قريحة وقادة وأحسن ما صنع من هذا القبيل لرجل إسكافي بيع مؤخراً من إمبراطورية ألمانيا. ونحو سنة 1870 ظهر جول شيريه وكان آية في فن الإعلانات ورسمها وجاء بعده غراسه الذي برع وأي براعة في نقش الزجاج وجلود الكتب والبطاقات فانتشر فن الإعلان عند الفرنسيس سنة 1890 وعنهم شاع في إسبانيا وألمانيا وبلجيكا وإنكلترا كم شاع في أميركا وهكذا كان تفنن الإفرنج في الإعلانات حتى صار

البارع في وضعها وصنعها يعد من المفضلين عَلَى الإنسانية مثل مخترع الطباعة ومخترع البخار ويعيش عيشة حسنة بما ينهال عليه من الأجور والرواتب.

التربية الاجتماعية

التربية الاجتماعية أخواني الأعزاء لا بد أنكم قرأتم أموراً كثيرة عن ذلك الفيلسوف الإنكليزي الشهير داروين. اصطدمت مخيلة هذا العالم الطبيعي صاحب الفكر الثاقب والنظر النافذ بحادثة فجائية تجلت أمامه أينما حل وحيثما ذهب، حادثة عامة وجدها تتناول جميع ما يدخل تحت عنوان الحياة نباتاً كان أم حيواناً: تلك الحادثة، كما تعلمونها عي التنازع عَلَى البقاء أو بتعبير أخص من عزم عَلَى محافظة حياته. وجب عليه أن يتجهز لرد طوارق الحدثان التي لا بد من أن يصطدم بها في كل آن. جلبت نظره تلك الحادثة العامة فابتدأ من ساعته يبحث عن دواعي ذاك النزاع والأسباب التي تؤدي لتقوية بعضهم وتفوقهم وإضعاف الآخرين وتقهقرهم. فمكن جملة الأسباب التي وجدها، الصبر عَلَى شدائد الطبيعة، والتفوق من جهة الاقتدار المادي والمعنوي، وتزايد النسل عند فريق أكثر من الآخر غير أنه لم يقف عند هذا الحد بل واصل البحث والتنقيب حتى ظهر له بأن نتيجة هذا النزاع الدائم بين العناصر الحية هو بقاءُ الأنسب في العالم وأن السيادة مع تقلب الزمان تبقى في أيدي أولي العزم والتدبير فوجد عَلَى توالي الأيام أن الضعيف محكوم عليه والقوي حاكم، أو بعبارة أقرب إلى الحقيقة، الضعيف يموت والقوي يسود. فهذه حقيقة قد أيدها علماء كثيرون قبل داروين، وفي جملتهم الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد فإنه قال: (ليس عَلَى الضعيف عَلَى مر الأزمان إلا حالتان، إما أن يموت مذلولاً وإما أن يتمثل بأقوى منه فيكتسب صفاته وبذلك يقوى فيسهل عليه النزاع مع معامع الحياة) ولكن داروين، أيها الأخوان، لم يكتف بإثبات ما ذكر بل تدرج من القانون العمومي، قانون بقاء الأنسب، وظهر بنظريته المسهورة التي طالما تجاذبتها العقول وتشاحذت بها القرائح والأذهان وهي: الارتقاء في العالم. سردت لكم أيها الأخوان هذه العبارات لا لأنني أريد شرح نظرية ذاك العالم المدقق، ولو أردت ذلك حقيقة لأضحككم حالي لعلمكم أن الوقت ضيق جداً وأن شرح تلك النظرية يتوقف عَلَى معرفة مسائل جمة لا تدخل في موضوعنا كما أني لست بقادر عَلَى إتيانها، وإنما أردت أن أذكركم والذكر لا تنفع، أن الحياة ليست كما يتوهمها كثير منا. فالطفل لدى

خروجه من حجر أمه يقع في ارتباك ظاهر لما يتهاجم عليه من العوارض الكثير: فلمسة يد تؤذيه ولفحة قر تؤثر فيه. فيربو وينمو بين حرص الطبيعة وصعوبة المعيشة وكلما تقدم في السن كثرت احتياجاته وتراكمت عليه المشاكل وتضاعفت عَلَى جانبيه الرقباءُ حتى إذا ما أراد شيئاً وجد ألوفاً مع الموانع تزاحمه. فهذه المناقشة أو بالأحرى هذا النزاع والتزاحم يتجلى بكل سعته وشدته عندما يخرج الإنسان من المدرسة إذ يكون حينئذ قد قبض عَلَى زمام إرادته وافلت من الحماية العائلية فيدخل إذ ذاك في حياة جديدة يطلب الرغيف والزاد متكلاً عَلَى قوة ساعديه وقيمة كسلبه فالوسط الذي يلجه يجد فيه أناساً كثيرين يزاحمونه عَلَى مرغوبه ويحولون بينه وبين مطلوبه. وهناك الطامة الكبر إذا لم يكن قادراً عَلَى دفع المشكلات وإزالة العثرات. فحالة الأمم في وقتنا هذا لا تختلف عن حالة الأفراد إن لم تكن أشد وطأة وأعظم خطراً. فالأمة لا تنظر إلى حقائق الأمور بعين الاعتبار وتهمل نفسها بمجاراة مجاوريها في سبيل الرقي الأدبي والمادي تمسي ولا شك متدهورة في هاوية الدمار من حيث لا تشعر تختار السر وهو أشأم أصناف الانتحار وأفظعه. قلنا أنه يجبعلى الأمة أن تنظر إلى عواقب الأمور وتسعى بكل جهدها وطاقتها وتستعمل جميع الوسائط لترقية أبنائها لا لترقيتهم بصورة مطلقة إذ أن ذلك لا يكفي، بل لإيصالهم إلى درجة يقدرون بها، بواسطة التعاون والتضامن بينهم، عَلَى الاحتفاظ بحريتهم وشخصيتهم لا جرم أنكم تعلمون أيضاً أن بعض الأمم في حالة من الرقي تختلف درجاته غير أن الرقي النسبي لا يجهل أحد منكم أن فرنسا تجتهد كل الاجتهاد لتزييد نفوسها ويحق لها أن تضطرب كل الاضطراب في الوقت الحاضر. أو بينا ترى نفوسها تزداد مائة وثلاثة آلاف في خمس سنين أي من تاريخ 1905 إلى 1909 فألمانيا قد زادت في الوقت نفسه، بما يربو عن الأربعة ملايين ومائتين وسبعة وأربعين ألفاً في حين أن إنكلترا وعدد سكانها 36 مليوناً ما عدا نفوس إيرلاندا واسكوتلاندا قد زادت سنة 1909 فقط بما يقدر بأربعمائة وثلاثة عشر ألفاً فالزيادة المطلقة التي وقعت في فرنسا في هذه المدة هو سبب ضعفها لعدم كفايتها بالنسبة لمجاوريها فهذه الزيادة العظيمة في ألمانيا تدعوها إلى أن تزيد عسكرها إلى 700 ألف مقاتل في وقت السلم وأن تتداخل في مسائل أغادير وغيرها

مضطرة لا مختارة وتحتل أصقاعاً جديدة لتعينها وقت الشدة. ذكرت لكم هذه الأمثل لألفت نظركم إلى أننا في ضيق وأن الوقت حرج جداً ومن ضيع الفرصة لا ينفع أن يعض أصابعه ويندم حيث لا ينفعه الندم. فيكتفي بمدح ماضيه ويعقد يديه أمام المستقبل. فمن أحب وطنه وعشقه حقيقة وجب عليه قبل كل شيء أن يصلح نفسه ويزينها بالعلوم العصرية ثم يفكر بأن هناك أمة له عليها حقوق عديدة منها حق بقائه فيجتهد إذ ذاك للقيام بواجبه نحوها وإيصالها إلى درجة الرقي والإسعاد، درجة تمنحها حق البقاء بين الأمم الحية. أخواني، لا تظنوا بأني أعرض بالذين يفاخرون بماضيهم لأني أعتقد أن الإنسان لا يمكنه تسلق سلم المعالي إلا إذا عرف نفسه ومعرفة النفس لا تتم إلا بمعرفة الآباء والأجداد وما تركوا من الآثار. لأن الإنسان ليس ابن يومه بل ربيب أمه وأن هناك سلسلة تربطه، شاء أم أبى بالماضي. وما أصدق ما قاله الفيلسوف الشهير رنان الأمة مؤلفة من أمواتها أكثر من أحيائها فمن أراد خدمة أمته كان جديراً بأن يبحث عن ماضيها ويدرس تاريخها ويكشف التراب عن تلك الجذور التي تسنده في حياته دون أن يراها ثم يستعين بها لخدمة مبدأه وتعزيز غايته، غير أنني قصدت بقولي إذ ذاك من يتحمس مفاخراً بقوميته مع أنه يجهل أصلها وفرعها يجهل رجالها وآثارها، قصدت بقولي من يصرخ دائماً، أمتي، أمتي، كانت صاحبة علم ومجد، صاحبة مدنية عظيمة، أوليست هي مهد المدنية الغربية؟. . . . وكلها جمل مفخمة سمعها من رفيقه واكتفى بتردادها في كل محفل ومحضر دون أن يفكر بأن الألفاظ لا قيمة لها إذا لم تستند عَلَى دلائل علمية وأدلة حية. من حب أمته فليبحث عن أحوالها وآثارها وليجتهد في تلقيح ما هو موفق من المدنية الغربية فيها. نحن العرب، يقال عنا أننا أذكياء، فلو سمعنا بهذه القضية أليس يجدر بنا أن نفهم الآن أننا في القرن العشرين، قرن الجهاد المتمادي والسعي المتوالي وإن الذكاء وحده لا يكفل للإنسان حياته إذا لم يأخذ بالأسباب بإرادة أشد من الحديد. نعم عن هذه الصفات صعبة المنال غير أنه يجب عَلَى الإنسان أمام المصاعب أن لا يقنط إن الأمة لا تعمد عَلَى حالها وليس لها ثقة بأفرادها تكون قد أساءت الظن بنفسها ومن أساء الظن بنفسه تدرج إلى اليأس وهناك الطامة الكبرى إذ ليس بنتيجة اليأس إلا الفتور والخمول.

فحينئذ يجب عَلَى كل أمة أن تنتبه كالأفراد إلى شخصيتها وتتأهب إلى يوم معلوم. يوم لا بد أن تختبط مع غيرها فيه فإذا كانت خبيرة متيقظة في أمورها حازت قصب السباق وإلا وقعت كما هي حالتنا الآن في هوة الذل والهوان. تذكرون ولا ريب قول ذاك الحكيم الاجتماعي مونتسكيو بحق القوة: القوة تجري إلى أن تجد مانعاً فيصدها فهذا القول ينطبق عَلَى جميع القوات طبيعية كانت أم اجتماعية. أليست تشكلات أوربا السياسية وتجمعها حول الاتفاق والائتلاف مستندة عَلَى هذه النظرية أوليس ضعفنا وتشتت شملنا هو الذي أطمع الحكومات البلقانية أن تزحف علينا بقواتها وترغب في ابتلاعنا. التساهل بالأمور وحسن النية والاتكال عَلَى الغير أمور لذيذة. لأنها هينة التناول ولكن يا للأسف إننا نرى السياسة متلونة ولا تلون الحرباء لا ثقة بها مطلقة. وما التساهل وحسن النية بالأمور إلا بلاهة ومسكنة. كنت أظن أننا قد اعتبرنا بما قد أتى عَلَى رؤوسنا من الدروس التي أوشكت أن تضي علينا بتاتاً، كنت اظن أنه لم يبق أحد في المملكة العثمانية إلا وقد اعتبر بما انتهت إليه سياستنا العنصرية التي بعثرت قوانا وكادت تفرق قلوبنا بعضها عن بعض ولكني وجدت ويا للأسف - بالرغم عما كنت آمل - منشئاً يكتب السطر الآتية في جريدة تنشر في العاصمة: العناصر المختلفة التي تعيش في السلطنة العثمانية لا يمكنها أن يكون لها قوة نافذة بجانب العنصر التركي. منذ خمسة عصور ونحن عائشون تحت عنوان العثمانية، ففي القرن العشرين ينبغي أن نعيش تحت عنوان الترك؟. لم اذكر لكم معشر الشبان الكرام هذه الأمثولة إلا عَلَى سبيل الاستطراد وليس جديراً بالإنسان أن يغالي بسوءِ الظن، لأن التسامح واجب والتعاضد ضروري خصوصاً في الهيئات الاجتماعية - غير أنه ينبغي علينا أن لا يحسن الظن بما يستحقه وأن ينظر إلى المستقبل بعين الدقة خصوصاً إذا كانت حياة أمة في موضع البحث وأن يعتمد عَلَى نفسه واجتهاده وعند الحاجة يكون مقتدراً عَلَى العمل بوصية الشاعر: وإذا بليت بظالم كن ظالماً ... وإذا لقيت ذوي العدالة فاعدل أخواني الكرام، أريد الآن أن أتكلم عن التربية الاجتماعية أو بالأحرى عما تحتاج إليه التربية الديمقراطية.

والذي دفعني لتخصيص هذا البحث في هذا الموضوع ظاهر عَلَى ما أظن. لأن هذا الفرع من التربية هو الذي شغل أكثر المفكرين لتناوله جميع الأفراد وله في وقتنا الحالي مكانة عظمى عند الأمم الراقية. إن الوقت الذي كانت تستعد به الأمم بمجيءِ رجل ذي دهاء يتولى أمورها قد قل حظه وسيدفن عن قريب بين صفحات التاريخ وإن الدور الذي كان الأمر فيه بيد شخص واحد يتصرف كيف يشاءُ قد مضى وانقضى وها نحن الآن في زمن، لصغير القوم وكبيرهم حقوق يطالب بها ووظائف يدعى إلى القيام عليها، يشترك برأيه بمهام الأمور ويضع إصبعه في كل مسألة تتعلق بحياة أمته وارتقائها فمن ثم وجب عليه أن يكون قادراً عَلَى تمييز الغث من السمين ليفيد الهيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها بسعيه وعلمه. هذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية قدرتها المم الغربية حق قدرها وهي تشتغل ليلاً ونهاراً بتطبيقها، بنشر العلم وتعميم الفائدة بين جميع أبنائها حتى يكون كل فرد مفيداً لأمته برأيه وسعيه وعلمه وماله. إن من الأفراد من يعلقون آمالهم وترقية أمتهم عَلَى حياة شخص واحد. إن الأمة التي لا يمكنها أن تكون معجن الرجال والتي تعلق شقاءَها وسعادتها عَلَى شخص واحد ليس لها الحق في أن تدخل مصاف الأمم الحية. الأمة الحية هي من إذا فقدت بالمرستون أتاها بيكونسفيلد ومن إذا أضاعت بيكونسفيلد داءها غلادستون ثم شامبرلين، فساليسبوري، فالبسفور فاسكويس من الرجال الدهاة والأمة الحية هي التي تملك أمثال هؤلاء الرجال ولا يهمنا إذا سقط واحد فإن هناك جماً غفيراً قادراً عَلَى أن يخلفه. فالروح الأساسية هي التي تأتي بالأعمال العالية هي روح الأمة من حيث المجموع ولا تظنن أن بسمارك كان يمكنه أن يفعل ما فعل ويوحد العنصر الجرماني تحت يد واحدة لو لم يكن مستنداً عَلَى أمة غذاؤها العلم والانتظام وأعني بهما التربية المدرسية والروح العسكرية ولا تظنن بأن تيير الفرنسوي كان يستطيع دفع الخمسة مليارات ويخلص وطنه بمدة وجيزة لو لم يكن وراؤه أمة تعودت الاقتصاد وتأصلت فيها مزايا الاستثمار. فحري بنا نحن أبناء العرب أن نقتفي إذا أردنا لنفسنا حياةً حرةً أثر تلك المم وأن نبث روح التربية الديمقراطية بكل صقع من أنحاء جزيرة العرب وسورية.

إن الأخصائيين في هذا الفن قد عرفوا التربية بصور عديدة فقال الفيسلوف الألماني (كانت) التربيثة تنمية الصفات الكمالية في الإنسان بقدر ما تستطيع طبيعته أو بقدر ما يتحمل استعداده. وتقول مادام نكور دوسو سور وهي آنسة اشتهرت بهذا الفن: تربية الطفل، هو إيصاله الحالة يقدر بها أن يفي بوظائفه الحيوية بأحسن صورة، ويرى هربرت سبنسر أن التربية هي إحضار الطفل للحياة الكاملة، وعرفها جيمس ميل الفيلسوف الأميركاني هكذا المقصد من التربية هي جعل الطفل آلة سعادة لنفسه ولغيره. وبعد فإن جميع ما ذكرناه من التعاريف في التربية يتعلق بغايتها لا بذاتها ويخلو أحدها من الإبهام. لأنه إذا سئلنا ما هي الحياة الكاملة وما هي السعادة يصعب علينا أن نجاوب جواباً شافياً لأن هذه الكلمات تدل عل أشياء نسبي لا يمكن حصرها ثم فهمها. عرف جان جاك روسو التربية بذاتها فقال: التربية هي صنعة لتنمية الأطفال وإعداد الرجال فحسن هذا التعريف أنه قصير ومختصر غير أن قصره المفرط ولد فيه نوعاً من الإبهام. ولذلك أرجح التعريف الآتي وإن كان مطولاً غير أنه يدل عَلَى المقصود ويؤلف بين التعارف التي ذكرناها التربية هي مجموع الأعمال المفكرة لمعاونة طبيعة الإنسان في ترقية خصائصه الجسمية والعقلية والأخلاقية، بقصد تكامله وإسعاده وإيفاء وظيفته الاجتماعية فهذا التعريف يجلو للأنظار بأن التربية ينبغي لها أن تنطبق عَلَى الصفات الثلاث المتمم بعضها بعضاً في الإنسان وهي الصفات الجسمية والفكرية والأخلاقية. أستأذنكم أن أتبع كلمتي في التربية الديمقراطية بما يتعلق بالمعلومات الأساسية والصفات الفكرية والإرادية التي يجب أن تؤسس في عقل الطفل من حيث أنه عضو فعال وأن يكون بحثي بصورة خاصة في الولد الذي دخل مدرسة لتكميل ما تعلمه لأجل ذلك خصصت بحثي بالتربية وتركت تربية الأسرة والتربية اللا مدرسية (إن صح التعبير) أي التربية الذاتية بعد الخروج من المدرسة. ولي بذلك مأرب يهم الحياة العربية. لا بد أنكم اطلعتم عَلَى بعض المقالات التي نشرت في المدة الأخيرة عَلَى صفحات الجرائد في دمشق تحت هذا العنوان المبادئِ العالية فتوالت المقالات عَلَى إثر انتشار المقالة الأولى حتى ظن أنه يوجد اختلاف بين آراء الكتاب في هذا الشأن ولكن الخلاف لم يكن إلا اختلافاً وهمياً لمن ادعى أنه لا صلاح إلا بإصلاح الأسرة فقد نطق بالصواب لأن العائلة

عَلَى التحقيق هي أساس كل جمعية وقوامها. غير أنه إذا سئل كيف تصلح الأسرة، فماذا يكون إذاً الجواب؟ أيتمكن الأبوان أن يتوفرا عَلَى تربية ابنهما أو بنتهما مع أنهما لا يفقهان ما هي التربية وما معناها، وهل يكفي أن يلقن الآباء والأمهات معنى التربية بواسطة المحاضرات والمؤلفات والجرائد وهل هم يحسنون القراءة وإذا قرؤ أو توصلوا لفهم معنى التربية هل يتمكنون من تطبيقها وهل يمكننا أن نغير طبائعهم وعاداتهم بعد أن وصلوا إلى تلك السن ونعلمهم الثبات والدوام في العمل لأجل أن يتيسر لهم اقتطاف الثمرات أن يمكننا أن ندخل البيوت ونأخذ النفس بتربية الأطفال. كل هذا وهم باطل إذاً فلنوجه أنظارنا إلى المدارس لأن هناك آمالنا وهناك مستقبلنا هناك يمكننا أن نؤثر في الطفل وأن نغرس فيه بقدر الإمكان بعض الطبائع الحسنة ونعلمه الثبات والمضاء إنني لا أنكر ما للمؤلفات والمحاضرات من الخدم العظيمة بهذا الشأن كما أنني أعتقد أن تلك الخدم بالرغم من مكانتها ثانوية بالنسبة لتربية أمة كأمتنا. قلت أن المكتب هو الذي يجب أن يكون المبدأ لتربيتنا: لأن الولد الذي يتيسر له نيل تربية حقيقية في المدرسة يمكنه أن يؤثر في إصلاح أسره وأن يكون سبباً لإسعاد أولاده وترقية أمته في المستقبل. ولكن من لنا بأن يربى تلك التربية التي أشرنا إليها في مدارسنا. أولئك الرجال الذين يعلمون فيها الآن؟ فكفى بنا ذهولاً واسمحوا لي بأن أهتف إلى الغرب الغرب. لنرجع إلى موضوعنا أي إلى كيفية المعلومات الأساسية والصفات التي تتعلق بالفكر والإرادة والتي يجب عَلَى المعلم أن يلقنها تلميذه بصفته عضو من أعضاء هيئة اجتماعية وديمقراطية ولذا فلنبدأ بالتربية العقلية لأن التربية الجسمية المدرسية وضررها معلوم عند الجميع. قلت فلنبدأ بالتربية الفكرية لأن الطبيعة الأخلاقية في الرجل وإن كانت هي التي تعطيه القوة اللازمة لاقتحام المصاعب غير أن الذكاء هو الذي ينير طريقها ويعين لها وظيفتها. وعليه فلتربية يجب أن يكون أساسها العلم وأن تستند في جميع أوقاتها عَلَى مكتشفاته وأصوله الثابتة. لأننا في قرن الحقائق العلمية والخرافات الناشئة عن الجهل، التي تدرس في مدارسنا بدون أن يشعر بها المعلم هي لائقة بعصر كان للخرافات والتخريفات فيه حظ

وجال. فالعقل البشري في عصرنا هذا خاصة لا يطأطئ لسهولة أمام البداهة العلمية. ولكن ماذا يفهم من قولنا أن العلم يجب أن يكون روح التربية الفكرية في مجمع ديمقراطي؟ هل يمكننا أن نطلب من الخلق بان يملكوا كلهم فنون العلم بحذافيرها ويتمثلوا بها. كلا! فإن ذلك لا يدخل تحت دائرة الإمكان. وحيث أن الجمعية مرتبة من أعضاء مختلفين في استعداداتهم وطبائعهم فقسم منهم بطبيعة الحال يبرع مثلاً بالعلوم الاجتماعية وآخر بالعلوم الرياضية وآخر بالتجارة والصنائع والزراعة. . . الخ. وعلى كل منهم أن يكون عالماً في صنعة آمراً كان أو مأموراً وما العالم إلا من أخصى في شعبة من شعب الفنون الحاضرة فعليه ليس المقصد، كما قال رنان، أن يكون كل الأفراد علماء بل المقصد أن يشترك الكل بثمرات العلم أو بعبارة أجمل كما قال نوسيديد ليس المقصود أن يكون فرد قادراً عَلَى حل كل المعادلة بل يكتفي أن يقتدر عَلَى إدراك النتيجة من حلها. فعليه ماذا يترتب لاستحصال هذه النتيجة العامة التي يجب أن تشمل الجميع بدون استثناء؟ أو بعبارة أخص وأوضح ما هي الأمور الضرورية التي يلزم نشرها بين جميع أبناء العرب تلك الأمور ثلاثة. أولاً نشر الحد الأصغر من المعارف الأساسية بين جميع أبناء الناطقين بالضاد ثانياً تأسيس عادات فكرية حسنة ثالثاً نشر بعض المعلومات التي تتعلق بالاكتشافات الفنية. الحد الأصغر الذي يجب نشره من المعارف لا يمكن تحديده بصورة قطعية، لأنه يتغير بتغير الأحوال والاستعدادات فمنهم من يبرعون ومنهم من يتأخرون غير أن القاعدة العامة هو أن يبتدأَ بنشر المعلومات الابتدائية التي هي بمثابة الآلات الضرورية لترقية الفكر في المستقبل كالقراءة والكتابة وبعض قواعد اللسان العربي والحساب بإضافة بعض المعلومات التي تتعلق بالتاريخ وبما يحيط بالإنسان إذ لا بد لها لمعرفة الماضي والحال وإنارة طريق المستقبل فإذا دعمت هذه المعلومات الابتدائية بصورة مختصرة معقولة وبواسطة المدارس عَلَى الخص تمكن الرجل من أن يوسع معارفه فيما بعد بدرس المؤلفات وسماع المحاضرات هذا إذا لم يدخل في إحدى المدارس العليا ولم يساعده الحظ عَلَى إتمام عقبات التعليم. غير أن المقصد الأساسي من تلقين هذه المعلومات الابتدائية يلزم أن ينصرف لتأسيس

عادات وطبائع فكرية حسنة بحيث يكون الرجل صاحب فكر سليم في جميع أفعاله ومحاكاته وأن يتعود فهم الحقائق بدون أن ينخدع بالظواهر وأن يرى، كما قال المسيو ألفرد كروازي، مدير كلية العلوم الأبية بباريس، من وراء الكلمات المعاني، ومن وراء المعاني، الأشياء بذاتها. المقصد من المعرفة أن يستطيع الإنسان فهم الحقائق والحكم عَلَى الأشياء لا يتيسر إلا بالاطلاع عَلَى كنهها ومعرفة القوانين التي تدار بها. سلامة الفكر تقتضي نفوذ النظر وشدة الثبات لنيل المقصد والذي يجب أن يولد عند الطفل الميل لمعرفة الحقائق لأجل أن يستخدمها، يجب كما يقول ديكارت الفيلسوف، أن نتمثل بالأشياء بدل من أن نقودها بميولنا الهوائية. الطبيعة لا تنقاد لمن يغضب عليها بحمق وجهالة، لأن الغضب وسواه عندها سواءٌ. وماذا يا ترى، نفع كيكاوس عندما أخذ السوط بيده وجلد به البحر ليؤدبه عَلَى هيجانه أمامه. فعليه يجب علينا أن نعود الطفل النظر في الأشياء بعين البصيرة والتروي وأن نولد عنده طبيعة البحث عن حقائق الأمور والمثابرة عَلَى العمل ليتلذذ بثمراته. قلت أن المثابرة عَلَى العمل والبحث ضروريان لكل شخص إذا أراد أن يتمتع بثمرات حياته ويا للأسف معاشر أبناء الشرق واخص أبناء العرب تنقصنا هذه الفضيلة الاجتماعية؟ لأن لذة التحصيل ومعنى الحياة لم تمازج أرواحنا فالذي يخرج منا من إحدى المدارس العالية يعد نفسه أنه وصل إلى منتهى الكمال في العلم؟ فيعقد يديه ويتمدد عَلَى سريره كأنه بلغ الغاية القصوى. هذه حالتنا الآن وهذه حالتنا في زمن ليس بقريب. درس كلوت بك أحد المستشرقين أخلاق العرب عَلَى عهد محمد علي باشا الكبير بمصر وسورية فامتدح منهم وأعجب بذكائهم وسرعة انتقالهم وقال إنهم لا يقصرون عن أبناء الغرب شيئاً غير أنهم يملون بسرعة ولا يداومون العمل بصورة جدية. فهذه الخصلة، أيها الأخوان، من أتعس النقائص الاجتماعية في زمننا هذا ولقد ثبت أن الألمان لم ينجحوا ويبرزوا أكثر الأمم إلا لأن هذه الصفة امتزجت بطبائعهم وقبضوا عليها أكثر من غيرهم. فيمكننا نحن العرب، والأمثال عديدة احتذاء مثال الناهضين بأن نعطي للحياة حقها ونتخلق بهذه الصفة الضرورية لنا إذا أردنا أن نخدم أنفسنا ونقوم بأمتنا. بقي عليّ أن أقول كلمة في القسم الثالث ألا وهي الأفكار العامة التي يجب أن تلقن للطفل

في صغره. أول شيءٍ يمكننا أن نعلمه للطفل أن يعرف شخصه ومن هو وإلى أي أسرة ينتمي، وبأي لسان أمة ينطق ومن هي تلك ألأمة التي يرتبط بها بعاداته وطباعه ثم ننتقل به إلى الأمم الأخرى بحيث تدخل في ذنه النقطة الأساسية وهي الفرق بين الماضي والحاضر فنشا له بذلك فكرة عامة وهي فكرة الترقي الدائم في العالم. يلزم أن يعرف أن العالم لا يتبع الأهواء والأهوية في تقلباته ودورانه بل هناك نظام وقوانين يدار بها يخضع لها لا بد أنكم توهمتم بعظم هذه التعابير التي ذكرتها كالرقي الدائم والنظام في العالم، وسألتم أنفسكم كيف يمكن تلقين ولد حديث السن فهم هذه الحقائق العالية ولربما ضحك بعضكم في سره من هذا الفكر. نعم ليس المقصد أن يدخل المعلم في تفاصيل هذه المسائل لأنه يستحيل عليه إفهامها كلها للطفل ولكن يمكنه أبداً أن يوضح ما أشرنا إليه بيان الخطوط الأولى فقط المدونة في التواريخ والكتب الاجتماعية. وعلى وجه الاستدلال أريد أن أنقل لكم عبارة للمؤرخ العالم الكبير المسيو لافيس أحد أعضاء المجمع العلمي بباريز قال: إن التقلبات التي أتت عَلَى الإنسانية مرئية محسوسة ولا حاجة للإنسان لأن يكون عالماً نحريراً أو فيلسوفاً كبيراً ليتمكن من التوقف عَلَى سرير الروح البشرية التي تقلبت بين الأعصر الغابرة لا يكتف المعلم بتفهيم شروط الحياة بين الأدوار المهمة فقط وليقل مثلاً أن الإنجيل يفرق بين كليتمنستر ولاسيل وأتالي لرسين والحروب الصليبية بين أشيل والسيد والصليب بين أفلاطون وباسكال ويبن الفروق الأساسية بين القسمين فعندها يحس الولد من نفسه بأنه منقاد بتاريخ الإنسانية عَلَى الدوام. وفي الوقت نفسه يقوده معلم التاريخ من الجمعيات الابتدائية إلى أن يوصله إلى الجمعيات الحاضرة بشرط أن يوقفه عَلَى الأصول ويهمل ما دون ذلك من الفروع. وبديهي أنه لا يمكن استحصال هذه الشروط ولا يتيسر توسيع الفكرة وإنارة الذهن إذا لم يكن هناك حرية فكرية مطلقة. فالحري هي غذاء الفكر وقوامه وبدونها يصبح الفكر كالعضو المعطل عن الحركة فبعد أن يمضي عليه مدة من الزمن يتحضر ثم يعجز عن الإتيان بعمل واحد أحب أن أذكر لكم هذه الأمثولة التاريخية بهذا الشأن. دخلت الدجة دورليان ذات يوم سنة 1842 ومعها ولدها عَلَى فيكتور هوجو وسألته ماذا

يجب أن تعلم ولدها فقال: يجب أن تعلميه أن فرنسا تقيد العالم بأسره وأن الذكاء يقيدها. ماذا كان القصد من هذا الجواب يا ترى؟ القصد، هو أنه إذا ساعد الحظ ابنها الدوج دي باري وجلس عَلَى سرير السلطنة بعد والده لوي فيليب، يعرف أن الفكر حاكم عَلَى كل شيءٍ وأن مراعاته واجبة حتى عَلَى الملوك فبالحقيقة لا يقف شيءٌ أمام الإنسان إذا كان متبصراً مستنداً عَلَى حرية الفكر وقوة الإرادة. وهاءَنذا أختم حديثي بكلمات عن التربية الأخلاقية فأقول: تعرفون ولا بد أن قسماً من الأخلاق تكون عَلَى مدى الأزمان وسير الأيام بصورة قطعية فالمذاهب والأديان العالية كلها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر مثل: يلزم عليك أن تطيع والديك وتع ين جارك وتحافظ عَلَى ح رمتك وتصبر عَلَى الأجن والآلام وتفتش عن السعادة باكتساب الفضائل فهذه الأحكام هي أحكام ثابتة، تتعلق بغايات عالية وبمقاصد شريفة. غير أن هناك صفات أخرى من الأخلاق بالنسبة إلى التشكلات الاجتماعية الحاضرة يجب أن تضاف إلى القسم الأول وأن ترسخ في عقول الأطفال وهذه الصفات تدعى بالأخلاق المدنية فأريد أن أجعلها كلمتي الأخيرة. المقصد من الخلاق المدنية مزدوج فمن جهة، هو توليد فكر الاستقلال الشخصي في الطفل وجعله قادراً عَلَى أن يأتي بأعمال شخصية مثمرة، من الجهة الأخرى السقاءُ حسن التأليف بين الأعمال واستقلال الإرادة وسوقها إلى هدف معين. فالمراد من الأول هو الشخص ومن الثاني الجمعية. فالأول يقوي الفرد عَلَى السعي والعمل والثاني يحمله عَلَى إشراك مساعيه مع غيره فنقول بذلك لتأمين منفعة الشخص ومنفعة الهيئة الاجتماعية معاً. ولا شك بأنه يتيسر للأمة رقيها ونجاحها إذا كان الأفراد أقوياء متقدمين عَلَى فكر التعاون والتضامن. الرجل القوي صاحب الاستقلال الشخصي والجرأة المدنية هو، عَلَى مذهب سقراط، من تغلب العقل فيه عَلَى الأميال والذي إذا تحقق لديه عمل نافع وغاية شريفة مشى نحوهما بقدم ثابتة دون أن يبالي بكثرة الموانع وازدحام المهالك. المستر روزفلت، رئيس جمهورية أميركا الشمالية سابقاً، هو مثال مجسم في هذا الشأن ومن درس حياته ومناقشاته الاجتماعية إلى الآن يدرك أنه هو ذاك الرجل الذي يقول في كتابه (الحياة المتينة): الأمة لا يمكنها النجاح إذا لم تعود أولادها بذل الجهد. لا لاجتناب

المصاعب، بل لقمعها، ولا للبحث عن الراحة فقط، بل عن معرفة إحراز الظفر من أيدي المشاكل والمخاطر. يجب عَلَى الرجل أن يفرح إذا أتى بعمل الرجال ويسر إذا تجرأ عَلَى تحمل الصعوبات وكد وجد وحافظ عَلَى نفسه وعل من يلوذ به، يجب عَلَى المرأة أن تكون مديرة لبيتها، رفيقة لزوجها، عاقلة لا تجزع من كثرة الأولاد الأقوياء الأشداء حولها. فرجاؤنا إلى أبناء العلم والتعليم عَلَى الأقل أن يبذلوا الجهد في إنشاء هذه الصفات العالية بين الناشئ الجديدة ومن يليها. ويكفي أن يكون الأفراد أقويا إذا لم تنور أفئدتهم بحب المنفعة العامة وتعلق آمالهم وغاياتهم برقي الشعب الذي يرجعون إليه؟ الرجل المتفرد لا قيمة له وما قيمة المرء إلا بقيمة الهيئة الاجتماعية التي ينتسب إليها. وهل ينكر أحد أن مبدأ الترقي والمدنية هو التعاون والإخلاص المتقابل بين الأفراد! ليست هي الجمعية التي تحمل الفرد أن يتجول بكل حرية ويظهر استعداده ولياقته أينما كان. إذاً عَلَى كل فرد أن يحب أمته ويسعى لإرضائها وإسعادها، تلك الأمة التي ضمته إلى حجرها ضمنت له الحياة ثم دربته إلى أن تيسر له استنارة مداركه وأعماله. الرجل الذي تبرأ من أمته ويهمل أمرها بعد أن أخذ غذائه منها هي ولا شك، غنية عنه وعن أمثاله ومن يقدر المنفعة العامة ويخدمها ولو كان ذلك يؤدي في بعض الأحيان إلى ضرره الذاتي، فهو مبجل في جميع الأزمنة في نظر أمته ونظر الإنسانية. حكمت أثينة ظلماً عَلَى سقراط بشرب السم. فبدلاً من أن يركب العار ويفر من قانون أمته رضي بحكم الجمهور وتجرع كأس المنون صابراً غير جازع فحب الأمة وحسن المفاداة بمنافعنا الحسيسة بحبها يجب أن تنير أفئدتنا ويعلي مقاصدنا وما أحسن ما كتب عَلَى نصب قبر أحد أولئك الأبطال الذين فادوا بأرواحهم في حرب ترموبيل حباً بأمتهم: أيها العابر اذهب وخبر إسبارطة إننا لم نمت في هذا المكان إلا حباً بإعلاء شرفها وتأييد حريتها! وهل فعلت الأعراب أقل من ذلك وما السائق الذي دفع طارق بن زياد أن يحرق المراكب وينادي بعسكره: الموت أو الظفر، وما الذي ساق محمداً المنصور الوزير الأندلسي الشهير أن يتمدد عَلَى الطريق ويصد الفارين بنفسه إذا لم يكن حب الوظيفة وحب الأمة والوطن. الفضيلة التي تأمر الإنسان أن يضع نفسه دون مبادئه العالية هي من أول الفضائل التي

سطرها التاريخ عَلَى صفحاته. فلنجد أيها الأخوان، لاكتسابها فإن لنا باكتسابها الفوز العظيم.

ترعة السويس وتجارة الشرق

ترعة السويس وتجارة الشرق عرف أن التجارة أول نشأتها لم تتجاوز البحر المتوسط بل حصرت في سواحل فينيقية وبلاد الكلدان والعربية وغيرها من بلاد المشرق أيام توفرت لديها المعارف والعلوم وأينعت فيها ثمار الصنائع والفنون حتى صارت محط رحال التجارة بين المشارق والمغارب وزينة الأموال وموارد الخيرات والمكاسب ويهرع إليها الفاتحون من كل فج وصوب ليشاطروها الأرباح العظيمة ويسلبوها الصنائع العجيبة ويتهافت عليها الغزاة تهافت الفراش عَلَى السراج ولكنهم ما كانوا ينتفعون بذلك بل كان تهافتهم وبالاً عليهم في كل آن. وبقيت شآبيب المرابح والخيرات تنهل عَلَى الشرقيين فتتدفق عليهم سيول الثراءِ من سحاب الكد والجد إلى أن نظر إليهم الزمان بعين ملؤها الحسد فألهم الإفرنج أن يكتشفوا طريقاً جديداً إلى الهند فآل الأمر إلى فاسكودي غاما ذلك الرجل العظيم الذي وجد طريقاً حول رأس الرجاء الصالح وحوّل بذلك المشروع جانباً كبيراً من تجارة الهند والصين ليسقي به ربوع الغرب فارتشفت من معينه إنكلترا وإسبانيا والبرتقال وهولاندة حتى عمت الفائدة أغلب أقسام أوربا وبقي للشرقيين من ذاك الوقت جزء يسير من التجارة يطرد بطريق حلب ودمشق ومصر نظراً لما كانوا يملون أنفسهم من المخاوف والأخطار ويركبون الغرر والأهوال في طريقهم حول رأس الرجاء الصالح أو أفريقية واخذ يتزايد يوماً فيوماً إلى أن فتحت ترعة السويس سنة 1869 عَلَى يد دي لسبس المهندس الفرنسوي الشهير فدار بذلك دولاب التجارة وعم نفعها العالم غير أنها مع كثرة منافعها إليه ما كانت لتخلو من مضار للسلطنة التي فتحت فيها وذابت مهج رجالها في حفر رمالها وعطلت من أجلها تجارتها بل كانت منفعتها لمن قاوم أشد المقاومة ألا وهي السلطنة الإنكليزية التي استأثرت بأكثر فوائدها. أجل إن فتح تلك الترعة كان سبباً من أهم الأسباب لتوسيع تجارة العالم وامتدادها لكن الذين باشروا ذلك المشروع ومابدوا فيه عرق القربة قد قلب لهم الدهر ظهر المجن وتبدل نعيمهم بالبؤس كما يشهد لهم بذلك شرقي سورية وأسفل العراق ومدينة حلب التي كانت مركز المواصلات التجارية بين أوربا والهند فقد فقدت واردات تجارتها وعكس ذلك البصرة إذ صار لها بطريق السويس أوسع الأبواب لتصدير حاصلاتها كما تدل الآثار عَلَى ذلك.

كان طريق فاسكودي غاما إلى الهند حول رأس الرجاء الصالح طريقاً خطراً يتجرع فيه المسافرون كأس الضيم وتقتحم فيه السفن قحم الهلكات حتى كانت تتراخى مدة السفن الذاهبة إلى الهند فكانت تقضي في سفرها أكثر السنة ولم يكن وصولها معروفاً حق المعرفة ولذلك أجبرت التجار أن تخزن جانباً كبيراً من البضائع في مخازنها حذراً من أن لا يكون في مخازنها ما يفي بالمطلوب إذا ما أُعيقت السفينة عن الوصول إليهم في الوقت المعين. أما الآن وقد صارت مدة السفر ثلاثين يوماً لا غير فاستغنى التجار عن المخازن الكبيرة وابتدأت تطلب بضائعها من الشرق وهي عَلَى يقين من وصولها في الوقت المعين وزد عَلَى ذلك فإن نقل الحنطة من الهند واللحم من أوستراليا وزيلندا الجديدة لم يكن ممكناً قبل فتح الترعة أما الآن فقد صار من أوسع أبواب التجارة. وقد أدرك كثيرون من رجال عظماء العالم كرعمسيس ونخو ودارا هتاسب وبطليموس ونابليون وغيرهم مكانة تلك الترعة التجارية فحفر رعمسيس الثاني سنة 1300 ق. م ترعة وصل بها فرع النيل البلوسي بالبحر الأحمر وما كانت تصلح إلا لتسريب المياه وربما كان ذلك مقصده الأكبر. وعزم نحو سنة 600 ق. م عَلَى تتميمها لولا ما أنبأه العرافون أن بحفرها ينتفع بها أعداء بلاده وما قرره أيضاً مهندسوه من أن مياه البحر الأحمر أعلى من سطح مصر فخاف عندئذ عَلَى بلاده وتوقف عن حفرها بعد ما أهلك فيها نحو 20000 نفس من المصريين. ثم اشتغل بها دارا هشتاسب وبطليموس الثاني كما أنبأنا التاريخ فحفرا تلك الترعة وبقيت إلى أن ردمتها الرمال قبل أيام طريانوس فأصلحها في القرن الثاني وعادت الرمال فردمتها مرة أخرى إلى فتوح العرب من سنة 638 إلى 640 فأصلحها عندئذ عمرو بن العاص قائد جيوش عمر بن الخطاب وسماها ترعة أمير المؤمنين. ثم طمها بعده الخليفة المنصور أبو جعفر ثاني الخلفاء العباسيين ليقطع الطعام عن محمد بن عبد الله حينما خرج عليه في المدينة فبقيت مطمورة من ذلك الحين إلى أن احتفرها الحاكم بأمر الله من الخلفاء الفاطميين في مصر وجعلها صالحة للملاحة حتى ردمتها الرمال مرة أخرى وبقيت الآثار تدلنا عَلَى ذلك. ثم جاء نابليون إلى مصر ورأى آثار تلك الترعة فجال في خاطره أن يحتفرها فيقدر عندئذ أن ينقل جنوده إلى الهند فيجبر الإنكليز عَلَى الخروج من تلك الديار وهكذا عرض

مشروعه هذا عَلَى المهندس المسيو لوبير ووقع فغيما وقعت به المصريون من قبل وقال أن سطح البحر الأحمر أعلى من سطح البحر المتوسط بعشرة أمتار فإذا فتحت الترعة خشي من طغيان الماء. فبقيت المسألة عَلَى بساط البحث إلى أن قضت الأحوال بخروج نابليون من مصر فسقط طبعاً مشروعه وخرج وهو يردد هذه الكلمات: إن هذا العمل العظيم لم يقدر لي عمله ولعل الدولة العثمانية تسترجع عظمتها يوماً ما بإتمامه. وظل مهندسو ذلك العصر يعتقدون بارتفاع سطح البحر الأحمر عن البحر المتوسط إلى أن قام المهندس الفرنساوي الشهير بوردالو سنة 1864 وقرر ألا فرق بين ارتفاع البحرين فأنفذت فرنسا وإنكلترا والنمسا لجنة مؤلفة من المسيو تلايوت والمستر ستيفنس والسينيور بخرلي فتحقق الأمر عندئذ غير أن المهندس الإنكليزي لم يستصوب لسياسة فتح تلك الترعة ولخوفه انهيال الرمال عليها وخسارة الهند بذلك المشروع فعاد إلى وطنه وأضعف عزيمة مواطنيه فأثر فيهم كلامه وعدلوا عن إنشائها. وبقيت تلك المسألة موضوع البحث إلى أن قضت الأمور بأن يتم هذا المشروع الخطير عَلَى يد دي لسبس المهندس الفرنساوي بد أن استقرى طويلاً ووقف عَلَى فحوى ما ارتآه المهندسون في ذلك المشروع وعرف أن تجارة البلاد تتضاعف بها كل عشر سنوات. وهكذا آلى عَلَى نفسه بأن يفتح تلك الترعة فألف شركة غنية تحت عنوان (شركة ترعة السويس العامة) لتقوم لهذا العمل فذهب إلى الآستانة للسعي في هذا المشروع فلم يلق هناك إلا ما يميت الآمال ويثبط العزائم وهذا آب إلى بلاده خجلاً وبقي مدة في وطنه إلى أن بلغه تولية سعيد باشا عَلَى مصر سنة 1854 فأسرع إليه إذ كانت بينهما صداقة متينة العرى وأقنعه بوجوب فتح تلك الترعة التي بها يتوسع نطاق التجارة وتجر مصر ذيول الثراء فأثر فيه كلامه واقتنع بما قاله دي لسبس وعقد امتيازاً مع تلك الشركة يليه اثنا عشر بنداً أهمها أن مدة الامتياز 99 سنة تبتدئ من يوم فتح الترعة وعند انتهاء المدة تستلم الحكومة جميع أعمال الشركة فتقوم مقامها في كل عمل وأضيف لهذا البند بأن يجوز للشركة إطالة المدة أو تجديد الامتياز بشرط أن تزيد ما تدفعه للحكومة من صافي الأرباح وأنها (أي الحكومة) تأخذ 15 في المئة من صافي الأرباح عدا ربحها من الأسهم التي تكون لها والخمسة والثمانين الباقية من المائة يعطى منها 75 للمساهمين و10 في المئة للمؤسسين ثم

أن الشركة تعين بالاتفاق مع الحكومة المصرية ما يؤخذ عَلَى السفن من رسم المرور من الترعة ويجري هذا الرسم عَلَى سفن جميع الدول بلا تمييز. وفي 17 تشرين الثاني سنة 1869 فتحت الترعة لمرور المراكب فاجتازها خمسون سفينة باحتفال عظيم أعد فيه إسماعيل باشا معدات عظيمة ودعا إليه ملوك أوربا وأمراءها فصرف لذلك الاحتفال أموالاً طائلة كانت سبباً من أهم الأسباب لتأخر صندوق الحكومة المصرية في ذلك الحين. وهكذا ابتدأت الشركة ورأس مالها 200. 000. 000 فرنك مؤلفة من 400. 000 سهم سعر السهم 500 فرنك بعد ما تعددت عليها المعاكسات وتوقفت عن العمل مدة سنتين وحكموا بتلك المسألة إمبراطور فرنسا في ذلك العهد فرجع الأمر إلى من يقوم به وعادت الشركة للعمل بهمة ونشاط ونجحت نجاحاً عظيماً لم تنجحه قط شركة مساهمة مثلها. وبعد فإن ما أنفقه إسماعيل باشا عَلَى الاحتفال عند فتح الترعة 100. 000. 000 فرنك وهو السبب الأكبر الذي بعثه عَلَى بيه حصة مصر من أسهم السويس وهكذا سنة 1875 قد باع إسماعيل باشا تلك الأسهم وعددها 76602 من الأسهم ثمن السهم 500 فرنك فأسرع الكولونل ستانتن قنصل إنكلترا في مصر واشترها باسم الحكومة الإنكليزية بقيمة أربعة ملايين جنيه التي قدر ثمنها سنة 1906 بإحدى وثلاثين مليوناً من الجنيهات. وهنا يجاب أن يضاف اقتراح الشركة للحكومة ألا وهو أن تعطي الشركة للحكومة المصرية أربعة ملايين من الجنيهات مقابلة إطالة امتيازها وأن تقسطه أقساطاً أقساطاً يكون آخرها سنة 1912 وأن تعطيها أيضاً أربعة في المئة من صافي ربحها السنوي في العشر سنوات الأولى من سنة 1912 إلى سنة 1930 وستة في المئة في العشر سنوات الثانية وثمانية في المئة في العشر سنوات الثالثة وعشرة في المئة في العشر سنوات الرابعة و12 في المئة في المدة الباقية للامتياز أي سنة 1961 إلى سنة 1968 ثم تعطيها نصف صافي ربحها السنوي مدة الأربعين سنة التي يطال فيها الامتياز ولكن إذا قلَّ الربح سنة من السنين عن مئة مليون فرنك فالشركة تأخذ أيضاً أن ربحها 50 مليوناً والباقي للحكومة وإذا صادف في سنة من السنين أيضاً أن ربحها 50 مليوناً فالشركة تأخذ الربح كله ولا تتداخل الحكومة فيه.

ونظراً لما صار للحكومة من قسم الأرباح قد سمح لها أن يكون في الشركة عضوان نائبان عن الحكومة فيها وهكذا انتخبت الحكومة نائبين عناه يمثلانها في الشركة. وهذا بيان عدد البواخر التي مخرت الترعة في كل سنة منذ فتحها إلى سنة 1908 وبيان الرسوم التي حصلتها الشركة في كل سنة. سنة عدد البواخرالرسوم المحصلة بالفرنكات 186910 54460 1870486 5. 159. 327 1871762 8. 993. 732 18721075 16. 407. 591 18731173 22. 897. 319 18741264 24. 859. 383 18751494 28. 886. 302 18761457 29. 974. 998 18771663 32. 774. 344 18781593 31. 098. 229 18791477 29. 686. 060 18802026 39. 840. 487 18812727 5. 174. 352 18823198 60. 545. 882 18833307 65. 847. 812 18843284 62. 378. 115 18853624 62. 207. 439 18863100 56. 527. 390 18873137 57. 862. 370 18883440 64. 832. 273

18893425 66. 167. 579 18903389 66. 984. 000 18913207 83. 422. 101 18923559 74. 452. 436 18933341 70. 667. 361 18943352 73. 776. 827 18953434 78. 103. 717 18963209 79. 569. 994 18972986 72. 830. 545 18983503 85. 294. 769 18993607 91. 318. 772 19003441 90. 623. 608 19013699 100. 386. 397 19023708 103. 720. 020 19033761 103. 620. 268 19044237 115. 818. 479 19054116 113. 866. 796 19063975 108. 161. 896 19074267 116. 000. 096 19083795 108. 413. 410 بيروت حبيب جرجي كحالة

أوضاع الدولة الفاطمية

أوضاع الدولة الفاطمية مقتبسة من الدروس التي يلقيها الشيخ محمد الخضري مدرس تاريخ الأمم الإسلامية في الجامعة المصري الصناعة والأسطول الصناعة هي المكان الذي أعد لإنشاء المركب البحرية وهي بمصر عَلَى قسمين نيلية وحربية فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدو وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة فتمر من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد الروم والفرنج وهي التي كان يقال لها الأسطول وأما النيلية فإنها تنشأ لتمر في النيل صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض لحمل الغلال وغيرها. ولم يكن غزو في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الشيخين أبي بكر وعمر وكان عمر يكره الغزو فيه ويراه مخاطرة وكتب إلى عمرو بن العاص وهو عَلَى مصر أن صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهي خلافها فكتب إليه يا أمير المؤمنين إني رأيت البحر خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء وإن ركد حزن القلوب وإن أزل أزاع العقول يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة هم فيه كدود عَلَى عود إن مال غرق ون نجا برق. فقال عمر: لا والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً. وأول غزو فيه كان في عهد عثمان وأول غاز معاوية بن أبي سفيان أذن له به عثمان عَلَى شرط أن وينتخب الناس ولا يقرع بينهم فمن اختاروا الغزو طائعاً حمله وأعانه وغزا عبد الله بن سعد أمير مصر سنة 34 في وقعة ذات الصواري وكانت له. وكان ذلك سبباً لاهتمام المسلمين بإنشاء المراكب الحربية فبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله عَلَى أفريقية حسان بن النعمان بأمره باتخاذ صناعته بتونس ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب عَلَى يد شيخ القنيا أسد بن الفرات. قال ابن خلدون وذكر تعليل امتناع المسلمين ركوب البحر للغزو في أول الأمر والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباعم في التقلب عَلَى أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافتهم.

فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولاً لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراً بها فتاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه وأنشئوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس. وأول ما أنشئ الأسطول في مصر في خلافة المتوكل عَلَى الله العباسي عندما نزل الروم عَلَى دمياط سنة 238 فملكوها وقتلوا بها جمعاً كثيراً من المسلمين وسبوا النساء والأطفال ومضوا إلى تنيس فأقاموا بأشتومها فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهم ما يعمل بمصر وأنشئت الشواني برسم الأسطول وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البر وانتدب الأمراء له الرماة فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة وانتخب له القواد العارفون بمحاربة العدو وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه. لا جرم أن كان لخدم الأسطول حرمة ومكانة وكان ولكل أحد من الناس رغبة في أنه من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقر فيه. وكانت الغزوات بين المسلمين والروم سجالاً ينال المسلمون من العدو وينال العدو منهم وياسر بعضهم بعضاً لكثرة هجوم أساطيل المسلمين عَلَى بلاد العدو فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية فلذلك احتاج الخلفاء العباسيون إلى الفداء ولم يقع فداء في عهد الدولة الأموية وإنما كان ينادى بالنفر بعد النفر في سواحل الشام ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية إلى أن كانت خلافة الرشيد. فوجد أول فداءٍ بين المسلمين والروم سنة 189 وآخر فداء كبير كان سنة 335 في خلافة المطيع فهي عهد الدولة الإخشيدية بمصر والذي شرع فيه هو الإخشيد محمد بن طغج. وقويت العناية بأمر الأسطول في مصر منذ قدم المعز لدين الله وأنشأ المراكب الحربية واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات وتسييرها

إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان وكانت جريدة قواد الأسطول في آخر أمرهم تزيد عَلَى خمسة آلاف مدونة منهم عشرة أعيان يقال لهم القواد وتصل جامكية كل واحد إلى 20 ديناراً ثم إلى 15 ثم إلى عشرة ثم إلى ثمانية ثم إلى دينارين وهي أقلها. ولهم إقطاعات تعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون وكان يعين من القواد العشرة واحد فيصير رئيس الأسطول ويكون معه المقدم والقادس فإذا سار إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم وبه يقتدي الجميع فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه ولا بد أن يقدم عَلَى الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفساً ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير فإذا أراد النفقة فيما تعين من المراكب السائرة (كانت في أيام المعز تزيد عن 600 قطعة وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو 80 شونة وعشر مسطحات وعشر حمالة فما تقصر عن مائة قطعة) فيتقدم إلى النقباء بإحضار الرجال فيجتمعون وكانت لهم المشاهرات والجرايات في مدة أيام سفرهم وهم معروفون عند عشرين عريفاً يقال لهم النقباء فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدم فأعلم بذلك الوزير فطالع الخليفة فيقرر يوماً للنفقة فيحصر الوزير بالاستدعاء من ديوان الإنشاء عَلَى العادة ويجلس الخليفة عَلَى هيئته في مجلسه ويجلس الوزير في مكانه ويحضر صاحباً ديوان الجيش وهما المستوفي والكاتب فيجلس المستوفي من داخل عتبة المجلس وبجانبه من وراء عتبة الباب كاتب الجيش في قاعة الدار وشرط هذا المستوفي أن يكون عدلاً من أعيان الكتاب وأما الكاتب فكان في غالب الأمور يهودياً. فإذا تهيأ المال أدخل الغزاة مائةً مائة فيقفون في أخريات من هو واقف للخدمة من جانب واحد نقابة نقابة وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة فيستدعي المستوفي من تلك الوراق المنفق عليهم واحداً واحدا فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر فإذا تكملت عشرة وزن الوازنون لهم النفقة لكل واحد خمسة دنانير فيسلمها له النقيب وتكتب باسمه ويده وهكذا إلى الآخر وإذا تم ذلك ركب الوزير بين يدي الخليفة وانفض الجمع. وإذا تكاملت النفقة وجهزت المراكب وتهيأت للسفر ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس عند منطرة المقس فيجلس فيها الخليفة يرسم وداع الأسطول ولقائه فإذا جلس

للوداع جاءت القواد بالمراكب من مصر للحركات بين يديه وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات فيرمي بها وتنحدر المراكب وتقلع وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدو ثم يحضر المقدم والرئيس بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو للجماعة بالنصر والسلامة ويعطي للمقدم مائة دينار وللرئيس عشرين وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى البحر فيكون له ببلاد العدو صيت عظيم ومهابة قوية. والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم لا يتعرض السلطان إلى شيء منه إلا ما كان من الأسرى والسلاح فإنه للسلطان وما عداهما من المال والثياب ونحوهما فإنه لغزاة الأسطول ولا يشاركهم فيه أحد. وإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضاً لمنظرة المقس وجلس فيها للقائه. ولم يزل الأسطول عَلَى ذلك إلى أن كانت وزارة شاور ونزل ملك الإفرنج عَلَى بركة الحبش فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول فحرقت ونهبها العبيد فيما نهبوا. ولها ذكر يعود في ذكر الدولة الأيوبية وقد كان بمصر صناعات (ترسانات) (1) وهي أقدم الصناعات صناعة الجزيرة بنيت سنة 54هـ ثم اعتنى أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الإخشيد فحول موضعها إلى بستان المختار. (2) صناعة مصر بناها الإخشيد وكان موضعها يعرف بدار بنت الفتح بن خاقان زوج أحمد بن طولون والسبب في نقل الصناعة أنه رأى أن صناعة يحول بينها وبين صاحبها الماء ليست بشيءٍ فحول الصناعة إلى ساحل مصر سنة 325 وكان إذ ذاك عندها عندها سلم ينزل منه إلى الماء وكانت مراكب الأسطول مع ذلك تنشأ في الجزيرة وفي صناعتها إلى أيام الآمر فلما ولي المأمون بن البطانحي أنكر ذلك وأمر أن يكون إنشاء الشواني والمراكب النيلية الديوانية بصناعة مصر وأنشأ بها منظرة لجلوس الخليفة يوم تقدمه الأسطول ورميه فأقر إنشاء الحربيات والشلنديات بصناعة الجزيرة وكان بهذه الصناعة دهليز ماء بمصاطب مفروشة بالحصر العبدانية بسطاً وتأزيراً وفيها محل ديوان الجهاد وكان يعرف في الدولة الفاطمية أن لا يدخل من باب هذه الصناعة أحد راكباً إلا الخليفة أو الوزير إذ ركبا يوم فتح الخليج عند وفاء النيل ولم تزل هذه الصناعة عامرة إلى ما قبل

سنة 700 ثم صارت بستاناً. (3) صناعة المقس بناها عَلَى قول ابنة أبي طي في تاريخه المعز لدين الله وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر عَلَى مينا. وقال المسبحي أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبراً وحسناً وفي سنة 386 وقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة فاحترقت خمس عشاريات وأتت عَلَى جميع ما في الأسطول من العدة والسلاح حتى لم يبق منه غير ستة مراكب فارغة لا شيء فيها. وكان العزيز قد أمر قبل موته بتحديد عمارة الأسطول فأنشئت مراكب بدل المحترقة بغاية السرعة وقد طرحت في البحر بين أيدي الحاكم. وكان في البهنساوية وسفط يشن والأشمونين والأسيوطية والأخمينية والقوصية أشجار لا تحصى من سنط لها حراس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول فلا يقع منها إلا ما تدعو الحاجة إليك وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار. الخراج لم يكن مقدار ما يجيء من الأراضي المصرية لعهد هذه الدولة متساوي المبلغ في جميع أدوارها بل كان يزيد وينقص حسب الاهتمام بالإصلاح الذي هو أساس كثرة الجباية. فقد كان الخراج في السنة التي دخل فيها جوهر القائد 3. 400. 000 دينار في عهد الوزير الناصر للدين الحسن بن علي اليازوري وزير المستنصر أراد أن يعرف قدر ارتفاع الدولة وما عليها من النفقات ليقايس بينهما فتقدم إلى أصحاب الدواوين بأن يعمل كل منهم ارتفاع ما يجري في ديوانه وما عليه من النفقات فعمل ذلك وسلمه إلى متولي ديوان المجلس وهو زمام الدواوين فتنظم عليه عملاً جامعاً وأحضره إياه فرأى ارتفاع مصر 1. 000. 000 دينار يقف منها عن معلول ومنكسر عَلَى موتى وهراب ومفقودين 200. 000 دينار ويبقى منها 800. 000 دينار يصرف منها: 300. 000 دينار للرجال عدا واجباتهم وكساويهم. 100. 000 دينار ثمن غلة للقصور. 200. 000 دينار نفقات القصور.

100. 000 دينار عمائر وما يقام للضيوف الواصلين من الملوك وغيرهم. 700. 000 الجملة. 100. 000 بأن يحمل كل سنة إلى بيت المال المصون. فحظي بذلك عند سلطانه وخف عَلَى قلبه وهذا هو ديوان الخاص وبعد موت اليازوري انتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأول وكانت قبل الفتن 600. 000 دينار فاتضع الارتفاع وعظمت الواجبات. ولما صلحت البلاد في عهد أمير الجيش وولده الأفضل أمر الأفضل بعمل تقدير ارتفاع مصر فجاء خمسة ملايين دينار وكان متحصل الأمراء مليون أردب. وفي وزارة المأمون بن فاتك البطانحي سنة 501 وهو وزير الآمر رأى من اختلال أحوال الرجال العسكرية والموظفين تضررهم من كون إقطاعاتهم قد خس ارتفاعها وإن في كل ناحية الفواضل للديوان جملة تجبى بالعسف وتتردد الرسل من الديوان الشريف بسببها فخاطب الأفضل بن أمير الجيوش في أن يحل الإقطاعات ويروكها وعرفه في أن المصلحة في ذلك تعود عَلَى المقطعين والديوان لأن الديوان يتحصل له من هذه الفواضل جملة يحصل بها بلاد متورة فأجاب إلى ذلك وحل جميع الإقطاعات وراكها وأخذ كل من الأقوياء والمميزين يتضررون ويذكرون أن لهم بساتيناً وأملاكاً ومعاصر ونواحيهم فقال له من كان له ملك فهو باق عليه لا يدخل في الإقطاع وهو محكم إن شاء الله باعه وإن شاء الله آجره فلما حللت الإقطاعات أمر الضعفاء من الأجناد أن يتزايدوا فيها. فوقعت الزيادة في إقطاعات الأقوياء إلى أن انتهت إلى مبلغ معلوم وكتبت السجلات بأنها باقية بأيديهم إلى مدة 30 سنة لا يقبل عليهم فيها زيادة وأحضر الأقوياء وقال لهم: ما تكرهون من الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد قالوا: كثرة عبرتها وقلة متحصلها وخرابها وقلة الساكن بها فقال لهم: ابذلوا في كل ناحية ما تحمله وتقوي رغبتكم فيه ولا تنظروا في العبرة الأولى فعند ذلك طابت نفوسهم وتزايدوا فيها إلى أن بلغت الحد الذي رغب كل منهم فيه فاقطعوا وكتب لهم السجلات عَلَى الحكم المتقدم فشملت المصلحة الفريقين وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد متورة بما كان مفرقاً في الإقطاعات بما مبلغه 5000 دينار. وفي سنة 515 في عهد المأمون صدر سجل يتضمن المسامحة بالبواقي إلى سنة 510

ويبلغ ما نتهت إليه هذه المسامحة إلى حين ختم السجل. 20720. 767 دينار. 67. 005 ورق. 3. 810. 239 أردب غلة. وغير ذلك كثير من الأصناف التي كانت تقبل بها الأرض وقد ذكرت متصلة في هذا السجل. ولما انتهى إلى المأمون ما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادات وفسخ عقود الضمانات وانتزاعها ممن كابد فيها المشقة والتعب وتسليمها إلى باذل الزيادة من غير كلفة ولا نصب أنكر ذلك ومنع من ارتكابه وخرج أمره بإعفاء الكافة أجمعين والضمناء والعاملين من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ويستولون عليه ما داموا مغلقين وبأقساطهم قائمين وتضمن ذلك منشور قرئ في الجامعين الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر وديواني المجلس والخاص الأميرين السعيدين الخ. الخراج أصدر المأمون بن فاتك البطائحي وزير الخليفة الآمر بالله منشوراً بمساحة الأرض بعد أن تجاوز للزراع عن الديون التي عليها للحكومة. وبعد أنة مسح الأرض وصل إليه مكاتبة من الوالي والمشارف ومن كان في صحبته لكشف الأراضي والسواقي ومساحتها متضمنة ما أظهر الكشف وأوضحته عَلَى من بيده السواقي وهم عدة كثيرة ومن جملتها ساقية مساحتها 360 فداناً تشتمل عَلَى النخل والكروم وقصب السكر وخراجها في السنة عشرة دنانير وما يجري الأعمال هذا المجرى وأنهم وضعوا يد الديوان عَلَى جميعها وطلبوا من أرباب السواقي ما يدل عَلَى ما بين أيديهم تذكروا أنها انتقلت إليهم ولم يظهروا ما يدل عليها وقد صيروا ملاكها إلى الباب تحت الحوطة ليخرج الأمر بما يعتمد عليه في أرهم وعند وصولهم وقع الترسيم عليهم إلى أن يقوموا بما يجب من الخراج عن هذه السواقي فإن هذه الأملاك برمتها لا تقوم بما يجب عليها فوقف المذكورون للمأمون يوم جلوسهم للمظالم فأمر بحضورهم بين يديه وتقدم إلى القاضي جلال الملك أبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربي هو يومئذ قاضي القضاة لمحاكمتهم فجرى معهم مع مفاوضة أوجبت الحق

عليهم وألزمتهم بالقيام ما يستغرق أموالهم وأملاكهم فحصل من تضررهم ما أوجبت العاطفة عليهم وأخذهم بالخراج من بعد وأن يضرب صفحاً عما تقدم. وكتب بذلك المنشور يصح أن يسمى مبدأ إصلاح عظيم. وقد أباح فيه لكل من يرغب في عمارة أرض حلفاء دائرة ودائرة بئر مهجورة معطلة أن يسلك ذلك إليه، ويقاس عليه ولا يؤخذ منه خراج إلا في السنة الرابعة من تسلميه إياه. وكان ذلك المنشور سبباً لحصول الاجتهاد في تحصيل مال الديوان وعمارة البلاد وترقية الفلاحين. وفي المنهاج في أحكام الخراج أن ارتفاع البلاد المصرية والفلسطينية والطرابلسية سنة 483 الهلالية الموافقة لسنة 480 الخراجية كان 3. 100. 000 دينار عيناً وأن الذي كان يؤدي في سنة 466 الهلالية الموافقة 466 الخراجية قبل عهد بدر أمير الجيوش كان مبلغه 20800. 000 دينار وكان الزائد للسنة الجيوشية عما قبلها 300. 000 دينار أعرب عن حسن العمارة وشمول العدل. وجبى القاضي الموفق أبو الكرم بن معصوم التنيسي عيناً خالصاً إلى بيت المال بعد المؤن والكلف 1. 200. 000 دينار ثم بعده لم يجبها أحد هذه الجباية حتى انقرضت الدولة الفاطمية. وفي أواخر الدولة أعيدت الأموال الهلالية التي كان ابن طولون أسقطها وطارت تعرف بالمكوس وكانت نحو مئة ألف دينار وهي التي أبطلها صلاح الدين. ومما يبين اهتمام الأفضل بن الجمالي بعمارة البلاد أن أبا البركات بن أبي الليث رئيس ديوان المجلس رغب أن يتبحبح عَلَى الأفضل بكثرة ما توفر عنده من الأموال وسأله أن يشاهده قبل حمله وذكرانه 700. 000 ديناراً خارجاً عن نفقات الرجال فجعلت الدنانير في صناديق بجانب وجعلت الدراهم في صناديق بجانب آخر وقام ابن أبي الليث بين الصفين فلما شاهد الأفضل ذلك قال لابن أبي الليث يا شيخ تفرحني بالمال وتربة أمير الجيوش إن بلغني أن بئراً معطلة أو أرضاً بائرة أو بلداً خراب لأضربن عنقك فقال: وحق نمتك لقد حاشى لله أيامك أن يون بها بلد حراب أو بئر معطلة أو أرض بور فأبى أن يكشف عما ذكر.

دواوين المال كان في الدولة الفاطمية جملة دواوين لبيان ما يرد عَلَى الدولة من المال وما ينصرف وكان بها نظام يسيرها عَلَى السداد فأولها ديوان المجلس (الخاص). وصاحبه هو المتحدث في الإقطاعات ويخلع عليه ينشأُ له السجل والمرتبة والسند والدواة والحاجب ومعه جملة كتّاب وفيه يحصر ما يخرج من الأنعام في العطايا والرسوم المعتادة في غرة السنة والضحايا والمرتب من الكسوات للأولاد والأقارب والجهات وأرباب المراتب عَلَى اختلاف الطبقات وما يرد من ملوك الدنيا من التحف والهدايا وما يرسل إليهم من الملاطفات ومقادير الصلات للمترسلين بالمكاتبات ثم يضبط ما ينفق في الدلة من المهمات ليعلم ما بين كل سنة من التفاوت وهذا بيان: دينار 3000 الصرة المنعم بها في أول العام 2000 ثمن الضحايا 7000 ما ينفق في دار الفطرة فيما يفرق عَلَى الناس 10000 ما ينفق في دار الطراز للاستعمالات الخاص وغيرها 2000 ما ينفق في مهم فتح الخليج غير المطاعم 3000 ما ينفق في سماط شهر رمضان 4000 ما ينفق في سماط الفطر والنحر 31000 المجموع وهذا خارج عما يطلق للناس أصنافاً من خزائنه من المآكل والمشارب والمواصلة من الهبات وما تخرج به الخطوط من التشريفات والمسامحات وما يطلق من الأهراء من الغلات. وفي هذه الخدمة كاتب مستقل بين يدي صاحب ديوانه صلي ومعه كاتبان آخران لتنز يل ذلك في الدفتر. ديوان الرواتب يشتمل هذا الديوان عَلَى أسماء كل مرتزق وجار وجارية وفيه كاتب أصيل لطراحة وفيه

من المبيضين والمعينين نحو عشرة أنفس والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمر ومباشرة من استجد وموت من مات ليوجب استحقاقه عَلَى النظام المستقيم وفي هذا الديوان عدة عروض. الأول: يشتمل عَلَى راتب الوزير وهو في الشهر 5000 دينار ومن يليه من ولد وأخ من 300 دينار إلى 200 دينار ولم يقرر لولد الوزير 500 دينار سوى شجاع بن شاور ثم حواشيهم عَلَى مقتضي عدتهم من 500 إلى 400 إلى 200 خارجاً عن الإقطاعات. الثاني: حواشي الخليفة وأولهم الأساتذة المحنكون عَلَى رتبهم وجواري خدمهم التي لا يباشرها سواهم فزمام القصر وصاحب بيت المال وحامل الرسالة وصاحب الدفتر ومشاد التاج وزمام الأشراف والأقارب وصاحب المجلس لكل واحد منهم 100 دينار ومن دونهم ينقص عشرة دنانير حتى يكون آخرهم من له في الشهر عشرة دنانير وتزيد عدهم عَلَى ألف نفس ولطبيبي الخاص لكل واحد خمسون ديناراً ولمن دونهما من الأطباء برسم المقيمين في القصر لكل واحد عشرة دنانير. الثالث: يتضمن أرباب الرتب بحضرة الخليفة فأوله كان الدست الشريف وجاريه 150 ديناراً ثم حامل السيف وحامل الرمح لكل منهما 70 ديناراً وبقية الأزمة عَلَى العساكر السودان من 50 إلى 90 إلى 30 ديناراً. الرابع: يشتمل عَلَى المستقر لقاضي القضاة ومن يليه لقاضي القضاة 100 دينار ومثله داعي الدعاة ولكل من قرأ الحضرة عشرون ديناراً إلى 15 إلى عشرة ولخطباء الجوامع من عشرين ديناراً إلى عشرة وللشعراء من عشرين ديناراً إلى عشرة. الخامس: يشتمل عَلَى أرباب الدواوين ومن يجري مجراهم وأولهم من يتولى ديوان النظر وجاريه 70 ديناراً وديوان التحقيق وجاريه 50 ديناراً وديوان المجلس أربعون وصاحب دفتر الحبس 70 ديناراً وكاتبه خمسة دنانير وديوان الجيش وجاريه 40 ديناراً والموقع بالقلم الجليل 30 ولجميع أصحاب الدواوين الجاري فيها المعاملات لكل واحد عشرون ديناراً ولكل معين من عشرة دنانير إلى سبعة إلى خمسة. السادس: يشتمل عَلَى المستخدمين بمصر والقاهرة لكل واحد منهم في الشهر خمسون ديناراً والحماة بالأهراءِ والمناخات والجوالي والبساتين والأملاك وغيرها لكل منهم عشرين ديناراً

إلى 15 إلى 10 إلى خمسة دنانير. السابع: الفراشون بالقصور برسم خدمتها وتنظيفها خارجاً وداخلاً ونصب الستائر المحتاج إليها وخدمة المناظر الخارجة عن القصر فمنهم خاص برسم خدمة الخليفة وعدتهم 15 رجلاً منهم صاحب المائدة وحامي المطابخ من 30 ديناراً إلى ما حولها وله رسوم متميزون ويقربون من الخليفة في الأبسطة التي يجلس عليها ويليهم الرشاشون داخل القصر وخارجه ولهم عرفاء ويتولى أمره أستاذ من خواص الخليفة وعدتهم نحو 300 رجل وجاريهم من 10 إلى خمسة دنانير ومقدموهم أصحاب ركاب الخليفة وعدتهم اثنا عشرة مقدماً منهم مقدم المقدمين وهو صاحب الركاب اليمين ولكل هؤلاء المتقدمين في كل شهر 50 ديناراً ولهم نقباء من جهة المذكورين يعرفونهم وهم مقررون جوقاً عَلَى قدر جواريهم. جوقة لكل منهم خمسة عشر ديناراً وجوقة لكل منهم عشرة دنانير وجوقاً لكل منهم خمسة دنانير ومنهم من ينتدب في الخدم السلطانية ويكون لهم نصيب في الأعمال التي يدخلونها وهم الذين يحملون الملحقات لركوب الخليفة في المواسم وغيرها. وأول من قرر العطاء لغلمانه وخدمه وأولادهم الذكور والإناث ولنسائهم وقرر لهم أيضاً الكسوة العزيز بالله. هذه كانت العروض أو بعبارة أخرى فصول الميزانية. الميزانية إذا انقضى عيد النحر من كل سنة تقدم بعمل الإستيمار لتلك السنة تمام ذي الحجة منها فيجتمع كتاب ديوان الرواتب عند متوليه وتحمل العروض إليه فإذا تحررت نسخة التحرير بيضت بعد أن يستدعي من المجلس أوراق بالإدرار الذي يقبض بغير خرج وفي الإدرار ما هو مستقر بالوجهين فيضاف هذا المبلغ بجهاته إلى المبالغ المعلومة بديوان الرواتب وجبهاتها حتى لا يفوت من الإستيمار شيء من كل ما تقرر شرحه ويعلم مقداره عيناً وورقاً وغلة وغير ذلك فيكتب ذلك مكله بأسماء المرتزقين وأولهم الوزير ومن يلوذه به وعلى ذلك إلى أن ينتهي الجميع إلى أرباب الصر فإذا أكمل استدعي له من خزائن الفرش وطاء حرير يشده وشرابة لإمساكه إما خضراء أو حمراء. ويعمل له صدر من الكلام اللائق بما عده فإذا فرغ من ذلك حمل إلى صاحب ديوان النظر إن كان. وإلا فلصاحب ديوان المجلس ليعرضه عَلَى الخليفة إن كان مستبداً أو الوزير لاستقبال المحرم من السنة

الآتية في أوقات معلومة فيتأخر في العرض وربما يستوعب المحرم ليحيط العلم بما فيه فإذا كمل العرض أخرج إلى الديوان. وقد شطب عَلَى بعضه وكان ينتقص قوم للاستكثار يزاد قوم للاستحقاق ويصرف قوم ويستخدم آخرون عَلَى ما كانت تقتضيه الآراء في ذلك الوقت ثم يسلم لرب هذا الديوان وعلامة الإطلاق خروجه من العرض. وقيل أنه عمل مرة في أيام المستنصر فلما استؤذن عَلَى عرضه قال هل وقع أحد بما فيه فقيل له معاذ الله يا مولانا ما تم إنعام إلا لك. ولا رزق من الله إلا عَلَى يديك فقال ما ينتقض به أمرنا. ولاحظنا ما صرفناه في دولتنا بإذننا. وتقدم إلى كاتب الإنشاء بإمضائه للناس من غير عرض. ووقع عن الخليفة بظاهره. الفقر مر المذاق، والحاجة تدل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق، فليجروا عَلَى رسومهم في الإطلاق، ما عندكم ينفذ وما عند الله باق. ووقع عَلَى خلافة الحافظ عَلَى استيمارة الرواتب ما نصه: أمير المؤمنين لا يستكثر في ذات الله كثير لإعطاء ولا يكرره بالتأخير له والتسويف والإبطاء ولما انتهى إليه ما أرباب الرواتب عليه من القلق للامتناع عن إيجاباتهم وحمل خروجاتهم قد ضعفت قلوبهم وقلقت نفوسهم وساءت ظنونهم شملهم برحمته ورأفته وأمنهم مما كانوا وجلين من مخافته وجعل التوقيع بذلك بخط يده تأكيداً للأنعام والمن. وتهنئة بصدقة لا تتبع بالأذى والمن. فليعتمد في ديوان الجيوش المنصورة إجراء ما تضمن هذه الأوراق ذكرهم عَلَى ما ألفوه وعهدوه من رواتبهم وإيجاباتها عَلَى سياقها لكافتهم. من غير تأويل ولا تعنت ولا استدراك ولا تعقب ويجروا في مسبباتهم عَلَى عاداتهم لا ينحل من أمورهم ما كان مبرماً. ولا ينسخ من أمرهم ما كان محكماً. كرماً من أمير المؤمنين وفعلاً مبروراً وعملاً بما أخبر به عز وجل في قوله تعالى إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ولينسخ في جميع الدواوين في الحضرة إن شاء الله تعالى اهـ. قال المقريزي نقلاً عن كنز الدرر في سنة 46هـ عرض عَلَى الحاكم بأمر الله الإستيمار باسم المتفقهين والقراء والمؤذنين بالقاهرة. ومصر (الفسطاط) وكانت الجملة كل سنة 71. 333 ديناراً وثلث أو ربع دينار فأمضي جميع ذلك. ديوان التحقيق

هو ديوان مقتضاه المقابلة عَلَى الدواوين وكان لا يتولاه إلا كاتب خبير وله الخلع والمرتبة والحاجب ويلحق برأس الديوان وهو متولي النظر ويفتقر إليه في أكثر الأوقات. ديوان النظر هو أجل دواوين الأموال وصاحبه يتولى النظر عَلَى العمال والعزل والولاية ومن يده عرض الأوراق في أوقات معلومة عَلَى الخليفة أو الوزير ولم يرى فيه نصراني إلا الأحزم ولم يتوصل إليه إلا بالضمان. ولصاحب هذا الديوان الجلوس بالمرتبة والمسند وبين يديه حاجب من أمراء الدولة وتخرج له الدواة بغير كرسي وهو يندب المترسلين لطلب الحساب والحث عَلَى طلب الأموال ومطالبة أرباب الدولة ولا يعترض فيما يقصد من أحد من أرباب الدولة. وكانت دواوين المال بدارة الإمارة بجوار مسجد ابن طولون إلى أن بنى الوزير يعقوب بن يوسف دار الوزارة الكبرى فنقلت إليه الدواوين وبعد موته نقلت إلى القصر ولم تزل به حتى استبد الأفضل أمير الجيوش وعمر دار الملك بمصر فنقل إليها الدواوين فلما قتل عادت إلى القصر ولم تزل به حتى انتهت الدولة الفاطمية. ديوان الإنشاء لما كانت مصر دار إمارة كان بها ديوان البريد ويقال لمتوليه صاحب البريد وإليه مرجع ما ورد من دار الخلافة عَلَى أيدي أصحاب البريد من الكتب وهو الذي يطالع بأخبار مصر وكان للأمراء كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع عَلَى قصص المرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله فوقع بنفسه وجعل أمر الأموال وما يتعلق بها إلى يعقوب بن كلس وعسلوج بن الحسن فوليا أموال الدولة ثم فوض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب فاستبد بجميع أحوال المملكة وجرى مجرى جعفر بن يحيى البرمكي مع الرشيد وكان يوقع ومع ذلك ففي أمراءِ الدولة من يلي البريد وجعل الأمر فيما بعد عَلَى أن الوزراء يوقعون وقد يوقع الخليفة بيده فلما كانت أيام المستنصر بالله وصرف ابا جعفر محمد بن جعفر المغربي عن وزارته أفرد له ديوان الإنشاء فوليه مدة طويلة وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجمالي. وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي

البيساني الذي صار صاحب ديوان الإنشاء في الدولة الصلاحية. قال المقريزي وكان لا يتولى ديوان الإنشاء إلا أجل كتاب البلاغة ويخاطب بالشيخ الأجل ويقال له كاتب الدست الشريف ويسلم المكاتبات الواردة مختومة فيعرضها عَلَى الخليفة من بعده وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها الكاتب وللخليفة يستشيره في أكثر أموره ولا يحجب عنه من قصد المثول بين يديه وهذا أمر لا يصل إليه غيره وربما بات عند الخليفة ليالي. وكان جاريه 120 دينار في الشهر وهو أول أرباب الإقطاعات وأرباب الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه بالقصر ولا يجتمع بكتابه أحد إلا الخواص وله حاجب من الأمراء والشيوخ وفراشون وله م رتبة هائلة والمخاد والمسند والدواة ولكنها بغير كرسي وهي من أخص الدوي ويحملها أستاذ من أستاذي الخليفة. وكان للخليفة كاتب التوقيع بالقلم الدقيق وهو كاتب يذاكر الخليفة فيما يحتاج إليه من كتاب الله وتجويد الخط وأخبار الأنبياء والخلفاء فهو يجتمع به في أكثر الأيام. ومعه أستاذ من المحنكين مؤهل لذلك ولهذا الكاتب رتبة عظيمة تلحق برتبة كاتب الدست. ويكون صحبته للجلوس دواة محلاة فإذا فرغ من المجالسة ألقى في الدواة كاغداً فيه عشرة دنانير وقرطاسً فيه ثلاثة مثاقيل من مثلث خاص ليتبخر به عند دخوله عَلَى الخليفة ثاني مرة. وله منصب التوقيع بالقلم الدقيق وله طراحة ومسند وفراش بقد ألبه ما يوقع عليه. وله موضع من حقوق ديوان المكاتبات لا يدخل إليه أحد إلا بإذن وهو يلي صاحب ديوان المكاتبات في الرسوم والكساوي وغيرها. أما التوقيع باسم الجليل فهي أيضاً رتبة جليلة ويقال لها الخدمة الصغرى ولها طراحة والمسندان بغير فراش لترتيب ما يوقع عليه. النظر في المظالم كانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف جلس صاحب الباب في باب الذهب بالقصر وبين يديه النقباء والحجاب فينادي المنادي بين يديه يا أرباب الظلامات فيحضرون فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة والقضاة رسالة يكشفها من تظلم ممن ليس من أهل البلدين (مصر والقاهرة) أحضر قصة بأمره فيتسلمها الحاجب منه فإذا جمعها أحضرها إلى الموقع بالقلم الدقيق فيوقع عليها ثم تحمل إلى الموقع بالقلم الجليل فيقف عَلَى باب القصر

ويسلم كل توقيع لصاحبه. فإن كان الوزير صاحب سيف جلس للمظالم بنفسه وقبالته قاضي القضاة ومكن جانبيه شاهدان معتبران ومن جانب الوزير الموقع بالقلم الدقيق ويليه صواحب ديوان المال وبين يديه صاحب المال واسفسلار العساكر وبين أيديهما النواب والحجاب عَلَى طبقاتهم ويكون الجلوس بالقصر في مجلس المظالم في يومين من الأسبوع وكان الخليفة إذا رفعت إليه القصة وقع عليها (يعتمد ذلك إن شاء الله) ويوقع في الجانب الأيمن منها (وقع بذلك) فتخرج إلى صاحب ديوان المجلس فيوقع مكان جليلاً فيعلم عليها الخليفة وثبت وكانت علامتهم أبداً والحمد لله رب العالمين وكان الخليفة يوقع في المسامحة والتسويغ والتحبيس (قد أنعمنا بذلك) و (قد أمضينا بذلك) وكان إذا أراد أن يعلم ذلك الشيء الذي أنهي وقع (ليخرج الحال في ذلك) فإذا أحضر إليه إخراج الحال علم عليه فإذا كان حينئذ وزير وقع الخليفة بخطه (وزيرنا السيد الأجل وذكر نعمته المعروف به أمتعنا الله ببقائه يتقدم بنجاز ذلك إن شاء الله تعالى) وثبت في الدواوين خط الخليفة (يتمثل أمير مولانا صلوات الله عليه) ويثبت في الدواوين. وكان بالقصر الكبير موضع يقال له السقيفة يقف عنده المتظلمون وكانت عادة الخليفة أن يجلس هناك كل ليلة لمن يأتيه من المتظلمين فإذا ظلم أحد وقف تحت السقيفة ونادى بصوت عال (لا إليه إلا الله محمد رسول الله) عليه علي ولي الله فيسمعه الخليفة فيأمر بإحضاره إليه أو يفوض أمره إلى الوزير أو القاضي أو الوالي. ومن غريب ما وقع من المظالم في أيام الحافظ لدين الله أنه خرج من انتدب بعد انحطاط النيل من العدول والكتاب إلى الأعمال لتحرير ما شمله من الري وزرع من الأراضي وكتابة المكلفات فخرج إلى بعض النواحي من يمسحها من شاد وناظر وعدول وتأخر الكاتب ثم لحقهم وأراد التعدية فنفر فيه الكاتب وسبه وقال أنا ماسح هذه البلدة ومني حق التعدية فقال له الضامن إن كان زرع فخذه وقلع لجام بغلة الكاتب وألقاه في معدتيه فلم يجد بداً في دفع الجرة إليه حتى أخذ لجام بغلته فلما تمم مساحة البلد وبيض مكلفة تلك المساحة ليحملها إلى دواوين الباب وكانت عادتهم كتب الجملة بزيادة عشرين فداناً وترك بياضاً في بعض الأوراق وقابل العدول عَلَى المكلفة وأخذ الخطوط عليها بالصحة ثم كتب بالبياض الذي تركه - أرض اللجام باسم ضامن المعدية عشرين فداناً قطعية - كل فدان أربعة

دنانير عن ذلك ثمانون ديناراً وحمل المكلفة إلى ديوان الأصل وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند فيه حماسة وشدة ومن الكتابة العدول كاتب (نصراني) فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج عَلَى ما تشهد به المكلفات المذكورة فينفق في الأجناد وكل من العادة أن يخرج إلى كل ناحية ممن ذكر من لم يكن خرج وقت المساحة بل ينتدب قوم سواهم. فلما خرج الشاد والكاتب والعدول لاستخراج ثلث مالية الناحية استدعوا أرباب الزرع ومنهم ضامن المعدية فلما أحضر ألزم بأداء 2/ 3 26 دينار عن نظير ثلث المال الثمانين ديناراً عن خراج أرض اللجام فأنكر الضامن أن تكون له زراعية بالناحية وصدقه هل البلد فلم يقبل الشاد ذلك وكان عسوفاً وأمر به فضرب بالمقارع واحتج بخط العدول عَلَى النمطكلفة ومازال به حتى باع معديته وغيرها وأورد ثلث المال الثابت في المكلفة وسار إلى القاهرة فوقف تحت السقيفة وأعلن بما تقدم ذكره فأمر الخليفة الحافظ بإحضاره فلما مثل بحضرته قص عليه ظلامته مشافهة وقص له ما اتفق منه في حق الكاتب النصراني وما كاده به فاحضر المتحدث في الدواوين وهو الموفق ابن الخلال وجميعه أرباب الدواوين وأحضر المكلفات التي عملت للناحية في عدة سنين ماضية وتصفحت بين يديه سنة فلم يوجد لأرض اللحام ذكر البتة فحينئذ أنمر الحافظ بإحضار ذلك الكاتب وأمر بأن يطاف به وأن يشهر في سائر الأعمال. الحسبة والعيار نقل المقريزي عن ابن طوير - وأما الحسبة فإن من تستند إليه لا يكون إلا من وجوه المسلمين وأعيان المعدلين لأنها خدمة دينية وله استخدام النواب عنه بالقاهرة ومصر وجميع أعمال الدولة كنواب الحاكم وله الجلوس بجامعي القاهرة ومصر يوماً بعد يوم ويطوف نوابه عَلَى أرباب الحرف والمعايش ويأمر نوابه بالختم عل قدور الهراسين ونظر لحمهم ومعرفة من جزارهم وكذلك الطباخون ويتتبعون الطرقات ويمنعون من المضايقة فيها ويلزمون رؤساء المراكب أن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة وكذلك مع الحمالين عَلَى البهائم ويلزمون السائقين بتغطية الروايا بالأكسية ولهم عيار وهو 24 دلواً وكل دلو أربعون رطلاً وأن يلبسوا السراويلات القصيرة الضابطة لعورتهم وهي رزق

وينذرون معلمي الكتاتيب بأن لا يضربوا الصبيان ضرباً مبرحاً ولا في مقتل وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس ويقفون من يكون سيء المعاملة فينهونه بالردع والأدب وينظرون المكاييل والموازين وللمحتسب النظر في صاحب العيار ويخلع عليه ويقرأ سجله بمصر والقاهرة عَلَى المنبر ولا يحال بينه وبين مصلحة إذا رآها والولاة تشد معه إذا احتاج إلى ذلك وجاريه 30 ديناراً في كل شهر. وكان للعيار مكان يعرف بدار العيار تعير فيه الموازين بأسرها وجميع الصنج وكان ينفق عَلَى هذه الدار من الديوان السلطاني فيما تحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب وغير ذلك من الآلات وأجر الصناع والمشارفين ونحوهم ويحتضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره فإن صح ذلك أمضاه وإلا أمر بإعادة همله حتى صح وكان بهذه الدار أمثلة يصحح بها العيار فلا تباع الصنج والموازين والأكيال إلا بهذه الدار ويحضر جميع الباعة إلى هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم ومعهم موازينهم وصنجهم ومكاييلهم فتعير في كل قليل فإن وجد فيها الناقص استملك واخذ من صاحبه بهذه الدار وألزم بشراء نظيره مما هو محرر بهذه الدار ثم سومح الناس وصار يلزم من يظهر في ميزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فيها من فساد والقيام بأجرته. قاضي القضاة لم يتسم قاضي مصر بقاضي القضاة إلا في عهد الدولة الفاطمية تشبهوا في ذلك ببغداد. وكان الخليفة هو الذي يعين القاضي إلا إذا كان هناك وزير رب السيف فإنه هو الذي يقلد القضاة نيابة عنه. وتكون رتبة القاضي أجل رتب أرباب العمائم وأرباب الأقلام ويكون في بعض الأوقات داعياً فيقال له حينئذ قاضي القضاة وداعي الدعاة ولا يخرج شيء من الأمور لدينية عنه ويجلس السبت والثلاثاء بزيادة جامع عمرو بن العاص عَلَى طراحة ومسند حرير ويجلس الشهود حواليه يمنةً ويسرة بحسب تاريخ عدالتهم وبين يديه خمسة من الحجاب اثنان بين يديه واثنان عَلَى باب المقصورة وواحد ينفذ الخصوم إليه. وله أربعة من الموقعين بين يديه اثنان يقابلان اثنين وله كرسي الدواة وهي دواة محلاة بالفضة تحمل إليه من خزائن القصور.

ويقدم إليه من القصور بغلة شهباء وهو مخصوص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة وعليها من خزانة السروج سرج محلى ثقيل وراءه فترفضه ومكان الجلد حرير وتأتيه في المواسم الأطواق ويخلع عليه الخلع المذهبة. ولا يتقدم عَلَى القاضي أحد في محضر هو حاضره من أرب سيف أو قم أو لا يحضر أملاكاً ولا جنازة إلا بإذن ولا سبيل إلى قيامه لأحد وهو في مجلس الحكم ولا يعدل شاهد إلا بأمره ويجلس في القصر يومي الاثنين والخميس أول النهار للسلام عَلَى الخليفة. وكان له النظر في ديوان الضرب لضبط ما يضرب من الدنانير وكان القاضي لا يصرف إلا بجنحة ولا يعدل أحد إلا بتزكية عشرين شاهداً عشرة من مصر وعشرة من القاهرة ولا يحتمي أحد عَلَى الشرع ومن فعل ذلك أُدب. وكان القضاة عَلَى مذاهب الشيعة الإسماعيلية في الفروع إلا في عهد الوزير أبي علي بن الأفضل فأنه عين أربعة قضاة يقضي كل منهم بمذهبه إمامي وإسماعيلي وشافهي ومالكي. داعي الدعاة داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه في اللباس وغيره ووصفة بأن يكون عالماً بمذاهب آل البيت ويقرأ عليه ويأخذ العهد عَلَى من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم وبين يديه نقباء من المعلمين 12 نقيباً وله نواب كنواب الحكم في سائر البلاد ويحضر إليها فقهاء الدولة ولهم مكان يقال له دار العلم ولجماعة منهم عَلَى التصدير بها أرزاق واسعة وكان الفقهاء منهم ينفقون عَلَى دفتر يقال له مجلس الحكمة في كل يوم اثنين وخميس ويحضر مبيضاً إلى داعي الدعاة فيأخذه ويدخل به إلى الخليفة في هذين اليومين فيتلوه عليه إن أمكن ويأخذ علامته بظاهره ويجلس بالقصر لتلاوته عَلَى المؤمنين في مكانين للرجال عَلَى كرسي الدعوة بالديوان الكبير وللنساء بمجلس الداعي فإذا فرغ من تلاوته حضروا إليه لتقبيل يده فيمسح عَلَى رؤوسهم بمكان العلامة (خط الخليفة) وله أخذ النجوى من المؤمنين بالقاهرة ومصر وأعمالها لاسيما الصعيد ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث فيجتمع من ذلك شيء كثير يحمله إلى الخليفة بيده فيفرض له الخليفة منه ما يعينه لنفسه وللنقباء وفي الإسماعيلية من يحمل 33 2/ 3 دينار عَلَى حكم النجوى وكانت الدعوة تلقى إلى المدعوين مرتبة كما سبق فإذا تمت الدعوات حسب الترتيب أخذ عَلَى المريد العهد والميثاق

وأن يستر جميع ما عرف إلا ما أطلق له أن يتكلم به وأن ينصح ويخلص للإمام. ومن اشهر من قلد وظيفة داعي الدعاة أبو نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران الذي له مع ابي العلاء المعري مراسلات تدل علو كعبه في العلم والعرفان والجدل وسببها أنه سمع بيت المعري المشهور وهو قوله: غدوت مريض العقل والرأي فألقني ... لتخبر أنباء العقول الصائح فكتب إليه من رسالة. فشددت إليه رحلة العليل في دينه وعقله إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح وأنا أو ملب لدعوته معترف بميزته وهو حقيق أن لا يواطئني العشواءَ فيسلك في المجاهل ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل وأول سؤالي عن أمر خفيف فإن استنشقت نسيم الصبا سقت السؤال إلى المهم أسأله عن العلة في تحريمه عَلَى نفسه اللحم واللبن وكل ما يصدر إلى الجود من منافع لحيوان الخ.

حول كربلاء

حول كربلاء 1ً وصف جامع الحسين إن الذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو وجود قبر الحسين بنت رسول الله وأخيه العباس بن علي رضي الله عنهم وقبور أصحابه واعوانه الذين استشهدوا معه في واقعة الطف أو يوم عاشوراء سنة 61هـ 680م وبذلك أصبحت كربلاء مقدس الشيعة ومزارهم فيأتي إليها كل سنة لزيارة التربتين - تربة الحسين وتربة العباس - من كل حدب وصوب زرافاتٍ زرافات وجماعاتٍ جماعات قادمين إليها من ديار قاصية وربوع نائية كديار العجم وربوع الهند وآسيا الوسطى حيث يكثر الشيعيون ولهذا ترى كربلاء لا تخلو من غرباء يعدون بالألوف للغرض نفسه. وها نحن نصف للقراء ما في جامع الحسين من الأبنية الضخمة والتزيينات الفاخرة التي هي من أفخر ما يجود به الشيعة في تدينهم وحبهم لآل البيت مستغنين عن وصف جامع العباس لقرب المشابهة بين الجامعين إن وضعاً وإن زخرفاً فنقول: جامع الحسين من المساجد الرائقة البديعة الصنع، الفائقة الحسن وهو من أعظم المساجد في العراق شأناً، وأتقنها هندسة وصناعة، وأبدعها حسناً وبهجة، وهو عَلَى شكل مستطيل طوله قرابة 70 متراً في عرض يقارب 55 متراً وللمسجد 6 أبواب فخمة جميلة الوضع وعلى كل باب طاق مرتفع معقود بالحجر القاشاني وكل باب ينتهي بك إلى حي من أحياء المدينة، وفناء المسجد كله فضاء واسع فسيح الأرجاء مفروشة أرضه بالرخام البيض الناصع وكذلك جداره فإن وجه أسفله مغشى بالرخام إلى طول مترين، وما أقول ذلك مبني بالقاشاني الجميل القطع والنحت، ويحيط بفناء الصحن جدار يحصنه قد أقيم عليه طبقتان وفي الطبقة السفلى قرابة 65 غرفة جميلة أمام كل غرفة إيوان قوسي الشكل معقود بالحجر القاشاني. في وسط فناء الصحن الروضة المقدسة وهي من أعجب المباني وأتقنها وأبدعها شكلاً، وفي حظها بالمحاسن، وأخذت بكل بديعة بطرف يدخل إليها من عدة أبواب ليس هنا محل ذكرها وأشهر أبوابها الباب القبلي وهو من الفضة النفيسة الصياغة وفي جوانبيه سهوات محكمة البناء بديعة الشكل عَلَى هيئة النجاريب مرصعة بقطع من المرائي تأخذ بمجامع

القلوب، أمامها صفة مفروشة أرضها بالرخام وكذلك جدارها الأدنى فإنه مؤزر به إلى مترين مرصع كله بزجاج ترصيعاً هندسياً يقل نظيره وسقف هذه الصفة قائم عَلَى دعائم محكمة من الساج وهذا الباب ينتهي من الداخل إلى رواق يحيط بالحرم - الروضة - من شرقيها أو جنوبيها أو غربيها وعن يمينك تجد قبر حبيب بن طاهر وعليه مشبك من الشبه فتدخل باستقامة إلى باب آخر من الفضة الناصعة العجيبة الصياغة إلى مقام محكم الصنع ملون بألوان زاهية بديعة، وهو الروضة أو الحرم الذي فيه قبر الحسين وطوله 10 أمتار و40 سنتيمتراً وعرضه 9 أمتار و15 سنتيمتراً وفي داخله من أنواع التزاويق ورائق الصنع ما يحير العقول وأكثر ذلك مغشى بالذهب الوهاج فهي تتلألأ نوراً وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها، ومما زادها بهجة وزخرفة وجود الجواهر النفيسة، وقناديل ذهب وفضة، وغير ذلك من المعلقات الغالية الثمن عَلَى القبر الشريف التي أهداها إليه ملوك الفرس وسلاطين الهند في عصور مختلفة مما يعجز قلم البليغ عن وصفها والإحاطة بكل ما هنالك من نفائس المجوهرات ونوادر الآثار. وفي أقصى الحرم مصطبة نفيسة تحتها رمم الإمام، والمصطبة بديعة الصنع والنقش والحفر عجيبة الصبغ والتلوين ترى من وراء مشبك من الفضة الناصعة وهو ذو أربعة أركان وفي جانب الطول منه 5 شبابيك وعرش كل شباك منها 80 سنتيمتراً ويتفرع من وسط الجانب الشرقي منه مشبك صغير من الفضة أيضاً عَلَى ضريح ابنه علي الأكبر الذي قتل معه - وهو غير علي زين العابدين الذي فقيد مع الأسرى إلى الشام - وطول مشبك الحسين 5 أمتار ونصف المتر في عرض 4 أمتار ونصف متر وارتفاعه 3 أمتار ونصف متر وطول مشبك الابن متران و60 سنتيمتراً في عرض متر و40 سنتيمتراً، وفي أعلى مشبك الحسين 16 آنية مستطيلة الشكل كلها من الذهب الإبريز وفي كل ركن من المشبكين رمانة من الذهب يبلغ طولها قرابة نصف متر وسماء ذلك الحرم مغشاة بقطع من المرئي عَلَى شكل لا يقدر أن يصفه واصف. وفي الزاوية الجنوبية من الحرم قبر الشهداء وهم ملحودون عَلَى ضريح واحد وعلى وجه تلك الزاوية مشبك من الفضة الناصعة طوله أربعة أمتار و80 سنتيمتراً وهو عبارة عن 4

شبابيك عرض كل واحد منهم 75 سنتيمتراً وارتفاعه متر و70 سنتيمتراً، ويغطي الحرم كله قبة شاهقة مغشاة من أسفلها إلى أعلاها بالذهب الإبريز، وفي محيطها من الأسفل 12 شباكاً عرض كل شباك متر واحد من الداخل ومتر و30 سنتيمتراً من الخارج ويبلغ ارتفاع القبة من أسفلها أي من سطح الحرم إلى أعلاه قرابة 15 متراً. وفي هذا الجامع ثلاث مآذن كبيرة يناطحن السحب بذهلهن صعداً في الهواء اثنان منها مطليتان بالذهب الوهاج وهما حول الحرم والثالثة مبنية بالقاشاني وهي ملتصقة بالسور الخارجي من الجانب الشرقي وهناك أيضاً ساعة كبيرة مبنية عَلَى برج شاهق يراهما المرء من مكان قصي، وصفوة القول أن الكاتب مهما أوتي من البلاغة والفصاحة والإجادة في الوصف لا يمكنه أن يصف كل ما في هذا المسجد الضخم من الأبنية والأروقة والتزيينات وما كتبناه ليس إلا ذرة من جبل أو نقطة من بحر زاخر. 2ً لمحة تاريخية في بناء المسجد والقبر يرتقي تأسيس القبر إلى أيام مقتل الحسين ومما يؤخذ من كلام جعفر بن قولويه في كتابه كامل الزيارة أن الذين دفنوا الحسين رضي الله عنه أقاموا رسماً لقبره ونصبوا له علامة وبناء لا يدرس أثره وفي سنة 65هـ 684م قدم لزيارة رمسه سليمان بن صرد الجزاعي مع الثائرين لأخذ ثارات الحسين وأصحابه، وقد ازدحموا عَلَى قبره كازدحام الناس عَلَى الحجر الأسود ولم يكن إذ ذاك ما يظلل قبره الشريف وجاء في كتاب كنز المصائب أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي قام بتشييد قبره واتخذ قرية حولهن وذكر صاحب كنز المصائب عن أبي حمزة الشمالي - المتوفى في عهد المنصور العباسي - عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ما نصه. . فإذا أتيت الباب الذي يلي الشرق فقف عَلَى الباب وقل. . ثم تخرج من السقيفة وقف بحذاءِ قبور الشهداء. . . وأيد لهذا المعنى لخبر المجلس الطوسي في المجلد 22 من البحار 80 - 102 طبع إيران والسيد ابن طاووس في إقبال الأعمال صفحة 28 طبع عجم وهذا ما يدلك عَلَى أن له باباً شرقياً وغربياً وخلاصة القول أنه كان في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية بناء ذو شأن عَلَى قبره ومع هذا فقد كان الأمويون يقيمون عَلَى قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته. ولم يزل القبر بعد سقوط بني أمية وهو بعيد عن كل انتهاك لاشتغال الدولة العباسية بغدارة

شؤون الملك ولظهورها بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميين وغير خفي أن القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلهم كانوا من أنصار آل هاشم، ولما رسخت قدم العباسيين في البلاد وقمعوا الثورات وجهروا بمعاداة شيعة علي رضي الله عنه ولكنها كانت خفيفة الوطأة أيام المنصور والمهدي والهادي، وثقلت وطأتهم عليهم أيام الرشيد فإنه تظاهر بمناهضة العلويين فسجن كبارهم وفتك بسادتهم وأهان عظمائهم حتى أنه سجن عدد كبير من سادات آل البيت وخرب قبر الحسين وقطع السدرة وكرب موضع القبر ولعل ذلك كان لارتيابه من شيعة علي، ولما جاء دور المأمون تنفس الشيعة الصعداء واستنشقوا ريح الحرية الرطيب وكان المأمون يتظاهر بحبه لآل البيت حباً جماً حتى أنه استعاض بلبس السواد وهو شعار العباسيين بلبس الخضرة وهو شعار العلويين وأوصى بالخلافة من بعده لعلي بن الرضا بن موسى الكاظم ولعل ذلك كيد منه لأخيه الأمين واسترضاء لمناصريه الخراسانيين، وفي زمن المأمون أعيد موضع القبر وأقيم عليه بناء شامخ. وبقي الحال عَلَى هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة إلى أن جاء دور المتوكل فضيق الخناق عليهم وطاردهم في الآفاق وأمر بهدم قبر الحسين وحرث أرضه وإسالة الماء إليه وأقام في المسالح أناساً يترصدون لمن يأتي لزيارته أو يهتدي إلى موضع قبره فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم، وقد نالت فرقة الشيعة شيئاً من الحرية عَلَى عهد المنتصر وكان هذا محباً لآل البيت ومقرباً لهم رافعاً مكانتهم معظماً قدرهم ومن حسانه إليهم أنه شيد قبر الحسين ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه، وفي خلافة المسترشد بالله ضاقت الأرض عَلَى رحبها بالشيعة لما أخذ المسترشد جميع ما اجتمع في خزانة القبر من الأموال والمجوهرات فأنفق عَلَى جيوشه قائلاً أن القبر لا يحتاج إلى خزينة إلا أنه لم يتعرض للبناء ولم يمسسه بسوء من ذلك الحين أخذت كربلاء بالاتساع فاتخذت الدور وشيدت القصور وأقيمت الأسواق. وكان البناء الذي سيد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة 273هـ 886م فقام إلى تجديده محمد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد العباسي سنة 283هـ 896م وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه 370هـ 980م بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول

الضريح وكان عدد من جاور القبر في ذلك العهد من العلويين 2200 نسمة فأجزل لهم عضد الدولة من العطايا وكان ما بذل لهم مائة ألف رطل من التمر وكان آل بويه من أنصار مذهب الشيعة واستفحل التشيع عَلَى عهدهم حتى أن معز الدولة أمر سنة 352هـ 963م بإقامة المأتم في عاشوراء فكان ذلك أول مأتم أقيم في بغداد وفي سنة 408هـ 1017م شبت النار حول الضريح من شمعتين كبيرتين سقطتا عَلَى المفروشات فالتهمت النار القبة وتعدتها إلى الأروقة ولم يبق من المسجد إلا السور وشيء من الحرم فرمم وهو الذي وصفه ابن بطوطة في رحلته وفي سنة 767هـ 1365م شيد السلطان إدريس الأيلكاني المسجد والحرم وأتمه وأكمله ولده السلطان حسين وقد وجد تاريخ هذا البناء عَلَى المحل المعروف عند أهالي كربلاء بنخل مريم فيما يلي الرأس وقد شاهده محمد بن سليمان بن زوير السليماني وقد كان أنزل هذا التاريخ سنة 1216هـ 1801م وفي سنة 932هـ 1525م أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً بديع الصنع إلى القبر الطاهر وفي سنة 1048هـ 1638م شهد السلطان مراد الرابع القبة المنورة وجصص خارجها وفي سنة 1135هـ 1722م نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهر وأنفقت عَلَى ذلك أموالاً لا تحصى، وفي أوائل القرن التاسع عشر أهدى فتح علي شاه أحد ملوك إيران شبكة من الفضة وهي اليوم موجودة عَلَى القبر وفي 1216هـ 1801م أمر محمد علي خان بتزيين الحرم الشريف وتعميره وبذل لذلك مبالغ وفيرة، ويوجد اليوم في أعلى أبواب الفضة فوق الآيات القرآنية فيما يقابل الوجه الشريف، وحوالى هذا التاريخ أمرت زوجة فتح علي شاه بتذهيب المأذنتين، وفي سنة 1273هـ 1865م غشيت قبة الحرم بالذهب عَلَى نفقة ناصر الدين شاه كما هو مكتوب عَلَى حائطها فوق الشبابيك بسطر من ذهب فيه بعض الآيات ولم يحدث بعد ذلك ما يهم تدوينه سوى ما جددت إنشاءه في العهد الأخير إدارة الأوقاف، هذا مجمل ما يمكن الوقوف عليه من تاريخ المسجد والقبر وربك علام الغيوب. 3ً وصف خزائن الأئمة في النجف وكربلاء يوجد في كربلاء والنجف خزائن قديمة العهد فيها آثار ذات قيمة لا تثمن نذكر منها خزانتين للحسين والعباس رضي الله عنهما في كربلاء وخزانتين للإمام علي كرم الله

وجهه وقد حوت هاتان الأخيرتان من الآثار التاريخية النفيسة ما لا يمكن وصفه لأنهما بقيتا بعيدتين عن أذى الوهابيين إبان حملتهم عَلَى العراق في أوائل القرن التاسع عشر، وأما خزائن الحسين والعباس فقد أتلفها يد الضياع وذهب أكثر ما فيها أثناء الغارة الوهابية عَلَى كربلاء. أما خزينتا الإمام علي في النجف فقديمتان منها واحدة لم تفتح ولم ترى عينها إنسان إلا مرة واحدة حينا أتى ناصر الدين شاه أواخر سنة 1870 لزيارة قبور الأئمة في العراق، وكان ذلك بإرادة سنية استحصلها من السلطان عبد العزيز خان وقد حضر احتفال فتحها كمال باشا ناظر الأوقاف، وبناءً عَلَى التماس ناصر الدين شاه من السلطان عبد العزيز أُخرج منها قنديل مرصع بالحجارة الكريمة قيمته 6500 ليرة فعلق عَلَى المصطبة التي تحتها رمم الإمام وهذا القنديل لا يزال موجوداً إلى اليوم، وقد أهدى ناصر الدين شاه الخزانة سيفاً ثميناً مرصعاً باليواقيت والجواهر وبعد أن تفقد ناصر الدين شاه ما فيها من الآثار النفيسة أقفلت وختم عَلَى قفلها مدحت باشا والي بغداد وكمال باشا ناظر الأوقاف، وقد اختلف الناس في تخمين ما في هذه الخزانة من الجواهر فالبعض يدعي أن ما حوته من المجوهرات تناهز قيمته 30 مليوناً من الجنيهات حتى قيل أن هناك درة كبيرة لا تُثمَّن محفوظة في ظرف من الزجاج ومن الأقوال المأثورة فيها أنها تقوم بإعمار العراق ولو خرب وهذه تعد اليوم من جملة المعلقات الفاخرة عَلَى ضريح الإمام علي ومما يؤخذ من أقوال القيم عَلَى أموال وخزائن الإمام وهو ما يسمى عندهم كليد دارأن ما في هذه الخزانة وحدها تساوي قيمته من 600 ألف ليرة إلى 700 ألف ليرة. أما الخزانة الثانية فليست مفتوحة في كل وقت ولا يدخلها كل احد ومن نفائس ما حوته تاج ثمين عريق في القدم كان أهداه أحد سلاطين الهند قيل أن ثمنه يساوي 1000 جنيه عثماني وهناك سيف مرصع بالزمرد يقدر ثمنه بألفي ليرة، وفيها سجادات ثمينة دقيقة الصنع كان يجلس عليها ملوك الفرس وكل قطعة منها تساوي ألف جنيه، وأما ما فيها من شالات الكشمير والأنسجة التي تحار لها العقول وتستوقف الأبصار فما لا يحصيه أحد ولا يحيط به واصف مهما أوتي من البلاغة. ويوجد اليوم عَلَى ضريح الإمام علي تحف نفيسة ومعلقات لا نظير لها منها ظرف من

الزجاج فيه تاج مرصع بالحجارة القديمة يقال أنه تاج ملك من ملوك إيران المتأخرين، هذا عدا ما هناك من القناديل الذهبية والمعلقات بديعة الشكل، ومما يدخل في عداد ذلك مكتبة مخطوطة حوت نفائس المخطوطات العديمة النظير منها نسخة من القرآن الكريم بخط الحسين بن علي بن أبي طالب إلى غير ذلك من نوادر الكتب والمخطوطات. وأما خزانة العباس فهي أغنى الخزائن بعد خزانتي الإمام علي وهي عبارة عن مستودع أسلحة هو عبارة عن غرفتين مملوءتين أسيافاً ذات غرارين قامته ذات حدٍ واحدٍ، والذي يؤسف له إهمال ولاة الأمر هذه الأسلحة القديمة التي أصبحت أثراً بعد عين، وفيها صناديق عديدة مشحونة بأنواع الشالات الثمينة وأستار من الحرير المقصب، ومسارج شمعدانات ذهبية فاخرة، وسيف ذهبي فاخر مرصع محلى بالنقوش الدقيقة، وإبرة كبيرة من الألماس ذات قيمة غالية، ومسرجة شمعدان فاخرة مرصعة بالحجارة القديمة قيل أنها تساوي ألف جنيه، هذا عدا السجاد الجميل المزدان بأبدع التصاوير وأغرب النقوش، منها سجادة مصنوعة من الحرير دقيقة الصنع أهداها إلى الخزان الشاه عباس وقد كتب عَلَى حاشيتها كلب أستانة حضرة عباس أي كلب عتبة حضرة العباس. أما خزانة الإمام الحسين فلم يبق منها عَلَى ما علم شيء جدير بالذكر، وكل ما هناك 16 إناءً مستطيلاً كلها من الذهب الإبريز وهي الآن موجودة في أعلى مشبك الحسين وقد مر ذكرها، وسبب فقر خزانة الحسين ناشئ من وقوعها بين أيدي الوهابيين وسنصف في غير هذا الموطن ما نهبه الوهابيون من خزانهة الحسين من مجوهرات وغيرها. اظنك تتعجب من غنى هذه الخزائن ولكن لو علمت أن كربلاء عَلَى اتساعها وكثيرة سكانها لا يوجد فيها اليوم مدرسة ثانوية لازداد عجبك، ولو طفت قرى كربلاء واحدة بعد أخرى لرأيت كلها - عدا النجف الأشرف التي هي اليوم مقر العربية وموطن أدبائها وفضائلها - وفي أسوء حال بل: لرأيت الجهل متفشياً بن أبنائها، عَلَى أني أقول ما أقول لو أن أهل الحل والعقد في العراق يؤلفون جمعية يثق بها الناس لبيع هذه الآثار في أسواق أوربا ويشترون بأثمانها عقارات أو يشقون جدولاً أو يفتحون بها مصرفاً زراعياً أهلياً يساعد الفلاحين عَلَى قضاء حاجاتهم، وترويج مصالحهم، وينشئون مدرسة عالية في النجف أو كربلاء تدرس فيها العلوم الحديثة بالعربية بشرط أن يستقدموا أساتذة من علماء مصر

والشام وينفقوا عليها من ريع تلك العقارات أو من مكاسب المصرف لخدموا المجتمع العراقي خدمة تذكر فتشكر وكانت الفائدة عامة، بل إن هناك ما هو أكثر فائدة وأعظم شأناً وهو أنهم ينشئون بأثمانها بواخر يسيرونها في نهر الفرات أو يمدون سكة حديدية بين بغداد وكربلاء فتقرب البلاد بعضها من بعض وتنمو الثروة وتزداد التجارة، ومن ريعها ينفقون عَلَى المدرسة، إذ هذا الزمن زمن التفكر بالمستقبل والعمل إلى ما فيه خير المجتمع لا وقت الكسل والخمول والانعكاف عَلَى القديم، وأي خير من خزائن لا تفيد الأمة في وقت الحاجة والضيق، في وقت يتسابق الأقوام إلى الاستضاءة بنبراس الحضارة ونحن في ظلمات الجهل تائهون، وتتراكض الشعوب إلى اقتطاف ثمار الفنون اليانعة ونحن عن ذلك لاهون، ولا أظن أحداً يعارض هذه الفكرة أو يحول دون إبرازها إلى الوجود سواء كان من رجال الحكومة أو من رجال الجعفرية هذا وإني أحث أدباء النجف عَلَى أن يكونوا أول القائمين بهذا الأمر لأنهم قادة العراق وذوو الأمر والنهي فيه، فينشئون مقالات في هذا الشأن مظهرين ارتياحهم لذلك، وربك الهادي إلى طريق الصواب. 4ً نبذة من تاريخ كربلاء القديم والحديث لم تكن كربلاء في العهد العيهد قبل الفتح الإسلامي بلدة تستحق الذكر، ولم يرد ذكرها في التاريخ إلا نادراً وأكثر ذلك في عرض الكلام عما كان يقع في الحيرة وقرى الطف من الوقائع. وكانت قبل أن يفتحها المسلمون قرية حقيرة عليها مزارع وضياع لدهاقين العجم. وكان سكانها أهل حراثة وزراعة وظلت كذلك إلى أن افتتحها المسلمون في عهد عمر ابن الخطاب سنة 14هـ ة635م وكان الفاتح لها ابن عرفطه بأمر سعد بن أبي وقاص قائد جيوش المسلمين في حرب القادسية، وقد كانت العرب صممت عَلَى أن تجعلها مباءَة لجيوشها ومركزاً لإدارة ما فتحوه من ديار الحيرة فاتخذوها بادئ بدءٍ معسكراً ثم رحلوا عنها عندما أنكروا وخامة هوائها وكثرة ذبالها فنزلوا الكوفة. وإلى ذباب كربلاء أشار رجل من أشجع في قصيدته: لقد حبست كربلاء عن مطيتي ... وفي العين حتى عاد غثاً سمينها إذا رحلت من منزل رجعت له ... لعمري وايهاً إنني لأهينها ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاف من الذبان رزق عيونها

ولما رحل المسلمون عنها قلَّ شأنها وكادت تعفو رسومها ويخفى ذكرها ومازالت إلى أن عاد ذكرها ما حدث حولها 61هـ 680م من الحوادث الخطير التي أدهشت العالم الإسلامي إلا وهي وقعة كربلاء والطف المحزنة التي قتل فيها الحسين بن علي ونفر قليل من أصحابه رضي الله عنهم لمطالبته بالخلافة وأنفة من مبايعة يزيد بن أبي سفيان لأنه يرى نفسه أحق بها منه، ومن ذلك الحين ذاع صيت هذه المدينة في الآفاق وانتشر في الأقطار، وقد جاء ذكرها في أشعار العرب ودواوينهم ومع هذا لم تكن في القرن الأول الهجري عامرة، ومع ما كان في أنفس الهاشميين وشيعتهم من مجاورة قبر الحسين لم يتمكنوا من اتخاذ الدور وتشييد البنايات خوفاً من سلطان بني أمية، وقد أخذت في التقدم في أوائل الدولة العباسية ورجعت القهقرى أيام الرشيد وقد ازداد خرابها في أيام المتوكل لأنه هدم قبر الحسين فرحل عنها سكانها، ثم أخذ الشيعة أيام المنتصر يتوافدون إلى كربلاء أفواجاً أفواجاً ويعمرونها ثم ضخمت في القرن الرابع للهجرة وقد زارها عضد الدولة بن بويه سنة 37هـ 980م وكانت مدينة عامرة آهلة بالسكان يقطنها آلاف النفوس وقد وصفها ابن بطوطة قال: هي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات، والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والخارج وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا يدخلها أحد إلا بإذنهم فيقبل العتبة الشريفة وهي الفضة وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحديد، وأهل هذه المدينة طائفتان أولاد دخيل وأولاد فائز ينهم القتال أبداً وهم جميعاً أمامية ولأجل فتنهم تخربت هذه المدينة اهـ. ولم تزل كربلاء بين صعود وهبوط ورقي وانحطاط تارة تنحط فتخضع لدول الطوائف وطوراً تعمر متقدمة بعض التقدم إلى أن دخلت في حوزة الدولة العثمانية سنة 941هـ 1534م وأخذت تتنفس الصعداء مما أصابها نكبات الزمان وحوادث الدهر التي كادت تقضي عليها، وبقيت وهي مطمئنة البال مدة طويلة تزيد عَلَى ثلاثة قرون لم ترى في خلالها ما يكدر صفو سكانها حتى جاءت سنة 216هـ 1801م جهز الأمير سعود الوهابي جيشاً عرمرماً مؤلفاً من 20 ألف مقاتل وهجم بهم عَلَى مدينة كربلاء وكانت عَلَى غاية من الشهرة والفخامة ينتابها زوار الفرس والترك والعرب فدخل سعود المدينة بعد أن ضيق

عليها وقاتل حاميتها وسكانها قتالاً شديداً، وكان سور المدينة مركباً من أفلاق نخيل مرصوصة خلف حائط من طين، وقد ارتكب الجيش فيها من الفظائع ما لا يوصف حتى قيل أنه قتل في ليلة واحدة 20 ألف نسمة وبعد أن تم الأمير مسعود مهمته الحربية التفت نحو خزائن والقبر وكانت مشحونة بالأموال الوفيرة وكل شيء نفيس فأخذ كل ما وجد فيها. وقيل أنه فتح كنزاً كان فيه أموال جمة جمعت من الزوار، وكان من جملة ما أخذ لؤلؤة كبيرة وعشرون سيفاً محلاة جميعها بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة، وأوان ذهبية وفضية وفيروز وألماس وغيرها من الذخائر النفيسة الجليلة القدر، وقيل أن من جملة ما نهبه سعود أثاثات الروضة وفرشها منها 4000 شال كشميري و2000 سيف من الفضة وكثير من البنادق والأسلحة وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها. وقد عاد إليها بعد هذه الحادثة من نجا بنفسه فأصلح بعد خرابها وأعاد إليها العمران رويداً رويداً وقد زارها في أوائل القرن التاسع عشر أحد ملوك الهند فأشفق عَلَى حالتها وبنى فيها أسواقاً حسناء وبيوتاً قوراء أسكنها بعض من نكبوا، وبنى للبلدة سوراً حصيناً لصد هجمات الأعداء وأقام حوله الأبراج والمعاقل ونصب له آلات الدفاع عَلَى الطرز القديم وصارت عَلَى ما يهاجمها أمنع من عقاب الجوفامنت عَلَى نفسها وعاد إليها بعض الرقي والتقدم. وفي سنة 1241هـ 1825م وقعت واقعة عظيمة تعرف بوقعة المناخور - أمير الأخور أي أمير الاصطبل، وذلك أن الدولة العثمانية كانت في ذلك الزمن ضعيفة لاختلال الجيش الإنكشاري واستقلال البلاد القاصية واشتغالها بمحاربة العصاة في البلقان وطموح محمد علي والي مصر إلى الاستقلال واستقلال علي باشا لنلي تبه في ألبانيا، وكان والياً عَلَى العراق إذ ذاك داود باشا وكان تقياً عادلاً ورعاً مشهوراً بالدهاء وفرط الذكاء إلا أنه كان شديد الحرص عَلَى الانسلاخ من جسم الدولة والاستقلال بالعراق أسوة بمن تقدمه. فسعى بادئ بدءٍ إلى جلب قلوب الأهالي بما أنشأه من العمارات والبنايات والجوامع والتكايا. وقرب علماء العراق وبالغ في إكرامهم ونظم جيشاً كبيراً وأسلحة عَلَى الطراز الجديد حينئذ، فقاوم بعد ذلك يدعو الناس إلى بيعته، ولكثرة ما كان لديه من الأعوان بايعه أكثر مدن عراق العرب إلا كربلاء والحلة فرفعا راية العصيان وعند ذلك سير جيشاً ضخماً بقيادة أمير إصطبله وكانت عشيرة عقيل تعضده فأخضع القائد الحلة واستباح جاها ثم جاء

كربلاء فحاصرها ثمانية عشر شهراً ولم يقو عَلَى افتتحاها لحصانة سورها ومناعة معاقلها، ولما رأى ذلك أقلع عنها ثم كر عليها ثانياً وثالثاً فلم يفز بأمنيته إلا بعد حصار طالت مدته أربع سنوات من سنة 1241هـ 1825م إلى سنة 1245هـ 1829م وكانت نتيجتها أن أسر الجيش نقيب كربلاء فسجنه داود باشا في بغداد. وفي سنة 1258هـ 1842م شق أهالي كربلاء عصا الطاعة عَلَى الدولة وأبوا أداء الضرائب والمكوس وكان والي العراق نجيب باشا فجهز جيشاً بقيادة سعد الله باشا وسيره إلى كربلاء فحاصرها حصاراً شديداً وأمطر المدينة بوابل قنابله ولم يساعده الحظ عَلَى افتتاحها لأن سو رها كان منيعاً جداً وقلاعها محكمة لا يمكن للقائد الدنو منها، ولما أعيت به الحيل الحربية التجأ إلى الخداع فأعطى الأمان للعصاة وضمن لهم عفو الحكومة فأخلوا القلاع وجاؤه طائعين فقبض عليهم وسلط المدافع عَلَى جهة السور الشرقية فهدمها وأصلى المدينة ناراً حامية، ففتحها وارتكب فيها فظاعة وشناعة، ودخل بجيشه إلى صحن العباس وقتل كل من لاذ بالقبر وبهذه الموبقات أعاد سلطة الحكومة إلى تلك الربوع. وفي سنة 1293هـ 1842م ظهرت فتنة بكربلاء تعرف بفتنة (علي هدلة) وذلك أن جماعة من المفسدين حرضت من الأهالي عَلَى مناوأة الحكومة وكانت أفكار الأهالي مستعدة لقبولها فألفت عصابة بقيادة علي هدلة وقابلت الجيش العثماني ودحرته في مواقع متعددة. ولما رن صدى هذه الحادثة في الآستانة قلقل السلطان المخلوع وأصدر إرادة سنية بإرسال الجيوش إلى كربلاء وهددها وقتل من فيها عن بكرة أبيهم. وناط تنفيذ الإرادة بعاكف باشا والي بغداد والمشير حسين فوزي باشا وكان هذا القائد عاماً للجيش فجاء الاثنان كربلاء يصحبهما نقباء بغداد السابقين وضربوا المضارب قرب المدينة، فلم ير الوالي في المدينة آثار العصيان والتمرد. وقد علم بعد البحث الطويل أن العصاة عصابة ارتكبت إثماً واقترفت ذنباً يطاردها الجيش وليس من العدل هدم المدينة وتنفيذ الإرادة السنية عَلَى سكانها وأخذ البريء بجريرة المذنب فأحجم عن تنفيذ ذلك وفاتح القائد العام فأبى هذا إلا الإصرار عَلَى تنفيذ الأوامر فنجم من ذلك خلاف بينهما فرجعا إلى الآستانة وخاطباها بالأمر وبعد أخذ ورد صدر الأمر بالعفو، فرحل الجيش عنها بعد أن قبض عَلَى مثيري الفتنة وموقدي نيرانها قادهم إلى بغداد ومن هناك ألقاهم في أعماق السجون.

بغداد // إبراهيم حلمي

فجر العلم الجديد

فجر العلم الجديد أفق إذ شارف الدجى أجله ... وودعته النجوم مرتحله وفحمة الليل علقت سحراً ... شرارة النور فهي مشتعلة ومقلة الفجر في انتباهتها ... ما برحت بالظلام متكحلة لا سائر في السبيل منصرف ... في طاعة أو مباكر عمله إلا خفير يمشي عَلَى مهل ... حمى عليه نعاسه العجله يحيل في كفه هراوتهِ ... أو ينتفخ البوق طارداً ممله والغيث غمر الحياء سادلة ... خيوطه من سحائب هطله يغزل الأرض سندساً بهجاً ... فتكتسي في الربيع ما غزله والريح رعناء تهجمها ... عَلَى زجاج الكوى ومقتتله تشتد في عصفها لتسكله ... مقبلة تارة ومنفتله ترومه عنوة فيعجزها ... والنور باللين نافذ خلله ذكرت أيامنا التي سلفت ... فداخلتني صبابة ووله كم غدوة نرشف الصبوح منها ... أطرافها بالظلام متصلة يدير كأس الطلى مشعشعة ... فتصبح الشمس في الضحى خجله فتحسيها من كف فاتنة ... عصيت فيها اللوام والعذله وحتى نخال النجوم هاوية ... والأرض في مشيها بنا ثمله ونحسب الدهر في كهولته ... والشيب غض الشباب مقتله وأطيب العمر ما انطوى وطوى ... وقائع المرء ما عليه وله وليس مستقبلاً نشك به ... أمانه قد تصيب أو وجله كيف يهز الغد الفتى جذلاً ... وربما كان فجره أجله لولا التمني لهاله غده ... وحقه أن يخاف ما جهله أطل طفل الزمان فابتسمت ... له ثغور الخلائق الجذله فهل يطيل ابتسامهن وهل ... يرعى الرجاء الذي لنا قبله مروحاً حانياً عَلَى أمل ... غض أبوه الزمان قد نجله وهل يؤاسي الجراح منعطفاً ... عَلَى أخي الوجد شافياً علله

إذا جن الظلام أنسه ... بالبدر أو حمل الصبا قبله وأن يخنه في نفسه عرضاً ... حقق فيمن يحبه أمله وهل يفي أو نرى لياليه ... غاشية بالخطوب مشتمله تمر بالناس غير مشفقة ... وبالأماني غير محتفله سر عن العالمين محتجب ... عليه ستر للغيب قد سدله دمشق // جرجي الحداد.

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات الإشارات الإلهية للتوحيدي في المكتبة الظاهرية بدمشق الجزء الأول من هذه الكتاب لأبي حيان التوحيدي صاحب المقابسات (المقتبس م1 ص302) من كبار المنشئين في عصره وأئمة العلم والأدب وكتابه في مخاطبة النفس جاء في أوله: اللهم إنا نسألك ما يُسأل لا عن ثقة بياض وجوهنا عندك وأفعالنا معك وسوالف إحساننا قبلك ولكن عن ثقة بكرمك الفائض وطمعاً في رحمتك الواسعة نعم وعن توحيد لا يشوبه إشراك وعرفة لا يخاطبها إنكار وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة نسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك فتشمت بنا من لم يكن له هذه الوسيلة إليك يا حافظ الأسرار ويا مسبل الأستار ويا واهب الأعمار ويا منشئ الأخيار ويا مولج الليل والنهار ويا مصافي الأخيار ويا مداري الأشرار ويا منقذ الأبرار من النار والعار وعد علينا بصفحك عن زلاتنا وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا وحطة حالنا معم في اختلاف سكراتنا وصحواتنا وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا لأنك أولى بنا وإذا خفنا منك فابرح خوفنا منك برجائنا فيك وإذا غلبت علينا بأسنا منك فتلقه بالأمل فيك الخ. وقال من فصل: أيها المحاور والصديق المجاور كيف أتكلم والفؤاد هائم بكل واد والخاطر خال من كل حاد وهاد كيف أشكو والسر ظاهر باد أم بأي شيء أتعلل وكل ما أجده مردد ومعاد أم عَلَى من اعتمد وكل أحد أراه فهو لي ضد ومعاد. أنفاسي محترقة بالحسرات ودموعي مترقرقة بين النغمات والزفرات وكبدي مشتعلة عَلَى المناظر والهيئات ويقظتي جارية عَلَى الرسوم والعادات وأحلامي عارية من كل ما له حاصل وثبات ونفسي رهينة بالسيئات مفتونة بالحسنات بالسوانح والخطرات مغبونة عن الحسنات والصالحات. الجهات من دوني منسدة والوجوه أمامي مسودة إن قلت قيل هذا زور وبهتان وإن شربت قيل هذا غرور وعدوان وإن سكت قيل هذا سهو ونسيان قليت من ابتلائي بما لا طاقة لي به ارحمني مما لا غنى لي عنه أو ليت منة طردني عن بابه أهلني لعتابه أو ليت من جرعني مرًّ من فراقه أخطر عَلَى بالي حلاوة لقائه أو ليت من غمسني في بحر البلوى طرحني إلى ساحل المنى أو ليت من حطني عن درجات المخدومين رقاني إلى قامات الخدم الخ. وقال من رسالة: حرام عَلَى قلب استنار بنو الله أن يكفر في غير عظمة الله حرام عَلَى

لسان تعود ذكر الله أن يذكر غير الله حرام عَلَى نفس طهرت من أدناس الدنيا لله أن تدنس بشيء مخالفة لله حرام إلى عين نظر ت إلى مملكة الله أن تحدق إلى غير الله حرام عَلَى كبد ابتلت بالثقة بالله أن تطمئن إلى غير الله حرام لع== عَلَى من لم يجد الخير إلا من الله أن يجد طمعاً في غير الله حرام عَلَى من شرف بخدمة الله أن يتضع بخدمة غير الله حرام عَلَى من ألف فَنَاء الله أن يعرج إلى غير الله حرام عَلَى من تلذذ بمناجاة الله أن يناجي غير الله حرام عَلَى من رتع في نعمة الله أن يعبد غير الله الخ. وأكثر الكتاب عَلَى هذا النمط وهو في مجلد ضخم يغلب عليه التحريف والتصحيف. التحفة الظريفة في خزانة كتب عبد القادر بك المؤَيد من فضلاء دمشق. نسخة من كتاب التحفة الظريفة الحاوية من كل نكتة لطيفة المسماة بمجموعة الحكيم جمع السيد حسن بن السيد عثمان الحكيم جمعه سنة 1888 في عصر بارت فيه صناعة الأدب وجدت القرائح وتراجعت العلوم ومن أحسن ما رأينا في آخر الكتاب تقارظ بعض أدباء عصره وفقهائه في دمشق وأكثرها شعر ضعيف ركيك فمنها تقريظ لحمزة أفندي زاده وآخر للسيد علي العمادي ولأحمد أفندي العمادي والسيد كمال الدين البكري ومحمد شاكر أفندي العمري والسيد أحمد الشمسي العمري والشيخ عمر العمري والشيخ محمد العمري والسيد عبد الفتاح مغيزل والسيد علي الشمعة والسيد خليل بن قرا مصطفى والشيخ محمد البصيري والسيد مصطفى اللوجي والسيد عبد الخالق اللوجي والسيد يحيى العطار والسيد محمد أمين العطار والشيخ محمد البصير وخليل أفندي المحاسني والشيخ محمد الطباع الحلبي والشيخ علي المجلد والشيخ صالح بن الشيخ محمد الدسوقي والحاج أحمد الرباط ومن أرق الشعر الوارد بيتان للشيخ علي الشمعة وهما قوله: ابدى لنا حسن الشريف لطائفاً ... قد صاغها لذوي النهى مجموعا كل المفرق من محاسن عصره ... أضحى لدى مجموعه مجموعا وقد رتب الجامع كتابه عَلَى خمسة عشر باباً الأول في نوادر العرب والثاني في المغفلين الثالث في القضاة الرابع في المعلمين الخامس في المتنبين السادس في النحاة السابع في الأطباء الثامن في الشعراء التاسع في الأهاجي والرسائل العاشر في الأجوبة المسكنة

الحادي عشر في نوادر النساء والجواري والمغنيات الثاني عشر في نوادر الغلمان والخدم الثالث عشر في نوادر البخلاء الرابع عشر في نوادر الطفيلية وأخبار الطعام والأكل الخامس عشر في نوادر شتى مختلفة المعنى. ومن نوادره: خرج الحجاج بن يوسف الثقفي يتصيد فرأى أعرابياً فقال له أيها الأعرابي كيف تقول في الحجاج وأفعاله فقال الأعرابي: إيش أقول في رجل غشوم ظلوم مشؤوم ما ولي هذا القطر اشر منه لعنه الله ولعن من ولاه علينا فبينما هو كذلك إذ أحاطت به الجند فقال الحجاج: خذوا لهذا قال الأعرابي لمن يليه: من هذا فقالوا له: الحجاج فحرك دابته حتى صار بالقرب منه ثم ناداه يا حجاج قال: قل ما تشاء قال له: السر الذي كان بيننا أحب أن يكون مكتوماً فضحك الحجاج وأطلقه. وخرج الحجاج ذات يوم متنزهاً فرأى أعرابياً فقال له: ايها العرب من خير القرب قال قريش قال ولم ذلك قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم قال: فمن أشر العرب قال: ثقيف قال: ولم ذلك قال لأن الحجاج منهم قال أتدري من أنا قال لا قال أنا الحجاج قال الأعرابي جعلت فداك أتعرف من أنا قال لا قال أنا مولى بن عامر أجن في كل سنة ثلاثة أيام وهذا اليوم أشدها فضحك ووصله وأطلقه. وقيل خطب المنصور يوماً بالشام فقال في خطبته ينبغي لكم أن تحمدوا الله عَلَى ما وهب لكم في أيامكم فإني منذ وليتكم صرف الله عنكم الطاعون الذي كان يجيئكم في أيام بني مروان فقام إليه أعرابي كان في المسجد فقال إن الله أكرم من يجمع علينا أنت والطاعون معاً. وقف المأمون عَلَى باب طحان فنظر إلى حمار له بدور الرحى وفي عنقه جرس فقال للطحان: لم جعلت هذا الجرس في عنق الحمار فقال ربما أدركني النوم فإذا لم أسمع حس الجرس علمت أن الحمار قد وقف فأصيح عليه ليدور قال أرأيت لو وقف وحرك رأسه بالجرس فقال ومن أين للحمار عقل مثل عقلك أيها الأمير حتى يفعل مثل هذا. وحكي أنه أمَّ رجلٌ من الظرفاء قوماً أياماً وكانوا من التغفل بمكان عظيم وكانوا يطعمونه الخبز والكامخ لا يزيدونه شيئاً فصلى بهم يوماً الصبح فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تطعموا أئمتكم الكامخ بل لحماً وإن لم تجدوا لحماً فبيضاً

وسمناً ومن يفعل ذلك منكم فقد خسر خسراناً مبيناً. وقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة فإن لم تجدوا بيضاً وسمناً فسمكاً فإن لم تجدوا سمكاً فلبناً أو حليبا ولا تمخضوه تمخيضاً ومن لم يفعل ذلك فقد افترى إثماً عظيماً فلما فرغ من صلاته جاؤوا واعتذروا له عن التقصير في حقه وإنه لم يكن عندهم خبر بهذه الآيات العظيمات المومى بها في الأئمة ثم سألوه في أي سورة هذه الآيات الشريفات فقال لهم في سورة المائدة في حزب الأكل لأي شيء سميت سورة وهي تنبئ عن مثل هذا كثير. والكتاب عَلَى هذا النمط وفيه من الحكايات ما لا يصح أنم يقرأ لكل إنسان لعدم الإلف بأمثاله في هذا العصر ومن الأشعار التي رواها قصائد هجوية لمصطفى بك الترزي وأهاجي عبيدي باشا وفيه رسالة لرجب الحريري مداعباً صديقاً له يقال له ابن الخليفة في بعلبك ورسالة الوهراني التي كتبها عَلَى لسان بغلته وعلقها في عنقها وسيبها في دار الأمير عز الدين ابن منوسك (المقتبس المجلد الأول) ورسالة أبي نواس الهزلية إلى بعض أصحابه ورسالة ابن الطليوني إلى القاضي عمر المغربي ورسالة أبي بكر الخوارزمي إلى البديهي إلى غير ذلك من النوادر والأشعار. لغة العرب يسرنا أن نرى الأعمال العلمية تنمو النمو المطلوب في بلاد العرب ولاسيما في مصر وتونس والعراق والشام أكثر الأقطار العربية مدنية وأقدمها في الأخذ بمذاهب العلم والتعليم. ومجلة لغة العرب لصديقنا الأب أنستاس الكرملي هي في مقدمة ما يفاخر به من الأعمال التي ظهرت في عهد الحرية الصحافية في الشام والعراق فإن المقالات التي تنشرها رصيفتنا في اللغة والنقد الأدبي وتاريخ العراق وعمرانها عَلَى جانب عظيم من التحقيق حري بأن يخلد في خزائن الكتب دليلاً عَلَى حالة العراق العلمية في هذا العهد وقد بلغ فيها صاحبا في مدة لم تبلغ الحولين مبالغ المجلات التي مضى عليها سنين كثيرة تعاني البحث والنقل وزادت أنها علمية محضة لا تتعرض للأبحاث الدينية فجدير بالمتأدبين والمستنيرين أن يستفيدوا مما تنشره الشهر بعد الشهر لخدمة الآداب العربية وأن تعد في الندية العلمية في جملة حسنات المحسنين في التأليف الذين يقدمون عَلَى خدمة العلم والأدب بعد أن يدرسوا موضوعاتهم ويمرنوا فيها أعواماً طويلة ليدخلوا البيوت من أبوابها ولو

كتب العامة مجلاتنا التي صدرت منذ أربعين سنةً إلى الآن يكون منشئوها أكفاء لعملهم لما بارت بضاعة العلم هذا البوار المخجل ولنفعت في تثقيف العقول أضعاف أضعاف ما نفعت. كتاب طبقات الأمم للقاضي أبي القاسم صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462هـ نشر الأب لويس شيخو طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة1912 (ص124). هذا الكتاب النفيس الذي وفق رصيفنا منشئ مجلة المشرق إلى نشره تباعاً في مجلته هو أشبه بفهرست ابن النديم وقد أحسن الناشر نشره وطبعه وتعليق حواشي عليه عَلَى عادته في معظم ما نشره في كتب العرب. ومن هذا الكتاب يعرف الإنسان اشتغال العرب بالعلوم المختلفة وينصفهم ولا يغمطهم حقهم. وقد كنا في أحد إعداد هذه السنة أشرنا ما وقع للأب شيخو من التحريف وصححناه بما هدانا إليه النظر والفكر فتفضل الناشر المنوه به بإضافة بعضه إلى آخر كتاب الطبقات عَلَى عادة الباحثين المصنفين في إثبات كل عمل لعامله لا كالذين يحد بهم ضيق عطنهم إلى الاستئثار بما سبق له غيرهم ليقال أنهم هم كل شيء وغيرهم لا شيء وفق الله الناشر إلى نشر أمثاله لخدمة الآداب والمعارف. أخبار وأفكار هو عنوان كتاب وقع في 227 صفحة لمؤلفه أمين أفندي الغريب صاحب جريدة الحارس وهو مجموعة أدب وتاريخ نشره في جريدته في أوقات مختلفة وتم العمل. وحبذا لو حذا حذوه غيره من كتاب الصحف فإن في مقالاتهم ما ينبغي حفظه لتتداوله الأيدي في صورة الكتب عَلَى الدهر. تاريخ بعلبك أهدانا ميخائيل أفندي موسى ألوف نسخة من الطبعة العربية الثالثة من كتابه تاريخ بعلبك وفيه وصف مدقق لتاريخ هذه المدينة ولاسيما قلعتها الشهيرة نقلاً عن أصح المصادر

الإفرنجية والعربية والتجارب الطويلة التي وقعت للكاتب وفي الكتاب صور بعض التماثيل والأحجار وما وجد عليها من النقوش والكتابات الأثرية مما دل عَلَى فضل وتدقيق وكان حرياً بأن يزدن به المكاتب. وأحق الناس بمعرفة تاريخ بلد أهله. فنشكر المؤلف عَلَى هذه التحفة التي طبعة عشر مرات باللغات الأجنبية مما دل عَلَى الإقبال عليها للانتفاع مما حوت. دروس الأشياء هو مختصر في هذا الفن فيه أبحاث عن الإنسان والحيوان والنبات وطبقات الأرض والحكمية الطبيعية والكيمياء تأليف فوزي بك العظم وسليم أفندي هاشم من أدباء دمشق وقد حلياه باثنين وثمانين شكلاً وبسطا عبارته بسطاً لا يعلو عن مفهوم المبتدئ فلنشكرهما عَلَى عنايتهما ونرجو لهما التوفيق إلى إكمال هذه السلسلة النافعة لطلاب المدارس ولاسيما الأهلية. رسائل مختلفة (أمثال الشرق والغرب) ليوسف أفندي توما البستاني اختيارات شيخ الإسلام ابت تيمية جمعها تلميذه ابن قيم الجوزية طبعت بمطابع روضة الشام رسالة في مسائل الإسلام داود الظاهري جمعها الشيخ محمد الشطي المتوفى سنة 1317 طبعت بمطبعة روضة الشام. ديوان تذكر الغافل عن استحضار المآكل لمحمد أفندي الخالد جلبي الحمصي جعل ريعه إعانة لبناء مدرسة الاتحاد الوطني بحمص. طبع بمطبعة حماة سنة 1330. كتاب الجرح والتعديل للشيخ جمال الدين القاسمي نشر في مجلة المنار بمصر. كتاب العمل بالإصطرلاب لعلي بن عيسى المنجم من أصحاب الهيئة في القرن الرابع للهجرة عني بنشره في المشرق الأب لويس شيخو اليسوعي طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1913. رسالة الخط الجديد ومنافعه وهو دعوة إلى كتابة الحروف منفصلة طبع عَلَى نفقة جمعية

إصلاح الحروف ونشر المعارف في الآستانة سنة 1330.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار البشر والهجرة يكاد يكون ف درجة الثبوت أن البشر نما عددهم منذ عرف التاريخ عَلَى الرغم مما ننالهم من الطوارئ التي ذكرها التاريخ من الحروب والأوبئة أو الأسباب الأخرى التي تفقر النمو وتقال التناسل ومع هذا كان التناسل كثيراً في أوربا منذ بضعة قرون وإن كان يكثر موت الأولاد في الطفولية أكثر من اليوم وتلتهم الأديار جانباً من الرجال والنساء يتعطلون عَلَى التناسل وليس ترك الأرياف والقرى ونزول المدن مقصوراً عَلَى بلد خاص أو صقع معيّن بل هو ظاهر في مكل مكان من البلاد الأوربية القديمة مثل سويسرا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا ونروج والبلجيك وهولاندة ظهوره في البلاد التي أخذ سكانها بالنمو مقل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا فترك الأرياف عام يشترك فيه جميع السلتيون: كاللاتين والسلافيون والروس والبلقانيين والسكسونيين كالإنكليز ولا يظهر أن للأوضاع السياسية والاجتماعية دخلاً فيه وما من حكومة من الحكومات خالية منه حتى أن طريقة تقسيم الأملاك لا تمسك الإنسان في الحقول وليس في قوانين المواريث ما يظهر أنه أسمى من غيره فقد أخضعت لسلطان الهجرة حتى البلدان المتماسكة الأجزاء مثل فرنسا وإنكلترا والمجر وروسيا والولايات المتحدة وأوستراليا والأرجنتين فإن أصقاعاً كبيرة استعمرت منذ زمن طويل في الولايات المتحدة ولاسيما ولايات إنكلترا الجديدة قد خضعت لهذا النظام فترك أهلها قراهم لينزلوا الحواضر يسكنونها فنمت بذلك المدن نمواً هائلاً بالنسبة لمجموع البلاد فقد سكن مدينة بونس أيرس عاصمة الجمهورية الفضية مليوناً وثلثمائة ألف في حين بلغ سكان جميع هذه البلاد ستة ملايين نسمة تدخل فيها العاصمة ومساحة أراضي الأرجنتين خمسة أضعاف مساحة فرنسا وهكذا تجد النمو بادياً في مدن الولايات المتحدة كنيويرك وشيكاغو وفيلادلفيا وسان لوي وسنسيناتي وبوسطن وسان فرنسيسكو وستل وأورليان الجديدة كما هو بادٍ في ملبورن وسدني من عواصم أوستراليا. هذا ما قاله أحد الاقتصاديين في جريدة الاقتصاد وعقب عليه بقوله تحمل رؤوس أموال كثيرة من العالم القديم أي من أوربا تستثمر في العالم الجديد فالمليون من الفرنكات يستثمر في أرض فرنسا فيعود بربح سنوي يختلف بين ثلثمائة أو مائتي ألف فرنك إذا حسبنا جميع

الأيدي التي تتناوله فتربح منه عَلَى حين لو جرت تنمية هذا المليون في البلاد الأجنبية لا تعود من ال فائدة بأكثر من 40 إلى 45 ألف فرنك. إن من يهاجر إلى القاصية كمن يتركون قراهم ليستوطنوا المدن المجاورة ليبحثوا عن رفاهية أسمى مما تمتعوا به ويظنون بأنهم يحققون أمانيهم في النجاح بانتقالهم إلى محيط يصرفون فيه قولهم بما يعود عليهم بالنفع أكثر. ومعنى ذلك يدور عَلَى البحث عن أجرة أكثر وهذا هو الباعث الأول عَلَى هذه النقلة بل الباعث الوحيد فالأجور هي العامل الوحيد الذي يدعو الناس إلى التنقل في عصرنا ما أحب الهواء الجيد والحياة الاجتماعية ولطف الأخلاق وسلاسة العمل فليس لها محل من الإعراب في جملة هذه الحال. ترى العامل في الولايات المتحدة وأوستراليا ينتقل من المدن ال القرى وبالعكس لأن الأجور واحدة في الزراعة والصناعة وكلها رابحة والقاعدة العامة في ذلك أن المدن والقرى تمسك السكان متى كانت أجورهم مضمونة وحالتهم مأمونة فقد قل المهاجرون من ألمانيا منذ كثرت صناعتها ونمت بحريتها وتجارتها ويقل المهاجرون من المجر وروسيا وإيطاليا متى حسنت الزراعة فيها وانتظمت أسباب التملك وجوّدت الأسباب الاقتصادية أي الأجور فإذا كانت البلاد الجديدة تستميل إليها المهاجرين بمئات الألوف بل الملايين فذلك لأنها توزع أجوراً عالية وأور با وإنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وروسيا والمجر تبقي اليد العاملة في الحقول إذا ارتفع سعر الأجور الزراعية وذلك لا يكون إلا بتنويع الزراعة وتكثير المحاصيل والمواشي وتكثير الإيراد ولو قلت أسعار الحاصلات. إن هولاندة التي تعتبر مجموعها أرضاً فقيرة لأن في استثمارها صعوبة كثر سكانها اليوم كثرة زائد بفضل عملهم بحيث يحق عَلَى الهولانديين ما قاله فرنكلين بالقرب من رغيف الخبز يولد رجل والمرء كلما دفعته الحاجة يحسن الاحتيال عَلَى المعاش وأميركا وأستراليا إلى اليوم لم تستثمر من أرضها خيراتها كلها بل إن خصبها هو المساعد فقط عَلَى العكس في غربي أوربا فإن العمل هو الذي يستثمرها وبعد فإن المجتمعات لا تتحرك بالنظريات بل بالعمليات وكل نظرية تخالف المصالح الخاصة المبنية عَلَى العدل لا يتأتى أن تجري في العمل إلا إذا جعلت هذه المصالح قيد النظر. غلاء المعيشة

ذكرت إحدى الصحف الإفرنجية أن غلاء المعيشة ابتدأ سنة 1895 فلم يلبث في السنين الأخيرة أن صار فاحشاً جلب نظر رجال الحكومات والاقتصاديين وأحدث في جميع الأمم الصناعية قلقاً بين العملة عَلَى حين أن غلاء النقود أحدث اضطرابات شديدة في مصالح التجار المالية فزادت السعار في إنكلترا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وكندا وربما كان الغلاء في هذه المالك أكثر مما هو في بريطانيا العظمى وهذا ناشئ من زيادة الرسوم الجمركية عَلَى المصنوعات والغلات فالواجب إذاً أن نعرف أسباب هذا الارتفاع في الأسعار. فقد نظر رجال السياسة والتجار والاقتصاديون بما بدا لهم من ظواهر هذه المسألة فاقنعوا بأن السبب الوحيد هو زيادة محصول الذهب وهذا السبب قد يمكن قبوله لأن الذهب زاد محصوله زيادة هائلة من ذ سنة 1890 في مناجم الترنسفال خاصة فصعد المستخرج منه في عشرين سنة من 82. 589. 000 جنيه إلى 113. 000. 000 جنيه سنة 1900 ومع هذا فالواجب أن ننظر بأن معظم الذهب لا يتداول نقوداً بل يدخل في الصناعات وقد استغرقت منه في السنين الأخيرة كل من الهند ومصر واليابان وأميركا الجنوبية والمكسيك كمية وافرة. وقد ادخرت فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة كميات وافرة من الذهب احتياطاً ومع هذا فإن النقود بدل من أن تعتدل أسعارها ارتفعت عَلَى الرغم من كثرة الذهب فغلاء السعار ينسب إلى نمو طريقة الكريدتيو فإن الموارد الاقتصادية في بلد وأراضيها الخصبة وبواخرها ومعاملها وأدواتها ومادتها وأموالها أي مجموعة ثروتها هي أساس الكريدتيو التي ينظر إليها أرباب المصارف والماليون لا وفرة الذهب وكثرة محصوله. وإنا إذا أليقنا النزر عَلَى ماضي أعمال العالم خلال الخمسة عشرة سنة الأخيرة نرى أنه حدث مع التوفر عَلَى الاستزادة من محصول الذهب عناية فائقة في المشاريع الاقتصادية النافعة وكثرت أنواعها في البلاد كلها. وأخذت البرازيل والأرجنتين وسائر ممالك أميركا كثيراً من رؤوس الأموال الأوربية وكان من الثروات الطبيعية في غربي كندا والهبة التي هبت في صناعة الولايات المتحدة ونهضة الصناعة اليابانية وكل ما كان من النهضات عَلَى هذا النحو. وقد جاء ذلك في آن واحد مع نمو محصول الذهب. ولا تنس تأثير الموارد الجديدة في حركة التجارة عامة وكان أول نتيجة لما تم قلة رأس المال في المسائل

الداخلية وغلاء أسعار الفائض وهذا هو العامل الأكبر الذي اثر في التجارة ثم أن بعض الحوادث قد قدرت كثيراً من الحاصلات الصناعية في العالم وقلت عدد العاملين وذلك مثل حرب الترنسفال ومنشوريا وما اقتضى لهما من النفقات العسكرية في العالم بأسره. فبواسطة التجنيد حيل ملايين من العاملين وبين أعمالهم واشتغل من جهة ثانية ملايين من أرباب الصنائع في إعداد العدد الحربية فنتج من ذلك غلاء الأسعار. وإذا اعتبرنا سرعة ارتقاء الصناعات الزراعية نشهد أن جزءاً عظيماً من ريع البلاد الغية يصرف في الرفاهية والتبرج ثمن أدوات الزينة مما يؤَثر في أسعار المحاصيل بوجع عام ثم أن إقراض الأموال للبلاد الأجنبية قد زاد العملة التي تعمل بأيديها في أميركا الشمالية والجنوبية فانتهى بهجرة الناس من أوربا بكثرة زائدة. ولكن التعديل سيجري بين العرض والطلب ولا مناص من تعديل الأسعار عندما ترتقي الزراعة وموارد المناجم في الأصقاع الجديدة فتكر بذلك المآكل والمواد الأولية التي تزيد عن معدل الذهب المضروب نقوداً تتداوله الأيدي. السود والأميون في أميركا أثبت الإحصاء الأخير في الولايات المتحدة مسألة من أهم ما عرف في أمر الزنوج وارتقائهم في التربية فإن زنوج الجنوب لم يصلوا في دور من أدوار تاريخهم إلى مثل درجتهم اليوم في القراء والكتابة فزاد عدد المتعلمين منهم في العشر سنين الأخيرة زيادة كلية. لما قام إبراهيم لنكلن وحرر العبيد منذ 49 سنة كان عدد غير الأميين في الزنوج 3 أو 4 في المئة فأصبح عدد القارئين والكاتبين اليوم 70 في المئة وكان عدد الأميين من الزنوج سنة 1900 44 في المئة فأصبح اليوم 30 وهذا الارتقاء يزيد كثيراً عن تقدم البيض في أميركا لأن معدل قلة الأميين في البيض 6 و1 في المئة في حين كان في الزنوج 14 في المئة. وقد كان معدل المتعلمين من الزنوج في الولايات المتحدة التي لا يلقون فيها مقاومة أقل من معدلهم في الولايات التي يصادفون فيها أنواع التسهيلات فاستدل الباحثون بأن الضغط عَلَى الزنجي يعلمه وحرمانه من التمدن هو من أعظم الدواعي لإقباله عليه وقد رأوا فروقاً عظيمة في نفقات مدارس الزنوج ومدارس البيض وأجور الأساتذة وعددهم والتعليم الذي

يرغب فيه الزنوج هو الابتدائي أما الثانوي فقليل من يقبل علي منهم، وعلى قلة العناية في مدارس الزنوج في القرى من حيث النظافة والصحة فإن قسماً كبيراً منهم يرغب في إتقان الزراعة والصنائع اليدوية وفن الطبخ والخياطة وقد جعلوا التعليم عندهم من الدين عَلَى نحو ما ينظر إليه عند الإسرائيليين فترى الكنيسة والمدرسة في كل مكان جنباً إلى جنب وفيها يتعلم الزنجي ويرتقي وهم أنفسهم يبذلون لتعليم أولادهم الأموال الطائلة وقد أنفقوا في هذا السبيل منذ وقع تحريرهم 30 مليار دولار، ولذا أصبح في الغرب عدد الاجتماعيين والاقتصاديين لا يقولون بأن للجنس تأثيراً في المرء بل أن للتربية المقام الأول وإذا أريد الانتفاع بالزنجي حقيقة فمن اللازم تربيته والقيام بما يتمم له حاجياته في الحياة. حالة العثمانية الاقتصادية كتب أحد مراسلي الصحف في العاصمة العثمانية مقالة شرح فيها مركز العثمانية الاقتصادي مستنداً عَلَى أحدث التقاويم قال: السكان والمساحة: إن مجموع مساحة العثمانية مليون و150 ألف ميل مربع منها 65 ألفاً مساحة العثمانية في أوربا و680 ألفاً مساحة العثمانية في آسيا و405 آلاف مساحة العثمانية في أفريقية أما عدد سكانها فيبلغ في بعض التقاويم 30 مليوناً وفي غيرها ولعله الأصح 25 مليوناً يتوزعون هكذا نحو 6 ملايين في أوربا و17 مليوناً في آسيا ومليون ونصف في أفريقية. الأراضي الزراعية. أما الأراضي المزروعة من هذه البلاد الواسعة فبلغت (حسب التقويم الرسمي المطبوع سنة 1908) 5344 ميلاً مربعاً في أوربا أي أكثر قليلاً من 8 في المئة من مجموع مساحة العثمانية في أوربا وإليك بيان ما في كل ولاية منها بالأميال المربعة. أدرنة 1690 قوصوة 1347 الآستانة 0014 سلانيك 959 يانيا 0399 مناستر 0803

شتلجة 132 جتاجه 0132 والمجموع 5344 والقسم الكبر من هذه الأراضي مختص بزراعة الحبوب وهو يبلغ 4705 أميال مربعة أي 88 من المئة من المجموع. أما مساحة الأراضي الزراعية في الأملاك العثمانية في آسيا فتبلغ 27027 ميلاً مربعاً أي 4 في المئة من مجوع مساحتها و85 في المئة من هذه الأراضي الزراعية مختص بزراعة الحبوب ومساحة الأراضي الزراعية في عثمانية أفريقية 690 ميلاً مربعاً فقط أي نحو سدس في المئة من مجوع مساحتها و98 في المئة منها لزراعة الحبوب. الصادرات والواردات. اعتمد كاتب هذه المقالة في تبان صادرات الدولة ووارداتها عَلَى تقرير حديث أصدرته الحكومة في بيان مركز الدولة العثمانية التجاري حتى 31 آذار سنة 1911 فبلغ فيه مجوع الواردات التي يؤخذ منها رسوم كمركية 35. 509. 509 ليرات والواردات التي لا يؤخذ عنها رسوم (كالتي تختص بالسفراء والقناصل والمعاهد الدينية والعلمية والأدوات الزراعية الحديثة وغيرها) 2150648 ليرة وبلغت واردات التنباك والدخان 114757 ليرة. أما الصادرات من العثمانية من البضائع ذات الرسوم فبلغت 9. 414. 068 ليرة ومن البضائع التي لا رسوم عليها 125496 ليرة ومن الخمر والملح المسلمة لإدارة الديون العمومية 167748 ليرة ومن الدخان السلم لشركة حصر الدخان 2766876 ليرة ومجوع الصادرات كلها 22474188 ليرة. وفي الجدول الآتي تفصيل هذه الصادرات والواردات ذات الرسوم حسب المراكز الكمركية الرئيسة. صادرات واردات المراكز الكمركية 4193960228689الآستانة وملحقاته 145385304627345سلانيك 060966291932309دده أغاج

000585600823267بروزة 611844804721841إزمير 13958731145514الإسكندرونة 187656604961603بيروت 093093601946527بغداد 161043402227185طرابزون 037399900587480طرابلس الغرب 130158000482566الحديدة 004290100666282جدة 19464068305. 6508المجموع السكك الحديدة: وهذا بيان السكك الحديدية الممتدة في أنحاء الدولة في أوربا وآسيا. (1) في أوربا كيلومتر الآستانة - مصطفى باشا 359 أدرنة - دده اغاج149 بابا إسكي - قرق كليسا 045 سلانيك - أسكوب243. 090 أسكوب - مترويجة119. 0800 = زيبفتشه 085. 109 = الآستانة510. 589 المجموع في أوربا1730. 454 (في آسيا) حيدر باشا - أزميد09. 150 أزميد - أنقرة 485. 561 إسكي شهر - قونية445. 443 قونية - أركلي بورغدو200

بورغدو وحلب (تحت البناء) 800 فرعان صغيران 014 أزميرـ قصبة وتمديداتها 169 مغنيسيا - صوما092 الأشهر أفيون قره حصار 352. 616 صوما - باندرما (تحت البناء) 190 أزمير - آيدين وتمديداتها533. 903 بيروت - دمشق149. 204 دمشق - حوران100 رياق - حلب 331 حمص - طرابلس 104 مرسين طرسوس أطنه 067 يافا القدس وتمديداتها087 مودانية بروسة042 دمشق - المدينة1032 = حيفا 163 المجموع في آسيا5658. 887 الأموال الأجنبية في الممالك العثمانية نشرت مجلة الشرق الأدنى بياناً للأموال الأجنبية المستعملة في بلاد الدولة العثمانية يظهر منه أن هذه الأموال تبلغ نحو مائة مليون جنيه أكثرها للفرنسويين والألمانيين والإنكليز كما ترى في الجداول التالية. القسم الأول سكك الحديد للإنكليز منها السكة بين إزمير وآيدين ورأس مالها4587747 جنيهاً للألمانسكة الأناضول== 11800000 جنيه ==بغداد== 7080000 =

==سلانيك مانستر== 3200000 = ==مرسين طرسوس آيدين== 415500 = والمجموع 22495500 للفرنسويين سكة يافا والقدس 96000 ==مودانيا بورسة153000 ==سلانيك والقسطنطينية 6800000 ==إزمير وقصبة 5702400 9289340 للنمسويين سكة الحديد الشرقية2000000 بنك سكة الحديد الشرقية 3500000 سندات سكة الحديد الشرقية وذات النصيب 15632540 والمجوع الكلي 67555127 القسم الثاني سكة الترامواي وما أشبهها. شركة سكة الترامواي في الآستانة618180 = الترامواي الكهربائي في سلانيك 240000 = ترامواي دمشق والنور الكهربائي 240000 ==بيروت== 336000 ==إزمير== 22720 شركة سكة النفق التونيل من غلطة إلى بك أوغلي 250000 1734172 القسم الثالث شركات البواخر. شركة البواخر الخيرية181818 = الرفاصاتورؤساء المينا 040000 = بواخر قرن الذهب090909

= بواخر إزمير045454 171853 القسم الرابع المرافئ والأرصفة. شركة رصيف الآستانة1653000 = مرفأ بيروت0540000 = رصيف إزمير0440000 = مرفأ سلانيك0520000 = رصيف سافز0250000 = مرفأ حيدر باشا0640000 4025000 القسم الخامس شركات الماء والغاز والكهربائية. شركة مياه الآستانة (تركوس) 280000 ==بيروت 360000 ==إزمير 270000 ==إسكدار وقاضي كوي 067180 ==سلانيك 380000 ==غاز الآستانة230000 ==إسكدار 168860 ==بيروت 258000 ==إزمير 125000 = الكهربائية بسلانيك وإزمير100000 2240040 القسم السادس المصارف. المصرف السلطاني العثماني 10000000

المصرف العثماني الأهلي 1000000 مصرف سلانيك800000 المصرف الألماني الشرقي 1600000 مصرف فلسطين الألماني 250000 مصرف العثمانية التجاري الصناعي 500000 الشركة التجارية الشرقية 120000 مصرف مدللى318180 شركة بنك الأنجلو لفتين 100000 شركة الأنجلو فلسطين 100000 14788180 القسم السابع شركات المعادن شركة بالياقرادين المعدنية 164000 = كسندر المعدنية180000 = هرقلية للفحم الحجري 125972 = قراسون للتعدين200000 = سلنتزيا 320000 = البورق 270000 2185720 القسم الثامن شركات التبغ والتقطير. شركة الرجي1600000 = التنباك 700000 = التبع الشرقي الجارية 250000 = سلانيك التجارية200000 = بومنثي للتقطير160000

2910000 القسم التاسع شركة التأمين العثمانية 460000 شركات أخرى صناعية وتجارية الخ 287000 وبناء عَلَى ذلك يكون مجموع هذه الأموال كلها 99086420 جنيهاً وهاك خلاصتها. القسم الأول سكك الحديد رأس مالها37505127 جنيهاً إنكليزياً = الثاني الترامواي والأمتيبوس1734172 = = الثالث شركات الملاحة 358181 = = الرابع شركات المرافئ والأرصفة 4025000 = = الخامس شركات الغاز والماء والكهربائية 2240040 = = السادس المصارف 14788180 = = السابع شركات التعدين 2185720 = = الثامن شركات الدخان والاستقطار 2910000 = = التاسع شركات التأمين 460000 = = شركات مختلفة2870000 = وليس للإنكليز في هذه الشركات كلها إلا 10515497 ليرة أي أقل من عشرين مليون ليرة والباقي للفرنسويين والألمانيين والنمساويين. أندية العراق 1ً نظرة في نهضة العراقيين الحديثة. عصور خلت، وأدوار مضت عَلَى هذا القطر النكد الحظ، وهو يتقلب عَلَى الجمر من شدة ما أصابه في الأزمنة الأخيرة من الصدمات ونزل به من الكوارث والبلايا، وناله من المصائب والرزايا، بعد أن تقلص ظل الخلافة العباسية، فانهارت دعائم تلك البنايات الشامخة، واندركت تلك الصروح الشاهقة، وتزلزلت أركان ذلك العرض الفخم، وانقلب بصاحبه إلى الحضيض الأسفل، فغدت البلاد تندب رجالها، والعروش أصحابها، والمدارس

طلابها، حتى خلت الديار من كل معهد علمي، وأقفرت الربوع من كل أثر صناعي، ولولا أن تواريخ تخبرنا بمدنيتهم البائدة، وآثارها نرها كل يوم بأعيننا تنطق بعظمتهم، وضخامة ملكهم، وخطورة حضارتهم، فتذكرنا بعزنا الدابر، ومجدنا الغابر، لانقطع حبل الأمل من كل نهوض، وبات الباحثون يجزمون بأن استرجاع ذلك المجد الأثيل، ضرب من الأماني والغرور. وبعد فإن العراق لم يقصر في مجاراة الأمم الحية التي أخذت تحارب الجهل بما في وسعها، وتندفع اندفاعاً عظيماً إلى الوصول إلى الدرجة المطلوبة من المدنية والعمران، لو لم يحل بينه وبين ما يتمناه استبداد المستبدين، وظلم الظالمين الذين اخذوا عَلَى عاتقهم محاربة الأمة وبخسها حقها، واحتجان مرافقها، ووضع العقبات الكؤود في طريقها وسيرها نحو العمران والرقي ولاسيما في العراق من الرجال العظام من شهدت بفضلهم، وغزارة علمهم كبار الأمم. 2ً آثار النهضة وبوارقها. في العراق اليوم نهضة أدبية اجتماعية تبشرنا بمستقبل زاهر، فقد ثبت لدى العراقيين أنه قد جاء اليوم الذي تظهر فيه مقدرة الأمم، وحياة الشعوب والوقت الذي يجب أن ينبذ فيه أولو الغايات من كل ملة غاياتهم، وينزع فيه الأولياء إلى إيثار المصلحة العامة، ويتحرك فيه الجامدون ليعلم إنهم أحياء، والحياة اليوم مضمونة بالاجتماع والاجتماع إنما يتم بالتعاضد عَلَى جلب الخير، ودفع الضير، ومما يستدل عَلَى وجود تلك النهضة اندفاع الجماعات من الطبقة المنورة من كل ملة ونحلة إلى تأسيس أندية أدبية، وتأليف جمعيات علمية، تضم شتاتهم، وتجمع متفرقهم، وتقرب بعضهم من بعض، وتبث المبادئ القويمة، والتربية الصحيحة بين الناشئة الحديثة بأن تجرد الأمة منها سيوفاً صقيلة تقارع بها أعداءها وتفتخر بها إذا فاخرت كل أمة بناشئتها، ويرجع تاريخ هذه النهضة الأدبية، والعلمية معاً إلى أوائل الدستور وها نحن ذاكرون ما في بغداد وما يجاورها من المواطن والربوع من أندية العلم والسياسة شارحين للقراء ما يهمهم من تاريخ تأسيسها وعدد أعضائها، ومكانتها بين القوم وما ظهر لها من الاثار. 3ً نادي الاتحاد والترقي.

ليس من يجهل تاريخ هذه الجمعية التي حارب رجالها الحقيقيون سلطة عبد الحميد فصبروا عَلَى الضيم، وعرضوا بنفوسهم للهلاك وأملاكهم وثروتهم للنهب والسلب ففارقوا أوطانهم عَلَى أكتنفتهم سماؤها، وجمعتهم أرضها هرباً من سلطان المستبدين ووطأة سلطته عليهم، ومع ما كانوا عليه في ديار الغربة من قلة الأنصار وضيق أيديهم لم ييأسوا من تخليص هذه الأمة من تلك السلطة الجائرة، ولم يلبثوا ردحاً من الزمن إلا واستمالوا عظام رجال الدولة إلى تأييد مبادئهم ونشر أفكارهم، وقد عظم أمرهم جلالة وازداد شأنهم خطورة بدخول كثير من الضباط وقادة الجيش في حزبهم، فتوصلوا بهؤلاء الرجال إلى استمالة الجيش كله وتنفيذ مقرراتهم، ولما تم الأمر لهم أعلنوا الدستور في 10 تموز سنة 1908 في مناستر غير ملتفتين إلى معارضة عبد الحميد ورجاله، عند ذلك استبشرت الأمة وتلقت أفعالهم بارتياح وفرح لا مزيد عليهما فتأسست لهذه الجمعية أندية في كل ولاية ولواء بل في كل قضاء وناحية منذ ذلك التاريخ، وكان عدد أعضاء الاتحاد بادئ الأمر يناهز ألفي سنة كلهم من سادت البلاد وكبارها وعلمائها وأشرافها، ولكن هذا العدد يتناقص رويداً رويداً حتى لم يبق فيها إلا بعض أناس تمسكوا بمبادئهم، ولم يزل النادي مفتحة أبوابه إلا أن الترددين إليه قليلون ولما عاد أمرهم إلى النجاح عاد أغلب الذين كانوا قد تبرأوا منه. 4ً نادي الحرية والائتلاف. كانت قوة المعارضين في السنة الأولى والثانية من إعلان الدستور ضعيفة لا يعبأ بها، وذلك لشدة شغف الناس بالدستور، ومكانة ثقتهم برجال الاتحاد، ولما دخلت السنة الثالثة قويت شوكة المعارضين بما انضم إليهم من شبان العرب الأذكياء وقادة أفكارهم، وكان لهم في المجلس ما يناهز 50 نائباً أكثرهم مبرزون في فنون الخطابة، ويتضلعون من علوم الاجتماع وانضم إليهم كثيرون من نواب العناصر غير المسلمة لاشتراك مصالحهم وارتباط مقاصدهم وألا وهو إعطاء العناصر حقوقها فأخذت فكرة المعارضة منذ ذلك الحين تنتشر انتشاراً رائعاً في معظم الأقطار العثمانية وكانت مقصورة عَلَى بعض شبان الأمة ممن رضعوا أفاويق العلم وتشربت قلوبهم بالمبادئ الحرة، ولكن ما لبث ذلك زمناً قصيراً إلا وعم سائر الطبقات، وشعرت الأمة بأسرها بضرورة تقوية المعارضين الذين انشأوا حزباً

دعوه أولاً باسم الحزب الحر المعتدل ثم أطلقوا عليه ثانياً اسم حزب الحرية والائتلاف فتأسس لهذا الحزب المعارض نواد عظيمة فرعية في ربوع مختلفة منها نادٍ وأنشئ في البصرة برئاسة مبعوث البصرة ومقدام العرب السيد طالب بك النقيب وفي ألبانيا بعض ولايات الأناضول أقيمت الحفلات وأعلنت المسرات بتأسيس شعب له. وفي سنة 1329 أسس فرع لحزب الحرية والائتلاف في بغداد فتهافت الأدباء عَلَى الانخراط فيه حتى دخله في أيام قلائل ما ينوف عَلَى 300 نسمة كلهم من أرقى طبقات بغداد علماً وفضلاً. ومن مبادئ هذا الحزب، منح العناصر حقوقها المغصوبة وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وتوسيع مأذونية الولايات أي إعطاؤه اللامركزية فكل ولاية تتصرف بشؤونها وتعمل ما ينهض بها ويجعلها في مصارف البلاد الراقية بدون مراجعة الآستانة وبعبارة أخرى إدارة البلاد عَلَى النوع الذي كان عليه بلاد النمسا لتعدد عناصرها واختلاف شعوبها كالبلاد العثمانية، ومنها: تعين ولاة عارفين لغات أهل البلاد وإن لم يكونوا من أبنائها وجعل التدريس باللغة المحلية وغير ذلك من المبادئ الحقيقية وغير ذلك من المبادئِ المنيفة، مالو عمل بها منذ إعلان الدستور لكانت أوطاننا في مقدمة الأوطان. هذا ما لنا من الأندية السياسة أي اثنان فقط والآن ننتقل إلى تعديد الأندية العلمية فنقول: 1ً النادي الوطني العلمي. وهو ناد علمي دأبه وراء ما ينهض بالعرب ويحكم عرى رابطتهم، ويقوي جامعتهم، ويضم شتاتهم ويجمع متفرقهم أسسه سنة 1329هـ 1911م جماعة من أرقى طبقات الأمة الإسلامية في العراق، وأكثرهم ممن درسوا في المعاهد العلمية الكبرى وجابوا البلاد العربية في الطول والعرض، ووقفوا عَلَى أسرار تقهقرها، وقد سنوا لهم نظاماً طبع سنة 1330 في مطبعة الآداب ودنوا فيه مقاصدهم وغاياتهم وإليك ما جاء في المادة الثانية من ذلك النظام بنصه: مقاصد هذا النادي نشر العلم في أنحاء العراق بأحداث مكاتب وطنية مختلفة، وبث التربية القويمة بين الناشئة، ومعاونة المحتاجين عَلَى التحصيل وتسفير الطلاب المعوزين إلى دار السعادة وأوربا وتعيين أساتذة لتدريس اللغات الست: العربية والتركية والفارسية

والإفرنسية والإنكليزية والألمانية وتعيين طبيب خاص لمعاينة المحاويج وإعطاؤهم الأدوية اللازمة مجاناً وتعيين واعظ من أجل العلماء لوعظ العامة وتعليمهم أحكام الدستور التي لا حياة لنا من بدونها ولفت أنظار الناشئة إلى المذكرات العلمية والمسامرات والمحاضرات الأدبية وتعليمهم فن الخطابة بالطرق الحديثة وحفظ أوقات الشبان من الألعاب الملهية وتوفير معلوماتهم وتوسيع مداركهم وتأليف لجنة حقوقية تدافع عن دعاوي البائسين المنقطعين وتأسيس جمعية لتعريب الكتب من جميع اللغات الحية، وإصدار مجلة علمية، تاريخية، أدبية، إلى آخر ما هنالك من المطالب السامية. وكان هذا النادي في أوائل نشأته مقصوراً عَلَى بعض أشياء تافهة كغرف القراءة وغيرها، ولما طرق أسماع السيد طالب بك النقيب خبر حاجة النادي إلى معاونته، قام وأمدهم بأموال وفيرة ساعدتهم عَلَى إبراز بعض مقرراتهم إلى حين الوجود، فافتتحوا مكتبة شائقة حوت نفائس الكتب العصرية، ومدرسة ليلية يدرس فيها مبادئ اللغة العربية والتركية والفرنساوية والإنكليزية، وهم الآن في سعي متواصل لإنشاء مدرسة باسم مدرسة المستنصرية إحياء لاسم ذلك المعهد العلمي الخطير الذي كان له القدح المعلى في تمدن العرب الفخم في القرون الخالية، وتلقى فيه الخطب العلمية والمحاضرات الأدبية. 2ً نادي اتحاد الشبيبة. هو ناد علمي أسسه شبان من منسوري الأفكار سنة 1910م، وقد أمدنا أحدهم بما يجري فيه ويراد من تأسيسه لجهلنا ما هناك بالمطالب والمساعي قال: قصدنا من تأسيسه فك القيود والأغلال من أعناق أبناء طوائفنا التي طوقنا بها الإكليروس الذين احتسبوا مرافقنا وعبثوا بأوقافها. وقد لاقى أعضاء نادينا في سبيل ذلك صعوبات جمة وعقبات كادت تحول دون إتمام مقاصدنا وتحقيق أمانينا لولا همة أعضائنا الكبيرة ذلك كل صعب واجتازت كل ما وضع في طريقهم من العقبات ونحن الآن في تحمس شديد وسعي متواصل لإبراز أمانينا إلى عالم الوجود وقد ظهر من آثار غرفة قراءة ومكتبة مشحونة بنفائس الكتب قديمها وحديثها، ويا حبذا لو عضدنا في مشاريعنا الخطيرة كبر القوم والمثرون منهم بمساعداتهم إيانا في الماديات والمعنويات، ويأخذون بأيدي القائمين بشؤونه فيحصلون في المستقبل القريب عَلَى فوائد جمة لم نخطر عَلَى فكر ولم تمر ببال

اهـ. 3ً الاتحاد العثماني. جمعية إسرائيلية صهيونية مقصد أعضائها الوحيد شراء المزارع لسكنى الصهيونيين فيها وتتخذها مستعمرات كما هي الحال في سورية تأسست هذه الجمعية سنة 1329هـ 1911م وكان لهذه الجمعية جريدة تدعى التفكر صدر منها ثلاثة إعداد باللغتين العربية والتركية وكان محرر العربية فيها أحد شبان المسلمين وكان يظن في هذه الجمعية خيراً، حتى إذا أزيل الستار عن أعمالها ورأى منها ما يحقق أقوال الناقمين عليها اعتزل تحريرها فاحتجت الجريدة لذلك عن الصدور، حتى عن معظم شبان الإسرائيليين الصادقين بوطنيتهم أبوا الدخول فيها وعرقلوا مساعيها، ومن آثار هذه الجمعية أنها افتتحت مدرسة ليلية تدرس فيها اللغات الأجنبية، أما اليوم فهي مقصورة عَلَى 20 عضواً من الإسرائيليين الذين يودون استعمار البلاد بإخوانهم واستلاب أملاك وطنيتهم. 4ً نادي الترقي الجعفري العثماني. وهو ناد علمي أدبي أسسه كبار الجعفرية وأعاظمهم في بغداد سنة 1325هـ و1908م. وذلك لما رأوا ناشئتهم الحديثة معرضة لسباع مفترسة من الجهل أنشاوا هذا النادي الفخم لإصلاح شؤون فرقتهم ومسابقة غيرها من الفرق في الحضارة والعلوم والآداب ومما يسر له أنه نجح نجاحاً باهراً وذلك بما بذله أرباب الغيرة من الأموال الوفيرة. ومن آثاره أنه افتتح مدرسة كانت قبل أربع سنوات ابتدائية يدرس فيها أكثر العلوم الحديثة باللغة العربية، وأما اليوم فقد أصبحت بفضل النابغين من الجعفريين إعدادية وفيها من التلامذة ما يناهز 400 طالب كلهم من أبناء العرب، والأمل وطيد بأن سيكون لها شان عظيم فتسترد العربية عَلَى يدها مجدها القديم، والنادي هو اليوم عبارة عن لجنة إدارية تدير شؤون المدرسة وتراقب أعمالها أساتذتها. 5ً المحفل الكاثوليكي. هو أول محفل وطني أسس في بغداد وكان إنشاؤه سنة 1306هـ و1889م وكان مقصوراً عَلَى إلقاء الخطب العلمية والأدبية والاجتماعية وكان أعضاؤه من سراة الكاثوليك في

بغداد. وكان يصدر تقويماً يدون فيه خلاصة أعماله وعدد أعضائه وأسماء المتبرعين له وذكر عناوين الخطب وموضوعات المحاضرات التي ألقيت فيه وقد صدر منه ثلاثة أعداد لثلاث سنوات وهي سنة 1889 و1890 و1891 هذا عدا ما أحواه من الفوائد الجمة والنبذ الجغرافية والتاريخية المفيدة، ولا يزال هذا المحفل حياً له اليد الطولى في نهضة شبان النصارى الحديثة وعدد أعضائه يناهزون 60 شاباً كلهم من أفاضل الطائفة الكاثوليكية وأذكاهم وأطلعهم عَلَى اللغات الإفرنجية والوطنية. 6ً النادي البغدادي. تأسس هذا النادي سنة 1912 ومقاصده عَلَى ما جاء في الفصل الأول من أسماء برامجه في سنة تأسيسه: السعي وراء تنظيم المجتمع العراقي وتعويد استماع سماع المسامرات وحضور المباحثات الأدبية والتجارية والمتنزهات الصحية، وأعضاؤه كلهم من شبان الإسرائيليين ممن أخذوا العلم عن أساتذة أجانب في بغداد هذا إذا لم يكونوا قد ربوا في أحضان علماء الغرب ويشترط عَلَى من يدخل هذا النادي وبكون عضواً فيه أن يدفع رسماً قدره ست ليرات عثمانية سلفاً في السنة الأولى، وفيما بعدها يدفعها أربعة أقساط، ولهم اجتماعات خاصة بالأعضاء فلا يشرف عَلَى أعمالهم ومقرراتهم أحد. 7ً خلاصة البحث. ترى مما تقدم ذكره أن عدد أندية العلم والسياسة في بغداد ستة، منها اثنان سياسيان وهما النادي لاتحادي والنادي الائتلافي، وستة اندية علمية اثنان منها للمسلمين وهما النادي العلمي الوطني ونادي الترقي الجعفري العثماني، واثنان مسيحيان وهما اتحد الشبيبة والمحفل الكاثوليكي، واثنان إسرائيليان وهما الاتحاد العثماني والنادي البغدادي، كل كل ذلك كان في مدة أربع سنوات مع ما لاقته في خلالها من العقبات عَلَى أن هذا العدد وإن بكن قليلاً بالنسبة إلى عظمة بغداد وضخامتها فإنه سيتزايد إلى أضعافه بهمة الناشئة الحديثة التي نبذت التقاليد القديمة ظهرياً واستعدت للأيام وأهوالها، ولا ريب فإن شبيبة كالشبيبة البغدادية يجب عليها أن يظهر عَلَى بعدهها فوق ما يتصور مادام ذلك الدم العربي

يجري في عروقها. بغداد // إبراهيم حلمي. أقدم اثر جاء في الإجيشان غازيتما تعريبه: أرسل الأستاذ ريزنر من علماء الآثار المصرية إلى مديري متحف الآثار السامية في هارفرد ومتحف الفنون الجميلة في بوسط بالولايات المتحدة الأميركية نتيجة أبحاثه في تنقيباته في الآثار المصرية العتيقة عند أبي الهول إذ قد اكتشف عدة اكتشافات مهمة ينتظر أن تساعد كثيراً عَلَى كشف أسرار المسائل التي طمستها مرور العصور والأجيال. فقد عثر الأستاذ (ريزنر) عَلَى معبد بجوار تمثال أبي الهول كان شيده قدماء المصريين لأجل عبادة الشمس وهو أقدم من كل الأهرامات إذ يرجع تاريخه إلى ما قبل ميلاد المسيح بـ 6000 عام فهو إذاً أعظم الآثار المصرية قدماً في التاريخ المصري بلا جدال. ومينا أو مينيس كما يلفظون اسمه في بعض الأحيان هو أول ملك مصري اكتشف علماء العصر الحالي بواسطة تمثاله المعلومات التاريخية الخاصة بالتاريخ المصري القديم وهو الذي اشتهر بادعائه الألوهية في عصره واشتهر أيضاً بأنه الواضع لشكل أبي الهول الحالي وقد وجد قبره في هذا المعبد. ويوجد في هذا نفق تحت الأرض يؤدي إلى كهوف لم يدخل إليها أحد الآن لأن أعمال التنقيب والحفر لم يبدأ بها إلا منذ ستة شهور فقط. إن أبا الهول في مكانه مصنوع حقيقة من صخر طبيعي لكن يوجد بجانبه كهوف ومباني مدينة من ذهب قد وصلت أعمال الحفريات للقاعة الأمامية للمعبد ويبغ مقدار اتساعها 60 قدماً وطولاً في 14 قدماً عرضاً ومتصلة بدهاليز تؤدي إلى معبد الشمس الواقع عند مخالب أبي الهول وهذه الدهاليز بشكل متعرجات متقاطعة وقد وجدوا كميات عظيمة من الرموز وتماثيل الشمس بينها مقدار كبير مصنوع من الذهب وفي تلك التماثيل أسلاك متصلة بأجراس صغيرة كان يحركها ويدقها الكهنة ليستحضروا بها أرواح الموتى. وفي داخل أبي الهول وجد أيضاً أهرام صغيرة مع أن أبا الهول مصنوع من زمان طويل قبل بناء الأهرام الكبرى ومن رأي الأستاذ (ريزير) أن شكل الهرام في تلك الأيام كان عبارة عن ساعة شمسية ومن رأيه أيضاً أن أبا الهول كان رب الشمس وأهرام خيوبس

المعروف الذي هو أكبر الأهرام الحالية وهو عبارة عن آلة توقيت وساعة دقيقة مضبوطة ليس إلا. ومن رأي هذا الأستاذ أيضاً أن القطر المصري اليوم كان عبارة عن مدينة كبرى عظيمة متسعة الأرجاء وقد اكتشف أطرافها أما ما في داخلها فربما لا يمكن اكتشافه بتة. ويرجو الأستاذ (ريزير) أن يكتشف ضمن تلك الآثار الثمينة أسرار الكهنة المصريين الذين كانت أعمالهم السحرية موضع الدهشة والعجب. وقد أشار الأستاذ إلى ما يجده في عمليات الحفر والتنقيب من الصعوبات والمتاعب غير العادية لأن العربان الذين يساعدوه في هذا العمل يرفضون قطعياً أن يرقدوا في قاعة المعبد ويقولون أنها تحوي الشياطين والجن فمن يرقد فيها يلقى حتفه. الزراعة وعبادة الطبيعة في الصين. مما لا مرية فيه أن الصين واليابان والشرق الأقصى هي البلاد الوحيدة التي تعبد فيها الطبيعة عَلَى اختلاف مظاهرها بل هم الشعب الوحيد في تكريم الزراعة وتعظيمها وعلى من أحب الإحاطة بهذا الموضوع أن يقرأ تاريخ الصين ليعلم ما يتجشم أبنائها من المشاق في خدمة تلك الأراضي القاحلة وبعدئذ يعرف مقدار الثروة التي يمكن المزارع أن يجنيها عند الاقتضاء من أرضه ولو كانت مجدبة قاحل ولا مشاحة بأن المعارف الزراعية متأخرة جداً في الصين وآلات الحرث لا تزال عَلَى حالها الأول من الانحطاط بيد أنهم يستعيضون عن جهلهم أحوال الزراعة وتأخر الموارد التي تسهل لهم النجاح بثبات قد لا يوجد له مثيل عند باقي الأمم. وليس في الصين بقعة من الأرض تصلح للزراعة ما لم تعمل فيها أيدي العمال والزراع وهي عَلَى اتساعها تعطي كلها موسمين في السنة وليس في الدنيا مملكة أراضيها كالصين ومفصولة بعضها بسياج عن الآخر وحفر صغيرة أو بجدران قليلة الارتفاع والسبب في ذلك أن كل صيني يمتلك أرضاً لذاته وكل منهم يريد أن يخدم الأرض التي ورثها عن آبائه وزرعها أجداده ولهذا فإن كل صيني لا يستأجر عاملاً لزراعة أراضيه. إن ملوك الصين أبناء ماء السماء قد أعاروا منذ القديم اهتمامهم للزراعة والفلاحة حتى أن

الكثيرين منهم قد اشتهروا بهذا الأمر اشتهاراً عظيماً ولم يزل الأهالي حتى اليوم يعظمون ذكرهم ويقدسونهم. وفي كل سنة يرأس الإمبراطور حفلة عظيمة يقيمونها في عيد الطبيعة الذي يقع في اليوم الثالث والعشرين من الشهر القمري الثالث حساباً صينياً وهو يوافق أواخر شهر آذار وقد وضع هذا العيد أحد الملوك من سلالة هان الذين حكموا الصين قبل المسيح بألف ومئتي سنة وتقام هذه الحفلة في بكين عاصمة الصين بمظاهر فخمة. ويستعد الإمبراطور لهذه الحفلة بصوم ثلاثة أيام متوالية وفي اليوم المعين يذهب إلى هيكل الزراعة العظيم المشيد في وسط العاصمة ومن خلفه ما لا يعد من جماهير الأهالي ومن حوله أمراء الأسرة المالكة مرتدين أبهى ملابسهم الحريرية يتقدمه أربعون شيخاً من كبار المزارعين وأربعون شاباً لابسين ملابس غريبة مصنوعة من القش. والهيكل مبني وسط سهل فسيح وقد أقيم فيه أربعة مذابح لعبادة السماء والأرض والمشتري وشنبون وهو من أقدم ملوك الصينيين وأول من علم شعبه منافع الزراعة وأمرهم بتكريمها فيتقدم الإمبراطور نحو المذبح المخصص لعبادة السماء فيركع أمامه ثلاثاً ويضع عليه هدية من الأثمار ثم يدنو من محراث أصفر ذهبي اللون يربط به ثوران يذبحان بعد انتهاء الحفلة ويقدمان ضحية للسماء فيقبض عَلَى المحراث بيمينه وعلى السوط بيساره ويرسم في الأرض ثمانية خطوط وفي أثناء هذه الحفلة ينشد الكهنة صلاة مختصة بإكرام الطبيعة. ويحرق الثمانون فلاحاً الذين يحضرون هذه الحفلة أثمن البخور في مجامر ثمينة ويضعون من الحبوب التي تنتج في الأثلام التي حرثها الإمبراطور ورجال حاشيته وأقراصاً يتركونها مدة ثلاثة أشهر عَلَى المذبح المخصص لعبادة السماء. وهيكل الزراعة من أغرب بنايات بكين يعلقون عَلَى جدرانه أو يضعون عَلَى قواعد رخام فيها كل الآلات والأدوات والملابس التي يستعملها كل من اتخذ الفلاحة حرفة له ويضعون في الجهة اليمنى كثيراً من القبعات التي يلبسها الأهالي وأسواطاً منوعة ومكانس ومجارف وصناديق لحفظ الغلال ومذاري خشبية ذات ثلاث شعب يستعملها المزارعون لتذرية الأرز كل هذه الآلات يصبغونها باللون الأصفر وهو اللون المخصص للإمبراطور فلا يجوز لسواه من الأهالي استعماله.

ويقيمون عَلَى قاعدة من الفلز بقرة عظيمة بطنها مبقور يظهر فيها عدة عجول خزفية وهي رمز للحيوان المقدس الذي يطوفون به باحتفال عظيم في بعض المدن الصينية إبان الحصاد. ويطره الصينيون السمن كرهاً عظيماً لأنهم يعتقدون أن البقر خلق لأجل أن ينتج ويشتغل لا للانتفاع بلبنه ويضعون إزاء آلات العمل العامة التي تعرض في قاعة خاصة كل أشكال الاختراعات القديمة والحديثة المختصة بالزراعة وناعورة لم تزل مستعملة في أراضي كان شي كيان الواسعة ودولاباً ليس فيه مسمار ولم تدخله قطعة من الحديد بل مصنوع من الخشب وجرناً حجرياً موضوعاً في طرفه مدقة يحركها رجلان وفي الجهة الأخرى آلتان للحرث والزرع وفي مؤخر هذه العلبة تنتهي بثلاثة أنابين خيزران تتساقط منها الحبوب ويفرزون محلاً خاصاً لمجرفة فضية يقدمون لها أعظم الإكرام لأن المجرفة لم تزل الآلة الزراعية التي يفاخر فيها الفلاح الصيني. الأموال المنقولة رفع العالم الاقتصادي ألفريد نايمرك إلى المجمع الإحصائي الدولي المجتمع في عاصمة النمسا بحثاً جديداً تناول فيه بحث الأموال المنقولة في العالم. وقد قدر المتداول منها بين الأيدي في آخر سنة 1912 بقيمة ثمانمائة وخمسين مليار فرنك. وألم بما طرأ في السنتين الخيرتين من الاختلالات السياسية والمالية والاقتصادية وبعد أن قدر ما لحق بعض المنقولات المحدودة الثمن من انحطاط الأسعار في الآونة الأخيرة فبلغ الثمانمائة مليار فرنك قال أن الرصيد الصافي لقيمة الأموال المنقولة في آخر سنة 1912 منها ما يقارب ثلثمئة مليار فرنك مبذولة لاستثمار الخطوط الحديدة في العالم أما الأموال المنقولة الخاصة فيقدرها كما يلي: إنكلترا من 145 إلى 150 ملياراً الولايات المتحدة=135=140 = فرنسا=108=115 = ألمانيا=100=110 = روسيا=32=35 = النمسا والمجر=25=26 =

إيطاليا=16=18 = اليابان=14=16 = وزادت الأموال المنقولة في ألمانيا بين سنتي 1908 و1912 عشرين إلى خمسة وعشرين ملياراً. وزادت في إنكلترا خمسة عشر ملياراً في حين لم تزد في فرنسا عَلَى خمسة إلى عشرة مليارات وفي روسيا عَلَى مليارين إلى ثمانية. وفي إيطاليا عَلَى سنة مليارات. وفي النمسا والمجر عَلَى أربعة. نعم إن بعض هذه الأرقام يمكن المناقشة فيه ولكن مهما يكن فإن تبريز ألمانيا في هذا الباب لا ريب فيه عَلَى أن معظم الأرباح أُرصدت لتوسيع المشاريع القديمة أو لتأسيس أعمال جديدة. أما التوفيرات فبقيت عَلَى حالها والأموال المتداولة كانت قليلة وهذا ما يجعل ألمانيا تحت رحمة أول أزمة تحصل اهـ. المدارس الفرنسوية في الشام نشرت جريدة الإيكودي باري فصلاً طويلاً عن المدارس الفرنسوية في سورية جاء فيه: أن اليسوعيين يديرون مع مدرستهم الكلية 140 مدرسة يتلقى العلم فيها 12000 تلميذ والآباء الكبوشيون يديرون 155 مدرسة فيها 6355 تلميذاً واللعازريون يديرون 149 مدرسة فيها 7338 طالباً. وراهبات المحبة يتعلم في مدارسهن أكثر من 300 يتيم و587 يتيمة و509 أولاد صغار خارجيين و3867 بنتاً داخلي ما عدا مدارسهن في القرى. ومدارس الفرير في بيروت وطرابلس والإسكندرونة فيها 2000 تلميذاً تقريباً. وفي مدارس الفرير ماريست 953 تلميذاً ولراهبات الناصرة عشر مدارس منها واحدة داخلية ومجموع تلامذتها 1386 ولراهبات العائلة المقدسة سبع مدارس فيها 1400 تلميذة ولراهبات الظهور المرسيلية 30 مدرسة فيها 3766 تلميذة وهذا كله ما عدا تلاميذ المدرسة العلمانية في بيروت التي تحتوي عَلَى 200 تلميذ تقريباً ومدارس الأليانس الإسرائيلية التي يبلغ عدد تلاميذها الأربعة آلاف. أما عدد المدارس الأخرى الإنكليزية والألمانية والروسية والأميركية في سورية فلا يتجاوز الثلاثمائة مدرسة ومجموع عدد التلامذة فيها لا يزيد عن 23. 000. العمل والأسعار سعر كيلة الحنطة سعر الليرة العثمانية أجرة العمل الصناعة السنة الهجرية

قروش قروش قروش 70 116 12معلم1287 6العامل 5العامل 80 124 14المعلم 1295و1297 7العامل 6العامل 57 130 48المعلم1330 12العامل1331 هكذا كانت أجرة العامل وأسعار النقود والغلات منذ أربعة وأربعين عاماً في دمشق ومازالت ترتقي حتى أصبحت كما رأيت بكثرة الذهب واستثمار بعض الأراضي البائرة وازدياد عدد النفوس ومثل ذلك يقال في العراق ومصر. وهذه الأسعار في قاعدة الشام غير مطردة تنزل وتعلو بحسب المواسم وكثرة النقود ولكن أجرة العامل والماهن تكاد تكون واحدة لقلة العملة والبنائين والنجارين وغيرهم من أهل الحرف الذين قد تدعوهم هذه الحالة إلى الهجرة إلى أقطار أخرى ولاسيما أميركا.

صدور المقتبس

صدور المقتبس أصيت هذه المجلة في السنة الماضية بعوارض كثيرة حالت دون إصدارها في مواعيدها عَلَى النحو الذي اعتادته في معظم أدوارها فاضطرتنا الأحوال السياسية إلى أن نلحق بمصر من طريق البرية وعطلت الحكومة المقتبس اليومي عل الصورة التي سبق لها مثلها في سنة 1327 والممثل لكلتا الفاجعتين ناظم باشا والي سورية الأسبق بعينه ومينه فمكثنا أشهر الربيع والصيف في القاهرة أصدرنا خلالها جزئين وبعض الثالث ثم عدنا في الخريف إلى دمشق مضطرين ومطبعة المقتبس قد أكرهنا الوالي عَلَى بيعها ليصعب علينا بذلك إصدار المقتبس ثانية فاضطررنا أولاً إلى الطبع في مطبعة لن تكن في استعداد كاف لطبع المجلة ثم طال بحثنا عن ورق جيد حاضر في السوق فلما تمت المعبدات في الجملة تتابعت الأزمات السياسية بانتشار الحرب البلقانية المشؤمة فارتبكت الأحوال الاقتصادية في البلاد حتى انقطعنا مدة عن الطبع مكروهين وها نحن الآن نختم السنة السابعة سنة 1330هـ أواخر سنة 1331 أي أننا أصدرنا من حيث المجموع أجزاء سنة في سنتين ولذلك لا نعد سنة الحرب التي اهتزت بويلاتها أعصاب السلطنة ونال الشام بل مصر حظ وافر من هذا الاضطراب. وإنا لنشكر كل من اهتم لصدور المقتبس وأخذوا بيدنا في نشره ونشطوه بماديتهم وأدبياتهم أكثر الله من أمثالهم الذين يهتمون للعلم والمعارف كما إنا لنثني الثناء الأطيب عَلَى مؤازري المجلة في مصر والشام والعراق وتونس وغيرها ممن لم يعقهم عدم الاطراد في صدورها عن إرسال أبحاثهم ومقالاتهم لتطبع فيها ونعدهم بأننا نبدأ منذ أول جزء يصدر في المحرم من السنة الثامنة (1332) بنشرها تباعاً بحسب أوقات ورودها ليعم نفعها قراء العربية ونستميح طبقة الخاصة عذراً عَلَى ما بدر من أغلاطنا وأغلاط المطابع فهو لا يخفى عَلَى فطنة القراء في الجملة وعذرنا إليهم في عدم العناية ما تقدم خصوصاً وبعض الملازم طبعت بدون أن نصححها بأنفسنا دع التقلقل الذي نالنا في مملكة لم تستقر حتى الآن حالتها السياسية عَلَى محور معلوم. وصفاء جو السياسة هو الميزان الكبر في سير الأعمال ولاسيما العلمية فإن الفشل الذي نالنا في الروم إيلي وطرابلس وبرقة وجزر الأرخبيل قد أصاب شرر شره كل من له علاقة بهذا الوطن العثماني عَلَى اختلاف الدرجات.

ونسأله تعالى وهو خير مسئول أن يجل سنتنا القادمة سنة راحة وصفاء لنتمكن من خدمة الأمة العربية في الفروع التي كتب لنا الخوض في غمارها فيما سلف من الأعوام وفي النية أن نجود في الأبحاث ونعني بالتقاط درر الفوائد جهد المستطيع حتى تكون هذه الصحيفة جمعية علم وأجب تجمع إلى متانة القديم وطلاوة الحديث فلا يسأم من مطالعتها عشاق الأوابد والشوارد وإليه تعالى نبرأ من سيئات أعمالنا وشرور أنفسنا ونسأله وقايات الزمان وعثرات القلم واللسان والتنكب بنا عن تيه الباطل اللجلج إلى جادة الحق الأبلج إنه كريم جواد.

راعية الخيل لا راعية الجبل

راعية الخيل لا راعية الجبل 1 تمهيد لغتنا قليلة الاصطلاحات بالنسبة إلى العصر فشوها وزهوها وغضارتها إلا إن الذي وصلنا منها جاءنا مبهماً أو ناقص التعريف والتحديد أو مصحفاً ومحرفاً. وهنا الطامة الكبرى والبلوى العظمى. ومن هذا القبيل الكلمة التي نريد إن نبحث عن حقيقتها وهي راعية الخيل فقد جاءت في كتبهم مصحفة بصورة راعية الجبل فهل هذا التصحيف مقبول؟ - قلنا: 2 قول اللغويين في هذه الكلمة وأسماؤها المختلفة قال في القاموس: راعية الجبل: طائر. ولم يزد على هذا القدر. وقال في المخصص 8: 155: الراعية يقال لها: راعية الخيل: طائرة صفراء صغيرة تراها أبداً تحت بطون الخيل والدواب كأنما خضب جناحاها وعنقها بالزعفران فيها كدرة وسواد وظهرها أصفر وزمكاها لا طويلة ولا قصيرة. وقال صاحب تاج العروس: راعية الجبل كذا في النسخ. والصواب: الخيل بالخاء المعجمة والتحتية كما هو نص التكملة: طائر أصفر يكون تحت بطون الدواب. هكذا هو في التكملة. وقال النضر بن شميل: طائرة صغيرة مثل العصفور تقع تحت بطون الخيل والدواب صفراء كأنما خضب عنقها وجناحها بالزعفران وظهرها فيه كدرة وسواد ورأسها أصفر وزمكاها ليست بطويلة ولا قصيرة. انتهى. فأنت ترى من هذه النصوص أن صحيح الرواية هو راعية الخيل لا راعية الجبل لأنها ترعى هناك أرواثها كما هو مشهور عنها وإما في الجبل فلا يمكنها إن ترعى فيه شيئا إذ لا ترى فيه إلا الخضرة إن كانت هناك خضرة والخضرة لا تفيد هذه الطويئرات فائدة ولهذا يظهر لك فساد هذا التصحيف إذ تتضافر روايات اللغويين الكبار مع الدواعي العقلية على تأييد هذا اللفظ أي راعية الخيل ودفع الرواية المصحفة وهي راعية الجبل. وقال التاج في مستدرك ر ع ي: والراعية: طائر. ورعاءة الخيل: لغة في راعية الخيل. عن الصاغاني. قلت أنا: أما الراعية فهي نفس راعية الخيل كما تقدم نصه من عبارة صاحب المخصص إذ جعل الراعية وراعية الخيل شيئا واحدا. وإما رعاة الخيل فقد قال اللغوي الانكليزي لين صاحب مد القاموس: هكذا وردت هذه اللفظة بدون ضبط في تاج

العروس. والظاهر إن هذه الكتابة مخطوءة لأننا إذا نظرنا إليها نراها داخلة في عداد اسم الجنس وحينئذ يجب أن تضبط هكذا رعاة الجبل. فانظر إلى هذا الكلام مع ما فيه من الغرابة. والأصح إن تضبط اللفظة رعاة الخيل وزان شدادة. فعالة بمعنى فاعلة للمبالغة فكما أنه قيل لها راعية الخيل سميت أيضاً رعاة الخيل لكثرة رعيها وإلا فلو كانت جمعاً لراعية لقيل رواعي الخيل لا رعاة الخيل كما قال لين اللغوي المذكور. وسميت هذه الطويئرة أيضاً الرعوة فعلة بمعنى فاعلة. قال في مستدرك التاج: الرعوة: هنية تدخل في الشجرة لا تراها الدهر إلا مذعورة تهز ذنبها. نقله السيوطي. قلت أنا: وهذه صفة راعية الخيل. ولهذا سماها الإفرنج هزازة الذنب كما سموها أيضاً طويئرة الرعاة ومن أسمائها أيضاً الذعرة أو الزعرة. وسميت كذلك لأنهم توهموا فيها الخوف والذعر ظانين إن اهتزاز ذنبها على الدوام هو من شدة ارتعاشها الحاصل من خوفها. قال ابن سيد: الذعرة: هنية تكون في الشجرة تدخل فيها لا تراها إلا مذعورة تهز ذنبها. وقال صاحب التاج: الزعرة كتؤدة طائر في الشجرة لا يرى إلا مذعوراً خائفاً يهز بذنبه ويدخل في الشجرة وهو الذعرة التي تقدمت. ومن أسمائها أم عجلان والقوبع والفتاح. قال الدميري: أم عجلان طائر قاله الجوهري. وقال ابن الأثير: طائر أسود يقال له قوبع. وقيل طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه يقال له الفتاح. والقوبع طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه. ويقال في الفتاح: الفتاحية بتخفيف الياء إلا أن بعض اللغويين ينكرون كون الفتاحية والفتاح شيئاً واحداً. والصحيح أنهما واحد المدلول. ومن أسمائها: الصفرد قال في اللسان: الصفرد طائر أعظم من العصفور. . . وهو طائر جبان يفزع من الصعوة وغيرها. وقال الليث: هو طائر يألف البيوت وهو أجبن طائر. وهذه الأسماء وإن كانت تقع على جنس واحد من هذا الطير إلا إن الاسم الواحد لا يقع على المدلول الآخر. فالصفرة كثير الصفرة اسمه بالفرنسية وبلغة العلماء وهو كثير الوجود في العراق يكون طول السنة. وأما راعية الخيل أو رعاة الخيل أو الراعية أو الرعوة فأسمها بالفرنسية وأما بلغة العلم فهو وأما القوبع فهو والذعرة وأم عجلان

والفتاح والفتاحية والزعرة شيء واحد وأسمها بالفرنسية وبلسان العلماء أو ويشملها كلها أسم الذعرة أو الزعرة وهو أسم الجنس. ومن أسمائها عند العوام أم صفيدة ذكرها صاحب محيط المحيط في مادة ذعر. وأعاد الكلام في دائرة المعارف في مادة ذعر. قال: الذعرة طائر يهز ذنبه دائماً. والعامة تقول له أم صفيدة - ومن أسمائها العامية ما ذكره الدكتور أمين المعلوف في معجم الحيوان 36: 458: من المقتطف) قال: الذعرة طائر صغير يكثر تحريك ذنبه ويسمى أبا فصادة في مصر وأم سكعكع في الشام قلت: وأسمه زيطة عند العراق وصفرد أبو المليح عند الأعراب. فمع كثرة هذه الأسماء لا ترى المعاجم الفرنسوية أو الإنكليزية العربية تذكر إلا القليل منها. أو لا تذكر شيئاً. فهذا المعجم الفرنسوي العربي الكبير للأب بلو اليسوعي على ضخامته وتبجح صاحبه في المقدمة إذ يقول: وهناك معاجم مطولة لكنها كثيرة النقص في ما يتعلق بالتدقيق والضبط إذ تجتزي في أغلب الأحيان بما يقرب من المعنى الحقيقي دون اللفظ الواجب له ومع ذلك ترى فيه من النص في المصطلحات العملية ما يسقط هذا الديوان في عيون الأدباء أطلب مثلاً كلمة تراه يقول: عصيفير، طيير ونسي أن طائر الرعاة أي هو نفس هزاز الذنب أي الذي يقول في نقلها إلى العربية: ذعرة (أم صفيدة) مع أنه يقول بالفرنسوية هي شيء واحد. ويفسرها بها. - وأما بادجر صاحب الكتاب الإنكليزي العربي المعجم الكبير فيقول في هزاز الذنب، ذعرة. ولا يزيد على هذا القدر. وقد سبقه إلى هذا التعبير بقطر في معجمه الفرنسوي العربي. فأنت ترى من هذه الشواهد أن معاجمنا العربية ومعاجم اللغات الأجنبية إلى اللغة الغربية تحتاج إلى نظر لتضبط وتصحح ويدقق فيها حتى تجاري دواوين لغات أهل الغرب الذين يبالغون في تهذيبها وتحسينها على الدوام. وأما أصحابنا فأنهم ينقلون أقوال من تقدمهم بدون ترو أو تدقيق النظر ولهذا معاجمنا العربية الحديثة لا تمتاز عن معاجم الأقدمين بشيء يذكر. وصف هذه الطويئرة على ما جاء به العلماء راعية الخيل من الطويئرات القواطع من رتبة العصافير المسننة المنقار الراجعة إلى جنس

الدقيقات المنقار وإلى صنف هزازات الأذناب. وتمتاز بمنقار دقيق مستقيم وبمنخرين ملوزين يكونان عند قاعدة المنقار ومغشيان إلى نحو منتصفهما بغشاوة جرداء ولها إبهام به ظفر طويل قليل التقوس وعرف بذنب ليس بالطويل ولا بالقصير دائم الحركة تهزه الطائرة من فوق إلى الأسفل. والطويئرات المسماة بهذا الاسم تشمل صنفين وهما: رواعي الخيل وبالفرنسوي وبلسان العلم والصفارد وبالفرنسوية وبلسان العلماء وكلها من أكلة الحشرات. وتعشش تحت أكوام الحجارة وفي ثقوب الأشجار الكبار وفي تخاريب الأجراف أو في المزارع والمروج. واذاجاء الربيع حسرت (أي سقط ريشها ونبت غيره) وإذا جاء وقت الهيج تتحلى ذكورها بأفخر الريش فتتميز به عن إناثها. وفي غير هذا الأوان يصعب على الرائي أن يميز الذكور من الإناث والفرق الفارق بين الرواعي والصفارد إن الرواعي تختلف إلى المروج والزروع ومجتمعات الخيل والمواشي والغنم وتتبع الرعيان أينما ذهبوا وتتأثر الحراثين لتلقط ما تقع عليه بعد الكراب من ديدان ودويبات. - وأما الصفارد فتحاور المياه والبطائح والغدران والمغتسلات. ولهذا سماها الفرنسيون: الغسالة أو المغتسلة وهذه اللفظة العربية زنة ومعنى أو تكاد. وهذا الاسم يعرفه بعض النساء اللواتي يغسلن الثياب على حافة دجلة. فتأتي هذه الطويئرات ويحمن حول هؤلاء النساء سحابة النهار وتدنو منهن بكل انس وتلتقط ما يتساقط من الفتات. وهذه الطويئرات تحاكي الغسالات بأنها تخطر بذنبها الأرض والنساء يقصرون الثيات بضربها بالميحنة. والرواعي تلتقط طعامها بسرعة البرق الخاطف إن كان من الأرض وإن كان في الهواء. وإما طيرانها فمتموج وبخفقات ونقزات. وإذا طارت الصفارد أسمعت صوتا حادا قصيرا تردده كأنها تقول: كي كي فتجاوبها التي على الأرض بمثل هذا الصوت. ولكل من الرواعي والصفارد ضروب وأشكال تختلف بعضها عن بعض بالنعوت فيقولون الصفرد الأرمد والصفرد الأصفر والراعية الرمداء والراعية الصفراء إلى آخر ما هناك. وبهذا القدر كغاية للغوي والأديب. ومن أراد الزيادة فليرجع إلى كتب الفن وقد سيرت عليه المراجعة بعد معرفة الألفاظ العلمية. والله ولي التيسير. بغداد:

ساتسنا

الإفادات والإنشادات

الإفادات والإنشادات وقفت في إحدى دور الكتب في النجف على مجلد يوجد درجة عدة كتب نحيفة منها مختصر تاريخ للشام في القرن السابع فقط أوله فلم أعرف مؤلفه ومنها كتاب (الفوائد الوفية بترتيب طبقات الصوفية) تأليف يوسف بن شاهين سبط ابن حجر العسقلاني الشافعي والظاهر إن نسخته هذه نسخة المؤلف ومنها الكتاب (الإفادات والإنشادات) من إملاء الشيخ الإمام النحوي اللغوي العروضي أبي اسحق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأصل الغرناطي من رجال أواسط القرن الثامن في الأندلس وهذا الكتاب مخطوط خطا مغربيا يصعب هجاؤه وقد شذ آخره وهو ما أردنا إن ننشر شطرا منه نختاره للقراء قال المؤلف: إما بعد أيها الأخ الصفي الصديق الوفي أعزك الله وسددك فأني جمعت لك في هذه الأوراق جملة من الإفادات المشفوعة بالانشادات مما تلقيته عن شيوخنا الأعلام وأصحابي ذوي النبل والإفهام قصدت بذلك تشويق المتعبد في العقول ولنقول ومحاضر المسترشد من نتائج القرائح والعقول والله المستعان وعليه التكلان. إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي الجليل الشهير الخطير أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد ابن بكر بن علي المغربي رحمة الله تعالى أملاه علينا عن الإمام الكبير أبي حيان محمد بن يوسف بن حيان قال ورد كتاب من الأستاذ أبي عبد الله بن شبث الغرناطي إلى صاحب له يسمى حمزة وفيه سئل الشيخ (قال أبو حيان يعنيني) وجدت على ظهر نسخة من المفصل بخط عتيق إن رجلا سأل ابن الأخضر بمحضر ابن الابرش عما انتصب قوله. مقالة أن قد سوف أناله فقال (ولا تصحب الأزدي فتردى مع الردي) فقال سألتك عن أعراب كلمة فأجبتني نصف بيت فقال ابن الابرش قد أجابك لو كنت تفهم قال أبو حيان فوقعت عليه للحين إن هذا الشطر من قول النابغة: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تشك منها السامع مقالة إن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع يروي (مقالة) بالرفع على أنه بدل من (أنك لمتني) الفاعل بأني وبالفتح على ذلك إلا انه

بناء لما أضافه إلى مبني. إنشاده أنشدني الشيخ الفقيه القاضي الاعدل الفاضل أبو بكر محمد بن عمر بن علي القرشي الهاشمي إبقاء الله في السابع والعشرين لذي حجة من عام تسعة وخمسون وسبعمائة قال أنشدني تاج الدين الاموري قال أنشدني الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي لنفسه: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذي ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم من رجال قد رأينا ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال إفادة حدثنا الأستاذ الفقيه الجليل الأصولي أبو علي منصور بن علي الزواوي رحمه الله تعالى إن الفخر ابن الخطيب سأل سيف الذين الآمدي رحمه الله تعالى فقال له لم أجاز الشرع ذبح الحيوان في حق الإنسان وهو تعذيب له وتعذيب الحيوان على خلاف المعقول فقال له سيف الدين أن إتلاف الخسيس في حق النفيس من مناهج العقول فقال له الفخر لو كان كذلك لجاز أن تذبح أنت في حق الرئيس ابن سينا. إنشاده أنشدنا الشيخ الأستاذ القاضي أبو عبد الله المغربي لنفسه: أنبت عوداً بنعمان بدأت به ... فضلاً وألبسته بعد اللحا الورقا فظل مستعراً مستدثراً أرجاً ... وبات ذا بهجةٍ يستوقف الحدقا فلا تشنه بمكروه الجنى فكم ... عودته من جميل من لدن خلقا إنشاده أنشدني الأستاذ الكبير أبو سعيد بن لب أبقى الله بركته عشية يوم الأربعاء الثالث لشعبان عام تسعة وخمسين وسبعمائة لنفسه: وهبك وجدت العفو عن كل زلة ... فأين مقام العفو من مقعد الرضا

وكيف بثوب حالك اللون رمت أن ... يصير كثوب لم يزل قط أبيضا إفادة حدثني الشيخ الفقيه الأستاذ الكبير النحوي الشهير أبو عبد الله محمد بن علي الفخار البيري رحمة الله عليه أن بعض الشيوخ كان إذا أتى بأجازة ليشهد فيها سأل الطالب المجاز عن لفظ أجازه ما وزنه وما تصريفه & قلت ولما حدثنا بذلك سألناه عنها فأملى علينا ما نصه: وزن أجازة في الأصل أفعاله وأصلها أجوزه فأعلت بقل حركة الواو إلى الجيم حملا على الفعل الماضي لا أستسقالا فتحركت الواو في الأصل وأنفتح ما قبلها في اللفظ فانقلبت ألفا فصارت أجازه فحذفت الألف الثانية عند سيبويه لأنها زائدة والزائد أولى بالحذف ووزنها في اللفظ عند سيبويه أفعله وعند الأخفش أفاله لأن العين عنده محذوفة. إنشاده أنشدني الفقيه الصوفي المتخلق أبو محمد بن الناظر قال أنشدت في النوم هذين البيتين: نحن قسمنا الرزق بين الورى ... فأدب النفس ولا تتعرض وسلم الأمر لأحكامنا ... فكل عبد رزقه قد فرض إفادة لما توفي الأستاذ الكبير العلم الخطير أبو عبد الله بن الفخار سألت الله تعالى أن يرينه في النوم فيوصيني بوصية أنتفع بها في الحالة التي أنا عليها من طلب العلم فلما نمت في تلك الليلة رأيت كأني أدخل عليه في داره التي كان يسكن فيها فقلت يا سيدي أوصني فقال لي: لا تتعرض على أحد. ثم سألني بعد ذلك في مسألة من مسائل العربية فأجبته عنها ولا أذكرها الآن. إنشاده حاذر طباع الصاحب السوء لا ... تعدو إلى طبعك أو تطرق والماء ضد النار لكنه ... يعود إن جاورها يحرق إفادة حدثنا الأستاذ أبو عبد الله البلنسي قال حدثنا الأستاذ الخطيب أبو عبد الله محمد ابن مرزوق

قال سألت أبي ونحن نطوف باليت الحرام زاده الله تشريفاً فقلت له لم كان البيت يجعل في الطواف إلى جهة اليسار ولم يجعل إلى جهة اليمين وهي أشرف فقال لي سريعاً يا بني إن القلب على جهة اليسار فجعل الشق الذي هو محل القلب إلى جهة البيت ليكون أقرب موافقة لقوله تعالى (واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) فقلت له أن الطبيعيين وأهل التشريح أطبقوا على أن محل القلب الحقيقي هو الوسط لا للجهة اليسرى ولا اليمنى نعم وضع رأسه مائلاً ذات اليمين قليلاً وابرته مائلة ذات اليسار قليلاً ثم وقفت المسألة فأنهيتها إلى الطبيب العارف أبي عبد الله الشفوري فقال لي ما قلت للأستاذ حتى قلت ثم ذكر وجهين لحل الإشكال. إنشاده أنشدني الفقيه الأديب أبو جعفر بن عبد العظيم في الرابع لرمضان المعظم سنة تسع وخمسين وسبعمائة قطعة له: تتوق إلى الراحات نفسي وأنني ... لأعصي هواها تارةً وألومها وتأبى سوى ما تشتهي فأطيعها ... وأعلم أني في رضاها ظلومها إفادة كثيراً ما كنت أسمع الأستاذ أبا علي الزواوي يقول قال بعض العقلاء لا يسمى العالم بعلم ما عالما بذلك العلم على الإطلاق (يريد الإخصاء) حتى تتوفر فيه أربع شروط أحداها أن يكون قد أحاط معرفة بأصول ذلك العلم على الكمال والثاني أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم والثالث أن يكون عارفا بما يلزم عنه والرابع أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم قلت (المؤلف) وهذه الشروط رأيتها منصوصة لأبي نصر بن محمد الفارابي الفيلسوف في بعض كتبه. إنشاده أنشدني الفقيه الأديب أبو جعفر بن عبد العظيم لنفسه في العشر الأواسط لربيع الأول عام ستين وسبعمائة: لا يخدعنك في امرئٍ ... لبس الحلي والحلل في الناس من تلقاهم ... حمر الوجوه من الخلل

إنشاده أنشدني الفقيه القاضي أبو بكر بن القرشي لنفسه في السابع والعشرين لذي حجة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة. إذا ما تبدي منهج الحق واضحا ... تعامى أناس في الضلالة زاغوا جلت لهم الدنيا محاسنها التي ... بزخرف منها ذروها ويصاغ فهم نحوها مثل الفراش تساقطت ... على النار ما غير الممات بلاغ وليس صبا الإنسان غدراً فكيف إذ ... مضى منه شرخ واستحال صباغ إلى الله أشكو أمر نفسي فإنها ... عن الرشد فيها حيرة ومراغ ويا أسفي للنعمتين أضيعتا ... فهل عائد لي صحة وفراغ إفادة جرى لنا يوماً بين يدي الأستاذ الكبير أبي سعيد بن لب أنه حكى أن طعام فرعون كان محاح البيض ليقل برازه فإنها قليلة الفضلة فأنهيت المسألة إلى الفقيه الطبيب أبي عبد الله الشفوري فقال الدليل على قلة فضلتها ثلاثة أشياء أحدها أن في غيرها سرعة الانفعال للمضغ وهو دليل عام عند الأطباء في الأغذية فأنهم يقولون كل ما عسر مضغه عسر هضمه وإذا عسر هضمه فضل أكثره وبالضد الثاني أن ابن سينا جعل محاح البيض من أدوية القلب فأنها تكثر دم القلب ودم ألطف من كل دم يكون في البدن وما كان هكذا حقيق بأن لا تكون له فضلة يعتد بها والثالث أنه غذاء الطير عند تكوينه من البياض في جوف البيضة مع أنك لا ترى له فضلة عند خروجه منها فهذا دليل قلة فضلته. إنشاده أنشدني الفقيه الفاضل أبو محمد عبد الله بن حزلم قال أنشدني الفقيه الأجل الكاتب أبو عبد الله بن إبراهيم بن الشيخ الأجل الأستاذ العالم المتفنن الشهير أبي عبد الله بن الرقام قال أنشدي أخي محمد لنفسه: لم يشتر الشهد شخص ضوءه الكسل ... فلست أول صب خانه الأمل لا عتب أن خلفوني في الحضيض لما ... أشدو به عم صباحاً أيها الطلل ورافقوا الغير دوني في مسيرهم ... فربما قصرت بي دونهم علل

كم أنجدوا كلما أنهمت وانتهضوا ... نحو اليفاع وبالعلياء قد نزلوا يجدوا قرائح منهم عزهم وأنا ... لا ناقة لي أحدوها ولا جمل من لي بإدراك آثارٍ لأبلغهم ... وكيف ذاك وطرفي طالع عزل إنشاده جل في البلاد تنل عزاً ومكرمة ... في أي أرض تكن تلقى مناك بها جل الفوائد في الأسفار مكتسب ... والله قد قال فامشوا في مناكبها قال لي الفقيه أبو محمد بن حزلم فقلت له أني أحفظ للإمام الشهير أبي حيان يوسف بن حيان المغربي بهذا المعنى والقافية من التزم التجنيس وهي: يا نفس مالك تهوين الإقامة في ... أرض تعذر كل من مناك بها أما تلوتِ وعجز المرءٍ منقصةٌ ... في محكم الذكر فامشوا في مناكبها قال فقضينا العجب من هذا الاتفاق الغريب قلت ووجدت أنا بخط الفقيه الأديب البارع المحدث أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأستاذ الشهير أبي القاسم بن جزي قطعة له وهي: ومعسول اللمى عادت عذاباً ... على قلبي ثناياه العذاب وقد كتب العذار بعارضيه ... كتاباً خط قارئه اكتئاب وقالوا لو سلوت فقلت خيراً ... وأني لي وقد سبق الكتاب ثم كتب بعدها ما معناه إني عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية. وأحور زار خديه عذار ... سبى الألباب منظره العجاب أقول لهم وقد غابوا غرامي ... به إذ لج للدمع انسكاب أبعد كتاب عارضة يرجى ... خلاص لي وقد سبق الكتاب وهذا غريب. إفادة حدثنا الأستاذ القاضي أبو عبد الله المغربي قال كان أبو زيد بن الإمام يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول والمفارقات قال ولعله في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه:

وغررتني وزعمت أنك لابنٌ في الصيف تامر. فقال وغرزتني وزعمت أنك لاتني بالضيف تأمر فقال: أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة. إنشاده أنشدني الفقيه الفاضل أبو عبد الله بقي لنفسه قال ونظمتها ارتجالا وقد دعيت إلى نزهة أثر تشييع جنازة: كم أرى مدمن لهو ودعه ... لست أخلو ساعة من تبعه كان لي عذر لدى عهد الصبا ... وأنا آمل في العمر السعة فدعوني ساعة أبكي على ... عمر أمسيت فيمن ضيعه إنشاده أنشدني الفقيه الفاضل أبو عبد الله بن بقي قال أنشدت في النوم مقطوعة منها هذان البيتان: قم إذا القوم ذكروا ... وابتكر حين بكروا إن في كل لمحة ... نفحاتٍ تكرر إنشاده أنشدني القاضي أبو عبد الله قال أنشدني محمد بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي قال: أنشدني محمد بن رشيد الفهري قال أنشدني أبو حفص بن الخيمي لنفسه. لو أرى وجه حبيبي عاذلي ... لتفاصلنا على وجه جميل إفادة سألنا الشيخ القاضي أبو عبد الله المغربي رحمه الله عن أسم كتاب الجوهري في اللغة فقلت له من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومن الناس من يفتح فقال إنما هو الفتح بمعنى الصحيح قالوا يحتمل أن يكون مصدر صح كحنات. إنشاده أنشدني الفقيه الفاضل أبو عبد الله الشريشي قال أنشدني الشيخ القاضي أبو عبد الله المغربي قال أنشدني الحاج أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الرباطي قال أنشدني تقي

الدين لنفسه: تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرب مني في صباي مزاره لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره إنشاده أنشدني الفقيه أبو عبد الله بن تقي قال استيقظت من نومة نمتها في القائلة في شهر رجب من عام ستة وخمسين وسبعمائة وأنا أنشد هذا البيت: ولا يبلغ القصاد كل مرادهم ... إذا عدموا زادا من العلم نافعا إفادة أفادني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبد الله بن زمرك أثر إيابه إلى وطنه من رحلة العدوة في علم البيان فوائد أذكر الآن منها ثلاثا أحدها الفقه في اللغة وهو النظر في مواقع الألفاظ وأين استعملتها العرب ومن مثل هذا الوجه قولهم قرم وعام إذا اشتهى لكن لا يستعمل إلا مع اللحم ولا يستعمل عام إلا مع اللبن فتقول عمت إلى اللبن وكذلك قولهم أصفر فاقع وأحمر قان ولا يقال بالعكس وهذا كثير والثانية تحري الألفاظ البعيدة عن طرفي الغرابة والابتذال فلا يستعمل الحوشي من اللغات ولا المبتذل في السن العامة والثالثة اجتناب كل صيغة تخرج الذهن عن أصل المعنى أو تشوش عليه إذ المقصود الوصول في بيان المعنى إلى أقصاه والإتيان بما يحصله سريعاً ويمكنه في الذهن وتحري كل صيغة تمكن المعنى وتحرض السامع على الاستماع واخبرني أن كتاب المغرب يحافظون في شعرهم وكتابتهم على طريقة والعرب ويذمون ما عداها من طرق المولودين وإنها خارجة عن الفصاحة وهذه المعاني الثلاثة لا توجد إلا فيها. إنشاده أنشدني الفقيه أبو عبد الله الشريشي قال أنشدني المغربي قال أنشدني الرباطي قال أنشدني تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه من صدر رسالة كتب بها لبعض إخوانه بالحجاز الشريف: يهيم قلبي طرباً عندما ... استلمح البرق الحجازيا ويستميل الوجد قلبي وقد ... أصبح لي ثوب الحجى زيا يا هل اقضي من منى حاجتي ... وأنحر البز المهاريا

وارتوي من زمزم فهي لي ... ألذّ من ريق المهى ريا إنشاده أنشدني الفقيه الرحالة أبو اسحق بن الحاج قال أنشدني الأستاذ الإمام أبو حيان يوسف بن حيان لنفسه: عداي لهم فضل علي ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فأجتنبها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا إفادة وقع بيني يوما وبين من يتعاطى النظر في العلم من اليهود كلام في بعض المسائل إلى أن جرى الكلام إلى عيسى عليه السلام فأخذ ينكر خلقه من غير أب ويقول وهل يكون شيء من غير مادة، فقلت له فيلزمك إذا أن يكون العالم مخلوقاً من مادة وأنتم معشر يهود لا تقولون بذلك (الظاهر أن القول بخلق العالم ابتداء من غير مادة مسلم عند أهل الأديان الإلهية) واحد الأمرين لازم أما صحة خلق عيسى من دون أب وأما بطلان خلق العالم من غير مادة فبهت. إنشاده أنشدنا صاحبنا الفقيه الأديب أبو محمد بن حذلم لنفسه: يقولون خل عنك الأسى ... ولذا بالسرور فذا يوم عيد فقلت لهم والأسى غالب ... ووجدي يحي وشوقي يزيد توعد في مالكي بالفراق ... فكيف أسر وعيدي وعيد إنشاده أنشدني الفقيه الأديب البارع أبو محمد بن حذلم لنفسه: شان المحبين في أشجانهم عجب ... وحالتي بينهم في الحب أعجبها قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلا ... تأتي فتطفي أشواقي وتذهبها والآن أرسل دمعي أثرها ديماً ... فتلتظي نار وجدي حين أسكبها فأعجب لنار اشتياق في الحشا وقعت ... والريح تذهبها والماء يلهبها إفادة

كتب لي بخطه شيخنا الجليل القاضي أبو عبد الله المغربي رحمه الله على ظهر التسهيل لابن مالك الذي كتبته بخطي بعدما كتب لي بخطه روايته فيه عن أبي الحسين بن مزاحم عن بدر الدين بن جماعة عن المؤلف فكتب بعد ذلك ما نصه: قال محمد بن محمد المغربي بدر الدين بن جماعة المذكور يدعى بقاضي القضاة على ما جرت به عوائد أهل المشرق في تسمية مثله وأنا أكره هذا الاسم محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الملوك لا ملك إلا الله إنشاده أنشدنا شيخنا الفقيه القاضي المتفنن أبو عبد الله المغربي لنفسه: وجد تسعره الضلوع ... وما تبرده المدامع أمل إذا وصل الرجا ... أسبابه فالخوف قاطع بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع النجف // محمد رضا الشبيبي

سيرة صلاح الدين

سيرة صلاح الدين لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه وقد دونت سيرته في عهده فكان عند المشارقة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل وأحق ما يرجع إليه في سيرته رحمه الله من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل وتاج الدين شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين. أما كتاب النوادر فهو على أسلوب المؤرخ كتب بعبارة مرسلة لا تكلف فيها صيغ فيه اللفظ على قدر المعنى بخلاف الفتح القسي فإنه راعي فيه السجع من أوله إلى آخره حتى يكاد يمل قارئه وتشغله الألفاظ والجناسات والترصيع وعويص اللغة عن تدبر المعنى ودخوله الآذان بلا استئذان على أن له من سجعه في الأحيان ما يجئ عفو القريحة فيكون المعجب المطرب مثل فصل ذكر حال نساء الفرنج فإنه أبدع فيه كل الإبداع وإن كان ما يظهر ركب مركب الغلو في تمثيل حالهن. ولقد تدبرنا سيرة الملك الناصر صلاح الدين منذ ولد في قلعة تكربت (532 هـ) وكان والده أيوب بن شاذي والياً بها إلى أن جاء الموصل مع والده وقد ترعرع إلى أن انتقل معه إلى الشام وأعطي بعلبك إلى أن اتصل بالملك نور الدين محمود بن زنكي إلى أن ذهب مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر إلى أن ملك مصر وأزال دولة العاضد الفاطمية وخطب للدولة العباسية إلى أن فتح الشام واستخلص أكثر بلاد الساحل الشامي والقدس من الإفرنج إلى أن توفاه الله في دمشق بعد جهاد أربع سنين في الصليبيين - تدبرنا كل هذا فلم نحص له ولا شهدنا له إلا ما ينطبق على مكارم الأخلاق والعدل المتناهي والحلم الذي دونه حلم أحنف ومعاوية ولولا ما دسه الفقهاء عليه من تزيين قتل الشهاب السهروردي الفيلسوف لخرجت صحيفة حياته كلها بيضاء نقية قال ابن شداد أن هذا السلطان كان مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز اله أنصاره

بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معاندا للشرائع معطلا وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله فطلبه أياما فقتله هذه رواية ابن شداد وهو من الفقهاء أورد هذه القصة في معرض أن السلطان يعظم شعائر الدين وإثبات أنه يقول بالعبث والنشور ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار. إلا أن ابن أبي أصيبعة قال في حقيقة قتل الشهاب السهروردي أنه لما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد كثر تشنيعهم فاستحضره الملك السلطان الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام فتكلم معهم بكلام كثير وبأن له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه وصار مكينا عنده مختصا به فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق على الملك الناصر صلاح الدين وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه أن هذا الشهاب السهروردي لابد من قتله ولا سبيل إلى إطلاقه ولا يبقى بوجه من الوجوه ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ففعل به ذلك وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة. قال صاحب طبقات الأطباء أن السهروردي صار له شأن عظيم عند الملك الظاهر وبحث مع الفقهاء في المذاهب وعجزهم واستطال على أهل حلب وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم فتعصبوا عليه وأفتوا في دمه حتى قتل وقيل أن الملك الظاهر سير إليه من خنقه ثم أن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم وأخذ منهم أموالا عظيمة. هذه الغلطة الوحيدة هي التي أحصيت لصلاح الدين وهي في الحقيقة انتقام المتفقهة من المتفلسفة أو النقل من العقل - وهذا الانتقام ما برح على أشده في كل زمان ولا سيما منذ القرن السادس إلى آخر العاشر فإنه قتل في بلاد الإسلام كثير من الأعاظم أو اضطهدوا

وأوذوا من قبل أعداء الفلسفة وما عدا ذلك فإن صلاح الدين لا يلام على قتل أحد من الصليبيين لأنهم أفحشوا هم في أسره وعاهدوا فخانوا ومثل من قتلهم من المصريين للقضاء على الدولة العبيدية أو من قاموا يدعون إليهم بعد أن زالت دولتهم وفي جملتهم عمارة اليمني الشاعر (المقتبس م3 ص 169) كل ذلك يغتفر له لأنه في سبيل تأييد سلطانه والملك عقيم كما قيل. ومما ذكره ابن شداد في عدله أنه كان رؤفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي ولكن يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفرا وحضراً على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات. وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً ولا منتصلاً ولا طالب حاجة وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته ولقد رأيته وما استغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق. وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوما في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل عليّ شيخ مسن تاجر معروف يدعى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال: خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعت أنك لا تحابي قلت: وفي أقضية هو خصمك فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يديه أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له: يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال: لا تبطل بالتأخير وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حيلة سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بارجيش اليوم الفلاني من شهر كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن

ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال: كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق شهود معروفون فقال: مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع. ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له: هذا الخصم يتردد ولابد أن نسمع دعواه فقال: أقم عني وكيلاً يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهاداتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل هاهنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولا فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل: لي بينة تشهد بما أدعيه ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاء فأبلس الرجل فقلت له: يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائب للقصد فقال: هذا باب آخر وتقدم له بخلعه ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها قال ابن شداد فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة. مثل هذا الفاتح العظيم مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة فان صدقة النفل استرقت جميع ما ملكه من الأموال فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريا وجرما واحدا ذهبا ولم يخلف لملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك وكان رحمه الله يهيب الأقاليم وفتح آمد (ديار بكر) وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياها وهو يعطي في وقت الضيق كما

يعطي في حال السعة وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حرا من أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا وما سمعته قط يقول: قد زدت مراراً فكم أزيد وأكثر الرسائل كانت تكون على لساني ويدي وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة ألاف رس ولم يكد يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه. وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن شداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب. يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد العظيم المقدم في الديوان الصلاحي مع أن ابن شداد ذكر عن نفسه شيئا من ذلك بالعرض أورده كما رأيته في معرض الكلام على منائح صلاح الدين ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله فقال في فتح بيروت: وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني ومضض أجفاني ولعيون العواد أبرزني وانقطعت عن الحضور عند السلطان وضعفت عن تحرير كتاب الأمان فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه فلم يرضه ما كتبوه ولم يكفه ما رتبوه فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني ومرضت أذهان الأصحاء ولم يمرض ذهني فتسلم بيروت بخطي وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأبرزه وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره والغوا الصحة فيه فألفوا ولقوا السقم في غيره فانفوه فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق بل كله بتوفيق من الله توثيق فما فتح فتح إلا بمفتاحه ولا رتق فتق

إلا بصلاحه ولا جلي ظلام إلا بإصباحه ولا وري زند إلا باقتداحه. وقال من فصل: وكان قد عرض له مرض فانقلب إلى دمشق يداوي مزاجه فلما عاد إلى الحضرة سأله السلطان: أين كنت ولم أبطأت وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت وقد كنا في انتظارك والسؤال عن أخبارك وهذا أوان إحسانك فأين إحسان أوانك فأجر بنانك بجرأة بيانك واجز في ميدانك وما للبشائر (بفتح القدس) إلا واصفها وللفرائد إلا راصفها وللفصاحة إلا قسها وللصحافة إلا قيسها وكان قد جمع أمس كتاب دواوينه على إنشاء كتب ما ارتضاها واقتضاب معان ما اقتضاها وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال: لهذا من هو أقوم به وعناني فلما ساءني ناداني واستدناني فصرفت إلى امتثال أمره عناني وسلم إلي الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتبوها وقال غيرها ولا تسيرها وغرضه أني أعدل معوجها وأبدل مثبجها وافترع المعنى البكر للفتح البكر وأوشح ذكر آياته بآيات الذكر فاستجديها فما استجدتها واستلمحتها فما استملحتها وشممتها وبها سهك وكشفتها وسترهاهتك وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك فشرعت في افتضاض الأبكار واقتضاء الأفكار واقتراح القريحة وافتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز ووشحت ووشعت وشعبت وأشبعت وأطلت وأطبت وصبت وأصبت وأعجزت وأعجبت ووافقت وأنست. . . . . وقال في الوقعة العادية: ولما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثلثين أربعين كتابا بالبشارات فأبلغ المعاني وأبرع العبارات وقلت إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة ورأى البشائر شائرة وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد فما أعجل ما سلبوا وعروا وفروا وقروا وقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم ورأينا امرأة مقتولة لكونها قاتلة وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة وما زلنا نطوف عليهم ونعبر ونفكر فيهم حتى ارتدى العشاء بالظلام فعدنا إلى الخيام وأخذت الكتب التي نمقتها بالبشائر التي حققتها وإذا السلطان قد استبطاني وعدم إجابتي لما دعاني فما صبر ولا انتظر ولا ترقبني أن أحضر ولا أمهل أن أعطى بالبشارة حقها وأجلو بأنوار المعاني فقها وأبلغ بالبلاغة مداها بتقليص الضلالة ثوب هداها وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف فأبصرت عنده مشرفي المطانج

والأبيات ومدوني الجرائد بالإثبات وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة بعبارات سخيفة وقد عطلت الحسناء من حيلتها وعروها من بزتها وشوهوا جمالها وأحالوا حالها فذهب المبشرون وسار القاصدون فما كان لتلك الوقعة عند من وقع عليها وقع ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها وفي تلك الحال التفت السلطان إليّ وقال اكتب بهذه البشارة إلى بغداد وعجل بها الانفاذ فقلت على سبيل العتب انتم تريدون ما أكتبه ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه فقال كأنك كتبت البشائر فهاتها حتى تهدى إلى طرقاتها فقلت ما فات فات وهيهات هيهات وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها فسارت فسرت البعيد والقريب وخصت من جداها بالخصب الجديب وصدحت بأسجاعها المنابر وصمت بسماعها المفاخر وظهرت بعباراتها العبر وبهرت بزبرها الزبر وعمرت بمعانيها وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني. وقال من هذا البحر والقافية في ذكر لطف من الله في حقي خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكا بسنة قد عمل ترجمة تفرد بها القاضي ابن قريش لمكاتبة الأصحاب ليكتب بها إليهم ويعود بها الجواب فلم يبقى المكاتبة ابتداء وجوباً بخطي وخرج حكم عكا في الكتابة عن شرطي فقلت لأصحابي ما صرف الله قلمي عن عكاء إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود وأن النحوس تحلها وترحل عنها السعود واستعاذني الله من استعادتها وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها ولقد عصم الله قلمي وكلمني وعرف شيم مخايل الطاقة من شيمي وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري وما أجراه الله إلا بأجري فالحمد لله الذي صانه وعظم شأنه وما ضيع إحسانه وهو للفقه والفتيا ومصالح الدين في الدنيا وما عرف إلا بعرف فما صرف إلا عن صرف وما سفارته إلا في نجح وما أسفاره إلا عن صبح وما تجارته إلا لربح فهو يمين الدولة وأمينها ومعين الملة بل معينها بمداده يستمد إمدادها وبسداده للثغور سدادها ودواته دواء المعضلات وبعقده حل المشكلات وبخطه حط عوادي الخطوب وبقطه قط هوادي القطوب وببريه برء الأمراض وبدرءه درء الأعراض وبدره انتظام عقود العقول وبدراريه ابتسام الإقبال والقبول وبجريه جرى الجياد للجهاد وبسعيه سعي الأمجاد للإنجاد وبحركته سكون الدهماء وببركته ركون الرجاء فما كان الله

ليضيعه في صون مالا يصونه من لا يعنيه فخفقت على عكاء من وقوف قلمي عنها وكان قد ألهمني الله فإنه صانه ولم يصنها وشكرت الله على هذه اللطيفة والعارفة الطريفة. وقال من فصل في وفاة السلطان وكيف كانت حاله بعد: وبقيت تلك الأيام لا أفرق بين الدجى والضحى ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا وحالت حالي وزال أدلالي وزاد بلبالي وبطل حقي واتسع خرقي وتنازل جاهي وتنازق أشباهي وأعضلت أدواء الدواهي وبقيت المعارف متنكرة والمطالع مكفهرة والعيون شاخصة والظلال قالصة والأيدي يابسة والوجوه عابسة وعادت أبكار خواطري عانسة ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة وبقي باب كل مرتجى مرتجا ومنهج كل معروف منهجاً وظعن الغنى واختلف في حسن الاخلاف بي ظني حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه وقام بالأمر بعزم تأنيه وحزم تأتيه وعز تأبيه فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب دري ونضارة حلي دري فكتبت له وحليت من الملك عطله ووشيت الكتب ووشعتها وجليت الرتب ووسعتها وهززت اليراعة وأغزرت البراعة وهجرت الجماعة ولزمت القناعة. هذا هو الإعجاب بالنفس بل إعجاب الفرس تراه ماثلا من أول كتابه إلى آخره فقد قال في مقدمته: وأودعته من فوائد الكلام والفرائد الفذ والتؤام دار السحاب ودر السحاب وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدرة وتنويها بدلالة فخره وعرضته على القاضي الأجل الفاضل وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل فقال لي سمه (الفتح القسي في الفتح القدسي) فقد فتح الله عليك بفصاحة قس وبلاغته وصاغت صيغه بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته. أظن أن القاضي الفاضل على جلالة شأنه ما كان يستحق هذا الإعظام من العماد لو لم يكن نوه له بكتابه على أن للعماد من المزايا التي يفاخر بها ما قد يغفر له هذا التبجح ولكن كثيرين يفاخرون وليس عندهم شيء من المزايا. نشأ العماد بأصبهان وقدم بغداد في حداثته وتفقه بالمدرسة النظامية وأقام بها مدة (ابن خلكان) ولما تخرج ومهر تلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط فلما توفي أقام العماد مدة في عيش منكد وجفن مسهد ثم انتقل إلى دمشق (562 هـ) وسلطانها يومئذ الملك العادل نور

الدين وعرفه والد صلاح الدين فأحسن إليه وأكرمه وميزه عن الأعيان والأماثل وعرفه صلاح الدين ومدحه بقصيدة ثم إن القاضي كمال الدين الشهروزي نوه بذكره عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله وأهله لكتابة الإنشاء قال العماد فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيدة عنده لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها واتى فيها بالغرائب وكان ينشأ الرسائل باللغة المعجمية أيضا وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام ولما اخذ صلاح الدين دمشق حضر بين يديه وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله فاستمر على عطلته مديدة وهو يغشى مجالس السلطان وينشده في كل وقت مدائح ويعرض بصحبته القديمة ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب منه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين يضاهي الوزراء ويجري في مضارهم وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم وصنف التصانيف القائمة من ذلك كتاب جريدة القصر وجريدة العصر جعله ذليلا على زينة دمية الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري والخطيري جعل كتابه ذليلا على دمية القصر وعصره أهل العصر للباخرزي والباخرزي جعل كتابه ذليلا على يتيمة الدهر للثعالبي والثعالبي جعل كتابه ذليلا على كتاب البارع لهرون بن علي المنجم. وقد ذكر العماد في جريدة الشعراء الذين كانوا بعد المائة إلى سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب ولم يترك أحدا إلا النادر الخامل وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود وكيفية تنقله بخدمة السلطان صلاح الدين وذكر شيئا من الفتوحات بالشام وهو من الكتب الممتعة وانما سماه البرق الشامي لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق لطيبها وسرعة انقضائها وصنف كتب الفتح القسي في الفتح

القسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس وصنف كتاب السيل على الذيل جعله ذليلا على الذيل لابن السمعاني وهو ذيل على كتاب جريدة القصر وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية (مطبوع) وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات ونفسه في قصائده طويل وله ديوان صغير جميعه دوبيت وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف. ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى فاختلت أحواله وتعطلت أوصاله ولم يجد في وجهه باباً مفتوحا فلزم بيته وأقبل على الاشتغال بالتصانيف وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الأخرى سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان وتوفي يوم الاثنين مستهل سهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر. أما ابن شداد مؤلف السيرة الصلاحية فقد ولد بالموصل سنة 539 وحفظ بها القرآن الكرين في صغره وتخرج بضياء الدين القربطي وبابن الشيرجي والطومي الخطيب وغيرهم قرأ عليهم القرآن القراءات والتفسير والحديث والفقه والخلاف والأدب واللغة وأعاد بالمدرسة النظامية وحج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزار بيت المقدس والخليل ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أنه يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين فإنه كان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقتل على جبل عرفات فلما دخل عليه ذكر انه قابله بالإكرام التام وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه فأخرج له جزءاً جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له: السلطان يقول لك إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرفنا بذلك فلنا إليك مهم فأجلبه بالسمع والطاعة فلما عاد عرف بوصوله فاستدعاه وجمع له في تلك المدة كتابا يشتمل على فضائل الجهاد وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة خرج إليه واجتمع به ببقعة حصن الأكراد وقدم له الكتاب الذي جمعه وقال إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد لظاهر الموصل إذا وصل إليها ثم أنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى

سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم ولاه قضاء المعسكر والحكم بالقدس الشريف ولما توفي صلاح الدين كان حاضرا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الأخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض وكتب الملك الظاهر غياث الدين ابن صلاح الدين إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطليه منه فأجابه إلى ذلك فأرسله الملك الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب فلم يوافق على ذلك ثم ولي قضائها ووقوفها وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس وليس بها من العلماء الأنفر يسير فاعتنى ابن شداد بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة ولم يكن له خرج كثير فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب فتوفر له شيء كثير فعمر مدرسة للشافعية وداراً للحديث في حلب ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها. وكان ببدء القاضي أبو المحاسن بن شداد حل الأمور وعقدها لم يكن لأحد معه في الدولة كلام وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه وتولى أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور وكان للفقهاء في أيامهم حرمة تامة ورعاية كبيرة خصوصا جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون في شهر رمضان على سماطة. قال صاحب وفيات الأعياد بعد إيراد ما تقدم تحصيله وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم حتى أنه كان يلبس ملبوسهم الرؤوساء والرؤوساء يترددون إليه وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم لكل واحد منهم مكان معين لابتعاده ثم أنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنه الملك الكامل بن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب وكان قد عقد لهم عليها فار في أول سنة تسع وعشرين وستمائة وعاد وقد جاء بها ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة واستولى على الملك العزيز جماعة من

الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم ولم يرى القاضي ابن المحاسن وجها يرضيه فلازم داره إلى حين وفاته وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه غابة ما في الباب إنه لم يبقى له حديث في الدولة وكانوا يراجعونه في الأمر فكان يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين السلاطين واستمر على ذلك حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة في حلب وصنف كتابه ملجأ الحكام عند التباس الأحكام بتعليق بالأقضية في مجلدين وكتاب دلائل الأحكام تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين وكتاب الموجز الباهر في الفقه وكتاب سيرة صلاح الدين وغير ذلك وجعل داره خانقه للصوفيه. هذان هما الرجلان اللذان تعلقا بخدمة صلاح الدين وحرص عليهما على أدلالهما عليه فنفقت بضاعتهما في سوقه والدولة سوق يحمل إليها ما يروج فيها ومع ما كانا فيه من السعة لم تلهما الدنيا عن التأليف والتدريس وإحياء معالم العلم والأدب فأثرا بفضلهما في حياتهما وبعد موتهما كتب العماد السيرة الصلاحية ممزوجة بالأدب ومع ذلك لم يفته الغرض من التاريخ حتى أنه قال فيما تم عليّ الأسطول من فصل فانشقت مرائر الفرنج وأزاحت سفنها عن النهج وقرنصت بزاة البيزانية وتقلصت جناة الجنوية وكرثت أدواء الداوية وكثرة أسواء الاسبتارية وزادت آلام الألمانية وعادت أسقام الافرنسسيية. مما دل على أنه كان يعلم أجناس المحاربين ومما ذكره أيضا في ذكر ما تجدد لملك الانكتير (انكلترا) من المراسلة والرغبة في المواصلة قال: وصلت رسل ملك الانكتير إلى العادل بالمصافحة على المصفاة والمواتاة في الموافاة وموالاة الاستمرار على الموالاة والأخذ بالمهداة والترك للمعاداة والمظاهرة بالمصاهرة وترددت الرسل أيام وقصد التئاما وكادت تحدث انتظاما واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الانكتير وأن يعول عليهما من الجانبين في التدابير على أن يحكم العادل في البلاد ويجري فيها الأمر على السداد وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها وشمسها من قبوله في أوجها ويرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والاسبتار ببعض القرى ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا ولا يقيم معها في القدس الأقسسيون ورهبان ولهم منا أمان وإحسان واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد وجماعة من الأمراء من أهل الراية والسداد وهم علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين عثمان وعز الدين بن القدم وحسام الدين بشارة وقال لنا تمضون إلى

السلطان وتخبرونه عن هذا الشأن وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب وما أخر الجواب وشهدنا عليه بالرضا وعاد الرسول إلى ملك الانكتير بفضل أمر الوصلة وإراحة الجملة وإزاحة العلة واعتقدنا أن هذا الأمر قد تم إلى أن قال وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورؤسائهم فقصوه على قوسهم وعثروا على عروسهم فجبوها بالعذل واللذع ثم رضيت على شرط الموافقة في الدين فأنف العادل إلى آخر ما ذكر. بيد أن الصراحة في كلام ابن شداد أكثر لأنه لم يتقيد بالسجع والترصيع وأنواع البديع المريع فقال في ذكر ملك الانكتار: وهذا ملك الانكتار شديد البأس بينهم عظيم الشجاعة قوي الهمة لهم وقعات عظيمة وله جسارى علي الحر وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة لكنه أكثر مالاً منه وأشهر في الحرب والشجاعة وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص ولم يرى أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها وجمع له خلقاً كثيراً وقاتلهم قتالاً شديداً. . . . ولما كان يوم النبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الانكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها وكان لقدومه روعه عظيمة ووصل في خمس وعشرين ثانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد وأظهر الإفرنج مسروراً عظيماً حتى أنهم أوقدوا تلك الليلة نيراناً عظيمة في خيامهم ولقد كانت النيران مهولة عظيمة تدل على عدة عظيمة كبيرة وكان ملوكهم يتواعدوا أننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم متوقنون فيها يريدون أن يفعلوا من مضايقة البله (عكا) حتى قدومه فإنه ذو رأي في الحرب مجرب وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة. . . . وقال من فصل: كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمسون من جانب الانكتار أن يجتمع بالسلطان وذكرت عذر السلطان عن ذلك وانقطع الرسول وعاد معاوداً في المعنى وكان حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياماً عنده بسبب مرضه واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه وأنكروا عليه ذلك وقالوا هذه مخاطرة بدين النصرانية ثم بعد ذلك وصل رسول يقول لا تظن تأخري بسبب

ما قيل فإن زمان قيادي مفوض إليّ وأنا أحكم ولا يحكم عليّ غير أني في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني عن الحركة فهذا كان العذر في التأخير لا غير وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وعندي ما يصلح للسلطان وأنا استخرج الأذن في إيصاله إليه فقال له الملك العادل قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية فرضي الرسول بذلك وقال الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاجة حتى نطعمها لتقوى ونحملها فداعبه الملك العادل وكان فقيهاً فيما يحدثهم به فقال الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر على أن قال الرسول ما الذي أردتم منا أن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع فقيل له عن ذلك نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى فخرج رسول الانكتار إلى السلطان ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه وأعاده مشرفاً مكرماً إلى صاحبه وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عندنا من ذلك أيضاً. وقال في مشورة ضربها في التخيير بين الصلحين بين الانتكار والمركيس: واصل التعاقد أن الملك (الانتكار) قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما فإما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال أن معاشر دين النصرانية قد أنكروا عليّ وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمة وها أنا أسير إليه رسولاً يعود من ستة أشهر فإن أذن فيها ونعمت وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلا أذنه في ذلك هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عليهم ضربة لازم. وقال في عود الرسول من قبل ملك الانتكار: وادي الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة وأي قدر لها في ملكك وعظمتك وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها وقد ترك القدس بالكلية فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها فأنت تترك له هذه البلاد ويكون الصلح عاماً فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال

ويروج وأن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنوه من الرواح ولا يمكن مخالفتهم فأنظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله الولي في أن يقي المسلمين شره فما بلونا أعظم حيلة وأشد إقداماً منه.

تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة

تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة يفرد الغربيون كل العلوم بتأليف خاصة بل يفردون العلم الواحد بفروع كما هو الحل في التاريخ فقد وضع المسيو شارل سينوبوس أستاذ التاريخ في كلية باريز وصاحب كتاب تاريخ الحضارة الذي عربنا أكثره ونشرناه بين أهل العربية هذا الكتاب في تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة: أفاض في نشوء الأحزاب السياسية وأشكال الحكومات وتقلبات السياسة في أوروبة منذ سنة 1814إلى سنة 1896 أي منذ سقوط نابليون أيام كان الحاكم المتحكم على كثير من بلاد أوروبا يتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية ويحكمها حكماً عسكرياً قاسياً بل كان ببسط نفوذه مباشرة أو بالواسطة على جميع شعوب أوروبا فيحكم الإمبراطورية الفرنسوية مباشرة وهي ليست فقط فرنسا القديمة والبلاد المضافة إلى الجمهورية (كالبلجيك وولايات الريم) بل أجزاء من سويسرا وثلث ايطايا وبلاد القاع والولايات الألمانية الواقعة على شواطئ بحر الشمال والولايات الايليرية (الأسبانية) فيحكم هذه البلاد حكما مطلقاً كما كان يحكم الممالك المجاورة التي ارتبط معها بمعاهدات هجومية ودفاعية مثل ممالك اسبانية ونابولي وإيطالية وفستوفالية التي ولي عليها أقاربه وممالك ألمانية المنضمة تحت لواء اتحاد الريم وسويسرا والدانمارك واضطر سنة 1812 المملكتين الألمانيتين المستقلتين النمسا وبروسيا إلى الانضمام إليه ضد روسيا ولم يبقى خارجاً عن سلطانه إلا أطراف أوروبة مثل انكلترا وروسيا والسويد وصقلية والبرتغال وكان عصاة أسبانية يناوشونه القتال وهكذا كانت أوروبا بأجمعها منقسمة إلى معسكرين: نابليون وأعداؤه. بدأ المؤلف بالكلام على انكلترا وذلك لأنها كما قال كانت في القرن التاسع عشر المثال السياسي لأوروبا فالشعب الانكليزي هو الذي أنشأ الطريقة السياسية التي اتبعتها أوروبا المعاصرة والحكم الدستوري والحكم النيابي وضمانات الحرية واقتدت به بقية الأمم والأحزاب التي اتصفت بها الحياة السياسية في القرن التاسع عشر (مثل الدستوري والنيابي والمتطرف والاشتراكي) قد تألفت في انكلترا قبل أن تظهر في الممالك الأخرى ولذا بدأ بانكلترا في الكلام على التاريخ السياسي في أوروبا. تكلم على الحومة المركزية في انكلترا والسلطات المحلية وطريقة انتخاب النواب والكنائس

وتأليف الجمعيات وحالة إيرلاندا وحالة الإصلاح وتحرير الكاثوليك والإصلاح في الانتخابات وذكر البواعث التي حملت أهل إيرلاندا على المطالبة بحقوقهم وكان منها انتشار مرض البطاطا سنة 1845 والمجاعة التي حدثت هناك سنة 1846 فكان الجياع يقصدون المدن يجمعون نفايات البقول ويأكلون الأعشاب أو مسواك القرود والطرق وقد بعثرت فيها الجثث فهلك الشعب بكثرته من الشقاء أو هاجر إلى أميركا فلم تلبث إيرلاندا أن سقطت نفوسها من 8170000 نسمة إلى 6500000نسمة سنة 1851 وأخذ الشعب منذ ذلك الحين يقلّ فبلغ 5100000 نسمة سنة 1881 و4700000 نسمة سنة 1891. وتكلم على الطرق السياسية التي عمد إليها الايرلنديون لمداواة هذا الأمراض. وجود الكلام على انكلترا بين الاصطلاحين سنة 1832 - 1867 وفيه فصول في الإصلاح الإداري وهياج العملة وثورة ايرلندا وهياج حرية المقايضة والأزمة الايرلندية والنشوء الديمقراطي وغير ذلك. وكلام طويل على الأحزاب الانكليزية بعد سنة 1868 وما قامت به من جلائل الأعمال وكيف تألف حزب استقلال إيرلاندا الإداري وما أتاه للوصول إلى غرضه وكيف تألفت الأحزاب الاشتراكية وما قام به وزراء انكلترا في السياسة الداخلية والخارجية مثل الوزير ديزرائيلي الذي كان يهيج العواطف الوطنية الانكليزية باتخاذ سياسة الحرب والضرب باسم الشرف الانكليزي الذي أهين بسياسة الحياد الذي جرى عليها غلادستون وأهاج الشعور الوطني بأمرين: المستعمرات الانكليزية والمسألة الشرقية فكان الأحرار يرمون في سياستهم إلى الزهد في المستعمرات وإرادة انفصالها عن بريطانيا العظمى لأنها تكلف نفقات باهظة وصرح الحزب المحافظ بأنه يريد سلامة المملكة البريطانية وحاول ان يقوي الصلات بين المستعمرات وانكلترا بوحدة عسكرية وتجارية فنادت الحكومة ببيعة الملكة إمبراطورة على الهند وحاولت إنشاء وحدة أو اتحاد في إفريقيه الجنوبية انتهى بحرب الترنسغال. وصرح ديزرائيلي في المسألة الشرقية بأنه يود سلامة المملكة العثمانية فأوقفه غلادستون زمناً بإهاجة الرأي العام ضد العثمانيين لارتكابهم الفظائع في بلغاريا وعقدت سنة 1876 في المدن الكبرى بانكلترا عدة احتجاجات يظهر فيها الشعب الانكليزي سخطه على مرتكبي تلك المظالم فاستحسن مجلس النواب سياسة التداخل فعمدت انكلترا إلى نفس السياسة التي اتخذتها في حرب القريم وهي

سياسة العداء وقامت بعمل فعلي في أوروبا. وختم المؤلف كلامه بالفصل الآتي تعريبه وهو في النشوء السياسي في انكلترا: ان انكلترا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي اجتازت القرن التاسع عشر بدون ان تقوم بثورة فاحتفظت بدستورها القويم ولم تمسه وكذلك بأصول حكومتها وقد نسي الأجانب الثورات التي نشبت في القرن السابع عشر واستنتجوا من ذلك ان الثبات السياسي ملازم للأخلاق الانكليزية ومع هذا فان نحت هذه الصور الباقية غير المتحولة قد تبدلت الحياة السياسية من حيث العمل تبدلاً مهماً وذلك من ابتداء القرن إلى أواخره بحيث خرجت انكلترا من طريقة حكمها القديمة فقد كانت الأمة الانكليزية سنة 1814 خاضعة بعد لطبقة من الإشراف هي القابضة على زمام المجتمع والإدارة المحلية والحكومة المركزية فجدد القرن التاسع عشر النظام الاجتماعي بسنه سنة المساواة أمام القانون فألغيت القوانين والعادات التي كانت تقضي على الطبقات النازلة ولقول بعدم الكفاءة السياسية في المخالفين في الدين مثل الكاثوليك والإسرائيليين ومثل شقاء الملاحين وسقوط المحاويج المعانين ومنع عقد جمعيات العملة وسلبت الإدارة المحلية من طبقة الأشراف من أهل البلاد وجعلت في يد مجالس ينتخبها السكان. فأبقت الحكومة المركزية على مظاهرها ولكن تبديل الجماعات المنتخبة قد اختط لها خطة جديدة فأصبح مجلس العموم بعد ان كان طائفة من المقننين الأشراف مجلسا يضم نواب الأمة وأخذ بالتدريج يقضي على حكومة الملك والنبلاء (اللوردات) حتى كاد يمسي مجلساً ذا سلطة مطلقة وصيرت الوزارة التي يجب ان تكون مجلس الملك جمعية تنفيذية لمجلس النواب وهكذا انتقلت انكلترا من الحكم الدستوري إلى الحكم النيابي وطرية حكمها النيابي تتحول إلى طريقة الحكم الشعبي أو جمهورية يحكمها مجلس منتخب انتخاباً ديمقراطياً. وكان هذا النشوء في المجتمع والحكومة على قاعدة ديمقراطية مناقضا مناقضة صريحة للدستور الارستوكراطي في المجتمع الانكليزي الذي لم تحفل به زمنا طويلا فقد بدئ بتنفيذ هذا الدستور منذ أربعين سنة بحيث ان العالم تين (سنة 1870) لم يتكلم عليه على انه لم يحدث من تحول داخلي في المجتمع الانكليزي بل جاء به من الخارج ولم ينشأ إلا من كيفية تأليف المملكة الانكليزية المؤلفة من أجزاء متخالفة متباينة.

ليست المملكة المتحدة بريطانية العظمى وإيرلاندا التي يدعوها بانكلترا على غير حقيقتها أمة كفرنسا بل هي مجتمع أمم قديمة (غاليون وايكوسيون وإيرلانديون) خضعت لسلطان أمة متغلبة وظلت مباينة لها في نظامها الاجتماعي والديني وربما ساغ ان تدعى أمة جديدة ذاك المجتمع الصناعي الذي نشأ منذ أوائل القرن الثامن عشر في الأصقاع المقفرة في الغرب والشمال من انكلترا. فانكلترا القديمة أي انكلترا الجنوب والشرق التي نظمت الحكومة والكنيسة كانت ارستوكراطية وانكليكانية ولا تزال كذلك اليوم خاضعة لإشرافها وكهنوتها وقد ظلت سياج الحزب المحافظ وحصنه الحصين أما سائر أمم المملكة فلم تكن لها صلة بالأشراف ولا بالكنيسة الانكليكانية بل كانت ايكوسيا من الشيعة البرسبتارية ديمقراطية في مناحيها وإيرلاندا كاثوليكية معادية لنبلاء الانكليز وبلاد الغال وانكلترا الجديدة الصناعية في الشمال والغرب يسكنها ناس من المخالفين. فكانت هذه المجتمعات الديمقراطية والمخالفة معادية بالطبع للحكم الذي يبعدها من السلطة ويجعل أديانها غير معتبرة رسمياً وهي التي تألفت منها الأحزاب المعارضة للنبلاء الانكليز والكهنوت الانكليكاني. والايكوسيون والايرلانديون والغاليون وانكليز الشمال والغرب هم الذين ألفوا ويؤلفون بعد سواد الحزب الحر والحزب الراديكالي وهم الذين أدخلوا على انكلترا القديمة تغييراً ديمقراطياً. بيد ان انكلترا القديمة التي كان فيها بلاط الملك والحكومة قد انتفعت من ذلك للمحافظ على طريقة الحكم القديمة ومد سلطانها على رعايا بريطانيا العظمى وبمقاومتها للجديد من الحالات حتى ينفذ صبر رعاياها قد توصلت إلى ان تخفف كثيراً التحول نحو الديمقراطية وهكذا كان التبديل البطيء في الأوضاع الانكليزية على نسبة القوى الهائلة التي استخدمها المعارضون. لم يبدأ الحزب الديمقراطي ببث دعوته في مملكة من ممالك أوروبا قبل ان يبثها في انكلترا فان هذه سبقت العالم لأول مرة في القرن التاسع عشر وذلك انه بواسطة الراديكاليين سنة 1819 قد وضعت الخطة السياسية لجميع الأحزاب الديمقراطية في أوروبا. وما من حزب ديمقراطي قد استجاش له أنصاراً وأعواناً أكثر من الراديكاليين والشارتيين والايرلنديين والمتظاهرين من العملة سنة 1866 فقد كانت انكلترا بلاد الاضطرابات والتظاهرات

الهائلة بيد ان هذه الجماهير الديمقراطية المحترمة بمشروعية مطالبها قد وقفت أمام مقاومة الحكومة الارستقراطية التي كانت قابضة على زمام الأمر فكبحت جماح مخالفيها من دون عناء بتوقيف المشاكسين وسن قوانين استثنائية والاستكثار من الجند. ونال هؤلاء الجماعات في نصف قرن بما قاموا به من التظاهرات أكثر مما نالته حفنة من الجمهوريين الفرنسويين في يوم واحد وقد عمدت إلى القوة بل انها رأت لإكراه الارستقراطيين المحافظين على التنازل عن شيءٍ من حقوقهم انه من اللازم ان يحالفوا الارستقراطيين الأحرار ويندمجوا فيهم واضطروا إلى الاكتفاء بالإصلاحات الجزئية التي رضي حلفاؤهم بإعطائها وهكذا وضع في صورة تحكيم قانون الانتخاب النصف العام والتعليم الابتدائي النصف إجباري ونصف المساواة بين الأديان في إيرلاندا والإدارة المحلية النصف انتخابية وقانون العملة النصف ديمقراطي. وقد دبر الأمر رؤساء الأحرار في هذه الإصلاحات وكان لسواد الديمقراطيين من العملة الإيرلانديين بادئ الرأي في الإصلاح بد طولى ثم جرت التظاهرات النهائية بإخافة جماعة المحافظين فطلب قدماء الراديكاليين إصلاح الانتخاب من حيث الجملة ونزعوا الإصلاحات الانتخابية الجزئية التي جرت سنة 1832 و1867 التي أعقبتها جملة من الإصلاحات الديمقراطية والعامية. وطالب الايرلانديون وحصلوا على المساواة السياسية في المعتقدات الدينية. وبعد ان نال الراديكاليون والايرلانديون جزءاً من السلطة السياسية بواسطة حق الرأي العام في الانتخاب دخلوا تدريجياً في الحزب الحر الانكليزي وانتهى بهم الأمر ان عرضوا عليه برنامجهم في الاستقلال الإداري والإصلاح الديمقراطي بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحر والراديكالي أو الايرلندي وقد سرت دعوة الراديكاليين الاتحاديين حتى إلى الحزب المحافظ نفسه بحيث أخذ يطالب بمطالب ديمقراطية. وهكذا تداعى بناء الحكم القديم الذي كان يدافع دوله أكثرية الانكليز الممتازة وذلك بضربات سواد المعارضين من غير الانكليز فانهار البناء قطعة قطعة وحل النظام الجديد أيضاً ب \ ون ان تكون له خطة مجموعة بالاحتفاظ بالملكية واللوردات المتوارثين خلفاً عن سلف وكنيسة الحكومة الممتازة ومجانية الوظائف الانتخابية وقيود حق الانتخاب العام فامتزجت

أوضاع الأنقاض القديمة بطعم الجديدة في مجموع حوى المتناقضات حيث لا يمكن التبوء على التحقيق فيما سيزول أو يبقى قائماً وهكذا من الصفات المشوشة في الحياة السياسية في انكلترا الحالية. تكلم المؤرخ على سياسة الأحزاب بعد إخفاق أعلام نابليون الأول وتاريخ الانقلابات الفرنسوية أشبه بتاريخ الانقلابات العثمانية ولعلنا نحن المقلدون لها المتشعبون بآراء أهلها. مثال ذلك معاملة حكومة فرنسا للجرائد هناك بعد سنة 1819 وما أصدرته من القوانين لإرهاقها فقد جعلت على الصحف ضمانة باهظة وضربت عليها كما في الصحافة الانكليزية ضريبة وضع طابع بعشرة سنتيمات عن كل نسخة وخمسة سنتيمات أجرة البريد ولم تكن تباع الجرائد أعداداً مفردة بل لم يكن لها سوى مشتركين بأسعار غالية إذ انه يقضي على كل نسخة ان تدفع 15 سنتيما ضريبة. وكان الاشتراك من علائم الظرف خاصاً بالكبراء أو أهل اليسار وربما اشتراك بضعة منهم ليتقاسموا قيمة الاشتراك بينهم وكانت الصحف قليلة جداً ثلاثة أو أربعة لكل حزب ومجموع ما يطبع منها نحو سنة 1830 لم يتجاوز الخمسة عشر ألفاً. وقد جاء في تقرير سري سنة 1824 ان مجموع عدد نسخ الصحف السياسية المعارضة بلغ 41 ألفاً ومجموع ما تطبعه الصحف الموالية للحكومة 15 ألفاً. وقد عدوا من علائم النجاح الكبير سنة 1830 ان كان عدد مشتركي جريدة الكونستيتوسيونل 23 ألفاً وما كانت هذه الصحف تحتوي إلا على مقالات سياسية وأدبية غير موقع عليها على الطريقة الانكليزية وقد عدوا انقلابا شروع جريدة البريس بنشرها سنة 1836 مقالات في موضوعات مختلفة وعد من العار العظيم ما أتته جريدة البريس من نشر إعلانات مأجورة لتغطية نفقاتها وكانت الجرائد على عهد الحكومة الملكية غالية الثمن فارغة من المادة متشابهة المآل قلما تشبه صحف هذه الأيام ومع هذا كان لها بعددها القليل تأثير كبير في مشتركيها وإذ كان الفرد لا يطالع سوى جريدته كان رأيه رأي جريدته فقط. سن مجلس النواب الفرنسوي سنة 1822 قانونا للصحافة يقضي باستحصال رخصة قبل إنشاء الجريدة وان يكون للحكومة الحق بإيقافها وان تنظر في دعاويها محاكم عادية مؤلفة من حكام مستقلين عن الحكومة وألغيت المراقبة ولكن الوزارة يحق لها ان تعيدها بأمر منها

وقد جرى البحث أيضاً لمنع إنشاء جريدة جديدة وان تبتاع الجرائد القديمة واحدة بعد أخرى. وبالحقيقة ان الصحافة كانت خاضعة لطريقة غريبة من الدعاوي والأحكام بحيث أصبحت المعارضة مستحيلة تقريباً حتى ان الحكومة إذا لم تجد مادة لمحاكمة الصحيفة تقيم على مديرها دعوى ترميه فيها بهوى في النفس وتحكم عليه بسلسلة مقالات لا سبيل إلى الحكم بها مفردة ولكنها إذا وضعت بعضها مع بعض تدل على أهواء مهيجة. قال سينويوس من فصل في النشوء السياسي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر: يظهر التاريخ السياسي في فرنسا منذ قرن لأول وهلة سلسلة غير مرتبطة الأجزاء من الثورات ومن ذلك وقر في صدور العالم خارج فرنسا ان الفرنسيس وحدهم شعب ذو أهواء في السياسة لا يعرفون ما يريدون وهذا عين ما كان يقال في الانكليز أواخر القرن التاسع عشر واليك مع هذا نظرة في تلك الثورات المغمضة التي بدت فيها في مظهر نشوء مدرك للغاية فقد كانت الأمة الفرنساوية في أواخر القرن الثامن عشر ملكية وان كانت أخذت تسير نحو الديمقراطية والعامية ولا سيما في المدن وأصقاع الشرق والجنوب حيث المجتمع أقرب إلى ان يكون ديمقراطياً والفلاحون أكثر عدداً وكبار المالكين أقل نفوذا ومن هذه السواد القائل بالملكية والديمقراطية انشق سنة 1792 بما قام من شق عصا الطاعة للملك والبلاط الملكي حزب ثوري صغير لم يلبث ان أصبح جمهورياً على خلاف إرادته إلا قليلا وهو حزب قليل العدد عقد العزم ان يتولى زمام الأمر وبالقوة ان اقتضى الحال فاستولى على الحكم من سنة 1792 إلى 1870 أربع مرات وكان توليه له بطريقة واحدة وهو ضرب مركز الحكومة في باريز وإذ كان أشياعه قلائل لم يتيسر له ان يستولي كل الاستيلاء بصورة قطعية وذلك لان الأكثرية من الملكيين تعزم في الحال على تأسيس حكومة ملكية فتبدد الجمهوريين وهكذا كان يتبع كل انقلاب جمهوري إعادة الحكم الملكي فيدوم ريثما يقوم جيل جديد يتقوى به رجال الجمهورية ويكثرون سوادهم للقيام بانقلاب جديد ولكن كانت كل ثورة تحمل معها شطرا من أهل الحكم القديم (الملكية) ممن لا يستطيع البقاء بإعادة سلطانه وهذا التقلب حدث مرات أربعاً. وهكذا أفاض المؤلف في الكلام على كل دولة في أوروبا فتكلم على بلاد القاع (بلجيكا وهولاندة) وسويسرا وثوراتها السلمية البديعة واسبانية والبرتغال وايطاليا وألمانيا قبل

الوحدة الألمانية والنمسا على عهد حكومتها المطلقة ومملكة بروسيا قبل غليوم الأول على الوحدة الألمانية والإمبراطورية الألمانية وكل ذلك بلسان المؤرخ المنصف الذي لا تأخذه العصبية لقومه ما أمكن وأفاض في النظام الدستوري في النمسا والمجر وذكر بلاد السكنديناف ومملكة بروسيا وبولونيا والمملكة العثمانية والأمم النصرانية في البلقان أي رومانيا واليونان والصرب والجبل الأسود والبلغار وعقد فصولاً في آخر سفره البديع في تحول الشروط المادية في الحياة السياسية وفي الكنيسة والأحزاب الكاثوليكية وفي أوروبا على عهد حكم مترنيخ من سنة 1815 - 1830 وفي منافسة روسيا لانكلترا 1830 - 1854 وفي تفوق فرنسا والحروب الأهلية سنة 1854 - 1870 وفي تفوق ألمانيا والسلام المسلح. ومما قاله في مملكة النمسا والمجر وما قام فيهما بشان مسائل اللغات ان بلاد المجر والنمسا قد أصبحت منذ 1867 مملكتين مختلفتين لكل منهما حياته السياسية الداخلية الخاصة ولكن اشتراكهما في الملك والسياسة الخارجية كان موطداً للتضامن بينهما ومؤثراً في سياستهما الداخلية وكان من احتلال النمسا لبلاد البوسنة سنة 1878 معدلا للنشوء الداخلي في البلادين وعلى ذاك العهد كانت بلاد النمسا مزيجاً مختلف الجنس والطبائع من الشعوب وكانت الحياة السياسية بعد سنة 1878 مستغرقة في الجهاد بين تلك الشعوب وكانت الأحزاب وطنية فانقسمت إلى مركزين أشياع الحكومة العامة التي يدير دفتها الألمان واتحاديين أشياع الحكومات المحلية التي يتولى إدارتها الصقالبة (السلافيون) أي التشك والبولونيون والسلافيون والخرواتيون وينقسم الألمان إلى أحزاب سياسية حزب الحكم القديم الارستقراطي الكاثوليكي أي المحافظ وحزب الديمقراطيين المحررين أي الأحرار ومما كان يزيد في تعقيد الحياة السياسية ان الأمم ليست شعوباً صريحاً تخالفها فما كان العناصر في بلاد النمسا والمجر يمتازون في العمل إلا بلغاتهم فتقوم جنسية المرء بلغته التي يستعملها وأصبح جزء من الألمان صقالبة جرمانيين ولذلك كانت الأمم في كل ولاية (أي الناس الذين يتكلمون بلسان واحد) غير متصلة الأجزاء بعضها بالأخر ممزوجة مزجاً ومنضدة تنضيداً فكانت اللغة الألمانية شائعة في معظم البلاد التي يرفرف فيها العنصر السقلبي اللسان الذي تتخاطب فيه المدن وكبار أرباب الأملاك والطبقة المتعلمة إذ كانت

الألمانية لغة التجارة والبلاط الملكي والعلم والأدب وكان للغة الايطالية نفس تلك المكانة على شواطئ البحر الادرياتيكي وكان ثمة بلاد ألمانية برمتها أي مجرمنة لا أثر فيها للمنازعات الوطنية ولكن كان الاختلاف في اللسان في البلاد الأخرى منشأ عداوات بين السكان من أهل إقليم واحد بل بين أهل المدينة الواحدة وما كان النزاع يقوم فقط في المركز بين النواب في المجلس بشان السياسة العامة التي تتبعا الحكومة الملكية بل بين مجالس كل ولاية بمناسبة حقوق كل عنصر أي بسبب استعمال اللغات فان القانون الأساسي الذي أعلن مبدأ المساواة في الحقوق بين الأمم واللغات في المدرسة والوظائف والحياة السياسية قد وضع مسألة اللغة موضع النظر ولم يحلها فكان يحق لأهل كل لسان ان يكون لهم مدارس ابتدائية تعلم فيها لغاتهم (وذلك بصعوبة في القرى المختلطة اللغات والمدن التي يتكلم فيها أبناء الأسرة الواحدة لغات مختلفة ويعيشون مشتتين) أما التعليم الثانوي فيكون باللسان المحلي بحسب مبدأ المساواة وتعلم الألمانية تعليماً راقياً حباً بمصلحة التلامذة لأنها تفسح لهم السبيل إلى تلقف العلوم الحديثة وقد نشأت ارتباكات أخرى في تطبيق مبدأ المساواة بين اللغات في الوظائف والحياة السياسية وذلك لان وحدة الحكم تتطلب لغة واحدة للملكة للقيام بالأعمال العامة فكانت اللغة الألمانية في كل زمن في النمسا لغة الملك والحكومة والجيش بل اللغة الوحيدة التي يتفاهم بها أهل العناصر المختلفة فاقتضى ان يترك له هذا الامتياز ويقلل من المساواة في الإدارة المحلية والمحاكم ولكن ذلك مما يصعب تطبيقه بالعمل فلا يكفي إنشاء اللوائح ويجيبوه بلسانه وان يقدم المحاضر بلغته ويحاكم بها وليس في الأماكن ان يتكلم كل موظف بجميع لغات الولاية بسهولة ولذا كانت مسائل المدارس الابتدائية المختلطة والتعليم الثانوي والعالي واعتماد اللغات في المحاكم والإدارة أهم مواضع الخلاف في إمبراطورية النمسا والمجر.

في بلاد الغرب

في بلاد الغرب (كتبنا في جريدتي القبس والمقتبس زهاء أربعين رسالة من ديار الغرب وضفنا فيها رحلتنا الأخيرة إليها وما لحظناه من أسباب ارتقائها واقتبسناه من فوائدها وعلومها وقد رأينا ان ننظر في أكثرها ونحذف ما ليس له علاقة بموضوع هذه المجلة وان ننشرها تباعا عسى ان تكون عليها هنا مسحة غير التي كانت لها في الصحف الطيارة وان يراجعها ويمعن النظر فيها من تهمهم هذه الموضوعات الاجتماعية). دواعي الرحيل وجهلنا ببلادنا كان من طاف بلادنا وقابل بين حالها وحال الأقطار الراقية يدرك لأول وهلة اننا عيال على الغرب والغربيين في كل شيء وأنهم إذا قطعوا عنا أقل صادراتهم نعود أدراجنا على النحو الذي كنا عليه منذ بضعة قرون. وهذا مما يصدق علينا في عامة شؤوننا والعلم هو أول بضاعة يجب علينا ان نستبضعها من الغرب وهو رأس الحاجيات وبدونه الممات. وما كنا نظن بعد ان أحفينا مكاتب مصر والشام لدرس موضوع اننا كلما أوغلنا في تضاعيفه يتجلى كل التجلي جهلنا ببلادنا وأننا سنحتاج بعد بحث نحو خمسة عشرة سنة إلى ان نقصد إلى مكاتب أوروبا نأخذ منها ما فاتنا في أرضنا من المواد التي لم يحولها المطبوع ولا المخطوط مما كتب لنا الاطلاع عليه في مكاتبنا الخاصة والعامة أي غضاضة على الشرقي ان يرحل باحث في شؤونه حباً بإتقان عمله إلى غير أهله وبلده وان يتسقط الفوائد من الغريب والقريب في معزل. بيد ان يوما طويلا امتدت لياليه السود على هذا الشرق سلبت منا بحكم تنازع البقاء وبقاء الأنسب تراث أجدادنا في هذا الوجود وجردنا من منافعنا ومرافقنا وكتب أسلافنا العرب كانت أول ما رحل عنا غير آسف إذ لم يعرف لها الخلاف قيمتها الحقيقية والأسفار في كل الإعصار هي مفتاح فتح الأمصار والعلة الأولى في سعادة الشر ونقل المدنيات من النظريات على العمليات. هاجت الخواطر في النفس خصوصا عندما ذكرت ان أميرا واحدا من أمراء ايطاليا وهو البرنس ليوني كايتاني مؤلف تاريخ الإسلام الكبير هو الذي جمع بسعيه وتنشيط حكومته مكتبة له منقطعة النظير في الغرب نفسه فيها كل ما يحتاجه باحث في تاريخ الإسلام والعرب وبلادهم فاستنسخ من المكاتب الخاصة والعامة في أوروبا وأميركا واسيا وإفريقيه

كل مخطوط عربي فيه شيء من هذا القبيل وما لم يقدر على نقله اخذ له بالتصوير الشمسي فمن زار هذه المكتبة فكأنه زار مكاتب العالم أجمع واطلع على ما فيها من المواد التاريخية والجغرافية في هذا الباب. شبهتني وأنا أشد الرحال إلى رومية للبحث في مكتبة الأمير الايطالي بطلاب العلم في أوروبا في القرون الوسطى وكان بعضهم من الإسرائيليين يقصدون بلاد الأندلس ليقرؤوا على علماء العرب علومهم ويرجعوا من كتب المسلمين ببله تروي غلة جهلهم فسبحلت وحوقلت قائلا ما أغرب تبدل الأمم والبلاد وما أهنأ الغرب بما صار إليه من دواعي المنعة وأسباب اعلم وما أشقانا بما فعل السفهاء منا. يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام وليت شعري يعود ذاك العهد السعيد بالعلم على العرب ويصبح أبناء اليوم يفاخرون بالقاهرة والقيروان وفارس ودمشق وبيروت وحلب وبغداد والموصل وصنعاء ومكة كما يفاخرون بغرناطة واشبيلية ولشبونة وغيرها من مدن الاندلس وصقلية التي استعمرها العرب بالعقل والعلم وأضاعها بعد ذلك جهل أبنائهم وغرورهم؟ أيظل الشرقي يا ترى يعتقد في نفسه الكفاءة والغناء ويقلع عن القول بان الغربي يغمطه حقه باستباحته حماه واكتساحه دياره الحين بعد الأخر؟ أم يهب باحثا عن جميع علل هذا الارتقاء عندهم والتدلي عندنا ويتعلم ما جهل مع الشكر لكل من يعلمه وينعشه من سقطته. حكوماتنا هي السبب الرئيسي في إظلام العقول واشتغالها بالفضول وأهل الغرب هم الذين قوموا معوج حكوماتهم فهل ندرك جيلا من الناس يقوم اعوجاج حكومات الشرق ونتمتع على الأقل بمعرفتنا بأنفسنا ومن عرف نفسه عرف ربه. دار الدعوة والإرشاد في القاهرة اغتنمت فرصة مقامي بضعة أيام في القاهرة لقضاء بعض المشاكل أثناء شخوصي إلى ايطاليا لازور دار الدعوة والإرشاد التي أنشأها صديقي السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار في السنة الماضية وكان ينوي إنشاءها في الأستانة أولا لو صادف من القابضين على زمام الأمر تنشيطاً على مشروعه وغرضه الأول من إنشائها إيجاد هيئة صالحة بالعمل من رجال الدين يجمعون إلى معرفة الدين النقي وأسراره وحكمه المطابق لأحوال

الزمن معرفة أحوال العصر حتى تحل هذه الطبقة محل الهيئة القديمة التي كادت الأمة تنزع ثقتها منها. انشأ هذه المدرسة الصديق الرصيف أو جماعة الدعوة والإرشاد وهي جمعية مؤلفة من ظاهر الفضل والعقل والتدين لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والإرشاد الصحيح وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم ويرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية دينية ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرا إلى ترك دينهم والدخول في غيره مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام ويبينون حقيقته لأهله. وقد جاء في النظام الأساسي لجماعة الدعوة والإرشاد انه تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة والإعانات والتبرعات والهدايا والوصاية والأوقاف التي توقف أو ما تناله من ريع أوقاف أخرى ومن ريع رأس مالها ويضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى رأس المال للاستغلال وهذا ماعدا المبلغ الاحتياطي وكان تبرع لهذه الجمعية بعض الأجواد من العرب وفي مقدمتهم الشيخ قاسم آل إبراهيم من كرماء جزيرة العرب بالغي جنيه مباشرة ولعله يتبرع بغيرها كل سنة. في جزيرة الروضة المشهورة الآن بالنيل حيث قام في جنوبها مقياس النيل المبارك بين جسر (كوبري) عباس وجسر الملك الصالح أو بين القاهرة المعزية ومديرية الجيزة قامت اليوم دار الدعوة والإرشاد في أحد مصايف أبناء شريف باشا الوزير المثري المشهور وقد ضمت في حجرها إلى الآن صنفين عدد طلبتهما الداخليين 35 والخارجين بين 20 إلى 30 يعلمهم عشرة معلمين منهم أناس من رجال الدين وآخرون أساتذة علوم صرف وطعام الطلبة ونظافتهم ونظامهم في قيامهم ونومهم مما لم يعهد طلبة العلوم الدينية اللهم إلا ان يكون طلبة مدرسة القضاء الشرعي الحكومة والحكومة أقدر على البذل من الأفراد. ويستفاد من نظام مدرستنا هذه أنها تدرس العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية وزيادة العناية بالعلوم الإسلامية تنشأ أقسامها بالتدريج يبدأ منها بقسم عال لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين بالوعظ والتدريس ولسان التدريس فيها اللسان العربي ويتحتم فيها تعلم لغة من لغات العلم الأوروبية ويجوز ان تدرس فيها عدة

من اللغات الشرقية والغربية ولاسيما لغات الشوب الكبيرة من المسلمين كالتركية والفارسية والاوردية والملاوية. ومدة صنف المرشدين ثلاث سنين وكذلك صنف الدعاة ويختار طلابه من متخرجي صنف المرشدين يمكثون ثلاث سنين أيضا وذلك ماعدا السنة التمهيدية الأولى. التعليم في قسم الدعاة والمرشدين من المدرسة مجاني والمدرسة تنفق على الطلاب الداخلين فيه وتكفيهم كل ما يحتاجون إليه فيها وتعطيهم إعانة شهرية بحسب الحاجة والاجتهاد والتهذيب لا تقل عن ريال مصري في الشهر وأما الطلاب الخارجيون فلا تنفق عليهم شيئا. ومما يشترط في قبول الطلبة الداخلين ان تثق المدرسة بان طالب الدخول حسن السيرة وتكون سنة بين 20 و25 وان يكون حافظا لطائفة من القران الكريم بحيث يسهل عليه إتمام حفظه قبل إتمام دراسة الصنف الأول وان يكون قد حصل قدرا صالحا من النحو والصرف والفقه وعرف القواعد الأربع من الحساب على الأقل وان يكون صحيح الإملاء وحسن الخط في الجملة جيد المطالعة في الكتب العربية ومن أصل قديم في الإسلام وتتحرى المدرسة ان يكون طلابها من الأقطار المختلفة وتمرنهم على القيام بالفرائض والسنن وعلى الرياضة البدنية والتخاطب باللغة الفصحى داخل المدرسة وخارجها وإذا وفقت هذه المدرسة إلى تطبيق فصل العلوم والفنون التي تدرس فيها حق التطبيق يجيء ولاشك من متخرجيها طلاب يشبهون دعاة الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتية في علمهم واستعدادهم خصوصا ومن غرض المدرسة في باب تربية الأخلاق ان يعلم الطالب الفرق بين زماننا وزمان القرون الأولى من المسلمين في الحاجة إلى سعة الثروة وتوقف حياة الأمة عليها الآن وعدم توقفها في ذلك الزمن وكون الزهد الصحيح والقناعة الفضلى لا يتنافيان تحصيل الثروة وعمارة الدنيا لأنهما من صفات القلب وفائدتها ان يجعل الإنسان فضل ماله لنفع أمته ومجد ملته انه لا ينبغي تعمد ترك تحصيل الثروة إلا لعمل نفع للأمة والملة. ويعلمون في باب انتقال الأمم والدول من حال إلى حال مثل قوله سبحانه: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقوله: وتلك الأيام نداولها بين الناس. هذا ما أمكنني التقاطه مما عساه يفيد واني لأرجو لرئيس جماعة الدعوة والإرشاد محمود

سالم بك أحد علماء مصر العاملين وسائر مؤازريه الفضلاء الخير في الدارين لعلمهم المبرور وآمل ان يكتب البقاء لهذا العمل العظيم بهمة جامع شمله الأستاذ محمد رشيد رضا ناظر المدرسة ووكيل الجمعية وان يكون أساسه على صخر متين سداه الماديات ولحمته المعنويات فيكون من مادياته مخرجا إلى معنوياته والسلام. في طريق رومية أول ما يلاحظ المسافر من الأرض العثمانية إلى الديار الأوروبية ان كل ما يقع نظره عليه هو غريب عنه ليس له منه إلا النظر فسبحان من جعلنا في بلادنا وبلاد غيرنا غرباء مساكين. ركبت هذه المرة القطار من دمشق إلى بيروت وهو لشركة فرنساوية ثم أبحرت من ثغر الشام على باخرة ايطالية (تيفرا) حتى إذا بلغت الإسكندرية وأردت الركوب منها إلى نابل ميناء رومية ركبت الباخرة البرنس هتري من بواخر شركة نوردتش لويد الألمانية وهكذا كنت عالة في تنقلي على الفرنساوي والايطالي والألماني ولو قصدت وجهة أخرى لكنت في ضيافة الروسي والنمساوي والانكليزي والروماني! حالة يأسف لها وأيم الحق كل من ينبض فيه عرق الوطنية لانها تصغر نفسه في عينه ومن ساء ظنه بنفسه انحطت عن كل عمل. نعم يتألم الفؤاد من هذه الحركة الاقتصادية المباركة لان العثمانيين عامة والسوريين خاصة بعيدون عنها كل البعد ليس لهم علم الغربي يذكرون به ما ينهضهم من كبوتهم ليتمثلوا به في جهاد الحياة الراقية ولا أسبابه المادية التي تبعثهم على تقليد الناهضين من شعوب العالم المتحضر في هذا العصر. نحن ويا للآسف نريد ان نعيش في القرن العشرين عيش ابن القرن العاشر ونرى لسوء حظنا ان مجدنا القديم يكفي تذكره وحده ليحيينا إلى الأبد حياة طيبة رشيدة ونتطاول إلى ان نقنع العالم بأنفسنا بأننا شعب راق بمجرد إيراد الشواهد على أيامنا الغر المحجلة في تاريخ المدينة السعيدة ولكن حضارة الغرب اليوم لا تبقي على ضعيف في قوته ومعرفته ومادته وحكومته. هي تبتلع العالم والشاهد على ذلك استصفاؤها قارة إفريقيه وتوشك قارة آسيا لولا بقايا شعوب مستقلة عظيمة كاليابان والصين. مدنية أوروبا هي التي حملتنا في البحر المتوسط من بيروت إلى الإسكندرية في 32 ساعة

ومن الإسكندرية إلى نابل في 70 ساعة ومن نابل إلى رومية في أربع ساعات على السكة الحديدية والبخار والكهرباء هما صفوة العلم الأروبي بل المثال الحي من هذه المدينة الحية التي سيعم فضلها كل بقعة من بقاع الأرض شاء أهلها أم أبوا. فتحيا الأمم التي تقوم بما قامت به أمم الحضارة الحديثة وتموت لا محالة الأمم التي لها من حكومتها أو من تقاليدها أو من ضعفها ما يعوقها عن الانبعاث والحركة. تهتز نفس الشرقي وأي اهتزاز عندما يدوس ارض الغرب وتتوارد الخواطر عليه والتذكارات والمؤلمات وتتنازع عوامل المنشطات والمثبطات. هكذا كان حالي يوم أزعجني القدر منذ أربع سنين فنزلت مرسيليا ثغر الفرنسيين وهكذا أنا اليوم وقد وافيت نابل ثغر الطليان. وليس في هذه الفرضة من جديد فان حركة المدن الساحلية والعواصم الغربية واحدة إجمالا تكاد تتشابه لأنها قائمة بالعمل قوامها انتظام أحوال تلك الحكومات وتناغي سكانها بوطنيتهم وذهابهم بفضل العلم والنشاط وتميزهم بالذوق واللطف. من أجل هذا كانت نابل مماثلاً مصغراً من حضارة الطليان ورومية وهذه هي العاصمة المثال المكبر والفرع يدل على أصله والكتاب يقرأ من عنوانه. لم يتسع لي الوقت وقد قضيت يوما في نابل ان أزور معالمها وكليتها وآثار بومي الرومانية خصوصاً وهي على مقربة منها لأنني في صدد البحث عن تاريخ أجدادي وبلادي لاتهمني أولا إلا الغاية التي أنا قاصد لها من البحث عن المخطوطات حتى إذا كان في الزمن متسع ازور من معاهد هذه الديار ومصانعها ما نستفيد منه عبرة لنا ولامتنا وينفعنا في الأخذ بمذاهب الرقي ان صحت نياتنا عليه. إلى ساعة كتابة هذه السطور لم أتمكن من معرفة شيء من أحوال ايطاليا اللهم إلا ما هو معروض في الأزقة والشوارع والساحات ومحال القهوة والمنتزهات وهذا لا يبني عليه حكم ومع ان البقة الراقية تكلمك باللغة الفرنسية وكذلك تتخاطب مع أهل الفنادق والمخازن الكبرى وبعض الأماكن العمومية فانك تجد صعوبة في التفاهم مع جميع طبقات القوم لجهلك لغتهم الوطنية. هذا تقارب مع اللغتين الفرنسية والايطالية إحداهما من الأخرى واللغات اللاتينية أي الفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية متشابهه لأنها من أصل واحد كما ان اللغتين الألمانية والانكليزية متشابهتان لأنهما من أصل سكسوني واللغة

الروسية والرومانية والبلغارية والصربية متشابهة لأنها من أصل سلافي. ومع أن جليسك تنقبض نفسه منك في العادة إذا لم تكن لك معه لغة مشتركة لا تجد فيها تسمعه في المحال العامة ودور التمثيل والموسيقى هنا ثقلا على سمعك من لغة الطليان وان كنت لا تفهمها بل تبلغ نبراتها صماخ أذنك كأنها أوتار موسيقار تتكلم ألحانها أكثر من ألفاظها. ولا عجب فإيطاليا مهد الصناعات النفسية بل هي بلاد الموسيقى والشعر والتصوير والبناء عرفت بذلك منذ أوائل عهد الإسلام وباعت على الغرب بل وعلى الشرق من موسيقاها وشعرها وتصويرها وهندستها وهي بلاد النهضة منها نشأت وانتقلت إلى فرنسا وأوروبا كلها وطليان الجنوب يشبهون السوريين في كثير من عاداتهم وملامح سحناتهم وكلما تقدمت نحو الشمال تزيد المدنية ويفخم العمران. وعلى ذكر الجنوب والشمال لا بأس بان يعرف القارئ ان البلاد الأوروبية كلما قربت من سمت الشمال كانت اقرب في الجملة إلى الأخذ بأسباب الرقي والحضارة. وهذا مشاهد محسوس. فنك تجد شمال ايطاليا أرقى وأعمر من جنوبها وكذلك فرنسا بل ان ألمانيا في جنوبها أحط منها في شمالها وهو سر غريب من أسرار هذا الكون ولعل الباحثين في طبائع الأقاليم بحسب القرب والبعد من خط الاستواء لا يعدمون تعليلا لذلك. أما رومية فهي مجموعة بدائع الطليان ولا جدال لأنها معدودة من أواسط ايطاليا على ما سنذكره. الأمير كايتاني كان الأغنياء والأمراء في الغرب قبل ان تتقرر قواعد المدنية الحديثة وترسخ أصولها يدلون على شعوبهم بحكم التغلب وقوة المال وأرجحية القدم. أما الآن فان أمثال هذه الطبقة أدركت ان كل تلك الامتيازات والاعتبارات قد ألغتها القوانين الدستورية في الأمم الحرة النيابية فلم يبقى من أسباب الفخر إلا شخصية المرء وعلمه معمله ولذلك لا تسمح بأمثال هؤلاء الناس إلا إذا أتوا عملا ينفع المجتمع ويخدم الحضارة أو يرقيها درجة أخرى. وممن جمع فضيلتي المجد القديم والمجد الحديث فعد عصامياً عظامياً الأمير ليوني كايتاني من كبار الأسر القديمة في رومية التي يرد تاريخها إلى زهاء ألف سنة ومنها خرج رجال خدموا أمتهم على اختلاف العصور والمنازع فكان الباباوات ورؤساء الدين والقواد والحكام ولقد سار سليل هذا البيت على سنة كثير من أمراء الغرب فلم تبطره الزخارف ولم يستهوه

المال والمجد القديم وتنكب عن الرفاهية منذ صغره فدرس في كلية رومية الآداب وأتقن من اللغات الايطالية والفرنسية والانكليزية والألمانية واللاتينية والفارسية والعربية. ولما أحرز حظاً وافراً من العلم والآداب سمت به همته وهو قبيل الخامسة والعشرين أي منذ زهاء عشرين سنة أن يضع لأمته كتابا في التاريخ الإسلامي بلغتها يغنيها عن أكثر الكتب ويرفع كثيراً من المشاكل في تاريخ العرب الذي أدهش العالم. فجمع لذلك مكتبة ضخمة باللغة العربية وغيرها من اللغات واستنسخ واخذ بالتصوير الشمسي كل ما عرف من تاريخ العرب من المخطوطات وكان مبعثرا في مكاتب أوروبا وغيرها فجاءت مكتبته خير مكتبة في الشرق والغرب في موضوع التاريخ الإسلامي خاصة ومن رآها فكأنما زار مكاتب الغرب للبحث عن آثار العرب ومدنيتهم. ولقد نشر حتى الآن من تاريخه ستة مجلدات ضخمة ولم ينجز بها أكثر من عشرين سنة من تاريخ الإسلام وهو يرجو أن يفسح الله في أجله عشرين سنة أخرى ليكمل القرن الأول من الإسلام فيقع في خمسة وعشرين مجلداً ولا يطبع من تاريخه أكثر من مائتين وخمسين نسخة يوزعها على المجامع العلمية في بلاده والغرب وعلى بعض أصحابه من العلماء فقط وقد جعل سعاره فيها فيقول الشاعر العربي: كفاف عيش كفاني ذل مسألة ... وخدمة العلم حتى ينقضي عمري يقول كفاف عيش وثروته وثروة أبيه فيما بلغني تقدر بمائة مليون فرنك فرنسي دع ثروة حليلته الأميرة وهي غنية أيضا ولهم المزارع الواسعة في ضواحي رومية إذا استثمرت حق الاستثمار على احدث الطرق تزيد ثروتهم أضعافاً في ضواحي رومية والأمير مع هذا تفرغ إلى العمل في مزارعه ويتعهدها كما يتعهد رياض العلم كل يوم ويصرف على إتقان عمله الذي صرف شبابه وهو يصرف الآن فيه سن الكهولة وسيصرف فيه أيضا سن الشيخوخة بحول الله شطرا ليس بقليل من المال فعنده ثلاثة مترجمين من اللغات المختلفة ينظر فيما يترجمون لكتابه من المواد ما عدا ما ينفقه في الكتب وطبع كتابه ولكن كل ما ينفقه في سنة لا يعادل ما ينفقه غني واحد من فساق أغنياء الأمريكان أو الروس مثلا في ليلة واحدة في باريس أو مونت كارلو فسبحان من أودع في كل قلب ما شغله. طاف الأمير كثيراً من بلاد الشرق ولا سيما الهند وفارس والشام ومصر ودرس أحوالها

وطابق بين ماضيها وحاضرها فإذا تكلم في تاريخنا صدر عن علم نظري وعملي. ولقد ذهب منذ ست سنين إلى بلاد الشام ليرى بعينه المكان الذي كانت فيه الوقعة الفاصلة بين العرب والروم في اليرموك. وهذا قلما يتيسر إلا لمن أوتي همة شماء واستسهل ركوب كل صعب في سبيل تحقيق رغائبه. ومازال منذ بدء في التأليف وهو يدأب وراء منضدته في مكتبته كأنه عامل بسيط فإنه يبدأ في عمله كل يوم الساعة الخامسة صباحا ولا يزال أكثر النهار يعمل ويطالع لا تعرو همته ملل ولا ينظر في سفساف الأمور. ولقد كان نائبا في الانتخاب الماضي في مجلس النواب فأضاع في النيابة شيئا من وقته ولكن لم ينتخب هذه المرة فكان ذلك من حظ العلم والآداب لأنه توفر بجملته على خدمتهما. وعدم انتخابه ناشئ من أن خصومه السياسيين اتخذوا من خطة الأمير في مسألة فتح ايطاليا لطرابلس وبرقة حجة أثاروا الرأي العام حتى لا يعودوا لانتخابه وذلك أن الأمير أحب أن يتكلم بلسان العالم المنصف ولم يعقه حبه لامته عن أن يقول لها وقت قامت حكومته لفتح تلك البلاد أن هذا العمل منها ضرب من ضروب اللصوصية لا يليق بأمة متمدنة وليس له مسوغ معقول قال هذا بالتلميح في المجلس وكتبه في الصحف الايطالية وغيرها بالتصريح فحنق عليه من حنق وأثاروا الخواطر من جهته وقد بذل مالا كثيرا للنيابة عن أمته قيل أنه عشرون ألف ليرة ولكن خصمه بذل خمسة وثلاثين ألف ليرة ففاز عليه. والأمير على ما رزق من الشهرة العلمية لجمعه بين المجد التالد والطارف رقيق الحاشية يغلب عليه عدم التكلف ولما قابلته لأول مرة حاملا إليه من صديقه أحمد زكي باشا العالم المصري كتاب توصيه ليقبلني للبحث في مكتبته اعتذر عن كونه قابلني بثياب عمله وقال أن عنده شيئا من المخطوطات العربية أخذت بالتصوير الشمسي ولا يدري إن كان فيها حاجتي على انه تفضل ودلني على مظانها وما برح اليوم بعد الأخر يشير علي بالرجوع إلى كتاب كذا فقيه وهو يبش ويقول في الأحايين انه مسرور لعثوري على شذرات تهمني كل هذا وهو لا يضيع دقيقة من وقته الثمين ناهيك بارتفاع الصحف والمجلات ومنشؤها مثلا.

لئن امتازت التيمورية في مصر بأنها تحوي أمهات كثيرة من مخطوطات علماء الاسلام في علوم مختلفة وامتازت الخزانة الزكية بالقاهرة بجمعها أنفس المطبوعات العربية في الغرب فان الخزانة الكايتانية في رومية تحتوي على الغالب أهم كتب التاريخ الإسلامي أو ماله علاقة فيه وذلك باللغات المختلفة ولا سيما العربية مما هو جدير أن يرحل إليه من الصين لا من دمشق. وقديما كان أمراء المسلمين وعلماؤهم يفتحون خزائنهم للباحثين والمؤلفين ينزلونهم على الرحب والسعة كما فتح منصور بن نوح الساماني خزانة لأبي منصور الثعالبي فألف فقه اللغة وكما فتح علي بن يحيى المنجم من أهل القرن الثالث في قرية له نفسية بكركر من ضواحي القفص خزانة كتب عظيمة في قصره الجليل وسماها خزانة الحكمة فاخذ الناس يقصدونها من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والكتب مبذولة في ذلك لهم والصيانة مشتملة عليهم والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى وكما وقع من غيرهما كثير أما اليوم فان هذا المعنى كاد يتفرد به علماء الغرب وأمراؤه وأصبح الشرق بلقعا حتى من كتبه وآثاره وانتقل تراثه بحكم الطبيعة إلى من أحسن تعهده واستثماره سنة الله في خلقه.

الهجرة

الهجرة أربعة أحوال تعمل في تكثير سواد الأمم: الهجرة والاستيطان والولادات والوفيات وبنقيضها تفتقر البلاد وتقل الأمم. ومحور الهجرة يدور في الأكثر على تحصيل القوات والفرار من ظلم خصوصا أيام كانت المجاعات في القرون الأولى والوسطى من اكبر العوامل المهددة للشعوب وكانت تغذية الجماعات الكبرى مناطة بفصول السنة حتى كان تأخر وصول الحبوب المشحونة في البر والبحر يحدث مخاوف هائلة ويثير مناوشات وثورات. وكانت الفوضى والحروب تجعل المواصلات صعبة أو متعذرة ويهلك سكان المدن جوعاً. وتحتكر المدن الحبوب في أماكن خاصة وتدخرها لحين الحاجة أما سكان القرى والأرياف فكانوا يقاسون الأمرين ولا يجدون غير الهجرة باباً لنجاتهم بأرواحهم وأرواح ذرياتهم وهذا ما دعا إلى إفقار كثير من الأصقاع في الشرق والغرب لأن من ولد من الأسر المهاجرة لم يواز عدد من فقدتهم البلاد بهجرتهم لها. جاءت أزمان على البشر كان الشرق وآسيا أعمر من الغرب وكانت آسيا تقدم كثيراً من أبنائها ليكونوا جنداً في الجيش الروماني ورومية كانت حاكمة على معظم أصقاع أوروبا وجزء كبير جداً من آسيا وافريقية وسلطانها فوق كل سلطان وما ملوك تلك الأيام إلا أقيال يخضعون لصولجان رومية وقد كنت ترى سوريين من بلاد الشام في كل مكان كما تراهم الآن وكان منهم في جيش جرمانيكوس القائد الروماني عدة كتائب عندما حمل حملته على الرين. قال سكريتان: إن القرون الوسطى بإقطاعها وما كان فيها من اللصوصية والأخلاق الوحشية وقلة المواصلات والحياة الزراعية والصناعية الأهلية وتنوع اللهجات وحكومة الجماعات والاشمئزاز من الحياة والتشتت السياسي الذي هو من خصائص تلك القرون كل ذلك مما يتمثل لعيني بقلة الرجال وطول إقفار البلاد فأفقر العالم الروماني وظلّ الشعب زمناً على نسق واحد ثم زاد بإنشاء المدن وتوطيد دعائم المركزية السياسية التي تسهلت أسبابها بنمو الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة التي أنشأتها. ومن المدن تنبعث أبداً حركة تنظيم القوة العاملة فصاحب الأملاك يعيش بما تدر عليه أملاكه على حين تضطر المدن ان تطلب ذلك من التجارة وأن تضمن حقوقها في البلاد القاسية بتأمين السبل والتجارة. قال وما المصانع العظمى التي قامت في القرن الثالث عشر للميلاد وما تلك البيع والمعابد

إلا أثر من آثار زيادة السكان في أوروبا وإن الناس أصبحوا يهتمون لأمور أخرى غير حفظ حياتهم مباشرة والسكان من العوامل الضرورية في التبدلات السياسية وعندنا أن الشعب هو أرض التاريخ الذي تنبت فيه الأوضاع والأفكار ولما نمت النفوس منذ القرن الحادي عشر في حمى أسوار المدن والمقاطعات المنظمة ظهرت قوة جديدة أمام الإقطاعات وانتهى التماسك السياسي بقيام المدينة الحديثة وأدى نمو السكان نمواً عاماً بقاعدة الانتخاب الطبيعي أي الأفضل والأحسن إلى شكل جديد في الحياة وتحسين الأخلاق وتدميثها وكثرة السكان شرط في قيام المدنيات العليا وفي تأسيس الأملاك العظمى وهي التي تزيد حياة البشر حركة وغنى وبهجة. نعم كثرة السكان شرط في الحضارة ولكنها إذا بلغت درجة تؤدي إلى قلة سريعة في المواليد ربما كان فيها الخطر على المدنية والمدنيات لا تقوم إلا في بعض أدوار التاريخ على أن الرفاهية العامة والأمن اللذين هما من أهم العوامل في المدنيات الكبرى قد يكون منها قلة عدد المواليد وهذه القاعدة تجري في كل مكان اليوم في ألمانية وايطالية وانكلترا وقد كانت فرنسا أول من وصلت إلى هذا المعدل فتعدلت وفياتها مع ولادتها مع أن فرنسا كان عدد سكانها في أواسط القرن الثامن عشر عشرين مليوناً وانكلترا ثمانية ملايين واسبانية ثمانية وايطاليا عشرة وألمانية كلها مع النمسا وتوابعها اثنين وعشرين مليوناً وروسيا في أوروبا اثني عشر مليوناً وقد زادت كلها على كثرة من هاجر منها إلى أمريكا في القرون الثلاثة الأخيرة ومع هذا زادت كل مملكة ولكن زيادة بلاد الانكليز والجرمانيين كانت أهم وأعظم فبلغت بريطانية العظمى اليوم نحو خمس وأربعين مليوناً وفرنسا نحو أربعين مليوناً وألمانيا خمس وستين مليوناً والنمسا والمجر خمسة وخمسين مليوناً وايطاليا خمسة وثلاثين مليوناً واسبانية ثمانية عشر مليوناً فمنها ما تضاعف ثلاث مرات ومنها مرة ومنها مرتين. وقد نفى سكريتان أن يكون قلة السكان ناشئة من فساد الآداب وقال أن الرؤوس بإقرارهم أنفسهم من أعظم الموغلين في المفاسد والموبقات ومع هذا يزيد سكان الأرياف عندهم والسبب في قلة المواليد هو في الحقيقة إرادة الرفاهية الولادة لا تشكو من الفقر ولا من حرية الفكر ولا من حرية الأخلاق وما خرابها آت الأمن كثرة الحذر الذي هو ابن الطمع.

عرف السوري منذ القديم بحب الهجرة للكسب وإحراز المجد والفينيقيون أو سكان الساحل الأوسط من هذا القطر كانوا رواد الحضارة وربابنة البحار في سواحل البحر المتوسط حتى بلغوا شطوط الجزر البريطانية في أقصى شمال أوروبا وأنشئوا لهم المكاتب التجارية في جنوبي القارة الأوروبية وشمالي افريقية وكان من أخلافهم ما يشبه هذه الأعمال والهجرات ولا سيما على عهد الحكومة الرومانية حتى إذا جاء الإسلام كانت منهم جيوش وقواد وقضاة تسافر إلى القاسية ورجال الشام كانوا في مقدمة الفاتحين للأندلس في الغرب وهم الذين فتحوا الفتوح في الشرق وأوغلوا فيها حتى وصلوا إلى بكين عاصمة الصين وضربوا الجزية على صاحبها. وبعد فان فتن التتار والصليبيين أضعف حال البلاد وقللت سكانها خصوصا على عهد حكومات الإقطاعات الظالمة فقلت الولادات وكثرة الوفيات والأمة المظلومة في الغالب يضعف تناسلها ويكثر الموتان في أولادها بل تندر النضرة في وجوه أهلها ولم تقصر الحوادث السماوية في انتياب هذه البلاد فكانت الزلازل والأوبئة تحصد أهلها بالألوف وما بقي منهم يهلكه الظلم وقلة العلم. حتى إذا جاء القرن الماضي ونشر خط كلخانة ووضعت التنظيمات الخيرية ودخلت البلاد العثمانية في طور أحبت فيه احتذاء مثال الغربيين في إدارتها وضعفت سلطة العمال بعض الشيء وقوي ارتباطهم بالمراكز خصوصا بعد إنشاء الأسلاك البرقية التي سهلت وصول الشكاوي إلى العاصمة بعد التسهيل وأخذ الفلاح يأمن على زرعه وضرعه بالنسبة للماضي والتاجر في المدن قد تنجو من البوائق متاجرة وكثر بعد حوادث سنة 1860 اختلاط أهل هذا القطر بالغربيين وأنشأت الجمعيات الدينية مدارسها الراقية في المدن والقرى بعد كل هذا عادت النفوس تنمو خصوصا في لبنان بعد نظامه الجديد وارتفاع أعلام الأمن في ربوعه وأصبح من الندرة الاغتيال والاقتتال فيه فكثرت نفوسه. وإذ كانت زراعة لبنان ضعيفة تعد بين الزراعات في الدرجة الثالثة أو الرابعة لم يقم بمعاش سكانه فأخذوا يهاجرون أولاً إلى البلاد القريبة منهم ولما تنوقلت الأنباء عن نجاح جماعة من تجار بيت لحم في أمريكا سمت الهمة في بعضهم إلى السير على أثار من سبقوهم وساعد على ذلك اتصال آسيا بافريقية وأوروبا وأمريكا بالبواخر ففوق بعض من

هاجروا من لبنان إلى جمع جانب من المال فاشتهر بين قومهم نجاحهم وأخذ يتبعهم في خطتهم الأقرب فالأقرب من سكان البلاد وكان أهل الجبال وهم معتادون القلة وشظف العيش من الجملة هم الناهضون لهجرة بلادهم ولم تمضي سنين حتى سرى داء الهجرة على الأصقاع المخصبة من أرض سوريا مثل وادي الأردن ووادي العاصي وسهل البقاع وسهل حوران فجارت هذه البقاع جبل لبنان وجبل عامل وجبل حرمون وجبال عكار وجبال اللكام وجبال الخليل واشترك السهل والوعر في الهجرة ونال من أثارها دمشق وبيروت وحلب والقدس كما نال أحقر قرية. واشتهر في الأكثر من ارتاشو واغتنوا وآبوا إلى بلادهم فعمروا لهم دورا على الطرق الغربية واقتنوا الأملاك وأقاموا العقارات وأخذوا بحظ من الرفاهية ونسي الناس أو لم يذكروا من هلكوا وتشتتوا فما عتمنا وقد حسبنا الراحل عنا والراجع إلينا إلا وقد أصبح المهاجرون زهاء أربعمائة ألف رجل على أقل تقدير من السكان مهما بالغنا في تقديرهم وعددنا في جملتهم بعض البوادي لا يبلغون أكثر من أربعة ملايين وقدر بعض الصحفيين عدد المهاجرين من السوريين بخمسمائة وسبعين ألفاً وغالى بعضهم فقدرهم بزهاء مليون ويمكن أن يجاب عن هذا التقدير الكبير بالأثر الحادث عنه أي بالإضافة عدد من الأولاد الذين كانوا يولدون لهذا القدر من المهاجرة لو بقوا في بلادهم مع أزواجهم أو تزوج العذب منهم في السن المعينة للزواج في هذه البلاد. خسرت البلاد من وجهين في الجملة وربحت من وجهين خسرت البلاد من عمل هؤلاء الشبان المتغيبين سنين عن أوطانهم وعن تعطلهم عن التناسل وربحت مما حملوه إلى سوريا من النقود والتهذيب الغربي ولكن الخسارة أعظم بديل أن الثروة هي العمل لاً رفعت من شمعهم فلم يعد يستطيع المهاجر أن يقيم في قريته إذا آب إليها بعد تغيبه عنها بضع سنين إذ يرى الفرق محسوساً بينما شاهد في بلاد غيره وعهد في بلاده ويتأفف من عمله الصغير في الزراعة أو الصناعات الضعيفة فلا يلبث أن يعود أدراجه إلى أمريكا ويختار الموت هناك على البقاء في أرض ذلة وقلة. ولذا لا تعجب إذا رأيت مئات من الدور الفخمة التي عمرت بدراهم أمريكا في هذه الديار خالية من سكانها يلعب فيها الجرذ والفأر ولا من يقطنها لأن بناتها عادوا فرحلوا أما طلباً

لثروة غير التي نالوها وصرفوها كلها في إنشاء دورهم وأما لضيق صدر نالهم من سوء إدارة وفساد نظام وهذا قليل. قال قنصل فرنسا في تقريره الأخير على بلاد الجليل إن هؤلاء المهاجرين ينفعون بالأجور التي يؤدونها لشركات الملاحة ولكنهم يضرون البلاد في ارتقائها الاقتصادي إذ يحرمونها من الأيد العاملة وقد نجحوا بأن أسسوا في البلاد التي هاجروا إليها (أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وافريقية الجنوبية أو مصر) مستعمرات مهمة للغاية وكثيراً ممن غادروا بلادهم حفاة لا يملكون أجرة المركب الذي يقلهم وهم في الدرجة الرابعة قد عادوا إليها يحملون الدنانير في جيوبهم أو الأوراق المالية. وقد اقتبسوا الأذواق والعادات الغربية وأنشؤوا يستخدمونها في بيوتهم وهم يبتاعون الأراضي وينشؤون الزراعات الكبرى وأكثر العائدين منهم على ما أظن هم اللبنانيون والبقاعيون. قال وأما سبب الهجرة فلارتفاع وصاية الحكومة عليهم ولعدم قوانين لحماية الزراعة ولندرة المعاهد المعاونة والإحسان ولإرهاق العشارين والمرابين ولكسل لا ينفض غبارة إلا بالإقلاع عن البلاد وحباً بالأرباح السهلة واقتداء بمواطنيهم المغتنين ولجذب البلاد الجديدة لهم وبين نرى الوطنيين ولا سيما من سوريا يهاجرون نرى الأجانب يهاجرون إليها ولا سيما إلى فلسطين (أي الصهيونيين). وبعد فقد كانت الهجرة مقصورة بادي بدء على المسيحيين فأخذ أخوانهم المسلمون يقتفون أثارهم وكثر المهاجرون من جميع الطوائف في الأربع سنين الأخيرة عندما طبقت الحكومة قانون الجندية على عامة شعب هذا الوطن فكان الوالد يسفر ولده في العشرين والخامس والعشرين فأنشأ يرحله اليوم في الخامسة عشرة بل وفي الثانية عشرة لينجو من الخدمة العسكرية أو ليجمع بدله النقدي قبل أن تصيبه القرعة وبعد أن تفاقم شر الهجرة في العهد الأخير أرادت الحكومة أن تمنع الشبان من السفر فكان ذلك مورد عيش جديد لارتشاء بعض الولاة والمتصرفين والقائم مقامين ورجال الشرطة وكثرة سماسرة المهاجرة حتى لم يتركوا مزرعة إلا ولجوها وأخرجوا منها أعزة أهلها وسهلوا لهم سبل الهجرة ووجد حتى الفقير المعدم من يقرضه على أن يفيه من عمله في ديار المهجر وزادت المنافسة بين

شركات الملاحة فأصبح السفر ميسوراً من بيروت إلى نيويورك بعشر ليرات وزاد الصادر وقل الوارد وكلما أمل المؤملون أن تهدأ أحوال البلاد تعقدت مشاكلها الداخلية والخارجية وانتشرت عن البلاد أخبار السوء فتأخر عن العودة إليها أبنائها الذين هجروها. هذا والحكومة لم تتذرع بأدنى سبب لنزع هذا الخلل في حياة البلاد من أصوله بل أن النوائب الأخيرة التي صادف وقوعها في عهد الدستور لم تزد البلاد إلا فقراً إذا اضطرت الحكومة أن تزيد الضرائب والعثور والرسوم فضعفت الزراعة وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الأمة تعيش من أرشها وارتقت أجرة العامل إلى أعلى من منسوبها فأصبح في بعض الأصقاع الزراعية من المتعذر القيام بأعمال الزراعة على ما ينبغي لصاحب ملك ومزرعة لأنه إذا أعطى العامل في اليوم ثلاثة أرباع الريال أو الريال لا يبقى له في أخر السنة ما يوازي نصف إيجار ارضه ولولا أن بعض البلاد التي أعوزتها اليد العاملة مثل القاع استعاضت عنها بما جلبته من الآلات الزراعية الحديثة كالحصادة والدراسة والحراسة والذراية والطحانة لامست زراعتها بائرة وأكثروا من الأدوات الحديثة لتم لهم الغنى وعوضوا ما فاتهم من عمل العاملين والعادة جديبها خصيباً ونالوا من أسباب الثروة حظاً عجيباً. إذا قدرنا ثروة السوريين في مصر والسودان وأمريكا وكندا واستراليا والترنسفال ومدغشقر والسنغال بمئة مليون جنيه وهو أقل تعديل لأن نصف هذا المبلغ يملكه السوريون في مصر فقط وفرضنا أن نصف المهاجرين أحبوا العودة إلى أصقاعهم يحملون خمسين مليون من النقود وما زكنوه وتعلموه من أساليب الصناعة والزراعة والتجارة تفتح بالطبع موارد اقتصادية جديدة في البلاد إذا صحت قبل كل شيء نية الحكومة على توطيد دعائم الأمن وإحقاق الحق وذلك باختيار طبقة راقية من العمال والضرب على أيدي الجاهلين والمرتشين منهم. نعم إذا قامت الحكومة بواجبها الإداري تستميل المهاجرين إلى العودة وتحبب إليهم بلادهم التي يؤثرون أن يكون لهم في ربوعها من المغانم نصف ما يتمنون به في ديار الهجر فتقوم سوريا وحدها بعد بضع سنين بسد العجز من ميزانية الدولة العامة مهما كان مقدارها.

مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت

مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت قليل من الناس بل من غلاة الكتب من يعرف من أمر هذه الخزانة الغنية الموجودة في المدينة المنورة شيئاً لعدم وجود فهرس مطبوع لها حتى أنك لا تجدها في ترجمة حياة صاحبها في كتاب قاموس الأعلام المؤلفة شمس الدين بك سامي الألباني كأنها ليست من الأعمال التي تجدر بالذكر أو أن يكون المترجم عرض بها فرفعوا قلم المراقبة في عهد السلطان السابق وقد كنا في عداد جاهليها إلى أن كتبت مجلة المقتبس بعض أسماء المخطوطات فيها وفي مكاتب المدينة المنورة نقلاً عن الشيخ جمال الدين القاسمي في الصفحة 718من السنة الرابعة ثم عادت فنشرت قائمة أخرى بتوقيع إبراهيم أفندي حمدي خربطلي في الصفحة 379 من السنة الرابعة. والذي زادنا تعريفا بها هو وصف صديقنا المتقبس لها في رحلته إلى طيبة إذ يقول وأحسنها أي خزائن كتب المدينة المنورة وربما كانت خير مكتبة في البلاد العثمانية كلها بنظامها وانتقاء أمهاتها هي مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت أفندي ففيها نحو عشرة ألاف مجلد كتبت بخطوط المشهورين من الخطاطين كأن تجد الكتاب ذا العشرين جلداً مكتوباً بخط مشرق بديع في مجلد أو مجلدين وفي هذه المكتبة من التسهيل على المطالعين والعناية براحتهم مالا تكاد تجد مثله في دار الكتب الخديوية بمصر لعهدنا وما ذلك إلا لكثرة ريعها وإنفاقها في سبله واختيار القيمين عليها وادرار المشاهرات الكافية عليهم. فلما قصدت إلى البلد الطيب صيف السنة الفائتة كان غابة مارميت إليه بعد زيارة الحجرة المعطرة زيارة هذه المكتبة فأخذني الدليل من زقاق ضيق عن يسار باب السلام وما كدنا نجتاز منعطفا هناك حتى كنا أمام دار المكتبة وهي ذات طابقين ومبنية من الجرار الحجر الأسود خلافاً لأكثر دور المدينة المبنية من اللبن فدخلناها من باب امتلأت حوله أصاحي الرياحين والأزهار واجتزناه إلى الغرفة الكبرى المتخصصة بحفظ الكتب فألفينا بعض المطالعين والنساخ يطالعون وينسخون كأن على رؤوسهم الطير إلا حركة خفيفة تنبعث مرة بعد أخرى من أهواء المهواة التي بأيديهم دفعاً لشدة حمارة القيظ. ولما استتب بنا الجلوس أتى إلينا حافظ الكتب بفهارس المكية الخطية وطلب غلينا معرفة اسمنا فلسمنا بطاقتنا وصرنا نطالع الفهارس المرتبة على أنواع العلوم والفنون والمنسقة تنسيقاً جميلاً يدل على ذوق سليم مما يعد عنواناً على نظام هذه المكتبة كما تراه في المثال

المحرر أدناه تقلاً على أحد الفهارس. نمرة 175 اسم الكتاب تذكرة الشعراء المسماة بجمع الخواص المؤلف الصادق الكيلاني خط تعليق سطر 19 أوراق 105 جلد 1 جدول خالي ملاحظات بالتركي وبعد هنيهة قدم علينا مدير المكتبة عبد القادر أفندي حوار وغدا يرشدنا إلى أمهات الكتب النفسية الموجودة في الكتب فاطلعنا على تفسير انكشاف للزمخشري وبهامشه الكشف على الكشف وقد كتب التفسير أولاً بمجلد واحد بخط مشرق جميل وجداول مذهبة ثم أضيف إليه الهامش بإلصاقه على جوانب المتن الثلاثة إلصاقاً يكاد لا يظهر إلا على الناقد البصير وقد قيل أن هذا التفسير كلف صاحب المكتبة ثلاث مئة جنية مما يدل على مبلغ تأنق الرجل في انتقاء كتبه. وأرونا أيضاً كتاب تقويم الأبدان في الطب لابن جزله البغدادي وقد نسخه ناسخه سنة 297 أي منذ نيف وألف سنة كما أننا رأينا ديوان شعر بالفارسية اسمه غزليات شاهي كتب سنة 655 بحروف من ورق قطعت تقطيعا بديعاً وألصقت على صحائف من الورق الملون فجاءت غاية في الدقة. وقيل لنا أن فيها محاضرات ومحاورات الإمام السيوطي بخط يده إلا أن الوقت لم يتسع معنا لمطالعته وترى جميع الكتب مجلده تجليداً متيناً ومحفوظة ضمن غلافات من جلد أيضاً مصفوفة في القماطر بنظام معجب ومطرب والمجلد يشهدها كل يوم وبصلح ما فسد منها أما المكتبة فقد أسست سنة 1260 كما هو مؤرخ في سقف قاعتها وهي السنة التي أقيل فيها من المشيخة ولعل لإقالته علاقة بتأسيس المكتبة وأوقف عليها من الكتب في اللغات

الثلاث العربية والتركية والفارسية 5135 مجلد وورد إليها بعد تأسيسها إلى يوم الناس هذا 401 فيكون مجموع كتبها اليوم 5536 مجلداً وزهاء ألفي رسالة محررة على هوامش هذه الكتب وبينها نذر يسير باللغة الهندية أردو. وقلة الكتب الواردة عليها التي لا يزيد معدلها السنوي على سبعة كتب تؤيد ما قلناه آنفا من أن عارفي مكتبة عارف قلائل جداً. ولقد اقترحنا على المدير أن يطبعوا فهرساً للمكتبة وينثروة بين الناس ويحذوا حذو المكاتب الراقية فيطلب من مؤلفي الكتب ومترجميها نسخة من كتبهم لتوضع في المكتبة وتعم الفائدة لاعتقادنا أن هذه الطبقة المنورة لا تضن على تلك المكتبة ببنات أفكارها ونتاج قرائحها فاستحسن منا هذا الاقتراح ولكنه اعتذر عن تقريره لأنه من خصائص متولي الوقف يحيى أفندي قاضي مصر السابق الذي يتوقع منه كل محب للعلم والأدب أن يحل هذا الاقتراح محله ويعمل على تعريف الناس بهذه الخزانة النافقة فإن عمال المكتبة الكثيرين هم كفء ويكفؤون للقيام بأعمالها كما ستراه. المشاهرة العدد العنوان قرش صحيح 700 1 مدير 700 1 حافظ كتب أول 600 1 حافظ كتب ثاني 550 1 حافظ كتب ثالث 500 1 حافظ كتب رابع 500 1 مجلد 500 1 بواب 500 1 سقا 500 1 كناس 5050 المجموع وللمرحوم أوقاف أخرى في المدينة تأتي من عاصمة السلطنة مع مرتبات المكتبة بواسطة

الخزانة النبوية إليك بيانها: المشاهرة العدد الموقوف عليه قرش صحيح 600 2 قارئ الشفافي الحرم النبوي 600 2 قارئ دلائل الخيرات النبوي 12 1 سقافي الحرم 900 1 امرأة الواقف المقيمة في المدينة 2112 المجموع ومما قلله لنا مدير المكتبة أن المرحوم كان ينوي إبلاغ كتب المكتبة إلى عشرة ألاف مجلد كانت تحت يده إلا أنه لم يتمكن من تحقيق أمنيته لأنه حين عزم على الحضور إلى المدينة المنورة يصحب بقية كتبه عاجلته المنية في دار الملك فبيعت كتبه فيها مع تركته بأبخس الأثمان ومنها كتاب الأغاني الذي بيع بخمسة عشر جنيها ثم باع من اشتراه من آخر بستين جنيها وطبع بعد ذلك عن تلك النسخة وانتشر بين القراء ويقولون أنه لو تمكن من جلب تلك الكتب وإضافتها إلى المكتبة لكانت اليوم من أحفل وأغنى مكاتب الشرق على أنها الآن تضم بين جدارها ألوفاً من الأمهات التي تفتقر إلى رجالات علم وعمل ليمثلوها للطبع ويبرزوها من خدرها وبعد أن قضينا بالمكتبة ما تيسر لنا من الوقت عدنا إلى الحرم النبوي من طريق آخر لا يبعد بضعة أذرع ودخلناه من باب جبريل. حيفا: فلسطين // عبد الله مخلص

في بلاد الغرب

في بلاد الغرب نساء الإفرنج الانكليز أعجب أمم الحضارة في أخلاقهم وعاداتهم لا يقبلون الجديد إلا بشق الأنفس ولكنهم إذا قبلوا تناغوا فيه وحرصوا عليه وبرزوا على من سبقهم وسابقهم. والغالب أن كل الحاجيات تمت أو كادت في هذه المدنية الغربية حتى قامت بعض نساء الأمم وطالبت بإشراكهن في حقوق المدنية فأصبحن ينتخبن نائبات في المجالس النيابية ويشركن الرجل في أعمال السياسة ومن الفائزات السابقات في هذا السبيل نساء فنلندا واستراليا وزيلاندة الجديدة والنروج. رأى النساء الراقيات من الانكليزيات ذلك ورأينا حقوقهن مهضومة مع الرجل وغرن الغيرة من خصائصهن من اللاتي سبقهن من بنات جنسهن وقمن منذ ثلاثين سنة يطالبن حكومة بريطانية العظمى بحقوق بنات حواء وما زلن منذ عقدت العقيدتان كوب وميلنر احتجاجا في لندرا سنة 1884 وهن على وتيرة واحدة من السعي وراء مقصدهن لم يدخل الملل على نفوسهن. خطبت إذ ذاك العقيلة ميلنر وقالت أنها أزمعت أن لا تدفع الخراج الذي عليها للجابي بحيث تضطره إلى أن يكسر بابها ويحجز متاعها وهكذا تقاوم الحكومة وكل سنة تزيد قسوة وإملالا فضحكت الصحف من هذا القول إذ ذاك ومن الغد أرسل إليها من جميع أطراف انكلترا ابر للخياطة إشارة إلى أن المرأة هذا شأنها ولا يليق بها أن تخرج عن هذا الحد. ولكن المطالبات بهذا الحق ظللن يجمعن قواهن هذا وهن على الملكة فيكتوريا التي سنت للملكات دع نساء الطبقات المختلفة من السوقة سبنة توفر النساء على تربية أولادهن وتدبير منازلهن والقيام على أسراتهن وبيوتهن حتى قالت في مفكرتها أن أحن امرأة هي التي تبدو صالحة لزوجها وأولادها. ولقد ربت ملكة انكلترا وإمبراطورة الهند بناتها على التربية البيتية الراقية حتى أن الأميرة أليس دي هيس درامستاد كتبت إلى أمها تقول: ها قد صنعت الفساتين اللازمة لبناتي الصغيرات في الشتاء فعملت منها سبعة ولم أطرزها فقد بل فصلتها وخطبتها وعملت أيضاً

رداء من الصوف للطفل الذي ننتظر قدومه وأنا التي أتولى حسابات الدار ولذلك تريني مستغرقة في العمل إن أسرتنا الصغيرة تزداد بسرعة وستقضي علينا الحال بضع سنين أن نعيش باقتصاد زائد. في مثل هذه الأمة التي ملكتها وأميرتها على هذا الطرز من حب الانصراف إلى الأعمال البيتية يقوم ربات الحجال في أقصى بلاد الشمال ويعمدن إلى القسوة في المطالبة في حقوقهن السياسية حتى لقد لجأن كما قالت جريدة المئتين من مقالة افتتاحية إلى استعمال القوة في مقاومة رجال الضبط والربط بل أن تلك الأيدي اللطيفة التي يجب ان تكون رباتها ملكية الأخلاق بلغها ودعتها هي التي أنشأتها التيمس بأنها تشعل الحريق في بعض بلاد الانكليز لتحمل الحكومة على بابه تلك المطالب وإنه قد حرق في شهر تشرين الأول الماضي في بريطانيا من الأملاك ما يقدر بنحو ستة ملايين فرنك ونصف وثبت بالتحقيق أن للمطالبات بحقوق النساء يداً في نحو عشر حرائق منها ران النساء المتحمسات لهذه الفكرة يطلبن شيئاً من المال فلا يلبس أن يحمل إليهن فقد طلبن مرة مئة ألف جنية وأخرى ربع مليون جنية وكلما طلبن مالاً يأتيهن عفواً ويقدر ما يصرف النساء الانكليزيات في الشهر بنصف مليون فرنك على تحقيق مطالبهن. هذه هي أعمال النساء الانكليزيات ومعظم البشر لا يرافقونهن على استعمال القوة في مقاومة القوة ولكن هذا السبات يدل على روح غريبة لا أثر لها في الشرق وكيف تكون حال نساؤنا مرضية وهن راضيات عن تقهقرهن فرحات بجهلهن العاقل لا يطلب لنساء الشرق أن يشاركن الرجال كما هن في الغرب فإن تقاليدنا وأدياننا وعاداتنا لا تنطبق مع هذا ولكن كل ما تتقيد به من قديم لا يحول بين نسائنا وبين التعليم وليت شعري كم مدرسة فتحت لتربية البنات في عهد الدستور في القطر السوري وكم رجل فكر أن يعلم بناته فن تدبير المنزل كما يعلم في الغرب. القشور التي يتلقفها بعض بناتنا في الأمريكان ولفرنسيس والألمان ومدارس الحكومة لا ترقي أمة تشكو الليل والنهار من مجهلها وجاءتها وتخبيئها جميع المصائب من تعشيشه في صدور كبرائها فما بالك بالصغار أن ما يراه السائح في أوروبا من مظاهر تربية المرأة ومضاهاتها الرجال في جلائل الأعمال يبكيه على الشرق ولا سيما الشرق الإسلامي يأتيه

العبر عن إيمانه وشمائله ولا يعتبر. تسعى إيطاليا اليوم لإعطاء المرأة حقها في التصرف بمالها كما تحب دون أن تكون مقيدة بإرادة زوجها أو وليها كما كانت حتى الآن وفي الشمال حاز بنات نوعهن كل هذه الحقوق وهن يطالبن بحقوقهن السياسية ونحن حتى الساعة لم يفكر نساؤنا ورجالنا في شيء لإنهاض المرأة من كبوتها فما أبعد الفرق بين الجنوب والشمال في تربية الرجال وربات الحجال. وبعد فإنا نشاهد كل آن العجب العجاب في هذه الديار الغربية من مشاركة الرجل للمرأة في أعمال الحياة مشاركة هي على غير الطريقة التي جرى عليها الشرق الأقرب الذي جعل المرأة في منزلة يصح أن يقال أنها أقصى دركات الانحطاط وهيهات أن تنجح أمة نصفها عاطل لا يعمل ولا يفكر ينظر إليه بغير العين التي يجب أن ينظر إليه بها وينزل منازل الجهل والخمول. قلنا أن العاقل لا يطلب لبلادنا أن تكون المرأة فيها كما هي في الغرب فإن هذا أشبه بمريض يحتاج إلى جرعة من الدواء قدر درهم فتعطبه رطلاً وبذلك تقتله لا محالة نعم لا نريد لنسأل الآن أن يكون لهن حق المشاركة في السياسة ولا الاختلاط بالرجال على مثل هذه الحال ولا أن يكن منقطعات إلى العلم والآداب فقط بل تزيد تعليمهن التعليم الابتدائي الراقي الذي يكون محوره ترقيه عواطفهن الدينية والمدنية ليكونوا من المرأة أم تحسن التوفر على تعهد بينها وبيتها وتتدخل السرور على قلب بعلها ومحارمها وأن نقتطع فئة من هؤلاء المتعلمات للتعليم ليتخرج بهن البنات والصبيات على السواء وهن يكن من الدراسات العلوم العالية بالطبع. قرأت الآن في الجورنال مقالة افتتاحية لأحد المشتغلين بالتعليم عند الفرنسيس جاء فيها بمناسبة القانون العسكري الجديد وجعل الخدمة ثلاث سنسن أن فرنسا استاقت ألفاً وستمائة معلم في سن القرعة للخدمة العسكرية وأنها ستستعيض عنهم بالمعلمات علمن الصبيان قال الكاتب أنه ساح في أوقات مختلفة في عدة بلاد كانت فيها المدرسة الابتدائية تقبل الفتيات كما تقبل الفتيان معاً على نحو ما تقبل المدارس العليا الطالبات مع الطلاب فرأى أن ذلك لا يضر بالآداب بل ينفعها فإن الرجال لما كان شأنهم أن يعيشوا مع النساء فمن السخف أن

يفصل بعضهم عن بعض عشراً وخمس عشرة سنة وأن يعود كل جنس أن يعتبر الجنس الأخر دخيلاً وخطراً فإن التعليم المشترك يغرس في الفتيان الشعور بالرجولية وفي الفتيات حياء بدون أن يكشرن عن أنيابهن. فإنا نجد في البيوت التي يكون للبنات فيها أخوة والأخوة أخوات يحرزن صفات ليست أصلا لغيرهن من الأولاد ونحن لا نريد مدارس مختلطة بل مدارس للصبيان تسلم أزمة التعليم فيها للنساء. المرأة تحب الأولاد وتعرف مراميهم فإن فطرة الأمومة التي تتنبه في الفتاة تحبب إليها الأولاد وتعرفها بهم ويكون الأولاد في الحال على ثقة مع معلمة فتاة كانت أو عجوز في حين أن الشبان المعلمين لا يتيسر لهم أن يحبوا الأولاد وذلك لأن المتزوج رب الأسرة ربما توسع في حبه أولاده فأحب أولاد غيره على ما يوحي إليه العقل ولكن معلما في العشرين لم يتزوج لا يحب الأطفال بل يضربهم ولا يبالي بهم لأنه يعتقد نفسه بأنه أشبه بالمرضعة وأن درجته انحطت فيجب مراعاة مصلحة التعليم والأولاد معاً أن يوسد أمر التعليم في مدارس الأطفال إلى النساء بدون استثناء فإن الطفل الذي يبدو شيطانا أمام معلمه يحاول أن يرضي معلمته كما هو الحال في المقاطعات المتوحشة في غرب الولايات المتحدة فيستبدل بمعلمة كل معلم لا يحسن التصرف مع الأولاد فيعود نظام المدرسة إلى أحسن مما كان. قال إن للمرأة أسرارا في اللطف والصبر والثبات الممزوج بحب وحسن النظر يجهلها حتى المعلم الخبير فما بالك بالمبتدئ بالتعليم. المرأة تعلم وتفهم ألف أمر لا يستطيع الرجل أن يفهمها ولا يحزرها. إنها رزقت جميع أسباب اللطف التي ترافق الإحسان. هذا ما له تعلق بموضوعنا نقلناه فمتى تنشأ لنا مدرسة في كل حاضرة من حواضر بلاد العرب تعلم الفتيات ليكن معلمات للبنات أولا وإن أمكن للصبيان أيضا تتم هذه الأمنية يكتفى اليوم بمتخرجات من مدارس المبشرين أو المدارس الطائفية ويوسد إليهن تعليم البنات والبنين. وما أظن إلا القليلات من المتعلمات في بعض المدن العربية والقليل من المتعلمين يفكرون في هذا المطلب الجليل الذي هو أهم الأدواء القاتلة في جسم مجتمعنا وهيهات أن يحصل على شيء من البرء إلا بتعليم البنين والبنات بل إنه بدون العناية أولا بتعليم البنات لا

تستقيم لنا مدنية وتكون تعليمها الأمور النافعة بحسب ما تقضي به عاداتنا ومعتقداتنا فينهض المجتمع العربي بإنهاض شان المرأة وبدون ذلك لا أمل لنا بإصلاح بيوتنا. المدنية لا تشفق أحببت أن أخدر أفكاري مؤقتا عن النظر في أخبار بلادي فأخذت أطالع بكثرة صحف هذه الديار ولا سيما باريز منها وأعني عناية خاصة بالحوادث الداخلية مما لا يتيسر للصحافي الشرقي كل حين فأتلو كل يوم مرات أخار القتل والانتحار والاعتداء والفجائع والفظائع بتفاصيلها وكلها تدل على استهانة الغربي بالحياة جريا على ما ورد في المثل العربي احرص على الموت توهب لك الحياة. لا ينكر أن من الحوادث الطارئة هنا ما يسوق إليه اختلال الشعور من الإكثار من الخمور وانحلال العقيدة باليوم الأخر ولكن منها ما يدل على شمم وعزة نفس وتوقع المجد والشهرة. وبينا نجد أن ابن البادية عندنا يقتل عابر سبيل ليذهب ببندقيته أو فرسه أو كيسه أو ثوبه ترى الغربي ينتحر هو وزوجه أو ولده تخلصا من شقاء الحياة أو تفاديا من الوقوع في فضيحة أو لسائق غضب أو غير ذلك من الأسباب ومنها التافه ولكنها كلها تدور على احتقار الغربيين للحياة. قرأت الآن في البيتي جورنال إن العلماء بدؤوا يتحركون بفقد بعض أجناس من الحيوان كادت تضمحل بسوء تدبير الإنسان وظلمه وقسوته وان المجمع العلمي الباريزي قد حصر جلسته الأخيرة في البحث عن أسباب حماية الفيل والكركدن والحوت والطيور التي تكثر في البلاد الحارة وتصاد بلا شفقة ليتزين نساء الغرب بريشها وإذا لم ينظر في طريقة تحفظ بها أنسال هذه الحيوانات تنقرض بعد بضع سنين لا محال فيكون الناس أشبه حالا بحكاية من قتل الدجاجة اعتقادا منه أن في بطنها بيضة ذهب. قال صاحب المقالة: منذ عرف العالم مازال الإنسان يظلم ويطمع في القضاء على الحيوانات ويسيء استعمال الأسباب التي جعلتها الفطرة أمامه فلا جل نفع معجل بل وربما كان لجلب سرور بربري يقتل بدون خشية أنواع من الحيوانات النافعة التي يحدث من فقدها اختلال في ميزانية هذا الوجود هو يقتل الفيل لأن العاج ثمين جدا ويذبح كلب البحر لأن جلده يباع بثمن غال ويصيد الجوارح والطيور لأن ريشها تزدان به رؤوس النساء

المتبرجات الخ. وبينا أتصفح هذا وأعجب من رقة شعور القائمين بهذا الأمر وعطفهم على الحيوان وخوفهم من انقراضه مخافة ان يحدث منه خلل في ميزانية عالم الكون والفساد إذا بي أرى في الصفحة الثانية أخبارا من فجائع الطيارات وهلاك الطيارين مما يحدث مثله كل بضعة أيام في الغرب لأن مدنيته لا تشفق بل لا تقوم إلا ببذل بعضهم أرواحهم في سبيل إعلاء كلمة العلم. كان بعض رجال الرحلات من الغربيين منذ قرون يهلكون في الصحاري والقفار أو في القطبين وتجشم أخطار وبحار أما اليوم فبعد ان اكتشفوا العالم الأرضي أصبحوا يريدون ان يكتشفوا العالم السماوي كانوا بالأمس يعملون في البسيطة وهم اليوم يريدون ان يسخروا الجو وما ندري غدا ماذا يخبئ العلم والاختراع من بدائع المستحدثات التي تباع في تحقيقها الأرواح بيع السماح. كنا بالأمس تقول إذا تلون سياحة احد أرباب الرحلات من الغربيين ان كاتب الرحلة في حلم يملي من عالم الخيال ليري انه لقي أهوالا في سفره ويشتهر بين جيله وقبيلة ونرجح ان معظمها أشبه بقصة السندباد البحري وحكاية ألف ليلة وليلة بيد ان ما نقراه اليوم بل نشاهده عيانا من أخبار الطيارين في أخبار السماء كاد يدعونا إلى تحسين الظن بأكثر ما أورده أرباب الرحلات وأن هذه المدنية التي نتمتع بها أن هي إلا ثمرة الاستهانة بالحياة في سبيل الأغراض الشريفة. مدنية الغرب تقتل الحيوان لفائدة الإنسان بل تقتل الإنسان لفائدة الإنسان وهذه التجارب التي خص الغربي بطول الروح عليها هي التي نشأت منها أكثر الاختراعات والاكتشافات الماثلة حسناتها للبشر اليوم منادية للأمم التي قام أبناؤها بشيء من هذه الأعمال حرية بان تنال ذروة المجد لأن من سخر قوة الطبيعة الصعبة لمنفعته لا يعثر عليه ان يسخر الإنسان للإنسان. مدنية الغرب لا ترحم أحدا ومتى رحم من لا يرحم نفسه. والغرب لا يحزن لفقد ألف أو ألوف من أبنائه قذفا من الجو وهم يطيرون لأنه موقن بان هذه التجارب في النتيجة عن خير بهذا المضمون فمتى نرى أناسا من الشرقيين ينهجون هذا المنهج ويقلدون الغرب في

صالح أعماله فان مما يخجل الشرق من ان يعمل الغرب كل هذه الأعمال المدهشة وهو نائم باهت وان يقتل الشرقي إخاء في غرض تافه ولا يقتل نفسه في تحقيق عمل مجيد ومجد مؤثل: وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البعض البطن ليس له دواء يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاء ولا يعطى الحريص غنى لحرص ... وقد ينمى على الجود الثراء وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له دواء تكريم الرجال عرف الغربيون حسن الانتفاع من كل شيء فصاروا إلى زمن من هم في العالم كل شيء لا قول إلا قولهم ولا مدنية إلا مدنيتهم التي هي خلاصة مدنيات العالم بأسره فيها اندمجت مدنية رومية وأثينة وبابل وأشور ومصر وفينيقية والأندلس وبغداد وفارس أن هذه المدنية التي تتمثل لنا كل يوم في صور شتى قامت بعقول الرجال وأعمال الأبطال ولذلك كان الحري بالتبجيل مصدر هذا الفضل والمعول الذي كان عليه المعوّل في نبث المدفون واختراع المعدوم. يكرم الغربيون رجالهم حتى ليخال الشرقي أنهم على شيء من المبالغة وأكثر الأمم ايغالاً في ذلك الفرنسيس على ما رأيت فان رجالهم لقوا من التكريم والتنويه مالا يكاد يراه أمثالهم في الأمم الغربية نفسها. وأن المرء ليعجب كل العجب من تغنيهم حتى اليوم بجان دارك إحدى فتيات القرون الوسطى التي برزت الرجال بشجاعتها ودافعت عن وطنها أمام جيوش الفاتحين من الانكليز وإلى اليوم هي المهماز الأعظم لفتيات فرنسا لشبانها تقام باسمها المعابد وتسمى الشوارع وتنصب التماثيل وتؤلف القصص التمثيلية وغيرها في وصف سيرتها. ولا بدع فإن الفرنسيس كما قال برزباين - أشهر رجال الصحافة الأميركية - ورثوا عن اليونان والرومان نبوغاً كانوا به أدلة وموحين بالأفكار للعالم منذ عهد شارلمان فقد كانوا الأولين في الحركة العقلية السابقين في شجاعة القلب وشجاعة الفكر المجلين في فن

الحرب وفن الهندسة وفن الجرأة الطبيعية الخارقة في إنشاء السيارات والطيارات وفي عامة الأعمال التي تحتاج إلى عقول لا تخاف وتطلب إقداما عليها لساعتها. قرأت أمس في الماتين مقالة جاء فيها الفرنسويين يتأهبون للاحتفال بعيد مرور مئة سنة على موت بارمانتيه يوم (13 كانون الأول 1913) وربما يقل في قراء العربية من يعرفون هذا الرجل ويودون الاطلاع على طرف من ترجمه حياته ليذكنوا على الأقل من هو الذي يعاد ذكره بعد أن نصبت له التمايل وصيغة باسمه الصفائح التذكارية وأنشأت الجواد الشوارع بل أنشئت قرية باسمه في الجزائر. بارمانتيه هو مخترع البطاطا في فرنسا أو مدخلها إليها على صورة عم استعمالها جميع طبقات الناس فخدمتهم في اقتصادهم وبيوتهم وتغذيتهم مدة القرن الماضي كان هذا الرجل من أبناء العامة سافر من ببلده مونتيديه إلى باريز ليسابق في وظيفة صيدلة في الجيش فقبل وأرسل مرات إلى ساحات القتال ومنذ سنة 1793 حتى يوم وفاته كان يتولى أعظم الوظائف الصحية العسكرية مثل عضو في مجلس الصحة ومفتش عام وصيدلي أول في الجيش الفرنسوي وفي خلال حرب السبع سنين أخذ أسيراً وفي أسره تسنى له أن يدرك ما في البطاطا من المواد المغذية وكانت في معظم الأوقات الغذاء الوحيد له ولا صحابة الأسرى. حملت البطاطا من أمريكا إلى أوروبا من سنة 1580 إلى 1585 نقلها الأسبانيون لولا ثم الانكليز من فرجينيا وكانت غير معروفة كثيراً في فرنسا وينظر إليها في الجملة نظرة ازدراء وما زال بارمانتيه منذ استقرار مرة في صيدلية الانفاليد بباريز يكرر في منثورات منوعة فوائدها ويدفع اعتراض المعترضين بشدة لأنهم كانوا يحملون عليه حملات منكرة قائلاً أن رأي الناس في البطاطا أنها غير صالحة لغذاء الإنسان ساقط لا يؤديه له وكذلك دعوهم أنها تضعف الجسم وتحوي الأخطار وعلى العكس فهي لذة الأغنياء ومعوان للفقراء وسلوى في الشدائد. وكان هذا المحسن مدفوعاً إلى ذلك بالعامل الذي وضعه بقوله: لا يكفي من أراد أن يكون نافعاً لأبناء جنسه أن يقول لهم مرة واحدة ما رآه وما عمله وما يجب أن يعمل بل يجب عليه أن لا يمل من تكرار دعوته على صور مختلفة وطرق منوعة اللهم إلا القوة فإنها لا

تستحب ولا تنفع العلوم إلا إذا عمت الطبقات كلها هكذا كان شأن بارمانتيه حتى انتشرت البطاطا بفضل مساعيه المتواصلة وأصبحت تزرع في أرض تبلغ مساحتها مليوناً وستمائة ألف هكتار في وطنه. ولم يقتصر بارمانتيه على الدعوة إلى البطاطا وتحبيها إلى الناس بل كان له أثر محمود في الخبز والخبازة ودرس الأغذية الرئيسية عند هذه الأمة وله العمل المهم في تنظيم المستشفيات الثابتة والنقالة العسكرية والمدنية إلى غير ذلك من أعماله في تمشيط الأشغال العلمية والصحية والزراعية والصناعات الوطنية ونشر التطعيم وطبخ الأحسية الاقتصادية هذا إلى جمعيات البيطرة والإحسان والمأوي التي كان عضواً فيها أو مديراً لأعمالها مباشرة بحيث كان كما قال فيه أحد واصفيه السابق إلى كل مكان يمكن العمل فيه كثيراً وأن يخدم بدون عوض ويجتمع لعمل الخير ويتأتى لمن يدعوه أن يكون على ثقة من أنه بإشراكه بارمانيتيه في العمل يتسلط إلى وقته وقلمه وعلى ماله عند الاقتضاء. هذا هو عمل الرجل وربما يتساءل القارئ وكيف وجد من قلبه متسعاً للقيام بهذه الأعمال التي تحتاج إلى بضعة رجال والجواب بارمانتيه كان يصحو باكراً ويجلس إلى منضده عمله في الساعة الثالثة بعد نصف الليل صباحاً قالت (الماتين) وما أحق مدارسنا الابتدائية أن تتخذ من هذا للوالدين والشعب مثالا يبعث الهمم على العمل فإنه قد خرج من مسقط رأسه مستخدما صغيراً في الصيدلة لا سند له ولا مال بل ولا تعليم إلا التافه القليل وتمكن بعمله المتواصل من بلوغ المناصب العالية وجلس في الصف الأول بين المحسنين إلى الإنسانية. أبعد هذا نلوم الفرنسيس إذ غالوا بحمد رجالهم وهل نشأ لنا نحن يا ترى معشر العرب نصف رجل مثل بارمانتية منذ بضعة قرون وكان بسيرته وعمله حرياً بأن نحتفل به ونذكره بكل شفة ولسان ونخلد اسمه في سجلات الأزمان. صناعة الفنادق لعل بعضهم يعترض على هذا العنوان فيقول وهل أصبحت الفنادق والإنزال صناعة حتى تحدثنا بها ولكن من رأى الفنادق في الغرب ولا سيما في البلاد التي بكثير إليها اختلاف السياح كفرنسا وإيطاليا وسويسرا مثلا يهون عليه ان يتصور معنى الفنادق فيرى قصوراً

شاهقة ذات حدائق غناء مجهزة بأجهزة قصور الملوك أو أكثر وفيها من التحف والألطاف وبدائع الصناعات ما يلفت عقل البليد دع الحساس الذكي. صناعة الفنادق لا لتمثل حق التمثل إلا لعين من كثرت سياحته إلى الأقطار المختلفة وهناك يدرك خطرها كما يدرك قدر الصحف فيرى إدارة كل نزل أشبه بديوان كبير من دواوين الدول أو مصرف عظيم أو جريدة منتشرة وإتقان تلك الصناعة متوقف على العلم الحديث فكلما تأمل في الشرق والغرب وكثرة الترف والنعيم زاد رواءً واتقاناً. إن ما تراه في مصر والشام من إتقان بعض الفنادق أن هو إلا جزء مما أوجده العلم في القارة الأوروبية والأمريكية وفي مقدمة الأمم التي استفادت من فنادقها وأحسنت القيام عليها الأمة السويسرية حتى سمى بعض الفرنسيس أهل سويسرا الفندقيين تحقيراً لهم مع أن هذه الصناعة كغيرها مما لا يثلم الشرف ولا بعبث بالمروءة شريفة في ذاتها ولا يعد التوفر عليها سبة وعاراً. وكفى السويسريين بأن أهم الفنادق في ايطاليا وغيرها هي بأيديهم يديرونها ولا يفوقهم أحد في هذا الشأن. ليس الفندق أو النزل الحديث كما يتخيل بعضهم عبارة عن خان من الخانات متقن بعض الشيء فإنه قد يوجد في الفنادق الحديثة من أسباب الرفاهية والنعيم مالا يوجد مثله في قصور العظماء الفندق الحديث هو معهد مؤلف من عدة أمور يحتاج حسن سيرها إلى عناية وملاحظة خذ لك فندقاً متوسط الكبر تجد فيه بحسب طبقته ومساحته أعمال الكهربائية مراجل ودينامو وآلات التدفئة والتهوية وأدوات لاستخراج الجليد وحجر مبردة وأفران للخبز والحلويات وآلات للتصعيد ومطبعة ومكتباً للبريد والبرق واصطبلات ومحال لحفظ المركبات والسيارات وأقبية وقد يساوي ما يحويه الفندق من المواد مئات الألوف من الفرنكات تكفي النزل الشهرين والثلاثة ومعملا للتصليح محمل نجارة وحدادة إلى آخر ما هنالك مما لا مقابل له بالعربية للتعبير عنه. وللفندق خدام يقومون على غاباته وحدائقه ومنتزهاته وطرقاته وسواق تامة أدواتهم لنق الأمتعة والأثقال منه واليه على الخيل والسيارات ورجال إدارته أكثر من رجال الوزارة فمنهم المستقبلون والقائمون على إعطاء التعليمات لمن يطلبها ومنهم العارفون بالسكك الحديدية وآخرون للمحاسبة وبعضهم للضجة وغير ذلك.

فالفندق مستعمرة صغيرة ينقسم أقساما قد يختلف عدد القائمين بأعماله من 100 إلى 350 شخصاً. ومدير الفندق سواء كان مالكه أو مديره مسئول عن كل ما فيه مديره ويعنى به ويمونه ويلاحظه ويسأل عن كل غلط يأتيه رجاله العاملون بإشارته أو النازلون عنده والقانون يسأله وحده فقط عن كل ما يحدث. ولذا لا يكون صاحب الفندق ق في العبر رجلا عاديا يكتفي منه أن يكون حسن البذة عارفا بالقراءة والكتابة والحساب بشوشا مؤنسا بل هو رجل متعلم من الدرجة الأولى يحسن إدراك ألوف من التفاصيل في إدارة تحتوي غرائب معقدة بحيث يكون أهلا لان يتصرف في الحوادث اليومية التي قد تقع اضطرارا في عمل يحوي في حملته أعمالا صناعية وتجارية مختلفة وليست الأدوات التي يقوم بها الفندق ميكانيكية بل عقلية قد تتعارض فلا بدع إذا طلب هنا من صاحب الفندق أن يكون مهندساً نقاشاً سياسياً تاجراً بل طبيباً للأرواح والأشباح. عرفت الأمم المتمدنة مكانة هذه الصناعة فجعلت لها المكان الأول في حياتها الاقتصادية والتجارية والصناعية وفتحت المدارس لتعلمها كما فتحت مدارس لتدبير المنزل الذي تتوقف عليه حياة البيوت وسعادتها وغبطتها ولقد كانت النفس تحدثني وأنا أشهد من لذاذة الحياة في فنادق الغرب ومساكنه (بانسيون) وحذاقة طهاتها ونظافة خدامها وخادماتها من لي بأن يأتي أناس من الطبقة المستنيرة المثرية من أبناء بلادي ليروا شاهداً عيانياً محسوساً على ترقي الغرب وتدني الشرق ويفاضلوا إذا رجعوا إلى أهلهم بين حالنا وحال غيرنا وينقل بعض ما يمكن نقله من أسباب النظافة وحسن تحضير المأكل وتنويعها وجمال السرر وبساطتها والغرف وفرشها والمقاعد والخزائن والمغاسل والحمامات وأماكن الاطمئنان وغير ذلك من أساليب الراحة والنعيم الذي لم يظفر يبعضه أغنى الأغنياء فينا اللهم إلا بعض عقلاء الكبراء في الحواضر الكبرى وخصوصا في مصر. ولكم كنت اشتهي أن يأتي بضعة شبان ممن سبق لهم الخدمة أو النظر في فنادق مصر والشام واختلطوا بالإفرنج وعرفوا خصائصهم وتأنقهم في مطعمهم ومنامهم وملبسهم أن يقضوا ولو أشهرا في الفنادق الكبرى ويحضرون ولو سنة دروس مدروسة الفنادق وتدبير المنزل في سويسرا وأظن أن من يفتح فندقاً ويحسن النظر فيه بحيث يضاهي به أو يكاد

فنادق الغرب المتوسطة ينفع نفسه وأمته في اقتصادياتها أكثر من ألف موظف في الحكومة متوسط المعارف لا يهمه إلا رضا من سبقه في الدرجة وانتظار آخر الشهر لقبض الراتب. سوريا بمناخها تشبه سويسرا ولكن هذه تأخذ في السنة من المصطافين والمشتين فيها قناطير مقنطرة من الذهب وذلك لأنها عرفت من أين تؤكل الكتف في خدمة الناس وتوفير أسباب الهناء والصفاء لهم بحيث يتأتى للمرء أن يكون في الفندق سعيداُ كما هو في بيته وزيادة وأن أتاهم بعضهم الدماشقة بأنهم لا يفكرون في غير إلا كل والنوم وان هذه العادة غالبة عليهم ولكن يشفع في ذلك حالة الغرب واهتمامه في هذه الشؤون الحيوية أيضا وأن يكن الفرق بيننا وبين غيرنا أننا نذكر التفكر في ذلك وهم يجعلون له وقتا لا يبحثون فيه بغيره والسلام. رجال الكثلكة يجدر بنا ونحن في مهد انتشار الدين المسيحي وكل ساعة يقع نظرنا على قساوته ورهبانه ونرى بيعه ونسمع أجراسه أن نحدث قومنا بعمل هؤلاء الرجال وتفانيهم في واجبهم. من يمر في شوارع رومية يجد الرهبان والقسوس سائرين زمراً زمراً ويجدهم على الجملة يحلقون شواربهم ولحاهم ويلبسون لباسا اسود في الاكثر على عاداتهم في الشرق ويختلف هذا اللباس فالألمان والمجربون منهم يلبسون أردية حمراء فقط والفرنسيس والانكليز يلبسونها سودا والايكوسيون سودا مع زنانير زرقاء وياقات سوداء والبلجيكيون يلبسون سواداً فيه شيء من الحمرة والبولونيون يكتسون السواد وغيارا اخضر البوهميون سواداً وغياراً ممزوجاً بزرقة فاتحة واليونان الروتنيون يلبسون زرقة وزنانير حمراء مبقعة بزرقة وقسوس أميركا الجنوبية يلبسون الأسود مع غيار ازرق وبطانة زرقاء الأميركان يلبسون لباساً أسود واسع الأكمام والأردان غياراً أحمر وأعضاء الدعوة إلى الدين يلبسون أردية سوداء مع غيار وبطانة هما إلى الحمرة. هذا هو الشكل الظاهر في طلاب المدارس الاكليريكية الذين يأتون من أنحاء العالم الكاثوليكي ليدرسوا ويتخرجوا بآداب دينهم ثم يعودوا إلى بلادهم أو غيرها يعلمون ويرشدون. وهم قسمان قسم القسوس وهؤلاء يتعلمون في مدارسهم وبعد الدرس يذهبون إلى منازلهم وقد يعيش بعضهم بين أهله وذوي قرباء فمن هؤلاء لا يطلب إلا أن يسيروا

بموجب القواعد المقررة وهم أحرار فيما عدا ذلك أما الرهبان فدائرتهم أضيق لأنهم يعيشون في مدرسة واحدة مع أقرانهم ويطعمون طعاماً واحدا ويكون في الاكثر طعام تقشف ولا يخرجون إلا برخصة أي أن هؤلاء مقيدون كثيراً ولا قيد صغار الطلبة في المدارس الداخلية. والرهبنات أقسام منها الفرنسيسكانيون والدومنيكيون واليسوعيون واللعازريون وغيرهم ولهم أنظمة وقوانين مشوا عليها منذ قرون وأفادوا النصرانية بنشرها في البلاد التي لم تدخلها ولا سيما في الصين والهند واليابان وأواسط أفريقية وغيرها من البلاد النائية. وكان لليسوعيين يد طولى في هذا الشأن وهم بين الرهبان والقسوس أي أنهم يترفهون ويأكلون ما يشاؤن لكنهم يأوون إلى بيت خاص خلافاً للرهبان الذين يأكلون أكلاً معيناً وخلافاً للقساوسة الذين يأوون إلى بيوتهم واليسوعيون بجند منظمون على نظام غريب لم يختل على كثرة ما نالهم من اضطهاد الحكومات في الأزمان السالفة. قال الأمير بورغزه في كتابه ايطاليا الحديثة: إن تأسيس طغمة اليسوعيين المشهورة هو من غرائب النظام الحقيقي فتراها جمعية مؤلفة من عناصر مختارة تخضع على الدوام لأداة الرئيس مباشرة والداخل فيها يربى على الطاعة بالتدريج والخروج المطلق عن شخصيته وإرادته. ويتراءى للناظر في نظامهم أن واضعه جندي فإن كل شيء فيه يشعر بالنظام. وقال أن نظام هذه الرهبنة ربما جرى في وضعه أغناس لويولا مؤسس اليسوعية على قواعد بعض الجمعيات الإسلامية التي كانت مشهورة في الأندلس فبنى نظام رهبنته على طاعة لا نهاية لها فتوصل بهذه الصورة أن يؤلف جيشاً يتصرف به رؤساؤه تصرفاً مطلقاً وتفنى إرادة صغيرهم في كبيرهم. ولمعظم الرهبان والقسوس أعمال علمية وغيرها يتعاطونها ويبرزون فيها فإذا انقطعوا للتدريس تخرج بهم طلاب كانوا صورة صحيحة منهم وإذا أخذوا بالتأليف قد يعدون من كبار المؤلفين ولذا ترى الناس في ايطاليا وفي غيرها كثيراً ما يفضلون أن يربى أولادهم على أيدي القسوس وإن كان آباؤهم ملاحدة مارقين من دينهم. ترى الرهبان إذا أخذوا بالزراعة والصناعة بما سبقوا من تخرجوا فيها أعمارهم والحكومة هنا قد جعلت رواتب لقسوس الطليان كما عينت راتباً للحبر الأعظم منذ يوم أخذت حكومة

الوحدة الايطالية أزمة الأمر بيدها واستولت على أموال الرهبنات وكنائسهم وأوقافهم سنة 1870 لأن جميع مرافق البلاد المهمة كانت بأيديهم إذ ذاك فغيرت بعض المعاهد وجعلت بعضها مدارس ومتاحف ودواوين حكومة وثكناً للجند وغير ذلك وحظرت على أي جمعية دينية امتلاك ملك إلا أن لرئيس الجمعية أن يملك ما يشاء وقد عادت الملة النصرانية فأخذت تدر المال على رجال الدين بعد الوحدة الجديدة ولذا تراهم يعيشون عيشاً حسناً وأديارهم وكنائسهم منظمة وإرادتهم دارة نامية والفضل في ذلك يرجع إلى المتدينين من أغنياء الكاثوليك في العالم. قلنا أن الحكومة الايطالية عينت منذ زهاء أربعي سنة راتباً لإمام الأحبار ولكنه لم يقبله بعد أن رعت منه السلطة الزمنية وكانت بيده هي والسلطة الروحية بيد أن الحكومة وضعت المبلغ تحت أمره في المصارف وفي كل خمس سنين ترفع منه الفائدة فقط وتبقي رأس المال بحاله الذي يزيد كل سنة حتى بلغ فيما بلغني 180 مليون فرنك وحضرة البابا لا يريد أن يتناوله وهكذا عف هو وأسلافه وسيتعفف أخلافه عن أخذ مال ممن يرونهم غاصبين حقهم معتمدين على سلطتهم. إن انشقاق ألمانيا وانكلترا وغيرهما عن الكنيسة الكاثوليكية بقيام أمثال جان هوس وكلفن ولو ثيروس في أوائل القرون الحديثة وتلك الأزمة التي دخل فيها المقام البابوي إذ ذاك لم تؤثر كثيراً في سلطته على الأرواح والأشباح وكذلك تغلب الحكومة الزمنية في إيطاليا على جيش البابا يؤثر كثيراً فبقي مقام حضرته مقدساً وكذالك الكرادلة والأساقفة والقس والرهبان وذلك لأن عمل هؤلاء الرجال قائم على أنظمة وقواعد معينة لا تغيرها الطوارئ والرزايا ولأن هذه السلاسل في مراتب الكهنوت لا يصل إليها المريد إلا بالتعلم والتهذيب على الأصول المتبعة وكل ما جعلت التربية والتعلم أساسه يثبت وبعم أثره ويوفق الناهضون به. ولقد لاحظنا أن الفتن الدينية التي أثارها التعصب الديني في القرون الوسطى كانت في ايطاليا أقل مما هي في فرنسا واسبانية حتى أن الإسرائيليين في اسبانية لما ذاقوا العذاب الأليم جلوا عن بلادهم فكان من إيطاليا أن قبلتهم وهذا ناشئ من لين أخلاق الشعب هنا ويرجح أن كل ما وقع من الاضطهادات لم يكن مما وقف الرؤساء على حقيقته ولو رجعنا

إلى تراجم أكثر عظماء هذه الملة من باباوات وكرادلة ورؤساء أساقفة لوجدنا كثيرين منهم خدموا المدينة والآداب خدمة تذكر فتشكر كانوا كذلك يوم كانوا ملوكاً زمنيين وروحيين ويوم أمسوا روحيين فقط حدثنا التاريخ أن الباباليون العاشر في القرن الثالث عشر للميلاد وهم من أسرة ميديسيس المفضلة على العلم قد وسع نطاق الآداب وبث كلمة العلم حتى عد قرنه القرن الذهبي وكان يبسط جناح حمايته للمصورين والنقاشين والمهندسين والأدباء ويفضل عليهم بالطبع أن من يأتي بعده في الدرجة يحاول أن يقلده في محامده. والله أعلم. العرب والطليان وصل العرب إلى بلاد الأمة التي هي وارثة الرومان منذ القدم أوائل عهد فتح افريقية وما برح العرب يطمعون في فتح جزيرة صقلية لقربها من الشاطئ المقابل لأفريقية حتى تم لأسد بن الفرات فتحها سنة 212هـ -. قال المؤرخون كان ابتداء حصار بلرم عاصمة صقلية في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين ومائتين ودام إلى شهر رجب سنة عشرين ومائتين وفتحي بالأمان وفي سنة خمس وعشرين ومائتين أستأمنت قلاع كثيرة من قلاع جزيرة صقلية منها حرصه وقلعة البلوط واللاطنوا وقلعة ماروب ومرنا وغير ذلك. وهذه القلاع ما زال بعضها إلى اليوم أسماء مدن تبدأ بلفظة قلتا أي قلعة فيقولون جيرونة زقلتا بلونة وقلتا لستا وكلها من تلك الحصون والقلاع بقيت أسماؤها كما بقيت أسماء كثيرة عربية في لغة سكان هذه الجزيرة فيقولون مثلاً منديللو للمنديل وغير ذلك مما يشهد بأن العرب حكموا هذه الجزيرة قرنين ونصفاً وأثرت في أهل مدينتهم ولسانهم وعاداتهم كما هي عاداتهم في كل ما ملكوه. راجت حضارة العرب زمناً في صقلية ومنها تسربت إلى البلاد المجاورة فكان يرشح منها شيء كثير إلى الأقرب فالأقرب من البلاد ولعل تلك الحضارة راجت أيضاً في جزيرة قورسقة وأهلاه يتكلمون الايطالية أيضاً وهم اليوم تحت حكم فرنسا وملك العرب جزائر ميورقة ومنورقة المعروفة بجزائر البالايار ويابسة وكانوا يغزون شطوط اسبانية وفرنسا ولا عجب بعد ذلك إذا دخلت كلمات عربية كثيرة في لغات الفرنسيس والطليان والاسبان والبرتغال. ومن يعلم أن تلك الجزائر مما ارتفع عليه علم الإسلام وأن أقريطش (كريت) وقبرص

ورودس ومالطة كان حظها كذلك يعرف أن العرب كانوا رجالاً في البحر كما هم رجال في البر وأنه لا سبيل إلى الأمن من الداخل إذا لم يحفظ الساحل بالجزائر والمواني والفرض ولطالما كانت الحكومات تمتلك الساحل فلا تلبث أن تبسط سلطانها على الداخل. كان الأدارسة حكام تونس هم المتكلفين بغزو جزيرتي سردانيا وصقلية ففتحوا صقلية وكذلك ملوك جزائر الغرب أخذوا على عهدتهم غزو منورقة وميورقة فاستولوا عليهما وعامل العرب الايطاليين والاسبانيين بالحسنى على نحو ما يأمرهم به دينهم ولما رأى الايطاليون هذه المعاملة لم يشاؤوا أن يغيروا شيئاً من مصطلحاتهم حتى أن الملك رجار الذي عاد فاستولى على صقلية سنة 485 كان يتكلم بالعربية وهو الذي أفضل كثيراً على الشريف الإدريسي الجغرافي الذي وضع كرة أرضية بالفضة كانت من أعاجيب القرون الوسطى دهشت لها أجيال الإفرنج كلهم كما دهشوا للساعة الدقاقة التي أهداها أمير المؤمنين الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا. قال الإدريسي في رجار هو الملك المعظم رجار المعتز بالله المقتدر بقدرته ملك صقلية وايطالية وانكبرود وقلورية أمام رومية الناصر للملة الناصرية إذ هو خير من ملك الروم بسطاً وقبضاً. ولقد كان أهل الشرق على صعوبة ركوب البحر في أيامهم يرحلون إلى بلاد ايطاليا كما يرحلون إلى الأندلس فيكتبون عليها في رحلاتهم ما تقع عليه أنظارهم وممن زار ايطاليا الجغرافي ابن حوقل فقد قال أن مدينة ملف ويقال لها الآن ملفي تتصل بأرض نابل وهي مدينة صالحة بحال دون ملف في كثير من الأحوال وأكثر أموال نابل من الكتان وثياب الكتان وقال أنه رأى بها ثياباً لم ير في سائر أقطار الأرض لها شبيهاً ولا يستطيعها صانع في جميع طرز الأرض وهو ثوب يعمل مائة ذراع في خمسة عشر ويباع الثوب منها بمائة وخمسين رباعي وزائد وناقص. ووصف ابن حوقل صقلية فقال أن طولها سبعة أيام في أربعة أيام والغالب عليها الجبال والقلاع والحصون وجميع أرضها مسكونة مزروعة وليس لها مدينة مشهورة معروفة غير المدينة المعروفة ببلرم وهي قصبة صقلية على نحو البحر من الشمال وهي خمس جادات محدودة غير متباينة ببعيد مسافة وإن كانت حدودها ظاهرة فمنها المدينة الكبرى التي تسمى

بلرم عليها سور من حجارة مانع شامخ يسكنها التجار وفيها مسجد الجامع الأكبر وكان بيعة للروم وفيه هيكل عظيم ومدينة تعرف بالخالصة ذات سور أيضاً من حجارة وليس كالسور الأول يسكنها السلطان وأتباعه وفيها دار صناعة البحر والديوان وبعد أن وصف أسواقها وباعتها واستطرد إلى كثرة مساجدها وقال أن فيها نيفاً وثلاثمائة مسجد وفي قرية البيضاء مائتا مسجد قال ولم أر مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعف مساحتها ولا سمعت به وقد رأى على مقدار رمية السهم نحو عشرة مساجد يدركها البصر ومنها شيء تجاه شيء وبينها طريق قال وسألت عن ذلك فقيل لي أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه لا يحب أن يشركه فيه غير أهله وحاشيته وربما كان إخوان منهم متلاصقة دارهما متصافية الحيطان فعمل كل واحد منهما مسجداً لنفسه ليكون جلوسه فيه وحده وفي جملة هذه العشرة مساجد التي ذكرتها مسجد لولد وابنتاه ليتفقه فيه وغرض كل واحد منهم أن يقال مسجد قلان لا غير. قال وبها رباطات كثيرة على ساحل البحر مشحنة بالبطالين والفساق ووصف أبواب بلرمة التسعة وقال أن هذه المدينة مستطيلة ذات سوق قد أخذ من شرقيها إلى غربيها يعرف بالسماط مفروش بالحجارة عامر من أوله إلى آخره بضروب التجارة. ووصف الشريف الإدريسي جزيرة سردانية فقال أنها كبيرة القطر مثيرة الجبال قليلة المياه وطولها مائتان وثمانون ميلاً وعرضها من المغرب إلى المشرق مائة وثمانون ميلاً وطولها ماراً من الجنوب إلى الشمال مع قليل تشريق وفيها ثلاث مدن منها الفطينة وهي مما يلي في جنوبها وهي مدينة عامرة ممدنة ومنها مدينة قالمرة وهي رأس المجاز إلى جزيرة قرسقة ومدينتها الثالثة تسمى قشتالة وأهل جزيرة سردانية في الأصل روم أفارقة متبربرون متوحشون من أجناس الروم وهم أهل نجدة وحرم لا يفارقون السلاح وفي جزيرة سردانية معادن الفضة الجيدة ومنها تخرج الفضة إلى كثير من بلاد الروم وبين سردانية وجزيرة قرسقة مجاز طوله عشرون ميلاً. ثم وصف جزيرة قرسقة وجزيرة البتة وبالوسة وقبريرة وقبرة وشكلة وبيت برة ومونسة وبونسة واسترنجلو وجزيرة البركان وليبر ودندمة وفيكوذة رركذة وأشتقة وجزيرة الراهب واليابسة وغيرها وقال في وصف مدينة بلرم: وبها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر

محاسنها في بناتها ودقائق صناعتها وبدائع مخترعاتها وهي على قسمين قصر وربض فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم وهو في ذاته على ثلاثة اسمطة فالسماط الأول يشتمل على قصور منيفة ومنازل شامخة شريفة وكثير من الفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار والسماطان الباقيان فيهما أيضاً قصور سامية ومباني فاخرة عالية. وذكر القزويني في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات مدينة رومية فقال أنها مدينة رياسة الروم وعلمهم وهي في شمال غربي القسطنطينية وبينهما مسيرة خمسين يوماً وهي في يد الفرنج ويقال لملكهم ملك المان وبها يسكن البابا الذي تطيعه الفرنج وهم عندهم بمنزلة الإمام الذي يكون واجب الطاعة ومدينة رومية من عجائب الدنيا لمعظم عمارتها وكثرة خلقها. ذكر الوليد بن مسلم الدمشقي أن استدارة رومية أربعون ميلاً في كل ميل منها باب مفتوح فمن دخل من الباب الأول يرى سوق البياطرة ثم يصعد درجاً فيرى سوق الصيارفة والبزازين وذكر أن بين يدي السوق سوق آخر على أعمدة نحاس كل عمود منها ثلثون ذرعاً وبين هذه الأعمدة نقير من نحاس في طوق السوق من أوله إلى آخره فيه لسان من البحر تجري فيه السفن فتجيء السفينة في هذه النقرة وفيه الأمتعة حتى تجتاز على السوق بين يدي التجار فتقف على تاجر فتختار منها ما تريد ثم ترجع إلى البحر. وذكر أشياء عجيبة عن كنيستها وقال أن فيها عشرة آلاف دير للرجال والنساء وبها جامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطب والنجوم والحكمة والهندسة وغير ذلك قالوا أنها مائة وعشرون موضعاً قال وقد مثل في الكنيسة صورة كل نبي من وقت آدم إلى عيسى عليه السلام وصورة مريم عليها السلام كأن الناظر إليهم يحسبهم إحياء وحكي أن أهل رومية يحلقون لحاهم ووسط هاماتهم فسآلو عن ذلك فقالوا لما جاؤوهم شمعون الصفى والحواريون دعوهم إلى النصرانية فكذبوهم وحلقوا لحاهم ورؤوسهم فلما ظهر لهم صدق قولهم ندموا على ما فعلوا وحلقوا لحى أنفسهم ورؤوسهم كفارة لذلك. وممن رحل إلى ايطاليا جمال الدين محمد بن سالم بن واصل قاضي القضاة بحماة وكان إماما مبرزا للعلوم العقلية عارفا بالمنطق والهندسة والأصول والفقه والهيئة والتاريخ توفي سنة 697 ذهب هذا رسولا إلى صاحب صقلية من قبل الملك الظاهر بيبرس الصالحي

وذكر انه أقام عنه وفي مدينة من مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس من مدينة انبوليا واجتمع به مرارا ووجده متميزا ومحبا للعلوم العقلية يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس قال وبالقرب من البلد الذي كنت فيه مدينة تسمى لو حارة أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية يقام فيها الجمعة ويعلن بشعار الإسلام. وفي هذا القرن كان الايطاليون هم رجال التجارة والأساطيل في البحر المتوسط وكانت لسكان بيزاوهم من إقليم توسكانيا تجارات واسعة في الشام وقال ياقوت أن السعة ظاهرة عليهم وجمهوريات بيزا وجنوا والبندقية هي أكثر البلاد الايطالية في القديم والحديث ولما كان الطليان يأتون بلاد مصر والشام وسواحل البحر المتوسط منتجعين للزق والاتجار كانت بقية أمم أوروبة غائصة في مفاوز الجهالة. نشر المستشرق ميشيل أماري في مدينة فلورنسا الشروط والعقود السياسية بين ملوك بيشة (بيزه) وفورنتا (فلورنسا) أو فلورنسا وبين ملوك المسلمين في تونس والغرب الأقصى ومنها عقد من الملك قايتباي للفلورنتيين ذكر في شروط البنادقة ان تجار المسلمين يبتاعون من تجار البنادقة أصنافاً من متاجرهم من جوخ وصوف وغير ذلك وآخر هذه العقود سنة عشر وتسعمائة هجرية وأولها في منتصف القرن السادس. وهكذا عاد العرب فاستخلصوا بلادهم من الطليان فكان الاختلاط على اتمه بين الأمتين ولاسيما عندما تضع الحرب أو زارها وكثيرا ما كان رسل ملوك الإسلام يأتون ايطاليا فقد ذكروا أن ابن خلدون المؤرخ جاءها رسولا من قبل صاحب تونس وصورة الطليان إذ ذاك على الحجر وجاءها في القرن الحادي عشر الأمير فخر الدين المعني صاحب لبنان وأقام بها عدة سنين ملتجأ ووصف عمرانها بالضخامة وتفنن أهلها في النقش والرسم والبناء. ولا يتسع المجال هنا إلى ذكر كل من زاروا ايطاليا من العرب ومن زاروا من الطليان بلادنا إلى هذا العصر. ولقد كانت اللغة الايطالية في مصر والشام معروفة أكثر من الافرنسية والانكليزية إلى منتصف القرن الماضي ثم تراجعت وخلفتها هاتان اللغتان. هذا وكان رجال الدين من كاثوليك الشرق يختلفون إلى رومية منذ القديم ويتعلمون لغتها ويدرسون الدين فيها وهم أكثر من أن يحصوا وفي مقدمتهم السمعاني اللبناني المشهور واللبنانيون الموارنة على ما يظهر أشد الكاثوليك رغبة في المهاجرة إلى رومية وتواريخ

رجال الكهنوت عندهم شاهدة بذلك. لذائذ الغريين قرأت في الصحف الباريزية أن إمبراطور ألمانيا منع ضباط مملكته من رقص التانغو وألوان ستب في الحفلات الرسمية وكذلك فعل ملك الانكليز وهما رقصتان قيل أنهما من أصل أمريكي في أقصى ما يكون من الخلاعة خلافاً للرقص الذي اعتاده الأوروبيون في حفلاتهم الراقصة خاصة كانت أو عامة. ولعل الآن بعضهم يقول وأنت الآن تحدثنا عن الرقص وأمامك محيط أوروبا وكله مما يستملي القرائح مهما كانت كليلة للكتابة والتأمل. نعم أن البحث في الرقص هو مما يجب البحث فيه أيضاً لشرقي يبحث في مدنية الغربيين. إننا بحسب عاداتنا واصطلاحنا سكان المدن العربية لا البوادي ننكر الرقص ونعده حطة ولكن الغربيين يرون غير رأينا فيه. يرونه من الحاجات الطبيعية لبسط النفس ولذلك لا تكاد ترى الكبير والصغير والرجل والمرأة إلا ويعتادون الرقص على أنواعه من غير نكير اللهم إلا رقص التانغو وألوان ستب فإن العقلاء أنكروه لأنه باعث الشهوات البهيمية ومخرج للرقص عما وضع له. والرقص في الغالب يكون على إيقاع النغمات الموسيقية على لحن متساوق وربما أشفع بغناء. فالرقص والموسيقى والغناء هي من المستحبات وربما تجوزنا وقلنا من الواجبات في بلاد الغرب لا يعد الفتى ولا الفتاة من أهل الظرف بدون الأخذ بحظ وافر منها فكأن الغربيين رجعوا في مدنيتهم إلى الفطرة الأولى وذلك لأنا نرى سكان البوادي في الشرق أيضاً يرقصون ويغنون ويضربون بطبل أو ينفخون بمزمار. أمور يأتونها على الفطرة وعلى حال أولية ولكنها على كل حال تدل على أن سكان غير المدن في شرقنا أقرب إلى الفطرة من المتحضرين. كانت الطبقة العالية من رجالنا أيام رقي العرب في الأندلس ومصر والشام والعراق والجزيرة وفارس وغيرها من البلاد التي تأصلت فيها الحضارة لا تستنكف من الضرب بالعود أو غيره من أدوات الطرب أو ترفع أصواتها بالغناء ولا ينكر عليها ذلك ولطالما كنت ترى بينهم الفقيه والمحدث والطبيب وصاحب الوقار من القضاة والعمال.

انحطت الحضارة عندنا والفنون الجميلة آخر ما تستعيده الأمة الناهضة وأول ما تفتقده المنحطة وما الغناء والموسيقى إلا من الفنون الجميلة فارتقاء صناعة الغناء والموسيقى في الأمة دليل ارتقائها فهما محركان عظيمان لأرواح أبنائها ومهمازان قويان لترقية شعورهم وتحسين عواطفهم يصرفون فيهما آونات الفراغ فيدخل بهما السرور على القلوب. تصدر هذه العجالة من بلاد هي مهد الرقص والغناء والموسيقى من أرض أين اتجهت في حواضرها وبواديها تجدها تطرب وتتغنى من بلد قام فيها من الموسيقيين القدماء أمثال روسيني وبلليني ودونيزيتي ومن المحدثين أمثال فردي وبوتنشيني وما سكانية وليون كافاللو ومن المغنيين في المحدثين بونشي وماركوني وكاروسو ود يللوكا وباتستيني وغيرهم من المغنيات والموسيقيات ممن أعظمت الأمة واحاتهم في منزلة علمائها وفلاسفتها ورجال نهضتها. وكل ما نراه من الموسيقى ونسمعه من الغناء يكون على ضرب النوتة بأدوار وتقاطيع مخصوصة وهو ما لم يتم حتى الآن عند العرب اللهم إلا الموسيقى الوترية في مصر ولما يعم استعمالها فإذا أصبحت موسيقانا وغنانا ضمن دائرة القانون يكون قد وضع الحجر الأول في أساس نهضة هذه الفنون الجميلة في شرقنا العربي على نحو ما جرى عليه سكان الأستانة وأفلحوا فيه من تقليد الأوروبيين في موسيقاهم وغنائهم. الموسيقى والغناء هما مثال من حالة النفس ومن لا يريد أن تكون نفسه شفافه براقة حساسة ولكل أمة غناؤها قد تتبرم به الأمة الأخرى وتعد منكراً ولكنه يفيدها ويلذها كما ذكر ابن زندقة الاسكندري من سياح القرون الوسطى في وصف أهل شلشويق (أي أهل شلزويك هولستايين في شمال ألمانيا) وقال أن لهم نوعاً من الغناء يشبه عواء الكلاب ولو فهم معناها لما حكم هذا الحكم الذي يقوله اليوم أيضاً كل من لا يعرف لغة غيره ولا تأثير موسيقاه وغناءه ومراميها. اللذائذ الثلاث هما من أول ما تدور عليها الحياة الغربية اليوم ولا تضر بالوقار بل تعد من أدوات الظرف والكمال ولعل شرقنا يحتذى في الموسيقى والغناء حذو الغرب مع تعديل تقتضيه طبيعته وعاداته واشتغال البيوت أو لأصحاب آونة الفراغ بضرب من ضروب الموسيقى والغناء أنفع ألف مرة من لغو الحديث وانتقاض بعضهم بعضاً والحط من أقدار

أنفسهم والسلام.

التبدل المادي في الحياة السياسية

التبدل المادي في الحياة السياسية أوردنا في الجزء الأول نموذجات من كتاب تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة وها نحن نشفعه بفصل ضاف عقده في معنى التبدل المادي الذي حدث في الحياة السياسية قال ما ترجمته: الاختراعات المادية - لم يأت زمن في تاريخ البشر تبدلت فيه الأسباب المادية في الحياة بسرعة كما تبدلت فيه في القرن التاسع عشر في أوروبا فإن الصناعات العملية التي تكملت منذ العهد القديم بما نالها من الارتقاء الطبي في مجموعها قد انقلبت انقلاباً أصليلاً ظهراً لبطن بحيث كانت المسافة كبيرة جداً بين الطرق العلمية التي كان الناس يجرون عليها في القرن الثامن عشر والصناعة الحديثة وبين الطرق التي اتخذت في القرن الثامن عشر وصناعات الأقدمين ومنها الصناعة المصرية. وهذا الانقلاب هو نتيجة الاختراعات التي قامت بالتجربة فقط أو بتطبيق أساليب العلوم العلمية وكثير منها ينتهي إلى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر بيد أن نتائجها العملية لم يشعر بها في جمهور الشعوب في أوروبا قبل أواخر حرب الإمبراطورية الفرنسوية فتغير الحياة المادية لم يبدأ إلا بعد سنة 1814 فهو أعظم حادث عصري بل هو حادث دولي لأن تلك الاختراعات أوجدتها عقول العلماء والمخترعين من كل الأمم وهي مشتركة بينهم بحيث يتعذر كل حين تمييز من له الحظ الأوفر من الأمم في هذه الخدمة فقد انتقلت من أمة إلى أخرى مفيدة لها كلها على السواء. امتزجت أساليب الحياة المادية الجديدة في عاداتنا بحيث يصعب علينا أن نتمثل كيف كانت أوروبا سنة 1814 على قربها من زمننا واختلاطنا معها في طرز الحياة ولا يخلو من فائدة التذكير بالمخترعات الرئيسية التي جعلت بيننا وبين أجدادنا في ثلاثة أرباع قرن هذا الاختلاف العظيم وأني لأحاول أن أقص هنا تاريخ ما حدث فإنها قامت كلها في أدوار مختلفة على أساليب مختلفة من التكمل المتواتر مما يصعب به نظمها بحسب السنين بل أريد هنا أن أحصيها جامعاً على طبقات المعارف التي هي عملياتها في الحقيقة. فإن الاختراعات الميكانيكية التي تمت كلها في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر كانت أولاً أدوات تدار بالأيدي مثل أدوات نسج القطن ونسج الصوف وخياطة الصوف وحياكة القطن وحياكة الصوف وخياطة أقمشة الصوف وصنع الجوارب (أما آلة الخياطة فلم تحدث إلا

في القرن التاسع عشر) ثم جرى العمل باستعمال القوى الطبيعية المنبعثة من شلالات الماء لإدارة آلات النسيج والحياكة (وذلك في إنكلترا من سنة 1790 إلى 1815) أما البخار فلم يستعمل إلا بعد ذلك العهد ويلحق بالميكانيكيات الآلات الزراعية التي جاء استعمالها متأخراً وآت صنع الورق وقد نشأ من ارتقاء الميكانيكيات انقلاب في طرق المواصلات وذلك باختراع الطرق المحجرة (المكادام) سنة 1820 والطرق ذات الانحدار القليل والافريز التي قامت مقام الطرق المعبدة (الشوسة) بالحجر فقط الباهظة الثمن المشوشة النظام والطرق المستقيمة ذات الانحدار الصعب بإنشاء الجسور المعلقة والقناطر وأنفاق السكك الحديدية. ولقد استفادت الميكانيكيات بتبديل صناعة الاستخراج فأوجدت المواد الضرورية للصناعات الأخرى بكميات وافرة مثل الفحم الحجري والمعادن والبترول (زيت الكاز) وبتغير صناعة المعادن باستعمال الفحم الحجري وإنشاء المعامل والمطارق كثر الحديد والفولاذ والحديد المصبوب فأصبحوا المادة الأولى في أدوات الصناعة الحديثة كالآلات والأسلحة والخطوط والأدوات والجسور. وباستخراج مناجم الذهب والفضة بالآلات والطرق الكيماوية الحديثة تضاعفت كمية النقود. وقد أوجد علماء الطبيعيات القوتين الموصفتين لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه وقد دونت سيرته في عهده فكان عند المشارفة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل وأحق ما يرجع إليه في سيرته رحمه الله من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل وتاج الدين شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الضوء الكهربائي والفونوغراف والتصفيح. ومن الكيمياء تشعبت معظم الاختراعات الثانوية فإن الثقاب (عيدان الكبريت المعمول

بالفوسفور قام مقام القداحة البطيئة الصعبة الاستعمال ونشأت الأسمدة الكيمياوية التي أخذت تبدل الزراعة من حال إلى حال واستخرج السكر من الشمندر وأصبح الغاز أعظم واسطة لإنارة الأماكن العامة والألوان المستخرجة من الفحم الحجري والبنزين والكريزيوت مادة مستخرجة من القطران والتصوير الشمسي والتصوير النوري والمواد المنفجرة الجديدة والأدوية الكيماوية والغسل في الكلور والدباغة والمربيات من المأكولات واستخراج الألمنيوم والورق المعمول من الخشب الخ. وتقدمت العلوم الحيوية بعض الشيء فحدثت منها المخدرات (مثل الكوروفورم والاتير) التي سهلت الجراحة والمضادات للتعفن التي غيرت الطب. ويضاف إلى ذلك تحسن البذور وأجناس الحيوانات الأهلية وهذا من نتائج التجارب المنبعثة من العلوم الطبيعية. وبعد فإن هذه النظرة الموجزة في أهم الاختراعات تكفي في التذكار بعظمة التبدل الذي وقع في الحياة وسنبحث هنا في كيفية هذا التبدل المادي كيف فعل في الحياة السياسية في أوروبا وذلك مباشرة يتغير الأساليب العملية في الحكومات وبالواسطة بتحويل تركيب المجتمع أساليب التدمير الحديثة - ظل الاعتماد على المواد المنفجرة القديمة إلى منتصف القرن على نحو ما كان عليه في أواخر القرون الوسطى فما كان عند الجيش سنة 1814 سوى البارود والبنادق التي تحشى حجارة والمدافع القليلة النظام التي تدك من فوهتها فكانت أسلحة ضعيفة الشأن تدك ببطء وتطلق طلقات رديئة وما كانت تحول دون المتحاربين إلا بتأثيرات معنوية ولم تكن تمنع جيشاً منظماً أن يتجمع ويداهم العدو بالحراب وكان يكفي لمن يريد العصيان إذ ذاك أن تكون عنده بندقية صيد وبارود وكرات فكان الفرق في السلاح بين الجندي والعاصي الثائر لا يعتد به بل أنه إذا وقع القتال في شارع يكون الثائر في مأمن فيتحصن وتكون له الميزة على الجندي فنشأت للحكومات من المواد الملتهبة الجديدة قوة في التدمير جددت علم قمع الثائرين فكان من الزئبق الملتهب أن اخترع الكابسول ثم اكتشف اكتشاف أهم من المواد الملتهبة من مركبات ماء الفضة فاكتشف أولاً النيروغليسيرين (1847) الذي يمزج بمواد صلبة فيتكون منه الديناميت (1864) وللمواد الملتهبة المحطة المؤلفة من مركبات ملح البارود التي يحدث منها الانفجار بواسطة ترتيب

كيماوي آني قوة في التدمير أرقى من قوة البارود لأن التهاب هذا لا يكون إلا بالحرارة فهو أكثر بطئاً وقد استعيض عن بارود المناجم بالديناميت (لا في حفر الخنادق والنشافات البحرية فقط بل في معظم أعمال البناء في الطرق) فإن بارود الحرب الذي احتفظ به استعيض عنه بالبنادق تحشى ببارود جديد لا دخان له اخترع سنة 1870 في عدة ممالك على حدة واتخذت في المدافع مركبات من حامض ملح البارود أو حامض البيكريك (هو حامض يؤلف بعمل حامض ملح البارود على النيلة وعود الند) كماد الميلتيت الملتهبة ومادة الروبيريت الخ. ولقد حدث على ذلك العهد تبديل في استعمال الأسلحة فاخترعت البنادق ذات الطلق الأوسط تجعل فيها خرطوشة مهيأة تدخل في مؤخر البندقية مما زاد كثيراً في السرعة وقليلاً في تنظيم الرماية وكان أول تطبيق لهذه الطريقة بندقية الإبرة (دربس) التي اعتمد عليها المشاة في الجيش الروسي منذ سنة 1847 ولم تهب سائر البلاد إلى الاقتداء بها وظلت فرنسا مكتفية ببندقية الصيد (لوفوشو) وبعد أن أحرز الألمان الظفر سنة 1866 تنوعت البندقية التي كانت تحشى من مؤخرها مثل (شاسبوت وماوزر ومارتيني) أنواعاً كثيرة وأصبحت سلاح أورباكلها ومثل هذا الارتقاء حدث في المدفعية فبعد المدفع ذي الخطوط الداخلية ظهرت المدافع التي تملأ من مؤخرها (ارمسترونغ منذ سنة 1854) ثم جرى تحسينها في ألمانيا (معمل كروب) ثم أنشئت المدافع من الفولاذ وأخذت تلك المرامي تقذف قنابل من الميلنيت وانتظم هذا الانقلاب في الأسلحة بالاكتشافات الكيماوية وكان من أثر البارود بلا دخان أن زاد قوة الالتهاب وخفف من ثقل البندقية وأن جعل القذيفة أصغر حجماً وأعظم جرماً وهذه البندقية هي التي دعيت بندقيه لبل. ولقد حولت هذه الأدوات الحديثة في التدمير بما تم لها من الأثر الذي فاق القديم منها أسباب الحروب ففقدت المدن القديمة القوية بضعفها عن المقاومة ما كان لها من الحصانة الحربية في الدفاع عن التخوم ولم يعد المدافعون يعتمدون على ما سوى إقامة المعسكرات المحصنة بالخنادق ومراكز للذخائر تحميها سلاسل من الحصون المنفصلة وأصبحت تعبئة الجيش الكثيف متعذرة بالبنادق ذات الطابع السريع والقذائف وحلت محل عمل المدفعين المنفردين اللذين يعمدون إلى شجون الأرض فيتحصنون وراءها.

ولقد صعب أن يتمثل الناس نتائج هذا الانقلاب في الفن العسكري حتى أن أهل الصناعة أنفسهم لم يتصورا معنى الحرب بين أمتين أوربيتين ولكن الصورة التي صنعوها هي من الدهشة بحيث تكفي لمنع جميع الحكومات أن يأخذوا على أنفسهم تبعتها وكان من ارتقاء فن الحرب أن أصبحت الحرب مستكرهة للغاية حتى أنه لا يجسر امرؤٌ على إيقاد نيرانها وكان من ارتقاء الكيمياء في القذائف أن توطد السلام. فضمت الأسلحة الجديدة للحكومات قوة لا تقاوم في السياسة الداخلية وأصبح من المتعذر ثورة بما يتهيأ لها من الأسلحة أو بنهب الثائرين أسلحة من باعتها بل أنه لا يتيسر القتال بين بنادق الصيد وبنادق الحرب وما من متراس يقاوم المدافع الجديدة. فليس من الاتفاقات البسيطة أن تضع الثورات والانتفاضات أوزارها منذ سنة 1848 وكانت من قبل في أوربا مألوفة وما ذلك إلا بتبديل الأسلحة وقع علل بيل أحد الاشتراكيين الألمان هذا التبدل بقوله سنة 1890: لقد سبقت فقلت أن ما سينشأ من ثورة يقوم بها على الأكثر مائتا ألف رجل لا شأن له فإننا في هذا الزمن الذي شاعت فيه البنادق الشريعة الطلقات ومدافع مكسيم نضرب بالرصاص ضرب الأذلة ونتق كما تقتل العصافير. ولم يعد في الإمكان قلب حكومة مشروعة ولا الدفاع عن الدستور من القوة الإجرائية وأوضاع الناس الطريقة الوحيدة الفعالة في مقاومة سوء استعمال الحكومة القوة التي تملك زمامها. واستحال الاعتداء الثوري إلى لقاء قذائف وأبدلت الآلة الجهنمية القديمة التي استعملت ضد لويز فيليب بالقذائف أورسيني سنة 1858 والديناميت وآلات الدمار. وهذه الطرق المفزعة قد هيأت لبعض الأشخاص المنفردين أسباب إكراه الرأي العام وأن تبدو في مظهر حزب فلم تفد في قوة الأحزاب الثورية حقيقة بل ربما أنقصتها بإثارة الغضب عليهم بإلقاء القذائف التي ارتعدت منها الفرائص وأصبح الناس متضامنين. أساليب الانتقال الجديدة - أبدل انقلاب طرق المواصلات الحياة السياسية بثلاث طرق مباشرة: التلغراف والسكك الحديدية والصحافة. فإن من أصعب الصعوبات التي كانت الحكومة تتعثر بأذيالها في كل زمن بطء المواصلات فلا بلاغ أمر من السلعة المركزية ولأخذ معلومات من العمال المحليين كان يصرف وقت طويل أحياناً في طرق النقل القديمة برداً كانت أو سفناً وذلك حباً بإيصال الأمر في وقته مما كان يدخل البطء على عمل

الحكومة المركزية أو يجعله مستحيلاً فاقتضى من ثم أن تترك للعمال المحليين سلطة سيئة التحديد وكذلك للوكلاء السياسيين في البلاد الشاسعة سلطة الحل والعقد إلا قليلاً واستدعى ذلك التخلي عن قبول الاستعلامات عن سلوك الوكلاء لإجراء المراقبة عليهم مباشرة. وقد عد التلغراف الهوائي من اختراع من اختراع شوب من الارتقاء العظيم ولكنه لم يكن يستطيع سوى نقل برقيات نادرة في أوقات الصحو ثم وضع التلغراف الكهربائي بعد سنة 1850 فتمكنت به الحكومات من الاستعلام والعمل في الحال في كل الأبعاد فشعر العالم في الحال بنتائج ذلك في المخابرات السياسية فاستلمت الحكومات بوقوفها على أقل حادث زمام المسائل الخارجية بأجمعها وأصبح وكلاؤها في الخارج أدوات نقل. أما في السياسة الداخلية فإن التلغراف قد أكثر الصلات بين الحكومة وعمالها وإن لم يحذف في الأمور الإدارية ما بقي من الأدوار الماضية للتلغراف في صورة كتابة أصبحت لغواً ونسي المخترعون حذفها. فإن التلغراف بتقويته عمل السلطة المركزية زاد المركز قوة. أما السكة الحديدية فقد قلبت البريد وهو من الأوضاع القديمة محدود بضعف أسباب السحب وذلك بأعدادها قوة للنقل تزيد عدد المراسلات وتنزل قيمتها على نسبة لم تكن تصدق فقد كان في أوربا بحسب إحصاء مكتب البريد الدولي سنة 1890 - تسعون ألف مكتب بريد أرسل منها عشرة مليارات إرسالية. وعليه فإن السكك والطرق والبرد بتسهيلها حركة الناس والرسائل قد نشطت جميع الأعمال العامة والحياة السياسية نشاطاً كثيراً فتيسر بفضلها وضع إدارة بعملها المنظم المتواصل أصابت سكان القرى القاصية وأتت على مواطن متوحشة كانت باقية في أوربا وسط البلاد التي هي أكثر عراقة في المدنية. ونظمت الشرطة البوليس في كل مكان على مثال الدرك (الجندرمة) الفرنسوي فقضت في أوبا على أرباب الدعارة والشقاوة حتى في الغابات وفي الجبال. ودخل جميع السكان في الحياة السياسية بوسائطهم المنظمة مع عمل القضاء والجباية والجندية والإدارة. وطرق المواصلات الحديثة قربت بين رجال السلطة العامة وبين المتقاضين والمكلفين (بالخراج) والمرؤوسين وبذلك أصبحت الصلاة أشد تأثيراً وأقل كلفة وبهذه الوسائط أيضاً أتيح للأحزاب السياسية أن يبثوا دعوتهم ويعقدوا اجتماعاتهم على أيسر سبيل.

وانقلب الصحافة ظهراً لبطن بما اخترع من الآلات فإن الآلة الطابعة بالبخار اخترعت سنة 1814 على يد إدارة الجريدة الإنكليزية التيمس ثم اخترعت آلة تنضيد الحروف ثم آلة الروتاتيف التي اقتصدت من الوقت اللازم للطبع وقللت من اليد العاملة ومكنت من طبع عدد كبير من النسخ في وقت قصير ونفقة قليلة جداً. فانتشرت الصحف اليومية السياسية بين طبقات الشعب فأخذوا يبتاعونها بالمفرد. وكانت من قبل مقصورة على مشتركين من أهل الطبقة الوسطى وتعد من علائم الظرف والزينة. ولقد حاولت الحكومات أن تحظر على الصحف الانتشار بين جمهور الناس فوضعت ضريبة الطوابع عليها أولاً (وهي الطريقة التي تصورتها إنكلترا منذ القرن الثامن عشر) ثم بإكراه أصحاب الصحف على وضع ضمان (وهي طريقة حدثت في فرنسا سنة 1819) أو بوضع ضريبة على الورق. دع القضايا التي كانت تقام على الصحف وما ينالها من الإلغاء بالطرق الإدارية (التي أحدثت ضعفاً محسوساً في بياعات الصحف عقيب الارتجاع الذي قام ضد ثورة سنة 1814) بيد أن الصحف الرخيصة على الرغم من عداوة الحكومات انتهى أمرها بأن تدخل دخولاً قطعياً في أخلاق أوربا بأسرها. وبعد فإن الجريدة اليومية بقوة انتشارها الذي لا يفوقه انتشار قد أصبحت في المجتمعات الحديثة إدارة للاشتهار لا في التجارة فقط بل في السياسة واستعيض عن الطرق في نشر أعمال الحكومة (كالقوانين والأوامر والأحكام) بإذاعتها والإعلان عنها والمناداة بها بنشرها في الصحف وقد جعلت الجرائد من الباطل منع نشر أعمال رجال الدين وكذلك حق كتابة المعاريض التي جعلت قديماً من جملة الحريات الأساسية وللجرائد تأثير في الرأي العام بواسطتين فإنها لا تبين فقط أعمال الحكومة بل عمالها وتناقش فيها فهي الذريعة الوحيدة المؤثرة في مراقبة سوء استعمال السلطة وتعرض الآراء وتنشرها وذلك من الشروط الضرورية في إنشاء الأحزاب السياسية. أتى زمن على الصحف عدت فيه من أدوات الظرف بين الطبقات الموسرة واحتكرت فيه الطبقة الوسطى الحياة السياسية والمراقبة والمعارضة وما كان سائر الشعب يتدخل في الحياة العامة إلا بما يقوم به من الثورات والفتن. فأدخلت الرخيصة الثمن في هذه الطبقة الجامدة تياراً من الدعوة المعارضة بدأ بالتهذيب السياسي في الشعب وبنشوة الحياة

السياسية نحو الديمقراطية. يضاف إلى ذلك ما حدث من التبدل مباشرة في الحياة السياسية من المنافع الفعلية التي نفعت الأمن الما. وذلك بإنارة الشوارع وأخذ صور الأشخاص بالتصوير الشمسي ممن هو فيما أرى قائمة تامة من التغيرات في شروط الحياة العامة أما التبدلات التي كانت بالواسطة فهي أكثر عدداً وأقل جلاءً فليس في الإمكان بيان غير الأهم منها وأقلها اختلافاً فيه. تحول الشعب - أحدث ارتقاء علوم الحياة المادية نمواً في وسائط البقاء ساعدت على نمو الشعوب في أوربا كلها نمواً سريعاً وإن الإحصائيات التي قامت بها الحكومات في الجملة لتدل على مبلغ ما حدث من هذا القبيل فإن سكان أوربا قد قدروا سنة 1800 بنحو مائة وثمانين مليوناً فبلغوا اليوم زهاء 350 مليوناً وقد كانت الزيادة على الأكثر في بلاد الشمال لا جرم أن تزايد عدد السكان لم يعمل بالضرورة بذاته في الحياة السياسية ففي الشرق وربما كان في القرون الوسطى جماهير من الشعوب كثيرة التناسل وكثيرة الجمود وللولايات المتحدة سبعة سكان في الكيلو متر الواحد ولهم حياة سياسية أهم مما للهند الإنكليزية بكثرة نفوسها البالغ 80 في المئة وأن المكانة السياسية في نمو السكان في القرن التاسع عشر لغريبة في بابها فما كانت المدن سنة 1814 سوى مركز للتمدن والإدارة يتخذها أرباب الأملاك وفلاحو الناحية نقراً لهذا الشأن ومعظمها عبارة عن جماعات من الموظفين وأرباب الصناعات والتجارة يسكنون متباعدين بين شعب يتوفر على زراعة الحقول وقليل من المدن ما كان يتجاوز نفوسها الخمسين ألفاً وإن الصناعات الحديثة بجمعها العملة بالألوف والتنقل بواسطة البخار قد زاد الحركة التجارية الدولية زيادة ضخمة مع جميع أنحاء العالم وقد أنشأت شعباً جديداً من العملة والمستخدمين في التجارة فاتسعت المدن القديمة اتساعاً سريعاً لم يعهد له نظير وغدت القرى الصناعية مدناً عظمى وبلغ من ازدحام الأقدام في بعض الأصقاع الصناعية (ولا سيما في إنكلترا وألمانيا والبلجيك) أن عمت البلاد بحيث تكاد تغطي سطحها. وزاد معدل سكان المدن بالنسبة لمجموع السكان في فرنسا من 24 في المئة سنة 1946 إلى 36 في المئة سنة 1886 وكانت في إنكلترا وهي أول بلاد دخلت في هذا الارتقاء 51 في المائة من مجموع سكانها أهل مدن سنة 1851 فبلغوا سنة 1890، 89 في المئة. ويؤخذ من تاريخ القرن التاسع عشر أن المدن الكبرى

والأصقاع الصناعية كانت في أوربا بأجمعها مراكز للانقلابات ومعارضة للحكومات ورجال الدين وفي هذه المراكز خاصة تجندت الأحزاب السياسية وكانت زيادة سكان المدن إحدى الشروط المادية في سير أوربا نحو الديمقراطية. نمو الثروة - كان من الآلات التي جعلت عوناً للصناعة باستخدامه قوى طبيعية لا حد لها أن أنتجت كميات أكبر من المصنوعات في وقت أقصر من ذي قبل وأن تباع هذه بأثمان أرخص. وكان من فوائد المواصلات البخارية أن صارت تجلب المواد الأولية إلى أوربا بأسعار رخيصة جداً وكذلك الحاصلات الزراعية في العلم أجمع زاد على ذلك ارتقاء الزراعة في أوربا فإنها أصبحت أكثر نماءً بما تهيأ لها من إحياء الأرض الموات وتقسيمها أقساماً تزرع بالتعاقب والأسمدة الكيماوية والزراعة الراقية وقد أوقف نمو محصول الذهب والفضة نزول الأسعار زمناً ولكن نمو المحصول ونمو النقد قد ساعدا في مساعدة زائدة في المصنوعات النافعة وفي سهولة اقتنائها مما ظهرت طلائعه في حالتين نمو المستهلك وزيادة رأس المال. وكان نمو المستهلك على غاية من السرعة فغير العادات بسرعة مما يقتضي لنا أن نجهد قوانا لنتمثل كيف كانت الحياة ساذجة في أوائل القرن فكثرت نعمة الأغنياء وأي كثرة وتعدت إلى الشعب وأنعشته من فاقته وعم الناس ما كان مقصوراً من الأشياء على أهل الرفاهية قديماً وذلك كاستعمال السكر والشوكولاتا والثياب وأقمشة القطن والحرير والورق المصور والألبسة الجاهزة والأثاث والزجاج وآنية المطبخ والشموع والمصابيح والكتب والصحف والموسيقى والتمثيل والصور. وقد ارتقى مع ذلك نظام الصحة فكانت القذارة عامة في القرن الثامن عشر في جماع البلاد وعند جميع الطبقات فأصبحت مما يعد عاراً عند الأمم الممدنة ولا أثر لها في أوربا إلا في بلاد الجنوب والشرق أو بين الطبقات الفقيرة من الشعب وأخذت نظافة الجسم والثواب والدار والغذاء من الضروريات الأخلاقية وعم الناس استعمالها بواسطة المدارس وتنتشر منها إلى القرى ونشأت النظافة العامة من النظافة الخاصة مثل كنس الطرق وكسح المجاري والقمامات وكانت لا تعرف قبل سنة 1814 غدا كل ذلك اليوم في جميع المدن

من الأوضاع الضرورية وانتشر الإحساس العام من الخجل والقرف فاضطر إلى قطع المساكن الضيقة الرجسة والأزقة القذرة حيث كان يزدحم الشعب الفقير في المدن العظمى. وللعامل بيده اليوم كثير من الأساليب المادية كما أن له كثيراً من أسباب التنعم والتربية العقلية وهو يبالغ بالعناية بهيئته كأهل الطبقة الوسطى عام 1814 ولذلك تيسر إدخاله إلى الحياة السياسية بدون أن ينشأ عن ذلك أثر من آثار التوحش الذي كان يظن وقوعه أرباب التجارب وكان يتراءى أنه حجة لا تغلب ضد التصويت العام. وإن جزءاً مما حدث من السعة بواسطة الصناعة الحديثة قد استهلك وقسماً آخر نفع في الاقتصاد ومن الصعب أن يستدل بالأرقام على الوفر الذي تراكم منذ سنة 1814 حتى في مملكة واحدة وتقدير مستند إلى أي اعتبارات شخصية يختلف اختلافاً كثيراً. ومن المحقق أنها تمثل رأس مال يبلغ على الأقل ضعف مبلغ رؤوس الأموال التي تركتها القرون الماضية. ومن هذا الرأس المال الجديد استخدم جزء لإحداث الآلات والأدوات الجديدة في الصناعة والتجارة فأنشئت المعامل والسكك الحديدية وإقراض الباقي للحكومات فاستخدمت في الحروب وفي التسليح خاصة ويمثلها واردات الدول. وهذا المجموع الضخم من رؤوس الأموال المجهزة قد غير الأسباب المالية في الحكومات فتهيأ بها زيادة الضرائب والميزانيات والديون على معدل كامل لا يسمح بمثله في سالف الأيام وسهل المباشرة بحرب بالنسبة على أن تتحمل نفقاتها الأجيال القادمة وهكذا زادت القوة الاقتصادية في الحكومة وعمل المجالس النيابية الموكل إليها إدارة هذه الميزانية الباهظة. تحول الحياة الاقتصادية - أحدث إنشاء الثروة المنقولة انقلاباً في إدارة الحياة الاقتصادية في الشعوب الممدنة فكان العاملون في القديم قلما ينتجون غير ما يستهلكون أو يستهلك في السوق المحلي فالفلاحون يبيعون قليلاً ولا يبتاعون كبير أمر وأرباب الصناعات يعملون لزبن وطنيين فالصناعة بالجملة والتجارة في القاصية انحصرت في مصنوعات الزينة المصنوعة في بعض المعامل وفي نواتج المستعمرات المجلوبة من وراء البحر فانتهت الحال بالعاملين بل بالزراعيين في القرن التاسع عشر بما نشأ من الانقلاب الذي حدث أولاً في إنكلترا بين سنتي 1789 - 1814 أن لا يعملوا مصنوعات لأنفسهم ولا لزبنهم المعروفين بل للسوق فقط لا للسوق المحلية بل للسوق العامة.

وانتشرت طريقة الشركات المغفلة من الاسم ذات الأسهم بسرعة غريبة واستخدمت في المشاريع الصناعية الكبرى على حين كان يزيد دخل الدول بنمو القروض السريع وهكذا أحدثت كميات ضخمة من الأوراق المالية جعلت قيد المضاربات وانتقلت إدارة المحاصيل إذ ذاك إلى سلطة جماعات المضاربين الذين يديرون سوق العالم ويحددون الأسعار ويستصنعون ما يشاؤون في المعامل ويعينون أسعار الأسهام وأوراق الحكومات فأصبحت بورصة التجارة ولا سيما بورصة الأوراق مركز لإدارة الحياة الاقتصادية في الأمم. فمن ثم غيرت هذه القوة الجديدة في أسباب الحياة السياسية تغييراً محسوساً وتم لطبقة الأشراف الجديدة من أصحاب الغنى المنقول كالصيارف وكبار الصناع وكبار التجار ما أرادوه من جعل طبقة الأشراف القديمة أصحاب العقارات والأملاك في معزل فجعلت لها مركزاً في السياسة بأن وضعت نظام الأحزاب الحرة التي دخل فيها سواد الديمقراطيين من الأمة وغدت المشاريع الرابحة في الصناعة والمضاربات الكبرى منوطة مباشرة بالحكومات بما تسنه من قوانين الكمارك وتعقده من القروض وتمنحه من امتيازات في الأعمال وللصحافة يد طولى في ذلك بالعرض بفضل ما تنشره من الفصول. فالطبقة العالية من الماليين قد عملت والحالة هذه على أن تجعل تحت جناحها الحكومة والمجالس والجرائد. أما كيفية الطرق التي بها نجحت في الممالك الأوربية المختلفة فهو من التواريخ التي لم تبرح غامضة فلم أحاول سردها بيد أن قوة المضاربة على إدارة سياسة الممالك كانت ولا جرم إحدى صفات الحياة السياسية في القرن التاسع عشر.

البلقان وحربها المشؤومة

البلقان وحربها المشؤومة إذا ألقى المتأمل نظرة على مصوَّر قارة أوربا يجد في الجنوب الشرقي منها قطعة كبرى تحدها من الشمال النمسا وروسيا ومن الشرق البحر الأسود وبحر مرمرة وجزء من البحر الأبيض الرومي ومن الجنوب البحر الأبيض ومن الغرب البحر الأدرياتيكي وإذا كانت مجموعة هذه البلاد لا تتصل مع البر الآن إلا من جهة واحدة ساغ في عرف الجغرافيين أن يُقال لها شبه جزيرة كما يقال ذلك لجزيرة العرب. وهذه بلاد البلقان. وتشتمل بلاد البلقان ومساحتها خمسمائة وسبعون ألف كيلو متر مربع على بلاد اليونان وبلغاريا والروم إيلي الشرقي والبوسنة والهرسك ورومانية والصرب والجبل الأسود والروم إيلي اوالأملاك العثمانية في أوربا وكانت سبع ولايات وهي الأستانة وأدرنة وسلانيك ومناستر وقوصوه وأشقودرة ويانية ولواء جتالجة المستقل وطول البلاد العثمانية الشرقي 1520 كيلو متراً أي من الأستانة إلى منتهى البوسنة وعرضها من بلغاريا إلى حدود ساحل بلاد اليونان 930 كيلو متراً ومساحتها السطحية 325. 766 كيلو متراً مربعاً وسكانها لا يقلون عن سبعة ملايين. وكانت مساحة يونان منها قبل الحرب 65 ألف كيلو متراً مربع أي نحو ثلثي مساحة ولاية سوريا وسكانها نحو ثلاثة ملايين على الأكثر ومساحة رومانية 131 ألف كيلو متر مربع وسكانها ستة ملايين ومساحة بلغاريا 96. 660 وسكانها نحو خمسة ملايين ومساحة الصرب 48300 كيلو متر مربع وسكانها مليونان ونصف ومساحة الجبل الأسود 9080 كيلو متراً وسكانها 240 ألفاً والبوسنة والهرسك ونفوسهما أقل من مليونين ولا تكاد توجد بقعة واحدة من هذه البلاد يتكلم أهلها بلسان واحد ويدينون بمذهب واحد وغالبية السكان في البلاد المستقلة عن العثمانية هم من أصل صقلبي (سلافي). تعد البلقان من البلاد الفقيرة القليلة الساكن وقد كانت منذ أواخر الإمبراطورية الرومانية ميداناً للقتل والقتال وأخلص العناصر منذ القديم للعثمانية الفلاخيون سكان رومانيا والأرناؤود سكان مقدونية ولطالما حاربوا في هذا السبيل وقد احتلت النمسا البوسنة والهرسك احتلالا عسكريا سنة1878 ثم أعلنت ضمها إليها عقيب إعلان الحكم العثماني في السلطنة العثمانية واستقلت الصرب عنا سنة1878 - 1882 والجبل الأسود سنة1878 واستقلت بلغاريا سنة 1878 - 81 - 85 - 1989 واستولت على الروم إيلي

الشرقي سنة1886 واستقلت اليونان سنة1830 بعد أن حكمها العثمانيون نحو أربعة قرون وذلك بتدخل فرنسا وانكلترا وروسيا إذ ذاك وبعد تحطيم أسطولنا في وقعة نافارين سنة1827 وفي معاهدة برلين أصلحت التخوم اليونانية من جهة الشمال. هذه هي البلاد التي نشبت فيها الحرب البلقانية الأخيرة وبينا كانت أنظار العثمانيين متجهة إلى إفريقية في الخريف الماضي (1330هـ - و1912م) ليروا ماذا يكون مصير طرابلس وبرقة أو ليبيا التي داهمت إيطاليا سواحلها بأساطيلها ورجالها واستولت عليها وأرادت أن تتوغل في داخلية البلاد فأخذ العرب من أهلها والنزر القليل من الحامية العثمانية فيها يناوشون العسكر الإيطالي القتال والعالم الإسلامي متأثر لهذا الاعتداء والعارفون موقنون بأن سهم القضاء نافذ في ذاك الإقليم العظيم لا محالة (المقتبس م6 ص672) أعلنت الحكومات البلقانية على العثمانية الحرب في الروم إيلي فقطع الجبل الأسود علائقه مع دولتنا في 8 تشرين الأول وعملت بلغاريا كذلك في 14 منه وفي17 أعلن الحرب علينا كل من حكومتي الصرب واليونان فأصبحت بلاد الروم إيلي محصورة من الشمال والجنوب ومن البر والبحر ولم يبق للحكومة العثمانية صلة بها إلا من الشرق فقطع البلغار هذا الطريق أيضا باستيلائهم على جسر مصطفى باشا وقرق كليسا ولولو برغاس ودده اغاج على ساحل البحر الأبيض واضطرت جيوشنا إلى التقهقر إلى حصون جتالجة من ضواحي الأستانة واستولى اليونان على يانيا وسلانيك والصرب على مناستر وقصوصوة والجبل الأسود على ايبك. فلما رأى رجال الارناؤد أو الألبان هذه الانتصارات أبوا أن يقاتل قومهم ورأوا أن استقلالهم ببلادهم والتزامهم الحياد ريثما تنفرج الأزمة أسلم لهم فامتنعوا عن الاشتراك مع العثمانيين في قتال البلقانيين بل أن الجند من أبنائهم الذي كان مع جال حاميتنا ركن إلى الفرار في وقت واحد يحمل أسلحته وذخائره. وكان من أثر ذلك فشل العثمانيين في الروم ايلي فشلا لم يصابوا بمثله في تاريخهم ولو عاون الألبان جيوش الدولة من الشمال بقتالهم الصرب والجبل الأسود ومن الجنوب بكف عادية اليونان لما وفق الحلفاء البلقانيون الأربعة إلى نزع خمس ولايات من أهم ولايات السلطنة في الروم ايلي.

انتهز الألبان هذه الفرصة وكان بعض المنورين من سكان جنوب ألبانيا يتناغون بالاستقلال سرا حتى أن حكم العثمانيين كان اسميا على معظم ألبانيا وأرباب الزعامة يتولون أمرها في الحقيقة فإنه منذ حارب اسكندر بك أحد قدماء زعمائهم جيوش الدولة أربعين سنة ما برحت الفتن تنشب بين الألبان والأتراك وآخرها عصيان لهم سببه استئثار علي باشا التبه دلتلي والي يانيا المتوفي سنة1822 ثم حرب سنة1830 فسنة1843 فسنة1879 فسنة1887. يقول أحد من شهدوا الوقائع من الضباط أنه لما بدأت الحرب كان الأرناؤد يحاربون الأعداء باستبسال عظيم في برشتنة ومترويجة وايبك وغوسينة وبلاوة وأول معركة نشبت في بلاج وكانت قوة الأعداء هناك مؤلفة من فرقتين صربيتين وخمس بطاريات وقوتنا المقابلة لها طابوران من النظامي وطابوران من رديف الأرناؤد وهما من كيلان وبرشوة وبطارية واحدة سريعة الطلق وقد برهن هؤلاء الجنود على شجاعة واستبسال يعليان شرف العثمانية لأنهم ثبتوا أياما أمام قوة بلغ عددها أربعة أمثال عددهم حتى فني جنود طابوري كيلان وبرشوة عن آخرهم وعسكر الأرناؤد الذين يؤلف منهم طابور كيلان كان عددهم ألف وخمسمائة جندي لم يبق منهم غير خمسة عشر جنديا انقطع عنهم المدد ومع ذلك لم يحولوا وجوههم عن مقابلة الأعداء وحاربوا الصرب إلى أن فنوا عن آخرهم وظلوا في أيانيا واشقودرة يدافعون عن الراية العثمانية حتى الرمق الأخير. كانت حجة البلقانيين في هذه الحرب إصلاح حال إخوانهم في مكدونية وتراكيا من البلغار والصرب واليونان ورفع المظالم والمغارم عنهم. وشعر الكنت برختولد وزير النمسا والمجر بما تم من اتحاد هذه الحكومات الأربع على العثمانية فنصح للدولة قبل الحرب بستة أشهر أن تبادر بمنح اللامركزية الإدارية للروم ايلي لئلا تكون حجة لحكومات البلقان وبنا كانت الحكومة العثمانية تفكر في إعطاء ما يشبه هذه الصورة في الحكم للولايات العثمانية جمعاء انقض البلقانيون على بلادنا الروملية واستباحوا حماها واستصفوها وعبثا قاتل جنودنا في الذب عن ذمارهم حتى إن أدرنة التي قاومت البلغار والصرب أشهرا لمناعة حصونها عادت فسقطت في أيدي البلغاريين وكل محصور مأخوذ.

نسي الصربيون واليونان والبلغار ما كان بينهم من الأحقاد القديمة التي يرد عهدها إلى الدولة البيزنطية ولطالما كان يلقى الشقاق بينهم وكذلك تفعل النمسا مخافة أن تتحد كلمتهم علينا ومن لا يذكر أن البلغاريين والصربيين تقاتلوا قتالا شديدا سنة 1885 وأن الأحقاد والثارات كانت دائمة متبادلة بين البلغار واليونان في مكدونيا والاختلاف بين الصرب والجبل الأسود كل يوم في شأن ولطالما كان البلغاريون والصربيون على الحياد عندما يحارب العثمانيون اليونانيون. من يذكر هذا يستعظم تحالفهم الذي تم على يد فرديناند ملك بلغاريا وباشيش وزير الصرب وفنزيلوس وزير اليونانية وكانت بلغاريا منذ سنة1907 والصرب منذ سنة1908 عام ضمت النمسا ولايتي البوسنة والهرسك نهائيا إلى ملكها واليونان منذ سنة1909 تبالغ في ابتياع الأسلحة والبارود والذخائر مبالغة لم تعهد. بينا كان البلقانيون يعدون كل ذلك كانت الحكومة العثمانية مستغرقة بالفتن الداخلية كاليمن وألبانيا وحوران والكرك أولا ومسألة طرابلس الغرب مؤخرا وضباط الجيش إلا قليلا يتركون تمرين الأجناد ويصرفون أوقاتهم في الأندية السياسية فصادف أن الطابور المؤلف من ثمانمائة جندي ليس فيه أكثر من خمسة ضباط يقضون أكثر أوقاتهم في غير وظائفهم على حين كان فيه قبل أن تجري الحكومة تقاعد كثير من قدماء ضباط الجيش نحو ثمانية عشر ضابطا مدربا في الجملة ومن أسباب الفشل قلة الطعام والبرد القارس وبعد البلاد عنا وانقطاع مواصلاتها باستيلاء العدو على الخطوط الحديدية وأهم المراكز الحصينة كما صرح بذلك أحد كبار رجال الجندية في الدولة والسبب الرئيسي في الحقيقة وأن جنديا في الغالب لا يعرف السبب الذي يقاتل من أجله والجند الصربي والبلغاري واليوناني والجبلي متعلم مستنير بفهم معنى الوطنية في الجملة ومن لم يفهمها منهم يأتيه رجال الدين فيلقون في روعه ذروا من الحماسة الدينية فيستميت في القتال. نعم كان لدعاة الدين في تراكيا ومكدونية يد طولى في بث الدعوة السياسية كما أن كهنة الطليان بثوا دعوتهم في بعض الولايات المتاخمة لبلادهم من بلاد الأرناؤد وسعى مثل هذا السعي البلغار والصرب فجاءوا من طريق التعليم كما هي عادة الفاتحين من الغربيين اليوم يرسلون المعلمين مبشرين ومنذرين أولا ثم يبعثون بالبعوث ويكتبون الكتائب. وكان لاستقلال بطريرك اليونان عن بطريرك القسطنطينية وبطريرك البلغار عنه أيضا دخل

كبير في نشر كلمة الاختلاف وتقوية البغض للدولة العلية ولذا كانت حالة المسلمين في بلاد رومانيا والبوسنة والهرسك أقرب إلى الراحة منها في بلاد البلغار واليونان والصرب الذين ينام أهلها ويستيقظون في كراهة العثمانيين منذ القديم. صرفت الدولة نحو خمسين سنة في فتح الروم ايلي وحكمته نحو خمسمائة سنة ومع هذا لم توفق في نشراتها ولا دينها على ما يجب وظل الألباني على ألبانيته والبوشناقي على بوشناقيته والبلغاري على بلغاريته والصربي على صربيته واليوناني على يونانيته والروماني على رومانيته وكل شعب يعتصم في جباله وقيعانه وينازع الحكومة السلطة وهذا هو عين الغلط في الاستيلاء على بلاد والاكتفاء منها بالخضوع الظاهري وعدم السعي في تمدينها وتعليمها التعليم النافع ولطالما كانت بلاد البلقان ميدانا للقتل والقتال تباع فيها الأرواح كما تباع السماح وأن سهل قوصوة على حدود بلغاريا والصرب والبوسنة ليجأر إلى السماء شاكيا من الدماء التي طالت فيه مرتين بين العثمانيين والبلقانيين ولطالما كانت أسوار بلغراد وفينا واقية لأواسط قارة أوربا من هجمات المهاجمين من العثمانيين. نشبت الحرب بين الجيوش العثمانية وجيوش الحكومات المتحالفة في 17 تشرين الأول 1912 وعقد الصلح في 29 أيلول 1913 وهلك في الوقائع من الطرفين عشرات الألوف وأنفقوا من الأموال مئات الألوف من الدنانير وقدر بعض الإحصائيين أن ما خسرته العثمانية من جيشها يبلغ نحو مئة ألف بين قتيل وجريح وأنفقت ثمن ذخائر ومعدات وغيرها نحو ثمانين مليون جنيه وأن بلغاريا فقدت م جيشها 140 ألف بين قتيل وجريح و90 مليون من الجنيهات والصرب70 ألفا من النفوس و50 مليونا من الجنيهات واليونان30 ألفا و25 مليونا والجبل الأسود ثمانية آلاف نفس ومليون جنيه ولا يدخل في هذا الإحصاء ما فقده السكان في البلاد التي كانت ميدان الوغى حولا من الزمن وقد قام البلغار بفظائع مع أهل تركيا ومكدونية من المسلمين واليونان اشمأزت منها الإنسانية والمدنية وذلك عندما تراجعت صفوفها يوم أرادت عقيب النجاح الباهر الذي صادفته في الحرب الأولى عندما كانت تحارب العثمانيين من جهة ويحاربهم من أخرى اليونان والصرب والجبل الأسود ولما طمعت في الاستئثار بالغنيمة أو بأطايبها عادت حليفاتها فأنفقت عليها مع رومانيا واصلتها حربا عوانا سلبتها به قسما من البلاد التي كانت كانت

لها واستعاد العثمانيون منها مدينة أدرنة وكان باسترجاع العثمانيين لهذه الحاضرة وقرق كليسا أن ربحوا أرضا واسعة لا يقل عرضها عن45 كيلو مترا ولا يقل طولها عن120 كيلو مترا وأهم من ذلك امتلاك الخط الحديدي من أدرنة إلى ديموتقة وإبعاد الحدود عن العاصمة واستبقاء بعض المواقع الحصينة في يد الدولة ولا يكلفها تحصينها كثيراً. ولكن خرج معظم المسلمين في الروم ايلي من الحكم العثماني وانتقلوا إلى الحكومات الأخرى البلقانية وكان ند الصرب كمية من المسلمين حوالي نيش وعند اليونان حفنة من إقليم تساليا وعند رومانيا في إقليم دوبريجه فأخذت رومانيا من بلغاريا في حربها الأخيرة على ما ورد في معاهدة بكرش بين البلقانيين كمية وافرة من المسلمين البلغاريين فاجتمعت لرومانيا كتلة عظيمة من المسلمين في بقعة واحدة. وقسمت بعض الصحف الإنكليزية الخطيرة عناصر سكان الولايات الخمس التي خرجت عن الحكم العثماني وأديان أهلها كما يلي: (1) ولاية قوصوة: عدد سكانها 908915 منهم 89350 مسلماً تركياً و13680 مسلماً بلغارياً و251800 أرثوذكسي بلغاري و112870 أرثوذكسياً صربياً و150 أرثوذكسياً يونانياً و910 أرثوذكس رومان و418250 مسلماً ألبانياً و21905 لاتينياً يهودياً. (2) ولاية أشقودرة: عدد سكانها 322000 منهم 12000 مسلماً تركياً و80000 مسلم ألباني و40000 مسلم صربي و140000 كاثوليكي ألباني و30000 أرثوذكسي صربي و10000 أرثوذكسي روماني و10000 إسرائيلي. (3) ولاية يانيا: عدد سكانها641000 منهم180000 مسلم ألباني و110000 أرثوذكسي ألباني و120000 أرثوذكسي بلغاري و110000 أرثوذكسي يوناني و180000 أرثوذكسي روماني و110000 كاثوليكي ألباني و13000 يهودي. (4) ولاية مناستر: عدد سكانها 846000 منهم111500 مسلماً تركياً و25900 مسلم بلغاري و218650 مسلم ألباني و330800 أرثوذكسي بلغاري و61930 أرثوذكسياً يونانياً و24700 من أديان مختلفة. (5) ولاية سلانيك: عدد سكانها 116539 منهم333440 مسلما تركيا و98590 مسلما بلغاريا و446050 أرثوذكسيا بلغاريا و168500 أرثوذكسيا يونانيا و24970 أرثوذكسيا

رومانيا و55320 يهوديا و38580 من أديان منوعة. وهذا الإحصاء قبل الحرب أو في خلالها ولكن الحرب حصدت كثيرا من السكان وشتت شمل الآخر ولاسيما من المسلمين الأتراك ويؤخذ من أحداث الإحصائيات التي نشرت عن تصفية حساب حروب البلقان في السنتين الماضيتين أن اليونان نالت النصيب الأكبر من الغنيمة وتلتها في ذلك الصرب فبلغاريا فرومانيا فالجبل الأسود فقد كانت مساحة اليونان قبل الحرب64657 كيلو متر مربعا وعدد سكانها2732952 نفسا فربحت في التصفية النهائية أملاكا مساحتها56611 كيلو مترا مربعا وسكانها1620000 نفس فصارت مساحتها كلها الآن121268 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها4352952 نفساٍ. وكانت مساحة الصرب قبل الحرب48303 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها2957207 أنفس فربحت في التصفية النهائية أملاكا مساحتها39047 كيلو مترا مربعا وسكانها1210000 نفس فصارت مساحتها كلها الآن87350 كيلو مترا مربعا وسكانها4167207. أما بلغاريا فكانت مساحتها قبل الحرب 96345 كيلو متراً مربعاً وسكانها 4329108 أنفس فخسرت في التصفية النهائية أملاكا مساحتها 7525 كيلو متراً مربعاً وسكانها 285757 نفسا وربحت أملاكا مساحتها 26257 كيلو متر مربعاً وسكانها 709646 نفساً فصارت مساحتها كلها الآن112077 كيلو متراً مربعاً وسكانها 4752997 نفساً. وكانت مساحة رومانيا قبل الحرب 131353 كيلو متراً مربعاً وسكانها 7248061 نفسا فربحت في التصفية النهائية أملاكا من بلغاريا مساحتها 7525 كيلو متراً مربعاً وعدد سكانها 285757 نفسا فصارت مساحتها الآن 138878 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها 7533818 نفساً. وكانت مساحة الجبل الأسود قبل الحرب 9080 كيلو مترا مربعا وسكانه285 ألف نفس فربح في التصفية النهائية أملاكا مساحتها 5876 كيلو متراً مربعاً وسكانها230 ألف نفس فصارت مساحته الآن 14956 كيلو متراً مربعاً وسكانه 515 ألف نفس. وتبلغ مساحة ألبانيا المستقلة الآن 32 ألف كيلو مترا مربعا وعدد سكانها 880 ألف نفس. الدولية العلية - كانت مساحة أملاك الدولة العلية في أوربا قبل الحرب 185160 كيلو

متراً مربعاً وسكانها 6997646 نفساً فبقي لها منها بعد الحرب الأولى بموجب معاهدة لندن 9168 كيلو متراً مربعاً سكانها 1623000 نفس ولكنها عادت فاستردت في الحب الثانية أملاكا مساحتها 16201 كيلو متراً مربعاً وسكانها 725000 نفس فصارت مساحتها الآن 25369 كيلو متراً مربعاً وسكانها 2348000 ألف نفس. وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية في الأملاك التي ربحتها كل مملكة من ممالك البلقان كالتالي: 631366 فدانا في بلغاريا و6919080 فدانا في اليونان و494220 فداناً في الجبل الأسود و1593859 فداناً في رومانيا و3706650 فداناً في صربيا و3835760 فدانا في العثمانية. ولكن جملة الأراضي الزراعية التي كانت في بلغاريا الأصلية وما أضيف إليها من الأراضي الزراعية في الأملاك التي ربحتها في الحرب نقصت نحو760 ألف فدان عما كانت عليه أولا وذلك لأن الأملاك التي اقتطعتها منها رومانيا كلها أراض زراعية والأملاك التي ربحتها هي في الحرب معظمها أراض بور. على أن عدد السكان في تلك الأملاك لا يثبت على ما ذكرناه آنفاً لأن كثيرين من البلغاريين في مكدونيا الصربية واليونانية هجروا أوطانهم إلى الأملاك البلغارية في تركيا وبلغاريا نفسها ولا يزالون يهاجرونها إلى الآن وسيستمرون على ذلك في المستقبل أيضاً على ما يظهر. وكذلك اليونانيين الذين في الأملاك الثمانية في تراكيا فإنهم يهاجرونها إلى الأملاك اليونانية الجديدة. والمسلمون في الأملاك الصربية واليونانية في مكدونيا فغنهم يهاجرونها إلى الأناضول. فلا يلبث والحالة هذه أن يحصل تغيير كبير في عدد سكان تلك الأملاك فينقص في بعضها ويزيد في بعضها الآخر، والمظنون أن معظم الزيادة سيقع في الأملاك البلغارية لكثرة البلغاريين الذين يهاجرون إليها من الأملاك المصرية واليونانية في مكدونيا. أما الأموال التي أنفقتها بلغاريا على حربها مع الدولة العلية أولاً ومع حليفاتها ثانياً فقد قدرها أحد أساتذة جامعة صوفيا كالتالي 12400000 جنيه اعتمادات أصلية وستة ملايين جنيه تجهيزات ومليون جنيهاً عجز في الإيرادات بسبب الحرب وستة ملايين جنيه لأجل مون وأجرة نقل و7200000 جنيه لأجل سكك حديد حربية وشؤون أخرى تختص بالتحصين و16 مليون جنيه رأس مال لرواتب الجنود الذين أصيبوا في الحرب بعاهات

أقعدتهم عن العمل وتحصيل رواتبهم و60 مليون جنيه ثمن الأراضي التي اضطرت بلغاريا أن تتنازل عنها لرومانيا وجملة ذلك 109600000 جنيه. رأى القارئ مما سلف أن مساحة البلاد التي استقلت وسميت ألبانيا قد بلغت 32 ألف كيلو متر مربع ولا يبلغ سكانها أكثر من880 ألفا ولا تزال الفتن قائمة على ساق وقدم بين الأرناؤود واليونان يريد الأولون أن يستخلصوا من مقاطعة أبيروس من بقي من أبناء عنصرهم وإلى كتابة هذه السطور لم يتم شيء بين الفريقين وغاية ما جرى أن أوربا عينت لألبانيا حاكما مسيحيا هو الأمير فيد من أصل ألماني وأهم البلدان التي وقعت في حصة ألبانيا الحديثة هي دراج وايلبصان وأشقوردة وتيران وأولونية وبرات واركري وكوريجة وياقوة وبرزرين. إن الجزر العثمانية التي استولت عليها إيطاليا واليونان خلال الحرب الطرابلسية والبلقانية فلا يزال أمرها مجهولا والمفاوضة دائرة بشأنها والغالب أننا نستعيد بعضها خصوصا ما كان بيد إيطاليا فإن المعاهدة التي جرت بينها وبين الدولة العثمانية على طرابلس وبرقة تقضي بجلاء الطليان عن هذه الجزر وربما تستريح البلاد التي أخذتها من الفتن وتستدعي العثمانية آخر من لها من الجند والمقاتلة هناك وكذلك الجزر التي وقعت في قبضة اليونان فإنه يرد علينا منها ما كان ضروريا للدفاع عن شواطئنا ولاسيما عن خليج الأستانة. هذه بلاد البلقان وسكانها وأديانها وحربها والباعث إليها ونتيجتها استندنا في كتابتها على مصادر كثيرة ليرجع إليها عند الحاجة وتفيد في التاريخ الحديث فإن حربها الشؤمة الأخيرة من أفظع ما عهد من الحروب الحديثة التي تخرب العامر والغامر وتضر بالمغلوب والغالب بما تجلب من الولايات على الأسرات فيتراجع العمران ويقل نسل الإنسان.

السيد جمال الدين القاسمي

السيد جمال الدين القاسمي تلد الولادات كل يوم أولادا وتطوي الأرض أناسا لا يحصي عددهم غير خالقهم ولكن من يؤثرون الأثر النافع فيذكرون في حياتهم وبعد مماتهم أقل من القليل وأقل منهم في أهل هذا الشرق التعس وفي أهل الإسلام خاصة وذلك لأن العلم الإسلامي بعد أن هبت أعاصير الاختلافات في القرون الوسطى وحاربت حكومات تلك الأيام رجالات المعقولات وأحرار الأفكار ضعف مستوى العقول لأنها لم تطلق لها العنان وتقاصرت الهمم لأنها لم تجد منشطا فقل جدا النابغون النابهون. وما ننس لا ننس ما وقع لشيخ الإسلام بل لعالم السنة وإمام الأئمة ومجدد شباب الحنيفية السمحاء تقي الدين بن تيمية فقد عذب في القرن الثامن سنين كثيرة في سجون القاهرة والإسكندرية ودمشق وناله من أذى أدعياء العلم في عصره حسدا منهم لمكانته ما يبكي تذكره المقل ويهون بعده كل اعتداء على العلماء ينالهم من أهل الحشو والجمود. ومن قرأ تاريخ رجالنا في القرون الثلاثة التالية أي في القرن الثامن والتاسع والعاشر أو القرون الثلاثة التي سبقتها أي الخامس والسادس والسابع يعرف أن كثيرين قضوا شهداء أفكارهم وعذبوا وأوذوا في سبيلها لأنهم رأوا غير ما رآه العلماء الرسميون ومن الأهم من أرباب الزعامات في أيامهم. ومنذ اضطر مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في القرن الخامس أيهجر العراق تخلصا من حاسديه الذين لا يعدمون عندما تصح إرادتهم حجة للاستعانة بالسلطة الزمنية للنيل ممن أربى عليهم وإيقاف نيار أفكاره إلى عصر ابن تيمية الذي ناله ما ناله في مصر والشام حتى قضى في سجن دمشق شهيد الإصلاح إلى أن جاء القرن العاشر والذي يليه من القرون وقد أصبحت العلوم رسمية والمدارس صورية والأوقاف المحبوسة على العلماء مأكولة مهضومة - منذ جرى كل هذا والأمة لا تكاد تفرح لها بعالم حقيقي يكسر قيود التقليد ويقول بالأخذ من كل علم فندر النبوغ لأنه ندر أن يلقى العالم ما ينشط عزيمته وكان قصارى من تسمو به الهمة إلى أخذ نفسه بمذاهب التعلم والتعليم أن يقتبس من كتب الفروع ما لا يخرج به عن مألوف معاصر به ومن حكم عقله في بعض المسائل كان اتهامه بأمانته من أيسر الأشياء وطرده من حظيرة الحظرة لدى العامة ومن سموا أنفسهم بالخاصة من الأمور المتعارفة أما التضليل والتفكير والتبديع والتنسيق فهذا لا يخلو منه عالم يريد أن

يخرج بالناس من الظلمات إلى النور. ولكن إرادة المولى سبحانه قضت بأن لا تحرم هذه الأمة من أعلام يصدعون بالحق فيجددون لها أمر دينها ويستطيبون الأذي في إنارة العقول والرجوع بالشرع إلى الحد الذي رسمه الشارع وأصحابه والتابعون والأئمة الهاديون المهديون ومن هؤلاء المجددين نابغة دمشق فقيدنا العزيز السيد جمال الدين القاسمي الذي يعرفه قراء هذه المجلة بما نشره في سنيها الماضية من آثار علمه وأدبه فقد قضى حياة طيبة ولم يعقه عن الاشتغال ما لقيه من تثبيط المثبطين في أول أمره وتنغيص الحاسدين في أواسط عمره ممن لا يخلو نمهم مصر ولا عصر خصوصا في بلاد يستمد منها كل شيء من ولاة أمرها. نشأ السيد القاسمي من بيت فضل وفضيلة وكان والده وجده من المعروفين بالأدب ومكارم الأخلاق وهذا من النوادر في عصر لا يكبر رجاله في العيون إلا على مقدار عدهم في صفوف أهل الرسم وفي دور قل أن ينجب فيه ولد لنجيب فصم أو تصامم منذ أوائل سن التحصيل عن كل ما يقف عثرة في سبيل الطالب فكان منذ وعى على نفسه يعمل على تهذيبها ولا يكاد يمضي عليه يوم لم يستفد منه فائدة ولم يقيد شاردة فظهرت عليه مخايل النبوغ ولما يبلغ العشرين فما بالك به وقد نيف على الأربعين وقارب أن يتم العقد الخمسين. جماع الأسباب التي نجح بها فقيدنا طهارة نفسه من المطامع الأشعبية وشغفه بالعلم للذته ونفعه في إنارة القلوب واعتقاد أنه منج في الدنيا والآخرة فهو لم يجعل الدين سلما إلى الدنيا وجسرا مؤقتا يجتاز عليه لحيازة مظهر خلاب والتصدر في المجالس بفاخر الهندام وبراق الثياب بل فرغ قلبه ووقته للعمل النافع فبورك له بساعات عمره القصير ويا للأسف. ولو عددنا ما كتبه من مصنفاته وقسناه بالنسبة لهذا العصر الذي أضحت فيه بضاعة العلم مزجاة بائرة لما قل عن اللحاق بالمكثرين من التأليف في المتأخرين أمثال العيوطي وابن السبكي وإضرابهما مع ملاحظة ما بين العصور والبيئات من الفوارق. تذرع الفقيد بعامة ذرائع النفع لهذه الأمة فكان إماما في تآلفه الوفيرة إماما في دروسه الكثيرة إماما في محرابه ومنبره ومصلاه رأسا في مضاء العزيمة رأسا في العفة وهذه الصفة هي السر الأعظم الذي دار عليه محور نبوغه لأنه لو صانع طمعا في حطام الدنيا

لما خرج عن صفوف أهل محيطه ولكان عالم وسطا يشتغل بالتافهات ويعيش في تقية ويموت كذلك. كان أجذل الله ثوابه إذا لقيه المماحك في أحد المجامع عرضا أو غشيه في درسه وبيته ناقدا أو ناقما علمه م حيث لا يشعر وهداه إلى المحبة بلين القول فإذا أيقن أنه من المكابرين المموهين أعرض عنه وقال سلاما ولذلك لم يلق ما لقيه أشداء العلماء والفلاسفة في العصور الماضية مت الإرهاق والإعنات أمثال ابن حزم الأندلسي والشهاب السهروردي لأنه كان يتلطف في المناظرة وإقناع المخالف فإذا رأى المناقش بمعزل عن الفهم سكت عنه. نعم كان مثال التلطف في بث الفكر فلم يصك به - كما قيل - معارضة صك الجندل وينشقه متلقنه انتشاق الخردل. قام الأستاذ في دور زهد الناس فيه في العلوم الدينية إلا قليلا فأعاد إليها في هذه الديار بنور عقله شيئا م بهائها السابق ولقد كان يجتمع به الموافق والمخالف فما كانا يصدران عنه إلا معجبين بعقله مقرين بفضله معترفين بقصور كثير حتى من المشاهير عن إدراك شأوه: يخلب الألباب ويستميل العقول فكأنه خلق من معدن اللطف ورقة الثمائل. لم تجد الغلظة سبيلا إلى قلبه ولا الفظاظة أثرا في كلامه وقلمه ولا عجب إذا كثر في آخر أمره أنصاره وعشقته النفوس فأكبرت الخلب فيه. جاء في الأثر لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه. دخل عبد اللطيف البغدادي فيلسوف الإسلام على القاضي الفاضل فقال: رأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه. وهذا التعريف يصدق من أكثر وجوهه على الشيخ القاسمي فإنه كان نحيل الجسم كبير الروح ولو تهيأ لجمال الدين مثل صلاح الدين لسرت أفكاره أكثر مما سرت وراقت أسفاره أكثر مما وفق إليه ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد. وقديما زكا غرس العلم في الشرق في ظل الملوك والأمراء واليوم يزكو في الغرب في حمى الجامعات والمجامع والجمعيات. والعلم مذ كان محتاج إلى العلم. برز الفقيد الراحل وأي تبريز في علوم الشرع وما إليها ولم يفته النظر في علوم المدينة

فألم بأكثرها إلماما كافيا لتكون له عونا على فهم أسرار الشريعة أما وقد جمع الفضيلتين فلا تجد لكلامه مسحة من الجمود المعهود لكثيرين ممن يقتصرون على العلم والعلمين ويعدون ما عداهما لغوا. فهو عالم ديني كامل ولكنه كان يقرأ العلوم المدنية ويطالع صحفها ومجلاتها وكتبها الحديثة كما يطالعها المنقطعون إلى هذه العلوم وزيادة ولا ينكر شيئا يقال له علم أو فن ولذلك لم يمجه العصريون ولا غيرهم. ربما قال من لم يعرف أن هذا كلام صديق فجع بصديق تسلسلت الصداقة بين بيتيهما منذ نحو ثمانين عاما وعين الحب ومداء أما أنا فلا أحيل المعترض إلا على الرجوع إلى كتب الشيخ وقراءة بعض ما طبع منها وتحكيم العقل والإنصاف وأنا الضامن بأنه لا يلبث أن يساهمني قولي ويوقن بأن المرحوم جود تآليفه التي تنم عن عقله وعلمه أكثر مما جودها كثير من متأخري المؤلفين من بعد عصر السيوطي ممن شهد لهم بالإجادة ولو سمحت له الحال أكثر مما سمحت ومتع بحرية القول والعمل أكثر مما متع لجاء منه أضعاف ما جاء ولكن ضيق العيش وضيق المضطرب لا يرجى منهما أكثر مما تم على يد فقيدنا العظيم من الأعمال والآثار وقد أغلقت دونه أبواب الدواعي والبواعث رحمة الله وبارك لنا قيمن خلف من مريديه ومعاصريه ومن ساروا بسيرته حتى لا تقع على مضمون الحديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وقد كتبنا في تأبين الشيخ غداة وفاته في جريدة الإصلاح ما نصه: لا تحضرني عبارة تشعر بمبلغ الحزن الذي نال دمشق بفقد عالمها الكبير وأستاذها العالم التحرير فقد كان أحد أفراد هذا العصر المعدودين في التحقق بأسرار الشريعة. وهو ولا مراء عالم الكتاب والسنة بلا مدافع خلق ليعمل على بث الدين المبين خاليا من حشو المتأخرين الجامدين وتضليل المخرفين والمعطلين. لم يكد فقيدنا العزيز يطرق هذه الموضوعات ويهيب بالناس إلى الأخذ بمذاهب السلف ويتلطف في إبلاغها العقول المظلمة في دروسه وتآليفه حتى أخذ بعض أهل الجمود يغتابونه ويحذرون عوامهم بدون برهان من الأخذ عنه ولكن ظلمه تقليدهم ما لبثت أن انقشعت بنور اجتهاده وتراجع أمر خصومه بعد قليل وقد بهر الناس فضله وعلمه وأنشأ

بعد أن كان يزيفون أقواله في مجامعهم الخاصة والعامة يتبعون أقواله المدعومة بالسنة الصحيحة ومذاهب الأئمة. وأكبر دليل على ذلك ما شهدناه يوم مشهده الأخير من إجماع من كانوا خصومه أمس على أعظام الخطب فيه والإقرار له بفضائل كانوا يغمطونه إياها ولكن المعاصرة حرمان. رأيت رجالا كثيرين من أهل الإسلام وغيرهم وفي مصر والشام خاصة أر همة تفوق همة صديقي الراحل ولا نفسا طويلا على العمل ودؤوباً عليه أكثر منه ولا غراما بالإفادة والاستفادة ولا حبا بالعلم للعلم فقد قضى عن49 عاما وخلف ما خلف من عشرات من مصنفاته الدينية العصرية النافعة منها تفسيره الذي لم يطبع ومنها مقالاته الممتعة وأبحاثه المستوفاة وأثر في عقول كثير من الطلبة تخرجوا به وأخذوا أحكام الحلال والحرام عنه دع دروس وعظة للعامة وحلقات خاصته ومع كل هذا كان حتى الرمق الأخير أشبه بطالب يريد أن يجوز الامتحان لنيل شهادة العالمية. وكلما كان يوغل في طلب المزيد من العلم والتحقيق تراه آسفا على عدم إشباع أبحاثه حقها أحيانا من النظر البليغ. رزق الصديق العلامة صفات إذا جمع بعضها لغيره عد قريع دهره ووحيد عصره فقد كان طلق اللسان طلق المحيا وافر المادة وافر العقل سريع الخاطر سريع الكتابة جميل اعهد جميل الود. وكان بلا جدال جمال الدين والدنيا ما اجتمع به أحد إلا وتمنى لو طال بحديثه استمتاعه ليزيد من الأخذ عنه والتشبع بفضائله والاغتراف من بحر علمه. وبينا كنت ترى الأستاذ على قدم السلف الصالح عالما كبيرا بين الفقهاء والأصوليين والمحدثين والمفسرين إذا هو من الأفراد المختصين بالأدب وما يتعلق به وبينا تراه يؤلف ويطبع إذا بك تراه يواظب على تدريس طلبته ووعظ المستمعين في دروسه وخطبه ومع كل هذه الأعمال التي يكون منها انقباض في صدر العامل تراه يهش ويبش كل ساعة ويفسح من وقته شطرا ليغشى مجلسه أولياؤه وأخلاؤه وطلاب الفوائد منه. فهو علامة بين العلماء منور ممدن بين المنورين بنور المدنية الصحيحة ذهب مثال الرجل الصالح عفيف الطعمة لم يسف إلى ما يسف إليه بعض من يتذوقون قليلا من المعارف وما أنكر إلا المنكر ولا أمر إلا بالمعروف ومن ضيق ذات يده كان يتصدق في السر ولا يخلو ساعة من عبادة وذكر وما فقده جلل على دمشق بل على الشام بل على أهل الإسلام

وشهرته التي نالها في العالم الإسلامي في هذه السن من الكهولة هي مما استحقه أو أقل مما يستحقه لأنه حقيقة العالم العامل الذي يحبب الدين حتى لمن لم يتدين حياته فاللهم عوض المسلمين عن هذه الدرة اليتيمة التي أصيبوا بها وارحمه عداد حسناته وارزقنا الصبر عليه وجميع أسرته وأحبابه الذين فجعوا به. قال صديقنا جرجي أفندي الحداد في رثاء الإمام فقيد الشام والإسلام: أجمل عزاءك فالمصاب جليل ... والدمع في خطب الإمام قليل جل الأسى يا قوم فاصطبروا له ... صبر العظام على العظيم جميل قد كنت أول من يزيل دموعه ... لو كان يشفى بالبكاء غليل جزعت دمشق وقد رأت علم الهدى ... يلوي به عادي الردى فيميل وإلى ظلام القبر يحمل نعشه ... والفضل في أعواده محمول واستشعرت أرض العراق كآبة ... والهند خامرها الأسى والنيل وبكى أفاضلها على رجل قضى ... في أمة فيها الرجال قليل ومجاهر بالحق ليس يصده ... قال تردده الوشاة وقيل أين التقية من صراحة صادق ... لا الجور يرهبه ولا التنكيل هو للحقيقة نثرة محبوكة ... وعلى الضلالة صارم مسلول لولا مجاهرة الهداة بهديهم ... في الناس ما نفع الأنام رسول أودى القضاء بعالم ومحدث ... يستأثر الألباب حين يقول بين المحابر والمنابر يومه ... يفنى ويحيي ليله التحصيل ملكت قلوب الناس منه شمائل ... رقت فتحسب أنهن شمول وإذا جلست إليه أسفر وجهه ... وبدت عليه بشاشة وقبول وجه يصون عن التبذل ماءه ... فيكاد من فرط الحياء يسيل عن الفضيلة بالإمام وآسها ... فشجونها من بعده ستطول وافى يشيد صرحها وربوعها ... لعب الفساد بهن فهي طلول وتصدرت للعلم غير رجاله ... فاعتز غر واستطال جهول قد حكموا أوهامهم وتحكموا ... فالعقل في ربقاتها مكبول

في كفهم نعم الحياة وبؤسها ... وإليهم التحريم والتحليل ولو أنهم عمدوا إلى التحقيق لم ... يتعارض المعقول والمنقول جمدوا احتفاظا بالقديم وليتهم ... نجحوا فلم يعبث به التبديل نرضى القديم لو ارتضوه كما أتى ... في الوحي لما أنزل التنزيل والناس من نزعاتهم في ظلمة ... لم يبد فيها للصباح دليل ضاقت مذاهبهم وضل صوابهم ... وعدت عليهم فترة وذهول ما ضيق الدين الحنيف مذاهباً ... بل ضيق التحريف والتأويل نهض الإمام بردعهم عن قومه ... والقوم منهم عاذر وعذول بقريحة وقادة وعزيمة ... تمضي وفي حد الحسام فلول واختار شأن المصلحين وأنه ... عبء تنوء به الرجال ثقيل نم يا جمال الدين غير مروع ... إن الزمان بما ابتغيت كفيل فستعرف الأجيال فضلك في غد ... إن كان لم يعرفه هذا الجيل

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الصناعة المصرية أصدرت إدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري في مصر نشرة تخص فيها على إحياء فنون الصناعة المصرية قالت فيها: من أجمل مظاهر هذا العصر في مصر هو ما يزدان به من المصنوعات اليدوية على اختلافها. فما صناعة النسيج والصياغة والحفر على الخشب وعمل الأثاث (موبيليات المنازل) وصناعة المعادن والزخرف والتطريز إلا قليل من كثير من الصنائع المهمة المنتشرة في أمهات المدن بالقطر المصري فيسهل على من يحترف بهذه الفنون الصناعية وكثير ما هم في أنحاء البلاد أن يجد مجالا للعمل في معظم القرى ولئن كانت المصنوعات التي يعملونها جميلة جدا في كثير من الأحوال إلا أن القيام بإتمامها على درجة من الإتقان والكمال ربما كان في غالب الأحيان بحالة لا يستحسنها الذوق فضلا عن أن تدرجها في مراقي النجاح سائر سيرا بطيئا يصعب معه وجود المنافسة والمزاحمة بينها وبين المصنوعات الأوربية. ويظهر أن أنواع الصور والأشكال التي تستعمل في كثير من الفنون الصناعية قاصر على أشكال خاصة بتكرر وضعها طبقا للنماذج دون ابتكار أي تغيير فيها أتحسين. على أن نتائج الأشغال التي يقوم بها الصانع الجاهل بفن الرسم لا أثر لها سوى الانحطاط التدريجي الذي يذهب برونق الأشكال وجمالها وهذا هو السبب الحقيقي في قصور التنسيق المشاهد في أنحاء القطر المصري ورداءته. ولقد أنشئ بمدرسة الفنون والصنائع الخديوية ببولاق قسم الصناعية والزخرف منذ أربع سنوات وذلك رجاء الحصول على الغرض المقصود وهو تحسين الصناعات الوطنية وترقيتها والغرض من هذا القسم تعليم الطالب تعليما عاما في الرسم والتلوين والتصميم ليحصل على المعلومات العملية الكافية لتعلمه صناعة يدوية خاصة ليتسنى له الوقوف على دقائقها وما شاكل ذلك فيستطيع ابتكار الأشكال الأصلية اللازمة إليها، لذلك يتلقى الطلبة فيه طرائق حسن الاستنباط بحالة أفضل وصورة أسرع ولا يستعان بالآلات الأوربية إلا حينما تدعو الضرورة فضلا عن توجيه العناية إلى تعليمهم طرق الأشغال المحلية مع الالتفات إلى جعل أساس التعليم في الرسم التطبيقي قائما عل نقل ومحاكاة صور الزخارف العربية

والفارسية التي بالمساجد ودور الآثار. ويسوغ لكل طالب حائز للشهادة الدراسية الابتدائية الالتحاق بهذا القسم. أما المصروفات المدرسية فهي ثمانية جنيهات مصرية في السنة عن التلميذ الخارجي و16 عن التلميذ الداخلي. وتشتمل الدراسة التحضيرية على تعليم الأشغال اليدوية في فنون التجارة وعمل الأثاث والحفر على الخشب وأشغال التطعيم وأشغال صياغة المعادن وترصيعها بالجواهر وزخرفة المنازل والنسيج والصياغة. ومدة التعليم سنتان يتخصص الطالب بعدهما لإتقان فن من تلك الفنون الصناعية مدة سنتين أخريين قبل دخول الامتحان لنل الدبلوم. ولكي يحصل الطالب على المعارف العملية التي تستلزمها الحرفة التي يتخذها لا بد له من أن يمضي سنة أخرى في احد المصانع خارجاً عن المدرسة لاكتساب تلك المعلومات وفاقاً لما تدعو إليه أحوال التجارة عادةً. ولا تمنح دبلوم المدرسة إلا للطالب الذي نجح في الامتحان النهائي وأمضى كذلك مدة سنة في التمرين بحالة تدل على الرضا عن عمله من قبل أصحاب المحل الذي اشتغل فيه. وان الطلبة الذين يرغبون الدخول في معترك الحياة التجارية في أي نوع من أنواع الصناعات بالقطر المصري ليجدون في هذا القسم من مدرسة الفنون ووالصنائع الحيوية ميزة خاصة لتؤهلهم لإدخال التحسينات الصناعية واستنباط المبتكرات الجديدة في صنائعهم. هذا فضلاً عما يجدون في القسم المذكور من الفرصة التي تجعلهم على بصيرة من طرق الصناعة بحيث يتمكنون في النهار من فتح وإدارة مصانع خاصة بهم. فالقطر المصري في حاجة شديدة إلى قادة في الصناعة والأمل وطيد في حرص الشبيبة المصرية على اغتنام الفرصة السانحة لهم بقسم الفنون الصناعية بمدرسة الصنائع ببولاق حيث يرتشفون مناهل التعليم فيه ليأخذوا على عاتقهم القيام بقسط وافر من جلائل الأعمال الشريفة التي ترتقي بها موارد الثروة في الديار المصرية ويعاونون على جعل مركزها الصناعي والمالي قائما على أساس متين. نعم أن سعادة البلاد تتوقف في الوقت الحاضر على حالتها الزراعية ومن ثم كانت قيمة

الواردات السنوية من المصنوعات الأوربية عظيمة جداً. على أنه ليس ثمة ما يمنع المصريين من القيام بصنع تلك المصنوعات تحت إشراف الماهرين من الصناع. فان النتاج الذي بدأ في الأعمال الصناعية القليلة التي كانت تصنع تحت رقابة المصريين فيما سبق من الزمان لدليل على أنهم جديرون بإخراج أحسن أنواع المصنوعات من الأثاث وشغال المعادن وعلى أنهم قادرون تماماً على مباراة المصنوعات الأوربية الواردة من الخارج ومنافستها ولذلك فليس هناك سبب يعوقهم عن بلوغ النجاح في الصناعات الأخرى كما نجحوا في غيرها. دين مصر نشر صندوق الدين العمومي في مصر تقريره عن عام1913ومنه يرى أن الباقي على مصر من القرض المضمون إلى أخر السنة الماضية يبلغ7. 102. 800 جنيه انكليزي وما استهلك منه في العام الماضي بواسطة شراء أوراقه 112. 500 جنيه انكليزي. والدين الموحد 55، 971. 960 جنيه انكليزي والجملة 94، 202، 540 جنيهاً انكليزياً. وقد هبط سعر الدين الموحد في السنة الماضية إلى أوطأ ما بلغه في الأربع عشرة سنة الماضية فكان اقل ما بيع به 96 جنيهاً وأعلى ما بلغ 110 وربع جنيه في عام 1902. الأندية (1) سادتي الأخوان هذه أول مرة نحتفل فيها بافتتاح ناد من مثل هذا النوع في قاعدة الشام فشكراً للقائمين به ولا سيما رئيسه المستر ديفي قنصل انكلترا واني لأتوسم الخير والبقاء لنادينا الجديد لان رأسه من امة هي اعرق الأمم معرفة بالمنتديات وما ينبغي لها فقد حدثنا تاريخ هذه المعاهد أنهم كانوا اسبق العلمين إلى تأسيس الأندية منذ زمن طويل ولا تزال كلمة كلوب انكليزية نقلتها أكثر أمم الحضارة إلى لغاتها ويقابلها بالافرنسية على سبيل التجوز سيركل وعربها العرب بالنادي فالكلوب أو النادي هو مجمع من الطراز الأول يختلف إليه أناس متماثلون في طبقاتهم ويكونون في الغالب في سيرتهم كما يكون سراة الناس أدبا ولطف ومعاملة والكلمة المقابلة في اللغة الانكليزية هي جنتلمين ومن الصعب ترجمتها بالفرنسية ويعنى بها من بلغوا غاية الكمال في التربية والتهذيب يجتمعون للعب والتسلية وتلاوة الصحف

والتحدث وغير ذلك من الأغراض. كانت الندية عند منشئها بادئ بدء مجتمعات أصحاب متعارفين تضم شملهم ليأكلوا فيها ويشربوا في أوقات مخصوصة ولم تكن أماكنها خاصة بمن يجتمع فيها فانتظمت مع الزمن وانقلبت قصوراً فخمة محترمة ولم يكن النساء يدخلنها لأول أمرها وكان لأعضاء النادي فندق خاص بهم يحتوي على غرفة مائدة ومكتبة ومحل للتدخين وحجر للنوم بحيث يكون المرء في ناديه كأنه في بيته الذي يؤويه ثم استخدمت الأندية للأحزاب السياسية ثم انقسمت أقساماً بحسب مقاصدها لان الغرب كما تعلمون بلاد الأخصاء والتخصص ولا سيما التي هي في مقدمة الأمم في التناغي بطبقاتها لا يستطيع فيها أهل طبقة معينة أن يختلطوا بغير طبقتهم. تعددت الأندية بتعدد المقاصد فمنها السياسي والعلمي ومنها أندية الرياضات البدنية والحمامات والصيد وأندية اللعب والشرب وأندية العزاب والممتنعين عن التدخين والشراب وهناك نواد خاصة بأبناء حرفة معينة وطبقة معينة وفكر معين حتى صارت الأندية بالمئات في بريطانيا العظمى بل في كل الممالك التي دخلت في طور المدينة وكل يوم نسمع بأندية تؤسس عندهم فمما أسسوه في الولايات المتحدة نادي الأمهات يجتمع فيه ربات البيوت ليتداولن في تربية أولادهن وانشئوا في نيويورك مؤخراًنادياًللسجناء يأوي إليه من خرج من الحبس حديثاًفيتوسل له النادي بإيجاد عمل ينصرف إليه بعد سجنه. واغرب الأندية نادي المعمرين الذي أنشئ حديثاًفي طوكيو عاصمة اليابان فان أعضاءه اثنا عشر عضواً فقط بلغ كل منهم مئة وعشر سنين من عمره ومع هذا لم يزهد احدهم في الاجتماع مع أقرانه. ولقد كان من اخترعوا هذا النوع من المجالس في الجزائر البريطانية أكثر الأمم استمتاعا بثمرات الاجتماع مع أن المشهور من أخلاق الانكليز كما قال إميل بوتمي أنهم أكثر الناس عزوفاً عن الاختلاط بغيرهم أو كما قال اميرسون فيلسوف الأميركان: انك تحسب الانكليزي إذا اجتمع مع الأجانب اخرس فهو لا يصافحك ولا يتركك تنظر ما في عينيه في الفندق ويلفظ اسمه بحيث لا يسمع فكل واحد من هؤلاء الجزائريين جزيرة برأسها فمن ثمرات الأندية عند البريطانيين أن أهل كل حرفة وطبقة يعرفون في أنديتهم اقدر الرجال

فيهم فإذا جاء وقت انتخاب مجلس النواب يكونون لمبرزيهم اعرف الدعاة لهم فيختارونهم للنيابة عن الأمة أي أن أعضاء نادي الإشراف وأعضاء نادي الحوذيين والسواقين والسكافيين والطباعين والوراقين والبزالين والفحامين بل وكل ما يخطر ببالك من أرباب الصناعات المختلفة يستعينون بالأندية على اختبار مدارك إخوانهم فينيبون عنهم أخطبهم وأعقلهم وأمنهم وأعملهم وهكذا كانت الأندية نافعة في الغرب كما نفعت في الإسلام الجوامع والمدارس فكانت أندية يتفاوض فيها أهله في شؤونهم السياسية والاجتماعية أيضا. ومن غرائب الأندية في لندن اليوم نادي السكوت وهو للصم والبكم ليس فيه كلام يسمع ولا جرس يقرع ومن يدخل النادي من المشتركين فيه يكبس زراً كهربائياً ينير قطعة من المكان فيفتح له وغير الكهربائية أيضا اصطلحوا على إشارات للتفاهم بينهم ويدخله الرجال والنساء يلعبون بالبلياردو أو يتحادثون أحاديث صم ويغنون غناء الصم. وفي لندن ناد للمعتزلين عن الناس يدخله من ضاقت صدورهم من الوحدة والعزلة ولا يقبل فيه النساء إلا بعد سن الخامسة والعشرين وهو دولي عام ولا يؤدي المشترك فيه شيئاً وهو غريب في بابه لأنه يضم أناسا من أهل الأرض بأسرها ومن جميع الطبقات الراقية وفيه كثير من أرباب المكانة والشهرة. وهناك ناد اسمه نادي العجل الذهبي ونادي القط الأسود ونادينا وهو نادي أعاظم الأدباء ونادي 101 ونادي الست ساعات وهو ناد أعضاؤه ستة يدخلون إليه كل يوم الساعة السادسة ويخرجون الساعة الثانية عشرة ومع كل واحد منهم كتاب. والنادي الدائم وعدد أعضائه مئة يقسمون أن لا يبرحوا منازلهم مهما كلفهم الأمر من المخاطر حتى انه حدث يوماً حريق قرب ناديهم فلم يخرجوا منه إلا بقوة رجال الشرطة. وقد أسس بعض أبناء الأسر في ايرلندا سنة 1766 ناديا لهم ليختطفوا البنات ويتزوجوا بهن قسرا فانحل هذا النادي سنة 1802 عقيب حوادث أفاض فيها مجلس النواب الانكليزي. وفي ايرلندا أندية قلما تقبل النساء وفيها أندية للنساء العازفات عن الزواج. وسيفتح الآن ناد غريب اسمه نادي اللوبياء السوداء على مثال نادي نيويورك وهو مؤلف من أربعين عزباً يجتمعون مرة في السنة ويضع رئيسه في صندوق أربعين حبة لوبياء بيضاء ومنها سوداء ويسحب كل عضو حبة فمن سقطت السوداء في يده حكم عليه قانون النادي بان يتزوج والنادي يقوم

بنفقة تزويجه كما يبتاع له أثاث بيته ونفقة سفره ثلاثة أسابيع مدة شهر العسل. وعندهم أندية لطالبات الزواج على مثال نادي اليابان الذي يتم بواسطته كل أسبوع مئتا قران وأكثر المقترنين يتزوجون بالنظر إلى صور خطيباتهم الشمسية. وكان في لندرا نادي التقبيل ولكن حدثت منه غوائل لم تفض إلا بمعرفة المحاكم. وفي لندرا ناد للمنتحرين شعاره بالموت شفاء الأسقام كلها ولا يقبل فيه للنساء ولا للعزاب. ولها ناد للأرواح يدخله علماء ومحامون وجراحون وباحثون ممن يهتمون بكشف الأسرار عن مخاطبة الأرواح. ولها ناد لمن لا أنوف لهم ورئيسه مصري انفه أقنى للغاية يكاد لا يظهر. ونادي مشوهي الخلقة. ونادي السوداويين يجتمعون كل أسبوع وهم عبارة عن حوذيين وسواقيين وملاحيين ليتسابوا ويشاتموا ويظهروا أفضل قرائحهم في علم الطعن والقذف ومن قصر من الأعضاء أو أبدى لطفاً في وحركاته يغرم في المرة الأولى وفي الثانية يطرد من حظيرة أقرانه. وفيها نادي العبوسين يدخله من ساءت أخلاقهم يلتزمون السكوت فيجلس الواحد منهم إلى ناحية يدخن غليونه بدون أن يتكلم. وعندهم نادي الفلس أربعة أقسام أي نادي البخلاء المقترين وفيه أناس من كبار أرباب الأملاك وأعاظم الماليين ونادي قتلة البشر وهم يؤثرون القتل على ثلم الشرف ورئيسهم قتل 25 شخصاً في البراز. ولا اعرف فيما اطلعت عليه من كتب العرب في التاريخ والشعر والخطب والمحاضرات أنه عهد لبغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق والقيروان أيام عزها معهد يماثل هذه الأندية الحديثة وغاية ما تبين أن المتماثلين كانوا يجتمعون في بيوتهم وحلقاتهم الخاصة فمنهم من يجتمع للمباحثة في العلم كاجتماع إخوان الصفا ومن يروي عنهم التوحيدي في مقابساته كانوا من نحل مختلفة لم تمنعهم مذاهبهم في تلك العصور من الاجتماع على مقصد واحد وكان الشراب الذي يتعاطونه في الأكثر نبيذ التمر وهو أشبه بالصليبية عندنا أو الشيرا يجتمعون لتعاطيه كما يجتمع المحدثون على القهوة والشاي وغيرهما من المشروبات فيغذون باجتماعهم أرواحهم كما يفكهون بما يتعاطونه أجسادهم وما كانت الطبقة العالية من أهل الشرف والعلم والفقه ترى من الغضاضة أن ترفع أصواتها بالغناء أو تأخذ بالعزف والإيقاع في مجالسها وأنديتها لأنهم علموا قبل أهل المدينة الحديثة أن المرء قد يستغني عن القراءة والكتابة ولا يستغني عن رفع صوته ليتغنى فيطرب نفسه وجلاسه وكتاب الأغاني

لأبي الفرج الأصفهاني مملوء بأخبار أهل هذه الطبقة. حكا صاحب اليتيمة انه كان في جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على التبسط في القصف واللهو ابن قريعة وابن معروف والقاضي التنوخي وغيرهم وما منهم إلا أبيض الحية طويلها وكذلك كان الوزير المهلبي. فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع واخذ الطرب منهم مأخذه وضع في يد كل واحد منهم كاس ذهب من ألف مثقال إلى ما دونها مملوءاً شرابا قطربلياً أو عكبرياً فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرش بها بعضهم غلى بعض ويرقصون اجمعهم (كذا) وعليهم المصبغات ومخانق البرم والمنثور ويقولون كلما يكثر شربهم هرهر (والهر هر صوت جري الماء). قال: فإذا أصلحوا عادوا لعادتهم في الرمث والوقر والتحفظ بأبهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء. والرمث في اللغة الإصلاح والمسح باليد أي ما يعرف اليوم بالتولت وهذه القصة وان كان فيها نظر لما فيها من التبذل المذموم فإنها تدل على شيء من الدعابة والظرف. وبعد فان أسفار امتنا طافحة بأحاديث المترفين وأرباب القصف واللهو والإنشاد مما ينم عن ذوقهم ومدينتهم وتفننهم في مذاهب اللذائذ المشروعة في الغالب وتقلبهم في أعطاف الدعة والأنس وحسن العشرة وجمال العهد واختلاف كل قوم إلى أندية القوم الأخر. روى الصابئ في تاريخ الوزراء قال حدث أبو القاسم الزنجي قال: رسم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات في وزارته الثانية أن يدعى أبو الحسن موسى بن خلف وأبو علي محمد بن علي بن مقلة وأبو الطيب محمد بن احمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح وأبو عبد الله والدي وأبو بشر عبد الله بن الفرخان النصراني وأبو الحسن سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني وأبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني في كل يوم إلى إطعامه فكانوا يحضرون مجلسه في وقته ويقعدون من جانبيه وبين يديه ويقدم كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف طبق فيه سكين يقطع بها صاحبه ما يحتاج إلى قطعه من سفرجل وخوخ وكمثرى ومعه طست زجاج يرمي فيه الثفل فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم شيلت الأطباق وقدمت الطست والأباريق

فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيارز ومن تحتها سفرة ادم فاضلة غليها وحواليها مناديل الغمر من الثياب المقصور فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية واخذ القوم في الأكل وأبو الحسن بن الفرات يحدثهم ويباسطهم ويؤنسهم فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه ويغسلون أيديهم والفراشون قيام يصبون الماء عليهم والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبيقة ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم فمن كانت له من الكتاب حاجة قام إليه وخاطبه فيها وسأله إياها ومن أراد اطلاعه على سر يجب الانفراد معه فيه فعل مثل ذلك. ونتم ترون بهذا الوصف أن القوم لم يكونوا دون أهل هذا العصر في مجالسهم ورفاهيتهم ومسلياتهم وتسامحهم فان أرقى قصر من قصور الملوك والأمراء في الشرق والغرب لعهدنا ليس فيه من الاستعداد والتأنق في العيش والنظام في الطعام أكثر مما كان لابن الفرات وجماعته. فعسانا نقتدي بالنافع من مظاهر أجدادنا في أوقات العمل والفراغ كما نأخذ عن الغرب كل ما ينفعنا في خلوتنا وجلوتنا وترقية اجتماعنا وشعورنا وشممنا وعقولنا وهذا لا يقوم إلا إذا راعينا النظير في الداخلين فقربنا كل سري عرف بحسن السيرة والسريرة ونبذنا كل معربد طائش لم يبلغ بتهذيبه مستوى أقرانه وان كان يحمل ذهباً كثيراً. نعم نبعد السكيرين والمقامرين ليكون النادي لائقا بان يغشاه النبلاء لا حانة يضم جدرانها السفهاء وبذلك يصبح أحسن واسطة لتعارف الشرقي بالغربي فكما أن أهل المذاهب المختلفة لا تقوم لهم وطنية بدون تعارفهم وتعاطفهم هكذا المدينة لا تقوم على أصولها إلا بمناصرة الشرقي للغربي والغربي للشرقي. مدينة القرن العشرين تقوم بتبادل المنافع والأفكار أكثر من قيامها بالتقاطع والشجار فالله اسأل إن يعلمنا من مدينة الغرب ومدينة العرب ما تنبسط له النفس ويطيب له القلب فان سرعة ائتلاف قلوب الأبرار_كما قال احد الحكماء_كسرعة اختلاط قطر المطر بماء الأنهار وبعد قلوب الفجار من الائتلاف كبعد البهائم من التعاطف نكون على حد قول الشاعر: أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كان به عن كل فاحشة وقراً

سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراًولا ناطقاً هجراً إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... ففك أنت محتالاً لزلته عذراً المرأة في القديم والحديث خطبت الآنسة مي في حفلة النادي في القاهرة مساء 23 ابريل 1914 ومما قالته: طافت المدينة أنحاء العالم ولكن ما حالنا بها؟ لقد ظهرت معجزاتها في اكتشافات البشر وعلومهم وفنونهم وأساليبهم وكيفية معيشتهم إلا أن الشقاء مازال شقاء! مازلنا نشاهد حولنا الحرب والفقر والمرض والقتل والانحطاط النفسي والعاهات الأخلاقية على تعدد أنواعها وما برحت الشعوب تشكو حكوماتها والأوطان تشقى بأبنائها والعائلات تتعذب بأفرادها والأفراد تتوجع بميولها وتشقى بغرائزها المتناسخة عن وراثات بعيدة وقريبة! كلا! إن المدينة لم تأت بتمام واجبها بعدو لم تصلح من الأحوال إلا البعض اليسير أو المتوسط. وانتم أيها السادة والسيدات تعلمون سبب ذلك النقص وتعرفون موضع الضعف من مدينة القرون المنصرمة. ذلك الضعف التائن والنقص الهائل ليس إلا تقهقر نصف الإنسانية هو جهل المرأة! قال هوجو: ليس الرجل وحده الإنسان ولا هو المرأة وحدها بل هما الإنسان والإنسان هما كل جنس دون أخيه نصف فقط ولا يصير عدداًكاملاً إلا إذا أضيف إليه النصف الأخر لا صحة للمرء إلا بسلامة دماغه وقلبه ولا سعادة للرجل إلا بسعادة المرأة. سل عنها الدهور المتدحرجة في هاوية الزمان لو كان للدهور لسان لأنبأتك بما يدمي الفؤاد المرأة! لقد جعلتها الهمجية حيواناً بيتياً وحسبها الجهل متاعاً ممتلكاً للرجل يستعمله كيفما شاء ويهجره إذا أراد ويحطمه إذا خطر له في تحطيمه خاطر. كانت بعد ذلك عبدة شقية وأسيرة ذليلة ثم ارتقت مع مرور الأجيال إلى درجة طفلة قاصرة إلى لعبة يلهو بها السيد في ساعات الفراغ إلى تمثال بهرجة تتراكم عليه الأثواب والجواهر الثمينة ومن منا يدري بما كانت تستر الأثواب الحريرية والجواهر الثمينة من قرح القلب الدامية التي لم يضمدها بشر؟ تاريخ المرأة استشهاد طويل أليم ومن أغرب الغرائب أنها لم تجد لها في القدم صديقاً ولا نصيراً. كانت عامة الشعب تكرهها وتحتقرها وليس ذلك بكثير على قوم جاهلين تحجرت

منهم القلوب وصمت الإفهام فهم لا يدركون شيئا مما يتجاوز دائرة شخصهم الصغير لكني أرى الأمر عجباً بل فظيعا من رجال نحسبهم نوابغ زمانهم وقادة أفكار العالم. لم يذكر شعراء اللاتين من المرأة إلا جمال جسدها وليس في قصائدهم ما يدل على تلمس آثار النفس وراء ظواهر الجسد وجميعهم متفق على تسميتها الشيطان الجميل أو ينبوع المسرات السامة وشعراء اليونان اسخيلوس واوربيدس وغيرهما يسمونها - ببساطة كلية! - بلية العالم. أما الفلاسفة فاكتفي بان اذكر هنا أفلاطون، أفلاطون الإلهي الذي يعتبره تاريخ الفكر امة بأسرها أفلاطون ذا الأحلام الغامضة والمبادئ السامية الذي لم يترك موضوع إصلاحي سياسي أو أدبي إلا عالجه رغبة في إسعاد العالم - أفلاطون لم يفكر قط في تحسين حالة المرأة ولم يهتم في درس أخلاقها واستكشاف درجتها العقلية والاستعدادية. ماذا قال! إن أفلاطون هذا قضى حياته آسفا لأنه ابن امرأة وكان يصرح بذلك تصريحاً بازدرائه بأمه ويعتقد أن من كان جبان من الرجال في هذا العالم فمنذ ولادته في عالم أخر تتقمص روحه في جسد حيوان أو في جسد امرأة. وما علم أفلاطون أن امرأة ستتعلم فلسفته في (مدرسة الإسكندرية) وان تلك المرأة لا يمنعها شبابها الغض وجمالها الرائع أن تكون اعلم علماء عصرها. تلك هي الفتاة هيباثيا ابنة ثيونوس الرياضي الشهير التي قتلت رجماً في شوارع الإسكندرية في أوائل القرن الرابع فذهبت شهيدة علمها وإخلاصها ورغبتها في إشهار التعاليم الأفلاطونية. أول من عطف على المرأة واسمعها كلمات الإشفاق والغفران هو يسوع الناصري. وهو أول من سوى بينها وبين الرجل إذ جعل لهما خطة واحدة تفضي إلى ثواب واحد وإلا فللضالين عقاب واحد. على أن النصرانية حرمتها من وظائف الكهنوت وما برح طائفة اللاهوتيين يعتبرونها قارورة الخطايا والآثام! ثم جاء نبي الإسلام فرفع شانها أي رفعة في بلاد العرب إذ حرم واد الفتيات وسواها بالرجل في جميع الحقوق والواجبات إلا في الشهادة والميراث فان امرأتين اثنتين تساويان رجلاً - وفي ما عدا ذلك فهي والرجل سواء في جميع الحقوق المدنية ويقول العارفون أن لها الحقوق السياسية أيضاً. والمسلمات لهن إن يكن فقيهات وكانت أول فقيهة منهن عائشة زوجة صاحب الشريعة الإسلامية الذي قال لقومه: خذوا دينكم عنها!.

وعلي أن اذكر هنا اسمي بلوتارك ودانتي وهما أول من تلمس نفس المرأة من طغمة الشعراء والمفكرين. لقد جعلا لقصائدهما عرائس شعر تتجلى فيهن ملكات الجمال الأدبي: وهما اللذان ترنما للمرة الأولى بذكر المرأة ذات النفس السامية والذكاء الوقاد ومقدمة عثرات الجنس القوي. من منا لا يعرف لورا وبياتريس؟ إن هذين الاسمين لا يفترقان عن اسمي بلوتارك ودانتي وسيكونان أبداً المثل الجميل الذي مر في مخيلة دانتي فصوره في شعره الساحر قد اخترق ظلمات القرون الوسطى كبرق ساطع ثم جاء كبير شعراء العالم شكسبير فجعل أبطال أكثر رواياته من النساء الجميلات ذوات النفوس الكبيرة تتلامس في قلوبهن بلطف يشبه تموجات النور في الهواء أقوى وأعذب شعائر المحبة بأسمى وأوجع عواطف التضحية وكذلك كانت النساء في روايات كورنايل وكلكم ذاكر بلا ريب بولين وكاميل وشيمان. . . ألا تذكرون؟ لم يكن مفكري القرون الوسطى من رأي شكسبير وكورنايل بل كان معظمهم مبغضاً للمرأة ساخراً بها لم يكن طاعناً فيها. ولقد اختصر بوسيه أسقف مو وأفكار معاصريه وأوردها في جملة واحدة. قال بجديته الحبرية المشهورة: المرأة خلقت من ضلع زائد في جنب الرجل فلهذا السبب هي عقيمة لا ذكاء في عقلها ولا إدراك في نفسها. رحمة الله عليك يا بوسيه! انك لم تكن نبيهاً! أما كون المرأة مخلوقة من ضلع الرجل فهذا أمر لا رأي لي فيه - غير أني أفضل أن تكون مخلوقة من عصير قلبه وعواطفه بدلاً من أن تكون - كوتلياً - مصورة! وأما كون الضلع زائدة فهذه مسالة فيها نظر وعلى كل حال فاني لا اخذ على نفسي إثبات هذه الحقيقة التشريحية. . . أو اللاتشريحية. أيها السادة! لننس هذه الأقوال العتيقة ولننظر إلى أحوال الحاضر. إن النهضة النسائية تمتد يوميا في أقاصي المسكون. إنها لنهضة عجيبة تبشر بخير عظيم وتنبئ بان مدينة الأمس العرجاء التي لم تتكئ إلا على ذراع جنس من الجنسين هي غير مدينة الغد الممتعة بتحقيق أجمل الأماني الجائلة في قلب الإنسان. ليست مدينة الغد مدينة الرجل وحده بل هي مدينة الإنسانية لان المرأة آخذة بالصعود إلى مركزها الحقيقي بقرب الرجل. إن موجة النور نور الارتقاء النسائي تزداد ارتفاعاً واتساعاً مع الأيام. في فرنسا وانكلترا وأميركا وألمانيا وايطاليا تجاهد المرأة جهاد الأبطال في سبيل ترقية جنسها وترقية النوع البشري معها.

ولقد نالت جميع حقوقها في اسوج ونروج وفنلندا وزيلاندا الجديدة وفي بعض الولايات المتحدة فهي الآن والرجل سواء أدبياً ومدنياً وسياسياً أيضاً. وفي كل من هذه البلاد كان تأثيرها نافعاً جميلاً وحيث تقلدت المرأة الوظائف العمومية قد قلت الجرائم وخفت وطأة السكر وظهر تحسن محسوس يكاد يكون ملموساً في مستوى أخلاق الأمة وفي حالتها الصحية جميعاً. هذه هي المرأة الجديدة ومستودع آمال المستقبل. كم قالوا فيها أنها لا تصلح إلا للخدمة البيتية والزينة الجسدية وها هي مصلحة كبيرة ومفكرة عاملة! وكم قالوا أنها حيوان جميل وشيطان لطيف وها هي ملك كريم يحاول إفهام الرجل أن في الحياة عنصراً سامياً هو كل الحياة! وكم قالوا أنها كاذبة خبيثة وان الصدق والإخلاص بعيدان عنها بعد الشمال عن الجنوب وها هي آخذة في تهذيب نفسها وملا شاة العاهات التي شوهتها في أزمنة العبودية! وكم قالوا أنها مترددة حائرة ذليلة لا تقوى على توليد فكر ولا تتحمل المسؤولية وها هي عزيزة النفس شديدة الحرص على الاستقلال منحنية بحرقة على الحياة العميقة! وكم قال فولتر أن فكرها سريع العطب وانه يتحطم تحطيماً إذا حاول استفهام ناموس علمي غريب أن يقول فولتر هذا القول لأنه لم يفهم كتابات نيوتن إلا بواسطة امرأة هي صديقته مدام شاتليه ومعربة كتاب نيوتن في ناموس الجاذبية ثم اذكروا مدموازل لابلاس وماري كوالسكي ومدام كوري وملايين من النساء المشتغلات في العلوم الطبيعية والعلو المجردة والفنون والصنائع والحرف المختلفة. في فرنسا خمسة ملايين من النساء تشتغلن حاملات في قلوبهن التبعة العائلية والهموم الكثيرة. يخترقن سبل الحياة المحفوفة بالكوارث والأوجاع داميات القلب ولكن شريفات النفس شريفات المقاصد. ومثل ذلك في انكلترا والولايات المتحدة حيث عدد المعلمات فقط يكاد يبلغ الأربع مائة ألف. . . ويقول الأحصائيون أن في مصر نحو مليون ونصف من السيدات المتعاطيات الأشغال العمومية. وكم قالوا إن المعارف لم تخلق للمرأة وان العلم يذهب بجمالها وتواضعها ولطفها وانه يجعلها متكبرة جافة ومحتقرة العائلة هازئة بالرجل وها نحن نراها إذا تعلمت زادت جمالاً وحناناً أكيداً واحتراماً للعائلة ووإجلالاً للرجل. أنها الآن تفهم معاني الحياة وتريد بكل قواها

ترقية نفسها وإعلاء مداركها وتربية شخصيتها الجميلة واستخدام ملكاتها في بث الخير والسعادة حولها وعلى كل ما يحيط بها. المرأة الراقية وحدها تعرف إن لها فخراً رئيساً واحداً وهو أن تكون (أماً) وهي وحدها تعرف أنها كانت إلى اليوم أم الجسد فقط وتحاول أن تصبح أم الروح أيضاً أم العواطف وأم الأفكار وأم الميول والمهذبة الكبرى والصديقة العظمى! وكم قالوا أنها لا عقل لها وان حياتها سلسلة أهواء متتابعة وتقلبات صبيانية تافهة وها أننا نراها بعيدة النظر ثابتة المقاصد مفرقة منفعتها الشخصية في بحر المنفعة العامة! انظروا إلى روسيا حيث النساء تتألم تألم الرجال وأكثر. روسيا حيث الثورة الفكرية تهيئ حتماً الثورة السياسية كم من فتاة حسناء قد ضمت خطيبها ومستقبلها وهناءها حباً بمصلحة وطنها واشتركت في جمعيات تظن أن في تأييدها خيراً للبلاد. المتهكمون على المرأة كثيرون في العصر الفوضوي ولكن أنصارها أكثر وهم من ذوي النفوس الكبيرة والرؤوس المفكرة بل هم أسمى واشرف رجال زماننا. أنهم يحترمون جهادها ويعترفون بحقوقها ويقرون بما تأتيه من الإصلاحات الباهرة ويعجبون بإقدامها وثباتها ويرون في نهضتها أيدي جديدة عاملة لخير الإنسانية وتخفيف الويلات عنها. أليس فيكتور هوجو هو القائل أن تحرير المرأة يحل أكثر المشاكل المدنية وانه ينتظر منها وحدها إلغاء الحرب في العالم؟ وهو القائل أيضاً إن القرن العشرين هو عصر المرأة. ولقد صدق في نبؤته! في كل مكان تفتح المرأة عينها لنور الحياة حتى في أطراف الشرق الأقصى في الصين بأمرهن. وفي تركيا. وها أني أرى شرارة الحياة تشتعل في مصر، أيضاً حيث الرجال يساعدوننا بأقلامهم وبألسنتهم وبمثلهم وجل ما يتمنون هو أن تستحق النساء عنايتهم واهتمامهم بأمرهن. أجل في مصر تتكسر القيود الدهرية التي طالما عذبت فكر المرأة ونحن اليوم عند عتبة مستقبل باهر. في مصر تشتعل شرارة الحياة. . . الآثار العربية في أسبانيا عهدت حكومة أسبانيا إلى مدير مدرسة الهندسة العليا في مدريد بتجديد كنيسة قرطبة الكاتدرائية وكانت من قبل جامعاً على عهد العرب هناك فقام بأعمال الحفر في المكان الذي

اعتقد انه كان في القديم قصر الزهراء وذلك للبحث عن هندسة جامع قرطبة على ما يجب إذ تبين أن هذا المعهد قد امتزجت فيه الهندسة الإسلامية الصرفة مع الهندسة الأسبانية المسيحية فقال على ما نقلت عنه مجلة العالم الإسلامي الفرنسية أن الهندسة الإسلامية لا تختلف فقط بين بلد وبلد وبين عصر وأخر بل يجب أن يلاحظ أن المهندسين المسلمين قد اقتبسوا أموراً جديدة من البلاد التي افتتحها قومهم وأضافوا إلى هندستهم. قال المهندس الأسباني أن من بحثوا في الهندسة الإسلامية لم ينظروا نظراً بليغاً إلى المؤثرات الأجنبية في هندستهم. فانك ترى مثلاً جامع ابن طولون في القاهرة وهو مما بني في سنة 265هـ - (879م) زيادات ترد أصل هندسة هذا المعهد المشهور إلى بين النهرين ومن جهة أخرى كأنه من هندسة المغرب والأندلس وذلك لان فتح الفاطميين لمصر وهم من القيروان قد اثر في الهندسة المصرية لعهدهم. واستند الباحث الأسباني على ما قاله صاحب تاريخ البيان من الأندلسيين فتبين بعبارته مساحة الجامع واستخرج منه عدة قطع من أحجار وكتابات واوان خزفية ساعدته على تأييد فكرة من أن الهندسة الإسلامية الأندلسية قد اقتبست أشياء كثيرة من غيرها واستنتج من بحثه في طرق نحت الأحجار وهي طريقة قديمة جداً استعملها الأشوريون واحتفظ بها المسلمون أن لا اختلاف بين ما يرى منها في الأندلس وما يرى في غيرها واستعمال الكلس والملاط للجمع بين الأحجار المرصوصة في البناء والبلاط والرخام الأبيض والأحمر النوع كل ذلك من أسلوب الهندسة القرطبية الأندلسية. وكانوا يستخدمون من النقوش أشكالا منها ما هو من أصل بيزنطي رومي ومنها ويزيغوتي ومنها طليطلي ويعدلونها على هواهم. ومن الغريب أن المسلمين في قرطبة وغرناطة وسائر المدن الأندلسية لم يكونوا يحجمون عن تمثيل المخلوقات الحية وهمية كانت أو حقيقية فترى في نقوشهم طيوراً ورؤوس اسود وتنانين. وصف المؤلفون من العرب قصر الزهراء أحسن وصف وقصور الخلفاء هناك قال العالم الأسباني أن مسجد قرطبة وتلك القصور الزاهرة وما حوت من النقوش المرمر والذهب تفوق ببنائها كل ما يتصوره العقل ولم يبق من آثار تلك القصور سوى عمودين من الرخام وذلك لان قرطبة كانت ميداناً للفتن منذ عصور فذهبت في جملة ما ذهب من عادياتها كنوز خلفاء المغرب ونهبت خرائب قصورهم عدة مرات واستعملت أحجارها في إقامة بنايات

جديدة. وقد أشار إلى ما وجده من الكؤوس والأواني من القيشاني المصور عليها بالحروف الكوفية نباتات أو صور إنسانية واستدل منه إن هذه الصناعة أي صناعة الخزف المزين بالمينا هو من عمل الأندلسيين. تجارة المواني العثمانية نشرت الصحف الايطالية للملق التجاري في سفارة الأستانة تقريراً مسهباً عن تجارة السلطنة العثمانية في سنة1911 - 1912 استنتج منه أن التجارة العثمانية لم تخسر بما فقدته السلطنة في الحروب الأخيرة من الأملاك في أوروبا وإفريقيا إلا 22 في المائة فقط. وهذه خلاصة التقرير: الواردات: بلغت قيمة ما استوردته السلطنة من البلاد الخارجية في السنة المذكورة مبلغ37، 600، 000 ليرة دخل منها بطريق الأستانة (مع جمارك اسطنبول وغلطة حيدر باشا وأزمير وكملك ومودانيا وبندرمه والدردنيل وغليبوني ورودستو وزنجلداك) 34، 78 في المائة وبطريق بيروت (مع سائر المواني السورية) 13، 79 في المائة. وبطريق أزمير (مع جمارك أيولي ومدللي وصاقس ورودس وسائر جزر الأرخبيل) 12، 88 بالمائة. وبطريق سيلانيك (مع جمارك قوله واسكوب وبربوي والسونا والحدود اليونانية الصربية) 12، 85 في المائة. وبطريق طرابزون (مع جمارك قرة صند وسمسون واينة بولي وارضوم والحدود الروسية الإيرانية) 6، 14 في المائة. وبطريق بغداد 5، 20 في المائة. وبطريق الإسكندرية (مع جمارك مرسين واضالية والمواني المجاورة لهما) 3، 82 في المائة. وبطريق دده اغاج (مع جمارك جسر مصطفى باشا وادرنة وبورتولاغوس والحدود البلغارية والسواحل الأوربية على البحر الأسود) 3. 67 في المائة. وبطريق بروزة (مع جمارك الونية وسانتي كوارنتا وسلاهو فوودراج واشقودة وحدود الجبل الأسود) 2، 19 في المائة. وبطريق جدة 1. 82 في المائة. وبطريق مدينة طرابلس الغرب 1، 46 في المائة. وبطريق الحديدة 1. 30 في المائة. أما الصادرات فقد بلغت قيمتها كلها 19، 414، 068 ليرة. وفقد اصدر منها بطريق أزمير 28، 73 في المائة. وبطريق الاستانة19، 38 في المائة. وبطريق سلانيك 12، 38 في المائة. وبطريق طرابزون 10، 42 في المائة. وبطريق بيروت 9، 29 في المائة.

وبطريق الإسكندرية 6، 39 في المائة. وبطريق بغداد 4، 14 في المائة. وبطريق دده اغاج 3، 53 في المائة. وبطريق بروزة 2، 27 في المائة. وبطريق طرابلس الغرب 1، 67 في المائة. وبطريق الحديدة 1، 61 في المائة. وبطريق جدة 0، 19 في المائة. وإذا وزعنا مجموع الصادرات والواردات على الأملاك العثمانية في أسيا وأوربا وإفريقيا كان نصيب كل منها كما يلي: الأستانة وداخلتيها: 34، 78 في المائة من الواردات و19، 38 في المائة من الصادرات. الولايات الأوربية: 18، 71 في المائة من الواردات و18، 18 في المائة من الصادرات. الولايات الأسيوية: 44، 95 في المائة من الواردات و60، 77 في المائة من الصادرات. الولايات الإفريقية: 1، 56 في المائة من الواردات و1، 67 في المائة من الصادرات. شعر الشهر تحت هذا العنوان ننشر في كل جزء ما نعثر عليه من شعر الشعراء في مصر والشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وتونس وبرقة والجزائر ومراكش ليقف القارئ على أطيب ما قيل وعلى درجة رقي الأدب العربي وإنا نخص هذا الجزء بنموذج من شعر الحكمة والاجتماع قال إبراهيم منيب أفندي الباجه جي. (مجلة لغة العرب البغدادية م3ص536) يحصد الإنسان ما قد زرعا ... فازرع الخير وكن منتفعا والى الشر فلا تركن وكن ... حذراً في فخه أن تقعا كم وكم صانع للشر قد ... خطفته كف ما قد صنعا وعظ الناس بما تدري وان ... كنت لا تدري فكن متبعا تبق ما عشت وان مت على ... ألسن الأيام ذكراً أرفعا وعلى الدنيا فلا تعتب إذا ... لم تجد من رزقها متسعا إن في الدنيا اتساعاً للفتى ... في طلاب الرزق لو كان وعى فاسع في دنياك إن رمت المنى ... سعي مقدام تجده طيعا حصة العاجز حرمان وان ... ليس للإنسان إلا ما سعى وقال محمد أفندي الهاشمي في ص 508 أيضاً:

كم من شقي في الحياة ... يعد في أهل القبور الجهل ريح عاصف ... ترمي الشعوب بكل بور وتظل تعبث بالبلا ... د وبالعواصم والثغور مهلا بني أمي فلس ... ت على التأخر بالصبور فلقد نفرت على العرا ... ق وأهله كل النفور فعثرت والأدبار قد ... يهدي إلى الجد العثور لا تنذروني يا بني ... أمي بقاصمة الظهور ما حدت عن قصد الطري ... ق ولا جنحت إلى نفور وجاء في جريدة اللاذقية (عدد 288) قصيدة تحت عنوان خطرات يعرب بإمضاء (ع. ز) في المعرة منها: أولاد يعرب أين همة جدكم ... وخلوصه والصدق في العزمات أين الحمية والمرؤة أين من ... كشفوا ظلام الظلم بالصدمات سكن الخراب دياركم وبلادكم ... والخزي طاف بكم بست جهات ونساؤكم هدم التبرج خدرها ... وشبابكم عكفوا على اللذات وشيوخكم ارسوا سفينة وهمهم ... في أبحر التضليل والترهات ومدارس كانت مصادر حكمة ... ومساجد بنيت لفعل صلات بدلت بحانات ودور فواحش ... ومقامر ومراسح القينات ومنها: والحج يقصده الغبي وجاهل ... وتردد النغمات للجمعات وارى المدرس كالمدلس ينثني ... متسرعا للخوض في الشبهات جهل على جهل تركب فانزوى ... دين النبي وبات في غمرات أيضيع شرع الله بين ظهوركم ... يا أمة خضعت لفتك طغاة وقال احمد أفندي نسيم في المؤبد (7267) من قصيدة: لو تعدل الأيام في أبنائها ... ما كان منهم مسعد وفقير ساء الزمان فليس فيه منعم ... أو مطمئن الجانبين قرير وإذا تفكر في الحياة اخو نهى ... كره الحياة رساءه التفكير

ما زينة الدنيا وزخرف عيشها ... إلا متاع زائل وغرور وكأن أحداث الزمان إذا طغت ... بحر وأمال النفوس جور يمسي الجهول مقدراً أرزاقه ... ولدى الإله الرزق والتقدير ويدبر الدنيا ليسبر غورها ... ولربه في أمره تدبير وأحب من مثر يجمله الغني ... عاف لآلاء الإله شكور وتجارة أدنى معارضها التقى ... لتجارة في الله ليس تبور من يتخذ غير الإله وليجة ... بعدت طرائقه وساء مصير وقال عبد الحليم أفندي حلمي في العدد نفسه من قصيدة: من يطلب الخلد فليعمل لسيرته ... يفنى الوجود ولكن تخلد السير عقائد الشعب أساس فان ضعفت ... هدت ذراه فأمسى وهو منعفر والناس في العيش أنصاب محركة ... تظل معبودة من حسنها الصور كأن أرواحهم طير محلقة ... على الرؤوس متى تسنح لهم زجروا نظل نذكر موتانا بما صنعوا ... إن يذكر الحي موتاه فقد نشروا وقال الشيخ مصطفى الغلاييني من قصيدة في الإصلاح: ما يفعل الخلق الكريم تحوطه ... من لؤم أخلاق الملا آجام بل ما يفيد العلم عند معاشر ... ما في رؤوس عظامهم أحلام أو ما ينال اخو العلى في بيئة ... للجهل فيها النقض والإبرام؟ وأبو الفضائل روضة حفت بها ... جدر السفاء كأنها آكام يا للرزيئة من بلاد ضيعت ... أشبالها فاستأسد الأغنام لم ترع فيها ذمة لرجالها ... والمكرمون بهائم وسوام ما يبتغي راعي العلى من امة ... للافن فيها حرمة وذمام؟ أسف على وطن اسود عرينه ... هلكت فحلت ربعه الأنعام تكسى الحقائق فيه ثوب مهانة ... وتسود في أرجائه الأوهام أبناؤه نبذوا الفضيلة جانباً ... فحياتهم ابد الزمان آثام إن ينشدوا للمجد أو يتهيئوا ... لملمة فجاهدهم إلمام

أو يعزموا أمراً نسوه في غد ... فكأن ما قصدوا له أحلام أو يدعهم داعي مجانبة العلى ... هبوا إليه وطيشهم زحام يتسابقون إلى السفاهة شرعاً ... ولهم من الرأي السقيم إمام

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات محمد والآخرة تأليف بول كازنوفا طبع على نفقة بول غوتنر في بالريس سنة 1911 هو كراسة بالفرنسية وقعت في 83 صفحة زعم فيها مؤلفها إن القرآن الكريم تطالت إلى تحريف أشياء منه جماعة من الصحابة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مؤيداً أقواله بمزاعم غيره من الأوربيين الذين نظروا إلى الإسلام شزراً وتكلموا فيه كلام أهل القرون الوسطى. انتقاد كتب زيدان بك أحسنت إدارة المنار في مصر بطبع هذه الانتقادات على بعض كتب رصيفنا جرجي بك زيدان صاحب الهلال فان النقد مفيد في كل موضوع بكر به تنجلي الحقيقة ويدمث المسلك الوعر والأول من هذه الانتقادات بقلم شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني من أساتذة الهند في كتاب تاريخ التمدن الإسلامي ويليه ثان في انتقادات تاريخ آداب اللغة العربية بقلم الشيخ احمد عمر الإسكندري من أساتذة مصر والثالث في انتقاد تاريخ آداب اللغة العربية أيضاً وكتاب طبقات الأمم بقلم الأب لويس شيخو صاحب مجلة المشرق في بيروت والرابع في انتقاد تاريخ العرب قبل الإسلام بقلم الشيخ احمد عمر الإسكندري أيضاً. الحالة الاقتصادية في أصقاع حيفا وعكا هو تقرير للمسيو ارتوركي احد رجال المشرقيات عند الفرنسيين وقنصل فرنسا في بغداد الآن وضعه باللغة الفرنسية عن حالة تلك الأصقاع في اقتصادياتها وقد وقع في 123 صفحة وفيه أمور نافعة وإحصائيات مدققة في الجملة تدل على مبلغ عناية المؤلف يدرس موضوعه. تلخيص التاريخ العثماني المصور تعريب شاكر بك الحنبلي طبع على نفقة المكتبة الهاشمية بدمشق في مطبعة الترقي أجاد

المعرب في تعريب هذا المختصر عن التركية في تاريخ ملوك العثمانيين والأحداث التي وقعت في أيامهم وقد حلاه بصور الملوك وخرائط منوعة وهو في 152 صفحة. إرشاد الناشئين لنعمان أفندي الأعظمي طبع على نفقة الأمير مبدر الفرعون آل فتلة في مطبعة الآداب ببغداد. هي دروس دينية علمية أدبية ألقاها الأستاذ الأعظمي على تلاميذه دلت على فضل وأدب وقعت في 65 صفحة. خطبة نادي الشرق في مطبعة سرسم في الموصل 1331هـ - هي خطب ألقاها في الموصل السيد محمد حبيب العبيدي من أساتذة الحدباء إبان الحرب العثمانية البلقانية وفيها ما يحرك الأشجان ويثير العواطف بعبارات عذبة تدل على فرط غيرة وطنية وحمية عربية عثمانية. الجغرافية العمومية تأليف احمد جودت أفندي المارديني وعلى نفقة المكتبة الهاشمية بمطبعة الترقي. هي الحلقة الأولى من علم تقويم البلدان جعلت لها أسئلة في أخر كل درس وقد حوت هذه السلسلة 28 شكلاً و8خرائط وقعت في 76صفحة فعسى أن يوفق المؤلف إلى إتمامها لفائدة النشء الجديد. الوقاية الصحية من الأمراض المعدية هي رسالة صحية للدكتور سليمان الحاج في صور طبعها في مطبعة العرفان لينفق ثمنها في بناء الجامع الجديد في بلده فنال مؤلفها اجرين اجر تعليم واجر عبادة. مجلة العلوم الاجتماعية يسرنا صدور مثل هذه المجلة النافعة في هذا القطر وهي تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع ومعظم أبحاثها جديد وهي لمنشئها توفيق أفندي الناطور المحامي ومدير

تحريرها الشيخ محمد منيب الناطور وقد عهد بتحريرها للجنة من الحقوقيين والاقتصاديين والاجتماعيين وهي تصدر مرة في الشهر في مدينة بيروت وعدد صفحاتها 32. وقد طالعنا في أعدادها الأولى مقالات نافعة وأبحاثاً معربة عن الإفرنجية تنير الشبهات فنحث على اقتنائها فهي من أجمل الكتب العصرية وما المجلات إلا كتب حديثة ممتعة. إرشاد الأديب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الرومي طبع بمطبعة هندية بمصر. لصديقنا الأستاذ مرجليوت احد علماء المشرقيات من الانكليز همة لا تكل في نشر آثار سلفنا وقد نشر بواسطة لجنة تذكار حبيب حتى الآن عدة كتب مفيدة ومنها هذا السفر النفيس لصاحب معجم البلدان وقد صدر في العهد الأخير الجزء الخامس والجزء السادس والأول في 520 صفحة والثاني في 531 صفحة الأول في تراجم من يبتدئ أسماؤهم بحرف العين وفيه من المشاهير ترجمة ابن حزم وابن سيده والكسائي والأخفش والأصبهاني والتوحيدي وابن العميد والماوردي وابن القفطي وابن عساكر وفي الثاني وهو بقية من أول اسمه عين وغين وفاء وقاف وكاف ولام وميم وفيه من المشاهير ترجمة الجاحظ والقاسم بن سلام والحريري وقدامة بن جعفر والبيروني والشافعي والطبري وأمثالهم من الأعلام والكتاب في طبعه وتصحيحه وتعليق حواشيه كسائر الأجزاء السابقة فشكراً للناشر ورحمة لمن وقف المال لإحياء آثار الشرقيين عربهم وفرسهم وتركهم. الإدارة في فارس هي دروس بالفرنسية ألقاها المسيو دمورني في أصول الإدارة الفارسية على تلميذه الشاه احمد شاه فارس الحالي وعلى طلاب مدرسة العلوم السياسية في طهران دلت على أحكامه لهذا الموضوع وانه في الحقوق مبرز تحرير والكتاب في 216 صفحة طبعه ارنست لرو الطابع في باريس سنة 1913. كتاب الطواسين

أبو الغيث الحسين بن منصور الحلاج البيضاوي البغدادي هو من المتكلمين والنظار قتل في بغداد سنة 309 بفتوى من بعض علمائها لأنه تكلم فيما يقال بما يخالف الشريعة واستهوى الناس وترجمته حافلة في تاريخ ابن الأثير وغيره وقد عثر له المسيو لويس ماسنيون من مستشرقي فرنسا بكتاب الطواسين فنشره بالعربية وترجمته بالفارسية وعلق عليه شروحاً وحواشي ترفع الغامض عن مذهب الحلاج وسهل على عارفي اللغة الفرنسية الوقوف على حقيقة كلام هذا المتكلم إن صح أن كتاب الطاسين من تأليفه لان العبارات أكثرها إلى العجمية لا يفهم لها معنى كبير ولا تنطبق مع شهرة الحلاج ولعل بعض الملاحدة دس عليه هذا الكتاب ولطالما دست الرسائل ونسبت الآراء لأناس من الأعاظم وهم لم يقولوها. معنى الطواسين جمع طاسين وقد جعلها أقساماً منها طاسين السراج وطاسين الفهم وطاسين الصفاء وطاسين الدائرة الخ وكلها معميات وألفاظها غير منتقاة ومعانيها غير محررة. ويشكر ناشرها ومعلق حواشيها على كل حال وقد طبعت على نفقة الكتبي بول غوتنر في باريس سنة 1913 في 222 صفحة فنشكر للمهدي هديته. 1912 تقرير المجمع السميثوني اعتاد هذا المجمع الأميركي أن يصدر كل سنة تقريراً مستوفي في مئات من الصفحات حاوية أبحاث الباحثين من العلماء وتقريره عن السنة الماضية قد وقع في 780 صفحة وفيه رسوم تنير النصوص. عزة الأمس ذلة اليوم خطاب للميرزا محمد رحيم بالفارسية تعريب الشيخ محمد الكاظمي طبع بمطبعة ولاية بغداد 1331 ص53. عدد صاحب هذا الخطاب البلاد والممالك التي دخلها المسلمون وحكموها من سور الصين شرقاً إلى البحر الاتلانتيقي غرباً إلى نهر السين شمالاً إلى بحر عمان وعدن وجزائر مدغشقر جنوباً فاستولوا في البر على ما يساوي أكثر من ضعفي أوربا من المعمورة وعدد الدول المعظمة في الإسلام وعدد منها الدولة الأموية الشرقية، العباسية الأموية الغربية، الادريسية، الأغلبية، الطاهرية، العلوية، الصفارية، الطولونية، السامانية، المسافرية،

الفاطمية، المكناسية، الزبادية، البويهية، الإخشيدية، الادريسية الثانية، الكلبية، الشاهينية، الحسينية (إحداها في كردستان انقرضت والثانية في تونس لا تزال) الغزنوية، الصنهاجية، المروانية، المعزاوية، الايليكية، المرابطية، المزيدية، الزيرية، الحمودية، الهودية، العامرية، المرداسية، العبادية، الافطسية، الجهورية، ذي النونية، السلجوقية، البورية، الارتقية، الشاهية، الموحدية، الزنكية، الخوارزمية، الغورية، الأيوبية، التاتارية، الحفصية، المرينية، النصرية، الزيانية، الممالكية، العثمانية، الوطاسية، الصفوية، السعدية، الغيلالية، الفلجائية، الحسينية، النادرية، الابدالية، الزندية، القاجارية، المحمدية العلوية، الباركزائية. وتكلم عن الثروة والمالية فقال انه كان يدخل بيت مال المسلمين زمن المأمون من المال ما يساوي ثلاثمائة وخمسين مليون فرنك بعد طرح جميع نفقات الدولة في حين نرى انكلترا وهي أغنى دول الأرض وعليها من الديون ما يقرب مليار ليرة وروسيا وعليها مثل ما على انكلترا. وتوسع في الكلام عن العلماء والعلوم والمكتبات والمساجد وقصور الملوك في الشرق والغرب ومنها ما كلف الملايين من الجنيهات. وألم باهتمام السلف في تعمير الأراضي وتوسيع البلاد فقال كانت مساحة مدينة قرطبة في الأصل 33 ألف ذراع فاهتموا في توسيعها فبلغت طولاً 24 وعرضا ستة أميال فصار المجموع 144 ميلاً مربعاً وهذه مدينة لندن أوسع بلاد العالم تشتمل على ما يقرب من سبعة ملايين من النفوس مساحتها 117 ميلاً مربعاً وكان سكان مدينة بغداد مليوناً ونصفا وعدد شوارعها 64 ألفا وأنهارها 150 ألفاً ودورها 240 ألفاً ونفوس بغداد اليوم لا تبلغ 150 ألفاً وكانت انهار البصرة في عهد بلال بن أبي درة 100 ألف نهراً تجري فيها السفن الصغار ومن هنا يمكنك أن تقيس عدد نفوسها وبلغت مساحة البصرة 39 ميلاً مربعاً وكان عرض الشارع العام فيها 60 ذراعاً وسائر الشوارع 20 ذراعاً ونفوس البصرة اليوم 30 ألفاً وكان عدد رجال مصر بعد الفتح ثمانية ملايين فإذا أضفنا إلى ذلك الأطفال والشيوخ والنساء يبلغ عدد نفوسها ثلاثين مليوناً وكانت مساحة أرضها الزراعية في زمان هشام بن عبد الملك ثلاثين مليوناً من الأفدنة وقيل انه كانت الفسطاس في الاتساع بحيث اشتملت على 36 ألف مسجد وثمانية ألاف شارع عام و1170 حماماً وبلغت طبقات دورها سبع طبقات لشدة الازدحام وكان كثير من دورها يشتمل على مائتي نفس وصرفوا على بعض أبنيتها مثل دار الحرم

بحمارويه 350 ألف جنيه. وأفاض في المستشفيات ودور العجزة والطب والأطباء والمراصد الفلكية والسفن والمواني والصناعات وسخاء الأمراء والأغنياء بما لا يكاد يصدق لولا أن ذكره ثقات الرواة وقال أنهم حيروا العالم بثروتهم الشخصية فبلغت غلة الخيزران أم الرشيد في السنة 160 مليون فرنك وبلغت غلة يحيى وابنه جعفر في كل سنة 100 مليون جنيه وكانت تركة المنصور بعد موته 600 مليون فرنك من الفضة وسبعة ملايين جنيه من الذهب وكانت تركة يعقوب بن ليث الصفار خمسين مليون فرنك من الفضة ومليوني جنيه من الذهب وقدرت تركة المستكفي بخمسين مليوناً من الجنيهات وكانت تركة إبراهيم الموصلي مغني الرشيد 24 مليون فرنك وأوصى الرشيد إلى المأمون بألف مليون فرنك وكانت 600 بعير تحمل مطبخ عمرو بن ليث الصفار و800 بعير تحمل الماء كل يوم إلى طعام عائلة المقتفي العباسي من دجلة وكان لام المستعين فراش صرف عليه 60 مليوناً من الجنيهات عليه نقوش على شكل الحيوانات والطيور أبدانها من الذهب وعيونها من الجوهر وقد فاقت الدولة الإسلامية دول الأرض في الثروة وكانوا يظهرون أثار ذلك لسفراء الأجانب وهؤلاء كثيراً ما يستنصرون بدول الإسلام واخذوا الخراج من دول الروم والصين والنمسا والروس ولطالما كانت دول الإفرنج تتقرب بإرسال الهدايا والتحف إلى مقام الخلافة وأورد بعض الأمثلة التاريخية على كل ذلك. ثم أفاض في الذلة التي لحقت الإخلاف فرده إلى البطالة والتسامح وقلة عنايتنا بالعلم والدين مما عرفه الخاص والعام. كتاب الشيعة وفنون الإسلام تأليف السيد حسن الصدر طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 ص150 مؤلف هذا الكتاب من كبار فقهاء الشيعة في العراق واحد مؤلفيهم ذكر فيه العلوم التي تقدمت الشيعة في وضعها وأول من وضع ذلك العلم ومن صنف فيه أو اخترع علماً من فروع ذلك العلم وصنف فيه أول من ابتكر معنى اتبع فيه وأول من افرد نوعاً من العلم في التصنيف إلى غير ذلك مما دل على بعد غور المؤلف وسعة مادته ولطف أسلوبه وإنا مع إجلالنا لعمله وتقدير التاريخ للخدم الجليلة التي قام بها علماء مذهبه في خدمة العلم والأدب لا نرى بداًً من إبداء ملاحظة عساها تقع من المؤلف وغيره في المحل الذي يجب أن توضع فيه وهو

أن هذا الكتاب يحوي أماكن لا يقرها التاريخ الصحيح مثل نسبة التشيع إلى كثير من علماء الصدر الأول فان كان كل من يحب علياً كرم الله وجهه يعد في نظر المؤلف شيعياً فان جمهور المسلمين شيعة إلا قليلاً. كنا نحب أن لا يشار إلى ذلك في هذا المكان ولكن المؤلف تحامل أيضا على عظماء في العلم والحكم كقوله في تقدم الشيعة في فن الجغرافيا في صدر الإسلام أن هشام بن محمد الكلبي صنف فيه عدة كتب ولم يذكر الحموي في معجم البلدان إلا كتاب سماه اشتقاق البلدان فقال أن ياقوتاً اغفل جملة من مصنفات علماء الشيعة في ذلك لو تعصب عليهم مع انه يستحيل التعصب على مثل صاحب معجم البلدان وان اتهم بأنه من النواصب ومصنفه في الجغرافيا لا في المذهب ولو ظفر ببقية كتب الكلبي ما تأخر ساعة عن الاقتباس منها والتنويه بفضل واضعها. وقد تابع المؤلف مؤرخي الشيعة في اتهام المأمون رضي الله بقتل الفضل بن سهل وعلي بن موسى الرضا رضي الله عنه فقال: ولما نقل المأمون الخلافة إلى بني علي كان الفضل بن سهل هو القائم بهذا الأمر والمحسن له ولما رأى المأمون إنكار العباسيين لبغداد لذلك حتى خلعوه وبايعوا إبراهيم عمه قام وقعد ودس جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام ثم قتل الإمام الرضا (ع) بالسم وكتب إلى بغداد أن الذي أنكرتموه من أمر علي بن موسى قد زال وكان ذلك سنة 204هـ -. والعجب أن هذه القصة التي ما تزال يرددها بعضهم ليس لها اثر في كتب ثقات المؤرخين بل مؤرخي الأمة فكأنها من موضوعات القرون المتأخرة تتناقل لا يغار الصدور على المأمون ودولته مع انه لم يحسن احد للطالبين إحسان الخليفة المأمون ولم تتجرد نفس خليفة من الجمود المذهبي تجرده منه كما ذكر ذلك الثقات الذين يعتد بأقوالهم ويكاد يقع الإجماع على تصحيح رواياتهم. وكنا نود لو خلت الكتب العلمية العصرية على الأقل من هذه النزعات لتقريب ما بين القلوب. الوساطة بين المتنبي وخصومه لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني المتوفى سنة 396هـ - عني بنشره وشرحه الشيخ احمد عارف الزين طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331

ص416. لم يرزق شاعر عربي من الخطوة ما ناله أبو الطيب المتنبي بشعره ولم تتناول الأقلام شعر شاعر بالمدح والقدح مثله. وهذا الكتاب هو من الأمهات التي كتبت في ذاك العصر وعدل مؤلفها في حكمه على المتنبي وناهيك بمن يحكم له وعليه أمثال القاضي الجرجاني إنسان حدقة العلم ودرة تاج الأدب وفارس عسكر الشعب كما قال الثعالبي. ولقد أجاد صديقنا صاحب العرفان بنشر هذا السفر النفيس كل الإجادة فإحياءه بالطبع منقولاً عن نسختين إحداهما عراقية والثانية مصرية وعلق عليه شروحا خفيفة تبين بعض الغوامض اللغوية منه وأتبعه بفهارس لأسماء الأعلام وللأبيات الشعرية وجود طبعه حتى جاء كأنه طبع على يد احد علماء المشرقيات من الغربيين ولم ينقص هذا العمل سوى الشكل فلو كان شكل محل الأشكال لجاء كتاباً تاماً من كل وجه وانتفع به الطلاب كما انتفع الأساتذة. الكتاب مجموعة فوائد لغوية وأدبية وهو غاية الغايات في تعليم النقد ويكفي في الدلالة على مكانته من الدب ما قاله صاحب اليتيمة: ولما عمل صاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره فأحسن وأبدع وأطال وأطاب وأصاب شاكلة الصواب واستولى على الأمد في فصل الخطاب وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد فسار الكتاب مسير الرياح وطار في البلاد بغيرناح.

جزاء العلماء والأدباء

جزاء العلماء والأدباء البشر سائر نحو الديمقراطية اليوم بعد اليوم في جميع ما فيه قوام الحياة المادية والمعنوية والعلم اليوم من جملة ما يخرج من قيود الارستقراطية والتيوقراطية والالغارشية إلى ساحة الديمقراطية الفسيحة لأنه أحق كل الأوضاع بان لا يكون عبداً أو مستعبداً لأحد. كانت العرب على عهد حكوماتهم الراقية تحسن إلى العلماء والأدباء إحساناً لا يحتاج معه العالم والأديب إلى بذل ماء الوجه ليعيش فالوظائف كانت للعلماء وكم من قاضٍ أو عامل أو وزير خلف وهو في وظيفته مصنفات كثيرة ساعدته على البحث فيها وتوفير المواد النافعة لها ومنهم من لم يحبوا أن يشغلوا أوقاتهم في النظر في شؤون الناس وأحبوا الانقطاع إلى العلم بتة ومع هذا لم تفتأ الأمة تتعهدهم بما يصلح من شانهم ليتوفروا على الانصراف إلى ما اخذوا النفس به وما تقرؤوه في تضاعيف الكتب من أفضال بعض الملوك والأمراء والأغنياء على الشعراء ليس الباعث إليه حب المديح فقط بل تشجيع الأدب والأدباء ولذلك نرى كثيرين وقفوا في أبواب الكبراء ولكن لم نسمع بالعطايا الباهظة تقدم إلا للمجيدين في شعرهم المبرزين بأدبهم على الأغلب أما المتوسطون من العلماء والأدباء فكانوا يرزقون على نسبة عقولهم رجاء أن يكون من صفوفهم نوابغ يخلفون السابقين المبرزين. اختلفت طرق إكرام العلماء فكان العظيم في دولة بني العباس يعطي العظيم من العلماء مبلغاً قد يستغني به أو يمنحه ضيعة أو يقوم بجميع نفقته طول العمر ويغنيه عن السؤال من احد أو يرزقه من عدة طرق كما وقع للزجاج وقد طلب منه المعتضد شرح كتاب جامع المنطق فعمل البتاني فاستحسنه المعتضد وأمر له بثلاثمائة دينار قال ابن النديم وتقدم إليه بتفسيره كله ولم يخرج لما عمله الزجاج نسخة إلى احد إلا إلى خزانة المعتضد وصار للزجاج بهذا السبب منزلة عظيمة وجعل له رزق في الندماء ورزق في الفقهاء ورزق في العلماء ثلاثمائة دينار. قلنا ومن العلماء من كانوا يرزقون عدة أرزاق لعلمهم ولإرادة الملوك ترفيههم وغناهم أي أن يأخذ رزقا أو راتباً في المهندسين ورزقا مع الفقهاء وأخر مع الأطباء وأخر مع الندماء. ولما أنشأت المدرستان النظامية ثم المستنصرية (المقتبس م1ص268و571) في بغداد وكثرت المدارس في مصر والشام على عهد الدولتين الأيوبية والجركسية اخذ الواقفون

يجعلون على تدريس تلك المدارس طبقة مختارة في الجملة من العلماء. ومن العلماء من كانوا قيمين على المدارس ومنهم القيمون على خزائن الكتب ومنهم على المستشفيات والزوايا والمساجد والأوقاف والضياع السلطانية ومنهم القائمون على الأرصاد والمراصد والسفراء إلى الملوك المجاورة وكل هؤلاء كان يوسع عليهم في مشاهرتهم وإداراتهم. أما الإفرنج في القرون الوسطى فكان المفضل على علمائهم باباواتهم وكرادلتهم وبطارقتهم وأسقافهم وقسوسهم ثم بعض المنورين من ملوكهم وأعيانهم فلما جاء الدور الحديث وأنشئت في الغرب المجامع العلمية والجمعيات المنوعة والكليات والمدارس العليا أصبح العلماء يأملون الرز من اللحاق ببعض هذه الأوضاع وكثير من جمعياتهم جعلت لها مبلغاً سنوياً خصته بمكافأة المجيد في فنه والواضع فيه كتاباً أو المخترع فيه اختراعاً وبعد أن كان أهل الخير في القرون الماضية يحبسون الأموال ويقفون الضياع والعقار على إقامة البيع والكنائس أصبحوا الآن يجعلونها على الجمعيات والنقابات والجامعات وقد كان لأغنياء أميركا الشمالية في ذلك القدح المعلى فأنشئوا بثرواتهم الطائلة يفضلون على المعاهد الخيرية لتتعهد هي الأفراد المستحقين من العلماء والباحثين المخترعين. ومعظم العلماء والأدباء اليوم في الغرب يتكلمون في جلب معاشهم على قوتين ديمقراطيتين التأليف والتمثيل ساعد عليهما قوتان مهمتان انتشار الطباعة وكثرة المسارح 0وهاتان القوتان قائمتان ولا شك بإقبال الجمهور المتعلم فمن وفق إلى أن يصادف كتابه ومقالته أو قصيدته أو قصته إقبالاً من الناس يشتهر ومتى اشتهر فهناك المجد الأثيل والمال الجزيل وأنت ترى أن المجتمع العربي كان محروما من قوتين الطباعة والتمثيل ولذلك كان المتعلمون فيه أقل مما هم في المجتمع الغربي لعهدنا وكانت قوة الظهر عند العلماء الأمراء والأغنياء والنابغة منهم كان على ثقة من أنه يحيا بتأليفه في حياته ومماته حياة مادية ومعنوية. قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ إلك بالبصرة ضيعة فتبسم وقال: (إنما أنا وجارية وجارية تخدمها وخادم وحمار. أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك الزيات). فأعطاني خمسة ألاف دينار وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي داؤد فأعطاني خمسة

ألاف دينار وأهديت كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة ألاف دينار فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد وكان أبو عبيد القاسم بن سلام إذا ألف كتابا حمله إلى عبد الله بن طاهر فيعطيه مالاً خطيراً فلما صنف غريب الحديث إهداء إليه فقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لتحقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش وأجرى له في ك شهر عشرة ألاف درهم. وروى انه قال عملت كتاب غريب المصنف في ثلاثين سنة وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار. وسير أبو دلف القاسم بن عيسى إلى عبد الله ابن طاهر يستهدي منه أبا عبيد مدة شهرين فأنفذه فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لا يحوجني إلى غيره فلما عاد أمر له ابن طاهر بثلاثين ألف دينار فاشترى بها سلاحاً وجعله للثغر. قال أبو العباس احمد بن يحيى قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج فنزل في دار اسحق بن إبراهيم فوجه اسحق إلى العلماء فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم فحضر أصحاب الحديث والفقه واحضر ابن الإعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد فغضب اسحق من قوله ورسالته وكان عبد الله بن طاهر يجري له في الشهر ألفي درهم فقطع عنه الرزق وكتب إلى عبد الله بالخبر فكتب إليه عبد الله قد صدق أبو عبيد في قوله وقد أضعفت له الرزق من اجل فعله فأعطه فائته وادر عليه بعد ذلك ما يستحقه. ولقد نزل أبو الجيش الموفق مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس بعد الفتنة الجزائر التي شرقي الأندلس وهي دانية ومنورقة فغلب عليها وحماها وقصد سردانية وكان من الكرماء على العلماء كما قال ياقوت يبذل لهم الرغائب خصوصاً على القراء حتى صارت دانية معدن القراء بالغرب وهو الذي بذل لأبي غالب تمام بن غالب ألف دينار ليزيد اسمه في ديباجة كتابه فلم يفعل. قال ياقوت (معجم الأدباء) ولتمام تلقيح كتاب العين في اللغة لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وله فيه قصة تدل على فضله وذلك أن الأمير أبا الجيش مجاهد بن عبد الله العامري وهو احد المتغلبين على تلك

النواحي وجه إلى أبي غالب هذا أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد فرد الدنانير ولم يفعل وقال: والله لو بذل لي ملا الدنيا ما فعلت ولا استجزت الكذب فاني لم اجمعه له خاصة لكن لكل طالب عامة. قال الحميدي فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. قال المقري إن مجاهد ملك دالية بذل لأبي الغالب اللغوي هذا ألف دينار ومركوباً وكساء على أن يجعل الكتاب باسمه فلم يقبل ذلك أبو الغالب وقال: كتاب الفته لينتفع به الناس واخلد فيه همتي اجعل في صدره اسم غيري واصرف الفخر له لا افعل ذلك فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته واضعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه لا نصده عن غرضه. وهكذا كنت ترى كثيرا من العلماء يأبون على ضيق ذات بدهم أن يأخذوا شيئاً على تأليفهم كما فعل أبو الريحان البيروني الفيلسوف فانه لما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه ورفض العادة في الاستغناء به. أما الشيخ الرئيس ابن سينا الفيلسوف فما كان يستنكف على جلالة قدره العلمي من أن يقدم احد كتبه لأحد أمراء عصره بل انه كان من جملة ندماء علاء الدولة صاحب همدان. ومن العلماء من كانت تبلغ بهم العفة درجة الغلو فقد حكا بعضهم عن أبي العباس ابن الرومية النباتي الأندلسي انه كان جالساً في دكانه باشبيلية يبيع الحشائش وينسخ فاجتاز الأمير أبو عبد الله بن هود سلطان الأندلس فسلم عليه فرد عليه السلام واشتغل بنسخه ولم يرفع إليه رأسه فبقى واقفاً منتظراً أن يرفع إليه رأسه ساعة طويلة فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى. قاله المقري في نفح الطيب. ومثل ذلك ما وقع الفيلسوف الرياضي أبو علي ابن الهيثم فانه وزر في البصرة لأول أمره ثم أحب التجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم قال ابن أبي أصيبعة فاطهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره وبقي كذلك مدة حتى مكن من تبطيل الخدمة وصرف من النظر الذي كان في يده ثم انه سافر إلى ديار مصر وأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر بها وكان يكتب في كل سنة إقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ذلك الثمن ولم تزل هذه

حاله حتى توفي. وذكر يوسف الفاسي الإسرائيلي الحكيم بحلب قال: سمعت أن ابن الهيثم يقول كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب في ضمن اشتغاله وهي إقليدس والمتوسطات والمجسطي ويستكملها في مدة السنة فذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين ديناراً مصرياً وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول فيجعلها مؤنة لسنته. ولقد كنت تجد في كل صقع من أصقاع العرب ملوكاً واقيالاً وأمراء ووزراء احيوا دولة العلم والأدب بحسناتهم مثل الوزيرين ابن عباد وابن العميد في بغداد وبني عباد في الأندلس الذين يقول فيهم ابن حزم أن الأيام لم تزل بهم كأعياد وكان لهم من الحنو على الأدب ما لم يقم به بنو حمدان في حلب وكانوا هم ووزرائهم صدوراً في بلاغتي النظم والنثر مشاركين في فنون العلم وآثارهم مذكورة وأخبارهم مشهورة. نعم تساوت في الرفد للعلماء دولة الشرق العباسية البغدادية ودولة الغرب الأموية الأندلسية. أراد الحكم الربضي ذات يوم في قرطبة أن يقدم شخصا من الفقهاء يختص به للشهادة فاخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن يكون في هذه الحالة لا نؤمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك ولما شكا إلى ولده عبد الرحمن قائلاً ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل لا يعيبهم ولا هو مما يزروهم صدونا عنه وأغلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم قال لوالده: يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف أن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم إنما قدمهم ونوه بهم علمهم أو كنت تأخذ قوماً جهالة فتضعهم مواضعهم قال: فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال: صدقت. فلم يجد الخليفة بداً من إعطاء ذاك الفقيه ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى فنبه قدره بان أعطاه من اصطبله مركوباً وكانت هذه أكرومة لإخفاء بعظمها. يفنى الزمان وما بنته مخلد. ولو جئنا نعدد المؤلفين الذين أهدوا للعظماء تأليفهم فأجزل هؤلاء لهم العطايا لطال بنا نفس الكلام فمنهم محمد بن يوسف الوراق ألف للمستنصر في مسالك افريقية وممالكها ديواناً ضخماً ومنهم الشريف الإدريسي الذي ألف لروجار صاحب صقيلية كتابه في الجغرافية

أيضا ومنهم ابن السيد البطليوسي ألف باسم عبد السلام الملقب بسحنون. وأهدى أبو علي القالي أماليه للحكم عبد الرحمن بن محمد ولي عهد المسلمين في الأندلس وأهدى ابن خلدون تاريخه إلى أبي الحسن بن مرين من ملوك الأندلس. وألف أبو منصور الثعالبي كتاب فقه اللغة باسم أبي الفضل الميكالي وأهدى أبو الحسن بن رشيق كتاب العمدة لأبي الحسن علي بن أبي الرجال الكاتب. حكا (عن تاريخ الوزراء) محمد بن ناصح الاهوازي قال حدثني النضر بن شميل المازني قال: كنت ادخل على المأمون في سمرة فدخلت عليه ذات ليلة وعلي قميص مرقوع فقال: يا نضر ما هذا القشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحر ومر شديد فاتبرد بهذه الخلقان فقال: ولكنك قشف ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن العباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان سداد من عوز فأورده بفتح السين قال فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد (بالكسر) من عوز قال وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا نضر كيف قلت سداد قلت: نعم لان السداد: هنا لحن قال: أو تلحنني قلت: إنما لحن هشيم وكان لحاناً. فتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما قلت: السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسداد بالكسر البلغة وكلما سددت به شيئاً فهو سداد قال: أو تعرف العرب ذلك قلت: نعم هذا العرجي يقول: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فقال المأمون قبح الله تعالى من لا أدب له واطرق ملياً ثم قال: مالك يا نضر قلت: اريضة لي بمرو اتصابها واتمززها أي اشرب صبابتها قال: أفلا أفيدك مالاً معها قلت: إني إلى ذلك لمحتاج قال: فاخذ القرطاس وأنا لا ادري ما يكتب ثم قال: كيف تقول إذا أمرت من أن يترب الكتاب قلت: أتربه قال: فهو ماذا قلت: فهو مترب قال: فمن الطين قلت: طنه. قال: فما هو قلت: مطين قال: هذه أحسن من الأولى ثم قال: يا غلام أتربه وطنه ثم صلى بنا العشاء وقال: لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل قال: فلما قرأ الفضل بن سهل

الكتاب قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم اكذب فقال: لحنت أمير المؤمنين قلت: كلا إنما لحن هشيم وكان فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار ثم أمر لي الفضل من خاصته بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني. قال أبو بريد الوضاحي: أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ووكل بها جواري وخدماً للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلوات وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين فكان الوراقون يكتبون حتى صنف الحدود وأمر المأمون بكتبه في الخزائن فبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ يملي كتاب المعاني وكان وراقيه سلمة وأبو نصر قال: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم تضبط فلما فرغ من إملاءه خزنه الوراقون عن الناس ليكتسبوا به وقالوا: لا تخرجه إلى احد إلا لمن أراد أن ننسخه له على أن كل خمس أوراق بدرهم فشكا الناس إلى الفراء فجعا الوراقين فقال لهم في ذلك: فقالوا: نحن إنما صحبناك لننتفع بك وكلما صنعته فليس بالناس إليه حاجة ما بهم إلى هذا الكتاب فدعنا نعيش به فقال: قاربوهم تنفعوا وتنتفعوا فأبوا عليه فقال: سأريكم وقال للناس: إني أريد أن أملي كتاب معانٍ أتم شرحاً وابسط قولاً من الذي أمليت فجلس يملي وأملى في الحمد مائة ورقة فجاء الوراقون إليه فقالوا نحن نبلغ الناس ما يحبون فنفسخ كل عشر أوراق بدرهم. ومثل ذلك في اقتراح الملوك على العلماء تأليف يؤلفونها ما وقع لابن الصفار الأندلسي لما أراد الحكم المستنصر غزو الروم سنة 352 فتقدم إليه وكان مشهوراً بالعلم والأدب بالكون في صحبته فاعتذر بضعف في جسمه فقال المستنصر لأحمد بن نصر قل له: إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق وبالأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفته من الغزاة فخرج احمد بن نصر إليه بذلك فقال: افعل ذلك يا أمير المؤمنين إن شاء الله قال فقال المستنصر: إن شاء أن يكون تأليفه في منزله فذلك إليه وإن شاء أن يكون في دار الملك المطلة على النهر فذلك له قال: فسأل أن يكون ذلك في دار الملك وقال: أنا رجل مورود في منزلي وانفرادي في دار الملك لهذه الخدمة اقطع لكل شغل

فأجيب إلى ذلك وكمل الكتاب في مجلد صالح وخرج به احمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد بطليطلة فسر الحكم به. والله اعلم كم أعطاه مكافأة عن تعبه. قال ابن المعتز في طبقات الشعراء: أجود ما قاله مروان بن أبي حفصة قصيدته الغراء اللامية التي فضل بها على شعراء زمانه يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني ويقال انه اخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره ولم ينل احد من الشعراء الماضيين ما ناله مروان بشعره فمما ناله ضربة واحدة ثلاثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد ويقرب من ذلك ما ناله أبو الطيب المتنبي من مكارم سيف الدولة بن حمدان فانه اغتنى بشعره ولا اغتناء زولا وروستاند وغيرهما من أدباء الفرنجة لعهدنا. وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي حكا ابن جلجل أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب صنف لمنصور بن اسحق ابن احمد بن نوح من ولد بهرام جور صاحب كرمان وخراسان كتاباً في إثبات صناعة الكيمياء وقصده به بغداد (وكان بنو سامان يحبون العلم ويكرمون العلماء) فدفع له الكتاب فأعجبه وشكره عليه وحباه بألف دينار وقال له أردت أن تخرج هذا الذي ذكرته في الكتاب إلى الفعل فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمنون له المؤن ويحتاج إلى آلات وعقاقير صحيحة والى إحكام صنعه ذلك كله وكل ذلك كلفة فقال له منصور: كل ما احتجت إليه من الآلات ومما يليق بالصناعة احضره لك كاملاً حتى تخرج ما ضمنته كتابك إلى العمل فلما حقق عليه ذلك كاع من مباشرة ذلك وعجز عن عمله فقال المنصور: وما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل قلوب الناس بها ويتعبهم فيما لا يعود عليهم من ذلك منفعة ثم قال له قد كافأناك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب فجمل السوط على رأسه ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى ينقطع ثم جهزه وسير به إلى بغداد فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه. هذه أمثلة قليلة مما كانت عليه حالة العلماء والأدباء في عصور ارتقاء العرب على أن الحال لم تكن تخلو من بائسين ومفلوكين (راجع الفلاكة والمفلوكين للدلجي) من العالمين

والمتأدبين أما اليوم فان العالم الحقيقي الذي تعزف نفسه عن الدخول في سلك عمال الحكومة كالوظائف العلمية والإدارية والجندية والمالية إما أن يهلك جوعاً أو يتكسب بقلمه ما هو سداد عوز ويرضى بميسور العيش وفي الغالب إن التأليف لا تعول صاحبها ولو مهما جودها وانفق السنين في تصنيفها ولا يرمج لجهل القوم من المصنفات إلا التافه الحقير كبعض القصص والدواوين الشعرية البذيئة وغير ذلك من المعربات فهل يأتي على الأمة العربية يوم يا ترى تكون فيها التأليف ديمقراطية صرفة لا تحتاج إلا إلى إقبال القراء عليها حتى تغني أبا عذرها وترباً بنفسه عن الإسفاف للدنايا طمعاً في المال والنوال فانا في عصر لا يصح أن يعيش العلماء والأدباء مقتراً عليهم فإنهم كلما رزقوا حظاً من الرفاهية المعتدلة تجود تأليفهم وتصوراتهم ويزيد النفع ببنات أفكارهم.

نهضة ايطاليا

في ديار الغرب نهضة ايطاليا ايطاليا القديمة كنت أحب أن اسطر قبل الآن ما اعرفه وعرفته عن النهضة الايطالية إلا أنني انتطرت ريثما قضيت شهراً في هذه الشبه الجزيرة ورأيتها إجمالاً من جنوبها إلى شمالها وقد اعتمدت فيما اكتب على من وقعت لي معهم تعارف من خاصة الطليان أو ما قرأته بأقلام الطليان بالفرنسية أو ما كتبه الفرنسيين عن الطليان وهو وان لم يكن مجموعاً صحيحاً من كل الوجوه لكنه اقرب إلى الصحة من كثير من الأحكام التي يصدرها صاحبها عفو القريحة وبادئ الرأي. وكنت أود لوسمح لي الزمان بتعلم مبادئ من لغة الطليان الرقيقة لأخاطب العامة كما أخاطب الخاصة بلغتهم نفسها واسمع تصوراتهم والقي عليهم الأسئلة وادرس أحوالهم بالنفس ولكن المدة التي قضيتها لا تكفي لان يتعلم المرء القدر الكافي للتفاهم بهذه اللغة مع قربها جداً من الفرنسية ولولا الخوف من علماء أصول اللغات لقلت أن الايطالية تحريف الفرنسية أو هذه تحريف تلك. ثبت كل الثبوت بعد الرحلة إلى ايطاليا أن مسالة اللغة من أهم المعضلات الاجتماعية التي يصعب حلها إلا بان يتعلم المشتغل بالعلم والتجارة عدة لغات من اللغات الحية كما يفعل الغربيين اليوم وان العامة أيضاً لأغنية لهم عن تعلم مبادئ طفيفة من لغة راقية منتشرة وان من كان يبيع منا أفكاره الصائبة بان الموظف يستطيع أن يحكم في لد لا يفهم لغة أهله وان التاجر يستطيع بواسطة الترجمان أن ينفق سلعته ويربح ويستفيد من كان لم تكن أفكاره أرقى من انفه إذ لم يستند فيها إلى تجارب ولا إلى تاريخ واجتماع. وها نحن نتكلم على نهضة ايطاليا فنقول: قضى مركز ايطاليا الجغرافي أن تكون في الأزمنة القديمة مركزاً عظيماً من مراكز المدينة لتوسطها بين الشرق والغرب وكانت رومية نقطة هذا الاتصال وواسطة هذا العقد منذ قام الرومان الأول واخذوا يدوخون الأمم والشعوب لسلطانهم. ولما وضع الشعب اللاتيني أول جسر على نهر التبر وهو نهر رومية المقدس ومن اكبر انهار ايطاليا أصبحت رومية مطمح الأنظار وصار هذا الجسر الذي كان

بناؤه اقرب إلى الفطرة مما يستهوي قلوب شعوب الشمال للإغارة عليه لان منه يخلص المرء إلى ساحل البحر المتوسط على أيسر سبيل. ولما دفع اللاتينيون عن جسرهم غارات الاتروكسين واليونان أصبح مقدساً ومن ملكه كان هو الزعيم بلا مدافع. تمثلت بالقرب من هذا النهر ثلاثة مطالب أساسية للمرء والمجتمع وهي ضمانة الحياة المادية وموافقة الحياة الأدبية والصعود إلى الحياة العقلية بمعنى أن المرء يعيش ويحب ويعرف وان يكون في المجتمع قانون ودين وعلم. قارب الرومان القدماء هذه المظاهر الثلاثة ولكن الحياة المادية كانت أتم عندهم لأنهم محاطون بأعداء إن لم يحاربوهم بالمادة يهلكون لا محالة. وكانت الحياة العقلية في كثير من ادهارهم تامة بالنسبة لتلك الآباء ونظام الأسرة ثابت الدعائم وحب الجندية مغروساً فيهم حتى كان الوالد يقدم ولده للخدمة العسكرية في السادسة عشرة ليعفى منها في السادسة والأربعين وعلى قلة عدد السكان إذ ذاك وهو كما قال المؤرخون (150) ألف نسمة في رومية وذلك قبل المسيح بخمسة قرون في ارض ذرعها 450 ميلاً مربعاً كان للرومان جيش مؤلف من ثلاثين إلى أربعين ألف نسمة يخرجون بهم من فتح إلى فتح. وكان الرومان إذا فتحوا بلاداً يقبلون في الحال ما يتراءى لهم حسناً من عادات أهلها وصناعاتهم وأسلحتهم وهذا سر وضع القانون الروماني الذي هو ابن الأوضاع الكثيرة وسليل شعوب عدة ألاف في قرون وتعاورته الأيدي بالشرح والتذليل والإنقاص حتى أصبح دليل الحكمة الرومانية بل هو مجلة الحقوق الإنسانية التي لا تتغير. وكانت تلك الحروب الرومانية من مجددات حياتها وحماستها الوطنية حتى لقد قال ليكورك الخطيب الأثيني ليس أحسن عاملاً من الحرب في تقوية الشعب لأنها تعلمه احتقار الأخطار والإخلاص لسلامة غيره ولأسرته ووطنه. ولما تخلص الرومان من السيزيلبيين كاد القرطاجنيون أن يهلكوهم فظفر الرومان بهم وورثت رومية مجد قرطاجية التي سقطت بعد الحروب البونيكية وقضت رومية على انيبال القرطاجني الذي جاء وهددها في عقر دارها وكان فتح الرومان لمصر وكثير من أقطار أسيا ومنها الشام من اكبر دواعي قوتهم فجلبوه به ثروة واعلاقاً نفيسة وكان من أكثر المشوقات للعسكر الذي أخذت رومية تستخدمه بالأجرة إن كان يعطى له شيء من الأنفال

والغنائم لا كما كان في القديم يستأثر بها الزعيم أو رب الأسرة. ولما جعلت رومية بلاد اليونان ولاية رومانية أخذت عنها الذوق في الفنون الجميلة وكلما كان الرومان يجابون من كورنت وأثينا أثراً من أثار الهندسة والنقش والجواهر كانت تتربى أذواقهم ولم يكتفوا بالآثار بل جلبوا معها مؤثريها من مثل الخطباء والسفسطائيين من الحكماء فأصبح للخطابة شان مهم في الحياة العامة وصار ملعب الفووم المشهور الباقية إلى اليوم آثاره عكاظ الرومان يخطبون فيه ويتناقشون واخذوا يبعثون بفتيانهم إلى أثينا يتعلمون على حكماء الوقت إذ ذاك ما ينفعهم ثم هاجر كثير من العلماء الاثنين إلى رومية وانشئوا يعلمون كل طالب وبلغت النهضة أشدها على عهد الإمبراطور أغسطس وسقطت بعده بقليل شان أكثر مدنيات العصور السالفة كانت من عمل حاكم أو أمير أو بضعة حكام ثم يتناسى الأمر ويزهد فيه. جاءت أزمان ادخل فيها اليونان على الرومان أموراً أضعفت من سلطة الوالد على أولاده وتركت الحياة الجندية وأخذت الشبه والشكوك تسري إلى العقول وكثرت الموبقات بكثرة الرفاهية فكان بذلك انهيار ذاك البناء وخراب العالم الروماني فقضي على رومية وذهبت تلك المدينة كما ضعفت في النفوس آثار الوثنية واخذ الاضطراب يدخل في نظام تلك الحضارة ويبعثرها وكثر الانتحار واليأس من الحياة ومن لم يحبوا الانتحار يؤثرون العزلة وسرى اليأس من الطبقة الممتازة والأغنياء إلى البائسين والخدمة ولما كانت الحال على ذلك والنفوس تضيق من هذه المظاهر جاءت النصرانية على أنقاض المدينة الرومانية وكان لها من النساء اكبر عون على الانتشار فرأى فيها من دانوا بها عزاء لهم وسلوى. والدين وازع قوي في الدنيا والآخرة. اضطهد القائمون بالدعوة الدينية أيضاً أمثال نيرون يظلم ولا يبقي على احد وبينما كان يحرق المتنصرين أحياء ليضيء بهم حدائق الفاتيكان كنت ترى أولئك المتنصرين يذهبون إلى الحرق باسمين لاعتقادهم بان في العالم الآخرة حياة سامية لا يخيب من قضى في سبيلها. وكلما كانت الشدة تنال أولئك المضطهدين كنت ترى أشباههم يكثرون. وكان النزاع بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي من أعظم ما ذكره التاريخ حتى دان الإمبراطور قسطنطين بالدين الجديد فكان من انتشار الدين بعد الوثنية منافع مهمة في

البلاد خصوصاً والدين اخذ يوافق ميول المتدينين به وحاجاتهم. توطد أمر ايطاليا بعد ذلك وأخذت تقطع أشواطاً في سبيل جمع شملها وتتناسى ما نالها في سبيل انتشار النصرانية التي عمت ايطاليا. وبينا الأمر على ذلك كان برابرة الشمال يتجمعون ليغزوا ايطاليا للاستفادة من مادياتها وقد أهلكهم الجوع ولم يكن لرومية طاقة بدفعهم فجاءوا يغشون العالم المتمدن ولكن من أولئك البرابرة من لم يلبثوا أن دانوا بالدين الجديد وتطوعوا بالدعوة إليه في القاصية بيد أنهم لنقص فيهم حرفوا ما تلقنوه ولم يعملوا بتعاليمه فاتوا مظالم كثيرة حتى اضطر الباباوات أن يجعلوا لهم سلطة مدنية فعمدوا إلى القوة علماً منهم بان سلطان الروح لا يؤثر كثيراً إن لم يكن وراءه سلطان القوة. وهذا كان مبدأ مزج الدين بالسياسة خصوصاً على عهد شارلمان وليون الثالث وهما الملكان اللذان حاولا هذا المزج وحرصاً عليه ثم كثرت البدع والإلحاد وقاومها الباباوات بالشدة وان جاء من هؤلاء أنفسهم من لم تحمد سيرتهم أحياناً. ولقد كانت ايطاليا خلال القرون الوسطى ميدان العراك بين الباباوية والإمبراطورية فنتج عن ذلك تمازج بين العناصر المختلفة في الغرب ثم جاءت الحروب الصليبية على الشرق وكان الدافع إليها دينيا ثم انتهت بالماديات وبعد ألف سنة للمسيح حدثت حوادث غيرت معالم العالم الغربي وكانت الدواعي إلى الحماسة الدينية حب الظهور والإتيان بالغرائب ولاسيما في نفوس العامة والزعماء من الأمراء. ولكن حرب المسلمين قرنين باستعادة الأرض المقدسة لم ينتج منه إلا أن جمهوريات ايطاليا أصبح لها مكاتب تجارية على شواطئ البحر المتوسط وباختلاط ايطاليا بل أوروبا بالمدينة الشرقية البديعة عاد إلى الغرب شيء من الحياة أصيبت به الصناعة والآداب وكان اثر الحروب الصليبية في ايطاليا اثر تقاليد اليونان المغلوبين على أمرهم في مدينة روميا. ايطاليا في القرون الوسطى جاء عهدان على روميا طمحت فيهما إلى أن تحكم العالم فالأول على عهد عظمة قياصرة الرومان وقد تم لها ذلك بعض الشيء والثاني على عهد التحمس الديني وبلوغ سلطة الباباوات حدها. وكان من اثر الحروب الصليبية ورؤية القوم للفنون القديمة البيزنطية والمغربية أن تمت لهم مقدمات النهضة الأولى. ثم إن المقاطعات تحررت من سلطة من

كانوا يرهقونها من أمرها عسرا فأخذت تتنافس في إقامة الأبراج وتحب كل منها أن تكون كنيستها أوسع وأكثر بهجة واغني وخطيبها أشهر ومتفنن أشهر. وأنشأت تبحث عن الرجل الذي يكون اقدر من غيره على التغني بأمجادها في أشعاره وتعظيم أعمالها الصناعية وبدائع النقش والرسم. وبفضل هذه المباراة اغتنت المدن والقرى من معاهد البديعة فكنت ترى الكنائس الكاتدرائية في كل مكان تناطح الجوزاء والقصور تسمو من الأرض إلى الأجواء. وانتشر في شبه جزيرة ايطاليا ميل حقيقي للجمال فحدث منه ازدهار الفنون التي لم تزل تيهرنا إلى اليوم فكان هذا العهد مناسبا لتكوين أعاظم الرجال ليستطيعوا أن يحثوا أعمالا غريبة باقية وكان للقديسة كاترين ديسين والقديس توما دي أكيك والقديس فرانسوا داسيز في القرنين الثالث عشر والرابع عشر اثر يذكر في السياسة والعلم فكانت هذه النهضة الايطالية الأولى متشبعة بالفكر الديني إلا أنها كانت تحوي في مطاويها بذورا انبتت بعد النهضة الثانية. وقام على الأثر الشاعر دانتي الايطالي واضع أساس اللغة الايطالية الحديثة واخذ ينادي في شعره ونثره بفصل السلطتين المدنية عن الدينية. ينطق في ذلك بلسان طبقة كبيرة في عصره فلم يكد يصرخ صرخاته حتى جاوبه على الأثر أرباب الأفكار الحديثة ممن اخذوا ينزعون ربقة الدين بل ينحون على جوهره. وكان في هذا القرن أناس من أرباب الفنون الجميلة يؤمنون بما يصورون ويريدون به خدمة الدين ومنهم من كانوا يصورون وينقشون حبا بالمجد والشرف والمال خصوصا وهم يرون كم كانت أسرة ميدسيس إذ ذاك تغدق الهبات على أرباب تلك الصنائع. حتى لقد قيل أن رافاييل المصور رفض انيكون بابا واثر العمل بالتصوير. وهذا العصر يسمونه بعصر ليون العاشر الذي كان من أكرم الباباوات وأكثرهم علما وعصره كعصر أغسطس قام فيه أرباب الأفكار الحديثة واخذوا يشرون من طرف خفي بتحكيم العقل في المسائل فأصبح أهل العلم والأدب مرغوبا فيهم أكثر مما يرغب في الأمراء. وساعدهم اختراع الطباعة إذ ذاك فاخذوا يبثون أفكارهم في روح القوم على صور مختلفة حتى غدا أمثال بوج وفيللف وارتين الحاكمين المتحكمين بالافكار في عصرهم يصرفونها كما يشاءون.

في ذاك العهد أيضا نشا للطليان أمثال المؤلف لورانزو فالا فخدم الآداب والتاريخ والخطابة والفلسفة خدما تذكر له على الدهر ومثله جيوردانوبرنو الذي احرق بأفكاره الفلسفية وكان عالما كاتبا مؤثرا وبينا كانت الأفكار تتمخض على هذه الصورة قامت حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ومنشئها من بيع الغفرانات واستئثار الباباوات بالسلطة المركزية يريدون أن يتم كل شيء في رومية في الأمر الدينية والملوك يريدون من حيث السياسة أن ينزعوا هذا العبء الثقيل عنهم والتخفيف من وطأة الارتباط بالمقام البابوي والفلاسفة والأدباء يريدون أن يحرروا العقل من قيوده وكلما كان المجتمع يدخل في طور الكمال كانت الحالة تستدعي تقسيما اكبر في العمل وتوجيه المناحي وجهاتها حتى أن أكثر من واحد من المتدينين جدا قد طلبوا التفريق بين السلطتين وبعد شؤون وشجون انفصلت ألمانيا وانجلترا عن روميا. كان العلم في أواخر القرن السادس عشر قليلا وقام أمثال غاليلة الذي قال بدوران الشمس حول الأرض فوذي لما نادى باراه العلمية وأن التجربة هي الشرط الضروري في تحقيق المسائل العلمية وقد طبق ليونارد في عقله العجيب هذا الأسلوب على جميع المسائل المبحوث فيها واخذ مكيافيللي واضع فن سياسة الخداع يتشبع بها في كتبه السياسية وكما كان الشاعر دانتي يطالب بضرورة فصل السلطة المادية عن الدينية كان العالم غليلة يثبت بان العالم العلمي يجب أن يكون منفصلا ومستقلا على الاعتقاد الديني وهكذا لم يبرح غاليلة يؤكد مع شدة احترامه للدين أن العلم أمران مختلفان ليس بينهما تناقض ولا ارتباط. ويرى أن الكنيسة هي الحاكمة في المسائل الدينية وليس لها أجنى سلطة في المسائل العلمية وينبغي لها أن تحاذر من الحكم في مسائل هي غريبة عنها تماما. رأت الكنيسة بعد عصر دانتي أن تحافظ على كيانها الأساسي بالقوة وأرادت ابعث غاليلة أن تحافظ على كيانها العلمي بالتعليم خصوصا يعد أن شاهدت النتائج التي تمت على أيدي اليسوعيين باتخاذهم العلم آلة للدين. واتحدت الكنيسة مع الأمراء وأخذت تلقم الناس الطاعة والخضوع فلم تحدث بعد ذلك ثورات وامن الناس ولكن ظهر بعد قرنين من انتشار الإصلاح الديني بقيام لوثيروس ونزع ألمانيا وانجلترا من الكنيسة الكاثوليكية أن الانحطاط اخذ يبدو على الشعوب التي ظلت كاثوليكية على اختلاف في عناصرهم ومناخ بلادهم

وأحوالهم الاجتماعية والسياسية وذلك لان التعليم كان محدودا عند هؤلاء الشعوب ومقصورا على بعض الطبقات والعدل فيه شدة وضعف والطاعة أبدا يرغب فيه فقلت في هذه الشعوب القوة المبدعة على أن الرفاه المادي كان مضمونا بما انشأ فيها من المعاهد الخيرية ولكن كل ذلك لم يخرج الشعب عن حالة التنبيت والتراجع. وعلى عهد مل هذه الإدارة ينزل ميزان العقل من كل وجه فقد أمست الصناعات والآداب والعلوم لا ترتقي إلا ببطء حتى أن الشاعر كيودي المتوفى سنة 1712 من أعظم شعراء ذاك القرن كان يتغنى بمدح عصره معرضا بالجفاء البربري الذي كان يشاهد من خلال إهمال قبائل رومية القديمة الذين لم يكونوا يحلمون إلا بفتح العالم. ومن حسن الحظ أن ايطاليا لم تعد في ذلك الدور أناسا ينهضون هنا وهناك يثيرون العواطف وينادون قومهم بان ما هم فيه باطل لا بد له من التجديد وان هذا العالم ليس عالم الأموات. فقام بتروميكا بالدفاع عن تورينو وقام فيليكايا يتغنى باغانيه الحربية لينبه سكان هذه الشبه الجزيرة المتخدرة ونهض الأمير اوجين دي سافوا يحمل أمجاد الحرب والسياسة واخذ كاريا يقيم الحجة على فظائع المحاكم وقام غيره بأعمال كثيرة نبهوا فيها العقول من رقادها ما أمكن. ايطاليا في القرن الحديثة بينا كانت ايطاليا غارقة في هذا السبات كانت أفكار غاليلة قد وصلت إلى انكلترا فتلقاها الفيلسوف باكون وعادت إلى ايطاليا منعكسة من طريق فرنسا في كتابات الفيلسوف ديدو وأخذت السلطة الدينية تضعف أمام حقوق العقل وجاء انتشار دائرة المعارف سنة (1751_1772) فاحدث حركة في أهل الطبقة المستنيرة وساعد فيها أهل الطبقة الوسطى من لفرنسيس أملين أن يروا منها سلاحا يحاربون به رجال الكهنوت والإشراف إما العامة فقد استعملوها واسطة للإرهاب. وقد كفت فرنسا ثلاثون سنة حتى تأتي أفكار دائرة المعارف بعملها في التخريب وذلك لان فرنسا كانت مستعدة أكثر من كل امة لقبولها لان السلطة كانت فيها على اشد ما تكون ثم أن صلاتها مع الشعوب البروتستانتية كانت مستحكمة العرى أكثر من غيرها. فكانت ألفاظ الحرية المساواة الإخاء يؤثر السياسية. الأعظم من القوم فتدفعهم إلى الإعمال الخارقة في باب الرجولية ولما ظفرت جيوش الفاتحين من لفرنسيس بفتح شبه جزيرة

ايطاليا 1796 كانت حالة الأفكار في فرنسا مخالفة كل المخالفة لحالتها في ايطاليا ففي الأولى مضاء واعتماد على النفس وفي الثانية ضعف وخضوع ولذلك كان الأمراء يهزمون من وجه الجيوش الفرنسية على صورة بشعة بل ربما ركبوا عار الفرار قبل أن تحتل بلادهم فلما استحكمت سلطة لفرنسيس في ايطاليا قلبوا كثيرا من أوضاعها باسم الحرية ووضعوا لها القانون الفرنسي لايطاليا في أوائل القرن التاسع عشر قد نبهها من ثباتها العميق وحدا بها أن تعقد مع سائر أوروبا الممدنة علائق ولم يفهم العامة من الطليان ما يراد بهم فكانوا يساقون كالأنعام ولكن الطبقة المستنيرة ورجال الإعمال بعثت هممها حالة لفرنسيس فأخذت تدرك أماكن إعادة الوطن وتأليف شمله المبدد وتبحث عن الطرق لتحقيق هذه الأمنية فلم تمض على ذلك خمسون سنة حتى أثمر جهاد أرباب الأفكار تأليف الوحدة الايطالية الحديثة. وحدة قوامها المساواة أمام القانون ومنح الحرية السياسية. عاد رجال السياسة في مؤتمر فينا خريطة أوربا إلى ما كانت عليه قبل سنة 1789 وعاد الباباوات والملوك والدوجات والأمراء إلى سابق أمجادهم تحميهم الحراب الأجنبية ولكن استحال الرجوع إلى الحالة الأصلية لان رجال الشعور الخارق للعادة ومن تؤهلهم الجاذبية العقلية الشديدة إلى أن يتحرروا من الوراثة والمحيط قد عدلوا في وجهة الأفكار وجددوا ميدان أعمالهم فكان الشعراء وأساتذة الكليات والقس والإشراف المتعلمون في مقدمة مكن تبدلت عقولهم بتأثير الحوادث وما تم لفرنسا من المجد قد افهمهم معنى الجمال الذي ينطوي في مدارج القوة. وتراجع الإيمان بالحق الإلهي وعادت الفلسفة فتأثرت بتأثيرات المجددين وضربت معتقد الكنيسة الرومانية ضربة قاسية وتحمس الأذكياء وأرباب القلوب لفكرة أن وطنهم سيستعيد بهائه ويعود عظيم جميل فاخذوا يعملون بمضاء وحماسة تدعوا كل من اطلع على أعمالهم أن يحترمهم ويمجدهم. وكثر تجدد الطبقات من الشعراء أخذت على عاتقها أن تنبه بلسان الشعار والحانة الرخيمة شعبا متناغما منذ قرون فتناول الشاعر جيو ستي صوت الهباء الذي سقط من يد باريني واخذ يضرب به وتحمس الشعراء بلاليكو ومانزوني ونيكوليني حماسة الفيري المفجعة. وساعدت قصائد فوسكولو واغاني برشت الوطنية على هذا النشور. بيد أن الدعوة الأدبية لا تستطيع أن تعمل إلا في الأفكار المستنيرة وادلو قليلا فاخذ

الأشراف والطبقة الوسطى من الأحرار يدركون ضرورة نشر هذه الحركة بين العامة فانشئوا يدخلون التعليم إلى القرى. وكان تكثير سواد القائلين بفكر التجدد وضم الشمل في المدن قد تسهلت أسبابه بارتقاء مستوى العقل في الشعب واستعداده لقبول الجديد ولكن بث الدعوة كان خطرة ولطالما أعار بعض الكتيبين مؤخرة حوانيتهم لعقد الاجتماعات ليتهامس فيها المتهامسون بأفكارهم وإعمالهم وأحلامهم في المستقبل ونهضة البلاد. ثلاثة عوامل أعانت على تخمير هذه الثورة الجديدة وتنمية بذورها كبار الضباط والموظفين على عهد نابليون والجمعيات السرية ورجال الشرطة ومعظمهم كانوا دخلوا في الجمعية الماثونية فتعلموا فيها أساليب الاجتماع وجمع الشمل وحب النظام وبالنظر لحالة البلاد إذ ذاك لم يتأتى أن تنعش من سقطتها إلا بجمعية سرية وذلك لما عرى الأخلاق من انحلال وضعف ولقلة عدد أرباب الشخصيات الراقية فكثرت الجمعيات السرية من اجل ذلك في البلاد كلها وكان أشياعا بإكثار أولا بالكليات فدخل فيها أبناء الطبقة الوسطى وكثير من أبناء الأسر الكبرى وجماع الإسرائيليين وكان أكثر الداخلين مدفوعين إلى ذلك بعامل المنفعة الشخصية الممكنة وكلهم يرمون إلى جمع شمل الوطن. كان للإسرائيليين في هذه الحركة الكعب المعلى فإنهم وان كانوا في ايطاليا اقل حيفا من حيث مادياتهم خلافا لما كانوا عليه في سائر أوروبا لكنهم كانوا خاضعين لقانون يحرمهم من الوصول إلى المناصب التي يؤهلهم إليها ذكاؤهم وثباتهم المتواصل على العمل ولقد علمهم احتقار الناس لهم فضائل تجرد منها ظالموهم فكانوا محتقرين وسذجا في الصورة الظاهرة ويتذكرون أحيانا شيئا من الخير الذي نالهم ولكنهم لا ينسون على الدوام العار وهم على ثباتهم وحسابهم للعواقب قد أصبحوا متضامنين بداعي مقاومتهم للعدو المشترك يكتمون أمرهم ويسرون ما يجول في قلوبهم وهم قد اثروا إثراء مهما فكانت منهم قوة لا تعادلها قوة لمقاومة نظام سياسي تكرهه نفوسهم. فلم يكونوا يعتقدون في وحدة ايطاليا قلب الأوضاع التي طالما قاسوا منها الأمرين بل كانوا يرون فيها صورة من صور الانتقام من انكلترا المسيحية في رومية الباباوات ولذا يمكن أن يقال في ذلك العهد أن جميع الماسون في ايطاليا لم يكونوا كلهم إسرائيليين فان جميع الإسرائيليين كانوا ماسوناً وإذ كانت القوانين والعادات تبعدهم عن الحياة العسكرية فقدوا

الشجاعة التي تورثها صناعة حمل السلاح فكانت معاونة الإسرائيليين ما عدا بعض الشواذ مالية أكثر منها شخصية وعظمت معاونتهم المالية في هذا السبيل حتى أن الحكومة المؤقتة في ميلان بالنظر لما ادروا عليها الإسرائيليون من المال بعد مغادرة النمساويين للبلاد قد شكرتهم على إعاناتهم الكريمة في سبيل الحرية. وما كان القسيسين غرباء عن هذه الحركة فان أول من صاح ايطاليا واحدة وحرة كان قساً فمات في هذا السبيل وأخر من قضى في هذا المقصد هو قسيس أيضا كان في صحابة إسرائيلي. وكان هذا شأن جميع المستنيرين من عامة طبقات ايطاليا يريدون أن يحيوا وطنهم ولا يبقوه ارض الأموات. وما صادقته هذه الدعوة من العواطف في طبقة رجال الدين لا يعجب منها إذا علم أن البابا يبوس السابع كتب إلى الكونت بورو بمناسبة أعضاء جمعية الكاربوناري الثورية: أنهم يحبون ايطاليا وأنا أحبها مثلهم وكذلك كان الأشراف الذين لم تكن لهم مناصب تشغلهم في الحكومة وأقصاهم الملوك عن قربهم فإنهم شاركوا في الحركة الجديدة حق المشاركة. قلنا الكاربوناري وهي جمعية اشتقت من الجمعية الماسونية وأعضاؤها من الجند والضباط على عهد نابليون فقامت منذ سنة 1820 بثورات عسكرية في مملكة نابولي أولا ثم في معظم إمارات ايطاليا ولكن قلة عدد أعضائها وفقدان المرددين لأعمالها غادرت حركاتها قاصرة. ولما قام مازيني الكاتب الذي كان متأثرا يرمي إلى إنهاض ايطاليا وجد أنصارا وأعوانا وان كان العيب الوحيد انه كان يتعجل قطف الثمرة قبل نضوجها. ويضيق المجال إذا أردنا إحصاء من دعوا إلى هذه الوحدة ومنهم الراهب فنسانزو جيوبرتي الذي اغضب الكنيسة بعمله فقضى أخر أيام حياته شريدا في باريس لأنه قال بضرورة فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية ومنافع ذلك للسياسة والأخلاق. وكانت نيران الثورة تشتعل تارة وتخمد أخرى فيظن أن البلاد عادت إلى حالتها من الأمن والطمأنينة ثم لا تلبث فوهة البركان أن تقذف حممها وقد انفجرت لأخر مرة يوم قامت فرنسا وقلبت الملكية ونادت بالجمهورية وأخذت تهتز أعصاب أوربا فتحركت ايطاليا من أقصاها كأنها متأثرة بمجرى كهربائي فقامت قيام الرجل الواحد من بلاد الألب إلى صقلية أي من الشمال إلى الجنوب وظهر أن الملوك تظاهروا بالاشتراك بالحركة والبابا كذلك وان

شئت فقل انه كان أكثر من غيره وتنازل عن سلطتهم المطلقة ومنحوا دساتير لشعوبهم والكل يريدون أولا طرد النمساويين من البلاد التي كانوا احتلوها. ولقد تمثلت الثورة العامة في سنة 1848 في جميع الطبقة الوسطى لمناهضة السلطة المطلقة فصادقت أولا عطفاً من البابا فلما تحقق مقاصدها مزقت الدساتير المعطاة وأعيدت البلاد إلى نظامها السابق فلم يثبت من ولايات شبه الجزيرة سوى البيمون وكان لها فقط جيش يحسن الكر والفر وله نظام بزعامة الملك الجديد فيكتور عمانوئيل الثاني وما كانت المهمة التي انتدب إليها هذا الملك بالأمر السهل بل كانت تحتاج إلى سلاح ماض وطرق مواصلات منظمة ومعارف منتشرة وضم شمل أحرار الطليان وتهدئة الكاثوليك وهم كثار متحمسون في إقليم البيمون وإقناع أوربا التي لا تصدق أو هي معادية لهذا الفكر واتخاذ أنصار من حكومات أوربا ليفتوا في عضد العدو العظيم. كل هذا ولا مال لتلك المملكة الصغرى وهي مدينة بمليارين من الفرنكات هذا المركز من أحرج المراكز ولحل مشاكله يجب له نابغة من الرجال وهذا الرجل الذي تهيأ له هو كافور. قام هذا السياسي العظيم العظيم وعرف بما خص به من حسن لانتفاع أن يستخدم أمثال غاريبالدي ومازيني للمقصد الذي ترمي إليه فكانا يريدان المناداة بالجمهورية لا بالملكية. ومن دهاء الرجل انه بعث من إقليم البيمون جنداً إلى الحرب القريم يعاون الدول الأوربية التي عاونت الدولة العلية إذ ذاك فعد العالم عمله خرقا في الرأي على الأمة صغيرة فقيرة مثقلة بالديون ولكن هذه المناداة هيأت لايطاليا بل لمملكة البيمون مركزاً بين الدول وصار لها الحق أن تبعث بمن يمثلها في مؤتمر باريس. ولا عجب فالإعمال بمقاصدها ونتائجها. أتم النابغة كل ما كان يظن انه مستحيل ولا يعرف اليوم مذا كانت الحال ايطاليا لولا قيام هذا الرجل. وقد جبر بدهائه ما بدر من الضعف في الجمعيات السرية التي اندمجت في جمعية جيوفاني لان عملها لم يؤد إلا إلى فظائع فقام كافور يربط بحكمته القلوب حول عرش صاحب بيمون وغدت أسرة سافوا محط رحال الآمال وساعد أن كان الإمبراطور نابليون الثالث الفرنساوي من أعضاء جمعية الكارتوني منذ صباه فاضطر إلى مساعدة ايطاليا ولما أيقن الملك فيكتور عمانوئيل بمعاضدة الجيش الفرنسي نهض بالعمل بصورة أفخم وأعظم وأعلن الحرب على النمسا وقد قال لوزرائه عندما وقع على إعلان الحرب

أني سأكون بعد عشرة أشهر ملك ايطاليا والمسيو سافوا. ظفرت الجيوش الفرنسية في مونتبولو وبالسترو وماجنتا وسولفيرينو وبموجب معاهدة زوريخ تركت لومبارديا المملكة البيمون وقامت طوسقانة رويدا رويدا على دوجها الكبير وأعلنت انضمامها إلى البيمون. ونزل غار يبالدي إلى صقلية وتآخى مع سكانها وكانوا مربوطين بعهود الإخاء من قبل مع جمعية مازيني السرية ثم اجتاز المضيق ودخل ظافراً إلى نابل وكاد يزحف على رومية ليفتحها وبعد أيام أعلنت جزيرتا صقلية انضمامها إلى الوحدة الايطالية وفي 18 شباط 1861 اجتمع البرلمان في تورينو ونادى بالملك فيكتور عمانوئيل الثاني ملكا على ايطاليا وتوفي كافور بعد بضعة أسابيع كأنه انتظر حتى أتم عمله المجيد مخلفاً لقومه شعاره الكنيسة الحرة في المملكة الحرة. وبقيت البندقية ورومية فقط لم تفتحا فقام أخلاف كافور وعقدوا مع بروسيا فاخذوا البندقية وسمح استدعاء الجنود الفرنسيين من ايطاليا سنة 1870 للجيش الايطالي أن يدخل ظافراً إلى رومية مقاتلاً جيش البابا الذي قاوم بعض المقاومة ولكن ما حيلته أمام هذا التيار العظيم وإرادة الأمة في نزع السلطة المدنية من يد صاحب السلطة الدينية فحصرت سلطة البابا بعد ذلك في دائرة معينة لا تتعدى حد السلطة الروحية ايطاليا بعد الوحدة ها قد القينا نظرة مجملة على ماضي ايطاليا وأصول مدينتها وأمجادها ودرس الماضي عون على فهم الحاضر. ولقد ترك كل دور دخلت فيه البلاد طابعا في صورة ايطاليا الحديثة كما أثرت فيها المؤثرات الجوية والجغرافية والعنصرية ولم تقوم التربية إلا على تغيير قليل فيها ونشأت مؤثرات أخرى نفعت في نهوضها كل النفع وهي سرعة المواصلات وكثرة التنقل والصلات المتواصلة مع الأمم الأخرى وغير ذلك وبعد أن صرفت ايطاليا كل جهادها الماضي إلى سنة 1870 في تكوين الوحدة الايطالية وإلغاء الامتيازات الأشراف ورجال الدين وتأسيس ملكية ديمقراطية وجب عليها أن تنظم هذه القوة فاختارت القانون الأساسي الذي كان معمول به في إقليم البيمون مع بعض تعديل أخذته عن القانون الفرنسي. ولقد حق على القائمين بهذه الوحدة من أهل الطبقة الوسطى وأبناء إشراف من الدرجة

الثانية والإسرائيليين والماسونيين والبيمونيتيين وكل من وجدوا مصلحته في قيام هذه الوحدة أن يرعوها فلم يجدوا أمامهم إلا العامة يتقوون بهم فانشئوا لهم مسائل الاشتراكية والنقابات الصناعية واعديهم فيها بوعود خلابة اقلها أن الجمهور يعيش بدون أن يعمل وكل ذلك بمناهضة الأشراف ورجال الكهنوت ففقدت طبقة الأشراف كل موازنة ولم تبقى لها تلك المكانة المعروفة لها قديما إما رجال الدين فاحتفظوا بمراكزهم وذلك لأنهم يمثلون شيئا لا يبرح حيا في نفوس الشعب ولان لهم قانون يضم شملهم. التفتت الحكومة بعد الوحدة إلى تنظيم الجيش وكانت الفكر الحربي مفقودا من معظم طبقات الشعب فما برحت تزيد فيه وكان عدده على عهد أوائل الوحدة مئة ألف نسمة وأصبح ألان خمسمائة ألف نسمة منظم مدرب حين السلم وثلاثة ملايين وخمسمائة ألف جندي زمن الحرب يدخلوا فيهم البوليس وكل ايطالي بلغ سن العشرين يدخلوا الجندية فيخدموا فيها ثلاث سنين ويكاد السكر لا يعرف في الجيش وضباط يقومون على تدريب الجندي بإخلاص ويلقنوهم الفضائل الحربية ولذلك ترى مجلس النواب الايطالي يمنح ميزانية الحربية وهي 364 مليون فرنك كل سنة دون أن ينظر فيها ثقة منه بأنها تصرف في سبيلها على أبناء الأمة. ومما يعمل لنفع الجندي بأنهم انشئوا بالقرب من بعض الثكنة في البلاد دروسا زراعية عملية يتعلموا فيها العسكر مدة خدمتهم ما ينفعكم من التعليم العسكري إذا رجعوا إلى قراهم من العمليات الزراعية. إما البحرية وميزانيتها 186مليون فيمكن أن يقال على الجملة أن ايطاليا لما تكونت لم يكن فيها اثر في القوة البحرية فأخذت منذ سنة 1873 تنظم بل توجد بحريتها ليكون لها شان في البحر المتوسط والبحر الادرياتيكي ورجال البحرية الذين يتخرجون من مدرسة ليفورنا يبدون كل إخلاص في تخريج الجند البحري. وهكذا تعمل ايطاليا على تحسين بريتها وبحريتها لتستطيع بذلك أن تجد موردا لامتها التي يكثر نسلها وتريد أن تجد لها مرتزقا في الأرض ولاسيما بعد أن طلبت بعض الحكومات التي تكثر مهاجرة الطليان إلى أرضها أن يحمي العملة من غير الطليان الحماية الكافية التي تخولهم عدم منافسة العامل الايطالي وان ايطاليا المضطرة بحكم الطبيعة أن تكون امة بحرية من الدرجة الأولى لان شطوطها على البحر المتوسط تبلغ 6000 كم على حين

ليس لفرنسا سوى 600. وتناسل السكان وتناسل السكان والخوف من إغلاق أميركا ذات يوم في وجه المهاجر الايطالي دعا ايطاليا إلى إن تفكر في فتح طرابلس وبرقة حيث يجد أبنائها ولا سيما في الجنوب مناخا يشبه مناخ بلادهم ويكونون على مقربة من أرضهم أو مسقط رؤوسهم مما دعاهم إلى الغارة على شمال إفريقيا ذكرى إن أجدادهم الرومان فتحوا تلك البلاد واستعمروها أيام عزهم قد كلفت هذه الحرب 927 مليون فرنك. ربما كان الإيطاليون من الأمم الأوربية حبا بالهجرة ذلك لان بعض الجنود من بلادهم فقير بزراعته لأنك لا تجد في ايطاليا طبقة وسطى على الأغلب فإما الفقير معدم يولد له كل سنة ولا يجد في أرضه من الموارد الاقتصادية ما يقوم بعيشه أو غني كبير وهم قلائل ولذلك لم يبق إمام الإيطاليين إلا الهجرة فقد كان عددهم سنة 1861 أي بعد الوحدة بقليل 21 مليون وهم اليوم 35 مليون بحسب الإحصاء الأخير دع الطليان المنبثين في أقطار العالم وعدد سكان من يقطنون في كل كيلو متر مربع 122 ساكنا أي أكثر من معدل السكان في ألمانيا وفرنسا ولا يفوق ايطاليا كثرة عدد السكان بالنسبة لمساحة الأرض من الممالك الأوربية إلا البلجيك وانكلترا وبلاد القاع (هولندا). وأكثر المهاجرين يهاجرون هجرة مؤقتة وقلائل منهم من يهاجرون هجرة قطعية بل إن المهاجرين من يقضون الشتاء في أمريكا ويأتون في الصيف يحصدون أرضهم ويقطفون ثمرات أشجارهم ولولا النقد الذي يحمله أولئك المهاجرون من أميركا يضعونه في المصارف وصناديق التوفير ربطت حركة ايطاليا الاقتصادية لان النقد قليل فيها حتى تضطر الحكومة بل الأمة إن تجري أكثر معاملتها بالورق ولا تكاد تجد الذهب إلا نادرا. وقد بلغ من هاجروا ايطاليا من أبنائها في الشهور التسعة الأولى من هذه السنة 325، 335 مهاجرا ولا يقل عدد المهاجرين كل سنة عن 500 الف ومنهم من يهاجرون إلى البلاد المجاورة ولا سيما جنوبي فرنسا ومنهم إلى أمريكا. والعامل الايطالي قنوع للغاية يقتصد جانبا من هجرته ومنهم من يعودون برؤوس أموال إلى بلادهم المتعلقون بحبها فالعامل الإيطالي يقبض دولارا ونصف في الولايات المتحدة فيصرف النصف دولار ويقتصد الباقي حتى إذا عاد إلى قريته تحدثه نفسه إن يبتاع له

أرضا يبني فيها سكنه لذلك ارتفعت أسعار الأراضي في القرى أكثر من ارتفاعها في المدن الكبرى ولا سيما بعد ناشات جمعيات ومكاتب للمهاجرين ومنها ما أسسته الحكومة ومنها ما أسسه الإفراد لتسهيل المهاجرة ووقاية المهاجر من التلاعب به. وليس لايطاليا من المستعمرات ما عدا طرابلس وبرقة غير اريتريا وبنادر والصومال الايطالية وهي مجاورة فيهما لفرنسا وانكلترا وايطاليا جاءت إلى عالم الاستعمار بعد وحدتها وقد تقاسمت أوربا مغانم إفريقيا واسيا وتوزعت ممالكها بينها. احتاجت ايطاليا بعد وحدتها وتأليف هذا الجيش الضخم البحرية القوية إلى موارد كثيرة فالتفتت فلم ترى أحسن موردا من الزراعة وثلث الايطاليين يعملون بها في ارض مزروعة تقدر بنحو 20 مليون هكتار تخرج سنويا 100 مليون هيكتولتر من الحبوب حنطة وذرة وارزأ و40مليون هيكتولتر من الخمور و10ملايين قنطار من الزيت والثمار. دع إعمال الألبان وتربية الحيوانات والحرير الخام وغيرها من الموارد التي تعد في جملة الزراعة يبلغ مجموع قيمتها نحو خمس مليارات فرنك كل سنة وزراعة الشمال راقية على الطرز الحديث قد أدهشنا ما رأيناه من بدائع في ضواحي فلورنسا وضواحي بولونيا ذلك لان إقليم طوسقانة وعاصمته فلورنسا عامر منذ القديم وهو مقر أمجاد الطليان وكذلك حال العمران من سفح جبال الألب إلى طوسقانة فان أرضها حدائق غناء وهذه البلاد الشمالية تختلط كثيرا بالأمم الراقية المجاورة لها مثل السويسريين والفرنسيين إما سكان الجنوب ولا سيما في صقلية وسردينيا وغيرها من الأقاليم الجنوبية فان المناخ مؤثر في أخلاق أهلها وليس لهم نشاط سكان الشمال ولا معارفهم وسكان الجنوب أشبه بالأمم الشرقية النازلة على الشواطئ البحر المتوسط وصناعة ايطاليا وتجارتها راقية على نسبة زراعتها فقد كان لهذه المملكة سنة1860 - 2198 كم من الخطوط الحديدية فبلغت سنة 1909 - 18000 كم يضاف إليها 5000كم من الترامويات والاتوبوس. وكانت الطرق العادية على عهد الوحدة 48000كم فتجاوزت اليوم 140000 وكان لايطاليا سنة 1862 - 57 سفينة بخارية تجارية تحمل 10، 228 طنا و9، 356 سفينة شراعية تحمل 643، 996 فأصبح لها سنة 1908 - 626سفينة بخارية تحمل 566738 و4701سفينة شراعية محمول 453، 334 طنا وبلغ عدد السفن الايطالية التي خرجت ودخلت في الموانئ الطليانية 190، 555 سنة

1861 وبلغت في سنة 1909 - 246. 246 وكان إذ ذاك عدد الداخل والخارج إلى الموانئ الطليانية من بواخر الأجانب 23، 83 فبلغ في العهد الأخير 17، 434 واشتركت في ذلك جميع موانئ ايطاليا وفي مقدمتها جنوا ثم تجيء نابل وليفورنه والبندقية وبارمة. وكان لايطاليا عام 1860 - 8000 كيلو متر من الأسلاك البرقية ولها الآن 54 ألف كيلو متر تضف إليها الأسلاك البحرية والتلغرافات اللاسلكية مع مالها من الخطوط التلفونية ولم يكن البريد الشيء الذي يذكر في بعض أصقاع ايطاليا على عهد الوحدة فبلغ وارده سنة 1886 - 16 مليونا وفي سنة 1900 بلغ 107 ملايين فرنك. وكانت الصناعة أيام الوحدة غير موجودة إلا في أقاليم البيمون ولومبارديا فعمت الآن أقاليم ايطاليا كلها ولا سيما في الثلاثين سنة الأخيرة فقد كان سنة 1889 معمل واحد للسكر في جميع ايطاليا فأصبح لها 32 معملا وارتقت صناعة حياكة الصوف والقطن والحرير والحديد الاتومبيلات ارتقاء هائلا. ووجدت الكهربائية في ايطاليا محيطا حسنا للغاية بالنظر لما خضعت به هذه البلاد من الأنهار السريعة جريتها ومن هذه القوى النافعة تخدم الصناعة اجل خدمة وربما أوصلت الكهربائية إلى مسافات متناهية ولا تسل عن معامل الأسلحة وبناء السفن مثل معمل انسالدو في مقاطعة جنوه وغيره كثير. وإذا ضم ما يرد ايطاليا من صناعتها إلى ما تأتيها به زراعتها بلغ مجموع تلك الثروة 75 مليارا من الفرنكات يصيب كل فرد 3200 فرنك. ويستدل على الرفاهية والغنى مما يودعه الأهلون في صناديق التوفير فقد بلغ ما أودع في الصناديق العادية مليارين ونصف مليار من الفرنكات يضاف إليها ما أودع في صناديق توفير البريد وهو 1700 مليون هذا غير ما يضعه العالم في المصارف وجمعيات التعاون مما يعد جزءا عظيما من ثروة الأمة. وما كانت البيوت المالية تعرف في ايطاليا إلا في إقليم البيمون قبل الوحدة الايطالية وقد كثر عددها اليوم وهي من الدرجة الأولى بين المصارف مثل بنك ايطاليا وبنك نابل وبنك صقلية وبنك رومية وغيرها وكلها تشغل بزهاء مليارين من الفرنكات ماعدا أموالها الاحتياطية النقدية التي تبلغ مليارا ونصف. وفي ايطاليا مصارف زراعية ومصارف عقارية وشركات تجارية مساهمة وشركات صناعية تعاونية وغيرها وعددها يكثر كل سنة كثرة هائلة.

وقد بلغت ميزانية الحكومة من كل ذلك مليارين ومائتين وستة عشر مليون فرنك في سنة 1911 في قسم النفقات ومليارين وثلاثمائة وأربعة ملايين في قسم الواردات. أصيبت ايطاليا بأزمة سياسية شديدة سنة 1890 أثرت في ماليتها كل التأثير فكان شان المضاربين على الأراضي للبناء في المدن الكبرى شانهم في مصر منذ بضع سنين فقدوا ثرواتهم إلا قليلا بسقوط أسعار تلك الأراضي وذلك لان بعض المدن الايطالية أرادت أن تجدد أبنيتها على الطراز الحديث فأخذت طائفة كبيرة من أبناء الأسرات القديمة ومنهم من يعتقد بان له الكفاءة في كل شيء يبتاعون من تلك الأراضي والأبنية القديمة للهدم فكان بها خرابهم وخراب كثير من أرباب رؤوس الأموال الصغيرة ومن المصارف وبسبب هذه الأزمة عرض الوزير كريسبي الايطالي على البرنس بسمارك الألماني أن تكون ألمانيا وايطاليا يدا واحدة فأحست فرنسا بالمر من الغد فلم تر أحسن من إخفاق مسعى ايطاليا وأشغالها بقطع الموارد المالية عنها وكانت ايطاليا إذ ذاك لا تعتمد في افتراضها وتجارتها إلا على بيوت المال والتجارة في باريس فاخذ هؤلاء يرفعون ثقتهم من ايطاليا ويشمون عليها بالمال فحدثت تلك الأزمة التي منشأها الحقيقي من أناس ما خلقوا ماليين ولم يستعدوا لمعاناة الشؤون المالية بالعمل. وعلى العكس كان من قانون الوراثة والمحيط أن هيا الإسرائيليين ليعملا أعمالا عظيمة في ايطاليا وللإسرائيليين اختصاص بالشؤون المالية ولا نجاح إلا بالإحصاء. فإنهم اختصوا بالتجارة ومعاناة المال فنشأت مهارة لهم لا نظير لها وقد بقيت سلطة الأب على أولاده محترمة عندهم بخلاف القوانين الحديثة الاجتماعية التي قللتها عند غيرهم وترى النظام في بيوتهم التجارية والصناعية أتم مما هو عند غيرهم والاعتصابات قليلة وأعمالهم ناجحة أكثر مما عداهم لأنهم يحسنون الانتفاع من القوى والأشياء أكثر من كل الطوائف ومنشأ ذلك كونهم كان مضطهدين فاحظروا ببطء صفات يولدها الاضطهاد فيمن يؤخذون به. وهذه الصفات هي قوة المقاومة والشعور بالتضامن واللين والمرونة في أسباب الحياة. وعلاوة على ما للإسرائيليين في ايطاليا من النفوذ العظيم الاقتصادي قد كان لهم في المسائل السياسية مكانة لا تنطبق مع قلة عددهم ولكن لها ما يشفع بها بما قاموا به من

معاونة ايطاليا في وحدتها بالمال وما أبدوه من الصفات الحسنة التي ابانو عنها في تقلدهم إدارة المسائل العامة وطالما كان منهم رؤساء الوزارة والولاة فاظهروا من البراعة في الأمور السياسية ما يحق لهم أن يفاخروا به بل أن حاكم رومية نفسها هو اليوم إسرائيلي وكذلك أكثر الولايات التسع والستين الايطالية فان ولآتها من أبناء إسرائيل لا يأتون ما يمس عواطف الأكثرية من الكاثوليك بل كثيرا ما كان نوابهم ووزراؤهم في جانب المحافظين إذا أريد وضع قوانين واحدة وأحداث أمور جديدة من شانها إثارة الرأي العام مما دل على أن الإسرائيلي في ايطاليا خلافا لما هو عليه في سائر الممالك ايطالي أولا ثم إسرائيلي وفي غيره هذه الديار إسرائيلي قبل كل شيء وفي المظهرين تفاوت عظيم كما ليخفى. ايطاليا وعلومها وفنونها كان علينا وقد وصل بنا البحث إلى هذا الحد أن نتكلم على امتيازات به ايطاليا من دون سائر بلاد أوروبا من التفنين في الفنون الجميلة والتبرير في مضمارها على جميع الأمم الغربية مهما قالوا بانحطاطها عندهم بالنسبة للقرن السادس عشر والسابع عشر وذلك مثل الكلام على التصوير والنقش والهندسة والموسيقى ولكن ذلك يحتاج إلى فصول كثيرة لا تتسع لها هذه العجالة ولا تنطبق مع أذواق أكثر القراء ومع هذا فنتكلم على الآداب الطليانية في العهد الأخير من وكيف ارتقت حتى عم أهل القرى أثرها. يعتبر تاريخ اللغة الايطالية الحديثة منذ عهد دانتي الشاعر فإنها بعده لم يعد ينقصها شيء من الألفاظ للتعبير عن التفكير ومضت القرون الثلاثة التالية يعده فأصبحت البلاد لقلة المواصلات وكلا مقاطعة لموقعها الجغرافي لا تعرف ما عند جارتها فنتج عن ذلك تعدد اللهجات وفتحت هذه صدرها لكل الألفاظ الحديثة في حين ظلت الايطالية الأدبية جامدة تقرا في المدارس كما تقرا اللاتينية واليونانية أي كأنها لغة ميتة لا حية. ودام الحال على ذلك إلى قبل خمسين سنة وبفضل توفر المواصلات والخدمة العسكرية التي تقضي بتنقل الجنود في البلاد أخذت الايطالية الحديثة تفهم في كل مكان وبقيت اللهجات التي تعوق ولا شك دون نشر لغة عامة تفي بمطالب الفكر الحديث وأصبح عنهم لغة يتكلم بها تؤثر فيها اللهجات المحلية ولغة ايطاليا مكتوبة يحسنها الكتاب والمؤلفون.

في ايطاليا نحو 14 لهجة لا يفهم أهل هذه لهجة أولئك وأفصح اللغات لغة طوسقانة ومنها سرت إلى رومية. ولغة ساردينا تشبه اللاتينية كثيرا وتختلف عن لغة صقلية وابن رومية لا يفهم لغة ساردينا واهم اللهجات الايطالية اللهجة البيمونتية واللومباردية والليكورية والبندقية والرومانية والنابولية والبولية والكالابرية وتعدد اللهجات مما عمت به البلوى لا في اللغة العربية فقط بل في لغات أوروبا التي يسعى أهل العلم والسياسة إلى توجيها منذ زمن طويل فمن ذلك أن في سويسرا ثماني لهجات ألمانية لا يتفاهم أهلها بعضهم مع بعض بها بل أن أهالي ألمانيا لا يفهمون لهجات سويسرا مثل لاهاي بافيرا ووتمبرغ وهيس وهكذا الحال في فرنسا وغيرها من البلاد التي يظهر إن لها لعنة واحدة والحال أنها مختلفة اللهجات لا يكاد يفهم المتناءون لغة بعضهم بعضا. اقتضت وحدة الروح الايطالية أن يكون لايطاليا لغة كتوبة واحدة فقام بهذا الغرض من الشعراء والكتاب في أوائل القرن التاسع عشر أمثال مانزوني وبلليكو وكاردوشي فأفادوا على اختلاف في طرق الأداء في بث اللغة الصحيحة في الشعب. ومن الشعراء الكتاب العاصرين الذين اشتهروا في الأفاق دانونسيو وباسكولي وفوكازاروودي سانكتيس وفريرو ومن النساء اللاتي نافسن الرجال في صناعة الأدب سيرا رو وواساني ودللادا ومنهن من تفردن في القصص التمثيلية وأخريات في القصص الروائية وغيرها في الصحافة. كان من توفر أسباب الرفاهية في الشعب الايطالي أن اخذ عدد المختلفين إلى المسارح الخاصة بالتمثيل يزيد اليوم بعد الأخر ومن نشر العلم وقلة عدد الأميين سنة بعد سنة أن كثر عدد الصحف وقراؤها وكان ذلك من مواد ثمينة لتعجيل كمال اللغة المحلية لان التمثيل كالصحافة إذا أراد القائمون بها أن يفهموا وجب عليهم أن يتكلموا بلغة تتناولها عقول الكافة وإذ بعض من هذه الجوقات التمثيلية تطوف بلاد الأقاليم اقتضى لها إن تعدل من لهجتها في كل محل بحيث تتناولها الأذهان على أيسر سبل. وعند الطليان مؤلفون كثيرون للروايات التمثيلية لا يقلون عن غيرهم من الأمم الراقية كالفرنسيس والألمان. إما الصحافة فهي تشبه صحافة فرنسا وغيرها من الممالك في الصورة والشكل وكل يوم نزيد العناية فيها بالخيار المنوعة المؤثرة وثقل مادتها من الانتقاد الجدي والموضوعات

الأدبية فالصحافيون هنا مثل غيرهم في البلاد الأخرى يبيعون من الجمهور ما ينفق عليه ويروج عنده. وقال في صفاء المكان وذلك بان يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات عاريا عن المخوفات والمهولات والطوارق وان يكون مع ذلك مكانا رائقا معجبا رقيق الحواشي فسيح الأرجاء بسيط الرحاب غير هم ولا كدر فإن الضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر من ماء وخضرة وأشجار وإزهار وطيب رائحة كان ابسط للفكر وانجح للخاطر وقد ذهب بعضهم إلى انه ينبغي خلو المكان من النقوش الغربية والمرائي المعجبة فإنها وان كانت مما ينشط الخاطر فان فيها شغلا للناظر فيتبعه القلب فيشتت له. وليس للصحف الكاثوليكية رواج كثير كالصحف غيلار الكاثوليكية وأعظم صحف ايطاليا وأهمها جريدة كورريه دلاسييرا أي بريد المساء وهي تصدر في ميلانو من عواصم العلم القديمة أو العاصمة الأدبية كما يسمونها وتجيء بعدها جريدة التربيونا أي المنبر وهي نصف رسمية. ومن خبرة جرائدهم جريدة ايديا ناسيونالي أي الفكر الوطني وهي تمثل الفكر الوطني. وقد سارت صحافتهم كما هو شان الصحافة في كل مكان على توحيد الفكر واللغة كان السبب الرئيس في كل ما تقدم من ذرائع الارتقاء نشر التعليم بين جميع طبقات الشعب فقد كانت الحكومة الايطالية خصصت سنة 1861 مليون فرنك للمعارف العمومية وهاهي الآن تنفق مثله مليون لهذا الغرض كل سنة وأرقاء كهذا في البذل على المعارف تنشا منه تلك الوطنية والوحدة دع المدارس المنوعة التي أنشاها الجمعيات الدينية أو الإفراد وزاد عدد الطلاب ضعفي ما كان عليه عام 1861 فبلغ في السنة الماضية زهاء ثلاثة ملايين ومع هذا ايطاليا من أكثر البلاد الأوروبية أميين بعد روسيا ولاسيما في القرى وان كان التعليم لابتدائي إجباريا إلا انه لا يعمل به كثيرا وبالنظر لما وقع بالنزاع بين الحكومة والاكليروس انتهت الحال بان المدارس لا تعلم التعليم الديني إلا لولد يطلب ابوه ذلك والإباء قلما يحفلون بهذا الطلب. وقد تعطي الحكومة أحيانا إعانات للمدارس والأخويات الدينية ماله صفوف عالية وله الحق بان يكون لتلاميذه بالامتحان حقوق تلامذة مدارس الحكومة ومن المدارس ما يريه اليسوعيون وان ألغيت مدارسهم في ايطاليا منذ زمن طويل. ومدارس الجمعيات الدينية خاضعة إجمالا لتفتيش الحكومة وتترفع عن البحث في السياسة.

بعد كناية ما تقدم اطلعنا على خطاب ناظر المالية الايطالي وقد جاء فيه أن ايطاليا ستصرف هذا العام على المعارف 148 مليون فرنك وتفيض المال الكثير على معارف الولايات ليطبق بالفعل قانون التعلم الإجباري في البلاد وقد بلغت الحركة الدولية في المقايضات خلال الأحد عشر شهرا من السنة الماضية 1913 5516 مليونا أي زيادة بمقدار 44 مليونا عن مثلها في السنة الماضية وقلت الواردات 48 مليونا وزادت الصادرات 92 مليونا وزادت السفن التجارية الداخلة إلى موانئ ايطاليا وزادت كمية المعادن ومداخيل الضريبة على السكر والحديد والتبغ ودخل السكك وكثر الإنفاق على المصارف وإعمال الري والأسباب الصحية كثيرا والحكومة الايطالية ستزيد ميزانيتها البحرية والبرية وكل هذا بدون أن تستدين وتبادل الدخل والخرج على طريقة ماهرة في الأمور المالية يقسم التعليم الأوسط في ايطاليا إلى فرعين مختلفين. الفرع المدرسي وهي دروس المدارس المعروفة بالجمباز والتعليم العملي وهو يدرس في المدارس والجمعيات الفنية وقد كان عدد تلامذة الفروع الأولى على عهد الوحدة 12 ألفا فأصبحت في السنة الماضية 41 ألفا والدروس العملية التي يتخرج منها الشبان والذين يتمحضون لفروع الصناعات الكثيرة قد بلغوا سنة 1911 - 100000 وما كانوا منذ خمسين سنة أكثر من 6000 وفي الفرع المدرسي من تعلم اللغتان اليونانية واللاتينية وفي الفرع العملي تعلم اللغات الحية إما عدد تلامذة المدارس الوسطى للمدارس الخاصة فلا يقل عن ستين ألفا ويؤكد بعضهم أن المدارس التي يعلم فيها الرهبان والقسيسون أكثر نجاحا من التي يعلم فيها العلمانيون لان فتيان القس ممتازون بإنكار الذات والتشبع بالروح الدينية أكثر من غيرهم من الأساتذة. إما التعليم العالي فان ايطاليا منه سبع عشر كلية تتنافس فيها بلاد الأقاليم ولمن معظم هذه الكليات لا تخرج رجال عمل بل أكثرهم خيالون من أرباب النظر ويضاف إلى هذه الكليات مجامع العلم العالي الكثيرة لتدريس الآداب والعلوم في كل مدينة عظمى والحكومة تمدها بالمال. والمدارس العليا على كثرة ما تستلزمه من النفقات لا تتناول من مال الأمة أكثر من أربعة ملايين فرنك مساهمة مما يستبان منه أن الحكومة توفر العناية بالتعليم الأوسط والابتدائي أكثر مما عداهما. وعدد تلامذة الكليات والمجامع العلمية العليا نحو سبعة

عشرين ألفا وكان الطلاب المدارس العليا في القرن التاسع عشر يصرفون أوقاتهم في الأعمال الوطنية أكثر من العلم إما الآن وقد استقرت حالة البلاد السياسية فإنهم اخذوا ينصرفون إلى أبحاثهم ودروسهم ليكون لبلادهم ما حرزته ألمانيا وانكلترا وفرنسا في مضمار العلوم والآداب. هذا جمال ما يقال في التعليم إما الاختراعات والاكتشافات فلم يقصر فيها علماء ايطاليا أسوة غيرهم من أمم الحضارة الحديثة فقد اكتشف لامي طبيعة الأمراض الميكروبية وهي النظرية التي خلصت الجراحة والمداواة من الأوهام التي كانت تعوقها. وكذلك كان شأنها في الكهربائية وساعدها على ذلك كثرة شلالاتها وتيسير إرسال الحرارة والنور والأعمال الكيماوية والميكانيكية إلى أبعاد شاسعة ومن مخترعيهم باشنتوفي وماركوني مخترع التلغراف اللاسلكي وغيرهم من الذين شاركوا في الأعمال العلمية فاختلط الأمر وأصبح من الصعب التمييز بين المتقدم والمتأخر من مكتشفي العلماء في أميركا وانكلترا وألمانيا وفرنسا والنمسا والبلجيك وهولندا وسويسرا وروسيا وغيرها من ممالك المدينة والنجاح كما قال الأمير جيوفاتي بور غزة في كتابه إيطاليا الحديثة واعتمال عقلي. بعض ما تقدم من هذا البحث إعلاء الوسط على الدوام ليتأتى للكائنات العليا أن تظهر بمظهرها وتثير الجموع بكلامها ومثالها وإعلاء الوسط يكون بتنشيط الشبيبة على القيم بجميع الأعمال الشريفة التي يخولهم ظغياها مظهرهم. ومن الخطأ العظيم في عصرنا أن تجعل قيمة الشعب على نسبة ما أحرز من الارتقاء العقلي. إن التعليم على اختلاف ضروبه يساعد على ظهور المدارك الاجتماعية وفي الكتابة والقراءة معنى جديد يجعل بيننا وبين الفكر العام صلة ولكن التعليم بدون تنظيم طبيعي من جهة وتربية أخلاقية من أخرى لا يتولد منه إنشاء رجال تامة أدواتهم في جمل لتنشأ على أيديهم عظمة مملكة وإذا نظرنا إلى ارتقاء إيطاليا نراها دخلت في ثلاثة أدوار هي أدوار النشوء الشخصي فالدور الأول الدور المادي والثاني النفسي والثالث العلمي وكان بدء الدور الأول على أوائل تأسيس روميا وفي سنة 700 قبل المسيح أي بعد 7 قرون كان عصر أغسطس وهو عصر مجدها وبعد ذلك ب3 قرون عندما نقلت عاصمة المملكة

الرومانية إلى القسطنطينية تراجع أمر الدور المادي والنفسي والروحي هو دور ظهور النصرانية التي توفر الإمبراطور قسطنطين على نشرها وجعل عاصمة بلاده القسطنطينية فمضى 7 قرون على ذاك العهد تنصرت أوروبا وتم عمل الدين إلى أواخر القرن العاشر للميلاد. وفيا 14 بدأت تظهر تباشير دور النهضة التي أريد بها تحرير العقل الإنساني من قيوده. والدور الثالث هو الذي نحن فيه والقرن الأخير كان أرفا أيامه وبه ظهرت إيطاليا بمظهر الدول العظمى واستقامت لها حياتها السياسية وتبعتها ثائر الأشياء ولا تستقيم حياة أمة بدون أن تستقيم حياتها السياسية واستقامة السياسة نتيجة ارتقاء العقول وارتقاء العقول لا يكون بغير قبول المدينة الحديثة والأخذ بأساليب التي اتخذها السابقون في مضمار التحضر. ومن أمعن النظر في هذه النبذة يدرك أن كل نهضة غير متعذرة وأن أمم بلغت من الشقاء مبلغا كبيرا وتيسر لها بقوة الإرادة وإخلاص المستنيرين من الوطنيين أن تغلبت على جميع العوائق وكونت مجموعا يفتخر به وحررته من قيوده الثقيلة ومن رأى إيطاليا أمس يجوس النمساويون أو الفرنسي خلال دياره أو يستعبدون أبنائها ويرى الطليان اليوم وقد آلفو مجموعا حيا ودولة قوية وهم في حكومتهم الملكية أكثر حرية من الفرنسيين في حكومتهم الجمهورية على رأي بعضهم - من رأى ذلك لا يقول بان في العالم شيئا مستحيلا. وان قوة العقل والثبات على العمل تفعلان أكثر من كل قوة في الأرض. في ايطاليا الحديثة عيوب كما في سائر الممالك وهذا يتعذر على السائح الشرقي في بلادها أن يدركه ولا يحل له أن يخط فيه حرفا لأنه لا يرى إلا الظواهر خصوصا ما عدم معرفته لغة البلاد فانه يبقى كالأصم الأخرس وليس ارتقاء الطبقة المستنيرة هو الميزان الوحيد في معرفة أقدار امة وكم عند الطبقة الوسطى والدنيا من الفضائل ونقيضها ما تؤخذ منه حقيقية شعب وذلك لا يتيسر إلا لمن عاشر الطبقات كلها وصرف زمنا طويلا في أصقاعهم المختلفة وحكم العقل والإنصاف في ما يكتبوا بعد درس العادات والأخلاق والتنظير بينهما وبين ما يماثلهما من الشعوب الأخرى. وغاية ما يستطيع المفكر أن يقول به إذا رأى ايطاليا أن بينها وبين الشرق القريب من الفروق أكثر مابين مصر أو الشام أو السنغال أو بلاد نيامنيام يشهد هنا بكل شيء قياما

وقانونا من خرج عنه ضل واهتدى ويجد نشاط الإفراد على أتمه ليس له ما يعوقه من سلطة جائرة وقانون غير معقول فالشقي يشقى بصنعه والسعيد يسعد كذلك ولكن السعادة أوفر مما يناقضها بدرجات السرور تقراه في الوجوه والبسطة في الغنى والرفاهية تشهده على الأكثر في سكان الأقاليم الوسطى والشمالية ولكل صقع من الأصقاع خاصية لا يكاد يشركه فيها الصقع الأخر فهذا اشتهر بعاداته وأثاره وذاك بحدائقه وأنهاره وهذا بتجارته وذاك بصناعته وأخر بزراعته وغيره بسكونه وأخر بحركته وتكاد ترى المواهب مقسمة بين البلاد. فلفرنسا مدينة الزهور وعاصمة طوسقانا وأثينا القرون الوسطى ومسقط رأس دانتي وتبرراك وبوكاس وغاليلة ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم من نوابغ الطليان في الشعر والموسيقى والنقش والتصوير والهندسة والعلم من المزايا ما ليس لرومية وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية كثيرة فان جمهوريات طوصقنا بينما كانت في القرون الوسطى تحسن الاندفاع من جميع العناصر الحيوية في الشعب كانت رومية تمحل بما قام فيها مكن المنازعات من الأسر الكبرى والذهاب في الدجالات المذهبية مذاهب. ولذلك كان المجد كله لمدينة فلورنسا التي هي اليوم إحدى الولايات الإيطالية. هذا شأن المدن الداخلية وكذلك الحال في المدن الساحلية فإنك تجد مثلا للبندقية من المزايا مالا تجده لجنوى ونابل كلها مما يستجدي الغريب ويستهويه لنزول هذه الديار ودرس آثارها الكثيرة بل التي لا تدخل في عد لكثرتها وقد اتخذ ت الحكومة الجديدة أنواع الراحة لجلب سياح الأرض لغشيان بلادها وفي ذلك من الفوائد المادية ما لا يقدر فلو انقطع سياح الغرب سنتين عن زيارة إيطاليا لأحست بفقر شديد وذلك لما يبزره أولائك السياح من الأوائل في جميع فروع الإنفاق. ولها أمثال في تاريخ إيطاليا وقد نشأ حين إذ وقوف تجارها عن طريق البر التي كانت تعمل الجمهوريات حتى إذا قام الإصلاح الديني في أوروبا وفصل جزء عظيم في هذه القارة عن البابوية كل ما كان يرد مدة زمن طويل إلى إيطاليا من الأموال بالطبيعة فافتقرت. إن كل كنيسة من كنائس إيطاليا حرة بأن يقصدها السائح للفرجة من القاصية وقد وقع ألي من الدهشة عندما رأيت كنيسة الدوم في فلورنسا مثلما وقع لي من الدهشة عندما زرت كنيسة القديس بطرس في روميا مقر البابوية وهوى أفئدة البابويين في الأرض ولكل مكان

ميزته. امتازت روميا بكثرة كنائسها العجيبة كما امتازت بكثرة عيونها وكثرة تماثيلها في كل جادة مما يستهوي الغريب ويستدعي دهشته كما امتازت جنوا بمقبرتها لتفنن الجنوبيين منذ القديم لتصوير الأموات على الرخام وهم بين أهلهم وفي آخر ساعات حياتهم والمقبرة هناك 3 طبقات كما أن أكثر الأبنية هي الآن في إيطاليا 6 طبقات ويضيق المقام لو أردت فقط الألم لما في روميا وحدها من العاديات والقصور ولا سيما حديقة بنشيو العامة فإنها خصت لكل أنواع الملاحة والراحة وهي مجمع الحسان الرومانيات كل عشية وفيها تتجلى عظمة الطليان وتتبدى طبقاتهم الاجتماعية وكل ما يقع نظرك عليه في هذه المدينة الأزلية صاحبة المدينتين الرومانية والنصراني تقرأ فيه روح التفنن وتقدير العلم والنشاط وحب التسامح إلا قليلا دخلت مع أحد إخواني من مستشرقي الطليان لازور كنيسة البانتويون فدهشت لما رأيت واليك البيان: كنيسة البانتويون هي الكنيسة الوحيدة الباقية من عهد روميا القديمة بنيت معبدا في سنة 27 قبل المسيح ولما رسخت قدم النصرانية في رومية جعلت كنيسة وكان يشترط على كل شيخ في مجلس الشيوخ في القرن الثامن للميلاد من جملة ما ينبغي له الاحتفاظ به كنيسة البانتويون. وكان يدفن بها بعض قديسيهم وأعاظم رجال الدين عندهم وماراعني إلا وقد رأيت إلى جانب أضرحة رافاييل المصور النقاش التوفي سنة 1520 والمصور دانيال كاراشي المتوفى سنة 1609 وغيرهما من كبار المهندسين والمصورين الطليان ضريح الملك فيكتور عما نوبل الثاني المدعو أبو الوطن لأنه أقام الوحدة الايطالية وخلف لذريته من بعده التاج الايطالي بعد أن كانت أسرته لا تحكم على غير إقليم البيمون فقط وضريح ابنه همبرت الأول والد الملك الحالي الذي اغتيل سنة 1900 نعم أعجبت لضريح المهندس والنقاش ويكون في مقام التكريم إلى جنب القديسين والشهداء وهذا في تلك القرون التي كنا نظن فيها أوروبا متوحشة وراقني أن يجيء ملوك ايطاليا اليوم ويحبون أن يدفنوا إلى جنب أولئك الصناع النوابغ. أن لحد بولس هو اكبر دليل على حب الباباوات لرجال الفنون الجميلة ولحد ملكين عظيمين إلى جنبهم هو أيضا مما يدل على روح التسامح الحديث وعلى أن لرافاييل ليس في مكانته في خدمة أمته ليس اقل من فيكتور.

فان كانت باريس قد أقامت كنيسة البانتويون لتفن فيها رفات العظماء في العلم والسياسة في أوائل القرن الماضي فان رومية تفاخر بأنها خصت بانتونها لهذا الغرض منذ زهاء أربعة قرون. بانتيون باريس يضم رفات ميرابو وفنيلون وكوفيه وفولتيرو وروسو ونابليون وبانتيون رومية يحوي أمثالهم من إبطال الطليان. فمتى ترى يقوم ف الشرق القريب أعاظم من أبناء هذه الأجيال الحديثة يكونون في عقولهم وإعمالهم على مستوى أولئك الأبطال لتقوم بهم مدينتنا على أحسن الدعائم كما قامت مدينة الطليان في هذه الأزمان.

صبح الأعشى للقشقلندي

صبح الأعشى للقشقلندي الكتب كالأشخاص فيها النافع وفيها الضار وفيها مالا يضر وما لا ينفع والنافع قليل على كل حال. واو تهيأ لمصر منذ طبع أول كتاب عربي في روما في العقد الثاني من القرن الخامس عشر للميلاد رجال يعرفون من أين تؤكل الكتف في العلم ليطبعوا حتى الآن جميع ما عرف للسلف من الكتب الممتعة ولكان ما طبع في ديار الغرب من نوادر الأسفار العربية متمما لما طبع في مصر كهف العرب والعربية ولكن مصر لم تنتبه لهذا الأمر إلا على عهد محمد عيي فطبعت في الطبعة الأميرية بعض النوادر وكثرت المطابع في مصر وفي غير ومصر فطبع الجود والجيد ومجموع ما طبع حتى الآن لا يبلغ نصف ما خلفه السلف من تركهم الثمينة وبعثره الجهل والخمول. وآخر ما احيي بالطبع من ذخائر العلم كتاب صبح الأعشى في كتابه النشا طبعته دار الكتب الخديوية بالقاهرة في المطبعة الأميرية وأخرجت للناس منه الجزأين الأول والثاني وكانت منذ بضع سنين طبعت الجزء الأول منه فأعادت طبعه ف المطبعة الأميرية لتتمه بحرف طريف ظريف وهو مقصد جميل يضاف لما لهذه الدار من المقاصد الحسنة في نشر الكتب النادرة على نفقتها خصوصا ما له علاقة بمصر مثل تاريخ مصر لابن إياس والانتصار لابن دقماق في وصف مصر وتاريخ الفيوم لأبي عثمان النابلسي وغير ذلك الكثير. وكتاب صبح الأعشى للقشقلندي هذا سيكون في بضعة أجزاء وقد وقع الجزآن الأولان منه في نحو ألف صفحة والقشقلندي نسبة لقلقشندة قال الزبيدي: قد تبدل اللام راء وهو المشهور بلدة بمصر من إعمال قليوب وفيها ولد الإمام الليث بن سعد لرضي الله عنه وخرج منها كبار العلماء والمحدثين منهم العشرة من أصحاب الحافظ ابن حجر وهذه القرية قد وردت عليها مرات يتولاها أمراء الحاج قال ابن خلكان وهي على ثلاثة فراسخ من القاهرة وهي بلدة حسنة المظهر كثيرة البساتين. هذه القرية هي مسقط رأس مؤلفنا كما قال السخاوي في الضوء اللامع وهو احمد بن علي بن احمد بن عبد الله الشهاب ابن الجمال أبي اليمن الفزاري القلقشندى ثم القاهري الشافعي والد النجم ولد سنة ست وخمسين وسبعمائة واشتغل بالفقه وغيره وسمع علي ابن الشيخ ومن في وقته وكان احمد الفضلاء وممن برع في الفقه والأدب وكتب في الإنشاء وناب في

الحكم وشرح قطعا من جامع المختصرات بل شرع فنظمه وعمل صبح الأعشى في قوانين الإنسان في أربع مجلدات وكان ستضر أكثر ذلك من جامع المختصرات والحاوي وكتابا في الأنساب للعرب. هذا ما قاله السخاوي وأنت ترى أن هذه الترجمة المختصرة ادني إلى أن تكون ترجمة ففيه ذكي في الحماة لا ترجمة علامة من جملة كتبه هذا الكتاب صبح الأعشى الذي هو دائرة معارف كبرى أكثر ما عرف من العلوم ذاك الزمن مما فيه فائدة للمنشئ الذي يريد أن ينشئ عن علم وفهم. إليك طرفا من حال المؤلف إما تأليفه فكما قال عنه مبسوط يشتمل على أصول كتابه الإنشاء وقواعدها متوعيا من المصطلح ما اشتمل عليه التعريف والتثقيف موضحا لما افهماه بتبيين الأمثلة مع قرب المأخذ وحسن التأليف أتيا من معالم الكتابة بكل معنى غريب ناقلا الناظر في هذا المصنف عن رتبة أن يسال فلا يجاب إلى رتبة أن يسال فيجاب منبها على ما يحتاج إليه الكاتب من الفنون التي يخرج بمعرفتها عن عهدة الكتابة وردها ذاكرا من أحوال الممالك الكتابية عن هذه المملكة ما يعرف به قدر كل مملكة وملكها مبين الجهة قاعدتها معرفا الطريق الموصل إليها برا وبحرا. ذاكرا مع كل قاعدة مشاهير بلدانها إكمال للتعريف ضابطا لأسمائها بالحروف كي لا يدخلها التبديل والتحريف. إما أبواب الكتاب فكثيرة ترجع كلها إلى مقدمة وعشر مقالات وهي في فضل الكتابة ومدح فضلاء أهلها وذم حماهم وذكر مدلول الكتابة وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وصفات الكتاب والتعريف بحقيقة دور الإنشاء واصل وضعه في الإسلام وتفرقة بعد ذلك في الممالك وقوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله. الثانية في المسالك والممالك والخلافة ومن وليها من الخلفاء في القديم وما انطوت عليه ممالكهم من الأقطار المصرية ومصافاتها من البلاد الشامية وما يتصل بها من الممالك والبلدان المحيطة بمصر من الجهات الأربع. الثالثة في ذكر الأمور التي تشترك فيها أنوع المكتبات والولايات وغيرهما من ذكر الأسماء والألقاب وكتابة الملخصات وبيان الفواتح والخواتم. الربعة في أمور كلية تتعلق بالمكاتبات مثل مصطلح المكاتبات الدائرة بين كتاب الإسلام في كل زمن من الصدر الأول إلى زمن المؤلف. الخامسة في الولايات

وكيف يكتب لكل منها والمبيعات والعهود. السادسة في الوصايا الدينية والمسامحات والطلاقات وتحويل السنين والتذاكر. السابعة في المقاطعات. الثامنة في الإيمان. التاسعة في عقود الصلح والمفسوخ. العاشرة في فنون من الكتابة بتداولها الكتاب ويتنافسون في عملها. وفي كل مقالة من هذه المقالات العشر أبواب كلها منسقة أحسن تنسيق مثل موانئ الفرنسي لعهدنا مع وفرة مادة الألمان في تأليفهم وانه إذا وقع للمؤلف شيء قليل في كل مئات من الصفحات مما لا ينطبق مع ذوق العصر الحاضر أو يخالف أصول العلم الحديث فالذنب في ذلك لأعلى المصنف بل على عصره الذي كتب ارق ما عهد فيه ومحصه تمحيص عاقل حكيم. وهناك أنموذجات من الكتاب الأول: من كان فردا في زمانه بحيث يضري به المثل في أمثاله: كان لاسكندر في طوفان الأرض وكسرى انوشروان في العدل وحاتم الطائي في الكرم وأبو قراط في الطب وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في معرفة الأنساب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوة الهيبة وعثمان بن عفان رضي الله عنه في التلاوة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في القضاء وأبو عبيدة بن الجراح في الأمانة وأبي ذر في صدق اللهجة وأبي بن كعب في القران وزيد بن ثابت في الفرائض ونافع في القراءة وأبو الحسن المدائني في الأخبار ومالك بن انس في العلم والشافعي في الحديث وأبو الحسن الأشعري في علم الكلام وابن حزم في مذهب الظاهر وسيبويه في النحو وأبو الحسن البكري السيرى في الكذب وإياس بن معاوية في الذكاء والتفرس وأبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني في المحاضرة والرازي في الطب وابن القرية في البلاغة والجاحظ في الأدب والبين والحرير في المقامات والبديع الهمداني في الحفظ والزمخشري في تعاطي العربية وجرير الشاعر في الهجاء والقاضي الفضل في الترسل والعماد الكتب في الجناس وحنين بن اسحق في ترجمة اليوناني إلى العربي وابن سينا في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضي ونجم الدين الكتابي في المنطق والقاضي احمد في الروية والصولي في الشطرنج وجابر بن حيان في علم الكيمياء. وقال من فصل في الحمام: ثم هو على قسمين احدهما ما ليس له اهتداء في الطيران من

المسافة البعيدة والثاني ماله اهتداء ويعرف بالحمام الهدي وهو المراد هنا وقد اعتنى الناس بشأنه في القديم والحديث واهتم بأمره الخلفاء كالمهدي ثالث خلفاء بني العباس والواثق والناصر وتنافس فيه رؤساء الناس بالعراق لا سيما البصرة فقد ذكر صاحب الروض المعطار أنهم تنافسوا في اقتنائه ولهجوا بذكره وبالغوا في أثمانه حتى بلغ ثمن الفارة منه سبعمائة دينار ويقال انه بلغ ثمن طائر منها جاء من خليج القسطنطينية ألف دينار وكانت تباع بيضة الطائر المشهور بالفراهة بعشرين دينار وانه كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب وانه كان ليمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام والمنافسة فيه والأخبار عنها والوصف لأثرها والنعت لمشهورها حتى وجه أهل البصرة إلى بكار بن كتيبة البكراني قاضي مصر وكان في فضله وعقله ودينه وورعه ما لم يكن عليه قاض بحمامات له ثقات وكتبوا إليه يسألونه أن يتولى إرسالها بنفسه وكان الحمام عندهم متجرا من المتاجر لا يرون بذلك باسا. ويطول بنا الكلام إذا أردنا إن نقتبس فصولا من الكتاب لبيان مزيته بين الأسفار الرائقة وقد دل تجويد المؤلف لتأليفه على مبلغه من العلم ووفرة ما كان لديه من كتب الأمهات فأوائل القرن التاسع للهجرة في زمن نسميه دور الفتور ولكن مصر لم تخل في عامة أدوارها بؤسها كأيام نعيمها من إجلاء حكماء تنبتهم تربة النيل وقد لا يشتهرون إلا بعد مماتهم لاتساع القطر والحدس المأثور عن بعض العلماء أحدهم للآخر ولكن العالم الحقيقي تظهر حسناته ولو بعد قرون وكم من مؤلف مثل القلقشندى رزق الحظوة في جميع ما كتب كما وقع المقريزي وياقوت والجاحظ والغزالي والماوردي وابن كتيبة والراغب والمجيدون في توليفهم من المتأخرين قلائل على كل حال بقي أن نسدي أطيب الثناء على عمدة دار الكتب الخديوية لتعهدها العلم الحين بعد الآخر بإحياء مثل هذه المصنفات التي قد يغني الكتاب منها عنه. خزانة كتب ويفيد في بث العلم في الدانية والقاصية ما لا تقوم به الخطب والمحاضرات والمقالات المقصورة على زمان معين وفئة معينة من الأرض ونخص بالشكر مديرها ووكيلها وقد أحسن الطابعون بجعل فواصل بين الفصول والأبواب وإنهاء السطر حيث تنتهي الجملة أو القطعة ووضع أدوات الفصل الجديدة المعروفة في اللغات الإفرنجية وإن كان أداة التعجب لم تجعل بعض الأحيان في أماكنها أما أغلاط الطبع فنادر

في هذين الجزأين من الكبريت الأحمر، ورجاؤنا أن تزيد العناية في الأجزاء التالية ويشفع آخر الكتاب بفهرس مستوفى مثل فهرس تاريخ مصر لابن إياس طبع دار الخديوية أو أكثر توسعاً منه حتى نباهي بأن مصر فاقت أوروبا بمطبوعاتها العربية ويكون لنا هذا القليل الممتع من أمهات الكتب العملية الذي جود الطابعون طبعه ووضعه خير عزاء لما يصدر كل أسبوع من مطابع مصر التجارية ونخجل منه أمام أنفسنا دع غيرنا من علماء الأمم الراقية حتى لقد قلت ثقة علماء الشرقيات بمطبوعاتنا اللهم إلا النادر الفذ ولم يعولوا في مصنفاتهم ونقولهم إلا على ما طبع منها في بلاد الغرب خاصة. وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريفان الحمام أول ما نشا يعني في الديار المصرية والبلاد الشامية_من الموصل وان أول من اعتنى به من الملوك ونقله من الموصل الشهيد نور الدين زنكي صاحب الشام رحمه الله تعالى في سنة 565 وحافظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر وبالغوا حتى افرد وله ديوانا وجرائد بأنساب الحمام وقد اعتني بعض المصنفين بأمره حتى صنف فيه أبو الحسن بن ملاعب القواس البغدادي كتابا للناصر لدين الله العباسي ذكر فيه أسماء أعضاء الطائر ورياشه والوشوم التي توشم في كل عضو وألوان الطيور نوما يستحسن من صفاتها وكيفية أفرخها وبعض المسافات التي أرسلت منها وذكر شيء من نوادرها وما يجري مجرى ذلك. وذكر في التعريف أن القاضي محي الدين بن عبد الظاهر صنف فيه كتابا سماه تمائم الحمائم وقال في مسافة الطيران: ذكر ابن سعيد في كتابه جني المحل وجني النحل أن العزيز بمصر ذكر لوزيره يعقوب بن كلس انه ما رأى القراصية البعلبكية وانه يحب أنيراها وكان بدمشق أن يجمع ما بها من الحمام المصري ويعلق في قدر كثير من القراصية فطلع بها إلى العزيز من يومه وذكر أيضا في كتابه المغرب في أخبار المغرب أن الوزير اليازوري المغربي وزير المستنصر الفاطمي وجه الحمام من مدينة تونس من افريقية من بلاد المغرب إلى مصر فجاء إلى مصر وذكر أبو الحسن القواس في كتابه في الحمام أن حماما طار من عبدان إلى الكوفة وان حماما طار من الترناوذ إلى الأبله ونحو ذلك. . وذكر في جملة ما ذكره في تجويد الإنشاء خلو الفكر عن المشوش وصفاء الزمان وقال في هذا: قال أبو تمام الطائي في وصيته لأبي عبادة البحتري مرشدا له للوقت المناسب لذلك:

تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء وأحفظه أن يختار وقت البحر فان النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا الدماغ من أكثر الأبخرة والأدخنة وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم. وخالف ابن أبي الصابغ في اختيار وقت السحر وجنح إلى اختيار وسط الليل اخذ من قول أبي تمام في قصيدته البائية: خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب مفسرا للدجى بوسط الليل محتجا لذلك بأنه حينئذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة ونالت قسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء فيكون الذهن حينئذ صحيحا والصدر منشرحا والبدن نشيطا والقلب ساكنا بخلاف وقت السحر فأنه وإن كان فيه يرق النسيم وينهضهم الغذاء إلا إنه يكون قد انتبه فيه أكثر الحيوانات الناطق وغيره ويرتفع معظم الأصوات ويجري الكثير من الحركات وينقشع بعض الظلماء بطلائع أوائل الضوء وبما انهضم عن بعض الناس الغذاء فتحركت الشهوة لاختلاف ما انهضم منه وخرج من فضلاته فكان ذلك داعيا إلى شغل الخاطر وباعثا على انصراف الهمم إلى تدبير الحدث الحاضر فيتقسم الفكر ويتذبذب القلب ويتفرق جميع الهم بخلاف وسط الليل فانه خال من جميع ذلك. وقال في صفاء المكان: وذلك بان يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات عاريا من المخوفات والمهولات والطوارق وان يكون مع ذلك مكانا واثقا معجبا رقيق الحواشي فسيح الأرجاء بسيط الرحاب غير غم ولا كدر فان انضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر من ماء وخضرة وأشجار وإزهار وطيب رائحة كان ابسط للفكر وانجح للخاطر. وقد ذهب بعضهم إلى انه ينبغي خلو المكان من النقوش الغربية والمرائي المعجبة فإنها وان كانت مما ينشط الخاطر فان فيها شغلا للناظر فيتبعه القلب فيشتتاه. ويطول بنا الكلام إذا أردنا نقتبس فصولا من الكتاب لبيان مزيته بين الأسفار الرائقة وقد ذل تجويد المؤلف لتأليفه على مبلغه من العلم ووفرة ما كان لديه من كتب الأمهات في أوائل القرن التاسع للهجرة في زمن نسميه دور الفتور ولكن مصر لم تخل في عامة أدوارها أيام بؤسها كأيام نعيمها من إجلاء حكماء تنبتهم تربة النيل وقد لا يشتهرون إلا بعد

مماتهم لاتساع القطر أو للحد المأثور عن بعض العلماء احدهم للأخر ولكن العالم الحقيقي تظهر حسناته ولو بعد قرون وكم من مؤلف صنف المائة والمائتين من المجلدات فلم يكتب لها البقاء لأنها غير نافعة وفي غيرها عنها كفاية وكم من مؤلف مثل القلقشندى رزق الحظوة في جميع ما كتب كما وقع للمفريزي وياقوت والجاحظ والغزالي والماوردي وابن كتيبة والراغب والمجيدون في توليفهم من المتأخرين قلائل على كل حال بقي إن نسدي أطيب الثناء على عمدة دار الكتب الخديوية لتعهدها العلم الحين بعد الأخر بإحياء مثل هذه المصنفات التي قد يغني الكتاب منها عن خزانة الكتب ويفيد في بث العلم في الدانية والقاصية ما لم تقوم به الخطب والمحاضرات والمقالات المقصورة على زمان معين وفئة معينة وبلد معينة من الأرض نخص بالشكر مديرها ووكيلها وقد أحسن الطابعون بجعل فواصل بين الفصول والأبواب وإنهاء السطر حيث تنتهي الجملة والقطعة ووضع أدوات الفصل الجديدة المعروفة في اللغات الإفرنجية وان كانت أداة التعجب لم تجعل بعض الأحيان في أماكنها إما أغلاط الطبع فأندر في هذين الجزأين من الكبريت الأحمر ورجاءنا إن تزيد العناية في الأجزاء التالية ويشفع أخر الكتاب بفهرس مستوفي مثل فهرس تاريخ مصر لابن إياس طبع دار الكتب الخديوية أو أكثر توسعا منه حتى نباهي بان مصر فاقت أوروبا بمطبوعاتها العربية يكونوا لنا هذا قليل الممتع من أمهات الكتب العلمية الذي جود الطابعون طبعه ووضعه خير عزاء لما يصدر كل أسبوع من مطابع مصر التجارية ونخجل منه إمام أنفسنا دع غيرنا من علماء الأمم الراقية حتى لقد قلت ثقة العلماء المشرقيان بمطبوعاتنا اللهم إلا النادر الفذ ولم يعولوا في مصنفاتهم ونقولهم إلا على ما طبع منها في بلاد الغرب خاصة.

سجع العماد

سجع العماد ذكر لنا احد الفضلاء بأننا حملنا على العماد الكاتب في الجزء عند كلامنا على سيرة صلاح الدين والاستطراد إلى تبجحه بنثره دون التوسع في حسناته في بلاغته وفصاحته وما كان كلامنا فيه إلا من قبيل الاستطراد وإلا فان سجع العماد مما سار مسير المثل في البلاد ولو كان البحث خاصا فيه وقصرنا في توفيته حقه لتم هذا الحكم من كل وجوهه. وها نحن أولاء نشفع ذاك النقد بنقل شذرات من سجعه البديع وأمامنا من كتبه الفتح القسي وزبدة النصر وهما من الكتب التي باكر المستشرقون إلى تمثيلها بالطبع منذ زمن للاستفادة من مضامينهما العماد الكاتب الاصبهاني أبو عبد الله محمد بن صفي الدين المعروف بابن أخي العزيز من طلبة المدرسة النظامية في بغداد ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير ابن هبيرة ببغداد غزلاه النظر بالبصرة ثم بواسطة فلما توفي تشتت شمل إتباعه ومنهم العماد الذي أقم مدة. كما روى ابن خالكان في عيش منكد وجفن مسهد ثم انتقل إلى دمشق سنة 563 فاتصل بصاحبها نور الدين محمود بن زنكي وبصلاح الدين يوسف بن أيوب وأهل لكتابة الإنشاء قال العماد: فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية ولقد كانت مواد هذه الصناعة (أي الإنشاء) عتيدة عنده لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها واتى فيها بالغرائب وكان ينشئ الرسائل بالعجمية أيضا وبعد وفاة نور الدين اتصل بصلاح الدين فنظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم وكان القاضي الفاضل هو الواسطة في ذلك بينه وبين صلاح الدين وقال أنا لا يمكنني الملازمة الدائمة في كل سفرة وغدا يكاتبك ملوك الأعاجم ولا تستغني في الملك عن عقد الملطفات وحل التراجم والعماد يفي بذلك ولك اختاره وقد عرف في الدولة النورية مقداره واخذ للعماد خط السلطان بما قرره له من شغل. وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم. قال صاحب وفيات الأعيان وصنف العماد والتصانيف الفائقة من ذلك كتاب جريدة القصر وجريدة العصر جعله ذيلا على زينة دمية الدهر تأليف الخطيري الذي جعل كتابه ذيلا

على دمية القصر للباخرزي والباخرزي جعل كتابه ذيلا على يتيمة الدهر للثعالب وهذا جعل كتابه ذيلا على كتاب البارع لهرون بن علي المنجم وكتاب العماد في عشر مجلدات وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وكتاب الفتح القسي في مجلدين وكتاب السيل على الذيل جعله ذيلا على الذيل لابن السمعاني وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات ونفسه في قصائده طويل وله ديوان صغير جميعه دونيت وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاضرات لطاف. توفي سنة 597بدمشق. وسجع العماد الكاتب وان كتب إليه الوزير ضياء الدين بن الأثير صاحب المثل الثائر: وكيف لا يكون ذلك وقلمها هو يراع الذي نفثت الفصاحة في روعة وكمنت الشجاعة بين ضلوعه فإذا قال أراك كيف تنسق الفرائد في الأجياد وإن قال ذلك فهو كلام الأخ لأخيه والسجع كان من مألوفات تلك الأيام وابن الأثير كان مسجع أيضا فن كلام العماد لا يخلو من تخلف مهما تمثلنا قال القلشندي في صبح الأعشى فيما يكون حسن السجع وقبحه: منها إن يكون السجع بريء امن التكلف خاليا من التعسف محمولا على مايأتعي به الطبع وتبديه الغريزة ويكون اللفظ فيه تابعا للمعنى بان يقتصر من اللفظ بما يحتاج إليه في المعنى دون الإتيان بزيادة أو نقص بسبب السجع دون المعنى خرج السجع عن حيز الذم ومنها إن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة لا غثة ولا باردة مونقة المعنى حسنة التركيب غير قاصرة على صورة السجع الذي هو تواطؤ الفقر فيكون كمن نقش أثوابا من الكرفس أو نظم عقدا من الحرز الملون: قال في المثل الثائر وهذا مقام نزل عنه الأقدام ولايستطيء إلا الواحد من أرباب هذا الفن بعد الواحد قال ومن اجل ذلك كان أربابه قليلا ولولا ذلك كان كل أديب سجاعا إذا ما منهم من احد إلا وقد يتيسر عليه تأليف ألفاظ مسجوعة في الجملة. وها قد إن أوان نقل فصول من كلام العماد بيانا لمنزلته في النثر وتجليه في حلبة البيان قال في مقدمة الفتح القسي: هذا كتاب أسهمت فيه بين الأدباء الذين يتطلعون اللي الغرر المتجلية وبين المستخبرين الذين يستشرفون إلى السير المتحلية. يأخذ الفريقان منه على قدر القرائح والعقول. . . ويكون حظ المستخبر أن يسمع والأديب إن يقول. فان فيه من الألفاظ ما صار معدنا من معادن الجواهر التي نولدها (انظر إلى هذه الدعوى التي لا تفوقها إلا دعوى الوزير ابن الأثير

صاحب المثل السائر) ومن غرائب الوقائع ما صار به لسانا من السنة العجائب التي نوردها وإنما بدأت بالتاريخ به لاستقبال سنة ثلث وثمانين وخمسمائة لان التواريخ معادها إما إن تكون مستحقة من بدء نشأة البشر الأولى راما مستحقة بمعقب من الدول الأخرى فلا امة من الأمم ذوات الملل. وذوات الدول. إلا ولهم تاريخ يرجعون إليه. ويعولون عليه. ينقله خلفها عن سلفها وحاضرها عن غابرها تقيد به شوارد الأيام وتنصب به معالم الأعلام ولولا ذلك لانقطعت الوصل وجهلت الدول ومات في أيام ذكر الأول. ولم يعلم الناس أنهم لعلاقة الثرى. وأنهم نطف في ظلمات الأصلاب طويلة الثرى. وان أعمارهم مبتداه من العهد الذي تقادم لأدم وقد اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم أراده من ظهورهم. فليعلم المرء قبل انقضاء عمره وقبل نزول قبره ما استبعده أهل الطي من حقيقة الشر. وتقبل في واحدة من الأطوار شهادة عشر. فقد قطع عمرا بعد عمر. وسار دهرا بعد دهر. وثوى والشر في ألف قبر. وإنما كان من الظهور في ليل إلى إن وصل من العيون إلى فجر ولولا التاريخ لضاعت مساعي أهل السياسات الفاضلة. ولم تكن المدائح بينهم وبين المذام هي الفاضلة. ولقد الاعتبار بمسالة العواقب وعقوبتها. وجهل ما وراء صعوبة الأيام من سهولتها وما وراء سهولتها من صعوباتها فأرخ بنو ادم بيومه. وكان أول من اشترى الموت نفسه وقاع النزع مقام سومه. ثم أرخ الأولون بالطوفان الذي بلل الأرض وأغرقها ثم بالعام الذي بلبل الألسن وفرقها وأرخت الفرس أربعة فإليه ترجع الفرس تواريخ لأربع طبقات من ملوكها أولهم كلشاه ومعنى هذا الاسم ملك الطين فإليه ترجع الفرس بأنسابها وعليه ينسق عقد حسابها وهي الآن تؤرخ بيزجرد أخر ملوكها وهو الذي بزه الإسلام تاج إيوانه وأطفئ نور الله بيت نيرانه وأرخ اليونان من فيلبس أبي لاسكندر والى قلوبطرة أخرهم وهؤلاء المسمون بالحفاء وهم الصابئون وأرخ اليهود بأنبيائهم وخلفائهم وبعمارة البيت المقدس وبخرابه على ما اقتضاه نقل أوائلهم وآبائهم وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة فكانت حمير تؤرخ بالتابعة ممن يلقب يذو ويسمى بفيل وكانت غسان تؤرخ بعام السد حين أرسل الله عرم السيل وأرخت العرب اليمانية بظهور الحبشة على اليمن ثم بغلبة الفرس عليه وأرخت معه بغلبة جرهم للعماليق وإخراجهم عن الحرم ثم أرخو بعام الفساد وهو عام وقع فيه بين قبائل العرب تنازع في الديار فنقلوا منها

وافترقوا عنها ثم أرخوا بحرب بكر وتغلب ابني وائل وهي حرب البسوس وثم أرخوا بحرب عبس وذبيان ابني بغيض وهي حرب داس والغبراء وكانت قبل المبعث بستين سنة ثم أرخوا بعام الخنان قال النابغة الذبياني: فمن بك سائلا عني فإني ... من الفتيان في عام الخنان وأرخوا بعدة من مشاهير أيامهم وأعوامهم بعام المخانق وعام النائب ويوم ذي قار وبحرب الفجار وهي أربع حروب ذكرها المؤرخون وأسندها الراوون وأدنى ما أرخوا به قبل الإسلام بحلف الفضول منصرف قريش من الفجار الرابع وبحلف المطيبين وهو قبل حلف الفضول ثم بعام الفيل وهو الجار ذو القربى لتاريخ الإسلام وخرجت إمام الجمعة فطويت الصحف وجفت الأقلام واظهر الله على الأديان الدين القيم ونسخ تاريخ الهجرة كل تاريخ متقدم. وقال في مفتتح فصل في ذكر ما جرت عليه حال الفرنجة في خروجهم من القدس وشرع الإفرنج في بيع الأمتعة واستخراج ذخائرهم المودعة وباعوا بالمجان في سوق الهوان وتقاعد الناس بهم فابتاعوا بأرخص الإثمان وباعوا بأقل من دينار كل ما يساوي أكثر من عشرة. وجدوا في ضم الذهبيات والفضيات من الأواني والقناديل والحريريات والمذهبات من الستور والمناديل ونقضوا من الكنائس الكمائن واستخرجوا من الخزائن والدفائن وجمع البطرك الكبير كل ما كان على القبر من صفائح التبر ومصوغات العسجد ومصنوعات اللجين وجميع ما كان في قمامة من الجنسين والنسيجين فقلت للسلطان هذه أموال الكنائس والأديار فلا تتركها في أيدي هؤلاء الفجار فقال إذا تأولنا عليهم نسبونا إلى القدر وهم جاهلون بسر هذا الأمر فنحن نجريهم على ظاهر الأمان ولا نتركهم يرمون أهل الإيمان بنكث الإيمان بل يتحدثون بما أفضناه من الإحسان فتركوا ما ثقل وحملوا ما عز وخف وتفضوا من تراب تراثهم وقمامة قمامتهم الكف وانتقل معظمهم إلى صور وكتفوا بالديجور الديجور وبقي منهم زهاء خمسة عشر ألفا امتنعوا عن مشروع الحق فاختصوا بمشروط الرق فإما الرجال وكانوا سبعة ألاف فأنهم ألفوا ذلا لم يكونوا آه بآلاف فاقتسمتهم أيدي سبا وتفرق الغانمون بجمعهم في الزهاد والربا وأحصيت النساء والصبيان ثمانية ألاف نسمة عادت بيننا مقتسمة وأصبحت ببكائها وجوه الدولة مبتسمة.

وأنت ترى انه لو رفعت بعض الأسجاع من هذا الفصل البادي التكلف عليه لأصبحت عبارة العماد من السهل الممتنع ولكنه تشبث بأذيال هذه الصناعة واثر التصنيع الصعب المنقادة على الطبع السلس. وقال من فصل أخر وسار السلطان ومعه عماد الدين زنكي وسيفه بصقله يضحك وبدم الكفر يبكي ومظفر الدين كوكبوري وهو الذي حين يواري صارمة في نجيع العدى لزند الظفر يوري وصحبه من فرسان العرب كل فارس معرب ومن شجعان الأكراد كل فاتك مخرب ومن فتاك الأتراك كل قصور قاصر ومن صيد الصناديد كل كسروي كاسر وكل كمي كميش واكديش على اكديش وقارح على قارح وخضم على سابح وجرى جار جارح وبهمة وبطل وجبل على جبل وفحل على فحل وذمر نكل وورد على ورد ومرد على جرد وحلس على حلبس وباشر بالموت معبس واهيس اليس واحمى أحمس ووغشمشم همام وأيهم مقدام وباسل ذي باس وعاسل عاس ورئبال على رئبال ومشتمل على شمال وبحر على بحر وصقر على صقر وركبوا سلالهم وجنبوا جنائنهم وجروا على الساحل سيولا وجروا بالذوابل ذيولا وطارابليس طرابلس بخوا في الخوف ودام الجوى في رعب أهلها بدم الجوف وما سار إلا من خف في نهضته ونهض بخفته وأحسن حصن الأكراد بالا كدار وصفت على صافيتا بوارق البوار وقطع عرق عرقا وعقرت وتعرت العريمة وتعرقت ومزعت تلك الأعمال ومزقت وأرهقت وأزهقت ونفرت أنفارها وبقرت أبقارها وملئت بالدوائر ديارها وسيقت مواشيها وحشيت بالنيران أوساطها وحواشيها. وفي كتاب الفتح القسي فصول اشد إيغالا من هذا التكلف الذي اقتبسنا نموذجا منه للتعريف بأسلوب هذا الكاتب وله أيضا في زبدة النصرة ونخبة العصر الذي اختصره الفتح البندري ونشه الأستاذ هو تسما الهولندي المستشرق الشهير لأول مرة في الغرب قال في بداية حال السلجوقية وهم أتراك كانت السلجوقية ذوي وعدد وأيد ويد لا يدينون لأحد ولا يدنون من بلد وميكائيل بن سلجق زعيمهم المبجل وعظيمهم المفضل وقد سكنوا من إعمال بخارا موضعاً يقال له نور بخارا وما زالوا في انصر شيعة وأنضر عيشة وهم في الرعي يكلئون الكلأ وفي الريع يملئون الملأ لا يذعر داعر ولا يردعهم رادع والسلاطين يرعونهم للملمات ولا يرعونهم ويدعونهم للمهمات ولا يدعونهم حتى عبر عب السلطان يمين الدولة محمود

بن سبكتكين إلى بخارا المساعدة قدر خان فرأى مكيال مكيائيل بحصا الحصافة معيرا وصاع مصاعه بباسل البسالة موفرا فرغب في استغرابه وانجذب إلى اجتذابه وأراد إن يعبر إلى خراسان به وبأهله ويكنف أكنافها الذي الحفظ والحفيظة بنبله ونبله وامتنع ميكائيل عليه ومال عنه ولم يمل إليه فغاظ السلطان تمنعه فقبضه واعتقله وعبر به وبأصحابه إلى خراسان ونقله وقال له ارسلان الحاجب أني أرى في أعين هؤلاء عين الهول وأنهم لمعروفون بالجرأة والقوة والحول والرأي عندي إن تقطع إبهام كل من تعبره منهم ليؤمن ضره ولا يخاف شره فما قبل خطابه في هذا الخطب وقال له انك لقاسي القلب فلما أقاموا في خراسان تقربوا إلى عميدها أبي سهل احمد بن الحسن الحمدوني وأهدوا إليه ثلثه أفراس مختلية وسبعة أجمال بخطية وثلاثمائة رأس غنم تركية وهداه إقبالهم إلى قبول الهدية وكانوا سألوه إن بمرجهم في المروج ويسد بمواشيهم محارم تلك الفروج فعين لهم مروج دندلقان فقاربها وما قاربها وتحاكماها من عداهم وجانبها وتوفي محمود بن سبكتكين وهو كاره لأمرهم مثفق من وميض جمرهم مستشف ستر القضاء في قضية شرهم وجد أبو سهل الصعب فيهم سهلا. واتخذهم لارتفاقه بهم صحبا وأهلا ونفذ مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرا من غزة إلى خراسان فواقعهم وقتل منهم عدة واسر منهم جماعة حملهم إلى غزة منهم يبغوا إلى خراسان فاستعطفوه فلم يعطف واستسعفوه فلم يسعف ولما غلق رهنهم وتوثق شربوا كاس اليأس وأبدلوا إيناس الناس بايحاش الحاشية ومشى شحنة طاس لاستياق ما لهم من ماشية واستلان خشونتهم واستسهل صعوبتهم ولما ظن انه أب بالغنم والغنيمة وباء بعز العزيمة ركبوا إليه صهوات الخنق وصرفوا نحوه أعنة الخيبة والعنق حتى لقوه فتركوه لقي وتبعوا المنهزمين ودخلوا إلى طاس فملكوها وجاسوا خلال ديارها وسلكوها وتشاوروا في ما بينهم وقالوا هذا بحر خضناه وفتح ابتكرتاه وطاس مدينتنا التي تؤوينا وحصننا الذي يحمينا فلا نفرج عنها ولا نخرج منها وشرع أبو سهل الحمدوني في إدراك ما فرط واستمساك ما اخبط وكادوا يجيبونه بالجميل ويحملون في الجواب ويميلون بما لأته إلى صوب الصواب فتسرع شحنة نيسابور وتعسر وجند وعسكر وشن على سرحهم غارة على غارة ونهض لمنفعة نهضت بمضرة فركبت السلجوقية إليه والى جماعته إرسالا ونبشوا معهم وشبوا قتالا وهزموهم وكسروهم وقتلوهم وأسروهم وامتدوا

إلى نيسابور فدخلوها ووجدوا في خلوها فرصة فاهتبلوها وذلك في شهر رمضان سنة 429 وعزموا على مد يد ونهب البلد فمنعهم طغرليك محمد بن ميكائيل بن سلجق وهو أميرهم وكبيرهم وقال لهم نحن في شهر حرام لأنهتك عصمته ولا يحصل من النهب ارب وإنما يسوئنه السمعة ويشيع الشنعة فنفرت جماعته من مقاله وسخفوا رأيه في تبيين حرام الفعل وحلاله. إلى إن قال واستولوا على خراسان وتجاوزوها إلى العراق وطارا على ملك الديلى ورموه بالصليم وغلوا الأملاك وبلغوا الأفلاك واقتسموا البلاد وطرفوا إطرافها والبلاد قال وهذه السنة (437) هي أول سنة ورد فيها الأتراك (السلجوقيين) إلى العراق وانتشروا منها في الأفاق ثم قال وأجفل الملوك من خوف إقدامهم وتنحوا من طريق ضرامهم فما جاؤوا إلى بلدة إلا ملكوا مالكها وملئوا مسالكها وأرعبوا ساكنيها واسكنوها الرعب وغلبوا ولاتها وولوها القلب وازوروا إلى الزوراء وأشاعوا مد اليد بالغارة الشعواء وقال في ظهور الإسماعيلية فنابت نوائب وظهرت العجائب وفارق الجمهور بيننا جماعة نشئوا على طباعنا وكالوا بصاعنا وكانوا معنا في المكتب واخذوا حظا وافرا من الفقه والأدب وكان منهم رجل من أهل الري وساح في العالم وكانت صناعته الكتابة فخفي أمره حتى ظهر وقام فأقام من الفتنة كل قيامه واستولى في مدة فريبة على حصون وقلاع منيعة وبدأ من القتل والفتك بأمور شنيعة وخفيت عن الناس أحوالهم ودامت حتى استتب على استتبا بسبب لن لم يكن للدولة أصحاب أخبار وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم الملوك أنهم لم يخلوا جانبا من صاحب خبر وبريد فلم تخف عنهم أخبار الأقاصي والداني وحال الطائع والعاصي حتى ولي في الدولة السلجوقية ألب ارسلان محمد بن داود ففاوضه نظام الملك في هذا الأمر فأجابه انه لا حاجة بنا إلى صاحب خبر فان الدنيا لا تخلو كل بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء فإذا نقل إلينا صاحب الخبر وكان له غرض اخرج الصديق في صورة العدو والعدو في صورة الصديق فاسقط السلطان هذا الرسم لأجل ما وقع لهم من الوهم فلم يشعر إلا بظهور القوم وقد استحكمت قواعدهم واستوثقت معاقدتهم وأخافوا السبل وأجالوا على الأكابر الأجل وكان الواحد منهم يهجم على كثير وهو يعلم انه يقتل فيقتله غيلة ولم يجد احد الملوك في حفظ نفسه منهم حيلة فصار الناس فيهم فريقين فمنهم من جاهرهم

بالعداوة والمقارعة ومنهم من عاهدهم على المسالمة والموادعة فمن عاداهم خاف من فتكهم ومن سالمهم نسب إلى شركهم في شركهم وكان الناس منهم على خطر عظيم من الجهتين فأول ما بدؤوا بقتل نظام الملك ثم اتسع الخرق وتفاقم الفتق ولما أكنوا تجمعوا من كل صنف تطق إلى جميع أصناف الناس التهم ودب البري السقم وتوفرت على التوفي الهمم. هذه هي انموذجات من سجع العماد ولعل في ذلك فائدة لمن يحب هذه الطريقة ولكنها صعبة لا تنتج في هذا العصر الذي أصبح فيه المعاني قبل المباني.

احمد فتحي باشا زغلول

احمد فتحي باشا زغلول رزئت مصر بل البلاد العربية برجل نافع في نهضتها العلمية والاجتماعية والفضائية ونعني به المرحوم احمد فتحي باشا زغلول من رجال الفضاء في مصر رفعه عمله إلى المناصب العالية وكتب له عمله درجة سامية بين العلماء بما ألف وعرب توفاه الله عن نحو خمسين عاما في القاهرة وكان من الرجال العاملين الذين يصرفون فضل أوقاتهم في التعريب والتأليف وجميع ما عربه وألفه من الكتب الاجتماعية والحقوقية يدل بعد غوره وانه لا ينشر للناس إلا المفيد فأول كتبه التي نشرها كتاب أصول الشرائع لبنثام الانكليزي عربه عن بالافرنسية في مجلدين لطيفين ثم عرب كتاب خواطر وسوا نح في الإسلام للكونت هنري دي كاستري ثم كتاب سر تقدم الانكليز السكسونيين لادمون ديمولان وهذا اشتهر كثيرا واثر وأي اثر في نفوس كل من طالعوه وترجم أيضا كتاب روح الاجتماع للفيلسوف كوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب وكتاب سر تطور الأمم لذاك الفيلسوف أيضا وألف من الكتب كتاب المحاماة وكتاب شرح القانون المدني. احتفل رجال العلم والقضاء والحكومة في مصر في أوائل شهر حزيران من السنة الفائتة في مقر الجامعة المصرية بالعالم فتحي باشا على اثر نشره كتاب شرح القانون المدني فتليت خطب كثيرة في إعماله وقدمت له نسخة مجلدة تجليدا مذهبا من كل كتاب ألفه ورسالة شكر وقع عليها المحتفلون. وفي التاسع من أيار هذه السنة احتفل طائفة من رجال العاصمة المصرية يوم الأربعين من وفاته بتأبينه وتعداد بيض أباد به علي العلم والقضاء وذلك في الأوبرا الخديوية بحضور جمهور كبير من العلماء والفضلاء والشعراء والوزراء والوجهاء فتقدم حسين رشدي باشا رئيس النظار ورئيس لجنة الاحتفال إلى مكان الخطابة وتلا خطبة ثم قام بعده عبد الخالق باشا ثروت ناظر الحقانية والقي خطبة رنانة ثم تلاهما الشيخ محمد الخضري وكيل مدرسة القضاء الشرعي والقي خطبة بليغة عن بعض ما يعرف عن الفقيد من النبوغ فيما اشتغل معه فيه من الأمور الشرعية ثم تلاه محمود بك أبو النصر المحامي نائبا عن المحاماة فصور للناس احمد فتحي زغلول باشا وحيد زمانه في الخطابة والكتابة والتأليف والتعريب وفضائل النفس وسمو الأخلاق ثم تلاه حسن بك عبد الرزاق المحامي نائبا عن الجمعية الخيرية الإسلامية فمثله في بره بالفقراء وعطفه على المعوزين ثم قام على أثره احمد بك لطفي السيد مدير الجريدة نائبا عن الصحافة والأدب

فأتى على تاريخ الفقيد وسر نبوغه وإغراضه الكامنة في صدره منذ نعومة إظفاره في المبادئ السياسية والاجتماعية والتشريعية. وبعد إن أتم الخطباء خطبهم تقدم محمود بك نبيه المصري والقي مرثيه وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار المدرس بمدرسة البوليس قارئا لقصيدة الشيخ عبد المحسن الكاظمي شاعر العراق التي أجمل فيها العزاء لكل مصاب بهذا الفقيد سواء في مصر أو غيرها. ثم تلاه الشيخ عبد المطلب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي فاسترق النفوس بما أودعه في قصيدته من الحقائق عن الفقيد العزيز ثم قام بعده خليل أفندي مطران فالقي قصيدة بليغة. وبعد ذلك هم سعد زغلول باشا شقيق الفقيد ومن كبار رجال مصر إلى مكان الخطباء ليقدم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن عائلته الحزينة شكره للأمة المصرية على ماجبرت من خاطرهم فخانته قواه وارتج عليه باب القول ففاضت عبراته وقال كلمة متقطعة في ذلك. فما قاله رئيس النظار وهو من نبغاء مصر في العلم والقضاء أيضا: فان كنتم قد اجتمعتم اليوم مدفوعين بما عليكم الوجدان بتمجيد ذكراه وتعداد مناقبه ومآثره فإنما انتم تدلون بعلمكم هذا على ما كان للفقيد من المكانة الرفيعة في نفوسكم وعلى إنكم تعرفون أقدار الرجال. اشتغلت أنا والفقيد في نظارة الحقانية زمانا طويلا كان فيه ساعدي اليمين، وكان لي نعم المعين. واليتني كنت افتتح اليوم هذه الحفلة لا لتأبينه بل لتكريمه حيا ومستمرا على تأدية خدمة الجليلة لوطنه فانه والحق يقال كان من اكبر مظاهر الرقي العقلي في وادي النيل. وقال ناظر الحقانية وهو من رجال العلم والقضاء أيضا: إلا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل باطل هذه الدنيا بما فيها واكبر باطل فيها الحياة كالبرق خلاب بشدة السنا فإذا الظلام في عقبه أو ادني. وقلما يفكر الأحياء في هذه الحقائق الوهاجة أو يتدبرها إلا إذا مضى رجل منهم كبير بعمله كبير بآثاره. لمثل ذلك اجتمع هذا الجمع. اجتمع بذكر رجلا كبيرا قضى نخبه لا حتف انفه ولكن في جهاد عظيم وقتال كبير وليس لعمري دمه إلا ذلك المداد الغزير الذي أجراه سيف القلم على صفحات المصنفات التي أفاء الله بها عليه من المعرب والمنشأ أريد المرحوم احمد فتحي زغلول. ليس أدل على إن هذا الرجل نابغة من اعتراف فضلاء الأمة له بالفضل ولا تزال

وأصواتهم ترن في أذاننا لقرب عهدنا باجتماعهم تكريما له وإجلالا لإعماله. احتفلوا بالأمس بفضله واجتمعنا اليوم لتأبينه لا غرابة فالعواصف لا تصيب إلا الأشجار الباسقة والصواعق لا تنقض إلا على ما تسامى فوق الناس إلى السماء والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الحسان توفي المرحوم فتحي باشا ولو إن للهمة شفاعة أو لو إن العزيمة تقبل عدلا لكان أول الخالدين ولكن هذا أمر الله ولا راد لما قضى. لو أردت إن أو في الرجل حقه من الوصف لما وسعني وقت ولما استغنيت بقلمي ولساني وحسبه رحمه الله السنة الخلق وأقلام الحق فقد وضعوه الموضع الذي هو به جدير. لقد كان في كل ميدان فرس رهان - كان كما يقولون رجلا جامعا رجلا عموميا نبغ في المعقول والمنقول معا ومعه الأدب الجم تزينه البلاغة ويزنه المنطق الصحيح إلى العلم الغزير تثبته الحنكة وتؤيده قوة العارضة إلى صفات نادرة في تصريف الأمور. كان كاتبا يرقص الأرواح بكتابته طربا وخطيبا لو قام بين وحوش علم الضاريات بر النقاد. كانت له باع طولي وذوق سليم في كل شيء يجمع إلى هذا كله شغفا غريبا بحسن التنسيق والتنظيم وليس على الله بمستنكر ... إن يجمع العالم في واحد ليس من قصدي إن اشرح حياة الرجل كلها فهذا ما ليس لي فيه مطمع وإنما أردت إن اذكر ما يحتمله المقام من ذلك. أردت إن يعرض قومه جنوده التي جاهد بها وعدد التي اعتد بها - كما تعرض الجيوش في لحظة ليتعرفوا. لم؟ لان لقوته صلب المعضلات واستقامت لغمزته قناة المشكلات. . . وبعد إن أجمل حياته القضائية حتى أصبح وكيلا لنظارة الحقانية وكانت هذه أخر عهد له بالوظائف قال: لست أبالغ إذا قلت إن جهاده في عام من أعوامها يقصر دونه جهاد رجال في أعوام. لم يقتصر همته على أعمالها الكثيرة العظيمة بل كنت تجده عاملا في كل شان من الشؤون العامة. له في نظارة الحقانية فضل المشاركة والمعاونة في وضع كل القوانين التي وضعت في عهده وهي كثيرة وفي الدرجة الأولى من المكانة واليه وحده يرجع الفضل كله في وضع

قوانين المحاكم الشرعية التي يدعم عليها نظامها الحالي ولولا همته التي لا يعتريها الإكلال لما كانت الآن تلك المحاكم إلا كما كانت عليه قبل نظامها الحالي وكذلك كانت له اليد البيضاء والفضل الأول في النظام الحالي للمعاهد الدينية فان الجناب العالي لما توجهت أنظاره الكريمة إلى إصلاح تلك المعاهد عهد في وضع نظام جديد لها إلى لجنة الفت تحت رئاسة الفقيد ومعه زميلي صدقي باشا ناظر الزراعة ومنى واني لأؤدي دينا علي وعلى زميلي باعترافي الآن على هذا الملأ بان فتحي باشا رحمه الله هو وحده صاحب الفضل في كل ما وضع من النظامان الجارية عليها الآن هذه المعاهد لم تنته تلك الأعمال الكثيرة والمشاغل الجمة وقد أضنت جسمه وأضعفت قوته عما عود عليه أمته من خدمتها بالتأليف والتعريب وكان عهدها نفث هذا القلم القادر البليغ هذا المصنف الجليل الذي وضعه في شرح القانون المدني. حياة كلها جهاد وعمل لم يؤت فيها عقله وجسمه قسطهما من الراحة مدفوعا إلى ذلك بعوامل فطرته مغالبا نواميس الطبيعة. وخطب احمد لطفي بك السيد قال: إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص تلك الصفات التي ظهرت أثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجع معظمها إلى التأثير الوراثي من أبوابه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل على الفرع وبما تعهدت أمره في التربية الأولى وما غرست فيه من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه. لا يأخذكم العجب من قولي فان من أمهاتنا نحن القرويون من هن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن المغلوب والمعارف على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق الرفيع في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم القانون الانتقال الوراثي فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارف زمنا طويلا ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتعارف في بلادنا فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعا لقوة الاستعداد أي لقوة تلك

الصفات الوراثية فللأمهات القرويات إن يقبلن أيضا شكر الجيل الحاضر علينا إن نعترف علنا ومن غير تردد بما للأمهات من المكانة العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغين نرجو له العمر الطويل ونابغة فقدناه إسفين فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعا. قال: أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة - أنه كان يكره الثورة - بعد سن الرجولة بالضرورة يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها فكما انه كان يرى إن الخير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه كذلك كان يرى إن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب تكمل ما فيها من اعوجاج. ويكتب ينالا يكاد يفارقه حتى يناديه الصبح من كثب لا ملل ولا سأم، تلك لذته ربها غرامه لا يزيده عذل العاذلين فيها إلا ولوعاً وربما أدرك سماره الإكلال وتشابهت عليهم وجوه الكلام وهو حديد الذهن كبير النفس ماضي العزيمة. ولم يكن سمره ولا عمله إلا فيما يرضي ضميره من كتاب يؤلف أو يترجم أو عمل صالح يقدم للجمهور من أمته. وقد ظهر لنا علو كعبه في حب الخير بما قام به في شأن الأزهر المعمور تلك المدرسة العظيمة التي بصلاحها يصلح عالم كبير من هذه الأمة إلى أن قال: ثم وضع بعد ذلك مشروع القانون الأخير ونماذج التعليم في العلوم المختلفة وقد كان عند وضعه واسع الأمل يريد للأزهر أن يكون فوق هامة المدارس وأن تكون مصر به فوق هامة البلاد الإسلامية كافة كما كان لها ذلك فيما مضى من الأزمان. وقد حاز هذا التقرير قبولاً لدى الجناب العالي الخديوي فصدر أمره الكريم أن يجري العمل به. ألف مجلس الأزهر الأعلى من ستة تعينهم وظائفهم ومن ثلاثة اختيروا الصلاح. أمر التعليم ومارس تشريع القوانين وتنفيذها وكان الفقيد أحد هؤلاء الثلاثة فسار في أمره سيرة رجل ينشد الإصلاح ويحث عليه فكنا نراه مهتماً بإنفاذ هذا القانون باذلاً جهده في علو شأن الأزهر والأزهريين كما يبذل الرجل جهده في تثقيف ولده وتقويم أوده يحب العامل ويثني عليه ويكره الكسول وينفر منه، يسوس النافر ويستجلب الشارد حتى لان له الأبي ورضي

عنه الناس بعد أن علموا إخلاصه وتفانيه فيما يصلح شأنهم ويرقي جامعتهم. وقد سار الأزهر بتلك الهمة الشماء شوطاً بعيداً في طريق السداد والصلاح. وكما يتوجب الوفاء علينا أن نذكر لفقيدنا هذا الأثر الخالد نذكر له مواقفه في إصلاح المحاكم الشرعية فما من قانون أو لائحة وضعت لنظام هذه المحاكم وانتشالها من وهدتها إلا كانت له اليد الطولي في وضعها وإنفاذها، كان ينظر نظراً دقيقاً إلى ما هذه المحاكم من التأثير في حال الأسر المصرية الإسلامية والوصول بها إلى شيء مما تطلبه لها من النظام والاستناد على دعامة متينة وكان يرى والحق ما يرى أن الأمة لا يتم تكونها ولا ترتقي جماعتها إلا إذا اطمأنت الأسرة وأمن القرينان اللذان هما عمادها خطر الظلم وامتداد الآجال عند التقاضي إذا لم يكن منه بد تأصل هذا في نفسه فكان يرى صلاح هذه المحاكم من أول واجبات المفكرين والعاملين المخلصين فكان ينتهز الفرصة السانحة لإدخال كل نظام يسهل على المتقاضين حاجتهم وقد نجح في كثير مما أراد نجاحا عظيما وإن لم يكن كل ما أراد، وكانت الرابطة متينة في نفسه بين العملين إصلاح المعاهد الدينية وإصلاح المحاكم الشرعية لذلك كان مجهوده العظيم مبذولاً نحو الإصلاحيين على السواء.

تسمية أبطال العرب

تسمية أبطال العرب وقاتليهم في الإسلام (1) الطبقة الأولى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام حمزة بن عبد المطلب - أسد الله قتل في غزوة أحد رماه وحشيٌ مولى جبير بن مطعم بحربة نذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل به سبعين رجلاً من قريش وكبر عليه في الصلاة سبعين تكبيرة. أمير المؤمنين علي عليه السلام - قتله عبد الرحمن بن ملجم الأيادي وهو في صلاة الصبح وقيل كان داخلاً إلى المسجد بالكوفة. الزبير بن العوام - حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله عمر بن جرموز. خالد بن الوليد - هو صاحب أهل الروم وخالد الذي فتح دمشق وأكثر بلاد الشام وله واقعة عظيمة في الروم ووقعة مسيلمة ولم يلق المسلمون مثلها وقتل مسيلمة. مات خالد على فراشه وكان يقول لقد شهدت كذا وكذا - قولهم كذا وكذا من تعبير المؤرخين - وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة أو ضربة أو رمية وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء ويروى أن وجد بجسده ثمانون مابين ضربة وطعنة فأما السهام فلم تكن تحصى وهو صاحب وقعة اليرموك في ثلاثمائة ألف. عمرو بن معدي كرب - فارس من فرسان الجاهلية ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام شهد حروب الفرس وكان له فيها أثر وعمر حتى ضعف وارتعش وهو أشهر الفرسان ذكراً طليحة الأسدي - من أكبر الشجعان جاهلية وإسلاماً ارتد وتنبئ وجمع جمعاً عظيماً وأغواهم وكان يتكهن ففل الجميع خالد وعاد طليحة إلى الإسلام وشهد حرب القادسية وغيرها من الفتوح وكانت له فيها آثار ومواقف المقداد - كان فارساً بطلاً رامياً وهو أول من رمى في سبيل الله ولما تخير عمر من يؤمن على قتال الفرس واستشار فيه قيل له هو الليث عادياً فبعثه حتى فتح العراق ولما قتل عثمان اعتزل ولم يشهد الحرب بعده ومات حتف أنفه. أبو دجانة الأنصاري - الذي أخذ سيف رسول الله لما عرضه على الجماعة وخرج أبو دجانة يتبختر بين الصفين فقال صلى الله عليه وسلم إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع. مسعود الثقفي - قتل الفيل

عمار بن ياسر - صاحب رسول الله قال فيه لا تؤذوني في عمار فعمار جلدة بين عيني وأخبر أنه تقتله الفئة الباغية قتل بصفين مع علي عليه السلام. هاشم بن عتبة - من أكابر الشجعان صاحب راية علي بصفين وله فتح جلولاء وهي الواقعة المشهورة مع الفرس. مالك النخعي الأشتر - مات مسموماً في شربة من عسل فقال معاوية أن لله جنوداً من جملتها العسل. القعقاع بن عمرو - طاعن الفيل في عشية القادسية. أيام بنية أمية الطبقة الثانية عبد الله بن الزبير بن العوام - قاتل جرجير ملك افريقية قتله الحجاج بعد أن حوصر بمكة وأسلمه أصحابه وعشيرته ومثل به. أبو هاشم بن الحنفية - مات حتف أنفه. عبد الله بن حازم السلمي - والي خراسان كبش مصر قتله وقيع بن الأسود. وكيع بن أبي سويد - ولي خراسان بعد ابن حازم فلم يضبط الأمر لهوجه مات حتف أنفه. مصعب بن الزبير - جاد بماله وبنفسه عرض عليه الأمان وولاية العراقيين وقد خذله أصحابه وبقي في نفر فأبى أن يمضي حميداً كريماً قتله عبيد الله بن زياد - هذا غير ابن زياد الدعي - في الحرب التي كانت بينه وبين عبد الملك بن مروان. ابن مليك التغلبي - قتله عمير بن الحباب إبراهيم بن الأشتر - الآخأنفه. الحسين بن علي لقي عبيد الله بن زياد في أربعة آلاف وعبد الله في سبعين ألفاً فقتله بيده وهزم جيشه وحارب مع مصعب حتى لم يبق سواهما وبذل له الأمان والولاية على أي بلد شاء فلزم الوفاء لمصعب وقتل أمامه. مسلمة بن عبد الملك - فحل بني أمية وفارسها ووالي حروبها مات حتف أنفه قتل. ر قريش - شاعر شجاع فاتك كان لا يعطي الأمراء طاعة له وقائع عظيمقتل. . جدر بن ربيعة - لص فاتك شاعر أعي الحجاجومحك. حتال عليه فحصله وحبسه ثم اصطاد سبعاً ضارياً وجعله في حفيرة وألقي جحدر عليه مقيداً وبيده سيف فقتل الأسد

وقال: ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك. فأطلقه الحجاج ومات حتف أنفه. المهلب بن أبي صفرة وأولاده - كلهم أنجاد وكان المهلب يجمع إلى النجدة الرأي والحزم وله في الحرب مكايد مشهورة ووقائعه في الخوارج أبادتهم مات حتف أنفه وكذلك ابنه المغيرة وفيه يقول زياد الأعجم: مات المغيرة بعد طول تعرض ... للموت بين أسنة وصفاح القتال الكلابي - جنى جناية فخافها فأقام في جبل عشر سنين يأكل من صيده. أبو بلال - خرج في أربعين فهزم ألفين شبيب الخارجي - الذي غرق في الفرالمؤمنين. لا يبلغون ألفاً نذرت امرأته غزالة تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ في إحداهما (البقرة) وفي الثانية (آل عمران) فعبر بها جسر الفرات وأدخلها الجامع ووقف على بابه يحميها حتى وفت بنذرها والحجاج في الكوفة في خمسين ألفاً. قطري - قتل في بعض الوقائع مع المهلب وكان رأس الخوارج خاطبوه بأمير المؤمنين. الدولة الهاشمية الطبقة الثالثة معن بن زائدة الشيباني - قتله الخوارج في أيام المهدي. الوليد بن طريف الشيباني - هكذا في الأصل. عمر بن حفص - أخو المهلب قيل أنه كان يتصيد فتبع حمار وحش ومازال يركض إلى أن حاذاه فجمع جراميزه ووثب على ظهره ومازال يجز عنقه بسيف أو بسكين في يده حتى قتله. أبو دلف القاسم العجلي - فارس بطل شاعر مغن نديم جامع لما تفرق في غيره طعن فارسين رد بفين فأنفذهما. المعتصم - كان يشد يده على كتابة الدينار فيمحوها ويأخذ العمود الحديد فيلويه حتى يصير طوقاً في العنق وهمته في فتوحه تناسب شدته في جبلته.

قوميتنا ولغتنا مسألة القوميات

قوميتنا ولغتنا مسألة القوميات من مسائل القرن التاسع عشر ولدت فيه ونشأت وترعرعت وربما كان الفرنسي أسبق غيرهم من الشعوب المتحضرة إلى إنشاء القومية والتناغي بها منذ قيامهم بثورتهم الأولى وقد قام اليونان في سنة 1821 - 1830وخلعواالطاعة العثمانية باسم القومية وقام البلجيكيون وانفصلوا في سنة 1830 - 1831 عن الهولنديين بهذا الاسم أيضاً وثارا لبولونيون في سنة 1830 - 1831والمجرفي سنة 1848مدفوعين أيضا بعامل القومية والجنسية وساعد نابولي الثالث على إنشاء القومية الإيطالية أو الوحدة الإيطالية في سنة 1859وسها عن تأليف الوحدة الألمانية في سنة 1866 - 1870وكثيرمن الدول العظمى تتخذ من تشابه اللغات حجة لتوحيد الجنسيات والقوميات وضم من تراهم أهلاً لذلك مثل الجامعة الجرمانية والجامعة السلفية وفي البلقان تجري اليوم قاعدة الجنسية على أصولها يريد الروماني والبلغاري والصربي والرومي أن ينشئوا لهم من الضعف قوة ويوحدوا ألسن من ينضمون تحت لوائهم وتجنسوهم بجنسياتهم خلافاً لما جرت عليه الحكومة العثمانية في الروم أيلي مدة خمسة قرون. وقد أنشأ بعض أتراك الأستانة يؤسسون منذ مدة لنشر لغتهم وإقامة دعائم قوميتهم أندية كثيرة مثل ترك يوردي وترك درنكي وترك أوجاعي وغير ذلك وإليك مقالتين لنا في هذا المعنى كنا نشرناهما في جريدة المقتبس (عدد 1230 - 1246 25رجب 1331و13شعبان هـ 1331 حزيران وتموز1913) فان فيهما الماعاً كبيراً إلى هذا الموضوع الخطير ولعل الطبقة المفكرة العالمة تعاود البحث فيه بحثاً علميا مجردا عن الشعوبية والعصبية. ذكر علي كمال بك من كبار أدباء الأتراك في إحدى افتتاحياته الأخيرة في إقدام: مبحثاً في أن القومية هي قوة فقط ورد بالبراهين التاريخية على من قاموا يؤسسون أندية تركية صرفة فقال أن ألمانيا حاولت بما فيها من قوة منذ ثلاث وأربعين سنة وقد استولت على ولايتي الألزاس واللورين من فرنسا أن تجعل أهلها ألماناً في لغتهم ومناحيهم فنوعت الأساليب بين الشدة والرخاء فلم توفق إلى إخراجهم عن فرنساويتهم وإن كانت أصولهم جرمانية في القديم ولكنهم تفرنسوا بعد ونشأ لهم رجال فرنسيون في فروع العلم والإدارة والجندية خدموا فرنسا أصدق خدمة وكذلك فعلت ألمانيا من قبل باستيلائها على مقاطعة

شلزويق الدانمركية فظل أهلها دانمركيين على الرغم من كل تضييق ومثل هذا يقال عن القسم الذي اقتطعته من أرض بولونيا فإن أهله بقوا على بولونيتهم ومن طاف أوروبا وقضى زمناً في ربوعها يعرف تأثير القومية في الأمم الراقية فالألماني لا يحب أن يتخذ عن ألمانيته بديلاً وكذلك الفرنسي والانكليزي والايطالي وغيرهم من الأمم الراقية يتناغى الفرد منهم بجنسيته ويقدسها ويفادي بكل شيء في سبيل الاحتفاظ بها. قال وأنا معاشر الأتراك نزلنا هذه الديار منذ ستمائة سنة فأنشأنا بقوة فطرتنا وماضينا وتاريخنا دولة وسلطة وقومية ثم بالرابطة الدينية واشتراك المنافع واتحاد المنازع تجلت القومية العثمانية في مظهر آخر وإن الشعوب التي يتألف منها هذا المجموع العثماني مهما ذهبت من المذاهب في أمانيها لا ترى بداً من احترام العثمانية محبتها فعلينا نحن الأتراك أن نعمل على تأييد هذه الرابطة بقوة الخلافة والسلطنة واللسان وما لنا من الأنسال المتفرقة في قسم من قارة آسيا فنجعل العثمانية مستندنا لا التركية وحدها لأن هذه إذا اتبعنا في الدعوة إليها خطة الشدة لا تلبث أن تزول وتنطفي جذوتها ولقد أخذنا منذ عصور نقرب إلينا الشعوب العثمانية الأخرى ولاسيما من تربطنا بهم جامعة الدين مثل الأكراد والجركس واللاكز وغيرهم حتى كاد يظن أنهم امتزجوا بنا فكبرت بهم قوميتنا التركية من حيث الكيفية والكمية والمادة والمعنى ولكن أخذ بعضهم آخراً يفرطون في الدعوة التركية فكان من أثر ذلك أن أصبح أولئك الشعوب يبتعدون منا فتنبهت فيهم فكرة قوميتهم الأصلية وانشئوا يعملون على إعادة مجدها مما يورث الدولة ضعفاً فيقل عددنا كثيراً من حيث القومية في حين أننا أسسنا هذه السلطة بالتكاتف يداً واحدة مع هاته الشعوب فإذا افترقنا عنهم نكون قد عبثنا بكياننا. وكم تركي صرف يبقى يا ترى من الرعيل الذي بيض وجوهنا من الأسلاف والمعاصرين الذين اشتهروا بفضلهم وكمالهم وعقلهم. وعجيب كيف لم نعتبر بما أتى علينا من المهالك ونحن نريد أن نقوم اليوم بما يعرض حياتنا للخطر غير معتبرين بما جرى. هذا محصل ما قاله صديقنا وقبيل أن أحصله للقراء اطلعت في طنين على مقال بتوقيع أحمد توفيق ذكر فيه رحلته إلى بيروت فقال أن ستين في المائة من سكان الأستانة من أصل تركي ومع هذا نرى ثمانين في المائة من مشاريعها وأعمالها غريباً عن التركية والحال ليس كذلك في بيروت فإن كل ما أنشئ فيها من الأعمال قد

تعرب وأنت لا تحتاج لمعرفة غير العربية في المرفأ والترام والسكة الحديدية والمخازن لأن بيروت قد عربت كل ما دخل عليها ولم تبعد من العربية كل ما صدر عنها فإنا نرى العرب الذين تفرقوا في أقطار المعمور مهما طالت غربتهم عن ديارهم لا ينسون قوميتهم فلا تسمع في أحياء العرب في نيويورك وبوني أيرس غير اللسان العربي وبواسطتهم دخلت عادات العرب وأخلاقهم إلى تلك القارات الواسعة ولا مناص لمن ينزل هذه الديار بضعة أشهر من أن يستعرب فيندمج في العرب للحاجة الماسة في حين نرى التركي الذي يقيم بضع سنين في فرنسا ينسى لغته أو يتناساها أو يصبح على الأقل وهو يمزج في حديثه ألفاظاً إفرنجية وهذا وإن كان من أسباب فقر اللسان لكن السبب الرئيسي فيه فقدان فكر الوطنية من النفوس. وإنك لتجد في بيروت حتى المدارس الأمريكانية وبالافرنسية التي تبث الأفكار الأجنبية لم يكتب لها البقاء إلا عندما تعربت. والكليتان الأمريكية والفرنسية قد جعلا للعربية مقاماً جليلاً والمعلمون كلهم محيطون باللغة العربية ومنهم المؤلف والأديب والكاتب على حين نرى أمثال هذه المدارس في الأستانة لا يكاد يوجد فيها من يكلمك بغير اللسان الإفرنجي ومهما افتخر الفرنسي بكليتهم البيروتية وقالت جريدة الظان عن سورية أنها القطر الذي فتحناه بلساننا فإن الحقيقة الراهنة أن هذه المدرسة لم تفتح البلاد بلسانها بل لأن المملكة قد أرجعتها إلى قوميتها الخاصة ولسانها الخاص أي أن العرب لم تأسرهم هذه المدرسة بلغتها بل أسروها بلغتهم. إليك زبدة المقالتين والأولى ترمي إلى التخفيف من التحمس إلى التركية لئلا يقل عدد الأتراك الحقيقيين والثانية تدعو قراءها إلى التشبه بالعرب في قوميتهم والتحمس لها حتى يبتلعوا غيرهم ولا يبتلعهم غيرهم. وكلا المقالين صحيح فإن الشعوب لا تقهر على الأخذ بلسان غيرها مهما كثرت عليها عوامل الضغط والإرهاق وحالة التركستان التاتارية وبولونيا الروسية أعظم شاهد من هذا القبيل فإن روسيا تسعى بكل ما لديها من قوة حتى تجعل سكانها روساً فلم يتيسر لها ذلك حتى الآن وإنما الناس يتعلمون لسان قوم ويتجنسون بجنسياتهم إذا وجدوا فيهما مصلحة كما وقع لكثير من الروس والطليان والمجر والألمان والبولونيين والتشيك والبوهميين في أمريكا الشمالية فإن البلاد قد جذبتهم إليها بسائق طلب المعاش أولاً ثم حببت نفسها إليهم بنظامها وعاداتها وغناها فنسوا على التدريج ألسنتهم بعض الشيء

واندمجوا في غيرهم فتأمركوا وإذ كانت الولايات المتحدة حتى اليوم مجموعة جنسيات ولغات مختلفة لأن الهجرة إليها لم تنقطع بعد فإن الجيل القادم أو الذي بعده يصبح أميركياً لا محالة بعاداته وأخلاقه ولغته والتعريب أيضاً يقاس على هذا المقياس فقد انتشرت العربية من أقصى الشمال الغربي من أفريقية إلى أوسطها إلى تخوم فارس بقوتين قوة الدين الذي يقضي على من يدين به أن يتعلم اللسان العربي لأن صلاته ومناسكه كلها عربية والقوة الثانية قوة المصلحة لأن الأمم المغلوبة وجدت مصلحتها في الأخذ بلسان الفاتحين ومهما حافظ القليل وسط الكثير على إرثه الطبيعي من حب قوميته ولغته فإن هذا الحب يضعف فيه مع الزمن ولذلك لامناص من تأمرك عرب نيويورك وبونس ايرس مهما طال عليهم الزمن وكذلك الحال في بقايا من العرب المصريين انقطعوا من جيش إبراهيم باشا المصري لما أوغل في صميم آسيا الصغرى فاتحاً فمنهم لا يزالون إلى اليوم في لواء أنطاكية من أعمال قومية عرباً ومع هذا فالأمل ضعيف جداً في بقائهم على عربتيهم فأما أن يصبحوا أرواماً بلغتهم كما أصبح مسلمو كريت أو أتراكاً. والتركية والرومية تنازعانهم هناك. ومثل ذلك يقال في المهاجرين الجركس والششن والطاغستانيين والأتراك الذين نزلوا ولايات سورية وبيروت وحلب واستوطنوها فأنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بقوميتهم ولسانهم أكثر من خمسين سنة وأخذنا نرى أولادهم وقد تعربوا مختارين أو مضطرين وهذا لما وقر في صدر كل مسلم من وجوب تعلم العربية ومن تنازل عن جنسيته ليتخذ العرب قومه لا يرى غضاضة عليه فيما أتى لأنه يكون خرج من شعب ليس له تاريخ مجيد كالعرب ولا لسان فيه كل أسباب المدنية كلسان العرب. العربية مرنة للغاية على الرغم مما يدعي صعوبتها بعض من لا يحبون أن يتعبون أنفسهم ولو أشهراً في تعليمها ولذلك يندمج فيها أهل العناصر الشرقية الأخرى أكثر مما يندمج أهلها في أهل تلك العناصر. وحال مصرفي هذا الشأن أدهش الأغرب أنك ترى الرومي والايطالي والنمساوي والمجري والأسباني والإنكليزي يكلمون المصريين بلهجتهم مع أنه ندر في الطبقة المستنيرة من المصريين من لا يحسن التكلم بلغة أوروبية مشتركة ولا سيما بالافرنسية والانكليزية كل هذا لأن المصلحة تقضي بأن يتعلم نزيل المصريين لسانهم يكلمهم على اختلاف طبقاتهم حتى أن انكلترا وضعت شرطاً على كل من يحب تقلد الوظائف في مصر والسودان من

أبنائها أن يحسن اللسان العربي وجعلت جائزة مهمة لمن يكتب له إحراز قصبات السبق بين أقرانه ويستعرب كل من يرى مصلحته من أهل هذه العناصر البقاء في مصر ولو بعد حين مهما حافظ على قوميته ولغته لأن الجوار يعد على نحو ما نرى بلاد القوميات المجسمة كالفرنسيس والطليان والألمان مثلاً يتكلم سكان الحدود لغتين لغة البلاد التي هم منها ولغة المملكة المجاورة وهذا كثير في الشرق أيضاً فإن بعض أهل الجزيرة لمتاخمتهم لبلاد فارس والأكراد يتكلمون مع العربية بالفارسية والكردية وأحيانا بالتركية وهكذا سكان تخوم الهند من الأفغانيين والإيرانيين. نعم إن العربية تعرب كل ما يدخل إليها من الأوضاع لأن في العرب خاصية التقليد والإقدام على أمور المعاش من مذاهبه الطبيعية ولذا ترى أكثر العمال في السكك الحديد الفرنسية وشركات الترامواي في بيروت ودمشق عرباً لأن تلك الشركات لا تجد في أبناء جنسها من يضاهيهم في عملهم ومعارفهم بمثل الرواتب التي تؤديها إليهم وهكذا قل عن مصر ولكن الأتراك لا يتعلمون مبادئ اللغات أو العلوم إلا ليوظفوا في خدمة الحكومة وهذا هو السر في قلة مثول التركية في المشاريع والشركات في الأستانة مثولها في بلادنا. وهنا سؤال وهو هل تستطيع فرنسا بعد استيلائها على مراكش كما استولت على الجزائر والتونس أن تجعل أهلها فرنسيا مع الزمن وهل يكون نصيب طرابلس وبرقة مع الطليان ومصر مع الانكليز كذلك أما جزيرة العرب وما تاخمها من الأقطار العربية اللسان فإنها تبقى عربية صرفة كمصر لأن بعض أجزائها أخذت من الحضارة الغربية حظاً وأنشأت تدمجه في لغتها وأبدت من المرونة ما قربها من مناحي الممدنين فتعلم بعض أهلها شيئاً من ألسن الأجانب ولم ينسوا لغتهم أما الجامدون كبعض أهل الغرب الأقصى والأوسط فإنهم إذا ظلوا على تعصبهم على اللغة الفرنسية يضيعون اللغتين معاً خصوصاً وولاة أمرهم الفرنسي أشد الأمم تناغياً بحب لغتهم ومناحيهم حتى يقال أنهم أقل الأمم تعلماً للغات الأخرى في حين عدوا نحو ثلث سكان بريطانيا العظمى يعرف أهله اللغة واللغتين والثلاث الغربية عنه ومن أراد منا الاحتفاظ بقوميته ولغته على وجه الدهر فعليه إلا يحتقر قومية غيره ولا لغته وأن يداوي معرفته بتعلم لغة أو لغتين من لغات السياسة والتجارة وبذلك تسلم له لغته ويعرف كيف يحتفظ بها. في ساعة واحدة تناولت كتابين غريبين في بابهما احدهما من ليبسيك إحدى قواعد

الإمبراطورية الألمانية والثاني من دمشق قاعدة البلاد العربية. الأول كتب باللغة العربية وهو صادر عن أشهر باعة الكتب هناك يريدنا إن نبتاع منه كمية من المصاحف الشريفة التي جود طبعها في ألمانيا بمعرفة زمرة من أهل العلم وبعث إلينا بنموذج منها وقد رجانا في آخر كتابه أن نجيبه إن استحسنا باللغة الألمانية أو الانكليزية أو بالافرنسية لأنه يحسنها. إما الكتاب الثاني فهو من دمشقي نشأ في دمشق وتخرج من المدارس العليا وتعلم إحدى الصناعات الحرة وله غرض بإدارتنا فكتب إلينا كتاباً باللغة التركية فلما فضضناه أسفنا جداً ودفعناه لأول نظر إلى حامله وقلنا لصاحبك إن يكتب إلينا إن أحب لغتنا ولغته فإن وقتنا لا يتسع أن نترجم أفكار كل من يريد نشر شيء من اللغة التي يستحسنها أو يحسنها أو يزين له عقله التفاصح بها وجه الغرابة في الكتابين ظاهر لأدنى تأمل وهو أن رجلاً ألمانياً يريد أن يبيع نسخاً من الكتاب العزيز من مسلم في بلاد الإسلام فيخاطبه بلغته على بعد الديار وقلة من يكتب له بالعربية في بلاده والثاني مسلم عربي يكتب لعربي في صميم بلاد العرب باللغة التركية. فما هذه العناية من الأول وقلتها من الثاني: غربي يستعرب في الغرب وعربي يترك في بلاد العرب! من أضحك الأطوار أن تشاهد عربياً يكلم ابن جنسه أو يكاتبه بغير لغته لغير داع فكأن المتخاطبين يشيران بلسان الحال إلى إن اللسان الذي نتخاطب به أرقى من لساننا وأدل على علو كعبنا واستبطاننا أسرار المعارف في حين نرى أبناء المدينة الحديثة مهما بلغ من انحطاط أممهم وصغر عددها وقلة شأن تاريخها إذا خلوا بعضهم إلى بعض لا يتكلمون بغير لغتهم ولا يتكاتبون بسواها. وكم روى لنا السائحون إلى ديار الغرب منا أنهم كانوا يكلمون الانكليزي بالافرنسية وهم في غير الديار الانكليزية فإذا ما بلغت بهم السفينة إحدى مواني الجزائر البريطانية لا يعود ذاك الانكليزي ينطق بكلمة فرنسية. وقد سئل بعضهم في ذلك فقال نحن الآن في بريطانيا العظمى فلا يسوغ لنا أن نتكلم بغير لغتها وكذلك الألماني مع اللغة الانكليزية والفرنسية فإن معظم رجال التجارة والعلم في ألمانيا يحسنون إحدى هاتين اللغتين أو كليهما معاً فإذا دخلت عليهم في بلادهم يتجاهلونهما ليضطروك إلى التفاهم معهم بلغتهم ويحملوك على تعلم الألمانية من حيث تشاء أو لا تشاء. ولا نزال نعجب بصنيع علماء الشرقيات في هولا نده فإنهم طبعوا بضع مئات من كتب العرب في مطبعة ليدن الهولندية وجعلوا جميع حواشيها

ومقدماتها باللغة الهولندية مع أنه قل جداً من يعرف هذه اللغة من أهل أوروبا المجاورين لبلاد القاع. هذا والطابعون والناشرون موقنون بأن كتبهم لا تباع في هولندا فقط بل إنها تروج في ألمانيا وايطاليا والنمسا والمجر وإنكلترا وأميركا وفرنسا وروسيا وأسبانيا بل وفي غيرها من بلاد الشرق ولاسيما في بلاد العرب فلولا حبهم للسانهم لما رأيت تلك المقدمات والشروح إلا باللغة المشتركة بين الأمم في الغرب كالفرنسية مثلاً أوالغة العربية التي نشرا لكتاب برمته فيها والناشرون لأمثال هذه الكتب يكتبون بهاتين اللغتين على التحقيق أو بإحداهما قطعاً. إننا بزهدنا بلغتنا نزهد في قوميتنا وتاريخنا ومن لا ينتسب إلى أصله ينكره الفرع الذي يحاول أن يتقرب منه. إن عظمة العرب وعظمة مدينتهم وحسن بيانهم دع ما هناك من الروابط الدينية مما يدعونا إلى التناغي بلساننا والحرص على تعلمه وإيجاده التخاطب والتكاتب به غير مخلين بأصل من أصوله ما أمكننا ذلك لأن من المحمود. لى مشخصاته كان حرياً بأن لا يغار على أي عزيز ويستحق احتقار غيره. إننا نحبذ كل من يتقن منا لساناً أجنبياً حتى ولو حذق لغة مالطة لما في ذلك من الفائدة فكيف باللسان العثماني وحاجتنا إليه أمس ولكننا نحب أن تكون الميزة للساننا الشريف لأن الله جعل له هذا المقام المحمود. ومدنيتنا وتاريخنا ومجدنا أعظم باعث لكل من ضعفت فيهم أعصاب العصبية القومية أن ينزعوا من نفوسهم تلك المؤثرات التي فيها من الصغار والذل مالا يرضاه من عرف أمته ويريد أن يحيا بها. إن في تاريخ لغات الأمم المتمدنة لعهدنا أعظم محرض لنا على الاحتفاظ بلغتنا مهما كلفنا ذلك فقد رأينا الفلامندي في البلجيك يتفانى في بث لغته حتى جعل لها أدبيات وأقام لها شأناً في جنب اللغة بالافرنسية التي يتكلم بها نحو نصف أهالي بلجيكا وكذلك رأينا الهولندي والدانيماركي والسويدي والفنلندي من صغار شعوب الشمال في أوروبا يحتفظون بألسنهم ولم تكن منذ مائتي أو ثلاثمائة سنة بالتي يعرف لها شأن بين اللغات وأعظم معلم لنا في هذا الباب أهل بوهيميا من مملكة النمسا والمجر فإن لغتهم وهي لغة التشيك كادت تندثر من ألسن أهلها في القرن السابع عشر بما تغلب عليها من اللسان الجرماني فعاد أستاذان من أساتذة كلية براغ إلى أحيائها بنشرهما مخطوطاً في آدابها زعما أنه قديم وقيل أنهما واضعاه فبعد أن كان البوهيمي يكتب بالألمانية ويؤلف ويخطب بها والألمانية عنده لغة الصنائع والتجارة والأدب والتمثيل

والصحف عادت فانبثقت لغة التشيك في نفوس أبنائها حتى أصبح المتكلمون بها في بوهيميا وحدها الآن زهاء تسعة ملايين وبهيمي أتشيكي ومليوني نسمة من المورافيين وزهاء ثلاث ملايين السلوفاك في هنغاريا وأصبحت الآداب التشكيلية مما يتنافس فيه كما يتنافس فيه في مدنية البوهيميين وصناعاتهم وصارت كلية براغ أخت كلية برلين وفرانكفورت وميونخ وفيينا من عواصم البلاد الجرمانية وربما فاقت كثيراً من كليات أوروبا. لغة مجهولة أحياها بضع من أهلها بعد دثورها ونحن نرى بعض المستنيرين منا يضيعون بتهاملهم لساناً كالعربية يفاخر الغربي قبل الشرقي بتلقفه وبعد تحصيل ملكته من النعم. إن البوهيميين أعظم مثال في تناغي الأمم بألسنتها ولا تنسى سكان الألزاس واللورين الفرنسيين ولا سكان شلزويك هولستاين الدنمركيين من المانيلولا البولونيين مع روسيا ولا غيرهم مع غيرهم فكلها عبر لنا معاشر العرب لسان يتكلم به سبعون مليون من الناس ويتعبد به زهاء مائتي وخمسين مليون من أهل الإسلام وأهله لا يهتمون به واللسان العبراني والروماني والبلغاري والأرميني على قلة الناطقين به مثلا يتخذ أهلها كل ذريعة لنشرها ويستميتون بالأخذ بناظرها فتأمل الفرق بين كثرتنا وقلتهم وغنانا بلغتنا وفقرهم بألسنتهم وانحلالنا في وطنيتنا واستبسالهم في الحرص عليها.

الحركة العلمية

الحركة العلمية في البلاد العربية العثمانية مضت ست سنين على إعادة انتشار القانون الأساسي في المملكة العثمانية ربحت البلاد العربية من نعمته بعض الربح من حيث النور والعلم لأنه بفضل الصحف والمجلات والأندية والجمعيات التي أنشأت في العراق والشام وغيرهما من الأقطار انتبهت العقول قليلاً من رقدتها وشعر العرب بأن هناك حياة ثانية أرقى مما هم فيه بكثير ولا يتيسر لهم الاستمتاع بها إلا بالأخذ بحظ وافر من التعليم والتربية. لو لم يكن من فضل حرية القول والاجتماع في العهد الأخير على ما فيها من القيود إلا لإدراك الناس لهذه الحقيقة لكفى بها منقبة تؤدي إلى أحسن مغبة فإن كل نهضة لا تقوم على أصولها إلا إذا جعلت لها من التعليم العصري أساسا وهذا ما كاد اليوم يشعر به ابن البادية والدساس كردع ابن المدن والحواضر من كل من كثر اختلاطه بالغريب واعتبر بما شاهد من حوادث الأيام حتى أن جميع الأقطار التي سقطت في أيدي حكومات الاستعمار كان السبب الرئيسي في استصفائها جهل بنيها الذي فتح الأبواب للعدو فاستباح حماها وقبض بعلمه على قيادها عفواً صفواً كذا كان شأن جاوة مع هولندة والهند ومصر مع انكلترا وطرابلس مع ايطاليا وتونس والجزائر مع فرنسا ومراكش مع أسبانيا وفرنسا والروم أيلي مع حكومات البلقان فبالعلم كان قليل من العدو كثيراً وبالجهل كان كثير تلك البلاد قليلاً. وإنا إذا أطلقنا العلم هنا فلا نعني به علوم الآخرة فقط بيد إن هذه إذا درست على أصولها نفعت أيضا الدنيا ولكن علوم العالم هي كل ما يعمره ويعرف الأمم طبائعه وإسرار بقائه وفنائه. نريد بالعلم العلوم التي بها فتحت أوروبا العالم واستعمرته فأصبحت كلمتها هي العليا وتراجع أمر الشرق إلى ما نراه عليه من الانحطاط المادي والسياسي والأدبي بل السقوط المؤسف في عوامل الحياة الفاضلة السعيدة. كان جمهور المسلمين في هذه الديار العربية إلى عهد قريب يرون السعادة في اتخاذ صناعتين تعلم الفقه لتولي مناصب القضاء والإفتاء والتدريس أو تعلم شيء من العلوم التي تؤهل الطالب إلى تولي الأعمال الجندية والإدارية والكتابية فالمحور يدور على التماس الشرف من مناصب الحكومة وسبيل ذلك درس فروع قليلة مما يقتضي لهذا الشأن ومنها ما هو قشور لا لباب فيها. وبينما كان إخوانهم المسيحيون والإسرائيليون يتعلمون في

مدارسهم الطربه. ومدارس المرسلين الأمريكان والانكليز والألمان والفرنسي والطليان والروس وغيرهم ما يؤهلهم إلى التجارة والصناعات الحرة في الجملة مثل الطب والهندسة والحقوق كان المسلمون تتلمظ شفاههم بحلواء التوظف والاعتماد على الأوقاف والرواتب جمدوا عليها فتأخروا في ثرواتهم وقل الهناء في بيوتهم وضعف مستوى العقول حتى أمسوا وكثيرون يغبطون السارق والمرتشي والمزور من الموظفين والمستخدمين ويعدون عمله مهارة وتوفيقاً لأنه اكتسب من الحرام مالاً وتأثر وارتاش وأضاع حقوقاً ليملأ كرشه وجيبه ومن الغريب في نظام هذا الاجتماع أن يحبس من يسرق ديناراً يأكل به وعياله خبزاً ولا يعاقب بل يمدح السارق الكبير الذي يعرق اللحم عن العظم ويخرب قرية أو بلدة برمتها ليشتري بما يسرق دكاناً أو بستاناً أو يعمر قصراً وداراً. نعم إن الدستور عرف الناس نقصهم وإن كانوا لم يبرحوا في معظم البلدان العربية في دور الأقوال ولكن القول بدرجة العمل كما أن الشك أول مراتب اليقين. ومن النعم العظمى إن يعرف الإنسان مجال الضعف منه ومن عرف نفسه عرف ربه. عرفوا نقصهم فأخذوا يفكرون في تعلم الصناعات الحرة التي قوامها الاعتماد على النفس والخروج عن قيود الاتكال إلى باحات الاستقلال وقد زاد الإقبال على ذلك في الشام والعراق خاصة لما أيقن الناس بأن خزانة الدولة تضيق على إعاشة كل طلاب الوظائف بعد أن انسلخت ليبيا ومقدونية وتركيا وألبانيا عن جسم المملكة العثمانية. لم تكن قبل هذا الدور تسمع بأن من المسلمين في مدارس الغرب طلاب هندسة وزراعة وحقوق وكيمياء وسياسة وفلسفة واليوم تجد منها عشرات من أبناء الشام والعراق خاصة وهذا العدد وإن كان قليلاً بالنسبة لكثرة سوادهم لكن الرجاء معقود بزيادته كلما سدت في وجوه الناس طرق الاستخدام في الوظائف واقتنع القوم بأن مذاهب المعاش في العالم ثلاثة الزراعة والصناعة والتجارة وأن الاستخدام ليس مذهباً طبيعياً من مذاهب المعاش التعليم العالي هو الذي يكون أمة ولا فائدة بتعلم أفراد هذا الضرب من التعليم إلا إذا عمت المعارف سواد العامة. وهذا أخذت تتكفل به المدارس الابتدائية والوسطى التي أنشئت مؤخراً مثل المدرستين العلمية والعثمانية في دمشق والكلية الإسلامية العثمانية ودار العلوم في بيروت والمدرسة التي أنشئت في صيدا وطرابلس وحلب وحيفا ويافا والقدس ونابلس وكلها قامت بهمم الأفراد من أهل الطبقة الوسطى

والأغنياء كانوا في الجملة بمعزل عن المعاونة ولو كان جمهور أرباب الأموال والأملاك متعلماً لقامت حتى الآن ألوف من المدارس والكتاتيب في الولايات العربية لا تزال تشتد حاجة البلاد إليها ولاسيما في غير المدن بل لإنشاء كل قطر من الأقطار العربية مدرسة كلية أو جامعة فأصبحنا نقول جامعة الشام وجامعة العراق وجامعة الجزيرة وجامعة اليمن وجامعة الحجاز كما نقول الآن الجامعة المصرية وكلية الأمريكان وكلية القديس يوسف. وفي العهد الأخير أنشئت جمعيات خيرية تعليمية ولاسيما في بيروت ودمشق وحمص توفر العناية بتعليم أبناء الفقراء وفي دمشق منها الآن خمس جمعيات تعلم زهاء أربعمائة طالب على نفقتها ومنها التي أنشأت لها مدارس خاصة مثل جمعية الإسعاف الخيري وجمعية المقاصد الحسنة والجمعية الخيرية الإسلامية في حمص تعلم نحو ألفي فقير، وهذه الجمعيات تقوم بمعاونة المحسنين من أهل الطبقة الوسطى ومن دونهم أيضاً كما أن جمعية المقاصد الخيرية في بيروت والمقاصد الخيرية في صيدا تقومان بريع أملاكهما لأنهما أمستا منذ زمن ونمتا معه بفضل العقلاء منا لوطنين. كثرت الصحف في السنين الست الأخيرة ولا سيما في حواضر الشام والعراق وأنشأت صحف في الموصل مابرحت ضئيلة تغلب عليها العجمية بخلاف الصحف الشامية والعراقية التي أخذت تكتب بلغة سلسة متينة الجملة ولغة صحف الشام أرقى من لغة صحف العراق وإن كانت هذه قطعت شوطاً محموداً في هذه الأعوام القليلة حشا مجلة لغة العرب البغدادية ومن يؤازر فيها من المنشئين والباحثين فإنها على أسلوب المجلات الإفرنجية الأخصائية سدت فراغاً في تاريخ العراق والبحث في أثاره. أنشأت مطابع كثيرة على عهد الدستور في بلاد الشام وفي بغداد والبصرة والموصل ولكن مطبوعاتها مابرحت قليلة نادرة لأن المؤلفين المجيدين قلائل والناس مابرحوا يقبلون على المطبوعات المصرية لأن صادرة من بلاد هي أعرف الأقطار العربية في العلم على اختلاف ضروبه وأهلها أرقى العرب بل المسلمين ولعله لا يتم هذا العقد من عقود الحرية حتى تبدأ المصنفات العصية والقديمة تصدر من هذه المطابع فقد أنشأ بعض شبان المؤلفين يؤلفون في بيروت ودمشق وبغداد في العلوم الطبيعية والجغرافية والتاريخية كتب مدرسية خصوصاً بعد أن رأوا إقبال المدارس الأهلية على التعليم بالعربية وأنشأت الحكومة مدرسة

سلطانية عربية في بيروت ومثلها في دمشق تعلم العلوم كلها باللغة العربية. وهاتان المدرستان إذا أنشئت خمس مثلها في بغداد والبصرة وصنعاء ومكة والموصل توشك أن يكون من أثر مهما كانت درجة تعليمها الرسمي منافع للناس فتفيدهم في تهذيبهم وتكون لكثير من الطلبة مدارس إعدادية تهيئهم للدخول في الجامعات الكبرى واتخاذ الأعمال الاستقلالية ومن هذه الطبقة ينشأ العلماء والمفكرون والباحثون. ثلاثة عوامل أنشأت هذه النهضة: المدارس الأهلية وما يلحقها من إقبال أرباب اليسار على تخريج أبنائهم من مدارس الغرب العليا. والجمعيات الخيرية التعليمية وتعددها. والصحف والمجلات والكتب وكثرة انتشارها لرخص أثمانها، ولو ضم إليها عامل رابع آخر هو ارتقاء فن التمثيل وتسهيل غشيان دوره على طبقات جميع الشعب كافة لتمت الأمنية من إنهاض هذه الولايات من كبوتها ولما انقضت ثلاثون سنة إلا وهي على مستوى مصر برقيها الأدبي. وبعد فإن ما يبلغنا عن قطري اليمن والحجاز لا يصح أن يكون من مجموعة ما يستدل منه على أنه حدث فيهما شيء في العهد الأخير من حيث النهوض العلمي الحديث والغالب أن للفتن والتعصب يداً طولى في هذا التنبت ولعل الحوادث تعلم المستنيرين من أهلهما ما يجب عليهم القيام به وتدفعهم إلى العمل بالعهد الذي أخذه الله على العلماء في تعليم الجهلاء.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات ثلاث مجلات جديدة الأولى المرأة وهي أسبوعية مصورة تصدر الآن مرتين في الشهر ورئيس تحريرها وصاحبها خليل أفندي زينيه وهو من كتاب الطبقة الأولى وقدماء رجال الصحافة العربية تصدر في مدينة بيروت وفيها مقالات منوعة عصرية فكاهية وأدبية وتاريخية وصور منوعة شرقية وغربية وإنما ما عرف به صاحبها من الخبرة الواسعة في صناعة التحرير والتحبير ليدعونا إلى الرجاء بنجاح صحيفته الجديدة وقيمة اشتراكها في الولايات العثمانية عشرون فرنكا وخارج السلطنة خمسة وعشرون. الثانية مجلة المنتدى الأدبي تصدر بإدارة احمد عزت أفندي العظمي وعاصم أفندي بسيسو في مدينة الاسيتانة مصورة وسنتها عشرة أشهر في 48 صفحة كل شهر وهي خلف لمجلة لسان العرب التي صدرت في السنة الفائتة حولا كاملا ويحرر هذه المجلة زمرة من رجال العرب في عاصمة السلطنة وخارجها وفي العدد الأول صور بعض المشاهير ومقالات منوعة في الاجتماعيات والأدبيات وغيرها مما يرقي العقول ويهذب النفوس وهذه المجلة هي إحدى حسنات المنتدى الأدبي الذي هو أجمل اثر قام لطلبة المدارس العليا من أبناء العرب في عاصمة آل عثمان. فنرجو لها النجاح الذي تستحقه وقيمة اشتراكها ثلاثة ريالات في البلاد العثمانية وستة عشرة فرنكا في الخارج وللتلامذة ريال والثالثة المستقبل مجلة علمية أدبية عمرانية أسبوعية تصدر في القاهرة في عشرين صفحة لصاحبها ومحررها سلامة أفندي موسى من أفاضل المفكرين في وادي النيل معروف بين المؤلفين والعالمين والمتأدبين بما نشره من مقالاته وتصوراته في المجلات المصرية ولاسيما المقتطف وقد تصفحنا الأجزاء الأولى من هذه المجلة فرأيناها توخت أولا جمع وتنسيق المعارف العلمية والعمرانية التي يشتغل بها العلماء الأوربيون ونشرها لقراء العالم العربي حتى يعتاد كتبته ومؤلفوه طريقة التفكير العلمي الصحيح ويقلعوا عن التقليد في النظر للمسائل العمرانية فنتحرر بذلك من القيود التي وضعها إسلافنا وننظر لمستقبلنا كصحيفة بيضاء نكتب فيها ما نشاء. وثانيا: توجيه الأدب العربي الحديث في الوجهات التي يتنبه الأدب الأوربي وتسييره على المبادئ التي يرسمها كبار الأدباء في أوربا. وذلك اعتقادا بان

الأدب الافرنسي قد فات الأدب العربي بمسافات بعيدة. وكما ارتقى الإفرنج في الصناعة والزراعة والطب والهندسة الخ وتأخرنا نحن عن اللحاق بهم فكذلك ارتقى أدبهم وتأخر أدبنا وأصبح من الضروري إن نحتذ بهم في طرائقه وأساليبه حتى نلحق بهم. وفي المجلة شذرات ومقالات وقصص ونوادر في هذا المطلب الذي وضعته وتوخت فيه تقليد المجلات الانكليزية فجاءت هذه الصحيفة بأسلوبها وصراحتها في أفكارها مثال الصحف المفكرة التي ترمي إلى غرض مهما كان الباعث إليه فهو شريف لأنه يراد منه إنارة العقول وتنقيتها من الشوائب والفضول فنرجو لهذه المجلة الثبات ليطرد صدورها ويكون من أثرها عموم النفع في العالم العربي وقيمة اشتراكها في مصر 32 قرشا صحيحا وفي الخارج 9 فرنكات. تاريخ صيدا تأليف الشيخ احمد عارف الزين صاحب مجلة العرفان طبع في مطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 ص 176. لصديقنا مؤلف هذا الكتاب صاحب مجلة العرفان همة شماء ونظر بعيد في كل ما يعلي شان الآداب ويؤيد كلمة الحق وأخر ما أصدره من تأليفه هذا التاريخ الذي افرده لمدينة صيدا وحدها مستندا فيه إلى مظان كثيرة عربية وإفرنجية وتركية فجاء منسق الأسلوب سلس الإنشاء يحوي عمران ذاك الثغر البديع وتاريخه منذ عرف إلى وقتنا الحاضر لا يستغني عنه كل من يريد الإلمام بحال هذه المدينة وجميع ما يتعلق بها من المعلومات بل إن كل من ينزل صيدا مقيما كان أو ظاعنا لابد له من الأخذ عن هذا السفر البديع الذي جمع مؤلفه أثابه الله في ورقات ما تفرق في بطون عشرات من المجلدات وفيه فوائد في زراعة البرتقال وبكي دنيا وغير ذلك لا يستغني عنها كل من يحب الاطلاع على هاتين الشجرتين اللتين كانتا سبب غنى صيدا في عهد الحديث فانعم بهذا العمل ولو كان كل عالم يخدم بلده وشعبه خدمة صديقنا لهما لكانت سورية في مقدمة أقطار الشرق في العلم والعمل ولاشك إن كتابه سيصادف الإقبال الذي يستحقه فضله ووطنيته. العراقيات

الجزء الأول لجامعه رضى وظاهر وزين طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 ص209 ثلاثة رجال يفاخر بهم جبل عامل لطول صبرهم على خدمة العلم والأدب ونعني بهم الشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر والشيخ احمد عارف زين وقد جمعوا في هذا السفر ما تفرق من شعر العراقيين فاتوا في هذا الجزء على ترجمة عشرة من شعرائهم ولباب أشعارهم وهم السيد محمد سعيد حبوبي والسيد إبراهيم الطباطبائي والسيد حيدر الحلي والشيخ جواد شبيب والشيخ ملا كاظم الازري والشيخ عباس بن ملا علي النجفي والسيد جعفر الحلي والشيخ عبد الباقي الفاروقي والشيخ عبد المحسن الكاظمي والشيخ الأخرس البغدادي وترجموهم ترجمة صورتهم للقارئ أحسن تصوير ومنها ما هو بقلم الشيخ محمد رضا الشبيبي النجفي العالم الباحث المشهور وفيها ما هو بقلم جامعي الكتاب الثلاثة وفي شعر العراقيين روح غريبة لا تكاد تعرف لشعراء الشام بل ولا لشعراء مصر على ارتقاء دولة الشعر في مصر هذا العصر ولذا كان جمعه على هذه الصورة من اكبر المعونات على الأدب وإخراج درر الشعر الغوال على هذا المنوال جزى الله جامعيه أفضل ما يجازى الغيور على أدب العرب المتفاني في خدمة الحق. نقد عين الميزان تأليف الشيخ محمد بهجت البيطار طبع في مطبعة الترقي في دمشق سنة 1331 ص59 مؤلف هذه الرسالة من ناشئة دمشق الأدباء جعل رسالته هذه ردا على الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء الذي نقد بعض المواضع من كتاب ألفه فقيد العلم الشيخ جمال الدين القاسمي وسماه ميزان الجرح والتعديل الذي بين فيه منشأ النبذ بالابتداع ومضاره فعمد الأول إلى التطرف في بعض أبحاثه للتكفير أو التفسيق فرأى المؤلف إن ينقد النقد متلطفا فيه موردا بعض الشواهد على صحة دعواه. وقد قال في صفحة 31 ردا على من قام من أحداث الأسنان سفهاء الأحلام الذين زعموا أنهم مصلحون ممن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وقصروا همتهم على دراسة الكتب

الغريبة ونسوا ما لسلفنا من العلوم العربية وهم الضاربون بأوفر سهم في كل فن وعلم عاشق الغرب وأولعوا بلغته وصبغوا بصبغته ففسدت أخلاقهم وساءت آدابهم وصارت التفرنج لهم عادة وذكر أوروبا لهم عبادة وليت هؤلاء خفاف العقول قلد الأوروبيين بالشيء النافع والعمل الرافع لكنهم يقلدونهم بالأزياء واستحسان تبرج النساء وإذا نشر الواحد منهم مقالة في صحيفة توهم نفسه انه صار بها المفرد العلم واسترسل في بيان مضار هذه الفئة والغالب انه يتكلم في أناس مخصوصين وقال إن الله لا ينصرهم على عدوهم ما لم يقلع عن غيهم ويرجعوا إلى شريعتهم ويسلكوا سبيل السلف الصالح ويرحموا الله القائل لن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وكل هذه الجمل حسنة في بالها لكنها تحتاج إلى تفصيل وان لم يكن الكتاب من موضوعها فان التفرنج مضر والاقتداء بالسلف وحده لا ينجينا من شرور هذا التيار المنهال علينا من مدينة الغرب الحديثة فإننا لو تلونا جميع ما خلفه الأجداد من إسفارهم وعملنا به لتستقيم لنا حال إلا إذا أخذنا منهم ما يفرض أخذه واقتبسنا من معلمينا الغربيين علومهم ولذلك نرى من درسوا في الغرب وكانوا على شيء من أدب النفس اعرف بما ينشل هذه الأمة من سقوطها من الذين يخاطبونها الحين بعد الأخر بالجمل الخطابية ويلبون على طريق النجاة ولا يهتدون ولو كتب لبلادنا إن تكون في أوضاعها إلى الجد لما شكا العالم الديني ولا العالم المدني من انحطاط الأخلاق والإيغال في المفاسد ولكن هذه الموبقات نراه منتشرة في الفئتين على السواء فئة المجددين وخصومها وبودقة المدنية تمحص وتنفي كما ينفي الكبر خبث الحديد إما الزبد فيذهب جفاء وإما ينفع الناس فيمكث في الأرض. شرح قصيدة ابن عبدون لما اختلت بني أمية بالأندلس سنة 427 وتفرق أهلها شيعا وتغلب في كل ناحية متغلب وتقيم المتغلبون ألقاب الخلافة من معتضد ومعتمد ومأمون ومستعين ومقتدر ومعتصم وموفق ومتوكل ألقاب وصفها الحسن ابن رشيق بقوله: مما يزهدني في ارض اندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد وصار الأمر كما قال في المعجب في غاية الاخلوقة والفضيحة أربعة كلهم يتسمى بأمير

المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخا في مثلها فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا بن دارا. لما جرى كل هذا وقويت شوكة دولة المرابطين أصحاب يوسف بن ناشفين فقتلوا سنة 485 بني المظفر ملوك مغرب الأندلس وكان ملجأ للآداب وقبلة أمال العلماء والكتاب نظم أبو محمد عبد المجيد بن عبدون من وزراء الأندلس قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: الدهر مفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور أنهاك أنهاك لا ألوك موعظة ... عن نومه بين ناب الليث والظفر فالدهر حرب وأنا لبدي مسالمة ... والبيض والسود مثل البيض والسمر ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضاربة بين الصارم الذكر فلا تغرك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر ما لليال أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير في كل حين لها في كل جارحة ... منا جراح وان زاغت عن النظر تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالا يم ثار إلى الجاني من الزهر والقصيدة في خمس وسبعين بيتا عدد فيها بعد هذه المقدمة ما لقي أبناء الزمان وبعض أمراء الأيام من بوائق الحدثان وقد شرحها شرحا مستوفي ابن بدرون الأندلسي وطبعت في أوربا في جملة ما طبع من كتب الأندلسيين نشرها دوزي المستشرق الهولندي. مجموع رسائل في أصول التفسير وأصول الفقه جمعها وعلق حواشيها المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي طبعت بمطبعة الفيحاء في دمشق سنة 1331 ص63 هي ثلاث رسائل الأولى في أصول التفسير للإمام جلال الدين السيوطي وهي أهمها لأنه لم يسبق إلى الآن في الأيدي متن أو رسالة يحوي لباب ما يبحث في النفسي إلا هذا الذي انتخبه ناشر الرسائل من نقابة السيوطي. والرسالة الثانية في أصول الفقه لابن حزم والثالثة مجمع الأصول ليوسف بن عبد الهادي وعليها كلها حواش تبين غوامضها. تاريخ الجهمي والمعتزلة

تأليف المرحوم جمال الدين القاسمي نشر في مجلة المنار أولا وطبع بمطبعتها بمصر سنة 1331 هـ. ق وسنة 1292 هـ. ش هذه الرسالة مستوفاة للشيخ القاسمي أيضا تدل على بعد غوره وتحقيقه لعيون المسائل التي كان يخوض فيها رحمه الله. والجهمية فرقة من فرق المسلمين انتحلت مذهب الجهم ابن صفوان من أهل خراسان ينسب إلى سمرقند وترمز ومحتدي الكوفة وكان مولى لبني راسب من الازد اخذ الكلام عن الجعدي بن درهم وكان فصيحا اتخذه الحرث ابن سريج التميمي أيام قيامه بخراسان كاتبا له وكان يقص في بيت الحارث في عسكره وكان يخطب بدعوته وسيرته فيجذب الناس إليه وكان يحمل السلاح ويقاتل معه وكان صاحب مجادلات ومخاصمات في مسائل الكلام التي يدعو إليها وكان أكثر كلامه في الإلهيات قتل سنة 128 في خراسان ومرجع فلسفة جهم تأويل آيات الصفات كلها والجنوح إلى التنزيه البحت وبه نفى إن يكون لله صفات غير ذاته وان يكون مرئيا في الآخرة وان يتكلم حقيقة واثبت إن القران مخلوق إما المعتزلة فقد نشرنا مبحثا فيهم في المجلد الثالث ص163 من هذه المجلة ففيها حقيقة حال المعتزلة ومذهبهم ورجالهم وتأثيراتهم قاموس القضاء العثماني لسليمان أفندي مصوبع طبع في مطبعة العرفان في صيدا صدر الجزء الرابع من هذا المعجم المفيد في القضاء العثماني وفيه كالأجزاء السابقة فوائد لايستغنى عنها كل من يعيش في هذه السلطنة من أبناء العرب الذين لا يعرفون اللغة العثمانية فعساهم يقبلون عليه لتصح عزيمة مؤلفه على إتمامه فان كتب الحقوق الحديثة عزيزة في لغتنا وحاجتنا كل ساعة ماسة إليها. دفع الهجنة في اتضاح اللكنة لمعروف أفندي الرصافي طبع على نفقة مجلة لسان العرب في الأستانة سنة 1331 ص111 ألف صديقنا هذه الرسالة منبها فيها على الألفاظ التي استعملها الأتراك العثمانيون في غير معناه العربي وعلى ما لم يكن عربي وهم يحسبونه عربيا وأخذها العرب منهم فاستعملوها

استعمالهم وأورد على ذلك الأمثلة التي تدل على بعد غوره وتحقيقه في هذه المسالة اللغوية. التحفة الايقاظية في الرحلة الحجازية لسليمان أفندي فيضي الموصلي طبعت في المطبعة المحمودية في البصرة سنة 1331 ص310 هو كتاب لطيف وصف فيه المؤلف رحلته في ذهابه وإيابه من البصرة إلى الحجاز مارا بسورية وأزمير وسيسام والاسيتانة وحلب وبغداد وقد ذكر المشاهد والأحوال وما تأثرت به نفسه ووصلت إليه يده من الإيضاحات وكلها نافعة وقد جعل في مقدمة الكتاب التقاريظ النثرية والشعرية التي كتب له بها بعض أدباء العصر وهي في 91 ص جعلها مفصولة عن الكتاب ونعما فعل فنشكر للمؤلف الفاضل هذه العناية. تاريخ حرب البلقان تأليف يوسف أفندي البستاني بمصر أجاد مؤلف هذا الكتاب الذي وقع في 327 صفحة فذكر فيه الحرب البلقانية الأولى والثانية وحلاه بنحو 40 رسما وخريطتين ونقل ما قاله المكاتبون الحربيون وغيرهم في هذه الحرب المشأمة متحريا ما التجرد عن الغرض على ما يجب على المؤرخ وفي الكتاب من المستندات التاريخية الحقيقية ما تقر به العين ويدل على أدب الكاتب. الهدى إلى دين المصطفى الجزء الأول طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 تأليف كاتب الهدى النجفي ص (393) هو كناب في الجدل الديني إلفه مؤلفه جوابا على مقالة في الإسلام لجرجس صال الانكليزي أو رسايل وكتاب الهداية في الرد على كتابي إظهار الحق والسيف الحميدي لأنه وجدهما على طريقة ينكرها شرع التحقيق في البحث والأدب في الكلام والأمانة في البيان ولا يرتضيها خدام المعارف وذلك بلسان هو إلى الأدب والحجاج الديني المعتدل وينم عن الاطلاع على الدينين السماويين الإسلام والنصرانية فلمؤلفه الشكر على عنايته وأنصافه

في نقده حقائق وعبر تأليف اسكندر أفندي الخوري البيتجالي طبع بمطبعة القبر المقدس بالقدس سنة1913 ص194 هو مختار ما نشره المؤلف من الشذوذات الاجتماعية والقصص الأدبية وزنابق الحقل في بعض الصحف العربية السورية وفيه الملذة اللطيف إلا أن الخطابات تغلب على كلامه مثل فصل الشرقي والغربي والتفاوت بينهما فانه لم يأت فيه بأقل من القليل الذي يجب أن يقال فيهما كأن كلامه أشبه بكلام تلميذ صغير يبتدئ بالكتابة جديد أما سائر لكتاب ففيه الحسن الجميل رسائل وكتب مختلفة دليل لبنان وسورية لمنشئه بولس أفندي مسعد الجزء الأول طبع في مصر في سنة 1912 - 1913 ص452 رجال المعلقات العشر للشيخ مصطفى الغلايني طبع بالمطبعة الأهلية ببيروت 1331 في 308 صفحة سحر بابل أو ديوان السيد جعفر الحلي النجفي طبع مطبعة العرفان: في صيدا سنة 1331في 466 صفحة الفصول المهمة في تأليف الأمة لمؤلفها الشيخ عبد الحسين بن شرف الدين الموسوي العاملي طبعت بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1330في 238 صفحة الشبيبة والمرأة والضجة بين الأديب (ف) والأديبة (ز. ف) على صفحات الصحف الفكاهية لجامعها ابن دمشق طبعت بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1331 نوادر وفكاهات من أحاديث الحيوانات لمؤلفها اليأس بك قدسي هي قصص موزونة على الوزن القرادي المعروف بالمعنى باللغة الشامية الدارجة منها ما هو معرب عن لافونتين شاعر الفرنسيين وإنها مبتكر غير مقتبس ولا معرب طبعت في دمشق

رواية شمم العرب هي رواية تمثيلية عربية ذات أربعة فصول من تأليف صديقنا نجيب أفندي نصار صاحب جريدة الكرمل في حيفا المعلومات المدنية لتلامذة المدارس الابتدائية لفائز بك الغصين طبعت على نفقة المكتبة الهاشمية بدمشق جمال المعاني في الديوان الثاني للسيد جمال الدين محمد الحسن بك الحموي الكنى بابي العزم طبع بمطبعة حماه سنة1332.

أفكار وأخبار

أفكار وأخبار بكر الأولاد كان الناس يذهبون إلى اليوم بان بكر الأولاد أرقى عقلا ولذلك خصته بعض الأمم كالانكليز بامتيازات في المواريث وغيرهما ولكن احد علماء منافع الأعضاء في الدنمارك تبين له خلاف ذلك فانه فحصه 5915 ولدا بكرا فاستنتج بان الولد الثاني والثالث قد يكونان أرقى من البكر وان القول بمتانة حمسه وكبر عقله حديث خرافة بل تبين أن السل اشد فتكا في بكر الأولاد من الثاني والثالث فناء الأرض كثر بحث العلماء في فناء مادة بقاء الكرة الأرضية وقد قدم مؤخرا احد الرياضيين الفرنسيين إلى مجمع العلوم في باريس خلاصة أبحاثه في هذه المسالة جاعلا ما بقي من عمر الأرض مليوني سنة فاضمحلوا النباتات والحيوانات ويفنى الإنسان معها فتقفر الأرض إذ تبلغ حرارتها إلى درجة يهلك فيها كل حي وليست هذه النبوءة المشئومة جديدة بل قد تنبأ بها كثيرون حتى اليوم ولكنها حسبت ألان بحسابات علمية وقد استند هذا العالم إلى نظرية هلملوز الذي يقول بان الشمس تبرد بالتدريج فاقدة من قوة حرارتها فان درجة حرارتها الحاضرة أخذة بحسب بعض أراء بالتناقص قال وإذا نظرنا إلى ماضيها يثبت معنا أن قرص الشمس كان منذ مليوني سنة ضعفي ما كان عليه اليوم وكذلك كانت أشعتها اشد حرارة مما هي ألان وبذلك يجب أن تكون درجة الحرارة في الأصقاع القطبية التي هي في عرض ثمانين - تسعين بميزان سنتغراد وحسب العالم الفرنسي أيضا انه ينقضي عشرون إلف قرن قبل أن يصغر قرص الشمس نحو العشر وفي خلال ذلك يجمد سطح الكرة بحيث تنزل درجة حرارة فيه إلى الصفر وتدخل حياة في دور الموت والأرجح انه يصير مال الأرض التي نعيش عليها إلى الفناء وعليه فان مجموع عمر الأرض هو أربعة ملايين سنة وما نحن كما قال الشاعر الطلياني دانتي في منتصف الطريق. الدجاج المسمن ظهر للباحثين أن ضرر تسمين الحيوانات الخاصة بإطعام الإنسان أكثر من نفعه وذلك ماخلا الوقت الذي يسبق أوان ذبحها بقليل وما عدا ذلك من الحالات فزيادة الثقل لا تأتي

إلا بضرر فان البقر الثقيل جدا يعمل عملا قليلا والبقرات المعلوفة كثيرا لا تنتج كثيرا أما الدجاج الذي يطعم أكثر من كفايته ولا سيما في الشتاء فإنها تبيض كسلانة أو بيضا رديئا عند انتهاء الشتاء ولا يكون بيضها على ندرته بنسبته ما صرف عليها من الغذاء خصوصا وان رياضتها تقل في فصل الشتاء فيقضى عليها أن تعيش مدة في فنها وما كان كبيرا في السن منها يموت لا محالة وقد شرح الباحثون أشلاء الدجاج الميت على هذه الصورة وظواهر صحته حسنة فتبين لهم أن الأنسجة قد كثر شحمها وان الكبد عراه ما أوقف عمله وكذلك القلب والدم لم يعد يجري جريه العادي والرئة أضاعت من نشاطها ولم يتمكن الأوكسجين (أحد مولدي الماء والهواء) من إحراق الشحم في تركيب الجسم قالت المجلة الباريسية وهذه الحوادث نادرة ولكن الذي يجب أن لا ينسى انه ينبغي الإقلال من التغذية عندما ينقطع الدجاج عن البيض فلا تعطى عندما تبيض شيئا من الحبوب ولا الذرة ولا الشعير ولا الأرز لأنها تسمنها بل يستعاض عن ذلك بالبقول التي تبعث على القوة ويتقى بها السمن. بحيرات ملح القلي شرعوا يستثمرون في شرقي افريقية الانكليزية بحيرات الصودا أو ملح القلي الطبيعي وهي على مسافة غريبة باتساعها وبصفاء حاصلاتها وهذه المستودعات من الصودا هي كغيرها مكونة من الرواسب تجمعت خلال مئات من القرون فاجتمعت المياه في قيعان لا منفذ لها تاركة بالتبخر الأملاح التي تحتويها وهي عبارة عن كربونات ممزوجة بسولفات وكلورور ويكثر الكربون في هذه البحيرات التي تعرف ببحيرة ماكادي ويمكن أن يستخرج منه كل سنة مائتا مليون طنا وذلك ودون أن يضر بتجارة الصودا الصناعية. أعظم الاكتشافات الحديثة الاكتشافات الحديثة عشرة المصباح الكهربائي المتأجج. نقل المجرى الدوري وتبديله. الطيارات. يب الازوتية في الزراعة. تعديل المحركات ذات المحروقات الداخلة. الطيارات. الآلة التاللاسلكي. نها أشعة اكس. طريقة استخراج الرسوم. تحسين طريقة التصوير الشمسي. الفرن الكهربائي. التلغراف اللاسلكي. وهذه كلها نتيجة علم العلماء وبحث الباحثين من أهل الغرب والشرق لم يكد يعرف منها اسمها دع جسمها ورسمها.

الإفراط في التغذية كتب احد الأطباء في إحدى المجلات الصحية أن بعض الأطباء رأوا مؤخرا أن يقتصر في تغذية الأطفال على البقول وذهب آخرون إلى أن الطفل في مبدأ نموه يحتاج إلى غذاء كاف ولذلك وجب على أمه أن تحمله على الطعام وتحببه إليه بكل ممكن قال وارى أن ذلك من الوهم فان الإفراط في تغذية الولد تؤدي به إلى الشيخوخة المعجلة وتبتليه بداء المفاصل إلى غير ذلك من الإمراض فان تعويده الشره يحدث فيه عادات وحاجات جديدة يكون مستعبدا لها طول حياته وتنتهك بها صحته وتضمحل سعادته فان هذا الفكر المغلط طالما حمل الأمهات على تحميل أولادهن فوق طاقتهم من المأكل اعتقادا منهن أن الصحة والقوة هما بنت الغذاء الكثير ولذلك يأخذن أولادهن بالشراهة وأفضل طريقة اتبعها الانكليز في إطعام الأولاد أن يقدم الطعام إلى الأولاد قبل أن يقدم للكبار في الدار وتجعل مواعيده لهم غير مواعيده للكبار ويكون غذاء الأطفال ساذجا لا يحتوي على ملح ولا على ابازير من مثل الفلفل والتوابل والخل وغير ذلك من المقبلات التي تصيب حلمات الذوق وتثلم حاسة التأثر فيه فلا يعود يتذوق طعم الأغذية الطبيعية بل يفسد ذوقه ويحتاج إلى مشهيات اقوي مما كان يتناوله وينشا له من ذلك قلة لذة في تناول الطعام وتهيج الأنسجة المخاطية الهاضمة على هذه الصورة بغير عملها العادي وبسبب سوء الهضم وكثيرا من الإمراض في الجهاز الهضمي. سقي النبات أن حسن بقاء النباتات ولاسيما ما يجعل لزينة البيوت منها يرجع إلى طريقة سقيها فإذا زاد أو نقص يحدث ضرر في نموها ويؤدي أحيانا إلى ذبولها وإفنائها فان النباتات الكثيرة الجذوع يجب أن يزاد في إرواءها أكثر من التي تقل جذوعها وأفضل طريقة يتحقق بها ما يحتاجه النبات من الماء هو أن يلاحظ عند السقي في ما إذا كانت فقاقيع من الماء على سطح التراب فان ظهورها يدل على أن هناك تبخر في الرطوبة فإذا تجاوز الساقي هذا الحد اضر بالنبات وتجربة ذلك سهلة أما الوقت اللازم انتظاره لإعادة السقي فهو متى شوهد أن التربة جفت أي قبل أن تتبخر رطوبتها ورطوبة الأوراق تماما وهذا التبخر تابع لكمية بخار الماء الذي يحمله الهواء وهو ينشا أيضا من نمو الجذوع ولا يمكن وضع قاعدة

عامة بذلك بل ينبغي أن يعرف بان الواجب تكرار الإرواء أربع مرات إذا كانت الجذوع وافرة والواجب أن يعنى الساقي بان يغمر بالماء جميع التراب بحيث لا يبقى محل فارغ بين النبات والأصيص أي إناء النبات وإذا لم تتخذ هذه الاحتياطات تكون الظواهر حسنة ولكن النبات ظمآن في الحقيقة فتنقبض العروق صغيرة وتنفلج المادة المغذية وتنحل الأوراق فلا يلبث النبات أن يهلك فكما انه يجب أن لا يفرط في إظماء النبات ينبغي أن لا يفرط في إرواءه أيضا فإنها في الحالة ثانية تبلى جذوعها وتتعفن وكثرة غمرها بالماء يؤدي إلى ظهور الحموضة فيها ولذلك فالواجب إرواء النبات ولاسيما في فصل الحر ولكن بدون أن يتبخر الماء تماما ويغمر كل الغمر فقد يكون سطح التربة نديا والطبقة السفلى منها عطشى وبالجملة بأنه لا يشرع بإرواء النبات إلا بعد أن تكون الرطوبة الناجمة على الإسقاء الأول قد زالت كل الزوال وبذلك تحفظ نباتات المساكن طويلا خصوصا إذا غسلت الأوراق الكبيرة من النبات مرة في الأسبوع وذلك بان تمسح بإسفنجة مغموسة بماء غال فيه قليل من الصابون مسحا خفيفا فتظل بذلك مسامها مفتحة وتبعد عنها الحشرات المؤذية ولاسيما الذباب الأخضر ومما ينفع في هذا الباب أيضا تجديد التربة وان يضاف إليها بعد المخصبات في الأوقات المناسبة وان لا تعرض النباتات إلى درجة من الحرارة تقل عن 5 بالميزان المئوي ولا حرارة الشمس ومجاري الهواء. مرض الجذام اشتغل المجتمع الطبي الفرنسي بمرض الجذام وقد طلب منه أن يعطي رأيه في كيفية التوقي منه بعد أن ثبت بان مؤتمر الجذام الذي عقد في برلين سنة 1896 أكد انه من الإمراض العضالة المعدية على أن هذا الرأي لم يقل به جميع المشتغلين من الأطباء بهذا المرض ومن مشاهيرهم الدكتور زامباكو باشا من مشاهير أطباء الأستانة المنوفي حديثا فانه نشر كتابا مهما أيد فيه رأي الجمهور في عدم سرابه هذا الداء وقد قدرت نظريته حق قدرها بين العلماء ولكنه لم يوفق إلى إقناع العالم الطبي كله بصحتها وقد رأى المجمع الباريسي أن يكره الطبيب الذي يداوي مصابا بالجذام كما تكره أسرة المريض أن يعلنوا ذلك للحكومة وان يخضع المصاب به إلى مراقبة خاصة أو يجعل منفردا وان يحظر على المجذومين أن يدخلوا فرنسا جميع أسباب الوقاية الخ.

وقد عرف العرب الجذام حتى قالوا أن في ماء دمشق خاصية لمنع سرايته وقد جعل له مستشفى خارج باب شرقي لا يزال يأوي إليه إلى اليوم المجذومون كأن العرب تحققوا سرايته قبل لن يتحقق علماء العصر الحاضر كما تحققوا سرابه الطاعون والهواء الأصفر والأوبئة والحميات. كبريت الكاربون جرب في مستشفيات مرسيليا هذا الكبريت المعدني وذلك بحقن المصاب بالسرطان به فأنتج نتائج حسنة سريعة في إبادة الغدد السرطانية وقد ظهر هذا المضاد للفساد أثبت أصل السرطان وسرايته. واردات دور التمثيل والفرج بلغت واردات دور التمثيل والمشاهد في باريس في السنة الماضية 68452395 فرنكا وهو أعظم دخل نالته تلك الدور المنقطعة النظير في العواصم الأرض لان باريس كهف العلم كما هي كهف اللذائذ ومعظم هذه الواردات من واردات السينماتوغراف. المخازن الكبرى بلغ ما باعه مخزن البون مارسه في باريس في السنة الماضية 240 مليون فرنك منها 16 مليونا ربحا وبلغ ما باعه مخزن الساماريتان 125 ملايين منها ربح ثمانية ملايين وبلغت مبيعات مخزن اللوفر 132 مليونا منها سبعة ملايين وربعا وباع مخزن لافييت بما قيمته 125 مليون فرنك وكان ربحه منه ثمانية ملايين وربع مليون فرنك هذه مخازن باريس التي يعد مستخدموها بالمئات والحكومة تتقاضى منها رسوم الباتنت ولكنها تتساهل مع أكبرها أكثر مما تتساهل مع المخازن الصغيرة. أمراض النبات أحصي ما تحدثه في العالم أمراض النباتات مسانهة بخمسة مليارات فرنك على اقل تعديل وقد قرر المؤتمر الذي عقد في رومية مؤخرا بان يعقد عهد دولي يضمن لكل من الاثنين والثلاثين مملكة التي اشتركت في هذا المؤتمر ما يقي نباتاتها من المضار. من الرأس إلى القاهرة

تعمل الحكومة الانكليزية ألان بما فيها من القوى لانجاز الخط الحديدي الذي يربط رأس الرجاء الصالح في جنوب افريقية بمدينة القاهرة في شماليها وهو تحقيق الأمنية التي طالما حلم بها سيسل رودس المتري الانكليزي الشهير. ولا يكون هذا الخط كالخطوط العسكرية التي فتحها الرومان أيام عزه لتنقل عليها الحكومة جندها وذخائرهم وإثقالهم بل غاية من هذا الخط سلمية على ما يظهر ألان ينظر فيه إلى ترقية المدنية في ذاك الصقع العظيم من افريقية ويستفيد الناس من ذلك في الشؤون الاقتصادية وسينجز هذا الخط الذي شرع فيه منذ سنتين في سنة 1916 وقد ساعد في اليوم على انجازه تنازل البلجيك لانكلترا عن شطر من أراضي الكونغو البلجيكية فأصبح الخط يسير في ارض انكليزية على طول 6944 ميلا أو 11100 كم وهذه هي المسافة بين الرأس والقاهرة أو 7074 ميلا أي 11330 كم إذا أريد إبلاغه إلى الإسكندرية ويركب المسافر بين ذينك الثغرين في القطار تارة وفي الباخرة أخرى فيكون ركوبه من كابتون إلى بوكاما في القطار ومن بوكاما إلى كونغولو بالباخرة ومن كونغولو إلى خندو في القطار ومن خندو إلى بونترفيل في السفينة ومن بونترفيل إلى ستانليفيل في القطار ومن ماهاجي إلى كوستي في السفينة ومن كوستي إلى وادي حلفا على طريق الخرطوم في القطار ومن وادي حلفا إلى أسوان في الباخرة ومن أسوان إلى القاهرة في القطار. وقد قاسى القائمون بهذا المشروع الأمرين من اعتداء السكان وفتكات الحيوان لاسيما الأسود في رودسيا الشمالية حيث اضطروا إلى أن يقيموا حواجز ليؤمن عملة السكة الحديدية من هجماتها. أزمة الخدمة شعر الناس حتى في البلاد التي لم تبلغ درجة راقية من المدنية كمصر والشام لقلة الخدام والوصيفات والخادمات والمرضعات والمربيات حتى أصبح بعضهم يجلب خادماته وخدامه من الخارج وما دروا أن فرنسا بل وألمانيا وانكلترا والولايات المتحدة هي أيضا في أزمة خدم تشكو قلته حتى لقد كان في فرنسا تسعمائة إلف خادم وخادمة فأصبحت اليوم وليس فيها سوى 750 ألفا وأسباب ذلك كثيرة منها قلة المواليد بحيث أصبح الفقراء من الذكور والإناث يجدون في القرى ما يعيشون به بدون الاختلاف من المدن ومنها أن الثروة زادت

في الفلاحين ومنها ماحشيت به رؤؤسهم هناك من تساوي الناس جميعا وان لفظ الخادم مرادف للفظ المنحط ومنها انتشار الصنائع والاحتياج إلى الأيدي العاملة هذا في الغرب وأما في الشرق فليس له من سبب سوى حب البطالة فترى الفتى أو الفتاة يؤثر أن يعيش بالشحاذة ولا يمتهن خدمة عند احدهم كأنه يرى الشحاذة اشرف من الخدمة المشروعة ولو طبق قانون المتشردين في هذه الديار لبلغ عددهم نصف سكان مملكة من ممالك أوروبا الصغرى فحبذا تطبيقه بالفعل ليقل الخاملون ويزيد العاملون وبذلك لا يشكو خادم ولا مخدوم. طريقة جديدة للاستصباح اخذوا في بلاد البلجيك يستخدمون فحم كوك المعدني لا فحم كوك في معامل الغاز لإنارة المدن بثمن ارخص من الغاز المعتاد في الاستصباح وقد تألفت شركة لهذه الغاية وهي تعقد ألان مقاولات مع بلديات كثير من المدن البلجيكية لتنيرها بهذا الضوء الجديد الرخيص الذي لا يكلف متره المكعب سوى خمسة سنتيمات ويمكن أن تنزل قيمته إلى النصف بعد سنة ومن المدن ما وفرت بهذه الطريقة مبالغ طائلة فان مدينة انفريس تدفع خمسة عشرة سنتيماً ثمن المتر المكعب من غازها فكم يكونوا المبلغ الذي تقتصده غدا إذا ابتاعت كل متر بسنتيمين ونصف. الأرضة الأرضة أو دود الخشب مما لا يحاذر الناس منه كثيرا في العادة بيد أنها بما تحدثه من التلف تعد من جملة مصائب المساكن فهي تسكن في الأثاث والدفوف وكل أعمال الخشب وحملاتها شديدة بحيث يكاد لا يلحظ وجودها ولا انتشارها وكثيرا ما تدخل هذه الدودة في البيوت التي كانت سالمة منها على غير انتباه والأرضة كالقمل والبراغيث والبق إذا سكنت صعب جدا إبادتها فإنها كثيرة التناسل وتقاوم كل طريقة لإتلافها ولذلك تقضي الحال بان يحاذر كل الحذر من نقلها إلى المساكن وذلك بان لا يستخدم إلا الخشب الجديد السالم من الأرضة وكثيرا ما يحدث أن البنائين وأصحاب الأملاك يستعملون أنقاضا من البيوت تكون أخشابها عتيقة ملوثة بالأرضة ومن الناس من ينتقلون إلى بيوت فيهملون تنظيفها وتنظيف أمتعتهم التي تكون الدودة الخبيثة قد اتخذت لها فيها مساكن لا ترى وكم من دار أصيبت

بعدوى هذه الحشرة وكانت من قبل سالمة ولا سبيل إلى الخلاص منها إلا بإبادة جميع الأمتعة التي عششت فيها. العاج النباتي كان الأوروبيون يتنافسون في افتتاح بلاد السودان لأنه يخرج منها العاج وريش النعام وغيرهما من حاصلات البلاد المهمة وما كنا نظن أن العاج الذي طالما تنافس فيه المتنافسون يصدر منه كميات وافرة من أميركا الجنوبية من نبات لا من حيوان. وقد نجحت الآن تجارته نجاحاً كلياً بفتح برزخ باناما وشجر هذا العاج يجود في جنوب مملكة باناما وكولومبيا وجمهورية خط الاستواء وشمالي البيرو وفي أودية الآند على ثمانمائة أو تسعمائة متر من العلو عن سطح البحر وجذعه عظيم وقصير وهو ينمو ببطء ولا يبلغ طوله في العدة أكثر من 3 إلى 8 أمتار ونادراً أن يكون طوله 10 أمتار وورقه عظيم يشبه ورق جوز الهند وثمره أشبه برأس ولد زنجي وتحتوي قشرته لوزة يكون شكلها أولاً شكل كيس مملوء من شراب حلو مرطب ثم يجمد بالتدريج ويصلب بحيث تكون كصورة العاج وصدفته تحتوي على 60 إلى 90 لوزة كل خمس أو ست لوزات وحدها وهي تفتح بذاتها متى آن أوان نضوجها تلتقي على الأرض ثمرها الذي يبيض إذا تم نضوجه فيكون كالعاج ولا يعلم كم سنة حتى ينضج ثمر هذا الشجر ولكن الملاحظ أنه يتم في ست سنين وأن عمر الشجرة منه وأكثر وهذا العاج النباتي بفصل وينشر ويحضر كما يفعل بالعاج الطبيعي تعمل منه أزرار وأدوات زينة وقيمته أرخص من في سن الفيل. وقدروا أن جمهور خط الاستواء وحدها تصدر منه ما قيمته ثلاثة ملايين بيزو (والبيزو ثلاثة فرنكات وخمسة وسبعون سنتيماً) أو عشرون ألف طن وقد اغتنى ب هجانوه الذين يبيعونه من التجار وهؤلاء يبعثون به إلى المعامل في أميركا الشمالية على الأكثر وهي تخرج منه الرطوبة بواسطة الأدوات المستعملة لذلك ثم يجعل في براميل حديد يكون في داخلها مطارق تعريها من غشائها على طريقة ميكانيكية فتكون صبلة كالعظم بيضاء ناصعة. أعمار الموسيقيين أراد أحد الإحصائيين في أوربا أن يتفكه بإحصاء معدل أعمار الموسيقيين فبدأ يبحث في

الصحف والمجلات منذ سنة 1870 إلى يوم الناس هذا فظهر له أن مات منذ ذاك العهد 4113 موسيقياً عرف السن التي قضى فيها 3737 وحسب أن معدل أعمارهم كانت 61 سنة وبلغ في هذه المدة 1870 - 1913 عدد من تجاوزا المئة سنة أربعة و76 موسيقياً منهم مات منتحراً ويكثر عدد المنتحرات من الموسيقيات والمغنيات. حفظ السمك كانت الطريقة المتبعة حتى الآن في حفظ الأسماك طرية غير تامة ونافعة من كل الوجوه ولا سيما طريقة تمليحها وجعلها في الجليد وقد ظل الباحثون يفكرون في طريقة جديدة تكون أضمن وأحسن حتى عثر رجل دانيمركي على محلول يفي بالمطلوب. يستخدم لها آلة واسعة الحجم جداً مؤلفة من إناء داخلي من المعدن يدور على محور أفقي مفتوح من أعلى ومن أسفل. وهذا الإناء الداخلي مملوء بماء مملح سلامورة وهناك إناء خارجي يحتوي ماء البحر وتجعل فيه السمكة التي يراد حفظها وتدور الآلة تدويراً ميكانيكياً فينفذ الماء المملح من ثقوب الاسطوانة الداخلية يوصل بينهما بمجرى دائمي من المحلول المالح ويغطى السمك بطبقة من الجليد أن يشبع بدون بالملح ويحفظ جميع صفاته. عقم الأمم كان بعض الاقتصاديين بين ذهب إلى أن قلة المواليد في الأمة يدل على هرمها وأن العقم كما هو عند الأفراد في الأمم حذو القذة وكل أمة قديمة تهرم فهي عاقر عقيمة وقد رد أحدهم هذه النظرية بقوله أن فطرة أن العناصر تكون عاقر عقيمة إذا هرمت هر من الخطأ الظاهر بل أن الأمم تزيد قزة إذا هي تقدمت في السن. لكل الأمم عمر واحد إذا نظر حياتها ولا تختلف إلا بعمر مدينتها والعلماء يعيشون أكثر من الجهلاء. فإنا نرى الأميرات أكثر أولاداً من نساء الشعب وأساتذة المدارس والوعاظ وأساتذة الكليات أكثر نسلاً وانحطاط الأمم يكون بهجرة الطبقة الراقية من بينها كما هجرت الطبقة الذكية من اليونان إلى إيطاليا طمعاً في مغانم تصوروها ولم يلحق بهم النساء ويكون الانحطاط بإنهاك قوى الأرض والأمة التي تحسن تسميد تربتها لا تموت أو بحروب تأتي على العامر والغامر أو بمنافسات شديدة هكذا اضمحلت تروادة وقرطاجة أو بتبديل المناخ كأن ينتقل أهل البلاد الباردة إلى الحارة وبالعكس فقد شوهد أن الجنس الجرماني لما توطن في إيطاليا وإسبانيا

وإفريقية في القديم قد اضمحل. فالعمر لا يهرم الأجناس بل يجدد شبانها فعقم الأمم هو من الأمراض الوهمية كغيره من الأمراض اعتقدت به القرون الماضية ولكن العلم الحديث قد ناقضه. الأحداث والأعاظم أنشأ أربعة تلامذة من مدرسة جانسون دي سايللي في فرنسا مجلة جديدة سموها نظرة وأكبرهم سناً لا يتجاوز السادسة عشرة وقد أحدثت مجلتهم حركة إعجاب من الأمة حتى أن رئيس جمهوريتها تنازل وبعث إليها بقصيدة جميلة لم تطبع بد لتنشرها في إحدى أجزائها التالية دليل مؤازرته وعنوان تشجيعه لمن لقنوا العلم تلقيناً قبل أن يبلغوا الحلم. دور نضوج العلم كتب أحد المفكرين يزيف قول من قال أن أحسن الكتب في العالم هو ما كتبه مؤلفوه في عهد الشباب فإن هلاك بعض الشعراء والكتاب في سن الشباب لا يقوم دليلاً على هذه القضية وذلك لأن الأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الباب وتاريخ الأدب الحديث طافح بها فإن تنسون لم يحرز هذا المقام في الشعر الغنائي إلا بما ألفه يوم كان في الحادية والثمانين من عمره وكذلك كان من كبار رجال الأرض مثل سقراط وشاتوبريان ولافونتين ولاماوتين وهوغووكريم وميشله وأمير سون ووتمان وتولسوي وبجورنسون وتوين مما عاشوا كلهم فوق السبعين وكذلك يقال في الشاعر ايبس الدانمركي من المعاصرين وأن كيني الألماني لم يكتب الجزء الثاني من روايته الفوست إلا عند ما بلغ الثمانين وبلغ أشيل وسفوكل واورييدوهم كبار شعراء اليونان في الفاجعات سن الشيخوخة وهكذا يقال في دانتي شاعر إيطاليا ورونسارد وشكسبير ومن الذن يدخلون في سلك المعمرين الذن جودوا أيضاً تآليفهم في سن عالية مليتون وراتجة ولونغول وكانت وتاسيت وكارلايل ومولير ورابلي ومونتين وسرفانتس وبالزاك. الاستحمام ذكرت إحدى المجلات الخطيرة أن الواجب أن لا يستحم المرء كيفما اتفق فالحمام بحسب عادة المستحم وكيفية استحمامه ومزاجه وصحته يكون نافعاً أو ضاراً. فلا يستحم المستحم بوجه عام بماء بارد تحت درجة 24 بدور استشارة الطبيب فإذا كان الحمام الذي يؤخذ

على هذه الصورة يحدث أوجاعاً في الرأس وهبوطاً في الجسم فالأوفق الاستعاضة عنه بالمضخة (الدوش) الباردة. وما كان جيد الصحة لا يستحم في حمام تتجازو درجة حرارته 40 والحمامات السخنة هي في العادة قليلة النفع ولا سيما إذا أخذت في الماء لأنها تكون مهيجة لا مسكنة وهي بادية الضرر في الضعاف أو الضئال. ولا أحسن في تسكين إضرابات الجسم وإراحته مثل الاستحمام في حمام تكون درجة حرارته 40 ويكون تناوله قبل النوم. ومن أنواع الاستحمام ما ينبغي اعتباره من المقويات التي أرقى من كل شراب مز ومنها الدلك بفوطة مبللة وهي توافق في الأكثر النساء المتبعات مهما كان نوع تعبهن. والأحسن أن يساعد المستحمة دلاكة فتقف المستحمة على قدمها في حمام حار (40 درجة تقريباً) مغطاة بملحفة مبللة من رجليها إلى نقرتها ويصب عليها سطل ماء بارد من درجة 25ثم تدلك بمنشفة ثم تلف في ملحفة ناشفة وتدلك حتى ينشف جلدها تماماً وتجدد هذه العملية كل يوم بخفض درجة حرارة الماء بالتدريج. ويستعمل ضد الأرق الماء الفاتر بحسب حرارة الجسم فيتغطي المستحم ليكون بمأمن من الهواء ومدة هذا الحمام عشرون دقيقة فتجعل عصائب مبلولة وتربط حول الرأس ولا حاجة للدلك بعد هذا الحمام. الجراد الجراد هو الجرح النغار في جسم الزراعة في كل بلد وقد اتخذوا حتى الآن لإبادته طرائق كثيرة منها جمعه وإحراقه ومنها إحراق المحصولات والأشجار التي يعلق عليها ومنها ضربه بالبنادق وسحقه بأحجار أو حديد وعبثاً حاولت الحكومات إنقاذ البلاد من ويلاته وصرفت الأموال الطائلة في سبيل إبادته حتى وفق أحد أعضاء مجمع باستور العلمي أثناء جوله في يوكاتان في الشرق الأقصى إلى اكتشاف جائحه من الجوائح تسطو على الجراد فتبيده فأخذ منذ سنة 1910 يربي جراثيمها وتوصل إلى أخذ سمها الذي يقتل الجراد لا محالة وكل لترين من مسحوقه مغلياً يطهر هكتاراً من الأرض والتطهير يجري خاصة في الأماكن الملوثة بالجراد فتقتله وتقتل بيوضه وقد أنشأوا يستعملون هذا الدواء الناجح في جنوبي أميركا مثل كولومبيا وفنزويلا والأرجنتين كما استعملته فرنس في الجزائر وكلفت حكومة إنكلترا مخترعه إلى استعماله في جراد جزيرة سيلان والحكومة العثمانية إلى استعماله في أزمير. وبذلك انحلت مسألة إبادة الجراد التي شغلت الأمم سنين طويلة.

الخشب الأحمر في بلاد القوقاز لا سيما في المنحدر الجنوبي من السلسلة الكبرى وعلى المنحدر الشمالي الغربي من السلسة الصغرى بجبال القافقاس في كولشيد وعلى شواطئ البحر الأسود توجد شجرة ذات أوراق تدوم على مدة الفصول وفيها صمغ وخشبها غير قابل للفساد ويسمونه الخشب الأحمر ويبلغ طول شجرته 25 متراً وقطرها 75متراً وهو ينمو ببطء إلى ما لا نهاية له معرضاً للأهوية الشديدة التي تهب في الجنوب الشرقي ومن أشجاره ما عمره 300 أو 400 سنة وقد بقي قائماً على ممر الدهور ثابتاً أمام حوادث الأيام لم يلحقه عفن ولا سوس ولطالما عرضت من خشبه مصنوعات لطيفة من النجارة البديعة في المعارض فوقعت موقع الاستحسان عند أرباب الذوق والراغبين في البدائع. شهداء الطيران ابتدأ الطيران سنة 1908 وما زال عدد شهدائه سنة عن سنة فقضى في السنة الأولى رجل واحد وفي الثانية 3 وفي سنة 1910 - 29 وفي سنة 1911 - 78 وفي سنة 1912 - 140 وقطع خمسة طيارين في السنة الأولى 1600 كيلو متر من حيث المجموع وقطع في سنة 1909 خمسون طياراً 44 ألف كيلومتر وبلغ عدد الطيارين في السنة التالية 500 ومجموع ما اجتازوه - 960 ألف كيلومتر وبلغ عدد الطيارين سنة 1911 - 1500 قطعوا ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف كيلومتر وفي سنة 1912 بلغ مجموع الطيارين 5800 قطعوا عشرين ملون كيلومتر فكان مجموع من هلكوا في السنة الأولى واحداً في 1600 كيلومتر وفي السنة التالية واحداً في كل 15 ألف كيلومتر وفي السنة الثالثة واحداً في كل 33 ألف كيلومتر وفي الرابعة واحداً في 47 ألف كيلومتر وفي الخامسة واحداً في كل 140 ألف كيلومتر وقد حسب الحاسبون أن عدد الطيارين الهالكين آخذا بالنقص نقص إلى عشرة ويوشك أن يقل أكثر من ذلك كلما قل عدد المتهورين من الطيارين وجرى في آلات الطيران. المطاط أخذ شجر المطاط الكاوتشو تكثر رزاعته في صومطرا من مستعمرات هولاندة بفضل تربتها ومناخها ورخص أجور العملة فيها وسينافس قريباً المطاط الذي يستخرج من سيلان

وغيرها من البلاد الإنكليزية. وفي جزائر هبربد الجديدة شجر ضخم اسمه البانيان لم سكن معروفاً من قبل ولكن تبين الآن أنه يستخرج منه المطاط وقد أخذوا مؤخراً يستثمرونه ويبعثون به إلى قارة أستراليا ليدخل في الصناعات. سارة برنارد ما نظن في البشر الراقي أناساً لم يسمع باسم سارة برنارد أعم ممثلة في الأرض لهذا العهد وقد احتفلت الأمة الفرنساوية بتكريمها في العهد الأخير كما يحتفل بالملكات أو أكثر وقال ناظر المعارف الفرنسوية إن حكومة الجمهورية قلدتها وسام جوقة للشرف لأنها كانت ممرضة في المستشفيات العسكرية للجيش الفرنساوي سنة 1870 ولأنها نشرت اللغة الفرنسية في العالم كله مثلت في جميع الممالك وقد امتدحها بار الشعراء بشعرهم والأدباء بنثرهم وفاضت البالغة يوم تلك الحفلة التي دعاها فيها أحد كبرائهم إمبراطورة المحاضرة لأنها أخذت تحاضر الجمهور وهي الآن في شيخوختها بعد أن مثل أبدع القصص نحو نصف قرن وهي في شبابها وكهولتها واغتنت من التمثيل كما يغتني كبار رجال المال والأعمال في الغرب. الخطوط الحديدية في أميركا قالوا أن طول الخطوط الحديدية التي تشق بلاد الولايات المتحدة الأميركية يبلغ 241. 199 ميلاً أي أطول من مجموع خطوط ممالك أوروبا كلها وستخدم فيها 241. 155عاملاً في حين يقتضي لها مليون مستخدم ومتوسط أجرة العامل في السنة 360 ريالاً أميركياً وثمن هذه الخطوط تشعة عشر مليار دولار وكثير من الخطوط يملكها رجل واحد أو اسرة واحدة مثل خطوط اسرة فندربلت الغني الشهير ولا ترق قلوبهم بالعطف على مساكين المستخدمين في حين قد دفعت مؤخراً إحدى بنات فندربلت ثمانية لايين دولار لتصبح دوقة إنكليزية وذهبت مجموعة البدائع التي حواها متحف مورغان الغني إلى المتحف العام في أميركا بعد وفاته والمثل يقول عند الغربيين القمل بعيش على حساب الكلب المضروب أعظم نفق فتح نفق في العالم في نيويورك وهو مجرة تحت الأرض يسقي مدينة نيويورك فيملاً كل يوم باثنين وعشرين ألفاً وخمسمائة مليون لتر من الماء آتياً من مكان بعيد عن تلك

العاصمة 145 كيلومتراً وقد حفر على عمق 122متراً عن سطح الأرض ودام العمل في هذا النفق سبع سنين وأنفقت عليه بلدية نيويورك مليار فرنك واستخدمت فيه كل يوم 25 ألف عامل وهدمت لأجله سبع قرى فيها ثلاثة آلاف ساكن إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة التي لا تقوم بها إلا الأمم ذات المدينات الراقية. شعر الشهر قال خليل أفندي مطران في الأهرام من قصيدة في الطيران والطيارين. خواض أجواز العنان ممانع ... غير النهي عن أخذه بعنان يدعو الرياح عصية فتنله ... أكتافها بالطوع والإذعان يسمو فتضع الشوامخ دونه ... حتى تأوب بذله الغيطان يطأ السحائب ممنعاً في شوطه ... زجل الفوائد له أزير الجان فترى منائرها هوت وجبالها ... دكت وأبحرها عفت في آن وترى قراها العامرات وروضها ... أقوين من حسن ومن عمران وترى مناجم تبرها وعقيقها ... مهدودة مشبوبة النيران وترى الصفوف الكثر من حيوانها ... بادت فما كانت من الحيوان وترى عوالم ليس منها باقياً ... إلا اختلاط أشعة ودخان حتى إذا ما جال غير مدافع ... أو عام بين النسر والسرطان الوى يحط فما يقول شهوده ... إلا جلال النسر في الطيران فإذا دنا خالوه عرش كرامة ... شدته أملاك بلا أشطان فإذا أسف رأوه مركبة لها ... عجل تسيرها يدا شيطان فإذا جرى ثم استوى فوق الثرى ... ظهرت لهم أعجوبة الإنسان قال أحمد بك شوقي في الطيارين اللذين طارا من بيروت إلى القاهرة على ما نشره الأهرام. يا راكب اليح حي النيل والهرما ... وعظم السفح من سيناء والحرما وقف على أثر مر الزمان به ... فكان أثبت من أطواده قمم وأخفض جناحك في الأرض الني حملت ... موسى رضيعاً وعيسى الطهر منفطما

وأخرجت حكمة الأجيال خالدة ... وبينت للعباد السيف والقلما وشرفت بملوك طالما اتخذوا ... مطيهم من ملوك الأرض والخدما هذا فضاء تلم الريح خاشعة ... به ويمشي عليه الدهر محتشما إلى أن قال: يا صاحبي أدرميد حسبها شرفاً ... أن الرياح إليها ألقت اللجما وأنها جاوزت في القدس منطقة ... جرى البساط فلم يجتز لها حرما مشت على أفق مر البراق به ... فقبلت أثراً للخف مرتسماً ومسحت بالمصلى فاكتسبت شرفاً=وبالمغار المعلى فاكتسبت عظماً وكلما شاقها حاد على أفق ... كانت مزامير داود هي النغما جشمتماها من الأهوال أربعة ... الرعد والبرق والإعضار والظلما حتى حوتها سماء النيل فانحدرت ... كالنسر أعيا فوافي الوكر فاعتصما قال السيد محمد حبيب العبيدي الموصلي في فتى العرب: أمعاتب الأيام في تبعاتها ... منيت نفسك طامعاً بمحال أوترت للأغراض غير قسيها ... وأرشت عند أترمي غير نبال أنت الزمان وأنت رب بلائه ... ماذا تريد من الزمان البالي حملته تبعات نفسك جاهلاً ... فحملت أثقالاً على أثقال إن الزمان حديثه وقديمه ... ن بيض أيام وسود ليال الدهر حرث بنيه في أعمالهم ... يأتي بما زرعت يد العمال فلمن أطال النوم لوعة جائع ... ولمن يغوص البحر عقد لآل عطل الضعيف فآذنت بشقائه ... ذكرى السعادة للقوي الحالي لا حق في هذي الحياة لعاجز ... مستضعف ولخسائر مكسال تجلي الحقيقة بالدليل فتنثني ... حقاً فتعوزه قوي قوى الأبطال الحق من دون العناية باطل ... ولباطل معها فسيح مجال خير الحياة وشرها في موقف ... الحكم فيه لصارم وعوال حتى ضعاف الطير صيد سباعها ... والظبي قنص لحبائل المغتال

إن الحياة هي العناية، والردى ... من دونها حظ الضعيف السالي قال خير الدين أفندي الزركلي في فتى العرب من قصيدة يا أمة العرب هلا تنظين إلى ... ماضي العصور، لدن حليت تيجاناً أيام سدت بني حواء بانيه ... لهم من العلم والعرفان بنياناً أيام كنت التي يمنى لصولتها ... عز الممالك، من لخم وغسانا أزمان كنت - وخير القول أصدقه ... أم البلاد - إلا حيين أزمان ألا ترين رقي الأمس باكية ... رجالك الغر من أنسال عدنانا أما تنوحين عهد الفاتحين أما ... تبكين من قد أقاموا قصر عمدانا ولات يجديك نوح النائحات إذا + لم تجعلي للنهوض الجد عنوانا

سماع الألحان

سماع الألحان فن الغناء نشأ مع البشر منذ طفوليتهم وتدرج في درجات العلو ودركات الهبوط بحسب ارتقاء الأمم. ولقد كان له شأن وأي شأن عند الأمم الراقية في القديم على ما دلت عليه روايات التوراة والصور التي وجدت في النواويس المصرية والنقوش البارزة في قصور نمرود وخراساباد حيث الموسيقيين والمغنين وأدوات الطرب كالشبابة والبوق والصنج والعدو وعيرها. ومزامير داود مشهور مذكورة. أجمعت الأمم من جميع الطبقات (الموسيقي الشرقي) على حب الألحان حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم ولكل أمة أحان ونغمات يستلذونها ويفرحون بها لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم إلا تعود سماعها أو بمعرفة مواقع الطرب في أي لحن كان ومن الدليل البين أن لها تأثيراً في النفوس كون لناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم وطوراً في بيوت العبادات والأعياد وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس. قال ابن ساعدة ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويمها وقبضها أيضاً لأنه يحركها أما عن مبدئها فيحدث السرور واللذة يظهر الكرم والشجاعة ونحوها وأما إلى مبدأها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها ولذلك يستعمل في الأفراح ولا حروب وعلاج المرضى تارة ويستعمل في الآتم وبيوت العبادات أخرى. قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطبية فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وقال إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية وبسط النفس وترويق الدم أما من ليس له دراية في ذلك فيعتقد أنه ما وشع إلا للهو والترغيب في لذة شهوات الدنيا وغرور بأمانيها. قال الغزالي في الأحياء: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها نا يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قيل من لم

يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيرها مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً تستخف معه الأحمال الثقيلة لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الأعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آدانها في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها. فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي رضي الله عنه قال كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه فقال الغلام: أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا فعساه يحل القيد عني قال: فلما احضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد فقال: إن هذا العبج قد أفقرني وأهلك جميع مالي فقلت: ماذا فعل فقال: إن له صوتاً طيباً وأني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هماك فما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أن على وجهي فما أطن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه. قال الغزالي بعد إيراد ما تقدم: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهوة ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلط الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجزان يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك

بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب. قال حجة الإسلام: إن الغناء اجتمعت فيه معان أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب فالوصف الأهم أنه صوت طيب ثم الطيب ينقسم إلى المفهوم كالأشعار وغلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات أما سماع الصوت الطيب من حيث أنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة اسمع بإدراك ما هو مخصوص به وللإنسان عقل وخمس حواس ولكل حاسة إدراك وفي مدركات الحاسة ما يستلذ فلذة النظر في المبصرات الجميلة. كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة وللشم الروائح الطيبة وهي مقابلة الإنتان المستكرهة وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة وفي في مقابلة المرارة المستبشعة وللمس لذة اللين والنعومة والملامسة وهي في مقابلة الخشونة والضراسة وللعقل لذة العلم والمعرفة وهي في مقابلة الجهل والبلادة فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها. ونقل الغزالي أيضاً عن أبي طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا فأدركنا أبا مروان القاصي وله جوار بسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية قال: وكان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما قال: وقيل لأبي الحسن بن سالم كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يستمعون فقال: وكيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هر خير مني فقد كان عبد الله ين جعفر الطيار يسمع وأنا أنكر اللهو واللعب في السماع.

هذا ما قاله الغزالي ونقله في السماع وفوائده والمحرم منه في الإسلام ما كان مانعاً عن العمل والعبادة محركاً للشهوات البهيمية كما أن آلات الطرب يكون حكمها حكم السماع والتلحين وفي هذه المسألة مرادات واختلافات بين العلماء في القديم والحديث ولكن العقلاء منهم اختاروا التوسط والتوسط محمود في كل حال فإنهم لم يقبلوا أن يخرجوا بالناس عن الطبع والطبيعة لأنهم إذا منعوا ما هو ضروري من ضرورات الحياة لا يعود الناس يبالون ويسيرون بلا وازع وعلى كل فإن الاعتدال هو غاية الغايات حتى في العبادة. نحن في عصر أصبح فيه الغناء من الفنون ذات القواعد والروابط والأصول ولذلك ترى المنشدين والمغنين والموسيقيين يختارون من الألحان ما يناسب الظرف الذي هم فيه وتراعى به حالة المستمعين وقد ادعى بعضهم أن من النغمات ما يطيب في النوم ولا يطيب في آخر وبعض الألحان قد يكون لها من التأثير ما لا يكون لغيرها ولا شك أن للحالة النفسية التي يكون عليها المغني والمغنى له دخلاً في الطرب فقد وقع لنا أن طربنا مرات بشباب الراعي في الجبال أكثر من سماع الناي والقيثارة وإن راقنا الغناء الطبيعي أكثر من المصنع الموقع على الألحان وكثيراً ما يسمع المرء أمهر الموسيقاريين بين المنشدين فلا يرتاح كما يرتاح لسماع بدوي في البادية يحدو ويتغنى كأن النفس لا تميل إلى الطبيعي من الأشياء الخالي من الطلاء الصنعي. قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج فأما النصب فغناء الركبان والقينات وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فأشياء وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب وكانت العرب تسمى القينة الكرنية والعود الكران والزهر أيضاً هو العود وهو البريط وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو علم اين سريج والدلال ونؤمة الضحى. وقالوا غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعاً وكانوا يقولون الغناء على ثلاثة أضرب فضرب منه مطرب محرك ويستخف وضرب ثان له شجى ورقة وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعه.

الغناء مؤثر في البهائم فكيف لا يؤثر في الإنسان هو يؤثر في الطيور والهوام ولطالما شوهد العصفور والشحرور يرفرفان أمام مغن مطرب وآلة موسيقية شجية وقد أخذهما الطرب فاقتربا يستمعان للأغاني ورنات المثالث والمثاني كما يقترب الطروب من الأناسي وشوهد أن الأفاعي خرجت من أوكارها تستمع لنغمة شاد أو ضربة موسيقار بل شوهد أن من الغناء ما تهتز له جوانب القصور وترتج رفوفها وحيطانها ولعل ما قيل من أن صوت فلان يطرب الجماد له من الواقع ما يؤيده. الألحان تصفي الأرواح وتبعث النشاط في النفوس فيها قد يجسر الجبان في ساحة الوغى ويكرم الشحيح ويرق الكثيف ويلين القاسي ويقوى الضعيف ويعدل الظالم ويعطف اللئيم. وخير الأغاني والأناشيد ما كانت ملحنة بألحان تناسبها معن الألفاظ جيدة المعاني وما قيل من أنه ليس على المطرب أن يعرب ليس صحيحاً من أكثر وجوهه فإن لجودة اللفظ والمعنى تأثيراً لا ينكره إلا مريض الذوق بعيد عن مناحي الآداب سقيم الفهم. كان الناس في القديم لا يعرفون غير العود والقانون والمزامير والشبابات والصلاصل والطارات والكوبة من آلات الطرب واليوم أتي الإفرنج بالأرغن والبيانو وغيرهما من أدوات الطرب ولكن جل الاعتماد اليوم على البيانو لا يكاد يخلو منه بيت ذي نغمة في الغرب يضرب به أولاده وزوجه وضيوفه ويوقعون عليه أنواع الأغاني والاناشيد وتعلمه فيما نحسب لسهل من تعلم العود المألوف في هذا الشرق الأقرب. والتغيير هو الغناء بالطقطقة بالقضيب وإنما سمي تغييراً لأن محدثيه يسمون المغيرة والكوبة طبل طويل ضيق الوسط ذو رأسين وهو المعروف بالدربكة في بلاد الشام. قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال بيت شعري ما هو فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنا أخبرك ما هو هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حرك أعطافه وهز رأسه. وقد ورد في الكتاب والسنة وسيرة أعاظم سلف الأمة إشارة إلى الغناء وإلى تجوزهم في سماعه وهم ولا شك أحسن قدوة في هذا الباب. قال القرطبي من مخطوطات المكتبة الظاهرية ومن الاستدلال بالكتاب من ذلك أي على الغناء قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة هو

الغناء وقوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال مجاهد أنه الغناء والمزامير وأنتم سامدون قال ابن عباس: هو الغناء. ومن السنة ما خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من بعض مغازيه فجاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليٌّ وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. وفي حديث عائشة أن امرأة زفت إلى رجل من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة أما كان معهم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو. واللهو هو الغناء. وحكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فصعد النساء على السطوح يضربن بالدفوف ويقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع روى ابن عبد ربه في العقد الفريد قال بعض أهل التفسير في قول الله يزيد في الخلق ما يشاء هو الصوت الحسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري لما أعجبه صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. كان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاءٍ كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد بن أبي دؤاد إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء حتى أن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله. وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وإن أفراخها لتستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال في العقد واردف النبي صلى الله عليه وسلم الشريد فاستشهد من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحساناً لها فلماً أعياهم القدح في الشعر والقول فيه قالوا الشعر حسن ولا نرى إن يؤخذ بلحن حسن وأجازوا ذلك في القرآن وفي الآذان فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والآذان أحق بالتنزيه عنها وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر وما الفرق بين أن ينشد الرجل أتعرف رسماً كاطراد المذنب مرسلاً أو ليرفع بها صوته مرتجلاً وإنما

جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدندنة ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور. واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: اهديتم الفتاة إلى بعلها قالت نعم قال فبعثتم معها من يغني قالت: لا قال: أوما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم ولولا الحبة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم واحتجوا بحديث عبد الله بن اويس بن عم مالك وكان من أفضل رجال الزهري قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بجارية بظل قارع وهي تغني هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله حدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية حجرها عود فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود فقال له الشعبي: لا للأمير أن يستحي من عبده قال: صدفتم ثم فال للجارية هات ما عندك فأخذت العود وغنت ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظره ... إلىَّ التفاتاً أسلمته المحاجر فقال الشعبي: الصغير أكيسهما يريد الزير ثم قال: يا هذه أرخي من بمك وشدي من زيرك فقال له بشر: وما عملك قال: أظن العمل فيهما قال: صدقت ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه. أرق معاوية ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله (بن جعفر وكان ضيفه أنزله في دار عياله بالشام) وأخبره بخرجي إليه فذهب فأخبره فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان قال معاوية: مرة يرجع إلى مجلسه ثم قال من هذا قال: مجلس فلان قال مره يرجع إلى مجلسه

حتى لم يبق إلا مجلس رجل فقال من هذا قال مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين قال له معاوية فإن أذني عليلة فمره فليرجع إلى موضعه وكان موضع بديح المغنى فأمره ابن جعفر إلى موضعه فقال له معاوية داو أذني من علتها فتناول العود ثم غنى أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بجومانة الدراج فالمتثلم فحرك عبد الله بن جعفر رأسه فقال معاوية: لم حركت رأسك يا ابن جعفر قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لاقيت عندها لأبليت ولئن سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خصب فقال ابن جعفر لبديح هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه فعناه بديح وليس عندك شكر للتي جعلت ... ما أبيض من قادمات الشعر كالحمم وجددت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم فطرب معاوية طرباً شديداً وجعل يحرك رجله فقال ابن جعفر يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك فقال معاوية كل كريم طروب ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب. روى المبرد في الكامل قال: حدثت أن معاوية استمع على يزيد ليلة فسمع من عنده غناءً أعجبه فلما قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر قال: إذاً فاخثر له من العطاء. وحدثت أن معاوية قال لعمرو: أمض ينا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته حتى ننعي عليه أي نعيب عليه فعله يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فدخلا إليه وعنده سائب خاثر وهو يلقي على جوار لعبد الله فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية وثبت سائب مكانه وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية فرفع معاوية عمراً فأجلسه إلى جانبه ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه فأمر بالكراسي فألقيت وأخرج الجواري فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم ديار التي كادت ونحن على مشى ... تحل بنا لولا نجاءُ الركائب ومثلك قد أصيبت ليست بكنة ... ولا جارة ولا حليلة صاحب وردده الجواري عليه فحرك معاوية يديه وتحرك في مجلسه ثم مد رجليه يضرب بهما وجه

السرير فقال له عمرو: اتئد يا أمير المؤمنين فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالاً وأقل حركة فقال معاوية: اسكت لا أبالك فإن كل كريم طروب. وذكر ابن عميرة الضبي في ترجمة محمد ابن إسحاق بن سليم قاضي الجماعة بقرطبة أنه كان من العدول المرضيين والفقهاء المشهورين وله عند أهل بلاده حالة مذكورة منزلة في العلم والفضل معروفة وكان مع هيبته ورياسته حسن العشرة والأنس كريم النفس مات سنة 367 حدث القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث عرف بابن الصفاران رجلاً من أهل المشرق يعرف بالشيباني دخل الأندلس فكن بقرطبة على شاطئ الوادي بالعيون فخرج قاضي الجماعة ابن سليم يوماً لحاجة فأصابه مطر اضطره إلى أن دخل بدابته في دهليز الشيباني فوافقه فيه فرحب بالقاضي وسأله النزول فنزل وأدخله منزله وتفاوضا في الحديث فقال له: أصلح الله القاضي عندي جارية مدنية لم يسمع بأطيب من صوتها فإن أذنت أسمعتك عشراً من كتاب الله عزًّ وجل وأبياتاً فقال له: افعل فأمر الجارية فقرأت ثم أنشدت فاستحسن ذلك القاضي وعجب منه وكان على كمه دنانير فأخرجها وجعلها تحت الفرش الذي جلس عليه ولم يعلم بذلك صاحب المنزل فلما ارتفع المطر ركب القاضي وودعه الشيباني فدعا القاضي له ولجاريته ولا بأس هنا أن نختم هذا الفصل بأبيات في صنعه الغناء نقلها الشريف المرتضي في أمالية قال: أخبرنا المرزباني قال: حدثنا على بن هارون قال: حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله بصف جارية مغنية قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة العناء واستحسانه مثل هذه الأبيات ورائحة للعين فيها مخيلة ... إذا برقت لم تسق بطن صعيد من المستهلات الهموم على الفتى ... خفا يرقها في عصفر وعقود حسدت عليها كل شيء يمسها ... وما كنت لولا حبها بحسود وأصفر مثل الزعفران شربته ... على صوت صفراء الترائب رود كأن أميراً جالساً في ثيابها ... تؤمل رؤياه عيون وفود من البيض لم تسرح على أهل ثلة ... سواماً ولم ترفع حداج قعود تميت به البلبنا وقلوبنا ... مراراً وتحيهن بعد همود

إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود ظللنا بذاك الذيدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود ولا بأس أننا عند أهلنا ... شهود وما البابنا بشهود

الملك الناصر صلاح الدين

الملك الناصر صلاح الدين أشار إلينا أحد الأصدقاء إن نزيد القراء من سيرة أبي المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد أفراد الملة الإسلامية وأكبر أبطال القرون الغابرة من كان يعلم أعداءه كيف تكون الرجولية كما كان قال امبراطور الألمان الحالي وإن نتوسع في وقائعه ما أمكن لأن سيرته الشريفة جديرة بأن بتدارسها الملوك والسوقة ويهتدي بهديها ابن القرن الحاضر والقرون الآتية فهي مثال الحكمة كلما كررت حلت ومهما أطال الناظر بصره فيها زاد بصيرة وماذا عسانا نقول فيمن جمع الفضائل النفسية ورزق من الصبر والثبات وحب الموت حباً بأحياء الأمة وخادنه من أسباب التوفيق ما لم يكتب لأحد فخدم الإسلام والمسلمين بعقله وجهاده خدمة الخليفة الثاني ونفعهم بسيرته كما نفع المأمون العباسي وكان في زهده وشدته على قدم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز اجتمعت لصلاح الدين أرقى صفات تلزم الملوك والسلاطين وأسمى أخلاق الزاهدين العالمين والكرماء المحسنين وربي تربية رشيدة لا يكاد ينشأ عليها ابن أرقى البيوت المالكة لعهدنا في بلاد الغرب مع ما لهم من المدارس الجامعة والجمعيات وأسباب تهذيب النفس وتربية الملكات وإنارة العقول. فلاحت على وجهه مخايل السعادة وأخذت النجابة منذ نشأته تقدمه من حالة إلى حالة كما قالوا فنشأ كنف أبيه في قلعة تكريت وكان أبوه وعمه بها عمالاً لحاكم تلك الديار وكان أهله من دوين بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وهم أكراد روادية وفي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد وانتقلوا من هناك إلى تكريت وفيها ولد صلاح الدين. قال ابن خلكان أخبرني بعض أخل بيتهم وقد سألته هل نعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت من أهلنا يقولون أنهم خرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فنشأ موابه وتطيروا منه فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعملون فكان كما قال. قلنا تشاءموا بولادة صلاح الدين وذلك لأنه صادف أنه أخرج والده من قلعة تكريت بأمر صاحبها بهروز ليلة ولادته. وذكر في الروضتين إن قد اجتمع مرة السلطان صلاح الدين ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة بمصر وقد قعدا على طراحة واحدة والمجلس غاص بأرباب الدولتين يوم أراد نور الدين محمود بن زنكي أن نقطع خطبة المصريين وتقام دعوة بني العباس وعند الناس من الفرح والسرور ما قد أذهل العقول فبينا الناس

كذلك إذ تقدم نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر صلاح الدين ووالده نجم الدين والتفت إلى نجم الدين وقال له: يا مولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين ولد هذا السلطان فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه والتفت إلى الجماعة الذين حوله والقضاء والأمراء وقال: لكلام هذا النصراني حكاية عجيبة وذلك أنني ليلة رزقت هذا الولد يعني السلطان الملك الناصر أمني صاحب قلعة تكريت بالرحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي شيركوه رحمه الله وقتله النصراني وكنت قد التفت القلعة وصارت لي كالوطن فثقل عليَّ الخروج منها والتحول عنها إلى غيرها واغتنمت لذلك وفي ذلك الوقت جاءني البشير بولادته فتشاءمت به وتطيرت لما جرى على ولم أفرح به لم استبشر وخرجنا من القلعة وأنا على طيرتي به لا أكاد أذكره ولا أسميه وكان هذا النصراني معي كتاباً فلما رأى ما نزل بي من كراهية الطفل والتشاءم به استدعى مني أن آذن له في الكلام فأذنت له فقال لي: يا مولاي قد رأيت ما قد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي وأي شيء له من الذنب وبما استحق ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئاً وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر ثم ما يدر بك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت جليل المقدار فعطفني كلامه عليه وها هو قد أوقفني على ما كان قاله فتعجب الجماعة من هذا الاتفاق وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه. ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين. ونور الدين هذا تركي الأصل وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس ملك الشام ومصر بحيث قوي على رد غارات الصليبيين ودفعهم عن الأرض المقدسة. فصلاح الدين يوسف ليس إذاً من أصل وضيع ولا من أصل رفيع جداً تعلم القدر الذي كان يتعلم أبناء الكبراء ونشأ نشأة دينية راقية وأخذ حسن الخلق والعدل والشجاعة والكرم عن أبيه نجم الدين أيوب بن شاذي وكان عدلاً مرضياً كثير الصلاة والصلات عزير الصدقات والخيرات يجب العلماء ربي في الموصل ونشأ شجاعاً باسلاً وخدم السلطان محمد بن ملكشاه فرأى منه أمانة وعقلاً وسداداً وشهامة فولاه قلعة تكريت فقام في ولايتها أحسن قيام وضبطها أكرم ضبط وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث حتى عمرت

أرضها وحسن حال أهلها وأمنت سبلها ثم أضيفت إليه ولايتها وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة وكان لا يسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ما يستعين به على صلاح حاله. وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أيوب في قلعة تكريت مع أخيه وكان شجاعاً باسلاً مثل أخيه فاتفق أن أسد الدين نزل من القلعة يوماً لبعض شأنه ثم عاد إليها وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارص وكان رجلاً نصرانياً فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعداً إلى القلعة فعبث به بكلمة ممضة فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة وكان مهيباً فلم بتجاسر أحد على معارضته في أمر النصراني فبلغ بهروز صاحب قلعى تكريب ما جرى وحضر عنده من خوفه من جرأة أسد الدين وأنه ذو عشيرة كبيرة وإن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا وأنه ربما كان منهما أمر تخشى عاقبته ويصعب استدراكه فكتب إلى نجم الدين ينكر عليه ما جرى من أخيه ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيره صحبة الكتاب فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة وقعد هو وأخوه عماد الدين بالموصل فأكرمهما واقطعهما الاقطاعات الحسنة ثم اتصلا بنور الدين محمود بن زنكي إلى أن أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر ومعه ابن أخيه صلاح الدين. وبنور الدين تخرج صلاح الدين فقد كان نور الدين يرى له ويؤثره ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد وسافر صلاح الدين إلى مصر وهو كاره للسفر فجعله عمه أسد الدين شيركوه مقدم عسكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة وكان صلاح الدين في السابعة والعشرين من عمره فعرف أسد الدين حال مصر وكشف أحوالها والدولة الفاطمية فيها مشرفة على الزوال وقد ضعفت جنيديتها ودب الفشل والهرم في البيت العبيدي وصارت خلافتهم ألعوبة في يد كل ذي قوة. والسبب في دخول أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر أن الوزير شاور هرب من مصر واستغاث في الشام بنور الدين من ضرغام بن عامر لأنه قهره وأخذ مكانه في الوزارة ولما وصل أسد الدين شيركوه وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها الضرغام وحصل لشاور مقصوده وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر

بأسد الدين شيركوه واستنجد بالفرنج عليه وحصروه في بلبيس وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال طمع في الاستيلاء عليها فبلغ شاوراً أن نور الدين قد زين له الاستيلاء على مصر وأن أسد الدين لا بد له من قصدها ثانية فكاتب الإفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنهم منها تمكيناً كلياًَ ليعينوه على استئصال أعدائه فبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه وكان توجههم من الشام في سنة 562. استولى أسد الدين على أزمة الوزارة وقتل شارواً الوزير قبله بأمر الخليفة الفاطمي جرياً على عادة أجداده في الوزارة وذلك في ربيع الأول سنة 564 كان صلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياستهومات أسد الدين بعد شهرين وخمسة أيام من توليه الوزارة للعاضد الفاطمي فتولاها صلاح الدين بعده وتمهدن القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه فتال عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد ومن حين اسئب له الأمر مازال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد وغشي الناس من سحائب الأفضال والأنعام ما لم يؤرخ من غير تلك الأيام وهذا كله وهو وزير متابع القوم لكنه يقول بمذهب أهل السنة مارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين وهو يكرم كل وافد ولا يخيب أحداً قصده. بهذا الكرم والعقل دانت مصر لصلاح الدين وأصبح فيها الحاكم المتحكم واصطناع الفضلاء وتقريب العقلاء والأفضال على العلماء والشعراء من آكد الطرق في بلوغ المقصود وتهيئة أسباب الملك. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان ولما ثبتت قدم صلاح الدين في مصر وأزال المخالفين كما قال ابن الأثير وضعف أمر العاضد ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره

الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين فلم يصغ نور الدين إلى قوله وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه واتفق أن العاضد مرض وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة فاستشار أمراءه في كيفية الابتداء بالخطبة العباسية فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها ومنهم من خاف ذلك إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين فلما كان أول جمعة من المحرم 567 خطب للمستضيء بأمر الله تعالى العباسي فلم ينكر أحد ذلك فلما كانت الجمعة الثالثة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بانقطاع الخطبة باسمه وقالوا إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما كان فيه وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد ووكل بحفظهم وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في أيوان بالقصر وجعل عندهم من يحفظهم وأخرج من كان فيه من العبيد والأماء فاعتق البعض ووهب البعض وباع البعض وأخلى القصر من أهله وسكانه. وكان ابتداء الدولة العبيدية أو الفاطمية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ومقامهم بمصر مائتي سنة وملك منهم أربعة عشر ملكاً آخرهم العاضد وأولهم المهدي. أزال صلاح الدين دولة العبيدين على أهون سبب لأنها لم تعد صالحة للبقاء وكفى أن أمراءها أخذوا يراسلون الإفرنج لتسلم لهم مناصبهم كما فعل جماعة عمارة اليمني المقتبس م3 ص177 وأخذوا يراسلون الفرنج في صقلية وساحل الشام ليقلبوا الحكومة الصلاحية ويعيدوا الدولة العبيدية فشعر بهم صلاح الدين وصلبهم وكما فعل غير واحد من ملوك الطوائف في الأندلس فأنشأوا يحتمون بجيرانهم وأعدائهم ويستعينون بهم على قتال ذويهم وأبناء ملتهم فكان ذلك من أهم الأمور في طمع الإسبانيين ببلاد الأندلس واسترجاعها بعد

أن حكمها العرب قروناً. عن علي بن عيسى بن الجراح قال: سألت أولاد بني أمية ما سبب زوال دولتكم قال أربع خصال أولها أن وزراءنا كتموا عنا ما يجب إظهاره لنا والثانية أن جباة خراجنا ظلموا الناس فاحتلوا عن أوطانهم فخربت بيوت أموالنا والثالثة انقطعت الأرزاق عن الجند فتركوا طاعتنا والرابعة أيس الناس من إنصافنا فاستراحوا إلى غيرنا فهذا كان سبب زوال دولتنا. قلنا وهو سبب ذهاب أكثر الدول وهذه الخصال كانت ولا شك موجودة في الفاطمية. قال صاحب الكامل: ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وباع منه كثيراً وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف والحبل الياقوت وغيرهما ومن الكتب المنتجة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. وهكذا عادت إلى مصر الخطبة والسكة باسم الخليفة العباسي بعد أن انقطعت دهراً طويلاً فأرسل المستضيء بأمر الله خلعة إلى نور الدين في الشام وأخرى أقل من خلعته إلى صلاح الدين في مصر. ثم حصلت وحشة بين نور الدين وصلاح الدين وذلك أن الأول طلب إلى الثاني أن يجمع العساكر المصرية ويأتي إلى الكرك ليجمع هو العساكر الشامية ويأتيها ليخلصوها من الإفرنج فبعد أن صدع بالأمر أرسل إليه كتاباً يعتذر فيه عن الوصول باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه وكان سبب تقاعد صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين فإذا لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده فجمع أهله ومنهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحازمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستظمه وكان ذا رأي وفكر وعقل وقال لتقي الدين: اقعد وسبه وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم

من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال: لا فقال: والله لو رأيت أنا وخالك شهاب الدين نور الدين بم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر من الثبات على سرجه ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه وهذه البلاد له وقد أقامك فيها وإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك فما ههنا من يمتنع عليك وقال بجماعته كلهم: قوموا عنا فنحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على سرك وما في نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد وجعلك أهم الأمور وأولاها بالقصد ولو قصدك لم تر معك أحداً من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه وأما بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل إليه في المعنى وتقول أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده والأيام تندرج والله كل وقت في شأن. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به والده فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب وتوفي نور الدين ولم يقصده وملك صلاح الدين البلاد قال ابن الأثير وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها. هذا هو التوفيق الذي حالف صلاح الدين دخل مصر كارهاً مع عمه فصار قائد جندها ثم تولى وزارتها فملكها وقلب دولة العبيديين وكل ذلك بأخذه بالحزم في أموره واستشارته العقلاء من أهله ورجاله وكان من طبعه أن لا يبيت أمراً بدون مشورة هكذا كان منذ ابتدأ شاباً إلى أن استولى بعد وفاة نور الدين سنة 569 على الشام إلى أن استخلص بيت المقدس من أيدي الإفرنج وطردهم من أكثر مدن ساحل الشام يعمل بقول بشار: إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن ... برأي لبيت أو نصيحة حازم ولا تستحب الشوري عليك عضاضة ... فإن الخوافي رافدات القوادم

وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح اسمعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه فسار إلى حلب من دمشق فلما علم صلاح الدين أن الملك صالح صبي لا يستقل بالأمن ولا ينهض بأعباء الملك واختلت الأحوال بالشام تجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها وقصد دمشق أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم سلخ سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها ففرح الناس به وانفق مالاً جزيلاً وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها ثم استولى على تلك البلاد إلى الفرات وما بعد الفرات وتوفي الملك الصالح بعد مدة قليلة فأخذ حلب ودانت له البلاد وفتح بيت المقدس بعد أن ملكه الإفرنج نحو مائتي سنة ولم يفشل في وقعة من وقائعه مع الصليبيين على كثرة عددهم وعديدهم أللهم إلى في عكا فاستعادوها منه بعد أن فتحها بواسطة ملك الإنكليز إذ ذاك ريشاردس قلب الأسد. إن عدل الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد أدهش الأوربيين في ذاك العهد فكانوا هم يعاهدون فينكثون أما هو فما عاهد ونكث قط وكثيراً ما كان بعض خاصته من متعصبة المشايخ الذين لا يعرفون سياسة الملك ولا حسن إدارة الفتوحات يريدونه على أن يعامل الصليبيين بعملهم في الانتقام من أسراهم عنده كما فعل أولئك وقتلوا مرة مئات من أسرى المسلمين فما كان جوابه إلا الإعراض عن مقترحاتهم والعمل بسنة اللين واللطف حتى استهوى القلوب الشاردة وأحبه أعداؤه قبل أوليائه وهذا من أندر النوادر في الملوك وناهيك بعصره الذي كان عصر التعصب الديني في الغرب والشرق أيضاً فالصليبيون جاؤوا هذه الديار مدفوعين بعوامل الدين واستقاذ بيت المقدس من المسلمين وهؤلاء قاموا باسترجاع البلاد بهذا العامل القوي أيضاً. قال عبد المنعم الجلياني أحد شعراء الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة يعلل فيها السبب الذي من أجله أحب الفرنج صلاح الدين: وفيت لهم حتى أحبوك ساطياً ... بهم ووفاء العهد قيد المخاصم فحانوا فخافوا فانتدوا فتلاوموا ... فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائم وخص صلاح الدين بالنصر إذا أتى ... بقلب سليم راحماً وللمسالم فحطوا بأرجاء الهياكل صورة ... لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم يدين لها نس ويرقى بوضعها ... ويكتبه يشفى به في التمائم

ملك مصر والشام والعراق واليمن والملك لما يستتب له على ما يجب يستطيع بعقله وإخلاصه لأمته ووطنه أن يدفع غارات الأوربيين عن أرض الشام ومصر وبعد أن رسخت أقدامهم قرنين كاملين واستجاشوا لهم الأنصار وحشروا من جميع أمم أوربا العدد الكثير وبذلوا في ذلك من المال والرجال ما يقدر بالملايين والربوات أن هذا من عجائب التاريخ. تقف كتائب من العرب والترك والأكراد في موقف القتال مع الفرنسوي والألماني والإنكليزي والمجري والإيطالي والإسباني والنمساوي والسويسري وغيرهم من أمم الإفرنج فيبز الأولون الآخرون على قلة عددهم. ولكن الجيوش قد لا تؤتي من قلة أكثر مما تؤتى من سوء السياسة وعتو القواد والاستهانة بالشورى. وما كان المدافع كالمهاجم في وقت من الأوقات. ومع هذا الملك الضخم الذي كان لصلاح الدين كان يعيش المتوسطين وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف (المقتبس م8 ص21) فقد كانت قطيعة الصلح بينه وبين الإفرنج في القدس مثلاً أن يؤدوا عن كل رجل عشرين ديناراً وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل ذكر صغيراً وأنثى ديناراً واحداً فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيراً فأقام صلاح الدين يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ويحبو بها الفقراء والعلماء والزهاد والوافدين عليه ولم يرحل عن القدس ومعه من المال الذي جبي له شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار. قال في البرق سمعت الملك العادل (أخو صلاح الدين) يوماً في أثناء حديثه في ناديه وهو يجري ذكر إفراط السلطان في إياديه يقول: إني توليت قطيعة القدس فأنفذت له ليلة سبعين ألف دينار فجاءني خازنه بكرة وقال: نريد اليوم ما نخرجه في الأنفاق فما عندنا مما كان بالأمس بشيء فنفذت له ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال. قالوا: وكان يرضى من الأعمال لما تحمل عفواً وكله يخرج في الجود والجهاد. وكان يكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف ومجلسه منزه عن الهزء ومحالفه حافلة بأهل الفضل قال العماد وما سمعت له قط كلمة تسقط ولا لفظة فظة تسخط يؤثر سماع الأحاديث ويكلم العلماء عنده في العلم الشرعي وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان

بل يعتقد أنه مجالس أخ من أخوانه وكان حليماً مقيلاً للعثرات متجاوزاً عن الهفوات تقياً نقياً صفياً يغضي لا يغضب مارد سائلاً ولا صد نائلاًَ ولا أخجل قائلاً ولا خيب آملاً. أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً وإن لم يكن بعبارة الفقهاء وكان شديداً على الفلاسفة والمعطلة والدهربة وكان مواظباً على صلواته وصيامه عادلاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس هام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراًَ على أنه كان في جميع أوقاته قابلاً لما يعرض عليه من القصص كاشفاً لما ينهي إليه من المظالم. كان عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات لا يهوله أمر وصل في ليلة واحدة من الإفرنج نيف سبعون مركباً إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس وكان يعطي دستوراً (أي يسرح عسكره) في أوائل الشتاء ويبقي في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف مع هذا تراه صابراً هاجراً في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه قانماً من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة. وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريباً منهم وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ويخرق العساكر من الميمنة والمسيرة يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره. انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكوش والعلم وهو ثابت القدم في نفر يسير فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم فإن الضعف والهلاك كان فيه أكثر ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة والمسلمون لا يتوقعونها وكانت المصلحة في الصلح. ولقد كان يركب للحرب وهو على غاية المرض كما فعل يوم عكا اعترته دمامل ظهرت

عليه من وسطه إلى ركبته بحيث لا يستطيع الجلوس وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل وكان يعجب من ذلك فيقول إذا ركبت يزول عني المها حتى أنزل. ومع كل هذه الصفات التي نعدد منها ولا نعدها لكثرتها وإجماع المؤرخين من العرب والإفرنج عليها كان السلطان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم عارفاً بسيرهم وأحوالهم حافظاً لأنساب خيلهم عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها بحيث كان أصحابه يستفيدون محاضرة منه مالا يسمعون من غيره وكان يستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه وكثيراً ما ينشد قولهم: وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا فكدت أوقظ من حولي به فرحاً ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفاً ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نبل المني فاستحالت غبظتي أسفاً وكان يعجبه قول ابن المنجم في خضاب الشيب وما خضب الناس البياض لقبحه ... وأقبح منه حين يظهر ناصله ولكنه مات الشباب فسودت ... على السم من حزن عليه منازله وكان يسأل الواحد منهم عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير وطاهر السمع فلا يحب أن يسع عن أحد إلا بالخير وطاهر اللسان فما شوهد مولعاً بشتم قط حسن العهد والوفاء عما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه جبر قلبه وأعطاه خبز مخلفه وسلمه إلى من يكفله ويعني بتربيته وكان لا يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه. قال ابن شداد: ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه إمارات الخوف والجزع فقال للترجمان: من أي شيء يخاف فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير فرق له ومن عليه وأطقه ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء

متواترة الدق على صدرها فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها فقالت اللصوص المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا بنتي وبت البارحة استغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك: السلطان هو أرحم ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك فرق لها ودمعت عينه وحركته مروءته وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها ويدفع له ثنمها ويحضرها وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه فما كان إلا أن وقع نظرها عليها فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقوله فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم. ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالبشر والقبول دلالة على حرية نفسه وسعة صدره وقد كان يوماً بعض خدمه يلعبون بس موزة (بانتوفل) في ناحية فوقعت على رأسه فأدار وجهه كأنه لم يحدث شيء وتظاهر بأنه لم ير شيئاً وكان الحافظ ابن عساكر يدخل يوماً: ما هذا؟ كنا في عهد نور الدين ندخل هذا المكان والناس كأن على رؤوسهم الطير إشارة إلى أن صلاح الدين يتساهل مع خدمه ملق حبلهم على غاربهم. لما فتح صلاح الدين القدس وغيرها من السواحل ولم يبق في أيدي الصليبين إلا عكا وصور وغيرها من البلاد التي لا شأن لها ورأى أن المشيب أنذره بقرب الأجل عقد العزم على الحج إلى بيت الله الحرام فلما بلغ القاضي الفاضل كتب إليه مشيراً بتبطيله: إن الفرنج لم يخرجوا بعد من الشام ولا سلوا عن القدس ولا وثق بعهدهم في الصلح فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلاطيننا سفراً مقدراً معلوماً مدة الغيبة فيه ان يسيروا ليلة فيصبحوا القدس على غفلة فيدخلوا إليه والعياذ بالله ويفرط مديد الإسلام ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر ومن العثارت التي لا تقال إلى أن يقول: يا مولانا مظالم الخلق كشفها أهم من كل ما يتقرب به إلى الله وما هي بواحدة في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يستغرب معه وقوع القطر ومن تسلط المقطعين على

المنقطعين ما لا ينادى وليده وفي وادي بردى والزبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دماً ما لا زاجر له وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة ومن المهمات إقامة وجوع الدخل وتقدير الخرج بحسبها. ملأت أوقاف صلاح الدين مصر والشام وهي غير منسوبة إليه قال اين خلكان ولقد أفكرت في نفسي من أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة فإنه فعل في هذه الدنيا الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر لما مات صلاح الدين لم يخلق مالاً عن 57عاماً وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً وابنة ولم يخلف سوى دينار واحد بعد أن دخلت في يديه ثروة الفاطميين وجبي إليه خراج البلاد المفتتحة وحاز مغانم الصليبيين مران تغيب السلطان صلاح الدين أربع سنين في فتح القدس وغيرها من بلاد الساحل وفلسطين لم يدخل خلالها دمشق مع أنه كان يحب البلد ويؤثر فيه الإقامة على سائر البلاد فرأى أولاده الأفضل والظاهر والظافر وأولاده الصغار وأقام في دمشق أياماً يتصيد هو وأخوه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا وكأنه وجد به راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل ونصب النهار وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه وبينما هو على ذلك ونفسه تحدثه بزيارة مصر بعد طول الغيبة عنها ناداه مولاه فلباه فأبكى المقل وأدمى الحناجر. مات رحمه الله والألسن تذكره بالمحمدة حتى قيام الساعة فكان رجلاً بعد بعشرات الملايين وكم من ألوف لا يساوون واحداً يساوي ألوفاً. مات وقد زلزل المسلمون لفقده كما كتب القاضي الفاضل في ساعة موته إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب من بطاقة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أن زلزلة الساعى شيء عظيم كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الخناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله عزَّ وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء

وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وأنا عليك يا يوسف لمحزون وأما الوصايا مما يحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائج الأمر فإنه أن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام.

صفحة منسية

صفحة منسية أفضنا في السنة الأولى للمقتبس (ص30و40و110) في الكلام على ترجمة الوهراني ونكتة وكتابة وهو أحد أدباء عصر صلاح الدين وقد ظفرنا في الجزء الثالث عشر من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري من مخطوطات دار الكتب الخديوية بمصر على ما يأتي بشأن شكوى الجوامع في دمشق من سوء حالة الأوقاف في أيامه قال: الوهراني ليب أخترع طريقاً، وأفنزع عذراء لم تك رحيقاً، طلعت شمسه من المغرب ولم يغلق للرحمة باب، ولا كانت من مقدمات النذر للألباب، وقد والدولة الصلاحية قد استعلت، ويد تصرفها على البلاد قد استولت، والمجلس الناصري معمود باللإجلاء مأهول بالقاضي الفاضل وأقرانه من الفضلاء، وريح الأدب قد هبت، ووفود الخواطر إلى تلك المشاعر قد لبت، والحظ الفاضل قد أخذ معه حظ كل فأخذ ما للكل ولم يترك لهم إلا الفاضل، وكان يغر على كل بيت فكر ويرى أن لا نصيب لغيره على محياه حذر، وكان الوهراني لوذعياً تحميه لألأوه، والمعيا تريه البصيرة آراؤه، فخاف نفثات ذلك الصل، وعبثات ذلك السيف الذي لا يكل، فمال إلى السحف، إذ كان لا يحد على تلبيه ولا ينافس في ترديه وتحليه، وجعل هذا سبباً لإظهار ما عنده من الإحسان، وتكلم ولم يخف عثرة القلم ولا زلة اللسان، فرفرف عليه جانب من الحنو الفاضلي، ورق عليه كما يرق غسق البابلي، وهنيت له نغبة من العيش قدر عليه رزقها وقرر له رفقها، وولي خطابة المسجد الجامع بداريا، وقيل له الآن أنت وحي ليلى وأدر ريا، وكان إلى هذا ليس له من حاظ الدين ما يزعه، ولا من حاضر العقل ما ينزعه، فرداه سوء التجري من شاهقه وألقاه عدم التحري لقى لبوائقه، وأطلق لسانه فعثر في طلقه، وكبه في طبقه، وتخرص المنام الذي أتى فيه بالأكاذيب، وحسن باطله بحسن الترتيب، وذكر فيه الملائكة الكرام، وانهتك عرض السلف الحرام، وغير ذلك من كباره التي لا تطاق، ومنكراته التي لا يصبر عليها، وقد ذكرت بعضها هنا وإنما ذكرته لئلا أخلي هذا الكتاب منه، وهو من المسموع بهم والمسئول عنهم، وأنا استغفر الله مما ذكرت من دده، وأوردت من أباطيله، وعقدت البيان على القلم حين تسطير أضاليله، وإن كنت لم أوردها كالصد (؟) الحالي، وأنا فيه ناقل لا قائل ومن الله العصمة وبه السلام. ومن نثره الرقعة التي له عن جامع دمشق، لما حكمت يد الضياع، في مساجد الضياع وارتج باب العدل وغلق، ونبذ كتاب الله وحلق، فزعت المساجد إلى جلق، وهو يومئذ

أميرها، وعليه مدار أمورها، فلما دخلوا عليه من بابه، واجتمعوا تحت قبته ومحرابه كتب لهم جامع النيرب قصة إليه، وتوصلوا إلى من عرضها عليه، فكانت الرقعة مسطورة على هذه الصورة. المماليك مساجد الكورة يقبلون الأرض بين يدي الملك المعظم، الرفيع المكرم، كهف الدين جمال الإسلاموالمسلمين، بيت الاتقياء والصالحين، مدفن الأنبياء والمرسلين معتد الملتين، صاحب الدولتين، بيه أمير المؤمنين أعلا الله مناره، وأيد أنصاره، وعمر بالتوحيد أقطاره، وينهون إليه ما يقاسون من جور العمال. وتضييع الأعمال. ونهب الوقوف. وخراب الحيطان والسقوف. قد ألفهم الظلمة والظلام. وأنكرهم المؤذن والإمام. فلا تسمع فيهم إلا آذان البوم. وتسبيح الغراب. قد ركعت أركانها. وسجدت سقوفها وحيطانها. تبكي عليها النواقيس. وترثي لها البيع والكنائس. يا ويح من يرثي له الشامت. وقد فزهنا أيها الملك إلى بابك. وأوينا تحت جناحك. فافعل بنا ما هو الأهل بك والسلام. فلما وقف على هذه الحكاية. وفهم مقتضى هذه الشكاية. استوى جالساً في مقعده وضرب بيده على يد. وقال: وكيف أم للإنسان ما تمنى ثم رفع رأسه وغنى وما شرب العشاق إلا بقيتي ... ولا وردوا في الحب إلا على وردي ثم أشرف عليهم من إيوانه. بين حفدته وأعوانه. وأقبل يقلب طرفه في الجموع ويكفكف أسراب الدموع. لما يرى من اختلالهم وفساد حالهم. فابتدر جامع المزة للمقال. فتقدم بين يدي الملك وقال: الحمد لله الذي قضى علينا بالخراب. وصير أموالنا كالسراب. وجعنا مأوى للبوم والغراب. أحمده حمد من كان فقيراً فاستغنى. وأدرك بما الوقف ما تمنى. وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له شهادة عالم عامل. متحمل لثقل الأمانة حامل. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين الأكرمين. أما بعد أيها الملك السعيد ثبت الله قواعد أركانه وشيد ما وهى من بنيانك. فإن الخراب قد استولى على المساجد حتى خلت من الراكع والساجد. فأصبحت جوامع الغوطة غيطان. لا سقوف لها ولا حيطان. ومشاهد البقاع. صفصفاً كالقاع. ومساجد حوران. مخازن وأفران. فكم من بنية لعب الجور بأربابها. ونسج العنكبوت وكم من بيوت الله أغلقت دون أصحابها فعشعش الحمام في محرابها. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر

فيها اسمه وسعى في خرابها. وقد دخل العمال أيها الملك على الوقوف. بحجة العمارة والسقوف. فاتفقت علينا الأهواء. واختلفت فينا الأمطار والأنواء. فلا يزال بنها. وتأخذه السيول والأمطار. حتى يمنحني رسمه. ولا يبقى منه إلا اسمه. وأنت أيها الملك عمادنا. وإليك بعد الله معادنا فالتفت أيها الملك إلى مالنا. وانظر في مصالح أحوالنا. يصلح الله أحوالك ويسدد أقوالك وأفعالك والسلام. ثم جلس فقال الملك: هؤلاء المساجد. فما بال المشاهد. فبرز مشهد برزة متوكياً على مشهد الأرزة وهو يصلصل ويصول ويلطم وجهه ويقول: كلما حاولت أشكو قصتي ... لا ألاقي غير ذي قلب جريح يتشكى مثل شكواي له ... يا لقومي ما عليها مستريح أما بعد أيها الملك السعيد أدام الله جمالك وبلغك في العدو آمالك فإن مقام إبراهيم، أصبح في كل وا يهيم، ومغارة الدم، لا تستفيق من الذم، ومسجد الكهف، لا يفتر من اللهف، وقير شيث، قد استأصله الخبيث، وقبر نوح، يبكي وينوح، وقبر جيلة، مالنا في عمارته حيلة، وقبرإلياس، قد تعوضنا عنه باليأس، فأمست المشاهد كأربابها، وأصبحت رميماً كأصحابها، قد محتها الغوادي، وحد بها الحادي، جرت الرياح على رسوم ديارها ... فكأنما كانوا على ميعاد فقال الملك رب طارق على غير وعد، وفي كل واد بنو سعد، ثم استفتح المقال بأن قال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، نصب صراط العدل وسواه، وأمده بعونه وقواه، فمن أضل ممن اتبع هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، أحمده على ما رزقني من الأحمال، وأشكره على ذهاب العرض والجاه والمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً سيد الأولين والآخرين رسول الله، أما بعد معشر المتكلمين، وطائفة المساجد المتظلمين، فإنه والله ما يصل إليكم من الجور إلا ما يفضل عني، ولا ينتهي إليكم إلا ما يستعار مني، ولولا أن أركاني سليمة، وبنيتي قديمة، لأصبح جامع بني أمية، يغني عليه يا دار مية، وقد والله شرقت بغصتكم، وحرت في قصتكم، إن رفعت أمركم إلى الملك العادل، ردكم إلى الشيخ العاذل، فلا يرعى لكم حرمة، ولا يراقب إلا ولا ذمة، شكوى الجريح إلى الغربان والرخم، والرأي عندي أن تكتبوا للشيخ قصة، ولا تتركوا

في صدوركم غصة، وأن تجعلوا في الكتاب أنواعاً من الكتاب؟ فإن التأم رأيه برأيكم، إلا فالسلطان من ورائكم، أقروا قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فبادر الغلام بالدواة والأقلام. فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم واكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من ملك الجوامع بجيرون. إلى أبي سعيد ابن أبي عصرون لقد اسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي أما بعد يا عدرا فقد هجت الألم. وأبهمت الظلم. ومن استرعى ظالماً فقد ظلم. كم تغاضينا عن خياناتك. وتغافلنا عن جناياتك. حتى أكتنزت الأموال وبسببه طالت نياحك. ولأجله كنت تسبح وتصيح. حتى غبطك المسيح. لقد عجبت أيها الشيخ من حالك. في ابتداء حالك. ومن فساد أمرك في آخر عمرك. صليت بالمسوح والقيد. حتى ظفرت بأنواع الصيد. وقلدت الأمور العظام. حتى تقلدت الذنوب العظام. إن كنت في العمل إلا كما في المثل صلى وصام لأمر كان يأمله ... حتى حواه فما صلى ولا صاما عرفني أيها الشيخ المفتون. والبائع المغبون. لم بعت الباقية بالفانية. والقاصية بالدانية. إن فعلت ذلك إلا لعلة. أو لتحقيق حلة. أما إن تكون استطبت السكباج واستليقت الديباج. وأما أن تصدق أهل الأحقاد. في أنك نصري الاعتقاد لا تقول بالنجعة ولا تصدق بالرجعة. وكلاهما أنت فيه ملوم. ومعاقب ومذموم. وحسبك أنه قد بلغني ما أنت عليه من قلة الوفاء. مع هؤلاء الضعفاء. فاحسم عنهم أذاهم. ولا تمكن منهم عداهم والسلام الخ.

معجم البلدان

معجم البلدان في الكتب ملا يبلى جديده كلما توالى الجديدان ومنها كتب ياقوت الرومي. وكتابه معجم البلدان إن لم يكن أفضل كتبه فهو من أفضلها على أنه لم يطبع به من الكتب حتى الآن غير معجم الأدباء والمشترك وضعاً والمختلف صقعاً أما كتابه معجم الشعراء وتاريخه المبدأ والمآل وكتاب الدول ومجموع كلام أبي على الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب وأخبار المتنبي وعيره فهذه لن يبلغنا أنها طبعت ولا نعرف إن كانت باقية في إحدى خزائن المخطوطات في الشرق والغرب أو دثرت مع ما دثر من آثار سلفنا وثمرات عقولهم. أخذ عبد الله شهاب الدين الرومي أسيراً من الروم وهو صبي فقيل له الرومي اشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي المقتبس م1 ص489 فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً وقد جعله في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره وقرأ شيئاً من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام ثم اعتقه مولاه سنة 596 فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد وعاد مولاه فألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلي كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً. وبذلك سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ودخل خوارزم وغيرها وبعبارة أخصر كما قال عن نفسه أنه جاء البلاد ما بين جيحون والنيل. تعود ياقوت في رحلاته الحالات المختلفة وألف من زمانه كل حالة حتى عده صاحب كتاب الفلاكة والمغلوكين في جملة البائسن ومنذ ذكر يوماً أحدهم في بع أسواق دمشق وذكر رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان منحرفاً عنه فيما يقال وثار عليه الناس وكادوا يقتلونه ففر إلى حلب ثم إلى الموصل وأربل ودخل خراسان ومرو وخوارزم فانهزم منها من التتار بنفسه وقاسى شدائد وبلغ الموصل وهو فقير داثر منذ وقع له هذا وما زال يغتني بعض الشيء تارة ويفتقر أخرى وكثيراً ما يخرج من بلد كيوم ولدته أمه لا مال ولا نوال قال جمال الدين القفطي في تاريخ النحاة أنه كتب إليه رسالة من الموصل شرحاً لما لتم على خراسان ومنها كان المملوك لما فارق مولاه أراد استعتاب الدهر الجامح

واستدرار حلب الزمان الجائح اغتراراً بأن الحركة بركة والاغتراب داعية الاكتساب فامتطى غارب الأمل إلى الغربة وركب ركوب التطواف مع كل صحبة فلم يرث له دهره الخؤون ولا رق له زمانه المفتون إن الليالي والأيام لو سئلت ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا وهيهات مع حرفة الأدب بلوغ وطر أو إدراك أرب ومع عبوس الحظ ابتسام الدهر الكظ ولم أزل مع الدهر في تفنيذ وعتاب حتى رضيت ن الغنيمة بالإياب. . . والقفطي هو وزير حلب الذي يروي عنه ياقوت كثيراً في كتبه بقوله وحدثني الصاحب الأكرم والغالب أنه كان من المحسنين لياقوت ولا يعرف الفضل إلا ذووه لأن القفطي كان عالماً أيضاً وهو صاحب أخبار الحكماء المقتبس م5 ص335 واحتكاك ياقوت بأمثال القفطي من أرباب الدولة هيأ له الإطلاع على ما يتعذر على كثير من المشتغلين بالتأليف أن يطلعوا عليه مثل مقدار الجباية في قطر وبعض أمور تتعلق بالبلاد وترى من ذلك نموذجاً في مادة حلب فإن ياقوت جوَّد الكلام على هذه المدينة أكثر من تجويده على دمشق في الجملة لأن الصاحب الأكرم أطلعه على أمور كثيرة ولذلك ترى المؤلف قضى شطراً من حياته في حلب وما نظنها كانت إلا دون دمشق بمكانتها العلمية والاقتصادية ولكن الرجل الواحد تكبر به البلد وتعظم في النفوس ومئات الألوف من الناس قد لا يكون فيهم الرجل الرشيد فتزدريهم وتتخطاهم إلى غيرهم. وقد اهدى ياقوت معجم البلدان إلى القاضي الأكرم وزير حلب فقال في ذلك: إذ كنت منذ وجدت في حل وترحال ومبارز للزمان ونزال أسأل منه سلماً ولا يزيدني إلا هضماً فلما قضت نفسي من السير ما قضت ... على ما بلت من شدة وليان بعد طول مكابدة حرقة الحرفة وانتظار تبلج ظلام الحظ يوماً من سدفة. علقت بحبل من حبال ابن يوسف ... أمنت به من طارق الحدثان فرد عني صرف الدهر والمحن ورفه خاطري عن معاندة الزمن لما تغطيت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فأصبحت من كنفه في حرز حريز ومن إحسانه وتكرمه في موطن عزيز فلو تسأل الأيام عني لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني

أهدى ياقوت كتابه إلى صاحبه الذي عرف قدره وهكذا تجده يصرح ولا يحمجم في ممادح البلاد وبالعكس فقد قال في مرو ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها فارقها سنة 616هـ - أي قبل وفاته بعشر سنين إلى الممات لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها قال وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت أرتع فيها واقتبس من فوائدها وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد وأكثر فوائد هذا الكتاب معجم البلدان وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن. تقرأ حرية ياقوت في تآليفه وكلامه على البلدان والسكان فاقرأ هذا الفصل وهو صورة من أخلاقه وقل معنا أنه لا يقل عن اعتراف الفيلسوف جان جاك روسو لكنه في غير محرم قال: وكنت قدمت نيسابور في سنة 613 وهي الشاذياخ فاستطبتها وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته واشتريت بها جارية تركية لا أرى أن الله تعالى أحسن منها خلقاً وخلقاً وصادفت من نفسي محلا كريماً ثم أبطرتني النعمة فاحتجبت بضيق اليد فبعتها فامتنع علي القرار وجانبت المأكول والمشروب حتى أشرفت على البوار فأشار علي بعض النصحاء باسترجاعها فعمدت لذلك واجتهدت بكل ما أمكن فلم يكن إلى ذلك سبيل لأن الذي اشتراها كان متمولاً وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت مني وكا لها إلى ميل يضاعف ميلي إليها فخاطبت مولاها في ردها علي بما أوجبت به على نفسها عقوبة فقلت في ذلك: ألا هل ليالي الشاذياخ تؤب ... فإني إليها ما حييت طروب بلاد بها تصبي الصبا ويشوقنا ال ... شمال ويقتاد القلوب جنوب لذاك فؤادي لا يزال مروعاً ... ودمعي لفقدان الحبيب سكوب ويوم فراق لم يرده ملالة ... محب ولم يجمع عليه حبيب ولم يحد حاد بالرحيل ولم يزع ... عن الألف حزن أو يجول كئيب أئن ومن أهواه يسمع أنتي ... وبدعو غرامي وجده فيجيب وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي ... شهيق وأنفاس له ونحيب على أن دهري لم يزل مد عرفته ... يشتت خلان الصفا ويريب ألا يا حبيباً حال دون نهائه ... على القرب باب محكم ورقيب

فمن يصح من دار الخمار فليس من ... خمار خمارٍ للمحب طبيب بنفسي أفدي من أحب وصاله ... ويهوى وصالي ميله ويثيب ونبذل جدينا لشمل يضمنا ... ويأبى زماني إن ذا لعجيب وقد زعموا أن كل من جدَّ واجد ... وما كل أقوال الرجال تصيب الكلام على معجم البلدان طويل كطوله ولكنه طول غير مملول وكأن ياقوت شعر بما أتى فقال في مقدمته: ولقد ألتمس مني الطلاب اختصار هذا الكتاب مراراً فأبيت ولم أجد لي على قصر هممهم أولياء ولا أنصاراً فما انقدت لهم ولا أرعويت ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع ما لفقت وتفريق ملتئم محاسنه ونفي كل علق نفيس عن معادنه ومكامنه باقتضابه واختصاره وتعطيل حيده من حليه وأنواره وغصبه إعلان فضله وأسراره فرب راغب عن كلمة غيره متهالك عليها وزاهد في نكتة فيره مشغوف بها ينضي الركاب إليها فإن أجبتني فقد بررتني جعلك الله من الأبرار وإن خالفتني فقد عققتني والله حسيبك في عقبي الدار ثم اعلم أن المختصر من الكتاب كمن أقدم على خلق سوي فقطع أطرافه فتركه عاطلاً أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً فأخذه بعض أهل المصنف كالمصور وأني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما أعمى الله عينيك وكان لها أذنان فصلمتهما صلم الله أذنيك وكان لها يدان فقطعتهما قطع الله يديك حتى عد أعضاء الصورة فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله أه. ومع كل هذا التصريح ودعاء ياقوت على من يقدم على اختصار كتابه معجم البلدان مع علمه بتطويله أقدم الجلال السيوطي على اختصاره كما أقدم على تلخيص اللباب في الأنساب لابن الأثير وسماه لب اللباب وأصل اللباب للسمعاني راجع باب المخطوطات والمطبوعات من هذا الجزء. جاء في كشف الظنون أن مختصر معجم البلدان للسيوطي لم يتمكما في الفهرست قال السيوطي في مختصره وبعد فإن الغرض من وضع هذا الكتاب إنما هو بيان ما يدل على المقصود فلا ينبغي أن يخلط به غيره مما يبين في علم آخر لئلا يتشعب الفهم ويطول الكلام فيؤدي إلى الإملال وهذه حال معجم البلدان فإن الغرض إنما هو معرفة أسماء

الأماكن والبقاع التي على الربع المسكون من الأرض مما ورد به خبر وجاء في شعر وبيان جملة من الأرض من أصقاعها فما زاد على هذا القدر فهو فضل لا حاجة إليه وخلط الحموي اشتقاق الأسماء وذلك علم يرأسه تشتمل عليه كتب اللغة وكذلك ما ذكره من طول الكتب الموضوعة في معرفة الرجال واستقصاؤه غير ممكن فكتب منه ما لا بد منه في الأسماء الواردة على الأخبار والآثار وكتب المنازي وقيدت ما أهمله وربما زدته بياناً في بعض المواضع وأصلحت ما نبهت عليه فيه من خلل ووجدن النقل من غيره وهو خطأ وأظنه كذلك وسميته مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع طبع في أوربا كما طبع لب اللباب قال كاتب حلبي بعد إيراد ما تقدم أقول لكنه أي مراصد الإطلاع لم يتم وللصميري ولأبي عبيد البكري ولابن عساكر ولصفي الدين عبد المؤمن مختصرات من كتاب معجم البلدان في معرفة المدن والقرى والخراب والعمار والسهل والوعر من كل مكان. بدأ مؤلفنا بوضع كتابه سنة خمس عشرة وستمائة أي قبل وفاته بإحدى عشرة سنة وقد نضج علمه وكثرت تجاربه وتجوابه إذ ألقي في روعه افتقار العالم إلى كتاب في هذا الشأن وقد سئل بمرو الشاهجان عن اسم حباشة فاستعصى كشفه في كتب غرائب الأحاديث ودواوين اللباب فأخذ منذ ذلك الحين يأخذ من كتب جغرافي العرب ولغويتهم قال وهذه الكتب المدونة في هذا الباب التي نقلت منها ثم نقلت من دواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب والمحدثين ومن أفواه الرواة وتفاريق الكتب وما شاهدته في أسفاري وحصلته في تطوافي أضعاف ذلك. رتب ياقوت كتابه على حروف المعجم ووضعه كما قال وضع أهل اللغة المحكم وإبان عن كل حرف من الاسم هل هو ساكن أو مفتوح أو مضموم أو مكسور وذكر اشتقاقه إن كان عربياً وفي أي إقليم هو وأي شيء طالعه ومن بناه وأي بلد من المشهورات يجاوره وكم المسافة بينهما وبماذا اختص من الخصائص وما قيد من العجائب وبعض من دفن فيه من الأعيان والصالحين والصحابة والتابعين ونبذاً مما قيل فيه من الأشعار في الحنين إلى الأوطان وفي أي زمان فتحه المسلمون وكيفية ذلك ومن كان أميره وهل فتح صلحاً أو عنوة ليعرف حكمه في الفيء والجزية ومن ملكه في أيامه ولا سيما البلدان المشهورة ونقل

أشياء تأباها العقول على علاتها مع أنه مرتاب بها كما قال وهو في مثل هذه النقول مقلد أما وصفه للبلاد التي رآها فهو فيه مجتهد ولذلك ترى التحقيق بادياً على كلامه. ولقد رأينا بعض الخاصة ينقدون على ياقوت قوله في الأحايين أن الاسم الفلاني اسم جبل في اليمن مع أن بلاد اليمن واسعة الأطراف لا تعد مملكة بل ممالك وكان عليه أن يحدد موقع الجبل ويعينه تعييناً بيد أن هذا مما يفوت طوق المؤلفين لعهدنا فما بالك في القرن السابع للهجرة والعرب وأهل الغرب إلى اليوم لا يعرفون جغرافية اليمن على ما يجب مع ارتقاء فن الطبوغرافيا وكثرة المواصلات البحرية والبرية وكثرة الباحثين من الغربيين في مهد الحضارة الحميرية. فطلبنا من ياقوت أن يكون مدققاً في كل ما نقل وروي هو طلب خيالي لا تقوم به الجمعيات الكبرى اليوم فما الحال بالأفراد أمس وياقوت معذور على كل حال إذا يجود كلامه إلى على البلاد التي رحب إليها أو على الحواضر منها وكفاه ذلك منقبة ومثل ذلك يقال في كتب تقويم البلدان التي وضعها المقدسي والاصطخري وابن حوقل والهمداني وأبو الفدا وغيرهم من جغرافي العرب. ألا ترى إلى ما قاله ياقوت في أرم ذات العماد المختلف فيها ومن الناس من قال أنها الإسكندرية ومنهم من قال وهم الأكثر أنها دمشق وإياها عنى البحتري بقوله: إليك رحلنا العيس من أرض بابل ... يجور بها سمت الدبور ويهتدي فكم جزعت من وهدة بعد وهدة ... وكم قطعت من فدفد بعد فدفد طلبتك من أم العراق نوازعاً ... بنا وقصور الشام منك بمرصد إلى أرم ذات العماد وإنها ... لموضع قصدي موجفاً وتعمدي وحكى الزمخشري أن أرم بلد منه الإسكندرية وروى آخرون أن أرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد بين اليمن وحضرموت وصنعاء من بناد شداد بن عاد وكل مئة رجل من وكلائه وقهارمته تحت يد كل رجل منهم ألف من الأعوان وأمرهم أن يطلبوا فضاء فلاة من أرض اليمن ويختاروا أطيبها تربة ومكنهم من الأموال ومثل لهم كيف يعملون وكتب إلى عماله الثلاثة غانم بن علوان والضمان بن علوان والوليد بن الريان يأمرهم أن يكتبوا إلى عمالهم في آفاق بلدانهم أن يجمعوا جميع ما في أرضهم من الذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والزعفران فيوجهوا به إليه ثم وجه إلى جميع المعادن

فاستخرج ما فيها من الذهب والفضة ثم وجه عماله الثلاثة إلى الغواصين إلى البحار فاستخرجوا الجواهر فجمعوا منها أمثال الجبال وحمل جميع ذلك إلى شداد ثم وجهوا الحفارين إلى معادن الياقوت والزبرجد وسائر الجواهر فاستخرجوا منه أمراً عظيماً فأمر بالذهب فضرب أمثال اللبن ثم بني بذلك تلك المدينة وأمر بالدر والياقوت والجزع والزبرجد والعقيق ففضض به حيطانها وجعل لها غرفاً من فوقها غرف فعمد جميع ذلك باسطين الزبرجد والجزع والياقوت ثم أجرى تحت المدينة وادياً ساقة إليها من تحت الأرض أربعين فرسخاً كهيئة القناة العظيمة إلخ. وبعد أن أورد تتمة هذه القصة صفحتين قال ما نصه: قلت هذه القصة مما قدمنا البراءة من صحتها وظننا أنها من أخبار القصاص المنمقة وأوضاعها المزوقة. ومثل ذلك ما رواه في مدينة النحاس قال: ويقال لها مدينة الصفر ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة وأنا بريء من عهدتها إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء ثم أتي على ذكرها القريب في ثلاث صفحات. فكأن ياقوت بما ينقل من هذه الأوهام وغيرها يريد أن لا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة فيستفيد منه الجاهل ويتفكه به العالم وبتعلم الأديب ويقتبس الباحث. ومما ذكره في استعمال الفضة قوله في شنت مربة في الأندلس فال وأظنه يراد به مريم بلغة الإفرنج وهو حصن من أعمال شنتبرية وبها كنيسة عظيمة عندهم ذكر أن فيها سواري فضة ولم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط. ومن ذلك أيضاً ما ذكره في وصف قصر بهرام جور وهو أحد ملوك همذان بقرية يقال لها جوهستة والقصر كله حجر واحد منقورة بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفه وسائر حيطانه فإن كان مبنياً بحجارة مهندمة قد لوصك بينها حتى صارت كأنها حجر وحد لا يبين منها مجمع حجرين فإنه لعجب وإن كان حجراً واحداً فكيف نقرت بيوته وخزائنه وممراته ودهاليزه وشرفاته فهذا أعجب لأنه عظيم جداً كثير المجالس والخزائن والغرف وفي مواضع منه كتابة بالفارسية تتضمن شيئاً من أخبار ملوكهم وسيرهم وفي كل ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة. قلنا وليس حفر هذا القصر على هذه الصورة من الأمور المستحيلة بعد أن رأينا خزنة

فرعون في وادي موسى (بترا) قطعة واحدة وعبارة ياقوت تبين أنه رأى ذاك القصر أو نقل عن ثقة. وهذا من أعاجيب الدنيا ولا شك مثل قصر شيرين وشيرين بكسر الشين بالفارسية الحلو وهو اسم حظية كسرى أبرويز وكانت من أجمل خلق الله والفرس يقولون كان لكسرى أبرويز ثلاثة أشياء لم يكن لملك قبله ولا بعده مثلها فرسه شبذير وجاريته شيرين ومعنيه وعواده بلهبذ. وقصر شيرين موضع قريب من فرميسين بين همذان وملوان في طريق بغداد إلى همذان وفيه أبنية عظيمة شاهقة بكل الطرف عن تحديدها ويضيق الفكر عن الإحاطة بها وهي إيوانات كثيرة متصلة وخلوات وخزائن وقصور وعقود ومنتزهات ومستشرقات وأورقة وميادين ومصابد وحجرات تدل على طول وقوة. . . . وقصر اللصوص بناؤه عجيب جداً وذلك انه على دكة من حجر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعاً فيه إيوانات وجواسق وخزائن تحير في بنائه وحسن نقوشه الأبصار وكان هذا القصر معقل أرويز ومسكنه ومنتزهه. وإيوان آسك من نواحي الأهواز وهو عال في صحراء على عين غزيزة وبيئة وإزاء الإيوان قبة منيفة سمكها على مائة ذراع بناها للملك قبان والد أنوشروان قال مسعر بن مهلهل وما رأيت في جميع ما شاهدت من البلدان قبة أحسن بناء منها ولا أحكم. والتأنق في القصور ليس خاصاً بالفرس والروم بل هو من شأن العرب في دولتهم الشرقية ودولتهم الغربية ومن تلا سير الأندلسيين يعرف مبلغ حرصهم على تشييد القصور والزهراء والحمراء بعض بقايا تلك الهندسة البديعة والثروة الوسيعة فانظر الآن مثالاً مما قاله ياقوت في قصر عيسى وهو عباسي مشرقي قال: هو منسوب إلى عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور ببغداد وكان على شاطئ نهر الرفيل عند مصبه في دجلة وهو اليوم في وسط العمارة من الجانب الغربي وليس للقصر أثر الآن إنما هناك محلة كبيرة ذات سوق تسمى قصر عيسى وقد روي أن المنصور زار عيسى بن علي ومعه أربعة آلاف رجل فتغذى عنده وجميع خاصته ودفع إلى كل رجل من لجند زنبيل فيه خبز وربع جدي ودجاجة وفرخان وبيض ولحم بارد وحلاوى فانصرفوا كلهم مسمطين (يقال رأيته متسمطاً لحماً أي يحمله) ذلك فملا أراد المنصور أن ينصرف قال لعيسى: يا أبا العباس لي حاجة قال: ما هي يا أمير المؤمنين

فأمرك طاعة قال: تهب لي هذا القصر قال: ما بي ضن عليك به ولكني أكره أن يقول الناس أن أمير المؤمنين زار عمه فأخرجه من قصره وشرده وشرد عياله وبعد فإن فيه من حرم أمير المؤمنين ومواليه أربعة آلاف نفس فإن لم يكن بد من أخذه فليأمر لي أمير المؤمنين بقضاء يسعني ويسعهم اضرب فيه مضارب وخيماً لقلهم إليها إلى أن أبني لهم ما يواريهم فقال له المنصور: عمر الله لك منزلك يا عم وبارك لك فيه ثم نهض وانصرف. ومثل ذلك ما رواه في قنطرة خرزاذ تنسب إلى خرزاذ أم أردشير ولها قنطرتان إحداهما بالأهواز والأخرى من عجائب الدنيا وهي بين أيذخ والرباط وهي مبنية على واد يابس لا ماء فيه إلا في أوان المدود من الأمطار فإنه حينئذ يصير بحراً عجاجاً وفتحه على وجه الأرض أكثر من ألف ذراع وعمقه مائة وخمسون ذراعاً وفتح أسفله في قراره بالرصاص والحديد كلما علا البناء ضاق وجعل بين وجهه وجنب الوادي حشو من خبث الحديد وصب عليه الرصاص المذاب حتى صار بينه وبيه وجه الأرض نحو أربعين ذراعاً فعقدت القنطرة عليه فهي على وجه الأرض وحشي ما بينها وبين جنبي الوادي بالرصاص المصلب بنحاتة النحاس. وهذه القنطرة طاق واحد عجيب الصنعة محكم العمل وكان يجتاز عليها لا سيما في الشتاء وحدود الأودية وكان ربما صار إليها قوم ممن يقرب منها فيحتالون في قلع حشوها من الرصاص بالجهد الشديد فلم تزل على ذلك دهراً حتى أعاد ما انهدم منها وعقدها أبو عبد الله محمد بن أحمد القمي المعروف بالشيخ وزير الحسن بن بويه فإنه جمع الصناع المهندسين واستفرغ الجهد والوسع في أمرها فكان الرجال يحطون إليها بالزبل بالبكرة والحبال فلما استقروا على الأساس أذابوا الرصاصا والحديد وصبوا على الحجارة ولم يمكنه عقد الطاق إلا بعد سنين فيقال أنه لزمه على ذلك سوى أجرة الفعلة فإن أكثرهم كانوا مسخرين من الرساتيق التي بين أيذج وأصبهان ثلاثمائة ألف دينار وخمسون ألف دينار وفي مشاهدتها والنظر إليها عبرة لأولي الألباب. وسنقتبس في الجزئين التاليين شذوراً من كتاب ياقوت تفيذ في تصور العمران على عهده وتدل على مبلغ عناية العرب بكل شيء ولا سيما بفن تقويم البلدان وحالة الإنسان على مدى الأزمان.

سويسرا

في ديار الغرب سويسرا أصحيح أن القطار غداً يخترق العقاب والشعاب، ليخلص من إيطاليا مهد المدنيين الرومانية والنصرانية، إلى سويسرا جنة أوربا، بل جنة الدنيا، ومدرسة العمل العليا، وأبهج مصف ومشتى، لملتمس الراحة والسلوى. أيكتب غداً للروح أن تطمئن قليلاً في أشرف ديار، عرفت في بال حرية الأديان والأفكار، ويشهد الطرف حسناء ضمت إلى صدرها شمل المدنيات العصرية ووضعت على مفرقها تاج البدائع الأرضية والسماوية، بلاد خص كل شبر منها بمزية عالية غالية، وتعاورتها الأيدي بالتحسين والمزينين والتطرية، فلم يتصور العقل الآن أرقى من نظامها. ولا أبدع من طرازها وهندامها. أصحيح أن هذه المدينة الفاضلة، دهشة الأمصار والأقطار، وزبدة جهاتز القرون والأعصار، المغبوطة من جارتها بل من أهل الغرب أجمع، على قانونها لتتكامل، وأنها الشامل، سكول للنفس قسطمن الراحة في رباعها البهجة شهراً من العمر، بعد كالف شهر، فتستمتع الحواس بعجائب صنع الديان والإنسان. وآخر حسنات العمران في هذه الأزمان. سلام عليك يا جمهورية السلام والوئام، عقمت الأيام أن تنشئ مثلك أنت الوحيدة في العمل بتعالم السيد المسيح بين الممالك الغربية فلم يعد عليك أن جوزت بعد تحضرك قتل النفوس، لامتلاك النفائس، ولا أن ظلمت شعباً آمناً لاستصفاء بيته وحقله، ولا أن هتكت أستاراً وأعراضاً، لتغتنمي عروضاً وأعراضاً، بلى كنت من خير من عطف على مدحور ومظلوم، وأكرم مثوى وأفد مقهور مغموم، وعلم طالب علم وصناعة تعلماً مجرداً من النزعات المذهبية والنزعات السياسية، ومسلاة كل متعب راغب في التفريغ لنفسه، لقنت الأمم معنى الحكومة الصالحة في الأمة الصالحة، وحققت بالعمل معنى تضامنك في شعارك الواحد للكل والكل للواحد فحكمت نفسك بنفسك حقاً وصدقاً ولا كذباً ورياءً. هذه الوجوه النضرة التي تهش للغريب، كما تهش للقريب، هي صورة صحيحة من أخلاق هذا الشعب القليل بعدده، الكثير بفضائله وعدده، فإن كان هنا لا يتجاوز إحصاء المكين، أربعة ملايين، ولا مساحة المكان 41346 كليومتراً مربعاً، فلكم كان القليل العالم، خيراً من

الكثير الجاهل وعظمة الأمم بعلمها وعملها. لا يوفر سكانها وطول سهلها وجبلها: سويسرا تفاخر وحق لها الفخر بأنها اليوم لا تعرف الأميين. إلا بما تقرأه عنهم في صحف العالمين. فهل عهد مثل هذا النور لأمة في القدماء أو المحدثين. يخيل للناظر أن هذه البلاد الواقعة بين أربع ممالك راقية. فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا. قد أخذت من هذه المدنيات الأربع أطايبها. ولعله لا يخطئ من قال أن هذه الممالك أخذت كثيراً من أطايب ما عند سويسرا. فجاءت هلفسيا أو سويسرا مجموعة الإبداع. في البقاع والأصقاع. وسلسلة مفرغة في المحاسن لا يعرف أين طرفاها. تقاسمت القرى مع المدن. والأودية مع الجبال. آثار الجمال والكمال فعز لها قسيم في استهواء القلوب بين هذه الديارات. بل بين الخمس من القارات وما ظرف عمران الألمانيين والفرنساويين والإيطاليين والنمساويين. إذا قيس بظرف بلاد السويسريين إلا كالنضارة في خدود فتاة العشرين. في جنب نضارة ابنة الأربعين. لا جرم أن هذه الجمهورية الرشيدة هي التي وصفها للناس أفلاطون وروسو فكانت بما وفقت إله مما يضعف الفصحاء عن توفيتها حقها من الاستحسان وذكر المجردات لا يقنع بقدر الأدلاء بالحجة ولذا نقتصر على طرف مما عرفناه وعرفه عنها كوصف حياتها القومية والروحية والعملية والاقتصادية عسى أن يثمر ذلك فائدة لمستفيد. وعبرة لمعتبر. في شرقنا المتخدر الأعصاب منذ أحقاب. الذي كادت تدمع لحاله عيون الأعداء بعد أن أدمى مقل الأحباب. سويسرا: الأفراد والأسرة أول من يبده الداخل إلى أرض سويسرا: الخضرة والنظافة. فإنها كلها أشبه بحديقة في وسطها مصايف من أجمل ما بنى المهندسون ونقش النقاشون وصور المصورون. الدور على اختلاف هنستها سواء كانت بيضاء كما هي في سويسرا الفرنساوية أو منقوشة كما هي في الشمال الشرقي أو من الخشب على ما تراها في أوبرلاند تفيض بهجة ونضرة ونظافة وزينة وتبدو على الدوام جديدة حتى ولو كانت مبنية منذ قرنين أو ثلاثة. والغربيون مولعون بإبقاء القصور القديمة مهما لانت ويؤثرونها على الجديد من نوعها.

وداخل البيوت على مثال خارجها في الحسن حذو القذة بالقذة. أدخل إلى الفنادق الكبرى أو الصغرى وإلى منازل الطبقة العليا أو الفلاحين وإلى قصور الأغنياء أو المقترين تجدها كلها متناسقة بنظافتها وتشهد المساكن والمخازن على هذا الطراز في الصباح والمساء على السواء. وما أنس لا أنس تلك النظافة التي شهدتها في المنزل الذي حللت فيه في مدينة لوزان المطل على بحيرة ليمان ومن ورائها جبال الألب وذلك منذ تدخل الدهليز فتصعد الدرج إلى أن تدخل المنزل وتجلس في غرفتك إلى المائدة إلى الطعام المنوع المستطاب إلى أحقر شيء في الدار. ولقد كنت أعجب كل يوم من رؤية الخادمة تمسح البلاط والدف في الأرض والنوافذ والدرفات وتنفض الستور والأغشية والكراسي والمقاعد والخزائن والمناضد والزروع الموضوعة في الأصاصي دع التحف والصور والتماثيل الصغيرة ومصابيح الكهرباء وغير ذلك مما لا تخلو منه دار في الجملة. كل هذا مع خدمة المطبخ والمائدة وبعض من يلزم من السوق تقوم به خادمة واحدة وليس هذا الحال خاصاً بالبيوت والفنادق فقط بل إنك تراه في الشوارع والأزقة على صورة مكبرة فإن الأوساخ الخفيفة لا تلبث أن تطرح حتى تكتسح وكذلك الثلج لا يلبث أن يتساقط 20سنتمتراً وأكثر إلا ويرفع من الطرق. وكل شارع وجادة وساحة وسوق وينظف ويغسل بلا إمهال بحيث تصح هنا حكمة الغرب: النظافة أثر من آثار النظام والعمل. والشعوب النظيفة هي التي تحب أن ترى كل شيء في مكانه تقاسي ضيقاً حقيقياً بل ألماً مبرحاً إذا شاهدت الخلل. ليست النظافة ابنة الكسل لأنها تستوجب من الأفراد والحكومة عملاً وجهاداً متواصلاً ويستدعي أن تحث عليه الحكومة المحكومين كما هو الحال في سويسرا فإن بلدياتها تنفق عن سعت لتجعل البلاد في هذه الحالة من النظافة التي تعجب لها أرقى أمم الحضارة دع شرقياً لا يكاد يقع نظره في بلاده إلا على أقذار الشوارع والساحات والحارات بل في البيوت والحوانيت وخللاً في كل شأن من شؤون الحياة الراقية. وكان من أثر هذه المفاداة التي أفادت بها بلديات سويسرا في متصرفياتها أو مديرياتها الاثنين والعشرين تحسين الصحة العامة واستجلاب السياح وأحسن معلم لبث الأفكار النظام والوقاية والرفاهية.

تتبارى الحكومات والمديريات والإدارات الخاصة والعامة في مضمار النظافة فتجد اقفاصاً من أسلاك لطيفة موضوعة في المدن في كل شارع وحديقة لتوضع فيها القشور أو الأوراق وربما سار الواحد عدة أمتار حتى يرى تلك السلة المعلقة فيضع فيها ما بيده من الفضلات الخفيفة. ذلك لأن كل سويسري لا يحب أن يرى منتزهه وشارعه وحيه إلا كما يرى بيته طاهراً نقياً ليس فيه ما ينبو عنه النظر. وكيفما انقلبت في سويسرا في القطارات أو المراكب في المحطات والإدارات تشاهد النظافة المجسمة كأن هذه الخاصية صفة من صفات الأمة السويسرية. وربما نسي الغريب أن يضع ما استغنى عنه من الورق أو غيره فيشير إليه الآهلون إلى وضعها في محلها بل إن المفتش في القطار لا يستنكف أن يرفع أوراقاً تتساقط من ركاب قد يكونون في الأكثر غرباء لا يعرفون درجة غلو سويسرا في النظافة في كل شيء. ما كانت النظافة في فطرة سويسريين أو جنسهم بل هي كسبية وثمرة تربية طويلة ومدينة طاهرة. ولا جدال في أنهم بنظافتهم أرقى من سكان الجنوب والغرب أي من الطليان والفرنسيس نعم ما كانوا أمس كما هم اليوم والدليل على ذلك أن من البلاد السويسرية ما لم يبلغ حتى الآن درجة كافية من النظافة كما يحب السويسريون ولا سيما البلاد التي لا يقصدها السياح وليس فيها فنادق مثل بعض محال من مقاطعة الفالي والكريزون والرينتال وهي إذا قيست بمقاطعات وزوريخ أحياء قليلة على شيء من الوساخة بالنسبة لمجموع البلاد. ولكن مثل هذه الأحياء تهدم الواحد بعد الآخر والقرى تطهر بأسرع ما يمكن وهي نموذج مما كانت عليه سويسرا قبل خمسين أو مئة سنة فاستطاع أهلها بالتربية أن يحرزا فضيلة النظافة التي أصبحوا فيها قدوة الأمم الراقية. تساءل الباحثون في حال هذه الأمة فيما إذا كان للدين تأثير في نظافة السويسريين والراجح من آرائهم على ما ذكره البردزا في كتابه سويسرا الحديثة أن الدين أثر بالواسطة لا مباشرة وأن للتربية العملية المقام الأول. فالمقاطعات التي سبقت غيرها في مضمار العلم وأحب أهلها النظام وتفانوا في المحافظة عليه كالمقاطعات الألمانية في الشمال وأهلها برتستانت هي أكثر نظافة من مقاطعات الجنوب أي الفالي والتسين والكريزون وأهلها كاثوليك وذلك لأن سكان هذه إيطاليون جاؤوا متأخرين بالنظافة عن الألمان وكذلك في

التعليم. ومع هذا ترى من مقاطعات الشمال مقاطعتي الفو ونوشاتل وهما من جنس فرنساوي لا تقلان في النظافة عن مقاطعتي زوريخ الألمانيتين. ومهما يكن من أصول السويسريين ألماناً كانوا أو فرنسيساً أو إيطاليين فإن سويسرا أشبه بفسيفساء من الشعوب والعناصر وامتزجت وتعاشرت لا تفرق بينهم إلا اللغة وقد اختلطت دماؤهم اختلاط الماء بالراح كما ترى من سحناتهم الألمانية غالبة عليهم وكذلك ترى في بعض المقاطعات الألمانية التي تتكلم باللغة الجرمانية منذ عشرة قرون ملامح السلئيين والريتيين من قدماء الرومان. نشأت من هذه العناصر الممزوجة روح سويسرية ووطنية سويسرية وذلك بامتزاج الفكر الجرماني بالفكر اللاتيني فأخذ السويسري عن الألماني صفات التدين والرزانة والشعور بالتضامن والنظام والثبات والرغبة في الماديات والحقائق واقتبس من العنصر اللاتيني تقاليد البشاشة والأدب وجودة الحكم وحسن التقليد والظرف. والرأي الديني في ابن مقاطعة تسين لا يماثل الرأي الديني في ابن مقاطعة لوسرن بين الفرنسويين ويغالي الأولون بالأكثر في توطيد سلطة الحكومة وتوسيع اختصاصها وتراهم مولعين بتقاليدهم مرتبطين بعاداتهم القديمة وحرياتهم المحلية وخصائصهم على العكس في السويسريين الفربسويين فإن هذه الصفات تبدو فيهم بمظهر آخر. والسويسريين على اختلاف أصوله ولغته أفرنسياً كان أو ألمانياً قليل الفضول لا يسألك في الفندق ولا في الشارع إذا تعرفت إليه عن مقاصدك ولا يتتبع عوراتك ولا يسألك أسئلة لا تحب أن تجيب عليها على العكس في السويسري الأيطالي وهو ساكن في الجنوب طبعاً فإنه يملل نزيله وصاحبة بأسئلته. ومن ترك الناس وشأنهم في هذه البلاد نشأ في أمم أوربا حسن الظن بالسويسريين فاختاروا سويسرا مصيفاً ومشتى لأن من تلك الأمم ولا سيما الشعوب الإنكلوسكسونية من لا يحب أن يسمعك صوته فضلاً عن أن يطلعك على عجره وبجره. وهذا الخلق سرى للحكومة وهي وقانونها صورة من صور الشعب أكتب هذا عن لوزان وقد مضى عليَّ فيها خمسة عشر يوماً وأنا لم أر سوى ثلاثة أو أربعة من رجال الشرطة بالعرض أقامتهم المديرية بداعي الأعياد فقط ولم أر سوى جندي واحد هذا والمدينة لا تقل

نفوسها عن سبعين ألفاً وفيها على الأقل عشرون ألف غريب. هذه هي الجمهورية السعيدة التي أسسها ثلاثة فلاحين منذ عشرة قرون قد بلغت بالعلم والتربية هذا المبلغ من الرقي. وإن أكثر ما يقع في هذه الديار من الحوادث مثل السرقة والسكر والعربدة التي لا تخلو منها أرض لا يكون على ما رأيت من أنباء الصحف إلا من بعض الغرباء وأكثرهم من الطليان والأروام فبوركت بلاد هذا حالها. سويسرا: النساء والرجال السويسري كالإيطالي والألماني والإنكليزي كثير الولد والذرية وأولاده لا يعدون بالزوج بل بالعقد وبلغني أنه ولد لأحدهم من زوجة واحدة ثلاثون ولداً فقط لا غير أما الأزواج الذين رزقوا العشرة الخمسة عشر ولداً فهؤلاء أكثر من أن يحصوا فأولاد السويسريين كالبيض أو البرتقال يعدون بالخمسات والعشرات. وترى الأبوين لا يدهشان لكثرة نسلهما فإنهما في الأغلب يلبسانهم ولا سيما في القرى ألبسة بسيطة للغاية لا تختلق في الصيف عن الشتاء كثيراً ويطعمانهم ما حضر من الطعام وأكثره يدور على اللبن والحليب والبيض والجبن والخبز الأسمر وقد لا يطعمانهم اللحم إلا قليلاً أما الخمور فهذه لا تكاد تعرف لأنها محتكرة للحكومة وأثمانها فاحشة لا يصل الفقير إليها وليست كل المقاطعات مما تجود في الكرمة. يلعب الأولاد حول أمهم وفي الحقل حتى السابعة من عمرهم ثم يذهبون إلى المدرسة وعندئذ يقل لعبهم حتى أن ابنة العشرة أو الثانية عشرة تعمل أعمالا من الخدمة وتحصيل المال يعجز عنها ابن العشرين أو الثلاثين في شرقنا. فتراها من المدرسة إلى النزل تخدم في الأوقات المتيسرة لها إلى تربية أخيها أو أختها وتعهده إلى بيت فلان تغسل لهم الأواني أو غير ذلك. والحكومة تحول دون الأولاد وما يشتهون أحياناً فإن أكثر الحدائق العامة لا يستطيع الأولاد أن يدخلوها إذا كانوا دون الخامسة عشر إلا إذا كانوا مع كبير من أهلهم يسأل عن حركاتهم وسكناتهم وفي بعض المقاطعات يحرم على الفتى أو الفتاة دون الخامسة عشرة أن يخرجا إلى الشارع بعد الساعة السابعة ليلاً وفي أخرى لا يحضر الولد بعض المسارح والصورة المتحركة بل إن له مسارح ومشاهد غير للبالغين. انتشر فكر الأسرة كثيراً في سويسرا وذلك بتداخل الحكومة أيضاً التي جعلت في جملة

المرغبات في الزواج إعفاء المواريث من كل رسم إذا انتقلت إلى وارث حقيقي مباشر كالابن ونحوه وأما إذا كانت تنتقل إلى الأباعد فإنه يدفع عنها رسم فاحش للحكومة وبينا ترى الحياة الصناعية في أوربا بأسرها قد عاقت كثيراً عن تأليف الأسرات وتأسيس البيوت ترى سويسرا كلما زادت حركتها الصناعية تتكاثر في ربوعها البيوت وذلك بأن العامل أو العاملة يعمل في داره ما يعرفه من أنواع الصنائع كعمل الساعات والتطريز والنقش على الخشب وغير ذلك فأبن القرى يعمل وهو في بيته ولا ينقطع عن عمله الزراعي طول السنة وقد خال ذلك دون كثير من أبناء القرى عن غشيان المدن والسكنى بها واقفار الأرياف فإن خلو الدساكر من سكنها هو من أول أسباب الخراب كما هو حاصل في الشام من الهجوة إلى أميركا مباشرة وكما هو كذلك في فرنسا في الهجرة من قراها إلى مدنها والخطب أسهل. نعم تعمل هنا المرأة والفتاة في قريتها ما تحسننه من الصناعات في المعمل أو في بيتها بدن أن تنقطع عن محيطها وأسرتها وأن تتجلى عن تدبير منزلها. والمرأة السويسرية مشتهرة بأنها لا تحب الظهور كل ساعة للناس وهي مخلصة صالحة على الجملة تؤثر تعهد عملها وبيتها على كل شيء وتفكر كثيراً بحيث أن السفاسف والزينة لا تشغل من قلنها مكناً فهي امرأة منزل وعمل تهتم لبيتها اهتماماً غريباً واظهر حبها للنظام حتى في عواطفها. ما من بلد في الأرض ساوت فيه المرأة الرجل كما هي في سويسرا فهي قرينته في عمله وشريكته حقيقة وهذا ناشئ ولا شك من تربية المرأة على العمل وحبه وقد بلغ سنة 1900 عدد السويسريات اللائي يعملن في الصناعات المختلفة من زراعية وتجارية وصناعية وصناعات حرة 1. 575. 000 امرأة. هذا في شعب هواقل من أربعة ملايين فإذا فرضنا أن النساء 1900000في سويسرا وأخرجنا منهن العاجزات وصغار البنات لا يبقى إلا عدد أقل من القليل غير عامل من النساء السويسريات فالمرأة العطلة عن العمل ليست بضاعة سويسرية والعاملات من النساء على نسبة العاملين من الرجال. وقد أحرزن منذ زمن طويل الحق بان يكون منهن الطبيبات والمحاميات أما حقوق الانتخاب ومشاركة الرجال فيها فإنها قلما تهمهن ولذلك

كان النساء في التجارة والصناعات الحرة أكثر من الرجال. قال لنا رئيس تحرير جريدة غازت دي لوزان أن الناس هنا يعملون مهما كانوا أغنياء ولا تكاد ترى عشرة في مدينة لوزان لا عمل لهم على كثرة أغنيائها وأرباب الأملاك فيها الأخلاق هنا في الجملة قاسية والحياة بالغة حد النظام والناس كلهم يعلمون ولذلك تقل البواعث على التبذل والخلاعة وحب الشهوات لأن ذلك يستدعي أوقات فراغ والفراغ لا يعرفه السويسريون والسويسريات. ثم إن المناح لا يساعد على الخروج كل ساعة بل بالعكس مما يحمل على الرغبة في الحياة اليتية. وسويسرا مثل هولاندة أقل البلاد الأوربية التي يولد فيها أولا غير شرعيين قهي من هذه الوجهة أقل من ألمانيا ثلاث مرات. وسبب قلة العهر العمل بلا شلك لأن رأس البطال معمل الشيطان. متى توزجت المرأة السويسرية تصبح عشيرة الرجل حقاً فهي يوم الأحد تذهب وإياه إلى الكنيسة وفي المساء إلى القهوة. السويسري يجد في علطة الأحد أحسن فرصة له لأنه يتخلى عن عمله فلا يطلب من أسباب السرور إلا أن يكون مع أخل بيته. ويقل اختلاط الشبان والشواب في أوقات الفراع حتى يوم الأحد اللهم في الأعياد السنوية النادرة التي تقام فيها مراقص. ويذهبون الشبان أيام الآحاد إلى الكنائس ولا سيما البرتستانت منهم وبعد الظهر يذهبون عصابات يتمرنون على الرماية ولعب الكرة ويغنون ويعربدون قليلاً ولكنهم يوم الاثنين في الساعة المعينة تقرأ الرزانة في وجوهمهم ويعود كل رجل يستعيد مركزه في الحياة الاجتماعية. تذهب الأسرات مساء الأحد ولا سيما في سويسرا الألمانية إلى أحد الفنادق أو القهوات فترى الأمهات والنساء والأخوات جالسات إلى منضدة بالقرب من أبنائهم وأخواتهن أو أزواجهن يشربون جعة وقهوة وقليلاً جداً من المشروبات الروحية والرجال يدخنون وربما غنى الحضور ولكن أغاني هزلية أدبية ولكن لا غرام فيها ولا عشق. المرأة السويسرية قد يعالجها الهرم في الغالب أكثر من غيرها من النساء المرفهات في أوربا الغربية والوسطى ولكن هرمها يزيد في عقلها ويبقى قلبها على نضارته وأخلاقها على سذاجتها. والسذاجة خلق من أخلاق السويسريين والسويسريات والسويسري وسط بين حرية الغالي الفرنساوي ورصانة الإنكليز. ولئن كانت كتب الرقاعة والخلاعة لا محل لها

من الإعراب في جملة حال السويسري فهو مع ذلك لا يخامره ريب في صحة أخلاق بناته وزوجته ويعرف أن اختلاطهن إذا اقتضى الحال بالرجال والخلوة بهم أو رؤية التماثيل المعراة في المتاحف وعلى قارعات الطريق مما لا يلقي أدنى اضطراب في عفتهن. ومن لم يكن له من نفسه وازع لا تحول الحواجز والأستار بينه وبين ارتكاز الرزائل. سويسرا الصفات الاجتماعية أول ما يبده المسافر في سويسرا ضبط المواعيد فإن السكك الحديدة كما هي في أكثر بلاد العالم المتمدن لا تتأخر ولا تتقدم دقيقة عن ميعادها والقطارات تسير الهوينا في أصقاع كأنها هي أيضاً تحب أن تمتع نواظرها بمناظر سويسرا البديعة فالسكك الحديدة هنا كسائر الأعمال تسير عجلة في بطء ولا حاجة لأن يعجل المرء هنا في المبادرة إلى المحطة لأن العالم كلهم مدققون في أوقاتهم ومتى كانوا كذلك بورك لهم فيها. الصلابة والثبات صفتان لازمتان للسويسري وقد كان المشهور أن الفرنسويين أكثر الأمم اقتصاداً ولكن ظهر أن السويسريين يفوقونهم فإنهم أول أمة أوروبية تحسن استخدام أموالها ويليها الأمم السكاند نافية وقد تجازوا ما وضعه 1. 300. 000من السكان في صناديق التوفير مليار فرنك فيصيب الفرد ثمانمائة فرنك وهذا مما لا يكاد يكون له نظير: ثلث الأمة تقتصد وتجمع المال الذي لا نحتاج إليه! لا تردد في أخلاق السويسري يقبل الجديد ولا يخون القديم فهو إما أن يقول نعم أو لا ليتمثل لك ذلك في المشاريع واللوائح التي توضع وتسن مما يقتضي تنفيذه عند غيرهم سنين. أما هنا فإذا أريد القيام بعمل تبدأ الصحف بإعداد الأفكار له وتلقي المحاضرات فيضع أحد النواب أو الحكومة مشروع القانون الجديد وإذا اقتضى الحال تصدق عليه الأمة ويخضع له كل الناس وإذا وضع قانون ولم ينفذ فالسويسري يصر على العمل به بدون ملل مثال ذلك بعض السكك الحديدية الجديدية فإن من الخطوط ما يمد في عشرين سنة ولا يكون طوله أكثر من عشرين كيلومتراً ومع هذا فقد تفتح كل سنة محطة جديدة منه ولكن الخط ينتهي في الآخر. إذا كان السويسريون عنودين فذلك لأنهم عمليون لا نظريون في أعمالهم قلما يطيرون وراء الخيالات. وقديماً نبغ في السويسريين فلاسفة أمثال جان جاك روسو الذي في ولد في

جنيف أما اليوم فلم تنشأ لهم مثل تلك الطبقة بل ينشأ لهم أهل عمل أقرب إلى الحقائق متشبعين بالحق عارفين المداخل والمخارج فخلف رجال الأعمال رجال الخيال. امتاز السويسريون بالصناعات فاستفادوا من ذلك فوائد جمة في بلاد شحيحة بخيراتها صبعة المراس بطبيعتها الاقتصار على الزراعة فيها لا تسير به الحركة الاقتصادية على محورها. فليس فيها فحم حجري ولا معادن للصناعة ولا شواطئ بحرية ولا أنهار عظمى للتجارة فيها عقاب من جبال صعبة المرتقى أقيمت على التخوم في الجنوب والشرق والشمال وربعها غير صالح للزراعة لأنه مألف الثلوج والجليد طول السنة أو صخور لا ترتقي وتربة قاحلة وثلثيها صالح للغابات والشتاء يطول ويشتد في بعض مقاطعاتها ويغمرها بالثلوج برمتها وبحيرات هي كالخال في عنق ذات الجمال والدلال ولكن الإنسان العاقل يغلب الطبيعة أو يعرف كيف يستخدمها. فإن تلك الحواجز الجبلية قد خرقتها السك الحديدية بحيث أن سويسرا بعد أن كانت تحول دون الاتصال بين فرنسا والنمسا وبين إيطاليا وألمانيا أصبحت الصلة اللازمة بينها فشق القطار جميع الأصقاع وتسلل بخطوطه المنوعة حتى الأصقاع البعيدة عن التركيب الاجتماعي يحمل إليها مائية الحياة الاقتصادية ورشاشة من بحر المدينة واستعاضت سويسرا عن الفحم الحجري الأسود بما عندها من الفحم الأبيض وأحسنت ضبط المياه فدورت بها المعامل والمواد الأولية تجلب من الخارج ولكنها تعود بأرباح فائقة فإن ثلاثة أرباع صادراتها هي من حاصلات بدلت فيها اليد السويسرية وغيرت مثل القطن والحرير والشكولاتا وأنوع المطرزات والساعات. أحسنوا هنا استخدام جميع أنواع التربة الصالحة للزراعة على أحدث الطرق الزراعية المنوعة فوفرت كرومها ومراعيها وكثرت فيها تربية البقر بما يلحقه من اللبن الزبدة والجبن حتى أن بعض مقاطعاتها الشرقية تبلغ حاصلاتها 80في المئة من البقر وما يشتق منه والثلوج والجمد والصخور والشقيف وكانت من المعونات على الاستكثار من إقامة الفنادق والإنزال ليأوي إليها السياح الذين ملوا من رؤية الحضارة ويريدون أن يرجعوا شهراً أو شهرين إلى الطبيعة فليس في سويسرا حيوانها وجمادها وإنسانها شيء لم يحسن استخدامه ويجر في سبيله. السويسريون عمليون في حياتهم الخاصة وهم كذلك في حياتهم العامة فلا تجد في الممالك

مكاتب أشغال تنظر إلى الجواهر لا إلى العرض مثل مكاتبهم ولا إدارات أقل تشبثاً بالأعمال القرطاسية من إداراتهم. فهم في هذا الباب يصلحون أساتذة للفرنسيس والطليان والألمان. دخلت كثيراً من المصارف والبيوت المالية في مصر والشام وباريز ورومية فلم أشهد لمصارف سويسرا تلك الدهشة في مصارف الشرق والغرب على الغالب. وهكذا هم في كل أعمالهم الاشتراكية الاجتماعية. ومن أغرب ما يسمع أن مدينة بال ارتأت أن تستوفي الضرائب من الآهلين في بطاقات بريدية قتم هذا العمل في أسرع من يمكن ولم ينتظر المكلف في شباك البريد أكثر من عشر دقائث فاحتذى هذا المثال كثير من المدن السويسرية تخفيفاً من أجور الجباة وتيسيراً على الناس. اختار السويسريون السهولة حتى في أصول التعليم في مدارسهم فلا يخرجون اليوم من ست كليات راقية لهم سوى رجال أعمال لا رجال آمال وخيال. يخرجون رجل الغد على ما ينبغي له في جهاد الحياة فيتخرج من مدارسهم قليل من العلماء والأدباء وكثير من الزراع ولاتجار والعاملين. يعملون أموراً تنفع الطالب في الحال ويلقنونه العمليات وحب الأعمال المنتجة. يرى السويسيون الآن في الأمة كثيراً من المخترعين المتوسطين والمتفنين الجائعين والكتاب الذين لا قرائح لهم وكلهم لا فائدة منهم ولكن البقال والصانع وموظف السكة الحديدية وإن كان متوسطاً أفيد للحياة الاجتماعية من شاعر شقي لا ينتفع به في شيء. ولذلك ترى الكليات تطبق علومها على حسب أقطارها فكلية بال مثلاً يتفنن أساتذتها في تعليم الطلاب حسن استخدام الألوان في كل أبحاثهم الكيماوية لأن البلاد صناعية ولكليتي زوريخ وفريبورغ فرعان تجاريان. ولكل فروع التعليم مقام محمود التعليم الصناعي في سويسرا يوافق ضروريات الحياة والمصالح في كل مقاطعة. فالمدارس الزراعية منوعة وهي مرتبطة بالمديريات مثل المعارف العمومية ولكن حكومة الاتحاد السويسري تمنحها إعانات كثيرة تقوم بحاجتها وفي سويسرا مدارس نظرية وعملية زراعية ومدارس زراعية للشتاء ومدارس لتربية الكرمة ومدارس لاستدرار الألبان وغير ذلك وفيها كثير من المدارس التجارية للمديريات أو البلديات وتقيم شركة التجارة السويسرية كثيراً من الدروس التجارية ولكثير من المدارس الوسطى فروع تجارية هذا عدا المدارس الخاصة مثل

مدارس الساعات ومدارس التطريز ومدارس الفنادق ومدارس تدبير المنزل. بين تلك الجبال الصعبة الخطرة رسولة الشتاء الطويل التي لا يستطيع فيها المرء بمفرده أن يعمل ما يقاوم الطبيعة التي لا تشفق أحس السويسري بضرورة التضامن وشعر بالحاجة إلى التساند والعمل يداً واحدة ترتيب الجهاد على ما يجب. الجبلي قاس وفطري وهو كريم المثوى وأقراء الضعيف سنة قديمة عند السويسريين كما هي عند الأيكوميين في إنكلترا أو العرب في بلادهم ولا تزال هذه السنة إلى اليوم كما كانت أمس ولكن الأجيال الجديدة مالت إلى الحقائق أكثر من أجدادها فاخترعوا من الضيافة صناعة وهي صناعة الفنادق والإنزال. وربما يبلغ التضامن عند أمة ما بلغه عند السويسريين فإن حركة جمعيات التعاون والشركات والنقابات أكبر دليل على رسوخ عادة الاجتماع في عقول السويسريين منذ أحقاب. فالنقابات الصناعية استعادت تقاليد الأخويات القديمة حتى أصبح المستخدمون والتجار والصناع والزراع في سويسرا مربوطين بنقابات لا ليكون من أثرها ضرر على المجموع من مثل الاعتصابات والإضراب عن العمل بل ليكون منها عموم النفع. والشركات المحلية متحدة كل مديرية بمديريتها ثم ترتبط مديرات البلاد كلها وهذا في جماعات العملة والمعلمين. وأصحاب الفنادق بل القهاوي متحدة بعضها مع بعض. وما الحكومة السويسرية إذا نظرنا إليها من حيث المجموع إلا اتحاد واسع من النقابات السياسية لا تزال يقابل الملك المشترك الذي كان معروفاً في القرون الوسطى في الغرب ولم يبرح معروفاًُ بعضه في الشرق قائمة على أتمها ولا سيما في الأصقاع التي بقيت على فطرتها فإن السكان إلى الآن في وادي أنيفرس يحلبون الأبقار بالاشتراك ولك الحق على نسبة ملكه في حصته من اللبن والزبدة والجبن ولم ترتفع من ذلك خلال عشرين سنة سوى شكويين. وكثيراً ما تكون بقرة أو بغل أو بيت مشاعاً بين عدة مالكين وكثير من المراعي الجبلية هي أملاك بعض رؤساء الأسر وفي كل قرية تملك الأسرة بيتاً خاصاً أو مشاعاً بين أهلها. وصناعة الجبن في أكثر بلاد سويسرا على أيدي شركات مرتبطة بجماعات المستخرجين للجبن وفي مقاطعة الفالي حيث تقل المياه تروي البلاد بأقنية جلبت مياهها من بعيد على

مسافة 48كيلو متراً وكل قناة عملت وأديرت على يد جماعة من أرباب الأملاك ينتخب رئيس شركتها أصحاب الأراضي التي هي آخذة بالتقسيم والتجزئة. وبعد فإذا كان الشعور بالتضامن العملي والنظري هو على أتمه في سويسرا فإن الفكر الوطني والنظام الاختياري والضمير الإفرادي المشاهد في أخلاق الوطني السويسري جدير بالإعجاب من كل وجه. فالسويسري يعرف واجبه نحو المجتمع والحكومة ويخالف في ذلك الشعوب اللاتينية التي تحب الخلاف بفطرتها والشعب الألماني الذي يخنع للسلطة إدارية وعسكرية على صورة غريبة وذلك بإطاعته الرؤساء طاعة عمياء والخضوع لأوامر الإمبراطور ولكن الوطني السويسري يخضع لنفسه ويرضى بنظام ارتضاه بحريته. والفكر الوطني في سويسرا الألمانية أشد منه في سويسرا الفرنساوية هي مديريات نوشاتل وفريبورغ وجنيف ولوزان وسويسرا الإيطالية مقاطعتها التسين والغريزون وما عدا هذه الست مديريات أي الأربع عشرة مديرية فهي ألمانية. السويسري الألماني خصوصاً لا يستنكف من أن يشكو كل من يخالف الأمر والنظام لأن لكل شاك الحق بنصف الغرامة وقليل جداً من يشتكي منهم ولذا فليس من العبث ما تقرأه على المنعطفات وفي مداخل الحدائق والمنتزهات من الكتابات بحروف غليظة لجعلها تحت ملاحظة الجمهور ومعانة الوطنيين فإن هؤلاء قد عرفوا منزلتهم من بلادهم وما ينالهم من شرفها وما وضعته فيهم حكومتهم من الثقة فلا يريدون بحال أن يشوهوا وجوه مرافقهم ومتنزهاتهم وجناتهم بل يعملون بما فيه حفظها على ما يستلزمه حبهم لبلادهم وإعجابهم بها. ورجال الإدارة يجتهدون أن يعلموا الشعب وإن يؤهلوه ليخدم نفسه بنفسه بدلاً من أن يعتبروه ولداً يجب على الدوام الأخذ بيده وقيادته ولهذه أمثال كثيرة تعد بالعشرات مما لا مثيل له عند الأمم الأخرى. وندر جداً في السويسريين من يستحلون أكل مال خزينة الأمة أي أن يخفوا عن الحكومة ما يحق لها أخذ رسوم وضرائب منه ولا سيما في سويسرا الألمانية وإن كان بعض أرباب الغايات وهم لا تخلو منهم أمة مهما طهرت نفسها قد يقفون عثرة أحياناً في سبيل بعض الأعمال كما وقف بعضهم سنة 1886 لما أرادت الحكومة احتكار اللالكحول ووقفوا ستة 1907لما أرادت منع شراب الابسنت المضر وحسنت صحة البلاد.

لا جرم أن هذا الشعب الذي صورنا هنا صفاته الاجتماعية هو شعب عظيم فإن من يضرب صفحاً عن شهواته المادية لنفع المصلحة العامة ومن يفادي براحته وحب ذاته وهو راض ساكن باسم لأجل مصلحة وطنه بعد من الشعوب التي تحيا حياة طيبة. أللهم إني أحسد الشعب السويسري حسد غبطة على هذه الأخلاق الفاضلة واطلب إليك أن ترزق شرقنا المسكين مثلها حتى لا يموت بفساد أخلاقة وقلة علمه ميتة جاهلية وقد خسر الدنيا والآخرة. سويسرا: قيودها في الحرية منذ قام الهلفسيون وكانوا يسكنون في شمالي سويسرا الألمانية الحالية أي في أرض ألمانيا وانضموا نحو القرن الأول قبل المسيح إلى التوتونيين والسميريين وهم مثلهم يحبون الغزو والغارة وأخلاق الحرية تبدو على هذا الشعب الهلفسي الذي سميت سويسرا باسمه هلفسيا وضع هذا الخلق مع لبن أجداده وتسلسل فيه على اختلاف القرون. وما كان أشراف القرون الخالية ولا حكومة الرومان التي استولت على سويسرا نحو خمسة قرون ولا النمسا بعد ولا الأساقفة ورجال الدين وكانوا هم الحاكمين في كثير من بلاد أوروبا ولا دوجات ميلانو وسافوا وبورعونيا ممن حكموا سويسرا يستطيعون أن يشددوا الوطأة على السويسريين لأنهم أشداء من وراء النشأة الجبلية متضامنون بينهم أخوان في السراء والضراء. من قرأ تاريخ سويسرا يعجب من صبر السويسري ويرى أن حروبه حتى زمن القسوة كانت لطيفة وكثيراً ما كان السويسريون يردون غارات جيرانهم بفزيعهم وتشتيتهم فقط أو بأمطارهم الأحجار من الأعالي أو إلقائهم في البحيرات إرهاباً وما أظن أنه سبق في التاريخ أن محارباً يجيء معتدياً على بلد ويحاصرها ثلاثة أشهر ويضيق خناقها ثم تخدم المحصروين الأقدار ويفيض نهر فيحمل جسراً عليه كمية من عسكر عدوهم فيتركون الحصار ويأخذون بإنقاذ الغقرى كما رقع لمدينة سولور السويسرية فإن صاحب النمسا حاصرها لتخضع له وهي مستقلة ثلاثة أشهر فطاف نهر الآر وحمل طائفة من جنده فبدلاً من أن يغتنم المحصورون هذه الفرصة تنادوا لمساعدة الغرقى فأنقذوا منهم عدداً كثيراً فلما رأي الملك ليولولد من السلوريين هذه الشهامة تأثر جداً وعقد معهم الصلح ورفع عنهم

الحصار وكان ذلك في القرن الرابع عشر. تعلم الهفلسيون الاحتفاظ بحقوقهم والاعتياد على الشورى وحكم أنفسهم بأنفسهم وكره الملوك منذ قال زعيمهم ديفكوليوليوس قيصر عامل الرومان تلك الجملة البديعة وقد أراد أن يعقد معه صلحاً فطلب قيصر إلى الهلفسيين رهائن فقال ديفييكو. تريد رهائن وقد علمنا آباؤنا أن نأخذها لا أن نعطيها وكان على الرومان أن يذكروا ذلك. ولكنك ترى اليوم هذه الأمة مع ما بلغته من الحرية التي لم تعهد لغيرها تتساهل بحقوقها مع حكومتها فيما تراه نافعاً لبلادها علماً منها بأن الحرية المطلقة لا يمكن حصولها في مكان من لمجتمع وهي بالضرورة محدودة بحقوق الغير وبالمصلحة العامة. السويسريون يرون في كل مكان المصلحة العامة ويتركون لها برضاهم صغار مطالبهم النفسية ويطالبون خاصة بتطبيق حقوق الفرد الأولية فلا يسيئون استعمال حريتهم الوجدانية وحريتهم القولية ليتخلصوا من عبءٍ فيه مصلحة عامة. السويسري لا يستطيع مع ما نال من الحرية أن يقطع شجرة من غابته إلا بإذن حكومته ولا أن يضمن داره من الحريق إلا عند حكومته لأنها هي ضامنه من الحريق ولا أن يلقي ورقاً ولا قصناً في إحدى البحيرات فضلاً عن الأقذار والأوخام فسويسرا التي احتفظت بحقوقها في عصور الظلمة قد زادت منذ خمسين سنة تدخل الحكومة في مصالحها على ما هي الطريقة المتبعة في إدارة البلاد الجرمانية وذلك بأن يكون للحكومة إشراف قليل على بعض شؤون لا تضر بحرية الأفراد والمجتمع. حرية الضمير والرأي والعبادة مضمونة في ارض سويسرا بموجب قانون الاتحاد السويسري الأساسي ولكن لا بصورة مبهمة بل إن لكل مديرية قانونها الخاص للاجتماع والدين والصحافة ينظر فيه الحين بعد الآخر ويطبق بحسن ارتقاء الشعب وأخلاقه. وحرية الصحافة لم تنقلب قط إلى عداء ومماحكات ومع شدة الانتقاد والجدال في المنازع السياسية فإن لها حداً تقف عنده لا تتعداه أعظم الصحف السويسرية ولذلك كانت صحافتهم على صورة لا تشبه صحافة الأمم الأخرى وربما كانت هي والصحف الإنكليزية صحف الحرية الحقيقية مع الاعتدال الغريب. أما نشر السفاهات والغراميات والخلاعيات فهذا لو جسر على نشره صحافي لا يجد من الأمة من يقرأه فيسقط بطبيعته. ومن الغريب أنك تجد في

سويسرا كنيسة يصلى فيها أهل مذهبين من مذاهب النصرانية وجريدة هي لسان حال حزبين مختلفين الحزب المحافظ والحزب المتطرف الاشتراكي فالقارئ يحكم على آراء الفريقين المتخاصمين من العدد الواحد. لا جرم أن القرون الخالية وحوادث الأيام قد دربت السويسريين طويلاً على الحرية وقلبتهم بين الشدة والتسامح أزماناً فصاروا يقدمون نعمة السلام والوئام وما تعقلهم الحال إلا ثمرة نضجت على مهل بعد أن ذاق أصحابها في انتظارها وتكييفها على هذه الحالة نصباً. حرية العمل وحرية الاشتراك في سويسرا متعادلتان فمن هذه نشأ الاعتراف بنقابات العمال وبحقوق اعتصابهم ومن تلك نشأ احترام المعتصبين لحق المخالفين لهم في الإضراب عن العمل ومع هذا تجد الاعتصابات أقل مما هي عند الأمم الصناعية الأخرى والأجور تزيد بزيادة غلاء الحاجيات وارتفاع أسعار الكماليات لأن العملة يتفاهمون ويجتمعون على الدوام مع زعمائهم. وكذلك حق حماية سويسرا للمظلومين ولا سيما السياسيين فإنه أرقى مما عند الأمم الأخرى ولكن سويسرا لا تحمي القاتل وكثيراً ما تعمد بعض مقاطعاتها إلى إخراج السفاكين وأرباب الدعارة من غير أبنائها إلى خارج الحدود. يبدأ تلقين الحرية وتطبيق حقوق الوطني عند السويسريين منذ عهد المدرسة الابتدائية. وليس في سويسرا على الجملة مدارس داخلية بل إن الطلبة الذين يرحلون من قراهم وبلادهم للتعليم يدخلون بيوت الأسر حتى لا يعيش التلميذ منذ صغره عيشاً متكلفاً كعيش المدارس الداخلية لا مثيل له في الحياة ولا يخضع لقوانين جائرة وهو الذي يحتاج في بدء نموه إلى الهواء والشمس والانطلاق. ومن علماء التربية هنا من بالغوافي منح إعطاء الطلبة حريتهم وأنشأوا لهم مدارس التربية الذاتية أو الحكم الذاتي فيتألفون أولاداً من سن الثانية عشرة إلى السادسة عشرة جمهوريات حرة ينظمون بينهم أمرهم والمعلمون لا يعملون إلا أن يلقوا عليهم الدروس وذلك لتلقين الأولاد الاستقلال والحياة العمومية. فالأولاد يختارون رئيسهم وهيأتهم الإدارية وأمين صندوقهم ويكون اختيارهم حسناً جداً في الأغلب ويجيدون في مناقشة القانون الذي يضعه مديرهم وتصح أحكامهم في عقوبة المخالفين لنظامهم فلا يسرق شيء من مال الصندوق ولو كان الأمين عليه في الثانية عشرة من عمره تحدثه نفسه أن يبتاع ببعض الدريهمات حلواء أو شكولاتا أن ملبساً يأكلها أو كرة

يلعب بها. فكأن سويسرا خلقت بدون أولاد أو أن التربية جعلت أولادها رجالاً ونساءها كذلك. حرية الصيد البري والصيد النهري والبحيري محدودة مقيدة في بعض الأوقات وعلى بعض المحال. ورجال الصحة يمنعون كل شيء إذا اقتضت الصحة العامة ذلك ولو كان فيه خراب عدة مقاطعات كأن يقيمون الحجر الصحي على الإنسان والحيوان فيمتنع أحد من الدخول إلى تلك المحال الموبوءة أو الخروج منها ولا ينبس أحد ببنت شفة اعتراضاً على ما حصل. وقانون العمل وتحديد أوقاته يشغل المستخدمين والعمال والعملة على صورة معقولة فيتمتعون به بشيء من الراحة والحكومة تتدخل في حياة الوطنيين الخاصة لتقدير الضريبة على دخل الأفراد الذين يقدرونها بأنفسهم أولاً وللحكومة الحق أن تراقبهم وكذلك كتابة كشف بعد وفاة الميت بملفاته. لكل عمل في سويسرا موانع ومحظورات فالماهر من يقرأ ما يقع نظره عليه من المكتوبات في الطرق والمحطات لئلا يغرم شيئاً بتعديه حمى لا ينبغي السير فيه أو إتيانه عملاً يعد منكراً في عرف القوم وهو عند غيرهم مباح وأي مباح. مثل منع دوس العشب في المروج عندما تنبت وقطع عدة زهور من جبال الألب وسير المرء في بعض المقاطعات على بعض طرق الكروم يتناول المنع في ذلك الأولاد والرجال مخالفة أن تحدث أحد الشرهين نفسه بأن يقطف خصلة من الكرم. واقتطاف العشب يجري بمعرفة الحكومة كل جهة بمفردها. ويمنع على بعض الجسور الخشب في بعض المقاطعات أن يدخن المرء أو يحمل قداحة ويوقف حيوانات اجتماعات. وهكذا تراهم يفرضون فروضاً ربما لا تقع مرة في العمر ويكتبون لها اللوحات ويضعون على من تعدى عليها الغرامات. هذه قيود الحرية وضمانات لها في آن واحد لأن الشعب مهما بلغ من رقيه هو كقطيع الغنم لا يخلو من جرباء وفي الأكثر يكون المقصود من هذه القيود الأجانب ليسوا على مستوى واحد في عقولهم وعاداتهم. عادة البصق ممنوعة قطعاً في كل مكان ولا سيما في القطارات حتى أن بعض الكنائس ككنيسة فريبورغ كتبت العبارة الآتية بحرف غليظ: احتراما لبيت الله المرجو الامتناع عن البصاق ويمنع التدخين من بعض المركبات في القطارات وللمدخنين مركبات خاصة كما أن للسكارى كذلك. وإذا حدث اختلاف بين راكبين في قطار

أحدهما يريد فتح النافذة والآخر يأباه فالحكم في ذلك لرئيس القطار فهو الذي يحكم بني المختلفين وهذه أيضاً من جملة ما قدروه من الاحتمالات في أنواع الحريات. سويسرا أرض الحرية منذ القديم ولكنها كما رأيت حرية من نوع آخر خاص لا تخلو من قيد في كل حال خلافاً لما يتصوره بعض الخياليين. سويسرا: حياتها السياسة ليست سويسرا جمهورية بل فسيفساء مؤلفة من عدة جمهورات صغرى ملونة براقة غربية في حجمها ونظامها وأفكارها وأخلاقها السياسية. فمن مقاطعاتها ما هو صغير ومنها ما هو كبير ومنها ما تدار المدينة فيه بإدارة غير إدارة القرى المجاورة لها ومنها ما هو عبارة عن مدينة وبضع قرى حولها أو أرباض. ومنها من يدين أهلها بالكثلكة وأخرى بالبرتستانتية وغيرها مزيج من المذهبين ومنها ما ينتمي إلى الحزب الإكليركي وأخرى محافظة متنطعة في مذهبها وغيرها متطرفة في اشتراكيتها ومنها التي تقدم نوافذ للعذراء مثل فريبورغ في حين جارتها جنيف فصلت بين الكنيسة والحكومة. وفي الجبال الوسطى وجبال الشمال لا تزال الحكومة المعروفة بحكومة البطارقة على الحالة التي كانت على عهد الألمان والفرنك والقوة التشريعية بيد مجلس الوطنيين ومن الجمهوريات جمهوريات صناعية مثل زوريخ وبال احاطتا علماً بكل دقائق المجالس النيبابية فتضعان ضرائب على الدخل وضرائب على رأس المال وتحكران بعض الأصناف للحكومة وتختاران طريقة الانتخاب على نسبة العدد. عادات نروفدية قديمة إلى جنب الاختراعات السياسية في القرن العشرين! قطعة من الجبال والأودية والبحيرات لا تبلغ مساحتها ثلث مساحة ولاية سورية ونفوسها لا يزيدون عن نفوس بر الشام كله وحكومتها في مديرياتها والأصح أن يقال في مملكها لأن لكل مقاطعة حكومة كأنها مملكة مستقلة أنواع منوعة وهذا لتكون عندهم اللامركزية على أسدها ويستمتع أخل كل ناحية مهما صغرت بفصل ما يرونه الأنسب لمصلحتهم والتغيير يتناول حتى النواحي التي تختلف إدارتها بحسب الإقليم. في غرب البلاد يسيرون على الطرق الفرنساوية وفي سويسرا الألمانية لكل بلد نظامه والمرجع واحد. خنا تجيء الناحية الضرائب وهناك تسمح لها وإرداتها أن لا تطالب

المكلفين بقرش. الاستقلال الإداري إلى جانب السلطة المحلية تختلق كل الاختلاف. المركزية في سويسرا الفرنساوية أكثر من غيرها في حين ترى نواحي أبينزل الألمانية جمهويات صغرى أنو جمهوريات تنوب عن جمهورية مستقلة إلا قليلاً وبهذا التغيير الكثير ساغ للأنظمة والأوضاع أن توافق أخلاق كل صقع وضرورياته وحاجات سكانة ورغائبهم التي تختلف باختلاف نوع الحياة. فالتعليم مثلاً إجباري في البلاد كلها يقضي على كل ولد أن يصرف في المدرسة من سن السادسة إلى الرابعة عشرة يتعلم فيها أموراً مشتركة بين المقاطعات كلها وما عدا ذلك فكل مديرية حرة بأن تنظم مدارسها على طريقتها وهي تطلق للنواحي حريتها أيضاً في بعض الأمور مدة التعليم في السنة تسعة أشهر ولكن بعض النواحي تقسم العطلة قسمين قسم وقت اشتداد الحر والآخر من آخر أيلول إلى أول كانون الأول وهو الزمن الذي تنزل فيه الماشية من الجبال وترعى في المروج إلى أوائل نزول الثلج تحت ملاحظة أولاد تلك القرى للتخصيص على هذه الصورة فوائد لا ينكرها إلا كل مكابر. يمنع التعديل الجائر ويحفظ للنواحي تنوعها وغرابتها ويبث روح الحياة المحلية والهمم الإفرادية ويزيد في ارتباط المرء بوطنه الصغير وهذه أحسن طريقة لتعريفه قدر الوطن الكبير وتحبيبه إليه. لكل مديرية وطنيتها فلها أعلام خاصة بها وألوان لا تشاركها فيها جارتها ولها أسلحة ولها شارات. وفي جميع الأعياد وعلى جميع المعاهد العامة توضع شارات لمديرية إلى جنب أعلام الاتحاد السويسري مثل دل برن وثور أوري ومفاتيح أونتروالد وكواكب فالي ومطرقة سان غال. لأن كل مديرية هي مملكة ووطن ولها تقاليدها وتاريخها وأمجادها فهي ليست مديرية بالمعنى الذي نتصوره في مصر والشام قطعة من بلاد اقتطعت منها كيفما اتفق بدون مراعاة الطبائع والتقسيم الطبيعي بل هي عضو حي نام واحد متماسك الأجزاء في الجسم الاجتماعي. وربما قيل أن تخصيص كل بقعة بحقوق خاصة مما يفرق أجزاء الحياة السياسية فتختلف الأحزاب وتكثر فلا يستطيع مجلس النواب العام أن يقوم بعمل ولكن سويسرا ليست على مثل ذلك فإن إرادة الأمة تسري حتى على المخالف ويسكت المناقش بظهور الحجة وربما قيل أن هذه للامركزية المفرطة تشغل أهل كل ناحية بخصوصياتهم فلا يعودون يلتفتون لأرقى مما يتجاوز حدود دائرتهم الضيقة كما هو المشاهد من جرائدهم الحلية فإنها كلها

جرائد خاصة بدائرة لا تتعداها ولا سيما في سويسرا الألمانية ولولا الجرائد الكبرى مثل جورنال دي جنيف والبوند وهي الصحف الجوالة الراقية لكان من يعيش في سويسرا أشبه بمن يعيش في قطر منعزل لأن السويسريين لا يهتمون إلا لزراعتهم وتجارتهم ومجالسهم وحوادثهم وما عداها فمعرفة وعدمها سواء ولكثرة هذا التغالي في اللامركزية خيف في القرن الماضي من تشتت الكلمة بتعدد النظامات فاتحدت أكثر القوانين العامة والمدنية اتحدت الخطوط الحديدية واتحد نظام العمل والجمرك وسير التوموبيلات فلم يعد يخشى التباس وصارت البلاد مستقلة كل واحدة بذاتها ولكنها في الشؤون العامة متحدة. وحدثت من هذا الاتحاد فوائد جمة من مثل اتحاد المديريات على أن تحتكر الحكومة كلها الخمور فنشأت من ذلك فوائد قللت من مقطوعية الخمر وحسنت نوعه وقل السكيرون والمعربدون وحسنت على بث الدعوة للامتناع عن المشروبات الروحية!. وابتاعت الحكومة الخطوط الحديدية الكبرى ما عدا الخطوط الصغرى المحلية على صورة كأنها لم تدفع عنه ثمناً وذلك بدون أن تضرب ضرائب ولا أن تعقد قرضاً أو تحتال حيلة فإن باجتماع الخطوط تحت إدارة واحدة قلت النفقات وكثر الإقبال فأخذت تلك الخطوط تربح ومن ريعها السنوي مدة 56سنة يغطى المليار فرنك الذي يدفع ثمناً للخطوط على نجوم وتقاسيط. ومن عجيب احتكارات الحكومة السويسرية احتكارها لضمان الحريق بل للضمان من الحوادث والأمراض لا لطبقة مخصوصة من العمال كعمال السكك الحديدية مثلاً بل للجنود الذين هم تحت السلاح ومن السلام وزمن الحرب. ومن الغريب المدهش أن تضمن حكومة أرواح مكوميها من رصاص العدو وقنابله وهذا لا مثيل له في المدينة الحديثة. ولا تضمن الحكومة من الشيخوخة كطبقة العملة مثلا لتنفق عليهم واحد أن يفكر فيه وضمانة مبلغ معين لمن بغلوا سناً معينة هو مكافأة على عدم الحساب للعواقب وللكسل. ولذلك لا ترى في سويسرا من لا يعم أم الشحاذة فلا أثر لها ولا اسم. والحكومة العامة هنا احتكرت خطوط التلفون وضمتها منذ البدء لإدارة البريد والبرق ولكن للأفراد أن يضعوا في محالها أو منازلها كحذائقهم أو منازلهم أو فنادقهم ما أحبوا من مثلها. السويسريون عريقون في الديمقراطية بكل ما فيها من المعاني تأصلت في نفوسهم وتشربتها دواؤهم منذ قرون طويلة. قلا لي أحد مديري الصحف الكبرى في لوزان أنني لا

أستطيع أن أعامل عمالي والمستخدمين في إدارتي إلا معاملة الأكفاء نعم أمرهم ولكنني أحاسبهم في معاملتي كما أحاسن رصفائي في التحرير وأصدقائي. وما ذلك إلا لأن الديمقراطية تأصلت فيهم وما ديمقراطية أميركا الشمالية التي يرد تاريخها إلى زهاءٍ مئة وثلاثين سنة وما ديمقراطية فرنس التي بلغت 43سنة من العمر بالنسبة لجمهوريات الاتحاد السويسري إلا بنات وأطفال فجمهوريات سويسرا عمرها خمسة وستة قرون ولذلك ترى في السويسري شعوراً طبيعياً في المساواة وليس في جمهوريته أوسمة ولا ألقاب تشريف فالعامل يشرفه عمله والمفضل على أمته ترفعه على رأسها في حياته ومماته. ورئيس الجمهورية السويسرية هو من أهل الطبقة الوسطى لا يميزه عن سائر أنباء السبيل في شوارع مدينة برن شيء من الأبهة والعظمة التي يبدون بها بلادنا القائم مقام الصغير دع لمتصرف والوالي والقائد والوزير ولا تجد تشرفات في سراي الاتحاد السويسري التي تضم إليها مجلس الأمة ومجلس الأقاليم وينتخب مجلس الاتحاد السويسري كل سنة رئيساً يتولى رئاسة المجلس ورئاسة جمهورية هلفسيا السعيدة وليس هو في الحقيقة إلا عميد مستشاريه الستة. ولا تشهد في بلاط حكومة سويسرا دسائس يراد بها بقاء الحكومة في أيدي المتولين عليها على نحو ما يقع في الأمم النيابية فإن المجلسين السويسريين لا يقبلان الوزارة قط فلا تعهد عندهم الأزمات الوزارية التي تسمع بها في الممالك الدستورية وإذا حدث خلاف بين المجلس والحكومة يتفاهمان بحرية إذا لم يتيسر لهما الاتفاق ويخضع المجلس الاتحادي أي الوزارة لإرادة مجلس النواب والأقاليم كما أن هذين المجلسين لا يماحكان ولا يراوغان. فمجلس الأمة لا يقلب الحكومة التي تنتخب مستشاروها السبعة أو وزراؤها السبعة كل ثلاثة سنين بل يجدد انتخابهم الفصل بعد الفصل لأنهم يكونون قد نشأت لهم تجارب مهمة في العمل. ورئيس مجلس الاتحاد السوري أو رئيس الجمهورية ينتخبه رصفاؤه الستة كل سنة ويعمل وإياهم بإخلاص وخلو غرض ويجددون انتخابه على رأس السنة وربما مضت الأعوام والرئيس لم يتغير لأنه إذا عمل العمل الصلاح وهو لا يعمل غيره بالطبيعة لا يرى من رصفائه من يحدسه على مركز الرئاسة. رواتب النواب هنا مقسمة بحسب الجلسات فأعضاء المجلس الاتحادي ينتاول أحدهم عن

كل جلسة عشرين فرنكاً ويمكن أن يبلغ مجموع ما يتناوله أحدهم في السنة ثلاثة آلاف فرنك فقط أم نواب الأقاليم فيتناولون عضو البلد عن كل جلسة ستة فرنكات وعضو القرية سبعة للواحد منهم على طول السنة من الرواتب من 240إلى 280فرنكاً في السنة ورواتب مستشاري المملكة ووزراؤها 15ألف فرنك لكل واحد مسانهة وراتب رئيسهم أي رئيس الجمهورية السويسرية 18ألف فرنك مسانهة ولذلك قد يضطر المسكين إذا كانت له أسرى كبيرة أن يشتغل أحياناً أعمالاً أخرى من تجارة وزراعة ونحوها ولكن لا على أنه رئيس جمهورية له سلطة بل بصفته فرد حكمه حكم الأهالي. الإخلاص هو الخلق الجوهري في الديمقراطية السويسرية فالشعب هو السيد ويجب أن يبقى كذلك. وقد اتخذت جميع الاحتياطات لتظهر إرادته بمظهرها ولتكون محترمة على الدوام. حتى أن بعض الأقاليم لا تزال بحسب قاعدة الفليسوف جان جاك روسو تحافظ على الحكومة التي تحكمها مباشرة بمعنى أن مجلس الوطنيين فيها يلتئم كل سنة فيتجنب حكام الأقاليم ويصدق على الحسابات ويقرر القوانين التي أعدها المستشارون الذين انتخبوا في السنة الفائتة. في سويسرا حزبان مهمان حزب المحافظين وحزب الأحرار يتناقشان في مصلحة البلاد ولكن إذا تولت الأكثرية زمام المجالس لا تنحني على الأقلية بل ترى من مصلحتها أن تقبل أعضاءها في جلسات وهناك حزب اشتراكي ولكن لا تأثير له لأن الأمة اشتراكية بطبيعتها. قال لي المسيو جان سبير وأستاذ العربية في كلية لوزان عندنا حزبان وأنا من حزب الأحرار ولكنني لا أجد فرقاً بين الحزبيين يصح أن يعد فرقاً ولذلك فكلنا حزب واحد في الحقيقة. فبارك الله بأمة مهما تعددت مناحيها وأصولها وأهويتها ودرجة غناها وأعمالها لا تختلف في المصلحة الوطنية ولا تختلف عن الحق قيد شبر.

آداب العرب

آداب العرب من التطاول على مقام الشعر العربي أن أحاول الإحاطة به في محاضرات ثلاث. ولكنكم قد رأيتم جميعاً هذه الكتب الصغيرة الموجزة التي يستدل بها المسافرون في سياحاتهم يفتح السائح دليلة فيجد المؤلف قد تكفل بأن يريه باريس وعجائبها وما حوت من كنوز في خمسة أيام. ومصر ونيلها وأهرامها وقبورها ومعابدها ومسلاتها وما أبقت الأدهار فيها في اسبوع من الزمان. فيجري وراء دليله الصامت الناطق ويعمل برأيه فيعييه الجري ويتولاه التعب ويقطر العرق من جبينه ولا يكون لديه مجال للتأمل والتفكير فيما يتجلى أمامه من العبر وما يقع عليه بصره من عظات القرون ولكنه مع ذلك يرى من المشاهد ما يترك في ذهنه أثراً قديماً وما يكفي لتكوين فكر عام لديه وتتولد عنده من الأثر ويطيل الوقوف أمامها يسائلها عما مر بها العصور الخوالي فكأنما سفرته الأولى تمهيد لسفرته الثانية. . . . . . فغايتي الآن أن أطير معكم فوق ربوع الشعر العربي. نطير طيراناً مكتفين بالتحليق في ممائه دون أن تطأ أرجلنا أرضه فنمتع النظر معاً بمرآها البهيج ونستنشق هواءها العليل البليل حاملاً أريج بلاد العرب وشذاها العطري. فهل لكم بعد هذا التطواف أن تجوسوا تلك الربوع الفائنات التي تمر أمام عيوننا مسرعة تجري كالريح فلم تروا منها سوى شواهقها وأن تشعروا بالحنو عليها والرغبة في التجول فيها لتستريحوا في وديانها وتشربوا من عيونها وغدرانها وتقطفوا من يانع ثمارها وتترنحوا بشذا أزهارها العطرة وقد أسكرتكم محاسنها. وأول سؤال يخطر على البال هو: ما هو الشعر العربي قال بعضهم في تعريفه إنه صورة ظاهرة وفي هذا التعريف من حلاوة التعبير وفي سمو المعاني ما فيه لأن الشعر يكون إذ ذاك مظهراً لصور حاسة وعواطف حقيقية لا تصنع فيها ومجموع حقائق لا أكاذيب وعرفه غيرهم بصوت أحلى من ذلك وأليق بالشعر فقال: إن الشعر أنقى كلام وأغلى نظام وأبعد مرقى في درجة البلاغة وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة وأعلقه بالحفظ مسموعاً وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقيانا، أو من النبات لكان ريحانا، ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل في أعين الزهر إذا تفتحت عيون الرياض

غب المطر وأرق من أدمع المستهام ومن الراح رقرق بماء الغمام (من شرح ديوان المتنبي للواقدي) فالشعر هو ريحانة النفوس ومزيل الهموم وديوان الحكمة ومصدر الخير والشعاع الساطع الذي يجذب الأنظار وتحوم حوله النفوس. بل هو عنوان المجد الخالد ورائد البلاغة وحجة اللغوي ومالك القلوب والدافع إلى جلائل الأعمال والمحرك للعزائم والرسول الذي يحمل أدق الرسائل وأرق العبارات. وقد عرف ابن خلدون الشعر بأنه الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقبل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة وهذا التعريف معول من قديم الأزمان ومن واجبات كل شاعر حريص على هذا الفن أن يتحراه في نظمه ويعمل به وإلا زالت عنه صفة الشاعرية. وعلى ذلك فالشاعر لا يكون جديراً بهذا الاسم إلا إذا صاغ عبارة في قالب خيالي وراعى أحكام الوزن واتبع فوق ذلك القواعد التي وصفها الأقدمون لتنسيق الشعر وأحكامه. فكأنما الحرية والتلاعب والخروج عن المألوف لا مجال لها في هذه المملكة مملكة الشعر التي كلها خيال في خيال والتي يهيج الفكر في أرجائها دون قيد ولا حرج. فإن صناعة الشعر خاضعة في شكلها بل وفي موضعها إلى حد ما لقواعد ثابتة لا بد من التقيد بها يظهر لنا إذن كأنه آلة موسيقية متناسقة الأنغام والتواقيع ولكنها خيالية من التنويع أما الشعراء فهم كالبلبل المغرد يحلو تغريده ويرق صوته ولكن نغماته هي هي في الصباح وفي المساء. . . . . وما دام هذا العيب هو العيب الوحيد في شعرنا فلنشهد أن شعراءنا عنوا على الدوام بالألفاظ والعبارات أكثر مما عنوا بالمعاني وهمهم أن يؤدوا المعنى الواحد بعبارات مختلفة متعددة رنانة بديعة الأسلوب. وقد شبهوا المعنى بالماء - وهل كان لهم أن يشبهوه بالخمر وهي من المحرمات - والشعر بالإناء وقالوا أن الماء ماء على الدوام ولكن العبرة بالإناء فكلما أجاد الصانع إتقان صنع هذا الإناء وحلاه بالنقوش والزخاريف وأبدع في صناعته وأبرزه تحفه تلفت الأنظار كان أعظم شأواً في عالم النظم وأجود شعراً وأرفع مكانه ولهذا ترى الشعراء على الدوام يسعون وراء الألفاظ البديعة ويتنافسون في صوغ العبارات

الساحرة النادرة ويتلاعبون بها كما تشاء أهواؤهم وكما توحي إليهم مخيلاتهم وليس في الأرض أمة بلغت مبلغ العرب في سبك الألفاظ وصياغتها فهم حقيقة صواغ الكلام والسحرة الصادقون الذين كانوا يسحرون الناس بحسن بيانهم وهم أيضاً كانت تسحرهم الحروف التي كانت ترقص أمام عيونهم وتتلاعب بهم. ما كانت العرب تقول ماذا يهمنا من الكأس إذا طاب الشرب ودب دبيب الخمرة إلى النفوس بل كانوا من المولعين بفنهم الشغوفين به يسكرهم جمال الشكل وبسحرهم حلو الحديث ويأخذ بمجامع قلوبهم الكلام الجزل والخيال الذي لا تلمسه الأيدي. ألقى رينان محاضرة شهيرة في سنة 1883 عن الإسلام والعلوم انتقد فيها بشدة ما قيل عن المدينة الإسلامية وقال إن ما تفق الناس على تسميته الحضارة الإسلامية لم يكن لم يكن في الحقيقة سوى المدينة اليونانية نشرت من رمسها وهذبت تبعاً لما أظهرته الأيام بل ولم يكن الفضل في نشرها للعرب وإنما كان الفضل في ذلك للسوريين والكدانيين وأهل الهند وفارس والأندلس الذين صاروا عرباً بحكم الفتح واتحاد اللغة. قد يكون فول هذا العالم الكبير صحيحاً من بعض وجوهه وعلى كل حال فإن مجال الأخذ والردلية فسيح وباب المساجلة واسع ولكن الأمر الذي لا مجال فيه للجدل هو أن العرب لم يأخذوا شعرهم من اليونان أوالرومان أن من أية أمة من الأمم. فالشعر العربي زهرة نبتت في أرض العرب وتفتحت أكمامها في بلاد العرب وأينعت في بلاد العرب دون أن تتلقح بلقاح غريب بل هي عذارى عربية ولدت في الصحارى العربية وشبت وترعرعت في البلاد العربية دون أن يلامسها غريب فيشوه محاسنها ودون أن تضيف إلى حينها البدوي حسناً مستعاراً ما أغناه عنه. ولاحظا يا سادتي أن العرب نفوا إلى لغتهم كل أوجل ما يهمهم من المؤلفات والكتب التي تركتها الأمم التي سبقتهم في ميدان المدينة وأخذوا عن كل أمة أحسن وأثمن ما أخرجت قرائح أبنائها فأخذا عن اليونان الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى وعن الفرس الفلك وآداب الاجتماع والموسيقى والروايات، وعن الكلدانيين الزراعة والتنجيم وعن المصريين الجراحة والكيمياء إلى غير ذلك مما أخذوه عن غيرهم. ولكنهم ما خطر في بالهم يوماً من الأيام أن يقبلوا من أمة أخرى بيتاً من الشعراء ومعنى من معاني الخيال أو أن يتحدوا

غيرهم في فن النظم. كانوا يعتقدون أن شعرهم أرقى وأسمى من شعر جميع الأمم فكانوا كلما ألقوا أنظارهم على ما أثمرت قرائح أبناء العرب طربوا ورقصوا لو داخلتهم العزة وحق لهم أن يفخروا وأنفوا أن ينقلو من غيرهم شيئاً في هذه الباب. وفي لاواقع فإنه لا توجد في العالم أمة وصلت آدابها إلى ما وصلت إليه آداب اللغة العربية لا في غناها وفي غزارة مادتها ولا في متانة أساليبها ولا في نوع شعرها الحماسي ولا غزلي وغيرهما من فنون الشعر الخيالي (فالشعر العربي يكاد يكون كله من الشعر الخيالي) ولم ينبغ في أمة من الأمم عدد من الشعراء يوازي أو يناهر عدد شعراء العرب وذلك راجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية: السبب الأول - أن العربي حاد الإحساس إلى درجة غريبة سريع التأثير كثير التحمس كريم النفس قريب الغضب والرضا على السواء. ومن طبائعه أنه مندفع في أمره. مفيض بما في خاطره. فلا يمكنه كتمان ما في نفسه. ولذا تأبى طبيعته أن يظل ساكتاً عما حوله من المؤثرات فكان من الطبيعي أن تغنى بما يشعر به وأن يكون غناؤه صدى حقيقياً لعواطفه شبيهاً بها في شدتها وتناسبها وتناسقها فيخرج كلامه مصوراً تصويراً خيالياً موزوناً هو الشعر. السبب الثاني - أن اللغة العربية هي في ذاتها أصلح اللغات للشعر وهيهات أن تقاربها لغة أخرى في غناها وفيها ما لا يحصى من المترادفات المتوافقة لفظاً وكثير منها متحد وزناً وهي وحدها تكفي لتصوير الخيال بدون الاحتياج إلى الاستعانة بغيرها فإن فيها العشرات بل المئات من الأسماء للدلالة على بعض المسميات سواء كانت من الحيوان كالأسد والثعبان والحمار ولناقة والثور والكلب ولقط. أو من المأكول كاللبن والعسل والتمر أو من المشروب كالماء والخمر أو من السلاح كالسيف والقوس والسهم والرمح ولمجن أن أو من الأوصاف كالطول والقصر والكبر والصغر والشجاعة والجبن والكرم والبخل فللأسد خمسمائة اسم وللثعبان مائتان وللناقة مائتان وخمسون وللماء مائة وسبعون أما المصائب والأرزاء فأربعمائة اسم ولعمري أنه عدد لا مبالغة فيه بل ربما كان أقل مما يلزم بالنسبة إليها. . . . . . على أن هذه الكثرة في مادة اللغة لم تمنعها من أن تكون دقيقة في معانيها محكمة في مبانيها

فقد خصت كل ليلة من ليالي القمر باسم كما خصت كل ساعة من ساعات الليل والنهار. وكذلك سميت الريح بأسماء مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا وقعت بين ريحين فهي النكباء وإذا وقعت بين الجنوب والصبا فهي الجربياء وإذا هبت من جهات مختلفة فهي المتناوحة وإذا كانت لينة فهي الريدانية. وإذا جاءت ينفس ضعيف فهي النسيم فإذا كان لها حنين كحنين الإبل فهي الحنون فإذا ابتدأت بشدة فهي النافجة وإذا كانت شديدة فهي العاصف. فإذا كانت شديدة ولها زقزقة فهي الزقزاقة الخ. . وربما كانت هذه الكثرة داعية إلى الاستغراب ولكن متى ظهر السبب بطل العجب. فقد كان العرب في جميع الأزمان من أكثر الأمم اشتغالاً بلغتهم ثم كانوا فوق ذلك مولعين بفطرتهم بتحليل كل ما تقع عليه أبصارهم ويدرس نزعات النفس وأحوالها. فدرسوا من كل شيء جسمه وشكله وروحه وأثبتوا أوصافه ومميزاته وأصله ومؤثراته وعيوبه وفضائله وخصوا كلاً من هذه الأوصاف والمميزات باسم يدل على الوصف وعلى الحالة التي يكون بها. فالخمر مثلاً سميت خمراً للدلالة على أن أصلها من الاختمار وراحاً للدلالة على ما تحدثه في نفس شاربها من الارتياح وحمياً للدلالة على ما تبعثه فيه من الانفعال الخ. . . . ثم إن الأمة العربية كانت مؤلفة من عدة قبائل ولكل قبيلة منها لهجة خاصة ولغة تختلف بعض الاختلاف عن لغة غيرها فلما توحدت هذه القبائل اندمجت ألفاظ كل قبيلة وعباراتها في صلب اللغة. وبعد ذلك جاء الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من الأمم فرأوا من الأشياء والأدوات والحاصلات والعادات والصناعات ما لم يكن لهم له عهد من قبل، فاضطروا إلى إدخال الأسماء الأعجمية إلى اللغة العربية بعد أن نحتوها وهذبوها فأصبحت جزءاً منها. ومن ذلك توجد لديكم فكرة عن مقدار غنى لغتنا العربية الذي لا يحيط به حصر ويقصر عن وصفه لسان. أضيفوا إلى ذلك تعدد الجناس وتفرقه وهي تفتح السبيل واسعاً للتورية والمجاز وغير ذلك من ضروب البيان التي تأسر اللب فيجد منها الشعراء الفحول والكتاب البلغاء ما يبغون لكي يهيموا على عالم الخيال ما شاؤوا وشاءت لهم مقدرتهم وبكون لهم منها ينبوع للفكاهات والتنكات ولما تسمونه أنتم معاشر الفرنسيس كلامبور وبهذه المناسبة أذكر أن العلامة اللغوي الشهير لتريه زعم أن تاريخها يرجع إلى القرن الثامن عشر للميلاد

وأنها من وضع شريف أوجي. ولكني أميل إلى الاعتقاد بأنها أعرق من ذلك شرفاً ونسباً وأنها مؤلفة من كلمتين عربيتين هما كلام وبور أي كلام فارغ. . . وللعرب قصائد بتمامها تنتهي كل أبياتها بكلمة واحدة يختلف معناها في كل بيت منها والآخر بسيط لا غرابة فيه فكلمة عين مثلاً لها 35معنى وكلمة عجوز ستون الخ. السب الثالث - أن العربي فطر على رقة الشعور وسعة الخيال والقناعة والتفكير والتمتع اليسير من حاجيات المعاش فساعده ذلك على الانصراف إلى التأمل والتفكير والتمتع لهذه الحياة التي ينشط منها الفكر من عقاله ويسرح في مسارح الخيال. فإذا انصرف عن القتال وانتهى من الغزو أحاط به السكون من كل جانب وشمله الهدوء ونظر إلى السماء فإذا هي زرقاء لامعة في النهار مرصعة بالنجوم في الليل فدعاه السكون الذي حوله وجمال المناظر التي يرسل إليها بصره إلى فحص فؤاده وتعرف خبايا قلبه والإمعان في مصائب الناس وتصاريف الزمان وتقلبات الأيام فإذا انقطع هذا السكوت فجأة واقبلت القبائل كعادتها تتقاتل وتتطاحن وجد في ضربات السيوف وفي ملاحمة الأقران ما يثير حماسته ويدعوه إلى الفخر والتغني بالبأس وشدة المراس. فكان من كل ذلك محرك للنفس العربية ولكل أوتارها ونغماتها. فليس بغريب إذن أن يكثر شعراء العرب وأن تكون ثمرات قرائحهم قد بلغت حد الإعجاز مع وفرتها. على أني لا أرسل الكلام على عوهنه ولا أقتصر على إرسال القول مبهماً بل أقول لكم جميعاً افتحوا مؤلفاتنا القديمة والحديثة سواء كانت تبحث في الفلسفة أو الطب أو الفلك أو الكيمياء أو الفقه أو الرياضيات أو لاموسقى أو لتاريخ. ثم أجيلوا النظر فيها تجدوا فيها حتماً كثيراً من الأشعار. ذلك أن العشر امتلك لب العربي منذ بزغت شمس تاريخهم وصار له على نفسه السلطان المطلق. فلو تركنا الشعر جانباً وغضضنا الطرف عنه لما استطعنا معرفة تاريخ العرب ولا فهم أحوالهم وعاداتهم والأدوار التي مروا بها فالشعر هو من عناصر الحياة العربية فهو بالنسبة لها كالهواء بالنسبة للحياة الإنسانية بل هو الحياة العربية نفسها بكل قوتها وشدتها ورقتها. وقد كان الشعر فطرة عند العرب يرسلونه على البداهة بلا أدنى صعوبة ولم يكن فقط

مظهراً لسانحة تمر أو فكر يخطر على البال ثم ينمحي. بل كان مظهراً لكل معنى من المعاني العادية ووسيلة للتعبير عن كل المعارف الإنسانية حتى منها بل للتعبير عن أدق النظريات وأبعدها غوراً فتجد بعض المؤلفات النحوية شعراً بل تجد من المؤلفات الخاصة بالتقوى والعبادة أو بالطب أو الكيمياء أو المنطق ما وضع شعراً. بل إني أستطيع أن أقول دون أن أتعرض تعرضاً كبيراً للتكذيب، إن العرب لا بد أن يكونوا ضمنوا المعادلات الجبرية والهندسية بعض أبيات من أبياتهم حتى تعلق بالأذهان كما جرت عادتهم. بل إنه لا يكون من الإغراق في القول أن أقول بأن العرب كانوا يعبرون عن أفكارهم في غالب الأحيان وفي جميع الأزمان بطريق النظم فيكون الوزن قاعدة تعبيرهم كما كان قاعدة أفكارهم وحركاتهم وسكناتهم. ولا غرابة أن يكون ذلك من أقدم الأزمان فقد زعم بعضهم أن أول من نطق بالشعر العربي أبونا آدم عليه السلام وقد حفظ لنا التوراة الأشعار التي نظق بها. وما زال بعض المولعين بالمناقشات يتباحثون إلى اليوم إذا كان الأمر الذي لا نزاع فيه هو أنه إذا كان آدم شاعراص فإن العرب أحق الناس بالانتساب إليه وأجدرهم به لأنهم أمراء الشعر وسادة البيان. فإذا كان للملوك أسر فإن للشعراء أيضاً أسراً آل إليها المجد ووالله لهؤلاء أكبر شرفاً وأحق بالفخر الصحيح والمجد الرفيع من أولئك. وأذكر هنا النعمان ين بشير الأنصاري فهو شاعر اين شاعر وحفيد شاعر وابن شاعر ووالداً للشاعر الكبير زهير زجداً للشاعرين بن كعب بن زهير وبحير. وهل أنسى سلالة حسان بن ثابت التي نبغ فيها عدد عظيم من الشعراء مدة قرون متوالية. وقد كان الحال كذلك بعد الإسلام أيضاً فإن الشاعر الكبير فارس كان أبوه وجده من الشعراء ومثلها أبناؤه وأحفاده. وما الفائدة من هذا المقدار وأي إنسان تبلغ به الدعوى مبلغاً يزعم معه أن في وسعه أن يخصي شعراء العرب وقد كان عددهم يتجاوز على قول أحدهم النجوم التي ترصع الزرقاء والأزهار التي يفوح عنبرها في الحدائق والمروج. على أن كثيراً من الشعراء نعرف أسماؤهم ولكن لم يصلنا شيء من منظماتهم وبعضهم لم يصلنا منهم إلا أبيات قليلة مع أنهم كانوا على ما أثبت التاريخ من كبار الشعراء. ولا غرابة في ذلك إذا علمنا كيف وصلت إلينا أشعار الجاهلية.

وكان يلتف حول الشعراء في العادة جماعة من مريديه وتلاميذه فيحفظون ما يلقيه من الأشعار ويتناقلونها عنه وينشدونها أمام الأمراء أو المجاهدين السائرين إلى البلاد أو بين الجماعات مراعاة لمقتضى الحال متبعاً لما إذا كان الغرض من القصيدة المديح أو الفخر أو الغزل أو الحكمة ثم تلا ذلك العصر كان الحفاظ أو الرواة يستظهرون عدة قصائد من فحول الشعراء مدفوعين إلى ذلك بعامل الإعجاب والتغني بها والمقارنة بينهما. وقد كان هؤلاء الحفاظ هم الوسيلة الوحيدة لبقاء هذه الأشعار وتناقلها بالتواتر من جيل إلى جيل. ولكن عدداً عظيماً منهم لقي حتفه في الحروب التي قامت في صدر الإسلام فنزل معهم إلى القبر جزء عظيم من الأبيات البديعة التي كانت تحويها صدورهم والتي كانت مفخرة العرب فلم يعد أحد يتناقلها بعدهم. ولم ينبته أحد إلى تدوين قصائد كبار شعراء الجاهلية في بطون الكتب لحفظها من الضياع إلا في آخر القرن الأول من الهجرة وعمدوا في هذا السبيل إلى جمعها من صدور كبار الرواة الذين كانوا يستظهرون الكثير منها كحماد الذي كان يحفظ سبعة وعشرين ألف بيت من أشعار الجاهلية كل ألف منها تبدأ بحرف من الحروف الهجائية وكالمفضل الضبي وخلف الأحمر وأبو ضمضم الذي كان ينشد أشعاراً لمائة شعر باسم عمرو وكأبي تمام واضع كتاب الحماسة الذي كان يحفظ على ظهر قلبه أربعة عشر ألف بيت من الشعر كلها لفحول شعراء الجاهلية. أما الأشعار التي قيلت لعد الإسلام فقد ضاع منها عدد عظيم بسبب الفتن والحروب التي قامت بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم من الأمم في جميع لأزمان وفي جميع البلاد التي خضعت للإسلام ويكفي لمعرفة ما ضاع منها أن نلقي نظرة على مؤلفات بعض أكابر الكتاب التي هي أسبه بالفهارس لالتزامها جانب الإيجاز لنتبين منها أسماء الذين عاصورهم من الشعراء وما ألف في فنون النظم ثم نتساءل ما الذي بقي من كل ذلك لم يبق إلا النزر اليسير الذي لا ينكر ولكن هذا النزر اليسير يكفي لرفع شأن أمة واحدة وهو يدل على مقدار نبوغ العرب في حلبة النظم وعلى ما كان لكبار الشعراء لديهم من المنزلة السامية والمقام الرفيع. ويجرنا هذا الحديث إلى البحث في منزلة الشعراء في العالم العربي ثم إلى ذكر كلمة في

بيان مميزات الشعر العربي في أهم العصور في تاريخ العرب. كان الشاعر في الجاهلية مهيباً موقراً يحيط به الإجلال وحف به الإكرام. فإنه كان عميد القبيلة وحامي ذمارها وراوي تاريخها والحافظ لأنسابها والمتغني بذكر مجدها فهو بهذا الاعتبار كان قريب الشبه بالكهنة في التاريخ القديم. فهو الذي كان يفتخر بأجداده وبالوقائع والغزوات التي امتاز فيها قبيلة بالبسالة والأقدام وشدة البطش فيحفظ بذلك ذكرها في أبيات من الشعر لأن الأشعار هي الأثر الوحيد الباقي في تاريخ العرب والوسيلة الوحيدة لمعرفة أحوالهم وتاريخهم. وهو الذي كان يهجو أعداء عشيرته ويدفع السباب بمثله. وكثيراً ما كانت كلمة عذبة حلوة من شاعر مجيد تسكن ثائر العداوات وتطفئ نار الخصومات كما أنه ما كانت كلمة منه تستفز بغضاء القبائل وتشعل نار الحرب بينها. ومن البديهي أن أمة هذه حالها وهذه طبائعها كانت تقابل ظهور شاعر بين ظهرانيها بالفرح والابتهاج وتعتبر شهرته من الحوادث ذات البال. فكانت القبائل الموالية للقبيلة التي نبغ فيها شاعر تقدم إليها زرافات لمشاركتها في إعلان أفراحها فتقام الولائم وتنحر الذبائح وتوزع الأرزاق وتعلو أصوات النساء ويتسارع الأطفال إلى تقبيل طرف ثوب بطل الاحتفال عسى ربة الشعر توحي إليهم في مستقبل الأيام ما أوحته إليه. وكان العرب في كل يوم ينصرون عن القتال وتبطل بينهم الحروب ويتهادنون لأيام معدودة ويغدون من كل فج سحيق من امرأة وعلماء وتجار وشعراء إلى حيث يجتمعون في عكاظ يتفاخرون بالشعر ويتبارون في الإبداع فيه. وكان يضرب لذلك فسطاط فخم ويتولى الحكم بين المتسابقين أبعد الشعراء شهرة وأعلاهم كعباً فكان يسمع ما يتلى بين يديه من القصائد ثم يبدي حكمه. وتكتب أجمل القصائد على نسيج من الكتان أو ورقة من أوراق البدي وتعلق ف يالكعبة ومن هذا أطلق عليها اسم المعلقات وعددها سبع وهي من أمتن الشعر وأحسنه بل إن المعلقات - وشعر الجاهلية عامة - هي المثال الذي مازال الشعراء ينسجون على منواله وينسجون نحوه إلى اليوم إلا في ما ندر من الأحوال تناقلها الناطقون بالضاد جيلاً بعد جيل وتغنوا بها وحفظوها وحاول شعراؤهم على ممر الأزمان يتحدوها في معانيها ومبانيها وتصوارت واصفيها وخيالاتهم. وما زال الشعراء إلى زماننا يتبعون

في وضع أشعارهم القواعد والروابط التي وصفها شعراء الجاهلية فترى الشاعر يبدأ على الدوام ينصب المضارب والخيام ومنازل الأحباب كما كان يفعل شعراء العصر الجاهلي. ويطلب من صديقه أو من صديقته أن يقف معه ليبكيا معاً على الطلل والمنزل الذي كان مرتعاً للبهجة والأنس ثم هجره الصفاء وأصبحت ذكراه مصدراً للألم ومثاراً للأشجان. ثم ينتقل إلى التغزل بمحاسن المحبوبة والتفاخر بقومه وبشاعتهم وثباتهم في حومة الوغى ومكارمهم ثم يتخلص من ذلك ببيت يجب أن يكون غاية في الحسن والإبداع منتقلاً في تذكارات حبه وغرامه أن يرجعوا إلى المعاني القديمة والتخيلات البديعة التي سبقهم إليها سلفاؤهم مقتصرين على تغيير المبنى والتلاعب بالألفاظ وحسن السبك. ثم جاء الإسلام فانصرف الناس عن الشعر زمناً فإن العرب وجدوا في القرآن ما تصبوا إليه نفوسهم من جيد القول. وجاءهم الكتاب المنزل بصورة جديدة من صور الكتابة لم يألفوها من قبل فلاهي بنثر ولا هي بنظم بل هي شيء أعلى من ذلك جاءهم بصورة إلهية سامية لا يعرف الواصف يصفها جلبت ألبابهم ولعبت بعقولهم وهم الذين رضعوا الفصاحة من ثدي امهاتهم وتربوا على البلاغة من مهادهم وعغرفوا غث الكلام من سمينه فاسركتهم هذه البلاغة العالية الخالدة وهذه الكلم الجوامع. وذهب المفسرون بعد ذلك إلى أن القرآن هو غاية الإعجاز في باب البلاغة والبيان وإلى أن الملائكة والناس يعجزون عن الاتيان بآية من آياته. وقد نشأ من ذلك أن الشاعر سقط من شاهق مجده ولم تعد له نتلك المكانة الرفيعة التي كانت له في سالف الأزمان لم يعد ذلك الكاهن القديم والمدافع عن قبيلته وحامي حمى قومه بل تغير رأي الناس فيه وصاروا ينظرون إليه شزراً. وزاد الطين بلة أن بعضهم ذهبوا - أن صواباً وأن خطأ - إلى أن الرسول يكره الشعر، والشعراء واستدلوا على ذلك ببعض كلمات وردت في موضعين أو ثلاثة من القرآن يمكن تفسيرها بأنها لوم لبعض الشعراء أضف إلى ذلك أن الحماسة الدينية بلغت أشدها عند ظهور الإسلام فانصرفت الأذهان عن الأشعار والفنون واشتغلت بطبيعة الحال وبحكم الانقلاب الجديد بالبحث في أصول دينهم وأحكامه وتفاسيره وبالغزو والجهاد لنضر الدعوة إلى الإسلام. على أن الشعر رغماً من ذلك لم يمت تماماً فإن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين أشار على المسلمين بأن

يعلموا أولادهم الأمثال والشعر وكان الإمام علي ابن أبي طالب رابع الخلفاء من فطاحل الشعراء وأعلاهم كعباً في ميدان النظم. ولما أمر الخليفة عثمان بن عفان بجمع القرآن من صدور الرجال ولم يكن قد جمع إلى عهده وتبين أنه يصعب تفسير بعض آياته وكلماته وإدخالها في أذهان الأمم الأجنبية كأهل مصر والشام وفارس الذين كانوا قد انتحلوا الإسلام وتألفت منهم غالبية أهله منذ القرن الأول للهجرة - رجع شارحوه ومفسروه إلى الأشعار القديمة للاستئناس بها والاستعانة بها على فهم ما أغلق عليهم من معاني بعض الألفاظ القرآنية متبعين في ذلك قول ابن عباس إذا قرأتم شيئاً في كتاب الله فلم تعرفوه - فاطلبوه - في أشعار العرب فكان ذلك مشاهداً على نهضة الشعر والعناية بأمره بعد إهماله زمناً فبدأت تعدون إليه بهجة الأزمان الخوالي رويداً إلى أن بلغ أعظم شأو في أيام الأمويين وارتفعت منزلة ارتفاعاً كبيراًَ. وهناك أسباب سياسية دعت إلى هذا التغيير فإن موت الإمام على أوقع الفتنة في بلاد العرب فانقسموا إلى قسمين متناظرين حزب على وحزب معاوية. وعادت القبائل إلى التطاحن والقتال بعد أن كان الإسلام قد جمع بينها ووحد كلمتها ومحا الضغائن التي تأصلت في نفوسها قروناً فبعثت العادة القديمة من الرمس وسار كل شاعر في طليعة قومه يحرضهم على القتال ويبعث الحمية في نفوسهم متوسلاً إلى ذلك بتذكيرهم بوقائعهم الباهر وأفعالهم المجيدة. وكان معاوية داهية حصيف الرأي فعسى بجمع الوسائل إلى زيادة عدد أنصاره فأفلح في ضم معظم القبائل إلى جانبه بفضل دهائه وحكمته وسخائه وكان من بين الوسائل التي عمد إليها أنه أغدق هباته على الشعراء فقابلوا الجميل بمثله وألفوا القصائد في مدحه والتحدث بكرمه ومروءته فكان ذلك من أكبر الأسباب في ميل القلوب إليه وتمهيد أسباب النصر له. وسار خلفاء معاوية على نهجه ففتحوا أبوابهم للشعراء لاكتساب مودتهم من جهة ولأن بعض الأمراء كانوا مولعين بالشعر من جهة أخرى. فأزهر عصر الشعر وبلغ درجة لم يبلغها من قبل. ولكن الشعراء نسوا مقامهم القديم ومكانتهم الأولى ولم يدركوا قدر اللآليء التي كانوا يجودون بها فانحط مقامهم ونزل قدرهم. وبعد أن كان الشاعر في الجاهلية أمير قبيلة وسيد قومه أصبح في عهد الأمويين رجلاً من أولئك الذين تتألف منهم بطانات الأمراء. كل همه أن يستدر هباتهم وأن يتزلف إليهم وينال الحظوة لديهم.

وفي عام 132 للهجرة حدث انقلاب جديد في العالم الإسلامي فإن أبا العباس ثار على الأمويين ونصره في ذلك أهل خراسان وفارس فتغلب عليهم ونزع الملك من بين أيديهم بعد أن نكل بهم تنكيلا وقد علا شأن الشعراء في عهد العباسيين من أول عهدهم إلى يوم زوال ملكهم حين استولى التتار على بغداد في عام 656 للهجرة. فكان الشاعر نديم الأمير وسميره جليسه فإن الخلفاء العباسيين قربوهم إليهم واستصفوهم وبالغوافي أكرامهم مراعاة لأسباب سياسية لا طعماً في استعمالهم وسيلة لكسب قلوب المسلمين بل لأن جلهم كانوا من أهل العلم والأدب وكانوا لا يأنفون من قول الشعر. وقد بلغ العرب في أيام العباسيين من العزة والسؤدد إلى غاية ما وراءها غاية وأدركوا أكبر نصيب في ميدان التقدم والنجاح. بل إن عهد الدولة العباسية كان العصر الذهبي للشعر وللشعراء أيضاً مدة خمسة قرون متوالية. ولم يعد الشاعر ذلك الكاهن القديم ذلك العهد قبائل وشيعاً بل كانوا أمة واحدة جمعت كلمتها وتمازجت عشائرها - من الوجهتين الدينية والاجتماعية - بل كان الشاعر صديق الأمير ومؤانسه ومسيره ورفيقه في ساعات لهوه وأوقات أنسه. فعلا شأنه وارتفع قدره ونبه ذكره وانهالت عليه النعم وكان الناس يجلونه ويخشون بأسه وسطوته ويحسدونه على ما هو فيه من نعيم. وكان الشاعر عالماً أن الفضل فيما ناله من الحظوة والخير يرجع إلى إبداعه في فنه فكان يطلب المزيد كل يوم في الإجادة ويضرب في الإبداع بسهم أوفر حتى رق الشعر وسما وبلغ منزلة رفيعة لم يعرفها من قبل بل صار هيكلاً مقدساً لا تصل إليه النفوس العالية والقلوب الرقيقة الحساسة. تدخله خاشعة متهيبة تحاذر الزلل فيا له من عصر سعيد تحكم فيه الشعر في النفوس وملك الأفئدة ومهد السبيل لصاحبه ليصل إلى أرفع درجات الجد وأعلى ذرى السؤدد. كان الشعر يغنى عن الحسب والنسب ويغنى الشعر عن التفاخر بغيره من الفضائل الحربية أو المزايا السياسية. حتى أن شاعراً مدح أبا العباس مؤسس دولة العباسيين فولاه ولاية. بل إن المأمون فعل ذلك مع ابن الجهم جزاءً له على قوله بيتاً من الشعر أعجبه وأطربه. بل هل جاءكم نبأ الخلفية هارون الرشيد الذي بلغ من إكرامه للعلم والآداب أنه صب الماء لأبي معاوية الضرير ليغسل يديه. أو ابنيه الأمين والمأمون اللذين تنازعا في أيهما يقدم

لأستاذه حذائيه ثم اتفقا على أن يقدم له كل منهما واحداً. وأذكر على سبيل الاستطراد أن مسلم بن الوليد عين لوظيفة سامية هي وظيفة صاحب البريد بتقاضي رواتبها دون أن يشتغل فيها وكفى أنه كان يغتني بابنة الكرم ومكارمها. وأن الطغرائي كان وزيراً لسلطان الموصل مسعود ين محمد السلجوقي وأن المتنبي كان يعامل الأمراء وتؤدى له التحية التي تؤدى لهم. في تلك الأيام السعيدة كانت القصيدة تكتب على قطعة من رخام فيجازى قائلها بثقلها ذهباً. وكان البيت الواحد يساوي من ألف درهم إلى ألف دينار. فيالك من زمن مضى وانقضى كان الشعراء فيه ملوكاً والملوك شعراء. نعم لقد كان الملوك شعراء لا مبالغة في ذلك ولا مجاز وفي طليعتهم الخليفة هارون الرشيد ومعظم الخلفاء العباسيين وأحسنهم وأبلغهم عبد الله بن المعتز الذي قضى في الخلافة يوماً وكأنما فيكتور هيجو شاعر الفرنسيس كان قد أخذ عنه حين قال في رواية روت ما معناه وفتحت روت عينها بين اليقظة ولمنام وتساءلت أي أله في هذا الصيف الخالد ألقى وهو سائر هذا المنجل الذي صيغ من ذهب في الحقل الذي رصعته النجوم فإن عبد الله بن المعتز قال قبل ذلك بعشرة قرون انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا ولقد أطلت القول عن هذا العصر. لأنه أحسن العصور بالنسبة للشعر العربي حيث تجلى فيه جمال الشعر وإبداعه أكثر من كل عصر سواه. وثانياً لأن ذلك العصر الزاهر الأنوار أعقبه ليل بهيم كشف الظلمات مازلنا نتخبط في دياجيره إلى اليوم فلا تغيره إلا بعض نجوم قليلة تتألق فيه حيناً بعد آخر وبعض بروق تومض أحياناً ثم تختفي. أذكر ذلك العهد السعيد لأنه منذ زال رحل الشعر معه وانحط شأن الشعراء فالناس تجهل أقدارهم وتغمط أفضالهم وهم يتخبطون بين الحياة والموت. وقبل أن أختم كلامي أقول كلمة عن مميزات الشعر العربي في كل عصر من العصور التي أشر إليها. كان الشعر في العصر الجاهلي مرآة حقيقية تنعكس فيها أخلاق العرب وعاداتهم وأحوال معيشتهم. فكان الأعراب في ذلك الحين يضربون في الصحراء لا يستقرون على حال وهم

يعيشون من السطو والغزو وقطع الطرقات وشن الغارة على القوافل أما محاصيل الأرض فكانت ضعيفة لا تكفي لسد حاجاتهم. فكان شعرهم - وهو مرآة أخلاقهم - بسطاً سلسلاً سهلاً عليه أدلة الصدق مع مسحة من الخشونة وهل كان لشعرهم سبيل إلى أن يكون غير ذلك؟ وكانوا يقرون بالخاطر يجول في مخيلتهم ويتجلى لهم المنظر أمام عيونهم يدعو إلى السرور أو الأسى فيرسلونه شعراً للتعبير عما في نفوسهم دون إغراق ولا موارية. فتجد فيه العبارات العنيفة الوحشية للتغني بالقتل والقتال وسفك دماء الأعداء وتجد فيه العبارات اللينة التي تسيل رقة للتعبير عن غرام خالج الفؤاد ولعب بالقلب وأذل تلك النفس العاتية. ليس في عباراتهم تكلف بل هي تسيل كالماء الذي يجري من عين صافية دون جهد ولا عناء بل كأن الشعر جاء عفواً دون أن تستكد الشاعر ذهنه. لا يقيد شاعرهم بموضوع ولا يشعر ولا بقافية ولا يحاول أن يأتي ف أبياته بأنواع التشبيه والمجاز ولا بالغريب في الألفاظ ولا يسعى في تزيين القول ليكون صورة ما في نفسه وما تكنه جوارحه. فإذا لا قى ما يدخل السرور إلى قلبه هتف هتاف الفرح وإذا عرض له ما يدعو إلى الأسى أنَّ وناح. أو إذا أراد الفخر عبر عن أعماله وأعمال قومه بغاية البساطة والسهولة لا فرق في ذلك بينه وهو في هذه الحالة الفطرية وبين الطير الذي من الرياء والتصنع فهو كالطبيعة بل هو كالجمال. أما في أيام الأمويين فإن اللغة بعثت كما كانت ولكن الشعر لم يعد هذه العذراء الطاهرة التي لم يقربها رياء بل إن الشعراء الذين نزلوا إلى مصاف المملقين والمتزلفين شوهوا محاسنها ومزقوا ثوب عفافها. فبينما كان الأقدمون يقولون مع حسان: وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا أصبح المتأخرون يزعمون أن أحسن الشعرا كذبه. أضف إلى ذلك أن فتوحات الإسلام امتدت فدخل تحت حكم العرب كثير من الأمم الغريبة عنهم التي تخلفت مشاربها عن مشاربهم وإن هذه الأمم المغلوبة دانت بدين الفاتحين وتعلمت لغتهم فيم يعد الشعراء من العرب دون سواهم بل كان بينهم المصري والسوري والفارس والأندلسي ولكل منهم نزعة خاصة قسم عليها شعره ويظهر أثرها في قوله. والصفة الغالبة في شعر ذلك العصر أن معظمه كان شعراً غرامياً الغرض منه الغزل والتشبه مع خلاعة ومجون يرجع السبب

الأصلي فيهما إلى كثر النساء اللواتي وقعن في أسر المسلمين في حروبهم وهناك أشعار اشتملت على أمور سياسية وعلى مطاعن يعزى السبب فيها طبعاً إلى انشقاق المسلمين إلى أحزاب وإلى ما قام من الخلاف بين أسرة معاوية وأسرة الأمام علي. على أنه يمكن القول بوجه الإيجاز أن هذا العصر كان زاهراً بالشعر وقد نبع فيه جماعة من فطاحل الشعراء وأعظمهم كالأخطل وجرير والفرزدق. وبلغ الشعر أعلى ذروة في عهد العباسيين فإن النجاح الذي صادفه العرب والتقدم الذي بلغوه والمدينة التي أصابوها كل ذلك كان له أثر كبير في الروح الشعرية. ثم إن معيشة الخلفاء وترفهم والخمور والحب الخ. حول الشعر من حال إلى حال فرق حتى صار نسمة من نسمات الروح وتهذيب ألفاظه وحلت مبانيه وخفت روحه. هذا فضلاً عن تقدم العلوم وانتشار المدينة والفلسفة وبلوغ حرية الفكر والقول إلى درجة كبرى وسعت دائرة العقل وشحذت القرائح ورفعها إلى الابتكار فوصلت تخيلات الشعراء إلى درجة من السمو لم تصل إليها في من الأزمان. ويمتاز الشعر في العصر العباسي من جهة شكله بمتانة الوزن والقافية مع السهولة والمرونة بحيث أصبح أسهل تناولاً وأطوع للشاعر وبروح جديدة كشرت قيود القوالب القديمة التي تقدي بها الفكر العربي في سالف الأزمان. وامتاز من جهة موضوعية بقوة التصور والمناقشات العلمية والخيالية والتأملات الفلسفية التي تضمنها. وبعد أن كانت الأشعار في الماضي كفة القلوب فقط أصبحت تتضمن الحكمة والآراء العلمية والأبحاث المنطقية. فكان الأطباء يضعون كتباً في الطب شعراً. والفلاسفة يقيدون شوارد أفكارهم وخواطرهم شعراً فيما يتعلق بمنشأ الكون والقضاء والقدر وحرية الاختيار وخلود النفس إلى غير ذلك من الأبحاث العويصة. ولا يزعمن زاعم أن ذلك كان عمل ناظم يرص الكلمات رصاً دون أن يكون في كلامه أثر من آثار الشاعرية الصحيحة بل إن ذلك ما فعله جماعة من فحول الشعراء أمثال المتنبي وأبي العلاء المعري وابن هاني وغيرهم وأسعارهم في هذا الباب تنفذ إلى القلوب فهي من أحسن الشعر وأرقه وأكثره تأثيراً في النفوس. أما ما آلت إليه حالة الشعر العربي بعد سقوط بغداد فإني أضرب صفحاً عنها مكتفياً بالكلمة

التي قلتها فيما مر. وإنما أقول أنه منذ القرن الثامن للهجرة (القرن الخامس عشر للميلاد) أصبح الشعر صورة كيكية فاسدة. وتقليداً سقيماً للأشعار القديمة لا أثر فيها للابتكار على الإطلاق وأصبح الشعراء - استغفر الله بل الناظمين - أضحوكة يقلدون من سلفهم تقليداً أعمى مع جهل مطبق بروح الشعر القديم وبأحوال الزمان الحديث على السواء فتراهم كما كان الحال أيام امرئ القيس وأصحاب المعلقات يبدأون بذكر المضارب والخيام في الصحارى والقفار ويشكون من الظمأ ويخاطبون الناقة التي أخناها السير وأنهكها التعب ويغزلون بمحاسن المحبوبة بنفس لاألفاظ التي كان تغنى بها الشعراء أيم البداوة مع أنهم يقيمون في مدائن آهلة بالسكان ومنازل عامرة توفرت لهم فيها أسباب الراحة والزفاه وبجانبهم أنهر جارية تروي مياهها ما هم فيه من الظمأ وهم يتطون صهوات الجياد أفنات عليها السروج من الخز وقد تحجرت قلوبهم فلا تنبض لهوى ولا تشعر بعاطفة من عواطف الغرام! ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول كما قال الأستاذ جول لومتر إن الشعر في مجموعة بما حوى من العواطف الرقيقة أنقى شعر عرفه العالم وقد أضاف الأستاذ إلى ذلك وهو الناقاد البصير الذي لا يلقي الكلام على عواهنه أنه أقرب الأشعار إلى المعاني الرجولية والشرف والحياء الصحيح والشهادة أه.

مخطوطات وطبوعات

مخطوطات وطبوعات تاريخ العرب للمسيو كليمان هوار جزآن طبع في باريز سنة 1912 - 1912 ص 893 2 عرف المسيو هواربين علماء المشرقيات من الفرنسويين بتوفره على العلم ووقوفه على أحوال الشرق فهو بيعرف عدة لغات شرقية ولا سيما الفارسية والعربية ومن جملة ما نشر كتاب البدء والتاريخ لأبي البلخي مع ترجمته إلى الإفرنسية وتاريخ آدات اللغة الإفرنسية ورحلته إلى قونية ودراويش الولوية ومفركات على سياحته في سورية وتاريخ بغداد منذ استيلاء المغول إلى مذابح المماليك وكتب الخطاطين والمذهبين في الشرق الإسلامي إلى غير ذلك من الرسائل والأبحاث في دائرة المعارف الإسلامية والمجلة الآسيوية ومجلة العلم الإسلامي وكله من آثار الجد وآخر ما نشروه هذا الكتاب في تاريخ العرب الذين كانوا كما قال دعاة الإسلام ويهتم الغربيون لهم حق الاهتمام ولا سيما في ابتداء هذا القرن العشرين وقد كثر احتكاك الأوربيين بهم. وتاريخ العرب على ماقال عنه المؤلف عبارة عن تاريخ شبه جزيرة العرب قبل الرسول وعلى عهد خلفائه مباشرة ثم الممالك الإسلامية العربية ولم يتكلم فيه على البلاد العربية التي اقتحمها العثمانيون في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر ولكنه عني بالإمارات التي احتفظت باستقلالها مثل عمان ومراكش. وصف المؤلف جزيرة العرب أولاً وتكلم على عادات العرب وأخلاقهم وعلى تاريخ الجزيرة في القديم ويدخل فيه الكلام على ملوك غسان الذين كانوا عمالاً لامبراطورة الرومان في حوران وأرجائها وعلى مكة قبل الرسول والكعبة وبداية أمر محمد (عليه الصلاة والسلام) ووقعة ذي قار وعلى الهجرة إلى المدينة وعلى نظام المجتمع الإسلامي وخلافة الراشدين ثم الأمويين فالعباسيين فالأغالبة في تونس فالطولونين في مصر فالحمدانين في حلب فالفاطميين وعلى الأوضاع السياسية والاقتصادية في الإسلام من مثل نظام القضاء والشحنة والتملك والأوقاف والمواريث ومزانيات العباسيين. هذا مضمون فصول الجزء الأول وفي الجزء الثاني تكلم على الدولة الأيوبية والحروب

الصليبية والدولة الأتابكية ودولة المماليك البحرية وعلى الصلات السياسية والتجارية مع دول الغرب من مثل البضائع التي كان يجري عليها التفاوض بين الشرقيين والغربيين والطرق التجارية وإنشاء القنصلات وابتياع الأسرى والعلائق السياسية مع رومية وبحث في إسبانيا والمغرب وفتحهما والحروب الأهلية في إسبانيا والممالك الصغرى فيها وعن دولتي المرابطين والموحدين ويدخل فيه الكلام على قلعة بني حماد وصقلية وهجرة اليونان إلى شمالي أفريقية وخاتمة استيلاء العرب على إسبانيا ودول مراكش والأشرف الحسنية في سجلماسة واليمن والدولة الرسولية وعمان والخوارج والوهابين وعرب والسودان والمهدي والآداب العربية والعلوم عند العرب. ولم بتوسع المؤلف في بحثه كثيراً بل جعله مختصراً تكون فائدة المطالع منه على طرف الثمام وتكون عند المطالع من الإفرنج فكراً أجمالياً عن تاريخ هذه الأمة الجليل والمسيو هوارليس كسيد لميو صاحب تاريخ العرب الذي ترجم بالعربية في غرامه بالعرب وإنصافه لهم فهما وإن كانا فرنسويين لكن زمنهما مختلف ومشربهما كذلك. ومما راقنا في كتابه قائمة الكتب التي رجع إلها المؤلف في آخر كل فصل ومعظمها مما نشره الألمان لأن علم المشرقيات عند الجرمانيين أرقى منه عند غيرهم. وله فهرس واسع حوى الأسماء التي ورد ذكرها في الكتاب وفي آخر كل دولة من الدول الإسلامية فهرس بأسماء ملوكها في آخر الفصل لتسهيل الكشف عنهم وتيسير حفظهم ولعل صاحبنا المسيوهوار يؤلف بعد هذا المختصر مطولاً في تاريخ العرب يطلق فيه العنان لقلمه السيال حتى يكون المرجع الأعظم للباحثين والمسترشدين من الأوربيين والشرقيين خصوصاً مع توفر المواد له بعدة لغات في مدينة كباريز مهد العلوم والآداب فنثني الثناء الأطيب على المؤلف والطابع ونرجو أن تظل هذه العناية على اتمها عند الفرنسيس بعلوم الشرق وتاريخه كما هي عند الألمان والإنكليز وغيرهم من أمم المدينة الحديثة. تاريخ حماه تأليف الشيخ أحمد الصابوني طبع بنفقة مكتبة عنوان النجاح في مطبعة حماة سنة 1332 (ص161) هو مختصر في تاريخ هذه المدينة تكلم فيه مؤلفه أحد أدباء حماة على تاريخ الحثيين

والإسرائيليين واليونان والرومان والعرب وتوليهم مقاليد الحكم على هذه المدينة ولكن بإيجاز يكاد يكون مخلاً وكلام قليل على حماة القديمة وحدودها ونهرها العاصي ونواعيره وراحيته وجسوره ومحلاته وعدد نفوسه ومساكنه والجوامع والمدارس والمارستان والحمامات وأحوال حماة الجوية والصناعية والعمرانية وهذا استغرق نحو نصف الكتاب وهو بحجم الربع ثم تراجم مختصرة لبعض مشاهير ملوكها وفقائها وعلمائها وأدبائها استند فيها المؤلف على طبقات السكي وتاريخ ابن خلكان وتاريخ أبي الفدا والمحيي والمرادي وغيرها من الكتب المتداولة. وأفيد ما في هذا الكتاب بعض ما نقش على أبواب المساجد والمدارس والمحال العامة منذ القديم من الكتابات وبيان ما هو معروف منها ومن أوقافها لهذا العهد ولو توسع في ذلك كثيراً لجاء في أحسن مرجع في بابه ولكنه اكتفى بما تهيأ له لأول وهلة والنظرة الأولى قد تخطئ وتراجم الرجال لا تشبع غليلاً لأن منها زاد بإيراد شيء من شعر المترجمين ومنه مالا يفيد لأنه خال من نكتة تاريخية وأدبية وليس فيه إلا ما يورث الترجمة طولاً على غير طائل فأي فائدة مثلاً من نقل ما قيل من المراثي في صاحب حماة أبي الفدا وإهمال التوسع في ترجمته وهو ثاني المأمون بخدمته للعلم والآداب لم يشرف حماة بنسبته إليها بل شرف الشام والعالم العربي فمن كان بهذه المثابة جدير بان يتوسع في ترجمته لا أن يكون حظ أديب من العناية أكثر منه وهذا ليس له إلا شعر قد يكون ضئيلاً لاجزالة فيه بل أي فائدة من ترجمة أصحاب الكرامات والتنويه بمن كانوا يعتبرون الرؤيا ووسمهم بأن ذلك من الفنون ومن أصحاب هذه التراجم ما لوحظ فيه على ما يظهر إرضاء بعض العامة والأعيان والتاريخ لا يكتب على الهوى وإذا لم يستطع المرء أن يترجم الأسلاف إلا بما يمليه الأخلاف فالأولى به أن يطوي تاريخه لينشر بعده خالياً من أعراض هذه الأغراض. وقد وقعت للمؤلف غلطات منها مطبعية ومنها لغوية وصرفية ومنها جغرافية تاريخية كنا نود أ - ن يعرى منها هذا المختصر مثل تذكيره للبئر ص15 وهي مؤنثة وتذكيره للحما وهو مذكر. ومثل ذلك ما رقع في الرسم وأغلاطه النحوية والطفيفة الدالة على تساهل كقوله (ص59) ثلاث أميال. ثلاث أقضية و (ص23) ثمانية ساعات والصحيح ثلاثة أميال ثلاثة أقضية

وثماني ساعات ومن أغلاطه الجغرافية واللفظية قوله في ترجمه ابن واصل (ص14) ومن تأليفه الأنبروزية في المنطق صنفها للإمبراطور ملك الصقالبة (إيطاليا) المسمى فريدريك والصحيح الأنبرورية بالراء المعجمة في الثانيةلا بالزاي نسبت إلى الأنبرور أو الإمبراطور وقوله الصقالبة غلط ومنازل العنصر الصلقي ذكرها جغرافيو العرب والإفرنج. وكان مثل ابن واصل حرياً بأن يتوسع في ترجمته لأنه يعد في الفلاسفة وهو أهم من مائة أديب يعتاش بشعره أمثال ابن مليك ومن أغلاطه قوله في أبيات لابن حجة (ص129) من قصيدة قالها سنة 820 في مدح الخيثمي هو أي بسفح القاسمية والجسر ... إذا ذهب ذاك الريح فهو والهوى العذري قال في الحالية والقاسمية هي الرحى على جانب جسر باب النهر من بناء قاسم باشا الخطيب. ولم تن الدولة العثمانية قد دخلت سورية على ذاك العهد بل دخلتها سنة 922 ولفظ باشا من مصطلحات الأتراك في التشريف لا من مصطلحات الجراكسة على أن معظم ما أورده صاحب هذا الكتاب من الحواشي مفيد في بابه مزيل للبس ونشكره على تأليفه ونرجوا أن يضع هذه الملاحظات محلها من النظر ويضيفها وغيرها إلى الطبعة الثانية التي وعد بطبعها من كتابه هذا خدمة للتاريخ والحقيقة وبتوسع في الأعمال الواجب بسطها ويختصر في الأماكن التي لا يجوز فيها إلا الإيجاز. مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها طبعت بمطبعة الترقي بدمشق من علماء الدين رجال اطلعوا على أسرار الشريعة فأنشأوا يبثونها في صور مختلفة ويشربونها القلوب بلسان يوافق الأذواق العصرية ومن هذه الفئة الفاضلة السيد محمد الخضر بن الحسين من مدرسي الجامع الأعمظم في تونس سابقاً فقد اعتاد هذا الأستاذ أن يلقي محضرات يبين فيها حكمة الشريعة وينشرها في كراسات خاصة يبثها بين جميع الطبقات وآخر محاضراته التي ألقاها في تلك العاصمة رسالة في مدارك الشريعة الإسلامية وسياسيتها أفاض فيها في حكمة التشريع والشرائع وتقسيمها ومنابع الشريعة الإسلامية والإسلام دين وسياسة واختلاف المذاهب وانتشارها وطبقات الفقهاء والأمراء كل ذلك

بعبارة منسجمة تجمع إلى الطلاوة متانة وهاك نموذجاً مما قال في اختلاف المذاهب: كره الشارع التفريق في الآراء وندب الأمة إلى الوفاق بقدر ما يمكنها ولكنه يعلم أن تماسكهم وسيرهم في جميع الأحكام على مذهب واحد غير ميسر لهم فإذن لهم بعد بذلهم الوسع في انفاق الرأي أن يأخذ كل طائفة بما استقرب عليه أفهامهم ولا يضرهم متى تمكنوا في صناعة تقرير الأحكام واستوفوا شروطها أن لا يصيبوا وجه الحق في الواقع قال صلى الله عليه وسلم إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر وأطلق الشارع للعقل عنانها في الاجتهاد ليفتح لها المجال في النظر ويربيها على مبدأ الاستقلال بالرأي حتى لا يستولي عليها التقليد من جميع جهاتها فيتخللها الجمود ويصلح الفرق بينها وبين العقول المتصرفة كالفرق بين الماء الراكد في حماءٍ والماء المنهمر على الصفا لا يمازجه كدر. ومن شعر بهذه الحكمة لا يمكنه الغض من جانب علماؤ الإسلام حيث أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف بل هذا مما يجر إلى الاعتراف بمزيتهم ويبرهن على أنهم نشأوا على مبدأ البحث واستقلال الفكر ولو أنهم كانوا بعقول خامدة وإرادة ميتة لاتبعوا ما يفتي به أول فقيه منهم وتسلموه بتقليد. وبعد أن أبان الوجوه المتعددة التي تدعو المجتهدين إلى الخلاف قال: ولو أن أهب الإسلام استمروا على تأليف الجمعيات العلمية لتحرير أحكام الحوادث واستخلاص الحقيقة من الآراء المتلاقية لا لتأمت عدة خلافات حقيقية وسقطت أقوال كثيرة من حساب مسائل الخلاف وقد كان للسلف اهتمام بجمع العلماء في المسائل المشكلة فقد نقل الحافظ ابن عبد البر عن المسبب بن رافع أنه جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة رفع إلى الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق أه. كتاب الأنساب للمعاني

عرفوا علم أنساب فأنه علم يتعرف منه أنساب الناس وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص وهو علم عظيم النفع جليل القدر وقد عنيت العرب بضبط أنسابها حتى إذا أكثر أهل الإسلام واختلظت أنسابهم بالأعجام تعذر شبطها بالآباء فانتسب كل مجهول النسب إلى بلده أو حرفته أو نحو ذلك حتى غلب هذا النوع قال كاتل حلبي وقد صنفوا فيه كتباً كثيرة والذي فتح هذا الباب وضبط علم الأنساب هو الإمام النسابة هشام بن محمد السائب الكلبي المتوفي سنة 204 فإنه صنف فيه خمسة كتب ثم اقتفى أثره جماعة. قلنا ومنهم الإمام أبو سعيد عبد الكريم ابن محمد المرزوي الشافعي الحافظ المتوفي سنة 562 وكان أبو سعيد هذا كما قال صاحب وفيات الأعيان واسطة عقد البيت السمعاني وعينهم الناظر ويدهم الباطشة وإليه انتهت رئاسيهم وبه كملت سيادتهم رحل في طلب العلم والحديث إلى الشرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها وسافر إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خرسان عدة دفعات وإلى نومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل ولاجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ولقي العلماء وأخذ منهم وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة منها كتاب الأنساب نحو ثمان مجلدات وهو الذي اختصره عز الدين أبو الحسن علي ابن الأثير الجزري واستدرك عليه والمختصر هو الموجود بأيدي الناس والأصل قليل الوجود. قال في الكشف أن ابن الأثير سمى كتاب السمعاني اللباب وهو في ثلاث مجلدات ثم لخصه السوطي وجرده عن المتنسبين وزاد عليه أشياء وسماه الألباب في تحرير الأنساب ولخصه الخيضري المتوفي سنة 894 وكأن اله ادخر كتاب السمعاني في خزانة المتحف البريطاني إلى هذا العهد ليقوم أحد علماء المشرقيات الأستاذ مرجليوث بنشره على نفقة تذكار حبيب الإنكليزي. طبع على المجر (ليتوغرافيا) فجاء مثل الأصل المأخوذ عنه حذو القذة وذلك على ورق جيد في زهاء ألف ومائتي صعحة من الحجم الكامل وإذ كانت النسخة المنقول عنها مختلفة الخطوط جاءت كذلك وفي ظننا أن هذه النسخى لو طبعت بالحروف كما طبع الأستاذ مرجليوث أيضاً معجم الأدباء لياقوت لعمت الإستفادة من هذا السفر الجليل وسهل على كل مطالع الأخذ منه لأن في هذه الخطوط ما يصعب حله إلى بعد أعمال النظر

وأكثره من الخلط اللطيف النسخي ويا حبذا لو شفع الناشر هذا الكتاب بمعجم لألفاظ الإعلام الواردة فيه وأتبعه بغير ذلك من الفهارس على عادة الأوربيين في طبعهم كتبنا العربية. قال السمعاني في مقدمته: وكنت في رحلتي أتتبع ذلك وأسأل الحافط عن الأنساب وكيفيتها وإلى أي شيء نسب كل أحد وأثبت ما كنت أسمع ولما اتفق الاجتماع مع شيخنا وأمامنا أبي شجاع عمر بن الحسين البسطامي ذكر الله بالخير مما رواء النهر فكان يحثني على نظم مجموع في الأنساب وكل سنة إلى قبيلة أو بطن أو ولاء أو بلدة أو قرية أوجد أوحرفة أو لقب لبعض أجداده فغن الأنساب لا تخلو عن واحدة من هذه الأشياء شرعت في جمعه بسمر قندفي سنة خمسين وخمسمائة وكنت أكتب الحكايا والجرح والتعديل باسانيدها ثم حذفت الأسانيد لكيلا يطول وملت إلى الاختصار ليسهل على الفقهاء حفظها ولا يصعب على الحفاظ ضبطها وأوردت النسبة على حروف المعجم وراعيت فيها الحرف الثاني والثالث إلى آخر الحرف وابتدأت بالألفف الممدودة لأنها بمنزلة الألفين وذكرت الأبرى في الألفين وهي قرية من سجستان وإلا برى بالألف مع الباء المحد وهذه النسبة إلى عمل الإبرة وأذكر نسب الرجل أذكره في الترجمة وسيرته وما قال الناس فيه وإسناده وأذكر شيوخه ومن حدث عنهم ومن روى عنه ومولده ووفاته إن كان بلغني ذلك. هده جملة حال الكتاب والمحور الذي يدور عليه وتراجم الرجال الواردة أسمائهم فيه مختصرة على الأغلب لأن المقصد الأول تعيين نسبته وله شبه كثير بكتاب المشتبه في أسماء الرجال المحافظ الذهبي إلا لأنه مطول أكثر وفيه تراجم يصح أن تعد تراجم ولكن المشتبه عبارة عن معجم لما استعجم من أسماء الرجال. فنشكر الطابع والناشر أطيب الثناء ونتمنى أن يوفق الأمناء على تذكار جيب إلى طلع أمثاله من كتب العلم المبعثرة في خزائن التب في الغرب والشرق لأنهم مؤتمنون عليها عارفون بأقدارها بعلمون بتأن في إخراجها للناس بحسب المناسب والدواعي وفقهم الله. دروس الجغرافيا تأليف فوزي بك العظم طبع بمطلعة جمال بنفقة المكتبة الأهلية في بيروت ينة 1332 - 1914 ص128 هذا هو القسم الثاني الذي وعد به المؤلف في العام الفائت وهو يشتمل على دروس

وتمارين في الجغرافيا بعبارة تترقى بحسب الطالب وهذا الموجز أوسع من الجزء الذي سلفه فنشكر مؤلفه ونرجو له التوفيق إلى إتمام هذه السلسة النافعة لتلامذة المدارس وغيرهم.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الموسيقى الأهلي تألف في القاهرة معهد للموسيقا الأهلي من جماعة من الوطنيين والأجانب ورئاسة حسن باشا واصف من عيون أعيان القاهرة والغرض منه ترقية هذا الفن الشريف وقد جعله الجناب الخديوي تحت حمايته وخصه أمراء الأسرة الخديوية برعايتهم ومعونتهم. الجنايات في مصر بلغ عدد حوادث الجنايات في القطر المصري في العام الماضي 4096 حادثة مقابل 3784 في العام الذي قبله. السفن الراسية في بيروت بلغ مجموع السفن البخارية والشراعية التي أرست في تغر بيروت سنة 1913 - 1024 سفينة بخارية منها 232 إنكليزية و171 أفرنسية و147روسية و141نمساوية و139طليانية ومحمولها كلها 1. 766. 541 وجاء الثغر 1826 سفينة شراعية محمولها 32. 873 طناً منها 1826سفينة عثمانية. أكل الثوم كان بعضهم يذهب إلى أن البلغاريين تطول أعمارهم لإكثارهم من تناول اللبن الرائب وقد ذهب أحد أطباء باريز اليوم إلى أن الإكثار من أكل الثوم مما يطيل الحياة فهو يحرض الناس على مزاولة أكل الثوم ويمدح الحساء المطيبة بالثوم ويعتقد بأن من يتناولها يعيش أكثر من ثمانين سنة ويخطئ من يقول بأن البلغاريين تطول باللبن أعمارهم وعلل ذلك لكثرة تناولهم في مآكلهم من الثوم. الطلبة المصريون ثبت بالإحصاء أن مجموع الطلبة المصريين الذين يطلبون العلم في أوربا على نفقاتهم نحو 614 منهم 373 طالباً في بلاد الإنكليز و139في فرنس و64 في سويسرا منهم من يتعلم الحقوق ومنهم الاقتصاد السياسي ومنهم الطب ومنهم الآداب ومنهم الهندسة ومنهم الزراعة ومنهم التجارة ومنهم الفنون الجميلة ومنهم غير ذلك.

أهل الإسلام ذكرت مجلة العالم الإسلامي التي تصدر في لندن أن في الدنيا كلها 201. 296. 696 مسلماً منهم 156690110 في آسيا و42. 039. 349 في إفريقية و2. 373. 676 في أوربا و173. 61 في أميركا الشمالية والجنوبية و19. 500 في أوستراليا والجزر التابعة لها. وإن 167093. 891 منهم تحكمهم حكومات مسيحية والباقون وعددهم 34. 192. 805 لا يزالون يتمتعون باستقلالهم. حفلة تكريم أقيمت في مصر ليل 4 حزيران 1914 (11رجب سنة 1323) حفلة في أوتل شبرد لتكريم واصف بك غلي صاحب المحاضر المنشورة في هذا الجزء لنقله إلى الغرب مزايا العرب وآدابهم ووقوفه موقف الدفاع عنهم وهو ابن بطرس باشا غلالي أحد رؤساء النظار السابقين ومن كبار رجال النهضة القبطية فاحتفل به جمهور كبير من عظماء مصر وعلمائها وأدبائها ورجال صحفها وسياستها وعددهم107 فانتدب الجناب الخديوي عنه عثمان باشا مرتضى رئيس ديوانه وجعلت الحفلة برئاسة إسماعيل باشا صبري ولما تناولا الطعام هنيئاً طابت نفوسهم إلى الكلام فافتتح الكلام إسماعيل صبري باشا بأبيات قال في مطلعها أي صوت حيته بالأم ... س باريس مقر العلوم والعلماء من ترى ذلك الذي جملته ... حكمة الشيب في ربيع الفتاء ذلك الأسمر الذي به البي ... ض مطلاً من منبر الخطباء وأما اللثام عن أدب العر ... ب كرام الآباء والأبناء إلى أن قال أيه ياابن الأمجاد قمت بأعبا ... ءٍ كبار والمجد ذو أعباءِ وأريت الأنام ذوي القر ... بى ورأي الكريم في الكرماء وقال أحمد بك شوقي في قصيدة إنما يقدر الكرام كريم ... ويقيم الرجال وزن الرجال وإذا عظم البلاد بهوها ... أنزلتهم منازل الإجلال

توجت هامهم كما توجوها ... بكريم من الثناء وغال إنما (واصف) يناء من الأخ ... لاق في دولة المشارق عال ونجيب مهذب من نجيب ... هذبته تجارب الأحوال وأهب المال والشباب لما ين ... فع لا للهوى ولا للضلال ومذيق العقول في الغرب مما ... عصر العرب في السنين الخوالي في كتاب حوى المحاسن في الشع ... ر وأوعى جوائز الأمثال من صفات كالعين صدقاً وسبتاً ... في أداء الوجوه والأشكال نسيب تحاذر العيد منه ... شرك الحسن أو شباك الدلال ونظام كأنه فلك اللي ... ل إذا لاح وهو بالزهر حال وبيان كما تجلى على الرس ... ل تجلى على رعاة الضال ما علمنا لغيرهم من لسان ... زال أهلوه وهو في إقبال بليت هاشم وبادت نزار ... واللسان المبين ليس يبال كلما هم مجده نزوال ... قام فحل فحال دون الزوال يا بني مصر لم أقل أمة القب ... ط فهذا تشبث بمحال واحتال على خيال من المج ... د ودعوى من العراض الطوال إنما نحن مسلمين وقبطاً ... أمة وحدت على الأجيال سبق النيل بالأبوة فينا ... فهو أصل وآدم الجد تال نحن من طينة الكريم على الل ... هـ ومن مائة القراح الزلال مر ما مر من قرون علينا ... رسفاً في القيود والأغلال وانقضى الدهر بين زغردة الع ... س وحثوا التراب والأعوال ما تحلى بكم يسوع ولا ك ... نا لطه وديمه بجمال وتضاع البلاد بالنوم عنها ... وتضاع الأمور بالإهمال يا شباب الديار مصر إليكم ... ولواء العرين بالأشبال كلما روعت بشبه يأس ... جعلتكم معاقل الآمال هيئوها لما يليق بمنف ... وكريم الآثار والأطلال

وانهضوا نهضة الشعوب لدنيا ... وحياة كبيرة الأشغال وإلى الله من مشى بصليب ... في يديه ومن مشى بهلال وقال حافظ بك إبراهيم: يا صاحب الروضة الغناء هجت ينا ... ذكر الأوائل من أهل وجيران نشرت فضل كرام في مضاجعهم ... جرَّ الزمان عليهم ذيل نسيان إني أحييك عنهم في جزيرتهم ... وفي العراق وفي مصر ولبنان جلوت للغرب حسن الشرق في حلل ... بما يستهين بها نساج (هرنان) ظنوك منهم وقد أنشأت تخبطهم ... بما عنا لك من سحر وتبيان ما زلت تبرهنا طوراً وتبرهم ... حتى ادعاك محياك الفريقان لولا اسمرارك فازوا في ادعائهم ... (بواصف) وخسرنا أي خسران إلى أن قال: أمسى كتابك كالسيما يعيد لهم ... مرأى الحوادث مرت منذ أزمان قد شاهدوا فيه تحت النفع عنترة ... يصارع الموت عن عبس وذبيان وشاهدوا أسداً يمشي إلى أسدٍ ... كلاهما غير هياب ولا وآني هذا من العرب يلوي به فزع ... زذاك أروع من آساد خفان لله در يراع أنت حامله ... لو كان في أنملي يوماً لأغناني وقفت تدفع عن آدابنا تهماً ... كادت تقوض منها كل بنيان فكنت أول مصري أقام لهم ... على نبالة مصر آلف برهان ما زلت تلقي على أسماعهم حججاً ... في كل ناد وتأتيهم بسلطان حتى أثنيت وما في الغرب مجتريء ... على البناء ولا زار على الباني محوت ما كتبوا عنا بقاطعة ... من البراهين فلت قول (رينان) انحنى على الأدب الشرقي مفترياً ... عليه ما شاء من زور وبهتان ظن الحقيقة في الأشعار تنقصنا ... واللفظ والقصد والتصوير في آن وإننا لم نصل فيها إلى مئة ... عداً وذاك لعي أو لنقصان ولو رأى ابن جريح في قصائده ... لقال آمنت في سري وإعلاني

مالي أفاخر بالموتى وبين يدي ... من شعر أحيائنا ما ليس بالفاني في شعر شوقي وصبري ما نتيه به ... على نوابعهم دع شعر مطران بوركت يا ابن الوزير الحر من رجل ... لم يختلف فيه أو في فضله اثنان بلغ إذا جئت بايزاً أفاضلها ... عنا التحيات وأشفعها بشكران وخص كاتبهم (جولاً) بأطيبها ... كيما نقابل إحساناً بإحسان واجعل لسفرك ذبلاً في شواعرنا ... وقف لهن هناك الموقف الثاني وقال أحمد أفندي نسم من قصيدة: وحسب فضلك أن أعليت بينهمو ... قدر النساء باكبار وإجلال حليتها بالعفاف المحض فابتدرت ... بالطهر غالية عن كل لآل لو كان عندي كعوب جئت تمهرها ... لكان شفرك أقصى مهرها الغالي أحييت فضل الألي بادت أوائلهم ... من مالكين زمام الدهر أفيال قوم إذا سئلوا جادوا بباهرة ... من العوارف لم تخطر على بال وإن همو حاربوا هشت نفوسهمو ... للحرب من كل كرار ونزال حتى إذا نهضوا خافت بوادرهم ... كواسر الوحش من شبل ورئبال وإن أحبوا فما في حبهم ريب ... تؤذي العفاف لغدار ومحتال وإن هم انتسبوا في كل منقبة ... جاؤوا بكل كريم العم والخال الصادعين على الأملاك بيضتهم ... من كل أروع بادي الكبر مختال فجدد العهد واذكر أمة سلفت ... يا من فخرت بذكرى عصرها الخالي عز القريض فمن لي بابن هانئه ... يطريك في حكم غر وأمثال كنت الرسول إلى القوم الألى نكروا ... هذي المآثر عن سهو وإغفال فكنت مثل يسوع في واقفه ... يهدي نفوس شعب عنه ضلال نايين! حاسدة باريس مذ أخذت ... عندك النهى بين تكبير وإهلال شفيت فيها جهالات مغشية ... على عقول أناس منذ أجيال فالعمي مبصرة والصم سامعة ... والميت قام لما تلقيه من قال وتكلم ويصا أفندي فما قال عن المحتفل به: أنه كتب ما كتبه كشاعر ليجب من يقرأ كتابه

في اشعر العربي فاستعمل لغة الشعراء حتى لقد يخيل إلى القرئ أنه يقرأ شعراً لا نثراً. وفي الحقيقة فإن واصف بك ولد شاعراً فغرامه بالشعر العربي سيد الشعر كما يقول هو غرام فطري فعبر عنه بلغة هي لغة الآلهة كما يقول القدماء فكر كثيراً في الشكل الذي يصوغ فيه معنيه فأدهش من قرأها من الفرنسويين حتى أن كتابه ولو أنه حديث في آداب القوام فقد عنيت الجرائد الكبرى كلها بإنقاذه وتقريظه ثم دعي بعد فألقى محاضرات في الشعر العربي بأجمل ما قيل في اللغة الفرنسوية. بين في مقدمة بليغة كيف أن الشعر كان شريفاً عند العرب فجعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وتواريخهم وحكمهم وحياتهم اليومية كما فعل المصريون على جدران معابدهم وكيف كان ملكة مستحكمة فيهم حتى أنهم كانوا ينطقون به ارتجالاً فكانوا كلهم شعراء ثم سرد لذلك أسباباً عدة: منها شعور العربي وشدة تأثره وانفعالاته النفسانية واتساع مدى خياله. ومنها استيعابه اللغة العربية وما فيها من المترادفات العديدة فكان رؤساء العرب متنافسين في الشعر فرئيس القبيلة كان ناشدها وحامي ذمارها ينشد انتصاراتها ويهجوا أعداءها. ثن بين مصادر الشعر وقسمها ستة أقسام أصلية وهي الغزل والحماسة والمدح والذم والوصف والحكم ثم بين كيف كان الشاعر ب \ يقصد المدح والافتخار بقومه ولم يكن ينتظر أجراً على ذلك. ولكن بعد الفتح الإسلامي جاء خلف لم يكن اللسان لسانهم وتعلموا الشعر صناعة ثم مدحوا أمراء العجم بأشعارهم طالبين أجراً فصار الغرض من الشعر الاستجداء فترفع أهل المراتب عنه وأصبح تعاطيه مذمة وكذلك الهجو فكان الشاعر يبيع أشعاره كالسلع لمن غالى في شرائها. كل ذلك صاغه المحتفل به بلغة فصيحة شعرية فعند ما تكلم مثلاً على الغزل أمام السيدات الشريفات في الليسيوم الذي ترأسه الدوقة دوسين انظروا كيف وصف الحسناء العربية منتقياً ألفاظ الجمال من كتب العرب فترجمها بألفاظ شعرية من اللغة الفرنسوية حتى أني بعد ما قرأت هذا الوصف سألت نفسي هل هذه الحسناء لم تكن تمثالاً من المرمر صوره خيال الكاتب أو هل لم يصف أحد هذه التماثيل المعروضة في متحف اللوكسمبرج والتي لابد أن يكون قد وقع نظره عليها قبل إلقاء محاضراته. ثم انظروا كيف وصف الحب عند العرب. قال إنه كان طاهراً نقياً بعيداً عن كل بهيمية

وكانت المرأة محترمة مساوية للرجل وذكر من اشتهر من النساء في الحروب والشعر والآداب والطب والعلوم. ذكر عمرة ابنة علقمة التي اشتهرت في واقعة واحد والخنساء التي حمدت ربها على استشهاد بنيها الأربعة يوم القادسية ورجت منه أن يجمعها معهم في مستقر رحمته وزينب التي مارست في الطب وجندب زوجة امرئ القيس وعائشة بنت طلحة وعمرة بنت هبل اللاتي سبقن مدام دي رمنوييه في جمع الشعراء والأدباء في بيوتهن للسمر والمحادثة في شؤون الآداب. ثم بين ما امتاز به العرب من الصفات كالوفاء بالعهد أمثال حمظلة بن أبي عفرة وهو مشهور ومعروف والسموأل ثم احترام المرأة واحترام البنين لآبائهم والكرم وحب الانتقام الخ. ولكن أحسن ما كتبه واصف بك هو ما كتبه عن حكم العرب فقال إن هذه الحكم هي نوع من الحماسة والفخر مصدرها الأنفة العربية فالشاعر العربي لا يفتخر فقط بأنه أشعر الشعراء وأشجع الفرسان وأكرم الكرماء بل يفتخر أيضاً بأنه أحكم الحكماء خاض معترك الحياة وذاق حلوها ومرها وعرف أسرارها فمن اتبع نصائحه اهتدى وهذه النصائح يهديها إلينا بلا مقابل كرماً منه فهو رجل كامل. ثم لخص بعد ذلك ما جاء في هذه الحكم فقال إن حكماء العرب يفكرون في الموت ويستهينون بالدنيا ويذكرون أنها ليست لحي وطناً فيجب اتخاذ صالح الأعمال فيها والاعتصام بالصبر والسكوت ذخيرة. ومن قرأ هذه الحكم وأراد أن يقارنها بنوع من الفلسفة الحديثة لم يجد إلا الفلسفة المعروفة بال ولكن الشعر العربي له مزية خاصة إذ إنه يرفع هذه الحكم ويلبسها ثوباً من الظرف والجدة. وقال أحمد حافظ بك عوض من خطبة. أن آداب اللغات سواء كانت فطرية خالصة كما كانت آداب العرب في عهد البداوة أو مزر كشة عليها مسحة الصناعة والرشاقة كما كانت في أواخر المدينة العربية - هي مرآة صادقة تظهر فيها أخلاق الأمة وأطوارها ظهيراً لا سبيل فيه إلى المراء والمداراة وقد كانت الدرجة التي تصل إلها آداب اللغة في أمة من الأمم هي مقياس رقيها في درجات

المدينة والكفاءة العقلية حتى ليصح أن يقال أن وحدة القياس للمدينة هي الآداب من شعر ونثر وحكمة. وما على الباحث في تواريخ الأمم الغابرة إلا أن يكون لديه من سلامة الذوق ودقة النظر ما يمكنه من استجلاء صور هاتيك الأمم من قراءة الآداب. وأما التاريخ فهو بمعزل عن هذه الروح لأنه لا يؤدي إلى إلا إحصاء حوادث قد يقع مثلها في كل أمة وفي كل عصر. وربما أصدق التواريخ في وصف حالات الأمم النفسية والاجتماعية ما كان لمؤلفه يد في الأدب ومشاركة فيه ولهذا فإن كان مؤرخو العرب قد قصروا في الصناعة التاريخية فإنهم كانوا أدباء في تواريخهم، مؤرخين في أدبهم وبذلك أوقفونا على حالة الأمة العربية النفسية والأخلاقية وجعلونا كأننا نعيش معهم. إن أوربا اليوم قد ألقيت إليها مقاليد السيادة في العالم فجلست على منصة الحكم بين الأمم. لا أقول الحكم بالاستعمار والتسلط فقط ولكن والحكم على رقي الأمم في مستوى المدينة والآداب أيضاً. فليس من سبيل إلى رفع مقدار أمة من الأمم الشرقية خاصة أو اللاأوربية بوجه عام في نظر الأمم أو الدول الأوربية أقرب وأشرف من رفع اللثام عن الحالة النفسية لتلك الأمة وعرضها كما هي مصورة في أشعارها وآدابها. وذلك ما صنعه واصف بك بين الأمة العربية والأمة الفرنسية بل والعالم الأوربي بأجمعه، ولهذا نحن نكرمه الليلة. فواصف كان كالمحامي عنا خصه الله بموهبة المعرفة بلغة قضاتنا أمامهم غير هياب ولا وجل يناضل عنا بأفصح عبارات لغتهم ويشرح لهم ما لأمتنا من الآداب الراقية والحكم الرائقة حتى يحصرهم بفصاحته وحجته فحكموا لنا حكماً يفيدنا في مصالحنا الاجتماعية والأدبية بل والاقتصادية والسياسية.

المجودون من المصنفين

المجودون من المصنفين التآليف في الأمم كالأشخاص منها العاطل والجيد والأجود والعاطل يقضى عليه لا يبقى لأنه ساقط بطبعه والجيد قد يدوم لفائدة قليلة فيه أما الأجود فباق بقاء الأيام وكلما ذكر اسم صاحبه حلا في الأفواه وتطلعت نحوه العيون كان الموجودون من المؤلفين في القرون الأولى للإسلام أكثر من المجودين في القرون الأخيرة لأن كانت أرقى عند العرب ومائدة العلم لا يجرأ على الأخذ منها طفيلي لأن الأمة تميز والنقد أشد والحرية أوسع. فإنا إذا قلبنا صفحات التاريخ نجد في كل عصر العشرين والثلاثين من الرجال المبرزين وهؤلاء يجب أن يشاد بذكرهم كل حين لأن تآليفهم وحدها إذا بقيت للأمة تتناقلها الجيل بعد الجيل تكفيها في قيام أمرها إلا قليلا مما يحدث مع كرور الأيام فالعرب مثلا إذا اقتصروا على تأليف المجودين من المصنفين في علوم اللسان والدين فلا يستغنون عن أخذ سائر العلوم عن أحدث الأمم حضارة. وها نحن أولاء نلم في هذه العجالة بأسماء بعض من اشتهروا من المجودين من علماء العرب على اختلاف العصور منذ بدأ التدوين عندهم فمنهم أبو بكر بن مجاهد العارف بالقراآت وعلوم القرآن وهو آخر من انتهت إليه الرئاسة بمدينة السلام توفي سنة 324 ومنهم الخليل بن أحمد 170 وهو أول من استخرج العروض وغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس ومنهم صاحبه سيبويه قال ابن النديم وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله ولم يلحق به بعده قرأت بخط أبي العباس ثعلب اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه والأصول والمسائل للخليل ومنهم أبو عبيدة 210 والأصمعي 210 وأبو حاتم السجستاني255 والمبرد 279 والزجاج 310 ومنهم ابن دريد 321 وأبو سعيد السيرافي 368 وأبو الحسن الرماني وأبو علي الفارسي 370 وال كسائي 197 والفراء 207 والمفضل الضبي وابن الأعرابي 331 وأبو عبيد القاسم بن سلام وابن السكيت 246 وابن قتيبة قال صاحب الفهرست أنه كثير التصنيف والتأليف وكتبه في الجيل مرغوب فيها وقال ابن خلكان أن كتبه كلها جيدة واو حنيفة الدينوري وابن خالويه 370 وابن جني 392 وابن إسحاق صاحب السيرة قال ابن النديم وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول 150 وهشام الكلبي قال إسحاق الموصلي كنت إذا رأيت ثلاثة يرون ثلاثة يذبون علويه إذا رأى مخارقا وأبا نواس إذا

رأى أبا العتاهية والزهري إذا رأى هشام 206 والوا قدي وهو الذي خلف بعد وفاته ستمائة فمطر كتباً كل قمطر منها حمل رجلين وكان له غلامان مملوكان يكتبان الليل والنهار وقبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار 207 والمدائني 225 والبلاذري صاحب كتاب البلدان وأحد النقلة من الفارسي وأبو الفرج الأصفهاني 360 وعبد الله بن المقفع قال ابن النديم الكتب المجمع على جودتها عهد أزدشير كليلة ودمنة رسالة عمارة بن حمزة الماهانية اليتيمة لابن المقفع رسالة الحسن لأحمد بن يوسف الكاتب وسهل بن هرون وكان أبو عثمان الجاحظ يفضله ويصف براعته وفصاحته قدامه بن جعفر والمرزباني 378 والصابي والصاحب بن عباد وأبو زيد البلخي كان فاضلا في العلوم القديمة والحديثة تلاقي تصنيفاته وتأليفا ته طريقة الفلاسفة إلا أنه بأهل الأدب أشبه وإسحق الموصلي وبشار بن برد وأبو نواس وابن الرومي والبحتري ومالك بن أنس والشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأبو يوسف والمزني وداود بن علي وأبو عبد الله البخاري وابن جرير الطبري ويحيى النحوي ويعقوب ابن إسحق الكندي وأبو نصر الفارابي ومتى بن يونس ويحيى بن عدي وابن زرعه وبن بنو موسى بن شاكر وثابت بن قرة وإبراهيم بن سنان وعمر بن الفرخان ومحمد بن موسى الخوارزمي قال ابن النديم وكان منقطعاً إلى خزانة الحكمة للمأمون وهو من أصحاب علوم الهيئة وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجيه الأول والثاني ويعرفان بالسند هند وبنو الصباح محمد وإبراهيم والحسن قال في الفهرست والجميع من حذاق المنجمين بعلوم الهيئة والأحكام والبتاني صاحب الزيج وحنين بن إسحق العبادي والعباد نصارى الحيرة وقسطا بن لوقا البعلبكي ويوحنا بن ماسويه وإسحق بن حنين وأبو بكر الرازي وجابر بن حيان. وابن وحشية وابن السيد البطليوسي قال ابن خلكان وهو مجيد في كل ما صنفه ك وكمال الدين بن يونس 639 قال ابن خلكان تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة وكان أهل الذمة يقرؤن عليه التوراة والإنجيل وشرح لهم هذين الكتابين شرحا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله وكان في كل فن من الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه وأحمد بن الطيب السر خسي قال ابن أبي أصيبعة كان متفنناً في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب حسن المعرفة جيد القريحة بليغ اللسان مليح

التصنيف والتأليف 286 وثابت بن قرة قال ابن أبي أصيبعة لم يكن في زمانه من يماثله في صناعة الطب ولا في غيره من جميع أجزاء الفلسفة وله تصانيف مشهورة بالجودة وكذلك جاء جماعة كثيرة من ذريته ومنهم أبو سعيد ابنه سنان وأبو الحسن ثابت بن سنان وأبو علي بن زرعة وعلي بن العباس المجوسي مصنف كتاب الملكي في الطب وأبو الفرج بن الطيب وأبو الحسن بن بطلان وابن الشبل البغدادي وابن رضوان وسعيد بن هبة الله وابن جزلة وأمين الدولة بن التلميذ والبديع الاصطرلابي وأبو الخير الحسن بن سوار وأبو الفرج بن هند والرئيس ابن سينا وأبو الريحان البيروني قال ابن العبري أنه مبحر في فنون الحكمة اليونانية والهندية وتخصص بأنواع الرياضيات وصنف فيها الكتب الجليلة ومصنفاته كثيرة متقنة محكمة غاية الإحكام أبو الفرج بن الطيب قال القفطي أنه أحيا من علوم الحكمة والمنطق ما دثر وأبان منها ما خفي وقد تلمذ له جماعة سادوا وأفادوا منهم المختار بن الحسن بن عبدون المعروف بابن بطلان قال ابن بطلان إن شيخنا أبو الفرج بن الطيب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضة كان تلفظ نفسه فيها وهذا يدلك على شدة حرصه واجتهاده وطلب العلم لعينه. وفخر الدين الرازي وابن جلجل والغافقي الأندلسي قال ابن أبي أصيبعة وكتابه في الأدوية المفردة لا نظير له في الجودة ولا شبيه له في معناه وأمية بن الصلت وابن باجة وأبو العلاء بن زهر وابن رشد وابن الرومية وابن الهيثم والمبشر بن فاتك وله تصانيف جليلة في المنطق وغيره من أجزاء الحكمة وهي مشهورة في ما بين الحكماء الخطيب التبريزي القطب الشيرازي الإمام القزويني والجوهري وابن سيده وابن الحاجب ونصير الدين الطوسي والغزالي وابن دقيق العيد والزمخشري وسيف الدين الآمدي والبيضاوي والماوردي وابن حزم وابن البيطار ومحي الدين بن عربي وابن مجلي الموصلي وابن فلوس المارديني وابن مسكويه والمسعودي وابن خلدون وابن الأثير وأبو الفدا وابن فضل الله وأفضل الدين الخونجي قال أبو الفرج بن العبري وفي هذا الزمان أي في النصف الأول من القرن السابع كانت جماعة من تلامذة الإمام فخر الدين الرازي سادات فضلاء أصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة كزين الدين الكشي وقطب الدين المصري بخراسان وافضل الدين الخونجي بمصر وشمس الدين الخسروشاهي بدمشق وأثير الدين

الأبهري بالروم وتاج الدين الأرموي وسراج الدين الأرموي بقونية وعبد المنعم الجلياني وابن الصلاح وموفق الدين بن المطران وشرف الدين بن الرحبي وعبد اللطيف البغدادي والصاحب أمين الدولة السامري وابن حيان البستي ابن عبد ربه بديع الهمداني الحسن بن رشيق القيرواني قال ياقوت كان شاعراً أديباً نحوياً لغوياً حاذقاً عروضياً كثير التصنيف حسن التأليف وكان بينه وبين ابن شرف الأديب مناقضات ومحاقدات وصنف في الرد عليه عدة تصانيف وأبو هلال العسكري وابن جني ذكر الضبي في بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس أن أبا علي القالي صاحب الأمالي المشهورة لما هاجر من بغداد إلى قرطبة في سنة 330 كان الأمير أبو العاصي الحكم بن عبد الرحمن من أحب ملوك الأندلس للعلم وأكثرهم اشتغالاً به وحرصاً عليه فتلقاه بالجميل وحظي عنده وقربه وبالغ في إكرامه ويقال أنه هو قد كتب إليه ورغبه في الوفود عليه واستوطن قرطبة ونشر علمه بها وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمور وبعد أن صارت إليه يبعثه على التأليف وينشطه بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام. وذكر أيضاً في ترجمة حسان بن ملك بن أبي عبدة الوزير أحد أئمة اللغة والآداب ومن أهل بيت جلالة ووزارة نقلاً عن ابن حزم أنه عمل على مثال كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب الذي ألف في أيام الرشيد كتاباً سماه بكتاب ربيعة وعقيل قال أبومحمد ابن حزم وهو من أصلح ما ألف في هذا المعنى وفيه من أشعاره ثلثمائة بيت وكان سبب تأليفه إياه أنه دخل على المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر وبين يديه كتاب أبي السري بعجب به فخرج من عنده وعمل هذا الكتاب وفرغ منه تأليفاً ونسخاً وتصويراً وجابه في مثل ذلك اليوم من الجمعة الأخرى وأراه إياه فسر به ووصله عليه وروي أيضاً في ترجمة صاعد بن الحسن الربعي وكان عالماً باللغة والآداب والأخبار أنه كان سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة فكه المجالسة ممتعاً فأكرمه المنصور - أبو عامر الأندلسي في المئة الرابعة - وزاد في الإحسان إليه والإفضال عليه وكان مع ذلك محسناً للسؤال حاذقاً في استخراج الأموال طبناً بلطائف الشكر دخل على المنصور أبي عامر يوماً في مجلس أنس وقد كان تقدم فاتخذ قميصاً من رقاع الخرائط التي وصلت إليه فيها صلاته ولابسه تحت ثيابه فلما خلا المجلس ووجد فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط فقال له ما

هذا فقال له هذه رقاع صلات مولانا اتخذتها شعاراً وبكى وأتبع ذلك من الشكر ما استوفاه فأعجب ذلك المنصور وقال له لك عندي مزيد وكان قد حظي عنده بما ألف له من الكتب علي بن الحسين الأصبهاني الشريف المرتضى القاضي الجرجاني علي بن عبيدة الريحاني أبو حيان التوحيدي صاحب المقابسات ابن الجوزي ابن قيم الجوزية ابن تيمية ابن العميد ابن القفطي القلقشندي والنويري وإبراهيم بن الحصري صاحب زهر الآداب قال ياقوت وله تآليف جيدة في ملح الشعر والخبر أبو علي الفارسي أبو حنيفة الدينوري أبو العلاء المعري وابن النديم والجاحظ والحريري ابن الصائغ أبو بكر بن زهر القاضي أبو الفرج المعافي قال ابن خلكان كان فقيهاً أديباً شاعراً عالماً بكل فن وله عدة تصانيف ممتعة في الأدب وغيره وكتاب الجليس الأنيس تصنيفه أيضاً 390 واصل بن عطاء ياقوت الحموي يحيى بن أكثم ابن السكيت ابن عبد البر وابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة وابن الأنباري عبد القاهر الجرجاني أبو إسحق الأسفراييني قال ابن خلكان أخذ عنه العلم والأصول عامة شيوخ نيسابور وأقر له بالعلم أهل العراق وخراسان وله التصانيف الجليلة 418 أبو إسحق الشيرازي قال ابن خلكان أنه صنف التصانيف المباركة المفيدة 496 أبو حامد الأسفراييني 406 وابن زيدون والصلاح الصفدي أبو الفضل الميداني صاحب كتاب الأمثال 518 القاضي الفاضل الثعالبي صاحب اليتيمة القاضي عياض قال ابن خلكان صنف التصانيف المفيدة قال وبالجملة فكل تواليفه بديعة القاضي الباقلاني أبو الحسين البصري له التصانيف النائقة في أصول الفقه وانتفع الناس بكتبه الحاكم النيسابوري قال ابن خلكان إمام أهل الحديث في عصره والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبقه إلى مثلها 405 وابن دريد صاحب الجمهرة وأبو بكر الأنباري 328 أبو عبد الله المرزباني صاحب التصانيف المشهورة 378 المسبحي - بالباء لا بالياء - صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنفات420 لسان الدين بن الخطيب أبو العباس القرطبي انتفع الناس بكتبه وأجاد فيها عيسى بن دينار الأندلسي صاحب كتاب الهداية الذي يقوا فيه ابن حزم أنه أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم وأجمعها المعاني الفقهية مالك بن علي الفهري صاحب القصي أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد صاحب التفسير الذي قال فيه ابن حزم أنه الكتاب الذي أقطع قطعاً لا استثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ولا تفسير محمد بن

جرير الطبري ولا غيره وإن تآليفه قواعد الإسلام لا نظير لها ومن الأندلسيين أيضاً القاضي منذر بن سعيد وأبو محمد قاسم بن أصبغ ومحمد بن عبد الملك بن أيمن ويوسف بن عبد البر وأبو الوليد الفرضي وابن سعيد المؤرخ والقاضي محمد بن لبابة والقاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وإسماعيل بن القاسم وابن القوطية وابن التياني وأحمد بن فرج وأبو الحسن الكاتب وأحمد بن محمد بن موسى الرازي وحسين بن عاصم وإسحق بن سلمة الليثي وأبو مروان بن حيان صاحب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس نحو عشرة أسفار قال ابن حزم هو أجل كتاب ألف في هذا المعنى وله كتاب المتين في التاريخ وهو في ستين مجلدة محمد بن عاصم قال ابن حزم وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحق وهي كتب حسان رفيعة وكتب محمد بن الحسن المذحجي المعروف بابن الكتاني وهي كتب رفيعة حسان وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش الزهراوي ولئن قلنا أنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن وفي الفلسفة كتب سعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار وأبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي وفي الأزياج مسلمة وابن السمح وأحمد بن نصر ومحمد بن عطية الغرناطي الحميدي والباجي وابن بشكوال ابن بسام صاحب الذخيرة أبو القاسم صاعد بن أحمد الطيطلي عريب بن سعيد القرطبي أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري صاحب كتاب المسهب في فضائل المغرب لم يصنف في الأندلس مثل كتابه أبو عبد الله بن أبي الخصال الشقوري صاحب سراج الأدب وأبو عبيد البكري صاحب كتاب اللآلي وابن السيد البطليوسي وابن عصفور الإشبيلي النحوي وابن الطراوة والسهيلي وابن خروف وأبو عبيد البكري الأونبي صاحب كتابي معجم ما استعجم والمسالك والممالك وأبو علي الشلوبين وابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان المقدم في علم الفلسفة أبو عمر الداني ابن جبير صاحب الرحلة أبو علي القالي صاحب الأمالي قال الضبي وكانت كتبه على غاية التقيد والضبط والإتقان وقد ألف في علمه الذي اختص به اللغة والأدب تواليف مشهورة تدل على سعة روايته وكثرة إشرافه وقالوا لئن كان كتاب أبي العباس المبرد أي الكامل أكثر نحواً وخبراً فإن كتاب أبي علي - النوادر - أكثر لغةً وشعراً ومن كتبه في اللغة البارع كاد يحتوي على لغة العرب وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف في بابه مثله

توفي أبو علي سنة 356 0

رومانيا وملكها

رومانيا وملكها رومانيا إحدى ممالك البلقان بل رأسها عل التحقيق لفتت أنظار العالم في العهد الأخير بدهائها وحسن سياستها واستفادتها من مغانم الحلفاء البلقانيين بدون أن تهرق دماً أو تصرف وقتاً ومالاً في الاستعداد لإهراقه فهي اليوم مملكة في أوربا الشرقية شمالي شبه جزيرة البلقان تحدها من الشمال بلاد النمسا والمجر وروسيا ومن الشرق روسيا والبحر الأسود ومن الجنوب بلغاريا ومن الغرب صربيا والنمسا وكانت مساحتها قبل الحرب الأخيرة 131. 353 كيلومتراً مربعاً وسكانها 7248061 نفساً فأصبحت بعد الحرب البلقانية 138. 878 كيلومتراً وسكانها 7. 533. 818 نفساً - المقتبس م8ص102 - أصل سكان رومانيا مزيج من عناصر مختلفة وكان يسكنها قبل الفتح الروماني الداسيون والجتيون ولما فتحها الإمبراطور تراجان الروماني أقام فيها عدة مستعمرات عسكرية جاء بها من إيطاليا فنزلت بين سكان البلاد وبعد حين جاءها كثير من المجر والصقالبة فأدخلوا فيها لهجاتهم ثم ورد عليها زمر من الشغان - النور أو الغجر - يبلغ عددهم مائتي ألف نفساً ووافاها أربعمائة ألف إسرائيلي هاجروا من روسيا وبولونيا وذكاء الروماني حاد وله ميل عظيم إلى الشعر والموسيقى والفنون والسواد الأعظم من السكان هم روم أرثوذوكس ولكن جميع المذاهب حرة. وبلاد رومانيا زراعية وأهم مواردها تربية الحيوانات والزراعة راقية في الأودية أكثر من الجبال وهذه للمراعي وتربية البهائم وهي ناجحة في إقليم البغدان أكثر من إقليم الأفلاخ وأهم محصولاتهم القمح والشعير والذرة والكرم والأشجار المثمرة كالمشمش والخوخ الذي يستخرج منه عرق جيد ومن مواردها الخشب الذي يقلع من غاباتها الكثيرة ويقل المستخرج من فحمها الحجري والفحم المعدني وغيرها من الفحوم المعدنية وفيها الكرانيت والبترول والملح وفيها صنائع لا بأس بها مثل صناعة الزجاج والنساجة والمناشير الميكانيكية في البلاد الجبلية ويعمل في بعض المدن النسيج والجوخ وغير ذلك ولكت رومانيا لما كانت تصدر من حاصلاتها الأرضية شيئاً كبيراً على ما سيجيء اضطرت إلى أن تستبضع البضائع الثمينة وتبتاع أدواتها وآلاتها من بلاد النمسا والمجر وألمانيا وإنكلترا. وقد أخذت تجارة هذه البلاد بالارتقاء فتجاوزت وارداتها منذ سنة 1900 إلى 1911 من

217 إلى 410 ملايين والصادرات من 280 على 610 وأصبحت زراعتها بفضل القوانين الزراعية الرشيدة غاية الغايات وزاد المزروع من أراضيها وأخذت غلاتها تزيد سنة عن سنة وقد زاد سطح المزروع من أراضيها في الخمس سنين الأخيرة من 3 ملايين إلى 6 ملايين هكتار ومجموع سطح رومانيا 13. 072. 000 هكتار وبلغ صافي أسعار الحاصلات سنة 1911 - 1912 ملياراً و394 مليون فرنك ومع كل هذا فالفلاح الروماني لقلة ما لديه من النقود لم يستطع حتى الآن أن يبتاع الأدوات الزراعية الحديثة كالحصادة والدراسة الميكانيكية والسكك البخارية لغلاء أسعارها ولكن كبار أرباب الأملاك قد ربحوا منها أرباحاً طائلة. وتاريخ الفلاح أو نصف رومانيا اليوم مثل تواريخ الممالك الصغرى لا يعرف عنه إلا الشيء القليل وقد ذكروا أن مؤسسها الحقيقي هو ميرتشا (1386 - 1481) وهو الذي حالف الصرب لقتال العثمانيين الذين كانوا إذ ذاك يهددون أوربا بالهجوم عليها فهزمه السلطان مراد وأخذ أسيراً إلى بورصة فاضطر فدية عن نفسه أن يعلن بأن بلاد الفلاخ خاضعة للدولة العثمانية سنة 1391 ولما عاد إلى بلاده عقد محالفة مع البولونيين والمجريين لصد هجمات العثمانيين ثم انهزم في موقعة نيكوبولي 1396 وعاد فظفر في روفيين على جيش السلطان بايزيد وقاتل إخوة هذا السلطان قتالاً شديداً وضم إلى بلاده جزءاً من بلغاريا وإقليم سلستريا ودوبريجة وكان أول امتياز ناله من الدولة العلية هو أنها لا تتدخل في مسائل رومانيا الداخلية ولا في انتخاب أمرائها وبعد موته عاد أولاده ففتحوا أبواب بلادهم للعثمانيين من أجل تاج رومانيا فوقعت بين الغالبين والمغلوبين وقائع كثيرة كانت الحرب فيها سجالاً حتى قيض العثمانيون على قياد البلاد وما برح الأمر كذلك حتى تولى الحكم في رومانيا الأمير ميشيل الشجاع 1593 - 1601 بطل الفلاق المشهور فقد قاتل جيش السلطان محمد الثالث وظفر بأميري ترانسلفانيا والبغدان والجيوش الألمانية فنادى بنفسه أميراً على الأفلاق والبغدان وترانسلفانيا ولم يكن حلفاؤه مثله وأضاعوا تراثهم فصار نهباًً. أما تاريخ موالدفيا أو البغدان فهو أيضاً يبدأ من أوائل القرن الرابع عشر للميلاد وكانت تخضع تارة لملوك المجر تتقاذفها أهواء جيرانها بحسب أحوالها الداخلية وعلى نسبة متانة

أمرائها أو أفن آرائهم وضعف نفوسهم حتى إذا ملك أمرها أتين الرابع الملقب بأتين الكبير ضرب ماتيا كورفين ملك المجر الذي جاز جبال الكاربات إلى بلاده وضرب التتار ضربة شديدة في راكوفا وقاتل جيش سليمان باشا الذي كان مؤلفاً من 120 ألفاً وهزم ملك بولونيا سنة 1457 شر هزيمة وحاول أن يعقد حلفاً شرقياً ضد العثمانيين فلم يفلح ولما مات أوصى أولاده أن يخضعوا للدولة العلية فصدعوا بلأمر حتى زمن الأمير باسيل الذئب الذي كان معاصراً لماتيو بازاراب وعمل لإمارته كما عمل هذا لإمارة الفلاق ومنذ سنة 1658 إلى سنة 1685 تولى زمام هذه الإمارة أحد عشر أميراً منهم ثمانية أروام فأصبح كل شيء رومياً أو يوشك أن يكون كذلك في تلك الإمارة بل دام ذلك في الإمارتين إلى سنة 1821 أيام ثار الرومانيون وطردوا الأمراء اليونان وأقاموا أمراءهم الأصليين غريغوريوس جيكا في البغدان وجان ساندوستورزا في الفلاخ (1822 - 1828). ولما أعلنت روسيا الحرب على الباب العالي سنة 1828 أخذت تحتل الإمارتين المذكورتين وأقامت فيهما حكومة موقتة وبعد أن عقد الصلح في أدرنة سنة 1829 كان من شروطه أن تبقى الأفلاق والبغدان في يد روسيا ريثما تستوفي الغرامة الحربية البالغة عشرة ملايين دوكا وظلت روسيا في البلاد ست سنين عملت في خلالها على تنظيم داخليتها وأدخلت إليها دستوراً عرف باسم اللائحة الأساسية ودعي كل من الأميرين المومأ إليهما إلى تطبيق هذا القانون وإذ كان من شأنه أن يخنق كل دعوة وطنية رومانية ثار الرومان في 7 حزيران 1848 فكبح جماحهم في البغدان للحال ولكن امتدت ثورتهم في جميع بلاد الفلاة ونادوا بأميرهم رئيساً لعصابات الثورة ضد روسيا فاضطر الأمير أن يجيبهم إلى رغائبهم وأن يوقع على أمر يقضي بإلغاء القانون الذي وضعته روسيا ثم غادر البلاد وبعد ذلم وقع الاتفاق بين روسيا والدولة العثمانية على أن يعين للبلاد أمير كل سبع سنين يكون له حق تعيين الدواوين والعمال فاضطر الثائرون من الرومانيين أن يهاجروا من بلادهم فأخذوا يطوفون في أوربا ويقنعون رجال سياستها بمراميهم فكثر منهم أنصارهم ومن جملتهم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا إذ ذاك وكان من معاهدة باريز 1856 أن قضت على حماية روسيا لرومانيا وكان من عهدة باريز بعد سنتين أن منعت الباب العالي من التدخل في شؤون رومانيا أي في انتخاب العمال والنظر في الواوين وفي ذاك العهد تم

للأفلاق والبغدان ما تريدان من الاتحاد الوطني فانتخب لهما أمير واحد وهو إسكندر كوزا (1859) وبعد سنتين أعلن هذا الأمير وحدة الإمارتين وأن يكون لهما مجلس نواب واحد مركزه في بكرش (1861) وعند ذلك بدأ دور إصلاح في البلاد وأهمه إلغاء الاستعباد فشق ذلك على طبقة الأشراف أصحاب الأملاك وما برحوا يدسون دسائسهم حتى اضطروا أميرهم إلى التخلي عن إمارته سنة 1867 وجعل شارل هوهنزولرن ملكاً عليهم وكان من نتائج الحرب العثمانية الروسية سنة 1877 أن أضاعت رومانيا إقليم بسارابيا وتخلت عنه إلى روسيا لقاء إقليم دوبريجه ولكن استقلالها تم أمره 1878. خلف البرنس شارل هوهنزولرن الأمير كوزا أمير الأفلاق والبغدان في 18 أيار 1866 عقيب تنازل هذا عن الإمارة ودخل بكرش عاصمة رومانيا باحتفال جرى له مثله في جميع البلاد التي اجتازها منذ الحدود وبعد ستة أشهر ذهب إلى الأستانة ليأخذ البراءة بتنصيبه على نحو ما كانت عادة السلطنة العثمانية مع أمراء الفلاق والبغدان منذ القديم ولكن الأمير الجديد أبدى شمماً في مقابلته لحضرة السلطان في قصر طولمه باغجه وحدثته نفسه أن ينزع عن بلاده حماية الدولة وكان أول عمل له استحصال رضا الدولة بافتراض رومانيا مبلغ ثمانية عشر مليون فرنك من باريز ولكن بشرط فاحش قضي عليها به أن تدفع 13 في المئة رباً فدفعت في ثلاث وعشرين سنة اثنين وثلاثين مليوناً وكانت أخذتها ثمانية عشر. وطفق الملك شارل يبذل الصبر والأناة وحسن السياسة وبعد النظر والجرأة والروية واللين ما كان به للبلاد استقلالها ثم قوتها ثم نفوذها وكم من عراك دخل غماره فأوشك أن يودي فيه وما ملكت يداه وقد كاد يتخلى سنة 1871 عن العرش الروماني زين له ذلك الأمير بسمارك الألماني ووالده ولكن من الرجال من تنفعهم المحن وتقوي عزائمهم وتمتن أخلاقهم فلما قنط من حاله لم يبق أمامه سوى الثبات إلى النهاية فثبت وحل المجلس الذي كان يحول دون رغائبه فزال كل إشكال. ولقد كتب في مفكراته الخاصة أن الأنواء العظيمة كانت تقذف بسفينتي صعوداً وهبوطاً ولكن الله حماني فلم أسلم النفس للغرق وأن البحارة لتريد عن رضا إلى اليوم أن تلقي بي من حالق ولكن قسماً منها يدرك بأن في استطاعتي أن أقود السفينة إلى مرفأ أمين فقد

جعلت نصب عيني مسألتين أن أخرج من هذا المأزق واسمي طاهر لم يدنس وأن لا أطمع بحال من الأحوال في أن أترك من بعدي الطوفان بدون ذمة ولا قلب. قاتلت رومانيا في بلافنا أي في الحرب الروسية العثمانية فظنت أنها بذلك تساعدها أوربا على استقلالها بتاتاً ولكن لم يكتب لها ذلك إلا سنة 1878 على شرط تجنيس الإسرائيليين فيها بالجنسية الرومانية وإصلاح بعض مواد من قانونها الأساسي وفي 25 أيار 1881 نودي بشارل الأول ملكاً على رومانيا أي صار مستقلاً عن وصاية أية حكومة له ولبلاده فكان أكبر همه أن يحسن موارد بلاده الاقتصادية ويعلم أمته ما يخرجها من الظلمات إلى النور فنشط التعليم العام ونشر اللغة الرومانية وحرر الكنيسة من الخضوع لغيرها واعترفت لها بطريركية الفنار سنة 1885 باستقلالها ثم أنشأ الخطوط الحديدية وابتاعتها الحكومة كلها وحسن الصناعة وعني عناية خاصة بترقية الزراعة وحدد الديون العمومية قام بذلك عقيب أن بويع له بالملك وذلك في دور كثرت فيه الاضطرابات والدسائس السياسية وتعدى العمال أطوارهم ولكن نفوذ الملك قد عدل من تكالب الأحزاب فانقلب تطاحنها إلى مناقشات لطيفة وتحسنت الأخلاق وتدمثت وكان الموظفون قديماً يبدلون عند كل تغيير في الحكومة فأصبحوا بعدها أمناء على مراكزهم وأصبح لهم استقلال وطمأنينة فكان من تثبيت أقدام الموظفين في وظائفهم والمثابرة على الأوضاع على وتيرة واحدة بإنقاذها من المؤثرات السياسية أعظم واسطة لإحياء البلاد حياة طيبة باقية. ومملكة هذا حالها وعملها قام بها ملك هو جندي وله أخلاق الجند من فطرته وله جيش قوي من ورائه مالية ناجحة لا تستطيع أن تسكت على ما ناله الحلفاء البلقانيون من المغانم وافتتحوه من الأراضي فأخذ الشعب يطلب حصته من المغنم في البلقان في حربها الأخيرة وكانت كلمة مليكهم حاجزاً دون التدهور فأبدت رومانيا طرفاً من التهديد فيما إذا تغيرت خريطة البلقان لأن في توسع البلغار في بلادها تهديداً لرومانيا فطلبت رومانيا إقليم سلستريا من البلغار فأبدت حكومتهم كبراً وعتواً وصرح رئيس مجلس بلغاريا أن أمته لا ترضى بالتخلي عن سلستريا فقال له ملك رومانيا لقد وقع لي في مدة حكمي أربعين سنة إن كنت أسير خلافاً للرأي العام أحياناً لأني كنت أرى في ذلك مصلحة بلادي فعلى رجال السياسة أن يعرفوا في بعض الأوقات كيف يعزمون عزماً ضرورياً يخالفون فيه شعور

السواد الأعظم الذي يكون على غير سداد. وظلت بلغاريا على عتوها سكرى بخمار النصر الذي أحرزه جنودها وأضاعه سوء تدبير رجالها فلم تقبل بمقترحات الدول عليها بشأن تسليم سلستريا لرومانيا وغير ذلك من التسامح فاضطرت رومانيا لإعلان الحرب عليها يوم 3 تموز فجندت في عشرة أيام 467 ألف جندي مما دهش له العالم وتقدم جيشها واجتاز الطونة وحط رحاله أمام صوفيا عاصمة البلغار فعقد الصلح في بكرش بعد أسبوعين على صورة كان فيها الحيف على بلغاريا التي تركت من أرضها نحو ثمانية آلاف كيلومتر مربع فيها 308 آلاف ساكن وهو نفع مادي قليل لكنه من الوجهة المعنوية كبير جداً وأقل ما فيه أن رومانيا أحرزت لها نفوذاً على حلفائها وسلطة وسعها اعتدالها في مطالبها ويرجع الفضل في عقد الصلح بسرعة إلى ملكها شارل فإنه لم يقع بعد انتصاره فيما وقعت فيه بلغاريا عقيب انتصارها من الجبر والاشتطاط والطمع بل أبدى من النصفة والاعتدال وكرم الأخلاق مع المغلوبين البلغاريين ما جعله وهو شيخ ملوك البلقان حكمها الذي لا ينازع ولم تتردد أوربا أن تمنحه هذا اللقب معترفة له بجميله. ولكن الممالك كالأشخاص قد لا تتم لها سعادتها ولا تنتهي أطماعها فإن رومانيا مع أحرزته مؤخراً من المنافع وكسبته من الصيت الحميد بين الدول لا تزال تحلم بأن تضم إليها الثلاثة ملايين والنصف مليون من الرومانيين الذين هم في حكم النمسا والمجر وتطالب المجر باستعادة إقليم ترانسلفانيا إليها لأن الرومان فيه يؤلفون الأكثرية ونفوسه 1. 472. 000 بحسب إحصاء المجر و2. 500. 000 بحسب إحصاء الرومان وكان هذا الإقليم ضم إلى المجر سنة 1867 على الرغم من وعد الإمبراطور فرنسيس يوسف بأن يترك لرومانيا استقلالها قبل ذلك بأربع سنين ومنذ ذاك العهد والعراك قائم بين الرومان المستعبدين وبين حكومة المجر فإن هذه الحكومة تحاول بقوة عمالها أن تمجرهم أي تجعلهم مجراً بلسانهم ومدنيتهم وهم يأبون إلا البقاء على لغتهم ومناحيهم فلا تستطيع رومانيا رسمياً أن تنشط رومان المجر ولكنها بصورة غير رسمية تكتب جرائدها وتعمل جمعياتها أعمالاً من شأنها الوصول بأبناء لسانهم المنفصلين عنهم إلى ضمهم إليهم أو استقلالهم عن هنغاريا فرومانيا ترمي سراً إلى إنشاء مملكة رومانية يدخل تحت لوائها كل من يتكلم

بلغتها وهذا من خيالاتها التي يحملها عليها شعبها والسياسة تحول دونه بإسداد. ومع هذا فإن مملكة رومانيا قد ختمت بسنة 1913 إحدى الفصول المملوءة بتاريخها فوسعت أرضها بدون إهراق دماء ووضعت أوزار حرب يمكن أن يحدث من طولها لأوربا عواقب سيئة وكانت بحكمتها وصبرها واعتدالها حكماً بين البلقانيين فالبلقان مدينة لها بالسلام وأوربا براحتها نعلم أن صحيفتها حسنة وأجمل منها أن تكتب بدون ترميج ولا حذف ويحق لعاهلها الشيخ أن يفاخر فخراً مازجه الاعتدال بنجاح سياسته في بلاطي فينا وبرلين. نكتب هذا وقد زار هذا الربيع عشرات من تلامذة دار الفنون أي جامعة الأستانة مدينة بكرش وتعرفوا إلى طلبة كليتها وزار هؤلاء أيضاً الأستانة وتعرفوا بطلبتها والحكومتان العثمانية والرومانية تتقاربان وتتعاطفان.

عنوان المجد

عنوان المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد تنافس فطاحل المؤرخين في الكتابة عن بغداد وتاريخها وأقسامها ودورها وقصورها ورجالها وفلاسفتها ومدارسها ومعاهدها وذلك لبعد شهرة هذه المدينة الطيبة التي ظلت خمسة قرون مهد الحضارة ومهبط المدنية وكعبة العلم والعرفان ومقر الدولة الإسلامية فبلغ عدد من ألفوا في هذا الموضوع المئات والألوف إلا أنه لم يبق من تصانيفهم غير قسم قليل في دور الكتب العراقية فإن أكثرها ذهب ضياعاًً وأكل عليها الدهر وشرب فمنها ما صار طعمة للنار أو ألقي في الأنهار ومنها ما اقتنته الإفرنج بوسائل شتى فازدانت بها معاهدهم ومكتباتهم ولقد رأينا كثيراً من علماء المشرقيات يطوفون هذه الديار قادمين إليها من القاصية للبحث والتنقيب عن آثار الحضارة العربية والإطلاع على ما في دور الكتب من نفائس الكتب ونوادر المخطوطات باذلين في سبيل غايتهم اللجين والنضار فالنسخة النادرة التي عسر على المستشرق ابتياعها أو استنساخها عمد إلى أخذ تصويرها الشمسي مهما كلفه ذلك تعباً ونصباً كذلك رأيناهم يعملون في بعض الأعلاق النفيسة التي ضمتها جدران خزائن كتبنا وأهملنا العناية بها والانتفاع منها وهكذا دأب الغربيون في سلب ذخائرنا وكنوزنا وآثارنا للوقوف على سر مدنية بلادنا القديمة فأصبحنا ونحن عالة على المغاربة حتى في الكتابة عن تاريخ بلادنا وحضارتها وعمرانها ورجالها وملوكها. ومن الكتب التي أسهب مؤلفوها في تاريخ بغداد وأجادوا في وصف ما كانت عليه من الجلالة والعمارة في الدولة العباسية كتاب تاريخ بغداد تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي المعروف بالخطيب المتوفى سنة463هـ - 1070م وهو كتاب ضخم في أربعة عشر مجلداً أسهب مؤلفه في تراجم علماء الزوراء وأدبائها ومن ورد إليها من الرجال العظام وقد ضم إليه فرائد وخرائد يضيق بنا المقام عن سردها وتبيانها ومنه الآن نسخة كاملة في خزانة السيد عبد الرحمن أفندي نقيب أشراف بغداد وخزانة هذا الزعيم من أغنى خزائن الكتب في هذا القطر ففيها نحو خمسة آلاف مجلد نصفها أو أكثر من النصف مخطوط وغير مطبوع وكل ما فيها نفيس نادر ناهيك أنه توارثها عن أسلافه القدماء منذ نحو أكثر من قرنين ونصف قرن ويقال أنه يوجد من هذا التاريخ الكبير نسخة تامة في كل

من المتحف البريطاني بلندن والمكتبة الأهلية في باريس وهناك أجزاء متفرقة مبعثرة توجد اليوم في مكتبة برلين ومكاتب الأستانة العمومية وفي المكتبة الخديوية وبعض خزائن أعيان العراق وهذا السفر النافع فريد في أبحاثه وحيد في تبويبه وترتيبه ولم يقصره المؤلف على الشؤون التاريخية وسرد الواقع والأخبار بل ملأه بكل شاردة وواردة تتعلق بالتاريخ والجغرافيا والتراجم والآثار فهو سفر تاريخي جغرافي أثري يغنيك عن البيان أن مؤلفه ذلك الحبر العلامة الذي طبقت شهرته الخافقين وقد لخص هذا الكتاب الضخم أحد علماء القرن الخامس مسعود بن محمد البخاري بعد أن زاد عليه شيئاً كثيراً من الحوادث والأخبار التي عرفها بنفسه واعتمد فيها على أمهات الكتب التاريخية وهناك عدد كبير من مؤلفات المتقدمين في أحوال بغداد عروس البلاد الشرقية كتاريخ بغداد لأحمد بن طيفور البغدادي وهو أقدم تاريخ لدار السلام وكتاب - البيان - تأليف أحمد بن محمد بن خالد البرقي الكاتب الكبير وهو حافل بمحاسن دار السلام وذكر أطلالها ودوارسها وهذا ما يدل على مبلغ عناية المتقدمين بأحوال هذه العاصمة الكبرى ولو أردنا أن نستقصي كل ما ألف في هذا الموضوع لاحتجنا إلى مجلد ضخم ولما دخلت عصور الحروب والكروب والفتن والمصائب اشتغل الناس بحالة البلاد السياسية عن التأليف ومزاولة العلوم حتى قل من كتب عن بغداد في القرن الثامن والتاسع والعاشر أو سعى إلى تدوين ما تعاقب عليها من الأدوار التاريخية ولولا عناية بعض الأسر الكريمة كأسرة الألوسي والسويدي والحيدري بتاريخ البلاد واحتفاظها بما عثرت عليه من الآثار القديمة ونبوغ أبنائها واشتغالهم بالتأليف والتصنيف لبقي ذكر هذه المدينة خاملاً ولنوسي تاريخها واضمحلت آثارها وفقدت مكانتها. وقد اشتهر في القرنين الأخيرين جمهور من كبار العلماء المدققين الذين عاهدوا الله على خدمة الأمة والدين والوطن بعقولهم ومواهبهم وهم الذين أوجدوا هذه الحركة العلمية المباركة وأحيوا ميت الآمال وبعثوا في النفوس الخاملة عوامل السعي والعمل فقام من بينهم المؤلف الفاضل والفيلسوف الكامل والفقيه المحدث والمفسر الكبير والمتشرع الخطير والكاتب النحرير وكل منهم سار في الطريق التي اختارها لنفسه وحصر أوقاته في إتقان العلم الذي رغب فيه فغصت بتلامذتهم أندية العلم والمدارس وازدهت بهم دار السلام فعاد إلى البلاد رونقها وبهاؤها وكان من جملة المصنفين في تاريخ بغداد ثلاثة أعلام: 1 -

السيد إبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري البغدادي صاحب تاريخ عنوان المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد ويوجد منه الآن أربع نسخ خطية الأولى بخط المؤلف وهي موجودة في المكتبة الخالدية - نسبة إلى الشيخ خالد النقشبندي - والثانية في خزانة العلامة السيد محمود شكري الألوسي والثالثة في مكتبة دير مبعث الكرملين والرابعة هي النسخة التي بأيدينا ونريد أن نتكلم عنها الآن. 2 - الشيخ عبد الرحمن زين الدين بن الشيخ عبد الله الويدي البغدادي المتوفى سنة 1200هـ - 1776م مؤلف كتاب حديقة الزوراء وهو تاريخ جليل في ثلاث مجلدات ضخام يدور ما فيها حول ما وقع في العراق من وقائع العصور المتأخرة في زمن ندر فيه المؤلفون والكاتبون والمدونون للوقائع التاريخية ولولا هذا المصنف الجليل لضاع تاريخ هذا القطر الحديث ولا توجد منه إلا نسخة في خزانة السيد عبد الرحمن النقيب. 3 - هو حيد عصره السيد محمود شكري الألوسي صاحب كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب الذي أعجب به علماء الفرنجة أيما إعجاب وأحرز قصب السبق على سائر المؤلفات في هذا المضمار وللعلامة المشار إليه تاريخ مفيد عن بغداد دعاه كتاب أخبار بغداد وما جاورها من القرى والبلاد جاء في أربعة مجلدات بحث فيه بحث العالم المدقق والمؤرخ المحقق عن تاريخ دار السلام ومدن العراق وما كان لها من القصور الشاهقة والأبنية السامية وأشبع الكلام على تراجم أدباء الزوراء وأكابر أعيانها وزهادها ومدارسها ومعابدها. وكتاب تاريخ المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد من الكتب النفيسة النادرة التي قل من نسج على منوالها والمؤلف معروف لدى علماء العراق بسعة الاطلاع وطول الباع في المسائل التاريخية وهو ينتمي إلى أسرة شريفة المحتد عريقة في النسب هي أسرة الحيدرية ويتصل نسب جده الأعلى بموسى الكاظم وإلى هذه الأسرة تنسب الدولة الصفوية في فارس لأن جد الحيدرية أحمد الأعرابي كان من بادية الحجاز فتحضر في المدينة وهاجر بعض من سلالته إلى العراق وهم الذين نشأ منهم المؤلف المشار إليه والبعض الآخر إلى بلاد ما وراء النهر ومنهم نشأت الدولة الصفوية واتصال هذه الدولة بالحيدرية يرتقي إلى الشيخ صدر الدين ابن قطب الشيخ صفي الدين أبي الفتح إسحق وكان الصفويون على مذهب أجدادهم مذهب السنة والجماعة ثم تشيعوا لغايات سياسية اقتضتها حالة عصرهم والشاه

إسماعيل أول من حاد عن مذهب أسلافه فإنه انتحل المذهب الجعفري ظناً منه أنه بذلك يقهر عدوه السني السلطان سليم خان وكان السلطان حسن الأبلخاني المعروف في كتب الأتراك التاريخية بأزون حسن حسن الطويل الذي ملك بغداد وآمد ديار بكر وخراسان ونواحيها فرعاً من هذه الشجرة الطيبة. وكان الشيخ إبراهيم فصيح الحيدري من مشاهير هذه العائلة وأكابر أعيان بغداد على عهده وتصدر في المدارس لتدريس علوم الدين وكان مبرزاً في الفقه والتفسير والتاريخ والمنطق توفي سنة 1299هـ - 1881م ولم نعثر على سنة ولادته وله مؤلفات عديدة وكتابه عنوان المجد من أجلها قدراً وأبعدها شهرة والنسخة التي أمامنا قد بلغت صفحاتها 478 كتب في كل صفحة 20 سطراً والسطر مؤلف من تسع كلمات وقد ألف كتابه هذا في البصرة الفيحاء قال بعد البسملة والصلاة على رسول الله يقول العبد الفقير المحتاج إلى عفو ربه السيد إبراهيم فصيح بن السيد صبغة الله الحيدري البغدادي إني قبل هذا سافرت من بلدي مدينة دار السلام إلى دار الخلافة القسطنطينية حماها من كل سوء رب البرية ومنها إلى مصر والحجاز وعدت إليها ثانياً لأستوفي الوقوف على بدائعها بالحقيقة لا بالمجاز ثم خرجت منها إلى الديار السورية وبعض البلاد الأناضولية فاطلعت على تلك البلاد وأحوال العباد ثم رجعت إلى بلدي مدينة السلام ذات الثغر البسام ومكثت فيها بين أهلي وأحبابي غير قليل من الأعوام حتى رمتني الأقدار بسهام النيابة إلى البصرة المسماة بخزانة العرب وقبة الإسلام فلما وردتها ورأيت ما فيها من عجائب الأنهار وغرائب النخيل والأشجار الممتنعة الحد والحصر مع ما فيها من المد والجزر في اليوم مرتين بحيث تمتلئ الأنهار والسواقي وكل عين وقد آلت إلى الخراب فلم يبق منها إلا الاسم واندرست آثارها فلم يبق إلا الرسم أحببت أن أؤلف كتاباً في بيان أنهارها ونخيلها وأشجارها وبيان بيوتاتها القديمة من ذوي الثروة العظيمة مع بين أحوال بغداد وإن كنت قبل هذا قد ألفت في دار الخلافة كتاب أحسن السلام في دار السلام إلا أني أردت أن أجمع أحوال البلدتين في هذا الكتاب وأحوال أراضي نجد وقبائله وما يليه من البلاد مع تصدير الكتاب ببعض ما ذكره الحكماء في سياسة الملوك فشرعت في ذلك ورتبته على مقدمة وثلاث مسالك وخاتمة. . . وقد تكلم في المقدمة عن سياسة الملوك والسلاطين في رعاياهم وذكر الأحاديث النبوية

والآيات الشريفة المنزلة في تدبير الملك وسياسة البلاد والعباد فأفاض في هذا الباب أحسن إفاضة وإليك بعض ما قاله: . . العدل من أعظم الأركان التي بها قوام السلطنة والملك ودوام الدولة فإنه ميزان الله تعالى في الأرض الذي يأخذ به للضعيف من القوي والحق من الباطل قال الله تعالى إن الله يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر يعظكم لعلكم تذكرون. وقد شبهوا الملك بالرجل واعتبروا السلطان رأسه والوزير قلبه والأعوان يديه والرعية رجليه والعدل روحه وهو موجب لاجتماع الرعية على محبته المفضي إلى استقامة أمره ونظام ملكه وإذا عدل السلطان قرب منه وصلح له وعدة السلطان ثلاثة أمور مشاورة النصحاء وثبات الأعوان وترويج سوق العدل ثم العدل ينقسم إلى قسمين قسم إلهي جاءت به الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الله تعالى وهو الشرائع وقسم يشبه العدل وهو السياسة الاصطلاحية ويستحيل أن يدوم بقاء السلطان أو تستقل رعية في حالة إيمان أو كفر بلا عدل قائم ولا ترتيب للأمور ثابت ووافقت حكماء العرب وغيرهم على هذه الكلمات فقالوا الملك بناء والجند أساسه فإذا قوي الأساس دام البناء فلا سلطان بلا جند ولا جند بلا مال ولا مال إلا بالعمارة ولا عمارة إلا بالعدل فصار العدل أساساً لسائر الأساسات. . ثم أشبع الكلام عن الفقهاء والقضاة والتجار والرعية والخراج ومصالح الدولة ودواوينها مما دل على سعة خبرة وغزارة فضل وبعد غور في الشؤون الاجتماعية ثم أسهب في فضل العلم وحملته وحث الناس على تلقنه وتكلم باختصار عن الكيمياء والهندسة والحساب والجبر والسيمياء والنجوم والموسيقى والفلسفة إلى غير ذلك من الأبحاث الشائقة الرائقة. وكتب في المسلك الفصل الأول عن فضائل بغداد وبنائها وبانيها وبيان سواد العراق وخراجه وعشره وأنهار الزوراء وجسورها وعشائرها وأكابرها المعاصرين له وغير ذلك مما يتعلق بأحوال بغداد ومما أفاض في ذكره وبعد من جملة حسنات كتابه الكلام على بيوتات بغداد فإنه أجاد في هذا البحث وأفاد التاريخ فائدة كبرى فدون أسماء البيوتات القديمة وذكر رجالها ومشاهيرها وتراجمهم وأنسابهم وهو بحث جميل قل من تطرق إليه من المصنفين القدماء ومن فصول هذا الكتاب الممتعة كلامه على عشائر العراق ومشايخها وأمرائها ومنازلها وأنسابها القديمة ومذاهبها وعدد رجالها وعقب بعد ذلك الكلام على ذكر

البيوتات البدوية الرفيعة ثم عقد فصلاً في تراجم العلماء والفضلاء الذين برزوا في صنوف العلوم والفنون ومن حسنات هذا الكتاب الكلام في أنهار بغداد القديمة والحديثة مع تعيين مواقعها ومصادرها ومصابها وبعد ذلك تكلم عن البصرة وبيوتاتها وعلمائها وأنهارها والمد والجزر فيها وإليك ما قاله عن بساتين البصرة: . . والبساتين الموجودة في البصرة ونواحيها ذات النخيل والأشجار والأنهار حدها من القرنة إلى رأس البحر المسمى بالفاو ويبلغ مقدارها ثلاثين ساعة بسير الفارس وأما المشي فالمسافة بالنسبة إليه أكثر والفرج بين ذلك الخالية عن النخيل يسيرة وهي من البصرة إلى الدواسر ومن القرنة إلى الكوت الفرنجي ولكنها بالنسبة إلى المتصلة لا تعد ولا تعتبر والبساتين الباقية كلها متصلة بعضها ببعض مقدار عشرين ساعة طولاً على طرفي شط العرب وأما عرضاً ففي الجنوب يبلغ أكثر من ثلاث ساعات وهي ذات نخيل وأشجار وفواكه لا تعد ولاتحد وحد البساتين شرقاً من كتيبان إلى سبع القصبات وجنوباً إلى الفاو وشمالاً إلى العنبري. . ثم أفاض في الكلام عن التجار في البصرة والعلماء والبيوتات القديمة هناك. ومما قاله عن أنهار البصرة الباب الثالث في بيان أنهار البصرة الموجودة في هذا العصر الكبار المحصوة والصغار التي لا يحصيها عد ويجري فيها الماء من شط يقال له شط العرب وهو مجتمع دجلة والفرات ويحصل لهذا الشط ولجميع الأنهار المد والجزر في اليوم والليلة مرتين مرة في الليل وأخرى في النهار وتختلف ساعات المد تقديماً وتأخيراً والأنهار الكبار لم تزل مملوءة من الماء إلا العشار فإنه يخلو من الماء حالة الجزر وأما الصغار فهي خالية أثناء الجزر فإذا حصل المد امتلأت الصغار وازدادت الكبار التي تجري فيها السفن وجميع الأنهار الكبيرة خارجة من شط العرب وبعض الكبار من الصغار فأول الأنهار الكبيرة ابتدأ من البصرة نهر العشار المشهور الداخل إلى البصرة وهو نهر عظيم تجري فيه المراكب والسفن وحوله بساتين كبيرة وبيوت عامرة. . وقد عد أنهراً كثيرة من الأنهر التي تمخر فيها السفن وقال إن الأنهر الصغيرة كثيرة لا يمكن حصرها وانتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الخراج والأعشار والغرائب في عصره وتكلم بعد ذلك عن المحمرة وعبادان والأهواز وما في هذه الديار من الأنهار والأراضي والقبائل وجعل الكلام

على نجد آخر فصول الكتاب فكتب عن قبائل نجد وأشرافها وعلمائها ومذهبها شيئاً فيه الغث والسمين إلا أن التحقيق يغلب على أكثر أبحاثه وقد قرظ أعمال النجديين وأثنى عليهم وعلى النهضة التي قام بها زعماؤهم وأمراؤهم وأتى في هذا الفصل على ترجمة صاحب الدعوة الوهابية والقائمين بترويجها وتراجم مشاهير الحنابلة وعلماء نجد الذين تصدروا للقضاء والإفتاء ومكاتباتهم إلى الملوك والأمراء المعاصرين لهم ومؤلفات نوابغهم ثم استطرد من هذا البحث إلى ذكر الحجاز وتهامة والبحرين والقطيف وما فيها من العجائب والغرائب ووصفها وتمثيلها أحسن تمثيل وتطرق أيضاً إلى البحث عن أحوال البلاد العربية الكائنة على ضفاف الخليج الفارسي كمسقط وعمان وإماراتها وأمرائها وقبائلها ثم أرصد فصلاً ممتعاً في أبعاد الأماكن التي ورد ذكرها في كتابه ومن حسنات كتابه أنه عقد فصلاً في أنساب الأمراء مع بيان أحوالهم وأطوارهم ورسوم حكوماتهم وعقد فصلاً آخر في تراجم مشاهير علماء المذهب الحنفي والمالكي ومشاهير الحنابلة على عهده. وأما الخاتمة فهي تشتمل على مباحث شتى منها العلم في بلاد العرب وأنواع خراجها ومقاييس مكاييلها وجباية الأموال الأميرية ومعاملاتهم وإقطاع البلاد إلى غير ذلك مما يطول ذكره والخلاصة أن هذا الكتاب من أجلّ كتب التاريخ التي تصور لنا حالة العراق وبلاد العرب الزراعية والصناعية والتجارية تصويراً حسناً وما يحتاج إليه المؤلف والمؤرخ والكاتب والأديب فإنه مما لا يستغني عنه العام والخاص نفعنا الله بعلم مؤلفه وأكثر بين أبناء الأمة العربية من أمثاله المحققين المدققين. بغداد إبراهيم حلمي العمر

في ديار الغرب

في ديار الغرب سويسرا الوطنية والجيش قالت العرب احرص على الموت توهب لك الحياة وقال المتأخرون من أراد السلم فليكن أبداً على استعداد للحرب وهاتان القاعدتان جرت عليهما سويسرا فمن يظن أن هذه الأمة التي تعيش بمعزل عن الدول وليست لها سياسة خارجية واستقلالها مضمون باتفاق الدول العظمى تتمرن ليلها ونهارها على الأعمال الحربية وكلها مسلحة وكلها محاربة عند الاقتضاء وتستطيع عند أول صرخة أن تجهز 180 ألفاً من الجند الذين يحسنون الرماية كأحسن أهلها ويعلمون عما يدافعون ويأتون إلى أي مكان من حدودهم في سرعة البخار ثم يستطيعون أن يجهزوا 140 ألفاً من الدرجة الثانية ومثل هذا العدد في الدرجة الثالثة وتجهيزاتهم ليست على الورق بل عددهم وعددهم حقيقة لا شائبة فيها كأعمالهم. قسم السويسريون الخدمة العسكرية إلى عدة أدوار حتى لا تثقل عليهم وينقطعوا بتاتاً عن أعمالهم وبيوتهم ويخففوا عن أمتهم نفقة إطعامهم وإيوائهم فبلاً من أن يقضي الشاب سنتين أو ثلاث سنين تحت السلاح كما هو عند معظم الأمم لا يبقون في الخدمة إلا أشهراً معدودة في السنة الأولى ولكن المرء يبقى جندياً من العشرين إلى الأربعين ويدعى لحمل السلاح والتعلم في مواعيد مختلفة قد لا تتجاوز إلا ربع السنين وتكون عنده بندقيته يتعلم فيها في بيته وحقله ولا يستعملها إلا لهذا الغرض والولد منذ المدرسة الابتدائية إلى المدرسة العليا إلى الكلية يتعلم التعليم العسكري وهو تحت ملاحظة الضباط الذين يأتون أحياناً للتحقيق عن أمره والإشراف على رمايته وفحص سلاحه الذي تعطيه إياه الحكومة ومن خالف ذلك يعاقب بأشد العقوبات وهيهات أن تجد مخالفاً. سويسرا الحديثة ليست محاربة ولا تثير بينها وبين جاراتها أسباب النزاع لأن قلة عددها بين أمم كبرى لا يجعل الحرب من مصلحتها ولذلك فاستعداد السويسري للطوارئ وتمرينه على الحرب ووطنيته المشتعلة وفكره الشعبي ليست إلى عداء وحب فتح بل للدفاع عن كيانه فسويسرا كل سنة تعطي منحة لمكتب السلام في برن ولكنها باليد الأخرى تبتاع السلاح الجديد وتجهز جيشها بكل ما تقدر عليه من القوة وتزيد في ميزانيتها البرية سنة عن سنة لم يمنعها الحياد أن تعمد على الطرق العملية كسائر أعمالها في فروع الحياة لأن

أرضها لا تحمى إلا إذا كانت على حال الدفاع بحيث يحترمها جيرانها وب1لك تحفظ استقلالها لا بمجرد العهود التي تدار بالأرجل عند ثوران الغضب وهيجان النفوس للفتح وجر المغانم. سويسرا لا تريد أن تكون طعمة سهلة لكل آكل ولا تخاف في الأغلب أن تداهمها فرنسا من الغرب والنمسا من الشرق بل تحاذر في الأكثر من الشمال تخاف عادية ألمانيا وأن تضمها هذه ذات يوم بالقوة إلى أرضها كما فعلت بمقاطعة شلشويق هولستاين وهانوفر وهيس وفرانكفورت والألزاس واللورين وأخوف ما تخاف من عادية إيطاليا من الجنوب ولذلك تقيم على الشمال معظم جيشها وعلى الجنوب المعاقل المدهشة ومنها معقل غوتار والسمبلون فإن كان السويسريون يحمون بلادهم ويفادون بالرجال والمال للذب عن حياضها فذلك لأنهم يحبونها حباً يمازج أجزاء نفوسهم ولا شيء أحسن وأضمن للتعلق بالوطن من الاستقلال وحكم المرء نفسه بنفسه. قال أحدهم إن سويسرا ليست من البلاد التي تبقى لضرورة في بقائها كإنكلترا وإسبانيا بل إنها لم تبقى إلا لأن السويسريون يريدون بقائها نعم إن الإرادة وحب الحريات السياسية من القوى ولكنها ليست كلها جماع القوى فإن سويسرا لم تتألف عرضاً ولإرادة المتعاقدين المتحدين من أبنائها بل إنها اجتمعت لاتفاقها في العواطف والروح وبما لها من التقاليد المتماثلة والماضي والمجد الذي يتجسم كل حين باسمغليوم تل بطلها القديم. وغليوم تل هو أحد رجال الثورة الذين أنقذوا سويسرا منربقة النمسا سنة 1307م وذلك أن عامل الإمبراطور النمساوي كان علق قبعة الدوج على رأس خشبة في الساحة العامة في التورف وأراد أن يذل السويسريون بأن يسلموا على القبعة كلما مروا بها فأبى أن يخضع غليوم تل لهذه المذلة فاستدعاه الوالي النمساوي ولما عرف أنه من الرماة الماهرين بالقوس والنشاب حكم عليه جزاء إبائه أن يضرب سهماً على تفاحة وضعها الوالي على رأس أبن غليوم تل فلم يسع هذا إلا أن ألقى سهمه فأصاب التفاحة ولم يصب ابنه بسوء ولما سأله الوالي لماذا أعد سهمين فقال له الواحد للتفاحة والآخر لك وعندها نادى بالثارات سويسرا وكان بذلك خلاص البلاد من حكم النمساويين في أوقات مختلفة كان يكتب فيها النصر للسويسريون لأنهم مدافعون لا مهاجمون.

غليوم تل نصبت له التماثيل الكثيرة اليوم في بلاد سويسرا فهو مثل غاريبالدي في إيطاليا أحيا أمته بشجاعته ومن أجل هذا التاريخ المعنعن بالواقع لا ترى السويسريين سواء ممن كانوا يتكلمون الألمانية وهم الأكثرية أو الإفرنسية أو الإيطالية أو الرومانشية تحدثهم نفوسهم أن ينضموا إلى أبناء جنسهم بل إنك ترى السويسري وأبناءه وأحفاده وأحفاد أحفاده تغربوا في إيطاليا وألمانيا والنمسا وفرنسا قرناً وأكثر ولا يزالون محافظين على تابعيتهم وقد عرض مرة على أحد علمائهم إدوار وود وكان باريزياً في موطنه فقط وسويسرياً بجنسيته أن يتجنس بالجنسية الفرنسوية لينتخب عضواً في المجمع العلمي مجمع الأربعين المخلدين فقالف والسذاجة طافحة من كلامه إنني أحب فرنسا وأسكن باريز ولكنني سويسري مات والدي ووالدتي في سويسرا وأنا لا أكون في المجمع العلمي. . هذه هي الوطنية السويسرية متأصلة في شغاف القلوب ولكنها ساذجة لا تتعمد الصياح ولا التظاهر ولا تجد داعياً للتبجح بها كل حين. وطنية السويسريين في صدورهم مكتومة لها أعياد وحفلات ومصانع وتذكارات تذكرهم الساعة بعد الساعة بما بذل أجدادهم من إهراق دمائهم في دفاعهم عن وطنهم وما يجب عليهم أن يقوموا به ليحفظوا هذا التراث الجميل النادر دع ما ينشره علماؤهم وأدباؤهم من المصنفات الممتعة التي كلها ترمي إلى تحبيب وطنهم إليهم وتلقن أبناءهم منذ نعومة أظفارهم التعليم الوطني في المدارس وتلامذة مدارسهم يتغنون في كل شارقة وبارقة بالقصائد الحماسية الوطنية التي نظمها الشاعر السويسري جوست أليفيه ويتلون الفترة بعد الفترة ما وصف الشاعر الكاتب أوجين رامبرت طبيعة سويسرا وجبالها وأوديتها وبحيراتها فيزيد هيامهم بأرضهم. السويسريون لا يقنعون أن يحبوا بلادهم حباً مجرداً بل يزورونها بعناية واهتمام وعدد من يرحل منهم صيفاً وشتاءً 22 % في المئة من مجموع السياح القادمين إلى سويسرا ينتقلون في جبالها وأوديتها وترى العامي منهم إذا اجتاز أرضاً لم يعرفها بعد يقف في القطار مأخوذاً بما يمر به منا الأصقاع بحيث لا يفوته منها جميل وإذا ذهبت إلى القرى أتاك بعض من أهلها بدون طلب منك وحدثوك عما تجب زيارته من المحال البديعة في جوارهم فالسويسريون معجبون ببلادهم وحق لهم العجب وربما كانوا أكثر الأمم المجاورة في

طربهم بما خصت به جبال الألب من المحاسن التي تخلب الألباب. اشتهر السويسريون منذ عهد غليوم تل أنهم في مقدمة الرماة في أوروبا لأن بلادهم تستلزم ذلك ولا تكون حربها بالنظر إلى جبالها إلا مناوشة وكميناً فترى في كل قرية جمعية للرمي وتقام له الأعياد وكل سويسري في سن العسكرية فلاحاً كان أو ساكن المدينة يصرف مع رفقته يوم الأحد ساعات طويلة في التدرب على الرماية وفي كل بيت بندقية أو عدة بنادق لشبان سويسرا يعدونها ليدفعوا بها عن أنفسهم وبلادهم كأنهم لا يزالون في عهد الإقطاعات يكلف فيها كل واحد بحماية نفسه وأسرته ولكن هذا شأن الأمة المسلحة بسلاحين سلاح القوة المادية وسلاح القوة المعنوية العلمية التي لم تكن في القرون الوسطى. ضباطهم يخرجون من الجيش مباشرة ثم يتعلمون التعليم الحربي وأكثره عملي في الغالب وهم في الأكثر من أبناء الفلاحين يعاشرون الأفراد ويواكلونهم وطعام الجنود من أحسن ما يعهد لهم مطابخ تنتقل معهم في المناورات فتراهم في كل وقت يتناولون الطعام الصحي الفاخر الذي لا يوجد إلا في المدن وفي حال التوطن والرفاهية وجنديهم يقبض كل يوم 80 سنتيماً في المشاة وفرنكاً في الفرسان وهو أحسن راتب يقبضه جندي في جميع أمم أوروبا لأن هذه عجزت عن إطعامهم وإلباسهم لكثرتهم بدون فائدة دع إدرار النفقة عليهم ولا يبتعد عن أهله من الجند إلا من دخل في جيش الفرسان فالسويسري سعيد في كل حال من أحواله مرتب في حله وترحاله ممتع باستقلاله ناهض في عامة أعماله ولذلك لا تراه يشكو شيئاً على نحو ما يشكو ابن البلاد الراقية الأخرى الذي يرزح تحت أثقال المغارم والمظالم لينفق على بحريته وبريته قال لي كثيرون نحن سعداء في بلادنا فكنت أقول لهم بارك الله بسعادتكم التي أحرزتموها بجدكم ورزق شرقنا المسكين بعض ما أنتم فيه إنه كريم جواد. سويسرا المذاهب والقوميات واللغات الدين واللسان من جملة المظاهر المهمة التي تدل على روح شعب وقد كان لهما في الأرض السويسرية بفضل التسامح والاتحاد ومراعاة حرية الغير مشاكل في الماضي ولكنها اليوم قد انحلت صعوباتها وتعبدت عقباتها وكان الدين ثم اللسان شعار الوطن الأصغر ثم امتزج أهل كل دين وأهل كل لسان امتزاجاً في البلاد فلم ينشأ في سويسرا مشاكل تذكر كما نشأ في بعض البلاد التي تنازعتها البرتستانتية والكاثوليكية أو

الأرثوذكسية والإسرائيلية أو مذهب أهل السنة والشيعة في الإسلام. المذهبان السائدان في سويسرا هما البرتستانتية والكاثوليكية ولما انتشر المذهب البروتستانتي في القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد دعاة من أبناء البلاد أخذت كل مقاطعة تجعل مذهباً رسمياً وإجبارياً وتدعو إليه في أرضها وتحتم على الأهلين حضور الصلاة به وإن كان لا ينتحل هذا المذهب وهو شيء من الشدة نشأ للسويسريين بانتشار المذهب البرتستانتي ثم أخذت المدنية تعدل من شدته والبروتستانت أكثر عدداً من الكاثوليك بقليل. قال دوزا إذا كان الدين يؤثر احياناً أثراً ظاهراً في روح أمة فإن الشعب يكيف الدين على صورته مع توالي الأيام والأمر الثاني ظاهر في سويسرا وإن لم تكن تخلو من الأول ولا جدال بأن المقاطعات الكاثوليكية بمجموعها أكثر انحطاطاً من المقاطعات البروتستانتية والأنحاء الأقل نظافة هي كاثوليكية أيضاً والمقاطعات الكاثوليكية هي التي احتفظت بالأكثر بلهجاتها وإن فكر حرية البحث الذي دعت إليه البروتستانتية قد أثمر وأينع فإن التعليم العام في البلاد البرتستانتية أكثر انتشاراً مما هو في غيرها وأفكار التسامح مقبولة فيها بسرعة ورجال المذهب البروتستانتي قلما يعنون بالسياسة وليست هذه الفروق مهمة فإن تأثير عقل الأمة في المذهبين هو أشد ظهوراً. السويسري متدين حق التدين ولكن دينه في قلبه وهو لا يحفل على الجملة بالظواهر ولذلك ناسبت البروتستانتية مزاجه وللقيام بالفروض الدينية منزلة من حياة السويسري المنظمة كما للأعمال الدنيوية كذلك فتراه يذهب صباح الأحد إلى الكنيسة كما يذهب في المساء إلى القهوة بكل رزانة وتماسك أو كما يذهب إلى عمله خلال أيام الأسبوع والرجال والنساء يحضرون في القرى والمدن في البيع لسماع القداديس أو المواعظ وربما كان النساء أكثر عدداً في الكنائس الكاثوليكية كما لحظت من الحضور في بعض الكنائس لوزان الكبرى ولكن الكنيسة البروتستانتية مع هذا تغص بالمستمعين والعابدين الراكعين وكلهم يستمعون باحترام لما يلقى عليهم من المواعظ. ذكرت الفروض الواجبة نحو الخالق في جميع البرامج المدرسية ومعظم المدارس تقيم الصلوات وليس لرجال المذهب البروتستانتي في سويسرا ارتباط بسلطة خارجية وكذلك

أهل المذهب الكاثوليكي ليس لهم أساقفة ورؤساء عظام بل إن كل واحد مرتبط بالمقام البابوي ارتباطاً خفيفاً لا يشبه ارتباط سائر البلاد الكاثوليكية في أوربا وآسيا وأميركا وأفريقية مثلاً فالسويسريون غلاة في حب الاستقلال في كل شيء حتى أن رهبانهم وقساوستهم يلبسون لباساً يخالف ألبسة غيرهم في الأمم الأخرى ونرى الكل متشابهين متقاربين مما يذكر أن سويسرا كانت في القرون الوسطى مهد التسامح وإن وقع لها في القرن التاسع عشر أن نشبت فيها حرب دينية من أجل القانون الذي وافقت عليه الأكثرية بنفي الرهبنات من سويسرا في حين لم تنشب في أوربا حرب دينية في ذاك القرن ومع ذلك تجد جنيف ببرتستانيتها وفيبورغ كذلك في تمسكها بكثلكتها كأنهما رومية بكاثوليكيتها ولم تمض على هذه الحرب خمس وعشرون سنة بفضل تلقين المدارس فكر التسامح حتى أصبحت سويسرا أكثر بلاد أوربا تعلقاً بحرية الوجدان والعبادة على صورة منظمة حرة لا مثيل لها. اعتبرت سويسرا حتى اليوم الكنيسة إدارة من إدارات الحكومة هذا مع أن الحياة الدينية فيها مادة من مواد الحياة العامة فجعل الأديان تحت سلطة الحكومة مثل المصارف والسكك الحديدية ولكل مقاطعة قانونها الأكليركي الذي تنظر فيه السلطة التشريعية وتقر عليه أو تعدل منه مطلقة الحرية تحت بعض شروط يقتضيها الدستور السويسري من مثل حرية الوجدان وحرية التدين وغير ذلك ورؤساء الدين بحسب المقاطعة بروتستانتاً كانوا أم كاثوليكاً تدفع لهم الحكومة رواتب تستوفيها من أهل هذه المذاهب وللحكومة حق التدخل في مسائل العبادة والطقوس وإذا أرادت فيكون القول الفصل في بعض المسائل لمجلس الأمة وتدخل الكنيسة البروتستانتية في أعمال الحكومة غير محسوس في سويسرا الألمانية البروتستانتية مثل ما هو في سويسرا الكاثوليكية الفرنسوية وغيرها. وبعد حرب سوند بربوند اتهم اليسوعيون بأنهم أوقدوا الفتنة الدينية في البلاد السويسرية فطردوا منها وقد حظر عليهم دستور سنة 1748 الدخول إلى سويسرا بيد أنهم دخلوا في الحقيقة على فريبورغ بعد عشر سنين ومدرسة اللاهوت في هذ المدينة يديرها الدومنيكيون في الظاهر ولكنها بيد اليسوعيين في الواقع ولاهوتها هو اللاهوت اليسوعي دع من هناك من الرهبان الذين طردوا من فرنسا وجاؤوا فريبورغ وغيرها من بلاد الكثلكة السويسرية

يعلمون ويعظون ولمعظم الكليات السويسرية صفة دينية ظاهرة عليها فإذا كانت كلية فريبورغ كاثوليكية محضة فكلية لوزان وكلية جنيف برتستانتيتان. هذا إجمال ما يقال في المذاهب في هذه البلاد أما القوميات أو الجنسيات أو العناصر المتألفة منها فإن نصف سويسرا روماني أو لاتيني والنصف الآخر جرماني وربما كان العراك بين هذين العنصرين على صورة لم يعرف بها في بلد آخر في أوربا منذ أوائل القرون الوسطى واختلط العنصر اللاتيني بالجرماني وعلى العكس اختلاطاً كبيراً ومن السويسريين الفرنسويين من تألمنوا أي أصبحوا ألماناً بلسانهم على طول الزمن ومن الألمانيين من تفرنسوا ويكاد لا يتجاوز اللاتينيون أي الفرنسيس والطليان والرومانش في سويسرا مليوناً ومائتي ألف وبقية الأربعة ملايين هم ألمان عاشوا حتى اليوم بحرية تامة في استعمال ألسنتهم بفضل استقلال المقاطعات وعدم المركزية وربما كان الألمان أكثر توسعاً في البلاد وهم الرابحون في التبسط في ربوعها على الزمن حتى أصبح اللسان الفرنساوي خاصاً بغرب البلاد والرومانشي بشرقها والإيطالي بجنوبها والألماني بشمالها ويقدرون عدد الألمان المهاجرين إلى المقاطعات الفرنساوية بمئة ألف وعدد الفرنسيس المهاجرين إلى المقاطعات الألمانية بخمسين ألفاً. ولم تعترف الحكومة رسمياً بلغة الرومانش كما اعتبرت الألمانية والإفرنسية والإيطالية وكتبت معظم الأوراق الرسمية بهذه اللغات الثلاث وذلك لأن المتكلمين بها قلائل ولأنها أشبه بلهجة خاصة لا أدبيات لها وأهلها يتزوجون بالألمان ويختلطون بهم وكل سنة يخف عدد المتكلمين بلسانهم وربما كان الرومانشيون مثال مملكة أضاعت لغتها على التدريج بدون أن تضيع استقلالها أضاعت لغتها واندمجت في غيرها على خلاف الطليان وعددهم في سويسرا اللاتينية زهاء 230 ألفاً فإنهم احتفظوا بعنصريتهم لأنهم احتفظوا بلغتهم واحتفظوا بلغتهم لأن لها آداباً خلافاً للرومانشية. ومسألة الألسن غريبة في سويسرا لا تؤثر في الأمور الإدارية لأن حقوق الأقلية مصونة كحقوق الأكثرية ومن أعجب الأمور أن اللسان في سويسرا وإن كان من مواد الوطنية المحلية فليس شارة من شارات الوطنية الجامعة واختلاف الألسن ليس من العوائق في إدماج السويسريين في قالب الأخلاق وليس في اللسان أدنى مادة من مواد الانفصال

فالسويسري الفرنساوي في مقاطعتي ألفو ونوشاتل لا يريد ان يصبح فرنسياً بتابعيته وكذلك السويسري الإيطالي لا يحب بوجه من الوجوه أن ينضم إل ى إيطاليا ومثله ألماني مقاطعات شافوز وتوركوفي وسان غال لا يريد أن ينضم إلى ألمانيا. ولولا أحوال نادرة لصح أن يقال أن سويسرا في جميع أدوار التاريخ قد نالت أعظم الحرية في استعمال اللغات في جميع الأعمال الخاصة والعامة أما اليوم فإن الحرية موجودة مبدئياً ولكن احترام حقوق الأكثرية والأقلية على أسلوب معقول تحت نظارة جمعيات تتولى النظر في مسائل اللغات المحلية وانتشارها وتدافع عن حقوق الأكثرية ولا تغمط حقوق الأقلية في كل بلد يسبق غيره في عدد المتكلمين بلغة دون أخرى وكانت كتابة جميع الرسميات والعموميات بعدة لغات في القديم للإفهام والتفهيم أما اليوم فإنه يراعى بما يكتب حق السواد الأعظم. اللغة الرسمية في كل ناحية هي لغة أكثرية السكان وبهذه اللغة تكتب مداولات المجالس البلدية والأعمال الإدارية التي تعلق ليقرأها الجمهور وبها تكتب أسماء الشوارع والمصانع ويدرس في المدارس ويلقى الوعظ أو القداس في الكنائس ومن النواحي من اختارت برضاها التساهل مع أهل اللغة الأخرى في بعض هذه المسائل كأن تترك مقاطعة المدينة اللغة الإفرنسية تجعل لسان التدريس فس مدرستها أو أن سكان مقاطعة رومانشية يقدس لهم بالألمانية وللمنتخبين في المقاطعات المختلفة أن يتكلموا بإحدى اللغتين كما يشاؤن في جميع المداولات وتكتب الإعلانات وغيرها باللغتين وإذا بلغت الأقلية العدد الكافي تكون لها مدرسة بلغتها وكنيسة تعظ وتقدس بلسانها وفي الكتابات الخاصة وعناوين الدكاكين تركت للناس حريتهم وما يسري على الناحية يسري على المديرية حذو القذة بالقذة أي تكون اللغة الرسمية لغة الأكثرية والأقلية لا تحرم من حق التفاهم. ويطلب إلى الموظفين في جميع المقاطعات المختلفة معرفة لغتين وتكثر فيها الإعلانات وأسماء الأماكن باللغتين ويقبل استعمال اللغتين في المجالس وعمال السكك الحديدية يبدأون في كل مقاطعة بلغة البلاد في مخاطبة الركاب ثم يثنون ويثلثون إذا اقتضى الحال بغيرها وجميع القطارات تكتب عليها اللغات الثلاث إلا الإيطالية فإنها تنقص من بعض القطارات التي تمر قليلاً في البلاد الإيطالية والسويسرية وللغتين الألمانية والإفرنسية المساواة التامة

تكتب جميع أسماء المحطات وغيرها بهما ويجعل التقدم للغة البلدة الشائعة. وفي سويسرا سبع كليات منها ما يدرس بالألمانية ومنها بالإفرنسية وفي بعضها دروس مختلفة باللغتين فكلية بال التي أنشئت سنة 1460 تدرس بالألمانية وكذلك كلية زوريخ التي أنشئت 1833 وكلية برن التي أنشئت سنة 1834 أما كلية جنيف التي أسست سنة 1873 وكلية لوزان المؤسسة سنة 1890 وكلية نوشاتل التي تمت سنة1909 وكلية فريبورغ التي قامت سنة 1889 فإنها تدرس بالإفرنسية وفي كلية فريبورغ عدة دروس مختلطة بين اللغتين. أعضاء مجلس الاتحاد السويسري سبعة ومنهم رئيس الجمهورية خمسة منهم ألمان واثنان فرنسويان وقراراتهم تكتب باللغتين وفي سويسرا ثمانية فيالق اثنان فرنسويان وخمسة ألمان وواحد إيطالي ورومانشي ولغة التعليم في الفيلق الأخير الألمانية والإدارات الخاصة تتبع هذه القاعدة لإرضاء قرائها من ذلك أن نقابة أصحاب الفنادق في سويسرا الألمانية لم ترض أن تغير أسماء قوائم الطعام من الإفرنسية إلى الألمانية لأن معظم الداخلين إلى البلاد يفهمون الإفرنسية أكثر من الألمانية حتى أن الألمان أنفسهم يفضلون أن يرووا أسماء الألوان بالإفرنسية لاعتقادهم بأن المطبخ الفرنساوي هو خير المطابخ وألوانهم أجمل المآكل وكذلك ترى أصحاب الفنادق يصدرون جريدتهم باللغتين كل ذلك يدل على جوهر أخلاق السويسريين وإن المحافظة على حق أو على حرية ينبغي أن يكون على قدم المساواة. سويسرا بابل اللغات لأن فيها على صغرها منهن أربعاً وفي النمسا سبع وفي العثمانية سبع أمهات الآن ماعدا اللهجات ولكن سويسرا والنمسا حلتا هذه المسألة الحل المعقول العادل فهل نوفق نحن إلى حلها كذلك والعرب هم السواد الأعظم وقد أمرنا باتباع الأكثرية وللغتهم ميزات ليست لغيرها والأمم الدستورية تراعى فيها قبل كل شيء حقوق الأكثرية. سويسرا كيف تجلب الغريب كانت بعض البقاع في سويسرا منذ نحو ثلاثين سنة من أفقر بلاد أوربا فبفضل ما أنشئ فيها من الفنادق وبذل من المساعي لاستجلاب رضى السياح والمصطافين والمشتين اغتنت تلك الأصقاع وأصبحت سويسرا وجل اعتمادها على القادمين إليها من أقطار الأرض حتى

لقبوها فندق أوربا ولكن هذا اللقب وهذه الثروة التي يبذرها فيها الأجانب لم تحصلها عن عبث فإن علم جلب الغرباء وإمساكهم وحملهم على العودة ثانية بكمية أوفر قد أصبح في سويسرا علماً حقيقياً له أساليبه وقوانينه وإحصاآته وجرائده ومنشوراته المنوعة الظريفة وكلها متناسقة متساوقة كآلة الساعة وقد علمت السويسريين التجارب أن السائح يستمال بست قواعد من أحسن استخدامها اغتنى وأفاد واستفاد. القاعدة الأولى: أن يزرع المرء كثيراً ليحصد أكثر فقد جعل السويسريون لنشر الإعلانات بالكلام والصور المقام الأول ما عدا إعلانات المحطات والمنشورات المصورة وغيرها من المقالات التي تدفع عليها الأجور الباهظة أحياناًُ في صحف سويسرا وغيرها والمقصود منها الإعلان وكل إدارة وكل نقابة توزع منشوراتها مجاناً وكثيراً ما تكون كبيرة الحجم يحتاج طبعها لمال كثير وعناية تامة من استجادة الورق والصور والجلود وفيها من كل شيء أطيبه بحيث تستدعي النظر إليها ولو بعد مدة وتنفق على ذلك كله نفقات هائلة ولكن الثمرات التي تعود منها قد قدرت بثلاثة أضعاف أو أربعة. القاعدة الثانية: جميع تراكيب هذه الآلة متضامنة ولا تنافس بينها وهذه قاعدة اقتصادية مهمة وهو أن كل صاحب فندق لا تحدثه نفسه أن يحتكر جميع السياح بل يهتم لإنجاح المدينة أولاً ثم الناحية وأرباضها أو النجاح العام وهذا لا يتم إلا بالتضامن بين أبناء هذه الحرفة فيشترك مثلاً جميع أرباب الفنادق في بقعة ليعملوا عملاً يسر جمهور النازلين في فنادقهم وإنزالهم ويجلبوا السرور والراحة لهم على السواء ومثل ذلك التضامن نراه على أتمه أيضاً بين الإدارات والشركات المختلفة لا تحاسد بينها ولا تعاير في المصلحة قد ألف معظم أرباب الفنادق نقابات لهم فتألفوا مديرية أولاً ثم تألفت المديريات كلها نقابة واحدة آخراً فأصبحت فنادق سويسرا كالبنيان المرصوص ومثل ذلك أصبحت بعض القهاوي ومحال السماع ومحال إعطاء التعليمات وشركات التضامن نقابة خاصة يأتون كل ذلك على شرط أن يرضى السائح ويرتاح. القاعدة الثالثة: أن تراعى حال جميع الطبقات بحيث يرضى كل سائح بالمعاملة التي يراها وذلك لأن سويسرا أدركت أن الرحلات اليوم قد أصبحت ديمقراطية أيضاً وإن المتوسط غناهم هم أكثر من الأغنياء أرباب اليسار بل هم أخلص وأشرف وعلموا بالإحصاء أن

واحداًً فقط في المائة من السياح الذين يصطافون أو يشتون في بلادهم يركب في الدرجة الأولى في السكك الحديدية و85 في الدرجة الثالثة ولركاب هذه الدرجة ميزانية مقررة إذا فصدوا كثيراً في مادياتهم لا يعاودون رؤية تلك البلاد وفي سويسرا فنادق وإنزال على اختلاف أذواق الناس واقتدارهم فمن أراد الرفاهية يدفع ثمنها في قصور هي أحسن من قصور الملوك ومن أحب التوسط كان له ما أراد وكذلك من أحب أقل من التوسط وإني لم أسمع بأن إنساناً يمكن في أوربا أن يأكل ويشرب وينام بفرنكين وهذا ما أعلن عنه مؤخراً إحدى البيوت التي تنزل الأضياف عليها في لوزان القاعدة الرابعة: النظر أبداً إلى راحة السائح وإظهار العناية بأمره فقد عني السويسريون أن يسهلوا جميع مصاعب السفر على المسافر فيرى هذا أهم اللغات الأوربية الرئيسية يتكلم بها في المحطات والفنادق والمخازن الخ والبريد من أسهل ما يمكن وفي زهاء 107 مدينة وبلد من سويسرا مكاتب للاستعلامات للغريب والقريب يسأل الإنسان فيها عما يشاء مجاناً وقد نظمت بمعرفة الشركات المحلية ولا عمل لعمال هذه المكاتب إلا أن يجيبوا الناس عما يسألون من الصباح وإلى المساء والشعب يبدي العطف على الغريب والعناية بأمره فالسويسريون إذا لم يكونوا في رقة الطليان بالاحتفال بالغريب والأخذ بيده فيما لا يعلم ومرافقته مئات من الأمتار أحياناً لدلالته على طريق أو غيره فهم وسط في ذلك فإن الواحد منهم يشرح لك محل مقصدك بأوضح عبارة ممكنة وإذا شكرته لا يرى أنه يستحق الشكر. القاعدة الخامسة: أن يعرض كل شيء أمام السائح من دوت أن يعجز بمطالب مبرمة وذلك أن تصل إلى المحطة فلا تجد حمالاً بل أنت تصرخ حمال فيجيبك ولا تجد عاملاً من عمال الفنادق بل تجد لوحة موضوعة في مخرج المحطة فيها أسماء الفنادق في البلدة على اختلاف درجاتها ولا تجد حوذياً يريد أن يركبك في مركبته ولا سائقاً يريد أن يستاقك في سيارته بل أنت إذا طلبت واحداً منهم أتاك سريعاً بأدب أما وجود الشحاذين الذين يطلبون صدقة كما تشاهد في إيطاليا فهذا لا أثر له لأن الشحاذة ممنوعة هنا أكثر من فرنسا ولا تجد أحداً يتعرض لك لابتياع شيء منه وتحسين بضاعته بل تراها على اختلاف أنواعها معروضة في الزجاج وقد كتبت عليها أسعارها وهذه أخصر طريقة وأشرفها في قاعدة العرض والطلب وهكذا بائع المرطبات والمشروبات يكتب عليها أسعارها ويجلس في

المحطات بحيث تراه ولا يسألك شيئاً. القاعدة السادسة: إرضاء جميع الأذواق والحاجات حتى الغريب منها واجتناب ما يكدر وإذا وقع خلاف فيراعى ذوق الأكثرية. ولأجل استمالة قلوب السياح عني السويسريون بحسن الانتفاع من بلادهم من كل وجه وضاعفوا المسليات والمفرحات فتقرأ في نشراتهم التي يستولون بها على عقل الغريب ما يشير إلى أن في بقعتهم ما يرضي جميع المشارب والأمزجة من أرباب الصفاء إلى طلاب الخلاء إلى المولعين بالألعاب الرياضية إلى الراغبين في التصعيد في جبال الألب إلى من يريدون التسلي إلى من يرغبون في التعليم إلى من يؤثرون الوحدة إلى المصورين والطبيعيين والأثريين وكل واحد يخاطبونه بما يشتهي ويدلونه على ما يهمه. نعم وفروا الراحة لجميع الأذواق وقاموا بما يرضي الأرواح والأشباح فترى أوقات الأطباء معينة مذكوراً إلى جانبها أوقات القداديس والمواعظ وعنوان الطبيب مع عنوان الكاهن أو الواعظ. ولا يأتون ما تشمئز منه نفس السائح حتى إن دفن الموتى لا يجري في أوقات الصيف إلا قبل الشمس حتى لا يقع نظر السائح على مار بما تشمئز منه نفسه فيذكر الموت في بلاد لا يجب أن يكون فيها إلا الصفاء والرخاء. وكثير من هذه الأعمال تقوم بها شركات لان فكر الاشتراك منتشر للغاية عند السويسريين فمن شركاتهم شركة المنتدى الأدبي السويسري وهذه عنيت بتربية الأدلة وتعليمهم يصعدوا مع السياح في جبال الألب وقد فتحت لتعليمهم ثلاث مدارس في أهم البلاد الجبلية وضمنت لهم حياتهم بمبلغ يربو على ثلاثة مليارات وربع من الفرنكات وعددهم نحو 900 يدفع لهم المنتدى في السنة نحو نصف التقاسيط وهناك شركات لا تحصى في كل مديرية لتحبيب البلاد إلى الأمم ونشر ما ينبغي عنها من مالهم وربما أهان بعضها المجالس البلدية على تحسين حالة البلد أو القرية إذا كان هناك نقص يجب تداركه لاستجلاب رضا الغريب فكان من اثر هذه الجمعيات تكثير سواد القادمين على السويسريين سنة عن سنة. والحكومة لم تدخر وسعاً في هذا السبيل فبذلت الأموال عن سعة في المدن والدساكر فتحت الشوارع الجميلة وجملت الأرض وعبدت الأرصفة الفسيحة وأنشأت المتنزهات الظليلة والحدائق العامة وأقامت فيها المقاعد الكثيرة ليجلس عليها من أحب وأدخلت الكم باء إلى كل مكان وكذلك التلفون والمياه الطاهرة النقية وأقيمت القهاوي المهمة في جميع المحال

التي يلحظ إن المسافر يقصدها. قد اعد السويسريون جميع الألعاب الرياضية التي يحبها الانكليز كالتينس والفوت بول وغيرها دع أيام الشتاء التزحلق والتدحرج في الثلج (لالوج والسكي والباتناج). عادات أولع الغربيون بها تقليداً للانكليز وكل سنة يموت في خلالها من المرتاضين المئة والمئتان ومع هذا ترى النساء والرجال يرتاضون هذه الرياضة الخطرة ويزيد عددهم سنة عن أخرى. وبذلك كثر ترداد الناس إلى سويسرا في الشتاء ولا سيما الانكليز والاميركان. ويقدر عدد من يقصد سويسرا كل سنة بزهاء مليوني نسمة فإذا فرض أن كل واحد ينفق عشرين ليرة فيكون المجموع أربعين مليوناً تأخذها سويسرا في أشهر معدودة من السنة من الألماني والانكليزي والروسي والنمساوي والمجري والفرنساوي والايطالي والاسبانيولي والبرتغالي واليوناني والمصري والهولندي والأميركاني والبلجيكي والسكاندينافي وغيره وللألمان المقام الأول في كثرة العدد وهم يؤثرون النزول في البيوت لرخص العيش فيها. ويقدرون عدد الفنادق الكبرى بزهاء ألفي فندق في سويسرا كلها من الطراز الأول والثاني أما الفنادق البسيطة والبيوت فهذه أكثر من إن تعد وما وصلت هذه الصناعة في إقراء الضيوف إلى هذا من الارتقاء إلا بالثبات والعمل والتفنن والعلم حتى أصبح السويسري معلماً للأمم في صناعة الفنادق وكثير من مدن أوروبا وحماماتها المدنية ومتنزهاتها البحرية بيد أناس من السويسريين. ويقدرون عدد السرر الموجودة على الدوام في هذه الفنادق بنحو مئة وثلاثين ألف سرير وعشرة آلاف سرير احتياطية وما برحت شركة الفنادق السويسرية منذ أسست سنة 1882 وهي تتفنن في خدمة الفنادق والإنزال واستجلاب أنظار العالم المتمدن ولها جريدتان لبث أفكارها توزعها مجاناً دع المنشورات والكراسات والكتب التي لا تقصر في توزيعها ومما أنشأته مدرسة لتعليم صناعة الفنادق يتعلم فيها مدير الفندق تعليماً على أسلوب معقول وذلك لان ضرورة المباراة وحاجات الزبن وصعوبة الحياة الحديثة تجعل صناعته مشكلة يوماً بعد آخر ولذلك أحدثوا مدرسة داخلية في ضواحي لوزان واسعة الأطراف مطلة على البحيرة وفيها مجال للألعاب الرياضية وجعلتها داخلية وشددت قانونها فقضت بان ينام طلبتها في الساعة العاشرة وتطفأ المصابيح ويمتنع فيها جميع أنواع اللعب بالورق والقمار ومنعت التدخين والخروج بدون رخصة وان يذهب

الواحد إلى غرفته حتى في النهار بدون ترخيص وان يختلف إلى الأماكن العامة وأجرة المدرسة أو ثمن الأكل فيها فقط 130 فرنكاً في الشهر لابن سويسرا و150 للغريب. ومدة الدراسة ثمانية أشهر ويسأل فيها الطالب في الأكثر في اللغات الحية ويجب أن يكون سنه من 16 إلى 18 وتدرس في هذه المدرسة الفرنسوية والانكليزية والألمانية والايطالية والحساب والجغرافيا (الجغرافيا العامة وجغرافيا طرق المواصلات) وتاريخ سويسرا والتعليم الوطني وحسن الخط والحساب (أصول معاملة الفنادق والمعاملات التجارية على أصول الدفاتر) ومعرفة الحاصلات ونظريات في الخدمة ودروس في التنظيم وحسن الهندام وتقديم الطعام وحفظ الصحة والرياضة البدنية والألعاب والرقص وبعد أن ظهرت فوائد هذه المدرسة أنشئت عدة مدارس في سويسرا كلها للوفاء بهذا الغرض ولكن الظاهر أن مدرسة لوزان ارقأها. وأنشأت شركة الفنادق تعلم أناساً فن الطبخ وعهدت إلى الخبراء يمتحنون من يريد الدخول في هذه الصناعة بعد أن ينال شهادة منهم بتقدمه فيها. ويقدرون رؤوس الأموال التي وضعتها الفنادق نحو ثمانمائة مليون فرنك وما برحت على ازدياد وأرباحها كذلك في اعتدال لان السويسري يرضى بالربح القليل جرياً على ما تستلزمه القاعدة الاقتصادية. وتختلف أجور الفنادق فمنها ما يدفع فيه الواحد في اليوم مائتي فرنك منها ما يأكل فيه وينام كل يوم بأربعة فرنكات وكل على حسبه ويقدرون عدد المستخدمين في الفنادق بزهاء خمسة وثلاثين ألفاً معظمهم من النساء وفيهم الغرباء يدفع إليهم 16 مليون فرنك عدا الحلاوين التي تقدر بثلاثة أضعاف هذا المبلغ ومن الصعب تقدير ما تربحه البلاد كلها من السياح والمعروف أن أرباحها من ذلك تجيء بعد أرباحها من صناعة الحرير والتطريز والساعات اللهم إلا إذا حسب من ينتفعون من الغريب بالواسطة فإن أرباح السياح يكون لها المنزلة الأولى وبها اغتنت سويسرا بعد أن كانت فقيرة. طول الخطوط الحديدية في سويسرا نحو خمسة آلاف كيلو متراي 13 كيلو متر في كل عشرة آلاف متر مربع وقدر ب 95 مليوناً عدد من يتنقلون كل سنة على خطوطها ولها طريقة جميلة في إعطاء أوراق اشتراك فيدفع الواحد 45 فرنكاً يأخذ بها ورقة في الدرجة الثالثة يركب بها أي قطار أحب مدة خمسة عشر يوماً ويدفع 65 في الدرجة الثانية و90 للدرجة الأولى. هذا عدا الخطوط الكهربائية والخطوط الحديدية الجبلية والحوافل.

ولسويسرا 120 سفينة تجارية في 17 بحيرة كبرى من بحيراتها تغدو وتروح في نقل الركاب تنقل زهاء ثمانية ملايين راكب في السنة وهي دائماً تنتظر القاطرات والقطارات تنتظرها. والبرد متصلة علائقها مع السكك الحديدية وفيها جميع أنواع الراحة للقريب ومراكز البرد وصناديقها كثيرة حتى لقد ذكرت أحدث الصحف مؤخراً ما مثاله: ينم عن ارتقاء الشعب كثرة مواصلاته البريدية وكثرة ما يبتاعه من الصابون وقد امتازت الدانيمرك بكثرة بردها فإن لكل 234 ساكناً فيها صندوق بريد وفي سويسرا لكل 286 نسمة صندوق ولكل 320 في لوكسمبورغ صندوق ولكل 424 ألمانياً صندوق ولكل 472 فرنساوياً صندوق ثم تجيء النمسا فانكلترا فالبرتغال أما العثمانية فقد أحرزت الدرجة الأخيرة إذ ليس عندها غير صندوق واحد لكل 69، 300 عثماني!. هذا بعض ما عرفته عن سويسرا وما يأتيه الأفراد والحكومة لجلب السياح إليها حتى أصبحت فندق أوربا حقاً وصدقاً. سويسرا: تفننها في الإعلانات لا ترى في مدينة سويسرا نقصاً في فرع من فروعها وعمل من أعمالها فكل مخزن وكل دكان وكل إدارة وكل معمل وكل شارع وكل حي وكل دار وكل منزل صغير وكل دائرة وكل مدرسة بل وكل مستراح وكل شيء كتب عليه اسمه وعمله وما يجب للداخل إليه والمعاملة معه بحيث لا يحتاج الإنسان أن يسأل أحداً وربما إذا ترويت قليلاً بالنظر لوضوح هذه الكتابات تطوف سويسرا كلها وقلما تطلب من يدلك على من تقصده إذا كانت نمرة محله واسم شارعه في جيبك. خاصية غريبة قلما تجد مثلها حتى في كثير من البلدان الراقية. بل قد كتب على الأبواب الخاصة والعامة ادفع أو اقفل وكتب على المراحيض ارفع أو اخفض لتطهير المكان وكتب على بلاس الباب الرجاء مسح رجليك وكتب في المدارس إياك وإدخال عصاك أو مظلتك إلى الداخل وكتب على الصور والتماثيل ممنوع مس شيء وكتب على صناديق البريد تفتح ساعة كذا ودقيقة كذا ولو أردنا تعداد مثل ذلك لطال بنا المطال وسئم القراء تفاصيل لم يسمعوا بها ولا تخطر لهم في عالم الخيال. ومن يظن أن في دور البريد صناديق تدفع إليها ثمن الطابع كما هو في بعض بلاد أوربا الراقية فينزل إليك فتلصقه على كتابك وفي صناديق البيوت التي تعلق في دهليز الدار

وتكون هذه مؤلفة على الأكثر من خمس أو ست طبقات كل طبقة شقتان أو مسكنان فيجيء الساعي ويضع كتب وجرائد كل منزل في صندوقه حتى إذا وضعها يطن جرس من داخل الصندوق فيسمع أهل المنزل فينزلون ويأخذون بريدهم كل ذلك تخفيفاً على من الحركة بدون لزوم وفي المخازن والمحال العامة صناديق للقبض والصرف لا تغلط في العد وتحصي على العامل ما أباعه في اليومه. ذكرنا هذا وإن كان بعضه لا يدخل في باب الإعلان الذي هو المقصود بهذه الجملة فقد بلغ التفنن بالإعلان في الغرب حداً من الارتقاء لا يكاد يوصف وأظن سويسرا إن لم تكن أرقى الغربيين في التفنن بعلانها فهي من أرقاهم بلا جدال وكفاها فخراً إنها لولا الإعلان عن بلادها ما استطاعت أن يكون لها هذا الغنى الدثر والسعادة الشاملة فعرفت الناس بقدر بلادها وجمال أصقاعها وربما أفرطت في ذلك أحياناً لمقتضى الوصف الشعري ولقد أطلعت على كثير من الكراسات التي توزعها مكاتب الاستعلانات مجاناً على طالبيها فما رأيت أكثر من مهارتهم في إيجاد المزايا لكل مدينة ولكل قرية ولكل طريق ولكل غابة في أرض سويسرا. وكل شيء هنا بالإعلانات إذا لم تقرأ صحفها لا تهتدي إلى ما تريد ابتياعه أو عمله وقد يكون لها جرائد خاصة بها اسمها جريدة إعلانات مقاطعة كذا ومنها ما يطبع الثلاثين والأربعين ألفاً في اليوم لا تكاد تخلو منها دار واشتراكها عشرة فرنكات في السنة تصدر في ثماني أو عشر ورقات من حجم جريدة المقتبس وكلها إعلانات إلا الصحيفة الأخيرة أو الصفحتان الأخريان ففيهما حوادث ونكات قد يكتفي الواحد بهما للوقوف على حركة بلاده على الأقل. وكل جريدة مرتبطة مع شركة إعلانات تبتاع منها قدراً معيناً من الصحيفة وهي تفتش لها على إعلانات تناسب سعة انتشارها ومكانتها. كنت أتلهى في الأحايين بقراءة بعض الإعلانات في الصحف لأعرف منها روح الشعب وحركة تجارته وعمله فكنت استغرب في الضحك عندما أقرأ السذاجة تغلب على إعلاناتهم والتفنن فيها اخذ آخذه من النيقة والعناية. فمنهم من يعلن عن 100 كيلو من الجبن من جنس كذا بثمن كذا ومنهم من يقول أن عنده رأسين من البقر عمرها كذا وهما يصلحان للذبح ومنهم من يقول يحب أن يبيع خمس نعاج عجفاء وآخر عشرين رأساً من الغنم وبعضهم يعلن عن لبنه وآخر عن زبته وآخر عن بيع

عربته أو دراجته أو دثاره أو صندوقه أو ثيابه وآخر عن خنزيره الذي علفه وغيره عن حذائه الذي ما أتلفه. وتجد آخر خزانته وبعضهم عن سريره وبعضهم عن آلة موسيقاه أو محراثه أو منكاشه أو مجرفته أو حصادته وعصارته ومذراته وآلة تصويره وآلة خياطته وآلة حياكته وآخر عن كلبه. والصدق يغلب عليهم في إعلانهم عن متاعهم وآنيتهم وأدواتهم. أما التفنن في الإعلان عن الاستخدام وطلب عمل في مخزن أو حقل أو إدارة أو منزل ذكوراً كانوا أم إناثاً صغاراً أم كباراً فهذا مما بلغ الغاية التي لم يبق وراءها وراء فكل طالب وكل طالبة يضع شروطه ومزاياه وعمله وربما الأجرة التي يريدها بأخصر عبارة تستهوي القارئ وتستدعي الراغب فيه إلى مفاوضته ومخابرته على أسرع ما يمكن وكل يوم تقرأ إعلانات كثيرة في طلب حالب بقرات تبلغ عدد كذا في محل كذا بغجرة كذا ومستخدم لمخزن يعرف كذا وطاهية تحسن إدارة بيت فيه كذا من الأنفس وبواب لمحل كذا وسائس باجرة كذا وحوذي وسائق وراع كذلك وحراث ومجلد ووراق وسكاف ومطرزة وعاملة في معمل إلى غي ذلك من الأساليب التي لم يسمع بها الشرق وهي من اختراع الغرب لان الإعلان نشأ فيها ومنه نشأت الجرائد. الإعلان عن الحاجيات والكماليات لطيف ونافع ولكن ما كان يظن أن الغربيين أيضاً تساوى في طلب ذلك الرجال والنساء لأنهم يعتبرون الزواج وما يشبهه من الحاجات الطبيعية التي لا عيب فيها الأمر أنهم يعلنون عن ذلك بدون تسمية أسم الطالب والطالبة. وهذه الطريقة كانت البادئة بها فيما أظن جريدة الجورنال الباريزية ثم تبتعها على الأثر جرائد العالم وكان للسويسريين حظ وافر منها وإن كان عدد الطالبين والطالبات أقل من عددهم في باريز. وذلك بان يطلب أحدهم خادمة تستخدم لكل شيء بأجرة كذا على أن تقوم بعمل كذا وأن يكون عمرها كذا من السنيين أو أن الخادمة تطلب ذلك ولا تتوقف عن أن تصف صفاتها وجمالها وسنها وتصف رزانتها ووقارها. أكتب هذا وأمامي صحيفة إعلانات لوزان وفيها كثير من هذا القبيل منها أن امرأة إسرائيلية تريد التعرف إلى زوج عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين وأن تكون له ثروة ثم وصفت عمرها وما تملكه ومنها أن عقائل وأوانس يردن أن يتعرفن إلى خواجات تكون لهم مراكز طبية ومنها أن شاباً في الثالثة والثلاثين لا يتناول المسكرات حسن الخلقة والخلق من كل وجه له منصب

حسن في الأرياف يريد أن يتعرف إلى فتاة في الخامسة والعشرين إلى الثلاثين ويؤثر أن تكون مسيحية ومعودة النظام ويقبل بأن تكون حاملة شيئاً من النقود وأنه رزين لا يفشي سراً وإذا أرسلت إليه الصورة الفوتوغرافية يعيدها في الحال والرجاء أن يكتب في ذلك بنمرة كذا لإدارة جريدة لوزان. والقوم هنا لا يكتفون بتعليق إعلاناتهم على الحوائط والمركبات في السكك الحديدية والكهربائية وعجلات النقل وفي الصحف والمنشورات والكراسات وعلى الأبواب والنوافذ ورؤوس الأبنية بل إن التاجر يعلن عن محله حتى في الورق الذي يصر به لك قميصاً أو بدلة أو كتاباً أو حذاءً أو منديلاً أو ورقاً أو أي شيء تبتاعه بل إن الخيط الذي يربط به الاضبارة أو الرزمة قد كتب عليه أسم محله وما فيه وهكذا في جميع ما يخطر ببال. وتعتقد جميع المحال التجارية والشركات الصناعية والمدارس وغيرها أنها إذا لم تكثر من الإعلان عنها يتناساها الناس وتقل أرباحها وهذه لوزان لولا ما تفنن أهلها في الإعلان ما أصبحت عاصمة العلم في سويسرا الفرنساوية وبلغ طلبة كليتها ألفاً وأربعمائة منهم نحو ألف غريب من غير السويسريين وهكذا المدارس الخاصة التي يعيش بالتعلم فيها أناس لا يستقل بعددهم ومنها ما يدرس فن تدبير المنزل وآخر الفنون الجميلة وغيرها التجارة وبعضها اللغات وبعضها الألعاب الرياضية إلى آخر ما تفننوا فيه فجاء الغريب يستفيد منه فكان للوزان فصلان فصل الصيف يكثر فيه السائحون للنزهة وفصل الشتاء يكون خاصاً بالطلاب والمتعلمين ويستفيد من ذلك أهل البلاد مئات الألوف من الليرات. وبلغ من تفنن القوم بالإعلانات أن أحدهم ألف كتاباً في فن الطبخ فكسد كساد بضاعة العلم في بلاد العرب ففكر فلم يجد أحسن من أن يعلن أن الفتاة التي تراجعه مرسلة إليه ثلاثة فرنكات يقدم لها خير نصيحة قبل زواجها تكفيها غوائل الدهر وحوادث الأيام فكان يبعث لكل مرسلة بالمبلغ المطلوب بنسخة من كتابه ويقول لها تعلمي هذا فباع من كتابه ثلاثة ألاف نسخة. وكتب بعضهم إذا أردت أن تغتني فأعمل عملي وأنا لا أعلمك ما عملت إلا إذا بعثت بكذا فرنك حوالة. فكان جواب هذا الشاطر لمن طلب إليه النصيحة أن يقول له أعما عملي فتغتني لا أي أكتب في إعلانك كما كتبت وهناك المال يقبض عليك. ولكن هذه الطرق نادرة جداً والصدق هو الغالب على الإعلانات كما قلنا ولذلك اعتمد الناس عليها

وزادت عنايتهم بأمرها وأسست لها البيوت والشركات المهمة التي تدخلها فتظن نفسك في مصرف كبير أو معمل خطير. والإعلانات مادة الصحف في الغرب وكثير من أمهات جرائدها لا تصدر يوماً واحداً لولا الإعلانات لأن ما تأخذه من القراء والمشتركين لا يبلغ ثمن الورق مع أنها تطبع بمئات الألوف فتأمل يا تاجر بلادنا سويسرا: التربية العملية من أعظم أسرار امتياز الغربي عن الشرقي إن الفرد عندهم يعيش بنفسه لنفسه ونحن نتكل في عيشنا في الأغلب على الوالد والوالدة والقريب والحكومة ويقل جداً فيهم من اغتنى من غير المذاهب الطبيعية في المعاش من صناعة وزراعة وتجارة واقل منه فتى أو فتاة في مقتبل العمر تقعد به همته عن اتخاذ أسباب الكسب انتظاراً لأرث ربما يورثه إياه أبوه أو أمه أو لوظيفة تليق بعظمته يتناول راتبها الباهظ بعمل ضئيل قليل. حالة تدهش في الغرب من عيش الاستقلال ونحن حالنا على ما تعهد من عيش الاتكال الذي انقض عدد العاملين والعاملات وقذف بنا من حالق مجد وسعة إلى دركات ذلة وفاقة. كلما ذكرنا وأيم الحق أن في دمشق نحو ثلاثة عشر ألف شحاذ أكثرهم أصحاء أقوياء نقضي المجب من حالنا ونسجل بأننا سواء وحكومتنا في هذا النوم أو التناوم عن السعي في مداواة أمراضنا الاجتماعية وبدون ذلك لا تقوم لنا قائمة ولا نتحرر من قيودنا السياسية والاقتصادية. وأني آسف وأبكي لمئات من الشبان في سورية ولا سيما في دمشق وحلب وحماة وطرابلس والقدس سئموا الحياة لبطالتهم وهم يعيشون عالة على أهلهم ومنهم الموسع عليه في رزقه لا يتنزلون للاحتراف بحرفة ولا يرون أنه يليق بهم إلا أن يتصدروا على مقاعد الحكم آمرين ناهين يؤثرون البطالة منتظرين أن يموت أولياؤهم ليستولوا على أموالهم وفي الغالب أن يموت الموسر عندنا وهو موسر بالنسبة لمحيطه ويخلف أولاداً كثاراً تقسم بينهم الثروة فينال الواحد جزءاً قليلاً لا يستطيع إنماءه ولا يقوم بتفخله وبذخه هذا إذا لم يكن فاسد الأخلاق ولم يصرف دخل سنة في شهر وهناك بشع بالفقر إلى أرذل العمر. أما الغرب فحاله غير حالنا إذا تعلم الولد التعليم الابتدائي غالباً يبدأ أهله يقطعون عنه راتبه ويطالبونه باجرة الدار وثمن الطعام ليلقي نفسه في معمعان الحياة ويعلم أنه فرد مسؤول

عن نفسه لا يقوم بإعالته غير عمله ولهذا مئات الألوف من الأمثلة ولقد قلنا في مقالة سبقت أن ليس في الأرض امرأة ضاهت الرجل في عمله كالمرأة السويسرية فلا تكاد تجد في النساء من لا يحترفن في هذه الجمهورية السعيدة غنيات كنا أو فقيرات ولذلك تزيد ثروة البلاد يوماً بعد آخر وترتقي في كل فرع من فروعها المدنية الحيوية. وحال معظم أمم الحضارة كذلك. أكتب هذا وأمامي أربع فتيات في المنزل الذي أويت إليه في لوزان لا أطاب لوطني إلا أن يكون رجاله دع نساءه في درجتين من التفاني في الحياة العملية والتناغي بحب الاستقلال في الأعمال. الفتاة الأولى انكليزية والثانية ألمانية والثالثة سويسرية فرنساوية والرابعة سويسرية ألمانية وكلهن سواء في كره الاتكال ومثال صالح غريب المثال قالت لي الفرنساوية السويسرية وهي في الحادية والعشرين من عمرها تعطي دروساً في الموسيقى وقد سألتها عن والدها وحالته في الدنيا: إنه متعهد أبنية ولنا بيتان يحتويان على زهاء عشرين مسكناً نؤجرهما في شالي من ضواحي لوزان وشقيقي الواحد صاحب نزل في نيس والآخر معلم بستاني في لندرا فقلت لها مثلك في الشرق يستريح ولا يعرف إلا الأزياء والرفاهية فقالت إن الناس كلهم في سويسرا يعملون وكل واحد يعيش لنفسه فليس من العدل أن أعيش عالة على والدي أو والدتي ولا على أحد أشقائي بل أعمل وأجمع ثروة لنفسي عملاً بسنة العاملين والعاملات أما الفتاة الانكليزية وهي في الحادية والعشرين أيضاً فقد هجرت بلادها وجاءت لوزان تدخل في إحدى البيوت الخاصة التي توفرت على تعليم الفتيات اللائي تخرجن من المدارس العليا في انكلترا وألمانيا وروسيا أو غيرها وأردن أن يتقدمن في معرفة الفرنساوية وآدابها والرياضيات البدنية والرقص والغناء وغير ذلك من لوازم المرأة الأوروبية الراقية التي تليق لترأس المجتمعات العالية والتصدر في الردهات والقاعات. قالت إنها تعلم الانكليزية وهي لا تتناول مالاً وإنما تعيش مع الفتيات في مدرسة وتتعلم الافرنسية بهذه الواسطة. وقد ذهب الفتيات خلال عطلة رأس السنة إلى الجبال للتزحلق والتدحرج والتسلق على الثلج فاقفل باب النزل فعرض عليها هي ورفيقتها الفتاة الألمانية أن يذهبا مع الفتيات فأثرتا البقاء في لوزان فجعلتهما مديرة تلك المدرسة في النزل الذي نحن فيه مدة العطلة تنفق عليهما ريثما تفتح أبواب منزلها أو مدرستها. أما الفتاة

الألمانية رفيقة الانكليزية فهي في الثالثة والعشرين وحالها أيضاً حال رفيقتها تعلم الألمانية وتتعلم الافرنسية وتزيد عليها بان تعطي دروساً خارج المدرسة وأهلها أصحاب يسار في الجملة ولكنها تحتاج لتعلم الافرنسية وهذه هي الواسطة التي رأت إن تعمد إليها في إتقان لغة هوغو وموسيه لتضمها في صدرها إلى لغة كيتي وشيلر. أما الرابعة وهي ألمانية سويسرية فحالها أدهش من حال الثلاث وذلك لان والدها صاحب مخزنين في لوسرن وانترلاكون لو حسب ما يملكه على حساب بلادنا لعدد من الأغنياء عندنا على انه لا يعد في المحاويج بل المتوسطين هنا فأراد إن يعلم ابنه وابنته الافرنسية لمسيس الحاجة إليها في تجارته وحتى يكونا على أتم الاستعداد لتلقي مصاعب الحياة فجاء بالوالد وهو في السابعة عشرة يجعله في نزل في ارباض لوزان خادماً يأكل وينام ويتناول راتباً قليلاً ويتعلم الافرنسية ويتمرن عليها بالعمل وكان تعلم مبادئها بالنظر في المدرسة وشقيقه هذا الفتى في التاسعة عشرة من عمرها شأن شقيقها تحب إن تتعلم الافرنسية وتدبير المنزل وتعيش مستقلة فجعلها أبوها خادمة براتب25 فرنكاً في الشهر في النزل الذي نحن فيه وهي وحدها تتولى جميع أعمال المنزل إلا ملاحظة الطبخ فان صاحبة الدار تنظر فيه بنفسها فترى تلك الفتاة من الساعة السابعة صباحاً إلى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً تعمل بكد لم أر مثله وتقوم بجميع أنواع الخدمة على صورة مدهشة فبينما تراها تكنس بضع غرف في الدار وترتب فرشها وتصلح أدواتها الكثيرة أو تفرك الدهليز والممشى والزجاج والدرفات والأبواب إذا هي تتعهد المطبخ أو تخرج كالبرق في جلب حاجة من السوق أو تقدم الطعام على المائدة وترتب السفرة أو تجلو الطباق والصحون أو غير ذلك مما يكثر عدده في البيوت الأوربية تعمل كل ذلك ومنه الشاق الوسخ ومع هذا لا تراها إلا باسمة في حين حرمت من رفاهيتها في دار أبيها وعند الخادمات والخدمة. هذا مثال ما رأيته بالذات من أمثلة التربية الاستقلالية في البنات هنا وبعدها هل يعجب المرء من غنى هؤلاء الأوربيين بعد أن عدوا كل عمل شريفاً اللهم إلا ما يثلم العرض ويعبث بالمروءة وهذا لا تكاد تخلو منه أمة مهما أدعت أنها أمة أخلاق وتدين وشرف. كل فتاة من هاته الفتيات وفرت على أهلها بعملها مئة أو مئة وخمسين ليرة في السنة وربحت التعلم العملي والتدرب على الحياة الاقتصادية الاستقلالية فبالله عليك

أيستطيع احد أبناء الطبقة الوسطى عندنا وهي تعد من الفقراء في الغرب أن يقول لابنه اذهب إلى بلد كذا واخدم وتعلم فضلاً عن أن يقول لابنته علمتك القراءة والكتابة والحساب فعلميها لمن الطبخ وتدبير المنزل والخياطة والتفصيل. رآنا في مصر والشام أناساً من المسلتير لم يعقهم عن تعليم أولادهم التعليم المطلوب الأضيق ذات يدهم وكثرة أولادهم لأنهم كلهم يريدون أن يعيشوا مرفهين ابن الحراث كابن الغني صاحب المزارع والعقارات. ورأينا أناساً فادوا بالمال واقتطعوا جانباً من رؤوس أموالهم ليعملوا به أولادهم على أمل أن يعينوهم في أيامهم السود فكان من أولادهم من تعلموا تعليماً ناقصاً ولم يكن منهم إلا أن عظمت نفوسهم وظنوا أنفسهم شيئاً مذكوراً وشمخت أنوفهم عن العمل إلا في الأعمال التي يصورها لهم الخبال أنها نافعة شريفة وذهب ما صرفه أولياؤهم من الذهب عبثاً الأولاد إذا ربوا كما يربي السويسري والألماني والانكليزي بناته جاء منهم محنكون يعرفون قدر المال والعمال ويدخلون في الحياة من الصغير فيرتقون إلى الكبير. يتهمون الألمان بالشح والفرنسيس بالاقتصاد الزائد والانكليز بقسوة القلب والحقيقة أن البشر كله من طينة واحدة يحن إلى أولاده ويستميت في ترفيههم ولكن الفرق بيننا وبينهم إنهم يلقنون أولادهم معنى الحياة المستقلة ونحن ننشئهم على حياة الاتكال والرضا بالقلة. أيأتي يا ترى على الشرق الأقرب يوم نرى فيه الرجال والنساء صغارهم وكبارهم يعملون لنشهد أو أبناؤنا وأحفادنا مثالاً من الأمم التي تود البقاء لا الدثور والفناء أم نبقى هكذا يسرق بعضنا بعضاً ونعد عمله مهارة أو ينتظر صغيرنا كبيرنا ليموت فيرثه ونحسبه من الموفقين أم تضعف وطنيتنا وحبنا لبلادنا فنتركها تنعي من بناها إلى بلاد أخرى حيث الحياة سهلة والعيش خضال طف المدينة والمزرعة وادخل المعمل والمخزن وانظر الباعة والإشراف في سويسرا تجدهم كلهم لا يستنكفون عن العمل. في لوزان سوق تقام مرتين في الأسبوع على عادة معظم المدن الأوربية مثل سوق الأحد وسوق الجمعة في دمشق تباع في ذاك السوق جميع أنواع المأكول والملبوس والمنظور فترى فيه نموذجاً صالحاً من حاصلات البلاد وصناعتها وأكثرها رخيص قصدته عدة مرات للفرجة وابتياع بعض اللوازم فدهشت وقد رأيت بعض النساء الغنيات والفتيات البارعات الجمال يبتعن بأنفسهن

حاجات بيوتهن يجعلنها في كيس براق من المطراز ويحملنها إلى مساكنهن وقد تكون بعيدة وعند أكثرهم على ما بلغني الخادمات والطباخات والوصيفات قلما يعهدن إليهن بشراء حاجة ولو طفيفة ويذهبن بأنفسهن لابتياعها وهكذا تجد الديمقراطية تشربتها نفوس الكبير والصغير فلا يجد احد من المعيب أن يخدم نفسه وداره وأهله وسواء في الشرف من يكسح القمامات والثلج من الشارع ويرزق خمسة فرنكات في النهار ومن يملك مصرفاً كبيراً يعد ما يربحه كل يوم بمئات من الفرنكات ما دام كلاهما يعمل في دائرته بقدر طاقته ولا يتعلق بأحد وأول ما يسأل الزوج عن فتاة يخطبها قبلان يسأل عن جمالها ما هي معارفها وما تسطيع عمله. فاللهم علمنا علماً ينفعنا في نهوضنا حتى لا نخجل من انحطاطنا في أنفسنا دع خجالتنا أمام غيرنا فان الفرق بين بلادنا وبلادهم أصبح كالفرق بين النور والظلمة والجنة والنار وما راء كمن سمعنا.

معجم البلدان

معجم البلدان أفضنا في الجزء السالف في الكلام على هذا المعجم الجليل ونقلنا شذرات لطيفة منه بياناً لمنزلته بين المصنفات وها نحن نعاود البحث فيه فنقول: إن معجم ياقوت في البلدان هو من امثل ما طبع أيضا من كتب الخطط وتاريخ العمران وكوارث البلدان ووصفها تستخرج منه عدة أبحاث ولذلك ساغ أن يقال أن هذا المعجم عبارة عن كتب حواها كتاب أو هو دائرة معارف أو موسوعات العلوم العمرانية فما نقله في عمران البلدان فيالشاذباخ قال أنها مدينة نيسابور أم بلاد خراسان في عصرنا وكانت قديماً بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين ملاصق مدينة نيسابور فذكر الحاكم أبو عبد الله بن البيع في آخر كتابه في تاريخ نيسابور أن عبد الله بن طاهر لما قدم نيسابور والياً على خرسان ونزل بها ضاقت مساكنها من جنده فنزلوا على الناس في دورهم غضباً فلقي الناس منهم شدة فاتفق أن بعض أجناده نزل في دار رجل ولصاحب الدار زوجة حسنة وكان غيوراً فلزم البيت لا يفارقه غيرةً على زوجته فقال له الجندي يوماً: اذهب واسق فسقي ماء فلم يجسر على خلاف ولا استطاع مفارقه أهله فقال لزوجته: اذهبي أنت واسقي فرسه لأحفظ أنا أمتعتنا في المنزل فمضت المرأة وكانت وضيئة حسنة. واتفق ركوب عبد الله بن طاهر فرأى المرأة فاستحسنها وعجب من تبذلها فاستدعى بها وقال لها: صورتك وهيئتك لا يليق بهما أن تقودي فرساً وتسقيه فما خبرك فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر بنا قاتله الله ثم أخبرته الخبر فغضب وحوقل وقال: لقد لقي منك يا عبد الله أهل نيسابور شراً ثم أمر العرفاء أن ينادوا في عسكره من بات نيسابور حل ماله ودمه وسار إلى الشاذياخ وبنى فيه داراً له وأمر الجند ببناء الدور حوله فعمرت وصارت محلة كبيرة واتصلت بالمدينة فصارت من جملة محالها ثم بنى أهلها بها دوراً وقصوراً. قال ياقوت هذا معنى قول الحاكم فإنني كتبته من حفظي إذا لم يحضرني أصله ولذلك قال الشاعر يخاطب عبد الله بن طاهر: فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... بالشاذياخ ودع غمدان لليمن فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من ابن هوذة يوماً وابن ذي يزن ثم انقضت دولة آل طاهر وخربت تلك القصور فمر بها بعض الشعراء فقال: وكان الشاذياخ مناخ ملك ... فزال الملك عن ذاك المناخ وكانت دورهم للهو وقفاً ... فصارت للنوائح والصراخ

فعين الشرق باكية عليهم ... وعين الغرب تسعد بانتضاح ومثل ذلك ما ذكره التاج وهو اسم لدار مشهورة جليلة المقدار واسعة الأقطار ببغداد وكانت من دور الخلافة وكان بناه جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أولا ليخلو فيه بندمائه وقيانه فلما أوقع الرشيد بالبرامكة وكان القصر إلى ذلك الوقت يسمى القصر الجعفري انتقل إلى المأمون فكان من أحب المواضع إليه وأشهاها لديه واقتطع جملة من البرية عملها ميداناً لركض الخيل واللعب بالصوالجة وحيزاً لجميع الوحوش (حديقة حيوانات) وفتح له باباً شرقياً إلى جانب البرية وأجرى فيه نهراً قال ثم نزل القصر الحسن بن سهل والد بوران زوج المأمون ولما طوت العصور ملك المأمون والقصور وصار الحسن بن سهل من أهل القبور بقي القصر لابنته بوران إلى أيام المعتمد على الله فاستنزلها المعتمد عنه وأمر بتعويضها منه فاستمهلته ريثما تفرغ من شغلها وتنقل مالها وأهلها وأخذت في إصلاحه وتجديده ورمه وأعادت ما دثر منه وفرشته بالفرش المذهبة والنمارق المقصبة وزخرفت أبوابه بالستور وملأت خزائنه بأنواع الطرف مما يحسن موقعه عند الخلفاء ورتبت في خزائنه ما يحتاج إليه من الجواري والخدم الخصيان ثم انتقلت غالى غيره وأرسلت المعتمد باعتماد أمره فاتاه فرأى ما أعجبه وأرضاه واستحسنه واشتهاه وصار من أحب البقاع إليه وكان يتردد فيما بينه وبين سر من رأى فيقيم هنا تارة وهناك أخرى ثم تولاه المعتضد وابتدأ في بناء التاج وجمع الرجال لحفر الأساسات ثم مات ولما تولى ابنه المكتفي بالله آت عمارة التاج الذي كان المعتضد وضع أسساه بما نقضه من القصر المعروف بالكامل ومن القصر الأبيض الكسروي الذي لم يبق منه الآن بالمدائن سوى الإيوان فكان الآجر ينقض من شرف قصر كسرى وحيطانه فيوضع في مسناة التاج وهي طاعنة إلى وسط دجلة وفي قرارها ثم حمل ما كان في أسست قصور كسرى فبنى به أعالي التاج وشرفاته قال وما صفة التاج فكان وجهه مبنياً على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين خمسة أذرع ووقعت في أيام القتفي سنة 549 صاعقة فتأججت فيها وفي القبة وفي دارها التي كانت القبة إحدى مرافقها وبقيت النار تعمل فيه تسعة أيام ثم أطفئت وقد صيرته كالفحمة وكانت آية عظيمة ثم أعاد المقتفي بناء القبة على الصورة الأولى ولكن بالجص والآجر دون الأساطين الرخام وأهمل إتمامه حتى مات وبقي كذلك إلى سنة 574 فتقدم أمير المؤمنين

المستضيء بنقصه وإبراز المسناة التي بين يديه إلى أن تحاذي به مسناة التاج فشق رأسها ووضع البناء فيه على خط مستقيم من مسناة التاج واستعملت أنقاض التاج مع ما كان اعد من الآلات من عمل هذه المسناة ووضع موضع الصحن الذي فيه الأئمة وهو الذي يدعى اليوم بالتاج ومن عجائب ما ذكره في القصور العربيةدار الشجرة قال هي دار بالدار المعظمة الخليفية ببغداد من أبنية المقتدر بالله وكانت داراً فسيحة ذات بساتين مونقة وإنما سميت بذلك لشجرة كانت هناك من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة مدورة أمام إيوانها وبين شجر بستانها ولها من الذهب والفضة ثمانية عشر غصناً لكل غصن منها فروع كثيرة مكللة بأنواع الجواهر على شكل الثمار وعلى أغصانها أنواع الطيور من الذهب والفضة إذا مر الهواء عليها أبانت عن عجائب من أنواع الفير والهدير وفي جانب الدار عن يمين البركة تمثال خمسة عشر فرساً ومثله عن يسار البركة قد البسوا أنواع الحرير المديح مقلدين بالسيوف وفي أيديهم المطارد يتحركون على خط واحد فيظن أن كل واحد منهم إلى صاحبه قاصد. وكثيراً ما يتوسع ياقوت في الكلام على تاريخ المدن ولا سيما مدن العرب (المقتبس م 7ص 401) مثل كلامه على واسط قال ورأيت أنا واسطاً مراراً فوجدتها بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيلاً يفوت الحصر وكان الرخص موجوداً فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف بحيث أني رأيت فيها كوز زبد بدرهمين واثنتي عشرة دجاجة بدرهم وأربعة وعشرين فروجاً بدرهم والثمن اثنتا عشر رطلاً بدرهم والخبز أربعون رطلاً بدرهم واللبن مائة وخمسون رطلاً بدرهم والسمك مائة رطل بدرهم وجميع ما فيها بهذه النسبة. وواسط هي التي بناها الحجاج وكانت لرجل من الدهاقين يقال له داوردان فساومه عامل الحجاج فقال له الدهقان: ما يصلح هذا الموضع للأمير فقال: لم فقال: أخبرك عنه بثلاث خصال تخبره بها ثم الأمر إليه قال: وما هي قال: هذه بلاد سبخة البناء لا يلبث فيها وهي شديدة الحر والسموم وان الطائر لا يطير في الجو إلا ويسقط لشدة الحر ميتاً وهي بلاد أعمار أهلها قليلة قال: فكتب بذلك الحجاج فقال هذا رجل يكره مجاورتنا فاعلمه أنا سنحفر بها الأنهار ونكثر من البناء والغرس فيها ومن الزرع حتى تعدو وتطيب وأما قوله أنها سبخة وان البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا وأما قلة أعمار أهلها

فهذا شيء إلى الله تعالى لا إلينا فاعلمه أننا نحسن مجاورتنا له ونقضي زمامه بإحساننا إليه. قال فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء في أول سنة83 واستتمه في سنة 86 إلى آخر ما قال وفيه من كبر عقل الحجاج ما لا يقدر على الإجابة بأحسن منه اكبر ساسة العصر وأرقاهم بعلوم هذه الأيام ولا عجب فالعرب كانوا ينظرون في مسائل الصحة نظراً بليغاً. ذكر ياقوت في مادة حضوة انه شكا قوم من أهلها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وباء أرضهم فقال لو تركتموها فقالوا معاشنا ومعاش إبلنا وطننا فقال عمر للحارث بن كلدة (طبيب العرب): ما عندك في هذا فقال الحارث البلاد الوبئة ذات الأدغال والبعوض وهو عش الوباء ولكن ليخرج أهلها إلى ما يقاربها من الأرض العذبة إلى تربيع النجم وليأكلوا البصل والكراث ويباكروا السمن العربي فليشربوه وليمسكوا الطيب ولا يمشوا حفاة ولا يناموا بالنهار فاني أرجو إن يسموا فأمرهم عمر بذلك ولذلك قال عمر وقد ذكرت له الشام ووباؤها: لبيت بركبة (أحب إلي من عشرة أبيات وقال في سيراف ما ملخصه: ذكر الفرس في كتابهم المسمى بالابستاق وهو عندهم بمثابة التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى إن كيكاوس لما حدث نفسه بصعود السماء صعد فلما غاب عن عيون الناس أمر الله الريح بخذلانه فسقط بسيراف فقال اسقوني ماءً ولبناً فسقوه ذلك بذلك المكان فسمي بذلك لان شير هو اللبن وآب هو الماء ثم عربت الشين إلى السين والباء إلى الفاء فقيل سيراف وهي على ساحل بحر فارس كانت قديماً فرضة الهند رأيتها وبها آثار عمارة حسنة وجامع مليح على سواري ساج وهي في لحف جبل عال جداً وليس للمراكب فيها مينا فالمراكب إذا قدمت إليها كانت على خطر إلى إن تقرب منها إلى نحو فرسخين موضع يسمى نابذ هو خليج ضارب بين جبلين وهو مينا جيد غاية وإذا حصلت المراكب فيه امتنعت جميع أنواع الرياح وبين سيراف والبصرة إذا طاب الهواء سبعة أيام. ووصفها أبو زيد حسب ما كانت في أيامه فقال أنها الفرصة العظيمة لفارس وهي مدينة عظيمة ليس بها سوى الأبنية حتى يجاوز على نظر عملها وليس بها شيء من مأكول ولا مشروب ولا ملبوس إلا ما يحمل إليها من البلدان ولا بها زرع ولا ضرع ومع ذلك فهي أغنى بلاد فارس قلت (أي ياقوت) كذا كانت في أيامه فمنذ عمر ابن عميرة جزيرة قيس صارت فرضة الهند واليها منقلب التجار خربت سيراف وغيرها ولقد رأيتها وليس بها قوم إلا

صعاليك ما اوجب لهم المقام بها إلا حب الوطن ووصفها الاصطنحري إن بناءها بالسلج وخشب يحمل من بلاد الزنج وأبنيتهم طبقات وهي على شفير البحر مشتبكة البناء كثيرة الأهل يبالغون في نفقات الأبنية حتى أن الرجل من التجار لينفق على داره زيادة على ثلاثين ألف دينار ويعملون فيها بساتين. وكثيراً ما يستطرد ياقوت إلى ذكر واردات المدن وصنائعها كما فعل في نشر ميزانية الحكومة في حلب لعهده وكما فعل في وصف صنائع سلجماسة من بلاد السودان قال ولنسائهم يد صناع في غزل الصوف فهن يعملن منه كل حسن عجيب بديع من الإزار تفوق القصب الذي بمصر يبلغ ثمن الإزار خمسة وثلاثين ديناراً وأكثر كأرفع ما يكون من القصب الذي بمصر ويعملون منه غفارات يبلغ ثمنها مثل ذلك ويصبغونها بأنواع الأصباغ. وقال فيكاكدم مدينة بأقصى المغرب جنوبي البحر: وبأرضهم حيوان يقال له اللمط من جنس الظباء إلا انه أعظم خلقاً ابيض اللون يتخذ من جلده الدرق اللمطية قطر الدرقة منها عشرة أشبار لم يتحصن المحاربون قط بأوقى منها يكون ثمن الجيد منها بالمغرب ثلاثين ديناراً مؤمنية تدبغ في بلادهم باللبن وقشر بيض النعام وقال في شاطبة في شرقي الأندلس انه يعمل الكاغد الجيد فيها ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس وقال في دمياط: ومن ظريف أمر دمياط في قبليها على الخليج مستعمل فيه غرف تعرف بالمعامل يستأجرها الحاكة لعمل الثياب الشرب فلا تكاد تنجب إلا بها فإن عمل بها ثوب وبقي منه شبرا ونقل إلى هذه المعامل علم بذلك السمسار المبتاع للثوب فينقص من ثمنه لاختلاف جوهر الثوب عليه وقال ابن زولاق يعمل بدمياط القصب البلخي من كل فن والشرب لا يشارك تنيس في شيء من عملها وبينهما مسيرة نصف نهار ويبلغ الثوب الأبيض بدمياط وليس فيه ذهب ثلاثمائة دينار ولا يعمل بدمياط مصبوغ ولا بتنيس ابيض وهما حاضرتا البحر وبهما من صيد السمك والطير والحيتان ما ليس في بلد - واخبرني بعض وجوه التجار وثقافتهم انه في بلد. وبها الفرش القلموني من كل لون العلم والمطرز ومناشف الأبدان والأرجل وتتحف بها جميع ملوك الأرض. ومن هذا المصنف البديع تفهم مبالغ الثروات في حكومات عصره وقبلة ودرجة تأنقهم ورفاهيتهم من ذلك ما رواه في سامراء من أن المتوكل انفق سبعمائة ألف دينار على

نهرين. . . . . . . . . . . من دجلة تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامراء ولم يبن احد من الخلفاء بسر من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل وعدد ياقوت ما أنفقه من مئات الألوف من الدنانير والدراهم على القصر المعروف بالعروس والقصر المختار والوحيد والجعفري والغريب والشيدان والبرج والصبح والمليح وبستان الابتاخية والتل والجوسق والمسجد الجامع والغرد والمتوكلية والبهو واللؤلؤة. بدائع لم تراها فارس ... ولا الروم في طول أعمارها وللروم ما شيد الأولون ... وللفرس آثار أحرارها ولا عجب في غنى الخلفاء فقد كان الوزراء أيضاً على هذه النسبة فقد ذكر ياقوت عن السلفى عمن حدثه قال كان لأبي غانم القصري أربعمائة غلام يركبون بركوبه وكان يدخل الحمام ليلاً فيكون بين يديه شمع معمول من العود والعنبر وأنواع الطيب إلى أن يخرج ولم يحك عن احد من الوزراء ما حكي عنه من التنعم. وذكر في مادة دور الراسبي وكان الراسبي من عظماء العمال وأفراد الرجال توفي سنة 301 في أيام المقتدر ووزراء علي بن عيسى وكان يتقلد من حد واسط إلى حد شهرزور وكورتين من كورة الأهواز وكان مبلغ ضمانه ألف ألف وأربعمائة ألف دينار في كل سنة ولم يكن للسلطان معه عامل غير صاحب البريد لان الحرث والخرج والضياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه فكان ضابطاً لأعماله شديد الحماية لها من الأكراد والأعراب واللصوص وخلف مالاً عظيماً وحمل من تركته إلى بغداد. ما هذه نسخته: العين. أربعمائة ألف وخمسة وأربعون ألفاً وخمسمائة وسبعة وسبعة وسبعون ديناراً. الورق ثلاثمائة ألف وعشرون ألفاً ومائتان وسبعة وثلاثون درهماً. وزن الأواني الذهبية ثلاثة وأربعون ألفاً وتسعمائة وسبعون مثقالاً. آنية الفضة ألف وتسعمائة وخمسة وسبعون رطلاً. ومما وزن بالشاهين من آنية الفضة ثلاثة عشر ألف وستمائة وخمسة وسبعون درهماً. ومن الند المعمول سبعة ألاف وأربعمائة مثقال ومن العود المطرا أربعة ألاف وأربعمائة وعشرون مثقالاً. ومن العنبر خمسة آلاف وعشرون مثقالاً ومن نوافج المسك ثمانمائة وستون نافجة. ومن المسك المنثور ألف وستمائة مثقال ومن السك ألفا ألف وستة وأربعون مثقالاً. ومن البرمكية ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعون مثقالاً. ومن الغاليه ثلاثمائة وستة وستون مثقالاً ومن الثياب المنسوجة

بالذهب ثمانية عشر ثوباً قيمة كل واحد ثلاثمائة دينار. ومن السروج ثلاثة عشر سرجاً. ومن الجواهر حجران ياقوت. ومن الخواتم الياقوتية خمسة عشر خاتماً. خاتم فضة زبرجد. ومن حب اللؤلؤ سبعون حبة وزنها تسعة عشر مثقالاً ونصف ومن الخيل الفحول والإناث مائة وخمسة وسبعون رأساً. ومن الخدم السودان مائة وأربعة عشر خادماً ومن الغلمان البيض مائة وثمانية وعشرون غلاماً. ومن خدم الصقالبة والروم تسعة عشر خادماً. ومن الغلمان الأكابر أربعون غلاماً بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم. ومن أصناف الكسوة ما قيمته عشرون ألف دينار. ومن أصناف الفرش ما قيمته عشرة آلاف دينار. ومن الدواب المهاري والبغال مائة وثمانية وعشرون رأساً. ومن الجماز والجمازات تسع وتسعون رأساً. ومن الحمير النقالة الكبار تسعون رأساً. ومن قباب الخيام الكبار مائة وخمس وعشرون خيمة. ومن الهوادج والسروج أربعة عشر هودجاً. ومن الغضائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر أربعة عشر صندوقاً. قلنا ولا عجب أن يختلف احد العمال مثل هذه الثروة والبلاد عامرة على ذاك العهد أكثر من اليوم ولم تكن الدولة تحتاج كما هي حال الدول اليوم أن تنفق على بحريتها وبريتها هذه النفقات المضنية الفاحشة ذكر ياقوت في مادة السواد أن الخليفة الثاني أمر بمسح السواد سواد العراق فكان بعد أن اخرج عنه الجبال والأودية والأنهار ومواضع المدن والقرى ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم والشجر ستة دراهم وحتم الجزية على ستمائة ألف إنسان وجعلها طبقات الطبقة العالية ثمانية وأربعون درهماً والوسطى أربعة وعشرون درهماً والسفلي اثنا عشر درهماً فجي السواد مائة ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم. قال عمر بن عبد العزيز لعن الله الحجاج فإنه ما كان يصلح للدنيا ولا للآخرة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عمه جبى العراق بالعدل والنصفة مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم وجباه زيادة مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف درهم وجباه ابن عبيد الله أكثر منه بعشرة آلاف ألف درهم ثم جباه الحجاج بعسفه وظلمه وجبروته ثمانية وعشرون ألف ألف درهم فقط وأسلف الفلاحين للعمارة ألفي ألف فحصل له ستة عشر ألف ألف قال عمر بن عبد العزيز وها أنا قد رجع

إلي على خرابة فجبيته مائة ألف ألف وأربعمائة وعشرين ألف ألف درهم بالعدل والنصفة وأن عشت له لأزيدن على جباية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وشبيه بهذا ما وراء ياقوت في مادة مصر عن احمد بن المدير من انه لو عمرت مصر كلها لوفت بالدنيا وقال: أن مساحة مصر ثمانية وعشرون ألف ألف فدان وإنما يعمل فيها في ألف ألف فدان. جبى عمرو بن العاص مصر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اثني عشر ألف ألف دينار فصرفه وقلدها عبد الله بن أبي سرح فجباها أربعة عشر ألف ألف فقال عمر لعمرو يا أبا عبد الله أعلمت أن اللقحة بعدك درت فقال: نعم ولكنها أجاعت أولادها. وقال لنا أبو حازم: أن هذا الذي رفعه عمرو بن العاص وابن أبي سرح إنما كان عن الجماجم خاصة دون الخراج وغيره. . ولا عجب فإن عمران مصر في القديم كعمران العراق أو هو أكثر روى ياقوت في مادة حرجة قال: حدثني الثقة أن شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخا الملك الصالح الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب كان يقول: ما اعرف في الدنيا أرضاً طولها شوط فرس في مثله يستغل ثلاثين ألف دينار غير الحرجة. يفيض ياقوت في كلامه على البلدان بذكر أسماء من خرج منها من الأعيان ولا سيما المحدثون بحيث ربما ادخل الملل على بعض المطالعين لأنه يورث الكلام طولاً ولكن منهم من هو المهم في فنه. ويستشهد بأقوال الشعراء في البلاد وربما استشهد بالشعر لجودته أو للتنويه بقائله بالمناسبة مثال ذلك ما قاله في طرطوشة في ترجمة ابن أبي رندفة الطرطوشي المتوفى 520 وكانت له نفس أبيه أخبرت انه كان في بيت المقدس بطبخ في شقف وكان مجانباً للسلطان استدعاه فلم يجبه وراموه الغض من حاله فلم ينقصوه قلامة ظفر وله تأليف وشعر فمن شعره في بر الوالدين: لو كان يدري الابن أية غصة ... يتجرع الأبوان عند فراقه أم تهيج بوجده حيرانة ... وأب يسخ الدمع من آماقه يتجرعان لبينه غصص الردى ... ويبوح ما كتماه من أشواقه لرثى لأم سل من أحشائها ... وبكى لشيخ هام في آفاقه ولبدل الخلق الأبي بعطفه ... وجزاهما بالعذاب من أخلاقه. وقال في صيمرة ومنها أبو العنبس الصيمري المتوفى سنة 275 وكان شاعراً أدبياً مطبوعاً

ذا ترهات وله تصانيف هزلية نحو الثلاثين منها تأخير المعرفة وغير ذلك ومن شعره: كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد قد يصاد القطا فينجو سليماً ... ويحل القضا بالصياد ومثال الإشعار التي أوردها في البلدان قول أحيحة بن الجلاح في أرضه الزوراء: استغن أو مت ولا يغررك ذو نسب ... من ابن عم ولا عم ولا خال يلوون ما عندهم عن حق جارهم ... وعن عشيرتهم والمال بالوالي فاجمع ولا تحقرن شيئاً تجمعه ... ولا تضيعنه يوماً على حال أني أقيم على الزوراء أعمرها ... أن الحبيب إلى الإخوان ذو المال بها ثلاث بناء في جوانبها ... فكلها عقب تسقى بإقبال كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي ما أن أقول لشيء حين افعله ... لا استطيع ولا ينبو على حال ومثله ما أورد في مادة يميم بفتح أوله وثانيه وميم ساكنة وباء موحدة أخرى وميم اسم موضع قرب تبالة عند بيشه وترج والتلفظ به عسر لقرب مخارج حروفه قال حميد بن ثور وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وتأوما من الورق حما العلاطين باكرت ... عسيب أشاء مطلع الشمس مبسما اذا زعزعته الريح أو لعبت به ... أرنت عليه مائلاً ومقوماً تنادي حمام الجهلتين ونرعوب ... إلى ابن ثلاث بين عودين أعجما مطوق طوق لم يكن عن تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما تقبض عنه غرقي البيض واكتسى ... أنابيب من مستعجل الريش أقتما يمد إليها خشية الموت جيده ... كمدك بالكف البري المقدما فلما اكتسى الريش السخام ولم يجده ... لها معه في باحة العش مجثما اتيح لها صقر منيف فلم يدع ... لها ولداً إلا رماماً وأعظما فأرقت على غصن ضحياً فلم تدع ... لباكية في شجوها متلوما فهاج حمام الجهلتين نواحها ... كما هيجت ثكلى علي الموت مأتما

اذا شئت غنتني باجزاع بيشة ... أو النخل من تثليث أو من يميما عجبت لها أنى يكون بكاؤها ... فصيحاً ولم تغفر بمنطقها فما فلم ار مخزوناً له مثل صوتها ... أحر وانكي في الفؤاد واكلما ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار التلغراف اللاسلكي أخذ هذا السلك يرتقي ويكثر ويقدرون الآن عدد محطاته بمائتين وثلاثين محطة على سطح الكرة منها 32 في كندا و25 في انكلترا و23 في روسيا و20 في ألمانيا و20 في ايطاليا و15 في البرازيل و11في الهند و9 في اسبانيا و8 في فرنسا ويبلغ عدد البواخر التجارية التي تمخر عباب جميع البحار التي ارتبطت بالتلغراف اللاسلكي 1200 باخرة منها 590 لانكلترا و153 لألمانيا و90 لفرنسا وهذه الطريقة من المواصلات تنمو سنة عن سنة. لغة الاسبرانتو الشيء لأنها سهلة مؤلفة من ابسط الكلمات اللاتينية ويرجو ناشروها اليوم أن تعم العالم كله فتصبح لغة الأمم لتزول الخلافات بين الشعوب التي تتقاتل كل يوم ولا تفكر إلا في أن ينقض بعضها على الآخر وينهب احدها ملك الآخر. قال احدهم إذا كان بعضهم يرون أن من الخيال أن تكون اليوم للبشر لغة عامة مشتركة فإنه لا يبعد أن تحقق هذه الأمنية غداً فإن المستقبل للمتخيلين. واكبر دليل على أن البشر يستطيعون أن يتعلموا لغتين تكونان لهم بمثابة لغة واحدة أن شعوباً برمتها لهذا العهد تتكلم بلغتين وتعتبرها لغة واحدة. فإن الشعب في إقليم البروفانس يتكلم باللغة البروفانسية ومع هذا يتكلمون بالافرنسية بسهولة وفي بلاد الباسك يتكلمون الفرنسية وباللغة الباسكية وفي إقليم برتانيا يتكلمون بلغة البروتون وبالافرنسية وفي بلاد الغال بالغالية والانكليزية وفي سويسرا يتكلم نصف مليون من أهلها باللغتين الافرنسية والألمانية وأهل فلندا يتكلمون باللغة الفلاندية وبالسويدية وأهل صقلية والبيمون في ايطاليا يتكلمون باللغة الايطالية ولهم لهجة خاصة مختلفة أحداها عن الأخرى تختلف عن الايطالية الحقيقية التي يتكلم بها في فلورنسة ورومية. فإذا صحت عزائم الصناع والعملة والفلاحين على تعلم هذه اللغة لا يضطرون في دراستها إلى مدارسة النحو والصرف بل يتعلمونها لاهون سبب وتنفعهم في جميع أرجاء العالم لسهولتها وهذه اللغة كما قالوا هي أشبه بالأخوة المسيحية لأن المتكلمين بها يتكلمون كما يتكلم الأخوة إذ لا اختلاف بينهم. أما الشرقيون فإن تعلم لغة الاسبرانتو يقرب في صعوبته عليهم من تعلم لغة من لغات المدنية الحديثة ولذلك كانت الاسبرانتو لغة للغربيين. والشرقيون ولا سيما في

تركستان والصين وافغانستان وبلوجستان وإيران وجاوره ومعظم أقطار افريقية اقرب إلى أن يتفاهموا باللغة العربية لأنها سهلة وكثير من خاصتها يحسنونها ولا سيما أهل الإسلام منهم. الطيور اللامعة كان القدماء يعتقدون بوجود طيور مضيئة وقد أكد ذلك بلين في عصره وقال انه كان في غابة هرسنين الممتدة بين نهري الرين والفستول من هذه الطيور وما زال العلماء بعده يثبتون هذه الدعوى من حين إلى آخر حتى أثبتت إحدى المجلات العلمية الانكليزية سنة 1907 انه ظهر في ضواحي كمبردج طيور من هذا الشكل فأكدت ما طالما ذهب إليه علماء الفرنسيس من وجود طيور بهذه المثابة في جبال البرنية والغوج وقد قتل احد الصيادين مؤخراً بومة فيها هذا اللمعان وثبت لهم أن لمعانها من ريشها وان تأنق بعض الطيور أثبته الطبيعيون ونسبوه إلى ميكروبات تقوم على أجنحة الطيور والمسألة آخذة شأناً مهماً من البحث بين العلماء. حانات الأمم كان الشائع أن الطليان أكثر الأمم إغراقاً في تناول المسكرات ولكن تبين من عدة إحصاءات أن الفرنسيس أشد استرسالاً في هذا السبيل فقد ذكرت مجلة الصحة الافرنسية أن أماكن بيع المشروبات الروحية في العالم المتمدن هي كما يلي: يصيب في فرنسا كل 83 شخصاً حانة واحدة يصيب في سويسرا 143 شخصاً حانة واحدة يصيب في ايطاليا 170 شخصاً حانة واحدة يصيب في هولاندة 300 شخصاً حانة واحدة يصيب في انكلترا 230 شخصاً حانة واحدة يصيب في ألمانيا 246 شخصاً حانة واحدة يصيب في الولايات المتحدة 388 شخصاً حانة واحدة يصيب في البلجيك 410 شخصاً حانة واحدة يصيب في السويد 5500 شخصاً حانة واحدة

يصيب في كندا 9000 شخصاً حانة واحدة يصيب في نروج 9500 شخصاً حانة واحدة وبهذا الإحصاء تسقط دعوى من يقول أن البلاد الباردة يحتاج ساكنها إلى الكحول أكثر من غيرها فأنت ترى السويد ونروج وهما اشد أوربا برودة اقلها مسكرات فليتأمل الشرق الذي يقلد على العميا في تناول المشروبات الروحية. المرأة في الهند عقد هذه السنة المؤتمر الأول لتعليم المرأة المسلمة في الهند بحضور مئات من الطبقة الراقية من المتعلمات وألقيت فيه خطب ترمي إلى تهذيب الفتاة المسلمة وتعليمها التعليم الديني المدني. وقد ذكرت بعض المجلات أن الهند قد بدأت في العشر سنين الأخيرة تستفيد من ارتقاء المرأة فيها بفضل مساعي الهنود والذين استفادوا من التربية الغربية وبمعاونة المرسلين وعمال الحكومة فتحررت المرأة الهندية من جهلها وخرافاتها وقد دلت الإحصاءات الأخيرة أن في كل عشرة آلاف امرأة 105 متعلمات و10 في العشرة ألاف تعرف الانكليزية ولا يوجد في شعب يبلغ 315 مليوناً سوى نحو مليون امرأة متعلمة. والمتعلمات أكثرهن في طائفة البارسيس ومنهن المسيحيات وقد بدأت النهضة من مدينة بومباي وفيها تألفت جمعيات النساء الأولى ونشرت مجلة تحرير المرأة الهندية. وشارك النساء الرجال في جميع الأعمال وأثرن في كل شيء حتى في السياسة. وقد اشترك في جمعية كبرى في لندن البارسيسيات والمسلمات والمسيحيات والأوربيات وأخذن يتبادلن الأفكار ويتعارفن ويتريضن وربما دعون الرجال في الأحايين لمشاركتهن في الألعاب الرياضية وهذه الجمعية خدمت في فك القيود التي ما زالت تتقيد بها الطبقات من الشعب هناك وتحول دون النساء من الاختلاط بالرجال. ومن جمعيات النساء ما يسعى بتطهير الضواحي وتعلم الأمهات حفظ الصحة والنظافة وتمرض المرضى وتقاوم الكحول والفساد وتقاوم مبدأ تزويج البنات في سن الطفولة وقد أسست مثل هذه الجمعيات في جميع حواضر الهند في بنجاب وبنغال وكلكوتا ومدارس وقد تعدى عملهن إلى ما وراء الهند فبلغ جنوبي افريقية حيث هاجر كثير من الهنود مع أزواجهن. حرير الخث

ظهر أن في الخث أو نبات الماء الذي يقذف به البحر على شواطئ نورمانديا ونروج وايكوسيا وكندا المعروف باسم تان خصائص فنية يصلح معها لعمل حرير صناعي ينافس الحرير المعروف بجنس شاردونه وقد اخذ أناس من أرباب الصناعة من الانكليز يستثمرون هذا النبات ويعلقون عليه آمالاً كبيرة ومتى حول الخث إلى نسيج يصبح ذا قيمة صناعية لم تكن له حتى الآن. آثار في الحبشة جرت حفريات في بلاد الحبشة منذ أربع سنين فاكتشفوا قصر ميروي الملكي والحمامات المعدنية المتصلة به كما عثروا على كنز من الذهب. وقد حفروا في خرائب معبد صغير من الطراز الروماني رأوا فيه أمتعة يستدل منها أن الجيش الروماني احتل بلاد الحبشة زمناً وهذا مما يصحح بعض ما أشكل البت فيه على مومسن صاحب تاريخ دولة الرومان. وعلم الآثار منذ كان أعظم مساعد على فهم الحقائق التاريخية القديمة. فطر ينفجر اسم هذا الفطر العلمي فيلوبولوس كريستالينوس وهو ينبت وينمو ويموت في أربع وعشرين ساعة فيبدو لطعاً صفراء أولاً ولا يلبث أن تتكون منه أنبوبة صغيرة مذهبة وبعد ثلاث ساعات ينفتح طرف الأنبوب وتغطيه حقة تكون له بمثابة غطاء وفي هذا الانتفاخ توجد التراكيب المنتجة للفطر ثم يفقد لونه ويصبح شفافاً كما عدا الحقة الصغيرة التي تسود وبتأثير الضوء يأخذ السائل الحامض الموجود في الأنبوب بالتخمر وتنفجر الحقة ولما كان طول هذا الفطر نحو ثلاثة مليمترات فقط أصبح لا يرى إلا بالمجهر. استعمار الجزائر في المجلة الأسبوعية أن النفوس قد تكاثرت في الجزائر بسرعة بالنظر لما فيها من الموارد العظيمة فزاد عدد سكان ذاك القطر في خلال خمس وثلاثين سنة ضعفاً وكان سنة 1876: 2807000 فأصبح 5563000 سنة 1911 يدخل في هذا العدد الوطنيون من سكان الأراضي الجنوبية الذين اخرجوا مؤخراً من هذا المجموع لأسباب إدارية وحددت الجزائر على البلاد الساحلية فأصبحت 166 ألف كيلو متر مربع وما كان وراء ذلك من

الصحراء والقريب منها جعل ولاية خاصة على أن عدد الجزائر على تحديد رقعتها قد بلغت زهاء خمسة ملايين نسمة في إحصاء سنة 1912 ومنه 766 ألف أوربي. ولما بدأت فرنسا باحتلال تلك البلاد سهلت السبيل إلى المستعمرين (وهم بالطبع من الأوربيين) فأخذت تمنحهم أراضي مجاناً على شرط أن يسكنوا في البلاد فأنشئت قرى جديدة وأعطيت امتيازات إلى بعض المستعمرين المنفردين ولكن هذه الطريقة لم تأت بنتيجة وذلك لان المستعمرين لم يكونوا في الغالب أهل قابلية ولا عندهم الأسباب اللازمة للأعمال الأولية في الزراعة فظلت الأراضي بائرة إلا قليلاً ولما رأت أن هذه الطريقة لم تأت بفائدة عمدت إلى بيع الأراضي في المزاد كما هي طريقة الاستعمار وبذلك يبتاع الأرض غالباً من اعتاد القيام عليها ويتعلق بها لأنه يكون قد وضع كمية من النقد لاستثمارها وبذلك تنتخب الحكومة كل سنة أراضي تريد أن تحدث فيها مزارع أو قرى تربطها بالمراكز القريبة منها وتقوم بالحاجيات العامة من مثل جر المياه اللازمة أروائها وإنشاء الأماكن العامة الضرورية للحياة المدنية. وهذه الأراضي المقسومة إلى عدة قطع تختلف مساحتها بين 10060 هكتاراً (الهكتار عشرة ألاف متر مربع) وتعرض للبيع بأقل من ثمن مثلها بقليل وتأخذ ثمن الأراضي على تقاسيط ثمانية مدة عشر سنين. اثنان منها عند عقد المقاولة الأولى وواحد بعد ثلاث سنين واحداً من الثمانية في السنين الأخيرة وقد قالت المجلة التي عربنا عنها ما سلف أن نتائج هذه الطريقة قد كانت مما يوجب الرضا كما تبين من إحصاء الأراضي التي أخذت تباع على هذه الصورة منذ نهاية سنة 1904 فقد بيع 104437 هكتاراً بمعدل 125 فرنكاً كل هكتار فجاء يستثمرها ويسكن بالقرب منها 661 أسرة مستعمرة مؤلفة من زهاء ألفي نسمة على حين أن 42707 كانت توزع مجاناً على 535 أسرة ولا تأتي بفائدة. قلنا وهذه الطريقة في توزيع الأراضي إذا جربتها الحكومة في الشام والعراق والجزيرة العربية تأتي ولا شك بفوائد مهمة خصوصاً إذا اشترطت أن يفضل فيها الوطني على الأجنبي. الخشب الباقي الخشب يتغير على الزمن وان صنع بحيث يقاوم تأثير الرطوبات والخشب الطبيعي هو غاية الغايات في هذا الباب وقد وجدت في بعض الجوامع والقصور والقبور نوافذ ومنابر

وصناديق منذ القرن الخامس والسادس ومنها نموذجات في دار الآثار العربية في القاهرة كانت وما زالت موضع إعجاب من يحبون بقاء المادة وإبقاء الآثار. والغالب أن أرز لبنان الذي بني به هيكل سليمان وكان الفراعنة ينقلونه على سفنهم من شواطئ سورية إلى شواطئ مصر كان ولا يزال أعظم خشب لا تبلي الأيام جديدة هذا مع انه كان في مصر غابات ولا سيما على عهد الخلفاء الفواطم وسلاطين بني أيوب استخدم خشبها لعمل المراكب للأسطول ولا شك في انه عدا هذه الأشجار المعدة للبحرية من زرع شجر آخر نجد خشبه في معروضات دار الآثار الكثيرة ولجفاف هواء مصر صار الخشب يحفظ جيداً في ربوعها ومن ثم أضحى له دخل كبير في أبنيتها إلا ترى أن دعائم جامع ابن طولون التي يزيد عمرها على ألف سنة لا تزال بها السافات الخشب الأصلية وكذلك أقدم القباب المعمولة من الآجر تحتوي على مجموعة من الخشب أشبه بشيء بالقفص أو الهيكل الذي أقيمت عليه القبة وهناك إفريز نقش عليه القرآن الكريم كله بالقلم الكوفي. أما في بلاد الشام فإن أقدم خشب عثر عليه فيما نذكر تابوت السلطان صلاح الدين في مدفئته شمالي جامع بني أمية فتح في أوائل هذا القرن عندما ترميم القبة ثم أعيد إلى ما كان عليه كأنه عمل الساعة لم يلحقه سوس ولا أرضة ولا رطوبة ولا شيء من مفسدات الخشب وفي دار الآثار الإسلامية في الأستانة نموذجات من الخشب القديم ولكنها غير قديمة كثيراً على ما يظهر. وقد قرأنا في المجلة الباريزية أن في عينة الفرنسوية شجراً اسمه المانجروف وهو أشبه بخشب الأرز بمتانة ابتاعت إحدى شركات السكك الحديدية منه ألواحاً سنة 1909 لتجعلها عوارض في الخطوط فغمرتها منذ ذاك العهد في بئر جعلت فيها جميع عناصر الإفساد للخشب ولا تزال الألواح سليمة بحالها وكثافة هذا الخشب تبلغ 110 في حين أن كثافة البلوط 70 وكثافة الصنوبر 40 وتكثر فيه المادة الدابغة التي تقيه سطوات الحشرات وهو لين صعب قطعة يستعمل عوارض للسكك الحديدية وعمداً للجسور ودعائم في إنفاق المناجم ولتجارة السفن وغير ذلك. الحرب والعناصر اصدر احد الانكليز بحثاً في تأثير الحرب في أجيال الناس وعناصرهم فقال أن تأثيرات الحرب هي منافية لقاعدة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب فإن تقاتل الأمم يبيد العناصر

الأكثر فتوة والأشد قوة ويترك للضعاف أمر تدبير من عاشوا بعد الحرب فقد استطاعت يابان بعد مائتي سنة قضتها في السلام المتواصل أن تجند جيشاً كان برجوليته موضع إعجاب العالم ولا سيما الصين والروس وما ذاك إلا لان قاعدة الانتخاب الطبيعي خلال هذه المدة لم يصادمها عائق من العوائق. وهكذا الحال في ايكوسيا من بلاد الانكليز فإنها بعثت خلال مائة وخمسين سنة بالقوة أبنائها يقاتلون في صفوف الانكليز فلم يبق لها اليوم إلا عدد قليل من العنصر القديم والكتائب الايكوسية تشكو من هذه القلة. الحرب يأتي على جذوع الشجرة الوطنية فالثمر لا يناله شيء من بوائقها من حيث كيفية بل يناله من حيث كميته فإنها تقل وبذلك لا يأتي زمن طويل حتى يضعف الجذع نفسه. وهكذا ترى الأقوياء من الرجال بعد حرب طاحنة على ندرة ويتنازل معدل الرجولية. المراقبة بالسينما توغراف يعمد أرباب المعامل في العادة إلى المعلمين في معاملهم لملاحظة العملة من إضاعة أوقاتهم وتليهم عن العمل ولكن هذه المراقبة قد لا تتناول جميع المستخدمين فاخترع اثنان من أهل البحث في الغرب طريقة فعالة في منع العملة من النجاة من المراقبة ومن خديعة المراقب وذلك باستخدام السينما تواغراف فأنشأ آلة لها ساعتان دقاقتان لإحداهما وجه مقسم إلى مئة جزء متساو تتحرك عليه إبرة تدور عشر دورات في الدقيقة وكل تقسيم يقابل واحداً في الألف من الدقيقة وليس في الساعة الثانية شيء خاص بل هي تدل فقط على الساعة كالتي ترى في كل مكان فتوضع الساعتان إحداهما في مقابل العامل وتأخذ تخرج حركاته في الآن الذي يبدأ بالعمل فإبرة الساعة الأولى تدل على الوقت الذي مضى بين كل من هذه الحركات والساعة الثانية تدل على سير الساعة والجهاز الذي ينقل الحركات يتوالى ثلاث مرات في كل ألف مرة من الدقيقة وترى وهي تدور ببطء تقيد العامل بما يعمل وهذا الاختراع يفيد في بيان ما يلزم لعمل شيء أو لإدارة آلة فالعامل لا يستطيع بهذه الآلة أن يغش في عمله من حيث الكيفية والكمية وليس في هذا الاختراع من عيب إلا غلاء سعره ومتى رخص يعم استعماله وما ندري كم يأتينا العلم من الغرائب بعد. أقدم متحف أقدم متحف في العالم هو في مدينة نارا من أعمال يابان أنشئ سنة 756م وفيه مجموعة

نفيسة من الجوامد والمعادن وإنموذجات من الخشب الوطني وألوف من الأواني المعمولة من الملك الصيني ومجموعة أعشاب يابسة. ولكن هذا المتحف محظور دخوله فلا تتأتى زيارته متى بعهد إلى لجنة خاصة كل صيف أن تدخله للتفتيش عليه وفيما خلا ذلك من الأوقات فهو مغلق. غنى العالم الذهب والفضة اليوم جزء ضئيل من ثروة الأرض فإذا شئت أن تعرف مبلغ غنى امة فعليك أن تتمثل أساليبها في عملها وتتدبر قوتها المالية كما تتدبر قوتها العددية والجندية. وعلى كثرة الإحصائيين والماليين والاقتصاديين يصعب اليوم إعطاء حكم صريح في ثروة العالم المنقولة وغاية ما قدره نيمارك إلى آخر سنة 1912 أن مجموع الثروة المنقولة في الأرض هي 850 مليار فرنك وكان مجموعها سنة 1903 677 ملياراً فزادت في عشر سنين 175 ملياراً أي بزيادة 17. 3 ملياراً كل سنة. تزيد حاجات الإنسانية العامة بسرعة ويزيد غرام الأمم بالقروض. وهذه الأرقام تمثل القيمة الحقيقية لثروتنا المنقولة فالقول بأن ثروة العالم المنقولة أو ثروتها من ذهبها 850 مليار فرنك موضع نظر بليغ فأول ما يجب جعله قيد النظر أن ترد هذه الثروة إلى كل مملكة برأسها ويحسب ماذا يصيب الممالك وقد اعتاد الأخصائيون أن يقسموا الثروة في العالم إلى خمسة أقسام أساسية: انكلترا ومستعمراتها (ما عدا كندا وممالك افريقية الجنوبية المتحدة) وقارة أوربا وقارة أمريكيا وقارة أسيا وقارة افريقية، ثم يقسمون نوع الثروة المنقولة إلى ثلاث فصائل القروض العامة (قروض الممالك والبلديات والقروض الداخلية) أسهم المصارف وأموال الصناعات مثل ثروة التجار وثروة المعادن. والقسم الأول من ذلك وهو قسم القروض آخذ بالنمو كثيراً فقد كان سنة 1907 - 5 مليارات فرنك فأصبح سنة 1910 - 9 مليارات ثم نزل معدلها في سنة 1911 - 1912 - 1913وذلك بداعي الحروب والأزمات واضطرت الحكومات إلى إصدار سندات أو استلاف أموال من طرق منوعة كما فعلت الدولة العثمانية خلال ذلك ريثما عقد بعد الحرب البلقانية القرض الأخير بسبعمائة مليون فرنك وكما فعلت حكومات البلقان نفسها وذلك لان ميزانيات الحربية آخذة بالازدياد في كل الممالك المتحايدة حتى الصغرى مثل البلبيك والدانيمرك واسوج ونروج وسويسرا فقد زادت ميزانية يابان 578

في المئة عن سنة 1890 أو نحو ستة إضعاف ما كانت عليه منذ 24 سنة وازدادت في النمسا 410 في المئة خلال هذه المدة وزادت 238 في المئة في روسيا و140 في ألمانيا و112 في البلجيك و47 في فرنسا وما قط تحمل نظار المالية مثل هذه التبعة. والقسم الثاني أي أسهم المصارف اقل من الأول بكثير فلم يكن 20 في المئة من مجموع ما صدر من السندات والأسهم أما القسم الثالث فهو أهم الأقسام لأنه يدخل فيه مجموع ما صدر من السندات والأسهم أما القسم الثالث فهو أهم الأقسام لأنه يدخل فيه جميع المشاريع الإنسانية وحدوده واسعة للغاية فإذا أخرجنا منه 300 مليار فرنك قيمة الخطوط الحديدية في العالم يبقى المال المستخدم في الصناعات فإنه حسب ما هو موجود منها في برلين فقط مكان عشرة مليارات سنة 1910 والبلجيك آخذة بإنماء ثروتها في صناعاتها فقد كانت سنة 1913 - أربعة مليارات ومئة مليون فرنك وهي تزيد السنة بعد السنة زيادة كبرى بفضل معادنها وأعمالها الحديدية والكهربائية فقد ربحت من ذلك أرباحاً طائلة ولا سيما من الحديد والكهرباء. بقي هنا أن يقال من يملك يا ترى هذه الثروة المنقولة فالجواب أن بريطانيا العظمى هي أغنى الممالك فإنها تملك من 145 - 150 ملياراً ثم الولايات المتحدة ولكنها توشك أن تحرز المقام الأول فإن ثروتها تقدر ب - 135 - 140 ملياراً كلها لها ولامتها وفرنسا هي الثالثة بثروتها بين ممالك العالم فإنها تقدر من 110 إلى 115 ملياراً وتزيد ثروتها في السنة مليارين ونصفاً ومن ذلك ثروة الفرنسيس أنفسهم من 60 إلى 75 ملياراً ونحو أربعين ملياراً للأجانب واهم البلاد المقترضة من فرنسا هي روسيا فإن لها عندها 11 ملياراً ثم أمريكا اللاتينية ومصر والممالك البلقانية والدولة العلية. وألمانيا تكاد تكون مثل فرنسا بثروتها فإنها تقدر ب - 110 مليارات وكانت سنة 1908 - 85 ملياراً فربحت في خمس سنين 25 ملياراً فالربح السنوي الذي يزيد في ثروتها بالاقتصاد وغلاء الأسعار يبلغ سنوياً خمسة مليارات أي قيمة الغرامة الحربية التي قبضتها دفعة واحدة من فرنسا في حرب السبعين. أما الممالك الأخرى فلا يتأتى تشبيهها بتلك الممالك الأربع الكبرى فإن أموال روسيا كلها تقدر بخمسة وثلاثين ملياراً والنمسا بخمسة وعشرين وايطاليا بثمانية عشر واليابان بستة عشر ومع هذا فإن ثروة هذه الممالك آخذة بالازدياد فروسيا ترقى السنة بعد السنة ديونها

وكذلك ايطاليا واسبانيا وكذلك اليابان وعلى هذا ربما حدث تغيير في ميزانية الدول في المستقبل. هذا بعض ما قرأناه في إحدى الصحف المالية الكبرى نقلناه تفكهة للقراء فان الجارية القرعاء تفتخر بشعر جارتها ونحن في الشرق لا نعرف من تنمية الثروة إلا أن نقترض ونستلف. التهاب المفصل من جملة أمراض المفاصل الداء المعروف بالالتهاب (ارتريت) المشوه الذي يسميه العامة وجع الشيخوخة وان كان يصيب الصغار كما يصيب الكبار وقد جرت مداواة هذا المرض بأدوية كثيرة حتى الآن كالرياضة البدنية وصيغة اليود واخذ الحمامات الكبريتية والمعالجة بالماء البارد ولكن جميع هذه الوصفات لم تثمر الثمرة المطلوبة للمصاب بهذا الداء الذي حسب في جملة الأمراض العضالة. وقد اخترع أحد أهل الأخصاء من أطباء الألمان دواء جديداً غريباً لهذا المرض وهو أن يوضح نحل على المحل الموجع فليذع بحمته الجلد فيحدث فيه احمرار ومن سميته يرتعش جسم المصاب ويحس بوجع رأس وغثيان وضربات قلب أولاً ثم يخف آلمه ويتبين بعد ذلك فيما إذا كان هذا الوجع حادثاً من التهاب في المفاصل أو انه أعراض سل أو سيلان مخاطي أو غير ذلك واشترط المخترع في معالجة المبتلى أن يكون الداء في أوله لا مزمناً والعظم سليماً لا مشوهاً. تأثير الهواء كان العلماء إلى أوائل القرن العشرين يرون الهواء عاملاً ثانوياً في تركيب الأرض وقد دلت الأبحاث الأخيرة في آسيا الوسطى وافريقية الاستوائية والجنوبية وفي الجنوب الغربي من أمريكيا الشمالية أن ما كلن يراه العلم مقرراً من هذا القبيل يحتاج إلى تعديل وعلم الآن أن الهواء عامل قوي في انحلال الصخور وتسوية الأراضي واليه ينسب تركيب الأصقاع المقفرة أو البوادي. وهذه النظرية من أهم نظريات العلم في السنين العشر الأخيرة أثبتها لأول مرة سنة 1904 الجيولوجي بأسارج الألماني وأيدتها التجارب التي جربت في منطقة ما وراء بحر الخزر وفي أعالي سهول المكسيك ففسرت الظواهر العديدة التي تلاحظ في الأراضي الحارة تفسيراً معقولاً وكان القدماء يعزونها إلى عمل الأمطار ومجاري المياه وإنها هي العامل الأول في تبديل صورة الأرض فظهر اليوم أن هذه النظرية مغلطة وان

للهواء اليد الطولى في هذا التبدل فيه تنحل الصخور وتحمل بقاياها إلى المحال البعيدة. ورق الرتم أخذت صناعة الورق تستخدم في حاجياتها النامية مواد أولية من النباتات الغنية بالخلووز ففي أمريكيا يصنعون الورق من الذرة والسورغو وفي الصين من الخيزران والتوت وشمالي افريقية يستخرج من الحلفا وفي جنوبي فرنسا يحاولون اليوم صنع الورق من الرتم الزان وهذا النبات غني بأليافه ذات النسيج وكثير ينبت بنفسه في الأراضي البائرة ويمكن الحصول عليه بنفقة قليلة ولا يضر به الجليد الشديد ولا القيظ الفاحش ويستخرج هذا النبات من ايطاليا بثمن زهيد وقد جمعوا ما ينفق عليه فكان مهما بلغ نحو نصف أكلاف سائر المواد التي يستخرج منها الورق. والرتم هذا يقوم مقام الخشب الذي يعمل منه الورق أيضاً وقد اخذ بالتناقص وأسعاره بالارتفاع. هبة كريمة وهبت السيدة بهية خانم كريمة المرحوم علي باشا برهان في مصر للجمعية الخيرية الإسلامية في القاهرة سراياً في درب الجمامين ومساحة ما يتبعها من الأراضي 17000 دونم وقيمة هذه الهبة لا تقل عن خمسين ألف جنيه. ورصدت للجمعية غير ما ذكر 600 جنيه مساهمة. وللسيدات مبرات كثيرة غير ذلك جزاها الله خيراً. الجامعة المصرية يستخلص من تقرير مجلس إدارة الجامعة المصرية عن أعمالها عام 1913_1914 أن مجلسها يفكر في إنشاء ستة أقسام أخرى غير الأقسام الموجودة الآن كما مست الحاجة إلى احدها وتوفر المال اللازم لإنشائه وهي لعلم طبقات الأرض أو الجيولوجيا وللعلوم الطبيعية وللعلوم الكيماوية وللمعادن والفلزات ولعلم الحيوان وتشريح المقابلة ولعلم النبات مع حديقة خاصة بهذا القسم وقسم المكتبة الجامعة. أما حالة الجامعة المالية فلا تزال ما يقتضيه هذا المشروع العظيم ولكن المجلس يستبشر خيراً بالهبة العلوية التي نفحتها بها الأميرة فاطمة إسماعيل فإنها نهضت بالجامعة نهضة يرجى أن تكون فاتحة عصر تقدم سريع لها وارتقاء مطرد. وقد بلغت إيرادات الجامعة من أكتوبر (تشرين الأول) 1912 لغاية سبتمبر (أيلول) 1913

نحو 9096ج م وإعانة الحكومة المصرية وقدرها 2000 ج. م وفوائد أموال الجامعة وهي 1124 ج. م وإيجار الوقفيات وإيرادات متنوعة وكان للجامعة في أول أكتوبر 1912 من الأموال في البنك الألماني الشرقي وسواه 19808 ج. م. وبلغت جملة المصروفات في المدة عينها 8394 ج. م فزاد المال الذي للجامعة وصار 20510 ج. م في آخر سبتمبر 1913 وتقدر قيمة الأطيان الموقوفة على الجامعة بنحو 17000 ج. م. ويظهر من مراجعة بيان الدروس المنشور في هذا التقرير أن الجامعة لم تقتصر على تعلم الآداب بل شرعت في تعليم العلوم فقد أدخلت في مواد التدريس العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية وعلم الفلك. وسينضم إلى أساتذة العلوم ثلاثة من طلبة الجامعة في أوربا يعودون إلى القطر في آخر هذا العام. وقد وافقت نظارة المعارف على تمييز متخرجي قسم الآداب في الجامعة في الراتب واشترطت لذلك أن تمثل في لجنة الامتحان لشهادة العالمية وكان عدد طلبة الجامعة في العام السابق 75 فبلغ في هذا العام 321 منهم 94 من طلبة المدارس العالية و48 من طلبة الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم و31 من موظفي الحكومة و70 من طلبة المدارس الثانوية والخصوصية و90 من رجال القضاء والمحاماة والهندسة والطب و9 من الموظفين في محلات تجارية و11 من المزارعين أو غير ذوي مهنة وعدد النساء منهم 35 والزيادة مطردة في مكتبة الجامعة فقد صار مجموع ما فيها من المجلدات نحو 12 ألفاً منها 3700 إفرنجية و1300 عربية و2000 من مكتبتي شفيق بك منصور ويحيى باشا منصور يكن وقد أهديتا إلى الجامعة و2000 كتاب أيضاً. أموال المهاجرين يقول قنصل الولايات المتحدة في طرابلس الشام أن المهاجرين السوريين أرسلوا إلى أوطانهم في سورية عن يد أصحاب البنوك في طرابلس شام في سنة 1913 أكثر من 775 ألف ليرة. وانه يؤخذ من المصادر الصادقة انه وصل إلى المواني السورية الخمسة في العام الذي انتهى فيه آخر حزيران سنة 1913 أكثر من مليون و775 ألف ليرة من المهاجرين السوريين في أنحاء العالم. الأراضي الزراعية في أمريكا تبلغ مساحة الولايات المتحدة ما عدا أملاكها ومستعمراتها في الخارج 2973890 ميلاً

مربعاً ومساحة الأراضي التي توزع منها بحسب إحصاء سنة 1910 نحو 135725007 فداناً منها 878798325 فداناً مزارع (أبعاديات) قدرت قيمتها بنحو 40991450000 ريال و478451750 فداناً أراضي معدة للزراعة قدرت قيمتها بنحو 21 ألف مليون ريال وغلتها السنوية كلها بأكثر من خمسة ألاف مليون ريال. ويبلغ عدد السكان الذين يشتغلون في الزراعة 10381765 نفس منهم 9404429 رجلاً و977336 امرأة ويملك الأميركيون البيض من المزارع 4771063 مزرعة والبيض غير الأميركيين (الأجانب) 669556 مزرعة والزنوج 920883 مزرعة ويسكن في هذه المزارع 3948722 من أصحابها و58104 من مديريها و712294 من مستأجريها و1319953 من مستأجريها بالشركة و208436 من مستأجريها بالنقد والشركة والباقون عمال. وبلغ المزروع من الذرة في العام الماضي 105820000 فدان محصولها 2446988000 بشل ومن القمح 501840000 فدان محصولها 763380000 بشل ومن الشوفان 38399000 فدان محصولها 1121768000 بشل ومن الجودار 2557000 فدان محصولها 41381000 بشل ومن الشعير 7499000 فدان محصولها 178189000 بشل ومن البكهويت (نوع من الحنطة) 805000 فدان محصولها 13833000 بشل ومن بزر الكتان 2291000 فدان محصولها 17853000 بشل ومن الأرز 8271000 فدان محصولها 25744000 بشل ومن البطاطس 3668000 فدان محصولها 331525000 بشل. وبلغت مساحة الأراضي التي زرعت قشاً لعلف المواشي 48954000 فدان كان محصولها 64116000 طن وقيمتها 797077000 ريال. وبلغ محصول القطن 13677000 بالة ومحصول سكر القصب 696640000 رطل وسكر البنجر 727 ألف طن. وبلغت مساحة الأراضي التي زرعت دخاناً 1216800 فدان محصولها 953734000 رطل. ويستخدم الأميركيون في زراعة أراضيهم الواسعة بحسب التقدير الذي قدرته الحكومة في

أوائل العام الحالي 20992000 حصان و4449000 بغل و56592000 رأس من البقر على اختلاف أنواعها. ويربون فيها الآن 49719000 رأس من الغنم و58933000 رأس من الخنازير. وبلغت قيمة الأبقار ما عدا الحلوبة منها 1116333000 ريال وقيمة الأبقار الحلوبة 1118487000 ريال وقيمة المواشي التي في المزارع كلها 6891229000 ريال. وبلغت زنة الصوف الذي جز من الغنم 318547000 رطل وزنة اللبن الذي حلب من الأبقار والأغنام 12183375885 رطلاً صنعت جبناً وزبدة ولبناً محفوظاً بالعلب فبلغت قيمتها بعد صنعها 18682789 ريالاً. وبلغت قيمة البقول التي عللت وحفظت في العلب سنة 1905 نحو 45 مليون وربع مليون ريال وقيمة الفواكه المسكرة والمحفوظة في العلب 11644042 ريالاً وقيمة الفواكه المقددة 15664784 ريالاً. الافرنسية ذكرت مجلة مستندات الترقي الباريزية أن اللغة الافرنسية ما برحت في الدرجة الأولى من المكانة فهي لغة ثانية للمستنيرين من البورتقاليين وتنتشر بين الأسبان أي انتشار وتعد لغة رجال السياسة في رومانيا وقد قل استعمالها في روسيا ولم تبرح شائعة في فنلندة وبولونيا كما إنها منتشرة في المملكة العثمانية واليونان وكندا والبرازيل. وفي هولاندا 1175 مدرسة تعلم الافرنسية وفي طهران 3000 طالب يتعلمها وفي مصر 22175 طالباً، وفات المجلة أن تذكر عدد من يعلمها من الجزائريين والتونسيين فإننا رأينا أناساً من أهلها المتعلمين يتعامي عليهم التكلم بالعربية ويجدون كل السهولة بالتخاطب والتكاتب بالافرنسية. انتشار الألمان نشرت مجلة الاتحاد الجرماني إحصاء في عدد الألمان المقيمين خارج بلادهم فكان عددهم 1800000 في روسيا و500000 في فرنسا و100000 في انكلترا و50000 في الدنيمرك و50000 في رومانيا و5000 في البلاد العثمانية و50000 في جاوة و4200 في الصين و4200 في الهند الصينية و12000 في مصر و360000 في كندا

و2666990 في الولايات المتحدة و400000 في برازيل و10724 في الشيلي. التشويه اعتادت الأمهات والمرضعات عادة سيئة وهي أن يحملن الطفل مضطجعاً على ذراعه الأيسر ممسكات باليد اليمنى المضمومة إليهن وهذه الوضعية إذا تجددت على الولاء مدة طويلة من النهار غير متقطعة إلا وقت وضع الطفل في السرير ولتطهيره وإرضاعه تنتج في الغالب عقيب الضغط على الحوض أو على الفخد تحويل سلسلة الفقار ويكون ذلك محسوساً في البنات ويظهر ظهوراً بيناً عندما يبلغن سن البلوغ. وقد اثبت الدكتور انجلمان من فينا الذي قام بتجارب طويلة مبنية على التشريح أن هذا التشويه يبدو في العادة من جهة اليسار أكثر من اليمين ويكون شديداً جداً إذا كانت المرضعات ضعيفات البنية مستعدات للكسح. ويستدل من الإحصاء قام به أناس من الاختصاصيين أن في كل 2314 تلميذاً من تلامذة المدارس الابتدائية 91. 4 في المئة فيهم تشويه في العمود الفقري مع انحناء إلى اليسار. وأكد آخر أن في 64 في المئة من المشوهين من يحنون رؤوسهم إلى تلك الجهة. ويرى الطبيب النمساوي أن هذه العاهة لا تحدث إلا من الطريقة الرديئة في حمل الطفل ولذلك ينصح بالانتباه إلى ذلك على الدوام. على أن التشويه القديم غير قابل للشفاء فإن المشدات والتمسيد وأدوات الجبس كلها من الوسائط التي قلما تؤدي إلى تقويم هذا التشويه إذا كان المرض عقاماً وان الأحسن التوقي لا التداوي وتلافي هذا المرض من أصله لا معالجته بطرق أكثرها عقيم. غرس الأشجار نشرت نظارة الزراعة المصرية منشوراً في كيفية غرس الأشجار جاء فيه: يجب أن تفك الأشجار المحزومة حال وصولها وتوضع جذورها في حفرة وتغطى جيداً بالتراب ثم تروى رياً كافياً وتوضع الأشجار منفردة في الحفرة إذ لا فائدة من وضعها حزمة واحدة وتغطية جذورها الخارجية بالتراب. فإذا تأخرت الأشجار العارية الجذور في الطريق وظهر على قشرتها انكماش فالأحسن غمرها ليلة في مجرى ماء ثم تدفن بجذورها وأغصانها في الأرض مدة ثلاثة أيام وبعد ذلك يمكن استخراجها وغرسها ويجب أن تفحص الجذور بعناية قبل الغرس فتنزع جميع أجزائها الممزقة والمنسلخة والمكسورة.

أما الأشجار التفاح واللوز والمشمش والتين والخوخ والكمثرى والبرقوق والسفرجل والحمضيات فيجب قطع سوقها على ارتفاع 60 سنتيمتراً من القاعدة وإذا وجدت في بقية الساق أغصان صغيرة تقل على بعد 7 أو 8 سنتيمترات من الساق. وقد يموت عدد عظيم من الأشجار لأنها لم تقل وقت النقل ويحسن قبل نقلها إلى المغارس أن تغمس جذورها في الطين (الرهريط) فتحفر حفرة عمقها 40 سنتمتراً ويملأ جزء منها بالتراب ثم يخلط التراب بماء كاف حتى يصير مائعاً وتغمس فيه الجذور فيقل الضرر الذي يلحق بالأشجار من تعرضها للشمس أثناء الغرس. وأما الأشجار المغلفة الجذور بالطين فيجب غرسها وريها حال وصولها. باشلس الخناق ثبت أن باشلس الخناق (الدفتريا) لا يعشش في محل واحد من الجسم كما كان يظن إلى اليوم بل انه يغشى القلب والرئتين والكبد والطحال والكلية والنخاع وأحياناً الدماغ. أشعة اكس أن أشعة اكس التي استعملت واسطة للبحث قد استخدمت أيضاً عاملاً من عوامل الشفاء فإن بها تعرف بعض الأمراض في القناة الهاضمة وتشخص أمراض الكبد ويبحث عن الأجسام الغريبة في تركيب الجسم وترى بها آفات الهيكل العظمي وتعدل على الآكلة والبثور الصغيرة الجلدية والأكزيما والثآليل والقرع والنواتئ الجلدية والغدد والأورام الليفية. وهذه الطريقة نافعة في الأكثر خصوصاً لأنها خالية من الألم. الرياضة البدنية أن الرياضة البدنية ولا سيما الألعاب الشائعة في الغرب وبعض الشرق مثل التينس والكريكت والسكتين والفوتبول والتجديف في الزوارق وركوب الدراجات والسباق والقفز هي نافعة للصحة بلا جدال ولكنها تعرض اللاعب للخطر وقد وضع احد أطباء هايدلبرغ إحصاء في العوارض التي تحدث منها وهذا الإحصاء في بعض الحالات يعلم اتقاء الوقوع في المخاطر ويدل على طرق الإصلاحات الواجب إدخالها في هذه التمرينات المنتشرة وقد أخذت بعض المدارس في الغرب تضع ملاحظات الطبيب موضع النظر. الهواء السائل

ثبت انه يمكن استعمال الهواء السائل بدون صعوبة ولا خطر بمثابة مادة منفجرة وجرب احدهم مزيج الهواء السائل بفحم من الحطب فكانت منه مادة منفجرة سماها اوكسيليكيد ولكن هذا التركيب لا يخلو من خطر ويحتاج إلى يد ماهرة جداً في استعماله وقد وضعت حكومة ألمانيا المقالع الملكية بالقرب من برلين تحت أمر رجلين من رجال البحث في هذا الاكتشاف ليركبا تركيباً ينفجر ولكن يكون مضمون النتيجة. الحرب في القرون الأخيرة أحصى العالم كاستون بودار الحروب التي جرت منذ سنة حتى 1905 فكانت كما يأتي: بمدة 287 عاماً حدث 1044 موقعة برية و122 موقعة بحرية و490 حصاراً و44 تسليم مدينة. الحرب التي كانت مدتها اطول من كل هذه الحروب هي التي اشتبكت بين البندقية والعثمانية وقد دامت 55 سنة أي من سنة 1644 إلى سنة 1699 واقصر هذه الحروب هي الحرب بين النمسا وايطاليا سنة 1849 ودامت ستة أيام. والأمة التي حاربت أكثر من غيرها هي الأمة الفرنساوية فإنها خاضت 1079 موقعة ويأتي بعدها بالترتيب النمسا وانكلترا وروسيا وبروسيا واسبانيا حاربت فرنسا 15 مملكة وانتصرت 584 مرة واندحرت 495 مرة. ومعدل انتصارات بروسيا وانكلترا 60 في المائة واندحارهما 40 في المائة. ولتكون لفرنسا هذه النسبة يجب أن تكون انتصاراتها 648 واندحارها 431. انتصرت فرنسا بحروبها مع النمسا 262 مرة واندحرت 196 ومع انكلترا غلبت 120 مرة وانكسرت 155 مرة وبحروبها مع اسبانيا 911 انتصاراً و45 اندحاراً ومع هولاندا 80 ضد 63 وبلغ عدد المواقع بين فرنسا وألمانيا 309 مرات وكان الانتصار للفرنسيويين في 152 معركة. وأطول حصار كان حصار جبل طارق فان هذه القلعة قاومت الانكليز مدة 1167 يوماً أي من سنة 1779 إلى سنة 1782. وقادس 903 أيام ضد جنود الانكليز والأسبان المتحدين ويأتي بعدها حصار فينا بيد العثمانيين في سنة 1683 وحصار سباستوبول دام 346 يوماً وبروت ارثور 221 وكنديا 228 وبلافنا 142 وكانت خسائر موقعة موكدن 138 ألف رجل وفي سيدان 122 ألفاً.

الأشربة الروحية خطب الدكتور حبيب أفندي همام في جمعية الاعتدال السورية في الأشربة الروحية فقال: أن في الإدمان عليها والإفراط فيها أضراراً لا يحمل الإغضاء عنها أضراراً يظهر بعضها في القريب العاجل وبعضها في البعيد الآجل وفي أواخر الحياة إذ تتحجر الكبد وتتصلب الشرايين ويلين الدماغ ويحول القلب حؤولاً دهنياً حؤولاً يضعف من قوته ويقلل من نشاطه فينوء بثقل ما تقتضيه مصلحة الجسم ويعجز عن القيام بما يناط به من العمل فيعيش المرء بذلك زماناً ضعيف الجسم واهي القوى لا يقوى على عمل ولا يرتاح إلى حال تلك عاقبة من يد من على استعمال الأشربة الروحية وتلك حال من يفرط في استعمالها تتشابه أعراضها بأعراض الهرم ولذلك يخفى على الناس أمرها فإذا شكا ابن الستين من الضعف قالوا هذا من الستين وإذا أن من ضيق النفس قالوا هذا أيضاً من الستين وإذا اقتضى شهيد المسكر قالوا هذا أيضاً من الستين وما كانت (الستين) لتفعل مثل هذا وإنما استدرجوا إلى هذا الخطأ بما ألفوه من رؤية مثل هذه الأعراض في مثل هذا العقد من الحياة وقد فاتهم أن للأشربة الروحية والتدخين وغيرهما من العادات الذميمة فعلاً في تقصير مدة الآجل وانفصام حبل الحياة. شاع استعمالها في جميع أنحاء المعمورة وسرى سمها في عروق الكثيرين من أبناء هذا الجيل فكثرت بها الإمراض والأدواء وتفاقم منها البلاء والشقاء حتى قيل أن معظم شقاء الإنسان صادر عنها وهو قول وان لم يصح على إطلاقه فقد يصدق في كثير من الأحوال ولما كان الجهاز الهضمي هو أول ما يصاب منها بالأذى كان من الواجب أن نبدأ فيه أولاً فنقول: الجهاز الهضمي ويقال له القناة الهضمية أيضاً وهو جهاز لطيف يتم فيه الهضم وينضج فيه الطعام ويراد به الفم والبلعوم والمريء والمعدة والأمعاء وغيرها من الأعضاء التي تشترك في عمل الهضم وتتكافل على إنضاج الطعام. الغشاء المخاطي ولا نزيده تعريفاً امتداد من الجلد ينعطف إلى الداخل فينشئ ما في الجسم من التجاويف التي تتطرق إلى الخارج ويبطن ما فيها من الغدد التي تستطرق إليها وهو غشاء رقيق النسيج لطيف المادة ابن القوام مخملي الملمس تخدشه خطرات النسيم ويدميه لمس الحرير على هذا الغشاء

اللطيف تمر الأشربة الروحية وفي هذه الغدد والتجاويف تستقر الكحول ولا يخفى أن الكحول هي المبدأ الفعال في الأشربة الروحية فكل ما يعزى إليها من نفع أو ضرر يرجع إلى ما فيها من طبيعة الإحراق وخاصة التخدير أما ما يراد منها بالإحراق فهو نفس ما يراد بالحامض النتريك والبوتاسا الكاوي. وغيرهما من الكاويات الكيمية التي تحرق ما تتصل إليه من أنسجة الجسم بما فيها من شراهة امتصاص الماء فإذا دخلت القناة الهضمية أحرقت ما تتصل به من حويصلات الغشاء المخاطي فإذا كان الغشاء المخاطي بليداً أثرت فيه تأثيراً حسناً لأنها تذهب بما تبلد من نسيجه وشاخ من حويصلاتها فيظهر من تحتها حويصلات آخر أقوى على العمل واقدر على الإفراز فيشعر المر بالجوع ويستطيب الطعام وربما تناول منه شيئاً حتى إذا زالت بلادة الغشاء المخاطي واستمر استعمالها زمناً طويلاً أثرت فيه تأثيراً سيئاً لأنها تفعل عند ذلك في حويصلات جديدة وغشاء جديد يتآكل على كرور الأيام ويتقرح على مرور الزمن فيحدث من ذلك عسر الهضم وفقد شهوة الطعام. أما ما يراد منها التخدير فهو أيضاً نفس ما يراد بغيرها من المخدرات كالأفيون والبنج وغيرهما من العقاقير الطبية فإذا مرت بالقناة الهضمية خدرت ما تتصل به من ألياف العصبية ولا سيما الألياف المحيطة بالأوعية الدموية في توزيع الدم وانتشاره في الجسم انتشاراً يضمن لكل عضو حقه من الغذاء فإذا تخدرت بالكحول أو بغيره من أنواع المخدرات اضطراب نظام الجهاز الدموي واختل ناموس توزيع الدم فيجري إلى حيث تخدرت هذه الألياف العصبية ويتجمع فيما تحيط به الأوعية الدموية التي تتمدد جدرانها وتتسع مساحتها فيحتقن فيها الدم احتقاناً يبعث في القناة الهضمية نشاطاً على العمل فيشعر المرء في الجوع ويستمرئ الطعام وربما تناول منه بها ضعف ما يتناوله بدونها إلا أن احتقان مرضي حاصل من تخدير الألياف العصبية ولا يخفى بان التخدير هو نوع من الشلل فإذا تكرر مراراً عديدة حصل على الشلل التام والاحتقان الدائم وذلك يفضي إلى الزكام الحاد والالتهاب المزمن وكلاهما من أسباب عسر الهضم هذا ما يعلل به عما تحدثه الأشربة الروحية في القناة الهضمية من النفع الذي ينقلب إلى ضرر وذلك بما فيه من خاصتي التخدير والإحراق أما ما يعزى إليها من التنبيه اثر استعمال شيء منها مسبب عن احتقان الدم الحاصل من تخدير الألياف العصبية فالإدمان يفضي إلى نتيجة واحدة لان

التنبيه المستديم يستنزف القوى وينهك الأعضاء فتعجز عن العمل أو تعمل عن عجز. وللأشربة الروحية في القناة الهضمية أضرار آخر يرجع بعضها إلى ما تحدثه من تجميد الزلال وبعضها إلى ما تحدثه من إرساب الببسين أما ما تحدثه من تجميد الزلال فواضح مما يشاهد من تصلب المواد الحيوانية إذا حفظت بالكحول فقد تتصلب حتى تصير اشد صلابة من الأديم ومعلوم أن الزلال من أهم أجزاء الطعام وأنواع الغذاء وهو على الحالة الطبيعية لين القوام سهل الهضم لطيف المادة فإذا تجمد بالكحول تصلب مادته وتعسر هضمه وقل غذاؤه وأصبح مما لا تفعل فيه عصارات الهضم ولا تقوى عليه المعد الضعيفة شاهد ما تراه من سهولة هضم البيض البرشت وصعوبة هضم البيض الجامد ثم أن البيسين احد العصارات المعدية وسبب اختمار المواد الآزوتية هو مادة زلالية أيضاً يتجمد به غيره من أنواع الزلال فإذا تجمد بالكحول ورسب في القناة الهضمية تعذر اتصاله بجميع أجزاء الطعام وامتنع امتزاجه بها امتزاجاً يضمن اختمارها ويكفل هضمها ويتضح ذلك بأجلى بيان مما يشاهد في كل يوم من أنواع الاختمار فلا يختمر العجين إلا إذا أذيبت خميرته في الماء وأضيفت بالدقيق ولا يروب الحليب إلا إذا مرت شيء من اللبن ثم أضيف إليه. وجملة القول أن الاختمار لا يتم إلا بامتزاج ما يراد اختماره بالخمير امتزاجاً تاماً وذلك يقتضي الإذابة والحل وعلى ذلك كان الكحول وغيره مما يجمد الزلال ويرسب البيسين مضراً في عمل الهضم. فيؤخذ مما تقدم أن الأشربة الروحية تفيد في عمل الهضم ثم تضر به ولذلك يختلف الناس في الكلام عليها اختلافاً عظيماً ويتباينون في الحكم فيها تبايناً جسيماً فمنهم من يقول بنفعها ومنهم من يقول بضررها حتى انك لترى عالماً من علماء منافع الأعضاء يكتب كتاباً في فائدتها وأخر يكتب كتاباً في مضارها وذلك من الغرابة بمكان. وفي كتاب الوحي ما هو اغرب من ذلك فإنك ترى بعض النبيين ومن أتى بعدهم من الحواريين هذا يصفها علاجاً في تطيب النفس وذاك يصفها دواء في عسر الهضم ثم لا تلبث أن ترى غيرهم من رجال الله هذا يحض على تركها وذاك يحذر من شرها إلى غير ذلك مما هنالك من الأقوال المتضاربة والآراء المتباينة مما يبعث في الناس ميلاً إلى الريبة في العلم والكفر في الدين على أن لا اختلاف في العلم ولا تباين في الدين وإنما الخلاف

كل الخلاف في اتجاه مطارح النظر فان من ينظر إلى ما في الماء من نقع الصدى وإرواء ألماً يصفه علاجاً للصادي ودواء للظمآن. ومن ينظر إلى ما فيه من الخطر من الغرق يحذر من ركوب البحر واقتحام عباب اليم من ذلك ما جاء عن جند من أجناد العصور الخوالي اثر حرب كتب لهم فيها النصر قيل أنهم جلسوا إلى الشراب بعد أن سكروا بخمرة النصر فأتوا على ذكر ما وقع لهم مع الأعداء واسترسلوا في الكلام إلى وصف درع غنموها في جملة ما غنموه من أسلاب العدو فقال بعض إنها سوداء وقال بعض إنها حمراء واشتد بينهم اللجاج حتى أفضى إلى امتشاق السيوف وتسديد الأسنة فاقبل أمير الجند واخمد نار الفتنة ثم أمر فأتي بالدرع فإذا هي من الجانب الواحد اسود ومن الجانب الآخر حمراء فعلم أن كلاً منهم نظر إليها من جهة واحدة ولو نظروا إليها من جانبيها لما اختلفوا فيها ولا اقتتلوا عليها وما اختلاف الناس في الأشربة الروحية إلا من هذا القبيل فان من ينظر إلى ما تحدثه من النفع ومن ينظر إلى ما تحدثه من الضرر يقول بضررها ولو نظر كل منهم إلى ما ينظر إليه الآخر لما تباينوا فيها ولا اختلفوا عليها ومهما اختلف الناس في الكلام على ما تحدثه الأشربة الروحية في القناة الهضمية فهم لا يختلفون على ما تحدثه في الأعضاء الرئيسية من الضرر. فقد اجمع جمهور المحققين من أطباء وفسيولوجيين أن ما ألمعنا إليه من تحجر الكبد وتصلب الشرايين ولين الدماغ وحؤول القلب وغير ذلك من الأعراض التي تظهر في أواخر الحياة أعراض مرضية تحدث من الأشربة الروحية تحدث من الجرعات الصغيرة كما تحدث من الجرعات الكبيرة. التنقيبات في الشرقاط وجه الألمان منذ ربع قرن وجوههم نحو الشرقاط في العراق وما فيها من الآثار الخالدة للتنقيب عنها في باطن الأرض وبعد أن عرفوا ما فيها من الآثار المفيدة استحصلوا رخصة من الحكومة بإجراء الحفريات في تلك الأنحاء فاستخرجوا هناك من الآثار القديمة الخطيرة شيئاً كثيراً. وجاؤوا إلى بغداد بنحو 900 صندوق ملأى بالآثار وقد تبرعت الحكومة بنصف هذه الآثار للمتحف الألماني في برلين. مسألة اللحم

بحث احد أطباء الدانيمرك في اللحم فقال أن الخصائص المغذية والمقوية في اللحم لا تحتاج إلى مناقشة ولكن أسعاره الغالية تجعله صنفاً خاصاً بالمترفين بحيث يتأتى حذفه أو على الأقل تقليل تناوله بدون أن يلحق ضرر بصحة الجسم وان المواد المغذية الضرورية فيما خلا الماء وبعض الأملاح المعدنية هي المواد الزلالية والأدهان والمواد النشاوية والسكرية فالمواد الزلالية ضرورية لإطعام الخلايا البشرية فيجب على كل إنسان أن يتناول منها كمية وفي الإفراط من أخذها خطر ولا سيما في الصيف بسبب الحرارة التي تحدثها في جسمنا متعبة الكليتين وملوثة الدم بسمياتها ويختلف مقدار ما يجب تناوله في اليوم من المواد الزلالية من 120 إلى 60 غراماً ويمكن إنزاله إلى اقل من ذلك ويظهر أن ما يمكن استخراجه من اللحم واللبن والبيض أسهل تحولاً مما يمكن استخراجه من اللوبياء والحمض وغيرهما من الحبوب بسبب ما فيها من القلويات الصعبة التحليل فالادهان والمواد النشوية والسكرية تعطي قوة وحرارة وليس من اختلاف بين سرعة الهضم الأدهان النباتية أو الحيوانية ولكن الأولى ارخص. لا جزم أن لتحضير الطعام شأناً مهماً ومن الخرق في الرأي أن تطبخ البقول في كمية كبرى من الماء ثم تطرح فإن هذا الماء يذيب أملاحاً مغذية فمن الجنون الحرمان منها. إذا حسبنا كمية متساوية في الوزن من اللحم وغيره من المغذيات نجد في اللحم ثلاثين غراماً من المواد الزلالية و34 من اللبن و27 من الأرز و62 من الحبوب و98 من دقيق القمح فالبقول اذاً ارخص واللحم الذي هو اقل سعراً بقيمته الغذائية هو سمك الارنكة وليس مرق اللحم غذاء بل مقبلات يحث العصارة المعدية. أن لمن يعيش من الفلاحين والعملة في الهواء الطلق غذاء معقولاً جداً من البطاطا المعمولة بالدهن ومن الحساء المعمول بالبقول وكذلك من خبزهم الأسمر. أن الأشخاص الملازمين للجلوس الذين تحتاج شهوتهم للطعام تعالج بما يصلحها ويحسن أدوات هضمهم أكثر إذا تناولوا كمية قليلة من اللحم بيد أن الطباخات الماهرات يستطعن أن يجعلن لحساء البقول طعماً كافياً للاستغناء عن هذا المشهي. ولقد ثبت أن من الممكن أن تجود صحة المرء بطعام مقتصر فيه على البطاطا والدهن. الإسلام والاشتراكية ألف بالانكليزية به مشير حسن كيداوي من علماء الهند كتاباً في الاشتراكية الإسلامية وقد

كتب عليه المسيو مونتيه احد أساتذة جامعة جنيف في سويسرا المعروف بالاطلاع على أحوال الإسلام والمسلمين فصلاً في جريدة جنيف قال فيه أن المؤلف الهندي قد عني بأن لا يبين فقط الصفة الاشتراكية في الإسلام بل بين ما يراه الاشتراكية الإسلامية مميزاً بينها وبين ما نقصده بالاشتراكية معاشر الغربيين. فقد أورد من تاريخ الرسول والخلفاء الراشدين أموراً تبين الخلق الديمقراطي الموجود في الإصلاح الإسلامي وإبان أن بعض هذه الحوادث هي مظهر من المظاهر الاشتراكية فقد كان الرسول ينطق بما يشف عن حب الجمهورية أو عن فكر ديمقراطي وقد علم بهديه جماعته هذا الشعور ولذلك نصب الخليفة الأول بعده بالانتخاب. وما كانت غاية ما وضعه من قوانين الإرث إلا أن يحول دون تأليف الأملاك الواسعة وجمع الثروات الطائلة وكان مجنداً من جماعة من الوطنين المسلمين وقضى بأن يعطى العجزة واليتامى والأيامى من بيت المال ثم جعل عمر بعد ذلك قدراً معيناً من المال يعطى للأولاد الذين يستحقون أن ينفق عليهم إلى حين بلوغهم سن النمو وهذه الحوادث وكثير غيرها مما استشهد به المؤلف الهندي تؤيد القضية التي وضعها ومما قاله: إننا معاشر المسلمين نرى أن معنى الاشتراكية هو التعاون المنظم الدائم المنشق بين الأفراد في شؤون الحياة الصناعية والاقتصادية الإدارية أو السياسية الاشتراكية أو الدينية لأجل أن تضمن للعالم رفاهيته ونجاحه وكلما عم هذا التعاون كان اخوياً وكلما كان إلى التساوي حسن تركيب أجزاء الاشتراكية. قال العالم السويسري واني لأحب أن اذكر جملة أبين فيها إلى أي درجة كان للإسلام علاقة بالاشتراكية كما نفهم ذلك في أوربا: لا شك أن في الإسلام فكر الجمهورية (الديمقراطية) وان فيه ميلاً إلى المساواة تبدو في صور كثيرة وهذا الفكر وهذا الميل يظهران في الصلات الراسخة بين الكبراء والصغار فان استعمال الضمير المفرد في المخاطب أنت الذي هو أصل من أصول التخاطب في اللغة العربية يساعد ولا شك على وضع المتخاطبين على قدم المساواة ويكفي لذلك أن يدخل المرء في العالم الإسلامي ليتمثل لذهنه أن تمايز الطبقات الظاهر على أتمه عندنا لا اثر له عند المسلمين فمن المألوف العادات عندهم أن يختلف الصغير إلى الكبير باحترام وحشمة ولكن بسهولة ندر مثلها في غير الأندية الإسلامية ويخاطب الكبير الصغير بسذاجة طالما كنا ننظر إلى إنها تمس الإحساس

بين الناس. وفكر المساواة الإسلامية ظاهر حق الظهور في الطرق الدينية على الرغم من طبقات الناس الذين يؤلفون تلك الجمعيات وأنا لنذكر أنا كنا في مراكش وكان لنا خادم يذهب يوم المقابلة والذكر ليلتقي بإخوانه وفيهم من هم أرقى منه منزلة في المجتمع. الإخاء على أتمه بين المسلمين يقومون به بينهم حق القيام والإسلام هو الدين الذي قضى أكثر من غيره على التمييز في الأصول والعناصر وليس هذا الإخاء مقصوراً على المسلمين بعضهم مع الآخر بل قد يتعدى به المسلم إلى غير ابن نحلته واني لأدهش من إطلاق بعض المسلمين علي كثيراً قولهم يا أخانا في الله. وفي الإسلام زيادة على الفكر الجمهوري والمساواة والإخاء ما اسميه فقط الاتصال مع الاشتراكية فقد دهشت كثيراً في مراكش من هذا الأمر ولطالما لاحظت في الشعب المراكشي فكر التعاون والاجتماع متأصلاً للغاية وجميع أعمال الحياة الاجتماعية في مراكش تميل إلى وسائط الاشتراك من مثل جماعة الصناع التي تذكر بما كان لأوربا من مثلها في القرون الوسطى وجمعيات الرماة الكثيرة وجمعيات الإحسان والأخويات الدينية الوفيرة. ومن أهم ما يلفت النظر في هذا الشأن الأسباب التي قام عليه الإسلام في الزكاة فقد فرض محمد على المؤمنين إغاثة الفقير فرضاً عيناً وكان هذا الفرض احد أركان الإسلام الخمسة يؤخذ المال من الغني ليعول الفقير وليس هذا واجباً أو دعوة يراد بها تنبيه العاطفة الدينية بل هو حق مفروض مشروع. الإسلام امة فإذا سألت مسلماً من أي جنسية أو امة أنت يجيبك أني مسلم وقد حدثت قضايا ذات شأن في أوربا ولا سيما في فرنسا ظهر فيها ظهور الشمس عدم الاتفاق في هذا المعنى بين الشرع الإسلامي والقانون الأوربي ولذلك جاء القران بان الإنسانية تؤلف امة.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات محنة الأديب في المكتبة الظاهرية بدمشق في قسم المجاميع تحت نمرة 9 رسالة الأديب إملاء الشيخ الفاضل أبي علي الحسين بن احمد الاستراباذي قال في مقدمتها بعد البسملة والحمدلة والصلولة هذا كتاب يتضمن مسائل من معاني القران ونخباً من غريب الحديث وشيئاً من اللغة. . . من النحو وطرقاً من الأبنية ونتفاً من الأمثال وشعبة من الاشتقاق وذروا من معاني الشعر وصدراً من العروض وفقراً من التصريف ولمعاً من القوافي سميناه محنة الأديب لأنه يختبر بما فيه مدعو الأدب والمتبذخون (؟) بحفظ الأصول والكتب لتتميز المقدم في العلم من المؤخر ويظهر فضل المبرز فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا الناس بمنازلهم فالدعوى لمن رامها ذلول فالبينة الأعلى (!) وقد قيل من تجلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان والرسالة في ثماني عشرة ورقة صغيرة مكتوبة بخط يغلب عليه التحريف وهذا مثال منه: مسألة ضرب غلامك غلام زيد واسم كل واحد من الغلامين عبد الله كيف تخبر عنهما وتضيف كل واحد من الغلامين إلى صاحبه وأنت تخاطب زيداً وتذكر الغلامين الجواب ضرب عبد الله صاحبي عبد الله صاحبك ولا يجوز غير ذلك لان المضاف لا يمكن أن يضاف ولكن يؤتى بما تدل عليه. مسألة رجلان اسم كل واحد منهما ما شاء الله نحو قولك جاء الزيدان الجواب جاء ما شاء الله وجاؤوا ما شاء الله ورأيت ذوي ما شاء الله وللجميع رأيت ذوي ما شاء الله وكذلك كل ما سمي بجملة نحو تأبط شراً وذرى حباً. التاريخ الكبير لأبي القاسم علي بن عساكر طبع على نفقة مطبعة روضة الشام لصاحبها خالد أفندي قارصلي عني بترتيبه وتصحيحه عبد القادر أفندي بدران. صدر الجزآن الثالث والرابع من هذا التاريخ الذي شرعت بطبعة مطبعة روضة الشام بدمشق منذ أربع سنين وهذان الجزآن يحتويان معاً على زهاء 928 صفحة حذفت من الأصل الأسانيد رقد قدم لها مصححه في كل جزء مقدمة طويلة وأضاف إليها بعض

تعليقات. بدأ الجزء الأول بباب الهمزة مع السين وختم بحرف الحاء المهملة. وفي الجزء الثاني بقية من يبتدئ اسمه بحرف الحاء وفي هذين المجلدين تراجم كثير من رجال دمشق والوافدين عليها من أهل الحديث والفقه والأدب والإدارة والقضاء وفيه زهاء ألف ترجمة وفيهم كثير من المشاهير تسقط في تراجمهم على أشياء لا يكاد يعثر عليها فيما طبع من كتب التراجم والسير وفيه مع ذلك حكايات وقصص وأشعار وآداب جميلة مسلية مفيدة فحبذا لو اقتناه كل متأدب خصوصاً أهل سورية عامة والمشتغلون بالحديث والتاريخ خاصة. فنشكر للطابع همته وفي مأمولنا أن يتم الباقي من الكتاب وهو لا يتجاوز فيما يظن أربعة أجزاء أخرى. وسنفرد مقالاً خاصاً لهذا التاريخ المعتبر عند العلماء. سيرة عمر بن عبد العزيز تصنيف الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي المتوفي سنة 597 صححه ووقف على طبعه محب الدين أفندي الخطيب وطبع بنفقته ونفقة عارف أفندي المحايري في مطبعة المؤيد في القاهرة سنة 1331 - هـ ق 1291 هـ. ش. أجاد صديقنا ناشر هذا الكتاب محب عبد الرحمن أفندي الخطيب في نشر هذا السفر المفيد في سيرة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عيد العزيز رحمه الله فان سيرته الشريفة جديرة بأن يتدارسها جميع أصناف الناس دع الملوك والأمراء ومن كتب لهم أن يتولوا أزمة أمور الجمهور في هذه العصور التي تدعى بعصور النور وقد عني الناشر بتمثيلها أحسن تمثيل ونقل اختلاف النسخ عن المختصر المطبوع في ليبسيك كما عني من قبل بتجويد الكتب والرسائل التي أحياها بالطبع فدلت على ذوقه ولطف بحثه وكنا نود لو كتب جملة في مقدمة هذا السفر أشار فيها إلى النسخ التي اخذ عنها فقد رأيناه يشير في الحواشي إلى نسخة حماة ونسخة مصر ولم يعرفنا بهما. أما الكتاب فقد وقع في 305 صفحات من قطع الربع عجا الفهارس التي ألحقها في آخره بأسماء الأماكن والرجال التي بلغت 24 صفحة فزادت الكتاب رونقاً وقربت علي المتناول سيرة رجل كان قدوة لأرباب الولايات والولايات فحري بمدارسنا أن تدرسها لتنطبع في ذاكرة التلامذة منذ الصغر. وقديماً ألف بعضهم في سيرة هذا الخليفة العادل العاقل كتباً ومنهم بقي ابن مخلد الأندلسي وقال في كشف الظنون أن المؤلف هذه السيرة أبي الفرج ابن الجوزي كتاب سيرة العمر ين ولعله

غير هذا الذي طبع فإن المؤلف يقول في مقدمته انه افرد لكل شخص من أعلام كل زمن وأخيار، كتاباً للأعلام بأخباره. كتاب الانتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف إبراهيم بن محمد بن ايدمر العلائي الشهير بابن دقماق طبع بالمطبعة الأميرية الكبرى ببولاق مصر سنة 1893 إفرنجية جزان في 263 ص والفهرس 110ص. هذا الكتاب هو مما نشرته دار الكتب الخديوية بمصر ونظر فيه مديرها الأسبق المسيو فولرس ومؤلفه من أهل القررن الثامن للهجرة جعله عشرة أجزاء لعشرة أمصار والمصر هي المدينة الكبرى الممتازة بخاصية من الخواص كاشتهار البصرة بصناعتها وبغداد برخاوتها والكوفة بفصاحتها والقاهرة بتجارتها. وهذا الجزء أو الجزآن وهما الرابع والخامس من كتابه قد خصهما بالكلام على القاهرة والإسكندرية ولم يظفروا بسائر الأجزاء التي تكلم فيها المؤلف على الأمصار الكبرى والمؤلف وان كان ثقة في الأمهات التي نقل عنها لأنه نقل عن كتب مهمة لم يكد يظفر بمثلها حتى المقريزي صاحب الخطط كما قال الناشر الألماني لكتابه إلا انه مملوء بالأغلاط النحوية والصرفية التي تركها الناشر على علاتها آملاً بذلك أن يحتفظ خطة جديدة في اللغة العربية كأنه كان يريد عفا الله عنه أن يترك لغتنا بدون قواعد يكتب فيها كل إنسان كما يشاء. أفاض المؤلف في ذكر كور مصر ومدنها وما بني بالوحى منها وما بها من غريب التحف والطرف قال ويقال أن بالديار المصرية ثمانين كورة كل كورة بها تحف وطرف وعجائب وغرائب وقد أورد في كل كورة ما فيها من ذلك. والكتاب أشبه بخطط المقريزي ولكنه مختصر ذكر فيه الدور والقصور والقرى والمزارع والجوامع والكنائس والمدارس والبيوت العامة والمدارس والحمامات وأعمال مصر وما إلى ذلك من آثار العمران. وفهرست أسماء الإعلام الواردة في هذا الكتاب رتبها السيد محمد علي الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية وهو الذي تولى عمل معظم فهارس الكتب التي نشرتها تلك الدار العامرة مثل فهرس تاريخ مصر لابن إياس وغيره. والكتاب بأصله وفرعه من الكتب التي لا تستغني عنها مكتبة باحث في أحوال مصر راغب في الوقوف على تاريخ عمرانها

العجيب. سفن الأسطول الإسلامي هو كراسة في 32 صفحة طبعت بمصر ذكر فيها مؤلفها عبد الفتاح أفندي عبادة من فضلاء مصر أنواع السفن الحربية الإسلامية ومعداتها وأوصافها وما دخل في ألفاظها من اللغات الإفرنجية وقوانين حروبها البحرية وحركاتها وتاريخها في الإسلام وما نطقت به السن بعض الشعراء المحدثين من مشارقة ومغاربة في وصف الأساطيل والرسالة تنم عن تحقيق وبحث وقد نشرت في مجلة الهلال أولاً وفيها بعض الصور وحبذا لو توسع المؤلف أكثر من ذلك فإن في الكتب العربية المطبوعة في الغرب ما يصح أن يكون من مادته كتاب متوسط الحجم في هذا الموضوع المفيد. الثورة الايطالية لإبراهيم أفندي حلمي العمر طبعت بمطبعة الآداب في بغداد سنة 1332 ص32 لمؤلف هذه الرسالة وطنية يمازحها الإخلاص وقلم يؤيده العلم والغيرة وقراء العربية يعرفونه بما نشره من الفصول البديعة عن النهضة العراقية وبعض المعالم العراقية مما دل على خبرة وفضل اجدب وقد بين في هذه الرسالة التي أهداها إلى صديقه مزاحم بك آل الباجه جي تاريخ الانقلاب الايطالي الذي أدى إلى وحدة ايطاليا قال وأظن أن القائلين بقطع الرجاء من نهوض العرب ليعترفون بخطئهم لدى أول نظرة يلقونها إلى تاريخ ايطاليا وما كانت عليه من التضعضع والتشتت ثم ما أصبحت فيه اليوم من القوة والعظمة والصولة بفضل جهاد ايطاليا واتفاق كلمة زعمائها وقادة الرأي فيها فليس إذاً بعيداً على امة كالأمة العربية وهي أكثر استعداداً وأعلى كلمة وارفع صوتاً راشد قوة من الأمة الايطالية أن تصبح بفضل ما نراه من بريق الحركة الوطنية القائمة في جميع البلاد العربية امة لها وسائل الدفاع ما يحفظ لها ممتلكاتها وبقي شعوبها وجامعتها من الاضمحلال والزوال. وقال في الانقلابات العنصرية إنها لم تعرف في البلاد الشرقية إلا في أوائل القرن العشرين فقد أوجدت التعاليم الأوربية حركة فكرية في عقول المشارقة المفكرين وأصبحت كل امة من الأمم الشرقية تسعى السعي الحثيث فيما يبث تعاليمها وينشر مبادئها بين طبقاتها وأفرادها والأمة التركية النجيبة في مقدمة الأمم الساعية إلى تأسيس جامعة تركية كبرى

حتى يرتبط أتراك الأناضول والأستانة باتراك القوقاس وبلاد ما وراء النهر وأصقاع شمالي البحر الأسود وفي الأمة التركية اليوم رجال من أولي الفضل والنبل اخذوا على عاتقهم نشر هذه المبادئ السامية وإنماء الشعور القومي بين الأتراك حتى لا يمضي زمن قليل إلا ويصبح للجامعة التركية منزلة لا تقل شأناً وخطورة عن الجامعات الألمانية والايطالية والانكليز قال ومتى تيسر للعرب زعماء وقادة أمثال زعماء الأمة التركية وقادتها تصبح في مقدمة الأمم الناهضة وفي طليعة الشعوب الطامحة في تأسيس جامعة كبرى على نظام ثابت ودعائم راسخة لا يقوى العدو على نقضها وتقويضها وإذا كان للعرب أمل في نجاح مقاصدهم الجنسية فهو قائم على ما يأتيه رجال العرب في بيروت ومصر وأمريكا من الحكمة والرواية والاعتدال في إدارة دفة هذه الحركة المباركة وإذا اتفقت كلمة الزعماء وإبطال الأمة العربية فقد لا نغالي إذا قلنا أننا لا نحتاج إلى كبير عمل أو كثير تفكير فإن الفكر ينتشر بطبيعته ما دام لا يلقى معارضة من بعض أبنائه الخ. رسائل وكتب مختلفة فهرس أمالي القالي - ألف هذا الفهرس اثنان من مستشرقي الانكليز كرنكووبوفن وطبعته مطبعة بريل في ليدن سنة 1913ص 89 وأهالي أبي علي القالي من أهم كتب الأدب طبعت في المطبعة الأميرية في مصر سنة 1324هـ -. رسالة التوحيد والتثليث - لمؤلف لم يذكر اسمه طبعت بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1332ص56.

المستشرقون ومؤتمرهم

المستشرقون ومؤتمرهم الاستشراف أو علم المشرقيات هو كما عرفه لاروس علم من العلوم الحديثة ودائرته الحالية واسعة فإذا نظرنا إلى الألفاظ من حيث مفهومها نرى أن التعبير عن اللغات الشرقية لا يتناول غير اللهجات التي يتكلم بها في شرقي أوربا أي في آسيا وفي جزء من افريقية المتصل باسيا ولكن لفظ الاستشراق بطلق اليوم بتجوز على لغات أمريكا وافريقية الجنوبية والبلاد الشمالية وآدابها وأخلاق سكانها فترى اللغة اليونانية الحديثة واللغة الرومانية والروسية تدرس في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريز كما تدرس لغات الشرق أي العربية والفارسية والتركية والصينية واليابانية والهندستانية والعبرانية والسريانية والحبشية والقبطية والامحرية بل أن اللغة المجرية نفسها بالنظر لعلاقتها باللغة التركية والمغولية تدرس هناك كما تدرس اللغات الشرقية. لم يدخل علم الشرقيات في أسلوب علمي إلا في القرن التاسع عشر. وقد كان اليونان واللاتينيون يدعون اللغات الشرقية التي كانوا يعرفونها (كالفارسية والفينيقية وغيرهما) لغة البربر ولذا يهملون دراستها. وشاعت في القرون الوسطى لغتان فقط من لغات الشرق بين العلماء وهما اللغة العبرية التي كانت تعتبر لغة الإنسانية الأصلية واللغة العربية التي كانت مهمة لكثير البشر الذين يتكلمون بها ولشهرة فلاسفة الإسلام أمثال ابن رشد وابن سينا ولذلك أنشئ في باريز منذ أواسط القرن الثالث عشر للميلاد درس عام لتدريس اللغة العربية. ثم أن المذهب البرتستانتي توخى البحث عن النص الأصلي للتوراة فحمل أشياعه على درس العبرية والكلدانية والسريانية. وأنشأ بعد ذلك البابا غريغوريوس الثالث عشر واوربانوس الثامن دروساً لتعليم اللهجات الشرقية بالعمل ليستفيد منها المبشرون بالنصرانية وفي سنة 1627 أنشئت مدرسة الإيمان. وطفق المبشرون منذ ذاك العهد يأتون بالآثار النفسية لخدمة الدروس الشرقية. ونشر اليسوعيون في القرن الثامن عشر في العالم الغربي مدينة الصين واليابان ولغتيهما. وأنشأ الوزير كولبر في فرنسا مدرسة الشبان لتعليم اللغات قاصداً بها تخرج تراجمة تستخدمهم حكومتهم في الشرق وانشأوا يدرسون اللغة الفارسية والتركية وانتشرت القصص والحكايات الشرقية أمثال قصة ألف ليلة وليلة والرسائل الفارسية وغيرها ثم أن فتح فرنسا وانكلترا للهند قد دعا إلى اكتشاف اللغة

السنسكريتية. وبعد نحو عشرين سنة تأسست طريقة نحو المقابلة فدخل درس اللغات في طور جديد حسن الأساليب وفي الجزء الأخير من القرن الثامن عشر اكتشفت انكتيل دويرون اللغة الزندية والبهلوية وكان من حملة بونابرت على مصر 1798 - 1799 أن بدأ بها دور السياحات العلمية الكبرى التي اشتهر بها القرن التاسع عشر وجيء إلى أوربا من مدينة رشيد في مصر بالحجر المشهور وكان حل خطه مبدأ درس الآثار المصرية وانحلت لغات دثرت منذ ألوف من السنين كاللغة الأشورية. وشرعت الحكومات تتفق على البعثات العلمية وتؤسس دروساً لتعليم تلك الأبحاث واللغات فترى فرنسا تعلم اللغات الشرقية الحية في مدرسة خاصة لذلك كما أن اللغات الشرقية القديمة دروساً في كوليج دي فرانس مدرسة فرنسا وكذلك في مدرسة الدروس العليا وفي الكليات. ومن أعظم العلماء الذين ساعدوا على الاستشراق في القرن التاسع عشر شامبليون في الآثار المصرية واوبرت ولفورمان وراولنسون وهنكس في الآثار الاشورية وبورنوف وجايمس دار مستتر وموللر ولاسن في الآثار الهندية وسانيسلاس جولين في الآثار الصينية. وكانت رغبة الأوربيين أولاً في تعليم اللغات الشرقية عن باعث ديني فقد قضى مجمع فينا سنة 1311م المقتبس م7ص695 وكان برئاسة كلمنتس الخامس أن تؤسس في باريز واكسفورد وبولون وسلمنكة دروس عربية وعبرانية وكلدانية لتخريج وعاظ وأهل جدل أشداء لتنصير المسلمين واليهود وأنشأ الفرنسيسكانيون والدومينيكانيون من الرهبنات الكبرى في أديارهم دروساً في هذه اللغات فأصبحت ايطاليا مهد حركة نجحت في المشرقيات واخذوا بنوع خاص يدرسون العبرية للتعمق في فهم أسرار التوراة وتنصير اليهود واللغة العربية لتنصير المسلمين يأخذون العبرية عن اعلم العلماء الربانيين والعربية عن أناس من المسلمين أو من السوريين الموارنة أمثال بني السمعاني ومن مدارس ايطاليا نشأ العلماء الأول في اللغات القبطية والحبشية والامحرية ولكن دراسة اللغة العربية بقيت الحاكمة المتحكمة في شبه جزيرة ايطاليا فكان ينظر إلى تعلمها انه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية كالبندقية وجنوه ونابل وبيترا وظلت اللغة العربية في بلاط ملوك تلك الأصقاع لغة العلم العالي والشعر والأدب.

كانت رومية أول مدينة في العالم طبع فيها كتاب عربي عقيب اختراع الطباعة وهو قانون ابن سينا وظلت حركة المشرقيات تختلف ضعفاً وقوة في بلاد الطليان بحسب الحكومات وهم الأفراد والمقصد الأصلي ديني والعلميات بالعرض. وكان لأسرة ميديسيس فضل على الآداب العربية كما لها فضل على الشعر والموسيقى والتصوير والهندسة. وفي أواسط القرن الثامن عشر لما أخذت أوربا تتحفز لاستعمار الشرق اخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيات لهذه الغاية فأنشئت جمعية العلوم والفنون في جاوة (1778) والجمعية الآسياوية في البنغال (1784) والجمعية الأسياوية في بومباي (1805) وأنشئت منذ ذاك العهد في أوربا وأمريكا عدة جمعيات للمستشرقين وأقدمها عهداً الجمعية الأسياوية في باريز التي أسست سنة 1822 بمعرفة شيخ المستشرقين من الفرنسيس سلفستردي ساسي وهو أعظم من خدم اللغة العربية من الاوربيين والفرنسيس خاصة وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع (راجع كتابنا غرائب الغرب ص74) فأنشأت هذه الجمعية المجلة الآسياوية وهي خاصة بلغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره تصدر مرة كل شهرين فيتألف منها مجلدان كل سنة وقد صدر منها إلى الآن زهاء 180 مجلداً ومن حواها فكأنما حوى أعظم مكتبة في هذه الأبحاث الجليلة. تخرج في مدرسة اللغات الحية في باريز كثير من مستشرقي الفرنسيس والألمان والطليان والسويسريين وأنشأت معظم عواصم أوربا مدارس على مثالها وان سبقت هولانده فكانت أول من أسس جمعية شرقية في باتافيا كما تقدم سنة 1778 وكانت مطبعة ليدن الشرقية أقدم مطبعة طبعة الأمهات من كتب المشارقة والعرب منهم خاصة وذلك منذ زهاء ثلثمائة سنة. أنشأ المستشرقون عدة جمعيات في أوربا وأسسوا عدة مطابع شرقية وطبعوا بها ألوفاً من كتب الشرق ولا سيما اللغة العربية فان ما طبع من أمهاتها عندهم هو القسم الهم من كتبنا العلمية والتاريخية والأدبية وما زالت الكتب التي طبعتها مطابع باريز وأكسفورد ولندن وليدن وغوتنغن وليبسيك ورومية ومجريط وغيرها من حواضر العلم والمدنية في أوربا باللغات العربية هي المفخر الذي يحق لمدنية القرن التاسع عشر والعشرين في ديار الغرب أن تباهي به الإعصار والأمصار.

وما برحت أسماء دي ساسي ووستنفيلد وفلوغل وريسك وبروكهار وكارليل وكاترمير ودي سلان وغوليوس وشولتنس وارينيوس وهيستما وشيد ودي بومباي ونيبوهر وزوزاريوو كولونبروك وجنستون وستونتن وفين وسيدليو وكوسان وكوسان دي برسفال وجوبرت وروزنمولر وكلايروت وهانجت ويولس وفراهن ومهران وهماكر وفرنيل ودي لاغرانج ودي فرجه ورينوومونك وبرنيه وكمباريل وبرون وموله وكازميرسكي وفريتاغ وكسغارتن وراك وبرنستين وارنلد ووتستشتين وفتزر وفولف وهاربوكو يورغستال وجونيبول وروردا وفايرس وكورتون وتاسولين وجونس وغوتوالد وكولسون وكريستيانوفتش وخانيكوف وكاينكوس وكودرا وموهل وبلن ودي تاسي وسولي وايفلد وديمانج وشرموا وبوتجانوف وبولديراف وسيانكوفسكي وسافليات وغريغورياف وبافسكي ونفروتسكي وبرايزين وسبنرجر وتورنبرغ وخانكوف ودوزي ووريخت - ما برحت أسماء هؤلاء الرجال تذكر بالحمد ويطلب لها أثواب عملها. هؤلاء بعض أئمة المستشرقين في القرن التاسع عشر من الألمانيين والنمساويين والهولنديين والفرنسيين والايطاليون والروسيين والانكليز والاسبانيين والدانيمركيين والاسوجين والبولونيين والبلجيكيين والأميركيين ولو جئنا نعدد مشاهيرهم في هذا الربع الأول من القرن العشرين لطال بنا المطال ومن مشاهير شيوخهم بروكلمان وولهاوزن وغويدي وغولد صهير وهوار وبراون ومرجليوث وفمبري وهوتسما وباسمه وزترستين وسكيابارللي وناللينو وهوداس ودارانبرغ ونيكلسون وموسل وسيبولدوهور وفيتزوبيكر وهرتمن وديفو وموتلنسكي ولتمان ولامنس ومسنيون وهوغروني وديكوي واماري وكاركماريك وفولرس وشادوير وارنولدور وسكادامس وجيزوبار تولد ومور تمان ولشاتليه وبوفا وكاباتون وكور وهاليفي وماسبر وشيفر ومكدوبل ودوفال ودي منار وبارت ووسينار وليفي وكازانوفا وروزن وشوفين وشافان ودوسو ومونتيه وسبيرو وشيل وماهفي ودلبروك وكولنيون ودي غوبرناتيس وبزنبرجر ودافيدس وهوبت وكررهن وكايتاني ولامبروز ونافيل واولدنبرغ هؤلاء بعض من أشهر واثارهم من علماء المشرقيات واتوا على الخاطر ساعة كتابة هذه العجالة وهناك مئات منهم المشهور وآخر الحامل وما منهم ومن سبقوهم من الإعلام إلا الذي نشر الآثار النافعة بالعربية أو منقولة من العربية أو عن إحدى اللغات

الشرقية وفيهم من نشر عشرات من المصنفات كانت بصحبتها وفهارسها مادة الآداب العربية وخدم بها بلاده أولاً وهذه اللغة الشريفة ثانياً ومنهم من ينشر الكتاب لقدماء مؤلفي العرب بنصه ويعلق عليه حواشي باللاتينية لغة العلماء أو يترجمه إلى اللاتينية وينشره بهذه اللغة فقط ومنهم من يعلق عليه أو يترجمه بلغته كالهولندية والألمانية والانكليزية والافرنسية والايطالية والاسبانية والروسية والسويدية ولمستشرقي كل امة كبرى عدة جمعيات مهمة راقية وأقدمها جمعية باريز وتليها جمعيات ألمانيا والاستشراف أرقى ما يكون في بلاد الجرمان الآن والى علماء المشرقيات منهم ومن الهولنديين يعزى الفضل الأكبر في نشر أهم كتب أجدادنا في العلم والتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والدين. والجرمانيون والهولنديون اقدر الأوربيين على النطق بالعربية وبالنظر لاختصاصهم أو أخصائهم جاء منهم أئمة قل نبوغ أمثالهم في الأمم الأخرى ومجلة المستشرقين الألمانية راقية جداً وتتألف منها مكتبة مهمة بحثت كالمجلة الآسياوية الافرنسية في علوم الشرق وآدابه ولغاته ولم تترك شاردة إلا أحصتها ولا مبحثاً إلا محصته وتجيء بعدها مجلة المستشرقين النمساويين ومجلة المستشرقين الانكليز والطليان وغيرهم من أمم الحضارة والولوع بالمشرقيات. وقد اعتاد المشتغلون بالمشرقيات منذ سنة 1873 أن يعقدوا مؤتمراً لهم يحضره جلة منهم ويكون مقره في إحدى العواصم المشهورة وتنتدب الحكومات من يمثلها في تلك المؤتمرات فتتلى فيها الخطب المفيدة والمحاضرات التي تنم عن فضل بحث ودروس في لغات الشرق وعلومه وتاريخه واجتماعه ويتنافس أئمة هذا الشأن في هذا السبيل المحمود وكانت الحكومة العثمانية والحكومة المصرية تنتدب أناساً يمثلونها في المؤتمرات التي عقدت حتى الآن وكان بعضهم من العلماء والأدباء. وقد عقد المؤتمر الأول سنة 1873 في باريز والثاني سنة 1876 في لندن والثالث سنة 1877 في بطرسبرج والرابع سنة 1878 في فلورنسة والخامس سنة 1881 في برلين والسادس سنة 1883 في ليدن والسابع سنة 1886 في فينا والثامن سنة 1889 في استوكهولم والتاسع سنة 1892 في لندرا والعاشر سنة 1894 في جنيف والحادي عشر سنة 1897 في باريز والثاني عشر سنة 1899 في رومية والثالث عشر سنة 1902 في

هامبورغ والرابع عشر سنة 1912 في اثينة ويعقد السابع عشر سنة 1915 في أكسفورد وسيكون هذا المؤتمر برئاسة رئيس كلية أكسفورد وعهد برئاسة اللجنة المنظمة إلى الأستاذ مكدونل واللجنة العامة مؤلفة من أساتذة اللغات الشرقية أو من مدارس الدروس الشرقية في كليات ابردين وبريستول وكمبردج ودوبلن واديمبراج وغلاسكو وليفربول ولندرا ومنشستر ووسانت اندري وبلاد الغال في بريطانيا العظمى ومن لجان الجمعيات العلمية الانكليزية مثل الجمعية الأفريقية والجمعية التوراتية الأثرية والجمعية البوذية وجمعية آسيا الوسطى والجمعية الصينية وجمعية آثار مصر والجمعية اليابانية وجمعية الأبحاث الفلسطينية والجمعية الفارسية والجمعية الآسياوية الملكية وغيرها وستبدأ مداولات المؤتمر يوم 13 أيلول 1915 وتنتهي في 18 منه وسيكون أبحاثه في علم التعريف الإنسان والآثار وفي علم الآثار الأشورية وفي آثار آسيا الوسطى والشرق الأقصى ومصر وافريقية والهند واللغات والآداب الإسلامية وفي اللغات السامية وفي آسيا الغريبة وإيران وتكون اللغة التي يجوز هذه وجب عليه أن يطلب الترخيص له بذلك من رئيس اللجنة التي هو احد أعضائها أو يريد التكلم فيها وقيمة الاشتراك بالمؤتمر ليرة انكليزية تدفع سلفاً ويفاوض بكل ما يتعلق بشؤون المؤتمر القادم: ومن يشترك بالمؤتمر يأخذ كتاباً بأعمال رجاله ويحق للأعضاء أن يركبوا البواخر والسكك الحديدية وينزلوا في فنادق معينة بأجور متهاودة حقق الله نيات رجال العلم ونفع بهم على اختلاف الغايات واللغات.

عبرة الحرين

عبرة الحرين 1 انتدب القائمون على وقف المحسن كارنجي الأميركي جماعة من أهل النظر والإنصاف والعلم من الانكليز والألمان والفرنسيس إلى وضع تقرير في الفظائع التي ارتكبت في حرب البلقان الأخيرة بل في الحربين الأخيرتين فقامت اللجنة المؤلفة لهذا الغرض بما كان الواجب على الدول الممدنة أن تقوم به فكانت خدمتها عظيمة جداً لأبناء الأجيال المقبلة قاموا بذلك وهم على مثل اليقين بأن خدمة الحق المجرد توشك أن تسخط العالم كله. وقد عهد بتأليف هذه اللجنة إلى المسيو دستور تل دي كونستان من كبار المفكرين في مجلس الشيوخ الفرنسوي فتوخى أن يكون من تقرير هذه اللجنة فائدة اقتصادية كبرى لتلك الحكومات التي تقاتلت وتطاحنت فتكون واسطة للسلام بين الأنام وتسعى الحكومات إلى إصلاح خطئها الظاهر ويحقق المتحاربون آمال الرأي العام الأوربي الذي لا يريد أن يبقي جزء من أوربا معطلاً في حين يستطيع أن يشارك حق المشاركة في الارتقاء العام الذي آخذ مجراه من أوربا في كل مكان وقد طافت هذه اللجنة بلاد البلقان من بلغراد إلى سلانيك فأثينة فالاستانة فصوفيا ومن صربيا إلى يونان إلى مقدونية إلى العثمانية إلى تركيا إلى بلغاريا. ظهر من مجموع تحقيقات اللجنة أن جميع الحكومات مسؤولة عما أتت من الفظائع أن الجيش الروماني الذي لم يحارب في الحقيقة حرباً تشبه حرب المتخالفين من البلقانيين قد ثبت عليه إتيان المنكرات وجميع المتحاربين خالفوا المبادئ الجوهرية من الحقوق العمومية المتعلقة بالحرب. وقد نشرت لارفو الافرنسية فصلاً لدستور نل دي كونستان قال فيه: ما قط جاءت العبرة أصرح ولا أفظع مما جاءت هذه المرة فإن الشعوب التي طالما اضطهدت في شبه جزيرة البلقان قد أتت باتحادها بأعمال لم تستطيع أوربا القادرة المنشقة على نفسها أن تتصورها فاستولت في بضعة شهور على كريت وسلانيك واسكوب واشقودرة وادرنة وأوشكت أن تدخل الأستانة وكان ذلك خاتمة المطاف وآخر حل للخلاف. فلما انحلت رابطتهم قضي عليهم أن يبقوا وضعف قواهم. فإن الحرب الثانية ليست في الواقع حلاً للأشكال بل هي مقدمة لعدة حروب بل حرب كل ساعة وأفظع الحروب بل

حرب الدين وحرب الانتقام وحرب العناصر وحرب شعب لأخر وإنسان لإنسان وأخ لأخيه وبه يسلب الجار ملك جاره ويأتي على قوميته فينتزعها وبقي العثمانيون في أوربا على كل حال. ولم تنجح نتيجة من ضحايا أدرنة وكان من أمر مقدونية أن نجحت من كونها مقبرة لتصبح جهنماً ومزقت تراقياً أجزاء وجعلت ألبانيا إمارة فكانت وما زالت أتعسهن حظاً وأكثرهن هدفاً للمطامع البربرية تكمن لالتقامها كل من النمسا وصربيا والجبل الأسود واليونان وايطاليا. والكنائس والبيع تتخاصم بحيث أصبحت اقل حرية مما كانت على العهد العثماني وستكون الأستانة أكثر مما كانت تفاحة الخلاف الأبدي تحت ملاحظة الروس تراقبهم ألمانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وصربيا ترقب أحوال مضيق الأستانة والجزر تتخاصم عليها العثمانية بل أسيا مع ايطاليا واليونان وانكلترا بل جميع دول أوربا العظمى وقد فتح البحر المتوسط لخصومات جديدة فأصبح ساحة وغى لم يكنها من قبل فالمستقبل مظلم ولكنه يتجلى بالنور إذا أحبت ذلك أوربا بل الدول العظمى العسكرية فبيدها كما هو أوربا وأمريكا نزاع بين ظالم ومظلوم بل هو نزاع بين سياستين سياسة التسلح وسياسة الارتقاء فتقوي سياسة الارتقاء تارة وتتغلب عليها من الغد سياسة التحريض والبغضاء التي تؤدي إلى حمل السلاح فالحرب. عناية الشعوب في العالم القديم والجديد بالمنافسة الاقتصادية التي تؤدي إلى غلاء أسعار التسلح قد جعل الأمم تحنق على هذه الطريقة والإفراط في التسلح هو من لوازم ارتقاء الصناعات ولا يربح من هذا السلام المسلح في الحقيقة إلا البلاد الصغرى أو البلاد الجديدة التي ليس عليها ديون وليس لها ميزانيات ضخمة وقد اتضح للدول أن أغناهن أكثرهن تأثراً بالحرب فاخذ كل من انكلترا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها يطلبن السلام وكان العامل الأكبر في حملهن على الرغبة فيه أمور كثيرة واخصها ضرورة المنافسة العامة وسرعة المواصلات وعصيان أرباب التكاليف والخوف من الفوضوية ومما تخبؤه الأيام في بطونها. أن عدداً عظيماً من الناس ورؤوس أموال طائلة تعمل لصنع السلاح وكل يوم تزايد أدواتها وتتجمع القوى والأموال لتصرف في سبيلها فالأسواق تروج بطلب السلاح والجرائد توقد جذوة الحروب والنقابات المتعهدة بتقديم السلاح تعمل على توسيع كل خرق لتستفيد من

ذلك فوائد مادية مهمة. والسياسة الخارجية في التسلح عند امة عظمى أن تستأثر هي قبل كل شيء بطلبية أسلحة والمحور الذي تدور عليه السياسة أن تقوم امة بتقديم بنادق ومدافع ومدرعات وان تصرف أموال القروض في بلاد معينة وقد أصبح الجهاد حروب نفوذ ودسائس والسفراء الذين لم ينظروا إلى ذلك نظر يقظة وانتباه يسقطون من مناصبهم فألمانيا سلمت العثمانية بل سلحت المستعمرات والممالك الصغرى الفقيرة وسعى رجال السياسة إلى حمل أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا على التسلح واضطروا كندا - ومستقبلها مناط بإعفائها بحارة كان في وسعها أن تستغني عن إعالتهم قرناً آخر. وكذلك فعلت استراليا وقد حاولت برازيل والأرجنتين والشيلي وسائر جمهوريات أميركا اللاتينية أن تعيش بسلام ولكن شياطين الأنس من التجار ووكلاء معامل الأسلحة أقنعوهن باستصناع مدرعات ضخمة وحملوا برازيل والأرجنتين على الاستغناء على المدرعات القديمة لبيعها من العثمانية واليونانية وستصبح الأستانة دار صناعة كبرى بل مرفأ حربياً جديراً بتاريخها وتضطر أساطيل اليونان ايطاليا إلى أن تزيد أسطولها وتجري على مثال ذلك الممالك الكبرى في أوربا وأمريكا وهكذا تبلغ السفراء تبليغاتهم السرية إلى حكوماتهم مبالغهن بقوى غير دولهم ودولتهم تبلغها للصحف التي توقد جذوة الفتن كلما خمدت بحيث صحت نبوءة الأميركان في قولهم: أن الحرب المستقبلة ستعلنها الصحافة. وعندئذ يكون اليونان والعثمانيون والصرب والبلغاريون والجبليون والالبانيون مدججين بالأسلحة ولهم من المدافع والدردنوتات التي لا نعرف كيف نستخدمها فيعودون يقتتلون من جديد ويقودون وراءهم حكومات أوربا الذين يكونون مثلهم فدية الصحافة والوطنية في الحقيقة وطنية مال وكسب أو سياسة التسليح. قلت في خطاب لي في مجلس الشيوخ أن فرنسا أنفقت منذ ثلاث وأربعين سنة زهاء مئة مليار فرنك أي زهاء ملياري فرنك كل سنة على تسليحها ولم تنتج لها فائدة من هذه النفقة الكبرى. هذا معدل السلام المسلح في مملكة واحدة فضع ولا تخف عدة مئات من المليارات صرفت في خلال نصف قرن في مجموع البلاد. تمثل لذهنك عظمة هذه القناطير المقنطرة من الذهب الذي صرفته أوربا فيما لو صرفت نصفه على المدنية أما كانت أوربا بل افريقية واسيا تهذب كلها وتحيا بمواصلاتها ومعارفها وأمنها ولعمري كيف كانت هذه

الشعوب البلقانية التعسة لو صحت عزائم ممالك أوربا الكبرى الحامية لها على التخلي عن المنافسة بينهن في تسليحهم وحصروا منافستهن في إنشاء طرق لتلك الشعوب وأعمال صناعية وفنية وسكك حديدية ونهرية ومدارس ومتاحف ومعامل كيماوية ومستشفيات. ليست الشعوب البلقانية هي المجرمة الحقيقية في سلسلة هذه المصائب والقتل والغرق والحريق والذبح والفظائع بل ولا الحكومات الأوربية بل المجرمون الحقيقيون هم الذين يخدعون الرأي العام ويستفيدون من جهله لينادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور ويحمسوا ويهيجوا ويحملوا بلادهم على بغض البلاد الأخرى بل كل البلاد على التباغض بعضاً لبعض. المجرمون الحقيقيون هم الذين يعلنون كل يوم مدفوعين بعامل المصلحة أو المزاج الحرب التي لامتصاص منها وتنتهي بهم الحال إلى إعلانهم بحجة إنهم يئسوا من التحذير منها. المجرمون الحقيقيون هم الذين يفادون بالمصلحة العامة لأجل منافعهم الشخصية الذين يتبعون لبلادهم سياسة خرقاء سداها المشاكل ولحمتها الانتقام في حين لا ينفع الصغار كما لا ينفع الكبار إلا السلام والوئام وفيهما النجاة والحياة ليس إلا. هذا ما قراناه في الصحيفة الباريزية وقد رأينا أن نشفعه بما كتبه مجلة لاروس مانسويل في أسباب الحرب البلقانية ونتائجها من سنة 1912 - 1914 قالت: أن الحربين الشرقيين من سنة 1912 - 1913 والأولى بين الدولة العثمانية وممالك البلقان المسيحية المتحالفة والثانية بين هذه الممالك هي افجع الحوادث التي يسطرها تاريخ المسألة الشرقية بعد معاهدة برلين (1787) فوفق شعوب البلقان بعد جهاد أربعة قرون كانوا مظلومين في خلالها إلى أن خطوا هذه الخطوة الواسعة فلم يبقوا للعثمانية إلا الطرف الشرقي من شبه جزيرة البلقان والى توسيع مصورات هذه الممالك المسيحية لتنمية عناصرها وانتشارها. بيد أن غلبة الممالك المسيحية التي تمت بدون معاونة الممالك العظمى وأحياناً على الرغم منها يعدل في مسلك هذه الممالك الكبرى في الشرق فيقضي على أطماعها أراض جديدة منه بدل يؤثر تأثيراً كبيراً في أطماعها الاقتصادية أيضاً وثبت أن الدول الست لم تعد تفلح في حمل شبه جزيرة البلقان على العمل بما تراه الشعوب البلقانية أدركت سر قوتها وغناها فعدل الشعوب البلقانية بأنفسهم سياسة البلقان وتزعزع المبدأ الذي سارت أوربا عليه في دعوى سلامة المملكة العثمانية فصارت أوربا تود أن تكون الأستانة حرة وقسمت الأصقاع

الجديدة في الأرض العثمانية إلى مناطق اقتصادية. أن السبب في الحرب العثمانية التي نشبت في تشرين الأول 1913 شكوى المسيحيين من الإدارة في ابيروس وألبانيا ولا سيما مقدونية فكانوا ذريعة لتدخل الممالك الصغرى التي تطمح منذ زمن إلى ضم الشعوب التي هي من عنصرها إلى بلادهم ولم تستطع أوربا المختلفة المقاصد أن تحول دون هذا التدخل. ولقد حاولت أوربا أن تقطع شأفة الاضطرابات المقدونية فأخذت حكومتا فينا وبطرسبرج من سنة 1905 إلى 1907 تساعدهما لجنة دولية لتنظيم الإدارة المالية والقضائية في مقدونية ثم أنفقت روسيا وانكلترا غداة مقابلة رفال على توسيع المراقبة الأوربية في هذه البلاد ولكن انتشار القانون الأساسي قد وكل الأمر إلى الباب العالي وكان الانقلاب 24 تموز 1908 من عمل الوطنيين المسلمين ممن كانوا يكرهون المداخلة الأوربية مثل سائر الوزراء السابقين على عهد السلطان عبد الحميد وقد طرح برنامج الإصلاحات المقدونية جانباً فكان (كذا) حظ المسيحيين المستبعدين في شبه جزيرة البلقان في سنة 1910 أتعس مما كان عليه أيام المذابح الأرمنية. وبدت إمارات الضعف في حكومة الأستانة مرات فراحت أوربا تحاول حل المسألة الشرقية وكان من ذلك ضم النمسا لولايتي البوسنة والهرسك (تشرين الأول 1908) وأعلنت بلغاريا استقلالها ونشبت فتنة في الوقت نفسه في اليمن (1910) وظل الاضطراب سائداً في أرمينية وكان من الحرب الايطالية العثمانية (1911 - 1912) خصوصاً دليل على ضعف العسكرية العثمانية على حين اشتداد الأزمة على مسيحي مقدونية فخاف ملوك البلقان من حنق الرأي العام عليهم في بلادهم ونظروا إلى اختلاف أوربا فرأوا في ربيع سنة 1912 أن ساعة التحالف قد حانت. فاتخذت الممالك البلقانية اتحاداً سياسياً عسكرياً عقيب مفاوضات طويلة فعقدت محالفة أولى بين صربيا وبلغاريا سنة 1909 ولم يخف على روسيا ما جرى بينهما فتلقته بالقبول لأنها رأت فيه جواباً مناسباً لتضم النمسا للبوسنة والهرسك. وتمت هذه المحالفة سنة 1912 على أن تكون التخوم بين البلادين صربيا وبلغاريا آخذة من وارنة مجتازة بحيرة أواخر يدا إلى أن تبلغ البحر الادرياتيكي وفي تموز 1912 عقدت محالفة أخرى بين بلغاريا واليونان على أن تترك هذه سلانيك خارج المنطقة التي تريدها ثم عقدت محالفة بين بلغاريا والجبل

الأسود يسقط بموجبها الاتفاق الذي كان هذا الجبل عقده والنمسا سنة 1910 ويضمن هذا الاتفاق الجديد للملك نقولا جزءاً من لواء بازار (توفي بازار) ومدة هذه المحالفات إلى خمس وعشرين سنة وقد ترك البحث في مسألة الأستانة احتياطاً وتفادياً من مس أوربا. وفتحت المشاكل بين العثمانية وممالك البلقان أولاً بأن طلبت حكومة جتنة الجبلية إلى الباب العالي أن تعين حدود المملكتين إذ كان الجبليون من أهل الجبل الأسود في عراك دائم مع القبائل الارناؤدية فتضاممت الأستانة عن هذا الطلب وداهم في أوائل أب رجال الدرك العثمانيين ارض الجبل الأسود على طول تارا وأحدثوا مذابح في مواكوفاز وفليكا وبرانه وغيرها. وحدث مثل ذلك في بوتشانا من مقدونية بين العثمانيين والبلغاريين فزاد في سخط الرأي العام البلغاري فرأت حكومة صوفيا أن تبادر إلى إرسال مذكرة إلى الدول مخافة أن تستحق غضب الحزب الوطني وذلك في منتصف اب قائلة فيها انه بالنظر لحرج الحالة في البلقان فإن أحسن واسطة لمقاومة النزعة الحربية في الشعوب المسيحية في مقدونية وتراقياً أن تمنح الحكومة العثمانية الإصلاحات المطلوبة لذينك القطرين فأجابت الدول داعية حكومة صوفيا إلى التزام السكون وحكومة الأستانة إلى منح الإصلاحات المنشودة. واكتفى الباب العالي بأن يعد المسيحيين بقانون الولايات القديم الذي نشر سنة 1882 ودلت التجارب انه لم يطبق فأخذت الحوادث تتكرر وكانت أنشأت صربيا وبلغاريا منذ أسابيع تعد جيشهما للقتال بحجة القيام بتمرينات عسكرية كبرى فقلقت العثمانية وجمعت 250 ألفاً في ولاياتها الأوربية ولا سيما في أرجاء أدرنة وعلى الحدود الشمالية من تراقيا. وفي اليوم الثامن والعشرين من أيلول دعت بلغاريا الدول لتوقيف التجنيد عند العثمانيين. وفي 30 أيلول زاد تجنيد العثمانيين فقررت بلغاريا وصربيا أن تدعو جميع جيشهما إلى حمل السلاح وفي 3 تشرين الأول دفع وزراء الممالك المتحالفة إلى حكومة الأستانة بلاغاً مشتركاً تطلب فيه منح الاستقلال الإداري لجزيرة كريت ولصربيا القديمة ولمقدونية ولألبانيا وأمهلت الدولة ثلاثة أيام لإعطاء الجواب إذا لم يرسل الجواب بعدها بعمد الحلفاء إلى استعمال السلاح وحاولت الدول العظمى أن تدهل في إصلاح ذات البين بين العثمانية والحلفاء فلم تفلح وكان الباب العالي يستند على ألمانيا ويفاوض من جهة أخرى لندرا وفينا وباريز فيضيع الوقت في المفاوضة وفي 9 تشرين

الأول بدأ الجبل الأسود بإعلان الحرب على العثمانية وفي 13 تشرين الأول عاد الحلفاء للبلقانيون فبعثوا بمذكرة إلى الباب العالي يمهلونه ثلاثة أيام ويجعلون مطالبهم في احد عشر بنداً: تقسيم الولايات إلى إيالات تراعى فيها أجناس النازلين فيها وان يكون النواب في مجلس الأمة العثمانية نصفين الأول من المسلمين والآخر من المسيحيين على حد سواء وان يعين لها ولاة مسيحيون بلجيكيون أو سويسريون وان يقبل المسيحيون في جميع الوظائف الإدارية في المملكة العثمانية وتعين لجان للمراقبة يعهد إليها الإشراف على تنفيذ الإصلاحات التي يجب أن تتم في ستة أشهر الخ وفي 17 تشرين الأول بعد أن بعث الباب العالي بمذكرة فيها شيء من الإبهام في توجيه التبعة على من يستحقها أعلنت الحرب بلغاريا وصربيا وفي ذات اليوم قرر مجلس النظار اليوناني أن يعلن الحرب على العثمانية فاجتازت الجنود اليونانية التخوم العثمانية صباح 18 منه وبذلك نشبت الحرب على جميع تخوم المملكة العثمانية. يكفي إلقاء نظرة قليلة على المصور الطبيعي لبلاد البلقان لتتمثل للقارئ صعوبة الحركات العسكرية على قواد العثمانيين لدى مداهمة كل من بلغاريا وصربيا واليونان للبلاد العثمانية. فإن النجاد من جبل رودوب أو دسبوت طاغ التي تصل إسنادها الأخيرة إلى القرب من البحر بين سرس واورفاني مطوقة واديء ستروما وتفصل ترانية هي مضطرب الجيوش البلغارية العام عن وادي واردار الغني الفسيح وهو الطريق المستقيم لصربيا نحو سلانيك الذي كان الغاية التي تطمح إليها كل من الصرب واليونان. ومثل ذلك يقال في وادي فيستريزا الأوسط ولا سيما الأراضي الواقعة على البحر اليوناني ووادي فويتوزا وابيروس الجنوبية. فالطرق والأودية والسكك الحديدية كلها في التقسيم ألبانيا الشمالية حيث اشقودرة على أربعين كيلو متراً من حدود الجبل الأسود أن البلاد كانت أربع ساحات كبرى للحرب ممكنة ولكن بدون اتصال سهل بينها وبذلك لم يكن العثمانيون على ثقة من مواقع الهجوم عليهم فاضطروا إلى توسيع خطوط الدفاع فإن العثمانية وان استطاعت في الحال أن تجمع 450 ألفاً من المشاة و21 ألفاً من الفرسان و1048 مدفعاً لكنها لم تعمد إلى التزام خطة الدفاع وما كان الأمر بالتجنيد يتناول غير فيالق تراقية ومقدونية وجزءاً من الأناضول واقتضى في الأولى أن يلاحظ إدخال المسيحيين في

صفوف المقاتلين في حرب عنصرية دينية وفي الثانية أي في عسكر الأناضول شعر بقلة المواصلات السريعة بين الأستانة واسيا الصغرى وليس في الأناضول سوى خطوط حديدية ضيقة أو ذات خط واحد والجند الاحتياطي الذي أرسل من مرافئ البحر الأسود اقتضى نقله على بواخر إلى الأستانة والى رودوستو (تكفور طاغي) أو سيلوري لتتجه بعد ذلك صوب البلاد التي تحارب فيها ثم أن الحرب الايطالية العثمانية وفتنة اليمن واضطرابات ألبانيا قد اقتضت نقل الجنود من تلك الأصقاع للحرب ومن هنا نشأ تأخير جديد في التجنيد أو تعديل في الحركات العسكرية في بعض الأحوال. ولم يستطيع العثمانيون أن يجمعوا في اليوم الخامس عشر في تراقية سوى 11 فرقة نظامية و8 فرق رديف ثم بعد حين التحق بها 12 فرقة من رديف آسيا الصغرى والظاهر أن الخطة الأولى التي اعتمدها أركان الحرب العثمانية كانت الوقوف في وجه الجيوش البلغارية في تراقية حيث كان معظم قوتها وذلك بحشد الجند الكثير لسد جميع منافذ الدفاع من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي والى الجنوب من وادي واردار فإن الصعوبة الطبيعية في رسم الأرض هناك كانت موافقة للدفاع على ما يظهر. فإن القوى العثمانية بعد أن الفت حامية قوية لموقع أدرنة وحامية تمسك بافواه مضايق الجبل كانت عبارة عن أربعة فيالق في تراقية كل فيلق مؤلف من ثلاث فرق مقسمة بين معسكر أدرنة المنعزل القوي وقلعة قرى كليسا ويرأسه عبد الله باشا (230ألفاً) وكانت قوة العثمانيون في مقدونية مؤلفة من جند تلك الأصقاع أي من الفيالق الخامس والسادس والسابع ومن الفرقة الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين المستقلة (210 آلاف) أمدتها بالتدريج ثلاث عشرة فرقة من الرديف وتجمع الفيلق الخامس في سلانيك والسادس في مناستر والسابع في شمالي وشرقي اسكوب عند نقطة اتصال الخطوط الحديدية نحو نيش وسلانيك وسلمت قيادة حدود الجبل الأسود للفرقة الرابعة والعشرين والفرقتان الثانية والعشرون والثالثة والعشرون أخذتا بأفواه مضايق تساليا والبند وأرجاء قوازانا وأواسط فيستريزا وبانيا. وكانت قلة عددهم بالنسبة لجيوش اليونان مادية. وفاق الحلفاء البلقانيون الجيش العثماني بسرعة التجنيد وهجومهم فتم تجنيد المشاة والاحتياط في بلغاريا في اليوم الخامس وقلة الخيل آخر تجنيد الفرسان والمدفعين إلى اليوم

الحادي عشر. فاجتماع تسع فرق من المشاة البلغار وتسعة الوية وفرقة من الفرسان قد تم من اليوم السابع إلى الرابع عشر وانتهى بتجنيد المهاجمين وكان محورهم الرئيسي متجهاً صوب وادي مارتيزا (وهو ثماني فرق عاملة و5 ألوية من الاحتياطي تحت القيادة العامة للجنرال سافوف يعاونه الجنرال فيتشف رئيس الأركان الحرب البلغاري) وهناك جيش ثانوي بقيادة الجنرال كونتشف رابط في كوستندل ماداً يده للجناح الأيسر من الجيش الصربي. وبعد ذلك يجيء جيش ثالث بقيادة القائد رادكوديمتريف منبعثاً على طول نهر طونجة من يلمبوني إلى قزل اغاطاش. أما الجيش الصربي (نحو 70 ألفاً) فكان بقيادة القائد يوتنيك مجنداً في مثل هذه المدة التي تجند فيها الجيش البلغاري ولكنه اجتمع في اليوم العشرين مبثوثاً من كوستنديل (الفيلق الثاني) إلى رشكا ماراً بأعالي نهر مورافا (الفيلق الأول في جنوبي نيش) وكورشوميلي (الفيلق الثالث) أما الجيش اليوناني نحو 125 ألفاً فلم يبق في شمالي ارتاسوي كتيبة حامية (فرقة واحدة) والفرق الست الأخرى اجتمعت كتلة واحدة في تساليا شمالي لاريسا أمام مضيق الاصونة وكان لي العهد قسطنطين يقودها بنفسه. والأسطول اليوناني الصغير بأمره الريان كوندريوتيس يحارب على الشاطئ على مقربة من سلانيك ويستولي على بعض الجزر في بحر ايجة ولا سيما لمني وبزجه مر معنا أن الجبل الأسود أعلن الحرب يوم 8 تشرين الأول أي قبل عشرة أيام من انقطاع المفاوضات رسمياً بين الدولة العثمانية والحلفاء البلقانيين. وقد بدأت الوقائع في الحال واجتهد الجبليون بعد أن كشفوا اشقودرة كان جيشهم في الجنوب بقيادة القائد مارتينوفتش قد اخذ على نفسه القيام بذلك سائراً نحو حصن ترابوش أن يبادر إلى مد يديه للصربيين بالقرب من لواء يكي بازار. فقاوم العثمانيون على طول التخوم الجبلية إزاء بودغورتسا 9 تشرين ومن الغد استولوا على حصون روغام ودتشيش وفي الأيام التالية داهم الجبليون بشدة معاقل شبشانيك 11 - 13 تشرين فاستولوا عليها ثم حصون وارنة وهليم واتوا بعسكر إلى الجنوب من طريق وادي درين نحو وسووسان جان دي مودا ومنذ اليوم السادس عشر من تشرين الأول نجح القائد فوكوفيش في حركاته نحو بلاد وغوسينه وفي اليوم الحادي والعشرين بلغ وادي ليم وفي اليوم السادس والعشرين التحق بالجيوش الصربية نحو سيانتزا واحتلت أبيك يوم 13 ولم يلبث الهواء من هذه الجهة أن تبدو

صعوباته فانقطعت الحركات الحربية وحصر الجبليون وكدهم في مداهمة أعالي ترابوش التي كان يتقدم فيها القائد مارتينوفيش وفي ذاك التاريخ أخذت الوقائع في تلك الحملة تجري في ساحات أخرى. ولقد دخلت القوى المهاجمة اليونانية والصربية والبلغارية في آن واحد تقريباً أي في 18 تشرين الأول والنقد من حيث الوجهة العسكرية قليل على الجيشين اليوناني والصربي والعثمانيون لم يضعوا أمامهم سوى كتائب متوسطة بقوتها فقد اجتمع معظم الجيش اليوناني في سهل لاريسا من أعمال تساليا وسار على العثمانيين فرقتين واتجهت الفرقة التي تحت قيادة ولي العهد 18 تشرين الأول مارة بفجاج ملونا على الاصونة فاستولت عليها ووصلت طلائعها يوم 21 منه إلى سرفيا واقتتلت مع فرقة عثمانية فاضطروها إلى التسليم بفضل كثرة عددهم وكثرة مدفعياتهم 22 - 23 تشرين الأول وكانت فرقة الشمال خلال هذه المدة تتقدم على خط مواز على كرفنا جاعلة مناستر غاية قصدها فدخل ولي العهد إلى قوزانه يوم 26 تشرين الأول وضايق فجاج ترميوتاموس في جنوب فريا وافتتح المدينة بعد حرب عوان. ومن هناك اتجه نحو سلانيك في ثلاث فرق من رجاله في حين الفرقتان الثانيتان سائرتين على مناستر من طريق بانيجه وفلورينه. وقد التقت طليعته يوم 5 و6 تشرين الثاني مع العثمانيين على شواطئ الواردار في يكيجه ريثما تنضم إليها المدفعية وتعزز بمعظم الجيش في 7 منه قذفوا بالعثمانيين إلى الشاطئ الشمالي من النهر بعد قتال شديد في الجملة فاجتازه ولي العهد على آثره ليدخل يوم 9 منه إلى سلانيك فسلمت الحامية العثمانية مع القلعة وصحون المرفأ وكانت مؤلفة من 25 ألفاً. وقد فشلت الفرقة اليسرى اليونانية في الغرب فاكتشفت من جناحها لكثرة سير ولي العهد فألقى بها الجيش العثماني من بانيجه إلى قيالر فحملتها خسائر جسيمة مادية ولكن العثمانيين عاد فرسان الصرب فهددوهم من الشمال فلم يستطيعوا مطاردة الجيش اليوناني. وفي 21 منه احتل اليونان فلورينة الجديدة واستولت الفرقة اليونانية التي غادرت ارتا في ابيروس على بروزة ثم اجتاز على شدة الفصل وضعف البلاد عل إعالة الجيش مضايق كوستزادس ومضايق بنتوبيكاديا واحتلت هذه المدينة الأخيرة يوم 15 منه في حين أن كتيبة سيارة تقصد فالونة من طريق وادي سوشيتزا. وكان الأسطول اليوناني قد قام بوظيفته خير قيام بأن اغرق في ميناء سلانيك

البارجة العثمانية فتح بلند القديمة القائمة على حراسة الساحل وبإخراجه جنداً إلى جزائر ساموتراس وليمني وبوزجة ونيكاريا ومدللي وصاقز الخ. قام الصرب في مقدونية بأصعب مما قام به اليونان فكانت القوى العثمانية مجتمعة حول اسكوب فاجتاز الجيش الأول الصربي (75 ألفاً) غداة إعلان الحرب بقيادة ولي العهد التخوم بين ريستوفاتزوز يبقجة ومقدمة الصفوف العثمانية نحو الغرب على طول السكة الحديدية. وفي اليوم نفسه اجتاز الفيلق الثالث (بقيادة زيفكوفيش) مضايق بروبولاز بالقوة أما الفيلق الثاني فقد عضده البلغار فاستولى يوم 2 تشرين الأول والبلغاريون من ورائهم على كراتوفا وكوتشانا. وكانت قومانوه الغاية العامة وهناك نشبت المعركة الفاصلة يوم 23و 24 تشرن الأول فهو هاجم الجيش العثماني المؤلف من ستين ألفاً بقيادة زكي باشا من ثلاث جهات فاضطر إلى أن يتراجع نحو اسكوب ودخل جيش القائد ستيانوفيش من الغد إلى اشتب واحتل ولي العهد اسكوب يوم 26 منه فانهزم الجيش العثماني إلى مناستر. وكانت كتائب صربية ذهبت مدداً للجيش الجبلي بقيادة فوكوفيتش وأخرى نزلت وادي واردار مهددة سلانيك وثالثة (مؤلفة من فرقتين) رجعت إلى كوستنديل لتذهب منها في السكة الحديدية لنجدة الجيش البلغاري بقيادة القائد ايفانونف الذي عهد إليه حصار سلانيك. أما معظم الجيش الصربي فقد ظل متابعاً سيره ظافراً نحو مناستر وبعد قتال شديد دام يومين اضطرت المدينة إلى التسليم (18 تشرين الثاني). وفي 28 منه اجتازت فرقة ألبانيا الشمالية ودخلت دراج على البحر الادرياتيكي. وفي تراقية بين العثمانيين والبلغاريين وقعت الوقعة الكبرى فقد تقدم آنفاً كيف قسمت قوى المتحاربين إجمالاً ففي اليوم الثامن عشر من تشرين الأول سار الجيش الأول إلى فرقتين فسارت الفرقة الأولى على طول نهر طونجة يدوس الفرسان العثمانيين من جهة أدرنة وأخذت الثانية نحو الغرب فاستولت على خاصكوي ومصطفى باشا وفي 20 منه ضربت في جمعة بالأفرقة عثمانية وجاء في 22 منه الجيش البلغاري الثالث لتقوية الجناح الأيسر من الجيش الأول سائراً في مسالك صعبة مبرزاً من الشجاعة شيئاً كثيراً آخذة في سيرة على مضايق الجبال ملقياً بالحامية العثمانية إلى فرق كليسا حيث كان الجيش بقيادة محمود مختار باشا وعزيز باشا فاستولى الذعر على العثمانيين كأنهم في قتال حمي وطيسه فجلوا عن المدينة يوم 24 منه صباحاً

وخاف الجيش كله أن يقطع عليه خط الرجعة مع الأستانة فتأخر إلى بابا اسكي ولوله برغوس والى الشاطئ الأيسر من ارجين وقد طورد مطاردة شديدة. ونشبت يوم 27 تشرين الأول على نجاد يكاد حصار ولوله برغوس أول حرب دموية فنجح القائد كريستوف البلغاري في هذه الوقعن بفضل انتظام مدفعيته وذلك في يكار حصار كانت تتجه معظم القوى العثمانية في حين أن الفرق الأخرى من الجيش الأول والثاني قد انضمت إليه لتقوية جناحه الأيمن وإطالة حبل امتداده. وفي 30 تشرين الأول عقيب وقعة جرت من الليل فتح طريق النجاد للبلغار وذلك في وسط المعسكر العثماني وفي 30 منه مساءً اضطر العثمانيون إلى الجلاء عن تلك الأرض بتاتاً منهزمين إلى جورلي ثم إلى خطوط الدفاع في جتلجة الواقعة بين البحر الأسود وبحر مرمرة فحللوا دون كل هجوم عليهم إذ قد عززوا خطوط الدفاع على جهة طولها أربعون كيلو متراً معمولة من حصون وفيها مدفعية قوية (مائتا مدفع من العيار الكبير) وعلى هذه الجهة حاول البلغار التقدم فلم يفلحوا فإن عدة وقائع صعبة حدثت في لازاركوي (771 تشرين الثاني) والمحمودية وغيرهما لم تسمع لمشاة البلغار التي كانت تمزق شملها بالنيران والأمراض أن تقاوم العثمانيين والبحر من ورائهم تحميهم المدرعات العثمانية. وفي 20 تشرين الثاني عقدت هدنة قصيرة بين المتحاربين وفي الأيام التالية ظهر الهواء الأصفر في الأستانة ثم في الجيش العثماني في جتلجة ومنها سرى إلى المعسكر البلغاري وفي 23 منه أعلن كان الحرب البلغاري توقف الحرب وكانت انتهت هذه الحرب الهائلة التي دامت على أمدها شهراً من الزمن باستنزاف قوى الفريقين المتحاربين فحان الوقت المناسب لإصلاح ذات بينهما.

الترجمة عند العرب

الترجمة عند العرب كنت نشرت مقالة في جريدة المقتبس اقترحت فيها على فضلاء السوريين تأليف جمعية وتجعل هدفها نقل الكتب اللازمة لمدارس من اللغات الإفرنجية إلى اللغة العربية ووعدت أن اشفع ذلك الاقتراح بجملة اذكر فيها نشأة الترجمة في عهد الأمويين والعباسيين واهتمامهم لهذا الأمر الخطير إذ اللغة بالحقيقة لا تنهض وتمد أجنحتها ويأخذ القريب والبعيد بخط منها أن لم تكن لغة العلوم المادية وما كان الناس يقبلون على الألمانية أو الانكليزية أو الافرنسية لو لم تكن لغات العلم. بدأت الترجمة على عهد الأمويين فهم الذين سنوا تلك السنة فان ماسرجويه البصري الطبيب الشهير الذي كان معاصراً لمروان بن الحكم قد نقل من اللغة السريانية كناشاً من أفضل الكنانيش تأليف القس اهرون بن أعين فلما تولى الخلافة عمر ابن عبد العزيز وجد هذا الكتاب مدفوناً في بطون مكاتب الشام فرأى من الحكمة أن لا يدع ثمرة هذا الكتاب تذهب إدراج الرياح فنشره لينتفع به الناس وليشجعهم على نقل الكتب المفيدة. كان خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة 85هـ - حفيد معاوية الأكبر محباً للعلم والحكمة وكان فضلاً في نفسه عالي الهمة بعيد النظر راجح العقل ويسمونه حكميم آل مروان قد استقدم في نفسه من مدرسة الإسكندرية راهباً رومياً اسمه مريانوس ورغب إليه أن يعمله صناعة الكيمياء فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية نقلها له رجل اسمه اصطفان القديم وكان خالد هذا مولعاً بعلم النجوم فانفق الأموال الطائلة وافرغ جهده في سبيل استحضاره لأنه ولعله أمر بترجمة شيء من هذا العلم ولم يصل إلينا خبره كما أمر بترجمة علم الكيمياء وقيل أن خالداً أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كانوا ينزلون مدينة مصر وأمرهم بنقل كثير من الكتب العلمية من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي وهذا أول نقل في الإسلام. ولا يعلم إذا كان عمرو بع العاص قد أمر بنقل شيء من الكتب العليمة إباء ولايته على مصر لما عرف به من الميل للعلم والعلماء وقد كان في أيامه رجل مسيحي من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي كان في بدء أمره ملاحاً يعبر الناس بسفينته وعلائم الميل إلى العلم بادية على وجهه فإذا ركب معه جماعة من أهل العلم أصغى إلى مذكراتهم ولما اشتد به الشوق ولم يستطيع صبراً على الجهل ترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة

فبلغ ما لم يبلغه الناشئون فيه منذ طفولتهم وقد أحسن من العلم فنوناً كثيرة حتى عد من فلاسفة وأطبائه ومناطقه. فلما سمع به عمر بن العاص قربه إليه واحترامه وأكرمه لعلمه وفضله وجعل له المكانة الرفيعة ووقعت بينهما محبة عظيمة اشتهر أمرها وظهر حالها حتى قال بعض المؤرخين: أن المحبة التي نشأت واستحكمت بينهما ترينا مبلغ ما يسمونه النقل العربي من الأفكار الحرة والرأي العالي ولا يبعد أن يكون عمرو بن العاص قد أمر بترجمة بعض الكتب لان من كانت هذه سيرته من الميل للعلماء وشغفه باكتساب العلم لا بد أن تطمح نفسه لنقل بعض العلوم كالفلسفة والمنطق والطب المفقودة من اللسان العربي ومما تقدم تسقط دعوى من ينسب إحراق مكتبة الإسكندرية لعمرو بن العاص بأمر من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لأنه قول بعيد عن الحقيقة ولو صح أن عمر أمر بحرق تلك المكتبة لكان عمرو بن العاص أبان له وجه خطئه بادله ناهضة ويكفي أن يورد له بعض الأحاديث الصحيحة التي تأمر المسلم باتخاذ الحكمة من اغي وعاء كان وان الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها وان القرى حث على طلب العلم حثاً بليغاً ولم يقيده بعلم معين فقال: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. على أن من يعرف قيمة الشيء ويقدره حق قدره لا يعقل أن يجازف به لا سيما وعمرو يعد تلك المكتبة من النفس خيرات واجلبا قيمة بدليل احترامه وإكرامه ليوحنا النحوي وما أسهل على عمر إقناع ابن الخطاب بترك هذا الأمر المشين بسيرته الطاهرة لما جبل عليه ابن العاص من السياسة والدهاء والمهارة في إقامة الحجة هذا اذ1 فرضنا صدوره من الخليفة الثاني. ولا يظن أن عمرو بن العاص لأمر سياسي قد قرب إليه يوحنا فإن هذا كان بعيداً عن ضوضاء السياسة منعزلاً عن قومه لا يعرف إلا المطالعة والبحث والتأليف. قال سيديو المؤرخ الشهير: لا يصح أن تنسب حريق مكتبة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب المشهور له بوفور العقل الدى جميع الأمم ولذا لم يذكرها احد من المؤرخين المعاصرين له فلو فرض صدور أمره بإحراقها لما كان إلا لمقدار قليل فإن معظمها احرق في عهد الملك توديوس آه. ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس ورسخت قدمهم شرعوا بتشييد نهضة علمية فكنت

ترى دور الخلفاء مجمع الأدباء والشعراء والعلماء وذلك لرغبة الخلفاء وميلهم للعلم وإجلال أهله وقد بالغوا في أكرام العلماء وقربوهم وجالسوهم وواكلوهم وحادثوهم وعولوا على آرائهم حتى لم يبق ذو علم أو أدب أو قريحة إلا وقصد دار السلام ونال جائزة أو هدية أو راتباً وكم تجود قريحة العالم عند ما يرى نفسه مبجلاً محترماً مقدوراً تعبه حق قدره وأفكاره ترتع في رياض الحرية ليس لأحد عليه سلطة يجاهر بكل ما يعتقده ما دام الدليل حليفه والبرهان مجنه وليس شيء ادعى لقتل الأفكار والمعتقدات من التحكم بها وقد اشتهر بنو العباس بأنهم حماة الرأي ناصروا العلماء حتى المخالفين لهم في المعتقدات وهي مزية عظيمة بها نضجت ثمار العلم وطاب مذاقه والعلم لا ينضج إلا إذا كان تحت عناية أمير تربيته والناس على دين ملوكهم. أول من اعتنى بالترجمة من العباسيين أبو جعفر المنصور وكان شديد الكلف بعلم النجوم وقد تقرب إليه كثيراً من علماء الفرس إذ كانت لهم معرفة زائدة بهذا العلم وأشهر من تقرب للمنصور توبخت المنجم الفارسي ترجم له كتباً كثيرة وكان يصحبه حيثما توجه وممن خدم المنصور في النجوم إبراهيم الفزاري وابنه محمد وعلي بن عيسى الاسطرلابي المنجم وقد قصد المنصور رجل من الهند سنة 156هـ - قيم في حساب الهند وعرض عليه كتاباً في النجوم مع تعاديل معمولة على مذاهب الهند فأمر المنصور أن ينقل هذا الكتاب إلى العربية وان تؤلف فيه كتاب يتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب فتولى هذا الأمر إبراهيم الفزاري وعمل كتاباً سماه المنجمون السند هند الكبير وظل أهل هذا الزمن يعملون به إلى أيام المأمون. وممن تقرب إلى المنصور جورجس وهو أول من ابتدأ بنقل الكتب الطبية إلى العربية عندما استدعاه المنصور وكان كثير الإحسان إليه ومنهم البطريق كان أيام المنصور قد نقل كتباً كثيرة في الطب من تأليف ابوقراط وجالينوس وكان اهتمام المنصور بنقل الكتب الطبية لا يقل عن اهتمامه بالنجوم فقد بعث بطلب جورجيس بن بختيشوع السرياني الذي كان ماهراً بالطب ذكياً فطناً ذا هيبة ووقار وذلك على اثر علة أصابت المنصور فلما شفي ورجع إلى مزاجه منعه من الرجوع إلى بلده وجعل له مكاناً علياً لما فطر عليه من الصدق والأمانة والتدين وكان جورجيس هذا يعرف اللغة اليونانية فضلاً عن السريانية والفارسية والعربية ونقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية وقد مال

إليه المنصور ميلاً شديداً حتى جعله طبيب أسرته وممن علت منزلته عند المنصور عبد الله المقفع وكان فاضلاً كاملاً وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس وكتاب باري ارمينياس وكتاب انالوطيقا ترجم كل ذلك بعبارة سهلة وترجم مع ذلك كتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة والخلاصة أن المنصور كانت جل عنايته مصروفه لإيجاد مترجمين توسد إليهم هذه الصناعة الجليلة ولم يأل جهداًُ في هذا السبيل وترجم في خلافته كثير من كتب الهندسة والطب والنجوم. وفي زمن المنصور عرب كتاب بطليموس في الغناء واللحون الثمانية وأيضاً كتاب ارسوا عربه عبد المسيح الحمصي. ولما انتقلت الخلافة إلى هرون الرشيد قام احسن قيام بالنهضة العلمية وكان من أفاضل الخلفاء وفصائحهم وكرمائهم وقد انتشر العلم في زمانه انتشاراً هائلاً قال درابر في كتابه تنازع العلم والدين: أن الرشيد قد أمر بإضافة مدرسة إلى كل جامع في جميع أرجاء ملكه. وفي أيامه تقاطر إلى بغداد كثير من الأطباء وعلماء السريان والفرس والهند وطفقوا يتعلمون اللغة العربية ليستطيعوا الترجمة ويحكموا أصولها وكان الرشيد مشغوفاً بالعلوم ونقلها إلى لسانه فقد بذل الأموال الطائلة وكافأ كل من يأتيه بكتاب قديم واتفق له في أثناء إغارته على بلاد الروم أن عثر في أنقرة وعمورية وغيرهما على كتب كثيرة حملها إلى بغداد وأمر طبيبه يوحنا بن ماسويه بترجمتها وقد علت منزلة يوحنا عند الرشيد فقر به إليه حتى وضع جميع المدارس تحت مراقبته وكان فاضلاً طبيباً محترماً عند الملوك خدم الرشيد والمأمون والواثق والمتوكل وعدا عن الكتب التي ترجمها فقد كان له تأليف عظيمة منها كتاب البرهان وكتاب الحميات والكناش المعروف بالمشجر. وممن تقرب إلى الرشيد بختيشوع الطبيب وجبريل ولده ونقلوه كتباً متعددة. وممن اشتهر بالنقل الحجاج بن مطر نقل كتاب إقليدس النقلة الأولى ويسمى الهازونية تمييزاً له عن كتاب إقليدس الذي نقل في زمن المأمون ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قره الحراني وكان فيلسوفاً عظيماً بلغ درجة لم يدانه بها احد وله تأليف كثيرة في المنطق والطب والرياضيات وقد قربه المعتضد حتى علت منزلته على الوزراء. والخلاصة أن الرشيد قد افزع قصارى جهده بنقل الكتب ورفع أعلام العلم وكان يصرف

قسماً كبيراً من أوقاته في هذا الشأن حتى أن العلماء والأدباء كانوا لا يفارقونه وإذا اجتمعوا بداره سما إلى مناظرتهم من حيث العلم والتواضع لا من حيث السيادة عليهم وهو بموضعه الجليل من الخلافة وقد بلغ به التواضع أن معاوية الضرير المحدث إذ جلس أمامه إلى طعامه قام الرشيد من موضعه وصب على يده الماء. على أن الباحث يعلم أن معاوية هذا لم يبلغ درجة من العلم يضارع بها الرشيد وكان جل عمله محصوراً بالحديث فأين هو من الرشيد الذي كان يضرب بكل علم بسهم صائب وإنما حمل الرشيد على التواضع لمعاوية أمر مهم وهو الترغيب فإن الناس إذا رأوا العالم يصل إلى هذا المقام من الاحترام حتى من العظماء وتنهال عليه المبرات المادية والمعنوية يتسارعون إلى طلب علم. ولما انتقلت الخلافة إلى المأمون نهض لخمة العلم أيما نهضة وأتم ما بدأ به سلفه من الترجمة والتأليف وكان مفطوراً على محبة العلم والعلماء بل لم ير في أولاد الملوك من تعشق العلوم الحمية والفلسفية مثله على حداثة سنة وقام بين العلماء قيام الأسد لمناظرتهم في جميع أنواع العلوم فمن كانت هذه سيرته في حداثة سنة فما بالك به وقد بلغ مبلغ الرجال واستلم زمام الخلافة وكان مع سعة عمله كثير الميل إلى القياس العقلي وطالع أكثر الكتب التي ترجمت إلى عهده وقد بلغ مبلغاً من العلم قل من يدانيه به فنقل عنه انه أولم يوماً وليمة لخاصة العلماء المقربين إليه وقد ظن بعض الحاضرين انه وضع أكثر من ثلثمائة لون وكلما وضع لون نظر المأمون إليه وقال هذا يصلح لكذا وهذا نافع لكذا فمن كان منكم صاحب بلغم ورطوبة فلتجنب هذا ومن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا ومن أحب الزيادة في لحمة فليأكل من هذا ومن كان قصده قلة الغذاء فليقتصر على هذا وما زالت تلك الحالة حتى رفعت الموائد فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين أن خضنا في الطب فأنت جالينوس وفي معرفة النجوم فأنت هرمس أو ذكرنا السخاء فأنت فوق حاتم أو في الفقه كنت علياً ابن أبي طالب أو ذكرنا صدق الحديث كنت أبا ذر في صدق لهجته. وكان أحب إليه من الملاهي لعب الشطرنج يمارسه كأبيه لاستنباط الحيل فيه حتى لم يكن في الناس من يفضله فيه وهو القائل في الشطرنج: أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين ألفين موصوفين بالكرم

تذكرا الحرب فاحتالا لها تبهاً ... من غير أن يسعيا فيها بسفك دم هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحرب لم تنم فأنظر إلى الحرب قد جالت بمعركة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم ويتبين لنا شدة ميل المأمون للعلم وأهله من قوله عن العلماء هم صفوة خليفة الله وأفضل عباده وانفعهم لأنهم ارصدوا حياتهم لتربية مواهبهم الطبيعية وان الذين يعلمون العلم والحكمة للناس هم مصابيح العالم ولولاهم لارتكس الخلق في عماية الجهالة وغياهب البربرية. أما عناية المأمون بنقل الكتب فهي في أقصى ما يتصوره العقل لا سيما في نقل كتب المنطق والفلسفة وقيل أن المأمون نقل إلى بغداد مائة حمل بعير من الكتب وكانت إحدى شروط معاهدة الصلح بينه وبين الإمبراطور ميشيل الثالث أن يعطيه إحدى مكاتب القسطنطينية التي كان فيها بين الذخائر كتاب بطليموس في الرياضيات السماوية فأمر المأمون بترجمته وسماه المجسطي وقد جعل الترجمة عامة لكل مؤلفات أرسطو في الفلسفة وغيرها وكان يحرض الناس على مطالعة تلك الكتب ويرغبهم في تعلمها وكان مثابراً على حضور أكثر الدروس التي يلقيها المدرسون واقتجى بالمأمون كثير من أهل دولته وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد وتقاطر إليه المترجمون من أنحاء الجزيرة العربية والعراق والشام وفارس وفيهم النساطرة واليعاقبة والصائبة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية والنبطية واللاتينية وغيرها وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب وتعددت مجالس الأدب والمناظرة وأصبح هم الناس البحث والمطالعة وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون حتى نقلت أهم كتب قدماء اليونان إلى العربية. وقد تقرب جماعة من المأمون واختصوا بالنقل والترجمة منهم الحجاج بن مطر الشهير وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وممن كانت لهم منزلة الرفيعة يعقوب ابن اسحق الكندي فيلسوف العرب خدم المأمون والمعتصم وابنه احمد ينتهي نسبه إلى الأشعث بن قيس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وله مصنفات جليلة ورسائل كثيرة في جميع العلوم منها الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد ورسالة في انه لا تنال

الفلسفة إلا بعلم الرياضيات وله كتاب في الحث على تعلم الفلسفة وكتاب في أن أفعال البارئ كلها عدل لا يجوز فيها ورسالة الاحتراس من خدع السوفسطائية ورسالة في نقص مسائل الملحدين وتزييف أقوالهم ورسالة في صحة النبوات وإنها ممكنة عقلاً وممن علت منزلته عند المأمون في الترجمة سهل بن سابور ابنه وأيضاً حنين ابن اسحق العبادي شيخ المترجمين وهو من نصارى الحيرة ولد سنة 194هـ - وكان أبوه صيرفياً وانتقل في حداثة سنه إلى البصرة فتلقى فيها العربية ثم انتقل إلى بغداد ليشتغل بصناعة الطب فلقى في ذلك مشقة لا الأطباء خصوصاً أهل جند يسابور كانوا يكرهون أن يدخل في صناعتهم أبناء التجار وكان أعمر مجالس الطب يومئذ يوحنا بن ماسويه احد بلغاء مارستان جندريسابور فجعل حنين يحضر هذا المجلس ويلازم ماسويه فاتفق له أن سأله مرة مسألة مما كان يقرأه عليه فغضب يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة وصناعة الطب فاذهب إلى فلان قرابتك حتى يهب لك خمسين درهماً تشتري بها قفافاً صغاراً بدرهم وزرنيخاً بثلاثة دراهم واشتري بالباقي فلوساً كوفية وفارسية وزرنخ القادسية في تلك القفاف واقعد على الطريق وصح الفلوس الجياد للصدقة والنفقة وبع الفلوس فإنه أعود عليك من هذه الصناعة ثم أمره أن يخرج من داره. فخرج حنين باكياً حزين القلب كئيباً وقد بعثه ذلك على زيادة النشاط للسعي في تعلم الطب بلغته الأصلية فغاب هذا المسكين عن بغداد سنتين ثم عاد وقد تعلم اليونانية وآدابها في الإسكندرية وحفظ أشعار هوميروس فأصبح اعلم أهل زمانه بالسريانية واليونانية والفارسية فضلاً عن العربية وأضحى أطباء بغداد بحاجة إلى لنقل الكتب حتى أن يوحنا بن مأسويه نفسه قد استخدمه لنقل الكتب جالينوس إلى السريانية وبعضها إلى العربية واحتذى فيهما حذو الاسكندريين وترجم أيضاً لجبريل بن يختيشوع كتاب التشريح لجالينوس وكان جبريل يخاطبه بالتبجيل والتعظيم فيقول له: يا معلمنا حنين. ولما أراد المأمون نقل فلسفة اليونان إلى العربية سأل عمن يستطيع ذلك فأرشدوه إلى حنين لأنه لم يكن ثمة من يضاهيه وهو لا يزال شاباً فوسد المأمون هذا الأمر إلى جماعة من المترجمين وهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلك صاحب بيت الحكمة وغيرهم ورأس عليهم حنيناً المذكور يهذب كل ما يترجمونه وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله إلى العربية مثلاً بمثل فكان من دهاء حنين يكتب الترجمة بحروف غليظة على ورق

غليظ واسطر متفرقة وذلك لتعظيم حجم الكتاب وتكثر وزنه وذكر بعضهم أن حنيناً ذهب بإيعاز المأمون بطلب الكتب في بلاد الروم. كان لحنين ولدان داود واسحق صنف لهما كتباً كثيرة من مؤلفات جالينوس فافلح اسحق وتميز واشتغل بالترجمة مثل أبيه من اليونانية إلى العربية وترجم أيضاً بعض كتب الحكمة مثل كتاب ارسواطاليس وغيره من الحكماء وممن تقرب إلى المأمون جيش من الحسن الأعسم الدمشقي احد تلاميذ حنين والناقلين من اليوناني والسرياني إلى العربي وممن برع بالترجمة واشتهر قسطا بن لوقا البعلبكي وهو من نصارى الشام وكان طيباً حاذقاً وفيلسوفاً نبيلاً رحل إلى بلاد الروم في طلب العلم وكان عالماً بالسريانية واليونانية والعربية ونقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية وكان جيد النقل أصلح نقولاً كثيرة وألف رسائل عديدة وتأليف جليلة تزيد على مائة كتاب قال أبو الفرج الملطي لو قلت حقاً لقلت انه أفضل من صنف كتاباً بما احتوى عليه من العلوم والفضائل وما رزق من الاختصار للألفاظ وجمع المعاني وتوفي بارمينيه عند بعض ملوكها ومن المترجمين موسى بن خالد ويعرف بالترجمان نقل كتباً كثيرة من الستة عشر لجالينوس وهو دون حنين ومنهم أبو عثمان الدمشقي كان من النقلة المحيدين ومنهم أبو بشر متّى بن يونس من أهالي دير قنى وممن اشتهر بالنقل من اللغة الهندية منكه الهندي كان مع اسحق بن سليمان لن علي الهاشمي وابن دهن الهندي كان عالماً بالهندية والعربية وانتهت إليه رئاسة مارستان البرامكة. وممن عانى صناعة الترجمة يوحنا القس وأبو سهل الفضل بن نوبخت وله نقل من الفارسي ومنهم ابن الخمار من السرياني إلى العربي ومن نقله كتاب الآثار العلوية ومقالة في الأخلاق ومنهم ماسرجيس وكان من الأطباء ونقل من السرياني إلى العربي ومنهم هوينان الطبيب النسطوري ترجم كتباً لأرسطو وأفلاطون وهيبوكرات وغاليان. وممن مارس النقل الحسن بن البهلول الأواني الطبرهاني وأبو البشر متى والتفليسي ومرلاحي ودار يشوع وإبراهيم بن بكس وأيوب بن قاسم الرقي وأبو الريحان البيروني وابن وحشية وسعيد الفيومي وشهدي الكرخي وابن شهدي وابن جلجل وأبو عبد الله الصقلي وحبيب بن بهريز مطران الموصل وممن نقل عن السريانية كثيراً أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار ويحيى بن عدي اليعقوبي ونقل من اليونانية نظيف

القس الرومي. وكان عبد المسيح بن عبد الله الناعمي الحمصي المعروف بابن ناعمة متوسط النقل وهو إلى الجودة وفي درجته زوربا بن ما نحوه (مانجوه) الناعمي الحمصي وكان هلال بن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وكذلك كان فتيون الترجمان يلحن ولا علم له بالعربية وكان أبو النصر بن أيوب قليل النقل لا يعتد بما نقل ويفوقه بسيل المطران وكان إلى الجودة اقرب ومن المتوسطين في نقلهم اسطاث وحيرون بن رابطة وإبراهيم ابن الصلت وثابت الناقل ويوسف الناقل ومنصور بن باناس وعبد يشوع بن بهريز وابراهيم بن بكس. هؤلاء التراجمة الذين عرفناهم في الإسلام وأكثرهم كانوا يرتزقون من نقلهم ويعملون مدفوعين بتنشيط الملوك والأمراء والحريصين على خدمة العلم إلا يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف العرب واحد أبناء ملوكها فإنه كان ينقل لنفسه ولم يرتزق بما يكتسب. وعلى الجملة فإن العباسيين عنوا بنقل الكتب وصرفوا الأموال الطائلة في هذا السبيل الشريف وقد شيدوا مدرسة لتربية المترجمين سموها مدرسة الألسن لا يدخلها إلا من أراد أن يختص بالنقل والترجمة وكانت تحت نظارة طبيب نسطوري. هذا ملخص تاريخ الترجمة في زمن الأمويين والعباسيين ولا سيما المنصور الرشيد والمأمون ولولا اهتمامهم بنقل العلوم لما نهضت اللغة العربية في ذلك الزمن واستجر العمران وأضحت مدنية العرب من أرقى المدنيات يحق لكل عربي أن يفاخر بها ولكن ذكرى السلف لا تجد بنا نفعاً إذا لم نسلك طريقهم وننسج على منوالهم فنرفع أعلام العلم ونتربى على أدب النفس والدرس ولا بأس من ذكر ما قاله المؤرخ الشهير سيديو عن التمدن العربي إذ بذلك نذكر الذين يغمطون من قدر العرب ولا يعترفون لهم بمدنية علمية أخلاقية وهو قول من لم يفقه كلمة واحدة من التاريخ الإسلامي قال: أن التمدن العربي قد تمكنت أصوله في آفاق الدنيا أقوى تمكن ولا تزال إلى الآن نرى آثاره حين نبحث عن أصل مبادئ ما نحن عليه من المعلومات الأوربية فان العرب في غاية القرن الثامن بعد الميلاد فقدوا الحمية الحربية وشغفوا باقتناء المعارف حتى أخذت عما قليل مدائن قرطبة وطليلة والقاهرة وفارس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند تفاخر بغداد بنيل العلوم

والمعارف وقريء ما ترجم للعربية من كتب اليونانية في المدارس الإسلامية وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجميع ما ابتكره الإفهام البشرية من المعلومات والفنون وشهروا في غالب البلاد خصوصاً بلاد النصرانية من أوربا بابتكارات تدل على أنهم امتنا في المعارف ولنا شاهد اصدق على علو شأنهم الذي تجهله الإفرنج من أزمان مديدة الأول ما أوثر من تواريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والإشعار ومعاجم ما اشتهر من الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثر من الفنون الفاخرة والثاني ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والاكتشافات المهمة في الفنون وما وسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء الصحيحة والفلاحة والعلوم التي مارسوها بغاية النشاط في القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر من الميلاد. وقال أيضاً وقد حفظت العرب مؤلفات اليونان واستعدت لتجديد المعارف في أوربا فكانوا رابطة بين هذين الزمنين وبذا يثبت فضل العرب على الإفرنج الذي حاول بعضهم خفض فضائل العرب الواضحة كالشمس في رابعة النهار ويعلم أن لا موقع لافتخار المتأخرين من أهل أوربا بتصورات أكثرها للعرب وسبق لك ما كان لعلماء المدرسة البغدادية من الحكم النافذ في الغرب والشرق. وبعد فإن الباحث في نهوض الأمم يرى أن مبدأ الارتقاء لا يكون إلا بنقل الكتب العلمية ولولا اهتمام محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى بلاد الغرب واعتنائه بترجمة كثير من كتب العلم إلى العربية لما رأينا في مصر تلك النهضة التي تنير العالم العربي اجمع ولقد رأينا أن الأمويين والعباسيين لم يستطيعوا تشييد مدينة عظيمة إلا باعتمادهم على نقل الكتب والعلوم التي لم تكن معهودة لديهم كما أن الغربيين لما ضاقت صدورهم من الجهل المخيم على بلادهم وأرادوا أن يكونوا مدينة علمية بدأو أولاً بالترجمة وقد انبرى كثير من رجالهم ونقلوا كثيراً من الكتب العربية إلى لغتهم فإن جيراردي كريمونا كان مؤلفاً ينقل تأليف العرب في فنون الحكمة وقد أتقن العربية فعرب إلى اللاتينية ما يربو على ستين مؤلفاً جليلاً لمشاهير العلماء كالرازي وابن سينا في الرياضيات والهيئة والطب. وممن تصدى للنقل ميشال سكوت الذي انكب في طليطلة على إتقان العربية ولما رسخت ملكته شرع بالترجمة ونقل عدداً وافراً من أكثر العلوم ومنهم روجار باركول الذي كان نسيج

وحده في العلوم الفلسفية والطبيعية فإنه افرغ جهده في نشر الدروس الشرقية وعلى الأخص الدروس العربية ثم استجرت تلك النهضة فعمت أكثر أقطار أوربا وتوفر عدد الدارسين للغات الشرقية وحفلت المكاتب بآثار العرب لا سيما خزائن كتب باريس ومجريط وليدن وأكسفورد ولندن ونشرت تأليف عربية لأعظم علماء العرب وأدبائهم وقد أنشأت فرنسا سنة 1795 مدرسة لتعليم اللغات الشرقية الحية ومما زاد الفرنسيس نهوضاً في الآداب الشرقية أن نابليون لما دخل مصر سنة 1798 كان بصحبته كثير من العلماء فانتهزوا تلك الفرصة وتعلموا اللغة العربية من المصريين ولما عادوا إلى فرنسا نشروا تلك اللغة في بلادهم وصار هم كثير من العلماء البحث والتنقيب عن كتب العرب. والخلاصة فإن شعور الأمة بنقل الكتب العلمية إلى لغتها دليل على نهضة وخير عظيم وان تلك الكتب تنشىء رجالاً عظاماً يحدثون انقلاباً كبيراً في الأفكار. واللغة ميزان الأمة ولا نهضة إلا بنهضة اللغة ولا يكتب لها النهوض أن لم تكن لغة العلوم المادية والمعنوية فأين علماؤنا الذين يغارون على تلك اللغة الشريفة. ويؤلفوا جمعية للنقل والترجمة فعلى العلماء أكثر من غيرهم تنوء التبعة والسلام على العاملين المخلصين. دمشق: عبد الفتاح السكري الركابي.

فنلندا وعوامل ارتقائها

فنلندا وعوامل ارتقائها فنلندا هي دوجيه كبرى من بلاد روسيا في أوربا بين الحدود النروجية من الشمال وفي الشمال الشرقي ولايات بطرسبرج واولونزا واركانجل الروسية وفي غربها بحر البلطيق مساحتها السطحية 377850 كيلو متراً وسكانها 2600000 نسمة جاء في مجلة الحياة الباريزية أن قد كانت السويد (اسوج) مدة ستة قرون ونصف هي الحاكمة المتحكمة في الشعب الفنلاندي والقابضة على زمام تربيته التاريخية ونشر الاسوجيون بين الفنلنديين الدين المسيحي وحملوا إليهم المدنية الأوربية. ولقد اتحدت القبائل الفنلاندية على عهد الاسوجيين وألفوا امة آخذين القوانين والأوضاع الاجتماعية التي كانت للاسوجين الذين كانوا تحضروا قبل ذلك وأنشأوا مملكة ومزجوا ذلك بهم ومن حسن حظ الشعب الفنلاندي أن هذه الأوضاع التي نقلت من الخارج قد قامت كلها على حرية الفلاح وان حكومة الإقطاعات التي كانت قد انتشرت في شمال بلاد أوربا لم يكن لها تأثير في اسوج ذلك لأن الشعب الفنلاندي وان كان غلب على أمره بالسلاح قد توصل إلى أن يقبل نفس الحقوق السياسية التي كان يستمتع بها الاسوجيون ومنذ ذلك العهد سار الشعبان في رحلتهما التاريخية يتقاسمان البؤس والنعماء. ولئن كان المجد في الغالب من حظ الاسوجيين والألم من نصيب الفنلانديين فإن هؤلاء وجدوا في هذه السياسة منافع لهم لم يكونوا لينالوها بهذه الكثرة وفي مثل هذا الوقت القصير لو ظلوا على انفرادهم بيد أن هذا الشعب الفنلاندي الذي ظهر في ميدان التاريخ متأخراً قد بلغ بالتدريج مستوى بقية الشعوب المتمدنة فدب فيه دبيب الاستقلال وهو يرقى في سلم الاجتماع في الوقت الذي تنبه فيه فكر الوطنية وطلب حالة سياسية مستقلة وبذلك تهيأ الوقت للاستقلال عن أسواج إذ كان ذلك نتيجة لازمة للارتقاء الطبيعي الذي حازته فنلندا ولكن هذا الانفصال لم يكن نتيجة منافسة عدائية بل أن الرابطة الأخوية القديمة بين الشعبين قد انحلت فجأة بتقدير العزيز العليم تاركة وراءها تذكارات تظل عزيزة مقدسة عند الشعب الفنلندي. كان الشعب الروسي أداة هذا الانفصال وبلغ الارتقاء العقلي في الفنلنديين في ذاك العصر إلى مستواه في المدينة الأوربية بحيث لم يلبثوا قليلاً حتى غدوا ولهم المقام المحمود بين أمم الشمال فقد استولت روسيا على فنلندا ثلاث مرات مدة قرن من الزمن وما برح فكر الوطنية في الشعب الفنلاندي يتطلب مستعدون كل ساعة للمفاداة بحياتهم وسعادتهم لإحراز

مجد أوطانهم. وكان نشأ لروسيا الإمبراطور اسكندر الأول نشأة حرة وتخرج بالسويسري قيصر لإرهاب فجاء منه عاقل يحب الحرية حتى إذا تولى قيادة الإمبراطورية الروسية أراد أن يعطي دستوراً حراً لامته ولكنه رآها منحطة لا تنهض به فارتأى أن يجرب هذا القانون في فنلندا التي كانت خاضعة له وأصبحت دوجيه فنلندا الكبرى مثالاً حسناً للإمبراطورية الروسية ثم منحت استقلالها الإداري وتبين للقيصر أن وجود فنلندا حاجزاً حول عاصمة الروس أقوى من وقوف بعض الولايات المحتلة بقوة السلاح. هذا بالإجمال حال فنلندا السياسي أما حالها الأدبي الذي أدى بها إلى هذا الارتقاء الذي اضطر معه مثل القيصر اسكندر الأول أن يمنحها دستوراً مستقلاً لتكون لامته نموذجاً في الحرية التي نالها مؤخراً مع بعض القيود فقد رأى المفكرون من أبنائها في أوائل القرن الماضي أن يعنوا بتحرير لغتهم لأنهم لا يحبون أن يكونوا سوجيين واللغة الاسوجية كانت مستحكمة فيهم ولاروسين فلم يبقى أمامهم إلا أن يبقوا فنلانديين وهذا يكون بنشر لسانهم فشرعوا في درس المسائل التاريخية والفنلاندية واللسان الفنلاندي والشعر العامي. وكثيراً ما يحدث في حياة الأمم أن تكون الكوارث العظمى هي التي ينتبه بعدها شعورها وتبدأ تتماسك وتجمع قواها وتنشط من عقالها حائرة إلى عالم جديد متبعة طريقاً مهيعاً فقد كانت فنلندا لأول ذاك العهد في حالة من الإبهام والشك حتى إذا نقلت مدرستها الجامعة إلى مدينة هلسنفور عاصمتها الجديدة هبت من أرجائها حياة عقلية لم تكن تعهد وكانت اللغة السويدية هي لغة المدنية في فنلندا وقد كتب شاعر فنلندا بل احد عظماء شعراء أوربا واسمه رونبرغ أشعاره باللغة السويدية لا بالفنلاندية وكان القانون الأساسي الذي منحته فنلندا بفضل الإمبراطور اسكندر الأول قد عاد في عهد الإمبراطور نقولا الأول تتزعزع أركانه فلم ير عقلاء الفنلانديين إلا أن يدعوا مجموع الشعب إلى مستقبل عام وهذا لا يتم إلا إذا أخذت الطبقة الدنيا من الشعب بحظ من المعارف بيد أن هذه المهمة ظهرت متعذرة وذلك لان اللسان القسم الأعظم من الشعب كان عبارة عن لهجة جافة بربرية لا تستطيع أن تؤدي الأفكار الدقيقة وما كان يخطر بالبال أن اللسان الفنلاندي يصبح أداة للمدنية العالمية لولا أن قام احد علمائهم وجمع الأغاني العامية والشعر القصصي وكثر المنشئون والأساتذة بهذه

اللغة الفنلندية وأراد بعض ساستهم أن يطرح اللغة الاسوجية بتاتاً وفاته أن جزءاً مهماً من الأمة الفنلاندية يتكلم بالسويدية وله الحق أن يربي أولاده بهذه اللغة فكان من ذلك أن البلاد التي تكون أكثريتها من الاسوجين لا يرخص مجلسها بإعطاء إعانات للمدارس العليا التي تكون لغتها فنلاندية فأخذ الفنلانديون يكتسبون بما يقتضي لذلك من المال وبهذه الطريقة أيضاً أنشى معهد للتمثيل فنلاندي وكثر الشعراء في الشعر الغنائي والأناشيد والقصصيون وكتاب الحقائق وكثر طلاب المدارس الابتدائية بحيث لا تجد اليوم في فنلندا أمياً وحيثما انقلبت من البلاد ترى على شواطئ البحيرات الدارسون ما تلقنوه من الدروس الابتدائية يتعلم فيها الذكور والإناث معاً والجنسان لا ينفصلان احدهما عن الآخر في جميع مدارس فنلندا فيتعلمون في تلك الكليات تعليماً آخر ويحضرون دروساً في التاريخ والآداب الوطنية والحساب والبستنة والاقتصاد. وهذه المدارس تقوم بإعانات المحسنين من القوم وأحياناً بإنفاق فرد واحد إنها تنشئها جمعيات الشبان الذين يجتمعون فيها لسماع المحاضرات وإنشاد الأغاني والبحث في المسائل الاجتماعية والمران على الأعمال. وعلى هذه الصورة ينتشر نور للعلم في البلاد حتى أن الفلاح الفنلاندي قد بلغ به من حب التعلم أن اخذ يبتاع كتب العلم الراقي مثل دائرة المعارف الفلانجية التي أخذت تنتشر حديثاً فكان الإقبال عليها عظيماً من جميع الطبقات حتى لقد أباع طابعها منها لأول أيام الظهور أجزائها الأولى نحو عشرين ألف نسخة هذا وهي تكلف مائتي فرنك كلها فكان يبتاعها حتى سكان الأكواخ الذين ليس لهم ما يسد عوزهم من القوت والشراب وترجموا إلى لسانهم أحسن روايات شكسبير وموليير ودانتي وراسين وفلوبر واناتول فرانس وماترلنك وفرلين. وقد زالت الاختلافات بين العنصرين الاسوجي والفنلندي إلى منافسة سليمة لأنهم رأوا أن إيغار الصدور لا ينير شيئاً وهم يريدون أن يقفوا في سبيل عدوهم لا أن ينشقوا على أنفسهم ويطعموا بهم خصوصهم وجيرانهم فأصبحوا بفضل المدنية الحديثة كلهم امة واحدة لها نزعة سياسية واحدة وان كانوا مختلفين في عنصرهم ولسانهم وكانت آداب ذينك العنصرين متأثرة بالمحيط متشابهة كل التشابه حتى لتجد الاختلاف بيناً بين الآداب الاسوجية المكتوبة في فنلندا والآداب الاسوجية الصادر من اسوج لان آداب كل امة تبعت

بيئتها ومحيطها وسياسة بلادها بمعنى أن السويد في الفنلاندي أصبح كالسويسري الألماني والفرنساوي أو الايطالي سويسرا قبل كل شيء لا يريد أن يكون ألمانيا وان كانت لغته ألمانية ولا فرنسوياً وان كان لسانه الافرنسية ولا ايطالياً وان كانت لغته الايطالية وهكذا ترى الاسوجيين والفنلانديين في دوجيه فنلندا متخالفين بعنصريهما ولسانيهما ولكنهما متوافقان بمبداهما السياسي شأن بلجيكا وسويسرا مما يستدل منه بأن في الإمكان إنشاء مملكة قوية بلسانين رئيسين وتاريخين مختلفين.

معجم البلدان

معجم البلدان تكلمنا في الجزئيين الماضيين ما ساعدنا نفس الكلام على معجم ياقوت واقتبسنا من فرائد فوائده ما اتسع له المقام وما هذا المعجم في الحقيقة إلا منجم واسع فه صنوف المعادن الثمينة يتكلم عن علل البلدان والسكان والإنسان علة فساد الأرض وصلاحها قال في دنيسر بضم أوله بلدة عظيمة مشهورة من نواحي الجزيرة فرب ماردين بينهما فرسخان ولها اسم آخر يقال له فوج حصار رأيتها وأنا صبي وقد صارت قرية ثم رأيتها بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة وصارت مصراً لا نظيراً لها كبراً وكثرة أهل وعظم أسواق وهذا من العجائب الذي لا مثيل لها ويشبهه حال مدينة شيكاغو في غربي الولايات المتحدة الأميركية فإنها كانت منذ خمسين سنة قرية وها هي من أعظم عواصم العالم وأضخمها عمراناً ولكن سنة الشرق غير سنة الغرب إلا ترى إلى ما وراء ياقوت في أصبهان قال أن قد فشا الخراب لعهده وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها لا يأخذهم في ذلك إلى ولا ذمة ومع ذلك فقل أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فأسدها وكذلك الأمر في رسانيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة. ومثل ذلك ما وراء في اغمات قال: وأهلها فرقتان يقال لأحدهما الموسوية من أصحاب ابن ورصند والغالب عليهم جفاء الطبع وعدم الرقة والفرقة الأخرى مالكية حشوية وبينهما القتال الدائم وكل فرقة تصلي في الجامع منفردة بعد صلاة الأخرى كذا ذكر ابن حوقل التاجر الموصلي في كتابه وكان شاهدها قديماً بعد الثلاثمائة من الهجرة ولا ادري في الدين ثم عبد المؤمن وبنوه ولهم ناموس يلتزمونه وسياسة يقيمونها لا يلبث معها مثل هذه الأخلاط. وقال في مادة البري: كان أهل المدينة ثلاث طوائف شافعية وهم الأقل وحنفية وهم الأكثر وشيعية وهم السواد الأعظم لان أهل البلد كان نصفهم شيعة وأما أهل الرستاق فليس فيهم إلا شيعة وقليل من الحنفيين ولم يكن فيهم من الشافعية احد فوقعت العصبية بين السنة والشيعة فتظافر عليهم الحنفية والشافعية وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم وكان أهل

الرستاق وهم حنفية يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم فهذا المحال الخراب التي ترى هي محال الشيعة والحنفية وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية وهي اصغر محال الري ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يخفي مذهبه ووجدت دورهم كلها مبنية تحت الأرض ودروبهم التي يسلك بها إلى دورهم على غاية الظلمة وصعوبة المسلك فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر بالغارات ولولا ذلك لما بقي فيها احد. ومثل ذلك مدينة ساوة بين الري وهمذان قال وبقربها مدينة يقال لها آوه فساوة سنية شافعية واوه أهلها شيعة أمامية وبينهما نحو فرسخين ولا يزال يقع بينهما عصبية وما زالتا معمورتين إلى سنة 617 فجاءها التتر وخربوها وقتلوا كل من كان فيها ولم يتركوا أحداً البتة وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها بلغني أنهم احرقوها. وهكذا ذكر بالمناسبة ما أحدثه التعصب الديني في خراب البلدان فقد ذكر في أبي محمد هياج بن محمد الحطيني الزاهد انه استشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السنة والرافضة فحمله أميرها محمد بن أبي هاشم فضربه ضرباً شديداً على كبر السن ثم حمل إلى منزله فعاش بعد الضرب أياماً ثم مات في سنة 472 قلنا والفتن الدينية لم تكد تخلو منها جهة من جهات بلاد الإسلام بضع سنين فقد ذكر المؤرخون في حوادث سنة خمس وسبعين وأربعمائة انه كانت فيها أيضاً فتنة ببغداد بين الشافعية والحنفية وكل هذه الفتن كانت تسيل فيها الدماء إلى الأباطح وما سببها إلا ضعف العمال وانتفاعهم سراً من الاختلاف بين أهل البلد الواحد فهم يفرحون بكل ما يقع إذ كان ينتج لهم بسط سلطاتهم بإشغال الناس عن النظر في أمورهم وكان استبعاد الملوك للرعايا يختلف باختلاف رقي البلد والقطر فقد روى ياقوت في مادة زغاوة وهم جيل من السودان يعظمون لملكهم ويعبدونه من دون الله تعالى ويتوهمون انه لا يأكل الطعام ولطعامه قومه عليه سراً يدخلونه إلى بيوته لا يعلم من أين يجيئون به فإن اتفق لأحد من الرعية أن يلقى الابل التي عليها زاده قتل لوقته في موضعه وهو يشرب الشراب بحضرة خاصة أصحابة وشرابه يعمل من الذرة مقوى بالعسل وزيه ليس سراويلات من صوف رقيق والاتشاح عليها بالثياب الرفيعة من الصوف الاسماط والخز السومي والديباج الرفيع ويده مطلقة في رعاياه ويسترق من شاء

منهم امواله المواشي من الغنم والبقر والجمال والخيل وزرع بلدهم أكثرها الذرة واللوبياء ثم القمح وأكثر رعاياه عراة مؤتزرون بالجلود ومعايشهم من الزرع واقتناء المواشي وديانتهم عبادة ملوكهم يعتقدون أنهم الذين يحيون ويميتون ويمرضون ويصحون. ومن المسائل التي حققها ياقوت ما قاله في وصف الرقيم الذي جاء ذكره في القران وان فيه أصحاب الكهف أن هذا الكهف بين عمورية ونيقية وبينه وبين طرطوس عشرة أيام أو احد عشر يوماً وكان الواثق قد وجه محمد بن موسى المنجم إلى بلاد الروم (الأناضول) للنظر إلى أصحاب الكهف والرقيم قال فوصلنا إلى بلد الروم فإذا هو جبل صغير قدر أسفله اقل من ألف ذراع وله سرب من وجه الأرض فتدخل السرب فتمر في خسف من الأرض مقدار ثلاثمائة خطوة فيخرجك إلى رواق في الجبل على أساطين منقورة فيه عدة أبيات منها بيت مرتفع القبة مقدار قامة عليها باب حجارة فيه الموتى ورجل موكل بهم يحفظهم معه خصبان وإذا هو يحيدنا عن أن نراهم ونفتشهم ويزعم انه لا يأمن من أن يصيب من التمس ذلك آفة في بدنه يريد التمويه ليدوم كسبه فقلت دعني انظر إليهم وأنت بريء فصعدت بمشقة عظيمة غليظة مع غلام من غلماني فنظرت إليهم وإذا هم في مسوح شعر تتفتت في اليد وإذا أجسادهم مطلية بالصبر والكافور ليحفظها وإذا جلودهم لاصقة بعظامهم غير أني أمررت يدي على صدر احدهم فوجدت خشونة شعره وقوة ثيابه ثم أحضرناه ليتوكل بهم طعاماً وسألنا أن نأكل كل منه فلما أخذناه منه ذقناه وقد أنكرت أنفسنا وتهوعنا وكأن الخبيث أراد قتلنا أو قتل بعضنا ليصبح له ما كان يموه به عند الملك انه فعل بنا هذا الفعل أصحاب الرقيم فقلنا له أنا ظننا أنهم أحياء يشبهون الموتى وليس هؤلاء كذلك فتركناه وانصرفنا. ومن العجائب التي نقلها في قومسين أي كرمان شاء أن فيها الدكان الذي اجتمع عليه ملوك الأرض منهم فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم عند كسرى أبرويز وهو دكان مربع مائة ذراع في مثلها من حجارة مهندمة مسمرة بمسامير من حديد لا يبين فيها ما بين الحجرين فلا يشك من رآه انه قطعة واحدة. ومما ذكرناه في كرخ بغداد ولما ابتنى المنصور مدينة بغداد أمر أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب سوق فلم يزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة

الروم رسولاً من عند الملك فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة حتى ينظر إليها ويتأملها ويرى سورها وأبوابها وما حولها من العمارة ويصعده السور حتى يمشي من أوله إلى آخره ويريه قباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك ففعل الربيع ما أمره به فلما رجع إلى المنصور قال له: كيف رأيت مدينتي قال: رأيت بناء حسناً ومدينة حصينة إلا أن أعداءك فيها معك قال: من هم قال: رأيت السوقة يوافي الجاسوس من جميع الأطراف فيدخل الجاسوس بعلة التجارة والتجار هم برد الآفاق فيتجسس الأخبار ويعرف ما يريد ويتصرف من غير أن يعلم به احد فسكت المنصور فلما انصرفت البطريق أمر بإخراج السوقة من المدينة وتقدم إلى إبراهيم بن حبيش الكوفي وخراس بن المسيب اليماني بذلك وأمرهما أن بيينا ما بين الصراة ونهر عيسى سوقاً وان يجعلاها صفوفاً ورتب كل صنف في موضعه وقال اجعلا سوق القصابين في آخر الأسواق فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع. . . ولياقوت اقتدار عظيم في وصف أخلاق الشعوب وعاداتهم خصوصاً ما يحققه بنفسه مثل كلامه على أهل مرباط فرضة مدينة ظفار قال: وأهلها عرب وزيهم وفي العرب القديم وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة وذلك انه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم ويسامرون الرجال الذين لا حرمة بينهم ويلاعبهم ويجالسهم إلى أن يذهب أكثر الليل فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته وإذا هي تلاعب آخر وتماشيه فيعرض عنها ويمضي على امرأة غيره فيجالسها كما فعل بزوجته وقد اجتمعت بكيش بجماعة كثيرة منهم رجل عاقل أديب يحفظ شيئاً كثيراً وأنشدني إشعاراً وكتبتها عنه فلما طال الحديث بيني وبينه قلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا اعرف صحته فبدرني وقال: لعلك تعني السمر قلت ما أردت غيره فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح وبالله اقسم انه لقبيح ولكن عليه نشأنا وله مذ خلقنا ألفنا ولو استطعنا أن نزيله لا زلناه ولو قدرنا لغيرناه ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين عليه واستمرار العادة به. ومن ذلك ما ذكره في أمانة أهل قزدار من نواحي الهند: وفي كتاب أبي علي التنوخي حدثني أبو الحسن علي بن لطيف المتكلم على مذهب أبي هاشم قال: كنت مجتازاً بناحية قزدار مما يلي سجستان ومكران وكان يسكنها الخليفة من الخوارج وهي بلدهم ودارهم

فانتهيت إلى قربة لهم وأنا عليل فرأيت قراح بطيخ فابتعدت واحدة فأكلتها فحممت في الحال ونمت بقية يومي وليلتي في قراح البطيخ ما عرض لي احد بسوء وكنت قبل ذلك دخلت القرية فرأيت خياطاً شيخاً في مسجد فسلمت إليه رزمة ثيابي وقلت: تحفظها لي فقال: دعها في المحراب فتركتها ومضيت إلى القراح فلما أتيت من الغد عدت إلى المسجد فوجدته مفتوحاً ولم أر الخياط ووجدت الرزمة بشدها في المحراب فقلت: ما اجهل هذا الخياط ترك ثيابي وحدها وخرج ولم اشك في انه حملها بالليل إلى بيته وردها من الغد إلى المسجد فجلست افتحها واخرج شيئاً منها فإذا أنا بالخياط فقلت له: كيف خلفت ثيابي فقال: أفقدت منها شيئاً قلت: لا قال: فما سؤالك قلت: أحببت أن اعلم فقال: تركتها البارحة في موضعها ومضيت إلى بيتي فأقبلت أخاصمه وهو يضحك ثم قال: انتم قد تعودتم أخلاق الأراذل نشأتم في بلاد الكفر التي فيها السرقة والخيانة وهذا لا نعرفه ههنا لو بقيت ثيابك مكانها إلى أن تبلى ما أخذها غيرك ولو مضيت إلى المشرق والمغرب ثم عدت لوجدتها مكانها فانا لا نعرف لصاً ولا فساداً ولا شيئاً مما عندكم ولكن ربما لحقنا في السنين الكثيرة شيء من هذا فنعلم انه من جهة غريب قد اجتاز بنا فنركب وراء فلا يفوتنا فندركه ونقتله أما نتأول عليه بكفره وسعيه في الأرض بالفساد فنقتله أو تقطعه كما نقطع السراق عندنا من المرفق فلا نرى شيئاً من هذا قال: وسألت عن سيرة أهل البلد بعد ذلك فإذا الأمر على ما ذكره فإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل وليس لأكثرهم أبواب وإنما شيء يرد الوحوش والكلاب. وذكر في باشغرد قال كان المقتدر بالله قد أرسل احمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى أمير المؤمنين ثم مولى محمد بن سليمان إلى ملك الصقالبة وكان قد اسلم هو وأهل بلاده ليفيض عليهم الخلع ويعلمهم الشرائع الإسلامية فحكى جميع ما شاهده منذ خرج من بغداد إلى أن عاد وكان انفصاله في صفر سنة 309. وهنا روى عبارة ابن فضلان في الباشغراد أو الباشقرد فقال أنهم قوم من الأتراك من اشد الناس انداماً على القتل وهم يحلقون لحاهم وذكر من عاداتهم كل غريب فبعد أن أورد ياقوت كل هذا على علاته قال: أما أنا فأني وجدت بمدينة حلب طائفة كبيرة يقال لهم الباشغردية شقر الشعور والوجود عن بلادهم وحالهم فقال أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة امة من الإفرنج يقال لهم

الهنكر (المجر) وتحن مسلمون رعية لملكهم في طرف بلاده نحو ثلاثين قرية كل واحدة تكاد أن تكون بليدة إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سوراً خوفاً من أن نعصي عيسى ونحن في وسط بلاد النصرانية فشمالينا الصقالبة وقبلينا بلاد البابا يعني رومية والبابا رئيس الإفرنج وهو عندهم نائب المسيح كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم. قال وفي غريبنا الأندلس وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها قال ولساننا لسان الإفرنج وزينا زيهم ونخدم معهم في الجندية ونغزو معهم كل طائفة لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام. قال ياقوت: فسألته عن سبب إسلامهم فقال سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون انه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار وسكنوا بيننا وتلطفوا في تعريفنا وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام فهدانا الله والحمد الله فأسلمنا جميعاً ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقه فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم: فسألته لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج فقال يحلقها منا المتجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج أما غيرهم فلا. قلت فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم فقال: من ها هنا إلى القسطنطينية نحو شهرين ونصف ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك وأما الاصطخري فقد ذكر في كتابه من باشجرد إلى بلغار خمس وعشرين مرحلة ومن باشجرد إلى البجناك وهم صنف من الأتراك عشرة أيام. ووصف بلاد برغر قال: قال علي بن الحسين المسعودي مدينة البرغر على ساحل بحر مانطس وهو بحر متصل بخليج القسطنطينية وارى أنهم في الإقليم السابع وهم نوع من الترك والقوافل متصلة منهم إلى بلاد خوارزم وارض خرسان ومن بلاد خوارزم إليهم إلا أن ذلك بين بوادي غيرهم من الترك قال وملك البرغر في وقتنا هذا وهو سنة 332 مسلم اسلم أيام المقتدر بعد العشر والثلمائة لرؤيا رآها وقد كان حج له ولد فورد بغداد وحمل معه المقتدر لواء وسواداً ومالاً ولهم جامع وهذا الملك يغزو القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداً ويشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وارض برجان والجلالقة وافرنجة ومنه إلى القسطنطينية نحو شهرين بين عمائر وغمائر والبرغرامة عظيمة شديدة البأس ينقاد إليها من جاورها من الأمم ولا تمتنع القسطنطينة منهم إلا ياسوار وكذلك ما

جاورها من البلدان والليل في بلادهم في غاية القصر في الصيف حتى أن احدهم لا يفرغ من طبخه حتى يأتيه الصبح، قلت أنا (ياقوت) هذه الصفة جميعها صفة يلغار وما أظنهما إلا واحداً وأنهما لغتان فيه لسانين وليس فيه ما أنكرته إلا قوله أن البرغر على سواحل بحر مانطس وما أظن بينه وبين ساحل بحر مانطس إلا مسافة بعيدة. وهكذا ترى ياقوت يذكر عبارة من سلفه في وصف الشعوب والبلدان ثم يشفعها بإخباراته وكثيراً ما ينقل مالا يعتقد صحته كما نقل ما قيل في الصين في اثنتي عشرة صفحة مقدماً عليه قوله: وهذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته إلا اضمن صحته فان كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وان كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس فان هذا بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها إنما يقصد التجار أطرافها. ونقل المؤلف عن الاصطخري في وصف ما وراء النهر قال: ولقد شهدت منزلاً بالصغد قد ضربت الأوتاد على بابه فبلغني أن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة لا يمنع من نزوله طارق وربما ينزل بالليل بيتاً من غير استعداد المائة والمائتان والأكثر بدوابهم فيجدون من علف دوابهم وطعامهم ورقادهم من غير أن يتكلف صاحب المنزل شيء من ذلك لدوام ذلك منه الغالب على أهل ما وراء النهر صرف مفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد ووجوده الخيرات إلا القليل منهم وليس من بلد ولا من منهل ولا مفازة مطروقة ولا قرية أهلة إلا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. قال وبلغني أن بما وراء النهر زيادة على عشرة ألاف رباط في كثير منها إذا نزل الناس اقيم لهم علف دوابهم وطعام أنفسهم إلى أن يرحلوا وأما بأسهم وشوكتهم فليس في الإسلام ناحية اكبر حظاً في الجهاد منهم وذلك أن جميع حدود ما وراء النهر دار حرب فمن حود خوارزم إلى اسبيجاب فهم الترك الغزية ومن اسبيجاب إلى أقصى فرغانة الترك الخزلخية ثم يطوف بحدود ما وراء النهر من الصغدية وبلد الهند من حد ظهر الختل إلى حد الترك في ظهر فرغانة فهم القاهرون لأهل هذه النواحي وستفيض انه ليس للإسلام دار حرب هم اشد شوكة من الترك يمنعونهم من دار الإسلام وجميع ما وراء النهر ثغر يبلغهم نفير العدو ولقد اخبرني من كان مع نصر بن احمد في غزاة اشر وسنة أنهم كانوا يحزرون ثلثمائة ألف رجل انقطعوا عن عسكرة فضلوا أياماً قبل أن يبلغهم نفير العدو ويتهيأ لهم

الرجوع وما كان فيهم من غير أهل ما وراء النهر كبير احد يعرفون بأعيانهم. وبلغني أن المعتصم كتب إلى عبد الله ابن طاهر كتاباً يتهدده فيه فأنفذ الكتاب إلى نوح بن أسد فكتب إليه أن بما وراء النهر ثلاثمائة ألف قرية ليس من قرية إلا ويخرج منها كذا فارس وراجل لابنتين على أهلها فقدهم وبلغني أن بالشاش وفرغانة من الاستعداد ما لا يوصف مثله عن ثغر من الثغور حتى أن الرجل الواحد من الرعية عنده ما بين مائة ومائتي دابة وليس بسلطان وهم مع ذلك أحسن الناس طاعة لكبرائهم والطفهم خدمة لعظمائهم حتى دعا ذلك الخلفاء إلى أن استدعوا من ما وراء النهر رجالاً وكانت الأتراك جيوشاً تفضلهم على سائر الأجناس في البأس والجرأة والإقدام وحسن الطاعة فقد الحضرة منهم جماعة صاروا قواداً وحاشية للخلفاء ونقاباً عندهم مثل الفراعنة الأتراك الذين هم شحنة دار الخلافة ثم قوي أمرهم وتوالدوا وتغيرت طاعتهم حتى بلغوا على الخلفاء مثل الافشين وآل أبي الساج وهم من اشروسنة والاخشيند من سمرقند. . قلنا وهذا مبدأ دخول الأتراك في خدمة الخلفاء. ومثل ذلك ما قاله في وصف خوارزم قال: ذكروا في سبب تسميتها بهذا الاسم أن احد الملوك القدماء غضب على أربعمائة من أهل مملكته وخاصة حاشيته فأمر بنفيهم إلى موضع منقطع عن العمارات بحيث يكون بينهم وبين العمائر مائة فرسخ فلم يجدوا على هذه الصفة إلا موضع مدينة كانت وهي إحدى مدن خوارزم فجاؤوا بهم إلى هذا الموضع وتركوهم وذهبوا فلما كان بعده مرة أخرى جرى ذكرهم على بال الملك فأمر قوماً بكشف خبرهم فجاؤوا فوجدوهم قد بنوا أكواخاً ووجدوهم يصيدون السمك وبه يتقوتون وإذا حولهم حطب كثير فقالوا لهم كيف حالكم فقالوا عندنا هذا اللحم وأشاروا إلى السمك وعندنا هذا الحطب فنحن نشوي هذا بهذا ونتقوت به فرجعوا إلى الملك واخبروه بذلك فسمي ذلك الموضع خوارزم لان اللحمة بلغة الخوارزمية خوار والحطب رزم فصار خوارزم فخفف استشقالاً لتكرير الراء. واقر أولئك الذين نفاهم بذلك المكان واقطعهم إياه وأرسل إليهم أربعمائة جارية تركية وأمدهم بطعام من الحنطة والشعير وأمرهم بالزرع والمقام هناك فلذلك في وجوههم اثر الترك وفي طباعهم أخلاق الترك وفيهم جلد وقوة وأحوجهم إلى مقتضى القضية للصبر على الشفاء فعمروا هناك دوراً وقصوراً وكثروا وتنافسوا في البقاع فبنوا قرى ومدناً وتسامع بهم من يقاربهم من مدن خراسان فجاؤوا وساكنوهم فكثروا وغزوا

فصارت ولاية حسنة عامرة. وكنت قد جئتها في سنة 616 فما رأيت ولاية قط أعمر منها فإنها على ما هي عليه رداءة أرضها وكونها سنجة كثيرة النزور متصلة العمارة متقاربة بالقرى كثيرة البيوت المفردة والقصور في صحاريها قل ما يقطع نظرك في رساتيقها على موضع لا عمارة فيه هذا مع كثرة الشجر بها والغالب عليه شجر التوت والخلاف لاحتياجهم إليه لعمائرهم وطعم دود الابريسم ولا فرق بين المار في رساتيقها كلها والمار في الأسواق وما ظننت أن في الدنيا بقعة سعتها حوارزم وأكثر من أهلها مع أنهم قد مرنوا على ضيق العيش والقناعة بالشيء اليسير وأكثر ضياع خوارزم مدن ذات أسواق وخيرات ودكاكين وفي النادر أن يكون قرية لا سوق فيها مع امن شامل وطمأنينة تامة. . قال: والشتاء عندهم شديد جداً بحيث إني رأيت جيحون نهرهم وعرضه ميل وهو جامد والقوافل والعجل الموقرة ذاهبة وآتية عليه. وقد قال في وصف جيحون: وقد شاهدته وركبت فيه ورأيته جامداً وكيفية جموده انه إذا اشتد البرد وقوي كلبه جمد أولاً قطعاً ثم تسري تلك القطع على وجه الماء فكلما ماست واحدة الأخرى التصقت بها ولا يزال يعظم حتى يعود جيحون كله قطعة واحدة ولا يزال ذلك الجامد يثخن حتى يصير ثخنه نحو خمسة أشبار وباقي الماء تحته جار فيحفر أهل خوارزم فيه آباراً بالمعاول حتى يخترقوه إلى الماء الجاري ثم يستقوا منه الماء لشربهم ويحملوه في الجرار إلى منازلهم فلا يصل إلى المنزل إلا وقد جمد نصفه في بواطن الجرة فإذا استحكم جمود هذا النهر عبرت عليه قوافل والعجل بالبقر ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق حتى رأيت الغبار يتطاير عليه كما يكون في البوادي ويبقى على ذلك نحو شهرين فإذا انكسرت سورة البرد تقطع قطعاً كما بدأ في أول أمره إلى أن يعود إلى حالته الأولى وتظل السفن في مدة جماده ناشبة فيه لا حيلة لهم في اقتلاعها منه إلى أن يذوب وأكثر الناس يبادرون برفعها إلى البر قبل الجماد. وبعد فقد علم القارئ من وصف مصنف ياقوت البديع انه خاص ببلاد الشرق والإسلام منه خاصة وما يذكره بالعرض من البلاد القاصية كبلاد الروم فانه يأخذه بتحفظ وقد قال في الروم: وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليذر الناظر في كتابي هذا ومن كان عنده أهلية ومعرفة وقتل شيئاً منها علماً فقد أذلت له في إصلاحه مأجوراً

وقال في زقاق بن واقف: وقد تتغير أسماء الأماكن حسب تغير أهلها. وقال في مادة عكوتان: وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب (باليمن) وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه. ومؤلفنا لا تفوته شاردة إلا ويأتي بنموذج منه قوله في نقيرة في كتاب أبي حنيفة إسحاق بن بشر بخط العبدري في مسير خالد بن الوليد رضي الله عنه من عين التمر ووجدوا في كنيسته صبياناً يتعلمون الكتابة في قرية من قرى عين التمر يقال لها النقيرة وكان فيهم حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه. وذكر في ترجمة أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي شيخ الصوفية ببلاد فارس وواحد الطريقة في وقته انه لما توفي بشيراز سنة 371 عن نحو مائة وأربع سنين خرج مع جنازته المسلمون واليهود والنصارى. وهنا نختم هذا البحث - الذي طال لنا توخينا نقل عبارات ياقوت برمتها لمتانتها وسلاستها ولان فيها من الفصح ما يجدر بطلاب الآداب واللغة أن يقبسوه - بقصة وقعت لفقيه مع خليفة وفيها عبرة العبر في خراب البلدان وعمرانها بل هي السر الأعظم فيهما. قال: كان أبو خالد عبد الرحمن بن زياد بن انعم الأفريقي قاضيها وهو أول مولود ولد في الإسلام بافريقية تكلموا فيه فقدم على أبي جعفر المنصور ببغداد قال: كنت اطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة فأدخلني يوماً منزلاً فقدم إلي طعاماً ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ثم قدم إلي زبيباً ثم قال: يا جارية عندك حلواء قالت: لا قال ولا التمر قالت: ولا التمر فاستلقى ثم قرأ هذه الآية (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستحلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون قال: فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إلي فقدمت عليه والربيع قائم على رأسه فاستدناني وقال: يا عبد الرحمن بلغني انك كنت تفد على بني أمية قلت: اجل قال: فكيف رأيت في سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت ألينا قال: فقلت يا أمير المؤمنين رأيت أعمالاً سيئة وظلماً فاشياً والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور والظلم إلا ورايته في سلطانك وكنت ظننته لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاماً ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ثم قدمت زبيباً ثم قلت يا جارية عندك حلواء

قالت: لا قلت: ولا تمر قالت: ولا التمر فاستلقيت ثم تلوت (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستحلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون) فقد والله اهلك عدوك واستخلفك في الأرض ما تعمل قال: فنكس رأسه طويلاً ثم رفع رأسه وقال: كيف لي بالرجال قلت أليس عمر ابن عبد العزيز كان يقول أن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فان كان براً أتوه ببرهم وان كان فاجراً أتوه بفجورهم: فاطرق طويلاً فاومأ إلي الربين أن اخرج فخرجت وما عدت إليه.

رحلة إلى البصرة وجوارها

رحلة إلى البصرة وجوارها 1 في اليوم التاسع والعشرين من شهر المحرم لهذه السنة امتطينا ظهر إحدى البواخر العثمانية فأقلعت بنا من بغداد في اليوم الثاني قاصدة البصرة الفيحاء، وهذه الباخرة حسنة جداً توفرت فيها أسباب الراحة للركاب والسياح وهي بنظامها وترتيبها أشبه بنظام البواخر الكبرى التي تخر في انهار الغرب وبحاره. مما جعلنا نطري مدحت باشا وهو في رمسه على ما أتاه من ضروب الإصلاح واحدث من المشاريع العمرانية في هذا القطر ومن جملتها إنشاؤه هذه الشركة التي أحدثت ذلك الانقلاب الاقتصادي والتجاري في مرافق القطر العراقي فقربت المسافة بين بغداد والبصرة بل بين أوربا والعراق. وقد أزيلت بواسطتها كل المشاكل والعوارض التي تقف سداً حائلاً في نمو التجارة الوطنية وانتشارها. وكانت وسائط النقل والمواصلات بين الزوراء والفيحاء في حكم العدم قبل أيام ذلك الوزير وجل ما كان هو السفن الشراعية تقطع المسافة ما بين تينك الحاضرتين في ثلاثين يوماً أو أكثر تبعاً لحالة الجو وهبوب الهواء في حين تقطع السفن التجارية ذلك الطريق وطوله نحو 520 ميلاً في ثلاثة أيام إذا كان الموسم في الربيع والشتاء وخمسة أيام إذا كان صيفاً أو خريفاً دع عنك الراحة التي يجدها المسافر في ذهابه وإيابه هذا عدا ما في ذلك من الأمن على الأرواح والأموال. جلسنا ومن كان معنا من ركاب الدرجة الأولى فوق سطح الباخرة لتتمتع الأنظار بما كان عن اليمين والشمال من المشاهد الطبيعية التي تأخذ بمجامع القلوب وتسحر الألباب، وكانت باخرتنا تسير الهوينا بالرغم من أن شحنتها نحو 250 طناً وإنها سريعة الجري إذ تقطع في الساعة 12 ميلاً بحرياً. ومنشأ ذلك ضعف جريان دجلة، ولا تدري هل هذا الضعف الذي انحل جسم الأمة وأنهك قواها قد سرى إلى أشجارها وأنهارها حتى كاد يقف دجلة عن السير، أو أن دجلة أحسن بعجز الأمة وحكومة البلاد عن الإصلاح وإعمار الأراضي الطيبة وتوزيع مياهه فيها على ما يتطلبه الفن الحديث فأصابه فتور وكان منه ما كان أو انه غضب فنجل بمائة النمير - ويحق له البخل - على قوم لا يستحقون هذه النعم التي توفرت لهم أو انه ادخر ما عنده إلى الوقت الذي يدب فيه دبيب الحياة في جسم الأمة العربية فتنشط من عقالها إلى شق الأنهار وحفر الجداول وتقسيم مياه دجلة عليها؟؟ لست

ادري، وغاية ما في الباب أن دجلة ضعيفة جربته ويعللون لذلك أن وقت الفيض لم يحن بعد لأنه يبتدئ من آذار وينتهي بانتهاء شهر أيار على الحساب الغربي إلا أن هناك مؤثرات أوجبت هذه البطاءة في سير دجلة وهو ذهاب المياه في الاهوار ضياعاً من جون أن تنتفع منها التربة، وقد صادف في طريقنا ظهور جزر كثيرة في وسط دجلة فكان ربان الباخرة وهو من أبناء يعرب المقتدرين يتقي الأخطار بفطنته ودرايته فسار بها على مقتضى الحكمة والخبرة خشية الارتطام بإحدى الجزر والجنوح إلى الشاطئ وهذا العارض الطبيعي قد يسر لنا مشاهدة ما أمامنا من الرياض والغياض والحقول وقد كنا نسمع عن كثب أنين النواعير وخرير المياه وحفيف الأشجار وتغريد الأطيار وصغار الخراف وخوار العجول التي هي اوقع في النفوس من أوتار الموسيقار وألذ على القلوب من ضرب البيانو وغناء ربات الجمال. وكان النسيم عليلاً فيهب علينا من جهة الغرب حاملاً بين برديه أريج الأزهار وروائح الإثمار فأنشدنا قول الشاعر: إن هذا الربيع شيء عجيب ... يضحك الأرض من بكاء السماء ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء واصلت الباخرة بنا السير وهي تشق عباب دجلة الجميل فما وقعت أنظارنا إلا على ارض ضاحكة مستبشرة قد كستها الطبيعة حلى خضراء تبهج الناظرين وكنا نرى أشجار النخيل الباسقة ممتدة على ضفتي النهر وبينها القصور الشاهقة والمباني السامقة وكانت تحجبها عنها نور الشمس أحياناً لارتفاعها وذهابها صعداً في الهواء وممرنا بنهر ديالة المشهور في كتب العرب باسم نهر تأمرا ومنبع هذا النهر من غربي اسداباد في ديار العجم عند الدرجة 30 والدقيقة 40 عرضاً شمالياً وطوله 350 متراً ومصبه في ساحل دجلة الأيسر على بعد بضعة فراسخ من بغداد وهو يمر بخرسان العراق وتتفرع منه بضعة انهر كنهر الخالص وبلدوزر وغيرهما، وكان لهذا النهر شأن خطير في حضارة القطر العراقي، ويجري فيه من المياه ما يناهز 300 متر مكعب في الثانية أيام الفيض و50 متراً مكعباً زمن هبوط المياه بيد إنها لا توجد في كل الشهور ويبتدئ موسم فيضه من شهر تشرين الثاني وينتهي في تموز على الحساب الرومي، وموقف هذا النهر يساعد على أسقاء 200 ألف هكتار من أخصب البقاع وأكثرها استعداداً لزراعة قصب السكر والقطن على اختلاف أنواعه.

وقد بلغ عرض دجلة في هذا الموضع نحو 380 متراً مكعباً وكمية ما يجري فيه من المياه تبلغ 1200 متر مكعب في الثانية على انه في فصل الربيع يبلغ نحو 4000 متر مكعب ويظل يتناقض حتى يستقر في شهر كانون الأول والثاني على 450 متراً مكعباً في الثانية وإذا دخل شهر شباط ابتدأ الفيض تدريجياً حتى يبلغ منتهاه في شهر آذار وأكثر ما رأيناه في طريقنا من البساتين والحقول والمزارع يسقى بالكرود والآلات الرافعة للمياه تحرك بالبخار أو بالبترول، وفقر الفلاح وغناه منوطان بقربه من المدينة بغداد وبعده عنها فكلما دنا منها كثر ماله وحسنت حاله وازدادت أرباحه لان أكثر نواتج بقاعه من بقول وفاكهة وإثمار تجد في أسواقها تجارة نافقة والأمر بالعكس مع الفلاح الذي بعدت أرضه عن المدينة، وقد سرنا ما رأيناه من نشاط الفلاح البغدادي واجتهاده في تربية النخيل وأعمار الأراضي الغامرة وحرثها والاستفادة من تربتها وآثار ذلك بادية في حقوله وكرومه وظاهرة في جنائنه ورياضه ولو احكم وسائل السقي واقتفى اثر الفلاح الأوربي في الحرث على الأصول الحديثة وعضدته الحكومة بالمحافظة على زراعة وضرعه وكفلت له السلامة من الغرق لكانت البلاد اليوم في ارفع درجات العمران وفي اوج العلاء والتقدم. وعلى طول زهاء عشر ساعات امتدت على ضفتي دجلة قصور قوراء توفرت فيها أسباب الرفاهية والنعيم قد شيدها أعيان الوزراء وموسروها على الطراز الأوروبي ولم يذخروا واسعاً في إعداد كل أدوات الزينة من الأثاث والرياش الفاخرة مما لا يقل عما في قصور الملوك وعظماء المتمولين في البلاد الأخرى وفيها يقطن الأعيان فصلي الربيع والصيف لقضاء الشهوات والتنعم بلذيذ العيش الذي هو بعرفهم عبارة عن اللهو والقصف والملبس الجميل والمأكل الفاخر وأكثر ما شاهدناه من آثار العمران لأغنياء الإسرائيليين والمسيحيين وما بقي وهو شيء قليل بيد المسلمين. ومع هذا فانك تجد الفرق ظاهراً بين المعيشتين فترى النظام والترتيب وحسن الذوق يغلب على قصور غير المسلمين وبعكسه تجد في دور أغنيائنا على أن ما ينفقه المسلم في سبيل انه وراحته يبلغ أضعاف أضعاف ما ينفقه المسيحي والإسرائيلي، وما ذلك إلا من معرفة هؤلاء طرق الاقتصاد وتفننهم بالإدارة المنزلية وعدم إلمامنا بالمسائل الاقتصادية وإهمالنا أمر العناية والتحقيق في إدارة بيوتنا وتنظيم شؤون اسرنا.

وما اقبلنا على طاق كسرى إلا واستقبلنا فلاة مقفرة قاحلة فكنا نمر الساعة والساعتين فلا تقع الأنظار إلا على خرائب طامسة وإطلال دراسة أكل الدهر عليها وشرب ولكن ما فيها من نفيس الآثار كالتلال والروابي التي انبثت فيها التصاوير والرسوم ينطق بلسان فصيح بما كان لهذه المواطن من عظيم الشأن ورفيع المقام في قديم الزمان، ولما لاحت لنا عن كثب بقايا طاق كسرى انوشروان فخر الدولة الساسانية وإطلال إيوانه المشهور سكبت منا العبرات وتصاعدت من أنفاسنا الزفرات إلى السماء حزناً على ما كانت عليه هذه اليدار من الحضارة والعمران فتقلبت عليها الأزمان ونزلها من لا يصلح ولا تصلح له، وأنشدنا قول الشاعر العربي: امست خلاء وأمسى أهلها ارتحلوا ... اخنى عليها الذي اخنى على لبد لطاق كسرى هذا شأن خطير في تاريخ العراق القديم وهو من الآثار الجليلة التي تمثل للاعصرة المتأخرة عظمة الفرس وضخامة تمدنهم وعلو كعب دولتهم في الحضارة والمدنية، وقد أفاض المؤرخون من المتقدمين والمحدثين في وصف هذا الإيوان العظيم الذي تصدر فيه كسرى العادل ويعتبر مؤرخو العرب أن له مسيساً بتاريخ عرب المناذرة في الحيرة لا تصالهم بدولة الفرس، وممن كتب عنه ابن الأثير المؤلف المشهور قال في الكامل:. . . وهو - يعني الإيوان - مبني بالآجر وهو على مرتفع من الأرض طوله 150 ذراعاً في عرض مثلها وأمامه ميدان طوله 80 ذراعاً في 25 وقيل سعة الإيوان من ركنه إلى ركنه 90 ذراعاً. . وكان فيه من التماثيل والصور شيء كثير من جملتها صورة كسرى انوشروان وقيصر ملك إنطاكية وهو يحاصرها ويحاربها فلما فتحت المدائن سنة 16 هجرية على يد سعد بن عبادة ترك ما فيه من التماثيل واتخذه مصلى وصلى فيه صلوة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينها وقيل أن المسلمين احرقوه بعد ذلك بقليل هذا ما قاله ابن الأثير وهو من رجال القرن السابع للهجرة غير أن ما جاء في كلامه ليس إلا وصف الإيوان على عهد الفتح الإسلامي ولم يشر إلى حالته في عصره وجاء ذكر هذا الإيوان عرضاً في مقدمة تاريخ بغداد للخطيب البغداجي قال المدائن لكثرة ما بنى بها الملوك والأكاسرة واثروا فيها من الآثار. . . وتسمى المدينة الشرقية العتيقة وفيها القصر الأبيض القديم. وتتصل به المدينة التي كانت الملوك تنزل بها وفيها الإيوان ويعرف

باسانير. . . فالظاهر من كلام الخطيب أن الإيوان كان في المدائن عاصمة دولة الفارسيين وهو الصحيح الثابت ويؤيده ما وجدناه من الأنقاض والخرائب التي تشير إلى وجود المدينة وقد نقب بعض الباحثين في الآثار القديمة فوجد هناك بعض النقوش والكتابات على الآجر المشوي اهتدى بواسطتها إلى حدود المدينة وعثر على بعض أنقاض سورها الذي ورد ذكره في مقدمة تاريخ بغداد للخطيب أيضاً حيث قال: وكان الإسكندر. . . ينزلها يعني المدائن. . . بونى فيها مدينة عظيمة وجعل عليها سوراً أثره باق إلى وقتنا هذا موجود الأثر وهي المدينة التي تسمى الروضة في جانب دجلة الشرقي. والإيوان في موضع يبعد عن بغداد ست ساعات من طريق البر وعشرات ساعات من جهة النهر بينه وبين ساحل دجلة الأيسر مسافة 15 دقيقة وهو بناء ضخم هائل يبلغ طوله نحو 42 متراً في عرض 25 متراً وارتفاعه يناهز 30 متراً وعرض الباقي من العقد إلى أعلاه وثخنه 8 طاباقات لو متران ونصف وهو قومي الشكل ويبلغ مقدار قوسه 14 متراً وعرض حائط الإيوان الذي عليه طرف العقد زهاء خمسة أمتار وعرض الباب الذي يكون مقابلاً لك إذا وقفت في وجه الإيوان ووجهك إلى الجنوب الغربي متران و20 سنتيمتراً وارتقاء خمسة أمتار وهو معقود مقوس. وفي جانبي الجدار الذي فيه الباب المذكور من أعلاه روزنتان نافذتان إلى الوجه الآخر من الجدار يبلغ ارتفاع كل منهما مترين في عرض متر وارتفاع الجدار المار الذكر يناهز 18 متراً وفي حائط الإيوان الشرقي مما يلي وجهه باب طوله سبعة أمتار ونصف متر وفي عرض متر 87 سنتيمتراً وقد شق عقده إلى أعلى الإيوان ويزعم أهل العراق أن الشق قد حدث وهلة يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فتطير من ذلك كسرى ورسخ في ذهنه أن انقضاء حكم الفرس وزوال ملكهم قريب الوقوع، وفي شرقي الجدار المذكور جدار آخر قائم قد سقط أعلاه وتداعت بعض أركانه من طرفه الشرقي ولم يبق منه إلا ما يناهز طوله نحو 31 متراً في عرض سبعة أمتار في ارتفاع قرابة 30 متراً وفي وجهه الذي هو تجاه الشمال الشرقي آثار نقوش ومشاك وأعمال هندسية في البناء بديعة الشكل حسنة الوضع وفي أعلاه تجاه الجنوب الغربي اثر عقد يدلنا على انه كان هناك إيوانان هناك إيوان آخر صغير غير هذا الكبير وقد هدم، وطوله من الأرض إلى اثر العقد قرابة 8 أمتار، وفي وسط الجدار المذكور باب معقود

طوله 7 أمتار في عرض 4 أمتار و20 سنتيمتراً وفي ارتفاع متر و80 سنتيمتراً وبناء الإيوان بالجص والطاباق. هذا ما يمكن أن يقال عن الإيوان في هذا العهد وأنت ترى انه لم يبق منه إلا انقاض بالية لولا وجودها لاندرست رسوم هذا الصرح الفخم بيد أن ما بقي منه كاف لإظهار عظمة الفرس القدماء وحسن ذوقهم وطول باعهم في الفنون الهندسية وهذا الصرح الشاهق لا يقل ضخامة وفخامة عما شيده اليونان والرومان في البلاد التي دانت لهم واعضوا أهلها بأسيافهم وبلغت فيها حضارتهم أقصاها ومنتهاها. ولا جرم فالفرس أو لو تمدن زاهر ونسب عريق في الحضارة والمدينة، وقد وقف البحتري الشاعر الشهير على أطلال المدائن ففاه بقصيدة هي أحسن وأعذبها وارقها قال بعد أن عاتب زمانه وشرح حالته: حضرت رحلي الهموم فوج ... هت إلى ابيض المدائن عنسي اتسلى عن الحظوظ وآمي ... لمحل من آل ساسان درس ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي وهم خافضون في ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخسي مغلق بابه على جبل القب ... م ق إلى دارتي خلاط ومكس حلل لم تكن كإطلال سعدى ... في قفار من البسابس ملس ومساع لولا المحاباة مني ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس نقل الدهر عهدهن عن الجدة ... م حتى غدون أنضاء لبس فكأن الجرماز من عدم الأ ... م نس وإخلاله بنية رمس لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتماً بعد عرس وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس فاذا ما رأيت صورة انطا ... م كية ارتعت بين روم وفرس والمنايا مواثل وانوشر ... م وان يزجي الصفوف تحت الدرفس في اخضرار من اللباس على اص ... م فر يختال في صبيغة ورس وعراك الرجال بين يديه ... في خفوف منهم وإغماض جرس من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس

تصف العين أنهم جد أحياء ... ئهم لهم بينهم إشارة غرس يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس إلى أن قال: وكأن الإيوان من عجب الصن ... م عة جوب في جنب ارعن جلس يتظنى من الكآبة أن يب ... م دو لعيني مصبح وممسي مزعجاً بالفراق عن انس ألف ... عزاً ومرهقاً بتطليق عرس عكست حظه الليالي وبات الم - م ... مشتري فيه وهو كوكب نحس فهو يبدي تجليداً وعليه ... ككل من كلا كل الدهر مرسي مشخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوي وقدس لابسات من البياض فما تبصر منها ... م إلا غلائل برش ليس يدري اصنع انس لجن ... سكنوه ام صنع جن لانس وكأن اللقاء أول من أمس ... م ووشك الفراق أول أمس عمرت للسرور دهراً فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي غير نعي لاهلها عند اهلي ... غرسوا من ذكائها خير غرس أيدوا ملكنا وشدوا قواه ... بكماة تحت السنور حمس ولو أردنا أن تثبت كل ما جاء في وصف هذا البناء الشامخ من منظوم ومنثور لضاق بنا المقام واحتجنا إلى مجلد ضخم له تلو. بغداد=// إبراهيم حلمي العمر.

في ديار الغرب

في ديار الغرب قل سيروا في الأرض ليس كالسياحة تجدد الحياة وتزيد الاختبار وتعلم وتهذب وتزيد في الاعتبار بحوادث الليل والنهار. وإني لا تمنى لكل من ساعدته الحال أن ينهض ليعتبر ويتعلم ويتسلى فان النفس في قرارها تصدأ كما يصدأ الحديد بالرطوبة فهي تحتاج للنور وللحرارة وإلا فتذبل كالزهرة. قال وليم هازلت من مفكري الانكليز أن الوقت الذي أمضيناه في السياحة الأجنبية مقطوع من عمرنا مفصول من حياتنا إلى وصله ولا وسيلة إلى إدماجه والمرء خارج وطنه رجل آخر غير الذي كان هنالك حتى أن المسافر ليودع نفسه فيمن يودع ولله در القائل خرجت من موطني ومن نفسي فمن أراد أن ينسى الحزن والشجن فليذهب إلى غير بلده من بلاد الله يجد في عجيب المناظر وغريب الأحوال سلوة وروحاً وتغيب من عينه مذكرات الهموم وباعثات الأسى ولذلك كنت انفق حياتي خارج بلادي لو وجدت من يقرضني حياة أخرى أنفقها في وطني حتى اقضي حقوقه. كلمات حكمة وخبرة ولذلك ترى أكثر الأمم رقياً أكثرها سياحاً والعكس بالعكس. والانكليز والأميركان هم في المقدمة ثم يجيء الألمان والفرنسيس وغيرهم من أمم المدينة الحديثة وامتنا العربية يكون محلها في قائمة السياح في الآخر بالطبع لأنها اعتادت سير القهقري وأنا لو أخرجنا المصريين من جملة السائحين في الغرب لا تجد لنا إلا عدداً يضحك بالنسبة لأرباب الرحلات من الأمم. أما العرب السوريون ممن يهاجرون إلى أمريكا فهؤلاء لا يقصدون من رحيلهم إلا الكسب ولا يعرفون على الأغلب كيف يستفيد المرء من سياحته علماً وعملاً. نتمنى لامتنا أن يسيح منها العلماء والوجهاء والتجار والموظفون وأرباب الصنائع والزراعات الواسعة ممن يمكنهم ولو بعض الشيء تطبيق ما رأوه عند من ارتقوا عنهم مراحل. فهذه الطبقات الغنية هي التي تستفيد بالاحتكاك بغيرها من أهل طبقتها في الغرب إذا أخذت على نفسها البحث والدرس خلال التنقل وترويح النفس. السياحة لا تكلف اليوم من العناء والمال ما كانت تكلفة منذ مئة سنة فان العارف قد يستطيع

أن يطوف أهم عواصم العالم ولا ينفق في يومه أكثر من ليرة مرفهاً رفاهية لا تتيسر له في بلده ولو كان من أغنى أغنيائها لان البلاد في الغرب كلها منظمة ومعظم الفنادق والبيوت سواء في الأخذ بأسباب الراحة. وللعيش فيما خلا العواصم الكبرى سهل للغاية وهو ارخص مما هو في بلادنا فان المصطاف أو المشتي في سويسرا قد يستطيع أن يكون في عائلة ولا ينفق في شهره ثمن الطعام والمنام الجيد أكثر من 150 فرنكاً وهذا قلما تجد له مثيلاً في بلدة أوربية اللهم إلا في المدن الصغرى أو القرى وكل مدينة من مدن سويسرا حرية بأن يتعلم فيها الشرقي سنين لا أياماً ومن رأى مدينة أو ثنتين يكون قد رأى نموذجاً صالحاً من هذه المدينة الفاضلة. بيد أن من يسيح في الغرب لا يصح له أن يتخلى عن غثيان العواصم الأمهات مقر المدنيات الضخمة كرومية ولندن وباريز وبرلين وفينا وهذه العواصم يكتفي منها للسائح ببضعة أيام والأولى أن ينظر إلى دولاب الحركة في المدن الصغرى إذ يستطيع أن يحيط بها فكرة أما العواصم الكبرى فان أهلها قد ضاعوا فيها ولا تكاد تجد واحداً منهم يعرفها حق معرفتها فباريز مثلاً كلما غبت عنها أشهراً وعدت إليها تجد فيها غرائب جديدة وجواد فخمة لم تكن من قبل وكل شيء فيها يزداد على الزمن فخامة وعظمة فالفرع الواحد فيها إذا أراد درسه السائح الشرقي لا يتيسر له في اقل من بضعة أشهر ولكن النظرة الإجمالية يكفي لها خمسة عشر يوماً ومثلها سائر العواصم وأصعبها على السائح إحاطة لندن مدينة الثمانية ملايين نسمة ونيورك مدينة الخمسة ملايين. أن مدينة الغرب متشابهة في أكثر الأوضاع فمن رأى نموذجاً منها اكتفى والزيادة على ذلك من النوافل. من زار باريز مثلاً أعظم نموذج في الحضارة الحديثة. وخير لمن يعرف لغة مملكة في الأكثر أن يذهب إليها. وان كان من يعرف لغة أوربية كبرى مثل الفرنسية أو الانكليزية يستطيع أن يسيح بدون عناء في كل مملكة وبتفاهم مع أهلها ولا سيما أهل الطبقة العليا والتجار والعلماء. ثلاث لغات أصول هي التي تفرعت منها لغات القارات الثلاث أوربا وأميركا واوستراليا الانكلوسكسونية واللاتينية والسلافية فمن عرف الروسية مثلاً لا يشق عليه السياحة في البلقان واكثر النمسا ومن عرف الانكليزية استطاع السياحة في أميركا الشمالية واوستراليا

ومن عرف الافرنسية كانت عليه سياحة ايطاليا واسبانيا والبرتغال والبرازيل والأرجنتين مثلاً من أسهل الأشياء. أما من لم يكتسب له الأخذ بحظ من هذه اللغات وأراد الاستفادة من الغرب فليس أحسن له من استصحاب ترجمان من بلاده ويكون ممن سبقت له الرحلة إلى ديار الغرب وإذا أريد الاقتصاد فالأولى أن يجتمع كل ثلاثة أو أربعة أشخاص ويرافقهم ترجمان مؤتمن عندهم وعندها تقل النفقة نحو الثلث. ولقد شاهدنا كثيراً من أغنياء مصر ساحوا أوربا وهم لا يعرفون لغة من لغاتها ولكنهم بواسطة التراجمة استطاعوا أن يحسنوا التصرف بيد أن الأولى أن يكون المرء نفسه عارفاً بإحدى لغاتهم وهناك حدث ما شئت أن تحدث عن استفادته وسروره. وبالجملة فإن الخوف من السياحة توهم ليس في محله فلا المال وقلته ولا عدم الإحاطة بلغة إفرنجية بل أن المحرك الأعظم في السياحة الإرادة ومن صحت عزيمته زعزع الجبال فما بالك بالسياحة وأبناء السابعة والثامنة اليوم يسيحون في أوربا وأميركا بدون أن يخشوا ضرراً والفتيات الجميلات يضربن في البر والبحر ولا من يتعرض لهن بسوء فهل من العجل أن يكون فتيان الغرب وفتياته أرقى منا كعباً وأكثر إقداماً ما دامت لنا في السياحة فوائد لا يقدرها الخامل في بلده والسياحة مدرسة لتعليم الكبار كما أن المدرسة هي المعلمة للصغار فاللهم علم كبارنا وصغارنا علماً نافعاً. نحن في البلاد الفرنسوية ليس عجباً أن ترى العثماني والإيراني وغيرهما من سكان أسيا الغربية والساحل الشمالي من افريقية يطربون في البلاد الفرنسوية ويؤثرونها على غيرها من بلاد الغرب في التجارة والتعلم والنزهة فإن معرفة لغة قوم هي مفتاح جميع هذه الأعمال وتعليل صحيح لعامة هذه الأحوال. انتهت فرنسا قبل غيرها لاستتباع الشرق الأقرب بتعليمه على مناحيها وتلقينه لغتها فكانت منذ زهاء قرنين تبعث البعوث وترسل المعلمين بمدينتها ولغتها فلم يمض زمن طويل وفرنسا إذا ذاك صاحبة الكلمة الأولى في السياسة الغربية قبل انكلترا وألمانيا وروسيا إلا والخاصة في هذه البلاد يعرفون الافرنسية ويأخذون عنها ويؤثرون الفرنسيس على غيرهم

لأنهم لم يعرفوا غيرهم خصوصاً وان المرونة التي يجونها عندهم تشبه مرونتهم والفرنسيس عرفوا بلين الجانب وكثرة التفاني بتعليم ما عندهم لغيرهم لأنهم يرون لغتهم أرقى اللغات الأوربية وامتهم في مقدمة الشعوب التي قاتلت لأجل الحرية. أن ميل الفرنسيين للابتكار في كل شيء دعا إلى نشر أفكارهم وأوضاعهم في بلادنا كتب احدهم مقالة افتتاحية في جريدة الايكودي باري قال: انه مما أثبتته التجارب أن الفرنسوي خلق مخترعاً وقد اتى الفرنسيس أمثال لافوزايه وكوفيه وكلود برنارد وبيشا وباستور من الأعمال العلمية ما استحقوا به أن يكونوا مؤسسين لجميع العلوم الحياتية والكيمياء والتشريح والفسيولوجيا وقمت أهم الاختراعات الغربية في الأربعين سنة الأخيرة على أيدي الفرنسيس فهم الذين اخترعوا سر التلغراف بلا سلك واوجدوا صناعة الاوتوموبيلات وعملوا مدفعاً من عيار 75 وعثروا على الأسباب الرئيسية التي سمحت بالطيران. وهكذا في السياسة فان الفرنسيس أول من اوجدوا في أوربا وحدة وطنية وهي الوحدة الفرنسية وأول من أسسوا وطناً وهو الوطن الفرنسوي وهم كانوا أول الناشرين تحت ستار الحرية والمساواة الأفكار الثورية. فالفكر الفرنسوي حاد ينتبه بسرعة للصلات المجهولة في الأشياء وهو براق يدرك بدون كبير عناء المؤثرات التي تحدث بين أجزاء عناصر المادة فهو ذو خاصة تخدم حاجته للمعقول وحبه للوضوح. الفرنسوي جريء على مثال لويس الثالث عشر ونابليون والموت الذي كثيراً ما يكون جزء المخترع قلما يفرغه بل يبعث همته ويشحذ بكثير من الضباط أن يتجشموا الأخطار إلى آسيا وافريقية لفتح أراض جديدة واسعة وهذا الذوق هو الذي ساق فيما مضى النورمانديين والبروتونيين إلى سلوك البحار التي لم يسلكها احد ليؤسسوا مدائن في الشواطئ البعيدة. هذا هو الوجه الحسن وإذا جئنا إلى نقيضه نرى الفرنسوي يخترع ولكنه ما قط عرف الانتفاع ثمرة اختراعه ولا يحقق وينظم ما اخترعه. وخفته العقيمة تحمل إلى غير الانتفاع بتطبيق ما أوجده هو. فهو يفتح المستعمرات بدمه وماله ولكن الألمان والايطاليين أو الاسبانيين هم الذين يستثمرونها. اختراعاته في العلوم لا يقع عليها حصر ولكنه لم يستعملها قط لتحسين أدواته أو حاصلاته فقد أسس مثلاً الكيمياء ولكن الألمان هي التي

وجدت في الصناعة الكيماوية مورداً عظيماً من الثروة أي مليار وستمائة ألف مليون من الحاصلات السنوية منها نحو سبعمائة مليون صادرات وأنشأت تسعة ألاف معمل فيها مائتا ألف عامل يدفع إليهم 260 مليون فرنك مشاهرات وأجوراً. - الفرنسوي يتحرك في الهواء أسرع من الطير. وهو طيار خارق للعادة بجرأة طبيعية فيه تظنها بلادة منه. ولكنه يستطيع أن يجعل للطيارين ولمراكز الطيران نظاماً معقولاً وإذا سقطت في درجات الأشياء الصغرى ترى الفرنسوي على هذه الصورة من الاضطراب وعدم الانتظام وقلة الاهتمام. ويقال في ذلك أن الفرنسوي يكره وهو على هذه الصورة من الحركة أن ي \ نشئ إلى ذروة انتباه طويل متساوق ويشعر بأنه يخنع إذا لم ير نفسه مائلة إلى الأعمال المختلفة التي تحثه وإذا وجب عليه أن يعمل عملاً مجهولاً يحتاج إلى صبر. أما الألماني فهو على العكس من ذلك له قليل جداً من النبوغ في الاختراع والإيجاد بل لا يكاد يذكر له شيء منه ولكنه مختص كل الاختصاص بالانتفاع بما اخترع وتنظيمه. وما عدا الفلاسفة والموسيقيين في ألمانيا القديمة الذين اخترعوا واوجدوا فان الألماني لا يخترع لا فكرة ثقيل وبطيء ومفكر لم يختلق لهذه الأنوار الفجائية التي توحي بالمجهول ولكنه متى اخترع فهناك حدث ما شئت أن تحدث عن حسن استخدامه له فهو يحب العمل الذي يحتاج لثبات ولا يستعجل لان الضروري عنده أن لا يعمل بسرعة بل أن يعمل بجودة وان يكون على استعداد لحين الحاجة فيكون مجهزاً لساعة العمل ولا يبدأ قط بطيئاً. جاء الألماني بعد الفرنسوي في الطيران ولكنه أدهش العالم بتنظيمه له فلم يخبط على غير هدى بل رأى بسرعة كل ما ينبغي أن يرى ووفاه حقه. له قليل من المستعمرات ولكنه يسكن مستعمرات غيره فينزلها التجار والصناع الذين يبعث إليها بهم. الألماني لم يخترع التلفون لألمانيا الآن نحو مائتي ألف كيلو متر من الأسلاك التلفونية أي أكثر من فرنسا وعدوا المخابرات التلفونية في بلاده ب - 800 مليون لقاء 190 مليوناً في فرنسا وما من قرية ألمانيا مهما صغرت وهي مرتبطة بتلفون تخابر به وإدارتها في البريد أول إدارة في العالم. وهي تعترف أن ليس بين كيماوييها الكثار واحد مثل لافوزيه وبرتلو ولكن لها معامل تجريبية تعينها الحكومة والمدن والنقابات الصناعية. أن كان الفرنسوي مخترع الأصباغ الصناعية فالألماني بفضل مدارسه ومعامله أتى فيها بالعجائب حتى يكاد يختص

بتجارة الأصباغ. وما من بلد يعني بتجديد إدارته على الدوام لتكون كاملة من كل وجه على احدث طرز كما يعني في ألمانيا. وإلقاء أدنى نظرة على محطة من محطات يككهم الحديدة تشهد لهم بذلك الخ. ثم انتبه الانكليز والأميركان والطليان للأمر ولكن بعد أن رسخ التمدن الفرنساوي في النفوس وكثر أنصاره بطبيعة الحال مع انه ربما كان في أوضاع الأمم الأخرى ما يماثله أو يفوقه. وإذ قبلت مصر والعثمانية وإيران أن تعلم الافرنسية بصفة إجبارية في مدارسها مثل لغة البلاد كان ذلك من اكبر المعونات على بث هذه اللغة البديعة فاتخذناها لغة التخاطب والتكاتب في التجارة والسياسة. للبلاد المصرية والعثمانية والإيرانية في البلاد الفرنسوية اليوم مئات من الطلبة يدرسون العلوم المنوعة في مدارسها في حين لا تجد سوى عدد محدود من الطالبين في مدارس انكلترا وأميركا وأكثرهم من المصريين والهنود أما في ألمانيا والنمسا وايطاليا وروسيا فان عددهم يعد على الأنامل والإيرانيون أكثر الشرقيين اختلافاًَ إلى مدارس روسيا للجوار والسياسة. فإذا طربت النفس يود دخولها ارض فرنسا وسويسرا الفرنسوية وبلجيكا الفرنساوية فذلك لأننا نشعر بأننا بين قوم يفهمون من نحن ونفهم من هم أننا نستفيد هنا إضعاف استفادتنا في أي ارض سواها لأننا لا نجد تقارباً في الأفكار والمناحي ولأننا نعرف تاريخ هذه البلاد كما نعرف تاريخ بلادنا وقد حصلت لنا على الزمن آنسة بأوضاعها المرنة اللطيفة ومن تعلم لغة قوم قلت ما بينه وبينهم من الفوارق وتيسر له أن يشاركهم ويشاركونه في كل ما لا يضر بعاداته وأخلاقه الخاصة. أن المدينة الأوربية تتسرب كل يوم إلى عقولنا في طرق تنقلها الصحف والسياح والمدارس والجيش والأسطول بل ينقلها البرق والهواء ونحن لو أردت أن تجردنا مما استفدناه منها منذ عهد محمد علي الكبير وسليم الثالث لرجعت بنا قروناً إلى الوراء ظننتنا نعها من أهل القرن السابع أو الثامن للهجرة على نحو ما تشاهده اليوم الأفغانيين أو المراكشيين أو الجلويين بين الذين سدلوا دون مدينة الغرب حجاباً كثيفاً فحرموا من حسناتها ولم ينجو مثل غيرهم من شرورها.

أن سكان الشرق الأقرب إذ ذكروا الفرنسيس كثيراً فذلك لأنهم يعتقدون فرنسا فاتحة العالم على نحذو ما كانت على عهد نابليون الأول ففرنسا هي التي وضعت في الحقيقة أساس النهضة المصرية الحديثة وفرنسا هي التي كانت كذلك في سورية منذ جاء نابليون عكا طعاماً في فتحها لأنها كانت مفتاح سورية حتى إذا جاءت حادثة الستين المشؤمة. وكان لفرنسا اليد الطولى في إعطاء لبنان استقلالاً إدارياً عظمت تلك المنة على أهلها وعمت المدينة الافرنسية بلاد الشام من طرق مختلفة خاصة وعامة وطينة وأجنبية رسمية وغير رسمية. نحن اليوم إذا لجانا إلى فرنسا في معظم حالاتنا فللأثر الناتج من تلك التربية والدعوة الطويلة المتأصلة ولا يضرنا الأخذ من مدينة القوم ولكن يضرنا العلو والجمود فكما أن الفرنسيس أنفسهم لا يستنكفون أن يقتبسوا ما عند الأمم الأخرى كالانكليز والألمان والأميركان مثلاً مما ليس في أوضاعهم فنحن من مصلحتنا أن لا نكون حكرة لأمة فنأخذ عن كل قبيل أحسن ما عندهم ولا نقول هذا سويسري وذاك بلجيكي وهذا فرنسوي وآخر ألماني وغيره ايطالي أو انكليزي فكلهم أرقى منا مراحل ونحن في حاجة لكن من يعلمنا مدينة تنهض بنا من خمولنا ليساوا بنا بنفسه بعد وتعد شيئاً مذكوراً في سلسلة المراتب البشرية. رأيت كثيراً من خاصة الطليان والألمان والانكليز يشيرون إلى أن السوريين خاصة من بين سكان الشرق الأدنى يغالون بحب الفرنسيس وليس حتى في البلاد التي حكمتها فرنسا في أقطار الشرق بلد كسورية يحسن أهلها الظن بالفرنسيس فكنت أقول لهم أن ذلك صحيح ولكن لا على إطلاقه فان القوم هناك درجات ومن يحبون الفرنسيس هم الذين أحسن هؤلاء إليهم بتعليمهم على أساليبهم وتلقينهم لغتهم العذبة فأممكم أيضاً إذ مدت يدها لسورية تعلمها لغاتها وأمجادها يعترف السوريون لها بصنيعها ويصبحون زبنها في التجارة. وكيف يحب السوري ألمانيا مثلاً وهو لا يعرف عنها إلا ما يقرأه في الجرائد الفرنسية والكتب الافرنسية وألمانيا حتى الآن لم تفتح لها مدرسة راقية في سورية والفرنسيس ملأ وأسهلنا ووعرنا بمدارسهم الدينية والعلمانية على اختلاف درجاتها لا ينال المرء إلا بقدر ما بذل والأمم الانكلوسكسونية هي أرقى الأمم بأخلاقها وآدابها ولكن أنانيتها الكثيرة دعتها إلى أن

أحبت في العهد الأخير الانتفاع من الشرق دون أن تبذل في سبيل رقيه درهماً أو تخطو إلى أعلاه شأنه قدماً. ولذلك يبقى الشرق الأقرب يتغنى بالفرنسيس والفرنسوية حتى ينافسهم غيرهم من أمم الحضارة الحديثة منافسة حقيقية. ولا عار علينا إذا صرحنا بأننا نطرب في ارض فرنسا لأننا لا نعرف غيرها في الواقع ونفس الأمر فقد سبقت فعلمتنا آدابها وذكرتنا أمجادها فنحن بها عرفنا الغرب والمرء لا ينفق إلا مما عنده وعرفان الجميل لأهله طبع الكرام ولا ينسى الأيادي التي لك عندهم إلا اللئام والسلام. الحياة السياسية والاقتصادية في بلاد المجر تسكن بلاد المجر عناصر مختلفة قد يثور بينها ثائر الخلاف أحياناً ولذلك كان لمسألة الجنسيات في الأرض المجرية شأن عظيم وحروب إقليمية ولسانية لا تكاد تهدأ وتدور المناقشات في الغالب على برامج المدارس وعلى القدر الذي يجب أن يعطى للغة المجرية في التعليم في المقاطعات التي فيها رومان وسلوفاكيون وصربيون. وهناك اضطرابات تحدث زمن الانتخابات النيابية تتدخل فيها القوة المسلحة لتحمي حرية الانتخاب وأزمات وزارية وربما أطلق بعضهم عياراً نارياً على خصمه أو هدده بالقتل أو ضربه بكتاب ودواة كما حدث ولا يزال يحدث. نحو نصف سكان بلاد المجر هم من العنصر المجري والنصف الآخر من عناصر مختلفة (ألمان وسلوفاكيان ورومانيون وروتنيون وخراتيون وصربيون) بلاد أشبه ببرج بابل اختلطت فيها الألسن وتبلبلت والمجريون يحاولون بكل ممكن أن يحترم غيرهم جنسيتهم باحترامهم لغتهم والاعتراف بتقدمهم السياسي والمدني وهذه هي الحالة هي حالة المجر ولولا أن العناصر غير المجرية مؤلفة من أجناس كثيرة ليس بينها اقل صلة وطريق الانتخابات النيابية الجارية في المملكة تحول دون أدنى مقاومة لما تم للمجر هذا التقدم على غيرهم. ولئن حاول الإمبراطور فرنسيس يوسف ملك النمسا والمجر أن يصلح أسلوب الانتخاب بوضع الاقتراع العام منذ سبع سنين فان مسائل الجنسيات ما برحت مقدمة على المسائل الاجتماعية وقد وقع التحكيم على أن تكون النمسا متجانسة بالجرمانية وان يكون للمجرية حق التقدم في هنغاريا (بلاد المجر) وقد كان في مجلس النواب المجري سنة 1911 -

453 مبعوثاً. منهم 387 مجرياً و40 خرواسياً و24 وطنياً وهذه نسبة تستدعي الاستغراب والمجلس الأعلى أو مجلس الأعيان مؤلف من أعضاء وراثيين مثل البالغين من الارشيدوقة وأعضاء الأسر الشريفة التي تدفع على الأقل ضريبة عن عقارتها لا يقل عن 6000 كورون ومن أعضاء يعينهم الملك مدة حياتهم بإنهاء رئيس المجلس ومن أرباب المناصب العليا مثل كبار الحكام ومن 33 اسقفاً كاثوليكياً و98 أساقفة روم أرثوذكس و6 يمثلون المذاهب اللوثرية والكالفانية البرتستاتية ومن ثلاثة ينتسبهم مجلس نواب خرواسيا. وللمجلس الأعلى أن يرد ما يشاء من المشاريع والقوانين التي يقررها مجلس النواب ولكنه لا يستعمل هذا الحق إلا نادراً لأن مجلس النواب موقر في صدره وغاية ما يستطيع عمله أن يرجئ الإقرار على قرار مجلس الأمة. ومن الأمراض التي أصيبت بها بلاد المجر كما أصيبت بها فرنسة والعثمانية مرض كثرة الموظفين الذي يزداد استحكاماً اليوم بعد اليوم ففي إحصاء رسمي أخير في المجر 301480 موظفاً في شعب لا يتجاوز احد وعشرين مليون نسمة فان الوزارة التي تولت شؤون المجر منذ سنة 1906 - 1910 قد أحدثت عملاً ل - 45 ألف رجل والوزارة التي خلفتها أحدثت في العشرة الأشهر الأولى لتوليها الأمر ثلاثين ألف وظيفة، وهذا السواد العظيم من الموظفين ينفع الحكومة مدة الانتخابات النيابية لأنه يمثل نحو ثلث المنتخبين بيد أن كثرة الموظفين في الحكومة لا يفسر بان الأشغال تمشي بسرعة على طريقة حسنة بل أن الوقت والمال والقوة تضيع في هذا التطويل والقيود. يساعد على ذلك الإهمال المغروس في طبيعة الموظفين على الأغلب ولا سيما في المجريين فمن لم يتابع البحث عن لوراقه ويلحقها من ديوان إلى آخر ويوصي صاحب الشأن تضيع وتهمل ولا نغالي إذا قلنا أن المجر على كثرة تغاليهم في التغاني باستقلالهم قد فتحوا للحكومة من أبواب التدخل في أمرهم حتى في المسائل الخاصة ما يصح معه أن يحكم بان البلاد المجرية أكثر الممالك التي جعلت نفسها تحت وصاية حكومتها في كل شأن من شؤونها. ولقد عددت مجلة القرن العشرين الحرة وهي لسان علم الاجتماع في بودابست عدة أحوال نابت فيها سلطة الحكومة مناب الأقدام الخاص والتبعة الشخصية فقالت أن الحكومة تعطي راتباً للكاهن الذي يعمد الوليد وللموظف الذي يقيده في السجل وترزق المعلمين وتوصي

الطابعين وصناع الأدوات المدرسية وتدفع لمؤلفي الكتب المدرسية ولنقادها ولإنشاء دكات للمدارس ويستعمل خشب الحكومة وحديدها والحكومة تعاون المطابع ومخازن الدخان وعمال الدخوليات (اوكتروا) والكتاب والإخباريين وغيرهم والجمعيات العلمية والصناعية والزراعية والنقلية والمجمع العلمي والممثلين والمغنين وكل من لهم مشاريع يريدون إبرازها إلى حيز الوجود ولأرباب الضجة والسكوت وتدر المال على الصانع الأهلية واستملاك محال الوقود وتساعد العامل الصغير والصانع الكبير ومنها بطلب الممثل قرضاً والصراف مالاً. هذا وحرية الأديان والمساواة لم تتم في المجر إلا سنة 1895 وكان للكثلكة المقام الأول ولرجال الدين سلطة نافذة ويكفي أن يقال أن مساحة بلاد المجر تبلغ 324850 كيلومتراً مربعاً تملك الأسقفيات والأديار والبيع 12 ألف كيلو متر مربع منها وبذلك يحكم رجال الدين لأن من المال قوة فكيف فيمن اجتمعت له القوتان القوة الروحية والقوة المالية. أهم القوانين الدستورية في المجر 45 قانوناً يرد عهد الأول منها إلى القرن التاسع أي إلى احد عشر قانوناً وأهمها قانون سنة 1732 و1848 وضم النمسا والمجر سنة 1867 الذي تم الاتفاق بين المجر والنمسا على أن يدافع المجر عن مملكة النمسا كما يدافعون عن مملكتهم أنفسهم ويكونون مستقلين إلا في الجيش والبحرية والأمور الخارجية فيدفعون قسطاً صالحاً من المال لمعاونة حكومة فينا وتتعهد الأسرة المالكة النمساوية بالمحافظة على استقلال المجر وحرية البلاد واستعمال جميع قوة النمسا للدفاع عن سلامة الأملاك البحرية وملك النمسا يحكم المجر كما يحكم بلاده ولكنه يمثل مملكتين متباينتين ولا يكون ملك النمسا ملكاً شرعياً إلا إذا اقر على تتويجه مجلس المجر ويقضي القانون الأساسي في البلاد أن يقيم الملك ستة أشهر في فينا وستة أشهر في بودابست ولكن هذه العاصمة لا تنال حظ قدومه سوى مرة واحدة على الأغلب وهو يتلطف التلطف مع الأمة المجرية إلا أن هذه لا تنسى ما نالها من سحق النمساويين لها في ثورة 1848 التي لا يبرح المجر يذكرونها ويحتفلون كل سنة بذكرى مقتل الثلاثة عشر قائداً مجرياً الذين اعدموا سنة 1849 لاشتراكهم بحرب الاستقلال ضد النمسا ويسمونهم الثلاثة عشر شهيداً وترفع الإعلام السوداء على النوافذ وقد كانت جنازة كوشوت سنة 1894 من أعظم الدلائل على ذلك كما

كان الاحتفال بافتتاح قبته سنة 1909 بالغاً حداً دل على مبلغ تعلق هذه الأمة برجالها الذين سعوا لاستقلالها. للمجر أنشودتان الملك والجيش وأنشودة ولهما عيدان وطنيان الأول في 15 آذار والثاني في 11 نيسان فالأول هو عيد المجر الحقيقي يحتفل بذكرى سنة 1848 وقد قرر مجلس الأمة المجرية اشتراك الإشراف في جميع التكاليف العامة وإلغاء حقوق السادة وحرية الصحافة وفي 11 نيسان هو اليوم الذي صدق فيه الملك فرد ديناند على القوانين الدستورية. لا يحب المجر النمساويين ويريدون أن يخالفوهم في كل شيء ولو بالصورة الظاهرة وما انس لا انس يوم اجتاز بنا القطار من الأرض النمساوية وابتعدنا ساعتين عن فينا ودخلنا في الأرض المجرية فان الأرض تكاد تلبس خلة غير الحلة الأولى وقال لي رفاقي في القطار وكانوا مجريين أنت الآن في ارض هنغاريا يا مولاي ثم خرج الشرطة والمفتشون كأننا دخلنا إلى مملكة أخرى وان ما بين فرنسا وألمانيا من التباين لا يشعر به على الحدود بأكثر مما يشعر بالتباين بين المجريين والنمساويين. والمجر يطلبون إشارات خاصة لعسكرهم كما يطلبون أن يكون التعليم العسكري باللسان المجري ولهم مطالب أخرى يسعون لئلا يكون للنمساويين عليهم اقل سلطة وتأثير وان كان لهؤلاء تأثير كبير في الأمور الاقتصادية والعلمية كما للألمان هذا مع أن بلاد المجر غنية بصناعتها وزراعتها وعلمائها ويكفي بان ثروة المجر قدرت سنة 1911 بثمانية عشر مليار فرنك قيمة أملاكها العقارية وخمسة مليارات قيمة أموالها غير المنقولة ومثلها صناعتها وباثني عشر مليوناً نقودها وبثلاثمائة مليون أموالها في الخارج أي بأربعين مليون مليار وثلاثمائة مليون فرنك يخرج منها ديونها العمومية خمسة مليارات ونصف. هذا حال مملكة أفقدتها النمسا استقلالها ولكنها لم تقض أو لم تستطع القضاء على حياتها الوطنية والاقتصادية كما فعلت روسيا مع بولونيا وبقيت بولونيا بحالها أو زادت ولولا معاونة روسيا للنمسا ما استطاعت هذه أن تغلب المجريين. ليست الأمة المجرية عريقة في المدينة كالأمم القديمة في أوربا فقد جاءت حوالي القرن التاسع وانضمت إلى أهل أوربا ونزلت بلادها اليوم ولذلك تجد فيها حتى الآن شيئاً من

أوضاع القرون الوسطى في نظاماتها الاجتماعية فان تسعة أعشار من يعملون في الحقول المجرية إلى اليوم هم من السلافيين الصقالبة أو الرومانيين المغلوبين على أمرهم افتتح المجر البلاد وامتلكوا الأراضي وما زالوا يستثمرونها بأيدي غيرهم ولم يبرحوا في كثير من البلاد على طريقة القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر. وإذا تأملت ملياً في حال المجري تجده يشبه التركي في كثير من أحواله فانه يعمل القدر اللازم حتى لا يموت جوعاً هكذا شأن الفلاح والصانع وكذلك شأن طالب العلم وصاحب المنصب كأن حكم العثمانيين على بودابست مئة وخمسين سنة قد طبعهم بطابع تركي فقد رأيت المجريين يشكون من ضعفهم وقلة توفرهم على العمل ويقولون أن منا كثيرين من يعملون شهرين وينقطعون عن العمل عشرة أشهر وهذا عبء كبير في مجتمعنا. تقدر مساحة أملاك صغار الفلاحين في المجر بعشرة ملايين هكتار أي أن يكون الواحد يملك ستين هكتاراً والوسط الذي يملك ستمائة هكتار يقدر بثلاثة ملايين وكبار المزارعين بستة ملايين ومجموع ما تملكه الحكومة والمدن والمقاطعات والكنائس والأديار بعشرة ملايين هكتار. وقد أصيبت بلاد المجر بداء الهجرة فهاجر منها منذ سنة 1900 إلى 1910 سبعمائة ألف رجل فارتفعت أجور العملة وبيعت أملاك صغار الفلاحين من أواسطهم وكبارهم ومهاجرهم مقتصد بحيث يرسل مهاجروهم إلى بلادهم كل سنة مئة وستين مليون كورون ومن يعودون إلى بلادهم أغنياء وقليل ما هم والعائدون يبتاعون الأراضي بالأثمان الفاحشة. وللإسرائيليين المقام الأول في تجارة البلاد تعرفهم بسيماهم ولا سيما في بودابست عاصمة البلاد فان ثلث سكان هذه العاصمة من الإسرائيليين أي ثلثمائة ألف من أصل تسعمائة ألف وبيدهم التجارة والصرافة والصناعة وهم أكثر الأمة تعلماً وأقدمهم على الأعمال هذا مع أنهم ليسوا قدماء في البلاد بل أن هجرتهم إليها ترد إلى العهد الذي طردت فيه اسبانيا وفرنسا وألمانيا وبلاد القاع الإسرائيليين من بلادها فوجدوا في بلاد المجرد صدراً رحباً وخلفوا اليونان في التجارة. وحيث توطدت قدم التاجر الرومي يصعب على التاجر الإسرائيلي أن ترسخ قدمه والرومي كالإسرائيلي بشوش لين العريكة يعرف من أين تؤكل الكتف في التجارة بخلاف المجري.

يقدر عدد الإسرائيليين في المجر بثمانمائة وأربعين ألفاً منهم ستمائة ألف تمجروا أي أصبحوا مجراً حتى في أسمائهم ومناحيهم ولا يزال عددهم ينمو فان كان أبناء إسرائيل يقبلون على التوطن في هنغاريا فليس لان التجارة والصناعة والصرافة تستميلهم إلى نزولها بل لان جميع الصناعات الحرة مفتحة الأبواب أمامهم. هذه معلومات قليلة عن بلاد المجر التقطها في يومين اثنين صرفتها في عاصمة بلادهم ازور معاهدها البديعة وبودابست من أجمل عواصم أوربا وهي مدينتان في مدينة أي بودا وبست يفصل بينهما نهر الطونة وترتبط البلدان بأربعة جسور كبرى بديعة من أجمل ماهندس المهندسون والجسران الجديدان الأخيران هما من صنع مهندسين مجريين أما المدينة فمقسمة شوارع فخمة فسيحة وهي نظيفة لا تقل عن أحسن العواصم. وأهل المجر يحبون الأتراك ولا يزالون يذكرونهم بالخير لأنهم يرون أن إخواننا أسدوا إليهم جميلاً غير مرة وآخر مرة في ثورة المجر الأخيرة يوم لجأ زعماء الثورة إلى الأرض العثمانية فحماهم سلطان العثمانيين وأظنه المرحوم السلطان عبد المجيد من أن تنالهم يد النمسا التي طلبت بإلحاح تسليمهم واثر أن يشهر حرباً على النمسا أو تشهرها عليه على أن يسلم من دخل حماه ولذلك ترى المجر يذكرون هذه المنة على الدهر ويشفعونها بالشكر وحسن الذكر.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الأموال وتعليم الأطفال خطب احمد شفيق باشا مدير الأوقاف الخصوصية في مصر في الاحتفال السنوي لمدرسة المرحوم خليل أغا أمين فقال: التمثيل ظاهرة تسلية ولهو وباطنه حكمة وعظة وضع لإرشاد الناس وتقويم المعوج من الأخلاق والرواية التي شهدناها تشرح بعض أمراضنا الاجتماعية ووسائل علاجها وتبين مجموعة من نقائصنا وعيوب أسرنا وتشرح السبيل إلى إصلاحها قد مزجت فيها الحكمة البالغة بالخيال الجميل ولم يزل هذا من طرق الفلاسفة في التعليم والإرشاد منذ القدم ولمثله ألف كتاب كليلة ودمنة ونحوه من الحكم الممزوجة بالخيال ولعل كتابنا ينهضون إلى عمل الروايات النافعة الموافقة لأحوالنا الشرقية المؤثرة في تهذيب العواطف وإصلاح النفوس. رأينا في هذه الرواية محسناً عظيماً من سراة المصريين هو محمد بك أبو الذهب جاد بالألوف من الجنيهات لإقامة المعاهد ودور التعليم لأبناء بلده من بنين وبنات وظهرت لنا الثمرة الكبرى التي جناها هذا الوالد من ولده إذ علمه التعليم القويم وأنشأه النشأة الطيبة رأينا جعفراً وكيف حافظ على أدب قومه ودينه وسافر إلى أوربا وتعلم في معاهدها واختلط بأهلها فلم تستطع العادات الغربية أن تهدم بناء أخلاقه الشرقية المتينة كما هو مشاهد مع الأسف الشديد في حال كثيرين من المتعلمين في البلاد الأجنبية. رأيناه انتخب أصلح فتاة لزواجه راعى في اختيارها العدل والحكمة غير ناظر إلى الفروق التي يراعيها من شبابنا من مصلحة الزوج ولا من فائدة البيت. ما أجمل البر وما احلي الخير خصوصاً إذا وضع في موضعه. إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع وأفضل الخيرات ما خصص للتعليم والتربية فانه ينهض بكثير من الأمة بل بالأمة كلها فجميع الناس في حاجة إلى التعليم وأكثرهم يحتاج إلى المعونة والمساعدة في سبيله كم نرى في وقفياتنا من مال أوقف ليصرف على قبر يحلى ويزين على خوص وريحان يبتغى به الثواب وإنما الثواب في معونة متعلم أو مساعدة محتاج إلى حياة طيبة الثواب في تنمية ذكاء في صدر ... لا تحلية أحجار على قبر

الثواب في عمل البر والإحسان ... لا في جمع الخوص والريحان فجدير أن توقف هذه الأموال على تعليم الفقراء لتساعد على إصلاح الحياة الدنيا وترضي المولى جلا وعلا. واني إذا أردت أن اذكر كبار المحسنين من عظماء الرجال في عصرنا الأخير لا أجد منهم إلا القليل وكم من المصريين ممن يستطيع أن يخلد لنفسه الأثر ويكتسب عظيم الأجر إذا خص تعليم الفقراء بشيء من ماله ينفعهم ولا يضره ويزيدهم ولا ينقصه. فإذا ذكر المحسنون فإننا نبدأ بأولهم وأولادهم بالثناء أكرم الكرماء وناشر العلم والآداب في ربوع مصر إلا وهو المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق فانه لم يكتشف بما شيده في مدة حكمه من المدارس الابتدائية والثانوية والعالية بل أراد أن يبقي له أثراً مخصوصاً فأوقف ما هو معروف بوقف الشيخ صالح ورصد إيراده الجسيم على الخيرات التي منها مدرسة كبيرة للبنين وأخرى للبنات. ثم نذكر مشيد هذا المعهد فهو اثر حي قائم ومأثرة كبرى على الدهر باقية أسداها إلى الإنسانية رجل اسود أبت روحه البيضاء الناصعة إلا أن يكون له نصيب من خلود الذكر وحسن الأثر فرحمة الله عليك يا خليل أغا أمين. اذكر كذلك محسناً كبيراً وهو المرحوم احمد باشا المنشاوي فله في طنطا الآثار الخالدة والهبات العظيمة للمتعلمين والفقراء والمحتاجين منها المعهد الديني والملجأ والمستشفى والمسجد الفخيم فضلاً عن مدرسة السنطة الصناعية وما ارصده من المال للجمعيات الخيرية والأعمال النافعة فهكذا يكون البر والإحسان. هؤلاء هم كبار المحسنين فما اقلهم يا للأسف. أما عدد المحسنات من كرائم السيدات فهو أعظم دليل ساطع على أن المشاعر والعواطف فيهن أنمى وأكبر. فإنني اذكر وقف أم عباس باشا الأول الذي هو تحت إدارة ام المحسنين والدة الجناب العالي الخديوي فانا نعلم جميعاً الفوائد العظيمة العائدة على البلاد وأهلها من مدارس هذا الوقف. اذكر وقف الأميرة زينب خانم أفندي الكبيرة كريمة ساكن الجنان محمد علي ياشا فإنها

أرصدت ما يفوق عن الأربعة ألاف فدان للبر والإحسان ومنها التعليم. اذكر وقف المرحومة شويكار خادن أفندي للمدرسة الحسينية. اذكر وقف المحسنة الكبيرة الأميرة فاطمة خانم أفندي التي أرصدت 661 فداناً على الجامعة المصرية وربع مائة فدان على الجمعية الخيرية الإسلامية غير ما جادت به من سنة أفدنة بجوار سرايها لإقامة الجامعة عليها ومن جواهرها النفيسة لتشييدها فكذلك يكون الإحسان. اختم بذكر الوقف الجليل الذي أتمته أخيراً السيدة المحسنة الجليلة خديجة بهجة خانم أفندي برهان فإنها أوقفت للجمعية الخيرية الإسلامية قصرها الفخم الذي تيلغ مساحته 17000 متر ومنازل للاستغلال يؤخذ منها مائتا جنيه سنوياً تقريباً ثم مبلغ ستمائة جنيه في كل سنة من إيراد أوقاف أخرى. العميان في مصر يؤخذ من التقرير الذي قدمه الدكتور محمد علوي باشا الرمدي الشهير إلى جمعية تحسين حال العميان في مصر أن قد بلغ عدد عميان القطر المصري زهاء مائة وخمسين ألفاً وهو عدد هائل بالنسبة إلى عدد سكان القطر. وبعبارة أوضح فنسبة العميان هناك هي 113 من كل عشرة ألاف نسمة مع إنها لا تتعدى 8 في العشرة ألاف من سكان البلاد الأخرى. قال وهي حالة دعتنا سنة 1911 إلى عقد المؤتمر الدولي الرابع لتحسين حال العميان المنكودي الحظ وتفضل حينئذ مولانا الخديوي المعظم بوضعه تحت رعايته السامية وساعدتنا على إنجاحه الحكومة السنية أدبياً ومادياً واشتركت معنا فيه الدول الأوربية والأميركية وأرسلت مندوبيها إلى القاهرة لحضوره وانضم إلينا عدد ليس بقليل من الأجانب متحملين عناء الأسفار والبعد عن ديارهم للاشتراك معنا في العمل كما اشترك معنا كثير من مواطنينا الأفاضل وكان مدار البحث مدة خمسة أيام على أسباب العمى ومناهضته في بلادنا وبعد انفضاضه بسنة رأينا وجوب تأسيس هذه الجمعية لتهذيب عميان بلادنا وتعليمهم ومساعدة المحتاجين منهم على قدر الإمكان وفي ذلك فائدتان أدبية واقتصادية. وقد كان أول اجتماع لتلك الجمعية في منتصف يوليو (حزيران) سنة 1912 تذكرون أن جمعيتنا أنشئت في عهد الحروب العثمانية الطليانية ثم البلقانية حين بذل أهالي القطر مالاً

كثيراً يقدر بنحو نصف مليون جنيه إعانة للدولة العلية ورحمة لبائسي الإنسانية في تلك الحروب الجائرة تحت لواء الهلال الأحمر المصري. وهو عمل شريف جليل لكنه حول الإبصار والأيدي عن مشروعنا حيناً من الدهر كذلك لم تساعدنا الأحوال من جهة أخرى بالنظر إلى شؤون القطر المالية. على أن تلك الأسباب الوقتية وان حالت في السنتين الأوليين لتأسيس جمعيتنا دون بلوغ أغراضها فهي لم تثبط عزائمنا عن السعي لدى أولي الفضل والبر لإقامة جمعيتنا على أساس ثابت قبل الشروع في عمل نافع للعميان. ولقد كان جل اهتمامنا أثناء المدة الماضية منذ تأسيس الجمعية منحصراً في آمرين. استمالة الجمهور إلينا ودعوته للاشتراك في جمعيتنا وجمع ما أمكن جمعه من النقود قبل الشروع في عمل نافع. وبعد أن قال أن مجموع الداخلين في الجمعية مائتا شخص وانه جمع خمسمائة جنيه قال فخمسماية جنيه وبضعة ألاف لا تكاد تكفي لتحقيق بعض الأماني فعدد عمياننا كثير جداً وان كاد لا نريد فرضاً إلا تعليم من يمكن تعليمهم وإيواؤهم إلى مدارس خصوصية فهم جيش مؤلف من ثلاثين ألفاً مختلف أعمارهم بين الخامسة والخامسة والعشرين وهم كلهم غارقون في بحار الظلمات الأدبية والمالية والعقلية. ولنأخذ مثالاً لنا في هذا العمل البلاد الراقية التي تعددت فيها مدارس العميان ومصانعهم وملاجئهم فهي تعد بالعشرات على قلة عدد العميان بالنسبة إلى بلادنا. ومع ذلك ففي تلك البلاد لا يفتأ الناس كل يوم في تحسين مطرد لحال إخوانهم العميان وإكثار عدد معاهدهم وتخفيف حسراتهم. ولا بد أنكم اطلعتم على تلغرافين أتتنا بهما من لندرا شركة روتر في 20 و27 مارس (آذار) الماضي جاء في الأول: أن الملك والملكة افتتحنا معهداً جديداً للعميان فتهتف لها ألاف من هؤلاء وأجاب الملك على خطاب تلي أمامه في الاحتفال فاستحث كل مملكة البريطانية على مساعدة المعهد الجديد. وافتتح محافظ لندن اكتتاباً طالباً فيه 130 ألف جنيه رأس مال لذلك المعهد. وجاء في التلغراف الثاني بتاريخ 27 مارس انه سيطلب غداً مساء التلغراف اللاسلكي من جميع البواخر الكبرى الماخرة بحار العالم مساعدة معهد العميان الجديد. وهاتان البرقيتان على اختصارهما تدلان على اهتمام انكلترا بهذا المعهد الجديد وفي بلادنا أكثر من 30

مدرسة و50 مصنعاً و20 ملجأ و60 جمعية لمساعدة العميان وما ذكرت انكلترا هنا إلا اعترافاً بفضلها في سبيل تحسين العميان وأملاً بان يصل صدى ندائنا لذلك الجواد الكبير السرارنست كاسل العضو الشرفي في جمعيتنا هذه وصاحب الأيادي البيضاء على هذا القطر فانه كان أول من أجاب نداءنا سنة 1902 في المؤتمر الطبي المصري الأول عند ما طلبنا في تقرير واف مناهضة الرمد في ديارنا العزيزة فتبرع إذ ذاك بأربعين ألف جنيه لذلك الغرض وهي منة يجب ترديد ذكرها على مدى السنين. الآلة الكاتبة لئن كانت الآلة الكاتبة كالاختزال أو السرعة في الاستملاء لم تنتشر في بلاد العرب كما فان استعمال تلك الآلة قد اخترع منذ سنة 1714 وعيدوا مؤخراً عيد مرور المئتي سنة على اختراعها وكان المخترع الذي نال براءة بذلك رجل انكليزي ثم تعاقب المخترعون من جميع الأمم في ادوار مختلفة حتى إذا كانت سنة 1875 انبعث هذا الاختراع ثانية في مدينة نيويورك وأصبح استعمال الآلة الكاتبة بعد ذلك من الواجبات في البيوت التجارية والدواوين والمصارف والإدارات العامة والخاصة حتى أن معظم الصحف والمجلات والمطابع في الغرب اليوم لا تقبل كتابة أن لم تكن مطبوعة على الآلة الكاتبة. السينماتوغراف والتعليم الزراعي سيعرض المجلس الزراعي في ولاية دوسلدروف الألمانية حيث يقام معرض في سنة 1915 نوعاً من التعليم يلفت الأنظار وهو تطبيق السينماتوغراف على دروس الزراعة وستمر أمام عيون الجمهور سلسلة من الصور تمثل الارتقاء الذي تم في زراعة الأرض خلال القرون الأخيرة وما تعاورته الأيدي من الأعمال الزراعية التي كملت على التدريج باستعمال البخار والكهرباء والقوة الميكانيكية على اختلاف أشكالها. ويمثلون أيضاً بهذه الطريقة صورة من الصور الحديثة عن المعلومات الصحيحة في الحرث والزرع والحصاد والدرس على ما هي شائعة في البلدان المختلفة بدون أن ينسى ما كان يدعى سابقاً تدبير الحقول فيتمكن الناظر على هذا الوجه من تصور ماله علاقة باستثمار الأرض وبنفع في الاستفادة من التربة ومن الأدوات الزراعية وفي وضعها واستعمالها على اختلاف ادوار المدنية وفي صور متحولة بحسب الأجيال. وهذه أول مرة

جرى فيها استعمال السينماتوغراف للانتفاع في العلم والزراعة وبه تفتح طريق تتبعها المدارس العلمية لا في تلك الأرجاء من البلاد الألمانية فقط بل في ألمانيا وفي خارجها لان القائمين بهذا العمل لا يضنون على الناس بيع صور منهم. تجديد البطاطا ثبت أن البطاطا في أوربا قد أخذت تصاب بأمراض كثيرة جاءتها مع الزمن منذ انتشرت في تلك القارة قبل أربعمائة سنة وقد اخذ العلماء يجربون تجارب كثيرة في هذا الصدد ومنها الاعتماد على البزر وفي زرع البطاطا لا على تقسيم الرأس الواحد إلى عدة أجزاء وزرعها وذلك بواسطة سماد خاص اتوابه من أمريكا مهد هذه الشجرة المباركة ويأمل المخترعون لهذه الطريقة أن يحسن جنس البطاطا تحسيناً كبيراً بواسطة الانتخاب الطبيعي والتزاوج ويكون النفع من الجهتين الغذائية والمادية. الجرذان الجرذان يخرب الولايات المتحدة الأمريكية ولا يرحمها فقد حسبوا أن فيها 300 مليون جرذ تخرب من الحنطة ما قيمته 100 مليون دولار في السنة وهي تفسد المواني البحرية يقشرها الطاعون الدملي وما برحت تلك البلاد تكافح هذا الحيوان إلا إنها لم تفلح في إبادته وقد الفت اللجان لهذا الغرض وعلى كثرة ما لجأت إليه من الذرائع لم تقض على الجرذ ويضاف إلى الخطر الناشئ منه في البادية وباء الحيوانات الناشئ من القمل الذي ينتقل في أجسامها ويعشعش في جلودها. اختراعات أديسون الجديدة عرض أديسون المخترع الأميركاني الكبير على مؤتمر الكهربائيين الأخير في فيلادلفيا الأساليب الجديدة التي يهمه اختراعها اليوم فقد ارتأى بأن الطيران يحتاج لآلة طيارة تستطيع أجنحتها أن تضرب الهواء مائتي ضربة في الدقيقة ولبلوغ هذه الغاية يجب الاقتراب ما أمكن من طيران النحل لا أن يحتذى مثال الفراش في طيرانه وهو يعمل بجد لاستخراج الكهربائية مباشرة من المفحم ويرجو أن ينجح في ذلك قريباً ويصرف جزءاً من وقته في تحسين إلى السينماتوغراف المتكلم الذي سيكون رخيصاً جداً يسهل على كل الناس انتناؤة.

مدينة ليبسيك تسعد المدن وتشقى بسكانها ومدينة ليبسيك في ألمانيا إحدى عواصم العلم في الغرب قد بلغت منزلة تحسدها عليها كل مدينة فقد كتبت إحدى العقائل في وصف هذه المدينة إنها وان ضحك منها لوثيروس المصلح في القديم ويتي الشاعر بتشبيهه لها بمدينة باريز قد اتسع نطاقها فا كليتها وأسواقها جعلت منها مدينة ذات مسحة خاصة مقسومة قسمتين القسم العقلي العلمي والقسم التجاري الاقصادي فقد أنشئت جامعتها سنة 1409 وكان تلاميذها بادئ بدء ينظرون إلى هندام ثيابهم أكثر ما ينظرون إلى العلم ومع هذا نشأ منها أمثال الفيلسوف ليبتز والعالم توماسيوس وقام فيها في القرن الثامن عشر كتاب وأدباء أصلحوا طرق التمثيل وحسنوا ملكة النقد وأخذت المدينة تستميل إلى نزولها أعاظم الكتاب الذين تشهد الصفائح التذكارية الموضوعة على الدور التي سكنها أمثال لسنغ وكيتي وسيلر من العلماء والأدباء بما كان لهم من المكانة وقد خربت ليسيك بحروب نابليون ونحو سنة 1835 عادت مطابعها فأخذت تطبع المطبوعات المدهشة في الموسيقى والآداب والتاريخ ونشأ لها كثير من كبار رجال الموسيقى منهم فاكنير ومن أهم أرباب المطابع بها كارل بذكر الذي نشر دليله المشهور منذ سنة 1828 وزادت هذه الأدلة التي أصبح لها واحد عن كل مملكة أو مملكتين ومنها واحد عن سورية وفلسطين يجدد طبعه كل ثلاث أو أربع سنين وواحد من مصر والسودان بل كل مملكة يلاحظ أن يرحل إليها الغربيون قد جعل لها دليل غريب في تدقيقه ومنها ما يطبع بالألمانية فقط وأكثرها تطبع بالألمانية والانكليزية والافرنسية وقد توالت على هذا الأدلة كل سنة مليون نسخة. وقد عددت الكاتبة أسماء بعض الرجال العظام الذين أنشؤوا من تلك المدينة ونحن نقول أن مدينة ليبسيك قد قام فيها كثار من أعاظم المستشرقين أيضاً فطبعوا كثيراً من كتب العرب أحسن طبع وهي اليوم أعظم مدينة تقام فيها سوق للكتب وفيها مئات من المطابع وقد أقيم فيها معرض للكتب في العام الماضي دل على تفوق الألمان في صناعة الطباعة والرسم والنقش والتجليد وان ليبسيك لم توفق إلى أن تطبع كل سنة وربع ما يطبع من الكتب في العالم إلا عن استحقاق فقد قالوا أن نصف ما يطبع من الكتب يطبع في ألمانيا والنصف الثاني يوزع على أقطار العالم ونصف ما يطبع في ألمانيا من الكتب يطبع في ألمانيا ينشر في مدينة ليبسيك فانعم

بمدينة هذا حالها جمعت العلم والعمل وفي ليبسيك ونفوسها لا تتجاوز 450 ألفاً بورصة الكتب وهو وحيد في نوعه ليس له نظير في العالم. وضع احد الأميركان جائزة بعشرة ألاف دولار لمن يجيد في موضوع القصص الفاجعات فنالت الجائزة العقلية اليس براون محرزة قصب السبق من بين نحو ألف رجل دخلوا في هذه المسابقة فعجب الناس لذلك في الغرب وعدوه من أقصى تفوق المرأة. البولونيون ثبت أن عدد البولونيين المنبثين في أقطار الأرض يتجاوزون 25 مليوناً نصفهم في بولونيا الروسية وأربعة ملايين ونصف في بولونيا النمساوية وأربعة في بروسيا وأربعة ملايين في سائر أقطار العالم فهو بكثرة عددهم في الدرجة السادسة من الأمم بين ايطاليا واسبانيا وهم أكثر شعوب الأرض أولاداً وسيصبح عددهم بعد خمسين سنة 35 مليوناً وعدد الروس 120 والألمان 100 والانكليز 55 والفرنسيس 35 مليوناً. وقد قسمت أراضي بولونيا ثلاث قسمات منها 127 ألف كيلو متر مربع ضم إلى ارض روسيا و100 ألف كيلو متر إلى النمسا و60 ألفاً إلى بروسيا أي مساحة بولونيا القديمة ثلثمائة ألف كيلومتر مربع أو بقدر مساحة النمسا بدون المجر أو نصف ألمانيا أو نصف مساحة فرنسا أو نحو مساحة بر الشام. وقد ذكر احدهم في مجلة الأمم أن بولونيا الحية العظمى المجروحة في كبدها المظلومة في حقوقها تتوقع تحريرها من حالتها وجعلها مملكة برأسها مستقلة أو تابعة لمملكة أخرى تبعية المجر للنمسا وتدور جميع سياستها حول هذه المسألة وهو هل تكتفي باستقلال إداري مهما كان نوعه أو تقاتل للحصول على استقلال سياسي تام كامل وهذه المسألة ما زالت توضع على بساط البحث في بوسنانيا وغاليسيا ومملكة بولونيا ففي بوسنانيا يطالب البولونيون إلى حب النمسا وفي بروسيا بالنظر للتيار الديمقراطي الألماني أصبحت أصول إدارة القسم البولوني محتملة مقبولة على العكس في روسيا فان الضغط فيها على البولونيين على اشده والحجة في ذلك أن البولونيين هناك إذا نفس خناقهم يعودون إلى شق عصا الطاعة في حين أن فنلندا التي لم تفارق الجماعة يوماً لا تعاملها روسيا معاملة أحسن بولونيا وبهذا عرفت أن جزءاً من الأمة البولونية يفكر في نيل استقلاله أو على الأقل يود الانضمام إلى النمسا. كل هذا مما يدعو البولونيين إلى إهراق دمائهم في

سبيل الحصول على حياة سياسية فقدتها وما فتئت تدل إنها لها أهل فقد قيل: إذا سلست حكومة الغريب فان البولونيين يثورون لأنهم يستطيعون ذلك وإذا اشتدت حكومتهم يثورون أيضاً لأنه يجب عليهم ذلك. ولكن انقسام الأحزاب السياسية في بولونيا يحول دون تحقيق هذه الأماني من جعل مملكة بولونيا مستقلة ولذا ترى هذا الشعب يميل إلى وضع يده بيد النمسا لان منازعها الوطنية ليس فيها عنف ولا إكراه والأمل في تحقيق هذا الرجال معقوداً على أبناء الأجيال المقبلة من بنين وبنات ممن يرحلون في طلب العلم والتربية إلى كليات فرنسا وسويسرا وانكلترا والبلجيك يتعلمون التعليم الحر ولا ينسون مصير وطنهم. موت المستحمين تدعو حرارة الصيف بعض الناس إلى الاستحمام في الأنهار فليس من العبث تنبيههم على الأخطار التي يتعرضون لها وقد يهلك بعضهم فجأة في شهري تموز وأب عقيب اغتسالهم في الماء الجاري وينسب موتهم في العادة إلى صرع يصيبهم من كثرة التعب وشدة التحول من الحرارة إلى البرودة أو إلى الدخول في الماء على امتلاء قبل أن يتم الهضم. وهذه الأسباب بعيدة عن الحق قليلاً إذ تبين من تشريح الغرقى انه قل وقوع الاضطراب في القلب ولا سيما في سن الشباب ممن تكون أجسامهم قوية ويحسنون العوم. وقد قال احد أطباء الألمان أن السبب في هلاك بعض المستحمين هو اضطراب يحدث في دهليز الأذن الداخلي بسبب دوران الرأس والرمش التشنجي. وهذه الظواهر تبدو في بعض الأشخاص الذين أصيبوا بآفة في غشاء طبلة الأذن عندما يدخل الماء البارد في أذانهم والموت الفجائي الذي يحدث في الماء ينشأ من تلف دهليز الأذن وكثير من الشبان قد أصيبوا بآفة فيها منذ صغرهم بدون أن يعرفوا ذلك ولذا فإن الغطسة الفجائية قد يحدث منها اضطراب في حاسة السمع والماء البارد قد ينشأ منه بانهيال فجائي على تجويف الأذن تأثير سيء في المعدة والدماغ ولذلك كان من الضرر على الصحة امتلاء معدة المستحم وهو ينغمس في الماء وقد نصح الطبيب الألماني لمن كانت فيهم آفة في غشاء طبلة آذانهم أن يسدوها بسداد من القطن المندوف. الغدد أن الغدد أو الأورام التي تحدث في الأعناق تنشأ من تضخم الجسم الدرقي وتكون تارة

متفرقة أو خلقة وطوراً موضعية أو ناشئة عن أسباب محلية. والغدد أو السلعات تكثر في الغالب في البلاد الجبلية وقد يصاب المصاب بصمم وخرس ووجع قلب واضطراب في الذهن يكون منها البله أو نقص في البنية والفهم. وكانوا في القديم يعزون هذا المرض إلى ماء الشرب ثم اخترعوا له أسباباً أخرى أكثرها تصوري وقد ذكر احد علماء الفرنسيس مؤخراً هذه الغدد شجر الجوز وان إحدى القرى لما قلعت أشجارها لم يبق اثر للغدد في أهلها إلا قليلاً مصابين بها وأكد احد أطباء سويسرا وسويسرا بلد الغدد أن هذا المرض صلة مع التركيب الجيولوجي للبلد فان الأراضي من العصر الأولي المركبة تركيباً بحرياً أكثر استعداداً للغدد من الأراضي التي هي من الدور الثانوي وتكون طباشيرية أو من الطبقة الأرضية المعروفة بالترياس. وان الماء الذي يجري من الأراضي المركبة تركيبا ً بحرياً تحتوي مواد تحدث منها الغدد. وقال طبيب سويسري آخر أن هذه الغدد يصاب بها الواحد ونجا الآخر وجربت تجارب كثيرة في سويسرا وفرنسا وانكلترا ونرويج في هذا المرض وقد أصيبت قرية برمتها بالغدد في سويسرا فحاولت الحكومة بكل ما لديها من وسائل التطهير ونزع العادات المضرة التي ربما كان منها فتو هذا المرض فلم تفلح وبقي أهلها ذوي غدد وقد الفت لجنة تبحث في المياه التي ستقون منها فتبين إنها خالية من كل شائبة وان الغدد في السكان لم تنشأ من تركيب الأرض ولا من الينابيع مما لا يحول دون اشتداد المرض ونسبت اللجنة ذلك إلى الأسباب الصحية التي جرت عليها أهل تلك المقاطعة وثبت أن الغدد خلقية لا موضعية وأكد احد الأطباء انه رأى رجلاً مصاباً بالغدد وله ولدان أبلهان ناقصا البنية كانا يلعبان مع كلبين في الدار يجعلانهما في فراشيهما فأصيب الكلبان بالغدد والكلب الثالث كان أقوى بنية من أخويه أصيب أيضاً بهذا المرض مما دل أنه يعدي وهو وبائي. وفي بلاد البرازيل مرض يشبه الغدد يصيب صغار الأولاد خاصة. التلفون والسينماتوغراف جربوا مؤخراً نقل الأصوات بالتلفون بواسطة السينماتوغراف فنقلوا في ساعة عشرين صورة إلى مسافة طويلة بدت كأنها تمثل أمام ناظرك وبذلك تنقل الحوادث التي تحدث في باريز بعد زمن قصير جداً إلى برلين بواسطة التلفون.

النقرس والمفاصل أسس في كلية كمبردج من بلاد الانكليز مستشفى خاص بالعناية بالمصابين بأمراض النقرس وداء المفاصل وذلك برئاسة أخصائي كبير بطب هذا المرض وهو يبحث بحثاً علمياً وتجريبياً في أسباب شفاء هذا المرض الذي لم تبرح أسبابه مجهولة وفي هذا المستشفى معمل للتصوير وآخر لاستعمال أشعة اكس وفيه مجموعة نادرة من العظام يتصور المرء الصور الشتى التي تشوه الصورة الإنسانية والأصل فيها داء المفاصل وفي متحف المستشفى هياكل عظام عثر عليها مدفونة في مصر وفي مقابر يونلن ورومية القديمة يستدل منها أن داء المفاصل كان موجوداً على اختلاف ضروبه منذ الأعصر المتطاولة ويجري مدير المستشفى الآن تجارب كثيرة في الحيوانات لاكتشاف باشلس داء المفاصل والنقرس وتركيب مصل يشفي من ألام هذا المرض العقام. الذباب يدخل الذباب في معدته جراثيم باثولوجية وتحتفظ بها في حواسبها على اشد ما تكون من القوة السمية مدة الشتاء وقد شرح احد الأطباء مئات من الذباب فوجد في معدها جراثيم كثيرة من الكوليرا والحمى التيفوئيدية وبذلك ستصبح عزائم بعض حكومات الغرب على إبادة الذباب حتى لا يدخر الجراثيم في معدته وينقلها من الشتاء إلى الصيف.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية جمع الشيخ شرف الدين يحيى بن المفر بن الجيعان طبع بالمطبعة الأهلية بمصر سنة 1898 هذا الكتاب هو في ذكر ما بإقليم مصر من البلدان وعبرة كل بلد وكم مساحته بالأفدنة نشره المسيو موريس مدير دار الكتب الخديوية السابق على نفقة هذا الدار العامرة وقد قال في مقدمته أن مؤرخي العرب لم يذكروا تقويماً في أملاك مصر وهو المعروف بالروك أيضاً على عهد استيلاء دولة المماليك سوى مرتين نظم احدهما بأمر حسام الدين لاجين سنة 697 هـ 1298م والثاني بعد سنين قليلة أي في سنة 715هـ - 1315م أمر بعمله الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو صاحب الآثار الكثيرة في العمران في مصر والشام وهذان الروكان لم يعرف عنهما شيء ولعل هذا الروك لابن دقماق الذي عمله سنة 777هـ - على عهد السلطان الأشرف شعبان هو عيرذينيك الروكين إذا لم يجر في كتابه ذكر للروكين السافلين. قال المؤلف أن جملة عدة الأقاليم بالديار المصرية على ما استقر عليه الحال إلى آخر شوال سنة سبع وسبعين وسبعمائة وذلك في أيام الاشرف شعبان بن حسين وجملة ذلك تسعة ألاف ألف وخمسمائة ألف وأربعة وثمانون ألفاً ومائتان وأربعة وستون ديناراً جيشية وعدتها خارجاً عن بلاد الديوان بالجيزية ألفان ومائة وثلاث وستون ناحية واصل ما وضعت عبرة البلاد فيما مضى من الزمان ليعرف من عبرة كل بلد قدر متحصلها وبيان ذلك أن الدينار الجيشي كانت قيمته ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم. . وقد وقع الكتاب في 196 صفحة فهرست الإعلام الواردة فيه في 71 وهي من عمل السيد محمد الببلاوي. تاريخ الفيوم وبلاده لأبي عثمان النابلسي الصفدي طبع بالمطبعة الأهلية سنة 1899 ونشره المسيو موريس ص204 مؤلف هذا الكتاب هو من عمال الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من أهل القرن السابع للهجرة

وهو سوري وكل إليه إصلاح بلاد الفيوم المصرية فكتب كتابه هذا في وصفها ومزاجها وهوائها ومائها وخلجانها وسكانها وبدوها وحضرها وبحرها وأسماء بلادها وجوامعها ومساجدها وأديارها وكنائسها وغلتها وثروتها وارتفاعها بلداً بلداً وجعل ذلك لسنة 641 وهي السنة التي أمر بالنظر في الفيوم وعقيبها ألف هذا الكتاب والغالب أن المؤلف أصيب بمرض الأب وأخذه الحنين إلى نابلسه وصفده ولعلهما كانتا أمر من الفيوم إذ ذاك فقال في آخر كتابه: اللهم خلد ملك مولانا السلطان وانصره وارزقني عاطفة من عواطفه أعود بها إلى وطني واسكن إلى سكني ألاقي بها سرور النفس وأفاق من قارنته من غير الجنس. قال المؤلف في مزاج الفيوم وهو قول شف عن كبرياء فيه له ما يماثله من كبرياء العمال في هذا العصر بل وفي كل عصر وما هو إلا دليل ترفعهم عمن كان يجب عليهم الاختلاط بهم من السكان وإصلاح ما اختل من أحوالهم أن كان بأيديهم الرفع والخفض والإبرام والنقض: ولقد رأيت سكان مدينة الفيوم نفسها كأنهم وحش في صورة بني ادم ليس فيهم ولا بهم انس يستوحش الجالس في جمعهم ولا يستأنس الوافد في ربعهم حتى إنني وجدت الوحشة بدخولي إليها والانفراد بمقامي فيها حتى كتبت لبعض الناس من أبيات: اشتقت فيها الناس حتى لقد ... ناديت وأشواقي إلى الناس وأنشدني بعض الناس لشاعر دخل إلى الفيوم بيتين وهما: يا حبذا بلد الفيوم من بلد ... كجنة الخلد انهاراً وأشجاراً الله يعلم أني مذ حللت بها ... وجدت داراً ولكن لم أجد نارا فأجبته في الحال بديهاً إن قال من سكن الفيوم آونة ... وجدت داراً ولكن لكم أجد جارا فإنني لم أجد مذ جئتها أحداً ... من الذي قال لا داراً ولا جارا. ولا يتحركون بحركة إلا بمحرك مثل البهائم يقيم الواحد المشهور منهم المدة الطويلة في بيته ولا يخرج من داره ولا يعرف ما الناس فيه ورأيت من أقام بها من الغرباء فطالت مدتهم يلحقه من حيث لا يشعر والانفراد يوجب الوحشة ويكدر الروح الحيواني ويقتضي تردد العفن في المواضع التي هم بها والرطوبة عليها غالبة فيتراجع العفن إليهم يستنشقونه مع الهواء الذي يجد الحرارة الغريزية والروح الحيواني فيكدره وتقوى السوداء عليهم

وتتكاثف الأبخرة المتحللة منهم وتبطي وتقل وتتراد في أبدانهم لعدم الحركة لا يعرف احد منهم بمكرمة ولا شجاعة ولا كرم ولا أريحية ولا ترنح ولا منهم ذو صورة جميلة ولا من له صوت حسن البتة ولا علم من العلوم ولا بعمل من الأعمال الدقيقة ولا من الصنائع الحسنة والأفعال المستحسنة قد غلب عليهم الكمد ولعمري لقد أقمت بالفيوم إلى حين تأليف هذا الكتاب مدة تزيد على شهرين في موضع عالي البناء رحب الفناء مكشوف من جهاته الأربع للهواء فما سمعت فيها بعرس ولا اجتماع طائفة لأنس ولا مر في طريقها احد فترنم أو غلبه ترنح فغنى أو على مذهب الفقراء زمزم بزهم في غاية الغلظ والخشونة قليل البقاء عند استعماله موصوف الغزل بضعفه وانحلاله بخلاف ما حولهم من البلاد وأغناهم لحومها قحلة رخوة كثيرة العروق عديمة الدهن قد غلب عليها العجف مع كثرة العلف لا يوجد فيها سمين البتة كأنه في المذاق تبن وكأنه في الفم وقت المضغ خرقة يلوكها الإنسان أو قطعة لبن وضعت فوق اللسان وطعامهم لعدم الآلية بشحم الكلى لا يدهن السلى وألبانهم لا تنعقد ذلك الانعقاد المعروف وخبزهم رخو إلى الغاية لكن إذا بقي يوماً وليلة يبس وصار كالبقسماط لا لذة في طعمه. والكتاب ملحق بفهرس من عمل السيد الببلاوي أيضاً كسائر الكتب التي أحيتها بالطبع دار الكتب الخديوية العامرة. قاموس القضاء العثماني الجزء الخامس لمؤلفه سليمان أفندي مصوبع طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1332 - 1914 ظهر الجزء الخامس من هذا القاموس اللطيف وهو كالأجزاء السالفة بتبويبه وتنسيقه وحسن تأليفه يفيد كل طالب في علم الحقوق وراغب من العثمانيين في دراسة القانون فلمؤلفه الشكر على نشاطه وقد بلغ ما صدر من صفحات هذا الكتاب إلى آخر هذا الجزء 600 صفحة ولا يزال في حرف الدال. نهاية الأرب في معرفة انساب العرب

لأبي العباس الشيخ شهاب الدين احمد بن عبد الله بن احمد بن عبد الله بن سليمان بن إسماعيل القلقشندي الشهير بابن غدة طبع بمطبعة الرياض ببغداد. على نفقة سليمان أفندي الدخيل سنة 1332 ص372 مؤلف هذا الكتاب هو صاحب صبح الأعشى الذي تكلمنا عليه في الجزء الثالث من هذه السنة وكتابه هذا في معرفة قبائل العرب والعلم بأنسابها رتبه على حروف المعجم وذكر في مقدمته ما يحتاج إليه في علم الأنساب ومعرفة القبائل وفيه خمسة فصول الأول في الأنساب وفائدته الثاني في بيان من يقع عليه اسم العرب وذكر أنواعهم الثالث في معرفة طبقات الأنساب الرابع في مساكن العرب القديمة التي منها درجوا إلى سائر الأقطار الخامس في أمور يحتاج إليها الناظر في علم الأنساب. ثم الحق ذلك بمقصد تكلم فيه على انساب قبائل العرب وفي جملة لك ذكر عمود النسب النبوي وما يتفرع عنه من الأنساب وذكر تفاصيل القبائل مرتبة مقفاه على حروف المعجم وما يتهيأ ذكره من مساكنهم وفي الخاتمة ذكر أموراً تتعلق بأحوال العرب فتكلم على ديانات العرب قبل الإسلام وعلى أمور من المفاخرات الواقعة بين قبائلهم وما ينجر إلى ذلك وعلى الحروب الواقعة بين العرب في الجاهلية ومبادئ الإسلام وعلى نيران العرب في الجاهلية وأسواق العرب المعروفة فيما قبل الإسلام وأمور يحتاج إليها في علم الأنساب ومعرفة القبائل وقد خدم المؤلف بكتابه خزانة أبي المحاسن يوسف الأموي القرشي عزيز المملكة المصرية وسفيرها ومدير الممالك الإسلامية ومشيرها وهو المعروف بالمقر الجمالي ومدحه في المقدمة في صفحتين وعاد في ص28 فمدحه أيضاً في صفحتين نظماً ونثراً وبالغ فيه مبالغة الثعالبي بأبي الفتح الميكالي الذي قدم له كتاب فقه اللغة. جمع هذا الكتاب فأوعى من أسماء قبائل العرب ومساكنهم ونقل من ثقات المؤرخين كابن فضل الله وأبي الفدا وابن جرير وابن خلدون والحمداني. والحمداني هذا كما قال فيه القلقشندي صفحة 177 كان مهمندراً ومن شأنه معرفة العرب الواصلين إلى الأبواب السلطانية وليس هو الهمداني صاحب صفة جزيرة العرب (المطبوع في ليدن سنة 1884) فإن هذا من خير من عني بالبحث في قبائل العرب ومنازلهم ولكن يصعب الكشف عنهم

في كتابه ويسهل في كتاب القلقشندي لان هذا مرتب على حروف المعجم وذاك يتعرض للقبائل بالعرض أو بالمناسبة والقلقشندي أكثر توسعاً لأنه قرأ كتب المتقدمين وكتب المتأخرين فانتفى ما وقع عليه اختياره. ولو سلمت هذه الطبعة من التحريف والتصحيف وشفعت بفهرس عام لمطالب الكتاب كله لجاء هذا السفر مستوفياً شروطاً الجمال من حيث الوضع والطبع لجلالة موضوعه وفيه من أحبار القبائل في مصر والشام والعراق خصوصاً ما يفيد في تصور أنسابهم وان هؤلاء الإخلاف من أهل البادية هم أبناء أولئك الأسلاف وكثير من القبائل حافظت على أسمائها منذ قرون فنشكر للطابع ونرجو أن يوفق إلى أحياء أمثاله من كتب العرب النافعة. تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار للأب هنري لامنس اليسوعي الجزء الأول ص159 الجزء الثاني ص264 طبع في بيروت بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1914 مؤلف هذا الكتاب من علماء المشرقيات أقام في هذه الديار زمناً وخدم تاريخها وآدابها في دائرة معينة ومن أحسن ما خطته أنامله هذا البحث الجليل في آثار لبنان استند فيه إلى اصح ما كتب في هذا الشأن بعدة لغات وطبق العلم على العمل في المسائل الجغرافية والتاريخية والعادية وكل صفحة من صفحاته تنم عن مادة واسعة وتحقيق دقيق. وقد حلي هذا السفر النافع بعدة رسوم وصور للعاديات فجاء على جبين الدهر من الكتب الخالدة التي لا يستغني عنها كل من يحب الوقوف على حالة هذا الجبل الطبيعية. وقد نفذت طبعته الأولى وكان نشر أولاً في عدة سنين من أجزاء مجلة المشرق. ثم أعيد طبعه ثانية هذه المرة مع تنقيح قليل وزيادة فهارس للمواد تسهل الانتفاع به فنحث على اقتنائه لأنه من الكتب الممتعة على صقع مهم من أصقاعنا بروية وفضل بحث. تاريخ حوادث الشام ولبنان من سنة 1197 إلى سنة 1257 هجرية

(1782 - 1841 مسيحية) عني بنشره الأب لويس معلوف اليسوعي في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1912 ص124 ناشر هذا الأثر التاريخي الأب معلوف صاحب معجم المنجد وغيره هو من العاملين بين الأدباء اليسوعيين وقد أجاد في نشر هذا السفر الذي يجلو الغامض كثيراً في بعض المسائل التي حدثت في عصر كان فيه التاريخ صفحتين سوداء وحمراء سوداء بالجهل وحمراء بالفتن وإهراق الدماء. والمؤلف على ما يظهر ميخائيل الدمشقي كان من موظفي الحكومة والغالب أن هذا الاسم مستعار خاف صاحبه على نفسه فأخفى حقيقته وكتب ما كتب بلسان اقرب إلى العامية الدمشقية في عصره ولم يصحح الناشر من نصها إلا القليل النادر وابقي جمل الكاتب بحالها وعلق بعض الألفاظ العامية شرحاً خفيفاً وقد نقل هذا الكتاب من نسخة في مكتبة المتحف البريطاني في لندن فجمع إلى الفائدة لذة وفكاهة وهو يتناول كثيراً من الوقائع المهمة كبعض وقائع ابن سعود والوهابيين ووقعة سليم باشا في دمشق والسبب فيها ووقائع احمد باشا الجزار صاحب عكا والأمير بشير الكبير صاحب لبنان وحملة نابليون على عكا ودخول المصريين إلى الشام وغير ذلك مما تلذ تلاوته لصدوره من شاهد عيان فنثني على الأب معلوف لإتحافه التاريخ العربي بهذه الذخيرة الفريدة. البلغة في شذور اللغة لائمة كتبة العرب نشرها الدكتور أوغست هفنر والأب لويس شيخو طبعة ثانية بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1914 ص175 هذا مجموع حوى رسائل لغوية من أنفس ما كتبه علماء العربية كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيد والنضر بن شميل وفيه كتاب الدارات وكتاب النبات والشجر وكتاب النخل والكروم وهي للأصمعي نشرها الدكتور هفنر وكتاب المطر لأبي زيد والرحل والمنزل لابن قتيبة (لأبي عبيد) واللباء واللبن لأبي زيد وملحق بكتاب اللباء واللبن لابن قتيبة ورسالة في

المؤنثات السماعية ورسالة في الحروف العربية للنصر بن شميل وشرح مثلثات قطرب بالرجز وقد علق لناشران عليها حواشي لتسهيل الغامض أو إثبات صحة النص وجعلا لكل رسالة فهارس لغوية مرتبة على حروف المعجم وقدما على كل رسالة نبذة وجيزة لتعريف صاحبها ومضمونها والنسخ التي استند إليها وشكلاها بالشكل الكامل بطبع مشرق تلذ مطالعته. ومعظم هذه الرسائل مما تشتد حاجة المؤلف والكاتب إلى مدارسته مثل رسالة المؤنثات السماعية ويظن إنها لنور الدين بن نعمة الله الحسيني الجزائري وهي صغيرة وقعت في خمس صفحات. وأكثر موضوعات هذه المجموعة ليست مضمونة في شيء مما لدينا من كتب اللغة المضمونة كالمخصص واللسان والتاج والأساس والمصباح والصحاح وفقه اللغة بل هي في موضوع خاص مثل كتاب الأضداد والمقصور والممدود وأدب الكاتب والصاحبي وفقه اللغة وفصيح ثعلب والألفاظ الكتابية وغيرها. فأكرم بهمة ترينا كل يوم أثراً من آثارها وتحيي لنا أثراً نافعاً من آثار أجدادنا.

جرجي بك زيدان

جرجي بك زيدان فجعت الآداب العربية في العشر الأخير من تموز 1914 برصيفنا جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال ومؤلف تاريخ التمدن الإسلامي وصاحب التصانيف والروايات الكثيرة مثل تاريخ الآداب العربية وتاريخ مصر الحديث ومشاهير الشرق والفلسفة اللغوية وتاريخ الماسونية العام وغيرها. توفاه الله في القاهرة فجأة فعز نعيه على الأذان أكبرت النفوس الخطب فيه الجليل خدمته للعرب وتاريخهم ولغتهم وحضارتهم. ولد الفقيد في بيروت يوم 14 كانون الأول من شهور سنة 1861 وتلقى مبادئ العلوم في مدارسها الابتدائية ثم دعته حالة والده المالية إلى الانتقال معه وكان صغيراً ولما بلغ الثانية عشرة وانشأ خلال ذلك يكب على المطالعة ويتعلم الانكليزية وبعض العلوم ودرس الصيدلة ونال شهادتها ثم هبط مصر ليتلقى الطب في القصر العيني فاستطال مدة الدراسة ثم تولى تحرير جريدة الزمان حولاً كاملاً وفي سنة 1884 سار مع الحملة إلى السودان لإنقاذ غوردون باشا بصفة مترجم بقلم المخابرات وعاد بعد عشرة أشهر إلى بيروت وفي صيف سنة 1886 زار لندرا وعاد في الشتاء إلى مصر فتولى إدارة مجلة المقتطف والمؤازرة فيها حتى سنة 1888 وفي سنة 1892 اصدر مجلة الهلال وقد اتم بوفاته سنتها الثانية والعشرين وزار في السنة الفائتة بعض بلاد الغرب وكتب عنها ومعظم تأليفه صدرت في العهد الأخير مع اطراد صدور مجلته التي راجت رواجاً لم يعهد لمجلة عربية ومع هذا لم تكن تقوم بنفقته كلها كما كان أكد لنا لولا الروايات التي كان يشفعها بها ثم يخرجها على حدة ومنها ما طبع مرات ومنها ما ترجم إلى بعض اللغات. راجت كتب الفقيد العالم ومجلته لأنه كان له أسلوب خاص قلما يشاركه فيه مشارك من السلاسة وحسن التنسيق فكان يكتب ليفكه القارئ أولاً ثم يعمله وفي الغالب انه كان يتوخى النوع الأول فجاءت بعض كتبه التاريخية والعلمية كثيرة الاستنباط عليها في بعض الأحيان مسحة من أسلوب القصص والتوسع في الاستنتاج ولكنها مفيدة في تثقيف عقول جمهور كبير من القراء ممن نشرت بينهم المعارف التاريخية ولا سيما تاريخ الإسلام في الجملة وهذه الطبقة من الناس لو لم تأتها الفوائد بالعرض من أيسر السبل لم تجب إليها المطالعة. ولذلك فإن لصاحب الهلال فضلاً كبيراً على الآداب العربية لأنه نشر كتبه ومجلته أبحاثاً كانت مدفونة عن العامة لا يتناولها سوى الخاصة من العلماء والمتأدبين.

ولكثرة ما كان يطلب منه أن يكتسب يضطر أحياناً إلى عدم التوسع في البحث ويكتسب من حاضر الوقت بحسب ما يجول في خاطره لأول وهلة وقد عيب عليه تحامله في تاريخ التمدن الإسلامي على العرب حتى اتهم بأنه من غلاة الشعوبية وتناولته السن الناقدين من العلماء والأدباء بالنقد ومنهم من جاوز الحد في غمطه حقه وتحامل عليه في أشياء لا يخلو منها كتاب ومنهم من كان يطلب منه أن يكون مسلماً في بحثه وكان من قومه من يرمونه بالميل للإسلام والإفراط في ذكر مآثر العرب. صرف فقيدنا العزيز معظم حياته في خدمة التاريخ فهو المادة الأولى في مجلته وكتبه كلها ينوع أساليبه ويقرب من الأذهان بعيده وكان لبسط العبارات الساذجة يتناول ما قاله المؤرخون ويقتضب من كلامهم أو يكتسبه بأسلوبه المعتاد فيضيع أحياناً بعض جمل ربما كانت هي روح تلك الفقرات وكثيراً ما كان يتغاضى عن ذكر السند أو ينقل ما يدور على الأفواه ويأخذ بالمتعارف لعامة القراء الملذ لهم المفرح. وقد تعلم في آخر أمره مبادئ الألمانية والافرنسية فكان يقتبس في كتبه العلمية بعض ما كتبه علماء المشرقيات منهم على الآداب العربية والتاريخ الإسلامي وحاز شهرة في الأندية العلمية في الغرب وعين عضواً في بعض جمعياته ونال بعض الألقاب والأوسمة. وكان أجزل الله ثوابه عاملاً مجداً مرتب العمل انتظمت حاله برواج مطبوعاته بواسطة الهلال ومكتبته ومطبعته وله شهرة في العالم العربي نالها عن استحقاق وبسهر الليالي والمطالعة والمراجعة. كان عصامياً فصار بدرسه وبحثه واجتهاده من أفراد الناس بين من يعانون صناعة التأليف في الشرق العربي ووصل به جده واجتهاد إلى مصاف العلماء على حين لم يدرس في الكليات العظمى ولا نال شهاداتها وإجازاتها الطنانة الضخمة وكم من أناس أسعدهم الحظ بقضاء سنين طويلة في المدارس الجامعة ودرسوا علومها وأحرزوا شهاداتها ولم يكتب لهم أن يبلغوا جزءاً صغيراً مما بلغه صاحب الهلال بثباته ومثابرته ودرسه وعنايته مما دل أن العبرة بالدارس لا بالمدارس وبقوة العقل في الرجال لا بمجد الآباء وكثرة الأموال. ولذا كان فقد المترجم به في سن الكهولة شديد الألم على كل عارفيه وأصدقائه ومن انتفعوا بآثاره وأقهم تلطفه في الأداء وخدمته امزجه الجمهور من القراء وسيكون اسمه على جبين

الدهر خالداً ما دامت العربية وتبقى ما خطته يمينه يتداول حتى يقوم في الأمة من يكتب لها بأسلوب آخر ومعلومات أوفر وبحث أوسع وأمتع. عوض الله الأمة العربية عنه وجازاه جزاء العاملين.

المقتبس بعد حولين

المقتبس بعد حولين تصدر هذه المجلة بعد انقطاعها عن قرائها حولين كاملين بسبب الحرب العامة التي انقطعت بها الصلات بين الأمم وأصبح القول قول المدفع والحسام لا قول الصحائف والأقلام وبلي البشر بمحنة لم يكد يبتلى بمثلها في العصور الغابرة فاضطررنا إلى التوقف لنفاد الورق وندرة المواد التي كنا نستقي منها كثيراً من موضوعات هذه الصحيفة بداعي وقوف حركة الأندية والمجامع والمعاهد العلمية وبينما كنا نقول يسعنا ما يسع غيرنا من مجلات الغرب والشرق في الانقطاع عن الصدور قيض الله لهذه المجلة رجلاً تفرد بمزية الإقدام على العظائم والأخذ بأيدي المشاريع العمرانية والعلمية ونعني به بطل العثمانيين ناظر البحرية أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع فأرادنا على معاودة الصدور مسهلاً لنا الصعاب من الأسباب وحجته أدام الله توفيقه أنه لا يليق بالبلاد أن تخلو من مجلة تدون العلوم والآداب وتبث الأفكار الصحيحة وتدعو إلى مكارم الأخلاق فصدعنا بأمره ونحن عاجزون عن أداء شكره ولا غرو فهذا أقل ما يسجل في صحائفه البيض من المآثر في هذا القطر فنسأله تعالى أن يوفقنا إلى إحسان العمل وإتمام ما بدأنا به منه وأن يعيد إلينا نشاطنا السابق في التأليف والتعريب والاقتباس على وجه يجمع بين مصلحة الأمة ومصلحة طلاب الحقائق وعشاق الآداب إنه كريم جواد.

الحرب العامة

الحرب العامة بدأت في صيف سنة 1914 (1332) سلسلة من أشأم سلاسل المصائب البشرية لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم السالفة وربما لا يكون لها مثيل في تاريخ الأمم الخالفة ونعني نشوب حرب عامة سالت بها الدماء أنهاراً وعد فيها القتلى بمئات الألوف بل بالملايين وما كان الناظرون في حركة السياسة الأوروبية يظنون أن الحالة تؤدي إلى إشهار هذه الحرب الضروس وتطيش بالنفوس إلى حد يتقاتل المتماثلون والمتجاورون والأقرباء الأدنون ولكن هي المصلحة السياسية المادية تعلو فوق المصالح وتنسى في جانبها القرابة والنسب واللسان والمذهب. السبب الرئيسي في هذه الحرب أن إمبراطورية النمسا والمجر كانت على ما جاء في الكتاب الأبيض الألماني تحاذر من الدعوة التي كانت تنتشر لسلخ الأقسام الجنوبية الشرقية من أملاكها وهي السياسة التي عاضدتها الصرب وجاهرت بها متكلة على معاضدة روسيا لها وهذه كانت تسعى بكل قواها إلى تحقيق هذه الآمال بعقد التحالف البلقاني وذلك بأن الصرب المجاورة لمملكة النمسا والمجر كانت تتقوى الحين بعد الآخر خصوصاً بعد الجرب البلقانية وقد زاد سكانها واتسعت رقعة ممالكها وأخذ الصربيون من سكان النمسا والمجر يتحفزون للوثبة وروسيا ممثلة العنصر الصقلبي العظمى تضمر خلاف ما تظهر فرأت النمسا حياتها صائرة إلى خطر خصوصاً بعد أن أثبت التحقيق أن مقتل ولي عهد النمسا والمجر الأرشيدوق فرنز فردينند في مدينة بوسنة سراي بينما كان ينوب عن عمه الإمبراطور فرنسيس يوسف في حضور المناورات كان بيد جمعية سرية صربية فهلك وقرينته على صورة اشمأز منها العقلاء وذلك لأن الصرب كانت تعد هذا الأمير عائقاً عن بلوغ آمالها فلم يسع النمسا وقد رأت هذا العمل ألفظيع الذي هاجت له أعصاب سكانها إلا أن شهرت الحرب على الصرب يوم 28 تموز فتقدمت الجيوش النمساوية في أراضي الصرب وأخذت تذيقهم العذاب ألواناً. فشق ذلك على روسيا وأمرت بتعبئة جيشها على الحدود الألمانية والنمساوية فلما رأت ألمانيا أن حليفتها النمسا فتحت بينها وبين روسيا الحرب أنذرت روسيا وهددتها فلم يصادف إنذارها وتهديدها تأثيراً في دوائر حكومة القيصر وكان جوابها لألمانية أن على النمسا أن تسلم بالتوسط بينها وبين الصرب وإذا رفضت فلا مناص من إعلان الحرب وقد

أبرق قيصر روسيا يوم 29 تموز إلى قيصر ألمانيا يرجوه على أن يساعده على منع حليفته النمسا من التوغل في المسألة الصربية منعاً لنشوب حرب أوروبية طاحنة فبادر الإمبراطور غليوم إلى التوسط وبينما المسألة في أخذ ورد مع الحكومات ذات الشأن وإنكلترا تعضد ألمانيا حباً بعدم نشوب حرب عامة صدر أمر عام بتعبئة الجيش الروسي كله وإعداد الأساطيل فرأت ألمانيا سلامتها مهددة فبادرت هي أيضاً إلى تعبئة جيشها دفاعاً عن حليفتها النمسا ولو أتيح (الكتاب الأبيض الألماني) للصرب أن تنحشر في المستقبل بحكومة النمسا لكانت العاقبة تضعضع أركان هذه السلطنة ويلي ذلك خضوع جميع العناصر الصقلبية (السلافية) لصولجان روسيا وهذا مما يؤدي إلى هدم أركان العنصر الجرماني في وسط أوروبا. وفي 3 آب شهرت ألمانيا الحرب على روسيا وشهرت فرنسا الحرب على ألمانيا على إثر إشهار ألمانية الحرب على روسيا بالنظر لتحالف روسيا وفرنسا ثم شهرت حكومة الجبل الأسود الحرب على النمسا أيضاً وفي 4 آب أعلنت إنكلترا دخولها الحرب براً وبحراً وعلل ذلك سفيرها في الأستانة أن الأسباب التي حملت دولته على الاشتراك في الحرب الأوروبية هي أن ملك بريطانيا العظمى مرتبط بمعاهدة للدفاع عن الإغارة على مملكة البلجيك الواقعة قبالة الشواطئ الإنكليزية وبين فرنسا وألمانيا. ولما هاجمت ألمانيا البلجيك حاذرت إنكلترا أن تخترق ألمانيا أراضي بلجيكا لتهاجم فرنسا التي لها حدود غير محصنة بينها وبين البلجيك فأعلنت الحرب. قال المستر أسكو بث من ساسة الإنكليز في خطابه الذي ألقاه في مجلس النواب الإنكليزي: إذا سألنا لماذا نحارب فأجيب بعبارتين: أولاً - للقيام بأمور دولية مقدسة لو فرض وعقدت بين شخصين في أمور الحياة الاعتيادية لعدت لا شرعية فقط بل واجبات شرف أيضاً لا يسع أي إنسان يحترم نفسه أن يخل بها. ثانياً - إننا نحارب في وقت تعتبر فيه القوة المادية العامل على المبدأ القائل بأن الأمم الصغيرة لا يجوز أن تسحق بإغارة دولة كبرى تدعي أنها تحافظ على حقوقها وعلى النظام الدولي. وقال أحد كتاب الإنكليز أن بذور هذه الحرب زرعت ستة 1884 أيام عزمت ألمانيا أن تصير من دول الاستعمار لما رأت من تغلب بلجيكا على بلاد الكنغو وبسط إنكلترا لسيادتها البحرية على بلاد النيجر وعمل فرنسا في غرب أفريقيا ومدغسكر حاسبة أنها إن لم

تستول هي على جانب كبير من بلدان الأمم لتتناول منها المواد التي تستعمل في الصناعة وتبيع فيها مصنوعاتها صارت صناعتها مستعبدة ذليلة لأميركا وإنكلترا وفرنسا فاستولت في أفريقيا وجزائر البحر على بلاد مساحتها 1135. . . ميل مربع ثم قصدت أن تصير من الدول البحرية الكبرى وتبسط نفوذها على البحر الشمالي وبحر البلطيق من الشمال والغرب وبحر الأدرياتيك من الجنوب والشرق وبلغت الأدرياتيك باتفاقاتها مع النمسا حتى صار اتصالها بها أشد من اتصالها ببفاريا إحدى ممالكها ثم إذا وصلت النمسا إلى بحر الأرخبيل وامتد سلطانها إلى كوروفو سهل على ألمانيا الوصول إلى بر الأناضول والعراق ثم رأى إمبراطور ألمانيا أن بسط دولته نفوذها في أفريقيا وما يتوقع أن يستولي عليه من الأملاك العثمانية لا يغنيانه عن الاستيلاء على أسوج والدانمارك وهولندا وبلجيكا فتمتد سلطته حينئذ من أسوج شمالاً إلى تريستا فكورفو فسلانيك فالأستانة فبغداد فخليج العجم جنوباً ويبقى الهند إلى أن تحين ألفرص لتدويخها وبدأ الآن في العمل بما ينويه فهاجم بلجيكا وفرنسا واضطر إنكلترا إلى الدفاع عنهما. وقال كارل هلفريش الألماني في أسباب الحرب العامة أن روسيا أوقدت جذوة الحرب بإعلانها النفير العام الذي أمرت به يوم 31 حزيران 1914 بحيث كان رجال السياسة الروسية يرون ويسمعون بأن عملهم يضطر ألمانيا إلى الدخول في الحرب لا محالة وكل ما نشرته الحكومة الروسية بشأن إعلان النفير العام في بلادها لا أصل له فلا الأسباب العسكرية التي اتخذتها النمسا ولا الأسباب التي تعزى إلى ألمانيا تكفي لتبرير روسيا من إعلانها النفير العام ثم أن روسيا أمرت بالتجنيد العام عقب أن رضيت النمسا بطريقة حل الإشكال بينها وبين جارتها ودخلت روسيا في الحرب بعد أن تأكدت اشتراك فرنسا معها وفرنسا في الغالب لم تعد بمعاونتها لروسيا إلا بعد أن تأكدت مساعدة إنكلترا لها وكان رجال السياسة الإنكليزية مربوطين مع فرنسا رباطاً أدبياً بحيث إذا دخلت فرنسا فلا يسع إنكلترا إلا السير معها أو أنه وقع الاتفاق بينهما في هذا الشأن في أسبوع تلك الأزمة ورأت إنكلترا أن مسألة مقتل ولي عهد النمسا ومسألة الصرب لا تبرر القيام بحرب فاختلقت حجة أمام أمتها وهي مسألة خرق حياد البلجيك. هذا وأمثاله من البراهين الثابتة في المنشورات الرسمية التي أعلنتها حكومات الوفاق ترد

كل الرد أمام محكمة التاريخ ما يقال من أن ألمانيا أرادت الحرب وأوقدت شعلتها فقد كانت روسيا مسببة الحريق وشريكتاها في عملها إنكلترا وفرنسا. أوقدت روسيا نار الحرب لأنها طامعة في أن يكون لها السلطان الأكبر في الشرق بعد أن تراجع أمرها بعد هزيمتها مع اليابان وعزمها على التغلب على كل مقاومة تبدو من دول أوروبا الوسطى أما فرنسا فإنها اندفعت في هذا السبيل بما كان يغلي في صدرها من مراجل الحقد والأخذ بالثأر من الألمان ممزوجاً بالخوف منهم وذلك ما دعاها إلى أن تحالف كل أمة تعادي ألمانيا أما إنكلترا فإن الحسد الذي فطر عليه تجارها الذين لا يحبون أن يروا لهم منافساً جديداً وما عرف عن هذه الدولة الإنكليزية من الظهور بمظهر العداء أمام كل دولة قوية في التجارة الأوروبية وما اشتهر من تقاليدها في أن الواجب عليها أن تضرب على أيدي كل أمة تريد أن تتوسع في بحريتها هو الذي أدى إلى ما أدى. ولما أرادت ألمانيا اختراق حدود البلجيك أبت هذه عليها ذلك وشهرت عليها الحرب وأرسلت إنكلترا في الحال إلى بلجيكا عدداً من جنودها ورجالها وأعلنت كل من إيطاليا والعثمانية حيادهما إلا أنهما أعلنا النفير العام فباتت أوروبا وقد انقطعت مواصلاتها البرية والبحرية كأنها كلها ثكنة كبرى تتدفق بالجنود والأسلحة وقد قدروا عدد الجنود المتحاربة بنحو خمسة عشر مليوناً. وفي يوم 6 آب أغلقت إنكلترا مضيقي بادوكالة وجبل طارق كما كانت العثمانية أمرت بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل وحدثت أول حرب عظيمة بين الأساطيل الألمانية والروسية في البحر البلطيكي فكان ألفوز في جانب الأسطول الألماني الذي أغرق بقنابله طراداً روسياً واحتل جزر الأند التابعة لحكومة فنلندا الروسية وعددها ثلاثمائة جزيرة. واحتل النمساويون ساباك على الشاطئ الأيمن من الساف وبلغراد عاصمة الصرب ويساروفجة وسمندر وسيوط من أعمال الصرب واحتلت الخيالة المجرية اوشتيزا وتقدم الجيش الألماني تقدماً سريعاً في الحدود ألفرنسية واحتل جميع المراكز الحربية ودخلت العساكر الألمانية حدود روسيا وهدمت المراكز العسكرية وهاجمت الخيالة الألمانية طلائع الجيش ألفرنسي واحتلت ألمانيا جزر الأتلنتيك كافة ومنها جزر ايزلاندا وفي 8 آب أعلنت أسوج والنرويج والدانمارك حيادها رسمياً كما أن اليونان ورومانيا وسويسرا دعت جيوشها

إلى حمل السلاح وفي 9 آب احتلت الجيوش الألمانية مدينتي ليج وبروكسل بعد معركة شديدة واحتل الألمان عدة استحكامات روسية وحدثت معركة بحرية بين قسم من الأسطول الألماني والأسطولين ألفرنسي والإنكليزي أسفرت عن غرق ست قطع ألمانية وثلاث قطع فرنسية وقطعتين إنكليزيين وأخرج الجيش الألماني الروس الذين كانوا اجتازوا الحدود الألمانية وأباد ثلاثة الايات من خيلتهم بألفرب من سولدو كما أهلك فرقة عن بكرة أبيها بجوار اينستر بورج واستولى الألمان على كازيتوكوفا وكاليسز وفيلون وكيستارتي وبلاداً أخرى على الحدود الروسية وسقطت مدينة ليج في أيدي الألمان بعد إطلاق القنابل عليها 36 ساعة وفي 9 آب أعلن مستشار الإمبراطورية الألمانية بأن احتلال الجيش الألماني لمقاطعة بولونيا الروسية قد أحدث سروراً عظيماً في جميع أنحاء ألمانيا وأن الحكومة الألمانية ستمنح هذه المقاطعة استقلالاً وتضم إليها بولونيا الألمانية وبولونيا النمساوية وبذلك يتم تأليف دولة بولونيا المستقلة وفي 12 آب ابتاعت الحكومة العثمانية من ألمانيا السوبر دردنوط غوبن والمدرعة برسلو الألمانيتين بأربعين مليون مارك فسمت الأولى ياوز السلطان سليم والثانية مدللي وذلك لتستعيض عن المدرعتين رشادية والسلطان عثمان اللتين استصنعتهما العثمانية في معامل إنكلترا فضبطتهما هذه أوائل الحرب بينما هي على عزم تسليمهما وفي 13 منه شهرت فرنسا الحرب على النمسا وحصر الأسطول النمساوي جميع سواحل الجبل الأسود بعد أن كان ضرب انتيفاري مرفأ الجبل ودمرها وشهر الجبل الأسود الحرب على ألمانيا. وانتصر الجيش الألماني في مولهوز ولاغارد على الجيوش ألفرنسية بعد معركة دموية هائلة. وهكذا كان النصر حليف الألمان في معظم الوقائع التي جرت بينها وبين خصيماتها والحرب سجال حتى استولت على انفرس ولوفان وبروكسل وليج ونامور وهاتان الأخيرتان من أعظم حصون العالم وذلك على ما ثبت بواسطة المدفع الذي اخترعته وكان مكتوماً سره عن كل أحد حتى ظهر بظهور الحرب الأخيرة وقطره من عيار 42 سنتمتراً وهو يدك الحصون مهما عظمت ولهم طريقة في نقله إلى الأباعد تدل على تفنن الألمان في الحرب تفننهم في ضروب العلم والصناعات. أما الروس فقد ضربوا جزءاً من بروسيا الشرقية ولكنهم ردوا عنها مرات واستولوا على

بعض غاليسيا من النمسا ولا سيما عاصمتها لمبرج وتوغلوا في جبال الكاريات ورجعت النمسا عن البلاد التي احتلتها من الصرب لحكمة مجهولة ولما استصفت ألمانيا معظم بلاد البلجيك تقدمت في الأراضي ألفرنسية من الشمال والشمال الشرقي فذعر ألفرنسيين لأنهم رأوا طلائع فرسان الألمان على بعد ثلاثين كيلومتراً من باريس فنقلوا عاصمتهم إلى بوردو في الجنوب الغربي مخافة أن يستولي الألمان على العصمة فتضعف شوكتهم ويختل أمرهم وقد ساعدت إنكلترا بجندها فأرسلت بعض كتائبها إلى البلجيك والبعض الآخر إلى فرنسا تقاتل مع حليفتها فرنسا كتفاً إلى كتف والتقى الأسطول الألماني بالأسطول الإنكليزي في بحر الشمال مرة وفي بحر الشيلي مرة أخرى فكانت الحرب سجالاً فقد من الجانبين مدرعات وطرادات واستولت اليابان حليفة إنكلترا على المستعمرة الألمانية في الشرق الأقصى كما أن جنود الاتفاق الثلاثي استولت على المستعمرات الألمانية في أفريقيا. وهكذا كانت الوقائع تجري بين الاتفاق أو الائتلاف الثلاثي الذي أصبح رباعياً بإعلان إيطاليا الحرب على النمسا وبين الاتحاد الثلاثي والنصر أكثره في جانب الألمان الذين أدهشوا العالم حتى اعترف لهم خصومهم أيضاً بتفوق جيوشهم على جميع الجيوش وثبت أن جيشهم أعظم جيش في الأرض وأن سلاحهم أمضى سلاح وأن قوادهم لا مثيل لهم بين أبطال القرون الماضية وكاد لا يكون لهم قرين بين أبطال القرون الحديثة. نادت الحكومة العثمانية بالنفير العام منذ أعلنت أوروبا الحرب العامة وأخذت بتنظيم فيالقها وأعلنت الأحكام العرفية في السلطنة على النحو الذي جرت عليه دول أوروبا المتمدنة وفي 19 تشرين الأول غربي 1914 صدرت الإرادة السنية السلطانية بإلغاء الامتيازات الأجنبية وفي يوم 29 منه هاجم الأسطول الروسي جزءاً من الأسطول العثماني في البحر الأسود بينما كان يقوم بتمرينات فغرقت للروس سفينة لوضع الألغام وسفينة نسافة وفي 3. منه طارد الأسطول العثماني الأسطول الروسي فضرب سفاستابول ونوفوروسيسك من الموانئ الروسية وعندها غادر سفراء روسيا وفرنسا وإنكلترا عاصمة السلطنة العثمانية وأعلنت الحرب فدخلت الدولة مع حليفتيها ألمانيا والنمسا والمجر وفي 2 تشرين الثاني هاجم الروس الجند العثماني المرابط على حدود القافقاس فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية يوم 2 تشرين الثاني وفرنسا على العثمانية يوم 5 تشرين الثاني وإنكلترا

على العثمانية يوم 5 تشرين الثاني والبلجيك على العثمانية يوم 7 تشرين الثاني والصرب على العثمانية يوم 7 تشرين الثاني ويوم 12 تشرين الثاني صدرت الإرادة السنية قائلة بأن المملكة العثمانية دخلت في الحرب ضد إنكلترا وروسيا وفرنسا وفي 14 منه دعا الخليفة الأعظم العالم الإسلامي إلى الجهاد ضد دول الائتلاف لأن الإنكليز والفرنسيين والروس أخذوا بأساطيلهم وجيوشهم يحاصرون دار السلطنة يريدون الاستيلاء عليها. وهذا الحلم أي الاستيلاء على الأستانة حلم قديم تحلمه روسيا وإن كان مخالفاً لرغائب إنكلترا ولكن اتفاقها معها ومع فرنسا هذه المرة ضد ألمانيا والنمسا قد دعاها إلى الرضا بذلك حتى يفتح المضيقان البوسفور والدردنيل لأساطيل دول الاتفاق فتتخذ عامة الأسباب للقضاء على ألمانيا والنمسا والمجر. رأت العثمانية مصلحتها بالتحالف مع ألمانيا إذ أيقنت أن الحياة لها إلا بالحرب فوفقت إلى عقد المحالفة المطلوبة بفضل حسن نية الطرفين واشتراك مصالحهما لأن إنكلترا جاهرت بأنها تريد أن تكون العراق مسرحاً خاصاً لمتاجرها وملكاً مستقبلاً لأمتها وساستهم طالما جهروا بأن إنكلترا لا ترى بعين الرضا وجود دولة الخلافة قوية تشرئب إليها أعناق المسلمين وتعلق بها آمالهم بل تريد أن تقضي على آمال رعاياها وتدخل اليأس إلى قلوبهم حتى يبقوا عبيداً أرقاء لا أمل لهم في حياة مستقلة. وروسيا كثيراً ما ضربت على أحد أوتار المسألة الشرقية فحركت المسألة الأرمنية وأخذت تبث رسلها في البلاد العثمانية تثير كوا من التعصب مثل إثارة الأكراد على الأرمن وبالعكس. وفرنسا ظهرت نياتها مع الدولة العلية ولا سيما في سوريا إذ كانت المعاهدة السرية المعقودة بين الائتلافيين تقضي على العثمانية بإعطاء الأستانة لروسيا وأن تترك العراق لإنكلترا وتقسم البلاد السورية بين فرنسا وإنكلترا. ولكن حسن التدبير إذا اقترن بحسن التوفيق فعل أكثر من كثرة العدد فإن الانتصارات كانت خلال السنتين الأولى والثانية حليفة لنا ولحلفائنا وذلك لأننا إذا ألقينا على ختام 1914 نظراً دقيقاً وسبرنا غور حوادثه يتجلى أمامنا أن ما غبر كان من كل الوجوه مناسباً لموقف ألمانيا وحلفائها ومساعداً لهم. ففي الساحة الغربية أفضى فوز الجيوش الألمانية السريع إلى إيجاد حرب المتاريس والحصون وامتدت هذه الحرب بين من البحر الشمالي

حتى تخوم جمهورية سويسرا وما برحت الآن تثبت وتستمر شديدة. وقد حاول الإنكليز والفرنسيون والبلجيكيون عند حلول عام 1915 أن يخترقوا خطوط الألمان حتى ينهوا أمد هذه الحرب التي صح القول بأنها حرب قلاع وحصون أبدية القرار وبذل أعداؤنا هذه المساعي في إقليم فلاندر وارتواز (في الجنوب الغربي من ليل) وفي شمبانيا وما بين نهري الموز والموزل وحتى الآن ما برح هؤلاء يندحرون دون أن يصيبوا مغنماً أمام بسالة الألمان. وكان العدو من خلال أشهر عديدة استطاع أن يعزز مواقفه وأن يأتي إليها بجنود كثيرة العدد والعدة وأن يزيد حصونه قوة. كل ذلك استعداداً لهجوم على الألمان ولكنه لم يصب مغنماً لأن جيش ولي العهد الألماني قد تقوى على العدو في ساحة شمبانيا وأحرز سلسلة باهرة من الانتصارات وعجز الفرنسيون رغم تكاثف قواهم عن حفظ بعض كيلومترات احتلوها من الأراضي الألمانية في الفوسج. ويقال على وجه الإجمال لأن الساحة الألمانية في الغرب بقيت دون أن يطرأ عليها تبدل في عام 1915 وظلت أراضي العدو التي افتتحتها جنود حلفائنا الظافرة عند هجومها الأول منيعة لا تؤخذ وفوق ذلك فإنها عززت حتى صارت في حالة لا يقوى العدو معها أن يصيبها بأذى. أما الحوادث في الساحة الشرقية فإنها أوسع نطاقاً. وكان الروس في ختام عام 1914 قد أغاروا بقواهم الجرارة على ولايات بروسيا الشرقية حتى أن جنودهم أطلت على بوزن فانتهت حركاتهم باندحارهم وعقب ذلك أصبحت الحروب حروب متاريس في بولونيا الروسية وفي القرب من خط الفيتول وناريف وبوهر وفي القسم الشرقي من بروسيا الشرقية وفي غاليسيا الغربية ولبست لباساً مماثلاً للساحة الغربية ورجع الروس إلى قلب مراكزهم محاولين التقدم على الجناحين غير أن هذه المحاولة ما لبثت أن تحطمت أمام مقاومة الجيوش النمساوية الألمانية في الكاربات وسقوط قلعة برزميشل وفي خلال ذلك كانت انتصارات جيش هندنبورغ في الشرق من بحيرة مازوريان من الأسباب التي أفضت إلى إنقاذ بروسيا الشرقية بصورة نهائية والحقيقة أن الاحتلال الروسي في تلك الأرض والأصقاع كان فصل انتقام شديد الهول. لكن الروس عوقبوا عليه باجتياح الألمانيتين لولايات البلطيك الروسية.

وعند بزوغ شمس أيار كان اختراق الخطوط الروسية على ديانتز وفي غاليسيا الغربية مقدمة لتقدم هجوم الدول الوسطى في الساحة الشرقية ذلك الهجوم الذي كله فوز ونجاح. وتطهرت بيكوفينا وأعالي الكاربات وسفوحه وبقاع غاليسيا ولم يبق هنالك عدو بل أكره هذا على أن يخلي خطوط الفستول - نارف - بوهر المحصنة وأجلي عن قارسوفيا عاصمة بولونيا وكذلك أضاع الخط الثاني من خطوط دفاعه في الغرب مع قلاع برست ليتوسك وغرودونو وكوفنو وأجبرت مطاردة الجيوش الألمانية والنمساوية الظافرة العدو على الالتجاء إلى الداخلية متخلياً للغالبين عن كل منطقة الدفاع الغربية مع الحصنين العظيمين ليزك ورينيو في أيالة ولهينا. ولما عين القيصر قائداً عاماً للجيوش الروسية بدلاً من الغرادوق نقولا تذرع الروس بهجوم أحدثوه في نقاط متعددة من شرق ويلنا وبصورة خصوصية في أيالة ويلبينا فبقيت مساعيهم المدخرة لدحر جيوش الدول الوسطى بلا طائل وبالعكس فإن هؤلاء قد ظلوا محتلين للمراكز التي أخذوها من العدو والتي تمتد من تخوم رومانيا حتى سزرتوفيتزا وتضم إليها ايسيايلا مع قناة أوزنسكي وسرفتش ونيامن وفيليا مع البحيرات الواقعة في الجنوب من دونابورغ - ديتا حتى خليج ريغا وأصبح الجنود في مراكزهم التي توفرت فيها كل الاستعدادات لهجوم يثار في البرد القارس يستطيعون به أن يضعوا أمام هجمات الروس العنيفة سداً حائلاً يرجعهم القهقرى أذلاء صاغرين حتى ينسلخ فصل الشتاء فيعود هؤلاء الجنود إلى استعادة هجومهم المكلل بالفوز. وقد حولت الدولة العثمانية وجهتها في عام 1915 إلى النظر في معارك شيه جزيرة كليبولي التي كان يحتلها جنود الاتفاقيون بقصد إخضاع الدردنيل والوصول إلى العاصمة العثمانية فلم تثمر هجماتهم ومحاولاتهم على الرغم من كثافة قواتهم وكثرة معداتهم وعظمة أساطيلهم وكل ما قاموا به من المهاجمات أبطل أمام شدة الجيش العثماني وصلابته ورأينا الإنكليز في نواديهم يجهرون بهذه الخسائر التي ألمت بهم في أنافرطة وأري بروني وسد البحر رأيناهم ينتقدون أنفسهم وأخيراً رأيناهم ينزحون عن مرابع الدردنيل فكانت هذه الكسرة ضربة قاضية على ما للاتفاق من النفوذ الممتد في بلاد المتحايدين وتلاشت كل سلطة ونفوذ لهم في بلاد المسلمين. أما في القفقاس فلم يحدث في عام 1915 حادث خاص فقد حصر العثمانيون اهتمامهم في الدفاع

عن مناطق الحدود ضد إغارة كان بقوم بها الروس وبعكس ذلك فقد كان للساحة العثمانية الثالثة وهي الساحة العراقية شأن خاص وقد قامت الجيوش العثمانية هنالك بأعمال خارقة في تاريخ الحرب الحاضرة فالإنكليز بعد أن أصبحت الدولة العلية في عداد المتحاربين قد أبحروا بجنودهم إلى الخليج ألفارسي فاستولوا على البصرة وامتدت سلطتهم حتى اتصلت بدجلة وكادت تشرف على بغداد ومع ذلك فهذه الأعمال ظلت عقيمة لا فائدة عسكرية منها للإنكليز وكان هؤلاء يعلقون أملاً سياسيا يتوصلون إليه لدى قبائل العرب. وقد تقدم هجومهم في عام 1915 وكادوا يحدقون ببغداد ولكن العثمانيين الذين تلقوا نجدات مهمة ردوهم على أعقابهم وطردوهم من كوت الإمارة طرد عزيز مقتدر كما أوقعوا بهم في سلمان باك ضروب التقهقر والفشل واتسعت مناطق الحرب أمام نهر دجلة وكانت الحوادث العسكرية التي تجري هناك سلسلة انتصارات كللت مفارق الجيوش العثمانية بأكاليل الظفر. أما حوادث الساحة العثمانية الرابعة ونريد بها قناة السويس فلم يحدث في عام 1915 فيها ما يدعو إلى الذكر غير كشف تعرضي بسيط ومع ذلك فيمكن القول أن في الزوايا خبايا يرتاع لها الإنكليز وفي مقدمتها وقعة القاطية الأخيرة. ولننظر الآن في ساحة الحرب الإيطالية التي خضبتها إيطاليا بالنجيع الأحمر ففي 23 أيار سنة 1915 أعلنت إيطاليا الحرب على النمسا وفي 8 حزيران حدثت المعارك الأولى أمام إيزنزو واكتست هذه الحوادث في تلك السنة لباساً خطراً وعقب ذلك قيام العدو بهجوم شديد على جبهة حليفتنا وفي ذات الوقت كانت المعارك الصغيرة التي لا شأن لها تجري في ساحة التيرول زكارنتي وقصارى القول فإن العدو مع توفر استعداده لم يبلغ من النمساويين منالاً وظلت أعماله مجدبة لا ثمرة فيها وكان من جيوش النمسا والمجر أن تقدمت كثيراً في تلك الأصقاع وتوشك ونحن نكتب هذا أن تطل على أرض البندقية من عمل إيطاليا وتقسم الجيش الإيطالي شطرين. وعند نهاية عام 1915 أصبح للساحة البلقانية مركز عظيم وقد كان المقصد منها بادئ بدء إنزال العقاب بصربيا التي سببت هذا الحريق العالمي ثم الاتصال بالقسطنطينية وإعادة الأملاك المقدونية المفقودة إلى بلغاريا التي خسرتها فتم كل حادث في مدة عشرة أسابيع.

ففي اليوم السادس من شهر تشرين الأول شرعت في الهجوم على صربيا بالاستيلاء على الساف والطونه وفي اليوم الحادي عشر من الشهر المذكور دخلت الجيوش البلغارية إلى أراضي مقدونية الصربية واسترجعتها قوة واقتداراً وتطهرت صربيا وأقطاع الجبل الأسود الشمالية من آثار العدو ودحر البلغاريون ألفرنسيين والإنكليز من وادي الوردار حتى اضطر هؤلاء إلى الاعتصام بسلانيك وفتحت طريق السكة الحديدية بين برلين والأستانة وكانت مسدودة من قبل. ومن الكوائن دخول البرتغال في الحرب مع الاتفاقيين نجدة لهم في العهد الأخير وأهم الوقائع الأخيرة التي كتب فيها النصر لأعلامنا سقوط كوت الإمارة في العراق بأيدي الجيش العثماني وقد أسرنا من الإنكليز 13856 رجلاً منهم خمسة قواد و277 ضابطاً إنكليزياً و247 ضابطاً هندياً و133. . جندي ووقوع معركة بحرية هائلة حدثت بين الأسطول الألماني والأسطول الإنكليزي في ضواحي مضيق اسكاجراك في بحر الشمال كان ألفوز فيها للإنكليز وذلك في 31 أيار سنة 1916 فغرق للإنكليز عدة دريد نوطات وطرادات ونسافات عظيمة بلغت ست عشرة قطعة وغرق فيها سبعة آلاف إنكليزي ولم يغرق للألمان سوى طرادة وبعض نسافات وشفع هذه الواقعة الحربية الكبرى التي نزلت على إنكلترا كالصاعقة غرق اللورد كتشنر ناظر الحربية الإنكليزية مع أركان حربه بينما كان ذاهباً من إنكلترا على سفينة حربية قاصداً روسيا في البحر الشمالي. ومما ساعد الألمان على الإبلاغ في نكاية الاتفاقيين في البحر اختراعهم غواصات غريبة كانت تطوف بحار العدو وتوقع بأساطيله البلاء والرهبة وطيارات الألمان التي فعلت في البر مع أعدائنا أفعالاً تذكر فتشكر. وقد استولت ألمانيا حتى الآن على بلاد البلجيك إلا قليلاً وعلى بضع ولايات من شمالي فرنسا وعلى بولونيا الروسية وكثير من الولايات الروسية المتاخمة لها بحيث بلغت مساحة ما استولت عليه حتى الآن نحو 45. ألف كيلومتر مربع لا يقل سكانها عن 35 مليوناً واستولت النمسا على الصرب وعلى جزء من ألبانيا الشمالية وأرجعت النمسا الروسيين عن بلادها أما عن حالة الحرب العمة عند كتابة هذه الرسالة فمشتدة في جميع الساحات ولا سيما في الساحات الأوروبية بين النمسا وإيطالية وبين النمسا وروسيا وبين ألمانيا وفرنسا وإنكلترا ولكن النصر حليف الحلفاء وربما لا ينتهي هذا الصيف إلا

وقد حدث تبدل كبير في حالة الحرب العامة. وفي 23 أيلول 1915 أعلنت بلغاريا النفير العام وعادت رومانيا واليونان فأعلنتا حيادهما وفي شهر تشرين الأول من تلك السنة قطعت بلغاريا صلاتها مع دول الاتفاق ودخلت مع دول التحالف أي مع العثمانية وألمانيا والنمسا والمجر فهاجمت بجيوشها العساكر الصربية من الشرق كما هاجمتها العساكر الألمانية والنمساوية من الشمال وقضي على الصرب فاستولت بلغاريا على مقدونية القديمة كما استولت النمسا على البلاد الشمالية المتاخمة وأخذت أراضي الجبل الأسود الذي تفرق شمل حكومته كما تفرق شمل البلجيك والصرب نسأل الله حقن الدماء ورفع البلاء.

آلام وآمال

آلام وآمال نظمت في مبتدأ سنة 1915م أرى سنة تمضي وعاماً بنا يجري ... يضيق من آجالنا فسحة العمر ودنا على هذا الوجود أجنةٌ ... تسير بنا الأيام في السهل والوعر فيوم على صفو نؤمل عوده ... وآخر في البأساء عد من الدهر لنا أمل في كل عام مجدد ... ترجي به صفو الحياة وما ندري ولولا أملني ألفتى ورجاؤه ... لأيقن أن العيش ضرب من الأسر مضى عمنا الأدنى بذنب فعله ... يجيء الذي يتلو المغادر بالعذر سلكنا به ظلماء حالكة الدجى ... فلما انقضى حانت لنار قبة ألفجر ألا أيها العام الذي كنا منه ... على الكون شؤبوبا من الدم لا القطر تحجب فيه الغيث حتى إذا انجلى ... لنا الأمر كان الغيث من دمنا يجري أفاض علينا في النعيم ابتداؤه ... وجادت بني الغبراء عقباه بالشر لقد هاجني من جانب الشرق صائح ... ينوح وباك حيث مستتر البدر وذو صخب الردى في شمالها ... يردد أنات الجنوب من الذعر تورد وجه البحر حتى حسبته ... من الجثث الملقاة ملتهب الجمر وشاب قذال الأفق من رهج الوغى ... وأقفر رحب البر من زمر البر فلا الأرض بالأرض التي تعهدونها ... ولا البحر بحر المد والجزر بالبحر تغير شكل الأرض في بعض حقبة ... وأسملت الأهلون للشر في شهر وكنا نرجي السلم لولا مطامع ... من بعض أدت للضغينة والهجر كوامن أحقاد أثيرت فهيجت ... نفوسا لتطلاب القديم من الثأر فغودرت الأقطار بعد ازدهارها ... خرائب والبلدان أوحش من قفر فيا أيها الحول الذي هل شهره ... يعلل منا النفس بالصفو والبشر لعلك حول الحول والقوة التي ... تطأمن من كبر العتاة ذمي الكبر تعزز مهضوماً وتجلي غضاضةً ... وتمحو عن الأقوام سطراً من الضر تسكن روع الجائفين فيزدهى ... بك الوجل المذعور مبتهج الصدر يحيى بك العلم الملم بأهله ... وأسفاره خوف المذلة والفقر

ينال بك العلياء من يستحقها ... وتشرق شمس السلم باسمة الثغر هنالك بحلولي اليراع فأختلي ... بقيثارتي ألهو ببيت من الشعر أرجع الخان السواجع شادياً ... تحن إلي الشاديات من الطير سيسكن جأش الكون بعد اضطرابه ... ويرفل بالنعماء حيناً من الدهر دمشق خير الدين الزركلي

في ديار الغرب

في ديار الغرب حيلتنا والحياة الأوروبية سادتي الأعزاء تقاضاني بعض الأحباب ديناً لم أرى بداً من فضائه على حين اشتداد الأزمة بل الأزمات في بلادنا. أرادوني أن أحاضركم بشيء مما جنيته في هذه الرحلة الثانية إلى بلاد الغرب من ثمرات مدنيته الزاهرة فلم يسعني إلا إجابة الطلب مع الشكر لحسن ظنهم وإن كان البحث في نهوض القوم أو في فرع من فروع ارتقائهم يحتاج إلى درس عميق وبحث دقيق ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله فإذا أتيتكم بأمور تعرفونها أو أكثرها فذاك لأني أحببت المبادرة إلى امتثال الأمر مع علمي بأني لا آتي بجديد على أنه جديد تحت الشمس. كانت السياحة في سألف الأزمان ضرباً من شاق الأعمال ولكنها أصبحت في هذا العصر على سهولتها حاجة من حاجات المجتمع يحتاج الخاصة إليها أكثر من غيرهم ويدخل في الخاصة أرباب النعمة من التجار والزراع والصناع كما يطلق على العلماء والمفكرين والباحثين والمتعلمين وقد وردت عدة آيات في الكتاب العزيز في الحث على السياحة ولكن الشرق ضعف في العمل بهدي قديمه ولم يهتد إلى وجه الصواب في حديثه. كان لأجدادنا يطوون الأميال والفراسخ أياماً وشهوراً لينتقلوا من قطر إلى آخر ونحن اليوم نسيح من شرق الأرض إلى غربها في أيام يسيرة ونقطع بضعة ألوف من الكيلومترات في ساعات معدودة ومع هذا ترى السائحين منا إلى الآن أقل من السائحين في العصور الماضية هذا إذا قابلنا بين سرعة المواصلات وتوفر أسباب الراحة في عصرنا وفقدانها في عصور أجدادنا أيام كان يقول ابن زريق البغدادي وقد رحل من بغداد إلى الأندلس: ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالبين يجمعه كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بفضاء الله يزرعه إننا إذا رحلنا اليوم إلى الغرب نجدد حياتنا بعد ذبولها ونقوي حواسنا بعد انثلام حدها وندخل في طور نتعلم فيه ونعتبر ونتعود عادات حسن أكثرها وجدير بنا أن نقتبسها عمن سبقونا مراحل وأشواطاً لأنها نتيجة علم متوارث ونظر بعيد متسلسل فكل ما نراه في بلاد الغرب وهو عمل مقرون خلت وأجيال علمت فعلمت:

وأحب آفاق البلاد إلى ألفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب تكثر الخواطر على السائح منا في ربوع أمم الحضارة الحديثة فلا يلبث أن يذكر بلاده ويقابل بين حالها وما يشاهده هناك من السير نحو الكمال بخطى سريعة في حين يرى أمته تسير سير السلاحف: إن القباع سار سيراً نكراً ... يسير يوماً ويقيم شهراً نعم يسير الغرب بسرعة البخار والكهرباء ونحن ما زلنا نسير بسير الجمال والبغال والحمير وشتان بين نظام السيرين. سر أينما شئت في بلاد المدنية تجدها نسقاً واحداً في الاستمتاع بنعم الجمال والكمال وقد تشاهد لبعضها على بعض امتيازاً في أمور تتفرد بها ولا فرق في أصل المادة بين الشرق والغرب: سهول وأودية وجبال وأنهار وبحيرات وبحار ولكن ألفرق في تربية العقول ونمط الحياة فالسر إذا في السكان لا في المكان. سحت هذه المرة في إيطاليا وسويسرا وفرنسا والنمسا والمجر فرأيتها إلا قليلاً متشابهة في راحتها ونعيمها وعمرانها وعلمها وآدابها وصناعاتها. الناس كلهم يتفننون فيما يعملون ويسيرون اليوم بعد اليوم نحو الكمال فيا رب ما هذه الروح التي تجرد منها جسم الشرق وسرت في عظام الغرب وأعصابه وشرايينه فأتى أهله بالعظائم ونجن بقينا خامدين مبهوتين منحلين متضائلين: لا تغبط المجدب في علمه ... وإن رأيت الخصب في حاله إن الذي ضيع من نفسه ... فوق الذي ثمر من ماله مدنية الغرب غريبة في كل مظهر من مظاهرها لأن أهلها أحسنوا الانتفاع من كل قوة في الوجود ونحن أضعنا بجهلنا القوى القريبة الانتفاع هذا شأنهم في كل شيءٍ فكأن الغرب حاف لا يحألف الشرق والشرق آلا أن يخالف الغرب على كثرة حاجته إليه واضطراره إلى الأخذ عنه. رأيت أولاداً وبنات دون العاشرة يسيحون في الغرب من قطر إلى آخر وحدهم بدون أدنى رهبة وارتباك ولم أشهد كثيراً من رجالنا يستطيعون السياحة في أوروبا وأميركا على ما يجب وبهذا تعرف درجتهم ودرجتنا وتسجل بأن صبيانهم أقوى من رجالنا وفتياتهم أعقل

من نسائنا فإذا كانت النسبة مفقودة بين ابن العاشرة وابن الخمسين فهلا تكون المسافة بين حالنا وحالهم أطول وأجزل. إننا في درس المدنية الغربة نأخذ ما تهيأ لنا وتمثل لأنظارنا بادئ الرأي ولو أردنا استقصاء البحث لاقتضى علينا أن نصرف السنة والسنتين لندرس حال مدينة واحدة من مدنهم فما بالك بالمملكة أو الممالك. ينفد العمر ولا تنفد مادة الكلام عن رقي الغرب وكلما تأملنا معاهدة وحللنا مادة قواه نبكي لضعفنا وقوتهم وجهلنا وعلمهم ونكاد ندخل في اليأس المميت من تحسين حالنا لولا أن اليأس محرم وأن التاريخ يحدثنا أن أمماً كانت أحط منا منزلة فارقت لما صحت عزائم بنيها على إنهاضها والأمم لا تموت إلا إذا أسلمها بنوها العارفون للموت. مواد هذه المدنية التي تأخذ بالعقل والقلب كثيرة ومن أهمها تقدم الغربيين في بيوتهم عنا ورقي الأسرة هنالك وانحطاطها هنا والمملكة التي تتألف من بيوت راقية هي التي تحرز شوطاً أبعد من غيرها وما الممالك الراقية إلا مجموعة بيوت راقية والكليات تتألف من الجزئيات ومن تماسكت أجزاء مادته كانت أسبابه أقرب إلى القوة الطبيعية. كل من يدخل مدينة من مدن الغرب ويختلط بسكانها بعض الاختلاط فلا يبقى مقتصراً في معلوماته على حياة الشارع والمطعم والفندق والمسرح والقهوة والأماكن العمة يجل في مذكرته أمثلة لا يكاد يحصيها في رقي الأسرة الأوروبية تجسمت في جميع حالاتهم أي تجسيم وحامل المسك لا يخلو من العبق. تحمل مدنية الغرب في مطاويها حسنات وسيئات ولكن حسناتها تربو على سيئاتها فترى فيها ألفضيلة التي بزت ألفضائل والرذيلة التي تربو على مجموع الرذائل ولكن المليح يغطي وجه القبيح فكأن شعار المدنية الحديثة الارتقاء في كل شيء والجمع بين المتناقضات أما الشرق فهو وسط أو دون الوسط والوسط والدون لا يكادان يعملان عملاً محموداً في هذا الوجود. أذكر لكم أمثلة ثلاثة من عشرات الأمثلة وقعت العين عليها في باب ارتقاء الأسرة الغربية تمثل أدوار الأعمار وأدوار البيوت. المثال الأول أسرة فرنسية مؤلفة من والد ووالدة وطفلتين وطفلين من سكان الولايات من أهل مقاطعة الجورا على الحدود السويسرية

جاءت لوزان لتطب أحد أولادها ونزلت في المنزل الذي أقمت فيه فلاحظت أمرها مدو أربعة أسابيع أنظر عناية الأبوين بتربية أولادهما فكان الوالد يوقظ الأولاد في الساعة السادسة والنصف ويأخذ في إلباسهم ثيابهم مع زوجته وهذه تسرح شعور الابنتين وتمشطهما فإذا تناولوا طعام الصباح يرافق الثلاثة من أولاده إلى المدرسة لأنه وضعهم في المكتب مع أن مدة مقامه في تلك المدينة لا تتجاوز شهرين ثم يعود إلى الدار ويحمل ابنه الطبيب ويعود به بعد ساعتين فيجيء الأولاد في وقت الظهر وبعد تناولهم الطعام يعود فيشيعهم ثانية إلى المدرسة وربما عاد إليهم في المساء ليصحبهم أو اكتفى بانتظارهم للخروج بهم مع والدتهم إلى النزهة. عناية فائقة من هذين الوالدين اللذين لا يعرفان غير تعهد صحة أولادهما وتعليمهم وتربيتهم وتخريجهم على الآداب والفضيلة والتدين. هذه الأسرة من أسر الأرياف أو ألفلاحين من أهل الطبقة المتوسطة التي تكون على شيء من اليسار ولطالما هنأت الوالدين على عنايتهما بأولادهما وقلت لهما أن الأسرة ألفرنسية لو كانت كلها مؤلفة على هذا النحو وتربى بمثل هذه العناية وتتعهد بما يشبه هذا الحنان ألفتان لاستحت فرنسا أن تشكو من قلة نفوسها وانحلال التربية في بعض عواصمها ولهذه الأسرة مئات الألوف من الأمثلة ومثل ذلك يقال في جميع ديار الغرب. والمثال الثاني الذي رأيته يمثل درجة أخرى من درجات الأسرة رأيته في إيطاليا في قصر من أعظم قصور الكبراء الذين جمعوا بين الطريف والتليد وأعني به منزل صديقي الأمير ليوني كايتاني الذي صرفت أياماً في الاشتغال في مكتبته أبحث عن تاريخ بلادي وأجدادي فإن هذا الرجل الشريف في أمته الغني بعلمه وماله لم يرزق سوى ولد واحد هو دون العاشرة ولما جاء وقت تعليمه أرسله إلى سويسرا يتعلم فيها ولم تأخذه الشفقة عليه وآثر أن لا يراه وأن يربى تربية راقية صحية على أن يكون في داره القوراء بين والديه وأهله وقبيله. والمثال الثالث أتيكم به من بودابست عاصمة المجر فإن العلامة غولد صهير شيخ المشرقيات في هذا العصر لم يرزق سوى ولد واحد علمه فلما زوجه أخرجه من بيته على عادة الإفرنج بإخراج أولادهم من دورهم متى شبوا وتأهلوا ليؤلفوا أسرة برأسهم ويعيشوا مستقلين عن أبويهم فلا يقع نفور بين الكنة وحماتها ولا بين الولد ووالده والراحة في

الاستقلال في كل شيءٍ. هذه أمثلة ثلاثة من أطوار الأسرة الأوروبية تمثل أطوار تلك الأمم أما تحليل أجزاء تلك التربية ومادة تلك النفوس الكبيرة فيحتاج لمعمل كيماوي كبير يحشر إليه علماء التربية من أجدادنا والمحدثين من أهل الغرب ليقولوا لنا خلاصة تحلياهم لمادة الحياة الأوروبية النامية والعبرة بالكيفية لا بالكمية. دعاني الأستاذ غولد صهير لتنأول طعام العشاء في بيته وقال لي أنه سيكون معنا ابنه الأستاذ غولد صهير المهندس وكنته ولما قدمني إليهما قال لي: إن كنتي وهي تعرف خمس لغات فقط تكتب بها وتتكلم بسهولة عارفة بالآثار المصرية فقلت لها: بارك الله فيك أيتها العقيلة المحترمة. مجرية في مقتبل الشباب تدرس آثار مصر ومصر باريزنا وأهلها أرقى شعب إسلامي ليس فيهم لدرس آثار بلادهم سوى رجل واحد هو العلامة أحمد كمال بك وكيل المتحف المصري هذا الرجل ألفرد في وادي النيل يتوفر على البحث في عاديات مصره على الأصول الغربية وهو منذ زهاء عشرين سنة يلوب على من يعلمه ما يعلم ليخلفه على الأقل في منصبه لأنه بلغ سن الشيخوخة ولم يجد في ثلاثة عشر مليون مصري من يقبل على تعلم ما أفنى حياته في تحصيله وألف فيه ونوع الأساليب في نشره في الكتب والمحاضرات والمقالات. أنا أعلم أيتها العقيلة النبيلة أن في أوروبا نحو عشرة من علماء الآثار المصرية ولكن ما كان يخطر ببالي أن أرى في بلاد المجر فتاة تشارك الرجال في علمهم وتساهم معهم في فن يحتاج إلى نظر دقيق ومادة منوعة في العلم فإن كان نساؤهم على هذا المثال فلا عجب إذا كان من رجالهم العجب العجاب. إلى اليوم لم نفكر في هذا الشرق الأقرب في تعليم فتياتنا كما تتعلم فتيات الغرب والنساء نصف البشر ولا يقوم النصف الأول إلا بنهوض النصف الثاني فإن كانت كنة غولد صهير أستاذ تفسير القرآن والأصول والحديث والملل والنحل في جامعة بودابست عالمة بالآثار المصرية فكم عالمة بل عالم عندكم معاشر العرب بآثار البتراء وبعلبك وجرش وتدمر وبابل وآشور وحمير والحيرة؟ أنا مع الأسف على كثرة بحثي في تراجم الناس وأيامهم لا أقدر أن أتيكم بواحد يكون على النمط الأوروبي في بحثه ودرسه كما لا أجد في أمتي المهندس الذي أريده ولا الكيماوي

ولا الطبيعي ولا المصور ولا النقاش دع من يماثلهم من النساء اللاتي شاركن الرجل في معظم حياته المادية والمعنوية في الغرب وعما قريب يشاركنه في الحياة السياسية. كل ما تعلمناه إلى يوم الناس هذا وقلدنا فيه الأمم الراقية لم يخرجنا من الظلمات إلى النور فلم نبرح عيالاً على الغرب في معظم شؤوننا ومرافقنا وقيام أمرنا فما دمنا نريد التحرير السياسي وليس لنا من أسباب التحرير العلمي قليل ولا كثير هيهات أن تقوم لنا قائمة. كيف تعمر بلادنا وتستبحر الحضارة فيها ونقلد الغربي في حياته السعيدة وليس عندنا مصور ولا مهندس ولا نقاش ولا معمار ولا موسيقار ولا كيماوي ولا غيرهم وزيادة على ذلك جهل النساء وهو من أعظم الويلات. لم نعمل حتى الآن إحصاء بعدد الأميين في بلادنا ولكن المفهوم أن عدد الأميين هو 95 بالمئة في بلاد العرب في حين أصبح عدد المتعلمين في أكثر مدن الغرب مئة في المئة تساوى في الأخذ من العلم بالحظ اللازم النساء والرجال والمتعلم منهم التعليم الابتدائي أرقى من المتعلم منا التعليم الراقي وكل شيءٍ نسبي. قالت لي فتاة بولونيا في الثامنة عشرة من عمرها تدرس علم التربية والتعليم في جامعة جنيف على أحد مشاهير هذا العلم وهي عارفة ببضع لغات أوروبية وقد سألتها عما تقصده من تعلم هذا العلم: أريد أن أؤسس مدرسة في بلادي لأن الواجب على المرء أن يكون شيئاً في هذا الوجود. فقلت لها: جزاك الله عن هذا السعي لأمتك خيراً ولكن نسائنا في الشرق لا يردن ولا يريد أوليائهن مثل ما تريدين اكتفين بأن يكن لا شيء في هذا العالم ولذلك لا تجد بين ألوف من الطالبات البولونيات والروسيات والمجريات والألمانيات والإيطاليات والرومانيات والبلغاريات والصربيات واليونانيات والإسبانيات والبرتغاليات والبرازيليات والأرجنتينيات طالبة عربية اللهم إلا واحدة مصرية فيما أعلم تساهم بنات جنسها وتزاحمهن على دكات الجامعات في سويسرا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا فتأملوا حال أمتكم وانظروا إلى أي درجة بلغ بين أظهركم انحطاط عقول بنات حواء. كلما نظرت ملياً في سعادة الحياة في الغرب وشقائها في هذا الشرق ينجلي لي سر تعليم المرأة كما يعلم الرجل وإنها هي التي أوجدت تلك الحياة البيتية السعيدة فبالحب والجمال والعواطف والرغبة في الكماليات تمت للبيت الغربي سعادته ومن سعد في بيته أو توقع

السعادة فيه كان حرياً بأن يعمل الأعمال العظيمة خارجه إذ يجد له في منزله سلوى وعزاءً وراحةً وهناءً. رأيت كثيراً من شباننا يشكون انحطاط تربية المرأة العربية وقلة ما عندنا من ألفتيات المتعلمات اللاتي يلقن للزواج الذي تكون منه سعادة الأسرة الحديثة قوامها الآداب العصرية والفضيلة والمعارف ولكنني لم أر شاباً من هؤلاء المتعلمين ولا ممن سبقوهم من العلماء من عني بتعليم أخته أو ابنته التعليم الراقي ولا من فكر في تأسيس مدرسة ابتدائية من الطراز الحديث لتلقين البنات مبادئ تنفعهن حقيقة في تأليف البيوت التي يرفرف عليها طير السعد والرغد. النظريات عندنا كثيرة ولكن العمليات لم نسلك طريقها ويا للأسف حتى الآن. أوروبا ممدنة العالم وجنات النعيم المقيم وقرارة الراحة ومستقر الهناء أيقضى يا ترى على مدنيتك البديعة وتنحل بما حوت ديارك من جمال الوجوه وجمال ألفعال ووفرة العلم والغنى وآثار الغبطة ومعاهد الصفاء والنعمة ليقوم الشرق فيستلم زمام هذه المدنية ويكمل ما بدأت به أو يمزقه تمزيق الأخرق الأحمق كثروة ورثها ولم يعرف قيمتها أم تسلم لك هذه الحياة السعيدة وتقل مؤلماتها وموبقاتها ويعم الشرق أثرها فيشاركك في كل معنى من معانيك البديعة ويكون حظه كحظ البلاد الراقية من ربوعك ويتحرر من أسره السياسي وأسره الاقتصادي وأسره العلمي ويتخلص من التبعية لك في كل ما يدل على ضعفه وتراجع أمره. تيار الغرب ينهال علينا فيأتينا تارة بحماة وطوراً بقليل ماء فهل نرزق التوفيق يا ترى فنكرع من معينه ونطرح كدوراته أم نتناوله على علاته ولا نكاد نسيغه. إن ما لدينا اليوم من أسباب القوة لا يقوم في وجه ذلك التيار لأنها ضئيلة لا كفاء لها بالمقاومة ولعمري إن ألف أمي وأمية لا يوازي عقلهم عقل متعلم أو متعلمة واحدة. كانت حكوماتنا ومجتمعاتنا حتى الآن تعد الجهل قوة والانحطاط نهوضاً. وكلما كانت الأفكار منصرفة إلى وجهة واحدة يعينها صاحب الشأن كانت تلك المجتمعات تغتبط وتفرح ولطالما قال بعض من أحسنت الأمة ظنها بهم قروناً واستولوا على عقلها وقلبها وتصرفوا بعجرها وبجرها إذا قيل لهم أن العلم الفلاني مفيد ينبغي أن يكون في الأمة أفراد يعرفونه: أن هذا العلم لا تنفع معرفته ولا يضر جهله.

بيد أن الأيام أثبتت أننا في أشد الحاجة لكل علم وفن ومجتمعنا العربي العثماني لا يقوم حق القيام إلا متى عمد أفرادنا إلى الأخذ من كل مطلب من مطالب الحياة كما هي سنة من سبقونا ومن الأسف أننا لم نبرح في مجتمعنا نشاهد ناشئتنا الكريمة على الأغلب تميل إلى المذاهب الاتكالية وأكثرها يؤثر التوظف في فروع الإدارة والجندية ولو كانت هذه غير رابحة في الجملة. إن جعل وظائف الحكومة هدفاً لنا في تعلمنا هو الذي أفقر هذه المملكة وجعلها في مؤخرة الممالك في عمرانها وثروتها وراحتها. والمال أساس الأعمال ولا يأتي به إلا المتعلمون من الرجال. فهل لكم يا رجال الأمة أن تحققوا هذا الظن بكم فقد سئمنا ونحن نسمع من إقبال المتعلمين من أمثالكم على الوظائف والزهد في الصناعات الحرة وإني لا أخجل إذا قلت أن صانع الخزف والفخار والقرميد أنفع لهذه الأمة من وزير متوسط القريحة ضعيف مادة العلم لا يحسن عمله وقد وصل إلى منصبه بالمصانعة والشفاعات وإن دباغ الجلود أو صباغ الحرير والقطن أشرف من فقيه تعلم بعض فروع المعاملات ليتولى بعض الأعمال القضائية والشرعية. وبعد فرجائي إليكم يا شبان هذه الأمة وبغيركم لا يتجدد شبابها أن تجعلوا نصب أعينكم الأعمال الاستقلالية ويكفي بعضكم أن يتولى الأعمال الإدارية وغيرها في المملكة فإن الكل لا تتسع خزينة هذه الأمة لإعاشته خصوصاً وأنتم تعلمون ضائقة الموظفين وأن جيوبهم في الغالب فارغة تتقاذفها الرياح لأنها خالية وهم على الدوام مثل تجار البورصة إقبال وأدبار والأدبار في الأكثر هو الغالب. من لي بأن يعمل كل واحد من شبان هذه الأمة الواجب عليه أولاً ويتوفر على دراسة ألفرع الذي يمت به فإن ست الدراسة معينة محدودة لا ينبغي أن يعمل فيها ما يجب عمله في غيرها ومتى أتم الطالب ذاك الدور فلا جناح عليه إذا اشتغل بالعموميات فمشركة الطالب في المسائل العلمية يجب أن تكون في سن الدراسة إلى حد محدود وبعد ذلك فهو في حل من الاشتغال بما أراد. أنا أحب أن أشهد من أبناء أمتي وقرة عينها رجالاً يفكرون في ترقية نفوسهم وذويهم

وبيوتهم والأخذ بأيدي إخوانهم أكثر مما أحب أن أراهم يفكرون في المسائل الاجتماعية الكبرى التي يضيع بها الوقت على غير طائل بالنسبة إليهم وإن كان الواجب على كل وطني أن يصرف من وقته وفكره شطراً ولو قليلاً للنظر في المسائل العمومية. تلامذة الكليات في ألمانيا هم الذين هيئوا الوحدة الألمانية ووضعوا أساسها في القرن الماضي ولكن كان العم رائدهم وكان عملهم يقف عند حد محدود فهل يأتي يوم على هذه الأمة البائسة يا ترى تشهد فيه طلاب مدارسها العليا بعد أن يتموا وظائفهم المدرسية يفكرون في الخير العام لأمتهم خصوصاً متى أتموا سني الدراسة وأصبحوا أحراراً في أعمالهم وإرادتهم. نعم أيها الإخوان إن الشفيق بسوء ظن مولع وإن ما يتمثل للأنظار من مدنية أوروبا مهما كان ظاهره فيه الرحمة فرحمته لأهله لا لنا ونحن لا رحمة لنا إلا إذا أتتنا على أيدي رجال لنا أمثالكم وهؤلاء لا يأتون بعمل تام إلا إذا شاركهم النساء وحسن نظام البيوت وتنظيمها على الأساليب الغربية نعم نحن لا حياة لنا إلا إذا تعلم الرجال وربات الحجال التعليم اللازم وقام كل واحد بواجبه ووحدنا المقاصد في التربية والتعليم. إن القليل المتعلم منا لا يؤلف أقل أمة صغيرة وهذه الزهرات التي أراها مهما بلغ من نضارتها تضيع بين ما هناك من عوسج وبلان فلا سبيل إلى وقايتها إلا بتنقية هذا الشوك ما أمكن ولا ينقى بغير معول العلم والتربية ومعرفة الواجب والعمل بسنة الغرب التي سلكها في الترقي على تعديل طفيف يدخل فيها بطبيعة الإقليم والعادة. إن ناديكم هذا مثال من أمثلة التضامن ولكن أمتنا لا تعد مرتقية إلا متى كان في كل مدينة بل في كل قصبة من مدنها وقصباتها أندية تنسج على منواله في التعارف والتعاطف وتوقد في الصدور جذوة الغيرة الوطنية وتحمس النفوس إلى طلب العلم ويأخذ القوي بيد الضعيف حتى يساويه في المنزلة ويتدبر الكل في مستقبل مجيد للأمة يخرج بها إلى حالة أحسن من حالتها الآن ويتعلم ابن ألفلاح الصغير كما يتعلم ابن الغني الكبير وإذا لم تقم جميع أعضاء هذا الجسم لا ينمو ولا يتم له بقاء. واجباتكم أيها الأعزة كثيرة جداً والأولى البدء بالجزئيات ولكن على شرط أن نبدأ ونجعل تاريخ الأمم التي نهضت قدوتنا ومهمازنا على العمل يجب أن تكون مدنية الغرب إذا أردنا

أن نحيا حياته مصدرنا وموردنا وبدون ذلك ألفناء المطلق والعياذ بالله أو الاندماج في جسم الأمم الغربية التي تبسط أيديها علينا اليوم بعد اليوم. إننا لا نحيا غلا بقوميتنا على نحو ما كان أجدادنا أمس وحال أمم الحضارة الحديثة اليوم ولكن هذا اللفظ الجميل - لفظ القومية - لا يطابق معناه مبناه إلا باتخاذ جميع أسبابه على نحو ما يعمل المجر والبولونيون والإيطاليون وما يجري من منافسة محمودة بين الفالونيين والفلامنديين في البلجيك والألمانيين والفرنسيين في سويسرا. ومن دواعي الحسرة أن من رحلوا من أبناء العرب إلى ديار الغرب يدرسون في معاهد العلم ليستحقوا الاسم العربي الشريف بالفعل لا بالقول أقل عدداً من أكثر عناصر هذه الدولة. نعم هم أقل من الأتراك والروم والأرمن هذا مع أننا أكثر من نصف سكان هذه المملكة المحبوبة وبلادنا أغنى من بلاد تلك العناصر التي أخذت ما استطاعت من الحكومة لتعليم أبنائها وقامت بسد العجز من أموالها الخاصة. بلغني أن في نية الحكومة السنية إرسال ستين طالباً من أبناء العرب إلى مدارس أوروبا العليا فإن صح النبأ عد من أعظم الإصلاحات. وإن كان هذا العدد دون الواجب أيضاً وذلك بأنه إذا خمنا عدد طلابنا الآن بستين طالباً بلغ من قابل مجموع طلبتنا في الغرب مائة وعشرين وهم لا يبلغون نحو سبع طلبة الإيرانيين في مدارس أوروبا مع أن العرب العثمانيين أكثر سواداً من الإيرانيين بالتحقيق. هذه عددنا وهذا ما عددناه هذه أداؤنا وتلك أدويتنا وبأيديكم وأيدي أمثالكم خلاصنا فلا تخيبوا آمالنا فيكم معاشر الشبيبة المستنيرة. العبء ثقيل عليكم وبتضامنكم وتماسككم يهون كل عسير على شرط اطراد العمل وإتقانه ومضاعفة الأفعال أكثر من الأقوال وصرف المسعى إلى المنتج النافع والزهد في التافه العبث والله يتولاكم ويسدد مراميكم ويقر عيون أوطانكم بنجاحكم ويجعل منكم أعضاء عاملة في جسم مجتمعنا وأصواتاً داعية إلى كل نافع ورافع إنه سميع الدعاء. أرض اليونان اغتنمت فرصة إرساء الباخرة الرومانية التي ركبتها من الأستانة إلى الإسكندرية في ميناء بيرا لازور أثينا مدينة أرسطو وسقراط والمسافة بين بيرا وأثينا تسعة كيلومترات تقطعها

السكة الحديدية الكهربائية في خمس عشرة دقيقة. رأيت أثينا مدينة وسطى لا تزيد نفوسها عن مائتي ألف وهي في منبسط من الأرض وعلى مقربة منها أكمة قام عليها الأكروبول والمدينة نظيفة في الجملة مبلطة أرصفتها بحجر أبيض يشبه الرخام وفيها حدائق نظيفة وأبنيتها الحديثة من الرخام أيضاً وأهم ما لفت نظري فيها معاهدها التي قامت بعطايا المحسنين من أبنائها مثل الإستاد أو الملعب العجيب الذي أنشئ بمال أفيروف ونصب تمثاله أمامه وأفيروف هو الذي خلف الملايين من ألفرنكات أعطاها لأمته ومنها أنشأت قسماً من الدارعة اليونانية المنسوبة لاسمه. نعم في أثينا تتجلى عطايا اليونان المحدثين فترى مدرسة البنات عالية داخلية وخارجية أنشأها أرساكي من ماله وترى مكتبة الأمة أسسها فالينوس وترى لافيروف حبوس النساء والأودولسينا المجمع العلمي. لسيكنروس حبوس الرجال وقد أنشأ على نفقته من أثينا إلى فالير طريقاً معبدة وطولها 9 كيلومترات. وأنشأ فارفاكيس مدرسة عالية للأولاد وجاباس قصر المعرض وهو مؤسس مدرسة البنات العليا للروم في الأستانة. وهكذا تجد فلاناً من أغنياء اليونان انشأ مدرسة صناعية وآخر مدرسة زراعية وغيره مدارس ابتدائية وليلية للفتيان والفتيات فتجد اليوناني مع أنه أكثر الأمم هجرة لبلاده - لأن نصف اليونان هاجروا إلى مصر والسودان ولأميركا وشواطئ البحر المتوسط وغير ذلك من البلاد - أكثرهم تعلقاً بحبها وتفكراً في إنهاضها يغتني أحدهم من مصر أو من أميركا ويجود بالألوف لبلاده لينهض بها وهذه خاصة من خصائص اليونان وأن كان المشهور عنهم كزازة الأيدي. نهضت اليونان في المدة الأخيرة نهضة عظمى بفضل نشر التعليم على اختلاف صنوفه بين أبنائها وهو الدواء الشافي لكل مرض اجتماعي. التعليم في اليونان مجاني إجباري وفيها اليوم 1414 مدرسة ابتدائية للذكور منها 1197 من الدرجة الأولى و134 من الصنف الثاني و29 من الصنف الثالث و54 من الصنف الرابع وعندهم 4. . مدرسة للبنات منها 3. . من الدرجة الأولى وفي القرى 884 مدرسة تقبل الذكور والإناث على السواء وعندهم مدرسة عليا لتخريج المعلمات وقد أنشأت جمعية أثينا الأدبية عدة مدارس مسائية يتعلم فيها المئات من ألفتيان المضطرين أن يعملوا في نهارهم وليس لهم من الوقت

غير الليل. في اليونان 1878 أستاذا و61. معلمات و768 معلماً في مدارس الأولاد في الحقول ولهم مدرسة صناعية عليا تنقسم إلى قسمين قسم يعلم ألفنون والعلوم ويخرج المهندسين والميكانيكيين ومنهم من يعد من الدرجة الأولى والقسم الآخر يعلم الصناعات النفيسة أي النقش والرسم والتصوير والحفر والصناعات النقشية. وعندهم مدرسة تجارية ومدرسة جامعة عليا فيها أساتذة اشتهروا بأعمالهم العلمية حتى في أوروبا. هذا مع أن لليونان في الممالك العثمانية مدارس كثيرة راقية فإن لهم في الأستانة وحدها 78 مدرسة فيها 597 معلماً يدرسون 16373 طالباً دع ما لهم في البلاد التي ضمت إلى بلادهم حديثاً وكل المدارس التي هي خارج علمهم لا تنال شيئاً من الرواتب من الحكومة بل إن اليونان هناك يقومون بنفقاتها. ربما لم تصب بلاد بمصائب الهجرة أكثر من اليونان فإن الداخل منهم إلى نيويورك وحدها كل سنة يقدر بأربعين ألفاً فما بالك في الأقطار الأخرى فإذا كلن عدد اليونان قبل الجزر وسلانيك ويانيا التي انضمت إليهم نحو ثلاثة ملايين فأن المقدر أن مثل هذا العدد منهم موزع في أقطار العالم وهم يحافظون على لغتهم وعاداتهم حيثما كانوا بحيث كادوا يجعلون لغتهم في الإسكندرية ومصر والأستانة لغة رسمية لكثرة انتشارها وحرصهم على التناغي بها. ومع كثرة المدارس في اليونان نرى طلبتهم في جامعات الغرب كثاراً جداً ولا سيما في باريس ولندن. واليونان إن لم يكونوا أكثر الأمم إقبالاً على تلاوة الصحف والتشوق إلى الأخبار السياسية فهم في جملة الأمم المتقدمة في هذا الشأن فلا تكاد لا تجد واحداً لا يتلو جريدة أو كتاباً أو مجلة في كل مكان والفقير منهم يستعير جريدة جليسه ولذلك لا ترج جرائدهم كثيراً فإن لهم في أثينا (11) جريدة يومية وإذا كان العدد الواحد ينتقل من يد إلى أخرى كما تنتقل جرائدنا في الشام ومصر في أيدي قرائها الذين لا يحبون أن يشتركوا ولا أن يبتاعوها اقتصاداً بارداً منهم صعب على جرائدهم أن ترقى. ولليونان جرائد كثيرة في الأستانة والقاهرة والإسكندرية وجرائد أسبوعية في بعض عواصم أوروبا ومنها ما يصدر بغير اللغة اليونانية ليبثوا فيها أفكارهم ويؤثروا في

الأسواق المالية والمجالس السياسية. هكذا ما أمكن الإلماح إليه من حالة رقي المعارف في اليونان وأرضهم القديمة قبل الحرب لم تتجاوز 64 ألف كيلومتر مربع وهي غير مخصبة في الجملة بل أكثرها جزر متقطعة في عرض البحر حتى أن سواحلها تبلغ بمساحتها سبع مرات مساحة سواحل إنكلترا وتربو 12 مرة على سواحل فرنسا ولذلك كان اليونان في كل زمن يحصرون قواهم في بحريتهم ويصرفون فيها أموالهم وقسماً عظيماً من ميزانيتهم وقد كان لبواخرهم التجارية يد طولى في استقلالهم سنة 1824 لا ينكرها التاريخ. واختلف العلماء في أصل اليونان الحاليين هل هم من نسل القدماء الذين ملئوا الأرض فتوحاً وفلسفة وصناعات نفيسة والأرجح عند الباحثين في أصول الشعوب أنهم أخلاط من الناس جاءوا منذ قرون إلى هذه الأرض واستعمروها بعد أن فرغت من سكانها الأصليين أما هم فيصعب عليم سماع هذا الحجاج ويحاولون بالطبع أن ينتسبوا لأفلاطون وأرسطو وسقراط وديوجنس وهوميروس وغيرهم من فلاسفة اليونان الذين بيضوا وجه التاريخ بعلمهم وحكمتهم. أثينا تشبه المدن الأوروبية ممزوجة بشيء من الحياة الشرقية ولكن ألفقر ظاهر على السكان والغلاء فيه أكثر من جميع أوروبا قال صاحب كتاب اليونان الحديثة أن أسعار العيش في اليونان يزيد 5. في المئة عما هو عليه في إنكلترا ونحو 25 في المئة عما هو في الولايات المتحدة. المدنية الرومية الحديثة منقول أكثرها عن فرنسا وفرنسا ساعدت اليونان كثيراً ولذلك حفظوا لها جميلها وما برحوا حتى اليوم يتخذونها معلمة لهم ومربية حتى أن معلمي جيشهم إلى الآن هم ضباط من ألفرنسيين وفي الحرب الألمانية ألفرنسية بعث اليونان بكتيبتين من متطوعتهم ليقاتلوا في صفوف الجيوش ألفرنسية فقتل بعضهم وبيضوا وجوههم مع من أسدى إليهم جميلاً ومن طبع اليوناني معرفة خدمة الأمزجة المختلفة والميل إلى النافع له ما أمكن بكل وسيلة. أما ما في أثينا من بقايا العادات القديمة ليس بالشيء الذي يلفت نظر السائح اللهم إلا إذا أحب أن يزورها ليتذكر ماضيها. وأين عظمة رومية من عظمة أثينا ولا نغالي إذا قلنا أن

بقايا عادتنا في جرش ووادي موسى وبعلبك وتدمر أفخم وأعظم من بقايا عادات اليونان كلها التي لم تقو على عاديات الأيام. في العاصمتين رأيت هذه المرة في العاصمتين عاصمة العثمانيين الأستانة وعاصمة المصريين القاهرة ما طالما شكا منه الاجتماعيون من الاتكال المجسم والغلو في حب التوظف والاستخدام رأيت ابن الأستانة لا يفكر ولا يريد أن يفكر في غير استحصال الرزق من باب الحكومة ورأيت المصري كذاك كلاهما يستميتان في طلب الوظائف وقد زهدا في الأعمال الحرة فلا تكاد ترى في الأستانة متعلماً إلا وهو يرغب أن يبيع استقلاله من غيره ويكون بيده آلة تحرك بدون اختيارها ومن الأسف أن هذا الخلق استحكم حتى لا تشهد سوى أسباب الرزق الضئيلة بيد الأتراك أما التجارب الواسعة والصناعات الرابحة فهي للرومي والأرمني والألماني والفرنسي وغيرهم من الشعوب والأمم وكذلك المصري المتعلم لم يتعلم إلا للخدمة في الدواوين وترك التجارة وغيرها من مذاهب المعاش للرومي والإيطالي وغيرهما. داءٌ استحكمت حلقاته حتى افتقرنا. يسلب الغريب منا أموالنا ليحملها إلى بلاده ولا يزال آخذاً بالانتشار والعبر في القطرين تتلو العبر داعية القومين إلى إطراح المذاهب الاتكالية وإن أبواب الاستخدام إذا فتحت اليوم قليلاً فغداً تقفل حتى في وجوه الأكفاء من الطالبين وخزائن فروق ومصر تضيق صدراً عن إنفاق ما يلزم من المال على العمال والمستقل في عمله أنفع لنفسه ولقومه من المتعلق بأذيال غيره الذي يعيش عالة على السوي. كنت في القهوة في زيارة صديق لي من أهل العلم والمكانة في الحكومة المصرية فجاءته فتاة مسلمة ودفعت إليه ورقة بخطها كتبت فيها صورة ما نالها من تنحية ديوان الصحة لها من الخدمة في المستشفى وحرمانها من خمسة جنيهات كانت عينت لها منذ تخرجت من مدرسة القصر العيني وطالبة إليه أن يساعدها لإرجاعها إلى مركزها. فقال لها صاحبي أن مصلحة الصحة قد أسدت إليك معروفاً يجب عليك أن تشكريها عليه وهو أنه فتحت أمامك باب الاستقلال في عملك ومصر في حاجة إلى طبيبة مسلمة مثلك وليس فيها كثيرات من أمثالك وأنت تكتبين العربية والإنكليزية وتحسنينهما كما لحظت من

كتابتك فأنصح لك أن تعمدي إلى نشر إعلانات عن محل تتخذينه وتشتهرين مع الزمن فلا ترضين بعد مدة أن تدفعي هذا القدر من المرتب الذي تعدينه شيئاً للممرض الذي تستخدمينه فإنك ستربحين العشرات من الجنيهات في شهرك وتخدمين بذلك بلادك ونفسك. فلم يحل هذا الكلام محل القبول من قلب الطبيبة وأخذت تورد الحجج على صحة ما تريده وأنه لا قبل لها إلا بالاستخدام ولا رزق لها إلا فيه وأنها إذا نالت الخمسة جنيهات فقد حيزت لها الدنيا وأخذت بحظ من السعادة لها ولأسرتها لأن هذه أنفقت ما كانت تملكه في تعليمها فلم يعد في وسعها أن تزيد على ذلك. وهكذا بقي صاحبي وأنا نورد البراهين القاطعة التي تلقن ألفتاة معنى الاستقلال وتبعد بها عن مواطن الاتكال حتى كل اللسان وانتهى الأمر إلى أن يكلم في أمرها أحد أصحاب الشأن ليرجعوها إلى وظيفتها التي أخرجت منها من دون سبب ولا تجد سعادتها إلا فيها. هذا مثال رأيته بالأمس في مصر وكل يوم يقع مثله عشرات في الأستانة. وإن المرء ليأسف جد الأسف على عقول تضيع من غير فائدة وأعمال وكفاءات تذهب هباءً. أناس يرضون بالدون من العيش وفي استعدادهم أن يبرزوا في كل عمل تصح إرادتهم على اتخاذه وإن يغتنوا ويرتاحوا ويعيشوا مرفهين لا مقتراً عليهم وأحراراً لا مقيدين مستعبدين. وفي الشرق قوى كثيرة تضيع وبعض ما يمكن الانتفاع به من موجوده لا يحسن استخدامه والمتعلم من أهله يعتقد أن الراحة والغبطة في الاعتماد على خدمة مخدمها وما درى أن تعبه في هذه الراحة وأنه لا راحة بدون تعب ولو كان هذا الخلق غرس في طباع الإنكليز والألمان والأميركان والفرنسيين وغيرهم من أمم المدنية الحديثة كما غرس في طباع سكان هذه الديار ما قامت هذه الحضارة التي تدهشنا وما استقام نظام الأسرة على صورة تبهرنا آثارها. أليس من الأسف أن نكون حتى في بلادنا غرباء فإذا أراد أحدنا أن يترفه بعض الرفاهية لا يجد نزلاً ولا مطعماً ولا قهوة ولا مسرحاً لوطني بل كلها للإفرنج. والتركي والعربي باهتان شخصان لا يعرفان من أين تؤكل الكتف لأنهما يجهلان أصول الحياة وتحصيل الرزق ويحبان التفخل والفخفخة وضخامة الألقاب. ولطالما رأينا من نعدهم من كبرائنا يطأطئون رؤوسهم ذلةً لتاجر صغير في مظهره في الحقيقة ولكنه كبير في ذاته لأنه جمع

مالاً وعدده إرادة أن يقرضه ما يستعين به على تمشية أموره أو يتبلغ به يسيراً ريثما تصرف له مشاهرته وهذه الحال تراها على أشدها في القطر المصري لأن ابن مصر منفاق على الأكثر لا يفكر في أن يوازي غالباً بين دخله وخرجه ولذا انتقلت الأملاك أو جزءٌ كبير منها من أيدي المصريين إلى الغرباء والرومي في المقدمة والحال في الأستانة أدهى وأمر. وبعد فحيث اشتد العراك بين الأمم وبعبارة أخرى في العواصم الشرقية التي تكون فيها المنافسة على أتمها تجد الوطني يتضاءل ويضعف أمام الغربي بل ينهزم شر هزيمة وتتجلى للناظر صورة مجسمة من صور الاتكال والاستقلال بل صورة من العلم النظري الذي هو القشور وصورة العلم العملي الذي هو اللباب. اشتدت في فرنسا على عهدها الأخير محبة الوظائف وكثر فيها جيوش الموظفين والمستخدمين فأحس القوم بهذه الآفة التي تهدد كيانهم فأنشأ بعض المستنيرين حقيقة يستنكفون من تولي الوظائف حتى ضاق ذرع الحكومة أو كاد في البحث عن الأكفاء إذا لم يقبل عليها إلا المتوسطون وزهد في خدمتها النوابغ وما أنس لا أنس وزيراً تعارفت إليه في باريس ترك الخدمة وتولى إدارة مصرف صغير وكم في الغرب من رجل عظيم خطبته المناصب فأبى وآثر أن يكون تاجراً أو صرافا أو صاحب معمل أو مدير شركة أو محرر جريدة أو أستاذا في مدرسة على أن يكون وزيراً كبيراً يقدم ويؤخر في مصالح أمته ويحل ويعقد في أقدارها. والأمثلة كثيرة في هذا الباب فهل يتعظ شرقنا المسكين.

هي النفس

هي النفس هي النفس هذبها بما تستطيعه ... فليس سواها بين جنبيك من نفس وصبح بها الأخلاق فهي غنائم ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي وجدد من الذكر الجميل مراسماً ... لنفسك واترك داثر الشرف المنسي فإنك حي ما نسبت لها الإبا ... وإنك ميت ما انتسبت إلى الرمس يغالي ألفتى في سومه المجد غالياً ... ويرخص من باع الحمية بالبخس وأنت ابن هذا اليوم فاعمل لوقته ... فلم تملك الآتي ولم تغن بالأمس وليس يفيد الدرس ما لم تضف له ... خلائق تغني عن مطالعة الدرس وخذ بعيان الأمر لا بخياله ... فشتان ما بين التصور والحس قل ألفصل تملك سرة ألفضل منزلاً ... وتمتاز في فصل الخطاب على الجنس فما ألفضل بالكرسي تجلس فوقه ... ولكن أعمال ألفتى ذروة الكرسي كأن حياة الخلق في الأرض بقعة ... تخالفن نبتاً والفضيلة للغرس تروحني الأخلاق ألقى نسيمها ... كأن به روحاً يهب من القدس ابنتكم يا خاملون وإنما ... (بين هباء الذر في ألق الشمس) فلا قلمي باك برسم صنيعكم ... ولا ضاحك في نعت أخلاقكم دمي كم اعتضت عنكم ناطقين خواطئاً ... بما جاء منسوباً لأقلامي الخرس فوائد قس بها الكواكب أو فقل ... فصول خطابٍ لابن ساعده قس وما أنست نفسي بلهوٍ وإنما ... رقيك يا أرض العراق به أنسي لألبست أقطار البلاد معارفاً ... فهل حسن أني لك ألفضل استكسي يسرك أن الأجنبي قطاره ... يسير وأن الباخرات له ترسي سأفديك في أغلى من الملل غيرة ... وإن باعك الأغيار في ثمن بخس النجف محمد باقر الشبيبي

المذكر والمؤنث لابن جني

المذكر والمؤنث لابن جني نشرها الدكتور أوسكاوريشر الألماني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله أجمعين المؤنث الذي لايجوز تذكيره عن ابن جني العين الأذن الكبد الكرش الفحث ألفخذ الساق العقب العضد الخنصر البراجم الرواجب الضلع القدم اليد الرجل الضرب السلطان الضحى الرب البغل القوس ألفهر النار الملح السلم العروض الحدور الكؤود الصبوب النحل الكأس ألفأس الموسى ألفرسي الذود السري الغول العناق الرخل الضبع المعز الضأن الأبل الخيل الغنم الناب المسنة من الإبل السن العصا العقاب القلت موضع يجتمع فيه الماء القتب من المرط البئر الدلو الدرع اللبوس سقر لظى الطس الشمس الشمال الجنوب الصبا الدبور اليمين الشمال النوى البعد المنجنون المنجنيق والافعى والجزور والسمر والبسر والشعير وحضار والعواء وكحل والأزيب النشاط وذكاء من أسماء الشمس والسراج والخندريس وجميع نعوت الخمر وأمام وقدام ووراء وخود ومسرح وضنك وحروف المعجم يؤنث ويذكر وما لا يجوز تأنيثه الأشاجع البطن الضحى الألف من العدد النعم الناب من الأسنان الضرس النجار القليب درع المرأة القميص الرداء اللبوس من اللباس الجحيم شمس قلادة الخرز ذكر الأرنب الزيخ ذكر الضباع العقربان ذكر العقارب الأفعوان ذكر الأفعى العشي الزند الأعلى من الزناد والشهور كلها مذكرة إلا جمادى العراق واسط دابق الزبعرى الجمل الشديد والعنبى منه والجلبى مثله والصلخدي مثله وفوق السهم والسور وفحال النخل وما لا ينون في النكرة ولا يدخل عليه علامة التأنيث فاقض بأن ألفه للتأنيث نحو بشرى وشعرى وإن كان بنون أو تدخل عليه علامة التأنيث فألفه لغير التأنيث نحو أرطى ومعزى وأما الهمزة التي للتأنيث فلا تكون إلا زائدة بعد لام ألفعل نحو حمراء وصفراء فوزنها فعلاء ولام ألفعل هي الراء ولا يجوز دخول علامة التأنيث عليها ألا ترى أنك لا تقول حمراءة وصفراءة كما تقول صلاءة وعباءة وكل اسم رأيت في أخره همزة زائدة بعد ألف لم يجز دخول هاء التأنيث عليه ولم يكن على وزن فعلاء نحو حرباء وعلياء أو فعلاء نحو قوباء وخشناء فاقض بأن همزته للتأنيث ومما يعلم أن همزته للتأنيث ما كان على فعلاء نحو الرخصاء

والنفساء والكرماء والظرفاء أو فعلاء نحو السيراء والعنباء أو فعلاء نحو قدماء وجنفاء أو أفعلاء نحو أربعاء وأصدقاء أو فاعلاء نحو القاصعاء والراهطاء أو فاعولاء نحو عاشوراء. باب الهمزة: - الأضحى مؤنثة ويجوز التذكير يذهب بها إلى اليوم الألف من العدد مذكر فإن أنث فإنها يذهب بها إلى الدراهم الأنف مذكر الأشجع واحد الأشاجع وهو عصب على ظهر الكف مذكر الإبط يذكر ويؤنث وتذكيره الوجه الإبهام مؤنث وتذكيره لغة لبعض بني أسد الإصبع مؤنثة الأنعام جمع نعم مؤنثة الأذن أنثى الأفعى أنثى وللذكر أفعوان الأرنب أنثى وذكرها الخزز الإبل أنثى والآل الذي يشبه السراب مذكر وتأنيثه لغة أمام بمعنى قدام مؤنث الأذيب النشاط مؤنثة الأرض مؤنثة. باب الباء: - البسر يذكر ويؤنث البراجم إناث جمع برجمة وهي ملتقى رؤوس السلاميات الباز مذكر ويقال باز وباز أخبرني أبو علي أنه يقال باز وجمعه بواز وبزاة وباز وثلثة أبواز فإذا كثرت فهي البيزان الباع مؤنثة بطن الإنسان مذكر وإذا أريد بالبطن القبيلة جاز تأنيثه البئر مؤنثة. باب التاء: - التمر يذكر ويؤنث التوى الهلاك مذكر التولج الكناس مذكر التوت مذكر التولب ولد الحمار مذكر التجفاف واحد التجافيف مذكر الترس مذكر وجمعه أتراس. باب الثاء: - الثعبان الحية العظيمة يقع على الذكر والأنثى والثعلبان مذكر لا غير الثدى مذكر الثمر جمع ثمرة يذكر ويؤنث الثمار نبت يذكر ويؤنث الثجير عصارة الشيء مذكر. باب الجيم: - الجزور مؤنثة جرجان وكل اسم بلد في أخره ألف ونون زائدتان مذكر فإن أنث فإنما يذهب به إلى المدينة الجراد جمع جرادة يذكر ويؤنث وقد يقع الجراد على الواحد الذكر فيقال رأيت جراداً على جراد. الجحيم من بين أسماء جهنم مذكر وسائر أسمائها مؤنث الجبين ذكر الجام مؤنثة الجفن ذكر جمادى مؤنثة. باب الحاء: - حضار اسم نجم مبني على الكسر والحضار الإبل البيض مؤنث الحشا وأحد الأحشاء مذكر الحرور الريح الحارة بالليل أنثى الحرب مؤنث الحدور مؤنث وهو موضع ينحدر فيه الحجاز مذكر الحانوت أنثى فإن ذكرت قصد بها البيت حوران اسم موضع مذكر الحال يذكر ويؤنث الحمام جمع حمامة يذكر ويؤنث.

باب الخاء: - الخمر أنثى وكذلك جميع أسماءها نحو القرف والشمول والمدام الخصر مذكر الخرنق ولد الأرنب الغالب عليه التذكير الحد مذكر. باب الدال: - درع الحديد أنثى ودرع المرأة ذكر دابق اسم موضع بطريق الشام مذكر الدار أنثى والدلاء جمع دلاة والدلاة والدلو أنثى ويجوز تذكير الدلو. باب الذال: - الذنوب الدلو الكبير مذكر وهو أيضاً الحظ والنصيب مذكر الذود من الإبل من ثلث إلى عشر من النوق أنثى ذكاء اسم للشمس مؤنثة الذهب مؤنثة وربما ذكرت الذراع مؤنثة وربما ذكرت. باب الراء: - الريح مؤنثة وكذلك جميع أسمائها نحو الجنوب والشمال الرخل مؤنثة وهي أنثى من ولد الضأن الرسغ مذكر الرحلى أنثى الرجل أنثى الروح مذكر فإن أنث فإنما يعنى به النفس. باب الزاي: - الزوج مذكر وهو يقع على الذكر والأنثى عند أهل الحجاز وأهل نجد يقولون زوجة الزند من اليد مذكر الزقر لغة في الصقر ذكر الزرنب ضرب من الطيب ذكر. باب السين: - السراويل مؤنثة السلم ذكر وربما أنث السلم الصلح مؤنثة وربما ذكر والسلم الاستسلام مذكر السري سير الليل مؤنث السبيل يذكر ويؤنث الساعد مذكر الساق مؤنثة السلطان يؤنث ويذكر السكين يذكر ويؤنث السن واحد الأسنان مؤنثة السلاح يذكر ويؤنث السوق مؤنثة وربما ذكر. باب الشين: - الشخص مذكر عنيت به ذكراً أو أنثى الشهر مذكر الشام مذكر الشمال خلاف اليمين مؤنثة الشفر واحد الأشفار مذكر الشعير يذكر ويؤنث الشمس الطالعة مؤنثة والشمس الذي في القلادة ذكر. باب الصاد: - الصعود من الأرض مؤنثة الصبوب مؤنثة مثلها الصاع يذكر ويؤنث صليف العنق صفحتها يذكر ويؤنث. باب الضاد: - الضرب العسل الأبيض مؤنثة الضبع وسط العضد مذكر والضبع مؤنثة الضأن مؤنثة الضحى مؤنثة الضحى بمعناها مذكر الضلع مؤنثة الضرس مذكر. باب الطاء: - الطريق يذكر ويؤنث الطس والطسة والطست مؤنثات طباع الرجل مؤنثة

وربما ذكرت الطوي البئر ذكر فإن رأيته مؤنثاً فأنما يعني به البئر الطير جماعة طائر مؤنثة الطاعون يذكر ويؤنث الطاس مؤنثة. باب الظاء: - الظهر من الصلوة مؤنثة الظهر مذكر الظفر مذكر الظئر الداية مؤنثة وجمعها ظؤار الظبي جمع ظبة مؤنثة. باب العين: - العصا مؤنثة العضد مؤنثة العشاء مؤنثة عروض الشعر وغيره مؤنثة العرس مؤنثة العراق مذكر العجز العجيزة مؤنثة وربما ذكرت العاتق بذكر ويؤنث العقرب اسم للذكر والأنثى العقب مؤنثة العناق مؤنثة العقاب مؤنثة العلياء العصبة في العنق مذكر العنق بضم النون مؤنثة فإن سكنت النون ذكر العنز أنثى العنكبوت يذكر ويؤنث العين مؤنثة. باب الغين: - الغنم مؤنثة الغول مؤنثة غبر اسم يقع على الذكر والأنثى. باب ألفاء: - ألفرج مذكر ألفردوس مذكر ألفخذ مؤنثة ألفأس مؤنثة ألفرس يقع على الذكر والأنثى الفهر الحجر الصغير مؤنثة الفلك يذكر ويؤنث فرسن البقرة والجؤذر مؤنثة. باب القاف: - القلت مؤنثة وهي حفرة تكون في الصفا تمسك الماء والقليب من أسماء البئر يذكر ويؤنث القميص مذكر القوس أنثى القفا يذكر ويؤنس القدوم أنثى القدم أنثى وقدام أنثى وتصغير (ها) بالهاء القتب من الأمعاء أنثى. باب الكاف: - الكف أنثى الكؤود من الأرض مؤنثة الكرش أنثى الكراع أنثى وقد يذكر الكتف والكبد والكأس مؤنثات. باب اللام: - الليت مجرى القرط في العنق مذكر اللسان لهذا العضو مذكر فإن عني به القصيدة أو الرسالة فهو مؤنث. باب الميم: - محجر العين مذكر المسك مذكر المطر مذكر وربما أنث إذا أريد به الزراعة المعى مذكر وربما أنث المعز مؤنثة المتن مذكر وربما أنث وربما دخلت عليه الهاء فقالوا متنة المؤق والمأق مذكران وهما زاويتا العين اللتان تليان الأنف مثل يقع على الذكر والأنثى من يقع للمذكر والمؤنث الملح مؤنثة المنجنون ويقال المنجنين وهي الثالثة مؤنثة المنخر ذكر المنجنيق مؤنثة موسى الحجام مؤنثة. باب النون: - النجار مذكر ومعناه الطباع السمك مؤنثة الناب من الأسنان ذكر والناب

الناقة المسنة مؤنثة نحن يقع على المذكر والمؤنث النحل يذكر ويؤنث النعل مؤنثة النوى البعد مؤنثة النوى جمع نواة يذكر ويؤنث النفس أنثى النعم يذكر ويؤنث النور خلاف الظلمة مذكر. باب الواو: - وراء بمعنى خلف مؤنثة وتصغيرها وريئة بوزن وريعة الوحش أنثى الورك أنثى واسط ذكر الوعاء ذكر. باب الهاء: - الهدى مذكر وقد يؤنث الهبوط من الأرض أنثى الهردى نبت مؤنثة الهجنع ذكر النعام. باب الياء: - اليمين اليد واليمين من الخلف كلاهما مؤنث اليسار اليد اليسرى مؤنثة واليد مؤنث اليأفوخ مذكر وكل اسم مؤنث هو على ثلاثة أحرف تصغيره بالهاء نحو قدر وقديرة ودار ودويرة إلا أحرفاً شذت وهي قوس وزود وحرب وعرس لأنها كثرت في كلامهم فاستخفوا بطرح الهاء من التصغير فإن كان المؤنث على أربعة أحرف فصاعداً كان تصغيره بلا هاء نحو عقرب تقول عقيرب وعقاب عقيب وأتان أتين إلا أنهم صغروا إماماً ووراء وقداماً (بالهاء) فقالوا وريئة وقديمة وأميمة لأن جميع الظروف مذكرة وهذه الثلاثة مؤنثة فلو صغروها بطرح الهاء أوهم أنها مذكرة كسائر الظروف فإن كان في الاسم المجاوز للثلاثة هاء في التكبير تنبت في التصغير تقول في سفرجلة سفيرجة وفي سلسلة سليسلة. تم الكتاب بحمد الله وجميل صنعه وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

قواعد العمران

قواعد العمران من بين آيات القرآن إذا تجرد الإنسان هنيهة من جلباب التقاليد. وترك التصديق والإذعان جانباً ونظر إلى القرآن ككتاب غامض خبره. مجهول مصدره. وأراد أن يقرأ فيه. ثم يحكم عليه. ويأخذ عبرة منه. فماذا يرى؟ وبماذا يحكم؟ أخذ ذلك الإنسان القرآن وما هو إلا أن وقع نظره على أوائل سورة الإسراء فرأى عجباً: رأى من ضروب الوعظ والتذكير. وأفانين التربية والتعليم. وأصول الآداب وقواعد الاجتماع. مفرغاً ذلك كله في أساليب عالية. وحلل بالفصاحة والبلاغة زاهية - ما جعله يكبر الأمر. ويتساءل ماذا عساه يكون السر. كتاب وجد منذ أربعة عشر قرناً في بلد منقطع عن العمران. محجوب عن أشعة العلم والعرفان. بين قوم أميين. قساة جاهلين. ثم هو يتضمن ما أشرنا إليه لجدير بالتعجب منه. حقيق بالتفكير فيه. تضمنت أوائل سورة الإسراء ما تضمنت وهي ست صفحات فقط. فماذا تتضمن إذا بقية صفحات ذلك الكتاب وهي زهاء (87.) صفحة. نحن لا نحيل القارئ الكريم إلى أمر بعيد عن القياس ولا إلى غيب لا يدخل تحت متناول الحواس. وإنما نحيله إلى عيان ومشاهدة واختبار. الإسراء والمعراج (من مزايا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم) يصح نعت القرآن بأنه أقدس رسالة أتت من أقدس مقام بواسطة أقدس إنسان. وهو محمد بن عبد الله الرسول في تبليغ تلك الرسالة إلى الخلق. وقد افتتح مرسل تلك الرسالة إحدى سورها أعني سورة الإسراء - ببيان منزلة ذلك الرسول. ليزداد الناس ثقة به. وحباً له. وحرصاً على تلقي الرسالة عنه. فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا اطلاع الله لذلك الرسول على آيات الكون وأسرار الخليقة هي المنزلة الرفيعة التي امتاز

بها عن سائر بني البشر. فالمقصد من الآية إثبات تلك المنزلة له. أما أن رحلة الرسول في الاطلاع على تلك الآيات كان بروحه الشريفة أو جسده المبارك فهذا لا نكلف الإيمان القطعي به ما دامت الآية ليست دلالتها على معناها بقطعيته. ولذلك اختلف العلماء بل الصحابة في الإسراء والمعراج: أسري بروحه أو بجسده وكيف كانت كيفيته. وعلى أية حالة وقعت غدوته وروحته هذا من عالم الغيب لا نكلف به تفصيلاً ما دمنا مؤمنين بالغرض منه إجمالاً. ألا وهو الإيمان بأن الله اطلع على نبيه على عالم الملكوت. ولنضرب لذلك مثلاً: نسمع أن أهل طرابلس الغرب قاموا اليوم لمناجزة إيطاليا. ونعلم أن حكومتنا العثمانية ذات الدهاء والقوة هي التي أمدتهم بالضباط والسلاح والذخائر فتمكنوا بذلك من القيام ضدها. فيقول قوم: وكيف أوصلت حكومتنا تلك الإمدادات إليهم بالبر عن طريق مصر؟ أو بالبحر على ظهر السفن. أو بالهواء على متون الطيارات؟ ولكن هل من المعقول أن توسع مسافة الخلاف بيننا في هذه المسألة ونكثر من اللغط فيها. وليس في ذلك من فائدة لنا. وإنما ألفائدة هي في أن نثق بالحكومة وفي أن لديها من الوسائط ما يكفل إيصال القوات إلى إخواننا السنوسيين بطريقة حكيمة مأمونة. يستبعد قوم أن يكون الإسراء قد حصل بجسده الشريف ولكن أقول أنه ربما كان هو الواقع كما يستبعد قوم أن يكون إمداد السنوسيين بطريق البحر مع أنه ربما كان هو الواقع أيضاً بل ربما كلن بواسطة الغواصات التي تنساب تحت مياه البحر. كيف أسري بجسده صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس؟ وكيف يتصور هذا؟ ولكن قل لي - ولنفرض أنفسنا عائشين منذ مئات السنين - كيف يمكن أن يطير الإنسان مسافة أيام بساعة من الزمن؟ لو قلنا ذلك لأهل القرون الأولى أما كانوا يستبعدونه ويعدونه من المحالات العقلية؟ وكذلك إسراء النبي إذا استبعده العقل وعجز عن تصوره ينبغي له أن لا ينكره ولا يحيل وقوعه. الاعتبار بالأمم الغابرة عرفنا منزلة الرسول حامل الرسالة. ولنقرأ الآن الرسالة نفسها أو بعض آيات منها أعني

أوائل سورة الإسراء أول ما فعلته هذه الآيات أنها حولت نظرنا إلى أمة تقدمتنا كان لها في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية شأن عظيم وقد ذاقت حلو الزمان ومره بحيث أصبحت أجدر الأمم القديمة بأن يتعظ بها. ويعتبر بأحوالها. ألا وهي الأمة اليهودية: وآتينا موسى الكتاب. وجعلناه هدى لبني إسرائيل. ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. ذرية من حملنا مع نوح. إنه كان عبداً شكورا. وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين. ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أوليهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا. ثم رددنا لكم الكرة عليهم. وأمددناكم بأموال وبنين وجعلنكم أكثر نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيراً. عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا قصت علينا هذه الآيات من خبر اليهود ما فيه مزدجر وتحذير لنا أن يصيبنا مثلما أصابهم: فقالت أن الله أعطاهم التوراة فيها هدى وحذرهم مخالفة أوامره واستدبار سننه وأكد لهم أن هذه المخالفة تؤدي إلى غلبة عدوهم عليهم. واكتساحه بلادهم. فاليهود غفلوا عن سنن الكون. وتناسوا أمر الله. فسلط عليهم بختنصر نبوخذ نصر ملك الآشوريين. فأنزل بهم البلاء. ثم كشف ذلك عنهم على أمل أن يكونوا تابوا وأنابوا، فيعودوا للعمل بالتوراة. ومراعاة سنن الوجود والاتعاظ بما كان من إذلال عدوهم في المرة الأولى لهم - فلم يفعلوا شيئاً من ذلك وعادوا لما نهوا عنه. فجاءهم الرومانيون. وأوقعوا بهم واضطهدوهم وأذلوهم. كما قال لهم ربهم وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم للمخالفة عدنا لتسليط عدوكم عليكم. هذا ما كان من أمر اليهود في سابق عهدهم. فوعظنا الله نحن المسلمين بهم. وحذرنا أن نخالف أوامره الإلهية وندابر سننه الكونية. فيصيبنا مثلما أصابهم. ولا ريب أن القدوة عامل من أقوى عوامل التربية. وهي في تربية الأمم مثلها في تربية الأفراد. فإن أحسن طريقة يتخذها المربي في تربية الناشئ هي أن يصف له إعمال رجال ألفضيلة فيقتدي بهم. وأعمال رجال الرذيلة فيتجنب عملهم. وهكذا الأمم في طور تكونها

يجب أن تستفيد من أمم التاريخ فتقتدي بهذه. وتحيد عن عمل تلك. سلك القرآن الكريم في تربيتنا معشر المسلمين هذا الطريق من التربية فترونه يقص علينا أخبار الأمم السالفة وما جرى لها لنستفيد من ذلك عظة وعبرة. اليهود في عهد البعثة المحمدية كانوا مضرباً للأمثال. وموضعاً للشفقة عليهم. والتعوذ إلى الله من المصير إلى مثل حالهم. ولكنهم اليوم عادوا فلموا شعبهم. ورأبوا صدوعهم. وأخذوا يستفيدون من تجارب الأمم غيرهم. ومن عبر التاريخ التي تستنتج من حوادث من تقدمهم. انظروا إليهم تجدوهم في علو منزلة ورفعة شأن. على أنه لا حكومة لهم ولا سلطان لماذا انقلب ما بهم وغير الله ما بهم؟ ذلك لأنهم غيروا ما بأنفسهم. سلكوا إلى ألفوز في هذه الحياة من طريقه الطبيعي الذي طالما تنكبوه في سألف عهدهم. سلكوا سبيل الحياة الاجتماعية وهم مسلحون بثلاث أمور: (1) تقوية روح التضامن بينهم (2) إصلاح التربية العائلية والمدرسية (3) توفير الثروة من طريق علم الاقتصاد هذه القوى الثلاث هي عماد الأمم. وأكبر العوامل في نهوضها. فيجب علينا معشر المسلمين اليوم أن نقتدي بهم في توفير هذه القوى الثلاث: لأن الحكمة ضالتنا كما قال نبينا. وإلا كان أمرنا إلى خسار. وسعينا إلى تبار. واأسفاه. . . كنا نرثي لليهود. ونشفق عليهم. ونتعظ بالمثلاث من أحوالهم. فعدنا اليوم نعجب من أمرهم. ونباهي بأعمالهم. ونحض أنفسنا على الاقتداء بهم. والسير في الحياة الاجتماعية على أثرهم. (لا تحقرن امرءاً كان ذا ضعة ... فكم وضيع من الأقوام قد رأسا) (فرب قوم قد جفوناهم ولم نرهم ... أهلاً لخدمتنا صاروا لنا رؤسا) وهذا مصداق الآية الكريمة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم غير أن القرآن الذي أعطانا نحن المسلمين هذا الأصل في نهوض الأمم وسقوطها وهو أن التغير الاجتماعي ناشئ عن التغير الأخلاقي - أعطانا أصلاً آخر في هذا المعنى وهوترك

اليأس مذ قال: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون هذه أسباب النهوض حوالينا. وطرق العزة والغلبة ممهدة أمامنا. فلنسلك هذه الطرق بصبر وثبات ورجاء كما أمر الله. فلا جرم أن نكون بعد ذلك من ألفائزين التربية النفسية بعد أن فهمنا من آيات اليهود لزوم الاتعاظ بما جرى للأمم قبلنا نرجع إلى بقية الآيات الأوائل من سورة الإسراء فنجد فيها مواعظ وحكماً وآداباً اجتماعية أخرى. من ذلك التربية النفسية: الأصل الأول في هذه التربية أن يعتقد المرء بأن كل ما يصدر عنه - منقول أو عمل أو فكر - له تأثير في أخلاقه وسعادته ومستقبل حياته: إن حسناً فحياته سعيدة وإن سيئاً فحياته شقية. وإذا علم المرء هذا كان جديراً أن لا يقول إلا حسناً. ولا يعمل إلا حسناً. ولا يفكر إلا حسناً. قال تعالى في آيات سورة الإسراء إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها - ثم قال - من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها والأصل الثاني في التربية النفسية حياة الضمير وصحة الوجدان في نفس المرء: فمن كان ذا ضمير حي. ووجدان صحيح كان على نصيب وافر من صحة الحكم والقصد في الأعمال. وسعادة الحياة. وهذا مغزى قوله تعالى في آيات سورة الإسراء: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراًاقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا طائر الإنسان عمله الذي صدر عنه فهو منوط به مقصور عليه كما مر في آية إن أحسنتم. . وآية ومن اهتدى. . فأعمالك التي تصدر عنك أيها الإنسان يكفي في تمحيصها ومعرفة صوابها من خطأها أن ترجع إلى نفسك أي ضميرك أو وجدانك كما يقولون اليوم ثم تقرأ ما انطوى فيها من الهواجس والخواطر والأميال والاعتقادات. فإذا قرأت ذلك كله فهمت كيف صدرت عنك الأعمال حسنة أو قبيحة؟ وكيف أصبحت بسببها سعيداً أو شقياً. نفسك وحدك هي نعم الحكم فيما إذا عرضت الأعمال. ونصب الميزان للفصل بين الحق والضلال.

فالواجب علينا في تربيتنا النفسية إذا أن نقوي فينا الضمير والوجدان الذي يسمى القرآن. النفس أو النفس اللوامةتقوي ذلك فينا لنعرف كيف نقول الصدق. ونحكم بالحق. والأصل الثالث في التربية النفسية الصبر والثبات والتجلد وهو ما يسمونه اليوم قوة الإرادة والشجاعة الأدبية وقد نهانا الله في آيات الإسراء المذكورة عن اليأس والقنوط فقال ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا أي يا عجبا للإنسان! كيف يعجل بالسخط على نفسه والبراءة منها وتمني الشر لها إذا لم تفز في بعض المواطن. أو لم تنجح عند ممارسة عمل من الأعمال - كلا لا ينبغي أن يسخط ولا أن يدعو إلى نفسه بالشر والهلاك كأنه يدعو لها بالخير بل عليه أن يصبر ويتجلد. ويقوي إرادته فيعيد الكرة على العمل الذي لم ينجح فيه. فيتم له الفوز والغلبة. فبالله قولوا إذا لم تكن قوة الإرادة والصبر أساس السعادة في هذه الحياة فما هو الأساس؟ الأصل الرابع في التربية النفسية كبر النفس وعلو الهمة كما قال صلى الله عليه وسلم علو الهمة من الإيمان فلا يرضى المؤمن لنفسه بالدون من شؤون هذه الحياة. بل يقتحم المصاعب في نيل المطالب. ويكايد العظائم. في اكتساب الغنائم. وأي مناصب ومغانم؟ هي أن تكون أمته سعيدة فيكون سعيداً بها ومعها - هي ألفضائل والكمالات والأخلاق العالية والمظاهر السامية فيكون المرء بها رجلاً عظيماً ونابغة كبيراً. إذا كثر الأفراد من هذا القبيل في أمة من الأمم ارتقت وعزت. وإن قلوا وفقدوا تدهورت وذلت. والله سبحانه وتعالى يعطي المرء من هذه المظاهر العالية على حسب سعيه وما طلبه بلسان حاله (وإن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقد أ - مره أن يسعى في نيل الكمال الإنساني بأبلغ أسلوب في آيات سورة الإسراء فقال: من كان يريد العاجلة (الخطة التي يسهل تناولها والمنزلة الناقصة) عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد. ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموماً مدحوراً أي تكون عاقبة ما أراد التعجيل به من خطة الدون البلاء والشقاء الأبدي ومن أراد الآخرة وهي الحياة الكاملة والسعادة الشاملة وسعى لها سعيها وهو مؤمن واثق بالظفر فأولئك كان سعيهم مشكوراً. الأصل الخامس: من أصول التربية النفسية التي علمنا إياها الله في آيات الإسراء إعمال العقل في ما يعرض عليه من المسائل العلمية والكونية فلا يجوز للمرء تعطيل عقله

ومشاعره وتصديق كل وهم يلقى عليه. فقال تعالى في آيات سورة الإسراء - ويا ما أسمى حكمته فيما قال - ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً أي لا تتبع الظن فتصدق ما لا يلتحم مع العقل اليقيني بل استعمل عقلك وسمعك وبصرك. فإذا أهملتها وعطلت العمل بها سئلت عنها يوم القيامة. فإذا قال لك ربك يومئذ لماذا اعتقدت كذا أو كنت تذهب من المذاهب والآراء إلى كذا فقلت له: يا رب قيل لي كذا وقالوا لي كذا فتبعتهم. فيقول لك وأين عقلك وسمعك وبصرك التي قد وهبتها لك؟ ولماذا لم تستعملها وتستهد بها؟ هل أعطيتك إياها لتهملها؟ أهكذا حق النعمة وشكرها؟ لا جرم أن تقوم إذ ذاك الحجة على هذا المقلد فيقذف به في هوة الشقاء. أنقذنا الله منها بفضله وكرمه. التربية العائلية الأمة تتألف من العائلات كما أن الجدار يتألف من الأحجار. فإذا كانت الأحجار متينة قوية محكمة الوضع كان الجدار ثابتاً حسن الوضع والعكس بالعكس. كذلك الأمة إذا تألفت من عائلات راقية في نظامها وترتيبها ونظافتها وأدبها وأخلاق أفرادها كانت الأمة في أعلى درجات الرقي والعكس بالعكس. والعائلة تتألف من أول أطوار تكونها من أب وأم وابن والابن الأول هو حجر الزاوية في أساس البيت. فإذا كانت أخلاقه حسنة وآدابه راقية وباراً بوالديه تبعه أخوته وأخواته وانتظم حال الأسرة. وإلا فسدت الحالة واختل النظام. على أن البن إذا كان عاقاً لوالديه. يسيء عشرتهما. ويوصل الأذى إليهما كان جديراً بأن يفعل ذلك مع خلطائه ومعاشريه الآخرين. وهذا كاف في سقوطه وتعاسته. قال تعالى في آيات الإسراء: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً. أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ومعنى هذه الآيات ظاهر لا يحتاج إلى تبيان. ومن التربية العائلية التي جاءت في آيات الإسراء رحمة الوالدين وعطفهما على ابنهما فلا يقسوان عليه. ولا ينظران إليه كأنه متاع لا قيمة لفه في الوجود. وإنما هو حر مستقل في

نفسه. يكلف أبوه بالإنفاق عليه وتربيته حتى يبلغ أشده. ثم يسرحه في هذا العالم ليسعى لنفسه وعائلته ولوطنه. وقد نعى الله على الآباء القساة صنيعهم فقال في آيات الإسراء: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطأً كبيراً فذه القسوة أو اليأس من حصول الغنى هو من أسباب خراب العائلات وتنغيص عيشها. ونحن اليوم لا نقتل أولادنا قتلاً حقيقياً وإنما نقتلهم قتلاً معنوياً. نهمل الإنفاق على تربيتهم وتعليمهم فيكونوا على حالة من الجهل والشقاء حتى الموت الحقيقي خير منها. فتربية الأولاد والرأفة بهم وعدم قتلهم قتلاً حقيقياً أو أدبياً هو مما أمرنا الله به وحضنا عليه في آيات الإسراء. ومن التربية العائلية استحكام ملكة الاقتصاد في نفوس أفرادها الآيتان السابقتان آية بر الوالدين وآية عدم قتل الأولاد تحضاننا على استكمال الروح الأدبي في العائلة. أما آيات الاقتصاد التي تضمنتها آيات الإسراء فهي تحضنا على استكمال الأمر المادي أي على توفير الثروة. والاهتداء إلى أحسن الطرق في استثمارها وتحصيلها. والعائلة التي لا تعرف كيف تستثمر ثروتها. أو تزيد فيها. أو لا تعرف كيف تنفق المال في طرقه القانونية. وتقابل الصرف بالخرج على أصول البودجة يوشك أن تنفق أموالها وتضيعها بالتدريج. أو تخزنها في صناديق دون أن تستفيد منها ويكون شأنها شأن من أعطاه الله عينين ليبصر بهما فهو قد أغمضهما أو وضع عليهما عصابة فلم يعد يرى ولا يبصر. فمثل هذا الرجل كيف يمكنه أن يعيش؟ وذلك البخيل الذي يقتر على عياله كيف تطيب له الحياة؟ قال تعالى في آيات الإسراء: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً الحياة الاجتماعية آيات الإسراء على قلتها حافلة بالقواعد العمرانية. والأصول المدنية. التي يتوقف عليها هناء الجماعات البشرية. فالبشر ما داموا مدنيين بالطبع. وما داموا في حاجة إلى أن يعيشوا عيشة اجتماعية - كانوا محتاجين إلى هذه الأحكام والأصول التي جاءت في آيات الإسراء. وها نحن نسرد تلك

الآيات سرداً من دون شرح ولا تعليق. خوف التطويل والتضييق. 1 وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراًً. وهذا خطاب للأغنياء والعظماء في الأمم 2 ولا تزر وزارة وزر أخرى. وهذا خطاب للحكام والزعماء فيأخذون كل مذنب بذنبه 3 وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. ثم في آية بعدها. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده. خطاب لكل فرد من أفراد الأمة وتنبيه حكام الشرع لحمل الناس على إيفاء الحقوق 4 ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا. خطاب لكل فرد من أفراد الأمة فلا يتلوثوا بهذه ألفاحشة. ويصح أن نعد هذه الآية من آيات التربية العائلية لأن الزنا يهدم بناءها 5 ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً. خطاب لكل فرد من الأمة بأن يكونوا ودعاء متواضعين فيتحابوا فيكونوا أقوياء وإلا تخاذلوا وضعفوا. وتصلح هذه الآية مثالاً للتربية النفسية لأن التواضع وعدم الغرور أساس تلك التربية 6 ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً. خطاب لكل فرد أو للحكام في حفظ الدماء والحكم بالحق وترك الشطط والإسراف 7 وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً. خطاب لكل فرد أو للحكام مع الدول الأخرى فيكون من قبيل التربية السياسية. وتصلح هذه الآية أن تدمج في آيات التربية النفسية 8 وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم خطاب عام وتنبيه للحكام هذه الآيات كلها مم جاء في أول سورة الإسراء. ولم تستغرق ست صفحات وهي كما يرى القارئ اللبيب جماع الأصول العمرانية وكفاف القواعد الاجتماعية ويتخللها آيات في

مقاصد أخرى كآية وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وهذه الآية تصلح شاهداً للتربية الاقتصادية لأن فيها حضاً على السعي والكسب والاحتفاظ بالوقت فنعرف أقسامه. ولا ندع جزءاً منه يفلت منا سدى. أو يضيع علينا بدداً. هذه نماذج من آيات أوائل سورة الإسراء. كما أن هذه الآيات نفسها نموذج من مجموع ما في القرآن الكريم من الحكم والعبر. والمبتدأ والخبر. فرسالة هذه شأنها. والله مرسلها. ومحمد رسولها وواسطتها - هل يليق بنا أن نتغافل عند تلاوتها. أو ندع العمل بمضمون آياتها. دمشق المغربي

إمارة مكة المكرمة

إمارة مكة المكرمة بشرتنا البرقيات بصدور الإرادة السلطانية بتعيين حضرة الشريف علي حيدر باشا أميراً لمكة المكرمة مع توجيه رتبة الوزارة السامية إلى عهدة دولته فكان لهذا التوجيه رنة مسرور وابتهاج في أندية الشام يقدرها من عرف صاحب الدولة الشريف علي حيدر باشا في شمائله الذكية وأخلاقه الملائكية وفرط صداقته للدولة العلية وشدة استمساكه بعروة الخلافة العثمانية فضلاً عن مكانة الشريف من بنوة النبوة وسلالة البيت الذي نزلت بتطهيره الآيات المتلوة ولا يخفى أن هذه الإمارة منذ أيام الحسن ابن أبي نمي أي منذ نحو ثلاثمائة سنة كانت قد انحصرت في هذا البيت الكريم المعروفين بذوي زيد يتوارثونها خلفاً عن سلف وكابراً عن كابر ولا ينازعهم فيها منازع ولا يكابرهم في الحجاز مكابر إلى أن حصلت ألفتنة النجدية واتسع فتق ابن عبد الوهاب وقام بدعوته ابن سعود واستولى على نجد وجانب من اليمن فأرسل النجديون بعض علمائهم إلى الحرمين فناظرهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم البرهان وكتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع في مكة تتضمن الحكم عليهم فأمر بحبسهم أمير مكة وكان الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس وستين ومائة وألف فوصل الخبر إلى ابن سعود فازدادت العداوة وصار النجديون يغيرون على بعض القبائل الداخلة تحت طاعة أمير مكة وفي سنة خمس بعد المائتين والألف انتشبت الحرب بينهم وبين أمير مكة وكان الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد وقتل من ألفريقين خلق كثير. وما زال النجديون يتقدمون حتى دان لهم أكثر الغربان الذين في طاعة أمير مكة وفي سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف هجموا على الطائف بجموع كثيرة وأخذوه وقتلوا أهله رجالاً ونساءً ولما انصرف الحجيج تلك السنة قصدوا مكة ورأى الشريف غالب أنهم سيملكونها فسار إلى جدة فقصدوه فضربهم من هناك بالمدافع وهزمهم وعضدته الدولة العلية بعسكر مع والي جدة شريف باشا فساروا وأخرجوهم من مكة سنة 1218 واستقر الشريف غالب في الأمارة ثم أعادوا الهجوم بجيوش كثيرة وأطاعتهم العربان التي حول مكة المكرمة وحصروا البلد الأمين من كل الجهات وقطعوا عنه الميرة فاشتد بأهله الجوع واضطر الشريف غالب إلى الصلح معهم على أن يبقى أميراً بمكة ورضي بذلك مصانعة لهم ورفقاً بالأهالي الذين بلوا منهم بالداهية العظمى ودخل عصاة النجديين مكة 122.

واستولوا على المدينة المنورة ولبثوا في الحرمين سبع سنين والدولة مشغولة عنهم بالحروب مع دول أوروبا إلى سنة 1226 فصدر الأمر السلطاني إلى محمد علي باشا والي مصر بقتالهم فسير ولده طوسون باشا بجيش ملك الينبع وحأول أن يتقدم فاجتمعت عليه العرب وهزموه ولم يرجع من جيش مصر إلا القليل ولم يكن المصريون هذه المرة قد راسلوا الشريف غالب في أمر عربان الحجاز وقتلت أرض جاهلها فلما بلغ ذلك محمد علي سير جيشاً آخر سنة 1227 ومعه عدة مدافع وراسلوا الشريف غالب سراً فأشار عليهم بما يجب أن يفعلوه من سياسة العرب فاستمالوا مشايخ حرب بالمال واستولوا على المدينة وعلى جدة ثم على الطائف وكان أكثر ذلك بحسن تدبير الشريف غالب ووصلت البشائر باسترداد الحجاز إلى الأستانة ومصر فتزينت دار الخلافة ومصر وسائر البلاد فرحاً وسروراً. وفي سنة 1228 سار محمد علي بنفسه إلى مكة وأخذ يرتب الأمور ويبعث بالزحوف إلى بلاد عسير وغامد وزهران لقطع دابر السعوديين فأخمد جمرتهم وأناط من هناك معرتهم وأغرس نعرتهم لكنه عزل الشريف غالباً وأقام مكانه ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور بن مساعد وتوجه الشريف غالب إلى دار السعادة وتوفي في سلانيك سنة 1231 وكان مدة إقامته هناك معززاً مكرماً وآلت أخيراً إمارة مكة إلى محمد بن عون من الأشراف الحسينية لكنه ليس من بيت الإمارة المتسلسلة فيهم وإنما أنهى له بها محمد علي باشا وجاءه التقليد من دار الخلافة ومن ثم صارت إمارة مكة مراوحة بين هذين البيتين الكريمين ذوي زبد وذوي عون تارة يتولاها أحد أبناء الشريف محمد بن عون وطوراً تعود إلى أصلها في ذوي زبد ويستقر الأمر في نصابه إلى أن كانت إمارة الشريف عبد المطلب جد الشريف حيدر باشا الأمير الجديد فتولاها ثم عزل عنها وآخر مرة جرت بحقه دسائس لم يأخذ منها حذره فعزل وخلفه الشريف عون الرفيق باشا من ذوي عون فبقي فيها مدة طويلة إلى أن توفاه الله فخلفه أخوه المرحوم الشريف عبد الإله باشا ولكن ما كاد يبلغ الإرادة السنية بتقليده إمارة مكة حتى توفي وأسندت الإمارة إلى ابن أخيه الشريف علي باشا فلما حصل انقلاب الشريف المشار إليه عن كرسي الإمارة فذهب وأقام بمضر وتولى مكانه ابن عمه الشريف حسين باشا وهو فيها منذ بضع سنين.

والأمير الجديد هو الرئيس الثاني لمجلس الأعيان وقد كان تولى نظارة الأوقاف وهو من أركان الدولة الذين عليهم المعول ولهم المقام الأول وهو رئيس مجلس الإدارة للجمعية الخيرية الإسلامية التي هي تحت حماية سمو ولي عهد السلطنة نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل كل أيام الحجاز في أيامه مواسم كما جفل ثغور الأهلين بتوليته بواسم وأن يذلل لديه الصعاب ويمهد أمامه العقاب ويجعل التوفيق رفيقه في حله وشده ويمكنه من ناصية كل عاص حتى إن أبى أن يقف عند حده أغمد فيه سيف جده. دمشق: شكيب أرسلان

الشيخ إبراهيم الحوراني

الشيخ إبراهيم الحوراني رزئت الآداب العربية بفقد هذا العالم المشهور بسعة معارفه ودقة أبحاثه واعتداله بمبادئه الأدبية فاقتطفت ترجمته هذه من كتابي (مفاوض الدرر في أعيان القرن التاسع عشر) لتنتشر في مجلة المقتبس وهناك ما اقتطفته. 1 - أسرته لا يخفى أن معظم الأسر المسيحية الشرقية المذهب حورانية الأصل من بقايا اليمنيين الذين قدموا حوران وما إليها حتى العراق في حادث سيل العزم الشهير في التاريخ. وكان منهم الغساسنة الذين نسبوا إلى ماء غسان حيث نزلوا وهو اليوم نبع عري في حوران وكانوا عمال الرومان بعد تنصرهم ثم تفرقوا في أنحاء حوران وغيرها فنشأت منهم قبيلة في إزرع المشهورة بأذرعات ومنها تسلسلت أسر كثيرة بأسماء مختلفة أهمها بنو فرح أو الحاج فرح وأبناء عمهم بنو قنديل الذين تعادوا ثم تصالحوا ثم تعادوا وتفرقوا في أنحاء سورية ولبنان. وكان بنو فرح قد قدم بعضهم في أثناء ألفتح العثماني إلى ضواحي حمص مع بعض بني قنديل أنسبائهم متصالحين ثم عادت المشاحنة ففرقتهم فنزل الفرحيون في تلك الجهات والآخرون هجروها مبتعدين عنهم عداءً وكان ممن نزل حمص وحماة من الفرحيين من لقب بألقاب مختلفة مثل بني الحوراني أسرة المترجم الآن وبني اسيسه وبني أبي عريضة وبني نسيم وأنسبائهم أما بنو الحوراني فينتسبون إلى جدهم شدود الحوراني ونشأ منهم سليمان جد جد المترجم فبنى قرية في حصن الأكراد باسم معمورة الحوراني ثم خربت ونزح منها سكانها الذين كانوا كلهم من هذه الأسرة فعرفت إلى اليوم بخربة الحوراني. وعادوا إلى حمص وحماة وضواحيهما. فنشأ ممن في حمص أبو يحيى يعقوب بن سليمان بن فرح وهو جد والد المترجم كان شاعراً بليغاً وصاحب مكتبة احترقت ومما يحفظ من شعره قوله من أبيات: لا تعجبي من آسى العاني فأعظمه ... منذ العصور الخوالي حظ يعقوب وله كثير غير هذا من بليغ الشعر ثم نشأ من أنسبائه إبراهيم الأول وهو ووالد المترجم حفيدا أخوين وكان عالماً درس على الخوري عيسى الحامض والد الدكتور سليمان الخوري الحمصي واشتهر بطلاقة لسانه

وسعة معارفه في التاريخ والطب وكان واعظاً بليغاً توفي نحو سنة 187. عن نحو ستين سنة. وله أولاد وحفدة في حمص. إلى غير ذلك مما يدل على أن العلم في هذه الأسرة موروث والشعر متسلسل. وأعظم علمائهم المترجم. 2 - نشأة المترجم هو الشيخ إبراهيم بن عيسى بن يحيى (أو يوحنا) بن يعقوب بن سليمان بن فرح الغساني الحوراني. ذهب والده عيسى إلى حلب نحو سنة 1838 للاتجار بالمنسوجات وتدبرها إلى أن ولد له فيها المترجم في مساء 14 أيلول سنة 1844 (رومية) فعاد به أبوه وبأخيه الأكبر إلى موطنه حمص والمترجم ابن سنة فترعرع فيها وتعلم مبادئ الحساب عند حائك بارع بالقواعد الأربع ومبادئ الصرف والنحو في الأجرومية على يد القس أبيلا والخوري بطرس الأرقش وبعض العلوم على الخوري عيسى الحامض أديب حمص في عهده. وكان يجمع أترابه ويدرسهم ما درسه. وولع بالزجل والمواليا من فنون الشعر العامي فنظمها وهو في الحادية عشرة فتناقل المنشدون قدوده يتغنون بها منها في البغدادي: يا ساكن البان صبري من بعادك بان ... يبكي دماً كلما غنى حمام البان سرك كتمته ولكن من دموعي بان ... والدمع فضاح أرباب الهوى في الصبا يا روح عطفاً على العاني أسير الصبا ... مولاي شكواي ألطف من نسيم الصبا وإن كان بتهز عطفك يا غصين البان ونظم الشعر الموزون في سن الثانية عشرة من العمر كما سنرى في شعره وسنة 186. نزح بيتهم إلى دمشق فتعرفوا فيها إلى الدكتور مخايل مشاقة فأعجب بذكاء المترجم وأقنع والده بإدخاله إلى مدرسة عبية الأميركية فدخلها سنة 1861 وبقي فيها إلى سنة 1864 فأحكم بعض العلوم وعاد إلى دمشق فأتمها على بعض علمائها فدرس الرياضيات والفلك والمنطق على يد الدكتور مخايل مشاقة والطبيعيات والكيمياء على الدكتور يوسف دمر ومبادئ الإنكليزية على السيدة كروفرد. ولكنه كان يعلم نفسه بالبحث والاستقراء والتدبير والمطالعة كما قال في مقالة أنشأها بعنوان أنا معلمي سنة 1913وهو: وما زلت منذ ذلك الوقت أي زمن الصبوة أطالع وأتعلم إلى هذه الساعة فاستفدت من تعليم نفسي أضعاف ما استفدته من معلمي ودرس في بعض المدارس البسيطة في ضواحي

دمشق. وحذق علم الجبر والهندسة والمنطق والجغرافية السماوية وبعض أحوال السيارات ومبادئ علم ألفلك وعلم قياس المثلثات والأنساب والفلسفة الطبيعية والكيمياء والنبات والحيوان. واشتهر بسعة معارفه ودقة مداركه فاستقدمته المدرسة الكلية للأميركان في بيروت سنة 187. أستاذا فدرس فيها البلاغة والمنطق والرياضيات وانفتح له باب جديد للتعمق في العلوم والتبحر في إتقانها وابتكار كثير من القواعد الرياضية التي كان يمليها على تلامذته العديدين من أطباء وعلماء وأدباء وهم معظمهم نوابغ السوريين في القطرين وبقي فيها نحو عشر سنوات وقفها للبحث والتأليف والتعريب والتصحيح من سنة 1871 - 188. م ودرس في مدرسة البنات وفي المدرسة البطريركية بضع سنوات وكان يدرس في مدرسة اللاهوت الإنجيلية بعض العلوم إلى آخر حياته. واتصل بالعلامة الدكتور كارنيليوس فانديك الأميركي المشهور ورصد معه الكواكب ثم صار يرصدها بمنظاره في بيته ويحقق شؤونها ويكتب فيها المقالات الضافية. وتولى كتابة النشرة الأسبوعية منذ سنة 188. فدبجها بفوائد علمية وأدبية رائقة. وكان مصححاً لمطبوعات المطبعة الأميركية ومعرباتها مشتغلاً بالتأليف والكتابة منصرفاً إلى إتقان العلم وتوسيع المدارك. فكتب مئات من المقالات العلمية والأدبية. وابتكر قواعد وضوابط للعلوم مشهورة بين الأدباء. وألقى الخطب البليغة في الحفلات والمجتمعات الأدبية مما أرقص أعطاف المنابر. وعلى الجملة فإنه ملأ الآداب العربية بمباحثه المفيدة. وزين المجلات والجرائد بنفثات أقلامه. وأغنى اللغة بأوضاعه ومعرباته وأساليبه العصرية. وكانت مزايا كتاباته ومنظوماته الجمع بين آراء المتقدمين والمتأخرين مع دقة نظر وصحة بحث. وما زال يدأب في عمله إلى أن أقعده داء عقام فلازم ألفراش ولم يكن مع اشتداد وطأته عليه يمتنع عن العمل فوافته المنية بعد عام وذلك في 2 شباط سنة 1916 في بيروت. فأقيمت له حفلة حزن مؤثرة رثاه فيها الدكتوران هسكنس وبلي والقسان هاردن وجسب والأستاذان فربان وكروفرد في الكنيسة أما على الضريح فتناوب تأبينه الأدباء ضوبط وبهنا ومصور وحمية وباز. وأقيمت له حفلة تذكارية أبنه فيها الأديبان خوري وغبريل. ورثاه كثير من الأدباء بمراث مؤثرة.

وكان طويل القامة ممتلئ الجبهة حنطي اللون روماني الأنف أجش الصوت وخطه الشيب في آخر حياته ومن أخلاقه أنه كان حاد الطبع سريع الرضا كثير الجلد على العمل لا يكاد يمل ولا يكل من البحث والمراجعة. وإذا نظم ترنم بالوزن سريع الخاطر حاضر الذهن دقيق البحث في الوضع واللغة والترتيب واسع الاطلاع يسير بالقارئ بين حزون المباحث وسهولها. ترجم وألف وصحح أكثر من 25 كتاباً. فكان جبار علوم ومقدام أعمال متحلياً بأجمل الصفات الأدبية مع ترو وتثبت وتحقيق وتدقيق محباً للآداب والأدباء غيوراً على اللغة وأبنائها. فهو من أ - هم أركان النهضة العصرية بلا مراء. 3 - شعره كانت مزية شعر الحوراني علمية الأسلوب والنزعة رشيقة التعبير متينة القوافي بليغة المعاني فصيحة الألفاظ دقيقة الخيال جامعة بين جزالة القدماء وأفكار المعاصرين. وله ارتجال بليغ ومعربات شعرية أجاد في نقلها مظهراً بلاغتها الأصلية.؟ كيف لا وقد ورث الشاعرية عن أسلافه كما مر ونظم في سن الثانية عشرة موزوناً وفي الحادية عشرة نظم الأزجال والموالينا وغيرها ولكنه كان قليل الحرص على حفظها فتشتت حتى قيل: أنها لو جمعت كلها لكانت خمسة أمثال شعر المتنبي أو تزيد. وقال بعضهم: أنه لا يلام إلا على إهماله جمع منظومه فمرثيته للشيخ ناصيف اليازجي وغيره من المشاهير فقدت من بين أوراقه. وقد اعتنى الأستاذ داود أفندي قربان بجمع ديوانه مما وعته حافظته المشهورة ومما رآه عند أصحابه ونشر بعضها بعنوان (الدقيق الحوراني) في (مجلة المورد الصافي) البيروتية. وسعي في حياة المترجم بجمع ديوانه فاطلع عليه قبل وفاته وأثبت ما صحت روايته منه. وكان يقول عن الأستاذ قربان: أنه روايته وذاكرته كما كان لدماء الشعراء رواة يحفظون منظوماتهم. وبعض أشعاره بدأ بنشرها في جريدة الرئيس التي تولى تحريرها. ثم في جريدة النشرة الأسبوعية وغيرها مم تناقله الأدباء فمتن أول أشعار صباه مورياً بأبواب حمص: ويونانية في باب (هود) ... سبت بالحسن عادات العريب فتحت لوصلها أبواب قلبي ... فلوصلها هجرها (باب الدريب) ومنه وقد سمع من أبيه نظم جده وحثه على تحديه فقال مضمناً ذلك:

يقول أبي: بني الشعر فخر ... لمن بمقاله الغاوين يهدي فزوال نظمه وانشر علينا ... ذكي النشر من ورد ورند فجدك كان ذا شعر نفيس=فقلت: انشر لنا نفحات جدي فقال: إليك ما نقلت حداة ... به كانت مطي الشوق تجدي ألا دع ما استطعت حديث نجد ... ففي ذاك الحديث قديم وجد فجز تلك الربوع فإن فيها ... لقتلي غادة ربوات لحد فقلت: طربت من ذا الجد جداً ... سأبذل في نظام الشعر جهدي وأول ما أعلنه من شعره قواه وفيه صحة مذهبه الشعري: هذب كلامك في نظامك ... قبل نقد العالم فالشعر كالمرآة ير - سم فيه عقل الناظم وقال من أبيات: وعذاب أرباب ألفضائل لذة ... وكفى الأفاضل أن غدوا أبرار إن كان موتي في الفضيلة رفعة ... فليقض ربي أن أموت مراراً ومن ارتجالياته قوله: جميع الناس في تيهٍ=على طرق الردى باتوا فلولا الجهل ما تاهوا=ولولا التيه ما ماتوا ومما كتب تحت رسمه: رسم يشخصني لمقلة من به ... ولهي وروحي في حماه تقيم يعقوب أشواق إليه مهجتي ... وأنا بدين الحب إبراهيم ومن حكمياته قوله من أبيات: لا يخدعنك عاقل متفقه ... شرح الحقائق للعجاف مجاف حملاً يمثله المقال وفعله ... أبداً يقول الذئب بين خرافي لا خير في عقل ولا علم ولا ... دين ولا مال بغير عفاف وقوله في واعظ مراء: خلقت شجاعاً ولكنني ... جبنت لبأساء لا تتقي

أخاف وكم خفت من واعظ ... كثير الصلاة قليل التقى وقوله مما يدل على تواضعه وحكمته: إني لا علم أنني لا أعلم ... وكفى بذا علماً لمن يتفهم إن الجهول الغر يحسب أنه ... أدرى من الشيخ الحكيم وأعلم وقوله من مرثية: يل نفس لست بمدرك كل الذي ... تبغينه فدعي عناءك واقصري إن الذي في دفتر الأقدار لا ... يأتي على وفق الذي في دفتري ولقد دخلت الأرض غير مخير ... وسأترك الغبراء غير مخير وقوله ينصح التي ترغب في مال خطيبها لا في كماله: ما كل ذي مال شريف فاطلبي ... من شرفته في الورى أخلاقه كم من غني مجده أمواله ... كالزهر كل جماله أوراقه وقوله في كأس الخمر: في هذه الكأس الهلاك فلا تذق ... حلب العصير صديد أهل جهنم عكست لظى لألائها من نارها ... وحبابه نفث الحباب الأرقم وقوله في الباخرة من قصيدة: حملتك جارية المحيط كأنها ... برق سرى ليل النوى بهجوعي دنت مني ومستني لهذا ... علقت بها كما حكم القضاء وقوله في صدر خطاب: لا ذنب لي قد قلت للقوم اطلبوا ... غيري فلست من أهل الخطب إن الخطابة لا تليق بغير من ... ألفاظه درر ومعناها ذهب أو ناسج طرفاً سداها حكمة ... ووشيعها علو ولحمتها أدب قالوا أر العذر المليح ولا تر الب - خل القبيح ولا تفر من الطلب فأجبت مضطراً فلا تتعجبوا ... من جرأتي هذه فقد عرف السبب وقال من قصيدة: ما سواد الشعر عندي حسناً ... كبياض الشعر في بعض الرؤوس

إن تاج الشيب يا آل النهي ... عندنا أجمل من تاج العروس إن ذاك التاج نور ساطع ... من شعاع العقل في رأس الرئيس ومما يروى أنه كان سائراً مع صديقه المعلم سليم كساب رحمهما الله من بيروت إلى دمشق راكبين فنظم في طريقه قصيدته المشهورة: حمل النسيم لنا عبير شذاكا ... ظبي الختام فرحت من أسراكا ومنها: مغنى توهمت السماء رحابه ... لما رأيت أهيله أملاكا وظننت سكان المضارب أنجماً ... لما رأيت خيامه أفلاكا إلى أن قال وقد قدحت سنابك خيلهما شراراً في فحمة الليل: ركب الظلام وسار يخترق ألفلا ... نحو الربوع وغادر الأدراكا وتسنمت عصف الرياح جياده ... تجري كدمع الصب يوم نواكا ترمي سنابكها الشرار كأنها ... وقدت أضالعها بنار هواكا وهي طويلة بليغة كلها من هذا الطراز الرائع ومما ارتجله مشيراً إلى اسم أسرته في صغره: بدوية لاموا العميد بحبها ... فأحبتهم والدمع أحمر قاني ما شأن فيها ها بدوية ... ترمي السهام بمهجة الحوراني وله من قصيدة طويلة في صباه: من كل غرثى وشاح ما دنت ورنت ... إلا رمت بسهام الطرف مضناها تظل نيران إبراهيم موقدة ... منها كليم الحشى في طور سيناها هيفاء تزنو في بحر السنا وأنا ... اختال في مثل ما يشكوه جفناه بالوصل أبخل غادات الورى خلقت ... وعند سفك دم العشاق أسخاها وله أخرى في صباه متفنناً: في وجنتيه لكل شمس مطلع ... وبمقلتيه لكل نفس مصرع قمر لفه في كل صدغ عقرب ... من فرعه ومن البروج البرقع إلى أن قال وأجاد بالتوجيه النحوي والعروضي:

خلفتموني مفرداً متمكناً ... في حبكم فلما بكم لا أجمع وخفضتموني قد نصبت لنبلكم ... هدفاً فحتى م الجفا لا يرفع ملتم إلى الواشي بأشعار الثنا ... فصرفتموني والموانع أربع إعجام صبري وازدياد تولهي ... وصفاتكم وجموع عذل تلذع بين المحب وطيف ظبي كناسكم ... لم يبق للتمييز عندي موضع طال النوى بمديد وافر هجركم ... والقرب يبطئ والمدامع تسرع ومن قديم فلكياته قوله من قصيدة بليغة في مدح السيد عبد القادر الجزائري: نظمت من الشهب القلائد مثلما ... حوت الأهلة في مقام أساور وتقنعت بغياهب وتبرقعت ... بكواكب وتمنطقت بنواظر وقوله موجهاً بخرافة الخسوف وقد جلست عجوز ثقيلة بين عروسين في عرس فسكت المغنون: ترنموا أيها الشادون وابتدروا ... إلى المزاهر والنايات والوتر وخلصوا البدر من حوت الخسوف أما ... رأيتم الأرض بين الشمس والقمر وقوله من قصيدة: إني رصدت كواكب العادات في ... أفلاكها من قبل نبت عذاري وعرفت مشارقها ومغاربها وما ... في أمرها من غامض الأسرار فهويت عن خبروما يرضى الهوى ... في أهله أحداً من الأغرار وعشقت أجمل غادة كلفي بها ... كلف البخيل برنة الدينار لا تعجبوا من صبوتي شيخاً ففي ... ثلج المشيب شبيبة من نار وقوله من قصيدة في مدح خالد بك والي بيروت: مغاني اللوى للنيرات مراصد ... مضاربها الأفلاك والصب راصد فكم أمهى العشاق والشوق سائق ... مطايا السري والوجد للركب قائد رقبنا بها الأقمار والدمع سائل ... بليل به نهر المجرة راكد ومنها: حكت مهجتي المريخ لما نوت كما ... نوى عن مدار ألفرقدين عطارد

فبت وحادي النجم أعيت قلوصه ... وسرحان فجري للغزالة طارد وقال من مرثية لأستاذه مخايل مشاقة المتوفى سنة 1888 م: لم يبق بعد غروبكم من مطلع ... في شرقنا لسوى نجوم الأدمع إلى أن قال: يا رمس ميخائيل لو درت العلا ... أمسيت محسود المحل الأرفع أقليدس الصوري فيك وذو النهى ... اسحاق أهل الغرب فاعرف من تعي بقراط والشيخ الرئيس وغيره ... من كل ذي زكن حصيف المعي ما للرياضيات بعد مشاقة ... ما دامت الأفلاك غير تفجع ودوائر العرفان لم يعرف لها ... من مركز في القطر أو من موضع شقت عليك جيوبها وصدوره ... وبغير شق قلوبها لم تقنع والصبر عز على الجميع كأنه ... تربيع دائرة ورسم مسبع وقال من قصيدة في تهنئة الدكتور كارنيليوس فانديك بيوبيله الخمسيني سنة 189.: من لي بنظم كواكب الجوزاء ... عقداً فريدته الضحى لذكائي ليس الجمان إذا أحاط بجيدها ... إلا هباءً حول حبل ضياء شمس عنت كل الشموس لوجهها ... وغدت به كضرائر الحسناء وأولوا الصبابة حولها سيارة ... متحيرات من سنا وسناء وأسيرها أسد الهيام فلم يخف ... في الخافقين ملامة العواء إلى أن قال: ورصدتها ليل النوى في مرصد ... ما فيه غير مراقب الرقباء فكأنني والعين ترقب خدها ... فانديك يرقب نير العذراء فلك النهى قطب العلوم بعينها ... ومحيط دائرة الهدى للرائي دع ذكر هرمس وابن حيان وخذ ... عنه بيان صناعة الحكماء وانسخ به ألفلك القديم وخل ما ... أبداه بطليموس في الإخفاء وانظر مبادئه الصحيحة تلقها ... في غيرها كالدر في الحصباء واعدل عن الشيخ الرئيس فشيخنا ... شيخ الرئيس وعمدة الرؤساء

لو كان بقراط الحكيم مريده ... في الطب أحيا ميت الأحباء أو شام جالينوس برق سحابه ... ما مات ميتة سائم للشاء هذا الذي ما جس نبض أخي ضنا ... إلا تبدل سقمه بشفاء يشفي العليل بحكمة كشفت له ... سر الدواء ومضمرات الداء هذا الذي جعلت رياضياته ... أمد الدراري من خطى الغيداء فلو استبان الدرو من أشكاله ... أقليدس استولى ذرى العلياء وقوله من أبيات ارتجلها في تأبين الياس صالح البيروتي المتوفى سنة 1895 في شرخ شبابه: يا معشر الصحب هذه درة نثرت ... من عقدكم فاجتبت ترب البلا صدفا ذا غصن علم نمت أزهاره وزهت ... قبل اكتهال وزاد الحمل فانقصفت وقال من قصيدة يرثي بها صديقه الشيخ إبراهيم اليازجي أثابهما الله: دفنوا حجاب النفس في جوف الثرى ... والنفس حلت بالمحل الأرفع قالوا الممات من الحياة وما دروا ... أن الحياة من الممات المفجع فالحب ينبت بع ما يلي أما ... للحي بعد ذهابه من مرجع إن الخلود حقيقة أزلية ... نفي النفاة لها هباءة زعزع لم ينفها العلم الحديث وأثبتت ... في مجمع العلم القديم المجمع ومن معرباته البليغة قوله ناقلاً معنى لشكسبير الشاعر المشهور: شاب رأسي ولم أزل في مراسي ... واقتداري كأنني في الشباب سر هذا كرهي الخلاعة دهري ... واعتزالي لمسكرات الشراب وقوله معرباً نظم إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني: الله أعلن ذاته في وحيه ... ترساً لدرء الشر عنا والعنا ولدفع إبليس الرجيم فويل من ... يبغون عن سنن المهيمن دفعنا (الله معنا) تاجنا فجميعنا ... نسمو به وهو المؤيد جمعنا وعرب قول جون لو يصف ضوء البدر في المشرق على الغصون: وبدر الأفق فوق الطود يهدي ... إلى الجنات ضوء المقلتين

أشعته على الأغصان تبدو ... كأسلاك غزلن من اللجين وقال من كريستوفرس كولمبوس مكتشف أميركا وقد طبع في كتابه الذي جمع له بلغات العالم كلها بخطوط أصحابها: أكرستوفر ألفرد نصف الناس لا ... تنكر علي ولا تكن بالناسي من كان نصف الأرض من مكشوفه ... أفلا أثمنه بنصف الناس ومن تواريخه الشعرية قوله موجهاً بالفلك بتاريخ زفاف ومن غرائب الاتفاق أن الشمس كانت في ذلك الوقت ببرج الأسد: تقول الدراري بتاريخه ... لقد حلت الشمس برج الأسد إلى غير ذلك مما جمع بين سلالة البحتري ومعاني المعري وأمثالهما

مشاهد برلين

مشاهد برلين مرافق الحياة يتوسط الشوارع الكبيرة في برلين رياض تسايرها طولاً وتفتح فيها سبلاً للراجلين خاصة فيكون الشارع مفصلاً إلى رصيفين وجادتين بينهما ممر يكتنفه عمارتان من نبات تطرزه الرياحين بألوان مختلفة ولا يشاهد الإنسان في ديارها ولو في الروض بناءً بالياً أو جداراً متداعياً والذي ساعد على تنسيق مبانيها ومتانتها أن عناصر الطين بمقربة من تلك المدينة وأن الحجارة والخشب يجلبان إليها على نهر شبري بسهولة وقيم زهيدة. وكثير من المباني قائمة من الحجارة الرملية ويستعملون البرفير زينة في داخل البيوت وهو ضرب من حجارة الكرانيت المرادف له في العربية كلمة صوان وتفرش بعض المحلات مثل دهاليز المدارس ببلاط استك وهو قطع دقيقة من الرخام تخلط بعجين الكلس. في كل منزل حمام يتخذ من الزنك يسخن ماؤه في قصبة تنصب إزائه مثل الأسطوانة ويتصل بحافته مجرى للماء الحار وآخر للماء البارد ومن فوقه الناضحة المثقبة ولكل واحد من المجاري الثلاثة مفتاح يتميز بكتابة على جانبه. ومن تلك الحمامات ما يتدفق إليها الماء الحار من معمل تشترك فيه منازل كثيرة فيتيسر للإنسان أن يتطهر منها في أية دقيقة حضرت، ويقل لهذا ترددهم على الحمامات العامة ولا يقصدونها في الغالب إلا لداعية زائدة على النظافة إذ يوجد فيها من يقوم بعمل الدلك على قاعدة صحية. ومن المنازل ما يتوسل لدفئه أيام البرد بإيقاد ألفحم في القصبات القائمة بزاوية من زوايا المنزل على الطريقة المعروفة. ومنها ما يدفأ بوسيلة ماء حار يمر في بعض نواحيه على أسلوب منتظم. وملخص ترتيبه أن ينصب في الطبقة السفلى مرجل توقد تحته النار يتناحب ويتصل بالمرجل قصبة يصعد فيها الماء إلى إناء فتح عند سقف الطبقة العليا ثم ينسكب نازلاً إلى مواضع التسخين في سائر الطبقات وحجراتها حتى يعود إلى المرجل مرة أخرى ويتركب موقع التسخين في الغالب من خمس عشرة إلى عشرين أسطوانة خشبية متلاصقة وحيث يجري الماء في مجال مستدير وسطح غير ضيق يحصل الدفء الكافي.

وذكرت عند هذا الصنيع أن جبرائيل بن بخنيشوع المتوفى سنة 356 كان يضع من وراء الحجارة التي يجلس فيها مواقد تبعث من وهجها ما يكسر سورة البرد. دخل عليه أحد ألفضلاء على ما قصه موفق الدين في طبقات الأطباء فأحس بدفءٍ وقد أصبح البرد شديداً فكشف له بخنيشوع عن جوانب المقعد فإذا موضع له شبابيك خشب بعد شبابيك من حديد وكواتين فيها فحم الغضا وغلمان ينفخون ذلك ألفحم بالزقاق مثلما يصنع الحدادون. ويفتحون في النوادي الكبيرة مراوح ذات آلات تجلب إليها الهواء النقي أو النسيم البارد بإدارة كهربائية. فمن محال القهوة ما يسع أكثر من ألف نسمة فتجد الجالسين صفوفاً مرصوصة ولا يحس الداخل بكدر في الهواء مع ما يقع من التدخين. وهذاأيضاً ذكرني أن بخنيشوع الذي دبر طريقة تسخين الحجرات إذا دبت عقارب البرد قد فكر في وجه استخلاص النسيم البارد إذا رمت الظهيرة بجمراتها فكان يعد من خلف القبة التي يتبؤها مواضع يصف فيها قطع من الثلج ويأخذ الغلمان مراوح يستثيرون بها من ذلك الثلج نسيماً بارداً فيهب إلى القبة في طريق متجددة. وكانوا يستوقدون الشمع وبعض أصحاب البيوت يصنعونه من شحم البقر بأيديهم إلى قريب سنة 184. فظهر بينهم زيت الغاز المعدني اكتشفوه في أربع ولايات من ألمانيا ولكن منابعها ليست بغزيرة وقد تهللت اليوم بالضرورة مسارج الكهرباء والغاز البخاري في كل محلة. أما القصور القيصرية فكانت تنار بالشمع المستخلص من عسل النحل ثم انبجست فيها أنوار الكهرباء سنة 1888. ولا تخلو أبواب البيوت ودواخل الحجرات من أجراس يستند تنظيمها بين الضغط على أزرارها ورنة مطرقتها إلى مجرى كهربائي تستمده من معمل تشترك فيه محلات متعددة. ويصنعون في كل حجرة من ألفنادق الشهيرة ثلاثة أجراس يدعو النزيل بإحداها من تكلف بتنظيم الحجرة وبثانيها من يعين لمناولة ما يحتاج أليه من مثل طعام أو شراب ومن ثالثها من يختص بحمل الأمتعة. ترتبط المنازل بأسلاك حاكي الصدى التلفون وقد ريحوا بوسيلته قسطاً عظيماً من أوقاتهم فيكون الإنسان في غنى عن أن يبدد قطعة من الوقت الذي هو سلك عمره في مسافة الذهاب إلى مكان آخر والإياب عنه بإبلاغ كلمة والإنصات إلى مثلها. وقد أصبح من

المعتاد عندهم أن الإنسان لا يضرب بخطوة إلى زيارة أحد حتى يعلم بهذه الوسيلة أنه حاضر في منزله ويفهم من خطابه أنه لم يكن في حال يقتضي تأخير اللقاء إلى دفعة أخرى. وتسلم إدارته لكل من عقد محله فرعاً منه مجلد يحتوي على أسماء المشتركين فيه مرتبة على أحرف الهجاء مع بيان الأعداد التي جعلت علماً على فروعهم. فمن أراد ليخابر آخر خاطب الموظف في مركز دائرته أولاً وأعلمه بالعدد الذي جعل على ألفرع الواقع في منزل صاحبه فيهيء له طريقة المخابرة معه. واختاروا أن يكون الموظفون فغي هذه الدوائر نساء وقالوا في علة ذلك أن التجربة كشفت على أن كلام المرأة في هذه الآلة أوضح من كلام الرجل وأمكن في السمع. ولا داعي إلى رفع الصوت عند المخابرة فيه فإن المتكلم يلقي بكلامه في مكر تلفون آلة تقوية الصوت الضعيف بل ربما أدى الجهر بالقول فوق العادة إلى فوات بعض الأحرف أو عدم تمكنها من سماع المخاطب. يضعون في المطبخ موازين تسمى ميزان المطبخ يزنون بها ما يشترون من لوازم الطبخ ونحوه لكي يتيقنوا نصح البائع أو خيانته. وعلم الباعة بمثل هذا مما يجعلهم على استقامة وحذر من التطفيف بالوزن. ويتخذون الريش حشواً لألحفة ألفراش التي تكون من كتان غالباً فيجمعون في صنعهم هذا بين دفئها وخفة وقعها ويستعملون للطبخ بإرشاد من نظارة الصحة العمومية القيصرية قدوراً من الألمنيوم معدن أبيض كالفضة لأن من خواص هذا المعدن أنه لا يفسده حامض ماء البارود ولا يتضرر من حامض الكبريت إلا إذا مسه مراراً متعددة ثم أن ما يجتمع من مائه لا يسري إلى جسم الإنسان بضرر ذي بال والقدور والأواني التي تصاحب العسكر إنما تؤخذ من هذا المعدن لخفة حمله وقلة أذيته. وفي ألفنادق الشهيرة ما عدا الساعات المنبهة المتداولة آلة تلصق في الجدران المحاذية للسرر تنالها يد المضطجع فيستعملها للإفاقة من النوم في وقت معين فتصدح في الوقت نفسه بصوت رخيم يستمر مدةً طويلةً ولا ينقطع إلا إذا أسكتتها يده بتحويل وضعها. الديانة ينتحل معظم الشعوب الألمانية مذهب البروتستانت. وأول من أطلق لذلك الشعوب في

العقائد ولم يأخذ عليها في تقاليدها فريدريك الكبير فخفقت ولايته فتناً كانت التعصبات الاعتقادية تنفخ في جمراتها. وصرح بعض أساتيذهم بمزية القرآن في الدعوة إلى التوحيد الخالص وفهمت عنه أن لدلائله وأساليبها إذ أصبحت ترجمته تسعى بين أيديهم أثراً في تأييد الاعتقاد بوحدة الإله. ومما أخذوه في شعار الديانة ان رسموا في منطقة كل عسكري جملة تعريبها الله معنا. ويغلب على فلاسفتهم التمسك بما يدينون ولا يمرقون إلى الإلحاد مثل كثير من فلاسفة أوروبا الغربية. فأشهر فلاسفة الألمان كنت المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر وقد تعرض في تأليفه المسمى انتقاد العقل الخاص للاستدلال على وجود الخالق وهذا التأليف أعظم كتاب يعتمد عليه فلاسفتهم. الجد والعمل يعمل الألمان في حيلتهم على شاكلة سياسيهم الكبير بسمارك القائل إن استراح صدأ فإذا رأيتهم لا سيما في غرة النهار وهم ينتشرون في الأرض بخطاً سريعة ونشاطٍ يتمثل لك الجد في أوسع مظهره وينكشف لك ألفرق ما بين العامل والقاعد في أجلى صوره. وفي بعض إحصائيات ليست ببعيدة أن 52 في المئة من السكان يرتزقون من الصنائع وأن المعامل المنشأة في شمال المدينة وشرقها تحتوي على أكثر من ثلاثمائة ألف عامل. لا يلاقي المتجول في أنحاء المدينة على سعة مناطقها طائفة تتسول أو يسمع لها نغماً وتخطر لي ذكرى أني لم ألق من السائلين في أشهر الإقامة هناك أكثر من عدد أنامل الكف الواحدة وهم إما رجل قطع جناحه أو عجوز بلغت من الكبر عتياً. ولا عجب إذا لم نشاهد كثيراً من العجزة يتكففون فإن في الباب التاسع عشر من قوانينهم المدنية أن تقوم الحكومة بعيش من قعد به العجز عن الاكتساب بنفسه. المعاهد العلمية تأسست في برلين كلية يعمرها 25. أستاذا و6. . . تلميذ ومن شعبها مدرسة الألسن الشرقية المنشأة في سنة نيف 188. ويتعلم في هذه الشعبة نحو (5. .) تلميذ. والمدارس من غير هذه الكلية لم أحط بها حساباً وإنما عرفت منها مدرسة للصنائع بها نحو (3. . .) تلميذ ومدرسة للزراعة بها (1. . .) تلميذ ومدرسة لطب الحيوانات بها 5. . تلميذ ومدرسة

للمهندسين بها 4. . . تلميذ. وأنشئوا منذ خمس سنوات داراً في دالم على جانب من برلين وجلبوا إليها كل ما يفتقر إليه علماء الطبيعة من أدوات التجربة والوسائل المساعدة على البراعة ألفائقة في هذا العلم والمقدرة الواسعة في استنباط نتائجه وقد أصبحت هذه المحلة دار إقامة لكثير من علماء الطبيعة. وشرع فريدريك الأول الذي نصب ملكاً على بروسيا في أوائل المائة الثامنة عشرة بإنشاء دار كتب يقدر ما في خزائنها من المجلدات بمليون ونصف. ومن بينها قسم للكتب التركية وآخر للكتب العربية. طفت بعض خزائن هذا القسم فكنت أتناول كتاباً بعد الآخر فأجدهما مختلفين في فنيهما اختلافاً بعيداً ثم طالعت ألفهرس فلقيته مرتباً على حروف المعجم بحيث تسرد فيه الكتب التي تشترك بأوائل أسمائها في حرف من حروف الهجاء على نسق واحد وإن تفرقت في موضوعات فنونها فقرأت في حرف الهمزة مثلاً أحكام القرآن لابن العربي. إسعاف المبطي. الإعلام بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. إنفاذ الأوامر الإلهية بنصرة العساكر العثمانية وإنقاذ الجزيرة العربية. وخصوا قسماً منها بالخرائط الجغرافية العتيقة والحديثة وبها معرض نضدوا فيه آثار الخطوط العتيقة وما سبق لحروفها من الأشكال الغريبة. وفتحوا في طبقتها الأولى للمطالعة محلاً سمكوا بناءه في شكل مثمن فسيح وصففوا فيه مكاتب وكراسي في دائرة كبيرة ومن فوق كل مكتبة مسرجة من الكهرباء. وأعدوا قبالة هذا المحل بهواً في شكل مربع مستطيل لمطالعة الجرائد والمجلات خاصة ويماثله في طبقة عالية محل لمطالعة الكتب العربية والتركية أو النسخ منها. ولا يمكن أحد من الكتاب إلا إذا كانت بيده ورقة الإذن في المطالعة فإذا أحرز ورقة الإذن ممن له النظر في إعطائها وأراد المطالعة أو النسخ لم يسلم إليه الحافظ الكتاب غلا بعد أن يثبت في ورقة رسمية اسم الكتاب وعدده ويبين هل خط بالقلم أو بالمطبعة ثم ينهيها باسمه وصناعته ومحل سكناه. يسمح قانونها بإعارة الكتب المطبوعة دون ما خط بالقلم لأنها قد تصاب بضياع فيصعب إيجاد مثله وجعله بمكانة ولا سيما ما يكون له أثر تاريخي كالكتب المخطوطة بأقلام مؤلفيها أو غيرهم من مشاهير أهل العلم. نظامات علمية

تنقسم المدارس إلى ابتدائية وإعدادية وجامعة كلية فيستمر التلميذ من السنة السادسة إلى الرابعة عشرة في القسم الابتدائي ثم يتمادى في الإعدادي ست سنين فينفصل عنها إلى الجامعة ويبقى بها ثلاث سنين فإن كان من طلبة علم الطب فسحوا له في الأمد إلى منتهى خمس سنين. والتعليم الابتدائي منتشر في جميع الطبقات على طريقة جبرية فيتحتم على الولد الاستمرار في دورته إلى أقصى غاية. وعلى وليه أن لا يمنعه بعد هذه الدورة من الاختلاف إلى المدارس الإعدادية مقدار ثلاثة أعوام ولم تشرع الحكومة قسماً ليلياً للتلاميذ الذين هم من نفس المدينة واختاروا أن يبقى للتلميذ اختلاف إلى أوليائه وانسه بهم ليراقبوا حالته ويرشحوه بشيءٍ من آدابهم. يتعلم البنات في مدارسهن كل فن إلا علم الإلهيات إذ لا يليق بالمرأة عندهم أن تكون واعظة. ومن أمثالهم المضروبة المرأة في الكنيسة تسكت تولى المرأة وظيفة التعليم على شرط أن تكون أيما فإن أصبحت ذات زواج انفصلت عن خطتها. جرى القانون أولاً على منع المعلم من مجازاة التلميذ بعقوبة الضرب ثم ألغاه ناظر المعارف وقال عندي ثقة بأن لمعلمي مدارسنا حناناً على التلاميذ وعواطف تأبى لهم أن يبلغوا بالضرب إلى ما فيه إساءة. لا يسوغ للتلميذ أن يتعاطى المسكرات ولو دخل في دور التعليم بالجامعة وقد قال لي أحد أساتذتهم عند الحديث في هذا القانون إن تلاميذنا مثل المسلمين. كان التلاميذ يترنمون بقصائد في اللسان اللاتيني فأبطلها القيصر وقال لا فائدة لهم في ذلك فأصبحت أناشيدهم الوطنية ألمانية محضة. يدرب التلميذ في المدارس الإعدادية على صناعة الخطابة ويطالبونه بأن يحرر في كل شهر رسالة يبحث فيها عن بعض الموضوعات العلمية. أجر التعليم السنوي في المدارس الإعدادية (15.) ماركاً وفي الجامعة (5. .) مارك ويوازن المارك من نقودنا على وجه التقريب القطعة ألفضية ذات الخمسة قروش. يتعين مدير الجامعة في كل سنة بانتخاب من أساتذتها ثم تقرر ولايته بتسمية من صاحب الدولة. ترسل الدولة في كل سنة وفداً من طلاب العلوم إلى أميركا ليستطلعوا مدارسها ويستكشفوا عما عساه أن يتجدد من أساليب العلم ونتائجه. يتلقى أبناء العائلة القيصرية تعاليمهم في

مدرسة خاصة لا يغشاها إلا من نشا في مهد الملك أو كان من أسرة راقية ويقال أن والد القيصر الحالي كان يود لهم لو أنهم يتعلمون بالمدارس العامة حتى يلاقوا سائر الطبقات ويكونوا على خبرة محققة من أحوالها. مشروعات خيرية من مساعيهم النافعة أن ألفوا جمعية تبحث عن البائسين من طرق خفية وتوجه إليهم في البريد صدقات من غير أن يشعروا بمصدرها. وقص علي بعض أساتذتهم أن إحدى البائسات كانت ترتزق بصنعة الخياطة فوافاها ذات يوم صاحب البريد ب - 5. . مارك وناولها إياها فدهشت فرحاً واندفعت تسأل عن باعثها بإلحاح. فأبى أن يكشف لها عن الحقيقة. وترى هذه الجمعية أن التبرع بقسط عظيم على مستحق واحد أنفع من توزيعه على طائفة ينال كل واحد منها حصة يسيرة. ومن الجمعيات عندهم جمعية (تخفيف المصائب) ومن أعمالها الحسنة أن تساعد من تنوبه مصيبة في جسده مساعدة ابتدائية ففتحت في أقسام العاصمة محالاً عينت لها أطباء ليسارعوا إلى علاج كل من يطرأ عليه حادث أو يفاجأ بمرض في أثناء الطريق مجاناً. ترجمتهم للقرآن ترجم القرآن المستشرق ريكرت المتوفى أواسط المائة الماضية ولكن انصرم حبل أجله من قبل أن يتم ترجمته ثم ترجمه المستشرق هنينك وهو عيش في مدينة فرانكفورت ترجمة تامة إلا أن الأول يراعي في الترجمة بلاغة اللسان الالماني فلا يبالي بالتقديم والتأخير والتعبير عن الحقيقة بالمجاز مثلاً. والثاني يحافظ على ترتيب الآية وحقيقتها في الغالب. وقد تتبعته في كثير من السور بالمقدار الذي وقفت عليه من هذه اللغة مع الاستعانة بالكتب اللغوية الألمانية العربية فوجدته ينظر إلى المعنى الأصلي ويتحرى في أدائه جهد استطاعته. ووضع غير هذين الرجلين ترجمة ثالثة لم أتتبعها ولكن قال بعض العارفين باللغتين أنه بعيدة عن المطابقة وليست في القرب من الصحة مثل ترجمة هنينك. ونبأني الأستاذ هردر أن إحدى الجمعيات راسلته بأن تراجم القرآن التامة قد يضيق الوقت عن مطالعتها واقترحوا عليه أن يترجم لهم الآيات من سور متفرقة فاقتبس لهم مما ترجمه المستشرق ركرت آيات كثيرة في التوحيد والأحكام فطبعوها مجموعة وظهرت بينهم في

مثال التراجم الأخرى. عنايتهم بالعربية توسلوا إلى العربية بتعليم لسانها ثم خدموا مؤلفاتها بالطبع واقتبسوا من حكمتها بالترجمة. ألف الأستاذ (هردر) كتاباً في قواعد العربية فكان الكتاب المتداول عندهم في التدريس وقد توالى عليه الطلب هذه المدة بإعادة طبعه. وألف كتاباً يفسر فيه المفردات الألمانية بما يرادفها من العربية وأنجز طبعه في مجلد ضخم ثم وضع كتاباً آخر اقتصر فيه على الكلمات المألوفة في الاستعمال. ترجم المستشرق الأستاذ (منفوخ) كتاب علاج العيون لعمار الموصلي وفصل علاج العيون من كتاب علي بن عيسى في صناعة الطب وفصل علاج العيون لابن سينا وكتاب وقائع العرب لأبي عبيدة بن المثني الكبير والصغير ونقل إلى الألمانية أيضاً ترجمة حمزة الأصفهاني وترجمة ابن سعد مؤلف كتاب الطبقات. وترجم المستشرق (ريثر) قصائد أبي الأسود الدؤلي ومقامات الهمذاني وأطباق الذهب لعبد المؤمن الأصفهاني ومقامات الزمخشري والأدب الصغير لابن المقفع وكتاب أحسن ما سمعت للثعالبي طبعها ثم ترجم كتباً لم تبرز في عالم الطباعة مثل الأدب الكبير لابن المقفع ومقدار الربع من معجم البلدان للبلاذري. وربما طبع الكتاب والرسالة بلسانها العربي وعلق عليها بعض بيانات بلسانه الألماني مثل شرح ابن الأنباري لمعلقة زهير وشرحه لمعلقة عنترة ورسالة المذكر والمؤنث لابن جني ورسالة في بقايا الأشياء لأبي هلال العسكري وكان هذا الأديب يحاورني في كثير من معاني الأبيات أو الحكم المنشورة وربما تعاطى الترجمة في أثناء قيامه بالوظيفة العسكرية وبمثل هذه التراجم القديمة والحديثة كان للسان العربي كما قال أحد أساتذتهم آثر في رقي آداب اللغة الألمانية. ويشهد بصحة ما قاله ذلك الأستاذ أن أشهر شعرائهم (كيتي) المتوفى سنة 1832 نظم قصيدة إبراهيم عليه السلام في أسلوب فلسفي وصرح أنه اقتبسها من القرآن الكريم. والمعروف عندهم من هذا الشاعر المستشرق أنه كان يحترم الإسلام ويعترف بحكمته. عنايتهم باللسان العثماني ليست عنايتهم بالعربية لهذا العهد بأوسع من وجهتهم المصروفة في اللسان العثماني فقد

نبأني أحد المعلمين في مدرسة الألسنة الشرقية أن المتلقين للسان العثماني هذه الآونة يناهز عددهم 2. . بعد أن كانوا في السنين الماضية لا يتجاوزون نصف العشر من هذا المقدار ولبعض العثمانيين دروس خاصة يتلقاها عنهم في إدارة الأخبار الشرقية ملأ من الألمان. وصرف رئيس المستشرقين الأستاذ هرتمان همته إلى هذه اللغة ولفت نظره إلى تتبع آدابها بطلب حثيث من عصابة المستشرقين فنهض يحرر المقالة تارة ويلقي المحاضرة تارة أخرى. وانعقدت منذ أشهر لجنة توالي جلساتها في دار الكتب العامة وتنظر في القسم المؤلف بلهجة عثمانية. أخلاق وآداب يعرف الألماني بمتانة العزم وقلة الانقياد لخواطر اليأس وكنت طالعت مقالات لبعض أعدائهم الذين لا يثبتون لهم الذكاء ألفائق وسرعة الوصول إلى الدقائق فرأيتهم يسلمون لهم طبيعة احتمال الشدائد والثبات على الأعمال إلى أن يحرزوا فيها نتيجة حتى جعلوا مقدرتهم العلمية أو ما يظهر على أيديهم من المخترعات إنما هو ناشئ عن التجلد والمثابرة على السعي والتجربة. ورسوخهم في خلق الصبر هو الأساس الذي قام عليه تبريزهم في القوة العسكرية ولطالما طفت غابات وعرضات حول الثكنات فرأيت الجندي نائماً بملابسه الجديدة ووسامه الشرف على فراش من تراب ولا وسادة له غير ذراعه أو قطعة من جلمود. وما برح ملوكهم يحافظون على ما يقوي هذه الخصلة في نفوسهم حتى بالغ فريدريك ويليام الأول في الحط من قدر المعارف زاعماً أنها مدعاة للفشل وإضعاف مزية الشجاعة وكان من أثر زعمه أنه لم يعين لتنمية دار الكتب التي أنشأها أبوه سوى ستة ماركات في السنة. ولما استقلها أهل العلم حينئذ قال لهم: أليس في خزائنها كثير من الكتب المكررة فيمكن أن تباع ويستبدل بها كتب مستحدثة. استحكمت بينهم روابط الوفاق والمسالمة حتى أني أقمت ستة أشهر في برلين وثلاثة أشهر في قرية في ضواحيها ولم ألحظ مشاجرة أو أسمع صخباً ولو بين صبيين أو امرأتين. فعدم ملاحظة الغريب لمثل هذا في مدة واسعة يشعر بقلة المنازعات العدوانية فيما بينهم. ومن نتائج هذه التربية التي يعاضدها اتساع طرق الاكتساب أن الأمة أصبحت في قرار مكين

من الأمن فلا يوجس السائر في سواد الليل بضواحي المدينة خيفة سوء فما الحال بين جدرانها. ولقد كنت أخرج من محل الأسرى عند منتصف الليل منفردا وأعود إلى القرية ماراً على غابة ليس قيها أنيس غير أشجارها المتعانقة وظلامها المتراكم ولا ألاقي في الطريق وحشة أو قلقاً. وازداد إعجاباً بهذه الراحة الشاملة إذا تذكرت صعاليك إيطاليا وأمثالهم كيف ينتشرون داخل مدينة تونس أو الجزائر ويقطعون السبيل على سكانها بنهب الأموال وسفك الدماء حتى لا يمر الرجل في الطرقات المنحرفة عن الجادة بعد العتمة إلا وهو يتوقع خطراً. يمنحون الغريب في بلادهم صدراً رحباً فيقف الرجل إذا استوضحته أمراً أو استخبرته عن مكان ولا يتسلل عنك إلا أن تستوفي منه بياناً كافياً وربما تفرس منك الحيرة في الطريق فيفاتحك بالسؤال عن الوجهة التي تريدها ويهديك إليها بالقول المفصل أو بالمرافقة إذا لم تكن المسافة بعيدة. اشتبه علي الطريق إلى محطة القطار في بعض الأيام فاستكشفت عنها أحد المارين في السبيل فأخذ يصفها بالإشارة والإمارة ولما لم يقنع بأن عبارته وقعت مني موقع ألفهم البين قفل راجعاً يسايرني بمقدار عشرين دقيقة حتى بلغت المحطة نفسها. يلاقي التجار والعملة عندهم الوارد بجباه منطلقة وألسنة رطبة ويعرضون عليه ما عندهم من صنوف الأشياء التي يطلبها من غير تقاعس ولا سآمة. ولهذا الأسلوب الأدبي الاقتصادي أثر عظيم في رواج البضائع والسباق في مضمار التجارة. فإن من الناس من يقصر معاملته على محل أو يبتاع منه البضاعة. ولو شطت قيمتها رعاية لما يتجمل به صاحبها من سعة الصدر ورقة الخطاب. يغلب عليهم خلق الرصانة والتؤدة ولا سيما في المشاهد العامة والنوادي الجامعة. امتطيت ذات يوم قطار المدينة فاتفق أن كان أمامي رجل أظهر في مغازلته لامرأة طيشاً وسفهاً فوقع في خاطري أنه أجنبي عن هذه الحاضرة ثم أنه جاذبني عند انصرافي محادثة عرفني بها أنه من أحد شعوب البلقانية. ومن آثار التعليم العام أن أصبحت الأمة بمحل الثقة في نظر الحكومة فالقطار الكهربائي ذو درجتين متفاضلتين وتقطع أوراق الركوب بها من طاقات في أوائل محطاتها ولا أذكر يوماً أن مفتشاً دخل عربات الدرجة العليا ونظر في أوراقها بل فوضوا ذلك إلى وجدان الشعب

وأمانته. أما القطار البخاري الذي يسافر من العاصمة إلى قرى تبعد بمسيرة ساعتين أو أكثر فيتردد عليه مفتش الأوراق في الشهر مرة.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات معلقة عنترة (وعليها شرح ابن الأنباري) نشرها الدكتور أوسكار ريشر الألماني لعلماء المشرقيات في الغرب ولا سيما في جرمانيا غرام شديد بإحياء آثار العرب وآدابهم وتاريخهم ومن جملة الناشئين في هذا ألفن ناشر هذا الشرح على معلقة عنترة نشره أولاً في مجلة الدروس الشرقية التي تصدر بالإيطالية في رومية ثم أخرجه للناس على حدة فجاء في 97 صفحة بطبع مشرق وعلق عليه حواشي تدل على اختلاف النسخ التي نقل عنها وهي نسخة مدرسة بكى جامع ونسخة مدرسة نور عثمانية في دار السلطنة العثمانية وقد رجع أيضاً إلى نسخة مكتبة أسعد أفندي في الآستانة أيضاً مما دل على تحقيق وتدقيق. المعجم في بقايا الأسماء (لأبي هلال العسكري) هي رسالة نشرها الدكتور ريشر المشار إليه وقد قال المؤلف في مقدمتها وقد عرفت حاجتك أطال الله بقاءك إلى ذلك بإدمانك صنعة الكلام ونظمه ونثره فعملت لك كتباً متوسطة تشحذ ذهن البليد فضلاً عن اللقن الذكي بحسنها وبراعتها وقرب مأخذها مع بعد غورها وكتباً دون ذلك لطافاً حسنة مختارة رغبت الزاهد ونشطت ألفاتر مثل كتابي هذا وهو وإن صغر حجمه فقد كبر نفعه لغريب ما تضمنه من أسماء بقايا الأشياء وبديع طريقته في الدلالة على سعة لغة العرب وفضلها على جميع اللغات وقد نظمت ما ضمنته إياه منها على نسق حروف المعجم. شرح معلقة زهير لأبي بكر محمد بن قاسم الأنباري وهذا الشرح على معلقة زهير بن أبي سلمى هو مما أحياه بالطبع أيضاً الدكتور ريشر نقلاً عن مخطوط في إحدى خزائن كتب دار الخلافة كتب في سنة أربع وعشرين وخمسمائة بخط إسماعيل بن محمد بن الحسين الخطاط الجرباذقاني.

كتاب المذكر والمؤنث لابن جني هي رسالة صغيرة في هذا الموضوع الجميل نشرها الدكتور ريشر المنوه به آنفا واقتبسناها برمتها في غير مكان من هذا الجزء. وقد نشرها أولاً في مجلة العالم الشرقي التي تصدر في مدينة أوبسال من بلاد السويد بست لغات وهي اللغات الاسكندنافية: السويدية والدانمركية والنرويجية ولغات العلم وهي الألمانية والفرنسية والإنكليزية. وللمشتغلين بمثل هذه الأبحاث طريقة عملية في النشر وهو أنهم إذا لم يجدوا كتباً أو ناشراً يتولى عنهم طبع هذه الرسائل ينشرونها في مجلات المشرقيات ثم يخرجون منها نسخاً قليلة على حدة فتحفظ في المجلات وينتفع منها في النشر مستقلة وهو مقصد حسن يثاب عليه المشتغلون بإحياء آثار سلفنا. النصرانية وآدابها (بين عرب الجاهلية) للأب لويس شيخو اليسوعي القسم الأول ص149 طبع في مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1912 لصديقنا الأب شيخو همة لا تكل في نشر المقالات والرسائل والكتب التي تنهض بطائفته خاصة وتخدم الآداب العربية عامة وآخر ما نشره في مجلة المشرق هذا المبحث في النصرانية في بلاد العرب والقسم الأول منه في تاريخ النصرانية وقبائلها في عهد الجاهلية يدور على محور أن جميع سكان البلاد قبل الإسلام كان أهلها نصارى من قبيل الدعوى التي بسطها حضرته في كتابه شعراء النصرانية (المقتبس م2 ص61 و132) وقام الخلاف بينه وبين بعض علماء التاريخ والبحث في هذا الشأن هو يثبت وهم ينفون ولا يعدم كل فريق جملاً يستقر بها أو يستنبطها لتأييد دعواه وهذا المبحث وإن كنا لا نوافق على بعض ما أورده في مطاويه مثل كلامه على نصرانية غسان فإننا نعجب بما وفق إليه من استكثار المادة من العربية والفرنسية والألمانية. ولو كتبت هذه المباحث من العلم المحض كما يبحث بعض علماء المشرقيات لعدت أحسن مرجع جامع يستقي منه طلاب

الحقائق. ديوان السيد محمد سعيد حبوبي عني بتصحيحه وتذييله الشيخ عبد العزيز الجواهري ونشره ولد صاحب الديوان السيد علي وطبع بنفقة الحاج عبد المحسن شلاش في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 331ص32. صاحب هذا الديوان من شعراء النجف في العراق اشتهر بما نشر له في بعض المجلات الأدبية من القصائد وشعره على أسلوب شعراء القرن التاسع والعاشر فيه جزالة ولكن قل فيه وصف الطبيعة والاجتماعيات وهو يدور على الموشحات والمراسلات والنسيب والمديح والتخميسات والمراثي وقد قال مصحح ديوانه فيه ما نصه: لا أجازف في الحكم لو قلت أنه أشعر شعراء الشرق في فطرته الأدبية فإن جل شعراء العرب من جاهليين ومخضرمين ومحدثين ومولدين إن أبدعوا في أساليب الشعر وأفانينه إن من جهة اللفظ وإن من جهة المعنى إلا أنك لا ترى بينهم الجامع للجهتين الآخذ بزمام الشعر الحقيقي فالنابغة وجرير والكميت وزهير وأبو نواس والأبيوردي وحبيب والمتنبي والمعري والصنوبري والصفدي وغيرهم من فحول الشعراء وإن تحركت روح الشعر في أناشيدهم وأهازيجهم إلا أنهم بين مبتذل في اللفظ ومتعمل في المعنى كامرؤ القيس والحطيئة وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء وبين قلع بن برج اللفظ وزخرف المعنى كابن زريق وابن الأنباري والصفدي والقيراطي فهؤلاء وإن كانوا أئمة الشعراء ما أن تقلبت أدوار الشعر التاريخية إلا أنهم أشاحوا بوجه الشعر الحقيقي في أغلب أناشيدهم وخرجوا به عن دائرة ألفطرة الطبيعية ويمتاز شعر من نترجم اليوم برجوعه إلى الشعر الحقيقي إن من جهة اللفظ وإن من جهة المعنى أما الألفاظ فإنها السلسة الجامعة بين الطراوة والجزالة وأما المعاني فكلها وصف وتصوير لمناظر الطبيعة ونعت لمشاهد الكون وتجسيم للخواطر تحوز إلى فخامة التركيب جمال الأسلوب وبداعة الديباجة واستفزاز الشعور فها أنت تسمع من أوزانه العروضية تسبيح الراهب وتهليل العاشق ولحن المدمن وحشرجة روح الحب والجمال وكأن شعره المرآة تعكس فوقها الأرواح الشاعرة لا بل هو المجهر يريك صور الشعراء تتحرك بين

أعاريضه وفواعيله فتارة يريك مسلماً يعزف عند قيفته وأخرى يطلك على أبي النواس يطرب حول باطيته وطوراً يجيئك بحبيب ثاكلاً بفقيده وطوراً يأتيك بالوليد هازجاً جنب ممدوحه ويشرفك على كشاجم في جوقه والصنوبري في حقله ولو خلعت القريحة على شعره حلة الأسلوب العصري لبز شوقي وحافظ والزناتي وصبري وكان السابق المجلي في حلبتهم وهم كانوا مصلين على أن العارف يرى فوق شعره مسحة من الذوق العصري إذ كله وصف وتصوير ونعت لمشاهدة الكائنات ويرى في أبياته من الحكم الرائعة والأمثال السائرة ما يكذب نبوة المتنبي كقوله من موشح: وإذا نبت البطاح اختلفا ... غلب الشوك على الورد الجني قوله: سل عن المسجد مني صيرفاً ... إنني أدرى بما في معدني قوله: سماء اليوم مثل سماء أمس ... وما نقصت سمواً أو ارتفاعاً فها أنت ترى في هذه الأبيات من الفلسفة الأدبية ما يحط دونها فكر أبي العلاء وقد سلك في شعره طريقة ابن ألفارض. وبعد أن أورد الناشر أبياتاً من هذا القبيل ليس فيها إلا كلام هو دون كلام الشعراء المبرزين بمراحل وبالغ هذه المبالغة الشرقية التي هي أشبه بالهزل منها بالجد قال: وقد كانت تعنو لسماع شعره شيوخ أدباء العراق وتتهافت عليه ولا تهافت ألفراش على وذيلة السراج حتى إذا جفت حديقة الأدب والتوت عيدانها بين أناس تطلس من آثارهم عنوان الأدب والنبوغ دعاه ذلك إلى الإضراب عنه والانعكاف على ألفقه والأصول وبذلك صدر الديوان بوصف صاحبه بأنه أشعر شعراء الشرق وأكبر علمائه اليوم وما كنا نظن المبالغة تبلغ هذه الدرجة بعد أن اشتهرت بالطبع دواوين المتأخرين والمتقدمين وربما كانت هذه الدعوى تجوز في بلد معين وأهل إقليم خاص ولكن هذا التعميم لا يصح على إطلاقه فلا نقول مثلاً أن شوقي أو حافظاً أو البارودي أشعر الشعراء ولا أن عبده والشميل والجزائري أعلم العلماء بل نذكر لكل واحد ميزته التي يمتاز بها على أقرانه وبها يثبت نبوغه بين معاصريه ومن سبقوه وإلا فإن الرجل الواحد لا يستجمع هذه الصفات كلها فيكون أشعر شعراء الشرق اليوم وأكبر علمائه اليوم. بيد أن لصاحب الديوان قصائد رقيقة تحسب من الجيد العصري كقوله:

ما لقلبي تهزه الأشواق ... خبرينا أهكذا العشاق كل يوم لنا فؤاد مذاب ... ودموع على الطلول تراق عجب كيف تدعي الورق وجدي ... ولدمعي يجيدها أطواق كم لنا بالحمي معاهد أنس ... والصبا يانع الجنا رقراق عهد لهوي به الليالي ترامت ... ما لها عرست به الأحداق بالظعن به الرياق تهادي ... نهنهي السير ساعة يا نياق فبأحداجك استقلت ظباءٌ ... آنسات بيض الخدود رفاق فارحمي يا أسيم لوعة صب ... شفه الوجه بعدكم والفراق كاد يقضي من الصبابة لولا ... أن تحاماه في الوداع العناق وقوله: ضممتها فنثنت وهي قائلة ... بالغنج رفقاً لقد فصمت أطواقي رقت محاسنها حتى لو اتخذت ... عرشاً بناظرتي لم تدر آماقي وبت أسقى وباتت وهي ساقيتي ... نحسو الكؤوس ونسقي الأرض بالباقي في مربع نسجت أيدي الربيع له ... مظارف الزهر من رند وأطباق تشدو العنادل في أرجائه طرباً ... والغصن يسحب فيه ذيل أوراق كأنما النرجس الغض الجني به ... نواظر خلقت من غير أحداق والنهر مطرد والزهر منعكس ... والناي ما بين تقييد وإطلاق صج الأعشى نشرت دار الكتب الخديوية بمصر كتاب صج الأعشى في كتابة الإنشا تأليف الشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي المصري المتوفى سنة 821هـ -. وقد طبعت أولاً الجزئين الأولين منه ثم طبعت جزأين آخرين الثالث والرابع بطبع مشرق بديع وورق صقيل قل جداً في الكتب العربية ما طبع على مثاله الرائق. وهذا الكتاب (ص171 ج8 من المقتبس) هو دائرة معارف مكبرة لطالب الإنشاء فيه جميع ما يحتاج إليه مما هو مبعثر في كتب مبعثرة يذكر فيه ما يشق طلبه من كتب متفرقة وتصانيف متعددة أو يكون في المصنف الواحد منه النبذة غير الكافية ولا يجتمع منه

المطلوب إلا من كشف الكثير من المصنفات المتفرقة في ألفنون المختلفة أو هو كما وصفه مبسوط يشتمل على أصول كتابة الإنشاء وقواعدها ويتكفل بحل رموزها وذكر شواهدها مستوعباً من المصطلح ما اشتمل عليه التعريف والتثقيف موضحاً لما أبهماه بتبيين الأمثلة مع قرب المأخذ وحسن التأليف متبرعاً بأمور زائدة على المصطلح الشريف لا يسع الكاتب جهلها متنقلاً من توجيه المقاصد وتبين الشواهد بما يعرف به فرع كل قضية واصلها آتياً من معالم الكتابة بكل معنى غريب ناقلاً الناظر في هذا المصنف من رتبة أن يسأل فلا يجاب إلى رتبة أن يسأل فيجيب منبهاً على ما يحتاج إليه الكاتب من ألفنون التي يخرج بمعرفتها عن عهدة الكتابة ودركها ذاكراً من أحوال الممالك المكاتبة عن هذه المملكة ما يعرف به قدر كل مملكة وملكها مبيناً جهة قاعدتها معرفاً الطريق الموصل إليها براً وبحراً وانقطاعاً واتصالاً ذاكراً مع كل قاعدة مشاهير بلدانها إكمالاً للتعريف ضابطاً لأسمائها بالحروف كي لا يدخلها التبديل والتحريف. هذا إجمال لما يحوي الكتاب أما التفصيل فلا يقف عليه الناظر إلا بتصفحه من أوله إلى آخره لأنه حوى كل ما يلزم المتعلم لا المنشئ فقط فيخرج منه مثلاً مختصر في البيان ومختصر في اللغة وآخر في الشعر وآخر في الحيوان وآخر في النبات وغيره في علم ألفلك وسابع في الجغرافيا وثامن في التاريخ وتاسع في مصطلحات الدول في رسمياتهم وإداراتهم إلى آخر ما فيه مما يوسع دائرة التصور ويسقط فيه الكاتب على كل ما يلزمه من المواد ليكتب عن علم وفهم. وفي هذين الجزئين الأخيرين الثالث والرابع مطول من علم الخط بالأشكال والرسوم اللازمة بحيث لم يترك بعده مجالاً لقائل وقد استغرق هذا المبحث 226 صفحة أي نحو زهاء ثلث المجلد الثالث ولكنه شفى الصدر وكان مأخذاً في هذا الباب على حين قلت المواد التي يعتمد عليها في هذا المبحث وقد أجادت المطبعة بأن طبعت على الحجر مع طبع الحروف جميع الصور بالخطوط التي أوردها المؤلف فكانت كأن الإنسان يرى النسخة الأصلية. وفي هذا الجزء كلام جليل على المسالك والممالك ذكر فيه الأرض والأقاليم والبحار والأبعاد والخلافة ومقراتها وترتيبها في كل عصر ومصطلحات الدول الإسلامية وأفاض

في مملكة الديار المصرية وخططها ونيلها وخلجانها وأمهات مدنها وزروعها ومواشيها وحدودها وأقاليمها وتاريخها القديم وكورها القديمة وملوكها جاهلية وإسلاماً إلى عصره وترتيب أحوالها وجسورها وأموالها ومكوسها ومصطلحات دواوينها وموظفيها وجندها وأعيانها والجزء الأول 532 صفحة وفي الجزء الرابع تتمة هذه المباحث في المصطلحات المصرية وفيه كلام مستوفى على المملكة الشامية وما يتصل بها من بلاد الأرمن والروم وبلاد الجزيرة بين ألفرات ودجلة مما هو مضاف إلى هذه المملكة وقد توسع في الكلام على الشام لأنه كان تابعاً لحكومة مصر إذ ذاك وتكلم فيه عن ذوق وتتبع شأنه في كل الأبحاث التي طرقها في كتابه بحيث يصور الأشياء كأنك تراها عياناً وفي الجزء الرابع مقالات في المملكة الحجازية وأعمالها وملوكها ومصطلحاتها وتكلم على الممالك الصائرة إلى بيت جنكيز خان وهي إيران والجزيرة الفراتية والعراق وخوزستان والأهواز وفارس وكرمان وسجستان والرخج وأرمينيا وأذربيجان وإيران والجبل وخراسان وزابلستان وتوران وغيرهما وفي كل ذلك اعتمد النقل عن الثقات بذوق وحسن اختبار كأن المؤلف ساح هذه البلاد وعرف مصطلحاتها بنفسه وهو يعزو لمن يأخذ عنهم من المصنفين والسائحين والكتب كانت في عهده مبذولة محفوظة أكثر من الآن وعندنا المطابع ووسائط النشر الموفورة وقد وقع الجزء الرابع في 487 ص أحسن ناشرو الكتاب بالتعليق والتحشية عليه مما دل أكثر الأحيان على تحقيق وتتبع لإثبات الرواية الصحيحة ووضع الروايات المختلفة أما الأغلاط المطبعية فهي أقل من كل كتاب نشر في مصر اللهم إلا المخصص لابن سيدة وقد أحسنت دار الكتب الخديوية بأن أرخصت ثمنه بالنسبة لأكلافه بحيث يتيسر لكل طالب علم أن يقتنيه ويزين به خزانته فيستغني به عن كثير من الكتب التي لا توجد الآن وإذا وجدت فأثمانها فاحشة لا يتيسر لكل إنسان اقتناؤها فنحث كل عارف باللغة العربية على اقتنائه ونشكر للناشرين والطابعين والمصححين عنايتهم بإحياء آثار السلف على هذا النموذج الرائق. جريدة الشرق صدرت هذه الجريدة منذ نحو ثلاثة أشهر في مدينة دمشق وهي أعظم جريدة عربية بحجم واسع ومادة غزيرة مصورة الأحايين وقد أرصد لها رأس مال كبير وعهد بإنشائها إلى جلة

من العلماء المفكرين فجاءت بعد اتخاذ أسباب النجاح كلها نافعة للأمة العربية عامة وللمسلمين خاصة تستطيع خدمة الخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية على ما يجب ويسجل صدور مثل هذه الصحيفة الراقية في باب ارتقاء الأفكار والآداب العربية في هذه الديار حقق الله رجائها إلى نيل الغاية التي ترمي إليها من خدمة الأفكار الصحيحة والسياسة الرجيحة وبث العلوم والدعوة إلى الإصلاح الحقيقي من طريق العقل والنقل.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الطلاب والطالبات في السلطة نشرت نظارة المعارف في مجموعة الإحصاء أن عدد الطلاب الذكور في المدارس الابتدائية العامة في الممالك العثمانية 3. . 776 طالباً وعدد الإناث 41293 وعدد الذكور في المدارس الخصوصية 126284 وعدد الطالبات 61571 وعلى هذا فيكون مجموع الطلبة في السلطنة العثمانية 429924 بينهم 1. 2864 من البنات ويوجد في المدارس الابتدائية غير المسلمة 152744 طالباً ومقدار الطلاب في باقي المدارس كما يلي: (1518) في دور المعلمين و (1. 1.) في المدارس التالية و (6688) في المدارس العالية وبدوام في بيله جك وإزمير وأدرنة وجتالجة على المدارس (5.) في الألف أو أكثر والبلاد التي يختلف فيها الطلاب إلى المدارس أقل ما يمكن هي الموصل وأورفه وديار بكر وتوقاد فهنا يداوم من 1 - 1. بالألف. أما البلاد التي تداوم فيها البنات على المدارس أكثر من غيرها فهي قرق كليسا وجتالجه فإنه يداوم من الطالبات على المدارس من 31 - 5. على عكس أورفة وكركوك وتوقاد وقسطموني فإنه يداوم على المدارس طالبة واحدة في الألف أما البلاد التي لا تكاد تجد فيها طالبات تختلف إلى المدارس فهي ألوية السليمانية وحكاري وحوران مما يذكر بقول الشاعر التركي توفيق فكرت بك القائل قلبك بحسرة الأمة التي لا تعلم بناتها لأنها تحكم على أبنائها باليتم المعنوي. الزراعة في سورية نشر داويد تريتش من الألمانيين الأخصائيين في الزراعة مقالة في إحدى المجلات الألمانية إليك ترجمة ما قال فيها: من المعلوم أن الزراعة في الممالك العثمانية هي الأساس الوحيد الذي يبنى عليه الاقتصاد الوطني وقد جرى البحث كثيراً في احتمال ترقي العثمانية في ميدان الصنائع ومن رأي بعض الأخصائيين في العلوم الاقتصادية أنه يمكن ارتقاء الصنائع في البلاد العثمانية قبل الزراعة في وقت أقصر من المخمن لها إذا صلحت أصول الزراعة في الممالك العثمانية ومما لا ريب فيه أن التراب يمنح الآهلين ثروة ورفاهية لأن غلات الممالك العثمانية إلى الآن لا تقبل القياس مع المقدار الذي يمكن أن تعطيه.

ومما هو طبيعي أن الأراضي التي تظل السنين الطوال خالية لا تعود إليها قوتها الإنباتية في بضع سنوات إلا أنه من المحقق أن قوتها الإنباتية هذه تعود إليها. نحن الغربيون إذا بحثنا في البوادي في الممالك العثمانية تمر على خاطرنا في الحال الأراضي المملوءة بالأكوام من الرمال مع أن هذي الصحاري ليست من الأراضي التي لا تزرع بل إنها أراض خالية منذ سنين طوال وعليه فإن البوادي التي هي من هذا القبيل في البلاد العثمانية يمكن أعمارها والاستفادة منها حتى أن كثيراً من البوادي هي من الأراضي الأكثر إنباتاً وهي بقليل من العمل تكتسب قوة إنباتية تضمن لصاحبها الثروة. صادف القرن الثامن عشر دور تناقص النفوس في آسيا الغربية وفي ذاك الحين أضحت الأراضي بحالة البادية بسبب عدم زرعها ومما لا شك فيه أن الأراضي الرملية المتروكة التي شاهدناها في سورية منبتة وتعطي محصولاً أكثر من الأراضي الأكثر إنباتاً وفي السبعين سنة الأخيرة بدأت تتزايد النفوس بدرجة محسوسة وهذا الازدياد في النفوس حدث في بعض الممالك العثمانية بصورة لم يشعر بها ظاهراً وبرقي ذلك اتسعت بعض المدن وتأسست قرى جديدة وفي كل نقطة من البلاد العثمانية كثرت فيها النفوس زادت القوة الإنباتية مثال ذلك أن قصبة غزة كان عدد نفوسها سنة 184.: (2. . .) فصار 16. . . في سنة 188. واليوم يبلغ عدد نفوسها 45. . . وبفضل كثرة النفوس عمرت وزعت الأراضي التي تحيط بغزة وأصبحت بلاداً زراعية تغل كثيراً من المحصولات التي تصدر إلى الخارج فتحسن فيها القطن في الآونة الأخيرة تحسناً ظاهراً ولا يمكن للمسافر في تلك الجهة أن يقطع مزارع الليمون بأقل من شهر واحد. هذا عدا عن حقول الحنطة والشعير التي تمتد مسافات شاسعة في جنوبي وشرقي غزة وقد فحص أحد المتخصصين الحنطة التي تنبت في غزة وحكم أنها محصولات صحراء. وعدا الحبوب أصناف اللوز والزيتون والأثمار اللذيذة ولعدم اعتناء سكان البلاد بالزرع على الأصول الحديثة فالإيراد قليل بالنسبة لجودة التربة المهملة. وحيث أن الماء قليل الغور في أكثر تلك الجهات فري الأراضي على الطراز الحديث سهل جداً وكيفية ري الأراضي بسيط أيضاً لا يحتاج لاستعمال الآلات الزراعية الميكانيكية ونظراً لقلة غور المياه كما ذكرنا يكتفى بتخطيط المجاري تخطيطاً بسيطاً ووضع

المضخات بالمراكز الضرورية لتوزيع المياه وتشعيبها في جميع الخطوط وهي وسائل بسيطة لا تكلف المزارعين الأثمان الباهظة إذ أن الأراضي التي يشتغل فيها المزارع بيده لا تنتج المحصولات التي يؤمل الاستفادة منها. ولا أقصد بهذا الشرح بيان إحالة عن أراضي غزة وما حواليها فقط فإن الوصف الذي قدمته شامل لسواحل سوريا وشبه جزيرة سيناء أيضاً وما كانت بيروت ويافا إلا مدناً صغيرة منذ زمن غير بعيد كانت نفوس يافا 6. . . في سنة 1854 فأضحت اليوم 6. . . . وكانت نفوس بيروت في سنة 1782 (6. . .) فصارت (25. . .) في سنة 1865 وارتقت إلى (1. . . . .) في سنة 1885 وهي اليوم (2. . . . .) وعلى هذا قس باقي المدن. ومع ذلك فإن المدن التي يراد إعمارها ورقيها لا يتم لها ذلك ما لم تزرع الأراضي التي تحيط بها وجميع مدن سوريا محاطة بأراضٍ منبتة للغاية وإن بعض الجهات من هذه الأراضي وإن تكن مستورة بالرمل فإنها لم تفقد قوتها الإنباتية والقسم الساحلي من هذه البلاد منبت للغاية وما عدا ذلك فإن إقليم البحر المتوسط اللطيف يساعد على إنتاج المحاصيل والبلاد الساحلية من الممالك العثمانية تخرج زيتوناً جيداً قل نظيره ويمكن قياس هذا الزيتون فقط بالزيتون الموجود في أفريقيا الشمالية وكاليفورنيا وأفريقية الجنوبية والجنوبية الشرقية وأستراليا وتنتج السواحل العثمانية الزبيب والتين واللوز والمشمش والخوخ والدراق والرمان والبطيخ الأخضر والأصفر والثوم والبصل والقطن والتبغ وغير ذلك من الزروع وتكثر فيها البساتين ويمكن أن تكون هذه ذات مكانة أهم من مكانتها الحاضرة وعليه فإن هذه الأراضي المنبتة ذات الهواء اللطيف إذا أعطيت لها رؤوس أموال صغيرة وجلب لها القليل من الأدوات فمما لا شك فيه أن أهاليها يعيشون الرفاهة والسعادة وبالطبع فإن العثمانية التي هي مملكة زراعية يغتني أهلها برقي الزراعة وتمتلئ صناديق الحكومة. وإن ألمانيا بعد الحرب تتدارك حاجتها الزراعية من الممالك العثمانية وعليه فإن هذه البلاد تعد القسم الأعظم من لوازم النسج لألمانيا بأصول الألمانيين ألفني وآلاتهم ورؤوس أموالهم وإن المواد التي تجلبها ألمانيا من البلاد العثمانية هي القطن والصوف والزيت والزبيب

والعنب وجميع أنواع ألفواكه والتبغ والنباتات الليفية ومواد السروج وإذا استفيد حق الاستفادة من هذه البلاد فإن رأس المال الذي يطرح يضمن منفعة تعادل عشرة أمثاله. دائرة المعارف أول دائرة معارف مشهورة في أوروبا كتبها في القرن العاشر للمسيح ألفيلسوف ألفارابي في بغداد ولا تزال محفوظة في مكتبة قصر الأسكوربال الإسباني. وقيل أن أبا ألفرج كتب دائرة وطبع أول مجلد منها منذ 672 سنة. أما أول من فكر بتأليف دائرة معارف فالصينيون. وقد اشتغل منهم بهذا المشروع العلمي العظيم ألفان من العلماء. واسم دائرة معارفهم (بنك لوتانيان) وهي مقسومة إلى 23 ألف جزء في 11 ألف مجلد مجموعها 917 ألفاً و48. صفحة. وإذا وضعنا الكتب صفاً بعضها فوق بعض يبلغ علوها 159 يارداً وبالطبع لا يوجد في الصين نفسها إلا نسخات قليلة كاملة من هذا الكتاب الهائل. أما أول دائرة معارف إنكليزية فطبعت عام 162. والفرنسية ألفها ديدرو ودالمبر اللذان قربت كتاباتهما عهد الثورة الكبرى في فرنسا. أما الدائرة العربية فقام بها مرة واحدة بطرس البستاني وطبع منها هو وأسرته 11 جزءً فقط ولم تكمل. جراحات الحرب كان الجراحون في حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا منذ 45 سنة يعمدون لمن أصابته شظية من قنبلة أو رصاصة فيبترون العضو المؤوف أو المصاب ولكن وسائط الجراحة على ترقيها في هذه الأيام قد أورثتها الحرب البلقانية تجارب نافعة في البقاء على أعضاء من أصيبوا بشظايا أو رصاصات فأصبح من يصاب في هذه الحرب يضرب في جسمه بمأمن من بتر العضو المصاب بل إن وسائط الجراحة قد خففت الويلات وأكثر من يصابون إلى سلامة. شجرة المطاط على تخوم بوليفيا في أميركا الجنوبية شجرة مطاط استدارتها من أساسها 8 أمتار و35 سنتيمتراً وتغل من المطاط مدة 12. يوماً من السنة 1. كيلو غرامات تساوي الآن 27. ألف فرنك بمعنى أن الشجرة تساوي ثلاثمائة ألف فرنك وهي لأسرة وطنية تعيش من ريعها مؤلفة من سبعة أشخاص.

مادة جديدة اكتشف أحد الأساتذة ألفرنسيين مادة ألفلور وهو زجاج يشبه الأحجار الثمينة وأثبت أنه موجود في جميع المعادن النادرة فقال أن في كل 1. . غرام من الأسنان 18. ميل غراماً وفي كمية من مثل ذلك من العظم 56 ميل غراماً و17 ميل غراماً من البشرة وميل غرامان من الدم و155. في اللبن الحليب وقال أنه في الجنين من هذه المادة أكثر مما في البالغ وفي البيض أكثر من الدجاجة أو الجلد أو الشعر أو الأظافر وهذه المادة هي التي تورث الأجسام صلابة كالملاط لأحجار البناء. الأجانب في سويسرا أحب بلاد المدنية الحديثة بلاد سويسرا الصغيرة الجميلة يزورها كل سنة ملايين من السياح ولا تزال الهجرة إليها متصلة حتى بلغ عدد الغرباء المقيمين بها سنة 191. - 552. . 11 نفساً في حين كانوا سنة 185. - 71. 57. نفساً أي أته كان فيها على ذاك العهد غريب واحد لقاء 32 سويسرياً واليوم واحد في كل عشرة من سكانها ومن مديرياتها مل فيه غريب واحد لقاء أربعة من السكان وزهاء ثلث هؤلاء السكان من الألمان فإن عددهم 219. 53. وعدد الطليان 2. 28. 9 والفرنسيين 63695 وعدد الروس 8457 ومعظمهم طلبة ففي كلية لوزان وحدها 458 روسياً و3. . سويسري وعلى كثرة مداهمة الأجانب لهذه البلاد خاف أهلها على سلامتهم ووطنهم وعاداتهم وتقاليدهم فأخذ أرباب الأفكار يفكرون في عدة طرق للنظر في مداواة هذا النقص المحتمل وقوعه كما هم يفكرون أن صناعة ألفنادق التي طالما جلبت الغريب إليها قد قللت في البلاد من الأيدي العاملة فصار ألفلاحات يعملن في ألفنادق بدل أن يعملن في الحقول واحتاجت هذه في استثماراتها وانباتها إلى أيدي الغرباء. نوادي الشبيبة ألقى المير ألاي فون هوف بك الذي عهدت إليه الحكومة تأسيس نوادي الشبيبة في البلاد العثمانية محاضرة في الآستانة قال فيها ما يلي: إن نوادي الشبيبة تشمل جميع العثمانيين الذين هم من سن الثانية عشرة إلى الحادية والعشرين والغاية من تأسيس هذه النوادي هي تربية جميع ألفتيان العثمانيين وعلى

الأخص في المحال التي لا يوجد فيها مدارس بدناً وروحاً وأخلاقاً وترقية مداركهم وهذه النوادي تربي بلا استثناء ألفتيان من سن الثانية عشرة إلى سن الحادية والعشرين بلا مقابل وهي نوع من المدارس للذين حرموا منها تعلمهم ما هي حياتهم وكيف يمكنهم اكتسابها ويحمل كل فتى على الدخول إلى هذه المدرسة والتحصيل فيها ولا يستثنى فرد واحد من ذلك والغاية من تأسيس أندية ألفتيان عالية وهي تنمية القوة البدنية في الأولاد والفتيان بصورة متناسبة مع سنهم وتلقينهم ما يلزم لدوام صحتهم والمحافظة عليها وتمرينهم على احتمال المشاق وتعليمهم إدارة أنفسهم وحركاتهم وأن يكونوا أصحاب فكرة انتظام وأن لا يبقوا في هذا السبيل في طور النظر بل يدخلون في طور العمل وأن يربى فيهم الميل والمحبة للاستقامة والشرف حتى في أصغر الأعمال التي لا شأن لها وأن يقدروا الاجتهاد متحدين لأجل المنافع العامة والمحافظة على الوطن وأن يبدوا المعونة لوطنهم وبلادهم أوان التهلكة وأن يدربوا على جرأة تزيل منهم التردد والخوف في هذا الصدد وأن يتعودوا الاجتهاد بعزم لا يتزعزع وأن يميزوا الحسن من القبيح والتميز بالنظام والانتظام إلى غير ذلك من المقاصد الشريفة. الجراد انتشر الجراد في ربيع السنة الماضية في سوريا جاءها من جزيرة العرب فأضر أضراراً كثيرة بالأشجار والزروع الصيفية حتى أن بعض الأشجار لم تبرح إلى هذه السنة متأثرة من سطواته فلم تأت بثمرها. الأمراض سرى الهواء الأصفر أو الكوليرا إلى مدينتي حلب ودمشق وما إليهما في ربيع هذه السنة جاءها من العراق وهذه أتاها من الهند وإذا كان من المقرر أن عدواه تنتقل في الماء تيسر توقيف سريانه حتى لم يكد يصاب به أحد في دمشق لجودة الماء واتخاذ أسباب الصحة. وقد تفشت في المدن ضروب من الحميات أهمها الحمى النمشية وإذ لم يهتد العلم بعد إلى أسباب سريانها فتكت بعض الشيء في سورية ولا سيما في البلاد التي تزدحم فيها أقدام الناس ثم انتقل إلى القرى والبلدان الصغيرة.

الكلية الصلاحية

الكلية الصلاحية إن أمتنا الإسلامية العظيمة بعد أن سارت في ميدان الحضارة شوطا قصيا. وتبوأت من قصائد المجد مكانا عليا. سقطت عن تلك المنزلة. وفقدت ما كان لهامن العز والسطوة وليس العار في هذا السقوط ما دمنا نراه يكاد يكون ناموسا عاما في سائر الأمم ذات المجد القديم كالرومان واليونان. وإنما العار كل العار في إن تبقى الأمة الإسلامية وحدها ساقطة في حفرتها متمادية في غفلتها فلا تنهض وتنشط وترمم ما تداعى من بنيانها كما اخذ يفعل غيرها من الأمم القديمة. وقد قال بعض الحكماء: ليس الشرف في أن لا تقع بل الشرف انك إذا وقعت لا تلبث أن تنهض فلا يراك احد إلا واقفا ولما حصل الاحتكاك بين العالم الإسلامي والعالم المتمدن الغربي في وساط القرن الماضي أي بعد حرب القريم انتبه نفر من علماء الإسلام ورجاله العظام إلى حالة المسلمين وما هم عليه من الانحطاط والخمول. وجعلوا يقلبون وجوه الرأي في تشخيص مرضهم وماذا عساه يكون علاجه الناجع. وحكموا جميعا أن المسلمين إذا لم يعملوا حتى التخلص من هذا المرض بجد واهتمام قضى عليهم. واستاصل شأفتهم. وجعلهم طعمة لغيرهم. وكانوا يذكرون أسبابا جمة لهذا المرض. ولكنهم لم يكونوا يختلفون في إن معظما لسبب فيه يرجع إلى (عدم فهم الإسلام فهما صحيحا) أو (عدم العمل بقواعد الدين المبين) حتى أصبح هذا الدين كالعضو الأشل وأصبحت رجاله كأنهم لا وظيفة لهم في هذا الوجود. مع إن الإسلام وتعاليمه الطاهرة هي السبب في السعادتين الدنيوية والأخروية ورجال الدين يجب أن يكونوا هداة الأمة إلى مجامع مجدها. والممسكين بيدها في كل موطن من مواطن حياتها وكل شان من شؤون اجتماعها. من القران والحديث وأقوال السلف الصالح يستخرج منها الأحكام التي تقتضيها حالة العصر الحاضر غير رجال الدين؟ من لوضع التأليف في العلوم الإسلامية ونشر الرسائل في الموضوعات الأدبية والأخلاقية والحياة الإسلامية غير رجال الدين؟ من لمنابر الخطابة أيام الجمع يعظ ويرشد ويحذر ويبشر غير رجال الدين؟ من لمنصات الحكم في المحاكم الشرعية والحقوقية يقيم العدل ويصون المصالح غير رجال الدين؟ من للدفاع عن الحقوق العامة والخاصة على صفحات الجرائد وفي ساحات المحاكم غير رجال الدين؟ من للخطابة في النوادي والساحات العمومية ينشر الآداب والأخلاق والفضائل بين العامة غير رجال الدين؟ من لتعليم النشء الإسلامي وتربيته تربية دينية فاضلة واجتماعية صحيحة غير

رجال الدين؟ وبالجملة من لوراثة الأنبياء في هداية الشعوب غير رجال الدين؟ أن في إصلاح رجال الدين إصلاحا للدين والدنيا. اصلاحا للمساجد. اصلاحا للمحاكم. اصلاحا للمدارس. اصلاحا للعائلة. اصلاحا للجيش إن تقصير الدين في فهم علوم الدين فهما منطبقا على حالة الحياة التي استجدت لهم في هذا العصر أدى إلى تشويه وجه العدل في المحاكم. وخنق روح العبادة في المساجد. وتوهين رابطة الألفة في العائلة. وتلو بث النفس بالجبن في ميادين الحروب ولا يمكن آن يفهم زجال الدين تعاليم الإسلام فهما صحيحا منطبقا على مصالحهم الحاضرة وملائمة لحالة عمرانهم الجديد ما لم يقرنوا بفهمها والاشتغال بها لفهم والاشتغال بعلوم التمدن الحديث. ولا ترانا بحاجة إلى الاستدلال على هذه القضية فقد حفيت أقلام علماء السلام وكلت السنة كبار رجاله في بيانها وإيضاحها منذ خمسين سنة إلى اليوم فمصطفى رشيد باشا العثماني. وخير الدين باشا التونسي. والشيخ جمال الدين الافغاني. والسيد احمد خان الهندي. والشيخ محمد عبده المصري. والشيخ عبد الرحمن الكوكبي السوري. واسماعيل بك غصبر نسكي التاتاري. والبرنس ميلكم خان الإيراني - كل هؤلاء اشتعلوا في هذه المسالة وبرهنوا على هذه القضية بما لا يحتمل الرد. ولا مساغ معه للجدال والنقض وإن تأسيس الخلدونية بتونس. وانشاء كلية عليكرة في الهند. وادخال العلوم الحديثة على الزهر وتأسيس دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي في مصر. كل ذلك يرمي إلى الغرض الذي ذكرناه من جعل علماء الدين الإسلامي قادرين على القيام بوظائفهم في خدمة تعاليم الإسلام فهما صحيحا. وتدبر طبيعة العمران الحديث تدبرا رجيحا ولم تال دولتنا العثمانية (أيدها الله) جهدا في تحقيق هذه لأمنية وتنفيذ هذه الرغيبة فسعى خيري بك شيخ الإسلام في تأسيس (مدارس دار الخلافة) في عاصمة السلطنة. وانشا (كلية المدنية) في مدينة سيدنا الرسول العظم صلى الله عليه وسلم ولم يكن حضرة القائد الكبير احمد جمال باشا لتشغله مهام العسكرية عن خدمة هذه ألفكرة الشريفة فانه آمر بتأسيس كلية صلاح الدين الأيوبي في القدس الشريف لتكون حلقة منضمة إلى أخواتها من حلقات المعاهد الدينية التي لسست في العالم الإسلامي لتخريج علماء فضلاء مقتدرين على خدمة الإسلام. والاستفادة من تعاليمه الطاهرة في جميع المصالح والأحكام وبعد فليست هذه الكلية سوى اثر من آثار عناية حكومتنا بالعلوم الإسلامية وحرصها على ترقبة المسلمين ولم

شعثهم عن طريق الدين. والرجوع إلى العمل بحكامه على ما القائد الكبير احمد جمال باشا أن يقف علماء الإسلام على أحوال هذا العصر واطرار عمر انه كما وقفوا على أسرار ألفقه الإسلامي وتفاصيل أحكامه - وهو يحب أيضاً السلطان صلاح الدين الأيوبي ويعجب بشجاعته وفرط غيرته على الإسلام والمسلمين فلما وقف على أمر المدرسة الصلاحية وقيل له أن السلطان صلاح الدين كان أسسها في القدس باسم أتباع الإمام الشافعي رضي الله عنهكما هو مسطور ومقروء على عتبة بابها اليوم وبلغه أنها قد تغيرت معالمها. وتحولت أوضاعها إلى غير ما أراده واقفها رحمة الله - وجد ألفرصة إذ ذاك سانحة لإظهار آثار حبه للأمرين معا: حبه العلماء الإسلام فيعيد إليهم هذه المدرسة باسم الكلية الصلاحية يتعلمون فيها ويتخرجون بواسطتها في مختلف العلوم والفنون - وحبه للسلطان صلاح الدين فيعبد مدرسته. ويحي ذكره. وما أجمل الأبطال يحيون ذكر الأبطال مر على الكلية الصلاحية سنة ونصف 333 نحو مئة طالب. واذ كان مشروعها في بدء أمره تكرر التغير والتبديل في بروغرامها وطرق التعليم فيها. امافي هذه السنة 334التي انتهت فكان عدد طلابها (15.) وكان بروغرامها اثبت. وطرق التدريس فيها اقصد واضمن وللكلية هيئة الإدارة وهيئة معلمين وكلهم يبلغون نحو بضعة عشر فاضلا. وبقية مأموريها وخدمتها يبلغون الثلاثين وهي مرتبطة مباشرة بمقام المشيخة الإسلامية الجليلة وبنظارة الأوقاف وطلابها اليوم ما بين الإثنتي عشرة والخامس والعشرين من أعمارهم ومعظمهم هؤلاء الكبار تركوها في المدة الأخيرة وتجندوا في الخدمة المقصورة والكلية تقبل من الطلاب كل سنة مئة طالب موزعين في قبول الكلية لهم - على ولايات السلطنة العثمانية والبلاد السلامية الأخرى بنسبة مقررة في تعليمات الكلية. وكلهم مجبرون على التزيي بلباس العلماء المعروف: عمامة بيضاء وجبة سوداء منطبقة على الكعبين: ويتلقون في الكلية العلوم الشرعية والحقوقية وألفنون المختلفة والالسنة المتنوعة. وينامون في الكلية ويأكلون فيها ويلبسون على حسابها. ولا يكلفون سيئا سوى الاجتهاد في دروسهم. والعمل بدينهم والإخلاص لدولتهم ووطنهم. والإطاعة لقانون كليتهم. ومدة التحصيل فيها عشر سنوات: سبعة منها للتعليم التالي (سلطاني) وثلاثة للتعليم العالي. وليس فيها تعليم ابتدائية طلابها يكلفون - وراء تحصيل العلوم والفنون - دراسة القران الكريم واستظهار طائفة من

سوره. وتلاوته بالترتيل ورفع الصوت في اجتماعات خاصة بهذا الشأن. ويمرنون على التربية البدنية. والالعاب الرياضية. ويدربون على آداب السلوك والمعاشرة ومراعات النظام. في غرف الطعام وقاعات الحفل العام ولهم قاعة خطابة يتمرنون فيها على إلقاء الخطب والمحاضرات وقصائد الشعر - سواء كان ذلك من مقولهم أو من مقول غيرهم. كما يلقي الأساتذة شيئا من ذلك على مرأى ومسمع منهم فيزيدهم ذلك خبرة وحذقا. ويخرجون في الأحايين إلى ضواحي القدس وقراها ومشهور أماكنها مشيا على الأقدام ثلاث ساعات أو أكثر. ويحملون في ذلك الهواء الطلق على الوثب والقفز والجري وتلوية الشوي (أطراف الجسم) وتليين العضل وتقوية مجموع الجسم. وقد نصبت لهم في باحة الكلية أدوات ألعاب (جمنا ستيك) خاصة بذلك. لقد شهدتهم مرة في ضاحية القدس يتسابقون تحت نظر مديرهم ألفاضل وأساتذتهم في قطع واد من إحدى عدوتيه إلى العدوة الأخرى فكانوا يعدون عدو النعام من منحدر العدوة حتى يصلون إلى أسفل الوادي ثم يشتدون إلى العدوة القصوى ولا يزالون مصعدين في سند الجبل حتى يصلوا إلى نقطة معينة منه وقد تكررت هذه المسابقة بينهم في وقت واحد فكانت جامعة بين ألفكاهة والفائدة والتعب الشديد. وهكذا الأمم التي تريد أن تحيا في راحة يجب عليها أن تقضي شطرا من حياتها في تعب ويدرب ذو القابلية من طلاب الكلية على ممارسة الألحان وإلقاء الأناشيد بتغن وتطريب فيحدث ذلك في نفوس الطلاب راحة ونشاطا يعوض ما تكون خسرته أجسامهم بفرط الدرس والبحث وعناء القيام بالوظائف المدرسية المختلفة. ويكلف طلاب الكلية جميعهم كبارهم وصغارهم القيام سحرا لصلاة الصنج. ولم يكن يخول بينهم وبين هذه ألفريضة اليوم المطير. ولا يرد الزمهرير. وكأني انظر إلى صغارهم يتوضأون في السحرة القرة والدم يسيل من أشاجعهم وبراجمهم وسلامياتهم وهم يتضاحكون ويتحملون ذلك بتجلد وصبر ومباهات. وكنا نشجعهم على تحمل الأمر وننبههم إلى فائدته من الوجهتين الروحية والجسمية. وأنا لندعو لهذا المعهد بالتقدم والارتقاء. فان في ارتقائه ارتقاء للأمة إلى ذروة العز القعساء. منشى هذه الرسالة هو الشيخ عبد القادر المغربي كان من أساتذة كلية صلاح الدين فهو حجة فيما يصف ويقول ويؤخذ من تعليمات هذه الكلية الإسلامية إن هذا المعهد ربط مباشر بمقام المشيخة الإسلامية وبنظارة الأوقاف والغرض

من الكلية تدريس العلوم الشرعية والحقوقية وألفنون المختلفة والألسنة المتنوعة وتخريج رجال أخصائيين في هذه العلوم يقتدرون عن الدفاع عن التعالم الدينية ويصلحون لمباشرة الوظائف العلمية والشرعية. ومدة التحصيل في الكلية عشر سنوات سبع منها (قسم تالي) وثلاث (قسم عالي) ولسان التعليم فيها اللغة العربية وتقبل كل سنة مئة طالب في الصنف الأول موزعة على الصورة الآتية: عشرة من لواء القدس وخمسون من سائر الولايات والأولوية العثمانية والأربعون من أقطار العالم الإسلامي. والخمسون طالبا الذين يؤخذون من العثمانيين يكونون بالمناوبة أما الطلاب الأربعون الذين يؤخذون من أطراف العالم الإسلامي فأمرهم بحسب ما يلي: أربعة من مصر واثنان من السودان والحبش واثنان من طرابلس الغرب وبنغازي ومن كل من تونس والجزائر وفارس وجنوبي افريقية واحد واحد وثلاثة من جاوة وفلبين وثلاثة من الصين وكاشغر وخمسة من الهند واثنان من أفغان وواحد من بلوجتان واثنان من إيران وستة من تركتان (أي بخارى وخيوه وطشقند وسمر قند وما يلي ذلك) وستة من قفقآسياو استرخان وقازان والقريم وبولونيا. وبفرض إناء التعليم في كل ساعة من ساعات التدريس في الكلية من عشرين إلى خمسين غرشا ويجوز للأساتذة أن يأكلوا ويناموا في الكلية ولا يؤخذ من الطلاب أجرة التعليم وهم فوق ذلك يأكلون ويكتسون على نفقة الكلية ولكن إذا ترك احد الطلاب العثمانيين الكلية من غير عذر شرعي ضمن ليرة ونصف ليرة عثمانية لقاء كل شهر لازم فيه غالكليه. وليس للكلية قسم نهاري بل كل الطلبة داخليون وعلى الأساتذة أن يؤلفوا كتبا في العلوم التي يدرسونها ولا يوجد فيها مؤلفات وافية بالحاجة وان يلقوا محاضرات على الطلاب في ألفنون المختلفة وتدعو الإدارة من شاءت لإلقاء محاضرات في العلوم التي اختصوا فيها وتمرن الطلاب على إلقاء الخطب ويدعى إلى القدس في كل سنة احد مشهوري العلماء في العالم الإسلام يلقي محاضرات في مسائل العلم التخصص به ويعقد لعده المحاضرات مجالس في المسجد الأقصى يشهدها طلاب الكلية وتستغرق شهرا من الزمن ويخصص للأستاذ الذي يدعى على هذه الصورة من الثلاثين إلى المائة والخمسين ليرة عثمانية لقاء نفقات وبزل ضيفا على الكلية وتقام سباحات للطلاب تحت رئاسة هيئة الإدارة خلال أشهر العطلة بقصد البحث والتقصي في المسائل العالية وألفنية. ولغة التدريس في الكلية هي اللغة العربية ومع

هذا فيجوز أن يدرس مثل التاريخ العثماني ومجلة الأحكام العدلية وحقوق الدول والتاريخ السياسي باللغة التركية أو لغة أجنبية وكل إنسان أجنبي يدرس في الكلية يلقن بلغة أمته وتحصيل اللغات الشرقية والغربية في الكلية اختياري ويكون تدريسها بلغات أهلها على طريقة سهلة قريبة التنأول. أما العلوم التي تدرس في الصفوف العشرة في الكلية فهي التفسير والحديث ومصطلح الحديث وألفقه المعاملات وتاريخ على ألفقه وأصول ألفقه وعلى الكلام وتاريخ علم الكلام وعلم التصوف وعلم التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم المنطق وعلم الأخلاق وتاريخ الفلسفة وعلم ما وراء الطبيعة والعلوم الحقوقية كالحقوق الأساسية والإدارية وحقوق الدول وقانون الجزاء وأصول الجزاية ومجلة الأحكام العدلية وأحكام الأوقاف وقانون الأراضي والتجارة البحرية والتجارة البرية وعلم الاقتصاد وعلم المالية واللسان العربي الصرف والنحو واللغة وأصول الإلقاء والمنطق والبلاغة وآداب اللغة) واللسان التركي (صرف ونحو وقراءة وكتابة وأدبيات) والتاريخ والسيرة النبوية والتاريخ العام وتاريخ العرب والإسلام وتاريخ العرب والعثمانيين والتاريخ السياسي للعصر الحاضر وتاريخ الأديان السماوية والجغرافية العمومية والجغرافيا الإسلامية والعثمانية وألفلك ومن العلوم الرياضية (الحساب العملي والهندسة والجبر وأصول مسك الدفاتر والحساب النظري والمثلثات والميكانيك) ومن العلوم الطبيعية (الزراعة المحلية والحكمة الطبيعية والكيمياء والحيوان والنبات والمعادن وطبقات الأرض وحفظ الصحة والتداوي الابتدائي) وفن الخط والرسم ومن الالسنة الشرقية ألفارسي والارد والتاتاري ومن الألسنة الغربية والألماني وألفرنسي والإنكليزي والروسية يشترط في الطلاب الذين يقبلون في الصنف الأول أن تكون سن الطالب لا اقل من اثنتي عشرة سنة سالما من العاهات والأمراض غير محكوم بجنحة ولا جناية ولا معروف بسوء الأحوال وبيده شهادة من المكاتب الابتدائية ذات الخمسة والستة صفوف أو يكون تحصيلة بهذه الدرجة ويثبت ذلك بالامتحان وان يودع لدى إدارة الكلية سندا مصدقا من وليه أو من جمعية أو جماعة إسلامية أو معهد علمي يتضمن كفالة مالية يمكن بواسطتها تحصيل ما انفق عليه في الكلية إذا أراد تركها من دون عذر شرعي. وعلى طالب الدخول أن تكون بيده تذكرة نفوس أو تذكرة جوازباسابورطو شهادة المكتب الذي تخرج فيه وشهادة تلقيح الجدري وسند الكفالة

المذكور وشهادة بحسن حالة تتضمن عدم الحكم عليه بجنحة أو جناية وعدم اشتهاره بسوء الحال وتكون مصدقة من مجلس إدارة بلدة أو معهد علمي مشهور. ومن لم يكن معه شهادة وأراد الدخول في الكلية يمتحن في القران الكريم والمبادىء الدينية واللغة العربية (قراءة وتكلما وترجمة) والحساب والتاريخ والجغرافية الخط. ومن أراد الدخول من طلاب القسم التالي من مدارس دار الخلافة العلية أو من مدرسة أخرى بدرجتها يقبل في الصنف الذي تكون دروسه معادلة للدروس التي تلقاها في صنفه بشرط أن يكون بيده تصديق من مدرسة وعلى الذين بيدهم تصديق من المكاتب السلطانية أو الإعدادية أن يعطوا امتحانا في الدروس التي لم يكونوا تلقوها في مكاتبهم والتي تدرس في الصف الأدنى من الصنف الذي يريدون الدخول فيه فيمتحنون باللغة العربية ومن يريدون الدخول في الكلية وهم محصلون في مدارس معادلة للمدارس السلطانية عليهم أن يعطوا امتحانا في جميع دروس الصنف الأدنى من الصنف الذي يريدون الدخول فيه ومن كان من طلاب الكلية الصلاحية وبيده شهادة من قسمها التالي أو كان من طلاب مدارس دار الخلافة أو مدرسة بدرجتها ذات ثمانية صفوف وبيده شهادة من شعبتها الثانية في قسمها التالي جاز له أن يدخل في الصنف الثامن أي في أول صفوف التعليم العالي من الكلية الصلاحية أما متخرجوا المكاتب السلطانية فيقبلون في الكلية بشرط أن يكونوا واقفين على اللغة العربية وأن يؤدوا امتحانا في جميع المواد التي لم تدرس في مكاتبهم والذين هم في المعلومات بدرجة هؤلاء المتخرجين يقبلون أيضاً بشرط أن يفحصوا في جميع المواد التي تدرس في القسم التالي من الكلية. وتبدأ مدة قيد الطلاب وقبولهم من أواسط آب إلى انتهاء أول أسبوع من أيلول وامتحانات الدخول في أول أسبوع من شهر أيلول وعلى الطلاب أن يعتقدوا أن العلوم والمعارف لا تجديهم نفعا ما لم تكن مستندة على تربية حسنة وأخلاق كريمة وأن يتخذوا الأمور الآتية دستورا للعمل: عليهم أن يعتنوا بتربية قواهم البدنية وألفكرية والأخلاقية ليصبحوا فيما بعد رجالا ذوي أبدان قوية وأفكار سليمة وأخلاق متينة وان يمثلوا رجلا مدنيا في عزيمته وبعد همته وحسن مسعاه. وان يتوخوا في جميع أعمالهم مراعاة تعاليم الدين المبين ويتواصوا بالصبر على خدمة الحقيقة وترقية شان الإنسانية ويتباعدوا جهدهم عن ارتكاب نقيضة أو رذيلة وان يكون همهم ألفذ حب الخير وممارسة ألفضيلة (ب) أن لا

يجعلوا الله عرضة لإيمانهم وان يتجنبوا الحيلة والدسيسة والكذب ويكونوا أمناء موثوقين وأرباب شرف وأنفة في جميع اطوارهم. (ج) أن يثابروا على دروسهم وان يحترموا ويطيعوا رؤسائهم وأساتذتهم وآبائهم وأقاربهم وأن تبقى نفوسهم مشبعة بعاطفة الحنان والشفقة نحو رفاقهم (د) يجب عليهم أن يحافظوا داخل الكلية وخارجها على القيافة الخاصة بهم وان يجتنبوا في أعمالهم كل ما يخل بمسلكهم العلمي المحترم وبكرامة المعهد الإسلامي الذي ينتسبون إليه وأن يجتهدوا في أن يكونوا مثالا حسنا وقدوة صالحة لغيرهم. (هـ) أن يهتموا بالنهوض من النوم باكرا ويحافظوا على الصلوات الخمس في أوقاتها عند إسباغ الوضوء ويواظبوا على تلاوة القران ومدارسته جهرة بعد صلاتي ألفجر الصلاة وخاصة صلاة الجمعة فيسعون إليها وهم على أكمل سمت وأحسن زي هذه شذرة من تعاليم الكية الصلاحية وهي نافعة جدا في تخريج أكمل مثال من رجال الدين الإسلامي على ما تقتضيه حالة العصر والله الملهم والموفق.

معرفة العرب ناموس الجاذبية

معرفة العرب ناموس الجاذبية لا يخفى أن الناس ف5ي عالم العلم ينسبون تحقيق جاذبية الأرض إلى ألفيلسوف الإنكليزي اسحق نيوطن ويجعلونه من اجل ذلك في صف أعاظم رجال الدنيا وقل من شدا شيئا في ألفلك أو الجغرافية أو القوسموغرافية إلا وهو يحفظ اسم نيوطن والحال آن نسبة هذا الاكتشاف إلى ألفيلسوف المشار أليه هو قلة الإطلاع على كتب العرب وعدم الإحاطة بمبالغ علومهم وهذه المسالة هي أشبه بمسالة دوران الأرض التي توهم الأوروبيون أنها أيضاً من تحقيقاتهم ووفروا فيها فضل الاكتشاف لكوبرنيك والحال أنها أيضاً من المسائل التي انتبه أليها العرب تقدم لنا في فصل مختصر في علماء الهيئة من العرب نشرناه في جريدةالشرق والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وهاك ما اطلعنا عليه في القسم الأول من رسائل إخوان الصفا وخلان ألوفا مما يتعلق بالكرة الأرضية: وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقوال منها ما قيل هو جذب الهواء لها من جميع الجهات بالسوية فوقفت في الوسط لما تساوى قوة الجذب من جميع الجهات ومنها ما قيل لدفع ألفلك إياها لا فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات وقيل هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط لأنه لما كان مركز الأرض مركز ألفلك أيضاً وهو مغنيطس الأفلاك اعني مركز الأرض وأجزاء الأرض لما كانت ثقيلة انجذبت إلى المركز وسبق جزء واحد وحصل المركز ووقف باقي الأجزاء حولها يعني حول النقطة وطلب كل جزء منها المركز فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب ولما كان الماء أجزاؤه اخف من أجزاء الأرض وقف الماء فوق الأرض ولما كانت أجزاء الهواء اخف رمن أجزاء الماء صارت فوق الماء ولما كانت النار أجزاؤها اخف من أجزاء الهواء صارت في العلو مما يلي فلك القمر وقيل هي خصوصية للوضع اللائق به وذلك أن الباري تعالى اسمه جعل لكل جسم من الأجسام الكائنات من النار والهواء والماء والأرض موضعا مخصوصا هو البق به وهكذا فلك القمر وعطارد وبقية الكواكب لكل واحد موضعا مخصوصا في فلكه فهو ثابت فيه ألفلك يديره معه وهذه العلة أشبه الفاو بل بالحق انتهى وقد جاء في أول الرسالة من رسائل أخوان الصفا وخلان ألوفا التي فيها هذا ألفصل ما باتي بعد البسملة: من اجل

أن إخواننا أيدهم الله مذهبهم النظر في جميع الموجودات والبحث عن مباديها وعلة وجدانها وعن غرائب نظامها والكشف عن كيفية ارتباط معلوماتها بعللها بإذن باريها جل ثناؤه احتجنا أن نذكر الأرض وكيفية صورتها ووقوفها في مركز العلم وما نسبته وذلك أن المعرفة مجالها وكيفية وقوفها في الهواء هو من العلوم الشريفة لان وقوف أجسامها عليها حكم جليلة ومنها بد الخ يشيرون إلى السبب الذي حداهم على البحث في مسالة وقوف الأرض في وسط ألفضاء في رسائلهم المتعلقة بتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق قد اطلعنا على هذا الكلام في نسخة من رسائل أخوان الصفا جاء في أخره هذه الجملة: تمت الرسالة بحمد الله وعونه في الرابع عشر من شهر الله المحرم الحرام تسع وثمانين وثمانمائة وتاريخ النسخة التي نسخت منها سنة أربع وخمسمائة وكتبها محمد ابن علي بن ندى بن الحسن انتهى وربما التمس بعض القراء ذكر مجمل خير أخوان الصفا ومواضيع رسائلهم فان هذا الاسم يطرق مسمع كثير من الناشئة وربما من المشيخة ولا يفهمون عنه قليلا ولا كثيرا ولا يعلمون منه قبيلا ولا دبيرا فقصدنا أن نأتيهم من ذلك بما يزيح العلة ويشفي الغلة فنقول: قال الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن قاضي الأشواف يوسف اقفلي المتوفي سنة 646في كتابه (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) إخوان الصفا وإخوان ألوفا هؤلاء جماعة اجتمعوا على تصنيف كتاب في أنواع الحكمة الأولى ورتبوه مقالات عدتها إحدى وخمسون مقالة خمسون منها في خمسين نوعا من الحكمة ومقالة حادية وخمسون جامعة لأنواع المقالات على طريق الاختصار والإيجاز وهي مقالات منشورات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج وكأنها للتنبيه والإيماء إلى المقصود الذي يحصل عليه الطالب لنوع من أنواع الحكمة ولما كتم مصنفوها أسمائهم اختلف الناس في الذي وضعها فكل قوم قالوا قولا بطريق الدس والتخمين فقوم قالوا هي من كلام بعض الأئمة من نسل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه واختلفوا في اسم الأمام الواضع لها اختلافا لا يثبت له حقيقة وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول ولم أزل شديد البحث والتطلب لذكر مصنفها حتى وقفت على كلام لأبي حيان التوحيدي جاء في جوابه عن أمر شاله وزير صمصام الدولة في حدود سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وصورته: قال أبو الحيان حاكيا عن الوزير المذكور حدثني عن شيء هو أهم من هذا إلى واخطر على بالي

إني لا أزال اسمع من زيد بن رفاعة قولا يريبني ومذهبا لا عهد لي به وكناية عمتا لا أحقه وإشارة إلى ما يتوضح شيء منه يذكر الحروف ويذكر النقط ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدة إلا لسبب والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لواحدة إلا لعلة والألف لم تعجم ألا لغرض وأشباه هذا واشهد منه في غرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفخ بذكرها فما حديثه وما شانه وما دخلته فقد بلغني باابا حيان منك تغشاه وتجلس إليه وتكثر عنده ولك معه نوادر معجبة ومن طالت عشرته إنسان صدقت خبرته وأمكن إطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه فقلت أيها الوزير أنت الذي تعرفه قبلي قديماً وحديثاً والاستخدام وله منك الإمرة القديمة والنسبة المعروفة فقال ذع هذا وصفه لي فقلت هناك ذكاء غالب وذهن وقاد ومتسع في قول النظم والنثر مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة وحفظ أيام الناس وسماع المقالات وتبصر في الآراء والبيانات وتصرف في كل فن أما بالشدو الموهم وأما بالتوسط المفهم وأما بالتناهي المفحم قال فعلى هذا ما مذهبه قلت لا ينسب إلى شيء ولا يعرف برهط لجيشانه بكل شيء وغليانه بكل ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه وسطوته بلسانه وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا وصادف بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيشي ويعرف بالمقدسي وأبو الحسن علي ابن هارون الزنجاني وأبو احمد المهرجاني والعوفي وغيرهم فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى ألفوز برضوان الله وذلك أنهم قالوا إن الشريعة قد دنست بالجهالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها وافردوا لها فهرسا وسموه رسائل إخوان الصفا وكتموا في أسمائهمإلى إن قال: قال الوزير: فهل رأيت هذه الرسائل قلت: قد رأيت جملة منها وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية وفيها خرافات وكنايات وحملت عدة منها إلى شيخنا لأبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه فنظر فيها أياماً وتبحرها طويلاً ثم ردها علي وقال: تعبوا وما أغنوا ونصبوا وما أجدوا وحاموا وما ردوا وغنوا فما أطربوا ونسجوا

فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع ظنوا أنه يمكنهم أنهم يدسون الفلسفة التي هي علم النجوم والأفلاك والمقادير والمجسطي وآثار الطبيعة والموسيقى الذي هو معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات في الشريعة وان يربطوا الشريعة بالفلسفة وهذا مرام دونه حدد وقد تورك على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحداً أنياباً واحضر أسباباً وأعظم أقداراً وارفع أخطاراً وأوسع قوى وأوثق عرى فلم يتم لهم ما أرادوه ولا بلغوا منه ماأملوه إلى آخر ما قال وبرهن عليه وهو من قبيل ما يذهب إليهم بعضهم اليوم من كون الشريعة ينبغي أن تمشي في طريق والعلم في طريق خلافاً لرأي القائلين بتطبيق الشريعة على القواعد العلمية أو رد العلوم إلى أصول الشرع حتى لا تقع الشبهة في العقيدة وهذا بحث ليس من مقامنا اليوم وإنما جرنا إليه الاستطراد في التعريف برسائل إخوان الصفا وواضعيها ومدار الكلام اليوم على كون حكماء العرب عرفوا الجاذبية قبل اسحق نيوطن واستشهدنا على هذه الحقيقة بما ورد في رسائل إخوان الصفا وإليك نبذة ثانية أيضاً تأثرها عن ياقوت الحموي المتوفي سنة 626 وهو كلامه في مقدمة كتابه معجم البلدانوقال قوم أن الذي يرى من دوران الكواكب إنما هو دوران ألفلك وقال آخرون أن بعض الأرض يمسك بعضاً وكثير منهم يزعم أن دوران ألفلك عليها يمسكها في المركز من جميع نواحيها وقال والذي يعتمد عليه جماهيرهم أن الأرض مدورة كتدوير الكرة موضوعة في جوف ألفلك كالمحة في جوف البيضة والنسيم حول الأرض وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى ألفلك وبنية الخلق على الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل لأن الأرض بمنزلة حجر المغناطيس الذي يجتذب الحديد وما فيها من الحيوان وغيره بمنزلة الحديد وقال آخرون من أعيانهم الأرض في وسط ألفلك يحيط بها ألفرجار في الوسط على مقدار واحد من فوق وأسفل ومن كل جانب وأجزاء ألفلك تجذبها من كل وجه فلذلك لا تميل إلى ناحية من ألفلك دون ناحية لأن قوة الأجزاء متكافئة ومثال ذلك حجر المغناطيس الذي يجتذب الحديد لأن طبع ألفلك أن يجتذب الأرض إلى آخر ما قال وقال ألمقدسي فإما الأرض فإنها كالكرة موضوعة جوف ألفلك كالمحة جوف البيضة والنسيم حول الأرض وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى ألفلك وبنية الخلق على

الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجتذب الحديد ومثلوا ألفلك بخرائط يدير شيئاً مجوفا وسطه حوزة فإذا أدار ذلك الشيء وقفت الجوزة وسطه. انتهى ومما يدل على معرفتهم حركة الأرض قول القز ويني في عجائب المخلوقات وهو: ومن القدماء من أصحاب فيثاغورسي من قال أن الأرض متحركة دائما على الاستدارة والذي يرى من دوران الكواكب فلا يكون حكماء العرب بقوا أجانب عن معرفة ناموس الجاذبية ولا عن حركة الأرض مما يتبجح الإفرنج بكونه من تحقيقاتهم وان كان نيوطن قد عرف الجاذبية بدون إطلاع على كلامهم فيكون من باب توارد الخواطر دمشق شكيب أرسلان

القدس وتواريخها العربية

القدس وتواريخها العربية اشتهرت مدينة القدس الشريف بآثارها الدينية وموقعها وقل من عرف عناية المؤلفين بتواريخها ولا سيما مؤلفو العرب فلذلك وضعت فذلكة في مختصر تسميتها وأسماء المؤلفين في شؤونها منهم تذكرة للمطالع الكريم فأقول: عرف فذكرها قدماء العرب هذه المدينة لما انصلوا بجوران وعجلون وتلك الضواحي الأعشى شاعرهم باسم أورشليم في قوله: وقد طفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشلم فحرف الاسم لضرورة الوزن. اما الفرزدق بعد فذكرها باسم ايلياء في قوله: وبيتان بيت الله نحن ولاته ... وقصر باعلى ايلياء مشرف وتابعه أعرابي فقال: فلو إن طيرا كلفت مش سيره ... إلى واسط من أبلياء لكلت سما بالمهاوي من فلسطين بعدما ... دنا ألفيء من شمس النهار فولت وذكرها مروان باسم (بيت المقدس) بالتخفيف فقال: قل للفرزدق والسفاهة كإسمها ... إن كنت تارك ما أمرك فاجلسي ودع المدينة أنها محذورة ... والحق بمكة أو بيت المقدس وذكرها ابن حجر العسقلاني باسم البيت المقدس بالتشديد في قوله مورياً ومتفشياً إلى البت المقدس جئت أرجو ... جنان الخلد نزلاً من كريم قطعنا في مسافته عقاباً ... وما بعد العقاب سوى النعيم وما اسم القدس فلم تعرف به إلا في العصور المتأخرة على أقدم من ذكرها به المطران سليمان الغزي أسقف غزة الشام في نحو القرن الربع عشر للميلاد في قوله أيدعوك للقدس الخيال الذي يسري ... فهل لك في ترك الزبارى من عذري هذا ما ذكره الشعراء في أسماء هذه المدينة الشهيرة في التاريخ منذ عهد بعيد وفيها إلى اليوم من الآثار الدينية والتاريخية ما يحتاج في وصفه على مجلدات حتى كثرت عناية المؤلفين بها من مشارقة ومغاربة وأعراب وأعجام. على أننا أفردنا الآن بالذكر من ألف فيها من العرب مما هو مشهور في المكتب والأسفار ذكر العرب القدس في كتبهم الكثيرة في ألفتوح والتواريخ والمعاجم الجغرافية والرحلات وأشاروا إلى تواريخها وما تقلب عليها

من الحوادث وما جرى فيها من الوقائع وما عرفت به من الشؤون المختلفة وذلك في أثناء أبحاثهم وفي تضاعيف كتبهم وثنايا تواريخهم. أما الذين أفردوا لها المؤلفات الخاصة فكثيرون ومعظم كتبهم بل جميعها إلا قليلاً منها لا يزال مخطوطاً في زوايا المكاتب ومخادع الجوامع فرأينا الإشارة إليها واستقراء ما أمكن معرفته منها ليكون ذلك دليلاً للباحث عن شؤونها. ومرشداً للضرر في بيداء التاريخ الوطني فيجد فيها ضالته المنشودة. ويعثر على فائدته المقصودة من أقدمهم الحافظ ابن عساكر الدمشقي صاحب التاريخ المشهور المتوفى سنة 517 هـ (1123م) في مؤلف: الجامع المقتصى في فضاء المسجد الأقصىومنه نسخة في المكتبة التيمورية بالقاهرة والقاضي أمين الدين أحمد بن هبة الله الشافعي من أهل القرن السابع للهجرة في كتابهالإنس في فضائل متعمداً على (الجامع المستقصى) الآنف ذكره إلى ابن عمه. وقد رأى الإمام السبوطي نسخة في جامع دمشق مقروءة على مؤلفها بتاريخ سنة 6. 3 هـ (12. 6م) وذكر السيوطي أيضاً كتاب باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروث الشيخ برهان الدين إبراهيم بن اسحق بن تاج الدين أبي عبد الله عبد الرحمن درهم الشافعي الفزاري المعروف بابن قاضي الصلت وهو في ثلاثة عشر فصلاً ضمنها فضائل بيت المقدس وقبر الخليل انتخبها من كتابالجامع المستقصىلابن عساكر وبعضهم من كتاب أبي المعالي المشرف بن المرجي المقدسي ونسخته في المكتبة التيمورية بالقاهرة ومنهم عماد الدين الكاتب الأصبهاني المتوفي سنة 579هـ - (12. . م) في كتابهألفتح القسي في ألفتح القدسي ويسمى أيضاً قدح القسيوقيل أن المؤلف عرضه على القاضي ألفاضل فقال له سمهالقبح القسي وقد طبع في ليدن (هولندا) وفي مصر * وابن السعد عبد الله بن الحسن بن عساكر المولود سنة6. 6هـ - (13. 9م) في كتابهفضل بيت المقدسوشهاب الدين أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم هلال بن تميم بن مسرور المقدسي الشافعي المتوفي سنة 765هـ - (1363م) في كتابه (مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام) فرغ منه شعبان سنة 757هـ - (1356م) وكسره على قسمينالأولفي فضائل الشام وبيان حدوده وفيه أبواب وفصول والثانيفي فضائل المسجد الأقصى ويشتمل على أبواب وفصول أيضاً * والإمام أبو ألفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في كتابهفضائل القدسذكره السيوطي المومأ إليه ولم يشر إليه الحاج خليفة فيكشف الظنون

* والشيخ عبد الرحمن محمد بن أحمد المنهاجي السيوطي الذي دخل القدس يوم السبت في 28 رمضان سنة 874هـ - (1469م) في كتابهاتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى * والشريف عز الدين حمزة أحمد الحسيني الدمشقي الشافعي المتوفي سنة 874هـ - (1469م) في كتابهفضائل بيت المقدس ومحمد بن محمود اسحق القدسي المتوفي سنة 776هـ - (1374م) في كتابهتاريخ القدسوكمال الدين محمد بن محمد أبي شريف الشافعي المصري المتوفي سنة 9. 6هـ - (15. . م) في كتابهاتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصىألفه في مجاورته بالقدس سنة 875هـ - (147. م) ورتبه على سبعة عشر باباً معتمداً في نقله علىالروض المغرسلثقة مؤلفه فصار عمدة ما فيه8والقاضي محير الدين أبو اليمن عبد الرحمن العليمي الحنبلي المتوفي سنة 927هـ - (152. م) في كتابهالأنس الجليل في تاريخ القدس والخليلجمع فيه خلاصة تواريخ القدس وأضاف إليه نبذة من الحوادث والوفيات أنجزه بأربعة أشهر مبتدئاً فيه من ذي الحجة سنة9. . هـ (1494م) وهذا الكتاب طبع في القاهرة سنة 1866م وترجمه بالإفرنسية هنري سوفار وطبعه في أوروبا8 والشيخ أحمد الخالدي الصفدي المتوفي سنة 1. 34هـ - (1624م) في كتابرحلته إلى البيت المقدس نظماً8والشريف عزالدين بن حمزة بن أحمد الحسيني الدمشقي الشافعي المتوفي سنة 874هـ - (1469م) في كتابفضائل البيت المقدس وأبو حذيفة اسحق بن بشر في كتابفتوح بيت المقدسوالشيخ اسحق ابن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن كامل التدمري الشافعي الخطيب والإمام بذلك المقام في كتابهمثير الغرام في زيارة الخليل عليه السلاموهو مختصر على سبعة وعشرين فصلاً وهو من معاصري السيوطي الآنف الذكر رأى كتابه هذا في المسجد الخليلي والشيخ تاج الدين أبو النصر عبد الوهاب الحسيني الدمشقي الشافعي في كتاب الروض المغرس في فضائل بيت المقدسذكره صاحباتحاف الأخصاوالإمام أبو المعالي المشرف المقدسي في كتابفضائل القدس والشاموهو في مائة وخمسة عشر باباً والتمرتاشي في كتابالخبر التام في حدود الأرض المقدسة وفلسطين والشامألفه سنة 11. 6هـ - (1694م) ونسخته في المكتبة التيمورية بالقاهرة والشيخ عبد الغني النابلسي المتوفي سنة1143هـ - (173. م) في رحلتهالحضرة الأنسية في الرحلة القدسية وهي جزء من رحلته الكبرى والشيخ عبد الله الطرابلسي المتوفي سنة 1154هـ -

(1741م) في رحلتهالمنحة القدسية في الرحلة القدسيةوالشيخ مصطفى البكري المتوفي سنة1161هـ - (1748م) في كتابرحلة القدسوالياس الغضبان الحلبي في كتابهزيارة الأماكن المقدسةوهو أخبار رحلته إلى القدس في 3 نيسان سنة 1755م وقد كتب فيها كل ما رآه يومياً بزيارته ونسخته في المكتبة الشرقية التي جمعها الآباء اليسوعيون في بيروت مخطوطة والشيخ مصطفى الشافعي اللقيمي المتوفي سنة 1178هـ - 1764مفي كتابموانح الأنس في الرحلة إلى وادي القدسإلى غير ذلك مما في كتب ألفتوح والتواريخ والمعاجم الجغرافية والرحلات ووصف المساجد ككتابمعجم البلدانلياقوت الحموي وكتاب أعلام الساجد بأحكام المساجدللشيخ بدر الدين الزركشي الشافعي المتوفي سنة 794هـ - 1391موتسهيل المقاصد لزوار المساجدللشيخ شهاب الدين أحمد بن العماد بن يوسف الافقسي الشافعي المتوفي سنة 8. 8هـ - 14. 5م وقد رآهما السيوطي والثاني بخط مؤلفه ومنتخب في فضائل بيت المقدسرتب على ثلاثة عشر فصلاً أتم تأليفه سنة 1172هـ - 1758م ذكر في برنامج الكتب العربية في المكتبة الخديوية في مصر 7 - 2: 574 وحسن الاستقصا لما صح وثبت في المسجد الأقصىمن مجاميع المكتبة الخالدية في القدس الشريف عدد 19 وسؤال وجواب عن بيت المقدسفي مجموع آخر فيها عدد 47 والزهر العاطر لانشراح الخاطروهو شرح زيارات الأماكن الأورشليمية المقدسة تأليف شكر الله بن بطرس حوا الماروني الحلبي من أهل القرن الثامن عشر للميلاد إلى غير ذلك مما فقد أو لن يزال في مكاتب الخاصة والمكاتب الأوروبية محجوباً عن المطالعين وللمعاصرين شيء من ذلك مثل إرشاد الطالبين إلى الآثار المقدسة في فلسطينلحنا الخوري سكسك القدسي وهو مخطوط ضخم في نحو 18. . صفحة كثير ألفوائد وهو اليوم في مكتبة ولده جرجي أفندي وفي مكتبتي نخبة منه وتاريخ القدسللخوري ميخاشيل برامكي القدسي ولا يزال مخطوطاً في القدس وفيه فوائد تاريخية جمةتاريخ أورشليم لخليل أفندي سركيس صاحب المطبعة الأدبية في بيروت. ومنشئ جريدةلسان الحالوإرشاد لطيف لزائر القدس الشريفلموسى أفندي مينا طبع في مصر مصوراً ودليل الزوار المقدسةللباس فرج باسيل اللبناني طبع في القدس. وعليه انتقاد لحنا الخوري سكسك الآنف ذكره لا يزال مخطوطاً عندي نخبة منه. وأشباه ذلك مما لايقع تحت حصر وفي القليل غنى الكثير في وصف

مدينة القدس وما يجاورها من البقعة ألفلسطينية المتلاامية في القدم والمسهورة في التاريخ. زحلةلبنان عيسى أسكندر المعلوف.

كتاب نادرفي أصول التدريس

كتاب نادرفي أصول التدريس في خزانة كتب جامع الحيدر خانة كتب مخطوطة ومطبوعة هي من أحسن السلف للخلف وأثمن ما أحتوت عليه مكتبات العراق، ولمرا فإن الذي وقف هذه الخزانة هو داود باشا والي العراق وهو خير وال على أريكة الحكم في هذا القطر المحبوب تولى سنة1232هـ 1816م وكان عالماً فاضلاً أنشأ المدارس العظيمة ودور الخير والإحسان جالس العلماء والحكماء والفضلاء والزهاد وأكرم وفادتهم وأحسن إليهم ما أستطاع إلى الإحسان سبيلاً وفي أيامه أخذت روح العلم تدب في أبناء العراق فقامت نهضة علمية كبرى تحت حماية هذا الوزير لا تزال آثارها باقية إلى الآن فكثر المؤلفون في زمانه وراج سوق الأدب رواجاً عظيما حتى وقفت على أبوابه الشعراء وكان يجيزهم على حسب كفاءتهم ومقدرتهم. وقد أوتي نمت التوفيق ومسالمة الدهر ما لم يؤت أحد قبله من ولاة العراق فإن الأمور انقادت إليه بطبيعتها وأطاعه جميع قطان العراق حاضره وباديه عربه وعجمه وكان محباً للعمران فتاقت نفسه إلى تقليد المدن الأوروبية في طرز البناء وشق الجواد وتعزيز الصناعة فجلب الصناع من الأوروبين وأخذ في أسباب التمدن والعمران وأمر بصنع المدافع والبنادق على الطرز الجديد حينئذ ونظم جيوشاً ضخمة على آخر نظام في زمانه حتى يلغت جنوده أكثر من مائة ألف فطمع في الاستيلاء على دبار العجم وأكتسح عدة ولايات منها وطمحت نفسه إلى الاستيلاء على آسيا الصغرى والاستقلال بالعراق العربي افتداء بمعاصرة محمد علي باشل الكبير أمير مصر وجد الأسرة الخديوية وقد داخل الدولة الرعب والخوف من اتساع الخرق عليها فأرسل عليه السلطان محمود الثاني جيشاً عدده عشرون ألفاً وناط قيادته بأحد الوزراء وهو علي باشا اللظ وصادف لحسن حظ هذا القائد أن دهم العراق وباء وبيل أفنى أكثر جيش الوزير داود وهذا ما جعله يسلم نفسه إلى علي باشل بعد حدوث عدة معارك خسر فيها جيش العراق عدداً غير يسير من الجنود فذهب إلى الآستانة وظل فيها إلى سنة126. هـ1244م بعد أن مكث فيها ثلث سنوات لاقى في خلالها حفاوة وإكراماً من السلطان محمود من أبنه السلطان عبد المجيد وكان يلبس أيام الأعياد حلة رسمية كتب على صدرهاشيخ الوزراءبالطراز المذهب ثم إن عبد المجيد خان أرسله شيخاً على الحرم النبوي سنة126. هـ1844م وبقي في المدينة منشغلاً بالعلم والتدريس ونفع أهل ذلك القطر بفضله وكان عاقداً العزم على فتح مدرسة لتنوير أفكار الحجازيين

ولكن أختر منه المنية سنة1667هـ185. مولم يتم ما أرادهوفن في البقيع تجاه قبة سيدنا عثمان بن عفان. فرجل هذه منزلته في العلم والسياسة والإرادة لا ينتخب لخزانته إلا كل نفيس نادر وهكذا فإن خزانته لا لا ترى في زواياه غير ما تميل إليه النفس ويصبو إليه القلب من غرائب المصنفات وعجائب المؤلفات. وبينما كنا على عادتنا نجيل الطرف في طرفها ونملأ العين والفؤاد من محاسن كتبها إذا أهدانا السيد محمود شكري الألوسي من علماء العراق إلى كتاب نفيس نادر الوجود ويعد من أنفس ما ألف في القرون المتأخرة ذلك هو كتابتحفة الجنانفي أصول التدريس والتعليم لمؤلفه حيتي أفندي أحد قضاة دار السلام فتصفحناه ملياً وطالعنا معظم فصوله وأبوابه فإذا هو آية من الآيات وقل من نسج على منواله في الترتيب والتبويب وبديع الأفكار والذي يطلع عليه ويقرأ بعض مطالبه يخيل إليه أنه يقرأ بعض مطالبه يخيل إليه أن يقرأ كتابات رجل راق بأفكاره وأسلوبه تلقى العلم في أكبر معهد علمي في هذا العصر ولم نقف على كتاب في هذا ألفن من الكتب الحديثة ما يصح أن يقاس بهذا السفر المفيد وبالجملة فانه من كتب أصول التدريس على اختلاف أجناسها وأزمانها وكثيرا ما اجتهدنا في الوقوف على ترجمة حياة المنصف ومنشاة وتأليفه فلم نوقف إلى ذلك لضياع الأسانيد في المحكمة الشرعية واندثار أثارها التي تنبئنا عن احو اله وإعماله وهذا الكتاب سيخلد ذكره ابد الدهر وبذكره في زمرة الأعلام المبرزين في كل ألفنون. وقد عرفنا من لهجته في كتابه انه ينتمي إلى عنصر غير عربي أو انه عربي ولكنه قضى العقود الأولى من حياته في بلاد غير عربية فان أسلوب إنشائه دل على ذلك بدليل ميله الشديد إلى السجع في الإنشاء وتكليف نفسه فوق طاقتها فيأتي كلامه أحيانا معقدا تظهر عليه اثأر التكلف وهي خلة قل بين كتاب العرب من يميل أليها اللهم إلا ما جاء طبيعيا وأرسلته النفس إرسالا فذلك لا عيب إذ يجيء عفوا خالصا من كل شائبة تفسد معناه وتخل بجوهر الكلام. وجل ما وقفنا عليه من ترجمة هذا الرجل ما كتب على ظهر الكتاب حين وقفة وإليك نصه: الحمد لله الذي أوقف جناته على أوليائه وأكرمهم بمزيد نعمه آلائه والصلوة والسلام على سيدنا محمد صفوة أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأحبائه وبعد فقد أوقف هذا الكتاب المسمىبتحفة الجنانتأليف حياتي القاضي أفندي بمدينة بغداد دار السلام الوزير الأكرم والدستور المكرم. صاحب الخيرات والمبرات. والي بغداد

والبصرة شهرزور حضرة داود باشا يسر الله له من الخير ما يحب ويرضى ويشل على مدارسته المسماة الداودية الواقعة في الجانب الشرقي من محلة الحيدر خانة من محلات بغداد دار السلام وقفاً صحيحاً شرعياً وحبساً مؤبداً مرعياً وشرط أن لايخرج من المدرسة المذكورة ولا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يبدل فمن بدله بعد ما سمعه فإما أثمه على الذين يبدلونه أن الله سميع عليم وكان ذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية أهل يقع الكتاب في 2. . صفحة في كل صفحة 17 سطراً وكل سطر مؤلف من نحو 16 كلمة وخطه بديع جداً كتب سنة 1226 هـ1811 م كما يفهم من كتابة في آخر النسخة وهي: لقد وقع ألفراغ من كتابة هذه النسخة يوم الاثنين لخمس عشرة خلت من رجب ألفرد على يد أفقر العباد وأحوجهم إلى رحمة ربه الغني عبد الرحيم نجل الشيخ اسماعيل المولوي غفر الله له ولوالديه سنة ست وعشرين ومائتين وألف هو الظاهر أن الناسخ كان من مشاهير الخطاطين في عصره وأنه نسخ الكتاب على نسخة المؤلف لقرب عهده به ومعاصرته له ووجوده معه في حاضرة واحدة وهي بغداد وهو مؤلف من متن وشرح كلاهما للمؤلف وقد علمنا بعد أن أكثرنا من تصفحه أنه مشتمل على مقدمة ومقالتين وخاتمة أما المقدمة ففي حد علم التدريس وموضوعه وفائدته وغايته والمقالة الأولى فهي في أحوال التدريس وفيها سبعة فصول فالفصل الأول في بيان إقساء الدرس ذاتاً لا وصفاً وألفصل الثاني في بيان أقسام الدرس وصفاً والفصل الثالث في الأسباب أي أسباب التمام والوفاء والنقصان والفصل الرابع في الدوران أي دوران الدرس بين التمام والوفاء والفصل الخامس في الحذف والترك والفصل السادس في فن الدرس وما يناسبه ألفصل السابع في بيان ما للدرس من الشروط وأما المقالة الثانية ففيها موقفان الموقف الأول وفيه تسع فصول ألفصل الأول في بيان متن الدرس والفصل الثاني في بيان أصل الدرس والفصل الثالث في بيان شرح الدرس والفصل الرابع في فرع الدرس وهو ما يجري فيه من جزيئاته والفصل الخامس في كمال الدرس وهو تقرير النكت المعينة للمعنى المقصود والفصل السادس في فيض الدرس وهو تقرير النكت الغير معنية للمعنى المقصود والفصل السابع في زيادة الدرس والفصل الثامن في فصول الدرس وهو تقرير كلام أجنبي العبارة مطلقاً والفصل التاسع في ربط الدرس أما الموقف الثاني فهو فيما

يناسب التقرير وفيه ثلاثة مطالب المطلب الأول في طريق التقرير والمطلب الثاني في أداء الدرس والمطلب الثالث في طريقة استخراج الدرس من غيره وأما الخاتمة فهي تشتمل على تحرير الأجراء وهذه آخر فصول الكتاب وقد افتتح المؤلف كتابه بعبارة بليغة لولا أن التسجيع يغلب عليها فاخل بمعانيها خللاً بيناً وهو أنه أهدى مصنفه إلى السلطان سليم خان الثالث بعد أن امتدح أعماله وصفاته في خطبة الكتاب وإليك نصها بالحرف قال الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم والصلوة والسلام على صاحب اللوح والقلم وعلى آله وصحبه الذين نطقوا بالمبادئ والحكم أما بعد فلما كانت الحكم العلية من بسط الوجود في البرية هي المعرفة والطاعة بحسب مرتب الوضع في البضاعة وكانت هذه فائدة الإرسال والإنزال وعليها دور الغدو والأصال فاستدعى تحقيقها تشعب علوم مدونة ليرى نقطة العلم المتكثر مبينة فالعلماء لتدوينها ملهمون وفي إحاطة مزاياها مستقصون إلى ترتيب قواعدها موفقون وأنها لكتب يشهدها المقربون فكأنهم لم يتركوا مما يطلبون إلا أنهم عن علم الأجراء ساكتون فعطفنا العنان إلى جمعه وتدوينه فلما وقفنا إليه بالعلف تكوينه هدانا فيه إلى متن متين ثم أرشدنا إلى شرحه المبين ولقد الهمنا في أثناء جمعه عرضه إلى حضرة السلطان الأعظم والخاقان المعظم مولى ملوك العرب والعجم وهاب جلائل العم والدقائق فياض سجال النوال على الخلائق ألفائز بالحكمة العلمية والعملية الجامع للرياستين الدينية والدنيوية كسا به الله دهراً حلة نسجت ... بالعدل والقسط والأنصاف والهمم سداؤه الشرع والإحسان لحمته ... طرازها من حرير اللطف والكرم بابه كعبة الحاجات يطوي إليه من كل فج عميق وتستقبل إليه وجوه الآمال من كل بلد سحيق الباسط جرده فراش العنوان ألفائض لطفه زلال الأمان وما قيل فيه غير أن ضيوفه ... تلام بنسيان الأحبة والوطن رافع رايات الشرع القديم المتين خافض الكفرة والعجزة والمشركين ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... لهن فلول من قراع الكتائب قاهر الأكاسرة والغفافرة مبيد ألفراعنة الجبابرة صاحب السلطنة العظمى ووارث الوكالة الكبرى

فليخضع السادات دون سريره ... كخضوع وجه الأرض دون سمائه وبالجملة لو شبهته بذي المحاسن كلها لما أصبت في الجميع دقها وجلها ولعمري أن لساني كليل في فضائله وفواضله ومعارفه وعواطفه ولطائفة: لا يدرك الواصف المطري خصائصه ... وإن يكن سابقاً في كل ما وصفا إلا وهو السلطان بن السلطان السلطان سليم خان الثالث بن السلطان مصطفى خان الثالث بن السلطان أحمد خان الثالث لا زال لواء مجده منشوراً وطالع سعده منصوراً حائزاً في سلطنته مكاناً وتمكيناً ومظهراً لقوله إن فتحنا لك فتحاً مبينا ومصدقاً لقوله وينصرك الله نصراً عزيزاً ومشمولاً بقوله والله يؤيد بنصره من يشاء: من قال آمين أبقى الله مهجته ... فإن هذا دعاء يشمل البشرا لكن نسبة هذه التحفة إلى بابه كرجل جرادة من نمل على بابه فو الله لم أتحف هذا إلا لكون الهدية عن قدر مهديها ولكون هذا وإن كان في ذاته شيئاً قليلاً لكنه لندرته بل لعدم أمثاله يكون لدى حضرته أمراً مقبولاً ولأن نقل علم بقي في القوة إلى الآن براعة استهلال ظهور ألفتوحات في هذا الزمان وبالجملة فكل ما هو عظيم بالذات والصفات فهو بالنظر إلى عتبته العلياء بضاعة مزجاة فتوسلنا إلى بابه حتى نتوصل إلى نيل آمالنا لدى أعتابه اللهم انصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً قريباً واجعل بابه محط رحال الأفاضل وملاذ أرباب ألفضائل وعون الإسلام والمسلمين وغوث الأنام والمؤمنين وسلمه في كل حالة باسمه السلام وأعانه في مهام أموره بالإلهام وأسعده في الدارين كل الإسعاد وفسح في عمره بالنصر والإمداد ورحب أسلافه يوم المعاد وهو الموفق للسداد والرشاد أهو ومن هنا شرع في بيان مقدمة الكتاب إلى آخر فصوله ولو أردنا أن ستقصي كل ما جاء فيه من سديد الآراء والأفكار ومحاسن الأبحاث ونفائس الموضوعات لضاق بنا المجال ولكن يكفي للاستدلال على أنه ذخيرة نادرة من آثار السلف كون موشي بردها من أعظم قضاة الشرع في الزوراء وكون مقتنيها ذلك الرجل العظيم داود باشا كبير وزراء الدولة على عهده وكونه مهدى إلى ملك هو من أجل ملوك آل عثمان قدراً وارفعهم مقاماً واسماهم ذكراً نعني به السلطان سليم الثالث ولكي يقف القراء على درر محتوياته وجواهر مضامينه ومقالاته استخلصنا نبذة صغيرة من متن الكتاب تاركين الشرح خشية الإسهاب والأطناب وهو مثال

من أمثلة جلالة قدر هذا السفرقال في حد الدرس والتدريس: انه علم تعرف به أحوال الدرس والتدريس إجمالا لتعصم مراعاته عن الخطأ فيه والدرس هو العبارة الصالحة للتدريس فيها من كتاب أو رسالة أو غيرها والتدريس ملكة يقتدر بها على تقرير ما فهم من العبارة مع القدرة على إنادة كل ما لها وما عليها ومن الجرح والتعديل وهو لا يتحقق إلا بعد الكمال العرفي بل الحقيقي فالدرس لا يصح إطلاقه إلا على من له وقوف تام على القواعد بشرا شرها مقتدراً على إجرائها في كل مجاريها إذا اهتم كما إن ألفقيه لا يصح إطلاقه إلا على من له ملكة الاستنباط في كل مسألة وإن الحكيم لا يقال إلا على من له إطلاق تام بحقائق الأشياء كافة بحسب الطاقة البشرية وبالجملة إن أهل كل فن من ألفنون المدونة لا يصح إطلاقه عليه حقيقة إلا إذا بلغ درجة لو عرض عليه أية مسألة وأية شبهة يقتدر أن يجيب عليها بجواب صحيح وكثيراً ما يطلق التدريس على التقرير مطلقاً. وقال في تعريف موضوع هذا العلم: الدري والتدريس المشاركان في الانتساب إلى الإفادة أو في التعقل لأنهما متضايقان على أن الدرس جزء من التدريس بل في جميع الأعراض الذاتية وذلك لأن ما يلحق الشيء لجزئه الأعم وإن كان عرضا غربياً عند الأقدمين إلا أنه عرض ذاتي عند الآخرين وأما أحوال التدريس فلمساواته التدريس في الوجود والغرض معرفة الأحوال الجزئية الإجمالية للدرس والتدريس وفائدته العصمة عن الخطأ في الأحوال الجزئية. وأفاض في فصل أقسام الدرس إذ قال: إن الدرس إما بسيط وهو ما لا خلاف فيه حقيقة أو حكما وأما مركباً وهو بخلافه وكل منهما إما (؟) فالبسيط منه ما يحتاج إلى تفكير مكرر كقول المتنبي: ولو فلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتبه والمركب ما يفتقر إلى تحرير محل النزاع كقول الأصوليين: التكليف بما لايطاق غير جائز عند النفية وقد يبلغ النكور إلى درجة الأجبار والأشكال كما سيجيء بيانهما وأما ميسور وهو ضد المنكور ثم إن المنكور إن ظهر المراد منه بعد إرادة ألفكر فهو معلوم كقوله: ولو أن ما بي من جوي وصبابة ... على جمل لم يبقى في النار كافر وكالألغاز والمعميات المقطوعة أسرارها كلغزي القلم ولغز العروة والذرة وكمعمى رحيم

وإلا فإن قبل التوجيه الوجيه فمنكور موؤل كقوله: عينان عينان لم يأخذهما رمد ... في كل عين من العينين نونان نونان نونان لم يكتبهما قلم ... في كل نون من النونان عينان وإلا فمنكور مجهول. وقال في أقسام الدرس من حيث الوصف: إن الدرس إما تام وهو العبارة الآخذة حقها ومستحقها وأما واف وهو العبارة الآخذة حقها وأما الناقص وهو العبارة الناقصة عن حقها وإن حق الدرس هو ما لا بد له من المنطوق وضعاً ودلالة واستعمالا ووقوفا ومن المفهوم المعتبر بل من القياس ومن الأدلة الأخرى عند قائلها وبهذا الأعتبار يوصف بأنه فصيح وبليغ وقوي ومفيد ونحو ذلك وإن ما مستحقه ما ذاد على الحق بعد وجوده وهذا إنما يحصل بكونه أفصح وأبلغ وأفيد وأقوى. ومشتملاً على ما يندفع به وما ترتفع الأسئلة وعلى الصنائع البديعية كالجناس والغز اللطيف فالمدرس إذا قرر الدرس مطلقاً على ما هو عليه فهو معدل وإذا قرر الوافي تاماً بزيادة مستحقة على حقه فهو مدبر وإذا قرر الناقص وافياً بزيادة حقه فقط أو بإبداله إليه فهو متم أو تاماً بالزيادتين أو الإبدال فهو محدد وإذا قرر التام والوافي كالناقص فإن كان مما يحذف ويفهم بالقرائن فهو معلق كما صدر من حذاق الأساتذة وإلا فهو مقصر كما وقع من القاصرين وكل هذه الأتماء على صيغة ألفاعل وإذا أطلق على المدرس يصير على أسم المفعول. ومن لطائف ما ذكره عرضاً من اختصاص بعض المشاهير قوله: قال السيوطي في تاريخ الخلفاء رأيت الحافظ الذهبي من كان فرد زمانه في فنه أبو بكر الصديق في الأنساب وعمر بن الخطاب في القيام بأمر الله وعثمان بن عفان في الحياء وعلي بن أبي طالب في القضاء وأبي بن كعب في القراءة وزيد بن ثابت في ألفرائض وأبو عبيدة بن الجراح في الإمامة وأبن عباس في التفسير وأبو ذر في صدق اللهجة وخالد بن الوليد في الشجاعة وحسن البصري في التذكير ووهب بن منبه في القصص وأبن سيرين في التعبير ونافع في القراءة والأداء وأبو حنيفة في ألفقه وأبو اسحق في المغازي ومقاتل في التأويل والكلبي في قصص القرآن والخليل في العروض وفضيل بن عياض في العبادة وسيبويه في النحو ومالك في العلم والشافعي في فقه الحديث وأبو عبيدة في الغريب وعلي بن المدني في العلل ويحيى بن معين في الزجال وأبو تمام في الشعر وأحمد أبن حنبل في السنة والبخاري في نقد الحديث والجنيد

في التصوف ومحمد بن نصر المزوري في الاختلاف والجبائي في الاعتزال والأشعري في الكلام ومحمد بن ذكريا في الطب وأبو معشر في النجوم وأبو فرج الأصبهاني في المحاضرة وأبو القاسم الطبري العوالي وابن حزم في الظاهر وأبو الحسن البكري في الكذب والحريري في المقامات والمتنبي في ألفصاحة والموصلي في الغنا والصولي في الشطرنج والخطيب البغدادي في سرعة القراءة وعلي بن الهلال في الخط وعطا بن السليمي في الخوف والقاضي ألفاضل في الإنشاء والأصمعي في النوادر وأشعب في الطمع وابن سينا في الفلسفة. وقال في اختصاص الحيوان: صهيل الفرس. جوار البقرة. شجيج البغل. نهيق الحمار. رغاء البعير. حنس ألفيل. خوار الثور. بعار المعز. نبيب التيس. زئير الأسد. عواء الذئب. نباح الكلب. ضباع الثعلب. قباع الخنزير. ضغاء الهرة. ضحك القرد. بغام الظبي. ضغيب الأرنب. عرار النعام. صرصرة البازي. قعقعة الصقر. صفير النسر. هدير الحمام. سجع القمري. تغريد العندليب. صقاع الديك. قوقاء الدجاجة. ثؤاج الخروف. نقيق الضفدع. صريبر الجرادة. طنين الذباب. دوي النحل. نعيب الغراب. وقال في اختصاص ما سوي الحيوان: خرير الماء. بقبقو الجرة. نشنشة المقلى. هزيم الريح. هزير الرعد. عزيف الجن. حفيف الشجر. وسواس الحلي. جعجعة الرحى. صرير الباب والقلم. خفق النعل صليل السلاح. رنين القوس. اطيط المحمل. قلقلة القفل والمفتاح. وقد أسهب إسهابا غريباً عند كلامه على المباحث التي ذكرنا اشتمال الكتاب عليها مما يعجب المطالع ويلذ لكل من يود الإطلاع على براعة السلف في علم التدريس ورغبتهم إعلاء شانه ورفع منارة ووضع الأصول والقواعد له ليكون مبنياَ على أسس متينة وقواعد رصينة ويا حبذا لو استفزت الغيرة أفاضل العراق لطبع هذا السفر النافع فانه من اجل ما طبع وسيطبع من الكتب العربية ومما استوقف نظرنا ما جاء في خاتمة الكتاب قوله: وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين جرى ذلك في السبع الرابع أي يوم الأربعاء لأنه رابع الأسبوعوهو العشر الثالث أي اليوم الثالثمن الثلث الثالث أي العشر الآخر لان كل شهر يعتبر في ثلاث عشرات من السدس الخامس من النصف الثاني يعني يعتبر كل سنة عربية نصفين وكل نصف ستة أشهر فالسدس الخامس من النصف الثاني هو ذو القعدةمن العشر الثاني أي من السنة الثانية من القعدة يقال لكل من العشرين والثلاثين إلى التسعين عقد

لاكن المراد منه هنا كل عشر من مائة ففي كل مائة عشر عشرات فيكون في كل مئة عشر عقود الثاني يعني العشرة الثانية وهي من احد عشر إلى عشرين من العشر الثالث وهي المائة الثالثة لان في ألف عشر مئات فكل منها عشر الألف من الألف الثاني وهو معلوم من الهجرة النبوية على آله أفضل التحيةقلنا ومعنا ما تقدم من هذه الألغاز انه فرغ من تصنيفه يوم الأربعاء في اليوم الثالث والعشرين من سنة بضع عشرة ومائتين وألف للهجرة النبوية وفي الكتاب غير هذه التعابير الغربية التي يحل ألغازها ويفسر غوامضها في الشرح وكل ما تقدم شواهد لا تحتمل النقد والتزييف تدل على فضل المؤلف وسعة علومه ومعارفه وانه إمام في هذا ألفن البديع غفر الله له بغداد: أ. ح العمر

فوائد الحرب

فوائد الحرب مهما ارتقت المدينة ودعا دعاة الفلسفة فالحرب ما برحت العامل الرئيسي في أشغال المم. وبعيد أن يقال إن اكتشافات العلم تقلل الحروب بل من المحقق أنها بالمدينة أصبحت اشد فتكا وتدميراً. وإننا لو رجعنا إلى عهد كبار السفاحين عهد جنكيز وأنيلا لا نشهد في ساحات الوغى أرواحناً نزهق بقدر ما نرى في عصر الكهرباء والبخار. والقول بأبطال الحروب هو قول من يقول بأبطال الشيخوخة والموت من العالم. فان الجهاد بين الشعوب كان مصدر أهم الترقي ولا يرى كيف استطاع البشر الأول بدون حرب إن يخرج من دور التوحش ويؤسس هذه الممالك ألفخمة التي نشأت فيها ألفنون والعلوم والصناعات وبعد فأي حضارة كبرى لم تكن حربية بلحمتها وسداها؟ وأي شعب جنح إلى السلم والسكينة فكان له شأن في التاريخ غرس في فطرة الحيوان أن يأكل قويه الضعيف. لأجزم إن المدينة تقلل من هذه القاعدة ولكنها لا تستطيع أن تضعف النفرة المستحكمة بين العناصر الناشئة من اختلاف التركيب العقلي بينها وهي اختلافات تحمل كل عنصر يعيش عيشاً يخالف الآخر فيضطر أن يسلك مسلكاً يخالف غيره فيه وقد نشأ معظم التنازع بين البشر من هذا الاختلاف وكل حروب البشرية كحروب ألفتوح والحروب لتولي الزعامة والملك والحروب الدينية والحروب لإعلاء كلمة دين ومذهب كانت على الغالب حروباً عنصرية فقد كان الخلاف بين ألفرس والآشوريين وهو الذي نقل لأول مرة السلطة على العالم من أيدي الساميين إلى أيدي الآريين حرباً بين عنصرين وكذلك كان من أمر النزاع بين اليونان والآسياويين وبين الرومان والبرابرة وبين اليابان والروس بل أن الحروب الدينية في القرون الوسطى كانت حرباً عنصرية يريد فريق أن يفكر كما يريد ويريد الآخر أن ينحله نحلته ويقول بقوله ويخضع لسلطان الدين الجديد وما فيه من قيود عن مشخصاته أما اعتبار هذه الحروب حروب ملوك بعضهم مع بعض فليس من التحقيق في شيء فإن الملوك الذين لم تتجسد فيهم مرامي شعوبهم وأهوائهم وأحلامهم كانوا لا يلبثون على سرر الملك الأعشية أو ضحاها مهما تعددت صلات لأمم وحذت بعضها لغات الأخرى فاختلافهم في عقولهم ومناحيهم لا يزال على أتمة ولا سبيل إلى جمع الشمل بين عناصر متخلفة بالفطرة ولا التفاهم لأن كل واحد نظراً والمنازع متخلفة في مسائل كثيرة إذً فمهما وقفت المصلحة بين الشعوب فأرواحهم تباعد بينهم فبدلاً من أن يسيروا نحو أعظم يسيرون إلى

نفور يزداد كل يوم تأصلاً ولهذه الكراهة عدة أسباب سياسية واجتماعية بعد أن تفاربت الأبعاد باختراع البخار والكهرباء أصبحت الأمم تستكثر من التسليح وتضع عقبات كمركية تقطع الاتصال بين المماليك وسيكون من أمرها بعد أن تطوق كل مملكة بطوق كسد الصين أن لا ترى الأمم هذا السد كافياً للحيلولة بينها وبين غيرها حتى لقد أخذت الحكومات حرة دستورية كانت أو مطلقة ألهية تقول بالابتعاد عن الأجانب فبعد أن أقرت أميركا كما أقرت أوستراليا على نفي الصينيين من بلادها أخذت تحظر دخول السفن الحاملة مهاجرين فقراء وحزب العملة في إنكلترا ينادي بطرد العملة من غير الإنكليز والحكومة الروسية عملت بإدارة العامة من شعبها وربما كانت هذه الإرادة أقوى من أي سلطة أعظم من القياصرة فقضت بطرد الإسرائيليين من المدن الكبرى والحكومة البروسية تطرد البولونيين والطليان الذين يعملون في سككها الحديدية وسويسرا بعد أن رفضت سنة 1894 القانون القاضي بعد إعطاء عمل للعملة الأجانب أنشأت تطلب في تعهداتها مع المتعهدين للوازم الحربية أن لا يكون صناعها إلا من السويسريين وكذلك جرت فرنسا في عامة أحوالها كل هذا مما دل على القرن العشرين لم يقو على بث مبادئ الإخاء العام بين البشر وأنه لا سبيل إلى أحكام أواصره بين العناصر المختلفة إلا إذا جهل بعضهم ما عليه صاحبه فأنت إذا قربت بين الشعوب بتقريبك بين المسافات الشاسعة وسهلت ارتياد البلاد على كل مرتاد تحكم عليهم أن يعرفوا بعضهم معرفة تامة فينتج من ذلك أن يضيقوا ذرعاً أكثر من الأول عن تحمل بعضهم بعضاً ذلك لأن تزايد نفوذ الغريب في بلد هو من مقوضات حياة المماليك فالنفوذ الأجنبي يسلب من الأمم أعز ما عندها ونعني به روحها فإن الدخيل لما كثر في مملكة الرومان انحلت وتأذن الله بفنائها الأجنبي في بلاد غيره لايخضع لقانون التجنيد ويدفع أو قد لا يدفع قليلاً من الضرائب ويعمل عملاً أسهل بأجر أكثر مما في مسقط رأسه وتوارد الأجانب على مملكة يحاذر منه لأن العناصر المنحطة التي لا تقدر على القيام بأودها في بلاده هي التي تهاجر ومهما ذهب من الأنفس في ساحات الحروب لا يكون تأثير ذلك في الأمم بقدر ما يكون من غارة الغريب والدخيل على بلد ليس هو منها في العير ولا في النفير كان القدماء يخافون الغريب من فطرتهم ويعرفون حق المعرفة أن قيمة المماليك لا تقدر بعدد سكانها بل بعد الوطنيين فيها وكل دولة كانت ذريعة إلى السلم العام الدائم تقضي

على كل ارتقاء وتعود بالناس إلى أقصى التوحش قال فوكويه إن ضمانة السلم تولد قبل أن يأتي نصف قرن فساداً وانحطاطاً افعل في تقويم دعائم الإنسانية من عوامل الحروب لا شك أن الحروب لا تخلو من محاذير وكثيراً ذات بال ولكن إذا قورنت بغيرها تبين الكفة الراجحة من الكفة الشائلة في الحروب محاذير ترد إلى أصول ثلاثة فقد المال وفقد الرجال ضعف العنصر ففقد المال لا شأن له إذ دلنا التاريخ أن الشعوب الكثيرة الغني كانت أبداً تضمحل أمام الشعوب الفقيرة وما أفقار أمة من المضر بها كل الضرر فقد قال الأخصائيون أن ألمانيا أنفقت حتى الآن كثيراً من المليارات للاحتفاظ بولايتي الألزاس واللورين وأن جميع أوروبا تفادي كل سنة بمليارات كثيرة في سبيل تسليح شعوبها ولا جدال في أن بعض الأمم ذاهبة نحو الإفلاس وعلاج هذا الداء فيها أن تحرض على العمل وتعلم الاقتصاد ويجب أن تعتبر هذه المبالغ المصروفة في سبيل التجنيد ضرباً من ضروب المكافأة الضامنة لمن يدفعها شر الغارة عليه فالأمة الأوروبية التي تبقى يوماً بدون جيش تضم حالاً إلى دولة قوية فتستضيفها وترهقها بما تضعه عليها الضرائب الباهظة وهي أشد من كل ضريبة تؤديها في سبيل التسليح ولذلك ترى الأمم تتنافس في إنفاق الملايين على جيوشها ريثما يضرب بعضها بعضاً بالقنابل والأصل الآخر الذي يحاذر منه في الحروب قلة الرجال وهذا ليس من العظم بالقدر الذي يحمل له خصوصاً عند الأمم التي يكثر توالدها فإن نابليون أضاع في حروبه ثلاثة ملايين من الأنفس ولكنه خلف مجداً لعنصره من فوائد الحروب أنها تؤلف روحاً وطنية وبالحروب فقط تتولد هذه الروح وتتأصل في جسم الأمة بدون روح وطنية يصعب أن تقوم لشعب مدنية وحضارة. فالروح الوطنية تقويها الحروب عند الظفر وتنمو قوتها كل النمو عند الانكسار. يقولون إن وقعة اينا كانت مصيبة على ألمانيا والحقيقة أنها لم تكن كذلك إذ بدون هذه المصيبة الموهومة كانت وحدة ألمانيا وقوتها تأخرت بضعة قرون وإنا إذا لم ننظر إلى الحوادث إلا باعتبار نتائجها البعيدة يسوغ لنا أن نقول إن وقعة أينا كانت وبالاً على فرنسا الظافرة إذ ذاك لا على ألمانيا المغلوبة في تلك الوقعة. نشأ من الحروب الأخيرة في أوروبا قانون التجنيد العام فإنه وإن أضر بالأمم الأوروبية من حيث الماديات ولكنه نفعها من وجوه ولولاه لانتشرت ألفوضى وسادت الاشتراكية وتقدمت جميع أبنية المدينة الحديثة. فإن الأسس الدينية القديمة التي

كانت تقوم عليها المجتمعات الحديثة في الغرب قد خربت فلم تجد أوروبا شيئاً تستعيض به عنها. فالقانون العسكري كان المهيمن الذي لقن أهل الغرب قليلا من الصبر والثبات وأشرب قلوبهم فكر المفاداة وأورثهم الميل نحو الكمال موقنا وبه قضى على الأنانية والترف الذي يستولي على الشعوب فينهك قواها. ضريبة الخدمة العسكرية ثقيلة تذكر باشق إدوار العبودية القديمة ولكنها لا يتأتى لمجتمع القيم بدونها ومن زهد فيها أندغم من غيره أو أغارت عليه الأمم المتوحشة فلا يجد إلى دفعها سبيلا. قال السير مولتكه في مفكراته: لا يخضع الشبان إلا زمنا قصيراً في الجملة لنفوذ المدرسة النافع ومن حسن الحظ عندنا معاشر الألمان أن التربية الحقيقية تبدأ حالما تنتهي التربية الشخصية وما من أمة أحرز مجموعها تربية تشبه تربيتنا التي جاءتنا من طريق الخدمة العسكرية. قالوا إن معلم المدرسة هو الذي كتب النصر لأعلامنا ولكن العلم وحده لا يكفي في تربية الإنسان والأخذ بيده إلى مستوى من الأخلاق يستعد به لأهراق دمه في سبيل تأييد فكر والقيام بواجب وفي طريق الشرف والوطن وغلى هذا كله ترمي تربية الإنسان. فليس معلم المدرسة هو سبب النصر بل السبب هو المربي الحقيقي: الحكومة العسكرية هي التي انتصرت فربت في الناس مدة ستة عشر سنة متوالية القوة الجسدية والعقلية وعلمتهم النظام والتدقيق والاستقامة والخضوع وحب الوطن. إن نفع القانون العسكري لا يقتصر على تعليم الأمم الشمم والإهابة بأخلاقها إلى السمو بل إليه يرجع ألفضل في النجاح العظيم الذي أحرزته الصناعة الحديثة ولا سيما في أعمال المعادن وذلك لأن البحث الذي وقع لأستجادة السلاح قد كان من إثره إدخال الصناعة في طور علمي دقيق وفي سرعة لم تكن تعرف منذ خمسين سنة على نحو ما كانت الضرورات الحربية مؤدية إلى انتشار الخطوط الحديدية فكانت الأصل في معظم الكمال الذي بلغته الملاحة في البحر. فالحروب والخوف منها هي من أقوى العوامل الأخلاقية والمادية في الشعوب ومن الأفكار العسكرية يتألف أخر عماد بدعم المجتمعات الحديثة وبذلك كان على الشعوب التي لم ترض عن الجندية أن تعترف لها بالجميل. وعلينا ألا نشكو كثيراً من النفرة المتبادلة بين الشعوب إذ بدونها يزول كل خشية ممن الحرب وبذلك تضمحل المدنية فتغدو رباعها بلقعاً. مثال الأمم التي اضر بها السلام أهل الهند فإنهم يعيشون منذ زهاء قرن في سلام دائم وبلادهم أوسع البلاد

وأكثرها سكاناً حتى قدرت الزيادة فيهم مدة عشرين سنة بأكثر من ثلاثين مليوناً ويسكن الكيلو متر الواحد من الناس في الأرض القابلة للسكن ضعفاً ما يسكن في الممالك المتمدنة في أوروبا ومع هذا نشأت خطوب كثيرة منها مجاعات ذهبت بأرواح مئات الألوف من السكان في أدوار متعددة فلم تنفع السكك الحديدية والأسلاك البرقية وهلك في ولاية أوريسا وحدها سنة 1866 من الجوع فقط مليون إنسان كما هلك 12. . . . . سنة 1868 في إقليم بنجاب وفي سنة 1874 هلك مليون وربع من الهنود في مملكة الدكن. فهل كانت الحروب تحصد أكثر من هذا القدر من الناس وهلا كان الهلاك في الحرب أشرف وأعظم في حسن الأحدوثة؟ وبعد فإن خير الطرق لإعداد النفوس إلى ما عساه يطرأ على الأمم هو أن تبث فيها روح وعواطف يقال لمجموعها ألفكرة الجندية وهذا هو أقوى دعامة في الجيش وبدونه لا أمل لشعب في إحراز مظهر في الوجود بل يشبه حملاً ضعيفاً ليس له حول ولا طول. من أجل هذا وجب على كل من يحب وطنه أن يربي أولاده تربية جندية ويبث هذه الروح في الجنود الذين لم تمكنهم أحوالهم فيما مضى من تلقف هذه الروح حتى لا يكون حال الأمة التي تطالب بالسلام حال البيزنطيين في الأستانة أيم جاءها محمد ألفاتح يتجادلون في المسائل اللاهوتية وألفاتح يحط رحاله في أسوار القسطنطينية. يتوقف الانتصار في الحروب على معنويات الجيوش لا على كثرة عددها فهي التي تغلب وتقطف ثمرات الحرب الأخيرة. وقد أفادتنا الحرب العامة أن دول الاتحاد (ألمانيا والنمسا والمجر والعثمانية) اقل جنداً ونفوساً من الاتفاقيين (روسيا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا والبلجيك والبرتغال والصرب الجبل الأسود واليابان) ومع هذا رأينا الغلبة للاتحاديين على الوفاقيين وعلمتنا أمن لاتحاد ألفكر بين القواد والضباط العامل الأقوى في الغلبة فأحلافنا لم يختلفوا ساعة على المصلحة على حين ترى أعداءنا كل يوم في شأن من أجل القيادة والمحور الذي يدور عليه العمل للوصول إلى الغاية. هذا بعض ما تجر الحروب من ألفوائد التي أقرها علماء الاجتماع وأيدتها الشواهد التاريخية الكثيرة فإن الصين على كثرة عددها ونفوسها لا تقل عن أربعمائة مليون لما تغلبت عليها فلسفة السلم وأخلدت إلى الراحة تنقصها الأمم الغربية من أطرافها ويابان التي لا نبلغ بعدد نفوسه سدسها ضربت روسيا التي هي ثلاثة أضعافها ضربة أفقدتها منذ سنين خمسها فضربت بهذه الضربة جميع ممالك

أوروبا وأمريكا عن الطمع في بلادها وأصبحت يابان إذا ذكرت طأطأت لها الجباه إجلالا وأصبح الغربيين يتفاخرون في الأخذ عن مدنيتها والهند لما نزعت منها الأخلاق الحربية رئمت للمذلة وخضعت لسلطان القوة فأصبح أهلها وهم خمس الأرض بعددهم لا يساوون الهولنديون وهم ثلاثة ملايين فكأن مائة مليون هندي أقل مكانة من مليون هولندي.

الحرب والتاريخ

الحرب والتاريخ نشر المسيو هنري ماركزالي من أساتذة كلية بودابست مبحثاً في الحرب العامة في نظر التاريخ في مجلة التي تصدر بالفرنسية قال بها ما نعر به بما يأتي: قال القائد كلوزفيتز أحد أساتذة فن الحرب الحديث: الحرب هي السياسة بالسلاح. ونحن هنا نبحث في سياسة الممالك المتحاربة إلى يوم نشوب الحرب ونبين ما بين الأمم المختلفة من المصالح والأهواء التي دعت إلى هذه الحرب وأطالت مدتها. وقد رأينا الجماعات هذه المرة قد قضت بالحرب لا الأفراد مهما بلغ سلطانهم وعظمتهم. وبعد فلا يخفى أن الحرب نشبت رغم إرادة القيصر أكبر ملك يدعي أن سلطته من الله ولقد تنبأ مولتكه بأن الأمم هي التي ترغب بالحرب لا الوزارات وما حدث فإنه نتيجة نشوء تاريخي وسلسلة كوائن وأول هذه الحوادث حرب فرنسا وألمانيا سنة187. - 1871وهي الحرب التي أضاعت فيها فرنسا ولايتي الألزاس واللورين اللتين كانت افتتحتهما بالسيف وقلبت كيانيهما وفرنست سكانهما ودفعت فرنسا فوق ذلك غرامة باهظة ولم تعد أول مملكة أوروبية كما كانت وظل جرحها دامياً وما برحت العداوة الفرنسية الألمانية العامل الدائم في الحالة الأوروبية. وقد حاول الألمان أن يسلو تلك السخائم والعداوات من صدور لفرنسيس وحاول أناس من رجال السياسة ومن أشهرهم غامبتا ألفرنساوي أن يعيدوا الألفة بين الشعبين ولكن أخفقت جميع مساعيهم لأن أبرة هذا الانتقام ظلت متأصلة في الجرح. خرجت روسيا بعد الحرب ألفرنساوية الألمانية من قيود الاحتياط التي علمتها إياها حرب القويم ولم تبصر أمامها أوروبا كما كانت حالها من قبل وأخذت تحمي الدولة العثمانية وكانت هذه ضعفت وأختل نظامها على عهد السلطان عبد العزيز وأعلنت روسيا أنها لا تعترف بمعاهدة باريز (1856) التي كانت تحظر عليها أن تنشأ أسطول حربي في البحر الأسود وعادت تبعث آمالها القديمة من مرقدها لامتلاك المضيقين والعبث بالأملاك العثمانية وكانت إنكلترا والنمسا والمجر في مؤتمر لندر تقاومان هذه الدعوى وحدهما ولئن وصف الملك غليوم عمل القيصر بأنه الضربة القاضية فلأن المحالفة الروسية كانت أساس السياسة البروسية فأخذت بروسيا تنشأ أسطولا بحرياً في البحر الأسود ثم جددت هممها وتوسعت في ميولها لتقوية دعائم المملكة العثمانية واستعملت لذلك طريقتين فكان الكونت أغناتيف سفير روسيا يسيطر على السلطان الذي كان يبدي ضعفا وقلة خبرة ويوهمه بأنه هو الصديق الحقيقي له

ولسلطانه وأنه وحده يحول دون أوروبا وما تشتهيه من وضع حد لسلطة السلاطين المطلقة بمحاولتهم إدخال الإصلاحات على المملكة العثمانية ولطالما قدم هذا السفير المال إلى السلطان والمقربين منه. وهكذا كانت تعمل روسيا الرسمية ولكنها كانت من جهة أخرى توقد جذوة الاضطراب وتدس الدسائس في جميع الولايات العثمانية. فكانت أموال الروس ونفوذهم تشتغل في بلغاريا والبوسنة وألبانيا والجبل الأسود والصرب ورومانيا. وإذا أيقنت روسيا الرسمية أن طريق الأستانة يمر من فينا وبودابست صرفت وكدها كلها لتقلب رأساً على عقب بوكوفينا وغالسيا وبوهيميا وهنغاريا روسيا. وكانت تجاهر بأن غايتها الوحيدة تحرير جميع الشعوب الصقلبية وضم شملهم تحت سلطان روسيا الأكبر وتدير هذه الحركة جمعية الاتحاد السلافي في موسكو وهي وإن لم تكن رسمية ولكن كان بعضدها الغراندوقات والقواد ولما تخمرت الثورة وبلغت روسيا الغية من انتفاض البوسنة والهرمك وإلقاء الاضطراب في بلغاريا ثم فرغت الصرب والجبل السود إلى حمل السلاح دخلت روسيا إلى ذاك الميدان علناً وكانت من السرعة في العمل بحيث قام الوطنيون من العثمانيين وأنزلوا عبد العزيز عن عرشه لاعتقادهم بوخامة الحالة ولم تنل الصرب من روسيا معاونة مالية فقط بل بعثت إليها بالمتطوعة وحاولوا دون العثمانية وزحفها ظافرة على بلغراد. ولم تتدخل إمبراطورية النمسا والمجر في الأمر وحالت عداوة غلاوستون للعثمانية دون إنكلترا وعمل شيء وفتحت رومانيا طريقاً للجيش الروسي طوعاً أو كرهاً وعضدت روسيا في حملة 1877_78 التي انتهت بهزيمة العثمانيين فأملى الجيش الروسي شروط الصلح على أبواب الأستانة في سان ستيفانو وأنتجت هذه الحرب تأسيس مملكة بلغاريا الكبرى وتوسيع أملاك مملكتي الجبل الأسود واليونان ولم تحظ الصرب وكانت متعلقة بأهداب النمسا والمجر بقسم كبير من هذه الغيمة وكانت رومانيا أعلنت استقلالها من قبل. وإذ كانت هذه الممالك بنات روسيا وهي القائمة على نموها واتساع رقاعها أصبح من الأمور الطبيعية إن تكون أدوات لسياسة الاتحاد السلافي. أما رومانيا واليونان فانهنا وان لم تكونا صقالبة من حيث العنصر فقد انضمتا إلى لواء القيصر بجامعة الدين الواحد. حالت إنكلترا والنمسا والمجر دون تحقيق هذا الحلم الذي طالما حلم به أهله فحدد مؤتمر برلين (من13حزيران إلى 12تموز1878) تخوم بلغاريا وأقترح مندوب

الإنكليز أن تفوض للنمسا والمجر إدارة مقاطعتي البوسنة والهرسك واحتلال بكي بإزار. وحازت روسيا أملاكاً في أوروبا فاستضفت من حليفتها. رومانيا مقاطعة بسارابيا شمالي مصاب نهر الطونة وروسيا نفسها هي التي قدمت البوسنة للنمسا والمجر ولولا ذلك لخال جيش هذه دون دخول الروس إلى الروم أيلي. وقد عمل بسمارك في مؤتمر برلين عمل السمسار الشريف بيد أ، توسطه لم يقنع روسيا المعتادة أن تجد لبناً أكثر عند الحكومة البروسية. فأخفقت المشاريع السلافية وأصبح قواد الروس منذ ذاك العهد ينظرون إلى ألمانيا نظر الخصم الحقيقي وأخذوا يبصرون أن طريق الأستانة يمر ببرلين. دلت التجارب أن روسيا الرسمية المالية لم تعد تستطيع أن تقاوم الجامعة السلافية كثيراً واضطر بسمارك أن يعقد مع النمسا والمجر محألفة كانت تعد موادها منذ زمن طويل على الشروط التي وضعها الوزير اندراسي. وهذه المحالفة تنظر خاصة إلى السياسة العدائية التي سارت عليها روسيا وقد حياها سلسبوري باسم إنكلترا بعين الاستحسان هذه المحالفة التي كانت المفردة في أوروبا فأصبحت روسيا بمعزل وما كان لفرنسا إذ ذاك سوى ميل من الحزب غير الراديكالي الإيطالي عندما وضعت فرنسا يدها على تونس (1881 - 83) وهكذا تألفت المحالفة الثلاثية التي قامت مقام تحالف الأمبراطورة الثلاثية الموجود سنة1873وكانت أواخيها قد انحلت انحلالاً كبيراً فتحققت أمنية بسمارك في ضمان السلم لمملكة ألمانيا والمحافظة على المكانة التي بلغتها بحروب شعواء وما كان يفكر إلا في توسيع روابط تلك المحالفة وإن يدخل فيها ما أمكن من الممالك حتى بلغت بها الحال بعقد عهدة مع روسيا. هذا والمملكة العثمانية تسير في طريق التجزؤ فاحتلت انكلتراسنة1882معترفة بسيادة الباب العالي عليها وعلى قبرص وذلك بأن تؤدي إليه الجزية وتحتفظ بالإرادة الخدبوية وفي سنة 1885أعلن الروم أيلي الشرقي وكان انفصل عن بلغاريا في مؤتمر برلين انضمامه إلى هذه الأمارة وأصبحت الثورة دائمة في كريت إذ كان عمل روسيا محسوساً في كل هذه الشؤون ولا سيما في إسقاط الشجاع ألكسندر دي باتنبرغ من على عرشه على صورة وحشية لم تجوز النمسا والمجران أن تصبح شبه جزيرة البلقان تحت نفوذ روسيا ولذا كادت الحرب تنشب من أجل ذلك نحو أواخر سنة 188أنبعث فالنوكي إذ ذاك بلاغاً إلى بطرسبرج فاضطرت روسيا إلى الإذعان وفي ذلك

التاريخ نشرت عهدة التحالف المعقود بين ألمانيا والنمسا والمجر (7شباط1887) وألقى بسمارك خطابه المشهور ضد روسيا الذي قال في ختامه نحن الألمان نخاف الله ولا نخاف سواه فاضطرت روسيا أن تحجم مرة أخرى عما تريد وذلك لأن حركة العدميين () كانت تهدد اليوم بعد اليوم حياة القيصر وأدوات ظلمه ومع هذا لم ترجع عما عقدت العزم عليه وانجلت المحالفة المقدسة بين ممالك الشمال الشرقي انحلالاً أبدياً وكان امتلاك الأستانة على الدوام تفاحة النزاع على نحو ما كانت عليه الحال في أوائل القرن عندما أريد إن يعرف من يكون صاحب المضايق فانحلت بذلك معاهدة نابليون واسكندر الأول إن روسيا لا تحلم باحتلال القسطنطينية مدفوعة إلى ذلك بعوامل تقاليدها القديمة بل إن مصالحها التجارية والسياسية تسوقها إلى الاستيلاء على عاصمة البيزنطيين لأن هذه العاصمة تستطيع أن تسد الطريق على سفنها الحربية كل حين وتحول دونها دون ما تشتهيه من نقل حبوبها إلى مرائي البحر المتوسط وهي أحسن وأقدم المصارف لتجارتها بقيت فرنسا وحدها فأصح من الطبيعي تحالفها مع روسيا وكان الاعتقاد الراسخ منذ سنة1875أن تدخل روسيا هو الذي أنقذ فرنسا من غارة الألمان ثانية عليها ليفصدوا فرنسا فصدة تصفي دمها. فعقدت المحالفة بين فرنسا وروسيا سنة1893 ووقعت هذه المحالفة الثنائية أمام المحالفة الثلاثية وأخذت أموال لفرنسيس لتسرب إلى روسيا التي لم تتعب من الأفراض (15مليار فرنك في2. سنة) وبذلك تبين أن الموازنة الأوروبية عادت فاستقامت. ولما تخلى عن الدولة العلية حاميها القديم وجهت وجهها بالطبيعة نحو المحالفة الثلاثية واستدل على هذا الانقلاب بسياحة الإمبراطور غليوم إلى الأستانة وفلسطين1898ونالت الصناعة الألمانية والأموال الألمانية امتياز السكك الحديدية في آسيا الصغرى وبين النهرين وهي مشاريع تبشر بمستقبل زاهر. وحاربت العثمانية اليونان حرباً خرجت منها ظافرة. لا جرم إن الخوف كان مستوليا على مكدونية فكانت عصابات يونانية وبلغارية تعد للمستقبل عدته ولكن أتفاق حكومتي فينا وبطر سبرج بشأن إدخال الإصلاحات كان ضماناً للحالة الحاضرة ولبقاء الحكم العثماني عليها (1897) ولم يجر الوفاق بين النمسا والمجر وبين روسيا على قاعدة التساوي وكان من الحزب الروسي في بلغاريا أن استلم زمام الحكم فيها بعد مقتل ستامبو لوف1895وعلى العكس في الصرب المدينة لساستنا بتوسيع بلادها سنة1878

ولبقاء استقلالها مصونا من عبث البلغار سنة1885فإن سلالة اوبرنوفيتش قد علقت بقائها ومستقبلها على طالع بلادنا. ومقتل ملك الصرب الذي كان داعيا إلى صعود أسرة قره جبورجو فيتش على عرش صربيا الملوث بالدماء لم يكن فيه سقوط بيت ملوكي فقط بل تداعى معه النفوذ النمساوي في البلقان19. 3وعلى العهد الأخير وعقبت اتفاقنا مع روسيا اضطررنا إلى التخلي مركزنا فأصبحت بلغراد للحال بؤرة اضطرا بات مفرطة لا تطمح إلى الاستيلاء على مكدونيا فقط بل لتطال إلى مقاطعتي البوسنة وسلا فونيا فعادت الحال إلى ما كانت عليه قبل سنة1876وأصبحت الدولة العثمانية وسلطة إمبراطورية النمسا والمجر في خطر من جديد. النسر ذو الرأسين هو الرمز الحقيقي لروسيا فإنها ليست ذات سياستين إحداها رسمية والأخرى سرية بل إن لهذه السياسة الأخيرة: الغرب والشرق. عندما تقف في وجه روسيا عقبات مهمة في الغرب تنقلب إلى آسيا ومتى صادفت هنا مشاكل نعود فنبحث عما تعوضه في أوروبا. فروسيا لا تعرف لا توقفاً ولا راحة. لما أخذت روسيا بعد حرب القريم تجمع شملها كما قال السياسي غور تشا كوف استولت على إقليم الأمور منتزعة إياه من يد الصين ثم افتتحت بلاد خانات آسيا الوسطى مثل بخارى وخو قنذوخيوه وكان من أمر وفاق سنة1897الذي وقعت عليه وحظر عليها العمل في البلقان علنا لما فيه مصلحة سياستها إن وجهت وجهتها نحو الصين الآخذة بالانحلال فاحتلت بلاد منشور وألقت نظرها إلى كوريا طامعة أن تكون دولة بحرية في المحيط الباسيفيكي إذ لم تستطع أن تكون كذلك في أوروبا ولكن هذه الأحلام جرتها إلى عراك مع اليابان وهذه كانت قد تجددت حياتها الداخلية فزادت قوتها وكان من حربها مع الصين وخروج اليابان ظافرة سنة1894أن تنبه في هذه الدولة الغالبة الشعور فخرجت اليابان منصورة في البر وفي البحر في حرب سنة 19. 4 - 5 وفقدت روسيا بوراثور وكان من أمر كوريا أن احتلتها اليابان فاضطرت روسيا أ، تتخلى مؤقتاً عن أمانيها في آسيا الصغرى وحالت الثورات التي نجمت بشدة سنة19. 5 - 6 دونها ودون السياسة الأوروبية ولو كان للمحالفة الثلاثية خلق اعتداء وأطماع في فتح بلاد لتيسر لها في ذلك الحين أن تغتنم ألفرصة لأضعاف مملكة القياصرة زمناً طويلاً. وكانت اليابان في هذه الحرب نصيرة إنكلترا التي كانت مربوطة معها على ما علم بمعاهدة لا يزال حكمها ساريا

وبتحريض الإمبراطور غيليوم الثاني دخلت روسيا في الحرب لتقضي على الخطر الأصفر فإن ألمانيا كانت تحاذر أبداً من جارتها في الشرق ومن اتحادها مع فرنسا فرافها اشتعال روسيا في الشرق ونظرت إليه بعين الرضا وهذا مما ينافي مصلحة إنكلترا. وكانت مشاكل هذه المصانع الحيوية منذ عهد نابليون تتقاذف القرن التسع عشر بجملته ويرجع ألفضل إلى فمبري العالم المجري الشهور في إنارة الرأي العام الإنكليزي في معنى النتائج المضرة على إنكلترا التي تحدث من التقدم الروسي وقد أدركت إنكلترا منذ ذلك العهد بأن اتساع مستعمراتها وتباين أفكارها امتداد تجارتها والمحافظة على مصارف صناعتها وطرق مواصلاتها تقتضيها مشاق تزيد اليوم عن الآخر. وصرح المركيز سلسبوري البوزير الإنكليزي في إحدى خطبه بما يجب على بريطانيا العظمى من الاستسلام للقضاء بلسان الحزن أمام ما يعترضها من أصعاب التي تكاد لا تذلل لحل هذه الإشكال. فمن ثم رأت إنكلترا بعين الرضا المحالفة الثلاثية تقيد الأطماع الروسية عن الانبعاث في أوروبا وكذلك تفعل اليابان في آسيا. وبديهي أن الأملاك البريطانية في آسيا هي أثمن في نظرها من الدولة العثمانية والمضايق وهي ترجح أيضاً أن تشفي روسيا أطماعها التي لا ينتهي في أوروبا بدلاً من أن تعبث بإمبراطورية الهند ومصارف الصين. عرف هذا فخطر لرجال السياسة الإنكليزية أن يشغلو روسيا في أوروبا ليخلو لهم الجو ويمتعوا بنعمة السلام في آسيا. ومن ألقى نظره على التاريخ يرى أن السياسة الإنكليزية ذات وجهين تشبه السياسة الروسية تقريباً فإن اختلاف الأحزاب في بريطانيا في مسائل السياسة الخارجية تحدث بينهم اختلافا كبيراً كالانحراف الشاهد في بطرسبرج بين روسيا الرسمية وغير الرسمية فحزب المحافظين من الإنكليز الذي تشبع بما دار من العراك القديم مع فرنسا يبحث أحيانا أن يكون من حزب الحكومات الألمانيا ومن قواعدهم ومن قواعدهم إجمالاً أن يكونو على صلات حسنة مع بلاط فينا ويحافظوا على الدولة العلية وفي بعض الأحوال عندما كانت الأستانة تهدد والقوى الروسية تقترب من الهند كان الأحرار يعضدون سياسة الاستعمار ولكن تقاليدهم السياسية تختلف اختلافا محسوساً. وقد ورد في كتاب مفاوضات هوراس والبول إن كاتربنا الثانية أوصت في سنة1792على تمثال فوكس زعيم حزب الأحرار المعارض الإنكليزي في عهده لأنه قاوم نشوب الحرب بين الشعبين العظيمين روسيا

والإنكليز فكانت القيصرة تحارب إذ ذلك الدولة العثمانية التي كان يدافع عنها ببت الإنكليزي وطلبت كاترينا حصن أوتشا كوف والصقع الواقع بين نهري بوج ودنيستر أعدت الحكومة الإنكليزية عدتها لتبعث إلى بحر روسيا بأسطول من قبلها ولكن المعارضين صرخوا بأعلى أصواتهم أن هذه السهول لا توازي المبالغ التي تقتضيها الحرب وتكلم المعارضين بلسان الصناعة والتجارة الإنكليزية وما ينالهما من ألفتور بحيث اضطر ببت أن يتخلى عن دعواه أما كاتربنا فظلت تفتح فتوحها بتؤدة. ومثل ذلك حدث في الحروب العثمانية الروسية 1867 - 78 وكانت وزارة ديزرانيللي إذ ذاك تميل إلى العثمانيين وتقترح عقد محالفة مع بلاط فينا وعلى العكس في وزارة غلادستون التي كانت بسبب المذابح البلغارية تحمل الحملات المنكرة على العثمانية وتطالب بإخلاء النمساويين للبوسنة ولما استلم أزمة السياسة في بلاده لم يلق للعثمانية بالاً وكان من عمله احتلال مصر وقد أبانت تقاليد حزب الأحرار كيف أن هذا السياسي العظيم قد اسغوته عقلية نوفيكوف بلطفها على أيسر وجه بيد أن تقاليد حزب الأحرار لم تمكن إنكلترا من تجاوز حدها والانضمام إلى المحالفة الثنائية ولولا أنم حدث تبدل كبير في أوروبا ما استطاعت أن تلوي وجهها عن حليفاتها القديمات وتضع يدها في يد عدوتيها منذ الزمن الأطول: فرنسا وروسيا. وما دعت إلى هذا التبدل حوادث تاريخية بل كوائن النشوء والأريقاء وهو ارتقاء ألمانيا الخارق للمادة فإن ألمانيا بعد حرب فرنسا ظهرت في مظهر لا مثيل له في التاريخ إذا اعتبرت مملكة قوية الشكيمة في داخليتها ومعروفة بأنها أول دولة حربية في القارة الأوروبية تنصرف إلى عمل سلمي ولا تسئ استعمال قوتها لتخضع إليها شعوباً أخرى ولم يكن بسمارك يعني بغير تنظيم داخلية ألمانيا وما كان يعقده من المخالفات لا غاية له إلا تمكن بلاده من أن تعمل في ظل السلام في تنظيم داخليتها وكان هذا العمل مضاعفا وذلك لأنه يقتضي له من جهة أن يسكن ما أمكن الجدالات المذهبية والاجتماعية ومن جهة أخرى أن ينشط الأعمال الألمانية ويثمرها وهذه الأعمال نتيجة العلم العملي. فسكنت الجدالات الذهبية بعدما ثار ثائر الجهاد على الكثلكة واستطاع الكاثوليك في ألمانيا أن يشاركوا في العموميات البرتستانت جنبا إلى جنب. اقتضت الحال للرضاء العملة أن توضع نقطة من الزيت الاجتماعي في الآلات الحكومية (1881) وبمعاونة حزب السوسياليست الديمقراطي

أحدثت على التدريج طريقة تامة لضمانة أحوال العملة وكان من نتائج الاقتصاد الألماني والعمل الألماني جمع رؤوس الأموال الكبرى. فالعلم الألماني مطبقاً على الصناعة رفع البلاد فوق درجة منافسيها من حيث إنشاء الأسلحة وجعل العالم أجمع عالة على معاملها الكيماوية وعلى تلك النسبة أرتقت التجارة الألمانية فشركات الملاحة في بريم وهامبورك كانت تنافس الشركات الإنكليزية الفرنسية في الصين وأميركا الجنوبية بل وفي الهند وهذه الشركات كانت تطمح إلى امتلاك المستعمرات فامتلكت أراضي أهملت الدول الأوروبية احتلالها مثل مستعمرات افريقية الشرقية والغربية غينا الجيدة (1884) وقد استلمت الحكومة الألمانية بعد هذه الأملاك. من أقوال اللورد بيكو نسفيلد المشهورة وهو ما نقله عن المؤرخ الروماني إن عظمة إنكلترا تقوم في الجميع بين النقيضين: إمبراطورية والحرية أما نحن فنرى أن الصفات الرئيسية في ألمانيا الحديثة قائمة أيضاً في أحكام العلا بين نقيضين: بين السلطة ونظام الجيش والإدارة بين الحرية في ألفكر والحرية في العلم. كان من بسمارك أن دخل في اعتدال زائد بل بشيء من الخوف في ميدان السياسة الاستعمارية وإنشاء أسطول حربي لأنه كان في عدة مسائل يذهب مذهب تقاليد بروسيا القديمة فكان الألمان يحاذرون من حقد لفرنسيس وعداوة الروس ولا يريدون أن ينبهوا حسد إنكلترا بيد أن الجبل الذي نشأ منذ الحرب الكبرى أصبحت له أطماع أعلى من ذلك لأنه أيقن أن فرنسا قد سحقت وروسيا مابرحت غامرة من حيث أن إنكلترا هي الخصم الممكن للأمة الألمانية التي دعيت لتكون دولة العالم بغناها وقوتها المعنوية وكان رأي الإمبراطور غيليوم كذلك من سنة 1888وعلى عهده وبمساعيه بدأت ألمانية تصبح دولة بحرية عظمى وارتقاء البحرية الحربية هو عمله بالذات عقدت عقدة الاتفاق الأولى مع إنكلترا فبعد مفاوضات مع سلسبوري وقع الاتفاق في حزيران 189. ان تكون لإنكلترا السلطة على زنجبار وتترك ذلك لألمانيا جزيرة هليكولاند وبهذه الصورة انتقل إلى المملكة الألمانية هذا الحصن الطبيعي في بحر الشمال. وكانت إنكلترا استولت عليها خلال حروب نابليون وخلص الأسطول الألماني من مراقبة خطرة في جواره مباشرة وقد أثبتت الحرب الحالية مكانة تخلي إنكلترا عن هذه الجزيرة لألمانية وتبين لماذا لا يغفر الإنكليز هذا العمل لرجال سياستهم ولم تنشأ العداوة الحقيقية بين الألمان والإنكليز إلا في حرب البوير فان

الإمبراطور غيليوم أرسل إلى الرئيس كر وجر برقية تهنئة بعد أن غلب الإنكليز في فرضة جامسون فأحدث ذلك سخطا شديدا في إنكلترا لان الإمبراطور هو حفيد الملكة فيكتوريا وكان ولاة الأمر في ألمانيا والرأي العام منحازين خلال حرب البوير إلى هذا الشعب الصغير الذي كان مستبسلا في سبيل الدفاع عن استقلاله انعزلت إنكلترا عن السياسة الأوروبية منذ سنة 1878فلم تعد في جملة محالفة من محالفة من محالفاتها وكان سلسبوري يدعو هذه الحالة العزلة الرائقة بيد أن حرب البوير وعواطف الكراهة التي نالتها السياسة الإنكليزية في كل صقع وناد عدا النمسا أبانت لها أن هذه العزلة ليس فيها ما يشوق ويروق وكان. اسطول ألمانيا الحربي بزيد على الدوام حتى فاق أسطول فرنسا وكان بعد أسطول هذه بعد الأسطول الإنكليزي بعدده وعدده والتجارة الألمانية تفتح لها مصارف جديدة في العالم وبيننا كان يقال سنة1876ان المصنوعات الألمانية غالية ورديئة ولكنها بالنسبة للمصنوعات الإنكليزية رخيصة وجيدة أصبحت تنافس الصنائع الإنكليزية حتى في إنكلترا منافسة شديدة ولم تر ألمانيا أن تكتم أمانيها وصرح رئيس النظار البرنس بولوف في مجلس النواب أن ألمانيا تطالب أيضاً بان تحيا على هذه الأرض ولقد كتبنا سنة 19. 4ما يأتي: تجري ألمانيا على سياسة لتحرز الأولية بين الدول فإلى أين تستطيع أن تسير بدون أن تحدث لها مشاكل مع المسيطرين على العالم وهم اليوم خصومها هذا سر من أسرار المستقبل فاقتضى لألمانيا أن تنزع من فكر إنكلترا فقط أنها الحاكمة المتحكمة في البحار وفي الاستعمار والعالم واستعمال عقد اتفاق بين المملكتين وكانت روسيا. مرتبكة أنواع الارتباك أن تباشر عملا في آسيا. وفرنسا تحالف الشيطان على شرطان تكون المحالفة ضد ألمانيا بل تحالف إنكلترا التي أورثتها سنة 1898عار الطرد من فاشودة. هكذا كانت الحال عند ما تولى ادوارد السابع زمام الملك في إنكلترا فرأى بعين البصيرة في الحال ما يجب مداولته وأيقن أن من الواجب تحويل أنظار روسيا عن الشرق الأقصى حيث يرجى أن يكون خطرا على السياسة الإنكليزية وان يجذب بضبع روسيا إلى الغرب يجعلها مناصبة لألمانيا ولحليفتها ولا شك أن مصلحة فرنسا كانت كذلك. ولهذه الغاية ذهب ملك إنكلترا إلى ريفال في حزيران19. 8فلم تلبث إيران وكانت منذ زمن طويل موضع الشقاق بين روسيا وإنكلترا أن تقاسمتاها فجعلت منطقتين روسية وإنكليزية وأصبحت

الأولية بذلك لروسيا في بلاد فارس. واهم من ذلك التقرب الذي وقع بين اليابان ومملكة القيصر من حيث النتائج. وعلى ذلك حدث تبدل تام في السياسة الإنكليزية عقيب استلام الأحرار أزمة الأحكام في إنكلترا وأصبحت المحالفة الثنائية وفاقاً بدون أن تتقيد إنكلترا بمحالفة عسكرية مثل شريكتيها. حدث في خلال سنة19. 8الأنقلاب العثماني واستولى فتيان العثمانية على زمام الحكم في البلاد وضمت عقيب ذلك البوسنة والهرسك إلى النمسا والمجر وكانت روسيا أظهرت ارتياحها إلى هذا العمل بادي بدء ثم دفعتها سياسة السير ادواردغراي فأنشئت تدافع عن حقوق الدولة العلية ثم عن مزاعم الصرب فلم تنشب الحرب لأن ألمانيا عقدت العزم على الأخذ بيد النمسا وفرنسا منهمكة فتنها الداخلية يتعذر عليها أتعاون معونة فعلية بحيث أصبحت روسيا وحيدة فولت منهزمة. ومع هذا تخلت النمسا لواء يكي بازار على مكانته الحربية لأطماع الصرب والجبل الأسود وهذه كانت جعلت مملكة وأخذ شبح الحرب العامة منذ ذلك العهد يبدو سنة عن سنة وحضت هولندا أوائل سنة 1911مرفأ فليسنج ففهم من ذلك أن النية عقدت لأقفال مجرى نهر السكوت الذي يجري إلى أنفرس ولم يصعب علينا أن نستنتج من ذلك أنه عقد تحلف فرنساوي إنكليزي من مضمونه أن تحتل إنكلترا احتلالاً عسكريا هذه القلعة المهمة ومرفأها حين نشوب حرب بين فرنسا وألمانيا. فأنقلب الوفاق الودي إلى محالفة عسكرية. وفي صيف تلك السنة دهش العلم أجمع لإرسال ألمانيا إحدى بوارجها العسكرية إلى أغادير على الشاطئ الجنوبي الغربي من مراكش وذلك للدفاع عن المصالح الألمانية من احتلال فرنسا بإشهار الحرب بل هددت إنكلترا ومع هذا وقع اتفاق هذه المرة أيضاً فأخذت ألمانيا جزءاً من الكونغو ألفرنساوية تعويضاً عن مطالبها. بيد أن الهمة انصرفت إلى اتخاذ الأسباب لفصل ألمانيا عن حليفتها حتى إذا تخلى عنها الكافة يتعذر عليها أن تقاوم ضعفت أعدائها فأخفقت هذه الأعمال على المهارة المبذولة لدى حكومة النمسا والمجر ومعلوم ما أعقب ذلك من ضم طرابلس وبرقة إلى إيطاليا ثم حرب البلقان التي أنتجت فقد الدولة العثمانية لولاياتها في أوروبا ثم ضعفت بلغاريا وتوسع صربيا كل ذلك جعل الدعوى إلى تأسيس دولة صربيا الكبرى مهيأة الأسباب وجرأ قائل ولي عهد النمسا على ارتكاب جنابته في سراجية ويوم28حزيران1914ومن جهة أخرى كان الاعتداء يعتمدون على المنازعات

الداخلية في النمسا والمجر. ويظهر لهم أن اختلاف الأحزاب السياسية في المجر والقومية في النمسا تسهل طريق تجزئة هذه الإمبراطورية المثنوية ولكن دلت النتيجة، هذا الرأي مغلط فقد يتنازع إخوان فإذا جاءهما ثالث غريب عنهما يتدخل في شؤونهما ينقلبان في الحال يداً واحدة عليه ولو لم يكن أعداؤنا من هذا الرأي لكانوا أحجموا عن مداهمتنا في عقر دارنا. تبين مما تقدم أن سلام العالم كان ضعيف الأركان منذ سنة19. 8لتضارب المصالح الكثيرة والأهواء المنوعة بحيث يتعذر وصف علاج بقطع آفة المرض الذي ابتليت به أوروبا. وعبثاً جرى القول في الصلح وفي وضع طريقة السلاح النسبي وكان جثام الحرب العامة يضغط على الأرواح وبهذا المؤثر وافقت المجالس النيابية على تجنيد الملاين من الجند وصرف المليارات من النفقات وهي إعداد ما كان الإنسان لطولها ليصدقها إلى ذاك العهد ونرجو أن تكون كذلك في المستقبل بعد فلماذا فادت الممالك مفاداة عظمى بالرجال والمال لو لم تكن في صدد حريق عالمي هائل؟ ذلك أن فرنسا تريد أن تستعيد ولايتين كانت فقدتهما وان تعود إلى المركز الذي كان لها قديما وان روسيا تريد إن تكون الحاكمة على المضايق وتخضع لصولجان القياصرة الشعوب السلافية الذين يدينون بالمذهب الأرثوذكسي وان يابان تريد التوسع في أملاكها وتزيد ثروتها لإنشاء أسطول حربي أما نحن النمسا بين والمجرمين والألمانين والعثمانيين فقد دفعنا إلى الحرب لندافع عن كياننا فاضطررنا لنفادي بأمور ثم إلى إعلان الحرب. وربما قيل إن المسلمين بأجمعهم يقفون في مصاف الدولة العليا لتقاوم عد واتها القديمة روسيا وإنكلترا وفرنسا وهاتان الأخيرتان أصبحتا عدوتيها وكانتا صديقتيها أما إنكلترا فان الداعي لها إلى إعلان الحرب هو الخوف من تخطي ألمانيا لها في مضمار الارتقاء فهي لا تريد أن ترتفع بل أن تخفض خصيمتها إن هذه الحرب هي حرب شعوب لا حرب أمراء ومع هذا فان مقتل ولي عهد النمسا وقرينته كان شرارة اتقدت بها النار بمواد غير ملتهبة كانت منبعثة من العالم اجمع. لا جرم إن نار ودنا أودرانا هي منذ عهد الباطنيين (القرن الثاني عشر) الشيعة السياسية التي كثيراً ما كانت تعمد إلى القتل لبلوغ غايتها وكان الباطنية مسلمين متعصبين يسقيهم زعماؤهم حشيشاً ليبعثوا بهم يسفكون دماء وقد حار بهم غير ما مر سلاطين السلجوقيين وفرسان الهيكل فأبادهم مؤخراً أبنا دينهم مماليك مصر ومن العبث أن يبحث في أوروبا في

القرن العشرين عن عواطف للتضامن وخشي من هول الجريمة وما من رابطة تجمع خصومنا ومن العجب أن روسيا التي أبادت أمماً كثيرة تقف الآن موقف المخلص للشعوب الصغيرة بقتالها التسليح العام في جنب إنكلترا وفرنسا ولا وجه للبحث هنا عن الاتحاد السلافي والاتحاد الروماني فإن الاتحاد السلافي الأدبي قد فسد بالروسية الوحشية وبانتحال المذهب الأرثوذكسي بالقوة وما من أحد يفكر بتاتاً أن يحقق أحلام الثورة الإفرنسية من حيث السياسة والاجتماع أو أماني المحالفة المقدسة الخيالية ولا يعمل هناك غير القوة الوحشية ليس إلا ونلاحظ فقط أن التطرف الغربي قد ملأ الحكم الروسي المطلق لإبادة أمم أوروبا المركزية البعيدة عن الاستبداد والفوضى وما شعارها إلا الترقي والإصلاح الاجتماعي الرصين لها.

الشيخ إبراهيم الحوراني

الشيخ إبراهيم الحوراني تتمة مافي الجزء السابع 4نثره أرهف المترجم به يراعه منذ الصبا فأجاد في الموضوعات التي دبجها به ولم يبق بحثاً لم يتناوله باسلاته فتفنن في مقلاته تفنناً لا يجيد فيه إلا من كان مثله كثير الاطلاع متضلعاً من العلوم والآداب متقناً للمنقول والمعقول فتراه يذهب بعقل المطالع لكتاباته الوضيحة البليغة كل مذهب وينحو به كل منحى فيمر على المدن والدساكر ويريه الشوارع والمنعطفات ويسدد خطواته في مناهج الحقيقة ويطير به في عالم الخيال ولكنه لا يتيه بالقارئ ولا يضله سبيلاً بل يملأ مخادع حافظته صور تعابير بليغة ويمأن فكره موضوعات مفيدة ويرشده إلى الصراط المستقيم ويطبع في مخيلته أصح الآراء وأسد الأفكار العلمية الأدبية فيعود مطالع أبحاثه مستفيداً كل الاستفادة محرزاً ما يريد من الأبحاث والألفاظ والمعاني مع تفنن في التعبير وخلوص من التعقيد وبساطة في التركيب ومن قرأ ما جادت به قريحته من المقلات الرنانة في المجالات والجرائد والكتب شهد بصحة قولنا ولم يحمله على الإطراء والتزلف فإننا وإن كنا من أصدقائه المخلصين فلسنا من مريديه الكاذبين ولذلك أحيل المطالع المتقيد على ماله من المقلات والخطب والمباحث وأفوض فيه أمر الحكم على المترجم بما يوحيه إليه ضميره الصادق وبصيرة النقادة المنصفة فطالع مقلات (عالم الحس الخيال) و (الكيمياء) و (العين) و (الشعر) و (القلب والعين) و (الظل) و (الشعر العربي والشعر الأوروبي) و (العالم المادي والعالم الأدبي) و (حكمة الأولين) و (فلكياته) و (والبلاغة) و (الكفاية) و (آراء جديدة في أجزاء المادة) و (الخمير والاختمار) و (غرائب الكيمياء) و (تاريخ الكرة الأرضية الطبيعي) و (الاختلاف في الآراء والعقائد) و (الجهل والهوى) و (الطبيعيات والأدبيات) و (ضرر العلم القليل) و (مساعدات الذاكرة) و (الصدى الطبيعي والصدى الأدبي) و (ألفينيقيون) و (أصل اللغات) و (قدرة العلم وعجزه) و (اختلاف تأثير العلة الواحدة باختلاف طبيعة المعلول) و (المام القدماء بظلال ما كشفه المحدثون) و (الكهربائية وكرات النار الجوية و (الموضوع) و (استقر واستدل واحكم) و (مقاومة تنازع البقاء) و (الإنسان) وما شكل كل ذلك من المباحث المختلفة

والتفننات الرائقة وإذا تعذر على المطالع الوقوف على هذه الآثار الأدبية الرائقة فإنمني أسهل له ذلك بانتخاب بعض فقرات كلامه: فمن قوله في خطبة (عالم الحس وعالم الخيال) ومن فوائد (الخيال) أنه نزهة المعتزل ففيه يرى الحدائق الغناء توقع عليها فيان الورق أطيب الألحان وتجري تحتها جداول زلال الذمن بنت إلحان وتحيط بمنابتها بواسم الأزهار كما يحيط بالمعاصم السوار. وترى مدافع الشواهق تقذف بلجين الماء على در الحصباء في الأودية الخضراء فترده اماة المهى وظمأ الظبى فتصبو إلى الورد ولا تطفي اواما فتئن وجدا وتنشد هياماً: ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئاً لكم في الجنان الخلود أفيضوا من الماء علينا فيضاً ... فنحن عطاش وأنتم ورود ثم إذا مللت مشاهد النهار توجهت إلى مشاهد الليل وبدلت طلعة الشمس بمحيا سهيل فتري هنالك النجوم درراً في باطن الخيمة الزرقاء والمجرة نهراً عظيماً تدفق في حديقة نرجس وفروعها جداول البطحاء وترى هناك تباين المؤتلفات. وائتلاف المتباينات فتشاهد الطائر الواقع والذاهب والراجع والخفي والظاهر والثابت والسائر والأسد بين السرطان والعذراء والسرطان بين الأسد والجوزاء والأبراج والطوالع والأوافل فترى العالمين على العلم الأصغر وتنسى أنك العالم الأكبر ثم تنتبه إلى المعتزل وإليه تبوء فتعلم صحة قولهم: (الوحدة خير من جليس السوء) ثم قال في الخيال قولاً فلسفياً هو: ومن فوائده انه معمل المتصرفة ومخترعها أما المتصرفة فعرفوها بأنها قوة من قوى العقل الباطنة شأنها تركيب الصور والمعاني وتفصيلها والتصرف فيها واختراع أشياء لا حقيقة لها. ومن أهم أعمالها التجريد وهو ما تكتسب به الكليات من الجزئيات ولولاه كانت الصور العقلية هويات متفرقة لا علاقة بينها وقد تكلمت عليه بالتفصيل في المقالة الثالثة من كتاب (الحق اليقين) فليطالعها. ومنها إن التركيب جمع المراد مما علم بالتحليل والتعميم في صورة واحدة وهو (أما حقيقي) وهوان يجمع في الذات الحقيقية ما لها من الصفات المختلفة في الواقع كأن تجمع الحمرة والاستدارة وانتساق الأوراق وطيب الرائحة وسائر ما لا بد منه من الشخصيات في هذه الذات لتصوير هذه الوردة. (وأم تخيلي) وهو جمع مختلفات لتصوير ما لا حقيقة له كأن تجمع حمرة الورد ورائحة القرنفل في زهرة الأقحوان على نبت الزنبق

فتصور نباتا لم يخلقومن قوله في مقالة (البلاغة): الكلام البليغ ما وضح معناه ووجز لفظه وسهل وطاب للسمع. ومن أهم ما يستلزمه وضوح معناه معرفة المخاطب معاني مفرداته. والمعنى هو الصورة الذهبية المراد بيانها. فالبليغ يرسم في ذهن المخاطب مثل الصورة التي في ذهنه. فإذا أراد أن يصف إليك الإبل مثلاً صورة في خيالك بوجيز كلامه كما يصوره البارع من المصورين على قرطاسة ومثله فيه كما يمله الماهر من نحاتي التمثيل: أما غير البليغ فربما أراد أن يرسم في خيال سامعه ظبياً فصوره قرداً أو شيئا لم يخلق بالعبارات المطولة المشوشة. ولا بد في البلاغة من مراعاة حال المخاطب فابلغ الكلام في خطاب النبيه غير بليغ في خطاب غيره. . . . ومن هذا يعلم أن الإيجاز في البلاغة نسبي أن البلاغة في خطاب الخاصة أيسر منها في خطاب العامة ولهذا سموا ما يفهمه العامة ويرضي به الخاصة بالسهل الممتنعومن قوله في صدر مقالة (أبسط مبادئ الرياضيات): المسائل الرياضية عبء الأذهان وغول الزمان ولذة إدراكها خير اللذات مع أنها نتاج الآلام والأنات وإني ممن قسم لي أن أولع بأبكارها وأسجن دهراً في دارها وشغلت وقتاً طويلاً بتدريسها وألفت وحشها وأنيسها فوجدتها من خير مميزات الأذهان. والحاملات على بغض التقليد وحب البرهان وأقوى العينات على علم الميزان (علم المنطق). ولكن رأيتها تصعب على أكثر الطلاب. وتدق عن إدراك أولى الألباب. لتشعب العقاب. وكثرة الشعاب. فبذلت الجهد عفي البحث عن أصولها ونقائها. إلى أن يسر الله الوصول إلى حقائقها. إن كل المسائل الرياضية في المقادير الصحيحة المنطقة مبنية على ثلاث سلاسل. (الأولي) سلسلة الأعداد الطبيعية 123الخ (والثانية) سلسلة الأعداد الوترية 7531الخ والثالثة سلسلة المثلثات631الخ وهي تنشئ عن جمع حلقات السلسلة الطبيعية على هذه الصورة. + 1و1 + 2و1 + 2 + 3الخ ولهذه السلاسل خواص كثيرة لا محل لها في مثل هذه المقالة الوجيزة فاق - تصر على ذكر ما الحجة إليه في بيان المرادأهالي غير ذلك مما لا يمكن استقراؤه ومعرباته ومصححاتهكلف المترجم منذ صباه بالتأليف وأول مؤلفاته (الشهب الثواقب) في الجدل و (جلاء الدياجي في لألغاز والمعميات والأحاجي) وهي رسالة لطيفة فيها كثير من منظومة ومناهج الحكماء في مذهب النشرة والارتقاءوالحق اليقين في الرد على مذهب دروينوالآيات البينات في عجائب الأرض والسماواتوضوء المشرق في علم

المنطقوهذا آخر مؤلفاته المطبوعة. أما مؤلفاته التي لم تطبع فكثيرة منهاديوانه الشعريوقد لاحظ جمعه وتنقيحه ومراجعته قبل وفاته بقليل والأعراب في نهج الأعرابوشمس البرهان في علم الميزانوهو في المنطق اختصر منهضوء المشرقالمذكور الذي طبعالكوكب المنير في علم التفسير. وعنده فذالك كثير من المؤلفات في البيان والفلسفة الطبيعية والفلسفة العقلية والرياضيات لم يحكم ترتيبها لانشغاله بخدمة غيره سحابة العمر. عدا خطبه ومقالاته التي تناقلتها الصحف وبعضها لا يزال مخطوطاً. ونشر بعض الروايات الأدبية مثلإسفار ذات السوارفي مجلة الرئيس ومختصر بعض روايات شكسبير الشاعر وغيرها. أما معرباتها فكثيرة وبعضها لم يذكر فيها أسمه ومنها: المواعظ الميلاديةلسبرجنمواعظ موديووتفسير التوراةأس الأسفار الخمسة بزيادة تفسير له على الأصل وسكان وادي النيلورجال التلغرافوسيرة القديس أوغسطينوسو الطريق السلطانيةوأما مصححاته فليست بقليلة ولكنه لم يذكر اسمه فيها أيضاً فمنها تصحيحالنهج القويم في التاريخ القديمللأستاذ بورتروقاموس الكتاب المقدسللدكتورجورج بوست وساعد الدكتور أدي في جميع تفسير الإنجيل واشتهر في جميع ما كتبه بتحقيقه ورقة أوضاعه العربية وصحة تعابيره اللغوية مع بساطة العبارة ووضوحها حتى يسهل بحسن أسلوبه ما صعب من المباحث فتراها مفهومة. 6ً منزلته العلمية صرف حياته منذ صبوته بالتدريس والجمع وتوسيع مداركه بالمطالعة وانتظم في سلك الجمعيات العلمية والأدبية وانتدب مدعواً لبعض المؤتمرات العلمية في أوروبا وعرفه الأوروبيون والأميركيون يسمو المدارك أما في البلاد العثمانية فكان طائر الشهرة وكثيراً ما ترجمت الصحف العثمانيةالتركيةمقالاته وأطرته وتناقلت الصحف العربية آثار أقلامه من جرائد ومجلات وقد سافر إلى مصر سنة 19. 8م ولم يلبث فيها أكثر من سنتين ترأس أثنائها تحرير جريدة المحروسة ثم عاد إلى عمله في بيروت ولقد رصد الكواكب في بيته وقرر كثيراً من شؤونها بعدما رافق أستاذه الدكتور فانديك يرصدها في مرصد الكلية في بيروت وتخرج على يده كثير من أدباء وأديبات سورية ومصر كتب كثيراً في الصحف مثلالنجاحوالجنانوالمشكاةوالمقتطفوالنشرة الأسبوعيةوالصفاوالطبيبوالمباحثولسان

الحالوالمحروسةوقلما خلت جريدة من كتاباته ولو نقلاً عن غيره لما فيها من الطلاوة واللذة والفائدة وكثيراً ما دعته الحفلات لإلقاء الخطيب فيها فطربت له أعواد المنابر وأفاد بما يلقيه من منشور ومنظوم ومن مكتشفاته معادلة الجيوب ومعادلة معرفة أضلاع الأشكال القياسية الوترية من المسبع والمتسع وذي الأحدي عشرة وما فوق ذلك إلى غير نهاية وعبارات لجمع الأسرار المعنية وبعض التقارير ألفلكية التي انتبه إليها بالرصد ومن آرائه التي تيقنها الرأي الدوري وصدقه كثير من علماء العصر وأشكال أجزاء المادة وهذا لم يفهمه إلا الخاصة. وكثيراً ما برهن المنطق بالجبر وأجاب على أسئلة في جميع الموضوعات بسداد رأي ودقة نظر. وعرف مؤخراً طريق رسم الأشكال القياسية وقيمتها العددية بلا تكعيب. أما معارفه اللغوية فلم تطن أقل من معارفه العلمية فإذا أورد لفظة تثبت فيها وأشار إلى أول من استعملها مثل شبه جزيرة ملعقةملقةكما قال الشيخ داود البصير الأنطاكي في تذكرته. وهكذا ستخرج من بطون الكتب المصطلحات القديمة وحقق آراء العصر فيها. ومن أوضاعه المشهورة المرقب والمجهر والحوصلةالبكسولوالمضلعالقباجوروالبخيريالمدخنةوألفوارةالنوفرة وأمثالها ومن تعابيره العصرية قوله: مهيع الأخلاق أوسع من فلك نبتن وأطول من قطر المجرة. هذه صورة الحوراني المعنوية مثلناها للقراء الكرام ليعلموا خسارة الوطن بفقده أثابه الله عداد حسناته وأعاض الأدب عنه خيرا بمنه وكرمه 7ً أقواله وحكمه وآراؤه للفقيد الكثير من الآراء الأدبية والعلمية والأقوال الرائعة والحكم الناجعة انتخب منها الآن نبذة تدل على مكانته وربما كان بعضها معرباً ومقتبساً: فمن ذلك قوله: المرأة المبتسمة أجمل من أجمل النساء المقهقهات. ريشة الإوزة أخطر من براثن الأسد الحكم على البعض لا يستلزم الحكم على الكل ولا نفيه عنه. أن أعظم الناس حرية أقواهم وأكثرهم خداعاً أضعفهم. كل شيء كم أنواع الخير وأفراده فرضنا أنه الخير الأعظم والسعادة لا يصح ما لم يكن ألفضيلة وإن لم يسلم بذلك بعض ألفلاسفة الأقدمين. إن الشرائع الطبيعية كلها نفع وعلة التأذي بها جهل. إن الكبرياء قد يؤدي إلى الجنون. إن القوة الطبيعية مقسورة أبداً والفضيلة متوقفة على الاختيار. كثيرا ما يقع الناس في الخطأ لإطلاقهم الحكم على الشيء

في كل الأحوال والاعتبارات. فليتوقع الراغب في كثرة العلم قلة المال أو ألفقر المدقع. أنه قد يجهل العالم ما يعلمه الجاهل من آفات الانتباه توجيه ألفكر إلى أمر واحد وقتاً طويلاً ومثله الاقتصار على فن واحد أو الولوع به أكثر من سواه. متى ثار غضبك فلا تقل ولا تفعل. لا يقاس على الآراء الضعيفة إلا على سبيل الإمكان. ولا يقاس على الآراء القوية التي لم تبلغ اليقين إلا غلى سبيل الظن. قليل الطعام المغذي ونقي الهواء ومعتدل الرياضة من أمنع الحصون دون جيوش الأمراض والأوباء. إن العلل لا تفعل بالمعلولات إلا بالمباشرة. إن من اللذات آلاماً. من الناس من يخسر كل شجاعته وإيمانه في ساعة اضطراب. إن الذي لا يؤثر فيه الشعر البليغ خشن الطباع سقيم الذوق. ومما ينتج من الرياء طبعاً أن صاحبه لا يصدق ولا يركن إليه وإن تكلم بالحق وكفى ذلك عذابا للمرائين. إن نظرك في إساءتك إلى غيرك يخمد نار غيظك من إساءة غيرك إليك. القول الصالح حسن والفعل الصالح أحسن منه فالقول الصالح الجسد والعمل الصالح الروح. المرأة أجمالاً تعادل الرجل فهماً لكنها تجري أعمالها على سنن التصور أكثر مما تجريها على مقتضى المنطق. المرأة ألفاضلة مهذبة الزوج والأولاد الأقرباء والأصدقاء بالقول والفعل ولها في ذلك من التأثير ما لا تستطيعه كل فلاسفة الأرض. اللطف رشوة من لا رشوة له. من أفسد بين اثنين فعلى أيديهما هلاكه إذا اصطلحا. الصدق أس الإصلاح الأدبي. إنه يستحيل على المترجم للشعر من لغة إلى أخرى يأتي بكل محسناته الأصلية مع المحافظة على تمام الأصلي إلا نادراً. الاختبار أثبت قبول الإنسان التهذيب والتحلي بالفضائل ولكن أكثر الناس يجهلون السبيل. استقر واستدل واحكم. الشعر ضرب من الوحي. إن القوة على نظم الشعر موهبة إلهية يشرفها الإنسان أو يحقرها بالموضوعات التي يستعملها فيها. إن للشعر البليغ تأثيراً في النفوس عظيماً حتى شبهه الكثير من المشارقة والمغاربة بالسحر. نعم إنه سحر حلال يحمد به الساحر وينعم به المسحور. العلم القليل أضر من الجهل. إياك وخداع الخيال فإنه مصدر كثير من صنوف الضلال والخرافات الثقال. وأخزن فيه صور الهاديات الأخلاق والحاملات على مكارم الأخلاق. إن شرف نفس الإنسان يحفظ شرف يحفظ شرف نفسه لا شرف نسبه يحفظ شرف نفسه. ما أقدرنا على الكلام وما أعجزنا عن العمل. إذا مالت نفسك إلى كتابة مالا تريد أن يعلن بخطك فأعلم أن ذلك الميل خطر هائل لأنك بذلك

تضر نفسك أكثر مما تضر غيرك. إن أصل المادة بأسرها أجزاء صغيرة لا تدركها الحواس تتجزأ في بعض الأحوال دون بعض. إن الصداقة تنتهي حيث يبتدئ الحذر إنا خلقنا نشعر بالألم لنحذر من أن نؤلم سوانا أحسن وقاية من النميمة أن تسد أذان عنها وأن يكتب تجاهك أبداً قول بعضهم (لا تصدق كل ما تسمع) الوعظ من أسباب الحياة الجسدية والحياة الروحية لمن يؤثر فيه إلى ما يضارع هذه الروائع ويشاكل هذه النواجع. 8ً مجونه وأزجاله كان رحمه الله ينزع المجون والأحماض في الأحاديث أو إحجاماً للخاطر ليس إلا على حد قول الشاعر: أروح القلب ببعض الهزل ... تجاهلاً مني بغير جهل أمزح فيه مزح أهل ألفضل ... والمزح أحياناً جلاء العقل ولذلك كثرت نوادره وأزجاله وأشعاره الدالة على بداهته وسرعة خاطره فكان إذا آنس من السامعين انقباضاً أو مللأولا سيما في العمليات البحتة ونحوها بنكتة رائعة تستجم خواطرهم وتلفت أسماعهم وتتلاعب بعواطفهم فيثيب إليهم نشاطهم ويتجدد ارتياحهم كما قال الرشيدالنوادر تستحد الأذهان وتفتق الآذانوإذا استقرينا أخلاقه منذ صغره رأيناه مولعاً بهذا الأسلوب الفكاهي وهذه الرقائق المستحبة حتى أنه لما كان يدرس في (عبيه) في صبوته سمع أحدهم يفاخر بقول الشيخ ناصيف اليازجي من قصيدة رقيقة: كلفت حمل تحيتي ريح الصبا ... فكأنني حملتها بعض الربى لا تجمل الريح الجبال وليتني ... كلفتها حملي فإني كالهبا فقال المترجم له: وأين يروح الشيخ بعمامته وكبرهاثم لما غار المدرسة وجاء بيروت اجتمع باليازجي سنة 1871 قبل وفاته فقال له الشيخومإذا ثقلت عليك عمامتيفأجابه الحورانيوالله لو عرفت أنه سيبلغك حديث العمامة لما رأيتك إلى يوم القيامةومن نكاته أنه لما كتب في (أشكال أجزاء المادة) لم يفهم كلامه إلا القليلون فقال عنه بعضهم أنه كتب في أمر لم يدركه حق الإدراك حتى أبهم قولهفأجابه الحورانيوأنا أثني عليه أصاب أم لم يصبوله كثير من أمثال هذه الرقائق التي تدل على ظرفه وبديهته ودماثة أخلاقه أما نكاته الشعرية المجونية فمنها أنه كان مرة يروح النفس على شاطئ نهر العاصي حمص فعثر

وسقط على فتاة كانت قريبة منه فشكت إلى أبيها فاغلظ له الكلام وكان لا يزال صبياً فقال مورياً وأجاد: ياسيد الحلم يامن نور حكمته - يهدى به الناس من دان ومن قاص زللت في شاطئ العاصي إلى رشاء ... عن غير عمد فاضحى الظبي قناصي وقد شكاني إليكم فاغفروا زللي ... حتى يقولوا غفرتم زلة (العاصي) وقال في فتاة جميلة لقية متعصبة في الدين كانت تعنقه على مزاحه وتبكيه عند ضحكه غراء شمس نهارنا من وجهها ... وهلال ليلتنا مثال جبينها ما كان أطربني لطيب حديثها ... لو أن رقة خصرها في دينها ودعي مرة إلى صيداء ليخطب في حفلة مدرسية فافتتح بأبيات غزلية وتمحل لشيخوخته عذراً بقوله قدم الزمان وصبوتي تتجدد ... فكأنني في كل عصر أولد شيخاً أرى بين الشيوخ وأمرداً ... في المراد مما شاب قالت غواني الرقمتين وقد رأت ... ثلجالمشيب أظن نارك تجمد فأجبتها ما الشيب بل لهب الهوى ... في الرأس مما في الحشى يتوقد قالت مشيبك أسود في ناظري ... قلت الحقيقةأن لحظك أسود وكان مرة مبحراً من طرابلس إلى بيروت ورفيقه الخواجه موسى مخايل الطرف الطرابلسي ومعهما فتاتين جميلتان عيسوية اسمها مريم وموسوية اسمها سارة فلما نزلا في القارب جلست مريم على مقربة من موسى وسارة قرب إبراهيم فقال المترجم: شمسان في القارب شنت على ... وجهيهما شمس العلى الغارة فظل موسى رد عن مريم ... وظل إبراهيم عن سارة وأرخ زفاف حسناء اسمها لمى إلى رجل ذميم بليد سنة 1862م: زفاف كالحمام لكل نفس ... به شمط الرزابا قد تجلت وأشد في الحداد مؤرخوه ... لمى سمش ببرج الثور حلت وقال شيخ كثير المعاصي خضب شعره: يا خاضب المبيض من فرعه=بالخزي لا يحسن هذا السواد

إن كنت ذا لب ورمت الهدى ... فاصبغه قبل الردى بالرماد وقال في أمرأة تركت مهذباً ألفقره وتزوجت خشناً لغناه فعذبها: لقد هجرت أخافهم ... قليلاً ما له يعلم وودت بعده وحشاً ... كثير المال لا يفهم فنالت من مخالبه ... جراحاً ما لها بلسم وذاك جزاء تاجرة ... تبيع الحب بالدرهم وقال في غابة دمشقية: سقت أجفان صبك كل صدر ... من العواد أيام ألفراق ففرخ في قلوبهم التصابي ... وجن النبت من تلك السواقي وارتجل للائم مضمناً قوا العامة (من غير شر) لما يؤذي: ليس لي عن صبوتي بالائمي ... ماتجلى وجه سلمى من مفر وملام الصب شر في الهوى فانصرف ياعاذلي (من غير شر) وقال في منتزه في دمشق اسمه الجزيرة مورياً: رأتني عند شط النهر أجري ... إليها كاعبيد إلى الأميرة فقالت ما أتى بك قلت القى ... عبيدك بحر حبك في الجزيرة وقال لعاشق يبكي ويشكو: كثيراُ ما أرى العشاق تلهو ... وأنت تظل تذكر أم عمرو وتبكي للنوى ما جن ليل ... كأنك في الصبابة (بوم قبر) إلى كثير مما يساوي هذا الأسلوب من المجون الأدبي والنكات وللطائف والأحماضات (أما زجلياته) فلطيفة التصرف بديعة المعاني والألفاظ ابتكر فيها أوزاناً رائقة وابتده أناشيد رائعة ننتخب منها الآن ما يدل على براعته بها فمن ارتجالياته من فرادية مثل فيها السكران قوله: اعتبروا من نحسي ياناس ... أوعوا تجوا صوب الكاس أصل الضنا والإفلاس ... خمره في كاس الساقي في كأس الساقي خمره ... وفي قلب الشارب جمره

لاتشرب منها بمره ... لتصبح بالدنيا راقي ومن تفنناته قوله من قصيد طويل موجهاً بالغناء وألفقه ومورياً: يبكي (صبا) في حين بتغني (نوي) يلي شفافك تمر خالي من النوى أحرقت قلبي بالتجافي والنوى ... ما كان ظني فيك تحرق منزلك ما سمعت في محبوب أحرق مسكنه ... واللي عطاه أياه واللي سكنه مين عاد من أهل الضمانة يضمنه ... إذا عرف أنك أحرقته وهوإلك ومن مخترعاته الترصيع في المطلع المخمس المردوف من قصيد طويل يلي بلحظك بابل الأسحار ... وبصحن خدك كوكب الأسحار سرك مصون بمهجة المفتون ... ما بتدركوا الأباب والأفكار سرك مصون بمهجة المفتون ... لولا دموعي والعيون عيون ياظبي عينك سيفها مسنون قطع أكباد الغزلان ... وجندل آساد ألفرسان واستعبد مي وغزلان ... وليلى وعاشقها المجنون ولحظك صاب أسود الغاب ... برشق حراب وشق كبود وهز العطف رماح الحتف ... وسل الطرف سيوف الهند ودار الريح بغير أقداح ... وبلبل صاح بلحن العود ومال البان وسري بان ... وكان الكان بكاف ونون سر الهوى مدفوق ... مع دمعة العاشق يافتنة المخلوق ... ياآية الخالق قلب ألفتى مسروق ... من لحظك السارق سر العيون بيسرق الأرواح ... وبيظهر الأخفى من الأسرار وهكذا إلى آخر هذه الأنشودة البليغة الجامعة لتفننات تأخذ بمجامع القلوب ومن ذلك قوله في مطلع آخر ليس بقابل بلاغة من غيره: حنوا على المحبوس في حبس الهوى ... ضاقت علي الأرض من أربع قطار سهرت عيوني وطال ليلي بالنوى ... من طول ليلي نسيت شو شكل النهار

سهرت عيوني وطال ليلي بالنوى ... يلي شفافك تمر خالي من النوى غنيت لحن حجاز وعراق ونوي ... حتى بكوا طيور السما ولأنوا الحجار حتى بكوا طيور السما ولأن الصفا ... وزاد نهر الدمع عا نهر الصفا يا حسرتي حل الكدر بعد الصفا ... وصار ألفي وصاحبي وحش القفار وصار ألفي الوحش في قفر اللوى ... ومال صالب مهجتي عني ولوى يلي رفعتو للظى أعلى لوا - دلوا غريب الدار عا ظبي النفاروقوله في مطلع آخر وفيه تلميح وتفنن: آمنت برهان ما بيلزم ... أنك نبي الزهر وبدر التم من طور خدك ما قرب موسى ... ومنين جبت ألن للمبسم من طور خدك ماقرب موسى ... ونارة اشترت منها السما شموساً تخمين قبل مبسمك عيسى ... وحول رضابك خمر حلو الطعم حول رضابك بالعجل خمره ... بكاس العقيق الزابدة حمرة من برقها في وجتنك جمرة ... قلبي مجاهرها وصبري ألفحم خمرة شفافك طعمها سكر ... ممزوج بالأطياب والعنبر خمارها خمارته سكر ... والوف عند أبوابها تلتم إلى أن ختمها بقوله: إياك تطمع بعدها لمرة ... في الطيف كاسات الطمع مرة ما كل مرة بتسلم الجرة ... خايف أنا بعد الطمع بتندم وله مع بعض الزجليين (القوالين) نوادر ومحاضرات ولاسيما ألفران وغيره إلى كثير مما يماثل هذه النوادر والنكات اللطيفة الجامعة لكثير من الأنواع البديعة كالجناس والتورية والتلميح والتوجيه والانسجام والتفنن وغيرها من ملح الكلام ولطائف النظام وكثيراً ما يساعد الزجل على سرد القصص والأقوال طبيعية بدون تكلف أملة القيود مثل الأعراب والوزن الخاص ذلك فيجيئ كله من السهل الممتنع والمعنى المبتكر. عيسى اسكندر معلوف

مشاهد برلين

مشاهد برلين وعلى ذكر البحث في الأخلاق والآداب اذكر أني كنت أتجول في بعض الغابات حول قرية عن برلين نحو ساعة في القطار (فيزدورف) فخطرت على قلبي الموازنة بين المعارف والأخلاق وبدا لي وقتئذ أن كفة الأخلاق الإنسانية نظراً إلى وزنها بترقياته العلمية لم تزل خفيفة فقلت تحت عنوان أيها الإنسان: أما كفاك ظباء أو مهاً بربي ... حتى تقنصت آساد الشرى بزبي وما اقتنعت بما يطفو على لجج ... فغصت تلقط دراً تحتها رسبا ولمتقف عند تنسيقي المقال إلى ... أن ماج حسناً وصار الثغر والشنبا فبعد الرسالة دهراً أقمت له ... وزناً - أكان حصاً ثم انثنى ذهباً؟ قلبت وجهك بعد الأرض في فلك ... فظلت ترصد منه السبعة الشهبا أما تفقهت عنها في حقائق ما ... وراءها فنضحت الشك والريبا سار اليراع رويداً فانتهضت لما ... يحدو الصحائف في شوط أو الكتبا صغت الحديد مطايا إذ تلبثت ال - جياد أو لقيت في سيرها نصبا وضاقي الأرض ذرعاً عن خطاك فما ... لبست أن سرت في جو مسير جدا واشتقت لهجة ألف فاهتديت لأن ... تمتع السمع منها حيثما ذهبا حكى الصدى صيحة زجت فجئت بما ... يحكي القصائد أنى شئت والخطبا حب الحياة استثار منك إلى ... طب وحرب فكنت البرء والوصبا فما الطبيب بمستشفاه أرغب في ال - بقاء ممن يلاقي البيض والشهبا أرسلت في كل واد رائداً فدرى ... من حكمة البحث كنه البحث والسببا لكنني ما دريت اليوم أنك قد ... أفرغت في نفسك الأخلاق الأدبا كنت أسيح في تلك الغابات ترويحاً للخاطر وإيثاراً لها في بعض الأحيان على مشاهد الحضارة وزخارفها ولاسيما في أيام رمضان حتى قلت خلال السياحة في سياق الأعجاب بالبداوة والارتياح إلى بساطتها أبياتاً صورت فيها حالة راعي الغنم تحت عنوان (الملك الطبيعي) وهي: تقلد الملك بين الضال والسلم ... وهب يفتح من غور إلى علم فعرشه ربوة حاكت طنافسها ... أنأمل الغيث إذ جادت بمنسجم

والشمس تاج تجلى فوق هامته ... فلا تسوره أضغان محتدم ما البدر والنجم إلا الكهرباء سرت ... من حوله فأماطت برقع الظلم وآلة الطرب الحملان ترتع في ... خصب فيسمع منها أطيب النغم والظبي يرقم في طرس ألفلاة خطاً ... أحلى لناظره من جولة القلم والرعد يوجز في إنذاره خطباً ... يكفيه رائعها عن مطنب الحكم والبرق (برق) بلا سلك يبلغه ... بشرى تلقنها من مصدر الديم صفت مناظر غدران فكان له ... فيها مرايا جلاها ساقل النسم عيناه ذي سارقت جفن المها نظراً ... وتلك ناظرة شزراً إلى الأجم لم يتخذ سمرا توحي إليه بما ... شاءت وتخضب بعض الحق بالكتم وما توارى لا بحجاب تذود أخا ... قضية قد أسالت قلبه بدم لم يثنه الغوص في مجرى السياسة إن ... تهزه رقية النفاث في الكلم ألم تقف تلكم الورقاء تنشده ... من شعرها موقف المثني على هرم وما أمتطى مركباً كي لا يضاق في ... مطافه أنفس العجفاء الهرم ومن تولى زمام الأمر في ملا=لم يقل في ساسهم سعياً على قدم وأذكر أني كنت ذات يوم في مقعد من أحد المنازه العامة وفي يدي صحيفة أكتب بها بعض ما يسنح من الخواطر فوقف علي أحد الأساتيذ فسألني عما أكتب فقرأت عليه من حديث تلك الصحيفة الجمل الآتية: تفرق الأمة يفضي إلى موتها. وأقول التفرق أثر الموت فإن الجسم يموت فتفرق أجزاؤه. أربط نفسك باعتقاداتك تعمل لمن يشب أو ينشأ بعد موتك حتى لا يكون في صدرك حرج إذ تكون بضاعتك بين أهل عصرك كاسدة. يتلذذ المستقيم بعفته كما يتلذذ ألفاسق ببلوغ شهرته ولكن أمام لذة الاستقامة عقبة لا يقتحمها إلا قوي الإرادة. لا تثق في نفسك فيما تدعي من الإخلاص لأمتك حتى يلذ لك أن تصلح الخلل في نظامهم وهم لا يشعرون. إذا وثقت بعرى التوكل على الله لم تحتج أن تمر إلى الحق على جسر من الباطل إن الرجل ليعجب مما يصنع الساحرون أفلا يعجب من لذة تمر على قلبه مر السحاب ثم تنقلب مخازي تلبث في صحيفة حياته أحقاباً. يكفيك فيما تجتني من ثمرة العلم الصحيح أن يرفع همتك عما فتن به الجاهلون من زهرة هذه الحياة. إذا أغلق المحيط

عين رقبائك وختم على أفواه عذالك ثم راودك على أن تنزع حلية أدبك فقل ليس للفضيلة وطن كيف تسترسل مع الأصحاب إلى أن تحيد عن جانب ألفضيلة وهم لا يرقبون ذمتك فيقفوا لك عند ما تقف في دائرتها. أسير مع الرجل على قدر ما أدرك من قيمته فإن نظرت إليه على حسب وجاهته أو كساد سمعته عند الناس فقد ألقيت بنفسي في حمأة من التقليد. إذا أحببت الذي يجاملك وهو يحارب الله لم يكن بغضك لمن حارب الله وأمسك عن مصانعتك من قبيل الغيرة على حرم الشريعة. لا يدرك قصير النظر من الحدائق المتناسقة غير أشجار ذات أفنان وثمار ذات ألوان وإنما ينقب عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقظة. لا تحمل نفسك مالا تطيق من منة وضيعاً ونخوة فخور فإذا أحسست في صدرك بالحاجة إليه فاصنع ماذا تصنع لو بقي في مولته الأولى أو أدركته مولته الثانية. لا تعجب لذوق ينكر ما ألفته أو يألف ما أنكرته حتى ينقلب في التجارب والمشاهدات التي تقلب فيها ذوقك أطواراً. قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة حتى إذا حل في وطنك غالباً دفعك إلى درك أسفل واتخذ من عنقك موطناً. في الناس من لا يلاقيك بثغر باسم إلا إذا دخلت عليه من باب الغباوة أو خرجت له عن قصد السبيل فأحتفظ بألمعيتك واستقامتك فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يفقهون. إن من الجهال من يرمي على مقام وجيه فعلمه بسيرتك القيمة إن الجهالة لا ترجح على العلم وزناً وإن وضع بإزائها السلطة الغالبة أو الثروة الطائلة يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة وهو يلاحظ من ورائها منفعة لنفسه يكون في حل من وخزات أقلامها أما أطواق الشكر الصادق فإنما يتقلدها المخلصون ألا ترى الماء الذي في مجاريه الأقذار كيف يتهجم منظره ويخبث طعمه فاطرد عن قلبك خواطر السوء فإنه المنبع الذي تصدر عنه أعمالك الظاهرة لا تنقل حديث الذي يفضى به إليك عن ثقة أمنك وحسن عقيدة في أمانتك ويمكنك متى كان يرمي إلى غاية سيئة أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله فتحفظ للمروءة عهدها وتقضي للمصلحة العامة حقها لو فكرت في لسانك حين يعرض لاطراد نفسك لم تميزه عن السنة تقع في ذمها إلا بأنه يلصق بك نقيضة لا يحتاج في إثباتها إلى بينة إذا ركبت في السياسة مركب الشعر فقلت ما لا تفعل أو همت في واد لا تعرج فيه على حق فانفض ثوبك من غبارها فإنه ليس بالغبار الذي يصيبك في سبيل الله أصغي ذلك الأستاذ إلى هذه المخاطرات فابتسم لها ابتسام

المستحسن ولكنه ناقشني في الخاطرة الأخيرة منها قائلاً إن مجال السياسة أوسع من دائرة الحقيقة) فلم يسعني في الجواب عن هذا النقد سوى أن قلت أن الوقائع النادرة لا تمنع من سبك المقلات الموجزة وصياغتها في أساليبها المطلقة نقودهم تحتوي الليرة على 2. ماركاً وتترتب من 9. . قسم من الذهب و1. . قسم من النحاس ويحتوي المارك على 1. . فينيش ويتركب كالقطعة ذات ثلاثة أو خمسة ماركات من 9. . قسم من ألفضة و1. . قسم من النحاس ويتركب ألفنيش من 95 قسماً من النحاس و4 أقسام من القصدير وقسم من الزنك وهناك قطع من النيكل ذات خمسة فينيشات وتتركب من 25 قسماً من النيكل و75 قسماً من النحاس ولا فرق في المعاملة عندهم ما بين الأوراق النقدية والمسكوكات الذهبية والفضية وكثيراً ما تعطى الورقة ذات الخمس الليرات لمن يستحق مقدار عشرة متليكات كصاحب القهوة فيمسكها من غير أن يشمئز منها قلبه ولا يعز عليه أن يصرفها بأوراق صغيرة وكثير من المسكوكات ألفضية كلمة في الموسيقى اقتبسوا أنغامهم الموسيقية وتلاحينهم من الأوضاع الإنكليزية وقد هموا هذه الآونة أن يهجروها ويستبدلوا غيرها بها قطعاً لآثار الإنكليز من بينهم وأكبر موسيقي ظهر لديهم الشاعر (فكتر) - المتوفي سنة 1883 وله روايات شعرية تستعمل في الملاهي التي تجري فيها الروايات مقارنة لأنغام موسيقية وتستعمل عندهم رويات شاكسبير الإنكليزي من شعراء المائة السادسة عشرة وقد أحب بعضهم طرحها والاستغناء عنها بالروايات التي هي من أوضاعهم ورأى آخرون إبقائها لأن شاكسبير لم يقل في الأمة الألمانية سوءاً اللغة ونبذها من آدابها تنقسم اللغة الجرمانية إلى قسمين شمالية وتندرج فيها الدانماركية والنرويجية والسويدية وجنوبية وتدخل فيها الإنكليزية والهولاندية والألمانية واندمج في اللسان الألماني مفردات كثيرة من اللسان ألفرنسي والإنكليزي وكان فيما ولد عن هذه الحرب أن أخذوا في إلغائها والاستغناء عنها بما يقوم مقامها من الأوضاع الألمانية ولا يعز عليهم ذلك ما دامت لهم جمعية لغوية قائمة بإصلاح اللغة وتكميل نواقصها بني اللسان الألماني على وضع

الأعراب مثل اللغة العربية وينقسم الاسم فيه إلى مذكر ومؤنث وواسطة يسمى بالمجرد وعلامات الإعراب في الأنواع الثلاثة مختلفة ومن خواص هذا اللسان أن يضع المتكلم أداة التعريف ويذكر عقبها أوصاف المعرف مفردات وجملاً ثم يأتي بالسم المعرف من بعدها وربما اشتملت تلك الجمل المتوسطة على أدوات تعريف ومعرفاتها ويماثل هذا أن لهم أفعالاً كثيرة تتركب من كلمتين وتدل على معنى واحد فيأتي شطر ألفعل بصدر الجملة وتلقى القطعة الثانية في آخرها وقد يفصل بين القطعتين بما ينوف على عشر كلمات وهذه الوجوه هي التي يلاحظها من يرى في تعلم هذا اللسان صعوبة تستدعي مدة أوسع من أوقات تعلم كثير من الألسنة ولكنها من جهة الكتابة سهلة المأخذ جداً لأنم الأحرف المرسومة هي المنطوقة بها من غير تفاوت ويلتزمون التعبير عن المفرد المخاطب بضمير الجمع إلا لاأن يكون من صغار أقاربه أو يكون الخطاب في شعر وإيراد ضمير الجمع للمفرد المخاطب تعظيماً له لم يكن معتاداً للعرب قبل هذه العصور وإنما يعرف منهم هذا الأسلوب في حال المتكلم فيستعمل المتكلم ضمير الجمع مكان ضمير المفرد تعظيماً لنفسه وورد عنهم ضمير الجمع المخاطب في الواحد بقلة ومن شواهده قوله تعالى (رب ارجعون) الآية حيث وقع خطاب الله تعالى بواو الجماعة إجلالاً وأدباً رفقت لهم فيما يستعملون من محاسن البديع على مثل الجناس والتورية وكانوا يعتبرون في طريقة شعرهم اتفاق الكلمات في أحرفها الأولى وأصبحت اليوم مراعاتهم لهذا الشرط نادرة أما صنعاة الخطابة فإني كنت شهدت محاضرات وخطباً كان أصحابها ينظرون عند إلقائها إلى أوراق نصب أعينهم فوقع في خاطري أن هذه الصناعة لم تبلغ عندهم أشدها ولكني حضرت مسامرة موضوعها (الإسلام في عالم الحرب) فقال بعد المسامر ثلاثة خطباء من غير أوراق والقوا خطباً مسهبة بترسل في القول ونؤدة ولا يشير الخطباء بأيديهم كثيراً حال الخطبة بل سمعت منهم من ينكر ذلك الصنيع ولا سيما حركة لا يكون وضعها مناسباً للمعنى الذي يقترن بها وهذا ما كان العرب ينقدونه على خطبائهم أيضاً قال الحجاج لأعرابي الخطيب أنا قال نعم لولا أنك تشير باليد وتقول أما بعد ويعدون بسمرك من أبلغ خطبائهم الذين يخطبون بلهجة شديدة ولبلاغته في لسانهم يستشهد مؤلفو الكتب اللغوية ببعض عباراته يوجد في أدابهم من يقول الشعر ارتجالاً كنت حضرت لشاعر يقف في مشهد عظيم فيلقى عليه طوائف من

الحاضرين جملاً منثورة في معان متباينة وهو يكتبها في أوراق بيده جملة بعد أخرى وبأثر ألفراغ من الكتابة ينطق بكل جمله منها شعراً يؤديه في صوت ولهجة قوية ضبط إداري يوجد مع كل شرطي سفر في ضمنه أسماع الشوارع والحارات والمحلات الشهيرة مثل دوائر الحكومة والمعاهد العلمية فيستعين به في أداء وظيفته ويهدي به من عمي عليه السبيل من السائلين ويحمل ميزات المائعات (أر يوميتر) فيزن ما يجده عند الباعة من حليب ونحوه فإذا عرف فيه خلطاً أراقه ويراقب الشرطي الغرباء وغيرهم يتتبعهم بالملاحظة حيثما تقلبوا كنت يوم ماراً في جاداً من العاصمة فلقيني شرطي وناولني مكتوباً أرسل إلى من طرف إحدى الجمعيات وانصرف من غير أن يسألني عن اسمي ومن تراتيب إدارة الشرطة أن أصحاب البيوت أو الخانات إذا نزل عندهم أحد قدموا إليها ورقة تحتوي على اسمه وبلاده وعمره وحرفته ثم أن الدائرة تطلب الشخص نفسه لتنظر في حاله وتطلع على رخصة سفره أن كان من بلاد أجنبية. ومن شواهد اعتناء إدارة السكة الحديدية بالشؤون المتعلقة بها وأخذها فيها بطريق الحزم أن ضاعت مني ورقة القطار الشهرية بين برلين وقرية فنزدورف فبقيت ثلاثة أيام أسافر بورقات يومية ولما جئت في اليوم الرابع إلى مقطع الأوراق أقبل على أحد العاملين في الإدارة وقال لي ضاعت منك ورقة شهرية وقد عثرنا عليها ثم صعد إلى محل الإدارة وناواني إياها وكان وجه العجب إني لم ألق إليهم خبرها من قبل ولم أضع عليها اسمي ذهولاً عما جرت به عادتهم. العقوبة البدنية لا يجيزون العقوبة البدنية إلا لمن سجن في جناية تنزع شرفه ويخاطب عند ذلك بضمير المفرد المخاطب ومن أمثلة الجنايات التي ينسلخ بها الشرف عندهم أن يفسد الرجل عرض من لم يتجاوز عمرها الرابعة عشرة من سنها ويجري الإعدام قصاصاً عندهم بآلة مثل الساطور تضرب في عنقه من خلف ولا يقع علناً بل يشهده أفراد خاصة مثل الحاكم به والمدعي العام. مسجد الأسرى

أنشأت الدولة الألمانية للأسرى المسلمين جامعاً للصلاة وحماماً ومحلات للوضوء ومنارة شامخة للآذان وإقامت غرة رمضان سنة 1333 حفلة افتتاحية محضرها سفير دولتنا العلية محمود مختار باشا وفريق من أعيان العسكرية والنظارة الخارجية الالمانية وجمع كبير من الشرقيين والمستشرفين فألقى نائب النظارة الحربية خطاباً ترجمه إلى العربية بمنطق فصيح القبطان منس ثم ألقى سفيرنا خطاباً باللسان الألماني ثم تلا أمام الاسارى وهو من أعيانهم الجزائر بين خطاباً شكر فيه رفق الدولة الألمانية ومجاملتها لهم ثم القي كاتب هذه المقالة خطاباً عربياً. عنايتهم بأحوال الشرق لم يكن للألمان على ما عهدوا من إشباع البحث في أحوال الأمم عناية بمعرفة الشؤون الشرقية تشابه العناية التي أخذتهم لعهد هذه الحرب فقد أصبحوا يوسعون البحث في أحوال الشرق ويلتقطون دقائق أخباره السياسية أو العلمية أو الاجتماعية بملء آذانهم ومجامع قلوبهم ومن أثر هذه العناية أن أنشئوا منذ ابتداء الحرب دائرة ترتبط بنظارة الخارجية تسمى إدارة الأخبار الشرقية واستخدموا فيها فريقاً من العارفين الألسنة الشرقية فترى بين العاملين فيها الكاتب العراقي والمصري والجزائري والفارسي والحجازي والقفقاسي والهندي وتجلب إليها الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية والهندية وغيرها ويترجمون منها إلى الألمانية ما يهم الإطلاع عليه، ولا سيما المقالات والآراء التي لها مساس بحالة الإسلام أو ألمانيا ومن أعمال هذه الإدارة نشر الرسائل والمحاضرات التي لها علاقة بالحرب الحاضرة بالسنة مختلفة. وألقى بعض الألمانيين أيام كنت هناك محاضرات كثيرة في الكشف عن أحوال الشرق الإسلامي منها محاضرة تبحث عن الاقتصاد في العثمانية وأخرى في ألفرس ومحاضرة موضوعها الإسلام في عالم الحرب، ومن عاداتهم في المحاضرة أن ينصب المحاضر عن يساره أو يمينه خريطة البلاد التي يقصد البحث في حالتها وربما عرضها في التمثيل السموتغرافي ويشير في أثناء تقريراته بإصبعه أو بقضيب في يده إلى الأماكن التي جرته المناسبة إلى الحديث عنها. ومن بين صحفهم مجلة تسمى (العالم الإسلامي) تنشر الأبناء الواردة عن عالم الإسلام وتبحث عما يجري فيه من شؤون اجتماعية أو علمية، وكنت أهديت إلى مدير الأخبار الشرقية نسخاً من تأليفنا الحرية

في الإسلام. حياة اللغة العربية. الدعوة إلى الإصلاح. مدارك الشريعة الإسلامية. مناهج الشرف. فعرضها على الأستاذ (مرتين هرتمان) مدرس اللغة العربية بمدرسة الألسنة الشرقية وأخبرني هذا الأستاذ أنه كتب في التعريف بها كتابة يريد نشرها في عالم الصحافة. دمشق محمد بن الخضر

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات الأسرار الكونية في الكرة الأرضية الجزء الأول والثاني تأليف محمد علي أفندي المحايري طبع بمطبعة روضة الشام بدمشق سنة 1333 وهو مختصر في أقسام الأرض الطبيعية والسياسية وأقسام المخلوقات مع فروعها وهو نافع لتلامذة المدارس الأحداث وقد توسع المؤلف قليلاً في جغرافية بلاد الشام وعساه يعتمد في الطبعة الثانية على أحدث المعلومات عنها فإن منها ما قدم وتغير ولكن ذلك لا يضر بفائدة هذه الرسالة. دروس الزراعة تأليف فوزي بك العظم طبع على نفقة المكتبة الهاشمية بمطبعة الترفي هو مختصر يحتوي على أبحاث زراعية مقتبسة من إحداث الكتب العصرية والمؤلف سبق له أن نشر رسائل في بعض العلوم الحديثة واعتاد التأليف والتدريس وعرف حاجة الطلبة ولا غرو إذا كانت رسائله وكتبه نافعة في بابها لمن يقصد به نفعهم من عشاق العلم والمعارف. كنز النجاة في علم الأوقاف للشيخ عبد الواسع يحيى الواسعي طبع بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1334 هـ هو مختصر في ألفلك القديم ذكر فيه عدد المنازل وتقسيمها إلى الجنوب والشمال وتقسيمها على فصول السنة ومعرفة ميزان الشمس وعدد البروج وتقسيمها على المنازل وعدد الشهور الرومية وأسمائها ومعرفة العمل بجدول السنين العربية وجدول الأوقاف ومعرفة القمر في أي منزلة ومعرفة الساعات بالنجوم ونجوم الزيادة والنقصان والإستواء ومعرفة ألفجر الصادق والكاذب والكوكب الليلي والنهاري ومعرفة ساعات الظهر والعصر ووقت

العشاء ووقت ألفجر إلى غير ذلك من ألفوائد. تاريخ بيروت تأليف ف. فارجابيد هو مختصر في تاريخ بيروت نشرة بالا فرنسية في جورنال بيروت ثم طبع على حدة وفد اعتمد فيه المؤلف على مصادر كثيرة وواجز بقدر ما تساعد عليه حالة جريدة يومية ومع هذا فهو غاص بالفوائد. السنة الأولى للحرب ////. هو مختصر الحوادث في الحرب وكيف نشبت الحرب بين الدول المركزية وسائر دول أوربا نشرتها جريدة بيروت الافرنسية باللغة الافرنسية بعبارات موجزة اخصر من عبارات البرقيات كل يوم بيومه بحيث يرجع إليها فيما بعد ويأخذ منها محل الشكال من أيسر سبيل فلهذه الجريدة الشكر على هذه العناية. حق اليقين في التأليف بين المسلمين للسيد محسن الأمين نشرت أولاً في مجلة العرفان في صيدا سنة 1332 غرض المؤلف أن يفهم ألفريقين أهل السنة والشيعة أن منافرة كل فريق للفريق الآخر لا تعود عليه بنفع وإنما تجلب له الضرر وإنه يجب على ألفريقين تحكم العقل والدين لأجل التقرب من ألفريق الآخر ومعاملته بالحسنى وأورد على ذلك الحجج. رسالة الخط للشيخ أحمد رضا نشرت تباعاً في مجلة العرفان سنة 1332 في 48 صفحة المؤلف مشهود له بالفضل وسعة المدارك والبحث العلمي عرف ذلك له مما كتب في

المجلات ولا سيما في العرفان والمقتطف وهذه الرسالة في الخط هي مما خططه أنامله من حاضر المواد التي عثر عليها ووصلت إليه فأشبع الموضوع وضوحاً ببحثه من أطرافه. كتاب المسح على الجوربين تأليف المرحوم الشيخ جمال القاسمي ويليه كتاب الاستئناس لتصحيح انكحه الناس له أيضاً طبعاً في مطبعة الترقي بدمشق سنة 1333 هاتان الرسالتان لفقيد الإسلام المشار إليه وهو كسائر ما كتبه من التحقيق وبغض النظر وفهم أسرار الشريعة وتقريب الناشزين منها إلى إرجاعهم إلى حظيرتها وقد عني بتصحيحهما شقيق المؤلف الشيخ قاسم خير الدين القاسمي. المردانيات لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية طبع على نفقة الشيخ نايف سليمان الصالح شبلي في مطبعة ألفيحاء بدمشق سنة 1333 (ص122) أبدع شيخ الإسلام ابن تيمية المصلح الأعظم في القرون الوسطى في كل ما كتبه وهذه الرسالة هي في حل مسائل يكثر وقوعها ويحصل البتلاء بها ويحصل الضيق والحرج بالعمل بها على رأي إمام بعينه وكلها معقولة مشفوعة بالعقول الصحيحة الجغرافية العمومية العثمانية الحلقة الثالثة تحتوي على 44 شكلاً و8 خرائط تأليف أحمد جودت أفندي المارديني طبعت بمطبعة الترقي بدمشق سنة 1333 (3. 4) هو مختصر مفيد في هذا ألفن الجليل جعله المؤلف بحيث تتناوله أذهان الطلبة على أسهل ما يكون ورتبه على طريقة جميلة في إجمال ما فصل والسؤال عما أورد في كل فصل واعتمد فيه على أحدث كتب هذا ألفن.

مبادئ الجغرافيا العمومية والعثمانية تأليف أحمد جودت أفندي المارديني طبع بمطبعة الترقي بدمشق هذا مختصر من الكتاب الأول يحتوي على 31شكلاً و8 خرائط بنفع أحدث الطلاب وأصغرهم سناً وعسى المؤلف أن يكمل هذه السلسلة البديعة فيجعل عدة كتب بحيث يستغني بها الطالب عن تطلب المزيد في علم تقويم البلدان. ولاة مصر وقضاتها لأبي عمر محمد بن يوسف الكندي نشره المستر رفن غست طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1908 طبع هذا الكتاب الأوصياء على تركة المستر جيب المستشرق ذكرى لأثره وإتماماً للخدمة التي كان بدأ منها من أحياء أثار العرب والفرس والترك وقد أضاف إليه طابعه ذيلاً لأحمد بن عبد الرحمن بن برد في أخبار القضاة الذين تولوا مصر سنة 237 و419 منقولاً عن كتاب رفع الأصر في قضاة مصر للحافظ بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ومن كتاب النجوم الزاهرة بتلخيص أخبار قضاة مصر والقاهرة لجمال يوسف بن شاهين سبط بن حجر ومن كتاب تاريخ الإسلام للحافظ شمس الدين الذهبي الدمشقي المتوفي سنة 748 فجاء الأصل ألفرع في 614 صفحة عدا فهرس الإعلام الذي يبلغ نحو 7. صفحة وعدا المقدمة الإنكليزية التي قدمها الناشر وهي تبلغ مع ألفهارس نحو6. صفحة وعدا الخريطتين الإنكليزيتين اللتين شفع بهما الكتاب وهما خريطة مملكة الدولة العباسية وخريطة مصر وقد أتى بنموذج من الخط المنقول عنه الأصل طبعه بالطبع الحجري. وقد كان كتاب القضاة الذين ولوا قضاء مصر لكندي هذا مع ذيله لابن برد طبعاً في رومية سنة 19. 8 على يد الأستاذ كوتهيل أستاذ جامعة نيويورك وألحقه ببعض ألفهارس فجاء في 167 صفحة ماعدا ألفهارس إلا أن هذه الطبعة التي وضعها المستر غست مع الزيادات أتم وأهم (المقتبس م6ص 773) وفي المقدمة الإنكليزية به تاريخ القطر المصري وما تقلب عليه من الحوادث وكلام على المؤلف طويل والنسخة المنقول عنها كتبت له أيام كان قائداً

لجيوش الملك المعظم عيسى الذي حكم دمشق من سنة 615 إلى سنة 624 وطريقة المؤلف في الرواية طريقة المحدثين وفي الكتاب مادة لمعرفة تاريخ مصر والشام ولاسيما مصر ومن قام فيها من رجال وما حدث فيها من الأحداث وهاك نموذجاً منه قدوم أمير المؤمنين ألفسطاط قدم لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين فسخط على عيسى بن منصور وأمر بحل لوائه وأمره بلباس البياض وقال لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس ما لم يطيقون وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطربت البلد وضم أصحابه إلى أبن عمه موسى بن إبراهيم وولى المأمون على شرط الفسطاط أحمد أبن اسطام الأزدي من أهل بخارى وركب أمير المؤمنين فنظر إلى المقياس وأمر بإقامة جسر آخر فعمل له هذا الجسر القائم بالفسطاط اليوم وترك القديم وعقد لأبي مغيث موسى بن إبراهيم على جيش بعثه إلى الصعيد في طلب أبن عبيدس الفهري ومعه رشيد التركي فظفروا بالفهري بطحا وارتحل المأمون إلى سخاسلخ المحرم سنة سبع عشرة ثم سار إلى البشرود والأفشين قد أوقع القبط بها فنزلوا على حكم أمير المؤمنين فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال فبيعوا وسبي أكثرهم وأتى بالفهري إلى سخا فقتله وتتبع كل من يومي إليه بخلاف فقتله فقتل ناساً كثيراً ورجع إلى ألفسطاط يوم السبت لست عشرة من صفر سنة سبع عشرة ومضى إلى حلوان فنظر إليها وأقام بها ثلاثاً ورجع إلى ألفسطاط فخرج على مقدمته أشناس وارتحل المأمون يوم الخميس لثماني عشرة من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا حلوان تسعة وأربعين يوماً هذا مثال من العمل الإداري في مصر لعهد المأمون والعبرة في هذه القصة بقول المأمون رضي الله عنه لعاملهلم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس على مالا يطيقون وكتمتموني الخبروكانت الناس في تلك العصور على شيء من الأباء وعزة النفس ومن ذلك أمثلة كثيرة في هذا الكتاب منها ما ورد في الذيل نقلاً عن رفع الأصر في ترجمة عبد الله بن أحمد بن زبر أحد القضاة الذين تولوا دمشق ومصر قال المؤرخ أنه كان قوي النفس كثير الجهد واسع الحيلة وكان الوزير علي بن عيسى منحرفاً عنه ولما سعى في قضاء مصر دافع بولايته وكان السبب في انحرافه عنه كان يولى فضاءؤ دمشق فاتفق أن الوزير دخل دمشق في مهم من المهمات فخرج أهلها إلى لقيه ومنهم القاضي فسايره فصاح به أهل البلد ونسبوا

القاضي إلى كل سوء من الرشا والظلم وغيرهما من ألفواحش والوزير يلتفت إليه فيقول له ما يقولوا هؤلاء فقال يشكون إلى الوزير غلو الأسعار وضيق الأحوال ويسألون حسن النظر إليهم والعطف عليهم فلما عاد إلى بغداد صرفه عن الحكم بدمشق أقبح صرف قال الحافظ الذهبي في حوادث سنة 329 قال أبو عمر الكندي أخبرني علي بن محمد المصري أنه رأى القاضي ابن زبر بدمشق اجتاز بسوق الأساكفة فشغبوا عليه ودقوا بشفارهم تخوتهم قائلين كلاماً قبيحاً وهو يسلم عليهم ويتطارش ويظهر أنهم يدعون له وهاك نموذجاً آخر من الكتاب قال ابن ميسر لما مات ابن الخطيب سعى ابن الوليد في القضاة وبذل لكافور مالاً فقام الناس في وجهه فرفعوا عليه فعزل عنه إلى أبي طاهر الذهلي ولما ولي عبد الله بن وليد قضاة دمشق أرسل ولده محمداً نائباً عنه وكان أهل دمشق اختاروا حكم بن محمد المالكي قاضياً عليهم لما شعر القضاة بموت قاضيهم الخصيبي وإعزال خليفته محمد بن اسمعيل الزيدي وذلك في أمرة فاتك الأخشيدي على دمشق فوصل محمد إلى دمشق في شعبان سنة 48 وهو شاب ثم وقع من دمشق من أهل دمشق منازعة في اختيار من ينوب في القضاة فتعصب قوم لمحمد ولد ابن وليد وقوم ليوسف الميانجي وكان الأعيان مع الميانجي والأوباش مع ابن وليد وذلك في رجب سنة 49 فاجتمع الشيوخ وانضم أكثر أهل البلد فاجتمعوا بفاتك ورفقته الغلمان الأخشيدية وشكوا لهم ما لقوا من الإساءة فانصفوهم فانصرفوا من عنده احسن انصراف وصرف ابن وليد. رواية وفود النعمان هي عربية تاريخية تمثيلية تمثل وفود العرب على كسرى أنو شروان ذات خمسة فصول لمؤلفها محمد عزت أفندي دروزة من أدباء نابلس جاءت في 54 صفحة. في زوايا القصور طبع بمطبعة جدعون في بيروت سنة 1913 هو سفر أخبار ونوادر غربية عن ملوك هذا العصر وأمرائه وحياتهم البيتية مأخوذة عن أوثق المصادر مكتوبة بعبارة سهلة طيلة بقلم أمين أفندي الغريب ومطالعة هذا السفر تسلي القارئ وتزيد معلوماته عن الغربيين وعاداتهم وما حواه مبعثر في بطون الكتب والصحف فجمعه المؤلف على هذا المثال بعد نشره في جريدة الحارس.

تاريخ آداب اللغة العربية تأليف جرجي بك زيدان صاحب الهلال الجزء الثالث ص 348 طبع بمطبعة الهلال بمصر سنة 1313 يحتوي هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة العربية من دخول السلاجقة بغداد سنة 447 وإلى دخول ألفرثا وبين مصر سنة 1313 وفيه كلام على ما انتجته العقول في العصر العباسي الرابع والعصر والعصر المغولي والعصر العثماني وهي عصور الإكثار من المصنفات وتأليف أمهات كتبنا منسقاً أحسن تنسيق على عادة المؤلف فقيد الآداب بحيث يقرأ المرء كل فصل في محله ويلتقط كل فائدة من مكانها وكتابه زبدة عشرات من كتب العلم والتاريخ والسير المعروفة ومنها المخطوط الذي تيسر للمؤلف العثور عليه في بعض المكاتب العامة والخاصة ولو كانت طبعت جميع تركة السلف من الأسفار لجاء هذا الجزء ضعفي ما هو عليه من الحجم وتكون ألفائدة على تلك النسبة ولكن لا جود إلا من موجود ومن تلا هذا الجزء والجزئين السالفين يتبين له إفدار علماء السلف وإكثارهم من التأليف في كل فن ومطلب أيام كانت اللغة زاهرة وسوق العلم نافقة غير بائرة. إرشاد الأمة إلى التبر المدفون القسم الأول تعريب أحمد مختار بك الحسني طبع بمطبعة الترقي بدمشق عام 1333 هـ (ص176) هو كتاب في الزراعة عربه معربه عن الإفرنسية ومزجه ببعض الأفكار من عنده ولا سيما في المقدمة وصف فيها حالة الزراعة وتسامح ألفلاح السوري والملاك السوري وقد حلاه ببعض الصور فجاء نافعاً في بابه لقلة ما في الأيدي من الكاتب الزراعية الحديثة ومن أهم ما قرأناه فيه الإدارة الزراعية في الغرب والإدارة الزراعية في سورية إلا أنه ألقى جميع التبعة لتساهلنا على عاتق الأهليين وحدهم فنحث كل من تهمه الزراعة على مقتتناه تنشيطاً لمؤلفه وأخذاً من فوائده المقتبسة عن الغربيين. التصريف الملوكي

صنعه أبي ألفتح عثمان بن عبد الله بن جني عني بتصحيحه وفهرسة مطالبه وشواهده وإشارات جملة الشيخ محمد سعيد النعسان طبع بمطبعة شركة التمدن المصرية سنة 1331 و1913 المؤلف من أئمة العربية والناشر الشارح من أساتذة حماه لعهدنا وقد جود طبعه بالشكل الكامل وعلق عليه تعليقات لطيفة فجاء وافياً بالمراد جديراً بإقبال طلاب العربية عليه الذين يشكرون له هذه الخدمة ويتمنون إطرادها بأحياء الأسفار النافعة للسلف وخدمتها بالتعليق عليها خدمة تقر بها من أذهان الطالبين والمتأدبين. جواهر الأدب من خزائن العرب طبع في المطبعة العمومية في بيروت هو مجموع آداب وحكم وأشعار ولطائف مختارة من أهم كتب المحاضرات والأدب ودواو البلغاء بنشره سليم أفندي إبراهيم صادر صاحب المكتبة العمومية في بيروت وقد ظهر منه إلى الآن خمس مجلدات لطيفة وكلها بالشكل الكامل طبعت بالمطبعة العلمية فنثني الثاء المستطاب على جامعها وناشرها ونحث المدارس على الاعتماد على مثل هذه الكتب القليلة الجرم الغزيرة العائدة التي تقوي ملكة البيان في الشبان وتجعل منهم عبارات البلغاء والحكماء على طرف الثمام. كتاب الياس جرجس طراد جمع جرجي أفندي نقولا باز طبع بمطبعة جدعون في بيروت سنة 1914 (ص398) أجاد صديقنا جامع هذا الكتاب في جمع سيرة سليل مني طراد المشهورين بأنه ظهر بينهم عدة فضلاء ونوابغ أدباء وهذا هو في جملتهم وقد الم بأصل أسرة طراد البيروتية وقال أنها عادت كمعظم الأسر المهمة في لبنان في القرن الرابع عشر من حوران إلى الكورة وبعد مائتي سنة تفرقت في البلاد وذكر تراجم المشاهير من هذه الأسرة وتوسع في ترجمة من ألف له الكتاب وذكر شيئاً من خطبه ومقالاته وكتبه وشعره فاستحق صديقنا المؤلف

ثناء الأدباء لعنايته بأخبارهم وآثارهم وغيرته على ألفضل والفضيلة. التحفة السنية في المشايخ السنوسية لعلي أفندي الجميل الموصلي طبعت بمطبعة سرسم في الموصل سنة 1331 هي رسالة نافعة جميلة الإنشاء عرب بعضها عن رسالة تركية لأحمد حلمي أفندي الفلبه لي ضم إليها معربها ما قالته بعض الصحف العربية في الشيخ السنوسي ونسبه وأسرته وعمله في الحرب الطرابلسية وما صدر عنه فيما قيل من الرسائل إلى قائد العساكر الطليانية والرسالة مفيدة في بابها لو تجردت من المبالغة.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار الخط البغدادي سيكون أهم الخطوط الحديدية في السلطنة خط الأستانة - بغداد وطوله 2425 كيلو متراً تم منها الآن 18. 2 وجرى استثمراها بالفعل أما ال - 42 كيلو متراً المارة من سلسلة جبال طوروس وال - 11 كيلو متراً الواقعة في النفق العظيم هناك فلا يتأتى إنجازها قبل ستين لعسر الطريق وقد انشئ طريق موقت ربط الخط به الذي انتهى إلى رأس العين على نحو ثلثمائة كيلو متر من حلب. قرانا وقراهم كتب رصيفنا صاحب الدام في جريدته مقالتين وصف بهما قرية قلد كيرخ في النمسا على عشرين دقيقة من الحدود السويسرية وسكانها خمسة آلاف يعيشون من غاباتهم وبقولهم وذكر فيها من أنواع الرفاهية والراحة والجمال واللطف ما لا يقصر عن أجمل العواصم هذا إلى تلك الغابات التي أصبحت بها الجبال والأودية خضراء غضراء والمياه تنبعث من كل مكان فكثرت بها المروج السندسية وعدلت برد الشتاء وحر الصيف ولم تصبح عرضة للسيول وتطهرت الأودية من الحصى الذي تجرفه الأمطار وكثرت الألبان وجادت اللحوم والثمار وأصبح السكان مظهراً للحياة المدنية وذكر عناية الأهلين بهندام بيوتهم وغرس الزهور والأشجار حواليها ولكل بيت حديقة تكفيه أرضها لإنبات البقول له وما يغالون به من تنظيم الكنائس والمدارس ولكل قرية مهما صغر حجمها كنيسة ومدرسة في أجمل مكان وأمتن صورة من البنيان وأن الحكومة أنشأت لهذه القرية كل مرافق الحياة من طرق معبدة وجادات وطرق وجسور وسكك حديد وتلفزيونات وإنارتها بالكهرباء والغاز وجعلت فيها بريداً ومدارس وملاعب عالية للبنات ودار للمعلمين وقال أن مثل هذه البلاد يحق لأهلها أن يدفعوا عنها من فتيانها إلى ابن الستين ولولا الحرب لقلت أنها أسعد بلد يسكنها إنسان لجمال أبنيتها وما زينت به من البدائع الصناعية الطبيعية وأنه يرى أن الأهالي إذا رقتهم الحكومة أولاً يعملون بعد أعمالاً مهمة كما فعل اليسار من سكان هذه القرية فإنهم أقاموا من أموالهم مقاعد في الجبال والأودية للسياح الذين يزورون بلدهم ليستريحوا عليها ولم يقولوا

أن ذلك أمر لا يعنيهم وقال أن الوالي والمتصرف والقائمقام إذا كان لهم ذوق ومعرفة ينهضون بالبلاد نهوضاً غربياً وإن أعمالنا في الولايات لا يعنون بترقية من يتولون أمرهم وقال لو كان لي من الأمر شيء لنظرت في أحوال العامل قبل أن أعينه لأرى إذا كان يحسن تدبير أو أسرته فإذا كان كذلك وسدت إليه أمر الأمة وأيقنت أنه يحسن الإدارة قال أنه يحسن الإدارة قال إن هذه القرية ليس فيها كما في مملكتنا فرد واحد أصابته الحاجة وإن نواب النمسا والمجر صرفوا فضل معارفهم المدنية والاجتماعية في إنهاض أمتهم وإسعادها مما فكروا في إملاء جيوبهم وأنه رأى دكان مزين بهذه القرية ليس مثل مضافتها ولطفها في جميع جادة الباب العالي في دار السعادة وبهذا يتبين ألفرق بيننا وبين جيراننا ولم يرى في الآستانة شبيهاً للبلاط الذي رصفت به شوارع هذه القرية بل ولا متراً واحداً هذا ما قاله صاحب أقدام وهو يعود باللائمة على المحكوم وعلى الحكام أيضاً. والناس كلهم هنا إلا قليلاً حسالة لولا ما يحفزهم دافع الجوع في القرى ما رأيتهم زرعوا أرضاً أما الكماليات التي نعدها نحن كذلك وهي عند الأوروبيين حاجيات بل من متممات الحياة كهندسة البيوت وتنظيمها واستجادة فرشها وتحسين الموائد وهندام الثياب والشعر وقص الشعر واللحية وتعليم الأولاد وحضور الصلوات إلى غير ذلك مما أملت به القوانين الدجولية والمدنية فهذا مما لا يكاد يكون له أثر في أكثر قرانا ولذلك كانت قرية الدكيرخ أرقى من حاضرة ولاية من ولاياتنا بمراحل وليس غنى الأمم بكثرة عددها بل بنسبة الوطنيين العاملين فيها يقول رصيفنا أن النمساويين متدينون لا متعصبون وهذا التدين نفاهم في جامعتهم وتكوين وطنيتهم وليس في الدين ما ينفر من اتخاذ أسباب الراحة والتعامل بالحسنة ولا فيه ما ينكر اللطف والذوق وينافي العمل للرقي. إن قرية كالتي ذكرها يحيط أهلها بكل ما في العالم من موجبات الترقي والتعالي لا يكونون غرباء مما تعمله حكومتهم بل يقدرونه حتى قدره ويبادرون إلى إيجابة سؤلها من تلقاء أنفسهم في يوم الشدائد لو عمل الأهلون الواجب عليهم هنا على القدر الذي تعمله الحكومة لما أنحط لنا عمران ولا شكا ألفقر إنسان وإذا كانت النمسا بل قرية فيلدكيرخ إحدى قراها تعيش عيش سعادة ورخاء فذلك للأثر الناتج عن تعلم أهلها تعليماً عملياً ولأن أهل اليسار من أهلها ما ضنوا يوماً بوفرهم في سبيل الإخاء بأيدي أهل الطبقة الدنية من جيرانهم الغني عندهم لم

يقل ليس هذا من شأني بل كان يفكر في جيرانه كما يفكر في أهل بيته وبذلك قامت مدينتهم وخافهم عدوهم وغبطهم صديقهم وكانت قراهم أرقى من قرانا ومدنهم لا تقبل القياس مع مدننا. خسائر الاتفاق يفهم من التقارير التي نشرتها دول الاتفاق أن خسائرها كانت إلى أخر سنة 1615 ثمانية ملايين وثلث مليون رجل منها 21. . . . . رجل من فرنسا و465. . . . من روسيا و35. . . . من إنكلترا و3. . . . . من بلجيكا (لم يبقى سوى 5. ألف من جيش بلجيكا المؤلف من 35. ألف) و 5. . . . . من سربيا (دعت لحمل السلاح رجالها إلى سن 7. فبلغ عدد الجيش 6. . ألف لم يبقى منه سوى 1. . ألف) و5. . . . من الجبل الأسود و25. . . . من إيطاليا و83. . . . . المجموع. معامل السكر في الشام الغالب أن مؤلفي العرب لم يكونوا يعنون عناية أهل هذه الأيام بذكر الصادرات والواردات من البلاد ولذلك عميت علينا كثير من أحوالها الاقتصادية فلا نعرف أكثر الصناعات التي كانت لعهد ارتقاء هذا القطر مثلاً إلا من سطور قليلة لا تكاد تبل الصدا. من كان يظن أنه كان يصدر في القرن الرابع عشر في الهجرة من بيت المقدس المرايا وقدور القناديل والإبر ومن طبريا ودمشق الكاغد أي الورق ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط لو لم يشر إلى ذلك المقدسي في كتابهأحسن التقاسيم في معرفة الأقاديمإشارة خفيفة. ومعلوم أن هذه الصناعات معدومة بتاتا في هذا القرن الرابع عشر من بلاد الشام وقد كتب الأمير شكيب أرسلان بمناسبة قلة الوارد من السكر وارتفاع أسعاره في القطر الشامي جملة في جريدة الشرق قال فيها: من أكبر دواعي الأسف أن يكون عندنا نهر كنهر الشريعة ماراً بأخصب أراضي الدنيا من بانياس إلى البحر الميت مسيرة خمسة أيام على ألفارس طولاً ويوم واحد عرضاً وأن لا نستفيد منه إلا سداداً من عوز. وأشد داعياً للأسف من ذلك أن تكون هذه شابكة العمارة في الغابر دارة الحلبة فائضة الخير والمير متصلة بالمدن والقرى وأن تبقى الآن عاجزة عن مبرة من فيها من بادية العرب ورحل الغوارنة قال ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 للهجرة عند ذكر الأردن في معجمه هي أحد أجناد الشام الخمسة

وهي كورة واحدة منها الغور وطبريا وصور وعكا وما بين ذلك قال أحمد بن الطيب السرخسي الفيلسوف هما أردنان الأردن الكبير والأردن الصغير فأما الكبير فهو نهر يصب إلى بحيرة طبريا لمن عبر البحيرة في زورق أثنا عشر ميلاً تجتمع فيها المياه من جبال وعيون فتجري في هذا النهر فتسقى أكثر ضياع جند الأردن مما يلي ساحل الشام (أين نحن اليوم من هذه الحال) وطريق صور ثم تنصب تلك المياه إلى البحيرة التي عند طبريا وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة فهذا النهر أعني الأردن الكبير بينه وبين طبرية وأما الأردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسعى ضياع الغور (وهذا أيضاً لا أثر له اليوم والأراضي التي تسقى في الغور فإنما تشرب من مياه أخر) وأكثر مستغلهم السكر ومنها يحمل إلى سائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة ومنها بسان وقراوة وأريحا والعوجا وغير ذلك وعلى هذا النهر قرب بحيرة طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كبيرة تزيد على عشرين (ينبغي أن يكون جسر المجامع ولكن غير الموجود اليوم إذ هذا ليس فيه عشرون طاقة) ذات طاقات كبيرة تزيد على عشرين (ينبغي) أن يكون جسر المجامع ولكن غير الموجود اليوم إذ هذا ليس فيه عشرون طاقة) ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك (ويقال له اليوم شريعة حوران) فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البنية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة في طرف الغور الغربي وذكر ياقوت عند كلامه على الغور والغور غور الأردن بالشام بين البيت المقدس ودمشق وهو منخفض عن أرض دمشق وأرض البيت المقدس ولذلك سمي الغور طوله مسيرة ثلاثة أيام وعرضه نحو يوم فيه نهر الأردن وبلاد وقرى كثيرة وعلى طرفه طبريا وبحيرتها ومنها مأخذ مياهها وأشهر بلاده بيسان بعد طبرية وأكثر ما يزرع فيه قصب السكر ومن قراه أريحا مدينة الجبارين وفي طرفه الغربي البحيرة المنتنة وفي طرفه الشرقي بحيرة طبريا وقال عنه ذكر بحيرة طبرية وينفصل منها نهر عظيم فيسقي أرض الأردن الأصغر وهو بلاد الغور ويصب في البحيرة المنتنة قرب أريحا فلننظر الآن إلى ما تحول من الأحوال في تلك الأصقاع فنقول أولاً أن كلاً من الأردن الكبير والأردن الصغير يجري في الغور الأعلى ومن دون فائدة تذكر وربما ماتت زوابع كثيرة في الغيران عطشاً والماء جار في جانبها ثانياً إن الأراضي التي لها حظ من الشرب في هذه

الغيران إنما تسقى من أودية جارية من الجبال مثل سيل الزرقا السائل من جهة عجلون إلى الغرب ومثل مياه بيسان المنحدرة من صوب مرج بني عامر إلى الشرق ومثل ماء ألفارغة النازل من الغرب إلى الشرق ومثل عين السلطان التي تسقي جنان أريحا ومثل ماء غور نمر المنحدر من وادي شعيب أسفل الصلت إلى الغرب وماء حسبان وغيرهما من المياه وهذه الجدأول كلها لو اجتمعت ما ساوت معشار الأردن الذي أصبح عاطلاً من كل عمل ثالثاً إذا وقف السائح على المعالم والآثار ودقق في بقايا القنوات والحنايا تحقق صحة ما هو وارد في كلام ياقوت وغيره من أن الأردن كان يسقي ضياع الغور رابعاً أن زراعة قصب السكر أصبحت اليوم مفقودة من كل هاتيك الأرض مع أنه قد عرف بالتجربة أنه لايوجد أرض صالحة لهذه الزراعة نظير الغور وقد صادف في هذه المدة أن بعض النابلسيين زرع نصيباً من قصب السكر فجاء منه غلة مدهشة ونوع من القصب هو الحلاوة والمائية بحيث لايوجد له نظير في الدنيا ومن هنا يعرف سبب اختيار الأولين هذه الأراضي لزراعة القصب وقد جاء في كلام ياقوت قوله وأكثر مستغلهم السمر ومنها يحمل إلى سائر بلاد المشرق فيظهر منه أنه كان هناك معامل للسكر كما هي الآن في صعيد مصر وفي جنوبي الغور إلى يومنا هذا مكان معروف بمطاحن السكر ومما يدل على وجود السكر قديماً في عكا ما ورد في تاريخ الروضتين عند ذكر فتح صلاح الدين عكا وهو قول العماد الاصفهاني وتصرف الملك المظفر تقي الدين في دار السكر فأفنى قنودها واستوعب موجودها ونقل قدورها وأنقاضها وحوى جواهرها وأعراضها ولعمري عار على البلاد أن تكون فيها معامل السكر في القرن السادس والسابع وإن لا يوجد فيها معمل واحد اليوم حتى يبلغ ثمن رطل السكر مائة قرش فأكثر ويلتجي الناس إلى دبس الحروب الذي كان يباع الرطل منه بقرشين ونصف قرش فصار اليوم بثلاثين قرشاً فإذا أعيد الأردن إلى محاربه الأولى وانشقت منه جداول من عند بحيرة طبرية ذاهبة جنوباً ركبت الغيران بأجمعها بسبب التحدر الذي في الأرض وأصبحت تلك الأراضي كلها سقياً بعد أن كانت عذباً تشرب من ماء المطر. الغذاء غير المألوف إن قلة الأغذية التي أحس بها في كل مكان من الكرة بداعي قد لفتت الأنظار إلى غذاء

الشعوب المتوحشة ولا سيما من لم تساعدهم الطبيعة وقضى عليهم مركزهم الجغرافي وما في أرضهم من النبات والحيوان أن يتناولوا أطعمة يظهر أنها غير مألوفة لا تؤكل ونحن لا نطعمها للعادة ولو غذاء موقتاً من المآكل ما ألفه الشرقي دون الغربي وعلى العكس وما يطعمه الناس في أوربا قد لا يتناولونه في آسيا وما يحبونه في أميركا واستراليا لا يرغبون فيه في إفريقية وجزائر المحيطين وإذا أعملنا النظر نجد أن غذاءنا قليل الألوان فلا نألف إلا بعض الحيوانات من ذوات الضرعين والطيور والأسماك أما الحيوانات ذوات الأصداف وذوات القشر والهوام وغيرها مما تطعمه بعض الأقاليم فإن فيها ما حرم الإسلام أكله ومنها ما أباحه لم يجوز ألفقهاء أكل كل ذي ناب وذي مخلب من السباع أي سباع البهائم والطيور والسباع يتناول سباع الطيور والبهائم لأن كل ماله ناب أو مخلب سبع والسبع مختطف منتهب جارح عادة عادة فالمختطف مل يخطف بمخلبه من الهواء كالبازي والعقاب والمنتهب ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذب وسباع الطيور كالبازي والصقر والنسر والعقاب والشاهين وسباع البهائم كالأسد والنمر والذئب والفهد والثعلب والضبع والكلب والسنور البحري والبري والأهلي ويكره ألفيل لأنه ذو ناب واليربوع وابن عرس من السباع الهوام وكرهوا أكل الرحم والبغل ولا يحل أكل السلحفاة والغراب ألا يقع والضب والغداف واليربوع وحيوان الماء ما عدا السمك وحل الأرنب والعقق وغراب الزرع كان قدماء اليونان يأكلون الزيزان المطنة ويفضلون منها إناثها ويأكلون الديدان قبل أن تنسل وكان الرومان يحبون الديدان حتى أن الشاعر كاتول قبل المسيح وجد طعم الجراد الأصفر قريباً من فطيرة رجل الدجاجة المعمولة بالزبدة وقل جداً في عهدنا من يطعم الديدان من الأوروبيين ولكن ملايين من البشر يتناولونها في أقطار الأرض الأخرى ويؤثر سكان إفريقية الوسطى تناول السرفة والأرضة فيأكلونها نيئة ومطبوخة ومشوبة ويأكلون في جارة الصرف ويعدونها منمشة للقوى الضعيفة من الشيخوخة وبفضل الشيوخ في الهند تناول النمل المجنح والنمل المجفف المعمل بالسمن في برازيل مشهور موصوف. وأهل المكسيك يحبون بيض البق (ألفسفس) من جنس كوريزا يجعل منه حلواء فيغالي الناس في تناوله. والجراد غذاء شائع في بلاد العرب فهو مصيبة يأكل المزروعات ويؤكل أيضاً وقد ذاقه كثير من الناس مع الأرز أو مملحاً أو مع ألفلفل الأحمر أو الخل أو مشوياً فقالوا أنه

جيد مريء. والجراد يحضر بحسب أذواق البلاد التي يظهر فيها ففي الجزائر يغلونه في ماء مملح كما يفعلون به في الصين وفي مدغسكر يأكلونه مطبوخاً في ألفرن أو مجففاً ويجعلونه مع الأرز أو يغمسونه في الدهن الغالي وفي هذه الأقطار يعدونه من الأطعمة اللذيذة. ولقد ذاق بعض السياح الأوربيين جميع أصناف الديدان فرأي أن التي تعيش في جذوع الاكآسيا أطيب طعماً من العجة على شرط أن تشوى في رماد حام. ويؤثر وحوش أوستراليا كل الإيثار دبابة الألف رجل وأم الأربعة وأربعين أما أهالي التونكين فإنهم يغذون الديدان من الانجاص والموز والخوخ ليعطروا بها لحمة. وجميع هذه الأطعمة تفضل علي قطائف ذباب البقر والحمير التي يتنافس في أكلها الزنوج على ضفاف نيازا وعلى البراغيث وغيرها من الهوام الدقيقة التي يأكلها أهل غرونلاندا يتناولونها من شعورهم فيلقونها في أفواههم. ويقول اليابانيون أن حلويات النحل مطبوخة في الشراب لا تقل في لذاتها عن أطيب عصير ألفاكهة ويتناول الوطنيون من سكان جاوة وصومطرة وأنام كعكعهم من الطين محلولاً بماء مطبوخاً في قدر معتقدين أنه خير غذاء. والحاصل فإن البشر احتالوا على الطبيعة والطبيعة أعطت البلاد المعتدلة كل ما يقوم بحاجة سكانها والمسألة في الأغذية ترجع إلى العادة والذوق. معادن السلطة قالت مجلة ألمانية: في البلاد العثمانية كثير من الخزائن الطبيعية الكبرى منها ما يزيد على عشرين معدناً من أهم المعادن وقد أعطى إلى الآن في ولاية آيدين وحدها ما ينوف عن تسعين امتيازا لتعدين المناجم، ولألمانيا في هذه البلاد كثير من معدن حجر الصفار (فروم) (1) وقد منحت الحكومة العثمانية إلى الآن نحو ستين امتيازا لاستخراج هذا المعدن وقد ابتاعت مصانع كروب إلى الآن معدنين من حجر الصفار واستأجرت اثنين منه استئجاراً معدن الرصاص موجود بكثرة أيضاً في البلاد العثمانية فإذ كانت هذه المعادن الرصاصية تسد من عوز ألمانيا للرصاص واحداً من عشرة فقط فيها ونعمت وقد زاد الوارد من العثمانية إلى ألمانيا من معدن الشبه (النحاس الأصفر) في السنوات العشر الأخيرة ثلاثة أضعاف الوارد منه أولاً ولو أن ألمانيا كانت مهيأة له رؤوس الأموال اللازمة لاستثمار

معادن الشبه فلا شبهة في أن الوارد منه إلى ألمانيا يزيد زيادة كبرى ولا كان لا يتيسر للحكومة العثمانية تدارك رؤوس أموال لاستثمار هذه المعادن فهي لا تستفيد من كثير من المعادن المانحة امتيازات بها ويمكننا أن نذكر من بين هذه المعدن المستثمرة معدن الرصاص في ناحية (بالية) فإنه في الدرجة الأولى من حيث سعته وأوضاعه وقد بلغ الحاصل منه عام 1913 ثلاثة ملايين ونصف مليون مارك وفي جبال وروس معدن رصاصي فضي يستثمر بيد الحكومة يبلغ إيراده السنوي نحو المائة ألف فرنك وبين (خربوط) و (دبار بكر) تعدن الحكومة أيضاً معدن شبه نحاسي بلغ دخله عام 1914 قريباً من نصف مليون مارك وفي شمالي البلاد العثمانية معادن شبه نحاسية غنية ذات قيمة كبرى يعد البترول من الحاجات المدنية المهمة لكل مملكة ومن المعلوم في كل الدنيا أن المملكة العثمانية غنية جداً بمنابع البترول وإليك ما قاله الأستاذ (شيفر) المشهور ببحثه العميق عن منابع البترول في العراق نقلاً عن مجلة اقتصاديةإذا علمنا أن منابع البترول في العراق الممتدة في الأرض والبالغ طولها 4. كيلو متراً ينبع زيت الغاز في بعضها على سطح الأرض مما لم يعرف له نظير أبداً في علم طبقات البترول لا يبقى عندنا أدنى ريب في أن هذه المنبع من أغنى منابع البترول في العالم وأغزره وأنه يمكن بأسباب فنية تعدين هذه المعادن بأقل كلفة وأشد سرعة من عامة المشاريع الصناعية المراد إنشاؤها في البلاد العثمانية وإذا استنبطت منابع البترول في البلاد العثمانية فإنها تساعد على تقدم الوسائط النقلية في البلاد وإن استخدم البترول في القاطرات ليس بالأمر الصعب وما عدا هذا فإنه يمكن استخدام البترول بدلاً عن ألفحم في السفن الماخرة في الرافدين (دجلة والفرات) وإن اصطناع سفن تقطع في الساعة 45 كيلو متراً بواسطة استعمال البترول لا يعد أمراً عسراً وهذه السفن تقوم بخدم كبرى للمسافرين ولنقل الأمتعة والبريد وبهذه الواسطة تصير التجارة حوالي دجلة والفرات أكثر سرعة وتستجر تجارة هاتيك البلاد وتعظم ثروتها.

الخطابة عند العرب

الخطابة عند العرب توطئة دلتنا الحرب الحاضرة على كثير مما ينقصنا من العلوم والصناعات الشائعة عند الأمم الغربية وكانت فاشية في القديم عند أجدادنا. ومن ذلك صناعة الخطابة وهي من أجل العوامل في تربية النفوس أيام الحرب والسلم وفي بث دعوة أو سفارة بين متخاصمين أو متحابين إقناع يوم الحفل واستمالة الأفكار إلى رأي أو حزب في المجالس والمؤتمرات والمجامع والجوامع لا تستغني عنها أمة دستورية بحكمها مجلس نوابها إذ أن التنفير من مسألة والتذكير بأخرى لا يتم إلا بقوة البيان وسلاطة اللسان وفصاحة الحجة وظهور المحجة والسبب في قصورنا عن هذه الغاية طول عهدنا بالحكومة الاستبدادية المطلقة حتى إذا انقلبت إلى حكومة شورية أحسسنا بنقص في عامة مكونات الأمم وكان خطباؤنا المصاقع يعدون على الأصابع في جميع أدوار مجلسنا النيابي والمبرز منهم من كتب له أن كان أستاذا في مدرسة أو مدرساً في جامع ففتقت السن أهل هذه الطبقة وقليل ما هي على أيسر وجه لأنها كانت على جانب من ألفضل ومعرفة بأصول المجالس أما أكثر النواب فكانوا بمعزل عما ينبغي لهم من أدوات ألفهم والكلام والحرية فضاحة فضحتنا بقلة المتكلمين والمفكرين منا مع أن الخطابة مما أوجبته علينا الشريعة الإسلامية كما ظهر أمرنا وتبين عجزتا واستبان إفلاسنا في مسائل العلم والتأليف فقد كان بعضهم يوهمون أن طبائع الحكومة المطلقة وهي قائمة بكم الألسن وحجز الأقلام هي التي تحول دونهم وما يشتمون من انبعاث عملهم ونشر أبحاثهم ودروسهم وظهور أثر فضلهم وأدبهم وتحقيقهم وربما غالى بعضهم فقال اختراعهم واكتشافهم وأنهم لا يتوقعون إلا دور انطلاق حتى يظهروا ما كنته صدورهم من العلو والفنون وها نحن نعيش في ظل الحكومة الدستورية منذ ثماني سنين ولم نشهد أثراً لغير من عرفوا من قبل بألفهم والعلم وجل ما اتصل بنا أنه نشرت مباحثات ومناقشات قلما تفيد أمة تريد النهوض من طريق العلم والعمل نحن موقنون أن التبريز في الخطابة صعب ولكن بالتعلم والمعاناة يصل المرء إلى درجة حسنة في الجملة وفي العادة أن يكون النوابغ قلائل في كل فن فإذا عد في الأمة عشرة منهم في كل شأن ومطلب تعد غنية بعلمها وعقلها ولانحطاط الخطابة الدينية في هذا العهد تأفف كثبر من حضور الجمع

حتى لا يسمعوا خطباً لاقتها الألسن منذ قرون وليس فيها شيء من النفع ولقلة المجيدين بل المتوسطين في هذه الصناعة غداً الناس يسمون خطيباً كل من يرفع عقيرته ولو كان جاهلاً عامياً بل أمياً غبياً وعلى العكس رأينا في بعض البلاد خطباء بعض المساجد مجودين في الجملة يقولون ماله معنى في الوغظ والإرشاد قد حببوا غشيان المساجد لمن كانوا لا يعرفونها وبتأثير الإخلاص والإجادة والكلام بحسب طبائع القوم وحاضر العصر كثر العاملون بأحكام الدين القائمون بتكاليفه وبلغت حالة الانحطاط في ضعف البيان وفسولة الرأي والحجة بأكثر خطباء الجوامع ومنهم الأميون الذين لا يكادون يقرأون الكتاب إن أصبحت نصف خطبهم زهداً في الدنيا على غير طريقة السلف المشروعة والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يحرمون منه كلمة ثم هم يدعون بأدعية مردودة في الشرع شأنهم في بيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والجوامع حتى خطب بعضهم وكان حشوياً جلجلونياً في أعظم جامع في هذه البلاد عند إرادة الحث على تجديد بنائه فقال إن الصلاة فيه تعادل ثلاثين ألف صلاة وأورد لذلك أحاديث لا تعرفها إلا عقول الرضاعين والقصاصين ولطالما خطبوا أن من صام يوم كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلى غير ذلك من البدع والفضول التي لم تأت بها شريعة الرسول وقد أنكرها أئمة ألفقه والعلم من المتقدمين والمتأخرين ولاسيما شيخ الإسلام أبن تيمية وابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751) وابن الحاج المتوفى سنة 737 ولو كان الخطباء على جانب من فهم أسرار الشريعة وعرفة طرق البلاغة وما يصلح الناس ما عالجوا من الموضوعات ما يرجع بالناس القهقرى هذا في الخطب الدينية فهي أيضاً تتصرف على ذاك النحو نصفها تجميدات ومقدمات واعتذارات وسخافات واستطرادات منوعات ولو محصت لما بقي منها إلا التافه اليسير من المعاني أم تأثيراتها في الأفكار فضعيف جداً ولعل هذا النقص البين يتلافاه أساتذة المدارس الابتدائية والوسطى والعليا بتمرين طلبتهم أبداً على الإلقاء وممارسة الكلم ألفحل يوم الحفل وفي النوازل والأمور العامة فينشأ من هذا الجيل فئات تسد هذا النقص المحسوس المشاهد في طبقة رؤساء الدين ورؤساء الدنيا ويمرن الجميع على كتابة ما يريدون الخوض فيه وعلى استظهاره أو إلقائه على نحو ما سارت الأمم الحديثة والأمم القديمة الراقية فينبغ فيها خطباء ووعاظ ومرشدون داووا جهالة شعوبهم بأساليب القول الجزل والمنطق الخلاب

والبرهان الساطع وها نحن نحفظ لطلاب هذا ألفن الطريق الذي سلكته العرب في تقوية ملكة البيان معتمدين في النقل على أئمة هذا الشأن مشيرين إلى تاريخ الخطابة والمجودين فيها من أهل هذا اللسان قبل الإسلام وبعده موردين من الشواهد ما يصح تحديه والنسج على أسلوبه وذلك بقدر ما يتسع صدر المصادر التي نقتبس منها وتسمح صحف هذه المجلة ولعل غيرنا ينهض إلى التوسع أكثر من توسعنا في هذا الموضوع الواسع الأطراف تلقيحاً للعقول وإهابة بها إلى ما يصلحها ويزكيها بالبلاغة فنقول: (2) حد الخطابة وأقسامها نقل ابن رشد الخطابة صناعة تتكلف الإقناع الممكن في كل مقولة من المقولات وغايتها إقناع الجمهور فيما يحق عليهم أن يصدقوا به من الأمور السياسية والوظائف الشرعية وقال أبو البقاء: الخطابة هي الكلام النفسي الموجه به الغير للإفهام قالوا وليس للخطابة موضوع خاص تبحث عنه بعزل عن غيره ولذلك كان على الخطيب أن يلم بكل صنف من المعارف فوجب عليه لبلوغ هذه الأمنية أن يتبحر في العلم ويتفنن في ضروب ألفهم حتى كان سيسرون خطيب الرومان يوجب على الخطيب معرفة ألفنون الأدبية والرياضيات والرسم والتصوير والنقش والموسيقى وغير ذلك ومعنى إقناع الجمهور إرضاء السامعين بالبرهان بحيث تكون البلاغة ملكة في الخطيب وهناك يقتضي له من العلم الواسع ونفاد البصيرة وحضور الذهن وقوة التأثير وطلاقة اللسان ولطيف البيان ما يستميل به الجمهور إليه في موضوع ويصرف أذهانهم عن أمر ويوجه أنظارهم إلى آخر ويحرضهم ويقنعهم ولذلك أدخل الحكماء الخطابة والشعر في أقسام المنطق كما نقل عن أرسطو لأن المقصود منه أن يوصل إلى التصديق وأصولها عندهم ثلاثة الأول إيجاد المعاني الحقيقة بالإقناع من الأدلة والآداب والثاني تنسيق المعاني أي سرد أجزائها على نظام واحد ليحكم تركيب الخطة وارتباط أقسامها بحيث نكون ابين غرضاً وأحسن في النفوس وقعاً والثالث التغيير الذي يراعى فيه حال السامع لتصاغ له المعاني في ألفاظ تنتشر بها نفسه وتمتزج بأجزاء فهمه ويمكن إرجاع الخطابة إلى قسمين الخطابة المدنية والخطابة الدينية فالمدنية يتصرف تحتها كل ما فيه إصلاح المدينة والخطابة الدينية كل ما يرجع إلى تطهير النفوس ليكون لأهلها مدنية فاضلة في الدنيا وسعادة شاملة في الأخرى

الخطابة نوع من منثور الكلام يأخذ من النثر تصوير الحقائق وإبلاغها النفوس من دون أتعاب ذهن ولا تكلف في الأداء ومن النظم سلاسته وتأثيره في النفس وقد كانت العرب في جاهليتها تقدم الشاعر على الخطيب بفرط حاجتها إلى الشعر الذي يقيد مآثرها ويفخم شأنها ويهول على عدوها ومن غزاها ويهيب من فرسانها ويخوف من كثرة عددها ويهابها شاعر غيرها قال أبو عمرو بن العلاء فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر وكان لكل قبيلة شاعر كما كان لكل واحدة خطيب. الخطب والوصايا متقاربة يقصد بالأولى قوم لا على سبيل التعيين والتخصيص فتكون في المشاهد والمجامع والأيام والمواسم والتفاخر والتشاجر أمام العظماء والملوك والأمراء والوفود وفي الصلح وإشهار الحرب وفي الخطوب والنوازل أما الوصايا فتكون لقوم بعينهم في زمن مخصوص على شيء منصوص وربما كانت من شخص لأهل بيته أو سيد لقبيلته عند حلول مرض أو أجل أو هجرة في الأرض (3) الخطابة والأنبياء ذكروا أن العرب عنيت بالخطب في جاهليتها أكثر من عنايتها بها في الإسلام ولم يظهر لنا سر هذا لأنا رأينا هدي النبيين والمرسلين على خلاف ذلك رأينا الرسول صلوات الله عليه لم يتعلم الشعر وما ينبغي له وكان سيد الخطباء بلا مراء وكلامه خطب وحكم وبسيرته الشريفة اقتدى كبار الصحابة والتابعين والخلفاء والملوك والمرشدين والعلماء العاملين ولكن كثر الشعر أكثر من الخطب لأن الشعر أقرب إلى تقييد المآثر والتأثير ولأنه يحتمل من الخيال والمحال مالا يحتمله الخطاب بحال من الأحوال قال صاحب (الريحان والريعان) إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوير من جيد المنشور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشرة ولا ضاع من الموزون عشر لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم في مشافهته الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد قال ولولا أن خطبة قسس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام وهو إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رواها عنه في اطار ذكرها ما تميزت هما سواها قال القلفشنديبعد إيراد ما تقدم وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم

وقلة اعتنائهم به بل لسهولة الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من ألفصحاء المصاقع فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤسائهم ممن فاز بقدح ألفضل وسبق إلى ذرى المجد ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح أو غير ذلك مما يقتضيه المنام نعم إن الخطابة صناعة الرسل عليهم السلام لأنهم يدعون إلى الله ويكلفون بإرشاد الخلق وهذا يقتضي البلاغة والبيان المتناهي لذلك قال موسى رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني بفقهوا قولي وذلك لأنه كان به لعثة فخشي أن يعدها قومه عيباً ويلووا بوجوههم عن دعوته أما شعيب عليه السلام فقد سماه نبينا عليه الصلاة والسلام خطيب الأنبياء لما ورد في الكتاب العزيز من أسلوبه البديع في البيان وتلطفه في إبلاغ دعوته إلى أهل مدين الذين غلبت عليهم الشقوة قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره ولا تقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم ارفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ إلى ا، قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاًِ حسناً أن أخألفكم إلى ما أنهاكم عنه أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يحرمنكم شقاقي إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود. ولشرف الخطابة وتأثيرها في تطهير النفوس أوجبها الشارع وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد وفي الحج أي في عرفة واوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب بل علمهم حسن الإصغاء وفي الحديث إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة انصت فقد لغوت ولم يعين الشارع للخطب الدينية أو خطب الجوامع والمواسم موضوعاً خاصاً بل جعلها مطلقة يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية ويورد للحضور من هدي الشارع ما يهذب به أرواحهم ويهيب بهم إلى بارئهم ويغرس فيهم مكارم

الأخلاق ويطبعهم بطابع ألفضائل ويحذرهم البغي والظلم ويستل بلطيف أسلوبه سخائهم وأحقادهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزين لهم العمل الصالح ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات. (4) البلاغة للعرب وفي البيان والتبين كلام طويل على الخطابة وأقوال الشعوبية أي غير العرب فيها وقد رد الجاحظ عليهم بقوله: قالوا والخطابة شيء في جميع الأمم وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة حتى أن الزنج مع الغثارة ومع فرط الغباوة ومع كلال الحد وغلط الحس وفساد المزاج لتطيل الخطب وتفوق في ذلك جميع العجم وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ وألفاظها أخطأ وأجهل وقد علمنا أن أخطب الناس ألفرس وأخطب ألفرس أهل فارس وأعذبهم كلاماً وأسهلهم مخرجاً وأحسنهم ولاء وأشدهم فيه تحنكاً أهل مرو وأفصحهم بالفارسية الدرية وباللغة ألفهلوية أهل قصبة الأهواز فأما نغمة الهزبذة ونغمة الموبذان فلصاحب تفسير الزمزمة قال الجاحظوجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس وأما الهند فإنما لهم معان مدونة وكتب مخلدة لا تضاف إلى رجل معروف ولا لى عالم موصوف وإنما هي كتب متوارثة وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق وكان صاحب المنطق نفسه بكي اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه وهم يزعمون أن جالينوس كان انطق الناس ولم يذكروه بالخطابة ولا بهذا الجنس من البلاغة وفي ألفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني حتى اجتمعت ثمار تلك ألفكر عند أخرهم وكل شيء للغرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه الهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام أو حين أن يمتح على رأسه بئر ويحدو ببعير أو عند المقارعة والمناقلة أو عند صراع أو في حرب فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذاهب وإلى العمود الذي إليه بقصد فتأتيه المعاني إرسالاً وتنهال عليه الألفاظ انثيالاً ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه أحداً من ولده وكانوا أميين لا يكتبون ومطبوعين لا يتكلفون وكان الكلام الجيد

عندهم اظهر أو أكثر وهم عليه أقدر وأمهر وكل واحد في نفسه انطق ومكانه من البيان أرفع وخطباؤهم أو جزء والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب وإن شيئاً الذي في أيدينا جزء منه بالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب وهو الذي يحيط بما كان والعالم بما سيكون ونحن أبقاك الله إذا أدعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والإرجاز ومن المنثور والأسجاع ومن المزدوج ولا يزدوج فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة والرونق العجيب والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول في مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة وقديمة غير مولدة إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هرون وأبي عبيدة الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لايستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل ويصنع مثل تلك السير. وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي (راجع المقتبس م4) فأدخلته بلاد الأعراب الخلص ومعدن ألفصاحة التامة ووفقته على شاعر مغلق أو خطيب مصقع علم أن الذي قلت هو الحق وأبصر الشاهد عياناً فهذا فرق ما بيننا وبينهم فتفهم عني فهمك الله ما أنا قائلهذه حجة الجاحظ في العرب أن أفصح الأمم وقيل أيضاًإن جميع خطب العرب من أهل المدر والبر والبدو والحضر على حزبين منها الطوال ومنها القصار ولكل ذلك مكان يليق به وموضوع يحسن به ومن الطوال ما يكون مستوياً الجودة ومشاكلاً في استواء الصنعة ومنها ذوات ألفقر الحسان والنتف الجياد وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ وإنما حفظها التخليد في بطون الصحف قال ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه وأعرب عن فحواه وكان لتلك الحال وفقاً ولذلك القد لفقاً وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف كان قميناً بحسن الموقع وبانتفاع المستمع وأجدر أن يأمن جانبه من تناول الطاعنين ويحمي عرضه من اعتراض العيابين ولا تزال القلوب به معمورة والصدور مأهولة ومن كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متحيزاً في جنسه وكان سليماً من ألفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان والتحم بالعقول ودهشت إليه

الأسماع وارتاحت له القلوب وخف على السن الرواة وشاع في الآفاق ذكره وعظم في الناس خطره وصار ذلك مادة للعالم الرئيس ورياضة للمتعلم الريض فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة ومصلحة حال الخاصة وكان ممن يعم ولا يخص وينصح ولا يغش وكان مشغوفاً بأهل الجماعة شنقاً لأهل الاختلاف والفرقة جمعت له الحظوظ من أقطارها وسبقت إليه القلوب بأزمتها وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته وجبلت على تصويت إرادته ومن أعاره الله من معرفته نصيباً وأفرغ عليه من محبته ذنوباً حنت إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ وكان قد أغنى المستمع من كد التكلف وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم ولم أجد في خطب السلف الطيب والأعراب الأقحاج ألفاظاً مسخوطة ولا معاني مدخولة ولا طبعاً ردياً ولا قولاً مستكرهاً وأكثر ما نجد في خطب المولدين البلدين المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب أو كان من نتاج التخير والتفكر (5) مكانة الخطابة وعيوب الخطباء تقدم لك قانون البلاغة الذي وضعه عمرو بن نجر الجاحظ في صفحة وتدارسه يغني طالب الخطابة عن كتاب ورب مقالة خير من سفر ولقد عرفت العرب ما كانت عليه من الغريزة ألفائقة في البيان صعوبة الخطابة وأنها لا يوفق إليها إلا أفراد ولذلك كانت تكرم الخطيب أكثر من إكرام الشاعر وقد ضربت المثل بالخطيب في قولها (الخطب مشوار كثير العثار) والمشوار هو المكان الذي تعرض فيه الدواب وقالواعقل المرء من فوق بلسانهوكانت تتعاير بألفهاهة وقلة الإجادة في البيان وتقول نعوذ بالله من الإهمال ومن كلال الغرب في المقال ومن خطيب دائم السعال قال بشر بن معمر في مثل ذلك ومن الكبائر مقول متعتع ... جم التنحنح متعب ميهود وقال شاعرهم يعيب بعض خطبائهم: مليء ببهر والثغات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع وضربوا المثل بالبلاغة بسحبان وائل فقالوا فلان أخطب من سحبان كما ضربوا المثل بالعي في الكلام بباقل فقالوا فلان أعيى من باقل وقد جمع الجاحظ في البيان والتبيين كثيراً من أخبار البلاغة والحصر والخطباء والبلغاء والإيمياء ومما قال: وليس حفظك الله مضرة

سلاطة اللسان عند المنازعة وسقطات الخطل يوم إطالة الخطبة بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة وعن الحصر من فوق درك الحاجة والناس لا يعيرون الخرس ولا يلومون من استولى على بيانه العجز وهم يذمون الحصر ويؤنبون العي فإن تكلفنا مع ذلك مقامات الخطباء وتعاطيا مناظرة البلغاء تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب وممتنة (مماطلة) العي الحصر البليغ المصقع في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق وأحدهما آلوم من صاحبه والألسنة إليه أسرع وليس المجلاجالمتردد في كلامهوالتمتاممن تسبق كلمته إلى حنكه الأعلى والتمتمة رد الكلام إلى التاء والميم والألسغ الذي يحول لسانه من السين إلى الثاء أو من الراء إلى الغينوألفأفأةمردد ألفاءوذو الحبسةالذي لا يسمع قولهوالحكلةالذي لا يسمع صوتهوالرتةالعجمةوذو اللقفعي بطيء الكلام إذا تكلم ملا لسانه فمهوالعجلة في سبيل الحصر في خطبته والعي في مناضلته خصومه كما أن سبيل المفحم عند الشعراء والبكي عند الخطباء خلاف سبيل المسهب الثرثار والخطل المكثار ثم أعلم أبقاك الله أصاحب التشديق تكلف البلاغةوالتقعيرالتكلم بأقصى ألفموالتقعيبتقصير الكلاممن الخطباء والبلغاء مع سماجة التكلف وشنعة التزيد أعذر من عي يتكلف الخطابة ومن حصر يتعرض لأهل الاعتياد والدربة ومدار اللئمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف وبياناً يمازجه التزيد إلا أن تعاطي الحصر المنقوض مقام الدرب التام أقبح من تعاطي البليغ الخطيب ومن تشادق الأعرابي القج وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والألفاظ وفي التحبيرالجبانأنه في مسلاخصفة التام الموفر والجامع المحكك وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: أياي والتشادق وقال أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون وقال من بدا جفا وعاب الغدادين والمتزبدين في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق ورحب الفلاحم وهدل الشفاهإرسالها إلى أسفلوأعلمنا أن ذلك في أهل الوبر أكثر وفي أهل المدر أقل فإذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري فما ظنك بالمولد القروي والمتكلف البلدي فالحصر المتكلف والعي المتزيد الوم من البليغ المتكلف لأكثر مما عنده وهو أعذر لأن الشبهة الداخلة عليه أقوى فمن أسوأ حالاً أبقاك الله ممن يكون الوم من المتشادقين ومن الثرثارين المتفيهقين ومن ذكره النبي صلى الله عليه وسلم نصاً وجعل النهي عن مذهبه معسراً وذكر مقته له وبغضه إياه قال: ولما

علم واصل بن عطاء أنه الثغ فاحش اللثغ وإن مخرج ذلك شنع إذا كان داعية مقالة ورئيس نحلة وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنه لابد له من مقارعة الأبطال من الخطب الطوال وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وأحكام الصنعة وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وإن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة وإن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتنثني إليه الأعناق وتزين به المعاني وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان والمتمكن والقوة المتصرفة كنحو ما أعطى الله نبيه موسى صلوات الله عليه من التوفيق والتسديد مع لباس التقوى وطابع النبوة ومع المحبة والاتساع في المعرفة ومع هدى النبيين وسمت المرسلين وما يغشيهم الله به من القبول والمهابة ولذلك قال بعض شعراء النبي صلى الله عليه وسلم: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر ومع ما أعطى الله موسى عليه السلام من الحجة البالغة والعلامات الظاهرة والربهانات الواضحة إلى أن حل تلك العقدة ورفع تلك الحبسة وأسقط تلك المحنة ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من ألفصاحة رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأتى لسره والراحة من هجثه حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما تأمل حتى صار لغرابته مثلاً ولظرافته معلماً ولولا استضافة هذا الجنس وظهور هذه الحال ولما استجرنا الإقرار به والتأكيد له ولست أعني خطبه المحفوظة ورسائله المخلدة لأن ذلك يحتمل الصنعة وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الأكفاء ومفاوضة الإخوان واللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء والعين أقلها قبحاً وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وإشرافهم وعلمائهم.

الشيعة في بر الشام

الشيعة في بر الشام المسلمون اليوم ينقسمون إلى فرقتين كبيرتين أهل السنة وهي الأكثر عدداً والشيعة وهي التي تتلوها في الكثرة ولا يقل عدد ألفرقة الأولى عن مائة وخمسين مليوناً من النفوس كما لا يقل عدد الثانية عن تسعين مليوناً وينطوي تحت هاتين ألفرقتين فرق أخرى تابعة لإحدى الطائفتين وتفترق الشيعة فرقاً متعددة أكبرها وأشهرها والمتبادر معناها عند إطلاق اسم الشيعة والتي عليها المعظم في كافة الأقطار هي فرقة الشيعة الأمامية الاثني عشرية فمنها أكثر شيعة إيران وشيعة بلاد القفقاس وسائر البلاد الروسية وشيعة الصين ومعظم شيعة الهند والتركستان وبلاد التتر المستقلة وشيعة الشام وشيعة الحجاز والعراق وشيعة جبل عامل المعروفون بالمتأولة أما شيعة جبل عامل (المتأولة) فقد كانوا ولم يزالوا معروفين عند عامة الشيعة في الإفطار بالصلاح والتقوى وإن لجبل عامل اسماً مقروناً بالتكريم عند عامة الشيعة في أكثر البلاد النائية لما أنتج من العلماء العاملين الذين ضربوا آباط الإبل في نشر مذهبهم وافنوا الوقت بحثاً وتدريساً حتى أصبح الكثير من كتب الحديث وألفقه وأصول ألفقه مما يدرس في مدارس الشيعة في جماع الأقطار من مؤلفات علماء جبل عامل (المتأولة) وحسبك بالرحالة العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي صاحب الصاحب الكشكول والخلاصة الحسابية وغيرهما الذي تولى وزارة إيران مدة من الزمن ثم هجرها حباً بالإفادة والاستفادة وبالشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي المعروف بين مؤلفي الشيعة بالمحقق الكركي الذي تولى مشيخة الإسلام في إيران زمن الدولة الصفوية وكان الركن الأقوى في نشر مذهب الشيعة في بلاد فارس وبالشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المعروف بالشيخ الحر صاحب كتاب الوسائل الحديث والهداية وغيرهما حسبك بمن ذكرنا فخراً لجبل عامل وأما الشهيدان فقد كان لهما القدح المعلى في التأليف والتصنيف والمنزلى العظمى بين علماء الشيعة على الإطلاق وكذلك من خلف من بعدهم كصاحب المدارك وصاحب المعالم وأمثالهما. بدء عهد الشيعة في الشام مذهب الشيعة في بلاد الشام قديم يرجع إلى زمن الخلفاء الراشدين بل هو في سوريا أقدم منه في سائر البلاد حاشا الحجاز

ؤلاء شيعتكم قال هؤلاء شيعتنا حقاً وهم أنصارنا وإخواننا ولا يخفى أن الإمام أبا عبد والمعروف بينهم أن الذي دلهم عليه هو أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) لما سيره الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى الشام وكان أبو ذر (رحمه الله) معروفاً لعلي وأهل البين عليهم السلام بلا خلاف بل هو أحد الأربعة الذين عرفوا بالتشيع وأطلق عليهم أسم الشيعة في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) كما أخرجه أبو حاتم في كتاب الزينة في الألفاظ المتداولة ولا يزال في بعض قرى جبل عامل آثار معروفة لأبي ذر منها مقام معروف بقرية الصرفند بين صيدا وصور يعرف بمقام أبي ذر ومثله في قرية ميس الجبل على مشارف الحولة في أعالي جبل هونين إلا أنه لم يرد في كتب التاريخ المعتمدة مما بين أيدينا ما يدل على خروج أبي ذر من دمشق إلى جبل عامل فليس فيها إثبات هذا الأمر ولا نفيه الشهرة المتواترة لدى العامليين خلفاً عن سلف الناطقة بإثباته ربما تكون دعامة للصحو ولا تبعد صلاحيتها للاستدلال على خروجه إلى هذه الديار نعم ذكر الطبري وابن الأثير أن الذي خرج من دمشق إلى الساحل هو عامر بن عبد القيس وهو أحد الزهاد الثمانية معروف بالتشيع نص عليه الكشي في رجاله ولم يذكرا أي جهة من الساحل سكنها عامر هذا إلا أنه لا يصلح أن يكون مستنداً لما نحن فيه ولا سيما وأنه لم يعرف اسم عامر كما عرف اسم أبي ذر في هذه البلاد وذكر الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المشغري من علماء عامل في القرن الحادي عشر في كتابه أمل الآمل مايدل على خروج أبي ذر إلى جبل عامل فقد قال ما نصه: روي أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من شيعة علي إلا أربعة مخلصون سلمان ومقداد وأبو ذر وعمار ثم تبعهم قليلون اثنا عشر وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفاً وأكثر ثم في زمان عثمان لما أخرج أبا ذر إلى الشام في أياماً فتشيع فيها جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم فظهر أنه لم يكن يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة وقد كان في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت في جبل عاملثم ذكر بعد ذلك رواية مرسلة عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وقد سئل عن أعمال الشقيف فقال: أرنون وبيوت وربوع تعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال قيل يا ابن رسول الله (ص)

الله الصادق (ع) كان في النصف الأول من المائة الثانية للهجرة وذكر صاحب الدمعة الساكبة المطبوع في إيران عن كتاب البحار للعلامة المجلسي رحمه الله عن كتاب الروضة والفضائل لشاذان بن جبرائيل القمي بالأستاذ إلى عمار بن ياسر وزيد بن أرقم (رضي الله عنهما) أنهما كانا بين يدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة يونم الاثنين لسبع خلت من صفر إذ ورد عليه رجال ذوو عدة وعدد ثم ساق قصة طويلة خلاصتها أن جماعة جاءت تستفتي أمير المؤمنين عليه السلام في بعض أمورها وهي من قرية أسعار من أعمال دمشق عند جبل الثلج والظاهر من الرواية أن هذه الجماعة من الشيعة وأنها رجعت مقضية الحاجة أما قرية أسعار هذه فموقعها في سفح جبل الثلج بين قريتي مجدل شمس وجباتا الزيت لا تزال خربة تعرف بهذا الاسم ومن دونها نهر يعرف بنهر أسعار وهي على طريق القادم من دمشق إلى جبل عامل وأهل ذلك الصقع من الطائفة الدرزية الذين انشقوا من الشيعة في القرن الرابع عشر غمض تاريخ وجود الشيعة في هذه الديار على كثير من المؤرخين فلم يذكروا حيث كان شيعة هذه البلاد منذ عهدهم بالتشيع تحت سلط أعدائهم من الأمويين ومن زمن أبي ذر إلى أن انقضى زمن الدولة الأموية لم يخرجوا عن سيطرة معاوية وأبنائه ورهطه وهمما هم في مناهضة العلويين ومطاردتهم في كل صقع ومصر فكان الشيعة متمسكين بحبال الثقة لايقدرون على إظهار انفسهم فاستولى الغموض على مبدأ أخبارهم ومنتهاه في هذه البلاد ولم يكونوا كما كان إخوانهم في البلاد النائية عن مركز السلطة الأموية. لماذا لقبوا بالمتأولة دون غيرهم من الشيعة ما زالت الشيعة منذ وجدوا في بلاد الشام مستضعفين عند ولاة الأمر وعند العامة التي امتازت في بر الشام بكرهها الشديد للشيعة وبرميهم بكل تهمة شنعاء تؤلب عليهم الغوغاء وكان مجرد لفظ الشيعة داعياً لإثارة التعصب لما تأل من كرههم في أخلاق الأكثر نقل الجاحظ مخبراً عن بعض التجار خبر ذلك الشيخ السيء الأخلاق الطويل الأطراق الذي كان إذا سمع اسم الشيعة غضب وأربد وجهه وزوى من حاجبيه أخرجه صاحب العقد ألفريد في ذلك العصر كان أحب إلى الرجل أن ينبز بكل نبز قبيح ولا يقال له شيعي لما استحكم من بغضهم في نفوس العامة بفعل السياسة والساسة وإنك لتجد مثل ابن حزم من

العلماء المشهورين وصاحب كتاب ألفصل في الملل والنحل يرمي الشيعة بكل وصمة ويلصق بهم كل غريبة وهم هم إلى اليوم لم يغيروا ولم يبدلوا وهذه كتبهم منشورة ومشهورة لم يخالف قديمها حديثها فليقابل بينها المنصفون ولينظروا في كثير من كلام ابن حزم ليعلموا ما نسبه إليهم العلامة المشهور وترى ابن تميمة الملقب بشيخ الإسلام وحافظ الأنام لا يذكرهم إلا مع التشيع دون برهان يستند إليه أو دليل يعتمد عليه اللهم إلا عصيبة غير صالحة استحكمت في الأخلاق بحكم البيئة والمعاشرة واتباعاً للتقليد ولعل المثير لها مناظرته مع العلامة الحسن ابن المظهر الحلي وإن لم يسلك هذا مسلك ذاك من السباب والشتم في مثل تلك الحال كان شيعة بر الشام مستمسكين بحبال التقية مما كان حولهم من العصبية التي سنها الأمويون في هذه الديار وكان أصلح أرض لنوها أرض الشام فدعوا بالعلويين تفادياً من لفظية الشيعة المكروهة وكان هذا الاسم لهم إلى أن بدلوه بلفظة (المتأولة) كما سيأتي قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخه في حوادث سنة 584هأ ما نصهوكان حاكم القرايا (كذا) التي بالقرب من صور رجلاً علوياً منشأ العجم وكان يحكم على ستين ألفاً من العلويين وكان حين تملك الإفرنج تلك الجهات هادنوهم على جزبة تدفع لصاحب صور وينسبون إلى العلويين القاطنيين بعلبككان شيعة بلاد الشام كما قال عنهم واحد منهم وهو الشيخ علي يونس النبطي من علماء الماية الحادية عشرة في مقدمة تفسيره مختصر مجمع البيانعلماؤهم تحت الخمول فلا تقول لأنفسهم ولاضر يتظاهرون بغير ما اعتقدوا فلا قوة لهم ولا ظهر رماهم بأنواع الأذبات الظالمون يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركونكانوا كلما نبغ فيهم عالم اختار إحدى ثلاث أما الهجرة إلى بلاد الشيعة في سائر الأقطار كبلاد إيران حيث ينال المهاجر منهم الكرامة وكبلاد الهند والحجاز والعراق حتى بلاد اليمن لم تخل منهم وبلاد الروم وغيرها. وأما السكون إلى التقية والتكتم في موطن غلب عليه ألفقر واستحكمت فيه المسكنة وامتد فيه الاضطهاد ذكر صاحب أمل الآمل في علماء جبل عامل أكثر من خمسين عالماً هجروا بلادهم هرباً من الضغط والاستبداد بعضهم إلى بلاد فارس حيث أصبح الكثير منهم شيوخ إسلام وقضاة فيها وبعضهم إلى بلاد الهند وبعضهم إلى بلاد الحجاز في مكة والمدينة المنورة وبعضهم إلى القسطنطينية وبعضهم إلى أرض اليمن وبعضهم إلى العراق - فكان

من نصيب بلاد إيران في المائة الحادية عشرة الشيخ بهاء الدين العاملي والشيخ إبراهيم البازوري والسيد بدر الدين الأنصاري والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي شيخ الإسلام والسيد محمد بن علي نحيب الدين القاضي بطوس والسيد محمد ابن مهدي والسيد ميرزا محمد معصوم والشيخ محمد ابن علي الحرفوشي والسيد علي رضا شيخ الإسلام بأصفهان والسيد حيدر بن نور الدين وكثير أمثالهم ومن نصيب البلاد الهندية الشيخ أحمد بن مكي الجزيني والسيد جمال الدين بن نور الدين والشيخ حسين المشغري والشيخ حسين بن شهاب الدين والسيد رضي الدين والسيد محمد بن أحمد العاملي والشيخ محمد بن خاونت والسيد محمد بن علي الحسيني وأمثالهم وهؤلاء بعضهم في كشمير وبعضهم في حيدر أباد وبعضهم في جيلان ومن نصيب القسطنطينية الشيخ الشهيد زين الدين بن علي الجبعي والشيخ إبراهيم ابن الحسن الحر ومن نصيب الحجاز السيد حيدر بن نور الدين والسيد نور الدين بن علي العاملي والشيخ زين الدين محمد بن الحسن ومن نصيب اليمن الشيخ زين العابدين الحر بصنعاء وفي العراق كثيرون في النجف والحلة وببغداد والبصرة. وإما أن يبلغ عزلته في بلده فيعرف أمره وربما كانت عقباه القتل أوالتشريد وكأني بالشهيد شمس الدين محمد بن مكي الجزيتي المقتول سنة 786 وقد طبق ذكره الآفاق حتى استدعاه إليه صاحب خراسان لذلك العهد ليتولى مشيخة الإسلام بها كأني به يساق إلى السجن في دمشق مهاناً ثم يفتي بقتله بعد حبس سنة فيقتل ثم يصلب ثم يحرق وليس له ذنب سوى فضله وشهرته والتعصب الذميم في ذلك العصر الوخيم. ولم يكن حظ الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني بأحسن من حظ زميله الشهيد الأول فقد شرد عن وطنه يطارده قاضي صيدا المعروف باسم معروف إلى أن استصدر أمراً سلطانياً بالقبض عليه وإرساله إلى القسطنطينية فأدركه الطالب بمكة زمن الحج ولم يمهله أن يؤدي حجه إلا بعد الالتماس والتضرع ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر وجعجع به إلى بلاد الروم ثم قتله الموكلون بقتله بعد بلوغه القسطنطينية ثم شمل القتل غيرهما مثل الشيخ ابن سودون العاملي من علماء القرن الحادي عشر وغيره كانوا في ذلك الضغط وفي تلك الحال يعرفون في بلاد الشام باسم العلويين وفي غيرها باسم الشيعة، هذا عند العامة وأما الخاصة وأهل العلم فكانوا تارةً يسمونهم شيعة وتارةً رافضة وتارةً إماميه إلا أن اسم العلويين لم يكن ثقيلاً على أسماع

العامة الذين كرهو ااسم الشيعة ونفروا منه وإنما اختص به من سكن منهم أرض الشام لأنهم كانوا أبعد الناس عمن يناصرهم لما احتف بهم من الغوغاء الذين رباهم الأمويون على كره أتباع آل البيت الكرام. حقيقة لفظة متوالي إن هذه اللفظة (متوالي) من وإلى إذا أحب ومنه ما ورد في الحديث اللهم وال من والاه، قال في لسان العرب وإلى فلان فلاناً إذا أحبه ولكن اسم ألفاعل منها موالي والفعل من متوالي توالي وفي اللغة توالى الشيء إذا تبع بعضه بعضاً وقد استرسل هؤلاء القوم في محبة آل البيت استرسالاً تبع الخلف فيه سنة السلف. ولكن جمعه هل يكن على متأولة أومتوالية؟ القياس يقتضي الثاني وصحح السماع الأول كما جمع غساني على غساسنة. يمكن أن يكون أصل اللفظة متولي من تولى أي اتخذ ولياً ومتبوعاً وتولى بمعنى اتبع نص عليه صاحب مجمع البحرين ومطلع النيرين وجعل منه قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهموقال صاحب لسان العرب وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من تولاني فليتول علياً معناه من نصرني فلينصره ثم حرفت فصارت متوالي وجمعت على متأولة وأما ما قيل من أن متوالي محرفة عن متولي المركبة من كلمتين (مت ولي) وأصلها أن الشيعة كانوا زمن اضطهادهم يحرضوا بعضهم بعضاً على الثبات في حب علي عليه السلام فيقول بعضهم لبعض (مت ولياً لعلي) ثم اقتصر على مت ولي وركب منها متولي - فهو بعيد وإلا فكيف اختص به شيعة جبل عامل ولبنان دون غيرهم ولم اختصت به العصور المتأخرة دونما تقدمها مع أن زمان الاضطهاد ومكانه لم يكونا محصورين في جبل عامل إن لم نقل أن ما نال العامليين منه كان أقل مما نال غيرهم لشدة تمسكهم بالتقية التي ألفوها منذ نشأتهم لأن سلطة الأمويين أعدائهم لم تتزعزع عنهم زمناً من الأزمان فشبوا ودرجوا على التخفي والتقية والتجنب عن الوقوع في التهلكة مهما أمكن. والغريب من المذاهب في هذه اللحظة لفظ ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أن لفظ متأولة مسهل عن متأولة، واحدها متأول لأن الشيعة من أهل التأويل!! والظاهر أن صاحب هذا القول لا يعرف من مذهب الشيعة شيئاً وإلا لما جعلهم من أهل التأويل وهم ليسوا منهم

كما لا يخفى على كل من عرف مذهبهم. ولعل صاحب هذا القول وهم في ما نقله صاحب العقل ألفريد عن الشعبي من قوله ما شبهت تأويل الروافض في القرآن إلا بتأويل رجل مضعوف من بني مخزوم. . . . . الخ. ولكن يظهر أن المراد الشعبي بالروافض (كما يدل عليه كلامه في الخبر الذي بعده) أنهم هم الذين أحرقهم علي عليه السلام ونفاهم إلى البلدان ومنهم عبد الله بن سبأ الذاهب إلى الغلو في علي عليه السلام وتأليهه وقد خرجوا عن ربقة الإسلام والشيعة منهم براء وكيف كان، فالشعبي مع شدة تعصبه على الشيعة لا يكون كلامه حجة عليهم إذا صح أنهم هم المراد في قوله، وربما حمل صاحب هذا القول عليه المشابهة بالحروف بين متأولة ومتأولة وإن كان لا يساعد عليها المعنى ومع ذلك فلوصح ذلك في الجمع فكيف يصح في المفرد وبين لفظتي متأول ومتوالي فرق واضح. زمن إطلاقه عليهم بحث الكتاب في زمن تحديد إطلاق هذا اللقب (متأولة) على شيمة جبل عامل وجبل لبنان وبعلبك فذهب بارينوس إلى ما وراء الأمير حيدر الشهابي في تاريخه أنه كان في سنة 635 هجرية لما أتوا من بلاد العجم وسكنوا عشر مدن بإذن أجناد الهيكليين المتسلطين يومئذ على تلك الجهات. . . . يومئذ أطلق عليهم اسم متأولة وفي قوله هذا بعد لأنه إن أراد ظهو ر مذهبهم يومئذ فمذهبهم معروف من صدر الإسلام. وإن أراد إطلاق الاسم فقط فهم لم يعرفوا به إلا في القرن الثاني عشر الهجري بدليل أن كل المؤرخين وأصحاب السير السابقين على القرن الثاني عشر الذين ذكروا بلادهم لم يكونوا يعرفون هذا اللقب ولوعرفوه لأطلقوا عليهم كما فعل صاحب سلك الدرر المتأخر زمنه فإنه لا يذكرهم إلا نبذهم به وصاحب خلاصة الأثر عند ذكره الأمير فجر الدين المعني قال أنه كان درزياً لكنه عند ذكره رجال الشيعة من جبل عامل مثل بهاء الدين العاملي وكثير أمثالهم لم ينبذهم بالمتأولة مع أنهم من لباب الشيعة (المتأولة)، ولما ذكر شقيق آرتون (قلعة الشقيف) قال أن هذا العمل رافضة وفي ترجمة الأمير موسى الحرفوش البعلبكي قال أن البعلبكيين من الولاة في الرفض وفي كل ذلك، بل في كل تاريخه لم يذكر لفظة متأولة ولوعرفها لأطلقها. وقبل خلاصة الأثر مر ابن بطوطة الرحالة بصور وهي خربة في سنة 726 وبخارجها

قرية معمورة سكانها من الأرفاض وصاحب نخبة الدهر، قال عند ذكر جبل عامل وأهله رافضة أمامية وصاحب صبح الأعشى قال مثل قوله. ولم يذكر لفظ متأولة وكلهم متأخرون عن سنة 635 التي ذكرها بارينوس، وعلى الجملة أن هذا اللقب لم يعرف عند مؤرخي العصور السابقة على القرن الثاني عشر ولوعرفوه لذكروه كما فعلوا بغيره مؤرخوالقرن الثاني عشر عرفوه فذكروه فيكون حدوثه في هذا القرن دون ما سبقه. ورأيت في بعض التقاويم التركية (سالنامه) في جدولها التاريخي أن ابتداء ظهور المتأولة سنة 11. . هجرية ولا شك أن هذا تقريبي والمراد أنهم عرفوا حوالي تلك الأيام وذلك يؤيد برهاننا السابق. على أن رواية بارينوس باطلة لبطلان جميع ما ورد فيها فقد جعل المتأولة قادمين من بلاد العجم في تلك السنة مهاجرين حيث سكنوا عشر مدن بإذن أجناد الهيكليين وظاهر ذلك أنه كان في جبل عامل فيما فوق مدينة صور التي كانت في حوزة فرسان الهيكل يومئذ ولم يخرجوا منها إلى نهاية القرن السابع الهجري. ومهاجرة أهل يربوعلى الستين ألفاً كما قال من بلاد العجم إلى بلاد الشام لا تخفى على أحد ولا تكون سراً مكنوناً فكيف لم ينتبه لها أحد سوى بارينوس من المؤرخين على أن بلاد العجم يومئذ كانت خاضعة لسلطة المغول ولم يكن مذهب الشيعة قد أخذ بالانتشار فيها وأول من نصره ونشره في تلك البلاد هو السلطان أولجانيومحمد خدابنده المغولي وتبعه من كان بعده إلى زمن الدولة الصفوية فعم المذهب يومئذ أقاصي البلاد. وقد خبط أيضاً بروايته فقال: إن الشيعة يدعون أنهم من نسل علي بن أبي طالب وأن الخلافة بعد عمر بن الخطاب كانت لهم، فرجل هذا مبلغ علمه بالشيعة كيف يعتمد على روايته في شيء من أمورهم. والحق أن هذا اللقب إنما صح إطلاقه عليهم لما أظهروا وجودهم السياسي وخلعوا طاعة أمراء لبنان وأعلنوا استقلالهم عنه واجتمعوا جملة واحدة ثم ظاهرهم ظاهر العمر الصفدي هنالك كانوا يتحمسون في حروبهم وينتدبون باسم (بني متوال) ومن تتبع أزجال شعرائهم يومئذ ظهر له حقيقة مقالنا.

وهذا اللقب لم يعرف لأحد من الشيعة إلا الذين أطلقوه على أنفسهم يوم خاضوا غمار ألفتن في المائة الثانية عشرة وهم شيعة جبل عامل الذين ظهروا يومئذ بزعامة الشيخ ناصيف النصار والشيخ علي ألفارس وعشيرتهما وشيعة بعلبك الذين قادهم أمراء آل حرفوش وشيعة شمالي لبنان الذين كانوا تحت لواء المشايخ آل حمادة. وما عدا من ذكرنا من الشيعة في سورية كشيعة الديار الحلبية وكشيعة بلاد حماة وحمص وكشيعة نفس دمشق وكلهم لا يعرفون بهذا اللقب إلى اليوم ومن الغريب أن شيعة دمشق الأصليين ينبذون باسم الرافضة عندما لا يريد تكريمهم ومهاجرة بعلبك وجبل عامل في نفس دمشق يعرفون باسم المتأولة وما ذلك إلا إتباعاً للقبهم في ديارهم فقط ويتوهم كثير من العامة أن بين ألفريقين اختلافاً في المعتقد وليس الأمر كذلك. ديار الشيعة في سورية معظم الشيعة الإمامية في سورية في جبل عامل وهو البلاد الواقعة ما بين مصب نهر الأولى شمالاً إلى وادي نهر القرن (شمالي صفد) جنوباً ومن غور الحولة شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً ويربوعددهم في هذا الجبل على المائة ألف نسمة وقد تقدم الكلام على أول عهدهم بالتشيع. وفي مدينة دمشق بضعة آلاف منهم وعهدهم بمذهبهم قديم وربما سبقوا العامليين في ذلك مدة قليلة. وفي ضاحية حلب قرى أهلها من الشيعة مثل الفوعا وكفريا ونبل والنغاولة ومعرة مصرين وفي نواحي حماة قرى أخرى كالشيخ علي كيسون والبويضة وسمنة وتليل وفي نفس حمص وفي القرى التي في شرقيها أم العمد، البويضة، تل الأغر، أم دالي، أم تويني وفي غربيها الغور سمعليل دلابوس، أم حارتين وعهد هؤلاء أجمع بالتشيع لا يتأخر عن زمن الدولة الحمدانية التي ملكت حلب وكانت عريقة في التشيع لا يتأخر عن زمن الدولة الحمدانية التي ملكت حلب وكانت عريقة في التشيع وكانت مدينة حلب في عهدهم زاهرة بفقهاء الشيعة وفي كتب ألفقه الإمامي أقوال مشهورة تعزى إلى فقهاء حلب وكان نقباء الأشراف آل زهرة الحسينيون الذين منهم السيد أبوالمكارم بني زهرة من جلة علماء الشيعة، يومئذ كان المؤذنون يؤذنون بحي على خير العمل في كل المآذن الحلبية ولما أراد سليمان بن أرتق بناء أول مدرسة شافعية في حلب لم يمكنه الحلبيون من ذلك إذ كان الغالب عليهم التشيع وكانت نار التعصب يومئذ مستجورة

بين الطائفتين ومن ديار الشيعة في سورية قرى مقاطعات كسرونا والمتن والشوف والبترون والهرمل وشمسار وجزين وجبل الريحان (الجرمق) فهما داخلان في حدود جبل عامل وجزين كانت ذات مدرسة دينية فقهية للشيعة الإمامية وازدهت بعلمائها المشهو رين وأشهرهم الشهيد محمد بن مكي من أشهر علماء الشيعة في القرون الوسطى وهو صاحب المؤلفات المشهورة المعروفة في مدارس الشيعة والذي طلبه إليه صاحب خراسان ليتولى مشيخة الإسلام بها فلم يجبه إلى ذلك وكانت داره تحتوي على خمسة من العلماء والعالمات فكان أولاده الاثنان من خيرة العلماء وابنته أم الحسن وزوجته إليهما مرجع النساء في العلوم الشرعية وفاقت ابنته في العلوم العربية ولا تزال سلالته في جبل عامل لا تخلومن عالم فاضل منذ القرن الثامن إلى اليوم. والشيعة في لبنان لا يقل عددهم عن الخمسة والعشرين ألفاً. ومن ديار الشيعة في سورية مدينة بعلبك وما إليها وأكثر سكان تلك الجهة من الشيعة ولم يظهر لنا بدء عهد البعلبكيين بالتشيع ولكنه كان منذ القرن العاشر الهجري معروفاً بينهم ولم يخبرنا التاريخ بتقدمه على ذلك العصر كما لم ينف لنا وجوده قبله وأول ما اشتد أزر الشيعة فيها في عهد الأمراء الحرافشة الذين ملكوا بعلبك بعد دخول السلطان سليم إليها. وعهد الشيعة اللبنانيين بالتشيع إما في الجهات الشمالية فكان من مهاجرة بعلبك حوالي القرن الثاني عشر وأما في الجهات الجنوبية فعهدهم به كعهد العامليين أوقريب منه أي أنه قديم جداً. وفي حوران في بصرى فريق من الشيعة من مهاجرة جبل عامل استوطنوا ذلك البلد ويقارب عدد الشيعة الإمامية في جهات سورية المائتي ألف وربما يزيدون ولنجعل للبحث صلة في أحوالهم الاقتصادية وشؤونهم الاجتماعية وبالله التوفيق. النبطية (جبل عامل) أحمد رضا.

الخرافات والأوهام

الخرافات والأوهام في تأثير الفلك والأيام لا ترقب النجم في أمر تحاوله ... فالله يفعل لا جدي ولا حمل مع السعادة ما للنجم من أثر ... ولا يضرك مريخ ولا زحل (البهاء زهير). إنّ الأوهام والخرافات في الظواهر الجوية قديمة في العمران تترامى إلى العصور الأولى وأهم مسبباتها عبادة الأجرام ألفلكية وحب استكشاف المغيبات ومعرفة المستقبل والاستعداد والاستشقاء ولاسيما في الأقاليم الشرقية التي يصفوجوها في معظم أيام السنة وتتجلى فيها الظواهر الجوية بأبهى أشكالها فنزعت نفوس سكانها منذ فطرتهم إلى استطلاع المؤثرات واستنطاق النيرات والكواكب التي رأوها من مقومات الحياة الأولية. فكان تلون أشكالها واختلاف مظاهرها وتبدل مواقعها وتغير ألوانها وما شاكل داعياً إلى عبادتها ثم استرشادها لما في نفوس تلك العصور من البساطة وهم في مهد الحضارة وفي سرير النشأة فاشتهر بذلك المصريون والفينيقيون والكلدانيون والآشوريون والبابليون والفرس واليونان والرومان إلى أن دالت دولتهم وقامت دولة العرب ثم الدول التي تلتها فظلت الاعتقادات الوهمية سائدة بينهم إلى مدة قرنين، ولذلك كثر الاشتغال خاصة عند القدماء بعلوم التنجيم كالكهانة والقيافة والعيافة والزجر والخط في الرمال وتعبير الرؤيا. ووضعوا أقاصيص للمعبودات والكواكب فوجد عندهم علم الذي كثرت فيه تجرصات الأوهام وتفشت الخرافات والأقاصيص. ومنه نشأت العلوم التنجيمية والسحرية بأنواعها وامتلأت كتب القدماء بأخبارهم وأحاديثهم القصصية في العصر الخرافي فألفت فيها الكتب الكثيرة من أهمها السندهند عند الهنود، وقد أمر الخليفة أبوجعفر المنصور بتعريبه فعربه الفزاري وقرب الخلفاء المنجمين واعتمدوا على أوهامهم فتفشى ذلك بينهم حتى لم يستطع اقتلاعه علماء الشّرع الصادعون بتخطئته. ونبغ من الغرب الخوارزمي فألف على مثال السندهند زبجه المشهو ر جامعاً فيه بين مذاهب ألفرس والهند والروم وهو جداول حركات الكواكب التي ترشد إلى التقويم والتوقيت. ثم اشتهر بعد ذلك أبومعشر البلخي ألفلكي فألف كتابه المملوء بالخرافات

والأوهام ثم البتاني والبيروني والوسي وأمثالهم وقد نجوفي مؤلفاتهم نحوالاختبار والتحقيق أكثر من غيرهم. وسموا علم البحث في إحكام كل وقت وزمان من الخير والشر وما يندمج في سلك ذلك من السعد والنحس إلخ، علم (الاختيارات) وفي مفتاح السعادة لطاش كبري وكشف الظنون للحاج خليفة وأسماء مؤلفات كثيرة بهذا ألفن. وسموا علم الرصد وما يبنى عليه من النافع والضار وما شاكل علم الزيج والزايرجة ولهم أزياج كثيرة عددوا أسماءها في كشف الظنون وغيره. ولذلك ترى مؤلفاتهم كثيرة في أحداث الجو والآثار العلوية وأحكام النجوم والتأثيرات العلوية والزجر وألفال واستخراج الحب والضمير والتوفيق بين الطب والنجوم والاستدلال بالكسوفات على الحوادث وفي المذنبات وأيام العجوز وليعقوب ابن اسحق الكندي رسائل كثيرة في هذه الموضوعات كما نرى لغيره بعضها مثل أرسطووابن الخمار البغدادي والفارابي وابن سينا وابن خطيب الري والفضل بن حاتم النيريزي وأمثالهم. فتحولت خذه العلوم من النجامة إلى الرمل وحساب النسيم والزايرجة. وقيل لها في أيامنا التبريج والتنجيم. وهكذا بقي الإنسان سحابة عصور طويلة وأحقاب مستفيضة منهمكاً بمراقبة النجوم ورصد الطوالع والمنازل يوفق بين سعودها وأعماله ويحذر من نحوسها ومستقبله فينقاد بأزمة الأوهام ويسكن بمسكنات الإنذار بالويلات ولله در القائل يخاطب أمثال هؤلاء الضالين: يا راصد الخنس الجواري ... ما فعلت هذه السماء مظلمونا وقد زعمتم ... أنكم اليوم أملياء ولا نرى غير زور قول ... إذاك جهل أم ازدراء إنا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء رضيت بالله لي إلهاً ... حسبكم البدر أوذكاء ما هذه إلا نجم السواري ... إلا عباد يد أوإماء يقضي عليها وليس تقضي ... وما لها في الوري اقتضاء فمن هذه الاعتقادات ما هو مبني على قواعد علمية ومشاهدات إخبارية مثل علاقة القمر

بالمد والجزر وتقلبات الهواء وحدوث العواصف حتى ثبت عند بعض الراصدين بعد مراقبة سنوات طويلة: أن الزوابع والعواصف تكون أكثر عدداً إذا كان القمر هلالاً وتقل إذا أبدر. وكذلك معرفة الكسوف والخسوف بأوقاتهما ومواعيد رجوع المذنبات وقياس أبعاد الكواكب ومعرفة قطر الأرض ومحيطها وكرويتها ودورانها حول الشمس. وعلاقة السفع الشمسية (أي سواد الشمس) باضطراب حالة الأرض الجوية والداخلية فثوران البراكين والزلازل وشدة حرارة الصيف وبرد الشتاء والزوابع تكون إذا كانت السفع في معظمها أوأقلها لما يحدث من الاضطراب المغناطيسي. ومن مفاعيل حرارة الشمس أنها تسبب الرياح والغيوم والأمطار واختلاف الدورتين الهوائية والمائية فهي بحصر الكلام حياة الحيوان والنبات والجماد. وعرف المراقبون أن أكثر أيام الشهر مطراً يكون في اليوم التاسع من الهلال وأكثر ساعات النهار مطراً يكون في الساعة الرابعة بعد الظهر. كل هذه الإستقراآت والمشاهدات حملت الناس على تأليه الشمس والقمر وعدهما سبب حياة العالم. ومن هذه الاعتقادات ما لم يقم على صحته دليل قاطع حتى الآن وإن كان بعضها من الممكنات مثل اصطدام الأرض بالمذنبات أوبحلقة الشهب والنيازك التي تلتقي بمعظمها كل ثلاثين سنة مرة وميعاد رجوعها سنة 1929 م. أما ملتقى الأرض بالمذنبات فيكون بموعد كل منها بحسب مدته وهي كثيرة الأنواع مختلفة المدات. على أن الرصد أفادنا أن اصطدام المذنبات بالأرض لا يضر هذه لأن مذنب بيالا سنة 1852 انقسم بصدمته شطرين ثم تفتت وكان آخر العهد به، فلذلك كان تكهن بعض العلماء من هذا القبيل لا يريب العقلاء والمفكرين وإن كان قد أقلق العامة في أزمان مختلفة. على أن مخاطر الأرض كثيرة فقد يمكن أن يكون تفانيها بجفاف البحار والأنهار وانقطاع الأمطار ونضوب المياه وتوسيع نطاق الرمضاء كما هو الحال في المريخ الآن أويكون بفقدها هو اءها وزوال بخارها المائي فلا تنعقد السحب في جوها ولا يجد المتنفس أوكسجيناً يدخل رئتيه فتموت الناس اختناقاً كما هو الحال في القمر الآن أويكون موت الناس غرقاً بمياه البحار التي تدفعها البراكين المنفجرة في قلبها فترفعها من أماكنها وترسلها على البر فتجعل النجاد سهو لاً

وتصير الكرة ملساء بلا تضاريس وتغير سطحها فتغمرها المياه. وكذلك إذا تراكمت الثلوج وقطع الجمد في القطبين الجنوبي والشمالي فتجتمع وتزيد مساحتها إلى أن تصل إلى المحيطين فتملأها وتدفق مياههما على الأرض فتغرقها وتغطيها بالجمد. ومثل هذا أيضاً إذا كثر سجل المياه للشواطئ وجرف السيول للأتربة ووضعها في البحار فقد تزول اليابسة متوارية تحت أعماق المياه. فمثل هذه الأسباب ممكنة منتظرة ولكن لا يعلم وقت حدوثها إلا خالق العالم الذي تسمح إرادته العالية بفناء العالم كما سمحت ببقائه لأسباب يريدها هو ونحن لا نعرف لها وجهاً ولا يمكن التذرع إلى استطلاعها بوسيلة. فبعد أن عرفنا من هذه المقدمات هذه النتائج نقول أن أول من سلك البحار بدلالة النجوم الفينيقيون سكان شواطئ آسيا وجرى مجراهم اليونان منذ حرب طروادة سنة 12. . ق م والعرب أيضاً في إبان مجدهم ومعرفتهم الملاحة، فكان نجم القطب وغيره من السور الثابتة قائداً لهم ودليلاً في أسفارهم حتى إذا توارت هذه الأدلة بالغيوم عمدوا إلى الاستدلال بالإبرة المغناطيسية. ولكن بقي المقام الأول للملاحة معتمداً على النجوم ومطالعها. ولما كانت النيرات والكواكب أساساً لتقسيم الوقت كان القدماء من مثل السريان والعبران والعرب والهنود والصينيين قد قسموا السنة إلى اثني عشر شهراً والشهر إلى أربعة أسابيع والأسبوع إلى سبعة أيام فجعلوا لكل يوم من الأسبوع كوكباً من السيارات السبع لعهدهم والشمس والقمر والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد وزحل ولا تزال تسمية الأيام عند الفرنج مبنية على هذه العلاقة، ونسبوا إلى ذلك كثيراً من التأثيرات الغريبة في طبائع الكائنات مع أنهم كانوا يجهلون شؤونهم الخاصة على حد قول شاعر العرب: وما الذي تدريه في فلك العلي ... إذا كنت في أحوال دارك جاهلاً أما العرب فقد قسموا الأفلاك إلى تسعة منها سبعة للكواكب السيارة والثامن للكرسي وهو فلك النجوم الثوابت أو الفلك المكوكب والتاسع وهو العرش ويعرف بالأطلس لخلوه من الكواكب، ولهذه الكواكب في الأفلاك أبراج عددها اثنا عشر فبعضها له منها برج والبعض برجان، وهذه البروج تنقسم إلى نارية ومائية وهو ائية وترابية وإلى صيفية وخريفية وشتوية وربيعية وإلى شمالية وجنوبية ومرتفعة وهابطة وسعيدة ونحسة. ومنازل القمر

ثمان وعشرون منزلة يحل كل يوم من الشهر منزلة منها ويستتر. والكواكب السيارة منقسمة إلى سعد ونحس وممتزج، ولكل نجم شرف في المنازل فشرف زحل في إحدى وعشرين درجة من المنيران وشرف المريخ في ثمان وعشرين من الجدي والشمس في تسع عشرة من الحمل. وعطارد في عشرين من السنبلة. والزهرة في سبع وعشرين من الحوت والمشتري في أربعة عشرة من السرطان والقمر في الدرجة الثالثة من الثور إلى غير ذلك من أمثال هذه الاختيارات ومن كلفهم في هذا التأثير أن الخليل بن أحمد الفراهيدي مخترع العروض قد وجد اتفاق الحروف مع النجم فقال أن عدد الحروف العربية بعدد منازل القمر (28) وغاية ما بلغ إليه الكلام مع الزيادة (7) أحرف كعدد السيارات. وصور الزوائد (12) كعدد البروج. وما يدغم من الحروف مع لام التعريف عدده (14) ويعرف بالشمسي وهو مثل منازل القمر التي يسيرها تحت الأرض و (14) فوقها. فتأمل ولم ينحصر ذلك في اللغة بل تجاوزها إلى صناعة الطب فإنهم اعتمدوا على كثير من العلاجات على مثل هذه الموافقات والظواهر ألفلكية فهذا ابن أبي أصيبعة قد روى في كتاب (طبقات الأطباء): أنه نقل من بعض الكتب أن بختيشوع (الطبيب المشهو ر) كان يأمر بالحقن والقمر متصل بالذنب فيحل القولنج من ساعته. ويأمر بشرب الدواء والقمر على مناظرة الزهرة فيصلح العليل من يومه. ولا بأس أن نلم بمعتقدات القدماء في مثل هذه المظاهر ألفلكية فقد ذهب أرسطو وتبعة العرب وأهل القرون الوسطى: أن المذنب ليس إلا أبخرة تتصاعد عن الأرض حتى تبلغ طبقة الهواء المجاورة لكرة النار فتتحرك بحركة تلك الطبقة على الاستدارة ثم تستطيل وتتكاثف إلى أن تحترق فتتوقد وتتألف حتى تنطفي نارها فتتوارى وهو من أعقم المذاهب وأدناها في نظر المحققين من العلماء. ومن مزاعم هذا ألفيلسوف أيضاً أن كرة الهواء تقسم إلى ثلاث طبقات فالسفلى تعيش فيها الحيوانات والنباتات وهي غير متحركة كالأرض التي تحتها والوسطى عليها وهي بغاية البرودة غير متحركة أيضاً. والعليا مجاورة لكرة النار تتحرك بحركة ألفلك الأعظم اليومية، وإن الأبخرة التي تتصعد من الأرض تسخن في طبقة الهواء التي تجاور كرة النار فتحمى

وتتألف ثم تستطيل بدورانها. ويروى أن ديموقريطس زعم أن بعض المذنبات ليست إلا أرواح المشاهير حتى تابعه بودين من فلاسفة القرن السادس عشر. ومن أقواله في هذا الوهم: إنني أعتقد اعتقاد ديموقريطس أن الكواكب هي أرواح المشاهير تصعد إلى السماء ظافرة مزدهية ولذلك كانت الحروب والأوبئة والمجاعات وأمثال هذه النكبات الجائحة تدمر الأرض عند ظهورها إذ تفقد عظماءها ونوابغها فلا يبق فيها من يدبر شؤونها. وعلى هذا العزم الباطل توهموا أن مذنب هالي الذي ظهر سنة 43 ق م هو روح جوليوس قيصر إمبراطور رومية الذي قتل بعد ظهوره بقليل. وأشاعوا بينهم هذه الرواية وهي أن قيصر هذا تحول كوكباً وهاجاً وانتظم في سلك الآلهة العلوية وأيد قولهم شدة تألقه حتى كان يرى في الهاجرة. ومن أغرب هذه المعتقدات أن تبقى راسخة في الأذهان حتى أوائل القرن الماضي فإن ألفرنسيين مع مدنيتهم العصر يتفاءلوا يوم ولادة نابليون بونابرت بظهور مذنب في 8آب سنة 1769 وذلك قبل ولادته بأسبوع، وتشاءموا بظهور مذنب في 21 كانون الثاني سنة1821 واشتداد تألقه في أوائل أيار ولاسيما في 5 منه يوم مات نابليون فجمعوا بهذا بين المعتقدين. ومن مزاعم القدماء في كسوف الشمس وخسوف القمر اضطرابهم جميعاً حتى الملوك والعظماء فكان هؤلاء كثيراً ما يوصدون أبواب القصور ويلحقون شعور أولادهم حزناً وحداداً ويقدمون القرابين للآلهة وللكواكب دفعاً لغضبها وتمويهاً على الشعب بإلقاء الرعب في قلوبهم، ولاسيما عند اليونانيين والرومان. وأما الهنود والصينيون فيشهدون الأهازيج ويطلقون البنادق ويقرعون النحاس لإعادة نظام النيرين ومثل ذلك يجري عندنا حتى اليوم في بعض الأماكن. وكثير من الإفرنج ينسبون للقمر أيام نحس وسعد فمنهم من يتفاءل بالزواج في ليالي نموه وإبداره ومنه من يتفاءل بمحاقه فيفضل أهل أثينا ليلة الهلال. وأهل اسكتلندا اليوم الأخير من السنة، يعتقد الدانمركيون أن المولود والقمر في الزيادة بولد بعده من جنسه وبالعكس إذا كان القمر في النقصان.

وإذا ولد والقمر في الحضيض مات قبل سن الرشد وإذا ولد في سنة كبيسة مات هو وأمه في ليلة واحدة وعند بعضهم أن دلك اليدين في ضوء القمر يذهب الثآليل والدمامل، وعندنا أن عد النجوم يولد الثآليل، ومن مزاعم الإفرنج في الشهر أن مولودة كانون الثاني مديرة للمنزل مائلة للسويداء والكآبة ولكنها كريمة الأخلاق. . . . وشهر تشرين الثاني عند ألفرنسيين شهر الأموات وعند الهولنديين شهر السرور وألفرح فيكثر فيه الزواج، ويعتقدون أن شهر آب تحت حكم الأسد والعذراء فمن أوله إلى 21 منه يحكم برج الأسد ومن 22 إلى نهايته يحكم برج العذراء فمن ولد في الأيام التي يحكم فيها برج الأسد ينال الثروة والمجد ويكون من أرباب الترف واللهو ولكنه يصاب بالخصام في أسرته والحزن عليها وقد ينال ربحاً من إرث أونصيب. ومن ولد في الأيام التي يحكم فيها برج العذراء كانت حياته معرضة لخطر عظيم في صغره ولا أمل له بغير الإرث وكل ما يرثه يكون موضوع النزاع. والرومانيون واليونان وألفرنسيون والإنكليز يتشاءمون من شهر أيار ولا يتزوجون فيه والزواج في حزيران وتشرين الأول ميمون إلى غير ذلك. وأما الاعتقاد في أيام الأسبوع فالأميركان كانوا يقولون أن مولود يوم الاثنين يكون جميل الوجه والثلاثاء ممتلأ من نعمة الله والأربعاء مسروراً وبشوش الوجه والخميس تعساً شقياً والجمعة هبة إلهية والسبت منهمكاً في تحصيل معاشه والأحد مستغنياً لا يحتاج إلى شيء. والعطاس يوم الاثنين ينذر بالخطر والثلاثاء يدل على قبلة من أجنبي والأربعاء للحصول على رسالة والخميس لليمن والجمعة للحزن والسبت لمقابلة حبيبة والأحد للعياذ من الشيطان. ويوم الأربعاء أحسن الأيام والخميس آلام والجمعة خسارة والسبت خطر على العروس والأحد ندم على ما فعلت وأما بالنظر إلى الأشغال فالأربعاء عندهم أقبح الأيام والسبت أحسنها. وتقليم الأظافر يوم الاثنين للأخبار والثلاثاء لزوج أحذية جديد والأربعاء للصحة والخميس للثروة والجمعة للحزن والسبت للسفر والأحد للمصيبة. والزواج يوم الاثنين للثروة والثلاثاء للصحة والأربعاء أفضل يوم والخميس للبلايا والجمعة

للخسران والسبت لحرمان الحظ ونيل التعاسة. ورأيت في تعاليق بعض المخطوطات التي أحرزها من مكتبتي ولاسيما (شرح السبط المارديني لفرائض السخاوي) وهو من نوادر المخطوطات ما يوافق هذه النظرات عند العرب فمما ينسب إلى الإمام الشافعي قوله في أيام الأسبوع وتنسب إلى الإمام علي أيضاً: لنعم اليوم يوم السبت حقاً ... لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه ... إبان الله إطباق السماء وفي السماء إن سافرت فيه ... فترجع بالمليح وبالثناء وإن رمت الحجامة في الثلاثا ... ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ منكم دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاء حاج ... لأن الله يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويج وعرس ... فتجتمع الرجال مع النساء ولابن حجر العسقلاني: قص الأظافر يوم السبت آكلة ... تبدووفيما يليه يذهب البركة وعالم فاضل يبدوبتلوهما ... وإن يكن في الثلاثا فاحذر الهلكة ويورث السوء في الأخلاق رابعها ... وفي الخميس يأتي لمن سلكه والقسم والعلم زده في عروبتها ... عن النبي رويانا فالتفوا نسكه وسعود الأيام ونحوسها هو بحسب ما ورد في كتاب (جامع ألفنون وسلوة المحزون) لابن شبيب الحراني المتوفي سنة 695 هـ (1295م) من نوادر مخطوطات مكتبتي ونسخه عزيزة الوجود. إن يوم الجمعة أفضل الأيام يحمد فيه الزواج والراحة وتقليم الأظافر والسبت يوم راحة لا يجوز فيه صرم النخل. والأحد أول يوم للخليقة يصلح فيه البناء وابتداء كل عمل، والاثنين مبارك ترفع فيه الأعمال والثلاثاء للحجامة والقعود وإصلاح حال النفس والأربعاء قليل الخير ولاسيما آخر أربعاء الشهر فهو يوم نحس مستمر يشرب فيه الدواء ويحمد فيه دخول الحمام وترك الشغل والخميس مبارك للابتداء بالسفر ولطلب الحوائج وفي المأثور عن الرسول بورك لأمتي في بكور سبتها وخميسها ويكره فيه الحجامة والقصد.

وشهر محرم أوله عند ملوك العرب يجلسون فيه للهناء كالأعياد، وصفر القعود فيه أولى من الحركة، وربيع الأول شهر مبارك. وجمادى الأولى مبعث الحوادث العجيبة حتى قالوا العجب كل العجب بين جمادى ورجب. ورجب الأصم يمتنع فيه الحرب والاستئثار عند عرب الجاهلية ورمضان شهر مبارك للصوم والاستغفار إلى غير ذلك مما اقتطفته من صفحات كثيرة للاستدلال على اعتقاد العرب. ومن نوادر المنجمين عندهم أن هارون الرشيد مرض فأتى بمنجم فأخذ المنجم له تقويماً فتغير وجهه، فقال له هارون الرشيد أصدقني ما سبب تغير وجهك وما ظهر لك وأنت في أمان فأجابه أنه لم يبق لأمير المؤمنين إلا أيام قليلة وبينما هارون الرشيد مضطرب لهذا النبأ إذا بجعفر البرمكي وزيره قادم عليه فأعلمه بالقصة فاستدعاه إليه وقال له: كم عمرك؟ فقال ثلاثون سنة فقال له جعفر خذ تقويمك لنرى كم تعيش فقال ثلاثاً وثلاثين سنة فقال له هارون مر بقتله فقتل فقال له: لوكان صادقاً لصدق بنفسه. وعاش بعد ذلك هارون أعواماً. ولما أراد الخليفة المعتصم العباسي فتح عمورية سنة 223 هـ (238 م) جمع المنجمين ليختاروا له الطالع السعيد للهجوم عليها فحذره من ذلك لأن المذنب هالي كان قد ظهر قبل ذلك أي سنة 222 هـ (837م) وقد وصفه المؤرخون مثل ابن الأثير وابن أبي أسامة وغيرهما. ولكنه اضطر إلى فتحها فظفر بها واكتسحها فقال أبوتمام قصيدته البائية المشهورة ساخراً بالمنجمين وهي من مشهورات القصائد الواقعية جاء فيها: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصفائح في ... متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب أين الرواية بل أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب عجائباً زعموا الأيام مجفلة ... عنهن في صفر الأصفار أورجب وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذوالذنب وصيروا الأبراج العليا مرتبة ... ما كان منقلباً أوغير منقلب يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ... ما دار في فلك منها وفي قطب

إلى آخر ما هنالك من التهكم ووصف بسالة المعتصم وإقدامه وتنكيله بأعدائه ومن لطيف ذلك أن عبد الملك بن مازة البخاري دخل عليه مملوك وفي يده قوس فقال مشيراً إلى حلول الشمس بالقوس سعد وبالعقرب نحس: تهاني لما بدا عقرب ... على خده أن أروم السفر فقلت وفي يده قوسه ... أسير ففي القوس حل القمر ومثل ما عند العرب كان عند الأعاجم فالتاريخ يروي لنا: أنه بينما كان أسطول اليونان على أهبة السفر لمحاربة السبرطيين في 3 آب سنة 431 ق م وكان بيركليس على ظهر السفينة حدث كسوف فتشاءم البحارة من ذلك الظلام القاتم وكادوا يتقهقرون جزعاً فأسرع بيركليس ووضع رداءه على وجه أحد القواد قائلاً له: أست في ظلمة وهل في ذلك ما يخيفك؟ وأي فرق بين هذا الظلام وذاك القتام سوى أن الأول ناتج عن شيء أعظم من ردائي وهكذا استبقى قواهم واستعاد نشاطهم. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة. هذا ما احتمله المقام من النظر في أوهام الناس في الأفلاك والمواقيت ونحوها مما يتعلق بالجو وظواهره وفي فرصة أخرى إن شاء الله نعود إلى الكلام في تأثير النجم من سيّار وثابت على البسطاء عند الأمم قديمها وحديثها. زحلة (لبنان): عيسى إسكندر المعلوف

في فن الأدب

في فن الأدب حدث رواة الأخبار أن حميدة بنت النعمان بن بشير الأنصاري تزوجت الحرث بن خالد بن العاصي بن هشام وكان شيخاً هرماً فلم تطب لها الإقامة معه وكانت تسكن دمشق فقالت في ذلك: فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه) قولها (فقدت) إنشاء وليس بخبر: فهي تدعوعلى الشيوخ المسننين بأن تفقدهم عن آخرهم وتفقد كل من يتشيع بهم. ولعل مرادها بالمتشيعين لهم سماسرة السوء الذين يسعون لدى الأسر في تزويج فتياتهم من أولئك الشيوخ الطاعنين في السن فيقعن من عشرتهم في جحيم ومن العيش معهم في بلاء مقيم، ثم قالت حميدة أن دعاءها على الشيوخ هو من بعض أقوالها فيهم أي هو أقل ما يجب أن تقوله في حقهم وفي إظهار النفرة منهم والزراية عليهم. ترى زوجة الشيخ مغمومة ... وتمسي لصحبته قاليه) (قالية) مبغضة كارهة. والشيخ هنا لم ترد به حميدة الواحد من شيوخ العلم الديني ولوكان شاباً حسبما اصطلح عليه المتأخرون وإنما أرادت به المعنى اللغوي وهو الرجل الذي شاخ وطعن في السن وبلغ من الكبر عتياً عالماً كان أوجاهلاً. وللشيخ سبعة جموع استوفاها بعضهم في هذين البيتين فقال: مشايخ مشيوخاء مشيخة كذا ... شيوخ وأشياخ وشيخان فاعلما) ومع شيخة جمع لشيخ وصفرا ... بضم وكسر في شييخ لتفهما) قوله (شيخة) على وزن عنبة ولكنه سكن الياء لضرورة الشعر وقوله (بضم وكسر) يريد أنك إذا صغرت كلمة (شيخ) فقلت (شييخ) جاز لك إذ ذاك أن تضم الشين وهو الأصل في الاسم المصغر وأن تكسرها مراعاة لليائين التي بعدها ليسهل النطق باللفظ ويخف على السمع. نكحت الهشامي إذ جاءني ... فيالك من نكحة غاوية) تلوم نفسها على تسرعها بزواج ذلك الرجل فهي لم تتريث إن رضيت به مذ جاءها خاطباً ثم أظهرت الدهشة والعجب من هذا الزواج الذي كلفها ثمناً غالياً: عمراً خسرته وشباباً أبلته وجمالاً ابتذلته ومستقبلاً أضاعته:

له فتحتان كصنان ... التيوس أعيا على المسك والغالية) (الذفر) بفتحتين كل رائحة شديدة سواء كانت طيبة أوخبيثة: يقال مسك أذفر ورجل ذفر بكسر ألفاء له صنان وخبث ريح. والصنان بضم الصاد الرائحة الكريهة تنبعث من تحت الإبط واستعملتها الشاعرة هنا في رائحة التيوس بطريق النجوز. و (الغالية) ضرب من الطيب مركب من جملة أجزاء، تقول أن لزوجها ريحاً خبيثاً أعياها الأمر في إزالتها وتخفيف شرها وقد استعانت على ذلك وعالجته بأنواع الطيوب فلم تفلح. وإن دمشق وفتيانها ... أحب إلي من الجالية) الجلاء بفتح الجيم الخروج من بلد إلى آخر. ويقال جلا القوم عن الموضع الفلاني إذا تفرقوا عنه. والقوم الذين يخرجون هذا الخروج يسمون جالية ويسمى أهل الذمة جالية لأن عمر بن الخطاب أجلاهم عن جزيرة العرب. ومراد الشاعرة بالجالية هنا أولئك الذين كانوا يجلون عن ديارهم في الحجاز ويسكنون دمشق لذاك العهد ويظهر أن لدمشق في نفوس القوم إذ ذاك مكانة عالية فكانوا يتنافسون بالعيش فيها ويضربون المثل بحسن عشرة أهلها. ولم يزل هذا أدبها إلى اليوم فهم إذا أرادوا أن يصفوا إنساناً بالذوق وطيب العشرة وكرم الطباع قالوا أنه (مدمشق) على وزن اسم المفعول أي أنه كأهل دمشق ذوقاً وأدباً كما يقولون في مصر فلان (ابن بلد) يعنون به ما نعنيه نحن بكلمة (مدمشق) ويستعمل الأوروبيين في هذا المعنى كلمة (جنتلمان) الإنكليزية. وقد ذكر سليم أفندي سركيس في بعض أعداد مجلته: أن جريدة التيمس رأت أن تضع لكلمة (جنتلمان) الإفرنجية لفظة عربية أومعربة فقالت في وصف أحد سلاطين آل عثمان القدماء أنه كان يسمى (محمود الشلبي) وفسرتها لقرائها بقولها أن معنى الشلبي هو (الجنتلمان) ثم قال سليم أفندي: وما دمنا لليوم لم نقع على كلمة ترادف (الجنتلمان) في لغتنا العربية فلنرض بم رضيته لنا التيمس أي من استعمال كلمة (الشلبي) بمقام (الجنتلمان) وكلمة شلبي بالشين العربية محرفة عن (جلبي) بالجيم ألفارسية ذات النقط الثلاث وهي كلمة تركية معناها الشريف واللطيف والظريف. وقد غاب عن سليم أفندي أن يذكر في معاني (الجنتلمان) كلمة (مدمشق) كما غاب عنه أن يذكر أيضاً كلمة (عايق) التي يستعملونها في ذلك المعنى نفسه. ولا أذكر ما هو أصل اشتقاق (عايق) وكيف استعملت في هذا المعنى في لغتنا العربية.

وإن كانت حميدة ذكرت دمشق في أثناء التهكم بزوجها والزراية عليه فإن شاعراً آخر ذكر دمشق في غضون عتابه لزوجته وتهديده لها فقال: دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ... تمر بعودي نعشها ليلة القدر أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوي القرط طبيبة النشر دمشق منادى: يقول خذي يا دمشق زوجتي التي هربت من بيتي إليك واعلمي أن الليلة تموت فيها تلك الزوجة الغادرة وأراها فيها محمولة على أعواد نعشها هي عندي بمنزلة ليلة القدر. ثم أرى أن توقع الخلاص منها بانتظار موتها أمر يطول شرحه، فالتفت إلى الزوجة الناشزة واستحضرها في ذهنه وجعل يتهددها ويتوعدها فدعا على نفسه بأن يموت أحد الأعزاء عليه ويأكل ديته إن كان لا يتزوج ويدخل عليها الذعر ويضرم في قلبها نار الغيرة بانتقاء ضرة لها تكون أجمل منها، وأجمع لصفات الحسن. وفي البيت الثاني كنايتان من أشهر الكنايات التي يتمثل بها البيانيون في كتبهم وهما) أكلت دماً) و (بعيدة مهوى القرط). ومن أخلاق العرب أنهم يأنفون من ترك أخذ الثأر اكتفاءً بأخذ الدية من جمال وأنعام ويكنون عن هذه الدية الحيوانية بالدم ويعير بعضهم بعضاً بأكلها والرضا بها فشاعرنا يقول أنه إن لم يتزوج على امرأته تلك التي هربت إلى جلق فالله يبتليه بهذه الضعة والخزاية والعار الذي لا يمحى وهي أن يأكل دية قريبه بدل أن يأخذ بثأره فيقتل من قتله أما الكناية الثانية فهي قوله في صفة الضرة أنها بعيدة مهوى القرط فهو يصفها بالطول: إما طول العنق أوطول القامة. إذ أن مهوي القرط موضع هو يه وسقوطه وهو إما الكتف فالطول للعنق. أوالأرض فالطول للقامة وقوله في صفتها (طيبة النشر) أي طيبة الرائحة. وقوله مخاطباً لدمشق دمشق خذيها يشعر بأن لهذه البلدة مزية أومعنى يجتذب القلوب إليها وينزل الرحال لديها. وإنما هدد ذلك الشاعر زوجته الناشزة بما هددها به لكونه بعلم مبلغ غيرة النساء وجزعهن من الضرة، وأبلغ ما قيل في ذلك قول الآخر: خبروها بأني قد تزوجت ... فظلت تكلم الغيظ سراً

ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً ليته تزوج عشرا يقول أنها عزمت أولاً على الصبر وكتم الغيظ وأسرار الغيرة في نفسها ثم غلبتها نفسها فباحت ببعض الشيء لكنها مع ذلك ظلت متجلدة متماسكة متظاهرة بقلة المبالاة فقالت لأختها ولصاحبة لها أخرى ليت زوجي بدل الزوجة الواحدة تزوج عشر زوجات فإني كارهة له غير راغبة في القرب منه. وأشارت إلى نساء لديها ... لا ترى دونهن للسر سترا يقول ثم ارتقى الحال بها واستولت الغيرة علليها فلم يعد يمكنها إخفاء الخبرالذي أضناها وأطار الرقاد عن عينيها: فقالت إلى نساء كن في مجلسها تأمن جانبهن بحيث لا ترى ضرورة لستر هذا السر عنهن وخاطبتهن مشيرة إلى قلبها تقول: يا لقلبي كأن ليس مني ... وعظامي كأن فيهن فترا من حديث نما إلي فظيع ... خلت في القلب من تلظيه جمرا تريد بكون قلبها ليس منها أنه أصبح كتلة نار من شدة الغيظ والكمد فهو ليس منها لأنها هي لحم ودم لا جهنم ولا أتون وفي عظامها فتر أي ضعف ووهن وانكسار ومعنى البيتين واضح لا يحتاج إلى بيان وتفسير. على أننا نشرح في الأحايين أبياتاً تكون جليلة المعنى لا غموض فيها حباً في تنبيه الطالب أوالناشئ إلى حل الشعر وتحويل معناه إلى نثر وبسط ألفاظه ومعانيه بسطاً يقوي في نفس الطالب ملكة المقدرة على تأليف الكلام وحسن التصرف فيه وتأدية المعنى الواحد بالطرق المختلفة والأساليب المتعددة وهذه هي الطريقة التي تعمد إلى منظوم فتحله إلى كلام منثور من أحسن الطرق في تحصيل فن الإنشاء وتقوية ملكة الكتابة في النفس. وقد وضع ابن الأثير صاحب (المثل السائر) كتاباً لطيف الحجم سماه (حل المنظوم) شرح فيه هذه الطريقة وإبان وجه ألفائدة منها لطلاب ذلك ألفن. هذا الذي تزوج على امرأته رجل يحب الانتقام ويريد لنفسه شفاء غيظها وتبريد غلها أما زوج أنيسة فقد رأى أن قطع علاقته بالمرة مع أنيسة خير له ولها من تحمل مشاكل الضرة فطلقها وقال: رحلت أنيسة بالطلاق ... وعتقت من رق الوثاق

أنيسة بهيئة التصغير، يقول أنها رحلت هي إلى دار أبيها وتخلصت أنا من الرق والأسر لها، ومن ثم قالوا في المرأة سيئة الأخلاق أنها (غل قمل وجرح لا يندمل) الغل واحد الأغلال وهو طريق من حديد أوجلد، يجعل في اليد أوفي العنق. وقمل بكسر الميم ذوقمل أي فيه قمل فيؤذي الأسير ويحرمه لذيذ الوثن فالمرأة السوء في إرهاقها زوجها مثل هذا الغل: بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي ودواء ما لا نشتهيه ... النفس تعجيل ألفراق أرسل هذا البيت مثلاً سائراً وحكمة بالغة فهو ينصح لكل من ابتلي بما لا تشتهيه نفسه أن يعجل فيفارقه ويقصيه عنه. وقد يقال أن هذا كان منه لمجرد هو ى النفس ونزاع الشهوة في لؤم وخسة وإن كان لضرورة قاضية وليكون في بيته ذا عيشة راضية فلا عتب ولا لوم: لولم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالأباق وصبرت نفسي لا ... أريد حليلة حتى التلاقي (أرح) مبني للمجهو ل من الراحة. وأصل الأباق فرار العبد من بيت سيده واستعمله هنا في مطلق الهروب. ومراده بالتلاقي اليوم الذي يموت فيه فيلاقي فيه أجله أويلاقي وجه ربه. يقول: لولم تتيسر لي أسباب طلاق أنيسة وبقيت جاثمة في وجهي جثوم الأفعى، لكنت فررت منها فرار الآبق. وفارقتها فراق غير الوامق. وكنت بذلك أستريح من شرها، ثم أحرم النساء من بعدها لكن قد أسعدني الحظ بتسهيل أسباب طلاقها بالطلوع والرضا فشكراً لتدبير القضاء وعفا الله عما مضي. دمشق: المغربي

الحمى

الحمى طبياً عرف العرب مرض الحمى مثل غيرهم من الأمم القديمة وعالجوه بالماء وغيره من الملطفات ووصفه أطباؤهم وألفوا فيها رسائل ومقالات ضافية من أهمها كتاب (الحميات) خمس مقالات لم يوجد أجود منه، وعلاجاته مجربة. ألفه إسحق بن سليمان الإسرائيلي الذي عمر فوق المائة ولم يتزوج ولا أعقب فعير على ذلك فقال: إن لي أربعة كتب تحيي ذكري أكثر من الولد وهي كتاب الحميات و (الأغذية والأدوية) و (البول) و (الاسطقسات) وتوفي هذا المؤلف سنة 32. هـ (932 م) ومن الرسائل في (الحميات) رسالة لمحمد بن إبراهيم ورسالة لجلال الدين السيوطي ولغيرهما رسائل وكتب أخرى ضمنت أنواع الحمى ومعالجاتها وكل ما يتعلق فيها مما هو مفيد اليوم. شعرياً ولقد وصفها الشعراء بقصائد ومقاطع كثيرة يحضرنا منها الآن قول المتنبي يصف حماه الليلية التي ظنها بعضهم حمى الدق (السل): وزائرتي كأن بها حياءً ... فليس تزور إلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام وتصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحم فما حم اعتزامي وإن أسلم فما أقي ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام وقال ابن شيروية فيها: وزائرة تزور بلا رقيب ... وتنزل ألفتى من غير حبه وما أحد يحب القلب منها ... ولا تحلوزيارتها بقلبه

تبيت بباطن الأحشاء منه ... فيطلب بعدها من عظم كربه وتمنعه لذيذ العيش حتى ... تنغصه بمأكله ومشربه أتت لزيارتي من غير وعد ... وكم من زائرلا مرحباً به وقال أبوبكر الخوارزمي أمير الكتاب يشير إلى ترك الغذاء فيها: ولي من أم ملدم كل يوم ... ضجيج لا يلذ له شمام مقبلة وليس لها ثنايا ... معانقة وليس لها التزام كأن لها ضرائر من غذائي ... فيغضبها شرابي والطعام إذا ما صافحت صفحات وجهي ... غدا ألفاً وأمسى وهو لام وقال الأمير ناصر الدين بن النقيب في نوبة الحمى موارياً: أقول لنوبة الحمى اتركيني ... ولا بك منك لي ما عشت أوبه فقالت كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه وقال أبوالحجاج الفهري الغرناطي في الوزير ابن الحكم وقد أصابته حمى تركت على شفتيه عقابيل (بثوراً): حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا إن كنت محموماً ضعيف القوى ... فإنني أحسد حماك ما رضيت حماك إذا باشرت ... جسمك حتى قلبك فاكا وقال المتنبي مشيراً إلى توقيف الحمى في اصطلاح الأطباء وهو من التعليل الحسن المبني على الشك: ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا ... ما عذرها في تركها خيراتها أعجبتها شرفاً فطال وقوفها ... لتأمل الأعضاء لا لإذاتها ولم يخرج عنه أبوالفتح كشاجم الرملي فقال في سبب الحمى: ولقد أخطأ قوم زعموا ... أنها من فضل برد في العصب هو ذاك الذهن أذكى ناره ... والمزاج المفرط الحر التهب ومن ألطف ما قيل في حمى الأولاد قول أحمد بن بدر المعروف بالبلاط في ولد له حم: أعزز علي بني ما تلقى ... سدت علي شكاتك الطرقا

قد كدت بالحمى أحق فليتني ... التي من الحمى الذي تلقى وقال أبو نواس يخاطب عناناً جارية الناطفي مشيراً إلى إمكان عدواها وقد مرض وشفيا ولم يعلم هو بمرضها إلا بعد برئه: إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا بحماك وخصلة كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك حتى إذا أنفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وذاك وقال إلياس صالح كنعان البيروتي لما ثقلت عليه وطأة الحمى وهو آخر نظمه مشيراً إلى تأثير الحمى في الأحشاء والرأس: إذا جن الظلام وغاب صبحي ... وفارقني أحبائي وناسي أتت تسعى إلي وليست ترضى ... مقاماً غير أحشائي ورأسي هذه طرف مختلفة من أوصاف الحمى الشعرية. فبقي علينا أن نذكر ما عرفه اللغويون عنها مما لم نره مجموعاً في رسالة أو كتاب بل استخرجناه بالبحث والاستقراء. لغوياً من الغريب أن الكلمات العربية المبدوءة بالحاء تدل على الحرارة والتوقد ونحوهما ولذا فنحن نستقري هذه السلسلة لنصل إلى اسم (الحمى) وصحة اختياره لهذا الداء ألفتاك الذي يذيب الدماغ والحشى بل يحرق الجسم ويهلك صاحبه. فإذا تتبعنا سلسلة الحاء وما يتركب معها من الحروف المضاعفة نجد: أنحب بمعنى عشق وحث الشيء حكه ليسقط وحثه على الشيء أحماه عليه وحج غلب بالحجة وفيه حدة وحد غضب وحذ قطع ومثلها جز وجذ. وحر ضد برد وحز قطع وفيه احتكاك وحرارة وحس البرد العشب أحرقه وحس اللحم جعله على الجمر زحش النار أوقدها والمحش ما تحرك به النار. وحص الشعر حلقه وأذهبه وحضه على الأمر أحماه عليه وحط وجهه خرج به الحطاط وهو نوع من البثور أي الحبوب يعرف بحب الصبا. والحظ التوفيق وحف الشيء كشطه. وحقت الحاجة نزلت واشتدت وحقه غلب على الحق وحكه دلكه وكشطه وحل الحرير استل خيوطه منه بالحرارة وحم التنور سجره أي أوقده وأحماه. وحن إليه أي

اشتاق وانعطف وحي ضد مات. فإذا راجعنا هذه المادة نجد أنها من أشد المواد العربية دلالة على الحرارة والاشتعال ولذلك أخذ منها اسم الحمى التي هي من أشد الأمراض فتكاً بالأجسام اشتعالاً ومما يزيد قولنا هذا برهاناً أننا إذا حذفنا حروف هذه المادة الثنائية وأضفنا إليها حروفاً أخرى كان لنا من معنى المادة ألفاظ كثيرة تدل على الحرارة والاتقاد مثلاً حبحبت النار اتقدت والحباحب سراج الليل المتألق، وحبك شد وقطع. والحبوكرى الداهية. وحبت السفينة جرت وتحركت وحثحث إذا ضاعف الحث. وحجن عطف وجذب. وحدر الجدار ورم من الضرب، وحدث في السير أسرع، وحسم قطع إلى آخر المادة. ومن الكلمات التي تتعلق بالحمى من مادتها قولهم أرض وبلاد محمة ومحمة ذات حمى أو كثيرة الحمى، وحم الرجل فهو محموم إذا أصيب بها وأحمته البلد. إلى غير ذلك من الاصطلاحات. وأما حمى التيفوئيد فهي من كلمتين يونانيتين الأولى (تيفوس) أي السبات من الحمى والثانية بمعنى شكل فمجموع معناها شكل السبات أوشبه التيفوس. والتيفوس يونانية كما مر بمعنى سبات الدماغ ونحوه. أما كلمة الحمى في اللغات الإفرنجية فهي من كلمة اللاتينية بمعنى ليسخن وليحم فهي مثل الكلمة العربية ومنها اشتقت كلمة ألفرنسية وكلمة الإنكليزية الإسبانية والإيطالية وأشباهها. أما أنواع الحمى التي عرفها العرب فهي حمى مردم من أردمت عليه إذا لم تفارقه أياماً وحمى نائبة تنوبه كل يوم. والبرحاء شدة الحمى، وحمى الرس أول الحمى قبل أن تأخذه وتظهر فإذا كان مع الحمى قرة وجد مسها فهي العرواء (البردية) في اصطلاح العامة وعري إذا أصيب بها. وعك الرجل إذا وجد عرواء الحمى، فإذا عرق منها فهي الرحضاء وهو مرحوض وتقول أخذته رحضاء ورحض. والصالب الصداع من الحمى، وحمى صالب تسيل العرق من الصليب أي الورك وقد صلبت عليه الحمى وأخذته النفضة أي الرعدة، وأخذته حمى نافض ونفضته الحمى، والوعك الحمى التي معها حر خالص تقول وعكته الحمى فهو وعك، والورد يوم الحمى وقد وردته الحمى، وحمى ربع التي تأتي في اليوم الرابع وقيل التي تدع يومين وتأخذ يوماً وربع الرجل وأربع وأربعته الحمى وأربعت

عليه وربعت، والقلد يوم تأتيه الربع والغب إن تأخذه يوماً وتدعه آخر وقد أغبته الحمى وأغبت عليه وغبت فهو مغب. وإذا أقامت الحمى فذلك الحين هو القلع وخمدت الحمى سكن فوارها، وصارت الحمى تتعهده وتتعاهده وتحاوده بمعنى تداومه وتنقطع عنه، والعقابيل ما يظهر على الشفتين من غب الحمى، وهو يتضور من الحمى أي يتلوى ويضج ويتقلب ظهراً لبطن، والمسبوت العليل الملقي كالنائم يغمض عينيه في أكثر أحواله وهي من أعراض الحمى، وحمى قبس اقتبسها من غيره بالعدوى وحمى عرض تعرض لها من تلقاء نفسه، والمليلة حرارة الحمى وتوهجها، والحمى الدائرة التي تأخذ وقتاً وتدع وقتاً، وأفرق المحموم إذا تركته الحمى. إلى كثير من أشباه هذه الاصطلاحات الكثيرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون. زحلة (لبنان): عيسى اسكندر معلوف

القصران العجيبان

القصران العجيبان البديع وساروية ما أشبه الليلة بالبارحة والعلم متشابه في أعماله على اختلاف العصور والأصقاع لا تكاد تجد فروقاً يمتد بها. والإنسان حين كاد يوشك أن يكون واحداً في الشرق والغرب في تصوراته ومناحيه، ذكر الحازمي أن البديع اسم بناء عظيم للمتوكل بسر من رأى وقال اليعقوبي: بنى المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها الشاه والعروس والشبدار والبديع والغريب والبرج وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وذكر الأصفهاني أنه شغب ألفرسان على السلطان في بغداد سنة 315 فأحرقوا القصر المعروف بالثريا وانتهبوا ما فيه من الخزائن وخربوا القبة والقصر المعروف بالأترجة والكوكب وسلبوا ما كان فيه من الآلة والمتاع والوحش والطير ثم بكروا من الغد إلى الحلبة فأحرقوا أبوابها وقصدوا القصر المعروف بالحسن الذي ينزل فيه المقتدر فبقوا إلى المساء يشغبون ثم بكروا من الغد إلى القصر المعروف بالبديع وبهذا ظهر أن اسم البديع أطلق على قصرين في العراق الأول في سر من رأى والثاني في بغداد وكان هذان القصران موجودين إلى تاريخ المئة الرابعة وأنشأ في المئة العاشرة قصر اسمه البديع في مراكش خاصرة الغرب الأقصى أنشأه المنصور عام ستة وثمانين وتسعمائة من خلافته وأنفق جلائل الأموال ونفائس الذخائر ذلك أنه أراد كما في مناهل الصفا أن تكون لأهل البيت به مأثرة وشفوف على دولة البربر وغيرهم من المرابطين والموحدين ومن بعدهم بني مرين فكان كل من أهل تلك الدول ابتنى بناءً يحيى به ذكره ولم يكن لأهل البيت في ذلك المعنى شيء تزداد به حظوتهم مع أنهم أحق الناس بالجد الأصيل والسؤدد الأثبل فتصدى لبنائه بقصد تشريف أهل البيت لأن البناء كما قيل من فوائده: هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبالسن البنيان إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشأن اتصل العمل في هذا البناء من سنة 986 إلى 1. . 2 ولم يتخلل ذلك فترة وحشر له الصناع حتى من بلاد الإفرنجة فكان يجتمع كل يوم من أرباب الصنائع ومهرة الحكماء خلق كثير حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم ونفائس أعلاقهم وجلب له

الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزناً بوزن وكان المنصور قد اتخذ معاصير للسكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما وأما جبسه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل ناحية حتى إذا وجدت بطاقة فيها أن فلاناً دفع صاعاً من جير حمله له من تينبكت وظف عليه في عمار الناس وكان المنصور مع ذلك يحسن للإجراء غاية الإحسان ويجزل صلة المعلمين بالبناء ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤنة أولادهم كي لا تتشوق نفوسهم وتتشعب أنظارهم. وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائعة الهيئة واحتف بها مصانع أخر من قباب وقصور وديار فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع أحسن المباني وأعظم المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكره غمدان ويبخس الزهراء والزاهرة ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض المفضض والأسود وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه بالنصار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك الزلاج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أوبرد موش وأما سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدارات به مع بريق نقشه ورائق الرقم يخالص الجبس فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا البديع من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوار العراق ومن المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف وفي ذلك قيل: كل قصر بعد البديع يذم ... فيه طاب الجني وفيه يشم منظر رائق وماء نمير ... وثرى عاطر وقصر أشم إن مراكشاً به قد تناهت ... مفخراً فهي للعلا الدهر تسمو وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها فمن ذلك ما نقش خارج القبة الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعاً بالعمل من إنشاء أبي فارس عبد العزيز ألفشتالي على لسان القبة المذكورة: سموت فخر البدر دوني وانحطا ... وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا

وصغت من الإكليل تاجاً لمفرقي ... ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا ولاحت بأطوافي الثريا كأنها ... نثير جمان قد تتبعته لقطا وعديت عن زهر النجوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا وأجربت من فيض السماحة والندى ... خليجاً على نهر المجرة قد غطا وهي طويلة وكلها من هذا النمط وقال أيضاً قصيدة كتبت بداخل القبة المذكورة وله أخرى كتبت في بهو ها بمرمر أسود في أبيض قال في مطلعها: لله بهو عز منه نظير ... لما غدا كالروض وهو نضير رصفت نقوش حلا ورصف قلائد ... قد نضدتها في الصخور الحور فكأنها والتبر سال خلالها ... وشي وفضة تربها كافور وكأن أرض قراره ديباجة ... قد زان حسن طرازها تشجير وإذا تصاعد نده نواً ففي ... أنماطه نور به تشجير شأ والقصور قصورها عن وصفه ... سيان فيه خورنق وسدير فإذا أجلت اللحظ في جنباته ... يرتد وهو يحسنه محسور وكأن موج البركتين أمامه ... حركات السحب صافحته دبور صفت بضفتها تماثل فضة ... ملك النفوس بحسنها تصوير فتدير من صفوالزلال معللاً ... يسري إلى الأرواح منه سرور ما بين آساد يهج زئيرها ... وأساود يعلولهن صفير وقال أيضاً وكتب في بعض المباني البديعية: معاني الحسن تظهر في المباني ... ظهور السحر في حدق الحسان وختمها بقوله: قصور مالها في الأرض شبه ... وما في المجد من للمنصور ثان وكان ألفراغ من بناء البديع عام اثنين وألف وفي تاريخه يقول الوزير علي الشياظمي وهو مما نقش في باب الرخام أحد أبواب الربيع: الحسن لفظ وهذا القصر معناه ... يا ما أميلح مرآه وأبهاه فهو البديع الذي راقت بدائعه ... وطابق اسم له فيه مسماه

صرح أقمت على التقوى قوائمه ... ودل فيه على التاريخ معناه قال في نفح الطبيب اخترع المنصور من الصنائع ثلاثة أشياء فجاءت غريبة الشكل بديعة الحسن وهي البديع والمسرة والمشتهى ومما قال المنصور في ذلك مؤرخاً: بستان حسنك أبدعت زهراته ... ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يا حسن رمان به المشتهى والذي ذكره صاحب البيان المعرب عن أخبار المغرب وهو الشيخ أبوعبد الله أبوعذارى الأندلسي أن أول من أنشأ المسرة التي بظاهر جنان الصالحة عبد المؤمن ابن علي كبير الموحدين قال وهو بستان عظيم طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليها الماء من أغمات واستنبط له عيوناً كثيرة. قال ابن اليسع: وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان الذي غرسه يبلغ مبيع زيتونه وفواكه ثلاثين ألف دينار مؤمنية بحسب رخص ألفاكهة بمراكش ولعل المنصور جدد معالم المسرة بعد إندراسها وأفاض مجال الحياة على ميت أغراسها. وكان المنور يفتخر بالبديع كثيراً وبنوه بعده كذلك وفي ذلك يقول أبوفارس ألفشتالي: هذا البديع يعز شبه بدائع ... أبدعتهن به فجأة غريبا أضني الغزالة حسنه حسداً له ... أبدي عليه للأصيل شحوبا شيدتهن مصانعاً وصنائعاً ... أنجزن وعدك للعلا المرقوبا وجريت في كل ألفخار لغاية ... أدركتهن وما مسسن لغوبا فأنعم المسكك فيه دام موقراً ... تجني به فنن النعيم رطيبا ولما أكمل المنصور البديع وفرغ من تنميق بردته وتطويق حلته صنع مهرجاناً عظيماً ودعا الأعيان والأكابر فقدم لهم من ضروب الأطعمة وصنوف الموائد وأفرغ عليهم من العطايا ومن الجوائز ما لم يعهد من قبل ولكن دالت الأيام وأمر السلطان اسماعيل ابن الشريف بهدم البديع عام تسعة عشر ومائة وألف فهدمت معالمه وبدلت مراسمه وغيرت محاسنه وفرق مجموع حسنه وعاد حصيداً كأن لم يغن بالأمس حتى صار مرعىً للمواشي ومقيلاً للكلاب ووكراً للبوم وحق على الله ما رفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ومن العجائب

أنه لم تبق بلد بالمغرب إلا ودخلها شيء من أنقاض البديع. أما قصر سارويه فإن القليل الذي ظفرنا به من وصفه لا يشفي غله. قال الأصفهاني أنه في سنة خمسين وثلثمائة تهدم من البنية المسماة سارويه في داخل مدينة جي جانب منة وظهر عنه بيت في نحوخمسين عدلاً من جلود مكتوبة بخط لم ير الناس قبله مثله فلا يدرى متى أخرز ذلك في هذه البنية وسئلت عما أعرفه عن خبر هذه المصنعة العجيبة البناء فأخرجت إلى حضرة الناس كتاباً لأبي معشر المنجم البلخي مترجماً بكتاب أخلاف الزيجة ويقول فيه أن الملوك بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم وحرصهم على بقائها على وجه الدهر وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث وأبقاها على الدهر وأبعدها من التعفن والدروس لحاء شجرة الخدنك ولحاؤه يسمى التوز وبهم ابتدى أهل الهند والصين ومن يليهم من الأمم في ذلك واختاروها أيضاً لقسيهم التي يرمون عليها لصلابتها وملاستها وبقائها على القسي غابر الأيام فلما حصلوا لمستودع علومهم وجود ما وجدوه في العالم من المكاتب طلبوا لها من بقاء الأرض وبلدان الأقاليم أصحها تربة وأقلها عفونة وأبعدها من الزلال والخسوف وأعلكها طيناً وأبقاها على الدهر بناء فانتفضوا بلاد المملكة وبقاعها فلم يجدوا تحت أديم السماء بلداً أجمع لهذا الأوصاف من أصبهان ثم فتشوا عن بقاعها فلم يجدوا فيها أفضل من رستاق جي ولا وجدوا في رستاق جي أجمع لما راموه من المواضع التي اختط من بعد فيه بدهر داهر مدينة جي فجاؤوا إلى قهندز (قصر) وهو في داخل مدينة جي. فأودعوه علومهم وقد بقي إلى زماننا هذا ويسمى سارويه ومن جهة هذه البنية درى الناس من كان يأتيها وذلك انه لما كان قبل زماننا هذا سنين كثيرة تهدمت من هذه المصنعة ناحية فظهروا فيها على أزج معقود من طين الشقيق فوجدوا فيه كتباً كثيرة من كتب الأوائل مكتوبة كلها على لحاء التوز مودعة أصناف علوم الأوائل بالكتابة ألفارسية القديمة فوقع بعض تلك الكتب إلى من عني به فقرأ فوجد فيه كتاباً لبعض ملوك ألفرس المتقدمين يذكر فيه أن طمهو رث الملك المحب للعلوم وأهلها كان انتهى إليه قبل الحادث المغربي الذي كان من جهة الجوخبره في تتابع الأمطار هناك وأفراطها في الدوام والغزارة وخروجها عن الحد والعادة وأنه كان من أول يوم من سني ملكه إلى أول

يوم من بدوهذا الحادث المغربي مائتان وإحدى وثلثون سنة وثلثمائة يوم وأن المنجمين كانوا يخوفونه من أول ابتداء ملكه تعدي هذا الحادث من جانب المغرب إلى ما يليه من جوانب المشرق فأمر المهندسين بإيقاع الاختيار على أصح بقاعه تربة فاختاروا له موضع البنية المعروفة بسارويه وهي قائمة الساعة داخل مدينة جي فأمر ببناء هذه البنية الوثيقة فلما فرغ له منها نقل إليها من خزانته علوماً كثيرة مختلفة الأجناس فتحولت إلى لحاء التوز فجعلها في جانب من تلك البنية لتبقى للناس بعد احتباس هذا الحادث وأنه كان فيها كتاب منسوب إلى بعض الحكماء المتقدمين فيه سنون وأدوار معلومة لاستخراج أوساط الكواكب وعلل حركاتها وأن أهل زمان طهمورث وسائر من تقدمهم من ألفرس كانوا يسمونها سني وأدوار الهزارات وأن أكثر علماء الهند وملوكها الذين كانوا على وجه الدهر وملوك ألفرس الأولين وقدماء الكلدانيين وهم سكان أحوية من أهل بابل في الزمان الأول إنما كانوا يستخرجون أوسط الكوافي كب من هذه السنين والأدوار وأنه لما أذخره من بين الزيجات التي كانت في زمانه لأنه وسائر من كان في ذلك الزمان وجدوه أصوبها كلها عند الامتحان وأشدها اختصاراً وكان المنجمون الذين كانوا مع رؤساء الملوك في ذلك الزمان واستخرجوا منها زيجاً وسموه زيج شهريار ومعناه بالعربية ملك الزيجات ورئيسها فكانوا يستعملون هذا الزيج دون زيجاتهم كلها فيما كان الملوك يريدونه من معرفة الأشياء التي تحدث في هذا العالم فبقي هذا الاسم لزيج أهل فارس في قديم الدهر وحديثه وصارت حاله عند كثير من الأمم في ذلك الزمان إلى زماننا هذا أن الأحكام إنما يصح على الكواكب المقدمة منه وإلى ههنا حكاية ألفاظ أبي معشر في وصف البنية القائمة الأثر بأصبهان وأبومعشر إنما وصف آزجاً من آزاج هذه البنية انهار منذ ألف سنة أقل أوأكثر فعبر منه إلى زيج شهريار فأما الذي انهار في سنة خمسين (خمسين؟) وثلثمائة من سنة الهجرة فآزج آخر لم يعرف مكانه لأنه قدر في سطحه أنه مصمت إلى أن انهار فانكشف عن هذه الكتب الكبيرة المكتوبة التي لا يهتدي إلى قراءتها ولا خطها يشبه شيء من خطوط الأمم وفي الجملة أن هذه البنية إحدى الآيات القائمة ببلاد المشرق كما أن بنية مصر المسماة الهرم إحدى الآيات القائمة ببلاد المغرب.

بعض معامل الدولة

بعض معامل الدولة شاهدنا في دار صنع المدافع (الطوبخانة) في الأستانة صنع المدافع الجديدة من عيار 7 السريع المرمى على الأصول الألمانية الحديثة وهذا النوع هو أقوى من النوع ألفرنسي وشاهدنا صنع مدافع الصحراء وهي من عيار 4 أيضاً أقوى من المدافع الجبلية وأسرع منها تطلق في الدقيقة 3. قنبلة ترمي إلى مسافة 8. . . متر وشاهدنا صنع (مدفع أوبس) وهو من عيار 12 وأثقل من المدافع الجبلية ومدافع الصحراء وهذا من الاختراعات حديثة الطراز وهذا المدفع يدار لكل جهة من الجهات وهو خاص بالتخريب، وشاهدنا مدفع البومبة أوالقذائف وهو من اختراع رجالنا اخترعوه جديداً لإطلاق القنابل المفرقعة وهو يرمي إلى مسافات بعيدة تنفجر قنبلته وتفجر كل ما تجده بطريقها وكان لهذا الاختراع أعظم التأثير في حربنا الحاضرة، وشاهدنا مسدساً من اختراع رجالنا أيضاً وهذا المسدس يطلق رصاصة ثخينة تضيء ضوءً كهربائياً لأجل رؤية العدوعن مسافة بعيدة وكان لهذا الاختراع أيضاً نفع كبير في حربنا الحاضرة وهو من المخترعات المدهشة وشاهدنا مصانع القنابل (الكلل) وصبها من جميع العيارات حتى من عيار 35 التي ثقل قنبلتها 712 آقة ورأينا مصانع المارتين الحديث الطراز بقطر 56 مع التعديل التام ومسافة مرماه كمسافة الموزر الألماني وشاهدنا الغنائم التي غنمتها دولتنا العلية من (الإنكليز والفرنسيس) وهي مدافع المتراليوز تحول إلى طراز تكون به صالحة لاستعمال الرصاص العثماني ومنها البنادق (ليئن فيلد) وهو من غنائم الإنكليز وبنادق (لوبل) وهو من غنائم لفرنسيس فقد كانت هذه الغنائم تتحول إلى أسلحة عثمانية وتعاد إلى دار الحرب ليقاتل جيشنا الأعداء بنفس أسلحتهم ثم شاهدنا دوائر خاصة لصنع الأخشاب وما يلزم الأسلحة من هذا النوع وكل هذه المصانع تدار بالكهرباء. يحتوي معمل الأسلحة والقذائف والقنابل في زيتون بروني على عدة مصانع ودوائر أول دائرة دخلها وفدنا هي دائرة عمل الرصاص (الخرطوش) الخاص بالمارتين والموزر فشاهد محلات صنع الظروف النحاسية وصب الرصاص وصقلها وملئها باروداً وتركيبها ثم صقلها ثانياً ثم طبعها بالمكنات الحديدية وإرسالها إلى الموازين الخاصة توضع في محل تمر على ميزانين فإذا كان عيارها تاماً أوناقصاً تسقط كل منها في المحل المعد له وهكذا يوضع صحيح الوزن في علب خاصة وترتب ترتيباً للإرسال إلى دار الحرب. يصنع

المعمل يومياً زهاء نصف مليون رصاصة إذا اشتغل نهاراً وإذا اشتغل ليلاً تتضاعف الكمية وشاهدنا أيضاً معمل صب المدافع الرشاشة (شرابنل) وهذه أشهر المدافع الحديثة المدمرة التي لها التأثير العظيم في الحرب وشاهدنا تذويب ألفولاذ لصب القنابل المتنوعة العيار وقد صب أمامنا في قوالبها الخاصة من عيار 15 و21و24 ثم أخرجت من قوالبها وأرسلت إلى الصقال كما أنا شاهدنا محل الصقال وإملاء هذه القنابل والقفل عليها بصورة تدهش الرائين وشهدنا صنع البارود والكبسول وما يلزم ذلك لتركيب الأشياء المدمرة يشتغل في هذا المعمل زهاء خمسة آلاف عامل بينهم 5. . بنت تشتغل في عمل الرصاص ويصرف على العمال يومياً ما يقارب 15. . ليرة كما أن معمل الطوبخانة العامرة يحتوي على هذا المقدار تقريباً ويصرف مثل هذه النفقة. أنشئت الأحواض في دار الترسانة (دار الصناعة) العامرة في زمن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز وزادت انتظاماً وبهجة تدريجياً إلى أن وصلت إلى الدرجة المطلوبة التي تستوعب أكبر باخرة أوبارجة للإنشاء أوالتصليح وتملأ هذه الأحواض وتفرغ 6. طناً في الدقيقة بالآلات الكهربائية وشاهدنا تصليح الحديد مهما كان ثخيناً فإنه كان يقطع ويثقب بقليل من الزمن بواسطة الآلات الكهربائية وشاهدنا آلة من صنع ضباطنا البحريين وهي من أعجب الآلات الحديثة صنعت لرمي القذائف الديناميتية لمحوالأعداء وشهدنا مصنعاً لعمل القوالب الترابية الخاصة لتذويب أصناف المعادن الحديدية والفولاذية ومعملاً لصنع المرميات ومحلاً لتوليد الكهرباء على أحدث الطرق العصرية وشهدنا معمل طوربيد وهو على هيئة سمكة من نحاس بطول مترين وسماكة 5. سنتيمتراً محشواً من القذائف المهلكة يرسل بالآلات الكهربائية تحت الماء فحين وصوله إلى دارعة مهما كانت ضخامتها ينفجر وتهو ي تلك الدارعة إلى أسفل الماء. شاهدنا هذا الاختراع العجيب يعمل في معمل الترسانة العامرة كما أننا شاهدنا أيضاً معملاً جسيم البناء مفرزاً على حدة وهو للأعمال الخشبية الحديثة الاختراع ومحلاً لعمل القوالب الخشبية لأجل تعليم العساكر ألفنون البحرية ومحلاً لعمل قوالب مختلفة يدوية وغيرها لأجل التخريب مملوءة بالديناميت غير المؤذي لأن هذه القوالب مصنوعة لتمرين الجنود على ألفنون الحربية البحرية. أنشئ معمل الثياب في زمن الحرب على طراز جديد وهو يشتمل على طابقين فيهما عدة

غرف مستطيلة الشكل خاصة بخياطة الأثواب العسكرية شاهد فيه الوفد الآلات الحديثة التي تدار بواسطة الكهرباء وفيه زهاء ألف ومائتي عاملة من سن 12 إلى سن 5. ينجزن يومياً ثلاثة آلاف بدلة عسكرية مع ما يلزمها ورأى في معمل الطربوش القديم (فسخانة) الذي أسسه ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان في محلة أبي أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) وهو يحتوي على الأبنية العظيمة الجسيمة معامل لصنع المنسوجات اللازمة للجيش المظفر وشاهد فيه الصوف يوضع في ماكنات الغسيل فيغسل وينظف ثم ينشف بالآلات الخاصة ثم يندف وينعم وكل ماكنة تصنع يومياً 2. . آقة ومنها يرسل إلى ماكنات ألفتل فيفتل خيوطاً فيحاك أقمشة من الجوخ الجيد لا يميز عن الحرير لنعومته ولطافة حياكته وشاهدنا تفصيل الألبسة العسكرية بوضع مثلاً عشرة طاقات من الجوخ ويقطع بمقراض الكهرباء فيخرج عشرة تفصيلات وقد تجلى لنا حينما شاهدنا هذا المقراض سر سرعة الرخص الذي تقوم به معامل أوروبا وشاهد صنع الحرامات والبطانيات فيصنع يومياً 5. . حرام للجيش و7. بطانية للمستشفيات. وشاهد صنع الجوارب فيصنع يومياً 2. . . زوج إلى الجيش وهناك محل خاص لصبغ الصوف والأقمشة وكل ما يلزم لتلوينه من الأنواع الأخرى وجميع الماكنات الموجودة تدار على البخار والكهرباء بسرعة تفوق الحد. وأنشئ معمل الدباغة والأحذية في زمن ساكن الجنان السلطان محمود خان ثم احترق وجدد في زمن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز خان ووسعت دوائره واستحضر له عدة آلات حديثة في زمن مولانا السلطان الغازي محمد رشاد خان نصر الله. وشاهد الوفد في هذا المعمل المهم إدخال جلود الجاموس والبقر والغنم إلى مكان القشط بحيث ينزع منها الصوف فتغسل وتنظف وترسل إلى مكان الدباغة فيوضع لها ما يلزم من أجزاء الدباغة وتترك ساعات ثم ترسل إلى ماكنات التجفيف على البخار فتجف حالاً ومنها تدخل في مكنات ترقيق الجلد وتسويته ثم إلى أدوات الصقال ثم إلى غرف الدهن والصباغ فتصبغ من الألوان كافة وتصبغ هذه المكنات في كل يوم 5. . من جلد البقر والجاموس و5. . من جلد الغنم ثم تدفع إلى دوائر التفصيل وعمل الأحذية فتفصل هذه الجلود بالآلات القاطعة الكهربائية.

وهناك دوائر الأحذية (الجزمات والكنادر) فقسم من العملة تجمع الجلود المفصلة وقسم تجمع الجلد والنعل وقسم تصنع المسامير وكل منها يوضع في المكنات التي تتحرك بالكهرباء بغاية الدقة والضبط وبأسرع ما يمكن من الزمن يتحول إلى جزمات وأحذية حسب اللزوم. هذا إلى دائرة خاصة لعمل الأحذية ذات نعال من الخشب وهذه الأحذية تصنع خاصة لأجل الجيش في زمن الحر ب وأيام البرد للمحافظة على الصحة وفي المعمل من العملة زهاء 18. . عامل من أفراد العساكر فينجز يومياً (1. . .) قطعة من الجزمات والأحذية. وأنشئت دار اللوازم العسكرية في (آخور قبو) في استانبول في زمن ساكن الجنان السلطان محمود خان وكانت إذ ذاك ثكنة عسكرية وجعلت بعد الانقلاب معملاً عظيماً للخياطة وفيها مصنع لتوليد الكهرباء على البخار ومصنع على الماء ومحل خاص (كالمدرسة) لتعليم بعض أفراد الجند فن الخياطة وفيها يجري تفصيل صنف اللباس والقميص الخام وصنف الكبوت والمعاطف (الجوكتة) والسراويل (البنطلونات) فينجز يومياً من خمسة آلاف إلى ستة آلاف قطعة وهناك الغرف التي تخاط فيها الخيام على أنواعها وقماش هذه المضارب الخام والكتان هو من حياكة ومعمولات معملي إزميت وطرسوس هذا إلى غرف خاصة لتصليح الأتوموبيل يوجد بها كل الماكنات الحديثة للتصليح وتصب أيضاً الأدوات الحديدية والفولاذية الخاصة بآلات الأتوموبيل في نفس هذا المعهد الذي يحوي 56. ماكنة تدار بالقوى الكهربائية ومن العملة على 12. . عامل من أفراد الجند و6. . امرأة تشتغل في المعمل كما أن هذا المعمل يشغل مئات من حريم ألفقراء في بيوتهم. أما معمل الأخواج في إزميت فهو من مؤسسات ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان أهمل زمناً طويلاً ثم أعيد فتحه في عهد مولانا السلطان الغازي محمد رشاد خان، وجعل من أعظم المؤسسات الصناعية وفيه خمسة أحواض حديدية على أحدث طراز لأجل غسل الصوف ثم ماكنات التجفيف والتنظيف من الأوساخ والتراب ثم يندف الصوف ويعمل خيوطاً فيحاك أقمشة فاخرة ثم يرسل إلى ماكنات تنظيف الأقمشة من الزوائد وغسلها وتنظيفها من الزيوت وغير ذلك ثم تجفف وتجمع فترسل إلى ماكنة مخصوصة لإزالة الغبار من المنسوج ثم إلى الطي والكبس فيخرج حينئذ جوخاً لطيفاً ويوجد فيه ماكنات

للصباغ من جميع الألوان وإدارة خاصة لأجل مزج الصوف الأبيض بالأسود ليكون بهيئة واحدة وماكنات حديثة لإصلاح الأدوات الحديدية والخشبية إذا احتاج المعمل لإصلاحها وفيه من العملة 5. . عامل من أفراد الجند. ومعامل هركة من مؤسسات ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان وكان يزاد في نطاق توسيعها وانتظام إدارتها في كل دور من الأدوار حتى أصبحت تضاهي المصانع العظيمة وهذا المصنع مشهور بصنع السجاد ألفاخر على اختلاف أنواعه وفي غرف السجاد الموجود فيها مئة وعشرون نولاً للصوف والحرير يشتغل عليها العاملات بكل جد ونشاط وهناك مكنات خشبية لصنع الشريط الحريري المختص بأنواع الأوسمة التي تحسن بها الدولة العلية. وماكنات لصنع الأقمشة الحريرية ألفاخرة من جميع أصنافها وهذه الأقمشة على غاية من الدقة بل تضاهي أقمشة أوربا وتفوقها حسناً ورونقاً ومصانع لصنع قمصان الفانلا والجوارب والزنانير ودائرة خاصة لأجل صباغ الأصواف والحرير من كل أنواعه ومعمل الطربوش بكل أصنافه وقد حاز هذا المعمل 9 ميداليات من معارض عديدة في أوربا تقديراً لمل فاق به غيره من الإبداع في العمل والإتقان في الأشغال. أسست دار الضرب العامرة في زمن ساكن الجنان السلطان أحمد الثالث وأضيف عليها دوائر عديدة في زمن السلطان عبد المجيد خان وأخذت بالتنسيق حتى أصبحت على ما هي عليه الآن من السرعة والانتظام فأول ما شاهد الوفد فيها غرف التحليل والتركيب بحيث تكون العيارات الذهبية والفضية طبق التعديل المطلوب ثم تذويب الذهب في الأفران وفي القوالب الخاصة المركبة من دقيق العظام وبعد الذوبان يصب في قوالب حديدية فتخرج سبائك بطول نصف ذراع وعرض 5 سنتيمترات ثم ترسل إلى ماكنة تمدها زهاء ثلاثة أمتار فإلى أخرى تصقلها وتمدها زهاء خمسة أمتار حتى تصبح بسماكة الليرة وتسلم هذه السبائك بعد ذلك إلى ماكنة تقطعها ليرات بدون نقش فتقطع كل سبيكة ما يعدل 5. . ليرة ثم توضع هذه الليرات في محل خاص فتسير على الموازين المعدة لها فالموزونة تسقط في محل والناقصة في محل آخر ثم يؤتى بالموزونة تماماً فتوضع في آلة النقش فتنقش ليرة عثمانية وتسقط في محل خاص وهكذا في كل 15 دقيقة تنقش كل ماكنة 5. . ليرة عثمانية وهكذا الحال في النصف والربع ليرة ومثلها باقي النقود ألفضية كالريال المحيدي والنصف

والربع والعملة البيضاء (النيكل) كالقرش والنصف والربع. ولكل صنف من العملة ماكنة خاصة. وعامة هذه الأدوات تدار بالقوة الكهربائية بغاية من السرعة، تصنع دار الضرب وتذوب كل يوم 6. . آقة من الذهب وقد صنعت في هذه السنة ثلاثة ملايين من الليرات ويوجد في دار الضرب العامرة من المديرين والمعاونين ورؤساء العملة زهاء 12. عاملاً. هذه بعض إحصائيات ساعد الوقت على التقاطها من الأفواه أثناء زيارة الوفد العلمي ولعل فيها ما ترتاح له النفوس ويخلد في سجل التاريخ ليرى الأولاد والأحفاد كم كان مبلغ الآباء والأجداد من المعالي والأمجاد والحرص على سعادة البلاد والعباد وهناك أمور كثيرة يعد إفشاؤها من الأسرار الحربية لا يتسع لها كتاب وإنما اجتزأنا بما يمكن الإشارة عليه واللبيب تكفيه الإشارة.

نبذة في وصف الأناضول

نبذة في وصف الأناضول عظمة بلادنا واتساعها ينبغي لمن يريد أن يوصف الأناضول أوآسيا الصغرى ومساحتها السطحية خمسمائة ألف وثلاثة آلاف كيلومتر مربع أونحومساحة فرنسا أن يطوفها على الأقل كما طفنا جزءاً منها في السكة الحديدية والمركبات وهذا لا يتيسر في أقل من بضعة أشهر على أقل تعديل ولا يرى الإنسان مع ذلك إلا الطرق العامة الموصلة بين الولايات. ولقد سألت كثيراً ممن طافوا ولايات كثيرة من كبار المأمورين عن مجموعة ما رأى من أرض السلطنة فلم أسقط حتى الآن على رجل رأى الأناضول الشرقي والغربي كله مثلاً ولا على رجل جمع في ذهنه معرفة الشام والحجاز واليمن ونجد والعراق والجزيرة وذلك لترامي أطراف هذه المملكة المحروسة وقلة سككها الحديدية وطرقها المعبدة بالنسبة لمساحتها السطحية. كل ولاية من ولايات السلطنة تبلغ بمساحتها السطحية مساحة مملكتين صغيرتين من ممالك أوروبا فمساحة ولاية أطنة قبل أن يفصل عنها لواء إيج إيل (سلفكه) 39. 9. . كيلومتر مربع وسكانها أقل من أربعمائة ألف في حين تجد مساحة الدانيمارك 38. 8. 2 كيلومتر وسكانها مليونان ونصف ومساحة هولاندا 33 ألف كيلومتر مربع وسكانها نحوخمسة ملايين ونصف ومساحة بلجيكا29. 156 كيلومتر وسكانها زهاء سبعة ملايين وبينما تجد مساحة ولاية قونية 1. 2. 1. . كيلومتر مربع وسكانها 1. 1. . . . . . تجد جمهورية البرتغال92. 346 كيلومتر وسكانها خمسة ملايين ونصف ومساحة سويسرا41. 346 كيلومتر وسكانها نحوأربعة ملايين فالمملكة العثمانية ينقصها والحالة هذه السكان العاملون والخطوط الحديدية والطرق السالكة. آسيا الصغرى يجتاز القطار بعد مدينة حلب قضاء كليس وهو المتاخم لولاية أطنة فيسير فيه نحو خمس ساعات على ما قدرت فتأمل قضاء يقطعه قطار البخار بمثل هذا الزمن. أراضي كليس تشبه سهو ل مصر تربتها جيدة وأشجارها مثمرة ولاسيما الزيتون الذي يزيد في بركتها. متى أتيت على آخر عمل حلب وأشرفت على سهل الإصلاحية من عمل أطنة يتجلى أمامك جبل اللكام الذي يسمى اليوم جزء منه باسم جبل بركت أوكاورطاغ وهو جبل شاهق

كأنه حاجز طبيعي بين أرض الشام وآسيا الصغرى أوحد بين بلاد العرب والثغور كما كانت العرب تطلق عليها هذا الاسم والثغور هي طرسوس وأذنة وملطية والحدث ومرعش والهارونية والكنيسة وعين زربة والمصيصة (مسيس) أوأكثر عمل ولاية أطنة اليوم وربما أدخلوا المصيصة وطرسوس في العواصم والعواصم هي حصون موانع وولاية تحيط بها بين حلب وأنطاكية وقصبتها أنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال فسميت بذلك. بين فروق والشام في هذا الجبل خرق القائمون بتمديد الخط البغدادي أكبر نفق في المملكة العثمانية وثامن نفق بطوله في العالم وهو السمبلون 2. كيلومتراً ويجيء بعده نفق سان غوتار وطوله أقل من ذلك وقد كتب لي الحظ أن ركبت في خط الديكوفيل أي السكة الحديدية الضيقة الموقتة ومررنا من هذا النفق في الليل مع رئيس وفدنا العلمي الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري وثلاثة من رصفائي أرباب الصحف فقط فشاهدنا هناك عالماً يعمل كأنه الجن وقد جهزوه بآخر ما وصل إليه العلم الحديث في فتح الأنفاق وتقريب الأبعاد فتجده مناراً بالكهرباء وفيه آلات لتجديد الهواء وأنابيب لجر المياه وهم الآنن يهذبون من حواشيه ويعقدونه بالحجارة. وهذه الشعبة من الخط البغدادي تنتهي بعد عشرة أشهر كما كان أخبرني المهندسون فيه فلا تبقى غير شعبة وروس التي يعمل فيها الآن وتنتهي بعد سنة ونصف وعندئذ يتصل الخط البغدادي العريض المتقن من حيدر باشا من ضواحي الأستانة إلى حلب فرأس العين والمسافة بين الشهباء ورأس العين 328 كيلومتر نجزت مؤخراً بمعنى أن الخط البغدادي من دار الخلافة إلى بغداد يكون طوله قريباً من طول الخط الحديدي بين باريز والأستانة أي نحوثلاثة آلاف كيلومتر والراكب يسير بين هاتين العاصمتين اثنتين وسبعين ساعة فيطوف قسماً من أرض فرنسا وبلاد سويسرا أوألمانيا وأرض النمسا والمجر بطولهما وبلاد البلقان والروم إيلي. فما أسعد اليوم الذي يركب فيه ابن أدرنة مثلاً ويصل إلى بغداد أوإلى المدينة المنورة أومكة المكرمة إن لم نقل إلى صنعاء في القطار الحديدي مرتاحاً مرفهاً. كان أجدادنا يجتازون المسافة بين دمشق والأستانة في ثلاثين مرحلة

وسنجتازها قريباً في ثلاثة أيام أوأقل فنقطع شطراً من ولاية سوريا وولاية حلب وولاية أطنة وولاية قونية وشطراً من ولاية خداوندكار (بورصة) ولواءي اسكيشهر وأزميد المستقلين ولكم يفتح هذا الخط للبلاد من أبواب السعادة والرزق ويقرب بين أبعادها ويعرف سكانها بعضهم إلى بعض فنخلص من نقل حاصلاتنا على الجمال والبغال والحمير ومن ركوب العجلات المستطيلة المعروفة في الأناضول باسم بايلي وهي من صنع مدينة آماسية المعروفة في القديم بخرشنة أوعجلات (تخنة عربة) التي لا تبقي لراكبها عضواً لا تزعجه مهما كانت الطريق معبدة. سألت صديقاً كان نصب قائم مقام على قاش من أعمال أنطالية من ألوية ولاية قونية مدة حولين كاملين هل زرت مدينة قونية قال: كيف أزورها والمسافة على الراكب من قضائي وهو على ساحل البحر المتوسط إلى قونية عشرون يوماً وهكذا المسافات في الأناضول فإن العشرين والثلاثين بل الأربعين والخمسين يوماً بين ولاية وولاية ولواء وآخر هي من الأمور الغير المستهجنة والولاية السعيدة هي التي ارتبطت مع الولايات المتاخمة لها بطرق عجلات. المملكة العثمانية تحتاج لمائتي مليون ليرة تنشأ فيها خطوط حديدية وطرق عجلات وتجفف البطائح والمستنقعات وتقام لها الخزنات وتطهر الأنهار وتعدن المناجم وتغرس الغابات وعند ذلك لا تشكوولاية أطنة من الغرق ولا ولاية قونية من الشرق ولا غيرها من غير ذلك وتكون بعمرانها ووفرة سكانها كالبلجيك وهولاندا والدانيمارك وسويسرا والبرتغال. قيلقية أومملكة ذوالقدرية ولاية أطنة أوقيلقية كما عرفها القدماء ذات شأن بموقعها الطبيعي والاقتصادي قدروا ما تخرجه من القطن فقط بمليونين ونصف مليون من الليرات وأن قرية درت يول وحدها وسكانها أرمن بلغوا نحوخمسة آلاف نسمة باعت لأوربا في العام الذي قبل هذا ستين مليون برتقالة هذا إلى ما فيها من الحبوب الوفيرة والحيوانات التي تنمو في سهل (جقوراوه) كما تجود الحيوانات في سهو ل المجر والغابات فيها الكثير من الصنوبر والسنديان والزان وولاية من عملها جبل اللكام أوطوروس وفيها من السهو ل التي دونها سهو ل حوران والكرك لتحسدها الممالك وتبغضها على خيراتها كل أمة عاقلة ولذلك طمع

فيها الفاتحون منذ القديم ففتحها ألفرس فالإسكندر فالرومان وأصبحت ساحة حرب بين البيزنطيين والفرس ثم بين البيزنطيين والخلفاء العباسيين الذين فتحوها أوائل حكمهم وكانوا يختلفون إليها ويعنون بإعمارها فأذنة بناها صالح بن علي العباس والهارونية بناها هارون الرشيد العباسي وطرسوس أعمر مدينة قيلقية في القديم والحديث غلب عليها الإفرنج زمن بني أمية إلى أن أخذها منهم أمير المؤمنين المأمون العباسي وبها مات وهو مدفون فيها كما دفن أبوه في طوس بخراسان ثم خرب ولاية أطنة جنكيز خان وتيمورلنك في القرون الوسطى. مناظر ولاية أطنة كلها جميلة لأنها سهلية جبلية ساحلية داخلية فيها من الأنهار سيحان وجيحان وكوصوونهر البردان ومن الجبال سلسلة جبال وروس الجسمية وشعباته الجنوبية وجبال قوزان وبيك بوغا وآلاطاغ وصوماق وكوسه وكلها تأخذ بمجامع القلوب لما حوته من البدائع الطبيعية ومن طرسوس إلى بوزانتي نحوعشر ساعات في العربة. جبال وروس وهنا مضيق يسمونه اليوم (كولك بوغازي) ومعناه مضيق الكيلة كيلة الحبوب وكانت العرب تسميه الدرب أوالدروب ذكره امرؤ القيس ملك الشعر في الجاهلية في شعره لما توجه إلى قيصر الروم وكان مشى معه صاحب يقال له عمروبن قميئة فلما رأى عمر الدرب وهو الحاجز بين بلاد العرب وبلاد العجم بكى جزعاً لفراقه بلاد العرب ودخوله بلاد العجم ففي ذلك قال امرؤ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أونموت فنعذرا أما نحن فابتهجت أنفسنا وأيم الله واطمأنت لما اجتزنا الدرب وعلمنا أننا نركب بعده القطار ولم يمض لنا إلا ساعات معدودة لنبلغ دار الخلافة بهجة الدنيا وعاصمة الإسلام وقرارة الدعة ومدينة المنعة ومعهد الظرف واللطف وبلد الشعر والخيال. إن الدرب أومضيق (كولك بوغازي) هو كما قلنا واد تتخلله الأنهار والجداول ويكسوشجر الأرز نجاده ووهاده على صورة تظنها من هندسة أعظم مهندسي الزراعة لعهدنا وما هو في الحقيقة إلا مما نبت واستطال بنفسه أنت لا تنفك منذ تطأ عتبة جبال وروس تشم أريج شجرها ورندها

وعرارها ولا تسأم من مناظرها لأنها منوعة في تقاطيعها وجمال هندستها بحيث لا تمل العين النظر ولا الأنف الشم ولا الأذن السماع لحفيف الأشجار وتمايل أغصانه وثغاء حملانه وخرير مياهه وأصوات عندليبه وعصفوره. إن من يسمع من بعد وصف (كولك بوغازي) يقول في نفسه ماذا عسى يكون في هذا المضيق وجبال الدنيا كثيرة متشابهة صخور وتلعات وأكمات ومنفرجات وبطون وشيح وقيصوم وسنديان وزان ولكن جبلنا هذا لا يشبه إلا جبل بحال لأن مدبر الأكوان خلقه على غير مثال من الجبال ولون صخوره وأحسن قطعها فمنها الكبير الهائل ومنها الصغير الحقير وتربته حمراء وسوداء وبيضاء ترى تارة في الهضاب طريقاً معبدة من الصم الصلاب أومرصوفة بالتربة الذكية غرست فيها يد القدرة أشجار الأرز غرساً يتخلل الهواء بينها ولا تنبوالعين عنها لعدم نظامها واختلال هندستها وترامي أبعادها وهناك الأشكال الهندسية برمتها فمن تلعة مستطيلة إلى أخرى هرمية وبجانبها ذروة ذات شكل بيضوي وآخر محدود أومربع أوقائم الزوايا أومنفرجها جعل بعضها إلى جانب بعض ومساحتها السطحية متقاربة وكلها مزينة بالأشجار. أنت هنا تجتاز وادياً ولا كالأودية بحيث تعطي الحق لمن قال في القديم ماء ولا كصدأ ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك ولورأى القائل الدرب لقال مضيق ولا كهذا وجبال لا كطوروس. هذه العظمة في الخلق التني تراها ماثلة على أتمها في جبال وروس التي أعجزت ألفاتحين من الأقدمين والمحدثين فكانت كالحاجز الطبيعي الذي لا يرام بين الثغور وبين بلاد الروم عامرة بطبيعتها هندسها ألفاطر وحفها بأنواع البهجة والزينة بحيث لا تملها نفس مهما اكتأبت وتود لوتقضي فيها شطراً من العمر بعيدة عن ضجة العالم وأوهام الخلق وترهات المتمدنين والمتبربرين. . جبال وروس البديعة لقد أعجزت ألفاتحين عن اجتيز مضائقك كما أعجزت الشعراء والمصورين عن رسم بدائعك وخصائصك فما هذا الإبداع الذي عز نظيره في الأصقاع والبقاع. إيه يا منطقة البكم بالشعر ومعجزة المتكلمين في ذكرى فضائلك وفواضلك. إن جبال الألب التي استبت الألباب ببدائعها وجبال الكاريات التي اشتهرت بصياصيها الطبيعية وجبال حملايا المعروفة بسموها هي دونك في جمع كل هذه المعاني ولوهيأ لك ما

تهيأ لتلك من يد صناع تحسن حواشيك وتحسن من أطرافك وتتعهد أزهارك وأشجارك بآخر ما اهتدى إليه العقل البشري من ضروب الصناعة لكنت لعمر الحق معهد اجتماع المصطافين والمرتبعين ومسرح أنس طلاب اللذائذ الطبيعية والصناعية وخزانة ثروة لا هلك ولا ينضب معينها أوتنضب مياه الرافدين دجلة والفرات ولكنه تعالى لا يمنح بلداً كل ما يحتاجه ولا يجمع في شخص كل الصفات والمزايا فسبحان من قسم الخصائص بين البلاد كما قسم الحظوظ بين الجماعات والأفراد. مصنوعات الأناضول في ولاية أطنة صناعات لطيفة من الأقمشة والخام والألاجة والبسط وغيرها ولاسيما في مدينة طرسوس التي فيها معمل للخام أنشأه رجل مصري اسمه راسم بك فيه 12. . عامل كما أن في ولاية قونية يصنع مثل هذه الصنائع وفيها يعمل السجاد. وهاتان الولايتان تخرجان أنوع الحبوب والثمار الطيبة ولاسيما الزيتون ومن ولاية قونية يصدر الأفيون أيضاً والقنب ولكن معظم حاصلاتها من الحبوب فإن سهو لها واسعة جداً تشبه سهو ل بلاد العرب والجبال بعيدة عنها وحاضرتها قونية عاصمة ابن قرمان والسلاجقة ثم عاصمة ابن عثمان الأولي وهي سرة الأناضول وعش التركية وما أظن نفوسها تتجاوز الخمسين ألفاً قال القرماني: إنها مدينة ذات خيرات كثيرة وبساتين وافرة ولها جبل ينزل منه نهر ويدخل البلد من غربيها وبها قبر جلال الدين الرومي الشهير بملاخنكار وقبر صدر الدين القونوي أحد المشايخ الصوفية. وبينما تجد الأبنية في صميم بلاد الأناضول من الطين واللبن تجدها في ولاية بروصة وما والاها من سواحل البحرين الأبيض والأسود القريبة من الأستانة معمولة من الخشب شأن أكثر بيوت دار الخلافة القديمة ولذلك ترى الحريق يسرع إليها ورصفها لا يوازي سرعة عطبها ولكن القوم انتبهوا في العهد الأخير فأصبحت الدور التي تجدد وتعمر بالحجر والقرميد والحجر المطبوخ والآجر وغيره من المواد المتينة الجميلة على أحدث طراز. يكثر العمران في الأناضول وتزيد مدينة السكان على نسبة قرب البلاد من البحر وقربها من دار الملك فكلما سهل الطريق إلى الأستانة تزيد السعة ويتوفر التعليم فأهل ولايتي خداوندكار وآيدين أرقى بمراحل من أهل قونية وأنقرة كما أن أهل سيواس وأرضروم أحط

من أهل أطنة وطرابزون ولسرعة المواصلات اليد الطولى في ذلك فالولاية التي كتب لها أن تصدر حاصلاتها إلى الخارج يأتيها النقد وتتكاثر همم سكانها وتتوفر على الربح فيتعلم بعض أفرادها في المدارس الوسطى والعليا فيكونون رسل المدنية الحديثة ومتعلم واحد في أسرة كبيرة كلها من الأميين يؤثر فيهم وينشلهم من جاهليتهم الجهلاء والولاية المرتبطة بالساحل بخطوط حديدية تكثر السياحة في أهلها والسياحة مدرسة الكبار كما أن المدرسة للصغار. تحس النفس بانبساط عندما تنتهي من ولاية قونية وتدخل في ولاية خداوندكار ولواءي اسكيشهر وإزميت فإن العمران هنا يبدوفي السهل والجبل وتكثر الأنهار والبحيرات والغابات ولا تقل فيما أحسب جبال بروصة وإزميد في عمرانها عن أرقى جبال الأرض عمراناً والصنائع على هذه النسبة حتى أن مصنوعات بروصة الحريرية من أجمل ما حاكه قول نساج وألطف ما طرزته يد صناع يجمع إلى الرخص متانة وجمالاً فحبذا اليوم الذي نتعلم فيه دروساً في الوطنية ونقتصر على مصنوعاتنا الخاصة ونزهد كل الزهد بأقمشة أوروبا ولا نلبس منها ولوأعطيناها مجاناً. بلادنا تخرج الصوف والقطن والحرير والقنب والكتان وغيرها من لوازم الأقمشة للدفء والزينة ومع هذا لا نزال متعلقين بما تصنعه لنا المعامل الغريبة الغربية ونزهد فيما تنتجه مصانع دمشق وحلب وحماه وطرابلس إلخ إن الثوب من الأقمشة الوطنية يكتسي به أحدنا يكون عوناً لأسرة صانعه الذي تعيش بربحه اليوم واليومين فمن لي بأن أرى كبراءنا وخاصتنا يبدأون أولاً ليكونوا قدوة فيلبسون وعيالهم من أقمشتنا الوطنية في الصيف والشتاء. إن جوخ إزميت وحرير بروصة وقماش أنقرة تكفي الآن لحاجاتنا وكمالياتنا فتبقى أموالنا في بلادنا وتنشط صناعنا فتكثر اليد العاملة من نسائنا ورجالنا ونخلص من البطالة فإن رأس البطال معمل الشيطان. التقليد والاقتصاد بعد الحرب ستزيد الدولة ولا شك الرسوم على البضائع الأجنبية فتحمي الصناعات الوطنية حماية حقيقية خصوصاً وقد خلصنا من شر الامتيازات وأصبح الأجنبي يدفع من الرسوم مثل ما يدفع الوطني ولا يحميه من الحقوق قنصله ولا ترجمانه فليت جمعية الاتحاد

والترقي التي حمت الدستور حتى الآن بتضامن أفرادها تصح عزيمتها مذ اليوم الأول فتعاون الحكومة في هذا الشأن كما هو برنامجها وتبين للأهلين بالعمل مقدار ألفوائد التي تنجم عن اقتصارهم على لبس الأقمشة الوطنية مهما كان نوعها كأن يشرع أعضاؤها وكل من ينتمي إليها وعامة المأمورين ونساؤهم وأولادهم بلبس الخام والديما والألأجة والقطنية والحبر التي تعمل في المصانع العثمانية في ولايات الأناضول وسورية والعراق واليمن. والناس مفطورن على التقليد من يعتقدون فيهم العقل والذوق من رؤسائهم ومشايخهم وعمالهم كما أن المغلوب مولع بشعار الغالب في زيه ولباسه وسائر حالاته ونتعاهد بيننا أن نلوي وجوهنا عما يبعث لنا به الإفرنج مهما أرخصوا بضائعهم ونستعيض عما يرسلونه لنا بما صنعنا بأنفسنا وعندها تكثر المعامل بالأدوات الحديثة في أرضنا ونكون بعد عشر أوعشرين سنة كالغربيين أمة زراعية صناعية فقد نخرت السلع الأوروبية عظامنا وعرقت لحمنا وما ذلك إلا من ضعف مداركنا في المسائل الاقتصادية التي بها حياة الأمم اليوم. مسألة اللغة رأيت في طرسوس وأذنة أمراً سرني وهو أن معظم أهلها يتكلمون باللغتين التركية والعربية مع أن بلادهم تركية على ما هو عرفنا فحبذا يوم نرى أهل العنصرين الكبيرين في هذه السلطنة يسيران على طريقة أهل طرسوس وأطنة فيتعلم العربي التركية على نحوما يتعلم التركي العربية قال أحد كبار عمال السلطنة ممن تولى الولايات في بلاد الترك وبلاد العرب أن أحسن حل لمسألة اللسان الاجتماعية أن يتترك العرب ويتعرب الأتراك أي أن يتعلم أهل كل عنصر لسان العنصر الآخر إذ لا مناص لكل منهما من هذا الأمر فالعربية لسان دين الإسلام وتاريخ المسلمين والتركية لغة السياسة والإدارة فإذا وقفت جمعية الاتحاد إلى إنفاذ هذه الخطة في الولايات جمعاء فتعلم العربي بعد إتقانه للغته التركية كما تعلم التركي بعد إتقان لغته العربية تكون قد عملت عملاً معقولاً في باب سياسة العناصر العثمانية كما أن الواجب علينا إذا أردنا أن ننافس الغربي في صناعاته ومتاجره وعلومه أن يتعلم كل فرد منا لغة أولغتين من لغات العلم والمدنية وبعبارة أخرى الألمانية والفرنسية والإنكليزية لغات الحضارة الحديثة لهذا العهد وأكثر ألسن الأمم انتشاراً. أنا لم أر في الأناضول شيئاً يقال له عرب وترك بل رأيت أخواني الترك يقدسون ابن

العرب ويتبركون به رأيتهم مثل قومي يقرون الضيفان ويحبون مكارم الأخلاق ويغلب عليهم التدين والتمسك بالفضائل والمناغاة بذكرى الآباء والأجداد رأيتهم لا يفرقون بين أهل الدين الواحد والعلم الواحد والتاريخ الواحد ولوأضيفت إلى هذه الحسنات معرفة اللسان العربي كما أضيفت إلينا معرفة اللسان التركي لذهب كل ما نتوهمه من فرق بين أكبر عناصر السلطة المحبوبة. ولعل رجال الحل والعقد يجعلون هذه القضية نصب أعينهم بعد الحرب فيوسدون أمر المعارف إلى أناس جبلت عليها نفوسهم وهضموا ما تعلموا وعرفوا من أين تؤكل الكتف لئلا يسيروا على قاعدة من جهل شيئاً عاداه. فأعظم بلايانا جهلنا وأعظم أنواع جهلنا أن يجهل أحدنا من هو أخوه وما هو محيطه وزمانه.

حرب القرن العشرين

حرب القرن العشرين دم صبغ الثرى أم أرجوان ... وسد الأفق سحب أم دخان وشهب في الفضا انتشرت تهاوي ... كما انتثرت من العقد الجمان وعرس ما تهادى الناس فيه ... المسرة والهنا أم مهرجان وحرب في السما والأرض قامت ... لها سوق بها نفذ الطعان أجل يوم تداعى الناس فيه ... لملحمة بها افتقد الجنان فليس يرى بها إلا دماء ... وأعناق تقطع أوبنان وأشلاء يفصلها حسام ... وأكباد يخيط بها سنان أرانا الهول لم يشبهه هو ل ... زمان ليس يشبهه زمان فللحرب الزبون به اعتزاز ... ولكن فيه للسلم امتهان به جبن الكمي كما تسامى ... على البطل الكمي به الجبان وأفحم خططه البلغاء حتى ... جفا اللسن البليغ به البيان وعدن به الأوانس من قواف ... أوابد لا يراض لها حران وكم هجر الصهيل به حصان ... ومزقت الحجاب به حصان وفي الغبراء قامت معمعان ... وفي الخضراء قامت معمعان وجن الناس في طعن وضرب ... كأن الناس ليس لهم جنان وقد ألغوا لظي الهيجاء حتى ... كأن لظى معاركها جنان ونصل السيف تصقله قيون ... لهم كالعود تجلوه القيان كأن الحرب معبود فنسر ... له الخطي والغصب المدان كان معارك الهيجاء مصلى ... وهمهمة الرجال بها أذان ولاذ المالكون بسقي جو ... وماء تستسر وتستبان وفيها الأنس قد برزت لأنس ... وفيها قد سطا بالجان جان وفي رهج الكفاح الشمس غابت ... وفي البارود غاب الزبرقان تلاعب في كلى وهام ... قناً وظبى وألحانا وحان كأن نفوسنا أكر دحاها ... لعبث في ألفضاء الصولجان زمان كل ما فيه هزال ... خلا أن الخطوب به سمان

هو أن كل عيش فيه حتى ... هو أنا والهواء به هو أن كأن له ديوناً ليس تقضي ... وأنفسنا على الدين الرهان نقاد بحكمه طوعاً وكرهاً ... وما غير الهوان لنا عنان وللعقل الذكي به اعتقال ... وللمال الصفي به احتجان ويخطئ قصده ذواللب فيه ... ويدرك ما يحاوله الهدان وبكر للحوادث جاء فيها ... لها بنفوسنا حرب عوان فلم تر قط عين الدهر حرباً ... تماثلها ولا بصر الزمان عجائبها تطيش بها عقول ... وهن بكل حادثة رزان فدع أثراً يكذبه عيان ... وخذ خبراً يصدقه العيان إذا خاض الوغى دب وحوت ... ونسر قل متى يلفى الأمان تفانى الناس إرهاقاً وقتلاً ... ومن هذين لم يخل مكان وكم عطف (الهلال) على البرايا ... وما أجدى التعطف والحنان بدا بدراً ومذ ساموه نقصاً ... تعطف مثل ما انعطف السنان تألبت الملوك على مليك ... تدين له الملوك ولا يدان وإن تعاون الأملاك جهل ... على ملك بخالقه يعان سرت بفيالق (الحلفاء) روح ... بها ضعف العدو وما استكانوا فروا (للاتفاق) هشيم جمع ... كما يذري على الريح الدخان تبدد شملهم تبديد عقد ... تبدده الولائد والحسان إذا جهلوا لسان الحرب يوماً ... فما غير البنادق ترجمان وللألمان فيها معجزات ... بمحكم أيها الدنيا تزان لهم فيها كما في العلم نجم ... له في كل محمدة قران مشوا فيها بكل قريع حرب ... يخف إذا مشى فيها إبان لقد رضعوا ثدي الحرب حتى ... كأن دم الكماة لهم لبان إذا خفقت بنود في الثريا ... فنسرهم هناك له معان فسل فالكاربات تجيبك عنهم ... بأنهم الجحاجحة الرزان

وفي فرسوفيا نبأ عظيم ... لهم ترويه ألسن واللقان وهل ألفرس كانت في الصياصي ... من الألمان حوزتها تصان إذا نزل القضاء فلا حصون ... مشيدة تفيد ولا حصان ولولا بأسهم لم يروا رلو ... عجائبها ولم ينطق لسان وأصدق ما روى عنها لسان ... المدافع والمثقفة اللدان كأن حصونها كانت كعاباً ... محجبة ففارقها الصيان مشوا والموت في حلف وثيق ... وتدمير الحصون له ضمان أسلمهم علوم واقتصاد ... وحربهم فتوح واضطعان أم التمسوا الأمان من المنايا ... وشنات المنايا والأمان فخاضوا الحرب وهي لهم سلام ... وشبوا النار وهي لهم جنان أعصر (الكهرباء) حفظت عهداً ... ولكن فيه أهل العصر خانوا أضأت لهم طريق العز عفواً ... فهانوا إذ بغايته استهانوا أتلك نتائج (العشرين قرناً) ... فنون للفناء بها افتنان إذا ترضى به توراة موسى ... وإنجيل ابن مريم والقرآن وكم بسياسة الغربي أضحى ... لأهل الشرق في الغرب افتتان ما هي لووعوا إلا خداع ... وكذب أورياء أورهان إذا لأن السياسيون قولاً ... فما لان ألفعال ولا استلانوا روى التاريخ أهوالاً ولكن ... كهذي الحرب لم يرو الزمان النبطية (جبل عامل): سليمان ظاهر

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات الرحيق المختوم في المنثور والمنظوم. تأليف السيد محسن الحسيني العاملي طبع في المطبعة الوطنية بدمشق سنة 1332 ص 426 هو كتاب حوى شعر هذا المؤلف ونثره قدم له مقدمة في منافع الشعر قال فيها: إنه صقيل الأذهان وزينة الإنسان وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشعر واستنشده وارتاح له وأجاز عليه وعفا عن المجرمين بسببه ونظم أمير المؤمنين عليه السلام من الأشعار ما هو مشهور معلوم في كتب السير والآثار وإن كان الديوان المنسوب إليه لم يصح كونه من نظمه بل علم كون بعضه ليس من نظمه عليه السلام ونظم غيره من الصحابة أيضاً كما نظم العلماء والفضلاء وحسبك بالسيدين المرتضى والرضي رضي الله عنهما وما لهما من جلالة القدر والمكانة العظمى في العلم وديوان الرضي مشهور وديوان المرتضى في عدة مجلدات. . . وورد في أخبار أهل البيت عليهم السلام من الحث والثواب على رثائهم ومدحهم بالأشعار ما هو مشهور إلى غير ذلك مما يدل على أن الشعر معدود في ألفضائل. ومن شعر المؤلف الشاعر في القطار الحديدي: سرت بنا الغيطان وإلا كما ... تسابق الريح مهما هب أونسما بزلاء ليس لها رحل ولا قتب ... ولا زمام ولا شدوا لها حزما من السوابق في المضمار ما حملت ... سرجاً ولا مضغت في دهرها اللجما تخب طوراً وطوراً سيرها رمل ... وتارة تسبق السيل الذي دهما ذلولة المتن تسري طوع سائقها ... بلا شعور ولم تفهم له كلما يغدو القريب بعيداً إذ نفارقه ... وإذ تؤم بعيداً يغتدي أمما تغدو بقطر وتمسي في سواه وفي ... سواهما لمراسيها الصباح رمى عجماء ناطقة صماء سامعة ... فأعجب لعجماء تحوي السمع والصمما

من الجماد غدت لكن سرعتها ... نظيرها في ذوات الروج ما علما ومن حديد لقد أمست محجتها ... وجسمها من حديد عاد ملتئما تطير مسرعة من غير أجنحة ... تمشي وما استعملت في سيرها قدما تمشي على عجل مشياً على عجل ... كأنها السيل من فوق الزبى هجما تظن غضبى وما أن مسها غضب ... وذات داء وما أن صادفت ألماً تطبق الأرض من أصواتها زجلاً ... ولم تكن حركت عند الصراخ فماً والماء في جوفها تغلي مراجله ... والنار قد ألهبت من تحته ضرما وللبخار غدا في جوفها زجل ... وجوفها أبداً منه لقد فعما تظل تزفر إن جد المسير بها ... وقلبها يقذف النيران والحمما كأنها ملئت غيظاً واحتملت ... غماً وما عرفت غيظاً ولا غمما تنساب كالأفعوان الصل صادفه ... من يختشيه فولى عنه منهزما ما أن رأينا جبالاً قبلها قطعت ... كالبرق عرض الفلا تستصغر الهمما إن فارقت منزلاً أوقاربته غدت ... تصيح معلمة من لم يكن علما وقال في الحكم والمواعظ: لعمرك ليس العلم بالفرو والقبا ... وبالكم في عرض السموات والأرض وبالندب المسدول تحت عمامة ... تسد قضاء الجو بالطول والعرض ولا بإشارات الأكف كأنما ... يريد بها الأفلاك في البسط والقبض ولكنه قلب حفيظ ومسمع ... سميع وطرف قد جفا طيب الغمض إذا لم يزن علم ألفتى بتواضع ... وعقل وحفظ للنوافل والفرض فللجهل خير للفتى من علومه ... إذا لم تكن يوماً إلى عمل تقضي وهذا الديوان يدور كسائر الدواوين أوأكثرها على المديح والتقريظ والغزل والنسيب وعلى الشيب والتهاني والمراسلات والعتاب والرثاء والحماسة والحكم والمواعظ والآداب والمناجاة وشكوى الزمان والهجاء والصفات والمعميات والألغاز والملح والتاريخ والحنين إلى الأهل والأوطان، ومنثوره مسجوع كنثر أهل القرن الحادي عشر والثاني عشر ينظر فيه إلى الألفاظ أكثر من المعاني وقد ختم ديوانه بترجمة حاله بنفسه ترجمة طويلة ذكر فيها

عائلته ومنشأه وأساتذته وإجازاته وما مدح به من القصائد فجاءت وحدها في 66 صفحة ومعظم الديوان يدور في الحقيقة على مدح الرسول وآل البيت وأئمة الشيعة كأن قصد المؤلف الثواب على ذلك. البعثة العلمية إلى دار الخلافة الإسلامية. تأليف محمد كرد علي صاحب المقتبس ومحمد الباقر صاحب البلاغ وعبد الباسط الأنسي صاحب الإقبال وحسين الحبال صاحب أبابيل. طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1334 - 1916 ص 296 ارتأت الحكومة في السنة الماضية إرسال وفد من علماء سورية وفلسطين ووجهائها إلى دار الخلافة ليزوروا جناق قلعة ويشاهدوا ما آتاه أبطال العثمانيين من الخوارق في الدفاع عن جزيرة كليبولي الذي هو في الحقيقة دفاع عن الأستانة نفسها فسافر الوفد مؤلفاً من 31 رجلاً وفيهم كثير من المفاتي والفقهاء والشعراء وأرباب الصحافة اختار بعضهم أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع المخيم في ربوع الشام وناظر البحرية وبعضهم انتخبتهم الولايات ووقع الاختيار على الشيخ أسعد الشقيري رئيساً للوفد لكفاءته العلمية وتفرد بالخطابة في اللغتين العربية والتركية فقضى الوفد شهرين في الذهاب والإياب والمقام في دار السلطنة ودار الحرب وقرر أرباب الصحف المومأ إليهم برئاسة رئيس الوفدان يؤلفوا رحلة يذكرون فيها ما لقيه الوفد من العناية وما شاهد من عظمة الدولة وقوتها وقوة الدفاع في جناق القلعة وما ثأثرت به نفوس الخطباء والشعراء من أفراده وفاض على ألسنتهم نثرا ونظماً وما أقيم لهم من المآدب ودار فيها من الخطب. وقد عهد أرباب الصحف إلى صاحب المقتبس أن يؤلف هذه الرحلة فنسجها ونشرت وقد أوردنا في هذا الجزء نموذجاً منها مقالة بعض معامل الدولة ونبذة في وصف الأناضول وسنورد نموذجاً من شعرها. وقد صدر الكتاب برسم أحمد جمال باشا وفيه صورة الوفد في نظارة البحرية وصورة الرئيس والهيئة التحريرية. الرحلة الأنورية

إلى الأصقاع الحجازية والشامية تأليف محمد كرد علي صاحب المقتبس. طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1334 - 1916 ص 3. 2 زار أنور باشا وكيل القائد الأعظم وناظر البحرية ربوع الشام والحجاز منذ أشهر ولم يسبق لناظر في مثل مركزه العظيم أن بروز البلاد ويتفقد أحوال الجيش والرعية فضممنا ما تفرق من أخبار رحلته وما قيل من التنويه بأفضاله على الدولة والملة فجاءت الرحلة كتاب أدب ومحاضرة وخطب حوى نموذجاً من شعر الشعراء وخطب الخطباء في هذا العصر وهذا الدور تاركين لأقلام من كتبوا وخطبوا في هذا المجال حريتهم فإن نقل الشيء على حقيقته أدعى إلى تصور كل قائل بقوله فتتمثل للأنسال القادمة حالة عصرنا ومبلغ أهله من الأفكار والآداب وقد أوردنا ما قالته الصحف على اختلاف لغاتها بحرفه وأشفعناه بترجمته إلى اللسان العربي والكتاب مصدر بصورة صاحب الرحلة أنور باشا وفيه عدة رسوم تمثله وتمثل زميله أحمد جمال باشا في القدس الشريف تحت قوس النصر وفي الكلية الصلاحية في القدس وفي المسجد الأقصى والحرم القدسي وفي استعراض الجند في بئر السبع. السنة الثانية للحرب المركزية هي كراسة نشرتها إدارة جورنال بيروت سنة 1916 وفيها خلاصة ما نقله البرق من الحوادث عن ساحات الحرب المختلفة مما يدخل في سجلات التاريخ وقد قدم لها حليم بك حرفوش أحد محرري تلك الجريدة ألفرنسية بلغتها مقدمة لطيفة ختمها بلفظ الصلح في السنة الثالثة. الرسائل العصرية تأليف بطرس البستاني. طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 191. ص 344 أجاد صديقنا مؤلف هذا الكتاب في مجموعته هذه التي حوت في مطاويها رسائل في عامة

الموضوعات المألوفة في فن التراسل وقد أجاد كل الإجادة في تعريف المراسلة وأقسامها وأحوالها وطرقها مما لم يترك بعده مقالاً لقائل بعبارات من السهل الممتنع خالية من الحشو والتعقيد حالية بالسلاسة والرشاقة وقد اختار نموذجان من الرسائل منوعة ليتخرج بها الطالب فجاء كتابه من أوعى ما ألف في موضوعه دليل الخبرة في أحوال الطلاب وما ينبغي لهم للنبوغ في الإنشاء فنشكر المؤلف على كتابه الممتع وترجوأن يوفق إلى نشر أمثاله مما يفيد الطلاب والآداب. آداب المراسلة تأليف الخوري بطرس البستاني طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1913ص 147 كتاب التلميذ هو مختصر في فن الإنشاء على طريقة السؤال والجواب ليتأتي للأحداث استظهارها وفيه نموذجان من الرسائل يصح للمبتدئ الأخذ بها والتطريس على منوالها. الفلسفة النظرية أوعلم الحكمة البشرية: تأليف الكردينال مرسيه رئيس أساقفة مالين في بلجيكا. عني بنقله إلى العربية وتعليق حواشيه الخوري أسقف نعمة الله أبي كرم الماروني رئيس المدرسة المارونية في رومية. طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 191. وهو في ستة أجزاء لا تقل عن 15. . صفحة. أهدتنا إدارة المطبعة العلمية هذا الكتاب وهو في الفلسفة المنطبقة مع روح الكثلكة وفيه ردود كثيرة على أصحاب الفلسفة الحسية من الماديين وغيرهم وقد تصفحنا جانباً منه فرأينا بعض الغموض في بعض صفحاته وما ندري إن كان ناشئاً من الترجمة أومن الأصل الذي فيه لبس وإشكال ومعان لم يحسن مؤلفها الأول تأديتها بألفاظ مفهومة وتقريبها من عقول القراء وقد قدم المترجم مقدمة نحو95 صفحة قال في آخرها وإنني اصطلحت

على بعض ألفاظ نقلتها عن أصل وضعها للدلالة على معان علمية حديثة أومذاهب جديدة لم أجد لها دلالة في لغتنا العربية لمسوغ ملابسة بين المعنى الوضعي والاصطلاحي كما هو شأن المؤلفين والمترجمين في كل اللغات وليس فوات مثل هذه الدلالة الجديدة نقصاً منحصراً في لغتنا العربية إنما هو شامل لكل الألسنة المستعملة بين الناس لأن واضعي اللغات تقصر بهم المدارك عن استغراق كل المعاني الموجودة والممكنة ويمتنع عليهم ضبطها في دلالات اللفظ على أن اللفظ وإن كان محدوداً بالفعل فلا يحبس قوته حد بدليل توسع نطاق الذهن بالممارسة ودوام تقدم العلوم تقدماً يزيد مع الأيام والأعصر حتى دهش العقل نفسه من سموترقيه وهو لا يزال يرغب فيه ويرتاده يوماً فيوماً بدافع نزعته ألفطرية. ولعل هذا النقص في الوضع هو كان السبب في توسيع التجوز والاستعارة في الكلام ثم في الاصطلاحات التي يسمونها الاصطلاحات الخاصة الرائج استعمالها في كل الألسن بيد أن هذا أيضاً لم يكن كافياً لسد الثلمة وقضاء اللبانة فكم من المعاني تبقى شاردة عن مصادر الألفاظ الوضعية والمجازية والإستعارية والاصطلاحية بالاصطلاح الخاص المستعمل فهذا الاختبار اليومي يشهد بشدة ما يقاسيه المؤلف والمترجم من عناء تقليب المعاجم وتصفح صحائف أهل اللغة وفرك جبهة الذاكرة فلا ينشد ضالته بل يعود حابط الجد والقلب شيق متطلع إلى ما يرى من بديع المعاني لامعة في فضاء ألفكر يشرئب عبثاً إلى اصطيادها بشراك اللفظ الواهية وعليه فإنك ترى علماء الغرب والمصنفين قد لجأوا إلى حيل النحت في الألفاظ وأكثر ما يكون هذا النحت عندهم من اللغة الإغريقية لتأصلها من أصل وضعها إلى بناء الكلمة الواحدة من ألفاظ كثيرة دالة وعدم حصر الأسماء في أوزان قياسية لا تتجاوزها فكأنما هذه الحلقة قد خلقت ينبوعاً للألفاظ العلمية في كل عصر يستقي من فيضه المؤلف والمترجم هذا وما كان أجدر بواضعي قواعد اللغات وخصوصاً بأئمة لغتنا العربية أن يصلحوا على طريقة يتهيأ لهم بها سد خلل الوضع والقيام بما لا يفي به من المجاز والاستعارة والكناية وذلك مثلاً بأن يسوغوا ما تسوغه اليونانية من النحت والتركيب رابطين قاعدة عامة يكون النحت بها قياساً مصطلحاً عليه فيستعمله المصنف أوالمترجم بلا حرج ويفهمه المطالع اللبيب بقليل من الإشارة ويعلق بحافظته لأنه مركب من ألفاظ يأنسها هي من لغته. وليس النحت بدعة في العربية ولا منكراً منه وله اسم عربي

وورد عليه أمثلة إلا أنهم حصروا شمول فوائده في حيز ضيق ومثل مسماه لعل ذلك لأنه لم يكن لهم حاجة ماسة إلى أكثر كما هي الحال في عصرنا فما بال أئمة لغتنا اليوم لا ينشطون إلى تلافي هذا الخلل وتدارك هذا النقص يتخذون مثال الأجداد في النحت مع زيادة قوانين يترتب عليها وشروط يتقيد بها فهم إذا فعلوا يكفون أبناء جلدتهم المؤلفين والمترجمين مؤونة الكد وعناء الطلب العقيم في إيجاد ألفاظ جديدة قد لا تكون في محلها في مزج خالص كلامهم العربي بغريب الأعجمي أهو عار علينا وحط من مقام لغتنا الشريفة ومن قدر الأجداد الذين برزوا في أيامهم أن نبقى ساهين عن هذا الأمر الجليل مغضين الطرف عن قصور في لساننا مع توقد الذكاء في فؤادنا مما لا ينكره علينا عليم وحولنا من كل جانب قوم يفصحون عن المعاني الجديدة والعلوم الحديثة بألفاظ منحوتة يفهمها خاصتهم وعامتهم وهي وإن كانت ليست من أوضاع لغاتهم مأنوسة عندهم وغير أجنبية عنهم لمزاولتهم عموماً لغة الإغريق ثم لملابستها لألسنتهم. معالم الكتابة ومغانم الإصابة إنشاء عبد الرحمن بن علي بن شيث القرشي عني بنشره وتعليق حواشيه الخوري قسطنطين الباشا المخلصي وطبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة1913. هذا كتاب جليل تشكر الآداب العربية ناشره الفاضل على إحيائه بالطبع وتعليق حواش على بعض متونه. أما المؤلف فقد استدل الناشر أنه كان في القرن السادس من الهجرة في زمان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي وأخيه الملك العادل وذكر له أنه كان مصري المولد استوطن القدس وكان كاتباً في ديوان الإنشاء كما يظهر من نفس كاتبه الذي أخذه ناشره عن أصل مخطوط محفوظ في مكتبة دير المخلص في لبنان في مجموعة خطية تشتمل أيضاً على كتابين ناقصين وهو في صدرها لم يذكر ناسخه اسمه ولا تاريخ اسمه لكن الغالب فيما يرى من خطه أنه كتب في آخر القرن السادس أوالسابع من الهجرة وربما كان بخط المؤلف وقد تقلبت هذه النسخة بين أيدي كثيرين وعلق علها غير واحد. وقد وقع هذا المختصر في 192 صفحة وهو فيما يجب تقديمه ويتعين على الكاتب لزومه في آداب كتاب الملوك وأركان الدولة وفي طبقات التراجم وأوائل الكتب وما يكون به

التخاطب بين المتكاتبين على مقدارهما وذكر وضع الخط وحروفه وبري القلم وإمساكه وفي البلاغة وما يتصل بها وفي ألفاظ يقوم بعضها مقام بعض وفي الأمثال التي يدمجها الكاتب في كلامه ويستشهد بها وفيما لا بد للكاتب من النظر فيه والتحرز منه وكثيراً ما يسقط فيه الكاتب وهنا نحث كل متأدب على اقتناء هذا الأثر النفيس للأخذ من مضامينه والدمج على طريقته في الإنشاء العربي المتين والإيجاز اللطيف المرغوب فيه.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار المكرر يحلو جاءنا من الأمير شكيب أرسلان ما يأتي: قد نقلتم عن (الشرق) مقالتي في صناعة السكر في الشرق واشتهار بلاد فلسطين بها وما ذكره ياقوت الحموي عن زراعة قصب السكر في غور بيسان وصناعته في تلك الأرجاء إلى غير ذلك. وأزيدكم الآن برهاناً آخر وهو أنه وجدت في طرف أريحا الغربي آثار ثلاث معاصر للسكر مما يعزز هذه الحقيقة ويقوي الحجة على أهل زماننا هذا في إهمالهم زراعة السكر وعمله في بلاد كانت منذ مئات من السنين معدنة ومخزنة. وأزيدكم أيضاً برهاناً آخر على عناية المسلمين بهذه الزراعة وتلك الصناعة وإن كان في جهة المغرب فالإسلام عالم واحد فأقول ورد في كتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى عند ذكر المنصور السعدي واسطة عقد الملوك السعديين أصحاب فاس، مراكش أنه بنى قصر البديع المشهور في حاضرة مراكش وابتدأ ببنائه في شوال سنة ست وثمانين وتسعمئة واتصل العمل فيه إلى سنة 1. . 2 ولم يتخلد ذلك ألفترة، قال: وحشد له الصناع حتى من بلاد الإفرنجة فكان يجتمع كل يوم فيه من أرباب الصنائع ومهرة الحكماء خلقاً عظيم حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم ونفائس أعلافهم وجلب له الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزناً بوزن على ما قيل وكان المنصور قد اتخذ معاصر السكر ببلاد حاقة وشوشاوة وغيرهما حسبما ذكره الفشتالي رحمه الله في المناهل هذا وقد أدرك أهل سوريا الآن ما فرطوا من أمر عمل السكر وقصروا به عن أسلافهم وعرفوا ما فاتهم من الأرباح الطائلة بعدم وجود معمل واحد أومعملين للسكر في بلادهم في هذا العصر الحاضر الذي نشأ عن الحرب فضلاً عما اضطر بالأجسام من فقد السكر وغلاء الحلوى لأنه من المقرر أن الأمزجة تلتاث بانقطاعها عن الحلويات ولا شك أن الأمراض التي نشأت في هاتين العامين كان من جملة أسبابها قلة السكر وأجدر بهذه البلاد أن تنبهها الحرب العامة إلى استدراك فرطات كثيرة من جملتها هذه. الحرب ومنسوب المياه كتب أحد مهندسي برلين في عام 1897 كتاباً سماه أدوار الحرب والاجتهاد العقلي في حياة

الشعوب تنبئ فيه أن هذا الدور الذي نحن الآن فيه يكون فيه أدهش الحروب مستنداً في دعواه على منسوب مياه الأرض فإنها تختلف بموجب قانون لا يتغير بين طرفين متباينين: ألفيضانات الكثيرة واليبوسة والجفاف. وللوصول من طرف إلى آخر يقتضي من الزمان 11. سنوات أي نصف الزمن اللازم وهو 22. سنة التي تتم فيها حركات بعد الإبرة من خط نصف النهار وتتبدل الحرارة في الأقاليم الشمالية وهذا الدور من 11. سنين ينقسم إلى أربعة أدوار مختلفة كل دور 28 سنة اثنان منها تمثل الأكثرية واثنان منها تمثل الأقلية فأدوار الجفاف على حسب رأي المهندس المومأ إليه تولد الحرب وأدوار إدرار المياه تبشر الإنسانية بدور ارتقاء في المدنية والدور بحد ذاته يختلف طولاً وقصراً في الحرب والمدنية على معدل حدود الدور المقابل لها فقد حدث دور جاف عظيم من سنة 1737 إلى 1765 وكان ذلك عهد الحروب، فر بدر بك الكبير واتبع ذلك الدور من سنة 1765 إلى 1793 وقد علا منسوب الماء كثيراً فكان فيه العصر الذهبي في الآداب والارتقاء العام لراحة الإنسانية وعلى العكس في الدور التالي بين 1693 و1821 وقد بلغ الجفاف حده فيه فجرت في خلاله الحرب العامة على عهد نابليون ومن سنة 1821 - 1848 وهو عهد رطوبة كان ارتقاء الحضارة على قدم نشاط يسير في ظل السلام واتبع هذا الدور عهد الجفاف فوقعت فيه حروب 1848 - 1876 ثم جاء دور الرطوبة من سنة 1876 - 19. 4 وفيه تمت مدهشات الارتقاء الذي نعرفه وقد تنبأ المهندس المومأ إليه سنة 1897 أن عهد الجفاف من سنة 19. 4 - 1932 سيكون طافحاً بالحوادث ولكنها تأتي على شدتها بين سنتي 191. - 192. فحرب روسيا واليابان وحرب البلقان والحرب العامة الحالية تؤيد كلام هذا المتنبي. ومن رأيه أن عهد الرطوبة يبدأ سنة 1932 وينتهي سنة 196. فيكون دور علم وحضارة ولكنه لا يفوق ما وقع من أمثاله بين سنتي 1876 - 19. 4 ومن سنة 196. إلى 1988 يبدأ أيضاً دور الحروب وتبقى مع ذلك في حد معين وسط فتأمل. مدارسنا ومدارسهم كتب خالد ضيا بك الكاتب العثماني الشهير مقالة في إحدى صحف الأستانة قال فيها: أن أمور المعارف في ألمانيا معدودة من الشؤون الداخلية وعليه فإن هذه الإمبراطورية

العظيمة المؤلفة من ولايات مختلفة تختلف إدارة مدارسها باختلاف ولاياتها فلكل منها تنسيق وترتيب يخالف تنسيق المدارس في ولاية أخرى ولكنا بقطع النظر عن الأمور ألفرعية نجد أن المدارس كلها في هذه الإمبراطورية ترجع إلى غرض واحد وتتبع غاية فذة ولا ينتظر من مملكة مؤلفة من ولايات مختلفة تساوت من حيث العلم والمدنية واتحدت أفكارها الحيوية والقومية غير هذه النتيجة. إن درجات المدارس في ألمانيا لا تختلف عن درجاتها عندنا إلا اختلافاً طفيفاً. المدارس الابتدائية فالإعدادية فالعالية ومتى جاز التلميذ هذه الثلاث سلاسل الكبيرة (وهو عندنا في درجة التخرج من المدارس السلطانية) فإما أن يبرز إلى ميدان الحياة تواً وإما (إن كان قصده دوام التحصيل) أن يقصد إلى مدارس الأخصّاء حيث يجد أمام المدارس العليا للأمور التطبيقية وشعبات دور ألفن المختلفة مفتحة الأبواب. دققت كثيراً في مجتازي هذه السلاسل المدرسية الثلاث وبحثت عن السبب الأولي في ألفائدة العظيمة المتأتية عن هذه المدارس فتبين لي أن السبب في ذلك لا كتب التدريس ولا الأساتذة ولا التلاميذ وإنما هو أصول التدريس وإن المدروسين آنفاً من حيث المكانة هم في الدرجة الثانية. وبعد أن بحث في كتب التدريس الألمانية المكملة المنقحة الخالية من الحشو والأطناب والمتبعة كلها في سلسلة التدريس غاية واحدة قال: أن أول ما يلفت النظر في هذه المدارس هو الارتباط والمحبة بين التلامذة والمعلمين أول ما يتبادر إلى الذهن عندنا من لفظة المعلم أنه (يأتي ساعة كذا ويذهب ساعة كذا ويأخذ أجرة كذا) أما عند الألمان فالمعلم مع تلميذه كالأب مع ابنه والمعلم عندهم لا يعرف اسم التلميذ فقط بل يعرف مزاياه ونقائصه وخاصيات مزاجه وقابلية ذكائه ويعرف أيضاً النقط المحتاجة إلى الإصلاح والتمريض إلى الإصلاح والتمريض في التلميذ فيوجه نحوها عنايته ويبذل وسعه في تقويمها. فالتلميذ عندهم بين يدي المعلم أشبه بالمريض تمضي عليه مدة طويلة تحت مراقبة الطبيب وتدقيقه وإليك أصول التدريس عندنا: بعد أن يصعد المعلم منصة التدريس يشير إلى أحد التلامذة بالقيام فيقول مثلاً مخاطباً التلميذ برقمه 166 دور سلطنة السلطان سليم الأول فإما

أن يأخذ التلميذ بسرد صحيفة أوصحيفتين مما بقي في ذهنه من الحفظ متلجلجاً متلعثماً يطلب مساعدة حافظته له ومداخلتها في الأمر وإما أن ينقطع من أول الأمر فيشير إليه المعلم بالجلوس وينهض غيره قائلاً 275 وهكذا تمضي مدة الدرس بين مختلف الأرقام أما التلامذة غير المعرضين للأسئلة فإما أن يشتغلوا بحفظ ما أهملوه من هذا الدرس وعندها لا نر إلا أعيناً مغمضة وشفاهاً تهتز وتضطرب وإما أن يخط هذا رسماً ويبري ذلك قلماً ويكتب ذلك مكتوباً. أما الحال في ألمانيا فليس على هذا المنوال وقد زار الكاتب ودخل إلى أحد الصفوف أثناء درس التاريخ فقال: إن التلاميذ بعد أن سلموا علينا للجلوس على مقاعدهم وأعينهم محدقة في معلمهم فقط ينتظرون ولم يكن أمامهم كتاب ولا ورق. ذكر المعلم موضوع درسه في جملة واحدة والموضوع هو هذاتبسيط دولة بروسيا والأسرة المالكة وبعد أن مكث ثانية أورد سؤالاً في هذا الموضوع فرفع التلاميذ أيديهم وكان هذا الصنف بأجمعه مستعداً لإعطاء الجواب ولكن المعلم أشار إلى أحدهم باسمه فنهض التلميذ حالاً وأجاب عن السؤال بنحو صحيفة مما كان حفظه وتعلمه ولكن لم يكن ما أورده تكراراً لعبارة كتاب معين ربما ينسى اليوم أوغداً وربما يحفظها دون أن يعرف معناها بل كان الجواب الذي أورده بلسانه نفسه حسب فهمه. وهكذا تسلسلت الأسئلة وتوالت وارتفعت الأيدي ثم انحطت ومضت نصف ساعة على هذا الموضوع أوالمباحثة وكان المعلم بلا شبهة قد تعب أكثر من كل التلامذة. وكانت هذه المباحثة أشبه بامتحان عمومي منها يدرس لأن الأجوبة كانت ترد علناً والأسئلة تثب من هنا إلى هناك والأيدي تعلوثم تنزل وبهذا الأسلوب لم يبق نقط مجهولة في هذا الموضوع وكان المعلم في الدرس الذي قبل هذا الدرس قد كتب تقريراً في (تبسيط دولة بروسيا والأسرة المالكة هو هنزلون) فقرأه التلامذة وأضافوا الذي بقي في ذهنهم من هذا التقرير إلى ما قرؤوه في هذا الكتاب الذي بأيديهم واليوم في هذه المباحثة أوالمجاوبة العلمية فإن الذين كان فهمهم ناقصاً أوأهملوا الدرس أونسوه أصبحوا كأنهم درسوه من جديد. وقال الكاتب أن الألمان قد طبقوا هذا الأسلوب في التدريس ليس على درس واحد فقط بل

على دروس الحساب والجغرافية والكيمياء والحكمة الطبيعية والتاريخ الطبيعي حتى على الألسن والأدبيات وختم مقاله بقوله: ليست المدارس الألمانية الابتدائية بأحسن من المدارس العثمانية ولكن التلميذ الألماني متعلم أكثر من التلميذ العثماني وفضلاً عن ذلك فإن الأول يمكنه أن يستعمل علمه فيما يفيده في حياته وهذا على ما أظن الغاية المهمة التي يجب أن نسعى إليها. رومانيا وجيوش التحالف شهرت ألمانيا الحرب على النمسا والمجر هذا الشهر لتفتح ترانسلفانيا وتضم من فيها من الرومانيين أبناء عنصرها فشهرت ألمانيا والعثمانية وبلغاريا الحرب عليها والحرب الآن قائمة بين جيوش الرومان وقد أطلعنا على إحصاء أخير نشره أحد أساتذة كلية غراز قال فيه أن مساحة رومانيا السطحية تبلغ 139. 79 كيلومتراً مربعاً عدا ما دخل في ملكها من أرض بلغاريا سنة 1913 وهو 7726 كيلومتراً وهو أكثر من مساحة ربع ألمانيا وسكانها نحوسبعة ملايين ونصف أي أنه يسكنها 54 نسمة في كل كيلومتر وبحسب إحصاء سنة 1899 يوزع هذا الشعب على النحوالآتي خمسة ملايين ونصف روماني و1. 8. . . نمساوي ومجري و24. . . عثماني و32. . . من رعايا مختلفين من الممالك البلقانيا و8. . . ألماني و267. . . إسرائيلي وخمسة ملايين ونصف من سكانها يدينون بالمذهب الأرثوذكسي و15. ألفاً كاثوليك و23 ألفاً من البروتستان و18 في المئة من السكان هم من أهل المدن و81 وكسر من سكان الحقول وسكان العاصمة بكرش 341 ألفاً وفيها كلية كان عدد طلبتها سنة 9. 8 - 428. طالباً وميزانيتها مليون ونصف مارك وفي رومانيا كلية ياسي وهذي هي ثاني مدينة في رومانيا وكانت ميزانية حكومة رومانيا سنة 1915 - 486 مليون مارك وكسور من الدخل والخرج يصرف منها 47 مليون مارك على التعليم و79 مليوناً على الحربية وكان الدين عليهم 168 مليار مارك و7 في المئة من صادرات رومانيا تصدر إلى ألمانيا ويرد إليها من ألمانيا 4. في المئة من الواردات و23 في المئة من النمسا والمجر. العلماء لا يحاربون ذكرت جريدة الديلي نيوز الإنكليزية أنه جرى مؤخراً في لندرا توقيع ألحان من تأليف

واكنر الألماني المتوفي سنة 1883 وأنه هذه هي المرة الأولى منذ إعلان الحرب لحنت فيها أغان لهذه الموسيقى بحضور جمهور كبير من الأهلين ومنهم ضباط بألبستهم الرسمية وربما عد بعضهم تلحين مؤلف ألماني انحطاطاً في الوطنية وعده آخرون علامة جيدة على تقرب الشعبين وقد ذكرت إحدى الصحف الألمانية أن القوم في ألمانيا لم يفتؤوا يتلون ويلحنون أقوال المؤلفين الذين هم من أمم معادية لألمانيا اليوم، فلم يتل موليير ألفرنسي ولا شكسبير الإنكليزي شيء من الحرب والحرب ليس مع الأفراد النوابغ وهم لكل أمة شرع. وهكذا الحال في بلاد النمسا والمجر فإن نوابغ المؤلفين من لفرنسيس والإنكليز والروس تقرأ مصنفاتهم وتمثل رواياتهم كما كان في السابق واللغة ألفرنسية واللغة الإنكليزية تدرس في مدارس المجر كما كانت قبل الحرب وقد احتفلت ألمانيا منذ أشهر في مدينة نيمار بمرور ثلاثمائة سنة على وفاة شكسبير الشاعر الإنكليزي احتفالاً يليق بتكريم أمة عالمة للعلماء والأدباء من أي عنصر ولسان كانوا وناب عن المجر رئيس مجمعها العلمي ولم يكدر صفوهذا الاجتماع مكدر ولم يذكر شكسبير إلا بالتجلة كأنه من شعراء ألمانيا نفسها فتأمل هذا التسامح في إكرام العلماء حتى زمن ألفتن والحروب.

الألمانية والإفرنسية

الألمانية والإفرنسية شعر العامّة والخاصّة في العهد الأخير بالحاجة الشّديدة إلى معرفة اللغة الألمانيّة في هذه الدِّيار وفي غيرها من البلاد التي حالفت جرمانيا وكانت هذه الحرب التي أدهش فيها الألمان بعلومهم وتفنُّنهم في المسائل الحربية والاجتماعية والاقتصادية من أكبر الدواعي إلى ذلك وكان الخاصة من قبل يشعرون هذا الشُّعور ولكن قلَّة أطماع ألمانيا في امتلاك بلاد الشَّرق الأقرب لم يحملها كما حمل فرنسا منذ القديم على أن تبذل همَّتها لنشر لغتها فيه وتركت المسائل لطبيعتها خصوصاً ومن سياسة ألمانيا أن لا تميل إلى تجزئة قوتها فتفضِّل نشر علمها على قطعةٍ صغيرة وراء حدودها على أن تستعمر مملكةً واسعةً في إفريقية وآسيا كما هو حال فرنسا. وحال ألمانيا في نشر لغتها تبعاً لسياستها بالطَّبيعة. ولم نفتأ بالمناسبات منذ خمس عشرة سنةً نشير على ناشئتنا بتلقُّف هذا اللسان ونحسن لأصحاب الشأن في الأمر ودعاة العلم الصحيح نشره في مصر والشّام خاصةً ولقد قلنا في رحلتناغرائب الغربالتي نُشِرت سنة1327 - 19. 9 ما نصُّه: إنَّ اقتصارنا نحن معشر العثمانيين والمصريين والسُّوريين خاصَّةً على اللغة ألفرنساوية في الأكثر هو من الاحتكار الضّارّ فيجب أن نعرف كلّنا أو بعضنا لغة أمَّةٍ كبرى تريد أن تحارب العالم حرباً اقتصادية حتى لا يكون مثلنا مثل لفرنسيس مع جيرانهم الألمان قبل حرب السَّبعين جهلوا ما لديهم نم ماديَّاتهم فخسروا في ماديّاتهم ومعنوياتهم. نعم نتوفَّر على الأخذ من أوربا كل ما تمتاز به مملكة من ممالكها فنحول وجهتنا بعد الآن إلى جرمانيا نتعلَّم علومها واقتصادها ومتاجرها وبريَّتها ونأخذ من فرنسا الزراعة والحقوق وعن إنكلترا السِّياسة والعلوم البحريَّة وعن إيطاليا الصنائع النَّفيسة ونجعل للغة الألمانية والإيطاليَّة حظَّاً من عنايتنا حتَّى لا نكون حكرةً مضَّرةً لحكومةٍ خاصَّةٍ من حكومات الغرب فنحن كما نريد في السِّياسة أن نعامل الدُّول كلّها بوئام يجب أن نأخذ عن كلِّ دولةٍ راقيةٍ أحسن ما عندها حتى لا نكون من الجامدين على أمَّةٍ بعينها والجامدون في مسائل الِّين كالجامدين في مسائل الدُّنيا لا يخلو حالهم من ضرر على المجتمع ولمّا رحلنا إلى الغرب في رحلتنا الثَّنية نبحث عن موادٍّ قديمةٍ وحديثةٍ لكتابنا خطط الشَّامالذي أخذناه منذ زمنٍ نعني بتأليفه اجتمعنا بالعلاّمة كويدي المستشرق الإيطالي فكان مما سألنا إياه فيما إذا كنّا نعرف اللغة الألمانيَّة فأسف كثيراً على هذا القصور وقال لنا لو

كنتم تعرفون هذه اللغة كما تعرفون الإفرنسيَّة لسهل عليكم اقتباس المواد التي تحتاجونها إلى كتابكم وكشف حقائقٍ عن تاريخ عمران بلادكم. ثم انقلبنا بعد شهرين إلى بلاد المجر واجتمعنا بالعلاَّمة غولدصير المستشرق المجري وهو كالسّنيور كويدي من أئمة المشرقيَّات في الغرب المشار إليهم بالبنان فسألنا في خلال الحديث ونحن نسترشده لإيجاد موادًّ لكتابنا إذا كنّا نعرف الألمانية فقال لنا مثل مقال صاحبه الإيطالي وزاد تلهفنا كثيراً قوله أن معظم ما نريده في هذا الموضوع مكتوبٌ محضَّر بهذه اللغة لا يحتاج إلا إلى ترجمةٍ ونشرٍ ولا عجب أن أصبح اللسان الألماني مصدراً لنا في تاريخ أمّتنا ونحن أمّةٌ متأخِّرة في مضمار العلم فالألمان لكثرة الأخصّائيين في كلِّ شيءٍ عندهم أصبحوا حجّةً في العلوم والآداب في الغرب كلِّه ويكفي أن أهم كتب الطِّبِّ في اللغة الإنكليزيَّة منقولة عن مؤلفي الألمان وأهمُّ كتب الفلسفة عند لفرنسيس مترجمةٌ عن علماء ألمانيا وفلاسفتها وانَّ زهاء نصف ما نُشر باللغة العربيَّة من آداب قومنا وتاريخهم وعمرانهم ولسانهم نشره الألمان وعلَّقوا عليه الشُّروح والحواشي والتّحقيقات الممتعة والفهارس النَّافعة والباقي نشره الأمريكان والإنكليز ولفرنسيس والرّوس والطّليان والإسبان والسّويسريّون والنّمساويّون والمجريّون والهولنديون والسّويديّون وغيرهم من أمم الحضارة وكان علينا بعد أن انتشرت تجارة ألمانيا في العالم ونازعت التجارة الإنكليزيَّة الأميركيَّة وغيرها أن نسعى إلى أن نحذق هذا اللسان كما حذقنا الإفرنسيّة والإنكليزيّة حديثاً وحذقنا الإيطاليَّة قديماً وتعلَّم بعضنا الرّوسيّة واليونانيَّة وإلى اليوم لا يوجد سوى أفراد قلائل تحقّقوا بأجزاء هذه اللغة من رجال الجيش العثماني أو من سكان فلسطين وسورية ممن درسوا في مدارس القدس وحيفا ويافا وحلب وكلها معاهد في التعليم جديدةٌ نشأت وارتقت بعد استحكام صلات التقّرب بين ألمانيا والعثمانيّة وبعد إنشاء الخطِّ البغدادي ومسيس الحاجة إلى موظفين من أبناء هذه البلاد الألمانية كما يعرفون العربية والتركيّة. فقصّر الألمان وقصّرنا في نحن أيضاً في هذا السّبيل. ومن الأسباب التي قعدت حقيقة باللغة الألمانية عن الانتشار في هذه الديار أيضاً أن بروسيا كانت كألمانيا اليوم تحب أن ترقي بنفسها وجيرانها أولا والأقربون أولى بالمعروف وكانت من الدول الثانوية في الغرب فلما أصبحت ألمانيا بالوحدة الألمانية دولة كثيرة الحصا كبيرة

الواقعة وغلبت فرنسا في حرب السبعين أخذت لغتها تنتشر في الغرب بطبيعة الحال. أما الآن فإذا كتب النصر الأخير للألمان على خصومهم تصبح لغتهم أو تكاد عامة بين الأمم كما أصبحت اللغة الإفرنسية من قبل وانتشرت بالقوى التي بذلها لويز الرابع ونابليون. جاء في تاريخ جودت أن المعارف ألفرنساوية انتشرت بكثرة على عهد لويز الرابع عشر حتى حصل للأمم جمعاء آنسة بها وانتشرت آداب لفرنسيس في كل أمة وأصبح هذا الملك يتدخل في شؤون الممالك الأوروبية فعم تعليم اللسان ألفرنساوي منذ ذاك العهد وأصبحت الأمور السياسية تكتب بالافرنسية. وذكر أيضاً أن معاهدة قينارجة بين العثمانيين والروسيين كتبت من جهتنا بالتركية والإيطالية ومن جهة روسيا بالروسية والإيطالية وفي ذلك دليل اللغة الإيطالية كانت إلى ذاك الوقت معتمداً علها أكثر من الإفرنسية في الغرب. وذكر سنيوبوس أن الآداب الفرنسوية انتشرت في القرن الرابع عشر حتى عمت الغرب وأصبح اللسان ألفرنساوي لغة جميع المجتمعات الراقية بل اللسان الرسمي (1) هي قصبة صغيرة على 7. كيلوامتراً من جنوب سلسترة في بلغاريا اشتهرت بأنها كانت محل عقد المعاهدة بين العثمانية وروسيا على عهد عبد الحميد الأول وكاترينا الثّانية سنة 1774م (2) تاريخ الحضارة لشارل سنيوبوس يتخاطب به رجال السياسة في الحكومات وبه ينشؤون المعاهدات وأصبح من المألوف في كل مكان تعليم أبناء الأسر الشريفة اللغة ألفرنسية وأن تمثل القصص ألفرنسية ويتحدث الناس ي القاعات باللسان ألفرنسي وبالغ الألمان في هذا السبيل كثيراً حتى أن الأمراء ورجال البلاط الملوكي أمسوا لا يعرفون حتى اللغة الألمانية وينظرون إلى هذه اللهجة بأّنها تصلح للقرويّين والعملة وألف ملك بروسيا كتبه باللغة ألفرنسية وأخذت ماري تيريز تراسل وزراءها بالافرنسية واقترح المجمع العلمي في برلين أواخر القرن الثامن عشر أن يكون موضوع المسابقة في بيان شرف اللغة ألفرنسية. والغالب أن اللغة ألفرنسية لم تحرز كل هذا القبول في قلوب الأمم لمزية فيها ليست لغيرها بل لأن السياسة قضت بانتشارها ولأن أهلها توفروا على نشرها بأن نشأ لهم أدباء وفلاسفة

وعلماء استفاضت بن العالمين شهرتهم واللغات في الدول تابعة في النباهة والخمول لحالة الدولة التي تحمي حماها وإلا فليست الإيطالية مثلاً دون الإفرنسية بجمالها ورنتها بل ربما كانت أسهل منها ومع هذا نازعتها الإفرنسية من عهد لويز الرابع عشر الذي طالت أيامه واشتهرت بكثرة نوابغها في الشعر والأدب والنقد الأخلاقي والفلسفة والتاريخ والفنون. قالت مدام دي ستايل في كتابها (ألمانيا) الذي ألفته في سنة 181. منذ عهد لويز الرابع عشر أخذت جميع المجتمعات الجميلة في القارة الأوروبية تحصر وكدها في تقليد ألفرنساويين ما عدا الإسبانيين وإيطاليا وقد اعتقد القوم في فينّا (وكانت إذ ذاك مهد الألمانية) وأفرطوا في اعتقادهم أن من إمارة الظرف أن لا يتكلم المرء بغير الإفرنسية على حين ليس المجد ولا الظرف في كل بلد إلا عبارة عن ألفكر الوطني والصفات الوطنية وقد أُدهش الفرنسويون أوروبا ولا سينا ألمانيا ببراعتهم في الرقائق والأضاحيك ولقد كان البولونيون والروسيون وهم بهجة المجتمع في فينّا لا يتكلمون بغير اللغة ألفرنسية ويحاولون أن يبعدوا عن تلك العاصمة روح الألمانية. وللبولونات أساليب تأخذ بمجامع القلوب في مزجهم التصورات الشرقية إلى مرونة ألفكر ألفرنساوي وحدته - انتهى المقصود منه. قلنا وقد كان للروس غرام لارنسية بدأ ذلك على عهد بطرس الأكبر مصلح روسيا الحديثة وواضع أساس نهضتها الذي خبع رقبة القديم ولغتها المدنية الغربية بدون قيد ولا شر وكان في روسيا من حيث حب التجدد كالسلطان سليم الثالث العثماني ولكن المحيط ساعد الأول أكثر من هذا الثاني فقبل المدنية الهولندية والمدنية الفرنسوية وأسس الكليات وأسس الكليات العظمى ونظم الأساطيل ودرب الجيوش ومن عهده شاعت الإفرنسية بين طبقات الشعب الراقية وكادت تكون لغة التخاطب في القصور والمجامع العامة وعمت قواعد البلاد الروسية ولا يزال إثر ذلك ظاهراً للعيان في مملكة القياصرة حتى اليوم. وكل دروب الغرب تعني بتعليم اللغة ألفرنسية عناية فائقة في كلياتها وجامعاتها بل في مدارسها الوسطى وقل في خاصة الأم الأوروبية والأمريكية من لم يحأول أن يتكلم بها الباريزي نفسه لمسيس حاجته إليها في العلم والسياسة والتجارة والصناعات بحيث

أصبحت على طول الزمن عامة حقيقة ولها شيء من المرونة واللّطف وهذا على ما تظن ماحدا بعلماء هذه اللغة وأهل الأدب منها أن يتوفّروا على تحسينها وترويجها الكتب المنوّعة والمجلات وجميع أساليب النّشر. أمّا في هذا الشّرق الأقرب ونعني به البلاد العثمانيّة والمصرية والإيرانية فقد انتشرت في أواخر القرن الثّامن عشر وزاد انتشارها أكثر بعد عهد نابليون بونابرت فإنّ الحكومة العثمانية بعثت بعثات علمية كثيرة إلى مدارس فرنسا يتعلمون فيها العلوم ويتخرّجون في هذه اللغة وكذلك محمد علي الكبير فإنّه اقتصر في إرسال التّلامذة إلى مدارس فرنسا ليعودوا منها فينظّموا شؤون بلاده على أحدث الطّرق الغربية وكان مستشاروه جماعة من أكابر علماء فرنسا وهم الذين اكتشفوا الآثار المصرية باكتشاف الخطّ الهيروغليفي وأنشأوا المتاحف والحدائق العامة والقناطر والسّدود وأقاموا عمران مصر الحديثة وكان منهم جماعة نابليون ومنهم الذين جاؤوها بعد وبواسطة المدارس والبعثات التي أسسها محمد علي انتشرت اللغة ألفرنسية في وادي النيل. وكلما كانت المطامع السياسية في هذه البلاد تزداد كانت المدارس تشاد وتنفق عليها فرنسا عن سعة. قال صاحب كتاب المسألة الشرقية لما صح العزم على تخريج طبقة من الناس في المملكة العثمانية يتولون أعمالها ويستلمون زعامتها بدون أن يكون لتعاليم الدينية تأثير فيهم أنشأت الحكومة العثمانية في الأستانة تحت حماية كلٍّ من فؤاد باشا ناظر الخارجية وسفير فرنسا إذ ذاك بحسب الخطّة التي رسمها فيكتور دروي (وزير المعارف في فرنسا) مدرسة غلطة سراي وهي مدرسة وسطى فتحت أبوابها لقبول الرعايا العثمانيين وأدار شؤونها أساتذة أوروبّيّون يعلِّمون باللغة الإفرنسيّة وكان ذلك رمزاً لعمل فرنسا الحريصة على تعليم الشّعوب الشّرقيّة بلغتها مبادئ المدنيّة الغربيّة فافتتحت هذه المدرسة يوم1أيلول 1868م واشتدَّ الاعتراض على هذا العمل وثارت خصّيصاً ثورة المتعصّبين الجامدين وأنشأ الرّوسيّون يهزؤون من هذا البابل في اختلاط الألسنة في هذه المدرسة وبلغ تلامذتها في السّنة القابلة ستمائة تلميذاً وكان ذلك أسعد دورٍ في التّنظيمات الخيريّة. وقال رينيه بينون يعجب السّائح ألفرنساوي ويداخله السّرور عندما يدخل الشّرق إذ يسمع حيثما ينقلب نغمة لغته يرنُّ صداها ويجد حتّى في صميم بلاد آسيا الصّغرى مدارس

فرنساويّة غاصّة بالأطفال من جميع العناصر والأديان يتعلّمون تهجئة حروف لغتنا ويستعدّون لمعرفة بلادنا تحت إدارة راهبةٍ أو أختٍ فرنساويّة صالحة يختلف أكثر من مئة ألف تلميذٍ إلى المدارس التي معظمها لرهبانٍ خصَّتها الحكومة ألفرنساويَّة بشيءٍ من المال مسانهةً أو حمتها حمايةً فقط ويزيد عدد هذه المدارس سنةً بعد أخرى وهؤلاء الأطفال ينبثون في أطراف المملكة وفي البيوت التّجاريّة والسّكك الحديديّة والمصارف يحسنون سمعة فرنسا وينشرون لغتها وآدابها ومدنيّتها. قال ومن كلّيّة بيروت الزّاهرة التّي يديرها الآباء اليسوعيون والّتي كتب في حقّها غوستاف لوردميه أنّ ليس في فرنسا مدينة كبرى تكون معاهد تعليمها العالي أكثر استعداداً من كلّيّة بيروت حتّى تصل إلى المدارس الحقيرة في المدن الصّغرى في أرمينية ومكدونية تجد أخوات القدّيس منصور يوزّعن بدون نظر إلى مذهب وقوميّة قليلاً من المعلومات ويقمن بالإسعافات الطّبية ويعملن كثيراً من الإحسان. قلنا وهذا سرّ حماية فرنسا لرجال الدّين في الشّرق يطردونهم من بلادهم ويحمونها في غيرها لأنهم هنا يتوفّرون على نشر لسانهم ومناحيهم وما تخال يرجع ذلك لهم بعد الحرب بعد أن نزعت منهم امتيازات الأجانب وشعرت الأمة العثمانية بالحاجة إلى تعليم وطنيّ تكون صيغته حبّ البلاد ومعرفة ما ينعشها. ثم غمرت فرنسا (المقتبس م 7 ص 162) بلادنا بالمعاهد الخيريّة والتهذيبية بهمة جمعية أخوة المدارس المسيحية وجمعية راهبات المحبة وكان مبشّروها ينزلون ربوع سوريا بالرغم مما قام في سبيلها من المصاعب وكانت فرنسا أبلغت مخصصاتها لمدارس مخصصاتها لمدارس سوريا وفلسطين إلى زهاء مليوني فرنك منها 45. . . . لمدارس الرهبنات و383. . . للمدارس المدنية و45. . . لمدارس مختلفة 122. . . للمعاهد الطبية هذا هو الظاهر في ميزانيتها عن سنة 1911م وهناك جمعيات تعمل على نشر التربية ألفرنساوية مثل جمعية أعمال مدارس الشرق التي أسست عام 1856م وجمعت اموالاً طائلة وزعتها على المعاهد الخيرية ومدارس الرهبنات في الشرق تبلغ قيمتها 3. . . . . فرنك ومثل مدارس الاتحاد الإسرائيلي ومثل مدارس الجمعية العلمانية وكلما كانت فرنسا ترى ألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وأميركا تعنى بفتح المدارس في هذه الربوع كانت فرنسا تزيد المال المبذول في هذا السبيل وتنوّع الأساليب لبلوغ الغاية.

ونمت في السنين الأخيرة أعمال ألمانيا نموّاً غريباً إذ أسست كثيراً من المدارس الابتدائية وعدّة مدارس عالية ومدرسة إكليريكية في القدس وغيرها من صناعية ومستشفيات معتمدة في كلّ ذلك على الجمعيات الكاثوليكية الإنجيلية الألمانية وعلى اللجان الجنسية التي تستمد قوتها من الاتحاد النمساوي العام وقد فتحت في ميزانيتها اعتماد قدره 85. ألف مارك ينفق على معاهدها في سوريا وفلسطين. هذا إلى المدارس التي أنشئت منذ القديم في بيروت وحيفا ثم في حلب والأستانة وجميع ما تقدّم من منافسة الألمانية للإفرنسية قليل جداً لأننا لم نسمع برجل منّا نبغ حتى الآن في اللغة الجرمانية ويرى النابغين في ألفرنسية أكثر من أن يعدوا في قواعد البلاد مثل مصر والإسكندرية والأستانة وأزمير وسلانيك وبيروت حتى أن بعض الأُسرة تركت لفتها الأصلية وأصبحت تتخاطب وتتكاتب باللغة الافرنسية وكثيرا ما يشمئز الوطني وهو لا يسمع غير نغمة هذه اللغة ويرى المرزين فيها أكثر من لغتهم ومن كل لغة مما عمت به البلوى لا يقل المتكلمون باللغة الألمانية اليوم عن مئة مليون وهذا العدد هو ضعفا المتكلمون بالافرنسية ولكن عدد الذين تعلموا الافرنسية من غير ألفرنساويين يربو كثيرا عن عدد من تعلموا من ير الألمانيين واللغة الألمانية هي لغة يعرفها الخاصة في المجر وروسيا وايطاليا وفرنسا وانكلترا والبلجيك وهولاندة والدانمرك والسويد منورج وأمريكا وتعلم لغةٍ غير اللغة الوطنيّة في أكثر هذه الممالك إجباري في المدارس وأكثر اللغات رواجاً اللغة الإفرنسيّة في غير البلاد ألفرنساويّة واللغتان الإنكليزيّة والألمانيّة في غير بريطانيا وجرمانيا كانت اللغة الإيطالية رائجةً كثيراً في مصر والشّام في القرن الثّامن عشر فنازعتها اللغة الإفرنسيّة في القرن التّاسع عشر حتّى قلَّ عدد العارفين بها فهل تصبح اللغة الألمانيّة في هذه الدِّيار في القرن العشرين لغة العلم والتّجارة والسّياسة يا ترى ويكثر العارفون بها على مستوى العارفين باللغة الإنكليزيّة على الأقل أم تظلُّ للإفرنسيّة تلك الرّغبة وتحافظ بعد الحرب على تلك الشُّهرة؟ سؤالٌ ليس غير الأيّام كفيلةٌ بالجواب عنه.

جرمانيا الكبرى

جرمانيا الكبرى يدعو الدّعاة الآن إل ضمِّ شمل ممالك أوروبا الوسطى تحت لواءٍ واحدٍ تكون برلين العاملة الوحيدة فيها على نحو ما ضمّت بروسيا إليها شمل الحكومات الألمانيّة منذ ستّ وأربعين سنة. فتنشأ الآن مملكة جرمانيَّة كبرى كما نشأت مملكة ألمانيا الكبرى وبذلك يستحيل على سائر دول أوروبا أن تنال منالاً من هذه المملكة الضخمة التي تصدر عن رأيٍ واحدٍ مركزه برلين وقادته رجال الألمان وتكون حدود هذه المملكة الجديدة من نهر المارن إلى التّخوم الجنوبيّة من بولونيا ومن همبورغ إلى الأستانة وما وراءها إلى الشّرق وقد كتبت مجلّة المجر في هذا الشّأن فصلاً قالت فيه أن تباور الممالك الوسطى حول الأصل الجرماني قد بدأ وإذا كان خصومنا من الدّول قد شهروا علينا الحرب ليقضوا القضاء الأخير على تغالي ألمانيا في جنديّتها وميل جرمانيا إلى ابتلاع كلّ من يخالفها فهل يستطيعون أن يحولوا دون تأليف أوروبا المركزيّة الجرمانية؟ أيستطيعون أن يمنعوا هذا بالقوّة - قوة الجيوش والأساطيل والمجالس الحربيّة والخُطَب والشّكايات؟ فإذا كانت النّتائج السّلبيّة التي نالها خصومنا منذ سنتين لم تكفِ لإنارة فكرهم في هذا الشّأن فإن إلقاء نظرةٍ على الماضي تكفي لأن تزعزع ثقتهم. وذلك لأن حرب السّبع السّنين مثلاً قد هيّأت أسبابها وعقدت المحالفة الكبرى من النمسا وروسيا وفرنسا والسّويد لتلك الغاية نفسها وهي نزع ما امتلكه بروسيا من الأملاك الجديدة وتصغيرها بحيث تكون أمارة صغيرة ووضع حدّ لإفراطها بالتّجنيد مما كان يقلق أعداء فريدريك الثّاني كما يقلق له اليوم أعداء غليوم الثاني. ماذا نشأ من ذلك؟ نشأ منه أنّ سيلزيا لم تنفصل فقط عن روسيا بل إنّ هذه خرجت أكبر وأقوى مما كانت مع أنها حاربت أوروبا تقريباً. نعم أثّرت في بروسيا تلك الحرب كما أثرت في خصومها ولكنها خرجت منها وقد جعلت لها مركزاً بين الدّول العظمى فجذب جاذب القوة حول أعلامها الشّروب التي هي من عنصر ألماني فأصبحت برلين منافسةً لفيينا في التّفوق في ألمانيا وانحلّت مسألة هذا الامتزاج الألماني حلاًّ قطعيَّاً لا في موقعةكونيكراتزبل فيسيدانوحاول نابليون الثّالث أن تنعقد أواخي الوحدة الألمانيّة في وكانت إمارات ألمانيا متخالفة بينها على أمور تافهة وبعمله سارعت إلى تناسي اختلافاتها فدفع الألمان الخطر أولاً ثم الحماسة والمجد الباهر الذي أحرزوه بانتصاراتهم إذ ذاك إلى تنبيه

عواطف لم يكونوا يعرفونها من قبل ونعني بها عواطف التّضامن العنصري وستكون الحال كذلك اليوم فإن أعدائنا يعزون ألفضل في نجاحنا إلى ألفكر العسكري الشّديد وإلى روح الجنديّة الوحشيّة المنبعثة من التّوتونيين أي الجرمانيين فيرون في ذلك الخطر على حرّيّة الشّعوب وسعادة العالم وحقوق الإنسان ولكن بلغ بهم الضّعف في التَّقدير وقلّة المنطق في السّرد أنهم يريدون أن يحاربوا هذا الشّرّ بشرٍّ مثله كبعث روح الجنديّة في كلِّ شيء وذلك بتحدّي ألمانيا واحتذاء مثالها وإن كان على شيءٍ من الضّعف وكيف ما كانت الحال فإنَّخلافة برلينكما سمّاها وزير خارجيّة روسيا أو هذا الإتّحاد بين الممالك الوسطى آخذٌ بالتّأليف وبرلين مقرّه لأن لهذه من قوتها وغناها ما تصبح به أقوى مما كانت في حرب السّبع السّنين وأقوى مما كانت في حرب السّبعين وأعشم مما كانت بمحالفتها مع النّمسا والمجر بفضل بيسمرك وأندرلسي وأكثر استمساكاً وبقاءً من التضامن الوقتيّ بين الشّعوب المتحالفة على الحرب الآن. لا جرم أنّ وحدة المصالح التّجارية والاقتصادية وضرورة الدّفاع عن الحوزة ستؤدي بالطبيعة إلى التوفيق بين قوانين كلِّ مملكةٍ من هذه الممالك فنصبح عمّا قريب متَّحدين اتّحاداً سياسيا يشبه اتّحاد الولايات المتحدة الأميركيّة التي تحكمها إرادة واحدة. هذه لمحة من مسألة اتّحاد دول أوروبا المركزيّة ومنه يستدلُّ جليَّاً أنّ ألمانيا أيقنت على ما أحرزته من الغلبة في هذه الحرب أنّ لا مناص من أن تقوي نفسها وحلفاءها للمستقبل وأن برلين كما قالت المجلة المجرية ترقّت من كونها عاصمة التحالف الثلاثي إلى كونها عاصمة تحالف ممالك أوروبا الوسطى بأجمعها ولكن لم يجر للدول العلية ذكر صريح في هذا ألفصل هل تدخل في جملة التحالف الجرماني هي وبلغاريا أيضاً أم لا؟ ونظن أن هناك بعض عقبات تحول بيننا وبين الدخول في هذه المعاهد إلا على حد محدود كما هي محالفتنا اليوم مع ألمانيا والنمسا والمجر. ومن جملة الأسباب التي تحول دون دخولنا بحسب ما نرى في اتحاد أوروبا الوسطى ما أوردت المجلة المجرية من الأسباب التي تربأ ببلاد المجر عن الدخول في هذه الوحدة قالت: ألمانيا عرفت مبلغ المجر من حسن البلا. وما امتازوا به من الصفات العالية وكانت لا تعرف منها إلا ذرواً قليلاً وليس في برلين من يريد أن يعبث باستقرار هنغاريا ولا بأوضاعها الوطنية ولولا ذلك لا يوجد في المجر

إنسان يودّ الاقتراب من المملكة الجرمانية. إننا نحرص على لغتنا وأخلاقنا ودستورنا الوطني أكثر حرصنا على كل مغنم سياسي أو اقتصادي ونعلم أن هنغاريا لاى تتمكن من القيام بمهمّتها التّاريخية أي أن تكون واسطة بين الغرب والشّرق الآن تكون سوراً قوياً لأوروبا إلا إذا احتفظت بأخلاقها الوطنية المجرية وبحريتها السياسية وآدابها المستقلة. ومصلحة ألمانيا لا تنافي بتاتاً استقلال الأمة المجرية وعلى العكس فإن حلفاءها يعترفون بمشروعية هذه الأميال وكلما عرفوا أخلاق عنصرنا والأحوال الخاصة التي عيّنت لنا خطّتنا السياسية يفهمون مرامينا أكثر. وبعد أن تساءلت تلك الصحيفة عن كيفية تكوين هذا الاتحاد الجديد وقالت أن عدد العنصر الجرماني في اتحاد ممالك أوروبا الوسطى يزيد على سبعة أو ثمانية أضعاف العنصر المجري فيُخشى حينئذٍ من أن يمتزج المجر بطول الزمن بالعنصر الجرماني ويندمج فيه كما يندمج كل عنصرٍ أجنبيٍ في الولايات المتحدة الأميركية بالعنصر الإنكليزي السكسوني قالت عبثاً يقول الألمان أنهم لا يريدون أن يُكرهونا على تعلّم لغتهم ولا آدابهم ولا طرق تفكيرهم ولا طرز حياتهم العقلية والأدبية بقطع النظر عن التمثيل ببولونيا فإن هنغاريا تتجرمن بطبيعة الحال وتندمج في الأكثرية فتفقد جزءاً من أخلاقها القومية وأنه خيرٌ للشعوب الصغيرة أن تظل على استقلالها وإن أورثتها الحرب ضعفاً فتخرج رافعةً رأسها وتتنافس الدّول الكبرى أن تكون تبَعاً تخسر نفسها ومقوّماتها ومشخّصاتها هذا ما تحاذر منه الصّحيفة المجريّة تحاذر أن يندمج المجريّون في غيرهم ويفقدوا مشخصاتهم وقوميتهم والعنصر المجري في مملكة النمسا والمجر هم أقل من العنصر الجرماني ومن العنصر السلافي ومعلوم أن إمبراطورية النمسا والمجر مزيج من عناصر مختلفة طبائعها محتفظة بلغاتها ومشخصاتها لم يثبت الأعضاء أن عنصراً ربح من العنصر الآخر كثيراً في هذا الشأن بل هم في هذا الشأن بل هم في هذا المزيج كالفسيفساء البديعة في رقعة شطرنج فالألمان في غربي المملكة وشمالها الغربي والسلافيون في الشمال والشمال الشرقي والجنوب الغربي والمجر في الشرق وإلى جانب السلافيين في بوهيميا ومورافيا وسيلزيا تجد التشك وسلافيو غاليسيا والبورونيون والروتينيون وتجد السولفايين في شمالي البحر والسولفيين في كارنتيا وفي صقع آخر الخرواتيين أو الصربيين كما تجد

الطليان في ترانتين وفريول وايستيريا والرومانيين في ترانسلفانيا وبوكوفينا. لا جرم أن سكان هذه المملكة النمساوية المجرية إذا تم تأليف الإتحاد الجرماني يندمجون مع الزمن على اختلاف أجناسهم في سكان ألمانيا الذين يجمعهم لسان واحد وعنصر واحد وتربية واحدة ومن العادة أن يتمثل الصغير في الكبير كما يبتلع الكبير الصغير ومهما حاولت بولونيا وهنغاريا والدانيمرك وهولاندة أن تحتفظ بلغتها وقوميتهافإن مدينة جرمانيا التي تفيض على الأطراف تتناول كل ما يقف يقف أمامها وتضمه إليها بالطبيعة والسيل يجرف ما في المنحدرات أمامه كما أنه حرب المكان العالي هذا الاندماج أمرٌ طبيعي في الأمم يتمّ في أجيال ولكن الإكثار من خشيته واتخاذ الأساليب غير المشروعة من تعليم وتربية مضرّ في الأمم المؤلّفة من شعوب وقبائل وأجناس. قال بلوك: إن من الناس من يتجرون باسم الوطنية والقومية كما أن منهم من يتجر باسم الدين. ومنم يتجرون بنغمة القومية في مملكة ضخمة وقوميتهم عبارة عن خمسين أو مئة ألف عائلة لا تستطيع أن تؤلّف على حدتها حكومة خاصة يضرون بالإنسانية لأن من مصلحة المجتمع أن تقوم فيه مراكز كبرى تنبعث منها أنوار المدنية وأصحاب هذه القومية بلغتهم التي لايفهمها غيرهم وتغاليهم بالتماهي بها لا يكون لهم مدنية خاصة ويبقون على اعتزالهم مؤلّفين من حثالات ورغبتهم في أن يكونوا مجتمعاً منفرداً عن غيره يضعف المجتمع الكبير الذي تضمّهم جامعته ولا يتيسّر لهم بحال وينطفئ نورهم المضيء ونارهم التي تقدف بالحرارة ومن يستحسنون عمل من يذهب هذا المذهب في استقلالهم بقوميّتهم هم أعداء البلاد في الدّاخل والخارج وأبناء الوطن الواحد إذاشجر بينهم مثل هذه الدعوة تجرّ عليهم شرّاً أكثر من الخير مثال ذلك. ببلاد النمسا والمجر المنقسمة إلى قسمين غير متساويين فأقل من نصف النمسا يتكلم بالألمانية ومنهم أهل لغة التشيك ومشقات اللغة البولونيّة والروتينيّة والسولفانيّة والصّربيّة أو الخرواتيّة والإيطالية والرّومانيّة والنّصف الآخر بلاد المجر نحو ثلثها يتكلّمون بالمجريّة والباقون بالرومانيّة والألمانية والأسكلافونيّة والصّربيّة والروتينية وغيرها من اللغات ففي بلاد النّمسا والمجر نشأت من مسألة الوطنيّة مشاكل للحكومة فعبث ذلك بنجاحها السياسي والأدبي والمادّي ونفوذها السياسي قال: أما في سويسرا فليس في

مسألة اللغات ما يهدد كيان كيان هذه الجمهوريّة. وسويسرا أحسن مثالٍ للشّعوب المختلفة بلغتها تعيش في بلد واحد حول جبال واحدة بحيراتٍ واحدة تتكلم الأكثرية فيها الألمانية والألمان ثلاث أرباعها والربع الآخر يتكلّم الإفرنسيّة والإيطالية والرومانشية وغيرها من اللغات والبلجيك تشبه سويسرا من بعض الوجوه نصف أهلها يتكلمون بالإفرنسية والآخر بالفلامندية ومنهم من يتكلم بهاتين اللغتين معاً وغيرهم يتكلم بالألمانية وغيرها من اللغات قال: وأما بقية بلاد أوربة ما عدا الدولة العثمانية وفرنسا وألمانية والدانيماركأسلاندة والسويد والنويج لايون فليس فيها سوى شعوب قليلة تتكلم لغة خاصة بها وقد كان من الحوادث المعلومة أن أنقذت البلاد العثمانية من عدة قوميات غريبة عن العنصر الحاكميعني بذلك البلغار والصرب واليونان والرومان وليس في هذا الباب إحصاء يعتمد عليه. لا جرم أن حبّ الإنسان للغته غريزية في البشر ويزداد شعوراً بذلك وتفانياً فيه كلما تقدّم خطوات في طريق الحضارة. ومن كتبت له الرحلة إلى بلاد النمسا والمجر وبلاد سويسرا وبلاد البلجيك وغيرها من البلاد المختلفة السكّان يشهد غرائب من ذلك قال صاحب كتاب بلجيكا الحديثة: لقد صُرفت العناية بعد سنة183. لفرنساألفلاندر (من أقاليم البلجيك) فشقّت عصا الطاعة وعصت على كلّ ما أريدت عليه وظلّ تركيبها العقلي ثابتاً كصفاتها التشريحية ولم يطرأ أدنى تبدّلٍ على أفكارها وتقاليدها وشعورها وطرقها في التفكير والتقدير وما اللغة إلا عنوانٌ لأمّة وما من أمةٍ بدون لغةٍ ولهذا ينهض سكان فنلاندة لدفع الغارات عن أمّتهم وكذلك أهل بولونيا والنمسا والمجر وسويسرا وإسبانيا وغيرهم في كل صقعٍ ونادٍ. ويجب الإعتراف بأنّ الوطنيين الفلامنديين يصدرون عن صوابٍ في رأيهم إذا رأوا لغتهم القوة الموجدة التي وحدها يمكن أن تؤثّر فيهم وذكر المؤلِّف أيضاً أن دعاة الاتحاد الجرماني عفوا اثر حدود مملكة ألمانيا بل تخطّوها إلى غيرها فنُشرت بطاقات بريد مصوِّرةً ممالك أوروبا سنة 195. م وقد توارث منهم البلجيك وهولندا والدانيمارك والنمسا وقسم من روسيا ورومانيا قد اندمجت في الأمة الجرمانية. ويرى اليوم دعاة الجرمنيَّة أكثر من نصف بلجيكا ألمانيا بلسانه وأنَّ لهجة هولندا وليموج المستعملة في عدَّة ولايات من تلك البلاد ليست إلا ألمانيّة محرّفة دجة في شمالي ألمانيا

فالحدود الألمانيّة قد ألقت بخمسة ملايين من البشر في هولندا وجوارها وثلاثة ملايين ونصف في بلجيكا وتوسَّع بعضهم فقال أنّ فلاندرا الشّرقيّة والغربيّة هما أيضاً ألمانيّتان جنساً. كما أنّ هولندا شمالي فرنسا هما أيضاً من هذا الطّراز. هذا ما قاله المؤلِّف قبل الحرب بأعوامٍ قليلةٍ أما الآن وقد افتتحت ألمانيا بالسّيف بلاد البلجيك وبضع ولايات في شمالي فرنسا فماذا يكون مصيرها منالجَرْمَنَةلا ريب أنّ ألفاتح يهوى نشر لغته ولايكلِّفه ذلك إلا صدور الأمر ومرور الزّمن وبذلك تتحقق أماني دعاة الجرمنة فتكبر رقعة مملكة جرمانيا المتحدة ولا يمضي على سكّانها جيلٌ أو جيلان إلا وتصبح كلُّها ألمانيّة المنحى والمنزع. وربما دعت حالة أوروبا وأميركا إلى تأليف الأمم بحسب العناصر فيكون العنصر الجرماني أو الاتحاد الجرماني شقَّاً والعنصر السّلافي شقّاً آخر وكلاً من العنصر اللاتيني والعنصر الإنكليزي والسّكسوني شقّاً كما يكون الجنس الأصفر في الشّرق الأقصى برأسه فسبحان مفرّق اللغات واللهجات وملوِّن الصّور والسِّحنات

الخطابة عند العرب

الخطابة عند العرب الخطابة ملكة كسبية وفطرية الخطابة كالكتابة وقرض الشِّعر ملكةٌ فطريّة وملكةٌ كسبيّة إذا صاحبت فيها الكسبيّة ألفطريّة جاء من الخطيب كلُّ قولٍ عجيب، وقد كان دمرستينوس وهو أخطَب خطيبٍ عند اليونان. كما أنّ شيشرون أخطب خطيبٍ عند الرومان - خطب في الجمهور أول مرةٍ ولم يحسن الإلقاء لأنه كان ألثغ مثل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة وكان ضعيف الصّوت فحاول إصلاح ذلك وتمكّن منه بوضع حصاةٍ في فمه وإنشاد آياتٍ وهو يركض على شاطئ البحر ويرتقي الرّوابي والآكام قال الجاحظ: أخبرني محمد بن عباد بن كاسب كاتب زهير مولى بجيلة وكان شاعراً راويةً وطلاّبة علمٍ علامة قال: سمعت أبا داوودٍ ابن جرير يقول وقد جرى شيءٌ منذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس غيٌّّ، ومس اللحية هلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب، وقال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونةٌ بقلّة الإستكراه وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلاً عن مقدار علمه كما أكره أن يكون مقار علمه فاضلاً على مقدار عقله، قال أبو عثمان الجاحظ: هذا الكلام شريفٌ نافعٌ، فاحفظوا لفظه وتدبّروا معناه، ثمّ اعلموا أنّ المعنى الحقير ألفاسد، والدنيء السّاقط، يعشش في القلوب، ثم يبيض ثم يفرخ فإذا ضرب يجرانه، ومكن بعروقه، استفحل ألفساد وبزل، وتمكّن الجهل وفرخ، فعند ذلك يقو داؤه، ويمتنع دواؤه، ولأنّ اللفظ الهجين لرديء، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآنف المسمع، وأشدّ التحاماً بالقلب، من الللفظ النّبيه الشّريف، والمعنى الرفيع الكريم، ولو جالست الجهّال والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهراً فقط لم تنقذ من أوضار كلامهم، وخيال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهراً، ولأنّ ألفساد أسرع إلى النّاس، وأشدّ التحاماً بالطبع واللسان، بالتّعلّم والتّكلّم، وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكمة، يجرّد لفظه،

ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التّعلّم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخيّر قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي ما هذه البلاغة التي فيكم قال: سيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا فقال له رجلٌ من عرض القوم يا أمير المؤمنين هؤلاء باليسر والرطب، أبصر منهم بالخطب، فقال صحار: أجل والله لنعلم انّ الريح لتنقحه، وأن البرد ليعقده، وأنّ القمر ليصبغه، وأنّ الحرَّ لينضجه. قال أبو عثمان: قال صاحب البلاغة والخطابة، وأهل البيان وحبّ التبيين إنما عاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلّم المتنادقين والثرثارين والذي يتخلل بلسانه، كما تتخلل الباقرة بلسانها، والأعرابي المتشادق، هو الذي يصنع بفكّيه وشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباه أل الدّرّ فمن تكلّف ذلك منهم فهو أعيب والذّم له ألزم وقد كان الرّجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدّة أمثالٍ سائرة، ولم يكن الناس جميعاً يتمثّلون بها إلا لما فيها من المرافق والإنتفاع، ومدار العلم على الشّهد والمثل وإنما حثّوا على الصّمت لأنّ العامّة إلى معرفة خطأ القول، أسرع منهم إلى معرفة خطأ الصمت. ومعنى الصامت في صمته، أخفى من معنى القائل في قوله، وألا فالسكوت عن قول الحقّ، في معنى النّطق بالباطل ولعمري أنّ النّاس إلى الكلام لأسرع، لأنّ في أصل التركيب أنّ الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول، وليس الصّمت كلّه أفضل من الكلام كلّه، ولا الكلام كلّه أفضل من السكوت كلّه، بل قد علّمنا أنذ عامّة الكلام، أفضل من عامّة السكوت، وقد قال الله عزّ وجلّ: (سمّاعون للكذب آكلون للسّحت فجعل سمعه وكذبه سواءً) وقال الشاعر: بني عديّ ألا ينهى سفيهكم ... أنّ السّفيه إذا لم ينهَ مأمور وقال آخر: فإن أنا لم آمر ولم أنهَ عنكما ... ضحكت له حتى يلج ويستشري وكيف يكون الصّمت أنفع، والإيثار له أفضل ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمّ ويخصُّ، والرواة لم يرووا سكوت الصّامتين، كما روت كلام الناطقين، وبالكلام أرسل الله أنبيائه لا بالصمت، ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة

كثيرة، وطول الصّمت يفسد البيان. وقال ابو بكر بن عبد الله المرني: طول الصّمت حبسةٌ كما قال عمر: ترك الحركة عقلة. وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره وتبدّلت نفسه، وفسد حسّه، وكانوا يروّون صبيانهم الإرجاز، ويعلّمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصّوت، وتحقيق الإعراب، لأنّ ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الحرح (الصوت)، واللسان إذا أكثرت تحريكه رقّ ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسا وغلظ، وقال عبابة الجعفي: لولا الدربة وسوء العادة، لأمرت فتياننا أن يماري بعضهم بعضاً، وأية جارحةٍ منعتها الحركة ولم تمرنها على الأعمال، أصابها من التعقّد على حسب ذلك المنع نصائح لمن يتطال للخطابة مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلّم فتيانهم الخطابة فوقف بشر فظنّإبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أوليكون رجلاً من النظارة فقال بشر: اضربوا عمّا قال صفحاً، واطووا عنه كشحاً، ثم دفع إليهم صحيفةً من تحبيره وتنميقه وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرم جوهراً وأشرف حسباً، وأحسن في الإسماع، وأحلى في الصّدر، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين، وعزّةٌ من لفظٍ شريفٍ ومعنىً بديع، واعلم أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتّكلّف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، وخفيفاً على اللسان سهلاً وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه، وإياك والتوعر فإنّ التوعر يسلّمك إلى التّعقيد والتّعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراع معنىً كريماً فليلتمس له ال5فظاً كريماً، فإنّ حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجّنهما وعما تعود من أجله إلى أن يكون أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابسهما وقضاء حقّهما، وكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً، أما عن الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وأما عن العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرّف بأن يكون من معاني الخاصّة، وكذلك ليس يتصنّع بأن يكون من معاني العامّة، وإنما مدار الشّرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكلّ مقامٍ من المقال، وكذلك اللفظ

العامي والخاصّي فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك وإقدارك على نفك، على أن تفهم العامّة معاني الخاصة، تكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفّاء، فأنت البليغ التام كالبشر: فلمّا قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء ألفتيان. قال أبو عثمان: أما أنا فلم أرَ قوماً قطّ أمثل طريقةً في البلاغة من الكتّاب رىأألفنزائل فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشيّاً ولال ساقطاًسوقيّاً وإذا سمعتموني أذكر العوام، فإنّي لست أعني ألفلاحين والحشوة، والصّنّاع والباعة، ولست أعني الأكراد في الجبال، وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل البرد والطّيلسان، ومثل موقان وجيلان، ومثل الزنج وأمثال الزّنج، وإنما الأمم المذكورون من جميع النصّ أربع: العرب وفارس والهند والروم، والباقون همجٌ وأشباه الهمج وأما العوام من أهل ملّتنا ودعوتنا ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا فالطّبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم لم يبلغوا منزلة الخاصّة منا، عل أن الخاصّة تتفاضل في الطبقات أيضاً، ثم رجع بنا القول إلى بقية كلام بشر بن المعتمر إلى ما ذكر من الأقسام قال بشر: فإن كانت المزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك لا تسنح لك عدّ أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة التي لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها وإلى حقّها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها، وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها فإنك إذا لم تتعاطَ قريض الشّعر الموزون ولم تتكلّف اختبار الكلام المنثور، لم يعبك بتْرَكَ ذلك أحدٌ، وإن أنت تكلّفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً ولا محكماً لسانك، بصيراً بما عليك أو ما لك، عابك من أنت أقلُّ عيباً منه ورآى من هو دونك أنه فوقك فإن ابتليت بأن تتكلّف القوم وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطّباع في أول وهلةٍ، وتعصى عليك بعد إجابة ألفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعوده عند نشاطك وفراغ بالك بأنك لا تعدم الإجابة والموافاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق فإنّ تمنع ذلك عليك بعد ذلك من غير حادثً شغل عرَض، ومن غير طول إهمال والمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصّناعة إلى أشهر الصناعات

إليك وأخفّها عليك، فإن لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسبٌ والشيء لا يحسن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات لأنّ النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة (8) ما يجب على الخطيب وما لا يجب قالوا: وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين اقدار المستمعين وبين اقدار الحالات فيجعل لكل طبقةٍ من ذلك كلاماً ولكل حالةٍ من ذلك مقاماً حتى تقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات فإن كان الخطيب متكلّماً تجنّب ألفاظ المتكلّمين كما انه إن عبّر عن شيءٍ من صناعة الكلام واصفاً أومجيباً أو سائلاً كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلّمين إذا كانوا لتلك العبارات أفهم وإلى تلك الألفاظ. . . . . . . . . وإليها أحسن وبها أشغف ولأنّ كبار المتكلّمين ورؤساء النّظّارين كانوا فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء وهم تخيّروا تلك الألفاظ لتلك المعاني وهم اشتقّوا لها من كلام العرب تلك الأسماء وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسمٌ فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف وقدورةً لكل تابع. قالوا: وفبيحٌ بالخطيب أن يقوم بخطبة العيد أو يوم السماطين أو على المنبر أو في سدّة دار الخلافة أو في يوم جمعٍ وحفل أما في إصلاحٍ بين العشائر واحتماء دماء القبائل واستلال تلك الضعائن والسّخائم فيقول كما قال بعض من خطب على منبرٍ ضخم الشّأن رفيع المكان: ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ بعد أن أنشأ الخلق وسوّاهم ومكّن لهم لاشاهم فتلاشوا ولو. . . . . . المتكلّم. . . . . . إلى أن يفظ بالتّلاشي لكان ينبغي أن يؤخذ فوق يده، وخطب آخرٌ في وسط دار الخلافة فقال في خطبته: وأخرجه الله من باب الليسية فأدخله في باب الأيسية. . . . . . . . . قال: وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميّاً ساقطاً سوقيّاً فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشيّاً إلا أن يكون المتكلم بدويّاً أعرابيّاً وكلام الناس في طبقاتٍ كما أنّ الناس أنفسهم في طبقات فمن الكلام الجزل والسّخيف والمليح والحسن والقبيح والسميج والخفيف والثّقيل وكله عربيٌّ وبكلٍّ قد تكلّموا وبكلًّ قد تمادحوا وتعايبوا

فإن زعم زاعمٌ أنه لم يكن في كلامهم تفاضلٌ ولا بينهم في ذلك تفاوتٌ فلم ذكروا العيّ والكيّ والحصر والمفحم والخطل والمسهل والمتشدّق والتّفيهق والمهماز والثرثار والمكسار والهمّاز ولم ذكروا الهجر والهذر والهذيان والتخليط وقالوا رجوا تلقاع (كثير الكلام) وتلهاع (متشدّق) وفلانٌ يتليع في خطبته وقالوا فلانٌ يخطىء في جوابه ويحلّ في كلامه ويناقض في خبره ولو أنّ هذه المور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمّي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء وأنا أقول أنه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذّ في الإسماع ولا أشدّ اتّصالاً بالعقول السّليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول استماع حديث الأعراب ألفصحاء العقلاء العلماء البلغاء. يروى أن مطرف بن عبد الله كان يقول: لاتطعم طعامك من لا يشتهيه. ويقول: لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: حدّث الناس ما حدّجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترةً فأمسك قال: وجعل ابن السمّاك يوماً يتكلّم وجارية له حيث تسمع كلامه فلمّا انصرف إليها قال لها كيف سمعت كلامي قالت: ماأحسنه لولا أنك تكثر ترداده فقال: أردده حتّى يفهمه من لم يفهمه قالت: الحد أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد ملّه من فهمه. قال عبّاد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال: مكتوبٌ في التّوراة لا يعاد الحديث مرّتين. وسفيان بن عيينة عن الزّهري قال: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصّخر. وقال بعض الحكماء: من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤنة الاستماع منك وجملة القول في التّرداد نفسه أنه ليس فيه حد يحصره من العوام والخواص قال تمامة بن أشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس قد جمع الهدوء والتّسهل والجزالة والخلاوة وإفهاماً يغنيه من الإعادة ولو كان في الأرض ناطقٌ يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة وقال مرّة: ما رأيت أحداً كان لا يتجسس ولايتوقف ولا يتلجلج ولا يتنحنح ولا يرتقب لفظاً كان قد استدعاه من بعد ولا يلتمس التّخلص إلى معنى قد تعصى عليه طلبه أشد اقتداراً ولا أقل تكلّفاً من جعفر بن يحيى. وقال تمامة: قلت لجعف بن يحيى ما البيان: قال أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغناك وتخرجه من الشّركة وتستعين عليه بالفكرة والذي لابدّ منه أن يكون

سليماً من التّكلف بعيداً من الصنعة بريئاً من التّعقيد غنيّاً عن التّأويل. قال أبوعثمان أعيب عندهم من دقّة الصّوت وضعف مخرجه وضعف قوته أن يعترض الخطيب البهر والارتعاش والرّعدة والعرق قال أبو الحسن قال سفيان بن عيينة: تكلّم صعصعة عند معاوية فعرق فقال معاوية: بهرك القول فقال صعصعة: إنّ الجياد نضّاحةٌ بالماء. والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشّاًكثير العرقكان ذلك عيباً وكذلك هو في الكثرة وإذا أبطأ ذلك وكان قليلاً قيل قد كبا وهو فرسٌ كابٍ وذلك يجب أيضاً. نصائح لطالب الإجادة في خطبه رأيت بما مضى بعض العيوب التي يجب على الخطيب أن يربأ بنفسه عنّا مما ذكره أبو عثمان الجاحظ وهاك الآن قطعةً أخرى له قال: قال بعض الرّبّانيين من الأدباء وأهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التّشادق والتعمق ويبغض الإغراق في القول والكلف والإجتلاب ويعرف أكثر أدواء الكلام ودواؤه وما يعتري المتكلّم من ألفتنة بحسن ما يقول ويعرض للسامع من الافتتان بما يسمع والذي يورث الاقتدار من التّهكّم والتسلّط والذي يمكّن الحاذق المطبوع من التّمويه للمعاني والخلاّبة وحسن المنطق. قال في بعض مواعظه: أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام فإنّ المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاًومنحه المتكلم قولاً مقنعاً صار في قلبك أحلى ولصدرك أملأ والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة وأُلبِست الأوصاف الرفيعة تحولت في العيون عن مقادير صورها وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زيّنت وعلى حسب ما زخرفت فقد صارت الألفاظ في معنى المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيفٌ وسلطان الهوى قويٌّ ومدخل خدع الشيطان خفيٌّ فاذكر هذا الباب ولا تنسه وتأمّله ولا تفّرط فيه فإنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لم يقل للأحنف بعد أن احتبسه حولاً مجرَّماًتامَّاًليستكثر منه وليبالغ في تصفح حاله والتّنفيرعن شأنه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد كان خوَّفنا من كلّ منافق عليم وقد خفت أن تكون منهم إلا لما كان راعه من حسن منطقه ومال إليه لمّا رآى من رفقة وقلّة تكلّفه قال الجاحظ: فالقصد من ذلك أن تجتنب السّوقيّة والوحشيّة ولا تجعل همّك في تهذيب الألفاظ وشغلك في التّخلّص إلى غرائب المعاني وفي الإختصار بلاغٌ وفي التوسّط مجانبة للوعورة وخروجٌ من سبيل من

لا يحاسب نفسه وقال أحد العلماء وجرى شيءٌ من ذكر الخطب وتمييز الكلام: تلخيص المعاني رفقٌ والاستعانة بالغريب عجز والتّشادق في غير أهل البادية نقص والنّظر في عيون النّاس عيٌّ ومس اللحية هلكٌ والخروج مما بني عليه الكلام إسهاب. وكان يقول: رأس الخطابة الطّبع وعمودها الدّربة وحليّها الإعراب وبهاؤها تحبير اللفظ والمحبّة مقرونة بقلّة الاستكراه وأنشد في خطبة إياد يومون باللفظ الخفيّ وتارةً ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء وقد ردّ الجاحظ على من زعم أنّ البلاغة أن يكون السّامع يفهم معنى القائل وجعل ألفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرّب كلّه سواءً وكلّه بياناً قال: وكيف يكون ذلك كلّه بياناً ولولا طول مخالطة السّمع للعجم سماعه لمفاسد من الكلام لما عرفه ونحن لم نفهم عنه إلا للنّقص الذي فينا وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لايستدلّون على معاني هؤلاء بإكمالهم كما لا يعرفون ركاكة الرّوميّ والصقلبيّ وإن كان هذا الاسم إنما يستحقونه بأنّا نفهم عنهم كثيراً من حوائجهم فنحن قد نفهم بحمحمة ألفرس كثيراً من حاجاته ونفهم بضغاء السّنّور كثيراً من إرادته وكذلك الكلب والحمار والصبيّ الرضيع قال: وكانوا يمدحون شدّة العارضة وقوّة اللسنة وظهور الحجّة وثبات الجهاد وكثرة الرّيق والعلوّ على الخصم ويهجون بخلاف ذلك. ثمّ قال: وهم وإن كانوا يحبّون البيان والطّلاقة والتّحبير والبلاغة والتخلّص والرشاقة فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتّكلّف والإسهاب والإكثار لما في ذلك من التزيّد والمباهاة واتّباع الهوى والمنافسة في العلوّ والقدر وكانوا يكرهون ألفضول في البلاغة لأنّ ذلك يدعو إلى السّلاطة والسلاطة تدعو إلى البذاء وكلّ مراءٍ في الأرض فإنّما هو من نتاج ألفضول ومن حصّل كلامه وميّزه وحاسب نفسه وخاف الإثم والذّمّ أشفق من الغرارة وسوء العادة وخاف ثمرة العجب وهجنة القبح وما في حبّ السمعةمن ألفتنة وما في الرّياء من مجانبة الإخلاص قال: وكانوا يأمرون بالتبيّن والتثبّت وبالتحرّز من زلل الكلام ومن زلل الرأي ومن الرأي الدبّري والرأي الدبّري هو الذي يعرض منه الصّواب بعد مضي الرأي الأول وفوت استدراكه وكانوا يأمرون بالتحلّم والتعلّم وبالتّقدّم في ذلك أشدّ التّقدّم. قال: أوصيك أن لا

تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أنّ لك فيهما طبيعةً وأنهما يناسبانك بعض المناسبة ويشاكلانك في بعض المشاكلة ولا تهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة ويستبدّ بها سوء العادة وإن كنت ذا بيانٍ وأحسست من نفسك بالنّفوذ في الخطابة والبلاغة ويقوة المنّة يوم أحفل فلا تقصّر في التماس أعلاها سورةً وارفعها في البيان منزلةً ولا يقطعنّك تهيّب الجلاء وتخويف الجبناء ولا تصرفنّك الروايات المعدولة عن وجوهها والأحاديث المتنأولة على أقبح مخارجها فإن أردت أن تتكلّف هذه الصّناعة وتنسب إلى هذا الأدب فقرضت قصيدةً أو حبرت خطبةً أو ألفت رسالةً فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك ويدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدّعيه ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو إشعارٍ أو خطبٍ فإن رأيت الأسماع تصغي له والعيون تحدّج إليه ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله فإن كان ذلك في ابتداء أمرك وفي أول تكلّفك فلم ترَ طالباً ولا مستحسناً فلعله أن يكون ما دام. . . . . . قضيباً أن يحلَّ عندهم محلّ المتروك فإن عاودت أمثال ذلك مراراً فوجدت الأسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية فخذ في غير هذه الصناعة واجعل رائدك الذي يكذّبك حرصهم عليه أو زهدهم فيه. فقال: وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام ويكون له طبيعة في التجارة وليس له طبيعة في ألفلاحة ويكون له طبيعة في الحداء أو في التعبيرات في القراءة بالألحان وليس له طبيعة في الغناء وإن كانت هذه الأنواع كلّها ترجع إلى تأليف اللحون ويكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي ويكون له طبيعةٌ في القصبتين المضمومتين ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرها ويكون له طبع في تأليف الرسائل والطب والأسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر ومثل هذا كثيرٌ جدّاً وقال: ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذّ في الأسماع ولا أشدّ اتصالاً بالعقول السّليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول اتماع حديث الأعراب ألفصحاء العقلاء والعلماء البلغاء وقد أصاب القوم في عامّة ما وصفوا إلا أنّي أزعم أنّ سخيف الألفاظ مشاكلٌ لسخيف المعاني وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل ألفخم ومن اللفاظ الشريفة الكريمة من المعاني كما أنّ النّادرة الباردة جدّاً قد تكون أطيب من النّادرة الحارّة جدّاً وإنما الكرب الذي يختم على القلوب

ويأخذ بالأنفاس النادرة ألفاترة التي لا هي حارّة ولا هي باردة وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط وإنما الشّأن في الحارّ جداً والبارد جداً وكان محبر بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلانٌ أثقل من مغنً وسط وأبغض من ظريفٍ وسطٍ. قلنا: وهذا يشبه ما قاله لابرويير في كتابه الأخلاق: من الأشياء ما لا يطاق فيه التوسط: الشعر والموسيقى والتصوير والخطاب العامّ. قال إسحاق بن حسّان بن فوهة: لم يفسّر البلاغة تفسير ابن المقفّع أحدٌ سئل ما البلاغة قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في أمور كثيرة منها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ومنها ما يكون في الإشارة ومنها ما يكون في الحديث ومنها ما يكون في الاحتجاج ومنها ما يكون جواباً ومنها ما يكون ابتداءً ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل. فعامةً ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطلً والإطالة في غير إملال وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته كأن يقول: فرقٌ بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصّلح وخطبة المذاهب حتى يكون لكل فنٍّ من ذلك صدرٌ يدل على عجزه فإنه لا خير في كلامٍ لا يدلّ على معناك ولا يشير إلى مغزاك وإلى العمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت قال فقيل له فإن ملَّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حقّ ذلك الموقف قال: إذا عطيت لكل مقامٍ حقّه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنه لا يرضيهما شيءٌ وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيءٌ لا ينال.

علم الماني

علم الماني رأينا في العهد الأخير حركة مباركةً نحو العمران في هذه الدّيار فقد فتحت في دمشق وبيروت وحلب والقدس ويافا وحمص وحماه وطرابلس وغيرها شوارع وجادات واستجدّت الهمّة لتغيير صورة المدن القبيحة بصورٍ جميلةٍ من الطّرز الجديد في البناء وشعر القوم وولاة امرهم بأنّ الطّرز العتيق في الأبنية ينبو عنه النظر ولا يسدّ الحاجة المطلوبة في البناء ولا ينمّ عن ذوقٍ بحيث أصبحت مدننا بعد ضياع فن الهندسة منها عبارةً عن قرى حقيرة واكنها واستعيض عن الحجر والآجرّ بالطين واللبن مما يسّع إليه البلا والحريق والشرّ الأعظم في تراجع العمران في هذه البلدان عدم الاحتفال بفن هندسة البناءأو علم المباني فأصبح كلّ امرئٍ وما يختاره من البناء يبني على ذوقه بحيث لا تكاد تجد في أكثر المدن الداخلية أبنية من القرن الثاني عشر والثالث عشر هجرية إلا كئيبةً ينفر منها الذّوق وتتجافى عنها العين ولاتقوم بما تقوم به المباني في البلاد الممدّنة من الاقتصاد في النّفقة والرّاحة للسّاكن وجمال الدّاخل والخارج ولا ينافي ذلك كون بعض الدّور الجميلة داخل البلاد ولاسّما في دمشق جميلةٌ مزخرفةٌ تتوسطها أحواض الماء الدّافق وتعرّش على حوائطها النباتات والزهور وقد جعلت طابقين طابق أسفل للصيف وطابق أعلى للشتاء فإن هذه الدور قليلة العدد لاتكاد تجد في الحيّ الواحد داراً أو دارين منها أما الحوانيت والمخازن فالجيّد منها أقل من القليل. علم البناء هو علم إنشاء المباني على نسبةٍ معيّنةٍ وبحسب قواعد مقررة يجب أن يكون كلّ بناءٍ نافعاً من وجوهٍ فإن الحاجات المادية والإلهامات الروحية وطمأنينة المرء تملي على المهندس مجموع الخطة أو التّصميم الذي يطلب منه وتقسيم داخل البناء واتّساعه وغناه أوفقره ومن أجل ذلك انقسمت المصانع المعاهد كما قال الإفرنج منذ القدم حتّى زماننا إلى ثلاثة تقسيماتٍ كبرى وهي الهندسة الدينية والهندسة المدنية والهندسة الحربية. كانت مصر وآسيا مهد علم المباني وأجمع الباحثون أن أهرام منفيس أقدم المصانع التي عرفناها وأبا الهول المنحوت في الصخر في الجيزة القائم تحت رجليه معبدٌ من الصوان والرّخام الأبيض لا يتأتى فصله عن الأهرام ولم تعرف المسلات في مصر إلا على عهد الدولة الثانية عشرة من دول ألفراعنة وارتقت الهندسة المصرية زيادةً عن ذي قبل على عهد الدولة التاسعة عشرة والدولة العشرين.

ظهرت الهندسة في بابل ونينوى في بناء السدود والأسوار أولاً وحازت حدائق سميراميس ومعبد بعل شهرةً مستفيضةً وبحقٍ ما اشتهرت ولم يقض على بنيانها ويدخل البلاد إلى تضاعيفها إلا ما جعل فيها من القرميد. وكان للمعادن شأنٌ عظيمٌ في معاهد الفينيقيين واليهود وكانت الهندسة الهندية تتمثل في معابد الهند ومدافنها وبيوت أصنامها. وعُرفت أثينا بأنها مهد الانقلاب الهندسي في العالم فبلغت فيها الهندسة في عهد بركليس وفيدياس أرقى درجاتها وتمثل الذوق اليوناني في المعابد أكثر من أي شيء وأثّر في هندسة الغرب حق التأثير. وتفنن الرومان في البناء وخلّفوا في كل مكانٍ امتدّ سلطانهم عليه من آثار الهندسة في الطرق والمجاري والأسوار والمسارح والحمامات ما شهد لهم باتساع ألفكر والهندسة العملية والمتانة في العمل. ولما انتشر الدين المسيحي واعتُبر ديناً لإمبراطورية الرومان على عهد قسطنطين أخذ المسيحيون يبنون معابدهم على مثال معابد الوثنيين مع تزيين ظواهر البناء وتضاف إليها أبراجٌ وقبابٌ للأجراس. وتفنن البيزنطيون بالنقوش في البناء ويدخل فيها الرّخام والمعادن والفسيفساء وكنيسة آياصوفيا في الأستانة وهي أجمل مثالٍ من هندسة الكنائس في القرن السادس. قال العارفون من ألفرنجة: لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار مماجعل لجوامعهم وقصورهم بهجةً لا يبلى على الدّهر جديدها ودلت كل الدلالة على إيغالهم بالنقوش والزينة كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماشٌ من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها. جاء القرن الثاني عشر في أوروبا وهندسة البناء تنتقل من طورٍ إلى طور حتى إذا كان القرن الخامس عشر كانت إيطاليا بفضل نهضتها صاحبة المقام الأول في الهندسة وعن هندسة معاهدها ودورها نقل لفرنسيس والإسبان ولإنكليز والألمان والسويسريون. ومن أمم أوروبا من أضاعت أصولها القديمة في البناء واتخذت من أصول الطليان نموذجاً حسناً سارت عليه كما لا تزال الأمم تتخذ من طرز الهندسة العربية الأندلسية نموذجاتٍ إلى هذا العهد ومنها محطة السكة الحجازية الحديثة في دمشق وهي أبدع بنايةٍ حديثةٍ في هذه

الحاضرة ولو سار الناس على نموذجٍ معيّنٍ في البناء لكانت مصانعنا ودورنا جميلةً كمصانع الإفرنج وبيوتهم ولم يوفّق في ذلك بعض الشّيء إلا أصحاب البيوت المحدثة في بيروت ولبنان والقاهرة والإسكندريّة والأستانة وسلانيك وغيرها من الساحل. ولو تطلّعنا إلى الصين لرأيناها منحطّةً في هندستها ومثلها اليابان تأثرت في هندستها القديمة بجوارها الصّين ولكنّ بناياتها الحديثة حسنةٌ كالهندسة الأوروبية قال مهندسٌ مصريٌّ: إنّ ما تفهمه العامّة في المدن الصّغرى من أنه لا فرق بين المهندس المعماريّ والبنّاء وكثيرٌ من البنّائين الذين عندهم بعض الذّكاء والمعرفة يقومون بكثيرٍ من الأعمال ليس على حقيقته. فالمباني ليست بهذه السهولة التي اختبروها. نعم إنّ كلّ إنسانٍ قادرٌ على أن يفصّل منزله الذي يرغب في سكناه ويتخيّله ولكنّه لا يدري كيف يجعل شكل واجهته جميلاً فمنهم من يفتكر أنّ حسن المباني بكثرة الزّخرف فيملؤها به فتظهر كشكولاً قبيحاً من الأشكال المتنافرة تدلّ على خفّة واضعها. ومنهم من لا يفكّر في ذلك مطلقاً إلا بعد تمام بنائه فلا يدري كيف يفعل إذ يظهر له كثيرٌ من العيوب وللمطّلع أن يردد طرفه في شوارع القاهرة فيرى ما يدهشه من مثل هذه المباني فإذا زار القاهرة أحد المهندسين الغرباء لأول مرّةٍ فإنه يدهش كثيراً إذ كان يتخيّل قبل رؤيتها مدينةً شرقيّةً جميلةً من الطراز العربيّ التركيِّ وألفرعوني فإذا به يرى خليطاً مدهشاً من المباني لا يدري كيف يعبّرعنه فإذا دقّق النظر في كلّ بناءٍ على حدته وجد اختلافاً عظيماً بينها فبعضها مصنوعٌ على أتمّ ما يكون وهو القليل وبعضها مضحكٌ بل منفّر لا يقدر محبُّ ألفنون الجميلة أن يطيل النظر إليه إلى غير ذلك من مختلف الأشكال والألوان فإذا فحصها لا يرى في ترتيبها ونظامها مشابهةً مطلقاً فيعرف بذلك أن لا قوميّة لهذه البلاد ولا ارتباط ف أذواق أهلها وقد يلاحظ أيضاً في بعض العمارات أنّ أصحابها ليست فيهم القدرة على بنائها فلذلك حذفوا كثيراً مما كان متمماً لها ابتغاء الإقتصاد ولا يهمهم إلا أن تكون لهم عماراتٌ كبيرةٌ من غير أن يلتفتوا إلى جودة أدواتها ودقّة صنعها ومنهم من يريد أن يجعل مبانيه في غاية المتانة والإتقان فيكثر في الإنفاق عليها دون فائدةٍ وفي كلتا الحالتين تظهر مبانيهم في غاية القبح

يظهر أنّ كثيراً منهم ينقصهم المنطق والانتقاد بل ويزيد فيهم الإهمال والتهون والجهل فإنّ بعضهم يأخذ عمله عن رسومٍ إفرنجية ويريد أن يعمل على شكلها ويحب انيتفلسف فيها فيحذف المهم ويضيف ما يرى انه حسنٌ فيظهر عمله مشوّهٌ وهو يظنّ أنه جاء بما لم يأتِ به الأولون علم لامباني فنٌّ من ألفنون الجميلة بل هو أحسنها فإذا قارنّا بينه وبين الموسيقى نجد أنّ كليهما مطربٌ للإنسان فالأول مكوّنٌ من نغماتٍ غير متنافرةٍ منتظمة الأوقات والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب به الإنسان ويظهر الثاني الظلّ والضوء واللوان فتراها العين في أتمّ ما يكون موضوعةً بنسبٍ محفوظةٍ ما بين مزخرفٍ وبسيطٍ تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس فكلا ألفنّين جميلٌ غير أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا بشعر بها وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظلٌّ لا يحتاج الموسيقار في تركيب دور الموسيقى إلا لمعرفته النغمات والأزمان وانطباقها على معنىً ما يلحّنه من فرحٍ وطربٍ ولوعةٍ وحزنٍ ولكن في عمل البناء صعوباتٌ جمٌّة من بين فحص الأدوات المختلفة ووضعها وعمل حساب أثقالها ومقاومتها وجمعها وعلى ذلك فإنّ فنّ البناء هو أصعب ألفنون الجميلة وأحسنها وهو في الحقيقة أول شيءٍ يبحث عنه في كلِّ فنٍّ وهوجوابٌ لهذا السؤال الخطيرأوجد لي محلاًّ جميلاً يليق بفنّي أو عملي وأنت ترى تقدّميفيجب والحالة هذه أن لا يعهد في الأعمال إلا إلى المهندسين ألفنيين الأكفاء لا إلى المعلّمين والصنّاع كما هو شأن معظم من يبني في هذا القرن الرابع عشر في بلاد الشّام وياللأسف ومما يجب أن يلاحظ في هذه المباني حين عملها جودة أدواتها وتحكيم ترتيباتها ودقّة زخرفها ومجانسة وكمال تركيبها العموميّ وطرازها وملائمتها لما يحيط بها ووجود كل ما يحتاج له في محتوياتها وتخطيطها وتناسب كلّ ذلك بعضه مع بعضٍ وليس في كلّ ذلك من بأسٍ على المهندسين فإنهم معذورون بل المسؤول في ذلك هم أصحاب هذه المباني فإنهم يضنّون بالقليل أجرة أتعاب المهندس الذي يضع لهم تصميماً

تامَّاً عن مبانيهم ويفكّرون أنّ ذلك شيءٌ لا ضرورة له ومن ذلك ظهرت هذه النتيجة المعيبة في الأبنية إنّ الذين يحكمون على الأمة ليس لهم إلا الظّاهر منها وأنّ أول شيءٍ يظهر لهم هو حالتها الاجتماعية وكيفيّة معيشتها ومبلغ مدنيّتها وذلك لا يظهر إلا في مبانيها فإذا كانت مستكملةً الشروط حكموا لها بالّقيّ وإلا فيحكمون عليها بالجهل والانحطاط وربما يعترض بعض المطّلعين بقولهم إنّا عهدنا لبعض المهندسين بأعمالنا فقدّموا لنا رسوماً لمبانينا ولكنّا بعد أن أتممنا بناءها وجدنا شكلها ليس كما يرام فيجاب على ذلك بجوابين: الأول أنهم ضنّوا على مهندسيهم بجميع قيمة أتعابهم. الثاني: إنّ الرسوم المقدّمة إليهم كانت بنسية تلك الأتعاب ونتيجة ذلك أنّ الرسم المقدّم إليهم كان الشّكل التخطيطي فقط وليس ذلك بالكفاية خصوصاً وأنهم لم يفهموه في الغالب وهم في ذلك معذورون والمهندسون لا يمكنهم تقديم رسوم مستكملة الشّروط بهذه الأتعاب القليلة والنتيجة أنه يجب عمل الرسوم اللازمة لأي بناء قبل الشروع فيه ويجب أن تكون الرسوم المقدّمة من المهندس أربعةً على الأقل أولها المسقط الأفقي ثانيها شكل أهم واجهة في البناء ثالثها قطّاع رأسي عن جميع البناء مبيّنٌ فيه الإرتفاعات وغير ذلك رابعها رسم تفصيلي عن أهم ما يراه المهندس في البناء وبعد فإن المانع في فلسفة ألفنون الجميلة من أن نقول هذا البناء بلغ حدّ الكمال لم يزل إلى الآن ولا ندري إن كنّا بلغنا درجةً محسوسةً في الرّقي تظهر آثارها لمن يأتي بعدنا أو لا فإنا لم ننسى الزمن الماضي ومبانيه وقد بقي منه كثيرٌ من القصور الكبير إلى الآن فإذا نظرنا واجهة إحداها التي كانت في زمانعا آية الآيات في الزخرف والرواء عند صانعيها نقابلها الآن بابتسامةٍ فهل ما نصنه اليوم ونظنّه جميلاً سيقابل من رجال المستقبل بهذه الابتسامة أيضاً؟ لا ندري: ولكن الذي يجب علينا هو أن نصنع أعمالنا على قواعد أساسية يقررها العلم ويستحسنها العقل وترتاح لها النفس حتى إذا جاء الذي بعدنا ونظر عملنا يعتقد أننا كنّا نشتغل بفكرٍ وعلى قواعد ويكون ملزماً باحترام أعمالنا كما نحترم نحن الآن الآثار الجميلة التي تركها ألفراعنة والعرب التي هي موضع الإعجاب لعهدنا عندنا وعند غيرنا

إنّ الحكم على شيءٍ أو المقارنة بينه وبين شيءٍ آخر هو فرعٌ عن تصوّره وذلك لا يكون إلا نتيجة مبلغٍ رقيّ المقارن في الهيئة الاجتماعيّة ومبلغ علمه فيما سيحكم فيه فما علينا إلا أن نجتهد ونرقى ونعرف وبعد ذلك نحكم فيكون حكمنا على أساس متينٍ يقبله العقلاء وتطأطئ له الرؤوس المنزل مأوى الإنسان مع أهله بل هو المملكة الصّغيرة التي تدبّرها مدبّرته وهو ذلك الحريم الشّرقيّ الذي تعيش فيه المرأة الشّرقيّة مع أولادها بل المدرسة الأولى لأفراد الأمة المستقبلة وهو المكان الذي يأوي إليه ربّه بعد تعبه من أشغاله فيجد فيه الراحة والهناء. فيجب والحالة هذه أن يكون محتوياً على جميع أسباب الراحة مستوفياً جميع الشّروط الصحّيّة سواءً كان ذلك في البيوت داخل المدن أو في المنازل الخلويّة أو في طباق العمارات الكبيرة إنّ رقيّ الأمة أو وجوب رقيّها يضطرّها إلى تغيير النّظام الذي سارت عليه في القرن الماضي لإيجاد المحالّ الكافية من كلّ وجهةٍ لمعيشة عائلةٍ شرقيّةٍ إسلاميّة أخذت ترجع إلى المعيشة الديمقراطية ثم سهولة الأعمال العظيمة بواسطة العدد والإختراعات الحديثة تساعدنا على إنشاء هذه المحالّ بأشكالٍ جميلةٍ ونظامٍ تامٍّ حتى يجد الأفراد فيها راحتهم وسرورهم. يلاحظ المهندي المعماري قبل وضع تصميمه شيئين: الأول ملاحظة عموميّة والثانية تفصيلية وكلتا الملحوظتين تنقسم إلى عدّة أقسامٍ فالأولى يجب على المهندس أن يضع نصب عينيه - نقطة البناء وشكلها - منظر واجهته وتلافيها بالنظر - استقلال محلاّته - الاقتصاد الممكن في البناء وكذلك مراعاته للسكان - ما يقي السكّان عند حدوث الخطر - ملاحظة المفروشات ونظامها - وحفظ الصّحّة ومراعاتها. الثانية تفصيل المحالّ من غرفة استقبال الرجال أو المطالعة وغرفة النوم والملابس والحمّام وما يتبعه وغرفة أشغال ربّة المنزل وأخرى لاستقبال السّيّدات وغرفة الأطفال والمطبخ والأنبار وغرفة الأكل. . الخ ولا يوجد قانون لجمع هاتين الملحوظتين وفروعهما وإنما يأتي ذلك بقوة ومهارة المهندس الذي يضع التّصميم ومبلغ ذكائه وخبرته وعليه أن ينظر لكل نقطة من هاتين الملحوظتين وغيرهما ويهيّئ لها جميع الأفكار التي تناسبها في خاطره ثم ينتقي أحسنها وعليها يبرز تصميمه

وبعد فلا تدخل المدن الشّاميّة في طور العمران الحقيقي إلا إذا جعل مصوَّرٌ عامّ لكل مدينةٍ لا يسمح لأحدٍ أن يبني إلا بحسب ما تقرر. وان يشتغل المعول زمناً في هدم الحلل والأحياء والأزقة الضيقة والدور الكئيبة مع ملاحظة السكّان وحالة البلاد واتباع سنّة التدريج وأن لا يبني الباني داره ولا حانوته ولا مصنعه إلا بحسب الطراز الذي ترسمه البلديات والأبعاد التي تعيّنها للجادّات ومن الغريب أنّ جميع مدن سورية ليس لها خريطةٌ سوى مدينة حلب وما عداها فيبني البانون فيها بحسب رغائبهم يختارون الطراز الذي يروقهم ويلتئم مع مصلحتهم المؤقتة ويبعدون عن الشارع أو لا ينحرفون عنه بحسب ذممهم وقلّ أن شاهدنا بلداًً من بلادنا أحسّ بسلطة مهندسي مجالس البلديّة عليه وكثيراً ما يعينه المهندس على ضلالته لقاء عرضٍ قليلٍ يبتاع به ذمّته. فإذا وفِّق رجال الإدارة إلى تتميم ما بدأوا به من هذا القبيل لا يمضي نصف قرنٍ على الأكثر حتى تصبح مدن الشّام بل قصباتها الصغرى عامرةٌ مستوفاةٌ شروط الذّوق والراحة وافيةً بالمراد من حيث الصّحّة والغناء ونشير على كلّ من تحدّثه نفسه بإقامة دارٍ أو حانوتٍ أو مصنعٍ أو قهوةٍ أو مسرح أو فرنٍ أو معملٍ أن لا يشرع بعمله قبل أن يفزع إلى مهندسٍ ماهرٍ ولا يتطلّب من أرباب هذا ألفنّ الذي يرتضي بالقليل بل يؤثر الذي يتناول أجرةً جيدةً ويعمل ويعمل عملاً يماثله وبذلك يتوفّر عليه ماله وتبقى بنايته القرون قائمةً تتوارثها أعقابه من بعده وكلما طال عليها العهد حلت وأصبحت لها قيمةٌ وأصبحت لها قيمةٌ فيكون كمن استرخص طبيباً وطبّ الأرواح كطبّ الأشباح متلازمان ولولاهما لما عاش إنسانٌ ولا حيوانٌ ولخرب العمران وابذعر السكان. إنّ بيوت مهاجرة الإسرئيليين في يافا وجاليةالألمانيين في حيفا أعظم معلّمٍ لمهندسينا وأهل الأملاك فينا ينظرون كيف أنشأ بانوها من ألفقر غنىً ومن العدم راحةً وجمالاً وزخرفاً ورفاهيّةً.

أعلام المدن والبلدان

أعلام المدن والبلدان لا خفاء أنّ كثيراً من الدواعي القديمة والحديثة والآتية تتخذ أسباباً لأسماء البلدان والمدن والأماكن على اختلافها واختلاف اللغات والقبائل والزمان والمكان ونحو ذلك من المؤثّرات التي تعمل في الإعلام عمل المؤثّرات الطبيعية من حرارةٍ وبرودةٍ ونحوهما في سيّارنا الأرضي فتقلب الجبال سهولاًوالسهول تلالاً واليابسة بحاراً والبحار يابسةً حتى إنك إذا درست طبقات الأرض وأنعمت فيها النّظر توصّلت بالبحث إلى استطلاعٍ تلك ألفواعل وتعاقبها وما سبّبته البراكين والزلازل والمؤثّرات الأخرى مهما كانت. فتقف حائراً عندها مسبِّحاً الخالق الذي أعطاك عقلاً مدقّقاً وأرشدك إلى معرفة العلل والأسباب لتقتنع وتلتذَّ بما تكتشفه من مبهماتٍ الشؤون وغرائب الحوادث ومن الثّابت أنّ تأثير العبادات وتيّار الأديان وتعاقب ألفاتحين وتداخل اللغات أو تزاحمها هي من أهمّ هذه ألفواعل في أعلام الأماكن فترى الأمّة التي تقف على عَلَم مكانٍ كان قد وضعه من قبلها أمّا تحوّله إلى لغتها أو لغة جيرانها أو تتمحل له سبباً بغويّاً آخر لتمييزه ومعرفة معناه أو داعي تسميته. ثم تأتي أمّةٌ أخرى بعدها تطرّس على آثارها فتنقض رأيها وتؤيّد رأياً جديداً لها فيه نظرٌ آخرٌ أو تقتفي أثرها بنقل سبب تلك التسمية على علاّتها فيقع الإشكال في ردِّ الأعلام إلى نصابها وإرجاع الألفاظ إلى مظانّها ومعرفة اللغة التي وضع فيها العلم وما كان القصد من وضعه إلى ما يساوق مثل هذه التّعليلات ويدخل في حيّز اللغات الميّتة أو الحيّة ويرشد الباحث إلى الوقوف على ما هو الأرجح والأثبت. ولا سيّما إذا كان قد درس علم الآثار القديمة (الأركيولوجي) والأساطير (مثولوجية) وعلم الأزمنة والأعداد التاريخيّة (الكرونولوجية) وعلم مقابلة اللغات وعلم الديانات ونحو ذلك من العلوم التي لها أكبر علاقةٍ في معرفة الأمم وعباداتها ولغاتها وتعاقبها ولقد وضعت تواريخٌ كثيرةٌ مطوّلةٌ لسورية وبعض مدنها وبلدانها مثل (تاريخ زحلة) الذي طبع و (تاريخ سورية المجوَّفة) أي سهل بعلبك والبقاعين و (تاريخ قضاء المتن) وغيرها مما لم يطبع وحللت فيها أسماء القرى والأماكن تحليلاً تاريخيّاً أثريّاً لغويّاً يبيّن شؤون القدماء وعباداتهم ومن هذه المؤلّفات اقتطفت هذه المقالة الآن. فإذا بحثا في أسماء القارّات العظيمة نجد أنّ اسم قارّة (آسية) إما من كلمةٍ شرقيّةٍ قديمةٍ بمعنى (النّور) أو من كلمة (إؤس) اليونانيّة بمعنى ألفجر. وإما باسم (آسية) في الأساطير

وهي ابنة أوقيانوس وكلٌّ من هذه الآراء هو ممكنٌ لما غي اشتراك التّسمية كما لا يخفى. والاسم اليوناني فيها أرجح لسكنى اليونان فيها قديماً واسم قارّة (إفريقية) ربّما كان فينيقيّاً بمعن (ألفرَق) أو (المهجر) لأنّ القرطجنيين منهم أول من أطلق عليها هذا الاسم لافتراقها عن قرطجنة مستعمرتهم وأما لأن فرقة القرطجنيين نزلتها وتديَّرتها أو لمهاجرتها إليها وكلٌّ من اسمي (آسية) و (إفريقية) وغيرهما كما لا يخفى أطلق على القسم الذي نزلته أمّة اليونان في آسية الصغرى أو برّ الأناضول والقسم الذي نزلته الأمّة ألفينيقيّة وهو شمالي إفريقية حيث تونس والجزائر وطرابلس الغرب. فسمّي الكلّ باسم البعض مجازاً وعذا كثيرٌ في التّسميات المكانيّة وغيرها واسم قارّة (أوروبا) إمّا نسبةٌ إلى أوروبة ابنة آجنور ملك فينيقية لأنّ المشتري (جوبّيتير) حملها إلى هناك في زعمهم. وإما من كلمة فينيقية بمعنى البياض لبياض لون سكّانها أو محرَّف (عروب) أو (أربة) ألفينيقيّة أيضاً بمعنى الغروب والظّلمة لوقوعها غربي آسية واسم قارّة (أميركة) نسبةً إلى أميركيوس ثسبوستيوس التّاجر الفلورنسي المتوفّى سنة1512م لأنّه أول من وصفها بعد اكتشاف كريستوفورس كولمبس لها وكان حقّها أن تسمى باسم مكتشفها ولكن تأثير اسم الثاني كان اعمّ فغلبت التسمية به وسمّيت أقسامٌ فقط منها باسم المكتشف مثل (كولومبية) فتأمّل: وتسمّى (العالم الجديد) لجهل القدماء لها و (جزائر الهند الغربية) لأنّهم ظنّوها من الهند في أول الأمر واسم قارّة (أوسترالية) لاتيني من أوسترالس بمعى الجنوب واسم قارّة (أوقيانية) نسبةً إلى الأوقيانوس المحيط لأنها واقعةٌ فيه والأوقيانوس في الأساطير القديمة نهرٌ عظيمٌ كانوا يعتقدون أنه يحيط باليابسة. هذا هو المشهور في تسمية القارّات السّتّ وهناك أقوالٌ أخرى وأقوالٌ متلوّنة تراها بعيدةً عن الصحّة نافرةً عن مضاجع التحقيق. ولعلّ الآتين بعدنا يتوصّلون في أبحاثهم وتحقيقهم إلى ما هو أقرب إلى الصّحّة وأدنى على الحقيقة ربّما أنّ القدماء مثل ألفينيقيين واليونان والرّومان كثرت مخالطتهم للأمم ودخلوا معظم القارّات تركوا آثار لغاتهم في أسماء البلدان والمدن وشاعت بين الأمم الأخرى من طريق

لغاتهم ومؤلّفاتهم وأساطيرهم ونحو ذلك فمثرت هذه التّسميات ومازجتها امم الكلدان والمصريين والآشوريين والبابليين والحثّيين والفرس والعبران والعرب والتّرك والإفرنج فبقيت آثار تسمياتهم أيضاً ومن كان من هذه الأمم أشدّ حرصاً على حفظ لغته واتّساع نطاقها واستبقاء أسمائها ظفر بأمنيته وأبقى للآتين تأثير فتوحه أو امتزاجه أو عباداته ونحو ذلك مما هو جديرٌ بالاعتبار وحرٌّ بالاستقراء فمن (الأعلام ألفينيقيّة) (بيروت) وهي جمع بئر أو اسم الإله ألفينيقيّ (بيروت) ولا صحّة لما يتمحله كثيرٌ من مؤرّخي الأمم وبينهم العرب من الأسباب الأخرى والمزاعم الإشتقاقيّة التي لا وجه لها من الصّواب في ما مرَّ وما يأتي من مثل هذه التّسميات الأجنبيّة * ومن ذلك البيرة بمعنى القصر والحصن * والمجدل بهذا المعنى ومشتقّااها كمجدليّاً ومجيدل ومجدلون * ونهر المُوت بضمِّ الميم وهو إله الجحيم المسمّى بلوتون * والفرزل بمعنى الحديد * ومالطه * بمعنى الحديد * وقرطاجنة بمعنى البلد الجديد * ونهر ادونيس أي تمّوز وهو نهر إبرهيم وربّما بدادون من بيت أدون ثمّ حذفوه بالإبدال والحذف أو أنّه مركّبٌ من بيت وداد الإله السّامي وأُلحق بأون تبعاً للغة السّريانيّة فكان معناها بيت داد. ومنها بغداد. ومثلها دده في الكورة وبادودة في الصّلت ولعلّها من الإله ألفينيقي ديده ومنها اسم (دَدَن) في بلاد العرب * والبعل ومنه تركّبت أسماء كثيرة مثل بعلبك أي بعل البقاع وبعل فاغور وبعل تامار * وجد من آلهتهم ومنه اسم جدّايل (أي الإله جدّ) وربّما كان إله الحظ وهو اسمه عندنا * ومنها اسم ميّومية وهي بلدة ذات ينابيع فاسمها من المياه * وقبراشمون قرب عيناب على طريق بيت الدين من بيرت وقرية بشامون من بيت أشمون وأشمونأحد مثلّثات الآلهة ألفينيقيّة في صيداء. وهيكل أشمون في صيداء اكتشف في بستان الشبخ فوق وادي نهر الأولى. وأخربة أشمونيت في بطرام الكورة (لبنان) وهو إسكولاب إله الطّبّ عند عند اليونانيين. وأشمونين في مصر. وأشمونيت عين في ظاهر حلب في جنوبيها قال فيها ابن أبي الخرجين: وهل عين أشمونيت تجري كمقلتيّ ... عليها وهل ظِلُّ الجنان مديدُ وعلينتحريف عليون أي زحل في جوار زحلة ويترجّح أنّ اسم المدينة من هذا المعبود * وحمّاتا من حمّون بمعنى المحرق وهو من معبودات القرطجنيين

ومنالأعلام الكلدانيّة والآراميّة والسّريانيّةالإله قمر ومنها دير القمر * والمعرّة بمعنى المغارة مثل معرّة النّعمان ومعرّة مصرين ومعرّة صيدنايا ومعرّة باش * والكفر بمعنى القرية والحقل ومنها مركّبات أسماء قرى كثيرة مثل كفر عاقب وكفر عقاب * وبيت مريوالأصل موريبمعنى بيت بعل مرقد إله الرّقص * ورشعين وريشعينا ورشميّا بمعنى رأس العين ورأس الماء * وديرأحوبشة بمعنى بيت الحبس * ودمشق بمعنى المزهرة * ورامون إله سرياني تركّبت منه أعلامٌ كثيرةٌ مثل برمّاتا أي بيت الإله رامون. وعين الرّمانة وعرمّان في حوران وتعرف اليوم باسم عرمان * وبيت لهيا بمعنى بيت الآلهة * والكرك والكرخ بمعنى الحصن والمعقل * ونيحة أي المستريحة * واليمّونة تصغير يمّ بمعنى البحيرة * ويونين منيوالإله الكلداني بمعنى نور وأونينأبي البعل ومنالأعلام المصريةاسم الإله فتّاح وراجح أنّ اسم فتوح كسروان نسبةً إلى فتّاح لا إلى فتوحها كما يذكر المؤرّخون والله أعلم * وباب مارع قريةٌ في البقاع مركّبةٌ منماآلهة مصرية ربّة العدل والحقّ أخت رعبمعنى الشمس عندهم أو إله الضوء. أو أنّها محرّف آمون رع بمعنى الشّمس الخفيّة * وآنحور عند المصريين هو مارس عند اليونانيين. وحور إله مصري أيضاً يسمّه اليونان أبلون. ومنه اسم عين حور على طريق دمشق * وآمون إله مصري ربّما كانت بلدة أميون في الكمورة باسمه * وماث نحاسيعين الجرّبمعنى مدينة النحاس * وجبّ جنين منجينونمعبود ومن (الأعلام الآشورية) مكّة بمعنى بيت ومنها اسم مكّة المكرّمة وتسمّى أيضاً بكّة بالإبدال منبكَّاالدّالّة على قلة الماء أو على اسم نبات بالعبرانيّةبكاومنه وادي بكّة على طريق الشّام * ويثرب أصلهاأثربلد وربّعظيم فحُرِّفَت يثرب * ومأرب فماماءوربعظيم أي السّيل العظيم * وأدَد اسم إله عندهم ولعلّ الحدث محرّف عنها ولاسيّما حدث بعلبك لأنّ فيه هيكلاً قديماً ربّما كان لهذا الإله * وبنو عطارد ومنه اسم قصر نبا في البقاع وكفر نبّو في نواحي حلب وحصن نبو في بلاد العرب * وكيوان بمعنى زحل ومنها مراح كيوان في لبنان وعيتنيت منعنتوتنيتوهما اسم واحد لآلهة آشوريّة عرفت باسم سميرام وربّما كانت عيثا محرّف عنث وعيناتا أيضاً وكلتاهما في سوريا المجوّفة ومن (الأعلام البابلية) (سين) بمعنى القمر ومنها درب السين أو دير سين أو دير بسيم

شرقي صيداء. وكان له في حرّان هيكلٌ مشهورٌ اتصلت عبادته بسورية وكفر باسين في جبل سمعان غربي حلب والمعنى قرية بيت سين. وطور سينا كانت العرب يعبدونه في الجاهليّة ولعلّ الأيطوريين أي الجبلين العرب حملوا هذه العبادة إلى لبنان * ومردوخ المشتري ولعلّ قرية مدوخة في البقاع محرّفة عنه ومن (الأعلام الحثّيّة) الحث وهي قرية تابعة لقرية شهباء في حوران * وكمش إله حثّي فكلمة كرك كميش بمعنى حصن كميش وهي على ألفرات. ولعلّ منها عرجموش قرب زحلة وهي المحلّة المعروفة اليوم بالغيضة فهي تحريف كركموش مثل كركميش وكموش إلهٌ مؤابي أدخله الآشوريون في جملة معبوداتهم كما عرف ذلك من الآثار * ومنها للشّاغورومشغرة وجسر الشّغَر قرب حلب ومن (الأعلام ألفارسيّة) على ما يروى اسم الكعبة كه به وفيل أن مكّة تحريف مه كه أي معبد القمر * وقِبلة تحريف كابلاّ اليونانية بمعنى المعبد * وألفريديس ومنها فريديس حلب قرب قنسرين وفريديس الباروك وفريديس دمشق * ويرجّح أنّ الإشبانية فارسيّة بمعنى الحمر جداً من شبانة أي الخمر المشروبة ليلاً * والإيوان ومنها إيوان كسرى * والبرذون تحريف بَردَن بمعنى الإشتداد في العدو ولعلّ أسم نهر البردوني في زحلة منها. أو انه تصغير بَرَدى بمعنى البارد * والجمهور بمعنى الجماعة وهو اسم قريةٍ بظاهر بيروت فيها موقف القطار الحديدي * والجورة الحفرة أو القبر ومنها جورة البلّوط اسم قرية * والقوقاز بمعنى الأبيض ومن (الأعلام العبرانيّة) حيفا بمعنى الفرضة والمر. . . . . . . وعميَّق بمعنى العمق * ومكسه بمعنى الضّريبة على البضائع * والبقاع بمعنى السهل * وحوران بمعنى المغاور ومنها قرية كفر حورا في الزّاوية بمعنى قرية المغارة وكفر حوار قرب دمشق * وأرجح أن عنجر عبرانية بمعنى عين الغريب ومن (الأعلام اليونانيّة) طرابلس بمعنى المدن الثلاث لأنها كانت في العصر ألفارسي مقرّاً للمجلس المتّحد المؤلف من مندوبي صيدا وصور وأرواد وكلٌّ يقيم في قسم من المدينة فسمّاها اليونان تريبولي بمعنى المدن الثلاث وحُرّفت طرابلس وهي اثنتان في الشّام وفي بلاد المغرب ومنها تربل قربها في البقاع * وقنّوبين تحريف كنوبيون أي المجتمع

والمنتدى * والفيجة تحريف بيجه بمعنى الينبوع ولعلّكلمة بجه في لبنان وبجة في حوران تحريفها أيضاً * وقب إلياس من قب إليوس بمعنى مركز الشّمس. وبر إلياس ابن الشّمس وأنطلياس بمعنى مقابل الشمس وبرجيليوس (جبل النصيرية) بمعنى برج الشمس وبوسفور ممر البقرة * وبرجا وطبرجا بمعنى قصبة المعاملة والديماس بمعنى الغرفة * ومن أسماء آلهتهم بكركة وكركة اسم إلاهة يونانية ساحرة * وطاميش الإله أرطاميس. وبلونه أبلون وبوذيس حُرّف بوذيه في بلاد بعلبك * وذورس إحدى بنات البحر دورس فيها * وصفيّه ابنة البحر ومنها حوش تل صفية * ووادي القرن (ترونوس) أي زحل. وقرنايل الإله زحل * وصربا سيرابيس * ومنها ماسمّي بأسماء الملوك مثل سلّوقيا (السويدية نسبةً إلى دانيها سالوقوس نيقاطور) وفيلاذلفية (عمّان) نسبةً إلى بطليمايوس فيلوقلفوس * وطبريّة إلى طيباريوس وغوطسة إلى أوغسطس وأوغسطة * فضلاً عن تسمياتٍ مختلفة هليوبوليس (بعلبك) أي مدينة الشّمس * وهيرابوليس (منبج) وكريسرواس أي مجرى الذّهب لنهر بردى * وكلشيس أوخلقيس (عين الجرّ) بمعنى مدينة النحاس * والقلمون بمعنى الإقليم والمناخ * وأنتيلبنان بمعنى مقابل لبنان * وكيلوسيري بمعنى سورية المجوّفة ويراد بها السّهل بين جبلي لبنان الشّرقيّ والغربيّ * والأناضول بمعنى الشّرق * وموناستير بمعنى دير * وإيبيروس أرض متسعة * واسطنبول بمعنى إلى المدينة * وكالينولي بمعنى المدينة الجديدة * والأرخبيل رأس البحر * ونابلس نيابوليس بمعنى المدينة الجديدة ومن (الأعلام اللاتينية) ما هو من هذا القبيل ولعلّ غريفة تحريف أغريب صهر أوغسطوس قيصر أو أغريب الأول * وتيرون من تيرو بمعنى الجنديّ وهي اسم (شقيف تيرون) أحد الحصون القديمة * والفسطاط تحريف خندق وعسقلان من أسكلانيا أي البصل لجودة بصلها * واللجون (مرج بني عامر) وهناك قرية لجون حيث كانت تقيم فرقةٌ رومانيّة * وبرقطة في لبنان بمعنى شلاّلة * وقبصريّة نسبةً إلى قيصر مثل قيصرية فيلبس وهي بانياس وقيصرية فلسطين ويقال أنّ غسم كسّارة قرب زحلة هو تحريف قيصيرية ومن (الأعلام العربية) النّبك وهي أصغر تلّة ارتفعت عن سطح الأرض والجديدة المحيدثة

وأنفة وجون وقارة وهي الجبل الصّغير المنقطع والمرج والمريجات وزحلة والمعلقة والمشرع والوادي والبرج والبريج وسوق وادي بَرَدى. وجبل الشّيخ وفم الميزاب. والمشيرفة والأشرفية والمشرفة. والكلمات المركّبة من دار ودير وقصر وأشباهها مثل دار بعشتار أي دار عشتروت ودير الغزال وقصر نبّا أي قصر عطارد فتؤلّف من لغتين فأكثر وهذه الأعلام الممتزجة اللغات كثيرةٌ عندنا ومن (الأعلام التركية) الزّوق في لبنان وعكّار بمعنى المنزل أدخلها التّركمان الذين حكموا تلك الجهات * وآستانة عتبة * وأسكي شام أي الشّم القديمة وهو أسم بصرى في حوران * ومرسين بمعنى آس * وقرق كليسة أربعون كنيسة * وجركس كوي قرية الشّركس * وقللي برغاس برج برغاس * والجنتلك بمعنى المزرعة وتطلق على الأرض التي هي بإدارة الحكومة خاصّةً مثل الجفتلك السّلطاني * وتوفّي بازار من نوفي اليونانيّة بمعنى جديد وبازار بمعنى السّوق ويقال لها يكي بازار * ونهر قره صوالنهر الأسود * ونهر سودلينهر اللبن ومن (الأعلام المؤلّفة من لغات مختلفة) حملايا فهو من لفظتين سنسكريتين بمعنى موطن الثّلج * وأمازون هنديّة بمعنى محطِّم القوارب * وبومبي بالبرتغاليّة المرفأ الحسَن ولاصا عاصمة تّبث معناها في لغتهم أرض الآلهةوفي لبنان قرية بغسو لاصّا * وداجون معبود فلسطين سمّيت بإسمه قرى مثل (عين الدوق) في زحلة وفلسطين * ومُتنا كلمة سومريّة أكّاديّة لبعل عشترت أيّ الزّهرة فأرجح أنّ اسم المتنفي قضاء لبنان والمتين منها وكذلك المتن في قضاء المرقب. وإلا فكان هذا الاسم أولى بالجبال العالية كجبل الشيخ وصنين * وقوس إله أدومي عرفه العرب باسم قيس ومنه اسم قوسايا في سوريا المجوفة. . . . إلخ إلى أعلامٍ أُخر ممتزجة من أكثر من لغة واحدة وما أشبهها وهذه آراء حديثة في التّسمية قابلة للتّمحيص والتّحقيق فلعلّ مؤرّخينا المدققين يعيرونها اهتمامهم فيفيدون الباحثين والدارسين فوائد جمّة. والله الموفّق إلى سواء السّبيل وهو حسبُنا ونعم الوكيل. زحلة عيسى اسكندر المعلوف

الشعر التهذيبي

الشّعر التّهذيبي الولد والمدرسة بقلم عيسى أفندي اسكندر المعلوف صاحب مجلّة الآثار أرى الشّبّان قد ملؤوا المدارس ... ليكتسبوا معارفها النّفائس فلا يجني العلوم فتىً تربّى ... بحجر دلالها كالغصن مائس ولا يجني العلوم فتىً تربّى ... على حسن المآكل والملابس ولا يجني العلوم فتىً تربّى ... وقد شمخت به كبراً معاطس ولا يجني العلوم فتىً تربّى ... على أوهامه والعقل طامس فمن طلب العلوم فقد جناها ... باحيا الليل مجتهداً ودارس يرى النّصب الكثير له هناءٌ ... ولست تراه في الأبحاث يائس فيلقى في مكاتبه ارتياحاً ... وتلقاه بها نعم الممارس فبين الكدّ والإهمال فرقٌ ... كفرقٍ بين راجلنا وفارس وسبحان الذي خلق البرايا ... صنوفاً غيّرت أصل المغارس فمنهم من غدا ملك الأهالي ... ومنهم من تسفّل كالأبالس ومنهم من يحبّ الدّهر سلماً ... ومنهم من يثير حروب داحس ومنهم من يسكنه لجامٌ ... ومنهم من تحرّكه منافس ومنهم عاقلٌ قولاً وفعلاً ... ومنهم فاجرٌ للحقّ دائس ومنهم مشبّه الزّنبور لسعاً ... ومنهم مشبّه النّحل الجوارس ومنهم جاهلٌ للكذب راوٍ ... ومنهم عالمٌ بالصدّق نابس وبعضٌ عقله كالصّبح نوراً ... وبعضٌ عقله كالليل دامس فكن لفضائل الأخلاق مرأى ... وكن لمحاسن الآداب قابس وكن للطافة الأرواح مغنىً ... وكن لطهارة الأجسام حارس

مصنوعات الجيش

مصنوعات الجيش الصّنائع الدّمشقيّة كانت هذه الحاضرة في جميع أدوار تاريخها محطّ رحال أرباب الصّنائع المختلفة لأنّها أمّ هذا القطر والأقطار التي تليه والأمّ مصدركلّ خير في العائلة. ولقد أُصيبت مصنوعاتها كما تُصاب البلد عادةً بأنواع الاضمحلال وخصوصاً في عهد تيمورلنك الذي خرّب كل بلد عصا عليه واستصحب معه إلى سمرقند أرباب الصّنائع قال ابن عربشاه أخذ تيمور من دمشق أرباب ألفضل وأهل الصّنائع وكلّ ماهر في فن من ألفنون بارع من النّاجين والخيّاطين والحجّارين والنّجارين والإقباعيّة والبياطرة والخيميّة والنّقّاشين والقوّاسين والبازدارية وفي الجملة أهل أي فن كان فتراجعت الصّنائع بعد ذلك العهد في قاعدة البلاد ولم يبقَ منها إلا ما لا غنيةعنه لأهل كلّ بلد مهما انحطّ عمرانه وتفرّق سكّانه. وكانت الصناعات تبعاً للحالة العموميّة إن راقت السّياسة وصفا جوُّ السّلام تكثر حاجيّات الناس فيوجد لها العملة وصنّاع الأيدي بطبيعة الحال وإن كان على ضعفٍ أحياناً والعكس بالعكس. وكانت الصّناعات الدّمشقية تجد في القرن الماضي رواجاً أكثر وإتقاناً أوفر لولم تنازعها مصنوعات أوروبا بلطافتها ورخصها ومنشأ الرّخص استمتاع الأجنبيّ إذ ذاك بامتيازاته فكانت الكمارك التي يؤدّيها على بضاعةٍ قليلة والضّرائب معفى منها جملةً وحقوقه رعية في الحكام ولو كان هو على باطل وخصمه العثماني على حق وقد يحكم له لا عليه أحياناً وبهذا قضي أو كاد على صناعاتنا الوطنية ووقفت مصانعنا الوطنيّة العثمانية ولما نشبت الحرب العامّة انتبه رجال الدّولة للأمر وعرفوا الدّقيق والجليل من نواقصنا فكانت مسألة مصنوعاتنا من أوليّات المسائل التي نظروا فيها فألغوا الامتيازات الأجنبيّة وهناك أخذت تعود إلى مصانعنا بعض حياتها وستقوى أكثر بعد الحرب ثمّ كان منهم أن جمعوا شمل الصنّاع في كلّ مركز من مراكز السّلطنة كما فعلوا في دار الخلافة وضواحيها مثلاً فأخرجوا لوازم الجيش من سلاح ومدافع وقنابر وقذائف وأجواخ وغيرها وجاء حظّ هذه المدينة بعد حظّ الأستانة فجمع الجيش الرّابع فيها شمل الصناعات بعد تشتّتها واستفاد من كلّ قوّة كانت كالنّار مخبوءةً تحت الرّماد لا تحتاج إلاّ إلى يد صادقة حتّى تهتدي إليها

وترفع عن وجهها ما يغشاها لينتفع بنورها وحرارتها. محا الجيش الرّابع عن البلاد عار العوز والكسل إذ رأى المواد الأولية كلّها موفورة فيما تنال على أيسر وجه وبقليل من العناية والمعرفة وشاهدٌ في أبناء البلاد بقايا من أهل المهن والصّناعات لا يقف بهم عن المضي في مضمار الرّقي إلا شيء من العناية والتّنشيط. ذكر جودت في تاريخه أنّ جمهوريّة البنادقة كانت ساعدت بإنشاء السفن عدونا علينا فاصطنع في دور صناعتها ما يستعين به على حرب الدّولة العلية فآخذت الحكومة إذ ذاك جمهورية البندقية على عملها المنكر فأجابت هذه ليس للدولة العثمانية أن تؤاخذنا على إنشائنا السّفن في معاملنا وبيعها ممن نحب فإنّ عندها جميع مواد السّفن وهي تستطيع أن تحرج مثل سفننا ولا تحتاجنا ولا غيرنا. وكان هذا الجواب عبرةً للدولة فشمّرت عن ساعد الجدّ وأخذت تنشئ في ذاك الدّور سفنها في معاملها وموادها من حديد وخشب ورصاص وزجاج وحبال كلّها من الرض العثمانية. كانت الحرب الأخيرة أعظم واعظ لنا في هذا السّبيل فانتبهت الحكومة أولاً للوازم الجيش فرأت من الصناعات مالا أثر له عندنا ومنه الموجود ولكن على ضعفٍ يحتاج إلى إصلاح وتعديل ومن الصناعات التي أحياها الجيش الرّابع صناعة القطن المعقّم للجرحى والأغذية المربية من بقول وثمار وصنع القذائف والبيطرة وما يلزمها من الأدوات على الأصول الحديثة ومن الصناعات الموجودة على قلّة نسج الأكياس للتّحميل من القطن وقشر القنّب وصنع الحدّاجات للجِمال والشّقادف لنقل المرضى والجرحى والسّرج للجِمال والخيام واللجم والهمايين من الجلد والقرب والمطرات والأقمشة لألبسة الجنود الضّبّاط من نوع العبا وحياكة الطّنافس والبسط والجوارب والخيام وخياطة الثّياب وصنع الحذية وغيرها وسنتكلّم على معاهد هذه الصّناعات في دمشق معهداً معهداً حسب التّرتيب الذي وقع لنا في زيارتها ونتوسّع في الكلام ماوسعنا المقام تنبيهاً للعاقل وبشرىً للمستبشر وتحدّثاً بالنّعمة وطلباً للمزيد وحثّاً للهمم وتبصرة للمستقبل. التّجارة والحدادة والقنار والقذائف اعتمد الجيش الرّابع في الأعمال الصّناعيّة على ألوفٍ من الجنود السوريين على الأغلب ومنهم منسبقت له معاناة صّناعة من الصناعات وآخرون لاعهد لهم بشيء منها بل تعلّموها

منذ دخلوا في سلك الجنديّة المقدّس يوم إعلان النّفير العام. وقد استعمل منهم أولاداً من سن التّاسعة إلى الخامسة عشرة بصفة خرّيجين في تلك الصّناعات وعددهم ثلاثمائة وخمسون خرّيجاً علموا منها ما يناسب صحّتهم ويلتئم مع أعمارهم. وبالنّظر لزكاء أبناء هذه الدّيار ولنظام المصانع التي عُدّوا في جملتها والأعمال المرتّبة التي عهد إليهم أمرها وتنظيم أساليب عيشهم وعملهم برعوا أو أكثرهم في مدّة قليلة ومنهم من أقلعوا عن عادات كانوا ألفوها من مثل التّدخين وغيره ومرنوا على العمل حتّى قلّ الثّرثارون فيهم فأنت إذا دخلت مصانعهم أيّ وقت كان من أوقات العمل المحددة لاتسمع لغواً ولا صوتاً وكلّ عاملٍ أو ماهن يصرف ذهنه إلى ما يعمل فيه مخافة أن يضيع عليه الوقت ولا يكمل حصّته من العمل ولهذه الأخلاق دخلٌ كبير في نجاح هذه الأعمال والعمّال فإنّ العامل الذي يكثر على غير نظام تقلُّ عمالته ويوميّاته أما الذي يصرف كَدَّه لعمله جماةً واحدةً فيرجح عليه في الصّناعات حتى قالوا أنّ الصّانع الإنكليزي يأخذ ضعفي أجرة الصّانع الطّلياني لأن هذا ثرثار لا يحصر ذهنه في عمله ويلتهي بغيره بالضّرورة فعمله نصف عمل. هذا ما لحظناه من أساليب الرّقي الحقيقي الماثلة في مصانع الجيش في دمشق فقد رأينا الحديد يُذاب ويُطرق على أيسر صورة وتعمل منه أدوات العجلات والمحفّات. والأخشاب تُقطع وتُنجر وتُصقل. وأكثر الآلات التي تستعمل في هذا السّبيل جُلبت من حلب وعينتاب وطرسوس ولبنان وبيروت وكانت مبعثرةً لاتستفاد منها ألفائدة المطلوبة فلمّا ضمّ الجيش شملها وعرف كيف يستخدمها أخرجت أجمل المصنوعات في أسرع وقت ووفّرت على العاملين عناءً ووقتاً لولاهما لاقتضى العمل أيدياً كثيرة عاملة ووقتاً أطول. كنّا عاجزين فيما مضى عن اصطناع عجلات النّقل والركوب ومحفّات الجرحى والمرضى في مصانعنا الوطنيّة وقد اختار الجيش أسهل أنواعها وأمتنها وألطفها على آخر طرز وصنع منهت ألوفاً بحيث تظنّها إذا رأيتها من صنع معامل أوروبا في حين تجد حديدها وخشبها من سوريا واليد التي اشتغلتها سوريّة وهي تُستعمل في خدمة سوريا وهذا ما يقِلُّ في جانبه كل شكر للحكومة السّاهرة على إنجاح الوطن والأخذ بأيدي أبناءه العاملين تقوم مصانع بأعمال نفيسة من حاجيّات الجيش كالقدّوم والمنشار والكلاّب واللوالب والرّفوش والقدور والمراكن والمراجل والدّلاء والبراميل وغيرها زكلّ ذلك إذا رأيته تظنّه

من صنع الغربيين وَردَ على هذه البلاد في علب مزيّنة وصناديق مقفلة وأوراق ملفوفة وطوى المراحل الطّويلة وتعاورته الأيدي الكثيرة حتى جعل رهن أمر جيشنا والحال أنّه من بلادنا وصنع أبنائها صنعوه ليدفعوا فيه عن حياضهم ومن صنع إبرةً لخدمة الجيش بحسب طاقته ومعرفته فحكمه حكم من صنع مدفعاً ومن مشى خطوةً في طريق الخير فأجره أجر من مشى خطوةً في طريق الخير فأجره أجر من مشى خطوات والتّكليف على قدر الاستطاعة أمّا ملئ الخرطوش وصنع القذاف واستجادة أحسنها طرازاً وأفعلها وقت الحاجة فهذا ليس من شأننا البحث فيه وإنّما يقال على وجه الإجمال أنّ هذا النّوع من أنواع قوّة الجيش يعمل منه هنا القدر اللازم مما يوفّر عناء النّقل من جنسه المصنوع في معامل دار الخلافة العلية على ما هو معروف. السّروج والخيام ربّما كان من قليلي الخبرة من إذا سمع أنّ الحكومة متوفّرة الليل والنّهار على اصطناع السّروج للخيل والمحفات والحداجات للجمال وما يلزم المسافر في البوادي من الخيام والقرب والرّوايا والمطرات وخرائط الخرطوش وغيره أن يقول وهل هذا من المكانة بالموضع الذي تضعونه فيه فكلٌّ منّا يرى ويسمع أن هذه الصناعات موجودة في البلاد لم تفقد ولا في زمن من الزمان ومصنوعاتها مبذولة بأهون الأسعار لكل طالب. ولكن من عرف أنّ جيشنا يحتاج إلى عشرات الألوف من السّروج والحداجات للخيل والجمال ومن هذه المصنوعات الجلديّة إلى مئات الألوف ليستخدمها في حلّه مرتحله يدرك ما يقتضي لصنع هذا العدد الكبير من المواد والرّجال العاملين ولتهيئة مصنوعاتهم على صورة مقبولة متينة رخيصة، من ألفكر والقياس والبحث والحساب. كلٌّ منا يعرف أنّ قطارات السكك الحديدية نازعت قطارات الجمال حتى في ألفيافي والبوادي وإن سفن البحر وسفن البرّ قضت أو كادت على الجمال والبغال والحمير والبقر والفيل في معظم أقطار الأرض ولكن من الأقطار مالا مندوحة لها عن الاستغناء عن هذه الحيوانات في مهماتها زمن الحرب وزمن السّلم ومهما كثرت آلات البخار في الأقطار لم نكف لأن تطوِّق البلاد كلّها بطوق من قطاراتها وتغدو وتروح في نقل الإنسان وحاجاته

وقد كانت بعض هذه الصّناعات في برّ الشّام أُصيبت بفترة بعد أن امتدّت الخطوط الحديدية من بيروت إلى دمشق فحوران ومن رياق إلى حلب فالإصلاحية ومن حلب فرأس العين ومن حمص إلى طرابلس ومن يافا فالقدس ومن حيفا فدرعا ومن دمشق إلى المدينة المنوّرة وانتقل بعض السّروجيين والخيميين إلى صناعات أخرى ولكن هذه الحرب عادت فأحيت صناعاتهم وتبيّن نفعها في داخليّة البلاد وأنّ الجيش المرابط والمجاهد في كل مصر وعصر لا يستغني عنها بحال من الأحوال. زرنا هذه المصانع على حين فجأة فرأينا الصّنّاع على اختلاف درجاتهم مكبّين على عملهم لا يلتفتون إلى شيءٍ يجري أمامهم ومنهم قدماء أرباب الصّناعات يُرزق الواحد في اليوم العشرين والثّلاثين قرشاً وأكثرهم الجنود ومنهم طبقة الخرّيجين من صغار العملة يُعلّم في أربعة أشهر فيأتي منه ماهن ماهر كالذي تعلّم هذه الصّناعة السنين الطويلة واستعمال الآلات اللازمة للعمل ليس بعيد العهد ومنه ما يرد تاريخه إلى ستّة أشهر ومع هذا ترى الصّناع يعملون عليها كالعملة الممرّنين في معامل الغرب. صناعة السّجاد والنّسّاجون والخيّاطون والأساكفة راقنا جدّاً ما شهدناه في مصانع النّسيج والأقمشة وقد تمثّلت أمامنا آلات القرون القديمة من النّسيج وآلات القرون الوسطى وآلات القرن الحديث وفي كلّ واحدة من هذه الآلات يعمل النّسّاجون أقمشة نفيسة لكسوة الضّباط والجند فكأنّ لسان هذه المصانع يقول: لا جديدلمن لاقديم له. وهنا يُستفاد من كلّ قوّة نعم استفاد الجيش الرّابع من كلّ قوّةٍ وجدها أمامه في هذه الدّيار واستعمل علمه ونشاط من عهد إليهم العمل من أصغر عاملٍ يكنس الأرض إلى المديريين ورؤساء الأدوات وبذلك صحّ فيه أن أوجد شيئاًمن لا شيء. وليست المهارة في أن يتجر التّاجر برأس مال قدره مئة ألف ليرة فيربح معاشه ولكن المهارة في أن يربح ذو رأس المال الصّغير معاشه على نسبة ذلك التّاجر الغني بأمواله لو توفّرت هنا جميع المعدّات الكافية للنّسيج والخياطة وعمل الأحذية لما استغربنا شيئاً يعمله الجيش لأنّ الآلة بقليل من النّظر يتيسّر للقائم عليها أن يستفيد منها. ولكن أكثر العمل بالأدوات البسيطة التي تخرج مقداراً كافياً من المصنوعات بل أكثر من المأمول من مثلها

وهذا وجه الغرابة وداعية الحمد والثّناء. يخيط الخيّاطون أقمشةً وأجواخاً وطنيّةً في الغالب على صورة سريعة مقبولة. والحذّاءون يعملون أحذية متينة وجلودها وخيوطها من محصول هذه الدّيار رأينا مصنوعات البسط والسّجاد المعمول في هذه المعامل ليجعل في خدمة الهلال الأحمر والجند عامّةً ممايسرّك خبره ومخبره لمتانة وثبات ألوانه. تمنّياً لوزادت مصنوعاته على المطلوب لاقترحنا على كلّ بيت في سوريا أن يقتني سجّادةً منها عنوان العمل الوطنيّ ودليل تنشيط كلّ صاحب دار للصّناعات الوطنيّة وفي هذه المعامل فرعٌ لعمل الجوارب التي كانت تُصنع في حلب وعينتاب واطنه فقط ومازال لها معامل هناك. ونوع هذه الجوارب وافٍ بحاجة الجندي بالطّبع ينفع في الدفء والسّتر وهو متين لابأس به. أما نوع جوارب التّرف كجوارب الحرير البرّاق الشّفاف وغيرها فهي ليست من شأن هذا العمل وإنّما ينظر في الأقمشة وحياطتها والجوارب والأعبئة والأحذية إلى متانتها أولاً والفائدة التي يتوقّعها منها الجندي ولو أحبّت هذه المعامل أن تخرج بما لديها من الأدوات وجوارب وأنسجة للمترفينلما عسر عليها ذلك. ولم نلاحظ في هذه المعامل ألاّ تفرّقها وعدم اجتماعها في صعيد واحد ليكون أدعى إلى حضور الذّهن وأجدر عنايةً بالعمل ولا ينظر الآن إلاّ إلى حالة المحل الصّحيّة أماصغره وترصيفه وتبييضه فأمر ثانوي لم يتّسع الوقت للتفكير فيه والنّيّة معقودة أن تجعل هذه المصانع بعد الحرب في القدم جنوبي دمشق قرب معامل السّكة الحجازيّة فيختار لها أرضاً مساحتها كيلومتران ونصف كيلو متر وتجعل العامل كلّها في بقعةٍ واحدةٍ فيسهل التّفتيش على هذا المقر العسكري وتحسن إدارته ويكون منعزلاً عن المدينة مستقلاًّ في عمله وهذا مقصدٌ حسن لأنّ العادة جرت في المعامل الكبرى في الغرب أن تكون منعزلة عن المدن والقرى بعيدة عن العمران. معامل المحفوظات والمربيات والخمر هذه الصناعة من الصناعات التي لم تعرف في دمشق قبل الحرب فأدخلت إليها بطرقها الكيماويّة وأدواتها المستحدثة وتعلّمها العملة من الجند والنّساء فتجد في محلّها فرعاً لعمل

الحساء الشّورباذروراً ثمّ يُذاب في ماء حار وقت الاستعمال فيأتي منه حساءٌ لطيف كأنه طبخ السّاعة. ويُستخرج أشربةً كثيرةً مثل ماء الزّهر وماء الورد وشراب قشر الليمون وشراب قشر البرتقال فتُجعل روحه في زجاجات تكفي القطرة منه لكأس ماء حتّى تكون حلوة ذات نكهة طيّبة كأنّه عمل لساعته. وهذه الأشربة تنفع الجيش كثيراً ولاسيّما في مستشفيات البادية. وفي هذا المعمل فرعٌ لاستخراج مرق اللّحم من العظام وتعقيمه بحيث لا تذهب العظام التي تخرج من مسالخ الجيش في هذه الحاضرة من دون فائدة وللنّساء العاملات هنا دخلٌ كبير في هذا الصّنف فتراهنّ لابسات المآزر الكحليّة يعملن على الدّوام على نظامٍ تام وتُرزق الواحدة منهن ثلاثة قروش وثلاثة أرغفة في اليوم ويتناولن طعام الظّهر في المعمل بالاشتراك بينهن وقد نُصبت لهم موائد وأمام كلّ واحدةٍ منهن صحفتها وكأسها وكذلك الرّجال في مكانٍ آخر. وأهمّ ما يستخرجه معمل المحفوظات والمربّيات حفظ الثّمار والبقول على طريقةٍ لا تنقص من تغذيتها وتكون عند الاستعمال كأنّها طريّة حديثة عهدٍ بالقطف من الشّجرة أو المسكبة ويبلغ عدد البقول المربية عشرة أنواع يتناولها الجندي في كلّ وقت كأنّما يتناولها في إبّانها ناضجة طريّة. وفي هذا المعمل فرع لعمل الخل للجيش ويُعمل كلّ ذلك على طريقة صحّيّة اقتصاديّة بحيث لا ترى جزءاً لا ينتفع به حق الانتفاع على النّحو الذي جرى عليه الغرب في معامله. ومن الصناعات المستحدثة التي كانت هنا موجودة في حكم المفقودة صناعة عجن الخبز وخبزه بآلات تُدار بالكهرباء بسيطة في ذاتها ولكنّها تغني الغناء المطلوب فقد كان يعجن خبز الجند في أفران الجيش بالأيدي وأحياناً بالأرجل فارتأى القائد العام إحداث هذه الطّريقة الجديدة فوفّر من عمل الأيدي وخلّص الخبز مما كان يدخله من عرق الخبّازين وأوساخهم وصار معمل دمشق وحده يخرج في اليوم العشرين والثّلاثين ألف رغيف على أيسر وجه وأسرع طريقة وأنظف واسطة ويوزَّع خبز اليوم من الغد رعايةً للصّحّة. وقد كان معمل الخبز في هذه الحاضرة منذ أشهر احترق فأُعيد على هذه الصّورة البديعة التي سداها ولحمتها مراعاةً للنظافة بل المبالغة فيها حرصاً على صحّة الضّبّاط والجند وأصبح معمل خبزنا على مثال المعامل الغربيّة وحبّذا يوم تصحّ عزيمة جمهورٍ من أرباب

الأفران فيعمدون إلى تأليف نقابات لعمل الخبز على هذه الصّورة يراعون في صنعة جانب الاقتصاد والجودة والنّظافة إنّ معامل التّعقيم والسّوائل واستخراج الأشربة الصّحيّة وتجفبف الثمار والبقول وخَبز الخبز بهذه الطّريقة كل ذلك يدل على براعة زائدة ويُسجّل عناية الجيش بما يدخل معد أفراده من الأطعمة والأشربة على وجه يجمع بين الاقتصاد والصّحة وسرعة التّحضير بحسب ما وصل إليه العلم في هذا العصر. الصّنائع المحدثة من الموجود من الصناعات وكان في حكم المفقود، صناعة البيطرة أو علم البيطرة، والبيزرة أو طبّ الحيوان كالخيل والجمال والبقر. وهذه الصّناعة قديمة في البشر ولكن هذا القرن أُدخل فيها من أسباب الرّقي حتى أصبحت تُدَرّس في الغرب كما يُدَرّس الطّب. والبيطار لا يقلّ في منزلته عن الطّبيب وكلاهما يطبُّ هذا الإنسان وذاك الحيوان. بّيد أنّ الجيش الرّابع رأى أن يعمد إلى طريقة عمليّة في تعليم البيطرة فأخذ يعلّمها في أربعة أشهر فيخرج التّلميذ وفي الغالب أن يكون من الطّبقة التي لم يسعدها الحظّ بتعلّم القراءة والكتابة بيطاراً من الدرجة الأولى جمع بين النّظريات والعمليّات. يقرأ الطّالب في المدرسة وهو جنديٌّ أو معاون له من أبناء ألفقراء مستخدم بأجرة معيّنة درسه ويجيء إلى تطبيقه في الحيوانات على مقربةٍ منه ويشرح المعلّم للطلبة باللسان العربي طبّ الحيوان والمعلّم أيضاً ممن تخرجوا على هذه الصّورة فأصبح معلّماً بعد أربعة أشهر من تعاطي هذه المهنة ولكنّه يقرأ ويكتب بالطّبع. وقد جعل الطّلبة هناك فِرَقاً فِرَقاً وكلّهم يلبسون قفطاتاً أزرق حاسرين رؤوسهم ويتعلّمون بلسانٍ يفهمونه أي لسان العامّة. وبجانب هذا المعمل معمل لصنع النّعال للخيل الأوروبية وكذلك معمل لنع مساميرها وفي هذا المعمل أيضاً زمرة من الأطفال الذين يتعلّمون هذه الصّناعة وينافسون فيها الشّبّان والكهول. والدوات المستعملة لتطريق النّعال ومساميرها بسيطةً للغاية ولكنّها متقنة تدل على روح تجدد. وينشئ الجيش الآن معلّمين مما تشتدّ الحاجة إلى مصنوعاتهما وسيتمّان قريباً مضافين إلى المعامل والمصانع الكثيرة التي أحيا بها القديم من الصّناعات وأوجد بها المفقود منها هنا.

وقديماً قالوا أنّ الصناعات إذا فقدت من مكان يتعذّر إرجاعها إليه على صورة سريعة ولكن الجيش الرّابع كذّب هذه القضية في أشهرٍ قليلةٍ وعلّم كتائب من أبناء الوطن وبناته صنائع شريفة والصّنعة في اليد أمان من ألفقر. فطن الجرحى والمرضى من أهمّ الصّناعات التي لم يكن لهذه الدّيار بل ولا للمملكة العثمانيّة عهدٌ بصنعها قطن الرّباطات واللفافات للجرحى فاتّخذ الجيش لصنعه أبنية حسنة بالقرب من مستشفى الغرباء في البرامكة وقسّمه أقساماً قسم الرّجال وهو لحلج القطن وندفه وقسم النّساء وهو لتنظيفه وغسله وصنعه حتى يخرج كأحسن ما يصنع من نوعه. والنّظافة في كلّ هذه الأقسام مما يدهش له النّاظر وربّما لا نغالي إذا قلنا أنّها كادت تبلغ حدّ الإفراط ولانذكر أننا رأينا معهداً صناعيّاً في المملكة العثمانية بلغ بتأنّقه ومراعاة شروط الصّحة فيه مبلغ معمل قطن الجرحى هنا تتمثّل لعينيك روح الإسلام العاملة الاقتصاديّة عندما ترى نساء شابّات وكهلات يتسابقن للعمل في هذا المصنع على أسلوب جديد وقد لبست كلّ واحدة منهن قفطاناً أبيض غاية في النّظافة يغطّي قامتها ووضعت على رأسها طاقيّة سترت شعرها ولم يعد يبدو غير وجهها أي أنّ المرأة هنا احتجبت بالحجاب الشّرعي وعملت عملاً يليق بها تنفع به نفسها وذويها ووطنها. وقد نصبَ القيم عليهنّ ضابطاً كوسجاً قزماً دفعاً لكل ريبة وجُعل لهنّ مخدعان واسعان يحفظن فيهما ثيابهن ويستخدمن في المساء ماهناك من مغاسل للتّنظيف والوضوء وما يصلحهن ليعدن إلى سابق حالهن وهذه هي الأرستقراطيّة الإسلامية ممزوجةً بروح الدّيمقراطيّة أي أن العاملات هنا جمعن بين الاجتماع على العمل الحر ولم تفُتهن الرّفاهيّة ولم يمنعهن حجابهن من الاحتراف بل عُدنَ به إلى سذاجته الأولى وأنشأن يخدمن أمّتهن من طريق الصّناعة كما كان في العصور الأولى ويكون الآن منهن الممرّضات في المستشفيات النّقّالة والثّابتة أيام الحرب. وقد أثمر هذا العمل فوائدٌ كبيرةٌ جدّاً فلم تقتصر مصنوعاته على مستشفيات الجيش الرابع بل أرسل منذ إنشاء إلى جميع السّاحات الحربيّة قطنه ولفائفه وعصباته أرسل إلى جناق

قلعة وإلى فقآسيا وإلى العراق جميع ما يلزم الجيوش العثمانيّة هناك بحيث استغنى الجيش العثماني عن جلب هذا الصنف من الغرب وهيهات أن يحصل عليه زمن الحرب وهو محظورٌ إصداره من كل مملكةٍ محاربةٍ أو غير محاربة يعدّ من المواد الحربيّة كالبارود والسلاح فيصادر حيث كان دلّ هذا المعمل على روحٍ عاليةٍ في التّجدد وأننا أخذتا نحسن الانتفاع بقوانا وأنّ المسلمات كالمسلمين ليس في كتابهنّ ما يمنعهنّ عن مشاركة الرجال في الأعمال وإذا كان القطن يجود كلّ الجودة في سهول أطنة وأغوار الشّام وعندنا ما يلزمنا من الأدوات فلا تقتصر عقولنا عن القيام بالنافع ومراعاة المصلحة حرصاً على الوطن وسلامة لصحّة المجاهدين في الذب عن حياضه نعم قرأنا في تصفّح شؤون معامل القطن أنّ العثمانيات لم يقعد بهنّ الحال عن احتذاء مثال العثمانيين فحبّذا العمل وحبّذا إطّراده زمن الحرب وزمن السّلم من يزُرْ مصانع الجيش الرابع يحكم حكماً قطعيّاً أنّ الدّولة التي تنظّم مثلها وتخرج مثالاً من المصنوعات التي سبق لنا وصفها صناعةٌ تحارب أربعين سنةً وهي تكاد تكون في استغناءٍ عن الغرب الذي كان بالأمس يعيّرنا بفقدان كلّ شيءٍ عندنا وانسلاخنا من كلّ استعدادٍ حتى كان عيالاً عليه في الخيط والإبرة رعى الله أحمد جمال باشا قائد هذا الجيش كم له على بلاد الشّام من أيادٍ بيضاء فهو لم يكتف بدفع عاديّة العدو عنهم عنها بل جمّلها جمّل الله أحواله بالطّرق والجسور والمدارس والمشاريع الاقتصاديّة والعلميّة ومن أحسن آثار عمله هذه الصناعات التي استفاد منها جيشنا اليوم وغداً يستفيد منها الجيش والأمة التي يتألف منها هذا الجيش المحبوب نعم غداً تنتهي الحرب ويخرج من تحت السّلاح مئات الألوف من أبناء هذا الوطن العزيز زمنهم من أسعده الطّالع بتعلّم صناعةٍ من هذه الصناعات فبعد أن كان قبل الحرب متشرّداً أو في حكم المتشّرد يستطيع غداً أن يكسب معاشه من صناعته ويعتمد على كدّه وعمله وقريحته غداً يكون من أبنائنا بفضل الجيش الرابع أمهر النّسّاجين والخيميين والخيّاطين والحاكة والحدادين والنّجارين والسّروجيين والبياطرة وعملة المربّيات والمحفوظات من البقول والثّمار وغيرها مما لم تعهده ديارنا من قبل ويخرج خرّيج هذه المعامل وقد تعلّم قدر الوقت

والعمل وانتظامه وما نظنّ من يدخل صناعةً على قومٍ يتعلّمون بها ما ينعشهم من هوّة الحاجة بأقلّ في حسن الأثر والأحدوثة ممن يفتح بلداّ أو يستعمر قطراً ولذلك يحمد الوطن صنيع قائد الجيش الذي عرف كيف ينتفع من كلّ قوّةٍ في البلاد وامتاز بأنّه كان من الرّجال الذين يحسنون انتخاب عمّالهم والمباشرين لجميع فروع إدارة الجيش فقد كان الصّالح للعمل في الإدارات الكبرى قبله عشرة في المئة وباقيهم خشب مسندةٍ أو كالسّوس في الخشب وهاقد أصبح بفضله وبفضل أنصاره عدد الصالحين للعمل يربو على التسعين في المئة وذلك لأنه موفّقٌ في حسن الاختيار وطرح المرذول والإتيان بالمحمود واختيار المرء قطعة من عقله ولذلك ترى فروع أعمال الجيش هنا يحلّق عليها على الدّوام طير اليمن والبركة إنّ الروح التي بثّها في الجيش العثمانيّ أجمع صاحب الدّولة أنور باشا وكيل القائد الأعظم وناظر الحربيّة قد كان أثرها عظيماً جدّاً في هذا الجيش الرابع أيضاً إذ وجد لها مثل أحمد جمال باشا عالماً عاملاً يطبّقها ويزيد ما يرى الحاجة المحلّيّة ماسّةً إليه من الأعمال الخطيرة ومن أهمّ دواعي النجاح أنّ جمال هذا الجيش لم يتقيّد بحرفيّة القانون بل اهتمّ بجوهره وإذ كان مفطوراً على حبّ العمران جاءت على يديه مثل هذه الصناعات ونفّذ رغائبه في ذلك أناسٌ أكفاء اختارهم للعمل فبرزوا فيه وأدركوا أسراره وخوافيه يعدّ الجيش اليوم المدرسة العادليّة أكبر مدارس الشّافعية في القرون الوسطى بدمشق ليأوي إليها ثلاثمائة وخمسون طالباً من طلاّب الصناعات في الجيش في هذا السبيل ألفاً وخمسمائة ليرة لتكون صالحةً لسكناهم ويعيشون فيها عيشاً منتظماً تجود به صحّتهم وتفتح قرائحهم وتصير أيديهم مرنةً حاذقة وعقولهم مفكّرةً مدبّرةً. وهذا العدد من الطلاّب إذا أضيف إليه ألوف الصنّاع الذين يعملون في مصانع الجيش اليوم يغنون ولا شكّ البلاد بمصنوعاتهم في كل فرعٍ من فروع الصّناعة ويكون ذلك من بعض حسنات القائد العامّ أحمد جمال باشا ومضاء رجال الإدارة مثل مفتّش المنزل كاظم بيك الذي له فضلٌ عظيمٌ في تنظيم هذه الصناعات وغرامٌ شديد بتخريج أبناء الوطن على حبّها

أنا والشلال

أنا والشّلال قالت: عهدتك لا تهاب مُلمّةً ... ما لي أراك جزعت من شلاّلِ ولّيت عنه وكنت تعشق قربه ... ولربّما ولّى المحِبُّ السّالي يا نفس حسبك أن ترومي والهاً ... بها والطبيعة دائم البلبالِ إني لأعشق كلّ غصنٍ يلتوي ... وأحنّ من طرب السلسالِ يهتاجني العصفور وهو مصوِّتٌ ... يدعو ذويه إلى ارتشاف الزّلالِ ويروقني الجبل الرَّفيع كأنّما ... هو طامعٌ من جوّه بنوالِ إني لَيَشغفني هوىً وصبابةً ... نبتٌ بجانب جدولٍ سيّالًِ عبثت به أيدي النّسيم فأوّدت ... أعطافه فاهتزّ غير مبالِ ويروقني الشّلاّل منحدراً هوى ... نحو البسيطة من أشمٍّ عالٍ يغلي كأنّ النار بين ضلوعه ... ويثور مندفعاً إلى الأدغال شابت غدائره فأرسلها على ... وجه الرّمال وهمّ بالإعوال ولقد دنوت مقبِّلاً قطراته ... فرميت من قطراته بنبالي شلاّلٌ ويحك أنت مثلي في الهوى ... أو لم تُشبكِ قوارع الأهوال وعلامَ تدفعني وأنت معربدٌ ... خفّف عليك فأنت من أمثالي أشكو وتشكو الحادثات وإنّما ... هي علّة الإدبار والإقبال تابعتُ في القمم المسير فلم يرُق ... للنّائبات سراكِ في الأجبال واليت خطوَكِ هادئاً فتمثّلت ... لكِ في السّبيل فعدت غير موالِ صدّتكَ عن حيث ابتغيتَ عوائقٌ ... حاولن بي صدّاً عن الآمالِ فهوَيتَ من علٍ هائجاً، ولبثتُ لا ... متململاً، والكارثات حيالي هلاّ صبّرتَ كما صبّرتُ فإنّه ... بالصّبر يُدفع فاجئ الأجوالِ (الزِّركلي)

الوافي بالوفيات

الوافي بالوفيّات صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدي أحد رجال قرن القرن الثّامن وُلد في صفد سنة 696هـ - (1296م) وتوفّي سنة 764هـ - (1363م) وهو إمام في اللغة والشّعر والتاريخ وألفقه تخرّج على علماء دمشق في عصره فأخذ الشّعر عن جمال الدين بن نباتة واللغة عن أبي حيّان وألفقه الشّفعي عن الحافظ المزّي وابن جماعة والتّاريخ عن الذّهبي والمغازي والسِّيَر عن الحافظ بن سيّد الناس وتولّى عدّة مناصب إداريّة وماليّة في صفد والقاهرة وحلب ودمشق وقبره إلى اليوم معروفٌ في صفد وهو في حيّ الإسرائليين هناك وقد كان من المؤلّفين المجيدين ذكر له بروكلمان في تاريخ آداب اللغة العربية ثلاثين مصنّفاً تحتوي على نحو مئة مجلّد وكانت له عنايةٌ خاصّةٌ بالشّعر والنّثر ومما طبع له في الأستانة سنة 1299م كتاب جنان الجناس في علم البديع وطبع له في مصر سنة 1329م كتاب نكت الهميان في نكت العميان ويكاد يكون أخصّائياً في التراجم وأهمّ كتبه الوافي بالوفيّات يدخل في بضع مجلّداتٍ كبرى تحتوي على زهاء عشرة آلاف ترجمةٍ من أول الإسلام إلى عهد المؤلّف وفيه ما في وفيّات الأعيان لابن خلكان وطبقات الأدباء لياقوت مع زياداتٍ كثيرةٍ فاتت هذين المؤلّفين أو حدثت بعدهما ولقد كان يظنّ أنّ كتاب الوافي فقد في جملة ما فقد من كتب العرب لكن تبيّن بعد أنّ أجزاءه مبعثرةٌ في خزائن الكتب في ديار الغرب ولاسيّما خزائن أكسفورد وباريز وفيينا وفي الخزانة التيموريّة والخزانة الزّكية في القاهرة ودار الكتب الخديوية عدّة أجزاءٍ منه إذا جمعت الأجزاء من مصر وأوروبة كان من مجموعها نسخةٌ تامّةٌ فيما نظنّ. وإذا صحّت نيّة إحدى المطابع أو الجمعيّات العلمية في البلاد المصرية أو الألمانية أو الإنكليزيّة أو الهولاندية على طبعه جاء منه كتابٌ لا يقلّ في النّفاسة والفائدة عن تاريخ الطّبري وطبقات ابن سعد والمكتبة الأندلسيّة العربية والمكتبة الجغرافيّة العربية ومعجم البلدان ومعجم الأدباء لياقوت والمخصّص لابن سيده وصبح الأعشى وغيرها من الأسفار المهمة التي أحيتها مصر وأوروبا افتتح المؤلّف كتابه في من اسمه محمد فبدأ باسم صاحب الشّريعة عليه الصلاة والسلام وثنى بمن اسمه محمد من الرجال ثم عاد فساق التراجم على حروف المعجم وكلامه بشفّ عن تحقيقٍ إذ تهيّأت له موادٌ من التاريخ معقودٌ بعضها اليوم بحكم الضّرورة وعبارته من

السهل الممتنع فيها الأدب الغضّ مع السلاسة الساحرة فكان من صدر عفو القريحة من قلم الصلاح الصفدي أقرب إلى مناحي ألفصحاء من عبارات المتكلّفين المتنطعين ذكر في مقدمته البديعة أعاظم رجال الملّة الذين قال فيهم أنّ علماءها كأنبياء بني إسرائيل وأمرائها كملوك فارس في التنويه والتنويل ذاكراً فيه الخلفاء والصحابة والتابعين والأمراء والقضاة والعمال والوزراء والقرّاء والمحدّثين والفقهاء والشيوخ والأتقياء والأولياء والنّحاة والأدباء والكتّاب والشّعراء والأطبّاء والعلماء وأهل العقل والذّكاء وأرباب المقالات ورؤساء المذاهب والمتفلسفين وكل من اشتهروا بعلمٍ أو شأنٍ وقد جعل المقدّمة على فصول الأول في مصطلحات الأمم ولاسيّما العرب والفرس واليهود وغيرهم على حساب السنين والتاريخ. الثاني بحث فيه بحثاً نحويّاً. الثالث في كيفيّة كتابة التاريخ. الرابع في الأنساب. الخامس في الكنى والألقاب والعلم. السادس في الهجاء والإملاء والاختصار. السابع فيمن كتب في التاريخ. الثامن فيما يراد بالوفاة والوفيّات. التاسع في فائدة التاريخ. العاشر في صفات المؤرّخ. الحادي عشر ذكر فيه تواريخ الشرق قال في ألفصل الثالث: تقول للعشرة وما دونها خلون لأن المميز جمع والجمع مؤنّثٌ وقالوا لما فوق العشرة خلت ومضت لأنهم يريدون أنّ الجمع مميزه واحدٌ وتقول من بعد العشرين لتسعٍ إن بَقَين تأتي بلفظ الشّكّ لاحتمال أن يكون الشّهر ناقصاً أو كاملاً وقد منع أبو علي ألفارسي رحمه الله تعالى أن يكتب لليلةٍ خلت كما منع من صبيحتها أن يقال المستهلّ لأن الاستهلال قد مضى ونصّ على أن يؤرّخ بأول الشّهر في اليوم أو بليلةٍ خلت منه وقال الحريري في درّة الغوّاص: والعرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير فيقولون لأربعٍ خلَون ولأربع عشرة ليلةٍ خلت قال: ولهم اختيار آخر وهو أن يجعل ضمير الجمع الكثير الهاء والألف وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشدّدة كما نطق به القرآنإنّ عدة الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعٌ حُرُمٌ ذلك الدِّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكمفجعل ضمير الأشهر الحُرُم بالهاء والنون لقلّتهنّ وضمير شهور السّنة الهاء والألف لكثرتها وكذلك اختاروا أيضاً أن ألحقوا بصفة الجمع القليل الألف والتاء فقالوا أقمت أياماً معدوداتٍ وكسوته أثواباً رفيعاتٍ وعلى هذا جاء في سورة البقرةوقالوا لم تمسّنا النار إلا أياماً معدودةًوفي سورة آل عمرانإلا أياماً معدوداتٍكأنهم

قالوا أولاً بطول المدّة ثمّ إنّهم رجعوا عنه فقصروا المدّة انتهى والواجب أن تقول في أول الشهر لليلةٍ خلت منه أو لغرّته أو لمستهلّه فإذا تحقّقت آخره قلت انسلاخه أو سلخه أو آخره. قال ابن عصفور: والأحسن أن تؤرخ بالأقلّ فيما مضى وما بقي فإذا استويا أرّخت بأيهما شئت قل بل إن كان في خامس عشر قلت منتصف أو خامس عشر وهو أكثر تحقيقاً لاحتمال أن يكون الشّهر ناقصاً وإن كان في الرابع عشر ذكرته أو السادس عشر ذكرته فائدة: ورأيت ألفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا وبعضهم لم يذكروا بعدها شهراً وطلبت الخاصّة في ذلك فلم أجدهم أتوا بشهرٍ إلا مع شهرٍ يكون أوله حرف راءٍ مثل شهري ربيع وشهري رجب ورمضان ولم أدرِ العلّة في ذلك ما هي ولا وجه المناسبة لأنّه كان ينبغي أن يحذف لفظ شهر من هذه المواضع لأنه يجتمع في ذلك رأيان وهم قد فرّوا من ذلك وكتبوا داود وناوس وطاوس بواوٍ واحدةٍ كراهة الجمع بين المثلين وجرت العادة بأن يقولوا في الشّهر المحّرم شهر الله وفي شهر رجب شهر رجبٍ ألفرد أو الأصمّ أو الأصب وفي شعبان شعبانُ المكرّم وفي رمضان رمضانُ المعظّم وفي شوّال شوالُ المبارك ويؤرخوا أول شوّال بعيد ألفطر وثامن ذي الحجّة بيوم التّروية وتاسعه بيوم عرفة وعاشره بعيد النّحر وتاسع المحرّم بيوم تاسوعاء وعاشره بيوم عاشوراء فلا يحتاجون أن يذكروا الشّهر ولكن لابدّ من ذكر السّنة ومما قاله في ألفصل الخامس: إذا عرفت العلم والكنية فسردها يكون على الترتيب تقدّم اللقب على الكنية والكنية على العلم ثمّ النسبة إلى البلد ثمّ إلى الأصل ثمّ إلى المذهب في ألفروع ثم إلى المذهب في الاعتقاد ثم إلى العلم أو الصناعة أو الخلافة أو السّلطنة أو الوزارة أو القضاء أو الإمرة أو المشيخة أو الحجّ أو الحرفة كلّها مقدّمٌ على الجميع فتقول في الخلافة أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس أحمد السامري إن كان وُلد بسرّ من رأَى البغدادي فرقاً بينه وبين الناصر الأموي صاحب الأندلس الشافعي الأشعري إن كان يتمذهب في ألفروع بفقه الشافعي ويميل في الاعتقاد إلى أبي الحسن الأشعري ثم تقول القرشي الهاشمي العباسي وتقول في السلطنة السلطان الملك الظّاهر ركن الدِّين أبو ألفتح بيبرس الصَالحيَ نسبةً إلى أستاذه الملك الصالح التركي الحنفي البندقدار أو السلاح دار وتقول في الوزراء الوزير فلان الدين أبو كذا فلان وتسرد الجميع كما تقدّم ثم تقول وزير

فلانٍ وتقول في القضاة كذلك القاضي فلان الدين وتسرد الباقي إلى أن يجعل الآخر وظيفته قبل الإمرة مثل الجاشنكير أو السّاقي وغيرهما وتقول في أشياخ العلم العلاّمة أو الحافظ أو المُسند فيمن عُمِّر وأكثر الرواية أو الإمام أو الشيخ أو ألفقيه وتسرد الباقي إلى أن نختم الجميع بالأصولي أو المنطقي أو النّحويّ وتقول في أصحاب الحِرَف فلان الدين وتسرد الجميع إلى أن تقول الحرفة أما البزّاز أو العطّار أو الخيّاط فإن كان النّسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه قلت القرشي التيميّ البكريّ لأنّ قريشاً أعمّ من أن يكون تيميّاً والتّيميّ أعمّ من أن يكون من ولد أبي بكر رضي الله عنه وإن كان النّسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت القرشي العدوي العمري وإن كان النسب إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه قلت القرشيّ الأموي العثماني وإن كان النسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قلت القرشي التيميّ الطلحيّ وإن كان النّسب إلى الزبير رضي الله عنه قلت القرشي الأسدي الزبيري وإن كان إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قلت القرشي الزّهريّ السّعديّ وإن كان النسب إلى سعد رضي الله عنه قلت القرشيّ العدوي السعدي إلا أنه ما نُسِب إليه فيما علم وإن كان النسب إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قلت القرشي الزهري العوفي من ولد عبد الرحمن بن عوف وإن كان إلى أبي عبيدة بن الجرّاح قلت القرشي من ولد أبي عبيدة وقال في أدب المؤرخ: نقلت من خط الإمام العلاّمة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ما صورته: يشترط في المئرّخ الصّدق وإذا نقل يعتمد اللفظ والمعنى وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في الذاكرة وكتبه بعد ذلك وأن يسمي المنقول عنه فهذه شروطٌ أربعةٌ فيما ينقله ويشترط أيضاً لما يترجمه من عند نفسه ولما عساه يطول في التّراجم من القول أو يقصر أن يكون عارفاً بحال صاحب الترجمة علماً وديناً وغيرهما من الصفات وهذا عزيزٌ جدّاً وأن يكون حسن العبارة عارفاً بمدلولات الألفاظ وأن يكون حسن التصوّر حتى يتصوّر حال ترجمته جميع حال ذلك الشّخص ويعبّر عنه بعبارةٍ لا تزيد عليه ولا تنقص عنه وأن لا يغلبه الهوى فيخيّل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبّه والتّقصير في غيره بل إما أن يكون مجرّداً من الهوى وهو عزيزٌ وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه ويسلك طريق الإنصاف فهذه

أربعة شروطٍ أخرى ولك أن تجعلها خمسةً لأن حسن تصوُّره وعلممُه معهما الاستحضار حين التصنيف فيجعل حضور التّصوُّر زائداً على حسن التّصوُّر والعلم فهي تسعة شروطٍ في المؤرِّخ وأصعبها الاطّلاع على حال الشّخص في العلم فإنّه يحتاج إلى المشاركة في علمه والقرب منه حتى يعرف مرتبته وما ذكرت هذا الكلام غلا بالنسبة إلى تواريخ المتأخّرين فإنّه قلّ فيهم اجتماع هذه الشّروط وأمّا المتقدّمون فأما أتأدّب معهم. . . وذكر في ألفصل الحادي عشر أسماء كتب التاريخ المؤلّفة لمن تقدّم من أرباب هذا ألفنّ فساق اسم 282 تاريخاً من تواريخ المشرق وبلاده وتاريخ المغرب وبلاده والتواريخ الجامعة وتواريخ الملوك والوزراء والعمّال والقضاة والقرّاء والعلماء والشّعراء وتواريخ مختلفة وقال في آخره: وكتب الجرح والتعديل والأنساب ومعاجم المحدّثين ومشيخات الحُفَّاظ والرّواة فإنها لا شيءٌ يحصره حدٌّ ولا يقصره عدٌّ ولا يستقصيه ضبطٌ ولا يستدنيه ربطٌ لأنها كاثرت الأمواج أفواجاً وكابرت الأدراج اندراجاً. قلنا وأسماء هذه الكتب تنعي إلى الخَلَف قصورَه عن اللحاق بالسّلَف ومن الغريب أن لم يُطبع حتى الآن سوى جزءٌ قليلٌ من تلك التواريخ وقد فقد بعضها على ما يظهر من فهارس خزائن الكتب الغنيّة في أوروبا وهذه المقدّمة وحدها كتاب علمٌ برأسه تنمّ عن فضل كاتبها وأنّ تاريخه جعبة ألفوائد والأوابد فهي أشبه بمقدّمة ابن خلدون لتاريخه ومقدّمة الصّلاح الصّفديّ تعلّي منزلة تاريخه الوافي الشافي وهاك الآن نموذجاتٍ قليلةً منه تعرف بها أسلوبه في ترجمة المشهورين ونمطه في إنشائه وتصوير الرجال وذكر المهمات من أخلاقهم وعلومهم وأحوالهم نقلناها عن نسخة الأمير كايتاني في رومية التي أخذت له بالتصوير الشمسي نقلاً عن الأجزاء المبعثرة في خزائن كتب أوروبا قال الصفدي في سنة 7. 2 م: كان المصاف بين التتار والمسلمين في مرج الصفر فانهزم فلّهم في الزواريق واجتازوا ألفرات من دير يسير ومما قاله شمس الدين السيطبي في هذه الوقعة: جاؤوا وكلّ مقامٍ ظلّ مضطرباً ... ومنهم كلّ مقامٍ بات يرتجف فشاهدوا علم الإسلام مرتفعاً ... بالعدل فاستيقنوا أن ليس ينصرف

لاقاهم الفيلق الجرّار فانكسروا ... خوف العوامل بالتّأنيث فانصرفوا يا مرج صفر بيّضت الوجوه كما ... فعلت من قبل والإسلام يؤتلف أزهر روضك أزهى عند نفحته ... أم يانعات رؤوسٍ فيك تقتطف غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجةٌ بدماء المغل تغترف زلّت على كتف المصريّ أرجلهم ... فليس يدرون أنّا تؤكل الكتف آووا إلى جبلٍ لو كان يعصمهم ... من هوج فرخ المنايا حين يختطف دارت عليهم من الشجعان دائرةٌ ... فما نجا سالمٌ منهم وقد زحفوا ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا ففي جماجمهم بيض الظِّبا زبرٌ ... وفي كلاكلهم سمر القَنا قصفُ فرّوا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتلوا في البراري حيثما وجدوا فما استقام لهم في أعوجٍ نهجٌ ... ولا أجارهم من مانعٍ كتف قال الصفدي ما أعرف في كتب الأدب شيئاً إلا وقد اختصره جمال الدين بن مكرم فمما اختصره كتاب الأغاني ورتّبه على الحروف وزهر الآداب وكتاب الحيوان فيما أظنّ واليتيمة والذخيرة وشوار المحاضرة وغير ذلك حتى مفردات ابن البيطار وكان يختصر ويكتب في ديوان الإنشاء واختصر تاريخ ابن عساكر وتاريخ الخطيب ذيل ابن النجار وجمع بين كتاب الصّحاح للمجوهريّ والمحكم لابن سيده وكتاب الأزهري فجاء ذلك في سبعةٍ وعشرين مجلّداً ومات وترك بخطّه خمس مائة مجلّدٍ وقال في ترجمة حبيب بن محمد بن صمصامة أمير دمشق القائد أبو ألفتح وليّ دمشق مرّاتٍ من قبل خاله أبي محمودٍ الكتامي وكان جبّاراً ظالماً سفَّاكاً للدماء إذا للأموال كثر دعاء أهل دمشق عليه وابتهالهم إلى الله تعالى فيه فهلك بالجذام سنة تسعين وثلاثمائة وقال في ترجمة الحرث بن عبد الرحمن بن الغار بن ربيعة الجرشي من وجوه أهل دمشق وفضائحهم وكان قد سرد بالغوطة قبل وصول مروان إلى مصر وكتبوا إليه بولاية دمشق وكان بداريّا يأتيه الأشراف يسلّمون عليه إلى أن أقبل عبد الله بن عليّ فنزل دمشق وقدم الحرث وافداً على المنصور مستعطفاً لأهل الشّام فقام وقال: أصلح الله أمير المؤمنين إنّا لسنا وفد مباهاةٍ ولكن وفد توبةٍ وقد ابتُلينا بفتنةٍ استقرّت كرمنا واستخفّت حلمنا فنحن بما

قدمنا معترفون ومما سُلِب منا معتذرون فإن تعاقبنا فيما أجرمنا وإن تعفُ عنّا فبفضلك علينا فاصفح عنّا إذا مَلَكْْتَ وامنن إذا قدرت وأحسِن فطالما أحسنت فقال المنصور: قد فعلت وقال: محمد ابن أحمد بن عبد الله أبو علي المعتزلي شيخ المعتزلة الداعية إلى مذهبهم كان يدرس الاعتزال والحكمة فاضطرّه أهل السّنّة إلى أن لزم بيته قال صاحب المرآة خمسين سنةً لا يتجاسر على الظّهور وقال: ناصر الدين ابن المقدسي ولّي سنة 678 هـ وكالة بيت المال ونظر جميع الأوقاف بدمشق وفتح أبواب الظّلم وخلع عليه بطرحة غير مرّةٍ وخافه النّاس وظلم وعسف وعدا طوره وتحامق حتى تبرّم به النّائب ومَن دونَهُ وكاتبوا فيه فجاء الجواب بالكشف عما أكل من الأوقاف ومن أموال السّلطان والبرطيل فرسموا عليه بالعذراوية وضربوه بالمقارع فباع ما قدر عليه وحمل جملةً وذاق الهوان واشتفى منه الأعادي وكان قد أخذ من النّاصريّ الزّنبقيّة وكان يباشر شهادة جامع العقيبة فحصل بينه وبين قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي نفرة فتوجه إلى مصر ودخل على الشَّجاعيّ فأدخله على السلطان وأخبره بأشياء منها أمر بنت الملك الأشرف موسى بن العادل وأنها باعت أملاكها وهي سفيهةٌ تساوي أضعاف ما باعته فوكّله السلطان وكالةً خاصّةً وعامّةٌ فرجع غلى دمشق وطلب مشتري أملاكها بعد أن أثبت سفهها فأبطل بيعها واسترجع الأملاك من السيف السامري وغيره وأخذ منهم تفاوت المغل وأخذ الخان الذي بناه الملك الناصر قريب الزنجيلية وبساتين بالنيرب ونصف حزرما ودار السعادة وغير ذلك الخ ثم طُلب إلى مصر فوجد مشنوقاً بعمامته وقال: مؤيد الدين المهندس الدمشقي كان أستاذا في نجارة الدّفّ ثم برع في علم إقليدس ثمّ ترك نقش الرخام وضرب الخيط وأقبل على الاشتغال وبرع في الطب والرياضي وهو الذي صنع الساعات على باب الجامع سنة 599 هـ وقال الصفدي في ترجمة رجار صاحب صقلية: رجار ملك الفرنج صاحب صقلية هلك بالخوانيق سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمائة ويقال فيه أجّار بهمزة بدل الراء وجيمٍ مشددة وبعد الألف راءٌ كان فيه محبّة لأهل العلوم ألفلسفية وهو الذي استقدم إليه الشّريف الإدريسي صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق من العدوة ليصنع له شيئاً في صورة العالم

فلما وصل إليه أكرم نزله وبالغ في تعظيمه فطلب منه شيئاً من المعادن ليصنع منه ما يريد فحمل إليه من ألفضّة الحجر وزن أربعمائة ألف درهمٍ فصنع منها دوائر كهيئة الأفلاك وركّب بعضها على بعضٍ ثمّ شكّلها له على الوضع المخصوص فأُعجب بها رجارٌ ودخل في ذلك ثلث ألفضّة وأرجح بقليلٍ وفضل له ما يقارب الثلثين فتركه له إجازةً وأضاف لذلك مائة ألف درهمٍ ومركباً موسقاً كان قد جاء إليه من برشلونة بأنواع الأجلاب الرّوميّة التي تجلب للملوك وسأله المقام عنده ومتى كنت بين المسلمين على فلك (كذا) ومتى كنت عندي أمنت على نفسك فأجابه إلى ذلك ورتّب له كفايةً لا يكون إلا للملوك وكان يجيءُ له راكب بغلةٍ فإذا صار عنده يتنحّى له عن مجلسه فيأتي فيجلسان معاً وقال له: أريد تحقيق أخبار البلاد بالمعاينة لا بما ينقل من الكتب فوقع اختياره على أناسٍ ألباء فطناء أذكياء وجهّزهم رجار إلى أقاليم الشرق والغرب جنوباً وشمالاً وسفّر معهم مصوّرين ليصوّروا ما يشاهدونه عياناً وأمرهم بالتّقصّي والاستيعاب لما لابدّ من معرفته وكان إذا حضر أحدٌ منهم بشكلٍ أثبته الشّريف الإدريسي حتى تكامل ما أراد وجعله مصنفا وهو كتاب نزهة المشتاق الذي للشريف الإدريسي وكان رجار المذكور قد أخذ طرابلس الغرب عنوةً بالسيف في يوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل أهلها وسبى الحريم والأطفال وأخذ الموال ثم إنه شرع في تحصينها بالرجال والعدد ثم إنّه أخذ المهدية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة لأنّ صاحبها الحسين بن علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ الصهناجيّ عجز عن مقاومته فخرج من المهدية هارباً بما خفّ من النفائس وخرج من قدر على الخروج. ولما هلك رجار ملكَ بعده ولده غُليلم بضمّ الغين وبعده الميم المعجّمة بين اللامين الساكنين ياءٌ وبعده اللام وعليه قدم قلاقس الإسكندري سنة ثلاث عشرة وستّين وخمسمائة وامتدحه بقصيدةٍ إلى آخر ما قال. هذه نموذجاتٌ من الوافي وهو من أجدر ما يجب الاهتمام بطبعه تتميماً لسلسلة تواريخنا

الحقيقة في الخيال

الحقيقة في الخيال متى تنجاب هاتيك الدّجون ... وعنّا تنجلي تلك الظّنون متى يعلو على الشّكّ اليقين ... متى يصبو على الحزن الرّزين أنبقى هكذا بيد الفجائع ... ضرائب للبنادق والمدافع لنا في كلّ شارقةٍ مصارع ... تصيد نفوسنا فيها المنون تقاضينا إلى حدّ الحسام ... على ما ليس يؤبه من خصام وتقذفنا لمنذور الحطام ... لجارية القضاء نوّى شطون يهيب بنا اللموع من السّرابِ ... لورد الحتف في حمس الضراب ويخدعنا الجهام من السّحابِ ... فنحسب أنّه الغيث الهتونُ يرينا المرء في سكنى الأطام ... خلال المرء في سكنى الخيام ألذّ مُدامه كأس الحمام ... واهنأ عيشه الحرب الزّبون له دانت مواليد الطبيعة ... فأضحت وهي صمّاءٌ سميعة أطاعته وما برحت مطيعة ... تبوح بسرّها وهو المصون فكم كشفت معارفه حجاباً ... وكم راضت مواهبه صعاباً وكم دكّت عزائمه هضاباً ... وكم خضعت له بكرٌ وعون فنونٌ كم له منها جنونٌ ... وإنّ جنونه أبداً فنون وكلّ حديثه معها شجون ... وكلّ شجونه فيها فتون تضاحكه فيطرب لا يبالي ... بما منها له تلد الليالي وينسى ما جنته على الأوالي ... وما خبّأت له منها القرون يطيع نداء ناقضة الذّمام ... ويعصي كلّ طيّعة الزّمام هجيراه مجانبة الوئام ... وبين ضلوعه الدّاء الدّفين سواءٌ عنده ركب ألفضاََء ... بتطلاب العلى أم خاض ماَء ودأماء توسَّطُ أم دماَء ... له في كلّ حادثةٍ سفين أجال بغامضٍِ الأكوان فكراً ... فأوضح مبهماً وابان سرّاً وكم أوحت له آياً وسفرا ... ًوسَر كتابها فيه مبين جلا سنن الطّبيعة فاجتلاها ... كواكب كم أبان له ضياها

خفايا ليس يدرك منتهاها ... ولا ترقى لأيسرها الظّنون رقى سيّارةً فوق الهواء ... تحكّ بروقها زهرُ السّماءِ وراح بها يدلّ على ذكاءٍ ... وددت أنها منها تكون يراها العلم معجزة العصور ... ومشكاةً جلاها للدهور وأطلقها هوازئ بالبدور ... تقيّد في محاسنها العيون تراها وهي ناشرةُ الجناح ... كدلاحٍ تلفع بالرياح فما حملت سوى أجلٍ متاحٍ ... وبين ضلوعها حتفٌ مهين فكم عنها تمخّضت السنين ... وما نشرت وكم طويت قرون وما سمحت بمولدها البطون ... ولا بلغ الظّهور لها جنين تخطّ بمهرق الآفاق سطراً ... فتقرأ منه للإعجاز شعراً وللتدمير والتّفريق نثراً ... وحاصل معنييه أذىً وهون يثور بصدرها غازٍ فتغلي ... مراجلها على حقدٍ وغلّ وإن تنظر فليس لغير ذلٍّ ... وضيمٍ ذلك النّظر الشّفون طوى خبر البساط لها عيانٌ ... به لبصائر الدنيا افتتان وإن يسلس لراكبها عنانٌ ... فكم منها يعاصيه حرون تغرّد في الفضا تغريد شادي ... فيطرب شدوها سمع الجماد وإن هامت بها في كلّ وادٍ ... عقولٌ فهي واديها الأمين تريك على جمام الكدّ مزحاً ... فتشرح طبعك المكدود شرحاً وإن محضتك بعد الغشّ نصحاً ... فكم من جدٍّ يولّده المجون تطير وهل تباريها النسور ... ودون محلّها الشّعرى العبور ولن يرقى لمرقاها الأثير ... وهل تُرقى الخواطر والظّنون لمسترق النّجيّ غدت شهاباً ... تلهب في أضالعه التهاباً وتقصيه وما بلغ اقتراباً ... لخافيها المراصد والعيون تُرى بدراً وآونةً هلالاً ... إذا في الأفق أسرعت انتقالاً وإن لاحت بوجه الكون خالاً ... فما غير الفضا لها جبين

إذا جاشت بها قدرٌ تفور ... تدور كما يصرفها المدير وإن زفرت يطير بها الزّفير ... وإن غضبت يجنّ لها جنون كأن البرق أصدقها الودادا ... فملّكها بجبينه الفؤادا وصيّرها لناظره سواداً ... ولكنّ الخفوق لها جفونٌ بجانحة الزّمان غدت ضميراً ... وطرفاً في محاجره قريراً وعضباً في سواعده طريراً ... ولكن غير ما صنع القيون أيا عصر البخار إليك شكوى ... يغصّ بها فم الأيّام شجواً ابن إن كنت تنطق لي بنجوى ... لها بأضالعي وجدٌ كمين أينطق في معاجزك الجماد ... ولم يمطرهم رفقٌ ولين أتجريها جواري منشِئاتٍ ... مواثل كالجبال الرآسيات وتوقرها صنوف المجعزات ... تراع بها المعاقل والحصون تخادعنا ببرّاق لموعٍ ... كذلك شيمة الختل الخدوع وكم لك في البريّة من صنيعٍ ... تشيب له الذّوائب والقرون فنونك لم تدع أرضاً خلاءً ... ولم تجرِ بها عسلاً وماء وكم فيها أفاضت كهرباَء ... بساطعها اعتدى ضبٌّ ونونُ لئن نصبت بنوكٌ لها دلائل ... فلم تكًُ للورى إلا حبائل وإن أهلّت بآنسها المجاهل ... فما هي للنهى إلا حزون وكم لبنيك من آي اختراع ... طوائلها تقصّر كلّ باع وتذهب بالمذانب والتّلاع ... إذا يوماً لها فاضت عيون لئن خلبت بوارقها العقولا ... فلم يكُ ومضها غلا نصولا وكم فينا جلت عضباً صقيلاً ... مواقع حدّ منّا الوتين إلى مَ حياتنا تفنى جهاداً ... وأنفسنا نقطّعها جلاداً ونحمل في الدّنا نوباً شداداً ... تنوء بحملها الأجد الأمون أعصرَ النّور لم نرَ فيك نوراً ... ولا منك البخار غدا مطيرا ولكن من دمٍ أجرى بحوراً ... وأشلاء الأنام بها سفين

ابن إن كنت تفصح عن خفيٍّ ... يضيق بسرّه صدر الأبيّ أتخترع النّكال لكلّ حيٍّ ... وللإنسان فيك أذىً وهون كأنّ نفوسنا أضحت متاعاً ... يساومنا المنون لها ابتياعاً وإن طارت على سومٍ شعاعاً ... فما غير ألفناء لها وكون أنسقط من جهين على خبيرٍليصدقنا الحديث عن الدّهور فقدماً قيل غير مقال زورٍ ... (وعند جهين الخبر اليقين) شكونا داءنا حيناً فحيناً ... وأعضل داؤنا منّا وفينا وكلّ رزيّةٍ صبّت علينا ... فأدوى دائها فينا كمين شغفنا بالتّمدّن وهو داءٌ ... عضالٌ لا يرام له دواء وليس لدائه أبداً شفاءٌ ... وهل تشفى الحقائد والضّغون هل التّمدين غير مثار حربٍ ... ومدعاةٌ لكلّ أذىً وكرب ومنذر فرقةٍ ورسول رعبٍ ... وداعيةٌ بكلّ رديّ قمين متى الإنسان يصبو التصافي ... ويخلع عنه أردية التجافي ويهجر ورد رنقٍ غير صافي ... إذا لذّت لشاربها الأج - ون يرى حملاً وفي برديه ذئب ... هجيرة مخادعة ووثب وأن طمعٌ أهاب به وكسب ... يريك الليث أظهره الع - رين غرائز فيه شتى لاتحد ... وجمّ خلائق ليست تعد وكم منها له خصم ألدّ ... عريكته لخطبٍ لا تلين وظل وما رهى دنيا ودنيا ... يسوق لنوعه حتفاً مهينا ولم يقض إلى طمع ديونا ... وقد قضيت وأغلقت الرهون عزا للدين تفريقاً وظلماً ... وكم قد راح ينثر منه نظماً ولم يلف بغير الدين ضمّاً ... وهل يدعوا إلى التفريق دين متى للسلم يجنح والتّآخي ... ويحكم للمؤاخاة الأواخي يرقّ لكلّ معولة الصراخ ... ويعطف من حشاشته الحنين متى يغدو على طرف الثمام ... تودد كل مصريّ لشامي

وينزع معرق للقا تهامي ... ونجدي لمن ضمّ الحجون ويعطف كل غربي لشرقي ... حشاشته ويرتق كل فتق ويطلق ذاك هذا بعد رق ... وقسوة ذاك لذا تلين النبطية سليمان ظاهر

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار البسيكومتر اخترع عالمان من علماء النفس الأستاذ جونغ من جامعة زوريخ والأستاذ بترسن من جامعة نيويورك آلة دعواها البسيكومتر الكهربائي أن لم يمكن بها قراءة أفكار من يخضعون للتّجربة برضاهم أبغير رضاهم فلا أقلّ من الوقوف على حقيقة أقوالهم والآلة مؤلفة من كالفانومتر ومن آلة تقيد تنوع ألفكر وظهوره في الكلام وذلك على الوجه الآتي: أ، الكالفانومتر متصل مع مصباح ينزل لهيبه أو يصعد بحسب قوة المجرى الكهربائي ويقاس علو هذا اللهيب بمرآة ذات درجات تنعكس عليها فلا جل فحص إنسان توضع يده الوحدة على قطب من الزنك والأخرى على قطب من ألفحم ومن ذلك ينشأ مجى كهربائي تختلف قوته بحسب شدّة الحواس النفسية أو الطبيعة التي تجري في خاطر الإنسان الذي يراد اختباره فإذا كذب هذا الرجل كان من اضطراب حركة الدماغ الحادثة من التناقض بين ألفكر والإرادة التي تظهر العكس أن يحدث منه مجرى كهربائي يختلف ضعفاً وقوته بعلو اللهيب المار ذكره. وقد أثبتت التجارب الكثيرة صحة هذا الاختراع الذي هو من أغرب ما سمع. ألمانيا الاقتصادية الظاهر أن ليس في العالم أمة كالألمان عرفت طرق الاقتصاد وادخرت وفرها للأيام الشّداد وعالجت كلّ أسباب هذا الباب حتى أعجب بها الأعداء قبل الأحباب. وقد قدّر العارفون ثروة الشّعب الألماني قبل من 33. إلى 39. مليار مارك وثروة بريطانيا من 3. . إلى 36. وثروة فرنسا من 26. إلى 29. ودلّت كثرة الوارد على صناديق التّوفير خلال الحرب أيضاً أن ثروة ألمانيا ما برحت في نمو مع أن أصحاب هذه الأموال اشتركوا في إقراض حكومتهم أربعة قروضٍ كبيرةٍ وكانت قيمة القرض الأخير عشرة مليارات وسبعمائة مليون مارك اشترك فيه 645، 279، 5 ألمانيا ومع ذلك زاد ما وضعوه في صناديق التوفير عن 66. مليون مارك خلال سنةٍ واحدةٍ آخرها سلخ سنة 1915م. كانت ألمانيا قبل الحرب تملك 45 مليون رأس من الماشية وفرنسا تملك 2. مليوناً وإنكلترا 13 مليوناً وبلغ محصول القمح والجاودار في ألمانيا 16. 8مليون طن في حين لم يبلغ

محصول فرنسا من ذلك أكثر من 1. ومحصول إنكلترا 1. 4 مليون وبلغ محصول ألمانيا من البطاطا 54 مليون طن ومحصول فرنسا 13 مليوناً وإنكلترا 6 ملايين. كان في بنك ألمانيا في أواخر السنة ألفائتة ما قيمته 55 مليون من السندات المستهلكة في حين كان بنك فرنسا 2. 91. ملايين وفي بنك إنكلترا 2. 193 ويفهم من ذلك أنّ ألمانيا قضت الأسابيع الأولى من الحرب دون أن تعتمد إلى تأجيل دفع الديون (موراتوريوم). ويستفاد من الأرباح التي أعطتها الشركات الألمانية لمساهميها مدّة هاتين السّنتين في الحرب العامّة أنّ 3. . . شركة دفعت لمساهميها 6. 48 في المئة سنة1914م ودفعت 8. 37 في المئة في السنة التالية هذا مع انقطاع ألمانيا عن أقطار العالم الأخرى. وكان الدَّين الذي على إمبراطورية ألمانيا والإمارات المتّحدة الألمانية قبل الحرب 21ملياراً وديون بريطانيا العظمى 14 مليار مارك ومعظم الدَّين الذي على حكومة ألمانيا هو ثمن سككها الحديدية التي ابتاعتها من الشركات بعشرين مليار مارك فالديون الألمانية يقابلها ما لألمانيا من الخطوط الحديدية ويضاف إلى هذه ما تملكه من المناجم والأملاك والغابات التي تساوي أربعة مليارات فلألمانيا ملكٌ يساوي 34ملياراً من الديون لقاء 21 ملياراً من الديون على حين ليس لحكومة إنكلترا من الملك سوى 78. مليون مارك وباقي ما عليها أي 13ملياراً و6. . مليون مارك ديناً لا مقابل له ومثل ذلك يقال عن فرنسا التي يقلٌّ ما تملكه أكثر من ذلك ويصيب ألفرد من دين الحكومة في ألمانيا 312 ماركاً وفي إنكلترا 313 وفي فرنسا 664. وقد أنفقت حكومات أواسط أوروبا على تسليحها من سنة19. 5 إلى 1914م، 81 ملياراً وكانت نفقات حكومات الوفاق 42 مليار مارك ويصيب من هذه النفقات كلّ فردٍ في ألمانيا2. 2 مارك وفي النمسا 111 وفي إنكلترا 3. 5 وفي فرنسا 259 وعلى هذه النسبة كانت نفقات الحرب ويؤخذ من المجلّة الاقتصادية الإنكليزية أن حكومات أوروبا الوسطى يصيبها 35 في المئة من المئة نفقات الحرب ويصيب حكومات الاتفاق 61 في المئة فتنفق كل يوم حكومات أوروبا الوسطى كل يوم 12 مليون مارك وينفق خصومها 245 مليوناً وقد زاد سعر القطع في الاقتراض في جميع الممالك وهو في ألمانيا أقل منه في غيرها فارتفع فيها من 3. 9. في المئة إلى 5. . 5 في المئة وفي فرنسا من 36. إلى 575 وفي إنكلترا من 3. 33 إلى 5. 21 فالزيادة في ألمانيا 3. في المئة وفي فرنسا 6.

وفي إنكلترا 57 وزاد تداول أوراق المصارف فكان في أواخر سنة 1915 في ألمانيا نحو ستّة مليارات ورقة في حين كان لفرنسا منها 11 مليار ورقة وأكبر دليل على قوّة الحياة الاقتصادية في ألمانيا أنّ المودعات في المصارف الألمانية زادت عشرة في المئة على حين نقصت في فرنسا 28 في المئة. وسعر القطع كان في ألمانيا قبل الحرب أرقى من غيرها فأصبح الآن خمسة مثل سائر الممالك أما سعر القطع الخاص فهو الآن أقل مما في إنكلترا مما لم يعهد إلى هذا اليوم. وأكبر دليل على وفرة المال في ألمانيا أن المصارف لا تعطي من ألفائض عن المال المودع عندها أكثر من 1. 5 بالمئة وتدفع مصارف إنكلترا 3. 5 في المئة وهذا من الأدلة الناصعة على ارتقاء القوة في ألمانيا ويدل أنها أرقى من خصومها في الاقتصاد والمالية فقد أبانت الحرب الحاضرة أن ألمانيا أول دولة في العالم وأخذ علماؤها يعنون ببيان أن المدنية الألمانية أرقى من كل خصومها وقد نشر أحدهم مؤخراً في كتابٍ له أرقاماً هي أصدق شاهدٍ على تقدّم ألمانيا على فرنسا وإنكلترا فتبين أن ألمانيا أصدرت سنة 1913م - 34 ألف كتاب وإنكلترا أصدرت تلك السّنة 21 ألفاً وفرنسا 9 آلاف وأنّ ألمانيا تنفق على مدارسها 878 مليون مارك وإنكلترا 384 مليوناً وفرنسا2. 1مليون وأنّ الألمان أحرزوا من جوائز نوبل مكافأةً لأبحاثهم العلمية 14 جائزة وإنكلترا 3 وفرنسا 3 وأن نفوس ألمانيا زادت في تلك السّنة 82. ألفاً وإنكلترا134 وفرنسا2. ألفاً وأنّ محصول ألمانيا من الحنطة 25مليون طن وإنكلترا 16 وأن لألمانيا 51 مركز بريد ولإنكلترا 24 ولفرنسا14 ولها 1315 مركز تلفون ولإنكلترا 733 ولفرنسا 3. 4 وتجاربها الخارجية عدا المستعمرات 1. مليارات مارك ولإنكلترا 6 ولفرنسا 4 وثروة الشعب الألماني 375مليار مارك والإنكليزي 345 والفرنساوي 245 فألمانيا أرقى في معظم ما تقدَّم ضعفين من إنكلترا وفرنسا معاً وإليك أيضاً أرقاماً أخرى تدلّ على ارتقائها في سلّم الحضارة أكثر من خصيمتيها ففي كل 1. . . . . جندي ألماني أميّان اثنان وفي كل 1. . . . . انكليزي 1. . وفي كل 1. . . . . فرنساوي 32. ويصيب ألفرد في ألمانيا من ديون الحكومة 31. ماركات وفي إنكلترا 323 وفي فرنسا 657 ويدفع ألفرد من الضرائب في الأولى 4. ماركاً وفي الثانية 73

وفي الثالثة 8. ونفقة الأولى على الجيش والأسطول 21. 86والثانية 33. 5. والثالثة 67. 29 ومن الغريب أن ألمانيا لم تؤثّر الحرب فيها كما أثّرت في غيرها وأنّ ما أنفقته حكومتها على إعداد الأساطيل والجيوش تسرّب إلى خزائن رعاياها فقد قال الدكتور هلفريش الأخصائي المشهور أن أكثر من نصف ما أنفقته تلك الدولة تحول إلى ريع للملتزمين والمتعهدين في حين ترى سائر الدول المحاربة لم يكد يبقى لها ولرعاياها مما أنفقت سوى الربع على أكثر تعديل فأنفقت ألمانيا في السنتين نحو 2. - 25 مليار مارك والنمسا والمجر 1. - 12 ملياراً وإنكلترا 4. وفرنسا 25 وروسيا 3. ففقدت ألمانيا من مجموع ثروتها نحو 6 في المئة وإنكلترا أكثر من الضّعف وقد قدّر أحد رجال ألمانيا أنّ أمّته يقتضي لها ثلاث أو أربع سنين بعد الحرب لتستعيد مكانتها الاقتصادية على شرط أن لا يحسب في باب النفقات إلا ما أنفقته مباشرة على الحرب. وقال أن ثروتها تريد عشرة مليارات في العادة كل سنة منها ثمانية مليارات إلى ثمانية ونصف قيمة عمل وإذا قلت الزيادة بعد الحرب قليلاً فثلاث أو أربع سنين تكفي وأن ما يبهظ العوائق في ألمانيا من الضرائب مدّة الحرب ينزل بعدها فتتعادل الحالة الاقتصادية هذه حقائق تشهد شهادةً صادقةً بارتقاء حليفتنا ومن أعدّ للمستقبل مثل هذه العدّة المالية يستحيل على جيوشه أن تغلب وعلى خزانته أن تنضب ومثل هذه القوى المادية إذا وقفت إلى إيجادها أمّةٌ لا تحارب حولين فقط بل عشراتٍ من السنين. الجرائم والحرب كتب الغربيون كثيراً في الدواعي والبواعث على الإخلال بالأمن والقتل والانتحار وقام أناس يدّعون في العهد الأخير أن الحرب من العوامل التي تساعد على كثرة الجرائم بالواسطة لأنها تحسّن حالة الاستكثار من التسليح وهو على ما يزعمون سبب معظم الشرور التي يقاسي منها المجتمع وخصوصاً في كثرة الجرائم وزعموا أن التسليح العام سببٌ عظيمٌ من أسباب الانحلال الطبيعي والأدبي. وهذا القول يصحّ على إطلاقه بالنظر للفرنسيس والطليان مثلاً حيث يضعف الوازع الديني وتطلق للنفوس حريتها المطلقة ولا يصح على النمسا والمجر وألمانيا حيث تجد للآداب الدّينية والمدنيّة شأنها ذلك لأنّ ضابط

هاتين الأمتين الأخيرتين يتعلمون تعلماً يتمكنون به من إحسان الخدمة زمن السلم وزمن الحرب وهم للمجتمع هناك مادة قوّة لا سبب ضعف أمّا الجنود فإن التدقيق في نظامهم وتدريهم في الثكن يؤثر فيهم تأثيراً فيهم تأثيراً أخلاقيّاً مهمّا. وكثير من أهل الدّعارة قضوا خدمتهم الجنديّة فلمّا عادوا إلى قراهم كانوا مثال حسن السّلوك وذلك لأنهم النظام وهذا أكبر أعداء الجرائم. ولذا فإن قوانين بعض البلاد تقضي بأن لا يجعل المجرم الصغير في دار الإصلاح إلى ما بعد الحادية والعشرين من عمره فينقل إذ ذاك إلى الثّكنة لأنّ الملحوظ أنّها تطهره بنظامها وتوفي ما عجزت عنه الحبوس ودور الإصلاح للنّفوس فالجنديّة إذا هي من العوامل الّتي تؤثّر تأثيراً حسناً في تقليل الجّرائم وليست عاملاً من عواملها ولا سبيل إلى الدّفاع عن دولة والاحتفاظ بمصالح الجماعة إلاّ بقوة السّلاح. منذ قرون بل على عهد نابليون كانت الجيوش مؤلفّة من حثالة من اللصوص ومن أناس لا خلاق لهم بحيث لا يستغرب أنّ الناس يخشونهم كما يخشون قطّاع الطّوق أرباب الشقاوة وكانت فرنسا إلى القرن السابع عشر تتخذ حتى الحامية الملوكية من الدّعار بحيث كان الجند مصيبة على الأمّة كما قال بعض مؤرخيهم وإذا نظرنا إلى حرب النّمسا وبروسيّا سنة 1866 وحرب ألمانيا وفرنسا سنة187. - 1871 نجد كما قال بعضهم أن عدد الجرائم والجنايات في المجر سنة 1866 3663 وعدد الجنح9583 أي أقل مما كان في السنين التي سلفت. فارتكبت سنة1865 - 2864 اعتداء على الآداب وفي سنة 1866 كان عدد هذا النوع 2588 وسنة 1867 - 2732 وارتكبت سنة1865 - 596 جناية قتل وسنة 1865 - 539 وسنة 1867 - 618 وارتكبت سنة1865 - 44. 162 سرقة وسنة 1866 - 43. 575 وسنة 1867=41. 717 وجميع الجرائم والجنح تقل زمن الحرب ولكن تزيد زمن الحرب جرائم أخرى مثل جرائم تناول الملوك بسوء أو تفوهات ردينه كما جرائم سك النقود زادت الجنح في السّنة التّالية لسنة حرب ألمانيا=فرنسا زيادة مهمّة. . . . وأهمّ الأسباب المؤثرة مباشرة في تقليل الجرائم مدّة الحرب هو أن عناصر الشّعب التي تجترح الجرائم تكون في ساحة الحرب مشغولة فقد جيّشت ألمانيا في حرب السّبعين مليوناً ومائتي ألف جندي فخف بذلك عدد المجرمين ولكن زاد عدد المجرمات وذلك لأن النَساء

بقين بدون معين خلال الحرب ودفعتهنّ ألفاقة إلى ارتكاب المحظورات الحرب تؤثّر في أخلاق الشّعب المحارب وعقل سكّانه المدنيّين فتحدث فيهم حماسة من شأنها أن تحمي ألفرد من العوامل الدّافعة إلى الجرائم ويقلّ ارتكاب الشرّ في الإنسان. ومتى زاد ألفحش في أمّة تشتد الحاجة إلى عاصفة مطهّرة تشتد إلى حرب تخلّص النّفوس من شقوتها وقد أثبت علماء الإحصاء في ألمانيا أنّ هذا الانقلاب في الأخلاق مع ألفكر المتّحد والحماسة الوطنية الّتي ولّدتها حروب الألمان هي أيضاً من أسباب قلّة الجرائم. وهناك سبب ثالث غير هذين العاملين الطبيعي والأزليّ وهو أنّ الأفراد قد لا يشكون زمن الحرب في المسائل الطفيفة والحكومات تكون أوسع صدراً في هذا الشّأن فلا الصّغائر فيقلّ الضّرب على يديّ المجرمين حتّى يظنّ النّاس أنّ الجرائم قلّت أكثر ممّا هي في الحقيقة. والجرائم أيّام الحرب تختلف باختلاف طبيعتها ومهما كان الشعب راغباّ في إشهار الحرب فإنّ من النّاس من يحملون تبعة ذلك على ملك البلاد فيطيعون فيه ألسنتهم ولذلك يحكم عليهم بأحكام إهانة الملوك وجرائم الإفلاس تزيد زمن الحرب لاشتداد الأزمة الماليّة. والجنايات بعد الحرب وأنّ لم تطل أيّامها تكون أكثر لوقوف دولاب الصناعة بقلِّة المال وقلِّة اليد العاملة وإذ يهلك كثير في الحرب ومنهم من تقعد بهِ جراحته عن العمل فيزيد شقاء العائلات ويختلّ نظام البيوت وبذلك تزيد جنايات الانتحار كما قال ستارك. وزيد عقبى الحرب الاعتداءُ على الأفراد لأنّ عدداً كبيراً منَ الجندِ يعودونَ إلى الحياة المدنيّةِ وقد فقدوا شعور احترام الحياة الإنسانيّة والملكيّة أو قلّ هذا الشّعور وهذا ما يحقّ بهِ قول من يقول أنّ فكرةَ الحربِ لا تشبَعُ بغيرِ الذّهب والدّم. . وممّا لا ينكرُ أنّ الدّورِ الّذي يعقب الحربَ يحمل في مطاويه القرْم إلى السّفك والتّخريب لا المتسامح فيه بل المحرّض عليه من الرّؤساء. وهذه الأهواء الّتي تعمل عملها بالإغواء والقدوةِ يحاول المجتمع والممالك المتحاربة أن يؤجِّجُّوا نيرانها بكلّ ما لديهم من الذّرائع تغرس في النّفوس أصولاّ يصعب اقتلاعها في الحال وتظلُّ تنمو حتّى إذا مدّ السّلام رواقهُ لم تعد حاجة إليها فوجب استئصالها أو منعها من النّماء. وهنا واجبات سياسيّة اجتماعيّة يجب علينا زمن الحرب وبعده أنّ نأخذ بمحظ مّنها وهو أنّه وهو أنّه يجب على الحكومة والمجتمع أن يجتهدا في القضاء على الشّقاء والأمراض الّتي

أحدثتها الحرب وأن يقوي في غضون الحرب في جميع طبقات الشعب الاعتقاد بالظّفر النّهائي وأننا على حقٍّ فيما نحارب لأجله وأن نثلم من النفوس بعد الحرب وحشيّتها وقسوتها وذلك بوساطة الصّحافة والتّمثيل والمحاضرات العامّة الألعاب الرياضيّة كتب الدّكتور ماكس نودرو العالم الإسرائيلي الألماني الكبير مقالة في إحدى المجالات الإفرنسيّة في الرّياضات والألعاب الرّياضية قال ما تعريبهُ: لقد دعي عصرنا حتى الآن بجميع الأسماء الممكنة فسمّي عصر الطّفل وعصر المرأة وعصر الطّيران وعصر السّرعة. وإذا قلنا عصر الرّياضات كانت هذه التّسمية من أصحِّ التّسمياتِ. كانت الألعاب الرّياضية بالإنكليز جسمها واسمها أمّا اليوم فقد أصبحت المسألة الكبرى بل هذه جميع الشّعوب الممدنة ولها المقام الأول في خطط تهذيب الشّبيبة والمرأة فهي في نظر الجيل الرّاقي تنوب مناب جميع الكماليّات التّقليديّة والأخلاقيّة والجماليّة والاجتماعيّة تهتمّ لها الحكومات فتبذلُ لها من العناية الإدارية مثل ما تبذل لمسائل الخراج والجيش. لا جرم أنّ الوقت قد كاد يحين لتنشيئ فيه كل حكومة منظّمة وزارة الرّياضات فإن الاستعداد للقيام بالألعاب الأولمبية الدولية يجري على أتمِّهِ في كل مكان كما يجري الاستعداد لحملة. وكلُّ ظفر يحرز في هذه الألعاب يصبح علامة محد وطنيّ وكل انّكسار يتحوّل إلى ذلِّةِ ينال شرّها شعباً برأسه. ويظهر الجمهور أهمّ الصّحف وأكبر عناوينها الخاصّة بالألعاب الريّاضية من يوم إلى آخر وقد لا تشبعه هذه الحال فيميل إلى الحصول على صحف لا يتحدّث في الأمور التّافهة كالسّياسة الدّاخلية والخارجيّة والاقتصاد السّياسيّ والآداب والفنون والتّمثيل وأنّ لا تنشر له إلّا ما ينفعه حقيقة وأعني بذلك الرّياضات وأنّ الصّحف المستقلِّة الّتي تعني بالبحث في الألعاب الريّاضيّة قد كثرت في كلِّ مكان وكثرة المطبوع منها يدل على مبلغ الحاجة العامّة التي تبيدها لممارسة الألعاب الريّاضيّة تاريخ قديم في إنكلترا فهو أحد المظاهر المهمِّة يتبع الطّبقات الاجتماعيّة الشّغب الإنكليزي فقد أخذ الفاتحون الرّومانيّون على أنفسهم حكم جمهور السّلتيين الإنكليز السّكسونيّين ممّن غلبوا على أمرهم وحرموا من حقوقهم فألفوا طبقة خاصّة يدخل فيها غيرهم إذا كان يستحقُّ أن يعدَّ في جملتهم وهذه الطّبقة معينة والألعاب وعلامة لأهل تلك الطّبقة.

الألعاب الرّياضيّة تستلزم صرف الوقت والمال والقوّة والخدمة والعناء والصّبر وتستدعي فراغاً وسعة ماديّة وقوّة طبيعية وصفات من الأخلاق في قوّة الإرادة والثّبات ومجموع هذه الصّفات العالية يتألف منها تعريف الارستقراطية. وقد اكتفت بعض طبقات من ألفاتحين بتملك الّثروة ونيل الامتيازات السّياسيّة والاجتماعية. فالبذخ والنّعيم هما اللّذان تأنّثت بهما أمّة الوزير غوت في إسبانيا ففسدت وكذلك شأن اللومبارديين في إيطاليا الشّمالية والمغزل والتّتار في روسيا والمنشور في الصين. ذلك إلى اليوم الّذي قضى فيه عليهم انحلالهم وقلّة مضائهم وكان ذلك من دواعي حمل العامّة عليهم لإخراجهم من مراكزهم الممتازة ودوسهم في الأرض. وكان الدينيمركيّون والنرويجيّون الّذين أصبحوا نورمانديّين ممّن يؤلّفون الارستقراطيّة ألفاتحة في إنكلترا على جانب من المكانة والذّكاء وبعد النّظر فأرادوا أن يبقوا شجعاناً بحسب الطّبيعة وأنّ يكونوا أشدّ قوّة لا من حيث القانون فقط بل كانوا يرغبون بأن يكون كلّ واحد منهم في كل مكان وفي كلّ ساعة قادراً أن يظهر بقوة زنده حقيقة استعلائه وتقدّمه على كلّ من يجرا على أن يشكّ فيه أو ينكر عليه تقدّمه ولذا كانوا يذهبون إلى أن هناك واسطتين لحفظ القوّة العضليّة وزيادتها فهم أمّا أن يقوموا على الدّوام بأعمال جسدية عظيمة وأن يعمدوا إلى الألعاب الأولمبية الحاوية على المشاهد والملاهي والدّقة ولم يكونوا يعملون أعمالاً هي من شأن العمامّة وعدوا إلى استخدام الألعاب الرّياضيّة التي كانت علامة مميّزة لطبقتهم. وقد أرى في هذا الباب كما يجري في كلّ مكان للمجتمعات الأوليّة الّتي تضع بصنعها خطّة تتّبعها الطّبقات الأخرى في الأمّة فإن الريّاضيات كانت بادئ بدء امتيازاً بل علامة للإشراف فغدت من أكثر ما تعنى به الأمّة. وبديهي أنّ الرّجل المنوّر يقوم على أحسن ما يكون بنوع من الألعاب الرّياضيّة على الأقلّ. وأنك لترى في الكتاب الّذي وضع للتّعريف بكل إنسان ذي مكانة في المجتمع واسم مشتهر بين النّاس في جملة التّفصيلات المعتادة عنه إشارة إلى نوع الرّياضة الّذي يميل إليه والمترجم له يرى أنّ ذكر المرء وما يرتاض به هو من الجوهريّات مثل مكان الولادة وتاريخها وإيراد سلسلة نسبة وحالة أسرته ودروسه المدرسيّة ومركزه وألقاب تشريفه وأعماله الّتي رفعته. ولما سئلت للمرّة الأولى أن أجيب على تسجيلٍٍ في هذا الكتاب ليرجع إليه عرانيّ الخجل

أن أترك عنوان الملذ له من الرّياضيّات فكتبت بجسارة: المسايفة (لعب السّيف والتّرسّ) والعوم وإن لم يبلغ مبلغاّ من المهارة فيهما يصح أن يذكر وإن كت منذ سنين ممتنّعاً عن هاتين الرّياضيتين ويا للأسف ولم أستطع أن أصرف فيهما وقت قصير حدّاً وأنّك لترى القصص الإنكليزية الّتي تؤلفها النّساء وغيرها من أنواع الأقاصيص يوصف أبطال رجالها بقوّة لطماتهم ولكماتهم وثباتهم وصبرهم في هذه الألعاب وحذقهم في التّجديف ولقد ضحك السّياح الّذين أتوا من أقطار أوربا إلى إنكلترا من طريقة التّعليم العالي في هذه الدّيار وظهر لهم وهم يهزّون أكتافهم أنّ تربية العضلات هناك مقدّمة على التّربية العقليّة وأنّ صفوف الدّروس كانت فارغة على حين تغصّ ساحات اللّعب بالطّلبة وقد امّتازت كلّيتا كمبردج وأكسفورد قبل كلّ شيء عن المدارس العليا بلعبة الفوتبول والرّياضات المائيّة كالعوم وإنّ الشّبان الّذين ينالون ألقاب الأكاديميات كانوا يجعلون لقوّة الجسم ميّزة على تعلّم العلوم لا جرم أنّ إنكلترا تعجب بمن قام فيها من الرّجال أمثال داروين وماكسويل واللورد كلفن ورامسي ولكن هؤلاء العظماء لا يعزونها عن رؤيتها أن يكون رجلها في الملاكمة الثّقيل الجسم بومبارديه ولس يستحقّ مؤخّراً في ساحة اللّعب في 71 ثانية على يد شاب فرنساوي فظ اسمه كارانتيه وعمره تسع عشرة سنة. لا جرم أنّ إنكلترا كانت تؤثّر التّخلّي برضاها عن اكتشاف علمي نسب إليها تغلب مبارزها الذي كانت غلبته مصيبة وطنية عامّة سجلتها كبريات صحف لندرا بمداد الحدّاد وأشارت إلى أنّ ذلك الانكسار دليل انحطاط الشّعب الإنكليزي. ومع ذلك فإنّ الرّياضيات تكاد لا تكون الآن خاصيّة من خواص إنكلترا فقد أجازت الخلجان والبحار وهي الحاكمة المحكمة اليوم في اليوم العالمين وقد اتّفق على استحسانها مؤرّخو المدينة ورجال الأخلاق والنّاقدون واللّغويون في العصر ليدلّوا على ما في الألعاب الرّياضيّة من ألفرح والبهجة فهي تصغي الأخلاق لأنّها تستدعي نظاماً قاسيا وتضطّر صاحبها إلى القناعة والعفّة وحيث انّتشر الولوع بها تراجعت ربّتا الخمر والجمال (باخوس وفينوس) وبتأثيرها يضمحلّ ما يضرّ بالخَلق والخُلق فهي تربّي النّوع على السّرعة والشجاعة والجمال والإنسانية مدينةٌ لها بجيلٍ من الأبطال. وهذا الرّأي الشّائع لا يجرأ

على مناقضته إلا بعض علماء التربية ممن يصرّحون بأفكارهم ولا يحاذرون أن يطردوا من حظيرة الحظوة وأن يوصموا بالارتجاع والجمود ليس للرياضيّات من ألفضائل ما ينسبونه إليها بل هي تستفيد من الخطأ الشّائع الذي به يخلطون بين الألعاب الطّبيعيّة والألعاب في الهواء الطّلق ولا يراد بلفظ الرّياضة البراز ولا الجمناستيك بل للرياضة البدنيّة غاياتٌ أخرى ومقدّماتٌ طبيعيّة فهي تقوم بمؤثّراتٍ أخرى وفي مطاويه عدّة فروقٍ في العواطف بل إنّ الرياضة مع الجمناستيك لعى طرفي نقيضٍ فإنّ المتعصّبين للرّياضة ينظرون إلى الجمناستيك نظر ازدراءٍ ويرون أنفسهم في ألعابهم مجددين وأنّهم صورة الارتقاء والتّنوير ويعبّرون عن مرامي العصر أما المنصرفون إلى الألعاب الجمناستيكيّة فيجيبون على ذلك أنّ جميع النّتائج الميمونة التي تدّعي أنّها تحويها الرّياضة يحتويها الجمناستيك على حين ليس في هذا كما في ذاك من العوائق فالرياضة الجسمية أو الجمناستيك يبحث عن نظام الجسم وعن الكمال العامّ في قواه وعن قمع مجموع العضلات وعن تربية الإرادة وتنمية الثّقة بالنّفس والمصارع المدرّب تدريباً حسناً ينال بدون تعمل من أعماله كلّ ما فيها من النّتائج فيبلغ هادئاّ آمناً مطمئنّاً إلى أقصى الحدود التي تستطيع بلوغها قواه الجسديّة. والرّياضة لا تعمد إلى تربية جميع القوى الطّبيعيّة تربيةً واحدةً وغايتها التّفريق والتّخصيص ولا تستلزم من الجسم إلا حالةً واحدةً ولكن يجب أن تكون في أرقى مظاهر الكمال. والسّرعة هي التي تطلب من جميع الرّياضات ولا يعدّ من أهل الارتياض في شيءٍ من لا يعجّل ويقطف ثمار الظّفر في رياضاته. والمرتاض يحمّل طاقته فوق قوّتها ولا يسوّغ له أن يضعف لا لأجل نفسه بل ضدّ غيره. وقد قال شيلر: إنّ المصارع يتعلّم في طيّ السّكوت والمرتاض بين جلبة العالم. وتقاس قوة المرتاض ضدّ خصومه ويقام أبداً مع منافسين يحاول أن يتفوّق عليهم ولا يشعر بأدنى سرور في حالةٍ حسنةٍ في ذاتها كانت أحطّ من غيرها فإذا بلغت به الحال أن يصل بتكرار العمل أن يكون الأول يجب عليه أن يدافع عن مركزه من التّالين له أو أن يترك العراك ويعترف بأرجحيّة غيره عليه ويرضى صاغراً بالتّصريح بأنّه تجاوز أقصى درجات قوّته وانّ الخطّ المستدير من حياته أخذ بالهبوط. يتأتّى أن يكون المرء مصارعاً

إلى سنٍّ متقدّمةٍ ولا يكون مرتاضاً إلا في أوائل سنّ الشباب وقوّته على لقاها لم تصبّ بما ينقصها. ومن النّادر أن يكمل المرء في الصّراع بعد الثلاثين من عمره ولا أعلم أحداً في الأربعينات وفِّق إلى تعلّم السرعة. البراز هو الوساطة التي يبقى بها المرء زمتاً طويلاً أما المرتاض فإنّ صحّته تعجّل عليه فتنحّيه عن عمله. البراز يمكن أن يكون مشغلاً ومسلاّت لوضع الموازنة بين النشاط الطبيعي والعمل العقلي والإرتياض حاكمٌ حسودٌ لا يسمح لغيره بأن يقف معه. ولكي ينال المرء ما في التبريز في الإرتياض من الشرف يقتضي عليه أن ينصرف إليه كلّ الانصراف وإنّك لتطلب من محترفٍ بحرفةٍ أكثر مما تتطلب من مولّع بها. والرّياضة تستلزم أن تشغل حياة من يطمع في التّبريز فيها بأسرها. الإرتياض يضرّ بالجمال ويقضي على تناسب الأعضاء بإحداثه خللاً في نظام القوى وانبساط قلبٍ مفرطٍ إلى جانب هزالٍ مضنٍ. فليس هو بمناسبٍ للصّحّة بل يؤدّي بها إلى الخطر. والمتنافسون في الإرتياض معرّضون لأمراض القلب ولداء الأعصاب وقلّما يعمّرون طويلاً. الإرتياض لا ينشئ جنساً قويّاً والمرتاض الحقيقي لا يعدّ شيئاً إذا خرج عن اختصاصه فهو إذا قفز لا يحسن الجري وإذا رمى بالإطار (الطارة) لا يُطلَب منه عملٌ آخر. ولا عمل له في تحسين الجنس وبكثرة إنهاكه لقواه العصبيّة وإفراطه في عمله يكون متوسّطاً فيما يتمّ على يديه أو بالمجد والغنى وقد احتفل بالفائزين في سباق الرياضات أكثر مما احتفل بالعلماء الأعلام ولا فائدة منه إلا أنّه يدلّ أنّ المرء يستطيع أن يسير أبرع من حصان السّباق وأنّه يجري شوطاً أوسع من شوط الذّئب ويقفز أكثر من النّمر القضاء والعلم دعا ناظر مدرسة حقوقٍ تلامذة الصّف الآخر من مدرسته وخاطبهم فقال: إنني مسرورٌ لرؤيتكم مرّةً أخرى مجتمعين قبل حصولكم على شهادتكم النهائية ومفارقتكم للمدرسة. لا تتصوّروا بعد حصولكم على الشّهادة أنّ باب الدّرس أقفل فالإنسان لا يستغني أبداً عن المطالعة والدّروس وعليه فأنا أميل كثيراً إلى أن تكونوا نادياً أو جمعيّةً يكون القصد منها إيجاد مكتبةٍ فيها تطالعون وترجعون إليها في أبحاثكم في المستقبل وبداعي قرب الامتحان ألفتُ نظركم إلى مسألةٍ كثيراً ما تنسونها وتعتقدون أنّ فيها ضياعاً للوقت تلك المسألة هي الراحة والفسحة فأعطوا أنفسكم نصيبها من ذلك إذا أردتم نجاحاً

يهمّني كثيراً قبل مفارقتكم لنا أن أملي عليكم بعض الصّفات التي يجب أن تتحلّوا بها في مستقبلكم والتي عليها تتوقّف علوّ منزلتكم واعتباركم بين زملائكم أنّ أول ما أذكّركم به عزّة النّفس واعتماد الإنسان على نفسه تلك أمورٌ كثيراً ما تدور على الألسن وينصح بها كلّ إنسانٍ غيره ولكن قلّ من يطبّقها على نفسه. إنّ ذلّ النفس أمرٌ مرذولٌ جدّاً. فإذا أحاطت بالإنسان أحوال احتياجٍ فعليه أن يسعى بقدر الإمكان في كتمانها وان يتظاهر أمام الناس بأنّه في غنىً وأنّه لا يريد المزيد. تلك صفاتٌ تجعل صاحبها مهيباً موقّراً في أعين أقرانه فإنّ كثيرين من الناس يبثّون الشّكوى لغيرهم من سوء حالتهم ويذكرون لهم أموراً متعلّقةً بأشخاصهم وقد لا يميل المشكو إليه إلى سماعها مثال ذلك يقول شخصٌ لغيره إنّي فقيرٌ ومحتاج وأريد تنمية ثروتي. فهذا كلامٌ لا لزوم له ولا محصّل يجب على الإنسان أن لا يصرّح بكلّ ما في ضميره خصوصاً مما لا يهمّ الغير. فإذا كان أحدكم في وظيفةٍ فلا يلزمه أن يشكو ويقول أنّ فلاناً كان معي وكان أقلّ منّي في المرتبة وهو الآن رئيسي. فإنّ إفشاء مثل هذه الأمور ينقص اعتبار قائلها. الإنسان يسعى ليرتقي ولكن بدون أن يشكو ويبكي تجول في خاطري مسألةٌ أخرى كثيراً ما يقع فيها معظم الناس وأعني بها التسرّع في الغضب وعدم مقدرة الإنسان على كتمان فزعه. حقيقةً أنّ هذه أمورٌ قد يصعب في بعض الأحيان تجنّبها ولكن إذا تجنّبها الإنسان تجعله مهيباً مسموع الكلمة يلفت أنظار النّاس خصوصاً عندما يرون من هدوئه وسكونه إذا حلّ به أمرٌ يوجب القلق. إنّ اللين يفعل ما لا تفعله الشّدّة. خذوا مثالاً بسيطاً. افرض أنّ عندك خادماً أتى أمراً أوجب سخطك فانهلت عليه بالشّتائم فقل أن يفعل زجرك في خادمك فعلاً حسناً وقل أن يهابك ولكن وبّخه بطريقةٍ ليّنةٍ مذكّراً إيّاه أنّ له حقوقاً وعليه واجبات فإنّ ذلك يفعل فيه ما لم تفعله جلبتك فضلاً عن أنّك تصون نسك. هذه الصّفة العالية شديدة اللزوم في حرفتكم سواء كنتم قضاةً أو محامين فيجب على القاضي أو المحامي أن يسعى بقدر الإمكان في كتمان إحساسه ولا يتأثّر بسرعةٍ ولا يأخذه انزعاجٌ ولا دهشةٌ حتّى يكون حكمه مبنيّاً على عقلهِ لا على وجدانه. فإذا كان أحدكم محامياً وعامله القاضي بغلظةٍ وبشدّةٍ فلا يجب أن يفزع من أول الأمر بل عليه أن يصبر مرّة وأخرى ويدافع عن حقّه بدمٍ ساكنٍ وبذلك يؤثّر في نفس القاضي ويزداد

هيبةً ووقاراً. ألفت أنظاركم إلى مسألةٍ تتعلّق بمعلوماتكم العلميّة إنّي لا أشكّ في أنّ مهمّة القاضي والمحامي من أشرف الأعمال وأشقّها. فكلٌّ منهما ليس مختصّاً فقط بمعرفة القانون وعندي أنّه لو درسه في أوسع موسوعاته لما عدّ قاضياً خطيراً أو محامياً نحريراً. إن إجادة درس القضايا والحكم فيها لا يحتاج فقط إلى معلومات قانونيّة بل إلى معلومات طبيّةٍ وزراعيةٍ وهندسيّةٍ وحسابيّة. إنّ القاضي يفصل في نقط قانونيّة بعد تقدير الموضوع ولكنّ هذا الأخير يحتاج إلى معلوماتٍ كثيراّ ما تكون غير قانونيّةٍ أنا لا أطلب أن يكون بيد رجل القانون شهادةٌ في العلوم الأخرى فذلك أمر مستحيلٌ وإنّما أطلب منه أن يكون ذلك الرّجل الّذي يمكنه أن يبدي رئياً في كلّ شيءٍ ولو إلى درجة محدودةٍ. أطلب منه أن يكون عموميّاً فكثيراً ما أهمل القضاةُ والمحامون ذلك الأمر وعند عرض نقط طبيّة أو هندسيّة ينفضون أيديهم ويقولون نحن لسنا أطبّاء أو مهندسين لنأخذ تقرير الاختصاصيّ. فذلك ما أنهاكم عنه قد يستعين رجل القانون بتقرير الاختصاصيّ فلا يجب أن يهمل المسألة ففي يده أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم وهو المسؤول عن حكمه لا الخبير. فيجب عليه أن يبحث بنفسه ويناقش الاختصاصيّ في رأيه ويطلب منه بيان الأسباب التي أدّته إلى تكوين اعتقاده حتّى يرتاح ضميره. لا جرم أنهلا يمكنه القيام بذلك إلا إذا كان عنده بعض معلوماتٍ بالطّبّ أو الهندسة أوغير ذلك يجب على المحامي أن يكون كذلك حتى يصون حقوق موكّله ويقوم بالدّفاع خير قيام. أستشهد بقضايا كثيرةٍ تحتاج إلى المعلومات العلميّة مثل قضايا التّنويم المغناطيسي والتّسميم وأشير أيضاً إلى قضيّةٍ حدثت في بلاد الإنكليز كان لها رنّةٌ بين رجال القانون. قضيّةٌ تضمّنت حيثيّاتها منشأ التّلغراف اللاسلكي وتاريخه وتركيبه وكلّ ما يتعلّق به حتّى قال بعضهم لمّا قُرأ الحكم: إنّ القاضي الذي أصدر الحكم كان بلا شكٍّ مرافقاً لمخترع هذا الاختراع في جميع أبحاثه. فهذا يبيّن لكم بأجلى بيانٍ المعلومات التي يجب على القاضي أن يعرفها فلا تحرموا إذا مكاتبكم من كتبٍ متعلّقةٍ بتلك الموضوعات حتّى تقوموا بحرفتكم أحسن قيام وكونوا في كلّ أطواركم مهذّبين من الرّقّة والأدب على جانبٍ أي ليكن كلٌّ منكم جنتلمان مرض المسكرات

ألقى الطّبيب مطهر عثمان بيكأحد الأخصّائيين في الأمراض العقليّة والعصبيّة محاضرة في مرض السّكر أحببت أن أعبها قال: كان يحظّر على طبقة النّبلاء في الهند قديماً تناول السّكّر ومن أقدم على تناوله منهم فإنّه يسقط عن مكانته الأولى ولا يحسب في عداد النّبلاء. أمّا الصّين اليوم فإنّها ذاهبةٌ قرباناً للمسكر وإنّ أكبر عامل في انحطاط هذه الأمّة المؤلّفة من مئات الملايين من النّفوس هو المسكر وإنّه هو الذي جعلها تصل إلى هذه الدّركة من التّدنّي وأفقدها روحها وتركها بها يائسة ومما يؤثر عن أحد امبراطرة الصّين أنه قال: إذا دام فتك مرض السّكّر بهذه الصّورة فإنّي في شك من بقائنا على تخت السّلطنة في المستقبل وقد اتّخذوا تدابير كثيرة لوضع حد لتفشّي هذا المرض وأثر عن فلاسفتهم مثل قوا وكنفوشيوس كثيرٌ من القول في هذا الصّدد ولكن هذه المملكة الهرمة القاطنة في الشّرق الأقصى لا تزال سكرى ثملة ولا يزال أهلوها قاطبةً يتناولون أقراص الأفيون في منازلهم المنزوية بين ثنايا تلك الأزقّة الضّيقة ويقضون كلّ يوم ساعات كثيرة سكارى لا يعقلون تعاطي المسكر لم ينحصر في الهند والصّين فقط بل تفشّى عند التراك والعرب والعجم وبين كل المم الشّرقيّة غير أنّه في دور مبعث صاحب الرّسالة عليه السّلام أعلنت أكبر حرب على المسكر ونزل كثير من آيات القرآن الكريم المعجزة ورويت أحاديث نبويّة جمّة بأسلوبها الّطيف الوقور ومتانتها وكلّها تخطر على من دانوا بالإسلام تعاطي هذا السّمّ القاتل وبسبب هذه الحرب التي أعلنها الدّين الإسلامي على المسكرات دخل المسلمون إلى حظيرة من السّعادة ولم يجد المسكر بين ظهرانيهم محيطاً ملائماً ولا مناخاً سهلاً وإنّ هذه الشّدة التي جاء بها الدّين الإسلامي إزاء تعاطي المسكر يؤيّدها ألفن اليوم ويسعى للقيام بها بكل ما أوتي من قوّة المسكر أحد الأمراض الإنسانيّة الواجب معالجتها وهو أنواع جمّة متعددة ولكننا نستطيع أن نقول بصورة مطلقة أنّها كلّها مضرّة وأنّها تهدم البنية وتنخر الدّماغ والعصاب ولها تأثير كبير في الأنسال فإنّ أكثر المرتطمين في حمأة المسكر لا يلدون وإذا نسلوا ولابد فيكون ولدهم شخت الخلقة سيءّ التّركيب ضعيف البنية. المسكر ليس بغذاء يربّي الجسم أو يزيد الدّم أو يبعث القوّة ولا يصدق هذا على الإنسان

وحده فقط بل على الحيوان أيضاً والتّجارب التي أجراها العلماء تؤيّد هذه الحقيقة. إنّ ألفراشة التي تعيش متطايرةً في حدائق الورد لتسكرها تلك القطرات المترقرقة على اوراق الأزهار الملوّثة المفتّحة في فصل الربيع، وإن القردة لتشرب المسكر من يد سقاتها بكل لذّة وشوق ولا تزال تعوي وراء أولئك السّقاة تستعطفهم ليزيدوها من هذا المسكر حتى تصل إلى جدران المدينة، والخيل إذا سقيت المسكر يقوى بها الشّبق الشّهوةوتعدو كثيراً ولهذا ترى فرسانها يحرصون كلّ الحرص على سقيها المسكرات قبيل السّباق، ولكن هذا الحيوان المسكين لا يلبث أن يسقط فيما بعد مريضاً، حتى أن الحمر ليمرضها تناول الجرعة الواحدة منه. يوجد في بلادنا اعتقادٌ غريب وهو أن المسكر يصلح أن يكون دواءً لبعض الأمراض وهذا بناءً على بعض روايات باطلة يعزونها إلى أطبّاء اليونان، لا، إنّ هذا الاعتقاد من الأمراض السّارية فالمسكرلم يكن في وقت من الأوقات نافعاً للحياة. وأعود فأكرر القول بأنّ المسكر سمّ قاتل لأنّه يبيد الحجيرات الدّماغية وانّه يأتي إلى العروق وإلى أدق الأعضاء وألطفها فينخرها. يبحث بعضهم عن فائدة تعاطي المسكربكميّة قليلة. وهذا يصلح أن يكون نموذجاً لإغلاط ألفكر الإنساني، نعم، إنّ كل القرابين التي قُدِّمت من بني الإنسان لهذا السّم بدأت أولاً تتعاطاه قليلاً قليلاً ثمّ تمكّن منهم وعُدّوا فيما بعد من صرعاه. وإنّ كل الجنايات والفضائح في العالم كله أثرمن آثار المسكر. في الغرب لا يتناول المسكر إلا الطبقات السفلى من البشر أمّا عندنا فإنّ كبار الأسرات تضعه على موائدها بين الأطعمة المغذّية وبين مختلف النّقول. وإنّ هذا الخائن الذي يُطرد اليوم من كلّ الممالك وُجِد له بين ظهرانينا مباءة صالحة. وأهم ما يجب عمله على الحكومة بلا شبهة أن تمنع تعاطي المسكر بين موظّفيها بصورة قطعية. المسكر لم يكن منذ زمن قريب معروفاً عند الأهلين وإنّما تسرّب إليهم من بعض الأورام المهاجرين من بلاد اليونان للإتجار في بلادنا فإنّ هؤلاء كانوا السببفي تفشّيه بين شبابنا في عامة الأنحاء فتراه اليوم يباع في الأناضول في كل مدينة وقصبة وقرية ومزرعة ومن المُحَقّق أنّه بعد مدّة يصبح دواء هذا الخطر من أعقد المسائل وعليه فينبغي اتّخاذ الأسباب اللاّزمة من الآن والتّحيّل لرد هذا العدو الأزرق الذي يسمّ النّسل ويضربه ضربة قاضية لا يقوم منها أبداً. رشدي

الحكيم.

ري اطنة

ري اطنة إقليم أطنة أو آذنة أو كيليكيا هو اليوم عبارة عن لواءي أطنة وأيج آيل وكانت العرب تقول لها الثغور واسم الثغر كما قال جغرافيو هم يشمل بلاداً كثيرة وهي البلاد التي كانت معروفة في القرن السابع للهجرة ببلاد ابن لاون ولا قصبة لها لأن أكثر بلادها متساوية وكل بلد منها كان أهله يرون انهُ أحق باسم القصبة فمن مدنها بياس ومنها إلى الاسكندرونة مرحلة ومن بياص إلى المصيصة مرحلتان ومن المصيصة إلى عين زربة مرحلة ومن المصيصة إلى آذنة مرحلة ومن آذنة إلى طرسوس يوم ومن طرسوس إلى الجوزات يومان ومن طرسوس إلى أولاس على بحر الروم يومان ومن بياس إلى الكنيسة السوداء وهي مدينة أقل من يوم ومن بياس إلى الهارونية مثله ومن الهارونية إلى مرعش وهي من ثغور الجزيرة أقل من يوم وهذه الثغور الشامية تدعى بالعواصم. وقال جغرافيو الإفرنج في تحديد كيليكيا يحدها شمالاً ليكاونيا وكبادوكية وشرقاً سورية وغرباً بامفيليا وبيسديا وجنوباً البحر الرومي وهي سهول مخصبة منبسطة يسقيها وجيحان والبردان وكانت كيليكيا تقسم إلى قسمين شرقي وهو سهل كيليكيا وهو عبارة عن لواء أطنة اليوم وغربي وهو الجبل وهو عبارة عن لواء أيج آيل ومركز الشرقي منه طرسوس ومن مدنه سولس وماله وايسوس (اياش) وعين زربة وأهم مدن القسم الثاني سلفكة سيلنونتة (سلندي) كلندريس (كلندرة) أصل سكان هذه البلاد من السريان وكان يطلق عليهم اسم لوقو كيليكيان أي السريان البيض تمييزاً لهم عن أهل سورية وقد أعمر مهاجرة اليونان بعض سواحل هذه البلاد وجعلوها مدناً وفتحها كيخسرو وضمها إلى مملكة فارس وجاء الاسكندر فاتحاً ثم ضبطها بطالسة مصر وافتتحها بومبوس وضمها إلى المملكة الرومانية وكانت أصبحت ملجأ لقرصان البحر ووقعت من سهم المملكة الشرقية كما انقسمت المملة الرومانية إلى شرقية عاصمتها القسطنطينية وغربية عاصمتها رومه وقد فتح الأمويون هذا الإقليم وكان يحكمه على عهد الصليبين بنوليون الأرمن وافتتحها السلجوقيون بالتدريج ولما انقرضوا انقسمت بين أولاد قره مان ورمضان وحكومة ذو القدرية ثم أضيفت إلى المملكة العثمانية في عهد السلطان محمد خان الثاني وبايزيد الثاني ويازر السلطان سليم. هذه نبذة من جغرافية كيليكيا وتاريخها أما الأنهار التي تجري فيها ويراد اليوم إصلاح ريها

فهي سيحان وجيحان وبردان تسقي سهول آذنة البالغة على أقل تعديل مائتي ألف هكتار والهكتار (عشرة آلاف متر مربع) وينبع سيحان من قضاء عزيزية في ولاية سيواس ويجري إلى الجنوب الغربي ماراً بجبل قوزان وجبل بيك بوغاز في واد بديع ثم يمر بلواء قوزان فيضم إليه بعض الأودية المنسالة من تلك الجبال حتى يصل إلى لواء أطنة ثم ينضم إليه نهر آخر ينبع من قضاء عزيزية على اليمين ماراً من وراء جبال قوزان ويسمى هناك نهر زمنتي ثم قزيل ايرماق ثم قورشون صو ثم جكيدي فيجري إلى أطنة في سهول جقوراوة حتى يصل إلى البحر الرومي وطول مجراه 45. كيلو متراً وهو يصلح لسير السفن في مصبه ولكن الرمال هناك تمنع من سير السفن الكبرى فلا يتيسر غير سير السفن الصغرى أما جيحان فينبع من لواء ملاطية ويجري إلى البستان ويسمى هناك سكودلي صو ويتألف من نهر خرماجى الجاري من جبال قوزان فيمر في أودية وجبال كثيرة حتى إذا بلغ مرعش يضم إليه نهر أق صو فيدخل ولاية أطنة ثم يأتي إلى سهل أطنة ويجري على موازاة نهر سيحان. أما بردان أو طرسوس جاي فينبع من حدود ولاية قونية ويتألف من عدة أودية تنساب من سفوح جبل بوغاطاغ ماراً بوادي جهنم ويضم إليه نهر كولك الآتي من مضيق كولك فيجري إلى السهل ويمر بالقرب من طرسوس وبعد أن يروي حدائقها. تتألف منه بحيرة ويصب في البحر الرومي غربي مصب نهر سيحان وطول مجراه 1. . كيلو متر على التقريب. وهذا هو النهر الذي اغتسل فيه الاسكندر المقدوني وهو قاصد إلى الشرق فمرض وكاد يقضي عليه كما حُمَّ المأمون العباسي لاغتساله بنهر قرب البدندون وحمَّ ومات هناك. وعدَّ المقدسي أنهار سيحان وجيحان وبردان من الأنهار ألفائضة في المملكة وقرنها إلى دجلة والفرات والنيل وجيحون ونهر الشاش ومهران ونهر الرس ونهر الملك ونهر الأهواز وقال إنه تجري فيها السفن قال: وأما سيحان وجيحان وبردان فإنهن أنهار طرسوس وآذنة والمصيصة يخرجن من بلد الروم ثم يفضن في البحر وكذلك سائر أنهار الشام إلا نهر بردى والأردن. وقال ابن حوقل: كانت المصيصة مدينتين إحداهما تسمى المصيصة والأخرى تسمى كفر بَيّا على جانبي جيحان وإنه يخرج من بلد الروم حتى ينتهي إلى المصيصة ثم إلى رستاق يعرف بالملون فيقع في بحر الروم وكان كثير الضياع

غزير الكراع أي إن فيه خيلاً كثيراً وذلك لأن جقوراوة مشهور بمراعيه وكانت آذنة مدينة كأحد جانبي المصيصة على نهر سيحان في غربي النهر وسيحان دون جيحان في الكبر عليه قنطرة عجيبة البناء طويلة جداً ويخرج هذا النهر من بلد الروم أيضاً. وقال ياقوت إن سيحان نهر كبير بالثغر من نواحي المصيصة وهو نهر آذنة بين إنطاكية والروم يمر بآذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم وإياه أراد المتنبي في مدح سيف الدولة أخو غزوات ما تغب سيوفه ... رقابهم إلا وسيحان جامد يريد انه لا يترك الغزو إلا في شدة البرد إذا جمد سيحان. وقال في جيحان إنه نهر با المصيصة بالثغر الشامي ومخرجه من بلاد الروم ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكفر بيَّا بازاء المصيصة وعليه عند المصيصة قنطرة من حجارة رومية عجيبة قديمة عريضة فيدخل منها إلى المصيصة وينفذ منها فيمتد أربعة أميال ثم يصب في بحر الشام قال أبو الطيب: سريت إلى جيحان من أرض آمِد ... ثلاثاً لقد أدناك ركض وأبعدا وقال عدي بن الرقاع العاملي: فبت أُلهى في المنام كما أرى ... وفي الشيب عن بعض البطالة زاجر بساجية العينين خود تلدّها ... إذا طرُق الليل الصحيح المباشر كأن ثناياها نبات سحابة ... سقاهن شؤبوب من الليل باكر فهن معاً أو أقحواناً بروضة ... تعاوره صنوان طلٌّ وماطر فقلت لها كيف اهتديت ودوننا ... دُلُوك وأشراف الجبال القواهر وجيحان جيحان الملوك وإلى ... وحزن خزارى والشعوب القوا سر وقال ياقوت في البردان إنه نهر بثغر طرسوس مجيئه من بلاد الروم ويصب في البحر على ستة أميال من طرسوس وهو الذي عناه الزمخشري بقوله: ألا إن قلبي في جوى لا يبله ... قويق ولا العاصي ولا البردان هذه هي البلاد التي تريد الدولة اليوم أن تعمرها بإصلاح طرق ريها والانتفاع من أنهارها الكبار التي تذهب جزافاً دون أن ينتفع بها حق الانتفاع فتصلح سهول هذا الإقليم الواسع

وهي لا تقل عن مائتي ألف هكتارما عدا جقوراوة المشهور بمراعيه. ويقتضي ذلك أربعة ملايين ليرة عثمانية وينتهي العمل منه على الأكثر في عشر سنين إلا إن بعض فروعه تستثمر عقب إنجازها فيكون ألفرع الأول من هذا العمل معداً للانتفاع به بعد ثمانية عشر شهراً بمعنى إن كل فرع متى نجز ينتفع منه برأسه أما الأنهار التي يصلح مجراها فهي سيحان وجيحان والبردان. وأراضي ذاك الإقليم صالحة جداً لزراعة القطن الجيد وقصب السكر فتخرج سهول آذنة إذ ذاك 5. . ألف طن الذي يفوق ما تخرج الآن كمية وكيفية والمملكة العثمانية كلها لا تخرج اليوم أكثر من 14. ألف بالة قطن دع ما يزرع بتلك المياه من البرتقال والليمون والزيتون. ومعلوم أن الخط الحديدي البغدادي يشق هذا الإقليم طولاً ومرسين متصلة بآذنة بسكة حديدية ثم إن ولاية أطنة اليوم أكثر الولايات العثمانية استعمالاً للأدوات الزراعية المستحدثة من حراثة وزراعة وحصاده ودراسة فإذا أضيف إلى تلك الأسباب تعليم ألفلاح طرق استثمار أرضه بالطرق الحديثة وتسميدها بحسب طبائعها بالسماد الكيماوي والطبيعي وكثرت السكان هناك بمن ينزلها من المهاجرين الذين تأتي بهم الحكومة من بلاد الروم ايلي وتكون قد جفت المستنقعات وأمنت تلك البلاد من وطأة الحميات المهلكات تصبح أطنة مصراً ثانية وأخت العراق. لا جرم أن أغوار الشام وسهول كيليكيا والعراق تخرج أجود الأقطان التي تفوق قطن مصر والهند فإذا تم هذا العمل نحمل معامل الغرب على أن تبتاع من حاصلاتنا لمعاملها بعد أن نعمل من قطننا ما يلزم للحياكة والنسج. بلاد كلها خيرات لا تحتاج إلا إلى اليد العاملة والعقول المدبرة وبقليل من المال يتيسر إصلاح زراعتها بحيث تكفي ملايين من البشر حتى يعيشوا براحة وهناء وكانت في القرون الحديثة بؤرة ألفتن والخلل تتنازعها العوامل المنوعة فهل تكون في هذا القرن الحديث دار سلام ومعهد خصب ورفاهة عيش وهذا ما نرجوه بفضل الناهضين للإصلاح من رجال الدولة العلية.

أحياء الغابات في فلسطين

أحياء الغابات في فلسطين غرائب زراعة أرض فلسطين. توفرت منذ ست عشرة سنة على التجارب الزراعية والأبحاث الطبيعية فظهر لي إن ما تحصل معي من البحث قابل للتطبيق في ولايتي سورية وبيروت فإن هذه الولايات لا تتخالف حدودها الطبيعية كما تتخالف حدودها الإدارية. من ألقى نظره في حال أراضي فلسطين الزراعية يرى أن السماد والمراعي والحطب قليل جداً فيها ويرى مع هذا أن فلسطين مع حاجتها إلى هذه الأصناف تصدر إلى البلاد الأخرى خشباً وتبناً وسمداً (فتخرج الحطب بعد أن تحرقه فحماً إلى مصر وتصدر التبن إلى جزائر البحر الأبيض والسماد إلى مصر). وإنّ إصدار هذه الأصناف الثلاثة إلى خارج البلاد لما يساعد على انقراض الغابات وخرابها لأن الربح من إصدارها لا يوازي خراب الغابات وقلة غذاء الحيوانات وبوار الأرض بقلة السماد والسباخ. وهذا ويا للأسف برهان ناصع على تقهقر زراعتنا وعلى ما آلت إليه حال فلاحنا من الجهل المطبق ومن ألفاقة الحافزة على حين نرى كل حكومة تود ضمانة منافع بلادها وترفيه حال تبعتها أن تنزع الشر من أساسه وهي مضطرة إلى استعمال أنجع الأدوية السريعة لكل مرض في الأمة. ماذا يحدث من التأثير بتخريب الغابات؟ بدأ خراب الغابات في فلسطين منذ الأزمنة التاريخية فكان من أهم التأثيرات المدهشة الأساسية أن عريت الجبال وتراكمت كثبان الرمال في الساحل وكثرت البطائح والمستنقعات. ومن المحقق أن حرمان الأراضي المائلة المسطحة من الأشجار والمراعي وتعرضها إلى للأحداث الجوية وتأثيراتها وانهيارها دعا إلى بقاء الجبال عريانة. ومن المشاهد أن الأمطار التي تسقط في شتاء كل سنة تؤلف مياهها شلالات صغرى وتنتقل من صخرة إلى أخرى وتحمل معها الحصا والحجارة مدة سنة إلى السهول الصالحة للزراعة ولذا أصبحت مملكتنا بتجرد جبالنا كلها أشبه بهيكل عظمي وما كان يروى من أن هذه البلاد كانت في القديم تفيض لبناً وعسلاً لا يتأتى تحققه لتعود إليها قوتها الإنباتية القديمة كما كانت إلا بصرف الهمم الكثيرة والاعتصام بالصبر والمتانة وبالسير في نور

حكمة يشفعها تعمل وانكماش. ولا يجب أن ننسى أن جميع بلاد فلسطين جبلية وبتجريد هذه الجبال من غاباتها تخريب زهاء ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة في هذه الديار. كثبات الرمال دعا تخريب الغابات وبعبارة أصح تخريب الأشجار إلى تأليف صحار من الرمال متحركة بتحرك الأهوية والعواصف والتاريخ يؤيد ذلك فقد مدح العارفون بأخبار الناس الظلال التي كانت تمتد شرقي قيسارية على ستة أو ثمانية كيلو مترات. ويروى أن نساء الرومان كن يقلن في الهاجرة بعد الظهر في ظل تلك الغابات أما اليوم فنرى جميع هذه الأرض وهي عبارة عن ستة أو ثمانية كيلو مترات غاصة بكثبان من الرمال ولم يبق بعد ما شوهد من التهافت اليوم بعد الآخر على تخريب الحراج إلا أشجار من الدلب صينت من الاحتطاب لتبقى نموذجاً صالحاً ولم يبقى عليها سوى أن بعض القائلين بالأساطير القديمة نظروا إليها نظر تقديس. ويؤخذ من التاريخ أن ما يشاهد من الرمال المتراكمة على عرض ستتم إلى ثمانية كيلومترات في ساحل فلسطين هو نتيجة عمل ألفي سنة ومن المحقق أن مساحة هذه الكثبان السيارة في سواحل فلسطين تبلغ مليون دونم على أقل تقدير وعلى هذا فإن قطع الأشجار في سواحل فلسطين كما أفقدنا حتى الآن مليون دونم من الأراضي يفقد كل سنة من زراعة فلسطين خمسة آلاف دونم فاقتضى من ثم أن تحصر الحكومة وكدها في إحياء الغابات وغرس الجديد منها لتقوم حاجزاً دون انهيال هذه الرمال. وهذا مما لا يصعب على الحكومة فإن مدينة بوردو في فرنسا كادت تهلك بانهيال الرمال حينها وتجد اليوم في ضاحيتها غابة كثيفة من السنديان الذي يسمونه شجر الذهب وإذا قد غرست هذه الغابة على الأصول العلمنة جاءت منها هذه المنافع في خمسين سنة تأليف البطائح. إن نسبة تأليف البطائح والمستنقعات لقطع الأشجار تُرى لأول وهلة غريبة وقد بلغت هذه النظرية اليوم درجة الثبوت وإليك البيان: عندما تمطر السماء الجبال المغشاة بالغابات تنقسم مياهها بين الأوراق والأغصان وتبطئ بسقوطها إلى الأرض وتمتص هذه المياه على غاية من السهولة تلك الطبقة القابلة للنفوذ المؤلفة من حثالات الأوراق والأغصان المتساقطة وهذا تترشح المياه تدريجاً وتنفذ إلى باطن الأرض وتحفظ في جذور الأشجار وما يتألف حواليها من شبكة الجزيرات وتسيل رويداً رويداً من السطوح المائلة تحت

الأرض فتنبع في السهول صافية براقة تحمل المغانم للسكان ثم تسيل بصفائها تمد الأنهار والأودية وتسيل إلى الأقاصي والأمطار التي تهطل على جبالنا بكثرة تكون على غاية من الانهمار ولا يقف في سبيلها حاجز فتسيل المياه فوق الصخور العريانة والسطوح غير القابلة للنفوذ متبددة. وعندما تسيل مياه الأمطار إلى المروج تنشأ منها تيارات ومسايل كبيرة ويكون من هذه المسايل مدة بضع ساعات - وقد رويت تربة السهول من مياه الأمطار - طين مانع كبير ويتألف من هذا الطين صلصال مفيد يخرب زروع الحقول ويوسع مجاري المياه ويطمها وتتألف في السهول في مدة قليلة مستنقعات وبطائح كبيرة تكون مضرتها زمناً طويلاً وإذا وقع الضرر منها في مكان مرة واحدة تأخذ على الدوام في الزيادة ويتفاقم شرها ولذلك قال أصحاب الغابات: حافظوا على سلامة الجبال لإنقاذ السهول. إن هذه الأنهار التي تتبدل مجاريها وتسيل ببطء عندما تفيض بأوحال الجبال وتجري إلى البحار تصادف قرب مصابها رمالاً منتقلة تحول دون انبعاثها فمن أجل هذا ترى تلك السيول في الأراضي ذات اليمين وذات الشمال ويتألف منها بطائح. سبق أن قدرنا مساحة كثبان الرمال في فلسطين بمليون دونم والآن نقدر المستنقعات الواقعة على الساحل بعشرة آلاف دونم ولئن كانت مساحة المستنقعات أقل عشرة أضعاف من مساحة الكثبان فإنها من حيث الضرر أضر على البلاد مئة ضعف ومن المحقق أن المستنقعات هي السبب الرئيسي القديم في انتشار الحميات وهذا على رأي الأطباء كافة هو أعظم حائل يحول دون نمو السكان لأن الحمى بانتشارها يصاب بها الأطفال خاصة فتودي بالقسم المهم منهم. ليس لدينا إحصاء عام نعرف منه زيادة الولادات على الوفيات في الولاية بيد أن ماجرى من البحث في بعض القصبات قد أثبت أن عدد السكان يزيد ببطء كثير على الرغم من وفرة الولادات ويقع هذا البطء وإن كان الزراع على شئ من الرفاهة يتبلغون بميسور العيش ومعلوم أن ازدياد السكان هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه عظمة الأمة وقوتها الاقتصادية. اليد العاملة في فلسطين يكفي الكيلومتر الواحد في فلسطين لإعاشة أربعين أو خمسين نسمة ويدخل في ذلك سكان

المدن وعلى كثرة الولادات وتيسر أسباب العيش وقيام أعمال عمرانية نافعة لماذا لم يترق عدد السكان في الكيلومتر المربع عن خمس وعشرين نسمة منذ ثلاثين سنة والجواب أن كثرة الوفيات مانعة من نمو السكان النمو المطلوب وأهم ما يكثر به الموتان الحميات وهي منتشرة بكثرة بين الزراع. إن بقاء الجبال عريانة وتوسع أكثبة الرمال السيارة حتى أحدثت مستنقعات هما أعظم آفة على زراعة فلسطين الأسباب الثانوية في خراب الغابات ترجع هذه الأسباب إلى ثلاثة الأول الإقليم والثاني فقدان الأشجار الثمينة والثالث ندرة الطيور النافعة في الزراعة. وبعد فقد مضى الزمن الذي كان يعتقد فيه الناس أن الغابات تجلب الأمطار فإن العلم الحديث أبطل هذه النظرية من أساسها ولنا عدة أدلة على أن القطر ألفلسطيني لم يتبدل مدة ألفي سنة تبدلاً محسوساً أكثر من كل الأقطار ذات المدنيات القديمة. وما يهطل الآن هنا من الأمطار لا يختلف كثرة وقلة عما كان عليه على عهد بني إسرائيل. إذا تقررت هذه الحقيقة تنتج لنا فائدة عظيمة عملية وهي أننا نستنتج أن قطع الغابات لم ينشأ منه خراب البلاد خراباً لا يتأتى إصلاحه وتلافي أمره وليس من الصواب أن نعتقد أن جبالنا التي حرمناها من نضرة الخضرة يتعذر أن نعيد إليها خضرتها لا جرم أن الأشجار تساعد على خزن المياه في الأرض وتؤلف مستودعات كثيرة لها ومن هذه المخازن يحدث ألفيضان الشديد وفي أيام الجفاف وانقطاع الأمطار تمدُّ الينابيع بما يرشح منها فتكون بهذا النظام كافية للغاية وتكاثف الأشجار يعدل من قوة الرياح ويعدل قوة التبخر في المياه المخزونة فتجد النباتات من التربة طراوة ثم إن الأشجار بمحافظتها على طراوة الأرض وظلها تساعد على تأليف طبقة ترابية غنية من المواد العضوية ومن الأوراق المتساقطة وتحولها البطيء. وقصارى القول فإن إنشاء الغابات لا يؤثر تأثيراً محسوساً يوجه من الوجوه في كثرة الأمطار ولا في كيفية نزولها ولكنها تحدث ظلالاً وتخفف من شدة الرياح وتدعو إلى إسالة المياه ببطء. جئنا إلى الكلام على قطع الأشجار الثمينة فإن لدي عدة براهين على كثرة الأشجار في القديم ومنها ما فقد تماماً أو أصبح نادراً للغاية أو وجد الآن وليس فيه ألفناء المطلوب

بالنسبة لحاجة العصر ومن هذه الأشجار شجر الدلب والدردار والعرعر الخ ومن أراد زيادة بيان فليرجع إلى مجلة جمعية النباتات ألفرنساوية ففيها معلومات مختصرة عن الجغرافيا الزراعية في فلسطين غاية في ألفائدة. أما ندرة الطيور النافعة للزراعة فإنها لما كانت الطيور الجارحة كثيرة العدد في فلسطين والطيور النافعة قليلة أصبحت الخسائر الناشئة المزروعة من الحشرات المضرة على من الكثرة فالجوارح تختار من الأراضي الأعالي والصخور والحواجز لتجد ما تفترسه وعلى العكس في الطيور الآكلة للحشرات فإنها تنزل الظلال وفي الغابات التي يسهل بها اختباؤها وتعيش بما هناك من الطراوة وما يتفسخ فيها ويتحول من المواد العضوية ولذلك توسلت الحكومات المتمدنة بتكثير طيور الزراعة ومنت القوانين النافعة لبقائها ونمائها أم نحن فيقضي لنا في بادئ الرأي أن نحي غاباتنا أداؤنا الجزية ألفاحشة إلى غيرنا في حين استحواذ الخراب على غاباتنا لقد صرفت الهمة لقطع غابات فلسطين على صورة واسعة جداً حتى لم يبق في بعض المحال حطب للدفء والحرق. ذكرنا فيما سلف ما جرّ على زراعتنا من الضرر إخراج السماد من البلاد ولا ندري ما نقول الآن وقد استعظمنا الأمر هناك في انقراض مادة السماد النافع في المحروقات. وقد قيل أن بلاد الجنوب كانت فقيرة بغاباتها منذ ألفي سنة أيضاً ونعني بها بلاد يهوذا ولكن البلاد المشهورة بغاباتها وهي بلاد اجليل وجبل الشيخ قد أصابها ما أصاب غيرها على نسبة واحدة فالبلاد التي ليس فيها حطب للوقود لا يكون عندها بالطبع خشب ولا ألواح للبناء وإذا كانت الأناضول تصدر قليلاً من الخشب اضطررنا للتجارة أن نستبضع ما يلزمنا من هذا الصنف من البلاد الخارجية وإذ ليس لدينا إحصاء يظهر منه مقدار ما يصرفه كل سنة من المال في هذا السبيل لا نكون إلى المبالغة إذا فرضنا أن ما يصل ثغور بيروت وحيفا ويافا كل سنة من الخشب لا يقل عن أربعمائة ألف ليرة عثمانية والمثال الذي نأتي عليه الآن يدل دلالة قطعية على حالتنا المعيبة وأننا ندفع الجزية إلى الخارج كان ما تصدره هذه البلاد من صناديق البرتقال إلى الخارج قبل ثلاثين سنة بضعة ألوف وما يصدر اليوم من يافا وحدها يربو على مليون صندوق وبعد خمس منين سيكون ثلاثة ملايين والصناديق التي يحفظ فيها البرتقال يؤتى بها من روسيا والنمسا يبتاع ألواح منها بثلاثة قروش وبعبارة ثانية أننا

نؤدي خراجا معيناً عن كل صندوق نصدره وهذا الخراج يزيد على ما تستوفيه الحكومة ثلاثة أو أربعة أضعاف دعا جهل حكامنا السابقين وإهمالهم إلى امحاء منابع الثروة وكان من الشعوب المختلفة التي أحسنت الاحتفاظ بمنابعها الطبيعية وثروتها من غاباتها باتخاذ الأساليب المعقولة أن أصبحنا نؤدي إليها الجزية الباهظة وحولنا وجوهنا عما منحتنا الطبيعة إياه من الامتيازات فأخذت الآن تنتقم من على هذه الصورة أهم الآفات التي ابتليت بها الغابات أهم هذه الآفات ثلاث الرعي المتبادل وحتى الرعي في الأراضي الخالية والحيوانات الصغيرة ولا سيما الماعز وفأس المرأة ألفلاحة. ونعني بالرعي المتبادل حتى رعي قطعان أهل ناحيتين أو أكثر في أرض لهم. ويطلع حتى المرعى في الأراضي الخالية على أهالي ناحية مواشيهم إلى ما يدخل في ناحيتهم من المراعي وما لهم من الحق برعيتها ولئن استبان أن الرعي المتبادل وحق الرعي في الأراضي الخالية شيئان متخالفان ولكنهما شيء واحد في الحقيقة فإن أصول المرعى في الأراضي الخالية إذا لم توجد لا يوجد رعي متبادل. وكانت هذه الطريقة في الرعي المتبادل والرعية في الأراضي الخالية شائعة في أوربا خلال القرون الوسطى فتبينت مضارها للزراعة وفي تربية البهائم فأبطلتها الممالك المتوفرة على تربية الحيوانات وبقيت أصول الرعي المتبادل في سويسرا وإنكلترا وهولندة إلى القرن الثامن عشر حتى أبطل منها بتة. وترى اليوم كل إنسان يقبح باسم ترقي الزراعة طريقة الرعي المتبادل وحق المرعى في الأراضي الخالية لأن ذلك مما دعا إلى هلاك قطعاننا وساعد على انتشار الأمراض السارية فيها وهذه العادة ضربة قاضية على حقوق أصحاب الأراضي تدعو إلى الأسف ولها دخل كبير في تخريب الغابات وانقراضها. تأصلت عادة الرعي المتبادل في نفوس الأهلين هنا فنزعها أو تجديدها يدعو إلى هلاك العشائر السيارة المعروفة بشن الغارة وتضطرهم إلى الرجوع أدراجهم أو أن يعودوا فيرجحوا العيش الثابت ويؤثروا حياة ألفلاح والتوطن ويطلقوا تقاليدهم القديمة منذ قرون من عيش الخيام ورعية الأنعام كما هي حال عشائر يوركلر في الأنضول وحال عشائر البدو الصغرى المختلفة في هذه الولاية ولما كانت هذه العشائر تعتقد أن طريقة الرعي المتبادل من الحقوق السماوية أصبح من الصعب أن يرجعوا عن تلك العادة حتى أن

الأهالي الساكنين إذا أصابهم ضرر من هذا القبيل وجب على الحكومة أن تتداخل في الأمر بقوة السلاح فكما أن تراجان وكورنيليوس وبالما من قواد الرومان حموا على عهد حكومتهم الأراضي الزراعية بين صرخد وبصرى الساكنين في حوران والجولان من الأهلين ودوا عنهم غارة المغيرين من أهل البادية هكذا نعهد إلى الحكومة العسكرية اليوم أن تحمي حمانا في تلك الحال أيضاً من أبناء تلك العشائر القديمة وهم الرولة وولد علي وبني صخر. وبعد فإن الحكومة لم تمد يد المساعدة لمن أراد أن يقوم من الأهلين بنفسه يحمي المراعي من التخريب ليأمن على أرضه حتى أن مهاجري الجراكسة لما نزلوا القنيطرة وأرادوا الانتفاع من مروج الجولان يقطعون منه قصيلاً للشتاء أغمضت الحكومة عينها عنهم فاضطر الجراكسة أن يقتتلوا مع أهل البادية دفعاً لرد عادية هؤلاء عنهم وأصبحوا يحصلون لمواشيهم على قصيل زيادة عما يلزمهم. أوردت هذه الحادثة لأشير بها إلى أن عادة الرعي المتبادل مهما كانت متأصلة في طبيعة الأهالي ففي الوسع نزعها ومتى تم ذلك في أرض استفاد الأهلون والحكومة معاً. أن تخريب المراعي هو العامل الرئيسي في تخريب الغابات وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة على صورة لا تقبل الاعتراض وليس القطع أو الحريق من أعظم الحوائل في نمو الأشجار على اختلاف ضروبها وإيصال الأذى إليها من جذورها أو رأسها بل الضرر كل الضرر في إيصال الأذى إلى رأسها فتحول أسنان المواشي دون نموها فتتصلب سطوح الأراضي الثابتة وتنقسم الكثبان وبدلك يصعب أن تعود إلى الأشجار حياتها. تخريب الحيوانات الصغرى ولاسيما الماعز الماعز أعظم الآفات على غاباتنا وإذا اجتمعت على تخريب الغابة النار والفأس فلا يفعلان فيها كما تفعل أسنان الماعز. عرفت فيها هذه المضرة منذ القديم حتى جاء في قوانين بني إسرائيل صريحاً خطر تربية الحيوانات الصغيرة في فلسطين. وكان المنورون منهم يهتمون جدّ الاهتمام للمحافظة على هذا القانون ووضع القيود لتنفيذه. جاء في التلمود أن أحد حاخامي بني إسرائيل أصيب بسعال شديد فأوصه الأطباء أن يشرب لبن عنز سائغاً حديثاً فجاءه بحسب العادة المتبعة بعض رفاقه من الحاخامين يعودونه في مرضه فرأوا في فناء الدار تلك العنزة التي جعلت هناك للانتفاع بلبنها ولم يلبثوا أن رجعوا أدراجهم قائلين

والغضب آخذ منهم، في باب الحاخام المذكور أشقياء مسلحين لا جرم أن العنزة كانت تعيش بما تخضمه وتقضمه من هنا وهناك. وقد جرت الولايات المتحدة في تربية الحيوانات على قاعدة أن تجعل لكل مئة رأس بقعة من الأرض مساحتها 15. دونماً تروح الماشية فيها وتغدو سنتين على أن يقطع المرج من أساسه ولا شك أن ماشية ولاية بيروت لا تقل عن مليون رأس تخرب كل سنتين من الغابات15. . . . . دونم وبعبارة أخرى أن تخريبها لا يقل مانهة عن75. . . . دونم إلى مليون. فالرعي المتبادل وحق الرعي في الأراضي الخالية لا يحول فقط دون حفظ الغابات ويقرضها بل يمنعنا من تربية الماعز ويسوقنا إلى هذه النتيجة سوقاً تخريبات المرأة ألفلاحة تجيء المرأة القروية بعد الماعز في باب تخريب الغاب لأن من شأن المرأة في هذه الأصقاع أن تتدارك الحطب اللازم للدار والحطب المقتضي بيعه في السوق ويضيف هؤلاء النساء إلى ضعفهن الطبيعي أنهن يتسلحن بفؤوس رديئة يضربن بها الأشجار ألفتية ويحولن وجوههن عن الأشجار الكبرى ذات الأغصان المستطيلة والجذوع المتأصلة. وأن في دخول البنات والنساء إلى قراهن وقد احتطبن وجعلن حطبهم على رؤوسهن باسمات شاديات من المناظر الغريبة ولم ينحصر هذا العمل في النساء وحدهن بل يشاركهن فيه الرجال في ضواحي القرى ليحرقوا من أحطابها كلساً. ومن المشاهد أن أكمة أو جبلاً يعرى في بضعة أسابيع من مراعيه وأحطابه ليجعل من حطبه وقود لفرن أو فرنين من أفران الكلس الفقيرة أو بضعة أحمال صغيرة من ألفحم وهذا ولا شك من الجنايات التي لا ينظر إليها قانون من قوانين مملكة نظر تسامح وأغضاء. ما قام به الأفراد لأحياء الغابات مما يؤلم النفس أن الحكومة لم تقم حتى الآن بعمل يذكر في باب إحياء الغابات وتنميتها في أطراف المملكة على اختلاف اصقاعها ولا سيما في هذه الولاية ولم تنشط من أرادوا التشبث بذلك وقد قام فريقان من النازلين في هذه الديار وأتوا بعمل وإن كان صغير الجرم ولكنه كبير القدر في مسألة الغابات. فالفريق الأول أهل المستعمرة الألمانية قام بالتحريج على صورة محدودة ولكنها عاقلة والفريق الثاني أهل الاستعمار الإسرائيلي تذرعوا بمثل

هذا العمل على صورة أوسع وأشجع ولما وضع ألمان حيفا أيديهم على الأقسام المهمة من جبل الكرمل رأوا أن يتذرعوا إلى الاستفادة من هذا الجبل بعض الشيء فغرسوا فيه أشجار الصنوبر وغرسوا أثمن أنواعه فأتت منها نموذجات نادرة وهو صنوبر حلب وغرسوا أيضاً من صنوبر الحبّ والصنوبر المشاهد نموذجات منه في لبنان وبيروت ولا تزال هذه البقعة من الغابات تتوسع فتدخل البهجة إلى قلوب من نزلوا في جوارها وعلى مقربة منها من الألمان. ولئن كان هذا التوفيق درس عبرة لنا فأنا لست مع هذا من القائلين بغرس أشجار الصنوبر في ساحات واسعة وقولي هذا مستند على أسباب مهمة معروفة في فن الغابات وذلك لأن عامة أشجار ألفصيلة الصمغية سريعة الاحتراق وإذا احترقت فلا يعزب عن بالنا أن نوعها ليس من الأنواع التي تعود فتنمو وكثيراً ما يقع حريق الغابات في موسم الصيف وليليه الحارة وإذا كان ولا بد من غرس الأشجار من ألفصيلة الصمغية فيجب أن تحاط بأشجار الأوكاليبتوس المعروفة بشدة مقاومتها للحريق. والخوف من الحريق ليس من الأمور النادرة بل وقع كثيراً في تونس والجزائر وكثرت الحوادث المكدرة بسببه فوجب علينا أن نعتبر فإن أهل الإخصاء في هذا ألفن فن التحريج لا يكتفون بما رسمه العلم من النظريات بل يراعون حال المحيط وروح الأهلين فإن هناك بعد المصاعب ألفنية موانع معنوية وروحية. ما تذرع به الإسرائيليون لإحياء الغابات حصدت الحميات منذ عشرين سنة الإسرائيليين وإذ كان شجر الأوكاليبتوس من موانع الحمى لم يكتفوا بالذي ذكرناه من الحرج الضعيف بل توسعوا في الغابة وغرسوا من الأوكاليبتوس كثيراً فكثر عددها حتى بلغت بحسب الجهات المئات والألوف فمنذ سنة 12 - 13 كانت هذه الساحات خالية بالكلية من الأشجار فأصبحت بحرمانها من فأس الحطاب غابات غبياء وأراضي شجراء والعمل جار الآن في كيفية استحصال طريقة أربح من غيرها من خشب الأوكاليبتوس وهذه القضية صعبة في الحل بعض الصعوبة. وهنا مجال لأن أقول أنني في رحلاتي إلى تونس والجزائر للبحث في أحوال الغابات رأيت أشجارا وأردت اختبار أكثرها ملائمة لهذه الديار وقد بلغت أنواعها مئة نوع ولكن ما

جربناه هنا فجاد بلغ اثني عشر نوعاً. وقد جربنا الأشجار المعتمد عليها في البلاد الحارة وشبه الحارة مثل أميركا وأوقيانوسيا فلم نجدها صالحة للغرس والنمو وسائط لمنع تخريب الغابات سبق لنا في ألفصول السابقة وصف النتائج التي آلت إليها الغابات بتخريبها رأينا أن الحالة من ناحيتها مخوفة داعية إلى القلق. إن انقراض الغابات آخذ بالارتقاء ويزيد فيه جهالة الأهلين نعم قامت بدل الغابات مروج وهذه تدعو الحاجة إلى الاحتفاظ بها فكما أن من اللازم اللازب قبل استرجاع ثروة فقدت بالتبذير والإسراف أن يحافظ على البقية الباقية منها فمن الواجب قبل التذرع بوسائط لاحياء الغابات أن يفكر في عدم انقراضها وتوقيف تيار الأضرار بها. والواجب في هذا لباب وضع قوانين والعناية بتطبيق مفاصلها لأن الأضرار بالغابات لم ينشأ من القوانين الخاصة بها بل من أهماها وعدم العناية بتنفيذها ولذا بات مستقبل البلاد مهدداً وتظهر فيه أنفع القوانين من الخطة التي تجري عليها في الإنقاذ فإن انفع قانون يعمد في تنفيذه إلى مأمور جاهل لا يكون إلا ذريعة لتشديد الحكم الكيفي ويزيد في الشدة على الأهلين ويبالغ في تضعيف أضرار خزانة الحكومة بواسطة بعض أهل المنافع من أرباب الأفكار الخسيسة ولذا نقترب من هذا البحث والرهبة والاحتراز آخذان منا. لئن قل في الحكومات من وقف أمام تلك الحالة التي أضنت على انقراض الغابات في فلسطين فليست حكومتنا فقط اشتغلت بإحياء الغابات وحل قضيتها المغمضة ولكن هذه القضية المذكورة مع سهولتها على الحكومات المومأ إليها فقد شوهد أن حلها ليس من السهولة بالمكان الذي تصوروه وأدركت الحكومات التي عُنيت بالاحتفاظ بالغابات وبأحياء الجديد منها بفضل ما قامت به من التجارب الخاصة أن حل هذه القضية المعقدة بطئٌٌ يحتاج إلى نفقات طائلة وإذا خالف التوفيق من يعنى باتخاذ الطرق إليها فيكون بتنفيذ القوانين بشأنها حق التنفيذ بالحرف وتوزيع المخصصات على صورة رشيدة واسعة وأن يعهد في العمل لطبقة مختارة من الموظفين ويبالغ في البحث والاستقراء العلمي. وهب أن الحال ساعدت على وضع قوانين لا تكلف نفقة وعهد إلى موظفين بالإشراف عليها وتطبيق مفاصلها فإن تنظيم خطط هذا التجديد وإخراجه إلى ألفعل يحتاج إلى

موظفين أخصوا في هذا العلم وهناك أيضاً صعوبة في جلبهم وجمعهم. لأن التبريز في صناعة يقتضي لمن يديره أن يقضي دور الاستعداد في دائرة نظريات العلم ويعقبه دور طويل يقضيه في العمل وليس في البلاد حتى الآن علماء بالغابات على هذه الصورة وإذا صرفنا النظر عن الصعوبات الكثيرة التي تعترضنا في جلب علماء بالغابات من الخارج فهناك صعوبة واحدة يكتفى بإيرادها وهو أنهم يكونون ولا شك غرباء بعيدين عن معرفة ما يلزم لإنشاء الغابات في مثل هذا المحيط غير ملمين بأحوال القطر ولا بحالته الاقتصادية. أرى هنا أن أورد بعض التجارب التي عمدوا إلى تطبيقها في بعض الممالك التي تشبهنا وأهم الأقطار التي يجب على رجال حكومتنا أن يبالغوا في البحث فيها: الجزائر وتونس وقبرص فإن بلادنا هذه تشبه تلك الأقطار من وجوه كثيرة فالمناخ فيها عينه عندنا وما يشاهد من الإسراف في قرض الغابات في فلسطين قد شوهد مثله في تلك الأصقاع أيضاً وإذ كان سكان هذه البلاد وسكان تلك من المسلمين فلهم نفس التقاليد والتواريخ ثم إنه استعملت في تلك الأقطار نفس الأشجار التي توافق بلادنا والواجب قبل كل شيء تحديد المقطوع من الخشب والحطب وتعيين شروط إصدار حاصلات الغابات ولئن كنا لا ننكر أن عندنا كثيراً من القوانين في هذا الشأن فإننا نقول بأنه لم يجر تنفيذها بتة على أن الواجب أيضاً تعديل هذه القوانين ببعض لوائح حسب محيط كل بلد وطبيعة كل أقليم وعادته فوضع القوانين واستعمال الجد في إنفاذها يجب أن يكونا توأمين متلازمين. حرّاس الغابات يجب أن يعهد إلى حرّاس يشرفون على الغابات على شرط آن لا يراعى في تطبيق القوانين والنظامات المذكورة الأصول القديمة وأن يختاروا من الذين تعلموا تعليماً ابتدائياً صناعياً في الجملة فإن الأصول التي اتبعت فيما مضى فدعت إلى أن يعهد إلى الجهال بمثل هذه الوظائف قد ألحق الضرر الكثير بالآهلين وإن إحداث وظائف الكسالى لا يكون إلا ذريعة لتشديد الضرر الذي يراد توقيفه. وكنا نرجي أن يكون ألفرق بين الحراس القدماء والحراس المحدثين في الغابات كالفرق بين أفراد الدرك اليوم وأفراد الدرك أمس على الأقل وما أشبه الليلة بالبارحة. تنظيم قطع الغابات

أشرنا فيما سلف من ألفصول إلى ما تحدثه المرأة القروية من الأضرار بالغابات عند احتطابها منها ولأجل توقيف هذا التخريب يجب توقيف الاحتطاب بتاتاً أيام نمو الأشجار والاحتطاب يبدأ في أيام الحر من 15 تموز إلى 15 أيلول فلا يسمح للمرأة ألفلاحة أن تحتطب إلا في هذا الموسم ومن الممكن أن يمتد هذا التوقيف عن الاحتطاب إلى كانون الثاني. وهذه حقائق ثابتة وفوائدها ظاهرة المحسنات فلا تحتاج إلى تفصيل. قلع الجذور جرم أبنا فيما سلف عند البحث على عمل الكلس والفحم الأضرار الناشئة من الطريقة التي يعمد إليها وأهم هذه الخسائر قطع جذور الأشجار مما لا يحول فقط دون نموها بل يقرضها أبديّاً فالواجب عمل الكلس والفحم على الأصول النظامية وفي الزمن الذي لا يمنع من نمو الأشجار وربما رأى الناس شدة في هذه الطرق والأساليب ولكنها في الحقيقة ليست مهمة فبدلاً من أن يقوم فلاحونا ويربحوا قليلاً من عمل ألفحم بقرض الغابات نوصيهم بأن يعمدوا إلى طرق أخرى فإنهم يضمنون لأنفسهم أرباحاً أكثر وما يكسبونه قليلاً من إصدار السماد والتبن يتأتى لهم استحصاله من طريق آخر ليعدلوا ميزانيتهم وإن ما تعلمه الوطنيون من مستعمرة الألمان والإسرائيليين في الثلاثين سنة الأخيرة من طريقة استعمال الأسمدة للأراضي أصبح في حكم قانون ثبتت فوائده في أرباض القرى وما يفعله في نمو البقول والأثمار ليس مفيداً فقط بل ضروري للغاية أما التبن فإنه يساعد ألفلاح على علف أبقاره وثيرانه على صورة أحسن فيكون من العوامل في تربيتها. وسنذكر في ألفصول التالية عند الكلام على صورة تنظيم أصول الرعي في الأراضي الخالية أن من المفيد جداً للحكومة تحديد عدد الماعز ومعاونة الأهلين على تربية البقر. هذا ولا يتردد الرعاة بتة في قطع أغصان الأشجار ليطعموا بها قطعانهم فإن تجريد الأشجار الكبرى من بعض أغصانها يكون داعية انقراضها. تنظيم المراعي رأينا فيما سلف مقدار الضرر من الرعي المتبادل في الأراضي الخالية وحق الرعية فيها فعلى الحكومة إذا صحت عزيمتها على توقيف الضرر أن تبادر إلى تنظيم مراعيها. قد يشاهد في الظاهر تناقض بين مسألة تنظيم المراعي لما فيه مصلحة أصحاب المواشي

وبين الزراع الذين ليس لهم ما يعلفون به دوابهم فيجب للتأليف بين هذين ألفريقين الظاهر تخالفهما كل التخألف بأن لا يشرع في العمل لذلك قبل إمعان الروية وإطالة النظر في المدخل والمخرج فينظر في اختلاف الحالة الاقتصادية في كل ناحية وفي سد حاجة الأهلين على غاية من التدقيق والعناية ثم يشرع في حل هذه المباينة وقد ظهر مما سبق أن تنظيم أصول المراعي يحتاج إلى تدقيق عميق طويل فإن كل الناس اليوم يقولون بأن بين المراعي والأشجار علاقة اشتراك ولذا فإن تخريب الغابات في الأماكن العالية يدعو إلى تغيير منابع المياه وجفاف المراعي فينشأ من ذلك تدني عدد الحيوانات من قلة المياه والمراعي فيكون الضرر لاحقاً في الأكثر بأصحاب المواشي. ولا جرم أن عدد الحيوانات آخذ بالتناقص ولا تنمو إلا بإحداث الغابات ونموها فهذه مقدمة لها فالواجب البداءة بهذا التحسين قبل كل شيء. منع طريقة الرعي المتبادل لإصلاح حق المرعى في الأراضي الخالية ولئلا يجري التزاحم على المراعي يجب أن يعين ما يلزم لكل قرية وناحية من المراعي وهنا نقسم المسألة إلى شقين فنجعل في الأول الكمية اللازمة للاستعمال في ألفلاحة والحمولة وما ماثل ذلك ليسد مجموعها حاجة القرية أو الناحية وفي الشق الثاني عدد الحيوانات التي تزيد في محصول هذا المجموع ورأس ماله بمعنى أننا إذا قلنا بأن نفادي بشيء لأجل حيوانات الطبقة الأولى فإننا لا نوافق على ذلك لحيوانات الطبقة الثانية أي أننا لا نفادي في هذا السبيل بقرض الحراج والغابات ونسوق البلاد إلى الخراب. تحديد المراعي الخارجة عن الغابات إن كثرة هذه المراعي في الأراضي السهلية يكون سبباً لعدم إدخال قطعان المواشي إلى الأراضي الجبلية ومع هذا فالواجب يقضي بمنع القطعان من دخول الغابات في الربيع لكثرة العشب فيه فإن ذلك مما يساعد الغابات على الراحة والتجدد وعلى تأصيل أصول الأشجار الصغيرة في الأرض وقت نشوءها الأول فيدخل في الإمكان إذ ذاك تجدد الغابات. لا شبهة أن التزاحم من العناصر المضرة في تخريب المراعي وإن تنقيص عدد الحيوانات في بلاد يكون عدد أغنامها وماعزها متناسباً مع ثروتها ولها منها منافع كثيرة وعادات هو

من الأمور الصعبة بل البطيئة وليس هذا خاصاً بنا وحدنا بل هو مشاهد في أعظم الممالك تمدناً. وقد عارضت أهالي الجبال في فرنسا فاضطرت الحكومة هناك إلى نشر قانون سنة 1882 بشأن المراعي طبقت مفاصله كل التطبيق فعلى الرغم من شدته لم تنشأ منه النتائج المنتظرة كما قال مدير الغابات العام في تقريره سنة 1911 آسفاً متلهفاً. ولم تقوَ النصائح والتنشيط الذي وقع على رفع الموانع العظيمة الحائلة دون تجدد المراعي وإحيائها. الوسائل القانونية في التشجيع أبنا سالفا مقدار التخريب العظيم الذي يحدثه الماعز للغابات ولذلك وجب التذرع بكل الأسباب التي من شأنها تنقيص عدد الماعز وتحديده والأبقار ليست من الضرر بدرجة الماعز ولذلك أرى أن تراعى البقر في وضع رسوم قليلة عليها ويؤخذ عن الماعز رسوم تامة وأن يلغى الرسم عن الغنم ويبقى الرسم على الماعز وان يطرد الجمال والماعز من الغابات طرداً كلياً وهذا من أوفق وسائط التشجيع بالوساطة لغرس الأراضي القابلة لزراعة الغابات. إلا أن الأربح للحكومة والواجب عليها أن تعمد إلى أسباب من التشويق بلا واسطة وهو أن تعفي من الخراج مدة ثلاثين سنة كل قطعة أرض جبلية جعلها صاحبها من أطرافها الأربعة بعيدة عن تخريب حق المرعى والرعي المتبادل في الأراضي الخالية. إن هذه الأصول التي يجب اتباعها لتسهيل تجديد الغابات يتأتى أن يكون لها تأثير أسرع. ولذلك جاءت النوبة لاتخاذ وسيلة قانونية يكون لها التأثير العظيم بالنظر لارتقاء المملكة وسيرها نحو التكامل. ولا يخفى أنه لم يبقى أثر للغابات في البلاد ولا سبيل لزراعتنا أن يتوقع منها شيءٌٌ في هذا السبيل وإن من نتائج ذلك أصبحت جبالنا وآكامنا معرضة للاتكال ولذلك تدعو الضرورة الشديدة إلى غرس الأشجار التي تجنى منها هذه الثمرة بعض الشيء وتحيا بها البلاد قليلاً فقد اشتهرت فلسطين بمحاصيلها من الحبوب ومع هذا فهي من الأقاليم التي تلائم كل التلاؤم زراعة الأشجار التي تُثمر هذه الثمرات بالنظر لأحوال هذا القطر وشؤونه الزمنية ووضعه الجغرافي ولنا عدة أبواب كبرى نصرف فيها هذا المحصول وإن مصر التي ليس فيها أراض صالحة لهذا الصنف من الزراعة قد أقامتنا الطبيعة لأن ندعي بأننا متعهدون لها بتقديم ما يلزمها من أرضنا من هذا القبيل ولذا أصبح من اللازم اللازب على الحكومة

أن تعمد إلى اتخاذ جميع أسباب التشجيع لزراعة الغابات وتنميتها. لئن نشر قانون يقضي بأن كل أرض جبلية غرست زيتوناً تعفى من الضرائب من ثلاث إلى عشر سنين فقد قل الأفراد الذين استفادوا من هذا الإعفاء على أن الحد الأعظم في هذا العفو وهو عشر سنين قليل بالنسبة لما ينبغي من وسائل التنشيط والواجب أن تعفى من الضرائب جميع الأراضي الجبلية التي تغرس زيتوناً مدة خمس عشرة سنة وهذا لإعفاء يشمل أشجار الخرنوب. والخرنوب إذا طعم يعطي من السكر 4. % وقشره صالح لرعية الماعز وانك لترى في جزيرة قبرص ألوفاً من الدونمات مستورة بأشجار الخرنوب. والأولى أن يسن قانون لحفظ الأشجار البرية وتجديدها وتطعيمها ويحمل الناس على اتباعه ويعهد إلى حراس الغابات بالإشراف عليه ويجب أن تعفى من الضرائب مدة خمس عشرة سنة بعض الأصقاع التي يجود فيها التفاح والكثرى على أنواعهما وأن يطعم التفاح البري إن أمكن كما نعفى شجر الزعرور إعفاء الكروم في الأراضي الجبلية من الخراج عشر سنين وتنشيط الغابات لإحيائها وإحداثها لا بأس من أن يشمل العفو عن الخراج عشر سنين في الكروم ليسارع ألفلاح إلى غرسها فيقف تجريد الغابات من كسوتها وتزيد محاصيل البلاد وأن كان ذلك لا يقوم مقام الغابات بحال بيد أن هذا الإعفاء الذي منح لمدة عشر سنين هو لمقاومة دودة الكرمة فإذا شمل العفو الكروم نفع أيضاً في بابه. لم تتشبث الحكومة بأدنى تشبث من شأنه أن يحيي الغابات ويكثر عددها ولكن الأفراد تذرعوا في هذا السبيل بأمور وما تذرعوا به من هذا القبيل حري بمعاونة الحكومة من كل وجه وأهله جديرون بأن يميزوا بامتيازات خاصة وللوصول إلى هذا الغرض أرى من المناسب قبول القانونين اللذين سنتهما فرنسا ونتجت منهما لها فوائد كثيرة فقد جاء في المادة 228 من قانون الغابات عندهم: تعفى من الخراج مدة ثلاثين سنة كل أنواع الأشجار التي تغرس على أكمة أو سطح مائل في الجبال وكل كثيب من الرمال. ولكن حكومة فرنسا أرادت أن تستفيد من هذا الحق جميع الأراضي الزراعية البائرة الفقيرة فوضعت المادة الآتية وهي مادة 116 من قانونها وأيدتها سنة 19. 7 بالبند الثالث من ميزانيتها ومعناها أن تقدر الأراضي التي تزرع أشجارا بربع قيمتها فقط وتعفى من الخراج من أول

غرسها إلى مرور ثلاثين سنة عليها فنشط لذلك أصحاب الأراضي واستفادوا من هذه القوانين وأحيوا قسماً منها. وعلى الحكومة علاوة على ذلك أن تحدث شركات أحياء الغابات تشوق الناس لاتخاذ الأصول الجديدة وتمنحها بعض الامتيازات وتخص بهذه الامتيازات تلك الشركات ليعم نفعها في أي نوع من الأراضي مملوكة كانت أو مستأجرة لمدة طويلة ومثل هذه الشركات كثير في الممالك المختلفة نتجت منها أعظم ألفوائد ومنها شركة إنشاء الغابات وأحيائها في الجزائر وشركة محبي الأشجار الدولية في تونس وشركة أشجار مدريد الوطنية. ولكن جميع هذه التشبثات لا تحل في وقت من الأوقات قضية أحداث الغابات وأحيائها فإن ذلك متوقف على أحياء الجبال وتثبيت الأكثبة وتجفيف البطائح ويحتاج ذلك إلى نفقات طائلة وأناس عارفين بالعلم وتحتاج الحكومة إلى سلوك القصد في عملها بيد أن الحكومة لم تقم بعمل شيء وتغييرها لكبار مأموريها على طريقة تبادل الوظائف مما يحول دونهم ودون معرفة البلاد وأقرب الطرق الآن أن تكتفي الحكومة بتنشيط الشركات وإنشائها لهذا الغرض وتبذل المعاونة ألفعلية والمعنوية لانتشار فن الغابات ولئن كانت الامتيازات في مثل هذه الأحوال غير معتبرة فنحن نعترف بذلك ولكن بلاداً ليس لها شركات ذات أموال كثيرة وليس عندها موظفون عالمون لا سبيل لها لأن تعمل غير ذلك ولذلك تجلب أناساً من متخصصي الأجانب يشرفون على الشروط التي نالها أصحاب الأمتياز ويهيمنون على العمل حتى ينتهي بأحسن النتائج. والقيام بعمل على خلاف هذه الصورة لا يكون منه إلا الفشل. وبعد فقد ظهر بما تقدم ما تمس إليه الحاجة من الذرائع العظيمة لإنشاء الغابات في الجبال والمبالغة بالقيام على تعهدها ولتثبيت الأكثبة وتطهير البطائح وتجفيفها وللقيام لإدارة ذلك ينبغي إيجاد شركات ذات رؤوس أموال تكون مختلطة أو خاصة لتشرف على هذه الأعمال وتديرها وتنيل الربح لمساهميها على طرية معقولة وهذا مما يحفظ حقوق بيت المال والأهلين معاً ويصونها من الاعتداء ولا يجب بالنسبة للأحوال الحاضرة في البلاد أن يطوى شيء من هذه الإيضاحات التي هي عملية ونتيجة تجارب طويلة بل على العكس نرى في الإمكان أن يضاف إليها أمور كثيرة ولا نطالب الحكومة في حل هذه المسألة

بالقيام بكل عمل فذلك خارج عن طاقتها ولكننا نطالب برفع الموانع والحوائل وتشجيع أحباب الغابات على إنشاء الجديد منها والاحتفاظ بالقديم.

الخطابة عند العرب

الخطابة عند العرب تابع لما في الجزأين التاسع والعاشر (1.) خطباء الجاهلية والإسلام قال الجاحظ: كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم أن نذكر أسماء الجاهلية على مراتبهم. وأسماء أهل الإسلام على منازلهم ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء ونقسّم أمورهم باباً باباً على حدته ونقدم من قدمه الله عز وجل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب وفضله في الحسب ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة. في الخطباء من يكون شاعراً ويكون إذا تحدث أو وصف أو احتج بليغاً مفوهاً بيناً وربما كان خطيباً فقط وشاعراً فقط وبين اللسان فقط ومن الشعراء الخطباء الأنبياء الحكماء قس بن ساعدة الأيادي والخطباء كثير والشعراء أكثر منهم. ومن يجمع الخطابة والشعر قليل ومنهم عمرو بن الأهتم المنقري وهو المكحل. ومن الخطباء الشعراء البعيث المجاشّعي واسمه خدّاش بن بشر بن لبد. ومن الخطباء الطّرماح بن حكيم الطائي وكنيته أبو نفر. ومنهم عمران بن حطّان وكنيته أبو شهاب رئيس القعدة من الصغّرية وصاحب فتياهم ومقرهم عند اختلافهم ومنهم دغفل بن حنّظلة النسابة الخطيب العلاّمة. ومنهم القعقاع بن شور. ومنهم نصر بن سيار أحد بني ليث بن بكر صاحب خراسان. ومنهم زيد بن جندب الأيادي وعجلان بن سحبان الباهلي وهو سحبان وائل وخطيب العرب. ومن الشعراء العلماء أعشى همدان ومن الشعراء الخطباء عمران بن عصام العرني ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى وهو بشار بن برد وكنيته أبو معاذ. ومن الخطباء الشعراء ومن يؤلف الكلام الجليل ويصنع المناقلات الحسان ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة مع بيان عجيب ورواية كثيرة وحسن دل وإشارة عيسى بن دأب أحد بني ليث بن وكنيته أبو الوليد. ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطبة والشعر الجيد والرسائل ألفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمر والعتابي وكنيته أبو عمرو. وممن جمع الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار والكتب الكبار المجلدة والسير الحسن المولدة والأخبار المدونة سهل بن هرون بن راهييوني الكاتب صاحب كتاب ثعلة وعفرة

في معارضة كليلة ودمنة وكتاب الأخوان وكتاب المسائل وكتاب المخزومي والهذلية وغير ذلك من الكتب ومن الخطباء الشعراء علي بن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة ولا أعلمه يكنى إلا أبا الحسن. ذكر الجاحظ ثمامة بن أشرس فقال: ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف. ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه وكان لفظه في وزن إشارته. ومعناه في طبقة لفظه ولم يكن لفظه إلى بأسرع من معناه إلى قلبك. قال بعض الكتاب: معاني الظاهرة في ألفاظه الواضحة في مخارج كلامه. كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول: له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف كان ألفضل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس وكان متكلماً وكان قاضياً مجيداً وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد وهشام بن حسام وأبان بن أبي عباس وكثير من ألفقهاء وهو رئيس ألفضيلة وإليه ينسبون. وكان يزيد بن أبان عم ألفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي من أصحاب أنس والحسن كان يتكلم في مجلس الحسن وكان زاهداً عائداً وعالماً فاضلاً وكان خطيباً وكان قاضياً مجيداً. قال أبو عبيدة: وكان أبوهم خطيباً وكذلك جدهم. وكانوا خطباء الأكاسرة فلما سبوا وولد لهم الأولاد في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب نزعهم ذلك العرق فقاموا في أهل هذه اللُغة كمقامهم في أهل تلك اللُغة وفيهم شعر وخطب وما زالوا كذلك حتى أصهر الغرباء إليهم ففسد ذلك العرق. ودخله الخور. ومن الخطباء زيد بن عالي بن الحسين وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وكان شاعراً بيناً وخطيباً لسناً. ومن أهل الدهاء والنكراء. ومن أهل اللسن واللقن. والجواب العجيب والكلام الصحيح. والأمثال السائرة والمخارج العجيبة هند بنت الحسن وهي الزرقاء وجمعة بنت حابس. ومن الخطباء خالد بن سلمة المخزومي من قريش. وأبو ماضر وسالم وقد تكلم عند الخلفاء. ومن خطباء بني أسيد الحكم بن زيد بن عمّير وقد رأس. ومن أهل اللسن منهم البيان الحجاج بن عمّير بن زيد. ومن الخطباء سعيد بن العاصي بن سعيد العاصي بن أمية قيل لسعيد بن المسيب من أبلغ الناس: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقيل له: ليس من هذا نسألك قال: معاوية

وابنه وسعيد وابنه وما كان ابن الزبير بدونهم ولكن لم يكن لكلامه طلاوة مقبولة. فمن العجب أن ابن الزبير ملأ دفاتر العلماء كلاماً وهم لا يحفظون لسعيد بن العاصي وابنه العاصي من الكلام إلا ما له بال. ومن الخطباء عمرو بن سعيد وهو الأشدق وسعيد بن عمرو بن سعيد وكان ناسباً خطيباً وأعظم الناس كبراً وهو خطيب ابن خطيب. ومن الخطباء سهيل بن عمرو الأعلم أحد بني حسل بن معيص. ومن الخطباء عبد الله بن عروة ابن الزبير قالوا وكان صفوان يشبه به وما علمت أنه كان في الخطباء أحد أجود خطباً من خالد بن صفوان وشبيب بن شبيبة الذي يحفظ الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما وما علمنا أن أحداً ولد لهما حرفاً واحداً. ومن النسابين العلماء عتبة بن عمرو بن عبد الرحمن الحارث بن هشام وكان من ذوي الرأي والدهاء وكان ذا منزلة من الحجاج بن يوسف وعمرو بن الرحمن خامس خمسة في الشرف وكان هو الساعي بين الأزد وتميم في الصلح. ومن بني الحرقوس شعبة بن القلعم. وكان ذا لسان وجواب عارضة وكان وصافاً فصيحاً . وبنوه عبد الله وعمرو وخالد كلهم كانوا في هذه الصنعة غير أن خالداً كان قد جمع بين بلاغة اللسان والعلم والحلاوة والظروف وكان الحجاج لا يصبر عنه. ومن بني أسيد بن عمرو تميم أبو بكر بن الحكم كان ناسبة راوية شاعراً وكان أحلى الناس لساناً وأحسنهم منطقاً وأكثرهم تصرفاً ومنهم معلل بن خالد أحد بني أنمار بن الهجيم وكان نسابة علامة راوية صدوقاً مقلداً ومنهم من بني العنبر ثم من بني عمرو بن جندب أبو الخنساء عباد بن كسيب وكان شاعراً علامة وراوية نسابة وكانت له حرمة بابي جعفر المنصور ومنهم عمرو بن خولة كان ناسباً خطيباً وراوية فصيحاً من ولد سعيد بن العاصي والذي أتى سعيد بن المسبب ليعلمه النسب ومن خزاعة بن مازن أبو عمرو بن العلاء وأخوه أبو سفيان ومنهم أبو نوفل بن أبي عقرب كان نائباً خطيباً فصيحاً وهو رجل من كنانة أحد بني عريج ومن بني كنانة ثم من بني ليث ثم من بني الشداخ يزيد بن بكر بن دلب وكان يزيد عالماً ناسباً وراوية شاعراً. وولد يزيد بن يحيى وعيسى وهو الذي يعرف في العامة بابن داب وكان من أحسن الناس حديثاًَََ وبياناً وكان شاعراً راوية وصاحب رسائل وخطب وكان يجيدها جداً.

وكان أبو الأسود الديلي وأسمه ظالم بن عمر، وبن جندل ابن سفيان خطيباً عالماً وكان قد جمع شدة العقل. وصواب الرأي. وجودة اللسان وقول الشعر والظرف ومنهم زياد بن ظبيان التميمي العاشي وكذلك ابنه عبيد الله كان أفتك الناس وأخطب الناس. ومنهم صعصعة بن صوحان من خطباء الخوارج وعبيد الله بن زياد ويضرب به المثل. وكان عثمان بن عروة أخطب الناس وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيباً شاعراً، وفصيحاً جامعاً، وجيه الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء. ومن خطباء قريش خالد بن مسلمة المخزومي وهو ذو الشفة ومن خطباء العرب عطارد بن حاجب بن زرارة وهو كان الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الخطباء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان مع ذلك راوية ناسباً شاعراً. وكان الجارود بن أبي سبرة ويكنى أبا نوفل من أبين الناس وأحسنهم حديثاً وكان راوية علامة شاعراً مغلقاً. ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون عبد الله بن عباس ذكره حسان بن ثابت فقال: إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فضلاً كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا سموت إلى العليا بغير مشقة ... فنلت ذرها لا دنيا ولا وغلا ومن خطباء بني هاشم أيضاً داود بن علي وكان يكنى أبا سليمان. وكان أنطق الناس وأجودهم ارتجالاً واقتضاباً لقول ويقال أنه لم يتقدم في تحبير خطبة قط وله كلام كثير معروف محفوظ. ومنهم عبد الله بن الحسن. ومن خطباء بني هاشم ثم من ولد جعفر بن سليمان سليمان بن جعفر والي مكة قال المكي: سمعت مشايخنا من أهل مكة يقولون انه لم يرد عليهم أمير منذ عقلوا الكلام غلا وسليمان لبين منه قاعداًن وأخطب منه قائماً. وكان داود بن جعفر إذا خطب استحقر ومضى مسرعاً فلم يرده شيء وكان في لسانه شبيه بالرثة وكان أيوب فوق داود في الكلام والبيان ولم يكن له مقامات داود في الخطب. وكان إسماعيل بن جعفر من أدق الناس لساناً، وأحسنهم بياناً. ومن خطباء بني هاشم جعفر بن الحسين بن علي وكان أحد من ينازع زيداً في الوصية فكان الناس يجتمعون ليسمعوا مجاوبتها فقط وجماعة من ولد العباس في عصر واحد لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي، وفي الكمال والجلالة وفي العلم بقريش والدولة، ولأقدار الرفيعة، وكانوا فوق الخطباء،

وفوق أصحاب الأخبار، وكانوا يجلون من هذه الأسماء، إلا أن يصف الواصف بعضهم ببعض ذلك. منهم عبد الله بن صالح والعباس بن محمد واسحق بن عيسى واسحق بن سليمان وأيوب بن جعفر هؤلاء كانوا أعلم بقريش وبالدولة وبرجال الدعوة من المعروفين برواية الأخبار. وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي فأما بصر فكان صاحب أخبار وأحاديث وكان لا يعد، وحديث ابن الكلبي والهيثم. وأما إبراهيم فأنه كان رجلاً لا نظير له وكان خطيباً، وكان ناسباً، وكان فقيهاً، وكان نحوياً عروضياً، وحافظاً للحديث راوية للشعر شاعراً، وكان فخم الألفاظ، شريف المعاني. ومن خطباء تميم جحدب وكان خطيباً راوية ومن ولد المنذر عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن المنذر وكان فقيهاً عالماً قاضياً، وكان راوية شاعراً، وكان خطيباً ناسباً، وكان حاضر الجواب مفوهاً، وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يشبه بعامر الشعبي وكان يكنى أبا شبرمة. ومن الخطباء المشهروين في العوام والمقدمين في الخواص خالد بن صفوان الأهتمي. ومن خطباء بني ضبة حنظلة بن ضرار وقد أدرك الإسلام وطال عمره حتى أدرك وقعة الجمل ومن خطباء بني ضبة وعلمائهم مشجور ابن فيلان ابن خرشة وكان مقدماً في المنطق. ومن خطباء الخوارج قطري بن الفجاءة وله خطبة طويلة مشهورة وكلام كثير محفوظ. ومن خطباء الخوارج ابن صديقة وهو القاسم بن عبد الرحمن بن صديقة وكان صغرياً خطيباً ناسباً ويشوبه ببعض الظرف والهزل ومن علماء الخوارج شبيل بن غرزة الصنبعي صاحب الغريب وكان راوية خطيباً وشاعراً ناسباً. ومن الخطباء المذكورين روح ابن زنباع والحجاج بن يوسف. ومن خطباء الخوارج وعلمائهم عمران بن حطان ومن علمائهم حبيب بن خدرة الهلالي. ومنهم المقعطل قاضي عسكر الأزارقة أيام قطري. ومنهم عبيدة بن هلال اليشكري ومنهم الضحاك بن قيس ونمهم نصر بن فلحان. ومن الخطباء معبد بن طوق العنبري. ومن خطباء عبد القيس مصقلة بن رقبة ابن مصقلة وكرب بن رقبة. ومن الخطباء قيس بن خارجة. وكان أبو عمار الطائي خطيب مذبح كلها. ومن الخطباء أيوب القرية. ومن خطباء غطفان في الجاهلية خويلد بن عمر والعشراء بن جابر بن عقيل بن هلال بن سمي بن مازن بن فزارة وخويلد خطيب بوم ألفجار. ومن

الخطباء الوضاح بن خشيمة ومن أصحاب الأخبار والنسب والخطب والحكام عند أصحاب النفورات نبو الكوأ. ومن الخطباء القدماء كعب بن لؤي وكان يخطب العرب عامة ويحض كنانة خاصة على البر فلما مات اكبروا موته فلم نزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام ألفيل. ومن الخطباء الأنبياء العلماء الذين جروا من الخطبة على إعراق قديمة شبيب بن شبيبة قال أبو الحسن: كان أبو بكر خطيباً. وكان عمر خطيباً. وكان عثمان خطيباً. وكان علي خطيباً. وكان من الخطباء معاوية ويزيد وعبد الملك ومعاوية بن يزيد ومروان وسليمان بن الوليد ووليد بن يزيد والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. ومن خطباء بني هاشم زيد بن علي وعبد الله بن حسن وعبد الله بن معاوية خطباء لا يجارون. ومن خطباء النساك والعباد الحسن بن أبي الحسن البصري. ومطرف بن عبد الله الحرشي، ومورق العجلي، وبكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن واسع الأزدي، ويزيد بن أبان الرقاشي، ومالك بن دينار السامي. وليس الأمر كما قال في هؤلاء القاص المجيد والواعظ البليغ وذو المنطق الوجيز فأما الخطب فأنا لا نعلم أحداً يتقدم الحسن البصري فيها وهؤلاء وإن لم يسموا خطباء فأن الخطيب لم يشق غبارهم. ومن الخطباء من بني عبد الله بن غطفان أبو البلا وكان راوية ناسباً. ومنهم هاشم بن عبد الأعلى الفزاري. ومن الخطباء حفص بن معاوية الغلابي. ومن بني هلال بن عامر زرعة بن ضمرة وكان ابنه النعمان بن زرعة بن ضمرة من أخطب الناس. ومن الخطباء عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي. ومن خطباء بني تميم عمرو ابن الأهتم وكان يدعى المكحل لجماله لم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه ومن بني منقر عبد الله بن الأهتم وكان خطيباً ذا مقامات ووفادات. ومنهم صفوان بن عبد الله بن الأهتم وكان خطيباً رئيساً وابنه خالد بن صفوان. ومنهم عبد الله بن الأهتم وقد ولي خراسان ووفد على الخلفاء وخطب عند الملوك ومن ولده شبيب بن عبد الله بن الأهتم وعبد الله بن عبد الله ابن الأهتم وخاقان بن الأهتم. ومن خطبائهم محمد الأحول بن خاقان وكان أخطب بني تميم. ومن خطبائهم معمر بن خاقان. ومن مؤمل بن خاقان ومن خطبائهم خاقان بني صريم ابن الحارث الخرج بن الصدى. ومن خطباء بني تميم ثم من مقاعس عمارة بن أبي سليمان. ومن ولد مالك بن سعيد عبد الله والعباس ابنا رؤبة. وكان العباس

علامة عالماً ناسباً راوية وكان عبد الله أرجز الناس أفصحهم وكان يكنى أنا الشعثاء وهو العجاج. ومن خطباء هذيل أبو المليح الهزلي أسامة بن عمير. ومنهم أبو بكر الهزلي كان خطيباً قاصاً وعالماً بيناً وعالماً بالأخبار والآثار. ومن خطباء عمان مرة بن فهم التليد. ومن العتبك بشر بن المغبرة بن أبي صغرة ومن خطباء اليمن ثم من حمير الصباح بن ثقي الحميري كان أخطب العرب. ومنهم ثم من الأنصار قيس بن الثماس. منهم ثابت بن قيس بن الثماس خطيب النبي. ومنهم روح بن زنباع. ومن خطبائهم الأسود بن الكذاب كعب العنسي. وكان طليحة خطيباً وشاعراً وشجاعاً وكاهناً وناسباً. ومن خطباء الأنصار سعد بن الربيع. ومن القدماء في الحكمة والخطابة والرياسة عبيد بن شربة الجرهمي وأسقف نجران وأكيدر صاحب دومة الجندل وأفيعى نجران وذرب بن حوط وعليم بن مناب وعمرو بن ربيعة وهو الحي بن حارثة بن عمرو مزيقيا، وجذيمة بن مالك الأبرش. ومن القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء لقمان بن عاد لقيم بن لقمان ومجاشع بن دارم وسليط بن كعب بن يربوع سموه بذلك لسلاطة لسانه ولؤي بن غالب وقس بن ساعدة وقصي بن كلاب. ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيغي وربيعة بن حذر وهرم بن قطبة وعامر بن الظرف ولبد بن ربيعة. ومن النساك والزهاد من أهل البيان عامر بن عبد قيس وصلة بن أشيم وعثمان ابن أدهم وصفوان بن محرز والأسود بن كلثوم والربيع بن خيثم وعمرو بن عتبة بن فرقد وهرم بن حيان ومورق العجلي وبكر بن عبد الله بن الشخير الحرشي ومالك بن دينار وحبيب أبو محمد ويزيد الرقشي وصالح المزي وأبو حازم الأعرج وزياد مولى عيّاش بن أبي ربيعة وعبد الواحد بن زيد وحيان أبو الأسود ودهثم أبو العلا. ومن النساء رابعة التيسية ومعاذة العدوية امرأة صلة بن أشيم وأم الدرداء ومن نساء الخوارج البلحاء وغزالة وقطام وحمادة وكحيلة ومن نساء الغالية ليلى الناعطية والصدوق وهند. وأبو الوليد الحكم الكندي ومحمد بن محمد الحمراني وكلاب وكليب وهاشم الأوقص وأبو هاشم الصوفي وصالح بن عبد الجليل والخطفي وهو جد جرير بن عطية بن الخطفي وهو حذيفة بن بدر بن سلمة.

ومن القصاص أبو بكر الهزلي وهو عبد الله بن أبي سليمان كان خطيباً بيناً صاحب أخبار وآثار وقص ابنه مطرف بن عبد الله بن الشخير في مكان أبيه. ومن كبار القصاص ثم من هذيل مسلم بن جندب وعبد الله بن عرادة بن عبد الله بن الوضين. ومن القصاص موسى بن الأسواري وكان من أعاجيب الدنيا كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور به فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية ثم يحول وجهه إلى ألفرس فيفسرها لهم بالفارسية فلا يدري بأي لسان هو أبين واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منها الضيم على صاحبتها إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الأسواري. قال أبو عثمان: وشأن عبد القيس عجب وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين فرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب ولم يكونا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن معدن ألفصاحة وهذا عجب ومن خطبائهم المشهورين صعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان وشيخان بن صوحان ومنهم صحار بن عياش وصحار من شيعة عثمان وصوحان من شيعة علي ومنهم مصقلة بن رقبة ورقبة بن مصقلة وكرب بن رقبة. نقل ابن النديم من خط ابن مقلة أسماء الخطباء فإذا هم: أمر المؤمنين علي عليه السلام طلحة بن عبيد الله، خالد واسماعيل ابنا عبد الله القسري، عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، جرير بن يزيد بن خالد، يزيد بن عبد الله بن خالد، خالد بن صفوان، عبد الله بن الأهتم، صعصعة بن صوحان، بن القرية، محمد بن قيس الخطيب، زياد بن أبي سفيان، قطري بن الفجاءة، الوليد بن يزيد، أبو جعفر المنصور، المأمون، شبيب بن شبيبة، العباس بن الحسن العلوي، محمد بن خالد بن عبد الله القسري وعبد الله ابنه، شعبة بن عقال. (11) من خطب البلغاء قال أبو جعفر النحاس: أن حفظ خطب البلغاء والتفنن في أساليب الخطباء من آكد ما يحتاج إليه الكاتب وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة ومجامع الخطب بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء الأمراء على منابرهم بها يتميز الكلام وبها يخاطب الخاص والعام وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة وعلى طريق الخطباء

مشت الكتّاب. قال أبو الهلال العسكري: الرسائل والخطب متشاكلتان في أهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية وقد يتشاكلتان أيضاً من جهة الألفاظ والفواصل فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة لها. وعلى هذا رأينا أن ننقل هنا نموذجاً من خطب الرسول وأصحابه وبلغاء الخطباء جاهليةً وإسلاماً ونحن نوصي القارئ أن لا يغفل خصوصاً عن خطب علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فأن نهج البلاغة أكبر نهج للخطيب والكاتب يستقيان منه مادة عقل وعلم وأدب وبلاغة وسياسة وإدارة ونحن نضمن لما كان له طبع شفاف إذا استظهر نهج البلاغة وتفطن لما فيه من النكات العلمية معتمداً مثلاً على شرح أبي الحديد المطول وتمرن في أساليب الخطابة على مناحي البلغاء والعرب المستعربة والعاربة والعرباء يوشك أن يكون من لغة هذا الشأن في هذا العصر أيضاً فإن كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه لا تبلى ديباجته وجدته، وكلما كرر حلاً، ومهما تأملته علا، ففي كلامه عبقة من النور الآلهي، ونفحة من الروح النبوي، ولو لم يكن للسان العرب غير خطب الخليفة الرابع، لكان كافياً في شرفه وبيانه، أن يجر على لغات الشرق والغرب ذيول ألفخر والمباهاة. خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم أني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد علمي هذا في موقفي هذا. أيها الناس أن دمائكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت أللهم أشهد فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وأن ربا الجاهلية موضوع وأن أول ربا بدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وأن دماء الجاهلية موضوعة وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب. وأن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية.

والعمدقود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس أن الشيطان قد يش أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس أنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحقرونه عاماً ليواطنوا عدة ما حرم الله. وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وأن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله الموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت أللهم أشهد. أيها الناس أن لنسائكم عليكم حقاً وأن لكم عليهن حقاً لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرّح فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالعمروف وأنما النساء عندكم عون لا يملكن لأنفسهم شيئاً أخذ تموهن بأمانة الله وأستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في الناس واستوصوا بهن خيراً ألا هل بلغت ألله أشهد. أيها الناس إنما المؤمنين أخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ألا هل بلغت أللهم أشهد فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فأني قد تركت فيكم ما أن أخذتم به لم تضلوا بعده كتاب الله وأهل بيتي ألا هل بلغت أللهم أشهد. أيها الناس أن ربكم واحد وأن أباكم واحد كلكم لآدم آدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب أيها الناس أن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث والولد للفراش وللعاهر الحجر من دعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فغليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نموذج من خطبة الوفود لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفدت وفود العرب على حضرته الشريفة فقدم وفد بني تميم في جملة من وفد مع حاجب بن زرارة بن عدس وفيهم الأقرع بن حابس

والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم والحتات ومعتمر بن زيد في وفد عظيم ومعهم عييتة بن حصن الفزاري فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج إلينا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج إليهم فقالوا جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا فأذن لهم فقام عطارد فقال: الحمد لله الذي له علينا ألفضل الذي جعلنا ملوكاً ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عدداً فمن يفاخرنا فليعدد مثل عددنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: أجب الرجل فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي له السموات والأرض خلقة قضى فيهن بما أمره ووسع كرسيه عليه ولم يكن شيء قط إلا من فضله ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً واصطفى من خير خلقه رسولاً أكرمهم نسباً وأصدقهم حديثاً وأفضلهم حسباً فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله تعالى من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه أكرم الناس نسباً وأحسن الناس وجوهاً وخير الناس فعالاً ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعاه نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ومن كفر جاهدناه في الله أبداً وكان قتله علينا يسيراً والسلام عليكم. فقالوا يا رسول الله ائذن لشاعرنا فأذن له فقام الزبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العرب يتبع ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم ي} نس القرع نما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هوياً ثم نصطنع فننحر الكوم غبطاً في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا استقادوا وكان الرأس ينقطع إنا أبينا ولم يأب لنا أحد ... إنا كذلك عند ألفخر نرتفع فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا ... فيرجع القول والأخبار تستمع قال وكان حسان بن ثابت غائبا فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجيب شاعرهم قال حسان فلما سمعت قوله قلت على نحوه

إن الذوائب من فخر وأخونهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا التفع في أشياعهم نفعوا يرضى بها كل من كانت سريرتهم ... تقوى الإله وكل البر يصطنع سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لا دنى سبقهم تبع لايرقع الناس ماأوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون مارقعوا إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا أعفة ذكرت في الحي عقتهم ... لا يطمعون ولا يزري بهم طمع لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الزرع كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو سمعوا فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس إن هذا الرجل لأوتي له خطيبهم أخطب من خطيبنا وشاعرهم أشعر من شاعرنا ثم أسلموا وأجارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أنزل الله تعالى إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون - انتهى عن الكامل لابن الأثير قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد اختلف الأنصار والمهاجرون في يوم السقيفة: (إن الله قد بعث فينا رسولا شهيدا على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دون الله آلهة شتى من حجر وخشب عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم وتكذيبهم إياه وكل الناس لهم مخالف زار عليهم فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم فهم أول من عبد الله في هزه الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أوليائه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لاينازعهم إلا ظالم وأنتم يامعشر الأنصار من لاينكر فضلهم في الدين ولاسابقتهم في الإسلام رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله وجعل غليكم هجرته فليس بعد

الأولين المهاجرين عندنا بمنزلتكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء لاتفاتون بمشورة ولاتقضى دونك الأمور). فرد عليه حباب بن المنذر قائلاً: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترى على خلافهم ولا يصدروا إلا عن رأيكم أنتم أهل العز وأولوا العدد والمنعة وذو البأس وإنما ما تصنعون ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير. فأجابه عمر رضي الله عنه قائلاً: هيهات لا يجتمع اثنان والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ولنا بذلك الحجة الظاهرة من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته. فأجابه حباب قائلاً: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبو عليكم فاجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فأنه بآسيافكم وأن الناس لهذا أدين أنا جذيلها المحك وعذيقها المرحب أنا أبو شبل في عرينة الأسد والله لئن شئتم لنعيدها جذعة. وقال أبو بكر في هذا الموقف أيضاً من رواية أخرى: يا معشر الأنصار لو شئتم أن تقولوا أنا آويناكم في ظلالنا وشاطرناكم في أموالنا لقلتم فنحن وأنتم كما قال طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفراً حين ازلفت ... بنا نعلنا في الواطنين فزلت أبوا أن يملوها ولو أن أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا مللت هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت ادفأت وأظلت يا معشر الأنصار أن العرب لا تدين لهذا الحي من قريش فلا تنفسوا على أخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله. إلى آخر ما ورد في هذا المقام على اختلاف الروايات فيه عند المؤرخين وكذلك ينسى الإسلام للخطابة صنيعها يوم اليرموك إذ خرج المسلمون متساندين فخطبهم خالد بن الوليد رضي الله عنه قائلاً: هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه ألفخر والبغي اخلصوا جهادكم وأرضوا الله بعملكم فإن هذا يوم له ما بعده ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم

متساندون. فأمروه عليهم ونبذوا التساند ظهراً فأنزل الله عليهم نصره وأيديهم بروح منه وهو ولي المؤمنين. من خطب أكثم بن صيفي بني تميم: يا بني تميم لا يفوتكم وعظي أن فاتكم الدهر بنفسي أن بين حيزومي وصدري لكلاماً لا أجد له مواقع إلا سماعكم ولا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بإسماع مصغية وقلب واعية تحمدوا مغبته الهوى يقظان والعقل راقد والشهوات مطلقة والحزم معقول والنفس مهملة والرؤية مقيدة ولم يعدم المشار مرشداً والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل ومن سمّع سمع به ومصارع الرجال تحت بروق الطمع من سلك الجد أمن العثار ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ولا نجاوز مضرته نفسه يا بني تميم الصبر على جرح الحلم أعذب من جنى ثمر الندامة ومن جعل عرضه دون مال استهدف للذم وكلم اللسان أنكى من كلم البيان والكلمة مرهونة ما لم تخرج من ألفم فإذا نجمت فهي أسد محرب أو نار تلهب ورأي الناصح دليل لا يجوز ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إلى الإسلام أرسل أكثم ابنه حبشياً فأتاه بجبره فجمع بني تميم وقال: يا بني تميم لا تحضروني سفيهاً فإن من يسمع يخل أن السفيه يوهن من فوقه ويثبت من دمنه لا خير فيمن لا عقل له كبرت سني ودخلتني زلة فإذا رأيتم مني حسناَ فأقبله وأن رأيتم مني غير ذلك فقوموني استقم أن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتاني بخبره وكتابه يأمر فيه المعروف وينهى عن المنكر ويأخذ بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله تعالى وخلع الأوثان وترك الحلف بالنيران وقد عرف ذو الرأي منكم أن ألفضل فيما يدعو إليه وأن الرأي ترك ما ينهى عنه أن أحق الناس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم فأن يكن الذي يدعو إليه حقاً فهو لكم دون الناس وأن يكن باطلاً كنتم أحق الناس بالكف عنه والستر عليه وقد كان أسقف نجران يحدث بصفته وسفيان بن مجاشع يحدث به قبله وسمّى ابنه محمداَ في أمره أولاً ولا تكونوا آخراً ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين أن الذي يدعو أليه محمد لو لم يكن ديناً لكان في أخلاق الناس حسناً أطيعوني وأتبعوا أمري اسأل لكم أشياء لا تنزع عنكم أبداً وأصبحتم أعز شيء في العرب وأكثرهم عدداً فأني أرى أمراً لا

يجتنبه عزيز إلا زل ولا يلزمه ذليل إلا عز أن الأول لم يدع للآخر شيئاً وهذا أمر له ما بعده. فقال مالك بن نويرة قد خرف شيخكم فقال أكثم ويل للشبحي من الخلي ولهفي على أمر لم أشهده ولم يسبقني. ومن أمثاله السائرة ما قاله في وصيته لبنيه تباروا فإن البر يبقي عليه العدد، وكفوا ألسنتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه، أن أقول الحق لم يدع لي صديقاً، الصدق مناجاة، لا ينفع الوقي مما هو واقع، وفي طلب المعالي يكون العناء، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه، التقدم قبل التندم، اصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح ذنبه، لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أمر من جاهله، يتشابه الأمر إذا أقبل وإذا أدبر عرفه الكنيس والأحمق، البطر عند الخاء حمق والعجز عند البلاء أفن. ومنها: تباعدوا في اليار تغاربوا في المودة، لا تغضبوا من اليسير فأنه يجني الكثير، لا تجيبوا قيما لم تسألوا عنه، ولا تضحكوا مما لا يضحك منه، نعم لهو الحرة المتزل، حيلة من لا حيلة له الصبر، المكثار كحاطب ليل، من أكثر أسقط، لا تجعلوا سراً إلى أمة. ومن هذا النوع خطبته أمام كسرى وهي: أن أفضل الأشاء أعاليها وأعلى الرجال ملوكها وأفضل الملوك أعمها نفعاً وخير الأزمة أخصبها وأفضل الخطباء أصدقها والصدق منجاة والكذب مهواة والشر لجاجة والحزم مركب صعب والعجز مركب وطيء الرأي الهوى والعجز مفتاح ألفقر، وخير الأمور الصبر حسن الظن، ورطة وسوء الظن عصمة، اصلاح فساد الرعية خير من اصلاح فساد الراعي، من فسدت بطالته كان كالغاص بالماء شر البلاد بلاد لا أمير بها، شر الملوك من خافة البريء، المرء يعجز لا المحالة أفضل الأولاد البررة خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة، أحق الجنود بالنصر من حسنت سيرته، يكفيك من الزاد ما بلغلك المحل، حسبك من سماعه الصمت حكم، وقليل فاعله البلاغة الإيجاز من شدّد نفّر ومن تراخى تألف. خطبة لقس بن ساعدة الأيادي أسف نجران: لما قدم وفد أياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة الأيادي قالوا كلنا نعرفه قال فما فعل قالوا هلك قال يرحم الله قساً أني لأرجو أن يأتي يوم القيامة أمة وحده أني لا أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام على جمل له أحمر وهو

يخطب الناس ويقول: اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكا ما هو آت آت أن في السماء لخبراً وأن في الأرض لعبراً، سماء تمور ونجوم تغور في فلك يدور ويقسم قس قسماً أن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون ارضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا. أيكم بروي من شعره. فأنشد بعضهم: في الذاهبين الأولين ... من القروين لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر لا يرجع الماضي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر أيقنت أني لا محا - لة حيث صار القوم صائر وكان قس يفد على قيسر ويزوره في قصره فسأله يوماً ما أفضل العقل قال: معرفة المرء نفسه قال: فما أفضل العلم قال: وقوف المرء عند علمه قال: فما أفضل الموءة قال: استبقاء الرجل ماء وجهه قال: فما أفضل المال قال: ما قضي به الحقوق. ومن خطبه في إياد قوله: تباً لأرباب الغفلة والأمم الخالية والقرون الماضية يا معشر إياد أين الآباء والأجداد وأين المريض والعواد وأين ألفراعنة الشداد وأين من بني رشيد وزخرف ونجد وأين المال والولد، أين من بغى وطفى وجمع فأوعى وقال: أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول آجالاً طحنهم الدهر بكلكله ومزقهم بطوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله المعبود ليس بوالد ولا مولود.

الشعر المنثور

الشعر المنثور وداع غوطة دمشق وداعاً غوطة ألفيحاء، مجلى الطبيعة ومغنى النس، وروضة الطيبات، ومهبط التجليات، سلام زكي كتربتك المسكية، جميل جمال بيطك السندسية، عطر كأنوار أدواحك الجنبة، وتحية طيبة تتساقط على عمرانك تساقط الوابل والطل على جناتك الغبياء وجراحك الغلباء، وأشجارك الملياء، وغلاتك الكثيرة الأتاء. سلام عليك يا مستقر النعماء، وقرارة الهناء والرخاء، وخير خلوة يفزع إلى أرجائها الناسكون والعالمون، ويتقلب في أجوائها عشاق الطرب وأرباب المجون فيك تتجسم عظمو خالق السموات إذا بالغ في الأفضال على الأرضين، وتبدو قمة الخلق إذا صحت عزائمهم أن يكونوا عالمين لا خاملين، فليس في الأقاليم ما يفوتك باعتدال المواسم وانترار المباسم، وتلون المظاهر، وتنوع الثمرات والأزاهر، وتلي الجداول والأنهار، وتجلي الطبيعة في العثايا والأسحار. سلام على وادي دمشق إنه آية الحسن والإحسان، فيه تتجدد الحياة كل حين لأنه بمنزلة الربيع من الزمان، ويحلو العيش في ظل أفيائه على سذاجته مهما كان مراً وتطمئن النفس إلى التنقل في رباعه برداً كان أو حراً، إيه غوطة جلق لم يؤثر عنك أن أمسكت خيراتك عاماً عن أبنائك فلا تفتأين على الدهر تخرجين لساكنيك أفلاذ أكبادك على تعاقب الأمم والدول، وتصدقين الود لكل من يطلب قربك فيعيش معك في رخاء وصفاء. سلام على سكونك في الليالي الظلماء والقماء، ربيعاً كان أو صيفاً أو خريفاً أو شتاءً، وهنيئاً مريئاً لمن يستمتعون بالنظر إليك من الصباح إلى المساء، ويتعهدونك بالحرث والكرث والتقليم والتنقية والزرع والأرواء، سواء عندهم حمارة القيظ وصبارة القر وظلمة الليل وشمس النهار، سلام غليهم أنهم مثال النشاط في المزارعين، لا يضنون على أرضهم بأوقاتهم وأتعابهم وهي تجردهم ضروب الخير والمير كلما جودوا زراعتها، وتزيدهم بركات على بركات كلما رعوها فأحسنوا رعايتها، وهم مهما صهرت جسومهم حراتها، وصفرت سحناتهم رطوبتها، بيض الوجوه شم الأنوف، لأن رزقهم مناط أيديهم العاملة، لا يعتمدون في تحصيل قوتهم، على غير قوّتهم، ولا يتكلون إلا على من ينزل الغيث ويمع

الزرع، ويدر الضرع، ولو حسن فيها نزع ألفضول من العقول، وأنيرت بأنوار علوم المدينة على الأصول، فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول، وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول، لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة، ولصلح عليها قول من قال طوبى لمن كان له في أرضها مربط شاة. سلام غوطة دمشق كلما غردت اطيارك فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام، وهديل العندليب والهزاز وتغريد العصفور والشحرور، كيف لا تستهوين النفس وتعيق الغربان ونقيق الضفادع إذا رددهما الصدى في لياليك يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منها في الكور الأخرى، كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان، وخوار البقر وجؤار الثيران. فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع، وبديعة الصنع، وعريقة المجد، ونبيلة الجد والجد، وزكية العرق ن وهنية الزرق، وطيبة النجار، والمحسنة للأهل والجار، ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة، وبقليلك - وإن كان قليلك لا يقال له قليل، يغطبط الإنسان، ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان، وبتطلع الزهرة ربة الجمال من منافذ أفقك توحي إلى الخيال روحاً من عندها فتفيض القرائح وترق العواطف، وفي منبسط صعيدك الطيب يسلو الخاطر همومه وتطرب الحواس، من دون ما كاس ولا نغمة أوتار وأجراس. وفي هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الآلهي في تقسيم الأرزاق فلا فقر مدقح ولا غنى مفرط، ويعيش القائمون على تعهده عيشاً متشابهاً ألا قليلاً ن يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم، فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم، ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم، فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء، وضاعف لها حظها من الجمال والإعتدال، وأجزل لها عناصرها الحيوية فزادها كرماً لجديدين نماء إلى نماء. وداع الشام عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها ... أجوب في آفاقها وأسيرها فلم أر مثل الشام دلر إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها مصحة أبدان ونزهة أعين ... ولهو نفوس دائم سرورها

مقدسة جاد الربيع بلادها ... ففي كل أرض روضة وغديرها هذا ما وصف به البحتري القطر الشامي منذ نحو ألف سنة وهو يصدق عليه اليوم وإلى ما بعد اليوم فقد منح الفاطر تعالى هذا القطر من ضروب الجمال والاعتدال ما هو قرة العيون وبهجة النفوس فقضى أن تأخذ فيه ألفصول الأربعة حكمها وأن تتم في قيعانه وجباله وأسباب النعيم في الحياة: أهويته معتدلة، وأمطاره وثلوجه متهاطلة، وتربته مخصبه، وغاباته ومعادنه ليست بقليلة، وأنهاره جارية، وبحيراته غريبة وأجواؤه بهجه، ورباعه منبسطة. تعشق الشام لأنها رأت طلعة موسى وعيسى وأحمد صلوات الله عليهم من النبين وأمثال الإسكندر وابن الخطاب وابن الوليد ونور الدين وصلاح الدين وسليم وابراهيم ونابليون من ألفاتحين وعمر بن عبد العزيز والمأمون من الخلفاء العادلين فقل في الممالك كما قال كورتيوس المؤرخ الألماني ما اندمج فيه الكثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه. يضم الشام بين جوانحه معظم المعتقدات والمذاهب ولذلك كثر بالأمس الطامعون به فكان من حسنات هذه الحرب أن قضي على مطامعهم آخر الدهر إن شاء الله وعرف من لم يكن يعرف أن الجامعة العثمانية أشرف الجامعات وأقواها وأن التفكر في غيرها مثلبة مهلكة. وداعاً بلاد الشام فقد اخذت بمجامع القلوب بخصائصك الطبيعية فكل تعب يهون في خدمتك وكل مفاداة يستهان بها في سبيل مرضاتك فأرضك معشوقة الأنفس، وتربتك عليها درجنا وفيها ندرج ولن نتخذ عنك بديلاً مهما تحملنا من المشاق وما عناؤنا إلا ابتغاء المبالغة في العناية بأمرك. سلام عليك بلاد الشام معدن الخيرات والبركات مهوى الهوى ومغاني الخردالعين سلام على مناظر حرمون وصنين والصبر وقاسين ويوشع والأرز والهرمل والكمل، سلام على أغوارك وأنجادك وعلى بحيراتك وأنهارك، سلام على الأردن واليرموك والعاصي والفرات وبردى والساجور والليطاني والزرقاء والعوجاء والأعوج والأولي وقاديشا والموجب وغيرها من أنهارك وجداولك التي تفيض البركات على أبنائك. سلام على جبال الشراة والخليل وعامل وسئير وحوران وعجلون وحرمون ولبنان وعكار واللكام وأنطاكية والقصير وريحا، سلام على سهول حوران والجولان والجيدور والغوطة

والبقاع والبقيعة وحمص ومرج ابن عامر وشارون والبلقاء، سلام على آثارك وعادياتك قديمها وحديثها، ولا سيما جرشك وبتراؤك وبعلبكك وتدمرك. أحبت القلوب هذا القطر السعيد لأنه حوى على ضيق مضطربه ما لا تحويه الأقطار بل القارات من الحسنات وفيه من الغرائب الطبيعية والصناعية ما دعا الأمم إلى شد الرجال إليه والحج إلى مزاراته وزيارة مصانعه ومعاهده. يعرف ذلك كل من فارقه مدة وقابل بينه وبين غيره في عمرانه وطبيعته. إيه سورية مجموعة غرائب العالم تستودعك قلوبنا فإن بك حيث كنا قد شغلت عقولنا أننا نودعك على أمل اللقاء القريب ونحن نحمل إليك من أنباء جاراتك التي يظلها علم الهلال المنصور ما ينفس الكربة ويزيل الغمة ويفيض النعمة بحول الله ولا قوة إلا به. في شبه جزيرة كليبولي إلى هذه البقعة الطيبة بمناظرها وغاباتها وسهولها وجالها يهوي اليوم ويحق له أن يهوي فؤاد كل عثماني يحب هذا الوطن المحبوب ويتفانى في التيرك بتربته ويخاف عليها من عوادي المعتدين ويكره لها ظل المستعمرين من الغربين. جزيرة مستطيلة كهذه يبلغ عرضها فيما أذكر من ستة كيلوا مترات إلى ثلاثين وطولها 85 كيلوا متراً تتقاذفها القنابل والقذائف والمدمرات والمتفجرات وطيارات السماء ودوارع الماء منذ زهاء سبعة أشهر وهي لا تزال صابرة على الأذى باسمة الوجه للقاء العدى. في هذه الشبه الجزيرة تجلى العقل العثماني وتمّ آخر ما وصلت إليه مدارك أبناء هذا الوطن قي استكمال أسباب الدفاع والأخذ بحظ أوفر من أساليب الكر والفر والتعبئة والمصاف ولولا هذه العناية والإستهانة بكل عزيز في سبيل الذود عن حمى هذه الشبه الجزيرة لتبدلت وجة الحرب الأوربية ولنلنا من الإضطهاد ما لا يخطر لناعلى بال. هذه الأرض المحاطة بالبحر من أكثر أطرافها عرفت دول الإتفاق المربع ولا سيما انكلترا وفرنسا منهن أن هناك قرة أسمر من قوة البشر وهي القوة الآلهية التي استبد إليها العثمانيون قبل كل شيء ودونها قوى الأساطيل والغواصات والطيارات والمقذوفات والمفرقعات يضاف إليها يقين مازج الأفئدة والأرواح من الإنتصار وكراهة ليس بعدها غاية لحكم الأجنبي والتشبع بعاني الوطنية والجنسية. وقفت على جبهات الحرب في مواقع

أري بروني وأنافورطة وجناق قلعه وأشرفت على أنحاء سد البحروهي المواقع الأربعة التي دار ويدور عليها القتال واشتد فيها الطعن والنزال فعظم في عيني غناء جيشنا وفاخرت نفسي بقواتنا وضباطنا وجندنا وأيقنت أننا إذا ضمنا شملنا في كل نازلة وكل شأن وتذرعنا بعامة الأسباب التي يتذرع بها البشر المدن نضاهي أعظم الدول منعة ومضاء وها قد قضينا باعتصامنا بحبل الله على مطامع الطامعين من الإنكليز والفرنسين وهم ما هم بقواهم البرية والبحرية. سبعة أشهر مضت على دفاع جناق قلعه والعدو يمخر العباب بدوارعه وطراداته ورعاداته ومدمراته ويخرج إلى البر الكتائب اثر الكتائب ويستجلب السلاح ويتذرع بأقصى ما وصل إليه طرق الإنسان من التفنن في إرهاق الخصم واقتحام السبل فلم يستطع التقدم شبراً عن المكان الذي نزله أول يوي ولا يزال جيشه تحت حماية أساطيله لا ذرى له ولا أكمات وجيشنا يطل عليه اطلالاً يذيقه كل يوم مرارة الهزائم وألواناً وأشكالاً ويفحش القتل في رجاله حتى قدر الهالك منه بنحو مئة ألف فقدها وفقد معها جانباً من أسطوله وأنفق مئات الملايين من الدنانير وهو في مكانه لم ينل ولن ينال بحول الله ما تطمع به نفسه من استباحة حمانا. هذا المضيق هو في الحقيقة مفتاح دار الخلافة وكان المتفقون على مثل اليقين بأن عملهم سهل يحتاج إلى بضعة أسابيع ولكن خيب المولى ظنونهم ونعى عليهم اعتدالهم بقوتهم وألقى عليهم أمثولة مما ينال الظلمة من سوء المغبة وأن التمويه للعبث بعقول الناس لحكمهم كما تحكم البهائم إن جاز يوماً فلا يجوز على الأمم في آخر وأن الله لا يضيع عمل عامل. إن دفاعنا عن حمانا في جناق قلعه قطع آخر عرق من الآمال للمتفقين وقضى على مطامعهم فينا أند الدهر إن شاء الله ومن رأى ما رأيناه هنا من أبداعنا في طرق القتال وشاهد استعدادنا في حصولنا وطرقنا وسلاحنا ومدافعنا ونظام جيشنا وما ينبغي له من المؤنة والذخيرة والتمريض يجهر بصوته قائلاً هذا عمل لا يتهيأ إلا لأمة تحب أن تبقى ولا يتيسر إلا لمن كتبت له السعادة. غابات شبه جزيرة كليبولي ونجادها ورهادها وسواحلها وسهولها لقد طلت في ربوعك دماء

زكية من دماء العثمانيين ولكنها ستبقى على جبين الأيام مسكية الأريج عطرة الثناء تنم عن معرفة من استشهدوا في سبيل ألفرض الوطني وذاقوا معنى الوطن والوطنية. إن الدم الطاهر الذي أريق على تربتك جعل لها ريحاً من ريح الجنة وسيكون لمن فادوا بها من الذكر الجميل ما كان لأبطال المسلين في وقائع الصليبين وشعار ذلك: هذا عمل أفراد قتلوا ليحيوا أمة وفادوا بنفوسهم في سبيل الله ليحموا ذمار الخلافة المعظمة ويربأوا بهذا الوطن عن أن يستباح حماه ويحافظوا بأرواحهم على آخر دولة إسلامية مستقلة جمعت شمل الإسلام والمسلمين وحمت حمى الحرمين الشريفين. كلما هبت الصبا والشمال على أرجاء شبه جزيرة كليبولي وطلعت عليها الشمس وغربت وأقمرت السماء وأمطرت وأثلجت وأرعدت وأبرقت يردد لسان الحال فيها هذه ثمرة التضامن بين أعضاء البيت الواحد. هنا قضى العربي والتركي واللازي وغيرهم لإعلاء كلمة الحق واتقاء عادية الدخيل الثقيل. هنا نظم العثمانيون أرقى جيش انتظم لهم منذ عهد ألفاتح وسليم وسليمان وتشبع أهله بروح الوطنية وغنم غزاتهم أحياءً وأمواتاً سعادة الدارين. أرض شبه جزيرة كليبولي ستبقين مقدسة في نظر كل عثماني خاصة وكل مسلم عامة كما قدس الله الأرض المقدسة وستذكرك الأجيال عقيب الأجيال والدهور إثر الدهور بالإعظام والاحترام كما تذكر هذه الحرب العامة بالهول والاستغراب. أنت كذبت البشر في ادعائهم أن كل محصور مأخوذ وأكدت لهم عكس القضية في أن كل محصور محفوظ فسلام عليك محاربة ومسالمة. وألف ألف رحمة ورضى على عظام شهداء ضمتها تربتك الطيبة ومروجك السندسية وتلعاتك الزمردية.

بلاد العرب

بلاد العرب البلاد العربية على التحقيق هي كل شبه الجزيرة التي يحيط بها ألفرات وخليج فارس وخليج عمان شمالاً وشرقاً وجبال وروس والبحر المتوسط والبحر الأحمر شمالاً وغرباً والبحر الهندي فيما سوى ذلك بل ينبغي أن يضاف إليها معظم البلاد الواقعة بين نهري ألفرات ودجلة من عرض ماردين وديار بكر شمالاً إلى القرنة جنوباً فإن كل هذه البقعة كانت من أول فجر التاريخ إلى هذه الغاية يسكنها أقوام من الجنس السامي هم أقرب ما يكون إلى العرب والعادية العدنانية في أخلاقهم وعوايدهم ولغتهم فضلاً عن بنيتهم الجسمانية. وتشير التقاليد العربية على ما ذكر أشهر المؤرخين إلى أن العاديين في أقدم دولهم التي نزلت الأحقاف وحضرموت وبعدهم تمود هاجروا إلى الجنوب من العراق وما يجاوره. والآثار دلت دلالة لا يختلف فيها أحد من العلماء الباحثين في العصر الحاضر على أن حمورابي الشهير كان عربياً والمتحقق أيضاً أن لغة بابل القديمة ولغة الآشوريين الذين شادوا فيما بين النهرين دولة من أعظم الدول القديمة كانت لغتهم عربية أو أقرب ما يكون إلى اللغة العربية العادية أو العدنانية المضرية. وإشباع البحث الآن في هذا الموضوع خارج عن مقصدنا وربما عدنا إليه في مقالة على حدة. موضوع مقالتي الحاضرة هو بلاد العرب الأصلية الواقعة جنوبي خط موهوم يمتد من رأس خليج السويس إلى رأس خليج العجم بين البحر الأحمر غرباً والبحر الهندي جنوباً وشرقاً وخليج عمان وخليج فارس شرقاً وشمالاً. وحدودها واضحة كل الوضوح ليس في بلدان الدنيا ما هو أوضح منها إلا في جهتها الشمالية حيث يحدها الخط الموهوم كما أشرنا. مساحة هذه البلاد مساحة هذه البلاد بين مليون ومليون ومئتي ألف من الأميال المريعة ثلثها رمال دهناوية ونفودية (نسبة إلى دهناء ونفود) ومعظم هذه الرمال في الدهناء الكبيرة المعروفة بالربع الخالي بين اليمن وحضرموت وعمان وبلاد نجران إلى ما يصاقب قلعة بيشة غرباً وجنوباً وشرقاً وجنوبي شبه جزيرة قطر مما يلي عمان إلى واحة يبرين إلى الدواسر شمالاً ثم النفوذ الشمالي الكبير الذي يفصل بين صحراء سوريا شمالاً وبلاد شمر خيبر ومدائن

صالح جنوباً. وهناك رمال أخرى تفصل بين الحسا وهي كل البلاد الواقعة على الخليج ألفارسي من فاو تقريباً إلى شبه جزيرة قطر وبين نجد ثم الرمال التي تفصل شمر ونجداً عن العراق من مشد علي شمالاً إلى فاو جنوباً وهذا الثلث من الأرضين لا عمارة فيه أصلاً إنما ينزله الأعراب أو ينزلون أطرافه في الشتاء والربيع لرعاية أنعامهم وفي بعض هذا اثلث أحسن المراعي العربية في الزمن الذي أشرنا إليه. والثلث الثاني صحار وحزون هي مراع للسائمة من الإبل والشاه وليس فيها عمران حضري إلا ما ندر حيث ثم بعض أعداد المياه. وأعداد المياه جمع عد وهو الماء الجاري لا ينقطع والقديم من الركايا. وأما الثلث الثالث فأرض زرع وضرع لا ينفص في خصبه عن أخصب الأرضين في العراق وضفاف النيل في مصر والصعيد وفي هذا الثلث أغلب اليمن ومتصرفية عسير وقسم كبير من عمان ومعطم أودية حضرموت ونجد ولا سيما الفلج وأعراض اليمامة وواحات الحسا. عدد السكان يختلف الكتاب في تقدير عدد سكان هذه البلاد وحقهم أن يختلفوا لاتساع مساحتها وانفصال بعض أقسامها عن بعض وصعوبة الوصول إلى كل قسم من أقسامها أياً كان أما للحوائل الطبيعية أو لتنكر أهلها من غريب عنهم يجوس خلال ديارهم والذي رأيناه في مطالعتنا كلها لكتاب من الإنكليز. وهؤلاء لا يؤتمنون على الحقيقة في كل ما يتعلق بالبلاد العثمانية فإنهم منذ زمن بعيد لا يرون ولا يكتبون إلا ما يوافق سياستهم ومقاصدهم الخصوصية الخفية حتى في أمر كالذي نحن في صدده أي عدد السكان فأنهم يزيدون فيه أو ينقصون على ما يكون أمام غايتهم وقد رأيت لكاتب ورحالة منهم مشهور يعرف باسم كين مؤلفاً جغرافياً في مجلدين وفيه ما يقضي بالعجب فإنه يذكر في موضع من كتابه أن سكان هذه البلاد لا يزيدون عن خمسة ملايين في الأكثر ثم يذكر في موضع آخر أنهم يبلغون اثني عشر مليوناً وبين العددين تفاوت كبير. ولا أتصدى الآن لبيان الداعي الذي دعاه لذكر هذين العددين المختلفين اختلافاً بيناً من غير أن يظهر في كتابته أو في إشارة إلى أنه فطن

إلى ما بينهما من التفاوت العظيم ولكبي أذكر ما ذكره عن المستر ولفرد بلنط الكاتب والسياسي الإيرلندي المشهور وهذا الرجل زار حائلاً مدينة ابن الرشيد وعاصمة بلاد شمر فقال كين عنه أنه (أي بلنط) تحقق أن موقع حائل بالنسبة إلى جبل أجا هو غير ما ذكره الجغرافيون وأهل العلم بتخطيط البلدان ومع علمه هذا لم يصلح الخطأ مخافة أن يقتنع العثمانيون من إصلاحه فيما إذا عرضت واقعة مهمة في المستقبل تقتضي معرفة موقعها الحقيقي. والظاهر من كتابته أنه لم ينكر عن بلنط ولا رأى فيما أتاه من إخفاء هذه الحقيقة لهذا الغرض ما يؤاخذ عليه. وأقوام هذه حالتهم وهكذا مقاصدهم ومتجه أفكارهم لا نلام فيما إذا كنا نشك في كل ما كتبوه ويكتبونه عن الحكومة العثمانية والبلاد العثمانية حتى عن عدد الأجناس المختلفة فيها ولا أظن أن كين يختلف عن بلنط من هذا القبيل فإنهما انكليزيان وكل انكليزي من غير طبقة الغوغاء يسابق صاحبه في خدمة مقاصد دولته وترويج سياسة الحكومة العليا في الخارج يكاد يفعل ذلك سليقة وبالبديهة وقائدهم في ذلك صحافتهم الداهية الخلابة والصخابة عند الإقتضاء. والذي أرجحه في عدد سكان العربية أنهم يزيدون عن الإثني عشر مليوناً ف ن عمان بلاد واسعة خصبة جيدة الهواء قليلة الوبالة وأهلها يحسنون الزراعة ويشدون شيئاً من الصناعة الخاصة بهم والرائجة عندهم وفوق ذلك هم أهل تجارة واستعمار وفد كان معظم شرقي افريقية لهم بل امتددت سلطتهم وتجارتهم إلى قلب الكنغو وأواسط جنوبي إفريقية وما زالت كل بلاد زنجبار لهم إلى أن خالطوا البريطانين فعمل هؤلاء على التخفيف عنهم من ثقل مسؤوليتهم في افريقية ففصلوا هذه أولاً عن مركز السلطة في عمان ثم ما زالوا يخففون من مشاق العثمانيين وسلطان زنجبار في تلك الأصقاع ويتحملون هم تلك الأعباء الشاقة عنهم حتى لم يبقوا عليهم شيئاً من التعبئة يستحق الذكر فجزاهم الله عن أتعابهم جزاء يستحقونه! بلاد كبلاد عمان بلاد زراعة وصناعة وتجارة واستعمار وتكاد تكون إلا في سواحلها أحسن بلاد في الدنيا طيب هواء وجمال مناظر وفوق ذلك لا تقل مساحتها عن خمسة وثمابين ألف ميل مربع أي مضاعف مساحة سورية من رأس خليج اسكندرون إلى العريش ولها بادية أيضاً هي ضعف بادية سورية مساحة على الأقل. بلاد هذه صفتها ما أظن ينقص عدد سكانها عن عدد سكان سورية وفي الراجح عندي أنهم لا يقلون عن أربعة ملايين.

ومن الغريب أن كين يقدر عدد سكان عمان في كتابه المطبوع سنة 1896 بمليون ونصف من النفوس ويقدر عدد سكان شمر والبحرين ونجد بثلاثة ملايين ونصف على أن بولفريف قدر في سنة 1862 إمارة ابن الرشيد وكل بلاد نجد بدواً وحضراً بمليون وسبعمئة ألف نفس وقدر سكان عمان بمليونين ومئتين وثمانين ألف نفس على التفصيل الآتي: عدد نفوس إمارة ابن الرشيد الحضر اسم البلاد عدد القرى عدد السكان جبال شمر 4. 162،. . . الجوف 12 4.،. . . خيبر 8 2.،. . . القصيم العليا 2. 35،. . . تيماء 6 12،. . . عدد البدو شمر 8.،. . . الشرارات 4.،. . . الحويطات 2.،. . . بنو عطية 6،. . . معاز 4،. . . طي 8،. . . وحيدية 8،. . . المجموع بدواً وحضراً أربع مئة وأربعون ألفاً تقريباً عدد سكان إمارة نجد الوهابين من الحضر اسم البلاد عدد القرى عدد النفوس العارض 15 11.،. . . اليمامة 32 14.،. . . الحريق 5. 45،. . .

اسم البلاد عدد القرى عدد النفوس أفلاج 12 12،. . . وادي دواسر 5. 1. .،. . . سليل 14 3.،. . . الوشيم 2. 8.،. . . سدير 25 14.،. . . القصيم (السفلى) 6. 3. .،. . . الحسا 5. 16.،. . . القطيف 22 1. .،. . . المجموع 316 1، 219،. . . عدد البدو أو الأعراب اسم القبيلة عدد الأنفس العجمان 6،. . . بنو هاجر 4، 5. . بنو خالد 3،. . . بنو مطير 6،. . . بنو عطيبة 12،. . . الدواسر 5،. . . السباعة 3،. . . قحطان 6،. . . حرب 14،. . . عنيزة 3،. . . آل مرة 4،. . . بطون متفرقة 1.،. . . المجموع 76، 5. .

ومجموع البدو والحضر 1، 285، 5. . فإذا أضفنا إلى هذا العدد نفوس إمارة ابن الرشيد أي أربعمئة وأربعين ألف نفس كان مجموع عدد السكان في شمر ونجد أي في إمارة ابن الرشيد وإمارة ابن سعود نحواً من مليون وسبعمئة وخمسة وخمسين ألفاً. فلينظر ناظر إلى مقدار التفاوت بين تقدير الرجلين والذي أعتقده أن بولغريف زاد في عدد إمارة الرشيد بعض الزيادة ونقص من عدد ابن السعود لميله إلى الأول وكرهه الثاني. وأما إمارة عمان فأرجح أيضاً أن بولغ ريف قدّر عدد سكانها بأقل مما هو حقيقة واعتمد في ذلك على بعضهم ممن كانو يعرفون الحكومة الإنكليزية في تلك البلاد أو على معرفته هو بالسليقة أو بالبداهة ثم جاء كين بعد ثلاثين سنة من أيام بولغريف وكانت المنازعات على عمان بدأت في شدتها بين الإنكليز والفرنساوين فقدر عدد تلك الامارة بما قدره تهويناً من أمرها على ألفرنساويين فيما أرجح وألا فلا يعقل أن تتراجع هذه البلاد على خصبها واستتاب الاظمن فيها إلى الوراء فيقل سكانها بعد مرور ثلاثين سنة نحواً من سبعمائة ألف أي ما يزيد على خمسة وثلاثين في المئة على حين كان يجب أن يكون العكس أن يزيد عدد سكانها في هذه المدة أربعين في المئة عما كانت هليه في أقل تقدير. لنرجع إلى موضوعنا فنقول: قدر كين ولاية الحجاز بثلاثة ملايين نسمة وولاية اليمن بمليوني ونصف النسمة ولم يجر ذكراً لحضرموت ولا للقارة بين حضرموت وعمان وكذلك لم يشر أدنى إشارة إلى منطقة عدن وما حواليها مما هو داخل في نفوذ مملكته وكذلك لم يذكر شيئاً عن بلاد سبأ التي عاصمتها مارب ولا عن الجوف ولا عن نجران ولا ما يحوم حول هذه البلدان أو يتبعها تبعاً سياسيا أو تجاريا أو جواراً. أما الحجاز ويراد به كل متصرفية عسير فضلاً عن أرض الحرمين فتقديره ولا يبعد كثيرا عن الصواب فيما أرى، وكذلك تقديره اليمن فأن الداخل منه في ولايتنا العثمانية كما هي ولاية سوريا لايزيد فيما أظن عن المليونين والنصف، إلا أن هناك ما هو عثماني ألا أنه تحت حكم أمرائه وشيوخه اليمانيين لا أثر فيه لنفوذ أجنبي وذلك كقبائل حاشد وبكيل وهمدان وخيوان في الجبال التي إلى الشرق والشمال من صنعاء والحكم فيه لأمام الزيدية ومقره الآن في صعدة على ما أرجح فكل هذا القسم من اليمن وفيه معظم مملك حاصور

القديمة وصميم الدولة الحيرية ممن عرفو بالأزواء في آخر عهدهم ويلحق به بلاد مأرب ولاجوف ونجران لا ينقص عدد أهليته فيما أرجح عن المليون والنصف من السكان وهو غير بعيد فإذا قدرنا سكان حضرموت ومهرة بثلاثة أرباع المليون ويقدرون عادة بين المئتي والثلاثمئة ألف في أعلى تقدير واضفنا ذلك إلى الأغداد المذكورة سابقاً بلغ سكان العربية من أربعة عشر مليوناً والنصف مليون وان شئت قل خمسة عشر مليون على ما يأتي: أسماء الإمارات والولايات - عدد السكان بالملايين إمارتا أبن السعود وابن الرشيد 3. . . . . . إمارتا الحسا والقطيف 35. . . . . سلطنة عمان 4. . . . . . ولاية الحجاز 3. . . . . . ولاية اليمن 25. . . . . يافع ومأرب والجوف وبلاد حاشد وبكيل ونجران 15. . . . . حضرموت ومهرة والقرى 5. . . . . المجموع 145. . . . . نسبة هذه الولايات والإمارات عسكرياً أما عمان فمنفصلة كل الانفصال لما يحبط بها من بحور الرمال من كل الجهات مما أدى إلى انقطاع طريق الحاج البرية بينها وبين مكة منذ مئات السنين بل الطرق التجارية بينها وبين الحسا والقطيفة قلما يسلكها احد الآن ومثل ذلك الطريق إلى نجد واليمامة، ولاقوم لا يحملون حقداً على العثمانيين وكثيا منهم أهل السواحل لم يسمعوا شيئاً مما يفتري أهل البريطانيين علينا لأن هؤلاء القوم الحملان يتحرجون اخلاصاً ويأثماً من التشنيع علينا عند العثمانيين في داخلية بلادهم لأن العثمانيين يخافون ما يخافون منهم إذا مر مار منهم زائرأً أكرموه وأحسنوا ضيافته كل الإحسان ثم يصرفونه من حيث أتى راجعاً أدراجه وأما في السواحل فالقوم يعلمون عن البريطانون وعن مقاصدهم أكثر مما يعلمه العلمون منا نحن وقد اختبروا أمرّ أختبار ما أنتجته مداخلاتهم التجارية والسياسية منذ أواسط القرن

الماضي إلى اليوم من إلقاء بذور ألفتنة ثم تحيزهم إلى ألفاتنين بما أوجب شق السلطنة وانتزاع كل شرقي افريقية منهم أخيراً على أن العثمانيين يخافون قوة القوم البحرية ويدارونهم غاية المداراة ولكنهم على حذر منهم وتيقظ وذلك مما جعلهم حتى الساعة يستغنون عن مساعداتهم الخيرية ومعاهدهم التهذيب وسركاتهم التجارية وطرقهم الحديدية والفضل في ذلك عائد إلى أهل الجبال من الداخلية فأنهم مستقلون في داخليتهم عن حكومة مسقط استغناء كل ولاية عمن الولايات المتحدة عن حكومة واشنطن على أقل تقدير. إن بولغريف الإنكليزي اليسوعي الشهير استطاع أن يلقي بعض المفاسد في حائل والرياض وكثيراً منها في الحسا والقطيفة أما في عمان فلم يستطع شيئاً من ذلك. وقد ذكر عن حسن معاملة القوم للغرباء وكرم أخلاقهم وحسن ضيافتهم ما لو استطاع إخفاءه لإخفاه أو قوي على إنكاره لأنكره ويقول أيضاً أن العثمانيين على الساحل يخافون طمع الإنكليز ويرقبوهم بعين الحذر وأما في الداخلية وضمن جبالهم وهم هناك أهل النجدة والبأس فلا يبالون بالبريطان وإلى الآن لم يجسر أحد منهم على اختراق بلادهم ولو عابر سبيل. وأشد من العثمانيين تجنباً للإنكليز ولكل أجنبي أهل مهرة وحضر موت ساحلهم وداخليتهم أما في الداخلية فلا وصول للإنكليز إليهم بوجه من الوجوه والمطلع على سياحة ثيودور بنت المترجمة إلى المقتطف سنة 98 على ما أظن أن هذا الرجل الغني وفي حاشيته الإمام بهادور شريف وغيره من المسلمين لاقى من مقاومة السكان ما لاقى مع أنه كان معتمداً في سياحته على مساعدة سلطان مكلا وهي أكبر فرضة على ساحل حضرموت ولسلطانها معاملات كثيرة مع الهند وعدن سياسيا وتجارياً. ومع ذلك لم يكن هذا الرجل يطأ داخلية حضرموت حتى اضطر أن يرجع أدراجه على غاية من الخوف والسرعة كما كان نصيب ليوهرش المستشرق النمساوي الشهير من قبله هذا في حضرموت أما عدن وما حولها حيث منطقة النفوذ الإنكليزي فإن معظم به حاكم عدن من رؤساء القبائل الذين تنتقدهم الحكومة الهندية راتباً معلوماً في كل سنة أن يؤمنوا طريق التجارة فلا يعرضون القادمين إلى عدن بمحصولات الداخلية ولا الراجعين منها

بالبضائع الإنكليزية والهندية لا يطمعون منهم بأكثر من ذلك. وأما أهل نجد فقل عنهم أضعاف ما قلناه من أهل حضرموت وعدن واليمن فإنهم يكرهون كل تداخل أجنبي ترى ذلك واضحاً في إجماع خاصتهم وعامتهم على البعد عن دهاة لجنة الخليج ألفارسي. ولطالما اجتهدت هذه اللجنة ومركزها في أنو شير في أن تقوي النجدين وتدخلهم في معاهدة أو رابطة معها فلم تفلح. وفي سنة 1864 على إثر بولغريف من الرياض خائباً ناقماً على الأمير فيصل الوهابي وعلى الوهابيين وكان جاء الرياض متنكراً على نفقة إمبراطور فرنسا ومر بحائل أيضاً فعلى إثر انصرافه برغث صدر الكونيل لوس بلي مدير سياسة الخليج ألفارسي فكتب رسالة خاصة إلى الأمير فيصل يستأذنه في زيارة إلى مقره في الرياض فأغفل الأمير جوابه فكتب ثانياً يسأل خفارة وأدلآ. ولما طال الوقت ولم يرد جواب الأمير عبر إلى الكويت ومن هناك أرسل ثالثة ما كان سأله من الخفارة والإدلاء وانظر عدة أسابيع وبعد أن طال انتظاره وكاد يفرغ صبره ورد عليه جواب الأمير بأوجز عبارة لا يزيد عن صريح الإذن بقبول زيارته ولكن لا دليل ولا خفراء فسافر هذا الرجل هو وحاشيته في بزّه أهل نجد لم يجسر أن يظهر بزّيه الإفرنجي ولما بلغ الرياض نزل في مقصف لابن الأمير خارج المدينة ولم يؤذن له بمواجهة الأمير فيصل إلا في اليوم الثاني وبه تردد مدة ثم بعد أن أقام ثلاثاً لم ير له أفضل من سرعة الرجوع فزم جماله واعتمد دليلاً من قناصة الصليب فقاده هذا في طريق غير مطروق نفذ به شمالي الهفوف. ومما يذكر في هذه الزيارة أن الكولونيل وحاشيته لم يجسروا أن يستعملوا شيئاً من سياحاتهم العلمية الجغرافية في أخذ عرض مكان أو طوله أو رسم خارطة للطريق الذي مروا فيه أو شيئاً آخر مما يحرص عليه أصحاب الرحلات من علماء الأوربيين. ومنذ عهده إلى هذا العهد لم يدخل نجداً بريطاني لا سائحاً ولا جاسوساً فيما نعلم ويعلمه أيضاً جورج هوغرث صاحب الكتاب المشهور المسمى اختراق البلاد العربية المطبوع سنة 19. 4. والخلاصة فإن أهل نجد هم من أبعد أهل العربية عن الإسترسال إلى الإنكليز بوجه من الوجوه مهما بلغ من دهاء سياستهم وخلابة مواعيدهم. والشمريون لا ينقصون مثقال ذرة عن إخوانهم النجدين ولا يحتاج إلى اطالة الكلام في

شأنهم فإنهم الآن جنباً إلى جنب مع العثمانيين يدفعون في صدر الإنكليز لم تؤثر فيهم رقاهم ولا خلبتهم مواعيدهم الغرارة التي هي كما نلم ويعلمون ولا يطعن فيما أوردناه من نفور عرب البادية من دهاة البريطانيين ورجال السياسة وذوي الوعود البراقة فيهم، عصيان أمير مكة السابق الشريف حسين عون وما تواتر عنه من أنه استهواه الذهب الإنكليزي فجوابنا لمن أراد نقض ما بنيناه بمثل هذا القول أن عمل الأمير حسين من الأعمال الخارقة للعادة التي لا تنجلي حقيقتها ولا تتضح أسبابها إلا بعد خمود نارها وحينذاك يصح للمعترض أن يؤسس ما يقوله على فكرة ثابتة وأما وأنباء حسين وأعوانه غامضة وراء ستار وهو وجمعه يأتون ما يأتونه من خلف أجبال وكهوف تحجب عنا أمرهم وتستر سرهم فلا يمكن للمؤرخ الاعتماد على نبأ غير مسبور الغور ولا واضح الحقيقة. هذا ما اتفق لنا إيراده الآن في البحث عن الأقطار العربية. والإيغال في ذكره يعوزنا إلى المجلدات. وفوق كل ذي علم عليم. بيروت ج. ض

العلم في ألمانيا

العلم في ألمانيا لم تحرز ألمانيا التفوق الباهر على الشعوب المتمدنة في فروع العلم والصناعة إلا بفضل انتظام جامعاتها وارتقاء كلياتها فهي تتجدد على مرور الزمان وتتطور بأطوار العصور وتراقب الاختراعات والاكتشافات في جامعات أوربا وأمريكا الكبرى فتناظرها وتنافسها فهي تبعث كل عام في العطلة المدرسية بوفود علمية مؤلفة من فحول العلماء والأساتذة ومعهم فريق من نوابغ التلامذة ونخبة أذكيائهم للطواف في عواصم العالم المتمدن والتفتيش عن نظامات دور العلم والصناعة والمجامع الأدبية والفلسفية والطبية والمحافل المالية والاقتصادية وذلك لاقتباس ما يناسب الروح الألمانية فتعود البعثة مزودة بأجد الأفكار وأحدث الأطوار وتطبق حينئذ العلم على العمل وعلى هذه الطريقة ترسخ أقدام التجدد في تلك الكليات التي أصبح لها ألفضل العظيم في تكوين الوحدة الألمانية، وتشييد أركان هذه الإمبراطورية الواسعة التي أرهبت العالم بقوتها وصوتها وامتداد سلطانها في قلب القارة الأوربية بعد أن كانت شعوباً متفرقة وإمارات متشتتة ومعرضة لإطماع ألفاتحين والغزاة من القياصرة والملوك. قال بسمارك في حديث له مع أحد المكاتبين الحربيين في حرب السبعين أن ألمانيا لم تنتصر على فرنسا في ميادين القتال والنزال إلا بفضل النظام ناشئتها ورجاحة عقول شبيبتها التي أدركت المنافع الوطنية من طريق المدرسة وعرفت أن حياة الافتراق والانشقاق لا تفرق كثيراً عن الموت الحقيقي والانقراض الطبيعي فليست مهارة القواد الألمانيين وكثرة الجيوش وقوة السلاح هي التي نصرت ألمانيا على عدوتها بل المدرسة الألمانية والعقل المدني هو الذي عقد ألوية النصر والفوز على رؤوس الألمانيين فالحروب الحديثة لا تأثير السلاح والكراع فيها وإنما العامل الوحيد للانتصار فيها هو العقل والتربية والنظام ونمو الروح الوطنية وفي الحقيقة أن ألمانيا لم تكن على جانب كبير من العلم والتمدين يوم اكتسحا نابليون وأخضعها لسياسته وجبروته فقد كانت حينئذ ميداناً للفتن وكان الخصام والنزاع والبغضاء سائدة مستحكمة في قلوب أمرائها وملوكها فلما أنشئت المدارس في أرجائها وشيدت الدارس في أمصارها وأقطارها وأشرقت شمس العلم والعرفان في البلاد أصبح من الخزي والعار أن يخضع الألمان لأجنبي فاتح فكان من آثار تلك النهضة العلمية نهضة سياسية أثمرت الوحدة الألمانية وأعقبها انقلاب عجيب في العلم والصناعة والتجارة والزراعة.

للجامعات الألمانية بما تكتشفه وتخترعه فيما ينفع الحضارة والعمان المقام الرفيع بين كليات العالم المدني ولها الامتياز على غيرها من الكليات باتباعها خطة بث الاستقلال ألفكري والاعتماد على النفس وحب العمل والتجرد إلى ما ينفع الوطن والعنصر وقد فضلها بعض العلماء الباحثين على جامعات ألفرنسيين والإنكليز والأمريكيين من هذه الوجهة، ومما أذاع شهرة الكليات الألمانية وجود دور المساعي والمباحث العلمية التي أنشئت كفروع لها يطبق فيها التلميذ النظريات على العمليات بعد نيله الشهادة بالامتحان ففي إحدى كليات ألمانيا نحو خمسين فرعاً لها من دور البحث والتنقيب في المسائل العلمية وهي تشمل على عدد كبير من المكتبات والمتاحف والمصانع لإجراء التجارب ألفنية في الطب والكيمياء والهندسة وعلم طبقات الأرض والفلك وغيرها من فروع العلم والصناعة التي توسع مادة الدماغ الألماني وتعده أهلاً للاكتشاف والاختراع. في ألمانيا اليوم دور خطيرة للمباحث العلمية غير ما تقدم من المصانع الخاصة بالجامعات وهي أوسع نطاقاً وأعظم دائرة منها اتفق على تجهيزها بالأدوات العلمية وتوفير أسباب البحث والتنقيب فيها مئات الملاين من الماركات فكان لها النتائج الحسنة والفوائد الغزيرة في الحرب العامة فقد توفق العاملون فيها وهم من خيرة علماء الألمان إلى اختراع أشياء كثيرة أفادت السلاح الألماني في ميادين القتال فاكتشفوا مادة كيماوية أطلقوا عليها لفظ - بروغليسيرين - فاستعملوا مقام مادة - الغليسرين - الذي كانت تجلبه ألمانيا من الديار الأجنبية قبل الحرب فانقطع وروده بسبب احتشاء أساطيل الأعداء في البحار وقد أنتج هذا الاختراع أثراً حسناً في إظهار مقام المدينة الألمانية ولما استعمل الأعداء المواد الخانقة في مقاومة الجيش الألماني بعد أن أعيتهم الحيل والمكائد الحربية وفشلت خططهم واختلت نظاماتهم اخترع علماء الألمان الباحثون في تلك المعاهد والمصانع مادة كيماوية أبطلت تأثير الغازات الخانقة التي حرمت القوانين الدولية استعمالها رأفة بالعنصر الألماني والجامعة البشرية وعلى أثر امتداد الحرب نفدت بعض المواد الإبتدائية في ألمانيا فاكتشف الكيماويون وعلماء النبات مواداً ثابت منابها وقامت مقامها فلم يمد الألمان يد العوز والافتقار إلى غيرهم من الشعوب المتحايدة واستغنوا عن سواهم بعقولهم وأعمالهم. من حسنات دور ألفنون الألمانية إجراء التدريس في دائرة الاستقلال والحرية لإنماء ألفكر

وتربية العقل، فالأستاذ في الجامعة غير مضطر إلى توفيق محاضراته وخطبه مع مستوى عقل التلميذ واقتداره فهو قانع أن طلابه مستعدون لقبول ما يلقيه عليهم من الدروس العالية ومختلف الأفكار والآراء. أما التلميذ في الكلية فهو حر مستقل كأستاذه يطلب العلم الذي يراه لائقاً بنفسه ويصبو إلى الأستاذ الذي يعتقد فيه النفع والفائدة لعقله ويشتغل بدروسه على مقدار ما تميل إليه الروح والنفس وما يفوته من شوارد خطب أستاذه يستطيع أن يجده في مكتبات الكلية الغاصة بمئات الألوف من المجلدات في علوم مختلفة فإن أحط جامعة في ألمانيا لا تخلوا من مكتبة واسعة تسد حاجة التلميذ وتوسع مادة علومه ومعارفه. أما التدريس في المدارس التالية وهي التي تعد الناشئة للدخول إلى الجامعات الكبرى - وتقابلها عندنا المدارس السلطانية - فهو جار على أصول المجانسة فالأستاذ فيها يراعي قاعدة مراقبة التلامذة وأطوارهم وطباعهم وقياس عقولهم واقتدارهم فهو يتفنن في تلقين الطلاب وحثهم على استماعها والمل بعقولهم إليها، والمراد بأصول المجانسة في المدارس الألمانية هو التزام الجد والاعتناء في إجراء الامتحانات سواء في قبول التلامذة الجدد أو في الامتحانات السنوية بحيث لا يستطيع أحد أن يجد فرقاً في العلم والعقل والاقتدار والكفاءة بين تلامذة صف من الصفوف بخلاف مدارسنا التي يجلس على مقاعد صفوفها الذكي ألفاضل إلى جانب الغبي الخامل وهو ناجم فينا عن مراعاة العواطف والالتماس في ألفحص السنوي مما أخل بنظام مدارسنا خللاً بليغاً وللمدارس التالية الألمانية عناية خاصة بأطوار التلامذة فهي تنتخب لهم مشاهير الأطباء في الأجسام والعقول لإجراء الكشف الطبي فالتلامذة المصابون بأمراض وعلل مختلفة والمبتلون بالخمول والجمود أوالحماقة وخفة العقل بطريق الوراثة لا تجوز لهم مخالطة غيرهم في المدرسة بل ينقلون إلى مدارس خاصة بهم تتوفر فيها أسباب معالجاتهم ومداواتهم مع إعطائهم قليلاً من العلوم والفنون على ما يناسب اقتدارهم وتكون غالباً تلك المدارس قائمة بين الغابات والأحراج أو على ضفاف الأنهار حول المروج وغيرها من المواقع الطبيعية. ومما هو جدير بإطالة النظر وإمعان الفكر قلة المدارس الليلية في ألمانيا بالنسبة إلى ما في بلاد الشعوب الأوربية والأمريكية. فالألمانيون لا يقبلون عليها ولا يميلون إليها وهي تكون على الأغلب ملجأ للمنقطعين وأبناء السبيل وغيرهم من ألفقراء والمسغبين الذين يتعذر

عليهم إعاشة نفوسهم مع الاختلاف إلى المدرسة وطلب العلم أما الأغنياء والمتوسطون وبعبارة أخرى كل من يستطيع أن يقوم بنفقة ابنه وقريبه في داره فهم يفضلون المدارس النهارية على الليلية، ومنشأ هذا الميل اعتنائهم بحياة العائلة وتربيتها فالوالد يرغب من صميم فؤاده أن يكون طفله قريباً من حياة أسرته مشاركاً لها في معائشها كي لا يطرق الخلل إلى تربيته وأخلاقه الموروثة عن آبائه وأجداده فهو يود أن يشرف دائماً على أطواره وعاداته وأخلاقه وتربيته ويرجح أن يمضي ولده سواد الليل في داره وبين أركان عائلته على أن يكون نائياً عنها في مدرسة ليلية. ولا تقل مدارس الإناث في ألمانيا رقياً وانتظاماً عن مدارس الذكور وقد فاقت ألمانيا غيرها من أمم العالم المتمدن في هذا الشأن وبرزت عليها جميعها فالمأة الألمانية - حسب شهادة بعض العلماء - أعلى كعباً في العلم وأرقى أخلاقاً وأشرف نفساً من المرأة في فرنسا وانكلترا وأميركا وايطاليا والنمسا فهي خلقت لتربية أطفالها ومشاركة زوجها في أعماله وتخفيف كروبه وخطوبه ولها عناية كبرى في تدبير منزلها لا يسابقها أحد في هذا المضمار وهي أقل نفقة من النساء ألفرنساويات والأميركيات والإنكليزيات ولا تميل إلى البهرجة والفخفخة بل تقنع بالألبسة المتينة البسيطة وتجتهد في اجتناب ما ينافي أطوارها الاجتماعية ويمس تربيتها وأخلاقها، والفضل في ارتقاء المرأة الألمانية عائد بالطبع إلى انتظام مدارس الإناث وإحكام أصول التدريس فيها وهي تنقسم إلى ثلاثة فروع أو أقسام فالأول هو إعداد ألفتيات للدخول إلى الجامعات الكبرى والإحصاء في علم من العلوم كالطب والهندسة والفلسفة والتربية والتعليم والاجتماع والآداب والثاني هو اللحوق بدور المعلمات لتخريج معلمات من الجنس اللطيف أخصائيات في التربية والتعليم وإدارة المعاهد العلمية والثالث من أهم فروع مدارس الإناث هو المدارس الخاصة بالنساء الراغبات في علم تدبير المنزل وتأليف الأسر وإنشاء العائلات ويشترط على اللاحقات بهذا ألفرع أن يكنّ من حاملات شهادة البكلوريا وقد أصبح لهذه المدارس أثر خالد في ارتقاء الحياة الاجتماعية والانتظام السائد في المدارس الألمانية فهي تنشئ ألفتيات على أساليب علمية وأصول راقية بحيث تكون الخريجة منها صالحة لإدارة منزلها وتربية أطفالها ومعاشرة زوجها فالمرأة هي الحاكمة والأميرة المطلقة في دارها فإذا لم تكن عالمة بشؤون الاقتصاد

وأصول التربية والأخلاق والمعاشرة تصبح وباءً على أسرتها وزوجها فشقاء الأمة بشقاء المرأة وسعادتها قائمة بتربيتها وتعليمها. وبالإجمال فإن ألمانيا لم تهمل فرعاً من ألفروع العلمية سواء في التربية والعلم والخلاق والصناعة والتجارة والاقتصاد وجميع الماديات والمعنويات إلا وأدخلته إلى كلياتها ومدارسها التي لم تأل جهداً في إنماء الروح الوطنية في قلوب الناشئة إذ تنتخب لهذا الأمر الخطير أساليب بديعة وطرائق متنوعة بحيث يخرج التلميذ على جانب من العلم والفضل مع الوطنية الصحيحة والمبادئ العالية فيكون ألمانياً صادقاً بميوله وأفكاره وطبائعه لا يحب غير ألمانيا ولا يميل إلى غير وطنه وعنصره، ورجلاً مستقلاً بنفسه مستعداً لركوب الأخطار والمهالك في كسب الرزق وإنماء الثروة وهذا هو الذي رفع شأن ألمانيا بين الممالك والقوام فأصبح لها المقام الرفيع في عالم الحرب والسياسة والاقتصاد، وفي حياة الشعب الألماني وما تقلب عليه من حوادث العسر واليسر والتشتت والاجتماع والانحطاط والارتقاء عظات بليغة ودروس نافعة للأمم الخاملة والشعوب الجاهلة. إبراهيم حلمي العمر

شعر الرحلتين

شعر الرحلتين تداولت أيدي المطالعين في الشهر الأخير كتابين شغلا جانباً عظيماً من ساعات فراغهم وحلا محلاً حسناً من قلوبهم وأكثرت الصحف من ذكرهما والحث على اقتنائهما حتى شعر بنفسه بالنوق إليهما كل من لم يكتب له العثور عليهما وليس في أمرهما مجال الغرابة فإن كتابين أحدهما يضم بين دقتيه ما اتفق لأدباء الشام وفلسطين من الشعر والخطب في استقبال أحد عظماء الدولة وكبار رجالها أنور باشا والثاني يستوعب أنباء رحلة وفد علمي سير بأمر القائد الكبير أحمد جمال باشا من ربوع الشام إلى عاصمة خلافة الإسلام، لهما كتابان جديران بما لقياه من إقبال القراء والباحثين حقيقان بأن يكون لهما الوقع الحسن والتأثير الأدبي لدى عامة أفراد الأمة أديبها وعالمها وأخصائيها وجغرافيها وسائر طبقاتها من مؤرخ يحفظ بهما حديث رحلتين أفردلهما مكان رحيب في صدر التاريخ، وشاعر تتمثل له فيهما صورة مجسمة عما بلغ إليه الشعر في دور صولة السيف وجفاف اليراع وكاتب يلذه ما حوياه من ضروب التفنن في الإنشاء، وخطيب يروقه سماع ما فاه به خطباء قطره في المواقف المختلفة فهو يصفق للمجيد ويتحسر على البليد، وهكذا فلكل مفكر في خلال الرحلتين نظرة يلمحهما بها وكلمة يقولها بهما، أما أنا فمن أولئك الذين استهوى حب الإجادة في المنظوم أفئدتهم واستولى الولوع بالشعر على قلوبهم فإن أردت الكلام فنكتة أدبية أمليها أو ملاحظة شعرية أرويها تاركاً ما عدا ذلك من مباحث الكتابين إلى المشتثلين به وها أنا ذا أشرع ببيان ما عثرت عليه فيهما من الحسن الجيد أو المنتقد الذي لم أجد بدأً من إظهار ما خالج الضمير من البوح به على أني لا أنجس الناس أشيائهم ومعاذ الله أن أفعل وفي شعراء الرحلتين عدد من أئمة الأدب وجهابذته وذوي المكانة الرفيعة والمنزلة السامقة من ناظمي قلائده وناثري فرائده قد يحرجهم الموقف ويضطرهم الحث على الإسراع إلى تجاوز بعض الحدود في التراكيب والقواعد أو التصور والخيال ولا أراهم بملومين اللهم ولا أراني ملوماً إذا أشرت إلى الشيء اليسير من هذا النوع خدمة للأدب واللغة والعاملين على الرفع من شأنها. . . أول ما يبدهك من الشعر في الرحلة الأنورية قصيدة غراء أعجبني منها قول ناظمها (ص 31): فليعلم القوم الذين تجبروا ... أنا القضاء على الذين تجبروا

وأما القساطل في قوله (ص 32): والنيل قد مدت إليه قساطل ... وجرى أمام ألفاتحين الكوثر بمعنى الأوعية التي يجري فيها الماء من الحديد أو غيره فلا أحسبه مما عرفته اللغة فكان ينبغي الإشارة إلى أنه من محدثات المتأخرين وإنما القسطل الغبار. . ولا سبيل إلى منع صرف السبع بتكلف في قوله: وببئر سبع جرى الحديد كأنما ... بخطوطه للنصر نكتب أسطر والقصيدة الثانية في الكتاب تعد من غرره ودرره إليك منها (ص 33): يوم يتيه به الزمان ويفخر ... ميألق بالبشر أبلج أزهر مشت الكتائب فيه يتبع بعضها ... بعضاً تخب بها العتاق الضمير والبض في أيدي الكماة لوامع ... كالبرق تخفى في العجاج وتظهر ومواكب في أثرهن مواكب ... من فوقها خفق اللواء الأحمر هتفت فرددت البلاد هتافها ... لما بدا سيف الخلافة أنور بطل له في الخافقين كليهما ... تاريخ مجد بالسيوف مطر وما كان ليتبغي لصاحب هذه القصيدة أن يمنع من الصرف اسم علم الجمال في قوله (ص 36): وجمال منه لديك خير معاضد ... في بأسه ذكرى لمن يتذكر ومن الطالع الحميلة في الكتاب ما ورد (ص 4.): زها السرق لما لاح أنورنا ألفرد ... فمن وفده نور ومن وجهه سعد وفي هذه القصيدة أبيات منتخبات وكان يحس بصاحبها أن يبتعد عن لغة الإشغال الرديئة في قوله (ص 242): وحرب ضروس أشغلت حركاتها ... ممالك أوروبا وضاع بها الودّ وعن تعدية أغار باللام في قوله: أغار العدى للدردنيل ومادروا ... بأن بجوف الدردنيل هو اللحد وله أن يقول: في الدردنيل. وفي الشطر الثاني ركة ظاهرة تشفع بها أجادته بعد أبيات بقوله:

فآبوا لسدّ البحر يبغون منفذاً ... فعادواوقتلاهم ورائهم سدّ وراقني من المطالع قول الآخر (ص 44): ملك الجمال اطلت فيك تحيري ... فإذا عجزت عن امتداحك فاعذر وقول غيره (ص 49): يا أمة لبني عثمان تنتسب ... لإنت في عزة تحنى لها الركب ولم أرى من يجمع الخطب على خطب وقد جاء في قوله (ص 5.): أو من يضاهي جمالاً في حماسته ... فرداً به تتقي الأزمات والخطب وفي هذه القصيدة أبيات عامرات يعجبني منها قوله (ص 51): هلا ذكرنا حيال الدردنيل قوى ... من الحديد بها الأمواج تضطرب تضيق عنها فجاج البحر عابسة ... تسعى إلى الموت في أنيابها العطب تبغي اقتحام عرين الأسد معلنة ... أن الأعادي على تذليلنا أعتصبوا فقابلتها غداة الروع صابرة ... صبر الكرام أسود هزها الغضب إلى أن يقول: ردوا الأساطيل تهوي في مذلتها ... يقودها للنجاة الخوف والهرب وأكثر النحاة على كراهية إدخال أل على كل وأن أجازها فريق منهم جاءت في قول آخر (ص 65): وعلى العلائق بدت مطالع فوزنا ... والكل أضحى بالمنى مستبشراً وما أرشق قوله بعده: فوز به طاف السرور بطيبة ... وتهللت فرحاً به أم القرى ومن عيوب الشعر الشائعة في هذه البلاد الاختلاس وهو زيادة حرف على الوزن يسرق في الإنشاد كقول الثاني (ص 67): لا سيما فخري باشا من به افتخرت ... بين البرية أبرار وأحرار وما أحسن قول الآخر من قصيدة يخاطب رجلي الدولة الكريمين (ص 126): منكما هزت الشريعة سيفاً ... صقلته من السماء يدان سيف حق يسيل ناراً ونوراً ... ما عهدنا الضدين يجتمعان

وفي قول الآخر إشباع معيب (ص 131): ولم تكتف منها برد حياتها ... وما فقدته من مفاخرها العز وفي البيت الآتي قطع همزة الوصل مما لا يجوز للشاعر المجيد وإن تسامح به العرضيون لك أسم أصوغ منه بمدحي ... عقد در من الثناء مجوهر ولا أرى مثل هذا الاكتفاء من البديع وأن عدوه في البيع في قول القائل (ص 137) ولا تنس الكل: يتمرنون على القتال يديرهم ... عرفاؤهم والكل في طرب وفي وكأنه هان على ناظم هذه القلادة فقال بعد أربعة أبيات: يا رب فانصره وأيد عرشه ... فيدوم في ظفر وفي عز وفي ولعله أراد في الثانية معنى الوفاء فكان عليه أن يقول: وفي بالتشديد ولا يخلو من ضعف في معناه. . وأين الأدب مع الله في نهيه إياه عن التأفف بقوله: فلأنت موئلنا ومنك غياثنا ... وإليك مرجعنا، فلا تتأفف (!) فهل يخاطب غير السوقة بهذا القول. . واستعاض الآخر عن المهيب المهاب وهو مما انتقده الباحثون قال (ص 14.): سلام على جند ابن عثمان إنه ... لجند مهاب لم يرعه التكاثر وما أدري ما دفع الشاعر الآخر إلى وصف القائد المقدام بلقب الشهم وهو مما ابتذلته الطبقات المنحطة وأصبح ينعت به الكثيرون من العامة، قال يخاطب أنور باشا (ص 145): كذاك أخوك الشهم (؟) أحمد عصرنا (؟) ... جمال لدى الهيجاء ليث غضنفر. . وكان الأجدر بهذا الشاعر أن يتفطن لما فطن به الشاعر الأندلسي محمد بن القوزراني (المترجم في بغية المتلمس) بقوله: ظلمناك إن قلنا الأجل ولم نقل ... هو الواحد المفضال والأوحد البرّ وشاعرنا القائل في قصيدته (ص 144): فيا فارس الإسلام في كل معرك ... ومن عزمه قد ذل كسرى وقيصر أراد: ويا من من عزمه إلخ وأما كسرى فلا أعلم ما جاء به اليوم؟. . وهو القائل بعد

أبيات: وكن لجمال العصر عوناً معضداً ... ولا سيما في فتح مصر مبشر. . أراد: مبشراً فغلبته القافية. . ويخطيء الكثيرون بوضع إذ مكان إن كقول الآخر (ص 147): سل عن بسالته وشدة بأسه ... إذ كنت تجهل سر أنور في الورى أراد: إن كنت. . وعجيب من الآخر تشبيهه أنور باشا بإبن مقلة وحسان قال (ص 148): أين ابن مقلة ابن حسان إذا ... خطت يداه من البلاغة أسطرا وابن مقلة خطاط وحسان شاعر فأين شاعرنا من تشبيه القائد الكبير بالفاتحين المغاور كابن الخطاب والخراساني والفاتح وابن الوليد وأمثال هؤلاء. . ولم أجد الظميئة فيما بين يديّ من كتب اللغة والأدب قال آخر (ص 177): وكيف تطيب النفس عن ورد فضله ... وموردها وهي الظميئة كوثر وفي القاموس: ظمىء كفرح وهي ظمآئة. وفي الصحاح: وبابه طرب وهي ظمأى. ومثله في لسان العرب وأساس البلاغة. وفي التاج: قال شيخنا: وظمئة كفرحة زاده ابن مالك وهي متروكة عند الأكثر. فأين الظميئة. . ولعله أراد تصغير ظمئة وهو ركيك وفي هذه القصيدة مفردات تمياز بالجودة ومتانة السبك كقوله (ص 177): وجاهدت حتى عاد للدين عزه ... وباء عدوي الله بالخزي يعثر برزت إليه والأسنة شرع ... وخطب الرزايا (؟) للمنايا مشمر فأوقع فيه سيفك الغضب محنة ... ستذكر حتى يحشر الناس محشر وهناك تجوز ضعيف ارتكبه الثاني بقوله (ص 18.): أهلا بأكرم معشر ... حيوا فأحيوا الأربعا يريد فأحيوا، بفتح الياء، فلم يسعفه الوزن. وفي هذه الأبيات بيت يذكر في ألفوائد وهو: النصر من أنصاره ... يسعى له أنى سعى وأخطأ صاحب هذه البيات في قطعة ثانية قال فيها (ص 181): فمر السعادة أنور ... والبدر أحمدنا الممجد وألفرقد الوضاء عزمي ... داموا بتوفيق مخلد

فالبيت الثاني غير مستقيم. . ومن بديع ما في الكتاب قصيدة جاء فيها (ص 23.): جيش تألف والإسلام رأيته ... من خيرة العنصرين الترك والعرب سارت بجحفله الأقدار تقدمها ... ملائك الله فوق الخيل والنجب تسربات بدروع الوحي واعتقلت ... من نبعة النور أطراف القنا السلب وبعد أبيات وصف بها جنود الأعداء (ص231): الت: سأرحل عن مصر وما رحلت ... قالت: أثوب إلى العدل ولم تثب وفي ابتداء القصيدة (ص229): مذ قيل أنور الشعب في حلب ... قد ماجت القدس من صفو ومن طرب ولو قال: ماجت له القدس، لكان أرشق ترى النفوس على طول القطار له ... من شدة الشوق ملقاة على القضن بها انتظاراً إلى ميمون طلعته ... ما بالقطار من التضرام واللهب ولو قال: بهن شوقاً، لكان أحسن من الإنتظار. . وما دريت ألفرق بين النجب والنجب في قول الآخر (ص237): لله أنور المقدام من شهدت ... بحزمه الخلق من نجب ومن نجب وقال آخر (ص272): لا غرو أن أمّ هذا القبر مبتهلاً ... يستمنح النصر حتى يأته (؟) الظفر يريد: حتى يأتي الظفر. وهو القائل (ص274): هذا الوزير الذي جلت مآثره ... أن يحصها العد أوأن تحوها ألفكر يريد أن يحصيها وأن يحويها. ومن أحاسن هذه القصيدة: هشت لمقدمك المحبوب تربتها ... كأنما أنت في أحيائها مطر أذكرتها زمن الصديق من حقب ... أو يوم يحكم في أرجائها عمر أراد: يوم كان يحكم. وأحسن منه: أو يوم حكم. يسعى وغايته الإخلاص مجتهداً ... ودأبه الجد والتفكير والسهر والأفضل لو قال: وغايته العلياء أو ما معناه وأما الإخلاص فعنوانه وقائده ومسيره. . تلك المزايا التي خص الإله بها ... قوماً هم الناس أن عدو وإن ذكروا

واستعمل الآخر حيث للتعليل ولم تعرفه العرب بل هو من مستحدثات المولدين قال (ص279): يا حمص تيهي حيث زارك أنور ... ردء الخليفة سيفه البتار وهو القائل: عم البسيطة والبرية عدله ... فالخلق شخص والبسيطة دار والشطر الثاني مما لا يتحصل منه معنى. وقال: يا واحد الدنيا الذي بشبيهكم ... عقم الزمان وضنت الأدوار أراد: بشبيهه. وهو أدرى بالأدوار!. وعجبت من قوله: أيدت دين الهاشمي فلم يضع ... لبني الشريفة عند سيفك ثار فكأنه يقول. أن بني الشريعة (يريد المسلمين) قد أدركوا ما لهم عند سيفك من الثأر القديم، وفيه ما ترى! وهو يقصد عند وجود سيفك وأعجبني من قصيدة أخرى قول منشئها (ص286): لك المنزل المعمور فينا وإنما ... غداً في قلوب المؤمنين يعمر نظمت من الإسلام أسنى قلادة ... وكادت وأيم الحق لولاك تنثر وما أبدع قوله بعده: وكيف ترى الأيام محو سطوره ... وفي كل صدر م} من منه أسطر ثم يقول: ومد على الإسلام منه سرادق ... يصان بها دين الحنفي وينصر والسرادق مفرد مذكر فحقه أن يقول: يصان به. والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه. والأولى أن يقال: دين الحنيف كما قال لسان الدين بن الخطيب: يا ناصر الحنيف وأهله. . البيت. . ثم قال وخطأه النحوي ظاهر (ص288): وعما قريب يحبط الله سعيهم ... ونربح مصراً والعراق ويخسروا (؟) ومن جيّدها: أيا واحداً صحت جموع صفاته ... وأعداؤه جمع ولكن مكسراً! وفي القسم الأخير من الكتاب قصيدة هي من خير ما فيه مطلعها (ص289):

كسعيكما فليسع من يطلب المجدا ... فمن حاد عن نهجيكما أخطأ القصدا أعزما إلى حزم وراياً إلى هدى ... لقد جزتما من طاقة البشر الحدا لى أن يقول: أأنور لا ننسى مواقفك التي ... تشيب على أهوالها الأسد الورودا مواقف أعشى كل رأي ظلامها ... فكنت برأي ألفرد نيرها ألفردا فهل لك نفس هذه ... فأرخصت فيها السوم إذ تشتري الحمدا فأي يد تحصى أياديك جمة ... لقد ضل من أحصى النجوم ومن عدا رأيتك في أجبال برقة قائماً ... يزين لك الأقدام خطب بها اشتد جمعت قلوباً فرق الجهل بينهما ... وألفت منها في مجاهلها جندا ثم قال: ولو كنت يوماً بالتناسخ قائلاً ... لقلت ابن سرح في صحابته ردا هذا بعض ما أردت إراده من شعر الرحلة الأنورية وأما كتاب البعثة العلمية فالشعر فيه أقل من النثر على كثرة ما فيه من المنتقد قال أحد شعرائه (ص195): شرف التمثل بين أيدي أعاظم ... يبنى عليه تزاحم الأدباء فلا أعلم ما يصنع بياء أيدي المختلسة وهو يمر عليها عند تلاوة البيت مرور الكرام! يا موسى يا مفتى الأنام وشيخهم ... يا مرجع الأحبار والعلماء وهو يمر بالحرف الأخير من موسى مروره بالياء الأخيرة من أيدي السابقة ولعله يريد: يا موس، على الترخيم فيكون الخطأ في الطبع يا عادل في نشر شرع محمد ... يا قائم برياسة النقباء والأحسن: يا عادلاً، ويا قائماً. يا منقذي الإسلام والبلد الحرام وحافظي فاروق (؟) من أعداء يريد: فروق، وهذا من تحريف الإعلام، وقد أورده الشاعر نفسه في قوله من أبيات آخر (ص2. 8): سنشكركم سكان فاروق. . كلما ... دخلنا بيوتاً للتهجد والنسك. . وما أدري الباعث على اختصاص بيوت العبادة للشكر. . وأما تنكير أعداء في البيت السابق فقبيح. . ومن رقائق الكتاب أبيات تلاها الآخر في مأدبه (ص196)

هذه ليلة السعود وإني ... أنا أهوى ليالي الإسعاد ليلة أشرقت بنور علي ... ورجال الحكومة الأمجاد هي مني مكان قلبي من الصدر ... ومن ناظري مكان السواد ولآخر قصيدة في خيار ما في الكتاب، أعجبني منها قوله (2. 9): ولم أرى كالإخلاص في حب دولة ... فكم أرحب الإخلاص من رجل صدرا ولم أرى كالإنصاف في جمع أمة ... فكم وحد الأنصاف من أمة فكرا وهو القائل قبلهما يخاطب رجال فاروق (ص21.): فكنتم نجاد الملك والعرب سيفه ... وكنتم يمين الملك والعرب اليسرى وكان على بعد البلادين بينكم ... هدى الدين سلك الكهرباءة والمجرى وما أحسن استدراكه في قوله (ص2. 8): سلام على الدستور حلواً مذاقه ... وإن كان بعض الناس قد ذاقه مرا! وجل أبياتها من الغور لولا المسألة الأخرى في قوله (ص21.): أما أنتم بالحزم كنتم رجالها ... وقد كنتم أعلى بمسألة أخرى (؟) وإدخال ال - على غير قبيح وإن جوزه بعض البحثين، قال آخر يمدح الأساتذة (ص23.): لئن طال مدح الغير فيها تكلفاً ... فإن قصور المدح بالشعر أجمل. . . وفي عجز البيت ما فيه. . ولم أدر ما المترجم في قوله (ص221): ويطرف طرف مد بالسوء نحوها ... وعقل رماها بالترجم يعقل وفي البيت الآتي خرق لا يرتق: وإن رام يوماً شاعر وصف ما حوت ... ولو أنه الضليل راح مضلل. . . يريد: راح مضللاً، ولكن القافية لم تعنه. وأعجبني من هذه القصيدة قوله (ص222): ورب أمريء في حبهم عاد عاذراً ... وقد كان لي بالأمس يلحى ويعذل ومن خيرة قصائد الكتاب قول الشاعر يخاطب دولة أحمد جمال باشا بعد عودة الوفد من عاصمة الملك (ص26.): سرى وفدك الغازي ومثلك يوفد ... وعاد بملء البشر والعود أحمد

سرى منك مضمون النجاح مسيرة ... وطالعه يا كوكب السعد أسعد يعني رئيس الوفد الأستاذ الشقيري سرى لمقر الملك والذين قاصداً ... كما يقصد البيت العتيق الموحد وما أرق قوله يصف زيارتهم لدار الحرب (ص263): فكدنا نضم الرمح قداً مهفهفاً ... ونلثم حد السيف وهو مورد وحرف المثل الذي هو أعقد من ذنب الضب بقوله (ص264): إذا أدبروا فالخزي أو أقبلوا الردى ... فموقعهم من ملمس الضب أعقد ومن الطراز الأول في الكتاب قصيدة في مديح أحمد جمال باشا جاء فيها (ص286): تبيت رعاياه بعين قريرة ... ويقضي سواد الليل يقظان ساهداً ومن طلب العلياء والمجد لم يكن ... إذا رقد العز المفرط راقدا فلو أن مجد المرء أخلد ربه ... بقيت على الأيام في الدهر خالدا ومنها في وصف الأعداء: أقاموا على شط القنال معاقلاً ... ستبقى لهم يوم اللقاء مصائدا ويذهل فيهم والدعن وليده ... ويخطىء وجه الشد من كان راشدا إلى أن يقول في خطاب الممدوح (ص288): ومن نيط يوماً في ملاك رجاؤه ... تناول بالكف المجرة قاعدا وفي القصيدة بيت يقول فيه (ص286): رمى الله منك الإنكليز بصارم ... صقيل يقد الهند وأني غامدا يريد: مغمداً أو مغموداً ولعله ألحقه بباب عيشة راضية ولم يسمع في هذا ألفعل. وأخالني قد أطلت على القراء ولو أردت البحث في كل ما عليه النظر من مليح وقبيح لملأت الحائف الكثيرة وحسب الواقف على هذين المؤلفين أن يجتمع له آثار فريق كبير من شعراء هذا العصر كامين بك ناصر الدين والسيد حبيب العبيدي وشبلي بك ملاط والشيخ مصطفى الغلاييني والشيخ علي الريماوي والسيد بدر الدين النعساني والشيخ عبد الكريم عويضة والشيخ سليم اليعقوبي وغيرهم من رجال الشعر والأدب. وفيها عدد من القصائد التركية وخطب ومحاضرات مفيدة منها للخطيب الكبير الشيخ أسعد الشقيري

رئيس الوفد ومنها لمصنفها المفضال ولغيره من الصحافيين والأدباء والفضلاء. وبالجملة فالكتابان روضتا شعر وأدب يحسن بالمتأدب اجتناء ثمارها كما يحسن بي أن أتقدم بالشكر لمؤلفها الأستاذ صاحب هذه المجلة الزهراء الذي وقف حياته على خدمة العلم والاجتماع والتاريخ والأدب ولا أنسى الإشارة إلى أنني لم أكن أنظر في هذا النقد إلى الأسماء والألقاب فأثني وأطري وأنتقد أنتقم شأن بعض المتصدين لمثل هذه الأبحاث بل نظرت إلى الشعر دون الشاعر والقول دون القائل ولعلها تسلم لي الإصابة في جل ما ذهبت إليه خدمة لهذه اللغة وآدابها والله المستعان في كل آن دمشق أحد القراء

رزايا الحروب ومزايا البشر ونتائج الفنون

رزايا الحروب ومزايا البشر ونتائج الفنون عفت الربوع فلا رنوع ... وخلا الجميع فلا جميع أين الغواني بالمغاني ... لا يروعها مريع الساحبات مطارفاً ... عنها الشذا الداري يضوع المالكات وما لها ... إلا الإبا التاج الرفيع والمرسلات لواحظاً ... كم بين أسهمها صريع في شعرها عبس الدجى ... وبثغرها ضحك الصديع فبدت وما طويت على ... غير الجوى منها الضلوع ما أن لها إلا الصدى ... أن تدع معشرها سميع تستنجد العبرات إذ ... لا منجد إلا الدموع صدعوا لها شملاً به ... لفؤآدها منه صدوع بالراح تدفع وثبةً ... ليست تفل لها جموع وتخال أن زفيرها ... لعدآء أعداها دموع ترنو لمبغوم وأحشا - ها يقطعها النزوع لم يدر ما معنى الحيا - ة وكيف يفهمها رضيع ويكاد يسلم نفسه ... للحتف والده الجزوع فله مدامعه تذا - لجوىً وللحرب النجيع وفؤاده كلوائه الخفا - ق خفاق مروع تدعو الوغى فيجيبها ... ويجيب إذ تدعو الربوع ولرب ليل لم يزر ... طرفي بجنحيه هجوع قلبت صفحة أفقه ... ولكم به مرأى بديع فقرأت أسطره وما ... غير الدراري لي شموع كم قد تردى بردةً ... من نسج ظلمته جزوع وإذا نضى عنه هزيعاً ... لفه منه هزيع يشكو الولوع لنجمه ... من قد أضرّ به الولوع ما الهم إلا طائر ... وله بداجيه وقوع

والنجم قلب فيه يخفق ... ليس تحضنه ضلوع يشكو كما أشكو جوىً ... ويذيع منه ما أذيع وخفوقه عن وجده ... والدمع عن وجدي مذيع والفكر يدنيه وأن ... ينأ به الأمد الشموع ناجيته لو كان لي ... منه على النجوى سميع ألرهبة أبعت عن ... أرض تقلبها سريع ترنو إلى أبنائها ... شزراً وكلهم مروع وهم ضرائب للقوا - ضب والرماح لهم شروع أحرارهم ما انفك في - ها يسترقهم الخضوع ألفوا الحمام كأنما ... هو طائر لهم سجوع وفشا الخداع بهم فما ... يلفى بهم إلا الخدوع درسوا ألفنون وإنملهم ألففون فناً مريع مرعى ألفضيلة مجدب ... والنقص مرعاه مريع لهم البدائع في الزما - ن وكل صنعهم بديع لولا التجاذب بينكم ... ما كان منك لهم طلوع الجهل فرقهم فهم ... شتى وجهلهم جميع قطعوا به أرحامهم ... ولكم به رحم قطيع رهج الكفاح لبوسهم ... ودخانه لهم دروع وصدا الدروع عبيرهم ... ومن النجيع لهم ردوع يتجرعون بدهرهم ... غصصاً هي السم النقيع ومن الدمآء لبانهم ... والمرهفات لهم ضروع أغرى العداوة بينهم ... أن ليس بينهم قنوع وأضلهم طرق الهداية ... والنهى الحسد الشنيع وإذا يدا طمع يهيب ... بهم له برق خدوع حسدوا النجوم مكانها ... ومكانها عنهم رفيع

ولكم وراها من (منا - طيد) جرى لهم تبيع دفعت وليس لها سوى ... غاز يخفرها دفوع فكأنها راع وما ... غير النجوم لها قطيع تعصي الرياح عواصفاً ... ولنزر غازهم تطيع فكأنها سفن وما ... غير الرياح لها قلوع وكأنما هي طائر ... وجناحه البرق اللموع أو مثقلات حملها ا - لأهوال والقيل الذريع إن راق منظرها العيو - ن فأن مخبرها فظيع هي للردى سبب وكم ... في وصله سبب قطيع النبطية سليمان ظاهر

مطبوعات ومخطوطات

مطبوعات ومخطوطات كلمة موجزة في سبير العلم وسيرتنا معه لإسعاف أفندي النشاشيبي هي كراسة كان حاضر بها صاحبها بعض فضلاء القدس وطبعها على حدة في مطبعة دار الأيتام السورية ألم فيها بتاريخ العلم في العالم وذكر ما كان لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم من الأثر الذي تغيرت به الأرض وبعد أن ذكر ما كان لأئمة العلم في الإسلام من الآثار الخالدة قال ما ننقله نموذجاً من إنشائه العذب أيضاً: والعلم الحق لن يلقاه في هذا العصر ناشده ولن يجده رائده إلا في الإقليم الإفرنجي فإن أهل هذا الإقليم قد هجروا الكرى منذ قرون والمشارقة هاجدون وأنشأوا يفكرون ويحققون ويقتبسون من فطنة كل علم ومئنة كل أدب ما يقدرون على اقتباسه ويقاومون كل من ثناهم عن معرفة أو قدعهم عن طلب حكمة ولم يقعدهم عن مواصلة السير في نشدان الخير أمير قاهر أو كردينال جائر أو ديوان تفتيشي أو منشور باباوي أو نار طلم موقدة أو أخدود ذو جاحم مستعر يقذف فيه كل من تفكر واعتبر وبحث ونظر وأبى أن يسم نفسه بسمة الجاهلين ولم يبرح القوم مشيحين دائبين ومشمرين منكشين حتى جاءت هذه العصور المتأخرة فباء الحق وزهق الباطل وجاء باكون رب الطريقة الإختبارية في الفلسفة ونيتن الذي هدى العلماء بجاذبيته إلى ما هداهم إليه وعبّد لهم من الطرق ما عبّد وديكارت الذي شاد في العلم أصولاً وهدم أصولاً وسيبنوزه الذي كسا مقالة وحدة الوجود رداء علمياً قشبياً وليبنز العالم ألفيلسوف الكبير صاحب فلسفة التفاؤل وكانت الذي سلك في الفلسفة طريقاً عذراء وقال بالآداب ما لا يقل به سواء وغوت النابغة في الشعر والعلم الذي شهد له سبنسر باحتياز هاتين ألفضيلتين والتحلي بالمنقبتين وكونت صاحب الفلسفة الثبوتية والشريعة الإنسانية وشوبنهور الفيلسوف المدهش وصاحب فلسفة التشاؤم وجان مولر واضع علم منافع الأعضاء ومبدعه وسبنسر البحاثة الاجتماعي وواضع فلسفة النشوء والمنعوت عقله بجبار العقول ودروين صاحب المذهب الذي ورد على كل ناد وولج كل بيت وشرق وغرب وعرف الإنسان مكانه وجاء البخار والكهرباء والصحيح من علمي الطبيعة والكيمياء وجاء علم الإنسان وعلم الحياة وجاء قول كنت ولابلاس في تكون الكون وقول لافزيه في بقاء المادة وقول

روبرت ماير في استمرار القوة ورأي لامرك ودروين في أمر التحول والنشوء والإنتخاب الطبيعي وقول كوبرنيك من قبل في مركز الأرض وقول ليل في طبقاتها فأضاءت هذه الأقوال من أمور الوجود ما كان مظلماً وأيقظت من كان نائماً وداوت من العقول ما كان مريضاً وجاء رونتجن وجاءت أشعته وجاء المجهر والمرقب فلمحنا الجن وناغينا الكوكب وجاء إيدسون وجاءت عجائبه وجاء الأستاذ أرنست هيكل الذي أدرك ما لم يدرك وعلم ما لم يعلم والذي نشر مذهب النشوء في ألمانيا وصارع خصومه فصرعهم والذي قال بالوحدة وكان رسول هذه النحلة إلى الناس وجاءت مباحث هذا البحر القذاف بجواهر الحكم التي ربط بها الحلقات وحل المعضلات وهتك الأستار عن الأسرار وكاد يطلعنا على الغيب فلو كشف الغطاء ما ازددنا يقيناً وجاءت علوم ومذاهب وآراء لا يحصيها الإحصاء ولا يستقصيها الإستقصاء ومشت جماعة ألفكر مع شيعة الاختبار والتحقيق وآخى النظر البحث فآنس الإنسان من الآيات العلمية ما لم يؤنسه قدماً ورأى بعين يقظان ما لم يحلم به إنسان وجاء العيان بما بخل به السماع فطلع الإقليم الإفرنجي بذلك مجلياً في ميدان الحياة وسابقاً في حلبة العلم ومعبراً في وجه كل إقليم وتبذخ قطنيه بما أبدعه وحق له أن يبتذخ وصغرت في عينه الدنيا وأحر بها أن تصغر وطمع في سكنى النجوم ولا نستبدع ظفره بمتمناه وقد أرانا منه ما رأيناه. لا أروم الآن أن أبين في ما تلوت مزايا الغرب الدثرة الكثيرة وخصائصه الجمة الأثيرة فإن ذلك يحتاج إلى حين ممتد وصحائف من الكاغد لا تعد وما ذكرت ما ذكرت إلا لأنبئ بأن العلم قد عدن في الإقليم الإفرنجي وريّم ولم ينزعج عنه ولم يرم فمن نعاه فليول وجهه شطر المغرب وليتناوله من معدنه أو مما ينجم من معدنه ولا يتفائل ويستنكف من أخه عن الإفرنج فإن ذلك لا يقبحه ولا يعيبه عند أحد من الناس كما لم يضع من الإفرنج أنهم تلمذوا للعرب واليونان ورضوا بحكمائهم ولكن الذي يقلل من مكانة الشرقي ويضحك منه خصمه وخليله أن يجد المنهل العذب وهو ملتهب الكبد فلا يرد ويتنور مقتبس الأنوار وقد دجا ليله وأحلولك فلا يقتبس. . . ارتقاء ألمانيا الوطني تأليف الدكتور كارل هلفريخوتعريب فليكس افندي فارس

طبع في المطبعة المارونية بحلب 1916 (ص142) هذه رسالة في ثروة ألمانيا الوطنية وارتقائها في مدة الخمسة والعشرين سنة الأخيرة أو التقدم الاجتماعي وارتقاء ألمانيا الوطني منذ مدة 25سنة لحكم الإمبراطور غليوم الثاني وفيها حقائق كثيرة من العوامل الاقتصادية في الإمبراطورية الألمانية والطرق التي سلكتها حتى بزت خصومها في هذا الباب وبعض الإحداثيات في هزا الكتاب مملة مطولة وكان على المعرب أن يختصرها ويورد منها ما يكفي بمعرفته للقارئ العربي عن ألمانيا وإلا فأن التفاصيل والأرقام الطويلة قد تدخل املل حتى على نفوس من كتب الكتاب لهم رسائل وكتب مختلفة الشرق المصور - مجلة أصدرتها أدارة الشرق في دمشق وفيها كثير من صور المشاهير والوقائع الأخيرة وقصائد بالعربية والتركية وهي في 16صفحة الحجاز - جريدة سياسية تصدر ثلاث مرات في الأسبوع في المدينة المنورة مدبجة بيراع رئيس تحريرها محمدبن بدر الدين أفندي النعساني من أستذة حلب وصاحب كتاب التعليم وغيره من الرسائل والمقالات فتاة الوطن - مؤلفها م. عادل ومعربها محمد بن علي أفندي حشيش طبعت بمطبعة العرفان مع أصلها التركي سنة1334 رسالة الجهاد على فتوى خليفتنا الأعظم السلطان الغازي محمد رشاد لأديب أفندي الجراح طبعت في مطبعة نينوى في الموصل سنة1333في 88صفحة أحاديث الأربعين القدسية من الصحف الإبراهيمية والموسوية لمؤلفها أديب أفندي الجراح طبعت بمطبعة سرسم في الموصل سنة 1332في 171صفحة عظة الناشئين - للشيخ مصطفى الغلاييني وهو كتاب أخلاق وآداب واجتماع طبع في مطبعة الثبات في بيروت سنة 1331في 198صفحة مفكرة صادر لعام 1917وفيها فوائد زمانية وعمراتية مجلة العالم الإسلامي الامانية - صدر العدد الأول منها وهومصدر باسم مولانا السلطان الأعظم وجلالة إمبراطور ألمانيا ومحل برسوم كثيرة وهو في 61صفحة

مصور جول الصحراء المصورةهي مجلة تصدر في بئر سبع من أقصى فلسطين بالتركية والعربية مرتين في الشهر يحررها مفتش منزل البادية وفيها رسوم المشاهير وقد صدر العدد الأول منها برسم حضرة الخليفة ورسم أنور باشا واحمد جمال باشا إيقاظ ذوي الألباب في ذم التبرج وكشف النقاب - للشيخ عبد الواسم بن يحيى الواسعي طبعت بمطبعة ألفيحاء سنة 1334 ورسالة هذه الصحيفة وتسمى مسند الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقين محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين البط بن أمير المؤمنين زامام المتقين علي بن أبي طالب سلام الله عليهم أجمعين طبعت بمطبعة الترقي في دمشق سنة 1334 تعزية الخاطين في العترافات مار اغوسطين - عربها المونسنيور يوسف العلم طبعت بالمطبعة البنانية سنة 19. 9في638 صفحة صغيرة

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار نفقات القتل اقتبست الصحف الألمانية عن إحدى المجلات الباريسية في تقدير المال الذي يستدعيه قتل الجنود في ساحات القتال فقالت: معلوم أن كل قتال يبدأ بإطلاق نار المدفعيات فلا يلبث المعسكران المتحاربان أن يمطر كل منهما الآخر عدداً من القذائف والقنابل من جميع العيارات فما هو إلا أن تفرغ عجلات الذخائر وتعود فتملا بقنابل تؤخذ من المستودعات وهذه تمدها القطارات الواصلة إلى أقرب محطة بما تحمله إليها من المهمات والأدوات المهلكات. وفي مكان بعيد عن ساحة القتال يعمل عشرات الألوف من الناس في معامل لصنع الذخائر التي تصرف في بضع دقائق في ساحات القتال أما نفقات هذه العملية فهي كما يلي: خذ بطارية مؤلفة من أربعة مدافع من عيار 25ملم مع أثنتي عشرة عربة للذخائر ترى أن لكل مدفع ولكل عربة قطاراً من الذخائر ولكل بطارية قطاراً من مثل ذلك يحتوي كل منها 24 قنبلة وفي كل عربة 72فبكون مجموع ما للبطارية من القنابل 1248أي312قنبلة لكل واحدة فيطلق كل مدفع في 24ساعة 4. . قنبلة أي 2. قنبلة في الساعة على أكثر تعديل وثمن كل قذيفة 3. فرنكاً ويقدرون أن المدفع لايعود صالحاً للاستعمال بعد أن يطلق 6ألاف طلقة ويكلف كل مدفع 18. . . فرنك أي أنه يخسر في مل طلقة ثلاثة فرنكات ويبلغ ثمن القنابل التي يطلقها المدفع الواحد في 24ساعة من عيار 75ملم 135ألف فرنك وذلك عن 4. . طلقة. فالمئة والشرون مدفعاً الموجودة مع فيلق من ألفيالق تنفق في يوم واحد 1. . . . . . فرنك، وتستدعي المدفعية الضخمة نفقة أبهظ من هذه، فقد قدروا أن كل طاقة من مدفع فرنساوي من عيار32ملم تكلف 641. فرنك وقد تبين بعد عمل كل حساب مدة المئة يوم التي دامت فيها الحرب على فردون أن كل قتيل أنفق على قتله 75ألف فرنك وقد انفق الإنكليز أكثر من هذا القدر بكثير في حرب البوير فكان القتيل الواحد يكلفهم 2. . ألف فرنك على أقل تقدير وقد كانت نفقات القتيل في حرب البلقان رخيصة أكثر من ذلك فلم يكن يكلف قتل الجندي الواحد أكثر من 5. ألف فرنك، وقد قالوا أن الذهب الذي انفق في

حرب فردون لو جمع ليرات في صعيد واحد لبلغ حجمه 8. متراً مكعباًهذا ما كلفته الحرب العامة فكم تنفق فيها الأمم من أولها إلى آخرها يا ترى التجارة الخارجية ذكرت جريدة غرفة التجارة العثمانية أن الإنكليز كانوا مستأثرين بخمسين في المئة من تجارة الصادرات في المملكة العثمانية والخمسون الأخرى تتقاسمها الأمم المختلفة من الأجانب وليس للعثماني فيها سوى خمسة في المئة كانت تجارتنا من الصادرات 45مليون ليرة فإذا افترضنا أن الأجانب يربحون عشرة في المئة من الأرباح كان معدلهم من أرباحنا أربعة ملايين ليرة في السنة ولايعود من الربح على الرعايا العثمانيين سوى نصف مليون ليرة، وقد ذكرت الجريدة أن السر في أن العثمانيين ما استطاعوا حتى الآن منافسة الأجانب في التجارة، هو أن التاجر الأجنبي متعلم وعنده معارف عامة تؤهله لدخول كل سوق من الأسواق ولان للتاجر الأجنبي رأس مال كبير وثقة مالية يهبه إياها بنو قومه ويعتمدون عليه دون غيره فقالت لا سبيل إلى استيائنا على زمام الأمور والتجارة إلا إذا تعلمنا التعليم التجاري على مستوى المتعلمين في هذا الشأن من الأجانب ودخلنا نتمرن في البيوت التجارية المعتبرة أما رؤوس الأموال فيمكن تأليف شركات كوبراتيف للمحاصيل ونقابات كنقابة التين في أزمير التي كان منها رواج هذا الصنف بعد أن كاد يقضى عليه بسبب الحرب فربحت النقابة منه أرباحاً طائلة إحصاء مهم نشر احد الإحصائيين الأمريكيين إحصاء مهماً اثبت فيه أن ألفيات في الحروب آخذة بالتناقص منذ القرن السابع عشر إلى يومنا هذا، قال أن عدد القتلى في الحروب التي وقعت منذ سنة 1631 إلى 1634 وهو عهد إدخال الأسلحة النارية واستعمال الحراب كان25. 5في المئة ونزل معدلهم في الحروب التي وقعت بين سنتي 1745و1813 إلى 2. . 7 في المئة وهبط أيضاً في أحدى عشرة حرباً وقعت بين عامي 1845 و1863 إلى 45. 5في المئة زبين سنة 1816 و187. وهو عهد أوائل استعمال المدفع الذي يملأ من مؤخرته في 6حروب من حرب كنكراتز إلى سيدان نزل معدل الهلكى في الحرب ال11 في المئة ونزل أيضاً إلى 1. في المئة في سبع حروب من حرب سان جوان إلى موكدن

أي من سنة 1898 إلى سنة 19. 5 أما هذه الحرب التي طالت وعرفت بشدتها بحيث لم يسبق لها مثيل في التاريخ فأنه يصعب تشبيهها بالحروب التي سبقت وكانت في وضع الإحصاء بواكير الشعراء نريد ببواكير الشعراء أوائل أقوالهم التي فتحت بها قرائحهم واقتطفت منها ثمار أفكارهم وهاك الآن بعض هذه البواكير التي نظمها قدماء الشعراء قال الأصمعي: أن أول بيت نظمه النابغة الذبياني هو: قزاها أن صاحبها بخيل ... يحاسب نفسه بكم اشتراها وأول كلام نطق به هكطور في أليذة هوميروس اليوناني قوله: فأجاب أخوه ذو المدد ... بالحق نطقت ولم تزد لك قلب كالصخر الأجد ... وبصدرك نفس لم تمد جهداً تزداد على جهد كالأفؤس تنفذ في الخشب ... بذراعي قطاع الحطب وشار الفلك المقتضب ... لقواه تضيق قوى القضب بمجامع مصقول الحد وقيل أن أول ما تكلم به عبد بني الحساس من الشعر أنهم أرسلوه رائداً وهو يقول: أنعت غيثاًحسناً نباته ... كالبشي حوله بناته فقالوا: شاعر والله. ثم نطق بالشعر بعد ذلك وأول شعر قاله عدي بن زيد العبادي وكان أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى أنوشروان: رب دار بأسفل الجزع من ... دومة أشهى إلي من جيرون وندامى لايفرحون بما نالوا ... ولا يرهبون صرف المنون وقدسقيت الشمول في دار بشر ... قهوة مرة بماء سخين وأول شعر لأمرئ القيس وهو ابن عشر سنوات قوله: ازود القوافي مني ذيادياً ... كذود غلام غوي جوادا

فلما كثر وعنينه ... تخيّر منها جواداً جوادا فأعزل مرجانها حانيا ... وأخذ من درها المستجاد وأول ما فتحت به قريحة طرفة بن العبد البكري لما خرج مع عمه في سفر فنصب فخاً حتى إذا أراد الرحيل ارتجز: يالك من قبّرةً بمغمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ... قد رحل عنك الصياد فابشري لابد يوماً أن تصادي فاصبري وروى ابن الأثير: أن أول شعر قاله المهلهل بن ربيعة التغلبي قوله من قصيدة أصلها 18 بيتاً: كنّا نغادر على العواتق أن ترى ... بالأمس خارجة من الأوطان فخرجن حين ثوى كليب حراً ... مستيقنات بعد هوان فترى الكواعب كالظباء عواطلاً ... إذ حان مصرعه من الأكفان وأول ما تمثل لخاطر عبيد بن الأبرص قوله: يابني الزينة ما غركمُ ... لكم الويل بسربال حجر عيسى اسكندر المعلوف

عدد الشيعة

عدد الشيعة قرأت في الجزء التاسع من المقتبس الشيعة في بر الشامللفاضل العامري الشيخ أحمد رضا فاستوقفني قوله أن عدد أهل السنة من المسلمين 15. مليون والشيعة 9. مليون وتعليقكم عليه بأن أهل الشيعة لايزيد عددهم عن 12مليون كما يتضح من الأرقام الآتية: أهل السنة 228مليون والشيعة 12مليون فالمجموع 24. مليون أهل السنة بحسب مذاهبهم: أحناف 14. مليون - شوافعة 64مليون - موالكة 16مليون - حنابلة 7مليون فيتضح أن عدد المسلمين 24. مليونكما قال الأستاذ العامري والفرق ألفارق هو بين تقديره عدد الشيعة بأكثر من حقيقتها أضعاف الأضعاف وعلى ذكر الإسلام والمسلمين نورد هنا بعض الإحصائيات عن المسلمين باعتبار عناصرهم وقاراتهم ولغاتهم وغير ذلك مما يفيد معرفته: المسلمون باعتبار عناصرهم ولغاتهم - الهنود على اختلافهم 64 مليوناً - العرب على اختلافهم 45مليوناً - الأفريقيون والسودانيون 32 مليون - الترك على اختلافهم 15 مليون - جزائر ملقة 36 مليون - الصينيون 31 مليون - الإيرانيون 9 مليون - البوماق والبشفاق 8 مليون المسلمون باعتبار قاراتهم التي يسكنونها: - آسيا166 مليون - أوروبا 14. 5 مليون - افريقيا 59. 5 مليون المجموع 24. مليون المسلمون بحسب تبعيتهم السياسية - رعايا الدولة العثمانية 14 مليون - رعايا الدول الإسلامية الأخرى17 مليون - رعايا حكومة الصين الوثنية 34 مليون - رعايا الدول المسيحية 175 مليون المجموع24. مليون وإليك بياناً مهما عن عدد المسلمين الخاضعين للدول المسيحية على اختلافها والقارات التي يقع فيها هؤلاء المحكومون فيها: في آسيا في أوربا في أفريقيا المجموع الدول الحاكمة

63. . 18 81 انكلترا 1. . 34 35 فرنسا . . . . . 2. 2 ألمانيا . . . . . 3. 3 ايطاليا والبرتغال واسبانيا 36. . . . 36 هولاندا . . 1. 5. . 1. 5 النمسا والبلغار والرومان . 3 13. . 16 روسيا 1. 3 5. 14 57 174. 5 المجموع أضف إلى ذلك 3. . ألف مسلم في جزائر ألفلبين من آسيا و68. . . مسلم في اقيانوسيا تحكمهم الولايات المتحدة الأمريكية فيكون المجموع فيكون المجموع 175 مليون وزيادة في الإيضاح خذلك بيان عن المسلمين التابعين للحكومات الإسلامية والوثنية على ما يأتي: التابعة للحكومة العثمانية دولة الخلافة العظمة - في أوروبا 2مليون - في آسيا 12 المجموع 14 ملون التابعون للحكومات الإسلامية وجميعها بآسيا 3ملايين ونصف مسقط ونجد وما إليهما من الإمارات الصغرى 4 ملايين ونصف الأفغان 9 ملايين إيران المجموع 17 مليون والبقية وهي 34 مليون بآسيا تحكمها حكومة الصين الوثنية، ويوجد أيضاً 3. ألف مسلم في جزيرة سيام ومليون مسلم في جزيرة فورموز. هذا ما وصلنا إليه البحث ولعل الفضلاء من إخواننا المسلمين الضاربين في عرض الأرضينقبون عن هذه الإحصائيات ويعملون على نشرها لتتم الغاية المبتغاة من تعارف المسلمين وتآلفهم وبالتالي اتحادهم وتآخيهم حتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وعلى اله قصد السبيل حيفا جبل الكرمل عبد الله مخلص المقتبس إن ما أورده صاحب هذه النبذة في عدد المسلمين عامة والشيعة خاصة وهو

تقريبي على ما يظهر إذ لم بستند فيه إلى مرجع تطمئن إليه النفس ولعل بعض المدققين يعيدون النظر في ذلك ويجمعون إحصاء أقرب إلى الإقناع. 755

البيزرة وكتاب فيه

البيزرة وكتاب فيه مدخل البحث بين جمادى ورجب سنة 1332 دعاني ورفيقين لي في النجف سادن إلى دار له لصق مسور المشهد العلوي فنثر بين أيدينا من الأجلاد والأوراق والأجزاء والطباق ما أرانا العجب والعجاب. نفيسات آثار شعثها الإهمال وطمسها الابتذال، منبوذة في ناحية غامضة نبذك سقط المتاع ملقاة نالت منها الأرضة والحشرات أضعاف ما اقتبسته العقول النيرات. وقد علاها من الزبل وسلح الطيور ونحوها ما غيّر محاسنها وأخلق كريم دباجتها. فأنتشنا من الجملة الجزء الأول من نواظر العيون في مختصر تذكرة ابن حمدون المتوفى سنة 562 لم نعرف صاحبه غير أنه صنع برسم الخدمة المولوية السلطانية الصالحية خطه حسن جداً يرتقي إلى القرن السابع. وأورد في كشف الظنون (منتخب الفنون في مختصر تذكرة ابن حمدون) وهو مختصر آخر والأصل من أمهات دواوين الأدب والتاريخ. قطعة من كتاب في المقصور والممدود من أجود ما جُرِدَ في هذا المعنى بخط قديم مشكول. شرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة 468 على ديوان المتنبي ربما ارتقى نسخه إلى عصر المؤلف أو ما يدانيه. كتاب السكردان تأليف ابن أبي حجلة المتوفى سنة 776 مخطوطاً على عهد المؤلف. كتاب البيزرة وهو من حيث الموضوع أهم الجميع فأثرت نعته ونشر شيء منه للقراء غير أن هذا يستلزم إيراد كلمة عن هذه اللفظة في اللغّة وفي الآثار. لفظة البيزرة في اللغة البيزرة والبزدرة بمعنى صناعة سياسة البزاة أو حرفة القيام على الجوارح وتعهد عتاق الطير من المفردات الدخيلة في كلام العرب وهي من قولهم بيزار معرب (باز - يار) أي صاحب الباز أو من قولهم بزدار معرب (باز - دار) أي ذي الباز في الفارسية أو أن بازيار وبازدار لغتان. وقيل أنها بالدال مولدة وأن الأصل بيزار قال الكميت: كأن سوابقها في الغبار ... صقور تعارض بيزارها وبالدال جاءت في قول أبي فراس ثم تقدمت إلى الفهاد ... والبازداريين باستعدادِ

ويكثر في لسان العلماء والفصحاء دوران بازيار وبيزار جمعوها في التكسير والتصحيح على بيازرة وبازياريين وبازيارّية. على أن للعرب الأقحاح أن يستعملوا مكان بازيار الأعجمية لفظة بياز العربية الصرفة دلالة على اتساع ذرع لغتهم وعدم ضيق عطفها في شيء وقد قالت العرب في قياس قولهم بيّاز صقّار وعقاب لقيم الصقورة والعقبان كما قالوا في هذا الباب كلاب وفهّاد وفيّال ونحو ذلك وهو متداول مشهور. وإنما أضاف اللغويون صناعة البيزرة إلى البزاة مع أنها تتناول غيرها من الجوارح لأن البزاة أجرأها وأجزاها وابتغها أثراً في الصيد. وقد كان لهذا العلم عندهم شأن خطير. علم البيزرة عند العرب تلقى العرب صناعة البيزرة على ما يظهر من آثارهم عمن تقدمهم والمرجح أنهم عرفوها أولاً بسليقتهم واختبارهم لمزاولتهم تغرية سباع الطير. على أن ملوكهم فضلوا الصقور على ما دونها وقلما روي شريف من العرب يستحسن حمل الباز لأن ذلك من عمل (البازيار) بخلاف الصقور والشواهين. ولا يدري لذلك علة إلا أن الصقر عندهم عربي والباز أعجمي ثم لما نضجت مدنيتهم أضافوا إلى ما عندهم ما وجد في كتب اليونان والفرس والرومان عن هذه الصناعة فسبيلهم فيها سبيل البيطرة وقد تلحق بها وتعد بمكان الفرع منها. وما أوثق لحمة النسب عندهم بين البيطرة والبيزرة أو بين طب الخيل أو طب الطير بل وطب الإنسان. فكل طب. وربما دونّوا الثلاثة في ديوان وأشركوها في عنون. وقد مضى لهذه الحرفة شان كبير في حدثان ما كان من دولة العباسيين فبلغ من عنايتهم بها وأهلها أن رسموهم في الأعطيات والفرائض فأخصبوا وأفادوا أكثر من كثير في المهنة وأرباب الصناعات حتى قالوا إن البيازرة أغنى ممن يبتاع منهم وجاء في قائمة نفقات المعتصم (سنة 279 - 295) خمسمائة دينار مشاهرة أصحاب الصيد من البازياريين والكلابزيريين وثمن الطعم والعلاج وقيل كانت مياومتهم سبعين ديناراً. ثم أن هذه الصناعة نفذت فيما نفذ من علوم المشرق إلى الأندلس بالمغرب فعني بحملتها بعض أمراء تلك الديار منهم نجم بن طرفة (سنة 330) الملقب صاحب البيازرة وهو على ما يظهر من أهل التأنق في المعيشة. ولما لم تكن البيزرة من الصناعات الضرورية التي عمت بها البلوى عندهم تراجعت وتأخرت وقلت بل انتفت تدريجياً دراستها من حيث أنها

فن من الفنون المدونة فدرست أو كادت حتى أن المتكلمين على تاريخ الفنون والآداب العربية لم يشيروا إليها في الأغلب. وأصبح من لهم العناية بأمور الجوارح على قلتهم يربونها تربية مأخذها التجربة والاختبار لا الصحف والآثار كما يشاهد الآن في بعض الأقطار العربية والأعجمية. هذا وقد عرف في الطبقة الأولى جماعة من مشاهير البيازرة. مشاهير البيازرة إنه لشيء لا ينقضي العجب منه أن يكون بين أئمة هذا الفن عند العرب مثل الغطريف ممن صحب الرشيد. هاشم. أدهم بن محرز. سعد بن عقير يستشهد بأقوالهم ويحتج برواياتهم وأنقالهم ثم لا يتسع لهم مجال كتب الترجمة والتاريخ وتضيق عنهم صدور المعاجم معاجم الأطباء والحكماء. وإنما يجيء ذكرهم عرضاً في بعض الآثار الموضوعة في صناعتهم سموهم فيها تسمية مجردة. وقد سموا غير من مرّ من أعلام البيازرة. سومارس. صرغيث النبطي. ابن العوام لعله أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوام صاحب كتاب الفلاحة نقله عن اليونانية. قسطوس الرومي لعله قسطوس بن اسكور صاحب كتاب الفلاحة الرومية وهم كالمجاهيل أغفلهم أصحاب معاجم الأعلام والطبقات مع أن بعضهم من رجال صدر الدولة العباسية ويغلب على الظن أن بعضهم من السريانيين المستعربين الذين كثر بينهم حذقة العلوم القديمة ونقلتها إلى العربية إذ ذاك. البيزرة في الكتب قلما تكلم على البيزرة من الوجهة العلمية عالم أو أديب في كتاب اللهم إلا الشيخ داوود الأنطاكي المتوفى سنة 1008 فقد أملى فيها نحو أربع قوائم من التذكرة مورداً في ترجمتها لفظ بزدرةناقلاً عن أهل هذا الفن معترفاً بقلتهم. وأورد فيها الحاج خليفة المتوفى سنة 1068 ثلاثة أسطر فقط نقلاً عن جامع السعادة لطاشكبري زاده بلفظ بيزرة والظاهر أنه لم يقف على كلام الأنطاكي وإلا لزاد. وفي بعض الكتب الفارسية عنها شيء لعله منقول على العربية مثل ما في كتاب تحفة المؤمنينتأليف حكيم مؤمنمن المتأخرين وفي دائرة البستاني عنها كلمة لم تستوعب عموداً ترجمتها بزدرة. وقد تكلم على طباع الضواري والسباع من الطيور استطراداً لا من باب الخوض والتشمير في الفن جماعة منهم المسعودي في مروج الذهب والقزويني في عجائب المخلوقات

والدميري في حياة الحيوان وغيرهم في غيرها كثير. الكتب في البيزرة إن مجموعة ما ألفيناه من الكتب المجردة في البيزرة ضئيلة جداً إليك أهمها. كتاب البزاة والصيد تأليف الأمير أبي دلف العجلي المتوفى سنة 225 القانون في البيزرة في الخزانة التيمورية وفي كشف الظنون نقلاً عن جامع السعادة أنه كاف في هذا العلم وسماه القانون الواضح ولم يسموا المؤلف. أنس الملا بوحش الفلا في البزدرة تأليف محمد بزمنكلي نقيب الجيش المصري ي أواخر القرن الثامن رقمه 2834 في خزانة باريس. رسالة في البزدرة تأليف قابادانيوس الحكيم الفيلسوف تاريخ نسخها سنة 923 في هذه الخزانة. القواعد المحبرة في البيطرة والبزدرة للأنطاكي وهناك آثار تعمم الصيد بالكلاب والنبل والنشاب وهي كثيرة ولا قمس الموضوع مساس الكتب المتقدمة نذكر من جملتها كتاب المصائد والمطارد تأليف أبي الفتح كشاجم المتوفى سنة 330 انتهاز الفرص في الصيد والقنص للشيخ تقي الدين بن حمزة بن عبد الله الناشري ألفه بزبيد سنة 910 مناهج السرور والرشاد في الرمي والسباق والصيد والجهاد تأليف زين الدين عبد القادر ابن أحمد بن علي الفاكهي رقمه 2834 من خزانة باريس. وقد وصف كواسب الطير وكواسرها ونعت أحرارها ومصرحاتها وكيفية تخليتها وإرسالها ونحو ذلك مما نحن فيه فريق من شعراء العرب أشهرهم أبو نواس وأبو فراس والناشي وكشاجم وصفي الدين في قصائد مزدوجة سميت الطردياتوهي مشهورة. ومن أهم ما عثرنا عليه من كتب هذا الفن كتابنا في البيزرة. كتابنا في البيزرة أول شيء في هذا الكتاب إغفال تسمية مؤلفه فيه وأنه خال من البسملة والحمدلة عار من تقديم مقدمة قبل الشروع في المقصود. وعلة ذلك أخرجناها فيما قدمنا من انقطاع دابر هذا الفن وأهله حتى لم تتألف من مشاهيرهم إلا طبقة محدودة ما أدركنا منها إلا الأسماء المجردة سيما وكثير منهم من غير أهل الإسلام. وليس هذا الكتاب ما ألف للإسكندر الرومي ثم نقل إلى العربية كما يظهر مما جاء على ظهره وهذا نصه كتاب البيزرة صنف الحكماء المتقدمين للملك الإسكندر الرومي وهو كتاب عجيب مما يصلح بالملوك إذ لابد لكل ملك من مسير إلى صيد بأحد هذه الطيور الجوارح والذي أوقع الوراقين في هذا الوهم

ما ورد في نحو الكتاب من إن ثقات الروم من أهل المعرفة ذكروا أن الإسكندر الرومي قال للحكماء المحتفين بخدمته أريد أن تعرفوني بطبيعة الباز وأمراضه وعلامة كل مرض ودائه وهل طبيعة الباز تقارب طبيعة الآدمي أم لا؟. وأنت تعلم قصور هذه العبارة فيما يدعون. كيف وفي الكتاب نقل كثير عن حكماء العرب والمستعربين ومنهم من صحب الرشيد!! فالكتاب إذاً من طرائف عصر عربي راق كما يظهر أيضاً من أسلوب إنشائه السهل الممتنع البليغ. ولا يبعد أن يكون مؤلفه من رجال أواخر القرن الثالث أو أوائل الرابع للهجرة. يدلنا على ذلك أن المسعودي المتوفى سنة 346 أورد في مروج الذهب عن الجوارح فصلين نرجح أنهما منقولان عن هذا الكتاب باختلاف يسير كما سيقع الإيماء إلى ذلك. وروى لنا خبير أن في خزانة باريس كتاب رقمه 2831 بدون اسم إلا أنه كتب على ظهره بخط غير خطه كتاب الجوارح والبزدرة تصنيف الفيلسوف أبو بكر ابن يوسف بن أبي بكر بن حسن بن محمد القاسمي القرشي العلوي الأشعري تاريخ كتابه سنة 848 هـ. فاسم هذا الكتاب طبق المحز وأصاب المفصل من الكتاب الماثل أمامي الآن لكن لا تزال حقيقة مؤلفة مبهمة مجهولة. هذا وكتابنا جزآن أو مقالتان في المقالة الأولى 52باباً في تاريخ الصيد بالجوارح وتقسيمها إلى أقسامها وكيفية تربيتها وسياستها ثم إرسالها على غايتها وفي المقالة الثانية 63 باباً في أدواء الجوارح وعللها وما يتخذ لعلاجها من المركبات فجملة الأبواب 115 باباً في حجم 145 قائمة أو 290 صحيفة صغيرة مخطوطة خطاً واضحاً متأخراً االيطه يخطائها العد وفي آخره وقع الفراغ من كتابة هذه البيزرة نهار السبت 10 جمادى الأخرى سنة 1201 من الهجرة على يد ملامط بن عبد الله الطرفي. النجف - محمد رضا الشبيهي

الشاعر

الشاعر درست طباع الناس في الشرق والغرب ... وميّزت ما بين العريزيّ والكسبي وخضت غمار الوهم في كل مطلبٍ ... وجبت فلاة الحق في شوطها الصعب وعاينت من أهل الفنون عجائباً ... غرائب تدعو للتعجب والعجب فلم أر مثل ابن القوافي فقد حرى ... عجائب أضاد يحار بها قلبي يطوف بلاد الله وهو بأرضه ... ويفتتح الدنيا وحيداً بلا حرب وينفر حتى لو أتاه حبيبه ... لأعرض عن هذا الحبيب بلا ذنب ويؤنس حتى تلتقي الطير حوله ... وتلفظ منه ما أعد من الحب ويهدي إلى سبل الرشاد وأنه ... ليحسبه أهل العقول بلا لب ويتخذ الناس الأرائك مقعداً ... وما راقه إلا بساط من العشب ويسمو إلى شهب النجوم محلقاً ... إليها بحراج التصور والجذب ويوشك لا كفر أن يرقى إلى السما ... ويطمع حتى بالمثول لدى الرب ويجمع ما بين النقيضين قلبه ... كما يتلاقى الهدب في النوم بالهدب فيجعل نجم الأرض مع أنجم العلى ... ويجعل نجم الأفق مع أنجم الترب ويسكر حتى لا يفيق بلا طلى ... ويصحب أهل الأرض وهو بلا صحب ويقنعك البيت الوحيد سكنته ... ويبني ألوفاً لا يقول بها حسبي يرى في ظلام الليل والشمس غرّبت ... ويعمى وما مالت إلى جهة الغرب وإن أعوزته الراح في خلواته ... ترشفها بالوهم من وجنة الحب ويا طالما صاغ الدراري فزينت ... عروس أمانيه بعقدٍ من الشهب يحن بلا قلب ويشفى بلا عنا ... ويبكي بلا ثكل ويهوى بلا قلب فكذب بلا إثم وبأس بلا قوى ... وسكر بلا خمر وشغل بلا كسب فمن كان يزري بانقريض فإننا ... رضينا من الدنيا بتعذيبه العذب ومن كان يستحلي من الشعر كذبه ... فهذه حياة الشاعرين بلا كذب بيروت - طانيوس عبده

قوائم المكاتب العربية

قوائم المكاتب العربية انتبه الإنسان حينما بدأ يجمع الكتب منذ القديم إلى وضع قوائم أو فهارس أو برنامجات لتعريف الكتب بأسمائها وموضوعاتها وأسماء مؤلفيها ومختصر تراجمهم ووصفها وما يتعلق بذلك من الشؤون اللازمة لتميزها وتعريفها. ولقد وضعت الفهارس المشهورة في مجلدات كثيرة ضخمة الجوانح الطبيعية فنالها ما نال غيرها من الكتب من السبي والنهب والحرق والإغراق في المياه والتمزيق ونحو ذلك ففقدت تلك الفهارس أو القوائم وفقد معها تعريف المكاتب ومحتوياتها مثل مكاتب العجم والعرب في العراق والشام ومكاتب مصر والمغرب والأندلس فاحتجنا إلى الطواف في البلدان والتقصي في البحث لنقف على شيء منها وهي أعز من الكبريت الأحمر لكن المطابع أظهرت لنا بعضها ومن أقدم القوائم ما وضع يمكاتب العباسيين في زمن الرشيد وولده المأمون كما يستفاد من كتاب (الفهرست) لابن النديم إذ أنه أعتمد على مثل هذه القوائم في وضع كتابه وهكذا نشأ فن وصف المؤلفات والمؤلفين بحسب كلف الأدباء بالمطالعة واقتناء الخزائن ومن أهم هذه المؤلفات في وصف الكتب ما وضع قبل عصر النهضة الحديثة وهو: 1 فهرست ابن النديم وهو المتوفى سنة 235هـ (849م) ويعرف بقمطر الكتب ولا تزال نسخه الكاملة نادرة حتى أن نصفه في مكتبة فينا (النمسا) والنصف الثاني في مكتبة الأمة في باريس (فرنسا) والظاهر أنه أول كتاب من نوعه أفرد لوصف الكتب وهو مجموع قوائم المكاتب التي عرفت في أيامه والكتب التي كانت موفودة لذلك العهد. وقلما نجد له ذكراً في الكتب التي بين أيدينا لقلة نسخه 2 فهرست ابن النديم لمؤلفه أبي الفرج محمد بن اسحق بن يعقوب النديم البغدادي الورّاق المتوفى نحو سنة 385هـ (995م) وقد بدأ بطبعه المستشرق الشهير فوسطاف فنرغل المتوفى سنة 1870م مع ملاحظات وتحقيقات فأعجلته المنية عن إتمامه فأنجزه بعده هرمان رودريغر وأوغست ملّو فطبع الكتاب سنة 1870م بالعربية في مدينة ليبسيك في 360 صفحة بقطع نصف كبير والحق به جزء ضخم في 279 صفحة ضمن التفاسير والتعاليق والاستدراكات بالعربية والنمسوية مختوماً بفهارس للإعلام طبع سنة 1872م وقد استدرك أحد المستشرقين على هذه الطبعة أول المقالة الخامسة صفحة 172 فنشرها في مجلة ألمانية سنة 1889م وهذا الفهرست هو من أهم وأقدم القوائم التي تعرف الكتب

والعلوم وتشير إلى موضوعاتها أحياناً وعليه يعتمد دارسو آداب اللغة والمولعون بمعرفة المؤلفات والمؤلفين. وفي هذه الطبعة نواقص أشير إليها بأصفار من مثل اسماء الأعلام والكتب وسني الولادة والوفاة ونحو ذلك مما أفردت له مقالة خاصة. 3طبقات الأمم لأبي قاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن صاعد التغلبي القرطبي قاضي طليطلة في الأندلس المتوفى سنة462هـ (1069م) بدأ فيه بتعريف العلوم عند الأمم كالهند والفرس والكلدان واليونان والروم والمصريين والعرب وبني إسرائيل وذكر المؤلفين فيها وكتبهم وأطال عن العرب في العراق والشام ومصر والأندلس بلاد المؤلف وقد نشر في مجلة الشرق (566: 14 فصاعداً) وطبع بكتاب على حدة. 4 فهرست الكتب والتآليف لأبي بكر محمد بن حير بن خليفة الأشبيلي الأندلسي من علماء القرن السادس للهجرة. وصف فيه 1400 كتاب في كل علم مع أسانيدها ما رواه عن شيوخه في العلوم والمعارف. طبع هذا الفهرست أولاً ملحقاً لكشف الظنون في ليبيسك من سنة 1835 - 1858م ثم نشرته مجلة أسبانية بعناية فرنسيس كوديرا سنة1894م في مدينة كازيروكوسته. 5القصيدة اليائية في أسامي الكتب العلمية - لشرف الدين محمد بن عمر القدسي الكاتب المتوفى سنة 712هـ (1312م) ذكره ابن حجر العسقلاني في كتابه (الدرر الكامنة) بقوله وما رأيت من ألف فيه شيئاً غيره وقد عرفت حال النظم وضيقه عن استيعابه كما ينبغيفيكون أول قوائم الكتب الشعرية. 6 إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد - لأبي الجود شمس الدين محمد بن ابراهيم بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني السنجاري الأصل المصري المتوفى سنة 749هـ (1348م) ومداره على وصف العلوم وأهم الكتب المؤلفة فيها طبع في مصر سنة 1318هـ (1900م) وفي بيروت بعناية الشيخ طاهر الجزائري سنة 1904م في 148صفحة. ومنه نسخ كثيرة مخطوطة في المكاتب وفي مكتبة منشئ هذه المقالة نسخة منه متقنة مضبوطة قديمة. 7 فهرست السيوطي - وهو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن كمال الدين بن محمد الخضيري السيوطي المشهور بمؤلفاته الكثيرة في العلوم والفنون نشر (فهرسته) في كشف

الظنون أيضاً طبع ليبسيك كما مر آنفاً وتوفي السيوطي هذا سنة 911هـ (1505م). 8 فهرست ابن خليل السكوني - ذكره المقري في نفح الطيب (499: 2) أنه روى ما حرفيته: شاهدت بجامع العديس بأشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى بها نحو خطوط الكوفة إلا انه أحسن خطاً وأبينه وأبرهه وأتقنه. فقال له الشيخ الأستاذ أبو الحسين ابن الطفيل بن عظيمة هذا خط ابن مقلة. . . . . . ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا أنواعها تتماثل في القدر والوضع فالألفات على قدر واحد واللامات كذلك والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة انتهى فيستدل من هذا الوصف أن فهرست السكوني في الكتب لأنه وصف المصحف وصف الخازن أو الفهرسيّ. 9 مفتاح السعادة ومصباح السيادة - لعصام الدين أبي الخير أحمد بن المولى مصلح الدين مصطفى بن خليل الملقب بطاش كبري زاده المتوفى سنة 968هـ (1560م) وقد طبع منه جزآن في الهند والجزء الثالث لا يزال مخطوطاً وهو في تعريف العلوم ثم ذكر المؤلفين وما ألفوه مما أفردت لوصفه مقالة خاصة في مجلة المقتبس هذه وهو يقع في نحو ألف صفحة مطبوعة مرتب على العلوم. 10 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - لمصطفى بن عبد الله كاتب حليي المعروف بالحاج خليفة (حاجي خليفة) المتوفى سنة 1068هـ (1657م) وهو مرتب على حروف المعجم مع مقدمات في العلوم بحسب الحروف التي تقع فيها وقد امتاز عما قبله من القوائم بنقل شيء من مضامين الكتب أو تعريف موضوعاتها وقد طبع مراراً في أوروبا والأستانة ومصر وهاتان الطبعتان في جزأين كبيرين بقطع نصف كبير. وأضبط طبعاته الأوروبية في سبعة مجلدات وعليها ذيل مفيد في مكاتب الأيام المتأخرة وعدد مجلداتها كما أشرت إلى ذلك في مقالة خاصة. 11كشف الظنون في أسماء الشروح والمتون - لكمال الدين محمد بن مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الحنفي العزي المتوفى سنة 1096هـ (1684م) وقد جمع فيه أسماء الكتب على طريقة غريبة. ولم نعلم بوجوده فلعله مفقود. 12 المكتبة الشرقية - ومن أمهات هذه الفهارس المفيدة المكتبة الشرقية ليوسف السمعاني

اللبناني المتوفى سنة 1767م (1181هـ) وهي باللاتينية وصف فيها المخطوطات القديمة بالعربية والسريانية مترجماً مؤلفيها في 12 مجلداً طبع أربعة منها فقط من سنة 1719 - 1730 في رومية والأجزاء الثمانية منها مخطوطة. 13 قائمة المخطوطات الشرقية في المكتبة النانية - للسمعاني الآنف الذكر وصف فيها ما في هذه المكتبة من المخطوطات باللغات الشرقية ولاسيما العربية. 14 ذيل كشف الطنون في أسماء الكتب والالحاقات - لإبراهيم بن علي الحنفي الرومي رئيس طائفة الجند المعروفين بالحوذيين (العربجية) في الدولة العثمانية توفي سنة 1189هـ (1775م) كما في سلك الدرر للمرادي (14: 1) ولا نعلم من أمره شيئاً ولعله في مكاتب الأستانة أو في بعض مكاتب الخاصة. وهو ذيل على (كشف الظنون) للحاج خليفة السابق وصفه. ولو وجده فلوغل لإضافه إلى الذيول التي ألحقها بطبعته للكشف البالغة منتهى التحقيق والتوسع لأنه أضاف إلى ذلك ذيول كثيرة مثل (آثارنوا) لأحمد حافظ زاده المتوفى سنة 1180هـ وفيه أهم الكتب التركية والفارسية التي عرفت بعد الكشف. وغيره مما أفردت له مقالة خاصة مطولة في وصفه ووصف فهرست ابن النديم. 15 فهرست مخطوطات الفاتيكان العربية - وهو قائمة المكتبة المشهورة في ملانية رومية ألفه المطران اصطفان عواد اللبناني المتوفى سنة 1782م (1197هـ) بمساعدة خاله السمعاني قيم المكتبة الفاتيكانية الآنف الذكر. وطبعه في ثلاثة مجلدات الكردينال ماي خلخ السمعاني في نظارة المكتبة المذكورة. ثم طبع فهرس الكتب التي دخلت المكتبة بعد ذلك بكتاب آخر ألحق بالأول. 16 فهرست مخطوطات كيجي العربية - وضعه المطران عواد المذكور لوصف مخطوطات هذه المكتبة في رومية أيضاً. 17 فهرست الكتب الشرقية في المكتبة المديسية - وهذه المكتبة هي فلورنسة (ايطاليا) وضع فهرسها المطران عواد أيضاً واصفاً فيه 537 كتاباً مترجماً معطم مؤلفيها وناقلاً بعض مضامينها مع حواش وتعاليق مفيدة. 18فهرست مخطوطات الإسكوريال العربية - وهو برنامج وضعه الخوري مخايل العزيزي الطرابلسي لما استقدمه ملك اسبانيا سنة 1748م لتنظيم مكتبة الاسكوريال في

مدريد (اسبانيا) التي يسميها العرب مجريط وتوفي سنة 1791م (1206هـ) وقد طبع هذا البرنامج في مجلدين بقطع نصف باللغتين اللاتينية والعربية من سنة 1761 - 1770م بمساعدة بولس خضر الماروني. هذا إلى غير ذلك من الفهارس الأخرى التي لا تزال مخطوطة أو مجهولة أو فقدت أو نقلت إلى المكاتب الأخرى وأغفل أمرها. وعلى الجملة فإن القدماء اعتنوا بفهارس الكتب التي حفلت بها مكاتبهم فرتبوها في رفوف وخزائن حسب مواضيعها أو على حروف المعجم ووضعوا عليها أرقاماً (نمراً) ربطوها في القوائم بها لزيادة الضبط. وقد يعرفّون المؤلفات والمؤلفين أحياناً بما يزيل الإبهام أو يكاد لتوارد الخواطر في التسمية وتغيير أسماء المصنفات بحسب الدواعي حتى أن بعض الكتب لها أكثر من أسمين مختلفين وكذلك يقال في المؤلفين وتراجمهم. وقد يطيلون في البحث عن أشياء ليست من أغراض مؤلفي القوائم فيذهبون بالمطالع بين سهول المباحث وحزونها. كما فعل ابن النديم في أبحاثه عن الصابنة وماني وخرافات القدماء مما ليس تحته كبير فائدة مثلما فاه في أبحاثه عن الفلسفة والفلاسفة ونقله الكتب فهي وإن كانت تتجاوز غرضه فتحتها فوائد جديرة بالمطالعة وكذلك فعل صاحب الكشف في بعض مواضيعه وقد يقتضبون الكلام عن المؤلفات كما فعل ابن النديم في معظمها بخلاف صاحب الكشف. وقد يعرّفونها بما يفي بحاجة الباحث مثل تعريف ابن النديم لكتاب (المنتهى في الكمال) صفحة 137 وذكر فهرست آخر صفحة 107 وقد يذكرون أثمان الكتب كما وقع لابن النديم في صفحتي 252و253 وغيرهما وصاحب الكشف (335: 1) من طبعة الأستانة وقلما يشيرون إلى الخزائن التي توجد فيها المؤلفات إلا في القليل كما فعل صاحب الكشف في بعض المواضع. وكذلك يفعلون سني التأليف والنسخ وما على الكتب من الحواشي إلا ما يورده صاحب الكشف أحياناً. وعلى الجملة فإن لهذه القوائم القديمة مزايا مفيدة ونواقص استدركها عليهم المعاصرون في ما وضعوه في قوائمهم المتقنة المعرفة للكتاب من حيث حجمه وقطعه وخطه وصفحاته وما في كل منها من الأسطر وعدد كلمات كل سطر وموضوع الكتاب ونقل شيء منه وذكر

أقسامه وفصوله وما تبحث عنه في كل ذلك. ثم تعريف المؤلف ومختصر ترجمته وسنة وفاته وما اشتهر به ووضعه من المؤلفات الأخرى. والإشارة إلى ناسخ الكتاب وسنة نسخه ونوع خطه. ومعارضة النسخة بغيرها وذكر ثمنه وتجليده وورقه إلى ما يساوق هذه الأبحاث المفيدة المختومة بفهارس مختلفة لتسهيل المطالعة ويتيسر العثور على المطلوب بأقرب وقت. ومعرفة المؤلفات والمؤلفين من نظرة خفيفة. ما فيه اقتصاد وقتي ودقة نظر وصحة بحث. وفي قوائم المحدثين تدقيقات جديرة بالمطالعة كما سترى في مقالة أخرى خصصت بقوائمهم. زحلة (جبل لبنان) - عيسى اسكندر المعلوف

فوات نهج البلاغة

فوات نهج البلاغة لمولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام من الحكمة البالغة التي تتجلى ببرود البلاغة الرائعة ما لا يجهله ذو مسكة من البيان العربي. وهو مع كونه غذي بدر النبوة وارتضع أفاويق الحكمة فهو بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبلغ الهاشميين الذين هم مهبط القرآن ومعدن الإعجاز في البيان وهم أفصح قريش الذين هم أفصح العرب على الإطلاق. وقد عني الشريف الرضي الموسوي في جمع ما عثر عليه من كلامه عليه السلام في كتابه نهج البلاغة فكان هذا الكتاب نبراساً للمتأدبين ومنهجاً لاحباً للطالبين وتوفرت العناية في دراسته من طالبي الحكمة الأخلاقية أو الملكات اللغوية أو السلائق البيانية. وقد عثرت في مطالعاتي على كلام له عليه السلام لم يذكر كله أو جله في نهج البلاغة فأحببت أن أتحف قراء المقتبس بهذه الدرر الحكيمة والجواهر الكريمة خدمة للعلم فقد أخرج الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المعروف بأبي عبد الله الحفيد المولود سنة 338 والمتوفى سنة 413 في كتابه المعروف بالإرشاد جملة صالحة من كلامه في مواضع شتى إليك بعضها مع شرح وجيز لها. النبطية (جبل عامل) - أحمد رضا من كلام عليه السلام في وجوب المعرفة بالله تعالى والتوحيد له ونفي التشبيه عنه والوصف لعدله فمن ذلك ما رواه أبو بكر الهزلي عن الزهري عن عيسى بن زيد عن صالح بن كيسان أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في الحث على معرفة الله سبحانه والتوحيد له. أول عبادة الله معرفته وأصل معرفته توحيده ونظام توحيده ففي التشبيه عنه جل عن أن تحله الصفات لشهادة العقول أن كل من حلته الصفات مصنوع وشهادة العقول أنه جل وعلا صانع ليس بمصنوع بصنع الله يستدل عليه وبالعقول يعتقد معرفته وبالنظر تثبت صحته جعل الخلق دليلاً عليه فكشف به عن ربوبيته هو الواحد الفرد في أزليته لا شريك له في آلهته. ولا ندّ له في ربوبيته بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضدّ له

وبمقارنته بين الأمور المقترفة علم أن لا قرين له (في كلام طويل). ومما حفظ عنه في نفي التشبيه عن الله تعالى ما رواه الشعبي قال سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يقول والذي احتجب بسبع طباق فعلاه بالدرة ثم قال له: يا ويلك أن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء سبحان الذي لا يحويه مكان في الأرض ولا في السماء. فقال الرجل أفأكفّر عن يميني يا أمير المؤمنين قال عليه السلام لا أنك لم تحلف بالله فتلزمك كفارة الحنث وإنما حلفت بغيره. ومن كلامه: روى الحسن بن أبي الحسن البصري قال: جاء وجل إلى أمير المؤمنين بعد انصرافه من صفين فقال له يا أمير المؤمنين أخبرني عما كان بيننا وبين هؤلاء القوم من الحرب أكان بقضاء من الله وقدر فقال له أمير المؤمنين عليه السلام ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا والله فيه قضاء وقدر فقال الرجل فعند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له ولم قال إذا كان القضاء والقدر ساقانا إلى العمل فما وجه الثواب لنا على الطاعة وما وجه العقاب لنا على المعصية فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أو ظننت يا رجل أنه قضاء حتم وقدر لازم لا تظن ذلك فإن القول به مقال عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومحبوسها إن الله جل جلاله أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكف يسيراً ولم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يخلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا بربهم فويل للذين كفروا من النار. فقال الرجل فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين قال الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا فأما غير ذلك فلا تظن فإن الظن له محبط للأعمال فقال الرجل فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك وأنشأ يقول أنت الإمام الذي نرجو بطاعته ... يوم المآب من الله غفرانا أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ... جزاك ربك بالإحسان إحسانا

ومن كلامه في الدعاء إلى معرفته وبيان فضله وما ينبغي لمتعلم العلم أن يكون عليه ما رواه العلماء في الأخبار في خطبة منها والحمد لله الذي هدانا من الضلالة وبصرنا من العمى ومن علينا بالإسلام وجعل فينا النبوة وجعلنا النجباء وجعل إفراطنا إفراط الأنبياء وجعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونعبد الله ولا نشرك به شيئاً ولا نتخذ من دونه ولياً فنحن شهداء الله والرسول شهيد علينا نشفع فنشفع فيمن شفعنا له وندعو فيستجاب دعاؤنا ويغفر لمن ندعو له ذنوبه أخلصنا لله فلم ندع من دونه ولياً. أيها الناس تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله أن الله شديد العقاب. أيها الناس إني ابن عم نبيكم وأولاكم بالله ورسوله فاسألوني ثم اسألوني فكأنكم بالعلم قد نفذ وأنه لا يهلك عالم إلا هلك معه بعض علمه وإنما العلماء في الناس كالبدر في السماء يضيء نوره على سائر الكواكب خذوا من العلم ما بدا لكم وإياكم أن تطلبوه بخصال أربع لتباهوا به العلماء أو تماروا به السفهاء أو تراؤوا به في المجالس أو تعرفوا وجوه الناس إليكم للترأس ولا يستوي عند الله في العقوبة الذين يعلمون والذين لا يعلمون ونفضنا الله وإياكم بما علمنا وجعله لوجه الله خالصاً انه سميع مجيب. ومن كلامه في وصفه العالم وأدب المتعلم رواه الحرث الأعور قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول من حق العالم ألا يكثر عليه السؤال ولا يعنت في الجواب ولا يلح عليه إذا كسل ولا يؤخذ بشوبه إذا نهضا ولا يشار إليه بيد في حاجة ولا يفشى له سر ولا يغتاب عنده أحد ويعظم كما حفظ أمر الله. ولا يجلس المتعلم إلا أمامه ولا يعرض من طول الصحبة وإذا جاءه طالب علم وغيره فوجده في جماعة عمهم بالسلام وخصّه بالتحية وليحفظ شاهداً أو غائباً وليعرف له حقه فإن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله فإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وطالب العلم تستغفر له الملائكة. ومن كلامه عليه السلام في أهل البدع ومن قال في الدين برأيه وهذه الخطبة ورد أكثرها في نهج البلاغة وفيها زيادات

لم تذكر هناك فأوردناها برمته ما رواه ثقات النقل من الخاصة والعامة في كلام افتتاحه الحمد لله والصلاة على نبيه صلى الله وآله وسلم. أما بعد فذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم انه لا يهيج على التقوى زرع قوم لا يظمأ عنه سنح أصل وإن الخير كله فيمن عرف قدره وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره وأن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل وكله الله إلى نفسه جائز عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة قد لهج فيها بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن أفتتن به ضال عن هدي من كان قبله مضل لمن أقتدى به حمال خطايا غيره رهن بخطيئة قد قمش جهلاً في جهال عشوة غار باغباش الفتنة عمي عن الهدى قد سماه أشباه الناس عالماً ولم بغن فيه يوماً سالماً بكر فاستكثر مما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن واستكثر من غير طائل جلس للناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره أن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله وإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثم قطع عليه. فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ. ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً. أن قاس شيئاً بشيء لم يكذّب رأيه وإن أظلم عليه أمراً اكتتم به لما يعلم من نفسه من الجهل والنقص والضرورة كيلا يقال أنه لا يعلم ثم أقدم بغير علم فهو خائض عشوات ركاب شبهات خبّاط جهالات لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم. ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم. يذري الروايات ذرو الريح الهشيم تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم به الحلال لا يسلم بإصدار ما عليه ورد ولا يندم على ما منه فرط. أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعذرون بجهالته فإن العلم الذي هبط به آدم عليه السلام وجميع ما فضلت به النبيون إلى نبيكم خاتم النبيين. في عترة محمد صلى الله عليه وعلى آله فأين يتاه بكم بل إلى أين تذهبون يا من نسخ من أصلاب أصحاب السفينة هذه مثلها فيكم فاركبوها فكما نجا من هاتيك فكذلك ينجو من هذه من دخلها. أنا رهين بذلك قسماً حقاً وما أنا من المتكلفين والويل لمن تخلف ثم الويل لمن تخلف. أما بلغكم ما قال فيهم نبيكم صلى الله عليه وآله حيث يقول في حجة الوداع: إني تارك فيكم الثقلين ما تمسكتم

بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما إلا هذا عذب فرات فاشربوا وهذا ملح أجاج فاجتنبوا. ومن كلامه عليه السلام في التزود للآخرة وأخذ الأحبة للقاء الله تعالى والوصية للناس بالعمل الصالح ما رواه الثقات أنه كان ينادي في كل ليلة حين يأخذ الناس مضاجعهم بصوت يسمعه كافة أهل المسجد ومن جاوره من الناس. تزودوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإن أمامكم عقبة كؤداً ومنازل مهولة لا بد من الممر بها والوقوف عليها فإما برحمة من الله نجوتم من فظاعتها وأما هلكة ليس بعدها انجبار يا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة وتؤديه أيامه إلى شقوة جعلنا الله وأيامكم ممن لا تبطره نعمة ولا تحل به بعد الموت نقمة فإنما نحن به وله وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. ومن كلامه عليه السلام في التزهيد في الدنيا والترغيب في أعمال الآخرة يا ابن آدم لا يكن أكبر همك يومك الذي أن فاتك لم يكن من أجلك فإن همك يوم فإن كل يوم تحضره يأتي الله فيه برزقك وأعلم أنك لن تكتسب شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك يكثر في الدنيا به نصبك ويحظى به وارثك ويطول معه يوم القيامة حسابك فاسعد بمالك في حياتك وقدم ليوم معادك زاداً يكون أمامك فإن السفر بعيد والموعد القيامة والمورد الجنة أو النار. ومن كلامه عليه السلام في ذكر خيار الصحابة وزهادهم ما رواه صعصعة بن صوحان العبدي قال صلى بنا أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم صلاة الصبح فلما أسلم أقبل على القبلة بوجهه يذكر الله لا يلتفت يميناً ولا شمالاً حتى صارت الشمس على حائط مسجدكم هذا (يعني جامع الكوفة قيد رمح ثم أقبل علينا بوجه فقال: لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأنهم

ليراوحوا في هذا الليل بين جباههم وركبهم فإذا أصبحوا أصبحوا شعثاً غبراً بين أعينهم شبه ركب المعزى فإذا ذكروا الموت مادوا كما يميد الشجر في الريح ثم انهملت عيونهم حتى تبل ثيابهم ثم نهض عليه السلام وهو يقول: كأنما القوم باتوا غافلين. ومن كلامه ومواعظه وقد ذكرت في النهج على اختلاف بين روايتها هنا وهناك الموت طالب حثيث ومطلوب لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب فأقدموا ولا تنكلوا فإنه ليس عن الموت محيض أنكم أن لا تقتلوا تموتوا والذي نفسى بيده لألف ضربة بسيف على الرأس أيسر من موتة على فراش. ومنها أيها الناس أصبحتم أغراضاً تنتصل فيكم المنايا وأموالكم نهب المصائب ما طعمتم في الدنيا من طعام فلكم فيه غصص وما شربتم من شراب فلكم فيه شرف وأشهد بالله ما تنالون من الدنيا نعمة تفرحون بها إلا بفراق أخرى تكرمونها. أيها الناس إنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء لكنكم من دار إلى دار تنقلون فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه والسلام. ومن كلامه عليه السلام في الدعاء إلى نفسه والدلالة على فضله ما رواه كثير من الخاصة والعامة وذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة خطبها بعد بيعة الناس له على الأمر وذلك أبعد قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. أما بعد فلا يرعين مرح إلا على نفسه شغل من الجنة والنار أمامه ساع مجتهد وطالب يرجو ومقصر في النار ثلاثة واثنان ملك طار بجناحيه ونبي أخذ الله بيديه لا سادس هلك من ادعى وردي من اقتحم اليمين والشمال مضلة والوسطى الجادة منهج عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة إن الله تعالى داوى هذه الأمة بدوائين السوط والسيف لا هوادة عند الإمام فيهما فاستتروا بيوتكم وأصلحوا فيما بينكم والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها معذورين أما إني لو أشاء أن أقول لقلت عفى الله هما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيراً له انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فبادروا حق وباطل ولكلّ أهل ولئن

أمر الباطل فلقديماً فعل ولئن قلّ الحق فلربما ولعل وقل ما أدبر شيء فأقبل ولئن رجعت إليكم نفوسكم أنكم لسعداء وأني لأخشى أن تكونوا في فترة وما علي إلا الاجتهاد. إلا وأن إبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ألا وأنا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا وبقول صادق أخذنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا وإن لم تفلوا يهلككم الله بأيدينا معنا راية الحق من تبعها لحق ومن تأخر عنها غرق إلا وبنا تدرك ترة كل مؤمن وتخلع ربقة الذل من اعناقكم وبنا فتح الله لا بكم وبنا يختم لا بكم. ومن كلامه عليه السلام ما رواه عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله قال: دخل على علي ابن أبي طالب عليه السلام بالمدينة بعد بيعة الناس لعثمان فوجدته مطرقاً كئيباً فقلت له: ما أصاب قومك فقال: سبحان الله والله أنك لصبور قال فاصنع ماذا قلت: تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالفضل والسابقة وتسألهم النصر على هؤلاء المتمالئين عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة وإن دانوا لا كان ذلك على ما أحببت وإن أبوا قاتلتهم فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله الذي أتاه نبيه عليه الصلاة والسلام وكنت أولى به منهم وإن قتلت في طلبه قتلت شهيداً وكنت أولى بالعذر عند الله وأحق بميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: أتراه يا جندب يبايعني عشرة من مائة قلت: أرجو ذلك قال: لكني لا أرجو من كل مائة أثنين وسأخبرك من أين ذلك. إنما ينظر الناس إلى قريش وأن قريشاً تقول أن آل محمد يرون أن لهم فضلاً على سائر الناس وأنهم أولياء الأمر دون قريش وأنهم إن ولوه لم يخرج منهم هذا السلطان إلى أحد أبداً ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم لا والله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعين أبداً قال: فقلت له أفلا أرجع فأخبر الناس بمقالتك هذه فادعوهم إليك فقال لي: يا جندب ليس هذا زمان ذلك قال: فرجعت إلى العراق فكنت كلما ذكرت للناس شيئاً من فضائله ومناقبه وحقوقه زبروني ونهروني حتى دفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة ليالي ولينا فبعث إلي فحبسني حتى كلم فيّ فخلى سبيلي. ومن كلامه عليه السلام: لما توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج فاجتمعوا

ليسمعوا كلامه وهو في خبائه قال ابن عباس فأتيته فوجدته يخصف نعلاً فقلت له: نحن على أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبها وقال لي: قومّها فقلت: ليسر لهما قيمة قال على ذاك قلت كسر درهم قال: والله لهما أحب إلى من أمركم هذا إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً. قلت: أن الحاج اجتمعوا ليسمعوا من كلامك فتأذن لي أن أتكلم فإن كان حسناً كان منك وإن كان غير ذلك كان مني قال لا أنا أتكلم ثم وضع يده على صدري وكان شثن الكفين فآلمني ثم قام فأخذت بثوبه وقلت: أنشدك الله والرحم قال: لا تنشد ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وليس في للعرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة فساق الناس إلى منجاتهم أما والله ما زلت في ساقتها ما غيرت ولا بدأت ولا خنت حتى تولت بحذافيرها ما لي ولقريش أما والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتوقين وإن مسيري هذا عن عهد إليّ فيه أما والله لأبقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا وأنشد وذنب لعمري شربك المحض خالصاً ... وأكلك بالزبد المقشرة التمرا ونحن وهبناك العلاء ولم تكن ... علياً وحطنا حولك البيض والسمرا لها تابع

دائرة المعارف الإسلامية

دائرة المعارف الإسلامية كتب الإفرنج كثيراً على الإسلام والمسلمين منذ دخلت العلوم عليهم واشتدت حاجة اجتماعهم واقتصادهم إلى معرفة ما عند الأمم المجاورة لهم ولكن معظم ما كتب لا ينم عن تحقيق. كتب من حاضر الوقت وما وجد للحال تحت اليد فجاء مختلاً من عدة وجوه وبين أكثره وبين الحقائق هوىً سحيقا زادها هوى النفوس وسرائر التعصب في تلك الأيام ولما قوية الإستشراق أو تعلم علوم المشرقيات بين الغربيين أخذ كلامهم على الإسلام وأهله يقرب من الحقيقة خصوصاً إذا كان الكاتب ممن لا ينطق عن غرض سياسي كما فعل سيديليو الفرنساوي في كتابه تاريخ العرب وفعل بروكلمان الألماني في كلامه على تاريخ آداب اللغة العربية وكما فعل بعض علماء المشرقيات من الألمان والنمساويين والمجريين والهولانديين والسويسريين وغيرهم. أمامنا الآن أمتع مؤّلف كتبه أهل الغرب عن المسلمين وبلادهم حتى هذا العصر وهو دائرة المعارف الإسلامية ظهر أولاً نموذجات منه باللغة الألمانية لأنها لغة العلم على الأكثر في أوربة الوسطى وبلاد السكاندنافيا وهولاندة فلم يسع فرنسا إلا أن توسلت بإخراج هذا العمل بلغتها أيضاً ونفحت الطابع مبلغاً من المال وكذلك فعلت انكلترا وها قد مضى ثماني سنين ولم يصدر من هذا الكتاب النفيس سوى عشرين كراساً وقع منها سبعة عشر في 9 صفحة بدئت بحرب اوانتهت بحرف الثلاثة الباقية وقعت في 192 صفحة وهي في حرف وصل إلينا منها إلى قبيل الحرب مقالة كل بابا البكداشي. موضوعات الكتاب كلها منتقاة يكتبها عشرات من علماء المشرقيات المشهود لهم بسعة العلم وفضل العمل أو من طبقة ثانية منهم تلاحظ الطبقة الأولى ما يكتبون وكل من كتب مقالة أو مبحثاً ذيله باسمه ليكون ذلك أقرب إلى الثقة ولا يخلط المؤلف في شيء سيتناقل عنه. والكتاب معجم أو قاموس في جغرافية بلاد الإسلام وأصول شعوبها وتراجم رجال الأمة الإسلامية فترى كل موضوع وقد عهد إلى الأكفاء في تحبيره وتحريره مستوفىّ من كل وجه وفي أسفله المصادر التي نقل المؤلف منها والكتب الإفرنجية أو الشرقية التي أعتمد عليها. ومن أهم المقالات في هذه الدائرة الكبرى مقالة مصر وأفغانستان وجزيرة العرب والأندلس وأرمينية والبربر والفقه وغير ذلك من تراجم أعيان الأمة في القديم والحديث والتوسع في

بلادها وسكانها توسعاً وسطاً ينظر فيه إلى جودة المادة على الأغلب. وإن دائرة معارف من جملة المساعدين فيها كويدي وغولدصهير وهارتمان وبروكلمان وغيرهم من أعيان علماء ألمانيا وهولاندة وفرنسا والدانيمرك والسويد ونروج وسويسرا وإنكلترا وإسبانيا إيطاليا والنمسا والمجر وروسيا وأميركا والجزائر والهند وفي كتابها الإسرائيلي والمسيحي والمسلم لا غرابة في كونها من أرقى كتب القرن العشرين ولا نغالي إذا قلنا أنها كتاب القرن العشرين عن الشرق. وقد ضمت هذه الدائرة تراجم بعض رجال من أهل الإسلام أو لمن كان لهم شأن في أقطارهم كانت مجهولة حتى عند الخاصة منا لأن القائمين بتأليف هذا الكتاب النادر بالنظر لأخصاء كل واحد منهم في بقعة أو شيء توغلوا في البحث واستوفوا كل دقيق وجليل في تقويم بلدان المسلمين وتقدير رجالهم. عنوا من ثم بأرض المسلمين ومن دب عليها حتى الآن فلم حاجة في نفس المطالع إلا قضوها ولا باباً من أبواب الأفادة إلا ولجوه فجاءت الفوائد على طرف التام يتناولها كل من يعرف إحدى لغات العلم الثلاث الألمانية والإفرنسية والإنكليزية. يطبع الكتاب في مطبعة بريل في هولاندة المشهورة بطبع كتب الشرق منذ ثلاثة قرون وتساعدها جمعية المجامع العلمية الدولية فصح أن نقول دائرة المعارف الإسلامية هي كتاب الغرب أوروبا وأمريكا قدمه للشرق آسيا وإفريقيا وما كان أحرانا معاشر الآسيويين والإفريقيين أن نكون نحن البادئين في نشر مثل هذا السفر الأنفس خصوصاً وصاحب الدار أدرى بالذي فيها ولذلك لم بيق لنا رجاء إلا أن نرجو ممن يحزقون إحدى لغات الكتاب أن يعتمد كل واحد منهم على الطبعة التي يحسن لغتها ويقتبس منه لأهل الإسلام ما يفيدهم في موضوع بلادهم ورجالهم وأصولهم فإن من البلاد ما يحيثه النور إلا منعكساً والشرق بعد أن كان مصدر النور أخذ يقتبس نوره من الغرب. وهاك الآن ما كتبه إلينا الأستاذ العلامة هوتسما رئيس تحرير هذه الدائرة الإسلامية وأستاذ كلية أوترخت في بلاد القاع (هولاندة) بشأن هذا التأليف وقد سألناه منذ ثلاثين شهراً عن الطرق التي عمدوا إليها حين أنشأها فتفضل بالجواب الآتي تعريبه: يجب أن يعلم أنه طالما جرى البحث ولاسيما في مؤتمرات المستشرقين الدولية في الحاجة الماسة إلى دائرة

معارف إسلامية تجمع شتات جميع أبحاث المستشرقين التي هيأوها لنا عن الشعوب الإسلامية. ومثل هذا التأليف لا أثر له في الغرب إذا استثنى من ذلك كتاب المكتبة الشرقية الذي نشره في باريز هربربر منذ زهاء قرنين. إن دوائر المعارف العربية والتركية لم توضع بحيث تقوم بغرض القراء من الغربيين ممن لا يعرفون هاتين اللغتين فهي لا تسد هذه الثلمة. ولقد دعيت إلى القيام بمثل هذا التأليف فنشرت بمساعدة بعض المستشرقين والسادات بريل في ليدن نموذجاً من دائرة المعارف الإسلامية نال استحسان ورصفائي. وكنت طلبت وحزت معاونة المجامع العلمية في أوربا بأسرها للإنفاق على هذا المشروع قبل السادات بريل في ليدن بنشر هذا التأليف على نفقتهم. ومن الأسف أنه لم يقع الإتفاق على المال الواجب استخدامه حتى وقع القرار مؤخراً بأن تنشر دائرة المعارف بثلاث لغات (الألمانية والإفرنسية والإنكليزية) في آن واحد. وهو قرار يؤسف له لأن مهمة التحرير تطول بذلك وتصعب ثلاث أضعاف وأشق من ذلك أن نشرها على هذه الصورة يستلزم وقتاً أطول ثلاث أضعاف للنشر ولعل النفقات على نسبة ذلك. ومع هذا لما شاهدت قبولاً من المجامع ومن رصفائي لم تحدثني نفسي أن أطرح الموضوع وبعد أتخذ أسباب أخرى ضممت إليّ المسيو باسيه عميد كلية الآداب في الجزائر يتولى تحرير النسخة الإفرنسية والإستاذت. وأرنولد في لندرا للقيام بالطبعة الإنكليزية وجميع المقالات المتعلقة بشمال إفريقية (الجزائر وتونس ومراكش والسودان) هي مما تولاه المسيو باسيه ومؤازروه وجميع الأبحاث المتعلقة بالبلاد الخاضعة للحكومة الإنكليزية ما عدا مصر هي مما يرجع به إلى المستر أرنولد وجميع البلاد مثل مصر والمملكة العثمانية بأجمعها وفارس وآسيا الوسطى والهند والهولاندية (جاوة) الخ هي في عهدتي. وقد عهد بالمقالات المختلفة المتعلقة بهذا الشأن إلى علماء الأكفاء يوقعون عليها بأسمائهم وهم وحدهم المسؤلون عما تحويه. وتجد بين المؤازرين في التحرير أسماء المشاهير من كل أمة مثل المسيو هاوار والمسيو كازادي فو في فرنسا والمسيو بكيروغولدصهير وهارتمان وهرفلد وكثير غيرهم في ألمانيا والمسيو مورنالد من روسيا والمسيو زترستين في السويد والمسيو بوهل في الدانيمرك والمسيو سوتر من سويسرا والمسيو كويدي والمسيو نالينو من إيطاليا والمسيو موردهام من الأستانة

والسيد هدايت حسين من كلكونا وهذا هو الشرقي الوحيد الذي دخل العمل حتى الآن ثم المستشرقين الهولانديون مثل مسيو سنوك هوركروج والمسيو جونبول والمسيو فيمش الخ. والغاية من تحرير هذه الدائرة علمية صرفة وذلك ليحيط الناس حق الإحاطة بحال الشعوب الإسلامية ويطلعون على تاريخهم ودينهم وفنونهم وعلومهم وجغرافية البلاد التي ينزلونها وتراجم المشهورين من رجالهم وقد ختم كتابه في الشكوى من حال التأخر في نشر الدائرة وإنجازها.

طرق الشرق

طرق الشرق ربما يظن بعضهم أن الاتصال بين الشرق والغرب كان في القديم معدوماً والحقيقة أن الاتصال للتجارة والزيارة كان موجوداً ولكن لا كما هو اليوم فكنت ترى في البلد الواحد من الشرق أو الغرب بضعة رجال سافروا إلى القاصية في البر أو البحر واليوم ترى في المدن التي كثر اختلاط أهلها بالأمم المجاورة والبعيدة خمسة أو عشرة في المئة ولا سيما سكان الساحل فكثر الخلط في الأخبار قديماً وقلّ اليوم إذ عرف كل شيء وسهلت الطرق التجارية بحرية كانت أو برية طرق الاطلاع على الحقائق وكانت طرق فارس في الأمم القديمة آمن الطرق وأسلكها (المقتبس م3 ص103) ولذلك سهل على كثير من أهل الإسلام أن يزوروها وكانت كتابة قدماء جغرافيي العرب أمتع من كتابتهم على نفس ديار العرب ولم تبطل المواصلات بين الغرب والشرق فتارة يتقدم الفينيقيون ويحملون على سفنهم متاجرهم إلى سواحل البحر الرومي وربما بلغوا بها بريطانيا العظمى وطوراً تكون النوبة للرومان يفتحون جزءاً عظيماً من بلاد الشرق الأقرب فتكثر متاجرهم مع أهله وآونة يكثر الاختلاط بين بالروم من أهل المملكة الشرقية ويتسلطون على كثير من الأقاليم الشرقية فتزيد الصلات التجارية معهم ثم تجيء نوبة الروسيين فالجنوبيين فالبيزيين فالبنادقة الإيطاليين. ومنذ القرن الرابع للمسيح أخذ من دانوا بالنصرانية يأتون إلى الأراض المقدسة وفي الحروب الصليبية كثرت هذه العلائق وكان للنورمانديين فضل السبق على سائر الأمم الأوربية بتحمسهم في زيارة الأصقاع المقدسة في فلسطين مدفوعين بعوامل حب الربح والاتجار أيضاً فكانوا يتحاشون تجثم أهوال البحر ولذلك كنت تراهم يقطعون المسافة براً فيمرون بفرنسا وبجزء عظيم من إيطاليا ثم يركبون البحر من نابولي أو كايت أو سلونا وهي الموانئ التي كانت تتقايض التجارة مع سورية وقد قضى الصليبيون الذين سافروا من أوربا إلى فلسطين من طريق الأستانة براً ثمانية أشهر وكانت تقطع المسافة بحراً في مراكب تلك الأيام بين إحدى مواني الأندلس وبين الإسكندرية في ثلاثين أو أربعين يوماً وربما بلغت من البندقية إلى يافا خمسين يوماً بحسب ملائمة الهواء. والطريق التي كانت متبعة في القرن السادس عشر للذهاب من فرنسا إلى الشرق براً هي راغوس يكي بازار اسكوب تاتار بازار جق.

وكانت الطرق البرية المسلوكة معبدة كل التعبيد ومرافق الحياة موفورة بها ولا سيما البغال والحمير والخيل والجمال والهوادج والمركبات لكل إقليم اصطلاحه وعاداته ولذلك كان المرء إذا قصد السرعة يتأتى له ذلك كما فعل البارودي لاكاد فقضى اثنين وعشرين يوماً للذهاب من الأستانة إلى فونتينبلو قرب باريز. وزار برتراندون دي لابروكيير القدس فرجع راكباً من الأستانة إلى فرنسا من طريق بلاد الفلاخ وبلغراد وبشته في خمسين يوماً ووقف منها أياماً في الطريق وقضى الرحالة ابن جبير من لدن خرج في القرن السادس للهجرة في غرناطة الأندلس إلى أن آب إليها عامين كاملين وثلاثة أشهر ونيفاً. وكان للأندلسيين غرام في الرحلة إلى المشرق يقصدونه للحج وطلب العلم والتجارة كما كان للمشرقيين عناية بذلك ولكن أقل من عناية الأندلسيين ولا غرابة فالأندلسيون أوربيون ومن أين للشرقي همة كهمة الغربي. لقد عمرت مدن كثيرة في القديم بسبب التجارة لإيواء القوافل والسياح وفي جنوبي أوربا شيء كثير منها وفي بلادنا عمرت البتراء (وادي موسى) وتدمر كما عمرت مخافي بلاد اليمن في أواخر القرن الثامن عشر ثم خلفتها مدن في نقل واردات اليمن وصادراتها وكان يصل إليها من أرض الهند الياقوت واللؤلؤ وأصناف من المسك والكافور والعود الرطب والعطر والحديد والفلفل ويصل من الصين الحرير والقصبات ويصل من عمان وأرض فارس تحف كثيرة. وكانت اليمن كالشام والعراق لتوسطها بين الشرق والغرب يغشاها كثير من تجار الأوربيين منذ العهد الأطول. وفتح العرب قبل غيرهم طرق التجارة مع الشام قبل الإسلام بل وصلوا إلى أقصى الروم وإلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها (المقتبس م7 ص222) إلى الشعوب البربرية في أوربا. وللعرب مرفآن تجاريان عظيمان متصلان بالعاصمتين أحدهما البصرة على خليج فارس تفرغ فيه مراكب الهند تحمل العطور والأبازير والعاج وتجيء الجنوك الصينية تحمل صمغ اللك والحرير وتعود بالزجاج أأ والسكر وماء الورد والقطن والإسكندرية هي المرفأ الثاني فتحت على العرب طريق البحر الرومي وإليه كانت تصل مراكب إيطاليا. وتسير القوافل من بغداد إلى كل ناحية فمن الجنوب الغربي نقصد إلى دمشق وسورية

وغلى الشرق نحو البصرة والهند ومن الشمال إلى طربون على البحر الأسود تحمل بضائع المملكة البيزنطية وإلى الشمال الشرقي إلى سرقند وبحر الخزر حيث كان يذهب التجار ليأخذوا جلود روسيا وشمعها وعسلها وكانت القوافل من القاهرة تسير إلى الغرب في الطريق العظيم الذي يحاذي البحر على طوله ماراً بطرابلس والقيروان لينفذ من طنجة التي كانت تصل إليها تجارة أسبانيا ومن الجنوب طريق يصعد منها إلى النيل حتى بلاد السودان وآخر يسير على الشاطئ الشرقي من افريقية حيث أنشأت العرب مقدشو وكلوة وسفالة ومن هذه الجهة كان يصدر التبر والعاج والعبيد. قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك: كان مسلك التجار اليهود الرازانية الذين يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية أنهم يسافرون من المشرق إلى المغرب براً وبحراً يجلبون من المغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفرآء والسمور والسيوف ويركبون من فرنجة (فرنسا) في البحر الغربي فيخرجون بالفرما ويحملون تجارتهم على الظهر إلى القلزم إلى أبحار وجدة ثم يمضون إلى السند والهند والصين فيحملون من الصين المسك والعود والكافور والدار الصيني وغير ذلك مما يحمل من تلك النواحي حتى يرجعوا إلى القلزم ثم يحملونه إلى الفرما ثم يركبون في البحر الغربي فربما عدلو بتجارتهم إلى القسطنطينية فباعوها من الروم وربما صاروا بها إلى ملك فرنجة فيبيعوها هناك وإن شاؤا حملوا تجاراتهم من فرنجة في البحر الغربي فيخرجون بأنطاكية ويسيرون على الأرض ثلث مراحل إلى الجابية (?) ثم يركبون في الفرات إلى بغداد ثم يركبون في دجلة إلى الإبلة ومن الإبلة إلى عمان والسند والهند والصين كل ذلك متصل بعضه ببعض. فأما مسلك تجار الروس وهم جنس من الصقالبة فإنهم يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف من أقصى صقلية إلى البحر الرومي فيعشرهم صاحب الروم وإن ساروا في تنيس نهر الصقالبة مروا بخليج مدينة الخزر فيعشرهم صاحبها ثم يصيرون إلى بحر جرجان فيخرجون في أي سواحله أحبوا وقطر هذا البحر خمسة مائة فرسخ وربما حملوا تجارتهم من جرجان على الإبل إلى بغداد ويترجم عنهم الخدم الصقالبة ويدعون أنهم نصارى فيؤدون الجزية. فأما مسلكهم في البر فإن الخارج منهم يخرج من الأندلس أو من

فرنجة فيعبر إلى السوس الأقصى فيصير إلى طنجة ثم إلى إفريقية ثم إلى مصر ثم إلى الرملة ثم إلى دمشق ثم إلى الكوفة ثم إلى بغداد ثم إلى البصرة ثم إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ثم إلى السند ثم إلى الهند ثم إلى الصين وربما أخذوا خلف رومية في بلاد الصقالبة ثم إلى خليج مدينة الخزر ثم في بحر جرجان ثم إلى بلخ وما وراء النهر ثم إلى ورت تعزهر ثم إلى الصين. وما برح الناس في الشرق والغرب يركبون متون الأخطار في قطع البراري والبحار لربط صلات الاتجار بين أوربا وإفريقية وآسيا حتى افتتح دياز البرتقالي سنة 1486م طريق رأس الرجاء الصالح في جنوبي إفريقية وخرقت ترعة السويس التي وصلت البحر الأبيض بالبحر الأحمر سنة 1869 فقربت المسافات البحرية ولما عمت الخطوط الحديدية بلاد الغرب وأخذت بعض بلاد الشرق ولا سيما الجزائر وتونس ومصر والبلاد العثمانية والهندية واليابانية وغيرها تقطع المساوف في قطار البخار سهلت الطرق وعم الاختلاط وتوفرت المتاجر واشتدت الحاجة في هذه الحرب العامة إلى الطريق الأمينة لأن العالم انقسم قسمين قسم سموه بالدول المركزية وهي ألمانيا والنمسا والمجر والبلغار والعثمانية وبلادهم اتصلت بعضها ببعض ولا سيما بعد أن استصفوا مملكة الصرب والجبل الأسود ورومانيا وقسم بقي وحده في غربي أوربا وجنوبها وهم الانكليز والفرنسيس والطليان وآخر في شرقها وهم الروس. وقد نشر ارتورديكز في جريدة عثمانيشر لويد مقالة في الطريق إلى الشرق وحواجزها قال فيها: إن الحرب قد جعلت لصلات أوربا الوسطى مع الشرق نفس المكانة التي كانت لتلك الصلات في الأيام التي لم تكن فيها الاتصالات بين أوربا وأميركا الشمالية في الدرجة الأولى من العناية. وقد كان وقع الاستعداد لهذه الطوارئ بإنشاء خطوط الأناضول الحديدية ولا سيما خط بغداد وأضرت الحرب بالتجارة الهادئة ولكنها زادت في صلات أوربا الوسطى مع الشرق بواسطة النقليات العسكرية وبذلك حدث تبدل في البلقان وفي الشرق الأقرب مما يبشر بأنه سيكون له أثر في الصلات الاقتصادية أيضاً وقد أنذرتنا الحرب بعدم كفاية طرق المواصلات بين أوربا والشرق ومنها ما يسد زمن الحرب أو يصعب اجتيازه زمن السلم وللوصول من ألمانيا إلى الشرق الأقصى والأقرب أثنا عشر طريقاً (1)

من بحر الشمال فالمانش فجبل طارق فالسويس (2) مارسيليا السويس (3) جنوة السويس (4) إيطاليا نابولي السويس (5) تريستا السويس (6) سراجيفويسكي بازار سكوبلج سلانيك السويس (7) بلغراد صوفيا بورتولاغوس السويس أو أزمير (8) بلغراد صوفيا الأستانة بغداد (9) قمسوار بازياس صوفيا الأستانة بغداد (10) اورسوفا لوم صوفيا بغداد (11) الطونة روسجق وارنة البحر الأسود (12) كرونستاد كونستانزا البحر الأسود. فند الكاتب هذه الطرق ثم قال أن السبعة الأولى منها تجتاز السويس ومنها ما يمر بأرض فرنسا ومنها ما يجتاز المانش تحت مدافع انكلترا ومنها ما يضطر إلى السير في إيطاليا أو البحر الأدرياتيكي أو الأرخبيل وقد علمتنا تجارب الحرب أن لا نعنى بعد الآن إلا بالطرق البرية أو التي تجتاز من البحر مسافة قليلة وهذه الطرق هي التي تمر بالبلقان وكانت من قبل في حيز القوة لأن صربيا كانت في عداد أعدائنا تحول بيننا وبين الشرق من صوفيا. ورومانيا كانت على الحيادلكنها تميل إلى أن تكون محطة بين روسيا وصربيا من أن تكون بين الدول الوسطى والدولة العثمانية فتبدلت الحالة بعد ذلك وفتحت صربيا وفتح الطريق بين بلغراد وصوفيا ثم انقلبت رومانيا مع أعدائنا فكان منها أن سدت طريق بلاد الأفلاخ وجزءاً عظيماً من نهر الطونة وليس الآن من الطرق السالكة حق السلوك إلا طريق واحدة وهي المارة من بلغراد فصوفيا وهي تكفي للنقل بين برلين وبلغراد لا للصلات بين أوربا الوسطى من بلغاريا والأستانة. قال والرجاء معقود بأن تكثر الخطوط الحديدية في البلقان في المستقبل فيكون منها ما يتصل بنهر الطونة والخط القديم الرئيسي - بلغراد صوفيا الأستانة - ويجب أن يضاف إليه خط من سنجاق يسكي بازار بواسطة جسر على الطونة ماراً بصربيا الشرقية القديمة مستفيداً من نهر الدانوب وسكك حديد لوم وروسجق وجرناردا وما يقام في هذا السبيل من العقبات تزل إلى الأبد فإن أوربا الوسطى يجب أن تخابر مقدونية وبلغاريا القديمة والأستانة وآسيا الصغرى من دون منازع ولا ممانع مهما كلفها الأمر والطرق التي تجتاز نهري الساف والطونة وأودية مواراويا والواردار والمريج لا ينبغي أن تغلق في وجه تجارة أوربا الوسطى. وبعد فقد استفدنا بهذه الحرب عبراً كثيرة منها شدة حاجتنا بعد الآن لأن يركب الإنسان من

برلين وهمبورغ في القطار ولا ينزل منه إلا في الأستانة ليعبر الخليج إلى آسيا ويركب في القطار الحديدي فلا ينزل إلا في صنعاء اليمن أو بغداد العراق وإنا بفتحنا طريق الصرب في العام الماضي وكانت صلاتنا مقطعة بين دار الخلافة وبرلين قد أدخلنا الحرب العامة في طور جديد فسقط في أيدي أعدائنا بفضل الطريق التي افتتحناها بيننا وبين أوربا الوسطى ودخلت تجارتنا في طور آخر وخفت وطأة الحرب إلى أقل من النصف. فلو كان لنا اتصال مباشرة مع حلفائنا منذ أول نشوب الحرب من عدة طرق كيف كانت نتيجتها على الأتفاقيين الذين قبضوا على مضايق البحر وأخذت سفنهم وبوارجهم تسبح في عرض الماء في البحر الشمالي والبحر المحيط والبحر المتوسط والمحيط الهندي لولا ما أرصد لهم من الغواصات الألمانية التي ضيقت خناقهم ولولا هذه الممرات لما فتحنا من بلاد العدو تلك الأقطار والأقاليم ولا غنمنا هذه الغنائم الكثيرة. إن الطرق الحديدية شرايين الممالك تحمل إليها الحياة وإذا انفتح الشريان في الإنسان مات ولولا الخطوط الحديدية الحربية في ألمانيا ما تيسر لها أن تسوق جيوشها إلى الشرق والغرب والجنوب في هذه السرعة المدهشة ونحن أيضاً لولا الخط البغدادي والسكة الحجازية ما استطعنا أن نحارب هذه الحرب ولو كانت خطوطنا ممتدة إلى القاصية أكثر مما هي الآن لضربنا عدوتنا انكلترا في البصرة وجدة ضربة يرن صداها كما ضربناها في كوت الإمارة وجناق قلعة. يبلغ طول الخطوط الحديدية في السلطنة العثمانية نحو ثمانية آلاف كيلو متر وبها عمرت هذا العمران فماذا كان حالها لو كان فيها عشرون أو ثلاثون ألفاً وهي مستعدة لأن يكون فيها ثلاثمائة كيلو متر وماذا كان حالها لو اتصلت كل خطوطها الحربية بالمواني البحرية كما اتصلت من يافا وحيفا وبيروت وطرابلس واسكندرونة وأزمير مثلاً ولو اتصلت طرقنا البحرية بالبحر الأسود من عدة جهات وكذلك بالخليج الفارسي والبحر الأحمر والبحر الأبيض كيف كانت حالتنا التجارية مع الهند والقافقاس وأوربا الوسطى وافريقية وغيرها. إن الأمم لا تستغني بعد الآن عن الاتصال بينها وقد بطلت العادة التي كانت متبعة في القديم من تقسيم المملكة الواحدة إلى مئات من الأجزاء كل جزء يعتصم وراء جبله أو يختبئ في واديه ولا يعرف ما عند صاحبه وجاره. الأمم اليوم محتاجة إلى التعارف

والاتجار فأبن اليمن لا يعيش إذا لم يبدل حاصلات بلاده مع ابن بافاريا مثلاً وابن بروسيا مضطر إلى الاتجار مع ابن المجر والبلغاري محتاج إلى الفارسي وهكذا جميع الشعوب والممالك فهل يطول يا ترى عهد إنشاء طرق المواصلات في مملكتنا مع جيراننا أم ننسى زمن السام ما احتجنا إليه أيام الحرب.

إمبراطورية النمسا والمجر

إمبراطورية النمسا والمجر خلفت مملكة النمسا والمجر بموجب القرار الرئاسي الأساسي الذي نشر في 21 كانون الأول 1867 مملكة النمسا القديمة فهي تتألف مت مملكتين منضمتين تحت لواء واحد فإمبراطور النمسا هو أيضاً ملك المجر ولا اشتراك بين المملكتين في غير الجيش وجزء من المالية والأمور الخارجية ولكل مملكة منها قانونها الخاص وإدارتها الخاصة. يقسم بين بلاد النمسا والمجر نهر الليتا الذي يصب في نهر الطونة شرقي فينا. وولايتا البوسنة والهرسك اللتان ضمتا إلى هذه المملكة سنة 1908 مشتركتان بين النمسا والمجر. كانت مساحة النمسا بموجب إحصاء سنة 1910 - 193، 300 كيلو متراً مربعاً وسكانها898، 567، 28 ومساحة المجر 325، 325 كيلو متراً مربعاً 20. 850. 700 ساكن. وأصول شعوب هذه المملكة متنوعة تنوع رسم جبالها وأنهارها وهم كالفسيفساء الجبلية منهم نحو ثلاثة عشر مليوناً ونصف من الألمان ونحو تسعة ملايين من المجر وثلاثة ملايين من الرومان وواحد وعشرين مليوناً من السلافيين وهم ينقسمون بحسب لغاتهم إلى ستة أقسام فسلاف الشمال عبارة عن ثمانية ملايين وهم التشك والمورافيون والسولفاكيون ينزلون في بوهيميا ومورافيا وفي الأصقاع المجاورة لبلاد المجر وفيها نحو أربعة ملايين ونصف بولوني في سيلسيتريا وغاليسيا الغربية ونحو أربعة ملايين روتيني في غاليسيا الشرقية والأصقاع المتاخمة للمجر ثم سلافيو الجنوب ومنهم نحو ثلاثة ملايين ونصف خرواني وصربي ومليون وربع سلوفاني ونحو ثلاثة أرباع المليون إيطالي وثلاثة أرباع أهلها هم من الكاثوليك الرومانيين وخمسهم هم من الروم الكاثوليك أو الروم الشرقيين على اختلاف الطقوس وأربعة ملايين وربع من البروتستانت ومليونان ومئة ألف إسرائيلي وزهاء ستمائة ألف مسلم. هذه هي الإمبراطورية التي فقدت مؤخراً إمبراطورها حليف الدولة العلية العثمانية وعميد ملوك الأرض فرانسوا جوزيف. توفي صباح 22 تشرين الثاني سنة 1916 (26 المحرم 1335) عن 86عاماً كان بها إمبراطوراً 68 عاماً فقد ولد في مدينة فينا سنة 1830 وهو ابن الإمبراطور فرانسوا الأول ولي الحكم سنة 1848 وقد تنازل عن الملك عمه فرانسوا الأول وتنازل والده عن حقوقه في الملك فظهرت في السنة الأولى من ملكه خطوب مهمة وفتن مستطيرة منها ثورة فينا التي قمعت على أصعب وجه وثارت إيطاليا والمجر لتخلعا

ربقة الحكم النمساوي فكبح جماح الثائرين من الإيطاليين ووطد الإمبراطور حكمه على المجر بمعاونة روسيا وانتهت حرب إيطاليا ينة1859 بتقلص ظل الحكم النمساوي عن لومبارديا الإيطالية مما أحدث في البلاد النمساوية سخطاً فرأى الإمبراطور أن يسكن ثائرة غضب أمته بمنحها دستور سنة 1861 وفيه إعطاء حرية مطلقة لها. وحدثت من جهة بروسيا شجون أخرى بشأن مسألة دوجيتي شلشويق هو لشتماين فاتحدت بروسيا مع النمسا أواخر سنة 1863 لإعلان الحرب على الدانيمرك وفي سنة 1865 نشب الخلاف بين الحكومتين المتخالفتين الظافرتين فاتحدت بروسيا مع إيطاليا ودحرت النمسا في موقعة سادوفا (1866) وانتهى ذلك بانفصال النمسا عن الاتحاد الجرماني وبفقدها إقليم البندقية. وقد أعقب هذه الحرب المشؤمة إصلاحات جمة في داخل البلاد فأصبح الكونت دي بوست وهو ألماني سكسوني وزيراً لإمبراطورية النمسا والمجر وعهد إلى الكونت أندراسي في بلاد المجر أن يؤلف وزارة بحرية وفي 8 حزيران 1867 توج فرنسوا جوزيف ملكاً على المجر وكان فيها فاتحة الملوك الذين يتوجون ملوكاً على مملكتين وقد كان يتوقع أن يوجه الكونت دي بوست دفة سياسة النمسا نحو سياسة الانتقام من بروسيا لكن هزيمة الفرنسيس أمام الألمان في حرب السبعين قلبت المسائل إلى طور آخر واضطر فرنسوا جوزيف أن يعاهد كلاً من بروسيا وإيطاليا اللتين ظفرتا به فظهرت المحالفة الثلاثية. ثم حدثت اضطرابات داخلية أخرى وهي نزوع التشك في بوهيميا إلى الثورة يريدون أن ينالوا استقلالهم على نحو ما فعل المجر. وصبت مصائب أخرى على رأس الإمبراطور المتوفى من مثل مقتل أخيه مكسيمليان إمبراطور المكسيك عام 1854 وانتحار الأرشيدوق رودولف ابنه (1889) ومقتل الإمبراطورة اليزابيت زوجته (1898) وكان مقتل ولي عهده الأرشيدوق فرانز وزوجته في سراجيفو بيد صربي غادر من الأسباب الظاهرية في اندلاع لهيب الحرب العامة التي لا نزال نصبح في عجائبها ونمسي منذ ثلاثين شهراً منحت بلاد النمسا قانونها الأساسي سنة 1848 وإذ كانت مختلفة العناصر والجنسيات اضطرت الحكومة أن تستعيده منها مرات ثم تعطيه فكان نيل السلافيين على أكثرية عظمى في الانتخاب سبباً في دهشة الحكومة وظل الألمان في النمسا والمجر بمثابة الجزء القليل

بالنسبة للجزء الكبير فدعت الحال أن يعدل القانون الأساسي الذي وضع لمثل هذه المملكة على صورة يتمثل فيها الدهاء والجربذة وإن معاملة النمساويين للمجريين هذه المعاملة الحسنة بعد الخلاف الشديد الذي استحكمت أواخيه بينهم زمناً قد دل على حسن سياسة النمسا ولا سيما الإمبراطور المتوفى فضمت النمسا والمجر سنة 1867 بأن تم الاتفاق بين هاتين للملكتين على أن يدفع المجر عن مملكة النمسا كما يدفعون عن مملكتهم (المقتبس م8 ص459) ويكونون مستقلين إلا في الجيش والبحرية والأمور الخارجية فيدفعون قسطاً صالحاً من المال لمعاونة حكومة فينا وتتعهد الأسرة المالكة النمساوية بالمحافظة على استقلال المجر وحرية البلاد واستعمال جميع قوة النمسا للدفاع عن سلامة الأملاك المجرية ملك النمسا يحكم المجر كما يحكم بلاده ولكنه يمثل مملكتين متباينتين ولا يكون ملك النمسا ملكاً شرعياً إلا إذا أقر على تتويجه مجلس نواب المجر ويقضي القانون الأساسي أن يقيم الملك ستة أشهر في فينا وستة أشهر في بودابست وهو يتلطف بالأمة المجرية كل التلطف وقد تعلم لسانهم في صغره وخطبهم به قبل أن يتولى الملك فأعجبوا به وكثيراً ما كان يلبس الثياب الوطنية الخاصة ببعض شعوبه مثل سكان التيرول وكان التيروليون والسالزبورغيون يحبونه حباً كثيراً وكذلك شعبه حتى كان يقال أن إمبراطورية النمسا تتداعى أركانها بعد موت الإمبراطور فرنسوا جوزيف وكان بعض الغربيين أنفسهم يدعون أن لطفه هو الذي يحول دون حدوث شيء في البلاد والحال أن أسرة هابسبورغ مشهورة بذوقها ولطفها منذ القديم وباتحاد المملكتين حياتهما وقوتهما. من المصائب في مملكة في أن تتألف من عدة عناصر يصعب الجمع بينها لكن حكمة الإمبراطور ورجاله عدلت المسائل وثقفت الناشز وأخذت من عنان المغضب ودارت مع الزمن حتى اشتهرت النمسا بأنها مملكة حسن الإدارة وقد جاء زمن على حكومتها منعت فيه الصحف المجرية من الصدور بلسان المجر وعقبه زمن آخر أصبحت فيه حرية بلاد المجر كأحسن حرية في الشعوب الأوربية. كان الإمبراطور المتوفى عاملاً مهماً سعى في ترقية أمته حتى أصبحت بفضله دولة قوية الشكيمة بعيدة الشوط في مضمار المدنية والصناعات وأبانت عن قوتها في جيشها وحسن إدارتها في الحرب الأخيرة وهي تقاتل الجيوش الروسية من الشرق والجيوش الإيطالية من

الجنوب. أما الإمبراطور الجديد فهو شارل ابن الأرشيدوق أوتو وأمه ماريا جوزيفا أميرة سكسونيا ولد سنة 1887 فيكون عمره اليوم 29سنة وقد وعد برعاية القانون الأساسي في إدارة جميع الشعوب في بلاد النمسا والمجر وجرى تتويجه في فينا وفي بودا عاصمة المجر الأصلية متبعاً في ذلك الأصول القديمة غير مخل بشيء منها وكان الإمبراطور الجديد أثبت لياقته في حرب عدو بلاده هذه المرة وقد ربي تربية عسكرية راقية يرجى له بها أن تكون بلاده في عهده عهد سلام وراحة ورقي.

الخطابة عند الإفرنج

الخطابة عند الإفرنج من تأمل في تاريخ الطرق الخطابية ير أن القدماء أفرطوا في فن الخطابة وأنه وإن صعب العثور على مبدأ معين في كتب الأقدمين وطريقتهم في خطاب الجمهور فإن جميع المصنفات التعليمية تحوي إبهاماً خلطوا فيه بين علم الكتابة وعلم الكلام فإن علم الخطابة لم يكن في نظر القدماء هو علم التكلم والإلقاء بل علم تحسين الكلام وتنميق الإنشاء ومن تلا كتاب الجمهورية لأرسطو وفيه مباحث جليلة في الخطابة عند اليونان يتجلى له أن جميع خطباء آثينة كانوا ينمقون العبارات قبل أن يتلوها وتتراءى لهم من خلال سطورهم آثار التعمل والاستعداد قبل إلقاء خطبهم على مسامع الجمهور وإذ كان يحظر على المحامي في آثينة أن يدافع عن غيره اضطر بلغاء اليونان أن يكتبوا خطبهم في الدفاع ويعطوها لغيرهم يستظهرها ليلقيها ولذلك قل المرتجلون من الخطباء في يونان وأن وجدوا فهم على ندرة. قال بعض المعاصرين لو لم يكن خطباء الأقدمين يهيئون خطبهم قبل إلقائها ما كان بقي لنا من كلامهم إلا النزر اليسير وذلك لأن فن الأختزال لم يكن يعهد إذ ذاك بيد له مما لا شك فيه أن بعض خطباء اللاتين الذين وصلتنا خطبهم قد ألقوها بدلاً من أن يستعدوا لها بكتابتها وكان من العادة أن يعود الخطيب عندهم فيدون بالكتابة ما قاله من خطاب كما فعل شيشرون في بعض خطبه والحق الذي لا مرية فيه أن الخط طالما اعتبر في اليونان ورومية بأنه الأسلوب الوحيد في الحملة لإعداد الكلام ليلقى على المسمع العام ويجب أن يلاحظ أن الخطيب الآثيني مهما بلغ من ثقته بنفسه لم يكن يجسر أن يقف موقف الخطابة قبل أن ينظر نظراً بليغاً فيما سيلقي عليهم لأنه عارف بدرجة مدارك الحضور ومعرفتهم نقد ما يقول وما بقي من خطب خطباء يونان هو مما هذبته أناملهم ونظرت فيه عقولهم ملاحظين في ذلك أنهم سيخلفون ذلك للأعقاب فلا يليق أن تكون من إلا من أحسن ما يجب. ولطالما هذب شيشرون خطبه وتمرن على إلقائها حتى أنه في سم الستين قبل أن يقتل كان يمرن نفسه على كيفية الإلقاء. وكان القدماء يعلقون شئناً عظيماً على الإلقاء في المجالس العامة حتى لقد أفرط شيشرون في قوله أن الخطاب العام يتطلب تعبيرات لطيفة منتقاة فقد كتب إلى أحد أصحابه أن الرسالة لا يمكن أن تشبه دفاع المحامي أو خطاباً سياسياً فأنه

تستعمل فيه جمل شائعة في الاستعمال. بيد أن كثيرين من خطباء اللاتين وقدماء خطباء اليونان كانوا لا يحفلون بإعداد خطبهم ويظهر أن هورتانسيوس وهو أستاذ شيشرون لم يكن موافقاً لتلميذه على قضاياه وهورتانسيوس هذا كان على جانب من الذكاء وحسن الذاكرة بحيث كان يستطيع أن يتلو خطبه ويؤلفها في الحال جارياً في ذلك على طريقة شارلماد وميترودور وهما خطيبان آثينيان كانا يعدن في ذهنهما ما يريدان إلقاءه. وكانت طريقة القائد الخطيب الروماني كالبا غريبة في بابها فكان ينقطع في داره مع خدامه غداة يريد أن يلقي دفاعاً ويلقي عليهم ممرناً نفسه فيما يريد أن يخوض على بابه فكان يخرج من الغد في حالة تهيج خارقة للعادة وعيناه تقدحان شرراً وهو على غاية التحمس يعبث به هواه ويذهب إلى ميدان الفوروم. واعتاد بعض شبان الخطباء من الرومان أن يأتوا إلى المحكمة بدفاعهم مكتوباً على الورق وكان كنتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين يرى أن يتقيد الخطباء في إعداد ما سيتلون ولا سيما للمترشح للخطابة المبتدئ فيها ويرى أن الإرتجال لا يتأتى للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة وعرف حلوها ومرها ولم يكن في عهده وهو القرن الأول للمسيح سوى خطيبين مرتجلين هما بورسيوس لاترو وكاسيوس وما عداهما فكانوا ككل الناس يعدون خطبهم قبل إلقائها. وكان بوسويه خطيب الفرنسيس المتوفى سنة 1704 يكتب خطبه على الورق فيرسمها ثم يتوقع ما يوحيه إليه المنبر ليجعل فيها حياة حركة وظلت الأصول المتبعة في فرنسا مدة القرن الثامن عشر بان يقيد المحامون والخطباء أقوالهم هكذا كان يسير أكبر المحامين كوشين. ولما حدثت الثورة الفرنساوية الأولى اضطرابات السياسة إلى الارتجال فأخذوا يخطبون قومهم بدون أن يستعدوا من قبل ثم ارتقت الخطابة عندهم في الكليات والمحاكم والمجالس حتى قال موريس آجام ما من شيء يضاد الارتقاء في الخطابة أكثر من إعدادها بالكتابة قبل الإلقاء فإذا كان وصل كبار المتكلمين إلى أرقى درجات الفصاحة فبدونها وصلوا أو عبارة ثانية على الرغم منها. ويرى أن يتمرن المرء على الارتجال بأن يرتجل كل صباح في موضوع من الموضوعات لنفسه ولو لربع ساعة فيتمرن جرسه وصوته وذلك بأن يذكر دائماً قاعدة بنيون أن المرء

يتعلم الارتجال بتكرار العمل فيه. وأن الواجب تعويد الناشئة النطق منذ نعومة أظفارهم وأن صناعة الخطابة ولا سيما الارتجال لا يتعلمها من جاز الأربعين من العمر ولا من جاوز الثلاثين فالأولى أن يبدأ بها منذ الصغر وانه من اللازم على من يريد تعلم الخطابة أن يستنصح صاحباً له يدله على عيوبه في النطق والإشارة وأن يأخذ النفس كل يوم بسماع مصاقع الخطباء لا متوسطيهم حتى يتعلم منهم فأن المتوسط يفسد عليه ملكة الخطابة ولذلك كانت العواصم والحواضر أكبر ميدان للتخرج من الخطابة لأن فيها من أهل الطبقة العالية أصنافاً من الخطباء. وذلك لأن السماع يجعل المتكلم متكلماً وفكر البشر يغتذي بالتقليد وعليك يا هذا أن لا تعمد إلى استعمال الغريب ولا تتقمر بل توخ السهولة ومألوف الناس من الكلمات تؤثر فيهم وتفعل في عقولهم. لا تعمد لغير الوضوح ودع الكلمة النادرة للشاعر والكلمة العويصة للفيلسوف وإذا اعتقدت أنه يكفي الإنسان أن يتلو كتاباً يبحث في أصول الخطاب حتى يصبح خطيباً فألق سريعاً هذا الكتاب طعاماً للنار. كان بوسويه نصف مرتجل يعد مفكرات لخطبه ثم يزيد عليها وينقص منها عند الإلقاء وكان فلشيه وفنيلون في مواعظهما يعدان ما يلقيان من قبل ويستظهرانه وكان كوشين يعد من قبل مدافعاته حتى استطاع في آخر عمره أن يرتجل. وكان المحامي جربيه يعد ما يخطب به مطولاً ولا يزال يمحو منه حتى لا يبقي على أكثر من عشرين سطراً وكان تارجه يكتب دفاعه برمته ويقرأوه وكان ميرابوا خطيب الثورة ممن يعتمد على الكتابة ليخطب فاضطرته السياسة أن يرتجل وما كان يحسن الكتابة وهو مستريح البال أما إذا هاج فهو يعاود القلم ويكتب في الجملة وكان يبدأ بخطابه متأنياً في باديء الأمر ويتحمس بالتدريج وكان فيرنيو من خطباء الثورة لا يخطب إلا إذا تألم لظلم يقع أو حاذر خطراً يداهم وعندها تنتبه حواسه ويفكر سريعاً ويعمل في ساعة ما لا يعمل في ساعات. بدأ محامياً وكان يكتب دفاعه ويتلوه ثم كف عن الكتابة وكان يعد كل الإعداد خطبه الكبرى ولا سيما في تلاوتها لأصدقائه من قبل أن يلقيها على الجمهور وهذه الطريقة هي التي جرى عليها بعد حين تيرس رئيس الجمهورية الأول في الجمهورية الثالثة والعالم المشهور وكان كواديه من خطباء الثورة يكتب خطبه عندما كان محامياً ولما أصبح خطيباً سياسياً صار يرتجل وكان ايسنارد من خطباء الثورة مرتجلاً ولكنه كان يكتب وكان دانتون خطيب

الثورة الخطيب التام الأدوات في الثورة وأقدرهم على إدراك حاجة عصره. وكان آرول دي سيشل من خطباء الثورة يكتب ويحفظ خطبه ويعمل بقول فولتيرإن الألفاظ بريد الأفكار. كان روبسيير من خطباء الثورة يعد خطابه ويمحو ويثبت كثيراً كتلميذ مبتدأ ومعظم خطبه أخترعت وألفت من قبل أن تنشر لم يتوسع فيها عندما يقولها. وكانت طريقة بانجامان كونستان الكتابة لما يخطب به مثل القائد فوا ولافيت ودويون ورويه كولار. وكان النائب مانويل مرتجلاً لا يكتب خطبه إلا في أمور المالية. ولم يتخل دي مارتينان عن كتابة ما يريد إلقاءه مع أنه يرتجل أحسن ارتجال ومن كان يسمعه يتكلم بصوت رخيم يستريح ويسكت وينوع لهجته يستدل على أنه يرتجل. وكان لينه مثل كواديه ورافيه وفيرير من أمراء الكلام لم يجعل المتقيد بالكتابة إلا مقاماً ثانوياً وفيرير كان أعظم من وجد من رجال المحاماة كان يفكر طويلاً فيما يريد أن يلقيه ويتأمله فلم يكن ممن يعتمد على الكتابة صرفاً. وكان هانكن من رجال المحاماة لا يأنف طول حياته من اعداد خطبه. وكان بريه المحامي لا يكتب خطبه ولم يعرفوا طريقته في خطبه هل كان يحدث بها أصحابه قبل أن يلقيها كما كان بفعل فرنيو وتيرس أو يفكر فيها مثل فيرير أو يكتبها في فكره مثل هورتانسيوس والذي عرف عنه وكان يكتم طريقة نبوغه أن كلامه كان يسبق فكره وغنشاؤه كان منحطاً وكان الأخوان دوبين المحاميان يرتجلان ولكنهما يدرسان موضوعهما حق حق المدرس قبل النزول إلى ميدان الخطابة وكان أحدهما يأسف لأن الوقت لا يساعده أن يفكر ملياً في خطابه ويقول لو أكثر ديموستين وشيشرون من الدفاع كثيراً لقلنا لم يكونا ديموستين ولا شيشرون. وكان تيرس يعد معظم خطبه من قبل بان يلقيها مرتين وأحياناً أربعة على من يغشون مجلسه. ولم يكن فيكتور هوغو الشاعر الكبير خطيباً بل كان يضطر أن يكتب خطبه ويستظهرها ولطالما قال: يستطيع المرء أن يكون خطيباً حقاً إلا إذا كان كتب خطابه. زهد المحامي لاشو في الكتابة وكان يقيد إلا رؤوس المسائل التي يتكلم فيها. وكان الوزير غامبتا لا يكتب ما يخطب وهو يشبه نابليون بعقله وذاكرته وكان يعد بعض خطبه الأولى من قبل فلما نشبت الحرب أخذ يرتجل حقيقة وكان في خطبه يبدأ بصوت منخفض جداً حتى يكاد يقول له الحضور اسكت وبعد هنيهة ترن القاعة من صوته وتدهش لفضل بيانه. وكان المحامي ليون دوفال يعد خطبه من قبل محتفلاً بها من وراء

الغاية وكان الدوج دي بروكلي يتأنق في إعداد خطبه لكنه يستطيع أن يرتجل على أيسر وجه وكان بوفه مرتجلاً يؤثر بفصاحته في مجلس الشيوخ في مسائل كثيرة وإن كان عضواً من حزب قليل في الوزراء. وكتب المحامي الإيطالي هنريسكوفري عن نفسه فقال أنه تعلم بأن كان يقصد الضواحي ويرفع صوته ويجرب نفسه بالخطابة حتى خطب مرة ثماني ساعات متوالية ومرة إحدى عشرة ساعة. ونشر آجام عادات طائفة من الأساتذة والمحاضرين من العلماء في الخطابة من الفرنسيس فكان منهم أناس يفكرون ملياً قبل أن يخطبوا أي أنهم يعدون الكلام أو معناه ومنهم من يكتب ما يريد قبل إلقائه والآخرون يرتجلون والأكثر في هذه الفئة الكتابة قبل الإلقاء لأن خطبهم علمية على الأغلب ولا يرتجل عادة سوى السياسيين وعلى من أحب أن يجودها أن يخطب لنفسه في منتزه أو قاعة خاصة مرة أو عشر مرات ريثما يستجم قريحته ولا تخونه الألفاظ وكل مرة في الموضوع الواحد تزيد معانيه وتعزز ألفاظه وجب ألا يهتم لانتقائها والتنطع فيها بل يكفي بما جاءه عفو الخاطر وابن الساعة. وقد سأل المؤلف كثيرين من المشتهرين بالخطابة من قومه المبرزين فيها عن طرقهم في تعلمهم وارتجالهم فمنهم من قال أنه يفكر ملياً في محاضراته بأن يقولها بصوت منخفض أولاً وأحياناً يقولها في عقله وأنه لا يكتب كتاباً صغيراً قبل أن ينشئه في عقله ويستظهر الجمل الأربع الأولى حتى لا يفجأه الحضور مثل أمامهم ومنهم من تحضره الأفكار إذا أمسك القلم وقيدها لكنه يحاذر استظهاره وهو يرى أن من يكتب محاضرته وخطابه يتعلم الارتجال مع الزمن ومنهم من تتمثل لعينيه المعاني والألفاظ عندما يشرع في الكلام كأنها مكتوبة أمام عينيه ومنهم من ينظم الأفكار التي يحاضرها على الورق ثم يرتجل ويستعد قبل الكلام أن يقول في ذاته ما يجب إلقاءه على الجمهور مرة أو مرتين وقال أنه بكتابته خطابه من قبل يسقط على الأفكار التي لا تجيئه بصورة أخرى ومنهم من قال أن خير طريقة لاستظهار ما يريد إلقاءه أن يكتب تلك القطعة ومنهم وهو أستاذ عظيم يعد موضوعه ولاً ثم يعين في عقله أفكاره ثم يخط لها خطة ثم يفكر في البراهين التي عثر عليها ونظمها ومنهم من ضعفت ذاكرته فيضطر للاستظهار أن يحرك شفتيه بما يحفظ حتى يعلق شيء منه في ذهنه ومنهم من لا يحسن الكلام إلا إذا اضطربت نفسه وفرحت أو سخطت فإنه في

تلك الحال يسرع في خطابه غير مبال أما إذا لم يكن على حالة من تلك الحالات فيتلعثم ويتردد ولا يعثر على اللفظ الذي يريده والخجل الذي يشعر به يزيد هذا الارتباك ومنهم من لا تأتيه الأفكار وتواتيه إلا إذا كان القلم بيده. وآخر يستظهر المقدمة والخاتمة ومعظم الجمل الأساسية ثم يتكلم ويترك الباقي للمصادفات وغيره يرى أن الكلمات تولد فيه الأفكار وتفتح أمامه أفقاً جديداً وهو يدرس موضوعه بالإيجاز ويفكر فيه قليلاً أو طويلاً بدون أن يحكيه ولا يكتبه في عقله ويكتب أو يحاول أن يكتب والكتابة تسهل بزوغ الفكر أحياناً وأحياناً يتضرر من الكتابة وتفلج قريحته. وبالجملة فإن الكلام بالجمهور من شأن الحكومات الديمقراطية والخطباء يكثرون كما قال مونتين حيث تكون الأمور تتقاذفها للعواطف الدائمة بين أخد ورد. وقال ريبو أن معرفة الموضوع الذي يريد الخطيب الخوض فيه ورسم خطته في الفكر بسيطة للغاية من قبل وهما شرطان أساسيان للخوض في الكتابة وما عدا ذلك فهو من شأن الحضور المستمعين أكثر مما هو من شأن الخطيب وأسعد ضروب الارتجال مما ساعد فيه الحضور بتراسل عيون الحب بينهم وبين خطيبهم والعبرة في معرفة روح الجمهور فإن له مناحي خاصة في الحسن والتعقل والفهم وحتى ولو كان مؤلفاً من فلاسفة وعقلاء قال ماكس نوردو: اجمع عشرين أو ثلاثين من أمثال كيتي وكانت وهلمهولز وشكسبير ونيوتن واعرض على حكمهم وآرائهم المسائل العملية الحاضرة فإن قراراتهم لا تخلف بتاتاً عن مقررات أي مجلس كان. ولماذا يكون ذلك؟ لأن كلاً من العشرين والثلاثين منتخباً فضلاً عن تفرده بمزايا تجعله رجلاً فائقاً قد ورت بعض صفات نوعه مما يكون به مثيلاً لجاره في المجلس بل شبيهاً لعامة الأشخاص الذين يمرون في الشارع فإن الجوهر الإنساني مستحكم من شخصية المرء وطربوش العامل يغطي قبعة الفيلسوف. قال المؤلف وبقدر ما يستطيع الخطيب قيادة جمهور سامعيه يفعل في أرواحهم ويسوقهم إلى ما يريد. ومن أجمل ما قاله بريان من خطباء فرنسا أن الخطاب ليس قطعة أدبية بل هو عمل والخطاب لا يعمل ليقرأ بل ليسمع وصورته التي يظهر فيها ثانوية فالتأثير يحدث والنتيجة الحاصلة هي كل شيء ومراعاة القواعد مطلوبة في الخطاب ولكن مهما كانت قيمته من الوجهة الأدبية فإنه إذا فصل عن محيطه الذي ألقي فيه وفارق الأسباب التي

دعت إليه هل يكون له شأن صحيفة جميلة من الأدب استخرجت من قلم أستاذ في الكتابة. وإليك بعض نصائح عملية لطالب النبوغ في الخطابة لقفناها من كتاب آجام منها أن يجتنب كل الاجتناب كل استعداد كتابي للخطاب. أن يحمل الخطيب نفسه كل صباح ولو عشر دقائق أن يتكلم بمضمونها سواء كان في عقله أو بصوت جهوري فالتفكير والكلام قبل الكتابة في أي شيء كان مطلوبان وأن لا يعد خطابه في آخر ساعة بل يجب أن تكون بين ساعة إلقاءه وساعة الاستعداد له ليلة على الأقل واستجمام الأفكار خلال الساعات الأخيرة التي تسبق المحاضرة وأن لا يكثر من استعمال المفكرات بل يقتصر على قيد التقاسيم الكبرى والتواريخ وأن يحفظ حق الحفظ الأسماء الخاصة التي ترد في الكلام وان يعود المرء نفسه النطق الصعب من الحروف ومعاناة المخارج المختلفة من اللسان وأن يتفنن الخطيب في الجمل التي لا مناص له من استعمالها وهي من لوازم أكثر الناس فيجتهد أن ينوعها ويكثر من الأساليب التي هي بمعنى واحد وبألفاظ متباينة وأن يبدأ الخطيب خطابه أبداً ببطء بل بانخفاض ثم يتدرج في رفع صوته فكل خطيب يبدأ كلامه بصوت جمهوري يوشك أن يختمه وقد أبح صوته وانخفض ويجب يعرض فكره بدون أن يثور غضبه فإن الغضب ليس من الصحة في شيء وبه يبح الصوت وينبغي له أيضاً أن يحدق نظره فيمن ينصتون إليه وأن لا يشغل نفسه بقراءة شواهد أو التقليل منها ما أمكن وللحركات في الخطيب مكانة ولكن الإكثار منها لا يحتمل والأحسن أن يذهب الخطيب مع الطبع وإذا قوطع الخطيب فعليه أن ينتظر ريثما يعود السكون إلى المجلس وعلى الخطيب أن يلاحظ تتمة سلسلة كلامه قبل أن يعد جواباً على البديهة والجواب السديد على الغالب هو من جودة الذاكرة وعليه إذا خانته لفظه ألا يضيع وقته أصلاً في البحث عنها فاللحن والخطأ أفضل من الوقوف في الإلقاء قال إياك أن تضيع فرصة إسماع موسيقار حاذق في صناعة الكلام أي خطيب مصقع وفّر من المدندنين فرارك من الوباء. هذا ما قاله المؤلف موريس آجام وكتابع علمي عملي معاً وهاك الآن خلاصات لقفناها من كتاب آخر في هذا الفن وهو عملي محض واسم مؤلفه سيلفن روديس واسم كتابه الخطيب الحديث توخى فيه تعليم الخطابة في الجملة لمن لا يستغني عنها من الناس قال أما النبوغ فيها فلا بد له من هبة الهية ولكن بالتعلم لأسلوب الخطابة يستطيع من يدخل المجتمع

ويشترك في بعض الجمعيات الخيرية ونقابات العملة والمعلمين والأندية والمجامع المختلفة أن يخطب على أسلوب حسن ولا يخجل من التعبير عما في فؤاده وأن على المرء أن لا يلقي بنفسه في ميدان الخطاب العام إذا كان موضوعه لم ينتج أو تافهاً فالأولى قبل كل شيء دراسة الموضوع للخوض في عباب الكلام الذي تكثر مناحيه والأسباب الملجئة إليه اليوم بعد اليوم وخير ذريعة للمرء حتى لا يخونه الكلام أن يستظهر كثيراً من المفردات حتى إذا نسي لفظة أقام غيرها مكانها من دون أن يتوقف فقد كان الشاعر تيوفيل غوتيه يقرأ كل يوم صفحة من المعجم ولا يبعد أن يكون شأن الشاعرين بالزاك وبودلير والكاتب فلوبر على هذا النحو لما علم من تمكنهم من أساليب اللغة ومصادرها فكانوا يتصفحون أيضاً هذه الكتب الضخمة التي جمعت نبوغ عنصر بأجمعه وبدت بها مظاهر مدنيته المنوعة على اختلاف العصور. وأرى أن من المفيد التطريس على آثار أولئك الكتاب وأن يقرأ المرء كل يوم صفحة من معجم اللغة وكم من لفظ تذكر به صاحب الفكر عالماً وروايات وتواريخ وصفحة من الطبيعة وبلاداً وعصراً ثم أن الألفاظ وحدها لا تكفي لإكثار مادة الخطيب ولا بد له من القوالب فعليه أن يحفظ جملاً مأثورة لطيفة تعلمه أساليب البلغاء وتركيب الجمل على مختلف الصور ولا يبالغ في الاستشهاد بها فإنه بذلك يضيع شخصيته ويكون ناقلاً كلام غيره فقط. وعليه أن يركب لنفسه جملاً يمكنه أن يقولها ويلفظ بها بصوت جهوري كل يوم من 15 على 30 دقيقة ونجاحه مؤكد لا محالة. وقال أن تعلم الارتجال هي غاية الغايات التي يجب على مريد الخطابة أن يحاول بلوغها وإليك ما عساه يهيء لك الطريق إلى ذلك: افرض أنك بمالقفته سابقاً من المعارف لقد استعددت لأن تكتب بعض الشيء خطاباً لك على الورق فاترك الآن عادة تقييد فكرك في الكاغد وفكر في موضوع لك مدة ساعة أو ساعتين وذلك بينما أنت سائر أو راكب في حافلة أو منصرف إلى عملك اليدوي إن كنت ممن يتعاطون صناعة بيدك أو بينما تكون في مكتبك فالخطب سيان. انظر إلى جميع النقط التي تعرض لفكرك وآت بالاعتراضات وردها بما لديك من الحجج تنقضها بها وخمّر المادة العقلية التي بلغت منزلتها حتى إذا كنت في دارك بمعزل عن المكدرات وضوضاء الخارج اطرد من ذهنك جميع الشواغل الخارجة وخذ نفسك بما تريد أن تأخذه بها واجمع كل قوتك العقلية في الفكر في الفكر الذي

يأخذ من نفسك بخط وتدبر فيما تريد بضع دقائق واشرع في التكلم جهاراً جائياً ذاهباً في غرفتك. تكلم على مهلك بدون أن تبحث عن تعابيرك ولا تهتم بحالة جملك ولا لصحتها من النحو الصرف ودوام بدون انقطاع ودع كلماتك تتساقط منك ولكن بأن تصل بينها ما أمكن اتصالاً جيداً أو رديئاً فتقارب بينها وتتشوش الأفكار فالقطع على هذا الضرب من الكلام تنتهي في الدمدمة أو لا تنتهي أبداً وأنت لا يأخذك قلق من ذلك بل ظل مثابراً أيضاً وتخط العوائق واطرح وراءك الفقرات التي لم تتلطف في رصفها ولا تبتئس قط لما لا تذكره حافظتك ولا لما يتخلل كلامك من المنافذ أو لضعف حججك وتفاهة براهينك وثابر ثم ثابر واذهب أدراجك لا تلوي على شيء وارفع صوتك حتى ينخفض ويخونك بطعه. وإياك أن تحبط إذا لحظت أن النتيجة التي تحصل عليها حقيرة فإن هذا الجهد الذي يبدو لك هزواً بانحلال السياق والسباق بين أجزاءه ربما عبث بنشاطك وخيب من أملك فليس هو من العبث بالدرجة التي تتصورها بادي الرأي. لا جرم أن مثل هذه التجربة لتربية ملكة الخطابة لا تنتج شيئاً إذا اقتصر عليه. ومهما بلغت من الثبات في الخطة التي اختطتها لنفسك ورزقت من الصبر لتجديدها على الدوام فإنك تصلح منطقك بالتدرج والكلام الذي تدعوه يأتيك عفواً أكثر من قبل ولا تستعصى عليك الجمل وتليز قناة الكلام وتتلاحم أجزاؤه على سلوب حسن وتنجلي الأفكار فتنال كل مرة نتيجة تحمد غبّ سراها فتصل بعد بفضل الثبات والصبر إلى ما تريد بلوغه من مراقي الكمال وإياك إذ ذاك أن تقنع بغير سلطة الإرادات العالية. لا يكفي السهولة في المنطق بدون ارتجال فكثرة مادة الكلام حسن ولكن الواجب تنظيمه وتخطيط الطريق الذي يجب عليه سيره حتى لا يضل في تفاهات لا منفذ لها: إن تعيين الخطة ضرورية في إنشاء خطاب مكتوب وهو ضروري أكثر عند إرادة الارتجال. إن القريحة المخيلة والمنطق في الخطيب التي تظهر بأنها منبعثة من ذهنه هي ثمرة التدرج والنظام العلمي باديء بدء وبدونه لا رباط ولا سياق. ثم شبه الخطيب بالمثل في حركاته ولكن تمثيلاً حسناً بحسن استعمال حركاته وسكناته لا تأخذه رهبة ولا جزع قال والأحسن أن يعمد من يحب التبريز في هذا الفن أن يتمرن أمام أصحابه ويقوم بينهم خطيباً كما لو كان بين غرباء وهو يدلونه على نقصه ويبينون له عوراته وبصحة الإرادة وفضل الانتباه يتوصل المرء إلى ما يريد حتى إذا حصلت له

آنسة بالكلام يشرع في خطابه ببطء والمستمعون لا يستمعون له بكليتهم أولاً بل أن لهم من أحواله أعظم جاذب وعلى الخطيب أن يلاحظ وسط القاعة التي يخطب فيها أو آخر الحضور ويحدق النظر فيهم ليدلهم بلسان حاله أنه يعنى بإسماعهم وإقناعهم. هذا محصل ما اخترناه من الكتابين في الخطابة عند الفرنسيس وهم من الأمم المشهورة بفصاحتها وخطبائها الذين يحكمونها ببلاغتهم أكثر مما يحكمونها بسياستهم فالسياسي الخطيب منهم هو الذي يتسلط على النواب ببيانه ويتولى الوزارات والسفارات وكلما برز في هذا الفن استجاش أنصاراً وأحرز سمعة على وجه الدهر والخطيب بين العلماء وهو الذي يستولي كل الاستيلاء على المجامع العلمية والكليات ويكهرب الشعب بأقواله ويكثر أشياعه وأعوانه.

تاريخ التاريخ

تاريخ التاريخ جاء في برقيات الأجانس الملي وهي شركة البرقيات العثمانية يوم 7ربيع الثاني 1335 و30كانون الثاني 1917 ما نصه لما كان التاريخ المستعمل في البلاد العثمانية لا قيمة فنية له ودوام استعماله نقيصة في بلادنا التي عزمت عزماً أكيداً أن تتبوأ مكاناً خاصاً في ذروة المدينة العصرية فقد اقترحت الحكومة على مجلس النواب العثماني إهمال التقويم المذكور واستعمال التقويم المستعمل في جميع العالم المتمدن فقبل المجلس أمس لائحة القانون. وبناء على ذلك فسيعتبر اليوم السادس عشر من شباط سنة 1332 اليوم الأول من آذار لسنة 1333 وأما سنة الميزانية فستبقى مدتها إلى شباط حسب المعتاد. وقد صرح الشيخ بشير الغزي مبعوث حلب بأن لا مانع يمنع شرعاً من استعمال التقويم الغربي وكان فخر الكائنات (عليه الصلاة والسلام) يأمر دائماً بمراعاة الشؤن الموافقة لمصلحة المسلمين والتي توجب السهولة للأمة وعليه فمن الموافق لمصلحة الأمة قبول التاريخ الغربي المذكور مع المحافظة على التاريخ الهجري بهذا الاعتبار. قبلت البلاد العثمانية التاريخ الغربي وقد كانت سبقتها البلاد المصرية إلى قبوله أما سائر البلاد الإسلامية فلا شأن للتاريخ الهجري فيها إلا بين الخاصة على الأغلب والمعول عليه هو التاريخ الغربي أللهم إلا البلاد الإسلامية التي وقعت في قبضة روسيا وفي بلاد اليونان فإنهما تستعملان التاريخ الشرقي الذي كان المعول عليه في السلطنة العثمانية قبل هذا. وقد وافق مجلسنا النيابي اليوم على إبداله بالتاريخ الغربي الأكثر شيوعاً مع الاحتفاظ بالتاريخ الهجري كما كانت الحكومة تفعل في كثبها الرسمية فيكون الحساب الغربي كما كان الحساب الشرقي للداخلية والخارجية والحساب الهجري للداخلية فقط. ولقد كانت مسألة حساب السنين منذ القديم موضوع نزاع بين الأمم كل فريق بل كل أمة تتناغى في تاريخها وتحرص عليه. كتب إلينا أحد أساطين العلم الحديث في القاهرة منذ ثلاث سنوات وقد أرخنا كتابنا غليه بالهجري يقول: جاريتك في التاريخ الهجري ولكن يا أخا العرب لا يثبت في الأرض إلا ما ينفع الناس. والتاريخ الذي جرى عليه أصحاب الملايين والأساطيل والمدارس والمكاتب والعامل أرباب العلوم والفنون وأهل الجد والاجتهاد الخمس مئة المليون سكان أوربا والمئة والخمسون مليوناً سكان أميركا هذا التاريخ لا فائدة من تركة ولا يحتمل أن يزول وقد جعلت بهند والصين واليابان تستعمله

وكانت العرب في أول عهدها تستعمل تاريخ الاسكندر لأنه كان شائعاً ولم يروا في ذلك ضعة. هذا ما كتبه صديقنا وهو من أفراد العلماء المعاصرين الذين نشروا للشرق علم الغربي منذ نحو نصف قرن وقد كتبنا وقت إذ لأستاذنا الشيخ طاهر الجزائري الذي يعرف الشرق والغرب علمه الواسع وحرصه على بقاء مشخصات الأمة فكتب إلينا بما يلي: عجبت لمن يسعون في أن نهجر التاريخ الهجري ويفاتحونا في ذلك كأنهم لا يعلمون أنا نعلم ما يرمون غليه عن بعد. لكل أمة شعار إذا تركته طمع فيها واستغفت جانبها وربما صارت بعد مدمجة في غيرها وقد سعى أناس منذ عهد بعيد في أن يضعفوا ما يقومي أمر الأحلام عموماً والعرب خصوصاً فنجحوا بعض النجاح فطمعوا في أن يقضوا عليه فلم يجدوا أقرب إلى ذلك من إضعاف أمر اللغة العربية والسعي في تبديل خطها والتزهيد في الكتب التي كتبت به جعلوا ذلك دأبهم ودينهم حتى أثروا في كثير من أبناء جلدقنا الذين يظنون أنهم في غاية من الذكاء والوقوف على أسرار الأمم فكان ما كان مما هو معروف. ثم زاد الأمر فطمعوا في تبديل التاريخ الهجري وساعدهم على ذلك جبت مصر اسمعيل ففرحوا فرحاً لا مزيد عليه وقال بعضهم الآن شفي الغليل من هذا الأمة غير أن كثيراً ممن انتبه لهذا الأمر سعى في إعادته على قدر الإمكان فيها فامتعض أولئك القوم وصاروا يلمزون كل من يسعى في ذلك ولما ظهرت مجلة المقتبس ورأوا أنها تستعمل التاريخ الهجري صاروا ينظرون إليها شزراً وعرفوا أنها ترمي إلى خلاف مرماهم ولو أمكنهم توقيفها لم يتأخروا عن ذلك. وليت شعري كيف يلام المسلم على أن يؤرخ كتابه بالتاريخ الهجري فهل انقرض التاريخ الهجري وهل يريدون أن ينقرض وأصحابه أحياء فإن قالوا أن المقصود توحيد التاريخ في الأمم وأوربا هي القوية الآن قيل أن أوربا لها تاريخان أحدهما شرقي والآخر غربي وكل يؤرخ به قوم منهم فهل أوقف ذلك التجارة أو أثر في المدينة شيئاً ولم لا يكلفون الانكليز تغيير مكاييلهم وموازينهم وأذرعهم لتتحد المقاييس في الأمم وتتغير ذلك ليس فيه عضاضة بخلاف التاريخ وقد رأيتهم يعتذرون عنهم ويعدون ذلك متانة في الأخلاق فانظر ما وصلنا إليه. . هذا رأي الأستاذين المشار إليهما ولكل وجهة وقد أثبت التاريخ أن الأمم كانت تتبع في

تاريخها القوة والقوة اليوم للغرب فحبذا إلى مجاراته مع الاحتفاظ بتاريخ الملة. فقد قبلت الحكومة منذ سنتين الساعة الزوالية أو الوسطى وبقيت الساعة الشمسية مستعملة أيضاً فساعتنا اليوم ساعة برلين وفينا وباريز ولندن وسيكون غداً تاريخنا تاريخ برلين وفينا وباريز ولندن توحيداً للمناحي ورفعاً للألتباس والتوقف. ويجدر بنا في هذا المقام أن نامّ بتاريخ التاريخ عند الأمم القديمة فيتبين للقاري أن هذا الخطب قديم وأن البقاء على حالة واحدة ومراعاة التقاليد قد يصعب إلا إلى صد محدود. قال السيوطي في أوائله أن أول من ورخ بالهجرة عمر رضي الله عنه بمشورة علي رضي الله عنه سنة ست عشرة وسبب ذلك أنه كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر رضي الله عنه أن يأتينا كتب ما نعرف تاريخها فاستشار عمر فقال بعضهم أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فرق بين الحق والباطل فأرخ به. ويقول القسطلاني في تعليقه على البخاري فجمع عمر الناس فقال بعضهم أرخ بالمبعث وقال بعضهم بالهجرة فقال عمر الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها وبالمحرم لأنه منصرف الناس في حجهم فاتفقوا عليه. قال القرماني وأقدم التواريخ التي بأيدي الناس تاريخ القبط لأنه بعد انقضاء الطوفان ثم اجتمع رأي كل ملة فأرخ الروم واليونانيون بظهور اسكندر وأرخت القبط بملك بختنصر وأرخ بنو اسحق من مبعث نبي إلى مبعث نبي آخر وما زالوا يؤرخون بما كان من الكوائن حتى أتى عام الفيل فجعلوه تاريخاً قال المحب الطبري أمر رسول الله حين قدم المدينة بالتاريخ وكانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه صلى الله عليه وسلم حتى أرخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الهجرة لأنها فرقت بين الحق والباطل وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من الهجرة وقدموا التاريخ على الهجرة بشهرين وجعلوه من المحرم. ويؤخذ مما قاله المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف أن الأمم السالفة والأجيال الخالية والقرون الماضية كانت تؤرخ بالكوائن لعظام والأحداث الكبار عندها وتملك الملوك فمن أقرّ بالطوفان من الأمم كانوا يؤرخون به ثم أرخوا العالم بتبلبل الألسن بإقليم بابل فأما المجوس فلإنكارهم كون الطرفان المستولي على جميع الأرض أرخوا بكيومرت كلشاه

معنى ذلك ملك الطين وهو عندهم آدم أبو البشر ثم أرخوا بقتل داريوس الملك وظهور الاسكندر الملك ثم أرخوا بظهور اردشير بن بابك وجمعه الملك واستيلائه على ملوك الطوائف ثم أرخوا بملك يزد جرد بن شهريار بن كسرى ابرويز بن هرمز بن خسرو انو شروان بن قباذ الملك وهو آخر ملوكهم. وكان سوالف اليونانيين والروم والقبط وهم السريانيون يؤرخون بملوك لهم متقدمين وكوائن وأحداث ثم أرخوا بسني الاسكندر بن فيليس وقد تتوزع في مبدأ تاريخ الاسكندر فمنهم من رأى أن ذلك من ابتداء ملكه ومنهم من رأى ذلك من أول السنة السابعة من ملكه حين خرج عن بلاد مقدونية إلى ناحية المغرب وغيرها من البلاد الإفرنجية ومنهم من رأى ذلك في غلبته على إقليم بابل وقتله دارا ابن دارا ومنهم من رأى أن ذلك من وفاته. وكانت القبط بأرض مصر تؤرخ بأول السنة التي ملك فيها بخت نصر وقد ذكر ذلك ابطليموس في كتاب المجسطي. فأما تاريخهم في زيجة فمن أول سني فيلبس أبي الاسكندر ثم أرخوا بملك دقلطيانوس الملك القبطي لعظم ملكه واستقر تاريخهم على ذلك إلى هذه الغاية. فأول هذه التواريخ تاريخ بخت نصر ثم تاريخ فيلبس ثم تاريخ الهجرة ثم تاريخ يزد جرد ذكر ذلك محمد بن كثير الفرغاني في كتاب الثلثين فصلاً الذي فيه ناكر جوامع المجسطي لا بطليموس وغيره من أصحاب الجيزة في النجوم والقوانين كالغزاري ويحيى بن أبي منصور والخوارزمي وحبش وما شاء الله ومحمد بن خالد المروروزي وأبي معشر جعفر بن محمد البلخي وابن الفرّخان الطبري والحسن بن الخصيب ومحمد بن جابر البتاني والتبريزي وغيرهم ممن تقدم وتأخر. وكان الإسرائيليون يؤرخون بوفاة إسرائيل وهو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ثم بخروجهم من أرض مصر مع موسى ثم أرخوا باخراب بخت نصر أورشليم وهي بيت المقدس وسبيهم إلى بابل وكذلك أرخت النصارى من مولد المسيح وغير ذلك من أحواله وأما الهند والصين ومن وافقهم من الأمم ممن قال بقدم العالم وأزليته فيأبون كون الطوفان عم جميع الأرض وما ذكر من تبلل الألسن وتواريخهم موضوعة على سوالف ملوكهم وأحداث عظيمة كانت في أيامهم وبأعالي الهند ومشارفها البيت المعروف بيت الذهب بدأ تاريخهم بعد ظهور اليدّ (الصنم) الأول فيهم وهو اثنا عشر ألف مضروبة في ثلثة وثلاثين ألف

عام. وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة فأما حمير وكهلان ابنا سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان بأرض اليمن فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم كملك تبع الأكبر وتبع الأصغر وتبع ذي الأذعار وتبع ذي المنار وأرخوا بنار صوران وهي نار كانت تظهر ببعض الحوار من أقاصي بلاد اليمن وأرخوا ببعث شهيب بن مهذم وملك ذي نواس وملك جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم الدوسي وملك آل بني شمر من غسان بالشام وأرخوا بعام السيل وهو سيل العرم وخروج عمر بن مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة النطريف بن أمريء ألقيس بن ثعلبة بن مازن بن الازد من مأرب جماع غسان في قومه من الأزد وغيره من كهلان وحمير وتفرقهم في البلاد. ثم أرخوا بظهور الحبشة على اليمن ثم غلبة الفرس على اليمن وإزالة الحبشة إلى أن جاء الله بالإسلام. فأما تاريخ ولد معد بن عدنان فإنهم كانوا يؤرخون بغلبة جرهم العماليق وإخراجهم إياهم عن الحرم ثم أرخوا بهلاك جرهم في الحزم ثم أرخوا بعد ذلك بعام التفرق وهو العام الذي افترق فيه ولد نزار بن معد بن عدنان من وبيعة ومضر وإياد وانمار. ثم أرخوا بعد ذلك بعام الفساد وهو عام وقع فيه بين إحياء العرب وقبائلها التنازع والحروب فاستبدلوا الديار وتنقلوا في المساكن وأرخوا بحجة الغدر وكانت قبل الإسلام بنحو من مائة وخمسين سنة. وأرخوا بالحرب بين ابني وائل بكر وتغلب المعروفة بحرب البسوس. وأرخوا بحرب بني بغيض بن ريث بن غطفان المعروفة بحرب داحس والغبراء وذلك قبل البعث بنحو من ستين سنة وبحرب لاوس والخروج ابني حارثة بن ثعلبة وهو العنقاء. قال المسعودي: وكانت كل قبيلة من قبائل العرب تؤرخ بيوم من أيامها المشهورة في حروبها فكانت بكر وتغلب ابنا وائل بن قاسط بن هنيب بن أفعى بن دعمى بن جديلة ابن أسد بن ربيعة بن نزار تؤرخ بعام التحالف من أيام حروبهم المنسوبات إلى حرب البسوس وفزارة وعبسى ابنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان ابن مضر بن نزار يؤرخون بيوم الجبلة وبنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوزان يؤرخون بيوم شعب جبلة. وإياد تؤرخ بخروجها من تهامة وحروبها مع فارس الحرب المعروفة بوقعة دير الجماجم ثم أرخوا بخروجهم عن العراق إلى الجزيرة حين أوقع بهم

سابور ثم أرخوا بعام الانتقال من ديارهم إلى بلد الروم. وتميم تؤرخ بعام الكلاب وهي الحرب التي كانت بين ربيعة وتميم. وأسد وخزيمة تؤرخ بعام مأقط الذي قتلوا فيه الملك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي أبا أمريء القيس. والأوس والخزرج ابنا حارثة تؤرخ بعام الآطام لما تحاربوا على الآطام وهي الحصون والقصور. وطيء وحليمة تؤرخ بعام الفساد وهي الحرب التي كانت بين الغوث بن طيء وجديلة بن سعد بن فطرة بن طيء بجبلي أجاء وسلمى وما يلي ذلك من السهل ولم يزل في وصفنا من قبائل العرب يؤرخون بالأمور المشهورة من موت رؤسائهم ووقائع وحروب كانت بينهم إلى أن جاء الإسلام فأجمع المسلمون على التاريخ من الهجرة. وقد ذهب قوم من أصحاب السير والآثار إلى أن آدم لما هبط من الجنة وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوطه فكان ذلك هو التاريخ حتى بعث الله نوحاً فأرخوا من مبعثه حتى كان الطوفان فكان التاريخ منه إلى نار ابراهيم فلما كثر ولد ابراهيم افترقوا فأرخ بنو إسحاق من نار ابراهيم إلى يوسف ومن يوسف إلى مبعث موسى ومن مبعث موسى إلى ملك داوود وسليمان وما كان بعد ذلك من الكوائن والأحداث وأرخ بنو إسماعيل من بناء البيت حين بناه ابراهيم وإسماعيل فلم يزالوا يؤرخون بذلك حتى تفرقت معدّ وكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون بخروج آخر من خرج منها من قضامة وهم سعد ونهد وجهينة بنو زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضامة حتى مات كعب بن لؤي فارخوا من موته إلى الفيل ومنهم من كان يؤرخ بيوم الفجار بين قريش وسائر كنانة بن لؤي وبين قيس بن عيلان. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش تؤرخ بموت هشام بن المغيرة المخزومي والفيل وقد ذكر للإبراهيميين تواريخ كثيرة منها التاريخ بوفاة ابراهيم ثم بوفاة إسحاق. وفي الإسماعيليين من كان يؤرخ بوفاة إسماعيل وغير ذلك. قال وكان عمر شاور الناس في التاريخ لأمور حدثت في أيامه ولم يعرف لها وقت تؤرخ به فكثر منهم القول وطال الخطب في تواريخ الأعاجم وغيرها فأشار عليه علي بن أبي طالب أن يؤرخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أرض الشرك فجعلوا التاريخ من المحرم وذلك قبل مقدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بشهرين واثني عشر يوماً

لأنهم أحبوا أن يبتدئوا بالتاريخ من أول السنة وكان ذلك في سنة 17 أو 18 يتنازع الناس في ذلك. وذكر المقريزي في خططه أن لكل أهل ملة تاريخاً فكانت الأمم تؤرخ أولاً بتاريخ الخليقة وهو ابتداء كون النسل من آدم عليه السلام ثم أرخت بالطوفان وأرخت ببخت نصر وأرخت بفيلبس وأرخت بالاسكندر ثم بأغسطس ثم بانطيس ثم بدقلطيانوس وبه تؤرخ القبط ثم لم يكن بعد تاريخ القبط إلا تاريخ الهجرة ثم تاريخ يزد جرد فهذه تواريخ الأمم المشهورة وللناس تواريخ آخر انقطع ذكرها. وذكر البستاني في دائرة المعارف أن التاريخ الفارسي الجديد يسمى بالجلالي نسبة إلى جلال الدين بن ألب ارسلان السلجوقي فمبدأه يوم الجمعة عاشر رمضان سنة 471هجرية. هذا إجمال تاريخ التاريخ في الأمم ونموذج من حجج القائلين بالاعتماد على التاريخ الهجري أو إبداله بالتاريخ الغربي أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

بين الشام والعراق

بين الشام والعراق الثروة الطبيعية الشام قطر واسع هو باب الشرق إلى البحر الأبيض مؤلف من ثلاث ولايات هي بيروت ودمشق وحلب ولوائين هما جبل لبنان والقدس الذي يشمل البقاع الفلسطينية مهبط الوحي والنبوات ومشرق شمس الحكمة والديانات أما العراق العربي فمؤلف من ثلاث ولايات أيضاً هي بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين والموصل رافعة لواء التمدين في العصور الوسطى ومدينة البصرة مجتمع العلماء ودار الباحثين من أقطاب الحضارة الإسلامية ويضيفون إلى العراق لواء نجد أو الإحساء الممتد على ساحل الخليج الفارسي وكان قبل أعوام قليلة تابعاً لولاية البصرة تدير شؤونه رأساً مع أن التقسيم الإداري في سورية أوسع منه في العراق فلا يزال ما بين النهرين أكثر مساحة وأجسم وضعاً. وإذا كان في الشام أنهار جميلة كالليطاني وبردى والعاصي والأردن والساجور التي تروي بلاد الشام ففي العراق نهران عظيمان هما دجلة والفرات يؤلفان شبكة من المياهفي هاتيك الجزيرة الزاهرة التي كان يقطنها نحو عشرين مليوناً من أعقل العناصر البشرية فطوراً ترى نهراً مصدره الفرات ومصبه دجلة وآونة تشاهد جدولاً يستقي مياهه من دجلة فيدفعها إلى الفرات وهكذا يرى السائح في هاتيك الربوع أنهراً متقاطعة هي منبع حياة الزرع والضرع في بلاد قليلة الأمطار وإذا تبخل السماء بمدرارها لم تبخل الأرض بأنهارها ويظل الرافدان سائرين من أعالي الأناضول حتى يلتقيا عند القرنسة فيؤلفان شط العرب الكبير الذي يروي أراضي البصرة والمحمرة وجزءاً كبيراً من بلاد إيران ويدفع هذا النهر ماءه في قلب خليج فارس عند مضيق الفاو على شواطئه فيكون طوله نحو 145 كيلو متراً وعرضه لا يقل أمام البصرة عن 540 متراً وعمقه يختلف بين عشرة أمتار وخمسة أمتار وفيه تسير البواخر القادمة من أصقاع شاسعة كالهند وثغور فارس وبلاد الصين واليابان وأوروبا وأميركا ومصر ومنه تتفرع أنهر صغيرة كأبي الخصيب وهو معروف في كتب تخطيط البلدان العربية ونهر العشار وغيرهما فتفيض أوديتها ماءً نميراً بسبب وقوع المد والجزر مرتين كل يوم فتسيل على البساتين والحقول والمزارع وتسقي رياضاً وغياضاً في الإحصاءات المتقننة أنها لا تقل عن اثني عشر مليون نحلة أغلبها الموسرة في البصرة وما

بقي منها فلامير الكويت ولحاكم المحمرة. وفي العراق غير هذه من الأنهار وأن وهو الذي حفه الإسكندر المكدوني على ما قيل وديالي المشهور في كتب العرب بشهر تامراً ويسقي مقاطعة خراسان العراق وهي أخصب بقعة فيه ونهر الغراف الذي يتفرع من جانب دجلة الأيمن أمام الكوت التي انتصر فيها حق العثمانيين على باطل الإنكليز وهو يمر بمدن وقرى كثيرة من ديار المتفق لاسيما مدينة الحي ويقال أنها مدينة واسط التي شيدها الحجاج أمير العراق على عهد الأمويين وهذا النهر يصب في ضفة الفرات اليسرى على مقربة من الناصرية التي بناها الأمير ناصر باشا السعدون أحد أقطاب الأسرة السعدونية صاحبة القول المطلق حينئذ على جميع قبائل العراق تقريباً ومن أحل الاطلاع على أخبارها فليراجع كتاب مطالع السعود في أخبار الوالي داود لعثمان بن سند البصري مخؤبق كتاب تاريخ نجد المطبوع في بغداد حديثاً وبقيت هنالك أنهار أخرى كالمجر الصغير والمجر الكبير والكحلة وهي تطفئ فلة ديار بعيدة الأكتاف مترامية الأطراف في لواء العمارة ومصدرها دجلة وتصب في المستنقعات الصالحة لزراعة الأرز وهناك قبائل وأفخاذ وبطون تتخذ ومنه خبزاً نقياً وفلما تأكل القمح غلا نادراً وطعامهم مقصور على السن والأرز والتمر وهم أقوياء الأبدان سمر للسحنات يستترون بمآزر فقط وصدورهم وأكتافهم معرضة لحرارة الحر وبرودة القمر. كل هذه الأنهار في العراق صالحة لسير السفائن البخارية والشراعية ففي دجلة تسير بواخر الشركة العثمانية التي أسسها أبو الأحرار مدحت باشا والشركة الإكليزية التي نالتامتيازها ايام السلطان عبد المجيد فأساءت الصنيع مما حمل العثمانيين على فسخه وفي الفرات والغراف وشط العرب تسير بواخر كثيرة للبريد ولتأمين الراحة وتوطيد الأمن وكما أن السكك الحديدية في سورية أحكمت عرى الروابط الاقتصادية بين حواضرها كذلك الطرق البحرية أو النهرية ربطت بلاد العراق بعضها ببعض وليس في العراق أنهار غير صالحة للسير إلا النهر وأن الخالص ودلي عباس فالأول مندرس ولم تبق منه إلا أطلال طامسة وأنقاض دراسة وكان مصدره من دجلة ما فوق سامراء بثلاث ساعات ويصب على مقربة من المدائن عاصمة دولة الساسانيين ويقول بعضهم باقياً إلى اليوم تعلوه بعض الركام من الرمال وعليه آثار القناطر والجسور ويقال أن صدره مشيد بحجارة من الرخام أفرغ

عليه ذائب الرصاص ولذلك يطلقون عليه في سامراء اسم نهر الرصاصي وقد صرح كبار المهندسين في تقارير مطولة عليه في وزارة النافعة أن أحياء هذا النهر يتوقف على إنفاق ربع مليون جنيه ولكنه يسقي أصقاعاً بقعاً جرداء هي الآن لا تقل مساحتها عن ثلثمائة ألف فدان ومن ضفاف دجلة تتشعب أنهار أكثرها مندرسة كنهر القاطول وهو الذي يخترق قصور الخلفاء في سامراء ونهر الذهب فوق قرية الدور وهذه الأنهار كانت في عهد العباسيين تدر لبناً وعسلاً ولم يبقَ منها اليوم إلا أطلالها وآثارها. ومن الفرات تتفرع أنهار كثيرة في طليعتها نهر الحلة الذي أنفقت الدولة العلية على إحيائه نحو تسعمائة ألف ليرة فشيدت له القناطر والجسور والخزانات للمياه قرب الهندية إحدى ثغور الفرات وهو الآن يروي مقاطعة الحلة ومزروعاته لا تقل عن مائة ألف فدان فعادت النضارة والنضارة تجددت الحياة في هاتيك الأصقاع التي كانت مواطن للبابليين أرباب التمدن الزاهر، وهذا المشروع من أعظم وأفخم المشاريع التي قامت في العراق بل في البلاد العثمانية بأسرها. التجارة إن امتدت مساحة كبيرة من سورية على ساحل البحر الأبيض قد جعلها في مقام رفيع يحسدها عليه العراق كما تحسده هي على أنهاره فسورية تفوقه بسواحلها وثغورها والعراق يفوقها بمياهه النميرة وقد استفادت سورية بأن كانت أسبق بلاد العرب إلى الاغتراف من بحار التمدين والاقتباس من أنوار الحضارة العصرية فأصبحت كعبة القصاد غليها تشد الرحال من ديار قاصية وبلاد نائية طلباً للعلم وانتجاعاً للأدب في معاهدها وكلياتها على أنها مع امتيازها البحري لا تزال دون العراق في التجارة والمكاسب لأن الزراعة في مابين النهرين جعلت صادرة من الحبوب والتمور والأصواف والجلود والأسمان ومواد الأصباغ أكثر من وارداته من ديار الفرنجة وهي لا تتجاوز عشرة ملايين ليرة سنوياً ولذلك بقيت الثروة الوطنية في مواطنها فلم تتسرب إلى يد الأجنبي كما هو الشائع في سورية. ومن امتيازات العراق على سورية وغيرها أن فيه كنوزاً طبيعية وفيرة قلما توجد في البلدان الأخرى التابع البترول كثيرة في تخوم فارس قرب خانقين ومتدلي ومناجم الفحم

الحجري قريبة من الصلاحية والإسفلت والملح والبورت تكثر قرب مدينة هيت القديمة فهذه الثروة الطبيعية أغنت العراق عن مد يد العوز والفقر إلى الأجنبي فقد مضت ثلاث سنوات على الحرب فلم يشك قلة البترول وهذه البواخر تسير في دجلة ووقودها الفحم الحجري العراقي وقس على ذلك أشياء كثيرة تظهر غنى العراق كالرخاء السائد في أقطاره في حين تشتد الضيق وتعسر المعيشة في الأقطار الأخرى ومن أدلة فقر القطر السوري بالنسبة إلى العراق مدينة حلب فأنهارها لا تكفي لإرواء بقاعها الواسعة ولولا مياه الأمطار التي يخزنها الحلبيون في الصهاريج على طراز فني أو غيره لماتوا عطشاً وظمأً وهكذا أقل عن القدس وهي تعد من أمهات مدن الشام وحينما كنا نقرأ في كتب تخطيط البلدان العربية كمعجم ياقوت وابن حوقل والبلاذري وابن خردانة والمسعودي ما خطته أنامل الكتبة القدماء ورددته السن الشعراء عن نهر قويق الذي يمر بجلب من الإطراء والمديح حتى قالوا أنه أعذب من النيل وأصفى من الفرات، كنا نحسب إخواننا الحلبيين يشربون نميراً ورحيقاً ولكن حينما كتب لنا الحظ بالسياحة إلى سورية وأطلعنا على هذا النهر الصغير الذي لا يصلح ماؤه للشرب ولا للطبخ المآكل عرفنا حينئذٍ أن الشعراء مبالغون على الأكثر وأن استخراج الحقائق من بين ثنايا أقوال الشعراء أمر محال. قلنا ان العراق أوسع تجارة من سورية وربما يلاقي بعض الناقدين هذا القول بالحيرة والاستغراب أو يحمولنه على محمل المبالغة والغلو بدليل أن سورية أقرب من العراق إلى القارة الأوروبية وأن أعلها ورثوا علم الاقتصاد والتجارة منذ أزمنة قديمة عن أجدادهم الفينيقيين فهي سياج الجزيرة العربية ومنفذها الوحيد إلى أوروبا والاستانة ومصر والحجاز واليمن كما أنها ملتقى الطرق البحرية فلا يعقل بعد كل هذه المميزات أن يسبقها العراق إلى تجارة هي أعرق منه وأعرف بها وبطرقها فنجيبه حينئذٍ إذا كان السوريون أبناء الفينيقيين فالعراقيون أحفاد البابليين وإذا صح أن دولة حمورابي هي أول دولة متمدنة في العالم اشتغلت بالتجارة والعلوم كما نطقت به الآثار والأسانيد التاريخية نفير غريب وليس بعيداً أن يسبق العراقيون غيرهم في معترك الحياة الاقتصادية. ومما يزيد تجارة العراق نمواً واتساعاً هو كون مدينة الزوراء فرضة تجارية لأكثر بلاد فارس وديار الكرد وهذا هو سر التزاحم الأوروبي على نيل امتياز خط حديدي يمتد من

طهران إلى خانقين الواقعة على تخوم العراق وبينها وبين الوزراء نحو مائة وخمسين كيلو متراً كما أن الألمان عزموا - على ما قيل - على نيل امتياز خط من خانقين إلى بغداد أموال تجارية من أوروبا تذهب إلى فارس وهي لا تقل عن ثمانية ملايين ليرة وتربح منها الدولة وتجار العراق أرباحاً جزيلة وسبب ذهاب البضائع من أوروبا والهند إلى فارس بطريق بغداد هو أن ثغور فارس على الخليج في ثورات وحروب وفتن يتطاير شررها كل حين إلى ما يجاورها من البلدان والمدن بحيث تعطلت أسباب النقل ولنقطعت سبل المواصلات بينهما وبين العالم المتمدن ولذلك يفضلون طريق العراق التي تحميها الدول العثمانية ببأسها وهيبتها. لما فشلت إنكلترا في مزاحمة الألمان على نيل امتياز خطو بغداد الكبير حاولت أن لا يتناول الامتياز الألماني جنوبي العراق فيمتد خط من بغداد إلى البصرة فسواحل الخليج مخافة منها على القطر الهندي من أن تلعب فيه الأصابع الأجنبية ولكنها عجزت أيضاً عن تحقيق أمانيها وآمالها فحاولت بعد هذا الفشل والإخفاق أن تمد خطاً حديدياً يبتدئ من مدينة عهبادان التي اغتصبتها من سادتها الحقيقيين وأقامت فيها الأبنية الضخمة وسمتها لندن الشرق وينتهي إلى قصر شيرين محاذياً للتخوم العثمانية تجاه خانقين وماراً بمنابع البترول وكانت تضمر نيات سيئة وتبني العلالي والقصور من المكر فهي ترؤيد بهذا العمل أن تقتنص في شباك غدرها أربع فوائد الأولى: أنها تطرق العراق من جنوبه إلى شماله بنفوذها فتبذر فيه بذور الشقاق. الثانية: أنها تضرب تجارة بغداد ضربة قاهرة فينتقل طريق تجارة فارس منها إلى عبادان وهي فرضة إنكليزية وأقرب الثغور إلى أوروبا والهند وذلك لكيلا يستفيد الألمان من الخط الكبير فائدة عظيمة. والثالثة: أنها تعتمد إلى استثمار البترول الذي تمتد ينابيعه على تخوم العراق وفارس. والرابعة: أنها تعمد إلى كسر شوكة النفوذ العثماني على عشائر فارس وتريد أن تحدث شغباً وقلاقل على الحدود وتثير نار عصبية بين العرب والفرس. غير أن إنكلترا لم تنجح بمسعاها لأن الأمر ليس من الهنات الهيئات فهو متوقف على إرضاء العثمانية وفارس والاعتماد على صداقة القبائل وهذا شيء عسير دونه خرط القناد. كل هذه الشواهد التاريخية والسياسية نثبت لنا أن بغداد لا تمثل تجارة العراق فقط بل تمثل

في الوقت نفسه واردات فارس وبلادة الكرد وصادراتها فكان العراق أوسع تجارة وأعظم أرباحاً من سورية ناهيك أن البصرة وحدها تصدر من التمرإلى أوروبا والهند ما لا يقل ثمنه سنوياً عن خمسة ملايين ليرة، هذا غير صادراتها من الأرز والقمح والشعير والدخن والذرة وغيرها من الحبوب والأثمار، أما الموصل فهي أخصب رقعة في هذا الملك الواسع والذرة وغيرها من الحبوب والأثمار، أما الموصل فهي أخصب رقعة في هذا الملك الواسع ويقول الخبيرون أن مزارعها وفيرة جداً حتى فاقت قونية وأزمير فمساحتها لا تقل عن تسعة ملايين دونم. والشعب هناك شعب تجارة وزراعة وأهل جد وكسب يسابقون الريح إلى الرزق يتجولون ويتنقلون ويطوفون العربية هي مصدر تجارة بلاد الكرد وجنوبي الأناضول وفيها أنواع الخيرات والبركات ولها وأن على دجلة ومن أعمالها مدينة كركوك أو شهرزور المعروفة في كتب العرب ونظنها أحمر لواء أو متصرفية في العراق فلها علائق تجارية مع فارس وكذلك أربل ولها تاريخ مجيد ومجد تليد ومنها يصدر الجبن والعسل والتين والجوز والزبيب والفستق والبندق ولو تيسر لهذه البلاد ما تيسر لسورية من أسباب النقل لكانت الآن زهرة يانعة ودرة ثمينة في تاج الاقتصاد العثماني وقد أحسن الألمان صنيعاً في تمديدهم خط بغداد الكبير ماراً بمدينة الموصل أحياء لتجارتها وزراعتها. تمتاز تجارة سورية من العراق بكون المسلمين هم أرباب الكلمة فيها والجاه العريض في أسواقها أكثر من مسلمي العراق فبيروت مثلاً تكاد تكون الأعمال فيها مناصفة بين المسلمين - على قلتهم - والمسيحيين وفي الشامة يؤلف أهل الإسلام الأكثرية في عالم التجارة وبضدها حلب فالأغلبية فيها للمسيحيين وهم أقدر من إخوانهم في الوطنية على التفنن بالبيع والشراء ولهم قدم راسخةة في علم الاقتصاد لمعرفتهم اللغات الأجنبية واختلافهم إلى مدن أوروبا وافتقادهم معاملها ومصانعها أما اليهود فلا شأن لهم يذكر في بيروت ودمشق ولكن سطوتهم طاهرة في فلسطين فقد أصبح زمام التجارة في قبضتهم كما هي الحال في بغداد والبصرة فالمسلمون هناك ضعفاء وقليلو الجرأة والخبرة في التجارة وشؤون الاقتصاد ولذلك تمكن الإسرائيليون من ناصية الثروة العراقية فامتلأت صناديقهم باللجين والنضار ولليهود في بغداد شركات كبرى لها معامل كثيرة في أوروبا والهند فالمسلم يكدح يمينه ويعرق جبينه تحت حرارة الشمس وبرودة الهواء والزوابع والأمطار

والثلوج واليهودي في حانوته ومخزنه في رفاهه وترفه يبتر منه ثمرة عمله وسعيه ببضائع إفرنجية يبيعه غياها بأضعاف أثمانها وهو يجهل قيمتها الحقيقية وفي استطاعة الموسرين المسلمين في بغداد والبصرة وأن يوقفوا هذا السيل الاقتصادي الإسرائيلي بتأليف شركات تجارية تقاوم شركات الإسرائيليين أو تشاطرهم مكاسبهم على الأقل، ة ولكنهم انغمسوا في الملذات والشهوات بدل أن يفكروا في ما يضمن لهم السيادة في المستقبل. وأعرف كثيراً من المتمولين في البصرة وبغداد لا يقل ريع أحدهم عن عشرين أو ثلاثين ألف ليرة سنوياً ينفقونها عل السفاهات والخلاعات في الهند أو بين جدران قصورهم على موائد الميسر أو في جرعة من الراح وقبلة من خدود الملاحة فيصبح الملاَّك الموسر في البصرة رازحاً تحت أثقال الديون حتى يضطر إلى بيع أملاكه وأطيانه صفقة خاسرة ولو كان لليهود صلة مع العرب والفلاحين أو لو تكن عصبية الشيعة لكانت أكثر أملاك المسلمين تنتقل بطبيعة الحال إلى تصرف اليهود، فهذه العصبية هي التي أقامت لنا هذا الشبح الذي حفظنا به شرفنا الحالي ولو بالاسم فقط. إن ضعف اليهود الاقتصادي في دمشق وبيروت هو كضعفهم في الموصل وكركوك وهذا ما يدل على أن المسلمين في هذه الحواضر شعروا بضرورة الاعتماد على النفس ونبذ المعيشة الاتكالية وقد رأيت شبهاً عظيماً بين الدمشقي والموصلي في الطباع والأخلاق والعادات والمعايش فهما لا يميلان إلى البهرجة والفخفخة ونفقاتهم غالباً أقل من مكاسبهم فكأن الشبه بين سهول البلادين وجبالهما وبساتينهما وأمطارهما وبردهما وثلوجهما هو الذي أولد هذه المضارعة المحكمة بين الأمزجة والطباع. ولذلك فاليهودي في دمشق لا يستطيع مزاحمة هذه المجموعة العاملة فيقتحم صفوفها ويده أقصر من أن تمتد إلى المصارعة والمكافحة فهو كأخيه في الموصل لا صوت ولا شأن له يذكر في عالم التجارة والاقتصاد. للشام طرق واسعة للمكاسب كالاصطياف في لبنان حيث يرحل إليه عشرات الألوف من مصر وما يجاورها لقضاء فصل الصيف في جباله الشاهقة والتمتع بمشاهد الطبيعة وجمال الكون على البر والبحر وبين الأشجار وعلى ضفاف الأنهار، وتحت سماء صافية كصفاء دموع العاشقين ويقال أن ما يربحه الجبل لا يقل عن مائتي ألف ليرة في كل عام هذا مع توفر أسباب الراحة وفي سورية مكاسب وفيرة غير ما تقدم وهي ما تنفقه زوار المسيحيين

في فلسطين وحجاج المسلمين في طريقهم إلى الحرمين الشريفين وطرق الموصلة ففيه مشاهد أئمة البيت كقبر الإمام على في النجف ومراقد الشهداء في كربلاء التي دفن فيها الإمام أبو عبد الله الحسين وأخوه الإمام العباس وأبناؤهما وأنصارهما في وقعة العطف وفي الكاظمية مدفن الأمامين محمد الجواد وموسى الكاظم وفي سامراء قبر الإمام حسن العسكري والمسجد المشهور بأن فيه السرداب الذي غاب فيه الإمام المهدي الذي ينتظر الشيعة بفارغ الصبر خروجه منه فيملأ الأرض عدلاً كما ملثت جوراً وحينئذٍ تدين الشعوب كلها بدين الإسلام. فهذه المساجد الضخمة أنفق الشيعة على تزيينها وتوزيعها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فالمآذن والقناب والأبواب والأروقة كلها مغشاة بالذهب والإبريز والأأبنية الداخليةة مرصوفة بقطع من المرائي والفسيفساء على طراز بديع ويقال أن مجموع ما أنفقه سلاطين العجم وملوك الهند من الشيعة على هذه المساجد يناهز عشرة ملايين ليرة والشيعة تقصد زيارة المراقد الطاهرة من ديار قاصية فيأتي إلى العراق كل عام نحو مائتي ألف شيعي من الهند وثغور فارس وسواحل الخليج وبخارى وخيوه والصين لزيارتها وتقديم الطاعة الدينية لها فإذا أن متوسطة ما ينفقه كل زائر خمسة جنيهات كان نصيب العراق سنوياً لا يقل عن مليون ليرة فهناك القومة والحجاب والمرشدون إلى آداب الزيارة والعلماء المجتهدون يعيشون من هذه الزيارات وعددهم يقدر بالألوف ومنهم من لا يقل ريع أحدهم سنوياً عن بضعة آلاف من الليرات وقد كان في النجف قبل حوادث فارس الأخيرة والحرب العامة نحو ثمانية آلاف طالب علم يقتاتون طوال السنةة بما يربحونه في بضعة أيام من الزائرين ولو كان في البلاد خطوط حديدية لكثر عدد السياح والزائرين واستفاد العراق أضعاف ما يستفيده اليوم وفي استطاعة أهل الحل والعقد أن يمدوا خطاً حديدياً من خانقين إلى النجف ماراً بكربلاء فإن خزائن الأئمة المملوءة بالمجوهرات والعقود الثمينة تكفي للقيامة بأعظم من هذا الخطة وحينئذٍ يرتبط العراق بفارس ربطاً محكماً ويتدفق سيل الثروة على الأمة العراقية من كثرة ورود المتدينين إلى زيارة العتبات. الصناعة الوطنية الصناعة في سورية أرقى منها في العراق ففيها معامل كثيرة لنسج الحرير والقطن

والملابس العربية ومصانع كبيرة المصابون فإن دمشق وحمص وحماة ترسل كل سنة إلى العراق مقداراً جسيماً من المنسوجات البديعة على اختلاف أنواعها وكانت تباع في بغداد والبصرة والموصل بأثمان غالية هي مصدر حياة السوري زمناً غير قصير بيد أن تجارة المنسوجات السورية اعتورها بعض الوقوف ففقدت مكانتها القديمة لأنها لم تتجدد مع الزمان ولم يدخل الإصلاح إلى أنوالها ولأن منسوجات الهند والصين شرعت تنافسها وتقاوصها وكان ما يرد من الهند أرخص بكثير مما يره من سورية أما المتانة وحسن النسج فالناس لا ينظرون إليها بعين الاعتبار، ما دامت غالية الثمن وأعرف مخازن واسعة أصيبت بالإفلاس من أجل هذه المنافسة على أن جمهوراً كبيراً من العراقيين شرع بترك الملابس القديمة والإقبال على الملابس الإفرنجية فكانت الألبسة الصوفية والحريرية والقطنية القادمة من أوروبا وأميركا تزداد انتشاراً من حين إلى آخر كانت الصناعة الوطنية في تقهقهر دائم وفشل ما وراءه فسل لأن الصانع الوطني ضعيف المادة قليل العلم عديم الثبات أيضاً ولم تكن له من القرانين التي تحميه كما هي اليوم تجاه سيل الأجانب الاقتصادي وهكذا أبيدت وماتت صناعة الوطنيين في سورية والعراق وحلت مكانها الصنائع الأجنبية. في العراق كما في سوريةة بقايا من الصنائع التي عكف عليها أربابها غير مبالين بما يحيط بهم من الفقر والبؤس ففيه اليوم أنوال كثيرة لصناعة اتلألبسةة الحريرية وقد اختصت بها طائفة في بغداد لا يقل عمالها عن خمسمائة عامل وكذلك العباءة فلا تزال على اتقانها القديم وفي النجف وبغداد وكربلاء والقرنة والعمارة والحي عدد كبير من الصناع يزاولون منها شيء كثير إلى ديار الكرد وسورية والجزيرة وكذلك في العراق مصانع صغيرة للنسج الأرز والمناديل والكفافي والمناشف وهذه كلها على جانب عظيم من التجويد والاتقان. وفي هذه الحرب تجلى الذكاء العراقي بأحسن مظاهره وأبهى مناظره فإن العمال الوطنيين أصلحوا عدداً كبيراً من المدافع الإنكليزية التي اغتنمناها في ساحة الحرب وصارت صالحة لاستعمال قنابلنا وفي بغداد معمل حربي كبير وهو الذي أنشأه المرحوم مدحت باشا أصبح اليوم بفضل النابغين العاملين منبع حياة الجيش فهو الآن يصنع الألبسة والأقمشة والأجواخ ويصلح القنابل وألغام الديناميت والقذائف اليدوية وقد أصلح تلامذة مدرسة

الصنائع الطيارات التي ربحناها من الإنكليز وفي الموصل مدرسة واسعة نظيرها قائمة على رابية شاهقة غربي المدينة توفرت فيها أسباب الارتقاء والتقدم وعلى الإجمال أن الصناعة الوطنية منحطة في القطرين الشقيقين ولكنها في سورية أرقى منها في العراق. التربية والتعليم يختلف التعليم في العراق عن التعليم في سورية أن الأول وطني محض والثاني مزيج بالأفكار الأجنبية التي أضرت القطر السوري وعطلت قراه الوطنية ففي سورية كليات ومعاهد راقية لا نظير لها في العراق ولكنها كانت مباءة للنفوذ الأجنبي وللمبادئ المضرة فمدارس المرسلين من الفرنسيس والإنكليز والروس والطليان والأميركان ليست الغاية منها خدمةة التمدين والإنسانية كما يتصور الجاهلون ولكن المقصد الوحيد منها هو بث الروح الأجنبية وإفساد العقائد وأضلال معقول وأغواء الشعب على احتقار العادات الشرقية أو الحضارة الإسلامية والتناغي بحب المدنيات التي تنتسب إليها هاتيك المعاهد فالمدارس والمستشفيات والملاجئ التي شيدها الفرنجة في الشرق هي مقدمة حملة عنيفة لإبادة الشعور الشرقي واستنزاف الثروة الوطنية قال أستاذنا الكبير سليمان نظيف بك في بحث له عن دار المجانين في الاستانة الذي كان قبل الحرب فرنسوياً فانقلب بعدها عثمانياً صرفاً ما يلي: في أثناء حرب القرين أو عقيبها بقليل أنشأ الفرنسيس في أحد أحياء الاستانة ستشفى كبيراً فظن الجاهلون أن الدافه لهم خدمة الإنسانية وأحكام روابط الألفة وأنا من جملةة أولئك المعتقدين بأن المفاسد والرذائل التي تتنخر عظام هيكل المدنية الشرقية لا تأتينا إلا من طريق المعاهد الأجنبية سواء قام بتأسيسها الأصدقاء أو الأعداء فأقل مقاصد الأجانب منها وأخفها ضرراً هو إحراز ثروة طائلة برأس مال صغير وخدمة تافهة وكيف تجد آلامنا وأوجاعنا صدى رحمة وشفقة في قلوب الروس ولكن كان لهم أمام مدرستنا الحربية دار للشفاء. . والعاقل المفكر متى وجد مدرسة أو معبداً أو مستشفى أو ملجأ خيرياً ترفرف فوقه الأعلام الأجنبية يعتقد لأول وهلة بأن ثروة الأوطان وسلامة استقلالها وحضارتها وأخلاقها ومعتقداتها أصبحت مخفوقة بالمخاطر والمهالكة ومهما كان العثماني سليم النية نقي الطوية فهو لا يرى فضلاً وخدمة لأولئك الاجانب المندفعين بسائق الغيرة المدنية ظاهراً إلى تسكين آلامنا وأوجاعنا فقد ثبت أن هذه الأمم الغربية تحمل الكتاب

بشمالها والسيف بيمينها ثم قال عن فوائد هذه الحرب أنها علمت العثمانيين حياة الاستقلال وأطلعتهم على خفايا السياسة وكوامنها ومن أمثلة ذلك أن راية الهلال خفقت تعلى السارية التي كانت تخفق فوقه راية الألوان الثلاثة في دار المجانين فانقلب هذا المشروع الذي كان ملوثاً بأدران المفاسد السافلة والغاغيات الرذيلة إلى عمل شريف يخدم الإنسانية والبشرية. من مضار المدارس الأجنبية في سورية أنها حببت المهاجرة إلى الشبيبة حتى أن الوطن السوري لم ينتفع النفع المقصود من جمهور كبير من المتعلمين الذين برعوا في فنون كثيرة كالطب والهندسة والآداب والفلسفة والحقوق والعلوم الاجتماعية وفي كل سنة تهاجر إلى أميركا ومصؤر والسودان طبقات من الشبان المستنيرين بنور العلم والعرقان ولو كان التعليم في سورية وفي مدارسها الأجنبية على المناحي الوطنية الممزوجةة بروح العصر لكانت الحركة العلمية القائمة في هذا القطر منذ نصف قرن تقريباً قد رفعته إلى سماء المعالي والمفاخر وإلى مصاف البلاد الناهضة لأن خريجي المدارس يزدادون كل سنة زيادة محسوسة بيد أن العبرة في الأسلوب العلمي لا في كثرة المتعلمين والناشئين لكانت الأمة اليوم على أسلوبة واحد في عاداتها وأخلاقها ومبادئها وغاياتها على اختلاف المذاهب والأجناس وكلما اشتدت وطأة التعليم الأجنبي تصاغرت أمامها الوطنية وضعفت لعة البلاد واللغة الرسمية الواجب انتشارها لإيجاد صلة التعارف والتفاهم بين الحاكم والمحكوم وبين الرعية والرعاة ففي بيروت تسود اللغة الفرنسوية سيادة مطلقة وبها تجري المخاطبات والمكاتيات ودخلت أكواخ اتلفقراء كما شاعت في قصور الأغنياء وتنتشر اللغة الإنكليزية في لبنان وتضارع لغة البلاد كما تنتشر الألمانية في فلسطين فأصبحت اللغة العربية لا شأن لها في صميم بلادها بقطع النظر عن بعض بيوتات اشتغلت بآدابها وفلسفتها واختصت بنشر النافع من أسفارها وتكاد تكون اللغة الرسمية في حكم العدم تجاه الألسنة الأجنبية وهذا ما عاد على الأمة والوطن بالضرر الجسيم فقد صار المتعلم يعرف من تاريخ الفرنسيس والطليان والإنكليزة والألمان ما لا يعرف بعضه عن بلاده اليت أقلته أرضها وأظلته سماؤها أما في دمشق وحلب وبعض مدن الداخل فالحالة فيها على عكس مدن السواحل التي انبثت فيها مدارس المرسلين فاللغة العربية في قلب البلاد السورية أقوى بكثير منها في سواحلها - ماعدا بيروت - وكذلك يقال عن اللغة الرسمية التي

وجدت أفذاذاً انكبوا على اتقانة آدابها ونشرها بين الشعب وقد رأيت كثيراً من الخاصة والعامة لاسيما في حلب وأعمالها يتكلمون بها هي والعربية على حد سواء. . اللغة والأدب اللغة في العراق راقية أكثر من رقيها في سورية كما يشهد المنصفون الذين عرفوا القطرين وامتزجوا بالشعبين فالنابغون في الآداب العربية كالشعر واللغة هم في العراق أكثر منهم في سورية فعلى وفرة المدارس واقتراب بلاد الشام من العالم المتمدن لم ينبغ فيها شعراء وفصحاء كالرصافي والزهاوي والشبيبي وشقيقه والكاظمي والحلي والهنداوي والعبيدي فهم أمثولة الشعر العربي اليوم وزبدة ما وصل إليه عقول العرب من الارتقاء في الآداب وأمثالهم في القطر المصري قلائل جداً يعدون على الأصابع ولا نظن حافظ ابراهيم وشوقي محرم يفوقون هؤلاء المشاهير العراقيين في شيء من قوة التصور ورقة الخيال ودقة المعاني وعذوبة الألفاظ على إننا لا نحرم سوريا من العدل والإنصاف فنعترف أن الإنشاء في سورية يفوق الإنشاء في العراق والفرق بين الفريقين بعيد وكبير فإن سورية قطعت مراحل واسعة في هذا الميدان وأحسنت في تقليد الإفرنج بأسلوبهم وتعبيرهم ولكي ينشأ في العراق كتاب مجيدون على الطرز الحديث كالريحاني وجبران خليل جبران والغريب في الأسلوب الإفرنجي وإضراب محمد كرد علي والمغربي وشكيب ارسلان في الأسلوب العلمي والاجتماعي ويجب أن تجتهد الأمة العراقية وتسعى أكثر مما سعت في إتقان هذه الأعمال الصحافية. فالعراق من هذه الوجهة لا يزال في دور الطفولية وعهده بالصحافة قريب. قلنا أن لغة العراق راقية وفضلناها على لغة السوريين لأن الأولى خالية من الألفاظ الأجنبية والتعابير الإفرنجية والثانية مشحونة بها وبكل ما هو دخيل في العربية وهذا ناشئ عن احتكاك السوريين بالأوربيين واقتباسهم نع أوربا العلوم والعرفان وعن بعد العراق عن بلاد الغرب وقلة احتكاكه بالأجانب ولما كان العرب حملة العلم ودعاة التمدين كانت ألفاظ اللغة العربية منتشرة في تعابير الفرنسيس والأسبان والطليان ولا سيما ما يخص المصطلحات الفنية ولكن لما تقهقر العرب في ميدان الحضارة وشرعوا اليوم بالأخذ عن مدنية أوربا دخلت إلى لغتهم بعض التعابير.

والألفاظ الاصطلاحات كما هو المعروف في سورية وكلما كان القطر بعيداً عن الامتزاج بالأجانب كانت اللغة أقرب إلى الفصاحة والبلاغة وعلامة التعبير فلغة نجد واليمن وحضرموت والحجاز أفصح من لغة العراق لأن النجديين واليمانيين والحجازيين لم يمتزجوا ولم يختلطوا بالأعاجم حتى تفسد لغتهم ويتسرب الدخيل إلى ألفاظهم كما أن لغة العراقيين أقرب إلى الفصاحة من السوريين لأنهم أقل اختلاطاً بغيرهم وهذا القياس مقصور على اللغات الشائعة بين العامة لا على لغات الخاصة فإنها واحدة في جميع الأقطار وارتقاؤها متوقف على نسبة ارتقاء العلم وانتشار المدارس. في العراق كثير من أثمة اللغة والأدب والبديع والبيان والتاريخ والفلسفة القديمة ولكنهم لم يظهروا كما ظهر العلماء السوريين لأن المطابع والصحف في سورية ساعدت فضلاءها وأدباءها على نيل الشهرة والصيت بعكس العراق فهو حديث العهد بالمطابع وبالصحافة وتاريخها يرتقي إلى ما قبل الدستور بزمن يسير واعرف كثيراً من كبار العلماء والمجتهدين وأرباب العقول والمفكرين في العراق يترفعون عن الكتابة في الجرائد والمجلات ويعتقدون أنها من خصائص صغار التلامذة ولولا هذا الاعتقاد لعرف العالم العربي جمهوراً كبيراً من فطاحل العلماء وأرباب البحث والنقد وهم الآن منزوون بين جدران المعابد والمساجد. وكما نشأت في الشام بيوتات شريفة اشتغلت في العلم والأدب كأسرة البستاني واليازجي والشرتوني والأسير وأرسلان كذلك في العراق اشتهرت بنشر العلم والآداب بيوتات رفيعة العهد كعائلة الألوسي والسويدي والشبيبي والحلي والقزويني والشاوي والفاروقي فإن جميع هذه الأسر الكريمة مما توارثت العلم كابراً عن كابر منذ مئات من السنين. والنهضة العلمية في العراق أقدم عهداً من النهضة في سورية إلا أن الأولى اعتورتها الحادثات والكارثات والثانية جدت في طريقها فساعدها الزمان على النشوء والارتقاء ففي اليوم الذي أولدت بغداد شاعراً مفلقاً كالأزري الذي لا يزال شعره من أبلغ ما قالته العرب المتأخرون وعالماً كالشهاب الألوسي ولغوياً كالحلي لم يكن في سورية يومئذ - قبل مصر تقريباً - من احتذى حذوهم وسار على منوالهم وجاراهم في أسلوبهم وأعمالهم. وفي قطر العرق اليوم كلية علمية أو معهد أدبي يقطنه بضعة آلاف من التلامذة الذين يشتغلون في العلوم العربية وفي الاجتماع والفلسفة والأخلاق - ذلك المعهد هو مدينة

النجف الأشرف فهي دار علمية أكثر منها مدينة. وعليها وحدها المعول في إحياء اللغة والأدب. نزيل دمشق ابراهيم حلمي العمر

أنت يا شمس

أنت يا شمس أنت يا شمس علة العلل ... لحت تحيين ميت الأمل حجبتك الغيوم عن ملأ ... بات لما صددت في خبل عشقت الغيوم بازغة ... تذرين الأقمار في خجل ترسلين الشعاع مبتسماً ... يتجلى كالوحي للرصل وتشدين في السماء ضحى ... دولة تلك ربة الدول دولة النور لا ظلام بها ... أنت كؤنتها من من الشعل تدخلين الكوى بلا وجل ... وتنيرين ممظلم السبيل وتزورين عاشقيك فما ... إن تواريك خشة الملل كلما أشرق النهار بدا ... منك وجه يرام بالقبل تتمشين غير جازعة ... في فسيح الفضاء في مهل تبهرين الأبصار طالعة ... تتردّين أبهج الحلل حبذا أنت من محبّبة ... لقلوب الرائين والمقل ليت كف الهجران قد رقيت ... منك بعد الصدوه بالشلل ما عهدناك تعرضين قلى ... لحت يا شمس ربة البخل لا نطيق البعاد فاقتربي ... من كثيب يهواك أو طلل كيف يرضى الفؤاد منك نوى ... عنه والهجر غير محتمل إن ترومي عن أرضنابدلاً ... لم نرم نحن عنك من بدل للسماء بكاء من حزن ... إن تغيبي والشيب للجبل تتعرى الغصون نادبة ... ويبات النبات في وجن وتمور البحور لاطمة ... ما تعالى من شامخ القلل أشرقي يا ذكاء لا تدعي ... عامل اليأس منك ذا عمل قد صبونا إليك لا قتلت ... ملة الصابئين في الملل ما ترين القلوب تخفق من ... حسرات الأصطبار يلي ما ترين الأطيار صامتة ... عن بديع التغريد في شغل مذ تناءيت عن مرابعنا ... حلها البؤس غير مرتحل

يا حياة النفوس لا تذري ... عالم الأرض ضيق الأجل ما بدا نورك البهيج به ... فهو في مأمن من العلل ما لحبل الصدود متصلاً ... بعد أن كان غير متصل وحجاب السحاب منسدلا ... ًبعد أن كان غير منسدل إبسمي يا ذكاء واطرحي ... بعض هذا الملام والعذل حنت النفس للربيع هوى ... وانتشاق النسيم ذي البلل وصغير العصفور منطلقا ... ًوثغاء الخروف والحمل وأرى القلب للرياض صبا ... ونشيد النسيب والغزل بك يا شمس ذال كل شجى ... وتولى الأسى على عجل دمشق - خير الدين الزركلي

الامتيازات الأجنبية

الامتيازات الأجنبية جرى هذا الشهر التصديق القطعي المتبادل على مقاولات ومعاهدات بين الدولة العثمانية ودولة ألمانيا تتعلق بالقناصل وحق إقامة تبعة كل من الدولتين في مملكة الأخرى على شروط متساوية وحقوق متقابلة على نحو ما يجري بين دولتين مستقلتين من دول أوروبا العظمى. وكانت لرعايا الدول الغربية في البلاد العثمانية موقع خاص أمام القانون والمحاكم ولم تكن الامتيازات الأجنبية بمقتضى حقوق الدول المحصورة بالسفراء والموظفين السياسيين المرتبطين بهم بل كانت شاملة للقناصل أيضاً أما امتيازات الأجانب في الحقوق والاقتصاد فكان من شأنه إماتة الحياة الصناعية والزراعية في المملكة فلم تكد تقدر الحكومة أن تنظم تعرفة للمكوس ولا تعقد معاهدة تجارية كما تشاء لعهود كانت مربوطة بها ولم يكن في وسعها وضع انحصار لمستهلكاتها الداخلية فكانت نفقاتها الزائدة عن دخلها تسدد بالقروض الخارجية حتى قدر ما عليها من الدين بزهاء مائتي مليون ليرة. معنى الامتيازات الأجنبية في السلطنة العثمانية إعطاء الحق لرعايا الأمم المسيحية أن لا يحاكموا أمام محاكم المملكة بل أمام محاكم قناصلهم وكانت هذه الامتيازات سبباً من أسباب نجاح التجارة الغربية وضعف التجارة العثمانية ويلحق بالتجارة الصناعة والزراعة بالطبع. فكانت الدولة مغلولة اليدين عن الانطلاق في مصالحها الخاصة غير حرة في تقرير كماركها ولا في ترويج صناعتها تجارتها ولا في منح امتيازاتها ولا في محاكمها وكنا مع الأجنبي كما قال شاعر مصر: يقتلنا بلا قود ولا دية ولا رهب ويمشي نحو رايته فتحميه من العطب وبلغت الحال في مصر في الابتلاء بالامتيازات الأجنبية أعظم شدتها في العهد الأخير وامتياز الأجنبي في القطر المصري وهو من أجزاء السلطنة العثمانية يدور على أن كل القضايا المدنية والتجارية التي تقع بين الأوروبيين والوطنيين أو بين الأوروبيين المختلفي الجنسية (إن لم تكن من قبيل الأحوال الشخصية) وكل القضايا المتعلقة بالأراضي والأطيان بين الأوربيين والوطنيين أو بين الأوربيين المتفقين أو المختلفين في الجنسية تنظر في المحاكم لمختلطة وإن كل الدعاوي الجنائية التي تقام على الأوربيين تنظر في محاكمهم القنصلية بحسب قوانين بلادهم ما عدا دعاوي معينة جعل النظر والفصل فيها من

اختصاص المحاكم المختلطة ولا يجوز الدخول إلى منزل أوروبي (وأميركي أيضاًَ) غلا بعد مصادقة قنصله على ذلك ما لم يكن الدخول إلى منزله ناتجاً عن قضية جنائية تختص المحاكم المختلطة بالنظر فيها ألا تضرب ضريبه على الأوربيين من الضرائب التي يجبي لمال منهم فيها رأساً كالأموال المقورة إلا بعد مصادقة جميع الدول على ذلك. وهكذا كان يحكم في مصر في الحقيقة زهاء أربع عشرة دولة وكذلك في بلاد السلطنة وكان للصعلوك الغربي من الشأن ما تتضائل أمامه قيمة الشريف العثماني والمصري فالغربي في هذه البلاد ينجر وينتمي ويسرق ويشتط وقد يرتكب الجنايات وهو في حل من كل عقوبة ومن كل ضريبة مرعي الجانب محترم بين الخاصة والعامة يهدد بخادم قنصله فينال من العثمانيين والمصريين كل ما تطمح إليه نفسه ويدوس حقوق البلاد ويعق قانونها ويتمتع بخيراتها والغرم على أهلها فقط مع أن للغنم بالغرم في كل بلد أقامت للحقوق وزناً. نشأت الامتيازات الأجنبية في هذا الشرق القريب قبيل قيام الدولة العلية العثمانية وكان اختلاط ملوك الطوائف من الأيوبيين والجراكسة المماليك كثيراً مع بعض مدن فرنجة أي فرنسا ووجمهوريات البنادقة والجنوبيين والبيزيين أي إيطاليا ولما جاءت الدولة العلية منحت بعض امتيازات للأوربيين تفضلاً منها فأعطت في أيام قوتها ما استعملته الدول يعد سلاحاً في وجه الدولة ورعاياها فنتج شر مسطير من عمل انبعث عن مرحمة وشفقة فبلغت لقحة مبالغها بكيل أجنبي في هذه السلطنة وما زال يشتد خناق الامتيازات على الحكومة حتى الغتها أوائل هذه الحرب وكان من أحسن ما وقفت إلى عمله من الأعمال النافعة وهذه الحقبة من الزمن. ويقال على الجملة إن هذه الامتيازات الأجنبية بدأت في القرن الثاني عشر للميلاد فمنح أهل مرسيليا حق التحاكم أمام قضاة خصوصيين وأن يكون لهم في معظم مدن الشرق شارع خاص وكنيسة وفرن ونالت بعض المدن الإيطالية بعض الامتيازات في بعض الأقطار الإسلامية ولكن فرنسا سبقت في هذا الشأن فلم تنل امتيازات بسبب رعاياها فقط بل باسم الشعوب المسيحية ولما نالت فرنسا الامتيازات على عهد السلطان سليمان سنة 943 اشترط مثل تلك الامتيازات لدولة الإنكليز ومنها ابتدأت العلائق وفي عهد السلطان مراد الثالث سنة 985هـ نالت الملكة ايزاببيلا امتيازاً خاصاً بتجار بلادها وهي أن تحمل

سفنها العلم الإنكليزي وبه تدخل بلاد الدولة وكان يحظر عليها ذلك من قبل بل كانت السفن على اختلاف جنسياتها ما عدا سفن البندقية لا تدخل المواني العثمانية إلا إذا كانت تحمل العلم الفرنساوي كما قضت بذلك العهود المبرمة مع السلطان سليمان ابن السلطان سليم الثاني وتجددت في أوائل حكم السلطان مراد الثالث. فالمعاهدة التي عقدت بين السلطان سليمان القانوني وفرنسوا الأول ملك فرنسا سنة 1539 وهي معاهدة صلح وتحالف كانت نموذجاً وأساساً لكل ما عقد بعدها من المعاهدات ومن سنة 1535 إلى 1740 جددت الامتيازات الفرنسوية في المملكة العثمانية اثنتي عشر مرة بدون إدخال تعديل كبير عليها وكان من الشر في ذلك أن أصبح رعايا الأجانب في المسائل المدنية والحقوقية يتقاضون أمام المحاكم القنصلية بل تقضي هذه بينهم في مسائل الجنايات أيضاً. ولما حمل نابليون الأول حملته المشهورة على مصر (1798 - 1800) احتلت الصلات بين الدولة العثمانية وإمبراطورية فرنسا ولكن عادت الحكومة العثمانية فاعترفت بالامتيازات الأجنبية وصدقت عليها في معاهدتي 1802 - 1838 وبعد حرب القريم أرادت الدولة العلية أن تتحرر من رق هذه الامتيازات فنظرت فيها وعينت الصلات التجارية فيها وعقد الباب العالي في سنتي 1861 - 63 معاهدات تجارية جديدة مع فرنسا وبريطانيا العظمى وايطاليا وروسيا والنمسا والولايات المتحدة وبروسيا والاتحاد الجمركي الألماني وكلها تؤيد حق الأجانب في السلطنة وتحميهم. إن المعاهدة التي عقدها فيلنوب سفير لويز الخامس عشر ملك فرنسا لدى السلطان محمود الأول سنة 1740 وما زالت مرعية حتى العهد الأخير وقد أيدت كما قلنا الامتيازات الممنوحة في العهود السابقة وأحدثت امتيازات أخرى فأعفت الفرنسيس من كل ضريبة وأصبحت تجارة القطن حرة ونالوا حق الصيد في بحار السلطنة وأصبح من حق سفرائهم أن يختاروا تراجمهم وكتابهم وقواصتهم ويتقدم سفراء فرنسا بحسب العادات القديمة في الأوقات الرسمية على سفراء أسبانيا وغيرها من الدول والأجانب الذين ليس لهم سفير يمثل دولتهم لدى الباب العالي يحق لهم الاتجار إذا جعلوا شعارهم شعار إمبراطور فرنسا وخفضت الرسوم الجمركية إلى 3 في المئة للفرنساويين ويحق للأجانب الذين يحملون العلم

الفرنساوي أن يدفعوا مثل هذا القدر عن بضائعهم أي كالفرنسيس وقضت المادة السبعون من قانون الامتيازات الأجنبية أن تصان منازل الفرنساويين وأن يكونوا أحراراً في إقامة شعائر أديانهم. هذا ما جاء في المصادر الإفرنجية ويقول مؤرخو الترك إن الدولة العلية لقد اتخذت لها سياسة خارجية للمرة الأولى على عهد السلطان سليمان القانوني وقد وقع السعي للاستفادة ما أمكن من تحسين العلائق بين العثمانية وفرنسا والبندقية وبولونيا وبالغت البندقية في استمالة قلوب رجال الدولة إذ ذاك وسعت إلى عقد معاهدة تجارية مع الحكومة العثمانية فاستنكف رجال حكومتنا بادي الرأي من إطلاق اسم معاهدة على العهد الذي وقع عليه بين الطرفين مدعين أن المعاهدة تعقد في العادة بين دولتين متساويتين وحكومة البندقية فضلاً عن كونها غير مساوية للدولة العلية في القدر هي تريد الاحتماء بها فبذلت لها هذه العناية وترجموا لفظة العناية بكلمة كابيتولاسيون ومعنى هذه اللفظة تطلق على كل قلعة عجزت عن المقاومة لشدة الضيق عليها وأذعنت للتسليم فانتهى ذلك على مرور الزمان بسائق غفلتنا إلى خروج الشيء عما وضع وكان من اثر ما ارتكب من التزويرات منح الحقوق المدنية لرعايا الأجانب وإدخال هذا التعامل في جملة الدساتير الجاري العمل بها بين الدول. وكانت صلاتنا مع فرنسا على صورة أهم فكان يعتبر ملك فرنسا من جملة الملوك العظام مثل شارلكان ولم يكن لملك ولا لقيصر موسكو هذه المرتبة واعتبر ملك فرنسا بأنه محالف للدولة العلية للخلاص من أسرة هابسبورغ النمساوية فظاهرته الحكومة العثمانية ولما سقط فرانسوا ملك فرنسا في يد شارلكن سعت الدولة العلية في إنقاذه كثيراً فالتجأت والدته إلى ملك الملوك سلطان العثمانيين فبفضلنا استفادت فرنسا كثيراً ولولانا كانت طعمة للنمسا مما انتهى بأن تعرف فرنسا بعد ذلك بأنها حامية المسيحيين في الشرق وكتبت المعاهدة بين الدولة العلية وفرنسا على مثال المعاهدة التي كتبت من قبل الدولة وجمهورية البندقية ولكن منحت فرنسا امتيازات أخرى فالمعاهدة التي كتبت مع البندقية كتمت هذه أمرها ولم تنشرها أما التي عقدت مع فرنسا فقد نشرتها هذه فصارت دستوراً للعمل في المعاهدات التي عقدت مع الدول الأخرى بعد ذلك (942).

وكانت الدولة تعتبر حكومات أسبانيا والبورتغال وجنوى داخلة مثل النمسا في منطقة نفوذ الإمبراطور شارلكان فلم تكن تعير التفاتاً يذكر وكانت تنظر إلى حكومة فلورنسا بعين الحب والولاء ولم تكن لنا إلى ذاك العهد صلات مع السويد وإنكلترا وفي تلك الأثناء جاء سفير العجم وعقدت صلات مع حكومة إيران وجاء سفيرها إلى الاستانة وكان كل سفير يرد على الأستانة يقدم هدايا جميلة من نفائس وأعلاق وذهب وأحجار كريمة إلى سلطان العثمانيين وكبار رجال سلطنته وظلت هذه العادة تضعف فبدأ بها سفير العجم فقدم عشر ما كان يقدمه أسلافه ثم أتم ذلك سفير فرنسا حتى بطلت العادة.

جمهرة المغنين

جمهرة المغنين أو شرح قصيدة السيد عبد الرحمن ابن النقيب المعروف بابن حمزة التي يذكر فيها المغنين والندماء في الدولتين الأموية والعباسية لا مرية بأن الغناء راحة الروح وترجمان العواطف ومسرة الشعور ومثير الاحساسات ترتاح إليه النفوس على السراء والضراء وحين اليأس وينفث الإنسان به ما أكنه صدره في كمين التأثرات وجن في حنايا ضلوعه من خفي السرائر مما لا يدركه الوهم ولا يتوهمه الإدراك فما يكاد يطرق سمع السامع حتى يفعل به فعل الكهرباءة بالأجسام فكم من جبان عاد بتأثيره شجاعاً وبخيل أصبح جواداً أو عزهاة أمسى وامقاً فأي ناسك يسمع العاشق يناجي محبوبته مغنياً ومستفهماً هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني ولا ينقلب أكثر صبابة من جميل بثينة بل وأي غريب يسمع الشاعر اليماني وهو يجود بنفسه نازحاً عن بلده يطرب بقوله: ولما تراءت عند مروٍ منيتي ... وخل بها جسمي وحمت وفاتيا أقول لأصحابي أرفعوني لأنني ... يقر بعيني أن سهيل بداليا ولا ينقطع نياب قلبه حنيناً لوطنه. ولم يستبد بالغناء قوم دون قوم بل ولا الإنسان دون الحيوان فما تغريد الطائر عند انصداع الفجر على غصن يأوده نسيم سج في روضة أنف بل وما بغام الظباء عندما تودع الشمس الأفق تاركة بوجناته أرجوانية من القبلات في فلاة لا يدرك الطرف أخرها الاغناء تعرب عما تتأثر به وكم من صادح رفرف على رأسه مغن والطير قد يسوقه للموت ... اصفاؤه إلى حنين الصوت ووحش أنس بصوت حسن وأشباه ذلك كثير فيما سنذكره في لمعة عن تاريخ الغناء والمغنين. ولقد اطلعت على قصيدة فريدة في بابها للسيد عبد الرحمن النقيب المعروف بابن حمزة يذكر فيها المغنين والندماء ومجالسهم عند خلفاء الدولتين واحداً بعد واحد إلى زمن الراضي ثم ذكر البرامكة وآل حمدان وابن العميد والصاحب ابن عباد ثم شفع ذلك بذكر الأماكن التي لها مناسبة ومساس بالموضوع كغوطة دمشق وشعب يوان وصغد سمرقند والأبلة ثم أورد طرفاً من مدينة العباسيين وعاداتهم في سكنهم ومعاشهم وختمها بتوديع كل

ذلك بالسقيا لهم ولأيامهم شأن كل من اطلع على يسير من تاريخهم. فداخلني إذ ذاك من السرور ما الله به عليم لأنها طبقات رجال أكل الدهر على أخبارهم وشرب حتى أصبحوا نسياً منسياً لكنها لا تقف بالقارئ على أكثر من تعداد أسماء لا يعرف من حالها شيئاً (أعني المغنين) فرأيت إن أشرحها شرحاً يفسر من محاسنها ويكشف النقاب عن فضارتها بعد أن فاتحت بذلك أحد أركان العلم والأدب فما كان منه إلا أن نفث في روعي روحاً أججت فاتر الهمة فعند ذلك مضيت في العمل فما زلت التقت من كل كتاب نادرة وطومار نكتة شاردة أضم بعضها إلى بعض وأقرب المسافات بينها بالمناسبات (لتفرق ذلك في مبعثرات الكتب وعدم تدوينه في كتاب على حدة فيما وصلنا من الأسفار قليل ما هي) حتى أقمعته وأنا على ثقة من أني لم أبلغه درجة الكمال لكان جهد المقل وغاية المملق وتتميماً للفائدة صدرته بلمعة ذكرت فيها (تاريخ الغناء، وأول من دونه، وتأثيره، وآلاته، ومن دونت له صنعة فيه من الخلفاء وأولادهم، احتج به في جوازه، وتاريخ المغنين، ومنزلتهم، وترجمة صاحب القصيدة) وترجمة الشرح (بجمهرة المغنين). لمعة في تاريخ الغناء والمغنين تاريخ الغناء الغناء قديم وجد مع النفس فهو تربها الذي تأنس به وصاحبها الحميم تفزع إليه وقت الشدائد وتستعين به على تنمية ما تميل إليه من حزن أو سرور ولم يكن الغناء في فابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان بسيطاً ساذجاً وأول من جعل له قواعد وضوابط على ما قيل بطليموس وكان أول من غنى في العرب لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما ألا يا قيين ويحك قم وهينم ... لعل الله يصبحنا غماما وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجاً كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد ذكر الغناء في شعرهم قال طرفة ابن العبد: إذا نحنا قلنا اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطلوقة لم تشدد أي لم تتكلف وهذا هو الغناء الساذج وكانوا يطلقون على الترنم بالشعر اسم غناء وإن كان بالتهليل أو القراءة سموه تغيراً لأنه يذكر بالغابر ولم يزالوا على طريقتهم هذه بالغناء إلى

أن جاء الإسلام ودوخوا الأقطار واستولوا على الممالك فكانوا إذ ذاك لا يطريون إلا بالقراءة والشعر الحماسي لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم الرفه والترف بما حصلوا عليه من غنائم الأمم فمالوا إلى الدعة والسعة في العيش ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبد الله بن جعفر فلحنوا شعر العرب وأجادوا فيه وطويس أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق وعنه أخذ ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى وكان يكنى أبا عبد المنعم وأول صوت غنى به في الإسلام: وقد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب وما زالت صنعة الغناء تتدرج في مدارج الارتقاء إلى أن بلغت الغاية القصوى أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي الموصلي وابنه اسحق وابنه حماد وكانت الدولة يوم إذ في عنفوان شبابها وكانت العرب اشتغلت في نقل العلوم وكان من جملتها كتب الموسيقى لليونان والهند فتناولوها ودرسوها وأصبحت الموسيقى عندهم علماً ذا أصول وألفوا فيها التأليف دع ما استنبطوه من الألحان واخترعوه من الآلات وأمعنوا في القصف واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها لميه وجعل صنفاً واحداً واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج وهي تماثيل خير سرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل ويكررن ويفررن ويثاقفن وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتقل فن الغناء إلى المغرب بواسطة زرياب غلام الموصلبين فإنه لحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز وجعله من خواص ندمائه فأورث بالأندلس من صنعة للغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمامتها بإشبيلية بحر زاخر وعقدت للغناء المجالس وماأدراك تلك المجالس قباب من بلور يتحدر الماء من أطرافها ومن حول القوم الحور وبينهم فتانة العينين مهضومة الحشا تنحني على ابن الطرب فتغنيه مشفقة.

(جادك الغيث إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل في الأندلس لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس) وتناقل منها بعد ذهاب عضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيا والمغرب وانقسم على أمصارها: ولم يزل الغناء يتكيف بمجريات الدولة العباسية صعوداً وهبوطاً حتى جرت عليها جوار السعد والنحس فتارة تعتورها دواعي الانحلال وأخرى تصادمها هوادي الاضمحلال وهي تتماسك تماسك الريحانة في مهاب الرياح إلى أن قضى عليها القضاء المبرم فقضى معها الغناء كما قضت فنون الأدب وكثير من العلوم فلبثت علوم الأدب ومعها الغناء في طي الخفاء ماشاء الله أن تلبث فكان الغناء يعد في تلك الفترة لغواً وينظر للمغني بالنظر الذي لا يرضاه الأدب إلى أن بعث الله تعالى في هذه العصور الأخيرة في مصر والشام والعراق من نهض بالأدب من كبوته وبالغناء من القطرين الأولين من عثرته ولكن لم يزل الغناء حتى الآن في دور طفولتيه لم يبلغ الحلم كأخيه الشعر وسائر فنون الأدب التي قطعت شوطاً بعيداً. أول من دون الغناء اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن أولا فيثاغورس فإنه صنع آلة وشد عليها ابريسماً ووضع قواعد هذا العلم وأضاف بعده الحكماء مخترعاتهم إلى ماوضعه إلى أن انتهت التوبة إلى أرسطاطليس فتفكر فوضع الأرغنون وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأسيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس لا مجرد اللهو والطرب. أما عند العرب فإن أول من ألف في هذا الفن يونس بن سليمان الكاتب الذي أخذ الغناء من معبد وتبعه كثيرون كالخليل ابن أحمد فإنه ألف كتاباً في الموسيقى زم فيه أصناف النغم وحصر به أنواع اللحون وحدد ذلك كله ولخصه وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده. وكيحو بن أبي منصور الموصلي فإنه ألف كتاباً في الأغاني وآخر في العود والملاهي وابراهيم بن المهدي ألف كتاباً سماه كتاب الغناء واسحق بن ابراهيم الموصلي ألف كتباً كثيرة في الغناء والمغنين. وبذل المغنية ألفت كتاباً في الأغاني يشتمل على أثني عشر صوت ويحي بن مرزوق المكي ألف متاباً يشتمل أيضاً على أثني عشر ألف صوت إهداء إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر فوصله بثلاثين ألف درهم وشاع هذا الكتاب وصححه الموصلي وعبد الله

ابن عبد الله بن طاهر ألف كتاباً دعاه (الآداب الرفيعة) في النغم وعلل الأغاني. وأمير المؤمنين عبد الله بن المعتز ألف كتاباً سماه (الجامع في الغناء) وغير هؤلاء كثيرون ولم يصلنا من هذه الكتب غير كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وهو من أجل كتب هذا الفن إن لم يكن أجلها. (دمشق) // خليل مردم بك

الشيخ عبد الرزاق البيطار

الشيخ عبد الرزاق البيطار فقدت دمشق في 10 ربيع الأول سنة 1335 هذا العالم المنوّر والأديب المشارك عن 82 عاماً (ولد سنة 1253هـ) فعز نعيه على كل من عرف فضله الواسع وأدبه الغض ومجالسه المفيدة ودروسه الممتعة. حفظ القرآن وجوّده في صباه وتمهر في علومه وأخذ بحظ وافر من الحديث والفقه والتصرف وكانت له يد في التاريخ والأدب والفلك والموسيقى وخلص في آخر أمره من قيود التقييد فكان يتكلم كلام من فهم أسرار الشريعة وتعلق بالكتاب والسنة صحيحة ولذلك لم يخل من حساد ومنافسين استعانوا بالسلطة الزمنية ليحطوا من قدره عند العامة. كانت مجالس الأستاذ الخاصة كمجالسه العامة مملوءة بالفوائد العلمية والأدبية إذا جد اشرأبت إليه الأعناق والأفكار وإذا مزح ارتاحت لمباسطته الأرواح والقلوب فكان جعبة أدب وظرف ظرف ما غشي مجلسه أحد إلا وتمنى لو امتد أمد الاجتماع به والاستفادة من مروياته ومحفوظاته والتسلي بوثائقه ونوادره. طبع بطابع الرقة وحسن العشرة وأوتي الضرب على العرق الحساس في الناس. نظم الشعر ومنه بعض المقاطيع والموشحات المشهورة المتداولة ونظمه أرقى من نظم الفقهاء. ودون شعر المغلقين من الشعراء وكتابته على طريقة السجع القديمة وقل أن انفك من أسره كما انفك من أسر التقليد الأعمى لبعض المتقدمين. وكانت في فن الموسيقى العربية مرجعا يعتمد عليه تخرج به أناس في هذه الحاضرة وساعده على ذلك عذوبة صوته وعذوبة حديثة فجمع إلى العلم بهذا الفن الجليل عملاً حتى كانت له في صباه وكهولته مجالس خاصة في الإنشاد والغناء المستجاد يحسده عليها كل من رزق ذوقاً سليماً وهي في غير ما محرم عقلاً وديناً وعرفاً بل يقصد منها راحة القلب من هموم الحياة وإلقاء النشاط في النفس لتقوى على العمل والانكماش وتدب فيها روح الشجاعة ورقة العاطفة وتلقن حب الوطن والملة. فإذا كان فقيدنا توغل في كتب السنة وأمعن النظر فيما قاله ابن تيمية وابن قيم الجوزية والشوكاني وحسن صديق خان فلم يفته تلحين شعر ابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وأبي الطيب وإن دعا إلة العلم الإسلامي الصحيح فما قصر في النسيب والتشبيب وما يطرب به الأديب. وإذا رتل الكتاب ترتيلا في محرابه وصومعته فما سلب من النفس

حظها في خلوته وجلوته فهو متنسك متعبد وطروب مغرد مولع بتداول الأفكار وتسقط الأخبار ولوعه بتجويد الألحان وتوقيع الأوتار جمع بين زاد الآخرة ومقومات الحياة في الدنيا فذهب شيخاً معمراً شبع من دنياه وعمل لأخراه بما علمه مولاه. لم يشبه عصر الشيخ الأول هذا العصر في وفرة أنواره وسعة محيطه وظهور الحقائق فيه جلية فجاء منه في أول أمره رجل يقرب من الحشوية المظلمة عقولهم اللهم إلا في ذكائه وتحصيله فلما انتشرت كتب الأئمة رجع عن كثير مما كان يقول به في الأربعين والخمسين من عمره شأن العالم العاقل. ولقد كان يقول لصديقه فقيد العلم الشيخ جمال الدين القاسمي ياجمال أحمد الله على أن انتبهت وأنت في سعة من عمرك ولحيتك سوداء فتتمكن من الاستمتاع بعقلك ويتسع لك الوقت لنشر آثار فضلك أما أنا فلم يعد لي وقت طويل في الحياة وهاقد ابيضت لحيتي وشاب قذالي فانتبهت لأشياء كنت من القائلين بها وقد كبرت سني ووهن العظم مني فالآمال فيك وبأمثالك من الشببة والكهول محصورة. للفقيد عشر رسائل وكتب منها في الموضوعات الدينية والصوفية ومنها في الأبحاث التاريخية الأدبية وأهمها كتاب حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر وهو في نحو 1500 صفحة وقد تكلمنا عليه في مكان آخر من هذا الجزء والمؤلف على ما ظهر لنا من صداقتنا معه أعظم في اجتماعاته منه في كتبه لأن معظمها قد كتبه بسرعة قبل أن يفتح عليه فيما اشتهر عنه في آخر عمره وكم من عالم رزق الحظ فيما يكتب ولم يرزقه فيما يخطب وبالعكس ورب شاعر لا ينثر وناثر لا ينظم. نُكب المرحوم بفقد ولديه الوحيدين في آخر حياته فزهده ذلك في العالم وزحزحه عن التأليف والتدريس وعزفت نفسه عن عزف المعازف والاستزادة من أسباب المعارف وشغل أجزل الله توابه بأمر مبكياته عن مفرحاته ومنشطاته. والعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما محت أواخره

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار النزهة والألعاب 1 في المثل الإنكليزي أن الشاب الذي لايميل إلى النزهة والألعاب هو أحمق لايعرف قدر الحياة وفي الحقيقة أن السعي للتواصل الذي لايتخلله طرب وأنس يورث الأجسام والعقول أمراضاً كثيرة حيث يصاب المرء في عنفوان شبابه بالضعف والنحول ويخطئ المعتقدون أن في الألعاب ذهاب الوقت عبثاً فقد ثبت بالتجارب نفعها الجزيل ولها خطورة عظيمة في تقوية الجنس البشري فالألعاب تزيد الأجسام قوة ونشاطاً وتساعد على نمو الصدر والأكتاف بنوع خاص. لا تقتصر فائدة الألعاب الرياضية على صيانة الجسد من الأسقام بل هي تولد في الشاب الجرأة الأدبية في أعماله وتعلمه أن لايكون ضعيفاً عبداً لمطامعه وغاياته ضعيف الإرادة خائر العزم ومنهمكاً بما لافائدة فيه من الشؤون فهي حينئذٍ كما تفيد الوجود الإنساني كذلك أيضاً تزيد الأخلاق الفاضلة رسوخاً في النفوس والطبائع. فالجرأة ومقاومة الأتعاب والسيطرة على أهواء النفس والاعتدال ثمرة من ثمار الرياضة الجسدية وليس من المبالغة ماقيل: أن انتصار الدوق ولنكتون في معركة واترلو هو من آثار مواظبة على الألعاب البدنية في ميدان ايترن أفضل الدروس وأنفعها لأطفالنا وتلامذة مدارسنا هي الدروس التي يتلقونها وهم يلعبون على شرط أن لايكون اللعب كعمل يجب القيام به بل كنزهة أو فكاهة يتلذذ التلامذة بها لما فائدتها من الوجهة الصحية فنستشهد عليها بأقوال السير جايمس باسث هو من الأخصائيين المبرزين في علم حفظ الصحة قال: للألعاب تأثير كبير في الأخلاق فهي شاملة لمشاغلنا ومعاملاتنا اليومية التي تظهر من مقاييس أخلاقنا لأن الألعاب تجمع طبقات مختلفة من الناس للسعي وإشراك العمل لغاية واحدة وهي وإن لم تولد في الإنسان رعاية الحقوق واحترام الغير بسائق الطبيعة ولكنها تغرسها فيه بسائق الاعتياد فمهما تكن منزلة المنفعة عالية في ميادين السباق فهي دون منزلة الواجب لأن كل أحد يعرف أن اهتضام الحقوق أمر يجلب العار والشنار فالذين لا يتلاعبون بحقوق زملائهم في ميادين اللعب يكونون دائماً موضع التكريم والإجلال.

قال الأستاذ ميخائيل فوستير في خطاب ألقاه: أن منشأ الأتعاب في الأعمال العضلية هو الدماغ وكل يعلم أن هناك أتعاباً منبعثة عن العضلات وهذا ما يبرهن أن الأشغال العقلية هي كالأعمال مترافقة بتبدلات كيموية تحدث في الدماغ والعضلات على طراز واحد إلا ماندر. وكما أن الجسم مفتقر إلى جريان دم غير مشوب لتجديد قوته بعد انقاذه من المواد السمية التي تجمعها الحركة فكذلك الدماغ محتاج أيضاً إلى هذا الجريان الدائم. كانوا قديماً يطلقون لفظة سبور على عامة الألعاب ويجعلونها شاملة لجميع أنواء. وأخيراً أصبحت مقصورة على السباحة في البحر والركض والقفز في البر وللإنكليز عناية خاصة بهذه الألعاب وهم أساتذة الشعوب الأوربية في هذا العلم فنبغ عندهم مشاهير المصارعين واللاعبين بطرائق مختلفة وقد قال أحدهم أن الرياضة البدنية ليست حادثة فينا بل انتقلت بطريق الإرث إلينا من أجدادنا القدماء. يبحث العلماء كثيراً في مسألة افتقار العنصر الإنساني إلى مياه نميرة في حين أن البشر مدينون للهواء أكثر من الماء فهو النوع الرقيق الذي ينفذ في جميع أطراف أجسامنا فتغسل بمادة لطيفة لا نشعر بها أبداً ومع هذا فهي قوية جداً تسير ببواخرنا في البحار وتنقل من الجبال الشاهقة إلى مدننا ألطف الروائح وأطيبها وتسمعنا أصوات أحبابنا وأنغام الطبيعة المطربة وماعدا ماتقدم نجد الهواء كنزاً ثميناً للأمطار التي تبتسم لها الأزهار والأشجار فإن الهواء يعدل حرارة النهار وبرودة أنواره في سماء الصباح والمساء فهو بلطافته وفائدته من أرق أنواع آرييل (1) اللطيفة وأجملها البحث كثيرة من الهواء الرديء على أن الحقيقة تقول بصوتها العالي أن ليس هناك هواء جدير بهذا الوصف القاسي فإن جميع النسمات لطيفة نافعة إلا أنها بأثواب مختلفة ولا جدال أن في بعض الأهوية مضاراً كبيرة للزراعة والحصاد إلا أن جميع أنواعها مفيدة للإنسان وقد قال الفيلسوف روسكين الهواء الفاسد غير موجود ولكن هناك أنواع مختلفة من النسائم المفيدة. ليس في الراحة والنزهة شيء من الكسل والبطالة فإن الجلوس تحت أغصان الأشجار الباسقة وفي الفنادق الشاهقة وسماع أغاريد الأطيار والأزهار والتمتع بمشاهدة انسياب الأنهار والنظر إلى السحب البيضاء المتكاثفة في كبد السماء لا يقال فيه جميعه ضياع للوقت الثمين. فالهواء الطلق هو نافع المفكر كنفعه للبدن وأن الأرض والسماء والجبال

والحقول والمروج والغابات والأنهار والبحار أحسن مدرسة للإنسان يتعلم فيها من شؤون الحياة وانقلابات الكون مالم يتعلمه في الكتب والمدارس. والغني الذي يغتنم الفرصة من أوقاته لإجراء سياحة في البحر بقاربه أو لاقتطاف الأزهار المنعشة وصعود الجبال والسباحة في الأنهار يكون قلبه على الأغلب طافحاً بالسرور مع ارتقاء في صحته لأن مشاهدة الطبيعة أحسن غذاء وأجمل شراب ينعش القلوب والأفكار لاشبهة أن حصر الأوقات بالألعاب هو حياة لا لذة فيها فيجب على الإنسان أن لايضيع الطرب والأنس موضع أعماله الحياتية فيهمل بيته وحرفته وينبذ المطالعة ومزاولة العلوم والفنون ويميل بكليته إلى الألعاب بل يسير بنفسه في جادة الاعتدال والاستقامة فينال مستقبلاً زاهراً ونجاحاً باهراً. ومن الفكاهات والمسرات ما هي كاذبة وصادقة وقد سألوا سقراط الحكيم عن المسرات الصادقة فأجاب: هي النظر إلى الألوان الجميلة والمناظر البديعة وتشنيف الإسماع بالأصوات والألحان المطربة فإن ذلك يولد في النفس شعوراً رقيقاً. تختلف اللذائذ من بعض الوجوه ولكنها متفقة في حب البدائع والافتتان بالجمال غير أن الأستاذ فيليب يقول أن مايسر ذوي الأرواح هو الفرح والذوق والفكاهة أما أنا فلا أرى أيهم بل اعتقد أن العقل والذكاء والحافظة والرأي السديد هو أحسن للإنسان في حاله ومستقبله من جميع اللذائذ التي يميل إليها والأذواق الحقيقية لا تنحصر أبداً فالعائلة والأصدقاء والمعاشرة والكتب والموسيقى والشعر والصنائع والألعاب والراحة وجميع ألواح الطبيعة كالصيف والشتاء والصباح والمساء والليل والنهار والحرارة والبرودة والشمس والزوابع والمزارع والغابات والأنهار والبحيرات والبحار والحيوانات والنباتات والأشجار والأزهار والأوراق والأثمار لاتؤلف إلا جزءاً صغيراً من هاتيك اللذائذ إذا لم تكن حياتنا سعيدة فنحن المسؤولون أمام أنفسنا فنيل السعادة قائم بإرادتنا وعزمنا غير متوقف على أسباب خارجية كما يزعم ضعفاء العقول فالسعادة والشقاء والفقر والغنى والصحة والمرض أثر من آثار إرادة الإنسان فإن جهله يورث الكون خساراً أعظم من خسائر الزوابع والزلازل والحوادث الجوية. إن الغني القوي الإرادة يستطيع أن يكون سعيداً وغنياً صحيح البنية عالي المقام بين أبناء جنسه.

قال جونسون في وصف إحدى المحاضرات أن ماتكلمنا به في هذا المساء جميل جداً فالمكالمة مع داروين ولايل وكنفسلي وروسكين وتيندال هي مفيدة لعقولنا كإفادة استنشاق النسيم لأجسامنا ومن هذا يظهر فضل الرياضة البدنية وانتجاع الهواء الجيد. وكما يجب على الإنسان أن يتعهد عقله بالعلوم والفنون ويقوي بدنه بالرياضة كذلك يجب عليه أن يكون طلق اللسان نصيحاً فقد رأينا كثيراً من مشاهير العلماء والباحثين لا يمكن الانتفاع من معارفهم إلا بصعوبة لأنهم لم يكونوا طليقي الألسنة والفصيح يكون جليلاً رفيع المقام بأعين الأمة. والفصاحة كغيرها لاتنال إلا بالمواظبة والمثابرة على مطالعة كتب المشاهير من البلغاء والفصحاء وقد قال رتامبل: أول واسطة للنطق بالكلام الخلاب الذي تميل إليه النفس هو الافتكار في الحقيقة وثانيها حسن الإدراك وثالثها الفرح ورابعها الذكاء والاستعداد وفي وسع كل أحد أن يقوم على الأقل بالوسائط الثلاث الأولى. إن كثيراً من النابغين قد برعوا في العلوم بطريق المناظرة والمسامرة ويقول الفيلسوف باكون إن الذين يسألون كثيراً يعرفون كثيراً وتكون معارفهم مبنية على أسس عملية وتراجم المبرزين في الفنون من رجال الاختراع والاكتشاف تبرهن لنا على أن أكثرهم لم يتخرجوا من المدارس بل درسوا في مدرسة الكون وكان لهم من صحة أجسامهم ما ساعدهم على مثابرة أعمالهم ومزاولة شؤونهم وفي الحديث العقل السليم في الجسم السليم. // إبراهيم حلمي العمر مطالعات ألوان الكواكب اللون الأبيض هو اللون العام في جميع الكواكب من سيار وثابت كالزهرة والشمس وبنات نعش: ومنها مايكون لونه أحمر مثل المريخ وبيت الجوزاء والدبران والسماك أو أصفر مثل المشتري والطير والجدي أو رصاصياً مثل زحل. ألوان الأبحر إن لون ماء البحر الرقيق أخضر والعميق أزرق وقد يكون أبيض كما في خليج غنينية وأصفر كالبحر الذي بين اليابان والصين وقرمزياً في نواحي كاليفورنيا وأسود مثل البحر

المجاور لجزائر ملديفين وقد يكون بنفسجياً في الأبحر الأخرى. ومن هذه الأسباب سميت الأبحر بأسماء الألوان مثل البحر الأبيض والأحمر والأسود وينسب اختلاف ألوان البحار إلى كثرة النقاعيات وقلتها ونحو ذلك مما هو علة فسفورية البحر. معاني أسماء بعض الدول المتحاربة (الجرمان) بمعنى الجيران سماهم به الغاليون القدماء لمجاوريهم منهم ثم عمّ على جميع هذا الجنس. (النمسويون) اسم روسي أطلقه الروس على الجنس الجرماني والنمسوي الذي يرجع إلى أصل واحد وهو في لغتهم نيمتس) أي الحرس لأنهم رأوهم في أول الأمر يعبرون عن مقاصدهم بالإشارات. (العثمانيون) نسبة إلى السلطان عثمان التركي مؤسس هذه الدولة العظيمة المؤيدة بنصر الله والترك نسبة إلى أحد زعمائهم المسمى (ترك) قديماً. (البلغار) نسبة إلى نهر فولكا لأنهم كانوا في ضفافه فقيل فولكار ثم حرّفت بلغار (انكلترا) و (إيرلندة) و (اسكتلندة) بمعنى أرض الأنكلوسكسون وهم قدماء الإنكليز في الأولى. وأرض الإيريشيين في الثانية. وارض السكوتيين في الثالثة وأطلق عليهم جميعاً اسم (الإنكليز) تحريف الكلمة الأولى. (الفرنسيون) نسبة إلى قبائل الفرنك أو الفرنج ويسمون الغاليين بمعنى الديوك. (البلجيكيون) نسبة إلى قبائل بلجة التي عمرت تلك البلاد. (الروسيون) تحريف (ردتس) أي أهل الشمال بلغتهم وأما (الموسكوب) نسبة إلى عاصمة بلادهم موسكو. تحليل بعض المسميات العصرية (الثرمومتر) من كلمتين يونانيتين (ثرموس) بمعنى حرارة و (مترون) بمعنى قياس فمجموعهما مقياس الحرارة (البارومتر) من لفظتين يونانيتين أيضاً (باروس) بمعنى ثقل و (مترون) بمعنى مقياس فالمعنى مقياس الثقل (أي ثقل الهواء) الأوكسجين يونانية عن

(أوكس) بمعنى حامض و (جنو) مولِّد فالمعنى مولد الحامض. و (الهيدروجين) من (هيدرو) اليونانية بمعنى ماء و (جنو) مولد فمعناها مولد الماء والنيتروجين من نتروس) اليونانية بمعنى الهواء و (جنو) مولد فالمعنى مولد الهواء. عيسى اسكندر المعلوف الإنكليز والهند نشرت جريدة عثمانيشر لويد فصلاً قالت فيه: لايبعد عن جادة الحق من يقول أن الهند في بداية القرن السابع عشر كانت بلاداً مجهولة عند الأوربيين وما كان اسمها يحل منهم محلاً ينفع في مصلحة شخصية أو وطنية وكان بعض علماء أوربا يعرفون عنها وعن عظمتها السالفة أموراً استقوها من الكتب وكثير من قصصها البديعة انتقلت إلى الشرق الأقرب فوصلت إلى أوربا وهذا كان جماع ما يعرف عنها فلم يكن الغربيون يذهبون إلى الهند بل ولا يفكرون فيها فكانت بمأمن من مطامع الغرب ولكن عندما أثبت أرباب الملاحة من البورتغاليين والهولانديين أن رأس العواصف أو رأس الرجاء الصالح يمكن اجتيازه بدون صعوبة في سفن كبرى أصبحت المسافة التي كانت تحمي بلاد الهند الجميلة من مطامع الأوربيين تقل سنة عن أخرى. وجاء بعد البرتغاليين والهولنديين إلى شواطئالهند أناس من عناصر أخرى فالمتمسوا أن يسمح لهم بالمقام في الساحل وكان من جاؤوا على هذه الصورة في أوائل القرن السابع عشر جماعة من الإنكليز يحملون كتاباً من ملكهم جاك الأول يوصي بهم فيه أخاه إمبراطور دلهي جهانكير فأذن لهم صاحب الهند أن ينشبوا مكاتب تجارية في سورات وكامباي وأحمد آباد وفي سنة 613 أصدر توقيعه في تأييد ملكيتهم على هذا الوجه أسست الشركة الإنكليزية في الهند الشرقية التي استرسلت حتى أدعت بعد الحق الأعلى على الهند. مضى قرنان فقط على موافاة حفنة من تجار الإنكليز بلاد الهند خاشعين متوسلين إلى أمراء الهند السماح لهم بالتجارة مع شعوبهم واليوم يحكم الإنكليز الهند حكم السيد للسود وقد انحلت شركة الهند الشرقية ومنذ سنة 1858 أصبحت الهند تابعة لعرش انكلترا مباشرة ينوب فيها نائب الملك إذا كان الشكل الذي بدت فيه بريطانيا العظمى في حكمها بلاد الهند قد اختلف فالفكر واحد الإنكليز لم يقفوا فيها عند حد التجار بل أن السياسة التي اتبعوها في

الهند مازالت سداها ولحمتها الربح والقانون الذي نوه لحكم تلك الديار التعسة هو قانون تجاري صرف فالهند في نظر حكومة بريطانيا مزرعة واسعة لا يقصد منها إلا استخراج أرباح أكثر وبحق ما دعيت الهند بأنها بقرة انكلترا الحلوب. ومن يعرف في إنكلترة تاريخ احتلال الإنكليز للهند يوقن بأن مااستمال قلوبهم كان الأمل في الاستئثار بغنيمة كبرى وعندما حكموا البلاد لم يغفلوا هذا المطلب بحال من الأحوال فإنكلترة مدينة في نجاحها المدهش لصلاتها مع الهند لأنها كانت منذ أواسط القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا المنبع الأصلي لغناها ولكن تحت طي الخفاء. ومنذ دحيت الأرض لم يقع على مايظن عمل أنتج أرباحاً كثيرة كما ربحت انكلترا من استصغاء الهند وما اقتطفته من ثمراتها استطاعت به أن تكون لها المنزلة العليا في الصناعات ولكن أي نتيجة كانت للهند من وراء احتلال الغريب لها فالعالم لا يعرف من ذلك إلا النزر اليسير وذلك لأن الإنكليز يحظرون أن تشيع الحقيقة من طريقتهم في أحكامهم التي يزعمون أن أساسها الحب والتجرد عن الغرض وعلى العكس زي مداح الاستعمالر الإنكليزي يصفون الحكم الذي كانت خاضعة له الهند على عهد استقلالها أبشع وصف وإذا بحث المرد في الحق بحثاً مجرداً عن الهوى يؤدى به البحث إلى نتائج متخالفة متناقضة فيثبت له بدون نظر طويل أن الهند محكومة لمنفعة الإنكليز الخاصة بدون اهتمام لمصالح البلاد وما من سبيل إلى انكسار أن انكلترا تحقق في الهند ما يرقى بها إلى أوج الإرتقاء الوطني وأن موارد ثروتها قد نضبت وأن القحط الذي طالما شن عليها الغارة قد خربها وأدى بها إلى أن أمست من الأفقر أقطار الأرض وها بعد هذا دليل على سقوط الأحكام الإنكليزية التي يمتدح بها الإنكليز كأنها ضرب من ضروب النعم السماوية وكثير من حكامهم قد بدت من أفواههم على هذا بوادر تكشف القناع عن سر وجه السياسة التي اختطتها انكلترا لنفسها في الهند فقد قال السياسي الإنكليزي الهندي المستر ويليام تاكراي: يجب أن يكبح في الهند جماح عواطف الكبر واستقلال الفكر والميل إلى التفكر فيما يولد أحياناً الثروة فإن كل هذا مخالف كل المخالفة لسلطاننا ومنافعنا فنحن لا نحتاج إلى قواد ورجال إدارة وسياسة ولا إلى رجال قانون مشرعين بل نحتاج إلى حراث عامليم. وقال المركيز سالسبوري رجل المملكة الإنكليزية المشهور في عهده: إذا قضت الحال أن تقصد

الهند فالواجب أن يغرس المبضع في الأجزاء المحتقنة أو على الأقل في الأطراف التي فيها مجرى دم كاف ولا تقصد من الأطراف التي ضعفت بما أصابها من فقر الدم. وقال أحد المؤلفين في سنة 1792 أن الغاية الرئيسة التي جرت عليها انكلترا يجب الاعتراف بها حتى الاعتراف وهي أن تكتشف ما تستطيع استخراجه من رعاياها الأسياويين لا أن تحمل إليهم النعم. وهذه التصريحات وهي الخطة الحقيقة للسياسة الإنكليزية لا تبقي شكاً في أن الهند خاضعة لقانون جائر يحول نحو انكلترا قواها وغناها وقد أبان هندمان في عباراته الجارحة خلاصة هذه السياسة بقوله: الهند آخذة بالضعف فإن استيلاءنا عليها قد أضعفها حتى في أدق ألياف تركيبها فانفجر دمها بطيئاً ولكنه يزيد يوماً عن يوم. تقسم البلاد التي تدعى الهند قسمين القسم الإنكليزي والأقاليم الهندية ففي الأول تسود سلطة الإنكليز وبفضل ما صرفوه عليها من الأموال قد نجحت أحوالها نجاحاً تاماً أما الأقاليم الهندية فما عدا غراس الشاي والقهوة والنبل والجوت والممالك الإقطاعية فهي كل بلاد الهند ماعدا الأراضي التي عرضها خمسون ميلاً إنكليزياً الواقعة على جانبي الخطوط الحديدية وأماديح رجال السياسة الإنكليزية من حاكم الهند إلى وزراء بريطانيا تتناول هذه الهند الإنكليزية وكل ما يقال من الإطراء في الكتب الزرقاء المنتشرة في مسائل الهند يقصد منه الهند الإنكليزية ومادة مداح الاستعمار الإنكليزي للهند هي هذا الجزء من البلاد ولكن إذا نظرنا إلى ماوراء هذه الظواهر من بلاد الهند حيث يتحرك ثلاثمائة مليون من الأنفس نجد غير الصورة التي يرسمونها نرى في كل خطوة نخطوها من هذه البلاد مشهداً من البؤس الغريب وويلات تحدثها المجاعات وصعاليك لايكادون يجدون ما يغطي عوراتهم من اللباس وضروباً من الذكاء تذهب في الهباء وعقولاً تتبله وتتبلد وأناساً يعيشون بلا أما وكان من أمر الحكم الإنكليزي إن أصبحت المجاعات دائمية على ماتقرأه في الإحصاء المدهش المنقول عن تقارير رسمية فقد حدثت أربع مجاعات في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الثامن عشر (1769 - 1792) ومئة واثنتا عشرة مجاعة في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1802 - 1838) وخمس وثلاثون مجاعة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر (1854 - 1908) فمات بالمجاعة خلال القرن التاسع عشر فقط زهاء اثنين وثلاثين مليوناً من الأنفس قال ويليام ويجبي: أن ماحدث من هلاك

النفوس البشرية بالحرب خلال 107 سنين (1793 - 1900) يبلغ خمسة ملايين على حين هلك في المجاعة في الهند خلال عشر سنين فقط تسعة عشر مليوناً من البشر وتقول الإحصائيات الإنكليزية أنه كان في الهند الإنكليزية أوائل القرن التاسع عشر تسعون مليوناً ما كلنوا يتناولون طعامهم عندما تحتاج إليه معدهم. ومثل هذه الشهادات تدل على سوء حالة البلاد التي دخلتها انكلترا في أشد أوقات ضيقها فحرمت من أسباب نجاحها المادي والعقلي ومضى عليها قرن وهي في حالة وقوف وعاش الشعب فيها بعيداً عن كل بهجة يوسف في الجهل والشقاء ويعامل بالخشونة التي لاتقل من خشونة روسيا في معاملة رعاياها. وقد عمدت إنكلترا في استعمال الهند إلا ثلاث طرق الأولى فتحها بالتجارة فبعد أن اضمحلت تجارة الهند وصناعتها افتقرت البلاد فقبضت عليها بريطانيا العظمى بيدها الاقتصادية وبما استنزفته انكلترا من أموال الهند أحرزت التفوق الصناعي الذي أخذت تدل به على العالم. والطريقة الثانية افتتاح البلاد بالضغط فكل مطلب عال قمع بشدة وكل رجل مستقل الفكر اضطهد بدون شفقة وكا ارتقاء عقلي جعلت أمامه السدود والحواجز والطريقة الثالثة طريقة الفتح بالتوحيش فإن انكلترا عمدت إلى خديعة الهنديين بأحاييل وأكاذيب حتى يكونوا خاضعين صابرين وبذلت جهدها في إفساد أخلاقهم وإذلالها وإبقائهم في جاهلية جهلاء وقضت فيه على كل عاطفة عنصرية ومابرحت تلقنه عظمة انكلترا وتطري له أعمالها. هذه هي الأساليب التي عمد إليها الإنكليز لحكم الهند فكان من نتيجتها أن جعلت سكانها حطابين وسقائين. لم يقتد الإنكليز بالرومان في استعمارهم وكان هؤلاء يجتهدون في التمثل بالشعب المغلوب وفي إدخال المناحي الرومانية عليه أما الطريقة التي اختارتها إنكلترا فهي استثمار المغلوبين وإذلال نفوس عنصرهم لإحلال عنصر آخر مكانه أليست هذه الطريقة من مرجيات الخجل للمدنية ومن الجنايات الإنسانية فلكي تغتني انكلترا تبيد في الهند كل صناعة وتأتي على الحياة العقلية وتفلج كل مشروع يراد منه نهضة شعب مؤلف من ثلاثمائة مليون نهضة تحسن أخلاقه وتطيب أعراقه. هذا ما قالته الصحيفة الألمانية عربناه ليطلع عليه القارئ ويتأمل فيه فإنه حوى مادة تاريخية لابأس بها.

انتفاع أميركا بلغت قيمة صادرات الولايات المتحدة من 30 حزيران 1914 إلى 30 حزيران سنة 1916 مقدار سبعة مليارات وبلغت قيمة وارداتها 3 مليارات و9 ملايين ريال فكان مقدار صادراتها على وارداتها 3 مليارات ومليون ريال. فلكي تستطيع أوربا ودول الإئتلاف تسديد هذه المبالغ الطائلة البالغة ستمائة مليون ريال إنكليزية وربع مليون عمدت إلى ثلاث طرق اقتصادية مختلفة تصون الذهب الموجود في خزائنها بعض الصيانة وهي (1) دفع قيمة البضائع ذهباً (2) وضع القيمة المذكورة أسهماً مالية أميركية (3) دفعها من المال المأخوذ من قروض تعقدها دول الإئتلاف في الولايات المتحدة نفسها. أما سلوك الطريق الأولى فقد أكره دول الإئتلاف على إخراج قسم عظيم من الذهب المودع في خزائنها وتستطيع تحقيق ذلك من الذهب الذي يرد إلى الولايات المتحدة ويصدر منها فقد بلغت قيمة الوارد من أول آب سنة 1914 إلى آخر كانون أول من السنة نفسها 23250000 ريال والصادر 14970000 ريال فزيادة الصادر على الوارد 81720000 ريال. أما في سنة 1915 أي بعد ما أسست أميركا المعامل العديدة المتنوعة للمتاجرة بدماء الأوربيين وأرواحهم فقد بلغت قيمة ما وردها من الذهب 452 مليون ريال وما أصدرته 418410000 على أن دول الإئتلاف شرعت أثناء هذه الحركة الهائلة التي تهددها بجرف جميع ما في بلادها من الذهب إلى العالم الجديد بتأسيس معامل حربية جديدة متنوعة في بلادها ولكنها مع ذلك لم تستطع الاستغناء عن المعامل الأميركية إلا قليلاً فقد كانت قيمة الوارد من الذهب إلى الولايات المتحدة من أول كانون الثانة سنة 1916 إلى 15 تشرين الأول من السنة نفسها 390010000 والصادر 95960000 ريال فزيادة الوارد على الصادر 249050000 فيؤخذ من خلاصة هذا الإحصاء الموثوق به أن قيمة ما ورد إلى الولايات المتحدة من الذهب منذ ابتداء الحرب العمومية حتى 15 تشرين الأول الماضي 865260000 ريال وماصدر منها 231820000 ريال فالزيادة 631 مليون و 640 ألف ريال زادت على موجودات الذهب في تلك البلاد بسبب الحرب. أما الأسهم المالية المشتراة قبل الحرب من الولايات المتحدة والتي أعيدت إليها في مدد

مختلفة بعد الحرب مدفوعة ثمن مواد حربية فيؤخذ من أقوال أعظم الإحصائيين الأميركيين أنه قد بلغت قيمة أسهم السكك الحديدية الأميركية التي عادت إلى الولايات المتحدة بين 31 كانون الثاني سنة 1915 و 31 تموز سنة 1916 نحو 13000 مليون ريال وفضلاً عن ذلك فقد عاد من أسهم شركة الحديد الأميركية 748547 سهماً اعتيادياً و 141736 سهماً ممتازاً أو هذه الأسهم انتقلت من أيد أوريبة إلى أيد أميركية أما قيمتها فإنها بموجب السوق المالية في 30 حزيران سنة 1914 تساوي 60 مليون ريال وبموجب سوق 30 أيلول سنة 1916 تتجاوز قيمتها مئة مليون ريال. وأما القروض التي عقدتها الولايات المتحدة للدول الأوربية المتحاربة وأخصمها بالذكر دول الإئتلاف فقد بلغت 1778600000 ريال حسب تقدير بنك إنكلترا يضاف إليها قروض عقدتها ولايات ومدن من كندا الإنكليزية تبلغ قيمتها 185 مليون ريال وقرض آخر عقدته مدينة دوبلين الإرلندية فيمته 8 ملايين 200 ألف ريال فالمجموع 198180000 ريال دفع منها في أوقات مختلفة 156 مليون و40 ألف ريال فالباقي للولايات المتحدة الأميريكة على دول الإئتلاف في الأكثر 1325400000 ريال و11 مليار و 375 مليون فرنك مقسمة على الدول الآتية كما يأتي: إنكلترا858400000 ريال فرنسا 656200000 ريال روسيا 117200000إيطاليا 25040000 كندا 120000000 ريالولايات ومدن كندية 185000000 ريال ألمانيا 20000000 ريالالمجموع 1981800000 ريال المدفوع 156400000الباقي 1825400000 ويجب أن يضاف إلى هذه المبالغ مقدار 110 ملايين ريال اقترضته مدن فرنسوية من الولايات المتحدة ولن تسدد هذه المبالغ قبل نهاية سنة 1925 وأنت ترى من هذا الإحصاء مبلغ ما ربحت الولايات المتحدة من أوربا فكأن هذه الحرب العامة نشبت لتستنزف أميركا من خزائن أوربا ما طالما استنزفته أبناء هذه مدة قرنين من الذهب. قصر فرعون نجحت البعثة العلمية التي يرأسها الدكتور فيشر الألماني المرسلة من كلية بنسلفانيا

الأميركية في المهمة التي أخذت على نفسها القيام بها للبحث عن آثار الفراعنة في وادي النيل وكان للبناء الذي تطالت البعثة إلى الحفر عنه هو قصر مرنفتاح الثاني ملك مصر المعروف لورود ذكره في سفر الخروج فكان هذا القصر كبيراً للغاية مزيناً أحسن زينة وقد كان خرب في حريق أصابه فتهدم كثير من أجزائه وإذ عثروا فيه على آثار يونانية فقد استنتجوا أن الحريق لم يحدث إلا في القرن الخامس قبل الميلاد وربما بعد ذلك ولم يثبت إذا كان فرعون هذا قد أنشأ القصر في أيامه ولعله كان ذلك ولكن الثابت أن سكنه على نحو ما كانت عادة الفراعنة في مصر وأنه وسعه وأكمله فإذا كان هو الذي بنى هذا القصر فيرد تاريخه إلى القرن الثالث عشر قبل المسيح ويقول الدكتور فيشر أن طول القصر كان 34 متراً وعمقه فيه 30 غرفة مختلفة الحجم وأعظم قاعاته قاعة العرش طولها 30 متراً بعرض 12 يدعم سقفها ست دعائم وتتصل بدهليز فيه 12 سارية بديعة وكان منقوشاً أجمل نقش كما تبين ذلك الآن. والبارز من صوره على غاية من اللطف مموه بالذهب والعرش مع الدرجات التي تؤدي إليه ما زالت بحالها ومن غريب ما وجد فيه أمتعته ومما يدهش له الزائر مجموعة من العاديات قبل التاريخ مثل مدى وسكاكين مختلفة الأجناس ورمايا سهام من الحجر وقدور ومواقد مما استدل منه أن ذلك كان شائعاً في الاستعمال عند المصريين وهذه العاديات تنير تاريخ وادي النيل ويستغرب وجودها في هذا القصر الفرعوني وقد استنتج مكتشف هذا القصر أن فرعون هذا كان جماعة للآثار وأقام في قصره متحفاً تاريخياً حقيقياً.

مخطوطات ومطبوعات

مخطوطات ومطبوعات حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر للشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي هو مخطوط في تاريخ رجال هذا القرن وقد ورد فيه ذكر بعض الوقائع بالعرض مثل وقعة سليم باشا والي دمشق ووقائع إبراهيم باشا المصري ووقائع احمد باشا الجزار وحادثة الستين وغير ذلك رتبه مؤلفه رحمه الله على حروف المعجم وتعرض لترجمة المشهورين من المسلمين في الشام ومصر والحجاز واليمن والعراق والجزيرة وبعض من لهم شهرة في الطريقة أو الإدارة ومن المشاهير الذين ترجمهم السيد محمد عابدين وإبراهيم باشا ومحمد علي باشا وتوفيق باشا والأمير عبد القادر الحسني والسيد أبو الهدى الرفاعي وعارف حكمت بك ومحمد بن عبد الوهاب وداود باشا وجودت باشا والشهاب المنبي وجمال الدين الأفغاني والشيخ حسن العطار والشهاب محمود الألوسي ومحمود أفندي حمزة والسيد مرتضى الزبيدي وإضرابهم من النابهين وغيرهم كثير من الحاملين. وقد كان المؤلف رحمه الله عهد إلى حفيده الشيخ محمد بهجت البيطار بأن يبيض ما سوده ويحذف جملاً منه لا يرى لها علاقة بالتاريخ ولا تفيد إلا تكبير حجمه على غير طائل وهو اليوم آخذ النفس بذلك ورجاؤنا أن يتم له ما يريد ويريد الحريصون على تتمة سلسلة تاريخ الرجال في هذه البلاد من طبع هذا السفر إحياء لذكر جده وإفادة للعلم والآداب. وفي هذا الكتاب وهو على طريقة خليل أفندي المرادي مؤرخ رجال القرن الثاني عشر في الأسجاع إلا قليلاً شيء من شعر المترجمين ونثرهم نموذج من انحطاط الآداب العربية في هذه الحقبة من الزمن وآداب لغتنا من منظومها ومنثورها لم تأخذ بالرقي في الحقيقة إلا في هذا القرن الرابع عشر وقد نبغ فيه ولاسيما في مصر كتاب وشعراء لم ينبغ أمثالهم إلا في القرون الثلاثة التي سلفت أعادوا اللغة إلى نضارتها في القرون الأولى إذ جمعوا في آثارهم بين رونق المتقدمين وعلم المتأخرين. إيضاحات من المسائل السياسية التي جرى تدقيقها بديوان الحرب العرفي المتشكل بعاليه نشره القائد

العام بالجيش الرابع طبع بمطبعة طنين في دار السلطنة سنة 1334 ص125. هو سفر جمع أنباء جمهور من اشتركوا في مسائل سياسية تتعلق بقلب حالة البلاد السورية وحوكموا محكم بإعدام زعمائهم وقد صورت خطوط بعضهم وذكر السبب الداعي إلى عقوبتهم مع صور ما نشره من المناشير السرية والجهرية وقد طبع الكتاب باللغات الثلاث العربية والتركية والإفرنسية ليكون عبرة الحاضر والغابر. جدول التشكيلات الملكية هو كراس في 166صفحة صدر بالتركية من المطبعة العامرة في الأستانة وفيه أسماء الولايات والألوية والاقضية والنواحي العثمانية نع جدول في آخره رتب على حروف الهجاء. وفي هذه الجداول أغلاط مطبعية كثيرة عسى أن تصلح في الطبعة الثانية وأن تزاد معلومات كافية عن كل بلد وقصبة تكون بمثابة معجم معتمد لبلاد السلطنة يعهد إلى جمعه إلى أناس أخصائيين بالجغرافية والتاريخ ممن يكونون درسوا وساحوا وطبقوا العلم على العمل. إيقاظ الأخوان لدسائس الأعداء وما يقتضيه حال الزمان تأليف الشيخ إسماعيل الصفايحي طبع في المطبعة العسكرية في الأستانة سنة 1333 ص104 مؤلف هذا الكتاب من قضاة تونس سابقاً وقد أجاد في تأليفه هذا فذكر شروط الخلافة واحكمها وخدمة الدولة العلية للإسلام والمسلمين وحملات أعدائها عليها في العصور المتأخرة مستنداً في ذلك إلى التاريخ الصحيح فاستحق الثناء لأريحيته ولبعد نظره وصحة أحكامه وصدق روايته.

نفحة الريحانة

نفحة الريحانة محمد أمين المحيي من علماء دمشق في القرن الحادي عشر ومؤرخيه اشتهر بكتابه في تراجم أهل عصره وهو مطبوع في أربعة مجلدات وقد ترجمه المرادي في كتاب سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر فقال أنه يتمية الدهر المفنن المؤرخ الذي بهر العقول بإنشائه البديع ومهر وتفوق في فنون العلم وفاق في صناعة الإنشاء ونظم الشعر وكان يكتب الخط الحسن العجيب وألف مؤلفات حسنة بعد أن جاوز العشرين منها الذيل على ريحانة الشهاب الخفاجي سماه نفحة الريحانة ورشحه طلاء ألحانه والتاريخ لأهل القرن الحادي عشر سماه خلاصة الأثر في تراجم أهل القرن الحادي عشر ترجم فيه زهاء ستة آلاف وهو مشهور والمعول عليه وقصد السبيل فيما في لغة العرب من الدخيل والدر المرصوف في الصنعة والموصوف وكتب حصة على ديوان المتنبي وحاشية على القاموس سماها بالناموس صادفته المنية قبل أن تكتمل وكتاب مالي وديوان شعر وغيرها من درره وغرره وكانت وفاته سنة أحد عسر ومائة وألف قال المرادي وله شعر لطيف وهو مشهور أودع غالبه في نفحته وتاريخه وساق نبذة منه. وأمامنا الآن نسخة نفيسة من كتاب نفحة الريحانة وهو على نسق ريحانة الخفاجي بسجعها وشعرها توخى فيها المحبي مجاراة الخفاجي والتذيل على ريحانته فجاراه وباراه ولم يقصر عن مداه قال المحبي: وكانت كتاب الريحانة للشهاب الذي أغنى عن الشمس والقمر وأطلع الكلام ألذ من طيب المدام والسمر وناهيك بمن استخدم الألفاظ حتى قيل أنها له ملك ونظمها في أجياد الطروس كأنها جواهر لها كل سطر من سطوره سلك لم أزل من عهد صباي قبل نوم سيادة شبرلي وصباي وهو أمنية رجائي الحائم وبغية قلبي الهائم وشمامتي التي أشتم ومسلاتي متى أهتم وزمزمة لساني وعقيلة استحساني حتى أود لو كانت أعضائي كلها نواظر تبصره بحيث لا تقل لحظاً وخواطر تتذكره على أنه لا تسأم حفظاً والسنة تكرره بشرط أن لا تقنع لفظاً فخطر لي أن أقل في تذيله ذندي وآتي لمحاكاتي بما أجتمع من تلك الأشعار عندي وقصدي بذلك اشغال الفكر لا الانضمام إلى من فاز بأولى الذكر وإلا فمن أنا حتى يقال وإذا عثرت عثرة تقال سيما إذا قرنت بما جاريته في ميدان الكلام أو ضممت إلى من باريته وأنا لست له باري أقلام وإني لو تطاولت إلى الفلك وتناولت عن الملك واتخذت الدراري عقوداً وزهرة المجرة لفظاً معقوداً ما بلغت مكانه لا مكنت من أمر

البراعة إمكانه فأقدمت سائلاً من الله أن يجعله سهلاً وأن أستغفره لتطلعي لما لم أكن له أهلاً وسودت أعياناً بيضت بهم وجه الطروس وأحييت لهم أبيات أشعار كادت تشارف الدروس من كل لفظ أرقى من نفحة الزهر في الروض من للناشق وأحسن موقفاً من تبسم المعشوق في وجه العاشق واثبت فيهم بفصول تشهد لهم بالتفضيل وتقضي بأن كل وصف فيهم فضول بالإجمال والتفصيل وإني أحاسب لقلبي إذا مال وللساني إذا قال لا أمدح إلا ممدوحاً ولا أقدح إلا مقدحاً ولا يستفذني وعد كل سحابة ولا يستخفني طنين كل ذبابة ورقمت من الكلام المصرع والإنشاء السلس المرصع ما استنبطته من ذوات الصدر والمعت به كالقمر ليلة البدر فقر ابتدعتها وسجعتها معاني آداب اخترعتها والمعتها تطرزها الأقلام وترقم بها أردية الكلام ولم أودع إلا ما حسن إيداعه ولطف مساغه وإبداعه وأقنع من القول بطرفه واستجلب من بدائع طرفه إذ لا فخر للأقط تناول كل ساقط. . . . . وقد رتب كتابه على ثمانية أبواب الباب الأول في محاسن شعراء دمشق ونواحيها الباب الثاني في نوادر أدباء حلب الباب الثالث في نوابغ بلغاء الروم الباب الرابع في ظرائف ظرفاء العراق والجزيرة الباب الخامس في لطائف لطفاء اليمن الباب السادس في عجائب نبغاء الحجاز الباب السابع في غرائب نبهاء مصر الباب الثامن في تحائف أذكياء المغرب وترجم من أدباء دمشق أبا بكر العمري وابراهيم ابن الأكرمي الصالحي ويوسف أبي الفتح والأمير منجك بن محمد المنجكي وعبد اللطيف المنقاري ومحمد الكريمي ومحمد الحريري الحرفوشي ويوسف البديعي ومحمداً الدرا وعبد الباقي السمان وعبد الحي طرز الريحان وابراهيم السؤالاتي وأبا بكر العصفوري ومحمداً المقدسي وتاج الدين المحاسني وعبد اللطيف الجابي ومحمد الزهري ومحمد بن زين العابدين الجوهري ومحمد بن حسين الصالحي وعمر الدويكي وعمر بن محمد الصغير وأحمد الصفدي وزين الدين البصراوي وعبد الرحمن الموصلي ومحمداً الحصري وعبد الرحمن التاجي وشاهين بن فضل الله وابراهيم السفرجلاني وعبد الباقي بن مغيزل وأبا بكر غصين البان وأحمد العطار وسليمان الحموي ومحي الدين السلطي ونجم الدين الغزي وأيوب الخلواتي وابراهيم الفتال وعبد القادر بن عبد الهادي وأحمد بن فرفور ومحمد بن حمزة وفضل الله العمادي واسمعيل بن عبد الغني النابلسي وغيرهم كثير وفي هذا الكتاب 369 ترجمة والأحرى أن يقال ترجمة

نثرية شعرية إذ لا يقصد منها التعريف بحقيقة المترجم وأحواله بل وصف أدبه وشعره والمبالغة فيهما وفيه من هذه الوجهة وإلا فقد استوفى المؤلف تراجم من ذكرهم هنا في كتابه خلاصة الأثر حتى لم يبق مجالاً لقائل. أما طريقته في وصف الرجال فقد سبقه إليها الفتح بن خاقان في قلائد العقيان والثعالبي في يتينة الدهر والخفاجي في الريحانة وابن معصوم في السلافة وهذا مثال منها قال في التعريف بعبد اللطيف المنقاري وهو مما تفهم منه درجة نثر المؤلف: ماجد استوفى شرف لارومة واستغلق مزية النسبة المرومة فما بات بتكميل النفس وجده وكلفه لأنه أتى الفضل وهو لعمري لا يتكلفه فهو معروف بأصله وفصله مشهود له بنبله وفضله له المقام الأحظى ومعارف التي ملئت سمعاً ولفظاً وهو منذ حلت عنه تمائمه ونيطت عليه همائمه مخطوب الحظوى عند الأنام حال من الالتفاف في الذروة والسنام تارة يستفيد منى وتارة يستفيد ثنا. تروى محاسن لفظه وكأنها ... درر وآراء كمثل دراري ومأثر قد خلدت فكأنها ... غرر وعزم مثل حد غرارٍ إلى أن فجع به المجد الأثيل وفقد من الدنيا فقد المثيل وله أدب نقده نض ومقتفه غض أخذت كلمه بمجامع القلوب وملك قلمه الغاية من حسن الأسلوب وقد أثبتت له ما تهديه برداً موشى وتستجليه خداً بالقلم الريحاني محشى فمن قوله من قصيدة بين حنايا ضلوعي اللهب ... ومن جفوني استهلت السحب وفي فؤادي عليل ممتزج ... يعاف إلا الديار تقترب يا بابي اليوم شادن غنج ... يعبث بالقلب وهو ملتهب يسنح لكم بصفحتي رشا ... والقد أن ماس دونه القضب ثغر وشاح يزينه هيف ... ليس كخود يزينها القلب إن لاح في الحي بدر طلعته ... يا برق إلا وفاتك الشنب تطفو على الثغر من مقبله ... حباب ظلم وحبذا الحبيب ألخ وله من قصيدة رسلها إلى ديار بكر يتشوق بها إلى دمشق ويذكر منتزهاتها سقى دار سعدى من دمشق غمام ... وحيّا بقاع الغوطتين سلام وحاد هضاب الصالحية صيب ... له في رياض النيربين ركام

ذكرت الحمى والدار ذكر طريدة ... تذاد كظمآن سلاه أوام فنحت على تلك الربوع تشوقاً ... كما ناح من فقد الحميم حمام يا صاحبي نجراي يوم ترحلوا ... وحزن الفلا ما بيننا وأكام نشدتكما بالود هل جاد بعدنا ... دمشق كأجفاني القراح غمام وهل غذت البان فيها موايس ... وزهر الربا هل أبرزته كمام وهل أعشب الروض الدمشقي غبنا ... وهل هب في الوادي السعيد بشام وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها ... تجول بها الأنهار وهي جمام وهل شرف الأعلى مطل وقعره ... على المرجة الخضراء فيه كرام وهل ظل ذاك الدوح ضاف وغصنه ... وريق وبدر الحي فيه يقام وهل ظبيات في ضمير سوانح ... وعين المها هل قادهن زمام وهل أموي العلم والدين جامع ... شعائره والذكر فيه يقام وهل قاسيون قلبه متفطر ... وفيه الرجال الأربعون صيام ألا ليت شعري هل أبيت بجلق ... وهل لي بوادي النيربين مقام وهل أردن ماء الجزيرة رائعاً ... بمقصفها والحظ فيه مرام سلامي على تلك المغاني وأهلها ... وأن ريش لي من نأيهن سهام لقد جمعت فيها محاسن وأصبحت ... لدرج فخار الشام وهي ختام بلاد فيها الحصاء درر ... عبير وأنفاس الشمال مدام وغرتها أضحت بجبهة روضها ... تضئ وخلخال الغدير لزام تناسيت عنها والفؤاد مشتت ... ووعر الفيافي بيننا ورغام لقد كنت أقضي من بعادي تشوقاً ... إليها وجسمي قد عراه سقام وقد ذكر المؤلف زمرة من نوابع بلغاء الروم قدم لهم مقدمة في وصف الأستانة فقال فيه بأندار خلافتها وأن تباين فيها اللسان ففي أهلها حذق لا يعقبه مزية وجدت في نوع الأنسان فسبحان من جمل جبالها السبع بمنزلة الأفلاك مطالع الأضواء ومغارب الأحلاك ومغرد طيور جملة الأملاك وسبب انتظام هذه الأسلاك فسما فيها الفرع السبق والأصل الثابت وطاب لعمري فيها المنبت والنابت كيف وهي حاضرة الدنيا وواحدة المفردة وأثينا ومجمع

أهل الفضل تنظمهم في سلك وتنزلهم فيما أنالها الله من ملك وملك وقد أمنت بحمد الله من الصايل وحمدت فيها البكر والأصايل ولها الخطوة التامة والمحاسن الخاصة إلى الخيرات العامة مع اللطافة المشربة بالغضارة والطلاقة المسكنة من مفاضل النضارة فهي قيعة الظل الأبرد وكناس الغيد الخرد ومهوى هوى الغيث الهاتن ومأوى اللفظ الساحر واللحظ الفاتن وبها المباني الشم الأنوف والقصور الجمة الحلي والشفوف رياضها وريقة أريضة وأهويتها صحيحة مريضة ومرابعها مراتع النواظر ومطالع المسرات النواضر تصبو النسمات إلى مسارحهاالرحاب وتبكي شوقاً إليها جنود السحاب ولعهدي بها إذ أخذت بدائع زخارفها ونشرت طرائف مطارفها وقد ساقت إليها أرواح الجنائب زقاق خمر السحائب فسقت مروجها مدام الطل فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحل هناك رأيت كل شعب يحدث من شعب يران وكل منظر يتجلى عن أشكال من الزهر والألوان. بسطت فوقه برود ربيع ... عندما زاره وفود الشمائل خط فيه كتاب توحيد ربي ... نقطة النور والمياه الجداول فتلته طيوره دراسات ... وأعادته مفصحات المنادل أغنت السمع عن مراء جدال ... راميات لثقل حمل الدلائل إلى آخر ما وصف به دار الخلافة العثمانية وقد أورد من أدبائها وشعرهم محمد بن لطف الله وعبد الباقي بن محمد الشهير بعارف والسيد عبد الله المعروف بابن سعدي وعبد اللطيف المعروف بانسي وشيخ الإسلام زكريا بن بيرام وولده شيخ الإسلام يحي وعلياً المعروف برضاي سبط المفتي زكريا ومحمد بن بستان المفتي وشيخ الأسلام أسعد بن سعد الدين محمداً البهائي وحسين ابن محمود المعروف باخي زاده وعبد الرحمن بن حسام المفتي وفيض الله بن القاق وعماد الدين بن أحمد طاش كبري قاضي العسكر والنقباء والأجلاء. وفي تراجم الشعراء وقصائدهم ورسائلهم التي أوردها الشاميين والحلبيين والعراقيين والحجازيين والمصريين والمغاربة نموذج صالح فيتصورات تلك الأقاليم وما كان يغلب عليهم وأسلوبهم في غزلهم وأماديحهم وأهاجيهم والغزل كثير وهذا الكتاب ومن الشعر ما لا تستطيبه النفس وليس فيه من المزايا إلا أنه موزون لكن معناه مبتذل وقد ظهر التكلف

بعض الشئ على المؤلف في ترجمة بعض من اوردهم لأنهم ليسوا في الدرجة المطلوبة من الفضل والأدب وأنما أضطرت الحال إلى التعرض لهم والثناء عليهم ولو كان اقتصر على المبرزين في عصره في الأدب والشعر على قلتهم لجاء كتابهم امتع وانفع فيما نرى وما نظن بعض الشعر الذي اورده في كتابه فكبرفيه حجمه وهو يرضى عنه وعن مثله. وهاك نموذجاً آخر من نثر المؤلف وشعره فمن فصوله القصار ذكرها في خاتمة كتابه قوله: في الأحاديث صحيح وسقيم ومن التراكيب منتج وعقيم للنفوس صبابة بالغرائب وإن لم يكن من الأطايب الروض إن لم يشكر الغمام بعرفه ففي وجهه شاهد من عرفه شفاعة اللسان افضل من زكاة الأنسان. ليست الأذناب كالأعراف ولا الأنذال كالأشراف إذا صحبت فأصحب الأشراف تتل الشريف فإن المضاف يكتسب من المضاف إليه التنكير والتعريف السلعة على قدر الثمن والحركة على قدر تنشيط الزمن أعمار الكرام مشاهرة وأعمار اللثام مداهرة. أععجب الأشياء فاسق يبحث في الحلال والحرام وآلمها للقلب جالسة اللثام للكرام. مثل ما يروج من الأشعار عند من لا يدري ميزان الأشعارمثل الأعاريب لم يروا خبز الحنطة فيكبرون خبز الشعير والقوم لم يروا لجة البحر فهم يعظمون ماء الغدير. وقال من أرجوزة له في الأمثال: إن اللبيب يعرف المزايا ... وكم خبايا لحن في الزوايا ورب جاهل لقد تعلما ... لا ييأسن نائم ان يغنما من غنم الفرصة أدرك المنى ... ما فاز بالكرم سوى الذي جنا الناس أخوان وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعهم بيت الأدم فالبعض منها كالغذاء النافع ... والبعض كالسم الزعاف الناقع وهكذا بعض الذوات روح ... والبعض منها في الحشا قروح ورب شخص حسن في الخلق ... وهو أشد من شجى في الحلق والدهر صرافله تصريف ... يروح فيه النقد والزيوف لذاك ضاعت خلص الأحرار ... كضيعة المصباح في النهار تعادل الفاضل والمفضول ... عرفنا الفضل من الفضول

ومنها: والناس إن سألتهم فضل القرب ... حاولت أن تجني من الشرك العنب هذا زمان الشح والأقتار ... مضى زمان الجود والأيثار من كلف النفوس ضد طبعها ... أعيا مما لا يرتجى من نفعها وإن من خص لئيماًبندى ... كان كمن ربى لحتف أسدا قد يبلغون رتباً في الدنيا ... لكنهم لا يبلغون العليا إن المعالي صعبة المراقي ... من دونها الأرواح في التراقي لا تستوي في الراحة الأنامل ... ورب مأمول علاه الآمل قد تورد الأقدارثم تصدر ... وتدبر الأقمار ثم تبدو بالجود يرقى المرء مرقى الحمد ... أن السخاءسلم للمجد وعوذ النعما من الزوال ... بكثرة الأحسان والنوال يضوع عرف العرف عند الحر ... وأنه يضيع عند الغمر ومن شعره: مذ قعقعت عمد للحي وانتجعت ... كرام قطانه لم ألق من سند مضى الأولى كنت أخشي أن يلمّ بهم ... ريب الزمان فلا أخشى على أحد فأفرخ الروع إذا شالت نعائهم ... وافسد الدهر منهم بيضة البلد ومن قوله: نفر في الدين مذ عبثوا ... بعدوا من خيره الزاهي فهم ما بين أظهرنا ... ففض من لعنة الله روي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت لمروان الت فضض من لعنة الله وقوله: أرى جسمي تحط به البلايا ... وما شارفت معترك المنايا فإن ابقاني المولى فأرجو ... بقايا منه في عمري نقايا معترك المنايا هو بين الستين والسبعين من سن أعمار الناس لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال اكثر اعمار امتي ما بين الستين والسبعين.

وقوله: من رام من حساده نصرة ... كان كمن بالنار يطفي الأنوار عين أصابت شملنا لا رأت ... شملاً غلى طول المدى يجمع كنت مستأنساً إلى كل شخص ... فأنا الآن نافر من كل شخص هذه نموذجات من نفحة الريحانة وهو في 630صفحة كبيرة علقت غليها حواشٍ لغوية وتاريخية جليلةفي ترجمة رجال النفحة ملخصة على الأغلب من خلاصة الأثر للمؤلف نفسه والنسخة التي تكلمنا عليها كتبها محمد بن الحاج باكير الحلبي الدمشقي سنة 1148وهي بخط مشرق جميل وعلى ورق ثقيل وبلغنا أن منه نسختين في بعض خزائن كتب دمشق الخاصة إذا صحت نية أحد على طبعه وجب عليه أن يرجع اليهما ويعتمد هذه النسخة لأنها صحيحة وقعت بيد عارف في الأدب واللغة فخدمها خدمة تليق بها.

تفاضل الشعراء

تفاضل الشعراء وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران وأجنحةٌ وخفق ولكن بينما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق (لأحدهم) مما لا يختلف به أثنان أن الشعراء يفضل بعضهم بعضاً كما تفضل الأصابع بعضها بعضاً. (فمنهم) من غاص في بحار التصورات وكان في عالم الأوهام فأدنى ذلك البعيد وصاغه بقالب الحقيقة لقربه من الأفهام. (ومنهم) من وصف ما هو منه أدنى من حبل الوريد. ولم يكن في نظمه غيرأوزانٍ وتقاطيع تسمع في نقر النحاس وطنين الأجراس ما هو أوقع منها في النفوس. بل ربما كان في تصويت الذباب إيقاع وتأثيرليسا فيها ولذلك قال بعضهم مفتخراً: ولا تحسبن أنّ بالشعر مثلنا ستصير ... فللدجاجة ريشٌ لكنها لا تطير وقال الأمير علم الدين أيدمر المحيوي: فإن لم يكن نظم القصائد شيتى ... وليس جدودي يعربٌ وأياد فقد تسجع الورقاء وهي حمامة ... وقد تنطق الأوتار وهي جماد وقال الشيخ ناصيف يازجي: من ضاع أكثر شعره في باطلٍ ... فكأنما قد ضاع أكثر (ويتفاضل الشعراء) بصور الخيال وجودة القريحة وصفاء الذهن والسواعي التي تحدث لكل منهم إذ للأحوال أسباب تحمل على الأجادة والأبتكار ومع هذا قد يخطئ من أجمع العلماء على مدحه واستحسان منظومه. فهذا عبد الله بن المعتزّ مع اشتهاره بانسجام أبياته وصحة معانيه قد قال في وصف كتاب: ودونكه موشى نمئته ... وحاكته الأنامل أيّ حوك بشكل يرفع الأشكال منه ... كانّ سطوره أغصان شوك فأخطأ الغرض إذ جعل سطور الكتاب شوكاً والشوك يذمّ ولا يمدح. وإن كان بينه وبين الشكل مشابهة وأين هذا من قول ابن قرناص: هو مالك قد أصبحت ألفاظه ... حلياً على جيد الزمان العاطل وكانّ أسطره خلال دروجه ... ظلّ النصون يلوح بين جداول

ومن قول الشيخ عبد الغني النابلسي على التشبيه: ولم تلهني كتب الرياض وقد حوت ... حروف غصونٍ للندى فوقها نقط ومدت من الأوراق جعد ذوائب ... كأن انعطافات النسيم لها مشط وقال أبي تمام الطائي: فإذا كتابك قد تخير لفظه ... إذا كتابي ليس بالمتخير وإذا رسومٌ في كتابك لم تدع ... شكاً لنظارٍولا متفكر شكل ونقطُ لايخيل كأنه ... الخيلان لاحت بين تلك الأسطر وقد يجيد شاعر ولا يجيد الآخرقال الهيثم بن عديّ لقوم: أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا فقيل بيت الزبير الأسدي وهو: وقد لاح في الغور الثريا كأنما ... به راية بيضاء تخفق للطعن فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت امرئ القيس: إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت ... تعرض أثناء الرشاح المفصّل فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت ابن الطثرية: إذا ما الثريّا في السماء كأنها ... جمانٌ وهي من سلكه فتسرعا فقال: أريد أحسن من هذا فقالوا ما عندنا شئ. فقال: قول أبي قيس بن الأسلت الجاهلي: وقد لاح في الصبح الثريّا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حين نورّا قال: فحكم له بالتقدم عليهم في هذين المعنيين وقال الشيخ أحمد المقري في كتابه (نفح الطيب في تاريخ الأندلس الرطيب) في مناظرة فضل فيها شعراء الأندلس ما نصه: وهل منكم شاعرٌراى أن الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم والخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً. وكليله في الأفكار حديداً. فأغرب أحسن أغراب. وأعرب عن فهمه بحسن تخيله انبل أعراب. وهو أبن الزقاق: واغيدٍ طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا

قلنا: ولأين الأقاح قال لنا: ... أودعته ثغر من سقى القدحا فظلّ ساقي الدام يجحد ما ... قال فلما تبسم أفتضحا وقال أيضاً: أديرها على الروض الندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماض وكاس الراح تنظر عن حبابٍ ... ينوب لنا عن الحدق المراض وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض وقال أيضاً: ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى لها نسيم الرياح زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح قال المقري: فانظر كيف زاحم بهذا الأختيال المخترعينوكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين أ. هـ وسمع بعضهم قول القائل: فلا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر فقال: هذا حسن جيد. ولكن قول القسطليّ أفضل. وهو: أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ ... وكلني لليث الغاب وهو هصور فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير وتنبو الرّدينيات والطول وافرٌ ... ويبعد وقع السهم وهو قصير ومن ذلك أن عمر بن الشهيد أنشد المعتصم من قصيدة قوله: سبط البنان كأن كلّ غمامةٍ ... قد ركبت في راحتيه أناملا لا عيش إلاّ حيث كنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا فالتفت المعتصم إلى من حضر من الشعراء وقال لهم: هل فيكم من يحسن أن يخلب العقول بمثل هذا؟. فقال أبو جعفر الخرّازالبطوني: نعم. ولكن للسعادة هبات وقد أنشدت قبل هذا أبياتاً أقول منها:

وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد ثمار ايادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظلٌ عليّ ممدّد يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرد فأرتاح المعتصم وقال: أأنت أنشدتني هذا؟ قال: نعم. قال: والله كأنها ما مرّت بسمعي إلى الآن. صدقت للسعد هبات. ونحن نجيزك عليها بجائزتين. الأولى لها. زالثانية لمطل راجيها. وغمط إحسانها (اه) و (من ذلك) أن أعربياً دخل على ثعلب وقال: أنت الذي تزعم أنك أعلم الناس بالأدب. فقال. كذا يزعمون فقال أنشدني أرق بيت قالته العرب سلسلة فقال: قول جرير إن العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحين قتلانا يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أنسانا فقال: هذا الشعر غث رث قد لاكته للسفلة بألسنتها. هات غيره فقال ثعلب: أفدنا من عندك يا أعرابي. قال: قول سلم بن الوليد صريع الغواني: نبارز أبطال الوغى فنبيدهم ... ويقتلنا في السلم لحظ الكراعب وليس سهام الحرب تفني نفوسنا ... ولكن سهامٌ فوّقت بالحواجب فقال ثعلب لأصحابه: أكتبوها على الحناجر ولو بالخناجر (ومن ذلك) قول الشاعر المخزومي: العيب في الخامل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور كفوفة الظفر تخفى من حقارتها ... ومثلهافي سواد العين مشهور فقال آخر بمعناه: قد تخفض الرجل الرفيع دقيقةٌ ... في السهو فيها للوضيع معاذر فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر وقال الخفاجي: كم من عيوبٍ لفتىً عدّها ... سواه زيناً حسن الصنع فتكتهُ الياقوت مذمومةٌ ... وهي التي تحمد في الجزع وربما جاء الشاعر بمعنيين أحدهما يفضل الآخر كثيراً كقول بشار بن برد:

إنما عظم سليمى حبّتى ... قصب السكر لا عظم الجمل وقال بشار نفسهفي موضع آخر بالمعنى نفسه وهو بليغ: إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران فأنظر الفرق بين قوليه والتفاوت بين خياليه ومن أعجب ما يروى عن بشار هذا أنه سمع قول كثير بن عبد الرحمن: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين فقال: قاتل الله أبا صخر يزعم أنها عصا ويعتذر أنها خيزرانة ولو قال عصا مخ. أو عصا زبد لكان قد هجن مع ذكر العصا فهلا قال كما قالت: ودمجاء والمحاجرمن معدٍ ... كأن حديثها ثمر الجنان إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران ومن المعاني ما يفضل بعضه بعضاُ بدرجات كثيرة مثل قول بشاربن بردالآنف ذكره: وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلب المسك على ريح البصل فأساء تخييلاً ولعله أكل البصل فكل ذهنه ولم يتصور ألا ما أكله أين هذا من قول المتنبي: تحمل المسك عن غدائرها الريح ... وتفترّعن شنيبٍ برود ومن تفاضل الشعراء ما رواه الهيثم بن عدي قال: كنا جلوساً عند صالح ابن حسان فقال لنا أنشدوني بيتاً في امرأة خفرة شريفة فقلنا قول حاتم. يضئ بها البيت الظليل خصاصة ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسما فقل: هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا فقلنا: قول الاعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها ... كرّ السحابة لا ريث ولا عجل فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الأختلاف فقلنا ما عندنا شئ فقال: قول أبي قيس بن الأسلت: ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن أتيانهنّ فتعذر وليس لها أن تستهين بجارة ... ولكنا منهنّ تحيا وتحفز وكثيراً ما يختلف حكم الشعراء في أمرين أو أكثر مثل قول ابن الرومي: أن يخدم القلم السيف التي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم

فالموت والموت لا شئ يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم كذا قضى الله في الأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أن أرهفت خدم وقال في ضد هذا أبو الطيب المتنبي: حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيفّ ليس المجد للقلم وقال في مثل ذلك أبو تمام الطائي: السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حده الدّ بين الجدّ واللعب ولقي خالد الكاتب أمد طلبة المبرد فقال له: ما الذي أنشدكم اليوم؟ قال: أنشدنا: أعار الغيث نائله ... إذا ما ماؤه نفدا وأن أسدٌ شكى جبناً ... أعار فؤاده الأسدا فقال خالد أخطأ القائل هذا الشعر. قال كيف قال خالد ألا تعلم انه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد قال الطالب: فكيف كان يقول؟ قال علم الغيث الندى حق إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد فله الغيث مقرٌ بالندى ... وله الليث مقرٌ بالجلد وأجتمع أبو العتاهية مع محمد بن مناذر فقال له: كم تنظم من الشعر في اليوم؟ فقال له: لا أنظم القصيد إلا في الشهر أو الشهرين فقال له أبو العتاهية: أما أنا فقد يتفق لي في اليوم من النظم الألف فأكثر فقال له نعم أنت تنظم ذلك ولكنك تنظم مثل قولك: ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة وقولك: أتراني يا عتاهي ... ناسياً تلك اللاهي أما أنا فأنظم مثل قولي في رثاء عبد المجيد الثقفي: إن عبد المجيد يوم تولى ... هدّ ركناّ ما كان بالمهدود ما درى النعش لا ولا حاملوه ... ما على النعش من عفافٍ وجود ويظهر تفاضل الشعراء في باب (المآخذ الشعرية) حتى أن الآخذ ربما أجاد وزاد على المأخوذ منه وربما قصر وتأخر منه ولقد نشرت في بعض المجلات كثيراً من المآخذ

الشعرية ولا سيما الشعراء بعضهم عن بعض وفي ذلك مسرح لخيال الشعراء ومجال لأحكام أفكارهم الدقيقة في التفاضل وإليك والآن بعض ما صرح به بعض المدققين من هذه المآخذ أوعن لنا قال المجي في خلاصة الأثر: أن قول لطفي بن المنقار الدمشقي: ظعنّ والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضنى نهب من فوق خلي وضعت يدي ... فلم أجده وصدها اللهب هو أدق من قول المتنبي: ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها وقال أبو العلاء المعري: يُنا في أبن أدم حال الغصون ... فهاتيك أجنت وهذا جنا تغير حناؤه شيبه ... فهل غير الظهر لما أنحنى فأخذه الآخر وتصرف بمعناه بحسب خياله فقال وقد أخرجه مخرج الحكمة وأجاد حتى فضل الأول رشاقة: يا من يدلس بالخضاب مشيبه ... إن المدلس لايزال مريبا هب ياسمين الشيب عاد بنفسجاً ... أيعود عرجون القوام قضيبا ومن أبيات الحماسة في هذا الباب قول أحدهم: أن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا صمٌ إذا سمعوا خيرّا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوءٍعندهم أذنوا جهلاً عليّو جبناً عن عدوهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن ومنه تناول القائل قوله (ولي إذن عن الفحشاء صماً) والآخر (إذن الكرام من الفحشاء صماء) ولكن بعضهم زاد على المعنى فقال وله الفضل بالسبق في التقسيم: مستنجدٌ بجميل الصبر مكتئب ... على بني زمن أفعالهم عجب أن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شراً لشاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا إلى غير ذلك ما يدل على تفاضل الخيال وتفاوت التصور ويرجع إلى جودة القريحة وصفاء الذهن وفوق كل ذي علم عليم. (زحلة)

عيسى اسكندر المعلوف

البيزرة وكتاب فيها

البيزرة وكتاب فيها أبواب الباب الأول في أولية الصيد واتخاذ البزاة - قال أدهم بن محرز من أهل المعرفة بالجوارح: إن أول من أضنى الصقر الحارث بن معاوية وهو أبو كندة في زمانه فإنه وقت يوماً على قانص قد نصب شبكة للعصافير فانقض صقر من الجو على العصافير التي في الشبكة ليحصل فيها طعمه فلما رآه الحارث أخذه إلى منزله وشده وبقي أياماً يراعيه ويؤنسه فأنس وصار إذا رمي له الطعام أكله وإذا رأى الحمام نهض إليه باتخاذها وتعليمها ورآه يوماً وقد ثارت أرانب في الصحراء بين يديه فطلبها وأكثر النهوض إليها فاقتنصها بعد أن سفها عدة دفعات وصارعها وبعد ذلك علمه على الظبي فأخذه ثم اتخذها العرب وصارت في أيدي الناس وأما الشاهين فإن بعض ملوك الروم رآه يوماً وهو في السماء محلق ثم أنقض على طير ماء فضربه ثم أرتفع دفعات فقال هذا طير ضار فأمر بأن ينصب له فنصب واصطيد واضري وصار يصطاد بين يديه وذكر سعد بن عفير عن هاشم قال خرج قسطنطين ملك الروم يوماً للفرجة فعبر إلى مرج بين الخليج والبحر فرأى شاهيناً ينكفي على طير الماء فأعجب بما رأى من سرعة أنقضاضه والحاجة على صيده فأمر أن ينصب له ويصطاد ففعل لما حصل أمر أن يضرى ويعلم فكان قسطنطين أول من لعب بالشواهين ولما رأى ذلك المرج وطاب له وأعجبه موضعه بين الخليج والبحر أمر أن تحدث هناك مدينة وبنى فيه وبنى الناس وسماها باسمه القسطنطينة وقال الغطريف أول من لعب بالعقبان أهل المغرب وأن حكماء الروم لما رأوا شرها وقوة سلاحها وعظم خلقها قالوا هذه التي لا يقوم خيرها بشرها. الباب الثاني في صفة خلق الضواري ومنازلها وأجناسها وما قال أهل المعرفة في كل واحد منها تفضيل بعضها على بعض - قال الغطريف وأدهم بن محرز أن الله تعالى خلق هذه الجوارح على مراتب بحيل بعضها عن بعض وهوي بعضها عن بعض وتختلف أجناسها وهي خمسة أجناس وست مراتب فالأجناس الطرفيل والباز والسنقر والصقر والشاهين والعقاب فأما

الطرفيل فهو أفضلها وأجلها لا يحصل في الزمن إلا للملوك واحداً بعد واحد في الأحايين لعزة وجوده فينتقل من ملك إلى ملك ومأواه بلاد الخزر فيما بين خوارزم إلى بلاد أرمينية وقيل أنه لا يعقر بمخلبه شيئاً إلا سمه بحيث أنه كلما برأ جرحه عاد حتى أنه يستمد له عند وقوعه بالدستيانات القوية المحشوة ويتقي بازياريه عقره بمخلبه وهو مجتمع الخلقة عظيم الهامة رقيق الكنيد واسعاً يصيد البازي والشاهين وإذا أطلق على رف كراك فإنه لا يقنع بأقل من عشرة وأي شئ طار له أقتنصه ويليه من بعده البازي الذي هو دون الوافر ويسمى النهيمي بالفارسية ثم الزرق - زنة سكر - وهو في خلق البازي وهو أسمه في العراق وفي الحجاز والشام ومصر يسمونه الساف ويصيد بعد دق البازي - الحقير من البزاة - وما دون ذلك إلى العصفورثم يليه طير أصغر منه يسميه أهل العراق وأهل الحجاز العصفى ويسميه أهل الشام ومصر البيدق صيده السماني والعصافير والجنس الثالث الشاهين وهو ما دونه من أشكاله أربع درجات بعضها أرفع من بعض وكلها على خلق واحد وطبع وأحدها الشاهين وهو أجلها وأفضلها ثم يليه الأنيقى وهو نصف شاهين وسميه أهل العراق الكرك (كذا) ويلعب به أهل الشام والروم ولايصيد صيد الشاهين كله ثم يليه البؤبؤ ويسمي أهل الشام ومصر الجلم - المقص أو المقراض - لخفة جناحيه وهي صغار حادة الرؤوس حادة الأنفس شديدة الصبر تقتل الكركي البرية وما دونها من عصافير الصحراء إلا أنها تتعب بازياريتها لكثرة تنقلها بصيدها ثم يليه القطامي ويسميع أهل العراق الفيزجة وسميه أهل الشام ومصر العوسق وهو طير لطيف يشبه الشاهين في سواده سريع الطيران أسرع طيراناً من البؤبؤ يصيد بها صبيان الشام ومصر العصافير والقنابر ثم الصقر ودونه من أشكاله وهي ثلاث طبقات بعضها أجل من بعض وكلها خلق واحد وطبع واحد أحدها الصقر وهو أجلها ثم يليه الكونخ وهو أسمه بالعراق ويسيه أهل مصر والشام والحجاز السقاوة ويكون بالمغرب والعراق ويصيدون الصقر ولا يأخذ طير الماء إلا النادر من جنسه ولكنه يقتل الأرانب والكروانات ثم يليه السنك وهو أسمه بالفارسية وتفسيره الحجر وهو أزرق العينين يصيد ما يصيده الباشق إلا أنه دونه في الصيد وهو أقوى من الباشق جسماً واضرى وأصبر. ثم العقاب والزّمج - مثال خرد - وأولها العقاب وأجلها وأفضلها لأنه يقتل الظباء والثعالب وبعده الزّمج وهو يصيد الكركي والأرانب وما

دونها ولا يقدر على الظبي. الباب الثالث في ذكر ما يصلح من غير الضواري أن يربى تربية الضواري ويضرى ضرايتها فيصيد - قال أهل المعرفة والعلم بالجوارح أن الغراب الابقع والحداة التي تصيد الفاو متى أخذ الأنسان من ولد الغراب الابقع فرخاً يكون أكبر فراخه صغيراً زغباً ويربيه تربية الضواري وأطعمه طعم الضواري وأنسه تأنيسها وحمله على يديه وعوده ذلك واستجابة كما يستجيب فراخ الضواري وكسر له مرةً وثنتين الدراج وذبحه في كفه وأشبعه عليه فإنه يصيده فيما بعد وكذلك فرخ الحداة الذي لا يكون مسرولاً بالريش وهذان الفرخان يصطادان فراخ الحجل والدراج إذا ضريا وعلما كما تقدم. الباب الرابع في معرفة ذكور الباز من إناثها - قال الحكماء أن ذوات المناقير هي الطير التي لا تصيد وتسميها العرب بغث الطير تكون الذكران منها أعظم أجساماً وأنبل خلقاً من الإناث وتكون الإناث ألطف مقداراً وأصغر أجساماً من الذكران. وذوات المناسر التي تسميها العرب سباع الطير والضواري تكون ألطف خلقاً وأكبر أجساماً وأضخم حجماً وأبهى في الأعين أناثها من ذكرانها وعلى ذلك فقس في البازي والصقر والشاهين وما يجري مجراها. الباب الخامس في مدح البزاة وما وصف من فضلها_قال خاقان ملك الترك البازي شجاع وقال كسرى أنو شروان البازي رفيق حسن لا يأخذ إلا في وقت الفرص وقال قيصر البازي ملك كريم أن جاع أخذ وأن استغنى ترك وقالت الفلاسفة حسبك من البازي سرعته في الطلب وقوته في الرزق لاسيما إذا قوادمه وبعد ما بين منكبيه وذلك أبعد لغايته وأجد لسرعته الا ترى أن الصقور والشواهين تطيل مدى طلتها في طرد الصيد ولا ترجع عنه حتى تدرك غايته أو تصل إلى التبنج - لعله التشنج - فيتحصن به منها ولا يلحقها ضجر في ذلك وذلك لطول قوادمها وكثافة أجسامها وقال أرسيخاس الحكيم أن البازي طير عاري الحجاب وهو أضعف الطير شحماً وأشجعه قلباً وفي طبعه حرارة تزيد على حرارت باقي الجوارح وقال وجدنا صدورها منسوجة بالعصب من اللحم وقال جالينوس الدليل على صحة قول

أرسيخاس في فرط حرارة الباز أنه لا يتخذ لنفسه وكراً إلا في قعر وادٍ كثير الدغل من غير أن ينتقل فلو أن الدليل على حرارته سرعة حركته وعلوه في الطيران وشراسة خلقه وضرائه وقوة مخالبه وعظيم نفسه لكان أفضل ويطلب برودة الوادي لتواري قعره عن الشمس بكثرة الدغل وانحرافه عن سمت الشمس وإذا حصل الباز في أرض قليلة الدغل والشجر تراه يطلب لحف الجبل أو مرتفعاً من الأرض ذا ظلٍ وشعاب يستتر بها أو يكن ولرقته وترفه أيضاً لا يقدر على البرد والدليل على ذلك أن البزاة لا تشتي في بلادها وتطلب البلدان الدافية فإذا ذهب الشتاء وقرب الصيف عادت إلى بلادها ومواضع أعشاشها مثل بلاد أرمينية وأفريقية وجرجان وما شاكلها وكل أقليم يكون كثير الأشجار والدغل فإنها تطلبه لأن أوكارها تكون هناك ولهذا يشد تحت أرجلها وفوق كنادرها - مجاثمها - في زمان البرد والقر الشديد قطع اللبود وجلود الثعالب وغيرها من الأوبار فإنه متى غفل عنها في الشتاء ربما يلحقا من البرد قصر فتموت وكذلك في الصيف يتخذ لها المواضع الهوية المحتجبة عن حر الشمس وتتعاهد بالغسل وفرش الرمل الندي. الباب السادس في سفادها ومعرفته وما تتفرع إليه أخلاق البزاة - قال حكماء الهند أن الأناث من البزاة إذا حان وقت سفاد الطيور وهيجانها يغشاها جميع ما تصادفها من أجناس الضواري من البزاة وغيرها من الزرق إلى الحداة المعروفة والصقر فإنها تعلق من جميع ما يسفدها وليس لها بدّ من زرّق تألفها وتلبث معها على بيضها فلهذا السبب يختلف طبع البزاة وجواهرها في ذكائها وفراهيتها وأدبها وشراستها وقوتها وضعفها وجرأتها وجبنها مما يغشاها من الجوارح المختلفة فتفرغ عنها والدليل على صحة ذلك القول أن البازي يصطاد بالطبع من الكركي إلى العصفور جليلاً ودقيقاً فأي بازٍ لم يصد ما ذكرناه فليس هو بزر بازٍ خالص ويكون نغلاً من بزر تلك الجوارح. الباب السابع في نعت أفره أجناس البزاة قالت الحكماء أن خير البزاة الأرقية والبارقية (كذا) وهي أرمينية وبزاة بلد الديلم وبزاة بلد أفريقية وهذه خيار أجناس البزاة وعلامة الأرقية أنها تكون شهل العيون وإن وجدت منها

طيراً أسود الظهر أكحل العين فهو الغاية في الفراهية وعلامة البارقية أنها تكون كحل العيون سود الظهور وكحل عيونها يكون وهي فراخ فإذا قرنصت أحمرت وتكون كبار الأكف عظيمة الجثة وعلامة الديلمية أنها تكون كبيرة الخلق كثيرة الريش غائرة الأعين مشرفة الحواجب زرق العيون واسعة11 وبيض الأكف قال بهرام أخو كسرى وكان مغرماً بالصيد أن خيار البزاة الرومية وبعدها الأرمينية والخزرية فهي تقارب الرومية وأما الهندية والصينية فدون الأرمينية وفوق الحبشية وشر البزاة جميعاً الحبشية. الباب الثامن في صفة ألوان البزاة - وأفضلها أن يكون الريش الذي حول أست البازي ويسمى النيفق وشياً مثل وشي صدره والدائرات التي على ريش ذنبه متطاولة كهيئة أظلاف الغزال ويكون أول ريشة في الذنب من الجانب الأيمن ومثلها من الجانب الأيسر كثيرة السواد من أولها إلى أخرها ومن ألوان الفره منها الأحمر الشديد الحمرة والأزرق الغالب عليه السواد الغليظ خطوط الصدر والأشهب شبه الأبيض ثم الأبيض الأصفر. الباب التاسع في نعت ما يستحب من شياة البزاة وخلقها - يختار للبازي أن تكون ركبتاه مخدرتين ضخمتين وكذلك مفاصل أصابعه ويكون الذي فوق أصابعه من الريش مما يلي نيفقه طويلاً بحيث إذا حمله بازياريه يصل ذلك الريش إلى يده وهو علامة الفاره عند أهل المعرفة ويكون من البزاة الصغيرة السيقان والأكف وإذا كان البازي طويل القوادم والأكف قصير الخوافي والذنب كان الغاية في طلقه وكان شبهاً بالشاهين والصقر لأنهما على هذه الصفة فإذا كان البازي كما وصفت لك وكان رمحي الوجه ضخم المنسر غاير العينين بعيد ما بين المنكبين عريض الفخذين قصير الساقين كان المختار الفاره. الباب العاشر في نعت أفضل الذكور من البزاة - قال الغطربف زعم أهل المعرفة بفره البزاة من طراخنة الترك وحكماء الفرس وعلماء الروم أن أفضل للذكور من البزاة وما كان ضخم المنسر واسع العينين رحب مدار الأذنين قصير الخوافي صلب اللحم رحب المزدرد واسع الحوصلة عريض المنكبين منفرج الصدر طويل القوادم قصير الخوافي شديد مجس

الفخذين قصير الساقين واسع الكفين أسود المخاليب كان طوله في عرضه شديد الأنتفاض كثير الأكل متتابع النفس سريع الأستمراء ضخم السلاح واسع الأست بعيد الذرق كأنه إذا أستقبله يقع على يد حامله شبيه الخلق بالغراب الابقع فإن وجدت في مؤخرة هذا سواداً غالبا لصفرته فذلك الطير الفائق النادر القليل المثل وإن كان لسانه أسود فقد أكمل الصفات الحسان. الباب الحادي عشر في نعت أفضل الإناث من البزاة - والموصوف من إناث البزاة ما كان صغير الرأس عظيم المنسر رحيب الشدقين واسع العينين صافي الحدقة تام العنق طويل القوادم لين الريش واسع الزمكى صغير الذنب وكان مؤخر ذنبه مغروزاً ويكون أخضر الرجلين ممكن الفخذين قصير الركبتين عاري الرجلين من اللحم كثير الأكل سريع الأستمراء فإذا كمل في البازي الأنثى ذلك كان الغاية الجيدة. الباب الثاني عشر في نعت ما يقتل عظام الطير من البزاة - قال أهل المعرفة إذا أردت أن تتخذ بازياً يقتل عظام الطير كالكركي وما شاكله فعليك بالبازي الطويل الوجه كأن وجهه الرمح الأقني السديد المحجز المنخرين الغاير المشرق الحاجبين الأزرق الشدقين التام العنق الأحمر اللون اللين الريش قليلة ويكون بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر عظيم الزور طويل القوادم ضخم الزمكة طويل الفخدين شديد عظام الساقين أبيضهما قصيرهما واسع الكفين أبيضهما مخدد الركبتين حالك سواد المخاليب رزين الوزن جرجاني المعدن أو خزريه والله أعلم. الباب الثالث عشر فيما يتخذ من البزاة لصغار الطير - يتخذ لذلك البازي الأصبهرح أوسرخ ديرج (؟؟) أو الأبيض ويكون من بازات خراسان أو خوارزم أو من بزاة الأيواب. الباب الرابع عشر في نعت أسرع البزاة وأقدرها على التحليق والسمو في الجو - قال الغطريف أجمع أهل العلم بالضواري أن البازي إذا كان ضارباً إلى البياض والشبهة كان أسرع البزاة وأحسنها وأسهلها رياضة وأقواها على السمو لأن البازي الأشهب والأبيض فيهما من الحرارة ما

ليس في غيرها لأن بياضهما لكثرة الثلج في بلادهما من أرمينبة والخزر وجرجان وبلاد الترك قال خاقان ملك الترك أن بزاة أرضنا إذا سقطت فراخها سمت إلى الهواء البارد فأنزلت طيوراً تسكن هناك أبداً فتغذي فراخها بتلك الطيور حتى تقوى فتنهض فبعد ذلك تتغذى بما تصيد وربما وجد في أوكارها أطراف تلك الطيور وأشلاؤها. وسئل جالينوس هل يجوز أن يسكن في الجو حيوان؟ فقال الهواء حار رطب والبرد يعرض فيه لقوة الرياح المرتفعة فلا يخلو المزاج من أن يسوي فيه ساكناً!!!. وقال بليقس إذا كان هذان الأستقصّان الأسفلان يعني التراب والما لا يخلوان من ساكن فكذلك الأستقصان الأعليان يعني الهواء والنار لا يخلوان من ساكن. الباب السادس عشر في صفة ما لا يختلف الظن فيه من البزاة - قال إذا أردت أن تتخذ البازي الفاره وتعرف جوهره وأشكل عليك ذلك فأعمد إلى أجمعها خلقاً وأشدها انقباضا وأرزنها محملاً وأصفاها وأوسعها عيناً وألينها ريشاً وأعظمها منسراً وأسرعها أستمراءً وأشدها تشميراً وأكبرها سلاحاً فذلك البازي الذي لا يختلف ظن صاحبه فيه. وقال أهل الصيد يشترون البزاة بالميزان فما كان أثقل كان ثمنه أوفى ولا يسألون عن خيارها ولا عن ألوانها ويقولون قد يوجد في البزاة بخلاف ما وصف به فره البزاة فيكون مضطرب الخلق كثير الريش طويل الذنب مضاداً لفره البزاة ويكون صيوداً وذلك نادر والنادر لا يعتبر به فاعلم بذلك. الباب الثامن عشر في أقل البزاة أجابة وأعسرها رياضة - قالوا أن نفار البازي وسوء أدبه وعسر أجابته يكون من ضعف نفسه وجبن قلبه وقلة صبره على التأنيس والبازي المقرنص تكون فيه هذه الصفة وكل بازٍ يشرف حاجباه عل عينيه ويشتد بياضها ويكون لونه أحمر يضرب إلى البياض فهو بطئ الإجابة سيئ الخلق شديد النفار فإن أتفق في البزاة ما يكون بهذه الصفة المقدم ذكرها وكان في أخلاقه لينة وفي إجابته سهولة فإنه يكون أفره البزاة وأكثرها جوهراً وقل أن يوجد له نظير. الباب التاسع عشر في شر البزاة وأدبرها - المذموم منها ما كان ضخماً عظيم الهامة متكاثف ريش العنق

مسترخي اللحم قصير القوادم قصير الفخذين رقيقهما طويل الساقين جعد الكفين صغيرهما ولونه يضرب إلى السواد فاجتنبه فإنه شر البزاة وإذا رأيت البازي ضخماً كثير الريش فيه يسوسه كدر اللون إذا خرج من لبيت يظن أنه قد خرج من القرنصة لكثرة نفور أحمر العينين منزعجهما وإذا قد على كندرته يثب على وجه بازياريه كان يريد أن يأكله إن هزلته سقطت همته وإن أشبعته هرب منك فلا تقربنه فإنه ردي فاعلم ذلك. الباب العشرون في صفة الشواهين وما قال العلماء بها - قال الغطريف وأدهم بن محرز الشاهين أسرع الجوارح وأشجعها وأخفها جناحاً وأحسنها تكفيفاً (لعله تكيفاً) وأستقبالاً وأدباراً أضراها على الصيد إلا أن في بعضها الغدر والأباق وسببها حرصها على الصيد لا أن الغدر فيها طبيعة وخلق وذلك أنها إذا أدبرت وارتفعت وطال دورانها ولم يطر تحتها شئ تنظر إلى البعد طلباً للصيد فيلوح لها فتطلبه ةلا يدركها البازياريه ولا يهتدون إلى مطارحها فيضلون عنها وربما ظفرت بالصيد فأكلته وشبعت عليه وطارت فأوكرت على عض القمامات أو الأشجار والبازياري لا يراها فيقال أنها تعذر لهذا المعنى وقال أرجناجيس الحكيم وجدنا الشواهين صدورها منسوجة بالعصب مجدولة باللحم ووجدناها أقوى الطير من بين الجوارح وأصلبها عظماًَ وأشدها عصباً وأكثرها لحماً وأرقها أفخذاً فلذلك صادت بصدرها وتعلق صيدها بأكفها وقال حكيم اليونان خد مقرنص الشواهين مما قرنص في البيوت فإنها تزداد بالقرنصة ذكاء وجودة وفراهة وأما القرنوص الوحشي فلا تقربنه فما فيه نفع له صلة النجف محمد رضا الشبيبي

تربية الأطفال

تربية الأطفال لا يجهل حالة الزمن الحاضر وخطورة أمره فإن إعلان الحرب وتفشي الحميات والأوبئة في دمشق وأرباضها وبقاء أكثر العائلات من دون رجال لتجنيد الآباء والأبناء كل ذلك يستدعي النظر ويستحق الاهتمام. تضم الفيحاء بين جدرانها اليوم عدة مكاتب تطوف تلامذتها الشوارع في الأيام الرسمية حاملة الأعلام منشدة الأناشيد صادحة الموسيقى لتظهر للملاء تقدم المعارف ورقبها وربما ظل بعضها حتى نصف الليل طائفاً في الخارج مما نص نظام تربية الأطفال على منعه وقضى بعدم جوازه والواجب أن يبرحوا مدرستهم وأن لا يقيموا مجتمعين في محال مغلقة النوافذ رطبة ضيقة الأكتاف مراعاة لحالة الوقت والصحة. تقسم درجات المكاتب بوجه عام إلى ثلاث عالٍ وتال وابتدائي وسيدور البحث هنا على أولئك الصغار طلاب المدارس الابتدائية لحرمانهم من قوة الإدراك ولكونهم لا يعرفون شيئاً سوى التقليد وما هم في الحقيقة إلا كالببغاء تردد ما تسمعه خلافاً لرفاقهم تلامذة القسمين الباقيين فهم يفرقون بين النافع والضار ويميزون بين الخبيث والطيب. وعندي أن من الخطأ إرسال الأطفال إلى المكاتب في مثل هذا الزمن وترى الأهالي في البلدان التي نما فيها هذا الفن وأزهر يعتنون بتربية أطفالهم في المدارس أكثر من البيوت أما نحن فبالعكس فإننا مضطرون إلى تربيتهم في البيت إن أكثر ما ينجم من الأضرار عن إرسال هؤلاء إلى المدارس ناشئ عن حبهم للتقليد كما أسلفنا فتراهم مثلاً يشربون ماء بردى الممنوع تجرعه صحياً اليوم ولا يحجمون عن ابتياع الفواكه الفجة الممنوعة كالمشمش والخوخ وغيرهما من بقية الأثمار وما يتناولونه من المتليكات ويأكلونه بشراهة مما يكون عاملاً مهماً في سراية الأمراض وانتشارها ولقد ثبت بالاختبار والتجربة أنه إذا أصيب فرد من عائلة بمرض فإن نصيب هذه العائلة الشقاء إذا لم تتخذ التدابير الفنية والاحتياطات اللازمة فلذلك كان من الضروري العناية بتربية هؤلاء الأطفال في العش الذي فيه درجوا والوكر الذي منه خرجوا بعرفة أسرهم في محيط متأخر تضاءلت فيه أنوار العلوم وانحطت الأخلاق وفسدت التربية كهذا المحيط إنقاذاً لهم من شقاء محتم وحفظاً لحياتهم وصوناً لمستقبلهم وهذا على ما أرى لا يحتاج إلى عناء وفرط اهتمام بل هو غاية في السهولة

أذكر الآهلين بأن عليهم أن يلقنوا أطفالهم في بيوتهم المعلومات العادية البسيطة عن كل ما يحيط بهم من المرئيات والأشياء لتتسع دائرة أفكارهم وتنفتق براعم أذهانهم خدمة لهم ولوطنهم فإذا شاهد الجند تجتاز الشوارع يخبر عن الحادي لهم على الانتظام في سلك الجندية وعن السر في كونها إجبارية وعن الواجبات الوطنية وعن حقوق الوطن ويسرد له على سبيل الحكاية أحوال المملكة وموقفها من الأعداء. ويبين له الماء الطاهر من الماء الآسن وفوائد غسل اليدين قبل الطعام وبعده وشدة لزوم تعلم القراءة والكتابة وتأثيرهما في رقي الأمة والوطن وتاريخ الحكومة وجغرافيتها وأسباب سراية الأمراض وطرق الوقاية منها وذلك بأسلوب سهل لذيذ يستميل الثابت ويدعوه للاستزادة منه وعدم السآمة من سماعه. 11. العناية قبل كل شيء بإنماء العاطفة الدينية في نفسه والبحث له عن الطهارة والنظافة والدين والإيمان ومتى أنس منه مللاً أو ضجراً يجب طي ذلك الحديث وتنبيهه للطريق القويم بأقاصيص لذيذة وأحاديث مفيدة. نمو الأطفال أهم أسباب نماء الأطفال طريفة ألباسهم وإطعامهم وتربيتهم وتدريسهم فهم متحاجون لجسم سليم تتوقف عليه طريقة الإلباس وجودة التغذية ليفكروا جيداً ويجتهدوا ويفقهوا والعقل السليم في الجسم السليم كما يقولون. ومن الخطأ الفادح أن يمقط الطفل عقب ولادته بمختلف التماطات من صوف وقطن وخام ويبالغ في أسباب وقايته من الحر والقر وترضعه المرضع كل حين ويلبّس صدرة أو يلف في خرق عند نزع القماط عنه ويبيت في غرفة مغلقة النوافذ لا يتخللها هواء ولا تخطر فيها أنوار ذكاء بل يجب أخراجه صباحاً ليستفد من شمس الصباح وأن يحمل إلى الأماكن التي يكثر هواؤها ويعود عند أماطة قماطه الحر والبرد بقدر الإمكان وأما أمر الإرضاع وأصول التغذية فهو بحث آخر له في هذا الباب من المكانة النصيب الأوفر فيجب أن لا ترضع الطفل سوى مرضعه ولا بأس من أرضاعه لبن البقر لكونه أجزل فائدة اللهم إذا كان خالياً من المواد الضارة عارياً من الشوائب معتنى أشد الاعتناء بفحصه وتطهيره. ٍوخير أنواع اللباس وأفضلها لتنمية الرضع عند أول حبوه الطرق الحديثة المتبعة اليوم في

سويسرا وألمانيا وفرنسا إذ ثبتت بالتجارب فوائدها وهي عبارة عن ألباسه سراويل قصيرة وقفطاناً قصيراً لا أكمام له ويجاب به على هاته الهيئة في الحر والقر ولا بأس من إدخاله الأماكن الثلجية لأن ذلك يزيد كثيراً في نشوئه ونمائه ولا يعود يتأثر من حمارّة القيظ ولا صبارة البرد. ويلزم بعد تعريضه لشمس الصباح وإطعامه طعاماً خفيفاً وأراحته غب ذلك مدة ساعتين أخراجه للنزهة مساءً صحبة والديه أو أحد الخدم وإطعامه بين وقتي الظهر والعصر قطعتين من الحواري (البسكويت) أو كسرة من الخبز فإذا ما كان فارغ المعدة تزداد قوته ويكثر نشاطه ويثب ويعدو ويقع وينهض ومتى ساوره تعب يراح قليلاً ويجب العودة به إلى البيت حالاً عندما يميل ميزان النهار إلى للغروب. ومن أفضل الطرق العصرية ألباس الطفل دائماً اللباس الخفيف وتغذيته قليلاً قليلاً لئلا تنتفخ معدته وكل طفل لطف غذاؤه وحسن لباسه وكثر أخراجه إلى المنتزهات لا تصيبه أمراض ولا تساوره أسقام. تربية الطفل على الأبوين إذا مسهما العوز وحاق بهما الضنك أن يجتهدا في تقليل نسلهما وعدم نمو ذريتهما لكيلا يعجزا عن تربيتهم والعناية بهم وعليهما أن يحرصا متى كبر طفلهما وبلغ أشده على أن يكون لهما أبناء آخرون. ولقد أجمع الباحثون على أن المولود الثاني ينقص من المحبة الأول ويسبب إهمالاً في تربيته وتغذيته مما يحمله على حسد أخيه أو أخته في المستقبل وهو لكونه في دور الطفولة لا يشعر بذلك ولا يدركه لكنه على الأغلب يكون أذكى من أخيه الأصغر وأشد جسماّ وأكثر قوة وأوفر اجتهاداً ويكون حراً بحركاته وسكناته وغيابه وحضوره فيذهب أنى أراد ويدرج حيثما شاء مما يساعده على نمو جسمه وتكامل أعضائه بالنسبة للصغير الذي تكثر العناية به والمحافظة على صحته فلا يفارق والدته ولا يبعد عن بصرها والذي يحب التدقيق به الآن أي التربيتين أفضل تربية الكبير أم الصغير أتفق أرباب الاختصاص وثبت بالتجارب العديدة أن تربية الكبير تكون أفضل اللهم إذا كان المحيط راقياً والأخلاق سامية لأنه لا يجد من العطف والحنو ما يجده أخوه فلذلك يشب نشيطاً قوياً بخلاف ذاك الذي ينشأ على عكس

هاتيك الأخلاق بالنظر للمحيط الذي نما فيه ويعاني مصاعب جمة في آخر الأمر لتغيير أخلاقه وتهذيبها. وبعد فقد أدراك القارئ من التفاضل الذي أجريناه بين تربية هذين الطفلين أن تربية الأكبر أفضل ونرى أن مصلحة الأسرة التي مسها العوز أن لا يلد لها مولود قبل أن تنتهي من تربية طفلها الأول وبغير ذلك لا يصلح شأنها ولا يرغد عيشها. حياة الأطفال من القضايا المتفق على صحتها انتشار الفقر والبؤس في كل قطر وصقع وكونه عاماً شاملاً فلا يكاد يخلو منزل من فقر وفقراء وبؤس وبائسين ومع ذلك فقد أجمع أهل العلم على أنه ليس بعزيز على الأسر التي أتاخ العوز ببابه ونزل الشقاء برحابها أن تربي أفلاذ كبدها تربية جيدة وتنبتهم نباتاً حسناً متى كان أحد ركنيها عارفاً ذكياً ذا خبرة في أصولها وطرائقها. والذي يجب أن لا نمر به الآن مرور الكرام باللغو هو اختلاف تربية أبناء الفقراء باختلاف المكان والمحيط فانك لترى الفرق ظاهراً بين تربية أبناء الأستانة وتربية أبناء دمشق كما أنك تشاهد بوناً بين تربية أبناء الفيحاء وأبناء معان واختلافاً في طرق حيلتهم ومعايشهم مما حققه علماء هذا الفن وتحتاج الإفاضة فيه إلى زيادة بحث وطول تنقيب يستفيد الأطفال الذين ينشأون في المدن الآهلة الكبرى من كل شيء - من معاشرتهم أبناء الأغنياء من اجتماعهم بأبناء الكبراء من المدارس. يستفيدون من المحيط بعكس أولئك الذين ينشأون في الأقطار القاصية والأصقاع النائية فإنهم يبدأون منذ نعومة أظفارهم عنهم بأكل خبز الشعير ويطوفون حفاة عراة في منظر غريب عجيب الفتة الأنظار في بلادهم. أمل قد ثبت لدينا من الرسائل الأولى - أن الصغير مفتون بتقليد الكبير راغب في تحديه بأعماله وأطواره - فلذلك كان لأولى لأمثال هؤلاء الأطفال أن يدرجوا في محيط تسامت أخلاقه وطاب ورده وأزهر روضه ومن طاف البلدان الأوربية رأى هذه الحقيقة مجسمة وهبات أن يرى غلاماً مكشوف الرأس عاري الجسم يلعب بالأوحال المتراكمة والماء الآسنة متجولاً في الأزقة والشوارع كما هي الحال في بلادنا وفي كل بلاد لم تنال حظاً من الرقي ونصيباً من النهوض.

أني سرت في هذه البلاد وكيفما طفت لا تقع عينك إلا على صبية 11لعابهم سائل أعينهم مملوءة بالعمش أظافرهم طويلة أطمارهم بالية مناظرهم مزعجة تدمي الأفئدة وترمض القلوب والحلوم. والذي أراه أن الآباء يحملون أصر إغفالهم تربية الأبناء وخير لهم وأبقى أن لا يرزقوا ذرية تكون عبئاً ثقيلاً على المجتمع وعالة على الوطن - بإهمال التربية - ويكونوا أثمين إذا لم يلاحظوا هذه القضية - بل أتبعوا أهواءهم ويجب علينا أن نفكر كثيراً قبل العمل ثم نطبق عملنا على الفن وأصوله. أذواق الأطفال في لعبهم يتلذذ الأطفال ويسرون بكل ما يشاهدونه أمامهم منذ تخلصهم من أسر القماط المعروف إلى عام أو عامين ويظلون هكذا يتنعمون بهذه اللذائذ حتى يصلون إلى سن الإدراك فيظنون بكل ما يرونه أمامهم أنه من المشاهد المضحكة وعندما يبلغون سن التمييز يظهر منهم أمور غريبة تلفت الأنظار. وهذه الحلة تحتاج لعناية خطيرة ولأعمال النظر فيها باهتمام فالأطفال الذين ينشأون تحت مراقبة مربي صالح لا يمكن أن يكونوا على عكس ما نشأوا عليه ولا يظهر منهم أمور سيئة. وفي أغلب الأحايين نرى الأطفال يتلذذون باللعب المختلفة في سن الطفولية وبعد اللعب يأتي دور الملاهي الممنوعة كالتسلي بخوض المياه وغيره فالطفل الذي لم يتكامل دماغه بعد يظهر بمظاهر الإدراك بحسب ما يلقنه محيطه إذ من الأمور الراهنة الطبيعية أن الطفل ينقاد دائماً لتقليد ما يمثل أمامه لأن الأطفال لا ينشأون على حالة واحدة مهما كانت دواعي الألفة مبذولة بينهم أي أننا نرى ما يسر هذا الطفل يسوء ذاك وما ينفر منه ذاك يلذ هذا وهذه القضية ثابتة بأمثالهم بين العائلات التي يوجد بها أكثر من واحد إذ كثيراً ما نرى أنه بين أطفال العائلة الواحدة من يلذ له الاستحمام في أن أخاه ينفر منه أشد النفور وبينما نجد الأول جريئاً حراً نرى الآخر خجولاً خاملاً. قلنا أن تعلة الأطفال من حيث النظرة العمومية هي الأالأعيب فهذه المسألة الأالأعيب التي نرها تافهة في نظرنا هي ذات شأن تحتاج للبحث والتنقيب في بلادنا فلذلك أريد أن أضع قياساً فارقاً بين الألعاب الأوربية وبين تلك التي يميل إليها أطفالنا في بلادنا وأني على

يقين بأن القراء الكرام سيضحكون من هذا القياس الذي سأوضحه هنا لنلاحظ اللعب التي يتسلى بها الأطفال الأوربيون كتب مصورة ضخمة ومجلدة على أحسن حالة لئلا تتمزق بسرعة أدوات زراعية صغيرة الحجم جداً ووسائط نقلية أيضاً من الحجم الصغير وحيوانات متنوعة مصنوعة من الخشب ثم أعلام وعلائم وشعائر كثيرة الخ. أما اللعب التي أعتدنا أن نقدمها هنا لأطفالنا فهي على الأكثر عبارة عن قطعة خشب صغيرة جعلت لإزعاج سامعيها بصوت دورانها على محورها يعبر عنها في البلاد التركية بثرثرة العجوز ودف صغير وحربة صغيرة ومظلة من ورق وطبل وزمر الخ. وما أظنني مبالغاً فيما قلته بهذا الصدد وأنه ليلذ لي كثيراً تدقيق هذه التوافه وتتبعها فلذلك أقول أن هذه السطور هي نتيجة أبحاثي الدقيقة فلا يمكن أن يكون فيها مبالغة أو زيادة. تربية الصغار بين الكبار حينما يأخذ الصغار يستفيدون من محيطهم وتمييز ما يرونه ويشعرون به يجب أن يقضوا معظم أوقاتهم مع الكبار أكثر من أترابهم ونعني بالكبار أفراد العائلة الذين هم منه ولا تزال مسألة حضور الصغار مع الكبار محل الخلاف في محيطنا فبعضهم يرى أن تكلم الصغار في مجالس الكبار ناشئ من عدم التربية ويمنع الصغار من كلام الكبار والتكلم في مجالسهم وأن يظلوا وقوفاً في مجالسهم ولا يجلسوا ويقتصرون على النظر أمامهم إلى غير ذلك وبعضهم يرى عكس هذا ويوصي بمنح الصغار الحرية التامة وباختلاطهم دائماً بالكبار كي يستفيدوا من مجتمعاتهم ويحث على اندماجهم في جمعياتهم وقبولهم فيها وهناك فريق من المتخصصين لهم آراء متباينة في هذه المسألة فنحن نصرف النظر عن الجميع ونفكر فيما يقتضيه محيطنا فنرى العلم لم يرتقي فيه الشعب إلى مستوى متقارب كما هو معلوم بالبداهة وبذلك يجب أن لا نتمسك بأقوال أحد الفريقين في هاته المسألة بصورة مطلقة بل لا بد لنا من التوقي من الإفراط وملازمة الاعتدال فكما شاهدنا الصغار شديدي الوقاحة فيما إذا بش في وجوههم أكثر من اللازم نرى الصغير من فرط العبوس في وجهه ينشأ شديد الخجل كثير السكوت إلى درجة مذمومة ولذلك نرجح أن تربي كل عائلة وبتعبير أصح كل والدين أولادهما حسب تربيتهما الاجتماعية والمسألة المعضلة هنا هي معرفة التربية الاجتماعية لكل عائلة حتى ينتقي منها الأحسن لأن لكل محل من بلادنا أصولاً في التربية

مستقلة لا يشاكل فيها غيره فنحصر نظر البحث الآن في القطر السوري ونقول أن حياة العائلي في أوربا تكاد تنحصر في ثلاث طبقات: الأولى الكبار والثانية الأوساط والثالثة الصغار أعني العوام أما عندنا نحن فلا تجد غير طبقتين بوجه عام. وأما في سوريا فقد أرانا البحث بأن الأقسام ثلاث في جهات عديدة تقليداً لأوربا وحينئذ يلزمنا أن ندع الطبقة الأولى ونبحث في الاثنتين ونتخير لهما أصولاً معتدلة فنقول: يجب الاعتناء التام في تربية الصغار على عدم الإفراط في الحرية لتزداد حريتهم تدرجياً بتقدم أعمارهم وبرعاية هذه القاعدة لا ينشأ الصبي وقحاً بل فطناً نير الفكر نعم يجب توقي هذا الشرط في كل محيط يقل فيه سلطان التربية أما في الأسر الكاملة التربية الاجتماعية فيمكن حضور الصغار في مجالس الكبار غالباً بشرط أن تكون تلك المجالس مما يستفيد منه الصغار ولو بعض الاستفادة بحيث يدور حديث تلك المجالس حول مسائل جدية مفيدة وأن يجارب الصغار الحاضرون بصفة مستمعين في هذه المجالس على أسئلتهم البسيطة ويوضح ما غمض على أذهانهم فإن هذا لا يخلو من الفائدة أن الألعاب التي تعطى أطفال الأوربيين النابتين في الأوساط المتمدنة مختلفة في أصولها فيعطى فيها الطفل مثلاً سيارة (اوتوموبيل) صغيرة جداً من وسائط النقل ويشرح لها من مخترعها وما هي وتاريخ اختراعها والبلاد والمعمل الذي صنعت فيه ويذكر له فوائدها ويحلل له تراكيبها كل ذلك بدروس موجزة تلائم ذوقه حتى إذا تعلم الطفل هذا الدرس 11ذهنه بحركة عقله فيخطو خطوة نحو الترقي ثم يناولونه محراثاً ذا عجلات وآلة تذرية مثلاً من الآلات الزراعية ويكن بقياس صغير أيضاً ويشرحون له ما يتعلق بتينك على الآلتين على حسب ما تقدم وفي أثناء الحديث يستطردون إلى بيان ما للآلتين من العلاقة بزراعية المملكة ويزيدونه شرحاً كلما أنسوا فيه رشداً وذكاء ثم يناولونه راية أمته وبلاده مثلاً وبينما هو يلعب بها يفهمونه ما لها من الموقع العظيم في أفئدة الشعب وكيف يلتفون حولها ويدافعون عن حمى بلادهم متحدين منضوين تحت ظلها وما لهم من عظيم السعي لنيل هذه الأمنية وما للعلم والمعرفة من ترقية الأمة في سلم التمدن ومعارج الترقي والكمال كل ذلك بطريقة بسيطة جداً أشبه بالهزل منها بالجد فيحب الطفل هذه الألعاب بطبيعته ويأنس بها ويسعى في حفظها وتعليق الفوائد الخاصة بكل واحدة منها فينشأ على هذه الصورة نير الفكر ثاقب الذهن أما الصغير

فعندنا يلعب من الصباح إلى المساء بدف مثلاً وحينما يستوحش من صوته المزعج ولا يحظى بفهم الغرض منه تنقبض روحه فيعمد إلى كسره وتمزيق جلده ويلقي به على الأرض محطماً لا فائدة فيه فيقوم مربيه ويعد هذه الأعمال جريمة منه فيعاقبه عليها بضربه بالعصا أيضاً. وهذا كله واقع لا مبالغة فيه فماذا تستفيد الأطفال التي تربى على هذه الصورة. لابد أن تضطر للاختفاء عند أرادة أي عمل كان معتاد القبائح أكثر من المحاسن وتجنح إلى الأخلاق السيئة الرديئة وتساق إليها على خط مستقيم. وتشب على ذلك لا ينبت فيها شعور حب الوطن والأمة والعلم والمعرفة والتضامن وتبقى جاهلة بكل شيء إلى أن تدخل المدارس وتختلط بصبيانها. فحبذا لو بالاستفادة من كل ذرة في محيطهم وتعودهم ذلك فتستنير أفكارهم فينشأون ثاقبة أذهانهم كاملة قوامهم حميدة أخلاقهم. الأطفال والموسيقى الموسيقى لازمة للإنسان غير مفارقة له وهذا لا ينكره أحد الناس. فكما أن أكثر من الأخلاق السيئة في العصور الأخيرة قد أصلحت بالموسيقى كذلك نرى بعض الأمراض قد أخوا بمداوتها بالموسيقى وحققت التجارب أن الحيوان كالإنسان يتأثر بالموسيقى ويتلذذ بها. والموسيقى تتبدل في كل أمة بحسب تربيتها ونشأتها فالموسيقى الشرقية مؤثرة جداً من حيث مبادئها بيد أن الموسيقى في الشرق ولاسيما في هذه المملكة قد أهمل أمرها في الدور السابق كما أهمل فيها كل نافع حتى كادت تنقرض بالتدريج والغاية من هذه المقدمة الصغرى تلقين الأطفال منذ نعومة أظفارهم فوائد الموسيقى وأن يعلم الأبوان أن من واجبهم ولوع أولادهم بالأصوات الموسيقية أو بإحدى الآلات الموسيقية وتعليمهم التلذذ بها فقد أثبتت تجارب الأخصائيين بعلم النفس أن المولعين بالموسيقى يجئ منهم بالنسبة لغيرهم أناس رقيقة عواطفهم مهذبة حواشيهم فالواجب اعتبار الموسيقى وتأثيرها الخارق للعادة على هذا النحو وأن لا يتخذ معياراً للموسيقى ما يسمع من الألحان المغلظة في بعض القهاوي والمسارح من أفواه الموسيقيين المتوسطين وآلاتهم: فالموسيقى شعر والشعر موسيقى. أن من اعتادوا الموسيقى منذ صغرهم لا يدخل عليهم السأم في أوقات الفراغ ولا القفار

والجبال فكل آلة موسيقية مهما كان نوعها تسلي الإنسان وتشغله في أي مكان نزل وتكون له في أوقات الاضطراب خلاً وفياً وعشيراً صفياً تذكره الماضي وتفتح له باب التفكير في المستقبل. وإذا بحثنا في أسباب ارتقاء مدنية أوربا إلى هذا الحد نجد للموسيقى تأثيراً كبيراً فيها فبدلاً من أن يولع الأطفال أوقات الفراغ بالعبث فيجتمعوا أثنين أو ثلاثة في ناحية يلعبون بالنرد أو الورق أو غيرها من الألعاب إذا مالوا للاستفادة مما في أيديهم من لآلات الموسيقية تعلو عواطفهم بالطبيعية وتزيد صلاتهم الودية وروابطهم الأخوية أمام غيرهم وينمو في الوقت نفسه ولوعهم بالشعر وبهذه الصورة تنبعث عواطفهم الوطنية ويزيد ارتباطهم بوطنهم ولا يفوتنا أن كثيراً مما عم بين الناس من الموسيقى قد كتب على صورة عادية بسيطة عامية فكما أن الشاعر يكتب عواطفه في الحوادث المؤلمة المؤثرة فالموسيقار كذلك فالموسيقى كالشعر شقيقان متلازمان. الموسيقى من الأمور الذوقية على كل حال فلأشغال الأولاد بها منذ عهد الطفولية وإشباعهم بعواطف الوطنية والقومية ليكون من الموسيقى فرض يقومون به آونة الفراغ واسطة لذكرى آبائهم وأجدادهم وتخليد لأسمائهم ويلقنوا رقة العاطفة - يجب أن تملأ أسماعهم على هذه الصورة حتى يتعشقوا الموسيقى ويتألف من أفراد الأسرة جوقة موسيقية. كل مدرسة ابتدائية ووسطى في أوربا تحوي في برنامجها درساً في الموسيقى لا يقل عن ساعتين في الأسبوع فالدروس الأولى يكون منها تعويد الأطفال على الأصوات الموسيقية فقط وبعد سنة أو سنتين يعودون النفخ في آلة موسيقية على صورة لا تضر برنتيهم ومع الأسف أننا لا نجد في هذه الأصول وإذا رأينا في مدارس دمشق آلات موسيقية فإن ذلك منحصر في الطلبة المشتركين بهذا الدرس أما غيرهم فلا يستفيدون من ذلك وهذا ليس من الصواب في شيء ويشترط في تعليم الأطفال المزمار والكرنيتة وغيرهما من الآلات الموسيقية أن تعاين رئاتهم فكما أن الإفراط في كل شيء مضر كذلك الحال في تعليم الموسيقى الآلية للأطفال يجب أن يعلموها بحيث لا تضر برئاتهم. أثبتت الحر الحاضرة شجاعة خارقة وبسالة فائقة للجند الألماني. وإذا تأملنا في سبب ذلك لم نجده الأمن تشبعهم بلبان الوطنية السارية في عروقهم من تأثير الموسيقى بدرجة فاقوا فيها الجند الفرنساوي. نعم نحن لا نشكر أن الموسيقى أكثر ما تلائم الألسن اللطيفة اللهجة

الآخذ طرز أدائها بمجامع القلوب ولذلك رقى فن الموسيقى رقياً عظيماً في ايطالية فاللسان الألماني مع أنه أصعب الألسن من جهة التلفظ به نجد أن الذين يتولون أمر التلحين في أكثر مسارح التمثيل الأوربية بالموسيقى هم أساتذة ألمان. فقد أظهر الموسيقيان الشهيران بتهوفن وفاغنير وأمثالهما خوارق مدهشة في هذا الفن الجميل وما زالت أسماؤهم تتردد على الألسن كما تردد الأمثال وصدى ألحانهم يقرع الأسماع آناً فآناً وكلما ذكرا هتف ذوو الطرب أعجاباً بذكرهما وتنويهاً بفضلهما إما في بلادنا فنجد آثاراً موسيقية كثيرة مكتوبة باللسان العربي من الألسن القديمة لكن هذا الفن أيضاً قد فيه تشريك الدين كما أريد ذلك في غيره فأصبح فن الموسيقى كأنه من الأمور المحظورة ديناً والفنون النبوذة تعبداً وهكذا الحال عند الأتراك أيضاً أما العثمانيون غير المسلمين فتجد لكل طائفة منهم فن موسيقى مدوناً بلسانها وهذا الفن يشرف لديهم بقدر اهتمامهم في تحسينه وترقيته نعم قد شاهدنا بمزيد المسرة في المدة الأخيرة إضافة فن الموسيقى على دروس المدارس الابتدائية وتأسيس دار للفنون الجميلة في استانبول ومن بحث في علوم النفس وأمعن نظره فيها يجد أولاد أكبر المتبحرين في الموسيقى وكثيرين من أقربائهم المنسوبين إليهم - قد سلكوا هذا المسلك اللطيف أسوة بآبائهم. أما في بلادنا فقلما نشاهد من يحترف حرفة مطلقاً فضلاً عن أن يشتغل بفن جميل كالموسيقى مثلاً. ولذلك تجدنا في حاجة شديدة إلى ألقاء دروس متوالية حتى على الأطفال الذين لا صنعة لهم - في محاسن فن الموسيقى ولذائذه بذلك ينتعش في محيطنا الشعور بفوائد الموسيقى فتنهض لترقيته وتحسين طرائقه الجمعيات المختلفة ويجب علينا أن نسمع ناشئتنا ألحاناً موسيقية مؤثرة كلما ما أقتضى الحال الأخذ بجامع قلوبهم من المقرر أن الأمم لا ترقى بغير المعارف لا تنتشر بغير الموسيقى فأنت ترى الكتيبة من الجند الخائضة لجج الوغى تلقي نفسها في أمواجه أن تقدمتها جوقة موسيقية تؤثر في أعصابها بأنغام وطنية وألحان مطربة فلا تعود تفكر في غير حب الوطن ويرخص لدينا بذل الأرواح في سبيل الدفاع عنه وأنك لتجد لكل أمة آلات تخص موسيقاها كما أن لنا آلات موسيقية خاصة بأمتنا ولساننا. ولا يخطر ببال بعضهم أن آلاتنا الموسيقية عبارة عن الطبل والمزمار فهذا فكر سخيف بل

منها الكمنجة والطنبور والعود والقانون والدف فهي معدودة من أهم الآلات الموسيقية بل هي الموّلدة تقريباً للآلات الموسيقية الأوربية وإذا ما خطونا خطوة واسعة في ساحة الرقي في هذا الفن يمكننا أن نحيط علماً حتى بالآلات الأوربية ونؤلف بينها وبين آلاتنا. وملخص القول أنه يجب علينا أن نعلم الأطفال على كل حال فن الموسيقى ونذيقهم طعمه ليرغبوا في تحصيله. الصغار والكبار لا يخفى أن الجواب على الأسئلة التي يلقيها الطفل في أي مجلس كان وشرحها له وتفهيمه ما غمض عليه برفق أوفق بكثير من إسكاته وأنتهاره لأن الطفل يغلب عليه العناد والإصرار في طور طفولته فإذا لم يفهم ما سأل عنه في ذلك المجلس تتوق نفسه لتطلب خارجا عنه وبذلك تفشو مفاوضات المجالس الخصوصية وأما كيفية إفادة الطفل وتلقينه المعلومات في المجالس فهي: الاستفهام منه مثلاً وسؤاله عن رأيه في الموضوع والبحث عن درجة فكره ومحاكمته فإن كل هذا مما يرقيه وينير بصيرته. ويلزم أيضاً تربية الطفل على مفارقة المجالس بمجرد ما تدعوا الحاجة إلى زيادة التبسيط في الكلام بين الكبار والتكلم في الشؤون الشخصية ويقتضي أيضاً أن يلقن الطفل بأسلوب لطيف وفي أوقات مناسبة كلما سنحت الفرصة بأن لا يفشي الباحث الخصوصية التي تتخلل الأبحاث العامة ويجب على الوالدين يلاطف أبنه في الدار صباحاً وكلما عاد إليها مساءً ويتفقده ويسأله عما استفاد في ذلك اليوم. ولا مرية في أن أجوبة الطفل في أول الأمر عن تلك الأسئلة تكون تافهة ولكنها تتحسن بقدر عناية والده في تصحيحها وانتقادها وتنبيهه لما يجب كتمه ووصايته باجتناب تكرار الحديث وإفهامه أن جميع ما ذكر مغاير للآداب ويسلك في تربيته على ذلك طريق الإقناع فإن مباحثته بذلك بصورة موجزة كل يوم تؤثر في الطفل تأثيراً شديداً فيتربى على رعاية آداب البحث والمناظرة عندما يتكلم بمحضر أبيه واعتياد حرية القول والفكر في أعمال كل يوم يقضيه وفي محاكمة تلك الأعمال ويلزم أن ينبه على قيمة الوقت وأنه بمثابة النقد لا ينفق إلا في مصلحة ويوصى باحترام النساء والشيوخ أي الطاعنين في السن من الرجال وكل هذه النصائح لا تلقى متعاقبة على شكل درس خاص بل تلقى إليه في المناسبة وفي

خلال الحديث. ومتى أخطأ الطفل يجب أن لا ينهر بألفاظ بذيئة ويحقر بجمل قبيحة بل ينبه إلى خطاءه برفق ويمنع بلطف عن بذاءة اللسان أن سرى إليه من الخطاء والمعاشرين في الخارج ويعود ترك ذلك بالإشارة بالعين والحاجب لا بالسب والشتم. وعلى كل حال يجب أجادة التدبير في تربية الأطفال فإنا كثيراً ما نرى الأطفال الذين يغشون المجالس الخاصة عندما تمس الحاجة لإخراجهم - يقفون على لبوابهم متجسسين فإذا تربى الطفل على هذه العادة السيئ فشغله بعمل آخر أولى من أخراجه من المجلس كأن يشغل بمناولة كتاب فيه صور وحكايات وقصص إن كان ممن يقرأ وتكليفه ببعض وظائف إلى غير ذلك من الوسائل التي تمنعه عن الاشتراك في خصوصيات المجلس ويتجنب مهما أمكن بذاءة اللسان أمامه حتى لا يعتاد ويربى على أعطاء الجواب عن كل ما يسأل عنه. الأطفال والمدارس لا يخفى أن التحصيل الابتدائي إجباري في كل مملكة وهذا القانون مع أنه نفذ عندنا أيضاً ما زلنا نرى بعين الأسف أن عدد الطلبة في مدارسنا الابتدائية قليل جداً فهو عبارة عن 429924تلميذاً مع أن نفوس بلادنا تعد بالملايين هذا من الذكور أما الإناث فهن أقل من القليل ولا يعزب عن فهم اللبيب أن رقي الأمة التي تحررت من ربق الاستبداد ودخلت دور الحكم النيابي منوط بترقيها في معارج المعارف وأنك لا تكاد تجد أمياً في أوربا على أن ملكة الاختراع والاكتشاف والإبداع لا ترسخ في النفس إلا بمزاولة العلوم والبراعة في الصناعة كما أن المدنية لا تنال إلا بالتوغل في التربية العلمية والأخلاقية ومع أن هذه الحقائق مسلمة عند كل أحد لا تزال تجد أطفالنا خابطين في ديجور الجهالة لعدة أسباب يجب أن ننظر فيها. بينما ترى الصبي في أوربا يسارع للمدرسة بشوق ونشاط تشاهد الطفل يفر منها كلما وجد إلى الفرار سبيلاً لأنه يذوق طعم التحصيل وسبب هذا النفور يحتاج لأضاح وبيان والذي أراه أن أعظم الأسباب في نفرته هذه جهل المعلمين عندنا بطرق التربية والتعليم على أن جهل المعلمين بهذه الأصول لا يعد جريمة منهم فإنهم أيضاً لم يتعلموا تلك الأصول. تجد عندنا كل شاب نشأ من المدرسة الملكية أو الحقوق يبادر إلى دوائر الحكومة حتى

يكون مأموراً ولا تجد المعلمين إلا من أئمة المحلات الذين تعلموا شيئاً يسيراً من القراءة والكتابة أو من العاجزين عن البلوغ إلى درجة مأمور ومن السالكين مسالك تكفل لهم معيشتهم خاصة وزد على هذا أن ما كانت تدفعه الحكومة قبيل الآن إلى معلمي المدارس الابتدائية لا يمكن أن يسد عوزاً أو يكفي أحداً. وبهذا تعذر على الراغبين في فن التعليم من الشبان المقتدرين القيام بأداء هذا الواجب لكن قد تنبهت الأفكار أخيراً لذلك فشرع في تزيد عدد المدارس الابتدائية وتوفير رواتب معلميها كما هي الحال في سائر البلاد فزال هذا المانع وبقيت عدة موانع منها أن الأطفال في أوربا مع كونهم لا يبلغون في الذكاء والفطنة مبلغ أطفالنا تراهم تعلموا القراءة والكتابة في زمن قليل وأما عندنا فيقضي الطفل زمناً طويلاً ليبلغ ما بلغه الناشئ في أوربا وسبب هذا التفاوت أن الطفل عندنا لم يذق لذة القراءة والكتابة وذلك بسبب أتباع الأصول العقيمة في تعليمه فإننا نبادر بتدريس الكتب في مدارسنا ونلقيها على أطفالنا الصغار بدون أن نفهمهم ما تضمنته ونعامل الطفل بقساوة زائدة أثناء التعليم فتنقبض روحه من شدة التضييق عليه وتنحبس نفسه من الجلوس على تلك المقاعد الملوثة فتميت هذه الأحوال في الطفل حاسة التعليم ورغبته في التحصيل. ولا يجب أن يعطى الطفل حين دخوله المدرسة الكتب ومماثلها بل يجب تعليمه بعض الموجودات والأشياء بأشكالها الطبيعية وبث محبة العائلة والمدرسة والوطن في روحه وتوصيته باحترام معلمه وقذف بزور الاعتماد والثقة والارتياح والأماني في روحه وتوليد حس فيه يربطه في المدرسة أشد الربط وتعويده الطهارة والنظافة والاستفادة من الوسط والمحيط الذي يعيش فيه وترغيبه في التفريق بين النافع والضار وتحبيبه إلى أخوانه ورفقائه وتشويقه للقراءة في الكتاب المصور الذي يعطى له بعد ذلك وأما إذا ناولته كتاباً من أول الأمر وأجبرته على حفظه بالضرب على رأسه فلا شك أنه يتولد فيه حس يمزق به ذلك الكتاب ويسارع إلى الفور من ذلك الباب ولا يعود يثق بمعلمه وبهذا الأسلوب العقيم لا يمكن أن يتعلم تلميذ أصلاً.

آداب المعاشرة

آداب المعاشرة كن عن حسودك معرضاً ولئن بدا ... لك ودّه فالحق ليس ببارح داء الحسود بطبعه فزواله ... أعيا على جهد الطبيب الكادح وأحذر معاشرة اللئيم فإنه ... مترصد لك كل شر سانح وإذا جلست بمجلس فاظهر لمن ... فيه ظهور معاشر متسامح وتجنّب الدعوى فخجلة مدعٍ ... ما ليس فيه شرّ عار فاضح نزّه كلامك عن قبيح تصنع ... وإذا مزحت فكن أخف ممازح ولما رأيت السامعين إليك قد ... أصغوا فلا تذهب لفرط تفاصحٍ خير الكلام بلغيه فارغب به ... ليس المطيل من الكلام بفالح وأعلم بأن سواك ممن ضمنه ... ذاك المقام يروم فرصة طامحٍ فأفسح له وقتاً لبسط حديثه ... لا تحتكر لك كل سمع جانح وأحذر أشارات اليدين ولاتكن ... متلفتا مثل الخطيب الباجح وأحذر مقال أنا فعلت وأنني ... أهوى كذا وكذا سوس مصالحي لا تجعلنّ أمور نفسك محوراً ... يبدو حديثك حواسه بفواتح كلٌله أمره شغل فلا ... تحسب أمورك ذات قدرٍ راجح وأختر مواضيع الحديث جميعها ... إلا حديثك عنك غير مسامح أن الجراح أشدها في كلمة ... فأحفظ لسانك من كلام جارح لا تثنينّ على مريء بحضوره ... فبغية الممدوح صدق المادح والمال مثل الغيث يسقط تارةً ... فوق الصخور وتارة في راشح والفضل ليس ينال يوماً بالمنى ... وتصادف أو حكم بخت رابح فإذا عصتك من الفنون جماعة ... فانظر إلى ميلٍ بطبعك راجح من رام جمع محاسن الدنيا فقد ... يبلى بفقدان القليل الصالح إن التشبه بالكرام فضيلة ... لا باختلاس ظواهر وملامح فالقرد يحكي كل ما نبديه من ... حركاتنا ويكون هزأة مازح ليس الفتى بثيابه أو لفظه ... لكن بعرفانٍ أو قلب ناصح كم ذي ثيابٍ رثة من تحتها ... نفسٌ عزوف عن أذى وفضائح

ولكم فتى ذي بزة محمودة ... من خلفها نفس ألوف قبائح لا تعجبنّ برأي نفسك أو بما ... صنعت يمينك من صنيع ناجح أو الذي أوحاه فكرك وأنتظر ... كيما يكون سواك شخص المادح لا تنكرنّ على سواك مزية ... أو تجحدنّ فضيلة لمناصح وإذا غلطت فقل غلطت صراحةً ... لتنال حظ ذوي الكمال الراجح وأحذر مجادلة العنيد فما له ... عن غيه وغروره من كابح وأشكر لمن أولادك خالص نصحه ... حقٌ علينا شكر فضل المانح حلب قسطاكي المحصي

فوات نهج البلاغة

فوات نهج البلاغة ومن كلامه لما نزل بذي قار وأخذ البيعة على من حضره ثم تكلم فأكثر من الحمد لله عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال قد جرت أمور صبرنا عليها وفي أعيننا القذى تسليماً لأمر الله تعالى فيما امتحنا به ورجاء الثواب على ذلك وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم نحن أهل بيت النبوة وعترة الرسول وأحق الخلق بسلطان الرسالة ومعدن الكرامة التي ابتدأ لله بها هذه الأمة وهذا طاحة والزبير ليسا من أهل النبوة ة لا من ذرية الرسول حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضيين ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عني ثم دعا عليها. ومن كلامه عليه السلام. ما رواه عبد الحميد بن عمران المجلي عن سلمة بن كهيل قال لما التقى أهل الكوفة أمير المؤمنين بذي قار رحبوا به ثم قالوا الحمد لله الذي خصنا بجوارك وأكرمنا بنصرتك فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل الكوفة أنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم تقويماً وأعداهم سنة وأفضلهم سهماً في الإسلام وأجودهم في العرب مركباً ونصانباً أنتم أشد العرب وداً للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته وأما جنتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير وخلفهما طاعتي وإقبالهما بعائشة للفتنة وأخرجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة فأستغروا طغامها وغوغاءها مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم وخبارهم في الدين قد اعتزوا وكرهوا ما صنع طلحة والزبير ثم سكت فقال أهل الكوفة نحن أنصارك وأعوانك على عدوك ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه فدعاهم أمير المؤمنين عليه السلام وأثني عليهم ثم قال لقد علمتم معاشر المسلمين أن طلحة والزبير بايعاني طائعين غير مكرهين راغبين ثم استأذني في العمرة فأذنت لهما فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين وفعلاً المنكر اللهم أنهما قطعاني وظلماتي ونكثا بيعتي وألبا الناس عليّ فاحلل ما عقدا ولا تحكم ما أبرما وارهما المساءة فيما عملا. ومن كلامه عليه السلام وقد نفر من ذي قار متوجهاً إلى البصرة بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله أما بعد فإن الله تعالى

فرض الجهاد وعظمه وجعله نصرة له والله ما صلحت دنيا قط ولا دين إلا به وأن الشيطان قد جمع حزبه وأستجلب خيله وشبه في ذلك وخدع وقد بانت الأمور وتحمصت والله ما أنكروا علي منكراً ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً وأنهم ليطلبوا حقاً تركوه ودماً سفكوه ولئن كنت شركهم فيه أن لهم لنصيبهم منه وإن كانوا وله دوني فما تبعته إلا قبلهم وأن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم وأني لعلى بصيرتي ما نبست علي وأنها للفئة الباغية فيه اللحم واللحمة قد طالت هلبتها وأمكنت درتها يرضعون ما فطمت ويحيون بيعة تركت ليعود الضلال إلى نصابه ما أعتذر مما فعلت ولا أتبرأ مما صنعت فيا خيبت للداعي ومن دعا لو قيل له إلى من دعوك وإلى من أحببت ومن أمامك وما سنته إذا لزاح الباطل عن مقامه ولصمت لسانه فما نطق. وأيم الله لا فرطن لهم حوضاً أنا ماتحه لا يصدرون ولا يلقون بعده ريا أبدا وأني لراض بحجة الله عليهم وعذره فيهم إذا أنا داعيهم فعذر إليهم فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذولة والحق مقبول وليس على الله كفران وأن أبوا أعطيتهم حد السيف وكفى به شافياً من باطل وناصراً لمؤمن. ومن كلامه عليه السلام حين دخل البصرة وجمع أصحابه فحرضهم على الجهاد فكان مما قال عباد الله أنهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم بقتالهم فإنهم سكنوا بيعتي وأخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة وقتلوا السيايجة ومثلوا حكيم بن جبلة العبدي وقتلوا رجالاً صالحين ثم تتبعوا منهم من نجا يأخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبراً ما لهم قاتلهم الله أني يؤفكون أنهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم والقوم صابرين محتسبين تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم ولقد وطنتم أنفسكم على الطعن والضرب الطلحفي ومبارزة الأقران وأي أمري منكم أحسن من نفسه رباطة جاش عند اللقاء ورأى من أحد من أخوانه فشلاً فليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله. ومن كلامه عليه السلام عند تطوانه على القتلى هذه قريش جدعت أنفي وشفيت نفسي لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيف وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ولكنه الحين وسوء المصرع وأعوذ بالله من سوء المصرع ثم مر على معيد بن المقداد فقال رحم الله الذي أوقعه وجعل الأسفل أنا والله يا أمير المؤمنين لا نبالي

من ضد عن الحق من والدٍ وولد فقال أمير المؤمنين رحمك الله وجزاك عن الحق خيراً قال. ومر بعبد الله بن ربيعة بن دراج وهو في القتلى فقال هذا اليائس ما كان أخرجه. وأدين أخرجه أم نصر لعثمان والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن ثم مر بمعبد بن زهير بن أبي أمية فقال لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام والله ما كان فيها بذي نخيزه ولقد أخبرني من أدركه أنه ليولول فرقاً من السيف ثم مر بمسلم بن قرظة فقال البر أخرج هذا والله لقد كلمني أن اكلم عثمان في شيء كان يدعيه قبله فأعطاه عثمان وقال لولا أنت ما أعطيته أن هذا ما علمت بئس أخو العشيرة ثم جاء المشوم المجين ينصر عثمان. ثم أمر بعبد الله بن حميد بن زهير فقال هذا أيضاً ممن أوضع في قتالنا زعم يطلب الله بذلك ولقد كتب إلي كتباً يؤذي عثمان فيها فأعطاه سيئاً فرضني عنه ثم أمر بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال هذا خالف أباه في الخروج وأبوه حين لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا وإن كان قد كف وجلس حين شك في القتال ما ألوم اليوم من كف عنا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا. ثم مر بعبد الله بن المغيرة بن الأخلس فقال أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج مغضباً لقتل أبيه وهو غلام حدث جبن لقتله. ثم مر بعبد الله بن أبي عثمان بن الأخلس بن شريق فقال أما هذا فكأني أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف هارباً يعدو من الصف فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت حتى قتله وكان هذا مما خفي على فتيان قريش أغمار لا علم لهم بالحرب خدعوا وأستزلوا فلما وقفوا لحجوا فقتلوا. ثم مشى قليلاً فمر بكعب بن سور فقال هذا الذي خرج علينا في عنقه الصحف بزعم أنه ناصر أمه يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعل ما فيه ثم أستفتح فخاب كل جبار عنيد أما أنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله أجلسوا كعب بن سور فاجلس فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا كعب لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ثم قال أضجعوا كعباً ومر على طلحة بي عبيد الله فقال هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة

والمجلب علي والداعي إلى قتلي وقتل عترتي أجلسوا طلحة بن عبيد الله فاجلس فقال له أمير المؤمنين عليه السلام يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ثم قال أضجعوا طلحة وسار فقال له بعض ومن كان معه يا أمير المؤمنين أتكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما فقال والله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر. ومن كلامه عليه السلام بالبصرة حين ظهر على القوم بعد حمد الله تعالى والثناء عليه أما بعد فإن لله ذو رحمة واسعة ومغفرة دائمة وعفو جم وعقاب اليم قضى أن رحته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلفه وبعد الهدى وما ضل الضالون فما ظنكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم علي عدوي فقام إليه رجل فقال نظن خيراً ونراك قد ظهرت وقدرت فإن عاقبت فقد أجترمنا ذلك وأن عفوت فالعفو أحب إلى الله تعلى فقال قد عفوت عنكم فإياكم والفتنة فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا الأمة قال ثم جلس للناس فبايعوه وكتب إلى أهل الكوفة بالفتح بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الله الذي لا آله إلا هو أما بعد فإن الله حكم عدل لا يغير ما11 حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال أخبركم عنا وعمن سرن إليه من جموع أهل البصرة ومن تأشب إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ونكثهم صفقة إيمانهم فنهضت من المدينة حتى قدمت ذا قار فبعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر وقيس بن سعد فاستنفرتكم بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحقي فأقبل إلي أخوانكم سراعاً حتى قدموا علي فسرت بهم حتى نزلت ظهر البصرة فاغدرت بالدعاء وقمت بالحجة وأقلت العثرة والزلة من أهل الردة من قريش وغيرهم واستتبتهم من نكثتهم بيعتي وعهد الله عليهم فأبوا إلا قتالي وقتال من معي 11 في الغي فنافستهم بالجهاد فقتل الله من قتل منهم ناكثاً وولى من ولى إلى مصرهم وقتل طلحة والزبير على نكثهما وشقاقهما وكانت المرأة عليهم أشأم من ناقة الحجر فخذلوا وأدبروا وتلطعت بهم الأسباب فلما رأوا ما حل بهم سألوني العفو عنهم فقبلت منهم وأغمدت السيف

عنهم وأجريت الحق والسنة فيهم واستعملت عبد الله بن العباس على البصرة وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله وقد بعثت إليكم زجر بن قيس الجعفي أتسألوه فيخبركم عنا وعنهم وردهم الحق علينا ورد الله لهم وهم كارهون والسلام عليكم ورضى الله وبركاته. ومن كلامه عليه السلام حين قدم الكوفة من البصرة بعد حمد الله والثناء عليه أما بعد فالحمد لله الذي نصر وليه وخذل الصادق المحق وأذل للكاذب المبطل عليكم يا أهل هذا المصر بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذي هم أولى بطاعتكم من المنتحلين المدعين القائلين إلينا إلينا يتفضلون بفضلنا ويجاروننا أمرنا وينازعونا حقنا ويدفعوننا عنه وقد ذاقوا وبال ما أجترحوا فسوف يلقون غياً قد قعد عن نصرتي منكم رجال وأنا عليهم عاتب زار فاهجروهم واسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبونا ونرى منهم ما نحب ومن كلامه عليه السلام لما عمل على المسير إلى الشام لقتال معاوية بن أبي سفيان بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتقوا الله عباد الله وأطيعوا وأطيعوا أمامكم فإن الرعية الصالحة تنجو بالأمام العادل الأوان الرعية الفاجرة تهلك بالأمام الفاجر وقد أصبح معاوية غاصباً لما في يديه من حقي ناكثاً لبيعتي طاعناً في دين الله عز وجل وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس وجثتموني راغبين إلي في أمركم حتى أستخرجتموني من منزلي لتبايعوني فالتويت عليكم لا بلو ما عندكم فراددتموني القول مراراً راددتكم وتكأكأتم علي تكأكؤ الإبل الهيم على حياضها حرصاً على بيعتي حتى خفت أن يقتل بعضكم بعضاً فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمري وأمركم وقلت أن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحداً منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي وقلت والله لا وهم يعرفون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي وفضلي لكم يدي فبايعتموني يا معشر المسلمين وفيكم المهاجرون والأنصار وتتابعون بإحسان فأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي من عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق لتفن لي ولتسمعن لأمري وتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كل باغ وعاد ومارق أن عرق فأنعمتم لي بذلك جميعاً فأخذت عليكم عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة رسوله فأجبتموني إلى ذلك وأشهدت الله عليكم وأشهدت بعضكم على بعض وقمت فيكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم

فالعجي من معاوية بن أبي سفيان ينازعني الخلافة ويجحدني الإمامة ويزعم أنه لحق بها مني جرأة منه على الله وعلى رسوله بغير حق له فيها ولا حجة لم يبايعه عليها المهاجرون ولا سلم له الأنصار والمسلمون يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي او ما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة أما بايعتموني على الرغبة أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي أما كانت بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمر فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا ونقض علي ولم يف لي أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري أما تعلمون أن بيعتي ولم لم يفوا بها وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممن تقدمني أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الغدير في ولايتي وموالاتي فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية الناكث الفاسط وأصحابه القاسطين أسمعوا ما أتلوا عليهم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل لتتعظوا فإنه والله عظة لكم فانتفعوا بمواعظ الله وازدجروا عن معاصي الله فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه صلى الله عليه وآله الم ترى إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم أبعث لهم هل عليكم القتال ألا تقاتلوا قتلوا وما لنا إلا أن نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال أن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم أيها الناس أن لكم في الآيات عبرة لتعلموا أن الله جعل الخلافة والإمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه وزيادته بسطة في العلم والجسم فاتقوا الله عبادة الله وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخط بعصيانكم له قال الله عز وجل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون أنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم ونفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري م تحتها الأنهار ومساكن

طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. اتقوا الله عبادة الله وتحاثوا على الجهاد مع أمامكم فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم طاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كبير منكم وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض ومن كلامه عليه السلام وقد بلغه عن معاوية وأهل الشام ما يؤذيه من الكلام الحمد لله قديماً وحديثاً ما عاداني الفاسقون فعاداهم الله الم تعجبوا أن هذا له الخطب الجلل أن فساقاً غير مرضيين وعن الإسلام وأهله منحرفين خدعوا بعض هذه الأمة وأشربوا قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهواءهم بالأفك والبهتان قد نصبوا لنا الحرب وهبوا في إطفاء نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون اللهم أن ردوا الحق فأفضض خدمتهم وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم فإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت. ومن كلامه عليه السلام في تحضيضه على القتال يوم صفين. معاشر المسلمين أن الله قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم وتشفي بكم على الخير العظيم الأيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله والجهاد في سبيله وجعل ثوابه مغفرة الذنب ومساكن طيبة في جنات عدن ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص فقدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس فإنه أنبا للسيوف على الهام والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلا في أيدي شجعانكم فإن المانعين للذمار والصابرين على نزول الحقائق أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكشفون رحم الله أمرءاً منكم آسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع قرنه وقرن أخيه فيكتب بذلك لائمة ويأتي به دناءة ولا تعرضوا لمقت الله ولا تفروا من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من الآخرة فاستعينوا بالصبر والصلاة والصدق في النية فإنا لله تعالى بعد الصبر ينزل النصر. ومن كلامه عليه السلام وقد مر براية لأهل الشام لا يزول أصحابها عن مواقفهم 11 على قتال المؤمنين فقال لأصحابه.

أن هؤلاء لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسم ضرب يغلق الهام ويطيح العظام وتسقط منه المعاصم والأكف وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد وتنتشر حواجبهم على الصدور والأذقان أين أهل النصر أين طلاب الأجر فثار إليهم عصابة من المسلمين فكشفوهم. النبطية أحمد رضا

أدواة الجماعات والإلحاد والدين

أدواة الجماعات والإلحاد والدين غراء أرضك أصبحت حمراء ... ما بال أرضك لا تمج دماء أأصابها داء الخمار فخيلت ... لشفائه ماء الطلى صهباء أم مسها كلب فأعضل دواءه ... ورأت له فيض النجيع شفاء ورأت سماءك تسطال فصيرت ... سبباً لنيل سمائك الأشلاء أم غراها مدنية قد نافست ... أبناءها بغرورها الجوزاء فاستبدلت بالأسودين الأرجوا ... ن وباخضرار حلة حمراء نزلت سويداء القلوب فلم تدع ... للقوم الأ القطة السوداء ولكم لها يد سوداء لم ... تترك لها صنائعها يداً بيضاء وما انبتت أن أرض تقل ال ... قوم إلا الظلم والهيجاء وإذا سماهم أمطرتهم سحبها ... مطرتهم الأسواء والبأساء ملأت فنونهم البلاد وإنما ... كانت فنونهم ردى وفناء أغرى العداوة بينهم حدٌ به ... كم أصبحوا يستقبلون شقاء وأضلهم طرق الهدى طمع به ... خاضوا لداعية الردى داماء عدوا فخاراً ميتة تحت الظبي ... والحتف في ظل الرماح علاء * * * * قد خالفوا الأديان والديان لم ... احلفوا الأوهام والأهواء زعموا التدين للعقول ضلالة ... وبزعمهم ملؤوا الوجود هراء أتراهم جهلاً عزو ما قد عزو ... للدين ما قد كان منه براء فاستبدلوا بالجهل علمهم بما ... فيه وما كانوا به جهلاء ما الدين إلا وازع يزع العقو ... ل عن الضلال ويصدع الظلماء ما كان قط يريد ظلماً للورى ... كلا ولن يرضى لهم إغواء ركبوا الضلالة متن عمياء وما ... بلغوا بها الأعمى وعماء ولو أنهم سلكوا طريق الدين ما ... تخذوا النزاع طريقة عرجاء * * * * * * * قل للأولى زعموا بأنهم غدوا ... في كشف كل حقيقة علماء

أظننتم ألحادكم في الدين يد ... فع عنكم الآلام والبرحاء أم خلتم استكمال أنفسكم به ... وبغيره لن تدركوا الأشياء فتخذتم عن من تجلى لطفه ... في الكائنات الصدفة العمياء وعزوتم سنناً لها ونبستم ... حكماً يحير دركها الحكماء * * * * * * * هل جامد يهب الحياة وأعجم ... يهب البيان وينطق العجماء أم هل رأيتم محدثاً مستغنياً ... عن محدث قد شاء ما لا شاء أرأيتم يوماً بناء قائماً ... في نفسه قد أعجز البناء خسأت أناس كم رأت من مبدع ... ملاء العيون مهابة ورواء كم سافرت منها لدرك حماله ... ألبابها فتراجعت إعياء كم شاهد منه على قد أقا ... م على بوارع صنعه شهداء وترى الها وهمها وضلالها ... رباً وتعبد صدفة صماء عرفته في ألبابها ولئن تكن ... جحدت بألسنها له الآلاء وتراه في الضراء أن عنه اغتدت ... عمياء يوم تصافح السراء ومن العجائب أن تحول حبه ... أوهاماً وضلالها بغضاة حثت عزائمها على الإلحاد في ... أسمائه فتبددت أنضاة ما زادها إنكارها وجحودها ... لالاهها إلا به أغراء إن أنكرت أسماءه ما أنكرت ... آثاره وصفاته الغراة ناءت بثقل جحودها ولوان هـ ... ذا الكون حمل بعض ذاك لتاء * * * * * * * ونتيجة الإلحاد أهوال بها ... رزح الزمان وأهد إعياء بلغ الزبى سيلٌ له ما أنفك في ... وكاف كل رزية أتاء هو رائد الفوضى التي كم قد شكى ... منها الزمان وأهله وأدراء ألدين أم ألحاد قوم بالذي ... ذرأ الورى ترك الورى أعداء هل قوّم الأخلاق غير الدين بل ... من غيره قد هذب الآراء

لو عانق الدين الصحيح الناس عا ... شوا كلهم في دهرهم سعداء * * * * * * * * * كم مهرق ما كان فيه مرقمي ... والنفس إلا الدجن والوجناء لولا الذي قد خط حرفي في صحي ... فته اغتدى عمر المدى ملساء أرعى النجوم مملقة وأحيل في ... هذا السواد خواطري البيضاء لا أشتكي من اللعوب ولا أذ ... م العيس والظلماء والبيداء لا أشتهي عذب القيان بمسمعي ... دو يردد جوه الأصداء أهوى القفار مع السكون ولا أر ... ى العمران يملأ مسمعي ضوضاء * * * * * * * * ضل الأولى حسبوا السعادة (سلطة) ... سام القوي أذى بها الضعفاء أو أنها (حرية) فيها أغتدوا ... من قيد كل شريعة طلقاء أو أنها (مالٌ) يجمعه أمره ... يستام به التيه والخيلاء وطوراً يفرقه بلذته وآ ... ونة به يستعطف الأمراء أو أنها (شعر) به الشعراء تن ... تجع الغنى وتصانع العظماء أو أنها قلم توشي طرسها ا ... لكتاب فيه فتبدع الأيشاء أو أنها (علم) به يتلمس ا ... لعلماء جاهاًً زائلاً وثراء أو أنها (حرب) يروح مغامراً ... فيها الشجاع يناجز الأكفاء وطلابها من غير طرق الدين لا ... يغني عقول الطالبين غناء وإذا الفتى لم يغتدي في راحة ... من لبه قطع الحياة شقاء لا العلم يطفي منه غلة ناهل ... إن لم يطأ للدين فيه سواء وإذا اغتدى في صحة من دينه ... وجد السعادة والشقاء سواء وإذا أصيب معضل من دائه ... لم يلف إلا الدين فيه دواء * * * * * * * قل للأولى جهلوا الحقائق إذا أبوا ... أن يغتدوا لآلههم حنفاء أخفى الجحود عليهم أنباءهم ... في حيث منه تحسوا الأنباء

إن قربوا النائي فبين ضلوعهم ... سرٌ غدوا عن دركه بعداء من كان يجهل نفسه والآهه ... هيهات يدرك لبه الأشياء فليرجعوا لعقولهم ولينصتوا ... لندائها أن يملكوا أصغاء ولهم قوالب غير أن قلوبهم ... رقت فكادت أن تكون هواء نبذوا تعاليم الشرائع جانباً ... جهلاً وما كانوا بها عرفاء وعنوا بوضع قواعد حسبوا بها ... ترقى جماعات الورى الطياء أرأيت يشبه وضع محدود نهىً ... أوضاع من لا يشبه الأحياء وضعٌ تقلبه السياسية كيفما ... تهوى ويمليه الهوى إملاء لا يستبين السائرين منارة ... منه ولا يستوضحون ضياء وضع به أضحى الأنام جميعهم ... متهافتين على الفنا خصماء كم قوموا سمراً وبيضاً أرهفوا ... لردى وشنوا غارة شعواء وتسربلوا بسوابغ مسرودة ... خاضوا بها لحتوفهم جأواه وكأنما قد حاولوا أن يبتنوا ... فوق البسيط من الهباء سماء تخدراً لها بدلاً عن الشهب القنا ... وعن النيازك أسهماً وسراء ومن المدافع رعدها ومن الصوا ... رم برقها والديمة الوطفاء النبطية سليمان ظاهر

الأرواح والمشعوذون

الأرواح والمشعوذون كل رأي لأم تقم عليه الأدلة العلمية لإثباته هو باطل لا يجوز تصديقه وقبوله ولكن ما لا تستطيع البراهين الفنية نقضه وتزييفه جدير بالقبول وإن كلن بعيد الحصول وكثيراً ما تكون العقول قاصرة عن أثبات بطلان الآراء الجديدة فتضطر إلى تصديقها بسائق العجز والتقصير مثال ذلك ناموس الجاذبية الذي قال به الفيلسوف أسحق نيوتن مستنداً على سقوط تفاحة من شجرة على ضفة أحد الأنهار فتضاربت العقول في باديء الأمر لأن الطباع تحرص على قديمها المألوف فلا تقبل الجديد إلا بعد جدال وعراك في ميدان البحث والتنقيب وقد قرأت في كتاب مخطوط من خزانة الديرالكرملي في بغداد أن مسألة طيران العباس بن فرناس من علماء الأندلس قد أثارت عليه العامة والخاصة ولعنته لعناً بليغاً لأنه أراد أن يتشبه بفرعون في الوصول إلى السماء فصنع له ريشاً كسا به جلده وحاول الطيران ولكنه سقط بأمر الرب لأنه لا يريد أن يعطي البشر ما أعطاه للملائكة والأنبياء ثم مضت العصور وتداولت الدهور والعلماء بين مصدق ومكذب حتى البشر وألفناهم يزاحمون الأسماك بغواصاتهم في البحار وينافسون الطيور في السماء بطياراتهم وهيهات أن تصل الطيور إلى الارتفاع الذي تصل إليه الطيارات المتقنة لأن أجنحتها تكل بعد طيران قليل فتضطر إلى النزول بعكس المناطيد أو الطيارات فهي تبقى محلقة في الجو ما دامت مراد البخار متوفرة في مخازنها قام غاليله قبل بضعة عصور قائلاً بكروية الأرض ودورانها ووقوف جرم الشمس مستنداً على الحقائق العلمية التي أدخلها العرب إلى إيطاليا وأسبانيا وجنوبي فرنسا فلم يرق رأيه لعقول هاتيك الأزمنة القاصرة فقتله حرقاً أو صلباً ومثلوا به تمثيلاً شنيعاً على رواية بعضهم وكذلك أحرقوا جثة دانتي الشاعر الإيطالي بعد زمن طويل من وفاته لأنه قال ما لا ينطبق على مصلحة الرهبان والأكليروس وباح بعض الحقائق العلمية التي لا يتنازع فيها اثنان ولا يتناطح فيها عنزان وهكذا كان شأن العلماء والفلاسفة في الشرق أيضاً قبل أن ينضج العلم وتختمر به العقول والأدمغة ولنا في حياة ابن خلدون وابن رشد والفارابي والرازي وابن سينا وابن باجه وغيرهم من أساطين العلم وأقطاب الفلسفة أمثلة صادقة على ما كان يعترض الباحثين في تقرير آرائهم ونشر مبادئهم. إن الاعتقاد بارتقاء العقل البشري يوماً فيوماً وأنه يسير على ناموس النشر والارتقاء

يحملنا قسراً على تصديق كل ما لا يقبله العقل في هذه الأزمنة لأن ما يكذب اليوم قد يصدق غداً وما لا يتحقق في هذا العصور المقبلة فلو قيل لا سلافنا أن الإنسان في القرن العشرين يقطع المسافة بين الأستانة وبرلين وباريز في يومين أو ثلاثة أيام على الأكثر وأن سيأتي يوم تتحارب فيه الأمم فوق اليابسة وتحت البحر وفي الجو وأن الشعوب تتخاير في لحظة من الزمن بالبرق اللاسلكي لقالوا أن هذا الأمر من رابع المستحيلات وبعيد الوقوع لأن عقولهم لم تكن على درجة من الكمال والقوة كما هي عقول المعاصرين المشهورة بالإبداع والاختراع وهذه الحقيقة تثبت أننا اليوم عاجزون عن أدراك ما سيأتي به العلم من العجائب والغرائب فإن الفن الذي قرب البعيد وأدنى الشاسع ورفع العقل البشري إلى هذا المستوى الراقي فزاحم الطيور والأسماك لهو هو الذي يمهد السبيل لكثير من الغرائب التي لا نصدقها ونحمل القائل بها على الشعوذة والتمويه إن ما نسميه اليوم بالشعوذة كاستنطاق الأرواح وأخذ أخبار المستقبل عنها والأنباء بالوقائع قبل حدوثها وكالناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا وطاس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها واستخراج المجهول والسرقات بالتنويم المغناطيسي \ وقلب الماء إلى تراب والتراب إلى ماء واستخراج المسكوكات الذهبية والفضية من الحجارة أو من الورق - قد يكون صحيحاً ويثبته العلم غداً بعد أن تعمل العقول فيه معملها وكثير من هذه الأعمال يثبت العقل بطلانه وكذبه منها مسألة قلب الحجر إلى سكة ذهبية أو غيرها لأنه لو صحت هذه الأعمال لكان العامل بها من أغنى البشر ولما كان في فقر مدقع ولكن الأنباء بحوادث المستقبل واستنطاق الأرواح هي محل النظر والإمعان فقد رأيت قبل ثلاثة أعوام عجوراً شمطاء تأوى إلى مسجد الكيلاني في بغداد يقصدها الناس إلى استخراج السرقات التي تعجز الشرطة عن معرفة أبطالها فهي تنبئهم بأسمائهم واحداً واحداً وتخبر عن أمكنة الأشياء المسروقة كأنها ربة الدار وصاحبة المخزن ولو سألت صاحبها عن مفرداتها لما أستطاع أن يخبرك عنها كما هي تخبر وتقول ولولا أن العجوز زاهدة ومشهورة بالتقوى والصلاح لقلنا أن لها صلات مع السراق ولهم نوادر كثيرة من هذا القبيل تدل على كهانتها وعرافتها وأن لها بصراً نافذاً ونظراً ناقداً ومن هذا القبيل ما ورد من الحكايات والروايات عن شق وسطيح الكاهنين وكانا أنبأ في تأويل رؤيا ربيعة بن مضر عن ملك الحبشة لليمن.

وظهور النبوة المحمدية في قريش ورؤيا الموبذان التي فسرها سطيح بالنبوة وخراب فارس وكان للعرب اعتقاد بالعرافة فوردت في أشعارهم كثيراً وقد قال أحدهم: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفياني فقالا شفاك الله والله ما لنا ... بما حملت منك الضلوع يدان ومن هذا القبيل شفاء المرض والطلاسم والعزائم والاستحمام بالمياه المقدسة والتبرك بالأحجار والأستار وهذا أمر شائع لدى جميع الأمم ففي فرنسا يغتسل المرضى بمياه القديسة ويعتقدون أنها تشفي من الأسقام المعضلة وفي بغداد بئر ينسبون إليه القدسية قريبة من مرقد الجنيد الصوفي فإذا المرأة وانقطعت عنها الولادة ذهبت يوم الأربعاء أو يوم الاثنين فتغتسل بماء البئر فتحمل ليومها وإذا أعضل المرض على بعضهم ذهب ليلة الأربعاء وقام بين صخور مقدسة في ضريح الجنيد فيخرج صباحاً وهو على جانب عظيم من النشاط وربما أتاه الجنيد ليلاً وباركه ومسح بدنه بيده الكريمة وحينئذ تقام النذور وتتوزع الصدقات وقد عللت أحدى مجلات مصر العلمية ذلك بأن للاعتقاد تأثيراً كبيراً في الشفاء وأطلقت عليه الشفاء بلا درا لأنه متى أعتقد الليل بأن هذا المرض يزول بالتبرك والاغتسال أو الطلاسم والعزائم يكن شافياُ معافى إذ أن أكثر الأمراض منشأوها الأوهام وقد يكون الإنسان سليماً صحيح البدن فيتوهم أنه مريض ويظل في هذا الوهم إلى أن يعتقد بزوال علته. يمكن القول بانطباق هذا التعليل على العقل والمنطق ففيه مسحة علمية وطلاء عقلي غير أن الأذهان تقف حائرة تجاه بعض الوقائع التي يؤاها النقد بعينه فيبقى بين التصديق والتكذيب مثال ذلك اتصال الأرواح ببعض البشر ومكالمتها إياهم بالإشارات وكالأنباء بالغيب على أثر حدوث انفعال في النفس أو تبدل فجائي فينتقل فيه المرء من عالم إلى عالم آخر تنويم السراق والمجرمين وحملهم على البوح بالأسرار إلى غير ذلك م الأمور الغريبة التي الفكر عن نقضها وتزييفها ربما عرضت هذه الوقائع لكثير من الناس في حياتهم وقد عرض لي حادث من هذا القبيل فقد كنت في إحدى مدن العراق فبل بضعة أعوام أتناول الطعام على مائدة أحد الأعيان فشعرت أثناء الأكل باضطراب عظيم انتقلت به من عالم إلى آخر فخيل لي أن أحد أركان العائلة أجريت له عملية جراحية فمات على

أثرها وبعد ما أفقت من الإغماء دونت هذه الحادثة في دفتر ورجعت إلى بغداد فرأيت أن الحادثة وقعت في اليوم الذي شعرت فيه وقوعها وقبل خمسة سنين كانت لي شقيقة ابتلت في عفوان شبابها بمرض عضال كنت أراقب أدواره وأخبر الطبيب عما يعرض لها ثم حملني القلق على جمع فريق من الأطباء لفحص مرضها فاجتمعوا مساء وقرروا ابتلاءها بالسل وأنه يستحيل شفاؤها وقد تطول حياتها على نحو شهرين فخرجت وخرج الأطباء من الدار وجلست مع أحد الأصدقاء في بيت آخر فأصابني اضطراب كالاضطراب في الحادثة الأولى وتخيلت موتها وقد عزلني الصديق على هذه الأوهام بعد أن قال الأطباء ببعد أجلها على ما يعرفون من سير السل ولكن ما كانت تمضي بضع دقائق إلا وأتانا الناعي بمعناها ولما سألت عالماً من علماء مصر الذين اشتغلوا بالفلسفة والطب ثلث عصر أجاب بأنه لا يصدق بوقوع الحادثة الأولى وطلب أن أرسل له المفكرة التي دونت فيها الوقعة وأسماء الشهود الذين حضروه وأما الوقعة الثانية فقال عنها أنها من الأمور الطبيعية وأن الإنسان قد يمرض مائة مرة في عمره وفي كل واحدة يعتقد أقاربه بأنها القاضية على حياته مع أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة وقد بحث غير واحد من المتقدمين في هذه المسائل منهم العلامة ابن خلدون فعقد فصلاً وافياً عب الكهانة والعرافة والأخبار بالغيب وما أشبه: فقال 1 - الكهانة من خواص النفس الإنسانية وذلك أن لها استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية وأن يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركة ولا بأمر من الأمور وإنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة قرب من لمح البصر وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطي التقسيم العقلي أن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه وشتان ما بينهما فإذا أعطى تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزاع لذلك هي ناقصة عنه بالجبلة فيكون لها بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تتشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكهان وما سنح من طير أو

حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور من الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية 11 ولأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيهم نفوذاً تاماً في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة 11 تحضرها لمخيلة ونكون لها كالمرآة تنظر فيها الصنف الذي يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ولا يكون موثوقاً به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويهاً على السائلين ثم أنتقل للكلام عن الناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطرق بالحصى والنوى فقال أن كل هؤلاء من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة منهم في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها وأشرفها البصر فكيف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبره عنه وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة ليس كذلك بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر فيبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمام يتمثل فيه صور هي مدار كهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو أثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال وإنما ينشأ لهم هذا النوع من الإدراك وهو نفساني ليس من أدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني المحس كما هو معروف ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبركما أدرك ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة. وأما الزجر فهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان

والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوة النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً فيؤديه إلى أدراك كما تفعله القوة لمخيلة في اليوم وعند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته ومع عقلته فيكون 11 الرؤيا وأما المجانين الذين يخبرون بالغيب فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد غالباً وضعف الروح الحيواني منها فتكون نفسه غير مستغرقة بالحواس ولا فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما يزاحمها على التعلق به روحانية أخرى أو شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد في مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن جسمه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وأنطبع فيها بعض الصور وحرفها الخيال وربما نطق على لسانه بتلك الحال من غير أرادة النطق وأدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق والباطل لأنه لا يحصل له الاتصال وان فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك اه. والظاهر من قول ابن خلدون أن للنفس عقلين ظاهر وهو الذي يقودنا في حياتنا وباطن وهو الذي يظهر بركود الظاهر فينتقل المرء من عالم إلى آخر وتتنبه فيه القوى الكامنة ومن ذلك الخطيب الذي لا يستطيع القول إلا بعد شرب المسكرات التي تنير دفائن الدماغ ومخزوناته والكاتب الذي لا يملي كلمة إلا بعد تناول التبغ وغيرهم كثير وقد رأيت في الموصل شاباً أعمى ومعتوهاً إلا انه بارع في علم الحساب بصورة عقلية فإذا قلت له وقعت حادثة في السابعة والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1450ميلادية مثلاً فمادا يكون أسم ذلك اليوم وماذا يكون إزاءه من الشهر العربي فيجيب على الفور أنه يكون اليوم الفلاني في العدد الفلاني من الشهر العربي ويسميه أيضاً ويسمي السنة التي هو فيها وكذلك رأيت مكفوفاً آخر من الموصليين في بغداد وكان غاب عنها نحو عشرين عاماً يمسك يد معارفه وهم سكوت فيقول بأسمائهم ولم يكن عرفهم قبلاً وهذا من البراهين التي تثبت خفاء العقل الظاهر وظهور الباطن فهم بحيث تتمثل لهم حوادث الأيام الماضية من لفائف أدمغتهم كما تتمثل الحوادث على لفائف الصور المتحركة فيعرفون أصدقاءهم الذين فارقوهم منذ القديم بلمس أيديهم أو رؤؤسهم أو مسك أكتافهم.

وصفوة القول أن أعمال المشعوذين والمعتوهين وطلاسم المشايخ وعزائمهم والتبرك بالأحجار والولادة بالاغتسال من الآبار والأنهار وذهاب المرض بالأدعية والأحجية بعد ما يعجز الطب عن شفائه والأنباء بالغيب واستخراج السرقات والنظر إلى المرايا أو في طساس المياه وقلب الحجارة إلى المسكوكات ذهبية وفضية واستنطاق الأرواح بالإشارات والتنويم المغناطيسي وما أشبه هو فرع من فروع علم النفس الذي أثبت لنا البحث بعضه ورفعه إلى الحقائق العلمية كالتنويم وسيثبت لنا اليوم بعض ما رآه اليوم غريباً ما دام العلم يخرق حجب الأسرار وينفذ إلى أعماق الكائنات وسنظل مثابرين على تحكيم العقل والمنطق في هذه المسائل العويصة إلى أن تتقلب إلى حقائق يصدقها العقول وما أخطأ من يحكم عقله في ما يعرض له الحوادث والوقائع والأسرار والأفكار. جاءت أحاديث إن صحت فإن لها ... شأناً ولكن فيها ضعف أساد فشاور العقل وأترك غيره هدراً ... فالعقل خير مشير ضمه البادي إبراهيم حلمي العمر

المكتبة الزراعية

المكتبة الزراعية وكتاب الفلاحة في قرية زمارين التي تبعد عن حيفا زهاء ثلاثين كيلو متراً مكتبة غنية جمعت كل ما عرف إلى الآن من المصنفات الزراعية على مختلف اللغات وقد أتيح لنا زيارتها ربيع هذه السنة فأردنا أن نطلع من يريد الاطلاع على ما هنالك وأن نصف لهم كتاباً عربياً من أجود وأمتع ما كتب في الزراعة فنبدأ بوصف القرية ثم المكتبة ثم الكتاب القريةزمارين أو ذكرون يعقوب على ما يسميها سكانها بليدة صغيرة أستوطنها وتملكها مهاجرة الإسرائيليين القادمين من رومانيا سنة 1882 ميلادية وقد ضاقوا ذرعاً من الأنفاق على أعمارها وإصلاح تربتها قبلاً فاستنجدوا بسراة قومهم فانجدهم البارون يعقوب روتشيلد الذي نسبوهم إليه كما مر بك وأمدهم بالأموال الطائلة حتى أثروا وتنعموا وأخيراً سلمها إلى جمعية الأيكا أحدى جمعيات الاستعمار الإسرائيلي التي تعمل على أسكان الإسرائيليين في فلسطين وفي أميركا وغيرها من البلدان وهي تحوي اليوم 150 بيتاً وفيها من السكان ما يزيد عن 800 نسمة وواقعة على ذروة جبل يطل على البحر المتوسط وعلى ما حولها من السهول الخصبة والحراج الغضة وبالنظر لكونها في منتصف الطريق المؤدي إلى يافا فإن فيها نوعاً من الحركة التجارية وأهلها يعملون بالزراعة وفيها در للبريد والبرق وتجود فيها الكروم إلى حدان معملها الكبير يخرج مقداراً كبيراً من الخمر وغيرها من المشروبات الألكحولية ويصدرها إلى أوربا فوق ما يستهلك منها في فلسطين. وفي هذه القرية من الجواد والشوارع ما لا تحده في المدن الكبرى ويأتي الماء إليها من بئر غزيرة في جنينة تسمى النزلة تسوقه قوة البخار إلى ما يعلو عن سطح البحر مائتي متر تقريباً ويتوزع على البيوت والسيلان من الخزان الذي يجتمع فيه وفيها فنادق تفي بالغرض وتعنى براحة المسافرين ويتخلل بيوتها القوراء الشمس والهواء النقي. المكتبة في أحدى جوانب هذه القرية تجد بناية فخمة بالنسبة إلى ما سواها وأول ما يقع نظرك عليه منها بهو غير واسع الأرجاء ولكنه يكفي لاجتماع مزارعي تلك القرية وفي وسط آلة تدور بصور الحبوب والثمار ليسهل على الخطيب الذي يخطب في موضوع الزراعة

تعريف الحاضرين بأصناف الحبوب التي يدور عليها البحث. وعلى جانبها الأيمن غرفة خاصة بمدير المكتبة وعمالها وخزانة فيها بضع مئات من الكتب الزراعية ومنها تنتقل إلى المكتبة الكبرى التي تضم تحت سقوفها زهاء عشرين ألف مجلد كلها تبحث في الزراعة وما يليها وأغلب الكتب فيها باللغة الإنكليزية ثم الألمانية فالفرنساوية فالطليانية فالاسبانيولية وفيها نزر يسير من الكتب العربية والتركية. وترى خزانة خاصة بالمجلات الزراعية على اختلاف اللغات وبينها مجلة الأرض الباسيفيكية التي صدرت ولا تزال تصدر في سان فرانسيسكو ومن 7كانون ثاني 1871 أي منذ 46عاماً وقد علمنا من أمناء الكتب أن هذه المجلة لا يوجد منها سوى ثلاثة مجاميع تامة الأعداد أحدها في هذه المكتبة وقد أهديت لها من قبل حكومة الولايات المتحدة. ويوجد غرفة خاصة للطب النباتي وجميع كتب هذه الغرفة تتعلق بالأمراض التي 11 والشجر والنبات وفيها نماذج قد ترى بالعين المجردة ومنها لا يرى إلا بالمجهر وهو قائم في وسط الغرفة للذين يقصدونها للوقوف على أدواء أشجارهم وبقولهم والذي اكتشفوا على الآن من أمراض النبات يبلغ أربعين ألفاً وهناك دائرة خاصة بالكيمياء وفيها من الآلات والعقاقير ما تحلل به الأتربة والحجارة لمعرفة خواص الأرض. ودائرة التجليد وفيها مجلد خاص يشتغل طوال نهاره بتجليد الكتب والمجلات ويتعهد الكتب المجلدة حتى إذا أفسد الدهر شيئاً منها أصلحه. ومن ألطف ما رأيناه غرفة خاصة بأنواع النبات والأزهار والرياحين التي توجد في سوريا وفلسطين وقد حفظت ضمن ملفات لها على شكلها الأصلي وحرر بأخر كل زهرة أو ورقة منها تاريخ العثور عليها وأي البلاد وجدت وفيها بعض الأعشاب الغريبة التي جيء بها من بلاد المغرب وقد أطلعت على فإذا هي قد وجدت بجوار طنجة من بلاد مراكش سنة 1802 ومع ما مر عليها من السنين تراها كأنها قطعت حديثاً وأدرجت في ملفها ملصقة على ورقة ثخينة جداً وقد تأنقوا في ضبط أنواعها حتى بلغت معهم إلى الآن ثلاثين ألفاً من الأعشاب والأزهار وسواها مما تنبت الأرض من بقولها وهناك خزانة خاصة بالأتربة والحجارة وفيها بعض الأصداف والأسماك والأشجار المتحجرة. ويوجد من الآلات مقاييس للحرارة والرطوبة والمطر وكل ما له علاقة بالزراعة وآلة لنقل

الصوت حتى إذا أضطر مدير المكتبة لمبارحة عمله ليلاً وكان يصعب عليه مقابلة موظفيه أتى إلى المكتبة وتكلم ما شاء الله أن يتكلم فتأخذها الآلة وترسمها على الأسطوانة وهي أشبه بأسطوانات آلة نقل الصوت الفونوغرافوحينما يأتي كاتب المكتبة يفتح الآلة وينقل عبارة المدير بالحرف الواحد ويبلغها إلى أصحاب العلاقة بعد أن يدونها بدفتره. أما مؤسس هذه المكتبة الحافلة فهو هارون آينزرون من متخصصي الزراعة وهو من أهل القرية الذين نبغوا واخصوا في ما وقفوا أنفسهم عليه أسسها سنة 1913 بعض سراة الإسرائيليين في أميركا ويتبع هذه المكتبة حقل نموذجي بجوار قرية عثليث يعالجون فيه الأعشاب والنباتات البرية ليجعلوها صالحة للاستغلال ففي المكتبة تجد ما يعوزك من النظريات العلمية وفي الحقل تلقن ما يفيدك من التطبيقات العلمية. كتاب الفلاحة للشيخ الفاضل أبي زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوام الأشبيلي عني بطبعه بعد ترجمته إلى الأسبانيولية الدون يوسف بن أنطونيوس الإنكليزي وقد نسخه من بين كتب خزانة المجمع العلميالأكاديميفي أسبانيا ومثله المطبع على عربي واسبانيولي فجاء في جزأين كبيرين بالقطع الكامل الأول 698 صفحة والثاني 756 ومما ذكره في مقدمته. أعلم وفقنا الله وإياك أني قسمت هذا التأليف على خمسة وثلاثين باباً وضمنت الأبواب من هذا الفن أنواعاً تقف عليها أن شاء الله تعالى وبه أستعين وعليه أتوكل واعتمدت على ما تضمنه كتاب الشيخ الفقيه الأمام أبي عمر بن حجاج رحمه الله المسمى بالمقنع وهو الذي ألفه سنة ست وستين وأربعمائة وهو مبني على آراء أجلة الفلاحين والمتكلمين نقل فيه نصوص أقوالهم وعزاها إليهم وعددهم ثلاثون رجلاً والمقدمون منهم يونيوس بارون لاقطيوس يوقنصوص طارطيوس بتدون بريعايوس ديماقراطيس الرومي كسينيوس طروراطيقوس لاون سود بورقسطوس عالم الروم سادهس سمانوس سراعوس انتوليوس شولون ميداغوس الأسباني نهاريس مرعوطيس مرسينال الطنيس انوت برورانطوس والمتأخرون في زمانهم منهم إسحاق بن سليمان ثابت بن قره بو حنيفة الدينوري وغيرهم

ممن ام نسمه واعتمدت أيضاً مع ذلك على ما استحسنته مما تضمنته الكتب المذكورة بعد منها كتاب الفلاحة البطة تأليف توثامس وهو المبني على أقوال أجلة الحكماء غيرهم وذكر فيه أسماءهم وعددهم منهم آدم وسفريت وسيوشد وخنوخا وماس ودرتا وطامتري وغيرهم وربما اختصرت ذكر هذا الكتاب وأثبتت له علامة وهي (ط) وعلى كتاب الشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن الفضال الأندلسي رحمه الله وهو المبني على تجاربه وعلامته على وجه الاختصار (ص) وعلى كتاب الشيخ الحكيم أبي لاشبيلي رحمه الله وهو مبني على آراء جماعة من الحكماء والفلاحين وعلى تجاربه وعلامته (خ) وكتاب الحاج الغرناطي وعلامته (غ) وكتاب ابن أبي جواد وكتاب غريب بن سعد وغيرهم ونقلت إلى هذا الكتاب أيضاً ما 11 منسوباً إلى الحكماء المذكورين بعد هذا وهم ديمراط وعلامته (د) وجالينوس وعلامته (ج) وأنتريوس الأفريقي وعلامته (ف) والفرس وعلامتهم (ر) وعلامة قسطوس (ق) وعلامة أوسطاطانيس (ط ط) وعلامة اليوناني (م) وأخبر بعض العلماء في التاريخ أن اليوناني كان من الإسكندرية وزعموا أنه كان المعمرين وأنه عمر 800 سنة وسقت أقوالهم على حسب ما وضعوا في كتبهم ولم تكلف أصلاح ألفاظهم وثقلت أيضاً أقوال المسلمين في هذه الجملة ولم عنهم بأن كتبت قيل كذا وقال غيره كذا طلباً للاختصار ولم أثبت فيه شيئاً من رأيي إلا ما جربته مراراً فصح وقسمت هذا التأليف على سفرين ضمنت الأول منهما معرفة أخبار لأرضين والزبزل والمياه وصفة العمل في الغراسة والتركيب وما يتصل بذلك مما هو في معناه ولا حق به وضمنت السفر الثاني الزراعة وما إليها وفلاحة الحيوان والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل وقدمت في فلاحة لأرضين ما ثبته الشيخ الخطيب أبو عمر بن الحجاج رحمه الله في كتابه من آراء القدماء المذكورين فيه وجعلته كالأصل لشهرتهم في العلوم ولم أقطع بأن ذلك يصح في بلادنا لبعد بلادهم عنها وتممت الغرض المقصود إليه بما نقلته من كتب الفلاحين الأندلسيين أو ما جربوه في ذلك وما وافق أقوالهم فيه آراء القدماء هو الذي يصح عندنا إن شاء الله تعالى وبه التوفيق. الباب الأول: في معرفة الطيب من أنواع الأرض والوسط والدون منها بدلائل ذلك وشواهد وذكر طبائعها وتسمية ما يصلح أن يزرع أو يغرس في كل نوع منها وما يجوز فيه. الباب الثاني: في ذكر الزبول وأنواعها وتدبيرها ومنافعها للأرض والشجر وسائر المنابت

ووجه استعمالها وما يصلح منها بكل نوع من أنواع الأرض وبكل نوع من المغروسات والمزروعات فيها. الباب الثالث: في ذكر أنواع المياه المستعملة في سقي الأشجار والخضر وما يرافق من أنواعه كل نوع من ذلك. الباب الرابع: في اتخاذ البساتين وترتيب غراسة الأشجار فيها على أحسن وجه والاختبارات في ذلك. الباب الخامس: في صفة العمل في اتخاذ الأشجار أنواع الثمار في البعل وعلى السقي وفيما لا يستغني غارسها عن معرفته. الباب السادس: في صفة العمل في غراسة الأشجار المطعمة والابقال المدركة بالقول الجملي في ذلك. الباب السابع: في تسمية الأشجار المعتاد غراستها في أكثر بلاد الأندلس وتقدير أنواعها ووصف بعضها وصف العمل في غراسة كل شجرة منها وذكر كل ما يصلح لكل نوع من أنواع الأرض ومن السقي وسائر التدبير على الإفراد. الباب الثامن: في تركيب الأشجار المؤتلفة المتفقة بعضها في بعض ومعرفتها. الباب التاسع: في صفة العمل في تقليم الأشجار ورقت ذلك وذكر ما يحمل ذلك منها وما لا يحتمله. الباب العاشر: في كيفية العمل في عمارة الأرض المغترسة على حسب ما يصلح لها وبالأشجار المغترسة بها ووقت ذلك واختياره وذكر الصفة التي يصلح أن تكون عليها الأرض في وقت العمارة وتسمية الأشجار التي توقفها كثرة العمارة والتي لا توافقها أكثر منها. الباب الحادي عشر: في صفة العمل بتزبيل الأرض والأشجار المغروسة وغير المغروسة وفي ما يوافق كل نوع منها من الزبول وعلاج الأرض المالحة وقدر الزبل ووقته وكيفية تزبيل الأشجار بحسب حالها وحسب حال الأرض التي هي مغروسة بها 12: في صفة العمل في سقي الأشجار والخضر بالماء ووقت ذلك وقدره وذكر الأشجار التي يصلحها السقي الكثير والأشجار التي لا تحتمله.

13: في تذكير الأشجار الآتي ذكرها وهي الذكار والبكور والتين والخوخ والرمان وشجر المشتهى والكمثرى وحبّ الملوك وهو الراسية الخ. 14: في علاج الأشجار والخضر التي ذكرها من الأدواء والأمراض أن نزلت بها وذلك التفاح والأجاص والنارنج وخلافه. 15: فيه صلح مستظرفة تعمل في بعض الأشجار والخضرة من ذلك صفات في دس الطيب والحلاوة والترياق وكبوب الفاكهة الحلوة والأدوية المسهلة في الأشجار المطعمة وفي القضبان والبقل المغترسة ليؤدي ثمرها مطعم ذلك وفوحه وقوته وصفة عمل يصير به لون الورد أصفر ولازوردياً أيضاً وتدبير في الورد حتى يورد في غير أيامه وتدبير في التفاح حتى يثمر في غير أيامه إلى غير ذلك من الثمار. 16: في صفة العمل في اختزان الحبوب الغضة واليابسة. 17: وهو أول السفر الثاني م هذا التأليف في كيفية القليب ووقته ومنفعته وإصلاح الأرض بعد كلاهما. 18: فيما يريح الأرض ويصلحها من الحبوب القطاني 19: في معرفة وقت الزراعة وكيفية العمل فيها وصفة العمل في زراعة القمح والشعير الخ. 20: في صفة العمل في زراعة الرز والذرة والدخن والعدس والجلباني وغيرها سقياً وبعلاً. 21: في صفة العمل في الزراعة القطاني سقياً وبعلاً مثل الفول والحمص. 22: في زراعة الكتان والقنب والقطن وبصل الزعفران و. . . الخ 23: في اتخاذ واختيار أرضها وكيفية العمل في زراعتها. 24: في زراعة البقول ذات الأصول وشبيها وذلك السلجم والجزر والفجل والبصل الخ. 25: في زراعة القثاء والبطيخ والدلاع الخ 26: في زراعة النابت ذوات البزور المستعملة في الأطعمة وفي بعض الأدوية مثل الكمون والكورية والشونيز الخ 27: في زراعة الأحباق والرياحين مثل ذلك الخيري والسوسن والنيلوفو والبهار الخ

28: في زراعة انواع من النبات تتخذ في الحنات وتصرف في وجوه مختلفة من ذلك الماميثا والقنارية والفيجن والكرفس والنيل والصقر الخ 29: في تقدير الزراريع وفيه صفة يتعرف فيها ما ينتخب من البزور في ذلك العام بمشيئة الله. 30: وهو باب جامع يتضمن اختيارات منها اختيار مواضع النبات ووقت قطع الخشب لذلك ولمعاصر الزيت وشبه ذلك وفيه تيبيس الشجر والنبات المضر بالأرض وكيفية تحصين الكروم والجنات بغير حائط وصفة الأعمال في انتقال الأعشاب والأشجار من البرية إلى البساتين وصفة المجرد الذي يعدل به الأرض ووصف أشجار ونبات يصرف ذكرها في هذا الكتاب في باب تركيب. 31: وهو أول في فلاحة الحيوان من ذلك اتخاذ البقر والضان والماعز ذكرانها وإناثها واختيار الجيد منها ومعرفة وقت أنزاء فحوله عليها ومدة حملها قدر أعمارها. 32: في اتخاذ الخيل والبغال والحمير والإبل ذكرانها وإناثها الخ 33: في علاج بعض علل الدواب وأدوائها بالأدوية الينة الموجودة وتعمل اليد بالحديد هنياً لا كلفة فيه ولا كثير مهنة قبل الترويج والتصدير الخ. 34: في اقتناء الحيوان الطائر المتخذ في البيوت وفي البساتين والبقاع والجمال لعلها أحبال مثل الحمام الإوز البرك والطواويس والدجاج وسواه. 35: في اقتناء الكلاب المباح اتخاذها للصيد والزرع والماشية ومعرفة جيدها وسياستها وعلاج أدوائها وذكر ما يصلح به أحوالها. وجاء في آخره: استضر الله من الخطاء والزلل ولسأله المغفرة والرحمة والتوفيق لصالح النول والعمل لا رب غيره ولا معبود سواه وهو حسبي ونعم الوكيل. وهنا نموذج صالح من ذلك الكتاب ننقله للقارئ الكريم ليعلم مبلغ اهتمام المؤلف وبعد في ما لأنتدب نفسه إليه ويرى السلاسة البادية على كتابه الممتع وكلامه المشع. فصل. وأما العمل في غراسة شجر الخروب قال خ: هو أنواع منه الأندلسي وهو نوعان ذكر لا يثمر والآخر يثمر وثمره عريض إلى الطول ومنه الأملير ومنه ذنب الفارة ومنه الشامي وثمره قصير مدور ومنه الخيار شنبر والخروب جبلي ويتميز له من أنواع الأرض

في السهل ما يشبه الأرض الجبلية وينجب في الأرض الكريمة السمينة وتغر نواميه معتلق بعروقها ومليسة في مواضعها حتى يصير لها عروق ثم ينقل ويغرس نواه في تراب جبلي مخلوط برمل وزبل قديم أثلاثاً ويغطى بذلك بقدر أصبعين ويسقى بالماء عدل وينقل بعد عامين في يناير وفي فبراير أيضاً ويغرس تفله في حفر عمقها نحو أربعة أشبار ويجعل بين تفلة منه وأخرى نحو عشرين ذراعاً والعمل في كله مثل ما تقدم ولا تنحب ملوخه ويركب في أنواعه ولا يركب من شيء من الأشجار سواها ولتركيبه عمل مختص به باب التركيب إن شاء الله تعالى والبق لا يقرب عود شجر الخروب. وفي ط: قد تختار من حمل الخروب جربان يؤخذ وهو رطب أو يابس ويكسر صغاراً ويهشش ناعماً ويطحن مع حبه ويخلط معه شيء من دقيق شعير أو حنطة ويعجن دقيقة بخمير من دقيق فإذا اختمر اختمارا متوسطاً يعني بقي بقاء متوسطاً في المدة بعد عجينة فليخبز على الطابق ثم يؤكل بالدسم والأدهان والحلاوات قال ابن حزم الخروب قوت عند الضرورة. فصل. أما صفة العمل في غراسة الزيتون وهو نوعان بري ينبت في الجبال ولا ينبت في شطوط الأنهار ولا حيث تصل عروته إلى الماء الكثير الدائم والنوع الأخر الأهلي وهو أكثر حباً من البري وأوفر دهناً. ومن كتاب الحجاج رحمه الله قال يونيوس الأرض التي تصلح لشجر الزيتون جداً هي الأرض الرقيقة ومن أجل ذلك صار شجر الزيتون يخصب في بلاد أطيفي في الترجمة الأسبانية أسطيفيلأن أرضهم أرض رقيقة وإذا غرس فيها يخصب أكثر من في غيرها قال ابن الحجاج يريد بذلك خصب الزيتون لاكثرة تنعم الأغصان قال يونيوس والأرض البيضاء أيضاً تصلح لغرس شجر الزيتون لا سيما إن كانت لينة رطبة فإن شجر الزيتون الذي يكون في مثل هذه الأرض يحمل ثمرة كبيرة لينة كثيرة الزيت والأرض السود لا سيما التي فيها حجارة صغار أو شيء كثير من الصخور إلى البياض والأرض الرملية إذا لم تكن مالحة تصلح لغرس الزيتون وأما الأرض العقيمة فينبغي أن يتجنب شجر الزيتون لأنها تربي شجر الرمان وتصير بها عظيمة وأما ثمرة الزيتون فإنها تكون قليلة الزيت كثيرة الماء يبطئ ويكون درديها أكثر من زيتها وكذلك الأرض اللزجة الكثيرة جداً فغنها

لبردها ير موافقة لشجر الزيتون وذلك لأنها حارة أحمى في الصيف من غيرها وربما تشققت شقوقاً عظماً وتفتحت فتبردت في الشتاء. وقال ديمقراطيس: يغرس الزيتون في الأرض البيضاء الجرداء الجافة غير الندية ولا ينبغي أن يغرس في الأرض الحمراء المتطامنة ولا في الأرض السخية وهي المالحة ولا في الأرض التي تبرد نعما في شدة البرد وتسخن في شدة الحر لا 11 ريحها ولا في الأرض المشققة إلى أن يقول: وقد أجمع الفلاحون على أن الرياح توافقه فلذلك ينبغي أن يكون غرسه في الجبال والربى التي ليست تنزلها الثلوج كثيراً إلا أنه لا يهوى الجليد والهواء البارد ولا الحر المفرط ولكن حظه من الجو وافٍ. ومنه أيضاً أي يونيوس في السرجين: قال يونيوس: أن السرجين الموافق لشجر الزيتون هو بعر الماعز والغنم وسائر المواشي وسرجين الحمير والخيل وسائر الدواب وأما عذران الناس فغير موافق ولا ينبغي أن يلقي السرجين على الأصول بل بعيداً من الساق قليلاً ليختلط الأرض فيرسل الحرارة قليلاً قليلاً إلى الأصول قال وأما المهرة في بالفلاحة فإنهم يرون طرح التراب أولاً على الأصول ثم طرح السرجين ثم بعد طرح التراب أيضاً على السرجين وينبغي أن يزبل في كل ثلاث سنين أو أربع لا سيما في وقت السقية والمواضع الرطبة ينبغي أن يعمل فيها من السرجين الأقل وفي السنين الكثيرة وأما المواضع التي لا يسرع فيها النبات والمواضع اليابسة فينبغي أن يستعمل فيها السرجين أكثر. وذكر فصل في صورة غرس نوى الزيتون وفصلاً في كيفية إزالة المحروق من الزيتون وفصلاً في أنه لا يجوز نفض حب الزيتون في يوم مطير وإليك ختام قوله في هذا الفصل: ولا ينفض حب الزيتون في يوم مطير فإن ذلك يضر بشجره ووقت نفض ما غرس منه في الجبال شهر يناير ولا سيما الكثيرة الحمل منه وعلامة بلوغه النضج إذا أحمر الماء في داخل الحبة وينفض ما غرس منه في السهل ولاسيما في أرض الزرع إذا أحمر حبه ولا يترك حتى يسود ويتناهى نضجه وفي شهر يناير يتكامل الدهن في حب الزيتون الجبلي الصحيح منه الذي لم يلحقه موت ولا يبس وينفض في فبراير أني جربت ذلك فصح. قال ابن حزم رحمه الله. الزيتون قوت عند الضرورة لا عند الرخاء اه.) وعلى ذكر الفلاح

والنبت ننقل للقارئ الكريم تعريف هذين العلمين عن بعض الكتب التي عرفتهم فتذكر لهم الكتب التي عرفنا عن طبعها بهذين العلمين في القديم والحديث جاء في كتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم للمولى أبي الخير عصام الدين أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة962وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن بالهند ما يأتي: علم الفلاحة علم يتعرف منه كيفية تدبير النبات من أول نشره إلى منتهى كماله بإصلاح الأرض لما بالماء أو بما يخلخلها من كالسماد ونموه أو يحميها في أوقات البرد مع مراعاة الأهوية فيختلف باختلاف الأماكن ولذلك تختلف قوانين الفلاحة باختلاف الأقاليم ومنفعة الحبوب والثمار ونحوهما وهو ضروري للإنسان في معاشه ولذلك أشق أسمه من الفلاحة وهو ومن إيجاد بعض نتائجه في غير أوانه واستخراج بعض مباد هـ من غير أصله وتركيب الأشجار بعضها ببعض إلى غير ذلك ذكر أبو بكر بن وحشية في كتابه المسمى بالفلاحة عن النبط إن ما دار حول شجرة الخطمي وتطلع بالنظر إلى وردها وأدام ذلك فإنها تحدث فرحاً في النفس وتزيل عنه الهم والحزن اه وجاء في كتاب أبجد العلوم من جمع السيد الأمام أبي الطبيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري من المتأخرين المطبوع في بهوبال بالهند على الحجر بعد نقل عبارة مفتاح السعادة إلى غاية من الفلاح وهو البقاء قال ابن خلدون: هذه الصناعة من فروع الطبيعيات وهي النظر في النبات من حيث بالسقي والعلاج وتعهده بمثل ذلك وكان المتقدمين بها عناية كثيرة وكان النظر فيها عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت غايتهم به لأجل ذلك وترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير ولما نظر أهل الملة فيما أشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السحر مسدوداً والنظر فيه محظوراً فاقتص وأمنه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك واحذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج وبقي

الفن الآخر منه مغفلاً نقل منه مسلمة في كتبه السحرية من مسائله وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدون فيها الكلام في الغراس العلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة انتهى الكلام. ثم قفى على ذلك بقوله: قال في مدينة العلوم ومن لطائف علم الفلاحة اتخاذ بعض نتائجه إلى آخر العبارة التي جاءت في مفتاح السعادة. أما علم النبات فقد وصفه صاحب المفتاح بما يلي: علم النبات وهو علم يبحث فيه عن خواص أنواع النبات وعجائبها وأشغالها ومنافعها ومضارها وموضوعه نوع النبات وفائدته ومنفعته التداوي بها ولابن بيطار فيه تصنيف فائق ولا أجمع ولا أنفع من كتابما لا يسع الطبيب جهلهويوجد نبذ من خواصها في ضمن الكتب الطبية. أما في أبجد العلوم فقد قيل عنه: علم النباتات. ذكره في كشف الظنون وقال في مدينة العلوم وهو علم يبحث فيه عن خواص نوع النباتات إلى أخر عبارة المفتاح. وهذه أسماء الكتب والرسائل التي طبعت في علمي الفلاحة والنبات غير التي ذكرناها في مواضعها من مبحثنا هذا. كتاب الفلاحة اليونانية: ترجمه إلى العربية قسطا بن لوقا الطبيب النصراني الفيلسوف الرياضي الرومي العلبكي نبغ سنة 250 إلى سنة 311هـ ويعرف بوضع 11 من المعنى في قليل من الكلام وقد نقله عن ترجمة سريانية لسرجيوس بن الياس 11 الرومي م رأس العين الذي نبغ في أيام القيصر يوستينيانس طبعت الترجمة العربية في القاهرة سنة 1293هـ. علم الملاحة في علم الفلاحة: لعبد الغني النابلسي طبع في دمشق 1299 هـ وهو مفيد في بابه ويغلب عليه أنه مختصر عن كتاب الفلاحة الذي نحن بصدده. لائحة الفلاح لتعليم الزراعة والنجاح طبعت في بولاق سنة 1245وأيضاً سنة 1258 هـ وهي في فن الزراعة ولم يذكر أوضعها. قانون الزراعة: طبع في بولاق سنة 1255 وأيضاً سنة 1257 وهو في فن الزراعة على

الطريقة التي قل أن توافق أغراض الزراعة وأحوالها في الأقاليم المصرية. الآيات البينات في علم النباتات: لأحمد ندى طبعت ببولاق 1 علم النبات: عربه عن الفرنساوية حنا عنجوري من رجال القرن الثالث عشر طبع في بولاق1257هـ. كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما خلق بالأجرام السماوية والأرض والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية: لمحمد بن أحمد لاسكدراني الطبيب نزيل دمشق فرغ من تبيضه سنة 1290هـ وطبع في القاهرة في ج 3 سنة1297 منتخبات في فن الزراعة: ترجمه بشارة أبو عن اللغات الأورباوية وجعله على جزأين الأول في فن الزراعة مع بيان كيفية الأتربة والأجسام المعدنية والهواء والماء في تربية الحيوانات الداجنة ومداواتها إلى غير ذلك طبع في بيروت سنة 1884 ويليه رسوم وصور وأشكال أزهار ونباتات سورية وفلسطين والقطر المصري: تأليف الدكتور بوست طبع في بيروت مع صور وأشكال عديدة سنة1884. مبادئ النبات: من كتاب النقش في الحجر للدكتور فانديك صاحب المؤلفات المعروفة طبع في بيروت. مصنف في النبات طبع مصر أيلي رياض المتوفى في أوائل القرن الرابع عشر للهجرة. النجاح للمزارع الفلاح لمحمود عطية طبع في مصر سنة 1305 وهو في الزراعة وما يجب على الزراع فعله. مختصر تركيب أعضاء النبات ووظائفها: طبع في مصر سنة 1304هـ للطبيب المصري عثمان غالب باشا. مصنف في 11 لمتلفة الزراعة القطن المصري وكيفية 11 مع وصف شجيرة القطن وذكر الطريقة الزراعية لعلي فهمي بالزقايق طبع في مصر سنة1895. الآيات البينات في مشابهة النباتات للحيوانات طبع مصر سنة 1888م لمؤلفه محمود فوزي الحكيم. اللآلي الدرية من النباتات القديمة المصرية لأحمد كمال المصري طبع على الحجر ببولاق سنة1306.

الصفوة الزراعية في الفلاحة المصرية: طبع في مصر ولعله يوجد غير هذه من الكتب المطبوعة لم تصل إلينا أسماؤها وفوق كل علم عليم. حيفا عبد الله المخلص

جمهرة المغنين

جمهرة المغنين تأثير الغناء ما من أحد ينكر تأثير الغناء في النفس فهو مشاهد دون غيره من الملذات فما يصيب العين يتولد منه البكاء وما يصيب اللسان يحدث منه الصياح وما يصيب اليد يحدث منه تمزيق الثياب واللطم وما يصيب الرجل يحدث منه الرقص قال ابن عبد ربه هل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن وقال أيضاً صنعة الغناء هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكثيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه جامع النفس وقال سهل بن عبد الله السماع علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع فلما ظهر عشقته النفس وحن إليه الروح وقال معبد لقد صنعت ألحاناً لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سقاء يحمل قربة على الترنيم بها ولقد صنعت ألحاناً لا يقدر المتكئ أن يترنم بها حتى يقعد مستوفزاً. وقال ابن ساعد ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويتها أيضاً لأنه يحركها أما عن مبدئها فيحدث السرور واللذة ويظهر الكرم والشجاعة ونحوها وأما إلى مبدئها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها ولذلك يستعمل في الأفراح والحروب وعلاج المرضى تارة ويستعمل في المآتم وبيوتات العبادات أخرى وقال أفلاطون من حزن فليستمع الأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد نورها فإذا سمعت ما يطربها أشتعل منها ما خمد وكان يقال قديماً إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج وقال الغزالي في الأحياء لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما ينوم ومنها وما يضحكك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار بالأوتار حتى قيل إن لم يحركه الربيع وأزهار والعود الجزء3 المجلد 9

وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج وكيف يكون لك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها. ثم ذكر رضي الله عنه دليلاً على ما قاله قصة العبد الذي أهلك الجمال بطيب صوته إذ جعلها تقطع مسافة ثلاثة أيام في ليلة واحدة وبعده قال فإذاً تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على الجميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب انتهى ومن غريب ما ينقل في تأثير الغناء أنه خرج مخارق المغني مع بغض أصحابه إلى بعض المتنزهات فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأنه المسئول ضمن بها وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس أرأيت أن تغنيت صوتاً فعطف عليك خدود هذه الظباء لتدفع إلي هذه القوس قال نعم فاندفع يغني ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء مرت بنا سانحات ... وقد دنا الإماء فما أحارت جواباً ... وطال فيها العناء فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه مصغية إلى صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع العناء فعاودت

الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها. وأغرب من ذلك ما روي عن عائشة قيل كان واقفاً بالموسم متحيراً فمر به أصحابه فقال له ما يقيمك ههنا فقال: أني أعرف رجلاً لو تكلم لحبس الناس ههنا فلم يذهب أحد ولم يجيء فقال له الرجل ومن ذاك قال أنا ثم أندفع يغني جرت سنحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء بنفسي من تذكره سقام ... أعانيه ومطلبه عناء قال: فحبس الناس واضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت الفتنة أن تقع فأتى به إلى هشام بن عبد الملك فقال له هشام: أرافق بتيهك فقال: حق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تياها. ومثل ذلك ما رواه الأصمعي قال قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السواد فشكا ذلك إلى الدرامي وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد فقال: ما تجعل لي أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك قال: ما شئت قال: فعمد الدرامي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول وقال شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به وكان الشعر. قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد فشاع هذا الغناء بالمدينة وقالوا قد رجع للدرامي وتعشق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق مليحة بالمدينة إلا أشترت خماراً اسود وباع التاجر جميع ما كان معه فجعل أخوان الدرامي من النساك يمرون فيقولون ماذا صنعت فيقول ستعملون نبأه بعد حين فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدرامي إلى نسكه ولبس ثيابه. وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صرد من الأرض فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت والله لا توصلن إليه فإذا هو عبد أسود فقلت له أعد ما سمعت فقال. والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلت ولكن أجعله قراك فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط وربما غنيته وأنا عطشان فأروى ثم ابتدأ فغنى

وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما أنقضت أحدوثة لو تعيدها قال عمر: فحفظته منه ثم تغنيت به على الحالات التي وصف فإذا هو كما ذكر ونظير ذلك ما رواه ابن عبد ربه قال: لما ولي عثمان بن حيان المري المدينة أجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار فقالوا له أنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والرثا ففعل وأجلهم ثلاثاً فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً فحط رحله بباب سلامة الزرقاء (المغنية) وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي قالت: وما تدري ما حدث بعدك وأخبرته الخبر فقال: أقيمي إلي السحر حتى ألقاه فلقيه فأخبره أنه أنما أقدمه حب التسليم عليه وقال له إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والرثاء فقال أن أهلك أشاروا عليّ بذلك فقال أنهم وفقوا ووفقت ولكني رسول امرأة إليك تقول قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال عثمان: إذاً أدعها فقال: إذا لا تدعك الناس ولكن تدعو بها فتنظر إليها فإن كان يجوز تركها تركتها قال: فادع بها فأمر بها أبن أبي عتيق فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه فحدثته عن مآثر آبائه ففكه بها فقال ابن أبي عتيق أريد أن أسمع الأمير قراءتها ففعلت فحركه حداؤها ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها فقال له قل لها فلتغن فغنت. سددت خصاص البيت لما دخلته ... بكل بنان واضح وجبين فنزل عثمان عن سريره وجلس بين يديها وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة فقال ابن أبي عتيق يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها فقال قد أذنت لهم جميعاً انتهى ولقد ثبت بالتجارب أنه يستشفي بالغناء من كثير من الأمراض حتى أنه تألفت في مدينة سهالنبورغ جمعية من النساء لتصدح كل يوم بالقرب ممن أجريت لهم العمليات بالأنغام الموسيقية صوتية كانت أو آلية. هذا لو أردنا استقصاء ما ورد في هذا الباب من التأثير العجيب لطال بنا البحث ولكنا أكتفينا بما أوردناه لضيق المقام. آلات الغناء آلات الغناء كثير تختلف باختلاف الأمم حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم فمنها العود وهو

كما وصفه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إذ ذكر عند يزيد بن عبد الملك فقال: ليت شعري ما هو فقال له: أخبرك ما هو هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد الأحراك أعطافه وهز رأسه قيل أن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم وبكى عليه على ولده وقيل أن أول من اتخذه الملك المتلوشلح على مثال فخذ أبنه الميت وقيل بطليموس ويقال بعض حكماء الفرس. وأول من غنى على العود بألحان الفرس من العرب النضر بن الحارث بن كلدة وفد على كسرى بالحيرة فتعلم ضرب العود والغناء وقدم مكة وعلم أهلها ولقد زاد زرياب المغني بالأندلس في العود وتراً خامساً وكان قبلاً ذا أربعة أوتار وهي البم والزير والمثنى والمثلث التي قوبلت بها الطبائع الأربع فزاد عليها وتراً خامساً أحمر متوسطاً ولون الأوتار وطبقها على الطبائع وهو الذي أخترع مضراب العود من قوادم النسر وكانوا قبله يضربون بالخشب وفيه يقول أبو الفتح كشاجم: لو لم تحركه أناملها ... كان الهواء يفيده نطقاً جسته عالمة بحالته ... جس الطبيب لمدنف عرقاً وفيه يقول أيضاً: جاءت بعود كأن نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى محفف حفت العيون به ... كأنما الزهر حوله نبتا دارت ملاويه فيه فاختلفت ... مثل اختلاف اليدين مذ ثبتا لو حركته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا ومن آلات الغناء التي لا تقل عن العود القانون والمشهور أنه من اختراع الفيلسوف أبي نصر الفارابي فقد ذكروا أنه أصطنع آلة مؤلفة من عيدان يركبها ويضرب عليها وتختلف أنغامها باختلاف تركيبها ولكنها في كل حالة غريبة في بابها وقصة ضربه على آلته عند سيف الدولة مشهورة ولنا في القانون: أصغت لتسمع شكوتي وتظلمي ... لما رأت دمعي جرى كالعندم واستنطقت قانونها فأجابها ... في حال قتل المستهام المغرم سل من أباح لها دمي قانونها ... أو قال قانون بأهراق الدم ومن آلات الغناء الدف والمزهر والطبل والرباب والمزامير والشبابات والصلاصل

والطارات والكوبة وكلها لا تحتاج إلى تعريف ومن آلات الغناء التي كانت معروفة بالأندلس (الروطة) هي ضرب من الرباب و (المؤنس) وهو قربة يركب فيها مزمار يتخذها أهل البادية في ملاهيهم وأغلب ما تكون في المزمارين و (الكثيرة) مصحفة عن كثيرة وهي القديم نوع من الرباب ويراد بها اليوم ضرب من السنطور تنقر أوتارها بالأصبع و (القثار) ويراد بها آلة ذات ستة أوتار ولها يد مقسومة إلى أنصاف ألحان مركب عليها دساتين و (الزنامى) نوع من المزمار نسبة إلى زنام الزمار المشهور أيام الرشيد و (الشقرة) و (النورة) وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والأخر رقيق واليوم أتى الفرنج بالأرغن والبيانو وغيرهما ولكن الاعتماد على الثاني لا يخلو منه بيت ذي نعمة ولو قليلة. من دونت له صنعة في الغناء من الخلفاء وأولادهم كان للغناء منزلة عظيمة عند الخلفاء كالشعر حتى أنه أشتغل به غير ومن أولادهم وكانت الشعراء تمدحهم بمعرفته قال العماني يمدح الرشيد. جهير العطاس شديد النياط ... جهير الرواء جهير النعم حكى ابن خرداذبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تغنى بها كأن راكبها غصن بمروحة ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحداً بعد واحد ورد ذلك صاحب الأغاني وقال أول من دونت له صنعة منهم عمر بن عبد العزيز فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيام أمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها كلها وصحح هذه الرواية وقال: كان عمر بن عبد العزيز أحن خلق الله صوتاً وكان حسن القراءة للقرآن أما الألحان التي صنعها فهي محكمة العمل لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق في الغناء وتمكن منه وهي: الما صاحبي نزر سعادا ... لو شك فراقها وذرا البعادا علق القلب سعادا ... عادت القلب فعادا الايادين قلبك من سليمى ... كما قد دين قلب من سعادا يا سعاد التي سبتني فؤادي ... ورقادي هبي لعيني رقادي حظ عيني من سعاد ... أبدّاً طول السهاد سبحان ربي برى سعادا ... لا تعرف الوصل والودادا

لعمري لئن كانت سعاد هي المنى ... وجنة خلد لا يمل خلودها أسعاد جودي لاشقيت سعادا ... وأجزي رأفة وودادا وممن حكي عنه أن صنع في شعره غناء يزيد بن عبد الملك فإنه صنع لحناً وهو: أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر ... ما للفؤاد سوى ذكراهم وطر وممن غنى منهم الوليد بن يزيد له أصوات صنعها مشهورة وكان بضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز ومن مشهور صناعته في شعره. وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها التجيبي من عسقلان وأول من دونت له صنعة من خلفاء بني العباس الواثق على ما وراه صاحب الأغاني أما ابن خرداذبة فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء قال صاحب الأغاني: أخبرني محمد قال: سمعت أحمد بن محمد بن الفرات يقول سمعت تريباً تقول صنع الواثق مائة صوت ما فيها صوت ساقط وكان الواثق يضرب بالعود ومن الألحان التي صنعها: أيا منشر الموتى من التي ... بها نهلت نفسي سقاماً وعلت وممن حكى عنه أنه صنع في شعره وشعر غيره المنتصر وكان حسن العلم بالغناء ومن شعره الذي غنى فيه: متى ترفع الأيام من قد وضعته ... وينقاه لي الدهر عليّ جموح ومنهم المعتز فمما ذكر أنه غنى فيه: لعمري لقد أصحوت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب ومنهم المعتمد صنع لحناً في هذا الشعر: ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا ومنهم المعتضد فإنه صنع لحناً في: أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتاً يوافق نعتي بعض ما فيها وفي: تشكى الكميت الجري لما جهدته ... وبين لو يسطيع أن يتكلما وله غير ذلك وممن صنع من الخلفاء فأجاد وأحسن وبرع وتقدم جميع أهل عصره فضلاً وشرفاً وأدباً وشعراً وظرفاً وتصرفاً في سائر الأدب أبو العباس عبد الله بن المعتز وأول من صنع من أولاد الخلفاء وأتقنهم صنعة إبراهيم بن المهدي وعلية بنت الهدي كانت من

أحسن الناس وأظرفهم تقول الشعر الجيد وتصوغ فيه الألحان الحسنة وكانت حسنة الدين مقبلة على قراءة الكتب لا تلذ بشيء غير قول الشعر وكانت تقول لا غفر الله لي فاحشة أرتكبها قط وكانت تقدم على أخيها إبراهيم في الغناء ومن صنعتها. وجد الفؤاد ... وجداً شديداً متعبا ولها غير ذلك شيء كثير وممن صنع أيضاً من أولاد الخلفاء أبو عيسى أحمد بن الرشيد وله غناء مشهور وعبد الله بن موسى الهادي وكان أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء. وعبد الله بن محمد الأمين كان يقول شعراً صالحة وأبو عيسى عبد الله بن المتوكل جمع له صنعة مقدارها أكثر من ثلثمائة صوت (له تلو) دمشق خليل مرد بك

عدد الشيعة

عدد الشيعة ذكرت في مقالي (الشيعة في بر الشام) إن المسلمين يقسمون إلى فرقتين كبيرتين أهل السنة وهي الأكثر عدداً والشيعة وهي التي تتلوها في الكثرة ولا يقل عدد الأولى عن مائة وخمسين مليوناً كما لا يقل عدد الثانية عن تسعين مليوناً وعنيت بالشيعة كل من يدخل تحت اللفظ وهم الذين يقولون بالنص على إمامة علي عليه السلام وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوليوتفترق الشيعة فرقاً متعددةالخ فهو إذا شامل لجميع فرق الشيعة من أمامية أصولية وإخبارية وكشفية وزيدية وأسماعلية بهرة وأغاخانية وواقفية وفطحية وبكداشية لكن المقتبس حسب أن في العدد مبالغة ورجح أن الشيعة عشرون مليوناً ثم أنبرى أحد الأفاضل وهو عبد الله أفندي مخلص للبحث في هذا الموضوع فاستكثر ترجيح المقتبس وقدرهم باثني عشر مليوناً وقدر المسلمين أجمعين بمائتين وأربعين مليوناً الشيعة 12والأحناف164 والشوافعة64 والموالكة 16 والحنابلة 7 وذلك التقدير كما ترى ولو فرض أنه تسنى له تمييز الشيعة من فأحصاهم فكيف له بحصر عدد الأحناف من الشوافعة وبقية المذاهب الأربعة ومعرفتهم في بلد واحد فكيف في سائر أنحاء العالم. أما تقديري عدد الشيعة بما لا يقل عن التسعين مليوناً فهو إحصاء مبنياً الدقة لأن عدد المسلمين عامة فضلاً عن الشيعة لا يرجع إلى إحصاء مدقق ونما هو تقديري بحت ولهذا بعدت مسلفة الخلاف بين مقدري عدد المسلمين فالدكتور ز جعلهم نحو 175 مليوناً وأستقل المقتطف هذا التقدير وقدرتهم الانسكلوبيد البريطانية المطبوعة سنة1907 م نحو 217مليوناً وقدرتهم المقتطف 262مليوناً وقدرهم الأستاذ غليوث 233 مليوناً في سنة 1906 وفي بعض المجلات أنهم 250 مليوناً ونقل الأمير شكيب أرسلان أنهم يبلغون ثلاثمائة مليون وهو المشهور بين المسلمين. وليس بغريب على البلاد الشرقية أن يقع الخط في إحصاء نفوسهم وأكثرها لم يقع عليه إحصاء بالكلية والذي أحصي منها لم يكر على شيء من التحقيق هذه دمشق فقد قدرها المقتطف 530ألفاً وهي مع الضواحي 730مع أن أحصاءها الرسمي220 ألفاً والفرق كبير بين الإحصاء التقديري المعقول وبين الإحصاء الرسمي هذه الحال في الشرق عامة وفي المسلمين خاصة 1 الشيعة الذين أخفتهم التقية في كثير من البلاد وخفي بعضهم حتى على

ابن بلدة وإن لم يخف على ابن مذهبه أختلف المقدرون في إحصاء الشيعة وأقل ما قيل فيه 12مليوناً كما قال الفاضل الحفاري وقدرهم بعضهم 20 مليوناً وعليه صديقنا صاحب المقتبس إبراهيم أفندي حلمي البغدادي أن عدد الفرقة الجعفرية منهم خمسون مليوناً وفي مقام آخر أن عدد الشيعة كلهم يبلغ 70 مليوناً والكاتب كما علمه قراء المقتبس ناضج التحقيق وقد سأل محمد أفندي جابر أصحاب المقتطف عن عدد الشيعة في الهند وإيران والصين فأجابوه بأنهم يرجحون أن يبلغ عددهم 40 مليوناً. أن الشيعة مثابة يتوافدون إليها من أقطار الأرض وتكاد تكون محصورة حالاً زهاء 15 ألفاً 1 مثل لنجه وبندر عباس فيها من المسلمين 50 ألفاً وأيالة وكردستان الإيرانية ومقر حكومتها وأهلها كلهم سنيون وبادية جرجان من التركمان وأهلها كلهم سنيون. قدر القاضي الحيفاوي نفوس الإيرانيين بتسعة ملايين وقدرهم المقتطف بتسعة ملايين ونصف وقال أنه غير معروف تماماً ولكنه يقدر تقديراً وجعلهم فانديك في المرآة المطبوعة في منتصف القرن التاسع عشر أثني عشر مليوناً فيما أتذكر ونقل عن أرفع الدولة العالم السياسي الإيراني المشهور أنهم يبلغون عشرين مليوناً وصاحب البيت أدرى بالذي فيه ويؤيده ما نقل لي الثقات من أفاضل الإيرانيين في العالم الماضي وقد قدم من الأستانة لما سمع من سفير إيران هناك إن حكومته أخذت في إحصاء النفوس فبلغت ثمانية عشر مليوناً وبقي قسم كبير من أطراف البلاد لم يحص بعد. قلنا أن الدكتور فانديك قدرهم باثني عشر مليوناً في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد وأن بلاداً قضت خمسين عاماً في مهد الراحة والسلام أيام المرحوم ناصر الدين شاه مع خصب ورخاء لا يبعد أن يتضاعف عدد سكانها فضلاً عن زيادته بالمائة سبعين كما قدرنا. ومن عرف أخلاق الإيرانيين من اجتنابهم مخالطة غيرهم وعدم السماح بعرفة أحوالهم الداخلية لغير أبنائهم - أدرك سر الاختلاف في تقديرهم ةالإيرانيون مولعون بتعدد الزوجات ولا تكاد تجد بالغين سن الحلم غير مرتبطين بعقدة النكاح فلا غرابة إذا أزداد عددهم ثمانية ملايين في مدى ستين عاماً. وأمل الهند فلا جدال في وفرة عددهم هناك وقدرهم بعضهم بنصف مسلمي الهند فإن لم يكونوا النصف فلا أقل من أن يكونوا الثلث.

وشيعة الهند فيهم الأمامي والأصولي والإخباري والكشفي والزيدي والأسماعيلي (من بهرة وأغاخانية) والواقفي والفطحني وكانت بلاد كشمير ولم تزل مراداً لأهل العلم والإرشاد من متفقهة وكذلك بلاد حيدرأباد وفي بمباي مطابع للشيعة وفي كالكوتا من جرائدهم جريدة (حبل المتين) المشهورة. وكانت الهند محل هجرة جماعية علماء جبل عامل ذهبوا إليها وعاشوا بين أهلها حتى وافتهم منيتهم ومن العاملين من تولى الوزارة لأحد ملوك الهند قبل أن يدخلها الانكليز ولم تزل الصلات لطلاب فقه الشيعة في العراق ترد بألوف الألوف من الهند وما في خزائن النجف وأحجار الكريمة والتحف النفيسة أثره من الهند تجارها وملوكها وأخبرني ببعض الخبيرين من العراقيين أن في تلك الخزائن مجموعة من الأحجار الكريمة فيها ما لا يوجد مثله في خزائن الملوك وإن الذي أعاد لمدينة كربلاء بناءها وسورها بسور منيع بعد أن غزاها الوهابيين وانتهبوا مجوهرات خزنة سيدنا الحسين بن علي عليه السلام وما فيها من التحف وباحوا المدينة لعسكرهم حتى أصبحت خراباً يباباً - وهو بعض ملوك الهند. وأما الصين فتكاثر الشيعة فيها ليس فيه ريب وفي بكين عاصمة الصين مساجد خاصة بالشيعة غير المساجد المشتركة بينهم وبين عامة المسلمين هناك وما زال الوافدون من شيعة الصين وبلاد التيبت يزورون مشاهد آل البيت في العراق وكثير من فضلاء العراق زاروا بلاد التيبت وقاموا بين ظهراني أهلها م الشيعة ورأيت جماعة من شيعة جبل عامل في مكة جماعة من شيعة الصين وتألفوا حتى تبودلت الهدايا بينهم وأما البلاد العربية - فاليمن على أتساع رقعتها وتكاثر نفوسها نحو نصف أهلها من الزيدية الشيعة ولم تخل من الأمامية وعدتهم قليلة هناك - وأما العراق - فثلاثة أتباع أهله من الشيعة وعهدهم بالتشيع قديم وأمرهم مشهور حتى لقب التشيع بدين الكوفة قال أبو تمام وكوفني ديني على أن منصبي ... شآم ونجري آية ذكر النجر وأما الحجاز - ففيه كثير من الشيعة الأمامية وهم في البادية أكثر منهم في الحواضر وفي الحجاز نواح عامة أهلها شيعة الفرع والعوالي وأما سورية فقد سبق القول في مقالنا السابق الذكر أن الأمامية منهم يبلغون نحو مائتي ألف نسمة ولكن غير الأمامية منهم والمنتسبين إلى الشيعة في سورية يبلغون قريباً من ضعفي هذا العدد.

وفي بلاد عمان كثير من الشيعة وفي نفس مسقط - على تباين ما بينهم وبين الخوارج من أهلها - عدد لا يقل عن إلف رجل بيدهم أزمة تجارتها وهم معروفون بمذهبهم أخبرني أحد العاملين وكان أقام فيها مدة من الزمن ولقي من كبير تجارها الحاج عبد العزيز كل حفاوة وإكرام لأنه شيعي عاملي. وأما الترك فالبكدشيون منهم - ومعظمهم في بلاد الروملي ومنهم قسم صالح في الأناضول وكريت ونصف بلاد ألبانيا منهم وليس البكداشيون كل شيعة بلاد الأتراك بل يوجد بينهم من الشيعة الأمامية قرى مر بها مجاهد وجبل عاملة في حرب روسيا عام 1203هجرية فتعرفوا في ما بينهم وأكرموا أخبرني غير واحد منهم بهذا الخبر. وأما روسيا فحسبك أن الأكبر من بلاد قفقاسيا من الشيعة فباكو المعروفة ببادكوبا ونواعيها شيعة ومنها المحسن الكبير الحاج زين العابدين تقيوف صاحب المبرات والخيرات ومشيد المدارس والكليات للمسلمين في روسيا من ماله وكنجه وبلادها شيعة وكذلك ايروان (أريفان) وما إليها وقره باغ وحاليان وضواحيها ولنكران وقواها ونحجوان وما والاها وشاه وما حولها كلهم من الشيعة. أكثر من النصف شيعة وفي باطوم وتفليس عدد لا يستهان به منهم وفي استراخان وبلادهم منهم كبير وقد جمعتني الأقدار بعامل من أهل العلم والدين من دربند تزوجت ابنته في جبل عامل وجاء لزيارتها فاخبرني بوفرة عدد الشيعة في تلك الأرجاء وأن جماعة من الشيعيين في بنزدوسق دعوه إليهم ليقيم بينهم مدة من الزمان فأجاب دعوتهم فرأى ما يطرب له كل مسلم من التحاب والتآلف الموجود بين المسلمين هناك رأى الملا السني في بنزدوسق كان أكثر الناس ملازمة لصحبته وأنه أصيب بالرماتزم حتى عجز عن النهوض إلا بمعونة شخص آخر فتولى ذلك منه السني ولم يدع أحد غيره يقوم مقامه وأخبرني أنه لما قامت الفتنة في البلاد الساحلية وعامة أهلها شيعة بينهم وبين الروسيين هب سكان الجبال وجمهورهم من أهل السنة لنجدة أخوانهم فرابطوا معهم في الثغور حتى أنجلى الفتنة وفي مرو وطاشقند وسائر بلاد سمرقند من الأملاك الروسية بل في تركستان الروسية عدد وفير منهم. وفي الأفغان عدد قدره بعض الأفاضل بثلاثة ملايين ولعل فيه مبالغة وفي بخارى قسم

عظيم يوازي عدد الشيعة في الأفغان وقد ثار ثائرة الجهل والتعصب في شهر محرم سنة 1328 هجرية هناك بين السنة والشيعة فوقفت الفتنة وأنتجت حرباً بين الطائفتين عجزت الحكومة عن إطفاء جذوتها حتى تدخلت الروسية في الأمر وخمدت لهيباً وذلك دليل على وفرة عدد في بخارى حتى قيل أن الوزير الأول لأمير بخارى منهم وفي بلاد الزنج شيعة أخبرني بعض المسافرين من أبناء جبل عامل وهو علم وصدق أقام في زنجبار مدة من الزمن تاجراً أنه عرف بين المختلفين إلى زنجبار من أهل الفاحية رجلاً شيعياً أخبره لهم سواداً بين سوداني الديار وفي نفس زنجبار جماعة أو لو يسار فاضل آخر عاملي فأكرمه بالجملة فإنه قلما دخل الإسلام بلاداً إلا كان للشيعة فيها رجال ظاهرون أو مستترون تبعاً للحال والموقع. ومن المحقق وجود جماعة منهم بين مسلمي جزائر فيلبين وبلاد الكاب أكثرهم من الهنديين المهاجرين. إذا عرفت ذلك فلا تستبعد أن يكون تقديري مقارباً للحقيقة وإليك تفصيل ما قدرته وإن كان لم يخرج عن حيز التقدير ولكنه غير بعيد عن الحقيقة. عدد المسلمين عامة عدد الشيعة منهممليونمليون65 25 في الهند35 11 في الصين5010 في العرب2510 في الأتارك والأفغان وبلاد التتر المستقلة وتركستان30 >19 في إيران3010 في البلاد الروسية402 في أفريقيا25 1 في جزائر جاوه ومالاقا والبحر المحيط الهندي10 >1 سائر الأقطار30090 ظهر من مقالي السابق الذكر أنني قدرت المسلمين بمائتين وأربعين ولكني لم أقطع بذلك ولا يمنع أنني أذهب إلى أكثر من هذا العدد ومن المقرر أن أكثر للمسلمين التي تأخذها عن طريق أوربا إلى الجمعيات التبشيرية التي لا يرضيها وفرة عدد أتباع النبي لامي صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك لا ينبغي الركون إليها وأخذها مأخذ القضايا المسلمة. النبطية أحمد رضا (المقتبس) يروقنا التحقيق في مثل هذا المبحث المفيد ولكن كنا نرغب من صديقنا كاتب هذه النبذة لو عز أقواله إلى مراجع أو نصوص يركن إليها فإن نسبة الخبر مجرداً إلى أحد

الأفاضل أو أحد التجار كما تجد في مقاله لا تكفي لتأكيد أمر إحصائي تشعبت طرق الخلاف فيه وقد رأيناه يكثر من ذكر البلاد والمواضع ويوهم أن الشيعة منتشرون في أنحائها وإذا أراد الدليل أسند الخبر إلى تاجر منهم أو سمى رجلاً أقام في ظهرانيهم كالحاج عبد العزيز والحاج زين العابدين والدربندي لمذكورين في مقاله ولا تجده يأتي بالبرهان المقنع عند كلامه على شيعة الأصقاع الكبيرة كالحجاز والصين والهند وبلاد الزنج وجزائر فيلبين وبلاد الكاب ورأيناه يدمج في بحثه جميع الفرق الإسلامية التي وافقت الشيعة ولو على بعض ما جنحوا إليه والمعروف أن لفظ الشيعة إذا أطلق عند علماء البلدان والإحصائيين اليوم لم يكن فيه ما يدل على شموله عامة من أخذ برأيهم فالزيدية مثلاً وهم نصف سكان اليمن ينفردون في زمننا هذا بلقبهم الذي اشتهروا به وإن كان علماء الكلام والتوحيد والدين من المتقدمين يعدونهم في جملة الشيعة ويرون أنهم فرقة من فرقهم وبالجملة فإن باحثنا توسع في بحثه هذا حرصاً منه على تأييد رأيه الأول وولد من اللفظ الخاص معنى عاماً فتسنى له أن يملأ صحيفته بالأرقام الكثيرة والأعداد الدالة على وفرة عدد أخواننا الشيعة ومن شايعهم وذهب إلى ما ذهبوا إليه من جماعات المسلمين وفرقهم.

أخبار وأفكار

أخبار وأفكار ماليتنا يؤخذ من خطاب جاويد بك وزير المالية في مجلس النواب العثماني أنه لما أعلنت الدولة الحرب على دول الائتلاف لم يكن لديهم من المال غير مليون ومائتين وأثني عشر ألف ليرة كانت مدخرة في المصرف العثماني على أن هذا المبلغ الزهيد لم يكن وافياً بنفقات أسبوع واحد فاضطرت الدولة إلى عقد فروض بربا قليلة لدى الخزينة الألمانية وقد بلغت مقادير هذه القروض تسعة وسبعين مليوناً من الليرات وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ أحد عشر مليوناً ونصف مليون تناولناها من ألمانيا ذهباً وسفائج بلغ المجموع تسعين مليوناً بيد أن قروضنا لم تنحصر في هذه الأموال بل استلفنا من ألمانيا مليونين وثلثمائة وسبعين ألف ليرة وأرصدناها للمشاريع المستعجلة وهذه السلفات أو القروض قد أنفقناها وننفقها على سد الحاجات الداخلية. وهناك عقود أخرى عقدناها مع ألمانيا والنمسا كأثمان النقل على السكك الشركات الحديدية وقسم تحاويل الأسهم العثمانية في بلاد الحلفاء وأثمان البضائع والذخائر والمواد الحربية التي ابتعناها من الشركات والمعامل في برلين وفينا. فقد اقترضنا من حكومة ألمانيا عشرين مليون مارك لإيفاء ديون سكة حديد الأناضول وخط بغداد وهي النقليات العسكرية وتناولنا منها مائتين وثمانية ملايين مارك لتأدية أثمان الذخائر التي قدمتها إلينا والمعامل المصانع الألمانية وكذلك عقدنا سلفة قدرها مائتان وخمسون مليوناً من الماركات أرصدناها لمشاريع أخرى ويكون المجموع أربعمائة وستة وتسعين مليون مارك أو خمسة وعشرين مليون جنيه ولألمانيا دين أخر على خزينتنا يبلغ عشرين أو خمسة وعشرين مليوناً وهي لقاء الحربية. وصفوة القول أن مجموع قروضنا التي عقدناها مع ألمانيا سواء بحساب المارك أو بحساب التحاويل على الخزينة أو أثمان الحربية منذ ابتداء الحرب إلى اليوم يبلغ مائة وأثنين وأربعين مليون ليرة على أن هناك قرضاً آخر لم يدخل في هذا الحساب عقدناه مع النمسا لقاء أثمان ما اشتريناه من معاملها وشركاتها ويبلغ هذا القرض نحو مائتين وأربعين مليون 1 أو أثني عشر مليون ليرة وعلينا ديون تراكمت منذ بداية الحرب وهي ثمانية ملايين

وثلثمائة وثلاثة وثمانون ألفاً سندات بنك القروض التي لم نقم بتأديتها وبقيت ديون أخرى تبلغ مليون ليرة وهي مائة وستون ألف ليرة قيمة نصف الرواتب التي لم تندفع ومائتان وستة وخمسون ألف ليرة للمتقاعدين في الولايات وثلثمائة ألف لموظفي الولايات أيضاً وأجتمع دين أخر في وزارة الحربية وهو ثلاثة ملايين وأربعمائة وثمانية وثمانون ألف ليرة بسندات الأداء ولكنها بقيت حتى الآن ديناً على الخزينة وهناك دين أخر يناهز ستمائة وأربعة عشر ألف ليرة تراكم في وزارة الحربية غير أنه على وشك التأدية هذا غير الديون التي اجتمعت في الولايات والناطق الأخرى. وعلى هذا تكون ديونناً إلى نهاية أب في هذه السنة نحو مائة وخمسة وستين مليوناً من الجنيهات ما عدا أثمان التكاليف الحربية وبعد تنزيل خمسة ملايين ليرة من الأوراق النقدية التي أرصدناها على حساب ألمانيا وتبلغ مقادير التكاليف الحربية على وجه التخمين نحو سبعة ملايين وثمانمائة وثلاثة وخمسين ألف ليرة وإذا طرح منها نحو مليون وتسعمائة ألف ليرة صارت محسوبة بموجب قوانين مختلفة بقيت خمسة ملايين وتسعمائة وتسعة وأربعين ألف ليرة وإذا أضفنا إلى ديونناً أثمان التكاليف الحربية الأخرى وهي نحو عشرين مليوناً بلغ مجموع الديون في زمن الحرب نحو مائة وثمانين مليون ليرة فنكون قد أنفقنا في كل شهر نحو خمسة ملايين ليرة. هذا هو مجموع ما عقدناه من القروض واستلفناه من المصارف وأنفقناه من الأموال والأعتاد في أثناء الحرب وإذا أضفنا هذا المبلغ إلى ما كان على خزينتنا من الديون قبل الحرب وهي مائة وخمسون مليون ليرة بلغ مجموع ديوننا إلى هذا اليوم نحو ثلاثمائة وثلاثين مليوناً من الجنيهات وإذا حسبنا معدل تقاسيطها السنوية مئة في المئة نضطر أن ندفع كل سنة مقدار احد وعشرين مليون ليرة. أما نقودنا المتداولة بين أيدي الأفراد فهي عبارة عن المسكوكات الذهبية والفضية والمعدنية النيكلوأقدم نقودنا الذهبية هو ما أصدرته الخزينة العامرة في أيام السلطان عبد المجيد بين سنة1260و1276هـ وتبلغ أربعة عشر مليون وأربعمائة وثمانين ألف ليرة وفي أيام السلطان عبد العزيز ضربت الخزينة من الذهب بين سنة1277و1297ما يناهز أربعة عشر مليوناً وتسعمائة وسبعين ألف ليرة وفي أيام السلطان المخلوع سك من المسكوكات

الذهبية بين 1292وسنة1320ما ستة عشر مليوناً وستة وثلاثون ومنذ جلوس مولانا السلطان الحالي على أريكة الملك إلى اليوم ضربت الخزينة من نقود الذهب ما يزيد على ثلاثة وعشرين مليوناً وثمانمائة ألف ليرة فيكون مجموع الذهب المتداول في بلاد السلطنة لا يزيد جميعه على تسعة وستين مليون ليرة ومائتين وستة وثمانيين ألف ليرة يخرج منها نحو مليون ليرة أعيد سبكها على أنه يجب أن لا ننسى الحوادث والكوارث التي حدثت في هذا الملك الواسع في مدة سبعين عاماً فقد ذهبت كثيرة بقي فيها 11 كبيرة من النقود ولذلك يعتقد الألمانيون أن نقودنا الذهبية اليوم لا تزيد على أربعين مليوناً على ربع هذا المبلغ لم يبرز إلى ميدان التداول فهو مخزون في البيوتات المالية وفي صناديق أرباب اليسار. عن النقود الفضية اقل كثيراً من الذهب ففي أيام السلطان عبد الحميد صدر من مسكوكات الفضة ما يقرب من ثلاثة ملايين وثمانمائة وخمسة وستين ألف ليرة وفي أيام السلطان عبد العزيز أبرزت الدولة من نقود الفضة نحو ثلاثة ملايين ومائتين وثمانية آلاف ليرة وفي أيام السلطان عبد الحميد الثاني صدر منها نحو أربعة ملايين 1 وتسعة وعشرين ألف ليرة وفي أيام سلطاننا الحالي أبرز للتداول منها ما قيمته مليون وثلاثمائة وخمسة وسبعون ألف ليرة وبذلك تناهز جميع مسكوكاتنا الفضية ثلاثة عشر مليوناً ومائة وسبعة وسبعين ألف ليرة وقد بقيت المسكوكات الفضية في بلادنا حتى أنه انتقلت إلينا من البلاد التي وقعت في مخالب المستعمرين وهناك مسكوكات معدنية أخرى من النيكل وغيره تبلغ قيمتها مليوناً ومائتي ألف ليرة وبالجملة فإن مقدار ما تتداوله الأمة من النقود على اختلاف الأنواع والأجناس لا يزيد على خمسين مليوناً. إن هذه الكمية القليلة من النقود لم تكن كافية لإدارة الحركة الاقتصادية في البلاد أيام هذه الحرب ولهذا السبب أصدرت الدولة القوائم النقدية تلافياً لما يحدث من في الأسواق التجارية وقد أبرزت أوراقاً نقدية بقيمة ستة ملايين وخمسمائة وتسعة عشر ألف ليرة لقاء أول قرض عقدناه مع ألمانيا ولكنها استردت منها ما يزيد على ثمانمائة وسبعة وخمسين ألف ليرة وما بقي منها أرصد لقاءه في صناديق الديوان العمومية في ألمانيا ما يناهز ثلاثة ملايين وثلاثمائة وخمسين ألف ليرة وفي النمسا ما يبلغ مائة مليونين ومائة وتسعة وآلاف ليرة وهذا هو القسم الأول من الأوراق النقدية الذي تؤديه الديون العمومية بعد انعقاد

الصلح بستة أشهر أما القرضان الثاني والثالث فهما عبارة عن الأوراق النقدية وهي التي تسدد بعد الحرب بسنة واحدة ولكنها لم يكن 1 مال مرصود في الصناديق كما في القسم الأول غير أنه يجب أن نعرف أن هذه القوائم التي تبلغ تسعة عشر مليوناً هي لقاء تحاويل الخزينة على ألمانيا وهي الآن في أيدي الديون العمومية فألمانيا مضطرة إلى دفع هذا المبلغ ذهباً في الأستانة بعد انعقاد الصلح بعام أما القسم الرابع وهو الذي يبلغ سبعة عشر مليوناً وسبعمائة وسبعة وسبعين ألفاً وتسعمائة وأربعين ليرة فشأنها شأن الذهب وهي تحاويل على الخزينة الألمانية التي تدفعها بعد الحرب بثلاث سنين على أقساط ففي كل عام تسترد منها مقدار سبعة ملايين ومائتي ألف ليرة وتدفعها ذهباً في الأستانة لحاملي هذه القوائم وآخر ما أصدرته الدولة ما قيمته اثنان وثلاثون مليوناً تؤديها ألمانيا ذهباً في العاصمة بعد الحرب بسبعة أعوام ففي كل من السنة الثامنة والتاسعة تدفع ستة ملايين وفي كل من السنة العاشرة والحادية عشرة تؤدي عشرة ملايين فلا يدخل العام الثاني عشر إلا وتكون الأوراق قد تحولت إلى ذهب إبريز ولا يبقى منها شيء للتداول. وإذا قسنا هذه الشروط في إصدار أوراقنا بما تصدره الحكومات الأخرى علمنا أن قوائمنا أكثر اعتبارا وأعظم قيمة من غيرها فإن الأوراق النقدية التي مصرف الإمبراطورية الألمانية لم يذكر فيها زمن تأديتها ذهباً فهي إلى أجل غير معلوم وكذلك أخرجت فرنسا أوراقاً قيمتها ستة عشر ملياراً على هذا النمط بدون أن تعطي ضماناً على زمان تأديتها وهكذا فعلت النمسا والمجر فقد نشرت أوراقاً بقيمة عشرة ملايين كورون بلا وعدة معينة ولذلك فلا محل للاشتباه في أوراقاً والتردد في تداولها فهي صادرة من أعظم حكومة في العالم وتضمنها حكومة ألمانيا المعروفة باقتدارها لمالي وفي غالب أن لا شيء يدعو إلى الريبة والشك غير ما حدث في حرب سنة 1293 مع روسيا على عهد السلطان السابق فقد أصدرت الدولة مقداراً وفيراً من القوائم في زمن الحرب وتنصلت من دفعها أيام السلم هذا هو الذي زعزع الثقة المالية غير أن هذا الأمر هم فاضح لا لأن الدولة اليوم غيرها بالأمس فهي تسير على أصول ونظامات محكمة كما أن الأوراق القديمة لم تكن مضمونة من حكومة عظيمة كما هي أوراقنا اليوم. لم تكد الحرب تنشب أظفارها في العالم لا واختفت النقود عن الأنظار وأختزنها الناس في

صناديقهم لا في بلادنا فقط بل جرى نظيره في بلاد العالم المتمدن أيضاً ففي فرنسا مثلاً لا يستطيع المرء أن يرى بعينه قطعة من النقود حتى في عاصمتها فضلاً عن ولاياتها فاضطرت البلديات أن تصدر أوراقاً بقيمة فرنك واحد تسهيلاً للمعاملات وترويجاً للأشغال لكيلا يقف دولاب الحركة الاقتصادية ولكن لم تكن ثابتة المبدأ وقائمة على أسس التأمين كما هي قراطيسنا وإن ما أصدرناه من الأوراق وهو نحو 46 مليوناً بلا ضمان هو معادل لمقدار النقد المتداول وهذا مما يزيل كل شك وريب في أوراقنا ولا يدع مجالاً لهبوطها إلى أقل من قيمتها الحقيقية. كانت أميركا قبل الحرب ترسل كل عام مقداراً عظيماً من الذهب إلى خزائن أوربا ومصارفها لأن صادراتها التجارية كانت أقل من وارداتها ولما أعلنت الحرب العامة اضطرت دول الائتلاف إلى ابتياع ذخائر كثيرة من أعتاد الحرب من مصانع أميركا فانتقل الذهب إليها وقد كان ما في خزائنها لا يتجاوز ستة مليارات فأصبح اليوم يناهز خمسة عشر ملياراً وبعث الضيق دول الائتلاف أن تعقد قروضاً طائلة بربا فاحش لم يسبق له نظير في الأسواق الأميركية فأصبحت دولهم رازحة تحت أثقال الديون. لا فرق بين الذهب والقراطيس المالية المعتبرة لأن الاثنين لا يؤكلان ولا يشربان وقيمتهم اعتبارية ولكن الناس اتفقوا أن تكون لها قيمة أضافية وما دامت الأمم تستطيع أن تدفع احتياجها المبرم بهذه القراطيس فلا يمضي قليل من الزمن إلا وتصبح أكثر شيوعاً واستعمالا في الأسواق المالية ولو اتفقت كلمة شعوب العالم على منع الذهب من التداول وأقامت مقامه الورق لما بقي للذهب ثمن لأنه لا يدفع جرعاً ولا يروي غليلاً وإذا نظرنا إلى نفقات الدول التجارية رأينا أن دول التحالف أقل نفقة من الائتلاف وأن الدولة العثمانية كانت أكثر الأمم اقتصاداً في النفقة فقد أنفقت إنكلترا مائة مليار فرنك وخسرت فرنسا ستين ملياراً وصرفت ألمانيا مثل هذا المبلغ أما الدولار 1 فلم تناهز نفقاتها أكثر من أربعة مليارات غير أن هاتيك الدول استطاعت أن تقترض من شعوبها ومن بيوتاتها المالية فلم تضطر كثيراً إلى استعمال القراطيس المالية فإن ألمانيا لم تصدر من الأوراق أكثر من تسعة مليارات في بلادها وفي ما احتلته من ديار أعدائها كبلجيكا وبولونيا لأنها كانت تستعين بنقود الأمة عند 1 الحاجة وتتناول ما يسد عوزك من البنك الأمبرطوري فتعقد معه

سلفات وقروضاً بشروط معتدلة ولما لم يتيسر لنا في بلادنا ما تيسر لألمانيا في مملكتها من عقد قروض داخلية لفقدان المعاهد الاقتصادية اضطررنا إلى إبراز القراطيس وكذلك تفعل ما دامت الحرب ناشبة قلنا أن ألمانيا تعهدت بدفع قيمة الأوراق النقدية ذهباً في العاصمة حسب الشروط المدونة على أننا استطعنا أن نقطف ثماراً يانعة من الائتلاف المنعقد بيننا وبينها فهو مشيد على أسس التساهل والولاء غير أن بلادنا تشتبك بعد الحرب مع جميع دول العالم بعلائق أقتصادية أكثر من الأول وقد كنا قبل الحرب مثقلين بأصفاد الديون لشعوب أوربا لأن الوارد من البضائع والسلع كان أعظم من الصادر حتى أننا كنا مضطرين ندفع مقدار تسعة ملايين للمرابين الأجانب كما أن الأمة تخسر كل عام أضعاف هذا المبلغ في المعاملات التجارية فكان يتسرب إلى مصارف أوربا وبيوتها المالية نحو خمسة وعشرين مليوناً من الليرات يبتزه الإفرنج بافانين متنوعة من ثروة السلطنة مما لا يتيسر لهم بعد الحرب. وبلغت ميزانية هذه السنة نحو ثلاثة وعشرين مليوناً من الواردات وستة وأربعين مليوناً من النفقات على أن الحقيقة لم تزل مجهولة فقد قال جاويد أن الوردات أقل من هذا التخمين كما أن النفقات تناهز ثلاثة وثمانين مليوناً ففي فصل أعانة العائلات التي لا معين لها أرصدت الدولة مليوناً من الليرات في حين أنها أنفقت على هذا المشروع نحو خمسة ملايين وكذلك يقال عن ميزانية أسكان المهاجرين فهي لا تزيد على خمسمائة ألف ليرة ولكن زادت النفقات على مليون ونصف وتحتاج الدولة إلى تخصيص تسعمائة وثلاثين ألف ليرة حسب قانون التكليف الزراعي اما الواردات فقد أنتقدها فصلاً فصلاً وقال إن واردات الجمرك مشكوك فيها فقد خمنت الواردات بمليونين وسبعمائة وخمسين ألف ليرة إذا كانت نصف السنة نقضيها في الحرب والنصف الأخير منها في السلم بيد أن مجموع ربع الجمارك لم يزد هذا العام على سبعمائة وخمسين ألف ليرة ولهذا وجب طي مليونين من ميزانية الواردات التي لا تنيف حينئذ على احد وعشرين مليوناً على أن معظم فصول النفقات لا يكون له أثر في ميزانيتنا بعد الحرب فيذهب عن كاهلها خمسة ملايين نصف كنا نعطيها للمعوزين والمحاويج وكذلك تهبط ميزانية إسكان المهاجرين ويرتفع عن عاتقها ربا تحاويل الخزينة وهو يبلغ مقداراً جسيماً وأجور السكك الحديدية وهي تزيد على

ثلاثمائة ألف ليرة ولا نعود ننفق على مجريتنا وبريتنا كما يفعل اليوم بل على تنشيط الزراعة والتجارة والصناعة وتوليد منابع جديدة نسد بها العجز في ميزانيتنا ونحفظ بها شرفنا المالي على أن نفقاتنا لا تزيد بعد الحرب على أربعين مليوناً من الليرات. نحن لا ننكر أن الأمة تصاب بفتور في حركتها التجارية بعد الحرب لم لاقته من الخسائر في النفوس والنفائس فتنقص النواتج وتقل 1 وهذا طبعاً يولد تناقص واردات الدولة فتكون الواردات بعد الحرب أقل منها قبلها بثلاثة ملايين فتصبح سبعة وعشرين مليوناً بعد أن كانت ثلاثين مليوناً على أننا يمكننا تلافي هذا النقص فقد تيسرت لدينا مصادر ثروة جديدة وهي واردات الجمارك والأعشار والضرائب على التبعية الأجنبية ويمكن تخمينها بأربعة أو خمسة ملايين ولا مناص للدولة من أحداث ضرائب تستقي منها ماليتنا ما يروي غليلها اقتداء بدول العالم وإصلاحا لما أخربته الحرب فقد التمست حكومات العالم طرقاً شتى لا يجاد موارد لها فطرحت رسوماً ومكوساً على المكاسب التي كانت سبباً لإثراء التجار في الحرب وشاركتهم في أرزاقهم وكانت تسد النفقات التي أنشأتها الحرب بالاستقراض وبالمكوس الحديد فقد أحدثت فرنسا ضرائب كانت وارداتها منها نحو مليار مارك واقتدت بها ألمانيا فاستطاعت أن تجمع واردات من المكوس الحديثة نحو مليار ونصف مليار مارك وبلغ ريع المكوس الحربية في إنكلترا نحو ثلاثة مليارات من الليرات. ومن أهم الضرائب التي على أحداثها ضريبة على المكتسبين من الحرب تفيد الدولة ولا قضر بالأمة وثروتها وهذا عمل مشروع التجأت إليه جميع دول الأرض على الإطلاق فقد رأينا كثيراً من أرباب رؤوس الأموال الصغيرة أصبحوا من أرباب الثروة الطائلة بسبب الحرب وليس من العدل أن يتمتعوا بهذه النعم ويضنوا على امهم الحنون بقليل من المال تنفقه على ما يحفظ ثغورهم ويقيم موازيين العدل بينهم وتحمي متاجرهم وأوطانهم وإذا قسنا مقدار الضرائب التي يؤديها المتوطن في فرنسا أو إنكلترا أو في إيطاليا أو ألمانيا ظهر لنا عطف الدولة على رعاياها ورأفتها بالشعوب الخاضعة لها فهي ارأف الحكومات المتمدنة فلا تحمل الوطني فوق طاقته ولا ترهقه في الضرائب والمكوس كما هي الحال في البلاد الأجنبية. وقد يستكثر بعضهم ويتصور غولاً اقتصاديا يفترس استقلالنا ويزدد موارد حياتنا ومرافق ثروتنا ولكن الذي يعرف غنى البلاد العثمانية بمناجمها ومعادنها

ومراعيها وحراجها يزول منه الخوف على المستقبل فديوننا لا تزيد على ثلثمائة وخمسين مليوناً من الليرات في حين كانت ديون فرنسا قبل الحرب نحو مليار جنيه وديون إنكلترا مليارين وديون ألمانيا سبعمائة مليون وديون إيطاليا نصف مليار على أن أوسع ساحة وأخصب تربة وأجمل بقعة وأغنى في الكرة وإذا تمشت فيها روح العصر واستثمرت كنوزها وخزائنها وتعودت الأمة خوض المعارك الاقتصادية فأقيمت المصارف وتألفت الشركات وعمرت البلاد وأنشئت الغابات وسقيت البقاع واشتغلت يد الصانع والعمل في المناجم والمعادن وانتشرت المصانع العقول وتبدلت المحاريث القديمة بسكك بخارية وارتبطت البلاد بشبكة من خطوط الحديد فلا تلبث قليلاً من الزمن إلا وتكون مواردنا أعظم من واردات أكبر دولة في العالم وقد تعلمنا من هذه الحرب الضروس الاعتماد على النفس وأن الحياة عراك عقلي دائم يفوز فيه الشعب العامل ويندحر في ميدان الحامل المكسال أهـ. حياة أديسون العلمية لم يبق أحد غير واقف على شهرة أديسون العالم الأميركي المشهور باختراعاته واكتشافاته الكبيرة وقد أقيمت له في جامعات أميركا حفلات عظيمة بمناسبة بلوغه سبعين عاماً من حياته التي قضاها في الجد والاجتهاد. ولد أديون الأخصائي في علم الكهرباء سنة 1847 في مدينة ميلان وهي من مقاطعة أوهايو في البلاد المتحدة الأميركية وقد توظف بادئ الأمر في الخط الحديدي الكبير بين كندا وميشيكان الوسطى فبقي في هذا العمل بضعة أعوام في غضونها أصدر جريدة علمية تولى بنفسه تحريرها وطبعها بلا مساعدة من أحد دعاها جريدةالخطوط الحديدية الكبرى وكانت من ركاب القطارات. وفي سنة 1862 تولى أديسون وظيفة في دائرة البرق في بورهرثون بعد عامين أخترع برق دوبليكس وهو إيجاد طريقة لتسهيل مرور برقيتين الواحدة ذاهبة والأخرى آتية في وقت واحد وعلى خط واحد وهو اختراع كان له اثر عظيم في المخابرات البرقية أفاد التجارة والسياسة في اقتصاد الوقت وفي سنة 1868 أختار الإقامة في مدينة بوستون وهناك زاول بعض أرائه وتدقيقاته في مسألة الأدوات الاهتزازية وفي سنة 1869 فتح

مصنعاً لأدوات البرق على أحدث طرز وأكمل صناعة. وفي سنة أسند إليه منصب مهندس شركات الخطوط البرقية على اختلافها وقد باع مخترعاته من هذه الشركات لقاء مبلغ سنوي تدفعه إليه ومن ثم أصبح من أرباب الثروة واليسار فأنشأ معمله الكبير المسمى مثلو - بارق في مدينة وونش من مقاطعة ينوجيرسي الأميركية ومن جملة اختراعاته سنة1877 الاكتشاف المدعوميفروته ليفون وهو الذي كان عاملاً وحيداً في استعمال التليفون وفي السنة نفسها أوجد أداة ميليفون وأعقبها باختراعات كثيرة وقد بلغت اكتشافاته نحو ستمائة من أهمها اختراع الفوتوغراف الحاكي ولا يزال مثابر على أعماله العقلية بهمة ونشاط قلما نرى نظيره في الشبان ففي كل سنة ينال امتيازاً بل امتيازات كثيرة بإبداع جديد وأثر حديث. الصفر يرى كثيرون أن عادت استعمال الصفر في الرياضيات كان من علائم الارتقاء وقد تبين أن قدماء البابليين لم يكونوا يعرفوا الصفر في الأعداد وأن الهنود لم يستعملوه إلا نحو سنة 600 للمسيح وأقدم استعمال للصف عند الهنود لم تختلف فيه كان منذ سنة 870 ويؤخذ من البحث الذي وقع في أميركا الوسطى أن شعوب المايا كانوا يعرفوا الصفر قبل الشعوب الآسيوية بستة قرون ولم يكن أهل المايا يحسبون على الطريقة العشرية بل على الطريقة العشرينية أي يحسبون عشرين عشرين والأعداد من الواحد إلى التسعة عشر كانوا يرقمونها بنقط أو أشارات ويكون الصفر أشبه بعين مطبقة على ما عرف من عادياتهم.

§1/1